مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح

عبيد الله الرحماني المباركفوري

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ـــــــــــــــــــــــــــــ بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، محمد خاتم النبيين وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإن بعض الإخوان سألني أن أعلق له شرحاً لطيفاً على مشكاة المصابيح للشيخ ولي الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب العمري التبريزي، فأجبته إلى سؤاله رجاء المنفعة به. وأسأل الله تعالى أن ينفعنا به ومن كتبه أو سمعه أو قرأه أو نظر فيه، وأن يجعله خالصاً لوجهه، موجباً للفوز لديه، وبالإخلاص إنما يتقبل العمل، ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)) . فأقول مستعيناً بالله مهتدياً به متوكلاً عليه، وما توفيقي إلا بالله، وهو حسبي ونعم الوكيل: قال: (بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله) الخ، افتتح الكتاب بالبسملة ثم أتى بالحمدلة، موافقة لكتاب الله العظيم، فإن الصحابة افتتحوا كتابة الإمام الكبير بالتسمية والحمدلة، وتلوها، وتبعهم جميع من كتب المصحف بعدهم في جميع الأعصار، من يقول بأن البسملة آية من أول الفاتحة، ومن لا يقول ذلك. وعملاً بحديث نبيه الكريم في بداءة كل أمر ذي بال ببسم الله الرحمن الرحيم، أخرجه الرهاوي في أربعينه من حديث أبي هريرة مرفوعاً، وأخرج أبوداود والنسائي وابن ماجه وأبوعوانة والدارقطني وابن حبان والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعاً: ((كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم)) ، وفي رواية: ((كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع)) حسنه ابن الصلاح وغيره، ولا منافاة بين روايتي التسمية والتحميد؛ لأن المقصود منهما فيما نرى - والله أعلم بمراد كلام نبيه - إنما هو الابتداء بذكر الله والثناء عليه، سواء يكون في ضمن البسملة أو الحمدلة، لا أن لفظ الحمد أو البسملة متعين، فالقدر الذي يجمع الأمرين هو ذكر الله، وقد حصل بالبسملة، وحينئذٍ فالحمدلة والبسملة والذكر سواء، ويدل على ذلك ما ورد في بعض طرق الحديث لفظ ((ذكر الله)) مصرحاً، ففي مسند أحمد عن أبي هريرة مرفوعاً ((كل أمر ذي بال لا يفتتح بذكر الله فهو أبتر أو أقطع)) ، قال التاج السبكي في أول الطبقات الشافعية في الجمع بين الروايتين ما لفظه: وأما الحمد والبسملة فجائزان، يعني بهما ما هو الأعم منهما، وهو ذكر الله والثناء عليه على الجملة، إما بصيغة الحمد أو غيرها، ويدل على ذلك رواية ذكر الله، وحينئذٍ فالحمد والبسملة والذكر سواء، وجائزان يعني خصوص الحمد وخصوص البسملة، وحينئذٍ فرواية الذكر أعم، فيقضى لها على الروايتين الأخيرتين؛ لأن المطلق إذا قيد بقيدين متنافيين لم يحمل على واحد منهما ويرجع إلى أصل الإطلاق، وإنما قلنا أن خصوص الحمدلة والبسملة متنافيان لأن البداءة إنما تكون بواحد، ولو وقع الابتداء بالحمد لما وقع بالبسملة وعكسه، ويدل على أن المراد الذكر، فتكون روايته هي

نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة تكون للنجاة وسيلة ـــــــــــــــــــــــــــــ المعتبرة أن غالب الأعمال الشرعية غير مفتتحة بالحمد كالصلاة، فإنها مفتتحة بالتكبير والحج وغير ذلك، فإن قلت: لكن رواية بحمد الله أثبت من رواية بذكر الله، قلت: صحيح، ولكن لِمَ قلت: إن المقصود بحمد الله خصوص لفظ الحمد، ولِمَ لا يكون المراد ما هو أعم من لفظ الحمد والبسملة؟ ويدل على ذلك ما ذكرت لك من الأعمال الشرعية التي لم يشرع الشارع افتتاحها بالحمد بخصوصه - انتهى كلام السبكي. قوله (الحمد لله) الحمد هو الثناء على الجميل الاختياري من نعمة أو غيرها، أتى بالجملة الاسمية واسم الذات للدلالة على الدوام والثبات. وقوله (الحمد لله) مطلق يتناول حمد الله تعالى نفسه، وأرفع حمد ما كان من أرفع حامد وأعرفهم بالمحمود وأقدرهم على إيفاء حقه، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك)) ، ويتناول حمد الحامدين له تعالى من ابتداء الخلق إلى انتهاء قولهم ((وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين)) ، (نحمده) استئناف، فأولاً أثبت الحمد له بالجملة الاسمية الدالة على الثبوت والدوام، سواء حمد أو لم يحمد، فهو إخبار متضمن للإنشاء، ثانياً أخبر عن حمده وحمد غيره معه بالجملة الفعلية التي للتجديد والحدوث بحسب تجدد النعماء وتعدد الآلاء وحدوثها في الآناء، وإظهار لتخصيص حمده لكن باستعانته، ونفى الحول والقوة ودفع الرياء والسمعة من نفسه، ومن ثم أتبعه بقوله: ((ونعوذ بالله من شرور أنفسنا)) وحاصل وجه التخصيص أنه تعالى لما كان مستحقاً للحمد بإسباغ أنوع النعم علينا فلا بد أن نحمده، وأورد صيغة الجمع ليشمل جميع الخلق الجسماني والروحاني في الدارين، وقال الطيبي: الضمير المستكن في نحمده ونستعينه ونستغفره للمتكلم ومن معه من أصحابه الحاضرين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. (ونستعينه) أي في أداء الحمد وغيره من الأمور الدنيوية والأخروية، وفيه إشارة إلى أن حمده تعالى أمر لا يتيسر من الخلائق أجمعين إلا بإعانته تعالى، فيكون تبرياً عن الحول والقوة. (ونستغفره) أي من سيئاتنا وتقصيراتنا ولو في أداء ذلك احمد، كما هو حقه من الصدق والإخلاص. (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا) أي من ظهور السيئات الباطنية التي جبلت الأنفس عليها، ومنها التقصير في الصدق والإخلاص، أي الحمد مع الرياء والسمعة، وكذا مع إثبات الحول والقوة. (ومن سيئات أعمالنا) أي من مباشرة الأعمال السيئة الظاهرة التي تنشأ عنها، والمراد منها هو التصدي للتصنيف في علم الحديث مع قصور في تصحيح الطية وإخلاص الطوية، أو التقصير في الشكر على توفيقه تعالى لهذه النعمة العظيمة والمنحة الجليلة، أو التكلم بما لا يعنيه والغفلة عن ذكر الله تعالى، أو التهاون في الطاعات والعبادات وارتكاب المكروهات والمحرمات مطلقاً، والأول أظهر. فتعوذ - رحمه الله - من ذلك لحصول الإخلاص. (من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له) لما أضيف الشرور والأعمال إلى الأنفس أوهم أن لها الاختيار والاستقلال بالأعمال، أتبعه بقوله (من يهده الله ... ) الخ ليؤذن بأن كل ذلك منه تعالى، وليس للعبد إلا الكسب، وبعد الكسب الشقي والسعيد على حسب علمه الأزلي سبحانه

ولرفع الدرجات كفيلة. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي بعثه وطرق الإيمان قد عفت ـــــــــــــــــــــــــــــ وتعالى. والضمير البارز ثابت في يهده، وأما في يضلله فغير موجود في أكثر نسخ المشكاة، وهو عمل بالجائزين، والأول أصل وفيه وصل والثاني فرع وفيه فصل، قاله القاري. وهذا الكلام وإن كان خبراً وبياناً للواقع وإثباتاً لتفرد الله تعالى بالهداية والإضلال، لكنه في الحقيقة طلب وسؤال من الله للهداية والحفظ من الضلالة. والمعنى: لا هادي ولا مضل غيرك، فوفقني للهداية واحفظني من الضلالة، واعصمني من الغواية، فإنك على كل شيء قدير. (وأشهد أن لا إله إلا الله) الخ، أتبع الحمد بالشهادتين في الخطبة عملاً بما روي عن أبي هريرة مرفوعاً: ((كل خطبة ليس فيها شهادة كاليد الجذماء)) أخرجه أحمد وأبوداود في الأدب والترمذي في النكاح وحسنه. وأورد صيغة الجمع في الحمد والاستعانة والاستغفار والتعوذ نظراً إلى كثرة الآلاء والتقصيرات والذنوب وكشف الصفات. وأفرد الضمير في مقام التوحيد لأنه إثبات القدم وإسقاط الحدوث ومحل مشاهدة وحدة الذات وسقوط ما سوى الله، فأشار أولاً إلى التفرقة، وثانياً إلى الجمع، قال القاري: وقد يقال: إن الأفعال المتقدمة أمور ظاهرية يحكم بوجودها على الغير أيضاً بخلاف الشهادة فإنه أمر قلبي غيبي لا يعلم بحقيقته إلا هو - انتهى. يعني أن الشهادة خبر قاطع مطابق للواقع، فلم يكن للمصنف أن يحكم به بالجزم إلا على نفسه بخلاف الحمد وأخواته، والله أعلم. (شهادة) مفعول مطلق موصوف بقوله (تكون) الخ، والشهادة التي تكون سبباً للخلاص من العذاب وكفيلة لرفع الدرجات في الجنان إنما هي التي تكون بالصدق والإخلاص ومواطأة القلب وموافقة الظاهر والباطن مع الاستقامة عليها؛ لقوله عز وجل: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ... } الآية [41: 30] ، وقال القاري: والمعنى: أن الشهادة إذا تكررت وأنتجت ارتكاب الأعمال الصالحة واجتناب الأفعال الطالحة صارت سبباً لعلو الدرجات، وكانت مانعة عن الوقوع في الدركات، وبما قررناه اندفع ما يرد على المصنف من أن دخول الجنة بالإيمان ورفع الدرجات بالأعمال، ولكون التوفيق على هذا السبب من فضله لا ينافي قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((لن ينجو أحد منكم بعمله)) . (عبده) إضافة تشريف وتخصيص، إشارة إلى كمال مرتبته في العبودية، وقدمه لأنه أشرف أوصافه وأعلاها وأفضلها وأغلاها، ولذا ذكره الله تعالى بهذا الوصف في كثير من المواضع فقال: {سبحان الذي أسرى بعبده} [17: 1] ، {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده} [25: 1] ، {فأوحى إلى عبده ما أوحى} [53: 9] ، وفي الجمع بين الوصفين العبودية والرسالة تعريض للنصارى حيث غلوا في دينهم وأطروا في مدح نبيهم. (وطرق الإيمان) مبتدأ وقوله (قد عفت آثارها) خبر، أو الجملة حالية، والمعنى: أن الله أرسله في حال كمال احتياج الناس إليه - صلى الله عليه وسلم -، فإنهم كانوا في غاية من الضلالة والجهالة، إذ لم يكن حي على وجه الأرض من يعرفها إلا أفراد من أتباع عيسى - عليه السلام -، استوطنوا زوايا الخمول ورؤوس الجبال وآثروا الوحدة والاعتزال (قد عفت آثارها) أي اندرس ما بقي من رسومها، من عفا الشيء عَفوا وعفا وعُفُو إذا نقص ودرس وامّحى، ومنه قولهم (عليه العفاء) ، قال زهير: ... تحمل أهلها منها فبانوا ... على آثار ما ذهب العفاء

آثارها، وخبت أنوارها، ووهنت أركانها، وجهل مكانها، فشيد صلوات الله عليه وسلامه من معالمها ما عفا، وشفى من العليل في تأييد كلمة التوحيد من كان على شفا، وأوضح سبيل الهداية لمن أراد أن يسلكها، وأظهر كنوز السعادة لمن قصد أن يملكها. ـــــــــــــــــــــــــــــ (وخبت أنوارها) من خبا يخبو خبواً وخُبوا، يقال: "خبت النار أو الحدة" إذا خمدت وسكنت وطفئت، والمعنى: خفيت أنوارها وانطفأت بحيث لا يمكن اقتباس العلم المشبه بالنور في كمال الظهور (ووهنت) أي ضعفت حتى انعدمت (أركانها) من أساس التوحيد والنبوة والإيمان بالبعث والقيامة، وقيل: المراد الصلاة والزكاة وسائر العبادات (وجهل) بصيغة المجهول (مكانها) مبالغة في ظهور الجهل وغلبة الفسق وكثرة الظلم وقلة العدل، وقيل: المراد من طرق الإيمان الأنبياء والرسل والكتب المنَزلة عليهم وأتباعهم من العلماء والأولياء. ومن عفو آثارها وخبو أنوارها ووهن أركانها ترك العمل بما جاءوا به من الشرائع، وأمروا به من الأعمال والأخلاق والآداب، وأظهروا من العلوم والمعارف وترك التعلم والتخلق والتأدب بها. ومن جهل مكانها عدم معرفة مراتبهم ومنازلهم وتناسى حقوقهم، ويحتمل أن يكون المراد بطرق الإيمان العلوم والمعارف والأعمال الصالحة والآداب المرضية والمجاهدات النفسية والرياضات البدنية والصفات الجميلة والأخلاق الحميدة التي يبلغ المتصف بها مرتبة كمال الإيمان، وبعفاء الآثار وخبو الأنوار ووهن الأركان وجهل المكان عدم سلوك هذه الطرق وعدم المبالاة بها والاهتمام بتحصيلها وتكميلها، والله أعلم. (فشيد) أي رفع وأعلى وأظهر وقوي بما أعطيه من العلوم والمعارف التي لم يؤت أحد مثله فيما مضى (صلوات الله) أي أنواع رحمته (عليه وسلامه) وفي بعض النسخ: صلوات الله وسلامه عليه، وهي جملة معترضة دعائية. (من معالمها) جمع المعلم وهو العلامة (ما عفا) ما موصولة أو موضوعة مفعول شيد، ومن بيانية متقدمة، والمعنى: أظهر وبيّن ما اندرس وخفي من آثار طرق الإيمان وعلامات أسباب العرفان والإيقان، وإن لم يبصرها الذين ختم الله على قلوبهم وأعمى أبصارهم وأصم آذانهم مع كمال وضوحها وغاية ظهورها. (وشفى) عطف على شيد (من العليل) بيان مقدم لـ"من" رعاية للسجع (في تأييد كلمة التوحيد) متعلق بشفى ومفعوله قوله (من كان على شفا) أي وخلص من علة الجهل والشرك في تقوية كلمة الإيمان من كان مشرفاً على الموت والهلاك، أو كان على حرف من الصراط السوي ومنحرفاً عن الطريق المستقيم، أو أنقذ من كان قريباً من الوقوع في حفرة الجحيم، إشارة إلى قوله تعالى {وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها} [3: 103] ، والشفا حرف كل شيء وطرفه وحده (لمن أراد أن يسلكها) أنث الضمير لأن السبيل يذكر ويؤنث، أي بيّن وعيّن طريق الاهتداء إلى المطلوب لمن طلب وشاء من نفسه أن يدخل فيها (وأظهر كنوز السعادة) أي المعنوية وهي المعارف والعلوم والأعمال والأخلاق والشمائل والأحوال البهية المؤدية إلى الكنوز الأبدية والخزائن السرمدية من نعيم الجنة ورضوان الله ولقائه ورؤيته. (لمن قصد أن يملكها) وجه التخصيص أنهم هم المنتفعون بالإيضاح والإظهار، وإن كان بيان شرائع الإسلام وتعليم أمور الدين عاماً لجميع الناس

أما بعد: فإن التمسك بهديه لا يستتب إلا بالاقتفاء لما صدر من مشكاته، والاعتصام بحبل الله لا يتم إلا ببيان كشفه، وكان كتاب المصابيح ـــــــــــــــــــــــــــــ لمن أراد سلوكها وقصد تملكها، ولمن أعرض عنها، كقوله تعالى: {هدى للمتقين} . (أما بعد أتى به اقتداء به - صلى الله عليه وسلم - وبأصحابه، فإنهم كانوا يأتون به في خطبهم للانتقال من أسلوب إلى أسلوب آخر، ويسمى فصل الخطاب، واختلف في أول من قالها، فقيل: داود - عليه السلام -، رواه الطبراني مرفوعاً من حديث أبي موسى الأشعري، وفي إسناده ضعف، وفيه أقوال أخرى ذكرها الحافظ في الفتح، و (أما) لتفصيل المجمل، وهو كلمة شرط محذوف فعله وجوباً، و (بعد) من الظروف الزمانية متعلق بالشرط المحذوف، وهو مبني على الضم لقطعه عن الإضافة والمضاف إليه منوي، والتقدير: مهما يذكر شيء من الأشياء بعد ما ذكر من البسملة والحمدلة والصلاة والثناء (فإن التمسك بهديه) بفتح الهاء وسكون الدال أي طريقه وسيرته، يقال ما أحسن هديه أي طريقه وهدى هديه أي سيرته (لا يستتب) بتشديد الباء أي لا يستقيم ولا يستمر، أو لا يتأتى ولا يتهيأ (إلا بالاقتفاء) أي بالاتباع (لما صدر) أي ظهر (من مشكاته) أي صدره، والمشكاة هي الكوة في الجدار غير النافذة، يوضع فيها المصباح أي السراج، استعيرت لصدره - صلى الله عليه وسلم -، شبه صدره الذي يفيض النور المقتبس من القلب على الخلق بالمشكاة التي فيها المصباح، وشبه قلبه المنور بنور الله تعالى بالمصباح المضيء (والاعتصام) بالنصب، ويجوز الرفع، أي التمسك والتشبث (بحبل الله) أي القرآن لما ورد في حديث الحارث الأعور عن علي مرفوعاً في صفة القرآن ((هو حبل الله المتين وصراطه المستقيم)) أخرجه الترمذي، وروى الحافظ أبوجعفر الطبري بسنده عن أبي سعيد مرفوعاً ((كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض)) ، وروي من حديث عبد الله بن مسعود وزيد بن أرقم وحذيفة نحو ذلك. استعار الحبل للقرآن من حيث أن العمل بالقرآن سبب لحصول العلوم والمعارف التي هي وسيلة إلى الحياة الأبدية، كما أن الحبل وسيلة إلى الوصول إلى الماء الذي هو سبب للحياة الدنيوية، أو من حيث أن التمسك بالقرآن سبب للنجاة عن التردي والخلاص من الوقوع في دركات جهنم، كما أن التمسك بالحبل سبب للسلامة عن التردي في البئر عند الاحتياج إلى الماء (إلا ببيان كشفه) أي السنة النبوية، والإضافة بيانية، قال الله تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} [16: 44] ، ولا شك أنه لا يمكن الوصول إلى حقيقة معاني القرآن ولا يتيسر فهم مقاصده إلا بتبيينه - صلى الله عليه وسلم - وإيضاحه، فكان هو مبيناً لمجملات القرآن ومفسراً لمشكلاته، وليس بيانه وتفسيره إلا في أحاديثه، فكل حديث ورد في الصلاة فهو بيان وتفسير لقوله تعالى: {وأقيموا الصلاة} فإن الصلاة مجملة لم يبين أوقاتها وأعدادها وأركانها وشرائطها وواجباتها وسننها ومفسداتها إلى السنة، وكذا الزكاة والصوم والحج (وكان كتاب المصابيح) قيل: إن البغوي لم يسم هذا الكتاب بالمصابيح نصاً منه، وإنما صار هذا الاسم علماً له بالغلبة من حيث أنه ذكر بعد قوله (أما بعد) فهذه ألفاظ صدرت عن صدر النبوة، وسنن سارت عن معدن الرسالة، وأحاديث جاءت عن سيد المرسلين وخاتم النبيين هن مصابيح الدجى ... الخ، وهو من أجمع الكتب في باب الحديث فإنه جمع فيه أحاديث الأحكام على ترتيب الأبواب

ـــــــــــــــــــــــــــــ الفقهية بحيث يستحسنه الفقيه، ووضع الترغيب والترهيب على ما يقتضيه العلم ويرتضيه، ولو فكر أحد في تغيير باب عن موضعه لم يجد له موضعاً أنسب مما اقتضى رأيه، ولذلك عكف عليه المتعبدون، واعتنى بشأنه العلماء بالقراءة والتعليق، فله شروح كثيرة، ذكرها جلبي في كشف الظنون، لكنه لطلب الاختصار ترك ذكر الأسانيد اعتماداً على نقل الأئمة، ولم يذكر كثيراً من الصحابة رواة الآثار، ولا تعرض لتخريج تلك الأخبار، بل قسم أحاديث كل باب إلى صحاح وحسان، واصطلح على أن جعل الصحاح ما هو في الصحيحين أو أحدهما، والحسان ما ليس في واحد منهما، والتزم أن ما كان فيها من ضعيف أو غريب أشار إليه ونبّه عليه، وإن ما كان موضوعاً أو منكراً لم يذكره ولا يشير إليه، هذا هو المشروط في الخطبة، لكن ذكر في أواخر باب مناقب قريش حديثاً وقال في آخره: منكر، وقيل: قد ألحقه بعض المحدثين، قال النووي في التقريب تبعاً لابن الصلاح: أما تقسيم البغوي أحاديث المصابيح إلى حسان وصحاح مريداً بالصحاح ما في الصحيحين وبالحسان ما في السنن فليس بصواب؛ لأن في السنن الصحيح والحسن والضعيف والمنكر - انتهى. قال السيوطي في التدريب (ص54) : ومن أطلق عليها الصحيح كقول السلفي في الكتب الخمسة اتفق على صحتها علماء المشرق والمغرب، وكإطلاق الحاكم على الترمذي الجامع الصحيح، فقد تساهل. قال العراقي: وأجيب عن البغوي بأنه يبين عقب كل حديث الصحيح والحسن والغريب، قال: وليس كذلك، فإنه لا يبين الصحيح من الحسن فيما أورده من السنن، بل يسكت ويبين الغريب والضعيف غالباً، فالإيراد باقٍ في مزجه صحيح ما في السنن بما فيه من الحسن، وقال شيخ الإسلام: أراد ابن الصلاح أن يعرف أن البغوي اصطلح لنفسه أن يسمي السنن الأربعة الحسان، ليغتني بذلك عن أن يقول عقب كل حديث أخرجه أصحاب السنن، فإن هذا اصطلاح حادث ليس جارياً على المصطلح العرفي - انتهى. قلت: وقد وقع له بعد ذلك الاصطلاح أن ذكر أحاديث من الصحاح ليست في أحد من الصحيحين وأحاديث من الحسان هي في أحد الصحيحين، وأدخل في الحسان أحاديث ولم ينبه عليها، وهي ضعيفة واهية في غاية الضعف كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى. ثم إن الشيخ ولي الدين محمد بن عبد الله الخطيب كمل المصابيح وذيل أبوابه، فذكر الصحابي الذي روى الحديث عنه، وذكر الكتاب الذي أخرجه منه، وزاد على كل باب من صحاحه وحسانه إلا نادراً فصلاً ثالثاً، وسماه "مشكاة المصابيح"، فصار كتاباً حافلاً كما ترى، وله تصرفات أخرى أيضاً في المصابيح، كما سيجيء ذكره في كلامه، نعم، لم يتعرض هو كالبغوي للكلام على الأحاديث التي أوردها من السنن والمسانيد التي لم يلتزم مصنفوها الصحة في الغالب طلباً للاختصار، ولا يخفى أنه يسوغ العمل بأحاديثها التي لم يقع التصريح بتحسينها أو تصحيحها منهم أو من غيرهم ممن يعتمد عليه إلا بعد البحث عنها، فما كان منها صحيحاً أو حسناً أو ضعيفاً يحتمل ضعفه يقبل، وما لم يكن كذلك يرد. قال في كشف الظنون: قيل عدد أحاديث المصابيح أربعة آلاف وسبعمائة وتسعة عشر حديثاً، منها المختص بالبخاري ثلاثمائة وخمسة وعشرون حديثاً، وبمسلم ثمانمائة وخمسة وسبعون حديثاً، ومنها المتفق عليها ألف وإحدى وخمسون حديثاً، والباقي من كتب أخرى، وقال ابن الملك: إن عدد الأحاديث المذكورة فيه أربعة آلاف وأربعمائة وأربعة وثمانون حديثاً، منها ما هو من الصحاح ألفان وأربعمائة وأربعة وثلاثون حديثاً.

الذي صنفه الإمام محي السنة قامع البدعة أبومحمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي - رفع الله ـــــــــــــــــــــــــــــ ومنها ما هو من الحسان، وهو ألفان وخمسون حديثاً. (محي السنة) روي أنه لما جمع كتابه المسمى بشرح السنة رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام فقال له "أحياك الله كما أحييت سنتي"، فصار هذا اللقب علماً له بطريق الغلبة (قامع البدعة) أي قاطعها ودافع أهلها أو مبطلها ومميتها (أبومحمد الحسين بن مسعود) هو الإمام الحافظ المجتهد المحدث المفسر أبومحمد الحسين بن مسعود بن محمد الشافعي صاحب معالم التنْزيل في التفسير، وشرح السنة، والمصابيح، والجمع بين الصحيحين في الحديث والتهذيب في الفقه، وغير ذلك من التصانيف الحسان، كان بحراً في العلوم، إماماً في الفقه والحديث والتفسير، أخذ الفقه عن القاضي حسين بن محمد صاحب التعليقة في الفقه، وحدث عنه، وعن أبي الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي، ويعقوب بن أحمد الصيرفي وغيرهم، وروى عنه أهل مرو وغيرهم، وبورك له في تصانيفه لقصده الصالح، فإنه كان من العلماء الربانيين، كان ذا تعبد ونسك وقناعة باليسير، وكان يأكل كسرة وحدها فعذلوه، فصار يأكلها بزيت، قال القاري: كان مفسراً محدثاً فقيهاً. قال بعض مشايخنا: ليس له قول ساقط، وكان عابداً زاهداً جامعاً بين العلم والعمل على طريقة السلف الصالحين. توفي بمروالروذ في شوال سنة 516هـ ست عشرة وخمسمائة، ودفن عند شيخه القاضي حسين بمقبرة الطالقاني، ولعله بلغ ثمانين سنة، وارجع إلى تذكرة الحفاظ (ج4: ص54-55) ، ووفيات الأعيان (ج1: ص145-146) ، وإتحاف النبلاء (244) ، وأشعة اللمعات (ج1: ص28-29) . (الفراء) بالرفع على أنه صفة لأبي محمد الحسين كما يظهر من كلام ابن خلكان حيث قال: أبومحمد الحسين بن مسعود بن محمد المعروف بالفراء البغوي الفقيه، وقيل بالجر نعت لأبيه نسبة إلى عمل الفراء وصنعها وبيعها، قال الذهبي في ترجمة البغوي: هو أبومحمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء الشافعي، قال: وكان أبوه يعمل الفراء ويبيعها، قال في الإتحاف: يقال له الفراء وابن الفراء أيضاً، قال القاري: وهو غير الفراء النحوي المشهور (البغوي) بالرفع صفة للحسين؛ لأن المقصود ببيان النسبة البلدية وكذا الولادية والصناعية عند المحدثين هو العلم الأول إلا نادراً، والبغوي بفتح الباء الموحدة والغين المعجمة وبعدها واو، هذه النسبة إلى بلدة بخراسان بين مرو وهرات يقال له بغ وبغشور بفتح الباء الموحدة وسكون الغين المعجمة وضم الشين وبعدها واو ساكنة ثم راء معرب "باغ كور"، وهذه النسبة شاذة على خلاف القياس، قاله السمعاني في كتاب الأنساب، وقيل العلم المركب تركيباً مزجياً يحذف عجزه وينسب إلى صدره أو ينسب إليه برمته من دون حذف، فتقول: بَعلِيٌّ ومعدَوِيٌّ وبعلبكي ومعدي كربي في النسبة إلى بعلبك ومعدي كرب، والبغوي من هذا القبيل، وإنما جاءت الواو في النسبة إجراء للفظه بغ مجرى محذوف العجز كالدموي، فإنه يرد المحذوف إلى الاسم المحذوف منه إذا بقي على حرفين من أصوله فتقول في أب وأخ: أبوي وأخوي، ويجوز في مثل يد ودم أن يرد المحذوف، وهو الأفصح، وحينئذٍ إذا كان ياء قلبت واواً فيقال: يدوي ودموي، ويجوز النسبة

درجته - أجمع كتاب صنف في بابه، وأضبط لشوارد الأحاديث وأوابدها، ولما سلك - رضي الله عنه - طريق الاختصار وحذف الأسانيد تكلم فيه بعض النقاد وإن كان نقله - وإنه من الثقات - ـــــــــــــــــــــــــــــ على اللفظ فيقال: يدي ودمي، ولئلا يلتبس بالبغي بمعنى الزاني (أجمع كتاب) خبر كان (صنف في بابه) أي في باب الحديث فإنه جمع فيه الأحاديث المهمة على ترتيب الأبواب الفقهية، والمراد أنه من أجمع الكتب في باب الحديث، أو قاله مبالغة في مدحه، ويجوز مثل هذه المبالغة في مدح كتاب ترغيباً للطالبين وتشويقاً لهم إليه (وأضبط) عطف على أجمع؛ لأنه لما جرد عن الأسانيد وعن اختلاف الألفاظ وتكرارها في المسانيد صار أقرب إلى الحفظ والضبط، وأبعد من الغلط والخبط (لشوارد الأحاديث) جمع شاردة وهي النافرة والذاهبة عن الدرك، من إضافة الصفة إلى الموصوف، والأحاديث قيل جمع أحدوثة في الأصل كأساطيرة جمع أسطورة ثم جعل جمع حديث (وأوابدها) عطف تفسير، أي وحشياتها، جمع آبدة وهي الوحش والشيء الغريب، وأوابد الكلام غرائبه، شبهت الأحاديث بالوحوش لسرعة تنفرها وتبعدها عن الضبط والحفظ، ولذا قيل: "العلم صيد والكتابة قيد" قاله القاري، وقال السيد جمال الدين: المراد بالشوارد الأحاديث المخرجة في الأصول قد خفيت على الطالبين مواضع إيرادها، فكأنها نفرت منهم، وبالأوابد الأحاديث التي دلالتها على معانيها كانت خفية، فكأنها توحشت من الطلاب بالنظر إلى معانيها المقصودة، فبإيراد محي السنة إياها في الأبواب المناسبة ولمواضع اللائقة من كتاب المصابيح ظهرت معانيها واتضحت، فارتفع الشرود وانتفى التوحش منها، وصارت مأنوسة، ذكره في اللمعات (طريق الاختصار) أي بالاكتفاء على متون الأحاديث (وحذف الأسانيد) عطف تفسير على ذلك، والمراد بحذف الإسناد إما حذف الصحابي وترك المخرج في كل حديث، وهو مجاز من باب إطلاق الكل على البعض أي طرفي الإسناد، وهو مراد المصنف ظاهراً من قوله "لكن ليس ما فيه أعلام كالأغفال" فالشيء الذي ذكره المصنف في المشكاة زيادة على المصابيح هو ذكر الصحابي وبيان المخرج، وهو الذي أهمله صاحب المصابيح، وأما معناه الحقيقي على مصطلح أهل الحديث، وهو حكاية طريق المتن بحيث يعلم جميع رواته، لكن المصنف اكتفى بذكر المخرج كما يقول: وإني إذا نسبت الحديث إليهم ... الخ، وعلى هذا يكون ذكر المخرج أي الصحابي للتبرك والتأكيد فقط (تكلم) جواب لما، أي طعن في بعض أحاديث كتابه حتى أن بعض الطاعنين أفردوا أحاديث من المصابيح ونسبوها إلى الوضع، ثم إنه لما نسبت إلى الأئمة المخرجين لها علم أن بعضها صحيح وبعضها حسن، كحديث أبي هريرة ((المرء على دين خليله)) فإنه أحد الأحاديث التي انتقدها الحافظ سراج الدين القزويني على المصابيح، وقال: إنه موضوع، وكذا أورده ابن الجوزي في الموضوعات، وقد حسنه الترمذي، وصححه الحاكم، وقال النووي: إسناده صحيح (بعض النقاد) بضم النون وتشديد القاف، وقال السيد جمال الدين: أي تكلم في حقه واعترض عليه بعض المبصرين بأن صحة الحديث وسقمه متوقفة على معرفة الإسناد، فإذا لم يذكر لم يعرف الصحيح من الضعيف فيكون نقصاً (وإن كان نقله) أي نقل البغوي بلا إسناد، والواو وصلية (وإنه من الثقات) أي المعتمدين في نقل الأحاديث وبيان صحتها وحسنها وضعفها، روي بكسر الهمزة في "إنه" على أنه حال

كالإسناد، لكن ليس ما فيه أعلام كالأغفال، فاستخرت الله واستوفقت منه، فأعلمت ما أغفله فأودعت كل حديث منه في مقره كما رواه الأئمة المتقنون والثقات الراسخون، مثل أبي عبد الله محمد بن إسماعيل ـــــــــــــــــــــــــــــ من المضاف إليه في نقله، وروي بفتحها للعطف على اسم كان، يعني نقله بتأويل المصدر أي وإن كان نقله وكونه من الثقات كالإسناد (كالإسناد) أي كذكره (لكن ليس ما فيه أعلام) أعلام الشيء بفتح الهمزة آثاره التي يستدل بها، وهو جمع علم بفتحتين (كالأغفال) بالفتح وهي الأراضي المجهولة التي لا عمارة فيها ولا أثر تعرف به، جمع غفل بضم الغين المعجمة وسكون الفاء، وفي بعض النسخ بكسرة الهمزة فيهما، فهما مصدران لفظاً وضدان معنى، وأراد بالأول كتابه المشكاة، وبالثاني المصابيح، وكان حقه أن يقول: لكن ليس ما فيه أغفال كالأعلام، ولعله قلب الكلام تواضعاً مع البغوي وهضماً لنفسه، والحاصل أنه ادعى أن في صنيع البغوي قصوراً في الجملة، وهو عدم ذكر الصحابة أولاً وعدم ذكر المخرج في كل حديث آخراً، فإن ذكرهما مشتمل على فوائد، قال القاري: أما ذكر الصحابي ففائدته أن الحديث تتعدد رواته وطرقه، وبعضها صحيح وبعضها ضعيف، فيذكر الصحابي ليعلم ضعف المروي من صحيحه، ومنها رجحان الخبر بحال الراوي من زيادة فقهه وورعه، ومعرفة ناسخه من منسوخه بتقدم إسلام الراوي وتأخره، وأما ذكر المخرج ففائدته تعيين لفظ الحديث، وتبيين رجال إسناده في الجملة، ومعرفة كثرة المخرجين وقلتهم في ذلك الحديث لإفادة الترجيح وزيادة التصحيح، ومنها الرجوع إلى الأصول عند الاختلاف في الفصول وغيرها من المنافع. (فاستخرت الله) لقوله تعالى: {وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة} ، ولما روى الطبراني في الصغير والأوسط من حديث أنس مرفوعاً: ((ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار، ولا عال من اقتصد)) ، (واستوفقت منه) بتقديم الفاء على القاف، أي طلبت من الله التوفيق (فأعلمت ما أغفله) أي فبينت ما أهمله البغوي عمداً فإنه ترك ذكر الصحابة في كثير من الأحاديث، فالتزمت ذكر الصحابي في كل حديث، وأيضاً لم يتعرض هو لذكر المخرج بحيث يعلم مخرج كل حديث بخصوصه وإن علم مجملاً من اصطلاحه في الصحاح والحسان أنه ذكر في القسم الأول أي الصحاح أحاديث الصحيحين أو أحدهما، وفي القسم الثاني أي الحسان أحاديث غيرهما، فذكرت المخرج في كل حديث بخصوصه، قال القاري: أي فبينت ما تركه بلا إسناد عمداً من ذكر الصحابي أولاً وبيان المخرج آخراً بخصوص كل حديث التزاماً (فأودعت كل حديث منه) أي من المصابيح (في مقره) أي وضعت كل حديث من الكتاب في محله الموضوع في أصله من كل كتاب وباب من غير تقديم وتأخير وزيادة ونقصان وتغيير (كما رواه الأئمة) أي أئمة الحديث الذين يقتدى بهم (المتقنون) أي الضابطون الحافظون الحاذقون لمروياتهم من أتقن الأمر إذا أحكمه، ومنه قوله تعالى: {صنع الله الذي أتقن كل شيء} (الثقات) بكسر المثلثة جمع ثقة، وهم العدول والأثبات (الراسخون) أي الثابتون بمحافظة هذا العلم، المتمكنون فيه، من رسخ أي ثبت في موضعه، يقال رسخ الخبر في الصحيفة، والعلم في القلب، وفلان راسخ في العلم أي متمكن فيه (مثل أبي عبد الله محمد بن إسماعيل) هو أمير المؤمنين في حديث سيد المرسلين، إمام الأئمة المجتهدين، سلطان المحدثين، أبوعبد الله محمد بن

البخاري، وأبي الحسين مسلم بن الحجاج ـــــــــــــــــــــــــــــ إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن الأحنف بردزبه الجعفي مولاهم ولاء إسلام البخاري، صاحب الجامع الصحيح والتصانيف، جبل الحفظ وإمام الدنيا في ثقة الحديث، ومعجزة للرسول البشير النذير حيث وجد في أمته مثل هذا الفرد العديم النظير، فلم ير مثله من جهة الحديث وإتقانه، وفهم معاني كتاب الله وسنة رسوله، ومن حيثية حدة ذهنه، وذقة نظره، ووفور فقهه، وكمال زهده، وغاية ورعه، وقوة اجتهاده واستنباطه، وكثرة اطلاعه على طرق الحديث وعلله، ولد يوم الجمعة بعد الصلاة لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال سنة 194هـ، وتوفي وقت العشاء ليلة السبت ليلة الفطر سنة 256هـ، ودفن يوم العيد بعد صلاة الظهر بخرتنك على فرسخين من سمرقند، وعمره اثنتان وستون سنة إلا ثلاثة عشر يوماً، ولم يخلف ولداً، كانت أمه مستجابة الدعوات، توفي أبوه وهو صغير فنشأ في حجر والدته، ثم عمي، وقد عجز الأطباء عن معالجته، فرأت في المنام إبراهيم الخليل - عليه السلام - قائلاً لها قد رد الله على ابنك بصره بكثرة دعائك له، فأصبح وقد رد الله عليه بصره، فنشأ متربياً في حجر العلم، مرتضعاً من ثدي الفضل، ثم ألهم طلب الحديث وله عشر سنين، ورد على بعض مشايخه غلطاً وهو في إحدى عشرة سنة، فأصلح كتابه من حفظ البخاري، سمع الحديث ببلده بخارى، ثم رحل في طلب هذا الشأن إلى جميع محدثي الأمصار، وسمع الكثير، وأخذ عنه الحديث خلق كثير في كل بلدة حدث بها، روى عنه الترمذي في جامعه كثيراً ومسلم في غير صحيحه، قال الفربري: سمع كتاب البخاري منه تسعون ألف رجل، قال البخاري: خرجت كتابي الصحيح من زهاء ستمائة ألف حديث، وما وضعت فيه إلا صحيحاً، وارجع لترجمته إلى كتاب "سيرة البخاري" جزء كبير وتأليف مفرد مبسوط في ترجمة الإمام البخاري وذكر تصانيفه وبيان محاسن جامعه الصحيح وفضائله باللغة الأردية لوالدنا العلامة محمد عبد السلام المباركفوري - رحمه الله -، وقد ذكر شيئاً من ترجمته الشيخ الدهلوي في أشعة اللعمات (ص9-13) ، والعلامة القنوجي في إتحاف النبلاء (349-355) ، وعلي القاري في المرقاة (13-16) ، والحافظ في أواخر مقدمة الفتح (563-583) ، وفي تهذيب التهذيب (ج9: ص47-55) ، والقسطلاني في مقدمة إرشاد الساري (ج1: ص31-46) ، والنووي في تهذيب الأسماء واللغات (ج1: ص67-76) ، والسبكي في طبقات الشافعية (ج2: ص2-19) ، والسمعاني في الأنساب (ورقة 68، 131) ، والخطيب في تاريخ بغداد (ج2: ص4-34) ، وابن خلكان في تاريخه، والذهبي في تذكرته، والمصنف في الإكمال وغيرهم، وأفرد بعضهم ترجمته في تأليفات مبسوطة كالذهبي وابن الملقن والأمير اليماني والعجلوني وغيرهم. (البخاري) نسبة إلى "بخارى" بلدة عظيمة من بلاد وراء النهر؛ لتولده فيها وصار بمنْزلة العلم له ولكتابه. (وأبي الحسين مسلم بن الحجاج) هو الإمام الحافظ الحجة أبوالحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، أحد الأئمة الحفاظ وأعلام المحدثين صاحب التصانيف، طلب علم الحديث صغيراً، ورحل إلى العراق والحجاز والشام ومصر، سمع من مشايخ البخاري وغيرهم كأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه والقعنبي وغيرهم. وروى عنه أئمة من كبار عصره وحفاظ دهره، كأبي حاتم الرازي وابن خزيمة وغيرهما، وروى عنه الترمذي

القشيري، وأبي عبد الله مالك بن أنس الأصبحي ـــــــــــــــــــــــــــــ حديثاً واحداً ((أحصوا هلال شعبان لرمضان)) ما له في جامع الترمذي غيره، ألف المؤلفات النافعة، وأنفعها صحيحه الذي فاق بحسن ترتيبه وحسن سياقه وبديع طريقته، قال مسلم: صنفت المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة، قال الحافظ: حصل لمسلم في كتابه حظ عظيم مفرط لم يحصل لأحد مثله، بحيث أن بعض الناس كان يفضله على صحيح محمد بن إسماعيل، وذلك لما اختص به من جمع الطرق وجودة السياق والمحافظة على أداء الألفاظ، كما هي من غير تقطيع ولا رواية بمعنى، وقد نسج على منواله خلق من النيسابوريين فلم يبلغوا شأوه، وحفظت منهم أكثر من عشرين إماماً ممن صنف المستخرج على مسلم، وقال الخطيب: إنما قفا مسلم طريق البخاري ونظر في علمه وحذا حذوه، ولما ورد البخاري النيسابور في آخر مرة لازمه مسلم وداوم الاختلاف إليه، وقال الدارقطني: لولا البخاري لما ذهب مسلم وجاء، ولد سنة 204هـ، وقيل سنة 206هـ، وتوفي عشية يوم الأحد لأربع أو لخمس أو لست بقين من رجب سنة 261هـ، وعمره خمس وخمسون سنة، ودفن بنصر آباد ظاهر نيسابور يوم الاثنين، ملتقط من التذكرة للذهبي (ج2: 165-167) ، ووفيات الأعيان (ج2: ص91) ، وتهذيب التهذيب (ج10: 126-128) ، والمرقاة (ج1: 16-17) ، وإتحاف النبلاء (430-431) ، وأشعة اللمعات (ج1: 13-14) ، والإكمال للمصنف، وبستان المحدثين (116-117) . (القشيري) بضم القاف وفتح الشين المعجمة وسكون المثناة من تحتها وبعدها راء، نسبة إلى قشير بن كعب، قبيلة كبيرة من العرب، (وأبي عبد الله مالك بن أنس) هو الإمام الحافظ فقيه الأمة، أحد أعلام الإسلام، إمام دار الهجرة، رأس المتقنين، كبير المتثبتين، صاحب المذهب، أبوعبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن غيمان ويقال: عثمان بن جثيل، وقيل: خثيل بن عمرو بن ذي أصبح الحارث المدني (الأصبحي) بفتح الهمزة وسكون الصاد المهملة وفتح الباء الموحدة بعدها حاء مهملة، نسبة إلى ذي أصبح جده التاسع، واسمه الحارث بن عوف، وهي قبيلة كبيرة من أكرم قبائل اليمن جاهلية وإسلاماً، من يعرب بن يشجب بن قحطان، كان جده الأعلى الحارث بن عوف بن الأصبح، وهو بطن من الحمير، ولذا لقب بذي أصبح، واختلف في ولادته، فقيل: ولد سنة 90هـ، وقيل: سنة 94هـ، وقيل: سنة 95هـ، قال الذهبي في التذكرة: أما يحيى بن بكير فقال: سمعته يقول: ولدت سنة 93هـ ثلاث وتسعين، فهذا أصح الأقوال، انتهى. واختاره السمعاني في الأنساب، وقال: هذا متصل بالسند إلى يحيى بن بكير تلميذ الإمام، واختاره ابن فرحون، وقال: هو الأشهر، وحمل في بطن أمه ثلاث سنين، واختلف في تاريخ وفاته أيضاً، قال ابن فرحون: والصحيح أنها كانت يوم الأحد لتمام اثنين وعشرين يوماً من مرضه في ربيع الأول سنة 179هـ، فقيل: لعشر مضت، وقيل: لأربع عشرة، ولثلاث عشرة، ولإحدى عشرة، وقيل: لاثنتي عشرة من رجب، ودفن بالبقيع، قال المصنف في الإكمال: هو - أي مالك - إمام الحجاز، بل الناس في الفقه والحديث، وكفاه فخراً أن الشافعي من أصحابه، أخذ العلم عن الزهري ويحيى بن سعيد ونافع مولى ابن عمر وهشام بن عروة وربيعة بن عبد الرحمن وخلق كثير، قال الزرقاني: أخذ عن تسعمائة شيخ فأكثر، قال: والرواة عنه فيهم كثرة جداً، بحيث لا يعرف لأحد من الأئمة رواة

وأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي ـــــــــــــــــــــــــــــ كرواته، وقال الذهبي: حدث عنه أمم لا يكادون يحصون، وروى سعيد بن أبي مريم عن أشهب بن عبد العزيز قال: رأيت أباحنيفة بين يدي مالك كالصبي بين يدي أبيه. وقال الشافعي: قال لي محمد بن الحسن: أيهما أعلم صاحبنا أم صاحبكم؟ يعني أباحنيفة ومالكاً - رضي الله عنهما -، قال: قلت على الإنصاف؟ قال: نعم، قال: قلت: ناشدتك الله، من أعلم بالقرآن صاحبنا أم صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم، قال: قلت: ناشدتك الله، من أعلم بالسنة صاحبنا أم صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم، قال: ناشدتك الله، من أعلم بأقاويل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتقدمين صاحبنا أم صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم، قال الشافعي: فلم يبق إلا القياس، والقياس لا يكون إلى على هذه الأشياء، فعلى أي شيء نقيس؟ ذكره ابن خلكان، ساد مذهبه في الأندلس قضاء وفتيا ولا يزال هو السائد إلى اليوم في المغرب، وقد أطنب الناس من السلف والخلف في ذكر ترجمته في كتبهم، وصنف جمع منهم تأليفات مفردة بذكر أحواله، منهم الذهبي، وأبوبكر بن أحمد بن مروان المالكي المتوفى سنة 310هـ، وأبوالروح عيسى بن مسعود الشافعي المتوفى سنة 774هـ، وأبوعبد الله محمد بن أحمد التستري المالكي المتوفى سنة 345هـ، ومحمد أبوإسحاق بن القاسم بن شعبان المتوفى سنة 355هـ، ومحمد أبوبكر بن اللباد بن محمد المتوفى سنة 333هـ، والحافظ ابن حجر، والسيوطي وغيرهم، وقد ذكر شطراً صالحاً من ترجمته، وكشف حال كتابه الموطأ الشاه عبد العزيز في "بستان المحدثين"، والشيخ عبد الحي اللكنوي في مقدمة التعليق الممجد، والعلامة القنوجي في إتحاف النبلاء (ص338-339) ، والحافظ في تهذيب التهذيب (ج10: ص3-9) ، والمصنف في الإكمال، والقاري في المرقاة (ج1: 17-18) ، وصاحب الأوجز في مقدمة شرحه للموطأ (ص11-35) ، فعليك أن تراجع هذه الكتب، قال الذهبي في التذكرة (ج1: ص191) : قد كنت أفردت ترجمة مالك في جزء وطولتها في تاريخي الكبير، قد اتفق لمالك مناقب ما علمتها اجتمعت لغيره، أحدها: طول العمر، وعلو الرواية. وثانيها: الذهن الثاقب، والفهم، وسعة العلم، وثالثها: اتفاق الأئمة على أنه حجة، صحيح الرواية، ورابعتها: تجمعهم على دينه، وعدالته، واتباعه السنن، وخامستها: تقدمه في الفقه والفتوى، وصحة قواعده، عاش ستاً وثمانين سنة - انتهى. وقدم المصنف عليه البخاري ومسلماً مع كونه أولى وأحرى بالتقديم للشرط الذي لكتابيهما. وقال القاري: أخر عن البخاري ومسلم ذكراً وإن كان مقدماً عليهما وجوداً ورتبة وإسناداً لتقدم كتابيهما على كتابه ترجيحاً لعدم التزامه تصحيحاً - انتهى. (وأبي عبد الله محمد بن إدريس) هو الإمام العلم حبر الأمة صاحب المذهب ناصر الحديث المجدد لأمر الدين على رأس المائتين محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف القرشي المطلبي المكي، نزيل مصر أبوعبد الله (الشافعي) بكسر الفاء بعدها عين مهملة، نسبة إلى شافع، قيل: لقي شافع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مترعرع، وهذا وجه تخصيص النسبة إليه، ثم نسبه أهل مذهبه أيضاً شافعي لأن الاسم إذا كان مختوماً بياء مشددة، فإن كان قبلها أكثر من حرفين وجب حذفها، فتقول في النسبة إلى إسكندرية إسكندري، والشافعي من هذا القبيل، فقول العامة

وأبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، ـــــــــــــــــــــــــــــ "شافعوي" خطأ، ولد بغزة سنة 150هـ، على الأصح، وهي سنة وفاة أبي حنيفة، وحمل إلى مكة وهو ابن سنتين، وتوفي عند العشاء الآخر ليلة الجمعة آخر يوم من رجب سنة 204، ودفن بعد العصر يوم الجمعة بقرافة مصر، عاش أربعاً وخمسين سنة، قال المصنف بعد ذكر شيء من مناقبه: وفضائله أكثر من أن تحصى، كان إمام الدنيا وعالم الناس شرقاً وغرباً، جمع الله له من العلوم والمفاخر ما لم يجمع لإمام قبله ولا بعده، وانتشر له من الذكر ما لم ينتشر لأحد سواه، سمع مالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، ومسلم بن خالد، وخلقاً سواهم كثيراً، حدث عنه أحمد بن حنبل، وأبوثور، وأبوإبراهيم المزني، والربيع بن سليم المرادي، وخلق كثير غيرهم، قدم بغداد سنة خمس وتسعين ومائة فأقام بها أشهراً، ثم خرج إلى مصر ومات بها، قال القاري: وصنف في العراق كتابه القديم المسمى بالحجة، ثم رحل إلى مصر سنة تسع وتسعين ومائة، وصنف كتبه الجديدة بها، ورجع عن تلك ومجموعها يبلغ مائة وثلاثة عشر مصنفاً، وسار ذكرها في البلدان، وقصده الناس من الأقطار للأخذ عنه، وكذا أصحابه من بعده لسماع كتبه حتى اجتمع في يوم على باب الربيع تسعمائة راحلة، وابتكر أصول الفقه، وكتاب القسامة، وكتاب الجزية، وقتال أهل البغي، وكان حجة في اللغة والنحو. وقال ابن خلكان: كان الشافعي كثير المناقب، جم المفاخر، منقطع القرين، اجتمعت فيه من العلوم بكتاب الله وسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكلام الصحابة وآثارهم واختلاف أقاويل العلماء وغير ذلك من معرفة كلام العرب واللغة العربية والشعر، حتى أن الأصمعي مع جلالة قدره في هذا الشأن قرأ عليه أشعار الهذليين ما لم يجتمع في غيره، حتى قال أحمد بن حنبل: ما عرفت ناسخ الحديث من منسوخه حتى جالست الشافعي. وقال أبوعبيد القاسم بن سلام: ما رأيت رجلاً قط أكمل من الشافعي، قال ابن خلكان: والشافعي أول من تكلم في أصول الفقه، وهو الذي استنبطه، وقد اتفق العلماء قاطبة من أهل الحديث والفقه والأصول واللغة والنحو وغير ذلك على ثقته وأمانته وعدالته وزهده وورعه ونزاهة عرضه وعفة نفسه وحسن سيرته وعلو قدره وسخائه. وأخبرني أحد المشايخ أنه عمل في مناقب الشافعي ثلاثة عشر تصنيفاً - انتهى. قلت: بل زيادة على ذلك فقد ذكر في كشف الظنون أحداً وعشرين تصنيفاً مع العزو إلى من صنف هذه التصانيف. وقال ابن الملقن في العقد المذهب: بلغ التصانيف في مناقب الشافعي إلى نحو أربعين مؤلفاً بل زيادة على ذلك، وقال الحافظ في توالي التأسيس بمعالي ابن إدريس: قد سبق إلى التأليف في ذلك من يتعسر استيعابهم بالذكر، أو يطمع في اللحاق بهم المتأخر ولو وسع المجال أو ضيق الفكر، ثم ذكر أسماء بعض من صنف في ذلك، وعليك أن تراجع توالي التأسيس، فقد ذكر فيه الحافظ شطراً صالحاً من مناقبه. (وأبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل) بن هلال بن أسد الإمام الحافظ الحجة صاحب المذهب (الشيباني) نسبة إلى شيبان بن ذهل بن ثعلبة أحد أجداده، وهو مروزي الأصل، خرجت أمه من مرو وهي حامل فولدته ببغداد في ربيع الأول سنة 164هـ، وتوفي ضحوة نهار الجمعة لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول سنة 241هـ ببغداد، كان - رحمه الله - إماماً في الفقه والحديث والزهد والورع والعبادة، وبه عرف الصحيح والسقيم والمجروح من المعدل، ونشأ ببغداد وطلب

وأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي، ـــــــــــــــــــــــــــــ العلم وسمع الحديث من شيوخها، ثم رحل إلى مكة والكوفة والبصرة والمدينة واليمن والشام والجزيرة، فسمع من يحيى بن سعيد القطان، وابن عيينة، والشافعي، وعبد الرزاق بن الهمام، وخلق كثير، وروى عنه ابناه صالح وعبد الله، وابن عمه حنبل بن إسحاق، والبخاري، ومسلم، وأبوداود، وأبوزرعة، وأبوالقاسم البغوي، وخلق كثير سواهم، قال أبوزرعة: كانت كتبه اثني عشر جملاً، وكان يحفظها على ظهر قلبه، وكان يحفظ ألف ألف حديث، قال الشافعي: خرجت من بغداد وما خلفت بها أحداً أتقى وأورع ولا أفقه ولا أعلم من أحمد بن حنبل، ودعي إلى القول بخلق القرآن فلم يجب، فضرب وحبس وهو مصر على الامتناع، وكان ضربه في العشر الأخير من شهر رمضان سنة عشرين ومائتين، وكان حبسه أيام المعتصم ثمانية وعشرين شهراً، ثم عرف المتوكل قدره وأكرمه وقدره، وألف المسند الكبير، أعظم المسانيد وأحسنها وضعاً وانتقاداً، انتقاه من أكثر من سبعمائة ألف حديث وخمسين ألف حديث، ومناقبه كثيرة، وفضائله جمة، وله كرامات جليلة، وقد طول المؤرخون ترجمته، وترجمه الذهبي في النبلاء في مقدار خمسين ورقة، وأفردت ترجمته بمصنفات مستقلة بسيطة، قال الذهبي في التذكرة: سيرة أبي عبد الله - يعني الإمام أحمد - قد أفردها البيهقي في مجلد، وأفردها ابن الجوزي في مجلد، وأفردها شيخ الإسلام الأنصاري في مجلد لطيف - انتهى. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج1: ص75) : لم يسق المؤلف - يعني مصنف التهذيب - قصة المحنة، وقد استوفاها ابن الجوزي في مناقبه في مجلد، وقبله شيخ الإسلام الهروي، وترجمته في تاريخ بغداد للخطيب (ج4: 412-423) مستوفاة - انتهى. قال ابن خلكان: وحرز من حضر جنازته من الرجال فكانوا ثمانمائة ألف، ومن النساء ستين ألفاً، وقال أبوالحسن بن الزاغوني: كشف قبر أحمد حين دفن الشريف أبوجعفر بن أبي موسى إلى جانبه فوجد كفنه صحيحاً لم يبل، وجنبه لم يتغير، وذلك بعد موته بمائتين وثلاثين سنة. (وأبي عيسى محمد بن عيسى) بن سورة بن الضحاك السلمي الضرير البوغي (الترمذي) نسبة إلى ترمذ، واختلف في ضبطها كثيراً، والمعروف المشهور على الألسنة كسر التاء والميم وبينهما راء ساكنة بوزن "إثمد" كما ضبطها صاحب القاموس، قال السمعاني في الأنساب (ورقة 105) : والناس مختلفون في كيفية هذه النسبة، بعضهم يقول بفتح التاء المنقوطة بنقطتين من فوق، وبعضهم يقول بكسرها، والمتداول على لسان تلك البلدة - وكنت أقمت بها اثني عشر يوماً - فتح التاء وكسر الميم، والذي كنا نعرفه قديماً كسر التاء والميم جميعاً، والذي يقوله المتنوقون وأهل المعرفة بضم التاء والميم، وكل واحد يقول معنى لما يدعيه - انتهى. وقال الذهبي في التذكرة (ج1: ص188) : قال شيخنا ابن دقيق العيد: وترمذ بالكسر هو المستفيض على الألسنة حتى يكون كالمتواتر، وهذه البلدة ترمذ قال السمعاني: مدينة قديمة على طرف نهر بلغ الذي يقال له جيحون، ولد سنة 209هـ، كتبه نصاً العلامة الشيخ محمد عابد السندي المتوفى سنة 1257هـ بخطه على نسخة من كتاب الترمذي المكتوبة سنة 1221هـ المصححة المقابلة على أصل صحيح معتمد، ذكره العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر في مقدمة تعليقه على الترمذي (77) قال: ولعله نقل ذلك استنباطاً من كلام غيره من المتقدمين، وقد

ـــــــــــــــــــــــــــــ صرح بذلك أيضاً جسوس والبيجوري في شرحهما على الشمائل، وقد ذكره الذهبي في ميزان الاعتدال أنه مات في رجب سنة 279هـ، وقال: وكان من أبناء السبعين، وقال القاري في شرح الشمائل بعد أن ذكر وفاته سنة 279هـ: وله سبعون سنة، وقال الصلاح الصفدي في نكت الهميان: ولد سنة بضع ومائتين، وقال ابن الأثير في جامع الأصول: ولد في ذي الحجة سنة مائتين (1) ، فالله أعلم بصحة ذلك، والأكثر على أنه توفي ليلة الاثنين الثالث عشر من رجب سنة 279هـ، وقيل سنة 275هـ، وقيل سنة 277هـ، والصواب الأول، وهو - رحمه الله - أحد الأئمة الحفاظ الأعلام المبرزين الذين يقتدى بهم في علم الحديث، صنف الجامع والتواريخ والعلل تصنيف رجل عالم متقن، كان يضرب به المثل في الحفظ، قد امتحنه بعض المحدثين بأن قرأ له أربعين حديثاً من غرائب حديثه، فأعادها من صدره فقال: ما رأيت مثلك. ونقل الحاكم أبوأحمد عن عمر بن علك أنه قال: مات البخاري فلم يخلف بخراسان مثل أبي عيسى في العلم والحفظ والورع والزهد، بكى حتى عمي وبقي ضريراً سنين، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: كان ممن جمع وصنف وحفظ وذاكر، وقال أبوالفضل البيلماني: سمعت نصر بن محمد الشيركوهي يقول: سمعت محمد بن عيسى الترمذي يقول: قال لي محمد بن إسماعيل - يعني البخاري-: ما انتفعت بك أكثر مما انتفعت بي، وقال ابن خلكان: وهو تلميذ أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، وشاركه في بعض شيوخه، مثل قتيبة بن سعيد، وعلي بن حجر، وابن بشار وغيرهم، وقال الشيخ أحمد المصري في مقدمة تعليقه: الترمذي تلميذ البخاري وخريجه، وعنه أخذ علم الحديث، وتفقه فيه، ومرن بين يديه، وسأله، واستفاد منه، وناظره فوافقه وخالفه كعادة هؤلاء العلماء في اتباع الحق حيث كان، وفي إنكار التقليد والإعراض عنه، وقد طاف البلاد وسمع خلقاً من الخراسانيين والعراقيين والحجازيين كما في التهذيب، والرواة عنه كثيرون، ذكر بعضهم في تذكرة الحفاظ وفي التهذيب، وأهمهم عندنا ذكراً المحبوبي راوي كتاب الجامع عنه، ترجم له ابن العماد في شذرات الذهب (ج2: ص373) فقال: أبوالعباس المحبوبي محمد بن أحمد بن محبوب المروزي، محدث مرو وشيخها ورئيسها، توفي في رمضان سنة 346هـ، وله سبع وسبعون سنة، روى جامع الترمذي عن مؤلفه، وروى عن سعيد بن مسعود صاحب النضر بن شميل وأمثاله. ووصفه السمعاني في الأنساب (ورقة 511) : شيخ أهل الثروة من التجار بخراسان وإليه كانت الرحلة، وقد أراد البخاري أن يشهد لتلميذه الترمذي شهادة قيمة فسمع منه حديثاً واحداً كعادة كبار الشيوخ في سماعهم ممن هو أصغر منهم - انتهى كلام الشيخ أحمد مختصراً. قلت: بل سمع البخاري من الترمذي حديثين، ذكر أحدهما في تفسير سورة الحشر، والثاني في مناقب علي، وقال المصنف: وللترمذي تصانيف كثيرة في علم الحديث، وهذا كتابه الصحيح أحسن الكتب وأكثرها فائدة وأحسنها ترتيبها وأقلها تكراراً، وفيه ما ليس في غيره من ذكر المذاهب ووجوه الاستدلال وتبيين أنواع الحديث من الصحيح والحسن والغريب، وفيه جرح وتعديل، وفي آخر كتاب العلل، وقد جمع فيه فوائد حسنة لا يخفى قدرها على من وقف عليها (2) . وارجع للبسط والتفصيل إلى مقدمة تحفة الأحوذي شرح

_ (1) كذا نقله شيخنا في مقدمة شرح الترمذي (ص167) ، والذي في جامع الأصول طبعة مصر (ج1: ص114) : ولد سنة تسع ومائتين. (2) وكتاب العلل هذا الملحق بكتاب الجامع (سنن الترمذي) معروف بالعلل الصغير، وقد شرحه ابن رجب الحنبلي المتوفى سنة 795، وطبع هذا الشرح في بغداد سنة 1396هـ بتحقيق السيد صحبي جاسم الحميدي البدري السامرائي، وللترمذي أيضاً كتاب العلل الكبير، ذكره ابن النديم في الفهرست ص (339) قال السيد صبحي: لم أقف عليه ولعله فقد.

وأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، وأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، ـــــــــــــــــــــــــــــ جامع الترمذي، وإلى مقدمة تعليق الترمذي للشيخ أحمد محمد شاكر المصري (وأبي داود سليمان بن الأشعث) بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو بن عمران الأزدي (السجستاني) بكسر السين المهملة وتفتح وبكسر الجيم وسكون السين الثانية بعدها تاء مثناة من فوقها وبعد الألف نون، نسبة إلى سجستان معرب سيستان الأقليم المشهور بين خراسان وكرمان، ويقال في النسبة إلى سجستان: "سجزي" أيضاً، وقد نسب أبوداود وغيره كذلك، وهو عجيب التغير في النسب، ولد سنة 202هـ، وتوفي بالبصرة يوم الجمعة منتصف شوال سنة 275هـ عن ثلاث وسبعين سنة. وهو الإمام الثبت أحد حفاظ الحديث وعلله، وفي الدرجة العليا من النسك والصلاح وعلم الفقه والورع والإتقان، أحد من رحل وطوف البلاد وجمع وصنف وسمع بخراسان والعراق والجزيرة والشام والحجاز ومصر، وقدم بغداد مراراً، ثم نزل البصرة وسكنها، وأخذ عن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وقتيبة بن سعيد وعبد الله بن مسلمة ومسدد بن مسرهد ومحمد بن بشار وغير هؤلاء أئمة الحديث ممن لا يحصى كثرة. وحدث عنه ابنه أبوبكر عبد الله بن أبي داود، وكان من أكابر الحفاظ ببغداد عالماً متفقاً عليه إمام بن إمام، وحدث عنه أيضاً أبوعيسى الترمذي صاحب الجامع، وأبوعبد الرحمن النسائي صاحب السنن المشهورة، وأحمد بن محمد الخلال، وروى عنه شيخه أحمد بن حنبل فرد حديث أي حديث العتيرة، كان أبوداود يفتخر بذلك، وروى عنه خلق سوى هؤلاء، قال أبوبكر الخلال: أبوداود هو الإمام المقدم في زمانه، رجل لم يسبقه إلى معرفته بتخريج العلوم وبصره بمواضعه أحد في زمانه، وقال ابن حبان: أبوداود أحد أئمة الدنيا فقهاً وعلماً وحفظاً ونسكاً وورعاً وإتقاناً، وقال الحافظ موسى بن هارون: خلق أبوداود في الدنيا للحديث وفي الآخر للجنة، وما رأيت أفضل منه، قال أبوداود: كتبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسمائة ألف حديث، انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب، جمعت فيه أربعة آلاف حديث وثمان مائة حديث، ذكرت الصحيح وما يشبهه وما يقاربه، وقال: ما ذكرت فيه حديثاً أجمع الناس على تركه، وعرض كتابه هذا على شيخه أحمد بن حنبل فاستجاده واستحسنه، وارجع للبسط إلى تاريخ بغداد (ج9: ص55-59) ، والتهذيب (ج4: 169-173) ، والتذكرة (ج2: 168-170) ، وبستان المحدثين، وإتحاف النبلاء (256-257) ، وغير ذلك من كتب التواريخ والتراجم. (وأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب) بن علي بن سنان بن بحر بن دينار الحافظ الإمام القاضي صاحب السنن المشهورة (النسائي) نسبة إلى نسأ - بفتح النون والسين المهملة وبعدها همزة يعني بالقصر -، وهي مدينة بخراسان، وقال صاحب مجمع البحار في المغني: النسائي بنون مفتوحة وخفة سين مهملة ومد وهمزة نسبة إلى نسأ، مدينة بخراسان، وكذا ضبطه طاش كبرى زاده، قال شيخنا في مقدمة شرحه الجامع الترمذي (ص65) : النسائي بالمد والنسائي بالقصر كلاهما صحيح، فإن الظاهر أن مدينة نساء التي هي بخراسان يقال لها نساء ونسأ بالوجهين انتهى. ولد سنة 214هـ أو سنة 215هـ أو سنة 221هـ على اختلاف الأقوال، والراجح هو القول الثاني، وتوفي برملة من أرض فلسطين، وقيل: بمكة يوم الاثنين لثلاث عشرة خلت من صفر، وقيل: من شعبان سنة 303. قال الذهبي في مختصره:

عاش ثمان وثمانين سنة. قال الحافظ: وكأنه بناه على ما تقدم من مولده فهو تقريب - انتهى. وهو - رحمه الله - أحد الأئمة الحفاظ العلماء الفقهاء، لقي المشايخ الكبار، وأخذ الحديث عن قتيبة بن سعيد وهناد بن السري ومحمد بن بشار وعلي بن حجر ومحمود بن غيلان وأبي داود سليمان بن الأشعث وغير هؤلاء من المشايخ الحفاظ، وأخذ عنه الحديث خلق كثير، ومنهم الطبراني والطحاوي وأبوبكر بن السني الحافظ، وله كتب كثيرة في الحديث والعلل وغير ذلك، قال أبوالحسين بن المظفر: سمعت مشايخنا بمصر يعترفون لأبي عبد الرحمن النسائي بالتقدم والإمامة، ويصفون من اجتهاده في العبادة بالليل والنهار ومواظبته على الحج والجهاد وإقامته السنن المأثورة واحترازه عن مجالس السلطان، وإن ذلك لم يزل دأبه إلى أن استشهد، وقال الحاكم: سمعت عمرو بن علي الحافظ غير مرة يقول: أبوعبد الرحمن مقدم على كل من يذكر بهذا العلم من أهل عصره، وقال مرة: سمعت عمرو بن علي يقول: النسائي أفقه مشايخ مصر في عصره، وأعرفهم بالصحيح والسقيم، وأعلمهم بالرجال، فلما بلغ هذا المبلغ حسدوه، فخرج إلى الرملة، فسئل عن فضائل معاوية فأمسك عنه، فضربوه في الجامع، فقال: أخرجوني إلى مكة، فأخرجوه وهو عليل، وتوفي مقتولاً شهيداً، وقال: أما كلام أبي عبد الرحمن على فقه الحديث فأكثر من أن يذكر، ومن نظر في كتابه السنن تحير، قال السيد جمال الدين المحدث: صنف النسائي في أول الأمر كتاباً يقال له السنن الكبير للنسائي، وهو كتاب جليل لم يكتب مثله في جمع طرق الحديث وبيان مخرجه، وبعده اختصره وسماه بالمجتنى - بالنون -، وسبب اختصاره أن أحداً من أمراء زمانه سأله أن جميع أحاديث كتابك صحيح؟ فقال في جوابه: لا، فأمره الأمير بتجريد الصحاح وكتابة صحيح مجرد، فانتخب منه المجتنى، وكل حديث تكلم في إسناده أسقطه منه، فإذا أطلق المحدثون بقولهم "رواه النسائي" فمرادهم هذا المختصر المسمى بالمجتنى، لا الكتاب الكبير، كذا في المرقاة، وقال ابن الأثير (ج1: ص116) : وسأله بعض الأمراء عن كتابه السنن أكله صحيح؟ فقال: لا، قال: فاكتب لنا الصحيح منه مجرداً، فصنع المجتبى، فهو المجتبى من السنن، ترك كل حديث أورده في السنن (الكبيرة) مما تكلم في إسناده بالتعليل، رواه ابن عساكر، وسماه المجتنى بالنون أو الباء والمعنى قريب، والأشهر هو الأخير، وإذا أطلق أهل الحديث على أن النسائي روى حديثاً فإنما يريدون المجتبى لا السنن الكبرى، وهي إحدى الكتب الستة، قال الحافظ أبوعلي: للنسائي شرط في الرجال أشد من شرط مسلم، وكذلك الحاكم والخطيب كانا يقولان: إنه صحيح، وإن له شرطاً في الرجال أشد من شرط مسلم، لكن قولهم غير مسلّم، قال البقاعي في شرح الألفية عن ابن كثير: إن في النسائي رجالاً مجهولين إما عيناً أو حالاً، وفيهم المجروح، وفيه أحاديث ضعيفة ومعللة ومنكرة، وقال الشوكاني: وله مصنفات كثيرة في الحديث والعلل، منها السنن، وهي أقل السنن الأربع بعد الصحيح حديثاً ضعيفاً، قال الذهبي والتاج السبكي: إن النسائي أحفظ من مسلم صاحب الصحيح، هذا ملتقط من مقدمة تحفة الأحوذي (64-65) ، والتذكرة (ج2: 266-269) ، والتهذيب (ج1: 37-39) ، وإتحاف النبلاء (189-190) ، وبستان المحدثين، هذا وقد ادعى الشيخ تقي النقي العلامة عبد الصمد شرف الدين في مقدمته القيمة للسنن الكبرى (17-19) أن حكاية ابن

وأبي عبد الله محمد بن يزيد ابن ماجه القزويني، ـــــــــــــــــــــــــــــ الأثير المذكورة كذب وزور، ولنا في كلامه نظر لا يخفى على الباحث المتأمل. (وأبي عبد الله محمد بن يزيد ابن ماجه) بفتح الميم وتخفيف الجيم وبينهما ألف وفي الآخر هاء ساكنه لا تاء مربوطة (القزويني) بفتح القاف وسكون الزاي وكسر الواو وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها نون، نسبة إلى قزوين وهي من أشهر مدن عراق العجم، كانت ولادته سنة 209هـ، وتوفي يوم الاثنين، ودفن يوم الثلاثاء لثمان بقين من شهر رمضان سنة273هـ، وله أربع وستون سنة، وهو الحافظ الكبير المشهور المفسر أبوعبد الله محمد بن يزيد ابن ماجه الربعي بالولاء (نسبة إلى ربيعة) القزويني، مصنف كتاب السنن في الحديث، كان إماماً في الحديث عارفاً بعلومه وجميع ما يتعلق به، ارتحل إلى العراق والبصرة والكوفة وبغداد ومكة والشام ومصر والري لكتب الحديث، وله تفسير القرآن الكريم، وتاريخ مليح، وكتابه في الحديث أحد الصحاح الستة. قال الخليلي: ثقة كبير متفق عليه محتج به، له معرفة بالحديث وحفظ، وله مصنفات في السنن والتفسير والتاريخ، قال: وكان عارفاً بهذا الشأن، سمع أصحاب مالك والليث. وعنه أبوالحسن القطان وخلق سواه، قال السندي في مقدمة تعليقه على سنن ابن ماجه: قد اشتمل هذا الكتاب من بين الكتب الست على شؤون كثيرة انفرد بها عن غيره. والمشهور أن ما انفرد به يكون ضعيفاً، وليس بكلي، لكن الغالب كذلك، ولقد ألف الحافظ الحجة العلامة أحمد بن أبي بكر البوصيري في زوائده تأليفاً نبه على غالبها. وقال السيوطي في حاشية الكتاب: قال الحافظ نقلاً عن الرافعي أنه قال: سمعت والدي يقول: عرض كتاب السنن لابن ماجه على أبي زرعة الرازي فاستحسنه، وقال: لم يخطئ إلا في ثلاثة أحاديث، وقال في حاشية النسائي نقلاً عن غيره: إن ابن ماجه قد انفرد بإخراج أحاديث عن رجال متهمين بالكذب ووضع الأحاديث، وبعض تلك الأحاديث لا تعرف إلا من جهتهم، مثل حبيب بن أبي حبيب كاتب مالك، والعلاء بن زيد، وداود بن المحبر، وعبد الوهاب بن الضحاك، وإسماعيل بن زياد السكوني وغيرهم، وأما ما حكاه ابن طاهر عن أبي زرعة الرازي أنه نظر فيه فقال: لعله لا يكون فيه تمام ثلاثين حديثاً مما فيه ضعف، فهي حكاية لا تصح لانقطاع سندها، وإن كانت محفوظة فلعله أراد ما فيه من الأحاديث الساقطة إلى الغاية، أو أراد من الكتاب بعضه، ووجد فيه هذا القدر، وقد حكم أبوزرعة على أحاديث كثيرة منه بكونها باطلة أو ساقطة أو منكرة، وذلك محكي في كتاب العلل لأبي حاتم - انتهى. قال السندي: وبالجملة فهو دون الكتب الخمسة في المرتبة، فلذلك أخرجه كثير من عده في جملة الصحاح الستة، لكن غالب المتأخرين على أنه سادس الستة - انتهى. وقال الذهبي: سنن أبي عبد الله كتاب حسن، لولا ما كدر من أحاديث واهية ليست بالكثيرة، قال أبوالحسن القطان صاحب ابن ماجه: في السنن ألف وخمس مائة باب، وجملة ما فيها أربعة آلاف حديث، وقال ابن الأثير: كتابه كتاب مفيد قوي النفع في الفقه لكن فيه أحاديث ضعيفة جداً بل منكرة، حتى نقل عن المزي أن الغالب فيما تفرد به - يعني بذلك ما انفرد به من الحديث عن الأئمة الخمسة - الضعف، ولذا لم يضفه غير واحد إلى الخمسة بل جعلوا السادس الموطأ، وفيه عدة أحاديث ثلاثيات من طريق جبارة بن المغلس، وفيه حديث في فضل قزوين منكر بل موضوع،

وأبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولذا طعنوا فيه، وفي مصنفه، وواضعه رجل اسمه ميسرة، قال الحافظ في التهذيب (ج9: ص531) : كتابه في السنن جامع جيد كثير الأبواب والغرائب، وفيه أحاديث ضعيفة جداً حتى بلغني أن السري كان يقول: مهما انفرد بخبر فيه فهو ضعيف غالباً، وليس الأمر في ذلك على إطلاقه باستقرائي، وفي الجملة ففيه أحاديث كثيرة منكرة، ونقل القاري عن الحافظ أنه قال: وأول من أضاف ابن ماجه إلى الخمسة الفضل بن طاهر حيث أدرجه معها في أطرافه، وكذا في شروطه الأئمة الستة، ثم الحافظ عبد الغني في كتاب الإكمال في أسماء الرجال الذي هذبه الحافظ المزي، وقدموه على الموطأ لكثرة زوائده على الخمسة بخلاف الموطأ، انتهى. تنبيه: اختلف في ماجه فقيل: إنه لقب والد محمد بن يزيد، وقيل: إنه اسم أمه، قال القاري في المرقاة ما لفظه: بإثبات ألف يعني في ابن ماجه خطاً، فإنه بدل من ابن يزيد، ففي القاموس: ماجه لقب والد محمد بن يزيد صاحب السنن لا جده، وفي شرح الأربعين: أن ماجه اسم أمه - انتهى. وقال صاحب الحطة: والصحيح أن ماجه أمه، وعلى كلا القولين يكتب الألف على لفظ ابن في الرسم ليعلم أنه وصف لمحمد لا لما يليه، فهو مثل عبد الله بن مالك ابن بحينة، وإسماعيل بن إبراهيم ابن علية، وفي إنجاح الحاجة: "ماجه" على ما ذكر المجد في القاموس، والنووي في تهذيب الأسماء، لقب والده لا جده - انتهى. والصحيح هو الأول - انتهى ما في الحطة -. قال في تاج العروس شرح القاموس (ج2: ص102) ما لفظه: "ماجه" بسكون الهاء كما جزم به الشمس بن خلكان: لقب والد محمد بن يزيد القزويني صاحب السنن لا جده - أي لا لقب جده - كما زعمه بعض. قال شيخنا: وما ذهب إليه المصنف فقد جزم به أبوالحسن القطان، ووافقه على ذلك هبة الله بن زاذان وغيره، قالوا: وعليه فيكتب ابن ماجه بالألف لا غير. وهناك قول آخر ذكره جماعة وصححوه وهو أن ماجه اسم لأمه - انتهى. (وأبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن) بن فضل بن بهرام بن عبد الصمد التميمي السمرقندي (الدارمي) بكسر الراء المهملة - نسبة إلى دارم بن مالك بطن كبير من تميم. ولد سنة 181هـ، وتوفي يوم التروية ودفن يوم عرفة، وقيل: مات يوم الخميس يوم عرفة ودفن يوم الجمعة للعاشر من ذي الحجة سنة 255هـ، وله من العمر أربع وسبعون سنة، وهو الإمام الحافظ شيخ الإسلام عالم سمرقند صاحب المسند المشهور، وهو على الأبواب لا على الصحابة على خلاف اصطلاح المحدثين. سمع النضر بن شميل ويزيد بن هارون وجعفر بن عون وطبقتهم بالحرمين وخراسان والشام والعراق ومصر. وحدث عنه مسلم وأبوداود والترمذي وعبد الله بن الإمام أحمد والنسائي خارج سننه وآخرون، وقال الخطيب: كان أحد الحفاظ والرحالين، موصوفاً بالثقة والصدق والورع والزهد، استقضى على سمرقند فأبى فألح عليه السلطان فقضى بقضيه واحدة ثم استعفى فأعفي - إلى أن قال: وكان على غاية العقل وفي نهاية الفضل، يضرب به المثل في الديانة والحلم والاجتهاد والعبادة والتقلل. صنف المسند والتفسير وكتاب الجامع. قال أحمد بن حنبل وذكر الدارمي: عرضت عليه الدنيا فلم يقبل. وقال أبوحاتم بن حبان: كان من الحفاظ المتقنين وأهل الورع في الدين ممن حفظ وجمع وتفقه وحدث، وأظهر

وأبي الحسن علي بن عمر الدارقطني، وأبي بكر بن الحسين البيهقي، ـــــــــــــــــــــــــــــ السنة في بلده ودعا إليها وذب عن حريمها وقمع من خالفها، وقال الحاكم أبوعبد الله: كان من حفاظ الحديث المبرزين، وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: إمام أهل زمانه، وارجع لكشف حال مسنده وبيان مرتبته إلى تدريب الراوي (57) ، ومقدمة المشكاة في مصطلح الحديث للشيخ الدهلوي، وثبت الشيخ محمد عابد السندي، وتوضيح الأفكار للأمير الصنعاني. (وأبي الحسن علي بن عمر) بن أحمد بن مهدي البغدادي الحافظ الشهير صاحب السنن (الدارقطني) بالدال المهملة بعدها ألف ثم راء مهملة مفتوحة وقاف مضمومة وطاء مهملة ساكنة وفي آخرها نون - منسوب إلى دار القطن محلة كبيرة كانت ببغداد قديماً. ولد سنة 305هـ أو سنة 306هـ، ومات يوم الأربعاء لثمان خلون من ذي القعدة سنة 385هـ، وله ثمانون سنة. قال الذهبي في التذكرة (ج3: ص199-202) : سمع البغوي وابن أبي داود وابن صاعد وابن دريد وخلائق ببغداد والبصرة والكوفة وواسط، وارتحل في كهولته إلى مصر وشام، وصنف التصانيف، حديث عنه الحاكم وأبوحامد الأسفرائني وتمام الرازي والحافظ عبد الغني الأزدي وأبوبكر البرقاني وأبوذر الهروي وأبونعيم الأصبهاني - صاحب حلية الأولياء - وأبومحمد الخلال والقاضي أبوالطيب الطبري وأبومحمد الجوهري وأمم سواهم. قال الحاكم: صار الدارقطني أوحد عصره في الحفظ والفهم والورع وإماماً في القراء والنحويين. وأقمت في سنة سبع وستين ببغداد أربعة أشهر، وكثر اجتماعنا فصادفته فوق ما وصف لي، وسألته عن العلل والشيوخ، وله مصنفات يطول ذكرها، فأشهد أنه لم يخلف على أديم الأرض مثله. وقال الخطيب: كان فريد عصره وإمام وقته، وانتهى إليه علم الأثر والمعرفة بالعلل وأسماء الرجال مع الصدق والثقة وصحة الاعتقاد والأخذ من علوم كالقراءات، فإن له فيها مصنفاً سبق فيه إلى عقد الأبواب قبل فهرس الحروف، وتأسى القراء به بعده، ومن ذلك المعرفة بمذاهب الفقهاء، بلغني أنه درس الفقة على أبي سعيد الأصطخري، ومنها المعرفة بالآداب والشعر فقيل: كان يحفظ دواوين جماعة، منها ديوان السيد الحميري، ولهذا نسب إلى التشيع، قال ابن الذهبي: ما أبعده من التشيع، قال القاضي أبوالطيب الطبري: الدارقطني أمير المؤمنين في الحديث، قال الذهبي: إذا شئت أن تبين براعة هذا الإمام فطالع العلل له فإنك تندهش ويطول تعجبك - انتهى ما في التذكرة مختصراً ملخصاً. وارجع للتفصيل إلى إتحاف النبلاء (316-317) ، وتاريخ ابن لخكان (ج1: ص331) ، وبستان المحدثين (48-49) . (وأبي بكر أحمد بن الحسين) بن علي بن عبد الله بن موسى الخسروجردي (البيهقي) نسبة لبيهق بموحدة مفتوحة ومثناة تحتية ساكنة وهاء مفتوحة فقاف، وهي قرية مجتمعة بنواحي نيسابور على عشرين فرسخاً منها، ولد بخسروجرد - قرية من قراها - في شعبان سنة 384هـ، وتوفي في العاشر من جمادى الأولى سنة 458هـ بنيسابور، وله من العمر أربع وسبعون سنة، ونقل إلى بيهق ودفن بخسروجرد، وقال أبوالحسن عبد الغافر في ذيل تاريخ نيسابور: أبوبكر البيهقي الفقيه الحافظ الأصولي الديّن الورع، واحد زمانه في الحفظ وفرد أقرانه في الإتقان والضبط، من كبار أصحاب الحاكم (أبي عبد الله بن البيع في

وأبي الحسين رزين بن معاوية العبدري، ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث) ، ويزيد عليه بأنواع من العلوم، كتب الحديث وحفظه من صباه وتفقه وبرع وأخذ في الأصول وارتحل إلى العراق والجبال والحجاز ثم صنف، وتواليفه تقارب ألف جزء ما لم يسبقه إليه أحد، وجمع بين علم الحديث والفقه وبيان علل الحديث ووجه الجمع بين الأحاديث، طلب منه الأئمة الانتقال من الناحية إلى نيسابور لسماع الكتب، فأتى في سنة إحدى وأربعين وأعدوا له المجلس لسماع كتب المعرفة، وحضره الأئمة، وكان على سيرة العلماء قانعاً باليسير. قال الذهبي: ولم يكن عنده سنن النسائي ولا جامع الترمذي ولا سنن ابن ماجه، بلى كان عنده الحاكم فأكثر عنه، وعدنه عوالٍ، وبورك له في عمله لحسن مقصده وقوة فهمه وحفظه، وعمل كتباً لم يسبق إلى تحريرها، منها الأسماء والصفات مجلدان، والسنن الكبير عشر مجلدات، ومعرفة السنن والآثار أربع مجلدات، وشعب الإيمان مجلدان، ودلائل النبوة ثلاث مجلدات، والسنن الصغير مجلدان، والزهد مجلد، والبعث مجلد، والدعوات مجلد، ونصوص الشافعي ثلاث مجلدات، والمدخل مجلد، والترغيب والترهيب مجلد، ومناقب الشافعي، ومناقب أحمد، وكتب عديدة لا أذكرها، قال إمام الحرمين أبوالمعالي: ما من شافعي إلا وللشافعي عليه منة إلا أبابكر البيهقي فإن له منة على الشافعي لتصانيفه في نصرة مذهبه، سمع أباعبد الله الحاكم وأبابكر بن فورك وأباعلي الروذباري وخلقاً بخراسان وبغداد والكوفة، وحدث عنه شيخ الإسلام أبوإسماعيل الأنصاري بالإجازة وولده إسماعيل بن أحمد وأبوعبد الله الفزاري وخلق كثير - انتهى كلام الذهبي مختصراً، وقد بسط ترجمته في إتحاف النبلاء (190-191) ، وبستان المحدثين (54-55) . (وأبي الحسن رزين) بفتح الراء وكسر الزاي، ابن معاوية السرقسطي (العبدري) بفتح العين المهملة وسكون الموحدة وفتح الدال المهملة وبالراء المخففة - منسوب إلى عبد الدار بن قصي بطن من قريش، وهذه النسبة على خلاف قواعد النسبة، وهو الذي جمع الكتب الستة في كتابه تجريد الصحاح الستة، وهو أكبر الكتب الذي رآها ابن الأثير الجزري وأعمها، حيث حوى الكتب الستة التي هي أم كتب الحديث وأشهرها، لكن قد أودع فيه أحاديث في أبواب غير تلك الأبواب أولى بها، وكرر فيه أحاديث كثيرة وترك أكثر منها، وفيه أيضاً أحاديث كثيرة لا توجد في كتب أصول الستة، وقد اعتمد في ترتيب كتابه هذا على أبواب البخاري، وذكر فيه أيضاً أقوال التابعين والأئمة سيما فقه مالك، كما يظهر من كلام ابن الأثير في مقدمة كتابه جامع الأصول لأحاديث الرسول، قال الشوكاني في الفوائد المجموعة (19) : لقد أدخل رزين بن معاوية العبدري في كتابه الذي جمع بين دواوين الإسلام بلايا وموضوعات لا تعرف ولا يدرى من أين جاء بها، وذلك خيانة المسلمين، وقد أخطأ ابن الأثير خطأً بيناً بذكر ما زاده رزين في جامع الأصول، ولم ينبّه على عدم صحته في نفسه إلا نادراً كقوله بعد ذكر هذه الصلاة أي صلاة الرغائب المشهورة التي اتفق الحفاظ على أنها موضوعة ما لفظه: هذا الحديث مما وجدته في كتاب رزين ولم أجده في واحد من الكتب الستة، والحديث مطعون فيه - انتهى كلام الشوكاني، قال المؤلف في الإكمال، وطاش كبرى زاده في مفتاح السعادة (ج2: ص12) : مات رزين بعد العشرين

وغيرهم، وقليل ما هو. وإني إذا نسبت الحديث إليهم كأني أسندت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنهم قد فرغوا منه، وأغنونا عنه، وسردت الكتب والأبواب كما سردها، واقتفيت أثره فيها، وقسمت كل باب غالباً على فصول ثلاثة: أولها ما أخرجه الشيخان أو أحدهما، ـــــــــــــــــــــــــــــ وخمس مائة، وقال العلامة القنوجي البوفالي في الإتحاف (35) : توفي سنة خمس وثلاثين وخمسمائة، فالله أعلم، (وغيرهم) بالجر عطفاً على أبي عبد الله، وقيل: بالرفع، عطفاً على "مثل"، (وقليل ما) ما زائدة إبهامية تزيد الشيوع والمبالغة في القلة (هو) أي غيرهم والإفراد للفظ (غيرهم) وهو مبتدأ، خبره "قليل" يعني غير الأئمة الثلاثة عشر المذكورين قليل، كالنووي وابن حبان وابن عبد البر وغيرهم، ولما قال فيما قدمه "فأعلمت ما أغفله" استشعر اعتراضاً بأن الإعلام الحقيقي إنما هو بإيراد الإسناد الكلي ليترتب عليه معرفة رجاله التي يتوقف عليها الحكم بصحة الحديث وحسنه وضعفه وسائر أحواله، وأيضاً كان طعن بعض النقاد على صاحب المصابيح من جهة ترك ذكر الإسناد وهو باقٍ على حاله؛ لأنه لم يتأت ذكر الإسناد بذكر أحد من المؤلفين، فاعتذر عن الإشكال، فقال: (وإني إذا نسبت) أي كل حديث (إليهم) أي إلى بعض الأئمة المذكورين المعروفة كتبهم بأسانيدهم (كأني أسندت) أي الحديث برجاله (إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي فيما إذا كان الحديث مرفوعاً وهو الغالب؛ (لأنهم قد فرغوا منه) أي من الإسناد الكامل بذكرهم على حد قوله: {اعدلوا هو أقرب للتقوى} [5: 8] ، (وأغنونا) بهمزة قطع، أي جعلونا في غنى وكفاية (عنه) أي عن ذكر الإسناد، وقال القاري: أي عن تحقيق الإسناد من وصله وقطعه ووقفه ورفعه وضعفه وحسنه وصحته ووضعه، ومن ثم لزم الأخذ بنص أحدهم على صحة السند أو الحديث أو على حسنه أو ضعفه أو وضعه، (وسردت الكتب والأبواب) أي أوردتها ووضعتها متتابعة ومتوالية (كما سردها) أي رتبها وعينها البغوي في المصابيح، (واقتفيت) أي اتبعت (أثره) بفتحتين، وقيل: بكسر الهمزة وسكون المثلثة، أي طريقة (فيها) أي في الكتب والأبواب من غير تقديم وتأخير وزيادة وتغيير، فإن ترتيبه على وجه الكمال وتبويبه في غاية من الحسن، (وقسمت) بالتخفيف (غالباً) أي في غالب الأحوال، وقيد الغالبية بمعنى الأكثرية؛ لأنه قد لا يوجد الفصل الأول أو الثاني أو الثالث أو الثاني والثالث كلاهما في بعض الأبواب كما يأتي (أولها) أي أول الفصول في هذا الكتاب بدل قول البغوي في المصابيح "من الصحاح" (ما أخرجه) أي رواه (الشيخان أو أحدهما) أي بزعم صاحب المصابيح لما سيأتي من قوله "وإن عثرت على اختلاف في الفصلين" أو المراد في الغالب، والنادر كالمعدوم، والمراد بالشيخين في اصطلاح المحدثين: البخاري ومسلم، والإخراج والتخريج هو إيراد المحدث الحديث بسنده في كتابه، ويقال له الرواية أيضاً، فلا يقال في حق أحد ممن جمع الأحاديث في مؤلفاتهم ونقلوها من كتب الأصول الصحاح الستة والمسانيد والمعاجم والسنن وأمثالها كالبغوي في المصابيح والخطيب في المشكاة والحميدي في الجمع بين الصحيحين وابن الأثير في جامع الأصول والسيوطي في جمع

واكتفيت بهما وإن اشترك فيه الغير لعلو درجتهما في الرواية. وثانيها ما أورده غيرهما من الأئمة المذكورين. وثالثها ما اشتمل على معنى الباب من ملحقات مناسبة ـــــــــــــــــــــــــــــ الجوامع، والمناوي في الجامع الأزهر، والهيثمي في مجمع الزوائد، والروداني المغربي المالكي في جمع الفوائد وأمثالهم أنه أخرجه أو خرجه أو رواه في كتابه؛ لأنه لم يرو هؤلاء تلك الأحاديث في كتبهم بأسانيدهم، بل نقلوها من الكتب المروية فيها مع ذكر الصحابة وذكر من خرجها من المحدثين، والفرق بين المخرج اسم فاعل والمخرج في قولهم في بعض الأحاديث "عرف مخرجه" أو "لم يعرف مخرجه" أن المخرج - بالتشديد أو التخفيف على صيغة اسم الفاعل - هو ذاكر الحديث على سبيل الرواية كالبخاري مثلاً، وأما المخرج المذكور في القول المتقدم فهو - بفتح الميم والراء اسم مكان -، بمعنى محل خروجه، وهو الصحابي الراوي للحديث، أو رجاله الراوون له؛ لأنه خرج منهم، وقد يطلق لفظ الإخراج أو التخريج على ذكر الحديث وإيراده مطلقاً أي أعم من أن يذكره بسنده على سبيل الرواية، أو يذكره على سبيل النقل من الأصول مع ذكر المخرج أي الصحابي، والمخرج أي المحدث الذي رواه في كتابه، وعلى هذا يجوز أن يقال: خرجه أو أخرجه الخطيب في المشكاة، والهيثمي في مجمع الزوائد ونحو ذلك، فيكون الإخراج والتخريج أعم من الرواية، ثم رأيت الجزائري قال في توجيه النظر (142) : أما المخرج - بفتح الميم - هو في الأصل بمعنى مكان الخروج، فأطلق على الموضع الذي ظهر منه الحديث، وهم الرواة الذين جاء عنهم، وأما التخريج فيطلق على معنيين: أحدهما إيراد الحديث بإسناده في كتاب أو إملاء، وأكثر ما تقع هذه العبارة للمغاربة، والأولى أن يقولوا: الإخراج كما يقوله غيرهم، الثاني: عزو الأحاديث إلى من أخرجها من الأئمة، ومنه قيل: "خرج فلان أحاديث كتاب كذا"، و"فلان له كتاب في تخريج أحاديث الإحياء"، ونحو ذلك - انتهى. وقد أطلق بعضهم لفظ الرواية على ذكر الحديث معلقاً من غير سند، كما قال المجد بن تيمية في المنتقى وحفيده في فتاواه وابن قدامة في المغني والخطيب في المشكاة في حديث أبي هريرة الذي ذكره مسلم تعليقاً بلفظ: ((إذا قرئ فأنصتوا)) رواه مسلم. وهذا الإطلاق غير جيد عندي، بل غير صحيح، (واكتفيت بهما) أي بذكرهما في التخريج، (وإن اشترك) وصلية لا تطلب جزاء وجواباً (فيه لغير) أي في تخريج الحديث وروايته غيرهما من المحدثين كبقية الكتب الستة ونحوها (لعلو درجتهما) ورفعة شأنهما على سائر المخرجين مع الفرق بينهما (في الرواية) متعلق بالعلو أي في شرائط إسنادها والتزم صحتها ما لم يلتزمه غيرهما من المحدثين فلا يحتاج مع تخريجهما إلى ذكر رواية غيرهما الذين اشتركوا فيه في نفس صحة الحديث وإن كان لرواية الغير مدخل في تقوية الحديث وتأييده وتوكيده، لكن ما ذكرت الغير طلباً للاختصار، (وثانيها) أي الفصول، وهو المعبر عنه في المصابيح بقوله "الحسان" (على معنى الباب) أي على معنى عقد له الباب (من ملحقات) بفتح الحاء، ومن بيانية لما اشتمل (مناسبة) بكسر السين صفة لملحقات، والمراد بها زيادات ألحقها صاحب المشكاة على وجه

مع محافظة على الشريطة وإن كان مأثوراً عن السلف والخلف، ثم إنك إن فقدت حديثاً في باب فذلك عن تكرير أسقطه، وإن وجدت آخر بعضه متروكاً على اختصاره أو مضموماً إليه تمامه فعن داعي اهتمام أتركه وألحقه، ـــــــــــــــــــــــــــــ المناسبة بكل كتاب وباب غالباً لزيادة الفائدة (مع محافظة على الشريطة) أي من إضافة الحديث إلى راويه من الصحابة والتابعين ونسبته إلى مخرجه من الأئمة المذكورين. ولما كان صاحب المصابيح ملتزماً للأحادث المرفوعة في كتابه في الفصلين ولم يلتزم المصنف ذلك نبه عليه بقوله (وإن كان) أي المشتمل (مأثوراً) أي منقولاً ومروياً (عن السلف) المتقدمين وهم الصحابة (والخلف) أي المتأخرين وهم التابعون، يعني أنه لم يلتزم ذكر الأحاديث المرفوعة في ما زاد من الفصل الثالث، بل أورد فيه بعض ما روي من أقوال الصحابة والتابعين وأفعالهم المناسبة للباب أيضاً، ومن المعلوم أنه يطلق عليه أيضاً لفظ الحديث، واعلم أنه لم يذكر البغوي في المصابيح القسم الأول والثاني بعنوان الفصل، بل عبر الأول أي أحاديث الشيخين أو أحدهما بقوله "من الصحاح"، والثاني أي أحاديث غيرهما بقوله "من الحسان"، وهو اصطلاح حادث، ولا مشاحة فيه، وقد تقدم، وعبرهما صاحب المشكاة بالفصل الأول والثاني، وزاد الفصل الثالث من عند نفسه، وأورد الأحاديث فيه من الكتب المذكورة من الصحيحين وغيرهما، وذكر أيضاً الآثار الموقوفة، والتزم ذكر الراوي من الصحابة والتابعين وذكر المخرج من الأئمة المحدثين، (ثم إنك إن فقدت حديثاً) من ههنا شرع في بيان بعض تصرفاته في المصابيح، أي بعد ما ذكرت لك أيها الناظر في كتابي هذا أني التزمت متابعة صاحب المصابيح في كل باب إن فقدت من محله حديثاً من أصله الذي هو المصابيح (في باب) مثلاً أو في كتاب وما وجدته بالكلية (فذلك) الفقدان وعدم الوجد ليس صادراً عن سهو بل صدر (عن تكرير) أي عن تكرار وقع في المصابيح (أسقطه) أي لم أذكر الحديث في الباب الذي ذكره فيه في المصابيح؛ لكونه وقع مكرراً فحذفته لأجل التكرار، وذكرته في موضع آخر بعينه من غير تغيير، (وإن وجدت آخر) أي حديثاً آخر (بعضه) بالنصب بدل من آخر (متروكاً) حال (على اختصاره) الضمير فيه للحديث، ويؤيده قوله (أو مضموماً إليه تمامه) وقيل لمحي السنة، والأول أظهر فإنه حينئذٍ يكون الكلام على نسق واحد، وأما على الثاني فيحصل تفكيك الضمير ثم المعنى، أو وجدت حديثاً آخر مضموماً إليه تمامه الذي أسقطه البغوي أو أتى به في محل آخر (فعن داعي اهتمام) الفاء جزائية، أي فذلك الترك أو الضم لم يقع اتفاقاً، وإنما صدر عن موجب اهتمام، وقيل: عن بمعنى اللام أي لأجل باعث اهتمام اقتضى أني (أتركه) على اختصاره في الأول (وألحقه) الواو بمعنى أو أي وألحقه في الثاني؛ لفوات الداعي والباعث على اختصاره، فهو لف ونشر مرتب، والمعنى أنه قد يكون حديث اختصره الشيخ البغوي فأتركه أنا أيضاً على اختصاره، وقد أضم

وإن عثرت على اختلاف في الفصلين من ذكر غير الشيخين في الأول وذكرهما في الثاني فاعلم أني بعد تتبعي كتابي الجمع بين الصحيحين للحميدي، ـــــــــــــــــــــــــــــ إليه بقية الحديث، وذلك لشيء يدعوني إلى تركه على اختصاره أو إلى ضم بقيته إليه، أما الداعي إلى تركه مختصراً فهو أن يكون جزء من حديث طويل مناسباً للباب دون باقي أجزائه، أو يكون حديث مشتملاً على معانٍ كثيرة يقتضي كل باب معنى من معانيه أي يكون جزء منه مناسباً لهذا الباب، وجزء آخر لباب آخر، وهكذا، وأورد الشيخ كلاً في بابه فأقتفي أثره في الإيراد أي أختصره وأقتصر على جزء منه في هذا الباب، وأذكر جزء آخر في ذلك الباب، وما لم يكن على هذين الوصفين ألحقت معه بقيته، وإن ذكره الشيخ مختصراً، وحاصل المعنى أن بعض الروايات كان مختصراً عن حديث طويل وكان جزء منه مناسباً للباب دون باقي أجزائه، فتركه في المشكاة أيضاً على الاختصار، وما كان يقتضي إتمام الحديث بجميع أجزائه أتمه في المشكاة، (وإن عثرت) اطلعت (على اختلاف) بيني وبين صاحب المصابيح (في الفصلين) الأول والثاني دون الثالث فإنه ليس محلاً للخلاف، وبيان الاختلاف قوله (من ذكر غير الشيخين في الأول) أي في الحديث المذكور في الفصل الأول (وذكرهما في الثاني) من الفصلين بأن يسند بعض الأحاديث فيه إليهما أو إلى أحدهما (كتابي الجمع) تثنية مضاف أي كتابين أحدهما (الجمع بين الصحيحين) أي بين كتابي البخاري ومسلم المسمين بالصحيحين (للحميدي) متعلق بالجمع، وهو بالتصغير نسبة لجده الأعلى حميد الحافظ أبي عبد الله محمد بن أبي نصر فتوح بن عبد الله بن حميد بن يصل (1) الأزدي الأندلسي (2) الميورقي القرطبي، سمع بالأندلس ومصر والشام والعراق وسكن بغداد، وكان من كبار تلامذة ابن حزم، حدث عنه فأكثر، وعن أبي عبد الله القضاعي وأبي عمر ابن عبد البر وأبي القاسم الجياني الدمشقي وأبي بكر الخطيب وغيرهم، ولم يزل يسمع ويكثر ويجد حتى كتب عن أصحاب الجوهري وابن المذهب، سمع بإفريقية كثيراً ولقي بمكة كريمة المروزية راوية البخاري أول رحلته وكان في سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، قال يحيى بن البناء: كان الحميدي من اجتهاده ينسخ بالليل في الحر، فكان يجلس في إجانة ماء يتبرد به، وقال الحسين بن محمد بن خسرو: جاء أبوبكر بن ميمون فدق على الحميدي وظن أنه قد أذن له فدخل فوجده مكشوف الفخذ، فبكى الحميدي، فقال: والله لقد نظرت إلى موضع لم ينظره أحد منذ عقلت، وقال يحيى بن إبراهيم السلماسي: قال أبي: لم تر عيناي مثل الحميدي في فضله ونبله وغزارة علمه وحرصه على نشر العلم، قال: وكان ورعاً ثقة إماماً في الحديث وعلله ورواته، متحققاً في علم التحقيق والأصول على مذهب أصحاب الحديث بموافقة الكتاب والسنة، فصيح العبارة متبحراً في علم الأدب والعربية والترسل، وله كتاب الجمع بين الصحيحين وهو مشهور، وأخذه الناس عنه، وله أيضاً تاريخ علماء الأندلس سماه "جذوة المقتبس" في مجلد واحد، ذكر في خطبته أنه كتبه من حفظه، وذكره

_ (1) بفتح الياء المثناة من تحتها وكسر الصاد المهملة وبعدها لام. (2) نسبة إلى ميورقة بفتح الميم وضم المثناة من تحتها وسكون الواو وفتح الراء والقاف وبعدها هاء ساكنة.

وجامع الأصول اعتمدت على صحيحي الشيخين ـــــــــــــــــــــــــــــ الأمير أبونصر علي بن ماكولا صاحب كتاب الإكمال فقال: أخبرنا صديقنا أبوعبد الله الحميدي، وهو من أهل العلم والفضل والتيقظ، وقال: لم أر مثله في عفته ونزاهته وورعه وتشاغله بالعلم، وقال القاضي عياض: أبوعبد الله الحميدي سمع بميورقة عن أبي محمد بن حزم قديماً، وكان يتعصب له ويميل إلى قوله، وكان قد أصابته فيه فتنة علماء شددوا على ابن حزم، فخرج الحميدي إلى المشرق، قال الذهبي: روى عنه محمد بن علي الخلال وإسماعيل بن محمد الطلحي وشيخه أبوبكر الخطيب وآخرون، وكان صاحب حديث كما ينبغي علماً وعملاً، وكان ظاهرياً ويسر ذلك بعض الأسرار - انتهى مختصراً. قال ابن الصلاح في الفائدة الرابعة من مقدمته: ويكفي وجوده في كتاب من اشترط الصحيح، وكذلك ما يوجد في الكتب المخرجة من تتمة لمحذوف أو زيادة شرح وكثير من هذا موجود في الجمع للحميدي، فربما نقل من لا يميز بعض ما يجده فيه عن الصحيحين أو أحدهما وهو مخطئ لكونه من تلك الزيادات التي لا وجود لها في واحد من الصحيحين. قال العراقي: وهذا مما أنكر على الحميدي؛ لأنه جمع بين كتابين فمن أين تأتي الزيادة؟ قال: واقتضى كلام ابن الصلاح أن الزيادات التي تقع في كتاب الحميدي لها حكم الصحيح، وليس كذلك؛ لأنه ما رواه بسنده كالمستخرج ولا ذكر أنه يزيد ألفاظاً واشترط فيها الصحة حتى يقلد في ذلك، قال الحافظ: قد اشار الحميدي إجمالاً وتفصيلاً إلى ما يبطل ما اعترض به عليه، أما إجمالاً فقال في خطبة الجمع: وربما زدت زيادات من تتمات وشرح بعض ألفاظ الحديث ونحو ذلك، وقفت عليها في كتب من اعتنى بالصحيح كالإسماعيلي والبرقاني، وأما تفصيلاً فعلى قسمين: جلي، وخفي، أما الجلي فيسوق الحديث، ثم يقول في أثنائه: "إلى هنا انتهت رواية البخاري، ومن هنا رواه البرقاني"، وأما الخفي فإنه يسوق الحديث كاملاً أصلاً وزيادة، ثم يقول: أما من أوله إلى كذا فرواه فلان، وما عداه زاده فلان، أو يقول: لفظة كذا زادها فلان، ونحو ذلك، وإلى هذا أشار ابن الصلاح بقوله: "ربما نقل من لا يميز"، وحينئذٍ فلزيادته حكم الصحة لنقله لها عمن اعتنى بالصحيح، كذا في التدريب (33-34) ، مات ببغداد ليلة الثلاثاء السابع عشر من ذي الحجة سنة 488هـ، وكان مولده قبل العشرين وأربعمائة، (وجامع الأصول) بالجر عطفاً على الجمع أي والآخر جامع الأصول أي الكتب الستة للإمام مجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد المشهور بابن الأثير الجزري صاحب النهاية في غريب الحديث. كان عالماً محدثاً لغوياً، روى عن خلق من الأئمة الكبار، كان بالجزيرة، وانتقل منها إلى الموصل سنة خمس وستين وخمسمائة، ولم يزل بها إلى أن قدم بغداد حاجاً وعاد إلى الموصل، ومات بها يوم الخميس سلخ ذي الحجة سنة 606هـ، كذا في الإكمال، وقال ابن خلكان في تاريخه (ج1: ص441) : قال أبوالبركات بن المستوفي في تاريخه في حقه: أشهر العلماء ذكراً، وأكبر النبلاء قدراً، وأحد الأفاضل المشار إليهم، وفرد الأماثل المعتمد في الأمور عليهم، أخذ النحو عن شيخه أبي محمد سعيد بن المبارك الدهان، وسمع الحديث متأخراً، ولم تتقدم روايته، وله المصنفات البديعة، منها: جامع الأصول في أحاديث الرسول، جمع فيه بين الصحاح الستة، وهو على وضع كتاب

ومتنيهما، وإن رأيت اختلافاً في نفس الحديث فذلك من تشعب طرق الأحاديث، ـــــــــــــــــــــــــــــ رزين إلا أن فيه زيادات كثيرة عليه، ومنها: كتاب النهاية في غريب الحديث، وكتاب الشافي في شرح مسند الإمام الشافعي، وغير ذلك من التصانيف، وكانت ودلاته بجزيرة ابن عمر في أحد الربيعين سنة 544هـ، ونشأ بها ثم انتقل إلى الموصل، ثم عرض له مرض كف يديه ورجليه فمنعه من الكتابة مطلقاً، وقام في داره يغشاه الأكابر والعلماء - انتهى مختصراً، وهو أخو عزالدين بن الأثير الجزري صاحب الكامل في التاريخ، وأسد الغابة في معرفة الصحابة. (ومتنيهما) عطف بيان، قال القاري: وإنما لم يكتف بهما لأنه ربما يحتمل أن يتوهم أن تتبعه واستقراءه غير تام، فإذا وافق الحميدي وصاحب جامع الأصول يصير الظن قوياً بصحة استقرائه للموافقة، ولو اكتفى بتتبع الجمع بين الصحيحين وجامع الأصول لاحتمل وقوع القصور في استقرائهما، فبعد اتفاق الأربعة يمكن الحكم بالجزم على سهو البغوي - انتهى. وتوضيح الكلام في هذا المقام أن المصنف يقول: قد تقرر أن ما أورده الشيخ محي السنة من الأحاديث في القسم الأول فهو من الشيخين منهما أو من أحدهما، وما أورده في القسم الثاني فهو من غيرهما من الأئمة المذكورين، وقد يذكر الشيخ حديثاً في الأول ونسبته أنا إلى غير الشيخين، وذلك مذكور في مواضع، كما في الفصل الأول من باب سنن الوضوء، ومن باب فضائل القرآن، ومن باب السلام من كتاب الآداب وغيرها، ونسبت بعض أحاديث القسم الثاني إلى الشيخين، كما في الفصل الثاني من باب ما يقرأ بعد التكبير، وباب الموقف وغيرهما، فاعلم أن عذري في ذلك ودليلي عليه أني تتبعت كتابين جمع فيهما أحاديث الشيخين، أحدهما كتاب الجمع بين الصحيحين للحميدي، والثاني: جامع الأصول لابن الأثير الجزري، ولم أقتصر في معرفة أحاديث الشيخين على تتبع هذين الكتابين، بل اعتمدت على صحيحي الشيخين ومتنيهما أي أصل كتابيهما ونفسيهما دون الجمع بين الصحيحين، وجامع الأصول المشتملين عليهما المغايرين لهما كالشرحين لهما، فما وجدت من الأحاديث للشيخين في الكتابين المذكورين وفي أصلي صحيحيهما نسبتها إليهما، وما لم أجد لم أنسب إليهما، وإن كان مخالفاً لما ذكره الشيخ محي السنة، وهذا ادعاء منه كمال التتبع والتصفح لأحاديث الشيخين، يعني لو اقتصرت على تتبع الكتابين وقلت: ليس هذا الحديث للشيخين لكان لقائل أن يقول: لعله يكون في متني صحيحيهما، ووقع القصور في استقراء الحميدي والجزري، ولو اقتصرت على متني صحيحيهما يقال: لعله يوجد في كتابي الجمع بين الصحيحين وجامع الأصول، ووقع القصور في استقراء المصنف وتتبعه، فتتبعت الكل ليحصل الوثوق والاعتماد في هذه النسبة على وجه الكمال، أي ويقع الجزم بسهو الشيخ في المصابيح بلفظ، وأنا أوردته في المشكاة بلفظ آخر مخالفاً للفظه في المصابيح (فذلك) أي الاختلاف ناشئ (من تشعب طرق الأحاديث) أي اختلاف أسانيدها وتعددها، إذ كثيراً ما يقع للشيخين وغيرهما سوق الحديث الواحد من عدة طرق بألفاظ مختلفة، فاللفظ الذي أورده الشيخ لعله جاء بطريق، واللفظ الذي أوردته جاء من طريق آخر، لما كان ههنا محل أن يقال:

ولعلي ما اطلعت على تلك الرواية التي سلكها الشيخ - رضي الله عنه - وقليلاً ما تجد أقول "ما وجدت هذه الرواية في كتب الأصول"، أو "وجدت خلافها فيها"، فإذا وقفت عليه فانسب القصور إلى لقلة الدراية، لا إلى جناب الشيخ - رفع الله قدره في الدارين -، حاشا لله من ذلك، رحم الله من إذا وقف على ذلك نبهنا عليه، وأرشدنا طريق الصواب، ولم آل جهداً ـــــــــــــــــــــــــــــ فلم لم تورد بلفظ الشيخ، ولم اخترت هذا اللفظ؟ قال في جوابه: (ولعلي ما اطلعت على تلك الرواية التي سلكها الشيخ) أي اختارها وأوردها في مصابيحه، فلما لم أطلع عليها كيف أوردها. أي فآتي باللفظ الذي وقفت عليه (وقليلاً ما) زيادة "ما" لتأكيد القلة ونصب "قليلاً" على المصدرية لقوله (أقول) أي وتجدني أقول قولاً قليلاً ما، في أي غاية من القلة، والمقول قوله (ما وجدت هذه الرواية) التي أوردها الشيخ في المصابيح مثلاً (في كتب الأصول) ، المراد بها كتب أئمة المحدثين ومؤلفاتهم التي هي أصول الروايات ومعادنها والعمدة في هذا الباب (ووجدت) من جملة المقول، أو للتنويع (خلافها فيها) أي خلاف هذه الرواية في الأصول (فإذا وقفت عليه) أي على قولي هذا، فالضمير راجع إلى المصدر المفهوم من قوله "أقول"، (فأنسب) بضم السين أي مع هذا (القصور) أي التقصير في التتبع (إلى لقلة الدراية) أي درايتي وتتبع روايتي، (لا) أي لا تنسب القصور (حاشا لله) أي تنزيهاً لله (من ذلك) أي من نسبة القصو إلى الشيخ. قال بعضهم: "حاشا" حرف جر وضعت موضع التنْزيه والبراءة، وفي مغني اللبيب: الصحيح أنها اسم مرادف للتنْزيه من كذا، وحينئذٍ قوله (لله) بيان للمنَزه والمبرأة، كأنه قال: "براءة وتنْزيه"، ثم قال "لله" بياناً للمبرأ والمنَزه، فلامه كاللام في "سقيا لك"، فعلى هذا يقال: معنى عبارة المشكاة أن الشيخ مبرأ ومنَزه عن قلة الدراية، ثم أتى لبيان المنَزه والمبرأة بقوله "لله"، وكان الظاهر أن يقول "الله" بلا لام، وكأنها لإفادة معنى الاختصاص، فكأنه يقول: تنْزيهه مختص لله، وله أن ينَزهه، وليس لغيره ذلك، ويحتمل أن يكون التقدير: وأقول في حقه التنْزيه لله لا لأمر آخر، وقيل "حاشا" فعل، وفسر الآية أي قوله تعالى: {حاش لله} في سورة يوسف بأن معناها جانب يوسف الفاحشة لأجل الله، وعلى هذا يرجع عبارة المشكاة إلى أنه جانب الشيخ ذلك القصور لأجل الله، لا لغرض آخر، أو قولنا في حقه "حاشا" إنما هو لله لا لأمر آخر، وقيل معناه: معاذ الله، فمراد المصنف أن ما قلت في شأن الشيخ قلت خالصاً لوجه الله، لا لغرض آخر؛ لأني أعوذ بالله من غرض آخر، (إذا وقف على ذلك) أي على ما ذكر من الرواية التي أوردها الشيخ ولم أجدها في الأصول (طريق الصواب) أي إليه بنسبة الرواية وتصحيحها إلى الباب والكتاب إما بالمشافهة حال الحياة، أو بكتابة حاشية أو شرح بعد الممات، (ولم آل) بمد الهمزة وضم اللام من ألا يألو في الأمر إذا قصر (جهداً) بالضم المشقة، أي لم أترك سعياً واجتهاداً، فيكون منصوباً

في التنقير والتفتيش بقدر الوسع والطاقة، ونقلت ذلك الاختلاف كما وجدت، وما أشار إليه - رضي الله عنه - من غريب أو ضعيف أو غيرهما بينت وجهه غالباً، وما لم يشر إليه مما في الأصول فقد قفيت في تركه إلا في مواضع لغرض، وربما تجد مواضع مهملة وذلك حيث لم أطلع على راويه فتركت البياض، فإن عثرت عليه فألحقه به - أحسن الله جزاءك -، وسميت الكتاب بمشكاة المصابيح، وأسأل الله التوفيق والإعانة والهداية والصيانة ـــــــــــــــــــــــــــــ على المفعولية لتضمين الألو معنى الترك، أو لم أقصر لكم في السعي والاجتهاد، فيكون منصوباً بنَزع الخافض، أو هو منصوب على أنه حال أو تمييز (في التنقير) أي البحث والتجسس عن طرق الأحاديث، واختلاف ألفاظها في كتب الأصول (والطاقة) عطف بيان (ونقلت ذلك الاختلاف كما وجدت) أي بعد بذل السعي الموفور في المطابقة بين أحاديث المصابيح، وأحاديث الكتب الستة حيث بقي الاختلاف نقلت ذلك الاختلاف كما وجدت في الأصول بلا زيادة ونقصان وتغيير لإظهار أصل الحال، كما أقول "ما وجدت هذه الرواية في كتب الأصول، أو وجدت خلافها" وأنا أنسب القصور في التتبع إلي لا إلى صاحب المصابيح (وما أشار إليه) الشيخ محي السنة (من غريب) بيان لما أي من حديث غريب (أو غيرهما) اعتباراً لا حقيقة من نحو منكر أو شاذ أو معلل (بينت وجهه) أي وجه غرابته أو ضعفه أو نكارته، وذلك ما ينقل المؤلف عن الأئمة كلاماً يحكم فيه بضعف الحديث أو غرابته مثلاً (غالباً) أي في أكثر المواضع، ولعل ترك التبيين في بعض المواضع لعدم الاطلاع على وجه ما أشار إليه البغوي من غرابة الحديث أو ضعفه أو لأمر آخر (وما لم يشر) أي الشيخ البغوي (إليه مما في الأصول) أي مما أشير إليه من المنقطع والموقوف والمرسل في جامع الترمذي، وسنن أبي داود، والبيهقي، وهو كثير (فقد قفيته) بالتشديد أي اتبعته تاسياً به، قال في مختصر النهاية: قفيته وأقفيته: تبعته واقتديت به (في تركه) أي في ترك الإشارة (إلا في مواضع) قليلة أبينها (لغرض) وذلك أن بعض الطاعنين أفرزوا أحاديث من المصابيح ونسبوها إلى الوضع، ووجدت الترمذي صححها أو حسنها، وغير الترمذي أيضاً كما تقدم التنبيه على ذلك فبينته لرفع تهمة الوضع منها، ومن الغرض أيضاً، كما قال الطيبي: إن الشيخ شرط في خطبة المصابيح أنه أعرض عن ذكر المنكر وقد أتى في كتابه بكثير منه وبين في بعضها كونه منكراً وترك في بعضها، فبينت أنه منكر إظهار للواقع (وربما تجد) في المشكاة (مواضع مهملة) أي غير مبين فيها ذكر مخرجيها (وذلك) الإهمال وعدم التبيين (حيث لم أطلع على راويه) أي مخرجه (فتركت البياض) أي عقب الحديث، دلالة على ذلك (فإن عثرت عليه) أي على مخرجه (فألحقه) أي ذكر المخرج (به) أي بذلك الحديث، واكتبه في موضع البياض، ونحن نذكر أسماء المخرجين في مواضع البياض حسب ما يتيسر لنا، إن شاء الله تعالى (وسميت الكتاب بمشكاة المصابيح) قال الطيبي: روعي المناسبة بين الاسم والمعنى، فإن المشكاة يجتمع فيها الضوء فيكون أشد

وتيسير ما أقصده وأن ينفعني في الحياة وبعد الممات وجميع المسلمين والمسلمات، حسبي الله، ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم. ـــــــــــــــــــــــــــــ تقوياً بخلاف المكان الواسع، والأحاديث إذا كانت غفلاً عن سمة الرواة انتشرت، وإذا قيدت بالراوي انضبطت واستقرت في مكانها - انتهى. وقال الشيخ الدهلوي في اللمعات: قد عرفت أن المشكاة هي الكوة الغير نافذة في الجدار التي توضع فيها المصابيح، فوجه التسمية أنه كما يوضع المصباح في الكوة كذلك وضع كتاب المصابيح في كتاب المشكاة؛ لأنه يشتمل عليه اشتمال المشكاة على المصباح، أو لأن الأحاديث التي ذكرت في هذا الكتاب كل منها كالمصباح، فهذا الكتاب كالكوة التي وضع فيها المصابيح المتعددة - انتهى. وقد علمت مما تقدم أن المشكاة تكملة للمصابيح، وتذييل لأبوابه، جمعه مؤلفه بإشارة شيخه الحسين بن عبد الله بن محمد الطيبي المتوفى سنة 743هـ، وفرغ من تأليفه آخر يوم الجمعة من رمضان عند رؤية هلال شوال سنة 737. وله أيضاً أسماء رجال المشكاة فرغ من تصنيفه يوم الجمعة عشرين رجب سنة 740هـ، جمعه بمعاونة شيخه العلامة الطيبي، وقد عرض الكتابين عليه فاستحسنهما واستجادهما. وللمشكاة شروح عديدة: فأول من شرحها هو شيخه الطيبي، سماه "الكاشف عن حقائق السنن"، وشرحه أنفس الشروح وأحسنها. قال في مقدمة شرحه: كنت قبل قد استشرت الأخ في الدين المساهم في اليقين بقية الأولياء قطب الصلحاء شرف الزهاد والعباد في الدين محمد بن عبد الله الخطيب بجمع أصل من الأحاديث المصطفوية، فاتفق رأينا على تكملة المصابيح وتهذيبه وتشذيبه وتعيين روايته ونسبة الأحاديث إلى الأئمة المتقنين، فما قصر فيما أشرت إليه من جمعه، فبذل وسعه واستفرغ طاقته فيما رمت منه، فلما فرغ من إتمامه شمرت عن ساق الجد في شرح معضله وحل مشكله وتلخيص عويصه وإبراز نكاته ولطائفه على ما يستدعيه غرائب اللغة والنحو ويقتضيه علم المعاني والبيان، بعد تتبع الكتب المنسوبة إلى الأئمة، معلماً لكل مصنف بعلامة مختصة به، فعلامة معالم السنن وأعلامها (خط) وشرح السنة (حس) وشرح صحيح مسلم (مح) والفائق للزمخشري (فا) ومفردات راغب (غب) ونهاية الجزري (نه) والشيخ التوربشتي (تو) والقاضي ناصر الدين البيضاوي (قض) والمظهر (مظ) والأشرف (شف) وما لا ترى عليه علامة فأكثرها من نتائج خاطري، فإن ترى فيه خللاً فسدده - جزاك الله خيراً -، فإن نظرت بعين الإنصاف لم تر مصنفاً أجمع ولا أوجز منه ولا أشد تحقيقاً في بيان حقائق السنة ودقائقها، وسميته "بالكاشف عن حقائق السنن"- انتهى. وشرحه علم الدين السخاوي المتوفى سنة 643هـ، وعبد العزيز الأبهري المتوفى في حدود سنة 895هـ، وسماه "منهاج المشكاة"، وهو تاريخ تأليفه. وشرحه أحمد بن الحجر المكي الهيثمي بالفوقية صاحب الزواجر والصواعق وغيرهما المتوفى سنة 975هـ، قال الشيخ عبد الحق الدهلوي في زاد المتقين في ترجمته: وشرح دارد بر شمائل ترمذي وبر أربعين نووي وبر مشكاة نيز نوشته كه دروي داد فقاهت داده - انتهى. وعلى المشكاة حاشية لعلي بن محمد بن علي المعروف بالسيد الشريف، والسيد السند الجرجاني وهي مختصرة من شرح الطيبي مع بعض زيادات قليلة. وحاشية

للسيد جمال الدين المحدث. وللعلامة علي بن سلطان المعروف بالقاري المتوفى سنة 1014هـ شرح عظيم ممزوج على المشكاة مسمى "بالمرقاة" جمع فيه جميع الشروح والحواشي واستقصاها. ثم جاء بعده واحد من الفضلاء فزاد في كل باب فصلاً آخر فصار كله أربعة فصول مما وجد بعدهما في الدواوين المعتبرة للأئمة السبعة من كل حديث استدل به مجتهد في مذهبه، فكان كالشرح لهذين الكتابين وسماه "أنوار المشكاة"، ومن شروح المشكاة لمعات التنقيح، وأشعة اللمعات، الأول بالعربية وهو شرح لطيف بين الإيجاز والإطناب، والثاني بالفارسية، كلاهما للعلامة الشيخ عبد الحق الدهلوي المتوفى سنة 1052هـ، وللحافظ ابن حجر تأليف خرج فيه أحاديث المصابيح والمشكاة، اسمه "هداية الرواة إلى تخريج المصابيح والمشكاة"، ذكره صاحب كشف الظنون، وهو أيضاً مذكور في فهرس تصانيف الحافظ، واعلم أنه أنكر على القاري أن يكون للسيد الشريف حاشية على المشكاة حيث قال في المرقاة في شرح حديث ((خرج معاوية على حلقة فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله، قال: آلله وما أجلسكم إلا هذا؟ ... الحديث، قال السيد جمال الدين: قوله ((آلله) بالجر لقول المحقق الشريف في حاشيته: همزة الاستفهام وقعت بدلاً عن حرف القسم ويجب الجر معها - انتهى. وهو يشعر بأن خلاصة الطيبي حاشية من المحقق الشريف الجرجاني على المشكاة كما هو المشهور بين الناس، وهو بعيد جداً، أما أولاً فلأنه غير مذكور في أسامي مؤلفاته، وأما ثانياً فإنه مع جلالة قدره كيف يختصر كلام الطيبي اختصاراً مجرداً لا يكون معه تصرف مطلقاً كما لا يخفى - انتهى كلام القاري. قلت: فيه نظر، فقد نسبها إليه جماعة، منهم المصطفى بن عبد الله المعروف بكاتب جلبي، وبحاجي خليفة في كشف الظنون، ومنهم السخاوي في "الضوء اللامع" نقلاً عن سبط السيد الشريف، وحاشية السيد الشريف هذه موجودة في مكتبة خدا بخش خان بعظيم آباد. بتنه (الهند) . قال القاري في المرقاة (ج1: ص10) : قيل أحاديث المصابيح أربعة آلاف وأربعمائة وأربعة وثلاثون حديثاً، وزاد صاحب المشكاة ألفاً وخمسمائة وأحد عشر حديثاً، فصار المجموع خمسة آلاف وتسعمائة وخمسة وأربعين، وينضبط بستة آلاف إلا كسر خمس وخمسين - انتهى. قلت: ما نقل القاري من قول البعض في عدد أحاديث المصابيح هو مخالف لما ذكره حاجي خليفة جلبي في كشف الظنون وابن الملك في شرح المصابيح، فالله أعلم. هذا ولم أقف على ترجمة صاحب المشكاة وعلى مولده ووفاته ولا على مذهبه مع الجهد البالغ في التتبع، وقال الشيخ أبوبكر شاويش ناشر مشكاة المصابيح بتحقيق العلامة الشيخ ناصر الدين الألباني في مقدمته: صاحب المشكاة من علماء القرن الثامن للهجرة، ولم نجد له فيما بين أيدينا ترجمة وافية إلا أن من عرضوا له ذكروه بالعلم والصلاح. قال فيه شيخه العلامة حسن بن محمد الطيبي أحد شراح المشكاة: بقية الأولياء، قطب الصلحاء. وقال عنه الملا علي القاري صاحب مرقاة المفاتيح: "مولانا الحبر العلامة والبحر الفهامة مظهر الحقائق وموضح الدقائق الشيخ التقي النفي وإن فيما ألفه لدليلاً واضحاً على سعة علمه ووفرة فضله، ولا نعرف تاريخ وفاته على الضبط كما لا نعرف تاريخ ولادته غير أننا نستطيع الجزم بأنه توفي بعد سنة (737) ، وهي السنة التي أكمل فيها كتابه المشكاة.

1- عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الأعمال بالنيات، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1- قوله (عن عمر بن الخطاب) هو أبوحفص عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى العدوي القرشي المدني، يجتمع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في كعب بن لؤي. أحد فقهاء الصحابة، ثاني الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد ضجيعي المصطفى، وأول خليفة دعي "أمير المؤمنين"، أسلم سنة ست من النبوة، وقيل: سنة خمس بعد أربعين رجلاً، وإحدى عشرة امرأة، ويقال: به تمت الأربعون، ظهر الإسلام بإسلامه، وسمي "الفاروق" لذلك، شهد بدراً والمشاهد كلها مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولي الخلافة بعد أبي بكر بعهده إليه ونصه عليه. وله مشاهد في الإسلام وفتوحات مشهورة في العراق والشام، عن ابن عمر مرفوعاً: ((إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه)) ، ولما دفن قال ابن مسعود: ذهب اليوم بتسعة أعشار العلم، وكان أشدهم في أمر الله، له خمسمائة وتسعة وثلاثون حديثاً، اتفقا على عشرة، وانفرد البخاري بتسعة، ومسلم بخمسة عشر، قاله الخزرجي، طعنه نصراني اسمه: أبولؤلؤة، غلام مغيرة بن شعبة بالمدينة في صلاة الصبح من الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة 23 من الهجرة، وله من العمر ثلاث وستون سنة، ودفن يوم الأحد في أول المحرم سنة 24هـ، وكانت خلافته عشر سنين ونصفاً، وصلى عليه صهيب ودفن في الحجرة النبوة، ومناقبه جمة، روى عنه أبوبكر وباقي العشرة، وخلق كثير من الصحابة والتابعين. (إنما الأعمال بالنيات) أشار المصنف بالبداية بهذا الحديث قبل الشروع في ذكر الكتب والأبواب إلى حسن نيته في تأليفه هذا الكتاب، وأنه قصد به وجه الله فقط، وأراد به تنبيه الطالب على تحسين النية وترغيبه إلى تصحيح الطوية، وكان المتقدمون يستحبون تقديم هذا الحديث أمام كل شيء ينشأ ويبتدأ من أمور الدين لعموم الحاجة إليه، ولهذا صدر به المصنف تبعاً للبخاري وغيره، فينبغي لمن أراد أن يصنف كتاباً أن يبدأ به. قال عبد الرحمن بن مهدي: لو صنفت كتاباً في الأبواب لجعلت حديث عمر بن الخطاب في الأعمال بالنيات في كل باب، وعنه أنه قال: من أراد أن يصنف كتاباً فليبدأ بحديث الأعمال بالنيات، وقد تواتر النقل عن الأئمة في تعظيم قدر هذا الحديث، وهو أحد الأحاديث التي يدور عليها الدين، اتفق ابن مهدي والشافعي وابن حنبل وابن المديني وأبوداود والترمذي وغيرهم على أنه ثلث الإسلام، ومنهم من قال: ربعه، وقد تكلم العلماء على هذا الحديث في أوراق وأطالوا فيه الكلام، والظاهر عندي في معناه أن الأعمال فيه على عمومها لا يختص منها شيء، فالمراد بها مطلق الأفعال الاختيارية الصادرة عن المكلفين، وتقدير الكلام: الأعمال واقعة أو متحققة أو حاصلة بالنيات، فيكون إخباراً عن الأعمال الاختيارية أنها لا تقع إلا عن قصد من العامل، هو سبب عملها ووجودها، فهي مقدمة عقلية ذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم - تمهيداً لما بعدها من المقدمات الشرعية وتوضيحاً لها، ولا استبعاد فيه، ومنه قوله: ((لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبوعبيدة بن الجراح)) ، ويكون قوله بعد ذلك: ((وإنما لامرئ ما نوى)) إخباراً عن حكم الشرع، وهو أن حظ العامل من عمله نيته، فإن كانت صالحة

وإنما لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا ـــــــــــــــــــــــــــــ فعمله صالح فله أجره، وإن كانت فاسدة فعمله فاسد فعليه وزه، فالذي يرجع إليه من العمل نفعاً وضراً هي النية، فإن العمل بحسبها يحسب خيراً وشراً، ويجزى المرء بحسبها على العمل ثواباً وعقاباً، وإذا تقرر هاتان المقدمتان ترتب عليهما قوله: (فمن كانت هجرته إلى الله تعالى ورسوله - أي قصداً ونية – فهجرته إلى الله ورسوله) أجراً وثواباً ... إلى آخر الحديث، وعلى هذا فالنية في الحديث محمولة على المعنى اللغوي أي القصد، لا الشرعي هو توجه القلب نحو الفعل ابتغاء لوجه الله وامتثالاً لحكمه، وذلك ليحسن تطبيقه على ما بعده وتقسيمه بقوله (فمن كانت هجرته ... ) الخ، فإنه تفصيل لما أجمل، فالحديث ورد لبيان الفرق بين النية الفاسدة والصحيحة الصالحة، فالأولى مذمومة ضارة، والثانية محمود نافعة، ولم يرد لبيان ما فيه النية وما ليس فيه فلم يتعرض لوجود النية وعدمها ولم يختص بعمل دون عمل ولا بحكم دون حكم كما يشعر به تفاريع الشافعية والحنفية، وقد بسط المعنى الذي ذكرناه العلامة السندهي في تعليقه على البخاري فارجع إليه، وقيل: التقدير في قوله (الأعمال بالنيات) صالحة أو فاسدة أو مقبولة أو مردودة أو مثاب عليها أو غير مثاب عليها بالنيات، فيكون خبراً من الحكم الشرعي، وهو أن صلاحها وفسادها بحسب صلاح النية وفسادها كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الأعمال بالخواتيم)) أي إن صلاحها وفسادها وقبولها وعدمها بحسب الخاتمة، وقوله بعد ذلك ((وإنما لكل امرئ ما نوى)) إخبار أنه لا يحصل له من عمله إلا ما نواه به، فإن نوى خيراً حصل له خير، إن نوى به شراً حصل له شر، وليس هذا تكريراً محضاً للجملة الأولى، فإن الجملة الأولى دلت على أن صلاح العمل وفساده بحسب النية المقتضية لإيجاده، والجملة الثانية دلت على أن ثواب العامل على عمله بحسب نيته الصالحة، وأن عقابه عليه بحسب نيته الفاسدة، وقد تكون نيته مباحة فيكون مباحاً، فلا يحصل له ثواب ولا عقاب، فالعمل في نفسه صلاحه وفساده بحسب النية الحاصلة عليه المقتضية لوجوده، وثواب العامل وعقابه وسلامته بحسب النية التي صار بها العمل صالحاً أو فاسداً أو مباحاً، (وإنما لامرئ ما نوى) وكذا لامرأة ما نوت؛ لأن النساء شقائق الرجال (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله) الخ، هو تفصيل ما أجمله أولاً كما تقدمت الإشارة إليه، وقد ذكرنا هناك في تقدير الكلام ما يدل على التغاير بين الشرط والجزاء، وقيل: اتحد الشرط والجزاء لقصد المبالغة في التعظيم، ولإرادة التحقير في ما سيأتي فيكون التغاير معنى بدليل قرائن السياق بأن يراد المعهود المستقر في النفس كقولهم "أنت أنت" أي الصديق الخالص، وقولهم "هم هم" أي الذين لا يقدر قدرهم، وغير ذلك من الأمثلة، فالمهاجر إلى دار الإسلام حباً لله ورسوله ورغبة في تعلم دين الإسلام وإظهار دينه هو المهاجر إلى الله ورسوله، وكفاه شرفاً وفخراً أنه حصل له ما نواه من هجرته إلى الله ورسوله، ولهذا المعنى أقتصر في جواب هذا الشرط على إعادته بلفظه؛ لأن حصول ما نواه بهجرته نهاية المطلوب في الدنيا والآخرة. (ومن كانت هجرته إلى دنيا) فعلى من الدنو، لا تنون؛

يصيبها أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأن ألفها مقصورة للتأنيث، أو هي تأنيث أدنى، وهي كافية في منع الصرف، وتنوينها في لغية شاذ، ولإجرائها مجرى الأسماء وخلعها عن الوصفية نكرت كرجعى، ولو بقيت على وصفيتها لعرفت كالحسنى (يصيبها) أي يحصلها (أو امرأة) قيل خصت بالذكر تنبيهاً على سبب الحديث وإن كانت العبرة بعموم اللفظ، وهو قصة مهاجر أم قيس المروية في المعجم الكبير للطبراني بإسناد رجاله ثقات، قال الحافظ بعد ذكره: لكن ليس فيه أن حديث الأعمال سيق بسبب ذلك، ولم أر في شيء من الطرق ما يقتضي التصريح بذلك – انتهى. وقال ابن رجب في شرح الأربعين: قد اشتهر أن قصة مهاجر أم قيس هي كانت سبب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (من كانت هجرته إلى دنيا ... ) الخ، وذكر كثير من المتأخرين في كتبهم، ولم نر لذلك أصلا يصح – انتهى. قال الحافظ: لم نقف على تسمية مهاجر أم قيس، ونقل ابن دحية أن اسمها قيلة، وقال العلامة القنوجي في عون الباري: لم يسم هذا الرجل أحد ممن صنف في الصحابة فيما رأيته، والظاهر أن التنصيص على المرأة من باب التنصيص على الخاص بعد العام للاهتمام، والنكرة إذا كانت في سياق الشرط تعم، ونكتة الاهتمام الزيادة في التحذير؛ لأن الافتتان بها أشد، وإنما وقع الذم ههنا على مباح، ولا ذم فيه ولا مدح؛ لكون فاعله أبطن خلاف ما أظهر، إذ خروجه في الظاهر ليس لطلب الدنيا، وإنما خرج في صورة طلب فضيلة الهجرة. (فهجرته إلى ما هاجر إليه) أي منصرفة إلى الغرض الذي هاجر إليه، وفيه تحقير لما طلبه من أمر الدنيا واستهانة به، حيث لم يذكر بلفظه، وأيضاً أن الهجرة إلى الله ورسوله واحدة فلا تعدد فيها، فلذلك أعاد الجواب فيها بلفظ الشرط، والهجرة لأمور الدنيا لا تنحصر، فقد يهاجر الإنسان لطلب الدنيا مباحة تارة ومحرمة تارة، وإفراد ما يقصد الهجرة من أمور الدنيا لا تنحصر، فلذلك قال: (فهجرته إلى ما هاجر إليه) يعني كائنا ما كان، واعلم أن النية في اللغة نوع من القصد والإرادة، وفي كلام العلماء تقع بمعنيين: أحدهما تمييز العبادات بعضها عن بعض كتمييز صلاة الظهر من صلاة العصر مثلاً، وتمييز رمضان من صيام غيره، أو تمييز العبادات من العادات كتمييز الغسل من لجنابة من غسل التبرد والتنظف ونحو ذلك، وهذه النية هي التي توجد كثيراً في كلام الفقهاء في كتبهم. والمعنى الثاني: بمعنى تمييز المقصود بالعمل، وهل هو لله وحده لا شريك له أم لله وغيره، وهذه هي النية التي يتكلم فيها العارفون في كتبهم في كلامهم على الإخلاص وتوابعه، وهي التي توجد كثيراً في كلام السلف المتقدمين، وهي التي يتكرر ذكرها في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - تارة بلفظ النية وتارة بلفظ الإرادة وتارة بلفظ مقارب لذلك، قيل: وحديث الباب دل على هذه النية بالقصد، وإن كان يدخل في عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - (وإنما لامرئ ما نوى) المعنى الأول أيضاً، وفي بعض المسائل المتفرعة على المعنى الأول اختلاف مشهور بين العلماء، كما أنهم اختلفوا في اشتراط النية للطهارة بعد اتفاقهم على اشتراطها في العبادات المقصودة لقوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} [98: 5] ، وهذا الخلاف يرجع إلى أن الطهارة هل هي عبادة مستقلة أم هي شرط من شروط الصلاة كإزالة النجاسة وستر العورة، فمن لم يشترط لها النية جعلها كسائر شروط الصلاة، ومن اشترط لها النية جعلها

متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ عبادة مستقلة، فإذا كانت عبادة في نفسها لم تصح بدون النية، وهذا قول جمهور العلماء مالك والشافعي وأبي ثور وداود، قال ابن رجب: ويدل على صحة ذلك تكاثر النصوص الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الوضوء يكفر الذنوب والخطايا وأن من توضأ كما أمر كان كفارة لذنوبه، وهذا يدل على أن الوضوء المأمور به في القرآن عبادة مستقلة بنفسها حيث رتب عليه تكفير الذنوب، والوضوء الخالي من النية لا يكفر شيئاً من الذنوب بالاتفاق، فلا يكون مأموراً به ولا تصح به الصلاة، ولهذا لم يرد في شيء من بقية شرائط الصلاة كإزالة النجاسة وستر العورة ما ورد في الوضوء من الثواب. (متفق عليه) أي اتفق البخاري ومسلم على روايته، ويقال عند المحدثين للحديث الذي اتفق الشيخان على روايته من صحابي واحد "متفق عليه"، أي بين الشيخين، وهذا الحديث قد اتفق العلماء على صحته وتلقيه بالقبول، قال الحافظ: ولم يبق من أصحاب الكتب المعتمدة عليها من لم يخرجه سوى مالك، فإنه لم يخرجه في موطئه، ووهم من زعم أنه في الموطأ مغتراً بتخريج الشيخين له، والنسائي من طريق مالك، ورده السيوطي في تنوير الحوالك بقوله: في موطأ محمد بن الحسن عن مالك أحاديث يسيرة زائدة على سائر الموطآت، منها حديث ((إنما الأعمال بالنية)) ، وبذلك يتبين صحة قول من عزى روايته إلى الموطأ، ووهم من خطأه في ذلك - انتهى.

(1) كتاب الإيمان

(1) كتاب الإيمان ـــــــــــــــــــــــــــــ (كتاب الإيمان) الكتاب مصدر بمعنى المكتوب، مأخوذ من "الكتب" بمعنى الجمع والضم، أي هذا مجموع الأحاديث الواردة في الإيمان، والكتاب عند المصنفين: عبارة عن طائفة من المسائل اعتبرت مستقلة شملت أنواعاً أي أبواباً، أو لم تشمل، وإنما عنون به مع ذكره الإسلام أيضاً لأنهما بمعنى واحد في الشرع، وعلى اعتبار المعنى اللغوي من الفرق يكون فيه إشارة إلى أنه الأصل، وقدمه لأنه أفضل الأمور على الإطلاق وأشرفها، ولأنه أول واجب على المكلف؛ ولأنه شرط لصحة العبادات المتقدمة على المعاملات، والكلام في الإيمان على أنواع: الأول: في معناه اللغوي، وقد أوضحه الزمخشري وابن تيمية وغيرهما، والثاني: في معناه الشرعي، واختلفوا فيه على أقوال، فقال الحنفية: الإيمان هو مجرد تصديق النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما علم مجيئه به بالضرورة تفصيلاً في الأمور التفصيلية وإجمالاً في الأمور الإجمالية، تصديقاً جازماً ولو بغير دليل، فالإيمان بسيط عندهم غير مركب، لا يقبل الزيادة والنقصان من حيث الكمية، فجعلوه كالكلي المتواطئ لا تفاوت في صدقه على أفراده، واستدلوا على ذلك بوجوه، ذكرها العيني في شرح البخاري وغيره في غيره، لا يخلو واحد منها من الكلام، ثم المتكلمون منهم جعلوا الإقرار شرطاً لإجراء الأحكام، فمن صدق فهو مؤمن بينه وبين الله وإن لم يقر بلسانه، وقال الفقهاء منهم: الإقرار بالشهادتين ركن لكنه ليس بأصلي له كالتصديق، بل هو ركن زائد، ولهذا يسقط حالة الإكراه والعجز، قال القاري: والحق أنه ركن عند المطالبة به وشرط لإجراء الأحكام عند عدم المطالبة - انتهى. وفي المسايرة: وجعل الإقرار بالشهادتين ركناً من الإيمان هو الاحتياط بالنسبة إلى جعله شرطاً خارجاً عن حقيقة الإيمان - انتهى. وإنما جعل هؤلاء الإقرار بالشهادتين وبالتزام الطاعة ركناً أو شرطاً لإخراج تصديق أبي طالب وهرقل والذين قال الله فيهم: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً} [27: 14] من مسمى الإيمان الشرعي، وقال المرجئة: هو اعتقاد فقط، والإقرار باللسان ليس بركن فيه ولا شرط، فجعلوا العمل خارجاً من حقيقة الإيمان كالحنفية وأنكروا جزئيته، إلا أن الحنفية اهتموا به وحرضوا عليه وجعلوه سبباً سارياً في نماء الإيمان، وأما المرجئة فهدروه وقالوا: لا حاجة إلى العمل، ومدار النجاة هو التصديق فقط، فلا يضر المعصية عندهم مع التصديق، وقال الكرامية: هو نطق فقط، فالإقرار باللسان يكفي للنجاة عندهم سواء وجد التصديق أم لا، وقال السلف من الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد وغيرهم من أصحاب الحديث: هو اعتقاد بالقلب، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، فالإيمان عندهم مركب ذو أجزاء، والأعمال داخلة في حقيقة الإيمان، ومن ههنا نشأ لهم القول بالزيادة والنقصان بحسب الكمية، فهو كالكلي المشكك عندهم، واحتجوا لذلك بالآيات والأحاديث، وقد بسطها البخاري في جامعه، والحافظ ابن تيمية في كتاب الإيمان، قيل وهو مذهب المعتزلة والخوارج، إلا أن السلف لم يجعلوا أجزاء الإيمان متساوية الأقدام، فالأعمال عندهم كواجبات الصلاة لا

*

{الفصل الأول} 2- (1) عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: ((بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم إذ طلع علينا رجل ـــــــــــــــــــــــــــــ كأركانها، فلا ينعدم الإيمان بانتفاء الأعمال، بل يبقى مع انتفائها، ويكون تارك الأعمال وكذا صاحب الكبيرة مؤمناً فاسقاً لا كافراً بخلاف جزئيه: التصديق والإقرار، فإن فاقد التصديق وحده منافق، والمخل بالإقرار وحده كافر، وأما المخل بالعمل وحده ففاسق ينجو من الخلود في النار ويدخل الجنة. وقال الخوارج والمعتزلة: تارك الأعمال خارج من الإيمان لكون أجزاء الإيمان المركب متساوية الأقدام في أن انتفاء بعضها - أي بعض كان - يستلزم انتفاء الكل، فالأعمال عندهم ركن من أركان الإيمان كأركان الصلاة، ثم اختلف هؤلاء، فقالت الخوارج: صاحب الكبيرة وكذا تارك الأعمال كافر مخلد في النار، والمعتزلة أثبتوا الواسطة فقالوا: لا يقال له مؤمن ولا كافر، بل يقال له فاسق مخلد في النار، وقد ظهر من هذا أن الاختلاف بين الحنفية وأصحاب الحديث اختلاف معنوي حقيقي لا لفظي كما توهم بعض الحنفية، والحق ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة والمحدثون لظاهر النصوص القرآنية والحديثية، ومحل الجواب عن دلائل الحنفية هو المطولات، والثالث في أن الإيمان هل يزيد وينقص؟ قيل: هو من فروع اختلافهم في حقيقة الإيمان، والرابع: في أن الإسلام مغاير للإيمان شرعاً، أو هما متحدان، فقال بعضهم بالترادف والتساوي، وإنهما عبارة عن معنى واحد، وإليه ذهب البخاري، وقيل بالتغاير والاختلاف والتباين، وقيل: إن بينهما عموماً وخصوصاً مطلقاً، وقال بعضهم: إن بينهما عموماً وخصوصاً من وجه، وقيل: إنهما مختلفان باعتبار المفهوم، متحدان في المقاصد، والتفصيل في إحياء العلوم للغزالي، وشرحه للزبيدي الحنفي، والخامس: في قران المشيئة بالإيمان، ومحل بسط الدلائل والجواب عن أدلة الأقوال الزائغة هو المطولات مثل شرح مسلم للنووي، والفتح للحافظ، وكتاب الإيمان لابن تيمية، والعمدة للعيني، وحجة الله للشيخ ولي الله الدهلوي. 2- قوله: (عن عمر بن الخطاب) قال القرطبي: هذا الحديث يصلح أن يقال له "أم السنة" لما تضمنه من جمل علم السنة، قال الطيبي: ولهذه النكتة استفتح به البغوي كتابه "المصابيح" و"شرح السنة" اقتداءً بالقرآن في افتتاحه بالفاتحة؛ لأنها تضمنت علوم القرآن إجمالاً - انتهى. وبالجملة إنه حديث جليل فيه وحده كفاية لمن تأمل فيه، سمي "حديث جبريل" و"أم الأحاديث"؛ لأن العلوم الشرعية التي يتكلم عليها فرق المسلمين من الفقه والكلام والمعارف والأسرار كلها منحصرة فيه، راجعة إليه، ومتشعبة منه، كما أن فاتحة الكتاب تسمى أم القرآن وأم الكتاب؛ لاشتمالها على المعاني القرآنية والمقاصد الفرقانية إجمالاً. (بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم إذ طلع علينا رجل) أي بين أوقات نحن حاضرون عنده فاجأنا وقت طلوع ذلك الرجل فأصله "بين" عوض بما عن كلمة أوقات المحذوفة التي تقتضيها بين عند الإضافة إلى الجملة، وهو ظرف زمان مثل إذ بمعنى المفاجأة، يضافان إلى الجملة الاسمية تارة، وإلى

شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد ـــــــــــــــــــــــــــــ الفعلية أخرى، ويكون العامل معنى المفاجأة في إذ ويكون بينما ظرفاً لفاجأنا المقدر، وإذ مفعول به لهذا المقدر بمعنى الوقت، ونحن مبتدأ وعند ظرف مكان ذات يوم ظرف لقوله عند باعتبار أن فيه معنى الاستقرار، أي بين أوقات نحن حاضرون عنده، فنحن مخبر عنه بجملة ظرفية، والمجموع صفة المضاف إليه المحذوف وزيادته ذات لدفع توهم التجوز بأن يراد باليوم مطلق الزمان لا النهار، وقيل: ذات مقحم، وقيل: بمعنى الساعة، وكان مجيء هذا الرجل في آخر عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يدل عليه رواية ابن مندة في كتاب الإيمان بإسناده الذي هو على شرط مسلم، فجاء بعد إنزال جميع الأحكام لتقرير أمور الدين التي بلغها متفرقة في مجلس واحد لتضبط وتحفظ. وسبب ورود الحديث ما في مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: سلوني، فهابوه أن يسألوه، فجاء رجل فجلس عند ركبتيه، وقوله: طلع علينا رجل، أي ظهر علينا رجل في غاية الأبهة ونهاية الجلالة، كما تطلع علينا الشمس، وفيه دليل على تمثل الملائكة بأي صورة شاءوا من صور بني آدم كقوله تعالى: {فتمثل لها بشراً سوياً} [19: 17] ، وقد كان جبريل يتمثل بصورة دحية وغيره كما في هذا الحديث. (شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر) بإضافة شديد إلى ما بعده إضافة لفظية مفيدة للتخفيف فقط، صفة رجل، واللام في الموضعين عوض عن المضاف إليه العائد إلى الرجل، أي شديد بياض ثيابه شديد سواد شعره، والمراد به شعر اللحية كما في رواية ابن حبان ((شديد سواد اللحية)) ، (لا يرى عليه أثر السفر) روي بصيغة المجهول الغائب ورفع الأثر، وهو رواية الأكثر والأشهر، وروي بصيغة المتكلم المعلوم ونصب الأثر، والجملة حال من رجل أو صفة له، والمراد بالأثر ظهور التعب والتغير والغبار. (ولا يعرفه منا أحد) استند في ذلك عمر إلى صريح قول الحاضرين، ففي رواية لأحمد: فنظر القوم بعضهم إلى بعض فقالوا: ما نعرف هذا، والمعنى تعجبنا من إتيانه وترددنا في أنه من الملك والجن، إذ لو كان بشراً من المدينة لعرفناه، أو كان غريباً لكان عليه أثر السفر. (حتى جلس) غاية لمحذوف دل عليه طلع؛ لأنه بمعنى أتى، أي أقبل واستأذن حتى جلس متوجهاً ومائلاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. (فأسند ركبتيه إلى ركبتيه) أي إلى ركبتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الجلوس على الركبة أقرب إلى التواضع والأدب، وإيصال الركبة بالركبة أبلغ في الإصغاء وأكمل في الاستئناس (على فخذيه) أي على فخذي النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما تفيده رواية ابن خزيمة في صحيحه وغيره، وحديث ابن عباس وأبي عامر الأشعري عند أحمد بإسناد حسن، ورواه النسائي من حديث أبي هريرة وأبي ذر بلفظ: حتى وضع يده على ركبتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسنده صحيح، والظاهر أنه أراد بذلك جبريل المبالغة في تعمية أمره؛ ليقوى الظن بأنه من جفاة الأعراب، ولهذا تخطى الناس حتى انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا استغرب الصحابة صنيعه. (وقال: يا محمد) أي بعد ما قال: "السلام عليك" كما في حديث أبي هريرة وأبي ذر عند أبي داود والنسائي، ووقع في حديث ابن عمر عند الطبراني وفي حديث عمر عند أبي عوانة في صحيحه وفي حديث أبي هريرة عند البخاري في تفسير سورة لقمان أنه قال له: "يا رسول الله"، ويجمع بأنه بدأ أولاً

أخبرني عن الإسلام، قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، قال: صدقت، فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله وملائكته ـــــــــــــــــــــــــــــ ببداءة اسمه قصداً للتعمية، فصنع صنيع الأعراب، ثم خاطبه بعد ذلك بقوله "يا رسول الله"، (أخبرني عن الإسلام) فيه أنه قدم السؤال عن الإسلام وثنى بالإيمان وثلث بالإحسان، وفي رواية أبي عوانة بدأ بالإسلام وثنى بالإحسان وثلث بالإيمان، وفي حديث أبي هريرة عند البخاري قدم السؤال بالإيمان وثنى بالإسلام وثلث بالإحسان، قال الحافظ: لا شك أن القصة واحدة، واختلفت الرواة في تأديتها، وليس في السياق ترتيب، ويدل عليه رواية مطر الوراق عند أبي عوانة، فالحق أن الواقع أمر واحد، والتقديم والتأخير وقع من الرواة، عبروا عنه بأساليب مختلفة. واعلم أن البغوي ذكر في المصابيح السؤال عن الإيمان وجوابه مقدماً على الإسلام، هو خلاف ما وقع في حديث عمر عند مسلم وغيره، ففي إيراد الحديث بهذا اللفظ اعتراض فعلي من صاحب المشكاة على البغوي في المصابيح. (وتقيم) أي وأن تقيم، وكذا بالنصب في تؤتي وتصوم وتحج. (الصلاة) أي المكتوبة كما في حديث أبي هريرة عند مسلم (الزكاة) أي المفروضة (البيت) أي الحرام، قال فيه للعهد، أو اسم جنس غلب على الكعبة علماً، واللام فيه جزء كما في النجم (إن استطعت إليه سبيلاً) المراد بهذه الاستطاعة: الزاد والراحلة، وكان طائفة لا يعدونهما منها، ويثقلون على الحاج فنهو عن ذلك، وإيراد الأفعال المضارعة لإفادة الاستمرار التجددي لكل من الأركان الإسلامية، وحكم الإسلام يظهر بالشهادتين، وإنما أضاف إليهما الأعمال المذكورة لأنها أظهر شعائره وأعظمها. (قال) أي الرجل (صدقت) بفتح الفوقية، دفعاً لتوهم أن السائل ما عده من الصواب (قال) أي عمر (فعجبنا له) أي للسائل (يسأله ويصدقه) سبب تعجبهم أن هذا خلاف عادة السائل الجاهل، إنما هذا كلام خبير بالمسؤول عنه، ولم يكن في ذلك الوقت من يعلم هذا غير النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس هذا السائل ممن عرف بلقاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا بالسماع منه (فأخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله) دل الجواب على أنه - صلى الله عليه وسلم - علم أنه سأله عن متعلقات الإيمان لا عن معنى لفظه، وإلا لكان الجواب: الإيمان التصديق، وقال الطيبي: هذا يوهم التكرار وليس كذلك، فإن قوله "أن تؤمن بالله" مضمن معنى تعترف به، ولهذا عداه بالباء أي أن تصدق معترفاً بكذا، والإيمان بالله هو التصديق بوجوده، وأنه متصف بصفات الكمال منَزه عن صفات النقص (وملائكته) أي تصدق بوجودهم وأنهم – كما وصفهم الله – عباد مكرمون، وقدم الملائكة على الكتب والرسل نظراً للترتيب الواقع؛ لأنه سبحانه وتعالى أرسل الملك بالكتاب إلى الرسول، وليس فيه تمسك

وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان، قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. ـــــــــــــــــــــــــــــ لمن فضل الملك على الرسول. (وكتبه) أي تصدق بأنها كلام الله، وأن ما تضمنته حق (ورسله) أي تصدق بأنهم صادقون فيما أخبروا به عن الله. ودل الإجمال في الملائكة والكتب والرسل على الاكتفاء بذلك في الإيمان بهم من غير تفصيل إلا من ثبتت تسميته فيجب الإيمان به على التعيين. (واليوم الآخر) أي يوم القيامة؛ لأنه آخر أيام الدنيا، والمراد بالإيمان به التصديق بما يقع فيه من الحساب والميزان والجنة والنار، (وتؤمن) أي وأن تؤمن (بالقدر) بفتح الدال ويسكن ما قدره الله وقضاه، والمراد أن الله علم مقادير الأشياء وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد ما سبق في علمه أنه يوجد، فكل محدث صادر عن علمه وقدرته وإرادته، وهذا هو المعلوم من الدين بالبراهين القطعية، وسيجيء الكلام عليه في كتاب القدر، وأعاد العامل ومتعلقه تنبيهاً على الاهتمام بالتصديق به لشرف قدره وتعاظم أمره. (خيره وشره) بالجر بدل من القدر (فأخبرني عن الإحسان) أي الإحسان في العبادة، وهو إتقانها والإخلاص فيها والخشوع وفراغ البال حال التلبس بها ومراقبة المعبود، قال الحافظ: وأشار في الجواب إلى حالتين أرفعهما أن يغلب عليه مشاهدة الحق حتى كأنه يراه بعينه هو قوله "كأنك تراه" أي وهو يراك، والثانية: أن يستحضر أن الحق مطلع عليه، يرى كل ما يعمل، وهو قوله "يراك"، وهاتان الحالتان يثمرهما معرفة الله وخشيته، وقال النووي: معناه أنك إنما تراعي الآداب المذكورة إذا كنت تراه ويراك لكونه يراك لا لكونك تراه، فهو دائماً يراك فأحسن عبادته وإن لم تره، فتقدير الحديث: فإن لم تكن تراه فاستمر على إحسان العبادة فإنه يراك (كأنك تراه) صفة مصدر محذوف، أي عبادة شبيهة بعبادتك حين تراه، أو حال من الفاعل أي حال كونك مشبهاً بمن يراه، قاله الكرماني، وقال العيني: التقدير: الإحسان عبادتك الله تعالى حال كونك في عبادتك مثل حال كونك رائياً، وهذا التقدير أحسن وأقرب للمعنى من تقدير الكرماني؛ لأن المفهوم من تقديره أن يكون هو في حال العبادة مشبهاً بالرائي إياه، وفرق بين عبادة الرائي بنفسه وعبادة المشبه بالرائي بنفسه – انتهى. وقال السندهي: وليس المقصود على تقدير الحالية أن ينتظر بالعبادة تلك الحال فلا يعبد قبل تلك الحال، بل المقصود تحصيل تلك الحال في العبادة، والحاصل أن الإحسان هو مراعاة الخشوع والخضوع وما ي معناهما في العبادة على وجه مراعاته لو كان رائياً، ولا شك أنه لو كان رائياً حال العبادة لما ترك شيئاً مما قدر عليه من الخشوع وغيره، ولا منشأ لتلك المراعاة حال كونه رائياً إلا كونه رقيباً مطلعاً على حاله، وهذا موجود وإن لم يكن العبد يراه تعالى. ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - في تعليله: فإن لم تكن تراه فإنه يراك، أي هو يكفي في مراعاة الخشوع على ذلك الوجه، فإن على هذا وصلية لا شرطية، والكلام بمنْزلة فإنك وإن لم تكن تراه فإنه يراك – انتهى. (فإن لم تكن تراه) أي تعامله معاملة من تراه (فإنه يراك) أي فعامل معاملة من يراك أو فأحسن في عملك فإنه يراك.

قال: فأخبرني عن الساعة، قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، قال: فأخبرني عن أماراتها، قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البيان، قال: ثم انطلق، فلبثت ملياً ـــــــــــــــــــــــــــــ فالفاء دليل الجواب وتعليل الجزء الأول؛ لأن ما بعدها لا يصلح للجواب؛ لأن رؤية الله للعبد حاصلة سواء رآه العبد أم لا، بل الجواب محذوف استغناء عنه بالمذكور؛ لأنه لازمه، كذا في المرقاة. (عن الساعة) أي عن وقت قيامها (ما المسؤول) ما نافية (عنها) أي عن وقتها (بأعلم من السائل) الباء مزيدة لتأكيد النفي، والمقام يقتضي أن يقال: لست بأعلم بها منك، لكنه عدل إشعاراً بالتعميم تعريضاً للسامعين أن كل سائل ومسؤول فهو كذلك، قال الحافظ: هذا وإن كان مشعراً بالتساوي في العلم لكن المراد التساوي في العلم بأن الله تعالى استأثر بعلمها؛ لقوله بعد خمس: لا يعلمها إلا الله – انتهى. فهو كناية عن تساويهما في عدم العلم، وإنما سأل جبريل ليعلمهم أن الساعة لا يسأل عنها (عن أماراتها) بفتح الهمزة جمع أمارة أي علامة، والمراد منها ما يكون من نوع المعتاد ويكون سابقاً على غير المعتاد مثل طلوع الشمس من مغربها (أن تلد الأمة ربتها) أي تحكم البنت على الأم من كثرة العقوق حكم السيدة على أمتها، ولما كان العقوق في النساء أكثر خصصت البنت والأمة بالذكر، ووقع في الرواية الأخرى ربها على التذكير والمراد بالرب والربة السيد والسيدة، أو المالك والمالكة، واختلفوا في معنى ذلك على وجوه، والأوجه عندنا ما قدمنا من أنه يكثر العقوق في الأولاد فيعامل الولد أمه معاملة السيد أمته من الإهانة بالسب والضرب والاستخدام، فأطلق عليها ربها مجازاً لذلك، قال الحافظ: أو المراد بالرب المربي، فيكون حقيقة، وهذا أوجه الأوجه عندي لعمومه؛ ولأن المقام يدل على أن المراد حالة تكون مع كونها تدل على فساد الحال مستغربة، ومحصلة الإشارة إلى أن الساعة يقرب قيامها عند انعكاس الأمور بحيث يصير المربى مربياً، والسافل عالياً، وهو مناسب لقوله في العلامة الأخرى ((أن تصير الحفاة العراة ملوك الأرض)) انتهى. (الحفاة) بضم الحاء جمع الحافي، وهو من لا نعل له (العراة) جمع العاري، وهو المجرد عن الثياب (العالة) جمع عائل، وهو الفقير من عال يعيل إذا افتقر، أو من عال يعول، إذا افتقر وكثر عياله (رعاء الشاء) بكسر الراء والمد جمع راعٍ والشاء جمع شاة (يتطاولون في البنيان) أي يتفاضلون في ارتفاعه وكثرته ويتفاخرون في حسنه وزينته، وهو مفعول ثانٍ إن جعلت الرؤية فعل البصيرة، أو حال إن جعلتها فعل الباصرة، والمراد أن أسافل الناس يصيرون رؤساءهم، وتكثر أموالهم حتى يتباهون بطول البنيان وزخرفته وإتقانه (قال) أي عمر: (ثم انطلق) أي السائل (فلبثت ملياً) بفتح الميم وتشديد الياء، من الملاوة، أي زماناً أو مكثاً طويلاً، وبينته رواية أبي داود والنسائي والترمذي، قال عمر: فلبثت ثلاثاً، وهو مخالف لحديث أبي هريرة من أنه - صلى الله عليه وسلم - ذكره في ذلك المجلس، وجمع النووي بين الحديثين بأن عمر لم يحضر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في المجلس، بل كان ممن قام، إما مع الذين توجهوا في طلب الرجل أو لشغل آخر، ولم يرجع مع من رجع لعارض عرض له

ثم قال لي: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبرئيل أتاكم يعلمكم دينكم)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - الحاضرين في الحال ولم يتفق الإخبار لعمر إلا بعد ثلاثة أيام، ويدل عليه قوله: فقال لي: يا عمر، فوجه الخطاب له وحده بخلاف إخباره الأول (فإنه جبريل) أي إذا فوضتم العلم إلى الله ورسوله فإنه جبريل على تأويل الإخبار أي تفويضكم ذلك سبب للإخبار به، وقرينة المحذوف قوله (الله ورسوله أعلم) فالفاء فصيحة لأنها تفصح عن شرط محذوف (أتاكم) استئناف بيان أو خبر لجبريل على أنه ضمير الشأن (يعلمكم دينكم) جملة حالية من الضمير المرفوع في أتاكم أي عازماً تعليمكم، فهو حال مقدرة لأنه لم يكن وقت الإتيان معلماً، أو مفعول له بتقدير اللام كما في رواية، أسند التعليم إليه مجازاً لأنه السبب فيه، أو لأن غرضه من السؤال كان التعليم، فأطلق عليه المعلم لذلك، وفيه دلالة على أن السؤال الحسن يسمى علماً وتعليماً، لأن جبريل لم يصدر منه سوى السؤال ومع ذلك فقد سماه معلماً، وقد اشتهر قولهم "السؤال نصف العلم"، فإن قيل: قد فرق النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث بين الإسلام والإيمان، وجعل الأعمال كلها من الإسلام لا من الإيمان، والمشهور عن السلف وأهل الحديث أن الإيمان قول وعمل ونية، وأن الأعمال كلها داخلة في مسمى الإيمان، وحكى الشافعي على ذلك إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن أدركهم، تدل على دخول الأعمال في الإيمان النصوص الصريحة من آيات القرآن والأحاديث الصحيحة، وأيضاً ظاهر سؤال جبريل عن الإسلام والإيمان وجوابه يقتضي تغايرهما، وأن الإيمان تصديق بأمور مخصوصة، والإسلام إظهار أعمال مخصوصة، وتقدم عن البخاري أنه يرى أنهما عبارة عن معنى واحد، قلت: عقد البخاري على حديث جبريل هذا باباً في صحيحه ليرد ذلك التأويل إلى مسلكه وطريقته فارجع إليه، وقال البغوي في الكلام على حديث جبريل هذا: جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الإسلام اسماً لما ظهر من الأعمال، وجعل الإيمان اسماً لما بطن من الاعتقاد، وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان، والتصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل ذلك تفصيل لجملة هي كلها شيء واحد وجماعها الدين، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أتاكم يعلمكم دينكم)) ، والتصديق والعمل يتناولهما اسم الإيمان والإسلام جميعاً، يدل عليه قوله سبحانه تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} [3: 18] ، {ورضيت لكم الإسلام ديناً} [5: 3] ، {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه} [3: 83] ، فأخبر سبحانه وتعالى أن الدين الذي رضيه ويقبله من عباده هو الإسلام، ولا يكون الدين في محل القبول والرضاء إلا بانضمام التصديق إلى العمل – انتهى. وقيل: فسر في الحديث الإيمان بالتصديق والإسلام بالعمل، وإنما فسر إيمان القلب والإسلام في الظاهر لا الإيمان الشرعي والإسلامي الشرعي، ولا شك في تغايرهما لغة، وأجاب ابن رجب في شرح الأربعين (19) بوجه آخر، ومحصل جوابه أن الإيمان والإسلام يفترقان إذا اجتمعا، وحيث أفرد كل منهما بالذكر فلا فرق بينهما، وارجع للتفصيل إلى شرح الأربعين وكتاب الإيمان لابن تيمية. (رواه مسلم) هذا الحديث تفرد به مسلم عن البخاري بإخراجه، قال الحافظ: وإنما لم يخرجه البخاري

3- (2) ورواه أبوهريرة مع اختلاف، وفيه: ((وإذا رأيت الحفاة العراة الصم البكم ملوك الأرض)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ لاختلاف فيه على بعض رواته – انتهى. وحديث عمر هذا أخرجه أيضاً أحمد وأبوداود في السنة والترمذي والنسائي في الإيمان وابن ماجه في السنة وابن خزيمة وأبوعوانة وابن حبان وغيرهم، وفي الباب عن غير واحد من الصحابة، ذكرهم الحافظ في الفتح والعيني في العمدة. 3- (رواه أبوهريرة) الدوسي اليماني الصحابي الجليل حافظ الصحابة الفقيه كان من أوعية العلم ومن كبار أئمة الفتوى مع الجلالة والعبادة والتواضع، واختلف في اسمه واسم أبيه اختلافاً كثيراً يبلغ إلى نحو ثلاثين قولاً، وأشهر ما قيل فيه: إنه كان في الجاهلية عبد شمس أو عبد عمرو، وفي الإسلام عبد الله أو عبد الرحمن، وقال أبوأحمد الحاكم في الكنى: أصح شيء عندنا في اسم أبي هريرة: عبد الرحمن بن صخر، وقد غلبت عليه كنيته فهو كمن لا اسم له غيرها، أسلم عام خيبر وشهدها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم لزمه وواظب عليه رغبة في العلم راضياً بشبع بطنه، فكانت يده مع يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان يدور معه حيث ما دار، وكان من أحفظ الصحابة، وكان يحضر ما لا يحضر سائر المهاجرين والأنصار؛ لاشتغال المهاجرين بالتجارة والأنصار بحوائطهم، وقد شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه حريص على العلم والحديث، وقال أبوهريرة: يا رسول الله إني قد سمعت منك حديثاً كثيراً وأنا أخشى أن أنسى، فقال: ابسط رداءك، قال: فبسطته فغرف بيده فيه، ثم قال: ضمه فضممته، فما نسيت شيئاً بعد، وقال البخاري: روى عنه أكثر من ثمانمائة رجل من بين صاحب وتابع، وممن روى عنه من الصحابة ابن عباس وابن عمر وجابر بن عبد الله وأنس وواثلة، ولم يزل يسكن المدينة وبها كانت وفاته سنة 57هـ، وقيل سنة 58هـ، وقيل سنة 59هـ، وهو ابن ثمان وسبعين، وقيل مات بقصره بالعقيق، فحمل إلى المدينة وصلى عليه الوليد بن عقبة بن أبي سفيان، وكان يومئذٍ أميراً على المدينة، كذا في الاستيعاب، قال أبوهريرة: كنت أرعى غنماً وكان لي هرة صغيرة ألعب بها فكنوني بها، وقيل: رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي كمه هرة فقال: يا أباهريرة، وهو أكثر الصحابة رواية بإجماع، روى له خمسة آلالف حديث وثلاثمائة وأربعة وستون حديثاً، اتفقا على ثلاثمائة وخمسة وعشرين، وانفرد البخاري بثلاثة وتسعين ومسلم بمائة وتسعين، ذكره العيني (ج1: ص124) ، (مع اختلاف) أي بين بعض ألفاظهما (وفيه) أي في مروي أبي هريرة (الصم) أي عن قبول الحق (البكم) أي عن النطق بالصدق جعلوا لبلادتهم وحماقتهم كأنه أصيبت مشاعرهم مع كونها سليمة تدرك ما ينتفعون به (ملوك الأرض) زاد مسلم: فذاك من أشراطها، وقوله (ملوك الأرض) منصوب على أنه مفعول ثانٍ لرأيت، أو على أنه حال، ومضمون ما ذكر من أشراط الساعة في هذين الحديثين يرجع إلى أن الأمور توسد إلى غير أهلها كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن سأله عن الساعة: ((إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)) ، فإنه إذا صار الحفاة العراة

في خمس لا يعلمهن إلا الله ثم قرأ: {إن الله عنده علم الساعة وينَزل الغيث ... } الآية [31: 4] ، متفق عليه. 4- (3) وعن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ـــــــــــــــــــــــــــــ رعاء الشاء، وهم أهل الجهل والجفاء رؤساء الناس وأصحاب الثروة والأموال حتى يتطاولون في البنيان، فإنه يفسد بذلك نظام الدين والدنيا، فإنه إذا كان رؤوس الناس من كان فقيراً عائلاً فصار ملكاً على الناس سواء كان ملكه عاماً أو خاصاً في بعض الأشياء، فإنه لا يكاد يعطي الناس حقوقهم بل يستأثر عليهم بما استولى عليهم من المال، وإذا كان مع هذا جاهلاً جافياً فسد بذلك الدين؛ لأنه لا يكون له همة في إصلاح دين الناس ولا تعليمهم، بل همته في جمع المال وإكثاره ولا يبالي بما أفسده من دين الناس ولا بمن ضاع من أهل حاجاتهم. (في خمس) أي معرفة وقت الساعة هي واحدة من خمس لا يعملهن إلا الله، وقيل: أي علم وقت قيام الساعة داخل في خمس من الغيب، فهو مرفوع المحل على الخبرية، تدل عليه رواية أبي نعيم في الحلية، وفيها قال: فمتى الساعة؟ قال: هي في خمس من الغيب لا يعلمها إلا الله، ووجه الانحصار في هذه الخمس مع أن الأمور التي لا يعلمها إلا الله كثيرة هو أنهم سألوا الرسول عن هذه الخمس، فنَزلت الآية جواباً لهم، أو أن هذه الخمسة أمهاتها وأصولها وما سواها راجعة إليها، والمراد من العلم في الحديث والآية العلم الكلي، وإليه إشارة بقوله: {وعنده مفاتح الغيب} [6: 59] ، فلا يعترض بما صدر عن الأولياء وبما يخبر به بعض الكهنة والمنجمين؛ لأن علم الجزئيات ليس بعلم في الحقيقة، فالعلم هو العلم الكلي، أو لأنه من الظن لا من العلم، فافهم، الآية تمامها: {ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت. إن الله عليم خبير} [31: 34] . (متفق عليه) أي اتفق الشيخان على رواية أصل حديث أبي هريرة، مع قطع النظر عن خصوص الزيادة المذكورة، فإنها تفرد بها مسلم عن البخاري، نعم هي رواية الإسماعيلي كما ذكره الحافظ في الفتح، وحديث أبي هريرة أخرجه أيضاً أبوداود والنسائي وابن ماجه ورواه النسائي أيضاً عن أبي ذر مقروناً مع أبي هريرة. 4- (وعن ابن عمر) المراد به حيث أطلق عبد الله بن عمر بن الخطاب، وإن كان لعمر أبناء آخرون أيضاً، كما أنه يراد بابن عباس وابن مسعود وابن الزبير عند الإطلاق هو عبد الله، بسط ترجمته الذهبي في تذكرته، والحافظ في الإصابة، وهو أبوعبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي المكي، أسلم بمكة قديماً مع أبيه وهو صغير وهاجر معه واستصغر عن أحد وشهد الخندق وله خمس عشرة سنة وما بعدها، وهو أحد الستة الذين هم أكثر الصحابة رواية، وأحد العبادلة الأربعة، وكان من أهل الورع والعلم والزهد، شديد التحري والاحتياط والاتباع للأثر، قال جابر بن عبد الله: ما منا أحد إلا مالت به الدنيا ومال بها، ما خلا عمر وابنه عبد الله، وقال ميمون بن مهران: ما رأيت أورع من ابن عمر، ولا أعلم من ابن عباس، وقال نافع: ما مات ابن عمر حتى أعتق ألف إنسان، أو زاد، وهو الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنه رجل صالح، ومناقبه وفضائله كثيرة جداً، روي له ألفا حديث وستمائة وثلاثون حديثاً، اتفقا منها على مائة وسبعين حديثاً، وانفرد البخاري بأحد وثمانين، ومسلم بأحد

((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ وثلاثين، وهو أكثر الصحابة رواية بعد أبي هريرة، ولد بعد البعثة بقليل، وما بعد الحج سنة 73هـ، وقيل: سنة 74هـ، بعد قتل ابن الزبير بثلاثة أشهر، وقيل: بستة أشهر، ودفن بالمحصب أو بفخ أو بذي طوى، وكلها مواضع بقرب مكة، ذكر الزبير أن عبد الملك لما أرسل إلى الحجاج أن لا يخالف ابن عمر شق عليه ذلك، فأمر رجلاً معه حربة يقال: إنها كانت مسمومة، فلما دفع الناس من عرفة لصق ذلك الرجل به فأمر الحربة على قدمه فمرض منها أياماً ثم مات وله 84 سنة، وقيل 86، روى عن خلق كثير. (بني الإسلام) ذكر المصنف هذا الحديث في كتاب الإيمان ليبين أن الإسلام يطلق على الأفعال، وأن الإسلام والإيمان بمعنى واحد، ولاشتماله على لفظ البناء الدال على تركب الإيمان صراحة، ولاحتوائه على أهم أجزاء الإيمان، وقد تقدم أن الإيمان عند السلف مركب ذو أجزاء، وأن الأعمال داخلة في حقيقتها. (على خمس) أي خمس دعائم، كما في رواية عبد الرزاق ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة، أو خصال أو قواعد أو نحو ذلك، مثلت حالة الإسلام مع أركانه الخمس بحالة خباء أقيمت على خمسة أعمدة وقطبها الذي تدور عليه الأركان هو الشهادة المشبهة بالعمود الوسط للخيمة، وبقية شعب الإيمان وخصاله بمنْزلة الأوتاد للخباء وتتمة لها، فإذا فقد منها شيء نقص الخباء وهو قائم لا ينقض بنقص ذلك بخلاف نقص هذه الدعائم الخمس، فإن الإسلام يزول بفقدها جميعاً بغير إشكال، وكذلك يزول بفقد الشهادتين، واختلفوا في ترك الصلاة، فذهب أحمد وطائفة من السلف والخلف إلى أن تركها كفر، واستدلوا بأحاديث متعددة تدل على كون تاركها كافراً، قال محمد بن نصر: هو قول جمهور أهل الحديث، وذهب طائفة منهم إلى أن من ترك شيئاً من أركان الإسلام الخمس عمداً أنه كافر، قال النووي: حكم الإسلام في الظاهر يثبت بالشهادتين، وإنما أضيف إليهما الصلاة ونحوها لكونها أظهر شعائر الإسلام وأعظمها، وبقيامه بها يتم إسلامه، وتركه لها يشعر بانحلال قيد انقياده أو اختلاله، فإن قيل المبنى لا بد أن يكون غير المبنى عليه، أجيب بأن الإسلام عبارة عن المجموع، والمجموع غير كل واحد من أركانه، أو يقال: إن المراد بالإسلام هو التذلل العام الذي هو اللغوي لا التذلل الشرعي الذي هو فعل الواجبات حتى يلزم بناء الشيء على نفسه، ومعنى الكلام أن التذلل اللغوي يترتب على هذه الأفعال مقبولاً من العبد طاعة وقربة. (شهادة أن لا إله إلا الله) بالجر على البدل من خمس، ويجوز الرفع على حذف الخبر، والتقدير: منها شهادة أن لا إله إلا الله، أو على حذف المبتدأ والتقدير: أحدها شهادة أن لا إله إلا الله، ويجوز النصب بتقدير أعني. (وإقام) أصلة إقامة، حذفت تاؤه للازدواج، وقيل: هما مصدران (الصلاة) المفروضة أي المداومة عليها، أو الإتيان بها بشروطها وأركانها (وإيتاء الزكاة) أي إعطائها أهلها (والحج وصوم رمضان) لم يذكر الجهاد؛ لأنه من فروض الكفاية وتلك فرائض الأعيان، ولم يذكر

متفق عليه. 5- (4) وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول "لا إله إلا الله"، وأدناها إماطة الأذى ـــــــــــــــــــــــــــــ الإيمان بالأنبياء والملائكة وغير ذلك مما تضمنه حديث جبريل؛ لأن المراد بالشهادة تصديق الرسل بكل ما جاء به، فيستلزم جميع ما ذكر من المعتقدات، والواو لمطلق الجمع فلا يرد أن الصوم فرض في السنة الثانية من الهجرة، والحج سنة ست أو تسع على أنه ورد في رواية لمسلم بتقديم الصوم على الحج، ووجه الحصر في الخمس أن العبادة إما قولية وهي الشهادة، أو غير قولية فهي إما تركي وهو الصوم، أو فعلي وهو إما بدني وهو الصلاة، أو مالي وهو الزكاة، أو مركب منهما وهو الحج (متفق عليه) أخرجه البخاري في الإيمان وفي التفسير، ومسلم في الإيمان، وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي والنسائي في الإيمان. 5- قوله: (الإيمان بضع وسبعون شعبة) البضع بكسر الباء وقد تفتح: القطعة من الشيء، وهو في العدد ما بين الثلاث إلى التسع؛ لأنه قطعة من العدد، وكونه عدداً مبهماً مقيداً بما بين الثلاث إلى التسع هو الأشهر، وفيه أقوال أخرى ذكرها العيني، واختلفت الروايات الصحيحة في ذكر العدد من غير شك، ففي مسلم وأبي داود والترمذي والنسائي (بضع وسبعون) ، وفي رواية البخاري (بضع وستون) ، فرجح الحليمي وعياض والنووي الرواية الأولى؛ لأنها زيادة من ثقة فتقبل وتقدم، وليس في رواية الأقل ما يمنعها ويخالفها، قال الحافظ: لا يستقيم ذلك إذ الذي زادها لم يستمر على الجزم، لاسيما مع اتحاد المخرج، وقد رجح ابن الصلاح الأقل لكونه المتيقن – انتهى. وقيل: هو كناية عن الكثرة، وليس المراد التحديد، فإن كثيراً من أسماء العدد تجيء كذلك، ويحمل الاختلاف على تعدد القضية ولو من جهة راوٍ واحد، و (الشعبة) بالضم القطعة والفرقة، وهي واحدة "الشعب" وهي أغصان الشجر، والمراد في الحديث الخصلة أي الإيمان ذو خصال متعددة، وكما شبه الإسلام في حديث ابن عمر المتقدم بخباء ذات أعمدة وأطناب شبه الإيمان في هذا الحديث بشجرة ذات أغصان وشعب، ومن المعلوم أن الشعب وكذا الأوراق والثمار أجزاء للشجرة، والأغصان والأوراق والثمار قد تكون وقد لا تكون مع بقاء الشجرة، كذلك الأعمال قد تكون وقد لا تكون مع بقاء أصل الإيمان، فنسبة الأعمال إلى الإيمان كنسبة الأغصان والأوراق والثمار إلى الشجرة، (فأفضلها) هو جزاء شرط محذوف، كأنه قيل: إذا كان الإيمان ذا شعب يلزم التعدد، وحصول الفاضل والمفضول بخلافه إذا كان أمراً واحداً، (قول لا إله إلا الله) المراد به مجموع الشهادتين عن صدق قلب، أو الشهادة بالتوحيد فقط لكن عن صدق قلب على أن الشهادة بالرسالة شعبة أخرى (وأدناها) أو أدونها مقداراً ومرتبة، بمعنى أقربها تناولاً وأسهلها تواصلاً من الدنو بمعنى القرب (إماطة الأذى) أي إزالته وتنحيته وإبعاده، والأذى اسم لما يؤذي

عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)) متفق عليه. 6- (5) وعن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ـــــــــــــــــــــــــــــ في الطريق كالشوك والحجر والنجاسة ونحوها، وفي الحديث إشارة إلى أن مراتب الإيمان متفاوتة (والحياء) بالمد (شعبة) أي عظيمة (من الإيمان) أي من شعبه، وهو في اللغة تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به، وقد يطلق على مجرد ترك الشيء بسبب، والترك إنما هو من لوازمه، وفي الشرع خلق يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق، ولهذا جاء في الحديث: ((الحياء خير كله)) ، فإن قيل: الحياء من الغرائز، فكيف جعل شعبة من الإيمان؟ أجيب بأنه قد يكون غريزة، وقد يكون تخلقاً، ولكن استعماله على وفق الشرع يحتاج إلى اكتساب وعلم ونية، فهو من الإيمان لهذا، ولكونه باعثاً على أفعال الطاعة وحاجزاً عن فعل المعصية، ولا يقال: رب حياء يمنع عن قول الحق أو فعل الخير، فكيف يصح أن يقال: الحياء خير كله، ولا يأتي إلا بخير؛ لأن ذلك ليس شرعياً بل هو عجز وخور، وإنما تسميته حياءً من إطلاق بعض أهل العرف، أطلقوه مجازاً لمشابهته الحياء الحقيقي الشرعي، وإنما أفرد الحياء بالذكر من بين سائر الشعب لأنه كالداعي إلى سائر الشعب، فإن الحي يخاف فضيحة الدنيا والآخرة فيأتمر وينْزجر، وقال الطيبي: معنى إفراد الحياء بالذكر بعد دخوله في الشعب كأنه يقول: هذه شعبة واحدة من شعبه، فهل تحصى شعبه كلها؟ هيهات إن البحر لا يغرف، قال القاضي عياض: تكلف جماعة حصر هذه الشعب بطريق الاجتهاد وفي الحكم يكون ذلك مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - صعوبة، ثم إنه لا يلزم معرفة أعيانها، ولا يقدح عدم معرفة حصر ذلك على التفصيل في الإيمان، إذ أصول الإيمان وفروعه معلومة محققة، والإيمان بأنها هذا العدد واجب في الجملة – انتهى. (متفق عليه) أي اتفق الشيخان على رواية أصل الحديث، وليس المراد أنهما اتفقا على خصوص اللفظ الذي ذكره، فلا يعترض بأن قوله ((بضع وسبعون)) من إفراد مسلم، وكذا قوله ((فأفضلها)) إلى قوله ((عن الطريق)) من إفراده فلا يكون متفقاً عليه. 6- قوله: (وعن عبد الله بن عمرو) كتب بالواو ليتميز عن عمر، ومن ثمة لم يكتب حالة النصب لتميزه عنه بالألف، وهو ابن العاص السهمي القرشي أبومحمد، أسلم قبل أبيه، وكان بينه وبين أبيه في السن اثنتي عشرة سنة، وقيل: إحدى عشرة، وكان غزير العلم كثير الاجتهاد في العبادة، وكان أكثر حديثاً من أبي هريرة لأنه كان يكتب وأبوهريرة لا يكتب، ومع ذلك فالذي روي له قليل بالنسبة إلى ما روي لأبي هريرة، روي له سبعمائة حديث، اتفقا منها على سبعة عشر، وانفرد البخاري بثمانية، ومسلم بعشرين، روى عنه خلق كثير، كان يلوم أباه على القتال في الفتنة بأدب وتؤدة، ويقول: واصفين مالي ولقتال المسلمين لوددت أني مت قبلها بعشرين سنة، توفي بمكة أو بالطائف أو بمصر في ذي الحجة من سنة (63) ، أو (65) ، أو (67) ، وقيل مات سنة (72) ، أو (73) ، عن

((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ـــــــــــــــــــــــــــــ اثنتين وسبعين سنة. (المسلم) أي الكامل، نحو زيد الرجل، أي كامل في الرجولة، والمال الإبل، والناس العرب، وقيل: معناه: المسلم الممدوح، قال ابن جني: من عادتهم أن يوقعوا على الشيء الذي يخصونه بالمدح اسم الجنس، ألا ترى كيف سموا الكعبة بالبيت، وكتاب سيبويه بالكتاب – انتهى. فإن قيل: إنه يستلزم أن من اتصف بهذا خاصة كان كاملاً، أجيب بأن المراد هو الكامل مع مراعاة باقي الأركان والصفات، قال الخطابي: المراد أفضل المسلمين من جمع إلى أداء حقوق الله، وأداء حقوق المسلمين – انتهى. واقتصر على الثاني لأن الأول مفهوم بالطريق الأولى، ويمكن أن يكون هذا وارداً على سبيل المبالغة تعظيماً لترك الإيذاء، فهو محصور فيه على سبيل الادعاء، وأمثاله كثيرة، والحاصل أن القصر فيه باعتبار تنْزيل الناقص منْزلة المعدوم، فلا حاجة إلى تقدير الكمال، ويحتمل أن يكون المراد بذلك أن يبين علامة المسلم التي يستدل بها على إسلامه، وهي سلامة المسلمين من لسانه ويده كما ذكر مثله في علامة المنافق (من) أي إنسان كان ذكراً أو أنثى (سلم المسلمون) أي والمسلمات إما تغليباً، أو تبعاً كما في سائر النصوص والمخاطبات، ويلحق بهم أهل الذمة حكماً، فذكر المسلمين خرج مخرج الغالب؛ لأن محافظة المسلم على كف الأذى عن أخيه المسلم أشد تأكيداً، ولأن الكفار بصدد أن يقاتلوا وإن كان فيهم من يجب الكف عنه، ووقع في رواية ابن حبان: من سلم الناس (من لسانه) أي بالشتم واللعن والغيبة والبهتان والنميمة والسعي إلى السلطان وغير ذلك، (ويده) بالضرب والقتل والهدم والدفع والكتابة بالباطل ونحوها، وخصا بالذكر لأن أكثر الأذى بهما، أو أريد بهما مثلاً، وقدم اللسان لأن الإيذاء به أكثر وأسهل، ولأنه أشد نكاية، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول لحسان: اهج المشركين فإنه أشق عليه من رشق النبل، ولأنه يعم الأحياء والأموات، وابتلي به الخاص ولعام خصوصاً في هذه الأيام، وعبر به دون القول ليشمل إخراجه استهزاء لغيره، وقيل: خص اليد مع أن الفعل قد يحصل بغيرها لأن سلطنة الأفعال إنما تظهر بها إذ بها البطش والقطع والوصل والمنع والإعطاء والأخذ ونحوه، وقال الزمخشري: لما كانت أكثر الأعمال تباشر بالأيدي غلبت، فقيل في كل عمل "هذا مما عملته أيديهم" وإن لم يكن وقوعه بها، ثم الحد والتعزير وتأديب الأطفال والدفع لنحو الصيال ونحوها فهي استصلاح وطلب السلامة، أو مستثنى شرعاً، أو لا يطلق عليه الأذى عرفاً. (والمهاجر) هو بمعنى الهاجر وإن كان لفظ المفاعل يقتضي وقوع فعل من اثنين لكنه هنا للواحد كالمسافر بمعنى السافر، والمنازع بمعنى النازع، لأن باب فاعل قد يأتي بمعنى فعل (هجر) أي ترك وهذه الهجرة ضربان: ظاهرة، وباطنة، فالباطنة ترك ما تدعوا إليه النفس الأمارة بالسوء والشيطان، والظاهرة الفرار بالدين من الفتن، وكان المهاجرين خوطبوا بذلك لئلا يتكلوا على مجرد تحولهم من دارهم حتى يمتثلوا أوامر الشرع ونواهيه، ويحتمل أن يكون ذلك بعد انقطاع الهجرة لما فتحت مكة تطييباً لقلوب من لم يدرك ذلك، بل حقيقة الهجرة تحصل لمن هجر ما نهى

ما نهى الله عنه)) ، وهذا لفظ البخاري، ولمسلم قال: ((إن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أي المسلمين خير؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده)) . 7- (6) وعن أنس – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه ـــــــــــــــــــــــــــــ الله عنه، فاشتملت هاتان الجملتان على جوامع من معاني الحكم والأحكام، كذا في الفتح، وفي الحديث بيان شعبتين من شعب الإيمان وهما سلامة المسلمين من لسان المسلم ويده، وهجر ما نهى الله عنه. (هذا لفظ البخاري) وأخرجه أبوداود والنسائي، (ولمسلم) أي في صحيحه عن عبد الله بن عمرو (خير) أي أفضل وأكمل، ورواه البخاري من حديث أبي موسى بلفظ ((قالوا: أي الإسلام أفضل؟ قال: من سلم المسلمون ... )) الخ، والمراد أي ذوي الإسلام، أو أي أصحاب الإسلام، وفيه بيان للتأويل الذي ذكرناه في قوله ((المسلم)) من أنه محمول على التفضيل، والمراد المسلم الكامل، أو أفضل المسلمين، هذا، وقد ثبت من كون من سلم الناس من أذاه أفضل المسلمين وأخيرهم وأكملهم أن بعض خصال المسلمين المتعلقة بالإسلام أفضل من بعض، وحصل منه القول بقبول الإيمان للزيادة والنقصان، ففيه رد على المرجئة فإنه ليس عندهم إيمان وإسلام ناقص. 7- قوله: (وعن أنس) بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام الأنصاري الخزرجي النجاري، خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، نزيل البصرة، خدمه عشر سنين بعد ما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وهو ابن عشر سنين، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألفا حديث ومائتا حديث وست وثمانون حديثاً، اتفقا على مائة وثمانية وستين حديثاً منها، وانفرد البخاري بثلاثة وثمانين، ومسلم بأحد وتسعين، وكان أكثر الصحابة ولداً، قالت أمه: يا رسول الله خويدمك أنس ادع الله له، فقال: اللهم بارك في ماله وولده وأطل عمره واغفر ذنبه، فقال: لقد دفنت من صلبي مائة إلا اثنين، وكان له بستان يحمل في سنة مرتين، وفيه ريحان يجيء منه ريح المسك، وقال لقد بقيت حتى سئمت من الحياة وأنا أرجو الرابعة أي المغفرة، قيل: عمّر مائة سنة وزيادة، وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة سنة (93هـ) ، روى عنه خلق كثير، وكنيته أبوحمزة، وهي اسم بقلة كان يحبها، ومنه حديث أنس: ((كناني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببقلة كنت أجتنيها)) ، (لا يؤمن) أي لا يكمل إيمان من يدعي الإيمان، فالمراد بالنفي كمال الإيمان ونفي اسم الشيء على معنى نفي الكمال عنه مستفيض في كلامهم كقولهم: فلان ليس بإنسان. (حتى أكون) بالنصب بأن مضمرة، وحتى جارة، ومعنى هذه الغاية أعني حتى أكون ههنا وفي أمثاله هو أنه لا يكمل الإيمان بدون هذه الغاية، لا أن حصول هذه الغاية كافية في كمال الإيمان وإن لم يكن هناك شيء آخر. (أحب) بالنصب لأنه خبر أكون، وهو أفعل التفضيل بمعنى المفعول، وهو على خلاف القياس وإن كان كثيراً، إذ القياس أن يكون بمعنى الفاعل، وقال ابن

من والده وولده والناس أجمعين)) متفق عليه. 8- (7) وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: ـــــــــــــــــــــــــــــ مالك: إنما يشذ بناءه للمفعول إذا خيف اللبس بالفاعل، فإن أمن بأن لم يستعمل للفاعل، أو قرن به ما يشعر بأنه للمفعول لا يشذ ... الخ، وفصل بينه وبين معموله "من والده" لأن الممتنع الفصل بأجنبي لا مطلقاً، والظرف فيه توسع فلا يمنع. (من والده) المراد به ذات له ولد، أو هو بمعنى ذو ولد نحو لابن وتامر، فيتناول الأب والأم كليهما، أو يقال: اكتفى بذكر أحدهما كما يكتفى عن أحد الضدين بالآخر، ولم يذكر النفس لأنها داخلة في عموم قوله "والناس أجمعين"، أو لم تكن حاجة إلى ذكرها مع ذكر الوالد والولد لأنهما أعز على العاقل من الأهل والمال، بل ربما يكونان أعز من نفس الرجل على الرجل، فذكرهما إنما هو على سبيل التمثيل، فكأنه قال "حتى أكون أحب إليه من جميع أعزته"، ويعلم منه حكم غير الأعزة؛ لأنه يلزم في غيرهم بالطريق الأولى. (وولده) أي الذكر والأنثى (والناس أجمعين) هو من عطف العام على الخاص، وهو كثير كقوله تعالى: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم} [15: 87] ، قال الخطابي: لم يرد بالحب حب الطبع، بل أراد به حب الاختيار المسند إلى الإيمان؛ لأن حب الإنسان أهله وماله طبع مركوز فيه، خارج عن حد الاستطاعة، ولا سبيل إلى قلبه، قال: فمعناه لا يصدق في إيمانه حتى يفدي في طاعتي نفسه ويؤثر رضاي على هواه وإن كان فيه هلاكه – انتهى. وحاصله ترجيح جانبه - صلى الله عليه وسلم - في أداء حقه بالتزام طاعته، واتباع طريقته على كل من سواه، قال النووي: المحبة أصلها الميل إلى ما يوافق المحب، ثم الميل قد يكون بما يستلذه بحواسه كحسن الصورة والصوت والطعام وبما يستلذه بعقله كمحبة الفضل والجمال، وقد يكون لإحسانه إليه ودفعه المضار عنه، ولا يخفى أن المعاني الثلاثة كلها موجودة في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لما جمع من جمال الظاهر والباطن وكمال أنواع الفضائل، وإحسانه إلى جميع المسلمين بهدايتهم إلى الصراط المستقيم ودوام النعيم، والإبعاد من الجحيم، ولا شك أن الثلاثة فيه أكمل مما في الوالدين لو كانت فيها فيجب كونه أحب منهما؛ لأن المحبة ثابتة لذلك، حاصلة بحسبها، كاملة بكمالها، ومن محبته وحقه نصرة سنته والذب عن شريعته وقمع مخالفيها وامتثال أوامره وتمني إدراكه في حياته ليبذل نفسه وماله دونه، والحديث صريح في أن محبة الرسول من أمور الإيمان، والناس فيها متفاوتون وهو يستلزم زيادة الإيمان ونقصانه. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي في الإيمان وابن ماجه في السنة. 8- قوله: (ثلاث) مبتدأ والجملة الشرطية خبر، وجاز مع أنه نكرة لأن التقدير خصال ثلاث، أو ثلاث خصال، أو تنوينه للتعظيم فجاز الابتداء به، ويجوز أن تكون الشرطية صفة له ويكون الخبر من كان (من كن) أي حصلن فيه فهي تامة، أو من كن مجتمعة فيه وهي ناقصة (وجد بهن) أي بسبب وجودهن في نفسه (حلاوة الإيمان) أي حسنه

من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب ـــــــــــــــــــــــــــــ من حلي فلان في عيني وبعيني بالكسر يحلى بالفتح: إذا حسن وأعجب، أو لذته وطعمه من حلاله الشيء يحلو: أي لذ فهو حلو وهو نقيض المر، والأظهر الثاني على ما لا يخفى، فالمراد بحلاوة الإيمان التلذذ بالطاعات، وتحمل المشاق في رضى الله ورسوله، وإيثار ذلك على عرض الدنيا، وذلك لأن المرء إذا تأمل أن الشارع لا يأمر ولا ينهى إلا بما فيه صلاح عاجل أو خلاص آجل يصير هواه تبعاً له فيلتذ بامتثال أوامره، وتحمل المشقة في رضى الله ورسوله، قال الحافظ في الفتح: قوله حلاوة الإيمان استعارة تخييلية، شبه رغبة المؤمن في الإيمان بشيء حلو، وأثبت له لازم ذلك الشيء، وأضافه إليه، وفيه تلميح إلى قصة المريض والصحيح؛ لأن المريض الصفراوي يجد طعم العسل مراً، والصحيح يذوق حلاوته على ما هي عليه، وكلما نقصت الصحة شيئاً ما نقص ذوقه بقدر ذلك، فكانت هذه الاستعارة من أوضح ما يقوي استدلال المصنف أي البخاري على الزيادة والنقص – انتهى. وإنما عبر الالتذاذ بالطاعات بالحلاوة لأنها أظهر اللذائذ الحسية، وإن كان لا نسبة بين هذه اللذة واللذات الحسية، وهذه الأمور الثلاثة عنوان لكمال الإيمان المحصل لتلك اللذة التي ربما تغلب على جميع لذات الدنيا، قال البيضاوي: وإنما جعل هذه الأمور الثلاثة عنواناً لكمال الإيمان لأن المرء إذا تأمل أن المنعم بالذات هو الله تعالى، وأن لا مانح ولا مانع في الحقيقة سواه، وأن ما عداه وسائط، وأن الرسول هو الذي يبين له مراد ربه اقتضى ذلك أن يتوجه بكليته نحوه، فلا يحب إلا ما يحب ولا يحب من يحب إلا من أجله، وإن يتيقن أن جملة ما وعدوا وعد حق يقيناً ويخيل إليه الموعود كالواقع، فيحسب أن مجالس الذكر رياض الجنة، وأن العود إلى الكفر إلقاء في النار – انتهى ملخصاً، قال القاضي عياض: هذا الحديث بمعنى حديث ((ذاق طعم الإيمان من رضي الله رباً ... )) الخ، وذلك أنه لا تصح محبة الله ورسوله حقيقة وحب الآدمي في الله ورسوله وكراهة الرجوع في الكفر إلا لمن قوي الإيمان في نفسه، وانشرح له صدره، وخالط لحمه ودمه، هذا هو الذي وجد حلاوته، قال: والحب في الله من ثمرات حب الله (من كان) لا بد من تقدير مضاف قبله؛ لأنه على الوجه الأول إما بدل أو بيان أو خبر لمبتدأ محذوف هو "هي" أو "هن"، أو "إحداها" وعلى الثاني خبر، أي محبة من كان (الله ورسوله) برفعهما (أحب إليه) بالنصب على أنه خبر كان (مما سواهما) من نفس وأهل ومال وكل شيء، ولم يقل ممن سواهما ليعم من يعقل ومن لا يعقل، ومحبة العبد ربه بفعل طاعته وترك مخالفته، وكذلك محبة الرسول، وثنى الضمير في سواهما مع أنه رد على الخطيب قوله ((ومن يعصهما فقد غوى)) فقال: ((بئس الخطيب أنت)) إيماءً إلى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين لا كل واحدة منهما، فإنها وحدها ضائعة لاغية، وأمر بالإفراد في حديث الخطيب إشعاراً بأن كل واحد من المعطوفين مستقل باستلزام الغواية، إذ العطف في تقدير التكرير، والأصل استقلال كل من المعطوفين في الحكم، وله أجوبة أخرى ذكرها الحافظ في الفتح (ومن أحب) أي

عبداً لا يحبه إلا لله، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار)) متفق عليه. 9- (8) وعن العباس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ـــــــــــــــــــــــــــــ وثانيتها محبة من أحب (لا يحبه) أي لشيء (إلا لله) استثناء مفرغ، والجملة حال من الفاعل أو المفعول أو منهما. (ومن يكره) أي وثالثتها كراهة من كره (أن يعود) أي يصير أو يرجع ويتحول (في الكفر بعد أن أنقذه الله) أي أخلصه: قال الحافظ: الإنقاذ أعم من أن يكون بالعصمة منه ابتداءً بأن يولد على الإسلام ويستمر، أو بالإخراج من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان كما وقع لكثير من الصحابة، وعلى الأول فيحمل قوله "يعود" على معنى الصيرورة بخلاف الثاني فإن العود فيه على ظاهره – انتهى، و"في" هذا بمعنى "إلى" كما في قوله تعالى: {أو لتعودن في ملتنا} [7: 88] ، أي تصيرن إلى ملتنا (كما يكره) الكاف للتشبيه وما مصدرية، أي مثل كرهه (أن يلقى) في محل النصب؛ لأنه مفعول يكره، وأن مصدرية أي الإلقاء وهو على صيغة المجهول (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه. 9- قوله: (وعن العباس بن عبد المطلب) أي عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكنيته أبوالفضل، وكان أسن من النبي - صلى الله عليه وسلم - بسنتين، وقيل بثلاث سنين، وضاع وهو صغير فنذرت أمه إن وجدته أن تكسو البيت الحرير، فوجدته فكست البيت الحرير، فهي أول عربية كست ذلك، وكان إليه في الجاهلية سقاية الحاج وعمارة البيت، والمراد بها أنه كان يحمل قريشاً على عمارته بالخير وترك السيئات فيه وقول الهجر، وحضر بيعة العقبة مع الأنصار قبل أن يسلم، وشهد بدراً مع المشركين مكرهاً، فأسر فافتدى نفسه وابن أخيه عقيل بن أبي طالب ورجع إلى مكة، فيقال: إنه أسلم وكتم قومه ذلك وصار يكتب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأخبار، ثم هاجر قبل الفتح بقليل، وشهد الفتح وثبت يوم حنين، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من آذى العباس فقد آذاني، فإنما عم الرجل صنو أبيه)) ، أخرجه الترمذي في قصة، قال سفيان بن الحارث بن عبد المطلب: كان العباس أعظم الناس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والصحابة يعترفون للعباس فضله ويشاورونه ويأخذون رأيه، وقال مجاهد: أعتق العباس عند موته سبعين مملوكاً، وقال ابن عبد البر: كان رئيساً في الجاهلية، وإليه العمارة والسقاية وأسلم قبل فتح خيبر، وكان أنصر الناس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أبي طالب، وكان جواداً مطعماً وصولاً للرحم ذا رأي حسن ودعوة مرجوة، وكان لا يمر بعمر وعثمان وهما راكبان إلا نزلا حتى يجوز إجلالاً له، وفضائله ومناقبه كثيرة وترجمته مطولة في تاريخ دمشق، مات بالمدينة يوم الجمعة لاثنتي عشرة خلت من رجب، أو رمضان سنة 32هـ، وهو ابن (88) سنة ودفن بالبقيع، روي له خمسة وثلاثون حديثاً، اتفقا على حديث، وانفرد البخاري

ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً)) رواه مسلم. 10- (9) وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله: ((والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ بحديث، ومسلم بثلاثة، روى عنه جماعة (ذاق طعم الإيمان) أي حلاوة الإيمان ولذته (من رضي الله بالله رباً) منصوب على التمييز وكذا أخواته، قال صاحب التحرير: معنى رضيت بالشيء: قنعت به، واكتفيت به، ولم أطلب معه غيره، فمعنى الحديث: لم يطلب غير الله تعالى ولم يسع في غير طريق الإسلام ولم يسلك إلا ما يوافق شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولا شك في أن من كانت هذه صفته فقد خلصت حلاوة الإيمان إلى قلبه وذاق طعمه، وقال القاضي عياض: معنى الحديث: صح إيمانه واطمأنت به نفسه وخامر باطنه؛ لأن رضاه بالمذكورات دليل لثبوت معرفته ونفاذ بصيرته ومخالطة بشاشته قلبه؛ لأن من رضي أمراً سهل عليه فكذا المؤمن إذا دخل قلبه الإيمان سهل عليه طاعات الله تعالى ولذت له (رواه مسلم) وكذا أحمد (ج1: ص208) والترمذي في الإيمان وصححه. 10- قوله: (لا يسمع بي) هو جواب القسم، والباء زائدة، وقيل: بمعنى من، قال القاري: والأظهر أنها لتأكيد التعدية كما في قوله تعالى: {ما سمعنا بهذا} [38: 7] ، وضمن معنى الإخبار أي ما يسمع مخبراً ببعثي، وحاصل المعنى لا يعلم برسالتي (أحد) أي ممن هو موجود في زمني وبعدي إلى يوم القيامة فكلهم ممن يجب عليه الدخول في طاعته (من هذه الأمة) أي أمة الدعوة وهم الخلق جميعاً، ومن تبعيضية، وقيل: بيانية (يهودي ولا نصراني) صفتان لأحد، وحكم المعطلة وعبدة الأوثان يعلم بالطريق الأولى؛ لأن اليهود والنصارى لهم كتاب، فإذا كان هذا شأنهم مع أن لهم كتاباً فغيرهم ممن لا كتاب له أولى، أو بدلان عنه بدل البعض من الكل، وخصا بالذكر لأن كفرهما أقبح لكونهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، قال تعالى: {يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل} [7: 157] وعلى كلٍ لا زائدة لتأكيد الحكم (ثم يموت) ثم للاستبعاد كما في قوله تعالى: {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها} [32: 22] ، أي ليس أحد أظلم ممن بينت له آيات الله الظاهرة والباطنة ودلائله القاهرة فعرفها ثم أنكرها أي بعيد عن العاقل، قاله الطيبي (إلا كان) أي في علم الله، أو بمعنى يكون وتعبيره بالمضي لتحقق وقوعه، وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال، قال القاري: "لا" في لا يسمع بمعنى ليس، و"ثم يموت" عطف على يسمع المثبت، و"لم يؤمن" عطف على يموت، أو حال من فاعله وليس لنفي هذا المجموع، وتقديره: ليس أحد يسمع بي ثم يموت ولم يؤمن، أو غير مؤمن كائناً من أصحاب شيء إلا من أصحاب النار – انتهى. وذلك لأن معجزته القرآن المستمر إلى يوم القيامة مع خرقه العادة في

رواه مسلم. 11- (10) وعن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب ـــــــــــــــــــــــــــــ أسلوبه وأخباره بالمغيبات، وعجز الجن والإنس عن أن يأتوا بسورة مثله يوجب الإيمان برسالته، ويوجب الدخول على الكل في طاعته، فمن لم يؤمن بما أرسل به كان من أصحاب النار. قال النووي: في الحديث نسخ الملل كلها برسالة نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وفي مفهومه دلالة على أن من لم يبلغه دعوة الإسلام فهو معذور. (رواه مسلم) هو من إفراد مسلم من بين أصحاب الكتب الستة. 11- قوله: (وعن أبي موسى الأشعري) نسبة إلى الأشعر، أحد أجداده وهو عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار الأشعري، مشهور باسمه وكنيته معاً، قيل: إنه قدم مكة قبل الهجرة، فأسلم ثم هاجر إلى الحبشة، ثم قدم المدينة مع أصحاب السفينتين بعد فتح خيبر، وقيل: بل رجع إلى بلاد قومه، ولم يهاجر إلى الحبشة، ثم خرج من بلاد قومه في سفينة فألقتهم الريح بأرض الحبشة، فوافقوا بها جعفر بن أبي طالب، فأقاموا عنده ورافقوه إلى المدينة، وهذا قول الأكثر، وهو أصح، واستعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على بعض اليمن كزبيد وعدن وأعمالهما، واستعمله عمر على البصرة بعد المغيرة فافتتح الأهواز ثم الأصبهان ثم استعمله عثمان على الكوفة، ثم كان أحد الحكمين بصفين، ثم اعتزل الفريقين، وكان حسن الصوت بالقرآن، وفي الصحيح المرفوع: ((لقد أوتي مزماراً من مزامير آل داود)) ، وقال أبوعثمان النهدي: صليت خلف أبي موسى فما سمعت في الجاهلية صوت صنج ولا بربط ولا نأي أحسن من صوت أبي موسى بالقرآن، وكان عمر إذا رآه قال: ذكرنا يا أباموسى، وفي رواية: شوقنا إلى ربنا، فيقرأ عنده، وكان أبوموسى هو الذي فقه أهل البصرة وأقرأهم، وأخرج البخاري عن الحسن قال: ما أتاها – يعني البصرة – راكب خير لأهلها منه، يعني من أبي موسى، قال الشعبي: كتب عمر في وصيته أن لا يقر لي عامل أكثر من سنة، واقروا الأشعري أربع سنين، ومناقبه كثيرة، له ثلاثمائة وستون حديثاً، اتفقا على خمسين، وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بخمسة وعشرين، روى عن خلق، مات سنة (50) ، وقيل بعد ذلك، وهو ابن (63) ، قيل: بالكوفة، وقيل: بمكة. (ثلاثة) مبتدأ تقديره: ثلاثة رجال، أو رجال ثلاثة (لهم أجران) أي لكل واحد أجران يوم القيامة، وهو مبتدأ وخبر، والجملة خبر المبتدأ الأول (رجل) خبر مبتدأ محذوف، تقديره: أولهم أو أحدهم بدل من ثلاثة بدل البعض، بالنظر إلى كل رجل بدل الكل بالنظر إلى المجموع، وقيل: غير ذلك، وحكم المرأة الكتابية حكم الرجل كما هو مطرد في جل الأحكام، حيث يدخلن مع الرجال بالتبعية إلا ما خصه الدليل (من أهل الكتاب) في محل الرفع؛ لأنه صفة لرجل، ولفظ الكتاب عام ومعناه خاص أي المنَزل من عند الله، والمراد به التوراة والإنجيل، كما تظاهرت به نصوص الكتاب والسنة، حيث يطلق

آمن بنبيه وآمن بمحمد، ـــــــــــــــــــــــــــــ أهل الكتاب، ويؤيد العموم أي الحمل على أهل التوراة والإنجيل، أعني اليهود والنصارى ما رواه أحمد في مسنده (ج5: ص259) عن أبي أمامة قال: إني لتحت راحلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح، فقال قولاً حسنا جميلاً وقال فيما قال: ((من أسلم من أهل الكتابين فله أجره مرتين، وله ما لنا، وعليه ما علينا، ومن أسلم من المشركين فله أجره، وله ما لنا وعليه ما علينا)) ، وما رواه النسائي في آداب القضاة (ج2: ص265) عن ابن عباس في تأويل قوله عز وجل: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [5: 44] من حديث طويل وفيه فقال الله تبارك وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته} [57: 28] أجرين بإيمانهم بعيسى وبالتوراة والإنجيل، وبإيمانهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ... الحديث، ويؤيده أيضاً أن الحديث مستفاد من قوله تعالى: {أولئك يؤتون أجرهم مرتين} [28: 53] ، وأنه نزل في عبد الله بن سلام وأشباهه، كما رواه الطبراني من حديث رفاعة القرظي، والطبري عن علي بن رفاعة القرظي وغيره أنها نزلت في رفاعة القرظي، وعبد الله بن سلام، وسلمان وغيرهم من أهل الكتاب الذين كانوا بالمدينة، وأما ما ورد في البخاري (ج1: ص490) في كتاب الأنبياء، وإذا آمن بعيسى ثم آمن بي بدل قوله "من أهل الكتاب" وهو يدل على أن المراد في حديث الباب أهل الإنجيل أي النصارى فقط، فهو محمول على اقتصار الراوي واختصاره، والأصل كما ذكره آخرون، فإن قيل: حمل الكتاب على العموم حتى يشمل اليهود صعب جداً؛ لأنهم كفروا بعيسى – عليه السلام – فحبط إيمانهم بموسى، ثم إنهم لما آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - لم يبق لهم إلا عمل واحد، وهو الإيمان بنبينا - صلى الله عليه وسلم - فلا يستحقون عليه إلا أجراً واحداً، قلنا: من دخل في اليهودية من غير بني إسرائيل ولم يكن بحضرة عيسى عليه السلام فلم تبلغه دعوته، يصدق عليه أنه يهودي مؤمن، إذ هو مؤمن بنبيه موسى عليه السلام، ولم يكذب نبينا آخر بعده، فمن أدرك بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - ممن كان بهذه المثابة وآمن به لا يشكل أنه يدخل في حديث أبي موسى، ومن هؤلاء عرب نحو اليمن متهودون ولم تبلغهم دعوة عيسى لكونه أرسل إلى بني إسرائيل خاصة إجماعاً دون غيرهم، وكذا يدخل في قوله "أهل الكتاب" يهود المدينة الذين كانوا بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما دخلوا في قوله تعالى: {أولئك يؤتون أجرهم مرتين} لأنه لم تبلغهم دعوة عيسى عليه السلام؛ لكونها لم تنتشر في أكثر العباد فاستمروا على يهوديتهم مؤمنين بنبيهم موسى عليه السلام إلى أن جاء الإسلام فآمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: الظاهر أنه بلغ عبد الله بن سلام وأصحابه ممن أسلموا من يهود المدينة خبر عيسى عليه السلام كسائر الأخبار تحمل من بلد إلى بلد من غير أن يبلغ إليه الدعوة إلى شريعته بخصوصها، فآمنوا به وصدقوه، فحاشا مثل ابن سلام وأضرابه مع سعة علومهم، وكمال عقولهم، وسلامة فطرتهم، أن يبلغ إليهم خبر عيسى ثم يكذبوه، فلا نسيء الظن بهم، وإذا كان الأمر كذلك فقد كفاهم تصديقهم به إجمالاً لاستحقاق أجر إيمانهم عن عهدة التزام شريعته؛ لأنه لم تبلغهم الدعوة إلى شريعته بخصوصها

والعبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت عنده أمة يطأها فأدبها ـــــــــــــــــــــــــــــ فلم يكن عليهم إلا التصديق مجملاً، وحينئذٍ بقاءهم على اليهودية لا يمنع من إحراز الأجر، ثم لما آمنوا بنبينا - صلى الله عليه وسلم - حصل لهم الأجر مرتين، نعم يخرج من الحديث يهود الشام من بني إسرائيل الذين بعث فيهم عيسى ودعاهم إلى شريعته، فكذبوه وكفروا به، فلا يحصل لهم بالإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أجر واحد، وقال الطيبي: يحتمل إجراء الحديث على عمومه، إذ لا يبعد أن يكون طريان الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - سبباً لثوابه على الإيمان السابق وسبباً لقبول تلك الأعمال والأديان، وإن كانت منسوخة كما ورد في الحديث ((إن مبرات الكفار وحسناتهم مقبولة بعد إسلامهم)) – انتهى. واعلم أنه قال بعضهم: إن الكتابي الذي يضاعف أجره مرتين هو الذي بقي على ما بعث به نبيه من غير تبديل وتحريف، فمن كان على الحق في شرعه عقداً وفعلاً إلى أن آمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فله الأجر مرتين، ومن بدل منهم أو حرف لم يبق له أجر في دينه، فليس له أجر إلا بإيمانه بنبينا - صلى الله عليه وسلم -. قلت: هذا خلاف نص الحديث؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك في أهل زمانه من اليهود والنصارى، وحالهم في التحريف والتبديل معلوم، وقال الحافظ: ويشكل عليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى هرقل: ((أسلم يؤتك الله أجرك مرتين)) ، وهرقل ممن دخل النصرانية بعد التبديل، ثم إن الكرماني قال: هذا مختص بمن آمن من أهل الكتاب في عهد البعثة، فلا يشمل من آمن منهم في زماننا، وعلل ذلك بأن نبيهم بعد البعثة إنما هو محمد - صلى الله عليه وسلم - باعتبار عموم بعثته، قال الحافظ: وقضيته أن ذلك أيضاً لا يتم لمن كان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن خصه بمن لم تبلغه الدعوة فلا فرق في ذلك بين عهده وبعده، فما قاله شيخنا أظهر، أراد به ما قاله من أن هذه الثلاثة المذكورة في الحديث مستمرة إلى يوم القيامة، وتعقبهما العيني بما يطول الكلام بذكره، ثم إنه مخصوص بما عدا أكابر الصحابة بالإجماع، فيدخل في هذا الحكم كل صحابي لا يدل دليل على زيادة أجره على من كان كتابياً، والله أعلم. (والعبد المملوك) وصف به لأن جميع الناس عباد الله، فأراد تمييزه بكونه مملوكاً للناس (إذا أدى حق الله) مثل الصلاة والصوم ونحوهما (وحق مواليه) من خدمتهم الجائزة جهده وطاقته، وجمع الموالي لأن المراد بالعبد جنس العبيد، حتى يكون عند التوزيع لكل عبد مولى؛ لأن مقابلة الجمع بالجمع أو ما يقوم مقامه مفيدة للتوزيع، أو أراد أن استحقاق الأجرين إنما هو عند أداء حق جميع مواليه لو كان مشتركاً بين طائفة مملوكاً لهم، لا يقال: إنه يلزم أن يكون أجر المماليك ضعف أجر السادات؛ لأنه قد يكون للسيد جهات أخر يستحق بها أضعاف أجر العبد، أو المراد ترجيع العبد المؤدي للحقين على العبد المؤدي لأحدهما (كانت عنده أمة) في محل الرفع؛ لأنها صفة رجل، وارتفاع أمة لكونها اسم كانت (يطأها) أي يحل وطؤها سواء صارت موطوءة أو لا، وهو في محل الرفع؛ لأنه صفة لأمة (فأدبها) بأن راضها بحسن الأخلاق وحملها على جميل الخصال من الأدب، وهو حسن الأحوال والأخلاق، فالتأديب

فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها فله أجران، ـــــــــــــــــــــــــــــ يتعلق بالمروءات والأمور الدنيوية، وهو عطف على يطأها (فأحسن تأديبها) أن استعمل معها الرفق واللطف واجتنب العنف والضرب، وبذل الجهد في إصلاحها (وعلمها) ما لا بد من أحكام الشريعة لها (فأحسن تعليمها) بتقديم الأهم فالأهم (ثم أعتقها) بعد ذلك كله، عطفه بثم خلا الجميع فإنه عطفه بالفاء، قال العيني: لأن التأديب والتعليم يتعقبان على الوطأ، بل لابد ههنا من نفس الوطأ، بل قبله أيضاً لوجوبهما على السيد بعد التملك بخلاف الإعتاق، أو لأن الإعتاق نقل من صنف من أصناف الأناسي إلى صنف آخر منها، ولا يخفى ما بين الصنفين المنتقل منه والمنتقل إليه من البعد من الضدية في الأحكام، والمنافاة في الأحوال، فناسب لفظ دال على التراخي بخلاف التأديب – انتهى. (فله) أي فللرجل الأخير (أجران) أجر على إعتاقه وأجر على تزوجه، فالأجران على هذين العملين على الإعتاق؛ لأنه عبادة بنفسها، وعلى النكاح لأن التزوج بعد العتق عبادة أخرى، وفائدة ذكر التأديب والتعليم أنها أكمل للأجر إذ تزوج المرأة المؤدبة المعلمة أكثر بركة وأقرب أن تعين زوجها على دينه، ولم يقتصر على قوله أولاً فلهم أجران، مع كونه داخلاً في الثلاثة بحكم العطف؛ لأن الجهة كانت فيه متعددة، هي التأديب والتعليم والعتق والتزوج، وكانت مظنة أن يستحق الأجر أكثر من ذلك، فأعاد قوله "فله أجران" إشارة إلى أن المعتبر من الجهات أمران: وهو الإعتاق والتزوج، ولذا ذكر عقبهما قوله "فله أجران"، بخلاف التأديب والتعليم، فإنهما موجبان للأجر في الأجنبي والأولاد وجميع الناس، فلا يكون مختصاً بالإماء، فلم يبق الاعتبار إلا في الجهتين: العتق والتزويج؛ لأنه يصير محسناً إليها إحساناً أعظم بعد إحسان أعظم بالعتق؛ لأن الأول فيه تخليص من الرق وأسره، والثاني فيه الترقي إلى إلحاق المقهور بقاهره، وقيل: في بيان تكرير الحكم غير ذلك، ويجوز أن يعود الضمير في "فله" إلى كل واحد من الثلاثة، فيكون التكرير للتأكيد أو لطول الكلام، فيكون كالفذلكة ويمكن أن يكون من باب اختصار الراوي أو نسيانه، قلت: هذان الأخيران هو الظاهر؛ لأن الحديث أخرجه البخاري في العلم، وفي العتق، وفي الجهاد، وفي الأنبياء، وفي النكاح، ومسلم في الإيمان مطولاً، وفي النكاح مختصراً، والنسائي مطولاً ومختصراً، والترمذي وابن ماجه الثلاثة في النكاح، وعند الجميع كرر الحكم في الأمور الثلاثة، ما خلا البخاري في العلم، والنسائي في النكاح، واعلم أنه لا مفهوم للعدد المذكور في حديث أبي موسى، فالمراد هذه الأشياء وأمثالها، وليس المقصود بذكرها نفي ما عداها، فإن التنصيص باسم الشيء لا يدل على نفي الحكم عما عداه، وهو مذهب الجمهور، وهذا لأن عدد الذين يؤتون أجرهم مرتين بلغ بالتتبع إلى عشرين، بل يحصل بمزيد التتبع أكثر من ذلك، وقد ذكر بعضها العزيزي في السراج المنير (ج1: ص189) ، والحافظ في الفتح في شرح باب اتخاذ السراري (ج11: ص38) ، والعلقمى والسيوطي، وقال بعضهم: الظاهر أن المراد بالحديث لهم أجران على كل عمل لا أن لهم أجرين على العملين، إذ ثبوت أجرين على

متفق عليه. 12- (11) وعن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ـــــــــــــــــــــــــــــ عملين لا يختص بأحد دون أحد، نعم يمكن لهؤلاء أن يكون لهم أجران على كل عمل من جميع أعمالهم، والله تعالى أعلم. وقيل: في وجه التخصيص لهؤلاء الثلاثة أن في هذه الخصال الثلاثة أشكالاً لا يتعقل حصول الأجرين فيها لما قد يتوهم في العبد أنه مملوك لمولاه، فلعله لا يستحق الأجر والثواب في خدمته؛ لأنه يؤدي بخدمته ما لزمه من حق مولاه، وكذلك تزوجها لغرض نفسه وفائدته، فلا يحصل له فيه الأجر أيضاً، وكذلك قد يخطر في البال أن مؤمن أهل الكتاب لابد أن يكون مؤمناً بنبينا - صلى الله عليه وسلم - لما أخذ الله عليهم العهد والميثاق، فإذا بعث فإيمانه مستمر، فكيف يتعدد إيمانه حتى يتعدد أجره؟ وأيضاً يتبادر إلى بعض الأذهان أن الإيمان عمل واحد، فإن أصل جميع الأديان السماوية واحد لا فرق إلا في الفروع، فاعتبار الإيمان بعيسى أو بموسى أولاً، ثم اعتبار الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ثانياً وعدهما شيئين ربما يستبعد، فنبه في الحديث أن الإيمان التفصيلي بعد بعثة محمد بأنه هو الموصوف والمنعوت في الكتابين مغاير للإيمان الإجمالي بأن الموصوف بكذا هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فثبت التعدد وصرح بأن الإيمان وإن كان عملاً واحداً إجمالاً لكنه لما تعلق بعيسى أو بموسى بخصوصه تفصيلاً، ولا شك أنه عمل ثم تعلق بمحمد كذلك صار متعدداً، أو صار عملين وحصل إيمانان بالنظر إلى التفصيل، وفي وجه التخصيص بهؤلاء الثلاثة أقوال أخر، وأورد المصنف هذا الحديث في الإيمان؛ لأنه يدل على فضل من آمن من أهل الكتاب بنبينا - صلى الله عليه وسلم - وأن له ضعف أجر من لم يكن كتابياً، فإيمانه بمحمد - صلى الله عليه وسلم - من هذه الجهة أفضل من إيمان غيره، والله أعلم. (متفق عليه) أخرجه البخاري في العلم والعتق والجهاد والأنبياء والنكاح، ومسلم في الإيمان، وأخرجه أيضاً الترمذي والنسائي وابن ماجه في النكاح. 12- قوله: (أمرت) على صيغة المجهول أي أمرني الله؛ لأنه لا آمر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا الله (أن أقاتل) أي بأن أقاتل، وحذف الجار من أن كثير سائغ مطرد، وأن مصدرية تقديره: مقاتلة الناس (حتى يشهدوا) أي يقروا ويذعنوا (أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله) جعلت غاية المقاتلة وجود ما ذكر فمقتضاه أن من شهد وأقام وآتى عصم دمه ولو جحد باقي الأحكام، لكنه ليس كذلك، والجواب أن الشهادة بالرسالة تتضمن التصديق بجميع ما جاء به مع أن نص الحديث وهو قوله "إلا بحق الإسلام" يدخل فيه جميع ذلك، فكأنه أراد الخمسة التي بني الإسلام عليها، فإن قيل: فلم لم يكتف به ونص على الصلاة والزكاة؟ أجيب بأن ذلك لعظمهما والاهتمام بأمرهما؛ لأنهما أم العبادات البدنية والمالية وأساسهما والعنوان لغيرهما، قلت: والذي يتبين ويظهر من ألفاظ أحاديث الباب أن كلمتي الشهادتين بمجردهما تعصم من أتى بهما ويصير بذلك مسلماً، فإذا دخل في الإسلام فإن أقام الصلاة وآتى الزكاة وقام بشرائع

ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله، ـــــــــــــــــــــــــــــ الإسلام فله ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، وإن أخل بشيء من هذه الأركان فإن كانوا جماعة لهم منعة قوتلوا، وقد ظن بعضهم أن معنى الحديث أن الكافر يقاتل حتى يأتي بالشهادتين ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، وجعلوا ذلك حجة على خطاب الكفار بالفروع، وفي هذا نظر، وسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - في قتال الكفار تدل على خلاف ذلك (ويقيموا الصلاة) أي يداوموا على الإتيان بشروطها، والمراد بالصلاة المفروضة منها لا جنسها، واستدل بالحديث على مذهب الشافعي ومالك أن تارك الصلاة عمداً يقتل حداً، ومذهب أحمد أن تاركها يقتل كفراً وردة، وفي هذا الاستدلال نظر للفرق بين أقاتل وأقتل، فالكلام في المقاتلة لا في القتل، ومقاتلة الإمام لتاركي الصلاة إلى أن يأتوا بها محل وفاق، مع أنه منقوض بترك الزكاة فإنه لم يقل بقتل تاركها. وقد أطنب ابن دقيق العيد في شرح العمدة في الإنكار على من استدل بهذا الحديث على جواز قتل تارك الصلاة، قال: ولا يلزم من إباحة المقاتلة إباحة القتل ... الخ. (ويؤتوا الزكاة) فيه دليل لقتال مانعي الزكاة، ولا نزاع فيه، ومن ثم قاتلهم الصديق، وأجمع عليه الصحابة، ولم ينقل أنه قتل أحداً منهم صبراً، قلت: وكذا لا نزاع في من ترك سائر أركان الإسلام أن يقاتلوا عليها كما يقاتلوا على ترك الصلاة والزكاة. (فإذا فعلوا ذلك) أي المذكور من الشهادة والصلاة والزكاة، ويسمى القول فعلاً؛ لأنه فعل اللسان أو تغليباً (عصموا) بفتح الصاد أي منعوا وحفظوا (مني) أي من أتباعي أو من قبلي وجهة ديني (دماءهم وأموالهم) استباحتهم بالسيف والنهب (إلا بحق الإسلام) الإضافة لامية، ويجوز أن تكون بمعنى "في" وبمعنى "من" على ما لا يخفى، والاستثناء مفرغ، والمستثنى منه أعم عام الجار والمجرور، والعصمة متضمنة لمعنى النفي حتى يصح تفريغ الاستثناء، إذ هو شرط أي إذا فعلوا ذلك لا يجوز إهدار دمائهم واستباحة أموالهم بسبب من الأسباب إلا بحق الإسلام من نحو قصاص أو حد أو غرامة متلف ونحو ذلك (وحسابهم) فيما يسرون من الكفر والمعاصي بعد ذلك (على الله) أي كالواجب على الله في تحقق الوقوع، وكان الأصل فيه أن يقال: وحسابهم لله، أو إلى الله، والمعنى أن أمور سرائرهم إلى الله، وأما نحن فنحكم بالظاهر، فنعاملهم في الدنيا بمقتضى ظاهر أقوالهم وأفعالهم، ففيه دليل على قبول الأعمال الظاهرة والحكم بما يقتضيه الظاهر، ومقتضى الحديث قتال كل من امتنع من التوحيد، فيدخل فيه أهل الكتاب الملتزمون لأداء الجزية وكذا المعاهد، والجواب من أوجه، منها دعوى النسخ بأن يكون الإذن بأخذ الجزية، والمعاهدة متأخراً عن هذه الأحاديث، بدليل أنه متأخر عن قوله {اقتلوا المشركين} [9: 5] ، ومنها أن يكون من العام الذي أريد به الخاص، فيكون المراد بالناس في قوله "أقاتل الناس" أي المشركين من غير أهل الكتاب، ويدل عليه رواية النسائي بلفظ "أمرت أن أقاتل المشركين"، فإن قيل: إذا تم هذا في أهل الجزية لم يتم

متفق عليه، إلا أن مسلماً لم يذكر ((إلا بحق الإسلام)) . 13- (12) وعن أنس أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته ـــــــــــــــــــــــــــــ في المعاهدين ولا في منع الجزية، أجيب بأن الممتنع في ترك المقاتلة رفعها لا تأخيرها مدة كما في الهدنة، ومقاتلة من امتنع من أداء الجزية بدليل الآية، ومنها أن يقال: الغرض من ضرب الجزية اضطرارهم إلى الإسلام وسبب السبب سبب، فكأنه قال: حتى يسلموا أو يلتزموا ما يؤديهم إلى الإسلام، قال الحافظ: وهذا أحسن، وفي الحديث رد على المرجئة في قولهم: إن الإيمان غير مفتقر إلى الأعمال، وفيه تنبيه على أن الأعمال من الإيمان، والحديث موافق لقوله تعالى: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} [9: 5] . (متفق عليه) أخرجه البخاري في الإيمان والصلاة، ومسلم في الإيمان، (إلا أن مسلماً لم يذكر إلا بحق الإسلام) لكنه مراد، والحديث أخرجه أيضاً الشيخان من حديث أبي هريرة والبخاري من حديث أنس ومسلم من حديث جابر. 13- قوله: (من صلى صلاتنا) منصوب بنَزع الخافض، وهو في نفس الأمر صفة لمصدر محذوف، أي من صلى صلاة كصلاتنا، ولا يوجد إلا من معترف بالتوحيد والنبوة، ومن اعترف بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد اعترف بجميع ما جاء به عن الله تعالى، فلهذا جعل الصلاة علماً لإسلامه، ولم يذكر الشهادتين لأنهما داخلتان في الصلاة (واستقبل قبلتنا) إنما ذكره والصلاة متضمنة له مشروطة به؛ لأن القبلة أعرف من الصلاة، فإن كل أحد يعرف قبلته، وإن كان لا يعرف صلاته، ولأن من أعمال صلاتنا ما هو يوجد في صلاة غيرنا كالقيام والقراءة، واستقبال قبلتنا مخصوص بنا، ثم لما ذكر من العبادات ما يميز المسلم من غيره أعقبه بذكر ما يميزه عادة وعبادة (وأكل ذبيحتنا) فإن التوقف عن أكل الذبائح كما هو من العادات، فكذلك هو من العبادات الثابتة في كل ملة، كذا في شرح الطيبي، والذبيحة: فعيلة بمعنى مفعولة، والتاء للجنس كما في الشاة، وقيل في تخصيص هذه الثلاثة من بين سائر الأركان وواجبات الدين أنها أظهرها وأعظمها وأسرعها علماً بها إذ في اليوم الأول عن الملاقاة مع الشخص يعلم صلاته وطعامه غالباً، بخلاف نحو الصوم فإنه لا يظهر الامتياز بيننا وبينهم به، ونحو الحج فإنه قد يتأخر إلى شهور وسنين وقد لا يجب عليه أصلاً (فذلك) أي من جمع هذه الأوصاف الثلاثة، وهو جواب الشرط وذلك مبتدأ وخبره (المسلم) أو هو صفة وخبره (الذي له ذمة الله وذمة رسوله) أي أمانهما وعهدهما وضمانهما من وبال الكفار وما شرع لهم من القتل والقتال وغيرهما، أي يرتفع عنه هذا (فلا تخفروا الله في ذمته) بضم التاء من الإخفار، والهمزة فيه للسلب، أي لسلب الفاعل عن المفعول أصل الفعل نحو أشكيته أي أزلت شكايته، وكذلك أخفرته أي أزلت خفارته، ويقال أخفره: إذا نقض عهده وغدر به، أي لا تخونوا الله في عهده ولا تتعرضوا في حقه من ماله ودمه وعرضه، أو الضمير للمسلم أي فلا تنقضوا عهد الله بحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، في ذمته أي مادام هو في أمانه، وقال التوربشتي:

رواه البخاري. 14- (13) وعن أبي هريرة قال: أتى أعرابي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة، قال: ((تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة ـــــــــــــــــــــــــــــ المعنى أن الذي يظهر عن نفسه شعار أهل الإسلام والتدين بدينهم، فهو في أمان الله لا يستباح منه ما حرم من المسلم، فلا تنقضوا عهد الله فيه – انتهى، وإنما اكتفى في النهي بذمة الله وحده ولم يذكر الرسول كما ذكر أولاً لأنه ذكر الأصل لحصول المقصود به ولاستلزامه عدم إخفاره ذمة الرسول، وأما ذكره أولاً فللتأكيد وتحقيق عصمته مطلقاً، وفي الحديث دليل كالذي قبله على أن أمور الناس محمولة على الظاهر دون باطنها، فمن أظهر شعار الدين أجريت عليه أحكام أهله ما لم يظهر منه خلاف ذلك، وفيه أنه لابد للمؤمن من الأعمال خلافاً للمرجئة. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً النسائي في الإيمان. 14- قوله: (أتى أعرابي) أي بدوي منسوب إلى الأعراب، وهم سكان البادية، قال بعضهم: الأعرابي السائل في حديث أبي هريرة هذا هو ابن المنتفق على ما رواه البغوي وابن السكن والطبراني في الكبير وأبومسلم الكجي في السنن، وزعم الصيرفي أن اسم ابن المنتفق هذا لقيط بن صبرة، وافد بني المنتفق، قلت: في قول هذا البعض عندي نظر، فإن قصة سؤال ابن المنتفق شبيهة بسياق حديث أبي أيوب عند مسلم دون سياق حديث أبي هريرة كما لا يخفى على من له اطلاع على الروايات، وقال العيني: هو سعد بن الأخرم، وفيه أيضاً نظر. (دلني) بضم الدال وفتح اللام المشددة (على عمل) صفة أنه (إذا عملته دخلت الجنة) دخولاً أولياً (قال: تعبد الله) مرفوع المحل بالخبرية لمبتدأ محذوف، أي هو يعني العمل الذي إذا عملته دخلت الجنة هو عبادة الله، قال النووي: العبادة هي الطاعة مع خضوع، فيحتمل أن يكون المراد بالعبادة هنا معرفة الله تعالى، والإقرار بوحدانيته، وهو شامل للنبوة لأنه لا يعتبر بدونها، فذكره مغنٍ عن ذكرها، قال: فعلى هذا يكون عطف الصلاة والزكاة والصوم عليها لإدخالها في الإسلام، فإنها لم تكن دخلت في العبادة، وعلى هذا إنما اقتصر على هذه الثلاث لكونها من أركان الإسلام وأظهر شعائره، والباقي ملحق بها، ويحتمل أن يكون المراد بالعبارة الطاعة مطلقاً، فيدخل جميع وظائف الإسلام فيها فعلى هذا يكون عطف الصلاة وغيرها من باب ذكر الخاص بعد العام، تنبيهاً على شرفه ومرتبته، وأما قوله: (لا تشرك به شيئاً) فإنما ذكره بعد العبادة لأن الكفار يعبدونه سبحانه في الصورة ويعبدون معه أوثاناً يزعمون أنها شركاء، فنفى هذا (الصلاة المكتوبة) أي المفروضة (الزكاة المفروضة) فرق بن القيدين للتفنن، أي كراهية لتكرير اللفظ الواحد، وقيل: عبر في الزكاة بالمفروضة للاحتراز عن صدقة التطوع، فإنها زكاة لغوية، وقيل: احترز من الزكاة المعجلة قبل الحول،

وتصوم رمضان، قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، فلما ولى قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا)) متفق عليه. 15- (14) وعن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك، وفي رواية: غيرك ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنها زكاة وليست مفروضة (وتصوم رمضان) ولا يكون إلا مفروضاً، ولذا لم يقيده (لا أزيد على هذا) أي ما ذكر (شيئاً) من عند نفسي (ولا أنقص منه) برأيي، ولما كانت العبادة شاملة لفعل الواجبات وترك المنكرات صح إثبات النجاة له بمجرد ذلك (من سره ... ) الخ، الظاهر أنه - صلى الله عليه وسلم - علم أنه يوفي ما التزم، وأنه يدوم على ذلك ويدخل الجنة، ولم يخبر السائل بالتطوع في هذا الحديث، وكذا في حديث طلحة الآتي في قصة الأعرابي وغيرهما، بل أقره على الحلف بترك التطوعات في حديث طلحة؛ لأن أصحاب هذه القصص كانوا حديثي عهد بالإسلام، فاكتفى منهم بفعل ما وجب عليهم لئلا يثقل ذلك عليهم فيملوا، حتى إذا انشرحت صدورهم للفهم عنه والحرص على تحصيل ثواب المندوبات سهلت عليهم، وقيل: لئلا يعتقدوا أن التطوعات واجبة، واعلم أنه لم يأت ذكر الحج في هذا الحديث، وكذا لم يذكر في بعض هذه الأحاديث الصوم، ولم يذكر في بعضها الزكاة، وذكر في بعضها صلة الرحم، وفي بعضها ذكر الإيمان فتفاوت هذه الأحاديث في عدد خصال الإيمان زيادة ونقصاناً وإثباتاً وحذفاً، وأجاب القاضي عياض وغيره بما ملخصه: أن سبب ذلك تفاوت الرواة في الحفظ والضبط، فالاقتصار على بعض الخصال إنما لقصور حفظ الراوي عن تمامه، وليس هذا باختلاف صادر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد استحسن النووي هذا الجواب، وقال العيني بعد ذكره: والأحسن أن يقال: إن رواة هذه الأحاديث متعددة، وكل ما روى واحد منهم بزيادة على ما رواه غيره أو بنقص لم يكن بتقصير الراوي وإنما وقع ذلك بحسب اختلاف الموقع واختلاف الزمان – انتهى. وفي الحديث دليل على أنه لابد من أعمال الجوارح في الإيمان خلافاً للمرجئة. 15- قوله: (وعن سفيان بن عبد الله) بن ربيعة بن الحارث الثقفي الطائفي، يكنى أباعمرو، وقيل: أباعمرة، أسلم مع وفد ثقيف، واستعمله عمر على صدقات الطائف، روى عنه أولاده عاصم وعبد الله وعلقمة وعمرو وأبوالحكم وغيرهم، قال ابن عبد البر: هو معدود في أهل الطائف، له صحبة وسماع ورواية، كان عاملاً لعمر بن الخطاب على الطائف، ولاه عليها إذ عزل عثمان بن أبي العاص عنها، ونقل عثمان حينئذٍ إلى البحرين – انتهى. قال الخزرجي: انفرد له مسلم بحديث، وقال القاري: مروياته خمسة أحاديث – انتهى. (الثقفي) بفتحتين نسبة إلى قبيلة ثقيف. (قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك) أي بعد سؤالك، طلب منه - صلى الله عليه وسلم - أن يعلمه كلاماً جامعاً لأمر الإسلام كافياً حتى لا يحتاج بعده إلى غيره (وفي رواية غيرك) أي لا أسأل عنه أحداً غيرك، والأول مستلزم

قال: قل: آمنت بالله، ثم استقم)) ، رواه مسلم. 16- (15) وعن طلحة بن عبيد الله ـــــــــــــــــــــــــــــ لهذا؛ لأنه إذا لم يسأل أحداً بعد سؤاله لم يسأل غيره، وبهذا يظهر وجه أولوية الأول يجعله أصلاً والثاني رواية خلافاً لما فعل النووي في أربعينه، قاله القاري، (قل آمنت بالله) أي جدد إيمانك بالله ذكراً بقلبك ونطقاً بلسانك وعملاً بمقتضاه بجوارحك، وفي رواية ((قل ربي الله)) أي وحد ربك، وأراد به التوحيد الكامل الذي يحرم صاحبه على النار، هو تحقيق معنى لا إله إلا الله، فإن الإله هو المعبود الذي يطاع فلا يعصى خشية وإجلالاً ومهابة ومحبة ورجاءً وتوكلاً ودعاءً، والمعاصي كلها قادحة في هذا التوحيد؛ لأنها إجابة لداعي الهوى، وهو الشيطان، وعلى رواية الكتاب المعنى أظهر، فإن الإيمان يدخل فيه الأعمال الصالحة عند السلف ومن تابعهم من أهل الحديث (ثم استقم) الاستقامة: هي سلوك الطريق المستقيم، وهو الدين القويم من غير تعويج عنه يمنه ولا يسرة، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات كلها كذلك، فصارت هذه الوصية جامعة لخصال الدين كلها، فالحديث من جوامع الكلم الشامل لأصول الإسلام: التوحيد والطاعة، وهو مطابق لقوله تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا} [41: 30] أي لم يحيدوا عن التوحيد، والتزموا طاعته سبحانه إلى أن توفوا على ذلك، وهو معنى الحديث، ولا يخفى مناسبة الحديث لكتاب الإيمان، فإن يدل على وجوب امتثال الطاعات والانتهاء عن المعاصي، ففيه رد على المرجئة (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي والترمذي وابن ماجه والحاكم وابن حبان في صحيحه. 16- قوله: (وعن طلحة بن عبيد الله) بن عثمان التيمي القرشي المدني، يكنى أبامحمد، يجتمع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأب السابع كأبي بكر، أحد العشرة وأحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، والخمسة الذين أسلموا على يد الصديق، والستة أصحاب الشورى الذين توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راضٍ، شهد المشاهد كلها غير بدر لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه مع سعيد بن زيد يتعرفان خبر العير التي كانت لقريش مع أبي سفيان، ثم رجعاً إلى المدينة فقدماها يوم وقعة بدر، وقد ضرب له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسهمه، وآجره فيها وأبلى يوم أحد بلاءً شديداً، ووقى النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده فشلت، وجرح يومئذٍ أربعة وعشرين جراحة، وقيل خمساً وسبعين جراحة بين طعنة وضربة ورمية، وكان أبوبكر إذا ذكر يوم أحد قال: ذلك يوم كله لطلحة، وروى من وجوه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: طلحة ممن قضى نحبه، وروي أيضاً أنه نظر إليه فقال: من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة، وسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - ((طلحة خير)) ، و ((طلحة الفياض)) و ((طلحة الجواد)) ، له ثمانية وثلاثون حديثاً، اتفقا منها على حديث، وانفرد البخاري بحديثين ومسلم بثلاثة، وقال القسطلاني: له في البخاري أربعة أحاديث، استشهد يوم الجمل، أتاه سهم غرب لا يدرى من رماه واتهم به مروان، لعشر خلون من جمادى الأولى سنة (36) عن (64) سنة، وقيل (63) ، وقيل غير ذلك، ودفن بالبصرة، وقال ابن قتيبة: دفن بقنطرة قرة ثم رأته بنته بعد ثلاثين سنة في المنام أنه يشكر إليها النداوة، فأمرت

قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل نجد ثائر الرأس، نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول: حتى دنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خمس صلوات ـــــــــــــــــــــــــــــ فاستخرج طرياً، ودفن بدار البحرتين بالبصرة، روى له جماعة، وقال ابن عبد البر: لا يختلف العلماء في أن مروان قتل طلحة يوم الجمل، قال الخزرجي: خلف طلحة ثلاثين ألف ألف درهم، ومن العين ألفي ألف ومائتي ألف دينار. (جاء رجل) قيل: هو ضمام بن ثعلبة وافد بني سعد بني بكر، وفيه نظر، والتفصيل في الفتح (ج1: ص56) وفي مقدمته، (من أهل نجد) صفة رجل، ونجد من بلاد العرب خلاف الغور، والغور: هو تهامة، وكل ما ارتفع من تهامة أي مكة إلى أرض العراق فهو نجد، وهو في الأصل ما ارتفع من الأرض (ثائر الرأس) أي منتفش شعر الرأس ومنتشره من عدم الارتفاق والرفاهة، ففيه إشارة إلى قرب عهده بالوفادة، من ثار الغبار: إذا ارتفع وانتشر، أطلق اسم الرأس على الشعر مجازاً تسمية للحال باسم المحل، أو مبالغة بجعل الرأس كأنه المنتشر، أو يكون هو من باب حذف المضاف بقرينة عقلية، وهو مرفوع على أنه صفة، وقيل: إنه منصوب على الحالية من رجل لوصفه بقوله من أهل نجد، والإضافة في ثائر الرأس لفظية فلا تفيد إلا تخفيفاً، ويجوز وقوع صاحب الحال نكرة إذا اتصف بشيء كما في المبتدأ أو أضيف أو وقع بعد نفي (نسمع) بصيغة المتكلم المعلوم على الصحيح (دوي صوته) بالنصب على أنه مفعوله، وفي بعض النسخ يسمع بالياء مجهولاً ورفع دوي على النيابة عن الفاعل، وكذا الوجهان في قوله ((لا نفقه)) بالنون والياء، قال العيني: رواية النون فيهما هي المشهورة، وعليها الاعتماد، والدوي: بفتح الدال وكسر الواو وتشديد الياء، قال الخطابي: الدوي: صوت مرتفع متكرر لا يفهم، وإنما كان كذلك لأنه نادى من بُعد، ويقال: الدوي شدة الصوت وبُعده في الهواء وعلوه، والمعنى نسمع شدة صوته وبُعده في الهواء فلا يفهم منه شيء كدوي النحل والذباب (ما يقول) في محل النصب على أنه مفعول، أو في الرفع على النيابة والمعنى نسمع كلامه ولا نفهمه لبُعده (حتى) للغاية بمعنى إلى أن (دنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) ففهمنا كلامه (فإذا) للمفاجأة (هو) أي الرجل (يسأل عن الإسلام) أي عن شرائعه وفرائضه، يدل عليه ما زاد البخاري في آخر حديث طلحة هذا في كتاب الصيام، فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشرائع الإسلام، ويحتمل أنه سأل عن حقيقة الإسلام، وإنما لم يذكر له الشهادة لأنه علم أنه يعلمها، أو علم أنه يسأل عن الشرائع الفعلية، أو ذكر الشهادة له ولم يسمعها طلحة منه لبعد موضعه، أو نسيها أو اختصرها لشهرتها، ولم يذكر الحج؛ لأن الراوي اختصره، ويؤيده ما ذكرنا من الزيادة في آخر هذا الحديث، فقد دخل فيه باقي المفروضات بل والمندوبات (خمس صلوات) الرفع على الصحيح، على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الإسلام، أو هي خمس صلوات، أو مبتدأ محذوف الخبر من شرائعه أداء خمس صلوات، ويجوز النصب بتقدير خذ أو صل، قال

في اليوم والليلة، فقال: هل عليّ غيرهن؟ فقال: لا، إلا أن تطوع ـــــــــــــــــــــــــــــ العيني: ويجوز الجر على أنه بدل من الإسلام، قال القاري: لا يصح الجر رواية ولا دراية، أما الأول فيظهر من تتبع النسخ المصححة، وأما الثاني فلأن البدل والمبدل لا يكونان إلا في كلام شخص واحد ... الخ. (هل عليّ غيرهن) أي هل يجب عليّ من الصلاة غير الصلوات الخمس في اليوم والليلة، أو الجار خبر مقدم وغيرهن مبتدأ مؤخر (فقال: لا) أي لا يجب عليك غيرها، وفيه حجة على من أوجب الوتر، وهو الحنفية، وأجاب القاري عنه بأن هذا قبل وجوب الوتر، أو إنه تابع للعشاء، وقال العيني: لم يكن الوتر واجباً حينئذٍ، يدل عليه أنه لم يذكر الحج – انتهى. وتعقب بأن هذا يحتاج إلى معرفة التاريخ، ودونها خرط القتاد، على أنه موقوف على ثبوت وجوب صلاة الوتر، ولا دليل على وجوبها لا من كتاب ولا من سنة صحيحة ولا من إجماع، بل الأمر على عكس ما قالوا، فإن الدلائل الصحيحة الصريحة من السنة قائمة على عدم وجوبها كما ستعرف إن شاء الله، فلا يصح أن يقال: إن هذا كان قبل وجوب الوتر، وأما قول العيني "يدل عليه أنه لم يذكر الحج" ففيه أنه إنما يتم ذلك إذا ثبت أنه لم يفرض الحج حينئذٍ، وفيه نظر؛ لأنه يحتمل أن الرجل سأل عن حاله خاصة، حيث قال ((هل علي غيرها)) فأجابه – عليه السلام – بما عرف من حاله، ولعله ممن لم يكن الحج واجباً عليه، والظاهر أنه - صلى الله عليه وسلم - ذكره له لكن اختصره الراوي، يدل عليه رواية البخاري في الصيام، فأخبره بشرائع الإسلام كما تقدم، فحصره - صلى الله عليه وسلم - جنس الصلاة الواجبة في اليوم والليلة في الخمس ونفي وجوب الصلاة الأخرى مع ذكر باقي الواجبات يدل على عدم وجوب الوتر، وأما قول القاري: إنه تابع للعشاء، ففيه أنه قد أنكر أبوبكر بن مسعود الكاساني الحنفي كونه تابعاً للعشاء حيث قال في بدائعه (ج1: ص270) : وذا – أي كون تقديم العشاء شرطاً عند التذكر – لا يدل على التبعية كتقديم كل فرض على ما يعقبه من الفرائض، ولهذا اختص بوقت استحساناً فإن تأخيرها إلى آخر الليل مستحب، وتأخير العشاء إلى آخر الليل يكره أشد الكراهة، وذا أمارة الأصالة، إذ لو كانت تابعة للعشاء لتبعته في الكراهة والاستحباب جميعاً، انتهى. (إلا أن تطوع) بتشديد الطاء والواو، وأصله "تتطوع" بتائين، فأدغمت إحداهما في الطاء، ويجوز تخفيف الطاء على حذف إحداهما، قال النووي: المشهور التشديد، ومعناه: إلا أن تفعله بطواعيتك. واعلم أن هذا الاستثناء يجوز أن يكون منقطعاً بمعنى لكن، ويجوز أن يكون متصلاً، واختارت الشافعية والحنابلة الانقطاع، والمعنى: لكن يستحب لك أن تطوع، وتمسكوا به على أنه لا يلزم إتمام النفل بالشروع، بل يستحب فقط فيجوز قطعه، ولا يجب القضاء عمداً قطعه أو من عذر، واختارت الحنفية والمالكية الاتصال فإنه هو الأصل في الاستثناء، واستدلوا به على أن من شرع في صلاة نفل أو صوم نفل وجب عليه إتمامه، ولا يجوز القطع إلا بعذر، ثم اختلفوا فقال الحنفية: يلزم القضاء مطلقاً عمداً قطعه أو عذراً،

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ـــــــــــــــــــــــــــــ وقالت المالكية: لا يلزم القضاء إلا إذا قطعه عمداً من غير عذر، وقال القرطبي المالكي: نفى في الحديث وجوب شيء آخر، والاستثناء من النفي إثبات، فيلزم أن يكون التطوع واجباً، ولا قائل لوجوبه لاستحالته، فتعين أن يكون المراد إلا أن تشرع في تطوع فيلزمك إتمامه – انتهى. قالت الحنفية: ويدل على كون الاستثناء في الحديث للاتصال حديث عائشة عند أحمد والنسائي والترمذي، وفيه أنه قال: صوما يوماً مكانه، فأمر بالقضاء، فدل على أن الشروع ملزم، وأن القضاء بالإفساد واجب. وأجيب عن تقرير القرطبي أولاً بأنه مغالطة؛ لأن الاستثناء ههنا من غير الجنس؛ لأن التطوع لا يقال فيه: عليك، فكأنه قال: لا يجب عليك شيء إلا إن أردت أن تطوع، فذلك لك، وقد علم أن التطوع ليس بواجب فلا يجب شيء آخر أصلاً، وثانياً: بأن الحنفية لا يقولون بفرضية الإتمام، بل بوجوبه، واستثناء الواجب من الفرض منقطع لتبيانهما، فلا يصح حملهم الاستثناء في الحديث على الاتصال، وثالثاً: بأن الاستثناء من النفي عندهم ليس للإثبات، بل مسكوت عنه. ورابعاً بما قاله بعض العلماء الحنفية: إن الحديث خارج عن موضع النِزاع، فإن الإيجاب المذكور فيه إنما هو الإيجاب من جهة الوحي، ومسألة لزوم النفل بالشروع إنما هو إيجاب العبد على نفسه شيئاً بخيرته وطوعه. وخامساً: بأنه قال - صلى الله عليه وسلم - في الزكاة مثل ما قال في الصلاة والصوم، لكن لا يمشي تقرير القرطبي وغيره ممن قال بوجوب الإتمام في الزكاة، قال السندهي الحنفي: لا يظهر هذا في الزكاة إذ الصدقة قبل الإعطاء لا تجب، وبعده لا توصف بالوجوب، ولا يقال: إنه صار واجباً بالشروع فلزم إتمامه، فالوجه أنه استثناء منقطع، أي لكن التطوع جائز أو خير، ويمكن أن يقال من باب المبالغة في نفي واجب آخر، على معنى ليس عليك واجب آخر إلا التطوع، والتطوع ليس بواجب، فلا واجب غير المذكور – انتهى. قال القاري مجيباً عن الثاني: بأنه ممنوع، فإن الواجب عندنا فرض عملي لا اعتقادي، وبهذا الاعتبار يطلق عليه أنه فرض، فالمراد بالفرض في الحديث المعنى الأعم، مع أنه لا محذور في جعل الاستثناء منقطعاً لصحة الكلام، فيكون المعنى: لكن التطوع باختيارك، أي ابتداءً كما هو مذهبنا، قلت: الفرق بين الفرض والواجب بالمعنى الاصطلاحي، ثم تقسيم الفرض إلى الفرض الاعتقادي والعملي، وجعل الواجب الاصطلاحي فرضاً عملياً من المصطلحات الحادثة لم يعرفها الصحابة، فلا ينبغي أن يحمل الحديث على مصطلحات الفنون الحادثة بعد عصر الصحابة، والظاهر بل المتعين في معناه على كون الاستثناء للانقطاع هو أن يقال لكن يستحب لك أن تطوع، أو لكن التطوع باختيارك انتهاء كما هو في طواعيتك ابتداءً، ويؤيده حديث أم هانئ عند الترمذي وغيره، وفيه الصائم المتطوع أمير أو أمين نفسه، إن شاء صام وإن شاء أفطر، ويؤيده أيضاً ما رواه النسائي عن عائشة مرفوعاً: إنما مثل صوم التطوع مثل الرجل الذي يخرج من ماله الصدقة، فإن شاء أمضاها، وإن شاء حبسها، وقال القاري مجيباً عن الثالث: بأنه مدخول، فإن هذا إنما يرد عليهم لو استدلوا بهذا الحديث، وتقدم أن دليلهم الآية والإجماع، وإنما حملوا لفظ الحديث على المعنى المستفاد منهما يعني بالآية قوله تعالى:

{لا تبطلوا أعمالكم} [47: 33] . قلت: قد استدل بهذا الحديث غير واحد من الحنفية والمالكية على مذهبهم، وذكروه في معرض الاستدلال، كما صرح به العيني في شرح البخاري، والقرطبي في شرح مسلم، والزرقاني في شرح الموطأ وغيرهم، وأما الاحتجاج بالآية والإجماع فهو مخدوش كما ستعرف، فلا يصح حمل هذا الحديث على ما ذهبوا إليه في معناه، وذلك لفساد البناء، وأما حديث عائشة الذي جعلوه قرينة على حمل الاستثناء على الاتصال، فالجواب عنه أن الأمر فيه للاستحباب لا للوجوب، والقرينة على ذلك حديث أبي سعيد عند البيهقي، وسنذكره على أن حديث عائشة مرسل، والمرسل على الصحيح ليس بحجة، قال الخلال: اتفق الثقات على إرساله، وشذ من وصله، وتوارد الحفاظ على الحكم بضعف حديث عائشة هذا، ضعفه أحمد والبخاري والنسائي بجهالة زميل، كذا في الفتح، قلت: قد استدل عامة الحنفية على لزوم الإتمام بعد الشروع بقوله تعالى: {لا تبطلوا أعمالكم} وبإجماع الصحابة على وجوب الإتمام، وبالقياس على الحج والعمرة. وأجيب عن الاستدلال بالآية بوجوه: الأول أنه يلزم الحنفية حيث استدلوا بها أن يقولوا إن الإتمام فرض، وهم إنما يقولون بوجوبه، قال القاري: هذا مدفوع بأن الآية قطعية، والدلالة ظنية – انتهى. وفيه أن هذا لا يفيد الحنفية بل يضرهم، إذ يقطع أصل الاستدلال؛ لأن أحاديث أم هانئ وعائشة وأبي سعيد وما في معناها وإن كانت ظنية لكن دلالتها على التخير قطعية بلا شبهة، ومن المعلوم أن مناط الاستدلال هي الدلالة لا الثبوت، وعلى هذا ففي الاستدلال بالآية المذكورة على وجوب الإتمام ترجيح ما هو ظني الدلالة على ما هو قطعي الدلالة، ولا شك أنه ترجيح المرجوح، وذا لا يجوز عند أحد، والثاني: أن الآية المذكورة عامة، قال ابن المنير المالكي: ليس في تحريم الأكل في صوم النفل من غير عذر إلا الأدلة العامة كقوله لا تبطلوا أعمالكم، إلا أن الخاص مقدم على العام كحديث سلمان – انتهى. والثالث: أن المراد في الآية بالإبطال هو الإبطال الأخروي بالرياء والسمعة، لا الإبطال الفقهي، قال ابن عبد البر المالكي: من احتج في هذا بقوله لا تبطلوا أعمالكم فهو جاهل بأقوال أهل العلم، فإن الأكثر على أن المراد بذلك النهي عن الرياء، كأنه قال: لا تبطلوا أعمالكم بالرياء، بل أخلصوها لله، وقال الآخرون: لا تبطلوا أعمالكم بارتكاب الكبائر، ولو كان المراد بذلك النهي عن إبطال ما لم يفرض الله عليه، ولا أوجب على نفسه بنذر أو غيره لامتنع عليه الإفطار إلا بما يبيح الفطر من الصوم الواجب، وهم لا يقولون بذلك – انتهى. وقال الشيخ محمد أنور الحنفي: أما الاستدلال بقوله تعالى: {لا تبطلوا أعمالكم} فليس بناهض؛ لأن الآية إنما سيقت لبطلان الثواب لا للبطلان الفقهي، كما يدل عليه السياق، فهي كقوله تعالى: {لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} [2: 262] –انتهى. والرابع: ما ذكره الشيخ بحر العلوم اللكنوي الحنفي في شرح مسلم الثبوت (58 من طبعة الهند) : إن ههنا كلامان عويصان: الأول أن الدليل لو تم لدل على وجوب الإتمام، فتركه يكون إثماً، وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صحيح مسلم إفساد صوم النفل بالأكل، ولا ينفع حينئذٍ ما في فتح القدير أنه – عليه الصلاة والسلام– لعله قضاه، فإن الكلام في نفس الإفطار فإنه حينئذٍ مشتمل على ترك الواجب، فإن قلت: لعله يكون الإفطار في صيام التطوع رخصة مطلقاً كما أنه رخصة في الفرض في حق المسافر، قلت: فأين الوجوب فإن

الواجب ما يأثم بتركه، ولا مخلص عند هذا العبد إلا بإبداء عذر (أي معين لا احتمالاً) أو بإثبات المنسوخية، أو بالقول بأن الوجوب كوجوب الصلاة على من استأهل في الآخر، فتدبر، الثاني: أن بعض الصوم لما لم يكن صوماً لم يكن فيه إبطال العمل، فإنه ما عمل إلا بعد الصوم، وليس بعمل، فالإفطار لا يوجب إبطال العمل، فتأمل فيه – انتهى. وأجاب بعضهم عن الثاني بأن بعض الصوم وإن لم يكن عملاً بالفعل لكنه في معرض أن يصير عملاً، فتركه إبطال للعمل، وتعقب بأن إطلاق العمل على ما هو معرض أن يصير عملاً لا شك أنه مجاز، وعلى هذا فيلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز، وهو لا يجوز عند الحنفية، وأجيب عن الاحتجاج بإجماع الصحابة بأنه مجرد دعوى بلا سند، فلا يقبل، قال القاري: هو مردود؛ لأن ذكر السند ليس بشرط لصحة الإجماع، مع أن الآية سند معتمد لصحة الإجماع، قلت: لم يثبت نصاً عن أحد من الصحابة أنه ذهب إلى وجوب الإتمام بعد الشروع، فضلاً عن إجماعهم على ذلك فلا يلتفت إلى دعوى الإجماع مع وجود النصوص الصريحة على عدم الوجوب، وأما الاستناد بالآية فقد عرفت فساده، وأما الجواب عن القياس فهو أن الحج امتاز عن غيره بلزوم المضي في فاسده، فكيف في صحيحه، وكذلك امتاز بلزوم الكفارة في نفله كفرضه، ويرد على أصل مذهب الحنفية بأن النفل إذا كان واجباً بالشروع كما في كتب الأصول ففي التلويح (ج1: ص306 – طبعة مصر) : والنفل لا يضمن بالترك، وأما إذا شرع فيه، وأفسد فقد صار بالشروع واجباً فيقضي – انتهى. وفي كشف الأسرار (ج1: ص135) : وأما إذا شرع النفل ثم أفسده، فإنما يجب القضاء؛ لأنه بالشروع صار ملحقاً بالواجب، لا لأنه نفل كما قبل الشروع – انتهى. فيلزم حينئذٍ أن لا يكون النفل من حيث أنه نفل عبادة عملاً، وعلى هذا فالمسائل التي تتعلق بنفس النفل لا يكون لها مصداق في الواقع، مثل قولهم: صلاة المفترض خلف المتنفل لا تجوز، فتأمل. وقالت الشافعية: الدليل على كون الاستثناء في الحديث منقطعاً ما روى النسائي وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أحياناً ينوي صوم التطوع ثم يفطر، وفي البخاري أنه أمر جويرية بنت الحارث أن تفطر يوم الجمعة بعد أن شرعت، ولم يأمرها بالقضاء، وروى البيهقي عن أبي سعيد قال: صنعت للنبي - صلى الله عليه وسلم - طعاماً، فلما وضع قال رجل أنا صائم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((دعاك أخوك وتكلف لك، أفطر فصم مكانه إن شئت)) ، قال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث: إسناده حسن – انتهى. ففي هذه الأحاديث الثلاثة، وحديثي أم هانئ وعائشة المتقدمين دليل على أن الشروع في العبادة لا يستلزم الإتمام إذا كانت نافلة، بهذه النصوص في الصوم، وبالقياس في الباقي إلا الحج. وأجاب العيني عن ذلك بأن حديث النسائي لا يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - ترك القضاء، وإفطاره - صلى الله عليه وسلم - ربما كان لعذر مثل الجوع أو غيره، وحديث جويرية إنما أمرها بالإفطار عند تحقق واحد من الأعذار كالضيافة، أو لأنها صامت بغير إذنه واحتاج إليها، وليس فيه أنها تركت القضاء، وكل ما جاء من أحاديث الباب محمول على مثل هذا – انتهى. وقال الزرقاني: وإذا احتمل ذلك سقط به الاستدلال؛ لأن القصتين من وقائع الأحوال التي لا عموم لها، وقد قال تعالى: {لا تبطلوا أعمالكم} – انتهى. قلت: إبداء مثل هذه الاحتمالات من غير منشأ وقرينة تدل عليها مما لا يلتفت إليه، فإنه تحكم محض، يفعله صاحبه ترويجاً لدعواه وتمشية لمذهبه، ولو كان القضاء

وصيام شهر رمضان، فقال: هل عليّ غيره؟ قال: لا إلا أن تطوع، قال: وذكر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزكاة، فقال: هل عليّ غيرها؟ فقال: لا، إلا أن تطوع، ـــــــــــــــــــــــــــــ واجباً لأمر - صلى الله عليه وسلم - جويرية بالقضاء، ونقل إلينا ألبتة، فإن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ولو سلم أنه وقع القضاء منهما لما كفى لإثبات وجوب القضاء، فإن الفعل لا يدل على الوجوب، فيحتمل أن قضاءهما كان ندباً، لا لأنه واجب، وأما قول الزرقاني ففيه أن قوله - صلى الله عليه وسلم - وأمره وفعله وتقريره حجة لكل شخص في كل زمان ومكان وحال، ما لم يدل دليل على الخصوصية، وقد تقدم أن الاستناد بالآية على وجوب الإتمام جهل، وقال العيني: ولو وقع التعارض بين الأخبار فالترجيح معنا لثلاثة أوجه، أحدها: إجماع الصحابة. والثاني: أحاديثنا مثبتة، وأحاديثهم نافية، والمثبت مقدم. والثالث: أنه احتياط في العبادة. قلت: قد عرفت فيما تقدم أن دعوى الإجماع باطلة، وأما قوله: إن أحاديث الحنفية تقدم على أحاديث الشافعية لكون الأولى مثبتة والثانية نافية، ففيه أن تقديم المثبت على النافي إنما هو إذا كانت أحاديث الطرفين متساوية في القوة والضعف، وهاهنا أحاديث النفي أرجح وأقوى من حيث الكثرة والصحة، وأحاديث الإثبات مرجوحة ضعيفة، فتقدم أحاديث النفي عليها، وليس الاحتياط في جعل الشيء واجباً من غير دليل قوي، بل الاحتياط في العمل بالسنة الصحيحة سواء كانت مثبتة للوجوب أو نافية له مع أن الأصل براءة الذمة، فافهم. (وصيام شهر رمضان) عطف على خمس صلوات، وجملة السؤال والجواب معترضة (قال) أي طلحة راوي الحديث (وذكر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزكاة) هذا قول الراوي، كأنه نسي ما نص عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو التبس عليه فقال: (وذكر له الزكاة) ، هذا يؤذن بأن مراعاة الألفاظ معتبرة في الرواية، فإذا التبس عليه يشير في لفظه إلى ما ينبئ عنه كما فعل الراوي هاهنا، وفي رواية البخاري في الصيام: قال: فأخبرني بماذا فرض الله علي من الزكاة، قال: فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشرائع الإسلام أي بنصب الزكاة ومقاديرها وغير ذلك مما يتناول الحج وأحكامه وجميع المنهيات، وأما تعقب الأبيّ بإرجاع لفظ الشرائع إلى ما ذكر قبله لأن العام المذكور عقب خاص يرجع إلى ذلك الخاص على الصحيح، فهو مردود عليه، فإن الصحيح والحق في مثل هذا أن ذكر العام بعد الخاص يكون للتعميم ولدفع توهم اختصاص الحكم بالخاص المذكور قبله، فافهم، قال الحافظ: تضمنت هذه الرواية أن في القصة أشياء أجملت منها بيان نصب الزكاة، فإنها لم تفسر في الروايتين، وكذا أسماء الصلوات، وكان السبب فيه شهرة ذلك عندهم، أو القصد من القصة بيان أن المتمسك بالفرائض ناجٍ وإن لم يفعل النوافل – انتهى. (فقال: لا، إلا أن تطوع) قيل: يعلم منه أنه ليس في المال حق سوى الزكاة بشروطها، قال القاري: وهو ظاهر إن أريد به الحقوق الأصلية المتكررة تكررها وإلا فحقوق المال كثيرة كصدقة الفطر والنفقات الواجبة، قلت: الكلام في حقوق المال وليس شيء من هذه الأشياء من حقوق المال بمعنى أنه يوجبه المال بل يوجبه أسباب أخر كالفطر والقرابة والزوجية وغير ذلك

قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أفلح الرجل إن صدق)) ، متفق عليه. 17- (16) وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: إن وفد عبد القيس ـــــــــــــــــــــــــــــ (والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه) أي لا أزيد على شرائع الإسلام ولا أنقص منها شيئاً، والدليل عليه ما في رواية البخاري (ج1: ص254) في الصيام لا أتطوع شيئاً ولا أنقص مما فرض الله علي شيئاً، قيل: كيف أقرّه على حلفه وقد ورد النكير على من حلف أن لا يفعل خيراً؟ وأجيب بأن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، وهذا جارٍ على الأصول بأن لا إثم على غير تارك الفرائض، فهو مفلح وإن كان غيره أكثر فلاحاً منه، وقال الباجي: يحتمل أنه سومح في ذلك لأنه في أول الإسلام (أفلح الرجل إن صدق) قال ابن بطال: دل هذا على أنه إن لم يصدق في التزامها أنه ليس بمفلح، وهذا خلاف قول المرجئة، وليس فيه تسويغ لترك السنن لما قال القرطبي: لم يسوغ له تركها دائماً ولكن لقرب عهده بالإسلام اكتفى منه بالواجبات، وأخره حتى يأنس وينشرح صدره ويحرص على الخير، فيسهل عليه المندوبات – انتهى، وفي الحديث رد على المرجئة إذ شرط في فلاحه أن لا ينقص من الأعمال والفرائض المذكورة، وهو يقولون: التصديق وحده كافٍ للنجاة، لا حاجة إلى العمل، ولا يضر المعصية مع التصديق (متفق عليه) وأخرجه أيضاًَ أبوداود والنسائي. 17- قوله: (وعن ابن عباس) هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب القرشي الهاشمي، أبوالعباس المكي ثم المدني ثم الطائفي، ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه، وأمه أم الفضل لبابة الكبرى بنت الحارث أخت ميمونة أم المؤمنين، ولد بالشعب قبل الهجرة بثلاث سنين، وتوفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وقال أحمد: خمس عشرة سنة، والأول أثبت، كان يقال له: الحبر والبحر لكثرة علمه، وترجمان القرآن. دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحكمة والفقه والعلم وتأويل الكتاب، ورأى جبرائيل – عليه السلام – مرتين، قال مسروق: كنت إذا رأيت ابن عباس قلت: أجمل الناس، وإذا نطق قلت: أفصح الناس، وإذا حدث قلت: أعلم الناس، وكان عمر يدنيه ويقربه ويشاوره مع أجلة الصحابة، ومناقبه كثيرة وفضائله مشهورة، بسط ترجمته الحافظ في الإصابة، وابن عبد البر في الاستيعاب. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاً وستمائة وستين حديثاً، اتفقا على خمسة وسبعين، وانفرد البخاري بثمانية وعشرين، ومسلم بتسعة وأربعين، روى عنه خلق كثير من الصحابة والتابعين، مات بالطائف سنة 68، وهو ابن 71 سنة على الصحيح، في أيام ابن الزبير، وصلى عليه محمد بن الحنفية، وقد كف بصره في آخر عمره، وقال الخزرجي: ابن عباس سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - خمسة وعشرين حديثاً، وباقي حديثه من الصحابة، واتفقوا على قبول مرسل الصحابي – انتهى. (إن وفد عبد القيس) الوفد جمع وافد، وهو الذي أتى إلى الأمير برسالة من قوم، وقيل: الوفد الجماعة المختارة من

لما أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن القوم أو مَن الوفد؟ قالوا: ربيعة، قال: مرحباً بالقوم أو بالوفد غير خزايا ولا ندامى)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ القوم ليتقدموهم إلى لقي العظماء والمصير إليهم في المهمات، وعبد القيس: أبوقبيلة عظيمة تنتهي إلى ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان، وربيعة: قبيلة عظيمة في مقابلة مضر، وكان قبيلة عبد القيس ينْزلون البحرين وحوالي القطيف وما بين هجر إلى الديار المضرية، وقال صاحب التحرير: وفد عبد القيس كانوا أربعة عشر راكباً، كبيرهم الأشج العصري، وقيل: كانوا ثلاثة عشر راكباً، كما في المعرفة لابن مندة، وقيل: كانوا أربعين رجلاً، رواه الدولابي، وجمع بأن لهم وفادتين: إحداهما في سنة خمس أو قبلها أو سنة ست، وكان عدد الوفد فيها ثلاثة عشر راكباً، وكان فيهم الأشج العصري. وثانيتهما كانت في سنة الوفود، وكان عددهم حينئذٍ أربعين رجلاً، وكان فيهم الجارود العبدي، أو يقال بأن الأربعة عشر كانوا رؤوس الوفد وأشرافهم وكان الباقون أتباعاً، وقال العيني (ج1: 309) جملة الجمع تكون خمسة وأربعين نفساً، فعلمنا أن التنصيص على عدد معين لم يصح، ولهذا لم يخرجه البخاري ومسلم بالعدد المعين، ثم ذكر العيني نقلاً عن شرح مسلم للنووي سبب قدومهم، قال القاضي: كان وفودهم عام الفتح قبل خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة، قال الحافظ: "تبع القاضي فيه الواقدي وليس بجيد؛ لأن فرض الحج كان سنة ست على الأصح، ولكن القاضي يختار أن فرض الحج كان سنة تسع حتى لا يرد على مذهبه أنه على الفور". (لما أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي حضروه (مَن القوم أو مَن الوفد) شك من الراوي، والسؤال للاستئناس، أو ليعرفوا فينْزلوا منازهم (قالوا ربيعة) أي قال بعض الوفد: نحن ربيعة أو وفد ربيعة، على حذف مضاف، وفي نسخة بالنصب أي نسمى ربيعة، وفيه التعبير عن البعض بالكل؛ لأنهم بعض ربيعة، وهذا من بعض الرواة فإن عند البخاري في الصلاة: فقالوا: إنا هذا الحي من ربيعة (قال: مرحباً بالقوم أو بالوفد) أي أصاب الوفد رحباً – بضم الراء – أي سعة، والرحب – بالفتح -: الشيء الواسع أو أتى القوم موضعاً واسعاً، فالباء زائدة في الفاعل، ومرحباً مفعول به لمقدر، أو أتى الله بالقوم مرحباً، فالباء للتعدية ومرحباً مفعول مطلق، وقيل: هو من المفاعيل المنصوبة بعامل مضمر لازم إضماره لكثرة دورانه على ألسنة العرب، ويقال: هذا لتأنيس الوافد وإزالة الاستحياء عن نفس من أتى من باغي خير وقاصد حاجة (غير خزايا) بفتح الخاء جمع خزيان من الخزي وهو الذل والإهانة، أي غير أذلاء مهانين، ونصب غير على الحال من الوفد، والعامل فيه الفعل المقدر في مرحباً، وفي رواية للبخاري مرحباً بالوفد الذين جاءوا غير خزايا، قال القاري: وجوز جره على أنه بدل من القوم، وقال العيني: ويروى غير بكسر الراء على أنه صفة للقوم، فإن قلت: إنه نكرة كيف وقعت صفة للمعرفة؟ قلت: للمعرف بلام الجنس قرب المسافة بينه وبين النكرة فحكمه حكم النكرة إذ لا توقيت فيه ولا تعيين – انتهى. (ولا ندامى) جمع نادم على غير قياس، إذ قياسه نادمين، لكنه اتبع خزايا تحسيناً للكلام، كما قالوا العشايا والغدايا، والقياس الغدوات جمع غداة لكنه اتبع لما يقارنه،

قالوا: يا رسول الله، إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام، وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، فمرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا وندخل به الجنة، ـــــــــــــــــــــــــــــ وإذا أفردت لم يجز إلا الغدوات، وقيل: هو جمع ندمان بمعنى نادم من الندامة كما حكى القزاز والجوهري وغيرهما من أهل اللغة. وعلى هذا يكون الجمع على الأصل ولا يكون من باب الاتباع، والمعنى: ما كانوا بالإتيان إلينا خاسرين خائبين؛ لأنهم أسلموا طوعاً من غير حرب أو سبي يخزيهم ويفضحهم. (قالوا: يا رسول الله) فيه دليل على أنهم كانوا حين المقابلة مسلمين، وكذا في قولهم "كفار مضر" وفي قولهم "الله ورسوله أعلم". (لا نستطيع أن نأتيك) أي في جميع الأزمنة (إلا في الشهر الحرام) المراد به الجنس، فيشمل الأربعة الحرم، ويؤيده رواية البخاري في المغازي بلفظ (إلا في أشهر الحرم) ، وفي المناقب (إلا في كل شهر حرام) ، وقيل: اللام للعهد، والمراد شهر رجب، وفي رواية للبيهقي التصريح به، وكانت مضر تبالغ في تعظيم شهر رجب، فلهذا أضيف إليهم في حديث أبي بكرة عند البخاري حيث قال: ((رجب مضر)) ، والظاهر أنهم يخصونه بمزيد التعظيم مع تحريمهم القتال في الأشهر الثلاثة الأخرى إلا أنهم ربما أنسوها بخلافه، وإنما قالوا ذلك اعتذاراً عن عدم الإتيان إليه - صلى الله عليه وسلم - في غير هذا الوقت؛ لأن الجاهلية كانوا يحاربون بعضهم بعضاً، ويكفون في الأشهر الحرم تعظيماً لها وتسهيلاً على زوار البيت الحرام من الحروب والغارات الواقعة منهم في غيرها، ومن ثم كان يمكن مجيء هؤلاء إليه – عليه الصلاة والسلام – فيها دون ما عداها، قال الحافظ: وفيه دليل على تقدم إسلام عبد القيس على قبائل مضر الذين كانوا بينهم وبين المدينة، ويدل على سبقهم إلى الإسلام أيضاً ما رواه البخاري في الجمعة عن ابن عباس قال: إن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسجد عبد القيس بجواثي من البحرين، وإنما جمعوا بعد رجوع وفدهم إليهم، فدل على أنهم سبقوا جميع القرى إلى الإسلام – انتهى. واحفظه فإنه ينفعك في مسألة الجمعة في القرى. (وبيننا وبينك هذا الحي) الجملة حال من فاعل نأتيك، أو بيان لوجه عدم الاستطاعة، والحي: هو اسم لمنْزل القبيلة ثم سميت القبيلة به اتساعاً لأن بعضهم يحيى ببعض (من كفار مضر) كلمة من للبيان، ومضر هو ابن نزار بن معد بن عدنان، فهو أخو ربيعة أبي عبد القيس (بأمر فصل) الفصل بمعنى الفاصل كالعدل بمعنى العادل، أي يفصل بين الحق والباطل، أو بمعنى المفصل المبين المكشوف، حكاه الطيبي، وقال الخطابي: الفصل هو الواضح البيّن الذي ينفصل به المراد ولا يشكل، وقيل: المحكم، والأمر بمعنى الشأن، واحد الأمور، والباء صلة والمراد به معنى اللفظ ومورده، وقيل: الأمر واحد الأوامر أي القول الطالب للفعل والباء للاستعانة، والمراد به اللفظ والمأمور به محذوف، أي مرنا بعمل بقولك آمنوا أو قولوا آمنا كذا في المرقاة. (نخبر) بالرفع على أنه صفة ثانية لأمر أو استئناف، وبالجزم على أنه جواب الأمر (من وراءنا) بفتح الميم، والهمزة موصولة أي من استقروا خلفنا (وندخل) برفع اللام وجزمها عطفاً على نخبر الموجه بوجهين (به) أي بسبب قبول أمرك والعمل به (الجنة) هذا لا ينافي قوله - صلى الله عليه وسلم - ((لن يدخل الجنة

وسألوه عن الأشربة، فأمرهم بأربع، ونهاهم عن أربع، أمرهم بالإيمان بالله وحده، قال: أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس ـــــــــــــــــــــــــــــ أحد منكم بعمله؛ لأن المراد نفي كون العمل سبباً مستقلاً في الدخول مع قطع النظر عن كونه من الرحمة والفضل، إذ القصد به الرد على من يرى عمله متكفلاً بدخولها من غير ملاحظة لكونها من جملة رحمة الله، أو المراد الجنة العالية أو أن درجاتها بالعمل ودخولها بالفضل. (وسألوه عن الأشربة) جمع شراب وهو ما يشرب أي عن حكم ظروف الأشربة، فالمضاف محذوف، أو التقدير عن الأشربة التي تكون في الأواني المختلفة فعلى هذا يكون محذوف الصفة، والمراد عن حكمها (فأمرهم بأربع) أي بأربع خصال، أو بأربع جمل بقولهم حدثنا بحمل من الأمر في رواية البخاري في المغازي (ونهاهن عن أربع) أي أربع خصال وهي أنواع الشرب باعتبار أصناف الظروف الآتية (قالوا: الله ورسوله أعلم) تأدباً وطلباً للسماع منه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن القوم كانوا مؤمنين (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) برفع شهادة لا غير على أنها خبر مبتدأ محذوف هو هو، أي الإيمان بالله وحده الذي هو بمعنى الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله ... الخ (وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان) برفع الثلاثة على ما سيأتي بيانها، وقيل: بجرها عطفاً على الإيمان في قوله: أمرهم بالإيمان بالله وحده، (وأن تعطوا من المغنم) بفتح الميم والنون أي الغنيمة (الخمس) بضم الميم وسكونها، وأن تعطوا في محل الرفع عطفاً على قوله وصيام رمضان، فيكون واحداً من الأركان. قال الطيبي: في الحديث إشكالان: أحدهما: أن المأمور به واحد والأركان تفسير للإيمان بدلالة قوله ((أتدرون ما الإيمان بالله وحده)) ، وقد قال أربع أي الإيمان واحد والموعود بذكره أربع، فأين الثلاثة الباقية؟ وثانيهما: أن الأركان أي المذكورة خمسة، وقد ذكر أولاً أنها أربعة، وأجيب عن الأول بأنه جعل الإيمان أربعاً نظراً إلى أجزائه المفصلة، يعني أن الإيمان باعتبار أجزائه المفصلة أربع وهو في حد ذاته واحد، والمعنى: أنه اسم جامع للخصال الأربع التي ذكر أنه يأمرهم بها ثم فسرها، فهو واحد بالنوع متعدد بحسب وظائفه، كما أن المنهي عنه وهو الانتباذ فيما يسرع إليه الإسكار واحد بالنوع متعدد بحسب أوعيته، وعن الثاني بأن عادة البلغاء إذا كان الكلام منصباً لغرض من الأغراض جعلوا سياقه له، وكأن ما سواه مطروح، فهاهنا ذكر الشهادتين ليس مقصوداً؛ لأن القوم كانوا مؤمنين مقرين بكلمتي الشهادة، ولكن ربما كانوا يظنون أن الإيمان مقصور عليهما كما كان الأمر في صدر الإسلام، قال فلهذا لم يعد الشهادتين في الأوامر، وقال الكرماني: لم يجعل الشهادة بالتوحيد وبالرسالة من الأربع لعلمهم بذلك، وإنما أمرهم بأربع لم يكن في علمهم أنها دعائم الإيمان، وإلى هذا نحا القرطبي فقال: ذكر الشهادتين تبركاً بهما كما في قوله {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} [8: 41] ،

ونهاهم عن أربع، عن الحنتم ـــــــــــــــــــــــــــــ ومحمل كلام الطيبي والكرماني والقرطبي أن ذكرهما ليس مقصوداً من الأربع، بل هو جملة معترضة بين الأربع وبين مبينها، ويؤيده رواية البخاري (ج2: ص612) في الأدب: ((أربع وأربع، أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان وأعطوا خمس ما غنمتم ... )) الحديث. ويؤيده أيضاً حديث أبي سعيد الخدري عند أحمد (ج3: ص23) في قصة وفد عبد القيس من طريق يحيى بن سعيد عن ابن عروبة، وفيه ((آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً)) ، فهذا ليس من الأربع ((وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان وأعطوا من الغنائم الخمس ... )) الحديث. لكن ينافي قولهم ويعارض حديث أبي سعيد هذا رواية البخاري في المغازي بلفظ: ((آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: الإيمان بالله شهادة أن لا إله إلا الله، وعقد واحدة، وفي فرض الخمس، وعقد بيده)) ، وفي رواية أبي داود: ((وعقد بيده واحدة)) فدلت هذه الروايات أن الشهادة إحدى الأربع، لا يقال: إن العقد كان للإشارة إلى التوحيد؛ لأن المعهود فيها الإشارة بنصب المسبحة دون العقد، والراوي ذكر العقد، وكذا يخالفهم ما في رواية البخاري في أوائل المواقيت ولفظه: ((آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: الإيمان بالله)) ، ثم فسرها لهم ((شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ... )) الحديث، فهذا أيضاً يدل على أنه عدّ الشهادتين من الأربع؛ لأنه أعاد الضمير في قوله ((ثم فسرها)) مؤنثاً فيعود على الأربع، ولو أراد تفسير الإيمان لأعاده مذكراً، لكن يمكن أن يقال: إنه أنّث الضمير نظراً إلى أن المراد بالإيمان الشهادة أو إلى أنه خصلة، وأجيب أيضاً عن الإشكال الثاني بأنه عدّ الصلاة والزكاة واحدة؛ لأنها قرينتها في كتاب الله، وتكون الرابعة أداء الخمس، وقيل: أداء الخمس داخل في عموم إيتاء الزكاة فلم يعده مستقلاً. والجامع بينهما أنهما إخراج مال معين في حال دون حال، هذا، وما ذكرناه في توضيح الإشكال ورفعه يوافق حديث جبريل ومذهب السلف في الإيمان من كون الأعمال داخلة في حقيقته، فإنه قد فسر الإسلام في حديث جبريل بما فسر به الإيمان في قصة وفد عبد القيس، فدل هذا على أن الأشياء المذكورة – وفيها أداء الخمس – من أجزاء الإيمان، وأنه لابد في الإيمان من الأعمال خلافاً للمرجئة. قال الحافظ معتذراً عن عدم ذكر الحج في الحديث: إنما أخبرهم ببعض الأوامر؛ لكونهم سألوه أن يخبرهم بما يدخلون بفعله الجنة، فاقتصر لهم على ما يمكنهم فعله في الحال، ولم يقصد إعلامهم بجميع الأحكام التي تجب عليهم فعلاً وتركاً، ويدل على ذلك اقتصاره في المناهي على الانتباذ في الأوعية مع أن في المناهي ما هو أشد في التحريم من الانتباذ، لكن اقتصر عليها لكثرة تعاطيهم لها – انتهى. (ونهاهم عن أربع) أي خصال (عن الحنتم) بدل من قوله عن أربع بإعادة الجار، وهو من إطلاق المحل وإرادة الحال أي ما في الحنتم ونحوه، وصرح بالمراد في رواية للنسائي فقال: ((وأنهاكم عن أربع ما ينتبذ في الحنتم ... )) الحديث، والحنتم – بفتح الحاء المهملة وسكون النون وفتح المثناة من فوق -: هي الجرة مطلقاً، وقيل: خضراء، وقيل: حمراء، أعناقها من جنوبها يجلب فيها الخمر من مضر، وقيل: من الطائف، وقيل: هي جرار تعمل من طين ودم وشعر، أقوال للصحابة وغيرهم، ولعلهم كانوا ينتبذون في ذلك كله

والدباء والنقير والمزفت، وقال: احفظوهن وأخبروا بهن من وراءكم)) متفق عليه، ولفظه للبخاري. 18- (17) وعن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحوله عصابة من أصحابه: ((بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ـــــــــــــــــــــــــــــ (والدباء) بضم المهملة وتشديد الموحدة والمد وقد يقصر: وعاء القرع وهو اليقطين اليابس، وهو جمع والواحدة دباءة، ومن قصر قال: "دباة" (والنقير) بفتح النون وكسر القاف: أصل النخلة ينقر وسطه فيتخذ من وعاء وينبذ فيه (والمزفت) بتشديد الفاء أي المطلي بالزفت أي القار، وربما قال ابن عباس المقير بدل المزفت، ومعنى النهي عن الانتباذ في هذه الأوعية بخصوصها لأنه يسرع فيها الإسكار، فربما شرب منها من لا يشعر بذلك، ثم ثبتت الرخصة في الانتباذ في كل وعاء مع النهي عن شرب كل مسكر كما سيأتي في باب النقيع. (احفظوهن) أي الكلمات المذكورات (وأخبروا بهن) بفتح الهمزة (من وراءكم) بفتح مَن وهي موصولة، ووراءكم يشمل من جاءوا من عندهم، وهذا باعتبار المكان، ويشمل من يحدث لهم من الأولاد وغيرهم، وهذا باعتبار الزمان، فيحتمل إعمالها في المعنيين حقيقة ومجازاً (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أبوداود والترمذي والنسائي وغيرهم (ولفظه للبخاري) يعني لمسلم معناه، فبهذا المعنى صار الحديث متفقاً عليه. 18- قوله: (وعن عبادة) بضم العين وتخفيف الموحدة (بن الصامت) بن قيس الأنصاري الخزرجي المدني، يكنى أباالوليد، شهد العقبتين وبدراً والمشاهد كلها، وهو أحد النقباء، ثم وجهه عمر إلى الشام قاضياً ومعلماً، فأقام بحمص ثم انتقل إلى فلسطين ومات بها في الرملة، وقيل: ببيت المقدس سنة 34 وهو ابن 72سنة، وقيل عاش إلى خلافة معاوية، وهو أحد من جمع القرآن في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، رواه البخاري في تاريخه الصغير وابن سعد عن محمد بن كعب القرظي، وكان طويلاً جسيماً جميلاً فاضلاً، قال سعيد بن عفير: كان طوله عشرة أشبار. له مائة وأحد وثمانون حديثاً، اتفقا منها على ستة، وانفرد البخاري بحديثين، وكذا مسلم، روى عنه جماعة من الصحابة والتابعين. (وحوله) نصب على الظرفية خبر لقوله (عصابة) بالكسر اسم جمع كالعصبة لما بين العشرة إلى الأربعين من العصب وهو الشد، كأن بعضهم يشد بعضاً، والجملة حالية (من أصحابه) في محل الرفع؛ لأنه صفة لعصابة، أي عصابة كائنة من أصحابه، وكلمة (من) للتبعيض، ويجوز أن تكون للبيان (بايعوني) أي عاقدوني، سميت المعاهدة على الإسلام بالمبايعة تشبيهاً لنيل الثواب في مقابلة الطاعة بعقد البيع الذي هو مقابلة مال، ووجه المفاعلة أن كلاً من المتبايعين يصير كأنه باع ما عنده من صاحبه وأعطاه خالصة نفسه وطاعته كما في قوله تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} [9: 111] . (لا تشركوا بالله شيئاً) مفعول به أو مفعول مطلق (ولا تسرقوا) من سرق بالفتح يسرق بالكسر سرقاً، وهو أخذ مال الغير محرزاً بخفية (ولا تقتلوا أولادكم) خص القتل بالأولاد لأنه قتل وقطيعة رحم، فالعناية بالنهي عنه

ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا ـــــــــــــــــــــــــــــ آكد ولأنه كان شائعاً فيهم، هو وأد البنات خوف لحوق عيب وعار، وقتل البنين خشية إملاق وإقتار، أو خصهم بالذكر لأنهم بصدد أن لا يدفعوا عن أنفسهم (ولا تأتون ببهتان) الباء للتعدية والبهتان - بالضم - الكذب الذي يبهت سامعه أي يدهشه لفظاعته (تفترونه) أي تخلقونه، صفة بهتان (بين أيديكم وأرجلكم) أصل هذا كان في بيعة النساء، وكنى بذلك عن نسبة المرأة الولد الذي تزني به أو تلتقطه إلى زوجها كذباً؛ لأن بطنها الذي يحمله بين يديها وفرجها الذي تلد منه بين رجليها، ثم لما استعمل هذا اللفظ في بيعة الرجال احتيج إلى حمله على غير ما ورد فيه أولاً، فقيل معناه: لا تأتوا ببهتان من قبل أنفسكم ومن عند ذواتكم، فاليد والرجل كنايتان عن الذات؛ لأن معظم الأفعال يقع بهما، وقد يعاقب الرجل بجناية قولية، فيقال له: هذا بما كسبت يداك. أو معناه: لا تنسبوا مبنياً على ظن فاسد وغش مبطن من ضمائركم وقلوبكم التي بين أيديكم وأرجلكم، فالأول كناية عن إلقاء البهتان من تلقاء أنفسهم، والثاني: عن إنشاء البهتان من دخيلة قلوبهم مبنياً على الغش المبطن. وقيل معناه: لا تبهتوا الناس بالعيوب كفاحاً مواجهة، كما يقال: فعلت هذا بين يديك أي بحضرتك، وأراد هاهنا الأيدي، وذكر الأرجل تأكيداً له (ولا تعصوا) بضم الصاد، وفي رواية للبخاري: ((ولا تعصوني)) وهو مطابق للآية، (في معروف) قال في النهاية: هو اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله تعالى والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع ونهى عنه من المحسنات والمقبحات – انتهى. ونبه بذلك على أن طاعة المخلوق إنما تجب فيما كان غير معصية لله، فهي جديرة بغاية التوقي في معصية الله (فمن وفى) أي ثبت على ما بايع عليه بتخفيف الفاء وتشديدها وهما بمعنى (فأجره على الله) قال الحافظ: أطلق هذا على سبيل التفخيم لأنه لما ذكر المبايعة المقتضية لوجود العوضين أثبت ذكر الأجر في موضع أحدهما، وأفصح في رواية الصنابحي عن عبادة في هذا الحديث في الصحيحين بتعيين العوض فقال: بالجنة، وعبر هنا بلفظ على للمبالغة في تحقيق وقوعه كالواجبات. فإن قيل: لم اقتصر على المنهيات ولم يذكر المأمورات؟ فالجواب: أنه لم يهملها بل ذكرها على طريق الإجمال في قوله ((ولا تعصوا)) ، إذ العصيان مخالفة الأمر، والحكمة في التنصيص على كثير من المنهيات دون المأمورات أن الكف أيسر من إنشاء الفعل؛ لأن اجتناب المفاسد مقدم على اجتلاب المصالح والتخلي عن الرذائل قبل التحلي بالفضائل، وترك سائر المنهيات لزيادة الاهتمام بالمذكورات، وفيه رد على المرجئة الذين يقولون بأن التصديق وحده كافٍ للنجاة، وأنه لا تضر المعصية مع الإيمان. (ومن أصاب من ذلك) أي من المذكور (فعوقب به) هو أعم من أن تكون العقوبة حداً أو تعزيراً، واختلفوا في أنه يعم العقوبات الشرعية ويشمل العقوبات القدرية كالمصائب والآلام والأسقام وغيرها أم لا؟ فقيل: نعم، كما في الحديث: ((لا يصيب المسلم نصب ولا هم ولا حزن حتى الشوكة يشاكها الرجل إلا كفر الله بها من خطاياه)) ، وقيل: لا، لحديث

فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله عليه فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه، فبايعناه على ذلك، ـــــــــــــــــــــــــــــ خزيمة بن ثابت عند أحمد في مسنده (ج5: ص214، 215) بإسناد حسن: ((من أصاب ذنباً أقيم عليه حد ذلك الذنب فهو كفارته)) ، فإنه صريح في أن المراد عن العقوبة المذكورة في الحديث الحدود دون المصائب، وقال الحافظ: يحتمل أن يراد أن المصائب تكفر ما لا حد فيه. (فهو) العقاب، وهذا مثل هو في قوله تعالى: {اعدلوا هو أقرب للتقوى} [5: 8] ، (كفارة له) زاد في رواية للبخاري: ((وطهور)) بفتح الطاء أن يكفر إثم ذلك ولم يعاقب به في الآخرة، قال النووي: عموم هذا الحديث مخصوص بقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به} [4: 48] ، فالمرتد إذا قتل على الردة لا يكون القتل له كفارة – انتهى. ويستفاد من الحديث أن إقامة الحد كفارة للذنب ولو لم يتب المحدود، وهو قول الجمهور، وقيل: لا بد من التوبة، وبذلك جزم بعض التابعين، وهو قول للمعتزلة، ووافقهم ابن حزم، ومن المفسرين البغوي وطائفة يسيرة – انتهى. قلت: الأول قول مجاهد وزيد بن أسلم والثوري والإمام أحمد، ورجحه ابن جرير وضعف القول بخلاف ذلك ووهنه جداً، قال الحافظ في الفتح: واستدل البغوي ومن وافقه باستثناء من تاب في قوله تعالى: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} [5: 34] ، قال: والجواب في ذلك أنه في عقوبة الدنيا ولذلك قيدت بالقدرة عليه. انتهى. (ثم ستره الله) أي ذلك الشيء المصاب (فهو إلى الله) أي أمره وحكمه من العفو العقاب مفوض إليه فلا يجب عليه عقاب عاص كما لا يجب عليه ثواب مطيع على المذهب الحق، وفيه رد على الخوارج الذين يكفرون بالذنوب، ورد على المعتزلة الذين يوجبون تعذيب الفاسق إذا مات بلا توبة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بأنه تحت المشيئة، ولم يقل: لا بد أن يعذبه (إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه) يشمل من تاب من ذلك ومن لم يتب، وقال بذلك طائفة، وذهب الجمهور إلى أن من تاب لا يبقى عليه مؤاخذة ومع ذلك فلا يأمن مكر الله؛ لأنه لا إطلاع له هل قبلت توبته أو لا، وقيل: يفرق بين ما يجب فيه الحد وما لا يجب، كذا في الفتح. اعلم أنه ذهب أكثر العلماء ومنهم الشافعية إلى أن الحدود كفارات وسواتر، واستدلوا بحديث عبادة هذا، وهو صريح في ذلك، ويؤيده ما رواه غير واحد من الصحابة منهم علي بن أبي طالب، أخرج حديثه أحمد والترمذي في الإيمان وحسنه وابن ماجه والحاكم وصححه، ومنهم أبوتميمة الجهيمي أخرجه حديثه الطبراني بإسناد حسن، ومنهم خزيمة بن ثابت أخرج حديثه أحمد، وقد تقدم لفظه، ومنهم ابن عمر وأخرج حديثه الطبراني مرفوعاً، واختلفت الحنفية فيه، فقال أبولحسن الطالقاني الحنفي كما في طبقات الشافعية وأبوبكر الكاساني صاحب البدائع: إن الحدود كفارات، وصرح صاحب الدر المختار بأنها ليست بكفارة بل هي روادع وزواجر فقط. واستدل له بقوله تعالى: {ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم} [5: 33] في آية المحاربة، فإنه يدل على أنه يعذبون في الآخرة بعد إقامة الحد عليهم في

الدنيا فلم يكن الحد كفارة لهم، وأجيب بأن الآية نزلت في العرنيين، ومعلوم أنهم كانوا ارتدوا بعد إسلامهم، وحينئذٍ فالآية خارجة عن موضع النِزاع؛ لأن المسألة إنما كانت في المسلمين؛ لأن التكفير في حق المشركين لم يقل به أحد، والآية وإن لم تأخذ الكفر والارتداد في العنوان بل أدارت الحكم على وصف قطع الطريق وهو يقتضي أن يدور الحكم على هذا الوصف سواءً كان من المسلم أو المرتد أو الكافر أو الذمي، ولا يقتصر على المرتد والكافر فقط، لكن يمكن أن يقال: إنه جرى ذكر العذاب في الآخرة في الآية لحال الفاعلين أي لحال كفرهم لا لحال الفعل، فإن المعصية الواحدة تختلف شدة وضعفاً باعتبار حال الفاعلين، فقد تكون المعصية من المؤمن ويخف العذاب عليها رعاية لإيمانه، وقد تكون تلك المعصية بعينها من الكافر ويزاد في عقوبته لحال كفره، فقطع الطريق من المسلمين شنيع، وهو من المرتدين أشنع، وعلى هذا فلا دليل في الآية على أن المسلم لو فعل ذلك ثم أقيم عليه الحد كان له عذاب في الآخرة أيضاً؛ لأنه ليس جزاء للفعل على هذا التقدير بل الشناعة في الجزاء بشناعة الفاعلين، كذا قرره الشيخ محمد أنور الحنفي. ويمكن أن يقال: إنه يحتمل أن يكون حديث عبادة مخصصاً لعموم الآية أو مبيناً أو مفسراً لها، واستدلوا له أيضاً بقوله تعالى: {فمن تاب من بعده ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم} [5: 39] في آية حد السرقة، قيل: هو دليل صريح على أن إقامة الحد لا تكون كفارة إلا بعد التوبة من ظلمه وإصلاح عمله. وأجيب عنه بأنه لا دليل في الآية على ذلك؛ لأن ظاهر معنى الآية: أن من تاب من بعد ظلمه، أي سرقته يعني حسن حاله في المستقبل وأصلح عمله وعزم على ترك العود إلى مثل ذلك فيقبل الله توبته ويرحمه ويطهره من جميع الذنوب، وأما ذنب هذه السرقة فقد زال بنفس إقامة حد السرقة، ولم يتوقف على التوبة، وبالجملة الآية إنما تتعلق بالتوبة والإصلاح في الاستقبال لا بما تقدم من ذنب السرقة، وقيل: معنى الآية: فمن تاب أي من السرقة وأصلح أمره فإن الله يتوب عليه، أي يغفر له ويتجاوز عنه ويقبل توبته أي يسقط عنه حق الله، وأما حق الآدميين من القطع، ورد المال فلا يسقط، نعم إن عفا قبل الرفع إلى الإمام سقط القطع، كما ذهب إليه الشافعي، واستدل له أيضاً بقوله تعالى: {فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون. إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم} [24: 4-5] في آية حد القذف، قيل: هو أقوى دليل على أن إقامة الحد لا تطهر القاذف من الذنب ولا تخرجه من الفسق إلا بعد التوبة، وإنما وعد الله المغفرة والرحمة لمن تاب بعد ذلك وأصلح عمله. وأجيب عنه بأن حد القذف ليس هو الجلد فقط، بل هو مجموع أمرين أو ثلاثة أمور: الجلد، وعدم قبول الشهادة، والحكم بكونه فاسقاً، لكن بينها فرق وهو أن الجلد لا يرتفع بالتوبة، فإنه يجلد التائب كالمصر بالإجماع، وأما عدم قبول الشهادة والحكم بالفسق فيزولان بالتوبة بناءً على أن الاستثناء يتعلق بالجملتين، وهذا عند الأئمة الثلاثة، خلافاً لأبي حنيفة، فإنه ذهب إلى أنه لا يقبل شهادة القاذف أبداً أي مادام حياً وإن تاب، وهذا لأن الاستثناء عنده يرجع إلى الجملة الأخيرة فقط، فلا يزول عنده بالتوبة إلا اسم الفسق، وأما عدم قبول الشهادة فيبقى على حاله بعد التوبة، وإصلاح العمل أيضاً كالجلد، ففرق أبوحنيفة بين القذف

وسائر الكبائر مثل الزنا والسرقة وشرب الخمر والميسر، فقال بقبول الشهادة من التائبين من هذه المعاصي بعد إقامة الحدود عليهم كالأئمة الثلاثة، وخالفهم في التائب من ذنب القذف، فلم يقبل شهادته أبداً، وإذا كان عدم قبول الشهادة داخلاً في حد القذف وجزءاً منه خلافاً لسائر الحدود، حتى إنه لا يقبل شهادته بعد التوبة أيضاً عند أبي حنيفة، ظهر منه أن حكم حد القذف مخالف لحكم سائر الحدود، فلا يتطهر القاذف من ذنب القذف إلا بالتوبة كما نص على ذلك الآية بخلاف سائر الحدود، فإنها تكون كفارة ومطهرة بنفسها من غير احتياج إلى التوبة بعد إقامة الحد، واستدل له أيضاً بما سيأتي في باب الشفاعة في الحدود من حديث أبي أمية المخزومي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بلص قد اعترف اعترافاً ... الحديث، وفيه ((فأمر به فقطع فجيء به، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: استغفر الله وتب إليه، فقال: أستغفر الله وأتوب إليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اللهم تب عليه)) أخرجه أبوداود والنسائي وابن ماجه، قالو: لو كان الحد كفارة لما احتاج إلى الاستغفار بعد القطع مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بالاستغفار، فعلم أن الحدود أصلها للزجر لا للستر والتكفير. وأجيب عنه بأن معنى قوله ((تب)) أي في الاستقبال بأن لا تفعله ثانياً، فيخرج الحديث عما نحن فيه ولا يتم الاستدلال، وقال السندي في حاشية النسائي: قوله ((استغفر الله)) – أي في حديث أبي أمية المذكور – لعل المراد الاستغفار والتوبة من سائر الذنوب، أو لعله قال ذلك ليعزم إلى عدم العود إلى مثله، فلا دليل لمن قال الحدود ليست كفارات لأهلها مع ثبوت كونها كفارات بالأحاديث الصحاح التي كادت تبلغ حد التواتر، كيف والاستغفار مما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((استغفر لذنبك)) ، وقد قال الله تعالى: {لقد تاب الله على النبي} [9: 117] لمعانٍ ومصالح ذكروا في محله، فمثله لا يصلح دليلاً على بقاء ذنب السرقة، والله تعالى أعلم – انتهى. وقال القاري: هذا منه - صلى الله عليه وسلم - يدل على أن الحد ليس مطهراً بالكلية مع فساد الطوية وإنما هو مطهر لعين ذلك الذنب، فلا عقاب عليه ثانياً من جهة الرب – انتهى. وتوقف بعض العلماء في كون الحدود كفارات ولم يقضوا في ذلك بشيء؛ لحديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا)) أخرجه الحاكم في المستدرك، وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأخرجه البزار وأحمد أيضاً، واختلف في وصله وإرساله، وأجيب عنه بأن حديث عبادة أصح وصحته متفق عليها، بخلاف حديث أبي هريرة على ما نص عليه القاضي وغيره، فلا تعارض لكون حديث عبادة واجب التقديم فلا وجه للتوقف في كون الحدود كفارة، ولو سلم التساوي والمعارضة جمع بينهما بأنه يمكن أن يكون حديث أبي هريرة ورد أولاً قبل أن يعلمه الله ثم أعلمه بعد ذلك، قال القاضي: فإن قيل: حديث عبادة هذا كان بمكة ليلة العقبة لما بايع الأنصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيعة الأولى بمنى، وأبوهريرة إنما أسلم بعد ذلك بسبع سنين عام خيبر، فكيف يكون حديثه متقدماً؟ قيل: يمكن أن يكون أبوهريرة ما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما سمعه من صحابي آخر كان سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - قديماً، ولم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك أن الحدود كفارة كما سمعه عبادة، انتهى. وقال الحافظ: الحق عندي أن حديث أبي هريرة صحيح، وهو سابق عن حديث عبادة، والمبايعة المذكورة

متفق عليه. 19- (18) وعن أبي سعيد الخدري قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أضحى أو فطر إلى المصلى فمر على النساء فقال: يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار، ـــــــــــــــــــــــــــــ في حديث عبادة على الصفة المذكورة لم تقع ليلة العقبة، ثم ذكر نص بيعة ليلة العقبة من مغازي ابن إسحاق وغيره، وقال بعد سرد الروايات من صحيحي البخاري ومسلم والنسائي والطبراني: فهذه أدلة ظاهرة في أن هذه البيعة صدرت بعد نزول آية الممتحنة بل بعد صدور بيعة النساء بل بعد فتح مكة وذلك بعد إسلام أبي هريرة – انتهى. هذا، وقد أطال الحافظ البحث هاهنا، وتقبه العيني فارجع إلى الفتح والعمدة وتأمل في تعقبات العيني (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي والنسائي وغيرهم. 19- قوله: (وعن أبي سعيد الخدري) بضم الخاء وسكون الدال المهملة نسبة إلى خدرة، وهو أبجر بن عوف أحد أجداد أبي سعيد، اسمه سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الأنصاري الخزرجي، اشتهر بكنيته، استصغر يوم أحد فرد ثم غزا بعد ذلك اثنتي عشرة غزوة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأول مشاهده الخندق، واستشهد أبوه يوم أحد، روي له ألف حديث ومائة وسبعون حديثاً، اتفقا منها على ستة وأربعين، وانفرد البخاري بستة عشر، ومسلم باثنين وخمسين، روى عنه جماعة من الصحابة والتابعين، قال ابن عبد البر: كان ممن حفظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنناً كثيرة، وروى عنه علماً جماً، وكان من نجباء الأنصار وعلمائهم وفضلائهم، قال حنظلة بن أبي سفيان عن أشياخه: لم يكن أحد من أحداث أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفقه من أبي سعيد، مات بالمدينة سنة (63) أو (64) أو (65) ، وقيل: سنة (74) . (في أضحى) بفتح الهمزة والتنوين واحدة أضحاة، لغة في الأضحية، أي في عيد أضحى على حذف المضاف، بل غلب على عيد النحر فحينئذٍ مغنٍ عن التقدير كالفطر، وفي بعض النسخ بترك التنوين، سمي بذلك لأنه يفعل وقت الضحى وهو ارتفاع النهار. (أو فطر) شك من الراوي (إلى المصلى) هو موضع صلاة العيد في الجبانة (يا معشر النساء) أي جماعتهن، قال الليث: المعشر: كل جماعة أمرهم واحد (أريتكن) بضم الهمزة وكسر الراء على صيغة المجهول، أي أراني الله إياكن (أكثر أهل النار) بالنصب على الحال بناءً على أن أفعل لا يتعرف بالإضافة كما صار إليه الفارسي وغيره، قيل: المراد أن الله تعالى أراهن في ليلة الإسراء، والظاهر أن هذه الرؤية وقعت في صلاة الكسوف كما يدل عليه رواية ابن عباس الآتية في صلاة الكسوف، وقيل: أريتكن متعدٍ إلى ثلاثة مفاعيل: الأول التاء التي هي مفعول ناب عن الفاعل، والثاني: كن، والثالث: أكثر، أي أخبرت وأعلمت على طريق الوحي بأنكن أكثر دخولاً في النار من الرجال، والصدقة تقي منها، قال – عليه السلام -: ((اتقوا النار ولو بشق تمرة)) ، ولا يعارض هذا ما أخرجه أبويعلى عن أبي هريرة في حديث الصور الطويل مرفوعاً: ((فيدخل الرجل على اثنتين وسبعين زوجة مما ينشئ الله وزوجتين من ولد آدم)) وغير ذلك من الأحاديث

فقلنا: وبم يا رسول الله؟ قال: تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن، قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى، قال: فذلك ـــــــــــــــــــــــــــــ الدالة على كون الزوجتين من نساء الدنيا، وكثرة النساء في الجنة دون النار لأنه يحتمل أن يكون ذلك في أول الأمر قبل خروج العصاة من النار بالشفاعة، وقيل: كانت الأكثرية عند مشاهدته إذ ذاك ولا تنسحب على مجموع الزمان، فتأمل (وبم) أصله بما حذفت ألف ما الاستفهامية بدخول حرف الجر عليها تخفيفاً، والباء للسببية متعلقة بمقدر بعدها، والواو للعطف على مقدر قبله، والتقدير: كيف يكون ذلك وبأي شيء نكن أكثر أهل النار، أو ما ذنبنا وبم ... الخ. (تكثرن اللعن) في مقام التعليل، وكان المعنى لأنكن تكثرن اللعن، وهو في اللغة الطرد والإبعاد، وفي الشرع الإبعاد من رحمة الله تعالى، قال القاري: لعل وجه التقييد بالإكثار أن اللعن يجري على ألسنتهن لاعتيادهن من غير قصد لمعناه السابق فخفف الشارع عنهن ولم يتوعدهن بذلك إلا عند إكثاره، قال: وقد يستعمل في الشتم والكلام القبيح، يعني عادتكن إكثار اللعن والشتم والإيذاء باللسان، انتهى. (وتكفرن) بضم الفاء، قال الراغب: الكفر في اللغة: ستر الشيء، وكفر النعمة وكفرانها سترها بترك أداء شكرها، والكفران في جحود النعمة أكثر استعمالاً، والكفر في الدين أكثر والكفور فيهما. (العشير) أي المعاشر، وهو المخالط، والمراد به الزوج أو أعم من ذلك، وكفران العشير جحد نعمته وإحسانه واستقلال ما كان منه. (ما رأيت ناقصات عقل ودين) من مزيدة للاستغراق بمجيئها بعد النفي، صفة لمفعوله المحذوف، أي ما رأيت أحداً من ناقصات. العقل: غزيرة في الإنسان يدرك بها المعنى ويمنعه عن القبائح، وهو نور الله في قلب المؤمن. (أذهب) بالنصب، وهو صفة أخرى للمفعول المحذوف إن كان رأيت بمعنى أبصرت، وهو مفعول ثانٍ له إن كان بمعنى علمت، والمفضل عليه مفروض مقدر، وهو أفعل التفضيل من الإذهاب لمكان اللام في قوله (للب الرجل) أي أكثر إذهاباً للب، وهذا جائز على رأي سيبويه حيث جوزه من الثلاثي المزيد، واللب: العقل الخالص من شوائب الهوى، وسمي بذلك لكونه خالص ما في الإنسان من قواه كاللباب من الشيء، وقيل: ما ذكا من العقل، فكل لب عقل ولا يعكس. (الحازم) الضابط لأمره من الحزم، وهو ضبط الرجل أمره وأخذه بالثقة، وهذه مبالغة في وصفهن بذلك؛ لأن الضابط لأمره إذا كان ينقاد لهن فغير الضابط أولى (من إحداكن) متعلق بأذهب (وما نقصان ديننا وعقلنا) هذا استفسار منهن عن وجه نقصان دينهن، وذلك لأنه خفي عليهن ذلك حتى استفسرن، وما ألطف ما أجابهن به - صلى الله عليه وسلم - من غير تعنيف ولا لوم بل خاطبهن على قدر عقولهن وفهمهن (أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل) إشارة إلى قوله تعالى: {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} [2: 282] ؛ لأن الاستظهار بأخرى مؤذن بقلة ضبطها وهو مشعر بنقص عقلها (فذلك) بكسر الكاف خطاباً للواحدة التي تولت الخطاب، ويجوز

من نقصان عقلها، قال: أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان دينها)) ، متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ فتحها على أنه للخطاب العام، والإشارة للحكم السابق (من نقصان عقلها) فيه دلالة على أن ملاك الشهادة العقل مع اعتبار الأمانة والصدق، وعلى أن شهادة المغفل ضعيف وإن كان قوياً في الدين والأمانة. (قال) هو موجود في أكثر النسخ، وأما في أصل السيد جمال الدين ومتن صحيح البخاري فغير موجود، قاله القاري. (فذلك من نقصان دينها) قال النووي: قد يستشكل معنى وصفه - صلى الله عليه وسلم - النساء بنقصان الدين لتركهن الصلاة والصوم في زمن الحيض، وليس بمشكل، فإن الدين والإيمان والإسلام مشتركة في معنى واحد، وقد قدمنا أن الطاعات تسمى إيماناً وديناً، وإذا ثبت هذا علمنا أن من كثرت عبادته زاد إيمانه ودينه، ومن نقصت عبادته نقص إيمانه ودينه – انتهى. قال الحافظ: وليس المقصود بذكر النقص في النساء لومهن على ذلك؛ لأنه من أصل الخلقة، لكن التنبيه على ذلك تحذيراً من الافتتان بهن، ولذا رتب العذاب على ما ذكر من الكفران وغيره لا على النقص، وليس نقص الدين منحصراً فيما يحصل به الإثم بل في أعم من ذلك، فإنه قد يكون على وجه لا إثم فيه كمن ترك الجمعة أو الغزو أو غير ذلك مما لا يجب عليه لعذر، وقد يكون على وجه هو مكلف به كترك الحائض الصلاة والصوم، قال: فالنقص أمر نسبي، فالكامل مثلاً ناقص عن الأكمل ومن ذلك الحائض لا تأثم بترك الصلاة زمن الحيض لكنها ناقصة عن المصلي. وفي الحديث دليل على أن جحد النعم حرام، وكذا كثرة استعمال الكلام القبيح كاللعن والشتم. واستدل النووي على أنهما من الكبائر بالتوعد عليهما بالنار، وفيه ذم اللعن وهو الدعاء بالإبعاد من رحمة الله، وهو محمول على ما إذا كان في معين، وفيه إطلاق الكفر على الذنوب التي لا تخرج من الملة تغليظاً على فاعلها، لقوله في رواية أخرى ((بكفرهن)) ففيه دلالة على جواز إطلاق الكفر على غير الكفر بالله ككفر العشير والإحسان والنعمة والحق، لكنه كفر دون كفر أي كفر أدون وأخف من الكفر بالله، فالكفر متنوع متفاوت زيادة ونقصاناً بعضه أخف من بعض، فكما أن الإيمان ذو شعب كثيرة، أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق وبينها مراتب كثيرة، كذلك في الكفر مراتب بعضها أخف من بعض، وبين أعلاه وأدناه مراتب كثيرة، أو يقال: إن الكفر نوعان: كفر بالله، وله أربعة أقسام: كفر إنكار، وجحود، وعناد، ونفاق، على ما قاله الأزهري، وكفر بغير الله، وهو كفر دون كفر، أي مغاير للكفر بالله، فالأول مخرج من الملة موجب للخلود، والثاني موجب للفسوق فقط غير موجب للخلود، مثلاً الرجل يقر بالوحدانية والنبوة بلسانه ويعتقد ذلك بقلبه لكنه يرتكب الكبائر من القتل والسعي في الأرض بالفساد وكفران الحقوق والنعم ونحو ذلك، ويوجد في ذلك صحة تأويل الأحاديث التي أطلق فيه الكفر على الكبائر مثل قوله: ((وقتاله كفر)) ، وقوله: ((من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر)) ، وغير ذلك، فلا حجة فيها للخوارج الذين يكفرون مرتكب الكبيرة. (متفق عليه) وأخرجه

20- (19) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الله تعالى: ((كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته، ـــــــــــــــــــــــــــــ أيضاً النسائي وابن ماجه، وأخرجه مسلم عن أبي هريرة وابن عمر أيضاً وأخرجاه عن جابر أيضاً. 20- قوله: (قال الله تعالى) هذا من الأحاديث الإلهية، وتسمى القدسية والربانية، وهي أكثر من مائة، وقد جمعها بعضهم في جزء كبير، والفرق بين الحديث القدسي وبين القرآن أن الأول يكون بإلهام أو منام أو بواسطة ملك بالمعنى فيعبره بلفظه وينسبه إلى ربه، والثاني لا يكون إلا بإنزال جبريل باللفظ المعين، وهو أيضاً متواتر بخلاف الأول فلا يكون حكمه حكمه في الفروع وبقية الأحاديث وإن كانت كلها بالوحي لقوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى} ، لكنها لم يضفها إلى الله تعالى ولم يروها عنه تعالى، فهي في الدرجة الثالثة، وإن شئت التفصيل فارجع إلى قواعد التحديث (39-44) . (كذبني) بتشديد الذال المعجمة من التكذيب، وهو نسبة المتكلم إلى أن خبره خلاف الواقع، والمعنى نسب إلي الكذب حيث أخبرته أني أعيده يوم القيامة، وهو ينكر البعث ويكذبني في ذلك الإخبار (ابن آدم) المراد به بعض بني آدم وهم من أنكر البعث من العرب وغيرهم من عباد الأوثان والدهرية وغيرهم. (ولم يكن) أي ما صح وما استقام وما كان ينبغي له (ذلك) أي التكذيب (وشتمني) ابن آدم أي بعضهم، وهم من ادعى أن لله ولداً من اليهود والنصارى، ومن مشركي العرب من قال إن الملائكة بنات الله، والشتم توصيف الشيء بما فيه ازدراء ونقص، وإثبات الولد له كذلك؛ لأنه قول بمماثلة الولد في تمام حقيقته، وهي مستلزمة للإمكان المتداعي إلى الحدوث، وذلك غاية النقص في حق البارئ تعالى، ولأن الحكمة في التوالد استبقاء النوع فلو كان البارئ تعالى متخذاً ولداً لكان مستخلفاً خلفاً يقوم بأمره بعد عصره، فيلزم زواله وفناءه سبحانه تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. (ولم يكن له ذلك) أي الشتم. (فقوله لن يعيدني) الإعادة هي الإيجاد بعد العدم المسبوق بالوجود، فالمعنى لن يحييني بعد موتي كما بدأني أي أوجدني عن عدم وخلقني ابتداءً أي إعادة مثل بدئه إياي أو لن يعيدني مماثلاً لما بدأني عليه. (وليس أول الخلق) من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف، أي ليس الخلق الأول للمخلوقات أو من قبيل حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أي ليس أول خلق الخلق، والخلق بمعنى المخلوق، أو اللام عوض عن المضاف إليه أي أول خلق الشيء (بأهون) الباء زائدة للتأكيد، من هان الأمر: إذا سهل (علي من إعادته) أي المخلوق أو الشيء، بل هو يستويان في قدرتي بل الإعادة أسهل عادة لوجود أصل البنية وأثرها، أو أهون على زعمكم وبالنسبة إليكم، ففيه إشارة إلى تحقيق المعاد وإمكان الإعادة، وهو أن ما يتوقف عليه تحقق البدن من أجزائه وصورته لو لم يكن وجوده ممكناً لما وجد أولاً وقد وجد، وإذا أمكن

وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولداً، وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد، ولم يكن لي كفواً أحد)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يمتنع لذاته وجوده ثانياً وإلا لزم انقلاب الممكن لذاته ممتنعاً لذاته وهو محال، وتنبيه على مثال يرشد العامي وهو ما يرى في الشاهد أن من اخترع صنعة لم ير مثلها ولم يجد لها أصلاً، صعب عليه ذلك وتعب فيها تعباً شديداً وافتقر فيها إلى مكابدة أفعال ومعاونة أعوان ومرور أزمان، ومع ذلك فكثيراً لا يستت له الأمر ولا يتم له المقصود، ومن أراد إصلاح منكسر أو إعادة منهدم، وكانت العدد حاصلة والأصول باقية هان عليه ذلك وسهل جداً، فيا معشر الغواة! تحيلون إعادة أبدانكم وأنتم تعترفون بجواز ما هو أصعب منها، بل هو كالمتعذر بالنسبة إلى قدركم وقواكم، وأما بالنسبة إلى قدرة الله تعالى فلا سهولة ولا صعوبة، يستوي عنده تكوين بعوض طيار وتخليق فلك دوار كما قال: {وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر} [54: 50] ، والحاصل أن إنكارهم الإعادة بعد أن أقروا بالبداية تكذيب منهم له تعالى، والجملة حالية وعاملها قوله في "فقوله" وصاحبها الضمير المضاف إليه في قوله (اتخذ الله ولداً) أي اختاره سبحانه، وإنما كان ذلك شتماً لما فيه من التنقيص؛ لأن الولد إنما يكون أي عادة عن والدة تحمله ثم تضعه ويستلزم ذلك سبق نكاح، والتناكح يستدعي باعثاً له على ذلك، والله تعالى منَزه عن جميع ذلك (وأنا الأحد) أي المنفرد المطلق ذاتاً وصفاتاً، وقيل: إن أحداً وواحداً بمعنى، وأصل أحد وحد بفتحتين، وقيل: ليسا مترادفين بل بينهما فرق من حيث اللفظ والمعنى جميعاً من وجوه، ذكره القسطلاني في شرح البخاري نقلاً عن شرح المشكاة. والجملة حالية كما مر (الصمد) فعل بمعنى مفعول كالقنص والنقص، وهو السيد المصمود أي المقصود إليه في الحوائج، الغني عن كل أحد (لم ألد ولم أولد) لأنه لما كان الواجب الوجود لذاته قديماً موجوداً قبل وجود الأشياء وكان كل مولود محدثاً انتفت عنه الولدية، ولما كان لا يشبهه أحد من خلقه ولا يجانسه حتى يكون له من جنسه صاحبة فيتوالد انتفت عنه الوالدية. ومن هذا قوله: {أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة} [6: 102] . (ولم يكن لي كفواً) بضم الكاف والفاء وسكونها مع الهمزة وضمهما مع الواو، ثلاث لغات متواترات يعني مثلاً وهو خبر كان وقوله (أحد) اسمها أخر عن خبرها رعاية للفاصلة، ولي متعلق بكفواً وقدم عليه لأنه محط القصد بالنفي، ونفي الكفو يعم الوالدية والزوجية وغيرها، قال الطيبي: ذكر الله تعالى تكذيب ابن آدم وشتمه وعظمتهما، ولعمري أن أقل الخلق وأدناه إذا نسب ذلك إليه استنكف وامتلأ غضباً وكاد يستأصل قائله، فسبحانه ما أحمله وما أرحمه {وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلاً} [18: 57] ثم انظر إلى كل واحد من التكذيب والشتم وما يؤديان إليه من التهويل والفظاعة، أما الأول فإن منكر الحشر يجعل الله عزوجل كاذباً، والقرآن الذي هو مشحون بإثباته مفترى، ويجعل كلمة الله تعالى في خلق السموات والأرض عبثاً ولعباً. قال الله تعالى: {إن ربكم الله الذي خلق

21- (20) وفي رواية ابن عباس ـــــــــــــــــــــــــــــ السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرض يدبر الأمر} إلى قوله: {ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون} [10: 3، 4] علل الله خلق السماوات والأرض والاستواء على العرض لتدبير العالم بالجزاء من ثواب المؤمن وعقاب الكافر، ولا يكون ذلك إلا في القيامة، فيلزم منه أن لو لم يكن الحشر لكان ذلك عبثاً ولهواً. وقال تعالى: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين} [21: 16] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك. وأما الثاني فإن قائله يحاول إزالة المخلوقات بأسرها وتخريب السماوات من أصلها، قال تعالى: {تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً. أن دعوا للرحمن ولداً} [19: 90-91] ، ثم تأمل في مفردات التركيب لفظة لفظة فإن قوله (لم يكن له ذلك) من باب ترتيب الحكم على الوصف المناسب المشعر بالعلية؛ لأن قوله (لم يكن له ذلك) نفي الكينونة التي بمعنى الانتفاء، كقوله تعالى: {ما كان لكم أن تنبتوا شجرها} [27: 60] ، أراد أن تأتي ذلك محال من غيره تعالى ومنه قوله تعالى: {ما كان لنبي أن يغل} [3: 161] معناه: ما صح له ذلك، يعني أن النبوة تنافي الغلول، فحينئذٍ يجب أن يحمل لفظ ابن آدم على الوصف الذي يعلل الحكم به بحسب التلميح وإلا لم يكن لتخصيص لفظ ابن آدم دون الناس والبشر فائدة، وذلك من وجوه، أحدها: أنه تمليح إلى قوله: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} [7: 11] من الله تعالى عليهم بها، المعنى إنا أنعمنا عليكم بإيجادكم من العدم، وصورناكم في أحسن تقويم ثم أكرمنا الملائكة المقربين بالسجود لأبيكم لتعرفوا قدر الإنعام فتشكروا، فقلبتم الأمر فكفرتم ونسبتم المنعم المتفضل إلى الكذب، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} [56: 82] أي شكر رزقكم. وثانيها: تلميح إلى قوله تعالى: {أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين} [36: 77] المعنى أم تر أيها المكذب إلى أنا خلقناك من ماء مهين، خرجت من إحليل أبيك واستقرت في رحم أمك فصرت تخاصمني بحججك وبرهانك فيما أخبرت به من الحشر والنشر بالبرهان فأنت خصيم لي بين الخصومة، وما أحسن موقع المفاجأة التي يعطيها قوله تعالى: {فإذا هو خصيم مبين} . وثالثها إلى قوله تعالى: {أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم} [36: 81] المعنى أو ليس الذي خلق هذه الأجرام العظام بقادر على أن يخلق مثل هذا الجرم الصغير الذي خلق من تراب ثم من نطفة، وكذلك قوله: (أنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد) أوصاف مشعرة بعلية الحكم، أما قوله (الأحد) فإنه بنى لنفي ما يذكر معه من العدد، فلو فرض له ولد يكون مثله، فلا يكون أحداً، والصمد هو الذي يصمد إليه في الحوائج، فلو كان له ولداً لشركه فيه، فيلزم إذاًً فساد السماوات والأرض، وقوله (كفواً) أي صاحبة لا ينبغي له لأنه لو فرض له ذلك للزم منه الاحتياج إلى قضاء الشهوة، وكل ذلك وصف له بما فيه نقص وإزراء، وهذا معنى الشتم، والله أعلم – انتهى كلام الطيبي. 21- قوله: (وفي رواية ابن عباس) أي في هذا الحديث، قال الحافظ بعد ذكر الاختلاف بين روايتي أبي هريرة

وأما شتمه إياي فقوله: لي ولد، وسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولداً)) رواه البخاري. 22- (21) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال الله تعالى: ((يؤذيني ابن آدم يسب الدهر ـــــــــــــــــــــــــــــ وابن عباس: وهو محمول على أن كلاً من الصحابيين حفظ في آخره ما لم يحفظ الآخر (لي ولد) اسم جنس يشمل الذكر والأنثى (وسبحاني) وفي نسخة صحيحة بالفاء، وكذا في البخاري، وهو مضاف إلى ياء المتكلم، أي نزهت ذاتي (أن أتخذ) أي من أن أتخذ، وأن مصدرية (صاحبة) أي زوجة (أو ولداً) أو للتنويع لا للشك، ومناسبة الحديث لكتاب الإيمان من حيث إنكار الحشر والنشر ونسبة الولد إلى الله تعالى ضد للإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالله المنعوت في حديث جبريل. (رواه البخاري) عن أبي هريرة في بدء الخلق، وفي تفسير سورة الإخلاص، وعن ابن عباس في تفسير سورة البقرة، وأخرجه أحمد والنسائي أيضاً عن أبي هريرة. 22- قوله: (يؤذيني ابن آدم) أي يقول في حقي ما أكره، وينسب إلي ما لا يليق لي أو ما يتأذى به من يجوز في حقه التأذي، وهذا من المتشابهات، والله تعالى منَزه عن أن يلحقه أذى، إذ هو محال عليه، فإما أن يفوض أو يؤول كما تقدم، ويقال: هو من التوسع في الكلام، والمراد أن من وقع ذلك منه تعرض لسخط الله وغضبه. وقال الطيبي: الإيذاء إيصال المكروه إلى الغير قولاً أو فعلاً أثر فيه أو لم يؤثر، وإيذاء الله تعالى عبارة عن فعل ما يكرهه ولا يرضى به وكذا إيذاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وقال تعالى: {إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة} [33: 57] ، (يسب الدهر) بصيغة المضارع استئناف بيان، يعني يقول إذا أصابه مكروه من موت أو هرم أو تلف مال أو غير ذلك: تباً للدهر وبؤساً له ويا خيبة الدهر ونحو ذلك، والدهر اسم لمدة العالم من مبدأ تكوينه إلى انقراض العالم، كانت الجاهلية تضيف المصائب والنوائب للدهر الذي هو من الليل والنهار، وهم في ذلك فرقتان، فرقة لا تؤمن بالله ولا تعرف إلا الدهر الليل والنهار اللذان هما محل للحوادث وظرف لساقط الأقدار، فتنسب المكاره إليه على أنها من فعله، ولا ترى أن لها مدبراً غيره، وهذه الفرقة هي الدهرية من الكفار والفلاسفة الدورية المنكرين للصانع، المعتقدين أن في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه، وزعموا أن هذا قد تكرر مرات لا تتناهى، فكابروا المعقول وكذبوا المنقول، ولهذا قالوا: {وما يهلكنا إلا الدهر} [45: 24] أي مر الزمان وطول العمر واختلاف الليل والنهار، وفرقة تعرف الخالق وتنَزهه من أن تنسب إليه المكاره فتضيفها إلى الدهر والزمان، وعلى هذين الوجهين كانوا يسبون الدهر ويذمونه، وقد يقع من بعض عوام المؤمنين غفلة وجهالة، قال المحققون من نسب شيئاً من الأفعال إلى الدهر حقيقة كفر، ومن جرى هذا اللفظ على لسانه غير معتقد لذلك فليس بكافر لكنه يكره له ذلك لشبهه بأهل

وأنا الدهر بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار)) متفق عليه. 23- (22) وعن أبي موسى قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله، يدعون له ـــــــــــــــــــــــــــــ الكفر في الإطلاق (وأنا الدهر) برفع الراء، قيل: هو الصواب، ويؤيده الرواية التي فيها: ((فإن الله هو الدهر)) ، وهو مضاف إليه أقيم مقام المضاف، أي أنا خالق الدهر أو صاحب الدهر، فحذف اختصاراً للفظ وتوسعاً في المعنى، وقيل: التقدير مقلب الدهر ولذا عقبه بقوله: بيدي الأمر أقلب الليل والنهار، وقيل: الدهر في قوله (وأنا الدهر) غير الأول، فإنه بمعنى زمان مدة العالم من مبدأ التكوين إلى أن ينقرض العالم، والثاني مصدر بمعنى الفاعل ومعناه أنا الداهر المتصرف المدبر المفيض لما يحدث، واستضعف هذا القول لعدم الدليل عليه، وقيل: الأظهر في معناه أنا فاعل ما يضاف إلى الدهر من الخير والشر والمسرة والمساءة، فإذا سب ابن آدم الدهر من أجل أنه فاعل هذه الأمور عاد سبه إليّ؛ لأني فاعلها وإنما الدهر زمان جعلته ظرفاً لمواقع الأمور. قال عياض: زعم بعض من لا تحقيق له أن الدهر من أسماء الله تعالى، وهو غلط، فإن الدهر مدة زمان الدنيا، وقال ابن كثير: قد غلط ابن حزم ومن نحا نحوه من الظاهرية في عدهم الدهر من الأسماء الحسنى أخذاً من هذا الحديث – انتهى. ويروى بنصب الدهر على الظرفية، أي أنا المتصرف في الدهر، أو أنا مدة الدهر، أقلب ليله ونهاره، أو أنا باقٍ مقيم أبداً لا أزول (بيدي الأمر) بالإفراد وفتح الياء وتسكن، وجوز التثنية وفتح الياء المشددة للتأكيد والمبالغة، أي الأمور كلها خيرها وشرها حلوها ومرها مما تنسبونها إلى الدهر تحت تصرفي (أقلب الليل والنهار) ، وعند أحمد (ج2: ص496) بسند صحيح عن أبي هريرة: ((لا تسبوا الدهر فإن الله تعالى قال: أنا الدهر، الأيام والليالي لي أجددها وأبليها، وآتي بملوك بعد ملوك)) ، ولا تخفى مطابقة الحديث لكتاب الإيمان على من تأمل في معناه. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود. 23- قوله: (ما أحد أصبر) أي ليس أحد أشد صبراً، وهو حبس النفس على المكروه، والله تعالى منَزه عن ذلك، فالمراد لازمه وهو حبس العقوبة عن مستحقها إلى زمن آخر وتأخيرها أي ترك المعاجلة بالعقوبة، وقال الحافظ: أصبر: أفعل تفضيل من الصبر ومن أسمائه الحسنى الصبور، ومعناه: الذي لا يعاجل العصاة بالعقوبة، وهو قريب من معنى الحليم، والحليم أبلغ في السلامة من العقوبة (على أذى) قيل: إنه اسم مصدر آذى يؤذي بمعنى المؤذي، صفة محذوف أي كلام مؤذٍ قبيح صادر من الكفار (يسمعه) صفة أذى، وهو تتميم لأن المؤذى إذا كان بمسمع من المؤذي كان تأثير الأذى أشد، وهذا بالنسبة إلينا وإلا فالمسموع وغيره معلوم عنده تعالى (من الله) متعلق بقوله أصبر لا بيسمعه (يدعون له) بسكون الدال، وقيل بتشديدها أي ينسبون إليه، والجملة استئناف بيان للأذى، واستشكل بأن الله تعالى منَزه عن تعلق الأذى به؛ لكونه صفة نقص، وهو منَزه عن كل نقص، وأجيب بأن المراد أذى يلحق

الولد ثم يعافيهم ويرزقهم)) متفق عليه. 24- (23) وعن معاذ كنت ردف النبي - صلى الله عليه وسلم - على حمار ليس بيني وبينه إلا مؤخرة الرحل، فقال: ((يا معاذ هل تدري ـــــــــــــــــــــــــــــ رسله وصالحي عباده، إذ في إثبات الولد له إيذاء لهم؛ لأنه تكذيب لهم في نفي الصاحبة والولد عن الله وإنكاره لمقالتهم، فأضيف الأذى لله تعالى للمبالغة في الإنكار عليهم والاستعظام لمقالتهم (ثم يعافيهم) بدفع المكاره والبليات والمضرات عنهم (ويرزقهم) السلامة وأصناف الأموال، ولا يعجل تعذيبهم، فهو أصبر على الأذى من الخلق، لكن لا يؤخر النقمة قهراً بل تفضلاً مع القدرة على الانتقام، وفي الحديث إشارة إلى أن الصبر على احتمال الأذى محمود، وترك الانتقام ممدوح، ولهذا كان جزاء كل عمل محصوراً وجزاء الصبر غير محصور، قال تعالى: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} [39: 10] (متفق عليه) أخرجه البخاري في التوحيد باللفظ الذي ذكره المصنف، إلا أن فيه سمعه بصيغة الماضي مكان قوله "يسمعه"، وأخرجه أيضاً في الأدب، وأخرجه مسلم في باب الكفار من كتاب صفة القيامة، وأخرجه النسائي في النعوت. 24- قوله: (عن معاذ) بضم الميم هو معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس بن عائذ بن عدي الأنصاري الخزرجي، أبوعبد الرحمن المدني، أسلم وهو ابن ثمان عشرة سنة، وشهد بدراً وما بعدها، وكان إليه المنتهى في العلم بالأحكام والقرآن، روى الترمذي وغيره عن أبي قلابة عن أنس مرفوعاً في ذكر بعض الصحابة: وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً ومتصلاً: ((يأتي معاذ يوم القيامة أمام العلماء برتوة)) ، وقال ابن مسعود: كنا نشبهه بإبراهيم – عليه السلام -، وكان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين، وقال الأعمش عن أبي سفيان حدثني أشياخ لنا فذكر قصة فيها فقال عمر: عجزت النساء أن تلدن مثل معاذ، لولا معاذ لهلك عمر، وبعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - قاضياً ومعلماً إلى اليمن، وقال أبونعيم في الحلية: إمام الفقهاء وكنْز العلماء، شهد العقبة وبدراً والمشاهد وكان من أفضل شباب الأنصار حلماً وحياء وسخاء وكان جميلاً وسيماً، ومناقبه كثيرة جداً، روى عنه خلق من الصحابة والتابعين، له مائة وسبعة وخمسون حديثاً، اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بثلاثة ومسلم بحديث، قدم اليمن في خلافة أبي بكر، وكانت وفاته بالطاعون في الشام سنة سبع عشرة أو التي بعدها، وهو قول الأكثر، وعاش أربعاً وثلاثين سنة، وقيل غير ذلك (كت ردف النبي - صلى الله عليه وسلم -) الردف بكسر الراء وسكون الدال، والرديف: الراكب خلف الراكب بإذنه، وردف كل شيء مؤخره، وأصله من الركوب على الردف وهو العجز، ولهذا قيل للراكب الأصلي: ركب صدر الدابة، وردفت الرجل إذا ركبت وراءه وأردفته إذا أركبته وراءك (على حمار) اسمه عفير تصغير أعفر، أهداه المقوقس أو فرزة بن عمرو (ليس بيني وبينه إلا مؤخرة الرحل) بفتح الراء وسكون الحاء المهملة، وهو للبعير كالسرج للفرس، والمراد قدر مؤخرة الرحل

ما حق الله على عباده، وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ قاله النووي، والمؤخرة: هي العود التي يجعل خلف الراكب يستند إليه، بضم الميم وسكون الهمزة بعدها خاء مكسورة، وقد تفتح، وفيه لغة أخرى بفتح الهمزة والخاء المشددة المكسورة وقد تفتح، وفائدة ذكره المبالغة في شدة قربه؛ ليكون أرقع في نفس سامعه أنه ضبط ما رواه (ما حق الله على عباده، وما حق العباد على الله) قال الطيبي: الحق نقيض الباطل؛ لأنه ثابت والباطل زائل، ويستعمل في الواجب واللازم والجدير والنصيب والملك، وحق الله تعالى بمعنى الواجب واللازم، وحق العباد بمعنى الجدير لأن الإحسان إلى من لم يتخذ رباً سواه جدير في الحكمة أن يفعله، قال هذا هو الوجه، وقيل: حق العباد على الله تعالى ما وعدهم به من الثواب والجزاء، ومن صفة وعده أن يكون واجب الإنجاز فهو حق بوعده الصدق، وقوله الحق الذي لا يجوز عليه الكذب في الخبر ولا الخلف في الوعد، أو المراد أنه كالواجب في تحققه وتأكده، أو قال حقهم على الله على جهة المقابلة والمشاكلة لحقه عليهم، فالله تعالى لا يجب عليه شيء بحكم الأمر، إذ لا آمر فوقه، ولا حكم للعقل لأنه كاشف لا موجب، قال الحافظ: وتمسك بعض المعتزلة بظاهره ولا متمسك لهم مع قيام الاحتمال (قال: فإن) أي إذا فوضت فاعلم أن (حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً) المراد بالعبادة عمل الطاعات واجتناب المعاصي، عطف عليها عدم الإشراك لأنه تمام التوحيد، والحكمة في عطفه على العبادة أن بعض الكفرة كانوا يدعون أنهم يعبدون الله، ولكنهم يعبدون آلهة أخرى، فاشترط نفي ذلك، والجملة حالية، والتقدير: يعبدونه في حال عدم الإشراك به، قال ابن حبان: عبادة الله إقرار باللسان وتصديق بالقلب وعمل الجوارح، ولهذا قال في الجواب: فما حق العباد إذا فعلوا ذلك؟ فعبر بالفعل ولم يعبر بالقول كذا في الفتح (وحق العباد) بالنصب ويجوز رفعه (أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً) من الأشياء أو الإشراك، وفي رواية لمسلم: ((أتدري ما حقهم عليه إذا فعلوا ذلك؟)) والإشارة إلى ما تقدم من قوله: يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وفي رواية للبخاري: ((إذا فعلوه)) ، قال القاري: أي لا يعذبهم عذاباً مخلداً، فلا ينافي دخول جماعة النار من عصاة هذه الأمة كما ثبت به الأحاديث الصحيحة – انتهى. قلت: لا حاجة إلى هذا التأويل فإن عدم التعذيب إنما هو لمن عبده ولم يشرك به شيئاً، والمراد بالعبادة عمل الطاعات واجتناب المعاصي مع الإقرار باللسان والتصديق بالقلب كما علمت، ومن كان كذلك لا يعذب مطلقاً ويدخل الجنة أولاً معافى، ومن هاهنا ظهر أن الوعد المذكور في الحديث إنما هو بعد ملاحظة جميع ما ورد في الشرع من الأوامر والنواهي، ومراعاة جميع الفرائض والواجبات الشرعية، ثم الاتكال فيما وراء ذلك من فضائل الأعمال وفواضلها أي السنن والنوافل، وهذا لأن الإنسان أرغب في دفع المضرة من جلب المنفعة،

قلت: يا رسول الله أفلا أبشر به الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا)) متفق عليه. 25- (24) وعن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومعاذ رديفه على الرحل، قال: يا معاذ! قال: ((لبيك يا رسول الله ـــــــــــــــــــــــــــــ فإذا علم أن الإقرار والتصديق والعمل بالفرائض والاجتناب عن المعاصي يكفي له في نجاته من العذاب وتخليصه منه ذهب يقنع ويتكاسل عن السنن والمستحبات ولا يجتهد في تحصيل الدرجات العليا، وهذا أمر كأنه جبل عليه، ولا شك أن الاكتفاء بالفرائض والواجبات والتقاعد عن السنن والنوافل نقيصة وحرمان عن المدارج العالية، فمنع النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذاً أن يخبر به لئلا يتكلوا وليجتهدوا في معالي الأمور، والدليل على أن المراد من الاتكال الآتي في الحديث الاتكال عن السنن والنوافل ما رواه الترمذي في صفة الجنة عن معاذ بن جبل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من صام رمضان وصلى الصلاة وحج البيت – لا أدري أذكر الزكاة أم لا – إلا كان حقاً على الله أن يغفر له إن هاجر في سبيل الله أو مكث بأرضه التي ولد بها، قال معاذ: ألا أخبر بها الناس؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ذر الناس يعملون فإن في الجنة مائة درجة، والفردوس أعلا الجنة وأوسطها، قال: فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس)) ، ففيه ذكر الفرائض أيضاً والتحريض على الدرجة العلياء، ويدل عليه أيضاً ما رواه أحمد عن معاذ، وسيأتي في آخر الفصل الثالث، فظهر أنه لم يرد في الحديث المجمل الاتكال عن الفرائض كيف وترك الفرائض لا يرجى من عوام المؤمنين وشأن الصحابة أرفع. (أفلا أبشر به الناس) الهمزة للاستفهام، ومعطوف الفاء محذوف، تقديره: أقلت ذلك فلا أبشر، وبهذا يجاب عما قيل إن الهمزة تقضي الصدارة والفاء تقتضي عدم الصدارة فما وجه جمعهما؟ قاله العيني. وقال القاري: الفاء في جواب الشرط المقدر أي إذا كان كذلك أفلا أبشرهم بما ذكرت من حق العباد، والبشارة: إيصال خبر إلى أحد يظهر أثر السرور منه على بشرته، وأما قوله: {فبشرهم بعذاب أليم} ، فمن الاستعارة التهكمية (لا تبشرهم) بذلك (فيتكلوا) منصوب في جواب النهي بتقدير أن بعد الفاء أي يعتمدوا ويتركوا الاجتهاد في حق الله تعالى، فالنهي منصب على السبب والمسبب معاً أي لا يكن منك تبشير فاتكال منهم، قال الطيبي: وإنما رواه معاذ مع كونه منهياً لأنه علم أن هذا الإخبار يتغير بتغير الأزمان والأحوال، والقوم يومئذٍ كانوا حديثي عهد بالإسلام ولم يعتادوا بتكاليفه، فلما استقاموا وتثبتوا أخبرهم به بعد ورود الأمر بالتبليغ والوعيد على الكتمان والتضييع، ثم إن معاذاً مع جلالة قدره لم يخف عليه ثواب من نشر علماً، ووبال من كتمه ضناً فرأى التحديث به واجباً، ويؤيده ما ورد في الحديث الذي يتلوه: فأخبر به معاذ عند موته تأثماً. انتهى (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجهاد وفي الاستئذان وفي الرقاق وفي التوحيد، وأخرجه مسلم والترمذي في الإيمان وأبوداود في الجهاد مختصراً. 25- قوله: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعاذ رديفه على الرحل) أي راكب خلفه - صلى الله عليه وسلم -، والجملة حالية معترضة بين اسم أن وخبرها، والرحل أكثر ما يستعمل في البعير لكن معاذاً كان في تلك الحالة رديفه على حمار كما مر، فيأول بما تقدم في كلام النووي (قال: يا معاذ) في محل الرفع لأنه خبر أن المتقدمة (لبيك) بفتح اللام مثنى مضاف بني للتكرير والتكثير من

وسعديك، قال: يا معاذ! قال: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: يا معاذ! قال: لبيك يا رسول الله وسعديك – ثلاثاً -، قال: ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ غير حصر، من لب أي أجاب أو أقام، أي أجبت لك إجابة بعد إجابة، أو أقمت على طاعتك إقامة بعد إقامة، وكان حقه أن يقال لبالك فثنى على معنى التأكيد، وقال العيني: قال ابن الأنباري: في لبيك أربعة أقوال، أحدها: إجابتي لك، مأخوذ من لب بالمكان وألب به: إذا أقام به، وقالوا: لبيك فثنوا لأنهم أرادوا إجابة بعد إجابة كما قالوا حنانيك أي رحمة بعد رحمة، والثاني: اتجاهي يا رب وقصدي لك، فثنى للتأكيد أخذاً من قولهم داري تلب دارك أي تواجهها، والثالث: محبتي لك يا رب، من قول العرب امرأة لبة إذا كانت محبة لولدها عاطفة عليه. الرابع: إخلاصي لك يا رب، من قولهم: حسب لباب إذا كان خالصاً محضاً، ومن ذلك لب الطعام ولبابه (وسعديك) تثنية سعد، والمعنى أنا مسعد طاعتك إسعاداً بعد إسعاد، فثنى للتأكيد وتكرير النداء بقوله (يا معاذ) لتأكيد الاهتمام بما يخبر به وليكمل تنبيه معاذ فيما يسمعه، فيكون أوقع في النفس وأشد في الضبط والحفظ (ثلاثاً) أي قيلاً ثلاثاً، وهو يتعلق بقول كل واحد من النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعاذ أي وقع هذا النداء والجواب ثلاث مرات (ما من أحد) من زائدة لاستغراق النفي، وأحد مبتدأ وصفته قوله (يشهد) وخبر المبتدأ قوله: إلا حرمه الله على النار، وهو استثناء مفرغ أي ما من أحد يشهد محرم على شيء إلا محرماً على النار، والتحريم بمعنى المنع، قاله القاري. وقال العيني: كلمة ما للنفي، وكلمة من زائدة لتأكيد النفي، وأحد اسم ما ويشهد خبرها وأن مفسرة، وإلا حرمه الله على النار استثناء من أعم عام الصفات، أي ما أحد يشهد كائناً بصفة التحريم، انتهى. فتأمل (صدقاً) يجوز أن يكون حالاً عن فاعل يشهد بمعنى صادقاً، أو يكون صفة مصدر محذوف أي شهادة صدقاً، وقال القاري: هو مصدر فعل محذوف أي يصدق صدقاً، وقوله (من قلبه) صفة صدقاً؛ لأن الصدق قد لا يكون من قلب أي اعتقاد كقول المنافقين: {إنك لرسول الله} ، وقال العيني: قوله من قلبه يجوز أن يتعلق بقوله صدقاً، أي يشهد بلفظه ويصدق بقلبه، فالشهادة لفظية، ويجوز أن يتعلق بقوله يشهد، فالشهادة قلبيه أي يشهد بقلبه ويصدق بلسانه، قال السندهي: الشهادة فعل اللسان، وفعل القلب لا يسمى شهادة، فجعل من قلبه متعلقاً بيشهد على معنى أنه يشهد بالقلب غير ظاهر، نعم يمكن جعله متعلقاً به على معنى شهادة ناشئة من مؤاطاة قلبه، لكن لا يبقى حينئذٍ لقوله صدقاً كثير فائدة – انتهى. (إلا حرمه الله على النار) ظاهر هذا يقتضي عدم دخول جميع من شهد الشهادتين النار لما فيه من التعميم والتأكيد، وهو مصادم للأدلة القطعية الدالة على دخول طائفة من عصاة الموحدين النار ثم يخرجون بالشفاعة، وقد أجيب عنه بأجوبة، منها أن ذلك لمن قالها عند الندم والتوبة ومات على ذلك قبل أن يتمكن من الإتيان بفرض آخر، وهذا قول البخاري، ومنها أن المراد بالتحريم تحريم الخلود لا أصل الدخول، ومنها أنه خرج مخرج الغالب إذ الغالب

قال: يا رسول الله! أفلا أخبر به الناس فيستبشروا؟ قال: إذاً يتكلوا)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ أن الموحد يعمل بالطاعات ويجتنب المعاصي، ومنها أن ذلك لمن قال الكلمة وأدى حقها وفريضتها ليكون الامتثال والانتهاء مندرجين تحت الشهادة، وهذا قول الحسن، ومنها أن المراد تحريم جملته؛ لأن النار لا تأكل موضع السجود من المسلم وكذا لسانه الناطق بالتوحيد، ومنها أن معناه حرمه الله على النار الشديدة المؤبدة التي أعدها للكافرين وإن عمل الكبائر، وقد أوضحه الشاه ولي الله في حجة الله، ومنها أن ذلك يختص لمن أخلص، والإخلاص يقتضي تحقيق القلب بمعناها، ولا يتصور حصول التحقيق مع الإصرار على المعصية لامتلاء القلب بمحبة الله تعالى وخشيته، فتنبعث الجوارح إلى الطاعة وتنكف عن المعصية، ومنها ما قاله الطيبي: إن قوله صدقاً أقيم هنا مقام الاستقامة؛ لأن الصدق يعبر به قولاً عن مطابقة القول المخبر عنه، ويعبر به فعلاً عن تحري الأخلاق المرضية كقوله تعالى: {والذي جاء بالصدق وصدق به} [39: 32] ، أي حقق ما أورده قولاً بما تحراه فعلاً – انتهى. وحاصل ما قال: إن ذلك مقيد بمن عمل الأعمال الصالحة، قال ولأجل خفاء ذلك لم يؤذن لمعاذ في التبشير به، ومنها أنه مقيد بوجود شرائط وارتفاع موانع كما ترتب الأحكام على أسبابها المقتضية المتوقفة على انتفاء الموانع، فإذا تكامل ذلك عمل المقتضى علمه، وإنما يذكر الكلام في مواقع الوعد والبشارة مرسلاً مع كون الشرائط والموانع معتبرة وملحوظة هناك لظهوره، ولأن المناسب للبشارة الإجمال والإبهام، فلا يتعرض فيها لتحقق الشرائط وانتفاء الموانع واستيفاء الأمور الواجبة، والحاصل أن الامتثال بالطاعات والاجتناب عن المعاصي مراعى هاهنا، وإن لم يذكر في العبارة، وهذا لأنه - صلى الله عليه وسلم - قد كان فرغ من ذكر أكثر الفرائض والمناهي، وتفصيلها واحدة واحدة، والترغيب في الطاعات طاعة طاعة، والترهيب في المعاصي معصية معصية؛ لأن مثل هذا الحديث وقع لأبي هريرة كما رواه مسلم، وصحبته متأخرة عن نزول أكثر الفرائض، كذا ورد نحوه من حديث أبي موسى رواه أحمد بإسناد حسن، وكان قدومه في السنة التي قدم فيها أبوهريرة، فاستغنى عن ذكرها في كل مرة؛ لأنه قد بين لهم أن الأعمال الصالحة لابد منها في الإيمان، وأن المعاصي مضرة موجبة لسخط الله، فحصلت غنية عن تكريرها في كل موضع لكون المعلوم كالمذكور، وإنما خص كلمة الشهادتين بالذكر من بين أجزاء الإيمان لكونها أصلاً وأساساً للكل ومداراً للحياة الأبدية، وحاصل الكلام أن تحريم النار وإن حصل بالمجموع لكنه خص من هذا المجموع ما كان أهم من بينها وهو الكلمة، فهي كأصل الشجرة فإنه لا حياة لها بدون الأصل، وهو أحسن الأجوبة عندي، وهو نحو قول الحسن البصري. (فيستبشروا) بحذف النون؛ لأن الفعل ينصب بعد الفاء المجاب بها بعد النفي والاستفهام والعرض والتقدير: فأن يستبشروا أي يفرحوا بأن يظهر أثر السرور على بشرتهم (إذاً يتكلوا) بتشديد المثناة الفوقية وكسر الكاف، وإذا حرف جواب وجزاء، وقد يستعمل لمحض الجواب كما هنا، أي لا تخبرهم بذلك لأنك إن أخبرتهم يعتمدوا على الكلمة والفرائض ويتركوا فضائل الأعمال وفواضلها من السنن والنوافل فينجروا

فأخبر بها معاذ عند موته تأثماً)) متفق عليه 26- (25) وعن أبي ذر قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه ثوب أبيض وهو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى نقصان درجاتهم وتنَزل حالاتهم، وهذا حكم الأغلب من العوام وإلا فالخواص كلما بشروا ازدادوا في العبادة، فتضمن هذا الحديث أنه يخص بالعلم قوم فيهم الضبط وصحة الفهم، ولا يبذل المعنى اللطيف لمن لا يستأهله، ومن يخاف عليه الترخص والاتكال لتقصير فهمه. (فأخبر بها) أي بهذه البشارة (عند موته) أي موت معاذ (تأثماً) مفعول له، وهو بفتح الهمزة وتشديد المثلثة المضمومة، أي تجنباً وتحرزاً عن الوقوع في إثم كتمان العلم، إذ في الحديث: ((من كتم علماً ألجم بلجام من نار)) ، فإن قلت: سلمنا أنه تأثم من الكتمان، فكيف لا يتأثم من مخالفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التبشير؟ أجيب بأن النهي كان مقيداً بالاتكال، فأخبر به من لا يخشى عليه ذلك، وإذا زال القيد زال المقيد، أو أن معاذاً عرف أنه لم يكن المقصود من النهي التحريم بل هو محمول على التنْزيه وإلا لما كان يخبر به أصلاً، والحاصل أنه اطلع على أن النهي للمصلحة لا للتحريم، فلذلك أخبر لعموم الآية بالتبليغ، والله أعلم (متفق عليه) أخرجه البخاري في أواخر العلم، ومسلم في الإيمان، وهو من مسند أنس، ذكر فيه حكم الشهادتين، والذي قبله من مسند معاذ، ذكر فيه ما يتعلق بحق الله على العباد، قال الحافظ في شرح حديث معاذ المتقدم في باب اسم الفرس والحمار من كتاب الجهاد ما لفظه: تقدم في العلم من حديث أنس بن مالك أيضاً لكن فيما يتعلق بشهادة أن لا إله إلا الله، وهذا فيما يتعلق بحق الله على العباد، فهما حديثان، ووهم الحميدي ومن تبعه حيث جعلوهما حديثاً واحداً، نعم وقع في كل منهما منعه - صلى الله عليه وسلم - أن يخبر بذلك الناس لئلا يتكلوا، ولا يلزم من ذلك أن يكونا حديثاً واحداً، وزاد في الحديث الذي في العلم: فأخبر به معاذ عند موته تأثماً، ولم يقع ذلك هنا – انتهى. 26- قوله: (عن أبي ذر) الغفاري الزاهد المشهور الصادق اللهجة، في اسمه أقوال أشهرها جندب بن جنادة، كان من كبار الصحابة قديم الإسلام، يقال: أسلم بمكة بعد أربعة فكان خامساً في الإسلام ثم انصرف إلى بلاد قومه فأقام بها حتى قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة بعد الخندق، وله في إسلامه خبر حسن ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب، والحافظ في الإصابة، روي مرفوعاً: ((ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر)) ، حسنه الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وقال أبوداود: كان يوازي ابن مسعود في العلم، ومناقبه وفضائله كثيرة جداً، روي له مائتا حديث وأحد وثمانون حديثاً، اتفقا على اثني عشر، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بتسعة عشر، سكن الربذة إلى أن مات بها سنة (32) في خلافة عثمان، وكان يتعبد قبل أن يبعث النبي - صلى الله عليه وسلم -، روى عنه خلق كثير من الصحابة والتابعين. (أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه ثوب أبيض) حال من النبي - صلى الله عليه وسلم - (وهو نائم) عطف على الحال (ثم أتيته وقد استيقظ) حال من الضمير المنصوب، وفائدة ذكر الثواب والنوم والاستيقاظ تقرير التثبت والإتقان فيما يرويه في

فقال: ((ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق؟ قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، ـــــــــــــــــــــــــــــ آذان السامعين ليتمكن في قلوبهم (ما من عبد قال لا إله إلا الله) وإنما لم يذكر "محمد رسول الله" لأنه معلوم أنه بدونه لا ينفع (ثم مات على ذلك) أي الإقرار والاعتقاد، وثم للتراخي في الرتبة؛ لأن العبرة بالخواتيم، وفيه إشارة إلى الثبات على الإيمان حتى الموت احترازاً عمن ارتد ومات عليه، فحينئذٍ لا ينفع إيمانه السابق (إلا دخل الجنة) استثناء مفرغ، أي لا يكون له حال من الأحوال إلا حال استحقاق دخول الجنة، قال الحافظ: ليس في قوله ((دخل الجنة)) من الإشكال ما تقدم في السياق الماضي، أي في حديث أنس المتقدم؛ لأنه أعم من أن يكون قبل التعذيب أو بعده – انتهى. ففيه إشارة إلى أنه مقطوع له بدخول الجنة، لكن إن لم يكن صاحب كبيرة مات مصراً عليها دخل الجنة أولاً، وإن كان صاحب كبيرة مات مصراً عليها فهو تحت المشيئة، فإن عفى عنه دخل أولاً وإلا عذب بقدرها ثم أخرج من النار وخلد في الجنة، كذا قرروا في شرح الحديث، والظاهر أن الذي مات على التوحيد موعود بهذا الحديث بدخول الجنة ابتداءً، وقد تقدم أن الائتمار بالطاعات والانتهاء عن المعاصي مراعى في هذه الأحاديث، ورفع الموانع وتحقق الشرائط ملحوظ ومعتبر في مواقع الوعد والوعيد، وإنما ذكر الكلام مرسلاً من غير تعرض للقيود لكونها معلومة، ولأن المناسب في حق الوعد والبشارة هو الإجمال والإبهام، وهذا كقولهم "من توضأ صحت صلاته" أي مع سائر الشرائط والأركان، وعلى هذا معنى الحديث: إن من مات مؤمناً بجميع ما يجب الإيمان به مؤتمراً بالطاعات ومحترزاً عن المعاصي دخل الجنة ابتداءً، والله أعلم. (قلت: وإن زنى وإن سرق) قال ابن مالك: حرف الاستفهام في أول هذا الكلام مقدر، ولابد من تقديره أي أدخل الجنة وإن زنى وإن سرق؟ وقال غيره: التقدير: أو إن زنى أو إن سرق دخل الجنة، وتسمى هذه الواو واو المبالغة، و"إن" بعدها وصلية، وجزاءها محذوف لدلالة ما قبلها عليه، قاله القاري. (قال: وإن زنى وإن سرق) أي وإن ارتكب كل كبيرة فلابد من دخوله الجنة إما ابتداءً إن عفي عنه، أو بعد دخوله النار حسبما نطقت به الأخبار، وإنما ذكر من الكبائر نوعين ولم يقتصر على واحد؛ لأن الذنب إما حق الله وهو الزنا، أو حق العباد وهو أخذ مالهم بغير حق، وفي تكريره أيضاً معنى الاستيعاب والعموم كقوله تعالى: {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً} [19: 62] أي دائماً، قاله الطيبي، وفيه دليل على أن الكبيرة لا تسلب اسم الإيمان فإن من ليس بمؤمن لا يدخل الجنة وفاقاً، وأنها لا تحبط الطاعات لتعميمه - صلى الله عليه وسلم - الحكم وعدم تفصيله، وأن صاحبها لا يخلد في النار، وأن عاقبته دخول الجنة، ففيه رد على الخوارج والمعتزلة الذي يدعون وجود خلود من مات من مرتكبي الكبائر من غير

على رغم أنف أبي ذر)) ، وكان أبوذر إذا حدث بهذا قال: وإن رغم أنف أبي ذر، متفق عليه. 27- (26) وعن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، ـــــــــــــــــــــــــــــ توبة في النار (على رغم أنف أبي ذر) بفتح الراء وضمها وكسرها - أي كراهة منه (وإن رغم أنف أبي ذر) بكسر الغين وقيل بالفتح والضم، أي لصق بالرغام - بفتح الراء - وهو التراب، ويستعمل مجازاً بمعنى كره أو ذل، إطلاقاً لاسم السبب على المسبب، وأما تكرير أبي ذر فلاستعظام شأن دخول الجنة مع اقتراف الكبائر وتعجبه منه؛ وذلك لشدة نفرته من معصية الله تعالى وأهلها، وأما تكريره - صلى الله عليه وسلم - فلإنكار استعظامه وتحجيره واسعاً، أي أتبخل يا أباذر برحمة الله، فرحمة الله واسعة على خلقه وإن كرهت ذلك، وأما حكاية أبي قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رغم أنف أبي ذر فللتشرف والافتخار (متفق عليه) أخرجه البخاري في اللباس، ومسلم في الإيمان، وأخرجه أحمد (ج5: ص166) وابن حبان وغيرهما أيضاً. 27- قوله: (وأن عيسى عبد الله) قال النووي: هذا حديث عظيم الموقع، وهو من أجمع الأحاديث المشتملة على العقائد، فإنه جمع فيه ما يخرج عنه جميع ملل الكفر على اختلاف عقائدهم وتباعدهم، وقال الطيبي: في ذكر عيسى تعريض بالنصارى وإيذان بأن إيمانهم مع قولهم بالتثليث شرك محض، وكذا قوله (عبده ورسوله) تعريض باليهود في إنكارهم رسالته وانتمائهم إلى ما لا يحل من قذفه أمه (وابن أمته) تعريض بالنصارى وتقرير لعبديته، أي هو عبدي وابن أمتي، كيف ينسبونه إلى البنوة؟ وتعريض باليهود ببراءة ساحته من قذفهم، فالإضافة في أمته إذاً للتشريف، (وكلمته) إشارة إلى أنه حجة الله على عباده، أبدعه من غير أب، وأنطقه في غير أوانه، وأحيى الموتى على يده، فالإضافة للتشريف، وقيل: سمي بكلمة الله لأنه أوجده بقوله {كن} ، فلما كان بكلامه سمي به، وقيل لما انتفع بكلامه سمي به، كما يقال: فلان سيف الله وأسد الله، وقيل: لما قال في صغره: {إني عبد الله} (ألقاها إلى مريم) استئناف بيان، أي أوصلها الله تعالى إليها وحصلها فيها (وروح منه) قيل: سماه بالروح لما كان له من إحياء الموتى بإذن الله، فكان كالروح، أو لأنه ذو روح وجد من غير جزء من ذي روح كالنطفة المنفصلة عن حي وإنما اخترع اختراعاً من عند الله تعالى، قال الطيبي: الإضافة في أمته للتشريف، وعلى هذا تسميته بالروح ووصفه بقوله ((منه)) إشارة إلى أنه – عليه الصلاة والسلام – مقربه وحبيبه، وتعريض باليهود بحطهم من منْزلته، وتنبيه للنصارى على أنه مخلوق من المخلوقات، وهذا كقوله تعالى: {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً} [45: 13] ، فمعنى قوله "روح منه" أي كائن منه وحاصل

والجنة والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)) متفق عليه. 28- (27) وعن عمرو بن العاص ـــــــــــــــــــــــــــــ من عنده وهو خالقه وموجده بقدرته، كما أن معنى الآية أنه سخر هذه الأشياء كائنة منه وحاصلة من عنده، أي أنه مكون كل ذلك وموجده بقدرته وحكمته ثم سخره لخلقه (والجنة) منصوب ويرفع (والنار حق) مصدر مبالغة في الحقية، وإنهما عين الحق، كزيد عدل، أو صفة مشبهة أي ثابت، وأفرد لأنه مصدر أو لإرادة كل واحدة منهما، وفيه تعريض بمن ينكر دار الثواب والعقاب (أدخله الله الجنة) ابتداءً وانتهاءً، والجملة جواب الشرط أو خبر المبتدأ (على ما كان) حال من ضمير المفعول من قوله "أدخله الله" أي كائناً على ما كان عليه موصوفاً به (من العمل) من صلاح أو فساد، لكن أهل التوحيد لابد لهم من دخول الجنة، ويحتمل أن يكون معنى قوله "على ما كان من العمل" أي يدخل أهل الجنة الجنة على حسب أعمال كل منهم في الدرجات، كذا في الفتح، قال القسطلاني: في الحديث أن عصاة أهل القبلة لا يخلدون في النار لعموم قوله: ((من شهد أن لا إله إلا الله)) ، وأنه تعالى يعفو عن السيئات قبل التوبة واستيفاء العقوبة؛ لأن قوله (على ما كان من العمل) حال من قوله (أدخله الله الجنة) ، ولا ريب أن العمل غير حاصل حينئذٍ بل الحاصل حال إدخاله استحقاق ما يناسب عمله من الثواب والعقاب، لا يقال: إن ما ذكر يستدعي أن لا يدخل أحد من العصاة النار؛ لأن اللازم منه عموم العفو وهو لا يستلزم عدم دخول النار؛ لجواز أن يعفو عن بعضهم بعد الدخول وقبل استيفاء العذاب، وقال الطيبي: التعريف في العمل للعهد والإشارة به إلى الكبائر، يدل له نحو قوله "وإن زنى وإن سرق" في حديث أبي ذر، وقوله (على ما كان) حال، والمعنى: من شهد أن لا إله إلا الله يدخل الجنة في حال استحقاقه العذاب بموجب أعماله من الكبائر، أي حال هذا مخالفة للقياس في دخول الجنة، فإن القياس يقتضي أن لا يدخل الجنة من شأنه هذا كما زعمت المعتزلة، وإلى هذا المعنى ذهب أبوذر في قوله ((وإن زنى وإن سرق)) ، ورد بقوله: ((وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر)) – انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الأنبياء، ومسلم في الإيمان، وأخرجه أيضاً أحمد في مسنده (ج5: ص314) ، والنسائي في التفسير وفي اليوم والليلة. 28- قوله: (وعن عمرو) بالفتح (بن العاص) بن وائل السهمي القرشي، أسلم عام الحديبية، وأمّره النبي - صلى الله عليه وسلم - على جيش ذات السلاسل ثم استعمله على عمان فقبض النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أميرها، وكان أحد أمراء الأجناد في فتوح الشام، وافتتح مصر في عهد عمر بن الخطاب وعمل عليها له ولعثمان ثم عمل عليها زمن معاوية منذ غلب عليها معاوية إلى أن مات عمرو، أخرج أحمد من حديث ابن أبي مليكة عن طلحة أحد العشرة رفعه: ((عمرو بن العاص من صالحي قريش)) ورجال سنده ثقات إلا أن فيه انقطاعاً بين ابن أبي مليكة وطلحة، وقال مجاهد عن الشعبي: دهاة العرب في الإسلام أربعة، فعدّ منهم عمراً، وقال فأما عمرو فللمعضلات، وقال أبوعمر: كان عمرو من أبطال قريش في الجاهلية

قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: أبسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه فقبضت يدي، فقال: ما لك يا عمرو؟ قلت: أردت أن أشترط، قال تشترط ماذا؟ قلت: أن يغفر لي، قال: أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة ـــــــــــــــــــــــــــــ مذكوراً بذلك فيهم، وفضائله ومناقبه كثيرة جداً، قال الخزرجي: له تسعة وثلاثون حديثاً، اتفقا على ثلاثة، وانفرد البخاري بطرف حديث، ومسلم بحديثين، مات بمصر سنة (43) وله (90) سنة، ودفن بالمقطم، وخلف أموالاً جزيلة، واعلم أنهم اختلفوا في لفظ العاصي المذكور هل هو بالياء أو بدونها؟ قال الزرقاني في شرح الموطأ: بالياء وبحذفها والصحيح بالياء، وقال في شرح المواهب: العاص بالياء وحذفها، والصحيح الأول عند أهل العربية، وهو قول الجمهور كما قال النووي وغيره، وفي تبصير المنتبه قال النحاس: سمعت الأخفش يقول: سمعت المبرد يقول: هو بالياء لا يجوز حذفها، وقد لهجت العامة بحذفها، قال النحاس: هذا مخالف لجميع النحاة يعني أنه من الأسماء المنقوصة فيجوز فيه إثبات الياء وحذفها، كذا في التعليق الممجد، وقال القاري: الأصح عدم ثبوت الياء إما تخفيفاً أو بناءً على أنه أجوف، ويدل عليه ما في القاموس: الأعياص من قريش أولاد أمية بن عبد شمس الأكبر، وهم العاص وأبوالعاص والعيص وأبوالعيص، فعلى هذا لا يجوز كتابة العاص بالياء ولا قراءته بها لا وقفاً ولا وصلاً، فإنه معتل العين، بخلاف ما يتوهم بعض الناس أنه اسم فاعل من عصى، فحينئذٍ يجوز إثبات الياء وحذفه وقفاً ووصلاً بناءً على أنه معتل اللام – انتهى. (ابسط يمينك) أي افتحها ومدها (فلأبايعك) بكسر اللام وفتح العين على الصحيح، والتقدير لأبايعك تعليلاً للأمر والفاء مقحمة، وقيل: بضم العين، والتقدير فأنا أبايعك، وأقحم اللام توكيداً، ويحتمل وجوهاً أخرى، ذكرها القاري، (فقبضت يدي) بسكون الياء وتفتح أي إلى جهتي (ما لك يا عمرو) أي أيّ شيء خطر لك حتى امتنعت عن البيعة (أردت أن أشترط) مفعوله محذوف أي شرطاً أو شيئاً يحصل لي به الانتفاع (قال: تشترط ماذا) قيل: حق ماذا أن يكون مقدماً على تشترط؛ لأنه يتضمن معنى الاستفهام وهو يقتضي الصدارة، فحذف ماذا وأعيد بعد تشترط تفسيراً للمحذوف، وقيل: كأنه – عليه الصلاة والسلام – لم يستحسن منه الاشتراط في الإيمان، فقال: أتشترط؟ إنكاراً فحذف الهمزة ثم ابتدأ فقال: ماذا، أي ما الذي تشترط أو أي شيء تشترط، وقال المالكي في قول عائشة: أقول ماذا شاهد؟ على أن ما الاستفهامية إذا ركبت مع ذا تفارق وجوب التصدير فيعمل فيها ما قبلها رفعاً ونصباً، فالرفع كقولك "كان ماذا"، والنصب كما في الحديث (أن يغفر لي) بالبناء للمفعول، وقيل: للفاعل أي الله (أما علمت يا عمرو) أي من حقك مع رزانة عقلك وجودة رأيك وكمال حذقك أن لا يكون خفي عن علمك (أن الإسلام) أي إسلام الحربي؛ لأن إسلام الذي لا يسقط شيئاً من حقوق العباد، قاله القاري (يهدم) بكسر الدال أي يمحو ويسقط (ما كان قبله) من الكفر والمعاصي مطلقاً مظلمة كانت أو غيرها صغيرة أو كبيرة (وأن الهجرة) من دار الحرب إلى دار الإسلام

{الفصل الثاني}

تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟)) رواه مسلم، والحديثان المرويان عن أبي هريرة قال: قال الله تعالى: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك)) ، والآخر: ((الكبرياء ردائي)) سنذكرهما في بابي الرياء والكبر إن شاء الله تعالى. {الفصل الثاني} 29- (28) عن معاذ قال: قلت: يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني من النار، قال: لقد سألت عن أمر عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه، تعبد الله ـــــــــــــــــــــــــــــ (تهدم ما كان قبلها) أي من الخطايا المتعلقة بحق الله لا التبعات، وتكفر الكبائر التي بين العبد ومولاه لا المظالم بين العباد وحقوق الآدميين (وأن الحج) أي المبرور (يهدم ما كان قبله) الحكم فيه كالذي قبله، قيل: وعليه الإجماع، وإنما حملوا الحديث في الحج والهجرة على ما عدا حقوق العباد والمظالم لما عرفوا ذلك من أصول الدين فردوا المجمل إلى المفصل، وعليه اتفاق الشارحين، وقد تكلم الطيبي في الحديث كلاماً حسناً بحسب ما تقتضيه البلاغة، وهو كالتعقب على الشارحين، إن شئت الوقوف عليه فارجع إلى شرحه للمشكاة (رواه مسلم) في الإيمان، وأخرجه أحمد أيضاً في مسنده (ج4: ص204، 205) . قوله: (والحديثان المرويان عن أبي هريرة) أي المذكوران هنا في المصابيح (قال الله تعالى ... ) الخ بيان للحديث (سنذكرهما في بابي الرياء والكبر) لف ونشر مرتب، أي لأن الحديثين أنسب بالبابين من هذا الباب. (الفصل الثاني) أي المعبر به عن قوله من الحسان في المصابيح. 29- قوله: (عن معاذ) أي ابن جبل (أخبرني بعمل) التنوين للتعظيم أو للتنويع، أي بعمل عظيم أو معتبر في الشرع (يدخلني) من الإدخال، وهو بالرفع صفة العمل، وإسناد العمل إلى الإدخال مجازاً، وبالجزم على أنه جزاء شرط محذوف هو صفة العمل، أي أخبرني بعمل إن عملته يدخلني الجنة، أو لأنه جواب الأمر؛ لأنه ترتب على فعل العمل المترتب على الإخبار، فترتبه على الإخبار إشارة إلى سرعة الامتثال بعد الاطلاع على حقيقة الحال، وعطف (يباعدني من النار) على يدخلني الجنة يفيد أن مراده دخول الجنة من غير سابقة عذاب (عن أمر عظيم) أي مستعظم الحصول لصعوبته على النفوس إلا من سهل الله عليه (وإنه ليسير) أي فعله سهل (على من يسره الله تعالى عليه) فيه إشارة إلى أن التوفيق كله بيد الله عز وجل (تعبد الله) خبر بمعنى الأمر، وهو خبر مبتدأ محذوف على تقدير أن المصدرية، واستعمال الفعل موضع المصدر مجاز، أي هو ذلك العمل أن تعبد الله، وقد تقدم معنى العبادة وبيان الحكمة في

ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم تلا {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} حتى بلغ {يعملون} ، ثم قال: ألا أدلك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ عطف عدم الإشراك على العبادة (ألا أدلك على أبواب الخير) أي الطرق الموصلة به، والمراد بها النوافل، يدل عليه قوله: ((صلاة الرجل في جوف الليل)) لئلا يلزم التكرار؛ لأنه قد تقدم ذكر الصلاة وغيرها من الفرائض، وجعل هذه الأشياء أبواب الخير لأن الصوم شديد على النفس وكذا إخراج المال في الصدقة وكذا الصلاة في جوف الليل، فمن اعتادها يسهل عليه كل خير؛ لأن المشقة في دخول الدار تكون بفتح الدار المغلق (الصوم جُنَّة) بضم الجيم: الترس والوقاية، أي يقي صاحبه ما يؤذيه من الشهوات والمعاصي المؤدية إلى النار في الآخرة، كالمجن الذي يقي صاحبه عند القتال من الضرب، فالشبع مجلبة للآثام منقصة للإيمان، فإنه يوقع الإنسان في مداحض فيزيغ عن الحق ويغلب عليه الكسل، فيمنعه من وظائف العبادات ويكثر المواد الفضول فيه فيكثر غضبه وشهوته ويزيد حرصه، فيوقعه في طلب ما زاد على حاجته فيوقعه في المحارم (تطفئ الخطيئة) من الإطفاء يعني تذهبها وتمحو أثرها، أي إذا كانت متعلقة بحق الله، وإذا كانت من حقوق العباد فتدفع تلك الحسنة إلى خصمه عوضاً من مظلمته، ونزل في الحديث الخطيئة منْزلة النار المؤدية هي إليها على الاستعارة المكنية، ثم أثبت لها على الاستعارة التخييلية ما يلازم النار من الإطفاء (وصلاة الرجل في جوف الليل) مبتدأ حذف خبره، أي هي مما لا يكننه كنهها، أو هي مما نزلت فيها الآية المذكورة، أو هي من أبواب الخير، أو هي شعار الصالحين، والأظهر بل المتعين أن يقدر خبره كذلك، أي أنها تطفئ الخطيئة أيضاً كالصدقة، يدل عليه ما أخرجه أحمد من رواية عروة بن النَزال عن معاذ قال: أقبلت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من غزوة تبوك ... فذكر الحديث، وفيه ((إن الصوم جنة، والصدقة وقيام العبد في جوف الليل يكفر الخطيئة)) ، (ثم تلا) يعني قرأ هاتين الآيتين عند ذكره فضل صلاة الليل ليبين بذلك فضل صلاة الليل (تتجافى جنوبهم) أي تتباعد (يدعون ربهم) بالصلاة والذكر والقراءة والدعاء، ويدخل في عموم لفظ الآية من صلى بين العشائين ومن انتظر صلاة العشاء فلم يقم حتى يصليها لا سيما مع حاجته إلى النوم ومجاهدة نفسه على تركه لأداء الفريضة، ومن نام ثم قام من نومه بالليل للتهجد، وهو أفضل أنواع التطوع بالصلاة مطلقاً، وربما دخل فيه من ترك النوم عند طلوع الفجر وقام إلى أداء صلاة الصبح لا سيما مع غلبة النوم عليه (حتى بلغ يعملون) بقية الآية: {خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون. فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} [سورة السجدة] (ألا أدلك برأس الأمر) أي مخبراً بأصله، والمراد بالأمر الدين الذي بعث به (وعموده) بفتح أوله أي ما يقوم به الدين ويعتمد عليه (وذروة سنامه) بكسر الذال وهو الأشهر وبضمها، وحكى

قلت: بلى يا رسول الله، قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا نبي الله، فأخذ بلسانه فقال: كف عليك هذا، فقلت: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم ـــــــــــــــــــــــــــــ فتحها: أعلى الشيء والجمع ذرى بالضم، والسنام بفتح السين ما ارتفع من ظهر الجمل قريب عنقه يقال له بالفارسية "كوهان شتر"، (رأس الأمر الإسلام) قد جاء تفسير الإسلام في رواية أخرى بالشهادتين، ففي رواية أحمد من طريق شهر بن حوشب عن ابن غنم عن معاذ أن رأس هذا الأمر أن تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، قال القاري: وهو من باب التشبيه المقلوب، إذ المقصود تشبيه الإسلام برأس الأمر؛ ليشعر بأنه من سائر الأعمال بمنْزلة الرأس من الجسد في احتياجه إليه وعدم بقائه دونه (وعموده الصلاة) أي ما يقوم به الدين كما يقوم الفسطاط على عموده هي الصلاة، وفي الرواية المشار إليها ((وأن قوام هذا الأمر إقام الصلاة وإيتاء الزكاة)) ، (وذروة سنامه الجهاد) فيه إشارة إلى صعوبة الجهاد وعلو أمره، وهو يدل على أنه أفضل الأعمال بعد الفرائض كما هو قول الإمام أحمد وغيره من العلماء، قال التوربشتي: المراد بالإسلام كلمتا الشهادة، وبالأمر أمر الدين يعني ما لم يقر العبد بكلمتي الشهادة لم لكن له من الدين شيء أصلاً، وإذا أقر بهما حصل له أصل الدين إلا أنه ليس له عمود، فإذا صلى وداوم على الصلاة قوي دينه ولكن لم يكن له رفعة وكمال، فإذا جاهد حصل لدينه رفعة (بملاك ذلك كله) الملاك بكسر الميم وفتحها لغة، والرواية الكسر: ما به إحكام الشيء وتقويته، أي بما به يملك الإنسان ذلك كله بحيث يسهل عليه جميع ما ذكر من تلك العبادات (فأخذ) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (بلسانه) الضمير راجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (كف) الرواية بفتح الفاء المشدد أي امنع (هذا) إشارة إلى اللسان، وتقديم المجرور على المنصوب للاهتمام به، وتعديته بعلى للتضمين أو بمعنى عن، وإيراد اسم الإشارة لمزيد التعيين أو للتحقير، وهو مفعول كف، والمعنى: لا تتكلم بما لا يعنيك، فإن من كثر من كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه، ولكثرة الكلام مفاسد يطول إحصاءها وارجع لذلك إلى الإحياء (لمؤاخذون) بالهمزة ويبدل، أي هل يؤاخذنا ويعاقبنا أو يحاسبنا ربنا (بما نتكلم به) أي بجميعه، إذ لا يخفى على معاذ المؤاخذة ببعض الكلام (ثكلتك أمك) بكسر الكاف أي فقدتك، وهو دعاء عليه بالموت ظاهراً، ولا يراد وقوعه بل هو تأديب وتنبيه من الغفلة (وهل يكب) بفتح الياء وضم الكاف وتشديد الباء، من كبه إذا صرعه على وجهه، بخلاف أكب فإن معناه سقط على وجهه، وهو من النوادر، وهو عطف على مقدر، أي هل تظن غير ما قلت، وهل يكب (على وجوههم أو على مناخرهم) شك من الراوي، والمناخر جمع منخر بفتح الميم وكسر الخاء وفتحها ثقب الأنف

إلا حصائد ألسنتهم؟)) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه. 30- (29) وعن أبي أمامة ـــــــــــــــــــــــــــــ والمراد هنا الأنف، والاستفهام للنفي، خصهما بالكب لأنهما أول الأعضاء سقوطاً (إلا حصائد ألسنتهم) جمع حصيدة، فعيلة بمعنى مفعولة من حصد إذا قطع الزرع، وهذا إضافة اسم المفعول إلى فاعله، أي محصودات الألسنة، شبه ما يتكلم به الإنسان بالزرع المحصود بالمنجل، وهو من بلاغة النبوة، فكما أن المنجل يقطع ولا يميز بين الرطب واليابس والجيد والرديء، فكذلك لسان بعض الناس يتكلم بكل نوع من الكلام حسناً وقبيحاً، والمعنى: لا يكب الناس في النار إلا حصائد ألسنتهم من الكفر والشرك والقول على الله بغير علم وشهادة الزور والسحر والقذف والشتم والكذب والغيبة والنميمة والبهتان ونحوها، وسائر المعاصي الفعلية لا يخلو غالباً من قول يقترن بها يكون معيناً عليها، وهذا الحكم وارد على الأغلب؛ لأنك إذا جربت لم تجد أحداً حفظ اللسان عن السوء ولا يصدر عنه شيء يوجب دخول النار إلا نادراً (رواه أحمد) في مسنده (ج5: ص231) ، (والترمذي) في الإيمان (وابن ماجه) في الفتن، وأخرجه أيضاً النسائي، كلهم من طريق معمر عن عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن معاذ بن جبل، وقال الترمذي: حسن صحيح، قال ابن رجب في شرح الأربعين: وفيما قاله نظر من وجهين: أحدهما أنه لم يثبت سماع أبي وائل من معاذ وإن كان قد أدركه بالسن، وكان معاذ بالشام وأبووائل بالكوفة، ومازال الأئمة كأحمد وغيره يستدلون على انتفاء السماع بمثل هذا، وقد قال أبوحاتم الرازي في سماع أبي وائل من أبي الدرداء: قد أدركه وكان بالكوفة وأبوالدرداء بالشام يعني أنه لم يصح له سماع منه، وقد حكى أبوزرعة الدمشقي عن قوم أنهم توقفوا في سماع أبي وائل من عمر أو نفوه فسماعه من معاذ أبعد، والثاني: أنه قد رواه حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن شهر بن حوشب عن معاذ، خرجه الإمام أحمد مختصراً (ج5: ص248) ، قال الدارقطني: وهو أشبه بالصواب؛ لأن الحديث معروف من رواية شهر على اختلاف عليه فيه. قلت: رواية شهر عن معاذ مرسلة يقيناً، وشهر مختلف في توثيقه وتضعيفه، قد خرجه الإمام أحمد (ج5: ص245) من رواية شهر عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ، وخرجه الإمام أحمد أيضاً (ج5: ص237) من رواية عروة بن النَزال بن عروة وميمون بن أبي شبيب كلاهما عن معاذ، ولم يسمع عروة ولا ميمون عن معاذ، وله طرق أخرى عن معاذ كلها ضعيفة – انتهى. 30- قوله: (وعن أبي أمامة) بضم الهمزة، اسمه صدي – بالتصغير - ابن عجلان بن وهب الباهلي، غلبت عليه كنيته، سكن مصر ثم انتقل منها إلى حمص فسكنها ومات بها، وكان من المكثرين في الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأكثر حديثه عند الشاميين، قال له - صلى الله عليه وسلم -: ((أنت مني وأنا منك)) ، ذكره الحافظ في الإصابة (ج2: ص172) ، له مائتا حديث وخمسون حديثاً، روى له البخاري خمسة أحاديث، ومسلم ثلاثة، روى عنه خلق كثير، مات سنة (81) .

قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحب لله وأبغض لله، وأعطى لله ومنع لله، فقد استكمل الإيمان)) ، رواه أبوداود. 31- (30) ورواه الترمذي عن معاذ بن أنس مع تقديم وتأخير، وفيه: ((فقد استكمل إيمانه)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقيل: سنة (86) وهو ابن (91) سنة، وقيل: ابن (106) سنة، وهو آخر من مات بالشام من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قول بعضهم. (من أحب لله) أي لأجله ولوجهه لا لحظ نفسه (وأبغض لله) أي لكفره وعصيانه لا لإيذائه له (وأعطى لله) أي لثوابه ورضاه لا لميل نفسه وريائه (ومنع لله) أي لأمر الله فلا يصرف الزكاة عن كافر لخسته ولا عن هاشمي لشرفه بل لمنع الله لهما منها، وكذلك سائر الأعمال، فسكت لله وتكلم لله، واختلط بالناس لله واعتزل عن الخلق لله، كقوله تعالى حاكياً: {إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين} [6: 162] ، وإنما خص الأفعال الأربعة لأنها حظوظ نفسانية، إذ قلما يمحضها الإنسان لله، فإذا محضها مع صعوبة تمحيضها كان تمحيض غيرها بالطريق الأولى، ولذا أشار إلى استكمال الدين بتمحيضها بقوله (فقد استكمل الإيمان) بالنصب أي أكمله، وقيل بالرفع، أي تكمل إيمانه. (رواه أبوداود) في السنة وسكت عليه، وفي إسناده القاسم بن عبد الرحمن أبوعبد الرحمن الشامي، قال المنذري: قد تكلم فيه غير واحد – انتهى. وأخرجه أيضاً الضياء المقدسي، قال العزيزي: بإسناد ضعيف، والطبراني في الأوسط، وفي إسناده صدقة بن عبد الله السمين، ضعفه البخاري وأحمد وغيرهما، وقال أبوحاتم: محله الصدق، كذا في مجمع الزوائد. 31- قوله: (ورواه الترمذي) أي في آخر أبواب الزهد (عن معاذ بن أنس) الجهني حليف الأنصار، قال ابن يونس: صحابي كان بمصر والشام، قد ذكر فيهما، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث، وله رواية عن أبي الدرداء وكعب الأحبار، روى عنه ابنه سهل بن معاذ وحده، وهو لين الحديث إلا أن أحاديثه حسان في الفضائل والرغائب، قال الخزرجي: له ثلاثون حديثاً، وروى البغوي في معجمه من طريقه ما يدل على أنه بقي إلى خلافة عبد الملك بن مروان. (مع تقديم وتأخير) ولفظه: ((من أعطى لله ومنع لله، وأحب لله وأبغض لله، وأنكح لله)) ، (وفيه) أي في حديث الترمذي أو في مروي معاذ (فقد استكمل إيمانه) أي بالإضافة، قال الترمذي بعد إخراجه: هذا حديث منكر، قال شيخنا في شرح الترمذي: لم يظهر لي وجه كون هذا الحديث منكراً – انتهى. ويمكن أن يقال: إن الترمذي أراد بقوله منكر أنه غريب من حديث معاذ بن أنس، فقد تفرد بروايته عنه ابنه سهل، فهو غريب من جهة هذا الطريق، والمنكر يطلق على معنيين: أحدهما ما خالف فيه الضعيف القوي، والثاني ما تفرد به الضعيف من دون اشتراط المخالفة، وهاهنا قد انفرد بروايته سهل بن معاذ عن أبيه، وقد ضعفه ابن معين، وقال أبوحاتم الرازي: لا يحتج به، ووقع في بعض نسخ الترمذي: "حديث حسن"، بدل قوله "منكر" فليحرر، ولعل الترمذي حسنه مع أن في سنده أبامرحوم عبد الرحيم بن ميمون، وضعفه ابن معين وتكلم فيه غير واحد، وسهل بن معاذ قد عرفت حاله؛ لأن أبامرحوم هذا قد قال فيه

32- (31) وعن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أفضل الأعمال الحب في الله والبغض في الله)) رواه أبوداود. 33- (32) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس ـــــــــــــــــــــــــــــ النسائي: أرجو أنه لا بأس به، وقال الحافظ: صدوق، وسهل بن معاذ وثقه ابن حبان، وقال الحافظ: لا بأس به، إلا في رواية زبان عنه، وفي الاستيعاب وتهذيب التهذيب: هو لين الحديث إلا أن أحاديثه حسان في الفضائل والرغائب، ولأن له شاهدين، أحدهما حديث أبي أمامة، والثاني حديث أبي هريرة، أخرجه أحمد والبزار بلفظ: ((من سره أن يجد طعم الإيمان فليحب المرء لا يحبه إلا لله ... )) الحديث، ورجاله ثقات، وحديث معاذ أخرجه أيضاً الحاكم، وقال: صحيح الإسناد، وأخرجه أحمد بعين لفظ الترمذي من روايتين، من رواية عبد الله بن يزيد عن سعيد بن أبي أيوب عن عبد الرحيم بن ميمون عن سهل بن معاذ عن أبيه (ج3: ص440) ، وهي طريق الترمذي، والأخرى من طريق ابن لهيعة عن زبان بن فائد عن سهل عن أبيه معاذ (ج3: ص438) . 32- قوله: (أفضل الأعمال) أي من أفضل أعمال الإيمان (الحب في الله) أي لوجهه وفي سبيله لا لغرض آخر كميل قلب وإحسان، ومن لازم الحب في الله حب أولياءه وأصفياءه، ومن شرط محبتهم اقتفاء آثارهم وطاعتهم. (والبغض في الله) أي لأمر يسوغ له البغض كالفسق والظلم والكفر والعصيان. قال ابن رسلان: فيه دليل على أنه يجب أن يكون للرجل أعداء يبغضهم في الله كما يكون له أصدقاء يحبهم في الله، بيانه أنك إذا أحببت إنساناً لأنه مطيع لله ومحبوب عند الله، فإن عصاه فلا بد أن تبغضه لأنه عاصٍ لله وممقوت عند الله، فمن أحب بسبب فبالضرورة يبغض لضده، وهذان وصفان متلازمان لا ينفصل أحدهما عن الآخر، وهو مطرد في الحب والبغض في العادات – انتهى. (رواه أبوداود) قال المنذري: في إسناده يزيد بن أبي زياد الكوفي، ولا يحتج بحديثه، وقد أخرج له مسلم متابعة، وفيه أيضاً رجل مجهول – انتهى. وأخرجه أحمد مطولاً وفيه أيضاً رجل لم يسم، وللحديث شواهد من حديث ابن عباس أخرجه الطبراني في الكبير، ومن حديث البراء بن عازب أخرجه أحمد والبيهقي، ومن حديث ابن مسعود أخرجه الطبراني في الصغير، وفيه عقيل بن الجعد قال البخاري: منكر الحديث. 33- قوله: (والمؤمن من أمنه الناس)) الخ كعلمه أي ائتمنوه يعني جعلوه أميناً عليها وصاروا منه على أمن؛ لكونه مجرباً مختبراً في حفظها وعدم الخيانة فيها، يقال: أمنت زيداً على هذا الأمر وأتمنته أي جعلته أميناً وصرت منه على أمن، يعني المؤمن الكامل هو الذي ظهرت أمانته وعدالته وصدقه بحيث لا يخاف منه الناس على إذهاب مالهم وقتلهم ومد اليد على نسائهم، والمقصود أن الكمال في الإيمان لا يتحقق بدون هذا، ولا يكون المرء بدون هذا الوصف مؤمناً كاملاً لا أنه

على دمائهم وأموالهم)) ، رواه الترمذي والنسائي. 34- (33) وزاد البيهقي في شعب الإيمان برواية فضالة: ((والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب)) . 35- (34) وعن أنس قال: قلما خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا تحقق هذا الوصف تحقق الكمال في الإيمان، وإن كان مع ترك الصلاة ونحوها، لجواز عموم المحمول من الموضوع، قاله السندهي. قال الطيبي: وفي ترتب من سلم على المسلم ومن أمنه على المؤمن رعاية للمطابقة لغة – انتهى. وقال القاري: حاصل الفقرتين إنما هو التنبيه على تصحيح اشتقاق الاسمين، فمن زعم أنه متصف به ينبغي أن يطالب نفسه بما هو مشتق منه، فإن لم يوجد فيه فهو كمن زعم أنه كريم ولا كرم له – انتهى. قال المناوي: وذكر المسلم والمؤمن بمعنى واحد تأكيد أو تقرير. (رواه الترمذي) وقال: حسن صحيح، (والنسائي) كلاهما في الإيمان، وأخرجه أيضاً أحمد والحاكم وابن حبان. 34- (برواية فضالة) بفتح الفاء أي ابن عبيد الأنصاري الأوسي، كنيته أبومحمد، أسلم قديماً، أول مشاهده أحد ثم شهد ما بعدها وبايع تحت الشجرة وشهد فتح مصر والشام قبلها ثم سكن الشام وولي الغزو، وولاه معاوية قضاء دمشق بعد أبي الدرداء، وكان ذلك بمشورة من أبي الدرداء، قال ابن حبان: مات في خلافة معاوية، وكان معاوية ممن حمل سريره، وكان معاوية استخلفه على دمشق في سفرة سافرها، أرّخ المدائني وغيره وفاته سنة (53) ، قال الخزرجي: له خمسون حديثاً انفرد مسلم بحديثين. روى عنه جماعة. (والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله) يعني المجاهد ليس من قاتل الكفار فقط، بل المجاهد من جاهد نفسه وحملها وأكرهها على طاعة الله تعالى؛ لأن نفس الرجل أشد عداوة من الكفار؛ لأن الكفار أبعد منه، ولا يتفق التلاحق والتقاتل معهم إلا حيناً بعد حين، وأما نفسه فأبداً يلازمه ويمنعه من الخير والطاعة، ولا شك أن القتال مع العدو الذي يلزم الرجل أهم من القتال مع العدو الذي هو بعيد منه. قال الطيبي: اللام في قوله (المجاهد) للجنس أي المجاهد الحقيقي الذي ينبغي أن يسمى مجاهداً من جاهد نفسه، وكان مجاهدته مع غيره بالنسبة إليه كلا مجاهدته، ونحوه قوله - صلى الله عليه وسلم - ((فذلك الرباط)) ، (والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب) قال القاري: أي ترك الصغائر والكبائر، وقيل: الذنب أعم من الخطيئة؛ لأنه يكون عن عمد بخلاف الخطيئة – انتهى. قال الطيبي: الحكمة في الهجرة أن يتمكن المؤمن من الطاعة بلا مانع، ويتخلص عن صحبة الأشرار المؤثرة بدوامها في اكتساب الأخلاق الذميمة والأفعال الشنيعة، فهي في الحقيقة التحرز عن ذلك، والمهاجر الحقيقي من يتحاشا عنها – انتهى. وحديث فضالة هذا أخرجه أيضاً أحمد في مسنده (ج6: ص21، 22) ، والحاكم في مستدركه بإسناد على شرط مسلم، وابن حبان في صحيحه، والطبراني في الكبير. 35- قوله: (قلما خطبنا) ما مصدرية أي قل خطبة خطبنا، ويجوز أن تكون كافة، وهو يستعمل في النفي ويدل

(الفصل الثالث)

إلا قال: ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)) رواه البيهقي في شعب الإيمان. (الفصل الثالث) عليه الاستثناء أي ما وعظنا (إلا قال) أي فيها، ولعل الحصر غالبي (لا إيمان لمن لا أمانة له) فإن المؤمن من أمنه الخلق على أنفسهم وأموالهم، فمن خان وجار فليس بمؤمن، أراد نفي الكمال دون الحقيقة، قاله المناوي. وقال القاري: انتفى كمال الإيمان بانتفاء الأمانة؛ لأنه يؤدي إلى استباحة الأموال والأعراض والأبضاع والنفوس، وهذه فواحش تنقص الإيمان وتقهقره إلى أن لا يبقى منه إلا أقله بل ربما أدت إلى الكفر، ومن ثم قيل: المعاصي بريد الكفر – انتهى. (ولا دين لمن لا عهد له) المراد به الزجر والردع ونفي الفضيلة والكمال دون الحقيقة، والمعنى أن من جرى بينه وبين أحد عهد وميثاق ثم غدر من غير عذر شرعي فدينه ناقص، قال الطيبي: وفي هذا الحديث إشكال، وهو أنه قد سبق أن الدين والإيمان الإسلام أسماء مترادفة، فلم فرق بينها وخص كل واحد منها بمعنى؟ والجواب: أنها وإن اختلفت لفظاً فقد اتفقا هاهنا معنى، فإن الأمانة ومراعاتها إما مع الله تعالى فهي ما كلف به من الطاعة وسمي أمانة لأنه لازم الوجود كما أن الأمانة لازم الأداء، قال الله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان} [34: 72] ، وإما مع الخلق فظاهر، ولأن العهد وتوثيقه إما مع الله تعالى فاثنان العهد الأول الذي أخذه على جميع ذرية آدم في الأزل، وهو الإقرار بربوبيته قبل الأجساد، مصداقه قوله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم ... } الآية [7: 172] ، والثاني ما أخذه عند هبوط آدم – عليه الصلاة والسلام – إلى الدنيا من متابعة هدى من الاعتصام بكتاب ينْزله ورسول يبعثه، مصداقه قوله تعالى: {قلنا اهبطوا منها جميعاً فإما يأتينكم مني هدى ... } [2: 38] ، وإما مع الخلق وحينئذٍ فمرجع الأمانة والعهد إلى طاعة الله بأداء حقوقه وحقوق العباد كأنه قال: لا إيمان ولا دين لمن لا يفي بعهد الله بعد ميثاقه، ولا يؤدي أمانة الله بعد حملها، وهي التكاليف من الأوامر والنواهي، ويشهد له قوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين – إلى قوله – دين القيمة} [98: 5] ، والتكرير المعنوي توكيد وتقرير – انتهى. (رواه البيهقي في شعب الإيمان) وكذا رواه في السنن الكبرى (ج6: ص288) قال القاري: وكذا رواه محي السنة أي صاحب المصابيح في شرح السنة بإسناده – انتهى. قلت: وأخرجه أيضاً أحمد في المسند (ج3: ص135، 154، 210، 251) ، وفي السنة (ص97) ، وابن حبان وأبويعلى والبزار والطبراني في الأوسط والضياء في المختارة، قال العزيزي: إسناده قوي، وقال الهيثمي: فيه أبوهلال وثقه ابن معين وغيره، وضعفه النسائي وغيره – انتهى. وللحديث شاهدان من حديث أبي أمامة عند الطبراني في الكبير ومن حديث ابن مسعود ذكرهما الهيثمي، وقال الشيخ الألباني: رواه الضياء في الأحاديث المختارة (ق234/2) من طريقين عن أنس أحد إسناديه حسن وله شواهد. قوله (الفصل الثالث) المراد به الأحاديث الملحقة بالباب ألحقها صاحب المشكاة غير مقيدة بأن تكون مما أخرجها الشيخان أو غيرهما من أصحاب السنن، ولا بأن تكون عن صحابي أو تابعي.

36- (35) عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله حرم الله عليه النار)) رواه مسلم. 37- (36) وعن عثمان – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة، ـــــــــــــــــــــــــــــ 36- قوله: (قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول) هذا ما يتكرر كثيراً، وقد اختلف في المنصوبين بعد سمعت، فالجمهور على أن الأول مفعول، وجملة يقول حال، أي سمعت كلامه؛ لأن السمع لا يقع على الذوات، ثم بين هذا المحذوف بالحال المذكور فهي حال مبينة لا يجوز حذفها، واختار الفارسي أن ما بعد سمعت إن كان مما يسمع كسمعت القرآن تعدت إلى مفعول واحد، وإلا كما هنا تعدت إلى مفعولين، فجملة يقول على هذا مفعول ثانٍ (من شهد أن لا إله إلا الله ... ) الخ، أي صادقاً من قلبه كما في حديث أنس في قصة معاذ، وقد تقدم الكلام على معنى الحديث هناك (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد (ج5: ص318) ، والترمذي في الإيمان. 37- قوله: (وعن عثمان) أي ابن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس الأموي القرشي المدني، يكنى أباعبد الله وأباعمرو، أمير المؤمنين ومجهز جيش العسرة ومشتري بئر رومة، وأحد العشرة، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين أخبر عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مات وهو عنهم راضٍ، ولد بعد الفيل بست سنين، أسلم في أول الإسلام على يدي أبي بكر قبل دخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دار الأرقم، وهاجر إلى الحبشة الهجرتين ولم يشهد بدراً لتخلفه على تمريض زوجته رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وضرب له النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها بسهم، ولم يشهد بالحديبية بيعة الرضوان لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان بعثه إلى مكة في أمر الصلح، فلما كانت البيعة ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - يده على يده وقال: هذه لعثمان، وسمي ذا النورين لجمعه بين بنتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رقية وأم كلثوم، واحدة بعد أخرى، قال ابن عمر: كنا نقول على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -: أبوبكر ثم عمر ثم عثمان، وقال ابن سيرين: كان يحيي الليل كله بركعة، ومناقبه وفضائله كثيرة شهيرة جداً، بويع له بالخلافة بعد دفن عمر بثلاثة أيام، وذلك غرة المحرم سنة (24) ، وقتل مظلوماً في ذي الحجة سنة (35) وهو ابن (82) سنة، وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة إلا أياماً، له مائة وستة وأربعون حديثاً، اتفقا على ثلاثة، وانفرد البخاري بثمانية، ومسلم بخمسة، روى عنه خلق. قال عبد الله بن سلام: لقد فتح الناس على أنفسهم بقتل عثمان باب فتنة لا يغلق إلى يوم القيامة، وترجمته مستوفاة في تاريخ دمشق (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله) هذه الكلمة علم لكلمتي الشهادة، ولذا اقتصر عليها، قال النووي: في قوله (وهو يعلم) إشارة إلى الرد على غلاة المرجئة أن مظهر الشهادتين يدخل الجنة وإن لم يعتقد ذلك بقلبه، وقد قيد ذلك في حديث آخر بقوله ((غير شاك فيهما)) ، وهذا يؤيد ما قلنا، قال القاضي: وقد يحتج به أيضاً من يرى أن مجرد

رواه مسلم. 38- (37) وعن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثنتان موجبتان، قال رجل: يا رسول الله ما الموجبتان؟ قال: من مات يشرك بالله شيئاً دخل النار، ومن مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة)) ، رواه مسلم. 39- (38) وعن أبي هريرة قال: ((كنا قعوداً حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومعنا أبوبكر وعمر – رضي الله عنهما – في نفر، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بين أظهرنا ـــــــــــــــــــــــــــــ معرفة القلب نافعة دون النطق بالشهادتين لاقتصاره على العلم، ومذهب أهل السنة أن المعرفة مرتبطة بالشهادتين لا تنفع أحداًهما ولا تنجي من النار دون الأخرى إلا لمن لم يقدر على الشهادة بلسانه إذا لم تمهله المدة ليقولها بل اخترمته المنية، ولا حجة لمخالف الجماعة بهذا اللفظ، إذ قد ورد مفسراً في الحديث الآخر: ((من قال لا إله إلا الله ومن شهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله)) ، وقد جاء هذا الحديث وأمثاله كثيرة، في ألفاظها اختلاف ولمعانيها عند أهل التحقيق ائتلاف – انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد (ج1: 65، 69) . 38- قوله: (وعن جابر) هو جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري الخزرجي السلمي أبوعبد الله، شهد العقبة الثانية مع أبيه وهو صغير ولم يشهد الأولى، قال ابن عبد البر: ذكره بعضهم في البدريين ولا يصح لأنه قد روي عنه أنه قال: لم أشهد بدراً ولا أحداً، منعني أبي، وذكر البخاري أنه شهد بدراً وكان ينقل لأصحابه الماء يومئذٍ ثم شهد بعدها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمان عشرة غزوة، ذكر ذلك الحاكم أبوأحمد، وكان من المكثرين الحفاظ للسنن، وكف بصره في آخر عمره، روي عنه أنه قال: استغفر لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة البعير خمساً وعشرين مرة، وقال هشام بن عروة: رأيت لجابر بن عبد الله حلقة في المسجد النبوي يؤخذ عنه العلم، توفي بالمدينة سنة (73) ، وقيل (74) ، وقيل (77) ، وقيل (78) ، ويقال: مات وهو ابن (94) سنة، وصلى عليه أبان بن عثمان، وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة في قول. له ألف وخمسمائة حديث وأربعون حديثاً، اتفقا على ثمانية وخمسين حديثاً، وانفرد البخاري بستة وعشرين، ومسلم بمائة وستة وعشرين (ثنتان) صفة مبتدأ محذوف أي خصلتان (موجبتان) يقال: أوجب الرجل إذا عمل ما يجب به الجنة أو النار، ويقال للحسنة والسيئة موجبة، فالوجوب عند أهل السنة بالوعد أو الوعيد، وعند المعتزلة بالعمل (ما الموجبتان) السبباًن، فإن الموجب الحقيقي هو الله تعالى (من مات يشرك بالله ... ) الخ فالموت على الشرك سبب لدخول النار وخلودها، والموت على التوحيد سبب لدخول الجنة (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد في مسنده (ج3: ص345، 374، 391) ، وأخرج الطبراني في الكبير نحوه عن عمارة بن رويبة، وفيه محمد بن أبان وهو ضعيف. 39- قوله: (كنا قعوداً) أي ذوي قعود أو قاعدين (في نفر) أي مع جماعة من الصحابة (من بين أظهرنا)

فأبطأ علينا وخشينا أن يقتطع دوننا وفزعنا فقمنا، فكنت أول من فزع، فخرجت أبتغي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتيت حائطاً للأنصار لبني النجار، فدرت به هل أجد له باباً فلم أجد، فإذا ربيع يدخل في جوف حائط من بئر خارجة، والربيع الجدول، قال: فاحتفزت فدخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال أبوهريرة؟ فقلت: نعم يا رسول الله، قال: ما شأنك؟ قلت: كنت بين أظهرنا فقمت فأبطأت علينا، فخشينا أن تقتطع دوننا ففزعنا فكنت أول من فزع، فأتيت هذا الحائط فاحتفزت كما يحتفز الثعلب، وهؤلاء الناس ورائي، فقال: يا أباهريرة! ـــــــــــــــــــــــــــــ أظهر زائدة للتأكيد أي من بيننا (فأبطأ علينا) أي مكث وتوقف عنا كثيراً (أن يقتطع) بصيغة المجهول (دوننا) حال من الضمير المستتر في يقتطع، أي خشينا أن يصاب بمكروه من عدو أو غيره متجاوزاً عنا وبعيداً منا (وفزعنا) بكسر الزاي أي اضطربنا. قال عياض: الفزع يكون بمعنى الروع، وبمعنى الهبوب للشيء والاهتمام به، وبمعنى الإغاثة، قال فتصح هنا هذه المعاني الثلاثة أي ذعرنا لاحتباس النبي - صلى الله عليه وسلم - عنا، ألا تراه كيف قال: وخشينا أن يقتطع دوننا؟ ويدل على الوجهين الآخرين قوله: فكنت أول من فزع – انتهى. وقال الطيبي: عطف أحد المترادفين على الآخر لإرادة الاستمرار كما في قوله تعالى: {كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا} [54: 9] ، أي كذبوه تكذيباً غب تكذيب – انتهى. (فقمنا) للتجسس والتحفص (فخرجت) أي من المجلس (أتيت حائطاً) أي بستاناً له حيطان أي جدران (لبني النجار) تخصيص بعد تعميم أو بدل بعض (فدرت به) أي بحول الحائط (فإذا ربيع) إذا للمفاجأة أي فاجأ عدم وجودي للباب روية نهر صغير (يدخل في جوف حائط) أي في جوف جداًر من جدران ذلك الحائط، مبتدأ أو مستمد ذلك النهر (من بئر) مؤنثة مهموزة يجوز تخفيف همزها (خارجة) روي على ثلاثة أوجه: أحدها بالتنوين في بئر وفي خارجة على أن خارجة صفة لبئر، والثاني بئر خارجة بتنوين بئر وبهاء في آخر خارجه مضمومة، وهي هاء الضمير للحائط أي البئر في موضع خارج عن الحائط، والثالث من بئر خارجة بإضافة بئر إلى خارجة آخره تاء التأنيث، وهو اسم رجل، والوجه الأول هو المشهور الظاهر، قال النووي: هكذا ضبطناه بالتنوين في بئر وخارجة، وكذا نقله ابن الصلاح – انتهى. وقيل: البئر هنا البستان، سمي بما فيها من الآبار، يقولون: بئر بضاعة، وبئر أريس، وبئر خارجة، وهي بساتين. (والربيع الجدول) تفسير من بعض الرواة (فاحتفزت) بالزاي المعجمة أي تضاممت ليسعني المدخل (فقال: أبوهريرة؟) أي فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أأنت أبوهريرة؟ خبر مبتدأ محذوف، والاستفهام إما للتقرير وهو الظاهر، وإما للتعجب لاستغرابه أنه من أين دخل عليه والطرق مسدودة (ما شأنك) أي ما حالك وما سبب مأتاك واضطرابك؟ (وهؤلاء الناس ورائي) أي ينتظرون علم ما وقع لك (فقال: يا أباهريرة) يقرأ بالهمز ولا يكتب، قاله

وأعطاني نعليه، فقال: اذهب بنعلي هاتين فمن لقيك من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة، فكان أول من لقيت عمر فقال: ما هاتان النعلان يا أباهريرة؟ قلت: هاتان نعلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثني بهما من لقيت يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه بشرته بالجنة، فضرب عمر بين ثدي فخررت لإستي ـــــــــــــــــــــــــــــ القاري. (وأعطاني نعليه) الجملة حال (فقال) تأكيد للأول (اذهب بنعلي هاتين) قال الطيبي: لعل فائدة النعلين أن يبلغ مع الشاهد فيصدقوه وإن كان خبره مقبولاً بغير هذا، وتخصيصهما بالإرسال إما لأنه لم يكن عنده غيرهما، وإما للإشارة إلى أن بعثته وقدومه لم يكن إلا تبشيراً وتسهيلاً على الأمة رافعاً للآصار التي كانت في الأمم السالفة، وإما للإشارة إلى الثبات بالقدم والاستقامة بعد الإقرار لقوله – عليه الصلاة والسلام -: ((قل آمنت بالله ثم استقم)) – انتهى. وقال النووي: أما إعطاءه النعلين فلتكون علامة ظاهرة معلومة عندهم يعرفون بها أنه لقي النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويكون أوقع في نفوسهم لما يخبرهم به عنه - صلى الله عليه وسلم -، ولا ينكر كون مثل هذا يفيد تأكيداً وإن كان خبره مقبولاً بغير هذا (مستيقناً بها) أي بمضمون هذه الكلمة (فبشره بالجنة) معناه أخبر أن من كانت هذه صفته فهو من أهل الجنة وإلا فأبوهريرة لا يعلم استيقان قلوبهم، وفي هذا دلالة ظاهرة لمذهب أهل الحق أن اعتقاد التوحيد لا ينفع دون النطق عند القدرة، ولا النطق دون الاعتقاد بالإجماع، بل لا بد منهما، وذكر القلب هنا للتأكيد ونفي توهم المجاز، وإلا فالاستيقان لا يكون إلا بالقلب (فكان أول من لقيت عمر) منصوب على أنه خبر كان، وقيل: مرفوع على الاسمية وأول بالعكس، قيل: وهو أولى لأنه وصف وهو بالخبرية أحرى (بعثني بهما من لقيت) بصيغة المتكلم أي بعثني بهما حال كوني قائلاً أو مبلغاً أو مأموراً بأن من لقيت يشهد ... الخ (فضرب عمر بين ثديي) تثنية يدي بفتح الثاء، هو مذكر، وقد يؤنث في لغة قليلة، أي في صدري، قال القاري: لابد هنا من تقدير يدل عليه السياق من السباق واللحاق، يعني فقال عمر: ارجع قصداً للمراجعة بناءً على رأيه الموافق للصواب، فأبيت وامتنعت عن حكمه امتثالاً لظاهر أمره – عليه السلام – المقدم على أمر كل آمر، فضرب عمر بيده في صدري، فإنه يبعد كل البعد ضربه ابتداءً من غير باعث – انتهى. (فخررت) بفتح الراء (لأستي) بهمزة وصل، وهو اسم من أسماء الدبر، أي سقطت على مقعدي من شدة ضربه لي، قال النووي: أما دفع عمر – رضي الله عنه – فلم يقصد به سقوطه وإيذاءه، بل قصد رده عما هو عليه وضرب بيده في صدره ليكون أبلغ في زجره، قال القاضي عياض وغيره من العلماء: وليس فعل عمر ومراجعته النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتراضاً عليه ورداً لأمره، إذ ليس فيما بعث به أباهريرة غير تطييب قلوب الأمة وبشراًهم، فرأى عمر أن كتم هذا عنهم أصلح لهم وأحرى أن لا يتكلوا، وأنه أعود عليهم بالخير من معجل هذه البشرى، فلما عرضه على

فقال: ارجع يا أباهريرة، فرجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجهشت بالبكاء، وركبني عمر وإذا هو على أثري، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما لك يا أباهريرة؟ قلت: لقيت عمر فأخبرته بالذي بعثتني به، فضرب بين ثديي ضربة خررت لإستي فقال: ارجع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا عمر ما حملك على ما فعلت؟ قال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أبعثت أباهريرة بنعليك من لقي يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه بشره بالجنة؟ قال: نعم، قال: فلا تفعل، فإني أخشى أن يتكل الناس عليها، فخلهم يعملون، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فخلهم)) رواه مسلم. 40- (39) وعن معاذ بن جبل قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مفاتيح الجنة شهادة أن لا إله إلا الله ـــــــــــــــــــــــــــــ النبي - صلى الله عليه وسلم - صوبه فيه - انتهى. (فأجهشت بالبكاء) من الإجهاش، وروي جهشت - بكسر الهاء وغير همز - وهما صحيحان، وكلاهما بصيغة الفاعل، والجهش كالإجهاش أن يفزع الإنسان إلى إنسان ويلجأ إليه وهو متغير الوجه متهيء للبكاء ولما يبك بعد، كما يفزع الصبي إلى أمه (وركبني عمر) أي تبعني ومشى خلفي في الحال بلا مهلة، قاله النووي، وقال القاري: أي أثقلني عدو عمر من بعيد خوفاً واستشعاراً منه، كما يقال: ركبته الديون أي أثقلته يعني تبعني عمر (على أثري) فيه لغتان فصيحتان مشهورتان: فتحهما وهو الأصح، وكسر الهمزة وسكون الثاء أي عقبي (بأبي أنت وأمي) الباء متعلقة بمحذوف، قيل: هو اسم تقديره أنت مفدى بأبي، وقيل: فعل أي فديتك بأبي، وحذف هذا المقدر تخفيفاً لكثرة الاستعمال وعلم المخاطب به (بشره بالجنة) بصيغة الماضي أي من لقيه بشره بالجنة (يتكل الناس عليها) أي على هذه البشارة الإجمالية (فخلهم) أي اتركهم بغير البشارة (يعملون) حال، فإن العوام إذا بشروا يتركون الاجتهاد في العمل بخلاف الخواص فإنهم إذا بشروا يزيدون في العمل (رواه مسلم) كان المناسب لدأبه أن يقول: روى الأحاديث الأربعة مسلم. 40- قوله: (مفاتيح الجنة شهادة أن لا إله إلا الله) أي وأن محمداً رسول الله، قال الزين بن المنير: قول لا إله إلا الله لقب جرى على النطق بالشهادتين شرعاً - انتهى. قال الطيبي: مفاتيح الجنة مبتدأ، وشهادة خبره، وليس بينهما مطابقة من حيث الجمع والإفراد، فهو من قبيل قول الشاعر: ومعي جياعاً. جعل الناقة الضامرة من الجوع كأن كل جزء من معاها معي واحد من شدة الجوع، وكذا جعلت الشهادة المستتبعة للأعمال الصالحة التي هي كأسنان المفاتيح كل جزء منها منْزلة مفتاح واحد - انتهى. قال القاري: والأظهر أن المراد بالشهادة الجنس، فشهادة كل أحد مفتاح لدخوله الجنة إما ابتداءً أو انتهاءً، والأعمال إنما هي لرفع الدرجات، أو لأن الشهادة لما كانت مفتاح أبواب

رواه أحمد. 41- (40) وعن عثمان - رضي الله عنه - قال: إن رجالاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - حين توفي حزنوا عليه حتى كاد بعضهم يوسوس، قال عثمان: وكنت منهم، فبينا أنا جالس مر علي عمر وسلم، فلم أشعر به فاشتكى عمر إلى أبي بكر - رضي الله عنهما - ثم أقبلا حتى سلما عليّ جميعاً، فقال أبوبكر: ما حملك أن لا ترد على أخيك عمر سلامه؟ قلت: ما فعلت، فقال عمر: بلى والله لقد فعلت، قال: قلت: والله ما شعرت أنك مررت ولا سلمت، قال أبوبكر: صدق عثمان، قد شغلك عن ذلك أمر، فقلت أجل، قال: ما هو؟ قلت: توفى الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - قبل أن نسأله ـــــــــــــــــــــــــــــ الجنة فكأنها مفاتيح - انتهى. وفيه استعارة لأن الكفر لما منع من دخول الجنة شبه بالغلق المانع، ولما كان الإسلام سبب دخولها شبه بالمفاتيح بجامع أن كلاً سبب للدخول ثم حذف أداة التشبيه وقلب زيادة في تحقيق معنى المشبه والمبالغة فيه (رواه أحمد) (ج5: ص242) من طريق إسماعيل بن عياش عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين عن شهر بن حوشب عن معاذ، ورواية شهر عن معاذ مرسلة، وشهر مختلف في توثيقه وتضعيفه، وإسماعيل بن عياش روايته عن أهل الحجاز ضعيفة، وهذا منها، قال الهيثمي: وأخرجه البزار أيضاً، وفيه من الكلام ما في رواية أحمد. 41- قوله: (حين توفي) بضم التاء والواو ماضٍ مجهول (حزنوا) بكسر الزاي (عليه) أي على موته وفقدان حضرته (يوسوس) قال القاري: أي يقع في الوسوسة بأن يقع في نفسه انقضاء هذا الدين وانطفاء نور الشريعة بموته - عليه الصلاة والسلام -، وخطور هذا بالنفوس الكاملة مهلك لها حتى يتغير حاله ويختلط كلامه ويدهش في أمره ويختل عقله ويجيء أحوال بقيتهم في آخر الكتاب من أن بعضهم أقعد وأسكت وبعضهم أنكر موته - عليه الصلاة والسلام - وأظهر الله فضل الصديق بثبات قدم صدقه - انتهى. قال الطيبي: الوسوسة حديث النفس وهو لازم، يقال: وسوس الرجل إذا أصيب في عقله وتكلم بغير نظام، ووسوس الرجل أي أصابته الوساوس فهو موسوس، ويقال لما يخطر بالقلب من شر أو لما لا خير فيه وسواس جمعه وساوس (وكنت منهم) أي من البعض الذي كاد أن يوسوس من شدة الحزن (فلم أشعر به) أي بمروره وسلامه لشدة ما أصابني من الذهول لذلك الهول، فعند أحمد في مسنده: فلم أشعر أنه مر ولا سلم (والله ما شعرت) بفتح العين ويضم أي ما علمت ولا فطنت (فقال أبوبكر) أي لعمر (صدق عثمان) في اعتذاره بعدم شعوره، وقال لي على وجه الالتفات (قد شغلك عن ذلك أمر) أي ألهاك عن الشعور أمر عظيم (توفى الله تعالى نبيه)

عن نجاة هذا الأمر , قال أبوبكر: قد سألته عن ذلك، فقمت إليه وقلت له: بأبي أنت وأمي أنت أحق بها، قال أبوبكر: قلت يا رسول الله ما نجاة هذا الأمر؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من قبل مني الكلمة التي عرضت على عمي فردها فهي له نجاة، ـــــــــــــــــــــــــــــ أي قبض روحه (عن نجاة هذا الأمر) بفتح النون مصدر بمعنى الخلاص. قال الطيبي: يجوز أن يراد بالأمر ما عليه المؤمنون من الدين، أي نسأله عما نتخلص به من النار، وهو مختص بهذا الدين، وأن يراد ما عليه الناس من غرور الشيطان وحب الدنيا والتهالك فيها والركون إلى شهواتها وركوب المعاصي وتبعاتها، أي نسأله عن نجاة هذا الأمر الهائل - انتهى. كلام الطيبي. وتعقبه الشيخ عبد الحق الدهلوي في أشعة اللمعات بما محصله: أن في الوجه الأول نظراً فإن عثمان قد روى هو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة، فكيف يقول: إنه توفي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن نسأله عما نتخلص به من النار في الدين؟ ومن البعيد كل البعد أن يخفى على عثمان هذا العلم الذي هو من أول فرائض دين الإسلام، اللهم إلا أن يقال: إنه نسيه من شدة الحزن وذهل عنه من عظم المصيبة، والظاهر بل الصواب أنه أراد بقوله من نجاة هذا الأمر: النجاة من وسوسة الشيطان وحديثه كما يشير إليه سياق الحديث وسباقه، ورواية محمد بن جبير في هذه القصة صريحة في ذلك، وقد أخرج أبويعلى في مسنده عن محمد بن جبير أن عمر مر على عثمان وهو جالس في المسجد، فسلم عليه فلم يرد عليه، فدخل على أبي بكر فاشتكى ذلك إليه فقال: مررت على عثمان فسلمت عليه فلم يرد عليّ، فقال: أين هو؟ قال: هو في المسجد قاعد، فانطلقا إليه فقال له أبوبكر - رضي الله عنه -: ما منعك أن ترد على أخيك حين سلم عليك؟ قال: والله ما شعرت أنه مر بي وأنا أحدث نفسي ولم أشعر أنه سلم، فقال أبوبكر: فماذا تحدث نفسك؟ قال: خلا بي الشيطان فجعل يلقي في نفسي أشياء ما أحب أني تكلمت بها وأن لي ما على الأرض، قلت في نفسي حين ألقى الشيطان ذلك في نفسي: يا ليتني سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما الذي ينجينا من هذا الحديث الذي يلقي الشيطان في أنفسنا، فقال أبوبكر: فإني والله لقد اشتكيت ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسألته ما الذي ينجينا من هذا الحديث الذي يلقي الشيطان في أنفسنا؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ينجيكم من ذلك أن تقولوا مثل الذي أمرت به عمي عند الموت فلم يفعل)) ، قال البوصيري في الزوائد العشرة: سنده حسن كذا في جمع الجوامع للسيوطي - انتهى. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج1: ص8) بعد ذكره: رواه أبويعلى، وعند أحمد طرف منه وفي إسناده أبوالحويرث عبد الرحمن بن معاوية، وثقه ابن حبان والأكثر على تضعيفه - انتهى. (أنت أحق بها) أي بالمسألة والسبق بها والبحث عنها فإنك إلى كل خير أسبق (من قبل مني) أي بطوع ورغبة من غير نفاق وريبة (على عمي) أبي طالب (فهي) أي فهذه الكلمة وهي كلمة الشهادة (له نجاة) إما في بداية أو نهاية. قال الطيبي: كأنه - صلى الله عليه وسلم - يقول: النجاة في الكلمة التي عرضتها على مثل أبي طالب، وهو الذي عاش في الكفر سنين ونيف على السبعين، ولم يصدر عنه

رواه أحمد. 42- (41) وعن المقداد أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله كلمة الإسلام بعز عزيز وذل ذليل، ـــــــــــــــــــــــــــــ كلمة التوحيد، ولو قالها مرة كان لي حجة عند الله باستخلاصه ونجاة له من عذابه وعقابه، فكيف بالمؤمن المسلم وهي مخلوطة بلحمه ودمه، فلو صرح - صلوات الله عليه - بها في كلامه لم يفخم هذا التفخيم، وهذا الحديث رواه الصحابي عن الصحابي يعني عثمان عن أبي بكر (رواه أحمد) (ج1: ص6) عن أبي اليمان عن شعيب عن الزهري قال: أخبرني رجل من الأنصار من أهل الثقة أنه سمع عثمان بن عفان يحدث: أن رجالاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ... الحديث، وعن يعقوب عن أبيه عن صالح عن الزهري قال: أخبرني رجل من الأنصار غير متهم أنه سمع عثمان بن عفان ... الحديث، وفيه رجل لم يسم كما ترى، وقول الزهري "رجل من أهل الثقة وغير متهم" تعديل على الإبهام، وفيه اختلاف، وعند الجمهور لا يقبل حتى يسمي، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد بعد ذكر الحديث من مسند أحمد بسنده الأول: رواه أحمد والطبراني في الأوسط باختصار وأبويعلى بتمامه والبزار نحوه، وفيه رجل لم يسم، ولكن الزهري وثقه وأبهمه - انتهى. 42- قوله: (وعن المقداد) بكسر الميم، هو المقداد بن عمرو بن ثعلبة البهراني الكندي حلفاً، أبوالأسود أو أبوعمرو، المعروف بالمقداد بن الأسود نسبة إلى الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف الزهري؛ لأنه كان تبناه وحالفه في الجاهلية، فقيل: المقداد بن الأسود، كان من الفضلاء النجباء الكبار الخيار من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان سادساً في الإسلام وهاجر الهجرتين وشهد بدراً والمشاهد كلها، وكان فارساً يوم بدر حتى إنه لم يثبت أنه كان فيها على فرس غيره. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أمرني الله بحب أربعة ... فذكر منهم المقداد، ومناقبه كثيرة، شهد فتح مصر، ومات في أرضه بالجرف على ثلاثة أميال من المدينة فحمل إليها ودفن بالبقيع وصلى عليه عثمان سنة (33) وهو ابن (70) سنة، له اثنان وأربعون حديثاً، اتفقا على حديث، وانفرد مسلم بثلاثة، روى عنه جماعة (لا يبقى على ظهر الأرض) أي على وجهها من جزيرة العرب وما قرب منها، وقيل: هو محمول على العموم (بيت مدر ولا وبر) أي المدن والقرى والبوادي، وهو من وبر الإبل أي شعرها لأنهم كانوا يتخذون منه ومن نحوه خيامهم غالباً، والمدر جمع مدرة وهي قطعة الطين اليابس واللبنة والطين العلك أي اللزج الذي لا يخالطه رمل (كلمة الإسلام) هي مفعول أدخل، والضمير المنصوب فيه ظرف وقوله (بعز عزيز) حال أي أدخل الله تعالى كلمة الإسلام في البيت متلبسة بعز شخص عزيز، أي يعزه الله بها حيث قبلها من غير سبي وقتال (وذل) بضم الذال (ذليل) أي أو يذله الله بها حيث أباها بذل سبي أو قتال حتى ينقادون لها طوعاً أو كرهاً، أو يذعن لها ببذل الجزية، والحديث مقتبس من قوله تعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} [61: 9] ، ثم فسر العز والذل بقوله إما يعزهم

إما يعزهم الله فيجعلهم من أهلها أو يذلهم فيدينون لها، قلت: فيكون الدين كله لله)) رواه أحمد. 43- (42) وعن وهب بن منبه قيل له: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة؟ قال: بلى، ولكن ـــــــــــــــــــــــــــــ الله أو يذلهم (فيدينون لها) بفتح الياء أي فيطيعون وينقادون لها، من دان الناس أي ذلوا وأطاعوا (قلت) القائل المقداد، والظاهر أنه قال في غير حضرته - صلى الله عليه وسلم - بل عند روايته (فيكون الدين كله لله) ، قال الطيبي: أي إذا كان الأمر كذلك فتكون الغلبة لدين الله طوعاً أو كرهاً - انتهى. وقيل: في آخر الزمان، أي حين ينْزل عيسى - عليه السلام - من السماء ويقتل الدجال، لا يبقى على وجه الأرض محل الكفر، بل جميع الخلائق يصيرون مسلمين إما بالطوع والرغبة ظاهراً وباطناً، وإما بالإكراه والجبر، وإذا كان كذلك فيكون الدين كله لله، يشير إليه ما رواه مسلم عن عائشة قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى، فقلت: يا رسول الله، إن كنت لأظن حين أنزل الله عزوجل: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ... } الآية, أن ذلك تام. قال: إن سيكون من ذلك ما شاء الله، ثم يبعث ريحاً طيبة فيتوفى كل من في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم)) ، ويدل له حديث أبي هريرة قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وتهلك في زمانه الملل كلها إلا الإسلام)) (رواه أحمد) (ج6: ص103) بسند صحيح، وأخرجه أيضاً الحاكم (ج4: ص430، 431) ، والطبراني في الكبير والبيهقي، وأخرج أحمد (ج4: ص103) ، والطبراني في الكبير والحاكم والبيهقي عن تميم الداري مرفوعاً: ((ليبغلن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر)) ، وكان تميم الداري يقول: قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان منهم كافراً الذل والصغار والجزية. 43- قوله: (وعن وهب بن منبه) بضم الميم وفتح النون وتشديد الباء الموحدة وكسرها، هو وهب بن منبه بن كامل اليماني الصنعاني أبوعبد الله الأنباري، من ثقات أوساط التابعين، قال مسلم بن خالد: لبث وهب أربعين سنة لم يرقد على فراشه، له في البخاري حديث واحد، رواه في كتاب العلم، مات سنة (114) ، وقيل غير ذلك، وقيل: إن يوسف بن عمر ضربه حتى مات. (قيل له: أليس) كأن القائل أشار إلى ما ذكر ابن إسحاق في السيرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أرسل العلاء بن الحضرمي قال له: ((إذا سئلت عن مفتاح الجنة فقل: مفتاحها لا إله إلا الله)) ، وروي عن معاذ بن جبل نحوه، أخرجه البيهقي في الشعب وزاد: "لكن مفتاح بلا أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك"، وهذه الزيادة نظير ما أجاب به وهب، قال الحافظ: فيحتمل أن تكون مدرجة في حديث معاذ. (لا إله إلا الله) في محل الرفع على أنه اسم ليس، وخبره (مفتاح الجنة) ، وقيل بالعكس، وقدم لشرفه (قال: بلى، ولكن) أي أقول بموجب ذلك، وإنها مفتاحها كما تقدم في الحديث السابق، ولكن لا يغتر أحد بذلك ويظن أنه بمجرد تلفظه بتلك الكلمة

ليس مفتاح إلا وله أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك)) ، رواه البخاري في ترجمة باب. 44- (43) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أحسن أحدكم إسلامه ـــــــــــــــــــــــــــــ التي هي المفتاح يفتح له الجنة حتى يدخلها مع الناجين وإن لم يعمل عملهم؛ لأنه وإن أتى بالمفتاح غير نافع له؛ لأنه (ليس مفتاح إلا وله أسنان) أي عادة هي الفاتحة (فإن جئت بمفتاح له أسنان) المراد بالأسنان: الأعمال الصالحة المنجية المتضمنة لترك الأعمال السيئة، وشبهها بأسنان المفتاح من حيث الاستعانة بها في فتح المغلقات وتيسير المستصعبات (فتح لك) أي أولاً (وإلا) بأن جئت بمفتاح لا أسنان له (لم يفتح لك) أي فتحاً تاماً أو في أول الأمر، وهذا بالنسبة إلى الغالب، وإلا فالحق أن أهل الكبائر في مشيئة الله تعالى، ولا بد من هذا التأويل ليستقيم على مذهب أهل السنة، وقيل: معنى قول وهب "إن جئت بمفتاح له أسنان" جياد، فهو من باب حذف النعت إذا دل عليه السياق؛ لأن مسمى المفتاح لا يعقل إلا بالأسنان وإلا فهو عود أو حديدة، هذا، وفي ذكر المصنف قول ابن وهب إشارة إلى أنه اختار في معنى الأحاديث التي جاءت في ترتيب دخول الجنة وحرمة النار على مجرد الشهادتين قول من قال من العلماء: إن كلمة الشهادتين سبب مقتض لدخول الجنة والنجاة من النار، لكن له شروط وهي الإتيان بالفرائض، وموانع وهي اجتناب الكبائر، قال الحسن للفرزدق: إن للا إله إلا الله شروطاً، فإياك وقذف المحصنة، وروي عنه أنه قال: هذا العمود فأين الطنب؟ يعني أن كلمة التوحيد عمود الفسطاط، ولكن لا يثبت الفسطاط بدون أطنابه، وهي فعل الواجبات وترك المحرمات، وقيل للحسن: إن ناساً يقولون: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، فقال: من قال لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها دخل الجنة، وقد تقدم الكلام فيه مفصلاً. (رواه البخاري في ترجمة باب) من عادته أن يذكر بعد الباب حديثاً معلقاً مرفوعاً أو موقوفاً على صحابي أو تابعي بغير إسناد، فيه بيان ما يشتمل عليه أحاديث الباب ويضيف إليه الباب، وأثر وهب هذا ذكره البخاري في أول كتاب الجنائز تعليقاً، ووصله في التاريخ الكبير، وأبونعيم في الحلية، وقول المصنف "رواه البخاري" سهو منه، فإنه لم يروه البخاري في صحيحه، لا في ترجمة باب ولا في غيرها، بل ذكره معلقاً، ولا يقال في مثل هذا "رواه" بل يقال: "ذكره". 44- قوله: (إذا أحسن أحدكم إسلامه) أي أجاد وأخلص، كقوله تعالى: {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن} [2: 113] قاله الطيبي، ووقع في مسند إسحاق بن راهويه: ((إذا حسن إسلام أحدكم)) ، وكأنه رواه بالمعنى؛ لأنه من لازمه، والمعنى: صار إسلامه حسناً باعتقاده وإخلاصه ودخوله فيه بالباطن والظاهر، وأن يستحضر عند عمله قرب ربه منه واطلاعه عليه، كما دل عليه تفسير الإحسان في حديث سؤال جبريل، وقد تقدم، والخطاب للحاضرين، والحكم عام لهم ولغيرهم باتفاق؛ لأن حكمه - صلى الله عليه وسلم - على الواحد حكم على الجماعة، ويدخل فيه النساء والعبيد لكن النِزاع فيه كيفية

فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وكل سيئة يعملها تكتب بمثلها حتى لقي الله)) متفق عليه. 45- (44) وعن أبي أمامة أن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما الإيمان؟ قال: ((إذا سرتك حسنتك وساءتك سيئتك فأنت مؤمن. ـــــــــــــــــــــــــــــ التناول أهي حقيقة عرفية أو شرعية أو مجاز. (فكل حسنة يعملها) مبتدأ خبره (تكتب له بعشر أمثالها) فضلاً من الله ورحمة، حال كونها منتهية (إلى سبع مائة ضعف) بكسر الضاد أي مثل، قال الأزهري: والضعف في كلام العرب المثل إلى ما زاد، وليس بمقصور على المثلين بل جائز في كلام العرب أن تقول: هذا ضعفه، أي مثلاًه وثلاثة أمثاله؛ لأن الضعف في الأصل زيادة غير محصورة، ألا ترى إلى قوله تعالى: {فأولئك لهم جزاء الضعف بما علموا} [34: 37] لم يرد مثلاً ولا مثلين ولكن أراد بالضعف الأضعاف، فأقل الضعف محصور وهو المثل، وأكثره غير محصور. قال الطيبي: "إلى" لانتهاء الغاية، فيكون ما بين العشرة إلى سبع مائة درجات، بحسب الأعمال والأشخاص والأحوال - انتهى. وقد أخذ بعضهم فيما حكاه الماوردي بظاهر هذه الغاية فزعم أن التضعيف لا يتجاوز سبع مائة، ورد بقوله تعالى: {والله يضاعف لمن يشاء} [2: 261] ، قال الحافظ: والآية محتملة للأمرين، فيحتمل أن يكون المراد أنه يضاعف تلك المضاعفة بأن يجعلها سبع مائة، وهو الذي قاله البيضاوي، ويحتمل أنه يضاعف السبعمائة بأن يزيد عليها، والمصرح بالرد عليه حديث ابن عباس عند المصنف أي البخاري في الرقاق، ولفظه: ((كتب الله له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة)) - انتهى. فالمراد بسبع مائة: الكثرة (تكتب بمثلها) من غير زيادة، والباء للمقابلة، قال القاري: أي كمية فضلاً منه تعالى ورحمة، وإن كانت السيئات تتفاوت كيفية باختلاف الزمان والمكان وأشخاص الإنسان ومراتب العصيان (حتى لقي الله) إي إلى أن يلقى الله يوم القيامة فيجازيه أو يعفو عنه، وفي حديث أبي سعيد عند البخاري: ((والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنها)) . والعدول إلى الماضي لتحقق وقوعه، كقول تعالى: {أتى أمر الله} [16: 1] ، ولا يبعد تعلق "حتى" بالجملتين، وإرادة اللقي بمعنى الموت، قال الحافظ في شرح حديث أبي سعيد بلفظ: ((إذا أسلم العبد فحسن إسلامه يكفر عنه كل سيئة زلفها ... )) الخ، والحديث يرد على من أنكر الزيادة والنقص في الإيمان؛ لأن الحسن تتفاوت درجاته - انتهى. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والبيهقي. 45- قوله: (ما الإيمان) أي علامته (قال: إذا سرتك حسنتك وساءتك سيئتك) أي أحزنك ذنبك، قال الطيبي: يعني إذا صدرت منك طاعة وفرحت بها مستيقناً أنك تثاب عليها، إذا أصابتك معصية حزنت عليها، فذلك علامة الإيمان بالله واليوم والآخر (فأنت مؤمن) أي كامل الإيمان. قال المناوي: لفرحك بما يرضى الله وحزنك بما يغضبه، وفي

قال: يا رسول الله، فما الإثم؟ قال: إذا حاك في نفسك شيء فدعه)) رواه أحمد. 46- (45) وعن عمرو بن عبسة قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله من معك على هذا الأمر؟ قال: حر وعبد، قلت: ما الإسلام؟ قال: طيب الكلام وإطعام الطعام، قلت: ما الإيمان؟ قال: الصبر ـــــــــــــــــــــــــــــ الحزن عليها إشعار بالندم الذي هو أعظم أركان التوبة (فما الإثم) أي ما علامته إذا لم يكن نص صريح أو نقل صحيح واشتبه أمره والتبس حكمه (إذا حاك في نفسك شيء) أي تردد ولم يطمئن به قلبك وأثر فيه تأثيراً يديم تنفيراً (فدعه) أي اتركه، وهو كقوله: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) ، وهذا بالنسبة إلى أرباب البواطن الصافية والقلوب الزاكية لا العوام الذين قلوبهم مظلمة بالمعاصي، فإنهم ربما يحسبون الإثم براً والبر إثماً (رواه أحمد) (ج5: ص251، 252، 256) ، وفي سنده يحيى بن أبي كثير، وهو مدلس، وأخرجه أيضاً الطبراني في الأوسط. قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح، إلا أن فيه يحيى بن أبي كثير، وهو مدلس وإن كان من رجال الصحيح - انتهى. وأخرجه أيضاً ابن حبان والطبراني في الكبير والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان والضياء في المختارة كذا في الجامع الصغير، وأخرج أحمد والبزار والطبراني في الكبير عن أبي موسى نحوه. 46- قوله: (عن عمرو بن عبسة) بعين مهملة وموحدة وسين مهملة مفتوحات، ابن عامر بن خالد السلمي، كنيته أبونجيح، كان أخاً أبي ذر لأمه، أسلم قديماً بمكة، قال ابن سعد: يقولون: إنه رابع أو خامس في الإسلام، ثم رجع إلى بلاد قومه فأقام بها إلى أن هاجر بعد خيبر وقبل الفتح فشهدها، قال أبونعيم: كان قبل أن يسلم يعتزل عبادة الأصنام ويراها باطلاً وضلالاً، وكان يرعى فتظله غمامة، روى عنه ابن مسعود مع تقدمه وأبوأمامة الباهلي وسهل بن سعد، له ثمانية وأربعون حديثاً، انفرد له مسلم بحديث يأتي في باب أوقات النهي، قال الحافظ في الإصابة (ج3: ص6) وتهذيب التهذيب (ج8: ص69) : كانت وفاته في أواخر خلافة عثمان، فإني ما وجدت له ذكراً في الفتنة ولا في خلافة معاوية. (من معك على هذا الأمر) أي من يوافقك على ما أنت عليه من أمر الدين (قال: حر وعبد) قال القاري: أي كل حر وعبد، يعني مأمور بالموافقة، وقيل: أبوبكر وزيد، وقيل: أبوبكر وبلال، ويؤيده ما في إحدى روايات مسلم: ومعه يومئذٍ أبوبكر وبلال، ولعل علياً لم يذكر لصغره، وكذا خديجة لسترها وعدم ظهورها - انتهى. قلت: وكذا وقع في رواية لعمرو بن عبسة عند أحمد: ومعه أبوبكر وبلال، وفي أخرى عنده: من تابعك على أمرك هذا؟ قال: حر وعبد، يعني أبابكر وبلالاً (ما الإسلام) أي علامته أو شعبه أو كماله (طيب الكلام وإطعام الطعام) ذكر الإطعام ليدخل فيه الضيافة وغيرها، وفيهما إشارة إلى الحث على مكارم الأخلاق وبذل الإحسان ولو بحلاوة اللسان. (ما الإيمان) أي ثمرته ونتيجته، أو خصاله وشعبه (قال) محصل خصال الإيمان أو ثمرة الإيمان (الصبر) أي على

والسماحة. قال: قلت: أي الإسلام أفضل؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده. قال: قلت: أي الإيمان أفضل؟ قال: خلق حسن، قال: قلت: أي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت. قال: قلت: أي الهجرة أفضل؟ قال: أن تهجر ما كره ربك. قال: قلت: فأي الجهاد أفضل؟ قال: من عقر جواده وأهريق دمه. قال: قلت: أي الساعات أفضل؟ قال: جوف الليل الآخر)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الطاعة وعن المعصية وفي المعصية (والسماحة) أي السخاوة بالزهد في الدنيا والإحسان والكرم للفقراء، وقال الطيبي: فسر الإيمان بالصبر والسماحة لأن الأول يدل على ترك المنهيات، والثاني يدل على فعل المأمورات، كما فسره الحسن البصري بقوله: الصبر عن معصية الله، والسماحة على أداء فرائض الله، ثم جمع هاتين الخصلتين بالخلق الحسن، بناءً على ما قالت الصديقة: ((كان خلقه القرآن)) ، أي يأتمر بما أمره الله، وينتهي عما نهى الله عنه، ويجوز أن يحملا على الإطلاق، ويكون قوله ((خلق حسن)) بعد ذكرهما كالتفسير له؛ لأن الصبر على أذى الناس والسماحة بالموجود يجمعهما الخلق الحسن - انتهى. (أي الإسلام أفضل) أي أيّ ذوي الإسلام وأهله أكثر ثواباً (أي الإيمان) أي أخلاقه أو خصاله أو شعبه (خلق حسن) بضم اللام وتسكن، وهو صفة جامعة للخصال السنية والشمائل البهية، والخلق: ملكة تصدر بها الأفعال عن النفس بسهولة من غير سبق روية، وتنقسم إلى فضيلة وهي الوسط، ورذيلة وهي الأطراف. (أي الصلاة أفضل) أي أركانها أو كيفياتها (قال: طول القنوت) أي القيام أو القراءة أو الخشوع، والأول أظهر. واختلف العلماء في أن طول القيام أفضل أو كثرة السجود، ويأتي الكلام فيه في الصلاة (أي الهجرة) أي أفرادها (أفضل) فإن الهجرة أنواع، إلى الحبشة عند إيذاء الكفارة للصحابة، ومن مكة إلى المدينة، وفي معناه الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وهجرة القبائل لتعلم المسائل من النبي - صلى الله عليه وسلم -، والهجرة عما نهى الله عنه (أن تهجر ما كره ربك) فهذا النوع هو الأفضل؛ لأنه الأعم الأشمل (فأي الجهاد أفضل) أي أنواعه أو أهله، وهو الظاهر (من عقر) بصيغة المجهول (جواده) أي قتل فرسه (وأهريق دمه) بضم الهمزة وسكون الهاء، أي صب وسكب، يقال: أراق يريق، وهراق يهريق، بقلب الهمزة هاء، وأهراق يهريق بزيادتها، كما زيدت السين في استطاع، والهاء في مضارع الأول محركة وفي مضارع الثاني ساكنة، كذا قاله صاحب الفائق. وإنما كان هذا الجهاد أفضل لجمعه بين الإنفاق في سبيل الله، والشهادة في مرضاة الله (جوف الليل الآخر) صفة جوف أي النصف الأخير من الليل، وقيل: المراد به وسط النصف الثاني، وهو السدس الخامس من أسداس الليل، وهو الوقت الذي ورد فيه النُزول الإلهي، وفي رواية لأحمد (ج4: ص187) : ((جوف الليل الآخر أجوبه دعوة)) ، وروى الترمذي عن عمرو بن عبسة مرفوعاً: ((أقرب ما يكون الرب من العبد في

رواه أحمد. 47- (46) وعن معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من لقي الله لا يشرك به شيئاً، ويصلي الخمس، ويصوم رمضان، غفر له، قلت: أفلا أبشرهم يا رسول الله؟ قال: دعهم يعملوا)) رواه أحمد. 48- (47) وعنه أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أفضل الإيمان، قال: ((أن تحب لله، وتبغض لله، وتعمل لسانك في ذكر الله، قال: وماذا يا رسول الله؟ قال: وأن تحب للناس ما تحب لنفسك، وتكره لهم ما تكره لنفسك، ـــــــــــــــــــــــــــــ جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله تلك الساعة فكن. (رواه أحمد) (ج4: ص385) ، وأخرجه أيضاً الطبراني في الكبير، وفي إسنادهما شهر بن حوشب، وقد وثق على ضعف فيه، وأخرجه الطبراني في الكبير مختصراً من حديث أبي موسى ورجاله موثوقون. 47- قوله: (من لقي الله) أي مات (لا يشرك به شيئاً) أي حال كونه غير مشرك (ويصلي الخمس، ويصوم رمضان) ترك ذكر الزكاة والحج لأنهما مختصان بالأغنياء، وخص الصلاة والصوم بالذكر لكونهما أفضل وأشهر وأعم (غفر له) أي غفر الله ذنوبه الصغائر والكبائر التي بينه وبين الله تعالى إن شاء، وأما حقوق العباد فيمكن أن يرضيهم الله تعالى من فضله (يعملوا) مجزوم على جواب الأمر، أي يجتهدوا في زيادة العبادة من السنن والنوافل، ولا يتكلوا على الشهادة والفرائض (رواه أحمد) (ج5: ص232) بسند صحيح. 48- قوله: (عن أفضل الإيمان) أي عن شعبه ومراتبه وأحواله أو خصال أهله (أن تحب) أي كل ما تحبه (لله) لا لغرض سواه (وتبغض) أي مبغوضك (لله) لا لطبع وهوى (وتعمل) من الإعمال بمعنى الاستعمال والإشغال (لسانك في ذكر الله) بأن لا يزال رطباً به بشرط الحضور. (وماذا يا رسول الله) أي وماذا أصنع بعد ذلك؟ "وماذا" إما منصوب بأصنع، أو مرفوع، أي أيّ شيء أصنعه؟ فعلى الأول مقول قال (وأن تحب) يكون منصوباً، وعلى الثاني مرفوعاً، والواو للعطف على مقدر، والتقدير: أن تستقيم على ما قلنا وأن تحب (للناس) يحتمل التعميم ويحتمل التخصيص بالمؤمنين (ما تحب لنفسك) أي تحب لهم من الطاعات والمباحات الدنيوية والأخروية مثل الذي تحب لنفسك، والمراد أن تحب أن يحصل لهم مثل ما حصل لك لا عينه، سواء كان ذلك في الأمور المحسوسة أو المعنوية، وليس المراد أنك تحب أن ما عندك ينتقل إليهم، أو أنه بذاته يكون عندهم، إذ الجسم الواحد لا يكون في

رواه أحمد. ـــــــــــــــــــــــــــــ مكانين؛ لأن قيام الجوهر أو العرض بمحلين محال، وهذا في عوام الناس، أما أهل الخصوص فلا يكمل إيمان أحدهم إلا إذا أحب أن يكون كل مسلم فوقه، ولذا قال الفضيل بن عياض لابن عيينة: إنك لا تكون ناصحاً أتم النصح للناس إلا إذا كنت تحب أن كل مسلم يكون فوقك. وقال العلقمى: فإن قيل: ظاهر الحديث طلب المساواة، وكل أحد يحب أن يكون أفضل من غيره. يجاب بأن المراد الحث على التواضح، فلا يحب أن يكون أفضل من غيره ليرى عليه مزية. ويستفاد ذلك من قوله تعالى: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين} [28: 83] ، ولا يتم ذلك إلا بترك الحسد والحقد والغش، وكلها خصال مذمومة - انتهى. (رواه أحمد) (ج5: ص247) من طريقين، في أحداًهما رشدين، وفي الأخرى ابن لهيعة، وكلاهما يرويان عن زبان، والثلاثة مضعّفون، وأخرجه أيضاً الطبراني في الكبير، وفي سنده أيضاً ابن لهيعة.

(1) باب الكبائر وعلامات النفاق

(1) باب الكبائر وعلامات النفاق {الفصل الأول} 49- (1) عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: ((قال رجل: يا رسول الله، أي الذنب ـــــــــــــــــــــــــــــ (باب الكبائر) جمع كبيرة، اعلم أنه ذهب الجمهور من السلف والخلف من جميع الطوائف إلى أن من الذنوب كبائر ومنها صغائر، وقد تظاهر على ذلك دلائل من الكتاب كقوله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} [4:31] ، وقوله تعالى: {والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم} [53:32] وغير ذلك من الآيات، والسنة الصحيحة كالأحاديث التي دلت على انقسام المعاصي إلى ما تكفره الصلوات الخمس أو صوم رمضان أو الحج أو العمرة أو الوضوء أو صوم عرفة أو صوم عاشوراء أو فعل الحسنة أو غير ذلك مما جاءت به الأحاديث الصحيحة الثابتة، وإلى ما لا يكفره ذلك كما ثبت في الصحيح: ((ما لم يغش كبيرة)) . وشذت طائفة فقالت: ليس في الذنوب صغيرة، بل كل ما نهى الله عنه كبيرة، ثم اختلف الجمهور في ضبط الكبيرة اختلافاً كثيراً، فقيل كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب، روي ذلك عن ابن عباس. وقيل ما وجبت فيه الحدود في الدنيا أو توجه إليها الوعيد بالنار في الآخرة، ومراد قائله: ضبط ما لم يرد فيه نص بكونه كبيرة. وقيل الأولى ضبطها بما يشعر بتهاون مرتكبها بدينه إشعاراً دون الكبائر المنصوص عليها. والراجح أن كل ذنب نص على كبره أو عظمه أو توعد عليه بالعقاب في الآخرة أو ختم بالغضب أو اللعنة أو علق عليه حد أو شدد النكير عليه أو وصف فاعلها بالفسق فهو كبيرة. وذهب جماعة إلى أن الذنوب التي لم ينص على كونها كبيرة مع كونها كبيرة لا ضابط لها. قال الواحدى: ما لم ينص الشارع على كونه كبيرة فالحكمة في إخفاء أن يمتنع العبد من الوقوع فيه خشية أن يكون كبيرة كإخفاء ليلة القدر وساعة الجمعة والاسم الأعظم. هذا، وارجع للتفصيل إلى شرح مسلم للنووي في باب الكبائر من كتاب الإيمان، والفتح (ج5: ص526) في شرح باب عقوق الوالدين من الكبائر من أبواب الأدب، وفي شرح باب رمى المحصنات من كتاب المحاربين (ج6: ص383) والزواجر للهيتمي، والإحياء للغزالي (وعلامات النفاق) تخصيص بعد تعميم. 49-قوله: (عن عبد الله بن مسعود) بن غافل بن حبيب الهذلي، يكنى أباعبد الرحمن، أسلم قديماً في أول الإسلام قبل دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم وقبل عمر بزمان، وقيل: كان سادساً في الإسلام، ثم ضمه إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان من خواصه، وكان يعرف في الصحابة بصاحب النعلين والسواك والسواد والطهور، هاجر الهجرتين وشهد بدراً والمشاهد كلها، وصح عنه أنه قال: أخذت من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعين سورة. وكان يشبه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في سمته ودله وهديه، وشهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنة فيما ذكر في حديث العشرة بإسناد حسن جيد. كان من كبار العلماء من الصحابة شهد فتوح الشام وولي القضاة بالكوفة وبيت مالها لعمر وصدراً من خلافة عثمان، ثم صار إلى المدينة فمات بها

أكبر عند الله؟ قال: ((أن تدعو لله نداً وهو خلقك. قال: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قال: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ سنة (32) ودفن بالبقيع، وله بضع وستون سنة. مناقبه وفضائله كثيرة جداً، بسط ترجمته الحافظ في الإصابة (ج2 ص370، 368) وابن عبد البر في الاستيعاب. روى ثمان مائة حديث وثمانية وأربعين حديثاً، اتفقا على أربعة وستين، وانفرد البخاري بأحد وعشرين، ومسلم بخمسة وثلاثين. روى عنه خلق كثير من الصحابة والتابعين. (أي الذنب أكبر) وفي رواية أعظم (أن تدعو) أي تجعل كما في رواية وكقوله تعالى: {لا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون} [2:22] (نداً) بكسر النون أي شريكا ونظيراً، والند في اللغة: المثل المناوي: أي المماثل المخالف المضاد المعادي، من ند ندوداً إذا نفرا، وناددت الرجل أي خالفته، خص بالمخالف في الأفعال والأحكام المماثل في الذات والصفات، كما خص المساوي للمماثل في القدر والشكل فيما يشارك في القدر والمساحة، والشبه فيما يشارك في الكيفية، والمثل عام في جميع ذلك، والضد أحد المتقابلين لا يمكن اجتماعها (وهو خلقك) أي وغيره لا يستطيع خلق شيء، فوجود الخلق يدل على الخالق، واستقامة الخلق تدل على توحيده، إذ لو كان المدبر اثنين لم يكن على الاستقامة. والجملة حال من الله أو من فاعل " أن تدعو"، أي والحال أنه انفرد بخلقك ولم يخلقك غيره، ولم يقدر على أن يدفع السوء والمكاره منك غيره، بل لله عليك الأنعام بما لا تقدر على عده. وفي الخطاب إشارة إلى أن الشرك من العالم بحقيقة التوحيد أقبح منه من غيره، (قال ثم أي) استفهام بالتنوين بدل من المضاف إليه لكن يحذف التنوين وقفاً بمعنى: أي شيء من الذنوب أكبر بعد الشرك، فثم لتراخي الرتبة (أن تقتل ولدك) أي الذي هو أحب الأشياء عند الإنسان عادة، ثم الحامل على قتله خوف أن يأكل معك، وهو في نفسه من أخس الأشياء، فإذا قارن القتل سيما قتل الولد سيما من العالم بحقيقة الأمر كما يدل عليه الخطاب زاد قبحاً على قبح. (خشية) منصوب على أنه مفعول له (أن يطعم) بنصب أوله (معك) بخلا مع الوجداًن أو إيثاراً لنفسه عليه عند الفقد، ولا اعتبار بمفهومه لأنه خرج مخرج الغالب لأنهم كانوا يقتلونهم لأجل ذلك، وهو معنى قوله: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق} [17:31] أي فقر. (أن تزاني حليلة جارك) الحليلة بالحاء المهملة، وهي زوجته من حل يحل بالكسر، لأنها تحل له، فهي فعيلة بمعنى فاعلة، أو من حل يحل بالضم حلولاً؛ لأنها تحل معه في فراش واحد. قال النووي: ومعنى "تزاني" أي تزني بها برضاها، وذلك يتضمن الزنا وإفسادها على زوجها واستمالة قلبها إلى الزاني، وذلك أفحش، وهو مع امرأة الجار أشد قبحاً وأعظم جرماً؛ لأن الجار يتوقع من جاره الذب عنه وعن حريمه، ويأمن بوائقه ويطمئن إليه، وقد أمر بإكرامه والإحسان إليه، فإذا قابل هذا كله بالزنا بامرأته وإفسادها عليه مع تمكنه منهما على وجه لا يتمكن غيره منه كان في غاية من القبح - انتهى. والحاصل أن هذه الذنوب أي الإشراك بالله والقتل

فأنزل الله تصديقها ((والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون - الآية)) متفق عليه. 50- (2) وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، ـــــــــــــــــــــــــــــ والزنا في ذاتها قبائح أي قبائح، وقد قارنها من الأحوال ما جعلها في القبح بحيث لا يحيطها الوصف. وقال القاري: حاصل القيود من الند والولد والجار كمال تقبيح هذه الأصناف من هذه الأنواع لا أنها قيود احترازية. (فأنزل الله تصديقها) أي تصديق هذه المسألة أو الأحكام، ونصبه على أنه مفعول له أي أنزل الله هذه الآية تصديقاً لها {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر} هذا من جملة الأخبار عن المبتدأ المتقدم وهو "عباد الرحمن" {ولا يقتلون النفس التي حرم الله} أي قتلها (إلا بالحق) كالرجم والردة والقصاص، والمعنى: لا يقتلون نفس غير الحربي بوجه من الوجوه إلا بالحق، فهو استثناء مفرغ (الآية) وهي بتمامها في سورة الفرقان. فإن قلت: القتل والزنا في الآية مطلقان، وفي الحديث مقيدان. قلت: لأنها بالقيد أعظم وأفحش، ولا ما نع من الاستدلال لذلك بالآية. وقال القاري: في كون هذه الآية مصدقة للحديث دليل واضح لما تقدم من أن المقصود من الحديث إنما هو بيان مطلق الزنا والقتل، وأن ذكر الولد والخشية وحليلة الجار لبيان زيادة الفحش والتشنيع والتفضيح أو رعاية لحال السائل لا للتقييد، وإلا لم تكن الآية الدالة على أكبرية القتل والزنا لا بقيد مطابقة للحديث حتى تصدقه، بل كان الحديث مقيداً لها. والحديث أخرجه البخاري في تفسير سورة البقرة والفرقان وفي الأدب وفي المحاربة وفي التوحيد، ومسلم في الإيمان، والترمذي في تفسير سورة الفرقان، والنسائي في المحاربة. واعلم أنه لم يقع في كثير من النسخ المطبوعة في الهند، وفي النسخة التي طبعت على حاشية المرقاة عزو الحديث لأحد من مخرجيه من أئمة الحديث. والظاهر أنه سقط لفظ " متفق عليه" من تلك النسخ أو لم يكن موجوداً في أصولها، والصواب وجود هذه اللفظة لوقوعها في النسخ المخطوطة التي ذكرها الشيخ أبوبكر زهير شاويش في مقدمته، ولما أنها ضبطها القاري في شرحه للمشكاة، وكانت عنده عدة نسخ مصححة مقروءة مسموعة معتمدة، أخذ من مجموعها أصلاً وصححه منها، وضبط في شرحه على ما ذكره في أول الشرح. 50-قوله: (الكبائر) المراد به أكبر الكبائر لما في رواية عند أحمد: من أكبر الكبائر، ولحديث عبد الله بن أنيس عند الترمذي بسند حسن مرفوعاً قال: من أكبر الكبائر ... فذكر منها: اليمين الغموس، ولحديث ابن مسعود المتقدم، فإنه جعل فيه الشرك بالله أكبر الذنوب، ولحديث أنس عند البخاري في الديات وفيه: أكبر الكبائر ... الحديث. (الإشراك بالله) أي اتخاذ إله غير الله، المراد به مطلق الكفر، وتخصيص الشرك بالذكر لغلبته في الوجود لاسيما في بلاد العرب، فذكر تنبيهاً على غيره من أصناف الكفر (وعقوق الوالدين) بضم العين المهملة أي عصيان أمرهما وترك

وقتل النفس. واليمين الغموس)) ، رواه البخاري. 51- (3) وفي رواية أنس ((وشهادة الزور)) بدل اليمين الغموس، متفق عليه. 52- (4) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اجتنبوا السبع الموبقات، ـــــــــــــــــــــــــــــ خدمتها، مشتق من العق وهو الشق والقطع، والمراد به: صدور ما يتأذى به الوالد من ولده من قول أو فعل إلا في الشرك أو معصية ما لم يتعنت الوالد. وضبطه ابن عطية بوجوب طاعتهما في المباحات فعلاً وتركاً، واستحبابها في المندوبات وفروض الكفاية كذلك، ومنه تقديمها عند تعارض الأمرين. ثم اقترانه بالإشراك لما بينهما من المناسبة، إذ في كل قطع حقوق السبب في الإيجاد والإمداد، وإن كان ذلك لله حقيقة وللوالدين صورة، ونظيره قوله تعالى: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً} [4:36] . وقوله: {أن أشكر لي ولوالديك} [14:31] . (وقتل النفس) أي بغير حق (واليمين الغموس) أي الكاذبة، بفتح الغين المعجمة وضم الميم الخفيفة، وهو الحلف على ماضٍ متعمداً للكذب، بأن يقول: والله ما فعلت كذا أو فعلت كذا، وهو يعلم أنه ما فعله، أو أنه فعله، أو أن يحلف كاذباً متعمداً ليذهب مال غيره، سمي غموساً لأنه يغمس أي يدخل صاحبه في الإثم ثم في النار. وقيل في الكفارة بناءً على مذهب الشافعية (رواه البخاري) في الإيمان والنذور وفي الديات وفي استتابة المعاندين والمرتدين، وأخرجه أيضاً أحمد، والترمذي في التفسير، والنسائي في المحاربة. 51-قوله: (وفي رواية أنس) خبر مقدم، والمبتدأ قوله (وشهادة الزور) بضم الزاي أي الكذب، وسمي زوراً لميلانه عن جهة الحق. قال الحافظ: ضابط الزور وصف الشيء على خلاف ما هو به، وقد يضاف إلى القول فيشمل الكذب والباطل، وقد يضاف إلى الشهادة فيختص بها، وقد يضاف إلى الفعل ومنه "لابس ثوبي زور"، ومنه تسمية الشعر الموصول زوراً. (بدل اليمين الغموس) منصوب على الظرفية، وعامله معنى الفعل الذي في "وفي رواية أنس"، "واليمين" بالرفع حكاية، وبالجر عملاً بالإضافة. قيل: ولعل اختلاف أنس لابن عمرو لاختلاف المجلس، أو نيسان كل منهما، والله أعلم. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الشهادات والأدب والديات، ومسلم في الإيمان، وأخرجه أيضاً الترمذي، والنسائي. 52-قوله: (اجتنبوا السبع) أي احذروا فعلها وابعدوا عنها (الموبقات) بموحدة مكسورة وقاف، أي المهلكات جمع موبقة. سميت بذلك لأنها سبب لإهلاك مرتكبها في الدنيا بما يترتب عليها من العقوبات وفي الآخرة من العذاب، والمراد بها الكبائر، كما ثبت في روايات وأحاديث أخرى، ذكرها الحافظ في شرح باب رمي المحصنات، وفي أواخر المحاربين. والتنصيص على عدد لا ينفي غيره وإلا فهي إلى السبعين أقرب، روي ذلك عن ابن عباس، وهو محمول على المبالغة بالنسبة إلى من اقتصر على سبع. وقيل في الجواب عن الحكمة في الاقتصار على سبع أنه علم أولاً

قالوا: يارسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق. وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)) ، متفق عليه. 53- (5) وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالمذكورات ثم علم بما زاد، فيجب الأخذ بالزائد، أو أن الاقتصار وقع بحسب المقام بالنسبة إلى السائل أو من وقعت له واقعة، ونحو ذلك. (الشرك بالله) أي جعل أحد شريكا لله تعالى، قال المناوي: أكبر الكبائر وأعظمها: الشرك ثم القتل ظلماً، وما عدا ذلك يحتمل أنه في مرتبة واحدة، فإن الواو لا تقتضي الترتيب، ويقال في كل واحدة: إنها من أكبر الكبائر - انتهى. بزيادة يسيرة. (والسحر) بكسر السين وسكون الحاء المهملتين، وهو أمر خارق للعادة صادر عن نفس شريرة، والذي عليه الجمهور أن له حقيقة تؤثر بحيث تغير المزاج. قال النووى: عمل السحر حرام، ومنه ما يكون كفراً ومنه ما لا يكون كفراً بل معصية كبيرة، فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر فهو كفر وإلا فلا، وأما تعلمه وتعليمه فحرام، وفي حكم السحر ومتعلقاته اختلاف كثير وتفاصيل ومباحث ارجع لها إلى تفسير الفخر الرازي، وأحكام القرآن للجصاص الرازي، والفتح للحافظ. (إلا بالحق) أي بفعل موجب للقتل شرعاً. (وأكل الربا) أي تناوله بأي وجه كان (وأكل مال اليتيم) أي بغير حق (والتولي) بكسر اللام أي الإدبار للفرار (يوم الزحف) أي يوم القتال في الجهاد، و"الزحف" بفتح الزاي وسكون الحاء اسم للجماعة التي يزحفون إلى العدو أي يمشون إليهم بمشقة، من زحف الصبي إذا دب على إسته. وقيل: سمي به لكثرته وثقل حركته كأنه يزحف. وقيل: اسم لجيش الكفار سموا بذلك لكثرة زحفهم على المسلمين، سموا بالمصدر للمبالغة. وإنما يكون التولي كبيرة إذا لم يزد عدد الكفار على مثلى المسلمين إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة. (وقذف المحصنات) أي الحرائر العفيفات، يعني رميهن بالزنا، جمع محصنة بفتح الصاد أي التي أحصنها الله من الزنا، وبكسر الصاد أي التي حفظت فرجها من الزنا (المؤمنات) احتراز عن قذف الكافرات، فإن قذفهن ليس من الكبائر، فإن كانت ذمية فقذفها من الصغائر ولا يوجب الحد، وفي قذف الأمة المسلمة التعزير دون الحد، وإذا كان المقذوف رجلاً يكون القذف أيضاً من الكبائر، ويجب الحد أيضاً، فتخصيصهن لمراعاة الآية والعادة (الغافلات) عن الفواحش وما قذفن به، كناية عن البريئات؛ لأن البريء غافل عما بهت به من الزنا، وأما غير الغافلات عن الفواحش فلا يحرم قذفهن إن كن معلنات. قال القاري: والغافلات مؤخر عن المؤمنات في الحديث عكس الآية على ما في النسخ المصححة، ووقع في شرح ابن حجر بالعكس وفق الآية (متفق عليه) . وأخرجه أيضاً أبوداود، والنسائي. 53- قوله: (لايزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) الواو للحال، وظاهره دليل على أن صاحب الكبيرة ليس بمؤمن كما قالت الخوارج والمعتزلة، خلافاً لأهل السنة فأوله بوجوه جمعاً بينه وبين الدلائل من الكتاب والسنة.

ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن، ولا يغل أحدكم حين يغل وهو مؤمن، فإياكم وإياكم)) ، ـــــــــــــــــــــــــــــ الصحيحة التي تدل على أن أصحاب الكبائر غير الشرك لا يكفرون بذلك، بل هم المؤمنون ناقصوا الإيمان، إن تابوا سقطت عقوبتهم، وإن ماتوا مصرين على الكبائر كانوا في المشيئة. فمن الوجوه التي أول أهل الحق الحديث بها أن المراد المؤمن الكامل في إيمانه. ومنها أن معني نفي الإيمان نفي الأمان من عذاب الله؛ لأن الإيمان مشتق من الأمن. ومنها أن المراد بالمؤمن المطيع لله، يقال: آمن له، إذا انقاد وأطاع. ومنها أنه محمول على الزجر والوعيد للتنفير عنه. ومنها أنه محمول على الإنذار لمرتكب هذه الكبائر بسوء عاقبة الأمر، إذ مرتكبها لا يؤمن عليه أن يقع في الكفر الذي هو ضد الإيمان. ومنها أن المراد أن الإيمان إذ زنى الرجل خرج منه، وكان فوق رأسه مثل الظلة، فإذا انقطع رجع إليه. ومنها أن معنى مؤمن مستحي من الله؛ لأن الحياء شعبة من الإيمان، فلو استحى منه واعتقد أنه ناظر لم يرتكب هذا الفعل الشنيع، قاله الطيبي. ومنها أن صيغ الأفعال وإن كانت واردة على طريق الإخبار فالمراد منها النهي، ويشهد له أنه روي " لا يزن" بحذف الياء " ولا يشرب" بكسر الباء. ومنها أنه محمول على من فعله مستحلاً مع عمله بتحريمه. ومنها أن معنى نفي كونه مؤمنا: أنه شابه الكافر في عمله، وموقع التشبيه أنه مثله في جواز قتاله في تلك الحالة ليكف عن المعصية، ولو أدى إلى قتله، فإنه لو قتل في تلك الحالة يكون دمه هدراً، فانتفت فائدة الإيمان في حقه بالنسبة إلى زوال عصمته في تلك الحالة. ومنها أن معناه ليس بمستحضر في حالة تلبسه بالكبيرة جلال من آمن به، فهو كناية عن الغفلة التي جلبتها له غلبة الشهوة. ومنها أن معنى " وهو مؤمن" أي مصدق بالعقاب عليه، إذ لو كان معه تصديق بالعقاب ما وقع في الذنب. وارجع لمزيد البسط والتوضيح إلى الفتح في أول الحدود. (ولاينتهب) انتهب ونهب إذا أغار على أحد وأخذ ماله قهراً (نهبة) بالضم. المال الذي ينهب جهراً قهراً ظلماً لغيره، فهو مفعول به، وبالفتح مصدر (يرفع الناس) صفة "نهبة" (إليه) أي إلى الناهب (فيها) أي لسببها ولأجلها أو في حال فعلها أو أخذها (أبصارهم) أي تعجباً من جرأته أو خوفاً من سطوته، أي يتضرعون لديه ولا يقدرون على دفعه، أو هو كناية عن عدم التستر بذلك فيكون صفة لازمة للنهب بخلاف السرقة فإنه يكون خفية، والانتهاب أشد لما فيه من مزيد الجرأة وعدم المبالات، ولم يذكر الفاعل في الشرب وما بعده ففيه كما قال ابن مالك: حذف الفاعل لدلالة الكلام عليه، والتقدير: لا يشرب الشارب ... الخ، كقوله تعالى: {ولا يحسبن الذين قتلوا} [3:168] في قراءة هشام أي حاسب - انتهى. ولا يرجع الضمير إلى الزاني لئلا يختص به، بل هو عام في كل من شرب وكذا في الباقي، ويجوز أن يكون في كل منهما ضمير مستتر يعود إلى مؤمن (ولا يغل أحدكم) الغلول الخيانة أو الخيانة في الغنيمة، والغل الحقد، ومضارع الأول بالضم، وهو المراد، والثاني بالكسر (حين يغل) أي يسرق شيئاً من غنيمة أو يخون في أمانة (فإياكم إياكم) نصبه على التحذير،

متفق عليه. 54- (6) وفي رواية ابن عباس: ((ولا يقتل حين يقتل وهو مؤمن)) . قال عكرمة: قلت لابن عباس: كيف ينزع الإيمان منه؟ قال: هكذا، وشبك بين أصابعه ثم أخرجها، فإن تاب عاد إليه هكذا، وشبك بين أصابعه، وقال أبوعبد الله: لا يكون هذا مؤمناً تاماً، ولا يكون له نور الإيمان، هذا لفظ البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ والتكرير للتوكيد والمبالغة، أي أحذركم من فعل هذه الأشياء المذكورة. (متفق عليه) إلا قوله: ((ولا يغل)) فإنه من إفراد مسلم، والحديث أخرجه البخاري في المطاعم والأشربة والحدود والمحاربين، ومسلم في الإيمان، وأخرجه أيضاً الترمذي، والنسائي، وابن ماجة، وفي الباب عن جماعة من الصحابة، ذكر أحاديثهم الهيثمي في مجمع الزوائد. 54- (وفي رواية ابن عباس) أي في حديثه زيادة، وحديث ابن عباس هذا، أخرجه البخاري في المحاربين وفي الحدود (ولا يقتل) أي القاتل مؤمناً بغير حق (قال عكرمة) بكسر أوله وسكون الكاف وكسر الراء المهملة، هو عكرمة أبوعبد الله المدني مولى ابن عباس، أصله بربري، وهو أحد الأئمة الأعلام وأحد فقهاء مكة وتابعيها. قال في التقريب: ثقة، ثبت، عالم بالتفسير، لم يثبت تكذيبه عن ابن عمر، ولا يثبت عنه بدعة، من أوساط التابعين، مات بالمدينة سنة (107) وقيل غير ذلك، وله ثمانون سنة، روى عنه خلق كثير. وبسط ترجمته الحافظ في تهذيب التهذيب (ج7: ص263،273) من أحب البسط والتفصيل رجع إليه. (كيف ينزع) بضم الياء وفتح الزاي المعجمة (الإيمان منه) عند ارتكابه هذه الكبائر (قال: هكذا) أي تفسيره (وشبك) أو قال هكذا وفعل التشبيك، يعني جمع بين قوله "هكذا" وفعل التشبيك (ثم أخرجها) تعبير للأمر المعنوي بالمدرك الحسي تقريباً للفهم (فإن تاب) أي رجع المرتكب عن ذلك وأقلع (عاد إليه) الايمان، قيل: أي كماله ونوره، وجاء مثل ما قاله ابن عباس مرفوعاً، فقد أخرج أبوداود، والحاكم بسند صحيح عن أبي هريرة: ((إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان فكان عليه كالظلة، فإذا أقلع رجع إليه الإيمان)) . وعند الحاكم عنه أيضاً مرفوعاً: ((من زنى أو شرب الخمر نزع الله منه الإيمان كما يخلع الإنسان قميصه عن رأسه)) . وأخرج الطبري عن ابن عباس مرفوعاً: ((من زنى نزع الله منه نور الإيمان من قلبه، فإن شاء أن يرد إليه رده)) ، (وقال أبوعبد الله) أي الإمام البخاري في تأويل الحديث: (لايكون هذا مؤمناً تاماً) أي كامل الإيمان (ولايكون له نور الإيمان) أي كماله، بل يقع في إيمانه نقصان أي نقصان، والحاصل أن الإيمان: تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان. ونوره أي كماله الأعمال الصالحة واجتناب المنهيات، فإذا أخلَّ بالعمل أو ارتكب معصية مثل الزنا وشرب الخمر والسرقة ذهب نوره، وزال كماله، وبقي صاحبه في الظلمة. (هذا لفظ البخاري) أي هذا التأويل الذي ذكرناه نقلاً عن البخاري هو عن لفظ البخاري لا معناه. لكن لم نجد هذا القول في النسخ الموجودة الحاضرة عندنا من صحيحه، ولعله

55- (7) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((آية المنافق ثلاث - زاد مسلم: ((وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم)) ثم اتفقا - إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ في نسخة أخرى منه، أو في تصنيف آخر له، والله أعلم. قال ميرك: في قول المصنف " وفي رواية" وقوله: "وقال" وكذا في قوله: "وهذا لفظ البخاري" سماجة لا تخفى - انتهى. فتأمل. 55-قوله: (آية المنافق) الآية العلامة، واللام للجنس، وكان القياس جمع المبتدأ الذي هو" الآية" ليطابق الخير الذي هو (ثلاث) أي خصال، وأجيب بأن الثلاث اسم جمع، ولفظه مفرد على أن التقدير: آية المنافق معدودة بالثلاث. وقال الحافظ: الإفراد على إرادة الجنس، أي كل واحد منها آية. وقد روى أبوعوانه في صحيحه بلفظ ((علامات المنافق)) ، وأجيب أيضاً بأنه مفرد مضاف فيعم، كأنه قال: آياته ثلاث. والنفاق لغة: مخالفة الباطن للظاهر، فإن كان في اعتقاد الإيمان فهو نفاق الكفر، ويقال النفاق الأكبر، وإلا فهو نفاق العمل، ويدخل فيه الفعل والترك، وتفاوت مراتبه، ويقال له: النفاق الأصغر، وهو ترك المحافظة على أمور الدين سراً، ومراعاتها علناً، وهو نفاق دون نفاق. (وإن صام وصلى) أي وإن عمل أعمال المسلمين من الصوم والصلاة وغيرهما من العبادات، وهذا الشرط اعتراض وارد للمبالغة لا يستدعى الجواب. (وزعم) أي ادعى (أنه مسلم) أي كامل (ثم اتفقا) أي البخاري ومسلم (إذا حدث) في كل شيء (كذب) بالتخفيف أي أخبر عنه بخلاف ما هو به قاصداً للكذب. (وإذا وعد) أي بالخير في المستقبل؛ لأن الشر يستحب إخلافه، بل قد يجيب. وقال العلقمي: الوعد يستعمل في الخير والشر، يقال: وعدته خيراً ووعدته شراً. فإذا أسقطوا الخير والشر قالوا في الخير: الوعد والعدة، وفي الشر: الإبعاد والوعيد. قال الشاعر: وإني إذا أوعدته أو وعدته لمخلف إبعادي ومنجز موعدي (أخلف) أي لم يف بوعده، والاسم منه الخلف، ووجه المغايرة بين هذه وما قبلها: أن الإخلاف الذي هو لازم الوعد قد يكون بالفعل، وهو غير لازم التحديث الذي هو الكذب الذي لا يكون فعلاً. وخلف الوعد لا يقدح إلا إذا كان العزم عليه مقارناً للوعد، أما لو كان عازماً ثم عرض له مانع أو بدا له رأي فهذا لم يوجد منه صورة النفاق، قاله الغزالي. فخلف الوعد إن كان مقصوداً حال الوعد أثم فاعله، وإلا فإن كان بلا عذر كره له ذلك أو بعذر فلا كراهة. وفي الطبراني من حديث سلمان يشهد له حيث قال: ((إذا وعد وهو يحدث نفسه أنه يخلف)) ، وكذا قال في باقي الخصال. وإسناده لا بأس به، ليس فيهم من أجمع على تركه، وهو عند أبي داود، والترمذي من حديث زيد بن أرقم بلفظ: ((إذا وعد الرجل أخاه، ومن نيته أن يفي له فلم يف فلا إثم عليه)) ، (وإذا أؤتمن) بصيغة المجهول، أي جعل أميناً على شيء (خان) بأن تصرف فيه على خلاف الشرع. وإنما خص هذه الثلاث بالذكر لاشتمالها على المخالفة التي هي مبنى النفاق من مخالفة السر العلن، فالكذب هو الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو به، والأمانة حقها أن تؤدى إلى

56- (8) وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، ـــــــــــــــــــــــــــــ أهلها، فالخيانة مخالفة لها، والخلاف في الوعد ظاهر، ولذا صرح بأخلف، قاله الطيبي. فإن قلت إذا وجدت هذه الخصال في مسلم فهل يكون منافقاً؟ أجيب بأنها خصال نفاق، لا نفاق، فهو على سبيل المجاز، أي صاحب هذه الخصال كالمنافق، وهو بناء على أن المراد بالنفاق نفاق الكفر. أو المراد الاعتياد، ولذا قيد هذا بإذا المقتصية للتكرار، يعني أن المتصف بذلك هو من اجتمعت فيه هذه الخصال، واعتادها وصارت له ديدناً وعادة، واستمر عليها حتى رسخت فيه، بحيث لم يبق للصدق فيه مذهب، ولا للأمانة ممكن، ومن كان كذلك فهو بالحري أن يسمى منافقاً، فإنه لا يوجد على هذه الصفة إلا من طبع على قلبه وختم على سمعه وبصره، فأما المؤمن المقترن بتلك الخصال فإنه إن فعلها مرة تركها أخرى، وإن أسر عليها زماناً أقلع عنها زماناً آخر، وإن وجدت فيه خلة عدمت منه أخرى، فمجموع الخصال الخمس على وجه الاعتياد لا يوجد في غير المنافق بنفاق الكفر. أو المراد الإنذار والتحذير من أن يعتاد هذه الخصال فتفضي به إلى النفاق الحقيقي، أي نفاق الاعتقاد والكفر. أو المراد بالنفاق هو النفاق العملي لا النفاق الإيماني أي الاعتقادي، وهذا ارتضاه القرطبي، وهذه الأجوبة كلها مبنية على أن اللام في المنافق للجنس، وقيل: إنها للعهد إما منافقي زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإما منافق خاص شخص بعينه. وكان - صلى الله عليه وسلم - لا يواجههم بصريح القول فيقول منافق، وإنما يشير إشارة. قال الحافظ: تمسك هؤلاء بأحاديث ضعيفة جاءت في ذلك لو ثبت شيء منها لتعين المصير إليه، وأحسن الأجوبة ما ارتضاه القرطبي - انتهى. قال شيخنا في شرح الترمذي: الأمر كما قال الحافظ من أن أحسن الأجوبة ما ارتضاه القرطبي، وقد نقل الترمذي هذا القول عن أهل العلم مطلقاً - انتهى. والحديث أخرجه البخاري في الإيمان والوصايا والشهادات والأدب، ومسلم، والترمذي، والنسائي في الإيمان. 56- قوله: (أربع) أي خصال أربع، أو أربع من الخصال مبتدأ، خبره (من كن فيه كان منافقاً خالصاً) أي في هذه الخصال فقط لا في غيرها، أو شديد الشبه بالمنافقين بسبب هذه الخصال، أو المراد اجتمعن فيه على وجه الاعتياد والاستمرار والرسوخ كما تقدم، وقيل وصفه بالخلوص، يؤيد قول من قال: إن المراد النفاق العملي لا الإيماني، أو النفاق العرفي لا الشرعي؛ لأن الخلوص بهذين المعنيين لا يستلزم الكفر الملقي في الدرك الأسفل من النار. (حتى يدعها) أي يتركها (وإذا حدث كذب) قيل: ومن حدث عن عيش له سلف فبالغ فهذا لا يضر، وإنما يضر من حدث عن الأشياء بخلاف ما هي عليه قاصداً للكذب. (وإذا عاهد غدر) أي نقض العهد ابتدأ وترك الوفاء لما عاهد عليه

وإذا خاصم فجر)) ، متفق عليه. 57- (9) وعن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مثل المنافق كالشاة العائرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرة، وإلى هذه مرة)) ، رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ (وإذا خاصم فجر) أي في خصومته، أي مال عن الحق وقال الباطل والكذب. قال أهل اللغة: أصل الفجور الميل عن القصد. وقال القاري: أي شتم ورمى بالأشياء القبيحة. فإن قيل: ظاهر الحديث المتقدم يقتضي الحصر في ثلاث، فكيف جاء في هذا الحديث أربع، أجاب القرطبي باحتمال أنه استجد له - صلى الله عليه وسلم - من العلم بخصالهم ما لم يكن عنده. وأجيب أيضاً بأن في رواية لمسلم ما يدل على عدم الحصر، فإن لفظها: ((من علامة المنافق ثلاث)) ، فيكون قد أخبر ببعض العلامات في وقت وبعضها في وقت آخر. وقيل: التخصيص بالعدد لا يدل على نفي الزائد، وقد تحصل من الحديثين خمس خصال، الثلاثة السابقة في الأول، والغدر في المعاهدة، والفجور في الخصومة، فهي متغايرة باعتبار تغاير الأوصاف واللوازم. ووجه الحصر فيها أن إظهار خلاف ما في الباطن إما في الماليات وهو ما إذا أؤتمن، وإما في غيرها، وهو إما في حالة الكدورة فهو إذا خاصم، وإما في حالة الصفاء، فهو إما مؤكد باليمين فهو إذا عاهد، أو لا فهو إما بالنظر إلى المستقبل فهو إذا وعد، وإما بالنظر إلى الحال فهو إذا حدث، لكن هذه الخمسة في الحقيقة ترجع إلى الثلاث؛ لأن الغدر بالعهد منطوٍ تحت الخيانة في الأمانة، والفجور في الخصومة داخل تحت الكذب في الحديث، كذا في شرح القسطلاني (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد، والترمذي، والنسائي، وأبوداود. 57-قوله: (كالشاة العائرة) أي المترددة (بين الغنمين) أي قطيعين وثلثين من الغنم لا تدري أيهما تتبع، فإن الغنم اسم جنس يقع على الواحد والجمع. وقال السندهي: الغنم جمع، ففي الحديث تثنية الجمع بتأويله بالجماعة. نقل السيوطي عن الزمخشري أنه قال في المفصل: قد يثنى الجمع على تأويل الجماعتين والفرقتين، ومنه هذا الحديث - انتهى. والعائرة هي التي تطلب الفحل فتردد بين قطيعين ولا تستقر مع أحداًهما، والمنافق مع المؤمنين بظاهره ومع المشركين بباطنه، تبعاً لهواه وغرضه الفاسد، وميلاً إلى ما يتبعه من شهواته، فصار بمنزلة تلك الشاة، وبذلك وصفهم الله تعالى في قوله: {مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء} [4:143] ، قال الطيبي: وخص الشاة العائرة بالذكر إيماءً بمعنى سلب الرجولية عن المنافقين من طلب الفحل للضراب (تعير) بفتح أوله، أي تردد وتذهب، من عار الفرس عياراً انفلت وذهب هنا وهنا من مرجه (إلى هذه) أي القطيعة (مرة وإلى هذه) أي القطيعة الأخرى (مرة) أخرى ليضربها فحلها، فلا ثبات لها على حالة واحدة، وإنما هي أسير شهوتها (رواه مسلم) في صفات المنافقين قبل صفة القيامة من أواخر صحيحه، وأخرجه أيضاً أحمد، والنسائي، وزاد: ((لا تدري أيهما تتبع)) .

{الفصل الثاني}

{الفصل الثاني} 58- (10) عن صفوان بن عسال قال: قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي، فقال له صاحبه: لا تقل نبي، إنه لو سمعك لكان له أربع أعين، فأتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألاه عن تسع آيات بينات. ـــــــــــــــــــــــــــــ 58-قوله: (صفوان) بفتح الصاد وسكون الفاء (ابن عسال) بالمهملة وتشديد الثانية، المرادي الجملى، غزا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - اثنتي عشرة غزوة، وسكن الكوفة. له عشرون حديثاً، روى عنه ابن مسعود مع جلالته وزر بن حبيش وعبد الله بن سلمة المرادي وغيرهم. (قال يهودي لصاحبه) أي من اليهود (اذهب بنا) الباء للمصاحبة أو التعدية (لا تقل نبي) مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو نبي. وهو مقولة القول كما في قوله تعالى: {يقال له إبراهيم} [21:60] أي هو إبراهيم. (إنه) بكسر الهمزة استئناف، فيه معني التعليل أي لأنه (لو سمعك) أي سمع قولك "إلى هذا النبي" (لكان له أربع أعين) قال التوربشتي: أي يسر بقولك "هذا النبي" سروراً يمد الباصرة فيزداد به نوراً على نور، كذي عينين أصبح يبصر بأربع، فإن الفرح يمد الباصرة، كما أن الهم والحزن يخل بها، ولذا يقال لمن أحاطت به الهموم: أظلمت عليه الدنيا. وبذلك شهد التنزيل: {وابيضت عيناه من الحزن} - انتهى. قال السندهي: هو كناية عن زيادة الفرح وفرط السرور، إذ الفرح يوجب قوة الأعضاء، وتضاعف القوى يشبه تضاعف الأعضاء الحاملة لها. (فسألاه) أي امتحاناً (عن تسع آيات بينات) أي واضحات، والآية العلامة الظاهرة تستعمل في المحسوسات كعلامة الطريق، والمعقولات كالحكم الواضح والمسألة الواضحة، والمراد في الحديث إما المعجزات التسع كما هو المراد في قوله تعالى: {أدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات} [27:11] ، وبقية التسع هي العصا والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والسنون ونقص من الثمرات. وعلى هذا فالجواب في الحديث متروك، ترك ذكره الراوي استغناءً بما في القرآن أو بغيره، وقوله: ((لا تشركوا..الخ)) كلام مستأنف ذكره عقب الجواب، وإما الأحكام العامة الشاملة للملل كلها كما جوز ذلك في قوله تعالى: {ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات} [17:101] الخ. وعلى هذا فالمذكور في الحديث هو الجواب، لكن زيد فيه ذكر "وعليكم خاصة يهود" استئنافاً لزيادة الإفادة، ولذا غير السياق وذهب المظهر والنور التوربشتي من شراح المصابيح إلى أن الآيات المذكورة في قوله تعالى: {ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات} هي الأحكام التي تعبّد بها قوم موسى، وهي التي سئل عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجاب عنها لا المعجزات، وقالا: إن هذا الحديث من أظهر الدلائل على ذلك، فإنه رواه الترمذي في سننه وقال: وفي رواية فسألاه عن قول الله تعالى: {ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات} فعلم أن الحديث وإن كان في جواب اليهود بين فإنه مشتمل على بيان الآية. وقال ابن كثير في تفسيره: {ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات ... } الآية، يخبر تعالى أنه بعث موسى بتسع آيات بينات، وهي الدلائل القاطعة

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرفوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا محصنة، ولا تولوا للفرار يوم الزحف، وعليكم خاصة اليهود ـــــــــــــــــــــــــــــ على صحة نبوته وصدقة فيما أخبره به عمن أرسله إلى فرعون، وهي العصا واليد والسنون والبحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، آيات مفصلات. قال ابن عباس: فهذه الآيات التسع هي المرادة هنا، وهي المعنية في قوله تعالى: {وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جانٌّ ولى مدبراً ولم يعقب يا موسى لا تخف ... - إلى قوله -: في تسع آيات إلى فرعون وقومه، إنهم كانوا قوما فاسقين} [27:10-12] فذكر هاتين الآيتين العصا واليد، وبين الآيات الباقية في سورة الأعراف وفصلها، وقد أوتي موسى - عليه السلام - آيات أخر كثيرة، منها ضربه الحجر بالعصا، وخروج الماء منه، ومنها تظليلهم بالغمام، وإنزال المن والسلوى، وغير ذلك مما أوتوه بنو إسرائيل بعد مفارقتهم بلاد مصر، ولكن ذكر ههنا التسع الآيات التي شاهدها فرعون وقومه من أهل مصر، فكانت حجة عليهم، فخالفوها وعاندوها كفراً وجحوداً، وأما الحديث الذي رواه أحمد وفيه: حتى نسأله عن هذه الآية {ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات} ... الحديث، فهو حديث مشكل، وعبد الله بن سلمة (يعني راوي هذا الحديث عن صفوان) في حفظه شيء، وقد تكلموا فيه، ولعله اشتبه عليه التسع الآيات بالعشر الكلمات، فإنها وصايا في التوراة لا تعلق لها بقيام الحجة على فرعون، فإن هذه الوصايا ليس فيها حجج على فرعون وقومه، وأي مناسبة بين هذا وبين إقامة البراهين على فرعون؟ وما جاء هذا الوهم إلا من قبل عبد الله بن سلمة، فإن له بعض ما ينكر- انتهى مختصراً. (ولا تمشوا ببريء) بهمزة وإدغام، أي بمتبرئ من الإثم، والباء للتعدية، أي لا تسعوا ولا تتكلموا بسوء فيمن ليس له ذنب (إلى ذي سلطان) أي صاحب سلطنة وقوة وحكم وغلبة وشوكة (ليقتله) يعني كي لا يقتله مثلاً. (ولا تسحروا) بفتح الحاء المهملة، فإن بعض أنواعها كفر وبعضها فسق. (ولا تأكلوا الربا) أي لا تعاملوا بالربا ولا تأخذوه. (ولا تقذفوا) بكسر الذال (محصنة) بفتح الصاد وكسرها، أي لا ترموا بالزنا عفيفة. قال ثعلب: كل امرأة عفيفة فهي محصنة ومحصنة، وكل امرأة متزوجة فهي محصنة بالفتح لا غير. (ولا تولوا) بضم التاء واللام، من ولى يولي تولية إذا أدبر، أي ولا تولوا أدباركم، ويجوز أن تكون بفتح التاء واللام من التولي وهو الإعراض والإدبار، أصله تتولوا فحذف إحدى التائين. (للفرار) أي لأجله. وفي بعض النسخ الفرار بلا لام العلة منصوباً على أنه مفعول له، قاله القاري. (يوم الزحف) أي يوم لقاء العدو في الحرب، والزحف الجيش يزحفون إلى العدو، أي يمشون (وعليكم) ظرف وقع خبراً مقدماً (خاصة) منوناً حال والمستتر في الظرف عائد إلى المبتدأ أي مخصوصين بهذه العاشرة، أو حال كون عدم الاعتداء مختصا بكم دون غيركم من الملل أو تمييز، والخاصة ضد العامة (اليهود) نصب على التخصيص والتفسير أي أعني اليهود، ويجوز أن تكون خاصة بمعنى خصوصاً، ويكون اليهود

أن لا تعتدوا في السبت)) ، قال فقبلا يديه ورجليه وقالا: نشهد أنك نبي. قال فما يمنعكم أن تتبعوني؟ قالا: إن داود - عليه السلام - دعا ربه أن لا يزال من ذريته نبي، وإنا نخاف إن تبعناك أن يقتلنا اليهود، رواه الترمذي وأبوداود والنسائي. 59- (11) وعن أنس قال: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاث من أصل الإيمان، الكف عمن قال ـــــــــــــــــــــــــــــ معمولاً لفعله المحذوف، أي أخص اليهود خصوصاً. (ألا تعتدوا) بتأويل المصدر في محل الرفع على أنه مبتدأ من الاعتداء (في السبت) أي لا تتجاوزوا أمر الله في تعظيم السبت، بأن لا تصيدوا السمك فيه، وقيل "عليكم" اسم فعل بمعنى خذوا، و"أن لا تعتدوا" مفعوله أي الزموا ترك الاعتداء. (نشهد أنك نبي) إذ هذا العلم من الأمي معجزة، لكن نشهد أنك نبي إلى العرب (أن تتبعوني) بتشديد التاء، وقيل بالتخفيف أي من أن تقبلوا نبوتي وتتبعوني في الأحكام الشرعية (دعا أن لا يزال من ذريته نبي) أي فنحن ننتظر ذلك النبي لنتبعه. وهذا منهم تكذيب لقولهم نشهد أنك نبي، وأنهم ما قالوا عن صدق اعتقاد ضرورة أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يدعى ختم النبوة به - صلى الله عليه وسلم -، فالقول بأنه نبي يستلزم صدقه فيه، وانتظار نبي آخر ينافيه، فانظر إلى تناقضهم وكذبهم، قاله السندهي. وقال الطيبي: يعني دعا داود - عليه السلام - أن لا ينقطع النبوة عن ذريته إلى يوم القيامة، فيكون دعاءه مستجاباً البتة؛ لأنه لا يرد الله تعالى دعاء نبي، فإذا كان كذلك فيكون نبي في ذريته ويتبعه اليهود، وربما يكون لهم الغلبة والشوكة، فإن تركنا دينهم واتبعناك لقتلنا اليهود إذا ظهر لهم نبي وقوة، وهذا كذب منهم وافتراء على داود - عليه السلام -؛ لأنه لم يدع بهذا الدعاء، ولا يجوز لأحد أن يعتقد في داود - عليه السلام - هذا الدعاء؛ لأنه قرأ في التوراة والزبور بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - وأنه خاتم النبيين وأنه ينسخ به جميع الأديان والكتب، فكيف يدعو على خلاف ما أخبره الله تعالى به من شأن محمد - صلى الله عليه وسلم - انتهى. ولئن سلم فعيسى من ذرية داود وهو نبي باقٍ إلى يوم الدين، ظهرت المعجزات على يده أيضاً فلم يصدقوه، فعلم أن التكذيب عادة لهم، وعذرهم هذا كذب وافتراء. والحديث يدل على جواز تقبيل اليد والرجل، ويأتي الكلام عليه في باب المصافحة والمعانقة (رواه الترمذي) في آخر الاستئذان والأدب وفي تفسير سورة بني إسرائيل، وقال: حديث حسن صحيح. (وأبو داود) لم أجده في سننه. وقال الحافظ في الدراية: رواه الأربعة إلا أبا داود. وهذا يدل على أن أبا داود لم يخرجه في سننه، ويدل عليه أيضاً أنه لم يعز هذا الحديث أحد لأبي داود (والنسائي) في المحاربة، وأخرجه أيضاً أحمد في مسنده (ج4 ص239،240) ، وابن ماجة في الأدب مختصراً، والحاكم في المستدرك، وقال: صحيح لا نعرف له علة بوجه من الوجوه ووافقه الذهبي، وأخرجه أيضاً الطيالسي، وأبونعيم، والبيهقي، والطبراني، وابن جرير وغيرهم. 59-قوله: (ثلاث) خصال (من أصل الإيمان) أي أساسه وقاعدته، أحداًها أو منها (الكف عمن قال

لا إله إلا الله لا تكفره بذنب ولا تخرجه من الإسلام بعمل، والجهاد ماضٍ مذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، والإيمان بالأقدار)) ، رواه أبو داود. ـــــــــــــــــــــــــــــ لا إله إلا الله) أي وأن محمداً رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمن قال كلمتي الشهادة وجب الامتناع عن التعرض بنفسه وماله (لا تكفره) بالتاء نهى وبالنون نفي، وكلاهما مروي وهو بيان للكف ولذا قطعه عنه، والتكفير والإكفار نسبة أحد إلى الكفر (بذنب) أي سوى الكفر ولو كبيرة، وفيه رد على الخوارج لأنهم يكفرون من يصدر منه ذنب (ولا تخرجه) بوجهين (من الإسلام بعمل) ولو كبيرة سوى الكفر، خلافاً للمعتزلة في إخراج صاحب الكبيرة إلى منزلة بين المنزلتين (والجهاد ماضٍ) أي الخصلة الثانية اعتقاد كون الجهاد ماضياً أو ثانيتها الجهاد أو الجهاد من أصل الإيمان، وماضٍ خبر مبتدأ محذوف أي هو ماضٍ ونافذ وجارٍ ومستمر (مذ) وفي نسخة منذ (بعثني الله) أي من ابتدأ زمان بعثني الله إلى المدينة أو بالجهاد (إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة) أي عيسى أو المهدي (الدجال) مفعول له. قال القاري: وبعد قتل الدجال لا يكون الجهاد باقياً، أما على يأجوج ومأجوج فلعدم القدرة عليهم. وعند ذلك لا وجوب عليهم بنص آية الأنفال، وأما بعد إهلاك الله إياهم لا يبقى على وجه الأرض كافر ما دام عيسى - عليه الصلاة والسلام - حياً في الأرض، وأما على من كفر من المسلمين بعد عيسى - عليه الصلاة والسلام - فلموت المسلمين كلهم عن قريب بريح طيبة، وبقاء الكفار إلى قيام الساعة، وتجيء هذه الحكاية في ذكر الدجال (لا يبطله) بضم أوله (جور جائر ولا عدل عادل) أي لا يسقط الجهاد كون الإمام ظالماً أو عادلاً. وفيه رد على المنافقين وبعض الكفرة، فإنهم زعموا أن دولة الإسلام تنقرض بعد أيام قلائل، كأنه قيل الجهاد ماضٍ، أي أعلام دولته منشورة، وأولياء أمته منصورة، وأعداء ملته مقهورة إلى يوم الدين. وقال المظهر: يعني لا يجوز ترك الجهاد بأن يكون الإمام ظالماً بل يجب عليهم موافقته، ولا بأن يكون الإمام عادلاً بحيث يحصل سكون المسلمين وتقويتهم، فلا يخافون من الكفار ولا يحتاجون إلى الغنائم؛ لأن القصد من الجهاد هو إعلاء كلمة الله، فاحتيج لهذا نفياً إلى هذا التوهم، وإن كان من شأن عدل العادل أنه لا يتوهم فيه إبطال الجهاد بل تقويته. فعلى هذا يكون النفي بمعنى النهى. قال الطيب: ويمكن أن يجرى على ظاهر الإخبار كما هو عليه، ويكون تأكيداً للجملة السابقة، أي لا يبطله أحد إلى خروج الدجال. (والإيمان بالأقدار) أي الخصلة الثالثة، أو الإيمان بالأقدار من أصل الإيمان، يعني بأن جميع ما يجري في العالم هو من قضاء الله وقدره. وفيه رد على المعتزلة لإثباتهم للعباد القدرة المستقلة (رواه أبوداود) في الجهاد، وسكت عليه هو والمنذري، لكن في سنده يزيد بن أبي نشبة - بضم النون وسكون الشين المعجمة -، وهو مجهول، كما في التقريب. واعلم أن بعض العلماء قد أجاز العمل والاحتجاج بكل ما سكت عنه أبوداود؛ لما روي عنه أنه قال: ما كان في كتابي هذا من حديث فيه وهن شديد بينته، وما لم أذكر

فيه شيئاً فهو صالح، وبعضها أصح من بعض. قال: وذكرت فيه الصحيح وما يشبهه وما يقاربه. قال النووي في التقريب وابن الصلاح في مقدمته بعد نقل كلام أبي داود هذا: فعلى هذا ما وجدنا في كتابه مذكوراً مطلقاً وليس في واحد من الصحيحين، ولا نص على صحته أحد ممن يميز بين الصحيح والضعيف والحسن ولا ضعفه، عرفنا أنه من الحسن عند أبي داود. زاد ابن الصلاح: وقد يكون في ذلك ما ليس بحسن عند غيره ولا مندرج في حد الحسن-انتهى. والحق عندي أن لا يعتمد على مجرد سكوت أبي داود، وأن لا يطلق القول بجواز الاحتجاج والعمل بما سكت عنه، لما يجري في كلامه المتقدم من احتمالات تضعف بل تبطل المذهب المذكور: (1) مثل أن يتكلم على وهن إسناد مثلاً في مقام، فإذا عاد لم يبينه اكتفاءً بما تقدم، ويكون كأنه قد بينه. (2) ومثل أن يكون سكوته هنا لوجود شاهد أو متابع، أو يكون ذلك لكونه من صحيح حديث المختلط أو المدلس، أو لكونه في الفضائل. (3) ومثل ما أشار إليه شيخ الإسلام زكريا الأنصاري من أنه قد يقع البيان في بعض النسخ دون بعض، ولا سيما رواية أبي الحسن بن العبد، فإن فيها من كلام أبي داود شيئاً زائداً على رواية أبي على اللؤلؤي. قال السخاوي في شرح ألفية العراقي (ص29) وسبقه ابن كثير وقال: الروايات عن أبي داود لكتابه كثيرة جداً، ويوجد في بعضها من الكلام بل والأحاديث ما ليس في الأخرى، قال: وأبي عبيد الآجري عنه أسئلة في الجرح والتعديل والتصحيح والتعليل، ومن ذلك أحاديث ورجال قد ذكرها في سننه. قال السخاوي: فينبغي عدم المبادرة لنسبة السكوت إلا بعد جمع الروايات واعتماد ما اتفقت عليه لما تقدم -انتهى. (4) ومثل ما يشير إليه حصره التبيين في الوهن الشديد حيث قال: ما كان في كتابي من حديث فيه وهن شديد فقد بيّنته، وما لم أذكر فيه شيئاً فهو صالح وبعضها أصح من بعض - انتهى. إذ مفهومه أن غير الشديد لا يبينه. (5) ومثل أن الصلاحية في كلامه أعم من أن تكون للاحتجاج أو للاستشهاد، فما ارتقى إلى درجة الصحة أو الحسن فهو بالمعنى الأول، وما عداهما فهو بالمعنى الثاني، وما قصر عن ذلك فهو الذي فيه وهن شديد، وقد التزم بيانه. (6) ومثل أن تكون الصلاحية على ظاهرها في الاحتجاج، ولا ينافيه وجود الضعيف؛ لأنه يخرج الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره، وهو أقوى عنده من آراء الرجال. قال العراقي في ألفيته: كان أبو داود أقوى ما وجد ... يرويه والضعيف (1) حيث لا يجد في الباب غيره فذاك عنده ... من رأي أقوى قاله ابن منده (7) ومثل أن يكون استعمال "أصح" في كلام أبي داود المتقدم بالمعنى اللغوي، بل استعمله كذلك غير واحد، منهم الترمذي، فإنه يورد الحديث من جهة الضعيف ثم من جهة غيره. ويقول عقب الثاني: إنه أصح من حديث فلان الضعيف، وصنيع أبي داود يقتضيه لما في المسكوت عليه من الضعيف بالاستقراء، كما في حديث ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من سمع المنادي فلم يمنع من اتباعه عذر - قالوا: وما العذر؟ قال: حزن أو مرض - لم تقبل منه الصلاة التي صلى)) . فان أباداود رواه وسكت عليه. وقد قال المنذري في مختصره: في إسناده أبوجناب يحيى بن أبي حية الكلبي، وهو ضعيف. وقد يكون هو ضعيفاً عند أبي داود نفسه،

_ (1) أي من قبل سوء حفظ رواية ونحو ذلك كالمجهول عينا أو حالا لا مطلق الضعف الذي يشمل ما كان رواية منهما بالكذب، قاله السخاوي.

كما يؤخذ من كلام العماد بن كثير. (8) ومثل ما ذكره ابن الصلاح في مقدمته (ص18) بعد نقل كلام أبي داود الذي قدمناه: فعلى هذا ما وجدنا في كتابه مذكوراً مطلقاً، وليس في واحد من الصحيحين، ولا نص على صحته أحد ممن يميز بين الصحيح والحسن عرفناه بأنه من الحسن عند أبي داود، وقد يكون في ذلك ما ليس بحسن عند غيره ولا مندرج فيما حققنا ضبط الحسن به على ما سبق ... الخ. قال العلامة الأمير اليماني في تلقيح الأفكار شرح تنقيح الأنظار في مصطلح الآثار - بعد نقل كلام أبي داود المتقدم عن ابن الصلاح ما لفظه: فإن قلت: أجاز ابن الصلاح والنووي وغيرهما من الحفاظ العمل بما سكت عنه أبوداود لأجل هذا الكلام المروي عنه وأمثاله، قلت: قال الحافظ ابن حجر: إن قول أبي داود "وما فيه وهن شديد بيّنته" يفهم منه أن الذي يكون فيه وهن غير شديد لا يبيّنه، ومن هنا تبين لك أن جميع ما سكت عنه أبوداود لا يكون من قبيل الحسن الاصطلاحي، بل هو على أقسام، منها: ما هو صحيح أو على شرط الصحة. ومنها: ما هو من قبيل الحسن لذاته. ومنها: ما هو من قبيل الحسن إذا اعتضد، وهذان القسمان كثير في كتابه جداً. وفيه ما هو ضعيف لكنه من رواية من لم يجمع على تركه غالباً، وكل من هذه الأقسام عنده تصلح للاحتجاج بها كما نقل ابن مندة عنه أنه يخرج الحديث الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره، وأنه أقوى عنده من رأي الرجال. وكذا قال ابن عبد البر: كل ما سكت عليه أبوداود فهو صحيح عنه، لاسيما إن كان لم يذكر في الباب غيره، ونحو هذا ما روينا عن الإمام أحمد فيما نقله ابن المنذر وغيره أنه كان يحتج بعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده إذا لم يكن في الباب غيره. ثم ذكر الحافظ قولاً عن الإمام أحمد أصرح مما تقدم في تقديم الحديث الضعيف على الرأي، ثم قال: فهذا نحو مما يحكى عن أبي داود، ولا عجب فإنه من تلامذة الإمام أحمد، فغير مستنكر أن يقول بقوله، بل حكى النجم الطوخي عن العلامة تقي الدين ابن تيمية أنه قال: اعتبرت مسند أحمد فوجدته موافقاً لشرط أبي داود. ومن هنا يظهر لك طريق من يحتج بكل ما سكت عنه أبوداود، فإنه يخرج أحاديث جماعة من الضعفاء في الاحتجاج ويسكت عليها، مثل ابن لهيعة وصالح مولى التوأمة وعبد الله بن محمد بن عقيل وموسى بن وردان وسلمة بن الفضل ودلهم بن صالح وغيرهم، فلا ينبغي للناقد أن يقلده في السكوت على أحاديثهم، ويتابعه في الاحتجاج بهم، بل طريقه أن ينظر هل لذلك الحديث متابع يعتضد به، أو هو غريب فيتوقف فيه، لاسيما إن كان مخالفاً لرواية من هو أوثق منه فإنه ينحط إلى قبيل المنكر، وقد يخرج أحاديث من هو أضعف من هؤلاء بكثير كالحارث ابن وجيه وصدقة الدقيقي وعمرو بن واقد العمري ومحمد بن عبد الرحمن البيلماني وأبي حيان الكلبي وسليمان بن أرقم وإسحاق بن عبد الله بن أبي فروة وأمثالهم في المتروكين، وكذلك ما فيه من الأسانيد المنقطعة، وأحاديث المدلسين بالعنعنة، والأحاديث التي فيها أبهمت أسماؤهم فلا يتجه الحكم بأحاديث هؤلاء بالحسن من أجل سكوت أبي داود؛ لأن سكوته تارة اكتفاءً بما تقدم من الكلام في ذلك الراوي في نفس كتابة، وتارة يكون لذهول منه، وتارة يكون لظهور شدة ضعف ذلك الراوي، أو لاتفاق الأئمة على طرح روايته كأبي حدير

60- (12) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا زنى العبد خرج منه الإيمان ـــــــــــــــــــــــــــــ ويحي بن العلاء وغيرهما، وتارة يكون من اختلاف الرواة عنه، وهو الأكثر، فإن في رواية أبي الحسن بن العبد عنه من الكلام على جماعة من الرواة والأسانيد ما ليس في رواية اللؤلؤي، وإن كانت روايته عنه أشهر. ثم عدّ أمثلة من أحاديث السنن تؤيد ما قاله، ثم قال: والصواب عدم الاعتماد على مجرد سكوته لما وصفنا من أنه يحتج بالأحاديث الضعيفة ويقدمها على القياس إن ثبت ذلك عنه. والمعتمد أن مجرد سكوته لا يدل على ذلك، فكيف يقلده فيه، هذا جميعه إن حملنا قوله "وما لم أقل فيه بشيء فهو صالح" على أن مراده صالحة للحجة، وهو الظاهر. وإن حملناه على ما هو أعم من ذلك وهو الصلاحية للحجية وللاستشهاد والمتابعة فلا يلزم منه أنه يحتج بالضعيف. ويحتاج إلى تأمل تلك المواضع التي سكت عليها وهي ضعيفة هل منها إفراد أو لا، إن وجد فيها إفراد تعين الحمل على الأول، وإلا حمل على الثاني، وعلى كل تقدير فلا يصلح ما سكت عليه للاحتجاج مطلقا - انتهى. وقال النووي: إلا أن يظهر في بعضها أمر يقدح في الصحة أو الحسن وجب ترك ذلك، أو كما قال. ولفظ الحافظ ابن حجر نقلاً عن النووي أنه قال: في سنن أبي داود أحاديث ظاهرها الضعف لم يبيّنها مع أنه متفق على ضعفها، فلا بد من تأويل كلامه. قال: والحق أن ما وجدناه في سننه مما لم ينبّه عليه ولم ينص على صحته أو حسنه من يعتمد عليه فهو حسن، وإن نص على ضعفه من يعتمد عليه أو رأي العارف في سنده ما يقتضي الضعف، ولا جابر له حكم بضعفه، ولا يلتفت إلى سكوت أبي داود. قال الأمير اليماني: وهو الحق، لكن خالف ذلك في مواضع كثيرة في شرح المهذب وفي غيره من تصانيفه، فاحتج بأحاديث كثيرة من أجل سكوت أبي داود عليها، فلا يغتر بذلك، انتهى كلام الأمير اليماني في تلقيح الأفكار. هذا وقد اعتنى الحافظ المنذري في مختصره بنقد الأحاديث المذكورة في سنن أبي داود بيّن ضعف كثير مما سكت عنه، فيكون ذلك خارجاً عما يجوز العمل به، وما سكتا عليه جميعاً فلا شك أنه صالح للاحتجاج إلا في مواضع يسيرة قد نبهت على بعضها في هذا الشرح، ومنها حديث أنس هذا، فقد سكتا عنه جميعاً مع أن فيه يزيد بن أبي نشبة، وهو مجهول. 60- قوله: (إذا زنى) أي أخذ وشرع في الزنا (العبد) أي المؤمن (خرج منه الإيمان) حمله بعضهم على ظاهرة وقال: يسلب الإيمان حال تلبس الرجل بالزنا، فإذا فارقه وتاب عاد إليه. وقيل: المراد نور الإيمان وكماله. وقد تقدم أن الإيمان اسم لمجموع الاعتقاد بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالجوارح. ونور الإيمان وكماله هي الأعمال الصالحة واجتناب المناهي، فإذا زنى ذهب منه نوره وبقي صاحبه في الظلمة. وقيل: معناه خرج منه أعظم شعب الإيمان، وهو الحياء من الله تعالى. أو يصير كأنه خرج، إذ لا يمنع إيمانه عن ذلك كما لا يمنع من خرج منه الإيمان. وقال التوربشتي: هذا من باب الزجر والتهديد، وهو كقول القائل لمن اشتهر بالرجولية والمروءة ثم فعل ما ينافي شيمته: عدم عند الرجولية والمروءة، تعييراً أو تنكيراً لينتهي عما صنع، واعتباراً وزجراً للسامعين لطفا بهم، وتنبيهاً على أن

{الفصل الثالث}

وكان فوق رأسه كالظلة، فإذا خرج من ذلك العمل رجع إليه الإيمان)) ، رواه الترمذي وأبو داود. {الفصل الثالث} 61- (13) عن معاذ قال: أوصاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعشر كلمات، قال: ((لا تشرك بالله شيئاً وإن قتلت وحرقت، ولا تعقن والديك وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك، ـــــــــــــــــــــــــــــ الزنا من شيم أهل الكفر وأعمالهم، فالجمع بينه وبين الإيمان كالجمع بين المتنافيين. (وكان) وفي بعض النسخ "فكان" وهكذا وقع عند الترمذي (فوق رأسه كالظلة) بضم الظاء وتشديد اللام، هو أول سحابة تظلل. وفيه إشارة إلى أنه وإن خالف حكم الإيمان فإنه تحت ظله لا يزول عنه حكم الإيمان ولا يرتفع عنه اسمه. (فإذا خرج من ذلك العمل) قيل: أي بالتوبة الصحيحة (رجع إليه الإيمان) أي نوره وكماله، ويؤيده ما تقدم من حديث ابن عباس أخرجه أبوجعفر الطبري من طريق مجاهد عنه مرفوعاً: ((من زنى نزع الله نور الإيمان من قلبه، فإن شاء أن يرده إليه رده)) . ولا يخفى مناسبة الحديث للباب على المتأمل. (رواه الترمذي) لم يروه الترمذي بل ذكره معلقاً في الإيمان من جامعه. (وأبوداود) في السنة، وسكت عليه هو والمنذري، واللفظ للترمذي، وأخرجه أيضاً البيهقي والحاكم، وقال: صحيح على شرطهما، ووافقه الذهبي. 61-قوله: (أوصاني) أي أمرني (بعشر كلمات) أي بعشرة أحكام من الأوامر والنواهي. (لا تشرك بالله شيئاً) أي بقلبك أو بلسانك أيضاً، فإنه أفضل عند الإكراه. (وإن قتلت وحرقت) من التحريق، وكلاهما بالبناء للمفعول، أي وإن عرضت للقتل والتحريق. شرط جيء به للمبالغة فلا يطلب جواباً. قال ابن حجر المكي الهيتمي: شرط للمبالغة باعتبار الأكمل من صبر المكره على الكفر على ما هدد به، وهذا فيمن لم يحصل بموته وهن الإسلام، وإلا كعالم وشجاع يحصل بموته ذلك فالأولى له أن يأتي بما أكره عليه ولا يصبر على ما هدد، ولو بنحو ضرب شديد أو أخذ مال له وقع كما أفاد ذلك قوله تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان} الآية [16:106] . (ولا تعقن) بضم العين وفتح القاف المشددة وتشديد النون، أي لا تخالفنّهما أو أحدهما في ما لم يكن معصية. (من أهلك) أي امرأتك أو جاريتك أو عبدك بالطلاق أو البيع أو العتق أو غيرهما (ومالك) بالتصرف في مرضاتهما. قال ابن حجر: شرط للمبالغة باعتبار الأكمل أيضاً، أي لا تخالف وأحداً منهما وإن غلا في شيء أمرك به، وإن كان فراق زوجة أو هبة مال. أما باعتبار أصل الجواز فلا يلزمه طلاق زوجة أمره بفراقها وإن تأذيا ببقائها إيذاءً شديداً؛ لأنه قد يحصل له ضرر بها، فلا يكلفه لأجلها، إذ من شأن شفقتهما أنهما لو تحققا ذلك لم يأمراه به، فإلزامهما له به مع ذلك حمق منهما، ولا يلتفت إليه.

ولا تتركن صلاة مكتوبة متعمداً، فإن من ترك صلاة مكتوبة متعمداً فقد برئت منه ذمة الله، ولا تشربن خمراً، فإنه رأس كل فاحشة، وإياك والمعصية، فإن بالمعصية حل سخط الله، وإياك والفرار من الزحف وإن هلك الناس، وإذا أصاب الناس موت وأنت فيهم فاثبت، وأنفق على عيالك من طولك، ولا ترفع عنهم عصاك أدباً، وأخفهم في الله)) ، رواه أحمد. ـــــــــــــــــــــــــــــ وكذا إخراج ماله (متعمداً) احتراز من السهو والنسيان والضرورة (فقد برئت منه ذمة الله) بكسر الراء أي لا يبقى في أمن من الله في الدنيا والآخرة. قال ابن حجر: كناية عن سقوط احترامه؛ لأنه بذلك الترك عرض نفسه بالعقوبة بالحبس عند جماعة من العلماء، ولقتله حداً لا كفراً بشرط إخراجها عن وقتها الضروري، وأمره بها في الوقت عند أئمتنا الشافعية، ولقتله كفراً فلا يصلى عليه ولا يكفن بمقابر المسلمين عند أحمد وآخرين. (فإنه) أي شربها (رأس كل فاحشة) أي قبيحة؛ لأن المانع من الفواحش هو العقل، ولذا سمي عقلاً لأنه يعقل صاحبه عن القبائح، فيزاوله عن الإنسان يقع في كل فاحشة عرضت له، ولذا سميت أم الخبائث. وورد في رواية "الخمر جماع الإثم" كما سميت الصلاة أم العبادات؛ لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر. (وإياك والمعصية) تحذير وتعميم بعد تخصيص، وإيذان بأن المعاصي السابقة أعظمها ضرراً. (فإن بالمعصية حل سخط الله) أي نزل وثبت على فاعلها، واسم إن ضمير الشان المحذوف أي فإنه (وإياك والفرار من الزحف) تخصيص بعد تعميم (وإن هلك الناس) أي بالفرار أو القتل، وإن وصلية. قال ابن حجر: شرط للمبالغة باعتبار الأكمل أيضاً، وإلا فقد علم من قوله تعالى: {الآن خفف الله عنكم} الآية [8:66] أن الكفار حيث زادوا على المثلين جاز الانصراف. (وإذا أصاب الناس موت) أي طاعون ووباء (وأنت فيهم) الجملة حالية (فاثبت) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا وقع الطاعون ببلد وأنتم فيهم فلا تخرجوا منه، وإذا وقع ببلد ولستم فيه فلا تدخلوا إليه)) . ومحل الأمرين حيث لا ضرورة إلى الخروج أو الدخول، وإلا فلا إثم كما هو الظاهر. (على عيالك) بكسر العين أي من تجب عليك نفقته شرعاً (من طولك) بفتح أوله أي فضل مالك، وفي معناه الكسب بقدر الوسع والطاقة على طريق الاقتصاد. (ولا ترفع عنهم عصاك أدباً) مفعول له أي للتأديب لا للتعذيب. والمعنى إذا استحقوا الأدب بالضرب فلا تسامحهم. (وأخفهم في الله) أي أنذرهم في مخالفة أوامر الله بالنصيحة والتعليم، وبالحمل على مكارم الأخلاق. (رواه أحمد) (ج5 ص238) وأخرجه أيضاً الطبراني في الكبير. قال المنذري: وإسناد أحمد صحيح لو سلم من الانقطاع، فإن عبد الرحمن بن جبير بن نفير لم يسمع من معاذ - انتهى. وأخرجه الطبراني في الأوسط عنه قال: أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل فقال: يارسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمنى عملاً إذا عملته دخلت الجنة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تشرك بالله وإن قتلت أو حرقت ... )) الحديث، وفيه عمر بن واقد، ضعفه البخاري وجماعة، وقال الثوري: كان صدوقاً. كذا في مجمع الزوائد.

(2) باب في الوسوسة

62- (14) وعن حذيفة قال: إنما النفاق كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأما اليوم فإنما هو الكفر أو الإيمان، رواه البخاري. (2) باب في الوسوسة ـــــــــــــــــــــــــــــ 62- قوله: (وعن حذيفة) أي موقوفاً. وهو حذيفة بن اليمان بن حسيل - مصغراً -، ويقال: حسل بكسر فسكون -، ابن جابر العبسى أو عبد الله الكوفي، حليف بني عبد الأشهل من الأنصار، صحابي جليل من السابقين، أسلم هو وأبوه وأراد حضور بدر فأخذهما المشركون فاستحلفوهما فحلفا لهم أن لا يشهدا، فقال لهما النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم)) . وشهدا أحداً، فقتل أباه اليمان يومئذٍ بعض المسلمين وهو يحسبه من المشركين، وشهد حذيفة الخندق وله بها ذكر حسن وما بعدها، وكان عمر يسأله عن المنافقين، وهو معروف في الصحابة بصاحب سِرِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأسَرَّ إليه بعض أسماء المنافقين، وكان عمر ينظر إليه عند موت من مات منهم، فإن لم يشهد جنازته حذيفة لم يشهدها عمر. وصح في مسلم عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلمه بما كان وما يكون حتى تقوم الساعة (يعني من الفتن والحوادث) . ومناقبه كثيرة مشهورة استعمله عمر على المدائن فلم يزل بها حتى مات بعد قتل عثمان بأربعين يوماً سنة (36) في أول خلافة علي. وكانت له فتوحات سنة (22) في الدينور وماسبذان وهمدان والري وغيرها. له مائة حديث وأحاديث، اتفقا على اثني عشر، وانفرد البخاري بثمانية، ومسلم بسبعة عشر. روي عنه جماعة من الصحابة والتابعين. (إنما النفاق كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي حكم النفاق بعدم التعرض لأهله والستر عليهم كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمصالح كانت مقتصرة على ذلك الزمان، منها أن المؤمنين إذا ستروا على المنافقين أحوالهم خفي على المخالفين حالهم، وحسبوا أنهم من جملة المسلمين فيجتنبوا عن مخاشنتهم لكثرتهم، بل أدى ذلك إلى أن يخافوا وتقل شوكتهم. ومنها أن الكفار إذا سمعوا مخاشنة المسلمين مع من يصحبهم كان ذلك سبباً لنفرتهم منه. ومنها أن من شاهد حسن خلقه - عليه السلام - مع مخالفه رغب في صحبته ووافق معه سراً وعلانية ودخل في دين الله بوفور ونشاط. (فأما اليوم) أي بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - (فإنما هو) أي الأمر والحكم، يدل عليه سياق الكلام. أي الشأن الذي استقر عليه الشرح (الكفر أو الإيمان) والضمير المبهم يفسره ما بعده، وأو للتنويع، يعني فأما اليوم فلم تبق تلك المصالح، فنحن إن علمنا أنه كافر سراً أجرينا عليه أحكام الكافرين وقتلناه. قال الحافظ في الفتح: مراد حذيفة نفي اتفاق الحكم لا نفي الوقوع؛ لأن النفاق إظهار الإيمان وإخفاء الكفر، ووجود ذلك ممكن في كل عصر، وإنما اختلف الحكم لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتألفهم ويقبل ما أظهروه من الإسلام ولو ظهر منهم احتمال خلافه، وأما بعده فمن أظهر شيئاً فإنما يؤاخذ به ولا يترك لمصلحة التألف؛ لعدم الاحتياج إلى ذلك - انتهى. (رواه البخاري) في الفتن. (باب في الوسوسة) الوسوسة الصوت الخفي، ومنه: وسواس الحلي لأصواتها، وقيل: ما يظهر في القلب من الخواطر

{الفصل الأول}

{الفصل الأول} 63- (1) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله تجاوز عن أمتي ما وسوست به صدورها ما لم تعمل به أو تتكلم، ـــــــــــــــــــــــــــــ إن كانت تدعو إلى الرذائل والمعاصي تسمى وسوسة، وإن كانت تدعو إلى الخصائل المرضية والطاعات تسمى إلهاما، ولا تكون الوسوسة إلا مع التردد والتزلزل من غير أن يطمئن إليه أو يستقر عنده 63-قوله: (إن الله تجاوز) أي عفا (عن أمتي) أي امة الإجابة. وفي رواية "تجاوز لي عن أمتي" أي لم يؤاخذهم بذلك لأجلي. وفيه إشارة إلى عظم قدر الأمة المحمدية لأجل نبيها - صلى الله عليه وسلم -، فله المنة العظمى التي لا منتهى لها علينا. وفيه إشعار بإختصاصها بذلك، بل صرح بعضهم بأنه من خصائص هذه الأمة (ما وسوست به صدورها) الجملة في محل النصب على المفعولية، و"ما" موصول، و"وسوست" صلته، و"به" عائد إلى الموصول، و"صدورها" بالرفع فاعل وسوست، أي ما خطر في قلوبهم من الخواطر الردية. وروي بالنصب على الظرفية. وقيل على أنه مفعول به بناء على أن وسوست بمعنى حدثت، ووقع فيه التجريد بأن يجرد شخصاً من نفسه ويحدثها (مالم تعمل) أي ما دام لم يتعلق به العمل في العمليات بالجوارح (أو تتكلم) أي ما لم تتكلم به في القوليات باللسان على وفق ذلك. قال الطيبي: الوسوة ضرورية إختيارية، فالضرورية: ما يجري في الصدر من الخواطر ابتداء ولا يقدر الإنسان على دفعه، فهو معفو عنه عن جميع الأمم، قال تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} [2: 286] والاختيارية: هي التي تجري في القلب وتستمر وهو يقصد أن يعمل به ويتلذذ منه، كما يجري في القلب حب امرأة ويدوم إليه ويقصد الوصول إليه، وما أشبه ذلك من المعاصي، فهذا النوع عفا الله عن هذه الأمة تشريفاً وتكريماً لنبينا - صلى الله عليه وسلم - وأمته، وإليه ينظر قوله تعالى: {ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا} [2: 286] . وأما العقائد الفاسدة ومساوي الأخلاق وما ينضم إلى ذلك فإنها بمعزل عن الدخول في جملة ما وسوست به الصدور- انتهى. قال القاري: هو كلام حسن، ولذا قيده النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "ما لم تعمل به أو تكلم" إشارة إلى أن وسوسة الأعمال والأقوال معفوة قبل ارتكابها. وأما الوسوسة التي لا تعلق لها بالعمل والكلام من الأخلاق والعقائد فهي ذنوب بالاستقرار - انتهى. وقال الحافظ في الفتح في شرح باب من هم بحسنة أو سيئة من الرقاق: قسم بعضهم ما يقع في النفس أقساماً، أضعفها أن يخطر له ثم يذهب في الحال، وهذا من الوسوسة، وهو معفو عنها، وهو دون التردد، وفوقه أن يتردد فيه فيهم به ثم ينفر عنه فيتركه ثم يهم به ثم يترك كذلك ولا يستمر على قصده، وهذا هو التردد، فيعفي عنه أيضاً. وفوقه أن يميل إليه ولا ينفر عنه لكن لا يصمم على فعله، وهذا هو الهم، فيعفي عنه أيضاً. وفوقه أن يميل إليه ولا ينفر منه بل يصمم على فعله، فهذا هو العزم، وهو منتهى الهم، وهو على قسمين: الأول أن يكون من أعمال القلوب صرفاً كالشك في الوحدانية أو النبوة، فهذا كفر، ويعاقب عليه جزماً، ودونه المعصية التي لا تصل إلى الكفر كمن يحب ما يبغضه الله، ويبغض

متفق عليه. 64- (2) وعنه قال: ((جاء ناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ـــــــــــــــــــــــــــــ يحبه الله، فهذا يأثم به، ويلتحق بذلك الكبر والبغي ونحوهما. ولم يقع البحث والنزاع في هذا القسم. والقسم الثاني أن يكون من أعمال الجوارح كالزنا والسرقة. وهو الذي وقع النزاع فيه، فذهب طائفة إلى عدم المؤاخذة بذلك أصلاً، وذهب كثير من العلماء إلى المؤاخذة بالعزم المصمم. قلت: وهو الراجح المعمول عليه. قال الحافظ: واستدلوا بقوله: {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} [2: 225] وحملوا حديث أبي هريرة هذا على الخطرات، ثم افترق هؤلاء فقالت طائفة: يعاقب عليه صاحبه في الدنيا خاصة بنحو الهم والغم. وقالت طائفة: بل يعاقب عليه يوم القيامة لكن بالعتاب لا بالعذاب - انتهى. كلام الحافظ ملخصاً. وقال الحفني ملخصاً لكلام السبكي الكبير في الحلبات: إن المراتب خمسة: هاجس وخاطر وحديث نفس وهم وعزم، فالشيء إذا وقع في القلب ابتداء ولم يحل في النفس سمي هاجساً، فإذا كان موفقاً ودفعه من أول الأمر لم يحتج إلى المراتب التي بعدها: فإذا جال أي تردد في نفسه بعد وقوعه ابتداء ولم يتحدث بفعل ولا عدمه سمى خاطراً، فإذا حدثته نفسه بأن يفعل أو لا يفعل على حد سواء من غير ترجيح لأحدهما على الآخر سمي حديث نفس، فهذه الثلاثة لا عقاب عليها إن كانت في الشر، ولا ثواب عليها إن كانت في الخير، فإذا فعل ذلك عوقب أو أثيب على الفعل لا على الهاجس والخاطر وحديث النفس، فإذا حدثته نفسه بالفعل وعدمه مع ترجيح الفعل لكن ليس ترجيحاً قوياً بل هو مرجوح كالوهم سمي هماً، فهذا يثاب عليه إن كان في الخير، ولا يعاقب عليه إن كان في الشر، فإذا قوي ترجح الفعل حتى صار جازماً مصمماً بحيث لا يقدر على الترك سمي عزماً، فهذا يثاب عليه إن كان في الخير، ويعاقب عليه إن كان في الشر. وقوله " ما لم تعمل به أو تكلم" ظاهره أنه إذا فعل ذلك عوقب على نفس حديث النفس بزيادة على عقاب الفعل، وليس مراداً، بل المراد أنه إذا حصل الفعل عوقب على نفس الفعل لا على ما قبله، فهو كالاستثناء المنقطع. وقال السبكي الكبير في شرح المنهاج وولده في منع الموانع ما حاصله: أن عدم المؤاخذة بحديث النفس والهم إنما هو بشرط عدم التكلم والعمل، حتى إذا عمل يؤاخذ بشيئين همه وعمله ولا يكون همه مغفوراً وحديث نفسه إلا إذا لم يتعقبه العمل، كما هو ظاهر الحديث. وارجع لمزيد البحث والتفصيل إلى الإحياء للغزالي. وفي الحديث من الفقه أن حديث النفس وما يوسوس به قلب الإنسان لا حكم له في شيء من الدين، فلا يقع الطلاق ولا يلزم الظهار ولا يكون قاذفاً ولا يحكم بالعتاق إذا حدث نفسه بالطلاق والظهار والقذف والعتاق ما لم يتكلم بذلك، ولا يؤمر بإعادة الصلاة إذا حدث نفسه فيها (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد وأصحاب السنن. 64- قوله: (إنا نجد) واقع موقع الحال، أي سألوه مخبرين أنا نجد، أو قائلين على احتمال فتح الهمزة والكسرة.

ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به. قال: أو قد وجدتموه؟ قالوا: نعم. قال: ذاك صريح الإيمان)) ، رواه مسلم. 65- (3) وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا، من خلق كذا، حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه ـــــــــــــــــــــــــــــ وقيل: على الفتح مفعول ثان لسألوه، ثم الكسر أوجه حتى يكون بياناً للمسئول عنه (ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به) أي نجد في قلوبنا أشياء قبيحة نحو من خلق الله؟ وكيف هو؟ ومن أي شيء هو؟ وما أشبه ذلك ما نتعاظم به؛ لعلمنا أنه لا يليق شيء منها أن نعتقده، ونعلم أنه قديم خالق الأشياء كلها ليس بمخلوق، فما حكم جريان هذه الأشياء في خواطرنا؟ وتعاظم تفاعل بمعنى المبالغ؛ لأن زيادة المبنى لزيادة المعنى، أي نستعظم غاية الاستعظام، وقوله "أحدنا" بالرفع ومعناه: يجد أحدنا التكلم به عظيماً لقبحه (أو قد وجدتموه) الهمزة للاستفهام، والواو للعطف على مقدر، أي أحصل ذلك وقد وجدتموه؟ والضمير لما يتعاظم أي ذلك الخاطر في أنفسكم تقريراً وتوكيداً، فالوجداًن بمعنى المصادقة، أو المعنى أحصلَ ذلك الخاطر القبيح وعلمتم أن ذلك مذموم غير مرضي؟ فالوجداًن بمعنى العلم (قال: ذاك) وفي بعض النسخ "ذلك"، وهو إشارة إلى مصدر يتعاظم (صريح الإيمان) أي خالصه. قال النووي: معناه استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان، فإن استعظام هذا وشدة الخوف منه ومن النطق به فضلاً عن اعتقاده إنما يكون ممن استكمل الإيمان استكمالاً محققاً، وانتفت عنه الريبة والشكوك. وقيل: معناه أن الشيطان إنما يوسوس لمن أيس من إغوائه، فينكد عليه بالوسوسة لعجزه عن إغوائه، وأما الكافر فإنه يأتيه من حيث شاء، ولا يقتصر في حقه على الوسوسة بل يتلاعب به كيف أراد، فعلى هذا معنى الحديث: سبب الوسوسة محض الإيمان أو الوسوسة علامة محض الإيمان - انتهى. أي لأن اللص لا يدخل البيت الخالي. قال محدث الهند الشاه ولي الله الدهلوي في حجة الله البالغة (ج1: ص132) : اعلم أن تأثير وسوسة الشيطان يكون مختلفاً بحسب استعداد الموسوس إليه، فأعظم تأثيره الكفر والخروج من الملة، فإذا عصم الله من ذلك بقوة اليقين انقلب تأثيره في صورة أخرى، وهي المقاتلات وفساد تدبير المنزل والتحريش بين أهل البيت وأهل المدينة، ثم إذا عصم الله من ذلك أيضاً صار خاطراً يجيء ويذهب ولا يبعث النفس إلى عمل لضعف أثره، وهذا لا يضر، بل إذا اقترن باعتقاد قبح ذلك كان ذلك دليلاً على صراحة الإيمان، نعم أصحاب القوة القدسية لا يجدون شيئاً من ذلك، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير)) انتهى (رواه مسلم) في الإيمان، وأخرجه أيضاً أبوداود، وفي الباب عن عائشة وأنس وابن عباس وابن مسعود، ذكر أحاديثهم الهيثمي في مجمع الزوائد في باب الوسوسة من كتاب الإيمان. 65-قوله: (يأتي الشيطان أحدكم) أي يوسوس في صدره إبليس أو أحد أعوانه من شياطين الإنس والجن. (فيقول من خلق كذا) يعني السماء مثلاً (من خلق كذا) أي الأرض، وغرضه أن يوقعه في الغلط والكفر (فإذا بلغه)

فليستعذ بالله ولينته)) متفق عليه. 66- (4) وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا خلق الله الخلق، فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئاً ـــــــــــــــــــــــــــــ ضمير الفاعل لأحدكم، وضمير المفعول راجع إلى مصدر يقول، أي إذا بلغ أحدكم هذا القول، يعني من خلق ربك، أو التقدير: بلغ الشيطان هذا القول. (فليستعذ بالله) طرداً للشيطان الذي أوقعه في هذا الخاطر الذي لا أقبح منه، فيقول بلسانه: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. قال الله تعالى: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم} [7: 199] . (ولينته) بسكون اللام وتكسر، أي عن الاسترسال معه في ذلك، بل يلجأ إلى الله في دفعه، ويعلم أنه يريد إفساد دينه وعقله بهذه الوسوسة، فينبغي أن يجتهد في دفعها بالاشتغال بغيرها، ويبادر إلى قطعها بالإعراض عنها، فإنه تندفع الوسوسة عنه بذلك؛ لأن الأمر الطارئ بغير أصل يدفع بغير نظر في دليل، إذ لا أصل له ينظر فيه، قال الخطابي: لو أذن - صلى الله عليه وسلم - في محاجته لكان الجواب سهلاً على كل موحد، ولكان الجواب مأخوذاً من فحوى كلامه، فإن أول كلامه يناقض آخره؛ لأن جميع المخلوقات من ملك وإنس وجن وحيوان وجماد داخل تحت اسم الخلق، ولو فتح هذا الباب الذي ذكره للزم منه أن يقال: ومن خلق ذلك الشيء؟ ويمتد القول في ذلك إلى ما لا يتناهى، والقول بما لا يتناهى فاسد، فسقط السؤال من أصله، وقال الطيبي: لينته، أي ليترك التفكر في هذا الخاطر، وليستعذ بالله من وسوسة الشيطان، فإن لم يزل التفكر بالاستعاذة فليقم وليشتغل بأمر آخر، وإنما أمره بالاستعاذة والاشتغال بأمر آخر، ولم يأمر بالتأمل والاحتجاج؛ لأن العلم باستغناء الله عزوجل عن الموجد أمر ضروري لا يقبل المناظرة له وعليه، ولأن الاسترسال في الفكر في ذلك لا يزيد المرء إلى حيرة، ومن هذا حاله فلا علاج له إلا الملجأ إلى الله تعالى والاعتصام به. (متفق عليه) أخرجه البخاري في بدء الخلق، ومسلم في الإيمان، وأخرجه أيضاً أبوداود في السنة، والنسائي في اليوم والليلة، وفي روايتهما من الزيادة ((فقولوا الله أحد، الله الصمد ... )) إلى آخر السورة، ثم يتفل عن يساره، كما سيأتي في الفصل الثاني. 66- قوله: (لا يزال الناس يتساءلون) أي يسأل بعضهم بعضاً، والتساؤل جريان السؤال بين الاثنين فصاعداً، ويجوز أن يكون بين العبد والشيطان أو النفس أو إنسان آخر، أي يجري بينهما السؤال في كل نوع. (حتى) يبلغ السؤال إلى أن (يقال: هذا خلق الله الخلق فمن خلق الله) قيل: لفظ هذا مع عطف بيانه المحذوف، وهو المقول مفعول، يقال: أقيم مقام الفاعل، وخلق الله تفسير لهذا أو بيان أو بدل، وقيل: مبتدأ حذف خبره، أي هذا القول أو قولك هذا خلق الله الخلق معلوم مشهور، فمن خلق الله؟ والجملة أقيمت مقام فاعل يقال (فمن وجد من ذلك شيئاً) إشارة إلى القول المذكور و"من ذلك" حال من "شيئاً" أي من صادف شيئاً من ذلك القول والسؤال أو وجد في خاطره شيئاً من جنس ذلك المقال

فيقل آمنت بالله ورسله)) ، متفق عليه. 67- (5) وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة. قالوا: وإياك يا رسول الله؟ وإياي، ولكن الله أعاني عليه فأسلم ـــــــــــــــــــــــــــــ (فليقل آمنت بالله ورسله) أي آمنت بالذي قال الله ورسله من وصفه تعالى بالتوحيد والقدم، وقوله سبحانه وإجماع الرسل هو الصدق والحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال. (متفق عليه) أي اتفق الشيخان على أصل الحديث، فإن السياق المذكور هنا إنما هو سياق مسلم، وسياق الحديث عند البخاري قد ذكره المصنف قبل ذلك، فكان الأولى بعد ذكر حديث أبي هريرة الذي فيه الأمر بالاستعاذة وعزوه للشيخين أن يعزو حديثه الثاني لمسلم فقط كما لا يخفى، وأخرجه أيضاً أبوداود في السنة، والنسائي في اليوم والليلة، وفي الباب عن خزيمة بن ثابت وعائشة وعبد الله بن عمر، وذكر أحاديثهم الهيثمي في مجمع الزوائد. 67-قوله: (ما منكم من أحد) ما نافية، ومن زائدة لاستغراق النفي لجميع الأفراد، ومن في "منكم" تبعيضية، أي ما أحد منكم (إلا وقد وكل) على بناء المجهول من التوكيل بمعنى التسليط (قرينه من الجن) أي صاحبه منهم ليأمره بالشر، واسمه الوسواس (وقرينه من الملائكة) أي ليأمره بالخير واسمه الملهم. وليس هذا في المصابيح، وكذا ليس في رواية جرير عن منصور عن سالم بن أبي الجعد عن أبيه عن ابن مسعود عند مسلم، ووقع في رواية سفيان عن منصور عن جرير عنده: وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة. فاختار صاحب المشكاة هذه الرواية الجامعة (قالوا: وإياك يا رسول الله؟) أي لك قرين من الجن؟ والقياس وأنت يا رسول الله بالضمير المرفوع المنفصل، وكذا في الجواب يعني. (قال: وإياي) أي ولي ذلك، والقياس أن يقول: وأنا، فأقام الضمير المنصوب مقام المرفوع المنفصل وهو سائغ شائع، ويحتمل أن يكون المعنى: وإياك نعني في هذا الخطاب. فقال: نعم وإياي؛ لأن الخطاب في منكم عام لا يخص المخاطبين من الصحابة، بل كل من يصح أن يخاطب به داخل فيه، كأنه قيل: ما منكم يا بني آدم من أحد. وهذا إن قلنا: إن المتكلم لا يدخل في عموم الخطاب. وقيل: عطف على محل الضمير المجرور المقدر، تقديره: قالوا: وقد وكل به وإياك. قال: وكل به وإياي، كذا في المرقاة (ولكن) بالتشديد ويخفف (أعانني عليه) أي بالعصمة أو بالخصوصية (فأسلم) برفع الميم على بناء المضارع من السلامة، وفتحها على بناء الماضي من الإسلام، وهما روايتان مشهورتان، فمن رفع قال معناه: أسلم أنا من شره وفتنته؛ لأن القرين من الجن إنما هو الشيطان، والشيطان هو المصر على العتو والتمرد والمطبوع على الكفر، فأنى يتصور منه الإسلام. ومن فتح قال: إن القرين أسلم وصار مؤمناً. واختلفوا في الأرجح منهما، فقال الخطابي: الصحيح

فلا يأمرني إلا بخير)) ، رواه مسلم. 68- (6) وعن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، ـــــــــــــــــــــــــــــ المختار الرفع. ورجح القاضي عياض الفتح. قال النووي: هو المختار لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (فلا يأمرني إلا بخير) وقال التوربشتي: إذا صحت رواية الفتح فلا عبرة بهذا التعليل، أي الذي ذكره أصحاب القول الأول فإن الله هو القادر على كل شيء، ولا يستبعد من فضله أن يخص نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأمثال هذه الكرامة وبما هو فوقها - انتهى. واختلفوا على رواية الفتح فقيل: أسلم بمعنى استسلم وذل وانقاد، وقد جاء هكذا في غير صحيح مسلم فاستسلم، وقيل: معناه صار مسلما مؤمنا. قال النووي: وهذا هو الظاهر. قال القاضي: إن الأمة مجتمعة على عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشيطان في جسمه وخاطره ولسانه. وفي هذا الحديث إشارة إلى التحذير من فتنة القرين ووسوسته وإغواءه، فأعلمنا بأنه معنا لنحترز منه بحسب الإمكان (رواه مسلم) في صفة القيامة قبل صفة الجنة، وأخرجه أيضاً أحمد، وفي الباب عن عائشة عند مسلم والنسائي. 68-قوله: (إن الشيطان يجري) أي يسري (من الإنسان) أي فيه (مجرى الدم) أي في عروقه. وقال الطيبي: عدى " يجري" بمن على تضمين معنى التمكن، أي يتمكن من الإنسان في جريانه في عروقه مجرى الدم، فالمجرى يجوز أن يكون مصدراً ميمياً وأن يكون اسم مكان، وعلى الأول تشبيه شبه سريان كيد الشيطان وجريان وساوسه في الإنسان يجريان دمه في عروقه وجميع أعضائه، والمعنى أن الشيطان يتمكن من إغواء الإنسان وإضلاله تمكناً تاماً، ويتصرف فيه تصرفاً لا مزيد عليه، وعلى الثاني يجوز أن يكون حقيقة فإن الله تعالى قادر على أن يخلق أجساماً لطيفة تسري في بدن الإنسان سريان الدم، فإن الشيطان مخلوقه من نار السموم، والإنسان من صلصال من حمأ مسنون، والصلصال فيه نارية وبه يتمكن من الجريان في أعضائه، ويجوز أن يكون مجازا، أي إن كيد الشيطان ووساوسه تجري في الإنسان حيث يجري فيه الدم، فالشيطان إنما يستحوذ على النفوس، وينفث وساوسه في القلوب بواسطة النفس الأمارة بالسوء، ومركبها الدم ومنشأ قواها منه، فعلاجه سد المجاري بالجوع والصوم؛ لأنه يقمع الهوى والشهوات التي هي من أسلحة الشيطان، فالشبع مجلبة للآثام منقصة للإيمان - انتهى. وفي الحديث الاستعداد للتحفظ من مكائد الشيطان فإنه يجري من الإنسان مجرى الدم، ولا يفارقه كما لا يفارقه دمه، فيتأهب الإنسان للاحتراز من وساوسه وشره. وسبب الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتته صفية وهو معتكف في المسجد، فلما رجعت انطلق معها، فمر به رجلان من الأنصار، فدعاهما فقال: إنما هي صفية، قالا سبحان الله، فذكره وأشار بذلك إلى أنه ينبغي التباعد من محل التهم، فما يفعله بعض من ادعى التصوف من مخالطة النساء والحدثان، ويقولون لا بأس علينا ولا يظن بنا أحد سوء من الجهل إذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى بذلك، وارجع لمزيد التفصيل إلى شرح البخاري للقسطلاني في شرح حديث صفية بنت حي في صفة إبليس من

متفق عليه. 69- (7) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان ـــــــــــــــــــــــــــــ بدء الخلق (متفق عليه) لم أجد حديث أنس هذا في صحيح البخاري، والظاهر أنه من إفراد مسلم، أخرجه في الاستيذان، يدل على ذلك قول الحافظ في شرح حديث صفية في باب: هل يخرج المعتكف لحوائجه إلى باب المسجد من كتاب الصوم، نعم رواه مسلم من وجه آخر من حديث أنس الخ، ويدل عيه أيضاً أن الشيخ عبد الغني النابلسي عزاه في ذخائر المواريث (ج1:ص61) لمسلم فقط، ويدل عليه أيضاً أن المنذري سكت في مختصره عن عزو حديث أنس هذا إلى البخاري، وقال: أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة من حديث صفية بنت حي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد تقدم في كتاب الصيام - انتهى. وحديث أنس هذا أخرجه أيضاً أحمد وأبوداود في السنة. 69- قوله: (ما من بني آدم) أي ما من أولاده، والمراد هذا الجنس (مولود إلا يمسه الشيطان) رفع مولود على أنه فاعل الظرف لاعتماده على حرف النفي، والمستثنى منه أعم عام الوصف فالاستثناء مفرغ، يعني ما وجد من بني آدم مولود متصف بشيء من الأوصاف حال ولادته إلا بهذا الوصف أي مس الشيطان له، والمراد بالمس الحقيقي أي الحسي لقوله - صلى الله عليه وسلم - في رواية للبخاري: ((كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبه بإصبعيه حين يولد غير عيسى بن مريم، ذهب يطعن فطعن في الحجاب)) . قال القرطبي: هذا الطعن من الشيطان هو ابتداء التسليط، فحفظ الله مريم وابنها ببركة دعوة أمها. (فيستهل) أي يصيح (صارخاً) رافعاً صوته بالبكاء، وهو حال مؤكدة، أو مؤسسة أي مبالغة في رفعه، أو المراد بالاستهلال مجرد رفع الصوت وبالصراخ البكاء (من مس الشيطان) أي لأجله، يعني سبب صراخ الصبي أول ما يولد الألم من مس الشيطان إياه. قال الطيبي: وفي التصريح بالصراخ إشارة إلى أن المس عبارة عن الإصابة بما يؤذيه لا كما قالت المعتزلة من أن مس الشيطان تخييل، واستهلاله صارخاً من مسه تصوير لطمعه فيه، كأنه يمسه ويضرب بيده عليه ويقول: هذا ممن أغويه - انتهى. قال الحافظ: قد طعن صاحب الكشاف أي الزمخشري في معنى هذا الحديث وتوقف في صحته، فقال: إن صح فمعناه أن كل مولود يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها فإنهما كانا معصومين، وكذلك كل من كان في صفتهما لقوله تعالى: {إلا عبادك منهم المخلصين} [15:40] قال واستهلال الصبي صارخاً من مس الشيطان تخييل لطمعه فيه، كأنه يمسه ويضرب بيده عليه، ويقول هذا ممن أغويه. وأما صفة النخس كما يتوهمه أهل الحشو فلا، ولو ملك إبليس على الناس نخسهم لامتلأت الدنيا صراخاً - انتهى. وكلامه متعقب من وجوه، والذي يقتضيه لفظ الحديث لا إشكال في معناه، ولا مخالفة لما ثبت من عصمة الأنبياء، بل ظاهر الخير أن إبليس ممكن من مس كل مولود عند ولادته، لكن من كان من عباد الله المخلصين لم يضره ذلك المس أصلاً، واستثنى من المخلصين مريم

غير مريم وابنها)) ، متفق عليه. 70- (8) وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صياح المولود حين يقع نزغة من الشيطان)) ، متفق عليه) . ـــــــــــــــــــــــــــــ وابنها فإنه ذهب يمس على عادته فحيل بينه وبين ذلك، فهذا وجه الاختصاص، ولا يلزم منه تسلطه على غيرهما من المخلصين. وأما قوله "لو ملك إبليس" ... الخ فلا يلزم من كونه جعل له ذلك عند ابتداء الوضع أن يستمر ذلك في حق كل أحد. قال الحافظ: والجواب عن إشكال الإغواء يعرف مما قدمنا أيضاً، وحاصله أن ذلك جعل علامة في الابتداء على من يتمكن من إغوائه - انتهى. وقال المولى سعد الدين: طعن أي الزمخشري أولاً في الحديث بمجرد أنه لم يوافق هواه، وإلا فأي امتناع من أن يمس الشيطان المولود حين يولد بحيث يصرخ كما ترى وتسمع، ولا يكون ذلك في جميع الأوقات حتى يلزم امتلاء الدنيا بالصراخ، ولا تلك المسة للإغواء، وكفى بصحة هذا الحديث رواية الثقات وتصحيح الشيخين له من غير قدح من غيرهما - انتهى. (غير مريم وابنها) حال من مفعول يمس، قاله ابن حجر. واستثناءهما لإجابة دعوة حنة: امرأة عمران، أم مريم العذراًء البتول حيث قالت: {إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم} [3: 35] ، وتفرد عيسى وأمه بالعصمة عن المس لا يدل على فضلهما على نبينا - صلى الله عليه وسلم -، إذ له فضائل ومعجزات لم تكن لأحد من النبيين، ولا يلزم أن يكون في الفاضل جميع صفات المفضول، قاله الطيبي. وقال النووي: ظاهر الحديث اختصاص هذه الفضيلة بعيسى وأمه، وأشار القاضي عياض أن جميع الأنبياء يشاركون فيها، أي لعصمتهم من الشيطان، وإنما نص على مريم وعيسى فقط لدعوة حنة، وغيرهما من بقية الأنبياء ملحق بهما. وقال صاحب اللمعات: الظاهر أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - مستثنى من هذا العموم، وأنه يخبر عن أحوال عامة بني آدم سوى نفسه الكريمة، إذ شأنه أرفع وأعلى من أن يدخل في مثل هذا الحكم، إذا هو الطاهر المطهر من كل دنس، والمعصوم من آفات الشيطان وإفساده خصوصاً في أول خلقه وحين ولادته. وقد قيل: إن المتكلم لا يدخل في عموم ما يخبر به الناس - انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في صفة إبليس وجنوده من بدء الخلق، وفي الأنبياء، وفي تفسير آل عمران، ومسلم في الأنبياء واللفظ المذكور للبخاري في الأنبياء. 70- قوله: (صياح المولود) أي سبب صيحته في بكاء (حين يقع) ، أي يسقط وينفصل عن أمه (نزعة من الشيطان) بفتح النون وسكون الزاي، أي إصابة ما يؤذيه أو نخسة وطعنة منه يريد بها إيذاءه وإفساد ما ولد عليه من الفطرة الإسلامية، فإن النزغ هو النخس بالعود والدخول في أمر لإفساده (متفق عليه) اختلفت النسخ المطبوعة في الهند في ذكر هذا اللفظ فلم يقع في بعضها، وكذا لم يقع في النسخة التي على حاشية المرقاة، وهو موجود في الأصل الذي أخذه القاري في شرحه. قال القاري: المذكور في الجامع الصغير أنه من إفراد البخاري - انتهى. يعني فقوله " متفق عليه" محل نظر. قلت: هذا الحديث من إفراد مسلم، رواه في الأنبياء ولم يروه البخاري في صحيحه، وعزاه

71- (9) وعن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه يفتنون الناس، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئاً. قال: ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته. قال فيدنيه منه ويقول: نعم أنت)) . قال الأعمش ـــــــــــــــــــــــــــــ السيوطي في الجامع الصغير لمسلم فقط، وهو الصواب. 71- قوله: (إن إبليس يضع عرشه) أي سرير ملكه (على الماء) وفي رواية على البحر، ومعناه أن مركزه البحر، ومنه يبعث سراياه في نواحي الأرض، فالصحيح حمله على ظاهره، ويكون من جملة تمرده وطغيانه وضع عرضه على الماء، يعني جعله الله تعالى قادراً عليه استدراجاً ليغتر بأن له عرشاً كعرش الرحمن كما في قوله تعالى: {وكان عرشه على الماء} [11: 7] ، ويغر بعض السالكين الجاهلين بالله أنه الرحمن كما وقع لبعض الصوفية على ما ذكر في النفحات الإنسية، ويؤيده قصة ابن صياد حيث قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أرى عرشاً على الماء. فقال له - صلى الله عليه وسلم -: ترى عرش إبليس)) . وقيل عبر عن استيلائه على إغوائه الخلق وتسلطه على إضلالهم بهذه العبارة، كذا في المرقاة. (ثم يبعث) أي يرسل (سراياه) جمع سرية وهي قطعة من الجيش توجه نحو العدو لتنال منه، والمراد جنوده وأعوانه (يفتنون الناس) بفتح الياء وكسر التاء، أي يضلونهم أو يمتحنونهم بتزيين المعاصي إليهم حتى يقعوا فيها (فأدناهم) أي أقربهم (منه) أي من إبليس (منزلة) أي مرتبة (أعظمهم فتنة) أي أكبرهم إضلالاً (فعلت كذا وكذا) أي أمرت بشرب الخمر والسرقة مثلاً (فيقول ما صنعت شيئا) أي عظيماً أو معتداً به (ما تركته) أي فلاناً (حتى فرقت بينه وبين امرأته) أي وسوسته، وأوقعت البغض والعداوة بينه وبين زوجته حتى فارقها (فيدنيه منه) أي فيقرب إبليس ذلك المغوي من نفسه، من الإدنا (نعم أنت) بكسر النون وسكون العين المهملة أي نعم الولد أنت، على أنه فعل مدح وفاعله مضمر على خلاف القياس، يعني يمدح إبليس صنيعه ويشكر فعله لإعجابه بصنيعه وبلوغ الغاية التي أرادها. وقيل حرف إيجاب، وأنت مبتدأ وخبره محذوف، أي أنت صنعت شيئاً عظيماً. (قال الأعمش) وهو أحد رواة الحديث، اسمه سليمان بن مهران - بكسر الميم - الأسدي الكاهلي مولاهم أبو محمد الكوفي، أحد الأعلام الحفاظ والقراء. رأى أنس بن مالك. وقيل رآه رؤية بمكة يصلي خلف المقام. وروى عنه وعن عبد الله بن أبي أوفى ولم يسمع منهما. وذكر أبونعيم الأصفهاني: أن الأعمش رأى أنس بن مالك وابن أبي أوفى، وسمع منهما. والأول هو المشهور، وهو الصحيح. قال ابن المديني: له نحو ألف وثلثمائة حديث. قال ابن عيينة: كان أقرأ أصحابه وأحفظهم وأعلمهم، وكان يسمى المصحف لصدقه. قال الحافظ في التقريب في ترجمته: ثقة حافظ عارف بالقراءة ورع لكنه يدلس، من الخامسة، وهم الطبقة الصغرى من التابعين الذين

أراه قال: " فيلتزمه"، رواه مسلم. 72- (10) وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الشيطان قد أيس من أن يعبده المصلون في جزية العرب ـــــــــــــــــــــــــــــ رأوا الواحد والاثنين من الصحابة، ولم يثبت لبعضهم السماع من الصحابة. مات سنة (47) أو (48) وكان مولده أول سنة (61) . (أراه) بضم أوله أي أظن أبا سفيان طلحة بن نافع الراوي عن جابر. وقيل: ضمير المفعول لجابر (قال فيلتزمه) أي فيعانقه ويضمه إلى نفسه من غاية حبه التفريق بين الزوجين، وذلك لأن النكاح عقد شرعي يستحل به الزوج، وهو يريد حل ما عقده الشرع، ليستبيح ما حرمه فيكثر الزنا وأولاد الزنا، فيفسدوا في الأرض، ويهتكوا حدود الشرع، ويتعدوا حدود الله تعالى، قاله الطيبي. والقصد بسياق الحديث التحذير من التسبب في الفراق بين الزوجين؛ لما فيه من توقع وقوع الزنا وانقطاع النسل. (رواه مسلم) في صفة القيامة، وأخرجه أيضاً أحمد، وفي الباب عن أبي موسى الأشعري وأبي ريحانة عند الطبراني في الكبير، وفي الأول عطاء بن السائب اختلط، وبقية رجاله ثقات، وفي الثاني يحيى بن طلحة اليربوعي ضعفه النسائي، وذكره ابن حبان في الثقات. 72-قوله: (إن الشيطان) أي إبليس رئيس الشياطين (قد أيس) وفي رواية يئس (من أن يعبده المصلون) قيل: المراد بعبادة الشيطان عبادة الصنم؛ لأنه الآمر به والداعي إليه بدليل قوله: {يا أبت لا تعبد الشيطان} [19: 44] إذ المراد الأصنام، والمراد بالمصلين المؤمنون كما في قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((نهيتكم عن قتل المصلين)) . سموا بذلك لأنها أشهر الأعمال وأظهر الأفعال الدالة على الإيمان؛ ولأن الصلاة هي الفارقة بين الكفر والإيمان. (في جزيرة العرب) الجزيرة هي كل أرض حولها الماء، فعليه بمعنى مفعوله من جزر عنها الماء أي ذهب، وقد اكتنفت تلك الجزيرة البحار والأنهار، كبحر البصرة وعمان وعدن إلى بركة بني إسرائيل التي أهلك الله فرعون بها وبحر الشام والنيل، أضيفت إلى العرب لأنها مسكنهم، ونقل عن مالك أن جزيرة العرب مكة والمدينة واليمن. قيل إنما خص جزيرة العرب لأنها معدن العبادة ومهبط الوحي، قاله القاري. وفي القاموس: جزيرة العرب ما أحاط به بحر الهند وبحر الشام ثم دجلة والفرات وما بين عدن أبين إلى أطراف الشام طولاً ومن جدة إلى ريف العراق عرضاً - انتهى. وعلى هذا هي شبه الجزيرة لا الجزيرة، فتسميتها بالجزيرة مجاز، ومعنى الحديث أن الشيطان قد أيس من أن يعود أحد من المؤمنين إلى عبادة الصنم، ويرتد إلى شركه في جزيرة العرب، والمراد الإخبار بأنه تعالى حفظ هذا المكان عن وقوع عبادة الصنم فيه، ولا يرد على ذلك ارتداد أصحاب مسيلمة والعنسي وغيرهما ممن ارتد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - في العرب؛ لأنهم لم يعبدوا الصنم. قال القاري: وفيه أن دعوة الشيطان عامة إلى أنواع الكفر غير مختص بعبادة الصنم، فالأولى أن يقال: إن المراد المصلين لا يجمعون بين الصلاة وعبادة الشيطان كما فعلته اليهود والنصارى - انتهى. وقال التوربشتي

{الفصل الثاني}

ولكن في التحريش بينهم)) ، رواه مسلم. {الفصل الثاني} 73- (11) عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءه رجل فقال: ((إني أحدث نفسي بالشيء لأن أكون حممة أحب إلي من أن أتكلم به. قال: الحمد لله الذي رد أمره إلى الوسوسة، ـــــــــــــــــــــــــــــ في الجواب: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخبر عنهم أنهم لا يفعلون ذلك، وإنما أخبر عن اليأس الذي استشعر بالشيطان عنهم أن يعودوا في طاعته لما رآى من كثرتهم وعزتهم واجتماعهم وقوتهم، لكنه وقع ذلك مع يأسه منه، فلا تضاد بين هذا الحديث وبين القضية التي ذكرت، يعني أن قصده - صلى الله عليه وسلم - بسياق هذا الحديث هو الإخبار عن بلوغ أمر المسلمين ودولتهم حداً أيس الشيطان أن يقع الارتداد بعده، وليس غرضه - عليه الصلاة والسلام - الإخبار من عدم وقوع الارتداد البتة. قال صاحب اللمعات: وفيه بُعد أيضاً لأن الظاهر من يأسه هو عدم الوقوع، فهو كناية عنه. قال: ويمكن أن يقال: إن معني الحديث: أن الشيطان أيس من أن يستبدل دين الإسلام، وينهدم أساس الدين، ويظهر الإشراك ويستمر، ويسير الأمر كما كان من قبل، ولا ينافيه ارتداد من ارتد بل لو عبد الأصنام أيضاً لم يضر في المقصود. (ولكن في التحريش) خبر لمبتدأ محذوف، أي هو في التحريش، أو ظرف لمقدر أي يسعى في التحريش (بينهم) أي في إغراء بعضهم على بعض، والتحريض بالشر بين الناس من قبل وخصومة، فهو لإيذائهم بالمرصاد. قيل: ولعله - صلى الله عليه وسلم - أخبر عما جرى فيما بعده من التحريش الذي وقع بين أصحابه، أي لكن الشيطان غير آيس من إغراء المؤمنين الساكنين فيها وحملهم على الفتن، بل له مطمع في ذلك، وكان كما أخبر فكان معجزة له - صلى الله عليه وسلم -. (رواه مسلم) في صفة القيامة، وأخرجه أيضاً أحمد، والترمذي في أبواب البر والصلة. 73- قوله: (إني أحدث نفسي) أي أكلمها بالسر أي توسوسني (بالشيء) هو في قوة النكرة معنى وإن كان معرفة لفظاً؛ لأن "ال" فيه للجنس مثل قول الشاعر: ولقد أمر على اللئيم يسبني والجملة الاسمية بعده صفة له، وهي قوله: (لأن أكون حممة) بضم ففتح أي فحما (أحب إلي من أن أتكلم به) أي أحدث نفسي بشيء لكوني حممة أحب إلي من التكلم بذلك الشيء من غاية قبحه لتعلقه بالخوض في ذات الله تعالى، وما لا يليق به سبحانه من تجسيم وتشبيه وتعطيل ونحوها، واللام للقسم أو للابتداء (قال) - صلى الله عليه وسلم - (الحمد لله) شكراً لما أنعم الله عليه وعلى أمته (الذي رد أمره إلى الوسوسة) قال القاري: الضمير فيه يحتمل أن يكون للشيطان وإن لم يجر له ذكر لدلالة السياق عليه، ويحتمل أن يكون للرجل، والأمر يحتمل أن يكون واحد الأوامر وأن يكون بمعنى الشأن، يعني كان

رواه أبو داود. 74- (12) وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن للشيطان لمة بابن آدم، وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله ـــــــــــــــــــــــــــــ الشيطان يأمر الناس بالكفر قبل هذا، وأما الآن فلا سبيل له إليهم سوى الوسوسة، ولا بأس بها مع العلم بأنها قبيحة والتعوذ بالله منها، أو المعنى: الحمد لله الذي رد شأن هذا الرجل من الكفر إلى الوسوسة، وهي معفوة - انتهى. (رواه أبوداود) في الأدب، وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي وابن أبي شيبه، وصححه ابن حبان. 74- قوله: (إن للشيطان) أي إبليس أو بعض جنده (لمة) أي قرباً أي وساوس، يوصلها إلى قلب العبد المكلف بحيث يقربه إلى المعاصي، واللمة بفتح اللام وشدة الميم من الإلمام ومعناه النزول والقرب والإصابة، والمراد بها ما يقع في القلب بواسطة الشيطان من خطرات الشر (بابن آدم) أي بهذا الجنس، فالمراد به الإنسان (وللملك لمة) المراد بها ما يقع في القلب من خطرات الخير، ولمة الشيطان تسمى وسوسة ولمة الملك إلهامًا (فأما لمة الشيطان) أي وسوسته (فإبعاد) أي منه (بالشر) كالكفر والفسق والظلم (وتكذيب بالحق) أي في حق الله أو حق الخلق، أو بالأمر الثابت كالتوحيد والنبوة والبعث والقيامة والجنة والنار. قال المناوي: كان القياس مقابلة الشر بالخير أو الحق بالباطل، لكنه أتى بما يدل على أن كل ما جر إلى الشر باطل أو إلى الخير حق، فأثبت كلا ضمنياً (فإيعاد بالخير) كالصلاة والصوم (وتصديق بالحق) ككتب الله ورسله، والإيعاد في اللمتين من باب الإفعال، والوعيد في الاشتقاق كالوعد، إلا أن الإيعاد اختص بالشر عرفاً، يقال: أوعد إذا وعد بالشر، إلا أنه استعمله في الخير للازدواج والأمر من عن الاشتباه بذكر الخير بعده. قال القاري: إن هذا التفصيل عند الإطلاق كما قال الشاعر: وإني وإن أوعدته أو وعدته لملخف إيعادي ومنجز موعدي وأما عند التقييد فالأولى أن يقال بالتجريد فيهما أو بأصل اللغة، واختيار الزيادة لاختيار المبالغة - انتهى. وقال الشاه ولي الله الدهلوي: الحاصل أن صورة تأثير الملائكة في نشأة الخواطر الأنس والرغبة في الخير، وتأثير الشياطين فيها الوحشة وقلق النفس والرغبة في الشر (فمن وجد) أي في نفسه أو أدرك وعرف (ذلك) أي لمة الملك على تأويل الإلمام أو المذكور (فليعلم أنه من الله) أي منة جسيمة ونعمة عظيمة واصلة إليه ونازلة عليه، إذ أمر الملك بأن يلهمه، أو فليعلم أنه مما يحبه الله ويرضاه (فليحمد الله) أي على هذه النعمة الجليلة حيث أهله لهداية الملك ودلالته على ذلك الخير (ومن وجد الأخرى) أي لمة الشيطان، ولم يصرح به كراهة لتوالي ذكره على اللسان، أو استهجاناًَ لذكره (فليتعوذ بالله

من الشيطان الرجيم ثم قرأ: {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء} ، رواه الترمذي. وقال هذا حديث غريب. ـــــــــــــــــــــــــــــ من الشيطان الرجيم) وليخالفه، وفيه إيماء إلى أن الكل من الله، وإنما الشيطان عبد مسخر أعطي له التسليط على بعض أفراد الإنسان كما قال الله تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} [15: 42] ، وإنما لم يقل هنا فليعلم أنه من الله تأدباً معه، إذ لا يضاف إليه إلا الخير (ثم قرأ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - استشهاداً: {الشيطان يعدكم الفقر} أي يخوفكم به {ويأمركم بالفحشاء} أي البخل والحرص وسائر المعاصي، والمعنى الشيطان يعدكم الفقر ليمنعكم عن الإنفاق في وجوه الخيرات، ويخوفكم الحاجة لكم أو لأولادكم في ثاني الحال سيما في كبر السن وكثرة العيال، ويأمركم بالفحشاء أي المعاصي، وهذا الوعد والأمر هما المرادان في الحديث (رواه الترمذي) في تفسير البقرة، وأخرجه أيضاً النسائي في التفسير، وابن حبان في صحيحه، وابن أبي حاتم، كلهم من طريق هناد بن السري عن أبي الأحوص عن عطاء بن السائب عن مرة الهمداني عن ابن مسعود. قال العزيزي: قال الشيخ: حديث صحيح (وقال هذا حديث غريب) وفي النسخ الموجودة للترمذي عندنا هذا حديث حسن غريب، وكذلك نقله الحافظ ابن كثير في تفسيره، والمناوي في الفيض عن الترمذي، فلعل نسخ السنن مختلفة، ويعني الترمذي بقوله غريب أنه تفرد أبو الأحوص سلام بن سليم برفعه في روايته عن عطاء بن السائب عن مرة الهمداني عن ابن مسعود، لكن قال الحافظ ابن كثير بعد نقل قول الترمذي: "لا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث أبي الأحوص": كذا قال الترمذي وقد رواه أبوبكر بن مردويه في تفسيره عن محمد بن أحمد عن محمد بن عبد الله بن مسعود مرفوعاً نحوه، لكن رواه مسعر عن عطاء بن السائب عن أبي الأحوص عوف بن مالك بن نضلة عن ابن مسعود فجعله من قوله - انتهى. قال الألباني: وسند الحديث عندي ضعيف؛ لأن فيه عطاء بن السائب وقد اختلط - انتهى. وتعريف الغرابة وتفصيل أنواعها بالنظر إلى السند والمتن مذكور في أصول الحديث. وقد استشكلوا اجتماع الغرابة والحسن بأن الترمذي اعتبر في الحسن تعدد الطرق كما صرح به في كتاب العلل، فكيف يكون غريبا؟ وأجيب بأن اعتبار تعدد الطرق في الحسن ليس على الإطلاق بل في قسم منه، وحيث حكم باجتماع الحسن والغرابة المراد قسم آخر. وقال بعضهم: أشار بذلك إلى اختلاف الطرق بأن جاء في بعض الطرق غريباً وفي بعضها حسناً. وقيل: حذف منه حرف أو فيشك الترمذي ويتردد في أنه غريب أو حسن لعدم معرفة جزماً. وقيل: المراد بالحسن ههنا ليس معناه الاصطلاحي بل اللغوي بمعنى ما يميل إليه الطبع، وهذا القول بعيد جداً، قاله الشيخ عبد الحق الدهلوي في مقدمة شرحه للمشكاة. وقال الحافظ في شرح النخبة: الجواب (أي عن هذا الإشكال) أن الترمذي لم يعرف الحسن مطلقاً، وإنما عرف بنوع خاص منه وقع في كتابه، وهو ما يقول فيه حسن من غير صفة أخرى، وذلك أنه يقول في بعض الأحاديث حسن وفي بعضها صحيح وفي بعضها غريب وفي بعضها حسن غريب وفي بعضها صحيح غريب وفي بعضها حسن صحيح غريب، وتعريفه إنما

75- (13) وعن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا خلق الله الخلق فمن خلق الله؟ فإذا قالوا ذلك فقولوا: الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، ثم ليتفل عن يساره ثلاثاً، وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم)) ، ـــــــــــــــــــــــــــــ وقع على الأول فقط، وعبارته ترشد إلى ذلك حيث قال في آخر كتابه: وما قلنا في كتابنا حديث حسن إنما أردنا به حسن إسناده عندنا، إذ كل حديث يروي لا يكون رواية متهماً بكذب، ويروى من غير وجه نحو ذلك، ولا يكون شاذاً فهو عندنا حديث حسن. فعرف بهذا أنه إنما عرف الذي يقول فيه حسن فقط، أما ما يقول فيه حسن صحيح، أو حسن غريب، أو حسن صحيح غريب فلم يعرج على تعريف ما يقول فيه صحيح فقط أو غريب فقط، وكأنه ترك ذلك استغناء لشهرته عند أهل الفن، واقتصر على تعريف ما يقول في كتابه حسن فقط إما لغموضه، وإما لأنه اصطلاح جديد ولذلك قيده بقوله "عندنا"، ولم ينسبه إلى أهل الحديث كما فعل الخطابي - انتهى. وقال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية في فتوى له: الذين طعنوا على الترمذي لم يفهموا مراده في كثير مما قاله فإن أهل الحديث قد يقولون هذا الحديث غريب أي من هذا الوجه، وقد يصرحون بذلك فيقولون غريب من هذا الوجه فيكون الحديث عندهم صحيحاً معروفاً من طريق واحد، فإذا روي من طريق آخر كان غريباً من ذلك الوجه وإن كان المتن صحيحاً معروفاً، فالترمذي إذا قال: حسن غريب، قد يعني به أنه غريب من ذلك الطريق لكن المتن له شواهد صار بها من جملة الحسن - انتهى. 75-قوله: (لا يزال الناس يتساءلون) أي لا ينقطعون عن سؤال بعضهم بعضًا في أشياء (حتى يقال هذا خلق الله الخلق فمن خلق الله) تقدم الكلام فيه، وقيل: المراد بالتساؤل حكاية النفس وحديثها ووسوستها، وهذا هو الظاهر من التفل والاستعاذة، ويؤيد الأول قوله: (فإذا قالوا ذلك فقولوا الله أحد) يعني قولوا في رد هذه المقالة أو الوسوسة: الله تعالى ليس مخلوقاً بل هو أحد والأحد هو الذي لا ثاني له ولا مثل له في الذات والصفة. (الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد) تقدم شرحه. قال الطيبي: الصفات الثلاث منبهة على أن الله تعالى لا يجوز أن يكون مخلوقاً، أما أحد فمعناه الذي لا ثاني له ولا مثل، فإذا جعل مخلوقاً لم يكن أحداً على الإطلاق؛ لأن خالقه أولى بالأحدية، والصمد هو السيد الذي يرجع الناس في أمورهم وحوائجهم إليه فيكون ذلك الخالق أولى منه، ولم يولد تصريح في النفي، ولم يلد ولم يكن له كفواً أحد يناديان بأنه إذا لم يكن له كفو وهو المساوي والولد الذي هو دونه في الإلهية فأحرى بأن لا يكون فوقه أحد - انتهى. (ثم ليتفل) بسكون اللام الأولى وتكسر وبضم الفاء وتكسر أي لييصق أحدكم أو هذا الرجل يعني الموسوس (عن يساره) كرامة لليمين، وقيل: اللمة الشيطانية عن يسار القلب والرحمانية عن يمينه. (ثلاثاً) أي ليلق البزاق من الفم ثلاث مرات، وهو عبارة عن كراهة الشيء والنفور عنه مراغمة للشيطان وتبعيداً له. (وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم) الاستعاذة طلب المعونة من الله تعالى في دفع الشيطان. وفي الحديث استجاب التعوذ من الشيطان

{الفصل الثالث}

رواه أبو داود، وسنذكر حديث عمرو بن الأحوص في باب خطبة يوم النحر إن شاءالله تعالى. {الفصل الثالث} 76- (14) عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لن يبرح الناس يتسألون حتى يقولوا ـــــــــــــــــــــــــــــ عند وسوسته مع التفل عن اليسار ثلاثاً (رواه أبو داود) في السنة، وأخرجه أيضاً النسائي في اليوم والليلة. قال المنذري: وفي سند الحديث سلمة بن الفضل قاضي الرى ولا يحتج به. قوله (وسنذكر حديث عمرو بن الأحوص) أي المذكور هنا في المصابيح وهو ألا لا يجني جان إلا على نفسه، ألا لا يجني جان على ولد، ولا مولود على والده، ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبد في بلادكم هذه أبدا، ولكن ستكون له طاعة فيما تحتقرون من أعمالكم فسيرضى به. 76-قوله: (لن يبرح الناس) بالموحدة والحاء المهملة أي لن يزاولوا ولن ينقطعوا (يتساءلون) أي متسائلين، يسأل بعضهم بعضا أو تحدثهم أنفسهم بالوسوسة، ويؤيد الأول رواية مسلم الآتية، ويجري بينهم السؤال في كل نوع (حتى يقولوا) أي حتى أن يقولوا (هذا الله خلق كل شيء) وفي أصل الحافظ والعيني والقسطلاني: "هذا الله خالق كل شيء"، قيل: إنه يحتمل أن يكون "هذا" مفعولاً، والمعنى حتى يقولوا هذا القول، ويكون "الله خلق كل شيء الخ" تفسيراً لهذا أو بدلاً أو بياناً، وأن يكون مبتدأ حذف خبره، أي هذا مسلم، وهو أن الله خلق كل شيء، وهو شيء، وكل شيء مخلوق، فمن خلقه؟ ويحتمل أن يكون ((هذا الله)) مبتدأ وخبراً، و ((خلق كل شيء)) استئناف أو حال، وقد مقدرة، والعامل معنى اسم الإشارة، ويحتمل أن يكون هذا مبتدأ والله عطف بيان، وخلق كل شيء خبره (فمن خلق الله) قاسوا القديم على الحادث فإنه يحتاج إلى محدث، ويتسلسل إلى أن ينتهي إلى خالق قديم واجب الوجود لذاته، وفي الحديث إشارة إلى ذم كثرة السؤال لأنها تفضي إلى المحذور كالسؤال المذكور فإنه لا ينشأ إلا عن جهل مفرط. (رواه البخاري) أي في الاعتصام من طريق شبابة عن ورقاء عن عبد الله بن عبد الرحمن عن أنس، قال العيني: الحديث من إفراد البخاري من هذا الوجه (ولمسلم) أي في الإيمان من طريق محمد بن فضيل عن المختار بن فلفل عن أنس (قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (قال الله عزوجل) فيكون من الأحاديث الربانية أي القدسية (إن أمتك) أي أمة الدعوة أو بعض أمة الإجابة بطريق الجهالة والوسوسة (لا يزالون يقولون) أي بعضهم لبعض أو في خواطرهم من غير اختيار، والأول هو الظاهر (ما كذا ما كذا) كناية عن كثرة السؤال، وقيل: وقال أي ما شأنه ومن خلقه (حتى يقولوا) أي حتى يتجاوزوا الحد

هذا الله خلق كل شيء، فمن خلق الله عزوجل؟)) رواه البخاري، ولمسلم قال: قال الله عزوجل: إن أمتك لا يزالون يقولون: ما كذا ما كذا حتى يقولوا هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله عزوجل؟)) . 77- (15) وعن عثمان بن أبي العاص قال: قلت: ((يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وبين قرأتي يلبسها علي. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ذاك شيطان يقال له خنزب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل على يسارك ثلاثاً، ففعلت ذلك فأذهبه الله عني)) ، رواه مسلم. 78- (16) وعن القاسم بن محمد أن رجلاً سأله فقال: ـــــــــــــــــــــــــــــ وينتهوا إلى أن يقولوا (هذا لله خلق الخلق فمن خلق الله عزوجل) والمقصود من الحديث إعلامه تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بما سيقع من أمته ليحذرهم منه. 77- قوله: (وعن عثمان بن أبي العاص) هو أبوعبد الله عثمان بن أبي العاص الثقفي الطائفي نزيل البصرة الصحابي الشهير، أسلم في وفد ثقيف فاستعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على الطائف وأقره أبوبكر ثم عمر، ثم استعمله عمر على عمان وبحرين سنة خمس عشرة، ثم سكن البصرة حتى مات بها في خلافة معاوية، قيل سنة (55) وقيل سنة (51) ، وكان هو الذي منع ثقيفاً عن الردة خطبهم فقال: كنتم آخر الناس أسلاماً فلا تكونوا أولهم ارتدادا. له تسعة وعشرون حديثاً، انفرد له مسلم بثلاثة، روى عنه جماعة من التابعين (إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وبين قرأتي) أي نكدني فيها ومنعني لذتها والفراغ للخشوع فيها بالوساوس الذميمة والخطرات الرديئة (يلبسها علي) بالتشديد للمبالغة. قال القاري: وفي نسخه صحيحة ظاهرة بفتح أوله وكسر ثالثه أي يخلطها ويشككني فيها أي في كل واحدة من الصلاة والقراءة، والجملة بيان لقوله حال وما يتصل به (ذاك شيطان) أي الملبس أي خاص من الشياطين لا رئيسهم (يقال له خنزب) بخاء معجمة مكسورة ثم نون ساكنة ثم زاى مكسورة ومفتوحة كذا في النسخ المصححة، وهو من الأوزان الرباعية كزبرج ودرهم، ويقال أيضاً بفتح الخاء والزاى حكاه القاضي عياض، ونظيره جعفر، ويقال أيضاً: بضم الخاء وفتح الزاى حكاه ابن الأثير في النهاية وهو غريب، وهو في اللغة الجري على الفجور على ما يفهم من القاموس (واتفل) بضم الفاء وبكسر (على يسارك) أي عن يسارك، إشارة إلى كراهة الوسوسة والتنفر عنها (ثلاثاً) أي ثلاث مرات لزيادة المبالغة في التنفر والتباعد (ففعلت ذلك) أي ما ذكره من التعوذ والتفل (فأذهبه الله) أي الوسواس. وفي الحديث أن التفل في الصلاة للضرورة لا يفسدها. وفي الباب أحاديث أخرى (رواه مسلم) في الطب، وأخرجه أيضاً أحمد في مسنده (ج4:ص216) . 78-قوله: (عن القاسم بن محمد) أي ابن أبي بكر الصديق التيمي أبي محمد المدني أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة من أكابر التابعين، وكان أفضل أهل زمانه. قال أيوب: ما رأيت أفضل منه. وقال يحيى بن سعيد:

إني أهم في صلاتي فيكثر ذلك علي. فقال له: أمض في صلاتك فإنه لن يذهب ذلك عنك حتى تنصرف وأنت تقول ما أتممت صلاتي)) ، رواه مالك. ـــــــــــــــــــــــــــــ ما أدركنا أحداً بالمدينة نفضله على القاسم بن محمد. روى عن جماعة من الصحابة منهم عائشة ومعاوية وأبوهريرة وابن عباس وابن عمر، وعنه خلق كثير. قال ابن المديني: له مائتا حديث. مات سنة ستة ومائة وقيل غير ذلك (إني أهم في صلاتي) بكسر الهاء وتخفيف الميم، يقال: وهمت في الشيء بالفتح أهم وهمًا إذا ذهب وهمك إليه وأنت تريد غيره، ويقال: وهمت في الحساب أوهم وهمًا إذا غلطت فيه وسهوت (فيكثر) بالمثلثة معلومًا ومجهولاً من الكثرة أي يقع كثيراً، وروي "يكبر" بالموحدة المضمومة أي يعظم (ذلك) أي الوهم (على) بتشديد الياء (أمض في صلاتك) أي لا تلتفت إلى هذا الوهم ولا تعمل به ولا تقطع صلاتك (فإنه لن يذهب ذلك عنك) الضمير للشأن، والجملة تفسير له، وذلك إشارة للوهم المعنى به الوسوسة، والمعني لا يذهب عنك تلك الخطرات الشيطانية (حتى تنصرف) أي تفرغ من الصلاة وأنت تقول للوسواس أي الشيطان صدقت (ما أتممت صلاتي) لكن لا أقبل قولك ولا أتمها إرغاماً لك ونقضاً لما أردته مني، وهذا أصل عظيم لدفع الوساوس وقمع هواجس الشيطان في سائر الطاعات، بأن لا يلتفت إليها أصلاً، ومعنى الأثر أن من يكثر عليه السهو في صلاته ويغلب على ظنه أنه قد أتمها لكن الشيطان يوسوس له فيبني على ظنه. وقال الباجي: هذا القول من القاسم للذي يستنكحه الوهم والسهو أي يغلبه ولا ينفك عنه فلا يكاد يثبت له يقين - انتهى. (رواه مالك) في باب العمل في السهو من موطئه ففيه عن مالك أنه بلغه أن رجلاً سأل القاسم بن محمد فقال إني أهم ... الخ، فالأثر من بلاغات مالك. قال القاري عن سفيان: إذا قال مالك بلغني فهو إسناد قوي. وحكى ابن فرحون عن أبي داود أنه قال: مراسيل مالك أصح من مراسيل سعيد بن المسيب ومن مراسيل الحسن. ومالك أصح الناس مرسلاً. وصنف ابن عبد البر كتاباً في وصل ما في الموطأ من المرسل والمنقطع والمعضل، قال: وجميع ما فيه من قوله "بلغني" ومن قوله "عن الثقة عنده" مما لم يسنده أحد وستون حديثاً، كلها مسندة من غير طريق مالك إلا أربعة أحاديث ثم ذكرها. قال السيوطي في التدريب (73) : قيل إن قول الراوي "بلغني" كقول مالك في الموطأ بلغني عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((للملوك طعامه وكسوته بالمعروف، ولا يكلف من العمل إلا ما يطبق)) ، يسمى معضلاً عند أصحاب الحديث، نقله ابن الصلاح عن الحافظ أبي نصر السجزى. قال العراقي: وقد استشكل لجواز أن يكون الساقط وأحداً، فقد سمع مالك عن جماعة من أصحاب أبي هريرة كسعيد المقبري ونعيم المجمر ومحمد بن المنكدر. والجواب أن مالكاً وصله خارج الموطأ عن محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة، فعرفنا بذلك سقوط اثنين منه. قال السيوطي: بل ذكر النسائي في التمييز أن محمد بن عجلان لم يسمعه من أبيه، بل رواه عن بكير عن عجلان - انتهى.

(3) باب الإيمان بالقدر

(3) باب الإيمان بالقدر ـــــــــــــــــــــــــــــ (باب الإيمان بالقدر) هذا نوع تخصيص بعد تعميم، أو ذكر جزئي بعد الكلي اهتماماً لما وقع فيه من الاختلاف الناشئ عن التحير في هذا الأمر. والقدر بفتحتين وهو المشهور، وقد تسكن داله. قال الراغب: القدر بوضعه يدل على القدرة وعلى المقدور الكائن بالعلم يتضمن الإرادة عقلاً والقول نقلاً، وحاصله وجود شيء في وقت وعلى حال يوفق العلم والإرادة والقول. وقدر الله الشيء بالتشديد قضاه، ويجوز بالتخفيف. وقال الجزري: القدر ما قضاه الله وحكم به من الأمور. وقال في القاموس: القدر محركة القضاء والحكم - انتهى. وهذا يدل على أن القدر والقضاء بمعنى واحد، وقد يفرق بينهما فقيل: القضاء الحكم بالكليات على سبيل الإجمال في الأزل، والقدر الحكم بوقوع الجزئيات التي لتلك الكليات على سبيل التفصيل فيما لا يزال. قال تعالى: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه، وما ننزل إلا بقدر معلوم} [15: 21] وقيل: القضاء الإرادة الأزلية المقتضية لنظام الموجودات على ترتيب خاص، والقدر تعلق تلك الإرادة بالأشياء في أوقاتها، وعلى هذا يكون القضاء سابقاً على القدر، قال تعالى: {يمحو الله ما يشاء وثبت، وعنده أم الكتاب} [13: 39] ، فالمحو والإثبات عبارة عن القدر، وفي قوله تعالى: {وعنده أم الكتاب} إشارة إلى القضاء، وأرجع لتوضيح الآية إلى حاشية الجلالين للشيخ سليمان الجمل، فإنه أطال الكلام فيها وأجاد. وقال بعضهم: القدر هو التقدير، والقضاء هو الخلق بوفق التقدير نحو: {فقضاهن سبع سموات} أي خلقهن، فيكون القدر سابقا على القضاء وعلى هذا المعنى جف القلم بما هو كائن عبارة عن التقدير. وفي قوله تعالى: {كل يوم هو في شأن} [55: 29] إشارة إلى القضاء. وقيل: القضاء أخص من القدر لأنه الفصل من التقدير، والقدر هو التقدير والقضاء هو الفصل والقطع. وذكر بعضهم أن القدر بمنزلة المعد للكيل، والقضاء بمنزلة الكيل. وفي قول عمر لأبي عبيدة: "أفر من قضاء الله إلى قدر الله" تنبيه على أن القدر ما لم يكن قضاء فمرجو أن يدفعه الله، فإذا قضى فلا مدفع له، ويشهد لذلك قوله تعالى: {وكان أمرا مقضياً} [19: 21] ، {وكان على ربك حتما مقضياً} [19: 71] تنبيهاً على أنه صار بحيث لا يمكن تلافيه. وقال الغزالي في المقصد الأسنى في شرح الأسماء الحسنى: ههنا ثلاثة أشياء، الحكم والقضاء والقدر. ثم بين الفرق بينها بالتفصيل فارجع إليه. والإيمان بالقدر هو أن يعتقد أن كل ما يوجد في العالم من الخير والشر والضر والنفع حتى إن أفعال العباد من الإيمان والكفر والطاعة والعصيان والغواية والرشد بقضاء الله وقدره وإرادته ومشيئته وخلقه وتأثيره، غير أنه يرضى الإيمان والطاعة ووعد عليهما الثواب، ولا يرضى الكفر والمعصية وأوعد عليهما العقاب. قال أهل السنة: إن الله تعالى قدر الأشياء أي علم مقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد منها ما سبق في عمله، فلا محدث في العالم العلوي والسفلي إلا وهو صادر عن علمه وقدرته وإرادته دون خلقه، وإن الخلق ليس لهم فيها إلا نوع اكتساب ومحاولة ونسبة وإضافة وإن ذلك كله إنما حصل لهم بتيسير الله وبقدرة الله وإلهامه

{الفصل الأول}

{الفصل الأول} 79- (1) عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال وكان عرشه على الماء)) ، رواه مسلم. 80- (2) وعن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كل شيء بقدر حتى العجز والكيس، ـــــــــــــــــــــــــــــ لا إله إلا هو ولا خالق غيره كما نص عليه القرآن والسنة، وقال ابن السمعاني: سبيل معرفة هذا الباب التوقيف من الكتاب والسنة دون محض القياس والعقل، فمن عدل عن التوقيف فيه ضل وتاه في بحار الحيرة، ولم يبلغ شفاء ولا ما يطمئن به القلب؛ لأن القدر سر من أسرار الله، اختص العليم الخبير به، وضرب دونه الأستار، وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم لما علمه من الحكمة، فلم يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب. قيل: إن القدر ينكشف لهم إذا دخلوا الجنة، ولا ينكشف قبل دخولها، وارجع إلى كتاب الأسماء والصفات للبيهقي، وخلق أفعال العباد للإمام البخاري، ومدارج السالكين للإمام ابن القيم، وشرح الإحياء للعلامة الزبيدي، والجزء السادس من طبقات الشافعية الكبرى للعلامة السبكي، وحجة الله للشيخ ولي الله الدهلوى وغيرها من الكتب الكلامية. 79-قوله: (كتب الله مقادير الخلائق) جمع مقدار، وهو الشيء الذي يعرف به قدر الشيء وكميته كالمكيال والميزان، وقد يستعمل بمعنى القدر نفسه، وهو الكمية والكيفية أي أمر الله القلم أن يثبت في اللوح المحفوظ ما سيوجد من الخلائق ذاتاً وصفة وفعلاً وخيراً وشراً على ما تعلقت به إرادته الأزلية. قال النووي: قال العلماء المراد تحديد وقت الكتابة في اللوح المحفوظ أو غيره لا أصل التقدير فإن ذلك أزلي لا أول له – انتهى. (قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (وعرشه على الماء) وفي بعض النسخ وكان عرشه على الماء، أي بزيادة لفظ "كان" وكذا في المصابيح، ووقع في صحيح مسلم وعرشه على الماء بغير لفظ كان، وذكر الحافظ حديث عبد الله هذا نقلاً عن مسلم بلفظ: "وكان عرشه على الماء" فليحرر، والمعنى كان عرشه قبل أن يخلق السموات والأرض على وجه الماء، وفيه إشارة إلى أن الماء والعرش كانا مبدأ هذا العالم، لكونهما خلقا قبل خلق السماوات والأرض، وقد روى أحمد والترمذي وصححه من حديث أبي رزين العقيلي مرفوعاً: أن الماء خلق قبل العرش. وروى السدى في تفسيره بأسانيد متعددة: أن الله لم يخلق شيئاً مما خلق قبل الماء. وأما حديث: أول ما خلق الله القلم. فسيأتي الكلام عليه في الفصل الثاني من هذا الباب (رواه مسلم) وأخرج أحمد والترمذي أول الحديث أي بدون قوله: وعرشه على الماء. 80-قوله: (كل شيء بقدر) بفتح الدال أي كل شيء لا يقع في الوجود إلا وقد سبق به علم الله ومشيئته وتقديره (حتى العجز والكيس) بفتح الكاف روي برفعهما عطفا على "كل" أو على أنه مبتدأ حذف خبره أي حتى العجز

رواه مسلم. 81- (3) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((احتج آدم وموسى عند ربهما فحج آدم موسى، قال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، ـــــــــــــــــــــــــــــ والكيس كذلك أي كائنان بتقدير الله تعالى، وبجرهما عطفاً على "شيء". قيل: والأوجه أن يكون حتى هنا جارة بمعنى إلى؛ لأن معنى الحديث يقتضي الغاية لأنه أراد بذلك أن اكتساب العباد وأفعالهم وإن كانت معلومة لهم ومرادة منهم فلا تقع مع ذلك منهم إلا بمشيئة الله تعالى، فكلها بتقدير خالقهم حتى الكيس الذي يتوسل صاحبه به إلى البغية، والعجز الذي يتأخر به عنها. قال عياض: يحتمل أن العجز ههنا على ظاهره، وهو عدم القدرة. وقيل: هو ترك ما يجب فعله والتسويف به وتأخيره عن وقته. قال: ويحتمل العجز عن الطاعات، ويحتمل العموم في أمور الدنيا والآخرة. والكيس ضد العجز وهو النشاط والحذق بالأمور، ومعناه أن العاجز قد قدرة عجزه، والكيس قد قدر كيسه - انتهى. وفي الحديث إثبات للقدر، وأنه عام في كل شيء، وأن جميع ذلك مقدر في الأزل، معلوم لله تعالى مراد له. (رواه مسلم) في القدر، وأخرجه أيضاً مالك وأحمد (ج2: ص110) والبخاري في خلق أفعال العباد. 81-قوله: (احتج آدم وموسى) أي تحاجا وتناظرا (عند ربهما) هذه العندية عندية اختصاص وتشريف، لا عندية مكان فيحتمل وقوع ذلك في كل من الدارين الدنيا والآخرة، فقد اختلف في وقت هذه المحاجة، فقيل: وقعت في زمان موسى فأحي الله له آدم معجزة له فكلمه، أو كشف له عن قبره فتحدثا أو أراه الله روحه كما أرى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة المعراج أرواح الأنبياء أو أراه الله له في المنام ورؤياء الأنبياء وحي. وقيل كانت تلك المحاجة بعد وفاة موسى فالتقيا في البرزخ أو ما مات موسى فالتقت أرواحهما في السماء، وبذلك جزم ابن عبد البر والقابسي (فحج آدم موسى) أي غلب عليه بالحجة بأن ألزمه أن جملة ما صدر عنه لم يكن هو مستقلاً بها متمكناً من تركها بل كان أمرا مقضياً، وما كان كذلك لا يحسن اللوم عليه عقلاً، وأما اللوم شرعاً فكان منتفياً بالضرورة، إذ ما شرع لموسى أن يلوم آدم في تلك الحال، وأيضاً هو في عالم البرزخ وهو غير عالم التكليف ولا يتوجه فيه اللوم شرعاً، وأيضاً لا لوم على تائب معفو عنه (قال موسى) الخ جملة مبنية لمعنى فحج آدم وموسى ومفسره للجملة، وقوله في آخر الحديث "فحج آدم موسى" فذلك للتفصيل تقريراً وتثبيتاً للأنفس على توطين هذا الاعتقاد، ويحتمل أن يقال: أن قوله "فحج" أولاً تحرير للدعوى، وثانياً إثبات لها، فالفاء في الأولى للعطف، وفي الثاني للنتيجة، وهما متغايران في المعنى (أنت آدم) استفهام تقرير (خلقك الله بيده) هي محمولة على ظاهرها فنؤمن بها من غير تكييف وتشبيه وتعطيل ولا تتعرض لتأويلها مع اعتقاد أن الجارحة غير مرادة (ونفخ فيك) خصه بالذكر إكراماً وتشريفاً له، وأنه خلق إبداعاً من غير واسطة أب وأم (من روحه) من زائدة على رأي، والنفخ بمعنى الخلق، والإضافة للتشريف أي خلق فيك الروح أو نفخ فيك من الروح الذي هو مخلوق

وأسجد لك ملائكته وأسكنك في جنته، ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض. قال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالة وبكلامه، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء، وقربك نجياً، فبكم وجدت الله ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا يد فيه لأحد (وأسجد لك ملائكته) أي أمرهم أن يسجدوا لك، والسجود في الأصل التذلل والتواضع مع التطامن، وفي الشرع وضع الجبهة وغيرها من أعضاء السجود على الأرض على قصد العبادة، والمراد هنا المعنى الشرعي، والدليل عليه ما رواه أحمد ومسلم مرفوعاً من حديث أبي هريرة: إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار. قيل: كانت هذه السجدة لآدم تحية وسلاماً وإكراماً واحتراماً وإ عظاماً، وهي طاعة لله عزوجل لأنها امتثال لأمره، وقد كان هذا مشروعاً في الأمم الماضية، ولكنه نسخ في ملتنا. وقد قواه الرازي في تفسيره ورجحه وضعف ما عداه. وقيل: إن المسجود له في الحقيقة هو الله تعالى وجعل آدم قبلة تفخيماً لشأنه، واللام في لك حينئذ بمعنى إلى. وقيل: المراد به المعنى اللغوي أي التواضع والتذلل لآدم تحية وتعظيماً كسجود إخوة يوسف. قال البغوي: هذا القول أصح، قال ولم يكن فيه وضع الوجه على الأرض، إنما كان انحناء، فلما جاء الإسلام أبطل ذلك بالسلام – انتهى. (في جتنه) الخاصة به، والمراد بها جنة الخلد التي هي دار الجزاء في الآخرة، وهي وجودة من قبل آدم، هذا هو الحق (أهبطت الناس) أي كنت سبباً لإهباط الناس وإنزالهم، فإنهم وإن لم يكونوا موجودين لكنهم كانوا على شرف الوجود، فكأنه جعلهم مهبطين منها (بخطيئتك) أي التي صدرت عنك غير لائقة بعلو مقامك، وهي أكله من الشجرة وإن كان نسياناً أو خطأ في الاجتهاد؛ لأن الكمل يعاتبون ويؤاخذون بما لا يؤاخذ به غيرهم، فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين، وليس فيه ما يخل بالأدب مع الأب لأنه يغتفر في بعض الأحوال ما لا يغتفر في بعض، كحالة الغضب والأسف والاحتجاج والمناظرة، وخصوصاً ممن طبع على حدة الخلق وشدة الغضب، ولذلك لك لم يجترئ على هذا السؤال والاحتجاج من أولاد آدم غير موسى فإنه كان في طبعه شدة وحدة، وهذا من اختلاف الطبائع والأحوال (اصطفاك) أي اختارك (برسالته) بالإفراد لإرادة الجنس، وفي بعض النسخ برسالاته بالجمع لإرادته الأنواع، وليس فيه ما ينفي رسالة آدم لأن كلاً ذكر ما هو الأشرف من صفات صاحبه، وتخصيص الشيء بالذكر لا ينفي ما عداه (وبكلامه) اختص بذلك لأنه لم يسمع كلام الله من غير واسطة أحد في الأرض غيره (وأعطاك الألواح) أي ألواح التوراة (فيها تبيان كل شيء) أي بيان كل شيء مما يحتاج إليه في أمر الدين، وهذا مستمد من قوله: {وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء} [7: 145] ، (وقربك نجياً) النجي المناجي، يستوي فيه الواحد والجمع، وهو حال من الفاعل أو المفعول أي وكلمك الله من غير واسطة ملك، أو المعنى وخصك بالنجوى (فبكم) مميزة محذوف أي فبكم زماناً (وجدت الله) أي علمته

كتب التوراة قبل أن أخلق؟ قال موسى: بأربعين عاماً. قال آدم: فهل وجدت فيها {وعصى آدم ربه فغوى} ؟ قال نعم. قال: أفتلومني على أن عملت عملاً كتبه الله على أن أعمله ـــــــــــــــــــــــــــــ (كتب التوراة) أي أمر بكتب التوراة في الألواح (قبل أن أخلق) بصيغة المجهول (وعصى آدم ربه) أي فعل خلاف ما أمر به ربه (فغوى) أي فخرج بالعصيان من أن يكون راشداً في فعله، والغي ضد الرشد، ويطلق على مجرد الخطأ أيضاً أي أخطأ صواب ما أمر به، وليس المراد أن لفظه بهذا التركيب بل معناه بالعبرية (أفتلومني) أي تجد هذا في التوراة فتلومني (كتبه الله علي) أي في الألواح (أن أعمله) بدل من ضمير كتبه المنصوب. قال التوربشتي: ليس معناه أنه ألزمه إياي وأوجبه علي فلم يكن لي في تناول الشجرة كسب واختيار، وإنما المعنى أن الله حكم قبل كوني بأنه كائن لا محالة، فهل يمكن أن يصدر عني خلاف علم الله، فكيف تغفل عن العلم السابق وتذكر الكسب الذي هو السبب وتنسى الأصل الذي هو القدر وأنت من المصطفين الذين يشاهدون سر الله؟ ولا يجوز للعاصي أن يعتذر بمثل هذا وبتمسك بالتقدير لأنه باق في دار التكليف وعالم الأسباب الذي لا يجوز فيه قطع النظر وصرفه عن الوسائط والأسباب، جار عليه أحكام المكلفين من العقوبة واللوم والتوبيخ وغيرها، وفي لومه وعقوبته زجر له ولغيره عن مثل هذا الفعل، وأما آدم فهو خارج عن هذا العالم المشهود وعن الحاجة إلى الزجر، فلم يبق في لومه سوى الإيذاء والتخجيل، ولأن الاحتجاج بالتقدير يكون على طريقين" الأول للاجتراء على المعاصي ودفع العار عن نفسه والتشجيع على الفواحش، ولا شك أنه وقاحة، والدليل لعدم استحياء العاصي من ربه تبارك وتعالى، وذلك لا يجوز عقلاً ولا شرعاً. والثاني ما يكون لتسلية النفس ودفع اضطرابها وقلقها الحاصل بسبب ارتكاب الخطيئة، ولا قبح فيه شرعاً ولا عقلاً، فلا بأس به، فمن أذنب وظلم على نفسه فاضطربت نفسه وانزعجت، فجعل يكشف همه ويزيل حزنه بتذكر القدر، فهذا التمسك بالقدر ليس لعدم المبالاة بالمعاصي، بل لتسلية النفس. واحتجاج آدم بالقدر كان من القسم الثاني. وتمسك العصاة بالقدر يكون من القسم الأول غالباً. قال الإمام ابن القيم في مدارج السالكين (ج1:ص189، 190، 191) : اعلم أنه لا عذر لأحد البتة في معصية الله تعالى ومخالفة أمره مع علمه بذلك وتمكنه من الفعل والترك، ولو كان له عذر لما استحق العقوبة واللوم لا في الدنيا ولا في العقبى، فالاعتذار بالقدر غير مقبول ولا يعذر به أحد، بل يزيد في ذنب الجاني ويغضب الرب عليه، ثم إن الاعتذار بالقدر يتضمن تنزيه الجاني نفسه وتنزيه ساحته وهو الظالم الجاهل، والجهل على القدر نسبة الذنب إليه، وتظليمه بلسان الحال أو القال بتحسين العبارة وتلطيفها كما قيل: ... ... ... ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء وقال آخر: ... ... ... ... ... أصبحت منفعلاً لما تختاره ... مني ففعلي كله طاعات

قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فحج آدم موسى، ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال آخر شاكياً متظلماً: ... ... ... إذا كان المحب قليل حظ فما حسناته إلا ذنوب ولخصماًء الله هناك تظلمات وشكايات، ولو فتشوا زوايا قلوبهم لوجدوا هناك خصماً متظلماً شاكياً يقول: لا أقدر أن أقول شيئا وإني في صورة ظالم، ويقول بحرفة وتنفس الصعداء مسكن بن آدم لا قادر ولا معذور، وقال آخر: ابن آدم كرة تحت صولجانات الأقدار يضربها واحد ويردها الآخر، وهل تستطيع الكرة الانتصاف من الصولجان؟ ومن له أدنى فهم وبصيرة يعلم أن هذا كله تظلم وشكاية وعتب، فتباً له ظالماً في صورة مظلوم، وشاكياً والجناية منه، وقد جد في الإعراض وهو ينادي طردوني وأبعدوني، ولي ظهره الباب بل أغلقه على نفسه وأضاع مفاتيحه وكسرها ويقول: دعاني وسد الباب دوني فهل إلى دخولي سبيل بينوا لي قضيتي يأخذ الشفيق حجزته عن النار، وهو يجاذبه ثوبه ويغلبه ويقتحهما ويستغيث: ما حيلتي وقد قدموني إلى الحفيرة وقذفوني فيها. والله كم صاح به الناصح: الحذر الحذر إياك إياك، وكم أمسك بثوبه وكم أراه مصارع المقتحمين وهو يأبى إلا الاقتحام: وكم سقت في آثاركم من نصيحة وقد يستفيد البغضة المتنصح ياويله ظهيراً للشيطان على ربه، خصماً لله على نفسه، جبري المعاصي قدري الطاعات، عاجز الرأي مضياع لفرصته، قاعد عن مصالحه معاتب لأقدار ربه، يحتج على ربه بما لا يقبله من عبده وامرأته وأمته إذا احتجوا به في التهاون في بعض أمره، فلو أمر أحدهم بأمر ففرط فيه أو نهاه عن شيء فارتكبه وقال: القدر ساقني إلى ذلك لما قيل منه هذه الحجة ولبادر إلى عقوبته، فإن كان القدر حجة لك أيها الظالم الجاهل في ترك حق ربك، فهلا كان حجة لعبدك وأمتك في ترك بعض حقك؟ بل إذا أساء إليك مسيء وجنى عليك جان واحتج بالقدر لاشتد غضبك عليه وتضاعف جرمه عندك ورأيت حجته داحضة، ثم تحتج على ربك به وتراه عذراً لنفسك، فمن أولى بالظلم والجهل ممن هذه حالة؟ (إلى آخر ما قال) (قبل أن يخلقني بأربعين سنة) قيل المراد بالأربعين سنة ما بين قوله تعالى: {إني جاعل في الأرض خليفة} إلى نفخ الروح فيه، أو هي مدة لبثه طيناً إلى أن نفخت فيه الروح، والأظهر أن ابتداء المدة وقت الكتابة في الألواح وآخرها ابتداء خلق آدم (فحج آدم موسى) تقدم بيان وجه غلبة آدم على موسى. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: لم يعذر الله أحداً قط بالقدر، ولو عذره به لكان أولياؤه وأنبياؤه أحق بذلك، وآدم إنما حج موسى لأنه لامه على المصيبة التي أصابت الذرية، فقال له: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة، كما في بعض الروايات، وما أصاب العبد من المصائب فعليه أن يسلم فيها لله تعالى ويعلم أنها مقدرة عليه، والحاصل أنه حصل من موسى ملام على المصيبة التي أصابت الذرية

رواه مسلم. 82- (4) وعن ابن مسعود قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق: ((إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ـــــــــــــــــــــــــــــ بخروجهم من الجنة ونزولهم إلى دار المشقة والبلوى بسبب خطيئة أبيهم، فذكر موسى الخطيئة تنبيهاً على سبب المصيبة، فاحتج آدم بالقدر على المصيبة، وقال إن هذه البلية التي أصابت ذريتي بسبب خطيئتي كانت مكتوبة علي بقدره قبل أن أخلق بكذا وكذا سنة. والقدر يحتج به في المصائب والبلايا دون القبائح والمعاصي، وارجع لتوضيح هذا الجواب إلى شفاء العليل لابن القيم. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد (ج2: ص249، 265، 269، 288) والبخاري والترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجه بألفاظ مختلفة مختصراً ومطولاً. ولعله لم يعزه المصنف إلى البخاري لكونه رواه مختصراً وإن كان الأحسن العزو مع التنبيه، وفي الباب عن عمر عند أبي داود وأبي عوانة وغيرهما، وجندب بن عبد الله عند النسائي، وأبي سعيد عند البزار. 82-قوله: (وهو الصادق) الأولى أن تجعل هذه الجملة اعتراضية لا حالية لتعم الأحوال كلها، وأن يكون من عادته ذلك فما أحسن موقعه ههنا، ومعناه الصادق في أقواله المتحري للصدق في جميع أفعاله، والمراد أنه الكامل في الصدق، أو الظاهر كونه صادقا بشهادة المعجزات الباهرة، وذكر ذلك تبركاً وتلذذاً وافتخاراً. (المصدوق) في جميع ما أتاه من الوحي، يقال: صدقه زيد راست كفت باوزيد. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في أبي العاص بن الربيع: ((فصدقني)) ، وقال في حديث أبي هريرة: ((صدقك وهو كذوب)) ، وقال علي في حديث الإفك: ((سل الجارية تصدقك)) ونظائره كثيرة، وكذا قال السيد جمال الدين. (إن خلق أحدكم) بكسر الهمزة على الحكاية، ويجوز فتحها أي مادة خلق أحدكم أو ما يخلق منه أحدكم وهو الماء (يجمع في بطن أمه أربعين يوماً) أي يتم جمعه في الرحم في هذه المدة، وهذا يقتضي التفرق (نطفة) حال من فاعل يجمع، أي النطفة إذا وقعت في الرحم فأراد الله أن يخلق منها بشراً طارت في جسم المرأة تحت كل ظفر وشعر، ثم تمكث أربعين ليلة ثم تنزل دماً في الرحم، فذلك جمعها، كذا فسره ابن مسعود فيما رواه ابن أبي حاتم وغيره، ويجوز أن يريد الجمع مكث النطفة في الرحم أربعين يوماً يتخمر فيه حتى يتهيأ للخلق والتصوير، ثم يخلق بعد الأربعين، كذا في النهاية (ثم يكون عقله) بفتح العين واللام أي دماً غليظاً جامداً (مثل ذلك) إشارة إلى محذوف، أي مثل ذلك الزمان يعني أربعين يوماً أي ثم يبقى ويمكث دماً أربعين يوماً (مضغة) أي قطعة لحم قدر ما يمضغ (مثل ذلك) ويظهر التصوير في هذه الأربعين. قال المظهر: في هذا التحويل مع قدرته على خلقه في لمحة فوائد وعبر، منها أنه لو خلقه لشق على الأم لعدم اعتيادها، وربما تظن علة فجعل أولاً نطفة لتعتاد بها مدة، وهكذا إلى الولادة. ومنها إظهار قدرته ونعمته ليعبدوه ويشكروه حيث قلبهم من تلك الأطوار إلى كونهم إنساناً حسن الصور متحلياً بالعقل والشهامة.

ثم يبعث الله إليه ملكاً بأربع كلمات، فيكتب عمله ـــــــــــــــــــــــــــــ ومنها إرشاد الناس وتنبيههم على كمال قدرته على الحشر؛ لأن من قدر على خلق الإنسان من ماء مهين ثم من علقة ثم من مضغة مهيأة لنفخ الروح فيه، يقدر على حشره ونفخ الروح فيه. ومنها تعليم العباد في تدريج الأمور وعدم تعجيلهم فيها، فإنه تعالى مع كمال قدرته وقوته على خلقه دفعة حيث خلقه مدرجاً، فإن الإنسان أولى به التأني في فعله. ومنها تنبيههم وتفهيمهم أصلهم وفرعهم، فلا يغتروا بقوة أبدانهم وأعضائهم وحواسهم، ويعرفوا أنها كلها عطايا وهدايا، بل على وجه العارية موجودة عندهم لينظروا إلى مبدئهم (ثم يبعث الله إليه ملكاً) أي يرسل، أي في الطور الرابع حين يتكامل بنيانه ويتشكل أعضاؤه، والمراد بالبعث والإرسال بهذه الأشياء أمره بها وبالتصرف فيها بهذه الأفعال، وإلا فقد صرح في الحديث بأنه مؤكل بالرحم، وأنه يقول: يا رب نطفة يا رب علقة. وقيل: ذلك ملك آخر غير ملك الرحم (بأربع كلمات) أي بكتابتها (بيكتب) أي بين عينيه كما ورد مرفوعاً عن ابن عمر في مسند البزار وفي صحيفته أيضاً كما تدل عليه حديث حذيفة بن أسيد عند مسلم في باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه من كتاب القدر. وورد في رواية أخرى لحذيفة عند مسلم أيضاً أنه إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يارب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك – الحديث. وظاهر هذا أن تصوير الجنين وخلق سمعه وبصره وجلده ولحمه وعظامه، وكتابة الملك يكون في أول الأربعين الثانية، وهو مخالف لحديث ابن مسعود هذا. ولعل ذلك يختلف باختلاف الأجنة، فبعضهم يصور ويكتب له ذلك بعد الأربعين الأولى، وبعضهم بعد الأربعين الثالثة. وقال النووي: لتصرف الملك أوقات: أحدها حين يخلقها الله نطفة ثم ينقله علقة، وهو أول علم الملك بأنه ولد وذلك عقب الأربعين الأولى، وحينئذٍ يكتب رزقه وأجله وعمله وشقاوته أو سعادته وخلقته وصورته، ثم للملك فيه تصرف آخر في وقت آخر وهو تصويره وخلق سمعه وبصره وجلده ولحمه وعظمه وكونه ذكراً أو أنثى، وذلك إنما يكون في الأربعين الثالثة، وهي مدة المضغة وقبل انقضاء هذه الأربعين وقبل نفخ الروح، فالمراد بتصويرها وخلق سمعها بعد الأربعين الأولى أي في أول الأربعين الثانية أنه يكتب ذلك ثم يفعله في وقت آخر؛ لأن التصوير عقب الأربعين الأولى غير موجودة في العادة، وإنما يقع في الأربعين الثالثة، وهي مدة المضغة، ثم يكون للملك فيه تصرف آخر وهو وقت نفخ الروح عقب الأربعين الثالثة حين يكمل له أربعة أشهر- انتهى مختصراً. وأما الاختلاف في وقت الكتابة كما هو ظاهر من ملاحظة الروايات، فقال بعض العلماء في دفعه: إنه يكتب ذلك مرتين: أحدهما في السماء والآخرة في بطن الأم. وقد يقال: إن لفظة "ثم" في حديث ابن مسعود إنما يراد به ترتيب الأخبار لا ترتيب المخبر عنه في نفسه. وقال بعضهم: قوله: "ثم يبعث الله ملكاً فيكتب عمله ... " الخ عطف على "يجمع في بطن أمه" لا على "ثم يكون مضغة"، وإنما أخر ذكرها إلى ما بعد ذكر المضغة لئلا ينقطع ذكر الأطوار الثلاثة التي يتقلب فيها الجنين، فإن ذكر هذه الثلاثة على نسق واحد أعجب وأحسن، والأظهر

وأجله ورزقه وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)) ، متفق عليه. 83- (5) وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن العبد ـــــــــــــــــــــــــــــ هو الأول. (وأجله) أي مدة حياته وانتهاء عمره (وشقي أو سعيد) خبر مبتدأ محذوف، أي ويكتب هو شقي أو سعيد، والظاهر أن يقال: ويكتب سعادته وشقاوته، فعدل إلى الصفة حكاية لعين ما يكتب، أو التقدير: يعلم للملك أن المقضي في الأزل هكذا، حتى يكتب على جبهته مثلاً، ثم الترديد في الحكاية لا في المحكي، وإنما جاءت الحكاية على لفظ الترديد نظراً إلى التوزيع والتقسيم على آحاد المولود، فمنهم شقي وسعيد، والأمر بكتابة الأمور الأربعة لا ينفي كتابة شيء آخر مما قدر له فيه. (ثم ينفخ) على البناء للمجهول، وقيل: إنه معلوم (فيه الروح) على الوجهين أي ثم بعد هذا البعث لا قبله (وإن أحدكم) وفي المصابيح: وإن الرجل أي الشخص (حتى ما يكون) بالنصب بـ"حتى"، وما نافية غير مانعة من العمل، وجوز بعضهم كون حتى ابتدائية فيكون بالرفع. قال ابن الملك: الأوجه أنها عاطفة، ويكون بالرفع عطف على ما قبله (إلا ذراع) تمثيل لغاية قربها (فيسبق عليه الكتاب) أي يغلب عليه، والكتاب بمعنى المكتوب أي المقدر أو التقدير (فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) المعنى أنه يتعارض عمله في اقتضاء السعادة، والمكتوب المقدر في الأزل في اقتضاء الشقاوة فيتحقق مقتضى المكتوب، فعبر عن ذلك بالسبق؛ لأن السابق يحصل مراده دون المسبوق (فيعمل بعمل أهل الجنة) بأن يستغفر ويتوب، وفي الحديث تصريح بإثبات القدر، وأن التوبة تهدم الذنوب، وأن من مات على شيء حكم له بذلك من خير أو شر، إلا أن أصحاب المعاصي غير الكفر في المشيئة. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجة. قال الحافظ في شرح حديث ابن مسعود في أول القدر: رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مع ابن مسعود جماعة من الصحابة. ثم ذكر أحاديثهم. 83-قوله: (وعن سهل بن سعد) بن مالك بن خالد الأنصاري الساعدي المدني، يكنى أباالعباس، وكان اسمه حزناً، فسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - سهلاً، وهو من مشاهير الصحابة. مات النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن خمس عشر سنة. له مائة حديث وثمانية وثمانون حديثاً، اتفقا على ثمانية وعشرون، وانفرد البخاري بأحد عشر. روى عنه جماعة من التابعين، مات سنة (88) وقيل: بعدها وقد جاوز المائة. ويقال: إنه آخر من بقي بالمدينة من أصحاب الرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (إن العبد) أي عبد من

ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة، ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار، وإنما الأعمال بالخواتيم)) ، متفق عليه. 84- (6) وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: ((دعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جنازة صبي من الأنصار ـــــــــــــــــــــــــــــ عبيد الله (ليعمل عمل أهل النار) أي ظاهراً وصورة أو أولاً أو في نظر الخلق (وإنه من أهل الجنة) أي باطناً ومعنى أو آخراً أو في علم الله، والواو حالية وإن مكسورة بعدها (ويعمل) أي عبد آخر (إنما الأعمال بالخواتيم) أي اعتبار الأعمال بالعواقب والأواخر، وهو جمع خاتمة، وهذا تذييل للكلام السابق مشتمل على معناه لمزيد التقرير، يعني أن العمل السابق ليس بمعتبر، وإنما المعتبر العمل الذي ختم به كما لوح به حديث ابن مسعود حيث قال "فيسبق عليه الكتاب الخ"، وفيه حث على المواظبة بالطاعات ومحافظة الأوقات عن المعاصي خوفاً من أن يكون ذلك آخر عمله، وفيه زجر عن العجب والتفرح بالأعمال فإنه لا يدري ماذا يصيبه في العاقبة، وفيه أنه لا يجوز الشهادة لأحد بالجنة ولا بالنار، فإن أمور العبد بمشيئة الله وقدره السابق، وفيه أيضاً أن الله يتصرف في ملكه ما يشاء وكيف يشاء. وكل ذلك عدل وصواب، وليس لأحد اعتراض عليه، لأنه مالك والمخلوق مملوك، واعتراض المملوك على المالك قبيح موجب للتعذيب، قال تعالى: {لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون} [21: 23] ، وفيه حجة قاطعة على القدرية في قولهم: إن الإنسان يملك أمر نفسه ويختار لها الخير والشر. وهذه القطعة من الحديث لم يروها مسلم من حديث سهل بل روي معناها من حديث أبي هريرة (متفق عليه) أي على أصل الحديث وإلا فقوله: "وإنما الأعمال بالخواتيم" ليس عند مسلم، وكذا أخرجه أحمد (ج5: ص332) بغير هذه الزيادة، وفي الباب عن أبي هريرة عند مسلم، وعائشة عند أحمد وابن حبان، وابن عمر والعرس بن عميرة عند البزار، وعمرو بن العاص وأكتم بن أبي الجون عند الطبراني، وأنس عند أحمد، وصححه ابن حبان، وعبد الله بن عمرو بن العاص عند أحمد والنسائي والترمذي، وعلي عند الطبراني، ومعاوية عند ابن حبان. 84-قوله: (وعن عائشة) هي أم المؤمنين الصديقة بنت أبي بكر الصديق التيمية، تكنى أم عبد الله، وأمها أم رومان بنت عامر بن عويمر، أفقه النساء مطلقا وأفضل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا خديجة، ففيها خلاف شهير. خطبها النبي - صلى الله عليه وسلم - وتزوجها بمكة في شوال سنة (10) من النبوة، وقبل الهجرة بثلاث سنين، وقيل غير ذلك، وبني بها بالمدينة في شوال سنة (2) من الهجرة على رأس ثمانية عشر شهرا، ولها تسع سنين. وبقيت معه تسع سنين، ومات عنها ولها ثماني عشر سنة، ولم يتزوج غيرها بكراً. وكانت فقيهة عالمة فصيحة فاضلة كثيرة الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عارفة بأيام العرب وأشعارها. روى عنها جماعة كثيرة من الصحابة والتابعين. وماتت بالمدينة سنة (57) ليلة الثلاثاًء لسبع عشرة خلت من رمضان، وأمرت أن تدفن ليلاً فدفنت بالبقيع، وصلى عليها أبو هريرة، وكان يومئذٍ خليفة مروان على المدينة في أيام معاوية قال الخزرجي: لها ألفان ومائتان وعشرة أحاديث، اتفقا على مائة وأربعة وسبعين،

فقلت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طوبى لهذا، عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه. فقال أو غير ذلك يا عائشة؟ إن الله خلق للجنة أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلاب آباءهم)) ، رواه مسلم. 85- (7) وعن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ـــــــــــــــــــــــــــــ وانفرد البخاري بأربعة وخمسين، ومسلم بثمانية وستين. ومناقبها وفضائلها كثيرة جداً، بسط ترجمتها الحافظ في الإصابة (ج4:ص359،361) وابن عبد البر في الاستيعاب. (طوبى لهذا) طوبى فعلى من طاب يطيب طيباً، قلبت الياء واوا للضمة قبلها، واختلفوا في معناه فقيل: هو اسم الجنة، وقيل: اسم شجرة فيها، وقيل: معناه أطيب معيشة له، وقيل: فرح له وقرة عين، وقيل: معناه أصيب خيراً؛ لأن إصابة الخير مستلزمة لطيب العيش، فأطلق اللازم وأراد الملزوم. (عصفور من عصافير الجنة) يعني هو مثلها من حيث أنه لا ذنب عليه، وينزل في الجنة حيث يشاء. قال ابن الملك: شبهته بالعصفور كما هو صغير لكونه خالياً من الذنوب من عدم كونه مكلفاً، (ولم يدركه) أي أوانه بالبلوغ لموته قبل التكليف فضلاً عن عمله. (أو غير ذلك) بفتح الواو وضم الراء وكسر الكاف، هو الصحيح المشهور من الروايات، والتقدير: أتعتقدين ما قلت؟ والحق غير ذلك، وهو عدم الجزم بكونه من أهل الجنة، فالواو للحال، قاله القاري. وقيل: الهمزة للاستفهام الإنكاري والواو عاطفة، و"غير" مرفوع بعامل مضمر تقديره: أقلت هذا؟ ووقع غير ذلك، وقيل: يجوز أن يكون أو بسكون الواو التي لأحد الأمرين أي الواقع هذا أو غير ذلك، ويجوز نصب غير أي أو يكون غير ذلك، وقيل: يجوز أن يكون أو بمعنى بل، أي بل غير ذلك أحسن وأولى وهو التوقف. قال التوربشتي: وكأنه - عليه السلام - لم يرتض قولها؛ لما فيه من الحكم بالغيب والقطع بإيمان أبوي الصبي أو أحدهما، إذ هو تبع لهما. وفيه إرشاد الأمة إلى التوقف عند الأمور المبهمة، والسكوت عما لا علم لهم به، وحسن الأدب بين يدي علام الغيوب. قلت: الصواب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة، وقد أجمع من يعتد به من علماء المسلمين أن من مات من أطفال المسلمين فهو في الجنة، ودل عليه الكتاب والسنة الصحيحة الثابتة، فلا معنى للتوقف فيه، وإنما نهى عائشة عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع. (وهم في أصحاب آبائهم) قيل: عين أهل الجنة من أهل النار في الأزل، فعبر عن الأزل بأصلاب الآباء تقريباً لأفهام العامة. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة. 85-قوله: (وعن علي) هو أمير المؤمنين على بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، أبوالحسن الهاشمي القرشي ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزوج ابنته فاطمة، كناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا تراب، والخبر في ذلك مشهور. وأمه فاطمة بنت أسد

ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة. قالوا: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له)) ، ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن هاشم، أسلمت وماتت في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصلى عليها ونزل في قبرها. وهو أول من أسلم من الصبيان، جمعاً بين الأقوال. وأحد العشرة. وقد اختلف في سنة يوم إسلامه فقيل كان له (15) سنة، وقيل (8) سنة، وقيل (10) سنين، وقيل (13) سنة. صلى القبلتين وشهد بدراً وسائر المشاهد، وأبلى ببدر وأحد والخندق وخيبر البلاء العظيم، وكان لواء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده في مواطن كثيرة، ولم يتخلف إلا في تبوك فإنه خلفه في أهله، وفيها قال له: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي)) ، مناقبة وفضائله شهيرة كثيرة جداً، وقد روي عن أحمد بن حنبل أنه قال: لم يرو لأحد من الصحابة من الفضائل ما روى لعلي (1) . وكذا قال النسائي وغير واحد، وفي هذا كفاية. استخلف يوم قتل عثمان، وهو يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة سنة (35) . قال ابن عبد البر: بويع لعلي يوم قتل عثمان، فاجتمع على بيعته المهاجرون والأنصار إلا نفراً منهم لم يهجهم علي. وقال: أولئك قوم قعدوا عن الحق، ولم يقوموا مع الباطل. وتخلف عنه معاوية في أهل الشام، فكان منهم في صفين بعد الجمل ما كان، ثم خرجت عليه الخوارج وكفروه بسبب التحكيم، ثم اجتمعوا وشقوا عصى المسلمين وقطعوا السبيل، فخرج إليهم بمن معه فقاتلهم بالنهروان، فقتلهم واستأصل جمهورهم، فانتدب لهم من بقاياهم عبد الرحمن بن ملجم المرادي وكان فاتكاً فقتله (بالكوفة) ليلة الجمعة لثلاث عشرة خلت، وقيل: بقيت من رمضان سنة (40) وله من العمر (63) سنة، وهو يومئذٍ أفضل الأحياء من بني آدم بالأرض بإجماع أهل السنة. وكانت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر وأياماً. روى عنه خلائق من الصحابة والتابعين. قال الخزرجي: له خمس مائة حديث وستة وثمانون حديثاً، اتفقا على عشرين، وانفرد البخاري بتسعة، ومسلم بخمسة عشر. (ما منكم من أحد) من مزيدة لاستغراق النفي (إلا وقد كتب) الواو للحال والاستثناء مفرغ أي ما وجد أحد منكم في حال من الأحوال إلا في هذه الحالة، أي إلا وقد قدر مقعده من النار. (مقعده من النار ومقعده من الجنة) أي موضع قعوده، كنى عن كونه من أهل الجنة أو النار باستقراره فيها، والواو المتوسطة بينها بمعنى أو التي تكون للتنويع، وقد ورد في بعض الروايات بلفظ "أو" وهي قرينة لحمل الواو على معنى أو وهي أوفق بالمقصود (أفلا نتكل على كتابنا) المقدر لنا في الأزل، قيل: الفاء جواب الشرط أي إذا كان الأمر كذلك أفلا نعتمد على ما كتب لنا في الأزل (وندع العمل) أي نترك السعي في العمل، يعني إذا سبق القضاء لكل أحد منا بالجنة أو النار فأي فائدة في السعي، فإنه لا يرد قضاء الله وقدره (اعلموا فكل) الفاء للسببية، والنوين عوض عن المضاف إليه (ميسر لما خلق له) يعني من خلق للجنة مثلاً يسر عليه عملها البتة، فالتيسر علامة كونه من أهلها، فمن لم ييسر على عملها فليعلم أنه ليس من أهلها بل من أهل النار. قال السندي: نبه - صلى الله عليه وسلم - على الجواب عن قولهم بأن الله تعالى دبر الأشياء على ما أراد، وربط بعضها

_ (1) قال الامام ابن تيمية في المنهاج (ج4:ص253) لكن أكثر ذلك من نقل من علم كذبه أو خطؤه - ا. هـ. وقال أيضاً (ج4:ص99) : إن في نقل هذا عن أحمد كلاماً - ا. هـ. وكتبه مصححه.

أما من كان أهل السعادة فسييسر لعمل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل الشقاوة، قم قرأ {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى} الآية)) . متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ببعض وجعلها أسباباً ومسبباًت، ومن قدره من أهل الجنة قدر له ما يقربه إليها من الأعمال ووفقه لذلك بأقداره ويمكنه منه ويحرضه عليه بالترغيب والترهيب، ومن قدر له أنه من أهل النار قدر له خلاف ذلك وخذله حتى اتبع هواه وترك أمر مولاه، والحاصل أنه جعل الأعمال طريقاً إلى نيل ما قدره له من جنة أو نار، فلا بد من المشي في الطريق، وبواسطة التقدير السابق يتيسر له ذلك المشي، لكل في طريقه ويسهل عليه - انتهى. وقال القاري ملخصاً لكلام الخطابي والتوربشتي والطيبي: لم يرخص لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في الاتكال وترك العمل بل أمرهم بالتزام ما يجب على العبد من امتثال أمر مولاه عن العبودية آجلاً، وتفويض الأمر إليه بحكم الربوبية آجلاً وأعلمهم بأن ههنا أمرين لا يبطل أحدهما الآخر، باطن وهو حكم الربوبية، وظاهر وهو سمة العبودية، فأمر بكليهما ليتعلق الخوف بالباطن المغيب والرجاء بالظاهر البادي ليستكمل العبد بذلك صفات الإيمان ومراتب الإحسان، يعني أنتم عبيد ولا بد لكم من العبودية فعليكم التزام ما أمرتم واجتناب ما نهيتم من التكاليف الشرعية بمقتضى العبودية، وإياكم والتصرف في أمور الربوبية، ولا تجعلوا الأعمال أسباباً مستقلة للسعادة والشقاوة بل أمارات لهما وعلامات، فكل مهيأ وموفق لأمر قدر ذلك الأمر له من الخير والشر، والحاصل أن الأمر المبهم الذي ورد عليه البيان من هذا الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - هو أنه بين أن القدر في حق العباد واقع على تدبير الربوبية، وذلك لا يبطل تكليفهم العمل بحق العبودية. فكل من الخلق ميسر ما دبر له في الغيب، فيسوقه العمل إلى ما كتب له في الأزل من سعادة وشقاوة، فمعنى العمل التعرض للثواب والعقاب -انتهى. قال الخطابي: ونظيره الرزق المقسوم مع الأمر بالكسب، والأجل المضروب مع التعالج بالطب المأمور به، فإنك تجد الباطن منها على موجبه والظاهر سبباً مخيلاً، وقد اصطلح الناس خاصتهم وعامتهم على أن الظاهر منهما لا يترك بسبب الباطن - انتهى. وهذا الحديث أصل لأهل السنة أن السعادة والشقاوة بتقدير الله القديم وخلقه، بخلاف القدرية الذين يقولون إن الشر ليس بخلق الله وتقديره، وفيه رد على الجبرية لأن التيسير ضد الجبر، لأن الجبر لا يكون إلا عن كره، ولا يأتي الإنسان الشيء بطريق التيسير إلا وهو غير كاره (أما من كان) تفصيل لما أجمل قبله (من أهل السعادة) أي في علم الله أو في كتابه أو في آخر أمره وخاتمة عمله (فسييسر) أي يسهل ويوفق ويهيأ (من أهل الشقاوة) . وفي المصابيح بلفظ "الشقوة" بكسر الشين وهو مصدر بمعنى الشقاوة (ثم قرأ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - استشهادا على أن التيسير منه تعالى: {فأما من أعطى والتقى وصدق بالحسنى} الآية. أي من كان متصفاً بهذا الصفات في علمنا وقدرنا فسنيسره لتلك الأعمال في الخارج، وبهذا التوجيه ينطبق عليه الحديث (متفق عليه) . وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبو داود والنسائي في الكبرى وابن ماجة وغيرهم مطولاً ومختصراً بألفاظ متقاربة.

86- (8) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر وزنا اللسان المنطق، والنفس تمنى وتشتهى، والفرج يصدق ذلك ويكذبه)) ، متفق عليه. وفي رواية لمسلم قال: ((كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك ـــــــــــــــــــــــــــــ 86-قوله: (إن الله كتب) أي أثبت في اللوح المحفوظ. (على ابن آدم) أي هذا الجنس أو كل فرد من أفراده، واستثنى الأنبياء (حظه) أي نصيبه (من الزنا) من بيانية، وما يتصل بها حال من حظه، وقيل: تبعيضية. وقال التوربشتي: أي أثبت عليه ذلك بأن خلق له الحواس التي يجد بها لذة ذلك الشيء، وأعطاه القوى التي بها يقدر على ذلك الفعل، فبالعينين بما ركب فيهما من القوة الباصرة تجد لذة النظر، وعلى هذا ليس المعنى أن ألجأه وأجبره عليه، بل ركز في جبلته حب الشهوات، ثم إنه تعالى برحمته وفضله يعصم من يشاء. وقال الطيبي: يحتمل أن يراد بقوله "كتب" أثبت، أي أثبت فيه الشهوة والميل إلى النساء، وخلق فيه العينين والأذن والقلب والفرج، وهي التي تجد لذة الزنا، وأن يراد به قدر أي قدر في الأزل أن يجري عليه الزنا في الجملة، فإذا قدر في الأزل أدرك ذلك لا محالة (أدرك) أي أصاب (ذلك) أي المكتوب عليه المقدر له أو حظه (لا محالة) بفتح الميم ويضم، أي لابد له ولا احتيال منه، فهو واقع البتة (فزنا العين النظر) إلى ما لا يحل للناظر (وزنا اللسان المنطق) أي الحرام كالمواعدة، وفي بعض النسخ النطق، بضم النون بغير ميم في أوله (والنفس) أي القلب كما في الرواية الآتية، ولعل النفس إذا طلبت تبعها القلب (تمنى) بحذف إحدى التائين (وتشتهي) لعله عدل عن السنن السابق لإفادة التجدد، أي زنا النفس تمنيها واشتهائها الزنا الحقيقي، والتمني أعم من الاشتهاء؛ لأنه قد يكون في الممتنعات دونه (والفرج يصدق ذلك) أي عمل الفرج يصدق ذلك النظر والتمني بأن يقع في الزنا بالوطء. (ويكذبه) بأن يمتنع من ذلك خوفاً من ربه، سمى هذه الأشياء باسم الزنا لأنها من دواعيه، فهو من إطلاق المسبب على السبب. وقال الطيبي: لأنها مقدمات له مؤذنة بوقوعه، ونسب التصديق والتكذيب إلى الفرج لأنه منشأه ومكانه أي يصدقه الفرج بالإتيان بما هو المراد منه ويكذبه بالكف عنه والترك، وقيل: ذلك إشارة إلى ما اشتهته النفس ورأته العين وتكلم به اللسان، يعني إن رآها بالعين واشتهتها النفس وتكلم اللسان بذكرها وعمل بها فعلاً بالفرج، فقد صار الفرج مصدقاً لتلك الأعضاء، وصار الزنا الصغير كبيراً، وإن لم يفعل شيئاً بالفرج فقد كذب الفرج تلك الأعضاء ولم يصر الزنا كبيراً، ويرفع بالاستغفار والوضوء والصلاة. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الاستئذان وفي القدر، ومسلم في القدر، وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي. (وفي رواية) أخرى (لمسلم) تفرد بها (كتب) بصيغة المجهول (مدرك) بالتنوين ويجوز الإضافة (ذلك) يعني هو أي ابن آدم واصله حظه ونصيبه أو نصيبه المقدر يدركه

لا محالة، العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطى، والقلب يهوي ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج ويكذبه)) . 87- (9) وعن عمران بن حصين أن رجلين من مزينة قالا: يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه، أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر سبق، أو فيما يستقبلون به ـــــــــــــــــــــــــــــ ويصيبه (لا محالة) لأنه ما كتبه الله لابد أن يقع. (الاستماع) أي إلى كلام الزانية أو الواسطة أو صوت الأجنبية بشرط الشهوة. (زناها البطش) أي الأخذ واللمس، ويدخل فيها الكتابة إليها ورمي الحصاة إليها ونحوهما. (زناها الخطى) بضم المعجمة، جمع خطوة، وهي ما بين القدمين، يعني زناهما نقل الخطى، أي المشي أو الركوب إلى ما فيه الزنا. (يهوى) من سمع بوزن يرضى، أي يحب ويشتهي، وفي الحديث دليل على أن الزنا ودواعيه مكتوبة مقدرة على العبد غير خارجة عن سابق القدر، وأن الإنسان لا يستطيع أن يدفع ذلك عن نفسه، إلا أنه يلام إذا وقع ما نهي عنه بحجب ذلك عنه وتمكينه من التمسك بالطاعة، فبذلك يندفع قول القدرية والمجبرة، ويؤيده قوله: "والنفس تمنى وتشتهي"؛ لأن المشتهى بخلاف الملجأ. 87- قوله: (وعن عمران بن حصين) مصغراً - ابن عبيد بن خلف الخزاعي الكعبي، يكنى أبانجيد بنون وجيم مصغراً، أسلم أيام خيبر، سكن البصرة إلى أن مات بها سنة (52) ، وقيل: سنة (53) كان من فضلاء الصحابة وفقهائهم، يقول عنه أهل البصرة: إنه كان يرى الحفظة وكانت تكلمه حتى اكتوى، وقال ابن سعد: كانت الملائكة تصافحه قبل أن يكتوي، وفي الخلاصة: وكانت الملائكة تسلم عليه. وهو ممن اعتزل الفتنة، كان الحسن البصري يحلف بالله: ما قدمها - أي البصرة - راكب خير من عمران بن حصين، وكذا قال ابن سيرين نحوه. له مائة وثلاثون حديثاً، اتفق على ثمانية وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بتسعة. روى عنه جماعة من التابعين. (من مزينة) بالتصغير، اسم قبيلة. (أرأيت) أي أخبرني من إطلاق السبب على المسبب؛ لأن مشاهدة الأشياء طريق إلى الإخبار عنها، والهمزة فيه مقررة، أي قد رأيت ذلك فأخبرني به. (ما يعمل الناس) من الخير والشر (اليوم) أي في الدنيا (ويكدحون فيه) أي يسعون في تحصيله بجهد وكد، يقال: كدح في العمل أي جهد نفسه فيه وكد حتى يؤثر فيه. (أشيء) خبر مبتدأ محذوف، أي هو شيء (قضي عليهم) بصيغة المجهول، أي قدر فعله عليهم. (ومضى فيهم) بصيغة المعلوم، أي نفذ في حقهم. (من قدر سبق) أي في الأزل. قال القاري: من بيانية لشيء، ويكون القضاء والقدر شيئاً واحداً، كما قاله بعضهم، وإما تعليلية متعلقة بقضي عليهم لأجل قدر سبق، وإما ابتدائية أي القضاء نشأ وابتدأ من خلق مقدر، فيكون القدر سابقاً على القضاء - انتهى. (أو) كذا في صحيح مسلم ومسند أحمد، ووقع في تفسير ابن جرير ونسخ المصابيح "أم"، قيل: على كلتا الروايتين ليس السؤال عن أحد الأمرين، فـ"أم" منقطعة و"أو" بمعنى "بل"، أي للإضراب. (فيما يستقبلون به) قال

مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم؟ فقال: لا بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم، وتصديق ذلك في كتاب الله عزوجل: {ونفس وما سواها. فألهمها فجورها وتقواها} )) رواه مسلم. 88- (10) وعن أبي هريرة قال: قلت: يا رسول الله، إني رجل شاب، وأنا أخاف على نفسي العنت ـــــــــــــــــــــــــــــ السيد جمال الدين: كذا وقع بصيغة المجهول في أصل سماعنا من صحيح مسلم، وهو الأرجح معنىً أيضاً، لكن وقع في أكثر نسخ المشكاة بصيغة المعروف - انتهى. والمعنى: أخبرنا أن ما يعمله الناس من الخير والشر أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من الأزل، ويجري فيهم في وقت معلوم، أم شيء لم يقض عليهم في الأزل، بل يجري عليهم كل فعل في الوقت الذي يستقبله الرجل ويقصده من غير أن يجري عليه التقدير؟ والحاصل أن ما يفعله الإنسان من الشر والخير أهو مبني على قضاء وقدر سابق، أي مقدر ومقضي سابقاً في الأزل، أم هو أمر مستأنف ليس مبنياً على قدر وقضاء سابق، وشيء أنف لم يقض ولم يقدر عليهم في الأزل، بل هو كائن فيما يستقبلون من الزمان فيه يتوجهون إلى العمل ويقصدون بقدرتهم الحقيقية واختيارهم المستقل من غير سبق تقدير قبل ذلك، فقوله: "فيما يستقبلون" في محل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هو كائن في الزمان الذي يستقبلونه، معطوف على قوله: "شيء قضي عليهم". (مما أتاهم به نبيهم) الباء للتعدية، ولفظ "من" في "مما أتاهم" بيان لما في قوله "ما يعمل الناس"، أو بيان لما في قوله: "ما يستقبلون"، والأول أولى كما قال السيد جمال الدين. (وثبتت الحجة عليهم) بظهور صدق نبيهم بالمعجزات، وفي تفسير ابن جرير: أم شيء مما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم - صلى الله عليه وسلم - وأكدت به عليهم الحجة. (فقال) - صلى الله عليه وسلم - (لا) أي ليس الأمر أنفاً في المستقبل (بل) هو (شيء قضي عليهم) في الأزل، أو المعنى لا تردد فإن الأمر مبني على قدر وقضاء سابق جزماً، وزاد في رواية ابن جرير وغيره: "قال: فلم يعملون إذن؟ قال: من كان الله خلقه لواحدة من المنزلتين يهيئه لعملها". (وتصديق ذلك) إشارة إلى ما ذكر أنه قضي عليهم. {ونفس} بالجر على الحكاية، والمراد بها جميع النفوس، والتنوين للتنكير أو التكثير، وقيل: المراد نفس آدم. {وما سواها} ما مصدرية أو موصولة، ورجحه ابن جرير، ومعنى سواها: أي خلقها سوية مستقيمة على الفطرة القويمة، وقيل: عدلها على هذا القانون الأحكم في أعضائها وما فيها من الجواهر والأعراض والمعاني، وغير ذلك. {فألهمها فجورها وتقواها} أي أرشدها إلى فجورها وتقواها، أي بين لها طريقي الخير والشر، وهداها إلى ما قدر لها في الأزل. قال الواحدي: هذا صريح في أن الله خلق في المؤمن تقواه وفي الكافر فجوره. قال القاري: وجه الاستدلال بالآية أن ألهمها بلفظ الماضي يدل على أن ما يعملونه من الخير والشر قدر جرى في الأزل. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد (ج4:ص438) وابن جرير وغيرهما. 88- قوله: (وأنا أخاف) وعند الكشمهيني "وإني أخاف" (العنت) بفتحتين - الفساد والإثم والهلاك ودخول

ولا أجد ما أتزوج به النساء، كأنه يستأذنه في الاختصاء، قال: فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك، فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك، فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يا أباهريرة جف القلم بما أنت لاق، فاختص على ذلك أو ذر)) رواه البخاري. 89- (11) وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن ـــــــــــــــــــــــــــــ المشقة على الإنسان واكتساب المأثم والزنا، والمراد هنا: الوقوع في الهلاك بالزنا. (كأنه يستأذنه في الاختصاء) هذا كلام أحد الرواة، وقيل: هو قول الراوي عن أبي هريرة، وليس هذا في البخاري. وعند أبي نعيم "فأذن لي أختص"، والاختصاء - بالمد - هو الشق على الأنثيين وانتزاعهما. (فسكت عني) أي عن جوابي. (ثم قلت مثل ذلك) أي في الرابعة إلحاحاً ومبالغة. (جف القلم) قال التوربشتي: هو كناية عن جريان القلم بالمقادير وإمضائها والفراغ منها. قال الطيبي: هذا من باب إطلاق اللازم على الملزوم؛ لأن الفراغ يستلزم جفاف القلم عن مداده، والمعنى: أن ما كان وما يكون قدر في الأزل، ونفذ المقدور بما كتب في اللوح المحفوظ، فبقي القلم الذي كتب به جافاً لا مداد فيه لفراغ ما كتب به. قال عياض: كتابة الله ولوحه وقلمه من غيب علمه الذي نؤمن به ونكل علمه إليه. (بما أنت لاقٍ) أي جف القلم بالفراغ من كتابة ما هو كائن في حقك، أي قد كتب عليك وقضي ما تلقاه في حياتك، والمقدر لا يتبدل بالأسباب، فلا يجوز ارتكاب الأسباب المحرمة لأجله، نعم إذا شرع الله تعالى سبباً أو أوجبه فالمباشرة به شيء آخر. (فاختص) أمر من الاختصاء (على ذلك) في موضع الحال، يعني إذا علمت أن كل شيء مقدر فاختص حال كون فعلك وتركك واقعاً على ما جف القلم، فالجار والمجرور متعلق بمحذوف، أي اختص على حال استعلائك على العلم بأن كل شيء بقضائه وقدره. (أو ذر) أي إن شئت اختصيت بلا فائدة، وإن شئت تركته، وليس هو من باب التخيير والإذن في الخصاء، بل توبيخ وتهديد، كقوله تعالى: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [18: 29] ، والمعني إن فعلت أو لم تفعل فلابد من نفوذ القدر، ومحصل الجواب أن جميع الأمور بتقدير الله في الأزل، فالخصاء وتركه سواء، فإن الذي قدر لابد أن يقع فلا فائدة في الاختصاء، فـ"أو" للتسوية، ووقع في أكثر نسخ المصابيح "فاختصر" بزيادة الراء، بمعنى أن الاختصار على ما ذكرت لك من التقدير والتسليم له، وتركه والإعراض عنه سواء، فإن ما قدر لك فهو لا محالة لاقيك وما لا فلا. (رواه البخاري) في النكاح، وأخرجه أيضاً النسائي. 89- قوله: (بين إصبعين من أصابع الرحمن) هذا من أحاديث الصفات التي نؤمن بها ونعتقد أنها حق من غير تعرض لتأويل ولا لمعرفة المعنى، فالإيمان بها فرض، والامتناع عن الخوض فيها واجب، فالمهتدي من سلك فيها طريق

كقلب واحد يصرفه كيف شاء، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك)) ، رواه مسلم. 90- (12) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة ـــــــــــــــــــــــــــــ التسليم، والخائض فيها زائغ، والمنكر معطل، والمكيف مشبه، قال الله تعالى: {ليس كمثله شيء} [42: 11] ، وقيل: هذا الحديث من أحاديث الصفات التي تقبل التأويل، فيتأول حسب ما يليق بجلاله الأقدس وكماله الأنفس، فعلى هذا إطلاق الإصبع عليه تعالى مجاز، وهو كما يقال: "فلان في قبضتي"، أي في كفي، لا يراد به أنه حال في كفه، بل المراد تحت قدرتي، ويقال: "فلان بين إصبعي أقلبه كيف شئت"، أي إنه هين علي قهره والتصرف فيه كيف شئت، ومعنى الحديث: أن تقليب القلوب في قدرته يسير، يعني أنه تعالى متصرف في قلوب عباده وغيرها كيف شاء، ولا يمتنع عليها منها شيء ولا يفوته ما أراده، كما لا يمتنع على الإنسان ما كان بين إصبعيه، فخاطب العرب بما يفهمونه، ومثله بالمعاني الحسية تأكيداً له في نفوسهم، وقيل غير ذلك في تأويله، وعندنا التفويض هو المتعين. قال النووي: فإن قيل: فقدرة الله واحدة والإصبعان لتثنية؟ فالجواب: أنه قد سبق أن هذا مجاز واستعارة، فوقع التمثيل بحسب ما اعتادوه غير مقصود به التثنية والجمع - انتهى. وقال في المجمع: هو تمثيل عن سرعة تقلبها، وأنه معقود بمشيئة الله، وتخصيص الأصابع كناية عن أجزاء القدرة والبطش؛ لأنه باليد، والأصابع أجزاءها. (كقلب واحد) بالوصف، يعني كما أن أحدكم يقدر على شيء واحد، الله تعالى يقدر على جميع الأشياء دفعة واحدة لا يشغله شأن، ونظيره قوله تعالى: {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة} [31: 28] ، وليس المراد أن التصرف في القلب الواحد أسهل بالقياس إليه تعالى، إذ لا صعوبة بالقياس إليه تعالى، بل ذلك راجع إلى العباد وإلى ما عرفوه فيما بينهم. (يصرفه) بالتشديد أي يقلب القلب الواحد أو جنس القلب. وفي بعض نسخ المصابيح بتأنيث الضمير أي القلوب. (كيف يشاء) حال عن تأويل هيناً سهلاً لا يمنعه مانع، أو مصدر أي تقليباً سريعاً سهلاً، وفي بعض نسخ صحيح مسلم "حيث يشاء". (صرف قلوبنا على طاعتك) أي إليها أو ضمن معنى التثبيت. ويؤيده ما ورد "ثبت قلبي على دينك". وفيه إرشاد للأمة وإعلام بأن نفسه القدسية الطاهرة المطهرة إذا كانت مفتقرة إلى اللجوء إليه كان غيره أولى وأحرى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي. 90- قوله: (ما من مولود) أي من بني آدم، كما في رواية (إلا يولد) قيل: مولود مبتدأ، ويولد خبره، أي ما من مولود يوجد على أمر من الأمور إلى على هذا الأمر. (على الفطرة) الفطر الابتداء والاختراع. والفطرة الحالة والهيئة منه. واختلف السلف في المراد بالفطرة في الحديث على أقوال كثيرة، أشهرها: أن المراد بها الإسلام، وبه جزم البخاري ورجحه كثير من السلف، ويؤيده ما في رواية "الملة"، بدل الفطرة؛ لأن ما صدقهما واحد، وحديث عياض بن حمار مرفوعاً من الحديث القدسي: ((إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم ... )) الحديث. وقد رواه غيره.

فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة ـــــــــــــــــــــــــــــ فزاد فيه "حنفاء مسلمين"، ويدل عليه استشهاد أبي هريرة بقوله تعالى: {فطرة الله التي فطر الناس عليها} [30: 30] ، فقد أجمع أهل التأويل أن المراد بالفطرة في الآية الإسلام. والحديث سبق لبيان ما هو في نفس الأمر لا لبيان أحكام الدنيا، فلا عبرة للإيمان الفطري في أحكام الدنيا، وإنما يعتبر الإيمان الشرعي المكتسب بالإرادة، ألا ترى أنه يقول: "فأبواه يهودانه" في حكم الدنيا، فهو مع وجود الإيمان الفطري فيه محكوم له بحكم أبويه الكافرين، ومعنى قوله - عليه السلام -: "طبع كافراً" في حديث موسى والخضر: أي خلق وقدر وجبل أنه لو عاش يصير كافراً، وأن الله علم أنه لو بلغ لكان كافراً، لا أنه كافر في الحال، ولا أنه يجري عليه في الحال أحكام الكفار، وقوله تعالى: {لا تبديل لخلق الله} يؤول بأنه من شأنه أو الغالب فيه أنه لا يبدل، أو يقال: الخبر بمعنى النهي، ولا يجوز أن يكون إخباراً محضاً لحصول التبديل. وقيل: المراد بالفطرة في الحديث وكذا في الآية ما فطر الله الخلق عليه من الهيئة مستعدة لمعرفة الخالق. ومتهيأة لقبول الدين، ومتمكنة من الهدى، ومتأهلة لقبول الحق والتمييز بين حسن الأمر وقبيحه، فلو ترك المولود على ما فطر عليه من التمكن على الهدى والتأهل لقبول الحق والتهيؤ لقبول الدين في أصل الجبلة، ولم يتعرضه آفة من قبل الأبوين وغيرهما لاستمر على لزومه ولم يفارقه إلى غيره، ولم يختر غير هذا الدين الذي حسنه ظاهر عند ذوي العقول وثابت في النفوس. والفطرة بهذا المعنى لا يتهيأ لأحد تبديلها؛ لأن هذا الاستعداد والتهيؤ لا يتبدل، وإن ذهب ذاهب إلى خلاف مقتضاها كانت بحالها حجة عليه، وليس هذا تبديلاً له بل عدم ظهور أثره بالفعل. وهذا أرجح الأقوال عندي وأولاها. ولا يخالفه لفظ "الملة" ولا حديث عياض بن حمار كما لا يخفى على المتأمل. وإلى هذا القول مال القرطبي في المفهم فقال: المعنى أن الله خلق قلوب بني آدم مؤهلة لقبول الحق كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات، فمادامت باقية على ذلك القبول وعلى تلك الأهلية أدركت الحق ودين الإسلام، وهو الدين الحق، وقد دل على هذا المعنى بقية الحديث، حيث قال: "كما تنتج البهيمة ... "الخ، يعني أن البهيمة تلد الولد كامل الخلقة، فلو ترك كذلك كان بريئاً من العيب. لكنهم تصرفوا فيه بقطع أذنه مثلاً، فيخرج عن الأصل، وهو تشبيه واقع وجهه واضح، وهو الذي رجحه التوربشتي في شرح المصابيح، واختاره الطيبي في شرح المشكاة، والشاة ولي الله الدهلوي في حجة الله، وقال في شرح الموطأ: إنه أصح ما قيل في هذا الحديث. (يهودانه) بتشديد الواو، أي يعلمانه اليهودية ويجعلانه يهودياً إذا كانا من اليهود. وذلك بتقدير الله وقضائه لا بخلقهما، فلا حجة فيه للقدرية. وكذا ينصرانه ويمجسان، والفاء في "فأبواه" إما للتعقيب وهو ظاهر، أو للتسبيب، أي إذا تقرر ذلك فمن تغير كان بسبب أبويه غالباً. (كما تنتج) أي تلد (البهيمة) بالرفع، وقوله: "كما" إما حال من الضمير المنصوب في يهودانه مثلاً، أي يهودان المولود بعد أن خلق على الفطرة مشبهاً بالبهيمة التي جدعت بعد أن خلقت سليمة. أو من الضمير المرفوع في "يولد"، شبه ولادته على الفطرة بودلاة البهيمة السليمة، غير أن السلامة حسية ومعنوية،

بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقول: {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم} )) متفق عليه. 91- (13) وعن أبي موسى قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخمس كلمات فقال: ((إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، ـــــــــــــــــــــــــــــ أو صفة مصدر محذوف، وما مصدرية، أي يولد على الفطرة ولادة مثل نتاج البهيمة، أو يغيرانه تغييراً كتغييرهم البهيمة، وعلى التقديرين فالأفعال الثلاثة - أعني يهودانه وما عطف عليه - تنازعت في "كما"، وتنتج يروى على بناء الفاعل وبناء المفعول، يقال: نتج الناقة ينتجها: إذا تولى نتاجها حتى وضعت فهو ناتج، وهو للبهائم كالقابلة للنساء. والأصل نتجها أهلها ولداً، ولذا يتعدى إلى مفعولين، فإذا بني للمفعول الأول قيل: نتجت ولداً، إذا وضعته وولدته، وإذا بني للمفعول الثاني قيل: نتج الولد، أي وضع وأنتجت البهيمة ولداً أي وضعته وولدته، والجمعاء التي لم يذهب من بدنها شيء، سميت بذلك لاجتماع سلامة أجزائها من نحو جدع وكي، والجدعاء التي قطعت أذنها أو غيرها من الأعضاء، زاد في المصابيح "حتى تكونوا أنتم تجدعونها"، وكذا في رواية البخاري. (بهيمة) بالنصب على أنه مفعول ثانٍ لتنتج، والأول أقيم مقام فاعله، وقيل: إنه منصوب على الحال بتقدير كون تنتج مجهولاً، أي ولدت في حالة كونها بهيمة، أو على أنه مفعول إذا كان معروفاً من نتج إذا ولد. (هل تحسون) أي تدركون وهو بضم التاء وكسر الحاء (فيها) أي في البهيمة الجمعاء، والمراد بها الجنس، والجملة في موضع الحال، أي بهيمة سليمة مقولاً في حقها هذا القول. (ثم يقول) أي أبوهريرة - كما في رواية - استشهاداً بقوله تعالى: {فطرة الله} أي ألزموها (ذلك) أي التوحيد الذي هو معنى الفطرة، وهو {الدين القيم} أي المستقيم الذي لا عوج له ولا ميل إلى تشبيه وتعطيل ولا جبر ولا قدر. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أبوداود والترمذي، وفي معنى الحديث عن جماعة من الصحابة ذكر أحاديثهم الحافظ ابن كثير في تفسيره. 91- قوله: (قام فينا بخمس كلمات) أي بخمس فصول، والكلمة لغة تطلق على الجملة المركبة المفيدة، أي قام فيما بيننا بتبليغ خمس كلمات، أي بسببه، فالجاران متعلقان بالقيام، وقيل: المعنى قام خطيباً فينا مذكراً بخمس كلمات لنا، فقوله: "فينا" و"بخمس" حالان مترادفان أو متداخلان، ويحتمل أن يكون "فينا" متعلقاً بقام على تضمين معنى خطب، و"بخمس" حال، أي خطب قائماً مذكراً بخمس كلمات، وقيل غير ذلك. (إن الله لا ينام) إذ النوم لاستراحة القوى والحواس، وهي على الله تعالى محال. (ولا ينبغي له أن ينام) أي لا يصح ولا يستقيم ولا يمكن له النوم، فالكلمة الأولى دالة على عدم صدور النوم، والثانية للدلالة على استحالته عليه تعالى، ولا يلزم من عدم الصدور استحالته، فلذلك ذكرت الكلمة الثانية بعد الأولى. (يخفض القسط ويرفعه) هذه هي الكلمة الثالثة، قيل: أريد بالقسط الميزان، وسمي الميزان قسطاً لأنه يقع به

يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ العدل في القسمة وغيرها، وهو الموافق لحديث أبي هريرة الآتي: ((يرفع الميزان ويخفضه)) ، والمعنى أن الله يخفض الميزان ويرفعه بما يوزن من أعمال العباد المرتفعة إليه وأرزاقهم النازلة من عنده، كما يرفع الوزان يده ويخفضها عند الوزن، فهو تمثيل وتصوير لما يقدر الله تعالى وينزل، ويحتمل أنه أشار إلى قوله تعالى: {كل يوم هو في شأن} [55: 29] ، أي إنه يحكم بين خلقه بميزان العدل، فأمره كأمر الوزان الذي يزن فيخفض يده ويرفعها، وهذا المعنى أنسب بما قبله، كأنه قيل: كيف كان يجوز عليه النوم وهو الذي يتصرف أبداً في ملكه بميزان العدل، وقيل: أريد بالقسط الرزق؛ لأنه قسط كل مخلوق ونصيبه، وخفضه تقليله ورفعه تكثيره، يخفضه تارة بتقتير الرزق والخذلان بالمعصية، ويرفعه أخرى يتوسيع الرزق والتوفيق للطاعة، ففيه رد على القدرية. (يرفع إليه) أي للعرض عليه، وإن كان هو تعالى أعلم به ليأمر الملائكة بإمضاء ما قضي لفاعله جزاء له على فعله، أو يرفع إلى خزائنه ليحفظ إلى يوم الجزاء. (قبل عمل النهار) أي قبل رفع عمل النهار (وعمل النهار) عطف على عمل الليل (قبل عمل الليل) أي قبل أن يشرع العبد في عمل الليل، أو قبل أن يرفع العمل بالليل، والأول أبلغ؛ لأن الزمن أقصر، ولما فيه من الدلالة على مسارعة الملائكة المؤكلة إلى رفع الأعمال وسرعة عروجهم إلى ما فوق السماوات. (حجابه النور) هذه هي الكلمة الخامسة، وأصل الحجاب هو الستر الحائل بين الرائي والمرئي، والمراد ههنا هو المانع للخلق عن إبصاره في دار الفناء، والكلام في دار البقاء، فلا يرد أن الحديث يدل على امتناع الرؤية في الآخرة، وكذا لا يرد أنه ليس له مانع عن الإدراك فكيف قيل: حجابه النور؟ يريد أن حجابه خلاف الحجب المعهودة، فهو محتجب عن الخلق بأنوار عزه وجلاله وسعة عظمته وكبريائه، وذلك هو الحجاب الذي تدهش دونه العقول وتذهب الأبصار وتتحير البصائر. (لو كشفه) أي رفع ذلك الحجاب وأزاله، هذا هو المتبادر من كشف الحجاب، وقيل: المراد لو أظهره. (سبحات وجهه) بضمتين جمع سبحة - بالضم كغرفة وغرفات، وفسر سبحات الوجه بجلاله وأنواره وبهائه، وقيل: محاسنه؛ لأنك إذا رأيت الوجه الحسن قلت سبحان الله. (ما انتهى) أي وصل (إليه) الضمير لما (بصره) أي بصر الله تعالى، والمعنى لأحرقت سبحات ذاته كل مخلوق انتهى إلى ذلك المخلوق بصره تعالى، ومعلوم أن بصره محيط لجميع الكائنات، فكيف إذا كشف، فهذا كناية عن هلاك المخلوق أجمع، وقيل: الضمير في "بصره" راجع إلى "ما"، وهو موصول مفعول به لأحرقت، وضمير "إليه" راجع إلى وجهه تعالى، والمراد ما انتهى بصره إلى الله تعالى أي كل من يراه يهلك، فكأنهم راعوا أن الحجاب مانع عن إبصارهم، فعند الرفع ينبغي أن يعتبر إبصارهم وإلا فإبصاره تعالى دائم. (من خلقه) بيان لما في قوله "ما انتهى" والمعنى لو أزال المانع من رؤيته وهو الحجاب المسمى نوراً فتجلى لما وراءه من حقائق الصفات وعظمة الذات لأحرق جلال ذاته ونور وجهه جميع مخلوقاته. (رواه مسلم) في الإيمان وأخرجه أيضاً أحمد (ج4:ص395، 405)

92- (14) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يد الله ملأى لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق مذ خلق السماء والأرض فإنه لم يغض ما في يده، وكان عرشه على الماء، وبيده الميزان يخفض ويرفع، وابن ماجه في السنة وابن حبان، قيل: معنى الحديث مسبوك من معنى آية الكرسي، فهو سيد الأحاديث كما أنها سيد الآيات، ذكره الطيبي ثم بينه وأوضحه فارجع إليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ 92- قوله: (يد الله) الواجب في هذا اللفظ وفي أمثاله الإيمان بما جاء في الحديث والتسليم، وترك التصرف فيه للعقل، وهو مذهب السلف، واختلف المأولون في تأويله، فقيل: المراد باليد النعمة، وفسرها بعضهم بالخزائن، وقال: أطلق اليد على الخزائن لتصرفها فيها، والمعنى بالخزائن قوله {كن فيكون} ، ولذلك لا ينتقص أبداً. (ملأى) على زنة فعلى، تأنيث ملآن، قالوا: المراد به لازمه، وهو أنه في غاية من الغنى، وعنده من الرزق ما لا نهاية له في علم الخلائق، فهو كناية عن كثرة نعمته وغزارتها وجزالة عطاياه وعمومها. (لا تغيضها) بفتح الفوقية، وقيل: بالياء، أي لا تنقصها، لازم ومتعدٍ. (سحاء) بفتح المهملتين مثقل ممدود، على زنة فعلاء، لا أفعل لها، كهطلاء، أي دائمة الصب بالعطاء، من سح يسح - بكسر السين في المضارع، ويجوز ضمها - أي سال وانصب متتابعاً غزيراً، وضبط في مسلم "سحاً" منوناً بلفظ المصدر، أي تسح سحاً. (الليل والنهار) منصوبان على أنهما ظرف لسحاء، والمراد به عدم الانقطاع لمادة عطائه كالعين التي لا يغيضها الاستقاء ولا ينقصها الامتياح، وفي الحديث إشارة إلى أنها المعطية عن ظهر غنى؛ لأن الماء إذا انصب من فوق انصب بسهولة وعفو، وإلى جزالة عطاياه؛ لأن السح يستعمل فيما ارتفع عن حد التقاطر إلى حد السيلان، وإلى أنه لا مانع لها؛ لأن الماء إذا أخذ في الانصباب من فوق لم يستطع أحد أن يرده، وإلى أنه لا انقطاع لها لوصف السح بالدوام. (أرأيتم) أي أخبروني، وقيل: أعلمتم وأبصرتم؟ (ما أنفق) ما مصدرية، أي إنفاق اليد، وقيل: ما موصولة متضمنة معنى الشرط. (فإنه) أي الإنفاق (لم يغض) بفتح الياء وكسر الغين المعجمة، أي لم ينقص. (ما في يده) موصولة مفعول، وقال الطيبي: يجوز أن تكون ملأى ولا تغيضها وسحاء وأرأيتم على تأويل القول - أي مقول فيها - أخباراً مترادفة ليد الله، ويجوز أن تكون الثلاثة الأخيرة أوصافاً لملأى، وأن يكون "أرأيتم" استئنافاً فيه معنى الترقي، وقال أيضاً: لما قيل ملأى أوهم جواز النقصان، فأزال بقوله: "لا تغيضها"، وربما يمتلأ الشيء ولم يغض، فقيل "سحاء"؛ ليؤذن بالفيضان، وقرنهما بما يدل على الاستمرار من ذكر "الليل والنهار"، ثم أتبعها ما يدل على أن ذلك مقرر غير خاف على كل ذي بصر وبصيرة؛ لقوله "أرأيتم"، فإنه خطاب عام والهمزة للتقرير. (وكان عرشه) حال من ضمير خلق إلى آخر ما قال. (وبيده) وفي رواية "وبيده الأخرى" (الميزان) أي ميزان الأعمال والأرزاق. (يخفض ويرفع) أي يخفض من يشاء ويرفع من يشاء، أو ينقص من الرزق ويقتره على من يشاء، ويزيده ويوسعه على من يشاء بمقتضى قدره الذي هو تفصيل لقضائه السابق، أو يخفض ويرفع ميزان أعمال العباد

متفق عليه. وفي رواية لمسلم: ((يمين الله ملأى)) ، قال ابن نمير: ملآن سحاء لا يغيضها شيء الليل والنهار. 93- (15) وعنه قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذراري المشركين، قال: ((الله أعلم بما كانوا عاملين)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ المرتفعة إليه، يقللها لمن يشاء بالخذلان ويكثرها لمن يشاء بالتوفيق للطاعة، كما يصنعه الوزان عند الوزن يخفض مرة ويرفع أخرى. وأئمة السنة على وجوب الإيمان بهذا وأشباهه من غير تفسير، بل يجرى على ظاهره، ولا يقال كيف، وقال الخطابي: الميزان هنا مثل، والمراد القسمة بالعدل بين الخلق. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي والنسائي في التفسير، وأبوداود وابن ماجه وغيرهم. (وفي رواية لمسلم) في الزكاة (يمين الله) معنى هذا اللفظ كما ذكره المأولون في اليد من المجاز، فليتأمل. والوجه مذهب السلف، قيل: خص اليمين لأنها مظنة العطاء، وورد في بعض الأحاديث: ((وكلتا يديه يمين)) ، أي مباركة قوية قادرة لا مزية لإحداهما على الأخرى. (قال ابن نمير) بضم النون، هو محمد بن عبد الله بن نمير الهمداني الخازني، أبوعبد الرحمن الكوفي، ثقة حافظ فاضل، روى عن خلق كثير، وعنه: البخاري ومسلم وأبوداود وابن ماجه. مات سنة (234) . (ملآن) أي روى محمد بن عبد الله بن نمير ملان بالنون وسكون اللام بعدها همزة، وقيل: بفتح اللام بلا همز. قالوا: وهو غلط منه، وصوابه: ملأى بالتأنيث كما في سائر الروايات، ووجهها بعضهم بأن اليمين يذكر ويؤنث كالكف. (الليل والنهار) ظرف لسحاء. 93- قوله: (عن ذراري المشركين) جمع ذرية، وهي نسل الإنس والجن، ويقع على الصغار والكبار، إما من الذر بمعنى التفريق، أو من الذرء بمعنى الخلق، فتركت الهمزة أو أبدلت، والمراد عن حكم أولادهم إذا ماتوا قبل البلوغ أنهم من أهل النار أو الجنة. (الله أعلم بما كانوا عاملين) أي لو أبقاهم، فلا تحكموا عليهم بشيء، وهو صريح في الأمر بالتوقف فيهم، وتمسك به من قال: هم في مشيئة الله، وقد اختلفوا في حكمهم على أقوال كثيرة، أشهرها التوقف، نسب ذلك إلى الأئمة الثلاثة، وعن أحمد روايتان، ثم اختلفوا في معنى التوقف، فقيل: المراد به عدم العلم أو عدم الحكم بشيء، وقال بعضهم: المراد به التوقف في الحكم الكلي، فبعض أولاد المشركين ناجٍ وبعضهم هالك، والصواب عندي أن جميع أولاد المشركين في الجنة، واستدل لهذا بأشياء، منها: حديث إبراهيم الخليل - صلى الله عليه وسلم - حين رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنة وحوله أولاد الناس، وفيه أنه قال الملكان: ((وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة، قال - الراوي -: فقال بعض المسلمين: يا رسول الله وأولاد المشركين؟ قال: وأولاد المشركين)) رواه البخاري في آخر تعبير الرؤيا من صحيحه. ومنها قوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} [17: 15] ، ولا يتوجه على المولود التكليف حتى يبلغ، وهذا متفق عليه، ومنها حديث أنس أخرجه أبويعلى مرفوعاً: ((سألت ربي اللاهين من ذرية البشر أن لا يعذبهم، فأعطانيهم)) ، قال الحافظ: إسناده حسن، قال: وورد تفسير اللاهين بأنه الأطفال من حديث ابن عباس مرفوعاً أخرجه البزار، ومنها ما رواه أحمد من طريق خنساء بنت معاوية بن مريم عن عمتها قالت: قلت يا رسول الله من في الجنة؟ قال: ((النبي

{الفصل الثاني}

متفق عليه. {الفصل الثاني} 94- (16) عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أول ما خلق الله القلم، ـــــــــــــــــــــــــــــ في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة)) ، قال الحافظ: إسناد حسن. ومنها ما رواه عبد الرزاق من طريق أبي معاذ عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: سألت خديجة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أولاد المشركين، فقال: ((هم مع آبائهم، ثم سألته بعد ذلك فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين، ثم سألته بعد ما استحكم الإسلام فنزل {ولا تزر وازرة وزر أخرى} قال: ((هم على الفطرة)) أو قال: ((هم في الجنة)) . قال الحافظ: وأبومعاذ هو سليمان بن أرقم وهو ضعيف، ولو صح هذا لكان قاطعاً للنزاع ورافعاً لكثير من الإشكال - انتهى. وقد اختار هذا القول الإمام البخاري والأشعري والنووي والحافظ ابن حجر والإمام ابن القيم وشيخه الإمام ابن تيمية، وهذا الحديث وما في معناه محمول عندهم على أنه كان قبل أن ينزل فيهم شيء، فكان - صلى الله عليه وسلم - عند حدوث هذا السؤال ما أخبر عن حقيقة أمرهم فتوقف فيهم. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً النسائي. 94- قوله: (إن أول ما خلق الله القلم) بالرفع على أنه خبر إن، قال القاري: وروي بالنصب، قال بعض المغاربة: رفع القلم هو الرواية، فإن صح النصب كان على لغة من ينصب خبر إن، وقال المالكي: يجوز نصبه بتقدير "كان" على مذهب الكسائي، كقوله: ياليت أيام الصبا رواجعا وقال المغربي: لا يجوز أن يكون القلم مفعول خلق؛ لأن المراد أن القلم أول مخلوق، وإذا جعل مفعولاً لخلق أوجب أن يقال اسم إن ضمير الشأن و"أول" ظرف فينبغي أن تسقط الفاء من قوله: "فقال" إذ يرجع المعنى إلى أنه قال له اكتب حين خلقه، فلا إخبار بكونه أول مخلوق- انتهى. وإنما أوجب ما ذكر؛ لأنه بدونه يفسد أصل المعني إذ يصير التقدير أن أول شيء خلق الله القلم، وهو غير صحيح. وقيل: لو صحت الرواية بالنصب لم تمنع الفاء ذلك إذ يقدر قبل فقال "أمره" وهو العامل في الظرف، كذا حققه الطيبي، وفيه أنه حينئذٍ لا يكون تنصيص على أولية خلق القلم الذي يدل عليه رواية الرفع الصحيحة، وفي الأزهار: أول ما خلق الله القلم. يعني بعد العرش والماء والريح؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام -: ((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء)) ، رواه مسلم. وعن ابن عباس سئل عن قوله تعالى: {وكان عرشه على الماء} على أي شيء كان الماء؟ قال: على متن الريح، رواه البيهقي ذكره الأبهرى، فالأولية إضافية - انتهى كلام القاري. قال الحافظ في الفتح (ج13: ص186) بعد ذكر حديث أبي رزين العقيلي مرفوعاً أن الماء خلق قبل العرش، أخرجه أحمد والترمذي، وروي السدي في تفسيره بأسانيد متعددة أن الله لم يخلق شيئاً مما خلق قبل الماء، وأما ما رواه أحمد والترمذي وصححه من حديث عبادة بن الصامت مرفوعاً: ((إن أول ما

فقال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب القدر، فكتب ما كان وما هو كائن إلى الأبد)) ، رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب إسناداً. 95- (17) وعن مسلم بن يسار قال: سئل عمر بن الخطاب عن هذه الآية ـــــــــــــــــــــــــــــ خلق الله القلم، ثم قال: اكتب، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة)) . فيجمع بينه وبين ما قبله بأن أولية القلم بالنسبة إلى ما عدا الماء والعرش، أو بالنسبة إلى ما منه صدر من الكتابة، أي أنه قيل له: اكتب أول ما خلق، وأما حديث أول ما خلق الله العقل فليس له طريق ثبت، وعلى تقدير ثبوته فهذا التقدير الأخير هو تأويله، واختلف في أيهما خلق أولاً، العرش أو القلم؟ والأكثر على سبق خلق العرش، واختار ابن جرير ومن تبعه الثاني - انتهى. مختصراً. قال: (ما أكتب) ما استفهامية مفعول مقدم على الفعل. قال: (اكتب القدر) بفتحتين أي المقدر المقضي، وفي جامع الترمذي: ((قال: اكتب القدر ما كان وما هو كائن إلى الأبد)) . أي بغير زيادة لفظ "فكتب" قبل قوله: "ماكان"، وفي المصابيح: قال: القدر ما كان الخ. قال شراحه أي اكتب القدر، فنصبه بفعل مقدر، و"ما كان" بدل من القدر أو عطف بيان. (فكتب ما كان) المضي بالنسبة إليه - صلى الله عليه وسلم -، قال الطيبي: ليس حكاية عما أمر به القلم وإلا لقيل فكتب ما يكون، وإنما هو إخبار باعتبار حاله - عليه الصلاة والسلام - أي قبل تكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك لا قبل القلم؛ لأن الغرض أنه أول مخلوق، نعم إذا كانت الأولية نسبية صح أن يراد ما كان قبل القلم، وقيل: ما كان يعني العرش والماء والريح (إلى الأبد) قيل: الأبد هو الزمان المستمر غير المنقطع، لكن المراد منه ههنا الزمان الطويل، يدل عليه رواية ابن عباس عند البيهقي والحاكم ففيها ((إلى أن تقوم الساعة)) . (رواه الترمذي) في أواخر القدر مع قصة في الحديث، وفي تفسير سورة نون والقلم بغير القصة باللفظ الذي ذكره الحافظ. (وقال: هذا حديث غريب إسناداً) أي لا متناً، والمراد به حديث يعرف متنه عن جماعة من الصحابة وانفرد واحد بروايته عن صحابي آخر، ومنه قول الترمذي: غريب من هذا الوجه، لكن وقع في نسخ جامع الترمذي عندنا في القدر "حديث غريب"، وفي التفسير "حديث حسن صحيح غريب" بغير ذكر لفظ "إسناداً" أو لفظ "من هذا الوجه"، ولعل المصنف ذكر كلام الترمذي بالمعنى، فإن قوله: غريب إسناداً. في معنى قوله: غريب من هذا الوجه. قيل وفي تحسينه نظر؛ لأن في سنده عبد الواحد بن سليم المكي البصري، وهو ضعيف لكن أخرجه أبوداود من غير طريق الترمذي مع اختلاف في اللفظ وسكت عليه هو والمنذري، وأخرجه أيضاً أحمد (ج5: ص317) من طرق عن الوليد بن عبادة عن أبيه، وفي معنى الحديث عن ابن عباس عند الطبراني في الكبير وابن جرير وأبي يعلى وغيرهم، وعن أبي هريرة عند ابن عساكر، وعن معاوية بن قرة عن أبيه عند ابن جرير، فالظاهر أن الترمذي حسنه لتعدد طرقه ولشواهده. 95- قوله: (وعن مسلم بن يسار) الجهني من أوساط التابعين، وثقة ابن حبان، وقال العجلي: تابعي ثقة إلا أنه لم يسمع من عمر، وبينهما نعيم بن ربيعة، كذلك رواه أبوداود. (عن هذه الآية) أي عن كيفية أخذ الله ذرية بني آدم

{وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم} الآية، قال عمر: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسئل عنها فقال: ((إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء ـــــــــــــــــــــــــــــ من ظهورهم المذكور في الآية (وإذ أخذ) أي أخرج (من ظهورهم) بدل اشتمال مما قبله بإعادة الجار، وقيل: بدل بعض (الآية) بالحركات الثلاث. (يسئل) بصيغة المجهول (عنها) أي عن هذه الآية. (ثم مسح ظهره) أي ظهر آدم (بيمينه) يمر على ظاهره من غير تأويل وتكييف، قيل: شق ظهره واستخرجهم منه، والأقرب أنه أخرجهم من مسام شعرات ظهره إذ تحت كل شعرة ثقبة دقيقة يقال لها سم مثل سم الخياط وجمعه مسام، ويمكن خروج الذرية من هذه الثقبة كما يخرج منها العرق. (فاستخرج منه) ببطن نعمان وهو موضع بقرب عرفة كما سيأتي في الفصل الثالث من حديث ابن عباس (ذرية) الخ، حمل البيضاوي في تفسيره وفي شرحه للمصابيح، وغيره من أهل التأويل والاعتزال الآية على التصوير والتمثيل والتخييل، وقالوا: إنه لا قول ثم ولا شهادة حقيقة. قال الفخر الرازي: أطبقت المعتزلة على أنه لا يجوز تفسير هذه الآية بهذا الحديث؛ لأن قوله: "من ظهورهم" بدل من "بني آدم"، فالمعنى وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم، فلم يذكر أنه أخذ من ظهر آدم شيئاً، ولوكان المراد الأخذ من ظهر آدم لقيل من ظهره. وأجاب بأن ظاهر الآية يدل على أن الله تعالى أخرج الذرية من ظهور بني آدم، وأما أنه أخرج تلك الذرية من ظهر آدم فلا تدل الآية على إثباته ونفيه، والخبر قد دل على ثبوته فوجب القول بهما معاً بأن بعض الذر من ظهر بعض الذر والكل من ظهر آدم صوناً للآية والحديث عن الاختلاف - انتهى. وقال الشاه ولي الله الدهلوي في حجة الله: إن الآية لا تخالف الحديث؛ لأن آدم أخذت عنه ذريته ومن ذريته ذريتهم إلى يوم القيامة على الترتيب الذي يوجدون عليه، فذكر في القرآن بعض القصة وبين الحديث تتمتها. وقال العلامة الشعراني في الجواب عن إشكال المخالفة: إن هذا شيء يتعلق بالنظم، وذلك أنه لم يقل من ظهر آدم وإن أخرجوا من ظهره؛ لأن الله تعالى أخرج ذرية آدم بعضهم من ظهر بعض على طريق ما يتناسل الأبناء من الآباء، فاستغنى به عن ذكر آدم استغناءً بظهور ذريته، إذ ذريته خرجوا من ظهره. ويحتمل أن يقال إنه أخرج ذرية آدم بعضهم من بعض في ظهر آدم ثم أخرجهم جميعاً فيصح القولان جميعاً، فإذا قال أخرجهم من ظهورهم صح، وإذا قال أخرجهم من ظهره صح أيضاً، ومثال ذلك من أودع جوهرة في صدفة ثم أودع الصدفة في خرقة وأودع الخرفة مع الجوهرة في حقة وأودع الحقة في درج وأودع الدرج في صندوق ثم أدخل يده في الصندوق فأخرج منه تلك الأشياء بعضها من بعض ثم أخرج الجميع من الصندوق، فهذا لا تناقض فيه. قال: وإن جوابهم أي جواب الذرية بلفظ "بلى شهدنا" المذكور في الآية كان بالنطق وهم أحياء، إذ لا يستحيل في العقل أن يؤتيهم الله الحياة والعقل والنطق مع صغرهم، فإن بحار قدرته واسعة، وغاية وسعنا في كل مسئلة أن نثبت الجواز ونكل كيفيتها إلى الله تعالى. فإن قيل: إذا قال الجميع "بلى" فلم قبل قوم ورد قوم؟ فالجواب كما قال

للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذريته، فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون. فقال رجل: ففيم العمل يا رسول الله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار)) ، رواه مالك والترمذي وأبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحكيم الترمذي: أنه تعالى تجلى للكفار بالهيبة، فقالوا: بلى، مخافة، فلم يك ينفعهم إيمانهم كإيمان المنافقين، وتجلى للمؤمنين بالرحمة، فقالوا: بلى طوعاً، فنفعهم إيمانهم. قال: وإنما لا نذكر العهد السابق والميثاق الأزلي؛ لأن تلك البنية قد انقضت وتداولت الإنسان الغير بمرور الدهور عليها في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات، ثم زاد الله تعالى في تلك البنية أجزاء كثيرة، ثم استحالت بتصريفها في الأطوار الواردة عليها من العلقة والمضغة واللحم والعظم، وهذا كله مما يوجب الوقوع في النسيان - انتهى. ويذكر عن علي - رضي الله عنه - وسهل بن عبد الله التستري وذي النون المصري وغيرهم ما يدل على أنهم كانوا يذكرون ذلك العهد، والله تعالى أعلم. هذا، ونذكر مزيد الكلام في شرح حديث ابن عباس الآتي في الفصل الثالث فانتظر. (وبعمل أهل الجنة) أي من الطاعات (يعملون) إما في جميع عمرهم أو في خاتمة أمرهم. (ثم مسح ظهره) . قال القاري: أي بيده كما في نسخة - انتهى. وكذا وقع هذا اللفظ في المصابيح، وليس هو في مسند أحمد وجامع الترمذي وسنن أبي داود. (وبعمل أهل النار) أي من السيئات (يعملون) كما سبق (ففيم العمل) الفاء أدخل جواب الشرط المقدر، أي إذا كان كما ذكرت يا رسول الله من سبق القدر ففي أي شيء يفيد العمل، أو بأي شيء يتعلق العمل، أو فلأي شيء أمرنا بالعمل؟ يعني أنه حيث خلق له، ولا يتصور تغييره وتبديله يستوى عمله وتركه. (استعمله) أي جعله عاملاً ووفقه للعمل. (حتى يموت) الخ فيه إشارة إلى أن المدار على عمل مقارن للموت. والحديث يدل على سبق القضاء والتقدير قبل خلق العالم بحسب علمه الأزلي بما يقع بعد الخلق، وذلك كنتيجة الخلق في علمه تعالى بعد الخلق وعطاء الاختيار للعباد. (رواه مالك) في جامع من الموطأ (والترمذي) في تفسير الأعراف وقال: حديث حسن، ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر الخ. وإنما حسنه مع كونه منقطعاً؛ لأن معنى الحديث قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه ثابتة كثيرة من حديث عمر وغيره. والترمذي قد يحسن الحديث المنقطع والمرسل لشواهده. (وأبوداود) في السنة من طريق مسلم بن يسار عن عمر، ومن طريق مسلم بن يسار عن نعيم بن ربيعة عن عمر وسكت عليه، ونعيم هذا وثقة ابن حبان، وقال الحافظ: هو مقبول، وأخرجه أحمد (ج1: ص44) والنسائي في تفسيره، والبخاري في

96- (18) وعن عبد الله بن عمرو قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي يديه كتابان فقال: ((أتدرون ما هذان الكتابان؟ قلنا: لا يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن تخبرنا. فقال للذي في يده اليمنى: هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم ـــــــــــــــــــــــــــــ تاريخه، وابن جرير في تفسيره، وابن حبان في صحيحه وغيرهم، وفي الباب عن ابن عباس وسيأتي حديثه، وعبد الله ابن عمرو وأبي هريرة وهشام بن حكيم وأبي أمامة، ذكر أحاديثهم ابن كثير في تفسيره. 96- قوله: (وفي يديه) وفي بعض النسخ "وفي يده" بالإفراد كما في أكثر نسخ المصابيح وكما في مسند أحمد وجامع الترمذي، فيراد بها الجنس والواو للحال (كتابان) هو محمول على الحقيقة من دون شائبة المجاز والتأويل، فوجود الكتاب حق ثابت فإن الله تعالى قادر على كل شيء، والنبي - صلى الله عليه وسلم - مستعد لإدراك المعاني الغيبية، فلا نستبعد وقوعه بل نثق بما نشاهده ونراه بل أزيد منه. قال الغزالي في كيمياء السعادة: امتياز الخواص من العوام بشيئين: الأول ما يحصل للعوام من العلوم بالكسب والتعلم، فهو يحصل لهم من عند الله تعالى من غير تكسب وتعلم، ويقال له: العلم اللدنى كما قال تعالى: {وعلمناه من لدنا علما} ، والثاني: أن كل ما يراه العامة في المنام يراه الخواص في اليقظة، وحكايات المشايخ في هذا الباب كثيرة جداً، وإذا كانت هذه الحالة وتلك الرتبة حاصلة لخواص عباد الله ولا نستبعد وقوعها لكمل أمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكيف بمن هو سيد المرسلين وأعلاهم رتبة وأعززهم علماً وأوفرهم حظاً - صلى الله عليه وسلم -، بل ظاهر الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - أرى هذين الكتابين للصحابة أيضاً، ولكن لم يعلموا بما فيها من المطالب بالتفصيل. وقال المشائخ: من لا يعتقد ذلك فهو ليس بمؤمن بحقيقة النبوة - انتهى. وقيل: ذلك تمثيل وتصوير وتعبير عن المعنى بالصورة ومبالغة في تحقيقه والتيقن به، والمتكلم إذا أراد أن يحقق قوله ويفهمه غيره ويظهر المعنى الدقيق الخفي لمشاهدة السامع يصور بالصورة الظاهرة، ويشير إليه كالإشارة الحسية إلى المحسوس المشاهد، وإن لم يكن في الخارج وعالم الحس، فلما كوشف له - صلى الله عليه وسلم - بحقيقة هذا الأمر وأطلعه الله عليه إطلاعاً ولم يبق معه خفاء وشك وشبهة، مثل وصور المعنى الحاصل في قلبه بالشيء الحاصل في يديه مع أنه ليس في الخارج كتاب ولا مكتوب. قلت: لا حاجة إلى حمل الكتاب والإشارة في الحديث على المجاز ولا موجب لذلك فحمله على الحقيقة هو المعتمد. (فقال للذي في يده اليمنى) أي لأجله أو في شأنه أو عنه أو قال بمعنى أشار، فاللام بمعنى إلى. (هذا كتاب من رب العالمين) خصه بالذكر دلالة على أنه تعالى مالكهم وهم مملوكون، يتصرف فيهم كيف يشاء، فيسعد من يشاء ويشقى من يشاء، وكل ذلك عدل وصواب، فلا اعتراض لأحد عليه. (ثم أجمل) بالبناء للمجهول (على آخرهم) من قولهم أجمل الحساب: إذا تمم ورد التفصيل إلى الإجمال وأثبت في آخر الورقة مجموع ذلك وجملته، كما هو عادة المحاسبين أن يكتبوا الأشياء مفصلة ثم يوقعوا في آخرها فذلكة ترد التفصيل إلى الإجمال،

فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً، ثم قال للذي في شماله: هذا كتاب من رب العالمين، فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً. فقال أصحابه: ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ منه؟ فقال: سددوا وقاربوا، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل. ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيديه فنبذهما، ثم قال: فرغ ربكم من العباد، فريق في الجنة وفريق في السعير)) ، رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ وضمن أجمل معنى أوقع، فعدى بعلى أي أوقع الإجمال على من انتهى إليه التفصيل، ويجوز أن يكون حالاً، أي أجمل في حال انتهاء التفصيل إلى آخرهم، فعلى بمعنى إلى. (فلا يزاد فيهم) جزاء شرط، أي إذا كان الأمر على ما تقرر من التفصيل والتعيين والإجمال بعد التفصيل في الصك فلا يزاد فيهم (ولا ينقص منهم أبداً) ؛ لأن حكم الله لا يتغير، وأما قوله تعالى: {يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} [39:13] فمعناه: لكل انتهاء مدة وقت مضروب، فمن انتهى أجله يمحوه ومن بقي من أجله يبقيه على ما هو مثبت فيه، وكل ذلك مثبت عند الله في أم الكتاب، وهو القدر كما أن يمحو ويثبت هو القضاء، فيكون ذلك عين ما قدر وجرى في الأزل كذلك فلا يكون تغييراً، وقيل في معنى الآية غير ذلك. (إن كان أمر قد فرغ منه) بصيغة المجهول، يعني إذا كان المدار على كتابة الأزل فأي فائدة في اكتساب العمل؟ فقال: (سددوا) أي اطلبوا بأعمالكم السداد والاستقامة في الأمر والعدل فيه. (وقاربوا) أي اقتصدوا في الأمور كلها، واتركوا الغلو فيها والتقصير، يقال: قارب فلان في أموره: إذا اقتصد، كذا في النهاية. قال الطيبي: الجواب من أسلوب الحكيم، أي فيم أنتم من ذكر القدر والاحتجاج به، وإنما خلقتم للعبادة فاعملوا وسددوا - انتهى. (يختم له) بصيغة المجهول (بعمل أهل الجنة وإن عمل) أي ولو عمل قبل ذلك (أي عمل) من أعمال أهل النار (بعمل أهل النار) أعم من الكفر والمعاصي. (وإن عمل أي عمل) أي قبل ذلك من أعمال أهل الجنة (ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيديه) أي أشار بهما، والعرب تجعل القول عبارة عن جميع الأفعال، فتطلقه على غير الكلام واللسان، فتقول: "قال بيده" أي أخذ، و"قال برجله" أي مشى، و"قال بالماء على يده" أي صب، و"قال بثوبه" أي رفعه (فنبذهما) أي طرح ما فيهما من الكتابين، لا بطريق الإهانة بل نبذهما إلى عالم الغيب، هذا إذا كان هناك كتاب حقيقي، وأما على التمثيل فيكون المعنى نبذهما أي اليدين. (فرغ ربكم من العباد) أي من أمر العباد، والمراد بالأمر الشأن، أي قدر أمرهم لما قسمهم قسمين، وقدر لكل قسم على التعيين كونه من أهل الجنة أو النار بحيث لا يقبل التغيير، فكأنه فرغ من أمرهم، وإلا فالفراغ لا يجوز عليه تعالى. (رواه الترمذي) في القدر وقال:

97- (19) وعن أبي خزامة عن أبيه قال: قلت: يارسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به وتقاة تنقيها هل ترد من قدر الله شيئاً؟ قال: ((هي من قدر الله)) ، رواه أحمد والترمذي وابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا حديث حسن صحيح غريب. وأخرجه أيضاً أحمد (ج2: ص167) والنسائي، وفي الباب عن عمر عند البزار وابن جرير، وابن عباس عند ابن جرير والدارقطني في الأفراد، وعلي عند الطبراني في الأوسط. 97- قوله: (عن أبي خزامة) بكسر الخاء وتخفيف الزاى (عن أبيه) اختلف فيه فروي هكذا، وروي عن ابن أبي خزامة عن أبيه، والأول أصح. وأبوخزامة هذا تابعي مجهول، واسم والده يعمر، أحد بني الحارث بن سعد ابن هذيم، صحابي له حديث في الرقى، قال في الإصابة (ج3: ص669) : سماه بعضهم في رواية، وأكثر ما يجيء مبهماً. (أرأيت رقى) بضم وقصر، جمع رقية، وهي ما يقرأ من الدعاء لطلب الشفاء، والاسترقاء طلب الرقية (وداواء) بالنصب (نتداوى به) أي نستعمله (وتقاة) بضم أوله (نتقيها) أي نلتجيء بها أو نحذر بسببها، وأصل تقاة وقاة، قلبت الواو تاءً من وقى يقي أي حفظ، وهي اسم ما يلتجيء به الناس من خوف الأعداء كالترس. قيل: وهذه المنصوبات أعني رقى وما عطف عليها موصوفات بالأفعال الواقعة بعدها ومتعلقة بمعنى أرأيت، أي أخبرني عن رقى نسترقيها، فنصبت على نزع الخافض، ويجوز أن يتعلق بلفظ أرأيت، والمفعول الأول الموصوف مع الصفة، والثاني الاستفهام بتأويل مقولاً فيها. (هل ترد) أي هذه الأسباب (قال: هي) أي المذكورات الثلاث (من قدر الله) أيضاً، يعني كما أن الله قدر الداء قدر زواله بالدواء، ومن استعمله ولم ينفعه فليعلم أن الله ما قدره له. والحاصل أن الله قدر الأسباب والمسببات وربط الأسباب بالمسببات، فحصول المسببات عند وجود الأسباب من جملة القدر. قال التوربشتي: عرف الرجل أن من واجب حق الإيمان أن نعتقد أن المقدر كائن لا محالة، ووجد الشرع يرخص في الاسترقاء ويأمر بالتداوي والاتقاء عن مواطن المهلكات فأشكل عليه الأمر، كما أشكل على الصحابة حين أخبروا أن الكتاب يسبق على الرجل، فقالوا: ففيم العمل؟ فبين الرسول أن جميع ذلك من قدر الله، وأن المسترقي والمتداوي والمتقي لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً من ذلك إلا ما قدر لهم، وكما أن نفس هذا الفعل بقدر الله فكذلك نفعه وضره بقدر الله، وكما أن التمسك بأعمال البر مأمور به مع ما سبق من القضاء المبرم فكذلك التعرض للأسباب الجالبة للمنافع الدافعة للمضار مأمور به أو مأذون فيه إن لم يمنع عنها مانع شرعي مع جريان القدر المحتوم - انتهى. (رواه أحمد) (ج3: ص441) (والترمذي) في الطب وقال: "حديث حسن"، وفي القدر وقال: "هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث الزهري"، أي الراوي عن أبي خزامة، (وابن ماجة) في السنة، وأخرجه الحاكم وصححه، وفي الباب عن كعب بن مالك أخرجه ابن حبان.

98- (20) وعن أبي هريرة قال: ((خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نتنازع في القدر، فغضب حتى أحمر وجهه حتى كأنما فقئ في وجنتيه حب الرمان، فقال: أبهذا أمرتم، أم بهذا أرسلت إليكم؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، عزمت عليكم، عزمت عليكم أن لا تنازعوا فيه)) ، رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ 98- قوله: (ونحن نتنازع في القدر) أي حال كوننا نتباحث في القدر بالإثبات والنفي. وقال القاري: أي في شأنه، فيقول بعضنا: إذا كان الكل بالقدر فلم الثواب والعقاب؟ كما قالت المعتزلة، والآخر يقول: فما الحكمة في تقدير بعض للجنة وبعض للنار؟ فيقول الآخر: لأن لهم نوع اختيار كسبي، فيقول الآخر: فمن أوجد ذلك الاختيار والكسب وأقدرهم عليه، وما أشبه ذلك. (حتى كأنما فقئ) بصيغة المجهول أي شق أو عصر في وجنتيه أي خديه (حب الرمان) ، وفي جامع الترمذي "في وجنتيه الرمان"، أي بغير لفظ "حب"، والمعنى حتى صار من شدة حمرته يشبه فقأ حب الرمان في خديه أي يشبه الأحمرار الحاصل به، فهو كناية عن مزيد حمرة وجهه المنبئة عن مزيد غضبه، وإنما غضب لأن القدر سر من أسرار الله تعالى، وطلب سر الله منهي عنه؛ ولأن من يبحث فيه لا يأمن من أن يصير قدرياً أو جبرياً، والعباد مأمورون بقبول ما أمرهم الشرع من غير أن يطلبوا سر ما لا يجوز طلب سره. (أبهذا أمرتم) أي أبالتنازع في القدر أمرتم؟ وهمزة الاستفهام للإنكار، وتقديم المجرور لمزيد الاهتمام. (أم بهذا أرسلت إليكم) أم منقطعة بمعنى بل والهمزة، وهي للإنكار أيضاً ترقياً من الأهون إلى الأغلظ وإنكارا غب إنكار. (إنما هلك من كان قبلكم) أي من الأمم، جملة مستأنفة جواباً عما اتجه لهم أن يقولوا: لم تنكر هذا الإنكار البليغ؟ فأجيب بقوله: "إنما هلك" الخ، يعني ذلك الإنكار البليغ بسبب هذا العذاب البليغ الذي لا إمهال فيه. (عزمت عليكم) أي أقسمت وأوجبت (أن لا تنازعوا فيه) أي لا تبحثوا في القدر بعد هذا. قال ابن الملك: "أن" هذا يمتنع كونها مصدرية وزائدة؛ لأن جواب القسم لا يكون إلا جملة و"أن" لا تزاد مع "لا"، فهي إذاً مفسرة كأقسمت أن لا ضربت، و"تنازعوا" جزم بلا الناهية، ويجوز أن تكون مخففة من الثقيلة؛ لأنها مع اسمها وخبرها سدت مسد الجملة، كذا قاله زين العرب. (رواه الترمذي) وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث صالح المري، وله غرائب ينفرد بها- انتهى. قلت: صالح المري هذا ضعيف، ضعفه ابن معين والدارقطني وابن المديني والبخاري والنسائي وغيرهم، فالحديث ضعيف، لكن يؤيده الحديث الذي بعده وحديث ابن مسعود مرفوعاً عند الطبراني بإسناد حسن بلفظ: ((إذا ذكر القدر فأمسكوا)) ، وحديث ثوبان عند الطبراني في الكبير بلفظ: ((اجتمع أربعون من الصحابة ينظرون في القدر)) الحديث، وحديث ابن عباس عند ابن جرير بلفظ: ((خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فسمع ناساً من أصحابه ينظرون في القدر)) الحديث، وحديث أبي الدرداء ووائله وأبي أمامة وأنس عند الطبراني في الكبير بلفظ: ((قالوا:

99 - (21) وروى ابن ماجه نحوه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. 100- (22) وعن أبي موسى قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، منهم الأحمر والأبيض والأسود، وبين ذلك والسهل ـــــــــــــــــــــــــــــ خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نتذاكر القدر)) الحديث. 99- قوله: (وروى ابن ماجة) في باب القدر من السنة وسنده حسن. (نحوه) أي بالمعنى، ورواه أيضاً أحمد في مسنده (ج2: ص196، 195) (عن عمرو بن شعيب) بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص السهمي، يكني أبا إبراهيم المدني نزيل الطائف، وثقة النسائي وغيره. مات سنة (118) . (عن أبيه) أي شعيب بن محمد السهمي الحجازي، من ثقات التابعين وثقة ابن حيان. (عن جده) أي جد شعيب والد عمرو، وهو عبد الله بن عمرو بن العاص، فالضمير في جده يرجع إلى شعيب بن محمد. هذا هو الصحيح عند المحققين كعلي بن المديني وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية وأبي عبيدة والبخاري وغيرهم، وقد صح وثبت سماع شعيب من جده عبد الله، وهو الذي ربى حفيده شعيباً، حتى قيل: إن محمداً مات في حياة أبيه عبد الله، وكفل شعيباً جده عبد الله، يدل على ذلك ما رواه الدارقطني والحاكم والبيهقي عنه في إفساد الحج، فقالوا: عن عمرو بن شعيب عن أبيه أن رجلاً أتى عبد الله بن عمرو يسأله عن محرم وقع بامرأته فأشار إلى عبد الله بن عمر فقال: اذهب إلى ذلك فاسأله، قال شعيب: فلم يعرفه الرجل، فذهبت معه فسأل ابن عمر. فقال: بطل حجك فذكر الحديث، وذكر فيه سؤاله لابن عباس أيضاً، وذهاب شعيب معه إليه، وأنه قال مثل قول ابن عمر، ففيه التصريح بأن شعيباً سمع من جده عبد الله ومن ابن عباس ومن ابن عمر، وعلى هذا فرواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ليست بمرسلة ولا بمنقطعة كما توهم ابن حبان ومن وافقه، بل هي متصلة ولا تنحط عن درجة الحسن إذا كان الإسناد إلى عمرو صحيحاً. قال الذهبي: حديثه من قبيل الحسن. قال الحافظ: ترجمة عمرو قوية على المختار حيث لاتعارض - انتهى. وقال النووي: إن الاحتجاج به هو الصحيح المختار الذي عليه المحققون من أهل الحديث، وهم أهل هذا الفن وعنهم يؤخذ -انتهى. وسيأتي مزيد الكلام في هذا في باب المساجد فانتظر. 100- قوله: (خلق آدم من قبضة) بالضم ملأ الكف وربما جاء بفتح القاف، و"من" ابتدائية متعلقة بخلق أي ابتداء خلقه من قبضة، أو بيانية حال من آدم، (قبضها) أي أمر الملك بقبضها. قال في النهاية: القبض الأخذ بجميع الكف، والقبضة المرة منه، وبالضم الاسم منه (من جميع الأرض) يعني وجهها (على قدر الأرض) أي مبلغها من الألوان والطباع (منهم الأحمر والأبيض والأسود) أي بحسب ترابها، وهذه الثلاثة هي أصول الألوان وما عداها مركب منها، وهو المراد بقوله: (وبين ذلك) أي بين الأحمر والأبيض والأسود باعتبار أجزاء أرضه، (والسهل) أي ومنهم السهل أي اللين المنقاد،

والحزن والخبيث والطيب)) ، رواه أحمد والترمذي وأبوداود. 101- (23) وعن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الله خلق خلقه في ظلمة، فألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ـــــــــــــــــــــــــــــ (والحزن) بفتح الحاء وسكون الزاي أي الغليظ الطبع الخشن من حزن الأرض وهو الغليظ الخشن. (والخبيث) أي خبيث الخصال (والطيب) على طبع أرضهم، وكل ذلك بتقدير الله تعالى لوناً وطبعاً وخلقاً. قال الطيبي: لما كانت الأوصاف الأربعة ظاهرة في الإنسان والأرض أجريت على حقيقتها، وأولت الأربعة الأخيرة؛ لأنها من الأخلاق الباطنة، فإن المعنى بالسهل الرفق واللين، وبالحزن الخرق والعنف، وبالطيب الذي يعني به الأرض العذبة المؤمن الذي هو نفع كله، وبالخبيث الذي يراد به الأرض السبخة الكافر الذي هو ضر كله - انتهى. وفيه إشارة إلى أن هذه الأوصاف والآثار بمنزلة هذه الألوان في كونها تحت الأقدار، غايته أن الأوصاف قابلة للزيادة والنقصان بحسب الطاعة والإمكان لمجاهدة الإنسان بخلاف الألوان، وإن نظرت إلى الحقيقة فلا تبديل ولا تغيير لخلق الله، وهذا معنى قوله: "جف القلم على علم الله"، قاله القاري. (رواه أحمد) (ج4:ص406، 400) ، (والترمذي) في أول تفسير البقرة وقال: "حديث حسن صحيح"، وكذا صححه أبوالفرج الثقفي في الفوائد (ق197/1) ، (وأبوداود) في السنة وأخرجه أيضاً الحاكم والبيهقي. 101- قوله: (خلقه) أي الثقلين من الجن والإنس أو الإنس فقط، لا الملائكة فإنهم ما خلقوا إلا من نور. (في ظلمة) أي كائنين في ظلمة النفس الأمارة بالسوء المجبولة بالشهوات المردية والأهواء المضلة. (فألقى) أي فرش كما في رواية (من نوره) أي نوره الذي خلقه الله تعالى، فمن زائدة في الإثبات أو بيانية أي شيئاً هو نوره، فيكون "من نوره" صفة محذوف، أو تبعيضية أي بعض نوره، وإضافة النور إلى الله تعالى إضافة إبداع واختراع على سبيل التكريم، كما في قوله: {ونفخت فيه من روحي} ، (فمن أصابه من ذلك النور) أي شيء من ذلك النور أو بعض ذلك النور. قيل: المراد بالنور الملقى عليهم نور الإيمان والطاعة والإحسان والمعرفة. وقيل: المراد به ما نصب لهم من الشواهد والحجيج وما أنزل إليهم من الآيات والنذر، إذ لولا ذلك لبقوا في ظلمات الضلالة والجهالة، والمراد بإصابة النور الاعتبار بالحجج والانتفاع بالشواهد، والاستدلال بالآيات على ذاته تعالى وصفاته، وعلى دين الإسلام بتوفيق الله، فمن شاءالله بهدايته فشاهد حججه واعتبر بآياته واستدل بشواهده بالنظر الصحيح، فهو الذي أصابه ذلك النور فخلص من تلك الظلمة واهتدى، ومن لم يشأ هدايته فعمي عن آياته، فهو الذي حرم من ذلك النور وبقي في ظلمات الطبيعة متحيراً وارتدى، وإليه يشير قوله تعالى: {أو من كان ميتاً فأحيناه وجلعنا له نوراً} [122:6] وقوله: {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه} [22:39] . فعلم أن الهداية والضلالة بمشيئة الله وتقديره في الأزل. قال في اللمعات: الحق أن المراد من خلقه هو وقت الولادة، ومن إلقاء النور هو زمان إظهار الشرائع وإعطاء التوفيق للاهتداء، وبالجملة في الحديث دلالة على أن الإنسان

ومن أخطأه ضل، فلذلك أقول: جف القلم على علم الله)) ، رواه أحمد والترمذي. 102- (24) وعن أنس قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، فقلت يا نبي الله آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء)) ، رواه الترمذي وابن ماجة. ـــــــــــــــــــــــــــــ خلق على حالة لا ينفك عن الظلمة إلا من أصابه النور الملقي عليه، لكن يتوهم الإشكال في تطبيقه بحديث الفطرة الذي يدل على أن المولود عند الولادة يكون على نور الفطرة، ولا إشكال؛ لأن حديث الفطرة كما حقق إنما يدل على كون الإنسان متهيئاً متمكناً من إصابة الهدى إن تفكر بالنظر الصحيح وتأمل في الآيات والشواهد، ومع ذلك خلق في ظلمات النفس والطبيعة، وهذا الحديث إنما يدل على أن إصابة الهدى إنما هو مشيئة الله وتوفيقه وإلقاء نور الهداية في قلبه، وليس مستقلاً مستبداً بإصابة الهدى، فمن شاء وفقه للنظر الصحيح وألقى نور الهداية كما هو مقتضى الفطرة والروحانية، ومن لم يشأ لم يوفقه وأوقعه في ظلمة الضلال والغواية، كما هو مقتضى النفس والطبيعة الجسمانية، وبالجملة هذا الحديث تنبيه على سابقة التقدير وعلم الله ومشيئته تعالى، والفطرة كما نبهنا هنالك غير سابقة التقدير فلا تنافي بين الحديثين- انتهى. (ومن أخطأه) أي ذلك النور يعني جاوزه ولم يصل إليه (ضل) أي خرج عن طريق الحق. (فلذلك) أي فلأجل عدم تغير ما جرى في الأزل تقديره من الإيمان والكفر والطاعة والمعصية. (أقول جف القلم) أي فرغت الكتابة، إشارة إلى أن الذي كتب وقدر لا يتغير حكمه، فهو كناية عن الفراغ من الكتابة؛ لأن الصحيفة حال كتابتها تكون رطبة أو بعضها وكذلك القلم، فإذا انتهت الكتابة جف الكتابة والقلم. (على علم الله) أي على حكمه؛ لأن معلومه لا بد أن يقع، فعلمه بمعلوم يستلزم الحكم بوقوعه. وقال القاري: أي على ما علم الله وحكم به في الأزل لا يتغير ولا يتبدل وجفاف القلم عبارة عنه. (رواه أحمد) (ج2:ص197، 176) ، (والترمذي) في أواخر الإيمان، وقال: "حديث حسن"، وأخرجه أيضاً ابن حبان وصححه والحاكم مطولاً وقال: "صحيح على شرط الشيخين"، وابن جرير والبيهقي. 102- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر) من الإكثار (يا مقلب القلوب) أي مصرفها تارة إلى الطاعة وتارة إلى المعصية وتارة إلى الحضرة وتارة إلى الغفلة. (فهل تخاف علينا؟) يعني أن قولك هذا ليس لنفسك؛ لأنك في عصمة من الخطأ والزلة خصوصاً من تقلب القلب عن الدين، وإنما المراد تعليم الأمة فهل تخاف علينا من زوال نعمة الإيمان أو الانتقال من الكمال إلى النقصان؟ (قال: نعم) أي أخاف عليكم (إن القلوب بين إصبعين) إلخ تقدم الكلام فيه (يقلبها كيف يشاء) مفعول مطلق أي تقليباً يريده أو حال من الضمير المنصوب، أي يقلبها على أي صفة شاءها أي بقضائه وقدره. (رواه الترمذي) في القدر وقال: حديث حسن صحيح (وابن ماجه) في الدعاء.

103- (25) وعن أبي موسى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مثل القلب كريشة بأرض فلاة يقلبها الرياح ظهراً لبطن)) ، رواه أحمد. 104- (26) وعن علي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالموت، والبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر)) ، رواه الترمذي، ـــــــــــــــــــــــــــــ 103- قوله: (مثل القلب) أي صفة القلب العجيبة الشأن، وورد ما يرد عليه من عالم الغيب من الدواعي وسرعة تقلبه بسببها. (كريشة) أي كصفة (بأرض) بالتنوين، وقيل: بالاضافة (فلاة) أي مفازة خالية من النبات، وهي صفة، قيل: ذكر الأرض مقحم؛ لأن الفلاة تدل عليها، فالمقصود التأكيد لدفع التجوز كما في "أبصرتها بعيني" وتخصيص الفلاة؛ لأن الرياح أشد تأثيراً فيها من العمران. (يقلبها الرياح) صفة أخرى لريشة، وجمع الرياح للدلالة على ظهور التقليب، إذ لو استمر الريح على جانب واحد لم يظهر التقلب. (ظهراً لبطن) أي وبطناً لظهر، يعني كل ساعة يقلبها على صفة، فكذا القلب ينقلب ساعة من الخير إلى الشر وبالعكس، وقوله: "ظهراً" بدل البعض من الضمير في يقلبها، واللام في "لبطن" بمعنى إلى، ويجوز أن يكون "ظهراً لبطن" مفعولاً مطلقاً أي تقليباً مختلفاً، وأن يكون حالاً، يعني مقدرة أي يقلبها مختلفة كذا في المرقاة. (رواه أحمد) (ح4:ص408) بسند حسن، لكن بغير هذا اللفظ، وإنما رواه به صاحب الأصل (البغوي) في شرح السنة (14) ، وأخرجه أيضاً أحمد (ج4:ص419) وابن ماجة في السنة، وفي سنده عندهما يزيد الرقاشي وهو ضعيف، وأخرج البزار نحوه عن أنس. 104- قوله: (لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع) هذا نفي لأصل الإيمان لا نفي لكماله، فمن لم يؤمن بواحد من هذه الأمور الأربعة لم يكن مؤمناً، ويلزم منه أن يكون القدري كافراً، وهو خلاف ما عليه الجمهور، وسيأتي الكلام في هذا. (يشهد) منصوب على البدل من قوله:"يؤمن"، وقيل: مرفوع تفصيل لما سبقه، أي يعلم ويتيقن. (بعثني بالحق) استئناف كأنه قيل: "لم يشهد"؟ فقال: "بعثني بالحق" أي إلى كافة الجن والإنس، ويجوز أن يكون حالاً مؤكدة أو خبراًً بعد خبر، فيدخل على هذا في حين الشهادة. (ويؤمن بالموت) بالوجهين، وهو الثاني من الأمور الأربعة. قال المظهر: أي يعتقد بفناء الدنيا، وهو احتراز عن مذهب الدهرية القائلين بقدم العالم وبقائه أبداً. قال القاري: وفي معناه التناسخي، ويحتمل أن يراد اعتقاد أن الموت يحصل بأمر الله لا بفساد المزاج، كما يقوله الطبيعي. (والبعث) أي ويؤمن بوقوع البعث بعد الموت، هذا هو الثالث، وتكرير الموت إيذان للاهتمام بشأنه. (ويؤمن) بالوجهين (بالقدر) يعني أن جميع ما يجرى في العالم بقضاء الله وقدره، وفيه دليل على أن الإيمان بالقدر ركن من أركان الدين. (رواه الترمذي) في القدر ورجاله رجال

وابن ماجة. 105- (27) وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة، والقدرية)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الصحيح، (وابن ماجة) في السنة، وأخرجه أيضاً أحمد (ج1:ص97) ، والحاكم وصححه على شرطهما، ووافقه الذهبي. 105- قوله: (صنفان) أي نوعان، وهو مبتدأ خبره قوله: ليس لهما إلخ (من أمتي) صفة أي أملة الإجابة (ليس لهما في الإسلام نصيب) أي حظ. (المرجئة) خبر مبتدأ محذوف أي "هما" وقيل بدل من صنفان، ويجوز الجر على أنه بدل من ضمير لهما، والنصب بتقدير "أعني" مشهور في مثله، والمرجئة اسم فاعل من أرجأت الأمر بالهمزة وأرجيت بالياء أي أخرت، وهم فرقة من فرق الإسلام يعتقدون أنه لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة، سموا بذلك لاعتقادهم أن الله أرجأ تعذيبهم على المعاصي، أي أخره عنهم وبعده، وقيل: هم الجبرية القائلون بأن إضافة الفعل إلى العبد كإضافته إلى الجمادات، سموا بذلك؛ لأنهم يؤخرون أمر الله ونهيه عن الاعتداد بهما ويرتكبون الكبائر، وقيل هم الذين يقولون: الإيمان قول وتصديق بلا عمل، فيؤخرون العمل عن القول والتصديق. وقال الشهرستاني: الإرجاء على معنيين: أحدهما التأخير، قالوا: أرجه، أي أمهله وأخره. والثاني: إعطاء الرجاء. أما إطلاق إسم المرجئة على الجماعة بالمعنى الأول فصحيح؛ لأنهم كانوا يؤخرون العمل عن النية والقصد، وأما بالمعنى الثاني فظاهر فإنهم كانوا يقولون: لا تضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة. وقيل: الإرجاء تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى القيامة، فلا يقضى عليه بحكم ما في الدنيا من كونه من أهل الجنة أو من أهل النار، قال: والمرجئة أصناف أربعة: مرجئة الخوارج، ومرجئة القدرية، ومرجئة الجبرية، ومرجئة الخالصة، ثم ذكر مقالات المرجئة الخالصة، من شاء الوقوف عليها رجع إلى الملل والنحل، والظاهر أن المراد في الحديث مرجئة الجبرية. (والقدرية) بفتحتين أو سكون الدال، هم الذين يقولون: إن العبد خالق لأفعاله والأمر أنف من غير سبق قضاء وتقدير، واشتهر بهذا الاسم من لا يقول بالقدر لأجل أنهم تكلموا في القدر وأقاموا الأدلة بزعمهم على نفيه، وتوغلوا في هذه المسئلة حتى اشتهروا بهذا الإسم، وبسبب توغلهم وكثرة اشتغالهم صاروا هم أحق بهذه النسبة من غيرهم، فلا يرد أن المثبت أحق بهذه النسبة من النافي، على أن الأحاديث صريحة في أن المراد ههنا النافي، قاندفع توهم القدرية أن المراد في هذا الحديث المثبت للقدر لا النافي. هذا، وربما يتمسك بالحديث من يكفر الفريقين، قال ابن حجر المكي الهيثمي الشافعي: من أطلق تكفير الفريقين أخذاً بظاهر الحديث فقد استروح، بل الصواب عند الأكثرين من علماء السلف والخلف أنا لا نكفر أهل البدع والأهواء إلا إن أتوا بكفر صريح لا استلزامي؛ لأن الأصح أن لازم المذهب ليس بلازم، ومن ثم لم يزل العلماء يعاملونهم معاملة المسلمين في نكاحهم وإنكاحهم والصلاة على موتاهم ودفنهم في مقابرهم؛ لأنهم وإن كانوا مخطئين غير معذورين حقت عليهم كلمة الفسق

رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. ـــــــــــــــــــــــــــــ والضلال، إلا أنهم لم يقصدوا بما قالوه اختيار الكفر، وإنما بذلوا وسعهم في إصابة الحق فلم يحصل لهم، لكن لتقصيرهم بتحكيم عقولهم وأهويتهم وإعراضهم عن صريح السنة والآيات من غير تأويل سائغ، وبهذا فارقوا مجتهدي الفروع، فإن خطأهم إنما هو لعذرهم بقيام دليل آخر عندهم مقاوم لدليل غيرهم من جنسه فلم يقصروا، ومن ثم أثيبوا على اجتهادهم- انتهى. قال التوربشتي: وهذا أي عدم تكفيرهم قول المحققين من علماء الأمة احتياطاً فيجري قوله: "ليس لهما في الإسلام نصيب" مجرى الاتساع في بيان سوء حظهم وقلة نصيبهم من الإسلام، نحو قولك: ليس للبخيل من ماله نصيب -انتهى. قال السندهي: في صلاحية هذا الحديث للاستدلال به في الفروع نظر كما ستعرف فضلاً عن الأصول والمطلوب فيها القطع، فكيف يصح التمسك به في التكفير؟ انتهى. قلت: أحاديث الباب من بين الصحاح والحسان والضعاف غير الساقطات تدل بمجموعها على أن الإيمان بالقدر من غير بحث ومنازعة من ضروريات الدين وركن من أركان الإسلام، فالظاهر أن إنكار القدر وتكذيبه من البدع المكفرة، والله أعلم. (رواه الترمذي) من طريقين في أحدهما علي بن نزار وأبوه نزار بن حيان وهما ضعيفان، وفي الثاني سلام بن أبي عمرة وهو أيضاً ضعيف. (وقال: غريب) وفي نسخ الترمذي عندنا "حسن غريب"، وكذا نقله الحافظ عن الترمذي في أجوبته عن أحاديث المصابيح التي رماها الحافظ سراج القزويني بالوضع، وكذا نقله البوصيري في الزوائد. ولعله حسنه لشواهده، وأخرجه أيضاً البخاري في تاريخه وابن ماجه في السنة، وفي سنده أيضاً علي نزار وأبوه نزار، وأخرجه ابن ماجة أيضاً عن جابر، وفيه نزار المذكور، والخطيب عن ابن عمر وقال: هذا حديث منكر من هذا الوجه جداً كالموضوع، وإنما يرويه علي بن نزار، شيخ ضعيف واهي الحديث، والطبراني في الأوسط عن أبي سعيد. قال السندهي: زعم الحافظ سراج الدين بعده وبين أنه موضوع، ورد عليه الحافظ صلاح الدين ثم الحافظ ابن حجر بما يبعده عن الوضع ويقربه إلى الحسن، ومحل نظرهما هو تعدد الطرق، والحديث جاء عن أبي بكرالصديق ومعاذ بن جبل وعبد الله بن عمر وجابر بطريق معاذ، وكثرة الطرق تفيد بأن له أصلاً، وبالجملة فلا ينفع في الاستدلال بالأصول - انتهى. قلت: قال الحافظ ابن حجر في أجوبته بعد عزوه إلى الترمذي وابن ماجة: ومداره على نزار بن حيان عن عكرمة عن ابن عباس، وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب، ونزار هذا ضعيف عندهم، ورواه عنه ابنه علي بن نزار وهو ضعيف، لكن تابعه القاسم بن حبيب، وإذا جاء الخبر من طريقين كل منهما ضعيف قوي أحد الطريقين بالآخر، ومن ثم حسنه الترمذي، ووجدنا له شاهداً من حديث جابر ومن طريق ابن عمر ومن طريق معاذ وغيرهم، وأسانيدها ضعيفة، ولكن لم يوجد فيه علامة الوضع إذ لا يلزم من نفي الإسلام عن الطائفتين إثبات كفر من قال بهذا الرأي؛ لأنه يحمل على نفي الإيمان الكامل، أو المعنى أنه اعتقد اعتقاد الكافر لإرادة المبالغة في التنفير من ذلك لا حقيقة الكفر، وينصره أنه وصفهم بأنهم من أمته - انتهى. وقال العلائي: والحق أنه ضعيف لا موضوع.

106- (28) وعن ابن عمر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((يكون في أمتي خسف ومسخ وذلك في المكذبين بالقدر)) ، رواه أبوداود، وروى الترمذي نحوه. 107- (29) وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم)) ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 106- قوله: (يكون في أمتي) أي أمة الإجابة (خسف) يقال: خسف الله به أي غاب به في الأرض. (ومسخ) هو تحويل صورة إلى ما هو أقبح منها، وقيل: المراد مسخ القلوب، وفيه نظر. (وذلك) أي ما ذكر من الخسف والمسخ واقع (في المكذبين بالقدر) ، تبين بهذا الحديث أن القدرية المذمومة، إنما هم المكذبة بالقدر لا المؤمنة به، كما زعمت المعتزلة ونسبوا أهل السنة والجماعة إلى القدرية، وقوله: "ذلك" في الحديث يدل على استحقاق ما سبق من الخسف والمسخ لأجل ما بعده من التكذيب، فيكونان في هذه الأمة كما في سائر الأمم، خلاف قول من زعم أن ذلك لا يكون مطلقاً إنما مسخها بقلوبها، وأما ما روي من رفع الخسف والمسخ عن هذه الأمة فالمراد به رفع الخسف والمسخ العامين، فافهم. (رواه أبوداود) أي بهذا اللفظ، قاله القاري، وفيه نظر. (وروى الترمذي نحوه) أي بالمعنى، وقد ذكره المصنف في الفصل الثالث. قال الشيخ الألباني: قوله: "رواه أبوداود وروى الترمذي نحوه"، كذا في جميع النسخ وهو خطأ، والصواب العكس "رواه الترمذى وروى أبوداود نحوه"، فإن الترمذى أخرجه (2/22) بهذا اللفظ بالحرف الواحد، وأما أبوداود فأخرجه في السنة (رقم4613) بنحوه -انتهى. قلت: لم أجد حديث ابن عمر باللفظ الذي ذكره المصنف لا في جامع الترمذي ولا في سنن أبي داود، والظاهر أن المصنف قلد في ذلك الجزري إذ ذكره في جامع الأصول (ج10:ص527) بهذا اللفظ، وأثبت في أوله علامة (ت، د) ولا أدري من أين أخذ الجزري اللفظ المذكور مع أنه ذكر بعد ذلك رواية أبي داود ثم رواية الترمذي مفصلة؟ ويمكن أن يكون هذا الحديث عند أبي داود في رواية غير اللؤلؤي، والله أعلم. والحديث أخرجه أيضاً أحمد (ج2:ص108) بلفظ: ((سيكون في هذه الأمة مسخ، ألا وذاك في المكذبين بالقدر)) . وفي سنده رشدين بن سعد وهو ضعيف. 107- قوله: (القدرية مجوس هذه الأمة) أي أمة الإجابة؛ لأن قولهم أفعال العباد مخلوقه بقدرهم لا بقدر الله وإرادته. يشبه قول المجوس القائلين بأن للعالم إلهين: خالق الخير وهو يزدان أي الله، وخالق الشر وهو اهرمن أي الشيطان، وقيل: المجوس يقولون: الخير من فعل النور والشر من فعل الظلمة، فصاروا ثنوية كذلك القدرية يقولون الخير من الله والشر من غيره أي النفس. (وإن ماتوا فلا تشهدوهم) أي لاتشهدوا جنائزهم ولا تصلوا عليهم؛ لاستلزام ذلك الدعاء لهم بالصحة والمغفرة، قيل: هو محمول على الزجر والتنفير عن اعتقادهم على قول من لم يحكم بكفرهم، وعلى الحقيقة على قول من حكم بكفرهم إذ الفاسق

رواه أحمد، وأبوداود. لا منع ولا كراهة في شهود جنازته، وخص هاتين الخصلتين أي العيادة وشهود الجنازة؛ لأنهما أولى وألزم من سائر الحقوق، فإنهما حالتان مفتقرتان إلى الدعاء بالصحة والمغفرة، فيكون النهي عنهما أبلغ في المقصود. (رواه أحمد) باختلاف في اللفظ من طريقين (ج2: ص125، 86) الأولى منقطعة، عمر بن عبد الله مولى غفره لم يسمع من عبد الله ابن عمر، والثانية موصولة لكن فيها رجل ضعيف، وله طريق ثالث عند أبي بكر الآجري في كتاب الشريعة (ص190) ، وفيه ضعف أيضاً، وله طريق رابع عند أبي داود، فالحديث بهذه الطرق حسن كما قال العلائي والحافظ ابن حجر، (وأبي داود) في السنة من طريق عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن ابن عمر، ورجاله ثقات لكنه منقطع كما سيأتي. قال السيوطي في مرقاة الصعود: هذا أحد الأحاديث التي انتقدها الحافظ سراج الدين القزويني على المصابيح، وزعم أنه موضوع. قال الحافظ ابن حجر فيما تعقبه عليه: هذا الحديث حسنه الترمذي وصححه الحاكم ورجاله من رجال الصحيح إلا أن له علتين: الأولى الاختلاف في بعض رواته عن عبد العزيز بن أبي حازم، وهو زكريا بن منظور. فرواه عن عبد العزيز بن أبي حازم فقال: عن نافع عن ابن عمر. والأخرى ما ذكره المنذري وغيره من أن سنده منقطع؛ لأن أباحازم لم يسمع من ابن عمر. فالجواب عن الثانية أن أباالحسن بن القطان الفاسي الحافظ صحح سنده، فقال: إن أباحازم عاصر ابن عمر فكان معه بالمدينة، ومسلم يكتفي بالمعاصرة في الاتصال، فهو صحيح على شرطه. وعن الأول بأن زكريا وصف بالوهم، فلعله وهم فأبدل رواياً بآخر، وعلى تقدير أن لا يكون وهم فيكون لعبد العزيز فيه شيخان، وإذا تقرر هذا لا يسوغ الحكم بأنه موضوع، ولعل مستند من أطلق عليه الوضع تسميتهم المجوس وهو مسلمون، وجوابه أن المراد أنهم كالمجوس في إثبات فاعلين لا في جميع معتقد المجوس، ومن ثم ساغت إضافتهم إلى هذه الأمة. قلت: والحديث أخرجه أيضاً الحاكم (85/71) والبخاري في تاريخه والطبراني في الأوسط وأخرجه أحمد (ج2:ص86) من طريق أخرى لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة من تلك الطريق بلفظ: ((لكل أمة مجوس ومجوس أمتي الذين يقولون لا قدر، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم)) ، ولأصل الحديث شواهد ذكرها السيوطي في تعقباته (5) ، واستوفي طرقها وألفاظها في الآلي (ص133-135) وحقق نقلاً عن الحافظ صلاح الدين العلائي أن للحديث أصلاً، بل ينتهي إلى درجة الحسن المحتج به، فلا وجه للحكم بوضعه. هذا، وقد تعقب الشيخ أحمد محمد شاكر في شرح المسند (ج8: ص6) على جواب الحافظ فقال: أما إن المعاصرة كافية وتحمل على الاتصال فنعم، ولكن إذا لم يكن هناك ما يدل صراحة على عدم السماع، والدليل النقلي هنا على أن أباحازم لم يسمع من ابن عمرقائم، فقد قال ابنه ليحيى بن صالح: من حدثك أن أبي سمع من أحد من الصحابة غير سهل بن سعد فقد كذب. فهذا ابنه يقرر هذا على سبيل القطع، ومثل هذا لا ينقضه إلا إسناد آخر صحيح صريح في السماع، أما بكلمة "عن" فلا، ولذلك نص في التهذيب على أنه يروي عن ابن عمر وابن عمرو بن العاص ولم يسمع منهما. وترجمه البخاري في الكبير (2/2/79) فذكر من سمع منهم، فلم يذكر من الصحابة 1- لم أجد هذا الحديث في جامع الترمذي ولم أعلم في أي كتاب أخرجه وحسنه.

108- (30) وعن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم)) ، رواه أبوداود. 109- (31) وعن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ستة لعنتهم ولعنهم الله وكل نبي يجاب: الزائد في كتاب الله، والمكذب بقدر الله، والمتسلط بالجبروت ليعز من أذله الله ـــــــــــــــــــــــــــــ إلا سهل بن سعد. وأما الرواية الأخرى التي فيها زكريا بن منظور فإن زكريا هذا ضعيف جداً، لينه أحمد بن حنبل. وقال أحمد بن صالح: ليس به بأس، وترجمة البخاري في الكبير (2/1/388) وقال: ليس بذلك، وترجمة في الصغير (213) فقال: منكر الحديث. وقال أبوزرعة: واهي الحديث، منكر الحديث، ونحو ذلك قال أبوحاتم. وقال ابن حبان منكر الحديث جداً، يروي عن أبي حازم ما لا أصل له من حديثه. وأما ما نقل السيوطي عن ابن حجر أن الترمذي حسنه فأخشى أن يكون وهماً من الحافظ، فإن الترمذي لم يروه أصلاً فيما تبين لي بعد البحث والتتبع - انتهى. 108- قوله: (لا تجالسوا أهل القدر) فإنه لا يؤمن أن يغمسوكم في ضلالتهم. (ولا تفاتحوهم) من الفتاحة بضم الفاء وكسرها أي الحكومة أي لا تحاكموا إليهم، يعني لا ترفعوا أموركم إلى حكامهم، وقيل: لا تبدؤوهم بالسلام أو بالكلام، قيل: لا تبتدؤوهم بالمناظرة والمجادلة في الاعتقاديات لئلا يقع أحدكم في شك. (رواه أبوداود) في السنة وسكت عليه هو المنذري، وفي سنده حكيم بن شريك الهذلي، وثقه ابن حبان وقواه، وقال أبوحاتم: مجهول. وأخرجه أيضاً أحمد (ج1: ص30) والحاكم من طريق حكيم بن شريك هذا ولم يصححه، وإنما رواه شاهداً للحديث الذي قبله. 109- قوله: (ولعنهم الله) بالواو العاطفة وبدونها كما في المصابيح والجامع الصغير والمستدرك. قال القاري: وهو الأصح، ولم يعطفه على جملة قبله إما لأنه دعاء، وإما لكونه استئنافاً، كأنه قيل: فماذا بعد؟ فأجب لعنهم الله، والثانية منبئة عن الأول أو قيل لماذا فبالعكس، وعلى هذا قوله: (وكل نبي يجاب) معترض بين البيان والمبين، أي من شأن كل نبي أن يكون مستجاب الدعوات، و"كل نبي" مبتدأ وخبره "يجاب" على بناء المفعول من المضارع أي جاب دعوته، وهو الرواية المشهورة، ويروي بالميم أي مجاب الدعوة، والجملة على الروايتين إما ابتدائية، وإما عطف على "ستة لعنتهم" أو حال من فاعل "لعنتهم"، وجملة "لعنهم الله" إنشائية للدعاء، معترضة بين الحال وصاحبها. وقال التوربشتي: لا يصح عطف "وكل نبي مجاب" على فاعل لعنتهم ومجاب صفة، وصححه الأشرف لوجود الفاصل - انتهى. (الزائد في كتاب الله) أي القرآن وسائر كتبه بأن يدخل فيه ما ليس فيه أو يأوله بما يأباه اللفظ ويخالف المحكم كما فعلت اليهود بالتوراة من التبديل والتحريف، والزيادة في كتاب الله في نظمه وحكمه كفر، وتأويله بما يخالف الكتاب والسنة بدعة، (والمسلط بالجبروت) أي الإنسان المستولي المتقوي الغالب أو الحاكم بالتكبر والعظمة الناشئ عن الشوكة والولاية، و"الجبروت" فعلوت من الجبر وهو القهر (ليعز من أذله الله) أي يرفع مرتبة من أذله الله لكفره أو لفسقه على المسلمين

ويذل من أعزه الله، والمستحل لحرم الله، والمستحل من عترتي ما حرم الله، والتارك لسنتي)) ، رواه البيهقي في المدخل، ورزين في كتابه. 110- (32) وعن مطر بن عكامس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قضى الله لعبد أن يموت بأرض جعل له إليها حاجة)) ، رواه أحمد والترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ أو يحكمه فيهم (ويذل من أعزه الله) بأن يخفض مراتب العلماء والصلحاء أو نحوهم. (والمستحل لحرم الله) بفتح الحاء والراء يريد حرم مكة بأن يفعل فيه ما لا يحل فيه من الاصطياد وقطع الشجر. (والمستحل من عترتي ما حرم الله) أي من إيذائهم وترك تعظيمهم، والعترة: الأرقاب القريبة. وقال في القاموس: العترة بالكسر نسل الرجل وذريته، وتخصيص ذكر "لحرم" والعترة وكل مستحل محرم ملعون؛ لشرفهما وأن أحدهما منسوب إلى الله والآخر إلى رسول الله، فعلى هذا من في "من عترتي" ابتدائية. قال الطيبي: ويحتمل أن يكون بيانية بأن يكون المستحل من عترة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ففيه تعظيم الجرم الصادر عنهم (والتارك لسنتي) أي المعرض عنها باكلية أو بعضها استخفافاً بها وقلة مبالاة فهو كافر وملعون، وتاركها تهاوناً وتكاسلاً لا عن استخفاف فهو عاص، واللعنة عليه من باب التغليظ (رواه البيهقي في المدخل) بفتح الميم والخاء (ورزين) أي ورواه رزين (في كتابه) وأخرجه أيضاً النسائي كما في الجامع الصغير، والطبراني في الكبير، وابن حبان في صحيحه، والحاكم (ج1:ص36) وقال: صحيح الإسناد ولا أعرف له علة - انتهى. ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي (ج7:ص205) : رجاله ثقات. وقد صححه ابن حبان، ونسبه الشيخ ناصر الدين الألباني في تعليقه على المشكاة للترمذي فقال: أخرجه الترمذي في القدر (ج2:ص23، 22) قال وأعله الترمذي بالإرسال وقال إنه أصح -انتهى. وإني لم أجده في أبواب القدر فلينظر. وأخرجه الحاكم عن علي أيضاً. 110- قوله: (وعن مطر) بفتحتين (بن عكامس) بضم العين المهملة وتخفيف الكاف وكسر الميم بعدها سين مهملة، السلمي من بني سليم بن منصور، يعد في الكوفيين، له الحديث الآتي فقط ليس له غيره، لم يرو عنه غير أبي إسحاق السبيعي. اختلف في صحبته، قال أبوأحمد العسكري: قال بعضهم ليس له صحبة، وبعضهم يدخله في الصحابة. وقال أيضاً، وأكثرهم يدخله في المسند. قلت: ذكره الحافظ في الإصابة (ج3:ص443) في القسم الأول من حرف الميم، وقال في التقريب صحابي. وكذا قال الخزرجي في الخلاصة، وقال ابن حبان له صحبة (إذا قضى الله) أي أراد أو قدر أو حكم في الأزل (جعل) أي أظهر الله (له إليها حاجة) أي ليسافر إليها فيتوفاه الله بها ويدفن فيها إشارة إلى قوله تعالى: {وما تدري نفس بأي أرض تموت} [34:31] . وفي الحديث دليل على سبق القضاء والقدر (رواه أحمد) (ج5:ص227) (والترمذي) في القدر وقال: حسن غريب. وأخرجه أيضاً أبوداود في القدر، والحاكم (ج1:ص42) وقال:

111- (33) وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قلت: ((يا رسول الله ذراري المؤمنين؟ قال: من آبائهم، فقلت: يا رسول الله بلا عمل؟ قال: الله أعلم بما كانو عاملين. قلت: فذراري المشركين؟ قال: من آبائهم، قلت: بلا عمل؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين)) ، رواه أبوداود. 112- (34) وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الوائدة والموؤدة في النار)) ، ـــــــــــــــــــــــــــــ صحيح على شرطهما. وأقره الذهبي، وأخرجه الترمذي وأحمد (ج3:ص429) والطبراني في الكبير، وأبونعيم في الحية، والحاكم (ج1:ص42) عن أبي عزة أيضاً، وصححه الترمذي والحاكم، وفي الباب أيضاً عن ابن مسعود أخرجه الحاكم (ج1:ص42، 41) قال الذهبي: على شرط الشيخين. 111- قوله: (ذراري المؤمنين) خبر مبتدأ محذوف، أي ما حكم ذراريهم، أهم في الجنة أم النار؟ (قال من آبائهم) من اتصالية كقوله تعالى: {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض} [67:9] . فالمعنى أنهم متصلون بآبائهم، فلهم حكمهم. قال التوربشتي: أي معدودون من جملتهم؛ لأن الشرع يحكم بالاسلام لإسلام أحد الأبوين، ويأمر بالصلاة عليهم، وبمراعاة أحكام المسلمين. وكذلك يحكم على ذراري المشركين بالاسترقاق ومراعاة أحكامهم وبانتفاء التوارث بينهم وبين المسلمين، فهم ملحقون في ظاهر الأمر بآبائهم. (قلت بلا عمل) هذا وارد منها على سبيل التعجب. (قال الله أعلم بما كانوا عاملين) أي لو بلغوا، رداً لتعجبها وإشارة إلى القدر ولهذا أورد الحديث في باب القدر. قال التوربشتي: يعني أنهم تبع لآبائهم في الدنيا، وأما في الآخرة فموكول أمرهم إلى علم الله تعالى بهم –انتهى. وقال القاضي: الثواب والعقاب ليسا بالأعمال وإلا لم يكن ذراري المسلمين والكفار من أهل الجنة والنار، بل الموجب اللطف الإلهي والخذلان المقدر لهم في الأزل، فالواجب فيهم التوقف وعدم الجزم فإن أعمالهم موكولة إلى علم الله فيما يعود إلى أمر الآخرة، والأعمال دلائل السعادة والشقاوة ولا يلزم من انتفاء الدليل انتفاء المدلول – انتهى. قلت: قد تقدم أن أولاد المسلمين يدخلون الجنة بالاتفاق، وأما أولاد المشركين فهم أيضاً من أهل الجنة على القول المحقق الصحيح المؤيد بالكتاب والسنة، وأما حديث عائشة هذا وأمثاله فمؤولة أو محمولة على أنه - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك قبل أن يخبر أنهم من أهل الجنة (رواه أبوداود) في السنة وسكت عليه هو والمنذري، وأخرجه أيضاً أحمد. 112- قوله: (الوائدة) أي التي تدفن الولد حياً، وقيل هي القابلة، وخصها بالذكر؛ لأن أكثر ما كان الوأد من النساء أو لخصوص السبب (والموؤدة في النار) قال القاري: وأد بنته يئدها وأدا فهي موؤدة إذا دفنها في القبر وهي حية، وهذا كان من عادة بعض قبائل العرب في الجاهلية خوفاً من الفقر أو فراراً من العار، قال القاضي: الوائدة في النار لكفرها وفعلها، والموؤدة فيها لكفرها تبعاً لأبويها، ففيه دليل على تعذيب أطفال المشركين، وأوله من نفاه بأن

{الفصل الثالث}

رواه أبوداود والترمذي. {الفصل الثالث} 113- (35) عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله عزوجل فرغ إلى كل عبد ـــــــــــــــــــــــــــــ الوائدة: القابلة الدافنة لها، والموؤدة أمها الموؤدة لها فحذف الصلة - انتهى. ملخصًا مختصراً. قلت: لابد من هذا التأويل ليصح كون الموؤدة في النار ولئلا يلزم التعارض، وأجيب أيضاً بأن الحديث ورد في قضية خاصة، وهي أن ابني مليكة أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألاه عن أم لهما كانت تئد فقال - صلى الله عليه وسلم - الحديث. أخرجه أحمد والنسائي، فأما الوائدة أي الأم فلأنها كافرة، وأما الموؤدة أي البنت المدفونة فلاحتمال كونها بالغة كافرة أو غير بالغة لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بأنها من أهل النار بقضاء الله وقدره في الأزل إما بوحي أو غيره وحينئذٍ فـ (ال) في "الموؤدة" ليست للاستغراق بل لعهد، فلا يجوز الحكم على أطفال المشركين بأنهم من أهل النار بحديث ابن مسعود هذا؛ لأن هذه واقعة عين في شخص معين، فلا يجوز إجراءه على عمومه في جميع الموؤدين وحمله على العموم مع الاحتمال المذكور، والعبرة وإن كانت لعموم اللفظ لا لخصوص السبب لكن يحمل ههنا على خصوص السبب دفعاً للمعارضة بينه وبين الأحاديث الدالة على كون أولاد المشركين من أهل الجنة، ولا يخفى على هذا وجه المناسبة بين الحديث والباب. (رواه أبوداود) في السنة وسكت عنه هو والمنذري، وقال العزيزي: إسناده صحيح. وأخرجه أيضاً ابن أبي حاتم في تفسيره، والطبراني في الكبير، والهيثم بن كليب في مسنده، وابن عدى ويحيى بن صاعد في مسنده، وأخرجه أحمد (ج3:ص478) والنسائي عن سلمة بن يزيد الجعفي مطولاً بذكر السبب كما أشرنا إليه، وقد روى أحمد عن خنساء بنت معاوية الصريمية عن عمتها قالت: قلت: ((يارسول الله - صلى الله عليه وسلم - من في الجنة؟ قال: النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة، والموؤدة في الجنة)) ، كذا ذكره ابن كثير في تفسيره (والترمذي) كذا في نسخة وهي خطأ من النساخ جزما. 113- قوله: (عن أبي الدرداء) هو عويمر بن زيد، وقيل ابن عامر بن قيس الأنصاري الخزرجي، مشهور بكنيته وباسمه جميعاً، واختلف في اسمه فقيل: اسمه عامر، وعويمر لقبه، أسلم يوم بدر وشهد أحداً وأبلى فيها، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد: نعم الفارس عويمر. وقال: هو حكيم أمتي. كان عابداً فقيهاً عالماً حكيماً، سكن الشام، ومات بدمشق سنة (32) . وقال الخزرجي: له مائة وتسعة وسبعون حديثاً، اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بثمانية أحاديث. جمع القرآن، وولى قضاء دمشق بأمر عمر بن الخطاب. وله فضائل جمة ومناقب كثيرة جداً. (فرغ إلى كل عبد) فرغ يستعمل باللام، واستعماله بإلى هنا لتضمين معنى الانتهاء أو يكون حالاً بتقدير منتهياً، والمعنى انتهى تقديره في الأزل من تلك الأمور الخمسة إلى تدبير هذا العبد بإيدائها، ويجوز أن يكون بمعنى اللام، فيقال "هداه إلى

من خلقه من خمس: من أجله وعمله ومضجعه وأثره ورزقه)) رواه أحمد. 114- (36) وعن عائشة قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من تكلم في شيء من القدر سئل عنه يوم القيامة، ومن لم يتكلم فيه لم يسئل عنه)) رواه ابن ماجه. 115- (37) وعن ابن الديلمي قال: ـــــــــــــــــــــــــــــ كذا ولكذا" وقوله: (من خلقه) صلة "فرغ" أي من خلقة العبد وما يختص به وما لابد منه من الأجل والعمل وغيرهما، وقوله: (من خمس) بدل منه بإعادة الجار. قال الطيبي: والوجه أن الخلق بمعنى المخلوق، و"من" فيه بيانية، و"من" في "خمس" متعلق بفرغ، وقيل من تبعيضية أي فرغ إلى كل عبد كائن من مخلوقه من خمس (من أجله) بفتحتين أي مدة عمره، ومن بيانية للخمس أو بدل بإعادة الجار (وعمله) أي خيره وشره (ومضجعه) أي سكونه وقراره، والظاهر أن المراد به مكان موته ومحل قبره (وأثره) أي حركته واضطراره أو أثر مشيه في الأرض أو ما يحصل له من الثواب والعقاب (ورزقه) أي حلاله وحرامه، كثيره وقليله. (رواه أحمد) (ج5:ص197) وأخرجه أيضاً الطبراني في الكبير والأوسط، والبزار. قال الهيثمي (ج7:ص195) : وأحد إسنادي أحمد رجاله ثقات. وأخرج نحوه الطبراني في الأوسط عن ابن مسعود، وابن عساكر عن أنس. 114- قوله: (من تكلم في شيء من القدر) قيل "في شيء" ولم يقل " في القدر" ليفيد المبالغة في القلة وفي النهي عنه، أي من تكلم بشيء يسير منه يسئل عنه يوم القيامة، فكيف بالكثير منه (سئل عنه) سؤال تهديد ووعيد، ويحتمل أن يراد به مطلق السؤال. وقال القاري: أي كسائر الأقوال والأفعال، وجوزي كل ما يستحقه (لم يسأل عنه) بأن يقال: له "لم تركت التكلم فيه؟) فصار ترك التكلم فيه خيراً من التكلم فيه، فالشخص إذا آمن بالقدر ولم يبحث عنه لا يرد عليه سؤال الاعتراض بعدم التفحص، فإنه غير مأمور به، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - فيما تقدم على طريق الإنكار: بهذا أمرتم؟ أي بالتنازع بالبحث في القدر. وقال أيضاً: إذا ذكر القدر فأمسكوا. أخرجه الطبراني عن ابن مسعود مرفوعاً، فالمقصود من الحديث الزجر والمنع من التكلم في القدر والخوض فيه لعدم الفائدة فيه سوى السؤال والمناقشة يوم القيامة. (رواه ابن ماجه) في السنة، قال في الزوائد: إسناد هذا الحديث ضعيف لاتفاقهم على ضعف يحيى بن عثمان التيمي، قال فيه ابن معين والبخاري وابن حبان: منكر الحديث. زاد ابن حبان "لا يجوز الاحتجاج به". ويحيى بن عبد الله بن أبي مليكة، قال ابن حبان في الثقات: يعتبر بحديثه إذا روى عنه غير يحيى بن عثمان – انتهى. قلت: حديث عائشة هذا وإن كان ضعيفاً لكنه تأيد بالأحاديث التي تدل على منع الخوض في القدر والبحث عنه. 115- قوله: (عن ابن الديلمي) بفتح الدال منسوب إلى الديلم، وهو الجبل المعروف بين الناس، وابن الديلمي

أتيت أبي بن كعب فقلت له: قد وقع في نفسي شيء من القدر فحدثني لعل الله أن يذهبه من قلبي. فقال: لو أن الله عزوجل عذب أهل سمواته وأهل أرضه عذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهباً في سبيل الله ما قبله الله منك ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا هو أبوبسر عبد الله بن فيروز الديلمي أخو الضحاك بن فيروز، كان يسكن بيت المقدس، ثقة من كبار التابعين، ومنهم من ذكره في الصحابة. وأبوه فيروز صحابي معروف، وقال المصنف في أسماء رجال المشكاة: ابن الديلمي هو الضحاك بن فيروز تابعي حديثه في المصريين، روى عن أبيه – انتهى. والراجح عندنا أن المراد بابن الديلمي ههنا هو عبد الله بن فيروز لا أخوه الضحاك؛ لأنه ليس للضحاك رواية عن أبي بن كعب، والله أعلم. (أتيت أبي ابن كعب) هو أبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار الأنصاري الخزرجي النجاري المدني سيد القراء، شهد بدراً وما بعدها والعقبة الثانية، كناه النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا المنذر وعمر أبا الطفيل، وسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - سيد الأنصار وعمر سيد المسلمين، كان يكتب للنبي - صلى الله عليه وسلم - الوحي، وهو أحد الستة الذين حفظوا القرآن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأحد الفقهاء الستة الذين كانوا يفتون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان أقرأ الصحابة لكتاب الله، كان عمر يسأله عن النوازل ويتحاكم إليه في المعضلات، وله مناقب جمة. روي له مائة وأربعة وستون حديثاً، اتفق الشيخان على ثلاثة، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بسبعة، روى عنه خلق كثير من الصحابة والتابعين. واختلف في سنة موته اختلافاً كثيراً قيل/: سنة (19) وقيل (20) وقيل (22) وقيل (30) وقيل (32) وقيل (33) (قد وقع في نفسي شيء من القدر) أي حزازة واضطراب عظيم من جهة أمر القضاء والقدر باعتبار العقل أريد منك الخلاص منه، وقيل: "شي من القدر" أي لأجل القول بالقدر يريد أنه وقع في نفسه من الشبه لأجل القول بالقدر، أوالمراد بالقدر هو القول بنفي القدر الذي هو مذهب القدرية. (فحدثني) أي بحديث (لعل الله أن يذهبه) دخول "أن" في خبر لعل للتشبيه بعسى (فقال: لو أن الله عزوجل عذاب أهل سمواته) من الملائكة (وأهل أرضه) من الأنبياء والأولياء وغيرهم (عذبهم وهو غير ظالم لهم) الواو للحال، إرشاد عظيم وبيان شاف لإزالة ما طلب منه؛ لأنه هدم قاعدة الحسن والقبح العقليين؛ لأنه مالك الأرض والسماوات وما فيهن، فله أن يتصرف في ملكه كيف يشاء ولا يتصور في تصرفه ظلم؛ لأنه تصرف في ملك الغير ولا ملك لغيره أصلاً ثم عطف عليه (ولو رحمهم) إلخ إيذاناً بأن النجاة من العذاب إنما هي برحمته وفضله لا بالأعمال الصالحة، فالرحمة خير منها فلو شاء أن يصيب برحمته الأولين والآخرين فله ذلك ولا يخرج ذلك عن حكمة (مثل أحد) بضمتين، جبل عظيم قرب المدينة (ذهباً) تمييز (في سبيل الله) أي مرضاته (ما قبله الله) أي ذلك الإنفاق أو مثل ذلك الجبل (منك) وهو تمثيل على سبيل الفرض لا تحديد إذ لو فرض إنفاق ملأ السماوات والأرض كان كذلك، وفيه إشارة

حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن لصيبك، ولو مت على غير هذا لدخلت النار. قال: ثم أتيت عبد الله بن مسعود فقال مثل ذلك. قال: ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك. ثم أتيت زيد بن ثابت فحدثني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك)) ، رواه أحمد وأبوداود وابن ماجة. ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى أنه لا قبول لعمل المبتدع عند الله تعالى أو هو مبنى على القول بكفر منكره (وتعلم) تخصيص بعد تعميم أن ما أصابك من النعمة والبلية أو الطاعة والمعصية مما قدره الله لك أو عليك (لم يكن ليخطئك) أي يتجاوز عنك فلا يصيبك، بل لا بد من إصابته، والحيل غير نافعة في دفعه، وعنوان لم يكن ليخطئك يدل على أنه محال أن يخطئك، والوجه في دلالته أن "لم يكن" يدل على المضي و"ليخطئك" يدل على الاستقبال بواسطة الصيغة سيما مع "أن" المقدرة فيدل على أنه ما كان قبل الإصابة في الأزمنة الماضية قابلاً لأن يخطئك في المستقبل بواسطة تقدير الله تعالى وقضاءه في الأزل، بذلك قاله السندهي. (ولو مت) بضم الميم من مات يموت وبكسرها من مات يميت (على غير هذا) أي على اعتقاد غير هذا الذي ذكرت لك من الإيمان بالقدر (قال) أي ابن الديلمي (فقال مثل ذلك) أي مثل جواب أبي في سؤالي (ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك) فالحديث من طرق هؤلاء الثلاثة صار موقوفاً. (ثم أتيت زيد بن ثابت) أفضل كتبة الوحي وأفرض الصحابة، وهو زيد بن ثابت بن الضحاك بن لوذان الأنصاري النجاري الخزرجي، أو سعيد ويقال أو خارجة المدني كاتب الوحي، استصغر يوم بدر، قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وهو ابن أحد عشر سنة، وأول مشاهده الخندق، جمع القرآن وكتبه في عهد الصديق ونقله من المصحف في زمن عثمان، وأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتعلم كتاب يهود فتعلمه في نصف شهر فكان يكتب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كتب إليهم، وإذا كتبوا إليه قرأه. قال الشعبي: غلب زيد الناس على اثنين: الفرائض والقرآن. وقال مسروق: كان أصحاب الفتوى من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستة فسماه فيهم، وقال مسروق: قدمت المدينة فوجدت زيد بن ثابت من الراسخين في العلم. وقال أبوهريرة يوم مات زيد: مات اليوم حبر الأمة، وعسى الله أن يجعل في ابن عباس منه خلفاً. وفضائله كثيرة، له إثنان وتسعون حديثاً، اتفقا على خمسة، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بواحد. روى عنه خلق كثير، مات بالمدينة سنة (45) وقيل سنة (48) وقيل سنة (51) وقيل سنة (55) . (فحدثني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك) فصار الحديث من طريقه مرفوعاً. قال الطيبي: في سؤاله من الصحابة واحداً بعد واحد واتفاقهم في الجواب من غير تغيير ثم انتهاء الجواب إلى حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، دليل على الإجماع المستند إلى النص الجلي، فمن خالف ذلك فقد كابر الحق الصريح (رواه أحمد) في مسنده (ج5:ص182) (وأبوداود وابن ماجة) في السنة كلهم من طريق أبي سنان سعيد بن سنان عن وهب بن خالد عن ابن الديلمي، وأبوسنان هذا قال

116- (38) وعن نافع أن رجلاً أتي ابن عمر فقال: إن فلاناً يقرأ عليك السلام، فقال: إنه بلغني أنه قد أحدث، فإن كان قد أحدث فلا تقرئه مني السلام، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((يكون في أمتي أو في هذه الأمة خسف ومسخ أو قذف في أهل القدر)) ، رواه الترمذي وأبوداود وابن ماجة. ـــــــــــــــــــــــــــــ المنذري: وثقه يحيى بن معين وغيره وتكلم فيه الإمام أحمد وغيره وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه والطبراني في الكبير وغيرهما. 116- قوله: (وعن نافع) كنيته أبوعبد الله المدني، مولى ابن عمر أصابه في بعض مغازيه، ثقة ثبت فقيه من أوساط التابعين. قال المصنف: هو من المشهورين بالحديث ومن الثقات الذين يؤخذ عنهم ويجمع حديثهم ويعمل به، معظم حديث ابن عمر دائر عليه. قال مالك: كنت إذا سمعت من نافع يحدث عن ابن عمر لا أبالي أن لا أسمعه من غيره. وقال عبد الله بن عمر: لقد من الله تعالى علينا بنافع. قال البخاري: أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر. روى عنه خلائق، مات سنة (117) أو بعد ذلك. (يقرأ عليك السلام) بفتح الياء والراء وفي نسخة يقريء أي بضم الياء وكسر الراء، قال في القاموس: قرأ عليه السلام أبلغه كأقرأه ولا يقال أقرأه إلا إذا كان السلام مكتوباً. (فقال) أي ابن عمر (إنه) أي الشأن وتفسيره الخبر وهو قوله: (بلغني أنه قد أحدث) أي ابتدع في الدين ماليس منه من التكذيب بالقدر (فإن كان قد أحدث) أي ما ذكر (فلا تقرئه مني السلام) قال الطيبي: كناية عن عدم قبول السلام. قال القاري: والأظهر أن مراده أن لا تبلغه مني السلام أورده فإنه ببدعته لا يستحق جواب السلام، ولوكان من أهل الإسلام. وقال ابن حجر: لاتقرئه مني السلام؛ لأنا أمرنا بمهاجرة أهل البدع، ومن ثم قال العلماء: لا يجب رد سلام الفاسق والمبتدع بل لا يسن زجرا ً لهما، ومن ثم جاز هجرهم لذلك (يكون في أمتي أو في هذه الأمة) أي أمة الإجابة و"أو" للشك (خسف) أي ذهاب في عمق الأرض (ومسخ) وفي نسخة "أومسخ" وكذا في جامع الترمذي، أي تغير الصورة (أو قذف) أي رمى بالحجارة من جهة السماء كقول لوط، و"أو" للتنويع لا للشك (في أهل القدر) بدل بعض من قوله: "في أمتي" بإعادة الجار، وفي سنن ابن ماجة "وذلك في أهل القدر" (رواه الترمذي وأبوداود وابن ماجة) أخرجه الترمذي في القدر، وابن ماجة في الفتن كلاهما من طريق أبي عاصم عن حيوة بن شريح عن أبي صخر عن نافع بالسياق المذكور، ولم أجد الحديث في سنن أبي داود بهذا اللفظ نعم أخرج هو في السنة عن أحمد بن حنبل عن عبد الله بن يزيد عن سعيد بن أبي أيوب عن أبي صخر عن نافع قال: كان لابن عمر صديق من أهل الشام يكاتبه فكتب إليه عبد الله بن عمر بلغني أنك تكلمت في شيء من القدر، فإياك أن تكتب إلي فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إنه سيكون في أمتي أقوام

وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. ـــــــــــــــــــــــــــــ يكذبون القدر. قال المزي في الأطراف: هو في رواية ابن الأعرابي وأبي بكر بن داسة. وأخرجه أيضاً أحمد (ج2:ص90) والحاكم (ج1:ص84) بهذا اللفظ، ورواه أحمد أيضاً (ج2:ص108) بنحو الرواية المتقدمة في الفصل الثاني وفي (ج2:ص137، 136) بنحو الرواية التي نحن في شرحها (وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب) اعلم أن الغرابة لا تنافي الصحة فيجوز اجتماع الغرابة والصحة في حديث واحد من غير إشكال، وكذا لا شبهة في جواز اجتماع الغرابة والحسن كما أسلفنا، أما اجتماع الحسن والصحة فقد استشكلوه بأن الحسن قاصر عن الصحيح كما هو ظاهر من تعريفهما عند الجمهور، ففي الجمع بينهما في حديث واحد نفي ذلك القصور وإثباته. وأجيب عنه بوجوه منها: أن ذلك راجع إلى الإسناد فإذا روى الحديث بإسنادين، أحدهما إسناد حسن، والآخر صحيح استقام أن يقال فيه إنه حديث حسن صحيح، أي إنه حسن بالنسبة إلى إسناد، صحيح بالنسبة إلى إسناد آخر، وفيه أنه لا يصح في الآحاديث التي يقول فيها حسن صحيح مع أنه ليس له إلا مخرج واحد، وفي كلام الترمذي في مواضع يقول: هذا حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ومنها أن الحسن لا يشترط فيه القصور عن الصحة إلا إذا اقتصر على قوله: "حسن" فالقصور يأتيه بسبب الاقتصار على ذكره لا من حيث حقيقته وذاته، وبيانه وتوضيحه أن ههنا صفات للرواة تقتضي قبول الرواة، ولتلك الصفات درجات بعضها فوق بعض كالتيقظ والحفظ والإتقان، فإذا وجدت الدرجة العليا لم يناف ذلك وجود الدنيا كالحفظ مع الصدق فيصح أن يقال في هذا إنه حسن باعتبار وجود الصفة الدنيا وهي الصدق مثلاً، صحيح باعتبار الصفة العليا وهي الحفظ والإتقان، ويلزم على هذا أن يكون كل صحيح حسناً، ويؤيده ورود قولهم هذا حديث حسن في الأحاديث الصحيحة، وهذا موجود في كلام المتقدمين ومنها أن المراد بقول الترمذي "حديث حسن صحيح" ماشابه الصحة والحسن، فهو إذن دون الصحيح، وشرح بيانه أن الجمع بين الحسن والصحة في حديث واحد رتبة متوسطة بين الصحيح والحسن، فالمقبول ثلاث مراتب: الصحيح أعلاها، والحسن أدناها، والثالثة ما يتشرب من كل منهما، فإن كل ما فيه شبه من شيئين ولم يتمحض لأحدهما اختص برتبة مفردة، كقولهم للمز وهو ما فيه حلاوة وحموضة: هذا حلو حامض. أي مز، فعلى هذا يكون ما يقول فيه "حسن صحيح" أعلى رتبة عنده من الحسن، ويكون حكمه بالصحة المحضة أقوى من حكمه عليه بالصحة مع الحسن، وفيه أنه تحكم لا دليل عليه وهو بعيد من فهمهم معنى كلام الترمذي. وفيه أيضاً أنه يقتضي إثبات قسم ثالث، ولا قائل به فهو خرق لإجماعهم. وفيه أيضاً أنه يلزم عليه أن لا يكون في كلام الترمذي حديث صحيح إلا قليلاً لقلة اقتصاره على قوله: "هذا حديث صحيح"، مع أن الذي يعبر فيه بالصحة والحسن أكثره موجود في الصحيحين. ومنها أنه يريد الترمذي بقوله: "حسن صحيح" في هذه الصورة الخاصة الترادف، فيكون إتيانه باللفظ الثاني بعد الأول للتأكيد له كما يقال: حديث صحيح ثابت أو جيد قوي أو غير ذلك.

وفيه أن الحمل على التأسيس أولى من الحمل على التأكيد؛ لأن الأصل عدم التأكيد، لكن يندفع ذلك عند وجود القرينة الدالة على ذلك، وقد وجد في عبارة غير واحد كالدارقطني "هذا حديث صحيح ثابت"، ومنها أنه يجوز أن يريد الترمذي حقيقتهما الاصطلاحية في إسناد واحد لكن باعتبار حالين وزمانين، فيجوز أن يكون سمع هذا الحديث من رجل مرة في حال كونه مستوراً أو مشهوراً بالصدق والأمانة ثم ارتقى وارتفع حاله إلى درجة العدالة فسمعه منه مرة أخرى فأخبر بالوصفين، وقد روي عن غير واحد أنه سمع الحديث الواحد على شيخ واحد غير مرة. ومنها أنه يحتمل أن يكون الترمذي أدى اجتهاده إلى حسنه وأدى اجتهاد غيره إلى صحته أو بالعكس فهو باعتبار مذهبين. ومنها أن المراد حسن لذاته صحيح لغيره يعني أنه في أعلى درجات الحسن وأدنى درجات الصحة، ومنها أنه باعتبار صدق الوصفين على الحديث بالنسبة إلى أحوال رواته عند أئمة الحديث فإذا كان فيهم من يكون حديثه صحيحاً عند قوم وحسناً عند قوم آخرين يقال فيه ذلك، وفيه أنه لو أراد ذلك لأتى بالواو التي للجمع فيقول حسن وصحيح. وفيه أيضاً أن الترمذي إنما يحكم على الحديث بالنسبة إلى ما عنده لا بالنسبة إلى غيره. وفيه أيضاً أنه يتوقف على اعتبار الأحاديث التي جمع الترمذي فيها بين الوصفين، فإن كان في بعضها مالا اختلاف فيه عند جميعهم في صحته قدح في الجواب. ومنها أن الحديث الذي يقول فيه الترمذي "حسن صحيح" إن وقع التفرد والغرابة في سنده فهو محمول على التردد الحاصل من المجتهد في الرواة هل اجتمعت فيهم صفة الصحة أو الحسن؟ فتردد أئمة الحديث في حال ناقله اقتضى للمجتهد أن يتردد ولا يصفه بأحد الوصفين جزماً، فيقال فيه "حسن" باعتبار وصفه عند قوم "صحيح" باعتبار وصفه عند قوم، غاية ما فيه أنه حذف فيه حرف التردد، وكان حقه أن يقول: "حسن أو صحيح" وهذا كما يحذف حرف العطف من التعداد، وعلى هذا فما قيل فيه حسن صحيح دون ما قيل فيه صحيح؛ لأن الجزم أقوى من التردد. ومنها أنه يجوز أن يكون مراده أن ذلك باعتبار وصفين مختلفين وهما الإسناد والحكم، فيجوز أن يكون قوله: حسن أي باعتبار إسناده، صحيح أي باعتبار حكمه؛ لأنه من قبيل المقبول، وكل مقبول يجوز أن يطلق عليه اسم الصحة، وهذا يمشي على قول من لا يفرد الحسن من الصحيح، بل يسمي الكل صحيحا، لكن يرد عليه أن الترمذي أكثر من الحكم بذلك على الأحاديث الصحيحة الإسناد. ومنها أنه أراد حسن على طريقة من يفرق بين النوعين لقصور رتبة رواية عن درجة الصحة المصطلحة، صحيح على طريقة من لا يفرق، ويرد عليه ما أوردناه سابقاً. ومنها أنه أراد بالحسن معناه اللغوي، وهو ما تميل إليه النفس وتستحسنه ولا يأباه القلب، دون المعنى الاصطلاحي الذي نحن بصدده. وفيه أن حمل الألفاظ الاصطلاحية على معانيها المصطلحة واجب، ولا يجوز ترك الاصطلاح من غيرموجب. وفيه أيضاً أنه يلزم أن يطلق لفظ الحسن على الحديث الضعيف، ولم يقل به أحد إلى الآن. ومنها أن المراد حسن باعتبار إسناده، صحيح أي أنه أصح شيء ورد في الباب، فإنه يقال أصح ما ورد كذا، وإن كان حسناً أو ضعيفاً فالمراد أرجحه أو أقله ضعفاً. هذا تلخيص ما في قوت المغتذي حاشية جامع الترمذي في هذا المبحث.

117- (39) وعن علي قال: سألت خديجة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ولدين ماتا لها في الجاهلية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((هما في النار. قال: فلما رأى الكراهة في وجهها، قال: رأيت مكانهما لأبغضتهما. قالت: يارسول الله - صلى الله عليه وسلم - فولدي منك؟ قال: في الجنة، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن المؤمنين وأولادهم في الجنة، وإن المشركين وأولادهم في النار، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم} ـــــــــــــــــــــــــــــ 117- قوله: (سألت خديجة) هي أم المؤمنين خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشية، كانت تحت أبي هالة بن زراره ثم تزوجها عتيق بن عائذ ثم تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولها يومئذٍ من العمر أربعون سنة، وللنبي - صلى الله عليه وسلم - خمس وعشرون سنة، ولم ينكح النبي - صلى الله عليه وسلم - قبلها امرأة ولا نكح عليها حتى ماتت. وهي أول من آمن من كافة الناس من ذكرهم وأنثاهم، وقيل: هي أول من آمن من النساء. وكانت تدعى قبل البعثة "الطاهرة"، وجميع أولاده منها غير إبراهيم فإنه من مارية القبطية. وماتت بمكة قبل الهجرة بخمس سنين، وقيل: بأربع سنين وقيل: بثلاث وكان قد مضى من النبوة عشر سنين، وكان لها من العمر خمس وستون سنة، وكانت مدة مقامها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمساً وعشرين سنة، ودفنت بالحجون. ومناقبها جمة، وفضائلها كثيرة جداً، بسط ترجمتها ابن عبد البر في الاستيعاب، والحافظ في الإصابة. (عن ولدين) أي عن شأنهما وأنهما في الجنة أو النار؟ (فلما رأى) النبي - صلى الله عليه وسلم - (الكراهة) أي أثرها من الكآبة والحزن (قال) أي تسلية لها (لو رأيت مكانهما) وهو جهنم (لأبغضتهما) أي لو أبصرت منزلتهما في الحقارة والبعد من رحمة الله وعلمت بغض الله إياهما لأبغضتهما وتبرأت منهما تبرأ إبراهيم عن أبيه. (فولدي منك) المراد بأولادها منه - صلى الله عليه وسلم - القاسم وعبد الله، وقيل: الطيب والطاهر أيضاً، وقيل: هما لقبان لعبد ال، له وهو قول الأكثر (إن المؤمنين وأولادهم في الجنة) هذا لا خلاف فيه يعتد به (وإن المشركين وأولادهم في النار ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {واللذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء} [سورة الطور:22] . قوله: {والذين آمنوا} مرفوع على أنه مبتدأ والخبر الجملة من قوله: {ألحقنا بهم ذريتهم} والذي بينهما اعتراض. قال البغوي: اختلفوا في تفسير الآية، فقال قوم: معناها والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان يعني أولادهم الصغار والكبار فالكبار بإيمانهم بأنفسهم أي بأيمانهم الاستقلالي، والصغار بإيمان آبائهم، أي بإيمانهم التبعي، فإن الولد الصغير يحكم بإسلامه تبعاً لأحد الأبوين، {ألحقنا بهم ذريتهم} المؤمنين في الجنة بدرجاتهم وإن لم يبلغو بأعمالهم درجات آباءهم تكرمة لآبائهم لتقر بذلك أعينهم، وهي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقال آخرون: معناها {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم} البالغون {بإيمان ألحقنا ذريتهم} الصغار الذين

رواه أحمد. 118- (40) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لما خلق الله آدم مسح ظهره، فسقط عن ظهره كل نسمة ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يبلغوا الإيمان بإيمان آبائهم، وهو رواية العوفى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أخبر الله عزوجل أنه يجمع لعبده المؤمن ذريته في الجنة كما كان يحب في الدنيا أن يجتمعوا إليه، يدخلهم الجنة بفضله ويلحقهم بدرجته بعمل أبيه من غير أن ينقص الآباء من أعمالهم شيئاً، فذلك قوله: {وما ألتناهم} أي ما نقصناهم يعني الآباء {من عملهم من شيء} ـ انتهى. ولا ريب أن هذا الإلحاق لكرامة آبائهم ومزيد سرورهم وتكميل نعيمهم وغبطتهم في الجنة وإلا فينغص عليهم كل نعيم، وهذا المعنى مفقود في الكفار. قال القارى: وظاهر الآية أن الذين آمنوا أعم من الآباء والأمهات. ولعل أولاد خديجة في النار؛ لأنها حال موتهم لم تكن مؤمنة، فلا ينافي قول العلماء: الولد الصغير يحكم بإسلامه تبعاً لأحد الأبوين ـ انتهى. قلت: حديث على هذا بظاهره يدل على أن أولاد المشركين في النار خلافاً لمن قال إنهم من أهل الجنة، ولمن قال بالتوقف فيهم بمعنى عدم العلم أو عدم الحكم فيهم بشيء، وقد تقدم أن الراجح فيهم قول من ذهب إلى أنهم في الجنة. وأجيب عن هذا الحديث بأن المراد بأولاد المشركين فيه أولادهم الكبار وكذا أولاد خديجة، والنزاع إنما هو في الصغار دون الكبار. والظاهر أن يقال: إن حديث على هذا لا يقاوم الأحاديث الدالة على كونهم من أهل الجنة، وهى حديث سمرة بن جندب في الرؤيا عند البخاري، وحديث خنساء بنت معاوية الصريمية عن عمتها عند أحمد، وحديث أنس عند أبي يعلى، فتقدم هذه الأحاديث على حديث علي، والله أعلم. (رواه أحمد) عزوه لأحمد خطأ وإنما رواه ابنه عبد الله في زيادات مسند أبيه (ج1:ص134) . وإليه عزاه الهيثمى في مجمع الزوائد (ج7:ص217) وقال: وفيه محمد بن عثمان ولم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح. وقال الذهبي في الميزان (ج3:ص101) في ابن عثمان: لا يدرى من هو؟ فتشت عنه في أماكن، وله خبر منكر فذكر هذا الحديث. وقال الحافظ في اللسان (ج5:ص279) بعد ذكر كلام الذهبي وسياق الحديث: قلت والذي يظهر لي أنه هو الواسطى المتقدم، هذا. وقال في (ج5:ص278) بعد ذكر كلام الذهبي: محمد بن عثمان الواسطي عن ثابت البناني، قال الأزدي: ضعيف، وذكره ابن حبان في الثقات فقال: روي عنه أبوعوانة ـ انتهى. وفيه أن الراوي عنه ههنا هو محمد بن فضيل لا أبوعوانة، والمروى عنه زاذان لا ثابت البناني، فالظاهر أنه غير الواسطى، والله أعلم. وذكر الحافظ في التعجيل (ج5:ص372) في ترجمة محمد بن عثمان عن زاذان: كلام الذهبي السابق ثم قال: قال شيخنا الهيثمي: ذكره ابن حبان في الثقات وأغفله الحسينى، قلت: وذكره الأزدى في الضعفاء ـ انتهى. والحديث رواه الطبراني وأبويعلى عن خديجة كما في مجمع الزوائد (ج7:ص217، 218) وسنده منقطع. 118ـ قوله: (فسقط) أي خرج (كل نسمة) بفتح النون والسين المهملة أي ذي روح، وقيل: كل ذى نفس،

هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عين كل إنسان منهم وبيصاً من نور، ثم عرضهم على آدم، فقال: أى رب مَن هؤلاء؟ قال ذريتك، فرأى رجلاً منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه، قال: أي رب من هذا؟ قال: داود، فقال: أي رب كم جعلت عمره؟ قال: ستين سنة، قال: رب زده من عمري أربعين سنة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فلما انقضى عمر آدم إلا أربعين جاءه ملك الموت، فقال آدم: أو لم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أولم تعطها ابنك داود؟ فجحد آدم فجحدت ذريته، ونسي آدم فأكل من الشجرة فنسيت ذريته، وخطأ آدم وخطأت ذريته)) ، رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ مأخوذة من النسيم (هو خالقها من ذريته) الجملة صفة نسمة، ذكرها ليتعلق بها قوله: " إلى يوم القيامة" و"من" بيانية، وفيه دليل على أن إخراج الذرية كان حقيقياً (وبيصاً) أي بريقاً ولمعاناً (من نور) في ذكره إشارة إلى الفطرة السليمة، وفي قوله: "بين عيني كل إنسان" إيذان بأن الذرية كانت على صورة الإنسان على مقدار الذر (قال: ذريتك) أي هم ذريتك (فأعجبه) أي سره قال داود) قيل تخصيص التعجب من وبيص داود إظهار لكرامته ومدح له، فلا يلزم تفضيله على سائر الأنبياء؛ لأن المفضول قد يكون له مزية بل مزايا ليست في الفاضل، ولعل وجه الملائمة بينهم اشتراك نسبة الخلافة. (كم جعلت عمره) كم مفعول لما بعده، وقدم لما له الصدر أي كم سنة جعلت عمره (زده من عمري) أي من جملة الألف، و "من عمري" صفة "أربعين" قدمت فعادت حالاً وقوله: (أربعين سنة) مفعول ثان لقوله: "زده" كقوله تعالى: {رب زدني علما} . (إلا أربعين) أي سنة (أولم يبق من عمري) بهمزة الاستفهام الإنكاري المنصب على نفي البقاء فيقيد إثباته، وقدمت على الواو لصدارتها، والواو استئنافية لمجرد الربط بين ما قبلها وما بعدها. (أولم تعطها) أي أتقول ذلك ولم تعطها أي الأربعين (فحجه آدم) أي ذلك؛ لأنه كان في عالم الذر فلم يستحضره حالة مجئي ملك الموت له، قاله ابن حجر. وقيل: حج بحكم الجبلة التي فطر عليها الإنسان من الحرص على المال والعمر في زمان الشيب وكبر السن. (فجحدت ذريته) ؛ لأن الولد سر لأبيه (ونسى آدم) إشارة إلى أن الجحد كان نسياناً أيضاً إذ لا يجوز جحده عنادا (فأكل من الشجرة فنسيت ذريته) وفي رواية الترمذي "ونسى آدم فنسيت ذريته" أي بدون قوله: "فأكل من الشجرة" (وخطأ آدم) قال القاري: بفتح الطاء أي في اجتهاده من جهة التعيين والتخصيص، والظاهر أنه بكسر الطاء من باب سمع أي أذنب وعصى، لقوله تعالى:: {وعصى آدم ربه} [121:20] . وفي الحديث إشارة إلى أن ابن آدم مجبول من أصل خلقته على الجحد والنسيان والخطأ إلا من عصمه الله. (رواه الترمذي) في تفسير سورة الأعراف في تفسير قوله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم..} الآية [172:7] وقال: حديث حسن صحيح. وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأخرجه

119- (41) وعن أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((خلق الله آدم حين خلقه فضرب كتفه اليمنى فأخرج ذرية بيضاء كأنهم الذر، وضرب كتفه اليسرى فأخرج ذرية سوداء كأنهم الحمم، فقال للذي في يمينه: إلى الجنة ولا أبالي، وقال للذي في كتفه اليسرى: إلى النار ولا أبالي)) ، رواه أحمد. 120- (42) وعن أبي نضرة ـــــــــــــــــــــــــــــ أيضاً الحاكم في مستدركه (ج2:ص586، 585) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وابن أبي حاتم في تفسيره. هذا، وقد أخرج الترمذي حديث أبي هريرة هذا في آخر كتاب التفسير من طريق سعيد بن أبي سعيد المقبرى، وقد ذكره المصنف في الفصل الثالث من باب السلام، وبين الروايتين مخالفة ظاهرة ويأتي هناك وجه الجمع بينهما إن شاءالله تعالى. 119- قوله: (حين خلقه) قال الطيبي: ظرف لقوله: (فضرب) ولا يمنع الفاء من العمل؛ لأنه ظرف على أن الفاء السبية أيضاً غير مانعة لعمل ما بعدها في ما قبلها. وقال السيد جمال الدين: ويحتمل أن يكون ظرفاً لقوله: "خلق الله" والمقصود الإشارة إلى عدم العلم بزمان خلقه –انتهى. (ذرية بيضاء) أي نورانية (كأنهم الذر) بفتح الذال المعجمة، وهي صغار النمل، والتشبيه في الهيئة، وقيل: أي الأبيض بدليل مقابلة الآتي (كأنهم الحمم) بضم الحاء جمع حممة، وهي الفحم (فقال للذي في يمينه) أي في جهة يمين آدم من ذرية المؤمنين بعد إخراجهم من كتفه اليمنى، وقال ابن حجر: أي الذي في كتفه اليمنى بدليل "في كتفه اليسرى" الآتي فيكون باعتبار ما كان –انتهى. والمعنى يعني قال تعالى لآدم لأجل الذي في يمينه وعن قبلهم وفي حقهم. و"الذي" صفة لفريق، نحو قوله تعالى: {كالذي خاضوا) (إلى الجنة) خبر مبتدأ محذوف أي هؤلاء أصيرهم أو أوصلهم إلى الجنة، (ولا أبالي) حال من الضمير المستكن في الخبر، أي والحال أني لا أبالي بأحد، كيف وأنا الفعال لما يريد، والخلق كلهم لي عبيد، فتصرفت فيهم كيف شئت. (وقال للذي في كتفه اليسرى) كذا في أكثر النسخ، وهذا باعتبار ما كان، وفي أصل السيد جمال الدين "كفه اليسرى" أي بفتح الكاف وتشديد الفاء، وكذا وقع في مسند أحمد (ج6:ص441) والظاهر أن ضمير "يمينه" و"كفه" إلى آدم، والمراد جهتاه، ونسخة "كتفه" صريحة في هذا المعنى، والحديث دليل على سبق القضاء على وفق علمه الأزلي، فإن القضاء نتيجة علمه تعالى. (رواه أحمد) (ج6:ص441) . وأخرجه أيضاً البزار والطبراني، قال الهيثمي (ج7:ص185) : ورجاله رجال الصحيح. قال الشيخ الألباني بعد ذكره: إن عني رجالاً غير رجال أحمد فقد يكونون كما ذكر، وإلا فرجاله ليسوا رجال الصحيح بل هم ثقات فقط-انتهى. فتأمل. 120- قوله: (وعن أبي نضرة) بنون ومعجمة ساكنة، اسمه المنذر بن مالك بن قطعة العبدي العوقي البصري،

أن رجلاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقال له أبوعبد الله، دخل عليه أصحابه يعودونه وهو يبكي، فقالوا له: ما يبكيك؟ ألم يقل لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خذ من شاربك ثم أقره حتى تلقاني؟ قال: بلى، ولكن سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الله عزوجل فبض بيمينه قبضة، وأخرى باليد الأخرى، وقال: هذه لهذه، وهذه لهذه، ولا أبالي. ولا أدري في أي القبضتين أنا؟)) رواه أحمد. ـــــــــــــــــــــــــــــ مشهور بكنيته، ثقة من أوساط التابعين، مات سنة (108) أو (109) . (أن رجلا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقال له أبوعبد الله) جهالة الصحابي لا تضر في الخبر حيث كلهم عدول، قال النووي في التقريب: الصحابة كلهم عدول من لابس الفتن وغيرهم بإجماع من يعتد به –انتهى. وارجع إلى التدريب (204) والمراد بالعدالة في قولهم "الصحابة كلهم عدول" هو التجنب عن تعمد الكذب في الرواية وانحراف فيها بارتكاب ما يوجب عدم قبولها، كما صرح بذلك الشاه عبد العزيز الدهلوي في بعض إفادته. قال السخاوي في فتح المغيث: قال ابن الأنباري: ليس المراد بعدالتهم ثبوت العصمة لهم واستحالة المعصية منهم، وإنما المراد قبول رواياتهم من غير تكلف البحث عن أسباب العدالة وطلب التزكية إلا أن يثبت ارتكاب قادح، ولم يثبت ذلك 0انتهى. وارجع إلى ظفر الأماني في مختصر الجرجاني (ص312، 311) (يعودونه) من العبادة (وهو يبكي) جملة حالية (ألم يقل لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خذ من شاربك) أي بعضه يعني قصه (ثم أقره) بفتح الهمزة وكسر القاف وتشديد الراء، أي دم عليه (حتى تلقاني) أي على الحوض أو غيره، قال القاري: و "حتى" تحتمل الغاية والعلة. قال الطيبي: الهمزة للإنكار، دخلت على النفي فأفادت التقرير والتعجب أي كيف تبكي؟ وقد تقرر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعدك بأنك تلقاه لا محالة، ومن لقيه راضياً عنه مثلك لا خوف عليه قال: بلى) أي أخبرني بذلك (قبض) أي بعض الذرية (بيمينه قبضة) أي واحدة (وأخرى) أي وقبض قبضة أخرى لبعض الذرية (باليد الأخرى) لم يقل بيساره أدباً، ولذا ورد في حديث آخر: وكلتا يديه يمين (وقال هذه) أي القبضة التي قبضها باليمين يعني من فيها أو هذه المقبوضة. (لهذه) أي للجنة (وهذه لهذه) أي للنار (ولا أبالي) أي في الحالتين (ولا أدري في أي القبضتين أنا) حاصل الجواب أني أخاف من عدم الاحتفال والاكتراث في قوله: "ولا أبالي"، كذا قاله الطيبي. يعني غلب علي الخوف بالنظر إلى عظمته وجلاله بحيث منعني من النظر والتأمل في رحمته وجماله، فإنه تعالى لذاته وعدم مبالاته، له أن يفعل ما يريد، ولا يجب عليه شيء للعبيد، وأيضاً لغلبة الخوف قد ينسى البشارة والرجاء بها مع أن البشارة مقيدة بالثبات والدوام والإقامة على طريق السنة والاستقامة، وهو أمر دقيق وبالخوف حقيق. قال الطيبي: وفي الحديث إشارة إلى أن قص الشارب من السنن المؤكدة، والمداومة عليه موصلة إلى قرب دار النعيم في جوار سيد المرسلين، فيعلم أن من ترك سنة أي سنة، فقد حرم خيراً كثيراً فكيف المواظبة على ترك سائرها. (رواه أحمد) (ج4:ص176، 177)

121- (43) وعن ابن عباس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان يعني عرفة، فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قبلاً قال: {ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا. أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل، وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون} ـــــــــــــــــــــــــــــ و (ج5:ص68) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج7:ص186) : رجاله رجال الصحيح. وفي معني الحديث عن عبد الرحمن بن قتادة السلمى عند أحمد والحاكم، وعن أنس عند أبي يعلى، وعن أبي موسى وأبي سعيد وابن عمر ومعاذ بن جبل وآخرين، ذكرهم أحاديثهم الهيثمي في مجمع الزوائد مع الكلام عليها. 121- قوله: (أخذ الله الميثاق) يعني العهد أي أراد أخذه بدليل قوله: "فأخرج"، (بنعمان) كسلمان موضع بقرب عرفة بين مكة والطائف، قال الراوي (يعني عرفة) أي بقرب عرفة وبجوارها. (ذرأها) أي خلقها إلى يوم القيامة (فنثرهم) أي بثهم وفرقهم ونشرهم (بين يديه) أي قدام آدم (كالذر) أي مشبهين بالنمل في صغر الصورة. (ثم كلمهم قبلاً) بضمتين وهو حال، أي كلمهم عيانا ومقابلة لا من وراء حجاب ولا أن يأمر أحداً من ملائكته (قال) استئناف بيان، وقيل بدل "من كلمهم". (ألست بربكم قالوا بلى) أنت ربنا، والصحيح أن جوابهم بقول "بلى" كان بالنطق وهم أحياء، عقلاء. (شهدنا) هذا من تتمة المقول، أي شهدنا على أنفسنا بذلك وأقررنا بوحدانيتك. (أن تقولوا) أي فعلنا ذلك كراهة أن تقولوا أي احتجاجا أو لئلا تقولوا (يوم القيامة) ظرف "أن تقولوا" (إنا كنا عن هذا) أي الميثاق أو الإقرار بالربوبية (غافلين) أي جاهلين لا نعرفه ولا نبهنا عليه. (إنما أشرك آباؤنا من قبل) أي من قبل ظهورنا ووجودنا أو من قبل إشراكنا (وكنا ذرية من بعدهم) أي فاقتدينا بهم، فاللوم عليهم لا علينا (أفتهلكنا) أي أتعلم ذلك فتعذبنا (بما فعل المبطلون) من آبائنا بتأسيس الشرك، والمعنى لا يمكنهم الاحتجاج بذلك مع إشهادهم على أنفسهم بالتوحيد والتذكير به على لسان صاحب المعجزة قائم مقام ذكره في النفوس. هذا، وقد تقدم في شرح حديث عمر في الفصل الثاني أن المعتزلة قالوا: لا يجوز تفسير هذه الآية بحديث عمر. وفي معناه حديث ابن عباس هذا، قال التوربشتي: لايحتمل حديث ابن عباس من التأويل ما يحتمله حديث عمر، ولا أرى المعتزلة يقابلون هذه الحجة إلا بقولهم: حديث ابن عباس هذا من الآحاد فلا نترك به ظاهر الكتاب. وإنما هربوا من القول في معنى الآية بما يقتضيه ظاهر الحديث، لمكان قوله: أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. فقالوا إن كان هذا الإقرار عن اضطرار حيث كوشفوا بحقيقة الأمر وشاهدوه عين اليقين فلهم يوم القيامة أن يقولوا شهدنا يومئذٍ فلما زال عنا علمنا بالضرورة ووكلنا إلى آرائنا كان منا من أصاب ومنا من أخطأ، وإن كان عن استدلال ولكنهم عصموا عنده من الخطأ فلهم أن يقولوا أيدنا يوم الإقرار بالتوفيق والعصمة، وحرمناهما

رواه أحمد. 122- (44) وعن أبي كعب في قول الله عزوجل: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم} قال: جمعهم فجعلهم أزواجاً ثم صورهم فاستنطقهم فتكلموا، ـــــــــــــــــــــــــــــ من بعد، ولو مددنا بهما لكانت شهادتنا في كل حين كشهادتنا في اليوم الأول. فقد تبين أن الميثاق ما ركز الله فيهم من العقول وآتاهم وأباءهم من البصائر؛ لأنها هي الحجة الباقية المانعة لهم أن يقولوا إناكنا عن هذا غافلين.؛ لأن الله تعالى جعل هذا الإقرار حجة عليهم في الإشراك كما جعل بعث الرسل حجة عليهم في الإيمان بما أخبروا به من الغيوب. قال الطيبي: وخلاصة ما قالوه أنه يلزم أن يكونوا محتجين يوم القيامة بأنه زال عنا علم الضرورة ووكلنا إلى آرائنا، فيقال لهم: كذبتهم بل أرسلنا رسلنا تترى يوقظونكم من سنة الغفلة. وأما قولهم حرمنا من التوفيق والعصمة من بعد ذلك، فجوابه: أن هذا مشترك الإلزام إذلهم أن يقولوا لا منفعة لنا في العقول والبصائر حيث حرمنا عن التوفيق والعصمة، والحق أن تحمل الأحاديث الواردة على ظواهرها ولا يقدم على الطعن فيها بأنها آحاد لمخالفتها لمعتقد أحد، ومن أقدم على هذا فقد خالف طريقة السلف الصالحين؛ لأنهم كانوا يثبتون خبر واحد عن واحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويجعلونه سنة – انتهى. وقال القطب الشيرازي ما حاصله: أن الله سبحانه وتعالى كان له ميثاقان مع بني آدم، أحدهما تهتدي إليه العقول من نصب الأدلة الباعثة على الاعتراف الحالي. وثانيهما المقالى الذي لا يهتدي إليه العقل بل يتوقف على توقيف واقف على أحوال العباد من الأزل إلى الأبد كالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعلم الأمة ويخبرهم عن أن وراء الميثاق الذي يهتدون إليه بعقولهم ميثاقاً آخر أزلياً، فقال ما قال من مسح ظهر آدم عليه السلام في الأزل وإخراج الذرية من ظهره ليعرف منه أن هذا النسل الذي يخرج فيما لا يزال من أصلاب بني آدم الذر الذي أخرج في الأزل من صلب آدم، وأخذ منه الميثاق المقالي الأزلي كما أخذ منهم ما لا يزال بالتدريج حين أخرجوا الميثاق الحالي اللايزالي –انتهى. (رواه أحمد) (ج1:ص272) . وقال الهيثمي (ج7:ص189) : رجاله رجال الصحيح. وأخرجه أيضاً النسائي في كتاب التفسير من سننه الكبرى، وابن جرير، والحاكم وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه – انتهى. وقد روي هذا الحديث موقوفاً على ابن عباس، قال ابن كثير: وهذا أي كونه موقوفاً على ابن عباس أكثر وأثبت – انتهى. لكنه في حكم المرفوع؛ لأنه لا مسرح للاجتهاد فيه ولا مجال، فإنه لا سبيل إليه إلا السماع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويؤيده حديث عبد الله بن عمرو عند ابن جرير، وحديث أبي أمامة عند الطبراني وابن مردويه، وأثر أبي بن كعب الآتي بعده. 122- قوله: (في قول الله عزوجل) أي في تفسير قوله تعالى: (قال) أي أبي (جمعهم) أي الله بعد أن أخرجهم (أزواجاً) أي ذكوراً وإناثاً أو أصنافاً وهو الأظهر، وفسر الأصناف بقوله الآتي: فرأى الغني والفقير (ثم صورهم) أي على صورهم التي يكونون عليها بعد (فاستنطقهم) أي خلق فيهم العقل وطلب منهم النطق (فتكلموا)

ثم أخذ عليهم العهد والميثاق وأشهدهم على أنفسهم، ألست بربكم؟ قالوا بلى، قال: فإني أشهد عليكم السموات السبع والأرضين السبع، وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة لم نعلم بهذا، إعلموا أنه لا إله غيري ولا رب غيري، ولا تشركوا بي شيئاً، إني سأرسل إليكم رسلي يذكرونكم عهدي وميثاقي، وأنزل عليكم كتبي، قالوا شهدنا بأنك ربنا وإلهنا، لا رب لنا غيرك، ولا إله لنا غيرك. فأقروا بذلك، ورفع عليهم آدم - عليه السلام - ينظر إليهم، فرأى الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك، فقال: رب لولا سويت بين عبادك؟ قال: إني أحببت أن أشكر. ورأى الأنبياء فيهم مثل السرج عليهم النور، خصوا بميثاق آخر في الرسالة والنبوة، ـــــــــــــــــــــــــــــ سيأتي. (أشهدهم على أنفسهم) أي على ذواتهم أو قال لهم أشهدوا على أنفسكم (ألست بربكم) إما استئناف بيان وإما التقدير: أشهدهم بقوله: ألست بربكم. أي استشهدهم بهذا (قالوا بلى) أي شهدنا (فإني أشهد عليكم السموات السبع والأرضين السبع) أي زيادة على شهادتكم على أنفسكم (أن تقولوا) أي لئلا تقولوا (إعلموا) أي تحققوا الآن قبل مجيء ذلك الزمان وتبين الأمر بالعيان (إني) بكسر الهمزة استئناف أي إني مع هذا البيان (وأنزل عليكم كتبي) بواسطة رسلي فيها تبيان كل شيء مما يتعلق بعهدي وميثاقي (فأقروا بذلك) أي بجميع ما ذكر (ورفع) بالبناء للمجهول (عليهم) أي أشرف عليهم من مقام عال (ينظر إليهم) حال أو مفعول له بتقدير أن (فرأى) أي آدم منهم (الغني) صورة ومعنى باعتبار الآثار اللائحة (والفقير) يداً وقلباً. (وحسن الصورة) الظاهرة والباطنة (ودون ذلك) أي في الحسن أو غير ما ذكر (للولا سويت) أي لم ما سويت؟ (بين عبادك) والقصد به أن يبين له حكمته (إني أحببت أن أشكر) بصيغة المجهول، قال ابن حجر المكي: إن الغني يرى عظيم نعمة الغنى، والفقير يرى عظيم نعمة المعافاة من كدر الدنيا ونكدها وتعبها الذي لا حاصل له غير طول الحساب وترادف المحن وتوالي العذاب، وحسن الصورة يرى ما منحه من ذلك الجمال الظاهر الدال على الجمال الباطن غالباً، وغيره يرى أن عدم الجمال أدفع للفتنة وأسلم من المحنة، فكل هؤلاء يرون مزيد تلك النعم عليهم فيشكرون عليها، ولو تساووا في وصف واحد لم يتيقظوا لذلك. (ورأى) أي آدم (الأنبياء فيهم) أي حال كونهم مندرجين في جملتهم (مثل السرج) بضمتين جمع سراج بكسر المهملة (عليهم النور) أي يغلب عليهم النور كأنه بيان لوجه شبههم بالسرج (خصوا) بصيغة المجهول (بميثاق آخر) بعدما دخلوا في ميثاق العوام للاهتمام التام بمرامهم عليهم الصلاة والسلام، فقوله:" خصوا "إستئناف أو صفة للأنبياء (في الرسالة والنبوة) أي في شأنهما والقيام بحقهما بماشاءالله أو بما

وهو قوله: تبارك وتعالى: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم} إلى قوله: {عيسى بن مريم} كان في تلك الأرواح فأرسله إلى مريم - عليها السلام -، فحدث عن أبي أنه دخل من فيها)) ، رواه أحمد. 123- (45) وعن أبي الدرداء قال: بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نتذاكر ما يكون، إذ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا سمعتم بجبل زال عن مكانه فصدقوه، وإذا سمعتم برجل تغير عن خلقه فلا تصدقوا به، فإنه يصير إلى ما جبل عليه)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ (وهو قوله: تبارك وتعالى) أي هذا الميثاق هو المراد بقوله: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم} الآية من أوائل سورة الأحزاب، قال قتادة: أخذ الله الميثاق على النبيين خصوصاً على أن يصدق بعضهم بعضاً ويتبع بعضهم بعضاً وأن ينصحوا لقومهم وأن يعبدوا الله ويدعوا الناس إلى عبادته وإلى الدين القيم، وأن يبلغوا رسالات ربهم، وذلك حين أخرجوا من صلب آدم كالذر - انتهى. ومثل هذه الآية قوله تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدقاً لما معكم لتؤمنون به ولتنصرنه ... } الآية [81:3] . (كان) أي عيسى (في تلك الأرواح) أي أرواح الذرية (فأرسله) أي روحه، وهو يذكر ويؤنث أي مع جبريل (فحدث) بصيغة المجهول أي روى (أنه) أي الروح (دخل من فيها) أي من فمها إلى جوفها ثم رحمها. (رواه أحمد) كلا، بل رواه ابنه عبد الله في زوائد مسند أبيه (ج5:ص135) . قال الهيثمي (ج7:ص25) بعد ذكر الحديث: رواه عبد الله بن أحمد عن شيخه محمد بن يعقوب الربالي وهو مستور وبقية رجاله رجال الصحيح - انتهى. وأخرجه أيضاً ابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه في تفاسيرهم، وهو وإن كان موقوفاً على أبي بن كعب من قوله:، لكنه مرفوع حكما فإنه لا سبيل إليه إلاالسماع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والله أعلم. 123- قوله: (نتذاكر) أيمع بعضنا بحضرته وهو يسمع (مايكون) ما موصولة أي الذي يحدث من الحوادث أهو شيء مقضي مفروغ منه. فتوجد تلك الحوادث على طبقه أو شيء يوجد أنفاً من غير سبق قضاء. (زال عن مكانه) أي الذي هو فيه وانتقل إلى غيره (فصدقوه) أي لإمكانه، وفي المسند "فصدقوا" أي بغير الضمير المنصوب قال العزيزي: أي اعتقدوا أن ذلك غير خارج عن دائرة الإمكان (تغير عن خلقه) بضم اللام وتسكن، أي خلقه، الأصلي بالكلي (فلا تصدقوا به) أي بالخبر عنه بذلك فإنه غير ممكن عادة (فإنه) أي الرجل، والمراد به الجنس (يصير) في كل ما يريد أن يفعله (إلى ما جبل عليه) من الأخلاق يعني الأمر على ما قدر وسبق حتى العجز والكيس، فإذا سمعتم بأن الكيس صار بليداً أو بالعكس فلا تصدقوا به. ضرب زوال الجبل مثلاً تقريب. فإن هذا ممكن، وزوال الخلق المقدر عما كان في القدر غير ممكن. وقال المناوي: يعني وإن فرط منه على الندور خلاف ما يقتضيه طبعه فما هو

رواه أحمد. 124- (4) وعن أم سلمة، قالت: ((يارسول الله لا يزال يصيبك في كل عام وجع من الشاة المسمومة التي أكلت. قال: ما أصابني شيء منها إلا وهو مكتوب علي وآدم في طينته)) ، رواه ابن ماجة. ـــــــــــــــــــــــــــــ إلا كطيف منام أو برق لمع، وما دام فكما لا يقدر الإنسان أن يصير سواد الشعر بياضاً فكذا لا يقدر على تغير طبعه، أي الذي خلق عليه. وقدر له في الأزل. وقال القاري: التبديل الأصلي الذاتي غير ممكن كما أشار إليه الحديث، وأما التبديل الوصفي أي تبديل الأخلاق عن مقتضى العادة وتعديلها على سنن الاستقامة والعبادة فهو ممكن، بل العبد مأمور به ويسمى تهذيب النفس وتحسن الأخلاق. قال الله تعالى: {قد أفلح من زكاها} وفي الحديث: حسنوا أخلاقكم. وارجع إلى فيض القدير (ج1:ص381) للمناوي، وإلى الإحياء للغزالي، فإنه قد استوفى الكلام في ذلك (رواه أحمد (ج6:ص443) من رواية الزهري أن أبا الدرداء قال: بينما ... الخ. قال الهيثمي (ج7:ص196) : رجاله رجال الصحيح، إلا أن الزهري لم يدرك أبا الدرداء –انتهى. وقال السخاوي: حديث منقطع. وكان مقتضى دأب المصنف أن يقول: روى الأحاديث الخمسة أحمد. 124- قوله: (وعن أم سلمة) بفتح اللام، هي أم المؤمنين هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشية المخزومية، تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أبي سلمة بن عبد الله سنة أربع، وقيل: ثلاث، وعاشت بعد ذلك ستين سنة، وماتت سنة (62) وقيل سنة (61) وقيل: قبل ذلك، والأول أصح، ودفنت بالبقيع، قيل: وكان عمرها (84) سنة. قال الذهبي: هي آخر أمهات المؤمنين وفاة، لها ثلاث مائة وثمانية وسبعون حديثاً، اتفقا على ثلاثة عشر، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بمثلها، روى عنه خلق كثير من الصحابة والتابعين. (يصيبك) أي يحصل لك (وجع) فتح الجيم أي ألم (من الشاة) أي من أجل أثر الشاة (المسمومة التي أكلت) في خيبر (ما أصابني شيء منها) أي من تلك الشاة، أو من تلك الأكلة (ألا وهو) أي ذلك الشيء من الألم (وآدم في طينته) أي ما تم خلقه، وهو كناية عن تقدم التقدير الأزلي، وإلا فالتقدير سابق على وجود طينة آدم، قال الطيبي: هذا مثل للتقدير السابق لا تعيين، فإن كون آدم في طينته أيضاً مقدر قبله – انتهى. والطينة القطعة من الطين والخلقة والجبلة. وقضية الشاة تأتي في باب المعجزات إن شاءالله تعالى. (رواه ابن ماجه) في باب السحر من آخر أبواب الطب، وفي سنده أبوبكر العنسي وهو ضعيف.

(4) باب إثبات عذاب القبر

(4) باب إثبات عذاب القبر {الفصل الأول} (باب إثبات عذاب القبر) قال في اللمعات: المراد بالقبر هنا عالم البرزخ، قال تعالى: {ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون} [100:23] وهو عالم بين الدنيا والآخرة له تعلق بكل منهما، وليس المراد به الحفرة التي يدفن فيها الميت، فرب ميت لا يدفن كالغريق، والحريق، والمأكول في بطن الحيوانات، يعذب، وينعم، ويسأل، وإنما خص العذاب بالذكر للاهتمام، ولأن العذاب أكثر لكثرة الكفار والعصاة -انتهى. قلت: حاصل ما قيل في بيان المراد من البرزخ أنه اسم لأنقطاع الحياة في هذا العالم المشهود، أي دار الدنيا، وابتداء حياة أخرى، فيبدأ شيء من العذاب أو النعيم بعد إنقطاع الحياة الدنيوية، فهو أول دار الجزاء، ثم توفى كل نفس ما كسبت يوم القيامة عند دخولها في جهنم أو الجنة، وإنما أضيف عذاب البرزخ ونعيمه إلى القبر لكون معظمه يقع فيه، ولكون الغالب على الموتى أن يقبروا، وإلا فالكافر ومن شاء الله عذابه من العصاة يعذب بعد موته ولو لم يدفن، ولكن ذلك محجوب عن الخلق إلا من شاءالله. وقيل: لا حاجة إلى التأويل فإن القبر اسم للمكان الذي يكون في الميت من الأرض، ولا شك أن محل الإنسان ومسكنه بعد انقطاع الحياة الدنيوية هي الأرض كما أنها كانت مسكناً له في حياته قبل موته، قال تعالى {ألم نجعل الأرض كفاتاً، أحياء وأمواتاً} [77: 25، 26] أي ضامة للأحياء والأموات، تجمعهم وتضمهم وتحوزهم، فلا محل للميت إلا الأرض، سواء كان غريقاً أو حريقاً أو مأكولاً في بطن الحيوانات من السباع على الأرض، والطيور في الهواء، والحيتان في البحر، فإن الغريق يرسب في الماء فيسقط إلى أسفله من الأرض، أو الجبل إن كان تحته جبل، وكذا الحريق بعد ما يصير رماداً لا يستقر إلا على الأرض سواء أذرى في البر أو البحر، وكذا المأكول، فإن الحيوانات التي تأكله لا تذهب بعد موتها إلا إلى الأرض، فتصير تراباً. والحاصل أن الأرض محل جميع الأجسام السفلية ومقرها لا ملجأ لها إلا إليها فهي كفات لها. واعلم أنه قد تظاهرت الدلائل من الكتاب والسنة على ثبوت عذاب القبر، وأجمع عليه أهل السنة، ولا مانع في العقل أن يعيد الله الحياة في جزء من الجسد أو في جميعه على الخلاف المعروف فيثيبه ويعذبه، وإذا لم يمنعه العقل، وورد به الشرع وجب قبوله واعتقاده، ولا يمنع من ذلك كون الميت قد تفرقت أجزاءه كما يشاهد في العادة، أو أكلته السباع، والطيور، وحيتان البحر، كما أن الله تعالى يعيده للحشر وهو قادر على ذلك، فلا يستبعد تعلق روح الشخص الواحد في آن واحد بكل واحد من أجزائه المتفرقة في المشارق والمغارب، فإن تعلقه ليس على سبيل الحلول حتى يمنعه الحلول في جزء من الحلول في غيره، فلا استحالة في تعذيب ذرات الجسم في محالها، كيف وقد ثبت بالعقل والنقل الشعور في الجمادات؟ قال في مصابيح الجامع: وقد كثرت الأحاديث في عذاب القبر حتى قال غير واحد: إنها متواترة لا يصح عليها التواطئ وإن لم يصح مثلها لم يصح شيء من أمر الدين. قال أبوعثمان الحداد: وليس في قوله تعالى: {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى} [56:44] ما يعارض ما ثبت من عذاب القبر؛ لأن الله تعالى أخبر بحياة الشهداء قبل يوم القيامة، وليست مرادة

125- (1) عن البراء بن عازب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((المسلم إذا سئل في القبر، يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، فذلك قوله: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} ـــــــــــــــــــــــــــــ بقوله تعالى: {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى} فكذا حياة المقبور قبل الحشر. قال ابن المنير: وأشكل ما في القضية أنه إذا ثبت حياتهم لزم أن يثبت موتهم بعد هذه الحياة ليجتمع الخلق كلهم في الموت عند قوله تعالى: {لمن الملك اليوم} [16:40] ويلزم تعدد الموت، وقد قال {لايذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى} الآية. والجواب الواضح عندي أن معنى قوله: {لايذوقون فيها الموت} أي ألم الموت، فيكون الموت الذي يعقب الحياة الأخروية بعد الموت الأول لا يذاق ألمه البتة، ويجوز ذلك في حكم التقدير بلا إشكال، وما وضعت العرب اسم الموت إلا للمؤلم على ما فهموه، لا باعتبار كونه ضد الحياة، فعلى هذا يخلق الله لتلك الحياة الثانية ضداً يعدمها به، لا يسمى ذلك الضد موتا وإن كان للحياة ضد، جمعاً بين الأدلة العقلية والنقلية واللغوية –انتهى. وقد ادعى قوم من الملاحدة، والزنادقة، والخوارج، وبعض المعتزلة عدم ذكر عذاب القبر في القرآن، وزعموا أنه لم يرد ذكره إلا من أخبار الآحاد. وهو مردودو عليهم، قد بسط الكلام في الرد عليهم الإمام الحافظ ابن القيم في كتاب الروح، فعليك أن تطالعه، فإنه كتاب جليل القدر، ماصنف مثله في معناه، يشتمل على جملة من المسائل، تتضمن الكلام على أرواح الأموات والأحياء. 125- قوله: (عن البراء) بموحدة مفتوحة وخفة راء ومد (بن عازب) بن الحارث بن عدى الأنصاري الأوسي، كنيته أبوعمارة المدني الصحابي ابن الصحابي، نزل الكوفة، استصغر يوم بدر، وكان هو وابن عمر لدة. أول مشاهده أحد، وقيل: الخندق. غزا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - خمس عشرة عزوة، وافتتح الري سنة (24) وشهد مع علي ابن أبي طالب الجمل وصفين ونهروان. مات بالكوفة سنة (72) له ثلاثمائة حديث وخمسة أحاديث، اتفقا على اثنين وعشرين، وانفرد البخاري بخمسة عشر، ومسلم بستة، روى عنه خلق. (قال المسلم) وفي رواية: المؤمن، والمراد به الجنس، فيشمل المذكر والمؤنث، أو يعرف حكمها بالتبعية (إذا سئل في القبر) التخصيص للعادة، أوكل موضع فيه مقره فهو قبره، والمسئول عنه محذوف، أي عن ربه، ونبيه، ودينه، لما ثبت في الأحاديث الأخر (يشهد أن لاإله إلا الله، وأن محمداً رسول الله) أي يجيب بأن لا رب إلا الله، ولا إله سواه، وبأن نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، ويلزم منه أن دينه الإسلام (فذلك) أي فمصداق ذلك الحكم (قوله) أي تعالى (بالقول الثابت) أي الذي ثبت بالحجة عندهم، وهي كلمة التوحيد، وثبوتها تمكنها في القلب، واعتقاد حقيقتها، واطمئنان القلب بها. قيل: الباء للسببية متعلقة بيثبت، وكذا (في الحياة الدنيا) أي قبل الموت، بأن لا يزالوا عنه إذا فتنوا في دينهم، ولم يرتابوا بالشبهات، وإن ألقوا في النار، كما ثبت الذين فتنتهم أصحاب الأخدود، والذين نشروا بالمناشير. (وفي الآخرة) أي في القبر بتلقين الجواب والتمكين على

وفي رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت} نزلت في عذاب القبر، يقال له: من ربك؟ فيقول: ربي الله ونبي محمد)) . متفق عليه. 126- (2) وعن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن العبد إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان فيقعدانه، فيقولان: ما كنت تقول ـــــــــــــــــــــــــــــ الصواب عند سؤال الملكين بعد إعادة أرواحهم في أجسادهم، وإنما حصل لهم الثبات في القبر بسبب مواظبتهم في الدنيا على هذا القول، وقيل: في الحياة الدنيا أي في القبر عند السؤال، وفي الآخرة أي عند البعث إذا سئلوا عن معتقدهم في الموقف، فلا يتلعثمون ولا تدهشهم أهوال القيامة، والأول أظهر. (قال: يثبت الله) مبتدأ أي آية يثبت الله {الذين آمنوا بالقول الثابت} أي إلى قوله: {ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء} [27:14] (نزلت في عذاب القبر) أي في السؤال في القبر، ولما كان السؤال يكون سبباً للعذاب في الجملة ولو في حق بعض عبر عنه باسم العذاب. قال الكرماني: ليس في الآية ذكر عذاب القبر أي للمؤمن، فلعله سمى أحوال العبد في قبره عذاب القبر تغليباً لفتنة الكافر على فتنة المؤمن لأجل التخويف؛ ولأن القبر مقام الهول والوحشة، ولأن ملاقاة الملائكة مما يهاب منه ابن آدم في العادة –انتهى. قال القاري: وفيه أن المراد إثبات عذاب القبر مجملاً، غايته أن عذاب المؤمن الفاسق مسكوت عنه كما هو دأب القرآن في الاقتصار على حكم الفريقين، وهذا المقدار من الدليل حجة على المخالف إذ لا قائل بالفصل – انتهى. ويدل على عذاب القبر للكافر بل لكل من ظلم نفسه آخر الآية، وهو قوله: {ويضل الله الظالمين} أي يضلهم عنه ولا يلقنهم إياه، فلا يقدرون على التكلم به في قبورهم، ولا عند الحساب، ويقولون: لا أدري، {ويفعل الله ما يشاء} من تثبيت بعض وإضلال آخرين، ولا اعتراض عليه. (يقال له) أي لصاحب القبر (ونبي محمد) زاد في الجواب تبجحاً، أو"ومن نبيك"؟ مقدر في السؤال، أو لأن السؤال عن التوحيد يستلزمه إذ لم يعتد به دونه. وفي المصابيح: نزلت في عذاب القبر إذا قيل له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ يقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبي محمد. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجنائر، وفي التفسير، ومسلم في صفة النار، ولفظ الرواية الأولى للبخاري في التفسير، ولفظ الرواية الثانية لمسلم. وأخرجه أيضاً أحمد في مسنده، والترمذي في التفسير، وأبوداود في السنة، والنسائي في الجنائر، وفي التفسير. وابن ماجه في الزهد، ولحديث البراء هذا شواهد تدل على أن هذه الآية نزلت في عذاب القبر، ذكرها ابن كثير في تفسيره، والمنذري في ترغيبه، والهيثمي في مجمع الزوائد. 126- قوله: (إن العبد) المراد به الجنس (إذا وضع) شرط وجوابه "أتاه" والجملة خبر إن (وتولى) أي أدبر (عنه) أي عن قبره (إنه) حال بحذف الواو، وقيل: إنه جواب الشرط على حذف الفاء، فيكون "أتاه" حالاً من فاعل يسمع، وقد مقدرة، ويحتمل أن يكون "إذا" ظرفاً محضاً، وقوله: "إنه" تأكيد لقوله: (إن العبد ليسمع قرع نعالهم) زاد

في هذا الرجل؟ لمحمد. فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله. فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار، قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة، فيراهما جميعاً. وأما المنافق والكافر ـــــــــــــــــــــــــــــ مسلم: (إذا انصرفوا) . "والقرع" بفتح القاف وسكون الراء، و"النعال" بكسر النون، جمع نعل أي يسمع صوت دقها، وفيه دلالة على حياة الميت في القبر؛ لأن الإحساس بدون الحياة ممتنع عادة. وفيه دليل على جواز المشي بالنعال في القبور لكونه - صلى الله عليه وسلم - قاله وأقره، فلو كان ًمكروهاً لبينه، لكن يعكر عليه احتمال أن يكون المراد سماعه إياها بعد أن يجاوزوا المقبرة. قال الشوكاني: سماع الميت خفق النعال لا يستلزم المشي على قبر أو بين القبور –انتهى. وأيضاً يجوز أنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر ذلك على عادات الناس، فلا يلزم من هذه الحكاية من غير إنكار تقرير مشيهم بها. ويدل على الكراهة حديث الأمر بإلقاء السبتيتين للماشي بين القبور عند أبي داود والنسائي وابن ماجة، لكن يحتمل أن أمره بالخلع كان لقذر بهما كما قال الطحاوي، أو لاختياله في مشيه كما قال الخطابي، لا لكون المشي بين القبور بالنعال مكروهاً، ولا يتم الاستدلال به على الكراهة إلا إذا قيل: إن الأمر بالخلق كان احتراماً للمقابر. ومال النسائي إلى الجمع بين الحديثين بحمل حديث أنس هذا على غير السبتيتين، والكراهة إنما هي في النعال السبتية واختاره ابن حزم. قلت: حديث أنس يدل بإطلاقه على جواز المشي بين القبور في النعال السبتيتين وغيرها لعدم الفارق بينها وبين غيرها، واحتمال كون المراد سماعه إياها بعد مجاوزتهم المقبرة بعد جداً، وكذا حمله على عادات الناس أيضاً بعيد خلاف الظاهر، وأما حديث السبتيتين فلا يتم الاستدلال به إلا على بعض الوجوه كما تقدم، وأيضاً حديث أنس أرجح منه فيقدم عليه، وأيضاً هو قضية شخصية معينة تحتمل الخصوص وغير ذلك. (في هذا الرجل) أي في شأنه، واللام للعهد الذهني (لمحمد) بيان من الراوي للرجل، أي لأجل محمد - صلى الله عليه وسلم -. قال الطيبي: دعاؤه بالرجل من كلام الملك، فعبر بهذه العبارة التي ليس فيها تعظيم امتحاناً للمسئول، لئلا يتلقن تعظيمه عن عبارة القائل، ثم يثبت الله الذين آمنوا – انتهى. ولا يلزم من الإشارة ما قيل من رفع الحجب بين الميت وبينه - صلى الله عليه وسلم - حتى يراه، ويسئل عنه؛ لأن مثل ذلك لا يثبت بالاحتمال، على أنه مقام امتحان، وعدم رؤية شخصه الكريم أقوى في الامتحان، ولا ما تفوه به بعض الجهلة من أنه - صلى الله عليه وسلم - يحضر الميت في قبره بجسده وروحه؛ لأن الإشارة بهذا للحاضر في الذهن كما في تنوير الحوالك للسيوطي، فإن الإشارة كما تكون للحاضر في الخارج كذلك تكون للحاضر في الذهن أيضاً، ويدل على بطلان القولين، وعلى كون الإشارة ههنا إلى الموجود الحاضر في الذهن رواية أحمد، والطبراني بلفظ: ((ما تقول في هذا الرجل؟ قال: من؟ قال محمد. فيقول ... )) الخ. فإنه لو كشف - صلى الله عليه وسلم - للميت، أو حضره في القبر لما احتاج إلى السؤال بقوله: "من" فتأمل (فأما المؤمن فيقول) أي في جوابه لهما مع اعترافه بالتوحيد كما في حديث البراء وغيره (فيقال له) أي على لسان الملكين (انظر إلى مقعدك من النار) لو لم تكن مؤمناً ولم تجب الملكين (قد أبدلك الله به) أي بمقعدك هذا (فيراهما) أي المقعدين (جميعاً) ليزداد فرحه (وأما المنافق والكافر)

فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس ـــــــــــــــــــــــــــــ بواو العطف، وهي رواية البخاري في باب عذاب القبر من الجنائز، ووقع عنه في باب خفق النعال في هذا الحديث: وأما الكافر أو المنافق، بالشك، واختلفوا في أن السؤال في القبر هل هو عام في حق المسلمين والمنافقين والكفار، أو يختص بالمسلم والمنافق؟ فقيل: يختص بمن يدعى الإيمان إن كان محقاً أو مبطلاً، مال إليه ابن عبد البر والسيوطي، ولا دليل لهما على هذا القول، لا من كتاب الله ولا من سنة صحيحة. والحق أن الكافر غير المنافق أيضاً يسئل في القبر، لما ورد في ذلك من الأحاديث المرفوعة الصحيحة الكثيرة الطرق، ذكرها الحافظ في الفتح في باب عذاب القبر، وبه جزم الترمذي الحكيم والقرطبي، ورواية الكتاب صريحة في ذلك حيث جمع بين المنافق والكافر بواو العطف، والأصل في العطف المغايرة، فيدل على أن كلاً من المنافق والكافر الذي لم ينطق بالكلمة وقد بلغته الدعوة يسئل، ويؤيده قوله: {ويضل الله الظالمين} حيث ذكر الظالمين في مقابلة "الذي آمنوا" والظالم يعم الكافر والمنافق، وتخصيص الكافر شامل للمنافق وغيره بأهل الشك من أهل القبلة لا موجب له. وأما الرواية الأخرى أي بلفظ "وأما الكافر أو المنافق" فلا تنافي رواية الواو؛ لأن الترديد إما للشك أو لمنع الخلو، فإن كان الأول فالمحفوظ إما "الكافر" فهو صريح في المقصود، أو "المنافق" فلا دلالة في الحديث على الانحصار فيه، إذ غايته إفراد المنافق بالذكر، وهو لا ينافي أن يسئل غيره من الكفار، وإن كان الثاني جاز الجمع بينهما بالسؤال تحقيقاً لمنع الخلو، وعلى التقديرين لا منافاة بين الروايتين، وأما رواية أسماء بلفظ: "أما المنافق أو المرتاب" فلا دليل فيها على حمل الكافر على المنافق، إذ ليس فيها إلا الترديد بين المنافق والمرتاب، فإن قلنا: إن الترديد للشك، وإن المنافق والمرتاب متساويان لغة، فغايته أن يكون كرواية الترمذي في إفراد المنافق بالذكر، ولا دليل في ذلك على انحصار السؤال فيه لما مر. وإن قلنا بأن المرتاب أعم لجواز أن من بلغته دعوة الإسلام ولم ينطق بالكلمة لا يكون جازماً بالتكذيب. وإن قلنا: إن الترديد لمنع الخلو فالأمر واضح، إذ غاية ما فيه الترديد بين المنافق وبين الكافر المرتاب، وقد تبين أن إفراد المنافق بالذكر لا يدل على انحصار السؤال فيه فكيف إذا ذكر معه بعض الكفار؟ كذا حققه بعض العلماء في شرحه على العقائد، وقال الإمام ابن القيم في كتاب الروح بعد ذكر قول ابن عبد البر ما لفظه: والقرآن والسنة تدل على خلاف هذا القول أن السؤال للكافر والمسلم، قال تعالى: {ويثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء} وقد ثبت في الصحيح أنها نزلت في عذاب القبر، ثم ذكر حديث أنس هذا وغيره من الأحاديث الدالة على عموم السؤال لكل أحد مسلماً كان أو منافقاً أو كافراً خالصاً، وقال الحافظ: الأحاديث الناصة على أن الكافر يسئل مرفوعة، مع كثرة طرقها الصحيحة، فهي أولى بالقبول – انتهى. والحكمة في سؤال الكافر في القبر إظهار شرف النبي - صلى الله عليه وسلم -، وخصوصيته، ومزيته على سائر الأنبياء، فإن سؤال القبر إنما جعل تعظيماً له وخصوصية شرف بأن الميت يسأل عنه في قبره، وارجع للتفصيل إلى كتاب الروح. (لا أدري) أي حقيقة أنه نبي أم لا (كنت أقول) أي في الدنيا (ما يقول الناس)

فيقال له: لا دريت ولا تليت، ويضرب بمطارق من حديد ضربة، فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين)) . متفق عليه. ولفظه للبخاري. 127- (3) وعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، ـــــــــــــــــــــــــــــ أي المسلمون، يجيب بذلك المنافق والكافر كلاهما، أما المنافق فلأنه كان يقول في الدنيا الشهادتين تقيه من غير اعتقاد، وأما الكافر فيقول ذلك في القبر كذباً، ودفعاً لعذاب القبر عن نفسه (لادريت) أي لا علمت ما هو الحق والصواب (ولا تليت) أصله تلوت - بالواو، والمحدثون إنما يروونه بالياء للازدواج، أي لا علمت بالنظر والاستدلال العقلي، ولا قرأت القرآن لتعلمه منه بالدليل النقلي، ويؤيده ما في حديث البراء في الفصل الثاني. وقيل: معناه ولا اتبعت من يدري. (ويضرب بمطارق) من الطرق - وهو الضرب، والمطرقة آلة الضرب (ضربة) أي بين أذنيه، أفرد الضربة مع جمع المطارق للإشارة إلى أنها تجتمع عليه في وقت واحد فصارت كالضربة الواحدة صورة. (يسمعها) أي تلك الصيحة (من يليه) من الدواب والملائكة، وعبر بمن تغليباً للملائكة لشرفهم، ولا يذهب فيه إلى المفهوم من أن من بعد لا يسمع، لما في حديث البراء الآتي في الفصل الثاني من أنه يسمعها ما بين المشرق والمغرب، والمفهوم لا يعارض المنطوق. (غير الثقلين) أي الجن والإنس، ونصب "غير" على الاستثناء، وقيل: بالرفع على البدلية، واستثنيا لأنهما بمعزل عن سماع ذلك لئلا يفوت الإيمان بالغيب، وقيل: لو سمعوه لأعرضوا عن التدابير والصنائع ونحوهما، فينقطع المعاش، ويختل نظام العالم، قال ابن القيم: فإذا شاءالله سبحانه أن يطلع على ذلك بعض عبيده أطلعه، وغيبه عن غيره، إذ لو اطلع العباد كلهم لزالت كلمة التكليف والإيمان بالغيب، ولما تدافن الناس كما في الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم -: ((لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع)) . ولما كانت هذه الحكمة المنتفية في حق البهائم سمعت ذلك وأردكته، كما حادت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغلته، وكادت تلقيه لما مر بمن يعذب في قبره. (متفق عليه) أي على أصل الحديث أو أكثر، وإلا فرواية مسلم انتهت إلى قوله: فيراهما جميعاً (ولفظه للبخاري) في باب عذاب القبر من الجنائر، وأخرجه أيضاً أبوداود، والنسائي، وعبد بن حميد. 127- قوله: (عرض عليه) بأن تعاد الروح إلى بدنه ليدرك ذلك وتصح مخاطبته، وهل العرض مرة واحدة بالغداة ومرة أخرى بالعشي فقط، أوكل غداة وكل عشي؟ والأول موافق لحديث أنس المتقدم، وللأحاديث الواردة في سياق المسألة، والله أعلم. ويكون عرض المقعدين على كل واحد من المؤمن المخلص والكافر والمؤمن المخلط؛ لأنه يدخل الجنة في الجملة، فيرى مقعده في الجنة، فيقال له: هذا مقعدك وستصير إليه بعد مجازاتك بالعقوبة على ما تستحق (مقعده) أي أظهر له مكانه الخاص من الجنة أو النار. (بالغداة والعشي) أي طرفي النهار، أو المراد الدوام، قاله

إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة)) متفق عليه. 128- (4) وعن عائشة - رضي الله عنه -: ((أن يهودية دخلت عليها، فذكرت عذاب القبر، فقالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر، فسألت عائشة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عذاب القبر. فقال: نعم عذاب القبر حق. ـــــــــــــــــــــــــــــ القاري. وقيل: أي وقتهما يعني أول النهار وآخره بالنسبة إلى أهل الدنيا، وإلا فالموتى لا صباح عندهم ولا مساء. (إن كان) أي الميت (فمن أهل الجنة) أي فالمعروض عليه من مقاعد أهل الجنة، فحذف المبتدأ والمضاف المجرور، وأقيم المضاف إليه مقامه، أو فمقعد من مقاعد أهل الجنة يعرض عليه، وهذا أكثر حذفاً (فيقال) أي لكل واحد منهما (هذا) أي المقعد المعروض عليك (مقعدك حتى يبعثك الله إليه) الضمير يرجع إلى المقعد المعروض، أي المقعد المعروض مقعدك بعد، ولا تدخله الآن ولا تصل إليه حتى يبعثك الله إليه. وقيل: حتى غاية للعرض أي يعرض عليك إلى البعث، ويحتمل أن يكون الإشارة إلى القبر، والضمير في "إليه" يرجع إلى المقعد المعروض. والمعنى القبر مقعدك إلى أن يبعثك الله إلى المقعد المعروض، ويجوز أن يرجع الضمير إلى الله، أي لقاء الله، أو إلى يوم الحشر، أي هذا الآن مقعدك إلى يوم الحشر فترى عند ذلك هواناً أو كرامة تنسى عنده هذا المقعد، وفي عرض المقعد تنعيم للمؤمن وتعذيب للكافر والمنافق، ففيه إثبات عذاب القبر، وأن الروح لا تفنى بفناء الجسد؛ لأن العرض لا يقع إلا على حي (متفق عليه) . وأخرجه أيضاً مالك، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، وأبوداود دون قوله: "فيقال" إلى آخره. 128- قوله: (فقالت) أي اليهودية، وهو يحتمل أن يكون تفسيراً أو تفريعاً. (أعاذك الله) أي حفظك وأجارك (عن عذاب القبر) أي أحق هو؟ (نعم عذاب القبر حق) أي ثابت ومتحقق وكائن وصدق. فيه أنه أقر اليهودية على أن عذاب القبر حق، وهذا مخالف لما في رواية لمسلم: إنما تفتن يهود. ولما في رواية لأحمد بإسناد على شرط البخاري: كذبت يهود لا عذاب دون يوم القيامة. والجمع بين هذه الروايات أنه أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - قول اليهودية أولاً أي قبل أن ينزل شيء عليه في عذاب القبر، ثم أعلم بذلك في آخر الأمر فأقرها وأمر الناس بالتعوذ كما في رواية أحمد التي أشرنا إليها: ((ثم مكث بعد ذلك ما شاءالله أن يمكث، فخر ذات يوم نصف النهار وهو ينادي بأعلى صوته: أيها الناس استعيذوا بالله من عذاب القبر فإن عذاب القبر حق)) . ويوضح ذلك ما في رواية لمسلم: ((إنما يفتن يهود فلبثنا ليالي، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل شعرت أنه أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور؟ قالت عائشة: فسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستعيذ من عذاب القبر)) . وقال الحافظ: وقد استشكل ذلك أي ما تقدم من أنه أعلم بحكم عذاب القبر إذ هو بالمدينة في آخر الأمر

قالت عائشة: فما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد صلى صلاة إلا تعوذ بالله من عذاب القبر)) . متفق عليه. 129- (5) وعن زيد بن ثابت قال: ((بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حائط لبنى النجار على بغلة له ونحن معه، إذ حادت به فكادت تلقيه. وإذ أقبر ستة أو خمسة، فقال: من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟ قال رجل: أنا. قال: فمتى ماتوا؟ قال: في الشرك. فقال: إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا ـــــــــــــــــــــــــــــ بأن الآية المقدمة مكية، وهي قوله تعالى: {يثبت الله الذين آمنو} وكذا قوله تعالى: {النار يعرضون عليها غدواً وعشياً} [46:40] ، والجواب أن عذاب القبر إنما يؤخذ من الأولى بطريق المفهوم في حق من لم يتصف بالإيمان، وبالمنطوق في حق الظالمين أي الكافرين، وكذلك بالمنطوق في الأخرى في حق آل فرعون، وأن التحق بهم من كان له حكمهم من الكفار، فالذي أنكره النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هو وقوع عذاب القبر على الموحدين. ثم أعلم - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك قد يقع على من يشاء الله منهم فجزم به، وحذر منه، وبالغ في الاستعاذة منه تعليماً لأمته وإرشاداً، فانتفى التعارض – انتهى. (بعد) مبني على الضم أي بعد سؤالي ذلك (إلا تعوذ بالله من عذاب القبر) داخل الصلاة وخارجها. قال القاري: والأول أظهر، ومن ثم أوجب ذلك بعض العلماء. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجنائر، ومسلم في الصلاة، وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي. 129- قوله: (في حائط) متعلق بخبر محذوف أي كائن في بستان (على بغلة له) حال من المستتر في الخبر. (ونحن معه) حال متداخله؛ لأنه حال من الضمير في الحال (إذ حادت) بالحاء المهملة، أي مالت ونفرت؛ لأنها سمعت صوت المعذبين في القبور، فقد ثبت أن البهائم تسمع أصوات المعذبين في القبر، كما في حديث أبي سعيد عند أحمد: ((يسمعه كل دابة إلا الثقلين)) ، وفي حديث أم مبشر عند أحمد أيضاً: ((يسمعه البهائم)) ، وفي حديث ابن مسعود عند الطبراني في الكبير: ((إن البهائم تسمع أصواتهم)) . (به) أي متلبسة به فـ"به" حال و"إذ" بسكون الذال للمفاجأة بعد بينا. (وإذ أقبر) بفتح فسكون فضم، وإذا بالألف للمفاجأة، والواو للحال، أي نحن على ذلك مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإذا أقبر، أي ظهرت لنا قبور معدودة فاجأناها. (قال) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا كنت تعرفهم (فمتى ماتوا) أي في الجاهلية أو بعدها، مشركين أو مؤمنين؟ (قال) أي الرجل (في الشرك) أي في زمنه، أو صفته (إن هذه الأمة) أي جنس الإنسان، فهذه إشارة لما في الذهن، وخبره بيان له، كهذا أخوك. وأصل الأمة كل جماعة يجمعهم أمر واحد، إما دين، أو زمان، أو مكان. (تبتلى) بصيغة المجهول، أي تمتحن ثم تنعم أو تعذب (فلولا أن لا تدافنوا) بحذف إحدى التائيين، أي تتدافنوا، أي لو سمعتم ذلك تركتم التدافن من خوف الفضيحة في القرائب لئلا يطلع على أحوالهم. وقال ابن حجر:

{الفصل الثاني}

لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه. ثم أقبل علينا بوجهه فقال: تعوذوا بالله من عذاب النار. قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار. قال: تعوذوا بالله من عذاب القبر. قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر. قال: تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. قال: تعوذوا بالله من فتنة الدجال. قالوا: نعوذ بالله من فتنة الدجال)) رواه مسلم. {الفصل الثاني} 130- (6) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قبر الميت أتاه ملكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما: المنكر، ـــــــــــــــــــــــــــــ وجه هذا التلازم أن الكشف عن ذلك العذاب يؤدي جهلة العامة إلى ترك التدافن خوفاً عليهم منه، ويؤدي الخاصة إلى اختلاط عقولهم، وانخلاع قلوبهم من تصور ذلك الهول العظيم، فلا يقربون جيفة ميت، أي لفقدان العقول، وانخلاغ القلوب. وبهذا التفصيل الذي ذكرته يندفع ما قيل: كيف يليق بمؤمن أن يترك الدفن المأمور به حذراً من عذاب القبر؟ بل يلزمه أن يعتقد أن الله إذا أراد تعذيب أحد عذبه ولو في بطن الحيتان وحواصل الطيور – انتهى. (أن يسمعكم) من الإسماع مفعول ثان على تضمين سألته. (من عذاب القبر) من تبعيضية أو زائدة (الذي أسمع منه) أي الذي أسمعه من القبر. وقيل: أي مثل الذي أسمعه، مفعول ثان ليسمع (من عذاب النار) قدم عذاب النار في الذكر مع أن عذاب القبر مقدم في الوجود؛ لكونه أشد وأبقى وأعظم وأقوى. (من الفتن) جمع فتنة وهي الامتحان، وتستعمل في المكر والبلاء وهو تعميم بعد تخصيص (ما ظهر منها وما بطن) بدل من الفتن، وهو عبارة عن شمولها؛ لأن الفتنة لا تخلو منهما، أي ما جهر وما أسر. وقيل: ما يجري على ظاهر الإنسان وما يكون في القلب من الشرك، والرياء والحسد، وغير ذلك من مذموماًت الخواطر التي تجر إلى عذاب القبر، أو إلى عذاب النار (من فتنة الدجال) خص فإنه أكبر الفتن حيث يجر إلى الكفر المفضي إلى العذاب المخلد. (رواه مسلم) في صفة النار، وأخرجه أيضاً أحمد. 130- قوله: (إذا قبر الميت) أي دفن وهو قيد غالبي، وإلا فالسؤال يشمل الأموات جميعها (أزرقان) أعينهما. زاد الطبراني: أعينهما مثل قدور النحاس، وأنيابهما مثل صياصي البقر، وأصواتهما مثل الرعد. ونحوه لعبد الرزاق من مرسل عمرو بن دينار، وزاد: يحفران بأنيابهما، ويطأان في أشعارهما، معهما مرزبة لو اجتمع أهل منى لم يقلوها. وإنما يبعثهما الله على هذه الصفة لما في هذه الأوصاف من الهول والوحشة، ويكون خوفهما على الكفار أشد فيتحيروا في الجواب، وأما المؤمنون فلهم في ذلك ابتلاء فيثبتهم الله. (المنكر) مفعول من أنكر بمعنى نكر إذا لم يعرف أحداً.

وللآخر النكير، فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: هو عبد الله ورسوله، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول هذا، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً في سبعين، ثم ينور له فيه، ثم يقال له: نم. فيقول: أرجع إلى أهلي فأخبرهم. فيقولان: نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك. وإن كان منافقاً قال: سمعت الناس يقولون قولاً فقلت مثله، لا أدري. فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول ذلك، فيقال للأرض: التئمي عليه، فتلتئم عليه، فتختلف أضلاعه، ـــــــــــــــــــــــــــــ (النكير) فعيل بمعنى مفعول من نكر بالكسر إذا لم يعرفه أحد، فكلاهما ضد المعروف، سميا بهما؛ لأن الميت لم يعرفهما، ولم ير صورة مثل صورتهما. قال بعض الفقهاء: إن اسم السائلين للمذنب منكر ونكير، واسم السائلين للمطيع مبشر وبشير. (فيقولان قد كنا نعلم أنك تقول هذا) أي الإقرار بالوحدانية والرسالة، وعلمهما بذلك إما بإخبار الله إياهما بذلك، أو بمشاهدتهما في جنبيه أثر السعادة، وشعار نور الإيمان والعبادة، كما يدل عليه رواية ابن حبان: فإذا كان مؤمناً كانت الصلاة عند رأسه، والزكاة عن يمينه، والصوم عن شماله، وفعل المعروف من قبل رجليه، فيقال له: اجلس فيجلس – الحديث. (يفسح) مجهول مخفف، وقيل: مشدد أي يوسع. (ذراعاً) أي بذراع الدنيا المعروف عند المخاطبين. قال الطيبي: أصله يفسح قبره مقدار سبعين ذراعاً، فجعل القبر ظرفاً للسبعين وأسند الفعل إلى السبعين مبالغة. (في سبعين) أي في عرض سبعين ذراعاً، يعني طوله وعرضه كذلك. قيل: المراد به الكثرة، ولذا ورد في بعض الروايات "مد بصره" ويمكن أن يختلف باختلاف الأشخاص في الأعمال. (ثم ينور له فيه) أي في قبره، وفي رواية ابن حبان: وينور له كالقمر ليلة البدر. (فيقول) أي الميت (أرجع) أي أريد الرجوع كذا قيل. والأظهر أن الاستفهام مقدر، (فأخبرهم) أي بأن حالي طيب ليفرحوا بذلك. (كنومة العروس) بفتح العين، وهو يطلق على الذكر والأنثى في أول اجتماعهما، وقد يقال للذكر، العريس. (الذي لا يوقظه) صفة العروس (إلا أحب أهله إليه) وهو الزواج. قال المظهر: عبارة عن عزته وتعظيمه عند أهله يأتيه غداة ليلة زفافه من هو أحب وأعطف فيوقظه على الرفق واللطف. (حتى يبعثه الله) ليس هذا من مقول الملكين بل من كلامه - صلى الله عليه وسلم -، و"حتى" متعلق بمحذوف أي ينام طيب العيش حتى يبعثه الله. وقيل: يحتمل أن يتعلق حتى بنم على سبيل الالتفات من الخطاب إلى الغيبة (يقولون قولاً) هو أن محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فقلت مثله) أي مثل قولهم (لا أدري) أي أنه نبي في الحقيقة أم لا. وهو استئناف، وقيل: في محل النصب على الحال. (فيقال للأرض) أي أرض القبر (التئمي) أي انضمي واجتمعي، يعني ضيقي عليه، وهو على حقيقة الخطاب الا أنه تخيل لتعذيبه وعصره. (فتختلف أضلاعه) بفتح الهمزة جمع ضلع وهو عظم الجنب، أي تزول عن الهيئة المستوية التي كانت عليها من شدة التئامها عليه، وشدة

فلا يزال فيها معذباً حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك)) . رواه الترمذي. 131- (7) وعن البراء بن عازب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله. فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام. فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فيقولان له: وما يدريك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت. فذلك قوله: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت} الآية. قال: فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، فيفتح. قال: فيأتيه من روحه وطيبها، ويفسح له فيها مد بصره. وأما الكافر فذكر موته قال: ويعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. فيقولان له: ما دينك؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ الضغطة، وانعصار أعضائه، وتجاوز جنبيه من كل جنب إلى جنب آخر (فلا يزال فيها) أي في الأرض، أو في تلك الحالة (رواه الترمذي) وقال: حسن غريب، وأخرجه ابن حبان في صحيحه، والطبراني في الأوسط باختلاف في اللفظ. 131- قوله: (يأتيه) أي المؤمن (ما هذا الرجل) أي ما وصف هذا الرجل أرسول هو أو ما اعتقادك فيه؟ أو "ما" بمعنى "من" (وما يدريك) أي أي شيء أعلمك وأخبرك بما تقول من الربوبية والإسلام والرسالة؟ (كتاب الله) أي القرآن (فآمنت به) أي بالقرآن أو بالنبي أنه حق (وصدقت) أي وصدقته بما قال، أو صدقت بما في القرآن فوجدت فيه آيات دالة على أن ربي ورب المخلوقات واحد وهو الله، وأن لا دين مرضياً عند الله غير الإسلام وأن محمداً رسول الله (فذلك) أي جريان لسانه بالجواب المذكور هو التثبيت الذي تضمنه قوله تعالى: {يثبت الله} [27:14] إلخ (أن صدق) "أن" مفسرة للنداء؛ لأنه في معنى القول (فأفرشوه) بهمزة القطع أي أبسطوا له فراشاً (وألبسوه) بهمزة القطع أي أعطوه لباساً (من الجنة) أي من حللها (وافتحوا له باباً) أي حقيقة (فيفتح) قال الشيخ الألباني: لم أجد هذه اللفظة في المسند، وأبي داود، وإن كان السياق يدل عليها (من روحها) أي بعض روحهاو "الروح" بالفتح الراحة ونسيم الريح والمراد شيء منها، ولم يؤت بهذا التعبير إلا ليفيد أنه مما لا يقادر قدره، ولا يوصف كنهه. وقيل: "من" زائدة على مذهب الأخفش. (ويفسح له فيها) أي في تربته وهي قبره (مد بصره) المعنى أنه يرفع عنه الحجاب فيرى ما يمكنه أن يراه. قيل نصب "مد" على الظرف أي مداه وهي الغاية التي ينتهي إليها البصر. قال القاري: والأصوب أن نصبه على المصدر، أي فسحاً قدر مد بصره (فذكر موته) أي حال موت الكافر وشدته (هاه هاه) بسكون الهاء فيهما بعد الألف، كلمة يقولها المتحير الذي لايقدر من حيرته للخوف أو لعدم الفصاحة أن يستعمل لسانه في فيه (لا أدرى) هذا كأنه بيان وتفسير

فيقول: هاه هاه لا أدري. فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. فينادي مناد من السماء أن كذب فأفرشوه من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، قال: فيأتيه من حرها وسمومها. قال: ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ثم يقيض له أعمى أصم معه مرزبة من حديد لو ضرب بها جبل لصار تراباً، فيضربه بها ضربة يسمعها ما بين المشرق والمغرب إلا الثقلين، فيصير تراباً ثم يعاد فيه الروح)) . رواه أحمد وأبوداود. 132- (8) وعن عثمان أنه كان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي، ـــــــــــــــــــــــــــــ لقوله: هاه هاه، فالمعنى لا أدري شيئاً ما، أولا أدري ما أجيب به (ما هذا الرجل) يعني ما تقول في حقه أنبي أم لا؟ (أن كذب) أي هذا الكافر في قوله: لا أدري؛ لأن دين الله تعالى ونبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - كان ظاهراً في مشارق الأرض ومغاربها، بل جحد نبوته بالقول أو بالاعتقاد بناءً على أن كفره جهل أو عناد، قاله القاري (من حرها) أي من حر النار وهو تأثيرها (وسمومها) فتح السين، وهي الريح الحارة (ثم يقيض) أي يسلط ويوكل (أعمى) أي زبانية لا عين له كيلا يرحم عليه، وهو يحتمل أن يكون لا عين له لأجله، أو كناية عن عدم نظره إليه (أصم) أي لا يسمع صوت بكائه واستغاثته فيرق له (مرزبة) بكسر الميم، قال القاري: المسموع في الحديث تشديد الباء، وأهل اللغة يخففونها، وهي المطرقة الكبيرة التي تكون للحداد. وقال في القاموس: الإرزبة والمرزبة مشددتان، أو الأولى فقط، عصية من حديد (فيضربه بها) أي بالمرزبة (يسمعها) أي صوتها وحسها (ثم يعاد فيه الروح) قال ابن حجر: معلوم استمرار العذاب عليه في قبره فيحتمل أنها إذا أعيدت تضرب أخرى فيصير تراباً، ثم يعاد فيه الروح، وهكذا، ويحتمل أن تلك الإعادة لا تتكرر، وأن عذابه يكون بغير ذلك، وهو ظاهر الحديث، وقال ابن الملك: يعني لا ينقطع عنه العذاب بموته، بل تعاد فيه الروح بعد موته ليزداد عذاباً. والحديث نص في أن الكافر غير المنافق أيضاً يسئل في القبر، خلافا لابن عبد البر، والسيوطي، ومن وافقهما. (رواه أحمد وأبوداود) في السنة، وأخرجه أيضاً النسائي، وابن ماجة مختصراً. والبيهقي، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد. والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين. قال المنذري في الترغيب بعد ذكر الحديث من رواية الإمام أحمد: هذا حديث حسن، رواته محتج بهم في الصحيح، وهو مشهور بالمنهال بن عمرو عن زاذان عن البراء، كذا قال أبوموسى الأصبهاني. والمنهال وثقة ابن معين والعجلى، روى له البخاري حديثاً واحداً، ولزاذان في كتاب مسلم حديثان. 132- قوله: (على قبر) أي على رأس قبر، أو عنده (حتى يبل) بضم الباء الموحدة، أي بكاءه يعني دموعه (لحيته) بالنصب على المفعولية، أي يجعلها مبلولة من الدموع (فلا تبكي) أي من خوف النار، واشتياق الجنة

وتبكي من هذا؟ فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن القبر أول منزل من منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه. قال: وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما رأيت منظراً قط إلا والقبر أفظع منه)) . رواه الترمذي، وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث غريب. 133- (9) وعنه قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه، فقال: استغفروا لأخيكم ثم سلوا له بالتثبيت، ـــــــــــــــــــــــــــــ (وتبكي من هذا) أي من القبر، أي من أجل خوفه، قيل: إنما كان يبكي عثمان وإن كان من جملة المشهود لهم بالجنة؛ لأنه لا يلزم من التبشير بالجنة عدم عذاب القبر، بل ولا عدم عذاب النار مطلقاً مع احتمال أن يكون التبشير مقيداً بقيد معلوم أو مبهم، ويمكن أن ينسى البشارة حينئذٍ لشدة الفظاعة، ويمكن أن يكون خوفاً من ضغطة القبر كما يدل عليه حديث سعد الدال على أنه لم يخلص منه كل سعيد إلا الأنبياء، ذكره القاري. (إن القبر أول منزل) أي فهو أقرب شيء إلى الإنسان، وأيضاً شدته أمارة للشدائد كلها. (من منازل الآخرة) ومنها عرصة القيامة عند العرض، ومنها الوقوف عند الميزان، ومنها المرور على الصراط، ومنها الجنة أو النار. (فإن نجا منه) أي من عذاب القبر (فما بعده) أي من المنازل (أيسر منه) أي أسهل وأهون؛ لأنه يفسح للناجي من عذاب القبر في قبره مد بصره، وينور له، ويفرش له من بسط الجنة، ويلبس من حللها، ويفتح له باب إلى الجنة فيأتيه من روحها وطيبها، وكل هذه الأمور مقدمة لتيسير بقية منازل الآخرة. (وإن لم ينج منه) أي لم يخلص من عذاب القبر، ولم يكفر ذنوبه، وبقي عليه شيء مما يستحق العذاب به (فما بعده أشد منه) ؛ لأن النار أشد العذاب، فما يحصل للميت في القبر عنوان ما سيصير إليه. (قال) أي عثمان (وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما رأيت) أي في الدنيا (منظراً) أي موضعاً ينظر إليه (إلا والقبر أفظع منه) من فظع بالضم ككرم، أي أشد وأشنع وأنكر من ذلك المنظر. قيل: المستثنى جملة حالية من منظر، وهو موصوف حذفت صفته، أي ما رأيت منظراً فظيعاً على حالة من أحوال الفظاعة قط إلا في حالة كون القبر أقبح منه، فالاستثناء مفرغ. قال السندهي: وحيث خص بمنظر الدنيا اندفع ما يتوهم أن هذا ينافي قوله: فما بعده أشد منه. على أنه يمكن الجواب إذا عمم بأنه أفظع من جهة الوحشة والوحدة، وغيره أشد عذاباً منه، فلا إشكال (رواه الترمذي) في أوائل الزهد (وابن ماجه) في الزهد (وقال الترمذي: هذا حديث غريب) وفي نسخ الترمذي الموجودة عندنا "حديث حسن غريب"، قال المنذري في الترغيب: زاد رزين فيه مما لم أره شيء من نسخ الترمذي. قال الهانئي (مولى عثمان راوي الحديث عنه) : وسمعت عثمان ينشد على قبر: فإن نتج منها نج من ذي عظيمة وإلا فإني لا إخالك ناجياً والحديث أخرجه الحاكم أيضاً وقال: صحيح الإسناد. 133- قوله: (وقف عليه) أي وقف هو وأصحابه عند قبره (استغفروا لأخيكم) أي في الإسلام (ثم سلوا له بالتثبيت)

فإنه الآن يسئل)) . رواه أبوداود. 134- (10) وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليسلط على الكافر في قبره تسعة وتسعون تنيناً، تنهسه وتلدغه حتى تقوم الساعة، لو أن تنيناً منها نفخ في الأرض ما أنبتت خضراً)) . رواه الدارمي، وروى الترمذي نحوه، وقال: سبعون بدل تسعة وتسعون. ـــــــــــــــــــــــــــــ أي اطلبوا له منه أن يثبت لسانه وجنانه لجواب الملكين. وعدى بالباء؛ لأنه ضمن السؤال معنى الدعاء، أي ادعوا له بدعاء التثبيت، يعني قولوا: ثبته الله بالقول الثابت، أو اللهم ثبته بالقول الثابت. وهو كلمة الشهادة عند منكر ونكير (فإنه الآن يسئل) أي يسأله الملكان منكر ونكير، فهو أحوج إلى الدعاء. وفي الحديث دليل على مشروعية الاستغفار للميت عند الفراغ من دفنه، وسؤال التثبيت له، وأن دعاء الأحياء ينفع الأموات، وليس فيه دلالة على التلقين عند الدفن كما هو المعتاد في الشافعية، وليس فيه حديث مرفوع صحيح، وأما ما روي في ذلك من حديث أبي أمامة فهو ضعيف لا يقوم به حجة، عزاه الهيثمي للطبراني، وقال: فيه جماعة لم أعرفهم. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لقنوا موتاكم لا إله إلا الله)) ، فالمراد عند الموت لا عند دفن المبت. (رواه أبوداود) في الجنائز وسكت عليه هو والمنذري، وقال العزيزي: إسناده حسن. وأخرجه أيضاً الحاكم، وقال: صحيح. وأقره الدهبي. 134- قوله: (تسعة وتسعون) الوقوف على فائدة تخصيص العدد إنما يحصل بالوحي، ويتلقى من قبل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا مجال فيه للعقل (تنيناً) بكسر التاء والنون المشددة، وهي حية عظيمة كثيرة السم، وهذا محمول على الحقيقة، واستحالة ذلك بطريق العقول سبيل من لا خلاق له في الدين، عصمنا الله من عثرة العقل، وفتنة الصدر. (تنهسه) بفتح السين المهملة (وتلدغه) بفتح الدال كلاهما من باب فتح. قيل: النهس واللدغ بمعنى واحد جمع بينهما تأكيداً (لو أن تنيناً منها نفخ في الأرض) أي لو وصل ريح فمه وحرارته إلى الأرض (ما أنبتت) الأرض (خضراً) بفتح الخاء وكسر الضاد، أي نباتاً أخضر (رواه الدارمي) أي بهذا اللفظ في الرقاق من طريق دراج أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري، وأخرجه أيضاً أحمد، وأبويعلى، والطبراني في الكبير، وعبد بن حميد، وابن حبان في صحيحه، وسعيد بن منصور في سننه. (وروى الترمذي نحوه) أي بالمعنى من حديث طويل في صفة القيامة من أبواب الزهد، وقال: غريب. قال المنذري: رواه الترمذي والبيهقي كلاهما من طريق عبيد الله بن الوليد الوصافي وهو واهٍ. (وقال سبعون) تنيناً (بدل) بالنصب ظرف (تسعة وتسعون) بالرفع على الحكاية. قيل في وجه الجمع بين العددين: أن الأول للمتبوعين من الكفار، والثاني للتابعين، أو أن سبعين عند العرب للعدد الكثير جداً، أي للمبالغة لا للتحديد فحينئذٍ لا تنافي الأولى؛ لأنها مجملة وتلك مبينة لها. وقيل: يحتمل أن يكون باختلاف أحوالهم. قلت: رواية الترمذي ضعيفة جداً كما عرفت، فلا حاجة إلى تكلف الجمع.

{الفصل الثالث}

{الفصل الثالث} 135 – (11) عن جابر قال: ((خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى سعد بن معاذ حين توفي، فلما صلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووضع في قبره وسوى عليه، سبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسبحنا طويلاً، ثم كبر، فكبرنا، فقيل: يار سول الله - صلى الله عليه وسلم - لم سبحت ثم كبرت؟ قال: لقد تضايق على هذا العبد الصالح قبره حتى فرجه الله عنه)) رواه أحمد. 136- (12) وعن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((هذا الذي تحرك له العرش ـــــــــــــــــــــــــــــ 135- قوله: (إلى سعد بن معاذ) أي إلى جنازته، وهو سعد بن معاذ بن النعمان الأنصاري الأشهلي، أبوعمرو، سيد الأوس، أسلم بالمدينة بين العقبة الأولى والثانية، وأسلم بإسلامه بنو عبد الأشهل، ودارهم أول دار أسلمت من الأنصار، وسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيد الأنصار، وكان مقدماً مطاعاً شريفاً في قومه، من أجلة الصحابة وأكابرهم، شهد بدراً وأحداً، وثبت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ، ورمى يوم الخندق في أكحله فلم يرق الدم حتى مات بعد شهر، وذلك في ذى القعدة سنة (5) وهو ابن سبع وثلاثين سنة، ودفن في البقيع. له في البخاري حديثان، روى عنه نفر من الصحابة. (وسوى عليه) أي التراب، والفعل مجهول (سبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) لعل التسبيح عند مشاهدة التضييق عليه كان للتعجب أو للتنزيه لإرادة تنزيهه تعالى أن يظلم أحد. (فسبحنا طويلاً) قيد للفعلين، أي زماناً طويلاً، أو تسبيحاً طويلاً، أي كثيراً (على هذا العبد الصالح) هذا إشارة إلى كمال تمييزه ورفع منزلته، ثم وصفه بالعبد ونعته بالصلاح لمزيد التخويف، والحث على الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى من هذا المنزل الفظيع، أي إذا كان حال هذا العبد هذا فما بال غيره؟ (حتى فرجه الله عنه) أي كشفه وأزاله. قال الطيبي: و"حتى" متعلقة بمحذوف أي مازلت أسبح وأكبر، وتسبحون وتكبرون حتى فرجه الله عنه. (رواه أحمد) (ج3:ص277، 360) ، ذكر الهيثمي هذا الحديث في مجمع الزوائد (ج3:ص46) وعزاه لأحمد. والطبراني في الكبير ثم قال: وفيه محمود بن محمد بن عبد الرحمن بن عمرو بن الجموح، قال الحسيني: فيه نظر. قال الهيثمي: ولم أجد من ذكره غيره. وقال الألباني: سنده ضعيف، محمود بن عبد الرحمن بن عمرو بن الجموح ترجمه ابن حجر في التعجيل بما يتلخص منه أنه لا يعرف. 136- قوله: (هذا الذي) إشارة إلى سعد المذكور، وهو للتعظيم كما في الحديث الأول (تحرك له العرش) وفي رواية "اهتز" أي ارتاح بصعوده، واستبشر لكرامته على ربه؛ لأن العرش وإن كان جماداً فغير بعيد أن يجعل لله فيه إدراكاً يميز به بين الأرواح وكمالاتها، وهذا أمر ممكن، ذكره الشارع بياناً لمزيد فضل سعد، وترهيباً للناس من ضغطة القبر، فتعين الحمل على ظاهره حتى يرد ما يصرفه عنه. والمراد عرش الرحمن، لا السرير الذي حمل عليه، لحديث جابر

وفتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفاً من الملائكة، ولقد ضم ضمة ثم فرج عنه)) رواه النسائي. 137- (13) وعن أسماء بنت أبي بكر قالت: ((قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطيباً، ـــــــــــــــــــــــــــــ عند البخاري في المناقب مرفوعاً: اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ (وفتحت له أبواب السماء) ؛ لإنزال الرحمة، ونزول الملائكة، أو عرضاً للأبواب بأن يدخل من أي باب شاء لعظم كماله كفتح أبواب الجنة الثمانية لبعض المؤمنين. (وشهده) أي حضر جنازته (لقد ضم) بالضم، أي عصر سعد في قبره (ضمة) أي واحدة (ثم فرج عنه) زاد البيهقي في كتاب عذاب القبر: يعني سعد بن معاذ، وزاد في دلائل النبوة: قال الحسن: تحرك له العرش فرحاً بروحه، قال أبوالقاسم السعدي في كتاب الروح له: لا ينجو من ضغطة القبر لا صالح ولا طالح، غير أن الفرق بين المسلم والكافر فيها دوام الضغط للكافر، وحصول هذه الحالة للمؤمن في أول نزوله إلى قبره، ثم يعود إلى الانفساح له. قال: والمراد بضغط القبر التقاء جانبيه على جسد الميت. وقال الحكيم الترمذي: سبب هذا الضغط أنه ما من أحد إلا وقد ألم بذنب ما فتدركه هذه الضغطة جزاءً لها، ثم تدركه الرحمة. وكذلك ضغطة سعد بن معاذ في التقصير من البول، قلت: يشير إلى ما أخرجه البيهقي من طريق ابن إسحاق: حدثني أمية بن عبد الله أنه سأل بعض أهل سعد ما بلغكم من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا؟ فقالوا: ذكر لنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن ذلك، فقال: كان يقصر في بعض الطهور من البول. وقال ابن سعد في طبقاته: أخبر شبابة بن سوار أخبرني أبومعشر عن سعيد المقبري، قال: لما دفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعداً قال: لو نجا أحد من ضغطة القبر لنجا سعد، ولقد ضم ضمة اختلفت منها أضلاعه من أثر البول. وأخرج البيهقي عن الحسن، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال حين دفن سعد بن معاذ: إنه ضم في القبر ضمة حتى صار مثل الشعرة، فدعوت الله أن يرفعه عنه، وذلك بأنه كان لا يستبرئ من البول. ثم قال الحكيم: وأما الأنبياء فلا يعلم أن لهم في القبور ضمة ولا سؤالاً لعصمتهم. وقال النسفي في بحر الكلام: المؤمن المطيع لا يكون له عذاب القبر، ويكون له ضغطة القبر، فيجد هول ذلك وخوفه، لما أنه تنعم بتعمة الله ولم يشكر النعمة. وروى ابن أبي الدنيا عن محمد التيمي قال: كان يقال: إن ضمة القبر إنما أصلها أنها أمهم، ومنها خلقوا فغابوا عنها الغيبة الطويلة، فلما رد إليها أولادها ضمتهم ضمة الوالدة غاب عنها ولدها ثم قدم عليها، فمن كان لله مطيعاً ضمته برأفة ورفق، ومن كان عاصياً ضمته بعنف سخطاً منها عليه لعصيانه ربها. ذكره السيوطي في زهر الربى. (رواه النسائي) في الجنائز، وأخرجه أيضاً البيهقي، والحاكم، وفي ضغطة القبر أحاديث عن جماعة من الصحابة. منها حديث ابن عباس، أخرجه الطبراني في الكبير وغيره. ومنها حديث جابر، أخرجه ابن سعد، والحكيم الترمذي. ومنها حديث عائشة، أخرجه أحمد. ومنها حديث أنس أخرجه أبويعلى والضياء. ومنها حديث حذيفة أخرجه أحمد، والحكيم الترمذي. 137- قوله: (وعن أسماء) غير منصرف بالعلمية والتأنيث المعنوي (بنت أبي بكر) الصديق زوج الزبير بن العوام، وأم عبد الله بن الزبير، تسمى ذات النطاقتين؛ لأنها شقت نطاقها ليلة خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - مهاجراً، فجعلت واحدة

فذكر فتنة القبر التي يفتن فيها المرء، فلما ذكر ذلك ضج المسلمون ضجة)) . رواه البخاري هكذا، وزاد النسائي: ((حالت بيني وبين أن أفهم كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما سكنت ضجتهم قلت لرجل قريب مني: أي بارك الله فيك، ماذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آخر قوله:؟ قال قال: قد أوحى إلي أنكم تفتنون في القبور قريباً من فتنة الدجال)) . 138- (14) وعن جابر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا أدخل الميت القبر مثلت له الشمس عند غروبها، فيجلس ـــــــــــــــــــــــــــــ شداد لسفرته والآخر عصا ما لقربته، وقيل: جعلت النصف الثاني نطاقاً لها، أسلمت بمكة بعد إسلام سبعة عشر إنساناً، وهاجرت إلى المدينة وهي حامل بإبنها عبد الله. وماتت بعد قتل إبنها عبد الله بعشرة أيام، وقيل: بعشرين يوماً بعد ما أنزل ابنها من الخشبة، ولها مائة سنة، ولم يقع لها سن، ولم ينكر من عقلها شيء، وذلك في جمادى الأولى سنة (73) بمكة. لها ستة وخمسون حديثاً، اتفقا على أربعة عشر، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بمثلها. روى عنها خلق كثير. (فذكر فتنة القبر) أي وعذابه، أو ابتلاءه والامتحان فيه (التي يفتن فيها المرء) صفة لفتنته، يعني ذكر الفتنة بتفاصيلها كما يجري على المرء في قبره (فلما ذكر ذلك) أي ما ذكر، أو الفتنة بمعنى الافتنان (ضج المسلمون) أي صاحوا وجزعوا (ضجة) التنوين للتعظيم (رواه البخاري هكذا) أي مختصراً من طريق عروة عن أسماء في باب عذاب القبر من الجنائر، وأخرجه في العلم، والكسوف، والجمعة من طريق فاطمة بنت المنذر عن أسماء مطولاً (وزاد النسائي) أي بعد "ضجة" (حالت) صفة ضجة (بيني وبين أن أفهم كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي بعد هذا (قلت لرجل) قال الحافظ في الفتح: لم أقف على اسم الرجل الذي استفهمت منه عن ذلك إلى الآن (قريب مني) أي مكاناً (أي) المنادي محذوف، أي فلان (في آخر قوله:) أي بعد الصياح (قريباً) صفة مصدر محذوف، أي افتناناً قريباً (من فتنة الدجال) وقال الطيبي: أي فتنة قريبة، وذكر كما في قوله تعالى: {إن رحمة الله قريب من المحسنين} [56:7] أي فتنة عظيمة، إذ ليس في الفتن أعظم من فتنة الدجال. وقد روى أحمد عن عائشة مرفوعاً: أنكم تفتنون في القبور كفتنة الدجال. قال الكرماني: وجه الشبه بين الفتنتين الشدة، والهول، والعموم. 138- قوله: (مثلت) أي صورت (عند غروبها) حال من الشمس، أي حال كونها قريبة الغروب. وقال ابن حجر: أي حال كونها غاربة، لا ظرف لمثلت لاقتضاءه أن التمثيل لا يكون إلا ذلك الوقت، وليس كذلك، فإنه يكون عند نزول الملكين، وهذا لا يقيد بذلك الوقت، بل هو عام في سائر أجزاء الليل والنهار، فتعين أن التمثيل بها حالة كونها غاربة عام في سائر الأزمنة أيضاً، وذلك لا يكون إلا في حق المؤمن (فيجلس) معروف، وقيل: مجهول

يمسح عينيه ويقول: دعوني أصلي)) . رواه ابن ماجه. 139- (15) وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الميت يصير إلى القبر، فيجلس الرجل في قبره غير فزع ولا مشغوب، ثم يقال: فيم كنت. فيقول: كنت في الإسلام. فيقال: ما هذا الرجل؟ فيقول: محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءنا بالبينات من عند الله فصدقناه. فيقال له: هل رأيت الله؟ فيقول: ما ينبغي لأحد أن يرى الله. ـــــــــــــــــــــــــــــ (يمسح) حال من ضمير يجلس (عينيه) على هيئة المستيقظ؛ لأن النوم أخو الموت. (دعوني) أي أتركوا كلامي والسؤال مني (أصلي) جواب للأمر، والياء للإشباع، أو أعطي المعتل حكم الصحيح. وقيل: استئناف، أي أنا أريد أن أصلي، والمعنى: أن من كان راسخاً في أداء الصلاة، مواظباً عليها في الدنيا، يظن أنه بعد في الدنيا، ويؤدي ما عليه من الفرائض، ويشغله من قيامه بعض أصحابه، فيقول: دعوني أنا أريد الصلاة، وليضيق الوقت يفزع، ويخاف فوت الوقت، ويستعجل بالصلاة، وذكر الغروب يناسب الغريب فإنه أول منزل ينزله عند الغروب. (رواه ابن ماجه) في الزهد، قال في الزوائد: إسناده حسن إن كان أبوسفيان واسمه طلحة بن نافع، سمع من جابر بن عبد الله، وإسماعيل بن حفص مختلف فيه- انتهى. هذا، وقد ورد ذكر تمثيل الشمس للميت حال كونها قريبة الغروب في حديث أبي هريرة الطويل عند ابن حبان في صحيحه، والطبراني في الأوسط. 139- قوله: (إن الميت) اللام للجنس (فيجلس) على بناء المفعول من أجلس، أو على بناء الفاعل من جلس (الرجل) أي الصالح، كما في بعض النسخ، وكذا وقع في ابن ماجه. (غير فزع) بكسر الزاى ونصب "غير" على الحالية، وقوله: (ولا مشغوب) تأكيد من الشغب، وهو تهييج الشر والفتنة، كذا وقع في جميع النسخ "مشغوب" بالغين المعجمة والباء، والظاهر أنه خطأ من النساخ، والصواب "مشعوف" أي بالعين المهملة والفاء، من الشعف، وكذا وقع في ابن ماجه. قال المنذري: الشعف، بشين معجمة وعين مهملة، شدة الفزع حتى يذهب بالقلب. (ثم يقال) أي له كما في بعض النسخ موافقاً لما في ابن ماجه (فيم كنت) أي في أي دين عشت؟ (ما هذا الرجل) أي الرجل المشهور بين أظهركم، ولا يلزم منه الحضور. وترك ما يشعر بالتعظيم لئلا يصير تلقيناً، وهو لا يناسب موضع الاختبار. و"ما" استفهام مبتدأ و"هذا الرجل" خبره، أي ما وصفه ونعته؟ أو ما اعتقادك فيه؟ (محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قوله: "رسول الله" يحتمل أن يكون خبراًً لمبتدأ محذوف، أو خبراًً بعد خبر، والأظهر أنه خبر لمحمد، والجملة مقول، وهو متضمن للجواب عن وصفه، وقوله: (جاء بالبينات) جملة استئنافية مبينة للجملة الأولى (فصدقناه) أي بجميع ما جاء من عندالله. (ماينبغي) أي لا يصح (أن يرى الله) أي يبصره ببصره في الدنيا، أو يحيط بكنهه مطلقاً

فيفرج له فرجة قبل النار، فينظر إليه يحطم بعضها بعضاً، فيقال له: انظر إلى ما وقاك الله، ثم يفرج له فرجة قبل الجنة، فينظر إلى زهرتها وما فيها، فيقال له: هذا مقعدك، على اليقين كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله تعالى. ويجلس الرجل السوء في قبره فزعاً مشغوباً، فيقال له: فيم كنت؟ فيقول: لا أدري. فيقال له: ما هذا الرجل؟ فيقول: سمعت الناس يقولون قولاً فقلته، فيفرج له قبل الجنة، فينظر إلى زهرتها وما فيها، فيقال له: انظر إلى ما صرف الله عنك، ثم يفرج له فرجة إلى النار، فينظر إليها يحطم بعضها بعضاً، فيقال له: هذا مقعدك، على الشك كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاءالله تعالى)) . رواه ابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ (فيفرج له) بالتشديد، وقيل: بالتخفيف، وكلاهما على بناء المفعول، أي يكشف ويفتح له (فرجة) بضم الفاء، وقيل بفتحها وهو مرفوع على نيابة الفاعل (قبل النار) بكسر القاف، أي جهتها، منصوب على الظرف (ينظر إليه) ذكر ضمير النار بتأويل العذاب، وأنث في قوله: (يحطم بعضها بعضاً) نظراً إلى اللفظ. والحطم الكسر أي يكسر ويغلب ويأكل بعضها بعضاً لشدة تلهبها وكثرة وقودها. (انظر إلى ما وقاك الله) أي انظر إلى هذا العذاب الذي حفظك الله بحفظه إياك من الكفر والمعاصي التي تجره إليهز (إلى زهرتها) فتح الزاى أي حسنها وبهجتها (وما فيها) من الحور، والقصور، وغيرها من الخير الكثير. (هذا مقعدك) أي في العقبى (على اليقين كنت) جملة مستأنفة متضمنة للتعليل، أي هذا مقعدك؛ لأنك كنت في الدنيا على اليقين في أمر الدين. وتقديم الخبر للاهتمام والاختصاص التام. (وعليه مت) بضم الميم وكسرها، وهذا يدل على أن من كان على اليقين في الدنيا يموت عليه عادة، وكذا في جانب الشك، قاله السندهي. (وعليه تبعث) يعني كما تعيش تموت، وكما تموت تحشر (إن شاءالله تعالى) للتبرك، أو للتحقيق لا للشك. (الرجل السوء) بفتح السين وتضم، ضد الصالح (مشغوباً) وفي ابن ماجه "مشغوفاً" أي مرعوباً (لا أدري) ما الدين؟ أو للهيبة نسي دينه. (سمعت الناس) إلخ يريد أنه كان مقلداً في دينه للناس، ولم يكن منفرداً عنهم بمذهب، فلا اعتراض عليه حقاً كان ما عليه أو باطلاً. (رواه ابن ماجه) في الزهد. قال في الزوائد: إسناده صحيح، وأخرج أحمد نحوه مطولاً عن عائشة بإسناد صحيح، ذكره المنذري في ترغيبه.

(5) باب الاعتصام بالكتاب والسنة

(5) باب الاعتصام بالكتاب والسنة {الفصل الأول} 140- (1) عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) متفق عليه. 141- (2) وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أما بعد، ـــــــــــــــــــــــــــــ (باب الاعتصام بالكتاب والسنة) الاعتصام افتعال من العصمة وهي المنع، والعاصم المانع الحامي، والاعتصام الاستمساك بالشيء، والمراد بالكتاب القرآن المتعبد بتلاوته، وبالسنة ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أقواله وأفعاله وأحواله وتقريره، وما هم بفعله، والسنة في أصل اللغة الطريقة. قيل: هذه الترجمة منتزعة من قوله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعاً} [103:3] ؛ لأن المراد بحبل الله الكتاب والسنة على سبيل الاستعارة. 140- قوله: (من أحدث في أمرنا هذا) أي في شأننا وطريقنا، فالأمر واحد الأمور، أطلق على الدين من حيث أنه طريقه وشأنه الذي يتعلق به، أو في ما أمرنا به بالوحي المتعبد بتلاوته، أو بالوحي الذي ليس بقرآن، فالأمر واحد الأوامر، أطلق على المأمور به، والمراد الشرع والدين كما وقع في بعض الروايات: من أحدث في ديننا. قيل: عبر عن الدين بالأمر تنبيهاً على أن هذا الدين هو أمرنا الذي نهتم له ونشتغل به، بحيث لا يخلو عنه شيء من أقوالنا وأفعالنا وأحوالنا. (فهو رد) أي مردود من إطلاق المصدر على اسم المفعول، مثل خلق ومخلوق، ونسخ ومنسوخ. وكأنه قال: فهو باطل غير معتد به. ومعنى الحديث: أن من أحدث في الإسلام رأياً لم يكن له من الكتاب والسنة سند ظاهر أو خفي، ملفوظ أومستنبط، فهو مردود عليه، والمراد أن ذلك الأمر واجب الرد، يجب على الناس رده، ولا يجوز لأحد اتباعه والتقليد فيه. وقيل: يحتمل أن ضمير "فهو" لمن، أي فذلك الشخص مردود مطرود. والحديث أصل عظيم من أصول الإسلام، وقاعدة مهمة من قواعده، وهو من جوامع كلمه - صلى الله عليه وسلم -، فإنه صريح في رد كل البدع والمخترعات. قال النووي: هذا الحديث مما ينبغي أن يعتنى بحفظه واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به. وفي رواية لمسلم: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد. أي ليس هو في ديننا وشرعنا، ولم يأذن به الله ورسوله، يعني من عمل عملاً خارجاً عن الشرع ليس متقيداً بالشرع فهو مردود. قال الحافظ: قوله: "من عمل" أعم من قوله: " من أحدث" فيحتج به في إبطال جميع العقود المنهية، وعدم وجود ثمراتها المرتبة عليها، وفي أن النهي يقتضي الفساد؛ لأن المنهيات كلها ليست من أمر الدين فيجب ردها. وارجع للتفصيل إلى شرح الأربعين النووية لابن رجب. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصلح، ومسلم في الأقضية، وأخرجه أيضاً أبوداود وابن ماجه في السنة. 141- قوله: (أما بعد) هاتان الكلمتان يقال لهما فصل الخطاب، وأكثر استعمالهم بعد تقدم قصة، أو حمد لله وصلاة

فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة)) . ... رواه مسلم. 142- (3) وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام ـــــــــــــــــــــــــــــ على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقوله: "بعد" مبني على الضم بحذف المضاف إليه، أي بعد ما تقدم من الحمد والصلاة، والمفهوم منهما أنه - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك في أثناء خطبته أو موعظته (فإن خير الحديث) الفاء لما في "أما" من معنى الشرط، أي مهما يكن من شيء بعدما ذكر فإن خير الحديث أي الكلام (وخير الهدى) بالنصب، عطفاً على اسم إن، وروي بالرفع عطفاً على محل "إن" واسمه. و"الهدى" بفتح الهاء وسكون الدال، السيرة، ولا يكاد يطلق إلا على طريقة حسنة، ولذلك حسن إضافة الخير إليه، والشر إلى الأمور، واللام في "الهدى" للاستغراق؛ لأن أفعل التفضيل لا يضاف إلا إلى متعدد، ولأنه لو لم يكن للاستغراق لم يفد المعنى المقصود، وهو تفضيل دينه وسنته على سائر الأديان والسنن. وروي "الهدى" بضم الهاء وفتح الدال، ومعناه الدلالة والإرشاد، أي أحسن الدلالة دلالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وإرشاده (وشر الأمور) بالنصب، وقيل بالرفع (محدثاتها) بفتح الدال، جمع محدثة، والمراد بها ما أحدث من الاعتقاد والقول والفعل، وليس له أصل في الشرع، ويسمى في عرف الشرع بدعة. وما كان له أصل في الشرع فليس ببدعة شرعاً كتفسير القرآن وكتابة الحديث، فالبدعة في عرف الشرع مذمومة بخلاف اللغة، فإن كل شيء أحدث على غير مثال سبق يسمى بدعة لغة، سواء كان محموداً أو مذموماً، وكذا القول في المحدثة، ولذا قال (وكل بدعة) بالرفع، وقيل: بالنصب (ضلالة) أي كل بدعة شرعية ضلالة، أي توصف بذلك لإضلالها. وعند النسائي من حديث جابر: إن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ويأتي مزيد الكلام في شرح حديث العرباض بن سارية في الفصل الثاني. (رواه مسلم) في حديث طويل في خطبة الجمعة، وأخرجه أيضاً أحمد، وابن ماجة في السنة. 142- قوله: (أبغض الناس) هو أفعل التفضيل من المفعول على الشذوذ، واللام في "الناس" للعهد، والمراد منه عصاة المسلمين (ثلاثة) أي أشخاص، أحدهم أو منهم (ملحد في الحرم) أي ظالم أو عاص فيه، والإلحاد الميل عن الصواب، والعدول عن القصد. قال الحافظ: وظاهر سياق الحديث أن فعل الصغيرة في الحرم أشد من فعل الكبيرة في غيره، فإن مرتكب الصغيرة مائل عن الحق والقصد، وهو مشكل، فتعين أن المراد بالإلحاد فعل الكبيرة. وقال القسطلاني: أجيب بأن الإلحاد في العرف مستعمل في الخارج عن الدين، فإذا وصف به من ارتكب معصية كان في ذلك إشارة إلى عظمها. (ومبتغ) أي طالب (في الإسلام) يعني أن ما محاه الإسلام وأمر بتركه من أمور الجاهلية يريد هو

سنة الجاهلية، ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه)) . رواه البخاري. 143- (4) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قيل: ومن أبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)) . رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ إحداثه وإشاعته، فيدخل فيه أحداًث البدعة، وبهذا المعنى أورده البغوى في الاعتصام بالكتاب والسنة. (سنة الجاهلية) اسم جنس يعم جميع ما كان عليه أهل الجاهلية من النياحة، والميسر، والطيرة، والكهانة، وقتل الأولاد، وجزاء شخص بجناية من هو من قبيلته. وإطلاق السنة على فعل الجاهلية على أصل اللغة. (مطلب) بالتنوين (دم امرىء) بالنصب، وقيل بإضافة (مطلب) إلى ”دم" وهو بتشديد الطاء من الاطلاب أصله مطتلب على مفتعل، فأبدلت التاء طاء وأدغمت، أي متكلف في الطلب، مبالغ ومجتهد فيه. (ليهريق دمه) بضم الياء وفتح الهاء ويجوز إسكانها من هراق الماء إذا صبه، والأصل أراق، قلبت الهمزة هاء وفيه لغة أخرى، وهى أهراق، بفتح الهمزة سكون الهاء، وخص الإهراق أي الصب؛ لأنه الغالب في القتل، وإلا فالمدار على إزهاق الروح ولو بخنق ونحوه، وخص هؤلاء الثلاثة؛ لأنهم جمعوا بين الذنب وما يزيد به قبحاً من الإلحاد، وكونه في الحرم، وإحداث البدعة في الإسلام، وكونها من أمر الجاهلية، وقتل النفس لا لغرض من الأغراض، بل لمطلق كونه قتلاً، وإليه الإشارة بقوله: "ليهريق دمه" ويزيد القبح في الأول باعتبار المحل، وفيه الثاني باعتبار الفاعل، وفي الثالث باعتبار الفعل، وفي كل من لفظي المطلب والمبتغي مبالغة، وذلك أن هذا الوعيد إذا ترتب على الطالب والمتمني فكيف للمباشر. (رواه البخاري) في الديات، والحديث من إفراده. 143- قوله: (كل أمتي يدخلون الجنة) يحتمل أن يراد بالأمة أمة الدعوة، أي كلهم يدخلون الجنة على التفصيل السابق في باب الإيمان، فالآبى هو الكافر، ويحتمل أن يراد بها أمة الإجابة، فالآبى هو العاصي، استثناه تغليظاً وزجراً عن المعاصي. (إلا من أبى) أي امتنع عن قبول ما جئت به (قيل: ومن أبى) وفي البخاري: قالوا: ومن يأبى؟ أي بلفظ المضارع، وهذه عطف على محذوف، عطف جملة على جملة، أي عرفنا الذين يدخلون الجنة. ومن الذى يأبى؟ أي والذى أبى لا نعرفه، وحق الجواب اختصاراً أن يقول "من عصاني" فقط، فعدل إلى ما ذكره تنبيهاً به على أنهم ما عرفوا ذاك ولا هذا، أو التقدير: من أطاعنى، وتمسك بالكتاب والسنة، دخل الجنة، ومن اتبع هواه، وضل عن الطريق المستقيم، وزل عن الصواب، فقد دخل النار. فوضع "أبى" موضعه وضعا للسبب موضع المسبب، ويعضد هذا التاويل إيراد البغوي هذا الحديث في الاعتصام بالكتاب والسنة، والتصريح بذكر الطاعة، فإن المطيع هو الذى يعتصم بالكتاب والسنة، ويجتنب عن الأهواء والبدع. (رواه البخاري) في الاعتصام، وأخرجه أيضاً الحاكم، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وهذا وهم منه؛ لأنه أخرجه البخاري في صحيحه، وهو من إفراده، وروى أحمد والحاكم عن أبي هريرة رفعه: لتدخلن الجنة إلا من أبى، وشرد على الله شراد البعير. وسنده على شرط الشيخين، وله شاهد عن

144- (5) وعن جابر قال: ((جاءت ملائكة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو نائم، فقالوا: إن لصاحبكم هذا مثلاً، فاضربوا له مثلاً، قال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان. فقالوا: مثله كمثل رجل بنى داراً وجعل فيها مأدبة وبعث داعياً، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة. فقالوا: أوِّلوها له يفقهها. قال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان. فقالوا: الدار الجنة، ـــــــــــــــــــــــــــــ أبى أمامة عند الحاكم والطبراني، وسنده جيد. 144- قوله: (وعن جابر قال: جاءت ملائكة) أي جماعة منهم، وهذه حكاية سمعها جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فحكاها فحديث جابر هذا مرفوع لما في رواية الترمذي عن جابر قال: ((خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً فقال. إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي، وميكائيل عند رجلي ... )) الخ. لا يستشكل اقتصاره على ذكر اثنين من الملائكة جبريل وميكائيل في رواية الترمذي هذه؛ لأنه يحتمل أنه كان مع كل منهما غيره، واقتصر في رواية الترمذي على من باشر الكلام منهم ابتداءً وجواباً. (إن لصاحبكم هذا) أي لمحمد، والمخاطب بعض الملائكة (مثلاً) أي صفة عجيبة الشأن (فأضربوا له) أي بينوا له. (إنه نائم) أي فلا يسمع، فلا يفيد ضرب المثل شيئاً. (إن العين نائمة والقلب يقظان) غير منصرف، وقيل منصرف لمجيء فعلانة. أي فلا يفوته شيء مما تقولون، فإن المدار على المدارك الباطنية دون الحواس الظاهرية. وقيل: هذا تمثيل يراد به حياة القلب وصحة خواطره، يقال: "رجل يقظ" إذا كان ذكي القلب. قال البيضاوي: هذه مناظرة جرت بينهم بياناً وتحقيقاً لما أن النفوس القدسية الكاملة لا يضعف إدراكها بضعف الحواس الظاهرة واستراحة الأبداًن، بل ربما يقوى إدراكها عند ضعفها. (مثله كمثل رجل بني داراً) قال القاري: يعني قصته كهذه القصة عن آخرها، لا أن حاله كحال هذا الرجل، فإنه في مقابلة الداعي لا الباني، اللهم إلا أن يقدر مضاف، ويقال: كمثل داعي رجل بني داراً -انتهى. وقال الكرماني: ليس المقصود من هذا التمثيل تشبيه المفرد بالمفرد، بل تشبيه المركب بالمركب مع قطع النظر عن مطابقة المفردات عن الطرفين - انتهى. وقد وقع في رواية الترمذي، وكذا في حديث ابن مسعود عند الترمذي وأحمد وابن خزيمه ما يدل على المطابقة المذكورة. (مأدبة) بفتح الميم وسكون الهمزة وضم الدال وتفتح، وبعدها موحدة، طعام عام يدعى الناس إليه كالوليمة (وبعث داعياً) يدعو الناس إليها. (أوِّلوها) بكسر الواو المشددة، أي فسروا هذه الحكاية التمثيلية لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، من أول تأويلاً، إذا فسر بما يؤل إليه الشيء (يفقهها) بالجزم جواب الأمر، أي يفهمها (وقال بعضهم: إن العين) أي عينه (نائمة والقلب) أي قلبه (يقظان) أي فيدرك البيان، وكرروا هذا لتنبيه السامعين إلى هذه المنقبة العظيمة، وهي نوم العين ويقظة القلب (فقالوا: الدار) أي الممثل بها (الجنة) وفي رواية الترمذي

والداعي محمد، فمن أطاع محمد فقد أطاع الله، ومن عصى محمداً فقد عصى الله، ومحمد فرق بين الناس)) . رواه البخاري 145- (6) وعن أنس قال: ((جاء ثلاثة رهط إلى أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما أخبروا بها كأنهم تقالّوها، فقالوا: أين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فقال أحدهم: أما أنا ـــــــــــــــــــــــــــــ فالله هو الملك، والدار الإسلام، والبيت الجنة، وأنت يا محمد رسول. وفي حديث ابن مسعود عند أحمد: أما السيد فهو رب العالمين، وأما البنيان فهو الإسلام، والطعام الجنة، ومحمد الداعي، فمن اتبعه كان في الجنة. (فمن أطاع) الفاء للسبية أي لما كان هو الداعي فمن أطاع (محمد فقد أطاع الله) أي لأنه رسول صاحب المأدبة، فمن أجابة ودخل في دعوته أكل من المأدبة. وهو كناية عن دخول الجنة، وفي رواية الترمذي: وأنت يا محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمن أجابك دخل الإسلام، ومن دخل الإسلام دخل الجنة، ومن دخل الجنة أكل ما فيها. (ومحمد فرق بين الناس) روى مشدداً على صيغة الفعل الماضي، ومخففاً أي بسكون الراء والتنوين على المصدر، وصف به للمبالغة كالعدل، أي هو الفارق بين المؤمن والكافر، والصالح والطالح، إذ به تميزت الأعمال والعمال، وهذا كالتذييل للكلام السابق؛ لأنه مستمل على معناه ومؤكد له، وفي تمثيل الملائكة إيقاظ للسامعين من رقدة الغفلة وسنة الجهالة، وحث لهم على الاعتصام بالكتاب والسنة، والإعراض عما يخالفهما من البدعة والضلالة. (رواه البخاري) في الاعتصام، وأخرجه أيضاً الترمذي في الأمثال من غير طريق البخاري، وفي الباب عن ابن مسعود عند أحمد والترمذي وصححه، وابن خزيمه، وعن ربيعة الجرشي عند الدارمي والطبراني بسند جيد، وسيأتي في الفصل الثاني. 145- قوله: (ثلاثة رهط) بسكون الهاء، وهي العصابة دون العشرة، وقيل: دون الأربعين. اسم جمع لا واحد له من لفظه، والمراد ثلاثة أنفس، وهم علي، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعثمان بن مظعون، كما في مرسل سعيد بن المسيب عند عبد الرزاق. وقيل: المقداد بدل عبد الله بن عمرو. (يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي في البيت وفي السر، والمراد معرفة قدر عادة وظائفه في كل يوم وليلة حتى يفعلوا ذلك. (فلما أخبروا) على صيغة المجهول أي أخبرتها (بها) أي بعبادته (كأنهم تقالّوها) بتشديد اللام المضمومة، تفاعل من القلة أي عدوها قليلة لما في نفوسهم أنها أكثر مما أخبروا به بكثير. (أين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي بيننا وبينه بون بعيد، فإنا على صدد التفريط وسوء العاقبة، وهو معصوم مأمون الخاتمة، واثق بقوله تعالى: {ليغفرالله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر} [2:48] . (وقد غفر الله له) أي فمن لم يعلم بحصول ذلك له يحتاج إلى المبالغة في العبادة عسى أن يحصل بخلاف من حصل له، لكن بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك ليس بلازم، فأشار إلى هذا بأنه أشد خشية، وذلك بالنسبة لمقام العبودية في جانب الربوبية (فقال أحدهم أما أنا)

فأصلى الليل أبداً. وقال الآخر: أنا أصوم النهار أبداً، ولا أفطر. وقال الآخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ أي أما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد خص بالمغفرة العامة فلا عليه أن لا يكثر العبادة، وأما أنا فلست مثله (فأصلي الليل) الظاهر أنه وما بعده عزم على ما ذكر، ويحتمل الإخبار عن ذلك. (أبداً) قيد لليل لا لقوله: "أصلى" أي طول الليل (أنا أصوم النهار أبداً) كذا وقع في بعض النسخ بتأكيد الصيام بقوله: "أبداً"، والظاهر أنه خطأ وقد استغنى عنه بقوله: (ولا أفطر) وفي البخاري: أصوم الدهر ولا أفطر. قال الحافظ: لم يؤكد الصيام أي بالتأييد؛ لأنه لا بد له من فطر الليالي وكذا أيام العيد. (أنا أعتزل النساء) أي أجتنبهن (فلا أتزوج) أي منهن أحداً (أبداً) فإنهن والاشتغال بهن يمنع الشخص عن العبادة، ويوقعه في طلب الدنيا، والحرص على تحصيلها في العادة. (فجأ النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم) وقد علم ذلك بأن جاء إلى أهله فأخبروه، وإما بالوحي. (فقال أنتم) أي أأنتم؟ فحذفت همزة الاستفهام التي للإنكار (الذين قلتم كذا وكذا) كنابة عما تقدم. (أما) بفتح الهمزة وتخفيف الميم، حرف تنبيه واستفتاح بمنزلة "ألا" (إني لأخشاكم) أي إني لأعلم به، وبما هو أعز لديه، وأكرم عنده، فلوكان ما استاثرتموه من الإفراط في الرياضة أحسن مما أنا عليه من الاعتدال في الأمور لما أعرضت عنه. (لله) مفعول به "لأخشاكم" وأفعل لا يعمل في الظاهرة إلا في الظرف. قال ابن المنير: إن هؤلاء بنوا على أن الخوف الباعث على العبادة ينحصر في خوف العقوبة، فلما علموا أنه - صلى الله عليه وسلم - مغفور له ظنوا أن لا خوف، وحملوا قلة العبادة على ذلك، فرد - عليه الصلاة والسلام - عليهم ذلك، وبيّن أن خوف الإجلال أعظم من الإكثار المحقق الانقطاع؛ لأن الدائم وإن قل أكثر من الكثير إذا انقطع – انتهى. وقال المظهر: إن قلة وظائف النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت رحمة للأمة وشفقة عليهم لئلا يتضرروا؛ فإن لأنفسهم عليهم حقاً. ولأزواجهم حقاً. (لكني أصوم) استدراك عن محذوف دل عليه السياق، أي أنا وأنتم بالنسبة إلى العبودية سواء، لكن أنا أعمل كذا. وقيل: المعنى أنا أخشاكم لله، فينبغي على زعمكم أو في الحقيقة أن أقوم في الرياضة إلى أقصى مداه، لكن أقتصد وأتوسط فيها، فأصوم في وقت (وأفطر) أي في آخر (وأصلى) بعض الليل (وأرقد) أي أنام في بعضه. (وأتزوج النساء) ولا أزهد فيهن، وكمال الرجل أن يقوم بحقهن مع القيام بحقوق الله تعالى، والتوكل عليه، والتفويض إليه، وهذا كله ليقتدي بي الأمة. (فمن رغب عن سنتي) المراد بالسنة الطريقة لا التي تقابل الفرض والواجب، أي أعرض عن طريقتي وتركها (فليس مني) أي ليس على ملتي إذا كان غير معتقد لها، والسنة مفرد مضاف يعم على الأرجح فيشمل الشهادتين وسائر أركان الإسلام، فيكون المعرض عن ذلك مرتداً. وكذا إذا كان الإعراض تنطعاً يفضي إلى اعتقاد أرجحية عمله؛ لأن اعتقاد ذلك نوع من الكفر، وأما إن كان ذلك بضرب من التأويل كالورع لقيام شبهة في ذلك الوقت، أو عجزاً عن القيام بذلك، أو لمقصود صحيح فيعذر صاحبه

متفق عليه. 146- (7) وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: ((صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً، فرخص فيه، فتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخطب فحمد الله، ثم قال: ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؟ فوالله إني لأعلمهم بالله، وأشدهم له خشية)) ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه. ومعنى "فليس مني" أي ليس علىطريقتي، ولا يلزم أن يخرج عن الملة، ولمح بذلك إلى طريق الرهبانية، فإنهم الذي ابتدعوا التشديد كما سيأتي، وقد عابهم الله بأنهم ما وفوه بما التزموه، وطريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - الحنيفية السمحة، فيفطر ليتقوى على الصوم، وينام ليتقوى على القيام، ويتزوج لكسر الشهوة وإعفاف النفس، وتكثير النسل. (متفق عليه) أخرجاه في النكاح، واللفظ للبخاري إلا قوله: "أصوم النهار أبداً" وأخرجه أيضاً النسائي في النكاح، وأما ما ذكره الرافعي واشتهر على الألسنة بلفظ "النكاح من سنتي، فمن رغب عن سنتي فليس مني" فلم أجده مع الاستقراء التام والتتبع البالغ. والله أعلم. 146- قوله: (صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً) الظاهر أن الشيء المرخص فيه ما ذكر في حديث أنس من النوم بالليل والأكل بالنهار أي الإفطار في بعض الأيام في غير رمضان، والتزوج بالنساء، وفي حديث عائشة عند مسلم من غسل الجنابة بعد طلوع الفجر في رمضان. (فرخص) أي للناس (فيه) أي في ذلك الصنع أو من أجله (فتنزه) أي تباعد وتحرز (عنه) أي عن ذلك الصنع (قوم) لم يعرف الحافظ القوم بأعيانهم. وقيل الظاهر أنهم هم المذكورون فيما تقدم. (فبلغ ذلك) أي تنزههم (فخطب) أي أراد أن يخطب، ويمكن أن يكون قوله: (فحمد الله ... ) إلخ تفسيراً لما قبله (ثم قال) أي في أثناء خطبته (ما بال أقوام) استفهام إنكاري بمعنى التوبيخ، أي ما حالهم؟ (يتنزهون) صفة وقع موقع الحال (أصنعه) حال من الشيء، و"أل" فيه للعهد الذكري السابق في قوله: "شيئاً" وقيل: اللام في الشيء للجنس، و"أصنعه" صفته. (فوالله إني لأعلمهم بالله) أي بعذاب الله وغضبه، يعني أنا أفعل شيئاً من المباحات وهم يحترزون عنه، فإن احترزوا لخوف عذاب الله، فأنا أعلم بقدر عذاب الله تعالى منهم، فأنا أولى أن أحترز عنه. (وأشدهم له خشية) إشارة إلى القوة العملية، وقوله: "أعلمهم بالله" إشارة إلى القوة العلمية، أي إنهم توهموا أن رغبتهم عما أفعل أقرب لهم عند الله، وأن فعلي خلاف ذلك. وليس كما توهموا إذ هو أعلمهم بالقربة وأولاهم بالعمل بها، فمهما فعله - صلى الله عليه وسلم - من عزيمة ورخصة فهو فيه في غاية التقوى والخشية، لم يحمله التفضل بالمغفرة على ترك الجلد في العمل قياماً بالشكر، ومهما ترخص فيه فإنما هو للإعانة على العزيمة ليعملها بنشاط. وفي الحديث ذم التعمق والتنزه عن المباح شكاً في إباحته، وفيه الحث على الإقتداء به - صلى الله عليه وسلم - وأن الخير في الاتباع، سواء كان ذلك في العزيمة أو الرخصة، فإن استعمال الرخصة بقصد الاتباع في المحل الذي وردت

متفق عليه. 147- (8) وعن رافع بن خديج قال: ((قدم نبي الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وهم يؤبرون النخل، فقال: ما تصنعون؟ قالوا: كنا نصنعه. قال: لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً. فتركوه، فنقصت. قال: فذكروا ذلك له. فقال: إنما أنا بشر، إذا أمرتك بشيء من أمر دينكم، فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي، ـــــــــــــــــــــــــــــ أولى من استعمال العزيمة، بل ربما كان استعمال العزيمة حينئذٍ مرجوحاً كما في إتمام الصلاة في السفر، وربما كان مذموماً إذا كان رغبة عن السنة كترك المسح على الخفين. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الأدب وفي الاعتصام، ومسلم في الفضائل، واللفظ للبخاري في الأدب. وأخرجه أيضاً النسائي في عمل اليوم والليلة. 147- قوله: (وعن رافع بن خديج) بفتح معجمة، وكسر دال مهملة، وبجيم، ابن رافع بن عدى الأوسي الحارثي الأنصاري، يكنى أباعبد الله، صحابي جليل، أول مشاهده أحد، ثم الخندق، ورده النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر؛ لأنه استصغره، وأجازه يوم أحد فشهد أحداً، والخندق، وأكثر المشاهد، وأصابه يوم أحد سهم فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنا أشهد لك يوم القيامة، وانتقضت جراحته في زمن عبد الملك بن مروان فمات في أول سنة (73) بالمدينة، وله ست وثمانون سنة، وقيل: مات سنة (74) له ثمانية وسبعون حديثاً، اتفقا على خمسة، وانفرد مسلم بثلاثة، روى عنه خلق. (وهم) أي أهل المدينة (يؤبرون النخل) بضم الياء وتشديد الباء المكسورة، من التأبير، وروى يأبرون بفتح الياء وتخفيف الباء المكسورة وضمها، من نصر وضرب. والأبر، والإبار، والتأبير: إدخال شيء من طلع الذكر في طلع الأنثى فتعلق بإذن الله، وتأتي بثمرة أجود مما لم يؤبر، وكانوا يفعلونه على العادة المستمرة في الجاهلية. (ما تصنعون) "ما" استفهامية (كنا نصنعه) أي هذا دأبنا وعادتنا. (لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً) أي تتعبون فيما لا ينفع. وفي حديث طلحة عند مسلم: ما أظن يغنى ذلك شيئاً (فتركوه) أي التأبير (فنقصت) أي النخل ثمارها، أو انتقصت ثمارها، فإن النقص متعد ولازم (فذكروا) أي أصحاب النخل (ذلك) أي النقص (إنما أنا بشر) أي فليس لي اطلاع على المغيبات، وإنما ذلك شيء قلته بحسب الظن، يعني أني لاحظت إذ ذلك الأمر الحقيقي، وهو أن كل شيء بقدرته تعالى، وأنها هي المؤثرة في الأشياء حقيقة، ولم ألتفت إلى أن الله تعالى قد أجرى عادته بأن ستر تأثير قدرته في بعض الأشياء بأسباب معتادة، فجعلها مقارنة لها ومغطاة لها، وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من مراعاة الأسباب. (إذا أمرتكم بشيء من أمر دينكم) أضاف الدين إليهم؛ لأن المراد: إذا أمرتكم بما ينفعكم في أمر دينكم فخذوه، كقوله تعالى:: {وما آتاكم الرسول فخذوه} [7:59] (فخذوا به) أي افعلوه فإني إنما نطقت به عن الوحي. (بشيء) من أمور الدنيا ومعايشها (من رأي) أي من غير تشريع، فأما ما قاله باجتهاد - صلى الله عليه وسلم - ورآه شرعاً يجب العمل به، وليس إبار النخل من هذا النوع، بل من النوع

فإنما أنا بشر)) . رواه مسلم. 148 - (9) وعن أبي موسى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما مثلى ومثل ما بعثنى الله به كمثل رجل أتى قوماً، فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنجاء النجاء. فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا، فانطلقوا على مهلهم، فنجوا. ـــــــــــــــــــــــــــــ المذكور قبله، مع أن لفظة الرأي إنما أتى بها عكرمة على المعنى، لقوله في آخر الحديث "قال عكرمة أو نحو هذا" فلم يخبر بلفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - محققاً، قاله النووى. (فإنما أنا بشر) جزاء للشرط على تأويل "وإذا أمرتكم بشيء من رأيي وأخطئي فلا تستبعدوه، "فإنما أنا بشر أخطئ وأصيب" كما في رواية طلحة عند أحمد: والظن يخطئ ويصيب. وفي حديث طلحة عند مسلم: إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظناً، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به. وفي حديث عائشة وأنس عند مسلم أيضاً: أنتم أعلم بأمور دنياكم. قال العلماء: ولم يكن هذا القول خبراًً، وإنما كان ظناً كما بيّنه. قالوا: ورأية - صلى الله عليه وسلم - في أمور المعايش وظنه كغيره، فلا يمتنع وقوع مثل هذا، ولا نقص في ذلك, وسببه تعلق هممه بالآخرة ومعارفها، وعدم الالتفات إلى الأمور الدنيوية. (رواه مسلم) في الفضائل، وله شاهد من حديث طلحة عند أحمد ومسلم وابن ماجه، ومن حديث عائشة عند مسلم، وابن ماجه. 148- قوله: (إنما مثلي) المثل الصفة العجيبة الشأن، يوردها البليغ على سبيل التشبيه لإرادة التقريب والتفهيم (أتى قوماً) أي لينذرهم بقرب عدوهم (بعيني) للتأكيد، ودفع المجاز، وهو بالتثنية وتشديد الياء الأخيرة (إني أنا النذير العريان) بضم العين وسكون الراء بعدها تحتية، من التعري، قيل: الأصل فيه أن رجلاً لقى جيشا فسلبوه وأسروه، فانفلت إلى قومه فقال: إني رأيت الجيش فسلبوني، فرأوه عرياناً فتحققوا صدقه؛ لأنهم كانوا يعرفونه ولا يتهمونه في النصيحة، ولا جرت عادته بالتعري، فقطعوا صدقه بهذه القرائن، فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - لنفسه ولما جاء به مثلاً بذلك لما أبداه من الخوارق والمعجزات الدالة على صدقة تقريباً لأفهام المخاطبين بما يألفونه ويعرفونه. وقيل: المراد المنذر الذي تجرد عن ثوبه، وأخذ يرفعه ويديره حول رأسه إعلاماً لقومه بالغارة. وكان من عادتهم أن الرجل، إذا رأى الغارة فجأتهم، وأراد إنذار قومه يتعرى من ثيابه، ويشير بها ليعلم أن قد فجأهم أمر مهم، ثم صار مثلاً لكل ما يخاف مفاجأته. (فالنجاء النجاء) بالمد والهمز فيهما، وبالقصر فيهما، وبمد الأولى وقصر الثانية تخفيفاً، مصدر نجا إذا أسرع، نصب على الإغراء أي الطلبوا النجاء بأن تسرعوا الهرب، إشارة إلى أنهم لا يطيقون مقاومة ذلك الجيش، أو على المصدر أي أنجوا النجاء، وهو الإسراع، كرر للتأكيد (فأطاعه) الإطاعة تتضمن التصديق فيحسن مقابلته بقوله: "كذبت". (فأدلجوا) من الإدلاج بهمزة قطع، أي ساروا أول الليل أو كله (على مهلهم) بفتح الميم والهاء ويسكن، أي بالسكينة والتأني

وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم، فصبحهم الجيش، فأهلكهم واجتاحهم. فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق)) . متفق عليه. 149- (10) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مثلي كمثل رجل استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حولها، جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيتقحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم ـــــــــــــــــــــــــــــ (وكذبت) التكذيب يستتبع العصيان. (فأصبحوا مكانهم) أي دخلوا وقت الصباح في مكانهم (فصبحهم الجيش) أي أتاهم صباحاً للغارة، هذا أصله ثم كثر استعماله حتى استعمل في من طرق بغتة في أي وقت كان. (واجتاحهم) بالجيم في الأولى، والمهملة في الثانية، أي استأصلهم وأهلكهم بالكلية بشئوم التكذيب. (فذلك مثل من أطاعني ... ) إلخ، قيل: هذا من التشبيهات المفروقة، شبه ذاته - صلى الله عليه وسلم - بالرجل، وما بعثه الله به من إنذار القوم بعذاب الله القريب، بإنذار الرجل قومه بالجيش المصبح، وشبه من أطاعه من أمته ومن عصاه، بمن صدق الرجل في إنذاره وكذبه. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الرقاق، وفي الاعتصام، ومسلم في الفضائل. 149- قوله: (استوقد) أي أوقد، وزيدت السين للتأكيد. (أضاءت) الإضافة فرط الإنارة (ماحولها) هذه رواية مسلم، والضمير للنار، و"أضاءت" متعدية أي أضاءت النار جوانب تلك النار، وفي رواية البخاري "ماحوله" فالضمير للمستوقد، ويجوز أن تكون أضاءت غير متعدية فيسند الفعل إلى "ما" على تأويل: أضاءت الأماكن التي حول النار أو حول المستوقد. قال القاري: ما ظهر لي وجه عدول صاحب المشكاة إلى رواية مسلم عن رواية البخاري مع كونها أصح، ومع ثبوت موافقتها للفظ القرآن الأفصح، ودلالتها على المقصود بالطريق الأوضح، مع قوله: في آخر الحديث: هذه رواية البخاري - انتهى. (جعل) أي شرع (الفراش) بفتح الفاء وتخفيف الراء دوبية طير تتساقط في النار، يقال في الفارسية: بروانة. (وهذه الدواب) قيل: عطف تفسير للفراش، وأنثه نظر لخبره أو لكون الفراش اسم جنس. وقال ابن الملك: إشارة إلى غير الفراش (التي تقع في النار) أي عادتها إلقاء نفسها في النار، كالبرغش والجندب ونحوهما. (يقعن) أي الفراش والدواب (وجعل) المستوقد (يحجز هن) بضم الجيم، أي يمنعهن من الوقوع فيها. وفي البخاري "يزعهن" بالتحتانية والزاي وضم المهملة أي يدفعهن (ويغلبنه) أي على الوقوع فيها. (فيتقحمن فيها) أي يدخلن فيها بشدة ومزاحمة، من التقحم، وهو الإقدام والوقوع في أمر شاق من غير روية وتثبت، وفي البخاري "فيتقحمن" من الاقتحام. (فأنا) الفاء فصيحة، أي إذا صح هذا التمثيل بأنى كالمستوقد وأنتم كالفراش فيما ذكر فأنا (آخذ) اسم فاعل بكسر الخاء وتنوين الذال، ويروى بصيغة المضارع من المتكلم، والأول أشهر وهما صحيحان. (بحجزكم) بضم الحاء وفتح الجيم، جمع الحجزة، وهي

عن النار، وأنتم تقحمون فيها)) . هذه رواية البخاري، ولمسلم نحوها، وقال في آخرها: قال: ((فذلك مثلى ومثلكم، أنا آخذ بحجزكم عن النار، هلم عن النار، هلم عن النار، فتغلبوني، تقحمون فيها)) . متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ معقد الإزار ومن السراويل موضع التكة، وخص ذلك بالذكر؛ لأن أخذ الوسط أقوى وأوثق من الأخذ بأحد الطرفين في التبعيد. (عن النار) وضع المسبب موضع السبب؛ لأن المراد أنه يمنعهم من الوقوع في المعاصي التي تكون سبباً لولوج النار. (وأنتم تقحمون) من باب التفعل بحذف إحدى التائين، وفي نسخة صحيحة "تقتحمون" من باب الافتعال، (هذه) أي هذه الألفاظ أو ما ذكر من أول الحديث إلى هنا، والتأنيث باعتبار الخبر، وفي نسخة "هذا" أي هذا اللفظ. (رواية البخاري) أي في باب الانتهاء عن المعاصي من الرقاق، (ولمسلم نحوها) أي نحو رواية البخاري معنى. (وقال) أي مسلم (في آخرها) أي في آخر روايته (قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (فذلك) أي المثل لمذكور (مثلي ومثلكم أنا آخذ) روي بالوجهين (هلم عن النار) أي أسرعوا إلي وأبعدوا أنفسكم عن النار، وهو في محل النصب على الحال، أي آخذ بحجزكم وأمنعكم قائلاً هلم. (فتغلبوني) النون مشددة، إذ أصله "تغلبونني" فأدغم نون الجمع في نون الوقاية، والفاء للسببية والتقدير: أنا آخذ بحجزكم لأخلصكم من النار، فجعلتم الغلبة مسببة عن الأخذ. (تقحمون فيها) حال من فاعل تغلبوني، وقيل: بدل مما قبله. وفي مسلم "وتقحمون" أي بزيادة الواو. قال النووى: مقصود الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - شبه تساقط الجاهلين والمخالفين بمعاصيهم وشهواتهم في نار الآخرة، وحرصهم على الوقوع في ذلك مع منعه إياهم وقبضه على مواضع المنع منهم، بتساقط الفراش في نار الدنيا لهواه، وضعف تمييزه، فكلاهما حريص على هلاك نفسه، ساع في ذلك لجهله - انتهى. وقال الطيبي: تحقيق التشبيه الواقع في هذا الحديث يتوقف على معرفة معنى قوله تعالى: {تلك حدود الله فلا تعتدوها، ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون} [229:2] . وذلك أن حدود الله محارمه ونواهيه، كما في الحديث الصحيح: ألا إن حمى الله محارمه، ورأس المحارم حب الدنيا وزينتها، واستيفاء لذاتها وشهواتها، فشبه - صلى الله عليه وسلم - إظهار تلك الحدود ببياناته الشافية الكافية من الكتاب والسنة باستيقاد الرجل النار، وشبه فشو ذلك في مشارق الأرض ومغاربها بإضاءة تلك النار ما حول المستوقد، وشبه الناس وعدم مبالاتهم بذلك البيان، وتعديهم حدود الله، وحرصهم على استيفاء تلك اللذات والشهوات، ومنعه إياهم عن ذلك بأخذ حجزهم، بالفراش التي يقتحمن في النار، ويغلبن المستوقد على دفعهن عن الاقتحام، كما أن المستوقد كان غرضه من فعله انتفاع الخلق به من الاستضاءة والاستدفاء وغير ذلك، والفراش لجهلها جعلته سبباً لهلاكها، فكذلك كان القصد بتلك البيانات اهتداء الأمة واجتنابها ما هو سبب هلاكهم، وهم مع ذلك لجهلهم جعلوها مقتضية لترديهم، كذا في الفتح. (متفق عليه) فيه أنه مستغنى عنه بما سبق، فإيراده لمجرد التأكيد، على أن المراد بالاتفاق هنا يحسب المعنى في الأكثر. وأخرجه أيضاً الترمذي، وصححه، وأخرج أحمد ومسلم نحوه عن جابر.

150- (11) وعن أبي موسى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء. فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 150- قوله: (والعلم) عطف على "الهدى" من عطف المدلول على الدليل؛ لأن الهدى هو الدلالة الموصلة إلى المقصد، والعلم هو المدلول، وهو صفة توجب تمييزاً لا يحتمل النقيض، والمراد به هنا الأدلة الشرعية. (كمثل الغيث) أي المطر، واختار اسم الغيث ليؤذن باضطرار الخلق إليه إذ جاءهم على فترة من الرسل، وضرب المثل بالغيث للمشابهة التي بينه وبين العلم، فإن الغيث يحيى البلد الميت والعلم يحيى القلب الميت. (أصاب) صفة للغيث على أن اللام لتعريف الجنس ومدخوله كالنكرة فيوصف بالجملة كما في قوله: {كمثل الحمار يحمل أسفارا} [5:62] ويجوز أن يكون حالاً منه (أرضاً) أي هي محل الانتفاع، وهذا القيد متروك ههنا اعتماداً على فهمه من التفصيل، وبقرينه ذكر ضده في مقابل هذا القسم وهو قوله: وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان ... الخ؛ لأن قوله: "وأصاب منها طائفة أخرى" معطوف على جملة "أصاب أرضاً" وهذا ظاهر، وعلى هذا فضمير "منها" في "وأصاب منها" لمطلق الأرض المفهوم من الكلام، لا الأرض المذكورة أولاً في قوله: أصاب أرضاً، فصار الحاصل أنه قسم الأرض بالنسبة إلى المطر إلى قسمين لا إلى ثلاثة كما توهمه كثير من الفضلاء، فظهر انطباق المثل بالمثل له، واندفع إيراد أن المذكور في المثل ثلاثة أقسام وفي الممثل له قسمان، كما لا يخفى، إلا أنه قسم القسم الأول من الأرض الذي هو محل الانتفاع أيضاً إلى قسمين: قسم ينتفع بنتائج مائه النازل فيه وثمراته لا بعين ذلك الماء، وقسم ينتفع بعين مائه، تنبيهاً على أن الذي ينتفع بعلمه الواصل إليه قسمان من الناس: قسم ينتفع بثمرات علمه ونتائجه كأهل الاجتهاد والاستخراج والاستنباط، وقسم ينتفع بعين علمه ذلك كأهل الحفظ والرواية، والحاصل أنه - صلى الله عليه وسلم - شبه ما أعطاه الله من أنواع العلوم بالوحي الجلي أو الخفي بالماء النازل من السماء في التطهير، وكمال التنظيف، والنزول من العلو إلى السفل، ثم قسم الأرض بالنظر إلى ذلك الماء قسمين: قسماً هو محل الانتفاع، وقسماً لا انتفاع فيه، وكذا قسم الناس بالنظر إلى العلم قسمين على هذا الوجه، إلا أنه قسم القسم الأول من الأرض إلى قسمين، واكتفى به في قسمة القسم الأول من الناس إلى قسمين لوضوح الأمر، وعلى هذا فأصل المثل تام بلا تقدير في الكلام. قاله السندهي، (فكانت منها طائفة طيبة قبلت) "منها" صفة "طائفة" قدمت علبها فصارت حالاً، و"طيبة " مرفوع على أنها صفة طائفة، و"قبلت" منصوبة بخبر كانت. (الكلأ) بفتح الكاف واللام، آخره مهموز مقصور، النبات رطباً ويابساً، والكلا مقصور بغير الهمزة مختص بالرطب منه، فالكلأ بالهمز أنسب ليكن عطف الأخص على الأعم. (والعشب) بضم العين، وهو مختص بالرطب من النبات. (وكانت منها) أي من الأرض التي هي محل الانتفاع (أجادب) جمع جدب، وهي الأرض الصلبة التي تمسك الماء ولا تنبت الكلأ (فنفع الله بها) أي بالأجادب (وسقوا) أي دوابهم (وزرعوا) أيما يصلح للزرع،

وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به)) . متفق عليه. 151 - (12) وعن عائشة قالت: ((تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات} ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذه رواية البخاري، هذه رواية البخاري، ولمسلم: رعوا من الرعى، وكذا للنسائي. (وأصاب) أي الغيث (منها) الجملة عطف على "أصاب أرضاً" وضمير "منها" لمطلق الأرض المفهوم من الكلام لا للأرض المذكورة أولاً في قوله: أصاب أرضاً (إنما هي) أي تلك الطائفة (قيعان) بكسر القاف جمع قاع، وهي الأرض المستوية الملساء (فذلك) أي المذكور من الأنواع (مثل من فقه) بضم القاف وكسرها، والمشهور الضم، إذا فهم وأدرك الكلام (فعلم وعلم) الأول بكسر اللام مخففة، والثاني بتشديدها، وهذا مثل الأرض التي هي محل الانتفاع. فأهل الاجتهاد منهم كالأرض الطيبة التي قبلت الماء فأنبتت العشب والكلأ، وأهل الحفظ والرواية الذين لم يبلغوا مرتبة الاجتهاد والاستخراج كالأجادب التي أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا، وسقوا وزرعوا (ومثل من لم يرفع بذلك) أي بما بعثنى الله به (رأساً) أي للتكبر، ولم يلتفت إليه من غاية تكبره، وهذا مثل الأرض التي ليست محل الانتفاع لعدم إمساك الماء وعدم إنبات الكلأ. (ولم يقبل هدى الله) بضم الهاء وفتح الدال (الذى أرسلت به) قال الطيبي: عطف تفسيرى. وفي الحديث إشارة إلى أن الاستعدادات ليست بمكتسبة بل هي مواهب ربانية، وكمالها أن تستفيض من مشكاة النبوة فلا خير في من يشتغل بغير الكتاب والسنة، وأن الفقيه من علم وعلم. (متفق عليه) أخرجه البخارى، في العلم، ومسلم في فضائل النبي، وأخرجه أيضاً أحمد (ج4:ص399) والنسائي في العلم. 151- قوله: (هو الذى أنزل عليك الكتاب) أي القرآن (منه) أي بعضه (آيات محكمات) وبعد {هن} أي تلك الآيات المحكمات {أم الكتاب} أي أصله الذى يعول عليه في الأحكام، ويعمل به في الحلال والحرام، ويرجع إليه غيره، فإن وافقه يقبل، وإلا فيحكم يبطلان ما فهمنا منه {وأخر} أي آيات أخر {متشابهات} [7:3] . قال الحافظ في الفتح: قيل المحكم من القرآن ما وضح معناه، والمتشابه نقيضه، وسمى المحكم بذلك لوضوح مفردات كلامه، وإتقان تركيبه، بخلاف المتشابه. وقيل: المحكم ما عرف المراد منه إما بالظهور، وإما بالتأويل، والمتشابه ما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة، وخروج الدجال، والحروف المقطعة في أوائل السور. وقيل في تفسير المحكم والمتشابه أقوال أخر غير هذه نحو العشر ليس هذا موضع بسطها، وما ذكرته أشهرها وأقربها إلى الصواب. وذكر أبومنصور البغدادى: أن

وقرأ إلى {وما يذكر إلا أولو الألباب} قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الأخير هو الصحيح عندنا، وابن السمعاني: أنه أحسن الأقوال، والمختار على طريقة أهل السنة، وعلى القول الأول جرى المتأخرون. قال: ودلت الآية على أن بعض القرآن محكم، وبعضه متشابه، ولا يعارض ذلك قوله: {أحكمت آياته} [1:11] ولا قوله: {كتاباً متشابهاً مثاني} [23:39] ؛ لأن المراد بالإحكام في قوله: "أحكمت" الإتقان في النظم، وأن كلها حق من عند الله، والمراد بالمتشابه كونه يشبه بعضه بعضاً في حسن السياق والنظم أيضاً، وليس المراد اشتباه معناه على سامعه، وحاصل الجواب: أن المحكم ورد بإزاء معنيين، والمتشابه ورد بإزاء معنيين - انتهى. وقال العلامة القنوجى البوفالي في فتح البيان (ج1:ص6) أخذاً من فتح القدير (ج1:ص284، 287) للعلامة الشوكاني بعد ذكر الأقوال المختلفة في معنى المحكم والمتشابه ما نصه: والأولى أن يقال: إن المحكم هو الواضح المعنى، الظاهر الدلالة، إما باعتبار نفسه، أو باعتبار غيره، والمتشابه ما لا يتضح معناه، أو لا يظهر دلالته، لا باعتبار نفسه، ولا باعتبار غيره. وإذا عرفت هذا عرفت أن الاختلاف الذى قدمناه ليس كما ينبغى، وذلك لأن أهل كل قول عرفوا المحكم ببعض صفاته، وعرفوا المتشابه بما يقابلها. ثم بين ذلك مفصلاً من شاء الوقوف عليه رجع إليه، ثم قال: إن من جملة ما يصدق عليه تفسير المتشابه الذي قدمناه، فواتح السور فإنها غير متضحة المعنى، ولا ظاهرة الدلالة، لا بالنسبة إلى أنفسها؛ لأنه لا يدري من يعلم بلغة العرب ويعرف عرف الشرع، ما معنى الم، المر، طس، طسم، ونحوها.؛ لأنه لا يجد بيانها في شيء من كلام العرب، ولا من كلام الشرع، فهي غير متضحة المعنى لا باعتبارها في نفسها، ولا باعتبار أمر آخر يفسرها ويوضحها، ومثل ذلك الألفاظ المنقولة عن لغة العجم، والألفاظ العربية التي لا توجد في لغة العرب ولا في عرف الشرع ما يوضحها، وهكذا ما استاثر الله بعلمه كالروح وما في قوله: {إن الله عنده علم الساعة، وينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام} إلى آخر الآية [34:31] ، ونحو ذلك، وهكذا ما كانت دلالته غير ظاهرة لا باعتبار نفسه، ولا باعتبار غيره، كورود الشيء محتملاً لأمرين احتمالاً لا يترجح أحدهما على الآخر باعتبار ذلك الشيء في نفسه، وذلك كالألفاظ المشتركة مع عدم ورود ما يبين المراد من معنى ذلك المشترك من الأمور الخارجة، وكذلك ورود دليلين متعارضين تعارضاً كلياً بحيث لا يمكن ترجيح أحدهما على الآخر باعتبار نفسه، ولا باعتبار أمرآخر يرجحه. وأما ما كان واضح المعنى باعتبار نفسه بأن يكون معروفاً في لغة العرب، أو عرف الشرع، أو باعتبار غيره، وذلك كالأمور الجملة التي ورد بيانها في موضع آخر من الكتاب العزيز أو السنة المطهرة، والأمور التى تعارضت دلالتها ثم ورد ما يبيّن راجحها من مرجوحها في موضع آخر من الكتاب أو السنة أو سائر المرجحات المعروفة عند أهل الأصول، المقبولة عند أهل الإنصاف، فلا شك أن هذه من المحكم لا من المتشابه، ومن زعم أنها من المتشابه فقد اشتبه عليه الصواب - انتهى. (وقرأ إلى: ومايذكر إلا أولو الألباب) والتتمة {فأما الذين في قلوبهم زيغ} أي ميل عن الحق إلى الباطل {فيتبعون ما تشابه منه} أي يبحثون عنه، ويتعلقون به، لينزلوه على مقاصدهم الفاسدة {ابتغاء الفتنة} أي طلباً منهم لفتنة الناس في دينهم، والتلبس عليهم، وإفساد ذوات بينهم، لا تحرياً للحق {وابتغاء تأويله} أي تفسيره على الوجه الذي

فإذا رأيت)) ، وعند مسلم: ((رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سماهم الله، فاحذروهم)) . متفق عليه. 152- (13) وعن عبد الله بن عمرو قال: ((هجرت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً، قال: فسمع أصوت رجلين اختلفا في آية، فخرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرف في وجهه الغضب، فقال: إنما هلك من كان قبلكم ـــــــــــــــــــــــــــــ يشتهونه، ويوافق مذاهبهم الفاسدة {وما يعلم تأويله إلا الله} أي والحال أنه ما يعلم تأويله أي ما هو الحق، أو حقيقته إلا الله {والراسخون في العلم} مبتدأ، أي الثابتون في علم الدين، الكاملون فيه {يقولون} خبر {آمنا به} أي بالمتشابه به، ووكلنا علمه إلى عالمه {كل} أي من المتشابه والمحكم {من عند ربنا} أي نزل من عنده وهو حق وصواب {ومايذكر إلا أولو الألباب} [7:3] أي العقول الخالصة وهم الراسخون في العلم، الواقفون عند متشابهه، العاملون بمحكمه بما أرشدهم الله إليه في هذه الآية. وحكمة وقوع المتشابه فيه إعلام للعقول بقصورها لتستسلم لبارئها، وتعترف بعجزها، وتسلم من العجب والغرور والتكبر والتعزز. (فإذا رأيت) بفتح التاء، على الخطاب العام أي أيها الرأي. ولهذا جمعه في "فاحذروهم" وحكى بالكسر على أنها خطاب لعائشة بياناً لشرفها وغزارة علمها، وإن كان الخطاب عاماً. (وعند مسلم رأيتم) أي بدل "رأيت" وهو يؤيد الأول (فأولئك) بفتح الكاف وقيل بالكسر (الذين سماهم الله) بأهل الزيغ أو زائغين بقوله: {في قلوبهم زيغ} (فاحذورهم) أي لا تجالسوهم، ولا تكالموهم أيها المسلمون، فإنهم أهل البدعة، فيحق لهم الإهانة. وقيل: أمر بالحذر منهم احترازاً عن الوقوع في عقيدتهم، فالمقصود التحذير من الإصغاء إليهم. قال النووى: في الحديث التحذير من مخالطة أهل الزيغ وأهل البدع، ومن يتبع المشكلات للفتنة. فأما من سأل عما أشكل عليه للاسترشاد، وتلطف في ذلك فلا بأس عليه، وجوابه واجب. وأما الأول فلا يجاب بل يزجر ويعزر كما عزر عمر بن الخطاب صبيغ بن عسل حين كان يتبع المتشابه - انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في التفسير، ومسلم في القدر، وأخرجه أيضاً أحمد، والترمذي في التفسير، وأبوداود، وابن ماجه في السنة. 152- قوله: (هجرت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) بالتشديد، أي أتيته في الهاجرة أي الظهيرة. قال المظهر: التهجير السير في الهاجرة، وهي شدة الحر، ولعل خروجه في هذا الوقت ليدركه - صلى الله عليه وسلم - عند خروجه من الحجرة فلا يفوته شيء من أقواله وأفعاله (فسمع) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - من حجرته (اختلفا) صفة "رجلين" أي تنازعا واختصما (في آية) أي في معنى آية متشابه، ويحتمل أن يكون اختلافهما في لفظهما اختلاف قراءة. (يعرف) على بناء المجهول (في وجهه الغضب) الجملة حالية من فاعل "خرج"، وكان - صلى الله عليه وسلم - لا يغضب لفنسه، وإنما كان يغضب لله فضغب ههنا زجراً عن المراء في القرآن (إنما هلك من كان قبلكم)

باختلافهم في الكتاب)) . رواه مسلم. 153- (14) وعن سعيد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم على الناس، فحرم من أجل مسألته)) ـــــــــــــــــــــــــــــ من اليهود والنصارى (باختلافهم في الكتاب) أي المنزل على نبيهم، وإنما كان الاختلاف سبباً للهلاك؛ لأنه من أمارات التردد في أمر المبعوث به، وإساءة الأدب بين يديه. قال النووى: المقصود من الحديث التحذير عن اختلاف يؤدي إلى الكفر والبدعة كاختلاف اليهود والنصارى، وذلك مثل الاختلاف في نفس القرآن، أو فى معنى منه لا يسوغ الاجتهاد فيه، أو فيما يوقع في شك وشبهة، أو فتنة وخصومة، أو شحناء، ونحو ذلك. وأما الاختلاف لإظهار الصواب، وإيضاح الخطاء، وإحقاق الحق، وإزهاق الباطل فليس منهياً عنه، بل هو مأمور به، وقد أجمع المسلمون عليه من عهد الصحابة إلى الآن -انتهى كلام النووى مختصراً. (رواه مسلم) في القدر، وأخرجه أيضاً النسائي، وأخرج البخاري عن ابن مسعود نحوه في الأشخاص وفي فضائل القرآن. 153- قوله: (وعن سعد بن أبي وقاص) بتشديد القاف، واسم أبي وقاص، مالك بن وهيب بن عبد مناف بن زهرة، يكنى سعد أبا إسحاق الزهرى القرشي المدني، أسلم قديماً وهو ابن سبع عشرة سنة، وكان سابع سبعة في الإسلام، وروي عنه أنه قال: كنت ثالث الإسلام. وأول من رمى بسهم في سبيل الله، شهد بدراً وما بعدها من المشاهد، وهو أحد العشرة المبشرة وآخرهم موتاً. وأحد ستة الشورى، وفارس الإسلام، ومقدم جيوش الإسلام في فتح العراق، وجمع له النبي - صلى الله عليه وسلم - أبويه، وحرس النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكوف الكوفة وطرد الأعاجم، وافتتح مدائن فارس، وهاجر قبل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان مجاب الدعوة، مشهوراً بذلك، تخاف دعوته، وترجى لاشتهار إجابتها. له مائتا حديث وخمسة عشر حديثاً، اتفقا عليها، وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم بثمانية عشر، روى عنه خلق كثير من الصحابة والتابعين. مات في قصره بالعقيق على عشرة أميال من المدينة. وحمل على رقاب الرجال إلى المدينة. ودفن بالبقيع سنة (55) وقيل (56) وقيل (57) وله بضع وسبعون سنة. (في المسلمين) أي في حقهم وجهتهم (جرماً) تمييز أي ذنباً وظلماً، والمعنى: أن أعظم من أجرم من المسلمين جرماً كائنا في حق المسلمين، فقوله: "في المسلمين" حال عن "جرماً" مقدمة عليه (من سأل) أي نبيه (لم يحرم) صفة لشيء. (على الناس) هذا لفظ مسلم في رواية، وفي رواية أخرى له "على المسلمين" (فحرم) بصيغة المجهول من التحريم (من أجل مسألته) أي لأجل سؤاله. قال الخطابي، والتيمي: هذا الحديث في حق من سأل تكلفاً وعبثاً، أو تعنتاً في ما لا حاجة له به إليه، فأما من سأل لضرورة فيما يحتاج إليه من أمر الدين، بأن وقعت له نازلة فسأل عنها فلا إثم عليه، ولا عتب، كسؤال عمر وغيره من الصحابة في أمر الخمر حتى حرمت بعد ما كانت حلالاً؛ لأن الحاجة دعت إليه، وسبب تخصيصه ثبوت الأمر بالسؤال مما يحتاج إليه لقوله: {فاسئلوا أهل الذكر} [7:21] فكل من الأمر

متفق عليه. 154- (15) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم، لا يضلونكم ولا يفتنونكم)) رواه مسلم. 155- (16) وعنه قال: كان أهل الكتاب يقرؤن التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، ـــــــــــــــــــــــــــــ بالسؤال والزجر عنه مخصوص بجهة غير الأخرى، وإنما كان هذا أعظم جرماً؛ لأن سراية هذا الضرر عمت المسلمين إلى انقراض العالم، فالقتل وإن كان من أكبر الكبائر فإنه يتعدى إلى القاتل أو إلى عاقتله، ولكن جرم من حرم ما سأل لأجل مسألته، فإنه تعدى إلى سائر المسلمين، فلا يمكن أن يوجد جرم ينتهى في معنى العموم إلى هذا الحد. ويؤخذ منه أن من عمل شيئاً أضر به غيره كان آثماً، وأن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يرد الشرع بخلاف ذلك (متفق عليه) أخرجه البخارى في الاعتصام، ومسلم في الفضائل، وأخرجه أيضاً أبوداود في السنة، ولفظ "في المسلمين" ليس للبخاري، وكذا لفظ "على الناس". 154- قوله: (يكون في آخر الزمان) أي آخر زمان هذه الأمة (دجالون) من الدجل وهو تلبيس الباطل بما يشبه الحق، يقال: دجل إذا موَّه ولبس، أي مزورون وملبسون وخداعون، يقولون للناس: نحن علماء ومشائخ، ندعوكم إلى الدين وهم كاذبون في ذلك، ويتحدثون بأكاذيب، ويبتدعون أحكاماً باطلة، وإعتقادات فاسدة، فاحذروهم. ويجوز أن تحمل "الأحاديث" على المشهور عند المحدثين ليكون المراد بها الموضوعات. (فإياكم) أي أبعدوا أنفسكم عنهم (وإياهم) أي أبعدوهم عنكم (لا يضلونكم) استئناف، جواب لقائل لم نبعدهم؟ لئلا يضلوكم، فحذف الجار والناصب، فعاد الفعل إلى الرفع كذا ذكره بعضهم. وقال الطيبي: كأنه قيل: ماذا يكون بعد الحذر؟ فأجيب لا يضلونكم - انتهى. وقيل: هو خبر في معنى النهي مبالغة فيكون تأكيداً للأمر بالحذر. (ولايفتنونكم) أي لا يوقعونكم في الفتنة (رواه مسلم) في مقدمة صحيحه، وأخرجه أيضاً أحمد. 155- قوله: (كان أهل الكتاب) أي اليهود (بالعبرانية) بكسر العين (ويفسرونها) أي يترجمونها (لا تصدقوا) أي فيما لم يتبين لكم صدقة، لاحتمال أن يكون كذباً، وهو الظاهر من أحوالهم (أهل الكتاب) أي اليهود والنصارى (ولا تكذبوهم) أي فيما حدثوا من التوراة والإنجيل، ولم يتبين لكم كذبه لاحتمال أن يكون صدقاً وحقاً وإن كان نادرا؛ لأن الكذوب قد يصدق، كذا في المرقاة. وقيل: لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، أي إذا

وقولوا: {آمنا بالله وما أنزل إلينا} الآية)) . رواه البخاري. 156- (17) وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع)) رواه مسلم. 157- (18) وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من نبى بعثه الله في أمته قبلي إلا كان له في أمته حواريون ـــــــــــــــــــــــــــــ كان ما يخبرونكم به محتملاً لئلا يكون في نفس الأمر صدقاً فتكذبوه، أو كذباً فتصدقوه فتقعوا في الحرج، ولم يرد النهي عن تكذيبهم فيما ورد شرعنا بخلافه، ولا عن تصديقهم فيما ورد شرعنا بوفاقه. {وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا} من القرآن (الآية) تمامها: (وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى} أي من التوراة والإنجيل، وهذا محل الشاهد يعني إن كان ما تحدثونه حقاً آمنا به؛ لأنا آمنا بجميع الرسل، وما أنزل إليهم من الله تعالى، وإن لم يكن حقاً فلا نؤمن به ولا نصدقه أبداً {وما أوتي النبيون من ربهم} تعميم بعد تخصيص {لا نفرق بين أحد منهم} أي في الإيمان بهم وبكتبهم {ونحن له} أي لله أو لما أنزل {مسلمون} [136:2] أي مطيعون أو منقادون. قال البغوي في شرح السنة: هذا الحديث أصل في وجوب التوقف فيما يشكل من الأمور فلا يقضي فيه بجواز ولا بطلان، وعلى هذا كان السلف. (رواه البخاري) في تفسير البقرة، والاعتصام، والتوحيد. 156- قوله: (كفى بالمرء) هو مفعول "كفى" والباء زائدة، و"كذباً" تمييز، و"أن يحدث" فاعل "كفى" (كذباً) الخ. يعني لو لم يكن للمرء كذب إلا تحديثه بكل ما سمع من غير تبيّنه أنه صدق أم كذب يكفيه وحسبه من الكذب؛ لأن جميع ما يسمع الرجل لا يكون صدقاً بل يكون بعضه كذباً، وهذا زجر عن التحديث بشيء لم يعلم صدقه، بل يلزم أن يبحث في كل ما سمع من الحكايات والأخبار، خاصة من أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإن علم صدقه يتحدث به، ولذا أورد هذا الحديث في باب الاعتصام بالكتاب والسنة. (رواه مسلم) في مقدمة صحيحه، وأخرجه أيضاً أبوداود في الأدب، والحاكم، وأخرج أيضاً الحاكم نحوه عن أبي أمامة. 157- قوله: (ما من نبي) زيادة "من" لاستغراق النفي، وهو يحمل على الغالب؛ لأنه جاء في حديث: أن نبياً يجيئ يوم القيامة ولم يتبعه من أمته إلا واحد (بعثه الله في أمته) كذا وقع في أكثر النسخ بالهاء بعد التاء، وكذا وقع في بعض نسخ المصابيح. قيل: والصواب ما وقع في بعض نسخ المشكاة والمصابيح "في أمة" بغير هاء موافقاً لما في صحيح مسلم (قبلي) قيل: على رواية "أمته" بالهاء يتعلق "قبلي" ببعث، أو يكون حالاً من "أمته" وعلى رواية "أمة" يكون "قبلي" صفة لأمة. (حواريون) بتشديد الياء، جمع حواري أي ناصرون. قال الطيبي: حواري الرجل صفوته وخالصته الذي أخلص ونقى من كل عيب، من الحوار بفتحتين وهو شدة البياض. وقيل: الحواري القصار بلغة النبط. وكان أصحاب عيسى

وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)) رواه مسلم. 158- (19) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً. ومن دعا إلى ضلالة، ـــــــــــــــــــــــــــــ قصارين يقصرون الثياب، أي يحورونها ويبيضونها، فلما صاروا أنصاره غلب عليهم الاسم، ثم استعير لكل من ينصر نبياً ويتبع هداه تشبيها بأولئك؛ لأنهم خلصان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام (وأصحاب) عطف تفسيري، أو الأصحاب غير الحواريين أعم منهم (سنته) أي بهديه وسيرته (ويقتدون بأمره) أي يتبعونه في أمره ونهيه. (ثم إنها) الضمير للقصة (تخلف) بضم اللام، أي تحدث (خلوف) بضم الخاء، جمع خلف بسكون اللام مع فتح الخاء كعدل وعدول، وهو الردى من الأعقاب، أو ولد السوء. والخلف بفتحتين يجمع على أخلاف كسلف وأسلاف، وهو الصالح من الأعقاب والأولاد. والمعنى أنه يجيء من بعد أولئك السلف الصالح أناس لا خير فيهم، ولا خلاق لهم في أمور الديانات. (فمن جاهدهم) جزاء شرط محذوف، أي إذا تقرر ذلك فمن حاربهم وأنكر عليهم إلخ (فهو مؤمن) قال الطيبي: التنكير للتنويع، فالأول دل على كمال الإيمان، والثالث على نقصانه. والمتوسط على القصد فيه. وفي "حبة خردل" على نفيه بالكلية. (ومن جاهدهم بقلبه) أي أنكر عليهم بقلبه بأن يكره ويغضب عليهم، ولو قدر لحاربهم باليد أو باللسان (وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) هي اسم "ليس" و"من" الإيمان" صفته قدمت فصارت حالاً منها، و"وراء ذلك" خبره. ثم ذهب المظهر إلى أن الإشارة بذلك إلى الإيمان في المرتبة الثالثة. قال الطيبي: ويحتمل أن يشار إلى المذكور كله من مراتب الايمان، أي ليس وراء ما ذكرت من مراتب الإيمان مرتبط قط؛ لأن من لم ينكر بالقلب رضى بالمنكر، والرضا بالمنكر كفر، فتكون هذه الجملة المصدرة بليس معطوفة على الجملة قبلها بكمالها. قال القاري: والأول هو الظاهر، أي وراء الجهاد بالقلب. (رواه مسلم) في الإيمان. 158- قوله: (من دعا إلى هدى) أي دعا غيره إلى ما يهتدي به من الأعمال الصالحة (كان له) أي للداعي (لا ينقص) بضم القاف (ذلك) إشارة إلى مصدر "كان" وقيل: الأظهر أنه راجع إلى "الأجر" (من أجورهم شيئاً) هو مفعول به لينقص، أي لا ينقص شيئاً من أجورهم، أو مفعول مطلق أي شيئاً من النقص. وهذا دفع لما يتوهم أن أجر الداعي إنما يكون مثلاً بالتنقيص من أجر التابع، وبضم أجر التابع إلى أجر الداعي. (إلى ضلالة) أي إلى فعل إثم

كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً)) رواه مسلم. 159- (20) وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ، فطوبى للغرباء)) ـــــــــــــــــــــــــــــ (من آثامهم) ضمير الجمع في "أجورهم" و"آثامهم" يعود "من" باعتبار المعنى. قال القاضي: أفعال العباد وإن لم تكن موجبة للثواب والعقاب إلا أن عادة الله جرت بربطها بها ارتباط المسببات بأسبابها، فكما يترتب الثواب والعقاب على ما يباشره يترتب أيضاً على ما هو مسبب عن فعله، كالإشارة إليه، والحث عليه. ولما كانت الجهة التي استوجب بها المسبب الأجر غير الجهة التي استوجب بها المباشر، لم ينقص من أجره شيئاً - انتهى. واختلفوا في أنه إذا تاب الداعي للإثم، وبقي العمل به فهل ينقطع إثم دلالته بتوبته أو لا؟ والظاهر هو الأول؛ لأن التوبة تجبُّ ما قبلها، والله أعلم. (رواه مسلم) في العلم، وأخرجه أيضاً أحمد، والترمذي في العلم، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجة في السنة. 159- قوله: (بدأ) روي بالهمزة، أي ابتدأ، وروى بدونها، أي ظهر، والأول هو الأشهر على الألسنة، ويؤيده المقابلة بالعود، فإن العود يقابل بالابتداء. وقال النووى: ضبطناه بالهمزة، ومن الابتداء. والروايتان بالفعل المبني للمعلوم، المسند إلى فاعله، واستشكل بعضهم كونه بالهمزة من البدأ بمعنى الابتداء؛ لأن بدأ المهموز متعد، ولذلك رجح ضبطه بالقصر من البدو بمعنى الظهور (الإسلام غريبا) أي في آحاد من الناس وقلة ثم انتشر، يعني كان الإسلام في أوله كالغريب الوحيد الذي لا أهل له؛ لقلة المسلمين يومئذٍ، وقلة من يعمل بالإسلام. وأصل الغريب البعيد عن الوطن (وسيعود كما بدأ) أي وسيلحقه النقص والاختلال لفساد الناس، وظهور الفتن والبدع، واندراس رسوم السنة، وعدم القيام بواجبات الإيمان حتى لا يبقى إلا في آحاد وقلة أيضاً كما بدأ (فطوبى) أي فرحة وقرة عين، أو سرور وغبطة، أو الجنة، أو شجرة فيها (للغرباء) فسرهم - صلى الله عليه وسلم - في حديث عمرو بن عوف عند الترمذي: بأنهم الذين يصلحون ما أفسد الناس بعده من سنته، كما سيأتي، وفي حديث ابن مسعود عند ابن ماجه: بالنزاع من القبائل، وهو جمع نزيع ونازع، وهو الغريب الذي أنزع عن أهله وعشيرته الذين يخرجون عن الأوطان لإقامة سنن الإسلام، وقد جاء عن بعض السلف أنهم أهل الحديث، قاله السندهي. وفيه تنبيه على أن نصرة الإسلام، والقيام بأمره يصير محتاجاً إلى التغرب عن الأوطان، والصبر على مشاق الغربة كما كان في أول الأمر. قال الطيبي: أما أن يستعار الإسلام للمسلمين والغربة هي القرينة، فيرجع معنى الوحدة والوحشة إلى نفس المسلمين، وأما أن يجرى الإسلام على الحقيقة فالكلام على التشبيه، والوحشة باعتبار ضعف الإسلام وقلته، فعلى هذا "غريباً" إما حال أي بدأ الإسلام مشابهاً للغريب، أو مفعولاً مطلقاً أي ظهور الغرباء فريداً وحيداً، لا مأوى له حتى تبوأ دار الإيمان، أي طيبة، ثم أتم الله نوره في المشارق والمغارب فيعود آخر الأمر وحيداً شريداً إلى طيبة كما بدأ. هذا، وقد أطال الشاطبي الكلام في بيان معنى الحديث في مقدمة

{الفصل الثاني}

رواه مسلم. 160- (21) وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها)) . متفق عليه. وسنذكر حديث أبي هريرة: ((ذروني ما تركتكم)) ، في كتاب المناسك، وحديثي معاوية وجابر: ((لا يزال من أمتي، ولا يزال طائفة من أمتي)) ، في باب ثواب هذه الأمة، إن شاءالله تعالى. {الفصل الثاني} 161- (22) عن ربيعة الجرشي قال: ـــــــــــــــــــــــــــــ كتاب الاعتصام (ص3-17) وأجاد وأحسن، فعليك أن تراجعها (رواه مسلم) في الإيمان، وأخرجه أيضاً ابن ماجه في الفتن، وأخرج نحوه الترمذي، وابن ماجه عن ابن مسعود، ومسلم عن ابن عمر، وأحمد عن سعد بن أبي وقاص، وابن ماجه عن أنس، والطبراني في الكبير عن سلمان، وسهل بن سعد، وابن عباس. 160- قوله: (إن الإيمان ليأرز) بكسر الراء الأكثر، ويروى بالفتح، وحكى بالضم، أي يأوي وينضم، وينقبض ويلتجئ (إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها) أي ثقبها، وهو بضم الجيم وسكون الحاء المهملة، والمراد أن أهل الإيمان يفرون بإيمانهم إلى المدينة وقاية بها عليه، أو لأنها وطنه الذي ظهر وقوي بها، وهذا إخبار عن آخر الزمان حين يقل الإسلام وينضم إلى المدينة فيبقى فيها. قال الطيبي: شبه الإيمان وفرار الناس من آفات المخالفين والتجاءهم إلى المدينة، بانضمام الحية وانقباضها في جحرها، ولعل هذه الدابة أشد فراراً وانضماماً من غيرها فشبه بها بمجرد هذا المعنى، فإن المماثلة يكفي في اعتبارها بعض الأوصاف - انتهى. قال صاحب اللمعات: الظاهر أنه إخبار عن زمان خروج الدجال كما يدل عليه الأحاديث - انتهى. وحمله عياض، والقرطبي، والنووى، والحافظ، وغيرهم على جميع الأزمنة، والأول أظهر. والمراد بالمدينة هي وجوانبها وحواليها ليشمل مكة، فيوافق رواية الحجاز الآتية في الفصل الثاني. (متفق عليه) أخرجه البخاري في فضل المدينة من الحج، ومسلم في الإيمان، وأخرجه أيضاً أحمد، وابن ماجه في الحج (وسنذكر) الخ. هذا اعتذار متضمن لاعتراض فتأمل. (حديث أبي هريرة ذروني ما تركتكم) أي إلى آخره (في كتاب المناسك) متعلق بقوله: سنذكر (وحديثي معاوية) عطف على حديث أبي هريرة (وجابر) عطف على معاوية (لا يزال من أمتي) أي أحدهما أوله هذا (و) وفي بعض النسخ: والآخر (لا يزال طائفة من أمتي) كلاهما (في باب ثواب هذه الأمة) لكنه لم يف بما وعد، فلم يذكر هناك حديث جابر. 161- قوله: (عن ربيعة الجرشي) بضم الجيم وفتح الراء المهملة بعدها معجمة، نسبة إلى جرش كزفر، مخلاف

أتى نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، فقيل له: لتنم عينك، ولتسمع أذنك، وليعقل قلبك. قال: فنامت عيني، وسمعت أذناي، وعقل قلبي. قال: فقيل لي: سيد بنى داراً، فصنع فيها مأدبة وأرسل داعياً، فمن أجاب الداعي، دخل الدار، وأكل من المأدبة، ورضي عنه السيد. ومن لم يجب الداعي، لم يدخل الدار، ولم يأكل من المأدبة، وسخط عليه السيد. قال: فالله السيد، ومحمد الداعي، والدار الإسلام، والمأدبة الجنة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ باليمن، وهو ربيعة بن عمرو، ويقال: ابن الحارث، ويقال: ابن الغاز بمعجمة وزاى، أبوالغاز الدمشقي، وهو جد هشام ابن الغاز بن ربيعة، مختلف في صحبته، ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب عن الواقدى، قال: ربيعة الجرشي قد سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث. وقال البخاري في تاريخه: له صحبة، وذكره في الصحابة المصنف، وابن حبان، وابن مندة، وأبونعيم، والباوردي، والبغوي، وابن سعد، وغيرهم، وقال أبوحاتم: ليست له صحبة، وذكره أبوزرعة الدمشقي في التابعين. وقال الدارقطني: في صحبته نظر. وقال الصورى في حاشية الطبقات: لا أعلم له صحبة. واتفقوا على أنه قتل بمرج راهط مع الضحاك بن قيس سنة (64) وكان فقيهاً، وثقه الدارقطني في الجرح والتعديل، ووثقه أيضاً غيره (أتى) بصيغة المجهول (نبي الله - صلى الله عليه وسلم -) أي أتاه آتٍ. (فقيل له) أي للنبي (لتنم عينك، ولتسمع أذنك، وليعقل قلبك) قال المظهر: أي أتى ملك إليه وقال له ذلك، ومعناه: لا تنظر بعينك إلى شيء، ولا تصغ بأذنك إلى شيء، ولا تجر شيئاً في قلبك، أي كن حاضراً حضوراً تاماً لتفهم هذا المثل. (قال: فنامت عيني) بالإفراد، وفي بعض النسخ "عيناى" بالتثنية" موافقاً لما في الدارمي (وسمعت أذناي وعقل قلبي) يعنى فأجابه بأني قد فعلت ذلك. قيل الأوامر الثلاثة واردة على الجوارح ظاهراً، وهي في الحقيقة له - صلى الله عليه وسلم - بأن يحمع بين هذه الخلال الثلاث: نوم العين، وحضور السمع والقلب، وعلى هذا جوابه بقوله: "فنامت" أي امتثلت لما أمرت به. وقيل: المراد بالأمر به الإخبار عنه، أي أنت نائم، سامع، داع؛ لأن الملك إنما جاءه وهو نائم، فقال له ذلك، وقيل: الأمر للاستمرار في الكل (فقيل لي) أي بطريق المثل من جهة الملك (سيد) خبر مبتدأ محذوف يعني "هو" وقوله: (بنى داراً) صفته، أي مثل سيد بنى داراً، ويجوز أن يكون مبتدأ و"بنى" خبره والتنوين للتعظيم، أو سوغه كونه فاعلاً معنى، قاله القاري (ورضي عنه السيد) بسبب الإجابة واللام للعهد (ومن لم يجب الداعي) تكبراً وعناداً، أو جهلاً واستبعاداً (قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو الملك. والأول أظهر، والتقدير: إن أردت بيان هذا المثل (فالله السيد، ومحمد الداعي، والدار الإسلام، والمأدبة الجنة) فإن قلت: كيف شبه في حديث جابر السابق الجنة بالدار، وفي هذا الحديث الإسلام بالدار وجعل الجنة مأدبة؟ أجيب بأنه لما كان الإسلام سبباً لدخولها اكتفى في ذلك بالمسبب عن السبب، ولما كانت الدعوة إلى الجنة لا تتم إلا بالدعوة إلى الإسلام استقام

رواه الدارمي. 162- (23) وعن أبي رافع، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدرى، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه)) رواه أحمد، وأبوداود، والترمذي، ـــــــــــــــــــــــــــــ وضع كل منهما مقام الآخر، ولما كان نعيم الجنة وبهجتها هو المطلوب الأصلي جعل الجنة نفس المأدبة مبالغة فيها، كذا حققه الطيبي (رواه الدارمي) وأخرجه أيضاً الطبراني في الكبير، وسند جيد، قاله الحافظ. 162- قوله: (وعن أبي رافع) مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، اختلف في اسمه فقيل: أسلم، وقيل: هرمز، وقيل: ثابت، وقيل: إبراهيم، وقيل غير ذلك. والأول هو الأشهر، غلبت عليه كنيته، كان قبطياً، وكان للعباس، فوهبه للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما بشر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسلام عباس أعتقه. وكان إسلامه قبل بدر ولم يشهدها، وشهد أحداً وما بعدها. له ثمانية وستون حديثاً، انفرد البخاري بحديث، ومسلم بثلاثة. روى عنه خلق كثير، مات في أول خلافة علي على الصحيح. (لا ألفين) بصيغة المتكلم المؤكدة بالنون الثقيلة، من ألفيت الشيء أي وجدته. (أحدكم) ظاهره نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه عن أن يجدهم على هذه الحالة، والمراد نهيهم عن أن يكونوا على هذه الحالة، فإنهم إذا كانوا عليها بجدهم - صلى الله عليه وسلم - كذلك، من باب إطلاق المسبب (متكئاً) حال أو مفعول ثان (على أريكته) أي سريره المزين بالحلل والأثواب في قبة أو بيت كما للعروس، يعني الذي لزم البيت، وقعد عن طلب العلم. قيل: المراد بهذه الصفة الترفه والدعة كما هو عادة المتكبر القليل الاهتمام بأمر الدين (يأتيه) حال أخرى من المفعول، ويكون النهي منصباً على المجموع، أي لا ألفين أحدكم والحال أنه متكئ ويأتيه الأمر فيقول: لا أدري، إلخ (الأمر) أي الشأن فيعم الأمر والنهي فوافق البيان بقوله: مما أمرت به أو نهيت عنه. (من أمرى) بيان الأمر، وقيل: اللام زائدة في "الأمر" ومعناه أمر من أمرى، أي شأن من شئون ديني (مما أمرت به أو نهيت عنه) بدل من أمري (ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه) ما موصولة مبتدأ خبره "اتبعناه" يعني الذي وجدناه في القرآن اتبعناه، وما وجدناه في غيره لا نتبعه، أي وهذا الأمر الذي أمر به - صلى الله عليه وسلم - أو نهى عنه ليس في كتاب الله فلا نتبعه، ويحتمل أن تكون "ما" نافية، والجملة كالتأكيد لقوله: "لا أدري" وجملة "اتبعناه" حال أي وقد اتبعنا كتاب الله فلا نتبع غيره، والمقصود النهي عن الإعراض عن حديثه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن المعرض عنه معرض عن القرآن، فالحديث حجة شرعية كالقرآن. قال السندي: وقول بعض أهل الأصول: لا يجوز الزيادة على الكتاب بخبر، في الصورة أشبه شيء بهذا المنهي عنه، وإن كان معناه لا يجوز تقييد إطلاق الكتاب بخبر الآحاد، فالاحتراز عن إطلاق ذلك اللفظ أحسن وأولى، انتهى. والحديث دليل من دلائل النبوة، وعلم من أعلامها، فقد وقع ما أخبر به كما لا يخفى على أهل الهند سيما أهل الفنجاب من باكستان. (رواه أحمد) رجاله رجال الحسن (وأبوداود) في السنة (والترمذي) في العلم، وقال "حسن".

وابن ماجه، والبيهقي في دلائل النبوة. 163- (24) وعن المقدام بن معديكرب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه. وإن ما حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـــــــــــــــــــــــــــــ (وابن ماجه) في السنة (والبيهقي في دلائل النبوة) وأخرجه أيضاً الحاكم. 163- قوله: (وعن المقدام) بكسر ميم (بن معد يكرب) بفتح الكاف وكسر الراء، وأما الباء فيجوز كسرها مع التنوين على الإضافة، ويجوز فتحه على البناء، كذا في تهذيب الأسماء. قال القاري: والثاني هو الصحيح من النسخ، وهو المقدام بن معديكرب بن عمرو بن يزيد بن معديكرب الكندي يكنى أباكريمة، وقيل: كنيته أبويحيى، صحابي مشهور، نزل الشام، وحديثه فيهم. مات سنة (47) على الصحيح، وله (91) سنة. روي له أربعون حديثاً، انفرد له البخاري بحديث، روى عنه خلق (ألا أني أوتيت) أي آتاني الله (القرآن، ومثله معه) أي أعطيت القرآن ومثل القرآن حال كونه منضماً معه. قال البيهقي: هذا الحديث يحتمل وجهين: أحدهما أنه أوتي من الوحي الباطن غير المتلو، مثل ما أوتي من الظاهر المتلو، والثاني أن معناه أنه أوتي الكتاب وحياً يتلى، وأوتي مثله من البيان، أي أذن له أن يبين ما في الكتاب فيعم ويخص، وأن يزيد عليه فيشرع ما ليس في الكتاب له ذكر، فيكون ذلك في وجوب الحكم ولزوم العمل به كالظاهر المتلو من القرآن يعني أوتيت القرآن، وأحكاماً، ومواعظ، وأمثلاً، تماثل القرآن في كونها واجبة القبول، أو في المقدار (ألا) قال الطيبي: في تكرير كلمة التنبيه توبيخ وتقريع نشأ من غضب عظيم على من ترك السنة والعمل بالحديث استغناء بالكتاب، فكيف بمن رجح الرأي على الحديث؟ انتهى (يوشك) بكسر الشين مضارع أوشك أي يقرب (شبعان) بالضم من غيرتنوين كناية عن البلادة وسو الفهم الناشئ من الشبع وكثرة الأكل، أو من الحماقة اللازمة للتنعم والغرور بالمال والجاه (على أريكته) أي متكئاً أو جالساً عليها، وفيه تأكيد لحماقة القائل وبطره، وسوء أدبه. قال الأبهرى: المتكئ القاعدة المتقوى على وطاء متمكناً، والعامة لا تعرف المتكئ إلا من مال في قعوده معتمداً على أحد شقيه -انتهى. (يقول) أي لأصحابه في رد الحديث حيث لا يوافق هواه، وهو خبر "يوشك" (عليكم بهذا القرآن) أي الزموه واعملوا به، ولا تلتفتوا إلى غيره (فما وجدتم فيه) أي في القرآن (من حلال) بيان لـ"ما" (فأحلوه) أي اعتقدوه حلاله، أو احكموا بأنه حلال، واستعملوه (فحرموه) أي اعتقدوه حراماً واجتنبوه. قال الخطابي: يحذر بذلك مخالفة السنن التي سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما ليس له ذكر في القرآن على ما ذهب إليه الخوارج، فإنهم تعلقوا بظاهر القرآن وتركوا السنن التي ضمنت بيان الكتاب فتحيروا وضلوا. (وان ما حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي وأحل، وهذا ابتداء الكلام من

كما حرم الله، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ولا لقطة معاهد إلا أن يتسغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه)) .. ـــــــــــــــــــــــــــــ النبي - صلى الله عليه وسلم -، والواو للحال، وفيه التفات، أي الذي حرمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غير القرآن (كما حرم الله) أي وأحل، أي في القرآن. وفي ابن ماجه: ألا وإن ما حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ما حرم الله. قال السندي: "وإن ما حرم" عطف على مقدر، أي ألا إن ما في القرآن حق، وإن ما حرم ... الخ. مثل ما حرم الله، أي في القرآن، وإلا فما حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو عين ما حرم الله، فإن التحريم يضاف إلى الرسول باعتبار التبليغ وإلا هو في الحقيقة لله. والمراد أنه مثله في وجوب الطاعة ولزوم العمل به- انتهى. (ألا لا يحل لكم) شروع في بيان ما ثبت بالسنة، ولم يوجد له ذكر في الكتاب على سبيل التمثيل لا التحديد (الحمار الأهلي) التخصيص بالصفة لنفي عموم الحكم؛ لأن البري حلال (ولا كل ذي ناب من السباع) أي سباع الوحوش كالأسد والذئب (ولا لقطة) بضم اللام وفتح القاف، مما يلتقط مما ضاع من شخص بسقوط أو غفلة (معاهد) أي كافر بينه وبين المسلمين عهد بأمان في تجارة، أو رسالة، وفي معناه الذمي. (إلا أن يستغني عنها صاحبها) أي يتركها لمن أخذها استغناء عنها، وهذا تخصيص بالإضافة، ويثبت الحكم في لقطة المسلم بطريق الأولى، وقيل: وجه التخصيص الاهتمام بشأن المعاهد لعهده؛ لأن النفس ربما تتساهل في لقطته لكونه كافراً، ولأنه بعيد عن المسامحة، بخلاف المسلم (ومن نزول بقوم) أي من استضاف قوماً (فعليهم أن يقروه) بفتح الياء وضم الراء، أي يضيفوه من قريت الضيف قرى إذا أحسنت إليه. وفيه دليل على وجوب القرى، وإليه ذهب أحمد، وحمله الأئمة الثلاثة على الندب (فإن لم يقروه فله) أي فللنازل (أن يعقبهم) من الإعقاب بأن يتبعهم ويجازيهم من صنيعه. يقال: أعقبه بطاعته إذا جازاه، وروي بالتشديد (مثل قراه) بالكسر والقصر لا غير. قال الجزرى في النهاية: أي فله أن يأخذ منهم عوضاً عما حرموه من القرى، يقال: عقبهم مشدداً ومخففاً، وأعقبهم، وإذا أخذ منهم عقبى وعقبة، وهو أن يأخذ عنهم بدلاً عما فاته -انتهى. وفيه تأكيد لوجوب القرى، فإنه يدل على إباحة العقوبة بأخذ المال لمن ترك ذلك، وهذا لا يكون في غير واجب. وأجاب القائلون بندب الإضافة عن هذا الحديث بأنه يحتمل أن الأمر بأخذ مقدار القرى من مال المنزول به كان من جملة العقوبات التي نسخت بوجوب الزكاة، ورد بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال. وأجابوا أيضاً بأنه محمول على المضطر، فإنه يجب إطعامه إجماعاً. ورد بأن لا دليل على هذا الحمل ولا دعت إليه حاجة، فلا يلتفت إليه. وأجابوا أيضاً بأنه كان في أول الإسلام ثم صار منسوخاً. وأجابوا أيضاً بأنه محمول على من مر بأهل الذمة الذين شرط علهم ضيافة من يمر بهم من المسلمين. ورد بأن هذا الحمل ضعيف بل باطل؛ لأنه إنما صار هذا في زمن عمر بن الخطاب. والراجح عندي ما ذهب إليه أحمد لحديث المقدام وغيره مما يدل على وجوب الضيافة، وهو مخصص لحديث حرمة الأمول إلا بطيبة

رواه أبوداود، وروى الدارمي نحوه، وكذا ابن ماجة إلى قوله: كما حرم الله. 164- (25) وعن العرباض بن سارية، قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((أيحسب أحدكم متكئاً على أريكته يظن أن الله لم يحرم شيئاً إلا ما في هذا القرآن؟ ألا وإني والله قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء إنها لمثل القرآن أو أكثر، وإن الله لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب ـــــــــــــــــــــــــــــ الأنفس، وسيأتي بسط الكلام في ذلك في باب الضيافة إن شاءالله. (رواه أبوداود) في الأطعمة مختصراً، وفي السنة بهذا اللفظ إلا أنه ليس فيه قوله: وإن ما حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما حرم الله (وروى الدارمي نحوه) أي بالمعنى (وكذا) روى نحوه (ابن ماجه) في السنة لكن (إلى قوله: كما حرم الله) وأخرج أيضاً نحوه مختصراً الترمذي في العلم، وقال: حسن غريب. والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. وأحمد (ج4:ص131) مطولاً بلفظ أبي داود. 164- قوله: (وعن العرباض) بكسر أوله وسكون الراء بعدها موحدة وبعد الألف معجمة (بن سارية) السلمى يكنى أبا نجيح، صحابي مشهور من أهل الصفة، سكن الشام ومات بها سنة (75) وهو ممن نزل فيه قوله تعالى: {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم} [92:9] الخ. روى عنه من الصحابة أبورهم وأبوأمامة، وروى عنه جماعة من تابعي أهل الشام، له أحد وثلاثون حديثاً. وقال البرقي: بضعة عشر حديثاً. (قام) أي خطيباً أو خطب (أيحسب) بكسر السين وفتحها أي أيظن (متكئاً) حال (يظن) بدل من "يحسب" بدل الفعل من الفعل للبيان والتفسير، قاله الأشرف. قال الطيبي: ويجوز أن يكون التكرار للتأكيد كما في قوله تعالى: {لا تحسبن الذين يفرحون بما أوتوا "إلى قوله:" فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب} [188:3] (ألا) للتنبيه (وإني) الواو للحال، قال الطيبي: الواو ههنا بمنزلة الواو في "وإن ما" في الحديث السابق؛ لأن الهمزة للإنكار أي همزة "أيحسب" والمعنى: أيحسب أحدكم أن الله تعالى حصر المحرمات في القرآن والحال أني قد حرمت، فأقحم حرف التنبيه المتضمن للإنكار بين الحال وعاملها، كما أقحم حرف الإنكار بين المبتدأ والخبر في قوله: {أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار} [39: 19] ، جاءت الهمزة مؤكدة معادة بين المبتدأ المتضمن للشرط وبين الخبر، ذكره الزجاج (عن أشياء) متعلق بالنهي فحسب، ومتعلق الأمر والموعظة محذوف، أي بأشياء (إنها) أي الأشياء المأمورة والمنهية عنها على لساني بالوحي الغير المتلو (لمثل القرآن) أي في المقدار (أو أكثر) أي بل أكثر. قال القاري: وقد يستشكل هذا بقوله تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء} [89:16] بناءً على بأنه على عمومه، أي فيما يحتاج إليه في الدين. ويجاب بأن نسبة هذا إليه - صلى الله عليه وسلم - إنما هو لكونه الذي استنبطه واستخراجه من القرآن، ولذا قال الشافعي: كل ما حكم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو مما فهمه من القرآن، ثم أخرج ما يؤيده وهو قوله: - صلى الله عليه وسلم -: ((إني لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه، ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه)) . (لم يحل لكم) من الإحلال (أهل الكتاب

إلا بإذن، ولا ضرب نسائهم، ولا أكل ثمارهم إذا أعطوكم الذي عليهم)) . رواه أبوداود، وفي إسناده أشعث بن شعبة المصيصي، قد تكلم فيه. 165- (26) وعنه، قال: ((صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم، ثم أقبل علينا بوجهه فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب. فقال رجل: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كأن هذه موعظة مودع فأوصنا، فقال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، ـــــــــــــــــــــــــــــ يعني أهل الذمة الذين قبلوا الجزية (إلا بإذن) وفي بعض النسخ المصححة "إلا بإذنهم" أي إلا أن يأذنوا لكم بالطوع والرغبة (ولا أكل ثمارهم) أي بالقهر من بساتينهم فضلاً عن بقية أموالهم. (إذا أعطوكم الذي عليهم) أي من الجزية وما عاهدوا عليه والتزموه. (رواه) . قال القاري: كذا أي بياض في أصل المشكاة بعد قوله: "رواه" وسببه تقدم في الخطبة، فألحقه ميرك شاه في هذا المحل، وقال: رواه أبوداود وفي إسناده أشعث بن شعبة المصيصي تكلم فيه- انتهى. قلت: أخرج الحديث أبوداود في كتاب الخراج، وسكت عنه. وقال المنذري: في إسناده أشعث بن شعبة المصيصي، وفيه مقال - انتهى. وفي التهذيب (ج1: ص354) قال أبوزرعة: لين، وذكره ابن حبان في الثقات. قال الحفاظ: وفي سؤالات الأحمرى عن أبي داود: أشعث بن شعبة ثقة. وقال في التقريب: هو مقبول. والمصيصي بكسر الميم والمهملة المشددة، نسبة إلى المصيصة مدينة على ساحل البحر، كذا في لب اللباب. وفي القاموس: والمصيصة كسفينة بلد بالشام ولا تشدد. 165- قوله: (صلى بنا) أي إماماً لنا (بوجهه) تأكيد (فوعظنا) بفتح الظاء (بليغة) أي تامة في الإنذار من المبالغة، أي بالغ فيها بالإنذار والتخويف، لا من البلاغة المفسرة بوجازة اللفظ وكثرة المعنى مع البيان، لعدم المناسبة بالمقام (ذرفت) بفتح الراء. أي دمعت (منها) أي من موعظته (العيون) أي سالت دموع العيون، وفي إسناد "الذرف" إلى "العيون" مع أن السائل دموعها مبالغة، والمقصود أنها أثرت فيهم ظاهراً وباطناً. (ووجلت) بكسر الجيم أي خافت (منها القلوب) لتأثيرها في النفوس واستيلاء سلطان الخشية على القلوب (فقال رجل) وفي رواية لأحمد "قلنا" وفي رواية للحاكم "فقلنا" (كأن) بالتشديد (موعظة مودع) اسم فاعل من ودع، أي المبالغة تدل على أنك تودعنا، فإن المودع عند الوداع لا يترك شيئاً مما يهم المودع بفتح الدال، ويفتقر إليه إلا ويورده، ويستقصي فيه (فأوصنا) أي إذا كان الأمر كذلك فمرنا بما فيه كمال صلاحنا (أوصيكم بتقوى الله) هذا من جوامع الكلم؛ لأن التقوى امتثال المأمورات واجتناب المنهيات، وهي كافلة سعادة الدنيا والآخرة لمن تمسك بها وهي وصية الله للأولين والآخرين. (والسمع والطاعة) أي وبقبول قول من يلي أمركم من المسلمين وطاعته ما لم يأمر بمعصية عادلاً كان أو جائراً، وإلا فلا سمع ولا طاعة لمخلوق في

وإن كان عبداً حبشياً، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسني وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، ـــــــــــــــــــــــــــــ معصية الخالق (وإن كان عبداً حبشياً) أي ولوكان الأمير الذى ولاه الخليفة عليكم أدنى الخلق فلا تستنكفوا عن إطاعته مخافة إثارة الحروب وتهييج الفتن وظهور الفساد في الأرض، وفي رواية الحاكم: وإن أمر عليكم عبد حبشي. وفيه دليل على أن الكلام في الأمير الذي ولاه الخليفة لا في الخليفة حتى يرد أنه كيف يكون الخليفة عبداً حبشيا، ويشهد لذلك حديث على عند الحاكم: ((وإن أمرت قريش فيكم عبداً حبشياً مجدعاً فاسمعوا له وأطيعوا)) . إسناده جيد، على أن المحل محل المبالغة في لزوم الطاعة، ففرض الخليفة عبدا حبشيا لإفادة المبالغة يحتمل. وقيل: هو محمول على المتغلب المتسلط فإنه تصح خلافته تسلطاً وتغلباً. (فإنه من يعش) بالجزم (منكم بعدي) الخ. هذا بمنزلة التعليل للوصية بما تقدم. أي السمع والطاعة مما يدفع الخلاف الشديد فهو خير، قال الطيبي: الفاء في "فإنه" للسببية جعل ما بعدها سبباً لما قبلها، يعني من قبل وصيتي والتزم تقوى الله، وقبل طاعة من ولي عليه، ولم يهيج الفتن أمن بعدي ما يرى من الاختلاف الكثير، وتشعب الآراء، ووقوع الفتن والحروب، وظهور البدع والأهواء (بسنتي) أي بطريقتي الثابتة عني واجباً أو مندوباً (وسنة الخلفاء) ؛ لأنهم فيما سنوه إما متبعون لسنة نفسها، وإما متبعون لما فهموا من سنتي في الجملة والتفصيل على وجه يخفى على غيرهم مثله (الراشدين) أي الذين أوتوا الرشد والسداد في مقاصدهم الصحيحة. (المهديين) أي الذين هداهم الله إلى الحق، والمعنى: الزموا طريقتهم، وقد كانت طريقتهم هي نفس طريقته - صلى الله عليه وسلم -، فإنهم أشد الناس حرصاً عليها، وعملاً بها في كل شيء، وعلى كل حال، فالإضافة إليهم إما لاشتهارها في زمانهم وعملهم بها، أو لاستنباطهم واختيارهم إياها. قال التوربشتي في شرح المصابيح: المعنيون بهذا القول هو الخلفاء الأربعة؛ لأنه قال في حديث آخر: الخلافة بعدي ثلاثون سنة، وقد انتهت الثلاثون بخلافة علي، وليس معنى هذا القول نفي الخلافة عن غيرهم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يكون في أمتي اثنا عشر خليفة)) وإنما المراد تفخيم أمرهم، وتصويب رأيهم، والشهادة لهم بالتفوق فيما يمتازون به عن غيرهم من الإصابة في العلم، وحسن السيرة، واستقامة الأحوال، ولهذا وصفهم بالراشدين، وهم الذين أوتوا رشدهم في مقاصدهم الصحيحة، وهدوا إلى الأقوم والأصلح في أقوالهم وأفعالهم. وإنما ذكر سنتهم في مقابلة سنته لأمرين: أحدهما علم أنه لا يخطئون فيما يستخرجونه من سنته باجتهادهم، والثاني أنه - صلى الله عليه وسلم - علم أن بعضاً من سننه لا يشتهر بزمانه، وإن علم الأفراد من أصحابه ثم يشتهر في زمانهم فيضاف إليهم، فربما يستدرع أحد من رد تلك السنن بإضافتها إليهم فأطلق القول باتباع سنتهم سداً لهذا الباب -انتهى مختصراً. وقيل: الحديث عام في كل خليفة راشد لا يخص الخلفاء الراشدين الأربعة، ومعلوم من قواعد الشريعة أنه ليس لخليفة راشد أن يشرع طريقة غير ما كان عليها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فليس المراد في الحديث بسنة الخلفاء الراشدين، إلا طريقتهم الموافقة لطريقته - صلى الله عليه وسلم - من جهاد الأعداء وتقوية شعائر الدين ونحوها. وقال الشوكاني في مجموعة فتاواه التي سماها ولده بالفتح الرباني في الجواب عن معنى هذا الحديث: المراد بالسنة الطريقة، فكأنه قال: الزموا

تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)) . رواه أحمد، وأبوداود، ـــــــــــــــــــــــــــــ طريقتي وطريقة الخلفاء الراشدين، وقد كانت طريقهم هي نفس طريقته، فإنهم أشد الناس حرصاً عليها، وعملاً بها في كل شيء، وعلى كل حال، وكانوا يتوقون مخالفته في أصغر الأمور فضلا عن أكبرها، وكانوا إذا أعوزهم الدليل من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - عملوا بما يظهر لهم من الرأي بعد الفحص والبحث والتشاور والتدبر، وهذا الرأى عند عدم الدليل هو أيضاً من سنته لما دل عليه حديث معاذ لما قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بما تقضى؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد. قال: فبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: فإن لم تجد. قال: أجتهد رأيي. قال: الحمدلله الذي وفق رسول رسوله)) . أو كما قال. وهذا الحديث وإن تكلم فيه بعض أهل العلم بما هو معروف فالحق أنه من قسم الحسن لغيره، وهو معمول به، فإن قلت: إذا كان ما عملوا فيه بالرأي هو من سنته لم يبق لقوله: "وسنة الخلفاء الراشدين" ثمرة. قلت: ثمرته أن من الناس من لم يدرك زمنه - صلى الله عليه وسلم - وأدرك زمن الخلفاء الراشدين، أو أدرك زمنه وزمن الخلفاء، ولكنه حدث أمر لم يحدث في زمنه، ففعله الخلفاء، فأشار بهذا الإرشاد إلى سنة الخلفاء إلى دفع ما عساه يتردد في بعض النفوس من الشك، ويختلج فيها من الظنون، فأقل فوائد الحديث أن ما يصدر عنهم من الرأي وإن كان من سنته كما مر ولكنه أولى من رأي غيرهم عند عدم الدليل. وبالجملة فكثيراً ما كان - صلى الله عليه وسلم - ينسب الفعل أو الترك إليه وإلى أصحابه في حياته مع أنه لا فائدة لنسبته إلى غيره مع نسبته إليه؛ لأنه محل القدوة ومكان الأسوة -انتهى. وقيل المعنى في ذكر سنة الخلفاء مع سنته: أن يعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مات وهو على تلك السنة، وأنه لايحتاج مع قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قول أحد، فلا زائد إذا على ما ثبت في السنة النبوية، إلا أنه قد يخاف أن تكون منسوخة بسنة أخرى، فافتقر العلماء إلى النظر في عمل الخلفاء بعده ليعلموا أن ذلك هو الذي مات عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير أن يكون له ناسخ؛ لأنهم كانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمره (تمسكوا بها) أي بالسنة (وعضوا) بفتح العين (عليها) أي على السنة (بالنواجذ) بالذال المعجمة، وهي الأضراس جمع ناجذة أراد به الجد في لزوم السنة، كفعل من أمسك الشيء بين أضراسه، وعض عليه منعاً من أن ينتزع، أو الصبر على ما يصيب من التعب في ذات الله كما يفعله المتألم بالوجع يصيبه ولا يرد أن يظهره. (وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة) فيه تحذير للأمة من اتباع الأمور المحدثة المبتدعة، وأكد ذلك بقوله: (وكل بدعة ضلالة) والمراد بالبدعة ما أحدث في الدين ما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، وأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعاً وإن كان بدعة لغة. وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية، فمن ذلك قول عمر - رضي الله عنه - لما جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد، وخرج ورآهم يصلون كذلك فقال: نعمت البدعة هذه. فالبدع الشرعية كلها مذمومة؛ لأنها موجبة للضلال والغواية، وارجع إلى الاعتصام (ج1:ص147، 167) وشرع الأربعين لابن رجب (ص185-193) (رواه أحمد) (ج4:ص126، 127) (وأبوداود) في السنة

والترمذي، وابن ماجه، إلا أنهما لم يذكرا الصلاة. 166- (27) وعن عبد الله بن مسعود قال: ((خط لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطاً، ثم قال: هذا سبيل الله، ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله، وقال: هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه. وقرأ {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه} الآية)) .رواه أحمد، والنسائي، والدارمي. ـــــــــــــــــــــــــــــ (والترمذي) في العلم. وقال: حديث حسن صحيح (وابن ماجه) في السنة، وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه، والحاكم وقال: صحيح على شرطهما، وليس له علة. (إلا أنهما) أي الترمذي وابن ماجه (لم يذكرا الصلاة) أي لم يوردا أول الحديث، وهو قول العرباض: "صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، بل قالا: وعظنا، كما في المصابيح. 166- قوله: {خط لنا) أي خط لأجلنا تقريباً وتفهيماً وتعليماً لنا؛ لأن التصوير والتمثيل إنما يسلك ويصار إليه لإبراز المعاني المحتجبة، ورفع الأستار عن الرموز المكنونة؛ لتظهر في صورة المشاهد المحسوس، فيساعد فيه الوهم العقل ويصالحه عليه. (خطاً) أي مستوياً مستقيماً (هذا سبيل الله) أي هذا الدين القويم والصراط المستقيم، وهما الاعتقاد الحق والعمل الصالح، وهذا الخط لما كان مثالاً سماه سبيل الله، كذا قاله ابن الملك. قال القاري: والأظهر أن المشار إليه بهذا هو الخط المستوي، والتقدير هذا مثل سبيل الله، أو هذا سبيل الله مثلاً. وقيل: تشبيه بليغ معكوس، أي سبيل الله الذي هو عليه وأصحابه مثل الخط في كونه علىغاية الاستقامة. (ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله) أي خطوطاً منحرفة عن يمين الخط المستوى وعن شماله. (وقال: هذه) أي الخطوط (سبل) أي سبل للشيطان. (على كل سبيل) أي رأسه (منها) أي من السبل (شيطان) من الشياطين، (يدعو) ذلك الشياطين الناس (إليه) أي سبيل من السبل، وفيه إشارة إلى أن سبيل الله وسط وقصد، ليس فيه تفريط ولا إفراط، وسبل أهل البدع منحرفة عن الاستقامة وفيها تقصير وغلو. (وقرأ) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {وأن هذا} بالفتح والتشديد على تقدير أتل عليهم، وقيل: على تقدير لام التعليل المتعلقة باتبعوه، أي اتبعوه لأنه مستقيم، و"هذا" إشارة إلى ما ذكر في الآيتين قبله من الأوامر والنواهي، وقيل: الإشارة إلى ما ذكر في هذه السورة أي سورة الأنعام، فإنها بأسرها في إثبات التوحيد والنبوة وبيان الشريعة. (صراطي) أي ديني وهو خبر "أن". (مستقيماً) حال مؤكدة والعامل فيها اسم الإشارة. (الآية) بعدها {ولا تتبعوا السبل} أي سبل الشياطين المنحرفة الزائغة من طرق الشرك والبدعة والضلالة. {فتفرق بكم} بحذف إحدى التائين منصوب بإضمار "أن" بعد الفاء في جواب النهي. {عن سبيله} [153:6] . إشارة إلى أنه لا يمكن اجتماع سبيل الحق مع السبل الباطلة، وفيه أن أصحاب سبيل الحق والصراط المستقيم هي الفرقة الناجية، وأصحاب السبل المنحرفة هي الفرق الغير الناجية. (رواه أحمد والنسائي والدارمي) وأخرجه أيضاً الحاكم وقال: صحيح. وعبد ابن حميد، والبزار، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وله شاهد من حديث جابر عند أحمد، وابن ماجه، والبزار.

167- (28) وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)) . رواه في شرح السنة، وقال النووى في أربعينه: هذا حديث صحيح، رويناه في "كتاب الحجة" بإسناد صحيح. ـــــــــــــــــــــــــــــ 167- قوله: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه) أي ميل نفسه (تبعاً لما جئت به) هذا محمول على نفي أصل الإيمان، أي حتى يكون تابعاً مقتدياً لما جئت به من الدين والشرع عن الاعتقاد، لا عن الإكراه وخوف السيف كالمنافقين. وقيل: المراد نفي الكمال، أي لا يكمل إيمان أحدكم حتى يكون في متابعة الشرع وموافقته له كموافقته لمألوفاته، فيستمر على الطاعة من غيركلفة وكراهية، وذلك عند ذهاب كدر النفس، وبقاء صفوتها، وهذه حالة نادرة إلا في المحفوظين من أوليائه. وقيل في معناه: حتى يحب ما أمر به ويكره ما نهى عنه، أي يقدم الشرع على هواه. (رواه) أي البغوى (في شرح السنة) بإسناده. (وقال النووى) بالقصر. قال القاري: ويجوز المد، نسبة إلى نوى قرية من أعمال دمشق، وهو أبوزكريا محي الدين يحيى بن شرف الحزامي - بكسر الحاء المهملة وبالزاى-، نسبة إلى حزام أحد أجداده. ولد في أوائل المحرم سنة (631) . كان عالماً فاضلاً متورعاً، فقيهاً محدثاً ثبتاً حجة، له تصانيف كثيرة مشهورة، وتأليفات عجيبة مفيدة، في الفقه مثل الروضة، وفي الحديث مثل الرياض والأذكار، وفي شرحه مثل شرح مسلم، وغير ذلك من معرفة علوم الحديث واللغة، سمع من المشائخ الكبار، ومنه خلق كثير، وأجاز رواية شرح مسلم والأذكار لجميع المسلمين، نشأ بقريته نوى، وحفظ الختمة، وقدم دمشق سنة (650) وله تسع عشرة سنة، فتفقه وبرع، وكان خشن العيش، قانعاً بالقوت، تاركاً للشهوات، صاحب عبادة وخوف، وكان قوالاً بالحق، كبير الشأن، كثير السهر، مكباً على العلم والعمل، مات في رجب سنة (676) وعاش (45) سنة، وقد بسط ترجمته الذهبي في تذكرة الحفاظ (ج4: ص259، 264) ، فمن شاء فليرجع إليه. (في أربعينه) أي الأربعين حديثاً الذي صنفه. (هذا حديث صحيح، رويناه) بصيغة المجهول (في كتاب الحجة بإسناد صحيح) أي رواه لنا صاحب كتاب الحجة، وهو الشيخ أبوالفتح نصر بن إبراهيم المقدسي الشافعي الفقيه الزاهد نزيل دمشق، وكتابه هذا، هو "كتاب الحجة على تاركى سلوك طريق المحجة"، يتضمن ذكر أصول الدين على قواعد أهل الحديث والسنة. والحديث أخرجه أيضاً الحافظ أبونعيم في كتاب الأربعين، والطبراني، وأبوبكر بن عاصم الأصبهاني، والحكيم الترمذي، وأبونصر السجزى في الإبانة وقال: حسن غريب. والخطيب، ونسبه الشيخ الألباني للحسن بن سفيان، وابن عساكر، قال: أخرجاه في أربعينهما. وقد تعقب الحافظ ابن رجب على النووي في تصحيح الحديث، فقال: تصحيح الحديث بعيد جداً من وجوه، ثم ذكرها، إن شئت الوقوف عليها فارجع إلى شرحه لأربعين النووى (ص282) .

168- (29) وعن بلال بن الحارث المنزنى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحي سنة من سنتي قد أميتت بعدي، فإن له من الأجر مثل أجور من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ورسوله، كان عليه من الإثم مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً) رواه الترمذي. 169- ورواه ابن ماجه عن كثير بن عبد الله بن عمرو عن أبيه، ـــــــــــــــــــــــــــــ 168- قوله: (وعن بلال بن الحارث المزنى) بضم الميم وفتح الزاى، نسبة إلى مزينة، يكنى أبا عبد الرحمن، من أهل المدينة، كان أول من قدم من مزينة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في رجال من مزينة في رجب سنة (5) من الهجرة، أقطعه النبي - صلى الله عليه وسلم - العقيق، وكان صاحب لواء مزينة يوم الفتح، وكان يسكن وراء المدينة، ثم تحول إلى البصرة. له ثمانية أحاديث. مات سنة (60) وله (80) سنة. (من أحيى سنة) أي أظهرها وأشاعها بالقول والعمل. قال المظهر: السنة ما وضعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحكام الدين، وهي قد تكون فرضاً كزكاة الفطر، وغير فرض كصلاة العيدين، وقراءة الناس القرآن في غير الصلاة، وما أشبه ذلك، وإحيائها أن يعمل بها ويحرض الناس عليها. (من سنتي) النظر يقتضي أن يقال: من سنني، بلفظ الجمع، لكن الرواية بالإفراد، فيحمل المفرد على الجنس الشائع في الافراد. (قد أميتت بعدي) أي تركت عن العمل بها. استعير الإماتة لما يقابل الإحياء، من الترك ومنع الناس عن إقامتها، كما استعير الإحياء للعمل بها وحث الناس عليها. (من غير أن ينقص) على بناء الفاعل، وضميره لإعطاء مثل أجر العاملين لمن أحياها. (من أجورهم) "من" للتبعيض أي من أجور من عمل بها، فأفرد أولاً رعاية للفظه، وجمع ثانياً لمعناه. (شيئاً) مفعول به أو مفعول مطلق؛ لأنه حصل له باعتبار الإحياء والدلالة والحث، وللعاملين باعتبار الفعل، فلم يتواردا على محل واحد حتى يتوهم أن حصول أحدهما ينقص الآخر (بدعة ضلالة) بالإضافة، ويجوز أن ينصب نعتاً ومنعوتاً، وقيد البدعة بالضلالة لإخراج البدعة الغير الشرعية، أو هي صفة كاشفة للبدعة (لا يرضاها الله ورسوله) صفة كاشفة لقوله: "بدعة"، وصفت بهذا تقبيحاً للبدعة، وإلا فكل بدعة كذلك بالمعنى الذي ذكرناه، وهو ما لا أصل له في الشرع، يدل عليه (كان عليه من الإثم) أي الوزر، وليست لفظة "من الإثم" في الترمذي، وهي في جميع نسخ المشكاة. (لاينقص ذلك) أي ذلك الإثم (من أوزارهم) وفي الترمذي "من أوزار الناس" (شيئاً) مفعول به لا غير. (رواه الترمذي) في العلم يعني عن بلال. 169- قوله: (ورواه ابن ماجه) في السنة (عن كثير بن عبد الله بن عمرو) بن عوف المزني المدني، قال الحافظ: ضعيف، ومنهم من نسبه إلى الكذب. وقال المنذري: متروك واهٍ، وقال أبوداودد والشافعي: هو أحد الكذابين. وقال أحمد: منكر الحديث، ليس بشيء، (عن أبيه) عبد الله بن عمرو بن عوف بن زيد بن ملحة المزني المدني، ذكره ابن

عن جده. 170- (31) وعن عمرو بن عوف قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الدين ليأرز إلى الحجاز كما تأرز الحية إلى جحرها، وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروية ـــــــــــــــــــــــــــــ حبان في الثقات، وقال في التقريب: مقبول، من الطبقة الوسطى من التابعين. (عن جده) أي عن جد كثير، وهو عمرو ابن عوف بن زيد بن ملحة أبوعبد الله المزني أحد البكائين، كان قديم الإسلام، شهد بدراً، وروى ابن سعد عنه أن أول غزوة شهدها الأبواء. وقال الواقدي: استعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على حرم المدينة. مات في ولاية معاوية. وأعلم أنه يظهر من كلام المصنف أن هذا الحديث روي عن صحابيين أحدهما بلال بن الحارث المزني، أخرج عنه الترمذي بإسناده، والثاني عمرو بن عوف المزني جد كثير بن عبد الله، وأخرج عنه ابن ماجه من طريق كثير بن عبد الله، عن أبيه، عن جده. والبغوى أيضاً عزى هذا الحديث لبلال بن الحارث، وهذا وهم منهما؛ لأن الحديث رواه الترمذي وابن ماجه كلاهما من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال بن الحارث: ((اعلم، قال: أعلم يا رسول الله، قال: إنه من أحيى ... )) الخ، فهو موجه إلى بلال، وليس من روايته، وهذا السياق للترمذي، ولفظ ابن ماجه عن كثير بن عبد الله، عن أبيه، عن جده قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من أحيى ... )) الخ. فالحديث من مسانيد عمرو بن عوف، لا من مسانيد بلال بن الحارث، فان لبلال هذا ثمانية أحاديث، روى أربعة منها أصحاب السنن الأربعة ومالك، وليس هذا الحديث منها كما يظهر من ذخائر المواريث للشيخ عبد الغني النابلسي، ويدل أيضاً على ما قلنا من أن الحديث عند الترمذي من مسند عمرو بن عوف، أن النابلسي ذكره في مسند عمرو بن عوف، وعزاه للترمذي وابن ماجه كليهما. والحديث قد حسنه الترمذي واعترض عليه؛ لأن في سنده كثير بن عبد الله وقد ضعفوه جداً، بل رماه بعضهم بالكذب، وأجيب عنه بأن تحسينه توثيق للراوي، وذهاب منه إلى أنه لم يرض الكلام فيه، كيف وهو من علماء هذا الشأن، فيعتمد على تحسينه وتصحيحه، وقد احتج بطريق كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده، ابن خزيمه في صحيحه كما ذكره المنذري في الترغيب، وقيل: حسنه الترمذي لشواهده، فإنه قد يحسن الحديث الضعيف ويصححه لشواهده. 170- قوله: (إلى الحجاز) هو اسم مكة فالمدينة وحواليهما من البلاد، وسميت حجازاً لأنها حجزت أي منعت وفصلت بين بلاد نجد والغور، قيل: التوفيق بينه وبين ما سبق من حديث أبي هريرة في آخر الفصل الأول على كون الدين والإيمان مترافين: أنه يأرز أولاً إلى الحجاز أجمع ثم إلى المدينة. وفي حديث ابن عمر عند مسلم: وهو أي الإسلام يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها. (وليعقلن) عطف على "ليأرز" أو على "إن" ومعمولها، أي ليتحصن، يقال: عقل الوعل أي امتنع بالجبال العوالي (من الحجاز) أي بمكان منه، أو مكاناً منه (معقل الأروية)

من رأس الجبل. إن الدين بدأ غريباً وسيعود كما بدأ، فطوبى للغرباء، وهم الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي)) رواه الترمذي. 171- وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليأتين على أمتي كما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، ـــــــــــــــــــــــــــــ بضم الهمزة وتكسر، وبكسر الواو وتشديد الياء، أنثى الوعول، وهي تيوس الجبل، وهي تعتصم في أعلى الجبال، ولذلك يقال للوعل: الأعصم. والمعقل بكسر القاف، مصدر بمعنى العقل، ويجوز أن يكون إسم مكان أي كاتخاذ الأروية. (من رأس الجبل) حصناً. قال القاري: وخص الأروية دون الوعل؛ لأنها أقدر من الذكر على التمكن من الجبال الوعرة والمعنى: أن الدين في آخر الزمان عند ظهور الفتن واستيلاء الكفرة والظلمة على بلاد أهل الإسلام يعود إلى الحجاز كما بدأ. وقيل: المعنى أن الدين سيعقل ويعتصم في الحجاز، ويجتمع فيه عند ما يكون غريباً فيعود إلى الحجاز كما بدأ منه، ويكون عزيزاً قوياً فيه كالأروية في شناخيب الجبال، ثم يمتد وينتشر منه ثانية. (غريباً) أي كالغريب، أو حال (سيعود) أي غريباً (وهم الذين يصلحون) الخ. أي يعتنون بإصلاح ما أفسد الناس من السنة، ويعملون بها، ويظهرونها بقدر طاقتهم. (رواه الترمذي) في الإيمان من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه، عن جده، وقال: حديث حسن. وفيه ما تقدم انتقادا وجواباً. وارجع إلى المشكاة طبعة دمشق بتعليق الشيخ الألباني (ج1: ص60) . 171- قوله: (ليأتين) من الإتيان وهو المجيء بسهولة، وعدى بعلى لمعنى الغلبة المؤدية إلى الهلاك، ومنه قوله تعالى:: {ماتذر من شيء أتت عليه} [42:51] . (على أمتي) قالوا: المراد أمة الإجابة وهم أهل القبلة، فإن اسم الأمة مضافاً إليه - صلى الله عليه وسلم - يتبادر منه أمة الإجابة. (كما أتي) وفي جامع الترمذي "ما أتى" أي بغير الكاف، فما موصولة، وهي مع صلتها فاعل "ليأتين"، أي ليفعلن أمتي ما فعل بنو إسرائيل من القبائح. وأما توجيه ما وقع ههنا فقال القاري: فاعل "ليأتين" مقدر يدل عليه سياق الكلام، والكاف منصوب عند الجمهور على المصدر، أي ليأتين على أمتي زمان إتياناً مثل الإتيان على بني إسرائيل. وجوز أن يكون الكاف فاعلاً، أي ليأتين على أمتي مثل ما أتى على بني إسرائيل. (حذو النعل بالنعل) حذو النعل استعارة في التساوى، وهو منصوب على المصدر، أي يحذونهم حذواً مثل حذو النعل بالنعل، يوافقونهم مثل موافقة النعل للنعل، ويعملون مثل أعمالهم كما تقطع إحدى النعلين على قدر النعل الأخرى، والحذو التقدير والقطع. فإن قيل: قد وقع فيما مضى قبل الأنبياء، وتحريف الكتب، قلت: لعل ما وقع في أيام بني أمية من قتل علماء التابعين مثل سعيد بن المسيب ونحوه من هذا القبيل، فعلماء أمته كأنبيائهم، كيف وقد قتلوا فلذة كبدة الرسول - صلى الله عليه وسلم - k والولد من أبيه كما قيل، وما اشتهر فيما مضى من تحاريف الباطنية، وفي هذا الزمان من بعض أهل البدع لا يقصر من تحريفهم، قاله محمد طاهر

حتى إن كان منهم أتى أمه علانية، لكان في أمتي من يصنع ذلك. وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، ـــــــــــــــــــــــــــــ الفتني. (حتى إن كان) "حتى" ابتدائية والواقع بعده جملة شرطية، و"إن" بمعنى لو، ولذا قرن جوابها باللام، وقيل: "إن" هذه مخففة من المثقلة، أي حتى إنه (من أتى أمه) إتيانها كناية عن الزنا، والمراد من الأم موطؤة الأب (من يصنع ذلك) أي الإتيان (وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة) ، وفي حديث أنس عند ابن ماجه: إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وفي حديث أبي أمامه, وأبي الدرداء، وواثلة بن الأسقع، وأنس عند الطبراني، وحديث عوف بن مالك عند ابن ماجه، وحديث أنس عند أبي يعلى ما يدل على أن اليهود افترقت على إحدى وسبعين فرقة كلهم في النار، وواحدة في الجنة، وإن النصارى افترقت على ثنتين وسبعين فرقة كلهم في النار، وواحدة في الجنة، وفي حديث أبي هريرة عند الترمذي وغيره: تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو (على الشك) اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك. ولا تخالف بين هذه الروايات، فإنه يجمع بينها بأنه يمكن أن تكون رواية الإحدى والسبعين وقت أعلم بذلك، ثم أعلم بزيادة فرقة، إما أنها كانت فيهم ولم يعلم بها النبى - صلى الله عليه وسلم - أولاً ثم أعلم بها في وقت آخر، وإما أن تكون جملة الفرق في الملتين ذلك المقدار فأخبر به، ثم حدثت الثانية والسبعون فيهما فأخبر بذلك عليه السلام، وعلى الجملة فيمكن أن يكون الاختلاف بحسب التعريف بها أو الحدوث، والله أعلم بحقيقة الأمر. و"الملة" في الأصل ما شرع الله لعباده على ألسنة الأنبياء ليتوصلوا به إلى القرب من حضرته تعالى، ويستعمل في جملة الشرائع دون آحادها، ثم إنها اتسعت فاستعملت في الملل الباطلة، فقيل: الكفر ملة واحدة، لأن طريقة أهل الكفر، وكذا طريقة كل فرقة من أهل الأهواء والبدع كالملة الحقيقية في التدين بما تدينوا به، فسميت باسمها مجازاً. (وتفترق أمتي) أي أمة الإجابة، فيكون الملل الثلاث والسبعون منحصرة في أهل قبلتنا، وإن كانت بدعة بعض هذه الملل مكفرة ومخرجة عن الإسلام، هذا هو المتبادر من إضافة اسم الأمة إليه - صلى الله عليه وسلم -، ويؤيد اعتبار الواقع؛ لأن كل فرقة منهم تدعى الشريعة، وأنها على صوابها، وأنها المتبعة لها، وتتمسك بأدلتها، وتعمل على ما ظهر لها من طريقها، وتناصب العداوة من نسبتها إلى الخروج عنها، وترمي بالجهل وعدم العلم من ناقضها، لأنها تدعي أن ما ذهبت إليه هو الصراط المستقيم دون غيره، ويؤيده أيضاً أن افتراق أمة محمد شبه بافتراق اليهود والنصارى، ومن المعلوم أن افتراق بني إسرائيل وقع حال كونهم من أمة موسى وعيسى، أي شمول لفظ اليهود والنصارى، إياهم. (على ثلاث وسبعين ملة) أي يفترقون ثلاثاً وسبعين فرقة تتدين كل واحدة منها بخلاف ما تتدين به الأخرى. وفيه إشارة بل تصريح لتلك المطابقة مع زيادة هؤلاء في إرتكاب البدع بدرجة، وليس المراد بالافتراق في الحديث مطلق الافتراق حتى يدخل فيه ما وقع من الاختلاف في مسائل الفروع في زمان الخلفاء الراشدين، ثم في سائر الصحابة، ثم في التابعين، ثم في الأئمة المجتهدين، بل المراد به الافتراق المقيد، وهو التفرق الذي

صاروا به شيعاً وأحزاباً وفرقاً وجماعات، بعضهم فارق البعض، ليسوا على تألف، ولا تعاضد، ولا تناصر، بل على ضد ذلك من الهجران، والقطيعة، والعداوة، والبغضاء، والتضليل، والتكفير، والتفسيق، وهذه الفرقة المشعرة بتفرق القلوب المشعر بالعدواة والبغضاء إنما هي بسبب الابتداع في الشرع، والخروج عن السنة، لابسبب أمر دنيوى، ولا بسبب معصية ليسبت ببدعة. قيل: والمراد بالابتداع المذكور الابتداع في الأصول والعقائد لا الفروع والعمليات. قال العلقمي: قال شيخنا: ألف الإمام أبومنصور عبد القاهر بن طاهر التميمي فى شرح هذا الحديث كتاباً قال فيه: قد علم أصحاب المقالات أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يرد بالفرق المذمومة المختلفين في فروع الفقه من أبواب الحلال والحرام، وإنما قصد بالذم من خالف أهل الحق في أصول التوحيد، وفي تقدير الخير والشر، وفي شروط النبوة والرسالة، وفي موالاة الصحابة، وما جرى مجرى هذه الأبواب؛ لأن المختلفين فيها قد كفر بعضهم، بخلاف النوع الأول، فإنهم اختلفوا فيه من غير تكفير ولا تفسيق للمخالف فيه، فيرجع تأويل الحديث في افتراق الأمة إلى هذا النوع من الاختلاف، وقد حدث في آخر أيام الصحابة خلاف القدرية من معبد الجهني وأتباعه، وتبرأ منهم المتأخرون من الصحابة كعبد الله بن عمر، وجابر، وأنس ونحوهم، ثم حدث الخلاف بعد ذلك شيئاً فشيئاً إلى أن تكاملت الفرق الضالة اثنتين وسبعين فرقة، والثالثة والسبعون هم أهل السنة والجماعة، وهي الفرقة الناجية –انتهى. وقال الشاطبي في الاعتصام: القول بأن الفرق المذكورة في الحديث هي المبتدعة في قواعد العقائد على الخصوص، كالجبرية والقدرية والمرجئة وغيرها ما هو مما ينظر فيه، فإن إشارة القرآن والحديث تدل على عدم الخصوص، وهو رأي أبي بكر الطرطوشي، أفلا ترى إلى قوله تعالى: {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه} [7:3] الآية. و"ما" في قوله: "ما تشابه" لا تعطي خصوصاً في اتباع المتشابه لا في قواعد العقائد ولا في غيرها، بل الصيغة تشمل ذلك كله، فالتخصيص تحكم، وكذلك قوله تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء} [159:6] ، فجعل ذلك التفريق في الدين، ولفظ الدين يشمل العقائد وغيرها من الأقوال والأعمال. وقوله: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [153:6] فالصراط المستقيم هو الشريعة على العموم، وأشار بلفظ "هذا" إلى ما تقدم ذكره من أصول الشريعة وقواعدها الضرورية، ولم يخص ذلك بالعقائد. قال: نعم ثم معنى آخر ينبغي أن يذكر ههنا، وهو أن هذه الفرق إنما تصير فرقاً بخلافها للفرقة الناجية في معنى كلي في الدين، وقاعدة من قواعد الشرعية، لا في جزئي من الجزئيات، إذا الجزئي والفرع الشاذ لا ينشأ عنه مخالفة يقع بسببها التفرق شيعاً، وإنما ينشأ التفرق عند وقوع المخالفة في الأمور الكلية؛ لأن الكليات تقتضي عدداً من الجزئيات غير قليل، ويدخل شذوذها في أبواب كثيرة من الأصول والفروع. قال: ويجرى مجرى القاعدة الكلية كثرة الجزئيات، فإن المبتدع إذا أكثر من إنشاء الفروع المخترعة عاد ذلك على كثير من الشريعة بالمعارضة، كما تصير القاعدة الكلية معارضة أيضاً. وأما الجزئي فبخلاف ذلك – انتهى. كلامه مختصراً. وقد بسط قبل ذلك الكلام (ج1:ص141، 159) في ذكر أسباب افتراق هذه الفرق من جماعة المسلمين وخلافهم للفرقة الناجية وابتداعهم الذي صاروا لأجله فرقاً وأحزاباً وجماعات متعادين، متباغضين، متدابرين، متقاطعين فعليك أن ترجع إليه. ثم إن العلماء اختلفوا في معنى عدد الفرق

المذكورة في الحديث فقيل: هو للتكثير لا للتحديد، فإن الفرق المذمومة تزيد على المئات بالنظر إلى تفرقهم في الأصول والفروع. وقيل: معنى الحديث أن الفرق المذمومة لا بد أن تبلغ هذا العدد، أي لا ينقص عدد الفرق الغير الناجية من هذا المقدار، فلا بأس لو زاد على ذلك. والحاصل أن العدد المذكور ليس لنفي الزائد. وقيل: هو محمول على التحديد، فإن المراد بالتفرق تفرقهم في أصول الدين، والفرق المبتدعة مع شعبها وفروعها لا تزيد على هذا العدد بالنظر إلى ذلك. ثم اختلف أصحاب هذا القول في تعيين هذه الفرق، فعينها كثير من العلماء، لكن في الطوائف التي خالفت في مسائل العقائد، فمنهم من عد أصولها ثمانية. فقال: كبار الفرق الإسلامية ثمانية: المعتزلة القائلون: بأن العباد خالقوا أعمالهم، وبنفي الرؤية، وبوجوب الثواب والعقاب، وهم عشرون فرقة. والشيعة، وهم ثنتان وعشرون فرقة. والخوارج، وهم عشرون فرقة. والمرجئة، وهم خمس فرق. والنجارية الموافقة لأهل السنة في خلق الأفعال، والمعتزلة في نفي الصفات وحدوث الكلام، وهم ثلاث فرق. والجبرية القائلة بسلب الاختيار عن العباد، فرقة واحدة. والمشبهة الذين يشبهون الحق بالخلق فرقة أيضاً. فالجميع اثنتان وسبعون فرقة. فإذا أضيفت الفرقة الناجية إلى عدد الفرق صار الجميع ثلاثاً وسبعين فرقة. وقد وصف صاحب المواقف هذه الفرق وفروعها وشعبها وما انفردت به من الآراء بأخصر ما كتب في هذا الموضوع، فارجع إليه. وقد عد الشاطبي أسماء أصول هذه الفرق وفروعها، ثم قال: وهذا التعديد بحسب ما أعطته المنة في تكلف المطابقة للحديث الصحيح، لا على القطع بأنه المراد، إذ ليس على ذلك دليل شرعي، ولا دل العقل أيضاً على انحصار ما ذكر في تلك العدة من غير زيادة ولا نقصان كما أنه لا دليل اختصاص تلك البدع بالعقائد، ومنهم من قال: أصول البدع أربعة، وسائر الثنتين والسبعين فرقة عن هؤلاء تفرقوا، وهم الخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة، قال يوسف بن أسباط: ثم تشعبت كل فرقة ثمان عشر فرقة، فتلك ثنتان وسبعون فرقة، والثالثة والسبعون هي الناجية. وقال الشهرستاني بعد ما ذكر ضابطاً في مسائل الخلاف، وحصرها في أربع قواعد هي الأصول الكبار ما لفظه: وإذا تعينت المسائل التي هي قواعد الخلاف، تبينت أقسام الفرق، وانحصرت كبارها في أربع بعد أن تداخل بعضها في بعض، كبار الفرق الإسلامية أربع القدرية، الصفاتية، الخوارج، الشيعة، ثم يتركب بعضها مع بعض، ويتشعب عن كل فرقة أصناف، فتصل إلى ثلاث وسبعون فرقة. ومنهم من قال: أصول الفرق الضالة ست: الحرورية، والقدرية، والجهمية، والمرجئة، والرافضة، والجبرية، وقد انقسمت كل فرقة منها اثنتي عشرة فرقة فصارت إلى اثنتين وسبعين فرقة، وهذا التقديران نحو من الأول يرد عليهما من الإشكال ما ورد على الأول، فالأولى أن لا تعين هذه الفرق الضالة المخالفة للفرقة الناجية في أصول الدين وقواعده، فإنه لا بأس لو لم نحط بأسماءها وآرائها تفصيلاً. ويقال: لا بد أن تبلغ هذه الفرق العدد المذكور في الحديث؛ لأن الزمان باق، والتكليف قائم، والخطرات متوقعه، والبدع قد نشأت إلى الآن، ولا تزال تحدث وتكثر مع مرور الأزمنة إلى قيام الساعة. وإلى عدم التعيين مال أبوبكر الطرطوشي. قال الشاطبي: وهو أصح في النظر؛ لأن ذلك التعيين ليس عليه دليل، والعقل لا يقتضيه. وإن سلمنا أن الدليل قائم له على ذلك فلا ينبغي التعيين لوجوه ثلاثة فذكرها، ثم قال: فمن هنا لا ينبغي للراسخ

كلهم في النار إلا ملة واحدة، ـــــــــــــــــــــــــــــ في العلم أن يقول: هؤلاء الفرقهم بنو فلان وبنو فلان، وإن كان يعرفهم بعلامتهم بحسب اجتهاده، اللهم إلا في موطنين: أحدهما حيث نبه الشرع على تعيينهم كالخوارج، فإنه ظهر من استقرائه أنهم متمكنون تحت حديث الفرق، ويجرى مجراهم من سلك سبيلهم، ثم ذكر الأحاديث التي وردت في تعيين أهل القدر وذمهم، وقد تقدم بعضها في باب الإيمان بالقدر. قال: والموطن الثاني الذي يجوز فيه التعيين حيث تكون الفرقة تدعوا إلى ضلالتها وتزينها في قلوب العوام، ومن لا علم عنده، فإن ضرر هؤلاء على المسلمين كضرر إبليس، وهم من شياطين الإنس، فلا بد من التصريح بأنهم من أهل البدعة والضلالة، ونسبتهم إلى الفرق إذا قامت له الشهود على أنهم منهم. قال: ولما تبين أنهم أي الفرق المذكورة في الحديث لا يتعينون فلهم خواص وعلامات يعرفون بها، وهي على قسمين: علامات إجمالية، وعلامات تفصيلية، فأما العلامات الإجمالية فثلاثة: أحدها الفرقة أي التي تكون سبباً للتخرب، ومستلزماً للعداوة والبغضاء والتدابر والقطيعة. والثانية اتباع المتشابه من القرآن، وترك المحكم. والثالثة اتباع الهوى وتقديمه على الأدلة الشرعية، والاعتماد على الرأى، وتحكيم العقل. ثم ذكر ما يعرف به هذه الخواص والعلامات، ومن يرجع إليه في معرفتها، ثم قال: وأما العلامة التفصيلية في كل فرقة فقد نبه عليها وأشير إلى جملة منها في الكتاب والسنة، وفي ظني أن من تأملها في كتاب الله وجد منبهاً عليها، ومشاراً إليها، ولولا فهمنا من الشرع الستر عليها لكان في الكلام في تعيينها مجال متسع، مدلول عليه بالدليل الشرعي، قال: فأنت ترى أن حديث افتراق الأمة لم يعين في الرواية الصحيحة واحدة منها لهذا المعنى المذكور. والله أعلم. وإنما نبه عليها في الجملة لتحذر مظانها، وعين في الحديث، المحتاج إليه منها، وهي الفرقة الناجية ليتحراها المكلف، وسكت عن ذلك في الرواية الصحيحة؛ لأن ذكرها في الجملة يفيد الأمة الخوف من الوقوع فيها، وذكر في الرواية الأخرى فرقة من الفرق الهالكة، كما قال: أشد الفرق فتنة على الأمة. (كلهم في النار) أي يستحقون الدخول في النار من أجل اختلاف العقائد، فمن أفضى به بدعته إلى الكفر يدخل فيها ألبتة دخولها مؤبداً، ومن لم يكن كذلك فهو ممن يستحق النار إن لم يعف الله عنه، فإن عفا عنه فله العفو إن شاءالله. (إلا ملة واحدة) بالنصب أي إلا أهل ملة واحدة، أي فلا يدخلون النار من جهة اختلاف العقائد. وقيل: المعنى يدخل أصحاب الملل الضالة النار بسب بدعهم، ثم يخرجون منها برحمة الله، ويدخلون الجنة إلا أهل ملة واحدة، فلا يدخلون النار أصلاً، بل يدخلون الجنة أولاً، وهم المتمسكون بالكتاب والسنة، الموافقون لجماعة الصحابة، المجتنبون عن الابتداع في الاعتقاد، والعمل والقول اجتناباً كلياً، وإن كان صدر من أحد منهم ذنب غير بدعة، عفا الله عنه برحمته، أو يكون سكرات الموت، أو شدائد القبر، أو أهوال المحشر كفارة له، فيدخل الجنة ابتداء. قال الشاطبي: قوله: "كلها في النار" وعيد يدل على أن تلك الفرق قد ارتكبت كل واحدة منها معصية كبيرة، أو ذنباً عظيماً لما تقرر في الأصول أن ما يتوعد عليه الشر فخصوصيته كبيرة، إذ لم يقل "كلها في النار" إلا من جهة الوصف الذي افترقت بسبه عن السواد الأعظم وعن جماعته، وليس ذلك إلا

قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ للبدعة المفرقة، إلا أنه ينظر في هذا الوعيد هل هو أبدي أم لا؟ وإذ قلنا: إنه غير أبدي هل هو نافذ أم في المشيئة؟ أما المطلب الأول فينبئ على أن بعض البدع مخرجة من الإسلام أو ليست مخرجة، والخلاف في الخوارج وغيرهم من السبائية، والغرابية، والجناحية، ونحوهم المخالفين في العقائد موجود. فحيث نقول بالتكفير لزم منه تأييد التحريم على القاعدة "أن الكفر والشرك لا يغفره الله سبحانه"، وإذا قلنا بعدم التكفير فيحتمل على مذهب أهل السنة أمرين: أحدهما نفوذ الوعيد من غير غفران، ويدل على ذلك ظواهر الأحاديث، وقوله هنا: "كلها في النار" أي مستقرة ثابتة فيها. والثاني أن يكون مقيداً بأن يشاء الله تعالى إصلاءهم في النار، وإنما حمل قوله: "كلها في النار" على معنى هي ممن يستحق النار. كما قيل في قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاءه جهنم خالداً فيها} [93:4] ، أي ذلك جزاؤه إن لم يعف الله عنه، فإن عفا عنه فله العفو إن شاءالله، لقوله تعالى: {إن الله يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [48:4] ، فكما أن القاتل في المشيئة وإن لم يكن الاستدراك كذلك يصح أن يقال هنا بمثله -انتهى مختصراً. وسيأتي مزيد الكلام في ذلك في شرح حديث معاوية. وقوله: "ملة واحدة" نص في أن الحق واحد لا يختلف، إذ لو كان للحق فرق أيضاً لم يقل: إلا واحدة. ولأن الاختلاف منفي عن الشريعة بإطلاق؛ لأنها الحاكمة بين المختلفين لقوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [59:4] إذ رد التنازع إلى الشريعة، فلو كانت الشريعة تقتضي الخلاف لم يكن في الرد إليها فائدة. وقوله: "في شيء" نكرة في سياق الشرط، فهي صيغة من صيغ العموم، فتنتظم كل تنازع على العموم، فالرد فيها لا يكون إلا لأمر واحد، فلا يسع أن يكون أهل الحق فرقاً، قاله الشاطبي (قالوا من هي) أي تلك الملة أي أهلها الناجية. (ما أنا عليه وأصحابي) أي هي ما أنا عليه وأصحابي، فسر أهل تلك الملة الواحدة بذلك؛ لأن تعريف أهل الملة حاصل بتعريف ملتهم، وقيل: التقدير أهلها من كان على ما أنا عليه وأصحابي من الاعتقاد والقول والعمل. والمراد بهم المهتدون المتمسكون بسنته وسنة الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة الذين فهموا أمر دين الله بالتلقي من نبيه مشافهة على علم وبصيرة بمواطن التشريع وقرائن الأحوال. قال الشاطبي: أصل الجواب أن يقال: أنا وأصحابي، ومن عمل مثل عملنا، أو ما أشبه ذلك مما يعطي تعيين الفرقة إما بالإشارة إليها أو بوصف من أوصافها إلا أن ذلك لم يقع، وإنما وقع في الجواب تعيين الوصف لا تعيين الموصوف، فلذلك أتى بما أتى، فظاهرها الوقوع على غير العاقل من الأوصاف وغيرها، والمراد هنا الأوصاف التي هو عليها - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فلم يطابق السؤال الجواب في اللفظ، والعذر عن هذا أن العرب لا تلتزم ذلك النوع إذا فهم المعنى؛ لأنهم لما سألوه عن تعيين الفرقة الناجية بين لهم الوصف الذي به صارت ناجية فقال: ما أنا عليه وأصحابي. ويمكن أن يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر الفرق، وذكر أن فيها فرقة ناجية كان السؤال عن أعمال الفرقة الناجية لا عن نفس الفرقة؛ لأن التعريف فيها من حيث هي لا فائدة فيه إلا من جهة أعمالها التي نجت بها، فالمقدم في الاعتبار هو العمل لا العامل، فلو سألوا ما وصفها أو عملها؟ أو ما أشبه ذلك لكان أشد مطابقة في اللفظ

والمعنى، فلما فهم عليه السلام منهم ما قصدوا أجابهم على ذلك، وتقول: لما تركوا السؤال عما كان الأولى في حقهم، أتى به جواباً عن سؤالهم حرصاً منه عليه السلام على تعليمهم ما ينبغي لهم تعلمه والسؤال عنه، ويمكن أن يقال: إن ما سألوا عنه لا يتعين، إذ لا تختص النجاة بمن تقدم دون من تأخر، إذ قد كانوا قد اتصفوا بوصف التأخير، ومن شأن هذا السؤال التعيين، وعدم انحصارهم بزمان أو مكان لا يقتضي التعيين، وانصرف القصد إلى تعيين الوصف الضابط للجميع، وهو ما كان عليه وأصحابه، وهذا الجواب بالنسبة إلينا كالمبهم، وهو بالنسبة إلى السائل معين؛ لأن أعمالهم كانت للحاضرين معهم رأي عين، فلم يحتج إلى أكثر من ذلك؛ لأنه غاية التعيين اللائق بمن حضر، فأما غيرهم ممن لم يشاهد أحوالهم ولم ينظر أعمالهم فليس مثلهم، ولا يخرج الجواب بذلك عن التعيين المقصود، والله أعلم. قال: ولم يعين النبي - صلى الله عليه وسلم - من الفرق إلا واحدة، وإنما تعرض لعدها خاصة، وأشار إلى الفرقة الناجية حين سئل عنها، وإنما وقع ذلك كذلك، ولم يكن الأمر بالعكس لأمور أحدها أن تعيين الفرقة الناجية هو الآكد في البيان بالنسبة إلى تعبد المكلف، والأحق بالذكر، إذ لا يلزم تعيين الفرق الباقية إذ عينت الواحدة، وأيضاً لو عينت الفرق كلها إلا هذه الأمة لم يكن بد من بيانها؛ لأن الكلام فيها يقتضي ترك أمور وهي بدع، والترك للشيء لا يقتضي فعل شيء آخر لا ضداً ولا خلافاً، فذكر الواحدة هو المفيد على الإطلاق، والثاني أن ذلك أوجز؛ لأنه إذا ذكرت الفرقة الناجية علم على البديهة أن ما سواها مما يخالفها ليس بناجٍ، وحصل التعيين بالاجتهاد بخلاف ما إذا ذكرت الفرق الغير الناجية، فإنه يقتضي شرحاً كثيراً، ولا يقتضي في الفرقة الناجية اجتهاد؛ لأن إثبات العبادات التي تكون مخالفتها بدعاً لا حظ للعقل في الاجتهاد فيها. والثالث أن ذلك أحرى بالستر، ولو فسرت لناقض ذلك قصد الستر، ففسر ما يحتاج إليه وترك ما لا يحتاج إليه إلا من جهة المخالفة، فللعقل وراء ذلك مرمى تحت أذيال الستر، فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك بقوله: "ما أنا عليه وأصحابي"، يعني أن الفرقة الناجية من اتصف بأوصافه عليه السلام، وأوصاف أصحابه، وكان ذلك معلوماً عندهم غير خفي، فاكتفى به، وربما يحتاج إلى تفسيره بالنسبة إلى من بعد تلك الأزمان. وحاصل الأمر أن أصحابه كانوا مقتدين به، مهتدين بهديه، وقد جاء مدحهم في القرآن، وأثنى عليهم متبوعهم محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإنما خلقه - صلى الله عليه وسلم - القرآن، فالقرآن إنما هو المتبوع على الحقيقة، وجاءت السنة مبينة له، فالمتبع للسنة متبع للقرآن، والصحابة كانوا أولى الناس بذلك، فكل من اقتدى بهم فهو من الفرقة الناجية الداخلة للجنة بفضل الله، وهو معنى "ما أنا عليه وأصحابي"، فالكتاب والسنة هو الطريق المستقيم، وما سواهما من الإجماع وغيره فناشيء عنهما، هذا هو الوصف الذي كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وهو معنى ما جاء في الرواية الأخرى "وهي الجماعة"؛ لأن الجماعة في وقت الإخبار كانوا على ذلك الوصف، انتهى. قلت: وهو معنى ما جاء في حديث أبي أمامة عند الطبراني: ((كلهم في النار إلا السواد الأعظم)) . وأصرح من ذلك ما رواه الطبراني أيضاً عن أبي الدرداء، وواثلة، وأنس بلفظ: ((كلهم على الضلالة إلا السواد الأعظم. قالوا يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من السواد الأعظم؟ قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي)) . فالمراد "بالجماعة" و"السواد الأعظم" و"ما أنا عليه وأصحابي" شيء واحد، ولا شك أنهم أهل السنة والجماعة. قال الشيخ الجيلاني في الغنية: وأما الفرقة الناجية فهي أهل السنة والجماعة. قال: وأهل السنة لا اسم لهم إلا اسم

رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ واحد، وهو أصحاب الحديث. وقال الشاه ولي الله الدهلوي: الفرقة الناجية هم الآخذون في العقيدة والعمل جميعاً بما ظهر من الكتاب والسنة، وجرى عليه جمهور الصحابة والتابعين، وإن اختلفوا فيما بينهم فيما لم يشتهر فيه نص، ولا ظهر من الصحابة اتفاق عليه، استدلالاً منهم ببعض ما هنالك، أو تفسيراً لمجمله، وغير الناجية كل فرقة اتتحلت عقيدة خلاف عقيدة السلف، أو عملاً دون أعمالهم -انتهى. وقال ابن حزم في الفصل (ج2: ص113) : وأهل السنة الذين نذكرهم أهل الحق، ومن عداهم فأهل البدعة، فإنهم الصحابة وكل من سلك نهجهم من خيار التابعين، ثم أصحاب الحديث، ومن تبعهم من الفقهاء جيلاً فجيلاً إلى يومنا هذا، ومن اقتدى بهم من العوام في شرق الأرض وغربها -انتهى. قال الشاطبي: ثم إن في تعريف الفرقة الناجية المذكورة في الحديث نظراً، وذلك أن كل داخل تحت ترجمة الإسلام من سني ومبتدع مدع أنه هو الذي نال رتبة النجاة ودخل في غمار تلك الفرقة، قال: فتعيين هذه الفرقة الناجية في مثل زماننا صعب، ومع ذلك فلا بد من النظر فيه، ثم بسط الكلام في ذلك أشد البسط فارجع إليه. (رواه الترمذي) في الإيمان وحسنه، وفي سنده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، وقد ضعفه الدارقطني وغيره. وقال الحافظ: ضعيف في حفظه، ووثقه يحيى القطان، وقال البخاري: هو مقارب الحديث. والظاهر أن الترمذي حسنه لشواهده، فمنها حديث أبي هريرة، أخرجه الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والحاكم، وصححه الترمذي، وسكت عنه أبوداود، وأقر المنذري تصحيح الترمذي، وقال الحاكم (ج1:ص128) : صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. ومنها حديث أنس أخرجه أحمد (ج3:ص120) وابن ماجه. قال البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح، رجاله ثقات، ورواه أبويعلى في مسنده مطولاً من طريقين في أحدهما أبومعشر نجيح، وفيه ضعف، وفي الآخر يزيد الرقاشي، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج6:ص226) : ضعفه الجمهور، وفيه توثيق لين، وبقية رجاله رجال الصحيح. ورواه الطبراني في الصغير مختصراً. قال الهيثمي (ج1:ص189) : وفيه عبد الله بن سفيان، قال العقيلي: لا يتابع على حديث. هذا، وقد ذكره ابن حبان في الثقات، ومنها حديث عوف بن مالك، أخرجه ابن ماجه، قال البوصيري: في سنده مقال، وراشد بن سعد، قال فيه أبوحاتم: صدوق، وعباد بن يوسف، لم يخرج له سوى ابن ماجه، وليس له عنده سوى هذا الحديث. وقال ابن عدي: روى أحاديث تفرد بها، وذكره ابن حبان في الثقات، وباقي رجال الإسناد ثقات - انتهى. كلام البوصيري. قلت: راشد بن سعد الحمصي ثقة، وثقه ابن معين، وأبوحاتم، والعجلي، ويعقوب بن شيبه، والنسائي، وابن سعد. وقال أحمد: لا بأس به. وقال يحيى بن سعد: هو أحب إلي من مكحول. وقال الدارقطني: لا بأس به إذا لم يحدث عنه متروك. وعباد بن يوسف الكرايبسي، قال عثمان بن محمد: حدثنا إبراهيم بن العلاء: ثنا عباد بن يوسف صاحب الكرابيس ثقة. قال في التقريب: مقبول. فالحديث لا يتحط عن درجة الحسن، بل هو صحيح، وأخرجه الحاكم (ج4:ص430) من طريق آخر، وقال صحيح علىشرط الشيخين، وسكت عليه الذهبي. ومنها حديث معاوية بن أبي سفيان، وسيأتي الكلام فيه.

172- (33) وفي رواية أحمد، وأبي داود، عن معاوية: ((ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، ـــــــــــــــــــــــــــــ ومنها حديث أبي أمامة، أخرجه الطبراني في الأوسط والكبير، وفيه أبوغالب، وثقه ابن معين وغيره، وبقية رجال الأوسط ثقات، وكذلك أحد إسنادي الكبير، قاله الهيثمي (ج 6:ص258، 259) . ومنها حديث أبي الدرداء، وواثلة بن الأسقع، أخرجه الطبراني أيضاً، وفي إسناده كثير بن ودان، وهو ضعيف جداً، قاله الهيثمي (ج6: ص259) ، ومنها حديث عمرو بن عوف، عزاه الهيثمي (ج6: ص260) للطبراني، وقال: فيه كثير بن عبد الله، وهو ضعيف، وقد حسن الترمذي له حديثاً، وبقية رجاله ثقات. ومنها حديث سعد بن أبي وقاص، أخرجه البزار. قال الهيثمي (ج6:ص259) : وفيه موسى بن عبيدة الربذى، وهو ضعيف. ومنها حديث ابن عمر، أخرجه أبويعلى، وفي سنده ليث بن أبي سليم، وهو مدلس، وبقية رجاله ثقات، قاله الهيثمي (ج6:ص259) ومنها حديث ابن مسعود، وحديث علي موقوفها عليهما، وذكرهما الشاطبي في الاعتصام (ج2:ص211) وقال: لا أضمن عهدة صحتهما، وذكر على المنقي في الكنز (ج1:ص96) حديثاً مرفوعاً عن علي، وعزاه لابن النجار، وقد ظهر بما ذكرنا من الكلام في أحاديث هؤلاء الصحابة أن بعضها صحيح، وبعضها حسن، وبعضها ضعيف، وتحصل منه أن حديث افتراق الأمة صحيح من غير شك، فلا يعبأ بقول ابن حزم في الفصل (ج3:ص138) : إن هذا الحديث لا يصح عن طريق الإسناد. وأيضاً نفي الصحة لا يلزم منه ثبوت الضعف أو الوضع، فيمكن أن يراد به نفي الصحة مع ثبوت الحسن رتبة بين الصحيح والضعيف، وكذا لا يدل قول المجد صاحب القاموس في آخر سفر السعادة: أنه لم يثبت فيه شيء على ثبوت العدم أو الضعف، لاحتمال أن يراد بالثبوت الصحة، فلا ينتفي الحسن، وعلى التنزل فيقدم تصحيح الترمذي والحاكم ومن وافقهما على قول ابن حزم والمجد. 172- قوله: (وفي رواية أحمد) بن حنبل في مسنده (ج4:ص104) (وأبي داود عن معاوية) أي بعد قول "وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين" ومعاوية هذا، هو ابن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس، أبوعبد الرحمن الأموى. أسلم يوم الفتح، وقيل: قبل ذلك، وكتب الوحي، وقيل: لم يكتب من الوحي شيئاً إنما كتب له كتبه، تولى الشام بعد أخيه يزيد في زمن عمر، ولم يزل بها متولياً حاكماً إلى أن مات، وذلك أربعون سنة، منها في أيام عمر أربع سنين أو نحوه، ومدة خلافة عثمان، وخلافة علي وابنه الحسن، وذلك تمام عشرين سنة، ثم استوثق الأمر بتسليم الحسن بن علي إليه في سنة (41) ودام له عشرين سنة، في رجب بدمشق، وله (48) سنة. قال الذهبي: ولي الشام عشرين سنة، وملك عشرين سنة. وكان حليماً كريماً سائساً عاقلاً، خليقاً للإمارة، كامل السودد، ذا دهاء ورأي ومكر، كأنما خلق للملك. له مائة وثلاثون حديثاً، اتفقا على أربعة، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بخمسة، وروى عنه أبوذر وابن عباس من الصحابة، وجماعة من التابعين. مات في رجب سنة (60) وقد قارب الثمانين. (ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة) . قال السندهي في حاشية ابن ماجه: قيل: إن أريد الخلود في النار فهو خلاف الإجماع، فإن المؤمنين لا يخلدون في النار، وإن أريد مجرد الدخول فيها فهو مشترك بين الفرق، إذ ما من فرقة إلا بعضهم عصاة، والقول بأن معصية

وهي الجماعة، وأنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفرقة الناجية مطلقاً مغفورة بعيد، أجيب بأن المراد أنهم في النار لأجل اختلاف العقائد، فمعنى "وواحدة في الجنة" أنهم لا يدخلون النار لأجل اختلاف العقائد، أو المراد بكونهم في النار طول مكثهم فيها، وبكونهم في الجنة أن لا يطول مكثهم في النار، وعبر عنه بكونهم في الجنة ترغيباً في تصحيح العقائد، وأنه يلزم أن لا يعفى عن البدعة الاعتقادية كما لا يعفى عن الشرك، إذ لو تحقق العفو عن البدعة. فإن قيل: لا يلزم دخول كل الفرقة المبتدعة في النار فضلاً عن طول مكثهم، إذ هو مخالف لقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء} [48:4] أجيب بأن المراد أنهم يتعرضون لما يدخلهم النار من العقائد الرديئة، ويستحقون ذلك. ويحتمل أن المراد أن الغالب في تلك الفرق دخول النار، فيندفع الإشكال من أصله -انتهى. (وهي الجماعة) أي الموافقون لجماعة الصحابة الآخذون بعقائدهم، المتمسكون بطريقتهم، وهم أهل السنة والجماعة، أي أصحاب الحديث الذين اجتمعوا على اتباع آثاره - صلى الله عليه وسلم - في جميع الأحوال، واتفقوا على الأخذ بتعامل الصحابة وأجماعهم، ولم يبتدعوا بالتحريف والتغيير، ولم يبدلوا بالآراء الفاسدة. (وأنه سيخرج) أي سيظهر (في أمتي أقوام) أي جماعات (تتجارى) بالتائين أي تدخل وتجري وتسري (بهم) أي في مفاصلهم وعروقهم. (تلك الأهواء) جمع هوى البدع التي كانت السبب في الافتراق، وضعت موضعها وضعاً للسبب موضع المسبب؛ لأن هوى الرجل هو الذي يحمله على الابتداع في العقيدة والقول والعمل. (كما يتجارى الكلب) بفتحتين داء يعرض للإنسان من عض الكلب الكلب أي المكلوب، وهو داء يصيب الكلب فيصيبه شبه الجنون فلا يعض أحداً إلا كلب، ويعرض له أعراض رديئة ويمتنع من شرب الماء حتى يموت عطشاً، كذا في النهاية. (بصاحبه) أي مع صاحبه إلى جميع أعضائه أي مثل جرى الكلب في العروق، شبه حال الزاغين من أهل البدع في استيلاء تلك الأهواء عليهم، وفي سراية تلك الضلالة منهم إلى الغير بدعوتهم إليها، ثم تنفرهم من العلم وامتناعهم من قبوله حتى يهلكوا جهلاً، بحال صاحب الكلب وسريان تلك العلة في عروقه ومفاصله شبه الجنون، ثم تعديته إلى الغير فلا يعض المجنون أحداً إلا كلب أي جن، ويعرض له أعراض رديئة تشبه الماليخوليا مهلكة غالباً، ويمتنع من شرب الماء حتى يموت عطشاً، قاله الطبي. وفي هذا التشبيه فوائد: منها التحذير من مقاربة تلك الأهواء ومقاربة أصحابها، وبيان ذلك أن داء الكلب فيه ما يشبه العدوى فإن أصل الكلب واقع في الكلب، ثم إذا عض ذلك الكلب أحداً صار مثله ولم يقدر على الانفصال منه في الغالب إلا بالهلكة، فكذلك المبتدع إذا أورد على أحد رأيه وإشكاله فقلما يسلم من غائلته، بل إما أن يقع معه في مذهبه ويصير من شيعته، وإما أن يثبت في قلبه شكاً يطمع في الانفصال عنه فلا يقدر، هذا بخلاف سائر المعاصي، فإن صاحبها لا يضاره ولا يدخله فيها غالباً إلا مع طول الصحبة والأنس به، والاعتياد لحضور معصيته، وقد أتى في الآثار ما يدل على هذا المعنى، فإن السلف الصالح نهوا عن مجالستهم، ومكالمتهم، وكلام مكالمهم، وأغلظوا في ذلك، قاله الشاطبي وبسط الكلام في شرح رواية معاوية أيضاً،

173- (34) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله لا يجمع أمتي - أو قال: أمة محمد - على ضلالة، ويد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار)) رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ فعليك أن ترجع إلى كتابه الاعتصام (ج2:ص243، 231) وحديث معاوية هذا، أخرجه أبوداود في السنة، وسكت عليه هو والمنذري، وأخرجه أيضاً الحاكم (ج1: ص128) ، وقال بعد ذكره طرق حديث أبي هريرة: هذه أسانيد تقام بها الحجة في تصحيح هذا الحديث. 173- قوله: (إن الله لا يجمع أمتي) أي أمة الإجابة (أو قال: أمة محمد) شك من الراوي (على ضلالة) أي لا يجتمعون على ضلالة غير الكفر، وقيل: على خطأ في الاجتهاد. وقيل: على كفر ومعصية، وهذا قبل مجيء الريح اللينة. قيل: فيه دليل على أن إجماع المسلمين حق، والمراد إجماع العلماء المجتهدين من أهل السنة والجماعة، ولا عبرة بإجماع العوام؛ لأنه لا يكون عن علم، ووجه الاستدلال به أن عمومه ينفي وجود الضلالة، والخطأ ضلالة فلا يجوز الإجماع عليه، فيكون ما أجمعوا عليه حقاً، وعندنا في دلالة هذا الحديث وما في معناه من الأحاديث على حقية الإجماع الشرعي ثم على حجيته نظر؛ لأن الاستدلال به على ذلك موقوف على أن المراد بالضلالة، الخطأ في الاجتهاد، وكون الخطأ المظنون ضلالة ممنوع، والظاهر أن المراد به الكفر والمعصية. (ويد الله علىالجماعة) قال الجزرى: أي أن الجماعة المتفقة من أهل الإسلام في كنف الله، ووقايته فوقهم، وهم بعيد عن الخوف والأذى فأقيموا بين ظهرانيهم - انتهى. وقال الفتنى في المجمع: أي سكينته ورحمته مع المتفقين، وهم بعيد من الخوف والأذى والاضطراب، فإذا تفرقوا زال السكينة، وأوقع بأسهم بينهم، وفسد الأحوال. (ومن شذ) بصيغة المعلوم أي انفرد عن الجماعة وخرج عنها (شذ) بصيغة المجهول، وحكي بصيغة المعلوم أيضاً (في النار) كذا عند الحاكم، والحكيم الترمذي، وابن جرير، ووقع في جامع الترمذي "إلى النار"، يعني انفرد عن أصحابه الذين هم أهل الجنة وألقى في النار، وقال الطيبي: أي فقد شذ فيما يدخله النار أو في أمر النار، والشذوذ المنهي عنه شرعاً هو الشذوذ الذي يشق به صاحبه عصا الإسلام، ويثير به الفتن المنهي عن إثارتها، كشذوذ الخوارج والرافضة وأمثالهم مما يظهر آناً فآناً لا الشذوذ في أحكام الاجتهاد. (رواه الترمذي) في أوائل الفتن، وفي سنده سليمان بن سفيان التيمي، وهو ضعيف. قال البخاري: إنه منكر الحديث. فالحديث ضعيف، لكن له شواهد ذكرها الحافظ في التلخيص، والحاكم في المستدرك، تدل على أن للحديث أصلاً. تنبيه: اعلم أن المراد بالاجماع الذي احتجوا على حجيته بهذا الحديث وأمثاله هو الإجماع الشرعي المصطلح عند الأصوليين، وهو اتفاق مجتهدي هذه الأمة بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - في عصر من الأعصار على أمر ديني. واختلفوا في وقوعه وحجيته، والذي ندين الله به في هذا هو أن إجماع الصحابة حق وحجة، وإليه الإشارة بقوله: "ما أنا عليه وأصحابي"، وأما إجماع مجتهدى الأمة قاطبة بعد عصر الصحابة في عصر من الأعصار أي الإجماع الكلي

174- (35) وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اتبعوا السواد الأعظم، فإنه من شذ شذ في النار)) . رواه ابن ماجه من حديث أنس. ـــــــــــــــــــــــــــــ فلا تصح دعواه عندنا، فإنه متعذر بل ممتنع لعدم إمكان العلم به. ولذا قال الإمام أحمد: من ادعى الإجماع فهو كاذب. وأما الإجماع الجزئي فخارج عن البحث، وارجع للتفصيل إلى كتب الأصول للمذاهب الأربعة، وإرشاد الفحول للعلامة الشوكاني، وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخواطر لابن قدامة المقدسي. 174- قوله: (اتبعوا السواد) "السواد" في اللغة العدد الكثير، وسواد الناس عامتهم (الأعظم) أي جملة الناس، ومعظمهم الذين يجتمعون على طاعة الإمام أي السلطان الأعظم، وسلوك النهج المستقيم. وقيل: المراد "بالسواد الأعظم" من كان على ما عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من أهل الحديث، وهم الطائفة المنصورون، الظاهرون على الحق، المعظمون عند الله، المذكورون في قوله: ((لاتزال طائفة من أمتي)) الحديث. قال في الأزهار: اتبعوا السواد الأعظم يدل على أن أعاظم الناس العلماء وإن قل عددهم، ولم يقل: الأكثر.؛ لأن العوام والجهال أكثر عددا (فإنه) الضمير للشأن (من شذ) أي نفر عن السواد الأعظم بخروجه على الإمام الذي اجتمع على طاعته معظم الناس، أو انفرد عن الجماعة الحقة الناجية، الكائنة على ما هو عليه وأصحابه - صلى الله عليه وسلم -. (رواه ابن ماجه من حديث أنس) كذا في جميع طبعات الهند من المشكاة. قال الشيخ الألباني قوله: "رواه ابن ماجه من حديث أنس"، كذا في الأصل أي النسخة المطبوعة في الهند، وفي جميع النسخ أي المخطوطة الثلاث، وهي نسخة حاكم قطر، ونسخة مكتبة دمشق، ونسخة حلب، بياض. ويظهر أن المؤلف تعمد تركه؛ لأنه لم يجد من أخرجه كما أشار إليه في مقدمة الكتاب، وكذلك لم أجده في شيء من كتب السنة المعروفة حتى الأمالي والفوائد والأجزاء التي مررت عليها وهي تبلغ المئات، ولا أورده السيوطي في الجامع الكبير. وأما قول القاري: بعده بياض، وألحق ميرك شاه "ابن ماجه" ففي هذا الإلحاق نظر؛ لأن ابن ماجه وإن رواه عن أنس فهو بلفظ: ((إن أمتي لا تجتمع على ضلالة فإذا رأيتم اختلافاً فعليكم بالسواد الأعظم)) . وكذا ابن بطة في "الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية" (ق145/2) وسنده ضعيف جداً، ومن ذلك يتبين أن ما في الأصل كأنه إضافة نقلاً عن ميرك شاه – انتهى. قلت: قال البوصيرى في زوائد ابن ماجه: في إسناد حديث أنس، أو خلف الأعمى واسمه حازم بن عطاء وهو ضعيف، وقد جاء الحديث بطرق، في كلها نظر، قاله شيخنا في تخريج أحاديث البيضاوي- انتهى. قلت أخرج الحاكم (ج1:ص115) وابن جرير كما في الكنز (ج1:ص53) وذكره الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (ص128) بغير سند عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يجمع الله هذه الأمة على الضلالة أبداً، وقال: يدالله على الجماعة فاتبعوا السواد الأعظم، فإنه من شذ شذ في النار)) . قال الحاكم: لو حفظ خالد بن يزيد القرني هذا الحديث لحكمنا له بالصحة، ثم بسط الاختلاف في سنده ومتنه، وعلى ذلك فكان ينبغي أن يلحق "الحاكم في المستدرك".

175- (36) وعن أنس قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا بني إن قدرت أن تصبح وتمسي وليس في قلبك غش لأحد فافعل، ثم قال: يا بني وذلك من سنتي، ومن أحب سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة)) رواه الترمذي. 176- (37) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من تمسك بسنتي عند فساد أمتي، فله أجر مائة شهيد)) رواه ... ـــــــــــــــــــــــــــــ 175- قوله: (يا بني) تصغير ابن لطفاً ومرحمة وشفقة. (أن تصبح وتمسي) أي تدخل في وقت الصباح والمساء، والمراد جميع الليل والنهار (وليس في قلبك) الجملة حال من الفاعل، تنازع فيه الفعلان أي وليس كائناً في قلبك (غش) بكسر الغين، وضد النصح الذي هو إراداة الخير للمنصوح له (لأحد) هو عام للمؤمن والكافر، فإن نصيحة الكافر أن يجتهد في إيمانه، ويسعى في خلاصة من ورطة الهلاك باليد واللسان. وبالتألف بما يقدر عليه من المال، قاله الطيبي. (فافعل) أي نصحيتك (وذلك) أي خلو القلب من الغش (من سنتي) أي طريقتي. قال الطيبي: قوله: "فافعل" جزاء كناية عما سبق في الشرط من المعنى إن فعلت ما نصحتك به فقد أتيت بأمر عظيم، ولهذا أشار بقوله "وذلك" للإشعار بأنه رفيع المنزلة، بعيد التناول (ومن أحب سنتي) الخ. كذا وقع في المشكاة من الإحباب في الموضع الثلاثة، وكذا في المصابيح، ووقع في نسخ الترمذي الموجودة عندنا "ومن أحيا سنتي فقد أحياني، ومن أحياني كان معي في الجنة"، من الإحياء في المواضع الثلاثة، وهذا يدل على اختلاف نسخ الترمذي في هذا اللفظ، ويؤيد كونه من الإحباب ما ذكره في الكنز عزواً إلى السجزي في الإبانة بلفظ: ((من أحيا سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة)) . ومن أحب سنتي أي فعمل بها (فقد أحبني) أي حياً كاملاً؛ لأن محبة الآثار علامة محبة مصدرها (ومن أحبني كان معي) أي معية متقاربة لا معية متحدة في الدرجة (في الجنة) فإن المرء مع من أحب. (رواه الترمذي) في العلم، وقال: في الحديث قصة طويلة، هذا حديث حسن غريب. وأخرجه أيضاً السجزى كما في الكنز (ج1:ص47) . 176- قوله: (عند فساد أمتي) أي عند غلبة البدعة والجهل والفسق فيهم (فله أجر مائة شهيد) لما يلحقه من المشقة بالعمل بها وبإحيائها وتركهم لها، كالشهيد المقاتل مع الكفار لإحياء الدين بل أكثر. قال الطيبي: لم يقل إفسادهم لأنه أبلغ، كأن ذواتهم قد فسدت فلا يصدر منهم صلاح، ولا ينجع الوعظ فيهم، لا سيما إذا ظهر ذلك في العلماء منهم والمقتفين آثارهم، فإذن المجاهدة معهم أصعب وأشق من المجاهدة مع الكفار، ولذلك ضوعف أجر من جاهدهم على من جاهد الكفار أضعافاً كثيرة (رواه) بعده بياض في الأصل، والحديث أخرجه البيهقي في الزهد، وابن عدى في الكامل عن ابن عباس من رواية الحسن بن قتيبة الخزاعي المدائني. قال ابن عدى: أرجو أنه

177- (38) وعن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أتاه عمر فقال: ((إنا نسمع أحاديث من يهود تعجبنا، أفترى أن نكتب بعضها؟ فقال: أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية، ولوكان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي)) رواه أحمد، والبيهقي في شعب الإيمان. ـــــــــــــــــــــــــــــ لا بأس به. قال الحافظ: بل هو هالك. قال الدارقطني في رواية البرقاني: متروك الحديث. وقال أبوحاتم: ضعيف. وقال الأزدي: واهي الحديث. وقال العقيلي: كثير الوهم. كذا في لسان الميزان (ج2: ص246) قال المنذري: ورواه الطبراني من حديث أبي هريرة بإسناد لا بأس به إلا أنه قال: "فله أجر شهيد"، ومن طريق الطبراني رواه أبونعيم في الحلية (ج8: ص200) وفيه عبد العزيز بن رواد، وفيه ضعف، ومحمود بن صالح العذري، قال الهيثمي (ج1: ص172) : ولم أجد من ترجمه. 177- قوله: (إنا نسمع أحاديث) أي حكايات ومواعظ (من يهود) قال الأبهرى: غير منصرف للعلمية والتأنيث؛ لأنه يجرى مجرى القبيلة. وقيل: الأولى أن يقال: للعلمية ووزن الفعل؛ لأن أسماء القبائل التي ليست فيها تأنيث لفظي، يجوز صرفها حملاً على الحي، وعدم صرفها حملاً على القبيلة، ويهود لا يجوز فيها إلا عدم الصرف. (تعجبنا) بضم التاء وكسر الجيم أي تحسن عندنا، وتميل قلوبنا إليها. (أفترى) أي أتحسن لنا استماعها "فترى" يعني فتأذن. (أمتهوكون) أي متحيرون في الإسلام، لا تعرفون دينكم حتى تأخذوه من غير كتابكم ونبيكم (أنتم) للتأكيد (كما تهوكت اليهود والنصارى) أي كتحيرهم حيث نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، واتبعوا أهوائهم ورهبانهم وأحبارهم. (لقد جئتكم بها) أي بالملة الحنيفية بقرينة الكلام (بيضاء) أي واضحة، حال من ضمير "بها". (نقية) صفة "بيضا" أي ظاهرة صافية خالصة، خالية عن الشرك والشبهة. وقيل: المراد بها أنها مصونة عن التبديل والتحريف والإصرار والأغلال، خالية عن التكاليف الشاقة، وأشار بذلك إلى أنه أتى بالأعلى والأفضل، واستبدال الأدنى بالأعلى مظنة التحير. وقال الطيبي: "بيضاء نقيه" حالاًن مترادفان من الضمير المفسر بالملة - انتهى. وإنما أنكر عليهم؛ لأن طلبهم يشعر بأنهم اعتقدوا نقصان ما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم -. (ولو كان موسى حياً) الخ. أي إذا كانت هذه حالة موسى فيكف بكم؟ وأنتم تطلبون من هؤلاء المحرفين ما تنتفعون به. (ما وسعه) أي ما جاز له (إلا اتباعي) في الأقوال والأفعال فكيف يجوز لكم أن تطلبوا فائدة من قومه مع وجودي. (رواه أحمد) (ج3:ص387) (والبيهقي في شعب الإيمان) ، وفي سنده مجالد بن سعيد الهمداني، وفيه مقال. قال الحافظ: ليس بالقوى، وقد تغير في آخر عمره، إلا أن الحديث قد جاء عن غير مجالد، فتأيد به، فقد روي نحو عن ابن عباس عند أحمد وابن ماجه، وعن جابر عند ابن حبان، وعن عبد الله بن ثابت عند أحمد وابن سعد والحاكم في الكنى، والطبراني في الكبير، والبيهقي في شعب الإيمان.

178- (39) وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أكل طيباً، وعمل في سنة، وأمن الناس بوائقه، دخل الجنة. فقال رجل: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن هذا اليوم لكثير في الناس. قال: وسيكون في قرون بعدي)) رواه الترمذي. 179- (40) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنكم في زمان من ترك منكم عشر ما أمر به ـــــــــــــــــــــــــــــ 178- قوله: (من أكل طيباً) أي حلالاً يعني من كان قوته حلالاً (وعمل في سنة) أي في موافقة سنة، يعني يكون متمسكاً في كل عمل بسنة، أي بحديث جاء في ذلك العمل. قال الطيبي: "سنة" نكرة وضعت موضع المعرفة لإرادة استغراق الجنس بحسب إفراده كما في قوله تعالى: ((ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام} [27:31] . وقد أكل الحلال لأنه مورث للعمل الصالح، كما قال تعالى: {كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً} [23: 51] . (وأمن الناس بوائقه) البائقة الداهية، وهي المحنة العظيمة، والمراد هنا الشرور كالظلم والغش والإيذاء. (دخل الجنة) أي استحق دخولها دخولاً أولياً أي مع السابقين، أو بغير عذاب، وإلا فمن فم يعمل بالسنة ومات مسلماً يدخلها وإن عذب. (إن هذا) أي الرجل الموصوف المذكور (اليوم) ظرف مقدم لخبر "إن" (لكثير في الناس) بحمد الله، فما حال المستقبل؟ (وسيكون) أي هم كثيرون اليوم، وسيوجد من يكون بهذه الصفة (في قرون بعدي) قال التوربشتي: يحتمل أن الرجل قال ذلك حمداً لله تعالى وتحديثاً بنعمته، أي لا استفهاماً عن المستقبل، فقال"سيكون" في قرون بعدي، ليوقفه على أن ذلك غير مختص بالقرن الأول أي بهذا القرن. ويحتمل أنه فهم من قوله: "من أكل طيبا" الخ. التحريض على الخصال المذكورة، والزجر عن أضدادها، ووجد الناس يتدينون بذلك ويحرضون عليه، فخاف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اطلع على خلاف ذلك في مستقبل الأمر منهم، فأحب أن يستكشف عنه، فقال هذا القول، فعرف - صلى الله عليه وسلم - منه ذلك، فأجابه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "وسيكون في قرون بعدي" باختصر الكلام اعتماداً على فهم السامع، وتهويلاً للأمر المحذور عنه - انتهى. وقال صاحب اللمعات: معناه لا ينقطع الخيرعن أمتي قطعاً وإن تفاوتت الحال قلة وكثرة، فتنكير "قرون" للتقليل، ويحتمل التكثير لكثرته في نفسه، ويشبه أن يكون المراد القرون الموسومة بخير القرون، ولكن هذه الصفات ليست مخصوصة بهم- انتهى. (رواه الترمذي) في آخر الزهد، وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث إسرائيل، أي ابن موسى، عن هلال بن مقلاص، عن أبي بشر، عن أبي وائل، وعن أبي سعيد- انتهى. وأبوبشر هذا مجهول، قاله الحافظ في التقريب. والحديث أخرجه أيضاً ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت وغيره، والحاكم وقال: صحيح الإسناد. 179- قوله: (إنكم) أيها الصحابة (في زمان) أي متصف بعزة الإسلام وأمن أهله. (من ترك منكم) أي فيه، وهو الرابط لجملة الشرط بموصوفها وهو "زمان"، (عشر ما أمربه) أي من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ

هلك، ثم يأتي زمان من عمل منهم بعشر ما أمر به نجا)) رواه الترمذي. 180- (41) وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: {ماضربوه لك إلا جدلاً ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يجوز صرف هذا القول إلى عموم المأمورات؛ لأنه عرف من أصل الشرع أن أحداً من المسلمين لا يعذر فيما يهمل من الفرض الذي تعلق بخاصة نفسه، وإن كثر أهل الظلم وقل أهل الحق، هكذا قال التوربشتي وغيره. قيل: لعل هذا غير مناسب لباب التمسك بالكتاب والسنة، فلأنسب أن يحمل على أمور الندب من السنن والنوافل، وفيه بحث لأن الأمر بالمعروف لا يعرف إلا منهما، وأيضاً الهلاك لا يترتب على ترك الندب مطلقاً فضلاً عن عشره، قاله القاري. (هلك) أي وقع في الهلاك لظهور الحق، ومشاهدة المعجزات، ومظاهرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعزة الإسلام، وكثرة أنصاره بحيث لو تكلم شخص بالحق نصروه، وخذلوا من نازع، فالترك يكون تقصيراً منكم، فلا يعذر أحد منكم في التهاون، والأمر على ذلك (ثم يأتي زمان) يضعف فيه الإسلام، ويكثر الظلمة والفساق، وتشيع الفتن، ويتوارى الحق، ويقل أنصاره فيعذر المسلمون فيما أهملوه من هذا الباب لعدم القدرة. (من عمل منهم) أي من أهل ذلك الزمان (بعشر ما أمر به نجا) ؛ لأنه المقدور، {ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها} [285:2] . (رواه الترمذي) في أواخر الفتن، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث نعيم بن حماد عن ابن عيينة- انتهى. ونعيم بن حماد هذا صدوق يخطيء كثيراً، كما في التقريب. وفي معنى الحديث روي عن أي ذر أخرج حديثه أحمد. 180- قوله: (إلا أوتوا الجدل) أي أعطوه، وهو حال "وقد" مقدرة، والمستثنى منه أعم الأحوال، وذو الحال فاعل "ما ضل" لا الضمير المستتر الذي في خبر كان كما توهمه الطيبي، فإنه فاسد معنى، وإن كان الضمير المذكور راجعاً إلى فاعل "ما ضل" فليفهم، قاله السندي. والمعنى: ما كان وقوعهم في الضلالة إلا بسبب الجدال، وهو الخصام بالباطل، وضرب الحق به، وضرب الحق بعضه ببعض بإيداء التعارض والتدافع والتنافي بينهما، لا المناظرة لطلب الصواب مع التفويض إلى الله عند العجز عن معرفة الكنه. (ثم قرأ) أي توضيحاً لما ذكر بذكر مثال له، لا للاستدلال به على الخصم المذكور، فإنه لا يدل عليه. (ماضربوه) أي هذا المثل (لك إلا جدلاً) أي إلا لمخاصمتك، ولإيذائك بالباطل، لا لطلب الحق، فإن قلت: قريش ما كانوا على الهدى، فلا يصلح ذكرهم مثالاً. قلت: نزل تمكنهم منه بواسطة البراهين الساطعة منزلة كونهم عليه، فحيث دفعوا بعد ذلك الحق بالباطل، وقرروا الباطل بقولهم: آلهتنا خير أم هو؟ يريدون أنهم يعبدون الملائكة وهم خير من عيسى، وقد عبدوه النصارى، فحيث صح لهم عبادته صح لنا عبادتهم بالأولى، فصاروا مثالاً لما فيه الكلام. وقيل الأصح في معنى الآية أن عبد الله بن الزبعرى قبل إسلامه جادل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} [98:21] لآلهتنا أي الأصنام خير عندك أم عيسى؟

بل هم قوم خصمون} )) روه أحمد، والترمذي، وابن ماجه. 181- (42) وعن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: ((لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم، فإن قوماً شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديار {رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم} )) . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن كان في النار فلتكن آلهتنا معه، والجواب عن هذه الشبه بوجهين: الأول: أن "ما" لغير ذوي العقول فالإشكال نشأ عن الجهل بالعربية. والثاني: أن عيسى والملائكة خصوا عن هذا بقوله تعالى: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون} [101:21] . (بل هم) أي الكفار (قوم خصمون) أي كثير الخصومة. (رواه أحمد) (ج5:ص252، 256) ، (والترمذي) في تفسير سورة الزخرف، وقال: حديث حسن صحيح، (وابن ماجه) في السنة، وأخرجه أيضاً الحاكم (ج2: ص248) وصححه، ووافقه الذهبي وابن جرير والطبراني والبيهقي وغيرهم. 181-قوله (لا تشددوا على أنفسكم) أي بالأعمال الشاقة كصوم الدهر، وإحياء الليل كله، واعتزال النساء لئلا تضعفوا عن العبادة، وأداء الحقوق والفرائض. (فيشدد الله عليكم) بالنصب جواب النهي، أي يفرضها عليكم فتقعوا في الشدة، أو بأن يفوت عليكم بعض ما وجب عليكم بسبب ضعفكم من تحمل المشاق، وقيل: المعنى لا تشددوا على أنفسكم بإيجاب العبادات الشاقة على سبيل النذر أو اليمين فيشدد الله عليكم، فيوجب عليكم بإيجابكم على أنفسكم، فتضعفوا عن القيام بحقه, وتملوا وتكسلوا، وتتركوا العمل فتقعوا في عذاب الله. (فإن قوماً) أي من بني إسرائيل (شددوا على أنفسهم) بالعبادات الشاقة، والرياضات الصعبة، والمجاهدات التامة (فشددالله عليهم) بإتمامها والقيام بحقوقها. (فتلك) إشارة إلى ما في الذهن من تصور جماعة باقية من ذلك المشددين (بقاياهم) أي بقايا قوم شددوا على أنفسهم (في الصوامع) جمع صومعة بفتح الصاد والميم، وهي موضع عبادة الرهبان من النصارى. (والديار) جمع الدير بفتح الدال، وهو الكنيسة وهي معبد اليهود. (رهبانية) منصوب بفعل يفسره ما بعده، أي ابتدعوا رهبانية (ابتدعوها) أي أحدثوها من عند أنفسهم من غير أن تفرض عليهم أو تسن، والرهبانية بفتح الراء، وهي المبالغة في العبادة والرياضة، والإنقطاع عن الناس، منسوبة إلى الرهبان، وهو المبالغ في الخوف من الرهب، كالخشيان من خشي، وقرئت بالضم كأنها منسوبة إلى الرهبان جمع راهب، كركبان وراكب، وذلك لأنهم غلوا في العبادة، وحملوا على أنفسهم المشقات في الإمتناع من المطعم، والمشرب والمنكح والملبس، وتعلقوا بالكهوف والصوامع والغيران والديرة؛ لأن ملوكهم غيروا وبدلوا، وبقي منهم نفر قليل فترهبوا وتبتلوا {ما كتبناها عليهم} أي ما فرضنا تلك الرهبانية عليهم وهي صفة ثانية لرهبانية، أو مستأنفة مقررة لكونها مبتدعة من عند أنفسهم، والاقتصار على هذا يدل على

رواه أبوداود. 182- (43) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نزل القرآن على خمسة أوجه: حلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال. ـــــــــــــــــــــــــــــ أن الاستثناء فيما بعده، وهو قوله: {إلا ابتغاء رضوان الله} اسثناء منقطع، أي ما شرعناها لهم أصلاً، ولكنهم التزموها من تلقاء أنفسهم ابتغاء رضوان الله. {فما رعوها حق رعايتها} أي فما قاموا بما التزموه حق القيام، وهذا ذم لهم من وجهين: أحدهما الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله، والثاني عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله تعالى، فكأن تركه وعدم رعايته حق الرعاية يدل على عدم مبالاتهم بما يعتقدونه ديناً. وقيل: {فما رعوها حق رعايتها} أي فلم يرعوا هذه الرهبانية التي ابتدعوها من عند أنفسهم، وما قاموا حق القيام بها بل ضيعوها، وكفروا بدين عيسى، وضموا إليها التثليث، ودخلوا في دين الملوك الذين غيروا وبدلوا، وتركوا الترهب، ولم يبق على دين عيسى إلا قليل منهم، حتى أدركوا محمداً - صلى الله عليه وسلم - فآمنوا به، وهم المرادون بقوله: {فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم} أي الذي يستحقونه بالإيمان بعيسى وبمحمد {وكثير منهم فاسقون} [27:57] أي خارجون عن الإيمان بما أمروا به، وهم الذين كفروا بعيسى، وكذبوا محمداً وخالفوه. وقيل: الاستثناء متصل أي ما شرعناها لهم بشيء من الأشياء إلا لقصد رضوان الله، فما رعوها حق رعايتها حين لم يؤمنوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فشرع لهم الترهب على شرط أنه إذا نسخ بغيره رجعوا إلى ما أحكم، وتركوا ما نسخ، وهو معنى ابتغاء الرضوان على الحقيقة، فإذا لم يفعلوا وأصروا على الأول كان ذلك اتباعاً للهوى لا اتباعاً للمشروع، ولذلك سمى ابتداعاً؛ لأنهم أخلوا بشرط المشروع إذ شرط عليهم فلم يقوموا به، وإذا كانت العبادة مشروعة بشرط فيعمل بها دون شرطها لم تكن عبادة على وجهها، وصارت بدعة، فيكون ترهب النصارى صحيحاً قبل بعث محمد - صلى الله عليه وسلم -، فلما بعث وجب الرجوع عن ذلك كله إلى ملته، فالبقاء عليه مع نسخه بقاء على ما هو باطل بالشرع، وهو عين البدعة، كذا حققه الشاطبي، وقد بسط الكلام في تفسير هذه الآية، من أحب الوقوف عليه رجع إلى كتابه الإعتصام. (رواه أبوداود) مطولاً في باب الحسد من كتاب الأدب، وسكت عليه هو والمنذري، وفيه سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء، قال ابن القيم في كتاب الصلاة (ص475) : هو شبه المجهول، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الحافظ في التقريب: هو مقبول. والحديث أخرجه أيضاً أبويعلى في مسنده، وفيه أيضاً سعيد بن عبد الرحمن المذكور. 182- قوله: (نزل القرآن) أي بطريق الإجمال (على خمسة أوجه) من وجوه الكلام (حلال) بالجزء، وهو بدل بعد العطف قبل الربط (ومتشابه) كالحروف المقطعة وأمثالها. (وأمثال) يعني قصص الأمم الماضية كقوم نوح وصالح وغيرهما. وقيل: الأظهر أن الأمثال مثل قوله تعالى: {مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت}

فأحلوا الحلال، وحرموا الحرام، واعملوا بالمحكم، وآمنوا بالمتشابه واعتبروا بالأمثال)) . هذا لفظ المصابيح. وروى البيهقي في "شعب الإيمان" ولفظه: ((فاعملوا بالحلال، واجتنبوا الحرام، واتبعواالمحكم)) . 183- (44) وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الأمر ثلاثة: أمر بين رشده فاتبعه، وأمر بين غيه فاجتنبه، وأمر اختلف فيه فكله إلى الله عزوجل)) رواه أحمد. ـــــــــــــــــــــــــــــ [41:29] ، ولذلك عقبه تعالى بقوله: {وتلك الأمثال نضربها للناس} [43:29] . (فأحلوا) بكسر الحاء أمر من الإحلال (الحلال) أي اعتقدوا حليته (وحرموا الحرام) أي اعتقدوا حرمته واجتنبوه (واعملوا بالمحكم) من الأمر والنهي (وآمنوا بالمتشابه) من غير أن تتبعوه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، ومن غير اشتغال بكيفيته. (هذا) أي المذكور من الحديث المروي (لفظ المصابح، وروى البيهقي) أي معناه، وحذف هذا للعلم به (في شعب الإيمان، ولفظه) أي لفظ البيهقي (فاعملوا بالحلال) الخ. فيه نوع اعتراض من المصنف على صاحب المصابيح. وأخرج الحاكم (ج2:ص290، 289) عن ابن مسعود مرفوعاً بسند منقطع: ((كان الكتاب الأول نزل من باب واحد على حرف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: زاجر، وآمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال، فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا: آمنا به كل من عند ربنا)) . 183- قوله: (الأمر) واحد الأمور، أي الشأن والحال في الأعمال التكليفية (ثلاثة) أي ثلاثة أنواع (امر) أي منها أمر، أو أحدها أمر (بين رشده) أي ظاهر صوابه، كأصول العبادات مثل وجوب الصلاة والزكاة، وكأصول العقائد من التوحيد والنبوة والمعاد (وأمر بين غيه) أي ضلالته كقتل النفس والزنا (وأمر اختلف فيه) بصيغة المجهول، أي اختلف الناس فيه من تلقاء أنفسهم من غير أن يبين الله ورسوله حكمه (فكله) أمر من وكل يكل (إلى الله عزوجل) أي فوض أمره إلى الله تعالى يعني ما علمت كونه حقا وصوابا بالنص فاعمل به، وما علمت بطلانه بالنص فاجتنبه، ومالم يثبت حكمه بالشرع فلا تقل فيه شيئاً، وفوض أمره إلى الله، مثل متشابهات القرآن، وأمور القيامة. قال الطيبي: قوله: "اختلف فيه" يحتمل أن يكون معناه اشتبه وخفى حكمه، ويحتمل أن يراد به اختلاف العلماء، أي والأدلة. وقيل: الأولى أن يفسر هذا الحديث بما ورد في آخر الفصل الثالث من حديث أبي ثعبلة الخشين. (رواه أحمد) . قال العلامة الألباني: لم أجد أحد عزاه إليه، وما أظنه في مسنده، وقد عزاه السيوطي في الجامع الكبير (ج1/323/2) لابن منيع، واسمه أحمد أيضاً بهذا اللفظ، وللطبراني في الكبير بلفظ "فكله إلى علمه"، قلت: وفي أوله عنده (ج3/97/2) أن عيسى بن مريم - عليه السلام - قال "إنما الأمور ثلاثة ... وكذا أورده الهيثمي

{الفصل الثالث}

{الفصل الثالث} 184- (45) عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم، يأخذ الشاذة والقاصية والناحية، وإياكم والشعاب، وعليكم بالجماعة والعامة)) رواه أحمد. 185- (46) وعن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من فارق الجماعة شبراً فقد خلع ـــــــــــــــــــــــــــــ في المجمع (1/158) من رواية الطبراني فقط، وقال: "ورجاله موثقون"، وفيه نظر فإنه من رواية أبي المقدام، واسمه هشام بن زياد، وهو متروك، كما قال الحافظ في التقريب. ومن طريقه رواه الهروي في ذم الكلام (ق/60/2) . 184- قوله: (ذئب الإنسان) الذئب مستعار للمفسد والمهلك (كذئب الغنم) أي في العداوة والإهلاك. (يأخذ الشاذة) قال الطيبي: صفة للذئب؛ لأنه بمنزلة النكرة {كمثل الحمار يحمل أسفاراً} [5:62] ، ويجوز أن يكون حالاً منه والعامل معنى التشبيه- انتهى. وقيل: إنه استئناف مبين، والمعنى: يأخذ غالباً أو بالسهولة من غير تدارك، وهو تمثيل مثل حال مفارقة الجماعة والسواد الأعظم، وانقطاعه عنهم، واعتزاله عن صحبتهم، ثم تسلط الشيطان عليه وإغوائه، بحالة شاة قاصية شاذة من قطيع الغنم، ثم افتراس الذئب إياها بسبب انقطاعها. والشاذة بتشديد الذال المعجمة، هي النافرة التي لم تؤنس بأخواتها ولم تختلط بهن. (والقاصية) أي التي قصدت البعد عنهن لأجل المرعى مثلاً لا للتنفر. (والناحية) أي التي غفل عنها، وبقيت في جانب منها، فإن الناحية هي التي صارت في ناحية من الأرض عن أخواتها لغفلتها. (وإياكم والشعاب) بكسر الشين، جمع الشعب بالكسر أيضاً، وهو الوادي ما اجتمع منه طرف وتفرق طرف منه، ولذلك قيل: شعبت الشيء إذا جمعته، وشعبته إذا فرقته، فهو من الأضداد، والمراد المنعطفات في الأودية؛ لأنها محل السباع والهوام وقطاع الطريق وأماكن الجن، ولما فرغ من التمثيل أكده بقوله: "وإياكم"، وعقبه بقوله: (وعليكم بالجماعة والعامة) تقريراً بعد تقرير، وقد تقدم معنى الجماعة، والمراد منها في شرح حديث ابن عمر في الفصل الثاني، وقيل في معنى هذه الجملة: وعليكم بمخالطة عامة المسلمين، وإياكم ومفارقتهم، والعزلة عنهم، واختيار الجبال والشعاب البعيدة عن العمران. (رواه أحمد) (ج5:ص233، 234) وفيه: يأخذ الشاة القاصية والناحية. وزاد في رواية: والمسجد. بعد قوله: والعامة. وأخرجه أيضاً الطبراني في الكبير، وابن السجزي في الإبانة، كما في الكنز (ج1:ص52) وفي آخره: ((فعليكم بالجماعة والألفة والعامة والمساجد، وإياكم والشعاب)) . 185- قوله: (من فارق الجماعة) المراد بالجماعة الصحابة، ومن بعدهم من التابعين وتابعي التابعين من السلف الصالحين، المتمسكين بعرى الإسلام. (شبراً) بكسر الشين، ما بين طرف الإبهام وطرف الخنصر ممتدين، والمعنى: من فارق ما عليه الجماعة يترك السنة، واتباع البدعة، ونزع اليد عن الطاعة، ولو كان بشيء يسير يقدر في الشاهد بقدر شبر (فقد خلع) أي نزع

ربقة الإسلام من عنقه)) رواه أحمد، وأبوداود. 186- (47) وعن مالك بن أنس مرسلاً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله)) ـــــــــــــــــــــــــــــ (ربقة الإسلام) الربقة بالكسر في الأصل عروة في حبل تجعل في عنق البهيمة أو يدها تمسكها، فاستعارها للإسلام، يعني ما يشد المسلم به نفسه من عرى الاسلام، أي حدوده وأحكامه، وأوامره ونواهيه. وقال الطيبي: استعيرت الربقة لانقياد الرجل واستسلامه لأحكام الشرع، وخلعها ارتداده، وخروجه عن طاعة الله وطاعة رسوله. وقال الخطابي: يقول من خرج عن طاعة إمام الجماعة أو فارقهم في الأمر المجتمع عليه فقد ضل وهلك، وكان كالدابة إذا خلعت الربقة التي هي محفوظة بها، فإنها لا يؤمن عليها عند ذلك الهلاك والضياع - انتهى. وقيل: المعنى فقد نبذ عهد الله وأخفر ذمته التي لزمت أعناق العباد لزوم الربقة. قلت: الحديث قد استدل به على حجية الإجماع، وفيه نظر؛ فإنه ليس فيه إلا المنع من مفارقة الجماعة، فأين هذا من محل النزاع، وهو كون ما أجمعوا عليه حجة ثابتة شرعية، فتأمل. (رواه أحمد) (ج5:ص180) ، (وأبوداود) في السنة، وسكت عليه هو والمنذري، وأخرجه أيضاً الحاكم (ج1:ص127) ، وفي معنى الحديث عن حذيفة أخرج حديثه النسائي، وعن الحارث بن الحارث الأشعري أخرج حديثه الترمذي وصححه، وابن خزيمه وابن حبان في صحيحهما، والحاكم (ج1:ص127) وقال: صحيح على شرط الشيخين، وعن أبي هريرة أخرج حديثه مسلم في صحيحه، والنسائي في المجتبى بلفظ: ((من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، مات ميتة جاهلية)) . وعن ابن عباس عند الشيخين، وعن ابن عمر ومعاوية عند الحاكم. 186- قوله: (عن مالك بن أنس) إمام دار الهجرة صاحب المذهب (مرسلاً) المرسل على ما هو المشهور عند أهل الحديث هو: قول التابعي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا، أو فعله. لكن المشهور في الفقة وأصوله أن قول من دون التابعي أيضاً يسمى مرسلاً سواء كان منقطعاً أو معضلاً. وبه قطع الخطيب، قال: إلا أن أكثر ما يوصف بالإرسال من حيث الإستعمال ما رواه التابعي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فهذا محمول على قول الخطيب، فإن الإمام مالكاً من أتباع التابعين، والأولى أن يقول معلقاً أو معضلاً مكان قوله: "مرسلاً"، فإن الحديث في المؤطا هكذا: مالك أنه بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((تركت فيكم أمرين ... )) الخ. قال الزرقاني: مر أن بلاغه صحيح كما قال ابن عيينة، وقد أخرجه ابن عبد البر من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده (تركت فيكم) أي تارك فيكم بعدي (أمرين) أي شيئين كما في حديث أبي هريرة عند الحاكم. (ماتمسكتم) أي مدة تمسككم، وفى نسخة الزرقاني للمؤطا "ما مسكتم" بفتح الميم والسين الخفيفة من المسك، أي أخذتم وتعلقتم واعتصمتم (بهما) أي بالأمرين معاً. (كتاب الله وسنة رسوله) أي حديث رسوله، وهما منصوبان على البدلية، أو بتقدير أعنى، وقيل: بالرفع على الخبرية

رواه في المؤطا. 187- (48) وعن غضيف بن الحارث الثمالي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة، فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة)) ـــــــــــــــــــــــــــــ بتقدير "هما"، وفي المؤطا "سنة نبيه"، قال الزرقاني: فإنما الأصلان اللذان لا عدول عنهما، ولا هدى إلا منهما، والعصمة والنجاة لمن مسك بهما، واعتصم بحبلهما، وهما العرفان الواضح، والبرهان اللائح بين المحق إذا اقتفاهما، والمبطل إذا خلاهما، فوجوب الرجوع إليهما معلوم من الدين ضرورة، لكن القرآن يحصل العلم القطعي. وفي السنة تفصيل معروف - انتهى. ثم في العدول عن "سنتي" مبالغة في زيادة شرفه، والحث على التمسك بسنته بذكره السبب في ذلك، وهو خلافته عن الله وقيامه برسالته، وأن ماجاء به ليس إلا من تلك الرسالة لا من تلقاء نفسه. (رواه) أي مالك، وفيه أنه يصير التقدير: رواه مالك عن مالك (في المؤطا) فكان حق المصنف أن يقول هكذا في المؤطا. والحديث ذكره مالك بلاغاً في باب النهي عن القول في القدر من كتاب الجامع، وهو من بلاغات الإمام كما عرفت وقد تقدم بيان حكمها في كلام سفيان وابن عبد البر وابن فرحون والسيوطي. ثم المؤطا بالهمزة في آخره، وقيل: بالألف، بمعنى الممهد، المنقح، المسهل، المهيأ لغة. وهذا الحديث أخرجه الحاكم (ج1:ص93) عن أبي هريرة مرفوعاً: ((تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما، كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض)) . وأخرج الحاكم أيضاً (ج1:ص93) والبيهقي عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس في حجة الوداع فقال: ((يا أيهاالناس: إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً، كتاب الله وسنة نبيه)) . 187- قوله: (وعن غضيف) بالضاد المعجمة مصغراً، ويقال: غطيف بالطاء المهملة بدل الضاد المعجمة، والأول أثبت وأصح، (بن الحارث الثمالي) بضم الثاء المثلثة، وتخفيف الميم، نسبة إلى ثمالة بطن من الأزد، ويكنى أبا أسماء، حمصي، مختلف في صحبته، فذكره الحافظ في القسم الأول من حرف الغين من الإصابة، والمصنف والسكوني في الصحابة، وكذا البخاري، وابن أبي حاتم، والترمذي، والخليفة، وابن أبي يخيثمة، والطبراني، وآخرون، وذكره جماعة كابن سعد، والدارقطني، والعجلى، وغيرهم في ثقات التابعين، ومنهم من فرق بين غضيف بن الحرث فأثبت صحبته، وغطيف بن الحارث فقال: إنه تابعي. قال الحافظ في التقريب: وهو أشبه، مات سنة بضع وستين. (ما أحدث قوم بدعة) شرعية (إلا رفع مثلها) أي مقدارها في الكمية، أو الكيفية والمرتبة. سمى أحد الضدين مثلاً للآخر؛ لأن كل واحد منهما أقرب خطوراً بالبال عند ذكر الآخر، وأسرع ثبوتاً عند ارتفاع الآخر، فكأن بينهما تناسب ما، وإذا كان إحداث البدعة رافعاً للسنة ومغيراً لها كانت إقامة السنة قامعة للبدعة وماحية لها. (فتمسك) جواب شرط محذوف، أي إذا عرفت ذلك فتمسك (بسنة) أي صغيرة أو قليلة (خير من إحداث بدعة) شرعية، وإن كانت مستحسنة

رواه أحمد. 188- (49) وعن حسان قال: ((ما ابتدع قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها، ثم لا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ عند الناس، فبالأول يزيد النور ويحصل الأجر، وبالثاني تشيع الظلمة ويحصل الوزر، ومن المعلوم أن الشيء الذي يورث الأجر خير من الشيء الذي يورث الوزر، وهو من قبيل "العسل أحلى من المر"، وعلى حد {أى الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً} ، فالتقدير: التمسك بسنة فيه خير عظيم وببدعة لا خير فيه أصلاً. وقيل: معنى قوله: "إلا رفع مثلها من السنة" أنه بحدوث البدعة يبطل العمل بسنة، ففيه التحذير عن ارتكاب البدع. (رواه أحمد) (ج4:ص105) من طريق أبي بكر بن عبد الله، عن حبيب بن عبيد الله الرحبي، عن غضيف، قال: بعث إلي عبد الملك بن مروان، فقال: يا أباأسماء: إنا قد جمعنا الناس على أمرين. قال: ما هما؟ قال: رفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة، والقصص بعد الصبح والعصر. فقال: إنهما أمثل بدعتكم عندي، ولست بمجيبكم إلى شيء منهما. قال: لم؟ قال:؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة، فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة)) - انتهى. ولعل قوله: فتمسك بسنة، الخ. من قول غضيف موقوف عليه، مدرج في الحديث. وقد أخرجه أيضاً البزار، والطبراني في الكبير، وفي سندهما أبوبكر بن عبد الله، أي ابن أبي مريم الغساني، قال الحافظ أبوعبد الله، وابن معين، وأبوحاتم، وأبوزرعة، وغيرهم: ضعيف. وقال الهيثمي (ج1:ص188) : منكر الحديث. وقال الحافظ في التقريب: ضعيف، وكان قد سرق بيته فاختلط. وصدر المنذري حديث غضيف هذا بلفظة "روي"، وهو دليل لكونه ضعيفاً بحيث لا يتطرق إليه احتمال التحسين، كما صرح بذلك في مقدمة ترغيبه. وقال العزيزى: إسناده ضعيف، وفي الباب عن أبي هريرة عند الرافعي، وابن مسعود عند الديلمي، وابن عباس عند الطبراني في الكبير. 188- قوله: (وعن حسان) غير منصرف على أنه فعلان، وقد ينصرف على أنه فعال، وهو ابن عطية كما صرح بذلك ابن بطة (ق114/2) والهروى (ق98/2) في روايتهما، والشاطبي في الاعتصام (85/1) وليس هو حسان بن ثابت الصحابي الشاعر كما وهم القاري وابن عطية، وهذا هو حسان بن عطية المحاربي مولاهم أبوبكر الشامي الدمشقي من ثقات التابعين، قال الحافظ في التقريب: ثقة فقيه عابد، من الرابعة، مات بعد العشرين ومائة. وقال في تهذيب التهذيب في ترجمته: ذكره البخاري في الأوسط في فصل من مات من العشرين إلى الثلاثين ومائة، وقال: كان من أفاضل أهل زمانه. (قال) أي حسان (ما ابتدع قوم بدعة) شرعية (مثلها) أي في العدد أو القدر (ثم لا يعيدها) أي الله تلك السنة (إليهم إلى يوم القيامة) ، وذلك أن السنة كانت متأصلة مستقرة في مكانها، فلما أزيلت عنه لم يمكن إعادتها

رواه الدارمي. 189- (50) وعن إبراهيم بن ميسرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام)) رواه البيهقي في شعب الإيمان مرسلاً. 190- (51) وعن ابن عباس، قال: ((من تعلم كتاب الله ثم اتبع ما فيه، هداه الله من الضلالة في الدنيا، ووقاه يوم القيامة سوء الحساب)) . وفي رواية، قال: من اقتدى بكتاب الله ـــــــــــــــــــــــــــــ كما كانت أبداً، فمثلها كمثل شجرة ضربت عروقها في تخوم الأرض فلإذا قلعت لم يمكن إعادتها كما كانت. (رواه الدارمي) أي من قول حسان في باب اتباع السنة، قال: أخبرنا أبوالمغيرة، ثنا الأوزعي عن حسان، قال: ما ابتدع، الخ. وهذا سند صحيح، قال الشيخ الألباني: وقد روي من قول أبي هريرة، أخرجه أبوالعباس الأصم في حديثه. 189- قوله: (وعن إبراهيم بن ميسرة) بميم مفتوحة وياء ساكنة وسين مهملة مفتوحة وبراء، الطائفي، نزيل مكة، ثبت، حافظ، من صغار التابعين. قال ابن المديني: له نحو ستين حديثاً أو أكثر. قال البخاري: مات قريباَ من سنة اثنتين وثلاثين ومائة. (من وقر) بالتشديد أي عظم أو نصر (صاحب بدعة) سواء كان داعياً لها أم لا، (فقد أعان على هدم الإسلام) ؛ لأن المبتدع مخالف للسنة، ومعاون مخالف الشيء معاون لهدمه، وكان من حق الظاهر أن يقال: من وقر المبتدع فقد استخف السنة. فوضع موضعه "فقد أعان على هدم الإسلام"؛ ليؤذن بأن مستخف السنة مستخف للإسلام، ومستخفه هادم لبنيانه، وهو من باب التغليظ، فإذا كان حال الموقر هكذا فما حال المبتدع، وفيه أن من وقر صاحب سنة كان الحكم بخلافه. (رواه البيهقي) الخ. واعتضد هذا المرسل بما روى الطبراني في الكبير، وأبونعيم في الحلية عن معاذ بن جبل مرفوعاً نحوه، وفيه بقية، وهو ضعيف، قاله الهيثمي (ج1:ص188) وبما روى الطبراني في الكبير عن عبد الله بن بسر، قال العزيزى: هو حديث ضعيف. 190- قوله: (وعن ابن عباس قال) أي موقوفا (من تعلم كتاب الله) نظراً أو حفظاً أو علماً بمعناه، (ثم اتبع ما فيه) من الأمر والنهي (هداه الله من الضلالة) ضمن "هدى" معنى أمن فعداه بمن إلى المفعول الثاني، أي أمنه الله من ارتكاب المعاصي، والانحراف عن الطريق المستقيم، قال القاري كذا قاله الطيبي. والأظهر أن معناه من اتبع القرآن ثبته الله على الهداية، ووقاه من الوقوع في الضلالة ما دام يعيش، (ووقاه) أي حفظه (سوء الحساب) أي مناقشته المؤدية إلى السوء، قال الطيبي: هو عبارة عن كونه من أصحاب اليمين، فكما أنه أمن في الدنيا من الضلال كذلك يأمن في الآخرة من العذاب. وفيه أن سعادة الدارين منوطة بمتابعة كتاب الله، ومتابعة موقوفة على معرفة سنة رسوله ومتابعة، فهما متلازمتان شرعاً لا ينفك أحدهما عن الآخر. (وفي رواية قال) أي ابن عباس (من اقتدى بكتاب الله)

لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ثم تلا هذه الآية {فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى} رواه رزين. 191- (52) وعن ابن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعن جنبتى الصراط سوران، فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعند رأس الصراط داع يقول: استقيموا على الصراط ولا تعوجوا، وفوق ذلك داع يدعوا، كلما هم عبد أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال: ويحك ـــــــــــــــــــــــــــــ في جميع أموره وشؤونه وأحواله. (لا يضل) أي لا يقع في الضلالة (ولا يشقى) أي لا يتعب ولا يعذب. (ثم تلا هذه الآية) أي استشهاداً لما قاله (فمن اتبع هداى) أي ما يهدى به، أو أريد به المصدر مبالغة، وهو القرآن بقرينة الإضاءة، أي الهداية المخصوصة بي، المنسوبة إلي، وفي معناه الهداية النبوية، والسنة المصطفوية، ولذا قال في المعالم: أي الكتاب والسنة. (رواه رزين) وأخرجه أيضاً الحاكم في المستدرك (ج2:ص381) قال: ((من قرأ القرآن، واتبع ما فيه، هداه الله من الضلالة، ووقاه يوم القيامة سوء الحساب، وذلك بأن الله عزوجل قال: ((من اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى} )) [123:20] قال الحاكم: حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وأقره الذهبي في التلخيص، وأخرجه أيضاً الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه أبوشيبة، وهو ضعيف جداً، قاله الهيثمي (ج1: ص169) . 191- قوله: (ضرب الله مثلاً) أي بيّن مثلاً، وذلك لإخراج المعقول في صورة المحسوس تقريباً للمعقول. (صراطاً مستقيماً) بيان للمثل، قال القاري: هو بدل من "مثلاً" لا على إهدام المبدل كما في قولك: زيد رأيت غلامه رجلاً صالحاً. (وعن جنبتي الصراط) بفتح الجيم وسكون النون، أي جانبيه وطرفيه. (سوران) بالضم تثنية سور، أي جدران وأصله حائط يطوف بالمدينة، والجملة حال عن "صراطا". (فيهما أبواب) الجملة صفة "سوران" (مفتحة) من التفتيح (ستور) جمع الستر بالكسر (مرخاة) أي مرسلة ومسبلة. (وعند رأس الصراط أي عليه، (ولا تعوجوا) بتشديد الجيم من الإعواجاج، وفي بعض النسخ بتشديد الواو على حذف إحدى التائين فهو تأكيد لما قبله، أي لا تميلوا إلى الأطراف، قال الطيبي: عطف على "استقيموا" على الطرد والعكس؛ لأن مفهوم كل منهما يقرر منطوق الآخر، وبالعكس (وفوق ذلك) عطف على "وعند رأس الصراط" والمشار إليه بذلك الصراط أو الداعي. (كلما هم عبد) أي قصد وأراد (أن يفتح شيئاً) أي قدراً يسيراً. (من تلك الأبواب) أي ستورها (قال) أي الداعي، وهو جواب "كلما" (ويحك) زجر له عن تلك الهمة، وهي كلمة ترحم وتوجع تقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها، ثم استعمل هنا لمجرد الزجر عما هم به من

لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه. ثم فسره فأخبر: أن الصراط هو الإسلام، وأن الأبواب المفتحة محارم الله، وأن الستور المرخاة حدود الله، وأن الداعي على رأس الصراط هو القرآن، وأن الداعي من فوقه هو واعظ الله في قلب كل مؤمن)) رواه رزين. 192- (53) ورواه أحمد والبيهقي في شعب الإيمان عن النواس بن سمعان، وكذا الترمذي عنه إلا أنه ذكر أخصر منه. 193- (54) وعن ابن مسعود قال: "من كان مستناً، فيستن بمن قد مات، فإن الحي ـــــــــــــــــــــــــــــ الفتح. (لا تفتحه) أي شيئاً من تلك الأبواب أي ستورها (تلجه) أي تدخله من الولوج، يعني لا تقدر أن تملك نفسك وتمسكها عن الدخول بعد الفتح. (ثم فسره) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أن الصراط هو الإسلام) وهو طريق مستقيم، والمطلوب من العبد الاستقامة عليه أي امتثال جميع أحكامه. (وأن الأبواب المفتحة محارم الله) أي المعاصي التي حرمها الله على الناس، فإنها أبواب للخروج من كمال الإسلام والاستقامة، والدخول في العذاب والملامة. (وأن الستور المرخاة حدود الله) قيل: الحد الفاصل بين العبد ومحارم الله والمانع له من ارتكابها، كما قال الله تعالى: {تلك حدود الله فلا تعتدوها} [229:2] ، وهي عبارة عن أحكامه، وقيل: المراد من الستور الأمور المستورة الغير المبينة من الدين المسماة بالشبهة المعبر عنها بحول الحمى. (وأن الداعي من فوقه) أي من فوق الداعي الأول. (هو واعظ الله في قلب كل مؤمن) هو لمة الملك في قلب المؤمن، والهم لمة الشيطان. (رواه رزين) أي عن ابن مسعود. 192- قوله: (ورواه أحمد) الخ. (ج4:ص182، 183) من طريقين في أحدهما بقية بن الوليد، وهو صدوق كثير التدليس، لكن صرح بسماعه من بحير بن سعد‘ وأخرجه أيضاً الحاكم (ج1:ص73) وقال: صحيح على شرط مسلم، ولا أعرف له علة. ووافقه الذهبي. (عن النواس) بفتح النون وتشديد الواو (بن سمعان) بفتح السين المهملة، وقيل بكسرها وسكون الميم، وبالعين المهملة، العامري الكلابي، سكن الشام، صحابي، ولأبيه أيضاً صحبة. روي له سبعة عشر حديثاً، انفرد له مسلم بثلاثة. (وكذا الترمذى عنه) أي روى عن النواس في الأمثال، وحسنه (إلا أنه) أي الترمذي (ذكر أخصر منه) أي من هذا الحديث، أو أخصر مما ذكر غيره. 193- قوله: (مستناً) بتشديد النون، أي مقتدياً بسنة أحد وطريقته. (فليستن بمن قد مات) أي على الإسلام، أو العلم والعمل، وعلم حاله وكماله على وجه الاستقامة. أخرج الكلام مخرج الشرط والجزاء تنبيهاً به على الاجتهاد، وتحري طريق الثواب بنفسه بالاستنباط من معاني نصوص الكتاب والسنة، فإن لم يتمكن منه فليقتد بأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأنهم اتبعوا أثر النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما شاهدوا من أقواله وأفعاله وأحواله وتقريره، فالاستنان بهم متعين. وكأن ابن

لا تؤمن عليه الفتنة. أولئك أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على أثرهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم)) رواه رزين. 194- (55) وعن جابر، أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنسخة من التوراة، فقال: يار سول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه نسخة من التوراة، ـــــــــــــــــــــــــــــ مسعود يوصي القرون الآتية بعد قرون الصحابة باقتفاء آرائهم، والاهتداء بهديهم، قال القاري: خص أمواتهم؛ لأنه علم استقامتهم على الدين واستدامتهم على اليقين بخلاف من بقي منهم حياً، فإنه يمكن منهم الافتنان ووقوع المعصية، بل الردة والكفر؛ لأن العبرة بالخاتمة، وهذا تواضع منه في حقه لكمال خوفه على نفسه، وإلا فهو ممن يقتدي به حياً وميتاً-انتهى. وقال صاحب اللمعات: أراد "بمن مات" الصحابة جميعاً، وبالحي أهل زمانه غير الصحابة. (لا تؤمن عليه الفتنة) أي الابتلاء في الدين. (أولئك) إشارة إلى من مات، أفرد الضمير في "مات" نظراً إلى اللفظ وقال "أولئك" نظراً إلى المعنى. (كانوا أفضل هذه الأمة) أي أمة الإجابة، وهم خير أمة، فكانوا أفضل الأمم، و"هذه" إشارة إلى ما في الذهن من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى انقراض العال. م (أبرها قلوباً) أي أطوعها وأحسنها وأخلصها (وأعمقها علماً) أي أكثرها غوراً من جهة العلم، وأدقها فهماً (وأقلها تكلفاً) أي تصنعاً في العمل، وكذا في العلم والقراءة والطعام واللباس وغير ذلك. (اختارهم الله لصحبة نبيه ولإقامة دينه) فإنهم نقله أقواله وحملة أحواله إلى من بعدهم، وأيضاً جاهدوا في الله حق الجهاد، وأظهروا الدين، يعني لما جعلهم الله تعالى أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - واصطفاهم واختصهم من بين الخلائق بهذه الفضيلة، علم أنهم أفضل الناس وخيار الخلق ممن بعدهم تلميحاً إلى قوله تعالى: {وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها} [26:48] ، (فاعرفوا لهم فضلهم) أي على غيرهم (واتبعوهم) بتشديد التاء، أي كونوا متبعين لهم حال كونكم ماشين (على أثرهم) بفتحتين وبكسر الهمزة وسكون المثلثة، أي عقبهم في العمل والعلم. (وتمسكوا) أي خذوا واعملوا (بما استطعتم) فيه إشارة إلى عجز المتأخرين عن المتابعة الكاملة لكن ما لا يدرك كله لا يترك كله. (وسيرهم) بكسر السين وفتح الياء جمع السيرة. (فإنهم كانوا على الهدى المستقيم) ؛ لأنهم اتبعوا أثر النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما شاهدوا من الأقوال والأحوال والأفعال. قال الطيبي: في قوله: "فاعرفوا لهم" قد أجمل ههنا ثم فصل بقوله "فضلهم"، كما في قوله تعالى: {رب اشرح لي صدري} [25:20] ، والمراد من العرفان ما يلازمه من متابعتهم ومحبتهم والتخلق بأخلاقهم، فإن قوله: "واتبعوهم" عطف على "اعرفوا" على سبيل البيان، وقوله "على أثرهم" حال مؤكدة من فاعل "اتبعوا" نحو قوله: {ثم وليتم مدبرين} [25:9] . (رواه رزين) وأخرج الطبراني في الكبير عن ابن مسعود: "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم". قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. 194- قوله: (بنسخة من التوراة) أي بشيء نسخ ونقل منها (هذه نسخة من التوراة) أي فهل تأذن لنا أن

فسكت، فجعل يقرأ ووجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتغير، فقال أبوبكر: ثكلتك الثواكل، ما ترى ما بوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فنظر عمر إلى وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفس محمد بيده لو بدا لكم موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم عن سواء السبيل، ولو كان حياً وأدرك نبوتي لاتبعني)) رواه الدارمي. 195- (56) وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كلامي لا ينسخ كلام الله، وكلام الله ينسخ كلامي، وكلام الله ينسخ بعضه بعضاً. ـــــــــــــــــــــــــــــ نطالع فيها لنطلع على ما فيها من أخبار الأمم وشرائع موسى؟ (فسكت) من كمال حلمه (فجعل يقرأ) أي شرع عمر يقرأ النسخة ظناً منه أن السكوت علامة الرضا والإذن. (يتغير) أي من أثر الغضب (ثكلتك) أي فقدتك (الثواكل) جمع ثاكل وثاكلة، أي من الأمهات والبنات والأخوات، وأصله دعاء للموت، لكنه مما يجري على ألسنتهم ولا يراد بها الدعاء، كتربت يمينه. (ما ترى) "ما" نافية بتقدير الاستفهام. (ما بوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) "ما" هذا موصولة أو موصوفة. (أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله) غضب الله توطئه لذكر غضب رسوله إيذاناً بأن غضبه غضبة، وإيماء إلى أن التعوذ إنما هو من غضب الله حقيقة، وإنما يتعوذ من غضب رسوله؛ لأنه سبب لغضبه تعالى. (رضينا بالله رباً) الخ. قاله أعتذاراً عما صدر عنه، وجمع الضمير إرشاداً للسامعين، أو إيماء إلى أنه مع الحاضرين مقام الرضا طلباً للرضا اجتناباً عن الغضب (لو بدا) بالألف دون الهمزة أي ظهر (لكم موسى) على سبيل الفرض، والتقدير (فاتبعتموه وتركتموني) لم يقتصر على الاتباع؛ لأنه بمجرده لا محذور فيه، إنما المحذور في اتباع يؤدي إلى الترك. (لضللتم) بفتح اللام وكسرها من ضرب وسمع (عن سواء السبيل) فكيف مع وجودي وعدم ظهور موسى تتبعون كتابه المنسوخ. (ولو كان) أي موسى (حياً) أي في الدنيا (وأدرك نبوتي) أي زمانها (لاتبعني) ؛ لأن دينه صار منسوخاً في زماني، ولأخذ الميثاق منه ومن سائر الأنبياء على ذلك، وفي الحديث نهي بليغ عن العدول من الكتاب والسنة إلى غيرهما. (رواه الدارمي) وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه، وفي الباب عن ابن عباس أخرجه أحمد، وعن عبد الله بن ثابت الأنصاري أخرجه ابن سعد، وأحمد، والحاكم في الكنى، والطبراني في الكبير، والبيهقي في شعب الإيمان، وعن أبي الدرداء أخرجه الطبراني في الكبير، وعن عبد الله بن الحارث أخرجه البيهقي في الشعب. 195- قوله: (كلامي لا ينسخ كلام الله) النسخ في اللغة الرافع والإزالة، ومنه نسخت الشمس الظل، ونسخت

الريح الأثر. وقد يطلق لإرادة ما يشبه النقل كقولهم: نسخت الكتاب. فأما النسخ في الشرع فهو بمعنى الرفع والإزالة لا غير، وحده: أن يرفع بخطاب متراخ حكم ثبت بخطاب متقدم. وهو في الحقيقة بيان؛ لانتهاء الحكم الشرعي المطلق، وهذا عند المتأخرين، وأما السلف فمرادهم بالنسخ رفع الحكم بجملته تارة كما هو اصطلاح المتأخرين، ورفع دلالة العام والمطلق والظاهر وغيرها تارة، إما بتخصيص أو تقييد، أو حمل مطلق على مقيد، وتفسيره وتبيينه، حتى أنهم ليسمون الاستثناء، والشرط، والصفة نسخاً لتضمن ذلك رفع دلالة الظاهر وبيان المراد، فالنسخ عندهم وفي لسانهم بيان المراد بغير ذلك اللفظ، بل بأمر خارج عنه، ولذلك كثر إطلاق النسخ في كلامهم. ثم ههنا خمس صور: الأولى نسخ القرآن بالقرآن، والثانية نسخ السنة المتواترة بمثلها، والآحاد بالآحاد، ولا اختلاف فيهما؛ لأن ذلك متماثل، فجاز أن يرفع بعضه بعضاً، والثالثة نسخ السنة بالقرآن كما نسخ التوجه إلى بيت المقدس، وتحريم المباشرة ليالي رمضان، وجواز تأخير الصلاة حالة الخوف بالقرآن، وهو كان ثابتاً بالسنة، وفيها خلاف، والجواز هو ما عليه الجمهور، وللشافعي في ذلك قولان، وصحح عامة الشافعية الجواز، وهو الأصح عندنا؛ لأنه لا وجه للمنع قط، ولم يأت في ذلك ما يتشبث به المانع لا من عقل ولا من شرع، بل ورد في الشرع نسخ السنة بالقرآن في غير موضع، فمن ذلك قوله تعالى: {قد نرى تقلب وجهك في السماء} الآية [144:2] . فنسخ التوجه إلى بيت المقدس بالقرآن، وكان ذلك ثابتاً بالسنة، ونسخ تحريم المباشرة في ليالي رمضان بقوله تعالى: {فالآن باشروهن} [187:2] ، ونسخ صوم عاشوراء بقوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [185:2] ، ونسخ تحليل الخمر بقوله تعالى: {إنما الخمر والميسر} الآية [90:5] . ونسخ جواز تأخير الصلاة إلى انجلاء القتال بما ورد في القرآن من صلاة الخوف، ونحو ذلك مما يكثر تعداده. والرابعة نسخ القرآن بالسنة المتواترة، وفيها أيضاً خلاف، فالمشهور عن أحمد منعه، واختاره أبويعلى من الحنابلة، وبه قال الشافعي وأكثر أصحابه، والظاهرية وغيرهم. واحتجوا بقوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} [106:2] ، قالوا: في الآية حصر الناسخ في كونه خيراً من المنسوخ أو مثله، والسنة لا تساوي القرآن فضلاً عن أن تكون خيراً منه، فلا تكون ناسخة له. وقيل: يجوز ذلك وهو رواية عن أحمد، واختيار أبي الخطاب وابن عقيل، وأكثر الحنفية والمالكية وغيرهم، وهو الذي نصره ابن الحاجب، وحكاه عن الجمهور، وهو الأرجح عندنا؛ لأن السنة شرع من الله عزوجل، كما أن الكتاب شرع منه سبحانه، وقد قال: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [7:59] ، وأمر سبحانه بإتباع رسوله في غير موضع في القرآن فهذا بمجرده يدل على أن السنة الثابتة عنه ثبوتاً على حد ثبوت الكتاب العزيز، حكمها حكم القرآن في النسخ وغيره، وليس في العقل ما يمنع من ذلك، فإن الناسخ في الحقيقة هو الله تعالى على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - بوحي غير نظم القرآن، وقد نسخت الوصية للوالدين والأقربين بقوله: ولا وصية لوارث. وهذا يدل على وقوع نسخ القرآن بالسنة شرعاً. وأما قوله: {ما ننسخ من آية} الخ. فليس فيه إلا أن ما يجعله الله منسوخاً من الآيات القرآنية سيبدله بما هو خير منه، أو بما هو مثله للمكلفين، وما آتانا على لسان رسوله فهو كما آتانا منه، كما قال سبحانه: {إن هو إلا وحي يوحى} [4:53} وكما قال: {قل ما يكون لي أن أبدله

196- (57) وعن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أحاديثنا ينسخ بعضها بعضاً كنسخ القرآن)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ من تلقاء نفسي} [15:10] ، وقيل: المراد نأت بخير منها في الحكم ومصلحته. والسنة تساوي القرآن في ذلك، إذ المصلحة الثابتة بالسنة قد تكون أضعاف المصلحة الثابتة بالقرآن إما في عظم الأجر بناء على نسخ الأخف بالأثقل أو في تخفيف التكليف بناءً على نسخ الأثقل بالأخف، وأيضاً فإن الآية على التقديم والتأخير. والتقدير: ما ننسخ من آية نأت منها بخير، فلا يكون فيه دلالة على محل النزاع أصلاً. وقال في المستصفى: ليس المراد من قوله تعالى: {نأت بخير منها} نأت بقرآن آخر خيراً منها؛ لأن القرآن لا يوصف بكون بعضه خيراً من بعض، قال: بل معناه أن يأتي بعمل خير من ذلك العمل، لكونه أخف منه، أو أجزل ثواباً، هذا كلامه. وعليه فلا دليل للمنع في هذه الآية. واستدل المانعون أيضاً بحديث جابر هذا، قالوا: هو نص في المسألة، وأجيب عنه بعدة وجوه: الأول أنه ضعيف جداً بل موضوع. فإن في سنده محمد بن داود القنطري، روى عن جبرون بن واقد الإفريقي، عن ابن عيينة، وعن أبي الزبير. قال الذهبي في الميزان في ترجمة محمد بن داود: وحدث بحديثين باطلين، ذكرهما ابن عدي في ترجمة جبرون، وقال تفرد بهما محمد. وقال الذهبي في ترجمة جبرون: متهم، فإنه روى بقلة حياء عن سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر مرفوعاً: كلام الله-الحديث، وعنه محمد بن داود أن مخلد بن حسين حدثه عن هشام بن حسان، عن محمد، عن أبي هريرة مرفوعاً: أبوبكر وعمر خير الأولين-الحديث، تفرد بهما القنطري، وهما موضوعان- انتهى. والثاني على تسليم صحته أنه ليس نصاً في محل النزاع، بل هو ظاهر؛ لأن لفظه عام، ودلالة العام ظاهرة لا قاطعة، فيحمل على أن خبر الواحد لا ينسخ القرآن فيبقى التواتر لا دليل على المنع فيه من ذلك. والثالث أن المراد بكلامي ههنا ما أقوله اجتهاداً ورأياً. والرابع أن المراد نسخ تلاوة الكتاب وألفاظه لا حكمه. وقيل: إنه منسوخ. قال صاحب اللمعات: ولو حمل قوله: "كنسخ القرآن" في الحديث الآتي على معنى نسخ الأحاديث القرآن بإضافة المصدر إلى المفعول لكان ناسخاً لهذا الحديث-انتهى. والصورة الخامسة للنسخ هو نسخ القرآن والسنة المتواترة بأخبار الآحاد، وفيه أيضاً اختلاف فالأكثر على أنه غير جائز شرعاً، وحكى غير واحد الإجماع على ذلك، واحتجوا بأن الثابت قطعاً لا ينسخه مظنون، وقال قوم من أهل الظاهر، ومن ابن حزم بجواز ذلك، وقالت طائفة: يجوز في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يجوز بعده. ودليل القائلين بالجواز أن الناسخ في الحقيقة إنما جاء رافعاً لاستمرار حكم المنسوخ ودوامه، وذلك ظني وإن كان دليله قطعياً، فالمنسوخ إنما هو الظني لا ذلك القطعي. ذكر هذا الطوفي وأطال في بيانه، ومال إلى جواز نسخ الكتاب ومتواتر السنة بخبر الواحد. وتفاصيل مذاهب الكل مع دلائلها مذكورة في كتب أصول الفقه، فارجع إليها خصوصاً إلى إرشاد الفحول للشوكاني، وروضة الناظر للمقدسي، والإحكام لأصول الأحكام لابن حزم، والمستصفى للغزالى. 196- قوله: (إن أحاديثنا) أي بشرط صحتها (ينسخ بعضها بعضاً) أي بشرط معرفة التاريخ (كنسخ القرآن) ،

197- (58) وعن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم حرمات فلا تنتهكوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، ـــــــــــــــــــــــــــــ أي كما ينسخ بعض آياته بعضاً. وهذا مما لا اختلاف فيه، وارجع للتفصيل إلى كتاب الاعتبار للحازمي. والحديث أخرجه أيضاً الديلمي، وهو حديث ضعيف جداً؛ لأن في سنده محمد بن الحارث بن زياد بن الربيع، عن محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني، عن أبيه. ومحمد بن الحارث هذا، قال ابن معين: ليس بشيء. وقال الفلاس: يروى عن ابن البيلماني أحاديث منكرة، متروك الحديث. وقال أبوحاتم: ضعيف. ومحمد بن عبد الرحمن بن البيلماني، ضعفوه. قال النسائي وأبوحاتم: منكر الحديث. وقال الدارقطني وغيره: ضعيف. وقال ابن حبان: حدث عن أبيه بنسخة شبيهاً بمأتي حديث كلها موضوعة. وأبوه عبد الرحمن بن البيلماني لينه أبوحاتم. وقال الدارقطني: ضعيف لا تقوم به حجة. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الحافظ في التقريب: ضعيف. 197- قوله: (وعن أبي ثعلبة الخشني) بضم المعجمة الأولى وفتح الثانية بعدها نون، نسبة إلى خشين بطن من قضاعة. صحابي مشهور، معروف بكنيته، اختلف في اسمه واسم أبيه اختلافاً كثيراً، ذكره الحافظ في الإصابة، وفي التهذيب والتقريب، وهو من بايع تحت الشجرة، ولم يقاتل مع علي ولا مع معاوية، وأرسله النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قومه فأسلموا، ونزل بالشام. له أربعون حديثاً، اتفقا على ثلاثة، وانفرد مسلم بواحد. مات وهو ساجد سنة (75) ، وقيل: قبل ذلك بكثير في أول خلافة معاوية بعد الأربعين. (إن الله فرض فرائض) جمع فريضة بمعنى مفروضة، والتاء للنقل من الوصفية إلى الاسمية، أي أوجب أحكامها مقدرة مقطوعة، سواء كان مما أوجب الله في كتابه أو لسان رسوله. (فلا تضيعوها) بتركها رأساً، أو بترك شروطها وأركانها. (وحرم حرمات) أي محرمات من المعاصي (فلا تنتهكوها) أي لا تقربوها فضلاً عن أن تتناولوها. وقال في الصحاح: انتهاك الحرمة تناولها بما لا يحل. وقيل: الانتهاك خرق محارم الشرع. (وحد حدوداً فلا تعتدوها) أصل الحد المنع والفصل بين الشيئين، فكأن حدود الشرع فصلت بين الحلال والحرام. والمعروف في اصطلاح الفقهاء من أسماء الحدود ثلاثة أشياء: أحدها المحارم والمعاصي، ومنه قوله تعالى: {تلك حدود الله فلا تقربوها} [187:2] . والثاني العقوبات المقدرة الرادعة عن المحارم المغلظة، كما يقال: حد الزنا، وحد السرقة، وحد شرب الخمر. والثالث جملة ما أذن في فعله سواء كان على طريق الوجوب، أو الندب أو الإباحة، ومنه قوله تعالى: {تلك حدود الله فلا تعتدوها} [229:2] ، واعتداء الحدود هو تجاوز ذلك إلى ارتكاب ما نهي عنه؛ لأنه ليس ما وراء ما حد الله من المأذون فيه إلا ما نهى عنه، ولهذا مدح الله الحافظين لحدود الله وذم من ر يعرف حد الحلال من الحرام، واختلفوا في معنى قوله: ((وحد حدوداً فلا تعتدوها)) فحمله بعضهم على العقوبات الزاجرة عن المحرمات المقدرة، وقال في معناه: حد أي بين وعين حدوداً في المعاصي من القتل والزنا والسرقة، فلا تعتدوها أي لا تتجاوزا عن الحد لا بالزيادة ولا بالنقصان ولا بالترك رأساً. وحمله ابن رجب على المعني الثالث، قال: الوقوف

وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها)) ، روى الأحاديث الثلاثة الدارقطني. ـــــــــــــــــــــــــــــ عند الحدود يقتضي أنه لا يخرج عما أذن فيه إلى ما نهي عنه، وذلك أعم من كون المأذون فيه فرضاً أو ندباً أو مباحاً. وحينئذٍ فلا تكرار في هذا الحديث. وقال القاري: هذه الجملة كالتقرير والتأكيد للقسمين المتقدمين. (وسكت عن أشياء) أي ترك ذكر أشياء أي حكمها من الحرمة والحل والوجوب، وهو محمول على ما انتفى فيه دلالة النص على الحكم بجميع وجوهها المعتبرة، فيستدل حينئذٍ بعدم ذكره بإيجاب أو تحريم أو تحليل، على أنه معفو عنه لا حرج على فاعله ولا على تاركه. (فلا تبحثوا عنها) هذا يحتمل اختصاص النهي بزمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأن كثرة البحث والسؤال عما لم يذكر قد يكون سبباً لنزول التشديد فيه بإيجاب أو تحريم، ويحتمل أن يكون النهي عاماً، فإن كثرة البحث والسؤال عن حكم ما لم يذكر في الواجبات ولا في المحرمات قد يوجب اعتقاد تحريمه، أو إيجابه لمشابهته لبعض الواجبات أو المحرمات، فقبول العافية وترك البحث عنه والسؤال خير. وهذا هو الراجح. وليس المراد من البحث المنهي عنه ما يفعله المجتهدون في معرفة الأحكام الشرعية من البحث عن دخول الشيء في دلالات النصوص الصحيحة من الفحوى والمفهوم والقياس الظاهر الصحيح، فإنه حق يتعين فعله على المجتهد، وبالجملة فالحديث يقتضي أن الأصل في الأشياء الإباحة والحل. وقد حكى بعضهم الإجماع على ذلك. وهذا الحديث من رواية مكحول عن أبي ثعلبة، قال ابن رجب: وله علتان؛ أحدهما أن مكحولا لم يصح له السماع عن أبي ثعلبة، كذلك قال أبوشهر الدمشقي، وأبونعيم الحافظ وغيرهما. والثانية أنه اختلف في رفعه ووقفه، ورواه بعضهم عن مكحول عن قوله، لكن قال الدارقطني: الأشبه بالصواب المرفوع، قال: وهو أشهر، وقد حسنه النووي أي في أربعينه، وكذلك حسن قبله أبوبكر السمعاني في أماليه- انتهى. وأخرجه أيضاً إسحق بن راهويه، والطبراني في الكبير، وأبونعيم في الحلية، والبيهقي في السنن، وروى معناه مرفوعاً من حديث أبي الدرداء، أخرجه البزار في مسنده والحاكم. قال البزار: إسناده صالح، وقال الحاكم: صحيح الإسناد. ومن حديث سلمان الفارسي، أخرجه الترمذي في اللباس، وابن ماجه في الأطعمة، وسنده ضعيف، وأيضاً اختلف في رفعه ووقفه، وإرساله ووصله، والراجح وقفه. ومن حديث ابن عمر، أخرجه ابن عدى، وضعف إسناده. ومن حديث ابن عباس، أخرجه أبوداود في الأطعمة لكنه موقوف.

(2) كتاب العلم

(2) كتاب العلم {الفصل الأول} 198- (1) عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ـــــــــــــــــــــــــــــ (كتاب العلم) أي بيان ما يتعلق بالعلم من فضله وفضل تعلمه وتعليمه، وبيان ما هو علم شرعاً، وبيان فرضه ونفله. وغير ذلك من متعلقات العلم، لا بيان ماهية وحقيقته؛ لأن النظر في الماهيات ليس من فن الكتاب، وقدمه على سائر الكتب التي بعده؛ لأن مدار تلك الكتب كلها على العلم، وإنما لم يقدم على كتاب الإيمان ومتعلقاته من القدر وعذاب البرزح والاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله، وضده من الكفر وغيره من الكبائر المخلة بالإيمان؛ لأن الإيمان أول واجب على المكلف، أو لأنه أفضل الأمور على الإطلاق وأشرفها، وينبغي للطالب أن يطالع "تذكرة السامع والمتعلم" لابن جماعة، المتوفى سنة (733) و"جامع بيان العلم" لابن عبد البر، المتوفى سنة (462) و"إحياء العلوم" للغزالي، المتوفى سنة (505) وغير ذلك من كتب هذا الفن. 198- قوله: (بلغوا عني ولو آية) أي ولو كانت آية قصيرة من القرآن، والقرآن مبلغ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه الجائي به من عند الله، ويفهم منه تبليغ الحديث بالطريق الأولى، فإن القرآن مع انتشاره وكثرة حملته وتكفل الله بحفظه لما أمرنا بتبليغه فالحديث أولى. وقيل: المراد بالآية هنا الكلام المفيد، نحو من سكت نجا، أي بلغوا عني أحاديث ولو قليلة، وحرض على تبليغ الأحاديث دون القرآن؛ لأنه تعالى تكفل بحفظه، ولأن الطبائع مائلة إلى تعلمه، أو هو داخل فيه؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - بلغهما. وقوله "بلغوا" مشعر باتصال سنده؛ لأن البلوغ انتهاء الشيء إلى غايته وبأدائه من غير تغيير (وحدثوا عن بني إسرائيل) بما وقع لهم من الأعاجيب وإن استحال مثلها في هذه الأمة، كنزول النار من السماء لأكل القربان مما لا تعلمون كذبه، أي مما لا يخالف القرآن والحديث ولا يعارضهما. (ولاحرج) أي لا ضيق عليكم بالتحديث بقصصهم كحكاية قتل أنفسهم في توبتهم من عبادة العجل، أو تفصيل القصص المذكورة في القرآن مما فيه عبرة. وأما النهي عن اشتغال بما جاء منهم، فمحمول على كتب التوراة والعمل بالأحكام لنسخها، أو النهي كان في صدر الإسلام لعدم تقرر الأحكام حينئذٍ فربما يعمل بما حدث عنهم من الأحكام، فلما تقررت الأحكام الإسلامية لم يحصل ذلك المحذور. أو أن قوله: "حدثوا" أولاً صيغة أمر تقتضي الوجوب، فأشار إلى عدمه وأن الأمر للإباحة بقوله "ولا حرج" أي في ترك التحديث عنهم، فأباح لهم الحديث عنهم للاتعاظ، ورفع الحرج عنهم في تركه بخلاف التحديث عنه - صلى الله عليه وسلم -، فإنهم مأمورورن بالتبليغ عنه. فلهذا قال: بلغوا عني. وقيل: معنى قوله: "لاحرج" أي لا تضيق

ومن كذب على متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) رواه البخاري. 199، 200– (2، 3) وعن سمرة بن جندب، ـــــــــــــــــــــــــــــ صدوركم بما تسمعونه منهم من الأعاجيب، فإن ذلك وقع لهم كثيراً. وقيل: المراد جواز التحديث عنهم بأي صيغة وقعت من انقطاع أو بلاغ، أي ليس المقصود من قوله: "لا حرج" إباحة الكذب في أخبارهم، ورفع الإثم عن نقل الكذب عنهم، بل ترخيص في الحديث عنهم على البلاغ وإن لم يتحقق ذلك بنقل الإسناد؛ لتعذره بطول المدة بخلاف الأحكام المحمدية، فإن الأصل فيها التحديث بالاتصال. (ومن كذب علي) أي نسب الكلام كاذباً إليه سواء كان عليه أو له، وهو عام في كل كذب مطلق في كل نوع منه من الأحكام وغيرها كالترغيب والترهيب، ولا مفهوم لقوله "علي"؛ لأنه لا يتصور أن يكذب له؛ لأنه - عليه السلام - نهى عن مطلق الكذب فلا حجة فيه لمن جوز وضع الأحاديث في الترغيب والترهيب. (متعمداً) نصب على الحال وليس حالاً مؤكدة؛ لأن الكذب قد يكون من غير تعمد، وفيه تنبيه علىعدم دخول النار فيه. (فليتبوأ مقعده من النار) أي فليتخذ لنفسه منزلاً في النار، يقال: تبوأ الدار إذا اتخذها مسكناً. والأمر بمعنى الخبر لما في حديث على عند مسلم: ((من يكذب علي يلج النار)) ، وعند ابن ماجه: ((الكذب علي يولج النار)) . وفي حديث ابن عمر عند أحمد: ((بنى له بيت في النار)) . وتعبيره بصيغة الأمر للإهانة، ولذا قيل: الأمر فيه للتهكم والتهديد إذ هو أبلغ في التشديد. والمعنى: هذا جزاؤه، وقد يعفى وقد يتوب. والفرق بين الكذب عليه - صلى الله عليه وسلم - والكذب على غيره أن الأول كبيرة بالاتفاق بخلاف الثاني، ولا يلزم من استواء الوعيد في حق من كذب عليه أو كذب على غيره أن يكون مقرهما واحداً، أو طول إقامتهما سواء، فقد دل هذا الحديث على طول الإقامة فيها، بل ظاهره أنه لا يخرج منها؛ لأنه لم يجعل له منزلا غيره، إلا أن الأدلة القطيعة قامت على أن خلود التأبيد مختص بالكافرين. (رواه البخاري) أي مجموع الحديث في أخبار بني إسرائيل، وكذا أخرجه أحمد، والترمذي، والنسائي، وأما قوله: ((من كذب على متعمداً)) ، الخ. فقد روي عن مائة من الصحابة على ما قال الحافظ: أنه ورد عن ثلاثين نفساً منهم بأسانيد صحاح وحسان، وعن نحو من خمسين غيرهم بأسانيد ضعيفة، وعن نحو من عشرين آخرين بأسانيد ساقطة، مع أن فيها ما هو مطلق في ذم الكذب عليه من غير تقييد بهذا الوعيد الخاص. ونقل النووي أنه جاء عن مائتين من الصحابة، ولأجل كثرة طرقه أطلق عليه أنه متواتر لفظاً ومعنى. 199، 200- قوله: (وعن سمرة) بفتح السين المهملة وضم الميم (بن جندب) بضم الجيم والدال وبفتح، ابن هلال الفزاري، حليف الأنصار، صحابي مشهور، كان من الحفاظ المكثرين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، سكن البصرة، وكان زياد يستخلفه عليها ستة أشهر وعلى الكوفة ستة أشهر، فلما مات زياد استخلفه على البصرة فأقره معاوية عليها عاماً أو نحوه، ثم عزله، وكان شديداً على الحرورية، فهم ومن قاربهم يطعنون عليه، وكان الحسن، وابن سيرين، وفضلاء أهل البصرة يثنون عليه، وقال ابن سيرين: في رسالة سمره إلى بنيه علم كثير. وقال أيضاً: كان عظيم الأمانة، صدوق الحديث، يحب الإسلام وأهله، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستعرض غلمان الأنصار في كل عام، فمر به غلام فأجازه

والمغيرة بن شعبة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من حدث عني بحديث يرى أنه كذب، فهو أحد الكاذبين)) رواه مسلم. 201- (4) وعن معاوية، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من يرد الله به خيراً ـــــــــــــــــــــــــــــ في البعث، وعرض عليه سمرة من بعده فرده، فقال سمرة: قد أجزت هذا ورددتني، ولو صارعته لصرعته. قال: فدونكه، فصارعه فصرعه سمرة، فأجازه في البعث. قال ابن عبد البر: مات بالبصرة في خلافة معاوية سنة (58) . سقط في قدر مملوءة ماء حاراً، كان يتعالج بالقعود عليها من كزاز شديد أصابه، فسقط في القدر الحارة فمات، فكان ذلك تصديقاً لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له ولأبي هريرة وثالث معها يعني أبامحذورة: ((آخركم موتاً في النار)) . وقد جاء في سبب موته غير ما ذكر. وقيل: مات سنة (59) أو أول سنة (60) بالكوفة، وقيل بالبصرة، له مائة حديث وثلاثة وعشرون حديثاً، اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بأربعة، روى عنه جماعة. (والمغيرة بن شعبة) بن مسعود بن معتب الثقفي أبوعيسى أو أبومحمد، أسلم زمن الخندق، وشهد الحديبية وما بعدها، كان يقال له مغيرة الرأي، وشهد اليمامة وفتوح الشام والقادسية. قال الشعبي والزهري: كان من دهاة العرب، وقال قبيصة بن جابر: صحبت المغيرة فلو أن مدينة لها سبعة أبواب لا يخرج من باب منها إلا بالمكر لخرج من أبوابها كلها، كان عاقلاً أديباً فطناً لبيباً داهياً. قال ابن عبد البر: ولاه عمر البصرة فلما شهد عليه عند عمر، عزله ثم ولاه الكوفة، وأقره عثمان عليها ثم عزله، ثم اعتزل الفتنة، ثم حضر الحكمين، ولاه معاوية الكوفة. مات سنة (50) على الصحيح. له مائة وستة وثلاثون حديثاً، اتفقا على تسعة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بحديثين، روى عنه جماعة. (من حدث عني بحديث) أي ولو بواحد (يرى) بضم أوله من الإراءة أشهر من فتحه من الرأي، وكلاهما بمعنى يظن، أو الثاني بمعنى يعلم، والمراد العلم بالمعنى الأعم يقينياً أو ظنياً، وقيد بذلك لأنه لا يأثم إلا برواية ما يعلمه أو يظنه كذباً، وأما ما يعلمه أو لايظنه كذلك فلا إثم عليه في روايته وإن ظنه غيره كذباً أو علمه. وقيل: الأقرب أن الحديث يدل مفهوماً على أن غير الظان لا يعد من جملة الكاذبين عليه - صلى الله عليه وسلم -، وأما أنه لا يأثم فلا، فليتأمل. (فهو أحد الكاذبين) المشهور روايته بصيغة الجمع باعتبار كثرة النقله، أي فهو واحد من جملة الواضعين الحديث، والمقصود أن الرواية مع العلم بوضع الحديث كوضعه. قالوا: وهذا إذا لم يبين وضعه، وقد جاء بصيغة التثنية باعتبار المفتري والناقل عنه، والمراد أن الراوي له يشارك الواضع في الإثم؛ لأنه يعينه ويشاركه بسبب إشاعته، فهو كمن أعان ظالماً على ظلمه. قال الطيبي: فهو كقولهم: القلم أحد اللسانين، والجد أحد الأبوين. كأنه يشير إلى ترجيح التثنية بكثرة وقوعها في أمثاله، فهو المتبادر إلى الأفهام. (رواه مسلم) في أول صحيحه، وأخرجه أيضاً أحمد، وابن ماجه في السنة، وأخرجه الترمذي عن المغيرة بن شعبة وحده، وفي الباب عن علي أخرج حديثه ابن ماجه في السنة. 201- قوله: (وعن معاوية) أي ابن أبي سفيان، وقد تقدم ترجمته. (من يرد الله به خيراً) تنكيره للتكثير والتعظيم،

يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي)) متفق عليه. 202 – (5) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، ـــــــــــــــــــــــــــــ أي خيراً كثيراً عظيماً. (يفقه في الدين) بتشديد القاف وسكون الهاء؛ لأن الموصول متضمن معنى الشرط، أي يجعله عالماً بالشريعة. والفقه في الأصل الفهم، يقال: فقه الرجل – بالكسر - إذا فهم وعلم، وفقه – بالضم - إذا صار فقيهاً عالماً، وجعله العرف خاصاً بعلم الأحكام الشرعية العملية، وحمله على أصل اللغة أولى ليشمل فهم كل علم من علوم الدين، ويلائم تنكير"خيراً"، والفقه في الدين الذي أريد بمن يعطه الخير، هو العلم الذي يورث الخشية في القلب، ويظهر أثره في الجوارح، ويترتب عليه الإنذار، كما يشير إليه قوله تعالى: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة} الآية [122:9] . (وإنما أنا قاسم) أى للعلم (والله يعطى) أي الفهم في العلم، هو من باب قصر القلب إن اعتقد السامع أنه معط لا قاسم، أي ما أنا إلا قاسم لا معطٍ، ومن قصر الإفراد إن اعتقد أنه قاسم ومعطٍ أيضاً، أي لا شركة في الوصفين أي بل أنا قاسم فقط. ولما كان فقه الصحابة متفاوتاً لتفاوت الأفهام أعلم بقوله: إنما أنا قاسم، الخ. أن هذا التفاوت ليس مني، وإنما الذي هو مني القسمة بينكم، يعني تبليغ الوحي إليكم من غير تخصيص بأحد، والتفاوت في أفهامهم من الله تعالى؛ لأنه هو المعطي، يعطي الناس على قدر ما تعلقت به إرادته في الأزل، لأن {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء} [4:62] . وقد كان بعض الصحابة يسمع الحديث فلا يفهم منه إلا الظاهر الجلي، ويسمع آخر منهم أو ممن أتى بعدهم فيستنبط منه مسائل كثيرة، وقيل: أراد به قسمة المال، لكن سياق الكلام يدل على الأول، وظاهره يدل على الثاني؛ لأن القسمة حقيقية تكون في الأموال، ولذا أخرجه مسلم في قسم الصدقات، والبخاري في الخمس أيضاً، ووجه المناسبة بما قبله أنه - صلى الله عليه وسلم - خص بعضهم بزيادة مال لمقتض، فتعرض بعض من خفي عليه المقتضى بأن هذه قسمة فيها تخصيص لناس، فعرض - صلى الله عليه وسلم - بأنه من أريد به الخير يفهم في أمور الدين، لا يخفى عليه المقتضى، ولا يتعرض لما ليس على وفق خاطره، إذ الأمر كله لله، وهو الذي يعطي ويمنع، وهو الذي يزيد وينقص، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قاسم وليس بمعط، حتى ينسب إليه الزيادة والنقصان. والحصر إضافي رد لمن توهم أنه المعطي، والأظهر أنه لا منع من الجمع بين الوجهين. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد، وروى نحوه عن ابن عباس عند أحمد والترمذي. وعن أبي هريرة عند ابن ماجه، وأبي يعلى، والطبراني، وعن ابن مسعود عند البزار، والطبراني في الكبير، وعن ابن عمر عند ابن أبي عاصم في كتاب العلم. 202- قوله: (الناس معادن) المعدن المستقر، من عدنت البلد إذا توطنته، ومنه معدن لمستقر الجواهر، و"معادن" خبر المبتدأ، ولا يصح حمله إلا بأحد الوجهين: إما على التشبيه، كقولك زيد أسد. وحينئذٍ يكون (كمعادن الذهب والفضة) بدلاً منه أي الناس كمعادن الذهب والفضة، وإما على أن المعادن مجاز عن التفاوت، فالمعنى: أن الناس متفاوتون في النسب بالشرف والضعة، مثل تفاوت المعادن في الذهب والفضة وما دونهما، يدل عليه قوله: عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: ((فعن معادن العرب تسألوني)) . أي أصولها التي ينسبون إليها ويتفاخرون بها، وإنما جعلت معادن

خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)) .رواه مسلم. 203- (6) وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا حسد إلا في اثنين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه ـــــــــــــــــــــــــــــ لما فيها من الاستعدات المتفاوتة، فمنها قابلة لفيض الله تعالى على مراتب المعادن، ومنها غير قابلة له. أو شبههم بالمعادن؛ لأنهم أوعية للشرف والعلوم والحكم، كما أن المعادن أوعية للجواهر النفيسة والفلزات المنتفع به. (خيارهم) جمع خير أو أريد به أفضل التفضيل، تقول في الواحد خير وأخير (في الجاهلية خيارهم في الإسلام) جملة مبنية، أي من كان من خيار القبائل في الجاهلية وكان يستعد لقبول المآثر وجميل الصفات والتفوق في الأقران لكنه كان في ظلمة الكفر والجهل مغموراً مستوراً، كما يكون الذهب والفضة في المعدن ممزوجاً مخلوطاً في التراب، كان في الإسلام كذلك، وفاق بتلك الاستعدادات والمآثر والصفات على أقرانه في الدين، وتنور بنور العلم والإيمان، وخلص في سبكة المجاهدة في العبادة كما يسبك الذهب والفضة. (إذا فقهوا) بكسر القاف أي فهموا، وبالضم أي صاروا فقهاء علماء بعلم الشريعة. والرواية بالضم وهو المناسب هنا. وهذا القيد يفيد أن الإسلام يرفع اعتبار التفاوت المعتبر في الجاهلية، فإن التفاوت في الإسلام بحسب الأحساب أي مكارم الأخلاق ومحاسن الصفات، وفي الجاهلية بحسب الأنساب. ولا يعتبر هذا الثاني إلا بالأول، فإذا تحلى الرجل بالعلم والحكمة استجلب شرف النسب الأصلي، فيجتمع شرف النسب والحسب، ففيه دليل على أن الوضيع العالم أرفع من الشريف الجاهل، فالعلم والحكمة والحكمة يرفع كل من لم يرفع. (رواه مسلم) في الفضائل، لكن ليس فيه" كمعادن الذهب والفضة" والظاهر من كلام المصنف أن حديث أبي هريرة هذا من إفراد مسلم، وليس كذلك فإنه متفق عليه، أخرجه البخاري في ترجمة يوسف من كتاب الأنبياء، وليس فيه أيضاً "كمعادن الذهب والفضة"، نعم أخرجه أحمد بهذا اللفظ وزاد: ((والأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ايتلف، وما تناكر منها اختلف)) . 203- قوله: (لا حسد) هو تمنى زوال نعمة الغير سواء حصل له أم لا. والمراد به الغبطة وهي: تمني الرجل حصول مثلها له من غير أن يتمنى زوالها عن الغير، وأطلق الحسد عليه مجازاً، والدليل على ذلك ما زاد أبوهريرة في هذا الحديث عند البخاري "فقال رجل: ليتني أوتيت مثل ما أوتى فلان فعملت مثل ما يعمل" فكأنه قال في حديث ابن مسعود هذا: لا غبطة أعظم أو أفضل أو محمودة إلا في هذين الأمرين. وقال التوربشتى: الظاهر أن المراد بالحسد صدق الرغبة وشدة الحرص، ولما كان هذان السببان هما الداعيين إلى الحسد كنى عنهما بالحسد- انتهى. والمقصود أنه لا تنبغي الغبطة في الأمور الخسيسة، وإنما تنبغي في الأمور الجليلة الدقيقة كالجود والعلم مع العمل. (إلا في اثنين) أي في شأن اثنين، وفي بعض النسخ "اثنتين" بالتأنيث، أي خصلتين اثنتين. (رجل) روى مجرورا على البدل من"اثنين" وهو أوثق الروايات، وعلى نسخة "اثنتين" بالتأنيث، يقدر "خصلة رجل" وروي أيضاً "رجل" مرفوعاً على أنه مبتدأ. (آتاه الله) بالمد أي أعطاه (مالاً) أي مالاً كثيراً. (فسلطه) عبر بالتسليط لدلالته على الغلبة وقهر النفس المجبولة على الشح البالع.

على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها)) متفق عليه. 204- (7) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة، إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) ـــــــــــــــــــــــــــــ (على هلكته) بفتحين أي إهلاكه يعني إنفاقه، وعبر بذلك ليدل على أنه لا يبقى منه شيئاً، وكمله بقوله (في الحق) أي في الطاعات ليزيل عنه إبهام الإسراف المذموم كما يقال: لا سرف في الخير. (الحكمة) اختلفوا في تفسيرها، فقيل: القرآن لأن اللام للعهد، وقيل: الإصابة من غير النبوة. (يقضي بها) أي يعمل بها ويحكم، والمراد أنه لا ينبغي أن يتمنى كونه كذى نعمة إلا أن تكون تلك النعمة مقربة إلى الله (ويعلمها) أي غيره (متفق عليه) وأخرجه أيضاً النسائي، وابن ماجه، وفي الباب عن ابن عمر عند الشيخين، وعن أبي هريرة عند البخار والنسائي. 204- قوله: (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله) أي أعماله بدليل الاستثناء، والمراد فائدة عمله؛ لانقطاع عمله، يعني لا يصل إليه أجر وثواب من شيء من عمله (إلا من ثلاثة) أي ثلاثة أشياء، فإن فائدتها لا تنقطع، قال السندهي: قوله: "انقطع عنه عمله" أي ثواب عمله، ولما كان هذا بمنزلة" انقطع الثواب من كل أعماله" تعلق به قوله: "إلا من ثلاثة" أي ثلاثة أعمال. وقيل: بل الاستثناء متعلق بالمفهوم، أي ينقطع ابن آدم من كل عمل إلا من ثلاثة أعمال. والحاصل: أن الاستثناء في الظاهر مشكل، وبأحد الوجهين المذكورين يندفع الإشكال – انتهى. وقال الأبهرى: "من" زائدة، والتنوين عوض عن الأعمال، وقيل: بل الضمير في "عنه" زائد ومعناه: إذا مات الإنسان انقطع عن أعماله إلا من ثلاثة أعمال. وقال الطيبي: الاستثناء متصل تقديره: ينقطع عنه ثواب أعماله من كل شيء كالصلاة والزكاة، ولا ينقطع ثواب أعماله من هذه الثلاثة، يعني أن الإنسان إذا مات لا يكتب له بعده ثواب أعماله؛ لأنه جزاء العمل، وهو ينقطع بموته إلا فعلاً دائم الخير مستمر النفع، مثل وقف أو تصنيف أو تعليم أو ولد صالح، وجعل الولد الصالح من جنس العمل؛ لأنه هو السبب في وجوده وسبب صلاحه بإرشاد إلى الهدى. وفائدة التقييد بالولد مع أن غيره لو دعا لنفعه، تحريض للولد على الدعاء وأنه كالواجب عليه – انتهى. مختصراً. (إلا من صدقة) الخ. بدل من قوله: "إلا من ثلاثة" وفي التكرير مزيد تقرير واعتناء بشأنه، وفي رواية أبي داود والنسائي "من صدقة" أي بدون لفظ "إلا" وفي رواية الترمذي "إلا من ثلاث صدقة" أي بغير لفظ "إلا" و"من" الجارة، فصدقة بالجر بدل من ثلاث (جارية) أي غير منقطعة كالوقف أو ما يديم للولي إجراءها عنه، وإليه يميل ترجمة النسائي وأبي داود بلفظ "باب الصدقة عن الميت"، وفي الأزهار: قال أكثرهم هي الوقف وشبهه مما يدوم نفعه. (أو علم ينتفع به) هو ما خلفه من تعليم أو تصنيف ورواية، وقال بعضهم: حمله على التأليف أقوى؛ لأنه أطول مدة وأبقى على ممر الزمان، المراد به العلم الشرعي. (أو ولد صالح يدعوا له) قال ابن الملك: قيد الولد بالصالح؛ لأن الأجر

رواه مسلم. 205- (8) وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة. ومن يسر على معسر ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يحصل من غيره، وإنما ذكر دعاءه تحريضاً للولد على الدعاء لأبيه، حتى قيل: للوالد ثواب من عمل الولد الصالح سواء دعاء لأبيه أم لا. قال الشيخ ولي الدين: إنما أجرى على هؤلاء الثلاثة الثواب بعد موتهم لوجود ثمرة أعمالهم بعد موتهم كما كانت موجودة في حياتهم. وقال عياض: معنى الحديث أن عمل الميت منقطع بموته، لكن هذه الأشياء لما كان هو سببها من اكتسابه الولد وبثة العلم عند من حمله عنه، أو إيداعه تأليفاً بقي بعده، وإيقافه هذه الصدقة. بقيت له أجورها ما بقيت ووجدت، ولا تنافي بين هذا الحصر وبين قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها)) ؛ لأنه داخل في باب "علم ينتفع به" فإن وضع السنن وتأسيسها من باب التعليم المنتفع به، وكذا لا تنافي بينه وبين قوله: ((كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة)) ؛ لأن الحصر في حديث أبي هريرة يدل على أن الثواب بانضمام الغير يجري، كأنه قيل: ينقطع عمله المنضم إلى عمل الغير إلا عن ثلاث، والمرابطة ليست بداخلة فيها فلا يخل بالحصر. وقيل: المرابطة داخلة في الصدقة الجارية؛ لأن القصد في المرابطة نصرة المسلمين ودفع أعداء الدين، أو المجاهدة مع الكفار ودعوتهم إلى الإسلام لينتفعوا به في الدارين، ونية المؤمن خير من عمله، فلا يبعد أن يدخل تحت جنس "الصدقة الجارية" كحفر البئر وبناء الرباط. (رواه مسلم) في الوصايا، وأخرجه أيضاً البخاري في الأدب المفرد، والترمذى في الأحكام، وأبوداود والنسائي كلاهما في الوصايا، وأخرج ابن ماجه معناه عن أبي قتادة وأبي هريرة في السنة. 205- قوله: (كربة) ولو حقيرة، وهي بضم الكاف، الشدة العظيمة التي توقع صاحبها في الكرب، وهو غم يأخذ بالنفس، وتنفيس الكربة أن يخفف عنه منها ويلطفها، والتفريج أعظم من ذلك، وهو أن يزيل عنه الكربة فتفرج عنه كربته ويزول همه وغمه، يدل على هذا الفرق حديث كعب بن عجرة عند الطبراني، فإنه جمع فيه بينهما، فجزاء التنفيس التنفيس، وجزاء التفريج التفريج، وقيل: "نفس" ههنا بمعنى فرج، أي رفع وأزال. قال الطيبي: كأنه فتح مداخل الأنفاس، فهو مأخوذ من "أنت في نفس" أي سعة، كأن من كان في كربة سد عنه مداخل الأنفاس، فإذا فرج عنه فتحت، وهذا يرجع إلى أن الجزاء من جنس العمل، وقد تكاثرت النصوص بهذا المعنى. (من كرب الدنيا) الفانية المنقضية، و"من" تبعيضية أو ابتدائية. (نفس الله عنه كربة) أي عظيمة (من كرب يوم القيامة) أي الباقية الدائمة، فلا يرد أنه تعالى قال: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} [160:6] فإنه أعم من أن يكون في الكمية أو الكيفية. (ومن يسر على معسر) أي سهل على فقير، يعني من كان له دين على فقير فسهل عليه بإمهال، أو بترك بعضه أو كله

يسرالله عليه في الدنيا والآخرة. ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة. والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه. ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة. وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده. ومن بطأ به عمله ـــــــــــــــــــــــــــــ (يسرالله عليه في الدنيا والآخرة) أي في الدارين أو في أمورهما. (ومن ستر مسلماً) أي بثوب، أو بترك التعرض لكشف حاله بعد أن رآه يرتكب ذنباً. لكن الستر المندوب هو الستر على ذوي الهيئات ممن لا يعرف بالأذى والفساد، وأما المعروف به، أو المتلبس بالمعصية بعد فيجب إنكارها ورفع الأمر إلى الولاة إن لم يقدر على منعه. وأما جرح الرواة والشهود وأمناء الصدقات فواجب. (ستره الله) أي عورته أو عيوبه، ويجوز إرادة ظاهره وإرادة ستر ذنبه جميعاً. (والآخرة) يعني ستره عن أهل الموقف، أو ترك المحاسبة عليه وترك ذكرها. (والله في عون العبد) الواو للاستئناف، وهو تذييل للكلام السابق. (ما كان العبد) أي ما دام العبد مشغولاً (في عون أخيه) أي المسلم بأي وجه كان يجلب نفع أو دفع ضر. (ومن سلك طريقاً) حقيقياً حسياًً وهو المشي بالأقدام إلى مجالس العلماء أو معنوياً مثل حفظ العلم ومدارسته ومذاكرته ومطالعته وكتابته والتفهم له، ونحو ذلك من الطرق المعنوية التي يتوصل بها إلى العلم. (يلتمس) حال أو صفة (سهل الله به) أي بذلك السلوك، والباء للسببية (طريقاً إلى الجنة) أي يسهل له العلم الذي طلبه وسلك طريقه وبيسره عليه، فإن العلم طريق يوصل إلى الجنة، أو بيسرالله إذا قصد بطلبه وجه الله، الانتفاع به والعمل بمقتضاه، فيكون سبباً لهدايته ولدخول الجنة بذلك، وقد بيسرالله لطالب العلم علوماً أخر ينتفع بها، وتكون موصلة له إلى الجنة، أو يسهل له طريق الجنة الحسي يوم القيامة وهو الصراط وما قبله وما بعده من الأهوال فبيسر ذلك على طالب العلم للانتفاع به. (في بيت من بيوت الله) هو شامل لجميع ما يبنى لله تقرباً إليه من المساجد والمدارس والربط. (ويتدارسونه) قيل: شامل لجميع ما يتعلق بالقرآن من التعلم والتعليم والتفسير والاستكشاف عن دقائق معانيه. (السكينة) قيل في معنى السكينة أشياء، المختار منها أنها شيء من مخلوقات الله تعالى فيه طمأنينة ورحمة ومعه الملائكة، قاله النووي. (وغشيتهم الرحمة) أي علتهم وغطتهم وسترتهم (وحفتهم الملائكة) أي ملائكة الرحمة والبركة أحدقوا وأحاطوا بهم تعظيماً لصنيعهم، أو طافوا بهم وداروا حولهم إلى سماء الدنيا يستمعون القرآن ودراستهم. (وذكرهم الله فيمن عنده) أي الملأ الأعلى والطبقة الأولى من الملائكة، وذكره تعالى للمباهاة بهم. (ومن بطأ به عمله) بتشديد الطاء، من التبطئة ضد التعجيل كالإبطاء، والباء للتعدية أي من أخره عن بلوغ درجة السعادة عمله السيء في الآخرة، أو تفريطه في العمل الصالح

لم يسرع به نسبه)) رواه مسلم. 206- (9) وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد، فأتي به فعرفه نعمته فعرفها، فقال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقى في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، ـــــــــــــــــــــــــــــ في الدنيا (لم يسرع به نسبه) من الإسراع، أي لم يقدمه نسبه، أي لم ينفعه في الآخرة شرف نسبه، فإن العمل الصالح هو الذي يبلغ بالعبد درجات الآخرة، فمن أبطأ به عمله أن يبلغ به المنازل العالية عند الله لم يسرع به نسبه فيبلغه تلك الدرجات، فإن الله تعالى رتب الجزاء على الأعمال لا على الأنساب. (رواه مسلم) في الذكر والتوبة. وأخرجه أيضاً الترمذي في الحدود، وفي البر والصلة، وفي العلم، وفي أواخر القراءة مختصراً ومطولاً، وأبوداود في الأدب والعلم، والنسائي وابن ماجه في السنة، وابن حبان في صحيحه، والحاكم، وقال: صحيح على شرطهما. 206- قوله: (يقضى عليه) قيل: هو صفة للناس؛ لأنه نكرة في المعنى، أي يحاسب ويسئل من أفعاله، قيل: ويستفاد منه أنه أول المقضى عليهم لا مطلقاً. (يوم القيامة) أي ثلاثة (رجل استشهد) على بناء المفعول أي قتل في سبيل الله (فأتي به) أي بالرجل للحساب. (فعرفه) بالتشديد، أي ذكره تعالى (نعمته) على صيغة المفرد ههنا والباقيتان على صيغة الجمع، ولعل الفرق اعتبار الإفراد في الأولى، والكثرة في الأخيرتين، كذا ذكره الطيبي. ولعل المراد بالكثرة أصناف العلوم والأموال، وهذا التعريف للتبكيت وإلزام المنعم عليه ولذلك أتبعه بقوله (فعرفها) بالتخفيف أي فاعترف بها وتذكرها فكأنه من الهول والشدة نسيها وذهل عنها. (فما عملت فيها) أي في مقابلتها شكراً لها (قال) أي الرجل (قاتلت فيك) أي جاهدت في جهتك خالصة لك، كذا ذكره الطيبي. أي حاربت لأجلك، ففي تعليلية. (كذبت) أي في دعوى الإخلاص (لأن يقال جريء) أي لأن يقال في حقك أنك أو هو جريء أي شجاع. (فقد قيل) أي ذلك القول في شأنك، فحصل مقصودك وغرضك. (ثم أمر به) أي قيل لخزنة جهنم: ألقوه في النار. (فسحب) أي جر. (ورجل تعلم العلم) الشرعي (وعلمه) الناس (وقرأ القرآن) تخصيص بعد تعميم، أو المراد به مجرد تلاوة القرآن، يعني التعلم والتعليم لم يمنعاه عن الاشتغال بالقرآن. (فأتى به) إلى محضر الحساب. (فما عملت فيها) أي هل صرفتها في مرضاتي أم في غيرها؟ (تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن) أي صرفت نعمتي التي أنعمت بها علي في الاشتغال بالعلم والعمل والقراءة

قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: إنك عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسع الله عليه وأعطاءه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك. قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل. ثم أمر به فسحب به على وجهه ثم ألقي في النار)) رواه مسلم. 207- (10) وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤساً ـــــــــــــــــــــــــــــ ابتغاء لوجهك، وشكراً لنعمتك. (تعلمت العلم ليقال: إنك عالم) ولعله لم يقل "وعملت العلم ليقال إنك معلم" للاختصار، واكتفاء بالمقايسة. (فقد قيل) لك عالم وقارئ، فمالك عندنا أجر. (ورجل وسع الله عليه) أي كثر ماله (وأعطاه) عطف بيان (من أصناف المال كله) كالنقود، والمتاع، والعقار، والمواشي. (فما عملت فيها) أي في مقابلة النعم، أو في الأموال. (ما تركت من سبيل) "من" زائدة تأكيداً لاستغراق النفي. (قال: كذبت) أي في قولك "لك" (هو جواد) أي سخي كريم. والحديث دليل على وجوب الإخلاص في الأعمال، وهو كما قال تعالى: {وما أمرو إلا ليعبدوالله مخلصين له الدين} [5:98] ، وأن العمومات الواردة في فضل الجهاد، وكذلك الثناء على العلماء وعلى المنفقين في وجوه الخيرات، كل ذلك محمول على من فعل ذلك لله تعالى مخلصاً. (رواه مسلم) في الجهاد، وأخرجه أيضاً النسائي. قال المنذري: ورواه الترمذي، وحسنه ابن حبان في صحيحه كلاهما بلفظ واحد. 207- قوله: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي في حجة الوداع. (إن الله لا يقبض العلم) أي علم الكتاب والسنة (انتزاعاً) مفعول مطلق عن معنى يقبض، نحو قعد جلوساً. وقوله (ينتزعه من العباد) جملة مستأنفة لبيان القبض انتزاعاً، أي يرفعه عن قلوبهم. وقيل: صفة لانتزاعاً. والظاهر أن ضميره للعلم لا للانتزاع، فلا يصلح أن يكون صفة للانتزاع لعدم العائد، فليتأمل. أو هو مفعول مطلق مقدم، والجملة حالية، أي لا يقبض العلم حال كون العلم ينتزعه انتزاعاً من العباد، أو حال من العلم بمعنى منتزعاً أي لا يقبض العلم حال كونه منتزعاً ينتزعه من العباد. (ولكن يقبض العلم) أي يرفعه (بقبض العلماء) أي بموتهم وقبض أرواحهم. (حتى) ابتدائية دخلت على الجملة (إذا لم يبق) الله (عالماً) وفي رواية "لم يترك عالماً" ولفظه "حتى" تدل على أن ذلك واقع بالتدريج كما أن "إذا" تدل على أنه واقع لا محالة. (رؤساء) ضبط في مسلم بوجهين: أحدهما بضم الهمزة والتنوين جمع رأس، أي سادة كبراء عظماء، والثاني رؤساء جمع رئيس، وكلاهما صحيح، والأول

جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)) متفق عليه. 208- (11) وعن شقيق قال: كان عبد الله بن مسعود يذكر الناس في كل خميس. فقال له رجل: يا أباعبد الرحمن لوددت أنك ذكرتنا في كل يوم. قال: ((أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم، وإن أتخولكم بالموعظة كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخولنا بها مخافة السآمة علينا)) ـــــــــــــــــــــــــــــ أشهر (جهالاً) جمع جاهل، وهو صفة "رؤساء" وهذا يكون عند انقراض العالم مطلقاً. (فأفتوا) أي أجابوا وحكموا. قال العيني: لا يختص هذا بالمفتين، بل عام للقضاة الجاهلين، إذا لحكم بالشيء مستلزم للفتوى به (بغير علم) وفي رواية "برأيهم" وفي الحديث الحث على العلم والتحذير عن ترئيس الجهلة وذم من يقدم على الإفتاء بغير علم. (فضلوا) أي صاروا ضالين بالفتوى بغير علم (وأضلوا) أي صاروا مضلين لغيرهم. (متفق عليه) أخرجه البخاري في العلم، وفي الاعتصام، ومسلم في العلم، وأخرجه أيضاً أحمد، والترمذي، والنسائي في العلم، وابن ماجه في السنة. 208- قوله: (وعن شقيق) هو ابن سلمة يكنى أباوائل الأسدي، ثقة حجة، مخضرم، روى عن خلق من الصحابة، منهم عمر بن الخطاب، وابن مسعود وكان خصيصاً به، من أكابر أصحابه، وهو كثير الحديث. مات في خلافة عمر بن عبد العزيز. (يذكر الناس) بالتشديد، أي يعظهم (في كل خميس) احتمل عمل ابن مسعود مع استدلاله أن يكون اقتدى بفعل النبي حتى في اليوم الذي عينه، واحتمل أن يكون اقتدى بمجرد التخلل بين العمل والترك الذي عبر عنه بالتخول. (فقال له رجل) قال الحافظ: هذا المبهم يشبه أن يكون هو يزيد بن معاوية النخعي، وفي سياق البخاري في أواخر الدعوات ما يرشد إليه. (يا أبا عبد الرحمن) هو كنية ابن مسعود (لوددت) أي أحببت أو تمنيت. (أنك ذكرتنا في كل يوم) قاله استحلاءً للذكر لما وجد من بركته ونوره. (قال) أي ابن مسعود (أما) بمعنى "ألا" للتنية (إنه) بكسر الهمزة والضمير للشأن (يمنعنى من ذلك) أي من التذكير كل يوم (أنى أكره) بفتح الهمزة فاعل "يمنعني" أي كراهتي (أن أمِلَّكُم) بضم الهمزة وكسر الميم وتشديد اللام المفتوحة، أي أكره إملالكم يعني إيقاعكم في الملالة والضجر، (وإني) بكسر الهمزة عطف على "إنه" أو حال (أتخولكم) من التخول وهو التعهد وحسن الرعاية. (كما كان) الخ. الكاف للتشبيه، و"ما" مصدرية. (يتخولنا) أي يتعهدنا. والمعنى: كان يراعي الأوقات في تذكيرنا، ويتحرى منها ما كان مظنة القبول، ولا يفعل ذلك في كل يوم لئلا نمل ونسأم. (مخالفة السآمة) بالنصب مفعول له، أي لأجل مخافة السآمة من الموعظة. (علينا) متعلق بالسآمة على تضمين معنى المشقة، أي مخافة المشقة علينا، أو بتقدير الصفة، أي مخافة السآمة الطارئة علينا، أو الحال أي مخافة السآمة حال كونها طارئة علينا، أو بمحذوف أي مخافة السآمة شفقة علينا. وفي الحديث الاقتصاد في الموعظة لئلا تملها القلوب فيفوت المقصود. واستنبط البخاري منه التعهد والتخول بالعلم

متفق عليه. 209- (12) وعن أنس قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً حتى تفهم عنه، وإذا أتى على قوم فسلم عليهم سلم عليهم ثلاثاً)) رواه البخاري. 210- (13) وعن أبي مسعود الأنصاري قال: ((جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال إنه ـــــــــــــــــــــــــــــ والاقتصاد فيه كيلا ينفر الطلبة، وأخذ من صنيع ابن مسعود في تذكيره كل خميس أو من استنباطه ذلك من الحديث الذي رواه، جواز أن يجعل الشيخ لأهل العلم يوماً معلوماً أو أياماً معلومة. (متفق عليه) أخرجه البخاري في العلم، وفي الدعوات، ومسلم في التوبة. وأخرجه أيضاً الترمذي في أواخر الاستئذان. 209- قوله: (إذا تكلم بكلمة) المراد بها ما يشمل الجملة والجمل. وجزاء الجملة (أعادها ثلاثاً) أي ثلاث مرات. قال البدر الدماميني: لا يصح أن يكون "أعاد" مع بقائه على ظاهره عاملاً في "ثلاثاً" ضرورة أنه يستلزم قول تلك الكلمة أربع مرات، فإن الإعادة ثلاثاً إنما تتحقق بها، إذا المرة الأولى لا إعادة فيها، فإما أن تضمن معنى "قال" ويصح عملها في "ثلاثاً" بالمعنى المضمن، أو يبقى "أعاد" على معناه ويجعل العامل محذوفاً، أي أعادها فقالها ثلاثاً، فلم تقع الإعادة إلا مرتين- انتهى. والمراد أنه كان يكرر الكلام ثلاثاً إذا اقتضى المقام ذلك لصعوبة المعنى، أو غرابته أو كثرة السامعين لا دائماً، فإن تكرير الكلام من غير حاجة لتكريره ليس من البلاغة، فيحمل الحديث على المواضع المحتاجة إلى الإعادة لا على العادة، وإلا لما كان لذكر عدد الثلاث في بعض المواضع كثير فائدة، مع أنهم يذكرون في الأمور المهمة أنه قالها ثلاثاً كما لا يخفى. فإن قلت: عنوان هذا الكلام يفيد الاعتياد. قلت: لو سلم يمكن أن يقال: كان عادته الإعادة في كلمة مهمة لا في كل كلمة، على أن تنكير كلمة للتعظيم، وفيه دليل على أنه ينبغي للمعلم أن يكرر الكلام في المواضع المهمة المحتاجة إلى الاهتمام، وكذا إذا كان المستفيد لا يحفظ من مرة. (حتى تفهم) أي لكي تعقل تلك الكلمة. (عنه) أي فهماً قوياً راسخاً في النفس. (وإذا أتى على قوم فسلم عليهم) أي فأراد السلام عليهم (سلم عليهم ثلاثاً) أحدها للاستئذان، والثاني عند الدخول، والثالث عند الوداع، وكل سنة، وقيل: المعنى أن القوم إذ كانوا كثيرين بحيث لا يبلغهم سلام واحد، فإذا دخل عليهم سلم ثلاثاً أي في الجوانب الثلاث، وقيل: هديه في التسليم الثاني والثالث إن ظن أن الأول لم يحصل به الإسماع، كما سلم لما انتهى إلى المنزل سعد بن عبادة ثلاثاً، فلما لم يجبه أحد رجع. (رواه البخاري) في العلم، وفي الاستئذان، وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي في الاستئذان، وفي المناقب، والحاكم في المستدرك (ج4:ص273) ، ووهم في استدراكه. 210- قوله: (وعن أبي مسعود الأنصاري) هو عقبة بن عمرو بن ثعلبة، أبومسعود الأنصاري البدري الصحابي الجليل، مشهور بكنيته، اتفقوا على أنه شهد العقبة وأحداً وما بعدها، ونزل الكوفة من أصحاب علي، واختلفوا

أبدع بي فاحملني. فقال: ما عندي. فقال رجل: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنا أدله على من يحمله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من دل على خير فله مثل أجر فاعله)) رواه مسلم. 211- (14) وعن جرير قال: ـــــــــــــــــــــــــــــ في شهوده بدراً فقال الأكثر: نزل ماء ببدر فنسب إليه، وجزم البخاري بأنه شهد غزوة بدر، واستدل بأحاديث أخرجها في صحيحه. وقال أبوعبيد القاسم بن سلام ومسلم في الكنى: شهد بدراً. وقال ابن البرقي: لم يذكره ابن إسحاق في البدريين. وورد في عدة أحاديث أنه شهدها. قلت: القول ما قال البخاري؛ لما يدل عليه الأحاديث الصحيحة. وروي له مائة وحديثان، اتفقا على تسعة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بسبعة. روى عنه ابنه بشير وخلق سواه. مات بعد الأربعين بالكوفة، وقيل: بالمدينة. (أبدع بي) على بناء المفعول، يقال: أبدعت الراحلة إذا انقطعت عن السير مكلال. جعل انقطاعها عما كانت مستمرة عليه إبداعاً عنها، أي إنشاء أمر خارج عما أعتيد منها. ويقال: أبدع بالرجل إذا كلت ركابه أو عطبت وبقي منقطعاً به. ولما حول للمفعول صار الظرف نائبه كسير بعمرو. (فاحملني) بهمزة الوصل أي أركبني واجعلني محمولاً على دابة غيرها. (فقال) - صلى الله عليه وسلم - (ما عندي) أي لا أجد ما أحملك عليه. (من دل) أي بالقول أو الفعل أو الإشارة أو الكتابة (على خير) أي علم أو عمل مما فيه أجر وثواب. (فله) أي فللدال (مثل أجر فاعله) أي من غير أن ينقص من أجره شيء، قاله القاري. وقال المناوي: فله مثل أجر فاعله أي لإعانته عليه. وهذا إذا حصل ذلك الخير وإلا فله ثواب دلالته. قال النووي: المراد أن له ثواباً بذلك كما أن لفاعله ثواباً. ولا يلزم أن يكون قدر ثوابهما سواء – انتهى. وذهب بعض الأئمة إلى أن المثل المذكور في هذا الحديث ونحوه إنما هو بغير تضعيف. وقال القرطبي: إنه مثله سواء في القدر والتضعيف؛ لأن الثواب على الأعمال إنما هو تفضل من الله، يهبه لم يشاء وعلى أي شيء صدر منه خصوصاً إذا صحت النية التي هي أصل الأعمال في طاعته عجز عن فعلها لمانع منع منها. فلا بُعد في مساواة أجر ذلك العاجز لأجر القادر والفاعل أو يزيد عليه، قال: وهذا جارٍ في كل ماورد مما يشبه ذلك الحديث، كذا في السراج المنير. (رواه مسلم) في الجهاد، وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي في العلم، وأبوداود في الأدب، وورد معناه عن ابن مسعود عند ابن حبان في صحيحه والبزارة، وعن أنس عند الترمذي والبزار وابن أبي الدنيا، وعن بريدة بن الحصيب عند أحمد والضياء، وعن سهل بن سعد عند الطبراني في الكبير والأوسط. 211- قوله: (وعن جرير) بن عبد الله بن جابر البجلي القسري أبوعمرو أو أبوعبد الله اليماني، أسلم سنة عشر، وبسط له النبي - صلى الله عليه وسلم - ثوباً، ووجهه إلى ذي الخلصة فهدمها. روى الشيخان وغيرهما عنه، قال: ماحجبني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم. وشهد فتح المدائن، وكان على ميمنة الناس يوم القادسية، ويلقب بيوسف هذه الأمة. وقال عبد الملك بن عمير: رأيت جرير بن عبد الله وكأن وجهه شقة قمر. له مائة حديث، اتفقا على ثمانية

((كنا في صدر النهار عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاءه قوم عراة مجتابي النمار أو العباء، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتمعّر وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالاً فأذن وأقام فصلى، ثم خطب فقال: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة} إلى آخر الآية {إن الله كان عليكم رقيباًْْ} والآية التي في الحشر: {اتقوالله ولتنظر نفس ما قدمت لغد} تصدق رجل من ديناره، ـــــــــــــــــــــــــــــ وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بستة. مات سنة (51) ، وقيل: بعدها، روى عنه خلق كثير. (كنا في صدر النهار) أي أوله (عراة) جمع عار، أي يغلب عليهم العري، حال كونهم (مجتابى) بالجيم الساكنة وبعد الألف باء موحدة، من الاجتياب. (النمار) بكسر النون جمع نمرة بالفتح، وهي كساء مخطط من صوف، أي لابسي النمار قد خرقوها في رؤسهم وقوروا وسطها، والجوب القطع. (أو العباء) بفتح العين كساء معروف و"أو" للشك من الراوي. (عامتهم) أي أكثرهم أو غالبهم. (بل كلهم من مضر) قال السندهي: إضراب إلى التحقيق، ففيه أن قوله "عامتهم" كان عن عدم التحقيق، واحتمال أن يكون البعض من غير مضر أول الوهلة. (فتعمر) أي تغير (وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي وظهر عليه آثار الحزن. (من الفاقة) أي الفقر الشديد، و"من" بيان "لما". (فدخل) أي بيته، لعله لاحتمال أن يجد في البيت ما يدفع به فاقتهم، فعله ما وجد فخرج، أو دخل لتجديد الطهارة، والله أعلم. (فأمر بلالاً) أي بالأذان (فصلى) أي إحدى الصلوات المكتوبة بدليل الأذان والإقامة، والظاهر أنها الظهر لقوله "في صدر النهار". (فقال: يا أيهاالناس اتقوا ربكم) الخ. سبب قراءة هذه الآية وهي أول النساء أنها أبلغ في الحث على الصدقة عليهم؛ ولما فيها من تأكد الحق لكونهم إخوة. (إلى آخر الآية) وتمامها {وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً، واتقوا الله الذي تسألون به والأرحام} [1:4] {إن الله كان عليكم رقيباً} بيان لآخر الآية. (والآية التي في الحشر) بالنصب عطفاً من حيث المعنى على قوله: {ياأيها الناس اتقوا} على تأويل "قال" بقرأ. أي قرأ هذه الآية والآية التي في سورة الحشر، قاله الطيبي. وأولها {ياأيها الذين آمنوا} وبعده {اتقوالله ولتنظر نفس} نكرة تفيد العموم، أي كل نفس، كقوله تعالى: {علمت نفس} [5:82] أي لتتفكر وتتأمل النفوس. {ما قدمت} أي أى شيء من العبادات والخيرات أرسلته إلى الآخرة {لغد} أي لنفع غد من الزمان، وهو يوم القيامة، وتمامها {واتقوالله، إن الله خبير بما تعملون} [18:59] . (تصدق رجل من ديناره) بفتح القاف صيغة ماضٍ بمعنى الأمر، ذكر بصيغة الإخبار مبالغة فكأنه أمره وامتثل به فأخبر عنه به، وبه اندفع قول الطيبي: لوحمل "تصدق" على الماضي لم يساعده قوله: "ولو بشق تمرة"؛ لأن ذلك لو كان إخباراً معنى، وأما إذا كان أمراً معنى فلا. قلت: قال الطيبي: لعل الظاهر "ليتصدق رجل" ولام الأمر للغائب محذوف والقاف ساكنة، وجوزه ابن الأنبارى،

من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة. قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب. حتى رأيت وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتهلل كأنه مذهبة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام ـــــــــــــــــــــــــــــ ونقل عن بعض أهل اللغة أن "نبك" في "قفا نبك" مجزوم على تأويل الأمر، أي فلنبك واحتج بقوله تعالى: {ذرهم يأكلوا} [3:15] أي فليأكلوا، ولو حمل "تصدق" على الفعل الماضي لم يساعده قوله: ولو بشق تمرة، إذا المعنى ليتصدق رجل ولو بشق تمرة، وكذا قوله: "فجاء رجل" الخ.؛ لأنه بيان لامتثال أمره - عليه السلام - عقيب الحث على الصدقة، ولمن يجريه على الإخبار وجه لكن فيه تعسف غير خاف- انتهى. قال الأبهرى: ويأبى عن الحمل على حذف اللام عدم حرف المضارعة- انتهى. فيتعين حمله على أنه خبر لفظاً وأمر معنى، وإتيان الإخبار بمعنى الإنشاء كثير في الكلام ليس فيه تكلف فضلاً عن تعسف. قال الطيبي: و"رجل" نكرة وضعت موضع الجمع المعرف لإفادة الاستغراق في الإفراد وإن لم تكن في سياق النفي كشجرة في قوله: {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام} [27:31] ، فإن "شجرة" وقعت موضع الأشجار. ومن ثم كرر في الحديث مراراً بلا عطف، أي ليتصدق رجل من ديناره، ورجل من درهمه، وهلم جرا، و"من" في "من دينار" إما تبعيضية أي ليتصدق مما عنده من هذا الجنس، وإما ابتدائية متعلقة بالفعل، فالإضافة بمعنى اللام، أي ليتصدق بما هو مختص به وهو مفتقر إليه. (حتى قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ليتصدق كل رجل منكم. (ولو بشق تمرة. قال) أي الراوى وهو جرير (بصرة) بالضم أي ربطة من الدراهم لا من الدنانير على الظاهر. (تعجز عنها) أي عن حمل الصرة لثقلها لكثرة ما فيها. (ثم تتابع الناس) أي توالوا في إعطاء الصدقات. (كومين) الكوم بالضم العظيم من كل شيء، والكوم بالفتح المكان المرتفع كالرابية. قال القاضي: الفتح هنا أولى؛ لأن مقصوده الكثرة والتشبيه بالرابية. (من طعام) الظاهر أنه هنا حبوب، ولعل الاقتصار عليه من غير ذكر النقود لغلبته. (يتهلل) أي يستنير فرحاً وسروراً. (مذهبة) بضم الميم وسكون الذال المعجمة وفتح الهاء بعده موحدة أي فضة مذهبة أي مموهة بالذهب، ومعناه ظهور البشر في وجهه - صلى الله عليه وسلم - حتى استنار وأشرق من السرور، والمذهبة أيضاً صحيفة منقشة بالذهب، أو ورقه من القرطاس مطلية بالذهب، يصف حسنه وتلألؤه. (من سن في الإسلام سنة حسنة) أي أتى بطريقة مرضية يشهد لها أصل من أصول الدين، أو صار باعثاً وسبباً لترويج أمر ثابت في الشرع (فله أجرها) أي أجر السنة أي ثواب العمل بها والإضافة لأدنى ملابسة، فإن السنة سبب ثبوت الأجر فجازت الإضافة. (من بعده) أي من بعد ما سن (من غير أن ينقص) على البناء للمفعول، وجوز

{الفصل الثاني}

سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء)) رواه مسلم. 212- (15) وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها؛ لأنه أول من سن القتل)) متفق عليه. وسنذكر حديث معاوية ((لا يزال من أمتي)) في باب ثواب هذه الأمة إن شاءالله تعالى. {الفصل الثاني} 213- (16) عن كثير بن قيس قال: ((كنت جالسا مع أبي الدرداء ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يكون معلوماً؛ لأنه متعدٍ ولازم. (سنة سيئة) أي طريقة غير مرضية لا يشهد لها أصل من أصول الدين يعني بدعة شرعية. (من أوزارهم) جمع في الموضعين باعتبار معنى "من" كما أفرد في "ينقص" باعتبار لفظه. وفي الحديث الحث على البداءة بالخير ليستن به، والتحذير من البداءة بالشر خوف أن يستن به، ووجه المناسبة بالعلم أن استنان السنن المرضية من باب العلم المنتفع به. (رواه مسلم) في الزكاة وفي العلم، وأخرجه أيضاً النسائي في الزكاة مطولاً، والترمذي في العلم، وابن ماجه في السنة مختصراً أي بدون القصة. 212- قوله: (ظلماً) نصب على التمييز (إلا كان على ابن آدم الأول) صفة لابن، والمراد الأول من القتلة، أي الذي هو قاتل أولاً، لا أول الأولاد. قيل: هو قابيل قتل أخاه هابيل. {إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر} [27:5] . وراجع للتفصيل إلى كتب التفسير. (كفل) أي نصيب (من دمها) أي دم النفس (لأنه أول من سن القتل) فهو متبوع في هذا الفعل، وللمتبوع نصيب من فعل تابعه وإن لم يقصد التابع إتباعه في الفعل. (متفق عليه) أخرجه البخاري في خلق آدم، وفي الديات، وفي الاعتصام. ومسلم في الحدود، وأخرجه أيضاً الترمذي في العلم، والنسائي في المحاربة، وابن ماجه في الحدود. 213- قوله: (عن كثير بن قيس) الشامي، ويقال: قيس بن كثير. والأول أصح، ضعيف من أوساط التابعين. قال في تهذيب التهذيب: روى عن أبي الدرداء في فضل العلم، وعنه داود بن جميل، جاء في أكثر الروايات أنه كثير بن قيس على اختلاف في الإسناد إليه، وتفرد محمد بن يزيد الواسطي في إحدى الروايتين عنه بتسمية قيس بن كثير، وهو وهم. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن سميع: أمره ضعيف لم يثبته أبوسعيد يعني دحيماً. وقال الدارقطني: ضعيف. ووقع لابن قانع وهم بحت عجيب في معجم الصحابة فإن الحديث وقع له بدون ذكر أبي الدرداء

في مسجد دمشق، فجاءه رجل فقال: يا أبالدرداء إني جئتك من مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لحديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما جئت لحاجة. قال: فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء، ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه، فذكر كثيراً بسب ذلك في الصحابة فأخطأ-انتهى. (في مسجد دمشق) بكسر الدال وفتح الميم وبكسر، أي الشام (يا أباالدرداء) يقرأ الهمزة بعد حرف النداء ولا يكتب رسماً. (لحديث) أي لأجل تحصيل حديث (بلغني أنك تحدثه) أي ذلك الحديث (عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) يحتمل أن يكون سمعه إجمالاً، أو أراد أن يسمعه بلا واسطة لإفادة العلم وزيادة الطمأنينة، أو لعلو الإسناد فإنه من الدين. (ماجئت) إلى الشام (لحاجة) أخرى غير أن أسمعك الحديث. (قال) أي أبوالدرداء (فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) يحتمل أن هذا الحديث هو الحديث المطلوب للرجل أو غيره. ذكره تبشيراً له وترغيباً في مثل ما فعل. (من سلك طريقاً يطلب فيه) أي في ذلك الطريق (علماً) . قال الطيبي: إنما أطلق الطريق والعلم ليشملا في جنسهما، أي طريق كان من مفارقة الأوطان والضرب في البلدان إلى غير ذلك، وأي علم كان من علوم الدين قليلاً كان أو كثيراً. (سلك الله به طريقاً) الضمير المجرور عائد إلى "من" والباء للتعدية، أي جعله سالكاً ووفقه أن يسلك طريق الجنة. وقيل: عائد إلى العلم، والباء للسبية، و"سلك" بمعنى سهل، والعائد إلى من محذوف، والمعنى: سهل الله له بسبب العلم طريقاً، فعلى الأول "سلك" من سلوك، وعلى الثاني من السلك، والمفعول محذوف، كقوله تعالى: {يسلكه عذاباً صعداً} [17:27] . وعلى التقديرين نسبة "سلك" إلى الله تعالى على سبيل المشاكلة، كذا قاله الطيبي. وهو إما كناية عن التوفيق للخيرات في الدنيا، أو عن إدخال الجنة بلا تعب في الآخرة. (وإن الملائكة لتضع أجنحتها) جمع جناح بالفتح، وهو محمول على الحقيقة وإن لم يشاهد، أي تفرشها لتكون وطاء له إذا مشى، أو تكفها عند الطيران وتنزل عند مجالس العلم لسماعه، أو تبسطها له لتحمله عليها وتبلغه حيث يريد من البلاد، ومعناه المعونة في طلب العلم، أو هو مجاز عن التواضع توقيرً لعلمه وتعظيماً لحقه ومحبة للعلم. (رضاً) حال أو مفعول له على معنى إرادة رضاً ليكون فعلاً لفاعل الفعل المعلل به. (لطالب العلم) متعلق برضا (ليستغفر له) إذا لحقه ذنب، ومجازاة على حسن صنيعه بإلهام من الله تعالى إياهم ذلك، وذلك لعموم نفع العلم، فإن مصالح كل شيء ومنافعه منوطة به، وهو محمول على الحقيقة. (والحيتان) جمع الحوت، قال الطيبي: ذكر الحيتان بعد ذكر الملائكة والثقلين تنميم لاستيعاب جميع الحيوانات على طريق "الرحمن الرحيم"، كما بيناه في فتوح الغيب، وأما تخصيص الحيتان فللدلالة على أن إنزال المطر ببركتهم حتى أن الحيتان تعيش بسببهم كما ورد: ((بهم تمطرون وبهم ترزقون)) .

وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)) رواه أحمد والترمذي، وأبوداود، وابن ماجه، والدارمي. وسماه الترمذي قيس بن كثير. 214- (17) وعن أبي أمامة الباهلي قال: ((ذكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلان: أحدهما عابد والآخر عالم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم. ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ـــــــــــــــــــــــــــــ (وإن فضل العالم) والمراد به من غلب عليه الاشتغال بالعلم على عبادته النافلة. (على العابد) المراد به من غلب عبادته على الاشتغال بالعلم. (كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب) شبه العابد بالكواكب؛ لأن كمال العبادة ونورها لا يتعدى منه على غيره. وشبه العالم بالقمر الذى يتعدى نوره ويستضيء به وجه الأرض؛ لأن كمال العلم ونوره يتعدى إلى غيره فيستضيء بنوره المتلقى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي هو شمس العلم والدين، وإنما قيده بليلة البدر لكمال إضاءة القمر فيها وانمحاء الكواكب في شعاعها. (ورثة الأنبياء) لم يقل ورثة الرسل ليشمل الكل. (وإن الأنبياء لم يورثوا) بالتشديد (ديناراً ولا درهماً) أي شيئاً من الدنيا. وخصا لأنهما أغلب أنواعها. والمراد أنهم ما ورثوا أولادهم وأزواجهم شيئاً من ذلك، بل بقي بعدهم إن بقي شيء معداً لنوائب المسلمين. (وإنما ورثوا) من التوريث (فمن أخذه) أي العلم (أخذ بحظ وافر) أي أخذ حظاً وافراً يعني نصيباً تاماً. والباء زائدة للتأكيد. (رواه أحمد) (ج5:ص196) (والترمذي وأبوداود) في العلم (وابن ماجه) في السنة (والدارمي) في العلم. (وسماه) أي سمى الراوي عن أبي الدرداء (الترمذي) في روايته، وكذا أحمد في طريق له (قيس بن كثير) وهو وهم من أحد الرواة، والصحيح كثير بن قيس. قال المنذري في الترغيب: وقد اختلف في هذا الحديث اختلافاً كثيراً ذكرت بعضه في مختصر السنن وبسطته في غيره- انتهى، فمن شاء الوقوف على ذلك فليرجع إلى مختصر السنن. وسند الترمذي منقطع بين عاصم بن رجاء وقيس بن كثير لعدم ذكر واسطة داود بن جميل بينهما. ورواه أبوداود، وابن ماجه، والدارمي، وابن حبان في صحيحه، والبيهقي في الشعب، وكذا أحمد في طريق له متصلاً بذكر الواسطة، وهذا أرجح. 214- قوله: (وعن أبي أمامة) بضم الهمزة (الباهلي) نسبة إلى باهلة بكسر الهاء، قوم، وأبو أمامة كان سيدهم. (ذكر) على البناء للمفعول (الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلان) أي بوصف الكمال، وهو يحتمل أن يكون تمثيلاً، وأن يكونا موجودين في الخارج قبل زمانه أو في أوانه، ويؤيد الثاني ما ذكر في الفصل الثالث من رواية الحسن مرسلاً قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رجلين كانا في بني إسرائيل أحدهما كان عالماً، الخ (فضل العالم) بالعلم الشرعي مع القيام بفرائض العبودية. (على العابد) أي على المتجرد للعبادة بعد تحصيل قدر الفرض من العلوم. (كفضلي على أدناكم) أي نسبة طرف

إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت، ليصلون على معلم الناس الخير)) رواه الترمذي. 215- (18) ورواه الدارمي عن مكحول مرسلاً، ولم يذكر ((رجلان)) ، وقال: ((فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم، ثم تلا هذه الآية: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} وسرد الحديث إلى آخره. العالم إلى شرف العابد، كنسبة شرف الرسول إلى شرف أدنى الصحابة. وفيه مبالغة لا تخفى. (وأهل السماوات) تعميم بعد تخصيص. (والأرض) أي أهل الأرض من الإنس والجن وجميع الحيوانات. (حتى النملة) بالنصب على أن "حتى" عاطفة، وبالجر على أنها جارة، وبالرفع على أنها ابتدائية. قال القاري: والأول أصح. (في جحرها) بضم الجيم وسكون الهاء، أي ثقبها. (وحتى الحوت) كما تقدم، وهما غايتان مستوعبتان لدواب البر والبحر، وخصت النملة من دواب البر؛ لأنها أكثر الحيوانات ادخاراً للقوت في جحرها، فهي أحوج إلى بركتهم من غيرها. (ليصلون) أي يدعون بالخير. وفيه تغليب للعقلاء على غيرهم. (على معلم الناس الخير) قيل: أراد بالخير هنا علم الدين وما به نجاة الرجل. وفيه إشارة إلى وجه الأفضلية بأن نفع العلم متعدٍ، ونفع العبادة قاصر. (رواه الترمذي) في العلم، وقال: حديث حسن غريب صحيح. وأخرجه أيضاً الطبراني، والضياء، وأخرج البزار من حديث عائشة مختصراً قال: معلم الخير يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر. 215- قوله: (ورواه الدارمي عن مكحول) كنيته أبوعبد الله أو أبومسلم أو أبوأيوب الشامي الدمشقي. قيل: كان من سبي كابل، وكان معلم الأوزاعي، ثقة فقيه كثير الإرسال من الطبقة الصغرى من التابعين. وروى عنه قال: عتقت بمصر فلم أدع فيها علماً إلا احتويت عليه فيما أدري، ثم أتيت العراق والمدينة والشام فذكر كذلك. قال الخزرجي: روى عن كثير من الصحابة مرسلاً. مات سنة بضع عشرة ومائة. (مرسلاً) أي حذف الصحابي. (ولم يذكر) أي مكحول (رجلان) مرفوع على الحكاية، والمراد: هو وما بعده من قوله: "أحدهما عابد والآخر عالم" ولذا قال (وقال) أي مكحول رواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحكاية {إنما يخشى الله} بالنصب {من عباده العلماء} بالرفع. والخشية الخوف مع التعظيم، وقرئ في الشواذ برفع الجلالة ونصب العلماء، أي يعظمهم على التجريد. قيل: هو استشهاد لبيان علة الفضل وحاصله: أن العلم يورث الخشية لكون صاحبه أكثر معرفة بالله وبجلاله وكبريائه، والخشية تنتج التقوى وهو موجب الأكرمية والأفضلية، قال تعالى: {إن أكرمكم عندالله أتقاكم} [13:49] ، وفيه إشارة إلى أن من لم يكن علمه كذلك فهو كالجاهل بل هو الجاهل. (وسرد) أي ذكر وأورد مكحول. (الحديث) أي بقية الحديث السابق إلى آخره.

216- (19) وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الناس لكم تبع، وإن رجالاً يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون في الدين، فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيراً)) رواه الترمذي. 217- (20) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الكلمة الحكمة ضالة الحكيم، فحيث وجدها فهو أحق بها)) ـــــــــــــــــــــــــــــ 216- قوله: (لكم تبع) بفتحتين جمع تابع كخدم وخادم، والخطاب لعلماء الصحابة، يعني يتبعونكم في أفعالكم وأقوالكم؛ لأنكم أخذتم عني مكارم الأخلاق. (من أقطار الأرض) جمع قطر بالضم أي من أطراف الأرض وجوانبها. (يتفقهون في الدين) أي يطلبون علم الدين، والجملة استئنافية لبيان علة الإتيان، أو حال من الضمير المرفوع في "يأتونكم"، وهو أقرب إلى الذوق، كذا قاله الطيبي. (فاستوصوا بهم خيراً) أي في تعليمهم علوم الدين وأخلاق المهتدين وتحقيقه، اطلبوا الوصية والنصيحة بهم من أنفسكم، فالسين للطلب، والكلام من باب التجريد، وفيه مبالغة حيث أمروا أن يجردوا عن أنفسهم أشخاصاً أخر يطلبون منهم التوصية في حق طلبة العلم ومراعاة أحوالهم. وقيل: الاستيصاء قبول الوصية، أي أوصيكم بهم خيراً فاقبلوا الوصية مني فيهم، وافعلوا بهم خيراً، ولهذا كان جمع من أكابر السلف إذا دخل على أحدهم غريب طالب العلم يقول: مرحباً بوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (رواه الترمذي) في العلم، وأخرجه أيضاً ابن ماجه في السنة، وهو حديث ضعيف؛ لأن في سنده أباهارون العبدي وهو متروك، ومنهم من كذَّبه. 217- قوله: (الكلمة الحكمة) أي ذات الحكمة المشتملة عليها، جعلت الكلمة نفس الحكمة مبالغة، فهو من باب رجل عدل، وروي "كلمة الحكمة" بالإضافة من إضافة الموصوف إلى الصفة، وروي "الكلمة الحكمة" على طريق الإسناد المجازي فإن الحكيم قائلها، والمراد بها الجملة المفيدة معنى دقيقاً. (ضالة الحكيم) أي مطلوبه، والضالة في الأصل الضائعة من الحيوان وغيره، و"الحكيم" هو المتقن للأمور الذي له فيها غور. (فهو أحق بها) أي بقبولها، يعني أن الحكيم يطلب الحكمة فإذا وجدها فهو أحق باتباعها والعمل بها، أو المعنى: أن الناس متفاوتون في فهم المعاني واستنباط الحقائق المحتجبة، فينبغي أن لا ينكر من قصر فهمه عن إدراك دقائق الآيات والأحاديث على من رزقه، ولا ينازعه كما لا ينازع صاحب الضالة في ضالته إذا وجدها، أو كما أن صاحب الضالة آخذ ضالته ممن وجدها لا يحل له منعها، كذا العالم لا يحل له المنع عن السائل إذا رأى فيه استعداداً لفهمه، ففيه أنه لا يجوز منح غير الحكيم، فإنها ليست ضالته، أو المراد أن كلمة الحكمة ربما يتكلم بها من ليس لها بأهل ثم وقعت إلى أهلها فهو أحق بها من الذي قالها من غير التفات إلى خساسة من تكلم بها، كالضالة إذا وجد صاحبها أخذها من واجدها وإن كان خسيساً ولا ينظر إلى خساسته. ووقع في الترمذي وابن ماجه "ضالة المؤمن" بدل قوله: "ضالة الحكيم"، قال السندهي: أي مطلوبة له بأشد ما يتصور في الطلب كما يطلب المؤمن

رواه الترمذي وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث غريب، وإبراهيم بن الفضل الراوي يضعف في الحديث. 218- (21) وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد)) رواه الترمذي، وابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ضالته، وليس المطلوب بهذا الكلام الإخبار، إذ كم مؤمن ليس له طلب للحكمة أصلاً بل المطلوب به الإرشاد كالتعليم. أى اللائق بحال المؤمن أن يكون مطلوبه الكلمة الحكمة، ويحتمل أن يكون إخباراً لحمل "المؤمن" على الكامل في الإيمان، ومعنى قوله: "فحيث وجدها فهو أحق بها" أي ينبغي أن يكون نظر المؤمن إلى القول لا إلى القائل. (رواه الترمذي) في العلم (وابن ماجه) في الزهد. (وإبراهيم بن الفضل الراوي) بتخفيف الياء، أي راوي هذا الحديث عن سعيد المقبري عن أبي هريرة (يضعف) بصيغة المجهول، أي ينسب إلى ضعف الرواية. وفي نسخ الترمذي الحاضرة "ضعيف". (في الحديث) أي في باب نقل الحديث وروايته. قال في التقريب: إبراهيم بن الفضل المخزومي المدني أبوإسحاق، ويقال: إبراهيم بن إسحاق، متروك – انتهى. وقال أبوحاتم والبخاري والنسائي: منكر الحديث. وذكر العقيلي من مناكيره هذا الحديث. والحديث أخرجه ابن عساكر عن علي، والعسكري في الأمثال عن أبي هريرة بلفظ: ((كلمة الحكمة ضالة كل حكيم، فإذا وجدها فهو أحق بها)) . 218- قوله: (فقيه واحد) إن كان المراد من الفقيه الذي رزق الفهم في الدين، والتفطن لمداركه وموارده، فهو عارف لمكائد الشيطان ولمته، ورزق علم الخواطر وتمييزها، والاطلاع على دسائس النفوس ووساوسها. وإن كان المراد العالم بأحكام الدين وتفاصيلها كما يجوز فكذلك؛ لأنه بعلمها يحذر عن المواقع المحرمة، فلا يستخفها ولا يستحلها، فلا يقع في ورطة الكفر، بخلاف المتعبد الذي ليس فى مرتبته في المعنيين. (أشد على الشيطان) ؛ لأن الفقيه لا يقبل إغواءه، ويأمر الناس بالخير، ويصونهم عن إغوائه. (من ألف عابد) قيل: المراد به الكثرة وذلك لأن غاية همة العابد أن يخلص نفسه من مكائد الشيطان، وقد لا يقدر عليه فيدركه الشيطان من حيث لا يدرى، بخلاف الفقيه فقد يخلص الله تعالى على يديه العباد من مكائد الشيطان. (رواه الترمذي) في العلم (وابن ماجه) في السنة. وأخرجه أيضاً البيهقي كلهم من رواية روح بن جناح، تفرد به عن مجاهد عن ابن عباس، وروح بن جناح ضعيف، اتهمه ابن حبان، فالحديث ضعيف. قال الساجي: هو حديث منكر، وأخرجه البيهقي في الشعب، والطبراني في الأوسط، والدارقطني من حديث أبي هريرة مرفوعاً به في حديث. قال الطبراني: سنده ضعيف، وله شواهد أسانيدها ضعيفة. وقال في المقاصد: لفقيه واحد أشد، الخ. أسانيده ضعيفة لكنه يتقوى بعضها ببعض.

219- (22) وعن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((طلب العلم فريضة على كل مسلم، وواضع العلم عند غير أهله كمقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ والذهب)) رواه ابن ماجه، وروى البيهقي في شعب الإيمان إلى قوله: (( ... مسلم)) ، وقال: هذا حديث متنه مشهور وإسناده ضعيف. وقد روي من أوجه كلها ضعيف. 220- (23) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خصلتان لا يجتمعان في منافق: ـــــــــــــــــــــــــــــ 219- قوله: (طلب العلم فريضة) قال البيهقي في المدخل: أراد - والله تعالى أعلم – العلم الذي لا يسع العاقل البالغ جهله، أو علم ما يطرأ له خاصة فيسأل عنه حتى يعلمه، أو أراد أنه فريضة على كل مسلم حتى يقوم به من فيه كفاية. وقال البيضاوي: المراد من العلم ما لا مندوحة للعبد عن تعلمه، كمعرفة الصانع والعلم بواحدنيته، ونبوة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكيفية الصلاة، فإن تعلمها فرض عين. (على كل مسلم) أي مكلف ليخرج غير المكلف من الصبي والمجنون، وموضوعه الشخص فيشمل الذكر والأنثى، وقد ألحق بعض المصنفين بآخر هذا الحديث "ومسلمة"، قال السخاوي في المقاصد: وليس لها ذكر في شيء من طرقه وإن كانت صحيحة المعنى. (وواضع العلم عند غير أهله) كمن لا يصغى ولا يفهم، أو من يريد غرضاً دنيوياً، أو من لا يتعلمه لله. (كمقلد الخنازير) الخ. هذا يعر بأن كل علم يختص باستعداد وله أهل، فإذا وضعه في غير موضعه فقد ظلم، فمثل معنى الظلم بتقليد أخس الحيوانات بأنفس الجواهر تهجيناً لذلك الوضع وتنفيراً عنه، وتعقيب هذا التمثيل بقوله "طلب العلم فريضة" إعلام بأنه ينبغي لكل أحد طلب ما يليق باستعداده، ويوافق منزلته بعد حصول ما هو واجب من الفرائض العامة، وعلى العالم أن يخص كل طالب بما هو مستعد له. (رواه ابن ماجه) في السنة، وفي سنده حفص بن سليمان وهو ضعيف. (وقال:) أي البيهقي (هذا حديث متنه مشهور) أي على ألسنة الناس. (وإسناده ضعيف) أي وإن كان معناه صحيحاً كما سيأتي عن السيوطي. (كلها ضعيف) قال السخاوي في المقاصد: روي عن أنس بطرق كلها معلولة واهية. وفي الباب عن جماعة من الصحابة، وبسط الكلام في تخريج الإحياء. وقال أحمد: لا يثبت في هذا الباب شيء. وكذا قال ابن راهوية، وأبوعلي النيسابوري، والحاكم، ومثل به ابن الصلاح المشهور الذي ليس بصحيح، ولكن قال العراقي: قد صحح بعض الأئمة بعض طرقه. وقال السيوطي: سئل النووي عن هذا الحديث فقال: إنه ضعيف، أي سنداً وإن كان صحيحاً، أي معنى. وقال تلميذه جمال الدين المزى: هذا الحديث روي من طرق تبلغ رتبة الحسن وهو كما قال، فإني رأيت له نحو خمسين طريقاً وقد جمعتها في جزء – انتهى. 220- قوله: (خصلتان لا يجتمعان في منافق) قال الطيبي: ليس المراد أن واحدة منهما قد تحصل في المنافق دون الأخرى، بل هو تخريض للمؤمنين على اتصافه بهما ولاجتناب عن ضدهما، فإن المنافق من يكون عارياً عنهما، وهو من

حسن سمت، ولا فقه في الدين)) رواه الترمذي. 221- (24) وعن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع)) رواه الترمذي، والدارمي. 222- (25) وعن سخبرة الأزدى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ـــــــــــــــــــــــــــــ باب التغليظ. ونحوه قوله: {وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة} [41: 6، 7] وليس من المشركين من يزكي، لكنه حث للمؤمن على الأداء، وتخويف من المنع حيث جعله من أوصاف المشركين. والمراد بالمنافق إما حقيقي وهو النفاق الاعتقادي، أو مجازي وهو النفاق العملي. (حسن سمت) أي خلق وسيرة. قال الطيبي: هو التزي بزي الصالحين. وقيل: المراد هيئة أهل الخير. (ولا فقه في الدين) عطف على "حسن سمت". قال الطيبي: حسن عطقه على ذلك وهو مثبت؛ لأنه في سياق النفي. قال التوربشتي: حقيقة الفقه في الدين ما وقع في القلب ثم ظهر على اللسان، فأفاد العمل، وأورث الخشية والتقوى. وأما الذي يتدارس أبواباً منه ليتعزز به ويتأكل به، فإنه بمعزل عن الرتبة العظمى؛ لأن الفقه تعلق بلسانه دون قلبه، ولهذا قال علي: "ولكني أخشى عليكم كل منافق عليم اللسان"- انتهى. (رواه الترمذي) في العلم، وفي سنده خلف بن أيوب العامرى، تفرد به عن عوف، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، فقيه من أهل الرأي، ضعفه ابن معين، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان مرجئاً غالياً، استحب مجانبة حديثه لتعصبه. 221- قوله: (من خرج) أي من بيته أو بلده (في طلب العلم) الشرعي النافع الذى أراد به وجه الله، وهو الذي يزيد في الخوف من الله، وينقص من الرغبة في الدنيا. (فهو في سبيل الله) أي في حكم من خرج للجهاد. قال الطيبي: "ويؤيده قوله تعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} الآية [122:9] ، حض المؤمنين على النفقة في الدين وأمرهم بأن ينفر من كل فرقة منهم طائفة إلى الجهاد، ويبقى طائفة يتفقهون حتى لا ينقطعوا عن التفقة الذى هو الجهاد الأكبر. (حتى يرجع) يعني فله أجر من خرج في الجهاد إلى أن يرجع إلى بيته؛ لأنه كالمجاهد في إحياء الدين وإذلال الشيطان وإتعاب النفس. (رواه الترمذي والدارمي) ، وقال الترمذي: حديث حسن غريب. وأخرجه أيضاً الضياء المقدسي في المختارة، وأبو نعيم في الحلية. 222- قوله: (وعن سخبرة) بفتح أوله وسكون المعجمة وفتح الموحدة، والد عبد الله بن سخبرة (الأزدي) بسكون الزاي، ويقال له: الأسدي نسبة إلى الأزد بن يغوث، وبالسين أفصح، أبوحي من اليمن، صحابي له حديثان. قال الحافظ في التهذيب: جزم البخاري بأنه الأزدى، وقال: ليس حديثه من وجه صحيح، وكذا جزم به ابن أبي خيثمة وابن حبان وغيرهم. وقال في التقريب: سخبرة صحابي في إسناد حديثه ضعف. وعند الترمذي سخبرة وليس

((من طلب العلم كان كفارة لما مضى)) رواه الترمذي، والدارمي. وقال الترمذي: هذا حديث ضعيف الإسناد، وأبوداود الراوي يضعف. 223- (26) وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لن يشبع المؤمن من خير يسمعه حتى يكون منتهاه الجنة)) رواه الترمذي. 224- (27) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من سئل عن علم علمه ثم كتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار)) ـــــــــــــــــــــــــــــ بالأزدى. وقال غيره: هو الأزدى – انتهى. (من طلب العلم) أي الشرعي ليعمل به (كان) أي طلبة للعلم (كفارة) هي مما يستر الذنوب ويزيلها، من كفر إذا ستر. (لما مضى) أي من الصغائر، ويمكن أن يكون المعنى: أن طلب العلم وسيلة إلى ما يكفر به ذنوبه كلها من التوبة ورد المظالم وغيرها. (وأبوداود) اسمه نفيع الأعمى، مشهور بكنيته، ويقال له: نافع (الراوى) أي عن عبد الله بن سخبرة (يضعف) في الحديث. قال الحافظ: متروك، وقد كذبه ابن معين، وعبد الله بن سخبرة مجهول. والحديث أخرجه أيضاً الطبراني في الكبير. 223- قوله: (لن يشبع المؤمن من خير) أي علم (حتى يكون منتهاه) أي غايته ونهايته (الجنة) بالنصب على الخبرية، أو الرفع على الاسمية، يعني حتى يموت فيدخل الجنة مع السابقين إن عمل به. قال الطيبي: شبه استلذاذه بالمطعوم؛ لأنه أرغب وأشهى وأكثر إتعاباً لتحصيله. و"حتى" للتدرج في استماع الخير والترقي في استلذاذه والعمل به إلى أن يوصله الجنة؛ لأن سماع الخير سبب العمل، والعمل سبب دخول الجنة ظاهراً. ولما كان قوله: "لن يشبع" فعلاً مضارعاً يكون فيه دلالة على استمرار، تعلق "حتى" به – انتهى. والحديث يدل على أن المؤمن الحريص على طلب العلم يموت على الإيمان. (رواه الترمذي) في العلم. وقال: حديث حسن غريب. وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه. 224- قوله: (من سئل عن علم) نافع يحتاج إليه السائل في أمر دينه وكان السائل أهلاً لذلك العلم. (ثم كتمه) "ثم" فيه استبعادية؛ لأن تعلم العلم إنما كان لنشر العلم ونفعه الناس، وبكتمه يزول ذلك الغرض، فكان بعيداً ممن هو في صورة العلماء والحكماء. (ألجم يوم القيامة بلجام من نار) أي أدخل في فمه لجام من نار، شبه ما يوضع في فمه من النار بلجام في فم الدابة، وهو إنما كان جزاء إمساكه عن قول الحق. وخص اللجام بالذكر تشبيهاً للكاتم بالحيوان الذي سخر ومنع من قصده ما يريد. وفي رواية لابن ماجه: ((ما من رجل يحفظ علماً فيكتمه إلا أتى يوم القيامة ملجوماً بلجام من نار)) . وظاهره أن المراد حضر في المحشر كذلك، ثم أمره إلى الله بعد ذلك؛ لأنه أمسك فمه عن كلمة الحق وقت الحاجة والسؤال، فجوزي بمثله، حيث أمسك الله فمه في وقت اشتداد الحاجة للكلام والجواب عند السؤال عن الأعمال، وهذا

رواه أحمد، وأبوداود، والترمذي. 225- (28) ورواه ابن ماجه عن أنس. 226- (29) وعن كعب بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من طلب العلم ليجاري به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، أدخله الله النار)) ـــــــــــــــــــــــــــــ في العلم ضروري الذي يلزم تعليمه ويتعين عليه، كمن يريد الإسلام أو تعليم الصلاة وقد حضر وقتها، أو فتوى في الحل والحرمة. وأما نوافل العلم فهو مخير في تعليمها. (رواه أحمد وأبوداود) وسكت عنه (والترمذي) وحسنه، وأخرجه أيضاً النسائي، وابن ماجه، وابن حبان في صحيحه. والبيهقي، والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. قال المنذري في مختصر السنن بعد نقل تحسين الترمذى: وقد روي عن أبي هريرة من طرق فيها مقال، والطريق الذي خرج بها أبوداود طريق حسن. 225- قوله: (ورواه ابن ماجه عن أنس) أيضاً وفي سنده يوسف بن إبراهيم، قال البخاري: هو صاحب عجائب. وقال ابن حبان: روى عن أنس من حديثه ما لا يحل الرواية عنه- انتهى. وقال الحافظ في التقريب: ضعيف. قال المنذرى: وقد روي هذا الحديث أيضاً من رواية ابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر بن الخطاب، وابن عمرو بن العاص، وأبي سعيد الخدرى، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وعمرو بن عبسة، وعلي بن طلق، وفي كل منها مقال- انتهى. وبالجملة المتن ثابت، والكلام في خصوص الأسانيد لا يقدح في ثبوته. 226- قوله: (وعن كعب بن مالك) بن أبي كعب الأنصاري السلمي المدني الشاعر، أحد الثلاثة الذين خلفوا، شهد العقبة الثانية والمشاهد كلها غير بدر وتبوك، وكان أحد شعراء النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين كانوا يهاجون عنه - صلى الله عليه وسلم -. له ثمانون حديثاً، اتفقا على ثلاثة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بحديثين، روى عنه جماعة. مات سنة (50) وقيل: سنة (51) وهو ابن سبع وسبعين سنة بعد أن عمي. (من طلب العلم) أي لا لله بل (ليجاري به العلماء) أي ليجري معهم في المناظرة والجدل ليظهر على الناس علمه رياء وسمعة. (أو ليماري به السفهاء) أي ليجادل به ضعاف العقول. وقيل: المراد به الجهال. قال الطيبي: المماراة من المرية وهي الشك، فإن كل واحد من المتحاجين يشك فيما يقول صاحبه، ويشككه مما يورد على حجته. أو من المرى وهو مسح الحالب ليستنزل ما به من اللبن، فإن كلا من المناظرين يستخرج ما عند صاحبه. (أو يصرف به) أي يميل بالعلم (وجوه الناس إليه) أي ينوى به تحصيل المال والجاه، وصرف وجوه الناس العوام والطلبة إليه، وجعلهم كالخدم له، أو جعلهم ناظرين إليه إذا تكلم، متعجبين من كلامه إذا تكلم، مجتمعين حوله إذا جلس. (أدخله الله النار) الظاهر أنه إخبار بأنه استحق دخول النار بلا دوام، ثم فضل الله واسع، فإن

رواه الترمذي. 227- (30) ورواه ابن ماجه عن ابن عمر. 228- (31) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة. يعني ريحها)) ـــــــــــــــــــــــــــــ شاء عفا بلا دخول، وقيل: جملة دعائية. (رواه الترمذي) في سنده إسحاق بن يحيى بن طلحة، تفرد به عن ابن كعب عن أبيه. قال الترمذي: ليس بذلك القوي عندهم، تكلم فيه من قبل حفظه – انتهى. وأخرجه أيضاً ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت وغيره، والحاكم شاهداً والبيهقي. 227- قوله: (ورواه ابن ماجه عن ابن عمر) ، قال في الزوائد: إسناده ضعيف لضعف حماد بن عبد الرحمن وأبي كرب الأزدى. وروي في ذم تعلم العلم لغير وجه الله عن جماعة من الصحابة، ذكر أحاديثهم المنذري في الترغيب، والهيثمي في مجمع الزوائد (ج1:ص184) وعلي المتقي في الكنز (ج5:ص214، 216) . 228- قوله: (مما يبتغى به وجه الله) من بيان للعلم أي العلم الذي يطلب به رضا الله تعالى، وهو العلم الديني، فلو طلب الدنيا بعلم الفلسفة والهندسة ونحوهما فهو غير داخل في أهل هذا الوعيد. (لا يتعلمه) حال إما من فاعل "تعلم" أو من مفعوله؛ لأنه تخصص بالوصف، ويجوز أن يكون صفة أخرى لعلماء. (إلا ليصيب) أي لينال ويحصل بذلك العلم. (عرضاً) بفتحتين وإهمال العين، أي متاعاً من الدنيا، والاستثناء من أعم الأوصاف، أي لا يتعلمه لغرض من الأغراض إلا ليصيب به شيئاً من متمتعات الدنيا. وفيه دلالة على أن الوعيد المذكور لمن لا يقصد بالعلم إلا الدنيا، وأما من طلب بعلمه رضا المولى ومع ذلك له ميل ما إلى عرض الدنيا فخارج عن هذا الوعيد، فابتغاء وجه الله يأبى إلا أن يكون متبوعاً ويكون العرض تابعاً. قال الطيبي: وصف العلم بابتغاء وجه الله إما للتفصيل والتمييز، فإن بعضاً من العلوم مما يستعاذ منه، كما ورد "أعوذ بالله من علم لا ينفع"، وإما للمدح. (عرف الجنة) بفتح العين وسكون الراء المهملتين - الرائحة، مبالغة في تحريم الجنة؛ لأن من لا يجد ريح الشيء لا يتناوله قطعاً. وهذا محمول على أنه يستحق أن لا يدخل أولاً ثم أمره إلى الله تعالى كأمر صاحب الذنوب إذا مات على الإيمان. وقيل: بل المراد أنه يكون محروماً من ريح الجنة وإن دخلها. وقيل: بل هذا الحكم مخصوص بيوم القيامة كما هو المذكور في لفظ الحديث، وهو من حين أن يحشر إلى أن يستقر أهل كل دار مقره، وبيانه أن الأخبار سيما العلماء إذا وردوا يوم القيامة يجدون رائحة الجنة قبل أن يدخلوها تقوية لقلوبهم وتسلية لهمومهم على مقدار مراتبهم، وهذا البائس المبتغي للأغراض الفانية يكون في ذلك الوقت كصاحب أمراض حادثة

رواه أحمد، وأبوداود، وابن ماجه. 229- (32) وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نضر الله عبداً سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة للمسلمين، ولزوم جماعتهم، ـــــــــــــــــــــــــــــ في الدماغ، مانعة من إدراك الروائح، لا يجد رائحة الجنة. (رواه أحمد وأبوداود) وسكت عنه هو والمنذري. (وابن ماجه) وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه، والحاكم، وقال صحيح سنده، ثقات رواته على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. وأقره الذهبي. 229- قوله: (نضر الله) قال في النهاية: يروى بالتخفيف والتشديد من النضارة، وهي في الأصل حسن الوجه والبريق، وأراد حسن خلقه وقدره- انتهى. وقيل: روي مخففاً ومشدداً، والثاني أكثر وأجود، والمراد ألبسه الله النضرة، وهي الحسن وخلوص اللون، أي جملة وزينه، وأوصله الله إلى نضرة الجنة أي نعيمها ونضارتها، ثم قيل: إنه إخبار يعني جعله ذا نضرة، وقيل: دعاء له بالنضرة، وهي البهجة والبهاء في الوجه من أثر النعمة. (سمع مقالتي) أي حديثي (فحفظها) بالقلب أو الكتابة. (ووعاها) أي داوم على حفظها ولم ينسها. (وأداها) أي أوصلها إلى الناس وعلمها. (فرب حامل فقه) أي علم. وهذا بمنزلة التعليل لما يفهم من الحديث أن التبليغ مطلوب، والمراد بحامل الفقه حافظ الأدلة التي يستنبط منها الفقه. (غير فقيه) أي غير قادر على استنباط الفقه من تلك الأدلة، و"غير" بالجر صفة"حامل"، وقيل بالرفع، فتقديره: هو غير فقيه. يعني لكن يحصل له الثواب لنفعه بالنقل. (ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) أي هو فقيه أيضاً لكنه يحمل الفقه إلى أفقه منه، بأن كان الذي يسمع منه أفقه منه وأقدر على استنباطه، أو إلى من يصير أفقه منه. قال الطيبي: قوله "إلى من هو أفقه منه" صفة لمدخول"رب"، استغنى بها عن جوابها، أي رب حامل فقه أدى إلى من هو أفقه منه. (ثلاث) أي ثلاث خصال أو خصال ثلاث. (لا يغل) بكسر الغين وتشديد اللام على المشهور، والياء تحتمل الضم والفتح، فعلى الأول من أغل إذا خان، وعلى الثاني من غل إذا صار ذا حقد وعداوة. (عليهن) أي على تلك الخصال الثلاث. (قلب مسلم) أي كامل و"عليهن" في موضع الحال، أي حال كونه ثابتاً وكائناً عليهن، أي مادام المؤمن على هذه الخصال الثلاث لا يدخل في قلبه خيانة أو حقد يمنعه من تبليغ العلم، فينبغي له الثبات على هذه الخصال حتى لا يمنعه شىء من التبليغ، وبهذا ظهر مناسبة هذه الجملة بما قبلها. (إخلاص العمل لله) أي منها أو إحداها، يعني جعل العمل خالصاً لله لا لغيره من رياء وتحصيل جاه ومال. (والنصيحة) هي إرادة الخير للمنصوح له. (ولزوم جماعتهم) أي موافقة المسلمين في الاعتقاد، والعمل الصالح، والصلاة الجماعة،

فإن دعوتهم تحيط من ورائهم)) رواه الشافعي والبيهقي في المدخل. 230- (33) ورواه أحمد، والترمذي، وأبوداود، وابن ماجة، والدارمي، عن زيد بن ثابت. إلا أن الترمذي وأبا داود لم يذكرا ((ثلاث لا يغل عليهن)) إلى آخره. 231- (34) وعن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((نضر الله امرءاً سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه، ـــــــــــــــــــــــــــــ والجمعة، والعيدين، وطاعة الأمراء المسلمين، وغير ذلك (فإن دعوتهم تحيط) أي تدور. (من ورائهم) قوله: "فإن دعوتهم" في معرض التعليل، والتقدير: ولا يقصرن أحد في لزوم جماعتهم؛ لأن دعوتهم تدور من ورائهم وتحويهم وتحفظهم عن كيد الشيطان وعن الضلالة، فلا ينبغي لأحد أن يجعل نفسه محرومة من بركتهم. قال ابن حجر: ووجه المناسبة بين قوله: "ثلاث" المستأنف، وما قبله أنه - عليه الصلاة والسلام - لما حرض سامع سننه على أدائها بين أن هناك خصالاً من شأنه أن ينطوي قلبه عليها، لأن كلاً منها محرض له على ذلك التبليغ. (رواه الشافعي) . قال القارى: ولم يعلم في أي كتاب. قلت: أخرجه في كتاب الرسالة (ص106) في باب الحجة على تثبيت الخبر الواحد، وفي مسنده (ص82) ، (والبيهقي في المدخل) بفتح الميم والخاء، يعني كلاهما عن ابن مسعود. 230- قوله: (ورواه أحمد والترمذي) وحسنه، ونقل المنذري تحسينه وأقره. (وأبوداود) وسكت عنه (وابن ماجه والدارمي) ، وأخرجه أيضاً بتمامه النسائي وابن حبان في صحيحه. وقد روي هذا الحديث أي بتمامه عن أبي سعيد الخدري، ومعاذ بن جبل، والنعمان بن بشير، وجبير بن مطعم، وأبي الدرداء، وأبي قرصافة جندرة بن خيشنة، وجابر، وأنس، ذكر أحاديثهم الهيثمي في مجمع الزوائد مع الكلام عليها، وقال المنذري في الترغيب: بعض أسانيدهم صحيح. 231- قوله: (نضر الله امرأً) أي خصه بالبهجة والسرور لما رزق بعلمه ومعرفته من القدر والمنزلة بين الناس في الدنيا ونعمة في الآخرة، حتى يرى عليه رونق الرخاء والنعمة. (سمع منا شيئاً) وفي رواية ابن ماجه "حديثا" بدل "شيئاً". قال الطيبى: قوله: "شيئا" يعم الأقوال والأفعال الصادرة من النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، يدل عليه صيغة الجمع في "منا" انتهى. قال القارى: وصح تعلق السمع بالفعل من حيث أنه قد يسمع من الصحابي أنه - عليه السلام - كان يفعل كذا، مع أن المراد بالسمع هو العلم الذي يشمل القول والفعل والشمائل أيضاً، وإنما خص السمع بالذكر؛ لأن مدار العلم عليه غالباً. (كما سمعه) حال من مفعول "بلغه"، و"ما" مصدرية أو موصولة أي غضاً طرياً من غير تحريف وتغيير من زيادة ونقصان، خص مبلغ الحديث كما سمعه بهذا الدعاء؛ لأنه سعى في نضارة العلم وتجديد السنة، فجازاه بالدعاء بما يناسب حاله، وهذا يدل على شرف الحديث وفضله ودرجة طلابه، حيث خصهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بدعاء لم يشرك فيه أحد من الأمة. والحديث

فرب مبلغ أوعى له من سامع)) .رواه الترمذي، وابن ماجه. 232- (35) ورواه الدارمي عن أبي الدرداء. 233- (36) وعن ابن عباس - رضى الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم، فمن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) رواه الترمذي. 234، 235- (37، 38) ورواه ابن ماجه عن ابن مسعود وجابر، ولم يذكر ((اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا ينافي جواز الرواية بالمعنى على ما عليه الجمهور، لأن المثلية تارة يكون بحسب اللفظ والمعنى، وتارة بحسب المعنى، والمدار على المعاني الأصلبة، وعلى الأول يكون تنبيهاً على الوجه الأكمل، ومسألة الرواية بالمعنى مبسوطة في كتب أصول الحديث فعليك أن تراجعها. (فرب مبلغ) بفتح اللام من التبليغ، أي منقول إليه، فحذف الجار والمجرور، كما يقال المشترك ويراد المشترك فيه، و"رب" للتقليل لكنه كثر في الاستعمال للتكثير بحيث غلب حتى صارت كأنها حقيقة فيه، وهي حرف خلافاً للكوفيين في دعوى اسميته. (أوعى) من الوعي وهو الحفظ أي أفطن وأفهم، أو أكثر مراعاة لمعناه وعملاً بمقتضاه، وإعراب هذا الكلام على مذهب الكوفيين أن "رب مبلغ" كلام إضافي مبتدأ، وقوله "أوعى له من سامع" خبره. وأما على مذهب البصريين فإن قوله: "مبلغ" وإن كان مجرورا بالإضافة ولكنه مرفوع على الابتداء محلاً، وقوله "أوعى" صفة له، والخبر محذوف تقديره: يكون أو يوجد، أو نحوهما (من سامع) أي ممن سمعه أولاً وبلغه ثانياً. (رواه الترمذي وابن ماجه) وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وأخرجه أيضاً أحمد، وابن حبان في صحيحه إلا أنه قال: ((رحم الله امرأً)) . قال المناوى وإسناده صحيح. 233- قوله: (اتقو الحديث عني) أي احذروا رواية الحديث عني، والمعنى لا تحدثوا عني (إلا ما علمتم) أنه من حديثي، يعنى إلا ما علمتم صدقه بالظن الغالب لئلا تقعوا في الكذب علي، فالعلم هنا يشمل الظن، فإنهم إذا جوزوا الشهادة به مع أنها أضيق من الرواية اتفاقاً، فلأن تجوز به الرواية أولى، ويؤيده أنه يجوز في الرواية الاعتماد على الخط بخلاف الشهادة عند الجمهور، قاله القاري. (رواه الترمذي) في أول التفسير وحسنه، وفيه سفيان بن وكيع، قال الحافظ: كان صدوقاً إلا أنه ابتلي بوراقه فأدخل عليه ما ليس من حديثه، فنصح فلم يقبل، فسقط حديثه، لكنه لم ينفرد برواية هذا الحديث، فقد رواه أحمد من وجه آخر. والظاهر أن الترمذي حسنه لكثرة طرقه وشواهده. 234، 235- قوله: (ولم يذكر) أي ابن ماجه (اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم) يعنى والفاء أيضاً من قوله: "فمن" فإنها للتفريع على ما قبله.

236- (39) وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار)) . وفي رواية: ((من قال في القرآن بغير علم ـــــــــــــــــــــــــــــ 236- قوله: (من قال في القرآن) أي تكلم في لفظه وقراءته أو معناه ومدلوله. (برأيه) أي من تلقاء نفسه من غير تتبع تفسيره في الأحاديث المرفوعة والموقوفة، ومن غير استقراء أقوال الأئمة من أهل اللغة والعربية المطابقة للقواعد الشرعية، بل بحسب ما يقتضيه عقله، وهو مما يتوقف على النقل بأنه لا مجال للعقل فيه كأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، وما يتعلق بالقصص والأحكام، أو بحسب ما يقتضيه ظاهر النقل، وهو مما يتوقف على العقل كالمتشابهات التي أخذ المجسمه بظواهرها، وأعرضوا عن استحالة ذلك في العقول، أو بحسب ما يقتضيه بعض العلوم الإلهية مع عدم معرفته ببقيتها وبالعلوم الشرعية فيما يحتاج لذلك، ولذا قال البيهقي: المراد رأي غلب من غير دليل قام عليه، أما ما يشده برهان فلا محذور فيه، فعلم أن علم التفسير إنما يتلقى من النقل، ومن أقوال الأئمة، ومن المقاييس العربية والقواعد الأصولية المبحوث عنها في علم أصول الفقه أو أصول الدين. وقال النيسابورى ما محصله: لا يجوز أن يراد أن لا يتكلم أحد في القرآن إلا بما سمعه، فإن الصحابة قد فسروه واختلفوا فيه على وجوه، وليس كل ما قالوه سمعوه منه، ولأنه لا يفيد حينئذٍ دعاءه لابن عباس: ((اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)) ، فالنهي بوجهين أحدهما أن يكون له في الشيء رأى وإليه ميل من طبعه وهواه فيتأول على وفقه ليحتج على تصحيح غرضه، وهذا قد يكون مع علمه أن ليس المراد بالآية ذلك، ولكن يلبس على خصمه، وقد يكون مع جهله بأن يكون الآية محتملة له لكن رجحه لرأيه، ولو لاه لما يترجح ذلك الوجه له، وقد يكون له غرض صحيح، كمن يدعو إلى مجاهدة القلب القاسي ويستدل بقوله {اذهب إلى فرعون إنه طغى} [24:20] ، ويشير إلى قلبه. والثاني أن يتسارع إلى التفسير بظاهر العربية من غير استظهار بالسماع في غرائبه ومبهماته وفيما فيه من الحذف والتقديم، فالنقل والسماح لا بد منه في ظاهر التفسير أولاً ليتبقى به مواضع الغلط، ثم بعد ذلك يتسع للتفهيم والاستنباط، وما عدا هذين الوجهين فلا وجه للمنع فيه مادام على قوانين العلوم العربية والقواعد الأصلية والفرعية. وقال الشاه ولي الله الدهلوي: يحرم الخوض في التفسير لمن لا يعرف اللسان الذي نزل القرآن به، والمأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعين، ومن شرح غريب وسبب نزول وناسخ ومنسوخ، وارجع للتفصيل إلى تحفة الأحوذي (ج4:ص65) ، وهذه الرواية تتمة حديث ابن عباس السابق المروي عند الترمذي، أعنى ((اتقوا الحديث عني ... )) الخ. وقد حسنه الترمذي. (وفي رواية) أخرى للترمذي وغيره (من قال في القرآن بغير علم) أي بغير دليل يقيني أو ظني نقلي أو عقلي مطابق للشرعي. قال الحافظ ابن كثير: أصح الطرق في التفسير أن يفسر القرآن بالقرآن، فما أجمل في مكان فإنه قد بسط في موضع آخر، فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة، فإنها شارحة للقرآن وموضحة له، قال تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} [44:16] وإذا لم نجد

فليتبوأ مقعده من النار)) رواه الترمذي. 237- (40) وعن جندب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ)) ـــــــــــــــــــــــــــــ التفسير في القرآن ولا في السنة، رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح، لاسيما علماؤهم وكبراؤهم كالخلفاء الأربعة الراشدين، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس. وإذا لم تجد التفسير في القرآن، ولا في السنة، ولا وجدته عن الصحابة، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين، كمجاهد، وعطاء بن أبي رباح، وسعيد بن جبير، وغيرهم من التابعين. وقال بعضهم: أقوال التابعين في الفروع ليست بحجة، فكيف تكون حجة في التفسير. يعني أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم، وهذا صحيح. أما إذا أجمعوا على الشيء فلا يرتاب في كونه حجة، فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على بعض ولا على من بعدهم، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن أو السنة أو عموم لغة العرب أو أقوال الصحابة في ذلك، فأما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام – انتهى. كلام ابن كثير ملخصاً. (رواه الترمذي) في أول التفسير من طريق محمود بن غيلان، عن بشر بن السري، عن الثوري، عن عبد الأعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وقال: حديث حسن صحيح. وهكذا رواه النسائي، وابن جرير من طرق عن الثوري. ورواه أبوداود عن مسدد عن أبي عوانة عن عبد الأعلى به، كذا قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (ج1:ص8) ، ولم أجده في سنن أبي داود، ويظهر من مختصر جامع المواريث للمزي، ومن تخريج الإحياء للحافظ العراقي أن الحديث عند أبي داود في كتاب العلم في سننه من رواية ابن العبد. قال العراقي في تخريجه (ج1:ص33) : حديث ((من فسر القرآن برأية فليتبوأ مقعده من النار)) للترمذي من حديث ابن عباس وحسنه، وهو عند أبي داود من رواية ابن العبد، وعند النسائي في الكبرى-انتهى. وابن العبد، هو أبوالحسن علي بن محمد بن العبد، المعروف بابن العبد، أحد من روى السنن عن أبي داود. وقال الزبيدي في شرح الإحياء (ج1:ص257) : أخرجه الترمذى وصححه، وابن الأنباري في المصاحف، والطبراني في الكبير والبيهقي في الشعب، كلهم من رواية عبد الأعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. 237- قوله: (وعن جندب) بضم الجيم، والدال تضم وتفتح، هو ابن عبد الله بن سفيان البجلى ثم العلقي، أبوعبد الله، وقد ينسب إلى جده فيقال: جندب بن سفيان. سكن الكوفة ثم البصرة، روى عنه أهل المصرين، صحابي لكن ليست صحبته القديمة. له ثلاثة وأربعون حديثاً، اتفقا على سبعة، وانفرد مسلم بخمسة. مات في فتنة ابن الزبير، وذكره البخاري في التاريخ فيمن توفي من الستين إلى السبعين. (من قال في القرآن) أي لفظه أو معناه (برأيه) أي بمجرد عقله ومن تلقاء نفسه من غير معرفة بأصول العلم وفروعه من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين واللغة وقواعد العربية. (فأصاب) أي ولو صار مصيباً بحسب الاتفاق. (فقد أخطأ) أي فهو مخطئ بحسب الحكم الشرعي، قال

رواه الترمذي، وأبوداود. 238- (41) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((المراء في القرآن كفر)) رواه أحمد، وأبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن حجر: أي أخطأ طريق الاستقامة بخوضه في كتاب الله بالتخمين والحدس؛ لتعديه بهذا الخوض مع عدم استجماعه لشروطه فكان آثما به مطلقاً، ولم يعتد بموافقته للصواب؛ لأنها ليست عن قصد ولا تحر بخلاف من كملت فيه آلات التفسير، فإنه مأجور بخوضه فيه وإن أخطأ؛ لأنه لا تعدي منه، كالمجتهد في الأحكام؛ لأنه بذل وسعه في طلب الحق، واضطره الدليل إلى ما رآه، فلم يكن منه تقصير بوجه. قال الماوردى: قد حمل بعض المتورعة هذا الحديث على ظاهره، وامتنع أن يستنبط معاني القرآن باجتهاده ولو صحبها الشواهد، ولم يعارض شواهده نص صريح. وهذا عدول عما تعبدنا بمعرفته من النظر في القرآن واستنباط الأحكام منه، كما قال تعالى: {لعمله الذين يستنبطونه منهم} [83:4] ، ولو صح ما ذهب إليه لم يعلم بالاستنباط، ولما فهم الأكثر من كتابه تعالى شيئاً، وإن صح الحديث فتأويله أن من تكلم في القرآن بمجرد رأيه ولم يعرج على سوى لفظه وأصاب الحق فقد أخطأ الطريق، وإصابته اتفاق، إذ الغرض أنه مجرد رأي لا شاهد له، ذكره السيوطي. (رواه الترمذي) في أول التفسير (وأبوداود) في العلم، وأخرجه أيضاً النسائي في الكبرى، وابن جرير والبغوي وابن الأنباري وابن عدي والطبراني والبيهقي، كلهم من طريق سهيل بن أبي حزم، تفرد به عن أبي عمران الجوني عن جندب، وقد تكلم في سهيل، أحمد والبخاري والنسائي وغيرهم. وقال الحافظ في التقريب: ضعيف. 238- قوله: (المراء في القرآن كفر) "المراء" المجادلة على مذهب الشك والريبة، واختلفوا في بيان المراد منه ههنا فقيل: أراد الشك في كون القرآن كلام الله. وقيل: أراد المجادلة في الآي المتشابهة المؤدية إلى الجحود، فسماه كفراً باسم ما يخاف عاقتبه. وقيل: أراد الشك في القراءة والاختلاف في اللفظ، بأن يقول الرجل على حرف فيقول الآخر ليس هو هكذا، وكلاهما منزل مقروبهما، فإنكار أحدهما قراءة صاحبه يخرجه إلى الكفر؛ لأنه نفى حرفاً أنزل الله على صاحبه. وقيل: هو الجدال في آيات القدر ونحوه مما نازع فيه أهل الأهواء، لا أبواب الحلال والحرام، فإنه قد جرى بين الصحابة ومن بعدهم لإظهار الحق ليتبع لا للغلبية. وقال الطيبي: هو أن يروم تكذيب القرآن بالقرآن ليدفع بعضه ببعض ويطرق إليه قدحاً وطعناً، فينبغي أن يجتهد في التوفيق بين المتخالفين على وجه يوافق عقيدة السلف، فإن لم يتيسر له فليعتقد أنه من سوء فهمه وليكله إلى الله. قلت: لا مانع من الجمع فيحمل الحديث على جميع هذه المعاني. (رواه أحمد وأبوداود) في السنة، وسكت عنه هو والمنذري، وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه، والحاكم، ورواه الطبراني من حديث زيد بن ثابت، ورجاله موثقون، وعن عبد الله بن عمرو، وفيه موسى بن عبيدة، وهو ضعيف جداً.

239- (42) وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - قوماً يتدارؤن في القرآن، فقال: ((إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض. وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضاً، فلا تكذبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوا، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه)) رواه أحمد، وابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ 239- قوله: (يتدارؤن) أي يتمارون (في القرآن) بأن يدفع كل قول صاحبه بما يقع له من القول. قال الشاه ولي الله: يحرم التدارؤ بالقرآن وهو أن يستدل واحد بآية فيرده بآية أخرى طلباً لإثبات مذهب نفسه وهدم وضع صاحبه، أو ذهاباً إلى نصرة مذهب بعض الأئمة على مذهب بعض، ولا يكون جامع الهمة على ظهور الصواب، والتدارؤ بالسنة مثل ذلك. قال المظهر: مثاله قول أهل السنة: الخير والشر من الله تعالى. لقوله تعالى: {قل كل من عند الله} [78:4] ، ويدفعه القدري بقوله: {ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك} [79:4] ، فنهوا. فالطريق أن يؤخذ ما أجمعوا عليه ويأول الآية الأخرى، كما نقول: انعقد الإجماع على أن الكل بتقدير الله، وأما قوله: {ما أصابك من سيئة} فخارج عن مسئلة القضاء والقدر، فإن معناه: ما أصابك من هزيمة وتلف مال ومرض فهو جزاء ما عملت من الذنوب، كما قال: {وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيدكم ويعفوا عن كثير} [30:42] . (إنما هلك من كان قبلكم بهذا) بسبب التدارؤ، أو بمثل هذا الإختلاف، و"ضربوا" بيان له يعني فيحرم التدارؤ بالقرآن. (ضربوا كتاب الله) أي جنسه (بعضه ببعض) أي دفعوا بعضه ببعض، وردوا ما لا يوافق مرادهم. وقيل: صرفوا بعضه ببعض عن المعنى المراد منه إلى أهوائهم، من ضرب الدابة إذا أراد صرفها. (وإنما نزل كتاب الله) المراد به الجنس. (فلا تكذبوا بعضه ببعض) بل قولوا: كل ما أنزله الله على رسوله حق. أو بأن تنظروا إلى ظاهر لفظين منه مع عدم النظر إلى القواعد التي تصرف أحدهما عن العمل بنسخه أو بتخصيصه أو تقييده أو تأويله، فإن ذلك يؤدى على قدح في الدين. (فما علمتم منه) أي علماً موافقاً للقواعد (فقولوا) به. (وما جهلتم) أي منه كالمتشابهات وغيرها. (فكِلوه) بكسر الكاف أمر من وكل يكل أي ردوه وفوضوه. (إلى عالمه) وهو الله تعالى، أو من هو أعلم منكم من العلماء، ولا تلقوا معناه من تلقاء أنفسكم. (رواه أحمد) (ج2:ص185) من رواية عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. (وابن ماجه) في باب القدر من السنة نحوه من طريق أبي معاوية، عن داود بن أبي هند، عن عمرو بن شعيب، وقد أشار إليه المصنف في الفصل الثاني من باب الإيمان بالقدر بعد ذكر حديث أبي هريرة، وأخرجه أيضاًالبيهقي في شعب الإيمان.

240- (43) وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أنزل القرآن على سبعة أحرف، لكل آية منها ظهر وبطن، ولكل حد مطلع)) ـــــــــــــــــــــــــــــ 240- قوله: (أنزل القرآن على سبعة أحرف) وفي رواية ثلاثة أحرف وفي أخرى عشرة أحرف. وأجيب بأنه أخبر أولاً بالقليل ثم بالكثير. وقوله: "على سبعة أحرف" حال لا صلة "أنزل" أي أنزل القرآن حال كونه مشتملاً على سبعة أحرف، والحرف لغة: طرف كل شيء. وبه سمي حروف الهجاء؛ لأنها أطراف الكلمة. واختلفوا في معنى الحديث على أربعين قولاً، ذكرها السيوطي في الإتقان مع العزو لقائليها، وأكثرها غير مختار، والظاهر عندنا - والله أعلم بمراد كلام نبيه - أن عدد السبعة فيه للتحديد والتعيين، لا للتكثير والتوسعة، والمعنى أن القرآن أنزل على سبعة أوجه، يجوز أن يقرأ بكل وجه منها، وليس المراد أن كل كلمة ولا جملة منه تقرأ على سبعة أوجه، بل المراد أن غاية ما انتهى إليه عدد القراءات المفرقة في القرآن أو في الكلمة الواحدة منه إلى سبعة، وأما ما يوجد من بعض الكلمات يقرأ على أكثر من سبعة أوجه فهو مما لا يثبت الزيادة. وكان اختلاف هذه الأحرف السبع المقصورة على السماع من النبي - صلى الله عليه وسلم - من جهات: منها تغيير اللغة وإبدال اللفظ بمرادفه. ومنها الاختلاف في كيفية الأداء والنطق. ومنها زيادة لفظ ونقصه. ثم إن الأحرف السبع المشهورة التي يقرأها الناس اليوم هي حرف واحد من الأحرف السبع المذكورة في الحديث المباحة للتيسير على الناس في أول الأمر، قد أجمع الصحابة في عهد عثمان على ترك الستة منها لفقدان الحاجة إليها، ولرفع الخلاف الذي وقع في الناس بإنكار بعضهم قراءة بعض، وتكفير كل من الفريقين الآخر، واتفقوا على لغة قريش بعد ما جمعه زيد بن ثابت بأمر عثمان، لما لم يكن في ذلك ترك واجب ولا فعل حرام، وهي التي استقر الأمر عليها في العرضة الأخيرة التي عرضها النبي - صلى الله عليه وسلم - على جبريل، والمصاحف العثمانية مشتملة عليها جامعة لها، فلا يجوز الآن القراءة بخلافها؛ لما أنه لم ينقل إليها بالتواتر، هذا. وههنا أبحاث طويلة مفيدة ارجع لها إلى عارضة الأحوذي وفتح الباري وتفسير الحافظ ابن جرير. (لكل آية منها) أي من تلك الأحرف السبعة، والجملة الاسمية صفة لسبعة والضمير رابطة. (ظهر وبطن) وفي رواية الطبراني: لكل حرف منها ظهر وبطن. قيل: الظهر ما ظهر معناه لأهل العلم من غير روية، والبطن بخلافه. وقيل: الظهر ما يبينه التفسير أي النقل والرواية، والبطن ما يستكشفه التأويل أي الفهم والدراية. وقيل: الظهر القراءة والتلاوة، والبطن التدبر والفهم. وقيل: الظهر الإيمان به والعمل بمقتضاه، والبطن التفاوت في فهمه. وقال الشاه ولي الله: أكثر ما في القرآن بيان صفات الله تعالى وآياته، والأحكام، والقصص، والاحتجاج على الكفار، والموعظة بالجنة والنار، فالظهر الإحاطة بنفس ما سبق الكلام له، والبطن في آيات الصفات التفكر في آلاء الله والمراقبة، وفي آيات الأحكام الاستنباط بالإيماء والإشارة والفحوى والاقتضاء، وفي القصص معرفة مناط الثواب والمدح أو العذاب والذم، وفي العظة رقة القلب وظهور الخوف والرجاء وأمثال ذلك. (ولكل حد مطلع) وفي رواية الطبراني "ولكل حرف

رواه في شرح السنة. 241- (44) وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((العلم ثلاثة: آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة، ـــــــــــــــــــــــــــــ حد، ولكل حد مطلع، فمعنى قوله: "لكل حرف حد" أي نهاية في التلاوة، لا تجوز مخالفتها والتجاوز منها إلى غير المسموع، وكذا نهاية في التفسير فلا يجاوز إلى ما يخالف الكتاب والسنة وما عليه أصحابه - صلى الله عليه وسلم -. وقال العلقمي: أي ينتهي إلى ما أراد الله من معناه، وقيل: لكل حكم مقدار من الثواب والعقاب. وقوله "ولكل حد مطلع" المراد بالحد الأحكام. والمطلع بشدة الطاء وفتح اللام، مكان الاطلاع من موضع عال، يقال: مطلع هذا الجبل من مكان كذا أي مأتاه ومصعده منه. والمعنى أن لكل حد من حدود الله، وهي أحكام الدين التي شرع للعباد موضع اطلاع من القرآن، فمن وفق أن يرتقي ذلك المرتقى اطلع منه على ذلك الحد المتعلق بذلك المطلع. وقيل: أي لكل حد وطرف من الظهر والبطن مطلع، أي مصعد، أي موضع يطلع عليه بالترقي إليه، فمطلع الظهر تعلم العربية وتتبع ما تتوقف عليه معرفة الظاهر من أسباب النزول والناسخ وغير ذلك، ومطلع البطن تزكية النفس والرياضة، ويقرب منه قول الشاه ولي الله: أن مطلع كل حد الاستعداد الذي به يحصل، كمعرفة اللسان والآثار، وكلطف الذهن واستقامة الفهم. (رواه) أي البغوى، مصنف المصابيح (في شرح السنة) ، وأخرجه أيضاً الطبراني في الكبير. والجملة الأولى جاءت من أحد وعشرين صحابياً، ذكر السيوطي في الإتقان أسماءهم، ومن ثم نص أبوعبيد على أنها متواترة، أي لفظاً. وأما تواترها المعنوي فلا خلاف فيه. 241- قوله: (العلم) أي العلم الذي هو أصل علوم الدين، واللام للعهد الذهني. (آية محكمة) أي علمها، فالنكرة عام في الإثبات كقوله: {علمت نفس} [14:81] ، والمضاف مقدر قبلها. وكذا قوله: "أو سنة قائمة"، والمراد بالمحكمة غير المنسوخة، أو ما لا يحتمل إلا تأويلاً واحداً. وهي إشارة إلى كتاب الله، وخص المحكم بالذكر؛ لأن المحكمات هن أم الكتاب وأصله، ومحفوظة من الاحتمال والاشتباه. (أو سنة قائمة) أي ثابتة إسناداً بأن تكون صحيحة، أو حكماً بأن لا تكون منسوخة، و"أو" للتنويع. (أو فريضة عادلة) قيل: المراد بالفريضة ما يجب العمل به، وبالعادلة المساوية لما يؤخذ من القرآن والسنة في وجوب العمل، فهذا إشارة إلى الإجماع والقياس، والظاهر أن المراد بالعادلة أي في القسم، وبالفريضة كل حكم من أحكام الفرائض يحصل به العدل في قسمة التركات بين الورثة، ففيه حث على تعلم الفرائض وتحريض عليه، ويدل صنيع أبي داود في سننه أنه اختار هذا المعنى حيث أورد هذا الحديث في الفرائض، وكذا أشار إليه ابن ماجه فإنه ذكر الحديث في باب اجتناب الرأي والقياس من كتاب السنة، فكأنه قصد بذلك الرد على من حمل قوله:

وما كان سوى ذلك فهو فضل)) رواه أبوداود، وابن ماجه. 242- (45) وعن عوف بن مالك الأشجعي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يقص إلا أمير، أو مأمور، أو مختال)) رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ "فريضة عادلة" على الأحكام المستنبطة بالرأي والقياس، يعنى أراد إبطال الرأي المصطلح عليه بين الفقهاء، وقيل: بل أراد إبطال الرأي بمعنى الحكم بمجرد الهوى. (وما كان سوى ذلك فهو فضل) يعنى كل علم سوى هذه العلوم الثلاثة وما يتعلق بها مما يتوقف هذه الثلاثة عليه ويستخرج منه، فهو زائد لا ضرورة في معرفته. قال الشاه ولي الله: قوله: "العلم ثلاثة ... " الخ. هذا ضبط وتحديد لما يجب عليهم بالكفاية، فيجب معرفة القرآن لفظاً، ومعرفة محكمة بالبحث عن شرح غريبه، وأسباب نزوله، وتوجيه معضله، وناسخه ومنسوخه، فأما المتشابه فحكمه التوقف أو الإرجاع إلى المحكم. والسنة القائمة ما ثبت في العبادات والارتفاقات من الشرائع والسنن مما يشتمل عليه علم الفقه، والقائمة ما لم ينسخ ولم يهجر ولم يشذ راويه وجرى عليه جمهور الصحابة والتابعين، والفرضة العادلة الأنصباء للورثة، ويلحق به أبواب القضاء مما سبيله قطع المنازعة بين المسلمين بالعدل، فهذه الثلاثة يحرم خلو البلد عن عالمها لتوقف الدين عليه، وما سوى ذلك من باب الفضل والزيادة- انتهى باختصار. (رواه أبوداود) وسكت عنه (وابن ماجه) ، وأخرجه أيضاً الحاكم، وفيه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، وقد تكلم فيه غير واحد، وكان البخاري يقوي أمره وقال: مقارب الحديث، ولم يذكره في الضعفاء، وفيه أيضاً عبد الرحمن بن رافع التنوخي، وقد غمزه البخاري وأبوحاتم. 242- قوله: (وعن عوف بن مالك الأشجعي) الغطفاني صحابي مشهور، وشهد فتح مكة، ويقال: كانت معه راية أشجع يوم الفتح، ثم سكن دمشق. له سبعة وستون حديثاً، اتفقا على حديث، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بخمسة. روى عنه جماعة. قال الواقدي: شهد خيبر، ونزل حمص، وبقي إلى خلافة عبد الملك، ومات سنة (73) . (لا يقص) القص التحدث بالقصص والأخبار والمواعظ، أي لا يتكلم بالقصص والمواعظ، وهو نفي أي خبر لا نهي؛ لأنه لو حمل على النهي الصريح لزم أن يكون المختال مأموراً بالاقتصاص. والمعنى: لا يصدر هذا الفعل إلا عن هؤلاء الثلاثة، وقد علم أن الاقتصاص مندوب إليه فيجب تخصيصه بالأمير والمأمور أي المأذون له من الأمير دون المختال، وهذا كما يقال عند رؤية الأمر الخطير: لا يخوض فيه إلا حكيم عارف بكيفية الورود، أو جاهل لا يدري كيف يدخل ويخرج فيهلك، قاله الطيبي. (أو مختال) أي مفتخر متكبر طالب للرئاسة. وفي الحديث الزجر عن الوعظ بغير إذن الإمام؛ لأنه أعرف بمصالح الرعية، فمن رأى فيه حسن العقيدة وصدق الحال يأذن له أن يعظ الناس وإلا فلا. (رواه أبوداود) في العلم وسكت عنه. وقال المنذري: فيه عباد بن عباد الخواص وفيه مقال. قلت: قد وثقه ابن معين والعجلي والفسوي، والحديث أخرجه

243- (46) وراواه الدارمي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وفي روايته ((أو مراء)) بدل ((أو مختال)) . 244- (47) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أفتي بغير علم كان إثمه على من أفتاه، ومن أشارة على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه)) رواه أبوداود. 245- (48) وعن معاوية قال: ((إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الأغلوطات)) رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ أيضاً الطبراني في الكبير، وفي روايته "متكلف" بدل "مختال". 243- قوله: (ورواه الدارمي عن عمرو) الخ، وأخرجه أيضاً أحمد (ج6:ص23) ، وأخرج البيهقي نحوه عن عمرو بن مالك، وعن كعب بن عياض، والطبراني في الكبير عن عبادة بن الصامت بإسناد حسن. (وفي روايته) أي رواية الدارمي (مراء) يعني يرائي الناس بقوله وعمله، لا يكون وعظه وكلامه حقيقة. (بدل أو مختال) بالخاء المعجمة من الاختيال. 244- قوله: (من أفتي) على بناء المفعول، قال القاري: يعني كل جاهل سأل عالماً عن مسئلة فأفتاه العالم بجواب باطل فعمل السائل بها ولم يعلم بطلانها فإثمه على المفتي إن قصر في اجتهاده- انتهى. والحاصل أنه من وقع في خطأ بفتوى عالم فالإثم على ذلك العالم لا على متبعه، وهذا إذا لم يكن الخطأ في محل الاجتهاد، أو كان إلا أنه وقع لعدم بلوغه في الاجتهاد حقه، وفيه زجر عن الإفتاء بغير علم. (ومن أشار على أخيه بأمر) أي أمر أخاه المستشير بأمر (يعلم) المراد بالعلم ما يشمل الظن. (أن الرشد) أي المصلحة (في غيره) أي غير ما أشار إليه. (فقد خانه) أي خان المستشار المستشير. إذ ورد أن المستشار مؤتمن، ومن غشنا فليس منا. (رواه أبوداود) في العلم وسكت عنه هو والمنذري، وأخرجه أيضاً أحمد، والحاكم، وأخرجه ابن ماجه في السنة مقتصراً على الفصل الأول بنحوه. 245- قوله: (نهى عن الأغلوطات) جمع الأغلوطة بضم الهمزة، أي عن سؤال المسائل التي يغالط به العلماء لإشكال فيها، قيل: المراد بها المسائل التي يقع المسئول عنها في الغلط، ويمتحن بها أذهان الناس. وإنما نهى عنها لوجوه منها: أن فيها إيذاء وإذلالاً للمسؤول عنه، وعجباً وبطراً لنفسه، ومنها: أنها تفتح باب التعمق، وإنما الصواب ما كان عند الصحابة والتابعين أن يوقف على ظاهر السنة، وما هو بمنزلة الظاهر من الإيماء والاقتضاء والفحوى، ولا يمعن جداً، وأن لا يقتحم في الاجتهاد حتى يضطر إليه ويقع الحادثة، فإن الله تعالى يفتح عند ذلك العلم عناية منه بالناس، وأما تهيئته من قبل فمظنة الغلط. (رواه أبوداود) في العلم، وسكت عنه، وفي إسناده عبد الله بن سعد البجلي الدمشقي. قال أبوحاتم: مجهول. وقال ابن حبان في ثقاته: يخطئ، وأخرجه أيضاً أحمد.

246- (49) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تعلموا الفرائض والقرآن، وعلموا الناس، فإني مقبوض)) رواه الترمذي. 247- (50) وعن أبي الدرداء قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشخص ببصره إلى السماء ثم قال: ((هذا أوان يختلس فيه العلم من الناس، حتى لا يقدروا منه على شيء)) رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ 246- قوله: (تعلموا الفرائض) قيل: المراد بالفرائض هنا علم الميراث، وعلى هذا بنى الترمذي الكلام في جامعه حيث ذكر هذا الحديث في باب تعليم الفرائض. وقيل: المراد بالفرائض السنن الصادرة منه - صلى الله عليه وسلم -، المشتملة على الأوامر والنواهي الدالة عليها بقرينة ذكر القرآن، فكأنه قال: تعلموا الكتاب والسنة. وقيل: المراد ما فرض الله على عباده. وقيل: أراد جميع ما يجب معرفته. (وعلموا الناس) المذكور. (فإني مقبوض) أي سأقبض وينقطعان. (رواه الترمذي) من طريق عوف، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة. قال الحافظ في الفتح: رواته موثقون، إلا أنه اختلف فيه على عوف الأعرابي اختلافاً كثيراً، فقال الترمذي: إنه مضطرب، والاختلاف عليه أنه جاء عنه من طريق ابن مسعود، وجاء عنه من طريق أبي هريرة، وفي أسانيدها عنه أيضاً اختلاف – انتهى. قلت: أخرجه من حديث ابن مسعود أحمد والترمذي والنسائي والحاكم وصححه. وقد ذكره المصنف في آخر الفصل الثالث، ولفظه عند ابن ماجه، والدارقطني، والحاكم من حديث أبي هريرة: ((تعلموا الفرائض فإنها نصف العلم، وإنه أول ما ينزع من أمتي)) . وفي سنده حفص بن عمر بن أبي العطاف، قال البخاري: منكر الحديث، وضعفه أيضاً ابن معين، والنسائي، وأبوحاتم وابن حبان. 247- قوله: (فشخص) أي رفع (ببصره) أو نظر بعينه. (ثم قال) الخ. كأنه - صلى الله عليه وسلم - لما شخص ببصره إلى السماء وانتظر الوحي فأوحى إليه باقتراب أجله، فقال: ((هذا أوان يختلس فيه العلم)) الخ. فيكون المراد بالعلم الوحي (هذا أوان) أي وقت (يختلس فيه) أي يختطف ويسلب بسرعة، وهي صفة "أوان". (العلم) قيل: هو محمول على آخر الزمان حين ينتزع العلم رأساً بقبض العلماء، وعليه بنى ابن ماجه الكلام حيث ذكر حديث زياد بن لبيد، الذي بمعنى حديث أبي الدرداء في الفتن. (رواه الترمذي) في العلم، وقال: حديث حسن غريب. وأخرجه أيضاً النسائي والحاكم (ج1:ص99، 100) وقال: هذا إسناد صحيح. وأخرجه أحمد (ج6:ص26، 27) والحاكم (ج1:ص99، 100) وصححه من حديث عرف بن مالك الأشجعي، وأحمد (ج4:ص218، 219) وابن ماجه والحاكم (ج1:ص99، 100) من حديث زياد بن لبيد بإسناد فيه انقطاع.

248- (51) وعن أبي هريرة رواية: ((يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم، فلا يجدون أحداً أعلم من عالم المدينة)) رواه الترمذي، وفي جامعه "قال ابن عيينة: إنه مالك بن أنس"، ومثله عن عبد الرزاق، قال إسحاق بن موسى: وسمعت ابن عيينة أنه قال: هو العمري الزاهد، ـــــــــــــــــــــــــــــ 248- قوله: (رواية) بالنصب على التمييز، وهو كناية عن رفع الحديث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإلا لكان موقوفاً، وقد صرح ابن عيينة برفعه فقال: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " في رواية الحميدى، ومسدد، وعبد الرحمن بن بشر عنه عند الحاكم. قال الحاكم: وقد كان ابن عيينة ربما يجعله رواية فذكره بسنده، ثم قال: وليس هذا مما يوهن الحديث، فإن الحميدى هو الحكم في حديثه لمعرفته به وكثرة ملازمته له. (يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل) أي المحاذي لأكبادها، يعنى يرحلون ويسافرون في طلب العلم، قال الطيبي: ضرب أكباد الإبل، كناية عن السير السريع؛ لأن من أراد ذلك يركب الإبل، ويضرب على أكبادها بالرجل. (فلا يجدون أحداً) أي في العالم. (أعلم من عالم المدينة) قيل: هذا في زمان الصحابة والتابعين، وأما بعد ذلك فقد ظهرت العلماء الفحول في كل بلدة من بلاد الإسلام أكثر ما كانوا بالمدينة، فلإضافة للجنس، وهذا مخالف لما ذهب إليه ابن عيينة وعبد الرزاق كما سيأتي. وقيل: هو إخبار عن آخر الزمان حين يأرز العلم والدين إلى المدينة. (رواه الترمذي) في العلم، وقال: حديث حسن صحيح. وأخرجه أيضاً الحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه. وأخرج الطبراني نحوه عن أبي موسى، وفيه عبد الله بن محمد بن عقيل، وفيه مقال. (وفي جامعه) أي وذكر الترمذي تفسيره في جامعه بقوله: قال ابن عيينة) وهو سفيان بن عيينة بن أبي عمران ميمون الهلالي أبومحمد الكوفي ثم المكي. قال الحافظ: ثقة حافظ فقيه إمام حجة إلا أنه تغير حفظه بآخره، أي سنة سبع وتسعين ومائة قبل موته بأشهر، وكان ربما دلس لكن عن الثقات. مات في رجب سنة (198) وله إحدى وتسعون سنة. روى عن الإمام مالك وغيره ممن لا يحصون. وروى عنه الشافعي، وعبد الرزاق وأحمد بن حنبل، وابن معين، وإسحاق بن راهوية، وغيرهم وطوائف كثيرون. (إنه) أي علم المدينة (مالك بن أنس) هو إمام دارالهجرة، صاحب المذهب المشهور، وصاحب الكتاب المؤطا (ومشله) أي مثل قول ابن عيينة في مالك منقول. (عن عبد الرزاق) وهو عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميرى، مولاهم أبوبكر الصنعاني. قال في التقريب: ثقة، حافظ مصنف شهير، عمي في آخره فتغيره، وكان يتشيع، روى عن مالك وابن عيينة والثوري والأوزاعي وخلق. وروى عنه ابن عيينة وأحمد وإسحاق وعلي ويحيى وغيرهم. مات سنة إحدى عشرة ومائتين، وله خمس وثمانون سنة. (قال إسحاق بن موسى) الخطمي أبوموسى الأنصاري المدني، قاضي نيسابور، وشيخ مسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه. قال الحافظ: ثقة متقن. مات سنة (244) . (أنه قال: هو) أي المراد في الحديث (العمري) نسبة إلى عمر بن الخطاب (الزاهد) فاختلف النقل عن ابن عيينة في تعيين عالم المدينة، ويمكن أن يكون له قولان في ذلك، أو الأول حكاية لقول

وإسمه عبد العزيز بن عبد الله. 249- (52) وعنه فيما أعلم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إن الله عزوجل يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)) ـــــــــــــــــــــــــــــ التابعين، فإنه قال: كانوا أي التابعون يرون أنه مالك بن أنس. (وإسمه عبد العزيز بن عبد الله) قال في التقريب: عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي المدني، ثقة من اتباع التابعين، وهو والد عبد الله الزاهد العمري-انتهى. وكان نبيهاً، بارع الجمال، وثقة النسائي، وابن حبان. كذا فسر الترمذي "العمري الزاهد" بعبد العزيز بن عبد الله، وهو خطأ منه، والصواب أن "العمري الزاهد" هو ابنه عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي المدني. قال ابن حبان: كان من أزهد أهل زمانه وأشدهم تخلياً للعبادة. وقال ابن سعد: كان عابداً ناسكاً عالماً. وقال الزبير: كان أزهد أهل زمانه وأعبدهم. والدليل على ما قلنا من أن اسم "العمري الزاهد" عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله كلام الحافظ في تهذيب التهذيب (ج5:ص302، 303) فارجع إليه. وقال في التقريب: عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العمري الزاهد، ثقة، مات سنة (184) وله ست وثمانون. كان ابن عيينة يقول: إنه عالم المدينة – انتهى. هذا، وقد حمل بعضهم الحديث على آخر الزمان فقال: الظاهر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد به الإخبار عن حال آخر الزمان حين يأرز العلم والدين إلى المدينة كما يظهر من بعض الأحاديث. قال الشيخ عبد الحق الدهلوى: وهذا القول أقرب إلى الصواب. قلت: بل حمله على أول الأمر هو الأقرب كما فهمه أكثر علماء الأمة. 249- قوله: (فيما أعلم) بضم الميم مضارعاً. الظاهر أنه قول أبي علقمة الراوى عن أبي هريرة يقول: في علمي أن أباهريرة رفع الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، أي رواه مرفوعاً لا موقوفاً من قوله، وهو وإن لم يجزم برفعه لكن مثل هذا لا يقال من قبل الرأي، ولا مسرح فيه للاجتهاد، إنما هو من شأن النبوة فتعين كونه مرفوعاً. (يبعث) أي يقيض (لهذه الأمة) أي أمة الإجابة، ويحتمل أمة الدعوة. (على رأس كل مائة سنة) أي انتهائه وآخره. قال الطيبي: الرأس مجاز عن آخر السنة، وتسميته رأساً باعتبار أنه مبدأ لسنة أخرى. واختلف في المائة هل تعتبر من المولد النبوي، أو البعثة، أو الهجرة، أو الوفاة؟ قال المناوى: ولو قيل بأقربية الثاني لم يبعد، لكن صنيع السبكي وغيره مصرح بأن المراد الثالث. (من يجدد) مفعول "يبعث" (لها) أي لهذه الأمة (دينها) المراد من تجديد الدين للأمة إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة، والأمر بمقتضاهما، وإماتة البدع والمحدثات، وكسر أهلها باللسان، أو تصنيف الكتب، أو التدريس أو غير ذلك، ولا يعلم ذلك المجدد إلا بغلبة الظن ممن عاصره من العلماء بقرائن أحواله والانتفاع بعلمه، إذ المجدد للدين لا بد أن يكون عالماً بالعلوم الدينية الظاهرة والباطنة، ناصراً للسنة، قامعاً للبدعة، وأن يعم علمه أهل زمانه، وإنما كان التجديد على رأس كل مائة سنة؛ لانخرام العلماء فيه غالباً، واندراس السنن، وظهور البدع، فيحتاج حينئذٍ إلى تجديد

رواه أبوداود. 250- (53) وعن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ـــــــــــــــــــــــــــــ الدين، فيأتي الله من الخلق بعوض من السلف إما واحدا أو متعدداً، كذا في مجالس الأبرار. ولا يلزم أن يكون على رأس كل مائة سنة مجدداً واحداً فقط، بل يمكن أن يكون أكثر من واحد،؛ لأن قوله: "من يجدد" يصلح للواحد وما فوقه. قال الحافظ في الفتح: وهو أي حمل الحديث على أكثر من واحد متجه، فإن اجتماع الصفات المحتاج إلى تجديدها لا ينحصر في نوع من أنواع الخير، ولا يلزم أن جميع خصال الخير كلها في شخص واحد إلا أن يدعى ذلك في عمر بن عبد العزيز، فإنه كان القائم بالأمر على رأس المائة الأولى باتصافه بجميع صفات الخير وتقدمه فيها. وأما من جاء بعده فالشافعي وإن كان متصفاً بالصفات الجميلة إلا أنه لم يكن القائم بأمر الجهاد، والحكم بالعدل، فعلى هذا كل من كان متصفاً بشيء من ذلك عند رأس المائة هو المراد سواء تعدد أم لا – انتهى. وارجع للتفصيل إلى عون المعبود شرح أبي داود. (رواه أبوداود) في أول الملاحم من طريقين متصل ومعضل، وسكت عنه المنذري، وأخرجه أيضاً الحاكم، والبيهقي في المعرفة، وابن عدى في مقدمة الكامل، واتفق الحفاظ على تصحيحه، وممن نص على صحته من المتأخرين الحافظ أبوالفضل العراقي، والحافظ ابن حجر، ومن المتقدمين الحاكم في المستدرك والبيهقي في المدخل. 250—قوله (إبراهيم بن عبد الرحمن العذري) بضم العين وسكون الذال المعجمة، منسوب إلى عذرة بن سعد أبي قبيلة من خزاعة. قال في كنز العمال: هو مختلف في صحبته. قال ابن مندة: ذكر في الصحابة ولا يصح-انتهى. وذكره الحافظ في الإصابة (ج1:ص117) في القسم الرابع من الألف، فقال: إبراهيم بن عبد الرحمن العذري، تابعي، أرسل حديثاً فذكره ابن مندة وغيره في الصحابة. وقال الذهبي في الميزان: تابعى مقل ما علته واهياً، أرسل "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله"، رواه غير واحد عن معان بن رفاعة عنه، ومعان ليس بعمدة، ولاسيما أتى بواحد ليس يدرى من هو- انتهى. وقال الحافظ في لسان الميزان (ج1:ص77) بعد ذكر كلام الذهبي هذا: وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يروي المراسيل، وروى حديثه من طريق حماد بن زيد عن بقية، عن معان عنه. (يحمل) أي يحفظ (هذا العلم) أي علم الكتاب والسنة، يعنى يأخذه ويقوم بإحيائه. (من كل خلف) أي من كل قرن يخلف السلف بفتح اللام، وهو الجماعة الماضية، والخلف كل من يجيء بعد من مضى، إلا أنه بالتحريك في الخير، وبالتسكين في الشر، يقال: خلف صدق وخلف سوء، ومعناهما القرن من الناس، وهو هنا بالفتح، قاله الجزري. (عدوله) بضم العين جمع العدل، أي ثقاته، يعني من كان صاحب الديانة والتقوى. قال الطيبي: و"من" إما تبعيضية مرفوعاً على أنه فاعل "يحمل" و"عدوله" بدل منه، وإما بيانية على طريقة "لقيني منك أسد" جرد من الخلف الصالح، والعدول الثقات وهم هم،

ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)) . رواه البيهقي في كتاب المدخل مرسلاً، وسنذكر حديث جابر ((فإنما شفاء العي ـــــــــــــــــــــــــــــ كقوله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير} [104:3] وعلى التقديرين فيه تفخيم لشأنهم. (ينفون) جملة حالية أو استئنافية. (عنه) أي عن هذا العلم. (تحريف الغالين) أي المبتدعين الذين يتجاوزن في كتاب الله وسنة رسوله عن المعنى المراد فيحرفونه عن جهته، من غلا يغلو ما إذا جاوز الحد. (وانتحال المبطلين) الانتحال ادعاء الشيء لنفسه، كادعاء شعر غيره أو قوله: لنفسه، يعني أن المبطل إذا اتخذ قولاً من علمنا يستدل به على باطله أو اعتزى إليه ما لم يكن منه، نفوا عن هذا العلم قوله، ونزهوه عما ينتحله. (وتأويل الجاهلين) أي معنى القرآن والحديث إلى ما ليس بصواب. والحديث كأنه تفسير لحديث أبي هريرة المتقدم في بعث المجدد. قيل: في قوله: "تحريف الغالين" إشارة إلى التشدد والتعمق، وفي "انتحال المبطلين" إلى الاستحسان وخلط ملة بملة. وفي "تأويل الجاهلين" إلى التهاون وترك المأمور به بتأويل ضعيف. وقال الطيبي في معنى الحديث: أي يحمون الشريعة ومتون الروايات من تحريف غلاة الدين، والأسانيد من القلب والانتحال، والمتشابه من تأويل الزائغين. والنحلة هو التشبه بالباطل-انتهى. وهذا معنى ما ورد من قوله: - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمرالله)) . رواه الشيخان. (رواه) بعده بياض بالأصل، وألحق "البيهقي في كتاب المدخل" كما ترى، وأخرجه أيضاً الحاكم في المستدرك، وابن عدى في الكامل، وأبونصر السجزي في الإبانة، وأبونعيم في الحلية، وابن عساكر في تاريخه كلهم، عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري مرسلاً. قال أبونعيم: وروى عن أسامة بن زيد وأبي هريرة كلها مضطربة غير مستقيمة، وأخرجه ابن عدى، والبيهقي، وابن عساكر عن إبراهيم: ثنا الثقة من أشياخنا. وأخرجه الخطيب وابن عساكر عن أسامة بن زيد، وابن عساكر أيضاً عن أنس. والديلمي عن ابن عمر، والعقيلي في الضعفاء عن أبي أمامة، والبزار والعقيلي أيضاً عن ابن عمر، وأبي هريرة معاً. قال الخطيب: سئل أحمد بن حنبل عن هذا الحديث، وقيل له: إنه كلام موضوع. قال: لا هو صحيح سمعته من غير واحد. كذا في كنز العمال (ج5:ص210) . وقال الحافظ في الإصابة (ج1:ص117، 118) : أورد الحديث أبونعيم ثم قال: هكذا أي مرسلاً رواه الوليد عن معان. ورواه محمد بن سليمان بن أبي كريمة، عن معان، عن أبي عثمان، عن أسامة، ولا يثبت. قلت: ووصل هذا الطريق الخطيب في شرف أصحاب الحديث. وقد أورد ابن عدى هذا الحديث من طرق كثيرة كلها ضعيقة. وقال في بعض المواضع: رواه الثقات عن الوليد، عن معان، عن إبراهيم، قال: حدثنا الثقة من أصحابنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر- انتهى. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج1:ص140) بعد ذكر حديث ابن عمر وأبي هريرة من رواية البزار: فيه عمرو بن خالد القرشي، كذبه يحيى بن معين وأحمد بن حنبل ونسبة إلى الوضع هذا، ومن أحب البسط فليرجع إلى التقييد والإيضاح (ص116) للعراقي، والتدريب (ص110) للسيوطي، وشرح الألفية (ص125) للسخاوي. (وسنذكر حديث جابر: فإنما شفاء العي) بكسر العين وتشديد الياء، أي العجز

السؤال)) في باب التيمم إن شاء الله تعالى. 251- (54) عن الحسن مرسلاً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيى به الإسلام، فبينه وبين النبيين درجة واحدة في الجنة)) رواه الدارمي. 252- (55) وعنه مرسلاً، قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رجلين كانا في بني إسرائيل: أحدهما كان عالماً يصلي المكتوبة، ثم يجلس فيعلم الناس الخير، والآخر يصوم النهار ويقوم الليل، أيهما أفضل؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ـــــــــــــــــــــــــــــ في العلم والجهل (السؤال) أي عن أهل العلم (في باب التيمم) ؛ لأنه أنسب بهذا الباب. 251- قوله: (عن الحسن) هو إذا أطلق في علم الحديث فالمراد البصرى، أي الحسن بن أبي الحسن البصرى، واسم أبيه يسار - بالتحتية والمهملة. الأنصاري مولاهم، وأحد أئمة الهدى. قال الحافظ: ثقة، فقيه، فاضل، مشهور، وكان يرسل كثيراً ويدلس. قال البزار: كان يروي عن جماعة لم يسمع منهم فيتجوز ويقول: حدثنا وخطبنا يعني قومه الذين حدثوا وخطبوا بالبصرة، وهو رأس أهل الطبقة الثالثة يعني أوساط التابعين. مات في رجب سنة (110) وقد قارب التسعين- انتهى. وولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر، ورأى عثمان وعلياً بالمدينة، ولم يسمع منهما حديثاً. وقد أرسل عن كثير من الصحابة. قال ابن المديني: مرسلات الحسن إذا رواها عنه الثقات صحاح، ما أقل ما يسقط منها. وقال محمد بن سعد: كان الحسن جامعاً عالماً رفيعاً فقيهاً ثقة، مأموناً عابداً ناسكاً، كثير العلم، فصيحاً جميلاً وسيماً. ما أرسله فليس بحجة. وقد بسط ترجمته في تهذيب التهذيب (ج2:ص263، 270) . (وهو يطلب العلم) الجملة حال من المفعول في "جاءه" (ليحي به الإسلام) لا لغرض فاسد من المال والجاه. (درجة) وهي درجة النبوة (واحدة) أكد الدرجة بواحدة؛ لأنها تدل على الجنسية وعلى العدد، والذي سبق له الكلام هو العدد، والحاصل أن العلماء المخلصين لم تفتهم إلا درجة الوحي. (رواه الدارمي) وكذا ابن عساكر أي عن الحسن مرسلاً، وأخرجه ابن النجار عنه عن أنس، والطبراني في الأوسط عن ابن عباس، وفيه محمد بن الجعد، وهو متروك. والخطيب عن سعيد بن المسيب، عن ابن عباس، وابن النجار عن أبي الدرداء. 252- قوله: (سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رجلين) عن شأنهما وحكمهما (أحدهما كان عالماً) أي غلب علمه على عبادته. (يصلي المكتوبة) أي يكتفي بالعبادة المفروضة. (الخير) أي العلم والعبادة وأمثال ذلك تدريساً، أو تأليفاً، أو غيرهما. (يصوم النهار) أي دائماً أو غالباً. (ويقوم الليل) كله أو بعضه، وقد تعلم فرض علمه. (أيهما أفضل) أي أكثر

((فضل هذا العالم الذي يصلي المكتوبة ثم يجلس فيعلم الناس الخير على العابد الذي يصوم النهار ويقوم الليل كفضلى على أدناكم)) رواه الدارمي. (56) وعن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نعم الرجل الفقيه في الدين، إن احتيج إليه نفع، وإن استغني عنه أغنى نفسه)) رواه رزين. (57) وعن عكرمة أن ابن عباس قال: حدث الناس كل جمعة مرة، فإن أبيت فمرتين ـــــــــــــــــــــــــــــ ثواباً (فضل هذا العالم الذي) الخ. أطنب في الجواب حيث لم يقل الأول أو العالم، لتعظيم شأنه وتقريره في ذهن السامع. (كفضلي على أدناكم) وسببه أن العلم نفعه متعدٍ، والعبادة نفعها قاصر، والعلم إما فرض عين أو كفاية، والعبادة الزائدة نافلة، وثواب الفرض أكثر من ثواب النفل. (رواه الدارمى) وأخرج الترمذي نحوه عن أبي أمامة، وقد تقدم في الفصل الثاني. 253- قوله: (نعم الرجل الفقيه في الدين) "الفقيه" هو المخصوص بالمدح، والجار متعلق به، أي الذي فقه في الدين وعلم من العلوم الشرعية ما ينتفع به وينفع الناس، وليس المراد من يعلم الفروع فقط كما توهم بعضهم. (إن احتيج) بكسر النون وضمها، شرطية مستأنفة لبيان استحقاق المدح أي إن احتاج الناس (إليه) أي إلى فقهه. (نفع) أي غيره. (وإن استغني) على البناء للمفعول. (أغنى نفسه) . قال الطيبى: قوبل "نفع" بأغنى ليعم الفائدة، أي نفع الناس وأغناهم بما يحتاجون إليه، ونفع نفسه وأغناها بما يحتاج إليه من قيام الليل، وتلاوة كتاب الله، وغيرها من العبادات. وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي في اللمعات: معنى الحديث أن من شأن العلم وما يليق بحاله أن لا يحوج نفسه إلى الخلق طمعاً في صحبتهم واختلاطهم ومنافعهم، ولا ينقطع عنهم مطلقاً بأن لا يفيدهم بالعلم ويحرمهم عنه، بل إن احتاج الناس إليه بأن اضطروا إليه، ولم يكن هناك عالم سواه فيسألوه عن العلم ليفيدهم ويعلمهم، دخل فيهم للإفادة ونفعهم بالعلم لئلا يضلوا، وإن استغني عنه بأن لا يلجئوا ويضطروا إليه، وكان هناك من يكفيهم في التعليم أغنى نفسه ولم يداخلهم ولا يتذلل لهم بل يستغني عنهم، ويشتغل بالعبادة وبالعلم أيضاً بمطالعة الكتاب والسنة والتصنيف ونحوهما. (رواه رزين) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق من طريق عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي، حدثني أبي عن جده عن علي رفعه، وعيسى هذا، قال الدارقطني: إنه متروك. وقال ابن حبان: يروي عن آبائه أشياء موضوعة. ثم ساق له من موضوعاته أحاديث. وقال أبونعيم: روى عن آبائه أحاديث مناكير لا يكتب حديثه، لا شيء. 254- قوله: (حدث الناس) أي بالآية والحديث والوعظ (كل جمعة) أي في كل أسبوع (مرة) أي في يوم من أيامها، وهذا إرشاد، وقد بين حكمته. (فإن أبيت) أي التحديث مرة وأردت الزيادة. (فمرتين) أي فحدث مرتين.

فإن أكثرت فثلاث مرات، ولا تمل الناس هذا القرآن، ولا ألفينك تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم فتقص عليهم فتقطع عليهم حديثهم فتلمهم، ولكن أنصت، فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه، وانظر السجع من الدعاء فاجتنبه، فإني عهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لا يفعلون ذلك)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ (فإن أكثرت) أي أردت الإكثار. (ولا تمل الناس هذا القرآن) من الإملال، والملل السامة بمعنى واحد. قال الطيبي: إشارة إلى تعظيمه، فرتب وصف التعظيم على الحكم للإشعار بالعلية، أي لا تحقر هذا العظيم الشأن الذي جبلت القلوب على محبته وعدم الشبع منه، أي وإذا كان ذلك الإكثار يوجب الملل عما هذه أوصافه فما بالك بغيره من العلوم التي جبلت النفوس على النفرة من مشاقها ومتاعبها. وقد تقدم حديث ابن مسعود: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخولنا بالموعظة كراهة السآمة علينا)) . (ولاألفينك) بضم الهمزة وكسر الفاء، أي لا أجدنك. قال الطيبي: هو من باب لا أرينك، أي لا تكن بحيث ألفينك على هذه، وهي أنك (تأتي القوم) حال من المفعول (وهم في حديث من حديثهم) حال من "القوم" أي والحال أنهم مشغولون عنك. (فتقص) أي قصصاً من وعظ أو علم (فتقطع عليهم حديثهم) أي كلامهم الذي هم فيه، والفعلان معطوفان على "تأتي" وهو الظاهر، وقيل: منصوبان على جواب النهي. (فتملهم) منصوب جواباً للنهي، وقيل: مرفوع (ولكن أنصت، فإذا أمروك) وفي البخاري، "فإن أمروك" أي طلبوا منك التحديث (فحدثهم وهم يشتهونه) حال مقيدة، وفيه كراهة التحديث عند من لا يقبل عليه، والنهي عن قطع حديث غيره، وأنه لا ينبغي نشر العلم عند من لا يحرص عليه، ويحدث من يشتهي بسماعه؛ لأنه أجدر أن ينتفع به. (وانظر السجع من الدعاء فاجتنبه) "السجع" بفتح السين وسكون الجيم موالاة الكلام على روي واحد، وقيل: هو الكلام المقفي من غير مراعاة وزن، ولا يرد عليه ما وقع في الأحاديث الصحيحة من الأدعية؛ لأن المراد في قوله: "انظر السجع" المعهود وهو سجع الكهان والمتشدقين المتكلفين في محاوراتهم، لا الذي يقع في فصيح الكلام بلا كلفة، فإن الفواصل القرآنية واردة على هذا، ويؤيده ما قال - صلى الله عليه وسلم - في قصة المرأة من هذيل: ((أسجع كسجع الكهان؟)) ، والمعنى تأمل السجع المتكلف المانع من الخشوع والضراعة المطلوبة في الدعاء، أو المستكره منه، وهو سجع الكهان فاجتنبه ولا تشغل فكرك به لما ذكر. (فإني عهدت) أي عرفت وعلمت (لا يفعلون ذلك) أي تكلف السجع. (رواه البخاري) في الدعوات، وأخرجه أيضاً البزار في مسنده، والطبراني عن البزار، كذا في الفتح. وفي الباب عن عائشة أخرجه أحمد. قال الهيثمي (ج1:ص191) : رجاله رجال الصحيح. ورواه أبويعلى بنحوه.

255- (58) وعن واثله بن الأسقع قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من طلب العلم فأدركه، كان له كفلان من الأجر، فإن لم يدركه كان له كفل من الأجر)) رواه الدارمي. 256- (59) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علماً علمه ونشره، وولداً صالحاً تركه، أو مصحفاً ورثه، أو مسجداً بناه، أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو نهراً أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته، تلحقه من بعد موته)) رواه ابن ماجه، والبيهقي في ـــــــــــــــــــــــــــــ 255- قوله: (وعن واثلة بن الأسقع) بالقاف بعد السين المهملة، الليثي صحابي مشهور، أسلم قبل تبوك وشهدها، كان من أهل الصفة، فلما قبض النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى الشام، وكان يشهد المغازى بدمشق وحمص، مات سنة (85) وقيل: سنة (83) . وهو ابن مائة وخمس سنين. له ستة وخمسون حديثاً، انفرد له البخاري بحديث، ومسلم بآخر، روى عنه جماعة. (فأدركه) أي حصله. وقيل: "أدركه" أبلغ من "حصله"؛ لأن الإدراك بلوغ أقصى الشيء. (كان له كفلان) أي حظان ونصيبان (من الأجر) أجر مشقة الطلب، وأجر إدراك العلم كالمجتهد المصيب. (كان له كفل من الأجر) أي أجر مشقة الطلب كالمجتهد المخطئ. (رواه الدارمي) وسنده ضعيف جداً، فيه يزيد بن ربيعة الرحبي الدمشقي الصنعاني، قال البخاري: أحاديثه مناكير. وقال النسائي والدارقطني والعقيلي: متروك. وضعفه ابن أبي حاتم وغيره. والحديث أخرجه أيضاً الطبراني في الكبير. ورواته ثقات، قاله الهيثمي والمنذري. وأخرجه أيضاً أبويعلى، والحاكم في الكنى، والبيهقي في السنن، وابن عساكر. 256- قوله: (إن مما يلحق المؤمن) الجار والمجرور خبر "إن" مقدم على الاسم، أي كائن مما يلحقه، واسمها "علماً" وما عطف عليه (من عمله) بيان لما (وحسناته) عطف تفسير (بعد موته) ظرف "يلحق" (علمه) بالتخفيف ويجوز التشديد. (ونشره) هو أعم من التعليم فإنه يشمل التأليف ووقف الكتب. (تركه) أي خلفه بعد موته (أو مصحفاً ورثه) من التوريث، أي تركه للورثة ولو ملكاً. قيل: وفي معناه الكتب الدينية، فيكون له ثواب التسبب، هذا وما بعده من قبيل الصدقة الجارية حقيقة أو حكماً، فهذا الحديث كالتفصيل لحديث "انقطع عمله إلا من ثلاث". و"أو" في هذه الجملة وما بعدها للتفصيل والتنويع. (أو مسجداً بناه) وفي معناه المدارس والمعاهد الدينية (أو نهراً) بفتح الهاء ويسكن (في صحته وحياته) أي أخرجها في زمان كمال حاله، ووفور افتقاره إلى ماله، وتمكنه من الانتفاع به. وفيه ترغيب إلى ذلك ليكون أفضل صدقته، كما يدل عليه جوابه - صلى الله عليه وسلم - لمن قال: ((أي الصدقة أعظم أجراً؟ فقال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح)) . وإلا فكون الصدقة جارية لا يتوقف على ذلك. (رواه ابن ماجه) في السنة بإسناد حسن (والبيهقي في

شعب الإيمان. 257- (60) وعن عائشة أنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الله عزوجل أوحى إلي أنه من سلك مسلكاً في طلب العلم، سهلت له طريق الجنة، ومن سلبت كريمتيه، أثبته عليهما الجنة. وفضل في علم خير من فضل في عبادة. وملاك الدين الورع)) رواه البيهقي في شعب الإيمان. 258- (61) وعن ابن عباس قال: "تدارس العلم ساعة من الليل خير من إحيائها" ـــــــــــــــــــــــــــــ شعب الإيمان) ، وأخرجه أيضاً ابن خزيمة في صحيحه مثله إلا أنه قال: أو نهراً كراه، وقال يعني حفره. ولم يذكر المصحف. 257- قوله: (يقول) حال، والأصل سمعت قوله، فأخر القول وجعل حالاً ليفيد الإبهام والتبيين. (أوحي إلى) أي وحياً خفياً غير متلو. (ومن سلبت) أي أخذت (كريمتيه) أي عينيه الكريمتين عليه، وكل شيء يكرم عليك فهو كريمك وكريمتك. والمعنى أعميته، فالأكمه بطريق الأولى. (أثبته) أي أعطيته من الإثابة (عليهما) أي على الكريمتين يعني جازيته على فقدهما والصبر عليهما. (الجنة) مفعول ثان. (وفضل) أي زيادة (في علم خير من فضل في عبادة) قال الطيبي: يناسب أن يقال التنكير فيه أي في "فضل" الأول للتقليل، وفي الثاني للتكثير. (وملاك الدين) أي أصله وصلاحه. قال الجزري: الملاك بالكسر والفتح، قوام الشيء ونظامه، وما يعتمد عليه فيه، ومنه ملاك الدين. وقال الطيبي: الملاك بالكسر ما به إحكام الشيء وتقويته وإكماله، قال: وكان من حق الظاهر أن يقال: ملاك العلم والعمل، فوضع الدين موضعهما تنبيهاً على أنهما توأمان لا يستقيم مفارقتهما وأنهما لا يكملان بدون الورع. (الورع) بفتحتين، والمراد به التقوى عن المحرمات والشبهات. (رواه البيهقي في شعب الإيمان) صدر الحديث تقدم من حديث أبي هريرة في الفصل الأول، ومن حديث أبي الدرداء في الفصل الثاني. وقوله: "من سلبت كريمتيه أثبته عليهما الجنة"، روي معناه عن جماعة من الصحابة: أنس، وأبي هريرة، وزيد بن أرقم، وعرباض بن سارية. وقوله "فضل في علم" الخ. أخرجه البزار والطبراني في الأوسط، والحاكم عن حذيفة، والطبراني في الكبير عن ابن عباس بنحوه، وفيه سوار بن مصعب، ضعيف جداً. 258- قوله: (تدارس العلم) التدارس أن يقرأ بعض القوم مع بعض شيئاً، أو يعلمهم بعضهم بعضاً، أو يبحثون في مسئلة لتحقيق الحق أو يتذاكرون لتفهم المقصود. (ساعة من الليل) الأبلغ أن يراد بالساعة اللغوية لا العرفية (خير من إحيائها) أي من إحياء الليل بالعبادة. قال الطيبي: شبه الليل بالميت، وأثبت له الإحياء على طريق الإستعارة التخليلية، ثم كنى عنه بصلاة التهجد؛ لأن في قيام الليل كل نفع للقائم فيه، ومن نام فقد فقَدَ نفعاً عظيماً، قال تعالى: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع}

رواه الدارمي. 259- (62) وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بمجلسين في مسجده فقال: ((كلاهما على خير، وأحدهما أفضل من صاحبه، أما هؤلاء فيدعون الله ويرغبون إليه، فإن شاء أعطاهم، وإن شاء منعهم. وأما هؤلاء فيتعلمون الفقه أو العلم ويعلمون الجاهل، فهم أفضل، وإنما بعثت معلماً. ثم جلس فيهم)) رواه الدارمي. 260- (63) وعن أبي الدرداء قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما حد العلم الذي إذا بلغه الرجل ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى قوله: {جزاء بما كانوا يعملون} [32: 16-17] فإذا كان ثواب التهجد ما ذكره في هذه الآية، فما ظنك بثواب التدارس الذى الساعة منه أفضل من إحيائها- انتهى مختصراً. (رواه الدارمي) في باب مذاكرة العلم. 259- قوله: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بمجلسين في مسجده) وفي رواية ابن ماجه: ((خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم من بعض حجره فدخل المسجد، فإذا هو بحلقتين، إحداهما يقرؤن القرآن ويدعون الله، والأخرى يتعلمون ويعملون، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: كل على خير ... )) الخ. (كلاهما) أي كلا المجلسين يعني أهلهما، أو المراد به المبالغة (على خير) أي ثابتان على عمل خير. (أفضل ما صاحبه) أي أكثر ثواباً (أما هؤلاء) قال الطيبي: تقسيم للمجلسين إما باعتبار القوم أو الجماعة بعد التفريق بينهما باعتبار النظر إلى المجلسين في إفراد الضمير. (ويرغبون إليه) أي يرغبون فيما عند الله من الثواب (فإن شاء أعطاهم) أي مطلوبهم فضلاً. (وإن شاء منعهم) أي إياه عدلاً، إذ لا وجوب عليه تعالى، لكن في ترك هذا فيما بعد تنبيه على أن إعطاء أولئك مطلوبهم كالمتحقق، ففيه إشارة إلى بون بعيد بينهما. (وأما هؤلاء) أي وأمثالهم (فيتعلمون) أولاً (الفقه أو العلم) شك من الراوى (ويعلمون الجاهل) ثانياً. (فهم أفضل) لكونهم جامعين بين العبادتين وهو الكمال والتكميل فيستحقون الفضل. (وإنما بعثت معلماً) أي بتعليم الله لا بالتعلم من الخلق، ولذا اكتفى به، وفيه إشعار بأنهم منه وهو منهم، ومن ثم جلس فيهم. (رواه الدارمي) عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي، وقد تقدم الكلام فيهما. وأخرجه أيضاً ابن ماجه في السنة من طريق داود بن الزبرقان، عن بكر بن خنيس، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم. وداود متروك، وكذبه الأزدى. وبكر بن خنيس، قال الدارقطني: متروك وقال أبوحاتم: صالح، ليس بالقوى. وقال الحافظ: صدوق، له أغلاط. وأخرجه أيضاً الطبراني في الكبير كما في الكنز (ج5: ص208) . 260- قوله: (ما حد العلم) المراد بالحد المقدار لا المعنى المصطلح الحادث، ولذا قال (الذي إذا بلغه الرجل

كان فقيهاً؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من حفظ على أمتي أربعين حديثاً في أمر دينها. بعثه الله فقيهاً، وكنت له يوم القيامة شافعاً وشهيداً)) . 261- (64) وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((هل تدرون من أجود جوداً؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: الله أجود جوداً، ثم أنا أجود بني آدم، وأجودهم من بعد رجل علم علماً فنشره، يأتي يوم القيامة أميراً وحده. أو قال: أمة واحدة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ كان فقيهاً) يعني عالماً في الآخرة، ومعدوداً في زمرة العلماء فيها، ومستحقاً لما وعدوا من الثواب. (من حفظ على أمتي أربعين حديثاً) قال المناوى: أي نقلها إليهم بطريق التخريج والإسناد - انتهى. وقال النووي: معنى "حفظها" أن ينقلها إلى المسلمين وإن لم يحفظها ولا عرف معناها. هذا حقيقة معناه، وبه يحصل انتفاع المسلمين لا بحفظها ما لم ينقل إليهم انتهى. (في أمر دينها) صحاحاً أو حساناً. قيل: أو ضعافاً يعمل بها في الفضائل. قال القاري: هو احتراز عن الأحاديث الأخبارية التي لا تعلق لها بالدين اعتقاداً أو علماً أو عملاً، ومن نوع واحد أو أنواع. (بعثه الله فقيهاً) أي في زمرة العلماء (شافعاً) بنوع من أنواع الشفاعات الخاصة. (وشهيداً) أي حاضراً لأحواله، ومزكياً لأعماله، ومثنياً على أقواله. وحاصل الجواب: أن مقدار العلم الذي إذا بلغه الرجل كان معدوداً في زمرة العلماء. هي معرفة أربعين حديثاً ونقلها إلى المسلمين، وبالنظر إلى هذا الحديث صنف العلماء من السلف والخلف في هذا الباب ما لا يحصى من المصنفات، واختلف مقاصدهم في تأليفها وجمعها وترتبيها، وسمى كل واحد منهم كتابة بالأربعين، ذكر في كشف الظنون كتباً كثيرة من الأربعينات مع شروحها، من شاء الوقوف عليها فليرجع إليه. وسيأتي الكلام على الحديث عند ذكر قول الإمام أحمد. 261- قوله: (من أجود) من الجودة أي أحسن (جوداً) أي أكثر كرماً، أو من الجود أي من الذي جوده أجود، على حد "نهاره صائم" والجود قال الراغب: هو بذل المقننيات ما لا كان أو علماً. قيل: "من" الاستفهامية مبتدأ و"أجود" خبره و"جوداً" تمييز. (قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (الله أجود جوداً) هو لمجرد المبالغة فإنه المتفضل بالإيجاد والامداد على جميع البلاد. (ثم أنا أجود بني آدم) الظاهر أنه على الإطلاق، أي أفضلهم وأكرمهم (وأجودهم) أي زمانه (من بعدي) يحتمل البعدية بحسب المرتبة، ويحسب الزمان، والأول أظهر، قاله الطيبي. (رجل علم) بالتخفيف (علماء) أي عظيماً نافعاً في الدين (فنشره) بالتدريس، والتصنيف، والترغيب فيه (أميراً وحده) يعني يجئ يوم القيامة وحده كالأمير الذي معه أتباعه وخدمه في العزة والعظمة. (أو قال أمة واحدة) "أو" للشك من الراوي، والأمة الرجل الجامع للخير، والصنف من الناس، يعني يأتي وحده كالجماعة في العزة والعظمة والشرف، وهو نظير قوله تعالى: {إن إبراهيم كان أمة} [120:16] ، حيث أطلق الأمة على من جمع من صفات الفضل، وسمات الخير، والأخلاق الحميدة ما لا يوجد إلا في

262- (65) وعنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((منهومان لا يشبعان: منهوم في العلم لا يشبع منه، ومنهوم في الدنيا لا يشبع منها)) روى البيهقي الأحاديث الثلاثة في شعب الإيمان، وقال: قال الإمام أحمد في حديث أبي الدرداء: هذا متن مشهور فيما بين الناس، وليس له إسناد صحيح. ـــــــــــــــــــــــــــــ جماعة، ومنه قول الشاعر: 1- ليس من الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد 262- قوله: (منهومان) تثنية منهوم من النهم بفتحتين، الولوع بالشيء وإفراط الشهوة في الطعام، والمنهوم شديد الشهوة، المنكب على الشيء لحيازته، المولع به، يعني حريصان على تحصيل أقصى غايات مطلوبيهما. (لايشبعان) أي لا يقنعان (منهوم في العلم لا يشبع منه) ؛ لأنه في طلب الزيادة دائماً وليس له نهاية (ومنهوم في الدنيا) أي في تحصيل مالها وجاهها (لا يشبع منها) فإنه كالمريض المستسقى. قال بعضهم: ما استكثر أحد من شيء إلا مله، وثقل عليه، إلا العلم والمال فإنه كلما زاد اشتهى. (روى البيهقي الأحاديث الثلاثة في شعب الإيمان) أما حديث أبي الدرداء فأخرجه أيضاً الشيرازى في الألقاب، وابن حبان في الضعفاء، وأبوبكر في الغيلانيات، والسلفي، وابن النجار. وقد روي هذا الحديث عن جماعة من الصحابة: معاذ بن جبل، وابن عباس، وأبي هريرة، وأنس، وأبي سعيد، وعلي، وأبي مسعود، وأبي أمامة، وابن مسعود، وابن عمر، وجابر بن سمرة بروايات متنوعة، ذكر أحاديثهم علي المتقى في كنز العمال (ج5:ص221) ، وأما حديث أنس: ((هل تدرون من أجود جوداً؟)) فأخرجه أيضاً أبويعلى، وفيه سويد بن عبد العزيز، وهو متروك الحديث. وأخرجه أيضاً ابن حبان بنحوه، وقال: منكر باطل. وأما حديثه الثاني: ((منهومان لا يشببعان)) . فأخرجه أيضاً الحاكم في المستدرك، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ولم أجد له علة. وأقره الذهبي، وأخرج أبوخيثمة في العلم، والطبراني في الأوسط والكبير، والبزار عن ابن عباس بنحوه، وفيه ليث بن سليم، وهو ضعيف. (وقال) أي البيهقي (قال الإمام أحمد في حديث أبي الدرداء) وهو "من حفظ على أمتي" يعني في شأنه. (فيما بين الناس) أي المحدثين وغيرهم (وليس له إسناد صحيح) ، وقال النووي: اتفق الحفاظ على أنه حديث ضعيف وإن كثرت طرقه. وقال الحافظ في التلخيص (ص269) : حديث "من حفظ على أمتي أربعين حديثاً" روي عن ثلاثة عشر من الصحابة، أخرجها ابن الجوزي في العلل المتناهية، وبين ضعفها كلها، وأفرد المنذري الكلام عليه في جزء مفرد، وقد لخصت القول فيه في المجلس السادس عشر من الإملاء، ثم جمعت طرقه في جزء ليس فيها طريق تسلم من علة قادحة- انتهى. قال بعضهم: الحكم عليه بالضعف إنما هو بالنظر لكل طريق على حدته، وأما بالنظر إلى مجموع طرقه فحسن لغيره، فيرتقي عن درجة الضعف إلى درجة الحسن، وأيضاً قد اتفقوا على جواز العمل بالضعيف في فضائل الأعمال، فتأمل.

263- (66) وعن عون قال: قال عبد الله بن مسعود: "منهومان لا يشبعان: صاحب العلم، وصاحب الدنيا، ولا يستويان، أما صاحب العلم فيزداد رضى للرحمن، وأما صاحب الدنيا فيتمادى في الطغيان. ثم قرأ عبد الله {كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى} قال: وقال: الآخر {إنما يخشى الله من عباده العلماء} رواه الدارمي. 264- (67) وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أناسا من أمتي سيتفقهون في الدين ويقرءون القرآن، يقولون: نأتي الأمراء فنصيب من دنياهم ونعتزلهم بديننا. ولا يكون ذلك، كما لا يجتنى من القتاد إلا الشواك، ـــــــــــــــــــــــــــــ 263- قوله: (وعن عون) هو ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي أبوعبد الله الكوفي، الزاهد من ثقات التابعين، كان من عباد أهل الكوفة وقرائهم. وذكر الدارقطني أن روايته عن ابن مسعود مرسلة، ذكره البخاري فيمن مات بين عشر ومائة إلى عشرين. (ولايستويان) أي في المآل والعاقبة (وأما صاحب الدنيا فيتمادى في الطغيان) أي يستمر فيه. وقيل: يزداد ويتوسع. (ثم قرأ عبد الله) استشهاداً لذم الثاني (ليطغى أن رآه) لأجل أن رآى نفسه (استغنى) عن الناس لكثرة ما عنده من المال. (قال) أي عون (وقال) أي ابن مسعود بعد قراءته ما سبق وهو قوله: {إن الإنسان ليطغى} (الآخر) بالرفع أي الاستشهاد الآخر، وقيل: بالنصب، أي ذكر الاستشهاد الآخر {إنما يخشى الله من عباده العلماء} تقدم معناه، وحاصل الاستشهاد بالآيتين أن الأول موجب لزيادة الطغيان المقتضي ترك الطاعة والعبادة، والثاني سبب لزيادة الخشية المورثة للعمل، فشتان ما بينهما، قإن طالب الدنيا يزداد بعداً من الله لسوء أدبه وجرأته على الله تعالى، وصاحب العلم يزداد قرباً لخشيته ومراعاته أدب الحضرة القدسية. (رواه الدارمي) أي موقوفاً على ابن مسعود من قوله، وقد تقدم أن رواية عون عن ابن مسعود مرسلة فهو منقطع موقوف، وأخرجه الطبراني في الكبير عنه مرفوعاً، وفيه أبوبكر الداهري، وهو ضعيف. 264- قوله: (إن أناسا) أي جماعة (سيتفقهون في الدين) أي سيدعون الفقه في الدين، كذا قاله الطيبي. أو يطلبون الفقه ويحصلونه. (ويقرؤن القرآن) أي بالقراءات أو بتفسير الآيات، ويأتون الأمراء لا لحاجة ضرورية بل لإظهار الفضيلة والطمع لما في أيديهم من المال والجاه. (يقولون) أي لدفع الاعتراض (فنصيب) أي نأخذ (ونعتزلهم) أي نبعد عنهم (بديننا) بأن لا نشاركهم في إثم يرتكبونه. (ولا يكون ذلك) أي قال - صلى الله عليه وسلم -: لا يتحقق ذلك. وهو الإصابة من الدنيا والإعتزال عن الناس بالدين أي حصول الدنيا لهم وسلامة دينهم مع مخالطتهم إياهم؛ لأن المتقرب إليهم لا يأمن المداهنة، وطلب مرضاتهم، وتحسين حالهم القبيح. (كما لا يجتنى) على بناء المفعول، أي لا يؤخذ من "جنى الثمرة

كذلك لا يجتنى من قربهم إلا. قال محمد بن الصباح كأنه يعنى الخطايا)) رواه ابن ماجه. 265- (68) وعن عبد الله بن مسعود قال: "لو أن أهل العلم صانوا العلم ووضعوه عند أهله، لسادوا به أهل زمانهم، ولكنهم بذلوه لأهل الدنيا ـــــــــــــــــــــــــــــ واجتناه"، و"القتاد" شجر ذو شوك لا يكون له ثمر سوى الشوك، ينبت بنجد وتهامة، وفي المثل "دون ذلك خرط القتادة"، فنبه بهذا التمثيل على أن قرب الأمراء لا يفيد سوى المضرة الدينية أصلاً، وهذا إما مبني على أن ما قدر له من الدنيا فهو آت لا محالة سواء أتى باب الأمراء أم لا، فحينئذٍ ما بقى في إتيان أبوابهم فائدة إلا المضرة المحضة، أو على أن النفع الدنيوى الحاصل بصحبتهم بالنظر إلى الضرر الديني كلا شيء، فما بقي إلا الضرر. (كذلك لا يجتنى) أي لا يحصل (من قربهم إلا) وقع كلامه - صلى الله عليه وسلم - بلا ذكر المستثنى لكمال ظهوره. (قال محمد بن الصباح) شيخ ابن ماجه صاحب السنن في رواية هذا الحديث (كأنه) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (يعني) أي يريد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمستثنى المقدر بعد "إلا" (الخطايا) وهي مضرة الدارين. ومحمد بن الصباح هذا، هو ابن سفيان بن أبي سفيان الجرجرائي أبوجعفر التاجر، شيخ أبي داود، وابن ماجه. قال الحافظ: صدوق. وقال أبوحاتم: صالح الحديث. مات سنة (240) ، وليس هو محمد بن الصباح الدولابي أبا جعفر الحافظ البغدادي البزار صاحب السنن، وشيخ البخاري ومسلم وأبي داود. (رواه ابن ماجه) في السنة. قال: حدثنا محمد بن الصباح: أنبانا الوليد بن مسلم، عن يحيى بن عبد الرحمن الكندى، عن عبيد الله بن أبي بردة، عن ابن عباس. قال في الزوائد: إسناده ضعيف، وعبيد الله بن أبي بردة، لا يعرف- انتهى. قلت: عبيد الله هذا هو ابن المغيرة بن أبي بردة الكناني، وقد ينسب إلى جده كما وقع في سند ابن ماجه. قال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج7:ص49) : التي في عدة نسخ من سنن ابن ماجه في الوجه الذي أخرجه منه ابن ماجه، عبيد الله بن أبي بردة، وقد رواه الطبراني من الوجه الذي أخرجه منه ابن ماجه فقال: عن عبيد الله بن المغيرة بن أبي بردة، به أخرجه الضياء في المختارة. ومقتضاه أن يكون عبيد الله عنده ثقة-انتهى. وقال في التقريب: إنه مقبول. وقال المنذري في الترغيب بعد ذكر هذا الحديث: رواته ثقات- انتهى. والحديث أخرجه أيضاً ابن عساكر بنحوه كما في الكنز (ج5:ص213) . 265- قوله: (لو أن أهل العلم) أي الشرعى (صانوا العلم) أي حفظوه من المهانة بحفظ أنفسهم عن المذلة، ومصاحبة أهل الدنيا طمعاً لما لهم من المال والجاه. (ووضعوه عند أهله) أي أهل العلم الذين يعرفون قدر العلم. (لسادو به) أي فاقوا بالسيادة بسبب الصيانة والوضع عند أهله. (أهل زمانهم) وذلك لأن العلم رفيع القدر، يرفع قدر من يرفعه، ويصونه عن الابتذال في غير المحال. قال الزهري: العلم ذكر لا يحبه إلا ذكور الرجال، أي الذين يحبون معالي الأمور، ويتنزهون عن سفاسفها. (ولكنهم بذلوه لأهل الدنيا) بأن خصوهم به، أو ترددوا إليهم به

لينالوا به من دنياهم، فهانوا عليهم سمعت نبيكم - صلى الله عليه وسلم - يقول: من جعل الهموم هماً واحداً هو آخرته، كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم أحوال الدنيا، ولم يبال الله في أي أوديتها هلك)) رواه ابن ماجه. 266- (69) ورواه البيهقي في شعب الإيمان، عن ابن عمر من قوله: "من جعل الهموم" إلى آخره. 267- (70) وعن الأعمش، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((آفة العلم النسيان، وإضاعته أن تحدث به غير أهله)) رواه الدارمي مرسلاً. ـــــــــــــــــــــــــــــ (لينالوا به دنياهم) لا لأجل الدين بالنصيحة والشفاعة وغيرهما. (فهانوا) أي أهل العلم ذلوا قدراً، فإنهم أهانوا رفيعا فأهانهم الله. (عليهم) أي ذلوا مستثقلين على أهل الدنيا. (نبيكم) هذا الخطاب توبيخ للمخاطبين، حيث خالفوا أمر نبيهم. فخولف بين العبارتين افتناناً. (من جعل الهموم هماً واحداً) أي من جعل همه واحداً موضع الهموم التي للناس، أو من كان له هموم متعددة فتركها، وجعل موضعها الهم الواحد. (هم آخرته) بدل من هما، وهو هم الدين. (كفاه الله هم دنياه) المشتمل على الهموم، يعني كفاه هم دنيا أيضاً. (ومن تشعبت به الهموم) أي تفرق فيه الهموم، أو فرقته الهموم، والباء على الأول بمعنى في، وعلى الثاني للتعدية، وإن جعلت للمصاحبة - أي مصحوبة معه- كان صحيحاً. (أحوال الدنيا) بدل من الهموم قلت قوله: "أحوال الدنيا" كذا وقع في جميع نسخ المشكاة، والذي عند ابن ماجه "في أحوال الدنيا". (لم يبال الله) كناية عن عدم الكفاية والعون، مثل ما يحصل للأول. (في أي أوديتها) أي أودية الدنيا، أو أودية الهموم. (هلك) يعني لا يكفي هم دنيا ولا هم أخراه. (رواه ابن ماجه) في السنة عن ابن مسعود الحديث بتمامه، وأخرجه أيضاً ابن عساكر كما في الكنز (ج5:ص243) . قال في الزوائد إسناد الحديث ضعيف، فيه نهشل بن سعيد، قيل: إنه يروي المناكير، وقيل بل الموضوعات، وله شاهد من حديث ابن عمر، صححه الحاكم، انتهى. 266- قوله: (ورواه البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر من قوله) أي مبتدأ من قوله: (من جعل الهموم) يعني ورى المرفوع لا الموقوف. وأخرجه الحاكم أيضاً (ج4:ص328، 329) وقال: حديث صحيح الإسناد، وتعقبه الذهبي فقال: أبوعقيل يحيى بن المتوكل ضعفوه. 267- قوله: (آفة العلم النسيان) أي بعد حصوله، فيه تنبيه على الاجتناب عن مباشرة الأسباب التي توجب النسيان، من اقتراف الذنوب، وارتكاب الخطايا، وتشعب الهموم، ومشاغل النفس والدنيا، والإعراض عن استحضاره. (وإضاعته أن تحدث به غير أهله) بأن لا يفهمه، أو لايعمل به من أرباب الدنيا. (رواه الدارمي مرسلاً) أي معضلاً. وكذا أخرجه عنه ابن أبي شبية، أي مرفوعاً معضلاً، وأخرج صدره فقط عن ابن مسعود موقوفاً، قال

268- (71) وعن سفيان أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال لكعب: "من أرباب العلم"؟ قال: "الذين يعملون بما يعلمون"، قال: "فما أخرج العلم من قلوب العلماء"؟ قال: "الطمع"، رواه الدارمي. ـــــــــــــــــــــــــــــ السيد: المراد بالإرسال المعنى اللغوى الذي هو الانقطاع؛ لأن الأعمش لم يسمع من أحد من الصحابة. 268- قوله: (عن سفيان) هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي، أبوعبد الله من كبار أتباع التابعين، وإمام المسلمين، وحجة الله على خلقه، جمع في زمنه بين الفقه والاجتهاد فيه، والحديث، والزهد، والعبادة، والورع، والثقة، وإليه المنتهى في علم الحديث وغيره من العلوم. أجمع الناس على دينه، وزهده، وورعه، وثقته، وهو أحد الأئمة المجتهدين، وأحد أقطاب الاسلام وأركان الدين. سمع خلقاً كثيراً، وروى عنه الأوزاعي، ومالك، وابن جريج، وخلق كثير سواهم، حتى قيل: روى عنه عشرون ألفاً، يبلغ حديثه ثلثين ألفاً. وقال في التقريب: إنه ثقة، حافظ، فقيه؟ عابد، إمام، حجة. ولد سنة (97) ، ومات بالبصرة سنة (161) وله أربع وستون. (قال لكعب) هو كعب بن ماتع الحميرى، أو إسحاق المعروف بكعب الأحبار، جمع الحبر-بكسر الحاءوفتحها - بمعنى العالم والصالح، ويضاف إليه إما لكثرة كتابته، أو معناه ملجأ العلماء. وقال الطيبي: الإضافة كما في زيد الخيل. وهو من آل ذي رعين، وقيل: من ذى الكلاع. أدرك الجاهلية، ولم يره - صلى الله عليه وسلم - وأسلم في زمن عمر، وكان من أهل الكتاب. قال الحافظ: ثقة، من كبار التابعين، مخضرم، كان من أهل اليمن فسكن الشام، ومات في حمص، في خلافة عثمان سنة (32) ، وقد بلغ مائة وأربع سنين. وخص عمر كعباً بذلك السؤال؛ لأنه كان ممن علم التوراة وغيرها، وأحاط بالعلم الأول. (من أرباب العلم) أي من هم أصحابه عندكم أو في كتابكم؟ قال الطيبي: أي من ملك العلم ورسخ فيه، واستحق أن يسمى بهذا الاسم. (الذين يعملون بما يعلمون) قال الطيبى: وهم الذين سماهم الله الحكماء في قوله: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً} [269:2] ؛ لأن الحكيم من علم دقائق الأشياء وأتقنها برصانة العلم، فعلم منه أن العالم ما لم يعمل لم يكن من أرباب العلم، بل كان كمثل الحمار يحمل أسفاراً. (فما أخرج العلم) أي نوره وهيبته وبركته، (من قلوب العلماء) أي العاملين، لما تقدم أن غير العاملين ليسوا بعلماء. (قال: الطمع) أي في الدنيا؛ لأنه يؤدي إلى الرياء والسمعة، والعلم والعمل بدون الإخلاص لا يوصلان السالك إلى مقام الاختصاص، فمفهومه أن الورع يدخل العلم في قلوب العلماء. وقال الطيبي: الفاء أي في قوله: فما أخرج، جزاء شرط محذوف، والتعريف في العلم للعهد الخارجي، وهو ما يعلم من قوله: "أرباب العلم" أي إذا كان أرباب العلم من جمع بين العلم والعمل، فلم ترك العالم العمل، وما الذي دعاه إلى ترك العمل لينعزل عن هذا الاسم؟ قال: الطمع في الدنيا والرغبة فيها. (رواه الدارمي) أي موقوفاً من قول كعب، وهو معضل أيضاً فإن سفيان الثوري بينه وبين عمر مفاوز.

269- (72) وعن الأحوص بن حكيم، عن أبيه، قال: ((سأل رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الشر. فقال: لا تسألوني عن الشر، وسلوني عن الخير، يقولها ثلاثاً، ثم قال: ألا إن شر الشر شرار العلماء، وإن خير الخير خيار العلماء)) . رواه الدارمي. 270- (73) وعن أبي الدرداء قال: "إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة عالم لا ينتفع بعلمه". رواه الدارمي. ـــــــــــــــــــــــــــــ 269- قوله: (عن الأحوص بن حكيم) بن عمير العنسى الحمصى، رأى أنساً وعبد الله بن بسر، ضعيف الحفظ، من صغار التابعين، قاله الحافظ وضعفه أيضاً النسائى، وابن معين، وابن المديني، (عن أبيه) حكيم بن عمير بن الأحوص، قال أبوحاتم: لا بأس به. وقال الحافظ: صدوق يهم، من الثالثة، أي من أوساط التابعين (عن الشر) أي فقط يعني عن أشر الناس، كما يدل عليه الجواب. (لا تسألوني) بتخفيف النون، فإن لا ناهية. (عن الشر) أي فحسب، قال ابن حجر: لأنى رؤف رحيم، نبي الرحمة. فالمراد النهي عن لازم ذلك من إيهام غلبة مظاهر الجلال فيه على مظاهر الجمال، وإلا فالسؤال عن الشر ليجتنب واجب كفاية أو عيناً، فكيف ينهى عنه. (وسلوني عن الخير) إما منفرداً أو منضماً بالسؤال عن الشر. (يقولها ثلاثاً) قال الطيبي: حال من فاعل قال، والضمير المؤنث راجع إلى الجملة، أعني لا تسألوني الخ، أو إلى الجملة القريبة. (ألا) بالتخفيف للتنبيه. (إن شر الشر) أي أعظمه (شرار العلماء) الخ. المراد بشرار العلماء من لا يعملون بعلمهم ولا ينتفع به غيرهم، كما يدل عليه أثر ابي الدرداء. قال الطيبي: وإنما كانوا شر الشر وخير الخير؛ لأنهم سبب لصلاح العالم وفساده، وإليهم تنتمى أمور الدين والدنيا، وبهم الحل والعقد. (رواه الدارمي) أي مرسلاً من طريق بقية عن الأحوص عن أبيه، وبقية مدلس، رواه عن الأحوص بالعنعنة، والأحوص ضعيف كما تقدم. وأخرج البزار وأبونعيم في الحلبة نحوه عن معاذ بن جبل، وفيه الخليل بن مرة وهو ضعيف. 270- قوله: (إن من أشر الناس) قال الطيبي: من زائدة وعالم خبر إن، وقيل: من تبعيضية، والتقدير: إن بعض أشرارهم. (لا ينتفع) بصيغة المعلوم، أي هو (بعلمه) بأن تعلم علماً شرعياً وما عمل به، فإنه شر من الجاهل، وعذابه أشد من عقابه، روى الطبراني وابن عساكر والبيهقي عن أبي هريرة: "أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه"، وقيل بصيغة المجهول، أي لا ينتفع الناس بعامه لأجل كتمه عنهم، وعدم نشره بالتعليم والتدريس، أو التصنيف، أو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويؤيد هذا الاحتمال حديث أبي هريرة الاتى"مثل علم لا ينتفع به" الخ. (رواه الدارمي) أي موقوفاً، قال الالباني: وإسناده ضعيف. رجاله ثقات غير ابن القاسم بن قيس فلم أعرفه، ورواه الطبراني في الصغير وابن عبد البر في الجامع عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه وسنده ضعيف جداً.

271- (74) وعن زياد بن حدير قال: قال لي عمر: "هل تعرف ما يهدم الاسلام؟ قال: قلت: لا؛ قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين". رواه الدارمي. 272- (75) وعن الحسن، قال: "العلم علمان، فعلم في القلب فذاك العلم النافع، وعلم على اللسان، فذاك حجة الله عزوجل على ابن آدم". رواه الدارمي. ـــــــــــــــــــــــــــــ 271- قوله: (عن زياد بن حدير) بضم الحاء وفتح الدال المهملتين، بعدها تحتية ساكنة، بعدها راء، أبومغيرة الأسدى، روى عن عمر، وعلي، وابن مسعود، والعلاء الحضرمي، قال في التقريب: ثقة، عابد من كبار التابعين وثقة أبوحاتم، والدارقطني، وابن حبان. (مايهدم الإسلام) أي يزيل عزته. (زلة العالم) أي عثرته بتقصير منه (وجدال المنافق) الذي يظهر السنة ويبطن البدعة. (بالكتاب) أي القرآن، وإنما خص لأن الجدال به أقبح يؤدى إلى الكفر، وذلك لإفساده الدين. (وحكم الأئمة المضلين) أي على وفق أهوائهم وإكراههم الناس عليه، فالعلماء الزائغون عن الحق، والمنافقون المجادلون المبتدعون، وأمراء الجور هم الذين يضعفون أركان الإسلام ويعطلونها بأعمالهم. قال الطيبي: المراد بهدم الإسلام تعطيل أركانه الخمسة في قوله: - عليه السلام -: "بنى الإسلام على خمس" الحديث. وتعطيله إنما يحصل من زلة العالم، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بإتباع الهوى، ومن جدال المبتدعة وغلوهم في إقامة البدع بالتمسك بتأويلاتهم الزائغة، ومن ظهور ظلم الأئمة المضلين، وإنما قدمت زلة العالم؛ لأنها هي السبب في الخصلتين الأخيرتين، كما جاء "زلة العالِم زلة العالَم". (رواه الدارمي) أي موقوفاً، وأخرجه أيضاً ابن المبارك، وجعفر الفريابي في صفة المنافق، ونصر المقدسي في الحجة، وابن النجار وآدم بن أبي إياس وابن عبد البر في العلم، وروي في "الخوف على الأمة من زلة العالم وجدال المنافق" وغير ذلك أحاديث عن جماعة من الصحابة، ذكرها الهيثمى في مجمع الزوائد (ج1:ص186، 187) مع الكلام عليها، وعلي المتقى في كنزل العمال (ج5:ص212، 232، 233) . 272- قوله: (العلم) أي الشرعي (علمان) أي نوعان. (فعلم) الفاء تفصيلية أي فنوع منه. (في القلب) المراد بعلم في القلب. ما ظهر أثره ونوره في القلب بأن يعمل به ويجري على مقتضاه، ويظهر السنة ويبطل البدعة. (فذاك العلم النافع) المذكور المطلوب في الأدعية المأثورة. (وعلم على اللسان) أي ونوع آخر من العلم جارٍ على اللسان، ظاهر عليه فقط، لم يظهر أثره ونوره في القلب، ولا أورث العمل، (فذاك حجة الله عزوجل على ابن آدم) فيقول له يوم القيامة: ماذا عملت فيما تعلمت؟ وهو الذي استعاذ منه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((أعوذبك من علم لا ينفع)) . (رواه الدارمي) أي موقوفاً، وأخرجه الخطيب في تاريخه، عن الحسن، عن جابر مرفوعاً بإسناد حسن، وأبونعيم في الحلية، والديلمي في مسند الفردوس عن أنس مرفوعاً، وأخرجه ابن أبي شيبة، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وابن عبد البر في كتاب

273- (76) وعن أبي هريرة، قال: ((حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعائين، فأما أحدهما فبثثته فيكم، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم - يعني مجرى الطعام)) رواه البخارى. 274- (77) وعن عبد الله قال: "يا أيهاالناس من علم شيئاً فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، ـــــــــــــــــــــــــــــ العلم عن الحسن مرسلاً بإسناد صحيح، وأخرجه البيهقي عن الفضيل بن عياض من قوله: غير مرفوع. 273- قوله: (وعائين) بكسر الواو والمد، تثنية وعاء أي ظرفين، أطلق المحل وأراد الحال، أي نوعين من العلم، ومراده أن محفوظه من الحديث لو كتب لملأ وعائين. (فأما أحدهما) أي أحد ما في الوعائين من نوعي العلم (فبثثته) أي أظهرته ونشرته (فيكم) ليس هذا اللفظ في البخاري، قال الحافظ: زاد الإسماعيلي وقال القسطلاني: زاد الأصلي "في الناس"، (قطع هذا البلعوم) بضم الباء، كنى بذلك عن القتل، وفي وراية الإسماعيلي "لقطع هذا" يعني رأسه. (يعني مجرى الطعام) أي في الحلق، وهو المري، وأراد بالوعاء الذي لم يبثه، ما كتمه من أخبار الفتن والملاحم، وتغير الأحوال في آخر الزمان، وما أخبر به الرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من فساد الدين على يدي أغيلمة من سفهاء قريش، وقد كان أبوهريرة يقول: لوشئت أن أسميهم بأسمائهم، أو المراد الأحاديث التي فيها تبيين أسماء أمراء الجور، وأحوالهم، وزمنهم، وقد كان أبوهريرة يكني عن بعض ذلك ولا يصرح خوفاً على نفسه منهم، كقوله أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان، يشير إلى خلافة يزيد بن معاوية؛ لأنها كانت سنة ستين من الهجرة، واستجاب الله دعاء أبي هريرة فمات قبلها بسنة. قال ابن المنير: جعل الباطنية هذا الحديث ذريعة إلى تصحيح باطلهم، حيث اعتقدوا أن للشريعة ظاهراً وباطناً، وذلك الباطل إنما حاصله الانحلال من الدين، قال: وإنما أراد أبوهريرة بقوله: "قطع" أي قطع أهل الجور رأسه إذا سمعوا عيبه بفعلهم وتضليله لسعيهم. ويؤيد ذلك أن الأحاديث المكتومة لو كانت من الأحكام الشرعية ما وسعه كتمانها؛ لما ذكر هو من الآية الدالة على ذم من كتم العلم. وقال غيره قد نفى أبوهريرة بثه على العموم من غير تخصيص، فكيف يستدل به لذلك؟ وأبوهريرة لم يكشف مستوره فيما نعلم، فمن أين علم الذي كتمه؟ فمن ادعى ذلك فعليه البيان. (رواه البخاري) في العلم، قال القسطلاني: زاد في رواية ابن عساكر، والأصيلي، وأبي الوقت، وأبي ذر، والمستملى قال أبوعبد الله: يعني البخاري "البلعوم" مجرى الطعام، وعلىهذا لا يخفى ما في المشكاة، إذ يفهم منه أن قوله: يعني "مجرى الطعام" من أحد رواة الحديث، ولا يفهم منه أنه للبخاري. 274- قوله: (وعن عبد الله) إذا أطلق فهو ابن مسعود. (قال يا أيهاالناس) الخ تعريضاً بالرجل القائل: "يحئ دخان يوم القيامة" وإنكاراً عليه، يعني لا تتكلفوا فيما لا تعلمون. (من علم شيئاً) من علوم الدين فسأله عنه من هو متأهل لفهم جوابه. (فليقل به) أي بذلك الشيء المعلوم. (ومن لم يعلم فليقل) أي في الجواب (الله أعلم) أي أكثر علماً. وقال ابن

فإن من العلم أن تقول لما لا تعلم: الله أعلم. قال الله تعالى لنبيه: {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين} متفق عليه. 275- (78) وعن ابن سيرين قال: "إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم" رواه مسلم. 276- (79) وعن حذيفة، قال: يا معشر القراء ـــــــــــــــــــــــــــــ حجر: "أعلم" بمعنى عالم لاستحالة المشاركة، قال القاري: المشاركة الاستقلالية هي المستحيلة. (فإن من العلم) أي من آدابه الواجب رعابتها على من نسب للعلم، أوالتقدير "فإن من جملة العلم"، وهو خبر إن واسمه قوله: "أن تقول" الخ قاله القاري، والثاني هو الظاهر، والمعنى أن تمييز المعلوم من المجهول نوع من العلم، وهذا مناسب لما اشتهر من أن "لا أدرى" نصف العلم، ولأن القول فيما لا يعمل قسم من التكلف. (أن تقول لما لا تعلم) أي لأجله أو عنه (قال الله تعالى لنبيه) وهو أعلم الخلق {قل ما أسألكم عليه} أي على التبليغ {من أجر} أي آخذه منكم {وما أنا من المتكلفين} أي من الذين يتصنعون ويتحلون بما ليسوا من أهله. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الإستسقاء، وفي تفسير الروم والدخان، ومسلم في التوبة، وأخرحه أيضاً أحمد، والترمذي، والنسائي في التفسير. 275- قوله: (وعن ابن سيرين) هو محمد بن سيرين، يكنى أبابكر، مولى أنس بن مالك، من أكابر التابعين، قال المصنف: كان فقيهاً عالماً، زاهداً، عابداً، ورعاً، محدثاً، من مشاهير التابعين وجلتهم، وقال الحافظ: إنه ثقة، ثبت، عابد، كبير القدر، كان لا يرى الرواية بالمعنى. مات سنة (110) وهو ابن سبع وسبعين سنة. قال القاري: وهو غير منصرف للعلمية والمزيدتين على مذهب أبى علي في اعتبار مجرد الزائدتين. (إن هذا العلم دين) اللام للعهد، يعني أن علم الإسناد من الدين، وقيل: المراد به، علم الكتاب والسنة، وهما أصول الدين، ويؤيد المعنى الأول ما رواه مسلم في مقدمة صحيحه عقب ذلك عن ابن سيرين أيضاً، قال: لم يكن يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم. (فانظروا) أي فاعلموا وتحققوا (عمن تأخذون دينكم) تنبيه وحث على رعاية الوثوق والديانة، والحفظ، والورع، والسنة، حتى لا يؤخذ من كل من يروي، و"عن" متعلق بتأخذون على تضمين معنى تروون. (رواه مسلم) في مقدمه صحيحه موقوفاً من قول ابن سيرين، وكذا الدارمي، وأخرجه الحاكم في تاريخه، وابن عدى في الكامل مرفوعاً عن أنس، وكذا أخرجه مرفوعاً أبونصر السجزي في الإبانة، والديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي هريرة، لكن المرفوع ضعيف، والصحيح أنه قول ابن سيرين. 276- قوله: (يامعشر القراء) أي الذين يحفظون القرآن قاله الطيبي: وقال الحافظ: المراد بهم العلماء بالقرآن،

استقيموا، فقد سبقتم سبقاً بعيداً، وإن أخذتم يميناً وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيداً)) رواه البخاري. 277- (80) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تعوذوا بالله من جب الحزن، قالوا: يا رسول الله، وما جب الحزن؟ قال: وادٍ في جهنم، يتعوذ منه جهنم كل يوم أربع مائة مرة، قيل: يا رسول الله، ومن يدخلها؟ قال: القراء ـــــــــــــــــــــــــــــ والسنة العباد. (استقيموا) أي على جادة الشريعة، أي اسلكوا طريق الاستقامة، بأن تتمسكوا بأمر الله فعلاً وتركاً. (فقد سبقتم) بفتح السين والموحدة، قال الحافظ: هو المعتمد، وحكي بضم السين وكسر الباء مبنياً للمفعول، والمعنى على الأول: اسلكوا طريق الاستقامة؛ لأنكم أدركتم أوائل الإسلام، فإن تتمسكوا بالكتاب والسنة، تسبقوا إلى كل خير؛ لأن من جاء بعدكم إن عمل بعملكم لم يصل إليكم لسبقكم إلى الإسلام، ومرتبة المتبوع فوق مرتبة التابع، وإلا فهو أبعد منه حساً وحكماً. وعلى الثاني: أي سبقكم المتصفون بتلك الاستقامة إلى الله، فكيف ترضون لنفوسكم هذا التخلف المؤدي إلى الانحراف عن سنن الاستقامة يميناً وشمالاً، الموجب للهلاك الأبدي. (سبقاً بعيداً) أي ظاهر التفاوت. (وإن أخذتم يميناً وشمالاً) أي خالفتم المذكور بالإعراض عن الجادة والانحراف عن طريق الاستقامة. (فقد ضللتم ضلالاً بعيداً) أي عن الحق بحيث يبعد رجوعكم عنه إليه، وكلام حذيفة منتزع من قوله تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [6: 153] ، والذي له حكم الرفع من حديث حذيفة هذا الإشارة إلى فضل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين مضوا على طريق الاستقامة. (رواه البخاري) في الاعتصام، وأخرجه أيضاً أبونعيم في المستخرج، وابن أبي شيبة، وابن عساكر بنحوه. 277- قوله: (من جب الحزن) "الجب" بضم الجيم وتشديد الموحدة، البئر التي لم تطو، و"الحزن" بفتحتين أو بضم فسكون ضد الفرح، أي من بئر فيها الحزن لا غير، قال الطيبي: جب الحزن علم والإضافة كما في دار الإسلام، أي دار فيها السلامة من كل حزن وآفة. (قال وادٍ) أي هو وادٍ عميق يشبه البئر من كمال عمقه. (يتعوذ منه) أي من شدة عذابه. (جهنم) أي سائر أودية جهنم. قيل: ينبغي أن يراد بجهنم ما أعد فيها لتعذيب العصاة من المسلمين، لا الكفرة والمنافقين. قال الطيبي: التعوذ من جهنم هنا كالنطق منها في قوله تعالى: {وتقول هل من مزيد} [50: 30] ، وكالتميز والتغيظ: {تكاد تميز من الغيظ} [67: 8] ، والظاهر أن يجري ذلك على المتعارف؛ لأنه تعالى قادر على كل شيء. (كل يوم) يحتمل النهار والوقت. (أربع مائة مرة) هذا لفظ ابن ماجه، وفي رواية الترمذي ((مائة مرة)) ، ولامنافاة؛ لأن القليل لا ينافي الكثير، وهو يحتمل التحديد والتكثير. (ومن يدخلها) أي تلك البقعة المسماة بجب الحزن، وهو عطف على محذوف، أي ذلك شيء عظيم هائل. فمن الذي يستحقها؟ ومن الذي يدخل فيها؟ (القراء) جمع قارئ، والمراد العلماء

المراؤون بأعمالهم)) . رواه الترمذي، وكذا ابن ماجه، وزاد فيه: ((وإن من أبغض القراء إلى الله تعالى الذين يزورون الأمراء)) قال المحاربي: يعني الجورة. 278- (81) وعن علي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يوشك أن يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا يبقى من القرآن إلا رسمه، مساجدهم عامرة وهي خراب من الهدى، ـــــــــــــــــــــــــــــ بالكتاب والسنة، العباد النساك. (المراؤون) من الرياء (بأعمالهم) السماعون بأقوالهم. (رواه الترمذي) في الزهد، وقال: "غريب" انتهى. وفيه سيف بن عمار، وهو ضعيف الحديث، وفيه أيضاً أبومعان البصري، وهو مجهول. (وكذا) رواه (ابن ماجه) في السنة، وفي سنده أيضاً ما في سند الترمذي. (وإن من أبغض القراء) قيل: أي من القرائين المذكورين، وهم المراؤون، قرائين مخصوصين، وهم (الذين يزورون الأمراء) طمعاً في مالهم وجاههم، لا لحاجة دينية، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو لضرورة دنيوية تلجئهم بهم، كدفع شرهم وإيذائهم ونحو ذلك. (قال المحاربي) أحد رواة الحديث، وهو بضم الميم وبالحاء المهملة، وبالراء المكسورة، وبالباء الموحدة، نسبة إلى محارب، وهو عبد الرحمن بن محمد بن زياد المحاربي، أبومحمد الكوفي، روى عن الأعمش، ويحيى بن سعيد، وعنه أحمد بن حنبل، وثقه النسائي وابن معين والبزار والدارقطني، وقال الحافظ: لا بأس به وكان يدلس، قاله أحمد. مات سنة (195) . (يعني الجورة) كالظلمة لفظاً ومعناً، جمع جائر؛ لأنه لا حرج في زيارة الأمير العادل، المتمسك بالكتاب والسنة. والحديث أخرجه أيضاً الطبراني بنحوه إلا أنه قال: ((يلقى فيه الغرارون، قيل: يا رسول الله، وما الغرارون؟ قال: المراؤون بأعمالهم في الدنيا)) ، وأخرجه العقيلي في الضعفاء، والعسكري في المواعظ عن علي، وفيه عبد الله بن حكيم أبوبكر الداهري ليس بشيء. 278- قوله: (يوشك أن يأتي على الناس زمان) أي فاسد لفساد أهله، قال الطيبي: أتى متعدٍ إلى مفعول واحد بلا واسطة، فعدي بـ"على" ليشعر بأن الزمان عليهم حينئذٍ بعد أن كان لهم. (لا يبقى من الإسلام) أي من شعائره. (إلا اسمه) أي إلا ما يصح إطلاق اسم الإسلام عليه كلفظ الصلاة والزكاة والحج، أو إلا العلم به، وأما العمل به فلا. (ولا يبقى من القرآن) أي من آدابه وعلومه (إلا رسمه) أي أثره الظاهر من قراءة لفظه، وكتابة خطه، بطريق الرسم والعادة لا على جهة تحصيل العلم والعبادة، وقيل: المراد برسم القرآن تجويد الحروف وإتقان الألفاظ، وتحسين الألحان فيه من غير التفكر في معانيه، والامتثال بأوامره والانتهاء عن نواهيه. (مساجدهم عامرة) أي بالأبنية المرتفعة، والجدران المنقشة، والقناديل والبسط. (وهي خراب من الهدى) المراد بكون مساجدهم عامرة، عمارة بنائها الظاهر، وبكونها

علماؤهم شر من تحت أديم السماء، من عندهم تخرج الفتنة، وفيهم تعود)) رواه البيهقي في شعب الإيمان. 279- (82) وعن زياد بن لبيد قال: ((ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً فقال: ذاك عند أوان ذهاب العلم، قلت: يا رسول الله، وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ فقال: ثكلتك أمك زياد، إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل لا يعملون بشيء مما فيهما؟)) رواه أحمد، وابن ماجه، ـــــــــــــــــــــــــــــ خراباً من الهدى، تركهم إياها عاطلة من الصلاة والجماعة، وإقامة الأذان فيها، والعلم والذكر، وإنما عبر عنها بالهدى لأنها سبب هداية الشخص، وقيل: التقدير من آثارها الهداية أو أهلها. (أديم السماء) أي وجهها. (من عندهم تخرج الفتنة) أي للناس. (وفيهم تعود) أي مضرتها وعاقبتها السوء، وفي مثلها في قوله تعالى: {أو لتعودن في ملتنا} [7: 88] ، يعني يستقر عود ضررهم فيهم، ويتمكن منهم. (رواه البيهقي في شعب الإيمان) ، وأخرجه أيضاً ابن عدي في الكامل، وأخرجه الحاكم في تاريخه بنحوه عن ابن عمر، والديلمي عن معاذ وأبي هريرة، وأخرجه العسكري في المواعظ عن علي موقوفاً من قوله. 279- قوله: (وعن زياد بن لبيد) بفتح لام وكسر موحدة، ابن ثعلبة، يكنى أباعبد الله الأنصاري الخزرجي، خرج إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة فأقام معه حتى هاجر، فكان يقال له: مهاجري أنصاري، وشهد العقبة وبدراً والمشاهد، ومات النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو عامله على حضر موت، وكان له بلاء حسن في قتال أهل الردة، وكان من فقهاء الصحابة. روى عنه عوف بن مالك، وسالم بن أبي الجعد، وجبير بن نفير، قال البخاري: ولا أرى سالماً سمع منه، مات في أول خلافة معاوية. (ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً) أي هائلاً (فقال: ذاك) أي الشيء المخوف يقع (عند أوان ذهاب العلم) أي وقت اندراسه. (وكيف يذهب العلم؟) الواو للعطف، أي متى يقع ذلك المهول؟ وكيف يذهب العلم؟ (ونحن نقرأ القرآن ... ) الخ يعني والحال أن القرآن مستمر بين الناس إلى يوم القيامة، فمع وجوده كيف يذهب العلم؟ (ثكلتك أمك) أي فقدتك، وأصله الدعاء بالموت، ثم يستعمل في التعجب. (زياد) أي يا زياد (إن كنت) إن مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، أي إن الشأن كنت أنا (لأراك) بضم الهمزة، أي لأظنك، وبفتحها أي لأعلمك. (من أفقه رجل بالمدينة) ثاني مفعولي أراك، ومن زائدة في الإثبات، أي على مذهب الأخفش، أو متعلقة بمحذوف أي كائناً، قاله الطيبي: وأضاف أفعل التفضيل إلى النكرة المفردة؛ لأن المراد به الاستغراق. (أو ليس) أي أتقول هذا وليس (لا يعملون بشيء مما فيهما) الجملة حال من فاعل يقرؤون، أي يقرؤون غير عاملين، يعني ومن لم يعمل بعلمه هو والجاهل سواء، بل هو بمنزلة الحمار يحمل أسفاراً. (رواه أحمد) (ج4:ص16، 218) . (وابن ماجه) في الفتن، وأخرجه أيضاً الحاكم (ج1:ص100) كلهم من

وروى الترمذي عنه نحوه. 280- (83) وكذا الدارمي عن أبي أمامة. 281- (84) وعن ابن مسعود قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((تعلموا العلم وعلموه الناس، تعلموا الفرائض وعلموها الناس، تعلموا القرآن وعلموه الناس، فإني امرؤ مقبوض، والعلم سينقبض، وتظهر الفتن، حتى يختلف اثنان في فريضة لا يجدان أحداً يفصل بينهما)) رواه الدارمي والدارقطني. ـــــــــــــــــــــــــــــ طريق سالم بن أبي الجعد عن زياد. وسند الحديث صحيح، رجاله ثقات إلا أنه منقطع. قال البخاري في التاريخ الصغير: لم يسمع سالم بن أبي الجعد من زياد بن لبيد، وتبعه على ذلك الذهبي في الكاشف، وقال: ليس لزياد عند المصنف - أي ابن ماجه - سوى هذا الحديث، وليس له شيء في بقية الكتب. (وروى الترمذي عنه) أي عن زياد (نحوه) أي نحو هذا اللفظ، وهو معناه، وهذا وهم من المصنف؛ لأن الترمذي روى هذا الحديث عن أبي الدرداء، لا عن زياد، ولأنه ليس لزياد شيء في الكتب الستة غير ابن ماجه. 280- قوله: (وكذا الدارمي) أي رواه بمعناه لكن (عن أبي أمامة) لا عن زياد. وأخرج عن أبي أمامة أيضاً أحمد والطبراني وأبوالشيخ في تفسيره، وابن مردويه كما في الكنز (ج5:ص208) . 281- قوله: (قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) يحتمل أن ابن مسعود كان وحده، أو خصه بالخطاب وعم الحكم بقوله: (تعلموا العلم) أي الشرعي، أو الجمع للتعظيم. (تعلموا الفرائض) أي علم الفرائض خصوصاً، سواءً أريد بها فرائض الإسلام أو فرائض الإرث. (علموها الناس) كذا في بعض النسخ موافقاً لرواية الدارقطني، ووقع في بعض النسخ "وعلموه الناس"، وكذا عند الدارمي، أي علموا هذا العلم، فالضمير إلى المضاف المقدر. (فإني امرؤ مقبوض) لكوني امرأ مثلكم، فلا أعيش أبداً، فاغتنموا فرصة حياتي. (والعلم سينقبض) من الانقباض، أي بعدي بقبض أهله، وفي بعض النسخ "سيُقبض" مجهول مجرد. (حتى يختلف) يجوز أن يتعلق بكل من الفعلين السابقين. (في فريضة) من فرائض الإسلام أو فرائض الإرث. (لا يجدان أحداً يفصل بينهما) لقلة العلم أو لكثرة الفتن. (رواه الدارمي والدارقطني) ص (459) ، وسياق الحديث للدارمي، وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي ولم يسق لفظه، والنسائي، والحاكم وصححه، قال الحافظ: رواته موثقون إلا أنه اختلف فيه اختلافاً كثيراً ... الخ، وقال الترمذي: إنه مضطرب، وقد تقدم بيان شيء من هذا الاختلاف عند تخريج حديث أبي هريرة: ((تعلموا الفرائض)) في الفصل الثاني، وأخرج نحوه الدارقطني عن أبي سعيد الخدري من طريق عطية، وهو ضعيف.

282- (85) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مثل علم لا ينتفع به كمثل كنز لا ينفق منه في سبيل الله)) رواه أحمد والدارمي. ـــــــــــــــــــــــــــــ 282- قوله: (مثل علم لا ينتفع منه) أي بالعمل والتعليم، ولو كان العلم في نفسه نافعاً. (كمثل كنز لا ينفق منه في سبيل الله) أي لا على نفسه ولا على غيره في الجهاد وسائر وجوه الخير. قال الطيبي: التشبيه في عدم النفع والانتفاع والإنفاق منهما، لا في أمر آخر، وكيف لا والعلم يزيد بالإنفاق والكنز ينقص، والعلم باقٍ والكنز فانٍ. (رواه أحمد والدارمي) ، وأخرجه أيضاً البزار، ورجاله موثقون، قاله الهيثمي. وأخرجه أيضاً الطبراني في الأوسط بنحوه، وفي إسناده ابن لهيعة، وأخرجه ابن عساكر عن ابن عمر، والقضاعي عن ابن مسعود. بعون الله وحسن توفيقه تم الجزء الأول من مشكاة المصابيح مع شرحه مرعاة المفاتيح، ويليه الجزء الثاني - إن شاء الله تعالى -، وأوله: كتاب الطهارة.

خاتمة

- 1 - كلمة الناشر للطبعة الثانية الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد: فإن العصر الذي نعيش فيه هو عصر الإعلام والنشر، وللناس فيه عناية كبيرة بشؤون المطابع والمكتبات، حتى نرى أنهم يطبعون وينشرون ما فيه وصمة للعلم ومضرة بالغة للمجتمع. أما العلوم الدينية التي تضمن السعادة الأبدية للإنسانية كلها وتطهر المجتمع من الفواحش والدنايا فقد قل بها اهتمام الناس، واشتغلوا عنها بتوافه الأمور، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، والمدارس الدينية العربية بالهند التي تعتبر معاقل الدين وحصونه هي الأخرى قد عكفت على تدريس العلوم وتلقينها، وأهملت ناحية التأليف والطبع والنشر، مع أنها كانت معقد آمال الناس في الأوساط الدينية، وكان من واجبها أن لا تتخلف في مجال مهم مثل التأليف والنشر، وقد شعرت بعض المدارس بهذا النقص، فحاولت التفادي منه ونجحت، ولكن معظم المدارس العربية لا تزال على الحالة التي أشرنا إليها. وبناءً على ذلك كانت الجامعة السلفية قد جعلت من أهدافها - منذ أن أنشئت - الاهتمام بشؤون التأليف والطبع والنشر بجانب الشؤون الدراسية والتعليمية، ولتحقيق هذا الهدف قد تم في الجامعة إنشاء قسم خاص يهتم بشؤون التأليف والنشر، وهو قسم دار الترجمة والتأليف والنشر، وقد أبدى هذا القسم نشاطاً ملموساً في ترجمة بعض الكتب المهمة النافعة وطبعها ونشرها في الهند وخارجها. ومن أكبر مشاريع الدار وأهمها مشروع طبع كتاب "مرعاة المفاتيح" شرح مشكاة المصابيح لفضيلة العلامة المحدث الكبير الشيخ أبي الحسن عبيد الله الرحماني - حفظه الله تعالى -، وكان هذا الكتاب قد طبع جزء منه في باكستان وجزآن في الهند، ولكنه نظراً إلى أهمية موضوعه وطرافة مباحثه كان في حاجة إلى أن يعاد طبعه على طريقة علمية حديثة، بحيث يسهل تناوله للقراء في الهند وغيرها من البلاد الإسلامية والعربية. ومن المتوقع أن يقع الكتاب وفق هذه الطبعة الثانية في 12 جزء، وكل جزء يحتوي على نحو 600 صفحة بالقطع الكبير. والدار حينما تحملت مسؤولية هذا المشروع الكبير - مع كثرة نفقاتها - لم تهدف إلا إلى نشر العلوم الدينية والتعريف بما قام به العلماء السلفيون بالهند من خدمة العلوم الإسلامية واللغة العربية، وما كان لهم من الإسهام في بناء صرح الثقافة الإسلامية في شبه القارة. ونحن إذ نقدم الجزء الأول من كتاب مرعاة المفاتيح نسأل الله عز وجل أن يكتب له القبول لدى القراء والباحثين، ويوفقنا لإتمام هذا المشروع الكبير، ويجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، فهو نعم المولى ونعم النصير. ... ... ... ... ... ... ... ... (إدارة البحوث الإسلامية)

مقدمة الطبعة الثانية

- 2 - مقدمة الطبعة الثانية الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد! فهذه فصول مفيدة تشتمل على: 1- مقدمة الناشر للطبعة الأولى بعد تلخيصها وترجمتها إلى العربية. 2- ترجمة الشارح - حفظه الله -. 3- ذكر بعض ما يمتاز به هذا الشرح من الميزات والخصائص. 4- رسالة لطيفة في بيان مصطلحات علم الحديث التي لا بد من استحضارها لكل من يرغب في مطالعة الحديث والتوسع فيها. أحببت أن ألحقها بمرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح؛ ليكون القارئ على بصيرة عن الكتاب وصاحبه. وقد تركت ترجمة الإمام البغوي - رحمه الله -، والتعريف بكتابه - المصابيح -، وكذلك التعريف بمشكاة المصابيح الذي هو تكملة للمصابيح، وترجمة مؤلفه الخطيب العمري - رحمه الله -؛ لأن الشارح - حفظه الله - قد تعرض لهذه الأمور في الشرح بما فيه غنى عن إعادة ذكرها هنا. عبد الرحمن عبيد الله الرحماني المباركفوري.

مقدمة الناشر للطبعة الأولى

- 3 - مقدمة الناشر للطبعة الأولى حامداً ومصلياً ومسلماً اعلم أن الشاه ولي الله الدهلوي - رحمه الله - قد قرر في المبحث السابع من كتابه "حجة الله البالغة" باعتبار فهم المعاني الشرعية من الكتاب والسنة والاستنباط منهما والعمل بهما، مدرستين مستقلتين للتفكير: أهل الحديث، وأهل الرأي. فذكر في إحداهما فقهاء أهل الحديث من مؤلفي الصحاح الستة وغيرهم مع الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد، كمجتهدي الأمة - ونسب رئاسة المدرسة الأولى إلى إبراهيم النخعي وأبي حنيفة وأصحابه. ثم قارن بين أصول استدلال المدرستين وطرق الاستنباط والتخريج لهما. وعلاوة على شرحه الأحاديث فيه شرحاً فقهياً، أرسخ قواعد حرية التفكير وسعة النظر باختياره طريقة المدرسة الثانية في شرحه لموطأ الإمام مالك، وترجمته "المسوى والمصفى" لتبقى الأمة المسلمة متحدة عملاً مع اختلافها فكراً ونظراً، متمشية على منهاج السلف الأول. ثم روج الشاه ولي الله - رحمه الله - تدريس الصحاح الستة على طريقة أهل الحديث بجنب التأليف والتصنيف؛ لأن موضوع تلك الكتب جمع سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كاملة حيث يهتدى بها في جميع نواحي الحياة البشرية قاطبة. ثم من أعظم أوصافها وخصائصها أنها تحمل في طيها سعة النظر، وليس في جمع وتدوين أحاديثها ولا في تبويبها ولا في طرق الاستدلال والاستنباط منها تحديد واقتصار. فيورد أصحابها كل ما روي من الأحاديث والآثار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والسلف الصالحين، سواء كان دليلاً لطائفة أو عليها، لا يتعلق لهم بذلك غرض، فيعملون في ثبوت تلك المرويات والاحتجاج بها حرية التفكير والبحث التي تورث الذهن استعداد النقد المثمر البناء. ولعل هذا هو السبب الأكبر في اختياره مسلك الفقهاء المحدثين أساساً لتوحيد صفوف الفرق المسلمة فكرياً وعملياً، وجعله موضوعاً لبعض مؤلفاته. ولعله قد شعر بأنه قد ساد على العالم الإسلامي بعد القرن العاشر من الهجري عامة؛ إما الفقه الجامد أو القاصر، أو التصوف المتخشن المفضي إلى الإلحاد، وإن كان هناك شيء في المدارس باسم علوم الحديث فهو تابع للفقه المعاصر، ولم يكن يتعرض للروايات إلا في مجالس الوعظ والقصص بغض النظر عن رطبها ويابسها وصحيحها وسقيمها، أو لتأييد المذاهب الفقهية مهما كانت درجتها في الصحة والثبوت. ولتحقيق أهداف الفقهاء المحدثين بدأ الشيخ ولي الله - رحمه الله - حركة تجديد عهد المحدثين، وسقى هذا النبت حفيده الشيخ إسماعيل الشيهد (م 1246هـ) ، ثم ترعرع بعده وأثمر هذا الشجر عند طبقة من المحققين الذين استفادوا منه، أعني بهم المحدث الكبير شيخ الكل السيد نذير حسين الدهلوي (م 1320هـ) ، التلميذ الخاص للشاه محمد إسحاق (م 1262هـ) ، والسيد أباالطيب محمد صديق حسن خان (م 1307هـ) ، التلميذ الممتاز والمجاز للشاه محمد يعقوب (م 1282هـ) ، ابن بنت الشاه عبد العزير - رحمه الله -.

- 4 - فالمحدث الدهلوي السيد نذير حسين - رحمه الله - نشر هذه الحركة المقدسة تدريساً، والسيد النواب - رحمه الله - قد أسهم فيها بتأليف الكتب الكثيرة والتزامه بطبع المؤلفات النافعة النادرة الوجود على حسابه الخاص وتوزيعها في العالم الإسلامي، {مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها} . وألف السيد صديق حسن خان - رحمه الله - على أساس خطة التفكير الفقهي للشاه ولي الله - رحمه الله - في سنة 1278هـ شرحاً لبلوغ المرام باللغة الفارسية باسم "مسك الختام"، وفي سنة 1294هـ "عون الباري" شرح تجريد صحيح البخاري للشرجي، وفي سنة 1299هـ "السراج الوهاج" شرح تلخيص الصحيح لمسلم للمنذري. هذا بجنب طبعه لاستفادة أهل العلم وأصحاب التحقيق "نيل الأوطار" سنة 1297هـ، وفتح الباري سنة 1300هـ بالمطبعة الأميرية ببولاق (مصر) بمبالغ باهضة مع عنايته واهتمامه بترجمة كتب الصحاح الستة مع موطأ الإمام مالك وطبعها؛ ليستنير عامة الناس من أنوار علوم السنة رأساً وبدون واسطة. ومن تلامذة المحدث الدهلوي العلامة الشيخ أبوالطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي (م1329هـ) ألف "عون المعبود" شرح سنن أبي داود، والشيخ أبوالعلي محمد عبد الرحمن المباركفوري (م1352هـ) شرح الجامع للترمذي باسم "تحفة الأحوذي"، والشيخ محمد أبوالحسن السيالكوتي شرح صحيح البخاري باللغة الأردية في 30 مجلداً، وسماه فيض الباري، والشيخ عبد الأول الغزنوي الأمرتسري (م 1331هـ) بن محمد (1) بن العارف بالله الشيخ عبد الله الغزنوي - رحمهم الله تعالى - ترجم مشكاة المصابيح وعلق عليها وطبعها. ومن مفاخر علماء أهل الحديث في شبه القارة الهندية أنه باهتمامهم فحسب طبع أول مرة عدة من كتب الحديث القيمة، أمثال: السنن للنسائي، والسنن للدارقطني، والتلخيص الحبير، وغيرها، وإنها لحقيقة ثابتة أن تلك المطبوعات هي التي يستفيد بها أصحاب التدريس والإفتاء وأهل التحقيق، فلله الحمد على ذلك. وعلى كل حال فقد استمرت نهضة تجديد وإحياء السنة بكل قوتها وحيويتها بفضل مساعي جماعة أهل الحديث الهندية وجهودها العلمية والعملية، واستنارت بأشعة هذا النور العظيم أرجاء العالم الإسلامي النائية، واعترف عديد من أهل العلم والتحقيق في العالم الإسلامي في العهد الحاضر بسبق علماء أهل الحديث في الهند في ميدان نشر علوم السنة وطبع كتبها. فالشيخ العلامة رشيد رضا المغفور له يقدّر ويحسن جهودهم بما نصه: "ولولا عناية إخواننا علماء الهند بعلوم الحديث في هذا العصر لقضي عليها بالزوال من أمصار الشرق، فقد ضعفت في مصر والشام والعراق والحجاز منذ القرن العاشر حتى بلغت منتهى الضعف في أوائل القرن الرابع عشر ... " (مقدمة مفتاح كنوز السنة) . ويمدحهم محقق آخر من مصر الشيخ عبد العزيز الخولي: " ... ولا يوجد في الشعوب الإسلامية من وفى الحديث قسطه من العناية في هذا العصر مثل إخواننا مسلمي الهند، أولئك الذين وجد بينهم حفاظ للحديث، ودارسون لها على نحو ما كانت تدرس في القرن الثالث، حرية في الفهم، ونظر في الأسانيد، كما طبعوا كثيراً من كتبها النفيسة التي كادت تذهب بها يد الإهمال، وتقضي عليها غير الزمان....، وإن أساس تلك النهضة في البلاد الهندية أفذاذ أجلاء تمخضت بهم العصور الحديثة، وانتهجوا في تحصيل العلوم نهج السلف، فنبه شأنهم وعلا أمرهم وذاع صيتهم،

_ (1) المعلق على تفسير "جامع البيان" وناشر "المسوى والمصفى" الأول.

- 5 - فكان لها الأثر الصالح والسبق الواضح، ومن أشهر هؤلاء الأعلام ولي الله الدهلوي صاحب التصانيف، أشهرها "حجة الله البالغة"، والسيد صديق حسن خان ملك بهوبال صاحب التصانيف الكثيرة، ومن حسناته (يعني السيد حسن خان) طبع فتح الباري ونيل الأوطار وتفسير الحافظ ابن كثير ... ، طبعت هذه على نفقته في المطبعة الأميرية بمصر، فكانت من أنجح وسائل إحياء السنة ... ، وفي الهند الآن طائفة تهتدي بالسنة في كل أمور الدين، ولا تقلد أحداً من الفقهاء ولا المتكلمين وهي طائفة المحدثين". ... (مفتاح السنة ص169) . ومحقق آخر الشيخ محمد منير الدمشقي يبدي رأيه عن حركة إحياء السنة هذه بما يأتي: "وهي نهضة عظيمة، أثرت على باقي البلاد الإسلامية، فاقتدى بها غالب البلاد الإسلامية في طبع كتب الحديث والتفسير". (أنموذج من الأعمال الخيرية ص (468) . ويكتب عن "السيد صديق حسن خان": "كم له من أيادٍ بيضاء في خدمة العلم والعلماء، وإن جحد فضله الحاسدون وضعفاء العقول المتصنعون". (أنموذج ص388) . هذه هي حكاية ما أنجزه علماء أهل الحديث في شبه القارة الهندية من الأعمال الذهبية في سبيل إحياء السنة وتجديد نهضة الشاه ولي الله - رحمه الله - باختصار، ولو سلك مسلكه واختار منهجه العلماء المنتسبون إلى أسرته أيضاً لكان الوضع الديني لبلادنا مختلفاً تماماً عن الوضع الحالي. وقد حدث - مع الأسف الشديد - أن طائفة من علماء أسرته قد ترك منهج تدريسه، وترويج علوم الحديث لبعض مصالحها الخاصة بعد وفاته بمدة لا تطول، ولا شك أن تلك الطائفة قد ساهمت في نشر الدين بجهود لا تنكر قيمتها، ولكنهم لم يرضوا بإعطاء علوم الحديث حظها من عنايتهم، فإنهم جعلوا نصب أعينهم عند الاشتغال بعلم الحديث مقاصد خاصة، مثل بعض سلفهم من المؤلفين وشراح الحديث، ودرسوا هذه الكتب التي أساسها على الاجتهاد، على طريقة أصحاب الرأي، معرضين عن منهج الشاه ولي الله - رحمه الله -، وزينت تلك الكتب بحواشٍ مفيدة ولكن غلبت عليهم العصبية الطائفية في شرح وتطبيق بعض الأحاديث وتعيين درجتها من الصحة والضعف. ويبذل قصارى الجهد في إبعاد الطالب عن تأثير ما ورد في المواضع المختلف فيها من الكتاب، والتعليق يكون مخالفاً للمتن، والحديث المعارض للمذهب في نظر المحشي أو المدرس يعرض للتأويل والتوجيه، ولكن الذي حظي بالموافقة لمذهبهم يقبل من غير أن ينظر إلى مرتبته من الصحة والضعف، والغرض من هذا التكلف أن لا يتسع طلبة الحديث فكراً وصدراً بل ينحصروا في حصار خاص، ويتقيدوا بقالب معين، وإذا انبعث فيهم شعور بالنقد والتحقيق فلا يكون إيجابياً ومنتجاً بل سلبياً وجارحاً. ولو طالع أحد حواشي وتعليقات من هو في الطبقة العليا من فقهاء الهند على كتب الحديث على سبيل المثال، لوجد لما ادعيناه في السطور الأولى أسساً ثابتة فيها، أعني بها حواشي الشيخ أحمد علي السهارنبوري (م1297هـ) على صحيح البخاري، والجامع للترمذي ومشكاة المصابيح، وحواشي الشيخ عبد الغني المجددي (م 1296هـ) ، والشيخ محمد التهانوي على سنن ابن ماجه وسنن النسائي، وحاشية النواب محمد قطب الدين الدهلوي (م 1289هـ) باللغة الأردية على مشكاة المصابيح.

- 6 - واستمر على هذا المنهاج في التأليف والتدريس من جاء بعدهم عامة إلا من شاء الله منهم، ولا يخفى أن هذا الوضع قد يشوش أذهان طلاب الحديث، حيث يكون التعليق مخالفاً للمتن، ولذا شعرنا بحاجة إلى حواشي وتعليقات على كتب الأحاديث المتداولة بين المدارس الدينية في بلادنا تحل تلك المشكلة ولا تشوش بنفسها ذهن الطالب، بل تؤيد اتجاه أئمة الحديث وتوضحه، وروعي فيها المعايير المحايدة للمحدثين في الجرح والتعديل والبحث والتمحيص، ولوحظ فيها الأصول الفقهية للشاه ولي الله - رحمه الله -، واحترم فيها جميع السلف من المحدثين والفقهاء، بدون فرق بين مذهب ومذهب. وتقع مسؤولية هذا العمل الجليل على عواتق علماء أهل الحديث في شبه القارة الهندية، وقد اعتنوا به شيئاً ما، فحواشي سنن ابن ماجه (1312هـ) ، وسنن أبي داود (1318هـ) للشيخ محمد بن نور الدين الهزاروي التلميذ الراشد للشيخ العلامة حسين بن محسن اليماني البهوبالي (م 1327هـ) طبعت في أصح المطابع بلكنؤ، وحاشية سنن النسائي للشيخ أبي عبد الرحمن محمد البنجابي (م 1315هـ) ، والشيخ أبي يحيى محمد الشاهجهانفوري (م1338هـ) تلميذي المحدث الدهلوي السيد نذير حسين، طبعت في المطبع الأنصاري بدلهي سنة 1315هـ، ويندرج تحتها تنقيح الرواة حاشية على المشكاة للشيخ السيد أحمد حسن الدهلوي (م1328هـ) تلميذ شيخ الكل السيد نذير حسين الدهلوي - رحمهم الله -، ولكن جمعية أهل الحديث في شبه القارة الهندية قد تعرضت فيما بعد لحوادث - ليس هذا محل تفصيلها -، فتوقف هذا العمل الجليل من جرائها لفترة طويلة، ولكن كل فرد من أفرادها مازال يشعر بالحاجة إليه. ـــــــــــــ والغرض من إطالة هذه الحكاية الممتعة للمسامع إزاحة الستار عما يكمن وراء الحوار، والمحادثات والمقترحات التي كانت تمتد إلى ساعات طويلة بيني وبين صديقي المغفور له الحافظ محمد زكريا، وقد لقيته إبان الحرب العالمية الثانية - كما أذكر - حينما كنت مقيماً ببلدة فيروزبور (البنجاب الشرقي) للتدريس والخطابة، وقد كثرت اللقاءات، ووحدة الذوق والفكر دائماً يحدونا إلى اللقاء والمحادثة، وأكبر همنا كان التخطيط لإحياء نهضة سلفنا - عمل نشر علوم الحديث - من جديد. ـــــــــــــ وعلى بعد 30 ميلاً من المدينة الصناعية لائل بور (البنجاب الغربي) وفي ناحيتها الغربية الجنوبية تقع قرية تسمى "جهوك دادو طور"، يسكنها العالم الرباني الشيخ محمد الباقر، تلميذ المحدث الحافظ عبد المنان الوزير آبادي (م 1334هـ) ، والمستفيض من علوم ومعارف الشيخ عبد الجبار الغزنوي (م1332هـ) - رحمهما الله وغفر لهما -، وصديقنا المرحوم الحافظ محمد زكريا كان أكبر أولاده، وقد ولد في نفس القرية سنة 1332هـ غالباً -، غيب القرآن وتعلم اللغة الأردية في بيته، وقرأ مبادئ اللغة العربية في قرية قريبة من مديرية شيخوبورة، وأقام مدة يسيرة بمدرسة تقوية الإسلام أمرتسر - البنجاب -، ثم ارتحل إلى كوجرانواله وتتلمذ على الشيخ العلامة الحافظ محمد - حفظه الله ونفع بعلومه -، والشيخ محمد إسماعيل - رحمه الله -، وقرأ عليهما الصحاح الستة وغيرها من كتب الحديث والعلوم، وحصل منهما الشهادة والإجازة، وبما أنه كان يميل إلى الكتابة والتأليف ونشر الكتب - وهذا هو وجه الرابطة بيني وبينه لأني أيضاً كنت أميل إليه من بدء شعوري - فترجم رسائل لشيخ الإسلام ابن تيمية، و"والوابل الصيب" لابن القيم - رحمهما الله - إلى اللغة الأردية، وطبعها على رغبتي ومشورتي، ثم

- 7 - شرح "زرادي" بالأردية، وسماه "الهادي"، وكذلك طبع مقالتي الوجيزة "الإمام الشوكاني" في سنة 1364هـ، وعلاوة عليها ترجم رسالة للرازي "عصمة الأنبياء"، وشرح كتاب "أبواب الصرف" للشيخ الحافظ محمد اللكهوي، ولم يطبعا بعد. ولكن واحسرتاه! هذا الشاب الطويل القامة النحيف الجسم، المليء بالعلم والذوق السليم كان مصاباً بمرض المعدة، وازداد مرضه تدريجاً حتى قضى على حياته، وتوفاه الأجل المحتوم في آخر شوال سنة 1368هـ، الموافق أغسطس سنة 1949م - إنا لله وإنا إليه راجعون، وقد توفي والده الشيخ محمد الباقر أيضاً. وبعد انقسام شبه القارة إلى الدولتين: الهند والباكستان عام 1366هـ الموافق لعام 1947م هاجرت من فيروزبور الهند إلى باكستان، ولقاء صديقنا هناك كان أمراً طبيعياً، وشعرنا بأنه قد حان موعد تعبير الأحلام التي كنا نحلم بها - وكانت المقترحات والمشورات والمشاريع السابقة مواضيع لقاءنا -، فقررنا إحياء مشروع سلفنا بتحشية وطبع كتب الحديث وما يتعلق بها، وأن نبدأ العمل بمشكاة المصابيح، وطلب مني التعليق عليه فاعتذرت بعدم استعدادي له، وعرضت عليه اسم فضيلة الشيخ عبيد الله الرحماني المباركفوري - حفظه الله وبارك في حياته ونفع بعلومه -، فوافق عليه والتمس هو من الشيخ الرحماني المباركفوري - حفظه الله - بالقيام لهذه الخدمة الجليلة الشأن، فقبل الشيخ اقتراحنا بكل بشاشة وفرح، ولكن قدر مدة تكميل العمل بأربع سنوات على الأقل، وبدأ العمل في 1367هـ الموافق 1947م. ــــــــــــ وكنت قد انتقلت ذاك الوقت على طلب مخدومنا الشيخ العلام السيد محمد داود الغزنوي - رحمه الله - إلى مدرسته تقوية الإسلام في لاهور؛ لأقوم بخدمة التدريس فيها، ونزل الصديق الحافظ محمد زكريا لطباعة بعض الكتب لاهور، وأقام عندي عدة شهور، وشعرنا بأنه لا ينبغي الانتظار لتكميل حاشية المشكاة، بل لابد من بدء عمل آخر، فقررنا طبع سيرة المحدث الدهلوي السيد نذير حسين - رحمه الله - "الحياة بعد المماة" طباعة ممتازة أنيقة. وبما أنه كان لا يوجد في ذاك الوقت سنن أبي داود في المكاتب فصممنا على طبعه بتعليق جديد، وبدأت بتأليف "فيض الودود" تعليق سنن أبي داود على إلحاحه، واعتنى هو لتسيير العمل بمساعدة مالية، وفي أثنائه غادر هو لاهور إلى بيته واشتد مرضه، وبعد أيام جاء نعي وفاته المؤلم، اهتز له كل من كان يعرفه، وخاصة كاتب هذه السطور، {فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر} . ــــــــــــ ومكتبتي التي ضاعت بفيروز بور قد أسستها من جديد بلاهور - باسم المكتبة السلفية، وعمل تأليف فيض الودود تعليق سنن أبي داود، وإن لم يتعدّ على جزئين فقط، ولكن لم تمض فترة إلا أن قيض الله سبحانه وتعالى أسباباً لا نتوقعها لتأليف وطبع كتاب عظيم "التعليقات السلفية على سنن النسائي" في غضون أربع سنوات تحت إشراف وعناية المكتبة السلفية، {وهذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر} . وبعد سنة فصاعداً قد علمنا بأن فضيلة الشيخ عبيد الله الرحماني قد أرسى قواعد شرح جليل لمشكاة المصابيح بدل تعليق بسيط عليه، وأكمل الجزء الأول منه وأرسله إلينا للطبع، وإنها لحقيقة أننا ما كنا مستعدين له في ذاك الوقت؛ لأن جمعية قرية صغيرة ما كانت تستطيع أن تتحمل نفقات الطبع الباهضة، ثم الموانع والمشاكل في كل مرحلة حالت دون

- 8 - طبعه، ولكن الله تعالى بفضله وكرمه أزال جميع الموانع، ووفق عبداً ضعيفاً من عباده أن يوفي بما عهد به صديقه، وذلك من ثمرات إخلاص المغفور له، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين. وهل يخفى على أحد الحاجة إلى شرح مفصل للمشكاة؟ ولا شك في أن شرح شيخ مؤلف المشكاة العلامة حسين بن محمد الطيبي (م743هـ) "الكاشف عن حقائق السنن" يعدّ من أحسن الشروح له، لكنه لم يطبع بعد، ويتبعه مرتبة المرقاة لملا علي بن سلطان محمد القارئ (م1014هـ) ، واللمعات للشيخ عبد الحق الدهلوي (م1052هـ) ، وهما شرحان جيدان من حيث جمع المواد المتعلقة بإيضاح المطالب وغيره، ولكن التزم فيهما تمثيل مدرسة خاصة في الفقهيات، ثم إنهما لا يشفيان غليل الباحث في باب تخريج ونقد الأحاديث مع أن الحاجة إليه شديدة في شرح المشكاة خاصة بالفصل الثالث منه. ونظراً إلى ذلك فقد حبذنا عمل فضيلة الشيخ عبيد الله الرحماني بكل سرور وانشراح، فإن الله تعالى قد هيأ أسباباً لملأ فراغ كبير في هذا الباب. ونحمد الله على إحسانه وكرمه أن مرعاة المفاتيح يعدّ شرحاً عديم النظير غير مسبوق به بما يمتاز به من الأوصاف والخصائص، يحتوي بما في الشروع السابقة ويذكرنا القرن العاشر في باب التحقيق مصداقاً لـ"كم ترك الأول للآخر". وإن هذا الكتاب لا يفي بحاجة المرقاة واللمعات فحسب، بل يغني عن كثير من الكتب في باب تخريج الأحاديث وتنقيحها - إن شاء الله -، ونتضرع إلى الله تعالى أن يوفق الشارح لتكميل هذا العمل، وينعم عليه بحسن القبول والإفادة العامة. والحاجة إلى تعليق على المشكاة التي لمسناها لغرض خاص باقية حتى الآن، ولا ندري من يوفق له ومتى؟ والحاشية شبه الشرح للمشكاة "تنقيح الرواة في تخريج أحاديث المشكاة" التي مر ذكرها فوق قد طبع نصفها الأول قبل مدة طويلة، وقد عثرنا على أوراق نصفها الأخير هذه الأيام، ولكنها في حاجة ماسة إلى إعادة النظر فيها، بل شيء من آخرها مخروم ويحتاج إلى كتابتها من جديد، ومن أماني المشرفين على المكتبة السلفية بلاهور طبعها ونشرها في أقرب فرصة. ولا نزال نلمس الحاجة إلى مشكاة مترجمة تحتوي على مقتضى القديم والحديث مع ترجمتها الموثوق بها، وقد استكمل ترجمة نصفها الأول الشيخ محمد إسماعيل على اقتراح كاتب هذه السطور، ستكون هذه المشكاة المترجمة عديمة النظير إن شاء الله. ولا يخفى على أحد أن إشاعة ونشر تفسير القرآن الكريم في ضوء الأحاديث والآثار وعلوم الحديث خالصة من واجبات جماعة أهل الحديث التي تمتاز بها، وقد أدى هذا الواجب أسلافها في الماضي القريب بأحسن وجه، وإن العصر الذي نعيش فيه مليء بالمخاطر، والحاجة ماسة إلى دفع مهاجمات ومهاترات المنكرين لحجية الحديث والمتخبطين في ملتويات التأويل والتوجيه، وعمل أصحاب الحديث وأنصاره أضعف بكثير وأبطأ بإزاء دعاية تلك القوى المعارضة، فهل من سبيل لمقاومة هذا السيل العارم، فهل ينظرون في سبيل مقاومة هذا الاتجاه الزائف؟ والحمد لله أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه أجمعين. (أبوالطيب محمد عطاء الله حنيف - كان الله له) .

ترجمة الشارح

- 9 - ترجمة الشارح - حفظه الله وبارك في حياته -. هو أبوالحسن عبيد الله بن العلامة محمد عبد السلام بن خان محمد بن أمان الله بن حسام الدين. ولد في محرم الحرام سنة 1327هـ ببلدة مباركفور التابعة المديرية أعظم كره إحدى مديريات الولاية الشمالية (اتربرديش) في الهند، وتدرس كتب الأردية والفارسية الرائجة في المدارس الأهلية آنذاك في المدرسة العالية ببلدة مئو من بلاد أعظم كره، وكتب النحو والصرف والأدب والفقه والمنطق والهندسة أمثال الكافية لابن حاجب وشرحها لملا جامي وشرح الوقاية ومشكاة المصابيح والسراجية في علم الفرائض وشرح التهذيب وشرح الشمسية المعروف بالقطبي وديوان المتنبي وأقليدس على والده العلامة محمد عبد السلام صاحب سيرة البخاري - رحمه الله - حينما كان هو مدرساً في مدرسة سراج العلوم بقرية بونديهار من قرى مديرية كونده في الولاية الشمالية، ثم انتقل مع والده - رحمه الله إلى دار الحديث الرحمانية بدلهي، وكمل دراسته هناك، وتخرج على أيدي الأساتذة المتخصصين في كل فن من فنون العلم، فدرس من كتب الحديث الصحيحين للإمامين البخاري ومسلم، والموطأ للإمام مالك على العلامة المحدث الشيخ أحمد الله البرتابكرهي ثم الدهلوي - رحمه الله -، تلميذ الشيخ السيد نذير حسين المحدث الدهلوي، والشيخ حسين بن محسن الأنصاري الخزرجي، وقد كتب هو له الإجازة برواية كتب الحديث، وهي محفوظة عندنا، وكتب العلوم العقلية الآلية من المنطق والفلسفة والهيأة وعلم الكلام وكتب الفقه مع أصوله كشرح هداية الحكمة للصدر الشيرازي، والشمس البازغة وشرح السلم للمولوي حمد الله والقاضي مبارك، وشرح العقائد النسفية وشرح المواقف والتصريح وشرح الجغميني وشرح المطالع ومسلم الثبوت والتلويح مع التوضيح والجزأين الأخيرين من الهداية والتفسير للبيضاوي على العلامة الشيخ غلام يحيى الكانبوري، ونور الأنوار وتفسير الجلالين وجامع الترمذي والمقامات الحريرية وديوان الحماسة على الشيخ الحافظ عبد الرحمن النكرنهسوي، والهدية السعيدية وسنن أبي داود على الشيخ أبي طاهر البهاري، والمقدمة لابن خلدون وشيئاً من الشمس البازغة على العلامة الشيخ عبد الغفور الجيراجبوري، والفوز الكبير في أصول التفسير على الشيخ محمد إسحاق الآروي، ودرس أيضاً صدراً من شرح المطالع على العلامة الشيخ عبد الوهاب الآروي، وشيئاً من تفسير البيضاوي على العلامة المحدث محمد الكوجرانوالي البنجابي، وحصل شهادة العالمية من المدرسة الرحمانية سنة خمس وأربعين بعد الألف وثلاثمائة 1345 من الهجرة، وقرأ أيضاً في أيام العطلة المدرسية أوائل جامع الترمذي، وقدراً معتداً به من شرح النخبة ومقدمة ابن الصلاح والسراجية في علم الفرائض على الإمام المحدث الشيخ عبد الرحمن المباركفوري صاحب تحفة الأحوذي - رحمه الله - في بيته، وأجاز له الشيخ - رحمه الله - برواية كتب الحديث شفاهاً. ونظراً إلى ذكائه ونجاحه في الاختبار دائماً بالدرجة الممتازة عينه الشيخ عطاء الرحمن صاحب دار الحديث الرحمانية والمشرف الوحيد عليها والمتكفل لجميع ما تحتاج إليها من النفقات مدرساً فيها في نفس السنة التي تخرج فيها. وكما هو معلوم لدى الإخوان أن الشيخ الأجل المحدث المباركفوري قد كف بصره قبل أن يكمل شرحه - تحفة الأحوذي -، وكان بحاجة إلى عالم له مناسبة خاصة بعلوم الحديث وفنونه، يساعده في عمله ذاك، فاختار الشيخ المباركفوري - رحمه الله - لذلك فضيلة والدنا الشيخ عبيد الله الرحماني المباركفوري لمساعدته، فأرسله الشيخ عطاء الرحمن على اقتراح الشيخ

- 10 - المباركفوري - رحمه الله - إليه، فقضى لديه سنتين خير مساعد له في تكميل الجزئين الأخيرين لشرح جامع الترمذي - تحفة الأحوذي - مع زميله الفاضل الشيخ عبد الصمد المباركفوري، والعالم الشيخ محمد اللاهوري البنجابي، وقرأ عليه أطرافاً من الصحاح الستة وغيرها، وبذل جهده في الاستغراف من بحار علومه والتأدب بآدابه والاستفادة من فوائده، ثم استدعاه الشيخ عطاء الرحمن للتدريس في دار الحديث الرحمانية , وفوض إليه تدريس كتب الحديث، خاصة جامع الترمذي وسنن أبي داود والصحيح الإمام البخاري والموطأ للإمام مالك مع خدمة الإفتاء، فاشتغل به إلى أن انقسم الهند إلى الدولتين: الباكستان والهند في أغسطس عام 1947م الموافق لعام 1366هـ، وقفلت دار الحديث الرحمانية لأجل هجرة مشرفه الشيخ عبد الوهاب نجل الشيخ عطاء الرحمن - رحمهما الله - إلى كراتشي (الباكستان) . وهو مرجع للمسلمين فيما يشكل عليهم من الأمور الدينية والمسائل الشرعية؛ لما أن فتاواه تكون مدعمة بالدلائل من الكتاب والسنة، ولا يبالي في ذلك لومة لائم، وقد طبع كثير منها في مجلتي "محدث" و"مصباح" وغيرهما. وقد بدأ تأليف شرح المشكاة - مرعاة المفاتيح - الذي بأيدي القارئين في عام 1948م الموافق لعام 1367هـ بأمر الحافظ محمد زكريا اللائلبوري - رحمه الله -، وأمر والده التقي الورع الزاهد الشيخ محمد باقر - أطال الله حياته -، وهو إلى الآن مشتغل به حسبما تسنح له فرصة، ويجد إفاقة من الأمراض التي لازمته من مدة طويلة - عجل الله شفاءه ووفقه لخدمة سنة رسوله وتكميل الشرح -، إلى جانب رده على المسائل التي ترد إليه كل يوم، وله بحوث قيمة في بعض المسائل طبعت في أجزاء، منها "بيان الشرعة في بيان محل أذان خطبة الجمعة"، عين فيها محل أذان خطبة الجمعة من المسجد، وبحث بسيط في عقد التأمين، وغير ذلك. وقد وفقه الله لزيارة الحرمين الشريفين أربع مرات: الأولى في رمضان سنة 1366هـ الموافق لعام 1947م مع العلامة الشيخ خليل بن محمد بن حسين بن محسن الأنصاري، وفدا إلى المغفور له الملك عبد العزيز - برد الله مضجعه -، في شأن مدرسة دار الحديث الأهلية بالمدينة المنور، فقابل الوفد المغفور له الملك عبد العزيز ونائبه في الحجاز إذ ذاك جلالة الملك فيصل بن عبد العزيز - حفظه الله -، ولقي في الرياض الشيخ محمد بن عبد اللطيف ومحمد بن إبراهيم وعمر بن حسن، وفي الطائف عبد الله بن حسن آل الشيخ، وفي المدينة عبد الله بن مزاحم وغيرهم من المشايخ، واعتمر أولاً في آخر رمضان ثم في شوال حين رجوعه من المدينة، ورجع الوفد بعد قضاء مهمته ونجاحه فيها في أوائل ذي القعدة في نفس السنة، ثم إن والدنا الشارح - طالت حياته في صحة وعافية - قد أدى فريضة الحج عام 1375هـ الموافق لعام 1956م عن نفسه، وبعده في عام 1382هـ الموافق لعام 1963م وعام 1391هـ الموافق لعام 1971م نيابة، تقبل الله حجه ومد في أجله ووفقه لإتمام عمله، آمين.

بيان بعض ميزات الشرح وخصائصه

- 11 - بيان بعض ميزات الشرح وخصائصه الكتاب بأيدي الناظرين والعيان أصدق شاهد، فلا حاجة إلى التنبيه على ما التزمه الشارح - حفظه الله وبارك في حياته - فيه من الأمور التي لا بد من مراعاتها في شرح مشكاة المصابيح، وما أودعه من بدائع الفوائد الجليلة ونفائس الأبحاث الممتعة التي لا غنى لأحد ممن يشتغل بالحديث تدريساً وقراءة، ولكن لا بأس أن نشير إلى لمعة من خصائصه ونذكر بعض ميزاته؛ ليكون من أول الأمر بصيرة لأولي الأبصار، فيقع في قلوبهم بانشراح وارتياح، ولو قلنا: إن الأمور التي راعاها المؤلف في هذا الشرح الجليل لا توجد مجتمعة في شرح آخر من شروح المشكاة لم يكن فيه شيء من المبالغة أصلاً، وهاك بعض ميزاته: 1- وضع المؤلف - طال بقاؤه - أرقاماً مسلسلة لأحاديث الكتاب؛ ليكون حصراً صحيحاً لأحاديثه، ولأن عد الأحاديث بالأرقام المسلسلة خير الطرق لنشر كتب الحديث وشروحها في هذا العصر، ولتكون هذه الأرقام المسلسلة كالأعلام للحديث، ثم وضع بجنبها أرقاماً مسلسلة لأحاديث كل باب على حدة وجعلها بين القوسين () ؛ ليمتاز عن الرقم المسلسل لأحاديث الكتاب، ولا يخفى فائدة هذا العمل على القارئ والباحث. 2- وضع أربع فهارس: أحدها فهرس الكتب والأبواب والفصول حسب ما وقع في المشكاة. وثانيها: فهرس الأحاديث مع أبوابها وفصولها مع أرقامها المسلسلة وبعض أبحاث الشرح المهمة. ثالثها: فهرس الأعلام للصحابة والتابعين وغيرهم ممن لهم ذكر أو رواية في كتاب المشكاة، وللأئمة أصحاب الأصول المذكورين في أول المشكاة. رابعها: فهرس للأماكن التي ورد ذكرها في متن الحديث مرتباً على حروف المعجم، وقد جعل فهارس هذا الجزء في أوله مع بيان رقم الصفحة، وهكذا يفعل في بقية الأجزاء، إن شاء الله تعالى. 3- كتب ترجمة كل علم من الصحابة والتابعين وغيرهم بقدر الحاجة في أول موضع ذكر فيه من المشكاة، وكذا وصف كل مكان في أول موضع وقع فيه. 4- أوفى القول في توضيح الأحاديث وتشريحها، وذكر من معاني الأحاديث المشتملة على مسائل الفقه والكلام ما هو الصحيح الراجح المعول عليه عند السلف الصالح من الصحابة والتابعين وفقهاء المحدثين - رضي الله عنهم -، وكثيراً ما أطنب الكلام في الرد على التأويلات الواهية المزخرفة التي اخترعها أهل الهوى من المبتدعين والمقلدين الجامدين المتعصبين لصوغ الأحاديث النبوية على مسالكهم الزائغة وأهوائهم الباطلة. 5- أجاب بأحسن وجه عن المطاعن التي يوردها المقلدون على مسالك فقهاء أهل الحديث في شروحهم وحواشيهم وتعليقاتهم على كتب الحديث. 6- ذكر اختلاف الفقهاء وأقوالهم في مسائل الخلاف مع سرد حجج هذه الأقوال، ثم عين القول الراجح المعول عليه عنده، وأيّده بالأحاديث والآثار، وأجاب عن دلائل الأقوال المرجوحة بوجوه متعددة.

- 12 - 7- اعتنى بحل الإشكالات ودفع المعارضات عناية تامة. 8- أشار عند البحث في بعض المسائل إلى مظانها من الكتب المطولة من شرح الحديث والفقه الجامع والسنن والمسانيد والجوامع والمعاجم والرجال مع أرقام الصفحات؛ لكي يسهل الرجوع إليها لمن يريد التوسع في الكلام، وصنع هذا حيث رأى أنه لو بسط القول فيه على الوجه الذي أراد أفضى ذلك إلى التطويل الذي لا يحتمل، والإطناب الذي يوقع في الضجر والملال. 9- التزم تخريج ما أورده المؤلف في الفصل الأول والثالث من أحاديث الصحيحين أو أحدهما إن اشترك فيها الغير من أصحاب السنن والمسانيد والمعاجم، والتزم أيضاً أن يخرج أحاديث الفصل الثاني والثالث، من روايات غير الشيخين إن رواها غير من سماه المؤلف، واستدرك أيضاً ما وقع من المؤلف من ترك البياض بعد ذكر الحديث دون عزوه لأحد، فبين الشارح من أخرجه. 10- وفي كثير من مثل هذا يذكر تلك الكتب بقيد الباب والصفحة. 11- التزم الكلام على أحاديث غير الصحيحين وانتقادها حسب ما تيسر وسنح له وبين درجتها من الصحة أو الضعف، معتمداً في كل ذلك على كلمات أئمة هذا الفن الجليل الشأن. 12- أشار إلى ما وقع للمؤلف من الأوهام والأخطاء في سوق ألفاظ الحديث، وفي وضع حديث الصحيحين أو أحدها في الفصل الثاني، وحديث غيرهما في الفصل الأول، وفي تخريج بعض الأحاديث، وغير ذلك مما أخذه الشارح على المؤلف واستدركه عليه، لا يخفى على من طالع الشرح بالإمعان. 13- عنى بذكر الأحاديث والآثار المؤيدة لأحاديث غير الصحيحين مع بيان درجتها من الصحة أو الضعف، وربما أشار إليها بقوله: وفي الباب عن فلان عند فلان، وعن فلان عند فلان. 14- سرد الحديث بتمامه إن ذكره المؤلف مختصراً. هذا، وغير ذلك من المحاسن التي تظهر لمن يطالع الكتاب بإمعان النظر، والله الموفق.

تحفة أهل الفكر في مصطلح أهل الأثر

- 13 - تحفة أهل الفكر في مصطلح أهل الأثر جمعها وألفها عبد الرحمن بن عبيد الله الرحماني المباركفوري خريج الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة

- 15 - بسم الله الرحمن الرحيم رسالة لطيفة في بيان مصطلحات علم الحديث مما لا بد لطالب الحديث أن يحفظها قبل الشروع في قراءة كتب الحديث، وأن يستحضرها عند الخوض في هذا الفن الجليل، وقد ذكرناها من غير تطويل وإطناب لتقاصر الهمم، ومن شاء البسط والتفصيل رجع إلى الكتب المبسوطة في علم مصطلح الحديث، وبالله التوفيق. ــــــــــــــــــــــــــ علم الحديث، غايته، وثمرته، وأنواعه. علم الحديث: هو علم يعرف به أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وأحواله. موضوعه: ذات الرسول - صلى الله عليه وسلم - من حيث أنه رسول الله، لا من حيث أنه إنسان. غايته وثمرته: الفوز بسعادة الدارين. ... وعلم الحديث بإطلاقه عام كلي ينقسم إلى ثلاثة أقسام: 1- العلم برواية الحديث. 2- علم مصطلح الحديث. 3- العلم بدراية الحديث. (1) العلم برواية الحديث: هو علم يشتمل على نقل ما أضيف إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو إلى من دونه من الصحابي أو التابعي قولاً أو فعلاً أو تقريراً أو صفة. (2) علم مصطلح الحديث: هو علم بأصول وقوانين يعرف بها أحوال السند والمتن من حيث الرد والقبول. موضوعه: السند والمتن من حيث الرد والقبول. غايته وثمرته: تمييز ما يقبل من ذلك وما يرد، ومعرفته. اسمه: علم مصطلح الحديث، ويسمى أصول الحديث، وعلوم الحديث. (3) العلم بدراية الحديث: هو علم يبحث فيه عن المعنى المفهوم من ألفاظ الحديث، وعن المراد منها، مبنياً على قواعد العربية وضوابط الشريعة ومطابقاً لأحوال النبي - صلى الله عليه وسلم -. موضوعه: أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - من حيث دلالتها على المعنى المفهوم والمراد. غايته: التحلي بالآداب النبوية والتخلي عما يكرهه وينهاه. واعلم أنه قسم كل قسم من الأقسام المذكورة إلى أقسام يسمى كل واحد منها باسم، ومن أراد معرفة ذلك رجع إلى الكتب المبسوطة في علم أصول الحديث.

- 16 - الحديث والخبر والأثر الحديث: لغة: الجديد، واصطلاحاً: هو ما أضيف إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير أو وصف خُلقي أو خِلقي، أو ما أضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو إلى من دونه من الصحابي والتابعي كذلك، ويجمع على أحاديث على خلاف القياس. الخبر والنبأ: الخبر لغة يطلق على ما هو أعم من النبأ، فيشمل الأخبار الجليلة والتافهة، بخلاف النبأ فإنه خاص بما له خطب وشأن. واصطلاحاً: مرادف للحديث، وقيل: هما متباينان، فالحديث ما جاء عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والخبر ما جاء عن غيره، وقيل في بيان التباين بينهما: أن الحديث ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين، والخبر ما جاء عن أخبار الملوك والسلاطين والأيام الماضية، ولهذا يقال لمن اشتغل بالسنة محدث، ولمن اشتغل بالتواريخ أخباري، وقيل: بينهما عموم وخصوص مطلق، فالحديث ما جاء عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والخبر ما جاء عنه أو عن غيره، وعلى هذا فكل حديث خبر وليس كل خبر حديث. السنة: هي أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وتقريراته وصفاته، فهي مرادفة للحديث. الأثر: لغة: بقية الشيء، واصطلاحاً: ما روي عن الصحابة والتابعين من أقوال أو أفعال، وعند المحدثين الأثر مرادف للخبر والحديث، وفي التدريب "يقال: أثرت الحديث بمعنى رويته، ويسمى المحدث أثرياً نسبة للأثر". الحديث القدسي والفرق بينه وبين القرآن الكريم الحديث القدسي: هو ما نقل إلينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مع إسناده إياه إلى ربه عز وجل. والفرق بينه وبين القرآن الكريم أن القرآن لفظه ومعناه من الله سبحانه وتعالى، ويتعبد بتلاوته، ويشترط في إثباته التواتر. والحديث القدسي ليس لفظه من الله تعالى، ولا يتعبد بتلاوته، ولا يشترط في ثبوته التواتر. قال الكرماني: القرآن لفظ معجز، ونزل بواسطة جبريل عليه السلام، وهذا غير معجز، وبدون الواسطة، ومثله يسمى بالحديث القدسي والإلهي والرباني. الفرق بين الحديث القدسي وبين غير القدسي فإن قلت: الأحاديث كلها كذلك، كيف وهو لا ينطق عن الهوى؟ قلت: الفرق بأن القدسي مضاف إلى الله تعالى، ومروي عنه بخلاف غيره، وقد يفرق بأن القدسي ما يتعلق بتبرئة ذاته تعالى وصفاته الجلالية والكمالية.

- 17 - قال الطيبي: القرآن هو اللفظ المنزل به جبريل - عليه السلام - على النبي - صلى الله عليه وسلم -، والقدسي: إخبار الله معناه بالإلهام أو المنام، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته بعبارة نفسه، وسائر الأحاديث لم يضفها إلى الله، ولم يروها عنه. ولراوي الحديث القدسي صيغتان: 1- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه عز وجل. 2- قال الله تعالى فيما رواه عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والمعنى واحد. والأحاديث القدسية أكثر من مائة حديث، منها ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي ذر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن الله تعالى أنه قال: ((يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم حراماً، فلا تظالموا ... )) الحديث. أقسام الخبر باعتبار طرق وصوله إلينا الخبر ينقسم بهذا الاعتبار إلى متواتر وآحاد. المتواتر: لغة: المتتابع، واصطلاحاً: هو ما نقله إلينا جماعة كثيرون تحيل العادة تواطؤهم وتوافقهم على الكذب، عن جماعة كذلك، ويكون إخبارهم عن شيء محسوس من مشاهد أو مسموع، كأن يقول: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل كذا، أو سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول كذا. شروط التواتر: وشروطه أربعة: (1) أن يرويه عدد كثيرون بلا حصر. (2) أن يرووا ذلك عن مثلهم من الابتداء إلى الانتهاء في جميع طبقات السند. (3) أن تحيل العادة تواطؤهم وتوافقهم على الكذب. (4) أن يكون انتهاء خبرهم مستنداً إلى الحس من مشاهد أو سماع. والمتواتر يفيد العلم اليقيني الضروري، وهو الذي يضطر إليه الإنسان، بحيث لا يمكنه دفعه، وقيل: لا يفيد إلا العلم النظري، وليس بشيء؛ لأن العلم بالتواتر يحصل لمن ليس له أهلية النظر مثل العامي. والمتواتر نوعان: لفظي، ومعنوي. المتواتر اللفظي: هو ما تواتر لفظه ومعناه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كحديث: ((من كذب عليّ متعمداً....)) الخ. المتواتر المعنوي: ما تواتر معناه دون لفظه، أو هو ما تواتر القدر المشترك فيه، كحديث المسح على الخفين، وحديث رفع اليدين في الدعاء. هذا، وقسم بعضهم التواتر إلى أربعة أقسام: أحدها: تواتر الإسناد: وهو أن يروي الحديث من أول الإسناد إلى آخره جماعة يستحيل اجتماعهم على الكذب، وهذا هو التواتر المشهور عند المحدثين. والثاني:

- 18 - تواتر الطبقة: كتواتر القرآن، فإنه تواتر على البسيطة شرقاً وغرباً، درساً وتلاوة، حفظاً وقراءة، وتلقاه الكافة عن الكافة طبقة عن طبقة، ولا يحتاج إلى إسناد يكون عن فلان عن فلان، بل هو شيء ينقله أهل المشرق والمغرب عن أمثالهم جيلاً عن جيل، لا يختلف فيه مؤمن ولا كافر منصف غير معاند، وهذا القسم من المتواتر يعسر إيراد إسناد له على قواعد المحدثين فضلاً عن أسانيد. والقسم الثالث: تواتر عمل وتواتر توارث: وهو أن يعمل به في كل قرن من عهد صاحب الشريعة إلى يومنا هذا جم غفير من العاملين، بحيث يستحيل عادة تواطؤهم على الكذب أو غلط، كالسواك في الوضوء مثلاً، فهو سنة، واعتقاد سنيته فرض؛ لأنه ثابت بالتواتر العملي. والقسم الرابع: تواتر القدر المشترك: وهو ما تختلف فيه ألفاظ الرواة، بأن يروي قسم منهم واقعة وغيره واقعة أخرى، وهلم جرا، غير أن هذه الوقائع تكون مشتملة على قدر مشترك، فهذا القدر المشترك يسمى بالمتواتر المعنوي أو المتواتر من جهة المعنى، وهذا كتواتر المعجزة، فإن مفرداتها ولو كانت آحاداً لكن القدر المشترك متواتر قطعاً. أخبار الآحاد الآحاد جمع أحد بمعنى واحد. وخبر الواحد: في اللغة: ما يرويه شخص واحد، وفي الاصطلاح: ما لم يصل حد التواتر، أو لم يتوفر فيه شروط المتواتر، وهو يفيد الظن. وقيل: العلم النظري، وقال ابن حزم - رحمه الله - في الإحكام: إن خبر الواحد العدل عن مثله إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوجب العلم والعمل به معاً. ويطلق المحدثون أخبار الآحاد على ما عدا المتواتر، وهي تنقسم إلى مشهور، وعزيز، وغريب. المشهور والمستفيض: المشهور لغة: ما اشتهر على الألسنة وإن كان كذباً، واصطلاحاً: ما رواه عدد محصور فوق الاثنين، وسمي بذلك لشهرته، ويقال له المستفيض أيضاً، وسمي بذلك لانتشاره، من فاض الماء يفيض فيضاً، وقيل: بينهما عموم وخصوص مطلق، فالمستفيض ما كان عدد الرواة في ابتداء السند وانتهائه سواء، والمشهور يشمل ما كان كذلك وما كان العدد فيه مختلفاً. العزيز: لغة: النادر والقوي والشاق، واصطلاحاً: ما رواه اثنان ولو في طبقة، وسمي بذلك إما لندرته وقلة وجوده، أو لكونه عز أي قوي بمجيئه من طريق آخر، أو لمشقة الحصول عليه عند البحث عنه. تنبيه لا يشترط لكون الحديث صحيحاً أن يكون عزيزاً عند الجمهور، خلافاً لمن اشترط ذلك كأبي علي الجبائي والحاكم وابن العربي، وثمرة الخلاف تظهر في أن الغريب لا يكون صحيحاً عند أبي علي

- 19 - الجبائي ومن رأى رأيه؛ لكونه قد جاء من طريق واحد، ومن شرط الصحيح عندهم أن يأتي من طريقين على الأقل، أما عند غيرهم فيكون صحيحاً لعدم اشتراطهم بذلك. الغريب: لغة: فعيل من الغرابة، وهي النزوح عن الوطن، وفي الاصطلاح: هو ما رواه راوٍ واحد، ويسمى الفرد، وسمي غريباً لانفراد راويه عن غيره به كالغريب الذي شأنه الانفراد والنزوح عن وطنه. وينقسم الغريب إلى مطلق ونسبي. الغريب المطلق: ويسمى الفرد المطلق: هو ما وقع الغرابة والتفرد في أصل السند، وهو طرفه الذي فيه الصحابي، كأن ينفرد به تابعي واحد عن الصحابي ولا يتابع عليه، وقد يستمر التفرد في جميع رواته أو أكثرهم. الغريب النسبي: ويسمى الفرد النسبي: هو ما وقع الغرابة والتفرد فيه في أثناء السند في تابع التابعي أو فيمن دونه من رجال السند، وصورة ذلك أن يروي الحديث عن الصحابي أكثر من واحد من التابعين ثم ينفرد بروايته عن واحد منهم شخص واحد، وسمي بذلك لأن التفرد وقع فيه بالنسبة إلى شخص معين، وقد يكون الحديث مشهوراً في نفسه أي في الواقع. وإطلاق الفرد على الغريب قليل؛ لأن الغريب والفرد وإن كانا مترادفين إلا أن المحدثين قد غايروا بينهما من حيث كثرة الاستعمال وقلته، فالفرد أكثر ما يطلقونه على الفرد المطلق والغريب على الفرد النسبي، وهذا من حيث إطلاق الاسم عليهما، أما من حيث استعمالهم الفعل المشتق منه فلا يفرقون، فيقولون في المطلق والنسبي كليهما: تفرد به فلان، أو أغرب به فلان. تقسيم الآحاد إلى مقبول ومردود تنقسم أخبار الآحاد من مشهور وعزيز وغريب إلى مقبول ومردود. المقبول: ما ترجح صدق ناقله، وهو يوجب العمل عند الجمهور. المردود: هو الذي لم يترجح صدق المخبر به. وخبر الواحد المقبول مفيد للظن، وقد يفيد العلم النظري إذا احتف بالقرائن. والخبر المحتف بالقرائن أنواع: 1- ما أخرجه الشيخان في صحيحهما مما لم يبلغ حد التواتر، ولم يكن مما انتقده أحد من الحفاظ، فإنه قد حفت به قرائن قوية كافية لحصول العلم النظري، منها جلالتهما في هذا الشأن، وتقدمهما في تمييز الصحيح من السقيم على غيرهما، وتلقي العلماء لكتابيهما بالقبول. 2- الخبر المشهور إذا كانت له طرق متباينة سالمة من ضعف الرواة والعلل القادحة. 3- الخبر المسلسل بالأئمة الحفاظ المتقنين، حيث لا يكون غريباً، كالحديث الذي يرويه الإمام أحمد

- 20 - وشريك له عن الشافعي، ثم الشافعي رواه وشريك له عن مالك بن أنس، ويرويه مالك عن نافع مثلاً، فهذه القرائن الثلاثة تختص الأولى منها بما في الصحيحين، والثانية بما له طرق متعددة، والثالثة بما رواه الأئمة المتقنون. العلم النظري: هو العلم الحاصل عن النظر والاستدلال. العلم الضروري: هو الذي يضطر إليه الإنسان بحيث لا يمكنه دفعه. والفرق بينه وبين العلم النظري أن العلم الضروري يحصل بلا استدلال ولكل سامع. والنظري لا يتأتى إلا بالاستدلال على الإفادة، ولا يحصل إلا لمن له أهلية النظر. تقسيم الخبر المقبول إلى صحيح وحسن لذاته ولغيره تنقسم أخبار الآحاد المقبولة إلى أربعة أقسام: (1) الصحيح لذاته. (2) الصحيح لغيره. (3) الحسن لذاته. (4) الحسن لغيره. الصحيح لذاته: هو ما روي بنقل عدل تام الضبط عن مثله متصل السند غير معل ولا شاذ. العدل: المراد بالعدل عدل تام الرواية، وهو المسلم البالغ والعاقل السالم من الفسق بارتكاب كبيرة أو إصرار على صغيرة، والسالم أيضاً مما يخل بالمروءة، وقيل: هو المتصف بالعدالة، وهي التمسك بأحكام الشرع وآدابه فعلاً وتركاً، وقيل: العدل عند المحدثين من له ملكة تحمله على ملازمة التقوى والمروءة، وينبغي أن يعلم أن عدل الرواية أعم من عدل الشهادة، فإن عدل الشهادة مخصوص بالحر وعدل الرواية يشمل الحر والعبد. التقوى: هي اجتناب الأعمال السيئة من شرك وفسق وبدعة. المروءة: هي الاحتراز عما يذم عرفاً عند ذوي العقول السليمة. وتثبت العدالة بالاستفاضة والشهرة، كعدالة مالك والشافعي، وبتنصيص عالمين عليها، والأصح أنه يكفي في التعديل والتجريح عدل واحد، ويشترط في التجريح ذكر السبب. الضبط: هو الحزم في الحفظ، وهو نوعان: (1) ضبط الصدر. (2) ضبط الكتاب. ضبط الصدر: أن يثبت ما سمعه في صدره، بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء. ضبط الكتاب: هو أن يحفظ كتابه من التغيير والتبديل، ويصونه لديه منذ سمع فيه وصححه إلى أن يؤديه منه. ويعرف ضبط الراوي بموافقة الثقات المتقنين غالباً، ولو من حيث المعنى، ولا تضر مخالفته النادرة، فإن كثرت اختل ضبطه ولا يحتج بحديثه، وارجع لتفصيل الكلام في معنى العدالة والمروءة إلى "توجيه النظر" للجزائري (ص 25-30) .

- 21 - متصل السند: هو ما سلم إسناده من انقطاع مطلقاً، بحيث يكون كل من رجاله سمع ذلك المروي من شيخه. المعل والمعلل: لغة: ما فيه علة، واصطلاحاً: ما فيه علة خفية قادحة في صحة الخبر، كالإرسال الخفي ونحوه. العلة القادحة: هي ما تعرض للصحيح بحسب الظاهر بالتأمل في طرق الحديث، كأن يكون معروفاً عن صحابي ويروى عن غيره، وكأن يكون مرسلاً أو منقطعاً أو موقوفاً فيروى متصلاً، والعلة قد تكون في المتن، وقد تكون في الإسناد. الشاذ: هو لغة: المنفرد، أي من تفرد من الجملة وخرج منها، واصطلاحاً: ما خالف فيه الراوي من هو أرجح وأوثق منه. الصحيح إسناداً: هو الذي اتصل سنده برواية الثقات الضابطين. ... ولا تلازم بين صحة الحديث وصحة الإسناد، فقد يصح الإسناد لاستجماع شروطه من الاتصال والعدالة والضبط، ولا يصح المتن لشذوذ أو علة، وقد لا يصح السند ويصح المتن لوجوده من طريق أخرى معتمدة، والصحيح بهذا التعريف المتقدم يشمل المرفوع والموقوف. مراتب الصحيح تختلف مراتب الصحيح بسبب تفاوت الأوصاف المقتضية للصحة، فما يكون رواته في الدرجة العليا من العدالة والضبط وسائر الصفات التي توجب الترجيح كان أصح مما دونه، وبهذا الاعتبار يرجع تقسيم الصحيح إلى سبعة أقسام، وهي: (1) ما اتفق عليه الشيخان: البخاري ومسلم. (2) ما انفرد به البخاري. (3) ما انفرد به مسلم. (4) ما كان على شرطهما ولم يخرجاه. (5) ما كان على شرط البخاري. (6) ما كان على شرط مسلم. (7) ما صح عند غيرهما ممن التزم الصحة من الأئمة كابن خزيمة وابن حبان وغيرهما مما لم يروياه، ولم يكن على شرطهما لا اجتماعاً ولا انفراداً. شرط الشيخين: المراد بشرط الشيخين أو أحدهما أن يكون الحديث مروياً برجال موجودة في كتابيهما أو في أحدهما، مع مراعاة الكيفية التي التزمها الشيخان في الرواية عنهم. ... وهذه المراتب السبع كل واحدة منها مقدمة على التي تليها. الصحيح لغيره: هو ما كانت شروطه أخف من شروط الصحيح لذاته، وانجبر بكثرة الطرق، وقيل: هو الحسن لذاته إذا تعددت طرقه، فبذلك يقوى ويرتفع عن درجة الحسن إلى درجة الصحيح لكن لا لذاته. الحسن لذاته: هو ما رواه عدل خفيف الضبط متصل السند غير معل ولا شاذ، ولم يوجد ما ينجبر به ذلك القصور، فهو جامع لشروط الصحيح لذاته، إلا أن الضبط خف في بعض رواته ولم يوجد ما يجبر به ذلك القصور، ويشارك الصحيح أيضاً في الاحتجاج به وإن كان دونه رتبة وقوة.

- 22 - والحسن على مراتب كالصحيح، أي تتفاوت مراتبه متناً وإسناداً كالصحيح. الحسن لغيره: هو الخبر المتوقف عن قبوله إلا إذا قامت قرينة ترجح جانب قبوله كحديث مستور الحال إذا تعددت طرقه. ألقاب للحديث تشمل الصحيح والحسن الجيد والقوي: الجيد والقوي مرادفان للصحيح بالمعنى المتقدم، وليسا نوعين آخرين، قال السيوطي: الجودة قد يعبر بها عن الصحة، فيتساوى حينئذٍ الجيد: الصحيح، إلا أن المحقق منهم لا يعدل عن الصحيح إلى جيد إلا لنكتة، كأن يرتقي الحديث عنده من الحسن لذاته، ويتردد في بلوغه الصحيح، فالوصف به حينئذٍ أنزل رتبة من الوصف بصحيح، وكذا القوي. الصالح: هو يشمل الصحيح والحسن لصلاحيتهما للاحتجاج، ويستعمل أيضاً في ضعيف يصلح للاعتبار. الثابت والمجود: هما أيضاً يشملان الصحيح والحسن وليسا نوعين آخرين. معنى قول بعض المحدثين: "حديث حسن صحيح". قد يجمع الترمذي وغيره بين الصحيح والحسن في موصوف واحد، فيقول: هذا حديث حسن صحيح، مع أن الحسن أقل درجة من الصحيح وقاصر عنها، وذلك لأحد أمرين: 1- حصول التردد من ذلك الإمام في الناقل إذا تفرد برواية الحديث هل هو من أهل تمام الضبط، فيعتبر حديثه صحيحاً، أو من الذين خف ضبطهم فيكون حديثه حسناً، وتقدير العبارة: حسن أو صحيح، ويكون أقل رتبة مما قيل فيه: صحيح، بالجزم. 2- كون الحديث مروياً بإسنادين، هو من أحدهما صحيح، ومن الثاني حسن، فيكون إطلاق الصحة والحسن عليه باعتبار إسنادين أحدهما صحيح والآخر حسن، ويكون الحديث أقوى مما قيل فيه صحيح فقط. قول الترمذي: "حسن غريب". قد استشكل قول الترمذي "حسن غريب" بأن الحديث الحسن عنده "ما روي من غير وجه"، والغريب "ما تفرد به راوٍ واحد"، فإذا جمع بين الوصفين جاء الإشكال للتنافي بين الوصفين. والجواب عنه أن اصطلاح الترمذي هذا يحمل على كل حديث وصفه الترمذي بالحسن فقط، أي من غير صفة أخرى، أما ما وصفه بالحسن والغرابة معاً فالمراد به الحسن على اصطلاح جمهور المحدثين، لا على اصطلاحه، ولا منافاة بين الحسن والغريب على اصطلاحهم، أو أشار به إلى اختلاف الطرق، بأن جاء في بعض الطرق غريباً وفي بعضها حسناً يعني أنه غريب من هذا الإسناد

- 23 - الخاص وحسن من وجه آخر، أو غريب سنداً وحسن متناً؛ لكونه مروياً عن جماعة من الصحابة. وقيل: الواو بمعنى "أو" بأنه يشك ويتردد في أنه غريب أو حسن لعدم معرفته جزماً. الضعيف: هو ما فقد صفة أو أكثر من صفات الصحيح والحسن وشروطهما، وأنواعه كثيرة كما سيأتي. حكم زيادة الثقة: ومما يحسن العناية به من أنواع علوم الحديث زيادات الثقة، وهي كما تقع في المتن تقع في السند أيضاً برفع موقوف أو وصل منقطع أو نحو ذلك، وهي ثلاثة أقسام: 1- ما كان منافياً لما قد رواه الثقات أو الأوثق منه فهذا مردود، وتسمى رواية الثقات أو الأوثق محفوظاً، ورواية الثقة شاذاً. فالخبر المحفوظ: ما رواه الثقات أو الأوثق منافياً لما رواه الثقة. والشاذ: ما رواه الثقة مخالفاً لما رواه الثقات أو الأوثق منه. 2- ما رواه الثقة ولم يخالف غيره من الثقات أو الأوثق منه، فهذا مقبول. 3- ما زاده الثقة مع نوع مخالفة ومنافاة لما ليست فيه تلك الزيادة، ولكن هذه المخالفة منحصرة في تقييد المطلق أو تخصيص العام، فهذا حكمه القبول على الراجح. وإذا وقعت المخالفة من الثقة للضعيف فالراجح يقال له المعروف ومقابله المنكر. فالمعروف: ما رواه الثقة مخالفاً لما رواه الضعيف. والمنكر: ما رواه الضعيف مخالفاً للثقة. والفرق بين الشاذ والمنكر أن بينهما عموماً وخصوصاً من وجه، يجتمعان في اشتراط المخالفة ويفترقان في أن الشاذ راويه ثقة أو صدوق، والمنكر راويه ضعيف، فبينهما عموم وخصوص من وجه. المتابعة المتابعة: هي لغة: الموافقة، واصطلاحاً: أن تحصل المشاركة للراوي في الرواية، وهي نوعان: المتابعة التامة: وهي أن تحصل المشاركة للراوي نفسه. المتابعة القاصرة: وهي أن تحصل المشاركة في شيخ الراوي أو فيمن فوقه من الرجال إلى الصحابي. المتابع: بكسر الباء، ويسمى تابعاً: هو الخبر المشارك لخبر آخر في اللفظ أو المعنى فقط مع الاتحاد في الصحابي. المتابع: بفتح الباء، هو الخبر الذي شارك راويه غيره في اللفظ والمعنى أو المعنى فقط. الشاهد: هو الحديث المشارك لحديث آخر في اللفظ والمعنى أو المعنى فقط مع الاختلاف في الصحابي.

- 24 - فالفرق بين الشاهد والمتابع اختلاف الصحابي في الشاهد واتحاده في المتابع، وقد يطلق كل من المتابع والشاهد على الآخر. الاعتبار والاستشهاد: هو تتبع طرق الحديث الذي ظن أنه فرد من الجوامع والمسانيد والأجزاء وغيرها؛ ليعلم هل له متابع أو شاهد أم لا. تقسيم الخبر المقبول إلى معمول به وغير معمول به (1) المحكم: هو الحديث المقبول الذي سلم من معارضة مثله ينقض معناه، وحكمه وجوب العمل به، وغالب الأحاديث من هذا النوع. (2) مختلف الحديث: الحديث المقبول المعارض بمثله مع إمكان الجمع بينهما بغير تعسف وتكلف. (ألف) وإذا تعارض حديثان مقبولان وأمكن الجمع بينهما والتوفيق بدون تكلف وتعسف فلا يصار إلى غيره. (ب) وإن لم يمكن الجمع بينهما بحث عن التاريخ، فإن علم فالمتأخر هو الناسخ للمتقدم ويعمل به. (ج) وإن لم يعرف التاريخ وأمكن ترجيح أحد الخبرين بوجه من وجوه الترجيح المتعلقة بالمتن أو الإسناد فالمصير إلى الترجيح، ويقدم الراجح على المرجوح. (د) وإن لم يمكن الجمع ولا النسخ ولا الترجيح توقف عن العمل بهما حتى يتبين للناظر وجه الترجيح بينهما. هذا إذا كان المتعارضان قويين، فإن كانت المعارضة من الضعيف للقوي فلا عبرة بها؛ لأن القوي لا تؤثر فيه معارضة الضعيف. النسخ وطرق معرفته النسخ: في اللغة: الإزالة والنقل، وفي الاصطلاح: رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر عنه. ويعرف النسخ بأمور: (1) ما ورد في النص وهو أصرحها، كحديث بريدة: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور ... )) الحديث. (2) ما أخبر الصحابي بتأخره، كقول جابر: ((كان آخر الأمرين من رسول الله ترك الوضوء مما مست النار)) ، (3) تعقل الراوي الناسخ والمنسوخ، كقول الصحابي: ((رخص لنا في المتعة، فمكثنا ثلاثاً ثم نهانا عنه)) . (4) ما عرف بالتاريخ. والإجماع ليس بناسخ، بل هو دال على النسخ.

- 25 - وجوه الترجيح بين ما ظاهره التعارض طرق الترجيح بين مختلف الحديث كثيرة جداً، قد عد الحازمي في كتابه "الناسخ والمنسوخ" خمسين وجهاً، وأوصلها غيره إلى أكثر من مائة كما استوفى ذلك العراقي في نكته، وقال القاسمي في قواعد التحديث: الترجيح قد يكون باعتبار الإسناد، وباعتبار المتن، وباعتبار المدلول، وباعتبار أمر خارج، فهذه أربعة أنواع، ثم ذكر وجوه الترجيح باعتبار الإسناد، وعد ثمانية عشر وجهاً، منها: (1) الترجيح بكثرة الرواة، فيرجح ما رواته أكثر لقوة الظن به، وإليه ذهب الجمهور. (2) ترجيح رواية الكبير على الصغير؛ لأنه أقرب إلى الضبط إلا أن يعلم أن الصغير مثله في الضبط أو أكثر ضبطاً منه. (3) ترجيح رواية الأوثق. (4) ترجيح رواية الأحفظ. (5) أن يكون أحدهما من الخلفاء الأربعة دون الآخر. (6) أن يكون أحدهما صاحب الواقعة؛ لأنه أعرف بالقصة. (7) ترجيح رواية من دام حفظه وعقله ولم يختلط على من اختلط في آخر عمره ولم يعرف هل روى الخبر حال سلامته أو حال اختلاطه. (8) تقديم الأحاديث التي في الصحيحين على الأحاديث الخارجة عنهما. ثم ذكر وجوه الترجيح باعتبار المتن، وعد سبعة طرق، منها: (1) يقدم الخاص على العام. (2) يقدم ما كان حقيقة شرعية أو عرفية على ما كان حقيقة لغوية. (3) يقدم المقيد على المطلق. ثم ذكر للترجيح باعتبار المدلول أربعة أوجه، منها: (1) يقدم ما كان مقرراً لحكم الأصل والبراءة على ما كان ناقلاً. (2) أن يكون أحدهما أقرب إلى الاحتياط فإنه أرجح. (3) يقدم المثبت على المنفي؛ لأن مع المثبت زيادة علم. ثم بين وجوه الترجيح باعتبار أمور خارجة، وعد سبعة وجوه، منها: (1) أن يكون أحدهما قولاً والآخر فعلاً، فيقدم القول؛ لأن له صيغة والفعل لا صيغة له. (2) أن يكون أحدهما موافقاً لعمل الخلفاء الأربعة دون الآخر؛ فإنه يقدم الموافق (4) أن يكون أحدهما أشبه بظاهر القرآن دون الآخر، فإنه يقدم. ثم قال: وللأصوليين مرجحات أخر في الأقسام الأربعة منظور فيها، ولا اعتداد عندي بمن نظّر فيما سقناه؛ لأن القلب السليم لا يرى فيه مغمزاً. الخبر المردود وأسباب رده الخبر المردود: هو الذي لم يترجح صدق المخبر به، وله أنواع كثيرة، وهي ترجع في الجملة إلى سببين: (1) السقوط في السند. (2) الطعن في بعض رواته. السقوط في السند: هو عدم اتصاله. والطعن في الراوي: أن يكون مجروحاً بأمر يرجع إلى ديانته أو ضبطه.

- 26 - أنوع المردود باعتبار السقوط المعلق: وهو ما حذف من مبدأ سنده راوٍ فأكثر على التوالي، ويعزى الحديث إلى من فوق المحذوف، مأخوذ من تعليق الجدار والطلاق لاشتراكهما في قطع الاتصال، وإنما عدّ هذا ونحوه من أنواع المردود للجهل بحال الراوي المحذوف. وللتعليق صور، منها: 1- أن يحذف جميع السند، ويقول مثلاً: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا. 2- أن يحذف جميع السند إلا الصحابي. 3- أن يحذف جميعه إلا الصحابي والتابعي. 4- أن يحذف من حدثه ويضيفه إلى من فوقه. وإذا قال محدث: جميع من أحذفه ثقات، فقد اختلف في قبول ذلك وعدمه، وعند الجمهور لا يقبل إلا إن جاء مسمى من وجه آخر، وعرف بالعدالة والضبط؛ لأن ذلك المحذوف قد يكون ثقة عنده ومجروحاً عند غيره. وقال ابن حجر نقلاً عن ابن الصلاح: أنه إن وقع الحذف في كتاب التزمت صحته كصحيح البخاري فما أتى فيه بصيغة الجزم دل على أنه ثبت إسناده عنده، فهو في حكم الصحيح، وما أتى فيه بغير صيغة الجزم ففيه مقال، أي ليس فيه حكم بصحته، ومع ذلك فإيراده في كتاب الصحيح مشعر بصحة أصله إشعاراً يؤنس به ويركن إليه، وعلى الناظر إذا أراد الاستدلال أن ينظر في رجاله وحال سنده ليرى صلاحيته للحجة وعدمها. وصيغ الجزم عند البخاري: جاء، روى، قال، ونحوه ببناء الفاعل. ومن صيغ التمريض عنده: قيل، ذُكر، روي، حُكي، يُروى، يُذكر، يُقال، يُحكى عن فلان، مبنياً للمفعول. المرسل: وهو ما كان السقوط فيه من آخر السند بعد التابعي، كأن يقول التابعي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا، أو فعل كذا، أو فُعل بحضرته كذا، أو أمر بكذا. أو هو ما سقط منه الصحابي سواء أكان الراوي المرسل تابعياً كبيراً أو صغيراً، وهو لغة: من قولهم: ناقة رسل أي سريعة، فكأن المرسل أسرع إلى الحديث فحذف بعض إسناده، وقد يطلق المرسل على المنقطع والمعضل الآتي ذكرهما. المعضل: وهو لغة: مأخوذ من أعضله بمعنى أعياه، وقيل: من قولهم: أمر عضيل أي مستغلق شديد، واصطلاحاً: هو ما سقط من سنده راويان أو أكثر على التوالي قبل الصحابي، والفرق بينه وبين المعلق أن بينهما

- 27 - عموماً وخصوصاً من وجه، يجتمعان فيما إذا كان الساقط اثنين أو أكثر في بدء السند، وينفرد المعضل إذا وقع السقوط في غير بدئه كوسطه مثلاً. المنقطع: هو ما سقط من سنده راوٍ أو أكثر بشرط عند التوالي، وقيل: هو ما لم يتصل سنده من أي وجه وبأي حال كان انقطاعه، فيكون المنقطع على هذا أعم الأنواع الثلاثة. حكم المنقطع والمعضل والمرسل: عد المنقطع والمعضل من أنواع المردود؛ للجهل بحال المحذوف والمحذوفين، وكذلك المرسل؛ لأن المحذوف فيه يحتمل أن يكون صحابياً أو تابعياً، وعلى الثاني يحتمل أن يكون ضعيفاً أو ثقة، وعلى الثاني يحتمل أن يكون أخذ عن صحابي أو تابعي، وعلى الثاني يعود الاحتمال السابق ويتعدد، وإذا عرف من عادة تابعي أن لا يرسل إلا عن ثقة فقد اختلف في مراسيله، فذهب جمهور المحدثين إلى التوقف لبقاء الاحتمال، وهو أحد قولي أحمد، وثانيهما، وهو قول المالكية والحنفية: يقبل مطلقاً، وقال الشافعي: يقبل إذا اعتضد بمجيئه من وجه آخر يباين الطريق الأولى، وهذا الخلاف في مراسيل غير الصحابة، وأما مرسل الصحابي فحجة عند الجميع. تقسيم السقوط من السند السقوط من السند قسمان: (1) السقوط الواضح الجلي: وهو الذي يحصل الاشتراك في معرفته، ككون الراوي مثلاً لم يعاصر من روى عنه على زعمه، أو هو ما يعرف بعدم ملاقاة الراوي لشيخه، إما لأنه لم يدرك عصره، أو أدركه ولكن لم يجتمع به، وليس له منه إجازة ولا وجادة. المرسل الجلي: الإسناد الذي يكون السقوط فيه واضحاً، ولذلك يحتاج إلى علم التاريخ؛ لأنه يتضمن مواليد الرواة ووفياتهم وأزمان طلبهم وارتحالهم. (2) السقوط الخفي: وهو الذي لا يدركه إلا الجهابذة المطلعون على طرق الحديث وعلل الأسانيد دون غيرهم كما في المدلس. المدلس: بفتح اللام - هو ما رواه راوٍ عمن لقيه ولم يسمع منه بلفظ يوهم السماع منه، كعن أو قال أو أن فلاناً قال كذا، وهو مأخوذ من الدلس - بالتحريك - وهو اختلاط الظلام بالنور، فكأن المدلس أظلم الأمر على الناظر والسامع لتغطيته وجه الصواب. والتدليس نوعان: (1) تدليس الإسناد. (2) تدليس الشيوخ. (1) تدليس الإسناد: هو أن يروي عمن لقيه وسمع منه لكن لم يسمع منه ذلك الحديث الذي دلسه عنه، أو يروى عمن لقيه ولم يسمع منه شيئاً بلفظ موهم أنه سمعه منه، كأن يقول: عن فلان، أو قال فلان، وهو ثلاثة أقسام:

- 28 - 1- تدليس القطع: ويسمى تدليس الحذف، وهو أن يسكت الراوي بين صيغ الأداء ناوياً بذلك القطع أو الحذف. 2- تدليس العطف: وهو أن يصرح الراوي بالتحديث عن شيخ له، ويعطف عليه شيخاً آخر لم يسمع منه ذلك الحديث. 3- تدليس التسوية: وهو أن يسقط الراوي ضعيفاً بين ثقتين لقي أحدهما الآخر، ويروي الحديث عن شيخه الثقة عن الثقة الثاني بلفظ يوهم الاتصال كعن ونحوها؛ ليصير الإسناد كله ثقات، وهو شر أنواع التدليس. (2) تدليس الشيوخ: هو أن يسمي شيخه الذي سمع منه بغير ما اشتهر عند الناس من اسم أو لقب أو كنية، قاصداً تعمية أمره على السامع. وقد ذم جماعة من العلماء التدليس بأنواعه حتى قال شعبة: لأن أزني أحب إليّ من أن أدلس، وقال: التدليس أخو الكذب. قال ابن الصلاح: والصحيح التفصيل بين ما صرح فيه بالسماع فيقبل، وبين ما أتى بلفظ محتمل فيرد. المرسل الخفي: هو ما رواه الراوي عن معاصر له لم يعرف اللقاء بينهما، وليس له منه إجازة ولا وجادة، بلفظ موهم للاتصال، كعن وقال. فالفرق بين المدلس والمرسل الخفي أن التدليس يختص بمن روى عمن عرف لقاؤه إياه، فأما إن عاصره ولم يعرف اللقاء بينهما فهو المرسل الخفي. ويعرف الإرسال الخفي والتدليس بأمور، منها: أن يعرف عدم اللقاء بين الراوي والمروي عنه بنص بعض الأئمة على ذلك، ومنها: أن يعرف عدم سماعه مطلقاً أو لذلك الحديث بخصوصه بنص إمام على ذلك، أو إخبار المدلس والمرسل نفسه بذلك في بعض طرق الحديث، أو نحو ذلك. وجوه الطعن في الراوي وهي عشرة، خمسة منها تتعلق بالعدالة، وخمسة تتعلق بالضبط. فالخمسة التي تتعلق بالعدالة، هي (1) الكذب. (2) التهمة بالكذب. (3) الفسق. (4) الجهالة. (5) البدعة. والخمسة التي تتعلق بالضبط، هي (1) فحش الغلط. (2) الغفلة. (3) الوهم. (4) مخالفة الثقات. (5) سوء الحفظ، وترتيبها حسب تأثيرها في الرد كالآتي: الوجه الأول: كذب الراوي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويسمى خبر الكاذب عليه - صلى الله عليه وسلم -: الموضوع، من قولهم: وضع فلان، إذا ألصق به وافترى عليه. فالحديث الموضوع: هو الحديث الذي رواه راوٍ عرف بتعمد الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

- 29 - ويعرف الوضع بإقرار الواضح نفسه باختلاقه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو بحال المروي، كأن يكون مناقضاً للقرآن أو السنة المتواترة، أو يكون مخالفاً للحس والمشاهدة غير قابل للتأويل، أو يكون المروي خبراً عن أمر عظيم تتوافر الدواعي على نقله ثم لا ينقله إلا راوٍ واحد، أو يتضمن المروي وعيداً شديداً على أمر صغير، أو وعداً عظيماً على أمر حقير. والأمور الداعية إلى الوضع كثيرة، منها: 1- قصد التقرب إلى الله تعالى بوضع ما يرغب الناس في طاعته ويرهبهم عن معصيته، كما فعل المتصوفة. 2- التزلف إلى ولاة الأمر والحكام بوضع ما يوافق أهواءهم. 3- قصد إفساد الدين على أهله كما فعل الزنادقة. 4- غلبة الجهل كبعض المتعبدين. 5- فرط العصبية وانتصار للرأي كبعض المقلدين. 6- الإغراب لقصد الاشتهار. 7- التكسب والارتزاق بما يضع من الأحاديث كما هو شأن القصاصين. ورواية الموضوع حرام بالاتفاق إلا مقروناً ببيانه على سبيل القدح؛ ليحذره من يغتر به من الجهلة والعوام. الوجه الثاني: التهمة بالكذب، وذلك أن يعرف الراوي بالكذب في كلامه مع الناس، أو أن ينفرد بما يخالف القواعد المعلومة من الدين بالضرورة، ويسمى رواية المتهم بالكذب متروكاً. فالحديث المتروك: هو الحديث الذي رد بسبب تهمة راويه بالكذب، كرواية من يكون معروفاً بالكذب في كلامه، وإن لم يظهر منه وقوع ذلك في الحديث النبوي. الوجه الثالث، والرابع، والخامس: فحش الغلط، وكثرة الغفلة، والفسق بما لم يبلغ حد الكفر، ويقال للحديث الذي في سنده راوٍ فاحش الغلط، أو كثير الغفلة، أو الفاسق: المنكر. فالحديث المنكر: هو الحديث الذي رواه راوٍ فحش غلطه أو كثرت غفلته أو ظهر منه الفسق بما لم يبلغ حد الكفر، ويسمى هذا القسم من الحديث منكراً على رأي من لم يشترط في المنكر مخالفة الضعيف للثقة، أي لم يقصر المنكر على ما خالف الضعيف الثقة، وينبغي أن يعلم أن المراد بالفسق: الفسق في العمل دون الاعتقاد، فإن ذلك داخل في البدعة، وأكثر ما يستعمل البدعة في الاعتقاد، والكذب وإن كان داخلاً في الفسق لكنهم عدوه أصلاً على حدة لكون الفسق به أشد وأغلظ. الوجه السادس: الوهم، وهو أن يروى الحديث على سبيل التوهم، ويسمى حديث من عرف بالوهم المعل

- 30 - والمعلل، ويحصل معرفة ذلك بكثرة التتبع والاستقراء والنظر في اختلاف رواته وضبطهم وإتقانهم حتى يطلع على وهم الراوي. فالحديث المعلل: هو الحديث الذي ظاهره الصحة، وقد اطلع فيه على علة خفية قادحة في صحته. والوهم كما يقع في السند - وهو الغالب - كرفع موقوف، ووصل منقطع، يقع في المتن. وهو من أغمض أنواع علوم الحديث وأدقها، ولا يطلع عليه إلا من رزق فهماً ثاقباً واطلاعاً واسعاً بمراتب الرواة، وإدراكاً تاماً بالأسانيد والمتون. الوجه السابع: مخالفة الراوي للثقات، وتتضمن المخالفة ستة أنواع: الأول المدرج: بفتح الراء - مأخوذ من قولهم: أدرجت الشيء في الشيء، إذا أدخلته فيه وضمنته إياه، وهو ما اطلع على زيادة في سنده أو متنه ليست منه، وهو نوعان: (1) مدرج الإسناد. (2) مدرج المتن. مدرج الإسناد: هو ما كانت المخالفة فيه بتغيير سياق الإسناد، وله أقسام: 1- أن يروي الحديث جماعة بأسانيد مختلفة، فيرويه عنهم راوٍ فيجمع الكل على إسناد واحد من تلك الأسانيد، ولا يبين الاختلاف. 2- أن يكون المتن عند راوٍ بإسناد واحد إلا طرفاً منه فإنه عنده بإسناد آخر، فيرويه عنه راوٍ تاماً بالإسناد الأول. 3- أن يكون عند الراوي متنان مختلفان بإسنادين مختلفين، فيرويهما راوٍ عنه مقتصراً على أحد الإسنادين، أو يروي أحد الحديثين المختلفين بإسناده الخاص به ويزيد فيه من المتن الآخر ما ليس بذلك الإسناد، أي ما ليس في الأول. 4- أن يسوق الراوي الإسناد فيعرض له عارض فيقول كلاماً من قبل نفسه، فيظن بعض من سمعه أن ذلك الكلام هو متن ذلك الإسناد، فيرويه عنه كذلك. 5- أن يسمع الخبر عن شيخه إلا طرفاً منه فيسمعه عنه بواسطة ثم يرويه تاماً محذوف الواسطة. مدرج المتن: هو أن يقع في المتن كلام ليس منه كدمج موقوف بمرفوع من غير بيان، أو هو ما ذكر فيه الراوي وأدخل وضم إليه ما ليس منه موصولاً بلا فصل، فيتوهم أنه من الحديث، وهو قد يكون في أول الحديث وفي وسطه وفي آخره، وهو الأكثر. ودواعي الإدراج كثيرة، منها: (1) تفسير الألفاظ الغريبة في الحديث. (2) استنباط حكم من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -. (3) تبيان حكم شرعي. ويعرف الإدراج بأمور، منها:

- 31 - (ألف) أن يرد رواية مفصلة للقدر المدرج مما أدرج فيه، بأن يصرح بعض الرواة أو الراوي الذي ذكر ذلك الكلام بفصل تلك العبارة المدرجة عن متن الحديث ويضيفها إلى قائلها. (ب) أن يصرح الصحابي بأنه لم يسمع تلك الجملة من النبي - صلى الله عليه وسلم -. (ج) أن يستحيل أن يكون ذلك من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -. الثاني: المقلوب: ويسمى المنقلب من الانقلاب، والمقلوب لغة: اسم مفعول من "قلب الشيء" إذا صرفه عن وجهه، واصطلاحاً: هو ما كانت المخالفة فيه بالتقديم والتأخير، أو هو ما انقلب فيه على أحد الرواة لفظ في متنه أو اسم راوٍ أو نسبة في سنده، فقدم ما حقه التأخير أو أخر ما حقه التقديم، أو وضع شيئاً مكان شيء آخر فتغير بذلك معناه. وتبين من التعريف أن المقلوب قسمان: (1) المقلوب في المتن. (2) المقلوب في السند، وهو أن يكون الحديث مشهوراً براوٍ فيجعل مكانه راوٍ آخر، أي يبدل براوٍ آخر من طبقته، أو يكون مشهوراً بإسناد فيأتي بإسناد آخر مكانه لغرض الإغراب ونحوه، أو يقع القلب في اسم الراوي بالتقديم والتأخير، ومن القلب أن يؤخذ إسناد متن فيجعل على متن آخر، ويؤخذ متن هذا فيجعل بإسناد آخر، كما فعل أهل بغداد مع الإمام البخاري امتحاناً واختباراً، فردها كلها على وجهها، ويشترط لجواز ذلك عدم الاستقرار عليه بعد انتهاء الغرض. الثالث: المزيد في متصل الأسانيد: وهو ما كان المخالفة فيه بزيادة راوٍ في أثناء السند الذي ظاهره الاتصال، ومن لم يزدها أتقن ممن زادها. وشرطه أن يصرح من لم يزدها بالسماع في موضع الزيادة، وإلا فمتى كان الإسناد الخالي من الزيادة معنعناً في موضع الزيادة ترجحت الزيادة، وكان الحكم للإسناد المزيد فيه. الرابع: المضطرب: بكسر الراء - من الاضطراب، وهو لغة: الاختلاف، من قولهم: اضطرب القوم، إذا اختلفت كلمتهم، واصطلاحاً: هو أن تقع المخالفة فيه بإبدال راوٍ براوٍ، أو مروي بمروي، ولا مرجح لإحدى الروايتين على الأخرى، وقيل: المضطرب ما روي على أوجه مختلفة متفاوتة من غير ترجيح لإحدى الطرق سواء كان الاختلاف من راوٍ واحد، بأن رواه مرة على وجه ومرة على وجه أخرى مخالف للأول، أو أكثر من واحد بأن رواه جماعة كل على وجه مخالف للآخر، فإن ترجحت إحدى الطرق لا يكون الحديث مضطرباً. وينقسم المضطرب إلى ثلاثة أقسام: (1) مضطرب سنداً فقط. (2) مضطرب متناً فقط. (3) مضطرب فيهما. الخامس: المصحّف: وهو ما كانت المخالفة فيه بتغيير حرف فأكثر بتغيير النقط مع بقاء صورة الخط كمراجم ومزاحم وستاً وشيئاً وحميل وجميل.

- 32 - والتصحيف لغة: الخطأ في الصحيفة باشتباه الحروف مؤلدة، وقد تصحف عليه لفظ كذا. والتصحيف أكثر ما يقع في المتون، وقد يقع في الأسماء. السادس: المحرف: هو ما كانت المخالفة فيه بتغيير حرف فأكثر بتغيير في الشكل مع بقاء صورة الخط: كسَلِيم وسُلَيم، وأبي وأُبَي، ولا يجوز التغيير في الحديث سواء كان تغيير كلمة بكلمة أو حرف بحرف أو هيأة بهيأة، وكذا اختصار الحديث ورواية بعضه دون بعض، أو رواية الحديث بالمعنى، إلا لعالم بمدلولات الألفاظ ومقاصدها وما يحيل معانيها، وإذا كان ما تركه غير متعلق بما رواه بحيث لا يختل البيان ولا تختلف الدلالة إذا قطع بأداء المعنى. الوجه الثامن: الجهالة - بفتح الجيم -، وهي عدم معرفة عيب الراوي أو حاله، بأن لا يعلم فيه تجريح أو تعديل، وأسبابها ثلاثة: 1- كثرة نعوت الراوي من اسم أو كنية أو لقب أو حرفة أو صفة، فيشتهر بشيء منها، فيذكر بغير ما اشتهر به لغرض من الأغراض، فيظن أنه آخر، فيحصل الجهل بحاله. 2- كون الراوي مقلاً من الحديث فلا تكثر الرواية والأخذ عنه. 3- عدم تسمية الراوي اختصاراً من الراوي عنه، كأن يقول: أخبرني رجل أو شيخ أو فلان، ويسمى هذا القسم الأخير المبهم. فالمبهم: هو من لم يصرح باسمه لأجل الاختصار ونحوه، وحكم روايته عدم القبول على الأصح ولو أبهم بلفظ التعديل كأن يقول أخبرني الثقة. والمجهول نوعان: (1) مجهول العين. (2) مجهول الحال. (1) مجهول العين: هو ما انفرد بالرواية عنه راوٍ واحد، فلا يقبل حديثه كالمبهم إلا أن يوثقه غير من انفرد عنه، وكذلك من انفرد عنه إذا كان من أهل الجرح والتعديل. (2) مجهول الحال: ويسمى مستور الحال، وهو أن يروي عنه اثنان فصاعداً ولم يوثقه أحد، وحكم روايته التوقف فيها حتى تتبين حاله وتتضح. الوجه التاسع: البدعة، وهي لغة: مأخوذة من الابتداع، وهو الاختراع على غير مثال سابق، وشرعاً: المحدث في الدين، أي ما لم يكن عليه أمره - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه، أي ليس عليه أثارة من كتاب الله ولا من سنة رسوله، ولا فعله أو أمر به أصحاب رسوله، ويعتقد من الدين، وهو نوعان: 1- ما يوجب كفر صاحبه، كأن يكون منكراً لأمر مجمع عليه متواتر من الشرع معلوم من الدين بالضرورة، فهذا لا يقبل حديثه مطلقاً. 2- ما يستلزم فسق صاحبه، وهذا يقبل منه الرواية إن لم يكن داعية إلى بدعته ولا راوياً لما يقوي

- 33 - بدعته، فإن كان داعية إليها أو روى ما يقويها ردت روايته، وهذا على المذهب المختار عند الجمهور، وهو الصحيح. الوجه العاشر: سوء الحفظ، والمراد بسيء الحفظ هو من لم تترجح إصابته على خطئه. وسوء الحفظ نوعان: (1) ما كان ملازماً للراوي في جميع حالاته، وسيء الحفظ من نشأ على سوء الحفظ ولزمه ذلك في جميع أحواله، ويسمى حديث من هذا شأنه شاذاً على رأي بعض المحدثين. (2) ما طرأ عليه سوء الحفظ لكبر سنه أو لذهاب بصره أو لضياع كتبه، بأن كان يعتمدها فرجع إلى حفظه فساء، ويسمى هذا المختلط، وحكم روايته أن ما حدث به قبل الاختلاط وهو معلوم متميز يقبل، وما حدث به بعده لا يقبل، وإذا لم يتميز توقف فيه. وإذا توبع حديث من لازمه سوء الحفظ أو طرأ عليه ولم تتميز روايته بمعتبر فوقه أو مثله صار حديثهما حسناً لغيره، ومثل رواية هذين الموصوفين بسوء الحفظ في هذا الحكم بعد المتابعة، رواية المستور والإسناد المرسل وكذا المدلس إذا لم يعرف المحذوف منه، والحاصل أنه إذا توبع من سيء الحفظ والمختلط والمستور والمرسل والمدلس بمن يعتبر ويخرج حديثه للمتابعة والاستشهاد يصير حديثهم حسناً لغيره باعتبار المجموع من المتابِع والمتابَع. تنبيه لم يذكر النووي وابن الصلاح لقبول الحديث الضعيف سوى هذا الشرط "كونه في فضائل الأعمال ونحوها"، وذكر الحافظ له ثلاثة شروط: أحدها: أن يكون الضعف غير شديد، فيخرج من انفرد من الكذابين والمتهمين بالكذب، ومن فحش غلطه، نقل العلائي الاتفاق عليه. الثاني: أن يندرج تحت أصل معمول به. الثالث: أن لا يعتقد عند العمل به ثبوته بل يعتقد الاحتياط. مباحث الإسناد الإسناد: حكاية طريق المتن أي رفع الحديث وعزوه إلى قائله. السند: بالتحريك، لغة: المعتمد، واصطلاحاً: هو الطريق الموصلة إلى المتن، أي سلسلة الرجال الموصلين إلى المتن، وسمي بذلك لاعتماد المحدث في صحة الحديث وضعفه عليه، فالسند رواة الحديث، والإسناد فعل الرواة، وقد يطلق الإسناد على السند أيضاً فيكون الإسناد مرادفاً للسند. المتن: بالسكون، لغة: ما صلب وارتفع من الأرض، واصطلاحاً: ما ينتهي إليه السند من الكلام، وسمي بذلك لأن المسند يقوي الحديث بالسند ويرفعه إلى قائله. المسند: بفتح النون، له ثلاثة معانٍ:

- 34 - 1- الحديث المرفوع المتصل سنداً، يعني ما اتصل سنده من راويه إلى منتهاه مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسيأتي أيضاً. 2- كل كتاب جمع فيه مسندات كل صحابي، أي مروياته على حدة، فهو اسم مفعول. 3- أن يطلق ويراد به الإسناد فيكون مصدراً ميمياً. المسند: بكسر النون، هو من يروى الحديث بسنده سواء كان عنده علم به أو ليس له إلا مجرد روايته، وتميز في ذلك حتى اشتهر فيه. المحدث: هو من يشتغل بعلم الحديث رواية ودراية، ويطلع على كثير من الروايات وأحوال رواتها، فهو أرفع من المسند. الحافظ: هو مرادف للمحدث عند كثير من المحدثين، وقيل: الحافظ أرفع درجة من المحدث بحيث يكون ما يعرفه من كل طبقة أكثر مما يجهله. ... والحديث ينقسم باعتبار منتهى الإسناد إلى ثلاثة أقسام: مرفوع، موقوف، مقطوع. المرفوع: ما أضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير، صريحاً أو حكماً، وأنواعه ستة: 1- المرفوع القولي صريحاً: قول الصحابي: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول كذا، أو قوله أو قول غيره: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول كذا. 2- المرفوع الفعلي صريحاً: قول الصحابي: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل كذا، أو قوله أو قول غيره: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل كذا. 3- المرفوع التقريري صريحاً: قول الصحابي: فعلت بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - كذا، أو قوله أو قول غيره: فعل فلان بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - كذا، ولا يذكر إنكاره. 4- المرفوع القولي حكماً: أن يخبر الصحابي الذي لم يأخذ عن الإسرائيليات بما لا مجال للاجتهاد فيه كالإخبار عن الأمور الماضية من بدأ الخلق وقصص الأنبياء، أو عن الأمور الآتية كالفتن وأحوال يوم القيامة، وكذا الإخبار عما يحصل بفعله ثواب مخصوص أو عقاب مخصوص. 5- المرفوع الفعلي حكماً: أن يفعل الصحابي ما لا مجال للاجتهاد والرأي فيه كصلاة علي - رضي الله عنه - الكسوف في كل ركعة أكثر من ركوعين. 6- المرفوع التقريري حكماً: أن يخبر الصحابي أنهم كانوا يفعلون في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - كذا، ولا ينكر عليهم، ومن الصيغ التي لها حكم الرفع قول الصحابي: من السنة كذا، وأمرنا بكذا، نهينا عن كذا، أو يحكم الصحابي على فعل من الأفعال بأنه طاعة لله تعالى أو لرسوله أو معصية. الموقوف: ما أضيف إلى الصحابي من قول أو فعل أو تقرير.

- 35 - الصحابي: من لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمناً به ومات على الإسلام ولو تخللت ذلك ردة في الأصح، فمن لقيه - صلى الله عليه وسلم - في كفره، أو ارتد بعد لقائه - صلى الله عليه وسلم - في الإسلام ومات على الردة فلا يعدّ من الصحابة. ... والمراد باللقي ما هو أعم من المجالسة والمماشاة والجلوس معه - صلى الله عليه وسلم - قليلاً أو كثيراً، والصحبة تعرف بالتواتر أو الاستفاضة أو بإخبار بعض الصحابة أو بعض ثقات التابعين أو بإخباره عن نفسه أنه صحابي إذا كانت دعواه ممكنة. المقطوع: ما أضيف إلى التابعي أو من دونه من قول أو فعل أو تقرير. التابعي: من لقي الصحابي مؤمناً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ومات على ذلك. ... والفرق بين المقطوع والمنقطع أن القطع من صفات المتن أي المقطوع من مباحث المتن، كالرفع والوقف، والمراد به المتن الذي انتهى سنده إلى التابعي أو من دونه، والانقطاع من صفات الإسناد كالإرسال والتعليق، يعني أن المنقطع من مباحث السند، والمراد به السند الذي سقط منه واحد أو أكثر بشرط عدم التوالي كما تقدم. ... والمحدثون قد يطلقون الأثر على الخبر الموقوف والمقطوع أيضاً، فكل منهما يقال له أثر. المخضرم: هو الذي أدرك زمن الجاهلية والإسلام ولم يلق النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمخضرمون معدودون في كبار التابعين على الأصح، سواء عرف أن الواحد منهم كان مسلماً في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - كالنجاشي أم لا، والمخضرمون أكثر من عشرين نفساً. المسند: هو ما رفعه الصحابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد ظاهره الاتصال. المتصل: ويسمى الموصول، وهو ما اتصل سنده سواء كان مرفوعاً إليه - صلى الله عليه وسلم - أو موقوفاً. المعنعن: هو ما يقال في سنده: عن فلان عن فلان، قيل: إنه مرسل حتى يتبين اتصاله، والجمهور على أنه متصل إذا أمكن لقاء من أضيفت العنعنة إليهم بعضهم بعضاً مع براءة المعنعن من التدليس وإلا فليس بمتصل. المؤنن: هو ما يقال في سنده: "حدثنا فلان أن فلاناً"، وهو كالمعنعن. علو السند ونزوله ... العلو عبارة عن قلة رجال السند، والنُزول عبارة عن كثرتهم، وهما من صفات الإسناد. ... والسند من حيث علوه ونزوله قسمان: عالٍ، ونازلٍ. السند العالي: ما كان عدد رجاله قليلاً بالنسبة إلى سند آخر يرد به ذلك الحديث بعينه يكون عدد رجاله كثيراً. السند النازل: هو ما كان عدد رجاله كثيراً بالنسبة إلى سند آخر يرد به ذلك الحديث بعينه يكون عدد رجاله قليلاً. ... والعلو في السند نوعان:

- 36 - (1) العلو المطلق: هو ما انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدد قليل بالنسبة إلى سند آخر ورد به ذلك الخبر بعدد كثير، وضده النُزول المطلق. (2) العلو النسبي: هو ما انتهى سنده إلى إمام من أئمة الحديث كشعبة ومالك والبخاري وأحمد ومسلم مثلاً بعدد قليل بالنسبة إلى سند آخر ورد به ذلك الخبر بعدد كثير، وضده النُزول النسبي. ... وإنما كان العلو مرغوباً فيه عند المحدثين لكونه أقرب إلى الصحة وقلة الخطأ؛ لأنه ما من راوٍ من رجال الإسناد إلا والخطأ جائز عليه، فكلما كثرت الوسائط وطال السند كثرت مظان تجويز الخطأ، وكلما قلت قلت. ... وإذا كانت في السند النازل مزية ليست في العالي كأن يكون رجاله أوثق منه أو أحفظ أو أفقه أو الاتصال فيه أظهر فلا تردد في أن السند النازل أولى من العالي. ... وتتفرع من العلو النسبي أربعة أنواع: (1) الموافقة (2) البدل (3) المساواة (4) المصافحة. الموافقة: هي أن يصل الراوي إلى شيخ أحد من المصنفين من غير طريقه مع علو إسناده على إسناد المصنف، كأن يكون مسلم مثلاً روى حديثاً عن يحيى عن مالك عن نافع عن ابن عمر، فترويه أنت بإسناد آخر عن يحيى بعدد أقل مما لو رويته من طريق مسلم، فقد حصلت لك الموافقة مع مسلم في شيخه يحيى مع علو الإسناد على الإسناد إليه. البدل: ويسمى الإبدال، وهو أن يصل إلى شيخ شيخ أحد المصنفين من غير طريقه، وصورته في المثال السابق أن ترويه بإسناد آخر عن مالك، أو عن نافع، أو عن ابن عمر بعدد أقل أيضاً، فيكون تلميذ مالك في هذا الإسناد الآخر بدلاً عن يحيى، وقد يسمى هذا موافقة بالنسبة إلى الشيخ الذي يجتمع فيه إسنادك بإسناد مسلم كمالك ونافع. المساواة: وهي تساوي عدد الإسناد من الراوي إلى آخره مع إسناد أحد المصنفين، كأن يروي النسائي مثلاً حديثاً بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه أحد عشر نفساً، فيقع لنا ذلك الحديث بعينه بسند آخر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يقع بيننا وبينه - صلى الله عليه وسلم - فيه أحد عشر نفساً، فنساوي النسائي من حيث العدد مع قطع النظر عن ملاحظة ذلك الإسناد الخاص. قال السيوطي: ولا يوجد ذلك الآن في حديث بعينه، بل يوجد التساوي في مطلق العدد، والعلو في تلك المساواة غير ظاهر، إلا أن يقال: إن العلو فيها باعتبار أن الراوي لو روى عن أحد المصنفين للكتب المذكورة لكان العدد أكثر. المصافحة: هي أن يستوي عدد رجال الإسناد من الراوي إلى آخر الإسناد مع إسناد تلميذ أحد المصنفين، أو هي أن تقع المساواة للراوي مع تلميذ أحد المصنفين على الوجه المشروح، وسميت بذلك لأن العادة

- 37 - جرت في الغالب بالمصافحة بين المتلاقين، فكأن الراوي لقي المصنف وصافحه، ومثالها يفهم مما ذكر في المساواة قبلها. ... والنُزول أيضاً أقسام كالعلو، ويقابل كل قسم منها قسماً من أقسام العلو. رواية الأقران: القرينان هما المتقارنان في السن والأخذ عن المشايخ، ورواية الأقران: هي أن يروي قرين عن قرينه كرواية سليمان بن مهران الأعمش عن سليمان بن طرخان التيمي وهما قرينان، وبعبارة أخرى: هي أن يشترك تلميذان في الرواية عن شيخ، ويكون أحد التلميذين قد روى عن زميله وقرينه. المدبج: بفتح الدال المهملة وتشديد الباء الموحدة، مأخوذ من ديباجتي الوجه، وهما الخدان لتساويهما وتقابلهما، وهو اصطلاحاً: أن يشترك التلميذان في الرواية عن شيخ، ويكون كل واحد من التلميذين قد روى عن الآخر، كرواية عائشة عن أبي هريرة ورواية أبي هريرة عنها، وكرواية مالك والأوزاعي، ورواية أحمد بن حنبل وعلي بن المديني، كلٌ عن الآخر. ... والمدبج أخص مطلقاً من رواية الأقران، ومن فوائد معرفة هذا النوع الأمن من أن يظن زيادة في السند، أو يظن إبدال "عن" بالواو. رواية الأكابر عن الأصاغر: هو أن يروي الراوي عمن هو دونه في السن أو في مقدار الحفظ والعلم أو في كليهما، كرواية الزهري عن مالك، ورواية مالك عن عبد الله بن دينار. ... ومن هذا النوع رواية الآباء عن الأبناء، ورواية الصحابة عن التابعين، والشيخ عن تلميذه. ... ومن فوائد هذا النوع دفع توهم الانقلاب في السند؛ لأن الغالب رواية الأصاغر عن الأكابر. رواية الأصاغر عن الأكابر: هي رواية الشخص عمن فوقه في السن أو في قدر العلم والحفظ، وهي الأصل والطريقة المسلوكة المألوفة غالباً، ومن هذا النوع رواية الأبناء عن الآباء عن الأجداد. السابق واللاحق: هو أن يشترك اثنان متقدم ومتأخر موتاً في الرواية عن شيخ واحد مع التباعد بين وفاتيهما، مثال ذلك الإمام مالك روى عنه الزهري وتوفي سنة 124هـ، وأحمد بن إسماعيل السهيمي وتوفي سنة 259هـ، وبين وفاتيهما مائة وخمسة وثلاثون سنة، فالزهري يقال له السابق والسهيمي يقال له اللاحق. ... ومن فوائد معرفة هذا النوع الأمن من أن يظن سقوط شيء من إسناد المتأخر، أي انقطاعه. المهمل: هو أن يروي الراوي عن اثنين متفقين في الاسم فقط، أو مع اسم الأب، أو مع اسم الجد، أو مع النسبة، ولم يتميزا بما يخص كل واحد منهما، فإن كانا ثقتين لم تضر الجهالة بهما، وإن كان أحدهما ثقة والآخر ضعيفاً ضرت الجهالة، مثال الأول: ما وقع من البخاري في روايته عن أحمد غير منسوب عن ابن وهب، فإنه إما أحمد بن صالح أو أحمد بن عيسى، وكلاهما ثقة، ومثال الثاني: سليمان بن داود الخولاني، وهو ثقة، وسليمان بن داود اليمامي، وهو ضعيف.

- 38 - والفرق بين المبهم والمهمل أن المبهم لم يذكر اسمه، وأما المهمل فذكر اسمه لكن مع الاشتباه. من حدث ونسي من حدث ونسي: هو أن ينكر الشيخ رواية ما حدث به تلميذه عنه، فإن كان الإنكار بصيغة الجزم واليقين كأن يقول: كذب علي، أو ما رويت له ذلك، أو كذبت علي، أو ما حدثتك بهذا، فحكمه رد تلك الرواية، ولا يكون ذلك قادحاً في عدالة واحد منهما، إذ ليس أحدهما أولى بالطعن فيه من الآخر، وإن أنكر على سبيل التردد والشك كأن يقول: ما أذكر هذا، أولا أعرفه، أو نحو ذلك، فيقبل هذا المروي محمولاً على نسيان الشيخ وتذكر التلميذ، إذ المثبت الجازم مقدم على النافي المتردد. المسلسل: هو ما اتفق رواته في صيغ الأداء أو غيرها من الصفات والحالات، كمسلسل التشبيك باليد والمصافحة والقبض على اللحية. ... وحالات الرواة أفعالهم وأقوالهم، وحالات الرواية ما يتعلق بصيغ الأداء أو بزمنها ومكانها. ... وهو نوع واسع جداً، ومن فوائده اشتماله على مزيد الضبط من رواته، وصيغ الأداء على ثمان مراتب: صيغ الأداء: (1) سمعت وحدثني (2) ثم أخبرني وقرأت عليه (3) ثم قرئ عليه وأنا أسمع (4) ثم أنبأني. (5) ثم ناولني (6) ثم شافهني بالإجازة (7) ثم كتب إلي بالإجازة (8) ثم عن ونحوها مثل "قال" و"ذكر" و"روى". تحمل الحديث وأداؤه تحمل الحديث: هو روايته وأخذه عن المشايخ، ويشترط في الأصح في ذلك اعتبار الفهم والتمييز. الأداء: هو تحديث الشيخ تلاميذه بما كان قد تحمله، ويشترط فيمن يحتج بروايته العدالة والضبط، وقد تقدم معنى الضبط والعدالة. طرق تحمل الحديث وصيغ الأداء (1) السماع من لفظ الشيخ: وهو أعلى طرق تحمل الحديث، وكيفيته: أن يقرأ الشيخ من كتابه أو حفظه والطالب يسمع إملاء أو غير إملاء، ويقول في الأداء: سمعت أو حدثني، واللفظ الأول - أي سمعت - أصرح في التعبير عن سماع قائله؛ لأنه لا يحتمل الواسطة، وأما حدثني فقد استعملت في الإجازة تدليساً، وأرفع صيغ الأداء وأعلاها ما وقع منها في الإملاء؛ لما فيه من تثبت الشيخ وتيقظ الطالب وانتباهه فهما لذلك أبعد من الغفلة وأقرب إلى التحقيق، وقوله "سمعت وحدثني" يدلان على أن الراوي وحده سمع من لفظ الشيخ، فإنه شاركه غيره قال: سمعنا أو حدثنا، وأما الصيغة الثالثة: أي أخبرني، والرابعة: أي

- 39 - قرأت عليه، فهما للقراءة على الشيخ كما سيأتي، وهما تدلان على أن التلميذ قرأ على الشيخ بنفسه، فإن جمع فقال: أخبرنا أو قرأنا عليه فهي كقوله: قرئ عليه وأنا أسمع، فإنه يدل على أن غير الراوي شاركه في القراءة والعرض على الشيخ. ... ولا فرق بين التحديث والإخبار لغة، أما في اصطلاح المحدثين فالشائع عندهم التفريق بينهما بتخصيص التحديث بما سمع من لفظ الشيخ، والإخبار بالعرض والقراءة عليه. (2) القراءة على الشيخ: ويسميها البعض عرضاً؛ لأن القارئ يعرض على الشيخ ما يقرأه، سواء قرأ الطالب بنفسه على الشيخ من حفظه أو كتابه، أو قرأ عليه غيره وهو يسمع، وسواء أكان الشيخ حافظاً لما يقرأ عليه أو لا، ولكن أمسك أصله هو أو ثقة غيره، ويقال في الأداء: قرأت على فلان، أو قرئ على فلان وأنا أسمع، ويجوز له أن يعبر بما سبق من صيغ الأداء بشرط أن يقيد بالقراءة لا مطلقاً، نحو حدثني فلان قراءة عليه. ... واختلف في أن العرض مساوٍ للسماع من لفظ الشيخ رتبة أو فوقه أو دونه، والراجح أن العرض دون السماع من لفظ الشيخ. ... والإنباء عند متقدمي المحدثين بمعنى الإخبار، أما عند متأخريهم فللإجازة كعن فإنها في اصطلاحهم للإجازة. ... وعنعنة المعاصر محمولة على سماعه ممن عنعن عنه إلا أن يكون معروفاً بالتدليس فيشترط فيه ثبوت اللقاء بين الراوي والمروي عنه ولو مرة واحدة على المذهب المختار؛ ليحصل الأمن في باقي العنعنة عن كونه من المرسل الخفي. (3) الإجازة: وهي الإذن في الرواية لفظاً أو كتابة، أي إذن الشيخ لتلميذه بأن يروي عنه مسموعاته، وإن لم يسمعها منه أو يقرأها عليه، وهي أنواع: 1- منها: الإجازة لمعين بمعين، نحو أجزتك أن تروي عني صحيح البخاري، ولا يناوله إياه، وهي أعلى أنواع الإجازة المجردة عن المناولة، ولا خلاف في جواز الرواية بذلك والعمل بها. 2- ومنها: الإجازة لمعين بغير معين، نحو أجزتك رواية مسموعاتي. 3- ومنها: الإجازة لغير معين بمعين، نحو أجزت لمن أدركني رواية صحيح مسلم. 4- ومنها: الإجازة لغير معين بغير معين، نحو أجزت لأهل زماني رواية مسموعاتي. 5- ومنها: الإجازة لمعدوم تبعاً لموجود، نحو أجزت لفلان ومن يولد بعد بكذا. ... وفي جواز الرواية بهذه الأنواع كلها خلاف ما عدا الأول. المشافهة: هي أن يشافه الشيخ تلميذه بالإذن له بالرواية عنه، ويقول في الأداء: شافهني بالإذن، فتستعمل المشافهة في الإجازة المتلفظ بها دون الإجازة بالمكاتبة، وإنما يقال فيها: كتب إلي.

- 40 - (4) المناولة: وهي إعطاء الشيخ الطالب شيئاً من مروياته، وهي نوعان: 1- المناولة المقرونة بالإجازة: وهي أن يناول الشيخ الطالب أصله أو فرعاً مقابلاً به، أو يحضر الطالب أصل الشيخ ويقول له الشيخ: هذا روايتي عن فلان فاروه عني، أو أجزت لك روايته. ... وشرطه أن يمكّن الشيخ الطالب على أصله تمليكاً بالبيع أو الهبة أو عارية لينقل عنه ويقابل عليه ثم يرده، وأما إذا ناوله الأصل وأذن له بالرواية عنه ثم استرده في الحال فلا مزية لها على الإجازة المعينة؛ لعدم احتواء الطالب على الكتاب المجاز به، وقد تقدمت صورة الإجازة المعينة. 2- المناولة المجردة عن الإجازة: بأن يناوله أصله أو ما قام مقامه مقتصراً على قوله: هذا سماعي أو روايتي عن فلان، ولم يعتبر بها عند الجمهور. ... وصورة الأداء بالإجازة أو المناولة: حدثني فلان إجازة، أو مناولة، وكذا أخبرني إجازة، أو مناولة، أو نحو ذلك. (5) المكاتبة: وهي أن يكتب الشيخ مسموعه لحاضر أو غائب، سواء كتب بخطه أم كتب عنه بأمره، وهي نوعان أيضاً: (1) مقرونة بالإجازة، وهي في الصحة والقوة مثل المناولة المقرونة بالإذن. (2) مجردة عنها، فهي في الحكم كالمناولة المجردة عن الإذن. ... وصورة الأداء: حدثني فلان مكاتبة، أو كتب إلي فلان، أو نحو ذلك. (6) الإعلام: وهو أن يقول الشيخ للطالب: إن هذا الكتاب أو الحديث من مسموعاتي عن فلان. (7) الوصية: وهي أن يوصي الشيخ عند موته أو سفره لشخص معين بكتاب مروي له، ويقال في الأداء: أوصى إلي فلان، أو حدثني فلان وصية. (8) الوجادة: وهي أن يجد الطالب كتاباً أو حديثاً بخط يعرف كاتبه، فيقول في الأداء: وجدت بخط فلان كذا وكذا، أو قرأت بخط فلان كذا وكذا، والمروي بالوجادة من قبيل المنقطع الذي فيه شائبة الاتصال. ... ويشترط لصحة الرواية بكل من الإعلام والوصية والوجادة أن يكون مقروناً بالإجازة والإذن بالرواية على الصحيح، وإلا فلا عبرة بها كالإجازة العامة في المجاز له. الإجازة العامة في المجاز به: كأن يقول الشيخ لتلميذه: أجزت لك أن تروي عامة مروياتي، وما أشبه ذلك، وتقبل على الأصح. الإجازة العامة في المجاز له: وهي أن يقول الشيخ: أجزت لجميع المسلمين أو لمن أدرك حياتي أو نحوه، فلا عبرة بها على الأصح عند المحدثين. المتفق والمفترق: هو أن تتفق أسماء الرواة وأسماء آبائهم فصاعدا أو كناهم أو أنسابهم وتختلف أشخاصهم، كالخليل بن أحمد - يطلق على جماعة، منهم النحوي صاحب العروض، ومنهم المزني.

- 41 - وفائدة معرفة هذا النوع الأمن من اللبس، فربما يظن الأشخاص شخصاً واحداً كما وقع لجماعة. المؤتلف والمختلف: هو أن تتفق أسماء الرواة خطاً وتختلف نطقاً، سواء كان مرجع الاختلاف النقط أو الحركات، كسلاَم وسلاّم، ومِسوَر ومُسوِّر. ... وفائدة هذا النوع الأمن من التصحيف والتحريف. المتشابه: هو أن تتفق أسماء الرواة نطقاً وخطاً وتختلف أسماء آبائهم نطقاً لا خطاً، وسمي بذلك لتشابهه بالنوعين اللذين قبله؛ لأنه مركب منهما، نحو محمد بن عَقِيْل ومحمد بن عُقَيْل، أو بالعكس نحو شريح بن النعمان، وسريج بن النعمان، ويتركب من المتشابه ومما قبله من المؤتلف والمختلف أنواع. معنى الطبقة ومراتب الجرح والتعديل الطبقة: عبارة عن جماعة اشتركوا في السن واللقي الذي هو الأخذ عن المشايخ، مثل الصحابة والتابعين. ... وفائدة معرفة طبقات الرواة الأمن من تداخل المشتبهين، وإمكان الوقوف على تبيين التدليس والاطلاع على حقيقة المراد من العنعنة. ... وللجرح مراتب أسوأها الوصف بما دل على المبالغة، مثل قولهم: فلان أكذب الناس، أو إليه المنتهى في الوضع، أو هو ركن الكذب، أو معدنه، أو نحو ذلك، ثم دجال، أو كذاب، أو وضاع، أو يضع الحديث، أو يكذب. ... وأسهل الألفاظ الدالة على الجرح قولهم: فلان لين، أو سيء الحفظ، أو فيه أدنى مقال. ... وبين أسوأ الجرح وأسهله مراتب، مثل قولهم: فلان متروك، أو ساقط، أو فاحش الغلط، أو منكر الحديث، وهي أشد من قولهم فلا ضعيف، أو ليس بالقوي، أو فيه مقال. ... وأرفع مراتب التعديل الوصف بما دل على المبالغة فيه، كالوصف بأفعل، مثل فلان أوثق الناس، وكذا قولهم: فلان إليه المنتهى في التثبت، ثم ما تأكد بصفة أو صفتين من الصفات الدالة على التعديل، مثل: ثقة ثقة، أو ثقة حافظ، أو عدل ضابط. ... وأدنى مراتب التعديل ما أشعر بالقرب من أسهل التجريح، مثل قولهم: فلان شيخ، يروى حديثه، ولا بأس به، ونحو ذلك. ... واعلم أنهم اختلفوا في عدد مراتب ألفاظ التجريح والتعديل وبيانها وترتيبها، فجعل ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل وتبعه ابن الصلاح في مقدمته، لكل منهما أربع مراتب، وجعل العراقي في شرح ألفيته خمس مراتب، والسخاوي في شرح الألفية، والسندي في شرح النخبة ست مراتب، من أحب الوقوف عليها وعلى أحكامها رجع إلى الكتب المذكورة وغيرها من الكتب المبسوطة في أصول الحديث.

- 42 - التعديل والتزكية تقبل إذا صدرت من عارف بأسبابها ولو كان واحداً على الأصح، ويقدم الجرح على التعديل إذا تعارضا؛ لأن المجرح معه زيادة علم خفيت على المعدل، ولكن يشترط لتقديم الجرح على التعديل أن يكون الجرح مفسراً ومبيناً، ويصدر من عارف بأسبابه؛ لأنه إن كان غير مفسر لم يقدح فيمن ثبتت عدالته، وإن كان صادراً من غير عارف بالأسباب لم يعتبر به أيضاً، فإن خلا عن التعديل قبل مجملاً غير مبين السبب. ومن الأمور المهمة فيما يتعلق بالرواة معرفة طبقاتهم ومواليدهم ووفياتهم وأحوالهم. 1- ومنها معرفة كنى المسمين ممن اشتهر باسمه وله كنيته لئلا يظن أنه آخر. 2- ومعرفة من اشتهر بكنيته وله اسم. 3- ومعرفة من كنيته اسمه. 4- ومعرفة من كثرت كناه. 5- ومعرفة من اختلف في كنيته. 6- ومعرفة من وافقت كنيته اسم أبيه. 7- ومعرفة من وافق اسمه كنية أبيه. 8- ومعرفة من وافق اسم شيخه اسم أبيه. 9- ومعرفة من وافق اسم الراوي عنه اسم شيخه. 10- ومعرفة من اتفق اسمه اسم أبيه واسم جده. 11- ومعرفة من اتفق اسمه واسم شيخه واسم شيخ شيخه. 12- ومعرفة من نسب إلى غير أبيه. 13- ومعرفة من نسب إلى أمه. 14- ومعرفة من نسب إلى غير ما يسبق إلى الذهن والفهم. 15- ومعرفة المفردة من الأسماء والكنى والأنساب: وهي التي لم يشارك صاحبها أحد في التسمية والكنية واللقب، أي التي لم يسمع بها إلا واحد. 16- ومعرفة الأنساب والألقاب، والنسبة تقع تارة إلى القبائل، وتارة إلى الأوطان، وقد تقع إلى الصنائع والحرف والعاهات. ... وقد تقع الأنساب ألقاباً، ومن المهم أيضاً معرفة أسباب الألقاب والأنساب، إذ قد تكون على خلاف الظاهر. 17-

- 43 - ومنها معرفة الموالي من الرواة، والولاء ثلاثة أنواع: (1) ولاء العتاقة، وهي الأكثر، وكثير من الرواة نسب إلى قبيلة معتقه. (2) ولاء بالإسلام: وهو أن يسلم رجل على يد رجل آخر فينسب إلى قبيلته. (3) ولاء بالحلف - بالكسر - وهي المعاقدة والمعاهدة على التناصر والتآزر، ولفظ المولى مشترك بين المولى الأعلى، هو المعتق - بالكسر -، والمحالف - بالفتح -، ومن أسلم على يديه غيره، وبين المولى الأسفل وهو العتيق، والمحالف - بالكسر -، والمسلم على يد الغير. 18- ومنها معرفة الإخوة والأخوات؛ للأمن من اللبس والسلامة من أن يظن المتعدد واحداً، أو يظن غير الأخ أخاً للاشتراك في اسم الأب، وارجع لأمثلة ذلك كله إلى الكتب المبسوطة في علم مصطلح الحديث. الرحلة في طلب الحديث، وكيفية كتابته وتصنيفه صفة كتابة الحديث: هي أن يكتبه بخط واضح جلي مبيناً مفسراً، ويشكّل المشكل منه، وينقط ويكتب الساقط من أصله على الحاشية اليمنى إن أمكن وإلا ففي اليسرى، ولا يكتب بين الأسطر. الرحلة في طلب الحديث: ينبغي للطالب قبل الرحلة أن يبدأ بحديث أهل بلدته فيستوعبه، ثم يرحل لتحصيل ما ليس عنده من المتون والأسانيد، ويكون اعتناؤه بتكثير المسموع أولى من اعتنائه بتكثير الشيوخ. سماع الحديث: أن يكون الطالب يقظاً عند سماع الحديث من لفظ الشيخ أم القراءة عليه، وأن لا يتشاغل بما يخل من كلام أو قراءة أو كتابة شيء غير المسموع. عرض الحديث: هو أن يقابل الطالب مع الشيخ سواء كان مع الشيخ أصله أم عول على حفظه، أو يقابل مع ثقة غيره، أو يقابل بنفسه على أصل الشيخ أو فرع مقابل عليه. إسماع الحديث: هو أن يكون الشيخ يقظاً وقت الإسماع والتحديث، غير مشغول بما يخل، وأن يكون أداؤه من أصله الذي سمع فيه، أو من فرع مقابل عليه، فإن تعذر فيجبره بالإجازة. آداب الشيخ والطالب يشتركان في تصحيح النية، وبذل النصيحة للمسلمين، وتطهير القلب من أغراض الدنيا، والعمل بالعلم، وتحسين الخلق. وينفرد الشيخ بأن يسمع إذا احتيج إليه مع رغبته في الخير للطالب، ويقبل على الحاضرين، ويفتتح مجلسه بالتحميد والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويختمه كذلك، وأن يجلس بالوقار والسكينة، وأن يستنصت الطلاب، وإن رفع أحدهم صوته زجره؛ لأن رفع الصوت عند حديثه عليه الصلاة والسلام

- 44 - مثل رفعه عنده، وقد نهى الله عن ذلك، وأن لا يقوم لأحد أثناء التحديث، ولا يحدث قائماً ولا عجلاً ولا في الطريق إلا لحاجة. وينفرد الطالب بأن يوقر الشيخ ويعظمه، ولا يمنعه الكبر أو الحياء من الاستفادة والسعي التام في التحصيل وأخذ العلم ولو عمن هو دونه في السن أو القدر أو النسب، وأن لا يكتم شيئاً من العلم، ولا يمتنع من إفادة غيره من الطلبة، وأن يصبر على جفاء الشيخ، ويعتني بالضبط والتقييد وكثرة المذاكرة لما كتبه ليرسخ في ذهنه، ويكتب ما سمعه تاماً. التصنيف في الحديث الكتب المصنفة في الحديث أنواع: 1- الجوامع الجامع: كل كتاب يكون جامعاً لأحاديث الأبواب الثمانية، أي لأحاديث العقائد، والأحكام، والرقاق، وآداب الأكل والشرب والسفر والقيام والقعود، والتفسير، والتاريخ والسير، والفتن، وأحاديث المناقب والمثالب، مثل الجامع الصحيح للبخاري. 2- المسانيد المسند: كل كتاب جمع فيه مرويات كل صحابي على حدة من غير تقييد بصحة الحديث وحسنه، ولا بمناسبة لباب ونحوه، ووقع ترتيب الصحابة فيه باعتبار فضلهم أو سبقهم إلى الإسلام أو قرابتهم منه - صلى الله عليه وسلم -، كمسند الإمام أحمد بن حنبل (رح) . 3- السنن السنن: كل كتاب جمع فيه الأحاديث على الأبواب الفقهية، بأن يجمع في كل باب ما ورد فيه ما يدل على حكمه وجوباً أو ندباً أو كراهة أو حلاً أو حرمة، مثل السنن الأربعة. 4- المعاجم المعجم: كل كتاب ذكر فيه الأحاديث على ترتيب الشيوخ، سواء اعتبر فيه تقدم وفاة الشيخ أو توافق حروف التهجي أو الفضيلة أو التقدم في العلم والتقوى، والغالب فيه الترتيب على حروف الهجاء، كالمعاجم الثلاثة للطبراني. 5- الأجزاء الجزء: ما يجمع فيه أحاديث رجل واحد، سواء كان ذلك الرجل من الصحابة أو من بعدهم، كجزء حديث أبي بكر مثلاً، وجزء حديث مالك.

- 45 - أو ما يذكر فيه الأحاديث المتعلقة بموضوع واحد، كجزء رفع اليدين في الصلاة للإمام البخاري، ويقال له الرسالة أيضاً، وقد يطلق كل واحد منهما على الآخر. 6- الأربعون الأربعون حديثاً: هو ما يجمع في باب واحد أو أبواب شتى بسند واحد أو أسانيد متعددة، كأربعين حديثاً للنووي وغيره. 7- الأفراد أو المفردات الفرد أو المفرد: ما لم يروه إلا راوٍ واحد، أو ما يحتوي على أحاديث شخص واحد، مثل أحاديث أبي هريرة. 8- الغرائب الغريب: هو ما وقع في موضع من سنده التفرد. 9- التراجم التراجم: هو مجموع الأحاديث التي رويت بإسناد واحد، كمالك عن نافع عن ابن عمر. 10- المشيخة المشيخة: هو ما جمع فيه مرويات شيخ مخصوص ومسموعاته. 11- العلل العلل: هي الكتب التي يجمع فيها الأحاديث المعلولة مع بيان عللها. 12- المستخرجات المستخرج: كل كتاب يخرج فيه أحاديث كتاب آخر بأسانيد صحيحة من غير طريق صاحب الكتاب، ويجتمع معه في شيخه أو فيمن فوقه من الرجال، كمستخرج أبي نعيم الأصبهاني على الصحيحين. 13- المستدركات المستدرك: كل كتاب استدرك فيه ما فات صاحب كتاب آخر على شريطته، كمستدرك الحاكم على الصحيحين. 14- الأطراف الأطراف: هو أن يذكر طرف الحديث الدال على بقيته، ويجمع أسانيده إما مستوعباً أو مقيداً بكتب مخصوصة، كتحفة الأشراف بمعرفة الأطرف للمزي.

- 46 - 15- المسلسلات المسلسلات: وهو كل كتاب جمع فيه الأحاديث التي تتابع رجال إسناده واحداً فواحداً على صفة واحدة أو حالة واحدة، للرواة تارة وللرواية تارة أخرى. 16- الأمالي الأمالي: جمع الإملاء، وهو كل كتاب جمع فيه الأحاديث التي أملاه عالم على تلاميذته، وصفة الإملاء أن يقعد عالم وحوله تلامذته بالمحابر والقراطيس، فيتكلم العالم بما فتح الله عليه من العلم، ويكتبه التلامذة، فيصير كتاباً، ويسمونه الإملاء والأمالي. ــــــــــــــ انتهت الرسالة بعونه تعالى وحسن توفيقه، وبنعمته تتم الصالحات، وقد استفدت في جمعها من الكتب المؤلفة في هذا الفن، وكان جل اعتمادي في تهذيبها وتنسيقها على "اجتناء الثمر لمصطلح أهل الأثر" و"أطيب المنح في علم المصطلح"، و"سح المطر على قصب السكر"، فجزى الله مؤلفيها، فإن الفضل في هذا الباب راجع إليهم. وهذا آخر ما أردنا إيراده المقدمة للطبعة الثانية للجزء الأول من المرعاة، ولله الحمد أولاً وآخراً. عبد الرحمن عبيد الله الرحماني المباركفوري ... ... ... ... ... ... ... ... 6/ رجب سنة 1393هـ.

(3) كتاب الطهارة

(3) كتاب الطهارة {الفصل الأول} 283- (1) عن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الطهور ـــــــــــــــــــــــــــــ (كتاب الطهارة) الطهارة لغة: النظافة والنزاهة من كل عيب حسي أو معنوي، وشرعاً: طهارة البدن من النجاسة الحكمية، أي الحدثين الأكبر والأصغر، وطهارة البدن والثوب والمكان من النجاسة الحقيقة، أي الأخباث وفضلات الأعضاء، ولما كان العمل نتيجة العلم، وبعد العلم يكون العمل، وأفضل الأعمال البدنية الصلاة، ولا يتوصل إليها إلا بالطهارة، عقب كتاب العلم بكتاب الطهارة. وينبغي بل يجب للطالب أن يرجع لمعرفة أسرار الدين ومصالح أحكامه إلى إعلام الموقعين للإمام ابن قيم، وحجة الله البالغة، وإحياء علوم الدين مع تخريج أحاديثه للعراقي، والحصون الحميدية للجسر، وغير ذلك من كتب هذا الفن. 283- قوله: (عن أبي مالك الأشعري) اختلف في اسمه فقيل: عبيد. وقيل: عبيد الله. وقيل: عمرو. وقيل: كعب ابن كعب. وقيل: عامر بن الحارث. وقيل: الحارث بن الحارث. وقيل: غير ذلك. صحابي، مات في خلافة عمر في طاعون عمواس سنة (18) . وقال الحافظ في المقدمة: لا يعرف اسمه، وهو من رواة مسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وله عند البخاري تعليقاً، روى عنه عبد الرحمن بن غنم الأشعري، وربيعة الجرشي، وأبوسلام ممطور الأسود وغيرهم، وروى أبوسلام أيضاً عن عبد الرحمن بن غنم عنه. وفي الصحابة أبومالك الأشعري اثنان غير هذا. أحدهما الحارث بن الحارث الأشعري الشامي من رواة الترمذي والنسائي، تفرد بالرواية عنه أبوسلام ممطور الأسود، أخرج له الترمذي والنسائي حديثاً قدسياً طويلاً جامعاً لأنواع من العلوم، وهو حديث: "إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات". والثاني كعب بن عاصم الأشعري نزل الشام ومصر، له حديثان فقط: أحدهما ماروته أم الدرداء عنه مرفوعاً: "ليس من البر الصيام في السفر". أخرجه أحمد، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم. والحديث الثاني: ما روى جابر بن عبد الله عنه أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب عند الجمرة أوسط أيام النحر. أخرجه البغوي، وابن السكن وهو أي أبومالك كعب بن عاصم الأشعري راوى حديث: "الطهور شطر الإيمان" هو كعب بن عاصم الأشعري، كذا قال البخاري في التاريخ وغيره. وقيل: هو الحارث بن الحارث الأشعري المتقدم الذى روى الحديث القدسي الطويل. والراجح عندى أنه غيرهما، أعني هو أبومالك الأشعري الذي اختلف في اسمه حتى قال الحافظ في المقدمة فيه: أنه لا يعرف اسمه، فليس هو الحارث بن الحارث الأشعري؛ لأن هذا قد تأخرت وفاته، وأما أبومالك الأشعري المختلف في اسمه فقد تقدم أنه توفي في خلافة عمر. وليس هو كعب بن عاصم أيضاً؛ لأنه لم يرو عنه غير أم الدرداء وجابر بن عبد الله، والله أعلم. (الطهور) بضم أوله على الأفصح،

شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن – أو تملأ – ما بين السماوات والأرض، ـــــــــــــــــــــــــــــ والمراد به المصدر أي التطهر، وروي بالفتح على حذف المضاف، أي استعماله، وفي بعض الروايات الوضوء بدل الطهور. (شطر الإيمان) أي نصفه، قيل: المراد به الترغيب في الطهور، وتعظيم ثوابه، حتى كأنه بلغ إلى نصف ثواب الإيمان. وقيل: الإيمان يكفر الصغائر والكبائر والوضوء لا يكفر إلا الصغائر، فكان في مرتبة نصف الإيمان. وقيل: المراد بالإيمان الصلاة، ولا تصح الصلاة إلا بالطهارة فصارت كالشطر. وتوضيحه أن صحة الصلاة باستجماع الشرائط الخارجة عنها، والأركان الداخلة فيها. والطهارة أقوى الشرائط وأعظمها. فجعلت كأنها لا شرط سواها، واعتبرت الأركان والشرائط نصفاً، والطهارة وحدها نصفاً آخر على سبيل المبالغة والإدعاء. وقيل: المراد بالطهور ههنا التخلية عن الرذائل من العقائد الزائغة، والأخلاق الذميمة، والجرائم، والآثام، ولأحداث والأخباث. ومن المعلوم أن الإيمان موجب التخلية عن الرذائل والتحلية بالفواضل، فيكون الطهور شطر الإيمان. ويرد هذا الاحتمال رواية "الوضوء شطر الإيمان" وكذا رواية إسباغ الوضوء. وقيل: المراد بالشطر الجزء، والمعنى أن الطهارة جزء من أجزاء الإيمان، وركن من أركان الإسلام، وقد تقدم أن الأعمال من أجزاء الإيمان. وهذا أيضاً ضعيف، يرده حديث رجل من بني سليم بلفظ "الطهور نصف الإيمان"، وأيضاً إنما يعرف استعمال الشطر لغة في النصف. (والحمد لله) أي تلفظه. (تملأ) بالتأنيث على تأويل الكلمة أو الجملة، وروي بالتذكير على إرادة اللفظ والكلام، أو المضاف المقدر أي ثوابها لو قدر مجسماً لملأ. (الميزان) فمعناه بيان عظيم أجرها وأن ثوابها يملأ الميزان، أو محمول على أن الأقوال والأعمال والمعاني تتجسد يوم القيامة عند الوزن، وقد تظاهرت نصوص الشرع من القرآن والسنة على وزن الأعمال، وثقل الموازين وخفتها، وأما القول بأن الأعمال والأقوال أعراض مستحيلة البقاء، غير متصفة بالثقل والخفة، فمن هفوات الأهفاء وسقطات الحمقاء، قد أبطلها وحقق خلافها الفلسفة الحديثة الجديدة. وقال السندى: ولعل الأعمال تصير أجساماً لطيفة نورانية، لا تزاحم بعضها ولا تزاحم غيرها أيضاً، كما هو المشاهد في الأنوار، إذ يمكن أن يسرج ألف سراج في بيت واحد مع أنه يمتلئ نوراً من واحد من تلك السرج لكن لكونها لا يزاحم يجتمع معه نور ثاني ونور ثالث، ثم لا يمنع امتلاء البيت من النور جلوس القاعدين فيه لعدم التزاحم، فلا يرد أنه كيف يتصور ذلك مع كثرة التسبيحات والتقديسات، مع أنه يلزم من وجوده أن لا يبقى مكان لشخص من أهل المحشر، ولا لعمل آخر متجسد مثل تجسد التسبيح وغيره. (تملآن) أي هاتان الجملتان. (أو تملأ) أو للشك من الراوى والضمير في "تملأ" للجملة الشاملة لهما، ويمكن أن يكون الإفراد بتقدير كل واحدة منهما. (ما بين السماوات والأرض) معناه لو قدر ثوابهما جسماً لملأ ما بين السماوات والأرض، وسب عظم فضلهما ما اشتملتا عليه من التنزيه لله تعالى بقوله: سبحان الله، والتفويض والإفتقار إليه بقوله: الحمد لله، وقد أوضحه الشيخ عبد الحق الدهلوي في أشعة اللمعات، فارجع إليها.

والصلاة نور، والصدقة برهان. والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك. كل الناس يغدو: فبائع نفسه، فمعتقها أو موبقها)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ (والصلاة نور) لتأثيرها في تنوير القلوب وإشراح الصدور وإشراق أنوار المعارف وكشف الحقائق لفراغ القلب فيها، وقيل: لأنها تمنع من المعاصي والشهوات، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، وتهدي إلى الصواب كما أن النور يستضاء به، وقيل: يكون أجرها نوراً لصاحبها يوم القيامة. وقيل: إنها تكون نوراً في ظلمة القبر، وقيل إن الصلاة تكون نوراً ظاهرا على وجهه يوم القيامة، ويكون في الدنيا أيضاً على وجهه البهاء، بخلاف من لم يصل. (والصدقة برهان) أي دليل واضح على صدق صاحبه في دعوى الإيمان إذ الإقدام على بذله خالصاً لله لا يكون إلا من صادق في إيمانه، وقيل: معناه يفزع إليها كما يفزع إلى البراهين، كأن العبد إذا سئل يوم القيامة عن مصرف ماله كانت صدقاته براهين في جواب هذا السؤال، فيقول تصدقت به، ويجوز أن يوسم المتصدق بسيما يعرف بها، فيكون برهاناً له على حاله، ولا يسأل عن مصرف ماله. (الصبر) على الطاعة، وعن المعصية، وفي النائبات، وأنواع المكاره في الدنيا. (ضياء) أي نور قوي، شديد كامل، فإن الضياء أقوى من النور، قال تعالى {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً} [5:10] ، وذلك لأن الصبر أوسع من الصلاة؛ لأن كل واحدة من الواجبات والمحظورات تحتاج إلى الصبر، بل مناط جميع أمور الدين على الصبر. وقيل معناه: الصبر المحمود المحبوب في الشرع لا يزال صاحبه مستضيئاً مهتدياً مستمراً على الصواب، وقيل: المراد بالصبر الصوم بقرينة ذكره مع الصلاة والصدقة، وهو لكونه قهراً على النفس، قامعا لشهواتها له تأثير عادة في تنوير القلوب أتم وجه، وقيل: خص الصبر بالضياء على تفسيره بالصوم لتخصيصه بالنهار كتخصيص الشمس به، لا لمزية الصوم على الصلاة. (والقرآن حجة لك) أي تنتفع به إن عملت به. (وعليك) أي إن أعرضت عنه، أو قصرت فيه بترك العمل بما فيه. (كل الناس يغدو) أي يصبح أو يسير، وهي جملة مستأنفة، جواب ما يقال: قد تبين الرشد مما تقدم، فما حال الناس؟ فأجيب بأن كلهم يغدو أي يسعى ويعمل، فيبيع نفسه من الله أو من الشيطان، فالأول أعتقها؛ لأن الله أشترى أنفسهم، والثاني أوبقها {ولبئس ماشرو به أنفسهم} [102:2] . وقال النووى: معناه كل إنسان يسعى بنفسه، فمنهم من يبيعها لله تعالى بطاعته، فيعتقها من العذاب، ومنهم من يبيعها للشيطان والهوى بإتباعهما فيوبقها أي يهلكها، وقوله. (فبائع) خبر لمبتدأ محذوف، أي فهو بائع أي باذل نفسه، فمن بذلها في طاعة الله فهو معتقها، ومن بذلها في هوى نفسه فهو مهلكها، وقوله: "فمعتقها"، قال الطيبي: الفاء فيه للسببية وهو خبر بعد خبر، ويجوز أن يكون بدل البعض من قوله فبائع. (رواه مسلم) في أول الطهارة، وأخرجه أيضاً أحمد، والترمذي في الدعوات، والنسائي في الزكاة، وابن ماجه في الطهارة إلا أنهما قالا: إسباغ الوضوء شطر الإيمان. والحديث أخرجه مسلم، وأحمد، والترمذي من طريق يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن سلام، عن جده أبي سلام، عن أبي مالك الأشعري، وأخرجه النسائي، وابن ماجه من طريق معاوية بن سلام، عن أخيه زيد بن سلام، عن جده أبي سلام، عن عبد الرحمن بن غنم، عن أبي مالك

وفي رواية: ((لا إله إلا الله والله أكبر، تملآن ما بين السماء والأرض)) . لم أجد هذه الرواية في الصحيحين، ولا في كتاب الحميدى، ولا في الجامع، ولكن ذكرها الدارمي بدل: سبحان الله والحمد لله. 284- (2) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأشعري. فتكلم الدارقطني وغيره في رواية مسلم، فقالوا: هي منقطعة، لسقوط عبد الرحمن بن غنم فيها بين أبي سلام وأبي مالك، قال النووى: ويمكن أن يجاب لمسلم عن هذا بأن الظاهر من حال مسلم أنه علم سماع أبي سلام لهذا الحديث من أبي مالك فيكون أبوسلام سمعه من أبي مالك، وسمعه أيضاً من عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك، فرواه مرة عنه ومرة عن عبد الرحمن عنه. (وفي رواية لا إله إلا الله والله أكبر تملآن مابين السماء والأرض) هذا قول صاحب المصابيح. قال صاحب المشكاة. (لم أجد هذه الرواية) أي التي أوردها صاحب المصابيح في ما ذكر في قوله من الصحاح. (في الصحيحين) أي متنيهما. (ولا في كتاب الحميدى) الجامع بين الصحيحين. (ولا في الجامع) أي للأصول الستة. (ولكن ذكرها) أي هذه الرواية. (الدارمي) يعنى التزم صاحب المصابيح أن يكون جميع ما ذكر في قوله من الصحاح المعبر عنه بالفصل الأول مما أخرجه الشيخان أو أحدهما، وهذه الرواية ليست في أحدهما، فإيرادها في الصحاح خلاف لما التزمه، وقد يجاب بأن الإلتزام إنما هو في أصول الأحاديث، وأما هذه فإنما هي زيادة إفادة متفرعة على أصل الحديث الموجود في صحيح مسلم، والله أعلم. 284- قوله: (ألا أدلكم) الهمزة للاستفهام، ولا نافية، وليس إلا للتنبيه بدليل قولهم: بلى. (يمحو الله به الخطايا) أي يغفرها، أو يمحوها من كتب الحفظة، ويكون ذلك المحو دليلاً على عفوه تعالى ومغفرته، والمراد بالخطايا الصغائر، مما يتعلق بحقوق الله. (يرفع به الدرجات) أي يعلي به المنازل في الجنة، ويحتمل رفع الدرجات في الدنيا أيضاً. (قالوا: بلى) فائدة السؤال والجواب أن يكون الكلام أوقع في النفس بحكم الإبهام والتبيين. (إسباغ الوضوء) أي إكماله بتطويل الغرة والتحجيل والتثليث والدلك. (على المكاره) جمع مكره، بفتح الميم من الكره بمعنى المشقة، كبرد الماء، وألم الجسم، والإشتغال به مع ترك أمور الدنيا. قيل: ومنها الجد في طلب الماء مع إعوازه وشراءه بالثمن الغالي. (وكثرة الخطى إلى المساجد) إما لبعد الدار، أو على سبيل التكرار، والخطى بضم الخاء جمع خطوة وهي ما بين القدمين. (وانتظار الصلاة) بالجلوس لها في المسجد، أو تعلق القلب بها والتأهب والاهتمام لها مع إشتغاله بكسبه في بيته، كما ورد "ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه، حتى يعود". (فذلكم) الإشارة إلى ما ذكر من الأعمال الثلاثة، وقيل: إلى انتظار الصلاة. (الرباط) المرغب فيه، أو أفضل أنواع الرباط، كما قيل: الجهاد جهاد النفس، أو الرباط المتيسر الممكن، أي أنه من أنواع الرباط، أو

وفي حديث مالك بن أنس: ((فذلكم الرباط فذلكم الرباط مرتين)) رواه مسلم. وفي رواية الترمذي ثلاثاً. 285- (3) وعن عثمان، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من توضأ فأحسن الوضوء، خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ أراد أن ثوابه كثواب الرباط. وقيل: أصل الرباط ملازمة ثغر العدو لمنعه، والمعنى أن هذه الأعمال هي المرابطة الحقيقة المذكورة في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا} [200:4] ؛ لأنها تسد طرق الشيطان عنه، وتمنع النفس عن الشهوات، وعداوة النفس والشيطان لا تخفى، فهذا هو الجهاد الأكبر الذي فيه قهر أعدى عدوه، فلذلك قال: فذلكم الرباط، بالتعريف، أي هو الذي يستحق أن يسمى رباطاً، والتكرار تعظيماً لشأنه. (وفي حديث مالك بن أنس) إمام دار الهجرة، صاحب المذهب، راوي الحديث في سند مسلم. (فذلكم الرباط فذلكم الرباط مرتين) وفي بعض النسخ ردد مرتين، أي كرر "فذلكم الرباط" مرتين والذي في صحيح المسلم"وفي حديث مالك ثنتين فذلكم الرباط فذلكم الرباط" قال النووي: هكذا هو في الأصول "ثنتين" وهو صحيح ونصبه بتقدير فعل أي ثنتين أو كرر ثنتين انتهى. وهذا قول مسلم صاحب الصحيح، قاله بناء على رواية معن عنده، وإلا فأكثر المؤطات ثلاثاً (رواه مسلم) في الطهارة، وأخرجه أيضاً مالك، وأحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة بمعناه (وفي رواية الترمذي ثلاثاً) أخرجه الترمذي أولا من طريق على بن حجر، وذكر فيه "فذلكم الرباط" مرة، ثم رواه من طريق قتيبة: وقال: قال قتيبة: فذلكم الرباط ثلاثاً"، أي ذكره ثلاثاً تأكيداً أو تعظيما لشأنه، ولزيادة الحث عليه. 285- قوله: (فأحسن الوضوء) بضم الواو، والفاء لتفسير كيفية الوضوء على أحسن وجه بمراعاة سننه وآدابه، والمعنى من أراد الوضوء وشرع فيه فأحسنه. (خرجت خطاياه) هو محمول على الحقيقة بناء على أن الخطايا جواهر متعلقة ببدن الإنسان تتصل به وتنفصل عنه، لا أعراض كما قيل، قال السيوطي في قوت المغتذي: الظاهر حمله على الحقيقة، ثم حقق ذلك بأحاديث تدل على أن الذنوب جواهر وأجسام، ووافقه شيخنا في شرح الترمذي، لكن جعله السيوطي من عالم المثال، وعندنا ينبغي تفويض أمثال هذه الأمور إلى الله تعالى. وقيل: هو تمثيل وتصوير لبراءة البدن عن الذنوب ومجاز عن غفرانها. ثم الظاهر عموم الخطايا، والعلماء خصصوها بالصغائر المتعلقة بحقوق الله للتوفيق بين الأدلة، فإن منها ما يقتضي الخصوص كما سيأتي. (من جسده) أي جميع بدنه أو أعضائه. (حتى تخرج من تحت أظفاره) أي مثلاً، والأظفار جمع ظفر بضمتين. (متفق عليه) قلت تفرد مسلم بهذا اللفظ، ولذا اقتصر المنذري في الترغيب. على عزوه لمسلم. وقال القاري: قال عبد العزيز الأبهرى في منهاج المشكاة فيه: أنه من أفراد مسلم. وقال ابن حجر المكي: كذا في جامع الأصول. واقتصر شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر العسقلانى في "هداية الرواة إلى تخريج المصابيح والمشكاة" على عزوه لمسلم انتهى. وأخرجه أيضاً أحمد، والنسائي، وابن ماجه بنحوه مختصراً.

286- (4) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا توضأ العبد المسلم – أو المؤمن – فغسل وجهه، خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء – أومع آخر قطر الماء – فإذا غسل يديه، خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء – أو مع آخر قطر الماء – فإذا غسل رجليه، خرج كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء – أو مع آخر قطر الماء – حتى يخرج نقيا من الذنوب)) رواه مسلم. 287- 5) وعن عثمان، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها ـــــــــــــــــــــــــــــ 286- قوله: (إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن) شك من الرواى في لفظ النبوة، وإلا فهما مترادفان شرعاً. والمؤمنة في حكم المؤمن. (فغسل وجهه) عطف على توضأ عطف تفسير، أو المراد إذا أراد الوضوء. (خرج من وجهه) جواب إذا. (كل خطيئة نظر إليها) أي إلى الخطيئة يعني إلى سببها، إطلاقا لاسم المسبب على السبب مبالغة. (بعينيه) تأكيد. وسبب التخصيص بالعين مع أن الوجه مشتمل على الأنف والفم هو أن كلاً من الفم والأنف، وكذا الأذن له طهارة مخصوصة خارجة عن طهارة الوجه، فكانت متكفلة بإخراج خطاياه، بخلاف العين، فإنه ليس لها طهارة إلا في غسل الوجه، فخصت خطيئتها بالخروج عند غسله دون غيرها مما ذكر، وسيأتي في الفصل الثالث حديث عبد الله الصنابحي، وهو صريح في ذلك. (مع الماء) أي مع انفصاله. (أو مع آخر قطر الماء) أو للشك من الراوى. (كل خطيئة كان بطشتها) أي أخذت. (يداه) كملامسة المحرمة، ويدخل فيه كتابة إثم. (كل خطيئة مشتها) الضمير للخطيئة، ونصبت بنزع الخافض، أي مشت إلى الخطيئة، أو في الخطيئة، أو يكون مصدرا أي مشت المشية. (نقياً من الذنوب) أي ذنوب أعضاء الوضوء، أو جميع الذنوب من الصغائر. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً مالك، والترمذى، وليس عندهما غسل الرجلين. 287- قوله: (ما من امرئ مسلم) من زائدة لتأكيد النص على العموم. (فيحسن وضوءها) بمراعاة السنن والآداب والمكملات. (وخشوعها) بإتيان كل ركن على وجه هو أكثر تواضعاً وإخباتاً وتضرعاً، ظاهراً وباطناً بالقلب والجوارح. (وركوعها) اكتفى بذكر الركوع عن السجود؛ لأنهما ركنان متتابعان، فإذا حث على إحسان أحدهما حث على الآخر، وفي تخصيصه بالذكر تنبيه على أن الأمر فيه أشد، فافتقر إلى زيادة توكيد؛ لأن الراكع يحمل نفسه في الركوع، ويتحامل في السجود على الأرض. وقيل: خص الركوع بالذكر لاستتباعه السجود إذ لا يستقل عباده وحده، بخلاف السجود

إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب، ما لم يؤت كبيرة، وذلك الدهر كله)) رواه مسلم. 288- (6) وعنه، أنه توضأ فأفرغ على يديه ثلاثاً، ثم تمضمض واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثاً، ثم غسل يده اليسرى ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنه يستقل عبادة، كسجود التلاوة والشكر. وقيل: تخصيص الركوع؛ لأنه من خصائص المسلمين، فأراد التحريض عليه، ولعل هذا في الأغلب لقوله تعالى في شأن مريم: {واسجدي واركعي مع الراكعين} [43: 3] . وقيل: معناه انقادى وصلى مع المصلين، فلا إشكال. (إلا كانت) أي الصلاة. (ما لم يؤت) بكسر التاء معلوماً من الإيتاء وقيل مجهول، أي ما لم يعمل، وضع الإيتاء موضع العمل. (كبيرة) بالنصب لا غيره، كأن الفاعل يعطى العمل من نفسه، أو يعطيه غيره من الداعي أو المحرض عليه، فهو على حد {ثم سئلوا الفتنة لآتوها} [33: 14] بالمد أي لأعطوها من أنفسهم، ثم ظاهره أن كون الصلاة كفارة الذنوب مشروط بعدم إتيان الكبائر، فإن أتى بالكبائر لم يكفر صغائره، وهو الظاهر من قوله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيآتكم} [4: 31] لكنهم قالوا: معناه أن الذنوب كلها تغفر إلا الكبائر فإنها لا تغفر. قال النووى: هذا هو المراد، والأول وإن كان محتمل العبارة فسياق الحديث يأباه، والكبائر إنما يكفرها التوبة، أو رحمة الله تعالى وفضله، وقد يقال: إذا كفر الوضوء فماذا تكفر الصلاة؟ وإذا كفرت الصلاة فماذا تكفر الجماعات وغيرها مما ورد في الأحاديث من مكفرات الذنوب؟ وأجيب بأن كل واحد من هذه المذكورات صالح للتكفير، فإن وجد ما يكفر من الصغائر كفره، وإن صادفت كبيرة أو كبائر ولم يصادف صغيره يعنى غير مكفرة رجونا أن يخفف من الكبائر، وإن لم يصادف صغيرة ولا كبيرة كتبت به حسنات ورفعت به درجات،. (وذلك) أي التكفير بسبب الصلاة. (الدهر) بالنصب على الظرفية، ومحله الرفع على الخبرية، أي ذلك الحكم من التكفير حاصل ومستمر في جميع الأزمان لا يختص بزمان دون زمان. (كله) تأكيد للدهر. (رواه مسلم) هو من مفاريد مسلم لم يروه بهذا اللفظ غيره. 288- قوله: (فأفرغ) من الإفراغ عطف بيان وتفسير أي صب الماء. (على يديه) أي فغسلهما إلى رسغيه وفي رواية كفيه، والمراد غسل اليدين إلى الرسغين. وفيه دليل على غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء ولو لم يكن عقب نوم احتياطاً. وفي الحديث الترتيب في أعضاء الوضوء للإتيان بثم في جميعها. (واستنثر) الاستنثار هو إخراج الماء من الأنف بعد الاستنشاق، وهو جذب الماء بالنفس إلى الأقصى، ويدل عليه الرواية الأخرى "استنشق واستنثر، فجمع بينهما، وهو مأخوذ من النثرة وهو طرف الأنف، قال الحافظ: لم أر في شيء من طرق هذا الحديث تقييد ذلك بعدد، نعم، ذكره ابن المنذر من طريق يونس عن الزهرى، وكذا ذكره أي تقييد المضمضة والاستنشاق بثلاث أبوداود من وجهين آخرين

إلى المرفق ثلاثاً، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجله اليمنى ثلاثاً، ثم اليسرى ثلاثاً، ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ نحو وضوئي هذا. ثم قال: من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم يصلى ركعتين لا يحدث نفسه فيهما بشيء، غفر له ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه. ولفظه للبخاري. 289- (7) وعن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من مسلم يتوضأ، فيحسن وضوءه، ـــــــــــــــــــــــــــــ عن عثمان. (إلى المرفق) بكسر الميم وفتح الفاء "وإلى" بمعنى منع عند الجمهور. (ثم مسح برأسه) ليس في شيء من طرق هذا الحديث في الصحيحين ذكر عدد المسح، فالظاهر الاكتفاء بالمرة الواحدة، وهو مذهب الجمهور. (ثم قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -. (من توضأ نحو وضوئي هذا) أي جامعاً لفرائضه وسننه، وقوله "نحو وضوئي هذا" كذا وقع في الصيام من نسخ البخارى الموجودة عندنا، وقال الحافظ في شرح كتاب الوضوء: "وللبخارى في الصيام من رواية معمر: من توضأ بوضوئي هذا" أي بترك حرف الشبيه. (ثم يصلى ركعتين) فيه استحباب ركعتين عقب كل وضوء، ولو صلى فريضة حصلت له هذه الفضيلة كما تحصل تحية المسجد بذلك. (لا يحدث فيهما نفسه بشيء) من أمور الدنيا، وما يتعلق بالصلاة ولو عرض له حديث فأعرض عنه لمجرد عروضه، عفي عنه ذلك، وحصلت له هذه الفضيلة؛ لأن هذا ليس من فعله وكسبه، وقد عفي لهذه الأمة عن الخواطر التي تعرض ولا تستقر. وقال الحافظ: المراد ما تسترسل النفس معه، ويمكن المرء قطعه؛ لأن قوله "يحدث" يقتضى تكسباً منه فأما ما يهجم من الخطرات والوساوس ويتعذر دفعه فذلك معفو عنه. وقال السندهي: أي يدفع الوسوسة مهما أمكن. وقيل: يحتمل العموم إذ ليس هو من باب التكليف حتى يجب دفع الحرج والعسر، بل من باب ترتب ثواب مخصوص على عمل مخصوص، أي من باب الوعد على العمل، فمن حصل منه ذلك العمل يحصل له ذلك الثواب، ومن لا فلا. نعم، يجب أن يكون ذلك ممكن الحصول في ذاته وهو هنا كذلك، فإن المتجردين عن شواغل الدنيا يتأتى منهم هذا العمل على وجهه. انتهى. (غفر له ما تقدم من ذنبه) حملوه على الصغائر، لكن كثير من الأحاديث يقتضي أن مغفرة الصغائر غير مشروطة بقطع الوسوسة، فيمكن أن يكون الشرط لمغفرة الذنوب جميعاً، قاله السندهي. ثم إنه يفهم من هذا الحديث أن غفران الذنوب مرتب على الوضوء الموصوف بتلك الصفة، وصلاة ركعتين لا يحدث فيهما نفسه بشيء، ومن الحديث المتقدم ترتبه على مجرد الوضوء، ويمكن أن يقال كل منهما مكفر، أو الوضوء المجرد مكفر لذنوب أعضاء الوضوء، ومع الصلاة مكفر لذنوب جميع الأعضاء أو الوضوء مكفر للذنوب الظاهرة، ومع الصلاة مكفر للذنوب الظاهرة والباطنة. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي. (ولفظه للبخارى) أي في باب السواك الرطب واليابس للصائم من كتاب الصيام. 289- قوله: (وعن عقبة) بضم عين وسكون قاف. (بن عامر) الجهنى صحابي مشهور، اختلف في كنيته على سبعة أقوال، أشهرها أبوحماد، اختط البصرة، وولى إمرة مصر لمعاوية ثلاث سنين، وحضر معه بصفين، وولي غزو البحر،

ثم يقوم فيصلى ركعتين، مقبلاً عليهما بقلبه ووجهه، إلا وجبت له الجنة)) رواه مسلم. 290- (8) وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما منكم أحد يتوضأ فيبلغ – أو فيسبغ –الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله – وفي رواية أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله – إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، ـــــــــــــــــــــــــــــ وكان فصيحاً، شاعراً، مفوهاً، كاتباً، قارئاً لكتاب الله، عالماً بالفرائض والفقه، قديم الهجرة، والسابقة، والصحبه، مات سنة (58) بمصر، ودفن بالمقطم، له خمسة وخمسون حديثاً، اتفقا على سبعة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بتسعة، روى عنه خلق كثير. (ثم يقوم) حقيقة أو حكماً سيما إذاكان بعذر، فإطلاقه جرى على الغالب لا أنه قيد احترازى، وثم للترقى. (مقبلاً عليهما بقلبه وجهه) الإقبال بالقلب أن لا يغفل عنهما ولا يتفكر في أمر لا يتعلق بهما، ويصرف نفسه عنه مهما أمكن، والإقبال بالوجه أن لا يلتفت به إلى جهة لا يليق بالصلاة الالتفات إليها، ومرجعه الخشوع والخضوع، فإن الخشوع في القلب والخضوع في الأعضاء، قال السندهي: يمكن أن يكون هذا الحديث بمنزلة التفسير لحديث عثمان "وهو من توضأ نحو وضوئي" الخ، وعلى هذا فقوله "أحسن الوضوء" هو أن يتوضأ نحو ذلك الوضوء. وقوله في حديث عثمان: "لايحدث نفسه فيهما" هو أن يقبل عليهما بقلبه ووجهه. وقوله في ذلك الحديث "غفر له" الخ. أريد به أنه يجب له الجنة، ولا شك أن ليس المراد دخول الجنة مطلقا فإنه يحصل بالإيمان، بل المراد دخولاً أولياً، وهذا يتوقف على مغفرة الصغائر والكبائر جميعا، بل مغفرة ما يفعل بعد ذلك أيضاً، نعم لابد من اشتراط الموت على حسن الخاتمة، وقد يجعل هذا الحديث بشارة بذلك أيضاً. انتهى. (إلا وجبت له الجنة) أي أنه تعالى يدخله الجنة بفضله بحيث لا يخالف وعده، كمن وجب عليه شيء. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي. 290- قوله: (ما منكم) من بيانية. (من أحد) مبتدأ ومن زائدة. (فيبلغ) من الإبلاغ. (أو فيسبغ) من الإسباغ وأو للشك. (الوضوء) بفتح الواو وقيل بضمها أي ماء الوضوء، والمراد بإبلاغ الوضوء أو إسباغه هو أن يتم الوضوء ويكمله فيوصله مواضعه على الوجه المسنون. (ثم يقول) أي عقيب وضوءه. (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) قال الطيبي: قول الشهادتين عقيب الوضوء إشارة إلى إخلاص العمل لله، وطهارة القلب من الشرك والرياء، بعد طهارة الأعضاء من الحدث والخبث. (إلا فتحت له) هو من باب "ونفخ في الصور" عبر عن الآتي بالماضى لتحقق وقوعه، والمراد تفتح له يوم القيامة. (أبواب الجنة الثمانية) أي تعظيماً لعمله المذكور وإن كان الدخول يكفى فيه باب واحد. ثم الظاهر أن يوفق للدخول من الباب الذى غلب عليه عمل أهله، إذ أبواب الجنة معدة لأعمال مخصوصة، كالريان لمن غلب

يدخل من أيها شاء)) . هكذا رواه مسلم في صحيحه، والحميدى في افراد مسلم، وكذا ابن الأثير في جامع الأصول. وذكر الشيخ محي الدين النووى في آخر حديث مسلم على ما رويناه، وزاد الترمذي: ((اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه الصيام ونحو ذلك، قال ابن سيد الناس: فائدة تعدد الأبواب وفتحها والدعاء منها هو التشريف في الموقف والإشارة بذكر من حصل له ذلك على رؤوس الأشهاد، فليس من يؤذن له في الدخول من باب لا يتعداه، كمن يتلقى من كل باب ويدخل من حيث شاء. وحديث عمر هذا يدل على أن للجنة ثمانية أبواب، وقد جاء تعيين هذه الأبواب لبعض العمال، كباب الصلاة، وباب الجهاد، وباب الصدقة، وباب الصيام، وباب التوبة، وباب الكاظمين الغيظ، وباب الراضين، وباب الأيمن الذي يدخل منه من لا حساب عليه، وذكر الحكيم الترمذي أبواب الجنة فعد أبواباً غير ما ذكر، وعلى قوله أبواب الجنة أحد عشر باباً، والتفصيل في تذكرة القرطبي. (هكذا رواه مسلم في صحيحه) وأخرجه أيضاً أحمد، والنسائي، وأبوداود، وابن ماجه، وقال: فيحسن الوضوء، وفي رواية لأحمد وأبي داود "ثم رفع نظره إلى السماء فقال" الحديث، وفي سنده رجل مجهول، وأخرجه أيضاً الترمذي وزاد "اللهم اجعلني" الخ وتكلم فيه بما يطول ذكره، إن شئت الوقوف عليه فارجع إلى تحفة الأحوذي، وجامع الترمذي المطبوع بتعليق العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر. واعلم أن حديث عقبة بن عامر المتقدم، وحديث عمر هذا، حديث واحد، رواهما بسياق واحد مسلم، وأبوداود، وابن حبان في قصة، لكن صدره أي الحديث المتقدم، سمعه عقبة بن عامر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والحديث الثاني تكلم به النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل حضور عقبة، فأخبره عمر به، فرواه عقبة بن عمر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (والحميدي) أي وهكذا ذكره الحميدى. (في أفراد مسلم وكذا) ذكره. (ابن الأثير) الجزرى. (في جامع الأصول، وذكر الشيخ محي الدين) من الأحياء. (النووى) قال ابن حجر: بواوين ليس بينهما ألف، وبعضهم يقولون النواوى بالألف، والقياس الأول لأنه منسوب إلى "نوى" قرية قريب دمشق. (على ما رويناه) متعلق بآخر، وهو معلوم، وقيل مجهول أي على وفقه. (وزاد الترمذى) الخ هذا مذكور النووي. (اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين) جمع بينهما إلماماً بقوله تعالى {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} [2: 222] ولما كانت التوبة طهارة الباطن عن أدران الذنوب، والوضوء طهارة الظاهرة عن الأحداث المانعة عن التقرب إلى الله تعالى ناسب الجمع بينهما، وقد تفرد بهذه الزيادة الترمذى وفي صحتها نظر، لما في سنده من الاضطراب والخطأ، وإنما جاءت في حديث بهذا المعنى عن ثوبان مرفوعاً، نقله الهيثمى في مجمع الزوائد (ج1: ص239) وقال: رواه الطبراني في الأوسط والكبير باختصار، وقال في الأوسط: تفرد به مسور بن مورع، ولم أجد من ترجمه، وفيه أحمد بن سهيل الوراق، ذكره ابن حبان في الثقات، وفي إسناد

والحديث الذى رواه محي السنة في الصحاح: "من توضأ فأحسن الوضوء" إلى آخره، رواه الترمذي في جامعة بعينه إلا كلمة "أشهد" قبل "أن محمداً". 291- (9) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل)) ـــــــــــــــــــــــــــــ الكبير أبوسعيد البقال، والأكثر على تضعيفه، ووثقه بعضهم، انتهى. ورواها أيضاً عن ثوبان البزار كما في التلخيص، وابن السني، والخطيب، وابن النجار كما في كنز العمال. (الحديث الذى رواه محي السنة) أي ذكره في المصابيح. (في الصحاح) المعبر عنه في المشكاة بالفصل الأول. (رواه الترمذى في جامعه بعينه) الخ والحاصل ورود الاعتراض على صاحب المصابيح، حيث ذكر رواية الترمذى في الصحاح لإيهامها أنه كله في أحد الصحيحين أو كليهما وليس كذلك. 291- قوله: (إن أمتي) أي أمة الإجابة وهم المسلمون أي المتوضئون منهم. (يدعون) أي ينادون أو يسمون. (غرا) جمع أغر أي ذوى غرة، وأصلها لمعة بيضاء تكون في جبهة الفرس، والمراد ههنا النور الكائن في وجود المسلمين. (محجلين) من التحجيل، وهو بياض يكون في قوائم الفرس، وأصله من الحجل بالكسر وهو القيد والخلخال، والمراد به هنا أيضاً النور. وانتصابهما على الحال إذا كان يدعون بمعنى ينادون، ويحتمل أن يكون غراً مفعولاً ثانياً ليدعون بمعنى يسمون، والمراد بيض مواضع الوضوء من الوجوه، والأيدى والأقدام، استعار أثر الوضوء في الوجه واليدين والرجلين للإنسان من البياض الذي يكون في وجه الفرس ويديه ورجليه، والمعنى: إذا دعوا على رؤس الأشهاد أو إلى الموقف، أو إلى الميزان، أو إلى الصراط، أو إلى الجنة نودوا بهذا الوصف، وكانوا على هذه الصفة، أو سموا بهذا الاسم. (من) أي لأجل. (آثار الوضوء) أو من سببية أي بسبب آثار الوضوء، وهو متعلق بمحجلين أو بيدعون على الخلاف في باب التنازع بين البصريين والكوفيين. والوضوء بضم الواو ويجوز فتحها، فإن الغرة والتحجيل نشأ عن الفعل بالماء، فيجوز أن ينسب إلى كل منها، وللغرة علتان الوضوء كما في هذا الحديث، والسجود كما يدل عليه حديث عبد الله بن بسر عند الترمذي، وأما التحجيل فعلته هو الوضوء. (فمن استطاع منكم) الخ ظاهر سياق الحديث أن قوله فمن استطاع إلى آخره من الحديث، وهو يدل على عدم الوجوب، إذ هو في قوة "فمن شاء منكم" فلو كان واجبا ما قيده بها، إذا الاستطاعة لذلك متحققة قطعاً، وقال نعيم أحد رواته: لا أدرى قوله: "فمن استطاع" الخ من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من قول أبي هريرة. قال الحافظ في الفتح: لم أر هذه الجملة في رواية أحد ممن روى هذا الحديث من الصحابة وهو عشرة، ولا ممن رواه عن أبي هريرة، غير رواية نعيم هذه. (غرته) أي وتحجيله وإنما اقتصر على أحدهما لدلالته على الآخر وآثر الغرة وهي مؤنثة على التحجيل وهو مذكر لشرف موضعها. (فليفعل) أي ما ذكر من الغرة والتحجيل والإطالة، فحذف المفعول للعلم به. وفيه دليل

{الفصل الثاني}

متفق عليه. 292- (10) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء)) رواه مسلم {الفصل الثاني} 293- (11) وعن ثوبان، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((استقيموا ولن تحصوا، ـــــــــــــــــــــــــــــ على مشروعية إطالة الغرة والتحجيل. واختلفوا في القدر المستحب من ذلك، فقيل: في اليدين إلى المنكب، وفي الرجلين إلى الركبة، وقد ثبت هذا عن أبي هريرة رواية ورأياً، وثبت من فعل ابن عمر، أخرجه ابن شيبة وأبوعبيد بإسناد حسن، وقيل: إلى نصف العضد والساق. والغرة في الوجه أن يغسل إلى صفحتي العنق، والقول بعدم مشروعيتهما وتأويل حديث أبي هريرة بأن المراد به المداومة على الوضوء خلاف الظاهر، ورد هذا التأويل أيضاً بأن الراوي أعرف بما روى، كيف وقد رفع معناه كما في الحديث الآتي فلا وجه لنفيه، والغرة والتحجيل من خصائص هذه الأمة لا أصل الوضوء. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد، وأخرجه مع أبي هريرة عشرة من الصحابة، ذكر سبعة منهم ابن مندة في مستخرجه، وذكر أحاديث بعضهم الهيثمي في مجمع الزوائد، وعلي المتقى في كنز العمال. 292- قوله: (تبلغ الحلية) الخ. قال الطيبي: ضمن "يبلغ" معنى "يتمكن" وعدى بمن، أي تتمكن من المؤمن الحلية مبلغا يتمكنه الوضوء منه. (حيث يبلغ الوضوء) بالفتح أي ماءه، وقيل بالضم. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً النسائي وابن خزيمة في صحيحه بنحوه إلا أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الحلية تبلغ مواضع الطهور، والمراد بالحلية الغرة والتحجيل، أي النور والبياض، وقيل: الزينة في الجنة وهو بعيد. 293- قوله: (عن ثوبان) بمفتوحة وسكون واو وبموحدة، الهاشمي مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو ثوبان بن بجدد، بضم الباء الموحدة وسكون الجيم وضم الدال المهملة الأولى، قيل: أصله من اليمن أصابه سباء فاشتراه النبي - صلى الله عليه وسلم - فأعتقه فقال: إن تلحق بمن أنت منهم فعلت، وإن شئت أن تثبت فأنت منا أهل البيت، فثبت ولم يزل معه في حضره وسفره، ثم خرج إلى الشام فنزل الرملة ثم حمص، وابتنى بها داراً، ومات بها سنة (54) . له مائة وسبعة وعشرون حديثاً، روى له مسلم عشرة أحاديث، روى عنه خلق كثير. (استقيموا) الاستقامة إتباع الحق وملازمة المنهج المستقيم، من الإتيان بجميع المأمورات والانتهاء عن جميع المناهي، وذلك خطب لا يطيقه إلا من استضاء قلبه بالأنوار القدسية، وتخلص عن الظلمات الإنسية، وأيده الله تعالى من عنده، وقليل ما هم، فأخبرهم بعد الأمر بذلك أنكم لا تقدرون على إيفاء حقه بقوله. (ولن تحصوا) أي لن تطيقوا أن تستقيموا حق الاستقامة لعسرها، لئلا يغفلوا عنه فلا يتكلوا على ما

واعلموا أن خير أعمالكم الصلوة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن)) رواه مالك، وأحمد، وابن ماجه، والدارمي. 294- (12) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من توضأ على طهر، كتب له عشر حسنات)) ـــــــــــــــــــــــــــــ يأتون به، ولا ييأسوا من رحمته فيما يذرون عجزاً وقصوراً لا تقصيراً، وأصل الإحصاء العد والضبط والإحاطة بالشيء. وقيل: معناه لن تحصوا ثوابه وأجره لو استقمتم، قال الطيبي قوله: "لن تحصوا" إخبار وإعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه كما اعترض "ولن تفعلوا" بين الشرط والجزاء في قوله تعالى: {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقو النار} [2: 24] . وكأنه - صلى الله عليه وسلم - لما أمرهم بالاستقامة وهي شاقة جداً كما مر، تداركه بقوله: لن تحصوا، رحمة وشفقة، كما قال: {فاتقو الله ما استطعتم} [64: 16] بعد قوله: {اتقوا الله حق تقاته} [3: 102] . ثم نبههم على ما يتيسر لهم من ذلك بقوله: (واعلموا) أي إن لم تطيقوا ما أمرتم به من الاستقامة فحق عليكم أن تلزموا بعضها، وهي الصلاة الجامعة لأنواع العبادات: القراءة، والتسبيح، والتهليل، والإمساك عن كلام الغير، والمفطرات، فالزموها وأقيموا حدودها لاسيما مقدمتها التي هي شطر الإيمان وهو الوضوء، وأيضاً في ذكر الصلاة إشارة إلى تطهير الباطن؛ لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر. وفي ذكر الوضوء إلى تطهير الظاهر، انتهى مختصراً. (إن خير أعمالكم) أي أفضلها وأتمها دلالة على الاستقامة. (الصلاة) أي المكتوبة أو جنسها. والأحاديث في خير الأعمال جاءت متعارضة صورة فينبغي التوفيق بحمل "خير أعمالكم" على معنى "من خير أعمالكم" كما يدل عليه حديث ابن عمرو، عند ابن ماجه. (ولا يحافظ على الوضوء) أي على الدوام، وتركه لبيان الجواز لئلا يلتبس الفضل بالفرض، واليان عليه واجب، فالترك في حقه خير من الدوام عليه، فإن غايته أن يكون مندوباً. (إلا مؤمن) أي كامل في إيمانه فإن الظاهر عنوان الباطن، فطهارة الظاهر دليل على طهارة الباطن سيما الوضوء على المكاره. والمراد بالمؤمن الجنس، والتنكير للتعظيم. (رواه مالك) أي بلاغاً، ورواه (أحمد) من طريق سالم بن أبي الجعد عن ثوبان، ومن طريق حسان بن عطية عن أبي كبشة السلولي عن ثوبان، ومن طريق حريز بن عثمان، عن عبد الرحمن بن ميسرة، عن ثوبان. والطريق الأول منقطع، فإن سالم بن الجعد لم يسمع من ثوبان بلا خلاف. (وابن ماجه) منقطعاً من طريق سالم بن أبي الجعد عن ثوبان. (والدارمي) منقطعاً ومتصلاً. وأخرجه أيضاً الحاكم منقطعاً، وابن حبان في صحيحه متصلاً، والبيهقي. وأخرجه ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو، وفيه ليث بن سليم، وعن أبي أمامة، وفيه أبوحفص الدمشقي، وهو مجهول، والطبراني عن سلمة بن الأكوع وعبادة بن الصامت. 294- قوله: (من توضأ على طهر) "على" بمعنى مع أي وضوء مصاحباً لطهر، وقيل: أو ثابتاً على طهر تشبيهاً لثبوته على ظهر وصف الطهر بثبوت الراكب على مركوبه، واستعارة لفظة "على" المستعملة في الثاني للأول، كما قالوا في قوله تعالى {أولئك على هدى} [2: 5] . (كتب له عشر حسنات) بالوضوء المجدد، وقيل: أي عشر وضوءات،

{الفصل الثالث}

رواه الترمذي. {الفصل الثالث} 295- (13) عن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مفتاح الجنة الصلاة، ومفتاح الصلاة الطهور)) رواه أحمد. ـــــــــــــــــــــــــــــ فان أقل ما وعد به من الأضعاف الحسنة بعشر أمثالها، وقد وعد بالواحد سبع مائة. ووعد ثواباً بغير حساب، قال البغوي: تجديد الوضوء مستحب إذا كان قد صلى بالوضوء الأول صلاة فريضة كانت أو تطوعاً، وكرهه قوم إذا لم يصل بالأول صلاة، ذكره الطيبي. قال القاري: ولعل سبب الكراهة هو الإسراف. قلت: الحديث ساكت عن هذا التفصيل. قال المنذري في الترغيب: وأما الحديث الذي يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: الوضوء نور على نور، فلا يحضرني له أصل من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولعله من كلام بعض السلف. انتهى. (رواه الترمذى) من طريق عبد الرحمن بن زياد الإفريقي، عن أبى غطيف الهذلي، عن ابن عمر، وقال: هو إسناد ضعيف، وذلك لتفرد الإفريقي وأبي غطيف به، والأول مختلف فيه، والثاني مجهول الحال، لم أجد فيه جرحاً ولا تعديلاً إلا قول البخاري في حديثه هذا: "لم يتابع عليه"، وليس له في الكتب الستة إلا هذا الحديث، وأخرجه أيضاً أبوداود وابن ماجه من طريق الإفريقي عن أبي غطيف، وسكت عنه أبوداود. 295- قوله: (مفتاح الجنة الصلاة، ومفتاح الصلاة الطهور) فيكون مفتاح الجنة الطهور، وهو بضم الطاء ويجوز فتحها، والمراد به أيضاً المصدر، قال الطيبي: جعلت الصلاة مقدمة لدخول الجنة كما جعل الوضوء مقدمة للصلاة، وكما لا تتأتى الصلاة بدون الوضوء كذلك لا يتهيأ دخول الجنة بدون الصلاة، وفيه دليل لمن يكفر تارك الصلاة، وأنها الفارقة بين الإيمان والكفر. وقال غيره: هو حث وتحريض على الصلاة، وأنها مما لا يستغنى عنه قط، فإنها من أسباب دخول الجنة أولاً من غير سابقة عذاب. قال ابن العربي: سمى الطهور مفتاحا مجازاً؛ لأن الحدث مانع من الصلاة، فالحدث كالقفل موضوع على المحدث حتى إذا توضأ انحل الغلق، وهذه استعارة بديعة لا يقدر عليها إلا النبوة، وكذلك مفتاح الجنة الصلاة؛ لأن أبواب الجنة مغلقة يفتحها الطاعات، وركن الطاعات الصلاة. (رواه أحمد) وأخرجه أيضاً الترمذى على ما في نسخة الترمذى (ج1: ص10) طبعة مصر بتصحيح وتعليق العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر، وعلى ما في التلخيص الحبير (ص80) والبزار، والطبراني، والبيهقي من حديث سليمان بن قرم، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد، عن ابن عمر، وسليمان سيء الحفظ، وأبويحيى لين الحديث، وقال ابن عدى: أحاديثه عندى حسان.

296- (14) وعن شبيب بن أبي روح عن رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة الصبح، فقرأ الروم، فالتبس عليه، فلما صلى، قال: ما بال أقوام يصلون معنا لا يحسنون الطهور؟ وإنما يلبس علينا القرآن أولئك)) رواه النسائي. ـــــــــــــــــــــــــــــ 296- قوله: (شبيب) كجيب (بن أبي روح) بفتح الراء بعدها واو ثم حاء مهملة، ويقال: إن أبا روح كنية شبيب، واسم أبيه نعيم الكلاعي، من ثقات التابعيين، قال الحافظ: أخطأ من عده من الصحابة. (عن رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) اسمه الأغر بفتح المعجمة بعدها راء مشددة، الغفارى، قال ابن عبد البر في الاستيعاب (ج1: ص45) الأغر الغفارى روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سمعه يقرأ في الفجر بالروم. ولم يروه عنه إلا شبيب أبوروح وحده. انتهى. (فقرأ) فيها. (الروم) أي سورة الروم. (فالتبس عليه) أي اشتبه واستشكل واختلط، وضميره للروم باعتبار أنه اسم مقدار من القرآن، وفي حديث أبي روح عند أحمد: فقرأ بالروم فتردد في آية. (فلما صلى) أي فرغ من الصلاة. (لا يحسنون) من الإحسان أو التحسين. (الطهور) بضم الطاء ويجوز فتحها، والحمل على الماء لا يناسب المقام، أي لا يأتون بواجباته وسننه. ففي حديث أبي روح عند أحمد (ج3: ص471) "إنما لبس الشيطان القراءة من أجل أقوام يأتون الصلاة بغير وضوء"، أي بفقد ركن أو شرط من شروط الطهارة، فيعود شؤم خللهم على المصلى معهم. وفيه تشريع وتعليم للأمة أن المقصر يعود شؤمه على غيره. وقال الطيبي: فيه أن ترك السنن والآداب سد باب الفتوحات الغيبية، وأنه يسري إلى الغير، وأن بركتها تسرى في الغير، ثم تأمل أن مثله - صلى الله عليه وسلم - مع جلالة قدره وغاية كماله إذا كان يتأثر من مثل تلك الهيئة فكيف بغيره من صحبة أهل الأهواء والبدع، وصحبة الصالحين بعكسه. (رواه النسائي) في الصلاة، وأخرجه أيضاً أحمد، وعبد الرزاق، والبغوي، والطبراني، وأبونعيم كلهم عن رجل من الصحابة، قال على المتقى: سماه مؤمل بن إسماعيل الأغر. قال أبوموسى: لا نعلم أحد أسماه غيره، وهو أحد الثقات، وقال البغوي عن الأغر: رجل من بنى غفار-انتهى. قال الحافظ: وسماه الطبراني وخلطه بالأغر المزنى صحابي آخر. وأما ابن عبد البر فجعل هذا غفارياً، وكذا ثبت في بعض طرقه-انتهى. قلت: رجال النسائي وكذا أحمد رجال الصحيح، لكن الحديث مضطرب الإسناد، اختلف أصحاب عبد الملك بن عمير عليه، فرواه سفيان عند النسائي، وشعبة عند أحمد، عن عبد الملك بن عمير، عن شبيب أبى روح، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورواه شريك وزائدة، عن عبد الملك، عن شبيب أبي روح الكلاعي أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الصبح الحديث، فجعلا الحديث عن أبى روح نفسه، وهذا أيضاً عند أحمد (ج3: ص471، 472) والراجح عندنا رواية سفيان وشعبة، وقد صوب الحافظ في تهذيب التهذيب (ج4: ص310) رواية شعبه، وخطأ في التقريب من عد شبيباً أبا روح في الصحابة.

297- (15) وعن رجل من بني سليم، قال: ((عدهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يدى- أو في يده- قال: التسبيح نصف الميزان، والحمد لله يملأه، والتكبير يملأ ما بين السماء والأرض، والصوم نصف الصبر، والطهور نصف الإيمان)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن. 298- (16) وعن عبد الله الصنابحي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ـــــــــــــــــــــــــــــ 297- قوله: (وعن رجل) من الصحابة. (من بني سليم) بالتصغير. (عدهن) أي الخصال الآتية، فهو ضمير مبهم. يفسره ما بعده، والمفسر قوله "التسبيح". (في يدي) أي أخذ أصابع يدي، وجعل يعقدها في الكف خمس مرات على عد الخصال لمزيد التفهيم والاستحضار، (أو في يده) شك من الراوى. (التسبيح نصف الميزان) قيل: إنه ضرب مثل وأن المعنى: لو كان التسبيح جسماً لملأ نصف الميزان. وقيل: بل الله يمثل أقوال بني آدم وأعمالهم صوراً ترى يوم القيامة وتوزن وهذا هو الظاهر، وقيل: أي ثوابه بعد تجسمه يملأ نصف الميزان، والمراد به إحدى كفتيه الموضوعة لوضع الحسنات فيها. (والحمد لله يملأه) أي الميزان كله، فيكون المراد تفضيل الحمد على التسبيح، وأن ثوابه ضعف ثواب التسبيح أو نصفه الآخر، فيكون المقصود التسوية بين التسبيح والحمد بأن كل واحد منهما يأخذ نصف الميزان فيملآنه معاً، وذلك؛ لأن الأذكار تنحصر في نوعين: التنزيه والتحميد، والأول أظهر، ويؤيده حديث أبي مالك الأشعري المتقدم في الفصل الأول، ولأن الحمد يشتمل على التنزيه ضمناً؛ لأن الوصف بالكمال متضمن نفى النقصان. وقال الطيبي: لأن الحمد جامع لصفات الكمال من الثبوتية والسلبية والتسبيح من السلبية. (والصوم نصف الصبر) ؛ لأن الصبر حبس النفس على الطاعات، وعن المعاصي، وكان الصوم أقمع لشهوات النفس الباعثة على المعاصي فصار نصف الصبر بهذا الاعتبار، وقيل: الصوم صبر عن الحلق والفرج فيبقى نصفه الآخر من الصبر عن سائر الأعضاء. (رواه الترمذى وقال: هذا حديث حسن) وأخرجه أيضاً أحمد، وأخرجه الترمذي أيضاً من حديث عبد الله بن عمرو بنحوه، وزاد فيه: "ولا إله إلا الله ليس لها دون الله حجاب حتى تخلص إليه". 298- قوله: (عبدلله الصنابحي) مختلف في صحبته بل في وجوده، فقيل: هو صحابي مدني وإليه جنح الحاكم، وابن السكن، وابن معين، والترمذى، ففي بعض نسخ الترمذي الصحيحة القلمية: الصنابحي هذا الذى روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "فضل الطهور" هو عبد الله الصنابحي، والذى روى عن أبى بكر الصديق ليس له سماع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، واسمه عبد الرحمن ابن عسيلة. انتهى. وإليه يميل كلام الحافظ في تهذيب التهذيب والإصابة، وابن الأثير الجزرى في أسد الغاية، والذهبي في التجريد، والمصنف في الإكمال، والمنذري في الترغيب. وقيل: هو أبوعبد الله الصنابحي عبد الرحمن بن عسيلة التابعى، ووهم من قال عبد الله الصنابحي، وأخطأ قلب كنيته فجعلها اسماً، فأحاديثه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلة، صرح بذلك

إذا توضأ العبد المؤمن فمضمض، خرجت الخطايا من فيه. وإذا استنثر، خرجت الخطايا من أنفه. وإذا غسل وجهه، خرجت الخطايا من وجهه، حتى تخرج من تحت أشفار عينيه. فإذا غسل يديه، خرجت الخطايا من يديه، حتى تخرج من تحت أظفار يديه. فإذا مسح برأسه، خرجت الخطايا من رأسه، حتى تخرج من أذنيه. فإذا غسل رجليه، خرجت الخطايا من رجليه، حتى تخرج من تحت أظفار رجليه. ثم كان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة له)) رواه مالك، والنسائى. 299- (17) وعن أبي هريرة، ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى المقبرة، فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، ـــــــــــــــــــــــــــــ البخارى، وعلي بن المديني، ويعقوب بن شيبة، ومن تبعهم، والراجح عندنا هو القول الأول، فعبد الله الصنابحي صحابي له ثلاثة أحاديث، الأول هو هذا، والثاني يأتي في الفصل الثالث من باب أوقات النهى، وقد صرح في بعضها بالسماع من النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأبوعبد الله الصنابحي عبد الرحمن بن عسيلة رجل آخر تابعي، وارجع إلى تهذيب التهذيب (ج6: ص91، 229) والإصابة (ج2: ص384، 385) و (ج3: ص96) . وسيكون لنا عودة إلى البحث عن ذلك في باب أوقات النهي إن شاءالله تعالى. (إذا توضأ) أي أراد الوضوء. (خرجت الخطايا) أي خطايا فيه من فيه، فاللام بدل من المضاف إليه، أو للعهد بالقرينة المتأخرة، وهكذا فيما بعد، فلا يرد: أن تمام الخطايا إذا خرجت من فيه فماذا يخرج من سائر الأعضاء؟ والمراد بخطايا الفم المراودة على الفاحشة، والمواعدة على المعصية، وغير ذلك من الصغائر. (خرجت الخطايا) كشم ما لا يجوز كطيب مغصوب. (من أنفه) أي مع الماء. (خرجت الخطايا من وجهه) كالنظر إلى ما لا يحل قصداً. (حتى تخرج من تحت أشفار عينيه) أشفار العين أطراف الأجفان التي ينبت عليها الشعر جمع شفر بالضم. (فإذا غسل يديه) أي إلى المرفقين. (خرجت الخطايا من يديه) كاللمس لما لا يجوز. (فإذا مسح برأسه) ظاهره الاستيعاب. (خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه) فيه دليل على أن الأذنين من الرأس، وأنهما يمسحان بماء الرأس لا بماء جديد؛ لأن خروج الخطايا منهما بمسح الرأس إنما يحسن إذا كانا منه، وهذا كما جعل العينين مخرجاً لخطايا الوجه، والأظفار مخرجاً لخطايا اليدين، وعليه بنى النسائي الكلام في سننه فقال: باب مسح الأذنين من الرأس، وما يستدل به على أنهما من الرأس. (فإذا غسل رجليه) أي إلى الكعبين. (خرجت الخطايا من رجليه) كالمشي فيما لا ينبغي. (وصلاته) فريضة كانت أو نافلة. (نافلة له) أي زائدة على تكفير تلك الخطايا المتعلقة بأعضاء الوضوء، فتكون لتكفير خطايا باق الأعضاء إن كانت، وإلا فلتخفف الكبائر ثم لرفع الدرجات. (رواه مالك والنسائي) وأخرجه أيضاً أحمد وابن ماجه والحاكم، وقال صحيح على شرطهمان، ولا علة له، وعبد الله الصنابحي صحابي. 299- قوله: (أتى المقبرة) بتثليث الباء والكسر قليل، قيل: أنها البقيع. (السلام عليكم دار قوم مؤمنين)

وإن شاءالله بكم لاحقون، وددت أنا قد رأينا إخواننا. قالوا: أو لسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد، فقالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟ فقال: أرأيت لو أن رجلاً له خيل غر محجلة، بين ظهرى خيل دهم بهم، ألا يعرف خيله؟ قالوا بلى، يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فإنهم يأتون غراً محجلين من الوضوء ـــــــــــــــــــــــــــــ منصوب على الإختصاص أو النداء؛ لأنه مضاف، ويجوز الجر على البدلية من الكاف والميم في "عليكم". والمراد الجماعة وأهل الدار. (وإنا إن شاءالله بكم لاحقون) أتى بالاستثناء مع أن الموت لا شك فيه، وللعلماء فيه أقوال تبلغ إلى عشرة، أظهرها أنه للتبرك لا للشك، كما في قوله: {لتدخلن المسجد الحرام إن شاءالله آمنين} [48: 27] وقيل لامتثال أمر الله في قوله: {ولا تقولن لشائ إن فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله} [18: 23، 24] وقيل: باعتبار اللحوق في هذا الملكان والموت بالمدينة. (وددت) بكسر الدال أي تمنيت وأحببت. (أنا) بفتح الهمزة وتشديد النون أي أنا وأصحابي. (إخواننا) في الحياة الدنيا، وقيل بعد الموت، ووجه اتصال هذه الودادة بذكر أصحاب القبور أنه ذكر اللاحقين عند تصور السابقين، وذكرهم إظهاراً لشرفهم وكرامتهم ومحته إياهم. (أولسنا) أي أتقول هذا ولسنا. (أنتم أصحابي) ليس هذا نفياً لأخوتهم ولكن ذكر مزيتهم الزائدة بالصحبة، فإن الاتصاف في محل الثناء يكون بأرفع حالاته وأفضل صفاته، وفضيلة الصحبة لا يعدلها عمل، فإنها من الصفات التي لا يلحقهم فيها أحد فهؤلاء إخوة وصحابة، واللاحقون إخوة فحسب قال تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} [49: 10] . (وإخواننا) أي المراد بإخواني أو الذين لهم إخوة فقط. (الذين لم يأتوا بعد) أي لم يلحقوا إلى الآن. (فقالوا: كيف تعرف) أي يوم القيامة، وفي رواية مالك والنسائي وأنا فرطهم على الحوض، فقالوا يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف تعرف؟ الخ فكأنهم فهموا من تمنى الروية وتسميتهم باسم الإخوة دون الصحبة أنه لا يراهم في الدنيا فإنما يتمنى عادة ما لم يمكن حصوله، ولو حصل اللقاء في الدنيا لكانوا صحابة، وفهموا من قوله: "أنا فرطهم" أنه يعرفهم في الآخرة فسألوا عن كيفية ذلك. (أرأيت) أي أخبرني، والخطاب مع كل من يصلح له من الحاضرين أو السائلين،. (بين ظهرى خيل) أي بينها، ولفظ الظهر مقحم. (دهم) بضم الدال وسكون الهاء جمع أدهم، وهو الأسود، والدهمة السوادة. (بهم) بضم الموحدة وسكون الهاء جمع بهيم، وقيل: المراد السود أيضاً، وقيل: البهيم الذي لايخالط لونه لون سواءه، سواء كان أسود، أو أبيض، أو أحمر، بل يكون لونه خالصًا. (ألا يعرف خيله؟) الهمزة للإنكار. (فإنهم يأتون غرا محجلين من الوضوء) أي وسائر الناس ليسوا كذلك، لاختصاص الغرة والتحجيل بهذه الأمة من بين الأمم، ويكون الوجه كله متنوراً من أثر الوضوء، ولكن الجبهة تكون أشد تنوراً من أجل السجود، فلا يخالفه حديث

وأنا فرطهم على الحوض)) رواه مسلم. 300- (18) وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا أول من يؤذن له بالسجود يوم القيامة، وأنا أول من يؤذن له أن يرفع رأسه، فأنظر إلى ما بين يدى، فأعرف أمتي من بين الأمم، ومن خلفي مثل ذلك، وعن يميني مثل ذلك، وعن شمالي مثل ذلك. فقال رجل: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف تعرف أمتك من بين الأمم فيما بين نوح إلى أمتك؟ قال: هم غر محجلون من أثر الوضوء، ليس أحد كذلك غيرهم، وأعرفهم أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم، وأعرفهم تسعى بين أيديهم ذريتهم)) رواه أحمد. ـــــــــــــــــــــــــــــ عبد الله بن بسر عند الترمذي وغيره، وقد تقدم وجه آخر للجمع. (وأنا فرطهم على الحوض) بفتحتين، أي أنا أتقدمهم على الحوض، أهيئ لهم ما يحتاجون إليه. ففيه بشارة لهذه الأمة، هنيئاً لمن كان النبي - صلى الله عليه وسلم -: فرطه. (رواه مسلم (وأخرجه أيضاً مالك والنسائي) . 300- قوله: (فأنظر) أي فأرفع راسي فأنظر. (فأعرف) أي أميز، ليستقيم تعلق من به. (أمتي) أي الذين أجابوا. (ومن خلفي) أي أنظر من ورائي. (مثل ذلك) بالنصب أي فأعرف أمتي. (فيما بين نوح) بيان للأمم، حال منه، أي الأمم كائنة فيما بين نوح. (إلى أمتك) إلى للإنتهاء، أي مبتدأ من نوح منتهيا إلى أمتك. (ليس أحد كذلك غيرهم) بالرفع على البدلية، وبالنصب على الاستنثاء، هذا صريح في أن الغرة والتحجيل من خصوصيات أمته - صلى الله عليه وسلم -. (وأعرفهم أنهم يؤتون كتبهم بإيمانهم) ظاهره أنه من خصوصياتهم إلا أن يحمل على أنهم يؤتون ذلك قبل غيرهم، أو على صفة لم تكن لغيرهم، إذ الذي دلت عليه الآيات وبقية الأحاديث العموم. (وأعرفهم تسعى بين أيديهم ذريتهم) قال الطيبي: لم يأت بالوصفين هذين تفصلة وتميزاً كالأول، بل أتى بهما مدحاً لأمته، وابتهاجا بما أوتوا من الكرامة والفضيلة، انتهى. (رواه أحمد) وفيه ابن لهيعة قال المنذري: وهو حديث حسن في المتابعات، وأخرجه أيضاً الطبراني في الكبير، وفيه أيضاً ابن لهيعة.

(1) باب ما يوجب الوضوء

(1) باب ما يوجب الوضوء {الفصل الأول} 301- (1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ)) متفق عليه 302- (2) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول)) ـــــــــــــــــــــــــــــ (باب ما يوجب الوضوء) أي وما يتعلق به، قال في القاموس: "الوضوء" بالضم الفعل، وبالفتح ماؤه، ومصدر أيضاً، أو لغتان قد يعنى بهما المصدر، وقد يعنى بهما الماء، انتهى والمراد بيان الأشياء التي تنقض الوضوء، وتكون سبباً لوجوب وضوء آخر. والموجب للوضوء وسببه في الحقيقة هي إرادة الصلاة المقرونة إليها، كما تدل عليه آية الوضوء، وقد يطلق على نواقص الوضوء لفظ الموجب كما هنا بالوجه الذي أشرنا إليه. 301- قوله: (لا تقبل) وفي رواية لا يقبل الله، والقبول ضد الرد، فمعنى لا تقبل أي ترد ولا تعتد ولا تجزئ، أي تبطل ولا تصح، فالقبول في معنى الإجزاء والصحة، وقد يطلق عدم القبول ويراد به نفى الإثابة لدليل خارجي (صلاة من أحدث) أي صار ذا حدث، والمراد به الخارج من أحد السبيلين. (حتى يتوضأ) أي فتقبل حينئذٍ، وقوله: "يتوضأ" أي حقيقة بالماء، أو حكماً بما يقوم مقامه، وهو التيمم، وقد أطلق الوضوء على التيمم، أو يتوضأ بمعنى يتطهر، فيشمل الغسل والوضوء والتيمم. والحديث فيه دليل على بطلان الصلاة بالحدث، سواء كان خروجه اضطرارياً أو اختيارياً لعدم التفرقة في الحديث بين حدث وحدث، في حالة دون حالة، ففيه رد على من يقول وهو أبوحنيفة: أنه إذ سبقه الحدث يتوضأ، ويبني على صلاته، وفيه أن الصلوات كلها تفتقر إلى الطهارة، ويدخل فيها صلاة الجنازة والعيدين وغيرهما. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الطهارة، وفي ترك الحيل، ومسلم في الطهارة، وأخرجه أيضاً الترمذي وأبوداود. 302- قوله: (بغير طهور) أي بلا طهور، وليس المعنى صلاة متلبسة بشيء مغاير للطهور، إذ لا بد من ملابسة الصلاة بما يغاير الطهور، كسائر شروط الصلاة، إلا أن يراد بمغاير الطهور، ضد الطهور، حملاً لمطلق المغاير على الكامل، وهو الحدث. والطهور بضم الطاء فعل المتطهر، وهو المراد ههنا، وبالفتح اسم للآلة كالماء والتراب، وقيل: بالفتح يطلق على الفعل أيضاً، فيجوز ههنا الوجهان. (ولا صدقة من غلول) بضم الغين أي مال حرام. والغلول في الأصل الخيانة في المغنم، ولا سرقة من الغنيمة قبل القسمة، وكل من خان في شيء خفية فقد غل، قال ابن العربي: فالصدقة من مال حرام في

رواه مسلم. 303- (3) وعن علي، قال: قال: ((كنت رجلاً مذاء، فكنت أستحيي أن أسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - لمكان ابنته، فأمرت المقداد، فسأله، فقال: يغسل ذكره ـــــــــــــــــــــــــــــ عدم القبول والاستحقاق العقاب، كالصلاة بغير طهور في ذلك، انتهى. فكما أن الطهارة شرط للصلاة المقبولة، كذلك كون المال طيباً شرط للصدقة المقبولة. ولعل وجه تخصيص الغلول بالذكر، وإن كان الحكم عاماً لجميع الأموال المحرمة – كثمن الخمر وأجرة المزنية والربا والسرقة ونحوها- أن الغنيمة فيها حق لجميع المسلمين، فإذا كان التصدق من المال الذي فيها حق غير مقبولة، فأولى أن لا تقبل من المال الذي ليس فيه حق. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد، والترمذي وابن ماجه، وأخرجه أبوداود والنسائي وابن ماجه، عن أبي المليح عن أبيه، وابن ماجه عن أنس وأبي بكرة. 303- قوله: (مذاء) صيغة مبالغة، أي كثير المذي، وفيه لغات أفصحها بفتح الميم وسكون الذال وتخفيف الياء ثم بكسر الذال وتشديد الياء، وهو ماء أبيض رقيق لزج، يخرج عند الملاعبة والتقبيل، أو تذكر الجماع، أو إرادته عادة، وقد لا يحس بخروجه. (أن أسأل النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي عن حكم المذي، هل هو نجس موجب للغسل أم لا؟. (لمكان ابنته) أي فاطمة، لكونها تحته. والمذي كثيراً ما يخرج عند ملاعبة الزوجة. (فأمرت المقداد فسأله) أي مبهما بأن قال مثلا: رجل خرج من ذكره مذى، ما الحكم فيه؟ لا لعلى خاصة بالتعيين، وقد وقع الاختلاف في السائل هل المقداد؟ كما في هذه الرواية، أو عمار؟ كما رواية للنسائي، أو علي؟ كما في رواية لابن حبان، والإسماعيلي، والترمذي، وجمع ابن حبان بين ذلك، بأن علياً أمر عماراً أن يسأل ثم أمر المقداد بذلك، ثم سأل بنفسه، إلا أنه تعقب بأن قوله: فكنت أستحيي الخ. دال على أنه لم يباشر السؤال، فنسبة السؤال إليه في رواية من قال: إن علياً سأل، مجاز، لكونه الآمر بالسؤال، أو يقال: أنه سأل هو بنفسه بعد سؤالهما للإحتياط، أو يقال: إنه لما أبطأ في السؤال، سأل بنفسه لشدة إحتياجه إليه، وسألا أيضاً في أوقات مختلفة، وأخبراه بذلك، وقد يجمع بأنه سألهما معاً أن يسألاه - صلى الله عليه وسلم -، كما في رواية لعبد الرزاق: فسأله المقداد بحضرة عمار وعلي، فنسبة عمار إلى أنه سأل عن ذلك محمولة على المجاز لكونه قصده، ولكون المقداد سأله بحضرته، كما أن نسبة السؤال إلى علي محمولة على المجاز؛ لكونه الآمر ولكون المقداد سأله بحضرته. (يغسل ذكره) لنجاسته، وإطلاق لفظ "ذكره" ظاهر في غسل الذكر كله، وليس كذلك إذ الواجب غسل محل الخارج وموضع النجاسة فقط، وإنما هو من إطلاق لفظ الكل على البعض، والقرينة أن الموجب لغسله إنما هو خروج الخارج، فلا تجب المجاوزة إلى غير محله، ويؤيده ما عند الإسماعيلي في رواية فقال: توضأ واغسله" فأعاد الضمير إلى المذي، وهذا مذهب الجمهور، وذهب بعض المالكية إلى أنه يغسله كله، عملاً بلفظ الحديث، وذهب بعض الحنابلة إلى أنه يغسله كله مع الأنثيين. واستدل لذلك برواية أبي داود: يغسل ذكره وأنثييه، وفي رواية أخرى له: فتغسل من ذلك فرجك

ويتوضأ)) متفق عليه. 304- (4) وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((توضؤا مما مست النار)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأنثييك، وتوضأ للصلاة". وأجيب بأن رواية غسل الأنثيين قد طعن فيها بأنها من رواية عروة بن علي، وعروة لم يسمع من علي، وأيضاً أكثر الروايات في الصحيحين وغيرهما خالية عن ذكر الأنثيين، إلا أنه رواه أبوعوانة في صحيحه، من طريق عبيدة عن علي بالزيادة، وإسناده لا مطعن فيه كما قال الحافظ في التخليص. وأجيب عنه بأنه محمول على الاستحباب، أو أمر بغسل الأنثيين لزيادة التطهير؛ لأن المذي ربما انتشر فأصاب الأنثيين. ويقال: إن الماء البارد إذا أصاب الأنثيين رد المذي، فلذلك أمره بغسلهما، قاله الخطابي. واستدل به على تعيين الماء فيه دون الأحجار ونحوها أخذاً بالظاهر. وقالت الحنفية: يجوز الاقتصار بالأحجار الحاقاً للمذى بالبول، وحملاً للأمر بالغسل على الاستحباب، أو على أنه خرج مخرج الغالب، وهذا هو المعروف في مذهب الشافعي. (ويتوضأ) فيه أن المذي ينقص الوضوء، ولا يوجب الغسل، وهو إجماع. (متفق عليه) أخرجه البخاري في العلم، وفي الطهارة، ومسلم في الطهارة، وأخرجه أيضاً النسائي فيها، وقد روي حديث علي هذا من طرق مختلفة عند أحمد، ومسلم، والترمذى، والنسائي وأبي داود، وابن ماجه، وغيرهم. 304- قوله: (توضؤوا مما مست النار) أي من أكل ما مسته النار، وهو الذى أثرت فيه النار بطبخ أو قلي أو شي. والمراد بالوضوء الوضوء الشرعي، أي وضوء الصلاة. وهو دليل على أن أكل ما أثرت فيه النار من أسباب وجوب الوضوء. واختلف العلماء في هذه المسألة، فذهب الأكثر من السلف والخلف إلى عدم انتقاض الوضوء به. وذهبت طائفة إلى وجوب الوضوء الشرعي به، واستدلت بحديث أبي هريرة هذا وما في معناه. وأجاب الأولون عنه بوجوه: منها أن المراد بالوضوء غسل الفم والكفين، ورد بأن الحقائق الشرعية مقدمة على غيرها. ومنها أنه محمول على الاستحباب لا على الوجوب، وهذا اختيار الخطابي، وابن تيمية صاحب المنتقى، ورد بأن الأصل في الأمر الوجوب. ومنها أنه لما اختلف أحاديث الباب، ولم يتبين الراجح منها، نظرنا إلى ما عمل به الخلفاء الراشدون بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فرجحنا به أحد الجانبين، وارتضى بهذا النووي في شرح المهذب، وبهذا يظهر حكمة تصدير البخاري حديث ابن عباس الآتي بالأثر المنقول عن الخلفاء الثلاثة، قال النووي: كان الخلاف فيه معروفاً بين الصحابة والتابعين، ثم استقر الإجماع على أنه لا وضوء مما مست النار، إلا ما تقدم استثناه من لحوم الإبل. ومنها أنه منسوخ بحديث ابن عباس الذى يتلوه، وبحديث أم سلمة، وحديث ابن عباس الآتيين في آخر الفصل الثاني، وما في معناهما من الأحاديث الدالة على ترك الوضوء مما مست النار، والحكمة في الأمر بالوضوء من ذلك في أول الإسلام، ما كانوا عليه من قلة التنظيف في الجاهلية، فلما تقررت النظافة وشاعت في الإسلام، نسخ الوضوء تيسيراً على المؤمنين. وأبدى الشاه ولي الله الدهلوي حكمة أخرى، وارجع إلى حجة الله. قلت: أقوى الأجوبة عندي هو الثالث فهو أولى من دعوى النسخ. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد، والنسائي، وغيرهما.

305- (5) قال الشيخ الإمام الأجل محي السنة، رحمه الله: هذا منسوخ بحديث ابن عباس: قال. ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ)) متفق عليه. 306- (6) وعن جابر بن سمرة، ((أن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن ـــــــــــــــــــــــــــــ 305- قوله: (قال الشيخ الإمام الأجل محي السنة) البغوي في شحر السنة (هذا) أي وجوب الوضوء الشرعي بأكل ما مسته النار. (منسوخ بحديث ابن عباس) الخ، واعتراض عليه بأنه إنما يتم ذلك لو علم تاريخهما، وتقدم الأول على الثاني، وأجيب بأن صحبة ابن عباس متأخرة، فإنه إنما صحبه بعد الفتح، قاله الشافعي فيما نقله البيهقي، ويدل على تأخر حديث ابن عباس، ما رواه أحمد في مسنده عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه عن ابن إسحاق: حدثنا محمد بن عمرو بن عطاء قال: دخلت على ابن عباس بيت ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - لغد يوم الجمعة، الحديث. وفيه: فأكل وأكلوا معه، قال: ثم نهض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمن معه إلى الصلاة، وما مس ولا أحد ممن كان معه ماء، قال: ثم صلى بهم، وكان ابن عباس إنما عقل من أمر رسول الله آخره، وهذا مع دلالته على تأخره، فيه رد على زعم الخصوصية. قيل: وأصرح من هذا في النسخ حديث جابر: كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما مست النار، رواه أبوداود، والنسائي، وابن الحارود، والبيهقي، وغيرهم، وهو حديث صحيح ليس في إسناده مطعن، وليست له علة، وقد أعمله بعض الحفاظ بما لا يصلح تعليلاً، وتأوله أبوداود بما هو بعيد جداً، يرده ما رواه أحمد عن جابر مطولاً من طريق محمد بن إسحاق عن عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب، فإن فيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل هو ومن معه، ثم بال، ثم توضأ للظهر، وأنه أكل بعد ذلك هو ومن معه، ثم صلوا العصر، ولم يتوضؤوا. (هذا معنى الحديث) فهذا يدل على أن الوضوء الأول كان للحدث، وليس من أكل ما مست النار، حتى يصح أن يسمى الفعل الثاني بأكله ثم صلاته من غير أن يتوضأ، آخر الأمرين؛ لأنهما فعلان ليسا من نوع واحد، وقال ابن حزم في المحلى (ج1: ص243) : القطع بأن ذلك الحديث مختصر من هذا، قول بالظن، والظن أكذب الحديث، بل هما حديثان كما وردا. انتهى. (أكل كتف شاة) أي أكل لحم كتف الشاة. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الطهارة، وفي الأطعمة، ومسلم في الطهارة، وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود. 306- قوله: (وعن جابر بن سمرة) بن جنادة السوائي، صحابي مشهور، ولأبيه أيضاً صحبه، نزل الكوفة، ومات بها سنة (74) في خلافة عبد الملك بن مروان، في ولاية بشر بن مروان، له مائة وستة وأربعون حديثاً، اتفقا على حديثين، وانفرد مسلم بثلاثة وعشرين، روى عنه جماعة. (أنتوضأ) بالنون، وفي بعض النسخ بالياء، وفي بعضها "أتوضأ" بالمتكلم المفرد، مع حذف همزة الاستفهام، وهي الصحيحة الموافقة لما في صحيح مسلم. (من لحوم الغنم) أي من أكلها.

شئت فتوضأ، وإن شئت فلا تتوضأ، قال: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم، فتوضأ من لحوم الإبل. قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم. قال: أصلى في مبارك الإبل؟ قال: لا)) ـــــــــــــــــــــــــــــ (قال: نعم، فتوضأ من لحوم الإبل) المراد به الوضوء الشرعي، أي وضوء الصلاة، لأن الحقائق الشرعية مقدمة على غيرها. والحديث نص على أن الأكل من لحم الإبل ناقص للوضوء على كل حال، نيئاً كان أو مطبوخاً، وإليه ذهب أحمد، وإسحاق ابن راهوية، وغيرهما، واختاره البيهقي، وحكى عن أصحاب الحديث مطلقاً، وحكى عن جماعة من الصحابة، ورجحه النووي وغيره من الشافعية، وابن العربي من المالكية، والشيخ عبد الحي اللكنوى من الحنفية، وهذا القول هو المعمول عليه، الصحيح عندنا، وإن كان الجمهور على خلافه. ويدل عليه أيضاً حديث البراء بن عازب، عند أحمد والترمذى وأبي داود وابن ماجه والطيالسي، وابن الجارود وابن حبان، وابن خزيمة وغيرهم، قال ابن خزيمة: لم أر خلافاً بين علماء الحديث أن هذا الخبر صحيح من جهة النقل لعدالة ناقليه، انتهى. وفي الباب عن أسيد بن حضير، وذى الغرة، وعبد الله بن عمر، ولكن أحاديثهم قد تكلم فيها من جهة السند، وذهب الأكثرون إلى أنه لا ينقص الوضوء، وأجابوا عن حديثي جابر والبراء بوجوه كلها مخدوشة، قد رد عليها ابن قدامة في المغني (ج1: ص188، 183) رداً حسناً، وقد نقل كلامه شيخنا في شرح الترمذي، مع الرد على تقريرات صاحب بذل المجهور من الحنفية فارجع إليه. وأما السؤال عن الحكمة لوجوب الوضوء من لحم الإبل فواقع في غير محله؛ لأن هذا الحكم تعبد غير معقول المعنى، فلا نحاول أن نتلمس حكمة له. (أصلي) بحذف حرف الاستفهام. (في مرابض الغنم) جمع مربض بفتح الميم وكسر الباء، وهو موضع ربوض الغنم، أي مأوى الغنم. (قال: نعم) فيه دليل على جواز الصلاة في مرابض الغنم مطلقاً، خلافاً لمن قال: إن الإذن بالصلاة فيها كان قبل أن يبنى المسجد. واستدل بالحديث على طهارة أبوال الغنم وأبعادها؛ لأن مرابض الغنم لا تخلو عن ذلك، والإذن بالصلاة فيها مطلق، ليس فيه تخصيص موضع دون موضع، ولا تقييد بحائل بقى من الأبوال وهذا هو الحق خلافاً لأبي حنيفة والشافعي. (أصلي في مبارك الإبل) جمع مبرك بفتح الميم وكسر الراء، وهو موضع بروك الإبل. (قال: لا) فيه دليل على تحريم الصلاة في مبارك الإبل، وإليه ذهب أحمد، ومالك وابن حزم وهو الحق. وذهب الجمهور إلى حمل النهي على الكراهة مع عدم النجاسة، وعلى التحريم مع وجودها، وهذا إنما يتم على القول بأن علة النهي هي النجاسة، وذلك متوقف على نجاسة أبوال الإبل وأزبالها، وستعرف أن الحق طهارة أبوال مأكول اللحم وأزباله، ولو سلمنا النجاسة فيه لم يصح جعلها علة؛ لأن العلة لو كانت النجاسة لما افترق الحال بين أعطانها وبين مرابض الغنم، إذ لا قائل بالفرق. وقيل علة النهي ما فيها من النفور، وبهذا علل أصحاب الشافعي، وأصحاب مالك، وعلى هذا فيفرق بين كون الإبل في مباركها، وبين غيبتها عنها. وفيه أن النهي عن الصلاة فيها مطلق، سواء كانت الإبل فيها أو لم تكن، وقيل: علة النهي أن يجاء بها إلى مباركها بعد شروعه في الصلاة فيقطعها أو يستمر فيها مع شغل خاطره، وفيه أيضاً ما تقدم. وقيل: لأن الراعي يبول بينها، وفيه أن هذا ظن وتخمين لم يقم عليه دليل، فلا يلتفت إليه. وقيل: علة النهي

رواه مسلم. 307- (7) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا، فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا. فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً)) ـــــــــــــــــــــــــــــ شدة نتنها. وقيل: الحكمة في النهي كونها خلقت من الشياطين، ويدل عليه حديث ابن مغفل عند أحمد، والنسائي، وحديث البراء عند أبي داود، وحديث أي هريرة عند ابن ماجه، قال الإمام الشوكاني بعد بيان اختلافهم في تعليل النهي بنحو ما ذكرنا: إذا عرفت هذا الاختلاف في العلة، تبين لك أن الحق الوقوف على مقتضى النهي، وهو التحريم، كما ذهب إليه أحمد، والظاهرية، انتهى. ولا يعارضه حديث الصلاة إلى الراحلة بجعلها سترة في الصلاة؛ لأن ذلك كان في السفر حالة الضرورة، ولأن النهي مقصور على موضع بروكها وعطنها، وفرق بين الصلاة في العطن وبين جعلها سترة في الصلاة في حال شد الرحل عليها. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود الطيالسي وابن ماجه وابن حبان. 307- قوله: (إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً) أي كالقرقرة بأن تردد في بطنه ريح في الصلاة أو خارج الصلاة. (فأشكل عليه) بفتح الهمزة أي التبس. (أخرج) الهمزة للاستفهام. (فلا يخرجن) أي للتوضوء؛ لأن المتيقن لا يبطله الشك. (من المسجد) يوهم أن حكم غير المسجد بخلاف المسجد، لكن أشير به إلى الأصل أن يصلى في المسجد؛ لأنه مكانها، فعلى المؤمن ملازمته، والمواظبة على إقامة الصلوات مع الجماعات. (حتى يسمع صوتاً) أي صوت ريح يخرج منه. (أو يجد ريحاً) أي رائحة ريح خرجت منه، ومعناه حتى يتيقن الحدث بطريق الكناية، أعم من أن يكون بسماع الصوت، أو وجدان رائحة أو يكون بشيء آخر، لا أن سماع الصوت أو وجدان الريح شريط، إذ وقد يكون الأصم فلا يسمع الصوت، وقد يكون أخشم فلا يجد الريح، وينتقض طهره إذا تيقن الحدث. وفيه دليل على أن الريح الخارجة من قبل المرأة وذكر الرجل توجب الوضوء، وبه قال الشافعي، وإليه ذهب بعض الحنفية، ورجحه الشيخ عبد الحي اللكنوى، لكونه موافقاً للأحاديث، وقال بعض الحنفية: لا توجب. وإليه مال صاحب الهدايا، وعلل بأنها لا تنبعث عن محل النجاسة، وهو مبني على أن عين الريح ليست بنجسة وإنما يتنجس بمرورها على محل النجاسة، وهذا لا يتمشى على قول من قال من مشائخ الحنفية بتنجس عين الريح، وعلل بعضهم، بأنها اختلاج لا ريح، وليس بشيء خارج، لكن هذا أيضاً قاصر، فإنه لا يتمشى فيما إذا وجد النتن، أو سمع الصوت من القبل أو الذكر، فإن هناك لاشك في خروج شيء. وفيه دليل على أن اليقين لا يزول بالشك الطارئ في شيء من أمر الشرع، وهو قول عامة أهل العلم، فمن حصل له شك أو ظن بأنه أحدث وهو على يقين من طهارته، لم يضره ذلك حتى يحصل له اليقين، كما أفاده قوله: "حتى يسمع" الخ، فإنه علقه بحصول ما يحسه، وذكرهما تمثيل، وإلا فكذلك سائر النواقض، كالمذي والودي، والحديث عام لمن كان في الصلاة أو خارجها، وهو

رواه مسلم. 308- (8) وعن عبد الله بن عباس، قال: ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شرب لبناً فمضمض، وقال: إن له دسماً)) متفق عليه. 309- (9) وعن بريدة، ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد، ومسح على خفيه، فقال له عمر: لقد صنعت اليوم شيئاً لم تكن تصنعه فقال: عمداً صنعته يا عمر)) ـــــــــــــــــــــــــــــ قول الجماهير، وللمالكية تفاصيل وفروق بين من كان داخل الصلاة أو خارجها، لا ينتهض عليها دليل. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً الترمذي، وأبوداود. وروى الجماعة إلا الترمذي عن عبادة بن تميم عن عمه بنحوه. 308- قوله: (فمضمض) أي غسل فمه. (إن له دسماً) منصوب على أنه اسم إن، وقدم عليه خبره. "والدسم" بفتحتين الشيء الذي يظهر على اللبن من الدهن، وهي بيان لعله المضمضة من اللبن، فيدل على استحبابها من كل شيء دسم، لئلا يشغل ما بقى من دسومته في الفم قلب المصلى عن صلاته، ولينقطع لزوجته ودسمه ويتطهر فمه. ويستنبط منه استحباب غسل اليدين للتنظيف، قال القاري: مناسبة الحديث للباب، أن المضمضة المذكورة من متممات الوضوء أو مكملاته، انتهى. أو يقال: أورد الحديث في هذا الباب لبيان أن شرب اللبن ونحوه مما فيه دسم ليس من نواقص الوضوء، ولا من موجبات المضمضة التي هي من أركان الوضوء عند أحمد، ومن سننه عند غيره. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه، وروى ابن ماجه نحوه عن سهل بن سعد، وأم سلمة وأنس. 309- قوله: (وعن بريدة) بضم الموحدة، وفتح الراء، وسكون الياء، وهو بريدة بن الحصيب، بمهملتين مصغراً، ابن عبد الله بن الحارث الأسلمي، أبوعبد الله، وقيل: أبوسهل، وقيل: غير ذلك. أسلم قبل بدر ولم يشهدها. وبايع بيعة الرضوان. وشهد خيبر، وفتح مكة. واستعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على صدقات قومه، وسكن المدينة، ثم انتقل إلى البصرة، ثم إلى مرو، فمات بها سنة (63) في خلافة يزيد بن معاوية. له مائة وأربعة وستون حديثاً، اتفقا على حديث، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بأحد عشر، روى عنه جماعة. وهو آخر من مات بخراسان من الصحابة (صلى الصلوات) أي الخمس المعهودة. (يوم الفتح) أي يوم فتح مكة. (لقد صنعت اليوم شيئاً لم تكن تصنعه) أي لم تكن تعتاده، وإلا فقد ثبت أنه كان يفعل قبل ذلك أحياناً، فقد فعله بالصهباء أيام خيبر، حين طلب الأزواد فلم يؤت إلا بالسويق، كما سيأتي في حديث سويد. وفي حديث بريدة هذا تصريح بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عادته الوضوء لكل صلاة عملاً بالأفضل، ولما كان وقوع غير المعتاد يحتمل أن يكون عن سهو، دفع ذلك الاحتمال، ليعلم أنه جائز له ولغيره. (فقال: عمداً صنعته) يعنى بيانا للجواز، والضمير راجع إلى المذكور، وهو جمع الصلوات الخمس بوضوء واحد، "وعمداً" تمييز أو حال من الفاعل،

رواه مسلم. 310- (10) وعن سويد بن النعمان ((أنه خرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام خيبر حتى إذا كانوا بالصبهاء – وهي من أدنى خيبر – ـــــــــــــــــــــــــــــ قدم اهتماماً لشرعية المسألة في الدين. وفيه دليل على أن قدر أن يصلى صلوات كثيرة من الفرائض والنوافل بوضوء واحد لا تكره صلاته، إلا أن يغلب عليه الأخبثان. وبه قال عامة أهل العلم، وأما قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} [5: 6] الآية. فالمراد به إذا قمتم إلى الصلاة محدثين، قال الآلوسي في روح المعاني (ج6: ص69) : ظاهر الآية يوجب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة وإن لم يكن محدثاً، نظرا إلى عموم {الذين آمنوا} من غير اختصاص بالمحدثين، وإن لم يكن في الكلام دلالة على تكرار الفعل، وإنما ذلك من خارج على الصحيح، لكن الإجماع على خلاف ذلك، ثم ذكر حديث بريدة هذا، وقال: فاستحسن الجمهور كون الآية مقيدة، والمعنى إذا قمتم إلى الصلاة محدثين، بقرينه دلالة الحال، ولأنه اشترط الحدث في البدل، وهو التيمم، فلو لم يكن له مدخل في الوضوء مع المدخلية في التيمم، لم يكن البدل بدلاً، وقوله: {فلم تجدوا ماء} صريح في البدلية. وقال بعض المتأخرين: إن في الكلام شرطاً مقدراً، أي إذا فمتم إلى الصلاة فاغسلوا الخ، إن كنتم محدثين؛ لأنه يلائمه كل الملائمة عطف {وإن كنتم جنباً فاطهروا} عليه. وقيل: الأمر للندب، ويعلم الوجوب للمحدث بالسنة، واستبعد لإجماعهم على أن وجوب الوضوء مستفاد من هذه الآية مع الاحتياج إلى التخصيص بغير المحدثين من غير دليل، وأبعد منه أنه ندب بالنسبة إلى البعض ووجوب بالنسبة إلى آخرين. وقيل: هو للوجوب، وكان الوضوء واجباً على كل قائم أول الأمر ثم نسخ، فقد أخرج أحمد، وأبوداود وابن جرير وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبيهقي، عن عبد الله بن حنظلة الغسيل: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالوضوء لكل صلاة، طاهراً كان أو غير طاهر، فلما شق ذلك عليه، أمر بالسواك عند كل صلاة، ووضع عنه الوضوء إلا من حديث، ولا يعارض ذلك خبر "أن المائدة آخر القرآن نزولاً" الخ؛ لأنه ليس في القوة مثله، حتى قال العراقي: لم أجده مرفوعاً، نعم: الاستدلال على الوجوب على كل الأمة أولاً، ثم نسخ الوجوب عنهم آخراً، بما يدل على الوجوب عليه، عليه الصلاة والسلام، أولاً ونسخه عنه آخراً، لا يخلو عن شيء كما لا يخفى. وأخرج مالك والشافعي وغيرهما، عن زيد بن أسلم: أن تفسير الآية إذا قمتم من المضاجع يعنى النوم إلى الصلاة، والأمر عليه ظاهر، انتهى كلام الآلوسي. ومناسبة الحديث للباب أنه يدل على أن كل ما أريد القيام إلى الصلاة لا يجب الوضوء على ما يتوهم من رواية الآية. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه. 310- قوله: (وعن سويد) مصغراً (بن النعمان) بضم النون، ابن مالك بن عامر الأنصاري الأوسي المدني، صحابي، شهد أحداً وما بعدها، قال الخزرجي: له سبعة أحاديث، انفرد له البخاري بحديث المضمضة من السوبق، ما روى عنه سوى بشير بن يسار. (أنه خرج) في المحرم سنة سبع. (مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام خيبر) أي عام غزوة خيبر، وهي بلدة معروفة، غير منصرف للعلمية والتأنيث. (حتى إذا كانوا) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. (وهي من أدنى خيبر) أي الصهباء – بفتح المهملة والمد –

{الفصل الثاني}

صلى العصر، ثم دعا بالأزواد، فلم يؤت إلا بالسويق، فأمر به فثري، فأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأكلنا، ثم قام إلى المغرب، فمضمض ومضمضنا، ثم صلى ولم يتوضأ)) رواه البخاري. {الفصل الثاني} 311- (11) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا وضوء إلا من صوت أو ريح)) رواه أحمد، والترمذي. 312- (12) وعن علي، قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - من المذي، فقال: ((من المذي الوضوء، ومن المني الغسل)) رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ موضع قريب من خيبر، قيل: على بريد منها (ثم دعا بالأزواد) ليصيب من الأزواد من لا زاد عنده، والأزواد جمع زاد. فيه أن حمل الزاد في السفر لا يقدح في التوكل. وأخذ المهلب من الحديث أنه يجوز للإمام أن يأخذ المحتكرين بإخراج الطعام عند قلته ليبيعوه من أهل الحاجة. (فلم يؤت إلا بالسويق) وهو ما يحرش من الشعير والحنطة وغيرهما. (فأمر به) أي بالسويق. (فثرى) أي بل بالماء، بضم الثاء وتشديد الراء، ويجوز تخفيفها. (فمضمض) فيه أنه يستحب المضمضة وإن لم يكن له دسومة لاحتباس بقاياه بين الأسنان. (ثم صلى ولم يتوضأ) أي من أكل السويق وإن كان مما مسته النار، ففيه دليل على أن أكل ما مسته النار ليس بناقص للوضوء، وأنه لا يجب الوضوء لكل صلاة ما لم يحدث. (رواه البخاري) في الطهارة، وفي الجهاد، وفي المغازى، وفي الأطعمة، وأخرجه أيضاً مالك في المؤطا في ترك الوضوء مما مست النار، والنسائي وابن ماجه في الطهارة. 311- قوله: (لا وضوء إلا من صوت) الخ أي لا وضوء واجب إلا من سماع صوت، أو وجدان رائحة ريح خرجت منه، يعنى من حدث متيقن لا مشكوك، فلا إشكال في الحصر؛ لأن المقصود نفي جنس الشك وإثبات اليقين. (رواه أحمد والترمذي) وقال: حسن صحيح، وأخرجه أيضاً ابن ماجه. 312- قوله: (من المذي) وفي بعض النسخ عن المذي، أي سألته عن حكم المذي. (من المذي الوضوء) أي واجب وفيه دليل على أن خروج المذي لا يوجب الغسل، وإنما يوجب الوضوء. (ومن المني الغسل) هذا من زيادة الإفادة، ونوع من جواب أسلوب الحكيم، على حد "أنتوضأ من ماء البحر، فقال هو الطهور ماءه والحل ميتته". (رواه الترمذي) وقال حسن صحيح، وأخرجه أيضاً أحمد، وابن ماجه كلهم من طريق يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن علي، ويزيد هذا وثقه أحمد بن صالح المصرى، ويعقوب بن سفيان، وقال شعبة: ما أبالي إذا كتبت عن يزيد بن أبي زياد

313- (13) وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم)) رواه أبوداود، والترمذي، والدارمي. ـــــــــــــــــــــــــــــ أن لا أكتب عن أحد، وضعفه الأكثرون من قبل أنه لما كبر ساء حفظه، وتغير واختلط، وصار يتلقن، فوقعت المناكير في حديثه، وجاء بالعجائب، فسماع من سمع منه قبل التغير صحيح، والظاهر أن الترمذي إنما صحح حديث يزيد هذا لأنه لم يخالف فيه أحداً، بل روى غيره كروايته، فقد روى أحمد وأبوداود والنسائي، والطيالسي من طريق ركين بن الربيع عن حصين بن قبيصة، وأحمد أيضاً من طريق جواب التيمي عن يزيد بن شريك التيمي، ومن طريق إسرائيل عن أبي إسحاق، عن هانئ بن هانئ كلهم عن علي بنحوه. وقد صحح الترمذي حديث يزيد هذا في مواضع أخرى أيضاً، ولعل ذلك بمشاركة الأمور الخارجة عن نفس السند من اشتهار المتون ونحو ذلك. 313- قوله: (مفتاح الصلاة الطهور) بضم الطاء، أي التطهر بالماء أو التراب، وهذا للقادر على الطهورين، وأما فاقدهما فسيأتي حكمه. (وتحريمها التكبير) الخ أي تحريم ما حرم الله فيها من الكلام والأفعال، وتحليل ما حل خارجها من الكلام والأفعال، فالإضافة لأدنى ملابسة، وليست إضافة إلى القبول. (1) لفساد المعنى، والمراد بالتحريم والتحليل، المحرم والمحلل، على إطلاق المصدر بمعنى الفاعل مجازاً، ثم اعتبار التكبير والتسليم محرماً ومحللاً مجاز، وإلا فالمحرم والمحلل هو الله تعالى. ويمكن أن يكون التحريم بمعنى الإحرام، أي الدخول في حرمتها، ولابد من تقدير مضاف، أي آلة الدخول في حرمتها التكبير، وكذا التحليل بمعنى الخروج عن حرمتها، والمعنى أن آلة الخروج عن حرمتها التسليم. والحديث كما يدل على أن باب الصلاة مسدود ليس للعبد فتحه إلا بطهور، كذلك يدل على أن الدخول في حرمتها لا يكون إلا بالتكبير، والخروج لا يكون إلا بالتسليم، وهو مذهب الجمهور. وارجع لتفصيل الاختلاف في مسألتي التكبير والتسليم مع الدلائل إلى شرح الترمذي لشيخنا العلامة المباكفورى، والمغني لابن قدامة المقدسي. (رواه أبوداود والترمذي) الخ. وأخرجه أيضاً الشافعي وأحمد والبزار وابن ماجه، وصححه الحاكم وابن السكن، كلهم من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل، عن ابن الحنفية عن علي. وابن عقيل، هذا قد تكلم فيه بعضهم، والراجح أن حديثه في مرتبة الحسن، كما صرح به الذهبي في الميزان، فحديث علي هذا من طريق ابن عقيل، حسن صالح للاحتجاج، وقد سكت عنه أبوداود. وقال الترمذي: هذا أصح شيء في هذا الباب وأحسن، ونقل المنذري قول الترمذي وأقره. وقال النووي في الخلاصة: هو حديث حسن انتهى. وفي الباب عن جابر، وهو أول أحاديث الفصل الثالث من كتاب الطهارة. وعن أبي سعيد أخرجه الترمذي في الصلاة، وابن ماجه في الطهارة، وفيه أبوسفيان طريف السعدي، وهو ضعيف. وفي الباب أيضاً عن عبد الله بن زيد، وابن عباس، وغيرهما، ذكر أحاديثهم الحافظ في التلخيص، والزيلعي في نصب الراية. (1) كذا في حاشية ابن ماجه للسندهي من الطبعتين العلمية والتازية وليحرر.

314- (14) ورواه ابن ماجه عنه، وعن أبي سعيد. 315- (15) وعن علي بن طلق، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا فسا أحدكم فليتوضأ، ولا تأتوا النساء في أعجازهن)) رواه الترمذي، وأبوداود. 316- (16) وعن معاوية بن أبي سفيان، ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ـــــــــــــــــــــــــــــ 315- قوله: (وعن علي بن طلق) بفتح الطاء وسكون اللام وبالقاف، هو علي بن طلق بن المنذر بن قيس الحنفي السحيمي اليمامي، صحابي، له ثلاثة أحاديث، قاله الخزرجي. وقال الحافظ في التهذيب: روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوضوء من الريح وغير ذلك، وعلي بن طلق هذا، هو والد طلق بن علي. (إذا فسا أحدكم) أي خرج من دبره الريح بلا صوت يسمع، سواء تعمد خروجه أو لم يتعمد. (فليتوضأ) هذا لفظ الترمذي، ورواه أبوداود بلفظ "إذا فسا أحدكم في الصلاة فلينصرف، فليتوضأ، وليعد الصلاة"، وقد ذكره المصنف بهذا اللفظ من حديث طلق بن علي في باب ما لا يجوز من العمل في الصلاة. ويأتي هناك بسط الكلام في معناه. واللفظ المذكور هنا يدل على أن خروج الريح من الدبر ناقص للوضوء. (ولا تأتوا النساء) أي لا تجامعوهن. (في أعجازهن) جمع عجز بفتح العين وضم الجيم، أي أدبارهن، ووجه المناسبة بين الجملتين أنه لما ذكر الفساء الذي يخرج من الدبر ويزيل الطهارة والتقرب إلى الله، ذكر ما هو أغلظ منه في رفع الطهارة زجراً وتشديداً. (رواه الترمذي) في الرضاع من أبواب النكاح من طريقين، حسن إحداهما ولم يحكم على الطريق الأخرى بشيء. (وأبوداود) في الطهارة والصلاة، وسكت عنه، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره، وأخرجه أيضاً أحمد (ج1: ص86) والنسائي في السنن الكبرى، والدارقطني. واعلم أنهم اختلفوا في أن هذا الحديث من رواية علي بن طلق، أو طلق بن علي، أو علي بن أبي طالب، أو طلق بن يزيد؟ وأن علي بن طلق، وطلق بن علي رجلان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أو اسم لذات واحدة؟ والظاهر أن علي بن طلق وطلق بن علي رجلان، وأن هذا الحديث من رواية علي بن طلق، وليس من رواية طلق بن علي، ولا علي بن أبي طالب، ولا طلق بن يزيد، ونبسط الكلام في ذلك إن شاء الله في باب ما لا يجوز من العمل في الصلاة. 316- قوله: (وعن معاوية بن أبي سفيان) قد تقدم ترجمة معاوية، وأما والده أبوسفيان فهو صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الأموي القرشي، صحابي شهير، ولد قبل الفيل بعشر سنين، كان من أشراف قريش في الجاهلية، وكان رئيس المشركين يوم أحد، ورئيس الأحزاب يوم الخندق، أسلم زمن الفتح، ولقي النبي - صلى الله عليه وسلم - بالطريق قبل دخول مكة، وشهد حنيناً والطائف، وأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - من غنائم حنين مائة بعير وأربعين أوقية فيمن أعطاه من المؤلفة قلوبهم. وفقئت عينه يوم الطائف، فلم يزل أعور إلى يوم اليرموك، فأصاب عينه حجر فعميت. له أحاديث

إنما العينان وكاء السه، فإذا نامت العين استطلق الوكاء)) رواه الدارمي. 317- (17) وعن علي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((وكاء السه العينان، فمن نام فليتوضأ)) رواه أبوداود. 318- (18) وقال الشيخ الإمام محي السنة، رحمه الله: هذا في غير القاعد، لما صح عن أنس ـــــــــــــــــــــــــــــ وعند البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي حديث هرقل، توفي سنة (32) وقيل: (34) . (إنما العينان) أي اليقظة، وكنى بالعين عن اليقطة؛ لأن النائم لا عين له تبصر. (وكاء السه) بفتح السين تخفيف الهاء، حلقة الدبر، أو هو من أسماء الدبر، وهو من الإست، وأسله ستة كفرس، وجمعه أستاه، فحذفت الهاء وعوضت الهمزة، فإذا ردت هاءه وحذفت تاءه حذفت الهمزة نحو سه، والوكاء بكسر الواو والمد: ما يشد به رأس القربة ونحوها، جعل اليقظة للإست كالوكاء للقربة، كما أن القربة ما دامت مربوطة بالوكاء باختيار صاحبها كذلك الإست مادام محفوظاً بالعين، أي اليقظة باختيار الصاحب، والمعنى أن اليقظة وكاء الدبر، أي الحافظة لما فيه من الخروج؛ لأنه ما دام مستيقظاً أحس بما يخرج منه، فإذا نام زال الضبط. فإن قيل: النوم ليس بحدث وأنتم أوجبتم الوضوء باحتمال خروج ريح، والأصل عدمه، فلا يجب الوضوء بالشك. قلنا: النائم غير متمكن يخرج منه الريح غالباً، فأقام الشارع هذا مقام اليقين، كما أقام شهادة الشاهدين التي تفيد الظن مقام اليقين في شغل الذمة. (فإذا نامت العين) أي جنسها. (استطلق الوكاء) أي انحل. (رواه الدارمي) وأخرجه أيضاً أحمد وأبويعلى والطبراني في الكبير، والدارقطني والبيهقي كلهم من حديث أبي بكر بن أبي مريم، عن عطية بن قيس، عن معاوية. وأعل بوجهين، أحدهما الكلام في أبي بكر بن أبي مريم، فقد ضعفه أحمد وأبوحاتم وأبوزرعة، وقال الهيثمي: هو ضعيف لاختلاطه. وقال الحافظ: ضعيف، وكان قد سرق بيته فاختلط. والثاني أن مروان بن جناح رواه عن عطية بن قيس، عن معاوية موقوفاً. هكذا رواه ابن عدى، وقال: مروان أثبت من أبي بكر بن أبي مريم. 317- قوله: (وكاء السه العينان) يعنى إذا تيقظ الإنسان أمسك ما في بطنه، فإذا نام زال اختياره، واسترخت مفاصله، فلعله يخرج منه ما ينقص طهره. وحديث على هذا، وحديث معاوية المتقدم، يدلان على أن نقص الطهارة بالنوم ليس لنفسه، بل لأنه مظنة خروج ما ينتقض الطهر به، ولذلك خص عنه نوم ممكن المقعد من الأرض. (رواه أبوداود) وسكت عنه، وأخرجه أيضاً ابن ماجه، والدارقطني، وهو عند الجميع من رواية بقية بن الوليد عن الوضين بن عطاء. وبقية صدوق، كثير التدليس. والوضين، قال الجوزجاني: واهٍ، وأنكر عليه هذا الحديث، وقال الحافظ: صدوق، سيء الحفظ، ووثقه عبد الرحمن بن إبراهيم وابن معين وأحمد، وقال ابن عدى: لم أر بحديثه بأساً. وقد حسن حديث علي هذا المنذري وابن الصلاح والنووي. وقال أحمد: حديث علي أثبت من حديث معاوية. وقد ضعف الحديثين أبوحاتم، وقال الحافظ في بلوغ المرام: في كلا الإسنادين ضعف. 318- قوله: (هذا) أي هذا الحكم. (في غير القائد) من النائمين يعنى فيمن نام مضطجعاً أو مستلقياً على قفاه،

قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينتظرون العشاء حتى تخفق رؤوسهم، ثم يصلون ولا يتوضؤون)) رواه أبوداود والترمذي، إلا أنه ذكر فيه "ينامون" بدل "ينتظرون العشاء حتى تخفق رؤسهم". 319- (19) وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الوضوء على من نام مضطجعاً، فإنه إذا اضطجع استرخت ـــــــــــــــــــــــــــــ فأما من نام قاعداً ممكناً مقعده من الأرض ثم استيقظ ومقعده ممكن كما كان، فلا يبطل وضوؤه وهو قال الشافعي في الجديد. (ينتظرون العشاء) أي صلاتها بالجماعة فينامون جالسين. (حتى تخفق) أي تميل وتتحرك. (رؤسهم) من النوم من الخفوق وهو الاضطراب، وقيل المعنى: حتى تسقط أذقانهم على صدورهم. وتخفق بفتح التاء وكسر الفاء من ضرب. (ثم يصلون) بذلك الوضوء. (ولايتوضؤون) وضوءاً جديداً. (رواه أبوداود والترمذى) وقال حديث حسن صحيح. وأخرجه أيضاً الشافعي في الأمام، وأحمد، وصححه الدارقطني والنووي، وأصله في مسلم كما سيأتي. (إلا أنه) أي الترمذي. (ذكر فيه) أي في حديثه. (ينامون) أي قاعدين، ورواية الترمذي هذه موافقة لرواية مسلم، وكأن المصنف ذهل عن رواية مسلم حيث لم يتعرض لها. وحديث أنس هذا قد نزله أكثر الناس كالبغوي على نوم الجالس. ودفع هذا التأويل بأن في رواية أنس عند البزار وأبي يعلى "يضعون جنوبهم". قال الهيثمي: رجالهما رجال الصحيح، لكن رواه أحمد بن حنبل عن يحيى القطان بسنده، والترمذي عن بندار عنه بدون هذه الزيادة، وقيل: يحمل على النوم الخفيف، فإن وضع الجنب لا يستلزم النوم الكثير المستغرق، وكذا الغطيط والإيقاظ، فإنه قد يغط من هو في مبادئ نومه قبل إستغرافه، وكذا الإيقاظ قد يكون لمن هو في مبادئ النوم، فينبه لئلا يستغرقه. وبالجملة حديث أنس هذا يدل على أن يسير النوم لا ينقض الوضوء. 319- قوله: (إن الوضوء) أي وجوبه. (على من نام مضطجعاً) كذا في جميع النسخ للمشكاة بلفظ "إن الوضوء" الخ. وكذا وقع في المصابيح، ورواه الترمذي بلفظ "إن الوضوء لا يجب إلا على من نام مضطجعاً"، وأبوداود بلفظ "إنما الوضوء على من نام مضطجعاً"، وفي كلتا الروايتين القصر على أنه لا ينقض الوضوء إلا نوم المضطجع لا غير ولو إستغرقه النوم، بخلاف اللفظ الذي ذكره المصنف عن المصابيح، فإنه لا يدل على القصر، فالجمع بين حديث ابن عباس هذا على ما رواه الترمذي وأبوداود، وبين حديث أنس عند البزار وأبي يعلى وغيرهما بلفظ "يضعون جنوبهم" إن ثبتت هذه الزيادة: أن حديث ابن عباس خرج على الأغلب، فإن الأغلب على من أراد النوم الاضطجاع، فلا معارضة. وقال. الزرقاني: هذا ونحوه محمول عند مالك على ما إذا كان النوم ثقيلاً-انتهى. (فإنه إذا اضطجع استرخت) أي فترت

مفاصله)) رواه الترمذي وأبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ وضعفت ولانت. (مفاصله) جمع مفصل، وهو رؤس العظام والعروق، يعنى أن الاضطجاع سبب لاسترخاء المفاصل فلا يخلو عن خروج شيء من الريح عادة، أي هو من عادة النائم المضطجع، والثابت بالعادة كالمتيقن به. واعلم أنه اختلف الناس في انتقاض الوضوء بالنوم على أقوال ثمانية، ذكرها النووي في شرح مسلم، وتبعه غيره، وهذه الأقوال ترجع إلى ثلاثة: الأول أن النوم ينقض الوضوء مطلقاً على كل حال قليلة وكثيرة. والثاني أنه لا ينقض مطلقاً. والثالث الفرق بين قليل النوم وكثيرة، وهو قول فقهاء الأمصار، والصحابة الكبار، والتابعين، وهو قول الأئمة الأربعة، وهذا هو الحق، فالنوم ليس بحدث أي ليس بناقض للوضوء بنفسه، بل لأنه سبب لاسترخاء المفاصل الداعي للخروج عادة. ثم اختلف هؤلاء في بيان قدر القليل والكثير، وتحديد النوم المعتبر في نقض الوضوء، وتعيين المقدار الذي يكون سبباً لاسترخاء المفاصل، ولا يبقى فيه الشعور والإحساس ويغلب فيه العقل، على أقوال كثيرة ليس هذا محل بسطها، إن شئت الوقوف عليها فارجع إلى شرح مسلم للنووي، وشرح الترمذي لابن العربي، والمغني لابن قدمة المقدسي. والراجح عندي: أن النوم المستغرق الذي لا يبقى معه إدارك ناقض سواء كان من المضطجع والمستلقي أو غيرهما، فالاستغراق والغلبة على العقل هو الملاك عندي، فإذا حصل ذلك انتقض الوضوء على أي هيئة كان النائم، ولا يقصر الحكم على هيئة الاضطجاع كما يدل عليه حديث ابن عباس، فإنه ضعيف، ولا ينتقض الوضوء بنوم المضطجع إن كان النوم غير مستغرق. (رواه الترمذي وأبوداود) كلاهما من طريق يزيد بن عبد الرحمن أبي خالد الدالاني، عن قتادة، عن أبي العالية، عن ابن عباس، ولم يحكم الترمذي عليه بشيء من الصحة والضعف إلا قوله "إن سعيد بن أبي عروبة رواه عن قتادة، عن أبي العالية، عن ابن عباس قوله " ولم يذكر فيه أبالعالية، ولم يرفعه، وهو حديث ضعيف، ضعفه الترمذي في العلل المفرد، والبخاري وأحمد بن حنبل والدارقطني والمنذري والبيهقي وأبوداود والبغوي وغيرهم. قال أبوداود: قوله "الوضوء على من نام مضطجعاً" هو حديث منكر، لم يروه إلا يزيد أبوخالد الدالاني عن قتادة. وروى أوله جماعة عن ابن عباس، لم يذكروا شيئاً من هذا، وقال يعني ابن عباس، أو الراوي عنه: وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - محفوظاً. وقالت عائشة: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - تنام عيناي ولا ينام قلبي. وقال شعبة: إنما سمع قتادة عن أبي العالية أربعة أحاديث، يعنى وليس منها حديث يزيد أبي خالد الدالاني فيكون منطقعاً. قال أبوداود: وذكرت حديث يزيد الدالاني لأحمد بن حنبل فانتهرني استعظاماً له، فقال: ما ليزيد الدالاني يدخل على أصحاب قتادة ولم يعبأ بالحديث؟ وقال البيهقي: تفرد بهذا الحديث على هذا الوجه يزيد بن عبد الرحمن أبوخالد الدالاني. قال الترمذي يعنى في العلل المفرد: سألت البخاري عن هذا الحديث فقال: هذا لا شيء. ورواه ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن ابن عباس قوله، ولم يذكر فيه أبا العالية، ولا أعرف لأبي خالد الدالاني سماعاً من قتادة، وقال المنذري: قال أبوالقاسم البغوي: يقال إن قتادة لم يسمع هذا الحديث من أبي العالية. وقال الدارقطني: تفرد به يزيد الدالاني عن قتادة ولا يصح. وذكر ابن حبان أن يزيد الدالاني كان كثير الخطأ، فاحش الوهم، يخالف الثقات في

320- (20) وعن بسرة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا مس أحدكم ذكره، فليتوضأ)) رواه مالك وأحمد وأبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي. ـــــــــــــــــــــــــــــ الرواية حتى إذا سمعها المبتدئ في هذه الصناعة علم أنها معلولة أو مقلوبة، لا يجوز الاحتجاج بها إذا وافق الثقات فيكف إذا انفرد عنهم بالمعضلات. وذكر أبوأحمد الكرابيسى الدالاني بهذا فقال: لا يتابع في بعض أحاديثه. وسئل أبوحاتم الرازي عن الدالاني هذا فقال: صدوق ثقة. وقال أحمد بن حنبل: يزيد لا بأس به. وقال ابن معين والنسائي: ليس به بأس. وقال البيهقي: فأما هذا الحديث فإنه أنكره على أبي خالد الدالاني جميع الحفاظ، وأنكر سماعه من قتادة أحمد بن حنبل، والبخاري وغيرهما. ولعل الشافعي وقف على علة هذا الأثر حتى رجع عنه في الجديد، هذا آخر كلامه. ولو فرض استقامة حال الدالاني، كان فيما تقدم من الانقطاع في إسناده ومخالفه الثقات ما يعضد قول من ضعفه من الأئمة –انتهى كلام المنذري. والحديث الذي أشار إليه أبوداود في كلامه أنه رواه جماعة عن ابن عباس ولم يذكروا فيه شيئاً مما انفرد به الدالاني، هو ما رواه أحمد ومسلم وأبوداود عن ابن عباس، قال: بت عند خالتي ميمونة فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - من الليل، وفيه "ثم اضطجع فنام حتى نفخ، وكان إذا نام نفخ، فأتاه بلال فآذانه بالصلاة فقام فصلى ولم يتوضأ" وهذا هو الصحيح، وكون حديث يزيد أبي خالد الدالاني ضعيفاً هو الراجح عندي، ولا ينجبر ضعفه بما له من الطرق والشواهد، وإن جنح إليه العلامة الشوكاني، وعليك أن ترجع للوقوف على تفصيل الكلام في حديث ابن عباس هذا إلى عون المعبود (ج1: ص80) والتلخيص الحبير. 320- وقوله. (وعن بسرة) بضم الموحدة وسكون المهملة، ابنة صفوان بن نوفل بن أسد بن عبد العزى القرشية الأسدية صحابية، لها سابقة وهجرة قديمة، عاشت إلى ولاية معاوية، لها أحد عشر حديثاً، روى عنها عبد الله بن عمرو بن العاص، وعروة، وأم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ولها صحبة، ومروان، وحميد بن عبد الرحمن بن عوف، وسعيد بن المسبب، قال مصعب: كانت من المبايعات، وكانت أخت عقبة بن أبي معيط لأمه. (إذا مس أحدكم) أي بيده من غير حائل لما سيأتي من حديث أبي هريرة. (فليتوضأ) أي وضوءه للصلاة كما في حديث ابن عمر عند الدارقطني، وحديث بسرة عند ابن حبان. والحديث فيه أن مس الرجل ذكره بيده ناقض للوضوء، والمراد مسه من غير حائل ببطن الكف كان أو بظهره، وهو أي انتقاض الوضوء بمس الذكر قول جماعة من الصحابة والتابعين، ومن أئمة المذاهب أحمد والشافعي، وهو المشهور من مذهب مالك، وكذلك مس المرأة فرجها، لما روى أحمد والبيهقي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مرفوعاً "أيما رجل مس فرجه فليتوضأ، وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ". قال الترمذي في العلل عن البخاري: هو عندي صحيح. وهو صريح في عدم الفرق بين الرجل والمرأة. (رواه مالك) الخ. وأخرجه أيضاً الشافعي في الأم، وابن خزيمة وابن حبان وابن الجارود والحاكم والبيهقي، وصححه أحمد والبخاري وابن معين والترمذي،

321- (21) وعن طلق بن علي، قال: ((سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مس الرجل ذكره بعد ما يتوضأ. قال: وهل هو إلا بضعة منه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وسكت عنه أبوداود، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره، وصححه أيضاً الدارقطني وابن خزيمة وابن حبان وابن السكن والحاكم والبيهقي وابن عبد البر وأبوحامد بن الشرقي والحازمي والنووي والحافظ وآخرون، وضعفه الطحاوى وحده، وهو مندفع كما سيأتي، ولم يثبت عن ابن معين تضعيفه، قاله ابن الجوزى. 321- قوله: (وعن طلق بن علي) بن طلق بن عمرو، ويقال: ابن علي بن المنذر بن قيس بن عمرو الحنفي السحيمي اليمامي، يكنى أبا علي. وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم -:، وعمل معه في بناء المسجد، وروى عنه، وله أربعة عشر حديثاً، روى عنه ابنه قيس، وابنته خالدة، وعبد الله بن بدر، وعبد الرحمن بن علي شيبان. (هل هو إلا بضعة) بفتح الموحدة، أي قطعة لحم، وقد تكسر الباء أيضاً في هذا المعنى كما في النهاية واللسان. (منه) أي من الرجل، وفي بعض النسخ "منك" وكذا وقع في رواية النسائي، يعني فهو كمس بقية أعضائه فلا ينتقض الوضوء بمسه. والحديث دليل على ما هو الأصل من عدم نقض مس الذكر للوضوء، وإليه ذهبت الحنفية، وأجابوا عن حديث بسرة بأجوبة تزيد على عشرة، كلها واهية مردودة، ذكر خمسة منها شيخنا في شرح الترمذي مع الرد عليها، وهاك بقيتها. قالوا: حديث بسرة من رواية عروة، عن مروان، وهو مطعون في عدالته لفسقه، أو عن حرسيه، وهو مجهول. وأجيب عنه بما قال عروة: كان مروان لا يتهم في الحديث، وقد روى عنه سهل بن سعد الصحابي، واعتمد مالك على حديثه، واحتج به البخاري في صحيحه، فهو من رجال الموطأ والبخاري، وقد أخذ عروة منه هذا الحديث قبل أن يبدو منه ما بدا من الفسق والخلاف على ابن الزبير، قال ابن حزم: لا نعلم لمروان شيئاً يجرح به قبل خروجه على ابن الزبير، وعروة لم يلقه إلا قبل خروجه على أخيه، وأيضاً قد ثبت أن عروة سمعه من بسرة من غير واسطة، كما جزم به ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم من أئمة الحديث، وارجع للتفصيل إلى التلخيص (ج1: 45) والمستدرك للحاكم (ج1: ص137) وتعليق الترمذي للشيخ أحمد محمد شاكر. وعدم إخراج الشيخين حديث بسرة في صحيحهما لا يدل على أنه لم يثبت عندهما سماع عروة من بسرة، فكم من حديث صحيح متصل على شرطهما لم يخرجاه في صحيحهما ولم يرد ابن المديني على يحيى بن معين قوله في مناظرته "ثم لم يقنع ذلك عروة حتى أتى بسرة فسألها وشافهته بالحديث"، وأقره عليه أحمد وصوبه، فدل ذلك على أن سماع عروة من بسرة ثابت عند هؤلاء الأئمة الثلاثة ولذا صح أحمد وابن معين حديث بسرة، وقالوا: حديث بسرة مضطرب الإسناد، فرواه بعضهم عن عروة عن مروان عن بسرة، وبعضهم عن عروة عن بسرة، من غير واسطة مروان. وفيه أن هذا الإختلاف ليست علة يضعف بها الحديث؛ لأن الحديث سمعه عروة أولاً من مروان عن بسرة، ثم أتى بسرة فشافهته بالحديث وسمعه منها من غير واسطة، وكان الرواة يسمعونه منه ويرويه عنهم غيرهم، فتارة يجعلونه عن عروة عن مروان عن بسرة، وتارة يجعلونه عن عروة عن بسرة، وهذا كما

ترى ليس باختلاف يقدح في صحة الحديث وقالوا: إن هشام بن عروة الراوي له عن أبيه لم يسمعه من أبيه كما تدل عليه رواية الطبراني وفيه أن رواية أحمد والترمذي والحاكم صريحة في أن هشاماً سمعه من أبيه، ثم لو صحت هذه العلة ما أثرت؛ لأن غير هشام من الثقات رواه سماعاً من عروة، وهو عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وأبوه أبوبكر، كما تدل عليه رواية مالك وأحمد وابن الجارود. وقالوا: الحديث يروى عن امرأة، والحكم متعلق بالرجال فكيف تختص بروايته النساء وفيه أنه لم يختص النساء بروايته كما سيأتي. وقالوا: المسألة التي تعم بها البلوى لا يعتبر فيها خبر واحد لا سيما مثل هذا الخبر. وفيه أن هذه القاعدة التي اخترعها الحنفية لرد الأحاديث الصحيحة باطلة، قد أبطلها الشوكاني في إرشاد الفحول (ص49) وابن حزم في الإحكام في أصول الأحكام (ج2: ص20،12) وابن قدامة في جنة المناظر (ج1:ص327) فارجع إلى تلك الكتب. ولو سلمت هذه القاعدة، فالحديث ليس من أخبار الآحاد، بل هو أشهر من حديث الوضوء بالنبيذ، رواه سبعة عشر من الصحابة. وقالوا: على تسليم صحته لا حجة فيه؛ لأنه متروك الظاهر عند الكل إجماعاً، فإن المس لغة مطلق فما قيدوه من القيود بالشهوة، أو بباطن اليد، أو بعدم الحائل، أونحو ذلك، تقييدات لإطلاق الحديث، وصريح في أنهم أيضاً لا يقولون بالحديث. وفيه أن المراد بالمس، المس باليد، سواء كان بباطنها أو بظهرها، لكن من غير حائل، يدل على ذلك حديث أبي هريرة الآتي، والروايات يفسر بعضها بعضا، فقد قلنا بأحاديث الباب، وعملنا بها وأما القيود الأخرى مما ذكرها فقهاء الشافعية وغيرهم، فلا نلتفت إليها؛ لأنها لا أثر لها في الأحاديث وقالوا: اضطرب القائلون بانتقاض الوضوء في مصداق حديث بسرة على أقوال كثيرة، وفروع مختلفة، تبلغ إلى قريب من أربعين، بسطها ابن العربي في شرح الترمذي، واختلافهم في مصداق الرواية الواحدة يورث الشبهة في الاحتجاج بها، فإنه يدل على أنه لم يتحقق عندهم، ولم يتعين محمل الحديث، فلو صح الحديث وثبت ترجحه على حديث طلق فمجمل أيضاً، لم يظهر مراده عند القائلين به، ولا خلاف بين القائلين بعدم النقض. وفيه أن معنى الحديث بين، ومصداقه ظاهر، ومحمله متعين، لكن عند المنصف الذي يحب السنة وصاحبها، وأما المتعسف الذي يتحيل لرد الأحاديث الصحيحة والسنن الثابتة فهو يتشبث بمثل هذه الأعذار الواهية الباطلة أبداً، ولا عبرة عندنا باختلاف الشافعية والمالكية وغيرهم في بيان معنى الحديث، والتفريع عليه بآرائهم وعقولهم، وبالجملة، الحديث ليس بمجمل بل هو بين المعنى. وقالوا: يحتمل أن يكون مس الذكر كناية عن الاستطابة بعد البول؛ لأنه غالباً يرادف خروج الحدث، فعبر به عنه، ومثل هذا من الكنايات كثير فيما يستقبح التصريح بذكره. وفيه أن هذا الاحتمال بعيد جداً، بل هو باطل، يرده حديث أبي هريرة الذي ذكره المصنف، وأيضاً لم يخطر هذا الاحتمال ببال أحد من الصحابة والتابعين وغيرهم من السلف، ولم يقل به أحد منهم، بل حمله جميعهم على ظاهر معناه الذي يتبادر إليه الذهن. وقالوا: هو مقيد بما إذا خرج منه شيء. وفيه أنه لا دليل على هذا التقيد فهو مردود على قائله وقالوا: مفعول المس محذوف، تركه استهجاناً بذكره، والمعنى "من مس ذكره بفرج امرأته فليتوضأ" إقامة للداعي والسبب مقام المدعو والمسبب، فإن التقاء الختانين داع إلى خروج شيء، ونفسه يتغيب عن البصر، فأدير الأمر على المس احتياطاً وتيسيراً. وفيه أنه تحريف معنوي للحديث، يرده حديث أبي هريرة الآتي بلفظ" أفضى بيده".

رواه أبوداود والترمذي والنسائي، وروى ابن ماجه نحوه. 322- (22) وقال الشيخ الإمام محي السنة: هذا منسوخ؛ لأن أبا هريرة أسلم بعد قدوم طلق، وقد روى أبوهريرة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره ليس بينه وبيتها شىء ـــــــــــــــــــــــــــــ قال بعضهم: هو رواية بالمعنى على ما فهم الراوي من معنى حديث بسرة. وفيه أن دعوى كون رواية أبي هريرة هذه بالمعنى تمشية للمذهب يمجها العقل والسمع، فإنه يرتفع بذلك الأمان والوثوق بالروايات، قال هذا البعض: ويمكن أن يأول حديث أبي هريرة بأن المعنى أوصل ذكره بيده إلى فرج امرأته، فإن الإفضاء يستدعي مفعولاً، واليد ليست إلا آلة. وهذا كما ترى أضحوكة لا حاجة إلى ردها؛ لأنها أظهر في تحريف الحديث من كل ما قالوا في تأويل حديث بسرة. وقالوا: الأمر في حديث بسرة محمول على الاستحباب، قال بعضهم: هذا يغنينا عن ارتكاب تكلف. وفيه أن الأصل في الأمر الوجوب، وأيضاً يرده حديث أبي هريرة عند أحمد بلفظ "من أفضى بيده إلى ذكره ليس دونه ستر فقد وجب عليه الوضوء"، ويرده أيضاً حديث عائشة عند الدارقطني"ويل للذين يمسون فروجهم ولا يتوضئون" فإن دعاء الشر لا يكون إلا بترك واجب. (رواه أبوداود والترمذي والنسائي) أي بهذا اللفظ المذكور، وأخرجه أيضاً أحمد، والدارقطني وابن الجارود والبيهقي وصححه عمرو بن علي الفلاس وعلى بن المديني والطحاوي وابن حبان والطبراني وابن حزم، وضعفه الشافعي وأبوحاتم وأبوزرعة والدارقطني والبيهقي وابن الجوزي. والراجح أن حديث طلق هذا لا ينحط عن مرتبة الحسن، وحديث بسرة أصح وأثبت وأرجح من حديثه؛ لأن حديث طلق لم يحتج الشيخان بأحد من رواته، وحديث بسرة قد احتجا بجميع رواته، وأرجح أيضاً لكثرة طرقه وصحتها، ولكثرة من صححه من الأئمة كما تقدم، ولكثرة شواهده، فقد روى نحوه ثمانية عشر صحابياً، ومنهم طلق بن على راوى حديث عدم النقض، ذكر تخريج أحاديثهم الحافظ في التلخيص (ج1: ص46، 45) ؛ ولأن بسرة حدثت به في دار المهاجرين والأنصار وهم متوافرون، ولم يدفعه أحد، بل علمنا أن بعضهم صار إليه، ولرجحانه على حديث طلق وجوه أخرى لا تخفى على من له خبرة بوجوه الترجيح، وإطلاع على طرق حديث بسرة وحديث طلق. (وروى ابن ماجه نحوه) أي بمعناه وهو "أنه سئل رسول - صلى الله عليه وسلم - عن مس الذكر، فقال: ليس فيه وضوء إنما هو منك" 322- قوله: (هذا) أي ما رواه طلق بن علي (منسوخ) وكذا ادعى النسخ ابن حبان، والطبراني، وابن العربي، والحازمي، وآخرون (لأن أبا هريرة أسلم) عام خيبر في السنة السابعة (بعد قدوم طلق) من اليمن، وذل في السنة الأولى من الهجرة حينما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبنى المسجد، فكان خبر أبي هريرة بعد خبر طلق لسبع سنين. (إذا أفضى) أي أوصل (أحدكم بيده) الباء للتعدية (ليس بينه وبينها) أي بين ذكره وبين يده (شيء) أي حائل من الثياب أو غيرها

فليتوضأ)) رواه الشافعي والدارقطني. 323- (23) ورواه النسائي عن بسرة، إلا أنه لم يذكر ((ليس بينه وبينها شيء)) . 324- (24) وعن عائشة، قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل بعض أزواجه ثم يصلي ولا يتوضأ)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ (فليتوضأ) أي وضوءه للصلاة (رواه الشافعي والدارقطني) وأخرجه أيضاً البزار كلهم من طريق يزيد بن عبد الملك، وقد ضعفه أكثر الناس، ووثقه ابن سعد، وابن معين في رواية، وأخرجه أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم والبيهقي والطبراني في الصغير من طريق نافع بن أبي نعيم، وفيه "فقد وجب عليه الوضوء" بدل قوله "فليتوضأ". قال ابن حبان: هذا حديث صحيح سنده، عدول نقلته، وصححه الحاكم وابن عبد البر، وقال ابن السكن: هو أجود ما روي في هذا الباب. 323- قوله: (ورواه النسائي عن بسرة) أي وهي متأخرة الإسلام وفيه أن الأمر بالعكس فإنها قديم هجرتها وصحبتها، كما قال الحازمي وغيره، ولو سلم ذلك لم يكن دليلاً كتأخر إسلام أبي هريرة وصحبته على نسخ حديث طلق. قال الشوكاني في النيل: وأيدت دعوى النسخ بتأخر إسلام بسرة وتقدم إسلام طلق، ولكن هذا غير دليل على النسخ عند المحققين من أئمة الأصول- انتهى. وقال ابن حزم في المحلى (ج1: ص239) : هذا أي حديث طلق خبر صحيح إلا أنهم لا حجة لهم فيه لوجوه: أحدها أن هذا الخبر موافق لما كان الناس عليه قبل ورود الأمر بالوضوء من مس الفرج، هذا لا شك فيه، فإذا هو كذلك فحكمه منسوخ يقيناً حين أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالوضوء من مس الفرج، ولا يحل ترك ما تيقن أنه ناسخ، والأخذ بما تيقن منه أنه منسوخ. وثانيها أن كلامه عليه السلام "هل هو إلا بضعة منك" دليل بين على أنه كان الأمر بالوضوء منه؛ لأنه لو كان بعده لم يقل عليه السلام هذا الكلام، بل كان يبين أن الأمر بذلك قد نسخ، وقوله هذا يدل على أنه لم يكن سلف فيه حكم أصلاً، وأنه كسائر الأعضاء-انتهى. وعندنا: القول بترجيح حديث بسرة أحسن من القول بالنسخ والتضعيف، وقد تقدمت وجوه ترجيح حديثها على حديث طلق. 324- قوله: (ولا يتوضأ) فيه دليل عل أن القبلة وهي أقوى من اللمس المجرد ولا تخلوا عادة من مس بشهوة، لا تنقض الوضوء، وهذا هو الأصل، والحديث مقرر للأصل، وهو القول المعول عليه الراجح عندنا، ويدل عليه أيضاً ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن عائشة قالت: كنت أنام بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجلاًي في قبلته، فإذا سجد غمزني، فقبضت رجلي-الحديث. واعتذار الحافظ في الفتح عن حديثها هذا، بأنه يحتمل أنه بحائل، أو أنه خاص به، تكلف ومخالفة للظاهر؛ لأن الخصوصية لا تثبت إلا بدليل، واحتمال الحائل لا يفكر فيه إلا مقلد متعصب لإمامه. وما رواه النسائي عنها قالت: إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصلي، وإني لمعترضة بين يديه اعتراض الجنازة، حتى إذا أراد أن يوتر مسني برجله. قال الحافظ في التلخيص: إسناده صحيح. وقال الزيلعي في نصب الراية: إسناده على شرط الصحيح. وما رواه مسلم والترمذي عنها، قالت: فقدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة من الفراش فالتمسته، فوضعت يدي على باطن قدميه

رواه أبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجه. وقال الترمذي: لا يصح عند أصحابنا بحال إسناد عروة عن عائشة رضي الله عنها، ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو في المسجد وهما منصوبتان-الحديث. وفي الباب أحاديث أخرى ذكرها الزيلعي في نصب الراية، وهذه الأحاديث تدل على أن المراد بالملامسة من قوله تعالى في سورة المائدة: {أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء} [5: 6] الجماع دون غيره من معاني اللمس، وبه فسر ابن عباس وعلي رضي الله عنهما، ورجحه ابن جرير في تفسيره حيث قال: هو أولى القولين في ذلك بالصواب، لصحة الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه قبّل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ. وارجع لتفصيل الكلام في الآية إلى أحكام القرآن لأبي بكر الرازي الجصاص. (رواه أبوداود) الخ. وأخرجه أيضاً أحمد (ج2: ص21، 22) والدارقطني (ص50، 51) والطبراني في التفسير (ج5: ص67) وضعفه الثوري ويحيى القطان وابن معين والبخاري والبيهقي والدارقطني، ومال أبوداود، وابن عبد البر إلى تصحيحه كما سيأتي. (وقال الترمذي) بعد إخراجه من طريق وكيع، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة، عن عائشة (لا يصح عند أصحابنا) أي من أهل الحديث، قاله أبوالطيب السندي، والشيخ سراج أحمد السرهندي في شرحيهما لجامع الترمذي. (بحال) بالتنوين، وقوله "إسناده عروة" بالرفع على أنه فاعل لقوله "لا يصح"، وقوله "وإسناده إبراهيم" عطف على قوله "إسناد عروة" يعني لا يصح سند حديث عروة عن عائشة هذا؛ لأنه من رواية حبيب بن أبي ثابت عن عروة، وحبيب لم يسمع من عروة فهو منقطع. وكذا لا يصح سند حديث إبراهيم التيمي عن عائشة؛ لأنه أيضاً منقطع، إبراهيم لم يسمع عن عائشة بالاتفاق، وقيل: بترك التنوين في "حال" على أنه مضاف إلى "إسناد عروة" والباء للسببية، وفاعل "لا يصح"هو الضمير فيه، يرجع إلى ما يعود عليه الضمير المنصوب في قوله "رواه"، وهو حديث عائشة، والمعنى: لا يصح حديث عائشة هذا لحال إسناده، فإنه روي من طريقين: الأول طريق حبيب، عن عروة، عن عائشة. والثاني طريق أبي روق، عن إبراهيم التيمي، عن عائشة، وكلاهما منقطع، وهذا على أن يكون المراد بعروة، عروة بن الزبير، وإن كان المراد به عروة المزني فسبب عدم صحته هي جهالة عروة المزني. قال الترمذي في جامعه بعد إخراجه حديث عائشة، من طريق حبيب، عن عروة، عن عائشة، ما نصه: وإنما ترك أصحابنا حديث عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا؛ لأنه لا يصح عندهم لحال الإسناد، قال: وسمعت محمد بن إسماعيل يضعف هذا الحديث، وقال: حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة، وقد روي عن إبراهيم التيمي، عن عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبلها ولم يتوضأ. وهذا لا يصح أيضاً، ولا نعرف لإبراهيم التيمي سماعاً من عائشة-انتهى. (إسناد عروة عن عائشة) لم ينسب الترمذي عروة في حديثه، ونسبه أحمد وابن ماجه في روايتهما، فقالا: عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة بن الزبير. وجزم الثوري أنه عروة المزني، وهو مجهول، وبذلك ضعف الحديث، وتبعه وقلده في ذلك يحيى بن سعيد القطان وابن معين والدارقطني والبيهقي وآخرون. ويظهر من كلام الترمذي أنه مال إلى كونه عروة بن الزبير، وهو الصحيح عندنا، لرواية أحمد وابن ماجه هذه. ولأن المطلق يحمل على ما هو المشهور المتعارف،

وأيضاً إسناد التيمي عنها. وقال أبوداود: هذا مرسل، وإبراهيم التيمي لم يسمع من عائشة. ـــــــــــــــــــــــــــــ وليس هو إلا عروة بن الزبير. ولأن قول عروة "من هي إلا أنت" في رواية أبي داود والترمذي ظاهر في أنه ابن الزبير؛ لأن المزنى لا يجسر أن يقول ذلك الكلام لعائشة. ولأن هشاماً وافق حبيب بن أبي ثابت، فرواه عن أبيه عروة بن الزبير عن عائشة، عند الدارقطني، وهذه قرينة ظاهرة على أنه ابن الزبير في رواية حبيب. وأما سند أبي داود الذي قال فيه: عن عروة المزني. فإنه من رواية عبد الرحمن بن مغراء عن ناس مجاهيل، وابن مغراء ليس بشيء في روايته عن الأعمش. وأما ما حكاه أبوداود عن الثوري أنه قال: ما حدثنا حبيب بن أبي ثابت إلا عن عروة المزني، يعني لم يحدثهم عن عروة بن الزبير بشيء، فلم يسنده أبوداود، وأيضاً قال الثوري هذا القول من غير دليل يؤيده، وقد خالفه أبوداود، وأثبت صحة رواية حبيب عن عروة، حيث قال عقبة: وقد روى حمزة الزيات، عن حبيب، عن عروة بن الزبير حديثاً صحيحاً. يشير بذلك إلى ما رواه الترمذي في الدعوات (ج2: ص205) وقال: هذا حديث حسن غريب، وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة بن الزبير شيئاً-انتهى. وهذا يدل أولاً على أن عروة في هذا الإسناد، هو عروة بن الزبير كما صرح بذلك في رواية أحمد وابن ماجه، خلافاً لمن زعم أنه عروة المزني، وثانياً على أنه يرى صحة رواية حبيب عن عروة، وأما قول البخاري: إن حبيباً لم يسمع من عروة، فمبني على شرطه المعروف في الرواية، وهو شرط شديد، خالفه فيه أكثر أهل العلم، وقال ابن عبد البر: صحح هذا الحديث الكوفييون، وثبتوه لرواية الثقات من أئمة الحديث له، وحبيب لا ينكر لقاءه عروة، ولروايته عمن هو أكبر من عروة وأقدم موتاً. وقال في موضع آخر: لا شك أنه أدرك عروة، كذا في نصب الراية (ج1: ص72) . ومن هذا كله ظهر أن أبا داود وابن عبد البر قد صححا سماع حبيب من عروة بن الزبير، ولم يلتفتا إلى كون حبيب مدلساً. وحاصل ما علل به المضعفون طريق حبيب عن عروة عن عائشة: أن عروة المذكور هنا إن كان هو المزني، كما قاله البيهقي وغيره، فهو مجهول، وإن كان هو ابن الزبير، وهو ما يدل عليه كلام الترمذي، وبه صرح أحمد وابن ماجه في روايتهما، فالحديث منقطع، لكون حبيب بن أبي ثابت لم يدركه، فيكون ضعيفاً لأنقطاعه، وقد عرفت ما فيه. ومع كل هذا، فإن حبيبا لم ينفرد برواية هذا الحديث، وقد تابعه عليه هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير عند الدارقطني (ج1: ص50) وتكلم الدارقطني فيه بلا حجة بينه ودليل ظاهر. وقد جاء الحديث بأسانيد أخرى عند أحمد وابن ماجه والبزار والدارقطني والطبري، بعضها حسن جيد، وبعضها يقارب الحسن، ينجبر بها ضعف الانقطاع في حديث حبيب، عن عروة، عن عائشة، لو سلم. وانظر هذه الروايات في نصب الراية (ج1: ص75، 72) . (وأيضاً إسناد إبراهيم التيمي عنها) بين الترمذي سببه بقوله: ولا نعرف لإبراهيم التيمي سماعاً من عائشة-انتهى. وحديث إبراهيم التيمي هذا، رواه أحمد وأبوداود والنسائي والدارقطني، كلهم من طريق الثوري، عن أبي روق، عن إبراهيم التيمي، عن عائشة (قال أبوداود: هذا مرسل) أي منقطع (وإبراهيم التيمي لم يسمع من عائشة)

{الفصل الثالث}

325- (25) وعن ابن عباس، قال: ((أكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتفا ثم مسح يده بمسح كان تحته، ثم قام فصلى)) رواه أبوداود، وابن ماجه. 326- (26) وعن أم سلمة رضي الله عنها، أنها قالت: ((قربت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - جنباً مشوياً فأكل منه ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأ)) رواه أحمد. {الفصل الثالث} 327- (27) عن أبي رافع، قال: ((أشهد لقد كنت أشوي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطن الشاة، ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا ما اتفقا عليه أئمة الجرح والتعديل، وقال الدارقطني بعد أن صرح بعدم سماع إبراهيم عن عائشة: وقد روى هذا الحديث معاوية بن هشام، عن الثوري، عن أبي روق، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن عائشة، فوصل إسناده. ومعاوية هذا، أخرج له مسلم في صحيحه، ووثقه أبوداود، وذكره ابن حبان في الثقات، ومن هذا يتبين أن رواية إبراهيم التيمي عن عائشة هنا لها أصل، وليست من الضعيف الذي يعرض عنه، وقد تكلم الدارقطني في رواية معاوية بن هشام الموصولة، لكن لم ينصف في الكلام كما لا يخفى. وإبراهيم التيمي هذا هو إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي، تيم الرباب، أبوأسماء الكوفي العابد، قال في التقريب: ثقه إلا أنه يرسل ويدلس، من صغار التابعين، مات سنة (92) وله أربعون سنة، وأما عروة بن الزبير، فهو عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد الأسدي، أبوعبد الله المدني، ولد سنة (23) وكان من كبار التابعين، وهو أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، وقال الحافظ: ثقة فقيه مشهور. مات سنة (94) على الصحيح، ومولده في أوائل خلافة عمر الفاروق، وأما عروة المزني، فهو شيخ لا يدرى من هو؟ 325- قوله: (كتفا) بفتح الكاف وكسر التاء، وبكسر الكاف وسكون التاء، وبفتح الكاف والتاء معاً، ثلاث لغات، والمعنى لحم كتف شاة مشوي. (بمسح) بكسر الميم، ثوب من الشعر غليظ. (كان تحته) أي تحت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (ثم قام) أي إلى الصلاة. (فصلى) أي ولم يتوضأ، وفيه دليل على أن أكل ما مسته النار لا ينقض الوضوء، وأن غسل اليد بعد الطعام ليس بواجب، بل يكفي مسحها. (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري. (وابن ماجه) وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه، وأصله في الصحيحين كما تقدم. 326- قوله: (جنباً) أي ضلعاً. (مشوياً) من شوى اللحم يشوى شيئاً، أي عرضه للنار فنضج. (ولم يتوضأ) أي لا شرعياً ولا لغوياً لبيان الجواز. (رواه أحمد) (ج6: ص307) وأخرجه أيضاً الترمذي في الأطعمة، وقال: حسن صحيح غريب. 327- قوله: (عن أبي رافع) مولى النبي - صلى الله عليه وسلم -. (أشهد) أي أقسم بالله. (لرسول الله) أي لأكله. (بطن الشاة) يعني

ثم صلى ولم يتوضأ)) رواه مسلم. 328- (28) وعنه، قال: ((أهديت له شاة، فجعلها في القدر، فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما هذا يا أبا رافع؟ فقال: شاة أهديت لنا يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطبختها في القدر. قال: ناولني الذراع يا أبا رافع فناولته الذراع. ثم قال: ناولني الذراع الآخر، فناولته الذراع الآخر. ثم قال: ناولني الذراع الآخر: فقال: يا رسول الله إنما للشاة ذراعان. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما إنك لو سكت لناولتني ذراعاً فذرعاً ما سكت. ثم دعا بماء فتمضمض فاه، ـــــــــــــــــــــــــــــ الكبد والطحال وما معهما من القلب وغيرهما. (ثم صلى) أي فأكل ثم صلى، وكان القياس ثم يصلى، لكن أتى به ماضياً؛ لأن قوله "كنت أشوى" ماض في المعنى؛ لأنه حكاية لصورة الحال الماضية. (رواه مسلم) في الطهارة، أخرجه أيضاً أحمد (ج6: ص8، 9) . 328- قوله: (أهديت له) أي لأبي رافع. (شاة) برفعها على الفاعل، قيل: فيه التفات، والأظهر أنه نقل بالمعنى. (فجعلها في القدر) بكسر القاف أي للطبخ. (يا أبا رافع) يقرأ بالهمزة ولا تكتب. (ناولني الذراع) بكسر الذال من طرف المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى والساعد مؤنثة فيهما، وقد تذكر. وخص النبي - صلى الله عليه وسلم - الذراع بالطلب لمحبته واستحسانه للذراع، لسرعة نضجها، واستمرائها، مع زيادة لذتها، وحلاوة مذاقها، وبعدها عن مواضع الأذى. (فقال) أي أبورافع على سبيل الإلتفات، وفي رواية لأحمد "فقلت له". (إنما للشاة ذراعان) وفي رواية لأحمد "وهل للشاة إلا ذراعان"، وفي حديث أبي عبيد عند الدرامي، والترمذي في الشمائل "وكم للشاة ذراع"، والظاهر أن هذا استفهام استبعاد لا إنكار؛ لأنه لا يليق بهذا المقام، قاله القاري. (أما) بالتخفيف للتنبيه. (إنك لو سكت) أي عما قلت، وامتثلت أدبي. (لناولتني ذراعاً فذراعاً ما سكت) أي ما سكت أنت وطلبت أنا. قال الطيبي: الفاء في "فذراعاً للتعاقب، كما في قوله: الأمثل فالأمثل. و"ما" في "ما سكت" للمدة، والمعنى ناولتني ذراعاً غب ذراع إلى ما لا نهاية له مادمتَ ساكتاً، فلما نطقت انقطعت-انتهى. وفي رواية لأحمد "لو سكت لناولتني منها ما دعوت به" أي ما طلبته، من الدعوة بالفتح؛ لأن الله تعالى يخلق ما يشاء، وكان يخلق فيها ذراعاً بعد ذراع معجزة وكرامة له - صلى الله عليه وسلم -، وإنما منع كلامه من ذلك، قيل: لأنه شغل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التوجه إلى ربه، بالتوجه إليه أو إلى جواب سؤاله. وقيل: لأن ظهور شيء من عالم الغيب على سبيل خرق العادة مشروط بأن لا يتطرق إليه الشك والتردد، ولا يقع شيء من الخلل والنقص في اليقين والتصديق،

وغسل أطراف أصابعه، ثم قام فصلى، ثم عاد إليهم، فوجد عندهم لحما بارداً فأكل، ثم دخل المسجد فصلى ولم يمس ماء)) رواه أحمد. 329- (29) ورواه الدارمي عن أبي عبيد إلا أنه لم يذكر ((ثم دعا بماء)) إلى آخره. 330- (30) وعن أنس بن مالك، قال: (كنت أنا، وأبي، وأبوطلحة جلوساً، فأكلنا لحماً وخبزاً، ثم دعوت بوضوء، فقالا: لم تتوضأ؟ فقلت: لهذا الطعام الذي أكلنا. فقالا: أتتوضأ من الطيبات؟ لم يتوضأ منه من هو خير منك)) رواه أحمد. 331- (31) وعن ابن عمر، كان يقول: قبلة الرجل امرأته وجسها ـــــــــــــــــــــــــــــ والله أعلم. (وغسل أطراف أصابعه) أي محل الدسومة والتلوث على قدر الحاجة. (ثم عاد إليهم) أي إلى أبي رافع وأهل بيته. (فوجد عندهم لحماً بارداً فأكل) ؛ لأنه كان يجب اللحم وما كان يجده دائماً. (ولم يمس ماء) أي للوضوء ولا لغسل الفم قبل الصلاة. (رواه أحمد) (ج6: ص392) أي عن أبي رافع مطولاً هكذا، ورواه أيضاً عنه مختصراً (ج6: ص8) مثل رواية الدارمي عن أبي عبيد. 329- قوله: (ورواه الدارمي عن أبي عبيد) في باب ما أكرم به النبي - صلى الله عليه وسلم - في بركة طعامه، من أول مسنده، وكذا رواه الترمذي في شمائله، كلاهما من طريق شهر بن حوشب، عن أبي عبيد. قال الحافظ في الإصابة (ج4: ص131) : ورجاله رجال الصحيح إلا شهر بن حوشب. وأبوعبيد هذا، مولى للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وصحابي لا يعرف اسمه، له هذا الحديث فقط. 330- قوله: (وأبيّ) أي أبيّ بن كعب. (وأبو طلحة) اسمه زيد بن سهل بن الأسود بن حرام الأنصاري النجاري المدني مشهور بكنيته، من كبار الصحابة، شهد العقبة وبدراً والمشاهد كلها، وهو أحد النقباء، وزوج أم سليم أم أنس ابن مالك، وكان من الرماة المذكورين. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لصوت أبي طلحة في الجيش خير من فئة. قتل يوم حنين عشرين رجلاً، وأبلى يوم أحد بلاء عظيماً، وشلت يده التي وقى بها النبي - صلى الله عليه وسلم -، له اثنان وتسعون حديثاً، اتفقا على حديثين، انفرد البخاري بحديث، ومسلم بآخر، روى عنه نفر من الصحابة والتابعين. مات سنة (34) وقال أنس: عاش بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعين سنة، لم يفطر فيها إلا يوم أضحى أو فطر، وكان في أيام النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يصوم لاشتغاله بالغزو، وعلى هذا يكون وفاته سنة (51) ، وبه جزم المدائني، قيل: وهذا أثبت. (أتتوضأ من الطيبات) فيه أن نفض الوضوء إنما يكون بخبيث ينافيه كالخارج من السبيلين، وهو معقول المعنى، وغيره ألحق به وإن لم يكن معقول المعنى، كالنوم والإغماء والجنون؛ لأنه مظنة لخروج الخبيث. (لم يتوضأ منه) أي من مثل هذا الطعام. (من هو خير منك) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -، (رواه أحمد) قال الهيثمي (ج1: ص251) ورجاله ثقات. 331- قوله: (قبلة الرجل امرأته) بالنصب على المفعولية. (وجسها) بفتح الجيم وتشديد السين المهملة أي مسها.

بيده، من ملامسه. ومن قبّل امرأته أو جسها بيده، فعليه الوضوء)) رواه مالك، والشافعي. 332- (32) وعن ابن مسعود، كان يقول: (من قبلة الرجل امرأته الوضوء) رواه مالك. 333- (33) وعن ابن عمر، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: (إن القبلة من اللمس، فتوضؤوا منها. ـــــــــــــــــــــــــــــ (بيده) أي بلا حائل. (من الملامسة) أي المذكورة في قوله تعالى: {أو لامستم النساء} . (ومن قبّل امرأته أوجسها بيده) فقد لامس، ومن لامس. (فعليه الوضوء) قال الطيبي: تفريع على ما أصله من قبل، أى إذا كان التقبيل والجس من الملامسة فيلزم أن يتوضأ من قبل أو جس، والترتيب مفوض إلى ذهن السامع. (رواه مالك) عن الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن عمر. (والشافعي) عن مالك في الأم (ج1: ص12) وأخرجه أيضاً الدارقطني (ج1: ص53) عن الحسين بن إسماعيل، عن أحمد بن إسماعيل، عن مالك. ومن طريق الشافعي رواه البيهقي (ج1: ص124) . 332- قوله: (من قبلة الرجل) من إضافة المصدر لفاعله. (امرأته) بالنصب على أنه مفعول "قبلة"؛ لأنها اسم مصدر. (الوضوء) مبتدأ مؤخر أي يجب منها الوضوء. قال الطيبي: في تقديم الخبر على المبتدأ المعرف إشعار بالخلاف، ورد على من يقول: ليس حكم التقبيل والجس حكم سائر النواقض، فرد وقيل: ليس حكمه إلا كحكمها، فيكون من قصر القلب. (رواه مالك) أنه بلغه أن عبد الله بن مسعود كان يقول: "من قبلة الرجل" الخ. وقد أخرج الطبراني والدارقطني والبيهقي وغيرهم بأسانيدهم نحوه، بألفاظ متقاربة، بمعنى أن اللمس ما دون الجماع، فمن قبل أو لمس فعليه الوضوء. 333- قوله: (إن القبلة من اللمس) أي المذكور في الآية. (فتوضؤوا منها) رواه الدارقطني (ج1: ص53) كما قال المصنف، وقال صحيح. وقال الزيلعي في نصب الراية بعد ذكر أثر عمر عن البيهقي (ج1: ص124) بنحو ما رواه الدارقطني: أما أثر عمر فضعفه ابن عبد البر في التمهيد وقال: هو عندهم خطأ، وهو صحيح عن ابن عمر لا عن عمر –انتهى. وهذه الآثار الثلاثة كلها موقوفة على بعض الصحابة، ممن قالوا بكون اللمس ناقضاً، وليست في حكم المرفوع، إذ للرأي فيه مجال فإنهم أخذوه من قوله تعالى: {أو لمستم النساء} واستنبطوه عما فهموا من هذه الآية، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عدم النقض بالقبلة واللمس، كما تقدم عن عائشة، وهو من أقوى القرائن على أن المراد باللمس في الآية هو الجماع، وبه فسر حبر القرآن عبد الله بن عباس وعلي رضي الله عنهما، فيجب الأخذ بالحديث المرفوع الصحيح الصريح، ولا ينبغي التردد في تفسير الآية، التفسير الصحيح أن اللمس كناية عن الجماع؛ لأنه لا حجة في قول الصحابي عند معارضة الحديث المرفوع الصحيح.

334- (34) وعن عمر بن عبد العزيز، عن تميم الداري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الوضوء من كل دم سائل)) ـــــــــــــــــــــــــــــ 334- قوله: (وعن عمر بن عبد العزيز) هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، القرشي الأموي، أبوحفص المدني، ثم الدمشقي، أمير المؤمنين، أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، واسمها ليلى. ولي إمرة المدينة للوليد، وكان مع سليمان كالوزير، وولى الخلافة بعده سنة (99) فعد مع الخلفاء الراشدين مات في رجب سنة (101) بدير سمعان من أرض حمص، وله أربعون سنة، ومدة خلافته سنتان وخمسة أشهر وأيام، وكان على صفة من الزهد، والعبادة، والتقى، والعفة، وحسن السيرة لاسيما أيام خلافته. وقال ميمون بن مهران: ما كانت العلماء عند عمر إلا تلامذته. وقال هشام بن حسان: لما جاء نعي عمر قال الحسن البصري: مات خير الناس. ومناقبة وفضائله كثيرة جداً. (عن تميم الداري) نسبة إلى أحد أجداده، الدار بن هاني بن حبيب، وهو تميم بن أوس بن خارجة الداري، أبورقية بقاف وتحتانية مصغراً، صحابي مشهور، سكن بيت المقدس بعد قتل عثمان، وكان إسلامه سنة (9) وكان من أهل الكتابيين، وقال ابن سيرين: كان يختم في ركعة. وقال مسروق: صلى ليلة حتى أصبح يقرأ آية يرددها {أم حسب الذين يجترحون السيئات} وهو أول من أسرج السراج في المسجد، وكان أقطعه النبي - صلى الله عليه وسلم - بيت حبرون. له ثمانية عشر حديثاً، انفرد له مسلم بحديث، روى عنه سيد البشر - صلى الله عليه وسلم - خبر الجساسة، وناهيك بهذه المنقبة الشريفة، قيل: مات سنة (40) وروى عنه أيضاً جماعة. (الوضوء من كل دم سائل) أي كثير فاحش لا قليل. فيه أن خروج الدم السائل ولو كان من غير السبيلين، ناقض للوضوء، وإليه ذهب بعض الأئمة، لكن الحديث ضعيف جداً، لا يصلح للاحتجاج كما سيأتي، وقد استدل القائلون بالوضوء من الخارج النجس من غير السبيلين، كالقئ ملء الفم، والرعاف والدم الفاحش، بأحاديث وآثار عن الصحابة، وليس في شيء من ذلك حجة أصلاً، فمن أقوى أدلتهم حديث عائشة عند البخاري وغيره، في شأن فاطمة بنت أبي حبيش، وكانت من المستحاضات، ففيه أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: إنما ذلك عرق، وفيه أيضاً ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت، قالوا: المراد من السبيلين، سبيل البول وسبيل البراز، ودم الاستحاضة لا يخرج من ثقب البول، علم أن دم الاستحاضة وهو مما يخرج من غير السبيلين، من نواقض الوضوء، وأشير بقوله "إنما ذلك عرق" إلى تعميم الحكم بانتقاض الوضوء من خروج الدم من أي عرق كان من البدن غير السبيلين. وفيه أن فرج المرأة وقبلها الذي يخرج منه دم الاستحاضة، في حكم مخرج البول للمجاورة، ولذا عد الحيض والمني من نواقض الطهارة وأيضاً دم الاستحاضة حدث بنفسه من جملة الأحدث المستقلة ناقض للوضوء، ولا يقاس عليه غيره؛ لأن الأصل عدم النقض، حتى يقوم ما يرفع هذا الأصل، ولم يقم دليل على ذلك. وأما قوله "إنما ذلك عرق" فإنما أراد به رد زعمها: أن دم الاستحاضة في حكم دم الحيض لا غير، يعني أن دمها ليس مما تعتاده النساء بل هو دم عرق انفجرت

رواهما الدارقطني، وقال: عمر بن عبد العزيز لم يسمع من تميم الداري ولا رآه، ويزيد بن خالد، ويزيد بن محمد مجهولان. ـــــــــــــــــــــــــــــ لمرض، فافهم. واستدلوا أيضاً بحديث أبي الدرداء عند الترمذي، وفيه "قا فتوضأ" ولا حجة لهم فيه، لاحتمال أن تكون الفاء للتعقيب فقط لا للسببية، كما في قوله: قاء فأفطر. ولو سلم أن الفاء للسببية، لم تدل أيضاً على نقض الوضوء بالقيء؛ لأنه قد يتوضأ الإنسان بعده من أجل النظافة، وإزالة القذر الذي يبقى في الفم والأنف، وعلى بعض الأعضاء، فالقيء سبب له، ولكنه سبب عادي طبيعي، ولا يكون سبباً شرعياً إلا بنص صريح من الشارع، والحاصل أن وجوب الوضوء أو نقض الوضوء لا يثبت بالفعل فقط؛ لأن الفعل لا يدل على الوجوب إلا أن يفعله ويأمر الناس بفعله، أو ينص على أن هذا الفعل ناقض للوضوء. ومن أصرح أدلتهم ما أخرجه ابن ماجه عن عائشة مرفوعاً "من قاء أو رعف في صلاته فلينصرف وليتوضأ" الحديث. وفيه أنه حديث ضعيف، ضعفه أحمد وغيره، وقد ذكر العلامة الشوكاني في النيل، والزيلعي في نصب الراية، ما فيه من العلة وكلام الأئمة مفصلاً، فارجع إليهما. واستدلوا بأحاديث أخرى كلها ضعيفة ساقطة لا تقوم بها حجة، وأيضاً هي معارضة لما ذكره البخاري معلقاً عن جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في غزوة ذات الرقاع، فرمى رجل بسهم، فنزفه الدم، فركع وسجد، ومضى في صلاته. قال الحافظ: أخرجه أحمد وأبوداود، والدارقطني، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، وذكر العيني في شرح الهداية (ج1: ص122) حديث جابر هذا من رواية سنن أبي داود، وصحيح ابن حبان والدارقطني والبيهقي، وزاد فيه: فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فدعا لهما. قال: ولم يأمره بالوضوء، ولا بإعادة الصلاة، انتهى. وفي عدم الانتقاض بخروج الدم من البدن غير السبيلين أحاديث وآثار كلها مقررة للأصل، ذكرها الزيلعي والدارقطني والشوكاني. (رواهما) أي الحديثين السابقين. (الدارقطني) الحديث الثاني رواه الدارقطني من طريق يزيد بن خالد، عن يزيد بن محمد، عن عمر بن عبد العزيز، قال: قال تميم الداري: الخ ورواه ابن عدى في الكامل عن زيد بن ثابت، وفيه أحمد بن الفرج، أبوعتبة الحمصي، وهو ممن لا يحتج بحديثه، ولكنه يكتب، قاله ابن عدى. وقال ابن أبي حاتم: محله الصدق. وقال ابن حبان في الثقات: يخطئ. وكذبه محمد بن عوف الطائي. (وقال) أي الدارقطني بعد إخراج الحديث. (عمر بن عبد العزيز لم يسمع من تميم الداري ولا رآه، ويزيد بن خالد) قال الحافظ في لسان الميزان: يزيد بن خالد شيخ لبقية، لا يدرى من هو. (ويزيد بن محمد) الراوي عن عمر بن عبد العزيز، قال الحافظ في اللسان: لا يدرى من هو. (مجهولان) هذا آخر كلام الدارقطني في سننه. وقد ظهر بهذا أن حديث تميم هذا ضعيف من وجهين: الانقطاع بين عمر بن عبد العزيز وبين تميم، وجهالة اليزيدين. وذكر الزيلعي كلام الدارقطني هذا في نصب الراية وأقره.

(2) باب آداب الخلاء

(2) باب آداب الخلاء {الفصل الأول} 335- (1) عن أبي أيوب الأنصاري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة، ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا)) ـــــــــــــــــــــــــــــ (باب آداب الخلاء) قيل: "الأدب" مراعاة حد كل شيء، وقيل: هو استعمال ما يحمد قولاً وفعلاً، ويطلقون الآداب على ما يليق بالشيء، أو بالشخص، فيقال: آداب الدرس وآداب القاضي. و"الخلاء" بفتح الخاء والمد، موضع فضاء الحاجة، سمى به لخلاءه في غير أوقات قضاء الحاجة، أو؛ لأن الإنسان يخلو فيه، وأصله الملكان الخالي، ثم كثر استعماله حتى تجوز به عن ذلك. 335- (1) قوله: (عن أبي أيوب الأنصاري) هو خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي النجاري، أبوأيوب المدني، شهد العقبة، وشهد بدراً، وأحداً، والمشاهد كلها مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونزل عنده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قدم المدينة شهراً حتى بنى المسجد، وكان مسكنه المدينة، وحضر مع على حرب الخوارج، وورد المدائن في صحبته، وعاش بعد ذلك زماناً طويلاً حتى مات بالقسطنطينية مرابطاً سنة (51) في خلافة معاوية، وكان ذلك مع يزيد بن معاوية لما غزاه، فخرج معه فمرض، ولما ثقل قال لأصحابه: إذا أنا مت فأحملوني، فإذا صاففتم العدو فادفنوني تحت أقدامكم. قال البغوي: قبر ليلاً وأمر يزيد بالخيل تقبل وتدبر حتى عمي قبره. وقال ابن حبان: كان المسلمون على حصار القسطنطينية فقدموه حتى دفن إلى جانب حائط. له مائة وخمسون حديثاً، اتفقا على سبعة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بخمسة، روى عنه جماعة من الصحابة والتابعين، وله فضائل. (إذا أتيتم الغائط) هو في الأصل اسم للمكان المطمئن الواسع من الأرض في الفضاء، ثم صار يطلق على كل مكان أعد لقضاء الحاجة؛ لأن العادة أن يقضي في المنخفض لكونه أستر له، ثم اتسع حتى أطلق على النجو نفسه، أي الخارج من الإنسان، تسمية للحال باسم المحل، والمراد ههنا هو الأول، إذ لا يحسن استعمال الإتيان في النجو الخارج، إذ لا يقال: أتى البول أو العذرة، بخلاف إستعمال الإتيان بالنظر إلى المكان فإنه كثير شائع، وأيضاً لا يحسن النهي عن الاستقبال والاستدبار إلا قبل المباشرة بإخراج الخارج، وذلك عند حضور المكان لا عند المباشرة بإخراج ذلك، فليتأمل. وقد أوضح ذلك السندهي في حاشيته على البخاري، فارجع إليها. (فلا تستقبلوا القبلة) أي جهة الكعبة. (ولكن شرقوا أو غربوا) أي استقبلوا جهة الشرق أو الغرب لقضاء الحاجة، وهذا خطاب لأهل المدينة ومن قبلته في تلك الجهة، والمقصود الإرشاد إلى جهة أخرى لا يكون فيها إستقبال القبلة ولا

متفق عليه. 336- (2) قال الشيخ الإمام محي السنة، رحمه الله: هذا الحديث في الصحراء، وأما في البنيان، فلا بأس لما روي عن عبد الله بن عمر، قال: ((ارتقيت فوق بيت حفصة لبعض حاجتي، فرأيت ـــــــــــــــــــــــــــــ إستدبارها، وهذا مختلف بحسب البلاد، فللكل أن يأخذوا بهذا الحديث بالنظر إلى المقصود لا بالنظر إلى المفهوم. والحديث بظاهره دليل على منع الإستقبال والإستدبار عند قضاء الحاجة مطلقاً من غير فرق بين الصحراء والبنيان. والمسألة مختلف فيها بين العلماء لتعارض الأحاديث في ذلك، فقال بعضهم بعموم النهي أخذاً بظواهر أحاديث النهي، وترجيحاً لها على أحاديث الرخصة أو التخصيص. وقال بعضهم بخصوص النهي بالصحراء جمعاً بين الأحاديث؛ لأن إعمال الأدلة كلها أولى من إهمال بعضها. وقال بعضهم بالإباحة والجواز مطلقاً رجوعاً إلى البرأة الأصلية، أو حملاً للنهى على التنزيه، أو النسخ، فجعلوا أحاديث الإباحة قرينة على حمل النهي علىالتنزيه، أو ناسخه لأحاديث المنع. وقال بعضهم بالفرق بين الإستقبال فيحرم مطلقاً، والإستدبار فيجوز مطلقاً. وههنا أقوال أخرى لكنها غير مشهورة. والأول هو المشهور عن أبي حنفية، واختاره ورجحه من المالكية ابن العربي في شرح الترمذي، ومن الظاهرية ابن حزم في المحلي، ومن فقهاء أهل الحديث ابن القيم في الهدي (ج1: ص272) والشوكاني في النيل (ج1: ص81) وفي السيل الجرار، وشيخنا الأجل المباكفورى في شرح الترمذي (ج1: ص19) والثاني مذهب الأئمة الثلاثة، ومال إليه الطحاوي من الحنفية، وقال الأمير اليماني في السبل (ج1: ص119) : هو أقرب الأقوال. وقال الحافظ: هو أعدل الأقوال، ويؤيده ما روى عن ابن عمر، أنه قال: إنما نهي عن ذلك في القضاء. وإليه يظهر ميلان السندهي في حواشيه على البخاري، وغيره كما سيأتي. وعندي: الاحتراز عن الإستقبال والإستدبار في البيوت أحوط وجوباً لا ندباً، والمقام من معارك النظار فتدبره ولا تعجل. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً مالك وأحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه، وغيرهم. 336- قوله: (قال الشيخ الإمام محي السنة) البغوي في المصابيح. (هذا الحديث) أي حكمه. (وأما في البنيان) قال ابن حجر: يعني الخلاء ليطابق الحديث الذي استدل به. (ارتقيت) أي صعدت. (فوق بيت حفصة) أي سطحه، وهي أخت عبد الله بن عمر، أم المؤمنين زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبنت عمر بن الخطاب العدوية، قيل: إنها ولدت قبل المبعث بخمسة أعوام، وكانت قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت خنيس بن حذافة السهمي، هاجرت معه، ومات عنها بعد غزوة بدر، فلما مات ذكرها عمر على أبي بكر وعثمان فلم يجبه واحد منهما، فخطبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنكحه إياها سنة ثلاث، وقيل: سنة اثنتين. لها ستون حديثاً، اتفقا منها على ثلاثة، وانفرد مسلم بستة، روى عنها جماعة من الصحابة والتابعين. ماتت في شعبان سنة (45) وهي ابنة ستين سنة، وقيل: ماتت سنة (41) وإضافة البيت إلى حفصة مجازية باعتبار تعلق السكني، وإلا فالبيت

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقضي حاجته مستدبر القبلة مستقبل الشام)) متفق عليه. 337- (3) وعن سلمان رضي الله عنه، قال: ((نهانا، يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـــــــــــــــــــــــــــــ كان ملكاً للنبي - صلى الله عليه وسلم -. (يقضي حاجته) أي في الخلاء (مستدبر القبلة) هذا هو أصل الأئمة الثلاثة في جواز الاستدبار في الأبنية، وابتنوا عليه جواز الإستقبال، ويظهر من صنيع البغوي أنه ذهب إلى أن النهي ورد أولاً عاماً، ثم خص عمومه بحديث ابن عمر، وفيه خدشات من وجوه كثيرة، ذكرها ابن القيم، وابن العربي، وغيرهما، وهي تضعف القول بكونه مخصصاً لأحاديث النهي، قال السندهي في حاشيته على البخاري بعد بيان بعض هذه الخدشات: فالوجه أن حديث النهي من أصله مخصوص بالفضاء لا يعم البناء أصلاً، وهو الموافق للقرائن. (وقد أشرنا إلى بعض هذه القرائن في بيان معنى الغائط) فلعل من فهم عموم الحكم ما فهم من لفظ الحديث، إنما فهم من ظنه أن علة النهي إكرام القبلة عن المواجهة بالنجاسة، ففهم من عموم هذه العلة عموم الحكم. وقال في حاشيته على ابن ماجه: ويؤيد القول بالخصوص تقييد حديث النهي بإتيان الغائط في كثير من الروايات، والمراد به المكان المنخفض في الفضاء كما قررنا، وبه يظهر التوفيق بين الأحاديث. وقال في حاشيته على النسائي: ويمكن أن يكون محمل الحديث الصحراء، وإطلاق اللفظ جاء على ما كان عليه العادة يومئذٍ، إذا لم يكن لهم كنف في البيوت في أول الأمر-انتهى. قال: ومن قرائن حمل الغائط في حديث أبي أيوب على معناه اللغوى أي المكان المطمئن من الأرض في الفضاء أي الصحراء، أن النهي عن جهتين، والتخيير بين جهتين آخرين عند إتيان الغائط إنما يحسنان في الفضاء لا في البيوت، فإن الإنسان في الفضاء متمكن عند إتيان الغائط من الجهات الأربع، فيمكن أن ينهى عن بعضها، ويخير بين بعضها، وأما في البيوت فلا يتمكن عادة عند إتيان الغائط من الجهات الربع، بل يتمكن منها عند بناء الكنيف، وأما بعد البناء عند إتيان الغائط فهو يصير تابعاً لكيفية البناء –انتهى. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً مالك وأحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم. 337- قوله: (وعن سلمان) هو سلمان الفارسي أبوعبد الله، ابن الإسلام، ويقال له: سلمان الخير. أصله من أصبهان، وقيل: من رامهرمز. أسلم عند قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وأول مشاهده الخندق، وقال ابن عبد البر: ويقال إنه شهد بدراً. سافر يطلب الدين من قريته، فدان أولاً بالنصرانية، وقرأ الكتب وصبر في ذلك على مشقات متتالية، فأخذه قوم من العرب فباعوه من اليهود، ثم إنه كوتب فأعانه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كتابته، ويقال: إنه تداوله بضعة عشر سيداً حتى أفضى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، وقال: سلمان منا أهل البيت. وهو أحد الذين اشتاقت إليهم الجنة، وكان من المعمرين، قيل: عاش (250) سنة. وقيل: (350) سنة، والأول أصح، وكان يأكل من يده، ويتصدق بعطاءه، مات بالمدائن سنة (35) وقيل: سنة (33) وقيل: غير ذلك، له ستون حديثاً، اتفقا على ثلاثة، وانفرد البخاري بواحد، ومسلم بثلاثة، روى عنه جماعة من الصحابة والتابعين. (قال: نهانا يعني) أي يريد سلمان بالناهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

أن تستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجى باليمين، أو أن نستنجى بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجى برجيع، أو بعظم)) رواه مسلم. 338- (4) وعن أنس، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء يقول: ـــــــــــــــــــــــــــــ (أن نستقبل القبلة) أى بفروجنا عند خروج الغائط أو البول. (لغائط) قال النووي: كذا ضبطناه في مسلم "لغائط" باللام، وروى في غيره بغائط أي بالباء، وهما بمعنى (أو أن نستنجى باليمين) أو فيه وفيما بعده للعطف، والاستنجاء إزالة النجو وقطعه بالماء أو بالحجارة، وفيه دليل على تحريم الاستنجاء باليمين؛ لأنه الأصل في النهي ولا صارف له، فلا وجه للحكم بالكراهة فقط، وهذا تنبيه على شرف اليمين وصيانتها عن الأقذار. (أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار) وفي رواية أحمد الآتية في الفصل الثالث: ولا نكتفى بدون ثلاثة أحجار. وفي كلتا الروايتين دليل واضح على أن الاقتصار على أقل من ثلاثة أحجار لا يجوز، وإن حصل الإنقاء بما دونها، ولا يعارضه حديث أبي هريرة الآتي في الفصل الثاني بلفظ "من استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج" أخرجه أبوداود وغيره؛ لأن حديث سلمان هذا أصح منه، فيقدم عليه أو يجمع بينهما بما قال الحافظ في الفتح: أخذ بهذا أي بحديث سلمان، الشافعي وأحمد وأصحاب الحديث، فاشترطوا أن لا ينقص من الثلاث مع مراعاة الإنقاء إذا لم يحصل بها فيزداد حتى ينقى، ويستحب حينئذٍ الإيتار لقوله: من استجمر فليوتر. وليس بواجب لزيادة في أبي داود حسنة الإسناد قال: ومن لا فلا حرج. وبهذا يحصل الجمع بين الروايات في هذا الباب، انتهى. وقال ابن تيمية في المنتقى بعد ذكر حديث أبي هريرة المذكور: وهذا محمول على أن القطع على وتر سنة فيما زاد على ثلاث جمعاً بين النصوص-انتهى. (أو أن نستنجى برجيع أو بعظم) أو للعطف بمعنى الواو لا للشك. والرجيع هو الخارج من الإنسان أو الحيوان يشمل العذرة والروث، فعيل بمعنى فاعل، سمي رجيعاً؛ لأنه رجع عن حالته الأولى فصار ما صار بعد أن كان علفاً أو طعاماً. وفي حديث رويفع عند أبي داود رجيع دابة. وأما عذرة الإنسان فهي داخلة تحت قوله - صلى الله عليه وسلم - "فإنها ركس" في بعض الأحاديث. وفي الحديث دليل على أن لا يجوز الاستنجاء بالرجيع والعظم، وعلة النهي عن الاستنجاء بالرجيع أنه علف لدواب الجن، ولأنه لا يطهر، ولأنه رجس بكسر الراء، وهو المستقذر المكروه، والتعليل بعدم التطهير عائد إلى كونه رجساً، وفيه تنبيه على جنس الرجس فلا يجزئ الاستنجاء بالرجس مطلقاً، والعلة في النهي عن العظم أنه طعام الجن، أي فيجدون عليه من اللحم أوفر ما كان عليه، ولأنه لا يطهر فإنه لزج لا يكاد يتماسك فلا ينشف النجاسة، ولا يقطع البلة. وقيل: إنه لا يخلو في الغالب عن الدسومة، وقيل: لأنه ربما يجرح. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم. 338- قوله: (إذا دخل الخلاء) أي أراد دخول موضع قضاء الحاجة. ولا يختص هذا بالأمكنة المعدة لذلك،

اللهم إني أعوذبك من الخبث والخبائث)) متفق عليه. 339- (5) وعن ابن عباس، قال: ((مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبرين، فقال: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لايستتر من البول)) . وفي رواية لمسلم: ((لا يستنزه من البول. وأما الآخر فكان يمشى بالنميمة. ثم أخذ جريدة رطبة فشقها بنصفين، ثم غزر في كل قبر واحدة. قالوا: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم صنعت هذا؟ فقال: لعله أن يخفف عنهما ـــــــــــــــــــــــــــــ بل يعم ويشمل حتى لو بال في إناء مثلاً في جانب البيت مالم يشرع قضاء الحاجة، فيقول في الأمكنة المعدة قبيل دخولها، وفي غيرها في أول الشروع كتشمير ثيابه مثلاً، ومن نسي يستعيذ بقلبه لا بلسانه. (اللهم إني أعوذ بك) كان - صلى الله عليه وسلم - يستعيذ إظهاراً للعبودية ويجهر بها للتعليم. (من الخبث) بضمتين جمع الخبيث، وهو الموذي من الجن والشياطين. (والخبائث) جمع الخبيثة، والمراد ذكور الشياطين وإناثهم، وقد جاءت الرواية بإسكان الباء في الخبث أيضاً إما على التخفيف أو على أنه اسم بمعنى الشر، فالخبائث صفة النفوس، فيشمل ذكور الشياطين وإناثهم جميعاً، والمراد التعوذ من الشر وأصحابه. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم. 339- قوله: (مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبرين) أي جديدين كما في رواية ابن ماجه، قال الحافظ: الظاهر من مجموع طرق الحديث أن المقبورين كانا مسلمين. (فقال: إنهما) أي صاحبي القبرين. وقيل: أعاد الضمير إلى غير مذكور؛ لأن سياق الكلام يدل عليه، وقيل: الضمير يرجع إلى قبرين بتقدير المضاف كما ذكرنا. (وما يعذبان في كبير) أي في أمر كان يكبر ويشق عليهما الاحتراز عنه لو أراداه، لا أنه في نفسه ليس بكبير، كيف وهما يعذبان فيه. فإن عدم التنزه يبطل الصلاة، والنميمة سعي بالفساد المفضي إلى سفك الدماء، وأيضاً ورد في رواية للبخاري "وإنه لكبير" فيحمل قوله: وإنه لكبير على كبر الذنب، وقوله "مايعذبان في كبر" على سهولة الدفع والاحتراز والتوقى. (لايستتر من البول) أي من بوله كما في رواية، فاللام عوض عن المضاف إليه، أو للعهد، والمعنى: لا يجعل بينه وبين بوله سترة، يعنى لا يتحفظ منه، وفيه دليل على نجاسة بول الإنسان، ووجوب اجتنابه وهو إجماع، وعظم أمره، وأنه من أعظم أسباب عذاب القبر كالنميمة. (لا يستنزه من البول) أي لا يجتنب ولا يحترز عن وقوعه عليه، وقيل: أي لا يستبرئ ولا يتطهر ولا يستبعد عنه. (فكان يمشي) أي بين الناس. (بالنميمة) هي نقل كلام الغير لقصد الإضرار. والباء للمصاحبة أو التعدية على أنه بمعنى يشهر النميمة بين الناس ويشيعها. (ثم أخذ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (جريدة رطبة) بفتح الراء وسكون الطاء، أي غصناً من النخل. (فشقها بنصفين) مفعول مطلق، والباء زائدة للتأكيد، وقيل: حال أي جعلها مشقوقة حال كونها متلبسة بنصفين. (واحدة) أي من كل من الشقين. (لم صنعت هذا؟) أي الغزر. (لعله) أي العذاب، أو الهاء ضمير الشأن. (أن يخفف عنهما) أي صاحبى القبرين.

ما لم يبسا)) متفق عليه. 340- (6) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اتقوا اللاعنين، قالوا: وما اللاعنان يارسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم)) رواه مسلم. 341- (7) وعن أبي قتادة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا شرب أحدكم ـــــــــــــــــــــــــــــ (ما لم يبسا) بالتذكير، وبفتح الباء الموحدة، ويجوز كسرها، أي مادام لم يبس النصفان أو القضيبان، قيل: وجه هذا التحديد أنه - صلى الله عليه وسلم - سأل التخفيف عنهما وشفع لهما فأجيبت شفاعته بالتخفيف إلى مدة بقاء النداوة، أي جعل زمان بقاء النداوة والرطوبة علامة لتخفيف العذاب بشفاعته - صلى الله عليه وسلم - ودعاءه، كما صرح به في حديث جابر في آخر صحيح مسلم، لا أن في الجريد معنى خصة، ولا أن في الرطب معنى ليس في اليابس، وهذا بناء على أن القصة في حديث ابن عباس وحديث جابر واحدة كما رجحه النووي. وفيه نظر. وقيل تخفيف العذاب كان ببركة يده - صلى الله عليه وسلم -، فالحديث واقعة حال خاص لا يفيد العموم. وقيل: هو عام بدليل أنه تأسى بذلك بريدة بن الحصيب الصحابي فأوصى أن يوضع على قبره جريدتان، وروى نحوه عن أبي برزة الأسلمي، والظاهر عندي: أنه مخصوص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ليس بعام، وأما ما يفعله القبوريون من وضع الرياحين على القبور، وغرس الأشجار عليها، وسترها بالثياب، وإجمارها وتبخيرها بالعود، وإتخاذ السرج عليها فلا شك في كونه بدعة وضلالة. ومن زعم أن هذا الحديث أصل لهذه الأمور المحدثة فقد جهل وافترى على الرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الطهارة، والجنائز، والأدب، والحج، ومسلم في الطهارة، وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه، وغيرهم. 340- قوله: (اللاعنين) أي الأمرين الجالبين للعن، الحاملين للناس عليه، الداعيين إليه، فكأنهما لاعنان من باب تسمية الحامل والداعي فاعلاً، أي الذين هما سببا اللعنة غالباً، وقد يكون اللاعنين بمعنى الملعون، أي الملعون فاعلهما، ولفظ مسلم: اتقو اللعانين. والمعنى: اتقوا فعل اللعانين أي صاحبى اللعن، وهما اللذان يلعنهما الناس في العادة. (الذي يتخلى) أي يتغوط أو يبول، بحذف المضاف، أي أحدهما تخلى الذي يتخلى. (أو في ظلهم) أو للتنويع، والمراد بالظل مستظل الناس الذي اتخذوه مقيلاً ومناخاً ينزلونه ويقعدون فيه، إذ ليس كل ظل يحرم القعود لقضاء الحاجة تحته، فقد قعد النبي - صلى الله عليه وسلم - تحت حائش النخل لحاجته وله ظل بلا شك، ويدل له حديث أحمد "أو ظل يستظل به". والحديث يدل على تحريم التخلي في طرق الناس وظلهم لما فيه أذية المسلمين بتنجيس من يمر به ونتنه واستقذاره. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود. 341- قوله: (وعن أبي قتادة) هو أبوقتادة الأنصاري السلمي فارس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، اسمه الحارث، وقيل: عمرو، وقيل: النعمان، وقيل: عون بن ربعي بكسر الراء وسكون الموحدة بعدها مهملة مكسورة، والمشهور الحارث بن ربعي بن

فلا يتنفس في الإناء، وإذا أتى الخلاء فلا يمس ذكره بيمينه، ولا يتمسح بيمينه)) متفق عليه. 342- (8) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من توضأ فليستنثر، ومن استجمر فليؤتر)) متفق عليه. 343- (9) وعن أنس، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخل الخلاء ـــــــــــــــــــــــــــــ بلدمة، وهو ممن غلبت عليه كنيته. صحابي مشهور، شهد أحداً وما بعدها ولم يصح شهوده بدراً. توفي بالكوفة سنة (54) وهو ابن سبعين سنة، له مائة وسبعون حديثاً، اتفقا على أحد عشر، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بثمانية. روى عنه جماعة. (فلا يتنفس) بالجزم ولا ناهية في الثلاثة، وروى بالضم فيها على أن لا نافية، والمعنى لا يخرج نفسه. (في الإناء) أي في داخله لئلا يقل برودة الماء الكاسرة للعطش بحرارة النفس، أو كراهة أن ينحدر قذرة من نفسه، بل إذا أراد التنفس فليرفع فمه عن الإناء فيتنفس ثم يشرب. (وإذا أتى الخلاء فلا يمس) بفتح الميم على الأفصح. (ذكره بيمينه) وفي رواية "إذا بال أحدكم فلا يمس ذكره بيمينه" وفي الأخرى "لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول". وهذه الروايات كلها تدل على أن النهي عن مس الذكر باليمين مقيد بحالة البول، فيكون ما عداها مباحاً، ويحمل على هذا المقيد ما ورد في بعض الروايات من النهي المطلق عن مس الذكر باليمين لاتحاد المخرج والحديث. وقيل: يكون ممنوعاً أيضاً من باب الأولى؛ لأنه نهى عن ذلك مع مظنة الحاجة في تلك الحالة، ويؤيد القول الأول حديث طلق بن علي، وقد سأل - صلى الله عليه وسلم - عن مس ذكره فقال: إنما هو بضعة منك؛ لأنه يدل على الجواز في كل حال، فخرجت حالة البول بهذا الحديث الصحيح، وبقي ما عداها على الإباحة، وإنما خص النهي بحالة البول من جهة أن مجاور الشيء يعطي حكمه، فلما منع الاستنجاء باليمين منع مس آلته حسما للمادة. (ولا يتمسح) بالسكون وضمها. (بيمينه) أي لا يستنجي باليد اليمنى تكريماً لليمين. والحديث دليل على تحريم الأمور الثلاثة المذكورة؛ لأنه الأصل في النهي، ولا صارف له، وحمله الجمهور على التنزيه. (متفق عليه) أخرجاه في الطهارة والأشربة، وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم مطولاً ومختصراً. 342- قوله: (من توضأ فليستنثر) من الاستنثار وهو طرح الماء الذي يستنشقه، ولم يذكر الاستنشاق؛ لأن ذكر الاستنثار دليل عليه، إذ لا يكون إلا منه. وفيه دليل على وجوب الاستنثار، وفيه خلاف وسيأتي الكلام فيه في سنن الوضوء إن شاءالله تعالى. (ومن استجمر) أي استنجى بالجمرة أي الحجر. (فليؤتر) يشمل الإنقاء بالواحد أيضاً لكن يحمل هذا المطلق على المقيد في الروايات الأخر. والمعنى فليؤتر بثلاث أو خمس أو سبع أو غير ذلك، والواجب الثلاثة لتلك الروايات وما زاد عليها مستحب لقوله: ومن لا فلا حرج. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي وابن ماجه. 343- قوله: (يدخل الخلاء) المراد بالخلاء ههنا الفضاء بقرينة العنزة؛ لأنه كان إذا توضأ صلى إليها في الفضاء، أو

{الفصل الثاني}

فأحمل أنا وغلام إداوة من ماء وعنزة، يستنجى بالماء)) متفق عليه. {الفصل الثاني} 344- (10) عن أنس، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا دخل الخلاء نزع خاتمه)) رواه أبوداود والنسائي والترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. وقال أبوداود: هذا حديث منكر. ـــــــــــــــــــــــــــــ يستتر بها بأن يضع عليها ثوباً أو يركزها بجنبه لتكون إشارة إلى منع من يروم المرور بقربه، أو ينبش الأرض الصلبة لئلا يرتد البول إليه، أو لغير ذلك من قضاء الحاجات التي تعرض له، ولأن خدمته في البيوت تختص بأهله. (وغلام) زاد في رواية لمسلم "نحوي" والغلام هو المترعرع، قيل: إلى حد السبع سنين، وقيل: إلى الالتحاء، ويطلق على غيره مجازاً، قيل: أراد بالغلام الآخر ابن مسعود، وأراد بقوله "نحوي" أي في كونه كان يخدمه - صلى الله عليه وسلم -، فإن ابن مسعود كان صاحب سواد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحمل نعله وسواكه، أو أطلق عليه الغلام مجازاً، وقيل: هو أبوهريرة، وقيل جابر بن عبد الله، وفيه دليل على جواز الاستخدام للصغير. (إداوة) بكسر الهمزة أي مطهرة، وهي إناء صغير من جلد يتخذ للماء. (من ماء) أي مملوءة منه. (عنزة) بالنصب عطفاً على الإداوة، بفتح النون أطول من العصا وأقصر من الرمح فيها سنان. (يستنجى بالماء) يؤخذ منه ومن غيره أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقتصر على الماء تارة وعلى الحجر أخرى، وكثيراً ما كان يجمع بينهما، قاله القاري. وفيه رد على من أنكر أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - استنجى بالماء وهو مالك ومن وافقه. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي. 344- قوله: (إذا دخل الخلاء) أي أراد دخوله. (نزع) أي أخرج من إصبعه. (خاتمه) بفتح التاء، وقيل: بكسرها؛ لأن نقشة "محمد رسول الله" وفيه دليل على تبعيد ما فيه ذكر الله عند قضاء الحاجة، والقرآن بالأولى، حتى قيل: يحرم إدخال المصحف في الخلاء لغير ضرورة. قال الأمير اليماني: هذا فعل منه - صلى الله عليه وسلم -، وقد عرف وجهه، وهو صيانة ما فيه ذكر الله عزوجل عن المحلات المستخبثة فدل على ندبه، وليس خاصاً بالخاتم بل في كل ملبوس فيه ذكر الله –انتهى. وقال الطيبي: فيه دليل على وجوب تنحية المستنجى اسم الله واسم رسوله والقرآن، قيل: فلو غفل عن تنحية ما فيه ذكر الله حتى اشتغل بقضاء الحاجة، أو خاف ضياعه، غيبه في فمه، أو في عمامته، أو نحوها. (رواه أبوداود) الخ. وأخرجه أيضاً ابن ماجه وابن حبان والحاكم كلهم من طريق همام عن ابن جريج عن الزهري عن أنس. (وقال) أي الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح غريب) وافقه المنذري في تصحيحه وصوبه، وقال: رواته ثقات أثبات. وتبعه أبوالفتح القشيري في آخر الاقتراح، ومال إلى تصحيحه موسى بن هارون، وصححه ابن حبان، وقال النووي في الخلاصة: هذا أي تصحيح الترمذي مردود عليه. (وقال أبوداود، هذا حديث منكر) وقال النسائي: إنه غير محفوظ، وذكر الدارقطني الاختلاف فيه، وأشار إلى شذوذه. والمنكر ما رواه الضعيف مخالفاً للثقة، ومقاله المعروف، وهو ههنا حديث ابن جريج،

وفي روايته: وضع بدل نزع. 345- (11) وعن جابر، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد)) ـــــــــــــــــــــــــــــ عن زياد بن سعد، عن الزهري، عن أنس قال: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ خاتماً من ورق ثم ألقاه"، والوهم فيه من همام كما قاله أبوداود، ولم يرو حديث أنس بلفظ "إذا دخل الخلاء وضع خاتمه"، وقد خالف أصحاب ابن جريج. وإطلاق المنكر على حديث همام هذا إنما هو على مذهب ابن الصلاح من عدم الفرق بين الشاذ والمنكر، وحكم النسائي عليه بكونه غير محفوظ أصوب، فإنه شاذ في الحقيقة على مذهب الجمهور من الفرق بين المنكر والشاذ، إذا المتفرد به وهو همام، من شرط صحيح، وثقة ابن معين وغيره، وقال أحمد: ثبت في كل المشائخ لكنه بالمخالفة صار حديثه شاذاً. وقد نوزع أبوداود في حكمه على هذا الحديث بالنكارة مع أن رجاله رجال الصحيح، نازعه المنذري وموسى بن هارون وغيرهما، قال موسى بن هارون: لا أدفع أن يكون حديثين، ومال أيضاً إليه ابن حبان فصحح حديثين معاً، وقد تابع همام يحيى بن الضريس البجلي، ويحيى بن المتوكل البصري، أخرجهما الحاكم والدارقطني، وقد رواه عمرو بن عاصم وهو من الثقات عن همام موقوفاً على أنس، وقال المارديني في الجوهر النقي: الحديثان مختلفان متناً وكذا سنداً؛ لأن الأول رواه ابن جريج عن الزهري بلا واسطة والثاني بواسطة، فانتقال الذهن من الحديث الذي قاله أبوداود فيه: إنما يعرف عن ابن جريج، عن زياد بن سعد، عن الزهري، عن أنس قال: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ خاتماً من ورق ثم ألقاه" إلى حديث وضع الخاتم مع اختلافهما سنداً ومتناً كما بيناه، لا يكون إلا عن غفلة شديدة، وحال همام لا يحتمل مثل ذلك، هذا مع أن له شاهداً أخرجه البيهقي، عن يحيى بن المتوكل عن ابن جريج عن الزهري عن أنس الخ. وذكر الدارقطني في كتاب العلل: أن يحيى بن الضريس رواه عن ابن جريج كرواية همام، فهذه متابعة ثانية، وابن ضريس ثقة، فتبين بذلك أن الأمر فيه كما ذكر الترمذي من الحسن والصحة – انتهى مختصراً. وقال الحافظ بعد بيان وجه حكم أبي داود على هذا الحديث بالنكارة والكلام في متابعة يحيى بن المتوكل ما نصه: على أن للنظر مجالاً في تصحيح حديث همام؛ لأنه مبنى على أن أصله حديث الزهري عن أنس في اتخاذ الخاتم، ولا مانع أن يكون هذا متناً آخر غير ذلك المتن، وقد مال إلى ذلك ابن حبان فصححهما جميعاً، ولا علة له عندي إلا تدليس ابن جريج، فإن وجد عنه تصريح بالسماع فلا مانع من الحكم بصحته –انتهى. وإن شئت مزيد التفصيل فارجع إلى التلخيص (ج1: ص39) وعون المعبود (ج1: ص9، 8) والجوهر النقي (وفي روايته) أي أبي داود (وضع) أي من يده (بدل نزع) أي من إصبعه، ولا تفاوت واختلاف بينهما معنى. 345- قوله: (البراز) أي الفضاء أو قضاء الحاجة بفتح الباء والكسر لغة قليلة، الفضاء الواسع من الأرض، ثم كنوا به عن الغائط، يقال: تبرز أي تغوط، وهو أن يخرج إلى البراز كما قيل: تخلى إذا صار إلى الخلاء، (انطلق) أي ذهب في الصحراء. (حتى لا يراه أحد) أي إلى أن يصل إلى موضع لا يراه فيه أحد، وفيه دليل على مشروعية التباعد

رواه أبوداود. 346- (12) وعن أبي موسى، قال: ((كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم فأراد أن يبول، فأتى دمثاً في أصل جداًر، فبال. ثم قال: إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد لبوله)) رواه أبوداود. 347- (13) وعن أنس، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد الحاجة لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ عند الحاجة عن حضور الناس إذا كان في مراح من الأرض، ويدخل في معناه الاستتار بالأبنية، وضرب الحجب، وإرخاء الستر وأعماق الآبار والحفائر ونحو ذلك من الأمور الساترة للعورات، وكل ما ستر العورة عن الناس. (رواه أبوداود) وسكت عنه، وفيه إسماعيل بن عبد الملك الكوفي قد تكلم فيه غير واحد، وقال الحافظ: صدوق كثير الوهم، وأخرجه أيضاً ابن ماجه، وفيه أيضاً إسماعيل بن عبد الملك، ويؤيده حديث المغيرة بن شعبة عند الترمذي وصححه، وأبي داود والنسائي وابن ماجه بلفظ: كان إذا ذهب المذهب أبعد. 346- قوله: (ذات يوم) أي يوما وذات زائدة، وقيل كناية عن الساعة، أي كنت يوماً أو ساعة يوم معه عليه الصلاة والسلام. (دمثاً) بفتح الدال وكسر الميم، قال الخطابي: الدمث المكان السهل الذي يجذب فيه البول فلا يرتد على البائل، يقال للرجل إذا وصف باللين والسهولة "إنه لدمث الأخلاق، وفيه دماثة" ويقال: دمث المكان كفرح دمثا أي؛ لأن وسهل (في أصل جدار) أي قريب منه (فليرتد) بسكون الدال المخففة من الارتياد، أي فليطلب مكاناً مثل هذا فحذف المفعول لدلالة الحال عليه. وفيه دليل على أنه ينبغي لمن أراد قضاء الحاجة أن يعمد إلى مكان لين سهل لا صلابة فيه ليأمن من رجوع رشاش البول ونحوه عليه. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً أحمد، والبيهقي. والحديث في سنده رجل مجهول ولذا ضعفه النووي، وهو وإن كان ضعيفاً فأحاديث الأمر بالتنزه عن البول تفيد ذلك، وقد روى الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتبوأ لبوله كما يتبوأ لمنزله، قال الهيثمي (ج1: ص204) : هو من رواية يحيى بن عبيد بن دجى عن أبيه، ولم أر من ذكرها، وبقية رجاله موثقون. 347- قوله (إذا أراد الحاجة) أي قضاء الحاجة يعني إذا أراد القعود للغائط أو البول (لم يرفع ثوبه) مبالغة في دوام التستر (حتى يدنو) أي يقرب (من الأرض) احتراز عن كشف العورة، وهذا من أدب قضاء الحاجة، ويستوي فيه الصحراء والبنيان؛ لأن في رفع الثوب كشف العورة، وهو لا يسوغ إلا عند الحاجة، ولا ضرورة في الرفع قبل القرب من الأرض قاله الطيبي، وقال العزيزي: لم يرفع ثوبه أي لم يتم رفعه حتى يدنو من الأرض، فيندب رفعه شيئاً محافظة على الستر ما لم يخف تنجس ثوبه وإلا رفعه بقدر حاجته-انتهى، ويمكن أن نستنبط منه قولهم: ما أبيح للضرورة يتقدر بقدر

رواه الترمذي وأبوداود والدارمي. 348- (14) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما أنا لكم مثل الوالد لولده، أعلمكم: إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة، ولا تستدبروها، وأمر بثلاثة أحجار. ونهى عن الروث والرمة، ونهى أن يستطيب الرجل بيمينه)) رواه ابن ماجه والدارمي. ـــــــــــــــــــــــــــــ الضرورة. (رواه الترمذي وأبوداود والدارمي) أخرجه الترمذي والدارمي من طريق عبد السلام بن حرب عن الأعمش عن أنس. وقال الترمذي: وروى وكيع والحماني عن الأعمش قال: قال ابن عمر: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد الحاجة" الحديث، قال: وكلا الحديثين مرسل أي منقطع، لم يسمع الأعمش من أنس بن مالك، ولا من أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه أبوداود من طريق وكيع، عن الأعمش عن رجل عن ابن عمر: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان "الحديث، قال: رواه عبد السلام ابن حرب، عن الأعمش عن أنس بن مالك وهو أي الحديث ضعيف أي لجهالة الراوي عن ابن عمر في الأول، والانقطاع في الثاني. وأخرجه أيضاً الطبراني في الأوسط عن الأوسط عن جابر، قال الهيثمي: وفيه الحسين بن عبيد الله العجلي، قيل فيه: كان يضع الحديث. 348- قوله: (إنما أنا لكم مثل الوالد لولده) أي في الشفقة (أعلمكم) كما يعلم الوالد ولده كل مل يحتاج إليه ولا يبالي بما بذكره، فهذا تمهيد لما يبين لهم من آداب الخلاء، إذ الإنسان كثيراً ما يستحي من ذكرها، سيما في مجلس العظماء، وفي هذا بيان وجوب إطاعة الآباء، وأن الواجب عليهم تأديب أولادهم وتعليمهم ما يحتاجون إليه من أمور دينهم (وأمر بثلاثة أحجار) ؛ لأن المطلوب شرعاً الإنقاء والإيتار، وهما يحصلان بثلاثة أحجار (ونهى عن الروث والرمة) أي عن استعمالها في الاستنجاء. الروث رجيع ذوات الحوافر، ذكره صاحب المحكم وغيره، قال السندهي: والأشبه أن يراد ههنا رجيع الحيوان مطلقاً ليشمل رجيع الإنسان وذكر بإطلاق اسم الخاص على العام، ويحتمل أن يقال: ترك ذكر رجيع الإنسان؛ لأنه أغلظ فيشمله النهي بالأولى، والرمة بكسر الراء وتشديد الميم، العظم البالي، ولعل المراد ههنا مطلق العظم. ويحتمل أن يقال: العظم البالي لا ينتفع به فإذا منع عن تلويثه فغيره أولى، قاله السندهي. ويجوز أن يكون الرمة جمع الرميم أي العظام البالية، قال في شرح السنة: تخصيص النهي بهما يدل على أن الاستنجاء يجوز بكل ما يقوم مقام الأحجار في الإنقاء، وهو كل جامد طاهر قالع للنجاسة، غير محترم من مدر وخشب وخرق وخزف انتهى (أن يستطيب) أي يستنجي (الرجل) وكذا المرأة، قال الطيبي: سمى الاستنجاء استطابة لما فيه من إزالة النجاسة وتطهيرها (رواه ابن ماجه والدارمي) بسند حسن، وأخرجه أيضاً الشافعي وأحمد وأبوداود والنسائي وابن حبان وابن خزيمة، وأبوعوانة في صحيحه بألفاظ متقاربة، وسكت عنه أبوداود والمنذري.

349- (15) وعن عائشة، قالت: ((كانت يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليمنى لطهوره وطعامه، وكانت يده اليسرى لخلائه وما كان من أذى)) رواه أبوداود. 350- (16) وعنها، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن، فإنها تجزئ عنه)) رواه أحمد وأبوداود والنسائي والدارمي. 351- (17) وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام، فإنها ـــــــــــــــــــــــــــــ 349- قوله (لطهوره) بضم الطاء أي لوضوءه فيما لم يعهد فيه المقارنة، ويكون من باب التشريف بخلاف غسل الوجه ومسح الرأس والأذن، فإن المعهود في هذه الأشياء قران اليسار باليمين (وطعامه) أي لأكله وشربه وما كان من مكرم كالإعطاء واللبس والسواك والتنعل والترجل والمصافحة والإكتحال. (لخلائه) أي لأجل استنجائه في الخلاء. (وما كان) تامة أي ما وجد ووقع (من أذى) من بيانه أي ما تستكرهه النفس الزكية كالمخاط والرعاف وخلع الثوب. والظاهر أن إدخال الماء في الأنف باليمين والامتخاط باليسار. (رواه أبوداود) في الطهارة، وأخرجه أيضاً أحمد والطبراني كلهم من طريق إبراهيم النخعي عن عائشة، قال المنذري: إبراهيم لم يسمع من عائشة فهو منقطع. وأخرجه أبوداود من طريق أخرى عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة بمعناه. وأخرجه في اللباس من حديث مسروق عن عائشة، ومن ذلك الوجه أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه، ويأتي في آخر الفصل الأول من سنن الوضوء. 350- قوله: (إذا ذهب أحدكم إلى الغائط) أي الخلاء (فليذهب) أمر وجوب (معه بثلاثة أحجار) الباء للتعدية (يستطيب) بالرفع مستأنف، علة للأمر أو حال بمعنى عازماً على الاستطابة (بهن) الباء للآلة (فإنها) أي الأحجار (تجزئ) من الإجزاء أي تكفي وتغنى، وفي بعض النسخ "تجزى" بفتح التاء وكسر الزاي بعده ياء، من جزى يجزى مثل قضى يقضي وزناً ومعنى، قاله القاري (عنه) أي عن المستنجي، أو عن الماء المفهوم من المقام، وهو الأظهر معنى. والحاصل أن الاستطابة بالأحجار تكفي المستنجي، أو تكفي عن الماء وتنوب عنه، وإن بقي أثر النجاسة بعد ما زالت عين النجاسة وجرمها وذلك رخصة، ففيه دليل على كفاية الأحجار وعدم وجوب الاستنجاء بالماء، وهو أيضاً يدل على وجوب الإستجمار بثلاثة أحجار؛ لأن الإجزاء يستعمل غالباً في الواجب (رواه أحمد) الخ. وأخرجه أيضاً الدارقطني، وقال: إسناده صحيح. 351- قوله: (فإنها) وفي بعض النسخ فإنه. قال الطيبي: الضمير في "فإنه" راجع إلى الروث والعظام باعتبار المذكور، كما ورد في شرح السنة، وجامع الأصول، وفي بعض نسخ المصابيح. وفي بعضها وجامع الترمذي "فإنها"

زاد إخوانكم من الجن)) رواه الترمذي والنسائي، إلا أنه لم يذكر: ((زاد إخوانكم من الجن)) . 352- (18) وعن رويفع بن ثابت، قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا رويفع! لعل الحياة ستطول بك بعدي، فأخبر الناس أن من عقد لحيته، أو تقلد وتراً، أو استنجى برجيع دابة، أو عظم، فإن محمداً منه بريء)) رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ فالضمير راجع إلى العظام، والروث تابع لها، عليه قوله تعالى: {وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها} [62: 11] انتهى. وقال ابن حجر المكي: وسكت عن الروث؛ لأن كونه زاداً لهم إنما هو مجاز، لما تقرر أنه لدوابهم –انتهى. وفي رواية أحمد ومسلم في قصة ذهابه إلى الجن وقراءته عليهم القرآن وسألوه الزاد فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً، وكل بعرة علف لدوابكم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام الجن (زاد إخوانكم من الجن) قال الطيبي: فيه أن الجن مسلمون حيث سماهم إخواناً وأنهم ليأكلون (رواه الترمذي) في الطهارة وفي التفسير (والنسائي) في الطهارة. وأصل حديث ابن مسعود هذا عند مسلم، وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والدارقطني والحاكم من طرق عنه. 352- قوله (وعن رويفع) بضم الراء وكسر الفاء تصغير رافع، بكسر الفاء، ابن ثابت بن السكن بن عدي بن حارثة الأنصاري المدني، صحابي سكن مصر، وأمره معاوية على طرابلس سنة (46) فغزا إفريقية. قال أحمد بن البرقي الفتياني: توفي ببرقة سنة (56) وهو أمير عليها، وقد رأيت قبره بها. له ثمانية أحاديث، روى عنه حنش الصنعاني وبسر بن عبيد الله. (لعل الحياة ستطول بك) الباء للإلصاق (بعدي) أي بعد موتي، وقد ظهر مصداق ذلك، فطالت به الحياة حتى مات سنة (56) بإفريقية، وهو آخر من مات بها من الصحابة كما ذكره أبوزكريا بن مندة. (فأخبر الناس) الفاء جزاء شرط محذوف والتقدير فإذا طالت فأخبر، والمعنى: لعل الحياة ستمتد حال كونها ملتصقة بك، حتى ترى الناس قد ارتكبوا أموراً من المعاصي يتجاهرون بها، فإذا رأيت ذلك فأخبرهم. (من عقد لحيته) قيل: هو معالجتها حتى تنعقد وتنجعد. وقيل: كانوا يعقدونها في الحرب فأمرهم بإرسالها، كانوا يفعلون ذلك تكبراً وعجباً، وقيل: هو فتلها كفتل الأعاجم. (أو تقلد وتراً) بفتحتين وتر القوس، أو مطلق الحبل والخيط. قيل: المراد به ما كانوا يعلقونه عليهم وعلى أولادهم وخيلهم من العوذ والتمائم التي يشدونها بتلك الأوتار، ويرون أنها تعصم من الآفات والعين. وقيل: النهي من جهة تعليق الأجراس عليها. وقيل: لئلا تختنق الخيل عند شدة الركض. (أو استنجى برجيع دابة) هو الروث والعذرة. (فإن محمداً منه بريء) هذا من باب الوعيد والمبالغة في الزجر الشديد، وقوله: منه بريء، هكذا في بعض النسخ وكذا وقع عند أبي داود، وفي بعض نسخ المشكاة "برئ منه" وهكذا وقع في رواية النسائي. (رواه أبوداود) في الطهارة وسكت عنه هو والمنذري، وأخرجه أيضاً النسائي في الزينة.

353- (19) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من اكتحل فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج. ومن استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج. ومن أكل فما تخلل فليلفظ، وما لاك بلسانه فليبتلع، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج. ومن أتى الغائط فليستتر، فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيباً من رمل فليستدبره، فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم، ـــــــــــــــــــــــــــــ 353- قوله: (من اكتحل) أي أراد الاكتحال. (فليؤتر) أي ثلاثاً متوالية في كل عين، وقيل: ثلاثاً في اليمنى واثنين في اليسرى ليكون المجموع وتراً، والتثليث علم من فعله - صلى الله عليه وسلم -، ففي شمائل الترمذي أنه كانت له مكحلة يكتحل كل ليلة ثلاثة في هذه وثلاثة في هذه. (من فعل) كذلك. (فقد أحسن) أي فعل فعلا حسناً ويثاب عليه؛ لأنه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (ومن لا) أي لا يفعل الوتر. (فلا حرج) فيه دليل على أن أمره - صلى الله عليه وسلم - يدل على الوجوب وإلا لما احتاج إلى بيان سقوط وجوبه بقوله: لا حرج أي لا إثم، قاله الطيبي. (ومن استجمر فليؤتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج) هذا محمول على أن القطع على وتر سنة فيما إذا زاد على ثلاث جمعاً بين النصوص، وقال الشوكاني: الأدلة المتعارضة قد دلت على عدم جواز الإستجمار بدون ثلاث، وليس لمن جوز دليل يصلح للتمسك به في مقابلتها- انتهى وقد تقدم الكلام عليه في شرح حديث سلمان من الفصل الأول. (فبما تخلل) ما شرطية أي أخرج من بين أسنانه بعود ونحوه. (فليلفظ) بكسر الفاء أي فليرم به وليخرجه من فمه، وهو جزاء قوله: ما تخلل، والشرطية جزاء الشرط الأول. (ومالاك) عطف على ما تخلل، واللوك إدارة الشيء في الفم، قيل: معناه أنه ينبغي للآكل أن يلقي ما يخرج من بين أسنانه بعود ونحوه لما فيه من الاستقذار، ويبتلع ما يخرج بلسانه، وهو معنى "لاك"؛ لأنه لا يسقذر، ويحتمل أن يكون المراد "بمالاك" ما بقي من آثار الطعام على لحم الأسنان وسقف الحلق وأخرجه بإدارة لسانه، وأما الذي يخرج من بين أسنانه فيرميه مطلقاً سواء أخرجه بعود أو باللسان؛ لأنه يحصل له التغيير غالباً. (من فعل) أي ما ذكر من رمى ذاك وابتلاع هذا. (ومن أتى الغائط) أي الخلاء. (فليستتر فإن لم يجد) أي شيئاً ساتراً. (إلا أن يجمع كثيباً) أي كومة. (من رمل فليستدبره) أي ليجعله خلفه لئلا يراه أحد، قال الطيبي: الاستثناء متصل، أي فإن لم يجد ما يستتربه إلا جمع كثيب من رمل فليجمعه ويستدبره؛ لأن القبل يسهل ستره بالذيل ونحوه. (فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم) أي يقصد الإنسان بالشر في تلك المواضع، يعني يحضر تلك الأمكنة وترصدها بالأذى والفساد؛ لأنها موضع يهجر ذكر الله فيه، فأمر بستر العورات ما أمكن، والامتناع من التعرض لأبصار الناظر، وهبوب الرياح، وترشش البول على ثيابه وبدنه،

من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج)) رواه أبوداود وابن ماجه والدارمي. 354- (20) وعن عبد الله بن مغفل، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يبولن أحدكم في مستحمه، ثم يغتسل فيه، ـــــــــــــــــــــــــــــ وكل ذلك من لعب الشيطان به، وقصده إياه بالأذى. والمقاعد جمع مقعده يطلق على أسفل البدن، وعلى موضع القعود لقضاء الحاجة، وكلاهما يصح إرادته، وعلى الأول الباء للإلصاق وعلى الثاني للظرفية. قال السندهي: لابد من اعتبار قيد على الأول، أي يلعب بالمقاعد إذا وجدها مكشوفة فليستتر ما أمكن –انتهى. (من فعل) أي جمع الكثيب والستر. (فقد أحسن) بإتيان السنة (ومن لا) بأن كان في الصحراء من غير ستر. (فلا حرج) أي إذا لم يره أحد، وأما عند الضرورة فالحرج على من نظر إليه. (رواه أبوداود) الخ. وأخرجه أيضاً ابن حبان والحاكم والبيهقي كلهم من طريق حصين الحبراني، قال الذهبي: لا يعرف، وقال الحافظ: مجهول، عن أبي سعيد الحبراني الحمصي التابعي، قال أبوزرعة: لا يعرف، وقال الحافظ: مجهول، وذكرهما ابن حبان في الثقات، وقال أبوزرعة: حصين الحبراني شيخ، وقال الحافظ في الفتح في حديث أبي هريرة هذا: حسن الإسناد. 354- قوله: (وعن عبد الله بن مغفل) بمعجمه وفاء مثقلة مفتوحة كمعظم ابن عبد نهم بن عفيف، يكنى أبا عبد الرحمن المزني صحابي بايع تحت الشجرة، سكن المدينة، ثم تحول إلى البصرة، قال الحسن البصري: كان أحد العشرة الذين بعثهم عمر إلينا يفقهون الناس، وكان من نقباء أصحابه، وهو أول من دخل تستر حين فتحت. له ثلاثة وأربعون حديثاً، اتفقا على أربعة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بحديث. مات سنة (57) ، وقيل: بعد ذلك. (لا يبولن أحدكم في مستحمة) بفتح الحاء وتشديد الميم، أصله الموضع الذي يغتسل فيه بالحميم، وهو الماء الحار، ثم قيل للاغتسال بأي ماء كان استحمام. وذكر ثعلب: أن الحميم يطلق أيضاً على الماء البارد من الأضداد، وفي معنى المغتسل المتوضأ، ولذا قال فيما بعد: أو يتوضأ. واختلفوا في تعيين محمل النهي، فحمله بعضهم على الأرض اللينة التي لا منفذ فيها كالبالوعة ونحوها، نظراً إلى أن البول في الرخوة يستقر موضعه، وفي الصلبة يجرى ولا يستقر، فإذا صب عليه الماء ذهب أثره بالكلية، وعكس بعضهم فحمل النهي على الأرض الصلبة، نظراً إلى أنه في الصلبة يخشى عود الرشاش بخلاف الرخوة، والأولى أن يحمل الحديث على إطلاقه، ولا يقيد المغتسل بشيء من القيود فيحترز عن البول فيه مطلقاً، فإن حصول الوسواس ليس مختصاً باللين ولا بالصلب بل قد يحصل من البول فيهما جميعاً. (ثم يغتسل فيه) ثم استبعادية يعني بعيد من العاقل أن يجمع بين ما قبلها وما بعدها، يريد أن النهي عنه ما دام مراه أن يغتسل فيه وأما إذا ترك الاغتسال فيه ويريد أن لا يعود إليه أي جعله مهجوراً من الاغتسال أو اغتسل فيه ابتداء ولم يبل فيه فلا نهي، ويجوز في "يغتسل" الرفع أي ثم

أو يتوضأ فيه، فإن عامة الوسواس منه)) رواه أبوداود والترمذي والنسائي، إلا أنهما لم يذكرا: ثم يغتسل فيه، أو يتوضأ فيه. 355- (21) وعن عبد الله بن سرجس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يبولن أحدكم في جحر)) رواه أبوداود والنسائي. 356- (22) وعن معاذ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، ـــــــــــــــــــــــــــــ هو يغتسل، والجزم بالعطف على فعل النهي، وجوز النصب بإعطاء "ثم" حكم واو الجمع. (فإن عامة الوسواس منه) أي أكثر الوسواس يحصل بسبب مجموع ما تقدم، وهو البول في المستحم أو المتوضأ، ثم الغسل أو الوضوء فيه؛ لأنه يصير ذلك الموضع نجساً فيقع في قلبه وسوسة بأنه هل أصابه منه رشاش أم لا؟ ويجوز في الواو الأولى الفتح والكسر وهو بالكسر المصدر، وبالفتح الاسم. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري. (والترمذي) وقال: غريب. (والنسائي (وأخرجه أيضاً أحمد وابن ماجه وابن حبان والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين. والضياء في المختارة. 355- قوله: (وعن عبد الله بن سرجس) بفتح المهملة، وسكون الراء وكسر الجيم، بعدها مهملة كنرجس، غير منصرف للعجمة والعلمية، هو عبد الله بن سرجس المزني حليف بني مخزوم، صحابي، سكن البصرة. له سبعة عشر حديثاً، انفرد له مسلم بحديث، روى عنه نفر من التابعين. (لا يبولن أحدكم في جحر) أي ثقب بتقديم الجيم المضمومة وسكون الحاء المهملة، كل شيء تحتفره السباع والهوام لأنفسها. وجه النهي أن الجحر مأوى الهوام وذوات السموم فلا يؤمن أن تصيبه مضرة من قبل ذلك. ويقال: إن الذي يبول في الجحر يخشى عليه عادية الجن كما عند أبي داود، والنسائي. قالوا لقتادة أي الراوى عن عبد الله بن سرجس: وما يكره البول من الجحر؟ فقال: يقال إنها مساكن الجن. (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري. (والنسائي) وأخرجه أيضاً أحمد والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين والبيهقي. قيل: إن قتادة لم يسمع من عبد الله بن سرجس، حكاه حرب عن أحمد، وأثبت سماعه منه علي بن المديني، وأبوزرعة. وقال أبوحاتم: لم يلق أحداً من الصحابة إلا أنساً وعبد الله بن سرجس، وصححه ابن خزيمة، وابن السكن. 356- قوله: (الملاعن) قال زين العرب: جمع ملعن مصدر ميمي أو اسم مكان، من لعن إذا شتم-انتهى. فعلى الأول معناه: اتقوا اللعنات أي أسبابها، أو المصدر بمعنى الفاعل يعني اجتنبوا اللاعنات أي الحاملات والباعثات على اللعن، فيصير نظيراً "اتقوا اللاعنين" مع زيادة واحد. (البراز) بالنصب على البدلية أو بتقدير أعني، والمراد به التغوط. (الموارد) جمع مورد وهو الموضع الذي يأتيه الناس من رأس عين أو نهر لشرب الماء أو للتوضئ. (وقارعة الطريق)

والظل)) رواه أبوداود وابن ماجه. 357- (23) وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتهما يتحدثان، فإن الله يمقت على ذلك)) رواه أحمد وأبوداود وابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ أي وسطه يقرعه الناس بأرجلهم ونعالهم أي يدقونه ويمرون عليه، فهي من إضافة الصفة إلى الموصوف أي الطريق المقروعة. (والظل) تقدم بيان المراد منه. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري. (وابن ماجه) وأخرجه أيضاً الحاكم كلهم من حديث أبي سعيد الحميري عن معاذ بن جبل، وصححه ابن السكن والحاكم، وقال الحافظ: وفيه نظر؛ لأن أبا سعيد لم يسمع من معاذ، ولا يعرف هذا الحديث بغير هذا الإسناد، قاله ابن القطان، وأبوسعيد مجهول. 357- قوله: (لا يخرج الرجلان) وكذا المرأتان. (يضربان الغائط) يقال: ضربت الأرض إذا أتيت الخلاء، وضربت في الأرض إذا سافرت، وقال الطيبي: قيل: نصب الغائط بنزع الخافض أي للغائط، وفي مختصر النهاية: يضرب الغائط والخلاء والأرض إذا ذهب لقضاء الحاجة، فالمعنى يمشيان لقضاء الحاجة. (كاشفين) منصوب على الحال. (عن عورتهما) ينظر كل إلى عورة صاحبه عند التغوط. (يتحدثان) حال ثانية، وقال الطيبي "يضربان ويتحدثان" صفتا الرجلان؛ لأن التعريف فيه للجنس، ويجوز أن يكونا خبرين لمبتدأ محذوف أي هما يضربان ويتحدثان استئنافاً، و"كاشفين" حال مقدرة من ضمير يضربان، ولو جعل حالاً من ضمير يتحدثان لم تكن مقدرة، وعلى هذه التقادير النهي منصب على الجميع-انتهى. ورواه ابن حبان في صحيحه بلفظ: لا يقعد الرجلان على الغائط يتحدثان، يرى كل واحد منهما عورة صاحبه، فإن الله يمقت على ذلك. وهو صريح في أن المقت على المجموع، لا على مجرد الكلام، ورواه ابن ماجه بلفظ: لا يتناجى اثنان على غائطهما، ينظر كل واحد منهما إلى عورة صاحبه، فإن الله عزوجل يمقت على ذلك، قال السندهي: الحديث يدل على منع تحدث كل واحد من المتخليين بالآخر مع نظره إلى عورة الآخر، ولا يلزم منه منع تحدث المتخلى مطلقاً، إلا أن يقال مدار المنع على كون المتكلم مخلياً، ولا دخل فيه لكون المتكلم معه متخلياً، وإنما جاء فرض المتكلم معه متخلياً من جهة أنه لا يحضر مع المتخلي في ذلك الموضع إلا مثله، وأما ذكر النظر فلزيادة التقبيح، ضرورة أن النظر حرام مع قطع النظر عن التحديث والتخلي، فليتأمل. (فإن الله يمقت) من المقت وهو البغض. (على ذلك) أي على ما ذكر، وهو كشف العورة بحضرة الآخر، والتحديث وقت قضاء الحاجة. والحديث دليل على وجوب ستر العورة، والنهي عن التحدث حال قضاء الحاجة، والأصل في النهي التحريم، وتعليله بمقت الله عليه أي شدة بغضه لفاعل ذلك زيادة في التحريم. وقيل: إن الكلام في تلك الحالة مكروه فقط، لكنه يبعد حمل النهي على الكراهة ربطه بتلك العلة. (رواه أحمد وأبوداود وابن ماجه) وهو عند الجميع من حديث عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير عن عياض بن هلال عن أبي سعيد، قال أبوداود: لم يسنده إلا عكرمة بن عمار-انتهى. وعكرمة هذا وثقه ابن معين والعجلي وغيرهما، وتكلم البخاري وأحمد

358- (24) وعن زيد بن أرقم، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن هذه الحشوش محتضرة، فإذا أتى أحدكم الخلاء، فليقل: أعوذ بالله من الخبث والخبائث)) رواه أبوداود وابن ماجه. 359- (25) وعن علي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدهم الخلاء، ـــــــــــــــــــــــــــــ وأبوداود ويحيى بن سعيد وابن حبان والنسائي في حديثه عن يحيى بن أبي كثير. وقال الحافظ: صدوق يغلط. وفي روايته عن يحيى بن أبي كثير اضطراب، ولم يكن له كتاب، وقال الشوكاني: لا وجه للتضعيف بهذا، فقد أخرج مسلم حديثه عن يحيى، واستشهد بحديثه البخاري عن يحيى أيضاً-انتهى. وعياض بن هلال مجهول. قال المنذري في الترغيب: عياض بن هلال لا أعرفه بجرح ولا عدالة، وهو في عداد المجهولين، وروى أحمد عن جابر مرفوعاً: إذا تغوط الرجلان فليتوار كل واحد منهما عن صاحبه، ولا يتحدثان، فإن الله يمقت على ذلك. وصححه ابن السكن، وابن القطان، قال الحافظ: وهو معلول. 358- قوله: (وعن زيد بن أرقم) بفتح همزة وقاف وسكون راء وبترك صرف، هو زيد بن أرقم بن زيد بن قيس الأنصاري الخزرجي، صحابي مشهور، أول مشاهده الخندق وغزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبع عشرة غزوة، وأنزل الله تصديقه في سورة المنافقين، ونزل الكوفة، له تسعون حديثاً، اتفقا على أربعة، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بستة، روى عنه جماعة مات بالكوفة سنة (66) أو (68) وهو ابن خمس وثمانين، كان من خواص علي، شهد معه صفين. (إن الحشوش) بضم الحاء المهملة وشينين معجمتين، هي الكتف ومواضع قضاء الحاجة، واحدها حش مثلث الحاء، وأصله جماعة النخل المتكاثفة، وكانوا يقضون حوائجهم إليها قبل اتخاذ الكنف في البيوت. (محتضرة) بفتح الضاد أي تحضرها الجن والشياطين يترصدون بني آدم بالأذى والفساد؛ لأنها مواضع تكشف فيه العورات وتهجر عن ذكر الله. فيتمكنون منهم في تلك المواضع ما لا يتمكنون في غيرها من المواضع. (أعوذ بالله) قد تقدم أنه - صلى الله عليه وسلم - يقول: (اللهم إني أعوذبك) . فيتخير بين الصيغتين، أو يقول هذا مرة والآخر مرة (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري (وابن ماجه) وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي وابن حبان والحاكم وابن أبي شيبة. قال الترمذي: حديث زيد بن أرقم في إسناده اضطراب، ثم بين الترمذي هذا الاضطراب، وقد أوضحه ثم رفعه شيخنا الأجل المباركفوري في شرح الترمذي فارجع إليه. 359- قوله (ستر) بفتح السين مصدر، وقيل بالكسر، وهو الحجاب (ما بين أعين الجن) قال الطيبي"ستر"مبتدأ و"ما بين" موصولة مضاف إليها وصلتها الظرف أي الفعل الذي تعلق به، وخبر المبتدأ قوله أن يقول: بسم الله. (عورات بني آدم) بسكون الواو جمع عورة (إذا دخل أحدهم الخلاء) أي وقت دخول أحد بني آدم، ثم هذا الظرف

أن يقول: بسم الله)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب وإسناده ليس بقوي. 360- (26) وعن عائشة، قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا خرج من الخلاء قال: غفرانك)) . رواه الترمذي ـــــــــــــــــــــــــــــ قيد واقعي غالبي للتكشف المحتاج إلى الستر بالبسملة المتقدمة، لا أنه احترازي، فإنه ينبغي أن يبسمل إذا أراد كشف العورة عند خلع الثوب، أو إرادة الغسل، يدل على ما قلنا من عموم الحكم ما روي عن أنس مرفوعاً: ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا وضعوا ثيابهم أن يقولوا "بسم الله"، أخرجه الطبراني في الأوسط بإسنادين أحدهما فيه محمد بن مسلمة الأموي، ضعفه البخاري وغيره، ووثقه ابن حبان وابن عدي، وبقية رجاله الموثقون. (أن يقول: بسم الله) وذلك لأن اسم الله كالطابع على بني آدم فلا يستطيع الجن فكه، قال المناوي: وقال بعض أئمة الشافعية: ولا يزيد "الرحمن الرحيم" اقتصاراً على الوارد ووقوفاً مع ظاهر هذا الخبر. ولا منافاة بين حديث على هذا وبين ما تقدم من ذكر التعوذ عند دخول الخلاء في حديث زيد بن أرقم وحديث أنس المتقدم في الفصل الأول، إذ ليس أن يقول: هذا وذاك، أحدهما تسمية الله والآخر دعاء يستعيذ به من الخبث والخبائث، ويدل على الجمع ما رواه العمري حديث أنس في التعوذ بلفظ: إذا دخلتم الخلاء فقولوا: "بسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث". قال الحافظ في الفتح: إسناده على شرط مسلم. فالجمع أفضل، ولو اكتفى بكل منهما لحصل أصل السنة. (رواه الترمذي) في آخر الصلاة، وأخرجه أيضاً ابن ماجه بإسناد الترمذي. (وإسناده ليس بقوي) ولفظ الترمذي في النسخ الموجودة: وإسناده ليس بذاك. أي ليس بالقوي؛ لأن فيه محمد بن حميد الرازي شيخ الترمذي وهو ضعيف، قال البخاري: فيه نظر، ورماه بعضهم بالكذب، وكان ابن معين حسن الرأي فيه، ووثقه أحمد وغيره، وقد صحح المناوي حديث علي هذا في شرح الجامع الصغير، ويشهد له حديث أنس عند الطبراني، وقد ذكرنا لفظه مع الكلام فيه، والترمذي نفسه قد حسن حديث محمد بن حميد الرازي في مواضع، فالظاهر أن حديث علي هذا حديث حسن إن شاء الله تعالى. 360- قوله: (إذا خرج) هذا يشعر بالخروج عن المكان كما سلف في لفظ "دخل" لكن المراد أعم منه ولو كان في الصحراء. (قال: غفرانك) أي طلب أو أسأل غفرانك. فهو منصوب على أنه مفعول به، ويحتمل أن يكون منصوباً على المصدرية أي الغفران اللائق بجنابك، أو الناشئ من فضلك بلا إستحقاق مني، فلا يرد أنه لا فائدة للإضافة، إذ لا يتصور غفران غيره هناك. قيل: إنه استغفر لتركه الذكر في تلك الحالة، لما ثبت أنه كان يذكر الله على كل أحواله إلا حال قضاء الحاجة، فجعل ترك الذكر في هذه الحالة تقصيراً وذنباً يستغفر منه، وقيل: استغفر لتقصيره في شكر نعمة الله عليه بإقداره على إخراج ذلك الخارج، فإن انحباسه من أسباب الهلاك، فخروجه من النعم التي لا تتم الصحة بدونها، وهذا أنسب ليوافق حديث أنس الآتي في آخر الفصل الثالث. (رواه الترمذي) وقال: حديث غريب

وابن ماجه والدارمي. 361- (27) وعن أبي هريرة، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أتى الخلاء أتيته بماء في تور أو ركوة، فاستنجى، ثم مسح يده على الأرض، ثم أتيته بإناء آخر، فتوضأ)) رواه أبوداود وروى الدارمي والنسائي معناه. 362- (28) وعن الحاكم بن سفيان، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا بال توضأ ونضح فرجه)) ـــــــــــــــــــــــــــــ حسن، ولا يعرف في الباب إلا حديث عائشة (وابن ماجه والدارمي) وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي في "عمل اليوم الليلة" وابن الجارود، وصححه الحاكم، وأبوحاتم وابن خزيمة وابن حبان. وقال النووي: حديث عائشة حديث حسن صحيح، وجاء في الذي يقال عقب الخروج من الخلاء أحاديث كثيرة ليس فيها شيء ثابت إلا حديث عائشة المذكور، قال: وهذا مراد الترمذي بقوله: ولا يعرف في هذا الباب إلا حديث عائشة. 361- قوله: (أتيته بماء في تور) بفتح المثناة وسكون الواو، إناء من صفر، أو حجارة يتوضأ منه ويؤكل فيه ويشرب منه. (أو ركوة) بفتح الراء وسكون الكاف، إناء صغير من جلد يشرب منه ويتوضأ، و"أو" للشك من الراوي عن أبي هريرة أو للتنويع، أي إن أبا هريرة يأتيه تارة بهذا وتارة بهذا. (ثم مسح يده على الأرض) عند غسلها مبالغة في تنظيفها وتعليماً للأمة بذلك. (ثم أتيته بإناء آخر) ليتوضأ به. (فتوضأ) بالماء، إتيانه بإناء آخر، ليس لأنه لا يجوز التوضيء بالماء الباقي من الإستنجاء، أو بالإناء الذي استنجى به، بل لأنه لم يبق من الأول شيء، أو بقى قليل غير كاف. وقال بعضهم: قد يؤخذ من هذا الحديث أنه يندب أن يكون إناء الاستنجاء غير إناء الوضوء. (رواه أبوداود) أي بهذا اللفظ وسكت عنه هو والمنذري. (وروى الدارمي والنسائي) وكذا ابن ماجه. (معناه) وأخرج النسائي وابن ماجه وابن خزيمة والدارمي عن جرير بن عبد الله نحوه. 362- قوله: (الحكم بن سفيان) وقيل: سفيان بن الحكم، وقيل: أبوالحكم بن سفيان، وقيل: عن ابن الحكم عن أبيه، وقيل: غير ذلك إلى عشرة أقوال بسطها الحافظ في تهذيب التهذيب (ج2: ص425، 426) والسيوطي في التدريب (ص95) في مثال الاضطراب في السند. قال ابن المديني والبخاري وأبوحاتم: الصحيح الحكم بن سفيان. وقال أحمد والبخاري وابن عيينة: ليست للحكم صحبة، وقال أبوزرعة وإبراهيم الحربي وابن عبد البر وغيرهم له صحبة. وقال الحافظ في التقريب: له صحبة، وذكره في الإصابة في القسم الأول من حرف الحاء، وذكره المصنف في فصل الصحابة له هذا الحديث فقط. (إذا بال توضأ) للصلاة أو ليدوم على الطهارة. (ونضح فرجه) أي رش الإزار الذي يلي الفرج

رواه أبوداود والنسائي. 363- (29) وعن أميمة بنت رقيقة، قالت: ((كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - قدح من عيدان تحت سريره يبول فيه بالليل)) رواه أبوداود والنسائي. 364- (30) وعن عمر، قال: ((رآني النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبول قائماً، فقال: يا عمر لا تبل قائماً، فما بلت قائماً بعد)) رواه الترمذي وابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ بقليل من الماء ليكون مذهباً للوسواس، ولتعليم الأمة. رواه أبوداود والنسائي) وأخرجه أيضاً أحمد وابن ماجه، وقد تقدم أن الحديث مضطرب الإسناد، وانظر علل ابن أبي حاتم (ج1: ص46) والتدريب (ص95) . 363- قوله: (وعن أميمة بنت رقيقة) بالتصغير فيهما واسم أبيها عبد الله بن بجاد التيمي، صحابية، لها أحاديث، وأمها رقيقة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى، أخت خديجة أم المؤمنين. قال ابن عبد البر: كانت أميمة من المبايعات وهي بنت خالة فاطمة الزهراء، وأميمة هذه هي غير أميمة بنت رقيقة الثقفية تلك تابعية. (كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - قدح) بفتحتين. (من عيدان) بفتح العين جمع عيدانة، وهي أطول ما يكون من النخل المتجرة من السعف، أتى بلفظ الجمع حملاً على الجنس، وضبطه بعضهم بكسر العين، جمع عود وهو الخشب، وجمع اعتباراً للأجزاء، لا أنه مركب من عيدان. (تحت سريره) أي موضوع تحت سريره. (يبول فيه بالليل) قيل: يعارضه ما رواه الطبراني في الأوسط بسند جيد من حديث عبد الله بن يزيد مرفوعاً "لا ينقع بول في طست في البيت، فإن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه بول منتقع". والجواب لعل المراد بالنقاعة طول مكثه، وما يجعل في الإناء لا يطول مكثه غالباً. وقال المغلطائي: يحتمل أن يكون أراد كثرة النجاسة في البيت بخلاف القدح فإنه لا يحصل به نجاسة لمكان آخر. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري. (والنسائي) وأخرجه أيضاً ابن حبان والحاكم، قال في عون المعبود: والحديث وإن كان فيه مقال لكنه يؤيده حديث عائشة الذي أخرجه النسائي، وحديث الأسود الذي أخرجه الشيخان، وفيهما "أنه قد دعا بالطست ليبول فيها" الحديث. لكن وقع هذا في المرض-انتهى. 364- قوله: (وأنا أبول قائماً) حالان متداخلان. (لا تبل قائماً) محمول على ما إذا لم يأمن الرشاش وهذا إن صح الحديث. (فما بلت قائماً بعد) بالبناء على الضم أي بعد هذا النهي. (رواه الترمذي) أي معلقاً. (وابن ماجه) وكذا البيهقي في السنن الكبرى كلاهما موصولاً من حديث عبد الكريم بن أبي المخارق عن نافع عن ابن عمر عن عمر، قال الترمذي: وإنما رفع هذا الحديث عبد الكريم وهو ضعيف عند أهل الحديث، قال: وروى عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: قال عمر: ما بلت قائماً منذ أسلمت. قال: وهذا أي حديث عمر الموقوف أصح من حديث عبد الكريم-انتهى. وأثر عمر هذا

365- (31) قال الشيخ الإمام محي السنة رحمه الله: قد صح عن حذيفة قال: ((أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - سباطة قوم، فبال قائماً)) متفق عليه. قيل: كان ذلك لعذر. ـــــــــــــــــــــــــــــ نقله الهيثمي في مجمع الزوائد (ج1: ص206) ونسبه للبزار، وقال: رجاله ثقات، وهو يدل على أن عمر ما بال قائماً منذ أسلم، لكن قال الحافظ في الفتح: قد ثبت عن عمر وعلي وزيد بن ثابت، وغيرهم أنهم بالوا قياماً، وهو دال على الجواز من غير كراهة إذا أمن الرشاش-انتهى. 365- قوله: (أتى سباطة قوم) بضم المهملة بعدها موحدة هي المزبلة والكناسة تكون بفناء الدار مرفقاً لأهلها، وتكون في الغالب سهلة لا يرتد فيه البول على البائل، وإضافتها إلى القوم إضافة اختصاص لا إضافة ملك؛ لأنها لا تخلوا عن النجاسة فكانت مباحة. (فبال قائماً) للتشريع وبيان الجواز، وإنما خالف النبي - صلى الله عليه وسلم - لما عرف من عادته من الإبعاد عند قضاء الحاجة لما قيل: إنه كان مشغولاً بمصالح المسلمين فلعله طال عليه المجلس حتى احتاج إلى البول، فلو أبعد لتضرر. وقيل: فعل ذلك لبيان الجواز. وقيل: إنه فعل ذلك في البول، وهو أخف من الغائط لاحتياجه إلى زيادة تكشف، ولما يقترن به من الرائحة. وقيل: إن الغرض من الإبعاد التستر، وهو يحصل بإرخاء الذيل والدنو من الساتر. والحديث يدل على جواز البول من قيام من غير كراهة وعذر. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه. (قيل: كان ذلك لعذر) اعلم أنهم اختلفوا في البول قائماً، فرخص قوم من أهل العلم في البول قائماً إذا أمن الرشاش، واستدلوا بحديث حذيفة هذا، وبحديث سهل بن سعد، وحديث عصمة بن مالك أخرجهما الطبراني، وبآثار موقوفة على عمر وعلي وزيد بن ثابت، وغيرهم، وهو القول الراجح عندنا. وقال قوم بكراهة البول قائماً إلا من عذر، واستدلوا بحديث عمر المتقدم، وقد عرفت أنه ضعيف لا يصلح للاحتياج، وبحديث عائشة الآتي في أول الفصل الثالث، وسيأتي الجواب عنه، وبحديث جابر قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبول الرجل قائماً"، رواه ابن ماجه. والجواب عنه أن في سنده عدي بن الفضل وهو متروك. وبحديث بريدة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من الجفاء أن يبول الرجل قائماً" الحديث. والجواب عنه أنه غير محفوظ، قال الترمذي: حديث بريدة في هذا غير محفوظ. وبحديث عائشة قالت: ما بال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائماً منذ أنزل عليه القرآن. أخرجه أبوعوانة في صحيحه، والحاكم. والجواب عنه أنه مستند إلى علمها فيحمل على ما وقع في البيوت، فقد ثبت أن بوله - صلى الله عليه وسلم - عند سباطه قوم كان بالمدينة كما جاء في بعض الروايات الصحيحة، قال الحافظ: وقد بينا أن ذلك كان بالمدينة، فتضمن الرد على ما نفته من أن ذلك لم يقع بعد نزول القرآن-انتهى. وقال هؤلاء: إن بوله - صلى الله عليه وسلم - قائماً كان لعذر، فقالوا: فعل ذلك لحرج في مأبضة، واستدلوا بما روى الحاكم والبيهقي من حديث أبي هريرة قال: "إنما بال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائماً لحرج كان في مأبضه"، والمأبض باطن الركبة، فكأنه لم يتمكن لأجله من القعود. قال الحافظ: لو صح هذا الحديث

{الفصل الثالث}

{الفصل الثالث} 366- (32) وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((من حدثكم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبول قائماً فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعداً)) رواه أحمد والترمذي والنسائي. 367- (33) وعن زيد بن حارثة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((إن جبرئيل أتاه في أول ما أوحى إليه ـــــــــــــــــــــــــــــ لكان فيه غنى، لكن ضعفه الدارقطني والبيهقي. وذكروا وجوهاً أخرى على الاحتمال مما لا دليل عليها ولا قرينة، ولا أثر فلا يلتفت إليها. والأظهر أنه فعل ذلك لبيان الجواز، وكان أكثر أحواله البول عن قعود. 366- قوله: (فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعداً) فيه حجة لمن كره البول قائماً إلا من عذر، فإنه يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - ما كان يبول قائماً بل كان هديه في البول القعود، والجواب عنه أن في سند حديث عائشة هذا، شريك بن عبد الله النخعي، وهو صدوق يخطئ كثيراً تغير حفظه منذ ولي قضاء الكوفة، قال الشيخ ولي الدين: هو متكلم فيه بسوء الحفظ، وعلى تقدير صحته فحديث حذيفة أصح منه بلا تردد أو تكافأ في الصحة. والجواب عنه أنه مستند إلى علمها فيحمل على ما وقع منه في البيوت، وأما في غير البيوت فلم تطلع هي عليه، وقد حفظه حذيفة، وهو من كبار الصحابة. وقيل: معنى حديث عائشة هذا أي من حدثكم أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعتاد البول قائماً فلا تصدقوه، ما كان يعتاد البول إلا قاعداً. فلا ينافي حديث حذيفة؛ لأن ما وقع منه قائما كان نادرا لبيان الجواز، والمعتاد الغالب خلافه. (رواه أحمد والترمذي) وقال: حديث عائشة أحسن شيء في هذا الباب وأصح-انتهى. وقد تقدم أن في سنده شريكاً القاضي وهو متكلم فيه بسوء الحفظ، قال الحافظ: لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في النهي عن البول قائماً شيء، كما بينته في أوائل شرح الترمذي-انتهى. فمعنى قول الترمذي هذا: أن حديث عائشة أقل ضعفاً، وأرجح مما ورد في هذا الباب. (والنسائي) وأخرجه أيضاً ابن ماجه والحاكم وقال: إنه صحيح على شرط الشيخين، قال ابن القطان: لا يقال فيه: أنه صحيح. وتساهل الحاكم في التصحيح معروف، وكيف يكون على شرط الشيخين مع أن البخاري لم يخرج لشريك بالكلية، ومسلم خرج له استشهاداً لا احتجاجاً. ثم رأيت عند الطبعة الثانية "الأحاديث الصحيحة" للشيخ الألباني، وقد حكم هو بصحة هذا الحديث لمتابعة سفيان الثوري شريك بن عبد الله بن المقدام بن شريح عند أحمد (ج6: ص136، 192، 213) وأبي عوانة في صحيحه (ج1: ص198) (والحاكم (ج1: ص181) والبيهقي (ج1: ص101) وقد وافق الذهبي للحاكم في تصحيحه، وقال في المهذب (1/22/2) : "سنده صحيح"، والأمر كما قال الألباني. 367- قوله: (وعن زيد بن حارثة) بن شراحيل الكلبي حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومولاه، يكنى أبا أسامة، وأمه سعدي بنت ثعلبة من بنى معن، خرجت أمه تزور قومها فأغارت خيل لبني القين بن جسر في الجاهلية على أبيات من بني

فعلمه الوضوء والصلاة، فلما فرغ من الوضوء، أخذ غرفة من الماء، فنضح بها فرجه)) رواه أحمد والدارقطني. 368- (34) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((جاءني جبرئيل، فقال: يا محمد إذا توضأت فانتضح)) ـــــــــــــــــــــــــــــ معن رهط أم زيد، فاحتملوا زيداً وهو يومئذٍ غلام يقال: له ثمان سنين فوافوا به سوق عكاظ فعرضوه للبيع، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بأربع مائة درهم، فلما تزوجها وهبته له فقبضه، ثم إن خبره اتصل بأهله فحضر أبوه حارثة وعمه كعب في فدائه فخيره النبي - صلى الله عليه وسلم - بين نفسه والمقام عنده، وبين أهله والرجوع، فاختار النبي - صلى الله عليه وسلم - لما يرى من بره وإحسانه إليه، فحينئذٍ خرج به النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الحجر فقال: يا من حضر! أشهدوا أن زيداً ابني يرثني وأرثه، فصار يدعى زيد بن محمد إلى أن جاء الله بالإسلام، ونزل {ادعوهم لآبائهم، هو أقسط عند الله} [33: 5) فقيل له: زيد بن حارثة. وهو أول من أسلم من الذكور بعد علي بن أبي طالب. وكان النبي أكبر منه بعشر سنين، وقيل بعشرين سنة. وزوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مولاته أم أيمن فولدت له أسامة، ثم تزوج زينب بنت جحش، ولم يسم الله تعالى في القرآن أحداً من الصحابة غيره في قوله: {فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها} [33: 37] قال أسامة بن زيد: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي: أنت مني وإلي وأحب القوم إلي. استشهد في غزوة موتة وهو أمير الجيش في جمادى الأولى سنة (8) وهو ابن (55) سنة، ونعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه في اليوم الذي قتل فيه وعيناه تذرفان. له أربعة أحاديث، روى عنه ابنه أسامة والبراء وابن عباس وغيرهم. (فعلمه الوضوء) فنزول سورة المائدة آخراً كان للتأكيد الحكم وتائيد الأمر. (فلما فرغ من الوضوء) هذا صريح في أن النضح بعد الوضوء، وأنه ليس المراد بالنضح غسل الفرج كما قيل. (أخذ غرفة) بالفتح والضم. (فنضح بها فرجه) أي إزاره حذاء فرجه، وذلك لتعليم الأمة ما يدفع الوسوسة، أو لقطع البول، فإن النضح بالماء البارد يردع البول فلا ينزل منه شيء بعد شيء. (رواه أحمد والدارقطني) وكذا ابن ماجه، وفي سندهم جميعا ابن لهيعة وفيه مقال مشهور، وأخرجه أحمد والدارقطني عن أسامة بن زيد بنحوه، وفيه رشدين بن سعد، وثقه هيثم بن خارجة، وأحمد في رواية، وضعفه آخرون. 368- قوله: (إذا توضأت) أي فرغت من الوضوء. (فانتضح) الانتضاح رش الماء على الثوب ونحوه، والمراد به أن يرش على فرجه بعد الوضوء ماء ليذهب عنه الوسواس الذي يعرض للإنسان أنه قد خرج من ذكره بلل، فإذا كان ذلك المكان بللاً ذهب ذلك الوسواس، وفي معناه أقوال أخرى لا نتعرض لها؛ لأنها لا تناسب الأحاديث الواردة في

رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. وسمعت محمداً يعنى البخاري، يقول: الحسن بن علي الهاشمي الراوي منكر الحديث. 369- (35) وعن عائشة، قالت: ((بال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام عمر خلفه بكوز من ماء، فقال: ما هذا ياعمر؟ فقال: ماء تتوضأ به. قال: ما أمرت كلما بلت أن أتوضأ، ولو فعلت لكانت سنة)) وراه أبوداود وابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا الباب. (رواه الترمذي) وأخرجه أيضاً ابن ماجه وليس فيه ذكر جبريل. (الحسن بن علي الهاشمي الراوي) أي راوي هذا الحديث الذي تفرد به، وهو ضعيف جداً، ليس له في الكتب الستة إلا هذا الحديث عند الترمذي وابن ماجه. (منكر الحديث) هذا من ألفاظ الجرح وهو أشد من قولهم "ضعيف". وكان البخاري دقيق العبارة فيما يجرح به الرواة، وأقسى ما يقول في الراوي: "منكر الحديث". وقد نقل ابن القطان من البخاري قال: من قلت فيه "منكر الحديث" فلا تحل الرواية عنه. نقله الذهبي في الميزان، فالحديث ضعيف جداً/ لكن في الباب أحاديث عديدة يدل على أن له أصلاً. 369- قوله: (بكوز من ماء) بضم الكاف، جمعه كيزان وأكواز، وهو ماله عروة من أواني الشرب، ومالا عروة له فهو كوب، وجمعه أكواب. (ما هذا) أي الكوز أي ما حملك على قيامك خلفي ولم جئتني بماء؟. (فقال ماء نتوضأ به) بعد البول الوضوء الشرعي، أو المراد به الوضوء اللغوي، وهو الاستنجاء بالماء وعليه بني الكلام أبوداود حيث أورده في باب الاستبراء، وابن ماجه فذكره في باب من بال ولم يمس ماء. (ما أمرت) أي وجوباً. (كلما بلت) بضم الباء. (أن أتوضأ) الوضوء الشرعي بعد البول، أو استنجى بالماء، وكان قد يترك ما هو أولى وأفضل تخفيفاً على الأمة، وإبقاء وتيسيراً عليهم. (ولو فعلت لكانت) أي الفعلة. (سنة) قيل: معناه لو واظبت على غسل محل البول بالماء، أو على الوضوء بعد الحدث لكان طريقة واجبة لازمة لأمتي، فيمتنع عليهم الترخص باستعمال الحجر أو ترك المحافظة على الوضوء، فتأنيث ضمير كانت لتأنيث الخبر. ويحتمل أن يكون المعنى: لكانت فعلتي سنة مؤكدة، يعني أن المراد بالسنة هو المندوب المؤكد كما هو المشهور على ألسنة الفقهاء، إذ الوجوب بمجرد المواظبة محل النظر. قال المناوى: حمل الوضوء في الحديث على المعنى اللغوي مخالف للظاهر بلا ضرورة، والظاهر كما قاله ولي العراقي، حمله على الشرعي المعهود، فأراد عمر أن يتوضأ - صلى الله عليه وسلم - عقب الحدث، فتركه - صلى الله عليه وسلم - تخفيفاً وبياناً للجواز. (رواه أبوداود وابن ماجه) وأخرجه أيضاً أحمد كلهم من رواية عبد الله بن يحيى التوأم، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن أمه، عن عائشة. وعبد الله بن يحيى ضعيف، وذكره ابن حبان في الثقات، وأم ابن أبي مليكة قال الهيثمي (ج1: ص241) : لم أر من ترجمها. ورواه أبويعلى، عن ابن أبي مليكة، عن أبيه، عن عائشة-انتهى. قلت أم عبد الله بن أبي مليكة هذه، ميمونة بنت وليد بن الحارث بن عامر بن نوفل

370-372- (36-38) وعن أبي أيوب، وجابر، وأنس، أن هذه الآية لما نزلت {فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين} . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم في الطهور، فما طهوركم؟ قالوا: نتوضأ للصلاة، ونغتسل من الجنابة، ونستنجي بالماء. فقال: فهو ذاك، فعليكموه)) رواه ابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأنصارية بنت أم ورقة ثقة، قال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج12: ص454) : هي والدة عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة روت عن عائشة، قالت: "بال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام عمر خلفه بكوز من ماء" الحديث. وروى عنها ابنها، ذكرها ابن حبان في الثقات من التابعين، وأورد لها هذا الحديث، وقد ذكرها المزي في المبهمات في أواخر الكتاب؛ لأنها لم تسم في رواية أبي داود، وابن ماجه- انتهى. 370، 371، 372- قوله: (أن هذه الآية) أي الآية. (لما نزلت فيه رجال) ضمير "فيه" لمسجد قباء، والجملة بدل من الآية. (والله يحب المطهرين) أصله المتطهرين أبدلت التاء طاء وأدغمت. (يامعشر الأنصار) المراد بهم أهل قباء كما جاء صريحاً في بعض الأحاديث، وتخصيص الأنصار بالخطاب يدل على أن غالب المهاجرين كانوا يكتفون في الإستنجاء على الأحجار. (في الطهور) بضم الطاء وكذا قوله "فما طهوركم" على الأفصح الأشهر. (فهو ذاك) أي ثناء الله عليكم أثر تطهركم البالغ، قاله الطيبي، والأظهر أن الإشارة إلى الاستنجاء فإنه أقرب مذكور ومخصوص بهم، وإلا فالوضوء والاغتسال كان المهاجرون يفعلونهما أيضاً، ورواية الحاكم الآتية صريحة في ذلك. (فعليكموه) أي الزموا الاستنجاء بالماء، وفي رواية الحاكم: فقالوا: يا رسول الله، نتوضأ للصلاة، ونغتسل من الجنابة، فقال: فهل مع ذلك غيره، قالوا: لا، غير أن أحدنا إذا خرج من الغائط أحب أن يستنجي بالماء، قال: هو ذاك، وظاهر الحديث أنهم يكتفون بالماء عن الأحجار، وهو المعروف في طرق الحديث، وأما ما رواه البزار عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل أهل قباء، فقال: إن الله يثني عليكم، فقالوا: "إنا نتبع الحجارة الماء" ففيه محمد بن عبد العزيز وقد ضعفه البخاري والنسائي وغيرهما، وهو الذي أشار بجلد مالك، وفيه أيضاً عبد الله بن شبيب وهو ضعيف، وقد روى الحاكم من حديث مجاهد عن ابن عباس أصل هذا الحديث، وليس فيه إلا ذكر الاستنجاء بالماء حسب. وحديث أبي أيوب هذا يدل على ثبوت الاستنجاء بالماء والثناء على فاعله لما فيه من كمال التطهير، قال العلماء: الاستنجاء بالماء أفضل من الحجارة، والجمع بينهما أفضل من الكل، قال الأمير اليماني: ولم نجد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه جمع بينهما. (رواه ابن ماجه) وكذا الحاكم من طريق عتبة بن أبي حكيم، عن طلحة بن نافع أبي سفيان، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، لكن قال الحافظ في التلخيص (ص41) :

373- (39) وعن سلمان، قال: ((قال بعض المشركين، وهو يستهزئ: إني لأرى صاحبكم يعملكم حتى الجزاءة. قلت أجل، أمرنا أن لا نستقبل القبلة، ولا نستنجي بأيماننا، ولا نكتفي بدون ثلاثة أحجار ليس فيها رجيع ولا عظم)) رواه مسلم وأحمد واللفظ له. 374- (40) وعن عبد الرحمن بن حسنة، قال: ((خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـــــــــــــــــــــــــــــ إسناده ضعيف. وفي الباب عن أبي هريرة أخرجه الترمذي وأبوداود وابن ماجه بسند ضعيف. وعن عويم بن ساعدة، أخرجه أحمد وابن خزيمة والطبراني والحاكم. وعن ابن عباس، أخرجه الحاكم والطبراني. وعن محمد بن عبد الله بن سلام أخرجه أحمد، وابن أبي شيبة وعبدلله بن سلام وخزيمة بن ثابت أخرج أحاديثهم الطبراني. 373- قوله: (وهو يستهزئ) أي بسلمان. (إني لأرى صاحبكم) يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -. (يعلمكم) يعني كل شيء. (حتى الخراءة) أي أدبها، وهي بكسر الخاء المعجمة والراء المهملة ممدوداً، وقيل: بفتح الخاء مع المد، اسم لفعل الحدث أي التغوط، وقيل: التخلي والقعود عند الحاجة، وقيل: المراد هيئة القعود للحدث، لكن كون المراد هيئة القعود يقتضي أن يكون بكسر الخاء وسكون الراء وهمزة كجلسة لهيئة الجلوس، قيل: ولعله بالفتح مصدر وبالسكر اسم. قال عياض: وأما الحدث نفسه فبحذف التاء وبالمد مع كسر الخاء وفتحها. (أجل) بسكون اللام أي نعم. (أمرنا) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آداب قضاء الحاجة. (أن لا نستقبل القبلة) أي ولا نستدبرها كما مر. (ولا نكتفي بدون ثلاثة أحجار) أي بأقل من ثلاثة أحجار، هذا نص صريح في أن الاقتصار على أقل من ثلاثة أحجار لا يجوز. وإن وقع الإنقاء بدونها، قال الطيبي: جواب سلمان من باب أسلوب الحكيم؛ لأن المشرك لما استهزأ كان من حقه أن يهدد أو يسكت عن جوابه، لكنه رضي الله عنه لم يلتفت إلى استهزائه، وأخرج الجواب مخرج المرشد الذي يرشد السائل المجد، يعني ليس هذا مكان الاستهزاء، بل هو جد وحق، فالواجب عليك ترك العناد والرجوع إليه، قال السندهي: والأقرب أنه رد له بأن ما زعمه سبباً للاستهزاء ليس بسبب يصرح المسلمون به عند الأعداء، وأيضاً هو أمر يحسنه العقل عند معرفة تفصيله، فلا عبرة للاستهزاء به بسبب الإضافة إلى أمر يستقبح ذكره في الإجمال، والجواب بالرد لا يسمى باسم أسلوب الحكيم. (ليس فيها رجيع ولا عظم) هذه الجملة صفة مؤكدة لأحجار مزيلة لتوهم أنها مجاز أو واردة على سبيل التغليب. (رواه مسلم وأحمد) وأخرجه أيضاً الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه. 374- قوله: (وعن عبد الرحمن بن حسنة) بفتح المهملتين ثم نون، هو عبد الرحمن بن المطاع بن عبد الله بن الغطريف أخو شرجيل بن حسنة، وحسنة أمها، صحابي، له هذا الحديث فقط، روى عنه زيد بن وهب، وذكر مسلم والأزدي، والحاكم في المستدرك، وأبوصالح المؤذن، وابن عبد البر: أنه تفرد بالرواية عنه، وأنكر العسكري تبعاً لابن

وفي يده الدرقة فوضعها، ثم جلس فبال إليها. فقال بعضهم: أنظروا إليه يبول كما تبول المرأة. فسمعه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ويحك أما علمت ما أصاب صاحب بني إسرائيل كانوا إذا أصابهم البول قرضوه بالمقاريض، فنهاهم فعذب في قبره)) ـــــــــــــــــــــــــــــ أبي خيثمة أن يكون عبد الرحمن أخا شرجيل، وقال الترمذي لما أشار إلى حديثه: يقال إنه أخو شرجيل (وفي يده الدرقة) بالفتحات الترس من جلود ليس فيه خشب ولا عصب. (فوضعها ثم جلس فبال إليها) أي جعل الدرقة حائلة بينه وبين الناس وبال مستقبلاً إليها. (فقال بعضهم: انظروا إليه) وفي رواية الأحمد قال أي عبد الرحمن بن حسنة: كنت أنا وعمرو بن العاص جالسين، فخرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه درقة أو شبهها فاستتر بها فبال جالسا قال: فقلنا: أيبول، الخ. وفي رواية الحاكم فقلت لصاحبي: ألا ترى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف يبول؟ وهذه الرواية تدل على أن القائل كان مؤمناً إلا أنه قال ذلك تعجباً لما رآه مخالفاً لما عليه عادتهم في الجاهلية، وكانوا قريبي العهد بها. (كما تبول المرأة) أي في التستر، وعليه حمل النووي فقال: إنهم كرهوا ذلك، وزعموا أن شهامة الرجل لا تقتضي التستر على هذا الحال على ما كانوا عليه في الجاهلية، وقيل في الجلوس أو فيهما، وكان شأن العرب البول قائماً. ويؤيد الثاني رواية البغوي في معجمه: فقال بعضنا لبعض: يبول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما تبول المرأة وهو قاعد. وفي معجم الطبراني: يبول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس كما تبول المرأة. (ويحلك) كلمة تقال لمن ينكر عليه فعله مع ترفق وترحم في حال الشفقة. (أما علمت ما أصاب) ما الأولى نافية دخلت عليه همزة الاستفهام للإنكار والثانية موصولة، والمراد به العذاب (صاحب بني إسرائيل) بالنصب وقيل بالرفع، أي من العذاب لنهيه عن المعروف وهو الإحتراز من البول، والتنزه عنه بقطع موضعه، ومقصوده - صلى الله عليه وسلم - بذكر صاحب بني إسرائيل لهم بيان سبب القعود في حالة البول، كأنه قال: بلت جالساً لا قائماً لئلا يصيبني شيء من البول، فاستنزهت من البول بهذا الوضع الخاص، وفي تعريضك منع عن الاستنزاه كمنع صاحب بني إسرائيل. (كانوا) أي بنو إسرائيل. (قرضوه) أي قطعوه، وكان هذا القطع مأموراً به في دينهم. (بالمقاريض) وفي رواية أبي داود: قطعوا ما أصابه البول منهم. يعني قطعوا الموضع الذي أصابه البول من ثيابهم، ففي حديث أبي موسى عند البخاري "كان إذا أصاب ثوب أحدهم قرضه"، ووقع في مسلم "جلد أحدهم" قال القرطبي: المراد بالجلد واحد الجلود التي كانوا يلبسونها. وحمله بعضهم على ظاهره، وزعم أنه من الإصر الذي حملوه، ويؤيده رواية أبي داود ففيها "كان إذا أصاب جسد أحدهم" لكن رواية البخاري صريحة في الثياب، فلعل بعضهم رواه بالمعنى، قاله الحافظ. (فنهاهم) أي صاحبهم عن القطع. (فعذب في قبره) بسبب مخالفة حكم شرعه، ونهيه عن العمل عليه وهو الاحتراز عن البول وقطع موضعه من الثوب. والمعنى تعجبك من فعلي بهذا التعريض فيه شبه إنكار وشائبة نهي عن المعروف، وهو الإستنزاه من البول

رواه أبوداود وابن ماجه. 375- (41) ورواه النسائي عنه عن أبي موسى. 376- (42) وعن مروان الأصفر، قال: ((رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة، ثم جلس يبول إليها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن أليس قد نهى عن هذا؟ قال: بل إنما نهي عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس)) رواه أبوداود. 377- (43) وعن أنس، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج من الخلاء قال: ـــــــــــــــــــــــــــــ بالبول جالساً، أى فنهيك بهذا التعريض يشبه نهى صاحب بني إسرائيل فيخاف أن يؤدي إلى العذاب كما أدى نهيه إليه. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري. (وابن ماجه) وأخرجه أيضاً أحمد، والنسائي، وابن حبان والحاكم، والبيهقي، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ومن شرط الشيخين إلى يبلغ تفرد زيد بن وهب بالرواية عن عبد الرحمن بن حسنة، قال الذهبي: رواه عدة عن الأعمش عن زيد بن وهب وهو على شرطهما. 375- قوله: (ورواه النسائي عنه) أي عن عبد الرحمن بن حسنة، وهو صحابي كما تقدم. (عن أبي موسى) فيكون رواية الصحابي عن الصحابي، لكن لم أجده في السنن الصغرى، ولعله في السنن الكبرى. 376- قوله: (وعن مروان الأصفر) بالفاء، قيل: اسم أبيه خاقان، وقيل: سالم، أبوخليفة البصري ثقة تابعي. (أناخ) أي أقعد (راحلته) الراحلة المركب من الإبل ذكراً كان أو أنثى. (يبول إليها) أي الراحلة. (أليس قد نهي عن هذا) أي عن استقبال القبلة عند قضاء الحاجة. (قال بل) للإضراب أي لا مطلقاً. (إنما نهي عن ذلك في الفضاء) بفتح الفاء أي الصحراء. (فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك) بضم التاء. (فلا بأس) قول ابن عمر هذا يدل على أن النهي عن الاستقبال والإستدبار إنما هو في الصحراء مع عدم الساترة، واستدل به من فرق بين الصحراء والبنيان، وأجاب من قال بالمنع مطلقاً بأن قول ابن عمر هذا يحتمل أنه قد علم ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويحتمل أنه قال ذلك استناداً إلى الفعل الذي شاهده ورواه، فكأنه لما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيت حفصة مستدبر القبلة فهم اختصاص النهي بالبنيان، فلا يكون هذا الفهم حجة، ولا يصلح هذا القول للاستدلال به، وأقل شيء الإحتمال فلا ينتهض لإفادة المطلوب. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري، وذكره الحافظ في التلخيص، ولم يتكلم عليه بشيء، وذكر في الفتح أنه أخرجه أبوداود والحاكم بإسناد حسن. 377- قوله: (إذا خرج من الخلاء) أي أو انتقل عن محل قضاء الحاجة الذي في الصحراء وإن لم يكن معداً فإنه

(3) باب السواك

الحمد لله الذي أذهب عنى الأذى وعافاني)) رواه ابن ماجه. 378- (44) وعن ابن مسعود، قال: ((لما قدم وفد الجن على النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا: يا رسول الله! إنْهَ أمتك أن يستنجوا بعظم أو روثة أو حممة، فإن الله جعل لنافيها رزقاً. فنهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك)) رواه أبوداود. (3) باب السواك {الفصل الأول} ـــــــــــــــــــــــــــــ يسن قول ذلك مطلقاً. (الحمد لله الذي أذهب عني الأذى) أي لمؤذي. (وعافاني) أي من احتباسه، أو من نزول الأمعة معه. وفي حمده - صلى الله عليه وسلم - إشعار بأن هذه نعمة جليلة ومنة جزيلة، فإن انحباس ذلك الخارج من أسباب الهلاك، فخروجه من النعم التي لا تتم الصحة بدونها. وحق على من أكل ما يشتهيه من طيبات الأطعمة، فسد به جوعته، وحفظ به صحته وقوته، ثم لما قضى منه وطره، ولم يبق فيه نفع واستحال إلى تلك الصفة الخبيثة المنتنة، خرج بسهولة من مخرج معد لذلك، أن يستكثر من محامد الله جل جلاله. (رواه ابن ماجه) وفيه إسماعيل بن مسلم المكي، وهو ضعيف الحديث، وأخرجه النسائي، وعبد الرزاق وسعيد بن منصور في سننه عن أبي ذر، ورمز السيوطي بصحته. 378- قوله: (إنه) بسكون النون وفتح الهاء أمر من نهى ينهى. (أو حممة) بضم الحاء وفتح الميم على وزن رطبه، الفحم وما احترق من الخشب أو العظام ونحوهما. (فإن الله جعل لنا) أي ولدوابنا. (فيها رزقا) قال القاري: قوله رزقا للجن أي انتفاعاً لهم بالطبخ والدفاء والإضاءة. (رواه أبوداود) وسكت عنه، وقال المنذري: في إسناده إسماعيل بن عياش وفيه مقال مشهور-انتهى. قلت: إسماعيل بن عياش هذا حمصي، وهو صدوق في روايته عن أهل بلده، مخلط في غيرهم، وقد روي هذا الحديث عن يحيى بن أبي عمر والسيباني الحمصي فالحديث حسن صالح للاحتجاج على النهي عن الإستنجاء بالحممة. (باب السواك) بكسر السين يطلق على الفعل، وعلى العود الذي يستاك به، والمراد هنا الأول وهو الظاهر، أو الثاني، والمراد استعماله على حذف المضاف، وقال الجزري: السواك والمسواك ما يدلك به أسنان من العيدان، يقال: ساك فاه يسوكه إذا دلكه بالسواك، فإذا لم يذكر الفم، يقال: إستاك-انتهى. قال القاري: في إفراد هذا الباب من سنن الوضوء إيماء إلى أن السواك ليس من أجزاء الوضوء المتصل به، وإشارة إلى جواز تقديم السواك على الوضوء، وأنه ليس يتعين أن يكون محله قبل المضمضة-انتهى. وينبغي أن يكون السواك من الأراك لحديث أبي الخيرة الصباحي

قال: كنت في الوفد الذين أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فزودنا الأراك نستاك به، فقلنا: يارسول الله! عندنا الجريد، ولكن نقبل كرامتك وعطيتك. وفي لفظ "ثم أمر لنا بأراك فقال: إستاكوا بهذا" أخرجه البخاري في تاريخه، والطبراني في الكبير، وأبوأحمد الحاكم في الكنى، وأبونعيم في المعرفة، ذكره الحافظ في التلخيص (ص26) وسكت عنه. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2: ص100) : إسناده حسن. ولحديث ابن مسعود، قال كنت اجتني لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سواكاً من أراك. أخرجه أبويعلى في مسنده، وابن حبان، والطبراني، وصححه الضياء في أحكامه، وأخرجه أحمد موقوفاً على ابن مسعود: أنه كان يحتني سواكاً من أراك-الحديث. ولم يقل فيه: أنه كان يجتنيه للنبي - صلى الله عليه وسلم -. ولحديث أبي زيد الغافقي رفعه: الأسوكة ثلاثة: أراك فإن لم يكن أراك، فعنم أو بطم. قال راويه: العنم الزيتون. أخرجه أبونعيم في معرفة الصحابة. فإن تعذر الأراك فقيل: الأفضل الزيتون، لحديث أبي زيد الغافقي، ولحديث معاذ بن جبل رفعه: نعم السواك الزيتون من شجرة مباركة، تطيب الفم، وتذهب بالحفر، وهو سواكي وسواك الأنبياء قبلي. أخرجه أبونعيم في كتاب السواك، والطبراني في الأوسط. قال الهيثمي: فيه معلل بن محمد، ولم أجد من ذكره، وقيل: الأفضل عند عدم الأراك جريدة النخل لحديث عائشة في قصة سواك عبد الرحمن بن أبي بكر أنه كان جريدة رطبة، ووقع في مستدرك الحاكم: أنه كان من أراك رطب، فالله أعلم، فإن تعذرت إستاك بما تيسر مما يزيل التغير والصفرة، فإن تعذر، أو كان مقلوع الأسنان أجزأ السواك بالإصابع، لما روى في ذلك من حديث أنس عند ابن عدي والدارقطني والبيهقي، وفي إسناده نظر، ومن حديث عائشة عند أبي نعيم والطبراني وابن عدى، وفيه المثنى بن الصباح، وهو ضعيف اختلط بآخره ومن حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه عن جده عند أبي نعيم، والطبراني في الأوسط، وكثير ضعفوه. ومن حديث علي عند أحمد في مسنده، وهو أصح مما تقدم: أنه دعا بكوز من ماء فغسل وجه وكفيه ثلاثاً، وتمضمض فأدخل بعض أصابعه في فيه-الحديث. وفي آخره "هذا وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". ومن حديث عائشة أيضاً عند الطبراني في الأوسط قالت: قلت: يارسول الله! الرجل يذهب فوه يستاك؟ قال: نعم! قلت: كيف يصنع؟ قال: يدخل إصبعه في فيه فيدلكه، وفيه عيسى بن عبد الله الأنصاري وهو ضعيف. وأما الأبراش التي تعمل في معامل أوروبا أو غيرها لتصفية الأسنان وتنقيتها فالاحتراز منها أولى وأحوط عندي، فإن أكثرها كما قيل تصنع من أشعار الخنازير إلا أن يعلم أنها عملت من غيرها مما يؤكل لحمه. وينبغي أن يستاك على الأسنان عرضاً لئلا يدمى لحم لسانه، وفيه حديث مرفوع رواه أبوداود في مراسيله من طريق عطاء بلفظ: إذا استكتم فاستاكوا عرضاً. وروى البغوي والعقيلي والطبراني والبيهقي وغيرهم من حديث سعيد بن المسيب عن بهز قال "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستاك عرضاً" الحديث. وفي إسناده ثبيت بن كثير، وهو ضعيف، واليمان بن عدى، وهو أضعف منه، وأما اللسان فيستاك طولاً كما في حديث أبي موسى عند الشيخين، ولفظ أحمد "وطرف السواك على لسانه يستن إلى فوق" قال الراوي: كأنه يستن طولاً.

379- (1) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بتأخير العشاء، وبالسواك عند كل صلاة)) ـــــــــــــــــــــــــــــ 379- قوله: (لولا أن أشق على أمتي) أي لولا خشية المشقة عليهم. (لأمرتهم) أي أمر إيجاب وإلا فالندب ثابت، وفيه دلالة على أن مطلق الأمر للإيجاب. (بتأخير العشاء) أي إلى ثلث الليل أو نصف الليل. (وبالسواك) أي باستعماله إن كان المراد به الآلة، وإن كان المراد به الفعل فلا تقدير. (عند كل صلاة) فريضة أو نافلة، وهذا لفظ مسلم، وكذا وقع عند الترمذي وأبي داود والنسائي وابن ماجه، ووقع في رواية البخاري في الجمعة "مع كل صلاة"، وحقيقة كلمة مع وعند فيما اتصل حساً أو عرفاً فيدل على كون السواك سنة عند الصلاة أيضاً خلافاً لمن لم يجعله من سنن الصلاة نفسها، فربما يفضي إلى حرج. ورد هذه السنة الصحيحة الصريحة بتعليلات واهية منها أنه مظنة جراحة اللثة وخروج الدم، وهو ناقض عند الحنفية، فربما يفضي إلى حرج. وفيه أن هذا تعليل في مقابلة النص فلا يلتفت إليه، على أنه مبنى على كون خروج الدم من غير السبيلين ناقضاً للوضوء، ولم يثبت ذلك كما تقدم، ولو سلم فمن يخاف ذلك فليستعمل بالرفق على نفس الأسنان واللسان دون اللثة، ومنها أنه لا ينبغي عمله في المساجد؛ لأنه من إزالة المستقذرات. وفيه أن هذا التعليل أيضاً مردود. قال الشيخ محمد طاهر الفتني الحنفي في مجمع البحار (ج2: ص158) : لأن الحديث دل على استحبابه لكل صلاة، فكيف بمن هو في الصف الأول ينتظر الصلاة، هل يخرج إذا أقيمت أو يترك الصلاة فيخالف الحديث، أو يستاك قبل الدخول فلا يكون استاك عند الصلاة، وقوله "من المستقذرات" معارض بأنه عبادة، والمفروض فيما إذا لم يحصل بصاق ولا تفل، انتهى. وقال العلامة العظيم آبادي في غاية المقصود: ولا نسلم أنه من إزالة المستقذرات، كيف وقد كان زيد بن خالد الجهني يشهد الصلوات في المسجد وسواكه على أذنه موضع القلم من أذن الكاتب لا يقوم إلى الصلاة إلا استن، ثم رده إلى موضعه؟. (وسيأتي هذا الحديث) وروى الخطيب في كتاب أسماء من روى عن مالك من طريق يحيى بن ثابت، عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - سوكهم على آذانهم يستنون بها لك صلاة. وروى ابن أبي شيبة عن صالح بن كيسان: أن عبادة بن الصامت وأصحاب رسول الله كانوا يروحون والسواك على آذانهم. ومنها أنه لم يرو أنه عليه الصلاة والسلام استاك عند قيامه إلى الصلاة، فيحمل قوله "لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" على كل وضوء صلاة، بدليل ما في بعض الروايات من قوله: عند كل وضوء، وفيه أنه من البعيد كل البعد أن يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمة بالسواك عند الصلاة، ويؤكده عليهم، ولا يفعل ذلك هو بل يترك، مع أنه ثبت عمله بذلك، فقد روى الطبراني في الكبير عن زيد بن خالد الجهني، قال: ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج من بيته لشيء من الصلوات حتى يستاك، قال الهيثمي: رجاله موثقون، انتهى. ومن المعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - ما كان يخرج بعد سماع الأذان إلا عند إقامة الصلاة، فكان استياكه في البيت عند قيامه إلى الصلاة، وليس بين الروايتين تعارض حتى تحمل رواية الصلاة على الوضوء، بل يقال:

متفق عليه. 380- (2) وعن شريح بن هانئ، قال: ((سألت عائشة: بأي شيء كان يبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ إن كلا منهما سنة. قال القاري: قال بعض علمائنا من الصوفية في نصائحه العبادية: ومنها مداومة السواك لا سيما عند الصلاة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة، أو عند كل صلاة. رواه الشيخان. وروى أحمد: أنه عليه السلام قال: صلاة بسواك أفضل من سبعين صلاة بغير سواك، والباء للإلصاق أو المصاحبة، وحقيقتهما فيما اتصل حساً أو عرفاً، وكذا حقيقة كلمة "مع" و"عند". والنصوص محمولة على ظواهرها إذا أمكن، وقد أمكن ههنا فلا مساغ إذا على الحمل على المجاز، أو تقدير مضاف، كيف وقد ذكر السواك عند نفس الصلاة في بعض كتب الفروع المعتبرة. قال في التتارخانية نقلاً عن التتمة: ويستحب السواك عندنا عند كل صلاة، ووضوء، وكل شيء يغير الفم، وعند اليقظة-انتهى. وقال الفاضل المحقق ابن الهمام في شرح الهداية: ويستحب في خمسة مواضع: اصفرار السن، وتغير الرائحة، والقيام من النوم، والقيام إلى الصلاة وعند الوضوء –انتهى. والسر في كون السواك سنة عند القيام إلى الصلاة أنها حال تقرب إلى الله، فاقتضى أن يكون حال كمال ونظافة إظهاراً لشرف العبادة، وقد ورد من حديث علي عند البزار بسند رجاله ثقات، ما يدل على أنه لأمر يتعلق بالملك الذي يستمع القرآن من المصلي، فلايزال يدنو منه حتى يضع فاه على فيه فيتأذى بالرائحة الكريهة، فسن السواك لأجل ذلك. وقيل: لأنه يقطع البلغم، ويزيد في الفصاحة، وتقطيع البلغم مناسب للقراءة لئلا يطرأ عليه فيمنعه القراءة وكذا الفصاحة. (متفق عليه) فيه أن الشيخين أخرجا فضل السواك فقط، نعم أخرج الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه الفضلين، قال ابن مندة: إسناد الحديث مجمع على صحته. 380- قوله: (وعن شريح) بضم الشين المعجمة. (بن هانئ) بالهمزة، هو شريح بن هانئ بن يزيد الحارثي المذحجي أبوالمقدام الكوفي، أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يره، وكان من أصحاب علي، وشهد معه المشاهد، وكان ثقة، وله أحاديث ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل الكوفة، وذكر مسلم في المخضرمين، وكان على شرطة علي رضي الله عنه، قتل بسجستنان مع عبيد الله بن أبي بكرة. سنة (78) . (بالسواك) أي يبدأ به وفيه بيان فضيلة السواك في جميع الأوقات، وشدة الإهتمام به وتكراره لعدم تقييده بوقت الصلاة والوضوء؛ لأن دخول البيت لا يختص بوقت دون وقت فكذا السواك، ولعله إذا انقطع عن الناس يستعد للوحي، وقيل: كان ذلك لاشتغاله بالصلاة النافلة في البيت، وقيل: لأنه ربما يتغير رائحة الفم بمحادثة الناس فمن حسن معاشرة الأهل إزالته. (رواه مسلم) وأخرجه أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه.

381- (3) وعن حذيفة، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ قام للتهجد من الليل يشوص فاه بالسواك)) متفق عليه. 382- (4) وعن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، ـــــــــــــــــــــــــــــ 381- قوله: (إذا قام للتهجد من الليل يشوص فاه) بضم المعجمة وسكون الواو بعدها مهملة، أي يدلك أسنانه وينقيها وينظفها. (بالسواك) ؛ لأن النوم مقتض لتغير الفم لما يتصاعد إليه من أبخرة المعدة، والسواك ينظفه. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الطهارة، وفي صلاة الجمعة، وفي صلاة الليل، ومسلم في الطهارة، وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه. 382- قوله: (عشر) مبتدأ بتقدير عشرة خصال، أو عشرة أفعال أو خصال عشرة، أو أفعال عشرة، وقوله "من الفطرة" خبر له، أو صفة ما بعده خبر. ورواية الخمس لا تنفي الزيادة إذ لا مفهوم للعدد. (من الفطرة) بكسر الفاء بمعنى الخلقة، والمراد ههنا السنة أي من السنن القديمة التي اختارها الله تعالى للأنبياء الذين أمرنا أن نقتدي بهم فكأنها أمر جبلي فطروا عليه. (وقص الشارب) أي إحفاءه حتى بيد وحمرة الشفة العليا، لقوله: أحفوا الشوارب في حديث ابن عمر عند الشيخين، والإحفاء هو الإستيصال. وقيل: هو مخير بين الإحفاء والقص أي القطع. والشارب هو الشعر النابت على الشفة العليا. (وإعفاء اللحية) أي توفيرها وتكثيرها وإرسالها. وأما الأخذ من طولها أو عرضها شيئاً للتناسب، ولئلا يصل إلى حد الشهرة فقد جوزه بعض السلف. واللحية شعر الخدين والذقن. وسيأتي الكلام مفصلاً في قص الشارب وإحفاء اللحية، والختان في باب الترجل إن شاءالله تعالى. (واستنشاق الماء) أي مع الاستنثار، وهو يحتمل حمله على ما ورد فيه الشرع باستحبابه من الوضوء والاستيقاظ وعلى مطلقه، وعلى حال الاحتياج باجتماع الأوساخ في الأنف، وكذا السواك يحتمل كلا منهما كذا في المجمع. (وقص الأظفار) جمع ظفر، والمراد قطع ما يزيد على ما يلابس رأس الإصبع من الظفر؛ لأن الوسخ يجتمع فيه فيستقذر، وقد ينتهي إلى حد يمنع من وصول الماء إلى ما يجب غسله في الطهارة. (وغسل البراجم) بفتح الباء وكسر الجيم جمع "برجمة" بضم الباء والجيم. وهي عقد الأصابع ومعاطفها ومفاصلها. ونبه بها على ما عداها من المواضع التي يجتمع فيها الوسخ فينظف كلها. (ونتف الابط) بالسكون وبكسر أي أخذ شعره بالأصابع؛ لأنه يضعف الشعر، وهل يكفي الحلق والنوير في السنة؟ فيه اختلاف، فمن نظر إلى المعنى وهو النظافة أجازه بكل مزيل، وقال: يكفي الحلق والتنوير، ويتأدى أصل السنة بذلك، لاسيما من يؤلمه النتف، ومن نظر إلى اللفظ وقف مع النتف وهو في الابتداء موجع، ولكن يسهل على من اعتاده. والحكمة في تخصيص الإبط

وحلق العانة، وانتقاض الماء- يعني الاستنجاء- قال الراوي: ونست العاشرة إلا أن تكون المضمضة)) وراه مسلم. وفي رواية "الختان" بدل "إعفاء اللحية". لم أجد هذه الرواية في الصحيحين، ولا في كتاب الحميدي. ـــــــــــــــــــــــــــــ بالنتف أنه محل الرائحة الكريهة باحتباس الأبخرة عند المسام، والنتف يضعف أصول الشعر، والحلق يقويها، وقد جوز الحلق لمن لا يقدر على النتف. (وحلق العانة) هو الشعر الذي فوق القبل من ذكر أو أنثى، أو منبته، وقيل: هو الشعر النابت حول حلقة الدبر، فتحصل من مجموع هذا استحباب حلق جميع ما على القبل والدبر وما حولهما، وقيل يستحب للمرأة النتف. وروى ابن ماجه عن أم سلمة: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا طلى بدأ بعورته، فطلاها بالنورة وسائر جسده أهله، رجاله ثقات، وهو منقطع، حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من أم سلمة، قاله أبوزرعة. (واتقاص الماء) بالقاف والصاد المهملة على المشهور. (يعني الاستنجاء) بالماء، هذا التفسير من وكيع، أحد رواة الحديث كما بينه قتيبة في رواية مسلم، وقيل: معناه انتقاص البول بالماء، وهو أن يغسل ذكره بالماء ليرتد البول بردع الماء، ولو لم يغسل نزل منه شيء فشيء فيعسر الاستبراء منه، فالماء على تفسير وكيع المستنجى به، وعلى القول الثاني البول، فالمصدر مضاف إلى المفعول، وإن أريد به الماء المستنجى به أي المغسول به فالإضافة إلى الفاعل، أي وانتقاص الماء البول، وانتقص لازم ومتعد. وقيل: معناه انتفاض الماء بالفاء والضاد المعجمة والمهملة أيضاً، وهو الانتضاح بالماء على الذكر بعد الوضوء لنفي الوسواس، وهذا أقرب؛ لأن في حديث عمار عند أبي داود وابن ماجه بدله "والانتضاح". (قال الراوي) هو مصعب بن شيبة. (إلا أن تكون المضمضة) قال ابن الملك: لأن المضمضة والاستنشاق يذكران معاً، وهو استثناء مفرغ، قال ابن حجر ضمن "نسي" معنى النفي؛ لأن الترك موجود في ضمن كل، أي لم أنذكر فيما أظن شيئاً يتم الخصال به عشر، إلا أن يكون مضمضة، انتهى. وقال السندهي: أي نسيت العاشرة كل وقت إلا وقت كونها المضمضة، أو على كل تقدير إلا على تقدير أن تكون المضمضة، يريد أنه يظن أن العاشرة هي المضمضة، فإن كانت هي المضمضة في الواقع فهو غير ناس للعاشر، وإلا فهو ناس لها، فهذا استثناء مفرغ من أعم الأوقات أو التقديرات كما قدرنا، انتهى. قال عياض: هذا شك من مصعب فيها، ولعلها الختان المذكور مع الخمس في حديث أبي هريرة، أي الآتي في الترجل، وتبعه النووي والقرطبي. (رواه مسلم) في الطهارة، وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي في الأدب وحسنه، وأبوداود في الطهارة والنسائي في الزينة، وابن ماجه في الطهارة، وفي سندهم جميعاً مصعب بن شيبة، قال الحافظ: وثقه ابن معين، والعجلي، وغيرهما، ولينه أحمد وأبوحاتم وغيرهما، فحديثه حسن، وله شواهد في حديث أبي هريرة وغيره، فالحكم بصحته من هذه الحيثية سائغ انتهى. (وفي رواية الختان) هو قطع الجلدة التي تغطي الحشفة. (بدل) بالنصب. (إعفاء اللحية) برفع "إعفاء" على الحكاية، وقيل بالجر على الإضافة. (لم أجد هذه الرواية) أي رواية الختان التي ذكرها البغوي في المصابيح.

{الفصل الثاني}

383- (5) ولكن ذكرها صاحب "الجامع، وكذا الخطابي في "معالم السنن" عن أبي داود برواية عمار بن ياسر. {الفصل الثاني} 384- (6) عن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب)) ـــــــــــــــــــــــــــــ 383- قوله: (ولكن ذكرها) أي هذه الرواية (صاحب الجامع) أي للأصول وهو ابن الأثير. (وكذا) أي ذكرها. (الخطابي في معالم السنن) الذي شرح به سنن أبي داود. (عن أبي داود) متعلق بذكرها المذكور. (برواية عمار ابن ياسر) أي لا برواية عائشة، كأنه اعتراض على البغوي حيث ذكر رواية الختان في الصحاح مع أنها ليست في الصحيحين، ولا في أحدهما، وهو مخالف لما وعد في أول كتابه. والجواب أن ذلك في مقاصد الباب والأصول، دون ما ذكر من اختلاف ألفاظ الحديث ونحوها مما يشمل الفائدة، ورواية عمار هذه أخرجها أيضاً ابن ماجه، وصححها ابن السكن، وهي معلولة؛ لأنها إما مرسلة، أو منقطعة. وعمار بن ياسر، هو عمار بن ياسر بن مالك العنسي، أبواليقظان مولى بني مخزوم وحليفهم، وذلك أن ياسراً والد عمار قدم من اليمن مكة مع أخوين له يقال بهما: الحارث ومالك في طلب أخ لهم رابع، فرجع الحارث ومالك إلى اليمن، وأقام ياسر بمكة، فحالف أبا حذيفة بن المغيرة، فزوجه أبوحذيفة أمة له يقال لها: سمية فولدت له عماراً، فأعتقه أبوحذيفة، فعمار مولى وأبوه حليف، أسلم عمار وأبوه قديماً، وكانا من المستضعفين الذين عذبوا بمكة ليرجعوا عن الإسلام. وقتل أبوجهل سمية، فهي أول شهيدة في الإسلام، وأحرق المشركون عماراً بالنار، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمر به فيمر يده عليه ويقول: يا نار كوني برداً وسلاماً على عمار كما كنت على إبراهيم، وهو من المهاجرين الأولين، شهد بدراً والمشاهد كلها، وأبلى فيها، وسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - الطيب المطيب. قتل بصفين وكان مع علي بن أبي طالب سنة (37) وهو ابن (93) سنة، ودفن هناك بصفين، وتواترت الروايات عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لعمار: تقتلك الفئة الباغية، ومناقبه وفضائله كثيرة جداً، روي له اثنان وستون حديثاً، اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بحديث، روى عنه جماعة منهم علي وابن عباس. 384- قوله: (السواك مطهرة للفم) بفتح الميم وكسرها لغتان، والفتح أفصح، والكسر أشهر، وهو كل آلة يتطهر بها، والسواك بمعنى العود الذي يدلك به الأسنان، لاشك في كونه آلة لطهارة الفم بمعنى نظافته. (مرضاة للرب) بفتح ميم وسكون راء، والمراد أنه آلة لرضا الله تعالى، باعتبار أن استعماله سبب لذلك، وقيل: مطهرة ومرضاة بفتح ميم كل منهما مصدر بمعنى اسم الفاعل، أي مطهر للفم، ومُرضٍ للرب، أوهما باقيان على المصدرية أي سبب للطهارة والرضا. وجاز

رواه الشافعي وأحمد والدارمي والنسائي، ورواه البخاري في "صحيحه" بلا إسناد. 385- (7) وعن أبي أيوب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أربع من سنن المرسلين، الحياء – ويروى الختان – والتعطر، والسواك، والنكاح)) رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يكون مرضاة بمعنى المفعول أي مرضى للرب. قال السندهي: والمناسب بهذا المعنى أن يراد بالسواك: استعمال العود لا نفس العود، إما على ما قيل: إن اسم السواك قد يستعمل بمعنى استعمال العود أيضاً، أو على تقدير المضاف، ثم لا يخفى أن المصدر إذا كان بمعنى اسم الفاعل يكون بمعنى اسم الفاعل من ذلك المصدر لا من غيره، فينبغي أن يكون ههنا مطهرة ومرضاة بمعنى طاهر وراض لا بمعنى مطهر ومُرض، ولا معنى لذلك فليتأمل، ثم المقصود من الحديث، الترغيب في استعمال السواك وهذا ظاهر. (رواه الشافعي) وأخرجه أيضاً ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبيهقي، وقد طول الحافظ الكلام فيه في التلخيص (ص21) فارجع إليه. (ورواه البخاري في صحيحه) في كتاب الصيام. (بلا إسناد) أي تعليقاً بصيغة جزم، فقال: وقالت عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب" وتعليقات البخاري المجزومة صحيحة قاله المنذري، والصواب أن يقول المصنف: ذكره البخاري تعليقاً، أو يقول: علقه البخاري فإنه لا يقال في مثل هذا "رواه البخاري تعليقاً". 385- قوله: (أربع من سنن المرسلين) يعني من طريقتهم، والمراد الرسل من البشر، قال المناوى: والمراد أن الأربع من سنن غالب الرسل، فنوح لم يختتن، وعيسى لم يتزوج. (الحياء) بفتح المهملة بعدها تحتية، يعني به ما يقضي الحياء من الدين كستر العورة، والتنزه عما تأباه المروءة، ويذمه الشرع من الفواحش وغيرها، لا الحياء الجبلي نفسه، فإنه مشترك بين الناس، وإنه خلق غزيري لا يدخل في جملة السنن، قاله التوربشتي. (ويروى الختان) أي بخاء معجمة ومثناة فوقية. ونون، وهو من سنة الأنبياء من لدن إبراهيم عليه السلام إلى زمن نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهذه الرواية أنسب لحديث عمار المتقدم، وحديث أبي هريرة الآتي في الترجل، فإنه ذكر فيهما "الختان من خصال الفطرة". ويروى الحناء بمهملة ونون مشددة، وهذه الرواية غير صحيحة، ولعلها تصحيف؛ لأنه يحرم على الرجال خضاب اليد والرجل تشبهاً بالنساء، وأما خضاب الشعر به فلم يكن قبل نبينا - صلى الله عليه وسلم - فلا يصح إسناده إلى المرسلين. (والتعطر) أي استعمال العطر وهو الطيب في البدن والثياب. (رواه الترمذي) في أول النكاح وحسنه. قال شيخنا في شرح الترمذي: في تحسين الترمذي هذا الحديث نظر، فإنه تفرد به أبوالشمال بن ضباب، وهو مجهول، إلا أن يقال: إن الترمذي عرفه، ولم يكن عنده مجهولاً، أو يقال: إنه حسنة لشواهده، فروى نحوه عن غير أبي أيوب، قال الحافظ في التلخيص بعد ذكر حديث أبي أيوب هذا: رواه

{الفصل الثالث}

386- (8) وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرقد من ليل ولا نهار فيستيقظ، إلا يتسوك قبل أن يتوضأ)) رواه أحمد وأبوداود. 387- (9) وعنها، قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستاك، فيعطيني السواك لأغسله فأبدأ به فأستاك، ثم أغسله وأدفعه إليه)) رواه أبوداود. {الفصل الثالث} 388- (10) عن ابن عمر: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أراني في المنام ـــــــــــــــــــــــــــــ أحمد والترمذي. ورواه ابن أبي خيثمة من حديث مليح بن عبد الله عن أبيه عن جده نحوه، ورواه الطبراني من حديث ابن عباس انتهى. 386- قوله: (لا يرقد) بضم القاف أي لا ينام. (من ليل) أي بعض ليل أو في الليل. (فيستيقظ) يجوز فيه الرفع للعطف، ويكون النفي منصباً عليهما معاً، والنصب جواباً للنفي؛ لأن الاستيقاظ مسبوق بالنوم؛ لأنه مسبب عنه، قاله الطيبي. (إلا يتسوك) ؛ لأن النوم يغير الفم فيتأكد السواك عند الاستيقاظ منه إزالة لذلك التغير. (رواه أحمد وأبوداود) وسكت عنه، وفي سنده علي بن زيد بن جدعان، قال الترمذي: صدوق إلا أنه ربما يرفع الشيء الذي يوقفه غيره، وقال الحافظ في التلخيص بعد ذكر هذا الحديث: وعلي ضعيف. وفي استحباب السواك عند الاستيقاظ من النوم أحاديث متعددة، ذكرها الحافظ في التلخيص مع الكلام عليها. 387- قوله: (لأغسله) للتليين، أو للتطيب والتنظيف. قال ابن حجر: يؤخذ منه أن غسل السواك في أثناء التسوك به وبعده قبل وضعه سنة. (فأبدأ به) أي باستعماله قبل الغسل لنيل البركة، ولا أرضى أن يذهب بالماء ما صحبه السواك من ماء أسنانه. (فأستاك) أي قبل الغسل أستاك به تبركاً، وهذا دال على عظيم أدبها، وكبير فطنتها؛ لأنها لم تغسله ابتداء حتى لا يفوتها الاستشفاء بريقه، ثم غسلته تأدباً وامتثالاً، وفيه التبرك بآثار الصالحين، والتلذذ بها. وفيه أن استعمال سواك الغير برضاه جائز. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري. 388- قوله: (أراني) بفتح الهمزة من الرؤية أي أرى نفسي، فالفاعل والمفعول للمتكلم، وهذا من خصائص أفعال القلوب، وأصله رأيت نفسي، وعدل إلى المضارع لحكاية الحال الماضية. (في المنام) هذا لفظ مسلم، وهو صريح في أن القضية كانت في المنام، وأخرجه أحمد والبيهقي بلفظ: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستن فأعطاه أكبر القوم، ثم قال: إن جبرئيل أمرني أن أكبر، وهذا يقتضي أن تكون القضية وقعت في اليقظة، ويشهد لرواية أحمد والبيهقي، وما رواه أبوداود بإسناد حسن عن عائشة أعني الذي ذكره المصنف بعد حديثين، ويجمع بين الروايتين أن ذلك لما وقع في اليقظة

أتسوك بسواك، فجاءني رجلان أحدهما أكبر من الآخر، فناولت السواك الأصغر منهما، فقيل لي: كبر، فدفعته إلى الأكبر منهما)) متفق عليه. 389- (11) وعن أبي أمامة، أن رسول الله قال: ((ما جاءني جبرئيل عليه السلام قط إلا أمرني بالسواك، لقد خشيت أن أحفي مقدم فِيَّ)) رواه أحمد. 390- (12) وعن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لقد أكثرت عليكم في السواك)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ أخبرهم - صلى الله عليه وسلم - بما رآه في المنام، تنبيهاً على أن أمره بذلك بوحي متقدم، فحفظ بعض الرواة ما لم يحفظ بعض (أحدهما أكبر من الآخر) أي سناً. (فناولت السواك) أي أردت إعطاء السواك. (الأصغر منهما) لعله لقربه، أو لأنه - صلى الله عليه وسلم - عدا السواك شيئاً حقيراً. (كبر) أي قدم الكبير على الصغير في مناولة السواك، أي ادفع إلى الأكبر، والظاهر أنهما كانا في أحد جانبيه، أو في يساره، قال القاري: وهو الأنسب، فأراد تقديم الأقرب، فأمر بتقديم الأكبر، فلا ينافي حديث ابن عباس أو الأعرابي في إيثاره بسؤره - صلى الله عليه وسلم - من اللبن لكونه على اليمين، على الأشياخ من أبي بكر، وعمر وغيرهما لكونهم على اليسار-انتهى. وفيه ما يدل على فضيلة السواك. (متفق عليه) أخرجه البخاري بلا رواية في آخر الوضوء، ولم يذكر في المنام، وأخرجه مسلم رواية في الرؤيا، وأخرجه أيضاً أحمد وأبوعوانة والبيهقي وغيرهم. 389- قوله: (أحفي) من الإحفاء وهو الاستيصال. (مقدم فِيَّ) بكسر الفاء وتشديد الياء، أي فمى، والمراد من مقدم الفم هي اللثة، بكسر اللام وتخفيف المثلثة، وما حول الأسنان من اللحم، يعني خفت أن استأصل لثتي من كثرة مداومتي على السواك بسبب إكثار جبرئيل في الوصية. (رواه أحمد) (ج5: ص263) وفي سنده علي بن يزيد الألهاني، وهو ضعيف، أخرجه ابن ماجه مطولاً، وفيه عثمان بن أبي العاتكة عن علي بن يزيد الألهاني، وعثمان متروك، قال الحافظ في التقريب: ضعفوه في روايته عن علي بن يزيد الألهاني، وروي نحوه عن ابن عباس وأنس وسهل بن سعد وعائشة، ذكر أحاديثهم الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2: ص98، 99) مع الكلام عليها. 390- قوله: (لقد أكثرت عليكم) بصيغة المعلوم، أي أكثرت عليكم الأمر والوصية في حق السواك. وقال الحافظ: أي بالغت في تكرير طلبه منكم، أو في إيراد الأخبار في الترغيب فيه. وقال ابن التين: معناه أكثرت عليكم، وحقيق أن أفعل، وحقيق أن تطيعوا. وحكى الكرماني أنه روى "أكثرت" بصيغة الماضي المجهول، أي بولغت من عندالله بطلبه منكم. (في السواك) أي في أمره وشأنه. وفائدة هذا الكلام مع كونهم عالمين به إظهار الاهتمام بشأنه. وقال السندهي: هذا بمنزلة التأكيد لما سبق من التكرير لمن علم به سابقاً، وبمنزلة التكرير والتأكيد جميعاً لمن لم يعلم به. (رواه البخاري) في الجمعة، وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي في أول سننه.

391- (13) وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستن وعنده رجلان، أحدهما أكبر من الآخر، فأوحي إليه في فضل السواك أن كبر، أعط السواك أكبرهما)) رواه أبوداود. 392- (14) وعنها، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تفضل الصلاة التي يستاك لها على الصلاة التي لا يستاك لها سبعين ضعفاً)) رواه البيهقي في شعب الايمان. 393- (15) وعن أبي سلمة: ـــــــــــــــــــــــــــــ 391- قوله: (يستن) بفتح الياء وسكون المهملة وفتح التاء وتشديد النون من الاستنان، وهو استعمال السواك، من السن بالكسر؛ لأن السواك يمر على الأسنان، وقيل: من السن بالفتح؛ لأن السواك يسن الأسنان أي يحددها، يقال: سننت الحديد أي حككته على الحجر حتى يتحدد، والمسن بكسر الميم، الحجر الذي يحد به السكين. (أحدهما أكبر من الآخر) أي سناً. (فأوحي) بصيغة المجهول. (إليه) أي من غير أن يميل إلى الآخر، فيكون تأكيداً للوحي المنامي. (أن كبر) بصيغة الأمر نائب فاعل أوحي، أي أوحي إليه أن فضل السواك وحقه أن يقدم من هو أكبر، وفيه تقديم ذي السن في السواك، ويلتحق به الطعام، والشراب، والمشي، والكلام، والركوب، وهذا ما لم يترتب القوم في الجلوس، فإذا ترتبوا فالسنة حينئذٍ تقديم الأيمن، كما أشرنا إليه في شرح حديث ابن عمر. (أعط السواك أكبرهما) الظاهر أن هذا تفسير من أحد الرواة، ويحتمل أن يكون من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -. (رواه أبوداود) بسند حسن كما قال الحافظ في الفتح والتلخيص. وقال المنذري: وأخرج مسلم معناه من حديث ابن عمر مسنداً، وأخرجه البخاري تعليقاً، انتهى. كأنه يشير إلى أن حديث عائشة هذا محمول على حال حكاية المنام، وأن القضية واحدة، وفيه نظر فتأمل. 392- قوله: (تفضل الصلاة) أي تزيد في الفضيلة وزيادة المثوبة. (سبعين) مفعول مطلق أو ظرف، أي تفضل مقدار سبعين وقوله. (ضعفاً) بكسر الضاد تمييز أريد به مثل العدد المذكور، وهي كناية عن الكثرة، أو أريد به خصوص هذا العدد، والله تعالى أعلم. (رواه البيهقي في شعب الإيمان) وأخرجه أيضاً أحمد (ج6: ص272) ، والبزار، وأبويعلى، وابن خزيمة، والدارقطني، وابن عدي، وأبونعيم، ومداره عندهم على محمد بن إسحاق، ومعاوية بن يحيى الصدفي، كلاهما عن الزهري عن عروة. ورواه الحاكم (ج1: ص146) وقال: صحيح الإسناد على شرط مسلم، كذا قال. ومحمد بن إسحاق إنما أخرج له مسلم في المتابعات، قال المنذري: وروى أبونعيم نحوه عن ابن عمر بإسناد جيد، وعن ابن عباس بإسناد صحيح-انتهى. وقد أطال الحافظ الكلام على حديث عائشة في التلخيص، وقال: رواه أبونعيم من حديث ابن عمر ومن حديث ابن عباس ومن حديث جابر، وأسانيده معلولة. 393- قوله: (وعن أبي سلمة) بفتح اللام، هو أبوسلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري القرشي المدني، قيل:

عن زيد بن خالد الجهني، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة، ولأخرت صلاة العشاء إلى ثلث الليل. قال: فكان زيد بن خالد يشهد الصلوات في المسجد وسواكه على أذنه موضع القلم من أذن الكاتب، لا يقوم إلى الصلاة إلا استن، ثم رده إلى موضعه)) رواه الترمذي وأبوداود، إلا أنه لم يذكر. ((ولأخرت صلاة العشاء إلى ثلث الليل)) . وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ـــــــــــــــــــــــــــــ اسمه عبد الله وقيل: إسماعيل، وقيل: اسمه وكنيته واحد، قال ابن سعد: كان ثقة، فقيهاً، كثير الحديث. وقال المصنف: هو أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالفقه في المدينة في قول، ومن مشاهير التابعين وأعلامهم، وهو كثير الحديث، روى عن خلق كثير من الصحابة والتابعين، وروى عنه خلائق. مات سنة (94) وقيل سنة (104) وهو ابن (74) سنة. (عن زيد بن خالد الجهني) بضم الجيم وفتح الهاء نسبة إلى جهينة، وهو زيد بن خالد الجهني أبوعبد الرحمن، ويقال: أبوطلحة المدني من مشاهير الصحابة. قال ابن عبد البر: كان صاحب لواء جهينة يوم الفتح، له أحد وثمانون حديثاً، اتفقا على خمسة، وانفرد مسلم بثلاثة، روى عنه ابنه خالد، وابن المسيب، وغيرهما. توفي بالكوفة سنة (68) أو (78) وهو ابن (85) سنة. (ولأخرت صلاة العشاء) أي حكمت بتأخيرها وجوباً. (قال) أي أبوسلمة (فكان زيد بن خالد يشهد الصلوات) أي الخمس (في المسجد) أي يحضرها للجماعة (وسواكه على أذنه) بضم الذال ويسكن والجملة حال (موضع القلم من أذن الكاتب) أي والحال أن سواكه كان موضوعاً على أذنه موضع القلم الكائن من أذن الكاتب. (لا يقوم إلى الصلاة إلا استن) أي إستاك للصلاة أخذاً بظاهر الحديث، قال القاري: قد انفرد زيد بن خالد به فلا يصلح حجة، أو إستاك لطهارتها، انتهى. قلت: فيه أنه لم يتفرد به زيد بن خالد، فقد تقدم عن أبي هريرة أنه قال: كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - سوكهم على آذانهم، يستنون بها لكل صلاة، وإن عبادة بن الصامت وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يروحون والسواك على آذانهم، ثم صنيع زيد بن خالد هذا يدل عليه ظاهر الحديث الذي رواه، وليس ينفيه شيء من الأحاديث المرفوعة، فكيف لا يكون حجة، وبهذا ظهر بطلان تأويل القارئ بقوله: إستاك لطهارتها. (ثم رده إلى موضعه) أي من الأذن. قال ابن حجر: وحكمته أن وضعه في ذلك المحل يسهل تناوله، ويذكر صاحبه به فيستاك من غير ذهول. (رواه الترمذي وأبوداود) وسكت عنه، ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره، وأخرجه أيضاً أحمد (ج4: ص116 وج5: ص193) وأخرجه أصحاب السنن من حديث أبي هريرة كما تقدم.

(4) باب سنن الوضوء

(4) باب سنن الوضوء {الفصل الأول} 394- (1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً، فإنه لا يدري أين باتت يده)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ (باب سنن الوضوء) لم يرد بالسنن، سنن الوضوء فقط، أي ما يقابل الفرض بل أراد بالسنن، أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقواله، أعم من أن تكون سنة أو فرضاً، يقال: جاء في السنة كذا، أي في الحديث. 394- قوله (من نومه) هذا يدل على عموم الحكم عقب كل نوم ليلاً أو نهاراً، لكن جاء عند الترمذي، وأبي داود وابن ماجه من الليل، مكان قوله من نومه، والمطلق محمول على المقيد، فيدل على خصوصه بنوم الليل، ويؤيده قوله في آخر الحديث "باتت يده"، فإن حقيقة المبيت تكون بالليل، إلا أن التعليل المنصوص الآتي يقتضي إلحاق نوم النهار بنوم الليل، وإنما نوم الليل بالذكر للغلبة، بل قيل: ليس حكم الغسل قبل الغمس في الإناء مخصوصاً بالقيام من النوم، بل المعتبر فيه الشك في نجاسة اليد، فإن الظاهر أن المقصود من الحديث إذا شك أحدكم في يديه مطلقاً، سواء كان لأجل الاستيقاظ من النوم أو لأمر آخر، إلا أنه فرض الكلام في جزئي واقع بينهم على كثرة، ليكون بيان الحكم فيه بياناً في الكلى بدلالة العقل، فالتقييد بالاستيقاظ لأن توهم نجاسة اليد في الغالب يكون من المستيقظ، فلا مفهوم له (فلا يغمس) بتخفيف الميم من باب ضرب، هو المشهور، ويحتمل أن يكون بالتشديد من باب التفعيل (في الإناء) أي في الظرف الذي فيه الماء وغيره من المائعات، وخرج بذكر الإناء البرك والحياض التي لا تفسد بغمس اليد فيها على تقدير نجاستها. (حتى يغسلها) إلى رسغها (ثلاثاً) كذا في جميع طبعات الهند للمشكاة وفي النسخة القاري وسقط هذا اللفظ في نسخة الألباني طبعة دمشق وهو من إفراد مسلم (فإنه لا يدري أين باتت يده) يعني لا يدري تعيين الموضع الذي باتت، أي صارت يده منه، يعني هل لاقت مكاناً طاهراً أو نجساً، وفيه إيماء إلى أن الباعث على الأمر بغسل اليد احتمال النجاسة؛ لأن الشرع إذا ذكر حكماً وعقبه بعلة دل على أن ثبوت الحكم لأجلها. قال الشافعي وغيره من العلماء: سبب الحديث أن أهل الحجاز كانوا يستنجون بالحجارة، وبلادهم حارة، فإذا ناموا عرقوا فلا يومن أن تطوف يده على موضع النجاسة، أو على قذر غير ذلك، فعلم بهذا أن حكم الغسل للشك في نجاسة اليد، فمتى شك في نجاستها كره له غمسها في الإناء قبل غسلها، سواء قام من نوم الليل أو النهار، أو شك في نجاستها من غير نوم. وقال التور بشتى: هذا في حق من بات مستنجياً بالأحجار معرورياً، ومن بات على خلاف ذلك ففي أمره سعة ويستحب له أيضاً غسلها؛ لأن السنة إذا وردت لمعنى لم تكن لتزول بزوال ذلك المعنى. وقال الباجي: الأظهر في سبب الحديث أن النائم لا يكاد أن يسلم من حك جسده، وموضع بثرة في بدنه، ومس رفغه وإبطه، وغير ذلك من

متفق عليه. 395- (2) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ فليستنثر ثلاثاً، فإن الشيطان يبيت على خيشومه)) ـــــــــــــــــــــــــــــ مغابن جسده، ومواضع عرقه، فاستحب له غسل اليد تنظفاً وتنزهاً، قال: وتعليقه بنوم الليل لا يدل على الاختصاص؛ لأن المستيقظ لا يمكنه التحرز من مس رفغه وإبطه، وفتل ما يخرج من أنفه، وقتل برغوث، وحك موضع عرق، فإذا كان المعنى الذي شرع له غسل اليد موجوداً في المستيقظ لزمه ذلك الحكم، ولا يسقط عنه بأن الشرع علقه على النائم- انتهى مختصراً ملتقطاً. وعلى هذا يكون الحكم عاماً لكل متوضئ، ولا يختص بالنائم، وأما على ما قال الشافعي وغيره في سبب الحديث فيكون استحباب الغسل للمتوضئ المستيقظ من النوم خاصة، وهذا القدر يكفي لمناسبة الحديث بالباب. وأما من يريد الوضوء من غير نوم فيستحب له، لما سيأتي في صفة الوضوء من أفعاله - صلى الله عليه وسلم -. ثم النهي عن الغمس قبل الغسل للتنزيه، والأمر في رواية "فليغسل" للندب عند الجمهور، فلو خالف، وغمس قبل الغسل فقد أساء، ولا يفسد الماء والقرينة الصارفة التقييد بالثلاث في غير النجاسة العينية، فإنه يدل على ندبية الغسل، ولأنه علل بأمر يقتضي الشك في نجاسة اليدين، والوجوب لا يبني على الشك. وحمله أحمد على كراهة التحريم، وقال: بوجوب الغسل في نوم الليل، ولا يبعد من الشارع الإيجاب لرفع الشك، ومن قال: بأن الأمر بالغسل للتعبد كمالك، لا يفرق بين الشاك والمتيقن، والراجح عندي ما ذهب إليه الجمهور، والله أعلم. والحديث فيه مسائل كثيرة، منها استحباب غسل النجاسة ثلاثاً؛ لأنه إذا أمر به في المتوهمة ففي المحققة أولى. ومنها استحباب الأخذ بالاحتياط في العبادات وغيرها ما لم يخرج عن حد الاحتياط إلى حد الوسوسة. (متفق عليه) واللفظ لمسلم وأخرجه أيضاً مالك والشافعي وأحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم، وفي الباب عن ابن عمر وجابر عند الدارقطني وابن ماجه. 395- قوله (فتوضأ) أي أراد الوضوء وسقط هذا اللفظ من نسخة الألباني (فليستنثر) أي فليخرج ماء الاستنشاق والقذر اليابس المجتمع من المخاط، يعني فليستنثر بعد الاستنشاق، فإن الاستنثار هو إخراج الماء الذي جذبه بريح الأنف إلى أقصاه، فهو من تمام الاستنشاق، والأمر للندب عند الجمهور، وللوجوب عند الظاهرية. (فإن الشيطان) الفاء للسببية (يبيت على خيشومه) بفتح الخاء قيل: أعلى الأنف، وقيل: كله، وقيل: هو أقصى الأنف المتصل بالبطن المقدم من الدماغ، وقيل: غير ذلك. قال عياض وغيره: بيتوتة الشيطان إما حقيقية، فإن الأنف أحد المنافذ التي يتوصل منها إلى القلب، والمقصود من الاستنثار إزالة آثاره، وليس عليه ولا على الأذن غلق، وفي الحديث "إن الشيطان لا يفتح غلقاً". وجاء الأمر بكظم الفم في التثاؤب من أجل دخول الشيطان في الفم. وإما مجاز، فإن ما ينعقد فيه من الغبار والرطوبة قذرات توافق الشيطان، فالمراد أن الخيشوم محل قذر يصلح لبيتوتة الشيطان، فينبغي للإنسان تنظيفه، والراجح أنه محمول على

متفق عليه. 396- (3) وقيل لعبد الله بن زيد بن عاصم: ((كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ؟ فدعا بوضوء فأفرغ على يديه فغسل يديه مرتين مرتين، ثم مضمض واستنثر ـــــــــــــــــــــــــــــ الحقيقة، وموكول معرفته وعلمه إلى الشارع، فإن الله تعالى خص نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأسرار يقصر عن دركها العقول والأفهام. فالصواب في أمثال هذه الأحاديث أن يؤمن بظواهرها، ويحترز عن بيان كيفياتها، وظاهر الحديث يقتضي أن يحصل لكل نائم. ويحتمل أن يكون مخصوصاً بمن لم يحترز من الشيطان بشيء من الذكر، كما في حديث آية الكرسي: (ولا يقربك شيطان) متفق عليه، أخرجه البخاري في بدء الخلق، ومسلم في الطهارة، واللفظ المذكور للبخاري، وأخرجه أيضاً النسائي. 396- قوله (وقيل) القائل هو عمرو بن أبي الحسن الأنصاري، أخو عمارة بن أبي الحسن، جد عمرو بن يحيى بن عمارة، ففي رواية للبخاري من طريق وهيب، قال: شهدت عمرو بن أبي حسن سأل عبد الله بن زيد، وفي رواية أبي نعيم في المستخرج عن عمرو بن أبي حسن قال: كنت كثير الوضوء، فقلت لعبد الله بن زيد" الحديث. فهاتان الروايتان صريحتان في أن القائل والسائل هو عمرو بن أبي الحسن. (لعبد الله بن زيد بن عاصم) بن كعب الأنصاري المازني المدني صحابي شهير، له هذا الحديث، وأحاديث أخرى، قيل: شارك وحشياً في قتل مسيلمة الكذاب. مختلف في شهوده بدراً، استشهد بالحرة، وكان في آخر ذي الحجة سنة (63) وهو ابن (70) سنة، وهو غير عبد الله بن زيد بن عبد ربه الذي أرى النداء في المنام، وليس لابن عبد ربه إلا حديث الأذان فقط. (فدعاء بوضوء) بفتح الواو ما يتوضأ به والباء للتعدية أي طلبه (فأفرغ) أي صب الماء (على يديه) بالتثنية أي إحدى يديه، وفي المصابيح: على يده اليمنى، وكذا في رواية النسائي، ويؤيد رواية الإفراد الإظهار في موضع الإضمار في قوله (فغسل يديه) أي إلى الرسغين، وفيه غسل اليد قبل إدخالها في الإناء ولو كان من غير نوم. (مرتين مرتين) وفي المصابيح بدون التكرار، قال ابن حجر: وجه الاحتياج إلى التكرير أن الاقتصار على الأول يوهم التوزيع- انتهى. قال الحافظ: كذا لمالك بلفظ مرتين، ووقع في رواية وهيب عند البخاري، وخالد عند مسلم، والدراوردي عند أبي نعيم بلفظ "ثلاثاً". وهؤلاء حفاظ قد اجتمعوا، فروايتهم مقدمة على رواية الحافظ الواحد، ولم يحمل على وقعتين؛ لأن المخرج واحد، والأصل عدم التعدد-انتهى. وقال ابن حجر: اقتصر على مرتين في بعض الأحيان لبيان الجواز، وإلا فقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم -: أنه فعل الثلاث- انتهى. ثم غسلهما في أول الوضوء سنة باتفاق العلماء كما قاله النووي. قال الأمير اليماني: وليس هو غسلهما عند الاستيقاظ، أي الذي تقدم حديثه، بل هذا سنة الوضوء، فلو استيقظ وأراد الوضوء فظاهر الحديثين أنه يغسلهما للاستيقاظ ثلاث مرات، ثم للوضوء كذلك، ويحتمل تداخلهما- انتهى. قلت هذا الأخير هو الراجح عندي (ثم مضمض) المضمضة لغة تحريك الماء في الفم (واستنثر) أي

ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل يديه مرتين مرتين. إلى المرفقين، ـــــــــــــــــــــــــــــ استنشق الماء، ثم استخرج ذلك بنفس الأنف بإعانة اليد اليسرى، فلم يذكر الاستنشاق؛ لأن ذكر الاستنثار دليل عليه، فإنه لا يكون إلا بعد الاستنشاق. ثم إنهم اختلفوا في وجوب المضمضة والاستنشاق والاستنثار، فذهب أحمد إلى وجوب الثلاثة في الوضوء، وغسل الجنابة، وهو الراجح، واستدل له بأدلة. منها مواظبة النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها بالفعل في جميع وضوئه. ومنها حديث عائشة عند البيهقي بلفظ: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: المضمضة والاستنشاق من الوضوء الذي لابد منه. ومنها أنه من تمام غسل الوجه، فالأمر بغسله أمر بها، ولا موجب لتخصيصه بظاهره دون باطنه، فإن الجميع في لغة العرب يسمى وجهاً. ومنها حديث أبي هريرة المتفق عليه: إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينثر. ومنها حديث سلمة بن قيس عند الترمذي والنسائي: بلفظ إذا توضأت فاتنثر. ومنها حديث لقيط بن صبرة الآتي في الفصل الثاني، وفيه "وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً." وفي رواية من هذا الحديث "إذا توضأت فمضمض" أخرجها أبوداود وغيره. ومنها حديث أبي هريرة عند الدارقطني: بلفظ أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمضمضة والاستنشاق. واستدل من قال: بالسنية في الوضوء بقوله عليه السلام للأعرابي "توضأ كما أمرك الله"، فأحال على الآية، وليس فيها ذكر المضمضة والاستنشاق والاستنثار. وأجيب عنه بأنه قد صح أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بها، والواجب الأخذ بما صح عنه، ولا يكون الاقتصار على البعض في مبادئ التعليم ونحوها موجبا لصرف ما ورد بعده وإخراجه عن الوجوب، وبأن الأمر بغسل الوجه أمر بها كما تقدم، وارجع لمزيد التفصيل إلى النيل للشوكاني، والهدي لابن القيم، والمغني لابن قدامة. (ثلاثاً) أي بثلاث غرفات وهذا ظاهر في الجمع بين المضمضة والاستنشاق من كل غرفة، والرواية الآتية المتفق عليها أظهر في ذلك، واختلفوا في الأفضل بعدما اتفقوا على جواز الوصل والفصل كليهما، فذهب أحمد والشافعي إلى أفضلية الوصل والجمع، وهو المذهب الصحيح المختار عندي؛ لأن رواية الجمع أكثر وأصرح وأصح، وأما ما جاء في بعض الأحاديث من الفصل فهو محمول على الجواز، وقد ذكر شيخنا في شرح الترمذي أحاديث الوصل مع الجواب عن دلائل الحنفية والمالكية القائلين بأفضلية الفصل فارجع إليه. (ثم غسل) أي بيديه لحديث على عند أبي داود وغيره. (وجهه) هو من منابت شعر الرأس إلى أسفل الذقن طولاً، ومن شحمة الأذن إلى شحمة الأذن عرضاً. (ثم غسل يديه مرتين مرتين) وفي رواية لمسلم: غسل يده اليمنى ثلاثاً، ثم الأخرى ثلاثاً، فيحمل على أنه وضوء آخر لكون مخرج الحديث غير متحد. (إلى المرفقين) ، أي مع المرفقين، فهما داخلان في غسل اليدين. والدليل على ذلك فعله - صلى الله عليه وسلم -، ففي الدارقطني بإسناد حسن من حديث عثمان في صفة الوضوء: فغسل يديه إلى المرفقين، حتى مس أطراف العضدين، وفيه عن جابر، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه، لكن إسناده ضعيف. وفي البزار والطبراني من حديث وائل بن حجر في صفة الوضوء: وغسل ذراعيه حتى جاوز المرافق. وفي الطحاوى من حديث ثعلبة بن عباد عن أبيه مرفوعاً: ثم غسل ذراعيه حتى يسيل الماء على مرفقيه. فهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا. قال إسحاق بن راهوية "إلى" في الآية يحتمل أن تكون بمعنى الغاية وأن تكون بمعنى مع، فينبت السنة

ثم مسح رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه)) رواه مالك، والنسائي، ولأبي داود نحوه ذكره صاحب "الجامع". وفي المتفق عليه: قيل لعبد الله بن زيد بن عصام: توضأ لنا وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعا بإناء، فأكفأ منه على يديه، فغسلهما ثلاثاً، ثم أدخل يده فاستخرجها، فمضمض واستنشق من كف ـــــــــــــــــــــــــــــ أنها بمعنى. (ثم مسح رأسه) أي كله، كما في رواية، واختلفوا في مقدار المفروض، فذهب مالك إلى وجوب الاستيعاب، وهو الراجح لأن لفظ الآية مجمل؛ لأنه يحتمل أن يراد منها مسح الكل على أن الباء زائدة، أو مسح البعض على أنها تبعيضية، فتبين بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المراد الأول، ولم ينقل أنه مسح بعض رأسه إلا في حديث المغيرة، لكن فيه "أنه مسح على ناصيته وعماته، فلا حجة فيه على الاكتفاء ببعض الرأس". قال ابن القيم: لم يصح عنه - صلى الله عليه وسلم - في حديث واحد أنه اقتصر على مسح بعض راسه البتة، لكن كان إذا مسح بناصيته كمل على العمامة كما في حديث المغيرة، ولم يذكر العدد في مسح الرأس كغيره، فاقتضى الاقتصار على مرة واحدة. (فأقبل بهما وأدبر) الإدبار هو الذهاب إلى جهة القفاء والإقبال عكسه، والواو لمطلق الجمع لا تقتضي الترتيب، فكأن الأصل فأدبر بهما وأقبل، وقد وقع كذلك في رواية للبخاري. والتفسير الآتي يؤيد بل يعين ذلك. وقيل: إنه من تسمية الفعل بإبتداءه، أي بدأ بقبل الرأس وذهب إلى جهة فقاه، وأدبر أي بدء بدبر الرأس، وقيل غير ذلك. (بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب) الخ هذا عطف بيان لقوله: فأقبل بهما وأدبر. ومن ثم لم تدخل الواو على بدأ، أي وضع كفيه وأصابعه عند مقدم رأسه، ثم أمرّهما حتى وصل إلى قفاه أي مؤخر رأسه. (ثم ردهما) أي على جنب الرأس. (حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه) وهو مقدم الرأس، أي مبتدأ شعره. (ثم غسل رجليه) أي إلى الكعبين كما في رواية للبخاري. (رواه مالك والنسائي) أي بهذا اللفظ. (ولأبي داود نحوه) أي بمعناه. (ذكره صاحب الجامع) أي جامع الأصول وهو ابن الأثير، وأصل الحديث أخرجه أيضاً أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه بألفاظ متقاربة مختصراً ومطولاً. قوله. (وفي المتفق عليه) هذا من زيادات المصنف على المصابيح، واللفظ المذكور هنا لمسلم، وللبخاري معناه. (توضأ) بصيغة الأمر. (وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي نحو وضوئه. (فدعا بإناء) فيه ماء. (فأكفأ) يقال كفأ الإناء إذا كبه، وأكفأه أماله (منه) قال الأبهري: ضمن أكفأ معنى أفرغ وصب فعداه بمن. (ثم أدخل يده) اليمنى في الإناء. (فاستخرجها) أي اليد من الإناء مع الماء. (فمضمض واستنشق) أي واستنثر، وقد ذكر في رواية الثلاثة كما سيأتي. (من كف

واحدة، ففعل ذلك ثلاثاً، ثم أدخل يده فاستخرجها، فغسل وجهه ثلاثاً، ثم أدخل يده فاستخرجها، فغسل يديه إلى المرفقين مرتين مرتين، ثم أدخل يده فاستخرجها، فمسح برأسه، فأقبل بيديه وأدبر، ثم غسل رجليه إلى الكعبين، ثم قال: هكذا كان وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية: فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه. وفي رواية: فمضمض، واستنشق واستنثر ثلاثاً بثلاث غرفات من ماء. ـــــــــــــــــــــــــــــ واحدة) بأن جعل ماء الكف بعضه في فمه وبعضه في أنفه، والكف يذكر ويؤنث. (ففعل ذلك) أى المذكور من المضمضة والاستنشاق. (ثلاثاً) أي ثلاث مرات بأن تمضمض واستنشق من غرفة ثم تمضمض واستنشق من غرفة ثم تمضمض واستنشق من غرفة، وهو صريح في المجمع، وحجة واضحة للشافعي في الوصل، صرح به ابن الملك وغيره من الأئمة الحنفية، والقول بأن قيد الوحدة احتراز من التثنية سخيف جداً، فإن الظاهر على هذا أن يقال بكف واحدة لا من كف واحدة. (ثم أدخل يده) أي في الإناء، والظاهر أن المراد بها الجنس، قاله القاري. (ثلاثاً) قيد للأفعال الثلاثة لا للأخير فقط. (مرتين مرتين) قيد للأفعال. (فمسح برأسه) هو موافق للآية في الإتيان بالباء، ومسح يتعدى بها وبنفسه، قال القرطبي: إن الباء ههنا للتعدية يجوز حذفها وإثباتها. وقيل: دخلت الباء ههنا لمعنى تفيده، وهو أن الغسل لغة يقتضي مغسولاً به، والمسح لا يقتضي ممسوحا به، فلو قال: امسحوا رؤوسكم، لأجزاء المسح باليد بغير ماء، فكأنه قال: وامسحوا برؤوسكم الماء، وهو من باب القلب والأصل فيه امسحوا رؤوسكم بالماء. (فأقبل بيديه وأدبر) يعني استوعب المسح. (ثم غسل رجليه) ظاهره الاكتفاء بمرة، ويحتمل مرتين بقرينة ما قبله، ويحتمل التثليث على ما هو المعروف من دأبه - صلى الله عليه وسلم -، قاله القاري. (إلى الكعبين) أي مع الكعبين، والكعب هو العظم الناشز عند متلقى الساق والقدم. (هكذا كان وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي غالباً، وقيل: أي في بعض الأوقات. قوله. (وفي رواية) أي لمسلم. (ثم ردهما) أي على أطراف الرأس. قوله. (وفي رواية) أي للبخاري، وقد ذكرها في باب مسح الرأس مرة. (فمضمض واستنشق واستنثر) فيه حجة واضحة لمن فرق بين الاستنشاق والاستنثار إلا أن الاستنثار يستلزم الاستنشاق بلا عكس. (ثلاثاً بثلاث غرفات) بفتح الغين والراء وقيل: بضهما جمع غرفة. قيل: الغرفة بالفتح في الأصل المرة من الاغتراف، وبالضم الماء المغروف في اليد. وقيل هي ملأ الكف من الماء، يعني أخذ غرفة، ومضمض واستنثر بها، وكذا في الثانية والثالثة، وهذا أيضاً نص صريح في الجمع والوصل.

وفي أخرى: فمضمض واستنشق من كفة واحدة، ففعل ذلك ثلاثاً. وفي رواية للبخاري: فمسح رأسه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة، ثم غسل رجليه إلى الكعبين. وفي أخرى له: فمضمض واستنثر ثلاث مرات من غرفة واحدة. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله. (وفي أخرى) أي للشيخين لكن وقع في مسلم من كف واحدة، وهذه الرواية أوردها البخاري في باب من مضمض واستنشق من غرفة واحدة. (فمضمض واستنشق من كفة واحدة) المراد بالكفة الغرفة والحفنة، فاشتق لذلك من اسم الكف، وجعل عبارة عن ذلك المعنى وسمي الشيء باسم ما كان فيه، وليست تأنيث الكف. وقيل: قوله "من كفة" هي بالضم والفتح كغرفة وغرفة، أي مما ملأ كفه من الماء. (ففعل ذلك) أي ما ذكر من المضمضة والاستنشاق. (ثلاثاً) أي ثلاث مرات، فيه أيضاً دليل صريح على ما تقدم من أن تقدم من أن السنة في المضمضة والاستنشاق أن يكون بثلاث غرفات، يتمضمض ويستنشق من كل واحدة منها. قوله. (وفي رواية للبخاري) ذكرها في باب غسل الرجلين إلى الكعبين. (مرة واحدة) نص صريح في عدم تكرار مسح الرأس، وحجة واضحة للجمهور في عدم تثليث مسح الرأس خلافاً للشافعي، ومن أقوى الأدلة على ذلك أيضاً الحديث المشهور الذي صححه ابن خزيمة وغيره من طريق عبد الله بن عمرو بن العاص في صفة الوضوء، حيث قال النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن فرغ: من زاد على هذا فقد أساء وظلم، فإن رواية سعيد بن منصور فيها تصريح بأنه مسح رأسه مرة واحد، فدل على أن الزيادة في مسح الرأس على المرة غير مستحبة، ويحمل ما ورد من الأحاديث في تثليث المسح كحديث علي عند الدارقطني، وحديث عثمان عند أبي داود في بعض طرقه إن صحت على إرادة الاستيعاب بالمسح، لا أنه مسحات مستقلة لجميع الرأس جمعاً بين الأدلة. قوله. (وفي أخرى له) أي للبخاري ذكرها في باب الوضوء من التور. (من غرفة واحدة) يتعلق بقوله: فمضمض واستنثر، والمعنى أنه جمع بينهما ثلاث مرات، كل مرة من غرفة. ويحتمل أن يتعلق بقوله: ثلاث مرات، والمعنى أنه جمع بينهما ثلاث مرات من غرفة واحدة، والأول موافق لباقي الروايات، فهو أولى، كذا في الفتح. قال المؤلف: وإنما أطنبنا الكلام في الحديث؛ لأن ما ذكر في المصابيح بلفظه لم يوجد إلا في رواية مالك والنسائي. فأما معناه فما ذكرته في المتفق عليه عقبه. وبقية الروايات إنما أوردتهما تنبيهاً على أن ما في المصابيح منها، ذكره الطيبي. قال السيد جمال الدين: كأنه اعتراض على الشيخ محي السنة حيث أورد حديث عبد الله بن زيد بهذا اللفظ في الصحاح مع أنه غير مذكور في أحد الصحيحين انتهى. 397-

وعن عبد الله بن عباس قال: ((توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرة مرة، لم يزد على هذا)) . رواه البخاري. 398- (5) وعن عبد الله بن زيد، ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرتين مرتين)) . رواه البخاري. 399- (6) وعن عثمان رضي الله عنه، ((أنه توضأ بالمقاعد، فقال: ألا أريكم وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.؟ فتوضأ ثلاثاً ثلاثاً)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 397- قوله: (مرة مرة) نصب على المصدر، يعنى غسل كل عضو مرة واحدة، ومسح برأسه مرة (لم يزد على هذا) ، أي: في هذا الوضوء، أو في ذلك الوقت، أو باعتبار علمه، وإلا فقد صحت الزيادة في روايات كثيرة، وإنما فعل ذلك لبيان الجواز، أو لمراعاة الحال في الاستعجال، أو قلة الماء، وبيان الجواز يكفي فيه إطلاق القرآن. وفيه دليل على أن الواجب من الوضوء مرة مرة، ولهذا اقتصر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان الواجب مرتين مرتين، أو ثلاثاً ثلاثا، ً لما اقتصر على مرة مرة، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة بالغسل مرتين مرتين، وثلاثاً ثلاثاً، وبعض الأعضاء ثلاثاً وبعضها مرتين. قال الترمذي: وقد ذكر في غير حديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ بعض وضوئه مرة وبعضه ثلاثاً. والاختلاف دليل على جواز ذلك كله، وأن الثلاث هي الكمال. والواحدة تجزئ. (رواه البخاري) ، أي: في باب الوضوء مرة مرة، والحديث مجمل، وقد رواه البخاري في باب غسل الوجه باليدين من غرفة واحدة مطولاً ومفصلاً، وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه مختصراً، وأبوداود مطولاً ومختصراً. وفي الباب أحاديث عن جماعة من الصحابة، ذكرها الشوكاني في النيل مع الكلام عليها. 398- قوله: (توضأ مرتين مرتين) أي لكل عضو من أعضاء الوضوء لبيان الجواز أيضاً، والنصب في مرتين على المفعول المطلق المبين للكمية. (رواه البخاري) في باب الوضوء مرتين مرتين، والظاهر أن حديث عبد الله بن زيد هذا غير حديثه المفصل المتقدم، فإنه ليس فيه الغسل مرتين إلا في اليدين إلى المرفقين، نعم روى النسائي من طريق سفيان بن عينية في حديث عبد الله بن زيد التثنية في اليدين والرجلين، ومسح الرأس، وتثليث غسل الوجه، لكن في الرواية المذكورة نظر، قاله الحافظ. والحديث أخرجه أيضاً أحمد. وفي الباب عن أبي هريرة أخرجه أبوداود والترمذي وصححه وابن حبان: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرتين مرتين". 399- قوله: (توضأ بالمقاعد) بفتح ميم جمع مقعد، والمراد بها دكاكين عند دار عثمان. وقيل: درج. وقيل: موضع بقرب المسجد اتخذ للقعود فيه للحوائج والوضوء. (ألا) للتنبيه أو الهمزة للإنكار. (أريكم وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي كيفية وضوئه. (فتوضأ ثلاثاً ثلاثاً) هذا هو الأكمل، وقد استدل به للشافعي على سنية تثليث مسح الرأس، وأجيب عنه بأنه

رواه مسلم. 400- (7) وعن عبد الله بن عمرو قال: ((رجعنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة، حتى إذا كنا بماءٍ بالطريق تعجل قوم عند العصر، فتوضؤوا وهم عجال، فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسها الماء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ويل للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء)) ـــــــــــــــــــــــــــــ مجمل تبين في الروايات الصحيحة التي فصلت فيها أعضاء الوضوء أن المسح لم يتكرر، فيحمل على الغالب، أو يختص بالمغسول. (رواه مسلم) . وأخرجه أيضاً أحمد، وفي الباب عن جماعة من الصحابة، ذكر أحاديثهم العيني في شرح البخاري. 400- قوله: (حتى إذا كنا) أي صرنا. (بماء بالطريق) قال الطيبي: الظرف الأول خبر كان والثاني صفة، أي إذا كنا نازلين بماء كائن في طريق مكة. (تعجل) بتشديد الجيم. (قوم عند العصر فتوضؤوا وهم عجال) بضم العين وتشديد الجيم. جمع عاجل كجهال جمع جاهل. وقيل: بكسر العين وتخفيف الجيم كقيام جمع قائم، وقيل: جمع عجلان بمعنى المستعجل، وكغضاب جمع غضبان. قال الطيبي: تعجل بمعنى استعجل، يعني تطلبوا تعجيل الوضوء عند العصر فتوضؤوا عاجلين. وقيل: الأظهر أن معناه استعجلوا في السير، وتقدموا علينا عند دخول العصر مبادرة إلى الوضوء، فتوضؤا على العجلة بحكم ضيق الوقت في السفر. (وأعقابهم) عقب بكسر القاف مؤخر القدم، وهي مؤنثة (تلوح) أي يظهر للناظر فيها بياض لم يصبها الماء الذي أخذوه لغسل الأرجل مع إصابته سائر القدم، وذلك لعجلتهم في الوضوء بسب ضيق الوقت، فكأن مقصودهم الغسل، إلا أنهم كانوا يتعجلون فيه لئلا تفوتهم الصلاة، فلم يحصل لذلك إسباغ الأرجل. وفي رواية ذكرها العيني: رأى قوماً توضؤوا وكأنهم تركوا من أرجلهم شيئا، وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً لم يغسل عقبه فقال ذلك الوعيد. (لم يمسها الماء) جملة حالية مبنية لتلوح. (ويل) قيل: الويل الخزى والهلاك والمشقة من العذاب. قال الأبهري: جاز الابتداء بالنكرة لأنه دعاء، وأصح الأقوال في معناه ما رواه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي سعيد: واد في جهنم. (للأعقاب) أي المرئية إذ ذاك، فاللام للعهد، ويلتحق بها ما يشاركها في ذلك، ففي حديث عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي عند ابن خزيمة والطبراني "ويل للاعقاب وبطون الأقدام من النار". قيل: معناه "ويل لأصحاب الأعقاب المقصرين في غسلها" نحو {واسأل القرية} [82:12] والأعقاب تختص بالعقاب إذا قصر في غسلها. (من النار) بيان للويل كما في قوله: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} [30:22] ويجوز أن تكون بمعنى "في" كما في قوله تعالى: {من يوم الجمعة} [9:62] أي في يوم الجمعة. وفي الوعيد والإنكار دليل على أن وظيفة الرجلين الغسل الوافي لا المسح، ولا الغسل الخفيف المبقع المشابه للمسح، لأن الوعيد لا يكون إلا على ترك الواجب. (أسبغوا الوضوء) أي أتموه وأكملوه، والوضوء هو غسل الأعضاء الثلاثة، ومسح الرأس، فالأمر بإسباغ الوضوء أمر

بتكميل الغسل وإبلاغ الماء كل ظاهر أعضائه، فقوله: (أسبغوا) تأكيد للوعيد المذكور عام، يشمل الرجلين وغيرهما من أعضاء الوضوء، لأنه لم يقل أسبغوا الرجلين، بل قال: أسبغوا الوضوء، ومطلوبية الإسباغ غير مختصة بالرجلين فكما أنه مطلوب فيهما كذلك مطلوب في غيرهما. وتخصيص الوعيد بلفظ الأعقاب؛ إنما هو لأجل تقصيرهم في وظيفة الرجلين. والحديث يدل على وجوب غسل الرجلين في الوضوء، وهو مذهب جمهور المحدثين والمفسرين من أهل السنة. قال الحافظ: قد تواترت الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صفة وضوئه أنه غسل رجليه، وهو المبين لأمر الله، وقد قال في حديث عمرو بن عبسة الذى رواه ابن خزيمة وغيره مطولاً في فضل الوضوء: ثم يغسل قدميه كما أمره الله، ولم يثبت عن أحد من الصحابة خلاف ذلك إلا من علي، وابن عباس، وأنس، وقد ثبت عنهم الرجوع عن ذلك. قال عبد الرحمن بن أبي ليلى أجمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على غسل القدمين، رواه سعيد بن منصور. وقال الطيبي: ذهب الشيعة إلى أنه يمسح على الرجلين، لقوله تعالى: {وامسحوا برؤسكم وأرجلكم} [6:5] على قراءة الجر، فإنه تعالى عطف الرجل على الرأس والرأس يمسح فكذا الرجل. قلنا: وقد قرئ بالنصب عطفاً على قوله: {وأيديكم} وإذا ذهب إلى المسح يبقى مقتضى النص غير معمول به، بخلاف العكس فإن المسح مغمور بالغسل، على أن الأحاديث الصحيحة تواترت معاضدة لقراءة النصب، فوجب تأويل القراءة بالكسر، وفيه وجوه: أحدها العطف على الجوار كقوله تعالى: {عذاب يوم أليم} [26:11) والأليم صفة العذاب فأخذ إعراب "اليوم" للمجاورة، وقوله تعالى: {عذاب يوم محيط} [84:11] {وحور عين} بالجر بعد قوله: {يطوف عليهم ولدان مخلدون، بأكواب وأباريق} [18،17:56] لأن حور لا يصلح عطفها على أكواب، لأن الحور لا يطاف بها. والثاني الاستغناء بأحد الفعلين عن الآخر، والعرب إذا اجتمع فعلان متقاربان في المعنى، ولكل واحد منهما متعلق جوزت ذكر أحد الفعلين وعطف متعلق المحذوف على متعلق المذكور على حسب ما يقتضيه لفظه، حتى كأنه شريكه في أصل الفعل كما قال الشاعر: يا ليت بعلك قد غدا ... ... متقلداً سيفاً ورمحا وكقول الأخر: ... ... علفتها تبناً وماءً باردا تقديره علفتها تبناً وسقيتها ماءًا بارداً، ومتقلداً سيفاً، وحاملاً رمحاً. والثالث قول الزجاج: يجوز {أرجلكم} بالخفض على معنى فاغسلوا؛ لأن قوله تعالى: {إلى الكعبين} قد دل عليه؛ لأن التحديد يفيد الغسل، كما في قوله تعالى: {إلى المرافق} ولو أريد المسح لم يحتج إلى التحديد، كما في قوله: {وامسحوا برؤسكم} من غير تحديد، ويطلق المسح على الغسل انتهى. قال العلامة السيد محمود الآلوسي البغدادي المتوفي سنة 1270هـ في تفسيره روح المعاني (ج6: ص73) : وفي الأرجل ثلاث قراءات، واحدة شاذة، واثنتان متواترتان، أما الشاذة فالرفع وهي قراءة الحسن، وأما المتواترتان فالنصب وهي قراءة نافع، وابن عامر، وحفص، والكسائي، ويعقوب. والجر وهي قراءة ابن كثير، وحمزة، وأبي عمرو، وعاصم، وفي رواية أبي بكر عنه. ومن هنا اختلف الناس في غسل الرجلين ومسحهما، قال الإمام الرازي: فنقل القفال في تفسيره عن ابن عباس، وأنس بن مالك، وعكرمة، والشعبي، وأبي جعفر محمد بن علي الباقر: أن الواجب فيهما المسح وهو مذهب

الإمامية، وقال جمهور الفقهاء والمفسرين: فرضهما الغسل. وقال داوود: يجب الجمع بينهما، وهو قول الناصر للحق من الزيدية. وقال الحسن البصري، ومحمد بن جرير الطبري: المكلف مخير بين المسح والغسل. وحجة القائلين بالمسح قراءة الجر، فإنها تقتضي كون الأرجل معطوفة على الرؤس، فكما وجب المسح فيها وجب فيها، والقول أنه جر بالجوار كما في قولهم: هذا جحر ضبٍ خربٍ، وقوله: كأن ثبيرا في عرانين وبله كبير أناس في بجادٍ مزملٍ باطل من وجوه: أولها أن الكسر على الجوار معدود في اللحن الذي قد يتحمل لأجل الضرورة في الشعر، وكلام الله تعالى يجب تنزيهه عنه. وثانيها أن الكسر إنما يصار إليه حيث حصل الأمن من الالتباس كما في ما استشهدوا به، وفي الآية الأمن من الالتباس غير حاصل. وثالثها أن الجر بالجوار إنما يكون بدون حرف العطف، وأما مع حرف العطف فلم تتكلم به العرب، وردوا قراءة النصب إلى قراءة الجر فقالوا: إنها تقتضي المسح أيضاً لأن العطف حينئذٍ على محل الرؤوس لقربه فيتشاركان في الحكم، وهذا مذهب مشهور للنحاة. ثم قالوا: أو لا يجوز رفع ذلك بالأخبار، لأنها بأسرها من بابا الآحاد، ونسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز، ثم قال الإمام: واعلم أنه لا يمكن الجواب عن هذا إلا من وجهين الأول: أن الأخبار الكثيرة وردت بإيجاب الغسل، والغسل مشتمل على المسح ولا ينعكس، فكان الغسل أقرب إلى الاحتياط فوجب المصير إليه، وعلى هذا يجب القطع بأن غسل الأرجل يقوم مقام مسحهما والثاني: أن فرض الأرجل محدود إلى الكعبين، والتحديد إنما جاء في الغسل لا المسح، والقوم أجابوا منه بوجهين: الأول: أن الكعب عبارة عن العظمين الناتئين من جانبي الساق إلا أنهم التزموا أنه يجب أن يمسح ظهور القدمين إلى هذين الموضعين، وحينئذٍ لا يبقى هذا السؤال. انتهى. ولا يخفى أن بحث الغسل والمسح مما كثر فيه الخصام، وطالما زلت فيه الأقدام، وما ذكره الإمام يدل على أنه راجل في هذا الميدان، وضالع لا يطيق العروج إلى شاوى ضليع، وتحقيق تبتهج به الخواطر والأذهان، فلنبسط الكلام في تحقيق ذلك رغماً لأنوف الشيعة، السالكين من السبل كل سبيل هالك، فنقول وبالله تعالى التوفيق: إن القراءتين متواترتان بإجماع الفريقين، بل بإطباق أهل الإسلام كلهم، ومن القواعد الأصولية عند الطائفتين، أن القراءتين المتواترتين إذا تعارضتا في آية واحدة فلهما حكم آيتين، فلا بد لنا أن نسعى ونجتهد في تطبيقهما أولاً مهما أمكن؛ لأن الأصل في الدلائل الإعمال دون الإهمال كما تقرر عند أهل الأصول، ثم نطلب بعد ذلك الترجيح بينهما، ثم إذا لم يتيسر لنا الترجيح بينهما نتركهما ونتوجه إلى الدلائل الأخر من السنة، وقد ذكر الأصوليون أن الآيات إذا تعارضت بحيث لا يمكن التوفيق ثم الترجيح بينهما يرجع إلى السنة، فإنها لما لم يمكن لنا العمل بها صارت معدومة في حقنا من حيث العمل، وإن تعارضت السنة كذلك نرجع إلى أقوال الصحابة وأهل البيت، أو نرجع إلى القياس عند القائلين بأن قياس المجتهد يعمل به عند التعارض، فلما تأملنا في هاتين القراءتين في الآية وجدنا التطبيق بينهما على قواعدنا من وجهين: الأول أن يحمل المسح على الغسل كما صرح به أبوزيد الأنصاري وغيره من أهل اللغة، فيقال للرجل إذا توضأ: تمسح. ويقال: مسح الله تعالى ما بك، أي أزال عنك المرض. ومسح الأرض المطر إذا غسلها، فإذا عطفت الأرجل على الرؤوس في قراءة الجر لا يتعين كونها ممسوحة بالمعنى الذي يدعيه الشيعة، واعترض ذلك من وجوه: أولها:

أن فائدة اللفظين في اللغة والشرع مختلفة، وقد فرق الله تعالى بين الأعضاء المغسولة والممسوحة فكيف يكون معنى الغسل والمسح واحداً. وثانيها: أن الأرجل إذا كانت معطوفة على الرؤوس وكان الفرض في الرؤوس المسح الذي ليس بغسل بلا خلاف وجب أن يكون حكم الأرجل كذلك، وإلا لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز، وثالثها: أنه لو كان المسح بمعنى الغسل يسقط الاستدلال على الغسل بخبر أنه - صلى الله عليه وسلم - غسل رجليه؛ لأنه على هذا يمكن أن يكون مسحهما، فسمى المسح غسلا، ورابعها: أن استشهاد أبي زيد بقولهم: تمسحت للصلاة، لا يجدى نفعا، لاحتمال أنهم لما أرادوا أن يخبروا عن الطهور بلفظ موجز، ولم يجز أن يقولوا تغسلت للصلاة، لأن ذلك يوهم الغسل، قالوا بدله: تمسحت، لأن المغسول من الأعضاء ممسوح أيضاً، فتجوزوا بذلك تعويلاً على فهم المراد، وذلك لا يقتضي أن يكونوا جعلوا المسح من أسماء الغسل. وأجيب عن الأول بأنا لا ننكر اختلاف فائدة اللفظين لغةً وشرعاً، ولا تفرقة الله تعالى بين المغسول والممسوح من الأعضاء، لكنا ندعى أن حمل المسح على الغسل في بعض المواضع جائز، وليس في اللغة والشرع ما يأباه على أنه قد ورد ذلك في كلامهم. وعن الثاني بأنا نقدر لفظ "امسحوا" قبل {أرجلكم} أيضاً وإذا تعدد اللفظ فلا بأس بأن يتعدد المعنى، ولا محذور فيه، فقد نقل شارح زبدة الأصول من الإمامية أن هذا القسم من الجمع بين الحقيقة والمجاز جائز، بحيث يكون ذلك اللفظ في المعطوف عليه بالمعنى الحقيقي، وفي المعطوف بالمعنى المجازى، وقالوا في الآية {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا جنباً إلا عابرى سبيل} [43:4] : أن الصلاة في المعطوف عليه بالمعنى الحقيقي الشرعي، وهو الأركان المخصوصة، وفي المعطوف بالمعنى المجازى، وهو المسجد، فإنه محل الصلاة، وادعى ذلك الشارح أن هذا نوع من الإستخدام، وبذلك فسر جمعٌ من مفسرى الإمامية وفقهائهم. وعليه فيكون هذا العطف من عطف الجمل في التحقيق، ويكون المسح المتعلق بالرؤوس بالمعنى الحقيقي، والمسح المتعلق بالأرجل بالمعنى المجازي، على أن من أصول الإمامية كالشافعية جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز، وكذا استعمال المشترك في معنييه. ويحتمل هنا إضمار الجار تبعاً للفعل فتدبر. ولا يشكل أن في الآية حينئذٍ إبهاماً، ويبعد وقوع ذلك في التنزيل، لأنا نقول: إن الآية نزلت بعد ما فرض الوضوء، وعلمه عليه الصلاة والسلام روح القدس إياه في إبتداء البعثة بسنين، فلا بأس أن يستعمل فيها هذا القسم من الإبهام، فإن المخاطبين كانوا عارفين بكيفية الوضوء، ولم تتوقف معرفتهم بها على الاستنباط من الآية ولم تنزل الآية لتعليمهم بل سوقها لإبدال التيمم من الوضوء والغسل في الظاهر، وذكر الوضوء فوق التيمم للتمهيد، والغالب فيما يذكر لذلك عدم البيان المشبع. وعن الثالث: بأن حمل المسح على الغسل لداعٍ لا يستلزم حمل الغسل على المسح بغير داعٍ، فكيف يسقط الاستدلال؟ سبحان الله تعالى هذا هو العجب العجاب. وعن الرابع: بأنا لا نسلم أن العدول عن "تغسلت" لإبهامه الغسل، فإن "تمسحت" يوهم ذلك أيضاً، بناءً على ما قاله من أن المغسول من الأعضاء ممسوح أيضاً، سلمنا ذلك، لكنا لم نقتصر في الاستشهاد على ذلك، ويكفي مسح الأرض المطر في الفرض. والوجه الثاني: أن يبقى المسح على الظاهر، وتجعل الأرجل على تلك القراءة معطوفة على المغسولات، كما في قراءة النصب والجر للمجاورة، واعتراض أيضاً من وجوه، الأول والثاني والثالث ما ذكره الإمام من عد الجر بالجوار لحناً، وأنه إنما يصار إليه عند أمن الالتباس، ولا أمن فيما

نحن فيه، وكونه إنما يكون بدون حرف العطف. والرابع: أن في العطف على المغسولات سواءٌ كان المعطوف منصوب اللفظ أو مجروره، الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة أجنبية ليست اعتراضية، وهو غير جائز عند النحاة، على أن الكلام حينئذٍ من قبيل "ضربت زيداً وأكرمت خالداً وبكراً" بجعل بكر عطفاً على زيد، أو إرادة أنه مضروب لا مكرم، وهو مستهجن جداً تنفر عنه الطباع، ولا تقبله الأسماع فكيف يجنح إليه أو يحمل كلام الله تعالى عليه وأجيب عن الأول بأن إمام النحاة الأخفش وأبا البقاء وسائر مهرة العربية وأئمتها جوزوا جر الجوار، وقالوا بوقوعه في الفصيح كما ستسمعه إنشاء الله تعالى ولم ينكره إلا الزجاج، وإنكاره مع ثبوته يدل على قصور تتبعه، ومن هنا قالوا: المثبت مقدم على النافي. وعن الثاني: بأنا لا نسلم أنه إنما يصار إليه عند أمن الالتباس، ولا نقل في ذلك عن النحاة في الكتب المعتمدة، نعم: قال بعضهم: شرط حسنه عدم الالتباس مع تضمن نكتة وهو هنا كذلك، لأن الغاية دلت على أن هذا المجرور ليس بمسموح، إذا المسح لم يوجد مغياً في كلامهم، ولذا لم يغي في آية التيمم، وإنما يغي الغسل، ولذا غي في الآية حين احتج إليه، فلا يرد أنه لم يغي غسل الوجه لظهور الأمر فيه، ولا قول المرتضى أنه لا مانع من تغييه. والنكتة فيه الإشارة إلى تخفيف الغسل حتى كأنه مسح. وعن الثالث: بأنهم صرحوا بوقوعه في النعت كما سبق من الأمثلة، وقوله تعالى: {عذاب يومٍ محيطٍ} [84:11] بجر {محيط} مع أنه نعت للعذاب. وفي التوكيد كقوله: الأبلغ ذوى الزوجات (كلهم) ... ... أن ليس وصل إذا انحلت عرى الذنب بجر "كلهم" على ما حكاه الفراء. وفي العطف كقوله تعالى: {وحورٌ عينٌ، كأمثال اللؤ لؤ المكنون} [23،22:56] على قراءة حمزة، والكسائي، وفي رواية المفضل عن عاصم فإنه مجرور بجر {أكواب وأباريق} ومعطوف على {ولدان مخلدون} . وقول النابغة: لم يبق إلا أسير غير منفلت ... ... و (موثق) في حبال القد مجنوب يجر "موثق" مع أن العطف على "أسير" وقد عقد النحاة لذلك بابا على حدة لكثرته، ولما فيه من المشاكلة، وقد كثر في الفصيح حتى تعدوا عن اعتباره في الإعراب إلى التثنية والتأنيث وغير ذلك، وكلام ابن الحاجب في هذا المقام لايعبأ به. وعن الرابع بأن لزوم الفصل بالجملة إنما يخل إذا لم تكن جملة {وامسحوا برؤسكم} متعلقة بجملة المغسولات، فإن كان معناها وامسحوا الأيدي بعد الغسل برؤسكم فلا إخلال كما هو مذهب كثير من أهل السنة، من جواز المسح ببقية ماء الغسل واليد المبلولة من المغسولات، ومع ذلك لم يذهب أحدٌ من أئمة العربية إلى امتناع الفصل بين الجملتين المتعاطفتين، أو معطوف ومعطوف عليه، بل صرح الأئمة بالجواز، بل نقل أبوالبقاء إجماع النحويين على ذلك، نعم! توسط الأجنبي في كلام البلغاء يكون لنكتة وهي هنا ما أشرنا إليه. أو الإيماء إلى الترتيب، وكون الآية من قبيل ما ذكر من المثال في حين المنع، وربما تكون كذلك لو كان النظم "وامسحوا رؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين" والواقع ليس كذلك وقد ذكر بعض أهل السنة أيضاً وجهاً آخر في التطبيق، وهو أن قراءة الجر محمولة على حالة التخفف، وقراءة النصب على حال دونه واعترض بأن الماسح على الخف ليس ماسحاً على الرجل حقيقةً ولا حكماً، لأن الخف اعتبر

مانعاً سراية الحدث إلى القدم فهي طاهرة، وماحل بالخف أزيل بالمسح، فهو على الخف حقيقةً وحكماً، وأيضاً المسح على الخفين لا يجب إلى الكعبين اتفاقاً وأجيب بأنه يجوز أن يكون لبيان المحل الذي يجزئ عليه المسح، لأنه لايجزء المسح على ساقه، نعم! هذا الوجه لا يخلو عن بعد والقلب لا يميل إليه وإن ادعى الجلال السيوطي أنه أحسن ما قيل في الآية. وللإمامية في تطبيق القراءتين وجهان أيضاً لكن الفرق بينهما وبين ما سبق من الوجهين اللذين عند أهل السنة، أن قراءة النصب التي هي ظاهرة في الغسل عند أهل السنة، وقراءة الجر تعاد إليها، وعند الإمامية بالعكس. الوجه الأول: أن تعطف الأرجل في قراءة النصب على محل {برؤوسكم} فيكون حكم الرؤوس والأرجل كليهما مسحاً. الوجه الثاني: أن الواو فيه بمعنى مع من قبيل "استوى الماء والخشبة" وفي كلا الوجهين بحث لأهل السنة من وجوه: الأول: أن العطف على المحل خلاف الظاهر بإجماع الفريقين، والظاهر العطف على المغسولات والعدول عن الظاهر إلى خلافه بلا دليل لا يجوز، وإن استدلوا بقراءة الجر قلنا: إنها لا تصلح دليلاً على ذلك لما علمت، والثاني: أنه لو عطف {وأرجلكم} على محل {برؤسكم} جاز أن نفهم منه معنى الغسل، إذ من القواعد المقررة في العلوم العربية أنه إذا اجتمع فعلان متغايران في المعنى ويكون لكل منهما متعلق، جاز حذف أحدهما، وعطف متعلق المحذوف على متعلق المذكور كأنه متعلقة، ومن ذلك قوله: ياليت بعلك قد غدا ... ... متقلداً سيفاً ورمحاً فإن المراد وحاملاً رمحاً ومنه قوله: إذا ما الغانيات برزن يوماً ... ... وزججن الحواجب والعيونا فإنه أراد وكحلن العيونا، وقوله: تراه كأن مولاه يجدع أنفه ... وعينيه إن مولاه كان له وفر أى يفقئ عينيه إلى ما لا يحصى كثرة. والثالث: أن جعل الواو بمعنى مع بدون قرينة مما لا يكاد يجوز، ولا قرينة ههنا على أنه يلزم كما قيل فعل المسحين معاً بالزمان، ولا قائل به بالاتفاق. بقى لو قال قائل: لا أقنع بهذا المقدار في الاستدلال على غسل الأرجل بهذه الآية مالم ينضم إليها من خارج ما يقوى تطبيق أهل السنة، فإن كلامهم وكلام الإمامية في ذلك عسى أن يكون فرسي رهان. قيل له: إن سنة خير الورى - صلى الله عليه وسلم - وآثار الأئمة - رضي الله عنهم - شاهدة على ما يدعيه أهل السنة، وهي من طريقهم أكثر من أن تحصى، وأما من طريق القوم فقد روى العياشي، عن علي، عن أبي حمزة قال: سألت أباهريرة عن القدمين فقال: تغسلان غسلاً. وروى محمد بن النعمان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله - رضي الله عنه - قال: إذا نسيت مسح رأسك حتى غسلت رجليك فامسح رأسك، ثم اغسل رجليك. وهذا الحديث رواه أيضاً الكلبي، وأبوجعفر الطوسي بأسانيد صحيحة بحيث لا يمكن تضعيفها، ولا الحمل على التقية، لأن المخاطب بذلك شيعي حاضر. وروى محمد بن الحسن الصفار، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده أمير المؤمنين - كرم الله وجهه - أنه قال: جلست أتوضأ فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما غسلت قدمي قال: يا علي! خلل بين الأصابع. ونقل الشريف الرضي عن علي - كرم الله وجهه - في نهج البلاغة حكاية وضوئه - صلى الله عليه وسلم -، وذكر فيه غسل الرجلين، وهذا يدل على أن مفهوم الآية كما قال أهل السنة، ولم يدع

أحد منهم النسخ حتى يتكلف لإثباته كما ظنه من لا وقوف له وما يزعمه الإمامية من نسبة المسح إلى ابن عباس - رضي الله عنهما-، وأنس بن مالك وغيرهما كذب مفتري عليهم، فإن أحداً منهم ما روى عنه بطريق صحيح أنه جوز المسح إلا ابن عباس، فإنه قال بطريق التعجب: لا نجد في كتاب الله تعالى إلا المسح ولكنهم أبوا إلا الغسل. ومراده أن ظاهره الكتاب يوجب المسح على قراءة الجر التي كانت قراءته، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لم يفعلوا إلا الغسل، ففي كلامه هذا إشارة إلى أن قراءة الجر مؤولة متروكة الظاهر بعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم-، ونسبة جواز المسح إلى أبي العالية، وعكرمة، والشعبي زور وبهتان أيضاً، وكذلك نسبة الجمع بين الغسل والمسح، أو التخيير بينهما إلى الحسن البصري - عليه الرحمة-، ومثله نسبة التخيير إلى محمد بن جرير الطبري صاحب التاريخ الكبير والتفسير الشهير، وقد نشر رواة الشيعة هذه الأكاذيب المختلفة، ورواها بعض أهل السنة ممن لم يميز الصحيح والسقيم من الأخبار بلا تحقق ولا سند، واتسع الخرق على الراقع. ولعل محمد بن جرير القائل بالتخيير هو محمد بن جرير بن رستم الشيعي صاحب الإيضاح للمترشد في الإمامة، لا أبوجعفر محمد بن جرير بن غالب الطبري الشافعي الذي هو من أعلام أهل السنة، والمذكور في تفسير هذا هو الغسل فقط لا المسح، ولا الجمع، ولا التخيير الذي نسبه الشيعة إليه. ولا حجة لهم في دعوى المسح بما روى عن أمير المؤمنين علي - كرم الله وجهه-: أنه مسح وجهه ويديه، ومسح رأسه ورجليه، وشرب فضل طهوره قائماً، وقال: إن الناس يزعمون أن الشرب قائماً لا يجوز، وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع مثل ما صنعت، وهذا وضوء من لم يحدث. لأن الكلام في وضوء المحدث لا في مجرد التنظيف بمسح الأطراف، كما يدل عليه ما في الخبر من مسح المغسول اتفاقاً. وأما ما روى عن عبادة بن تميم، عن عمه بروايات ضعيفة: أنه - صلى الله عليه وسلم - توضأ ومسح على قدميه. فهو كما قال الحافظ: شاذ منكر، لا يصلح للاحتجاج، مع احتمال حمل القدمين على الخفين ولو مجازاً، واحتمال اشتباه القدمين المتخففين بدون المتخففين من بعيد، ومثل ذلك عند من اطلع على أحوال الرواة ما رواه الحسين بن سعيد الأهوازي، عن فضالة، عن حماد بن عثمان، عن غالب بن هذيل، قال: سألت أبا جعفر - رضي الله عنه- عن المسح على الرجلين فقال: هو الذي نزل به جبرئيل عليه السلام، وما روى عن أحمد بن محمد قال: سألت أبا الحسن موسى بن - جعفر رضي الله عنه- عن المسح على القدمين كيف هو؟ فوضع بكفيه على الأصابع ثم مسحهما إلى الكعبين، فقلت له، لو أن رجلاً قال بأصبعين من أصابعه هكذا إلى الكعبين أيجزئ؟ قال: لا إلا بكفه كلها إلى غير ذلك مما روته الإمامية في هذا الباب، ومن وقف على أحوال رواتهم لم يعول على خبر من أخبارهم، وقد ذكرنا نبذة من ذلك في كتابنا "النفحات القدسية في رد الإمامية" على أن لنا أن نقول: لو فرض أن حكم الله تعالى المسح على ما يزعمه الإمامية من الآية فالغسل يكفي عنه، ولو كان هو الغسل لا يكفي عنه فبالغسل يلزم الخروج عن العهدة بيقين دون المسح، وذلك لأن الغسل محصل لمقصود المسح من وصول البلل وزيادة وهذا مراد من عبر بأنه مسح وزيادة، فلا يرد ما قيل من أن الغسل والمسح متضادان لا يجتمعان في محل واحد كالسواد والبياض، وأيضاً كان يلزم الشيعة الغسل لأنه الأنسب بالوجه المعقول من الوضوء، وهو التنظيف للوقوف بين يدي رب الأرباب- سبحانه وتعالى لأنه الأحوط أيضاً لكون

رواه مسلم. 401- (8) وعن المغيرة بن شعبة قال: ((إن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة وعلى الخفين)) ـــــــــــــــــــــــــــــ سنده متفقا عليه للفريقين كما سمعت، دون المسح للاختلاف في سنده - انتهى (رواه مسلم) . الحديث بهذا اللفظ من إفراد مسلم، وأخرجه أيضاً أبوداود، والنسائي، وابن ماجه مختصراً، وهو عند جميعهم من حديث منصور عن هلال بن يساف، عن أبي يحيى، عن عبد الله بن عمرو قال المنذري: واتفق البخاري ومسلم على إخراجه من يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرو نحوه. 401- قوله: (فمسح بناصيته وعلى العمامة) بكسر العين، وفي رواية للنسائي: مسح ناصيته وعمامته. واستدل به لما ذهب إليه مالك والشافعي ومن معهما: من أنه لايجوز اقتصار المسح على العمامة، بل لا بد مع ذلك من المسح على الناصية. قيل: رواية مسلم هذه مفصلة، يحمل عليها ما في بعض طرقها: من أنه - صلى الله عليه وسلم - مسح على الخفين والعمامة. أخرجها الترمذي وصححها. وذهب أحمد وغيره من فقهاء أصحاب الحديث إلى جواز الاقتصار على العمامة، واحتجوا بحديث عمرو بن أمية عند أحمد والبخاري وابن ماجه. وبحديث بلال عند أحمد، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه. وبحديث سلمان عند أحمد، وبأحاديث أبي أمامة، وخزيمة بن ثابت، وأبي طلحة، وأبي ذر عند الطبراني. وبحديث أنس عند البيهقي، وغير ذلك من الأحاديث التي ذكرها الزيلعي في نصب الراية واعتذر الأولون عن هذه الأحاديث بوجوه كلها مخدوشة، فمنها أنها معلولة مضطربة الأسانيد وفيها رجال مجهولون وفيه أن أكثر هذه الأحاديث صحيحة مستقيمة، كما حقق صحتها واستقامتها الحافظ في التلخيص وغيره. ومنها أن أحاديث المسح على العمامة من أخبار الآحاد فلا تعارض الكتاب، لأن الكتاب يوجب مسح الرأس. وفيه أن الآية لا تنفي الاقتصار على المسح على العمامة، لأن من قال: قبلت رأس فلان يصدق ولو بحائل وسيأتي توضيحه. ومنها أن الله تعالى فرض المسح على الرأس، والحديث في العمامة محتمل التأويل، فلا يترك المتيقن للمحتمل، والمسح على العمامة ليس بمسح على الرأس وفيه أن هذا الوجه يرجع إلى الوجه الثاني، وقد تقدم جوابه وتوضيحه أنه أجزئ المسح على الشعر، ولا يسمى رأساً. فإن قيل: يسمى رأساً مجازاً بعلاقة المجاورة. قيل: والعمامة كذلك بتلك العلاقة، فإنه يقال: قبلت رأسه، والتقبيل على العمامة، ويؤيد ذلك حملهم قراءة الجر في {أرجلكم} في آية على حالة التخفف، فتأمل. ومنها أن أحاديث المسح على العمامة مجملة، وحديث المغيرة عند مسلم مفصل مفسر فتحمل عليه، ويقال: إن أداء المفروض من مسح الرأس وقع بمسح الناصية إذ هي جزء الرأس، وصارت العمامة تبعاً له، يعني أن المسح على العمامة كان زائداً على أصل الفرض، وتعميماً وتكميلاً، فرخص لهم - صلى الله عليه وسلم - بفعله بعد مسح الواجب أن يقتصروا من الاستيعاب على مسح العمائم. وفيه أنه لا موجب لحمل أحاديث المسح على العمامة على حديث المغيرة، فإنها وقائع مختلفة ليست حكاية عن فعل واحد في وقت واحد، وأما إن المسح على العمامة كان زائداً على أصل الفرض وإتماما ففيه أنه مجرد دعوى لا دليل عليها فلا يلتفت إليها. ومنها أنها حكاية حال فيجوز

رواه مسلم. 402- (9) وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب التيمن ما استطاع في شأنه كله ـــــــــــــــــــــــــــــ أن تكون العمامة صغيرة رقيقة بحيث تنقع البلة منها إلى الرأس. وفيه أن الكل من قوله وفعله وتقريره حجة لنا، وفي إنشاء مثل هذه الاحتمالات في أفعاله وأحواله من غير دليل رد للسنة الصحيحة الثابتة، وأيضاً لا يتحقق وصول البلة إلى الرأس إلا إذا كانت العمامة غير ذات أكوار، وفيه إبطال لمسمى العمامة. ومنها أنه يحتمل أن ذلك كان قبل نزول المائدة. وفيه أنه لايثبت النسخ بالاحتمال حتى يعلم التاريخ، وأيضاً لا منافة بين الآية وبين أحاديث المسح حتى يحتاج إلى التوفيق، أو إدعاء النسخ. ومنها ما قال محمد بن الحسن في موطئه: بلغنا أن المسح على العمامة كان فترك. وفيه أنه لا يثبت النسخ بمجرد قول الإمام محمد، ولا بد لمن يدعى النسخ أن يأتي بالحديث الناسخ الصحيح الصريح. ومنها أن الخطاب في قوله: فامسحوا بوجوهكم وأيديكم. كالخطاب في قوله: وامسحوا برؤسكم، ولا يجوز مسح الوجه في التيمم بحائل، فكذلك الرأس. وفيه أنه قد ثبت بالأحاديث الصحيحة المسح على العمامة فقلنا به ولم يثبت مسح الوجه في التيمم بحائل، لا بحديث صحيح، ولا ضعيف، ولا بأثر صحابي، ولذلك لم يذهب إليه أحد من الأئمة، ولا حاجة إلى رد أحاديث المسح على العمامة بمثل هذا العذر الواهي. ومنها أن المراد بقوله (مسح عمامته) مسح ما تحتها، ومن قبيل إطلاق اسم الحال على المحل وفيه أن هذا مجاز خلاف الأصل فلا يحمل عليه من غير دليل. ومنها أنه يحتمل أنه مسح ناصيته وسوى عمامته بيديه فحسب الراوي تسوية العمامة عند المسح مسحاً لكونه بعيداً. وفيه أنه نسبة الخطأ إلى الصحابة من غير دليل، ويرتفع الأمان عن الأحاديث بمثل هذه الإحتمالات. ومنها أنه يحتمل أنه كان ذلك لمرض منعه كشف رأسه، فصارت العمامة كالجبيرة. وفيه أن هذا أيضاً احتمال محض فلا يلتفت إليه، لما فيه من رد السنة الصحيحة الثابتة، وبهذا علمت أن الحق ما ذهب إليه أحمد وغيره، فقد ثبت المسح على الرأس فقط. وعلى العمامة فقط، وعلى الرأس والعمامة، والكل صحيح ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موجود في كتب الأئمة الصحاح، والنبي - صلى الله عليه وسلم - مبين لأمر الله، فقصر الإجزاء على بعض ما ورد لغير موجب ليس من دأب المنصفين (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً النسائي والبيهقي وأخرجه الترمذي بلفظ: مسح على الخفين والعمامة. 402- قوله: (يجب التيمن) أي الإبتداء باليمين، أي فيما لم يعهد فيه المقارنة من باب التشريف، بخلاف غسل الوجه، ومسح الرأس والأذنين فإن المعهود في هذه الأشياء قران اليسار باليمين (ما استطاع) ما إما موصول فهو بدل من التيمن، وإما بمعنى مادام، وبه احتراز عما لا يستطيع فيه التيمن شرعاً كالخروج من المسجد، والدخول في الخلاء، والتمخط، والاستنجاء (في شأنه) متعلق بالتيمن، أو بالمحبة، أو بهما على سبيل التنازع، والشأن الأمر والحال، والخطب (كله) تأكيد، وهو يدل على التعميم، أي استحباب التيمن في دخول الخلاء وأمثاله أيضاً، ويمكن أن يقال: حقيقة

{الفصل الثاني}

في طهوره وترجله وتنعله) متفق عليه. {الفصل الثاني} 403- (10) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا لبستم وإذا توضأتم، فابدؤا بأيامنكم)) رواه أحمد وأبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ الشأن ما كان فعلاً مقصوداً، وما يستحب فيه التياسر ليس من الأفعال المقصودة، بل هي إما تروك وإما أفعال غير مقصودة (في طهوره) بضم الطاء أي تطهره (وترجله) أي تمشيط الشعر بالماء أو بالدهن من اللحية والرأس (وتنعله) أي لبسه النعل، وقوله (في طهوره) الخ. بدل من (في شأنه) بإعادة العامل بدل البعض من الكل، فيكون تخصيصاً بعد تعميم، وخص هذه الثلاثة بالذكر اهتماماً بها وبياناً لشرفها، ولا مانع أن يكون بدل الكل من الكل، إذ الطهور مفتاح أبواب العبادات فبذكره يستغنى عنها، والترجل يتعلق بالرأس، والتنعل بالرجل، وأحوال الإنسان إما أن تتعلق بجهة الفوق، أو بجهة التحت، أو بالأطراف، فجاء لكل منها بمثال قاله العيني. والحديث دليل على استحباب البداءة بشق الرأس الأيمن في الترجل، والغسل، والحلق، وبالميامن في الوضوء والغسل، والأكل، والشرب، وغير ذلك. قال النووي: قاعدة الشرع المستمرة استحباب البداءة باليمين في كل ما كان من باب التكريم والتزيين، وما كان بضدها استحب فيه التياسر. والكلام في تقديم اليمين في الوضوء يأتي في شرح حديث أبي هريرة الذي يتلوه (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب التيمن في دخول المسجد وغيره من كتاب الصلاة، وأخرجه أيضاً في الطهارة، والأطعمة، واللباس، وأخرج مسلم في الطهارة معناه، وأخرجه أيضاً الترمذي في آخر الصلاة، والنسائي في الطهارة، وفي الزينة، وأبوداود في اللباس، وابن ماجه في الطهارة. 403- قوله: (إذا لبستم) أي قميصاً أو سراويل أو نعلاً أو خفاً ونحوها يعني أردتم اللبس (وإذا توضأتم) أي أردتم التطهر بالوضوء أو الغسل (فابدؤوا بأيامنكم) جمع الأيمن وهو بمعنى اليمين، وفي رواية (بميامنكم) جمع الميمنة، ولا فرق بين اللفظين في العربية، والأمر محمول على الندب كما يدل عليه حديث: "كان يحب التيمن"، وكذلك اقتران الوضوء بالتيامن في اللبس المجمع على عدم وجوبه في حديث أبي هريرة هذا يصلح أن يكون قرينة لصرف الأمر إلى الندب، ودلالة الاقتران وإن كانت ضعيفة ولكنها لا تقصر عن الصلاحية للصرف، لاسيما مع اعتضادها بقول علي - رضي الله عنه - وفعله. أخرجه الدارقطني من طرق، وبدعوى الإجماع على عدم الوجوب. قال النووي: أجمع العلماء - أي أهل السنة - على أن تقديم اليمين على اليسار من اليدين والرجلين في الوضوء سنة، لو خالفها فاته الفضل، وصح وضوئه، ولا اعتداد بخلاف الشيعة (رواه أحمد وأبوداود) في اللباس وسكت عنه، وأخرجه أيضاً ابن ماجه في الطهارة، وابن خزيمة، لكن ليس

404- (11) وعن سعيد بن زيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه)) ـــــــــــــــــــــــــــــ في روايتهما إذا لبستم، وابن حبان والبيهقي كلهم من طريق زهير، عن الأعمش عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال ابن دقيق العيد: هو حقيق بأن يصح. وللنسائي، والترمذي من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا لبس قميصاً بدأ بميامنه. 404- قوله: (وعن سعيد بن زيد) هو سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي القرشي أبوالأعور، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، والمهاجرين الأولين. قال المصنف: أسلم قديماً، وشهد المشاهد كلها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - غير بدر، فإنه كان مع طلحة بن عبيد الله يطلبان خبر عير قريش وضرب له النبي - صلى الله عليه وسلم - بسهم، وكانت فاطمة أخت عمر بن الخطاب تحته، وبسببها كان إسلام عمر، كان آدم طوالاً أشعر. له ثمانية وثلاثون حديثاً، اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بحديث، وروى عنه جماعة. مات بالعقيق فحمل إلى المدينة، ودفن بالبقيع سنة (51) وقيل (50) وله بضع وسبعون سنة. (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) أي لا يصح الوضوء ولا يوجد شرعاً إلا بالتسمية، إذ الأصل في النفي الحقيقة، ونفى الصحة أقرب إلى الذات، وأكثر لزوماً للحقيقة فيستلزم عدمها عدم الذات، وما ليس بصحيح لا يجزئ ولا يعتد به فالحديث نص على افتراض التسمية عند ابتداء الوضوء، وإليه ذهب أحمد في رواية، وهو قول أهل الظاهر. وذهبت الشافعية، والحنفية، ومن وافقهم إلى أن التسمية سنة فقط، واختار ابن الهمام من الحنفية وجوبها، وقال الشاه ولي الله الدهلوي في حجة الله البالغة: هو أي الحديث نص على أن التسمية ركن أو شرط، ويحتمل أن يكون المعنى لا يكمل الوضوء، لكن لا أرتضى بمثل هذا التأويل، فإنه من التأويل البعيد الذي يعود بالمخالفة على اللفظ انتهى. قلت: ويبعده أيضاً القرآن بقوله: لا صلاة لمن لا وضوء له، وفي بعض الروايات، ويبعده أيضاً أن الحمل على نفى الكمال مجاز، ولا يصار إليه إلا عند تعذر الحقيقة، وقيام القرينة على إرادة المجاز وهو منتف ههنا. وحديث "من توضأ وذكر اسم الله عليه كان طهورا لجميع بدنه، ومن توضأ ولم يذكر اسم الله عليه كان طهوراً لأعضاء وضوئه" ضعيف جداً، أخرجه الدارقطني والبيهقي مرفوعاً من حديث ابن عمر، وفيه أبوبكر الداهري عبد الله بن الحكم، وهو متروك ومنسوب إلى الوضع. وأخرجاه أيضاً من حديث أبي هريرة، وفيه مرداس بن محمد بن عبد الله بن أبان عن أبيه، وهما ضعيفان، وأخرجاه أيضاً من حديث ابن مسعود، وفيه يحيى بن هشام السمسار، وهو متروك والحاصل أن هذا الحديث لا يصلح لشدة وهنه أن يكون قرينة لتوجه ذلك النفي إلى الكمال، لا يقال: إنه تعاضد لكثرة طرقه، واكتسب قوة، لأن هذا إنما يفيد إذا كان الضعف في طرق الحديث يسيراً، وأما إذا اشتد الضعف والوهن كما هنا فلا يكتسب الحديث بكثرة طرقه إلا ضعفاً، وأما ما صرح به ابن سيد الناس في شرح الترمذي من أنه قد روى في بعض الروايات: "لا وضوء كاملاً" وقد استدل به الرافعي ففيه انه قال الحافظ: لم أره هكذا- انتهى. وتفوه بعض الحنفية أن قول الحافظ: "لم أره" ليس بحجة على من رآه من المتقدمين. قلت: لا يكفى للاحتجاج على المطلوب راوية أحد كائناً من كان ما لم يعلم كونه حسناً أو صحيحاً، ولم يعلم حال هذه الزيادة، ولم تثبت من وجه معتبر إلى الآن، ولا يمكن لهذا البعض المتفوه ولا لغيره من

رواه الترمذي، وابن ماجه. 405- (12) ورواه أحمد، وأبوداود عن أبي هريرة. 406- (13) والدارمي عن أبي سعيد الخدري، ـــــــــــــــــــــــــــــ القائلين بعدم الوجوب أن يثبتوا هذه الزيادة من وجه معتبر، ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيراً، فلا تغنى روية ابن سيد الناس هذه الزيادة عن شيء، وقال بعض الحنفية: حمل الرواية على حقيقة معناها الظاهر يوجب تخصيص الآية الذي هو في حكم النسخ، وليس ذلك إلى خبر الواحد- انتهى. قلت: حاصل هذا الجواب أن حمل الحديث على معناه الحقيقي الظاهر، وجعل التسمية في ابتداء الوضوء فرضاً أي شرطاً زيادة على آية الوضوء بخبر الواحد، في رتبة الشرطية، والزيادة على النص القطعي في مرتبة الركنية أو الشرطية بأخبار الآحاد لا تجوز، لأنها نسخ ونسخ النص القطعي بخبر الواحد لا يجوز. وفيه أن ذلك ليس بنسخ، لأن النسخ رفع حكم شرعي ثابت بالخطاب، ولم يرتفع ههنا حكم على أن الزيادة بخبر الواحد على النص القطعي في مرتبة الوجوب أو الاستحباب تجوز عند الحنفية فكأنها ليست بزيادة عندهم، فيلزمهم أن يقولوا بوجوب التسمية, كما قال به ابن الهمام، وكما ذهب جمهورهم إلى تعين الفاتحة وجوباً، على أن حديث التسمية أصح وأقوى وأشهر من حديث الوضوء بالنبيذ، والزيادة بالحديث المشهور على القطعي تجوز عند الحنفية فتأمل. والمراد بقوله: (لم يذكر اسم الله عليه) ، أي لم يقل: بسم الله على وضوئه، لقوله في قصة الإناء الذي وضع فيه يده: (توضؤوا بسم الله) . ولقوله: (يا أبا هريرة! إذا توضأت فقل بسم الله والحمد لله) ، أخرجه الطبراني في الأوسط (رواه الترمذي وابن ماجه) وزاد هو في أوله: (لا صلاة لمن لا وضوء له) ، وأخرجه أيضاً أحمد والبزار والدارقطني والعقيلي والحاكم والبيهقي كلهم من طريق أبي ثفال المرى وهو مقبول قاله الحافظ، وذكره ابن حبان في الثقات عن رباح بن عبد الرحمن، وهو أيضاً مقبول، ذكره ابن حبان في ثقات أتباع التابعين عن جدته أسماء، قال الحافظ في التلخيص: قد ذكرت الصحابة، وإن لم يثبت لها صحبة، فمثلها لا يسئل عن حالها عن أبيها سعيد بن زيد بن عمرو، قال الترمذي: قال محمد يعني البخاري: أحسن شيء في هذا الباب حديث رباح بن عبد الرحمن. 405- قوله: (ورواه أحمد وأبوداود عن أبي هريرة) وأخرجه أيضاً الترمذي في العلل، وابن ماجه، والدارقطني وابن السكن والطبراني والبيهقي والحاكم، وقال: صحيح الإسناد. قال المنذري: وليس كما قال، فإنهم رووه عن يعقوب بن سلمة الليثي عن أبيه عن أبي هريرة، وقد قال البخاري وغيره: لا يعرف لسلمة سماع من أبي هريرة ولا ليعقوب سماع من أبيه- انتهى. وأبوه سلمة أيضاً لا يعرف ما روى عنه غير ابنه يعقوب، فأين شروط الصحة؟ وقد أطال الحافظ الكلام عليه في التلخيص (ص26) فارجع إليه. 406- قوله: (والدارمي عن أبي سعيد الخدري) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي في العلل وابن ماجه وابن عدي

عن أبيه، وزادوا في أوله: (لا صلاة لمن لا وضوء له) . 407- (14) وعن لقيط بن صبرة، قال: قلت يا رسول الله! أخبرني عن الوضوء. قال: ((أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق، ـــــــــــــــــــــــــــــ وابن السكن والبزار والدارقطني والحاكم والبيهقي من طريق كثير بن زيد الأسلمي وهو صدوق يخطئ، صالح الحديث عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، وهو مقبول، قاله الحافظ عن أبيه عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، وهو ثقة. قال أحمد بن حنبل: إنه أحسن شيء في هذا الباب، وقال أيضاً: أقوى شيء فيه حديث كثير بن زيد عن ربيح. وقال إسحاق بن راهويه: هو أصح ما في الباب. وقال في الزوائد على ابن ماجه: هذا حديث حسن (عن أبيه) هذا من أوهام المصنف لأن الراوي للحديث هو أبوسعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري لا أبوه مالك بن سنان (وزادوا) أي أحمد وأبوداود والدارمي، وهذا أيضاً من أوهامه فإن هذه الزيادة ليست للدارمي، ففي عبارة المصنف ههنا سهوان أحدهما في الإسناد، وهو زيادة (عن أبيه) بعد قوله: (أبي سعيد الخدري) والثاني أن زيادة (لا صلاة لمن لا وضوء له) ليست للدارمي، خلاف ما يفهم من قوله، وزادوا في أوله، واعلم أنه ورد في الباب أحاديث كثيرة لا يخلو واحد منها عن مقال، لكنها تعاضدت بكثرة طرقها، قال المنذري في الترغيب: لا شك أن الأحاديث التي وردت فيها وإن كان لا يسلم شيء منها عن مقال، فإنها تتعاضد بكثرة طرقها، وتكتسب قوة- انتهى. وقال الحافظ: الظاهر أن مجموع الأحاديث يحدث منها قوة تدل على أن له أصلاً، وقال أبوبكر بن أبي شيبة: ثبت لنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله، وقال ابن سيد الناس في شرح الترمذي: ولا يخلو هذا الباب من حسن صريح، وصحيح غير صريح، وقال ابن كثير في الإرشاد وقد روى من طرق يشد بعضها بعضاً فهو حديث حسن أو صحيح، وقال ابن الصلاح: يثبت بمجموعها ما يثبت بالحديث الحسن. 407- قوله: (وعن لقيط) بفتح اللام وكسر القاف وبالطاء المهملة (بن صبرة) بفتح المهملة وكسر الموحدة، هو لقيط بن عامر بن صبرة أبورزين العقيلي، صحابي مشهور، له أربعة وعشرين حديثاً، جعلهما واحداً ابن عبد البر وعبد الغني بن سعيد وابن معين، وحكى ذلك الأثرم عن أحمد، وإليه نحا البخاري وجمعه ابن حبان وابن السكن، وقال ابن المديني وخليفة خياط وابن أبي خيثمة وابن سعد ومسلم والترمذي وابن قانع والبغوي والدارمي وجماعة: إن لقيط بن صبرة غير لقيط بن عامر بن صبرة. (أسبغ الوضوء) أي أبلغه مواضعه، وأوف كل عضو حقه، وقيل: أي أكمله، وبالغ فيه بالزيادة على المفروض كمية وكيفية بالتثليث، والدلك، وتطويل الغرة، وغير ذلك (وخلل بين الأصابع) أي أوصل الماء إلى ما بين أصابع اليدين والرجلين بالتخليل. وفيه دليل على وجوب التخليل بين أصابع اليدين والرجلين مطلقاً من غير فرق بين إمكان وصول الماء بدون تخليل وعدمه (وبالغ في الاستنشاق) بإيصال الماء إلى باطن الأنف. وفي رواية الدولابي (وبالغ في المضمضمة والاستنشاق) وفي رواية لأبي داود: وإذا توضأت فمضمض،

إلا أن تكون صائماً)) . رواه أبوداود، والترمذي، والنسائي وروى ابن ماجه، والدارمي إلى قوله: ((بين الأصابع)) . 408- (15) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا توضأت فخلل بين أصابع يديك ورجليك)) . رواه الترمذي. وروى ابن ماجه نحوه. وقال الترمذي: هذا حديث غريب. 409- (16) وعن المستورد ـــــــــــــــــــــــــــــ وفيه دليل على وجوب الاستنشاق والمضمضة، والاقتصار على ذكر هذه الخصال مع أن السؤال كان عن الوضوء إما من الرواة بسبب أن الحاجة دعتهم إلى نقل بعض، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بين كيفية الوضوء بتمامها، أو من النبي - صلى الله عليه وسلم - بناء على أنه علم أن مقصد السائل البحث عن هذه الخصال، وإن أطلق لفظه في السؤال، إما بقرينة حال، أو وحى، أو إلهام. وقال في التوسط: اقتصر في الجواب علماً منه أن السائل لم يسأله عن ظاهر الوضوء، بل عما خفى من باطن الفم والأنف والأصابع، فإن الخطاب (بأسبغ) إنما يتوجه نحو من علم صفته- انتهى (إلا أن تكون صائماً) فلا تبالغ لئلا يصل إلى باطنه، ولئلا ينزل إلى حلقه، ما يفطره، وكذا حكم المضمضة (رواه أبوداود) في الطهارة، وفي الصيام وفي الحروف، مطولاً ومختصراً، وسكت عنه، ونقل المنذري تصحيح الترمذي، وأقره (والترمذي) في الطهارة وفي الصيام مختصراً وصححه (والنسائي) في الطهارة مختصراً (وروى ابن ماجه والدارمي إلى قوله: بين الأصابع) أي بدون قوله: وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً وهذا وهم من المصنف، لأن ابن ماجه رواه أولاً في باب المبالغة في الاستنشاق مثل رواية الكتاب، إلا أنه ليس فيه قوله: (وخلل بين الأصابع) . ثم رواه في باب تخليل الأصابع بلفظ أسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع. وليس فيه ذكر المبالغة في الاستنشاق. والحديث أخرجه أيضاً الشافعي وأحمد وابن الجارود وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححه، والبيهقي مطولاً ومختصراً. ورواه الحافظ في الإصابة (ج3: ص329) وقال: هذا حديث صحيح. وصححه أيضاً البغوي وابن القطان. وقال النووي: حديث لقيط بن صبرة أسانيده صحيحة. 408- قوله: (إذا توضأت) أي شرعت في الوضوء أو غسلت أعضاء الوضوء (فخلل بين أصابع يديك ورجليك) فيه حجة على من قيد التخليل وخصه بأصابع الرجلين (رواه الترمذي) الخ وأخرجه أيضاً أحمد والحاكم (وقال الترمذي: هذا حديث غريب) وفي نسخ الترمذي المصححة الموجودة عندنا"حديث حسن غريب" والحديث في إسناده صالح مولى التوأمة، وقد اختلط في آخر عمره، ولكن موسى بن عقبة راوي الحديث سمع منه قبل أن يختلط، ولذلك حسنه الترمذي، وحسنه البخاري أيضاً كما نقل الحافظ في التلخيص (ص34) . 409- قوله: (وعن المستورد) بضم الميم وسكون السين المهملة وفتح التاء المثناة وبكسر الراء وبالدال المهملة

بن شداد، قال: ((رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ يدلك أصابع رجليه بخنصره)) . رواه الترمذي، وأبوداود، وابن ماجه. 410- (17) وعن أنس، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ أخذ كفاً من ماء فأدخله تحت حنكه، فخلل به لحيته، وقال: هكذا أمرني ربي) . ـــــــــــــــــــــــــــــ (بن شداد) بن عمرو القرشي الفهري الحجازي، سكن الكوفة، له ولأبيه صحبة. قال الخزرجي: له سبعة أحاديث، انفرد له مسلم بحديثين، شهد فتح مصر، ومات بالإسكندرية سنة (45) روى عنه جماعة. (يدلك) أي: يخلل كما في رواية أحمد (ج4: ص229) (بخنصره) أي بخنصر يده اليسرى لأنها أليق به (رواه الترمذي) وقال: هذا حديث حسن غريب، كما في بعض نسخ الترمذي المصححة المعتمدة (وأبوداود) وسكت عنه (وابن ماجه) وأخرجه أيضاً أحمد، وابن عبد الحكم في فتوح مصر (ص261) طبعه ليدن. كلهم من طريق ابن لهيعة، وقد صرح الترمذي بانفراده ولكنه ليس كذلك، فقد قال الحافظ في التلخيص (ص34) : تابعه الليث بن سعد، وعمرو بن الحارث وأخرجه البيهقي، وأبوبشر الدولابي، والدارقطني في غرائب مالك من طريق ابن وهب عن الثلاثة، وصححه ابن القطان، انتهى. وفي الباب أحاديث أخرى ذكرها الشوكاني في النيل (ج1:ص149) . 410- قوله: (أخذ كفاً من ماء) أي عند غسل الوجه، قال المناوي: مقتضى الحديث أنه كان يخلل لحيته بكف واحد، لكن في رواية لابن عدي "خلل لحيته بكفيه" (فأدخله) أي بيمينه (تحت حنكه) الحنك بفتح الحاء المهملة والنون، أعلى باطن الفم والأسفل من طرف مقدم اللحيين، وتحت الحنك تحت الذقن (فخلل به لحيته) قال القاري: أي: أدخل كفاً من ماء تحت لحيته من جهة حلقه فخلل به لحيته ليصل الماء إليها من كل جانب، وكان عند غسل الوجه لأنه من تمامه لا بعد فراغه كما توهم (وقال) لمن حضره (هكذا أمرني ربي) أي أمرني بتخليل اللحية بالوحى الخفى، أو بواسطة جبريل. وفيه وفي حديث عثمان الذي يتلوه دليل على مشروعية تخليل اللحية، واختلف في ذلك اختلافاً كثيراً حتى للحنفية وحدهم فيه ثمانية أقوال كما في رد المختار، والراجح عندي أنه يجب في غسل الجنابة غسل جميع اللحية أي ما يلاقي البشرة منها، وما يسترسل، ويلزم إيصال الماء إلى باطنها خفيفة كانت أو كثة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وأنقوا البشر". وأما الوضوء فلا يجب فيه غسلها وإيصال الماء إلى باطنها وتخليلها مطلقاً لا ما يلاقي البشرة أي الشعر المقابل المماس للخدين والذقن، ولا المسترسل أي الشعر الخارج عن دائرة الوجه، بل يسن تخليلها ومسحها، وذلك لما رواه البخاري عن ابن عباس في صفة الوضوء "ثم أخذ غرفة من ماء فجعل بها هكذا" أضافها إلى يده الأخرى فغسل بها وجهه، قال الشوكاني: لا شك أن الغرفة الواحدة لا تكفي كث اللحية لغسل وجهه وتخليل لحيته، ودفع ذلك كما قال بعضهم بالوجدان

رواه أبوداود. 411- (18) وعن عثمان رضي الله عنه: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخلل لحيته)) . رواه الترمذي، والدارمي. 412- (19) وعن أبي حية، قال: رأيت علياً توضأ فغسل كفيه ـــــــــــــــــــــــــــــ مكابرة منه انتهى. وأما الخفيفة التي ترى بشرتها فيجب إيصال الماء إلى ما تحتها، هذا ما عندي، والله أعلم. واستدل بعضهم على الوجوب بما في حديث أنس من قوله - صلى الله عليه وسلم -: (هكذا أمرني ربي) . وفيه أنه حديث ضعيف لا يصلح مثله للاستدلال على إيجاب شيء، ولو سلم صلاحيته للاستدلال وانتهاضه للاحتجاج ما أفاد الوجوب على الأمة لظهوره في الاختصاص به، وهو يتخرج على الخلاف المشهور في الأصول هل يعم الأمة ما كان ظاهر الاختصاص به - صلى الله عليه وسلم - أم لا؟ والفرائض لا تثبت إلا بيقين، نعم! الاحتياط والأخذ بالأوثق لا شك في أولويته. وأما أحاديث الباب الأخرى مما ذكره الزيلعي والحافظ فهي لا تدل على الوجوب لأنها أفعال (رواه أبوداود) وفي سنده الوليد بن زوران، قال الحافظ في التقريب: لين الحديث. وقال الآجري عن أبي داود: لا ندري سمع من أنس أو لا. وقال الذهبي في الميزان: ماذا بحجة مع أن ابن حبان وثقه انتهى. قال الحافظ في التلخيص (ص31) : وله طرق أخرى عن أنس ضعيفة ثم ذكر بعضها مع الكلام عليها. 411- قوله: (كان يخلل لحيته) أي: يدخل يده في خللها وهي الفروج التي بين الشعر، ومنه فلان خليل فلان أي يخالل حبه فروج جسمه حتى يبلغ إلى قلبه، ومنه الخلال (رواه الترمذي والدارمي) وأخرجه أيضاً ابن ماجه، وابن الجارود في المنتقي، والدارقطني وابن حبان والحاكم، قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وقال في علله الكبير: قال محمد بن إسماعيل يعني البخاري: أصح شيء في التخليل حديث عثمان، وهو حديث حسن. وقال الزيلعي: أمثل أحاديث تخليل اللحية حديث عثمان. ونقل الحافظ في التهذيب (ج5: ص69) تصحيحه عن ابن خزيمة، وابن حبان. وقال الحاكم صحيح الإسناد: وقد احتجا يعني البخاري، ومسلماً بجميع رواته غير عامر بن شقيق، قال: ولا أعلم في عامر طعناً بوجه من الوجوه. وتعقبه الذهبي في مختصره، وقال إن عامر بن شقيق ضعفه ابن معين، وكذا قال تقي الدين. وقال النسائي: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في الثقات. وللحديث شواهد ذكرها الزيلعي في نصب الراية (ج1:ص26،24) والحافظ في التلخيص (ص31) والهيثمي في مجمع الزوائد (ج1:ص335) وهي بمجموعها تصلح للاحتجاج على استحباب تخليل اللحية في الوضوء، قال شيخنا في شرح الترمذي: وهذا هو الحق. 412- قوله: (عن أبي حية) بفتح الحاء المهملة وتشديد الياء المثناه التحتية، هو ابن قيس الوادعي الهمداني الخارفي ولا يعرف اسمه، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن القطان: وثقة بعضهم، وصحح حديثه ابن السكن وغيره. وقال ابن الجارود في الكنى: وثقة ابن نمير (توضأ فغسل كفيه) أي شرع في الوضوء، أو أراده، فالفاء للتعقيب، أو لتفصيل

حتى أنقاهما، ثم مضمض ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، وذراعيه ثلاثاً، ومسح برأسه مرة، ثم غسل قدميه إلى الكعبين، ثم قام فأخذ فضل طهوره فشربه وهو قائم، ثم قال: أحببت أن أريكم كيف كان طهور رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) .رواه الترمذي، والنسائي. 413- (20) وعن عبد خير، قال: ((نحن جلوس ننظر إلى على حين توضأ، فادخل يده اليمنى فملأ فمه، فمضمض واستنشق، ونثر بيده اليسرى، فعل هذا ثلاث مرات، ثم قال: من سره أن ينظر إلى طهور رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ـــــــــــــــــــــــــــــ ما أجمل في قوله: توضأ، وتفسيره. والمراد بالكفين اليدان إلى الرسغين (حتى أنقاهما) أي أزال الوسخ عنهما، وقد جاء التصريح بالتثليث في الروايات الأخرى (ثم مضمض ثلاثاً واستنشق ثلاثاً) قال القاري: ظاهره الفصل المطابق لمذهبنا، قلت: بل هو محتمل، فإنه يحتمل أن يكون معناه أنه مضمض ثلاثاً بثلاث غرفات، ثم استنشق ثلاثاً بثلاث غرفات أخرى. ويحتمل أن يكون معناه أنه مضمض واستنشق بغرفة، ثم فعل هكذا في الثانية والثالثة. والمحتمل لا يقوم به حجة، أو يرد هذا المحتمل إلى الأحاديث المحكمة الصحيحة الصريحة في الوصل توفيقاً بين الدليلين (وذراعيه) أي يديه من رؤس الأصابع إلى المرفقين (ومسح برأسه مرة) فيه حجة للجمهور خلافاً للشافعي (ثم غسل قدميه) أي ثلاثاً ثلاثاً كما في رواية عبدخير عن علي عند أبي داود، والنسائي. وفيه رد على الشيعة (فضل طهوره) بفتح الطاء أي بقية مائه الذي توضأ به (فشربه وهو قائم) قال بعض العلماء: إن الشرب قائماً مخصوص بفضل الوضوء بهذا الحديث، وبماء زمزم لما جاء فيه أيضاً، وفي غيرهما لا ينبغي الشرب قائماً للنهى. والحق أنه جاء في غيرهما أيضاً، فالوجه أن النهي للتنزيه، وما جاء من الرخصة فهو لبيان الجواز (أحببت أن أريكم) بصيغة المتكلم من الإراءة (كيف كان طهور رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) بضم الطاء أي وضوئه وطهارته (رواه الترمذي) وقال: حديث حسن صحيح (والنسائي) وأخرجه أيضاً أبوداود، وابن ماجه مختصراً. 413- (وعن عبدخير) ضد شر، هو عبدخير بن يزيد الهمداني أبوعمارة الكوفي، أدرك زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أنه لم يلقه، وصحب علياً، وهو من كبار أصحابه، ثقة مأمون، سكن الكوفة، ويقال: أتى عليه مائه وعشرون سنة. قال الحافظ في التقريب: مخضرم ثقة من كبار التابعين، ولم يصح له صحبة (نحن جلوس) أي جالسون (ننظر إلى على حين توضأ) لنأخذ العلم من بابه (فأدخل يده اليمنى) أي في الإناء، فأخذ بها الماء (ونثر) أي أخرج الماء، والمخاط، والأذى من الأنف (فعل هذا) أي المذكور من المضمضة والاستنشاق، وهذا ظاهر في الوصل (من سره) أي جعله مسروراً، أو

فهذا طهوره)) . رواه الدارمي. 414- (21) وعن عبد الله بن زيد، قال: ((رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مضمض واستنشق من كف واحد، فعل ذلك ثلاثاً)) . رواه أبوداود، والترمذي. 415- (22) وعن ابن عباس، ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح برأسه، وأذنيه، باطنهما بالسباحتين، وظاهرهما بإبهاميه)) . رواه النسائي. ـــــــــــــــــــــــــــــ أحب (فهذا طهوره) أي نحو وضوءه - صلى الله عليه وسلم -، والإشارة إلى تمام ما فعله من الوضوء، والاقتصار من الراوي (رواه الدارمي) وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي. ولحديث علي في صفة الوضوء طرق عنه عند الترمذي، وأبي داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان، البزار، ذكرها وجمعها الحافظ في التلخيص (ص28-29) . 414- قوله: (عن عبد الله بن زيد) أي ابن عاصم المازني، لا ابن عبد ربه الذي رأى النداء كما توهم الطيبي وقلده فيه القاري، لأن الراوي لصفة الوضوء هو عبد الله بن زيد بن عصام المازني، ومنشأ توهم الطيبي رواية سفيان بن عيينة عند النسائي، فإنه أخرج حديث صفة الوضوء من رواية عبد الله بن زيد بن عبدربه، وهذا وهم من ابن عيينة، خطأه في ذلك البخاري وغيره (مضمض واستنشق من كف واحد) كذا بالتذكير في طبعات الهند وفي نسخة القاري، وهكذا في جامع الترمذي، وفي بعض نسخ أبي داوود، ووقع في نسخة الألباني بالتأنيث وكذا في أكثر نسخ أبي داود. وهذا الحديث صريح في الجمع بين المضمضة والاستنشاق في كل مرة؛ بأن يكون بثلاث غرفات يتمضمض ويستنشق من كل واحدة منها (فعل ذلك) أي الجمع بين المضمضة والاستنشاق (رواه أبوداود والترمذي) وأصله عند الشيخين، وقد ذكره المؤلف في الفصل الأول. 415- قوله: (مسح برأسه وأذنيه) فيه دليل على أن وظيفة الأذنين المسح مع الرأس، وظاهره أنه مسحهما بماء رأسه. وفي رواية ابن حبان "غرف غرفةً فمسح برأسه وأذنيه داخلهما بالسبابتين، وخالف بإبهاميه إلى ظاهر أذنيه، فمسح ظاهرهما وباطنهما". ذكرها الحافظ في التلخيص، وقال: صححها ابن خزيمة، وابن مندة. وفيه، وفي حديث الربيع الآتي بيان كيفية مسح الأذنين (باطنهما) بالجر على البدلية من لفظ أذنيه، والنصب بدل من محله، والمراد بالباطن الجانب الذي فيه الصماخ أي الثقب (بالسباحتين) السباحة والمسبحة الإصبع التي تلي الأبهام، سميت بذلك لأنها يشار بها عند التسبيح، وهذا اسم إسلامي وضعوها مكان السبابة لما فيه من الدلالة على المعنى المكروه، وهو أن الجاهلية كانوا يسبون الناس ويشيرون بها إليهم (وظاهرهما) بالوجهين وهو الطرف الذي يلي الرأس ويلتصق به (رواه النسائي) وأخرجه أيضاً الترمذي وابن ماجه والحاكم والبيهقي بألفاظ متقاربة، وصححه الترمذي وابن خزيمة وابن مندة.

416- (23) وعن الربيع بنت معوّذ: ((أنها رأت النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، قالت فمسح رأسه ما أقبل منه وما أدبر، وصدغيه، وأذنيه مرة واحدة. وفي رواية، أنه توضأ فأدخل إصبعيه في جحري أذنيه)) . رواه أبوداود. وروى الترمذي الرواية الأولى، وأحمد وابن ماجة الثانية. 417- (24) وعن عبد الله بن زيد: ((أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ، وأنه مسح رأسه بماء غير فضل يديه)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 416- قوله: (وعن الربيع) بضم الراء وفتح الموحدة وتشديد التحتية المكسورة (بنت معوّذ) اسم فاعل من التعويذ، هي الربيع بنت معوّذ بن عفراء، وعفراء أم معوّذ، وأبوه الحارث بن رفاعة بن الحارث بن سواد، أنصارية نجارية صحابية من المبايعات تحت الشجرة. قال ابن عبد البر: لها قدر عظيم، وكانت ربما غزت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. لها أحد وعشرون حديثاً، اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بحديثين، روى عنها جماعة (ما أقبل منه) أي: من الرأس، وما موصولة (وما أدبر) عطف عليه، وهما بدل من رأسه، يعني مسح من مقدم الرأس إلى منتهاه ثم رد يديه من مؤخرة الرأس إلى مقدمه (وصدغيه وأذنيه) معطوف على رأسه، والصدغ بضم الصاد وسكون الدال، الموضع الذي بين العين والأذن، والشعر المتدلى على ذلك الموضع (مرة واحدة) متعلق بمسح، فيكون قيداً في الإقبال والإدبار وما بعد هما، فباعتبار الإقبال يكون مرة، وباعتبار الإدبار مرة أخرى، وهو مسح واحد. والحديث يدل على مشروعية مسح الصدغ والأذن، وأن مسحهما مع الرأس، وأنه مرة واحدة (فأدخل إصبعيه) أي عند مسح الرأس وبعده (في جحري أذنيه) بتقديم الجيم المضمومة تثنية جحر وهو الثقب والخرق يعني صماخهما (رواه أبوداود) أي الروايتين كلتيهما (وروى الترمذي) الخ. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وسكت عنه أبوداود، ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره. وقيل: في تصحيحه نظر، لأن في سنده عبد الله بن محمد بن عقيل، وفيه مقال. قال الشوكاني: ولحديث الربيع روايات في صفة الوضوء وألفاظ، مدار الكل على عبد الله بن محمد بن عقيل، وفيه مقالٌ مشهورٌ لاسيما إذا عنعن، وقد فعل ذلك في جميعها-انتهى. قلت: هو مدلس كما صرح به الحافظ في طبقات المدلسين، لكن قد احتج بحديثه أحمد، وإسحق، والحميدي. وقال البخاري: هو مقارب الحديث. وقال الذهبي: حديثه في مرتبة الحسن، فالظاهر أن حديث الربيع هذا حسن. 417- قوله: (بماء غير فضل يديه) أي بماء جديد لا ببقية من ماء يديه، أي: أخذ لمسح الرأس ماء جديداً ولم يقتصر على البلل الذي بيديه. قال النووي: لا يستدل بهذا على أن الماء المستعمل لا تصح الطهارة به، لأن هذا إخبار عن الإتيان بماء جديد للرأس، ولا يلزم من ذلك اشتراطه - انتهى. وروى أبوداود من حديث سفيان بن سعيد أي الثوري، عن ابن عقيل، عن الربيع بنت معوذ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح برأسه من فضل ماء كان في يده. وقد احتج به من رأى طهورية الماء المستعمل، وتأوله البيهقي على أنه أخذ ماء جديداً وصب نصفه، ومسح ببلل يده، ليوافق حديث

رواه الترمذي. ورواه مسلم مع زوائد. 418- (25) وعن أبي أمامة ذكر وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((وكان يمسح الماقين، وقال: ـــــــــــــــــــــــــــــ عبد الله بن زيد، "ومسح رأسه بماء غير فضل يديه". قلت: حديث الربيع هذا صحيح أو حسن، ولا تعارض بينه وبين حديث عبد الله بن زيد لأنهما عن حادثتين مختلفتين، فلا حاجة إلى تأويل البيهقي، بل يقال: كلا الأمرين جائزان، إن شاء أخذ لرأسه ماء جديداً، وإن شاء مسحه بفضل ماء يكون في يده، لكن قيل: في متن حديث الربيع اضطراب، فإن ابن ماجه أخرج من طريق شريك عن ابن عقيل عنها، قالت: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بميضاة فقال: اسكبي، فسكبت، فغسل وجهه وذراعيه، وأخذ ماء جديداً فمسح به رأسه مقدمه ومؤخره. قلت: شريك هذا هو ابن عبد الله القاضي، وهو صدوق يخطئ كثيراً، تغير حفظه منذ ولى القضاء بالكوفة. وقال ابن معين: صدوق، ثقة إلا إذا خالف فغيره أحب إلينا منه، وقد خالف ههنا الثوري، فحديث شريك هذا مرجوح، ولا يعل الراجح بالمرجوح. والحاصل أنه يجوز كلا الأمرين عندي إلا أن الأولى أن يأخذ ماء جديداً لمسح الرأس ولا يقتصر على بلل يديه (رواه الترمذي) وقال: حسن صحيح. وأخرجه أيضاً أبوداود وسكت عنه. (ورواه مسلم مع زوائد) أي مطولاً، وكذا الدارمي. فأصل الحديث مخرج في صحيح مسلم، وما رواه الترمذي طرف منه، والظاهر أن البغوي لم يشعر أنه في كتاب مسلم، ونقله عن جامع الترمذي فجعله من الحسان، أو شعر بذلك لكن نسى ذكره في الصحاح. 418- قوله: (وعن أبي أمامة) الظاهر أنه هو أبوأمامة الصدي بن عجلان الباهلي، لا أبوأمامة أسعد بن سهل بن حنيف الأنصاري الأوسي كما توهم الطيبي، فقد ذكر الإمام أحمد هذا الحديث في مسنده في مسانيد أبي أمامة الباهلي الصدي بن عجلان (ج5:ص258و268) فصنيعه هذا يدل على أن أبا أمامة راوي حديث "الأذنان من الرأس" ومسح الماقين" عند أحمد، هو صدي بن عجلان الباهلي لا غير، ويؤيد ذلك صنيع الحافظ في تهذيب التهذيب (ج4:ص430) والإصابة (ج2:ص182) ، حيث ذكر في ترجمة أبي أمامة الباهلي شهر بن حوشب (راوي هذا الحديث عن أبي أمامة) فيمن روى عنه، ولم يذكر شهراً فيمن روى عن غير أبي أمامة الباهلي ممن كنيته أبوأمامة، ويقوى ذلك أيضاً أن الشيخ عبد الغني النابلسي ذكر هذا الحديث في أحاديث أبي أمامة الباهلي، ولم يذكره في أحاديث غيره من كنيته أبوأمامة من الصحابة كأسعد بن سهل بن حنيف المتقدم ذكره، وأياس بن ثعلبة أبي أمامة البلوي الأنصاري. (ذكر وضوء رسول الله) أي وصف وضوءه، وفي بضع نسخ أبي داود: وذكر وضوء النبي (قال) أي أبوأمامة، وهو بدل من ذكر (وكان يمسح) أي يدلك (الماقين) تثنية مأق بفتح الميم وسكون الهمزة، ويجوز تخفيفها، وهو طرف العين الذي يلي الأنف والأذن، واللغة المشهورة موق، وإنما مسحهما على الاستحباب مبالغة في الإسباغ، لأن العين قلما تخلو من قذى ترميه من كحل وغيره، أو رمص فيسيل وينعقد على طرفي العين (وقال) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيكون مرفوعاً، أو

الأذنان من الرأس)) ، رواه ابن ماجه، وأبوداود، والترمذي. وذكرا قال حماد: لا أدري الأذنان من الرأس من قول أبي أمامة؛ أم من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ـــــــــــــــــــــــــــــ أبوأمامة فيكون موقوفاً، والراجح عندنا هو الأول لما سيأتي (الأذنان من الرأس) أي حكماً من حيث أنهما يمسحان بماء الرأس لا من الوجه، فيغسلان معه، واختلفوا في أنهما يمسحان ببقية ماء الرأس، أو يؤخد لهما ماء جديد، والراجح عندنا أنهما يمسحان بماء الرأس، ولو أخذ لمسحهما ماء جديداً لم يفعل بأساً لقوله: الأذنان من الرأس. وتقرير دلالته على ذلك أنه لايخلو من أحد الأمرين: إما أن يراد به الحكم أو بيان الخلقة، لا يجوز الثاني لكونه - صلى الله عليه وسلم - مبعوثاً لبيان الأحكام دون الخلقة والحقائق، ولكونهما من الرأس مشاهدة مغنية عن البيان، فتعين الأول، ثم لا يخفى إما أن يكون المراد من الحكم كونهما ممسوحتين بماء الرأس، أو كونهما ممسوحتين كالرأس، ولا يجوز الثاني، لأن اشتراك الشيء مع الشيء لا يوجب أن يكون ذلك الشيء من الشيء الآخر، كالرجل مع الوجه يشتركان في حكم الغسل، ولا يقال: إن الرجل من الوجه، فتعين الأول وهو كونهما ممسوحتين بماء الرأس، ويؤيد ذلك ما تقدم من حديث ابن عباس عند ابن حبان وغيره، في صفة الوضوء، وفيه "وغرف غرفة فمسح برأسه وأذنيه داخلهما بالسبابتين، وخالف بإبهاميه إلى ظاهر أذنيه ... " الحديث. واستدل النسائي على ذلك بحديث: إذا مسح برأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه، لأن خروج الخطايا منهما بمسح الرأس إنما يحسن إذا كانا منه، وقد سبق التنبيه على ذلك في أوائل الطهارة. قال شيخنا في شرح الترمذي بعد ذكر ما احتج به على أخذ الماء الجديد لمسح الأذنين أخذاً من النيل ما نصه: لم أقف على حديث مرفوع صحيح خال عن الكلام يدل على مسح الأذنين بماء جديد، نعم ثبت ذلك عن ابن عمر من فعله، روى مالك في موطأه عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يأخذ الماء بإصبعيه لأذنيه - انتهى. وقال ابن القيم في الهدى: لم يثبت عنه أنه أخذ لهما ماء جديداً، وإنما صح ذلك عن ابن عمر. (رواه ابن ماجه وأبوداود والترمذي) وأخرجه أيضاً أحمد (ج5:ص258و268) كلهم من حديث حماد بن زيد، عن سنان بن ربيعة، عن شهر بن حوشب، وعن أبي أمامة، قال الترمذي: هذا حديث ليس إسناده بذاك القائم (وذكرا) أي أبوداود والترمذي في روايتهما عن قتيبة، عن حماد، ولذا قدم المصنف عليهما ابن ماجه مع أنه خلاف العادة (قال حماد) هو حماد بن زيد بن درهم الأزدى الجهضمي أبوإسماعيل البصرى أحد الأعلام الأثبات. قال الحافظ: ثقة ثبت فقيه. قيل: إنه كان ضريراً، ولعله طرأ عليه لأنه صح أنه كان يكتب. ولد سنة (98) ومات في رمضان سنة (179) وله إحدى وثمانون سنة. (لا أدرى الأذنان من الرأس من قول أبي أمامة) أي موقوفاً. (أم من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي مرفوعاً. ورواه أبوداود أيضاً عن سليمان بن حرب عن حماد، وقال: قال سليمان بن حرب: يقولها أبوأمامة. ورواه ابن ماجه، عن محمد بن زياد، عن حماد بإسناده بلفظ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الأذنان من الرأس"، وكان يمسح رأسه مرة، وكان يمسح المأقين. وهذا اللفظ لا يحتمل أن يكون كلمة "الأذنان من الرأس" مدرجة في الحديث، بل هو نص في أنها من اللفظ النبوى، وقد أطالوا البحث في هذه الكلمة، وهل هي مدرجة

419- (26) وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: ((جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله عن الوضوء، فأراه ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال: هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا ـــــــــــــــــــــــــــــ من قول أبي أمامة أو مرفوعة. ورجح كثير منهم أبوحاتم، وأبوزرعة، والدارقطني، والبيهقي الإدراج. وقال الحافظ في التلخيص (ص33) : قد بينت أنه مدرج في كتابي في ذلك أي: تقريب المنهج بترتيب المدرج. والظاهر أنه مرفوع ليس بمدرج، والحديث حسن أو صحيح، فقد روى من غير وجه بأسانيد بعضها جيد ويؤيد بعضها بعضاً. قال ابن دقيق العيد في الإمام في حديث أبي أمامة هذا: أنه معلول بوجهين: أحدهما الكلام في شهر بن حوشب، والثاني في الشك في رفعه، ولكن شهر وثقه أحمد، ويحيى، والعجلي، ويعقوب بن شيبة، وسنان بن ربيعة، أخرج له البخاري أي: مقروناً بآخر، وهو وإن كان قد لين فقال ابن عدى: أرجو أنه لابأس به، وقال ابن معين: ليس بالقوى. فالحديث عندنا حسن - انتهى. وقال الزيلعي في نصب الراية (ج1:ص19) : قد اختلف فيه على حماد فوقفه ابن حرب عنه، ورفعه أبوالربيع، واختلف أيضاً على مسدد عن حماد، فروى عنه الرفع، وروى عنه الوقف. وإذا رفع ثقة حديثاً ووقفه آخر، أو فعلهما شخص واحد في وقتين ترجح الرافع لأنه أتى بزيادة، ويجوز أن يسمع الرجل حديثاً فيفتى به في وقت، ويرفعه في وقت آخر، وهذا أولى من تغليط الراوي، ثم نقل الزيلعي حديث "الأذنان من الرأس" من حديث عبد الله بن زيد مرفوعاً من سنن ابن ماجه وقال: هذا أمثل إسناد في الباب لا تصاله وثقة رواته - انتهى. وقال البوصيرى في الزوائد: هذا إسناده حسن إن كان سويد بن سعيد حفظه، قلت: سويد بن سعيد هذا صدوق في نفسه إلا أنه عمى فصار يتلقن ما ليس من حديثه، وقد أخرج له مسلم، واحتج به، ثم نقله الزيلعي من حديث ابن عباس مرفوعاً أيضاً من سنن الدارقطني من طريق أبي كامل الجحدري، عن غندر، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، ثم قال: قال ابن القطان: إسناده صحيح لاتصاله وثقة رواته، قال وأعله الدارقطني بالاضطراب في إسناده، وقال: إسناده وهم، وإنما هو مرسل، ثم أخرجه عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً، وتبعه عبد الحق في ذلك، وقال: إن ابن جريج الذي دار الحديث عليه يروى عنه عن سليمان بن موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً. قال: وهذا ليس يقدح فيه، وما يمنع أن يكون فيه حديثان مسند ومرسل - انتهى. قال شيخنا في شرح الترمذي: كلام ابن القطان هذا متجه، وقد روى "الأذنان من الرأس" من حديث أبي هريرة. وأبي موسى، وابن عمر، وعائشة، وأنس أيضاً، انظر التلخيص (ص33) ونصب الراية (ج1:ص20) . 419- قوله: (وعن عمرو بن شعيب عن أبيه) شعيب (عن جده) أي: جد شعيب وهو عبد الله بن عمرو بن العاس (يسأله) حال من فاعل جاء (عن الوضوء) أي: كيفيته (فأراه) أي: بالفعل، لأنه أبلغ في التعليم من القول. وفي الكلام حذف، تقديره: أي: فأراد أن يريه ما سأله فتوضأ (ثلاثاً ثلاثاً) أي: غير المسح، فقد جاء في هذا الحديث أن المسح كان

فقد أساء وتعدى وظلم)) . رواه النسائي، وابن ماجه، وورى أبوداود معناه. 420- (27) وعن عبد الله بن المغفل، أنه سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة. قال أي بني سل الله الجنة، وتعوذ به من النار: فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور ـــــــــــــــــــــــــــــ مرة في رواية سعيد بن منصور ذكره الحافظ في الفتح، وقد سبق التنبيه على ذلك (فقد أساء) أي: في مراعاة آداب الشرع، فإن الزيادة استنقاص لما استكمله الشرع (وتعدى) أي: عما حد له وجعله غاية التكميل (وظلم) أي: نفسه باتعابها فيما زاد على الثلاثة من غير حصول ثواب له، أو بإتلاف الماء ووضعه في غير محله، وإنما ذمه بهذه الكلمات الثلاث إظهاراً لشدة النكير عليه, وزجراً له عن ذلك. وقد جاء في رواية أبي داود زيادة أو نقص، واستشكلت. والمحققون على أنها وهم لجواز الوضوء مرة مرة ومرتين ومرتين، وقد تكلف لتوجيهها بما هو مذكور في النيل (ج1:ص168) والعون (ج1:ص52) إن شئت الوقوف عليه فارجع إليهما (رواه النسائي وابن ماجه) إلا أن رواية ابن ماجه بلفظ "هذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء، أو تعدى، أو ظلم" بأو، بدل الواو (وروى أبوداود معناه) بأطول من هذا، وسكت عليه: وأخرجه أيضاً أحمد، وابن خزيمة. قال الحافظ في التلخيص: من طرق صحيحه، وصرح في الفتح: أنه صححه ابن خزيمة وغيره. 420- قوله: (أنه سمع ابنه) يمكن أي يكون هو يزيد بن عبد الله بن مغفل، الذى روى عنه أبونعامة الحنفي في ترك الجهر بالبسملة عند الترمذي وغيره، ويزيد هذا مجهول الحال، ويمكن أن يكون هذا ابناً لعبد الله بن مغفل آخر غير هذا الذى روى عنه أبونعامة، وعلى هذا فلم أقف على اسمه (أسألك القصر) قال في المجمع القصر هو الدار الكبيرة المشيدة لأنه يقصر فيه الحرم (قال) أي: عبد الله لابنه حين سمعه يدعو بهذه الكلمات (أي) بفتح الهمزة وسكون الياء حرف نداء ينادي به القريب (بني) تصغير للإبن مضافا إلى ياء المتكلم، (سل) أمر من سأل يسئل (الله الجنة) أي ينبغي لك أن تكتفي بسؤال الجنة، ولا تجاوز في السؤال عن الحد بزيادة القيود والأوصاف. قيل: إنما أنكر عبد الله على ابنه في هذا الدعاء، لأنه طمح إلى ما لا يبلغه عملاً حيث سأل منازل الأنبياء، وجعله من الإعتداء في الدعاء لما فيه من التجاوز عن حد الأدب، ونظر الداعي إلى نفسه بعين الكمال. وقيل: لأنه سأل شيئاً معيناً فربما كان مقدراً لغيره. وقيل: إنكار عبد الله على ابنه من قبيل سد باب الإعتداء فإنه لما سمع ابنه يدعو بهذا الدعاء خاف عليه أن يتجاوز عنه إلى ما فيه الإعتداء حقيقة فنبه على ذلك، وأنكر عليه سداً للباب (يعتدون) بتخفيف الدال من الاعتداء، أي يتجاوزون عن الحد الشرعي (في الطهور) بالزيادة على الثلاث وإسراف الماء، وبالمبالغة

والدعاء)) . رواه أحمد، وأبوداود، وابن ماجه. 421- (28) وعن أبي بن كعب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إن للوضوء شيطاناً يقال له: الولهان، فاتقوا وسواس الماء)) . رواه الترمذي، وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديثٌ غريبٌ، وليس إسناده بالقوى عند أهل الحديث، لأنا لا نعلم أحداً أسنده غير خارجة، ـــــــــــــــــــــــــــــ في الغسل إلى حد الوسواس. والحديث عام يتناول الغسل، والوضوء، وإزالة النجاسة (والدعاء) قيل الاعتداء في الدعاء هو الدعاء بما لايجوز، ورفع الصوت به، والصياح. وقيل: سؤال منازل الأنبياء. وقيل: هو أن يتكلف السجع في الدعاء. (رواه أحمد وأبوداود) في الطهارة وسكت عنه هو والمنذري. (وابن ماجه) في أبواب الدعاء، لكن ليس في روايته لفظ الطهور فلا يكون شاهداً في الباب، فكان الأولى للمصنف أن لا يذكر ابن ماجه. وقيل عزا الحديث لابن ماجه نظراً إلى أصل الحديث، وإن اقتصر هو منه على الدعاء. والحديث أخرجه أيضاً ابن حبان والحاكم. 421- قوله: (إن للوضوء) المشهور ضم الواو على إرادة الفعل، ويحتمل الفتح على إرادة الماء وهو أنسب بآخر الحديث على بعض الاحتمالات، يعني أن لأجل إلقاء الوسوسة في الوضوء وما يتعلق به (شيطاناً) أي: نوعا خاصاً، وصنفاً معيناً من الشيطان، اسم هذا النوع الولهان، وليس المراد أنه واحد بالشخص. (الولهان) بالواو واللام المفتوحتين، صفة مشبهة من الوله، وقيل: أصله مصدر "وله" بكسر اللام ومصدره أيضاً "الوله" بفتح اللام، وهو الحزن، أو ذهاب العقل والتحير من شدة الوجد وغاية العشق. وسمى به شيطان الوضوء إما لشدة حرصه على طلب الوسوسة، وإما لإلقائه الناس بالوسوسة في مهواة الحيرة، حتى يرى صاحبه حيران، ذاهب العقل، لايدري كيف يلعب به الشيطان، ولا يعلم هل وصل الماء إلى العضو أم لا، وكم مرة غسله، كما ترى عياناً في الموسوسين في الوضوء (فاتقوا وسواس الماء) بكسر الواو الأولى المصدر، وبفتحها الإسم، مثل الزلزال بفتح الزاى وكسرها، أي: وسواساً يفضى إلى كثرة إراقة الماء حالة الوضوء والاستنجاء. والمراد بالوسواس التردد في طهارة الماء ونجاسته بلا ظهور علامات النجاسة، ويحتمل أن يراد بالماء البول، أي وساوس البول المفضية إلى الاستنجاء، وقال ابن الملك: أي وسواس الولهان، وضع الماء موضع ضميره مبالغة في كمال الوسواس في شأن الماء، أو لشدة ملازمته له. والحديث يدل على كراهية الإسراف في الماء للوضوء وهو أمر مجمع عليه (رواه الترمذي وابن ماجه) وأخرجه أيضاً أحمد (ج5:ص126) وأبوداود والطيالسي في مسنديهما، والحاكم (هذا حديث غريب) أي إسناداً (لأنا لا نعلم) علة للغرابة والضعف (أحداً أسنده) أي رفعه (غير خارجة) أي خارجه بن مصعب أبوالحجاج السرخسي، قال الترمذي: وقد روى هذا الحديث من غير وجه عن الحسن قوله.

وهو ليس بالقوى عند أصحابنا. 422- (29) وعن معاذ بن جبل، قال: ((رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ مسح وجهه بطرف ثوبه)) . رواه الترمذي. 423- (30) وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: ((كانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرقة ينشف ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال ابن أبي حاتم في العلل: سئل أبي عن هذا الحديث فقال: رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - منكر - انتهى. لكن يؤيده ما روي في الباب عن عمران بن حصين عند البيهقي بسند ضعيف نحو حديث أبي بن كعب، وما روي عن عبد الله بن مغفل، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وقد تقدما، وعن عبد الله بن عمر عند ابن ماجه، وعبد الله بن عمرو بن العاص عند أحمد وابن ماجه، وسيأتي في الفصل الثالث (وهو) أي: خارجة (ليس بالقوى عند أصحابنا) أي: أهل الحديث فقد ضعفه ابن المبارك وابن معين وأحمد ووكيع والنسائي والدارقطني وابن حبان وغيرهم. وقال الحافظ: متروك، وكان يدلس عن الكذابين. ويقال: إن ابن معين كذبه. 422- قوله: (مسح وجهه) أي: نشفه بعد الوضوء. (بطرف ثوبه) فيه دليل على جواز التنشيف بعد الوضوء، واختلف فيه على أقوال، والراجح عندي قول من قال بجواز التنشيف بعد الوضوء والغسل، للأحاديث الواردة في الباب، واحتج من كرهه بحديث ميمونة في غسل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه "فناولته ثوباً فلم يأخذه فانطلق وهو ينفض يديه" أخرجه البخاري، وفي رواية ابن ماجه "فرده وجعل ينفض الماء" قال: هذا الحديث يدل على كراهة التنشيف بعد الغسل، فيثبت به كراهته بعد الوضوء أيضاً. وفيه ما قال الحافظ: من أنه لا حجة فيه لأنها واقعة عين يتطرق إليه الاحتمال، فيجوز أن يكون الرد لأمر آخر لا يتعلق بكراهة التنشيف، بل لأمر يتعلق بالخرقة، أو لكونه كان مستعجلاً، أو غير ذلك. قال المهلب: يحتمل تركه لإبقاء بركة الماء، أو للتواضع، أولشئ آخر رآه في الثوب من حرير، أو وسخ. وقال إبراهيم النخعي: إنما رده مخافة أن يصير عادة. وقال التيمي: في هذا الحديث دليل على أنه كان ينشف ولولا ذلك لم تأته بالمنديل. وقال ابن دقيق العيد: نفضه الماء بيده يدل على أنه لا كراهة في التنشيف لأن كلا منهما إزالة – انتهى كلام الحافظ مختصراً. (رواه الترمذي) وقال: هذا حديث غريب، وإسناده ضعيف، ورشدين بن سعد، وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي يضعفان في الحديث - انتهى. وقال الذهبي في ترجمة رشدين: كان صالحاً عابداً سيئ الحفظ غير معتمد. وقال الحافظ في ترجمة الإفريقي: ضعيف في حفظه، وكان رجلاً صالحاً، وكان البخاري يقوى أمره، ولم يذكره في كتاب الضعفاء والحديث أخرجه أيضاً ابن عساكر. 423- قوله: (ينشف) أي: يسمح من التنشيف، قال في القاموس: نشف الثوب العرق كسمع ونصر، شربه، والحوض

{الفصل الثالث}

بها أعضاءه بعد الوضوء)) . رواه الترمذي، وقال: هذا حديث ليس بالقائم وأبومعاذ الراوي ضعيف عند أهل الحديث. {الفصل الثالث} 424- (31) عن ثابت بن أبي صفية، قال: قلت لأبي جعفر – هو محمد ـــــــــــــــــــــــــــــ الماء شربه، كتنشفه، وقال فيه: نشف الماء تنشيفاً أخذه بخرقة ونحوها (أعضاءه) كذا في النسخ الموجودة عندنا بزيادة لفظ "أعضائه" بعد قوله "ينشف"، وليس هو في المصابيح، ولا في التلخيص، ولا جامع الترمذي، والمستدرك للحاكم، والسنن الكبرى للبيهقي، فالظاهر أنه خطأ من زيادة الناسخ. (بعد الوضوء) فيه أيضاً دليل على جواز التنشيف وعدم كراهته، وفي الباب أحاديث أخرى تدل على جواز ذلك، ذكرها شيخنا في شرح الترمذي نقلاً عن العيني، وكلها ضعيفة إلا حديث أبي مريم أياس بن جعفر، عن فلان رجل من الصحابة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان له منديل أو خرقة يمسح بها وجهه إذا توضأ. قال العيني: أخرجه النسائي في الكنى. بسند صحيح رواه الترمذي، وأخرجه الحاكم (ج1:ص154) ، والبيهقي (ج1:ص185) . (هذا حديث ليس بالقائم) أي ليس بالقوى، وبين وجهه بقوله (وأبو معاذ الراوي) قال الترمذي: يقولون: هو سليمان ابن أرقم. (ضعيف عند أهل الحديث) قال العلامة الشيخ أحمد محمد الشاكر في تعليقه على الترمذي: إسناد المؤلف هنا فيه سفيان بن وكيع بن الجراح، وهو في نفسه ثقة صادق إلا أن وراقه أفسد عليه حديثه، فأدخل عليه ما ليس منه، ونصح بتغييره فلم يقبل، فضعف حديثه باختلاطه بما ليس منه، ولكنه لم ينفرد برواية هذا الحديث، فقد رواه الحاكم، في المستدرك من طريق محمد بن عبد الله بن الحكم عن ابن وهب، ورواه البيهقي عن الحاكم وغيره من طريق ابن عبد الحكم، وقد ضعف الترمذي هذا الحديث من أجل سليمان بن أرقم فإنه ضعيف، ولكن الترمذي لم يجزم بأن أبا معاذ هو سليمان بن أرقم، بل قال: يقولون. والبيهقي تبع الترمذي في ذلك، غير أنه جزم بأنه سليمان، وأما الحاكم فقال: أبومعاذ هو الفضيل بن ميسرة بصري، روى عنه يحيى بن سعيد، وأثنى عليه، وأقره الذهبي على ذلك فلم يتعقبه فيه، وبذلك يكون إسناد هذا الحديث صحيحاً – انتهى. 424- قوله: (عن ثابت) بمثلثة وبمؤحدة ومثناة فوق. (بن أبي صفية) بكسرة فاء مخففة وشدة ياء هو ثابت بن أبي صفية الثمالي أبوحمزة واسم أبيه دينار، وقيل: سعيد، كوفي ضعيف رافضي، مات في خلافة أبي جعفر من صغار التابعين (هو محمد) أي اسم أبي جعفر هو محمد، وهو ابن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي، ثقة فاضل، من فقها التابعين، قال محمد بن فضيل عن سالم بن أبي حفصة: سألت أبا جعفر وابنه جعفر بن محمد عن أبي بكر وعمر فقالا لي: يا سالم! تولهما وابرأ من عدوهما فإنهما كانا إمامي هدى. وعنه قال: ما أدركت أحداً من أهل بيتي إلا وهو يتولاهما.

الباقر – حدثك جابر: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرةً مرةً، ومرتين مرتين، وثلاثاً ثلاثاً؟ قال: نعم)) . رواه الترمذي، وابن ماجه. 425- (32) وعن عبد الله بن زيد، قال: ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرتين مرتين، وقال: هو نور على نور)) . 426– (33) وعن عثمان، رضي الله عنه قال: ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ ثلاثاً ثلاثاً، وقال: هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي، ووضوء إبراهيم)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ كان مولده سنة (56) ومات بالمدينة سنة (114) ، وقيل (117) وقيل (118) وهو ابن (63) سنة، وقيل غير ذلك، ودفن بالبقيع. (الباقر) أي: باقر العلم، لقب به لتبقره أي توسعه وتبحره في العلم، واشتهر ابنه جعفر أبوعبد الله بالصادق، وقوله (هو محمد الباقر) زاده المؤلف لتعيين أبي جعفر. (توضأ مرة مرة) الوضوء فعل مركب من غسلات ومسح، فقوله (مرة مرة) يتعلق بالكل فلذلك جاء مكرراً، وعلى هذا فينبغي أن يكون مرتين وثلاثاً كذلك، لكن المعلوم في المسح مرة فيحمل ذلك على التغليب، لكن الغالب هو الغسل (قال: نعم) قال الطيبي: من عادة المحدثين أن يقول القاري بين يدى الشيخ حدثك فلان عن فلان برفع إسناده وهو ساكت يقرر، وذلك كما يقول الشيخ حدثني فلان عن فلان ويسمعه الطالب - انتهى. وقال السيوطي في تدريب الراوي: إذا قرأ على الشيخ قائلاً: أخبرك فلان أو نحوه، كقلت: أخبرنا فلان، والشيخ مصغ إليه فاهم له غير منكر، ولا مقر لفظاً، صح السماع، وجازت الرواية به اكتفاء بالقرائن الظاهرة، ولا يشترط نطق الشيخ بالاقرار، كقوله: نعم، على الصحيح الذي قطع به جماهير أصحاب الفنون، وشرط بعض الشافعية والظاهرين نطقة به - انتهى. وفي الحديث بيان ثلاث أحوال في ثلاث أوقات لا بيان حالة واحدة. (رواه الترمذي وابن ماجه) كلاهما من طريق شريك بن عبد الله النخعي عن ثابت بن أبي صفية، وشريك كثير الغلط، وثاب ضعيف الحديث بالاتفاق. 425- قوله: (توضأ مرتين مرتين) أي: غسل الأعضاء المغسولة مرتين مرتين. (هو نور على نور) أي: غسل الأعضاء المغسولة في الوضوء مرتين مرتين سبب لزيادة النور. وقال الطيبي: إشارة إلى قوله: "إن أمتي غر محجلون من آثار الوضوء" أو هداية على هداية، أو سنة على فرض يهدى الله لنوره من يشاء. 426- قوله: (توضأ ثلاثاً ثلاثاً) أي: غسل الأعضاء المغسولة في الوضوء ثلاثاً. (وقال هذا) أي: الوضوء التام الكامل. (ووضوء الأنبياء قبلي ووضوء إبراهيم) تخصيص بعد تعميم، وقد احتج به من قال أن الوضوء ليس مختصاً بهذه

رواهما رزين، والنووي ضعف الثاني في شرح مسلم. 427- (34) وعن أنس، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ لكل صلاة، وكان أحدنا يكفيه الوضوء ما لم يحدث)) . رواه الدارمي. 428- (35) وعن محمد بن يحيى بن حبان، قال: قلت لعبيد الله بن عبد الله بن عمر: ((أرأيت وضوء ـــــــــــــــــــــــــــــ الأمة. لكنه حديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به على ذلك لضعفه قاله الحافظ، نعم يؤيد هذا القول ما صح في البخاري وغيره "أن إبراهيم وسارة توضآ وصليا، وإن جريجاً توضأ وصلى". فالظاهر أن الذي اختصت به الأمة هو الغرة والتحجيل لا أصل الوضوء. (رواهما رزين) وروى أحمد عن ابن عمر مرفوعاً: "من توضأ واحدة فتلك وظيفة الوضوء التي لابد منها، ومن توضأ اثنتين فله كفلان من الأجر، ومن توضأ ثلاثاً فذاك وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي". وفيه زيد العمى وهو ضعيف. وروى ابن ماجه نحوه عن أبي بن كعب، وفيه عبد الله بن عراوة عن زيد العمى، وهما ضعيفان. (والنووي ضعف الثاني) أي: حديث عثمان. (في شرح مسلم) وكذا الحافظ في شرح البخاري كما تقدم. قلت: والحديث الأول أي: حديث عبد الله بن زيد ما حكى فيه من وضوءه - صلى الله عليه وسلم - مرتين مرتين قد رواه البخاري كما سبق، وأما قوله: هو نور على نور فقال العراقي في تخريج الإحياء: لم أقف عليه، وقال المنذري في الترغيب (ج1:ص81) : لا يحضرني له أصل من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولعله من كلام بعض السلف. 427- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ لكل صلاة) أي: مفروضة، ووقع في رواية الترمذي: طاهراً أو غير طاهر، وظاهر الحديث أن تلك كانت عادته، وهو يحتمل أن ذلك كان واجباً عليه خاصة، ثم نسخ يوم خيبر بحديث سويد بن النعمان الذي تقدم في باب ما يوجب الوضوء، ويحتمل أنه كان يفعله استحباباً ثم خشي أن يظن وجوبه فتركه لبيان الجواز، قال الحافظ: وهذا أقرب. قلت: ويدل لهذا، ما تقدم من حديث بريدة في باب ما يوجب الوضوء: أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد، وأن عمر سأله فقال: عمداً صنعته. أي: لبيان الجواز، واحتج للنسخ بحديث عبد الله بن حنظلة الآتي، وسيجئ الكلام فيه. (ما لم يحدث) من الإحداث. (رواه الدارمي) وأخرجه أيضاً أحمد والطيالسي والبخاري والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه. 428- قوله: (وعن محمد بن يحيى بن حبان) بفتح المهملة وتشديد الموحدة ابن منقذ الأنصاري المدني، يكنى أبا عبد الله، تابعي، ثقة فقيه. قال الواقدي: كان له حلقة في مسجد المدينة، وكان يفتى، وكان ثقة كثير الحديث. وقال المصنف: روى عنه جماعة، وهو من مشائخ مالك، وكان مالك يبجله ويذكره بكل فضل من العبادة والزهد والفقه والعلم، مات بالمدينة سنة (141) وهو ابن (74) سنة. (قلت لعبيد الله بن عبد الله بن عمر) بن الخطاب العدوى المدني،

عبد الله بن عمر لكل الصلاة طاهراً كان أو غير طاهر، عمن أخذه؟ فقال: حدثته أسماء بنت زيد بن الخطاب أن عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الغسيل، ـــــــــــــــــــــــــــــ يكنى أبا بكر، شقيق سالم بن عبد الله بن عمر ثقة من أوساط التابعين، مات سنة (106) وقال المصنف: روى عنه الزهري ونفر من أعلام التابعين، مات قبل أخيه سالم وهو ثبت ثقة، حديثه في الحجازيين، ووقع في رواية أبي داود عبد الله بن عمر مكبراً، وهو أكبر ولد عبد الله بن عمر، ثقة قليل الحديث. مات سنة (105) . (عمن أخذه) متعلق بمعنى: أرأيت أي: أخبرني عمن أخذه، والضمير بمعنى اسم الإشارة والمشار إليه الوضوء المخصوص. (فقال) أي: عبيد الله (حدثته) أي: عبيد الله ففي رواية أبي داود: فقال: حدثتنيه (أسماء) . قال ميرك: هو معنى ما قاله لا ما تلفظ به، فإن لفظه "هو حدثتني". (بنت زيد بن الخطاب) هو أخو عمر بن الخطاب، قال في التقريب: أسماء بنت زيد بن الخطاب العدوية. يقال: لها صحبة وقال ابن الأثير: لها رؤية وقال في التهذيب (ج12:ص398) : ذكرها ابن حبان وابن مندة في الصحابة، وذكرها الحافظ في الإصابة في القسم الثاني من حرف الألف من النساء (ج4:ص246) : (وهو فيمن ذكر من الصحابة من الأطفال الذين ولدوا في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لبعض الصحابة من النساء والرجال، ممن مات - صلى الله عليه وسلم - وهو في دون سن التميز) وقال: يدل على أنها من أهل هذا القسم أن والدها استشهد باليمامة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بقليل، وكانت دواعي الصحابة متوفرة على إحضار أولادهم إذا ولدوا ليبرك عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى (أن عبد الله بن حنظلة) ويقال له: ابن الغسيل، لأن أباه حنظلة غسيل الملائكة كما سيأتي، وأم عبد الله جميلة بنت عبد الله بن أبي. قال ابن سعد: كان حنظلة لما أراد الخروج إلى أحد وقع على امرأته فعلقت يومئذٍ بعبد الله في شوال على رأس اثنين وثلاثين من الهجرة فولدته أمه بعد ذلك. وتوفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن سبع وقد رآه، وروى عنه، وكان خيراً فاضلاً مقدماً في الأنصار. قال ابن عبد البر: أحاديثه عندي مرسلة، واستشهد يوم الحرة يوم الأربعاء لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين، وكانت الأنصار قد بايعته يومئذ، وبايعت قريش عبد الله بن مطيع: وكان عثمان بن محمد بن أبي سفيان قد أوفده إلى يزيد بن معاوية، فلما قدم على يزيد حباه وأعطاه، وكان عبد الله فاضلاً في نفسه، فرأى منه ما لا يصلح فلم ينتفع بما وهب له، فلما انصرف خلعه في جماعة أهل المدينة فبعث إليهم مسلم بن عقبة فكانت الحرة (الغسيل) أي غسيل الملائكة، وهو بالجر صفة حنظلة بن أبي عامر الراهب الأنصاري الأوسي، ذكر أهل السير أن حنظلة الغسيل كان قد ألم بأهله في حين خروجه إلى أحد، ثم هجم عليه من الخروج في النفير ما أنساه الغسل وأعجله عنه، فلما قتل شهيداً أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن الملائكة غسلته. وروى عروة بن الزبير أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لامرأة حنظلة: ما كان شأنه؟ قالت: كان جنباً وغسلت أحد شقى رأسه، فلما سمع الهيعة خرج فقتل

حدثها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أمر بالوضوء لكل صلاة طاهراً كان أو غير طاهر، فلما شق ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالسواك عند كل صلاة، ووضع عنه الوضوء إلا من حدث. قال: فكان عبد الله يرى أن به قوة على ذلك ففعله حتى مات)) . رواه أحمد. 429- (36) وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بسعد وهو يتوضأ، فقال: ((ما هذا السرف يا سعد؟ قال: أفي الوضوء سرف؟ قال نعم! وإن كنت على نهر جار)) . رواه أحمد وابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لقد رأيت الملائكة تغسله، كذا في الاستيعاب (ج1:ص105) . (حدثها) أي: حديث عبد الله أسماء. (كان أمر) بصيغة المجهول. (بالوضوء) قال في التوسط شرح سنن أبي داود: هذا الأمر يحتمل كونه له خاصاً به أو شاملاً لأمته، ويحتمل كونه بقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} بأن يكون الآية على ظاهرها – انتهى. قلت: وحمل علي رضي الله عنه هذه الآية على ظاهرها، كما يدل عليه ما رواه الدارمي عنه في باب قوله: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} من مسنده، وقد تقدم الكلام في معنى الآية مفصلاً. (فلما شق ذلك) أي: الوضوء لكل صلاة. (أمر بالسواك عند كل صلاة) قال الطيبي: فيه تنبيه على فخامة السواك حيث أقيم مقام ذلك الواجب، وكاد أن يكون واجباً عليه. (ووضع عنه الوضوء) أي: وجوبه. (إلا من حدث) أي: من حدوث حدث حقيقي أو حكمي. (قال) أي: عبيد الله. (فكان عبد الله) أي: ابن عمر (يرى أن به) أي: بعبد الله، والجار مع مجروره خبر مقدم لأنّ (قوة) بالنصب على أنه اسمه المؤخر، والجملة قائمة مقام مفعولي يرى (على ذلك) أي: على نحو فعله - صلى الله عليه وسلم - قبل النسخ (ففعله) أي: الوضوء لكل صلاة. (رواه أحمد) (ج5:ص255) وأخرجه أيضاً الدارمي وأبوداود وسكت عنه وابن جرير وابن خزيمة وابن حبان والحاكم (ج1:ص156،155) وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي والبيهقي، وفي سنده عندهم جميعاً محمد بن اسحق وقد رواه بالعنعنة وهو مدلس، لكن صرح في رواية الحاكم بالتحديث. 429- قوله: (مر بسعد) أي: ابن أبي وقاص (وهو يتوضأ) يعني يسرف في وضوئه، إما فعلاً كالزيادة على الثلاث وإما قدراً كالزيادة على قدر الحاجة في الاستعمال. (ما هذا السرف) بفتحتين بمعنى: الإسراف أي: التجاوز عن الحد في الماء. (قال: أفي الوضوء سرف؟) بناءً على ما قيل لا خير في سرف ولا سرف في خير، فظن أن لا إسراف في الطاعة والعبادة. (قال: نعم! وإن كنت على نهر جار) فإن فيه إسراف الوقت وتضييع العمر، أو تجاوزاً عن الحد الشرعي كما تقدم. وقال الطيبي: هو تتميم لإرادة المبالغة أي: نعم ذلك تبذير وإسراف في مالم يتصور فيه التبذير، فكيف بما تفعله، ويحتمل أن يراد بالإسراف الإثم بسبب التجاوز عن الحد الشرعي. (رواه أحمد وابن ماجه) وفيه ابن لهيعة، قال أبوحاتم

(5) باب الغسل

432،431،430- (39،38،37) وعن أبي هريرة، وابن مسعود، وابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من توضأ وذكر اسم الله، فإنه يطهر جسده كله، ومن توضأ ولم يذكر اسم الله، لم يطهر إلا موضع الوضوء)) . 433- (40) وعن أبي رافع، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ وضوء الصلاة حرك خاتمة في أصبعه)) . رواهما الداقطني، وروى ابن ماجه الأخير. (5) باب الغسل {الفصل الأول} ـــــــــــــــــــــــــــــ وأبوزرعة: يكتب حديثه للاعتبار. وقال الحافظ في التلخيص (ص53) بعد ذكر هذا الحديث: إسناده ضعيف، وقال في الفتح (ج1:ص118) : بإسناد لين. 432،431،430- قوله: (إن النبي) كذا في طبعات الهند، ووقع في نسختي القاري والألباني: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (وذكر اسم الله) أي: في أول وضوئه. (فإنه يطهر) من التطهير على البناء للفاعل. (جسده كله) أي: من الذنوب. (لم يطهر إلا موضع الوضوء) أي: إلا ذنوب المواضع المخصوصة، يعني: من الصغائر، وقد استدل به من قال بعدم وجوب التسمية في أول الوضوء، لكنه حديث ضعيف جداًَ بجميع طرقه، فلا يصح الاحتجاج به على هذا المطلوب، والحق أن التسمية في أول الوضوء واجب لا يصح الوضوء بدونها. 433- قوله: (وضوء الصلاة) احتراز عن غسل اليد فإنه وضوء لغوي. (حرك خاتمة في إصبعه) قال القاري: أي لأن استيعاب الغسل فرض فيسن تحريك الخاتم إذا ظن وصول الماء إلى ما تحته، وإلا فيجب تحريكه – انتهى. وفيه دليل على مشروعية تحريك الخاتم ليزول ما تحته من الأوساخ، ويصل الماء إليه، وكذلك ما يشبه الخاتم من الأسورة والحلية ونحوهما. (رواهما الدارقطني) قد تقدم الكلام في الحديث الأول في شرح حديث سعيد بن زيد. (وروى ابن ماجه الأخير) وهو ضعيف، فإن في سنده معمر بن محمد بن عبيد الله، وهو ضعيف منكر الحديث، عن أبيه محمد بن عبيد الله، وهو أيضاً ضعيف منكر الحديث جداً، ذاهب متروك، وقد ذكره البخاري تعليقاً عن ابن سيرين، ووصله ابن أبي شيبه. (باب الغسل) هو بفتح الغين أصح وأشهر من ضمها، مصدر غسل الشيء، وبمعنى الاغتسال، وبكسرها اسم لما يغسل به من سدر وخطمى ونحوهما، وبالضم اسم للماء الذي يغتسل به، قاله القسطلاني، وهو بالمعنيين الأولين إسالة الماء وإمراره على الشيء، واختلف في الدلك فقيل: يجب، وقيل: لا يجب، والمسألة لغوية، واحتج من قال: ليس من

434- (1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا جلس أحدكم بين شعبها الأربع، ثم جهدها، فقد وجب الغسل وإن لم ينزل)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ مسماه الدلك، بقول العرب: غسل المطر الأرض، وليس في ذلك إلا الإسالة. قال الآلوسي في تفسيره (ج6: ص69) : ومنع بأن وقعه من علو خصوصاً مع الشدة والتكرر دلك أي: دلك، وهم لا يقولونه إلا إذا نظفت الأرض، وهو إنما يكون بدلك، وبأنه غير مناسب للمعنى المعقول من شرعية الغسل، وهو تحسين هيئة الأعضاء الظاهرة للقيام بين يدى الرب سبحانه الذي لا يتم بالنسبة إلى سائر المتوضئين إلا بالدلك – انتهى. وقال بعض الحنفية: الدلك معتبر في الغسل لغةً، وأقر به الشيخ ابن الهمام في فتح القدير، ولذا شرطه المالكية، وما لا دلك فيه لا يسمى غسلاً بل يقال له: الصب والإسالة – انتهى. قلت: قوله - صلى الله عليه وسلم -: بلوا الشعر وأنقوا البشر، يشعر بوجوب الدلك، لأن الإنقاء لا يحصل بمجرد الإفاضة والإسالة. وقيل: الدلك ليس واجبا لذاته، إنما هو واجب لتحقق وصول الماء، فلو تحقق لم يجب، كما قاله ابن الحاج في شرح المنية، واشترط الدلك في الغسل. 434- قوله: (إذا جلس أحدكم بين شعبها الأربع) أي يديها ورجليها، أو رجليها وفخذيها وشغريها، أو ساقيها وفخذيها، أو نواحي فرجها الأربع، والشعب - بضم المعجمة وفتح المهملة - النواحي جمع شعبة. (ثم جهدها) يقال: جهد وأجهد أي: بلغ المشقة يعني بلغ جهده في العمل بها، أي: حفزها وكدها بحركته، والمراد ههنا الجماع ومعالجة الإيلاج، كنى به عنها، ففي رواية أبي داود: وألزق الختان بالختان، بدل قوله: ثم جهدها، فهذا يدل على أن المراد بالجهد ههنا الجماع. (فقد وجب الغسل) أي: عليهما. (وإن لم ينزل) ولا أنزلت هي. فيه دليل على أن الإنزال غير مشروط في وجوب الغسل، بل المدار على الإيلاج وغيبوبة الحشفة في الفرج وهو الحق. وقيل: لا يجب الغسل إلا بالإنزال، وكان الخلاف فيه مشهوراً بين الصحابة، ثم استمر بين العلماء بعدهم إلى عصر المؤلفين من الأئمة حتى قال البخاري في صحيحه: الغسل أحوط، وذاك الأخير إنما بينا لاختلافهم، والماء أنقى، لكن الخلفاء الأربعة وجمهور الصحابة والتابعين ومن بعدهم على إيجاب الغسل بمجرد الجماع، ولو لم ينزل وهو الصواب (متفق عليه) هذا يقتضي أن قوله: وإن لم ينزل، متفق عليه، وهو ليس في صحيح البخاري، بل هو من أفراد مسلم عن البخاري، وسبق المصنف في عزوه إلى الصحيحين جميعاً ابن الأثير في جامع الأصول، والظاهر أن المصنف تبعه واعتمد عليه، وقيل عزاه لهما جميعاً نظراً إلى أصل الحديث لا بالنظر إلى جميع ألفاظه. والحديث أخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه، لكن قوله: (وإن لم ينزل) ، من أفراد أحمد ومسلم.

435- (2) وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الماء من الماء)) رواه مسلم. 436- (3) قال الشيخ الإمام محى السنة رحمه الله: هذا منسوخ. وقال ابن عباس: إنما الماء من الماء في الاحتلام. ـــــــــــــــــــــــــــــ 435- قوله: (إنما الماء من الماء) أي: الاغتسال من الإنزال، فالماء الأول المعروف، والثاني المني، وفيه من البديع الجناس التام. والحديث دال بمفهوم الحصر على أنه لا غسل إلا من الإنزال، ولا غسل من مجاوزة الختان الختان، لكن الجمهور على أنه منسوخ. (رواه مسلم) في قصة عتبان بن مالك، قال أبوسعيد: خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين إلى قباء، حتى إذا كنا في بني سالم وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على باب عتبان فصرخ به فخرج يجر إزاره، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أعجلنا الرجل"، فقال عتبان: أرأيت الرجل يعجل عن امرأته، ولم يمن ماذا عليه؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الماء من الماء". وأخرجه أيضاً أبوداود، وابن خزيمة، وابن حبان بدون القصة. وروى البخاري القصة ولم يذكر الحديث، ولذا قال الحافظ في بلوغ المرام: وأصله عند البخاري، وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا أعجلت أو أقطحت فعليك الوضوء. والحديث له طرق عن جماعة من الصحابة عن أبي أيوب، ورافع بن خديج، وعتبان بن مالك، وأبي هريرة، وأنس، وغيرهم. 436- قوله: (هذا) أي: حديث أبي سعيد (منسوخ) بحديث سهل بن سعد عن أبي كعب، قال: إنما كان الماء من الماء، رخصة في أول الإسلام، ثم أمرنا بالاغتسال بعد. أخرجه أحمد والدارمي والترمذي وأبوداود وابن ماجه والبهقي والدارقطني وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، وقال الإسماعيلي: إنه صحيح على شرط البخاري، وقال الحافظ: هو إسناد صالح لأن يحتج به. وبحديث رافع بن خديج قال: ناداني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا على بطن امرأتي، فقمت ولم أنزل، فاغتسلت، وخرجت، فأخبرته، فقال: لا عليك، الماء من الماء. قال رافع: ثم أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك بالغسل. أخرجه أحمد (ج4:ص143) وذكره الحازمي في كتابه الناسخ والمنسوخ (ص22) وحسنه، وفي تحسينه نظر، وبالجملة الحديثان صريحان في النسخ، وقد ذكر الحازمي في كتابه آثاراً تدل على النسخ. قال الأمير اليماني: حديث الغسل وإن لم ينزل، أرجح لو لم يثبت النسخ، لأنه منطوق في إيجاب الغسل، وذلك مفهوم، والمنطوق مقدم على العمل بالمفهوم، وإن كان المفهوم موافقاً للبراءة الأصلية، والآية تعضد المنطوق في إيجاب الغسل، فإنه قال تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} . قال الشافعي: إن كلام العرب يقتضي أن الجنابة تطلق بالحقيقة على الجماع، وإن لم يكن فيه إنزال. قال: فإن كل من خوطب بأن فلاناً أجنب عن فلانة، عقل أنه أصابها وإن لم ينزل. قال: ولم يختلف أن الزنا الذي يجب به الجلد هو الجماع ولو لم يكن منه إنزال، انتهى. فتعاضد الكتاب والسنة على إيجاب الغسل من الإيلاج (وقال ابن عباس: إنما الماء من الماء في الاحتلام) يعني أن حديث "الماء من الماء" محمول على صورة مخصوصة، وهي ما يقع في المنام

رواه الترمذي، ولم أجده في الصحيحين. 437- (4) وعن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: ((قالت أم سليم: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! إن الله لا يستحي من الحق، ـــــــــــــــــــــــــــــ من رؤية الجماع، فإنه لا يجب الغسل في الاحتلام إلا بالانزال لا بالمجامعة، وهو تأويل يجمع بين الحديثين من غير تعارض، وهذا رأى من ابن عباس، تأول به الحديث، ولعله لم يبلغه التفصيل الذي في حديث أبي سعيد عند مسلم، وحديث رافع بن خديج عند أحمد، فإنه صريح في نفي هذا التأويل. وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي: يمكن أن يقال: أن قول ابن عباس هذا ليس تأويلاً للحديث، وإخراجاً له بهذا التأويل من كونه منسوخاً، بل غرضه بيان حكم المسألة بعد العلم بكونه منسوخاً، وحاصله أن عمومه منسوخ، فبقى الحكم في الاحتلام – انتهى. وقال بعضهم: حديث "إنما الماء من الماء" في المباشرة كما ذكره ابن رسلان في شرح أبي داود، وقيل: المراد من الماء الثاني الأعم من الحقيقي، وهو المنى، والحكمى، وهو الإيلاج، قلت: يأبي هذه التأويلات التفصيل المذكور في حديث أبي سعيد، فأرجح الأقوال وأسلمها أنه منسوخ. (رواه الترمذي ولم أجده) أي: قول ابن عباس (في الصحيحين) كأنه اعتراض على محى السنة، حيث أورد قول ابن عباس هذا في الصحاح، ولا اعتراض في ذلك عليه، لأنه إنما أورد قوله لبيان توجيه رواية مسلم، أعنى حديث "إنما الماء من الماء"، لا أنه مقصود الباب، فعدم وجوده في الصحيحين لا يضره، لأن ذلك الشرط إنما هو في مقاصد الباب، وهو ظاهر لمن تصفح وتتبع كتاب المصابيح. 437- قوله: (قالت أم سليم) بضم السين مصغراً، هي أم سليم بنت ملحان، الأنصارية، والدة أنس بن مالك، يقال: اسمها سهلة أو رميلة، أو رميثة، أو أنيثة، أو مليكة، وهي الغميصاء، أو الرميصاء، ثبت ذلك البخاري، اشتهرت بكنيتها، وكانت من الصحابيات الفاضلات، لها أربعة عشر حديثاً، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بحديثين، وقال ابن عبد البر: كانت تحت مالك بن النضر في الجاهلية فولت له أنساً، فلما جاء الله بالاسلام, أسلمت وعرضت على زوجها الإسلام، فغضب عليها وخرج إلى الشام فهلك، فتزوجت بعده أبا طلحة، خطبها وهو مشرك فأبت عليه إلا أن يسلم، فأسلم فتزوجته، فولت له غلاماً كان قد أعجب به، فمات صغيراً، فأسف عليه، وقيل: إنه أبوعمير صاحب النغير، ثم ولدت له عبد الله بن أبي طلحة فبورك فيه، وهو والد اسحق بن عبد الله بن أبي طلحة الفقيه وإخوته، وكانوا عشرة، كلهم حمل عنه العلم، وروى عن أم سليم، قالت: لقد دعا لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ما أريد زيادة، ومناقبها كثيرة شهيرة. ماتت في خلافة عثمان (إن الله لا يستحي من الحق) بيائين على الأصل بعد سكون الحاء، أي لا يمتنع من بيان الحق، ولا يتركه ترك الحيي منا، فكذا لا أمتنع أنا من سؤالي عما أنا محتاجة إليه. وقيل: المعنى: إن الله لا يأمر بالحياء في الحق ولايبيحه، وإنما قالت هذا اعتذاراً بين يدي سؤالها عما دعت الحاجة إليه مما تستحي النساء في العادة عن السؤال عنه، وذكره بحضرة الرجال

فهل على المرأة من غسل إذا إحتملت؟ قال: نعم، إذا رأت الماء، فغطت أم سلمة وجهها، وقالت: يارسول الله! أو تحتلم المرأة؟ قال: نعم، تربت يمينك، فبم يشبهها ولدها؟)) متفق عليه. 438- (5) وزاد مسلم برواية أم سليم: ـــــــــــــــــــــــــــــ (من غسل) زيادة من للتأكيد، أي: نوع من الغسل (إذا احتلمت) أي: إذا رأت في الحلم – بالضم – المجامعة، وفي رواية أنها قالت: إذا رأت أن زوجها يجامعها في المنام أتغتسل؟ (قال: نعم! إذا رأت الماء) أي: المنى بعد الاستيقاظ. وفيه دليل على وجوب الغسل على المرأة بالإنزال في الاحتلام، وكأن أم سليم لم تسمع حديث الماء من الماء أو سمعته، وقام عندها مايوهم خروج المرأة عن ذلك وهو ندور بروز الماء منها، وفيه رد على من قال: إن ماء المرأة لا يبرز. (فغطت) أي: سترت حياءً (أم سلمة وجهها) قيل: إنه من كلام زينب الراوية عن أم سلمة، وقيل: من أم سلمة على سبيل الالتفات كأنها جردت من نفسها أخرى، وأسندت إليها التغطية. وفي مسلم من حديث أنس أن ذلك وقع لعائشة. ويمكن الجمع بينهما بأنهما كانتا حاضرتين عند سؤال أم سليم. (أو تحتلم) بإثبات همزة الاستفهام، وهو معطوف على مقدر يظهر من السياق، أي: أترى المرأة الماء وتحتلم؟ ووقع في بعض النسخ بحذف الهمزة. (المرأة) أي: ويكون لها مني، ويخرج منها كالرجل؟ وفيه دليل على قلة وقوع الاحتلام من النساء، (قال: نعم) فيه: أن المرأة ترى ما يراه الرجل في منامه (تربت يمينك) في معنى هذه اللفظة أقوال كثيرة، ذكر عشرة منها ابن العربي في شرح الترمذي، والأصح الأقوى الذي عليه المحققون أنها كلمة أصلها: لصقت بالتراب أي: افتقرت، ولكنها جارية على ألسنة العرب لا يريدون بها الدعاء على المخاطب، ولا وقوع الأمر بها بل يقصدون الإنكار والزجر واللوم ونحوه، أي: إن أم سليم فعلت ما يجب عليها من السؤال عن دينها فلم تستحق الإنكار واللوم، واستحققت أنت الإنكار لإنكارك ما لا إنكار فيه. (فبم) بالموحدة المكسورة، وأصله "فبما" حذفت ألف ما الإستفهامية المجرورة. (يشبهها) من الأشباه (ولدها) بالرفع على الفاعلية أي: في بعض الأحيان. وهو استدلال على أن لها منيا كما للرجل، والولد مخلوق منهما، إذ لو لم يكن لها ماء، وخلق من ماءه فقط لم يشبهها. (متفق عليه) أخرجه البخاري في العلم، والطهارة وبدأ الخلق، والأدب، ومسلم في الطهارة لكن ليس في روايته لفظ "فغطت أم سلمة وجهها" بل إنما رواه البخاري في العلم. والحديث أخرجه أيضاً مالك في المؤطا والترمذي والنسائي وابن ماجه، وأخرجه أيضاً مسلم وأبوداود من حديث أنس عن أم سليم، وسنذكر روايتها. ووقعت هذه المسألة لنساء من الصحابيات: لخولة بنت حكيم عند أحمد والنسائي وابن ماجه، ولسهلة بنت سهيل عند الطبراني، ولبسرة بنت صفوان عند ابن أبي شيبه. 438- قوله: (وزاد مسلم برواية أم سليم) روى مسلم عن أنس بن مالك: أن أم سليم حدثت أنها سألت نبي

((إن ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر، فمن أيهما علا أو سبق يكون منه الشبه)) . 439- (6) وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة، بدأ فغسل يديه، ـــــــــــــــــــــــــــــ الله - صلى الله عليه وسلم - عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا رأت ذلك المرأة فلتغتسل، فقالت أم سلمة: واستحييت من ذلك، قالت: وهل يكون هذا؟ فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم، فمن أين يكون الشبه؟ إن ماء الرجل الخ.. (إن ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر) هذا الوصف باعتبار الغالب، وحال السلامة، واعتدال الحال، لأن مني الرجل قد يصير رقيقا بسبب المرض، ومحمراً بكثرة الجماع، وقد يبيض مني المرأة لفضل قوتها (فمن أيهما) بكسر الميم بعدها نون ساكنة، وهي الحرف المعروف، أي: أيُّ الماءين، ومن زائدة قاله الطيبي. (علا) أي: غلب (أوسبق) يعني غلب المني فيما إذا وقع منيهما في الرحم معاً، أو سبق وقوع منيه في الرحم قبل وقوع مني صاحبه، فأو للتقسيم لا للترديد قاله القاري. (يكون منه الشبه) بكسر الشين وسكون الموحدة وبفتحهما لغتان، أي: شبه الولد بالأب أو الأم في المزاج، والذكورة، والأنوثة. وفي حديث أنس عند البخاري في قصة إسلام عبد الله بن سلام: إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة الرجل نزعت الولد. ووقع في حديث عائشة عند مسلم:إذا علا ماءها ماء الرجل أشبه الولد أخواله، وإذا علا ماء الرجل ماءها أشبه أعمامه. قال الحافظ: المراد بالعلو ههنا السبق، لأن من سبق فقد علا شأنه فهو علو معنوي، وأما ما وقع عند مسلم من حديث ثوبان رفعه، ماء الرجل أبيض، وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله، وإذا علا منى المرأة منى الرجل آنثا بإذن الله، فهو مشكل من جهة أنه يلزم منه اقتران الشبه للأعمام إذا علا ماء الرجل، ويكون ذكرا لا أنثى، وعكسه، والمشاهد خلاف ذلك، لأنه قد يكون ذكراً، ويشبه أخواله لا أعمامه، وعكسه. قال القرطبي يتعين تأويل حديث ثوبان بأن المراد بالعلو السبق، قال الحافظ والذي يظهر ما قدمته، وهو تأويل العلو في حديث عائشة، وأما حديث ثوبان فيبقى العلو فيه على ظاهره فيكون السبق علامة التذكير والتأنيث، والعلو علامة الشبه، فيرتفع الإشكال، وكان المراد بالعلو الذي يكون سبب الشبه بحسب الكثرة بحيث يصير الآخر مغموراً فيه، فبذلك يحصل الشبه، وينقسم ذلك ستة أقسام: الأول أن يسبق ماء الرجل، ويكون أكثر فيحصل له الذكورة والشبه، والثاني عكسه، والثالث أن يسبق ماء الرجل، ويكون ماء المرأة أكثر فتحصل الذكورة والشبه للمرأة، والرابع عكسه، والخامس أن يسبق ماء الرجل ويستويان فيذكر، ولا يختص بشبه، والسادس عكسه انتهى. 439- قوله: (إذا اغتسل) أي: أراد الغسل (من الجنابة) أي من أجل رفعها، أو بسبب حدوثها (فغسل يديه)

ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ثم يدخل أصابعه في الماء، فيخلل بها أصول شعره، ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيديه، ثم يفيض الماء على جلده كله. ـــــــــــــــــــــــــــــ في حديث ميمونة مرتين، أو ثلاثاً، وغسلهما يحتمل أن يكون للتنظيف مما بهما من مستقذر، ويحتمل أن يكون هو الغسل المشروع عند القيام من النوم، ويدل عليه الزيادة التي رواها مسلم وغيره بلفظ: "قبل أن يدخل يده في الإناء"، وزاد أيضاً: فيغسل فرجه (ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة) فيه احتراز عن الوضوء اللغوي، وظاهره أنه يمسح رأسه أيضاً. قيل: يحتمل أن يكون الابتداء بالوضوء قبل الغسل سنة مستقلة، بحيث يجب غسل أعضاء الوضوء مع بقية الجسد في الغسل، ويحتمل أن يكتفي بغسلها في الوضوء عن إعادته، وعلى هذا فيحتاج إلى نية غسل الجنابة في أول عضو، وإنما قدم غسل أعضاء الوضوء تشريفاً لها، ولتحصل له صورة الطهارتين الصغرى والكبرى. قلت: الظاهر هو الاحتمال الأول لقوله: ثم يفيض الماء على جلده كله. ثم اختلف في هذا الوضوء: فذهب الجمهور إلى أنه لا يجب الوضوء مع الغسل، وقال داود وغيره: الغسل لا ينوب عن الوضوء للمحدث، ويلزم الجمع بين الوضوء والغسل، وهو الراجح، لأن المراد بقوله تعالى: "حتى تغتسلوا" هو الإغتسال الشرعي الذي ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكذا المراد بقوله "فالطهروا" هو التطهر الشرعي، فما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من بيان هيئة الغسل هو بيان للإغتسال الشرعي المجمل الواجب الذي لا يتبين المراد منه إلا ببيانه - صلى الله عليه وسلم - فيكون واجباً. وظاهر قولها: كما يتوضأ للصلاة، أنه يغسل الرجلين ولا يؤخر غسلهما إلى فراغ الغسل، لكن وقع في رواية لمسلم: "ثم أفاض على سائر جسده، ثم غسل رجليه"، وفي رواية أبي داود الطيالسي "فإذا فرغ غسل رجليه" فإما أن يحمل قولها: كما يتوضأ للصلاة على المجاز، بأن المراد يتوضأ أكثر الوضوء كما يتوضأ للصلاة وهو ما سوى الرجلين، أو يحمل على ظاهره، ويكون المراد بقولها: "ثم غسل رجليه" في رواية مسلم أي: أعاد غسلهما لاستيعاب الغسل بعد أن كانت غسلهما في الوضوء، فيوافق قولها في رواية الكتاب "ثم يفيض على جلده كله". (ثم يدخل أصابعه في الماء) لتأخذ البلل ثم يخرجها (فيخلل بها) أي: بأصابعه التي أدخلها في الإناء لأنه أسهل لوصول الماء. (أصول شعره) أي: شعر رأسه، ويدل عليه رواية البيهقي: يخلل بها شق رأسه الأيمن فيتتبع بها أصول الشعر، ثم يفعل بشق رأسه الأيسر كذلك. وقيل: المراد شعر لحيته ورأسه جميعاً، لعموم قوله: أصول الشعر. (ثم يصيب) أي: الماء (على رأسه ثلاث غرفات) بفتحتين، وفي بعض النسخ غرف بضم المعجمة وفتح الراء، جمع غرفة، وهي قدر ما يغرف من الماء بالكف، وفيه سنية التثليث في الصب على الرأس، وألحق به غيره، فإن الغسل أولى بالتثليث من الوضوء المبني على التخفيف. وقيل: لا يستحب التكرار في الغسل، والمراد من التثليث في هذه الرواية أن كل غرفة كانت في جهة من جهات الرأس، فكان يقصد بالثلث الاستيعاب مرة لا التكرار مرات، وكون الغسل أولى بالتثليث لا يخلو عن نظر، لأن في تثليث الغسل من الحرج ما ليس في تثليث الوضوء. (ثم يفيض الماء على جلده كله) هذا التأكيد يدل على أنه عمم جميع جسده بالغسل بعد ما تقدم، وهو يؤيد الاحتمال الأول أن الوضوء سنة مستقلة قبل الغسل، لكن يعارضه ما وقع في بعض طرق هذا الحديث عند البخاري:

متفق عليه، وفي رواية لمسلم: ((يبدأ فيغسل يديه قبل أن يدخلهما الإناء، ثم يفرغ بيمينه على شماله، فيغسل فرجه، ثم يتوضأ)) . 440- (7) وعن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: قالت ميمونة: ((وضعت للنبي - صلى الله عليه وسلم - غسلاً فسترته بثوب، وصب على يديه، فغسلهما، ثم صب بيمينه على شماله. فغسل فرجه، فضرب بيده الأرض فمسحها، ثم غسلها، فمضمض واستنشق، وغسل وجهه وذراعيه، ثم صب على رأسه، وأفاض على جسده، ثم تنحى فغسل قدميه، ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم غسل سائر جسده، أي بقيته، لأن السائر الباقي، ويحتمل أن يقال: أن "سائر" هنا: بمعنى الجميع جمعاً بين الروايتين. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً الترمذي، وأبوداود، والنسائي وابن ماجه. (وفي رواية لمسلم يبدأ) أي: إذا أراد أن يغتسل يشرع (فيغسل) الخ.. قد ركب المصنف الألفاظ المذكورة من روايتين لمسلم، ففي رواية أبي معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: يبدأ فيغسل يديه ثم يفرغ بيمينه على شماله، فيغسل فرجه (بشماله) ثم يتوضأ الخ.. . وفي رواية زائدة عن هشام: بدأ فغسل يديه قبل أن يدخل يده في الإناء ثم يتوضأ الخ. 440- قوله: (غسلاً) بضم الغين المعجمة وسكون المهملة أي: ماء الإغتسال. (فسترته بثوب) أي: ضربت له ستراً يغتسل وراءه لئلا يراه أحد. وفيه مشروعية التستر في الغسل ولو في البيت (فغسلهما) أي: إلى رسغيه (فغسل فرجه) أي: بشماله (فضرب بيده) أي: اليسرى (فمسحها) أي: الأرض لأجل إزالة الرائحة من اليد، أو للمبالغة في التنظيف، وتعليماً للأمة. (فمضمض واستنشق وغسل وجهه وذراعيه) قال عياض: لم يأت في شيء من الروايات في وضوء الغسل ذكر التكرار. قال الحافظ: بل قدر ورد ذلك من طريق صحيحه أخرجها النسائي والبيهقي من رواية أبي سلمة عن عائشة: أنها وصفت غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الجنابة. الحديث، وفيه ثم يمضمض ثلاثاً، ويستنشق ثلاثاً، ويغسل وجهه ثلاثاً ويديه ثلاثاً، ثم يفيض على رأسه ثلاثاً. (ثم صب على رأسه) ظاهره أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يمسح رأسه كما يفعل في الوضوء اكتفاءً بالغسل عن المسح في الوضوء. قال الحافظ: لم يقع في شيء من طرق هذا الحديث التنصيص على مسح الرأس في هذا الوضوء، وتمسك به المالكية لقولهم: إن وضوء الغسل لا تمسح فيه الرأس بل يكتفي عنه لغسلها- انتهى. قلت: ظاهر قوله في روايات عائشة في صفة الغسل "يتوضأ وضوءه للصلاة" أنه يمسح رأسه أيضاً، فيحتمل أن ترك المسح في حديث ميمونة من اختصار الرواة، والله أعلم. (ثم تنحى) أي: تبعد. (فغسل قدميه) وفي رواية للبخاري: توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضوءه للصلاة غير رجليه. الحديث، وفي آخره: ثم نحى رجليه فغسلهما. وفيه التصريح بتأخير الرجلين في وضوء الغسل إلى آخره، وهو مخالف

فناولته ثوباً فلم يأخذه، فانطلق وهو ينفض يديه)) . متفق عليه، ولفظه للبخاري. 441- (8) وعن عائشة، قالت: ((إن امرأة من الأنصار سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غسلها من المحيض، فأمرها كيف تغتسل، ثم قال: خذي فرصة ـــــــــــــــــــــــــــــ لظاهر رواية عائشة المتقدمة: "ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة"، ويمكن الجمع بينهما إما بحمل رواية عائشة على المجاز كما تقدم، وإما بحمله على حالة أخرى، فكان يغسلهما أحياناً أي: إن لم يكن واقفاً في المستنقع بل على لوح، أو حجر، أو مكان مرتفع، ويؤخرهما إلى الفراغ من الغسل أحياناً، أي: إذا كان واقفاً في المستنقع، وأخذ منه جواز تفريق أعضاء الوضوء. قال مالك: إن كان المكان غير نظيف فالمستحب تأخيرهما، وإلا فالتقديم، وعند الشافعية في الأفضل قولان أصحهما وأشهرهما ومختارهما أنه يكمل وضوءه. (فناولته ثوباً) أي: أردت إعطاءه لينشف به أعضاءه. (فلم يأخذه) أي: الثوب إما لكونه مستعجلاً أو لأن الوقت كان حراً، والبلل مطلوب، أو لشئ رآه في الثوب من حرير، أو وسخ، ومع هذه الاحتمالات في الحديث لا يصلح أن يكون دليلاً على كراهة التنشيف. (فانطلق وهو ينفض يديه) فيه جواز نفض اليدين من ماء الغسل قال الحافظ: وكذا الوضوء، وقد عارضه حديث: "لا تنفضوا أيديكم في الوضوء؛ فإنها مراوح الشيطان". أخرجه ابن حبان في الضعفاء، وابن أبي حاتم في العلل من حديث أبي هريرة إلا أنه حديث ضعيف جداً لو لم يعارضه هذا الحديث الصحيح لم يكن صالحاً لأن يحتج به. وفيه دليل على طهارة الغسالة، لأن النفض لا يخلوا عن إصابة الرشاش بالبدن. وحديث عائشة المتقدم وحديث ميمونة هذا مشتملان على بيان كيفية الغسل من ابتداءه إلى إنتهاءه، فإبتداءه غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء، ثم غسل الفرج، ثم دلك اليد بالأرض وغسلها، ثم الوضوء ثم صب الماء على الرأس، ثم إفاضته على الجسد كله. (متفق عليه) أخرجه البخاري في مواضع تسعة من كتاب الطهارة، وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه، وليس لأحمد والترمذي نفض اليدين. (ولفظه للبخاري) في باب نفض اليدين من غسل الجنابة. 441- قوله: (إن امرأة) من الأنصار قيل: هي أسماء بنت شكل الأنصارية. (من المحيض) مصدر ميمى أي: من أجل انقطاع حيضها. (فأمرها كيف تغتسل) سكت في هذه الرواية عن بيان كيفية الاغتسال، وهي مذكورة مشرحة في رواية أخرى، فقد أخرج مسلم عن إبراهيم بن المهاجر، عن صفية، عن عائشة، أن أسماء سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غسل المحيض، فقال: تأخذ إحداكن ماءها وسدرها فتطهر فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكا شديداً حتى تبلغ شؤون رأسها ثم تصب عليها الماء، ثم تأخذ فرصة. الحديث. (ثم قال) أي: بعد تعليمها كيفية الإغتسال. (فرصة) بكسر الفاء، وحكى ابن سيدة تثليثها، وبإسكان الراء وإهمال الصاد، قطعة من صوف، أو قطن، أو جلدة عليها صوف،

من مسك، فتطهري بها. قالت: كيف أتطهر بها؟ فقال: تطهري بها. قالت: كيف أتطهر بها؟ قال: سبحان الله! تطهري بها. فاجتذبتها إليّ فقلت: تتبعي بها أثر الدم)) . متفق عليه. 442- (9) وعن أم سلمة، قالت: قلت: ((يارسول الله - صلى الله عليه وسلم -! إني امرأة أشد ضفر رأسي، ـــــــــــــــــــــــــــــ وحكى أبوداود أن في رواية أبي الأحوض "قرصة" بفتح القاف، ووجه المنذري فقال: يعني شيئاً يسيراً مثل القرصة بطرف الإصبعين (من مسك) بكسر الميم، وهو طيب معروف، أي: خذي قطعة من صوف مطيبة من مسك، وقيل بفتح الميم وهو الجلد، أي: خذي فرصة كائنة من جلد، ويؤيد الكسر، وأن المراد التطيب ما في الرواية الأخرى "فرصة ممسكة" ويقوى الكسر أيضاً ما في رواية عبد الرزاق حيث وقع عنده "من ذريرة" والمقصود باستعمال الطيب تطيب المحل، ودفع الرائحة الكريهة، ورجح بعضهم فتح الميم بأنهم كانوا في ضيق يمتنع معه أن يمتهنوا المسك مع غلاء ثمنه، وفيه أنه لا وجه لاستبعاده لما عرف من شأن أهل الحجاز من كثرة استعمال الطيب، وقد يكون المأمور به من يقدر عليه، فإن فقدت المسك استعملت ما يخلفه في طيب الريح فإن لم تجد فمزيلاً كالطين، وإلا فالماء كاف. (فتطهري بها) أي: بتنظفي وتطيبي بها، أي: فاستعمليها في الموضع الذي أصابه الدم حتى يصير مطيباً. (قال: سبحان الله) تعجباً من عدم فهمها المقصود فأراد بقوله: سبحان الله التعجب، ومعنى التعجب ههنا، أنه كيف يخفى مثل هذا الظاهر الذي لا يحتاج الإنسان في فهمه إلى فكر أو تصريح، ووقع في رواية "استحيى وأعرض" وللإسماعيلي: فلما رأيته استحيا علمتها، وإنما كرر الجواب مع كونها لم تفهمه أولاً، لأن الجواب به يؤخذ من إعراضه بوجهه عند قوله: "تطهري" أي: في المحل الذي يستحيا من مواجهة المرأة بالتصريح به، فاكتفى بلسان الحال عن لسان المقال، وفهمت عائشة ذلك عنه فتولت تعليمها. (فاجتذبتها إليّ) أي: قربتها إلى نفسي. (تتبعي) من التتبع بتشديد الباء. (بها) أي: الفرصة الممسكة. (أثر الدم) أي: اجعليها في الفرج، وحيث أصابه الدم، ففي رواية الإسماعيلي "تتبعي بها مواضع الدم" وزاد الدارمي "وهو يسمع فلا ينكر" وفيه صحة العرض على المحدث إذا أقره ولو لم يقل عقبه نعم. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الطهارة، وفي الاعتصام، ومسلم في الطهارة. ولفظ البخاري في باب دلك المرأة نفسها.. إلخ، أن امرأة سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غسلها من المحيض، فأمرها كيف تغتسل، قال: خذي فرصة من مسك فتطهري بها، قالت: كيف أتطهر بها؟ قال تطهري بها، قالت: كيف؟ قال: سبحان الله! تطهري، فاجتذبتها إليّ.. الخ. والحديث أخرجه أيضاً أحمد، وأبوداود والنسائي وابن ماجه. 442- قوله: (أشد) بفتح الهمزة وضم الشين أي: أحكم. (ضفر رأسي) بفتح الضاد المعجمة وإسكان الفاء إما مصدر وهو نسج الشعر أو غيره، والضفير مثله، وإما أن يكون اسماً للمضفورة. قال في اللسان: ويقال للذؤابة: ضفيرة، وكل خصلة من خصل شعر المرأة تضفر على حدته، وجمعها ضفائر. قال ابن سيده: والضفر كل خصلة من

أفأنقضه لغسل الجنابة؟ فقال: لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء، ـــــــــــــــــــــــــــــ الشعر على حدتها، ثم قال: والضفيرة كالضفر، انتهى. وقال النووي: بفتح الضاد وإسكان الفاء، هذا هو المشهور المعروف في رواية الحديث، والمستفيض عند المحدثين، والفقهاء، وغيرهم، ومعناه: أحكم فتل شعري. (أفأنقضه) أي: أفرقه، يعني أيجب على شرعاً نقضه أم لا؟ وإلا فهي مخيرة (لغسل الجنابة) أي: لأجله حتى يصل الماء إلى باطنه. وفي رواية مسلم: أفأنقضه للحيضة والجنابة؟ (فقال: لا) أي: لا يجب، لا أنه لا يجوز. (إنما يكفيك) بكسر الكاف. (أن تحثي) بسكون الياء لأنها ياء الخطاب للمؤنث، والنون محذوفة على إعمال أن الناصبة، ولا يجوز نصب الياء، من حثا يحثوا حثواً، وحثي يحثي حثياً، واوي ويائي، قال في اللسان: والياء أعلى وهو الرمي، ووقع في بعض النسخ النسائي "أن تحثين" بإثبات النون، قال السندهي: وكأنه على إهمال "أن" تشبيهاً لها بما المصدرية، وقد ورد مثل ذلك في الحديث كثيراً، وارجع إلى "شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح" (ص117و118) (حثيات) بفتحات أي: حفنات يعني ثلاث غرف بيديه واحدها حثية قاله في النهاية واللسان. (ثم تفيضين) بإثبات النون، والتقدير: أنت تفيضين، فيكون من باب عطف الجمل، قاله القاري. وقيل: جاء على لغة من يرفع الفعل بعد أن حملاً على أختها. والحديث دليل على أنه لا يجب على المرأة نقض الضفائر في غسل الجنابة، ولا في غسل الحيض بل يكفيها أن تصب على رأسها ثلاث حفنات، ويدل عليه أيضاً ما رواه أحمد ومسلم عن عبيد بن عمير قال: بلغ عائشة أن عبد الله بن عمرو يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤسهن، فقالت: يا عجباً لابن عمرو يأمر النساء إذا اغتسلن بنقض رؤسهن، أو ما يأمرهن أن يحلقن رؤسهن، الحديث. وأما ما رواه مسلم من حديث عائشة (أي في المنتقى) في صفة غسل المرأة من المحيض بلفظ: ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكاً شديداً حتى تبلغ شئون رأسها. فلا يدل على نقض الضفائر، ولا على وجوب بل داخل الشعر ولو سلم فهو محمول على العزيمة والندب، وحديث أم سلمة على الرخصة جمعاً بين الأدلة. وأما حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: وكانت حائضاً: "انقضي شعرك، واغتسلي". أخرجه الأئمة الستة، وهذا لفظ ابن ماجه، وفي رواية للبخاري: انقضي رأسك، وامتشطي، وأمسكي عن عمرتك. فهو وارد في مندوبات الإحرام، والغسل في تلك الحالة للتنظيف لا للصلاة، والنزاع في غسل الصلاة، ذكره الشوكاني في النيل، وقال في السيل الجرار: واختصاص هذا بالحج لا يقتضي ثبوته في غيره، ولا سيما وللحج مدخلة في مزيد التنظيف، ثم اقترانه بالامتشاط الذي لم يوجبه احد يدل على عدم وجوبه. وأما ما رواه الدارقطني في الأفراد، والبيهقي في السنن الكبرى، والطبراني في الكبير من حديث أنس مرفوعاً: إذا اغتسلت المرأة من حيضتها نقضت شعرها نقضاً وغسلته بخطمي وأشنان، فإذا اغتسلت من الجنابة صبت على رأسها الماء وعصرته. فقد تفرد به مسلم بن صبيح اليحمدي وهو مجهول، وهو غير أبي الضحى مسلم بن صبيح المعروف، فإنه أخرج له الجماعة كلهم. وأيضا اقترانه بالغسل بخطمي وأشنان يدل على عدم الوجوب فإنه لم

فتطهرين)) . رواه مسلم. 443- (10) وعن أنس قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ يقل أحد بوجوب الخطمي ولا الأشنان - انتهى. وهذا كل في حق المرأة، وأما الرجل فيجب عليه نقض شعره المضفور، وبل ظاهره وباطنه، أي: داخله إذا لم يصل الماء إلى أصول الشعر إلا بالنقض لحديثي أبي هريرة، وعلى الآتيين في الفصل الثاني، ولحديث ثوبان: أنهم استفتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أما الرجل فلينشر رأسه فليغسله حتى يبلغ أصول الشعر، وأما المرأة فلا عليها أن لا تنقضه، لتغرف على رأسها ثلث غرفات بكفيها". قال ابن القيم: هذا الحديث رواه أبوداود من حديث إسماعيل بن عياش، وهذا إسناد شامي، وحديثه عن الشاميين صحيح. وقال الشوكاني: أكثر ما علل به أن في إسناده إسماعيل بن عياش، والحديث من مروياته عن الشاميين، وهو قوي فيهم فيقبل، انتهى. هذا وارجع للتفصيل إلى غاية المقصود شرح سنن أبي داود. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه. 443- قوله: (كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع) الصاع أربعة أمداد بمد النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمد رطل وثلث بالعراق فيكون الصاع خمسة أرطال وثلثا برطل عراق، وإليه ذهب أبويوسف، ومالك، والشافعي، وأحمد، وخالفهم أبوحنيفة ومحمد، فقالا: المد رطلان، والصاع ثمانية أرطال، ولا حجة لهما على ما ذهبا إليه، ولذلك ترك أبويوسف مذهبه، واختار مذهب الأئمة الثلاثة، ولمالك مع أبي يوسف فيه قصة مشهورة رواها البيهقي بإسناد جيد، وارجع للتفصيل إلى شرح الترمذي (ج1ص159-160) لشيخنا العلامة الأجل المباركفوري. والحديث يدل على كراهة الإسراف في الماء للوضوء والغسل، واستحباب الاقتصاد، وهو مجمع عليه (إلى خمسة أمداد) بيان لغايته، حاصله أنه لم ينقص عن أربعة أمداد ولم يزد على خمسة أمداد، يعنى أنه ربما اقتصر على الصاع، وربما زاد عليه إلى خمسة، فكأن أنساً لم يطلع على أنه استعمل في الغسل أكثر من ذلك. لأنه جعلها النهاية، وقد روى مسلم من حديث عائشة، أنه كان يغتسل من إناء يسع ثلاثة أمداد أو قريباً من ذلك. وروى الشيخان عنها قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد من قدح يقال له الفرق. وفي رواية: كان يغتسل من إناء واحد يقال له الفرق، والفرق ثلاثة آصع أي: ستة عشر رطلاً بالعراق. فهذا يدل على اختلاف الحال في ذلك بقدر الحاجة. وقد اختلف الروايات في الوضوء أيضاً، ففي حديث عبد الله بن زيد عند ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى بثلثي مد من ماء، فتوضأ فجعل يدلك ذراعيه. وفي حديث أنس عند أحمد، وأبي داود: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بإناء يكون رطلين. وفي هذه الأحاديث رد على من قدر وضوئه وغسله - صلى الله عليه وسلم - بما في حديث أنس الذي ذكره المؤلف من رواية الشيخين، وحمله الجمهور على الاستحباب؛ لأن

متفق عليه. 444- (11) وعن معاذة، قالت: قالت عائشة رضي الله عنها: ((كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد بيني وبينه، فيبادرني، حتى أقول: دع لي دع لي. قالت: وهما جنبان)) . متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ أكثر من قدر وضوءه وغسله - صلى الله عليه وسلم - من االصحابة قدرهما بذلك وهذا إذا لم تدع الحاجة إلى الزيادة، وهو أيضاً في حق من يكون خلقه معتدلاً. قال الشوكاني: القدر المجزئ عن الغسل ما يحصل به تعميم البدن على الوجه المعتبر، وسواء كان صاعاً أو أقل أو أكثر ما لم يبلغ في النقصان إلى مقدار لا يسمى مستعمله مغتسلاً، أو إلى مقدار في الزيادة يدخل فاعله في حد الإسراف، وهكذا الوضوء، القدر المجزئ ما يحصل به غسل أعضاء الوضوء سواء كان مداً أو أقل أو أكثر ما لم يبلغ في الزيادة إلى حد السرف أو النقصان إلى حد ما لا يحصل به الواجب (متفق عليه) وأخرج أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه من حديث سفينة، وأبوداود من حديث عائشة بنحوه. 444- قوله: (وعن معاذة) بضم الميم هي معاذة بنت عبد الله العدوية أم الصهباء البصرية العابدة، ثقة حجة، تابعية، روت عن عائشة وعلي. يقال: إنها لم تتوسد فراشاً بعد أبي الصهباء حتى ماتت. قال الذهبي: بلغني أنها كانت تحيي الليل وتقول: عجبت لعين تنام وقد علمت طول الرقاد في القبور. توفيت سنة (83) . (أنا ورسول الله) بالنصب على أن يكون مفعولاً معه، والرفع على أن يكون عطفاً على الضمير، وإبراز الضمير ليصح العطف، وهو من باب تغليب المتكلم على الغائب لكونها هي السبب في الاغتسال، فكأنها أصل في الباب. (من إناء واحد) من قدح يقال له الفرق، كما في رواية البخاري، والفرق ثلاثة آصع (بيني وبينه) أي: يوضع الإناء بيني وبينه وهو واسع الرأس، فنجعل أيدينا ونأخذ الماء للاغتسال به. (فيبادرني) أي: يسبقني لأخذ الماء زاد النسائي "وأبادره" قال الأشرف: ليس المعنى أنه يبادرني ويغتسل ببعضه ويترك الباقي فأغتسل منه، بل المعنى أنهما اغتسلا منه معاً كما ورد في رواية أخرى: "نغترف منه جميعاً". وفي رواية: "تختلف أيدينا فيه وتلتقي". (دع لي دع لي) أي: أترك لي ما أكمل غسلي، والتكرار للتأكيد أو للتعديد. (قالت) أي: معاذة. (وهما) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - وعائشة رضي الله عنها. (جنبان) بضم الجيم والنون تثنية جنب. وفي الحديث دليل على جواز اغتسال الرجل والمرأة من إناء واحد معاً، ونقل الطحاوي ثم القرطبي والنووي الاتفاق على ذلك. وفيه أيضاً جواز اغتراف الجنب من الماء القليل، وأن ذلك لا يمنع من التطهير بذلك الماء، ولا بما يفضل منه، سواء فيه الرجل وامرأة. (متفق عليه) أي: على أصل الحديث، واللفظ لمسلم، وأخرجه أيضاً النسائي وقال السيد جمال الدين: قوله: متفق عليه، فيه نظر؛ لأن البخاري لم يقل: فيبادرني حتى أقول "دع لي دع لي" وإنما هو من أفراد مسلم.

{الفصل الثاني}

{الفصل الثاني} 445- (12) عن عائشة، قالت: ((سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاماً. قال: يغتسل. وعن الرجل الذي يرى أنه قد احتلم ولا يجد بللاً. قال: لا غسل عليه. قالت أم سليم: هل على المرأة ترى ذلك غسل؟ قال: نعم، إن النساء شقائق الرجال)) . رواه الترمذي وأبوداود. وروى الدارمي، وابن ماجه إلى قوله: لا غسل عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ 445- قوله: (يجد البلل) بفتحتين أي: رطوبة المني على بدنه، أو في ثوبه، وذلك لأن المسؤول عنه إنما هي بلة المني لا مطلق البلة بقرينة الحال، إذ لم يقل أحد بوجوب الغسل على المنتبه من النوم برؤية بلل البول، فكذا المذي. (ولا يذكر احتلاماً) أي: لا يذكر أنه جامع في النوم (قال: يغتسل) خبر بمعنى الأمر وهو الوجوب، وفيه دليل على اعتبار مجرد وجود المني في إيجاب الاغتسال على المنتبه من النوم سواء انضم إلى ذلك ظن الشهوة، أم لا. قال ابن قدامة: لا نعلم فيه خلافا، وبه قال المالك والشافعي واسحق وغيرهم، لكن قال ابن رسلان: لا يجب عند الشافعي الغسل حتى يذكر التنبه من النوم أنه جامع أحداً في النوم. (يرى) بفتح الياء أي: يعتقد وبضمها أي: يظن (أنه قد احتلم ولا يجد بللاً. قال: لا غسل عليه) أي: لا يجب عليه الغسل، لأن البلل علامة ودليل، والنوم لا عبرة به، فالمدار على البلل سواء تذكر الاحتلام أم لا، وهذا لم يختلف فيه أحد، وقد حكى عليه الإجماع ابن المنذر وابن قدامة وغيرهما، وأما إذا رأى المستيقظ بللاً، ولم يعلم أنه مني أو مذي، فالأحوط عندي وجوباً أن يغتسل لظاهر الحديث، وهو مختلف فيه بين الأئمة جداً، حتى عند الحنفية أيضاً، فقد ذكر ابن عابدين في رد المختار. (ج1:ص151) أربعة عشر وجهاً في المسألة. (ترى ذلك) أي: البلل. (إن النساء) بكسر الهمزة استئناف في معنى التعليل. (شقائق الرجال) أي: نظائرهم وأمثالهم في الخلق والطبائع فكأنهن شققن من الرجال، يعني فيجب على المرأة الغسل برؤية البلل بعد النوم كالرجل. قال الخطابي: فيه من الفقه إثبات القياس وإلحاق حكم النظير بالنظير، فإن الخطاب إذا ورد بلفظ المذكر كان خطاباً للنساء، إلا مواضع الخصوص التي قامت أدلة التخصيص فيها انتهى. (رواه الترمذي) الخ. وأخرجه أيضاً أحمد (ج2:ص256) والحديث قد تفرد به عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب وهو صدوق في حفظه شيء. قال الترمذى: إنما روى هذا الحديث عبد الله بن عمر عن عبيد الله بن عمر، وعبد الله ضعفه يحيى بن سعيد من قبل حفظه في الحديث، لكن أصل القصة معروفة في الصحيحين وغيرهما من حديث أم سلمة، وهو ثالث أحاديث الفصل الأول، ونحوه من حديث عائشة في مسلم أيضاً وأبي داود، ومن حديث أم سليم عند أحمد (ج 6:ص377) ، ومن حديث أنس عند مسلم أيضاً والدارمي، فهذه الروايات شاهدة

446- (13) وعنها، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا جاوز الختان الختان، وجب الغسل. فعلته أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاغتسلنا)) . رواه الترمذي،وابن ماجه. 447- (14) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تحت كل شعرة جنابة، فاغسلوا الشعر، ـــــــــــــــــــــــــــــ لحديث عائشة من رواية عبد الله بن عمر العمري، وقد سكت عنه أبوداود. 446- قوله: (إذا جاوز الختان الختان) الأول بالرفع والثاني بالنصب، والمراد بالختان ههنا موضع الختن، والختن من الرجل قطع ما يغطي الحشفة بحيث إذا قطع ظهرت الحشفة، ومن المرأة قطع جلدة في أعلى فرجها مجاورة لمخرج البول كعرف الديك، وذلك لأن مدخل الذكر هو مخرج الولد، والمني، والحيض، وفوقه مخرج البول، وبينهما جلدة رقيقة، وفوق مخرج البول جلدة رقيقة يقطع منها في الختان، ويسمى موضع الختن من المرأة الخفاض، أطلق عليه الختان مشاكلة. والمراد بمجاوزة الختان الختان، الجماع، وهو غيبوبة الحشفة في فرجها، ففي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: إذا التقى الختانان، وتوارت الحشفة، فقد وجب الغسل، أخرجه ابن ماجه، وابن أبي شيبة (وجب الغسل) وإن لم ينزل، والحديث نص في أن الغسل يجب بمجرد مجاوزة الختان الخفاض، أي: الإيلاج، ولا يتوقف على الإنزال، وإليه ذهب الجمهور وهو الصواب. (فعلته) الضمير راجع إلى مصدر جاوز. (ورسول الله) بالرفع أو النصب. (فاغتسلنا) ظاهره أنها تعني بغير الإنزال، وأنه ناسخ لمفهوم حديث "إنما الماء من الماء" (رواه الترمذي) أخرج الترمذي أولاً حديث عائشة هذا بتمامه موقوفاً من قولها، وكذا أخرجه الشافعي في اختلاف الحديث، وأحمد في المسند (ج1:ص161) وابن ماجه، ثم أخرجه الترمذي مرفوعاً بسند آخر، وليس فيه "فعلته أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاغتسلنا" بل اقتصر على الجملة الأولى "إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل" وكذا اقتصر عليه البغوي في المصابيح، والمصنف ركب المرفوع والموقوف، أو جعل الموقوف مرفوعاً، وهذا خطأ منه. وأخرج المرفوع أيضاً الشافعي في اختلاف الحديث، وفي الأم، وأحمد في المسند من طرق. وقال الترمذي بعد رواية المرفوع: حديث عائشة حديث حسن صحيح، وصححه أيضاً ابن حبان، وابن القطان، وأصله في مسلم بلفظ: "إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل". 447- قوله: (تحت كل شعرة جنابة) كناية عن شمول الجنابة تمام البدن الذي هو محل الشعر عادة، ولذلك رتب عليه قوله: (فاغسلوا الشعر وأنقوا البشرة) وإلا فكون الجنابة تحت كل شعرة، يقتضي وجوب إيصال الماء إلى ما تحت الشعر، ولا يقتضي غسل الشعر وإنقاء الجلد، قاله السندهي (فاغسلوا الشعر) بسكون العين وفتحها، أي: جميعه، فلو بقيت شعرة واحدة لم يصل إليها الماء بقيت جنابته. وظاهر الحديث يوجب نقض القرون والضفائر إذا أراد الاغتسال من الجنابة

وأنقوا البشرة)) . رواه أبوداود والترمذي وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث غريب، والحارث بن وجيه الراوي وهو شيخ، ليس بذاك. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنه لا يكون شعره مغسولاً إلا أن ينقضها، وهذا الحكم بعمومه يشتمل الرجال والنساء، لأن النساء شقائق الرجال، لكن رخص النساء في ترك ضفر رؤسهن كما تقدم، والعلة في دفع الحرج عنهن، فحكم الرجال مغائر للنساء، فحديث أبي هريرة هذا مخصوص بالرجال، وكذا حديث علي الذي يتلوه. (وأنقوه) من الإنقاء. (البشرة) أي: نظفوها من الأوساخ، لأنه لو منع شيء من ذلك وصول الماء لم يرتفع الجنابة. والبشرة بفتح الباء والشين، ظاهر جلد الإنسان، وفي حديث أبي هريرة هذا وحديث علي الآتي دليل على وجوب المضمضة والاستنشاق في غسل الجنابة لما في داخل الأنف من الشعر، ولأن داخل الفم من البشرة، واحتج به على وجوب الدلك في الغسل، فإنه فسر صاحب المصباح الإنقاء بالتنظيف ومعلوم أن التنظيف لا يكون إلا بالدلك. (رواه أبوداود) وضعفه، (والترمذي وابن ماجه) وأخرجه البيهقي. (ج1:ص175) (وقال الترمذي: هذا حديث غريب) لأنه تفرد به الحارث عن مالك بن دينار. قال الحافظ: مداره على الحارث بن وجيه وهو ضعيف جداً، قال أبوداود: والحارث حديثه منكر وهو ضعيف، وقال الشافعي: الحديث ليس بثابت، وقال البيهقي: أنكره أهل العلم بالحديث البخاري، وأبوداود، وغيرهما. (والحارث بن وجيه) بكسر الجيم وبعدها ياء تحتية مثناة، ويقال: ابن وجبة باسكان الجيم وفتح الباء الموحدة. (وهو شيخ ليس بذاك) الظاهر أن قوله "الحارث بن وجيه" مبتدأ خبره "ليس بذاك" وقوله: (وهو شيخ) حال أو اعتراض، وهو خلاف نص عبارة الترمذي في جامعه ففيه "حديث الحارث بن وجيه" حديث غريب لا نعرفه إلا من حديثه "وهو شيخ ليس بذاك" قال الطيبي: أي: شيخ كبير غلب عليه النسيان، ليس بذاك المقام الذي يوثق به، يعني روايته ليست بقوية. وقال القاري: وظاهره يقتضي أن قوله:"وهو شيخ" للجرح، وهو مخالف لما عليه عامة أصحاب الجرح والتعديل من أن قولهم"شيخ" من ألفاظ مراتب التعديل فعلى هذا يجيء إشكال آخر في قول الترمذي، لأن قولهم "ليس بذاك" من ألفاظ الجرح اتفاقاً، فالجمع بينهما في شخص واحد جمع بين المتنافيين، فالصواب أن يحمل قوله: "وهو شيخ" على الجرح بقرينة مقارنته بقوله "ليس بذاك" وإن كان من ألفاظ التعديل، ولإشعاره بالجرح لأنهم وإن عدوه من ألفاظ التعديل صرحوا أيضاً بإشعاره بالقرب من التجريح، أو نقول: لابد في كون الشخص ثقة من شيئين: العدالة والضبط، كما بين في موضعه، فإذا وجد في الشخص العدالة دون الضبط، يجوز أن يعدل باعتبار الصفة الأولى، ويجوز أن يجرح باعتبار الصفة الثانية، فإذا كان كذلك لا يكون الجمع بينهما جمعاً بين المتنافيين، كذا في حاشية السيد جمال الدين، ذكره القاري في المرقاة. وقيل: الشيخ هنا بمعنى العالم فإنه يطلق على الأستاذ والعالم وكبير القوم ورئيس الصناعة، وعلى من كان كبيراً في أعين القوم علماً أو فضيلةً أو مقاماً أو نحو ذلك.

448- (15) وعن علي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من ترك موضع شعرة من جنابة لم يغسلها، فعل بها كذا وكذا من النار)) . قال علي: فمن ثم عاديت رأسي، فمن ثم عاديت رأسي، فمن ثم عاديت رأسي، ثلاثاً. رواه أبوداود وأحمد والدارمي، إلا أنهما لم يكررا: فمن ثم عاديت رأسي. 449- (16) وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتوضأ بعد الغسل)) . رواه الترمذي ـــــــــــــــــــــــــــــ 448- قوله: (موضع شعره) لم يرد المحل الذي تحت الشعر، فإن إيصال الماء هناك مشكل بل أراد محلاً يمكن قيام الشعر فيه، أي: شعراً قليلاً من ظاهر البدن قدر ما يقوم فيه الشعر، كذا قاله السندهي. (من جنابة) متعلق بترك، أي: من أجل غسل جنابة، أو من عضو مجنب (لم يغسلها) أنث الضمير الراجع إلى الموضع لتأنيث المضاف إليه. (فعل) بصيغة المجهول. (بها) أي: بسبب تلك الشعرة، أو الضمير يرجع إلى الموضع، والتأنيث باعتبار المضاف إليه، ولفظ أحمد "فعل الله به" أي: بذلك التارك، أو بالموضع المتروك. (كذا كذا) كناية عن العذاب الشديد. (فمن ثم) أي: من أجل أني سمعت هذا التهديد والوعيد. (عاديت رأسي) وفي رواية أحمد وابن ماجه "عاديت شعري" أي: عاملت شعر رأسي معاملة العدو بالعدو أي: فعلت به ما يفعل بالعدو من الاستئصال والقطع والجز فجزرته، مخافة أن لا يصل الماء إلى جميع رأسي، وقوله: (عاديت) كناية عن دوام جز شعر الرأس وقطعه. زاد أبوداود، والدارمي: وكان يجز شعره. (ثلاثاً) أي: قاله ثلاثاً للتأكيد. (رواه أبوداود) وسكت عنه (وأحمد والدارمي) وأخرجه أيضاً ابن ماجه. قال الحافظ في التلخيص: إسناده صحيح، فإنه من رواية عطاء بن السائب، وقد سمع منه حماد بن سلمة قبل الاختلاط، أخرجه أبوداود، وابن ماجه من حديث حماد، لكن قيل: إن الصواب وقفه على علي- انتهى. وهذا التعليل الأخير - الذي أشار إليه الحافظ - ينافيه سياق الحديث كما هو ظاهر. وفي الباب عن أنس عند أبي يعلى، والطبراني في الصغير، وأبي أيوب عند ابن ماجه وإسنادهما ضعيف. (إلا أنهما) أي: أحمد والدارمي (لم يكررا: فمن ثم عاديت رأسي) أي: هذا اللفظ وأكتفيا بمرة واحدة. 449- قوله: (لا يتوضأ بعد الغسل) من الجنابة أي: يصلي بعد الاغتسال وقبل الحدث بلا وضوء جديد اكتفاء بالوضوء الذي كان قبل الاغتسال، فكان عادته - صلى الله عليه وسلم - تقديم الوضوء على غسل الجنابة كما تقدم. وقيل: اكتفاء بالوضوء الحاصل في ضمن غسل الجنابة، لاندراج ارتفاع الحدث الأصغر تحت ارتفاع الأكبر بإيصال الماء إلى جميع أعضاءه، علل به من لم يوجب الوضوء في غسل الجنابة، والمعتمد هو الأول. وأداء الصلاة بعد غسل الجنابة وقبل الحدث بلا وضوء جديد أمر مجمع عليه، لم يختلف فيه العلماء كما صرح به ابن العربي في شرح الترمذي (رواه الترمذي) وقال: حديث حسن

وأبو داود والنسائي وابن ماجه. 450- (17) وعنها، قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغسل رأسه بالخطمي وهو جنب يجتزئ بذلك ولا يصب عليه الماء)) . رواه أبوداود. 451- (18) وعن يعلى، قال: ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يغتسل بالبراز، فصعد المنبر، ـــــــــــــــــــــــــــــ صحيح كما في بعض نسخ جامع الترمذي، قال ابن سيد الناس في شرح الترمذي: تختلف نسخ الترمذي في تصحيح حديث عائشة، وأخرجه البيهقي بأسانيد جيدة. (وأبو داود) وسكت عليه (والنسائي) وأخرجه أيضاً أحمد والبيهقي. 450- قوله: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغسل رأسه بالخطمى) بكسر الخاء، نبت يتنظف به معروف. وفيه دليل على استحباب تنظيف الرأس عند غسل الجنابة بالخطمى ونحوه. (وهو جنب) جملة حالية. (يجتزئ بذلك) أي: يقتصر عليه، قاله الطيبي، يعني يكتفي بالماء الذي كان يفيضه على رأسه لإزالة الخطمى، وما كان يأخذ ماء جديداً للغسل. وقال المنذري: قيل: يكتفي بالماء الذي يغسل به الخطمى، وينوى غسل الجنابة ولا يستعمل بعده ماء آخر يخص به الغسل. (ولا يصب عليه) أي: على رأسه. (الماء) قال ابن رسلان: أي: يصب الماء الذي يزيل به الخطمى، ولا يصب على رأسه الماء الآخر بعد إزالته، وقال من ذهب إلى جواز التطهير بالماء المقيد في معنى الحديث: أنه كان يكتفي بالماء المخلوط به الخطمى الذي يغسل به رأسه، وينوى به غسل الجنابة، ولا يصب بعده ماء آخر قراحاً صافياً يخص به الغسل. ولا يخفى ما فيه من التكلف، على أن الحديث ضعيف لا يكفي مثله للاستدلال. (رواه أبوداود) في سنده رجل من بني سواءة بن عامر، وهو مجهول. وقال الحافظ في الفتح: رواه أبوداود بإسناد ضعيف. وقد روى عن ابن مسعود أنه كان يغسل رأسه بخطمى، ويكتفي بذلك في غسل الجنابة، أخرجه ابن شيبة، والطبراني في الكبير. 451- قوله: (وعن يعلى) بفتح ياء وسكون عين مهملة وفتح لام وقصر كيرضى، هو يعلى بن أمية بن أبي عبيدة بن همام التميمي أبوصفوان المكي حليف قريش، وهو يعلى بن منية - بضم الميم وسكون النون بعدها تحتانية مفتوحة – وهي أمه ويقال: جدته، صحابي مشهور من مسلمة الفتح، وشهد حنيناً، والطائف وتبوك مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن عبد البر عن ابن المديني: استعمله أبوبكر على حلوان، واستعمله عمر على بعض اليمن فبلغ عمر أنه حمى لنفسه، فأمر أن يمشي على رجليه إلى المدينة، فمشى خمسة أيام أو ستة فبلغه موت عمر فركب. واستعمله عثمان على الجند، فلما بلغه قتل عثمان أقبل لينصره فصحب الزبير وعائشة. وله ثمانية وأربعون حديثاً، اتفقا على ثلاثة، روى عنه جماعة من التابعين، وروى عنه هذا الحديث ابنه صفوان، بقي إلى قرب الخمسين. (رأى رجلاً يغتسل) أي: من غير سترة عرياناً. (بالبراز) بفتح الباء وهو

{الفصل الثالث}

فحمدالله، وأثنى عليه، ثم قال: إن الله حيي ستير يحب الحياء والتستر، فإذا اغتسل أحدكم، فليستتر)) . رواه أبوداود والنسائي، وفي روايته قال: إن الله ستير، فإذا أراد أحدكم أن يغتسل فليتوار بشيء. {الفصل الثالث} 452- (19) عن أبي بن كعب قال: إنما كان الماء من الماء رخصة في أول الإسلام ثم نهي عنها. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفضاء الواسع، والباء للظرفية. (حيي) بيائين الأولى مخففة مكسورة والثانية مشددة مرفوعة، أي: كثير الحياء من تفضيح عباده وإظهار شنائعهم. (ستير) بوزن كريم، وقيل: هو كسكيت - بكسر السين وتشديد التاء المكسورة - فعيل بمعنى فاعل، أي: من شأنه وإرادته حب الستر والصون. (يحب) أي: من عبده. (الحياء) فإنه من الإيمان. (والتستر) كالتقبل، وفي أبي داود والنسائي الستر بفتح السين وسكون التاء، قال التوربشتي: يعنى أن الله تعالى تارك للقبائح، ساتر للعيوب والفضائح، يحب الحياء والستر من العبد ليكون متخلقاً بأخلاقه تعالى، فهو تعريض للعباد، وحث لهم على تحري الحياء والتستر - انتهى مختصراً. (فإذا اغتسل) أي: أراد الاغتسال. (فليستتر) من الاستتار أي: فليجعل لنفسه سترة وجوباً إن كان ثم من يحرم نظره لعورته، وندباً في غير ذلك. واغتساله - صلى الله عليه وسلم - في بعض الأحيان عرياناً لبيان الجواز. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري. (والنسائي) وأخرجه أيضاً أحمد. قال الشوكاني: الحديث رجال إسناده رجال الصحيح، وقد أخرج البزار نحوه من حديث ابن عباس مطولاً. وقد ذكره الحافظ في الفتح. (ج2:ص193) ولم يتكلم عليه. (وفي روايته) أي: في رواية أخرى للنسائي. (فليتوار) أمر من التواري بمعنى التستر (بشيء) من الثوب أو الجدار أو الحجر أو الشجر. قال ابن حجر: وحاصل حكم من اغتسل عارياً أنه كان بمحل خال لا يراه أحد ممن يحرم عليه نظر عورته حل له ذلك، لكن الأفضل التستر حياء من الله تعالى، يدل عليه حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عند أبي داود والترمذي بلفظ: احفظ عورتك إلا من زوجك. قلت: فالرجل يكون خالياً؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "الله أحق أن يستحي منه"، وإن كان المغتسل بحيث يراه أحد يحرم عليه نظر عورته وجب عليه التستر منه إجماعاً على ما حكى. 452- قوله: (إنما كان الماء) أي: انحصار وجوب الغسل. (من الماء) أي: من إنزال المني لا بمجرد الجماع. (رخصة في أول الإسلام) تدريجاً لتكاليف الأحكام. (ثم نهي) بصيغة المفعول. (عنها) أي: عن تلك الرخصة وفرض الغسل بمجرد الإيلاج ولو لم ينزل. ولفظ أبي داود: إن الفتيا التي كانوا يفتون أن الماء من الماء، كان رخصة رخصها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بدء الإسلام، ثم أمر بالاغتسال بعد. وفي رواية للحازمي في كتاب الاعتبار قال: كان الماء من الماء شيئاً في أول الإسلام، ثم ترك ذلك بعد، وأمروا بالغسل إذا مس الختان الختان. والحديث صريح في ما قاله الجمهور

رواه الترمذي وأبوداود والدارمي. 453- (20) وعن علي، قال: ((جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني اغتسلت من الجنابة، وصليت الفجر، فرأيت قدر موضع الظفر لم يصبه الماء. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو كنت مسحت عليه بيدك أجزأك)) . رواه ابن ماجه. 454- (21) وعن ابن عمر، قال: ((كانت الصلاة خمسين، والغسل من الجنابة سبع مرات، وغسل البول من الثوب سبع مرات. فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل، حتى جعلت الصلاة خمساً، وغسل الجنابة مرة، وغسل الثوب من البول مرة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ من النسخ، وقد سبق الكلام عليه. (رواه الترمذي) وقال: حسن صحيح. (وأبوداود) وسكت عنه. ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره. (والدارمي) وأخرجه أيضاً أحمد وابن ماجه والبيهقي والدارقطني وصححه ابن خزيمة وابن حبان، وقال الإسماعيلي: إنه صحيح على شرط البخاري، وأطال الحافظ الكلام عليه في التلخيص، والشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي (ج1:ص185،184) فارجع إليهما. 453- قوله: (فرأيت) أي: بعد انقضاء صلاتي. (قدر موضع الظفر) بضم الظاء والفاء وقد يسكن الفاء، أي: مقدار موضعه من بدني. (لم يصبه الماء) حال أو مفعول ثان. (لو كنت مسحت عليه بيدك) أي: ليسري بذلك الماء عليه، فليس فيه اكتفاء بالمسح، قاله السندهي. وقال القاري: لو كنت أي: عند الغسل مسحت عليه بيدك، أي: غسلته غسلاً خفيفاً، أو مررت عليه بيدك المبلولة. (أجزأك) أي: كفاك. وأما المسح الذي هو إصابة اليد المبتلة فلا يكفي. قال الطيبي: قد عرفت أن لو لامتناع الشيء لامتناع غيره، فالمعنى: لا يجزئك لأنك في زمان الغسل ما مسحت بالماء على ذلك الموضع. وفيه أنه يلزمه الغسل جديداً وقضاء الصلاة - انتهى. يعني غسل ذلك الموضع. (رواه ابن ماجه) وفي سنده محمد بن عبيد الله العزرمي الفزاري وهو متروك. 454- قوله: (كانت الصلاة خمسين) قال الطيبي: أي: كان الصلاة مفروضة في ليلة المعرج خمسين، لا أنهم صلوا خمسين صلاة. والحديث مشهور - انتهى. يعني أن حديث المعراج مشهور لكن ليس في أحاديث المعراج في الصحيحين إلا ذكر الصلوات فقط. (سبع مرات) وفي أبي داود "وسبع مرار" في الموضعين. (وغسل الثوب من البول) وفي أبي داود: وغسل البول من الثوب. (فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل) أي: ربه في التخفيف عن أمته. (خمساً) بالكمية، وخمسين بمضاعفة الفضيلة. (وغسل الجنابة مرة) أي: بالفرضية فلا ينافي سنية التثليث. (وغسل الثوب من البول مرة) فيه

(6) باب مخالطة الجنب وما يباح له

رواه أبوداود. (6) باب مخالطة الجنب وما يباح له {الفصل الأول} 455- (1) عن أبي هريرة، قال: ((لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا جنب، فأخذ بيدي، فمشيت معه حتى قعد، فانسللت، فأتيت الرحل، ـــــــــــــــــــــــــــــ دليل لما ذهب إليه الشافعي ومن وافقه من أن الثوب يطهر بالغسل مرة، وأن التثليث مندوب، خلافاً للحنفية، فإن التثليث عندهم واجب في النجاسة الغير المرئية. قال برهان الدين المرغيناني: النجاسة ضربان مرئية وغير مرئية، فما كان منها مرئياً فطهارتها بزوال عينها، وما ليس بمرئي فطهارته أن يغسل حتى يغلب على ظن الغاسل أنه قد طهر، لأن التكرار لا بد منه للاستخراج، وإنما قدروا بالثلاث لأن غالب الظن يحصل عنده، ويتأيد ذلك بحديث: إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمسن يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً - انتهى. قلت: في الاستدلال بهذا الحديث على إيجاب التثليث في النجاسة الغير المرئية نظر، لأن الحديث من باب النظافة لا من باب النجاسة كما ذهب إليه الباجي، وابن تيمية. (رواه أبوداود) وسكت عنه، لكن في سنده أيوب بن جابر اليمامي، وقد ضعفه ابن معين وابن المديني والنسائي وأبوزرعة وأبوحاتم وابن حبان ويعقوب بن سفيان. وقال أحمد: حديثه يشبه حديث أهل الصدق. وقال الفلاس: صالح. وقال ابن عدي: أحاديثه صالحة متقاربة، وهو ممن يكتب حديثه. وقال البخاري في التاريخ الأوسط: هو أوثق من أخيه محمد. (باب مخالطة الجنب) أي: جواز مماسته، ومماسحته، ومماشاته، ومجالسته، ومصافحته، ومواكلته، ونحوذلك. يقال أجنب الرجل إذا صار جنباً، بضمتين، وهو يقع على الواحد والإثنين والجمع، والمذكر والمؤنث بلفظ واحد، وقد يقال: جنبان وجنوب وأجناب، والاسم الجنابة، وأصلها البعد لأنه نهي أن يقرب موضع الصلاة وعن كثير من العبادات مالم يتطهر. (وما يباح له) أي: للجنب من الأكل والشرب والنوم والذكر وغيرها بعد الوضوء وقبله. 455- قوله: (فأخذ بيدي) للتأنيس، ويحتمل أن يكون أخذه بها للإتكاء عليها. وفيه جواز أخذ الإمام والعالم بيد تلميذه ومشيه معه معتمداً عليه ومرتفقا به. (حتى قعد) أي: وتخلصت يدى منه. (فانسللت) أي: مضيت وخرجت بتأن وتدريج. وفي رواية فانخنست أي: تأخرت وانقبضت ورجعت. وإنما تأخر أبوهريرة ورجع وترك صحبته - صلى الله عليه وسلم - من غير أن يستأذنه لما ظن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يرضى بصنيعه الذي يصنعه لعلمه أنه قد أمرهم بالطهارة والنظافة، وحثهم عليها، وأنه يحب أن يكون الرجل على أكمل الهيئآت وأحسن الصفات عند ملاقاة ذوى الفضل ومصاحبتهم. (فأتيت الرحل) بالحاء المهملة

فاغتسلت، ثم جئت، وهو قاعد. فقال: أين كنت يابا هريرة؟. فقلت له. فقال: سبحان الله! إن المؤمن لا ينجس)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الساكنة أي: المكان الذي آوى إليه. (فاغتسلت) أي: في الرحل. (أين كنت) كان هذه ناقصة وخبرها الظرف، أو تامة، فلا تحتاج إلى الخبر. وفيه أن من حسن الأدب لمن مشى معه شيخه وإمامه أن لا ينصرف عنه ولا يفارقه حتى يعلمه بذلك، لأن قوله لأبي هريرة: أين كنت؟ يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - استحب أن لايفارقه حتى ينصرف معه. (ياباهريرة) بحذف الهمزة في الأب تخفيفاً. (فقلت له) أي: الذى فعلته من الرواح إلى الرحل والاغتسال فيه وسببه. (فقال: سبحان الله) تعجباً من اعتقاد أبي هريرة التنجس بالجنابة وعدم علمه المسألة، أي: كيف يخفى مثل هذا الظاهر عليك. (إن المؤمن لا ينجس) بفتح الجيم وضمها من سمع وكرم أي: لا يتنجس نجاسة تمنع مصاحبته، وملامسته، وإصابة العرق منه بمجرد الحدث، سواء كان أصغر أو أكبر ما لم يتعلق بجسده شيء من النجاسة الحقيقية، يدل عليه المقام، إذا المقام مقام الحدث، فلا يرد أنه يتنجس بالنجاسة. والمقصود أن الحدث ليس بنجاسة تمنع عن المماسة، والمماشاة. والمصافحة إنما هو أمر تعبدى. وقد يقال: إن المراد أن نفسه لا يصير نجساً أصلاً لا بالحدث ولا بالخبث، لأنه إن صحبه شيء من النجاسة فنجاسته بسبب صحبته بذلك، لا أن ذاته صار نجساً، فإذا زال ما كان معه من النجاسة فالمؤمن على حالة من الطهارة، فصدق: أن المؤمن لا ينجس أصلاً. والحاصل أن مقتضى ما فعله أبوهريرة أن المؤمن يصير نجساً بحيث يحترز عن صحبته حالة الجنابة‘ فرده - صلى الله عليه وسلم - بأن المؤمن لا يصير كذلك أصلاً. وذلك لا ينافي أن المؤمن قد يحترز عنه بالنظر إلى ما يصحبه من الأنجاس لأنه أمر معلوم من خارج. فالحديث دليل على أن المؤمن طاهر سواء كان جنباً أو محدثاً، حياً أو ميتاً، وكذا ما تحلب منه من عرقه ودمعه ولعابه وسؤره. وذكر البخاري في صحيحه عن ابن عباس تعليقاً: المسلم لا ينجس حياً ولا ميتاً. ورواه الحاكم عن ابن عباس مرفوعاً بلفظ: لا تنجسوا موتاكم، فإن المسلم لا ينجس حياً ولا ميتاً. قال الحاكم: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه. وهو أصل في طهارة المسلم حياً وميتاً. أما الحي فبالإجماع حتى الجنين إذا ألقته أمه، وأما الميت ففيه خلاف للعلماء، والصحيح أنه طاهر لحديث ابن عباس هذا فلا ينجس المؤمن بالموت بتشرب الدم المسفوح في أجزائه كرامة له، إذ لو نجس لما طهر بالغسل كسائر الحيوانات التي حكم بنجاستها بالموت. وأما غسله فتعبد، أو للنظافة. وحديث ابن عباس حجة على العراقيين من الحنفية حيث قالوا بتنجس المؤمن بالموت، فالغسل عندهم للتطهير، قالوا: يحكم بطهارته بالغسل كرامة. وارجع للبسط إلى النيل. وأما الكافر الحي فحكمه في الطهارة والنجاسة حكم المسلم عند الجمهور من السلف والخلف، وذكروا في تخصيص النبي - صلى الله عليه وسلم - للمؤمن بقوله: "لا ينجس" مع أن الكافر كذلك عندهم وجوهاً: الأول أن المقام مقام خطاب المسلم. والثاني أنه أشار به إلى أن الكفار يجب أن يتجنب عنهم كما يتجنب من النجاسات الظاهرة، فهو تنفير عن الكفار وإهانة لهم. والثالث أن فيه إشارة إلى

هذا لفظ البخاري. ولمسلم معناه، وزاد بعد قوله: ((فقلت له: لقد لقيتني وأنا جنب، فكرهت أن أجالسك حتى أغتسل)) . وكذا البخاري في رواية أخرى. 456- (2) وعن ابن عمر، قال: ((ذكر عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه تصيبه الجنابة من الليل، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: توضأ، ـــــــــــــــــــــــــــــ أنهم لا يتطهرون فلا يتجنبون ولا يتحفظون عن النجاسات غالباً. فهم ملابسون لها غالباً فهم متنجسون، بخلاف المؤمن فإن شأنه التطهر في شأنه كله فهو طاهر الأعضاء لاعتياده مجانبة النجاسة. والرابع أنه فيه إشارة إلى أن المؤمن لا ينجس بالحدث ظاهراً وباطناً بخلاف الكافر فإنه نجس باطناً لنجاسة اعتقاده. وأما ما روى عن ابن عباس من أن أعيانهم نجسة كالخنزير فمحمول على المبالغة في التعبد عنهم ولاحتراز منهم. وأما قوله تعالى: {إنما المشركون نجس} [-28:9] فالمراد به أنهم نجس في الباطن والاعتقاد لا في أصل الخلقة، أو أن ذلك تنفير عن الكفار، وذم وإهانة لهم. وهذا وإن كان مجازاً فقرينته ما ثبت في الصحيحين من أنه - صلى الله عليه وسلم - توضأ من مزادة مشركة، وربط ثمامة بن أثال وهو مشرك بسارية من سوارى المسجد، فدل على أن الآدمي الحي ليس بنجس العين سواء كان محدثاً أو جنباً أو حائضاً أو نفساء. (هذا لفظ البخاري) في باب الجنب يخرج ويمشى في السوق وغيره من كتاب الغسل. (وزاد) أي: مسلم. (لقد لقيتني) في محل النصب على أنه مفعول لقوله "زاد" وهو بيان للزيادة. (فكرهت أن أجالسك) أي: في هذه الحالة. (حتى أغتسل) لأكون على طهارة حقيقية. (وكذا) أي: زاد هذه الزيادة. (البخاري في رواية) فيه بحث لأن قوله: "حتى أغتسل" ليس للبخاري، فإن لفظه في باب عرق الجنب، وأن المسلم لا ينجس: كنت جنبا فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة. والحديث أخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه. وأخرج أحمد ومسلم وأبوداود والنسائي وابن ماجه عن حذيفة نحوه. 456- قوله: (عن ابن عمر) مقتضاه وظاهره أن الحديث من مسند ابن عمر، وزاد بعض الرواة فيه عند النسائي عن عمر، والظاهر أن ابن عمر حضر هذا السؤال. (أنه تصيبه الجنابة) الضمير المنصوب لابن عمر لا لعمر لما في رواية النسائي من طريق ابن عون عن نافع قال: أصاب ابن عمر جنابة فأتى عمر فذكر ذلك له، فأتى عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستأمره، فقال: "ليتوضأ وليرقد". (من الليل) أي: في الليل، وحذف تمام السؤال لأن الجواب يدل عليه، أو اكتفى عمر في السؤال بهذا القدر وفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - غرض السؤال أنه النوم قبل الغسل. (توضأ) أي: وضوءك للصلاة لأنه هو الحقيقة الشرعية، وهي مقدمة على غيرها، وقد صرحت بذلك عائشة في حديثها الآتي. والخطاب فيه لابن عمر لأنه كان حاضراً إذا ذاك، ويمكن أن يكون الخطاب لعمر لأنه كان سائلاً. والأمر للاستحباب لحديث عائشة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينام وهو جنب فلا

واغسل ذكرك، ثم نم)) . متفق عليه. 457- (3) وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان جنباً فأراد أن يأكل أو ينام، توضأ وضوءه للصلاة)) متفق عليه. 458- (4) وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أتى أحدكم أهله، ثم أراد أن يعود، فليتوضأ بينهما وضوء)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ يمس ماء. أخرجه أحمد والترمذي وأبوداود وابن ماجه. ولما روى ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما عن عمر: أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أينام أحدنا وهو جنب؟ قال نعم: ويتوضأ إن شاء. (واغسل ذكرك) أي: قبل الوضوء فإن الواو لا يفيد الترتيب. وقد ورد في رواية للنسائي في الكبرى وابن حبان بلفظ: اغسل ذكرك، ثم توضأ ثم نم. والحديث يدل على استحباب الوضوء للجنب إذا أراد النوم، وأن غسل الجنابة ليس على الفور، وإنما يتضيق عند القيام إلى الصلاة، واستحباب التنظيف بغسل الذكر عند النوم. والحكمة في الوضوء أنه يخفف الحدث. ويؤيده ما رواه ابن أبي شيبه بسند رجاله ثقات عن شداد بن أوس الصحابي قال: إذا أجنب أحدكم من الليل ثم أراد أن ينام فليتوضأ فإنه نصف غسل الجنابة، وقيل: الحكمة أن يبيت على إحدى الطهارتين خشية أن يموت في منامه، وقيل حكمته أنه ينشط إلى العود أو إلى الغسل إذا بل أعضاءه. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً مالك وأحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه. 457- قوله: (فأراد أن يأكل أو ينام، توضأ وضوءه للصلاة) أي: كوضوء الصلاة، ذكرته لدفع أن يتوهم أن المراد الوضوء لغة. ويحمل هذا على أنه الغالب توفيقاً بين الأحاديث. وفيه استحباب الوضوء للجنب عند إرادة الأكل والنوم، لكن الوضوء لأجل النوم آكد من الوضوء للأكل. (متفق عليه) واللفظ لمسلم، فليس في رواية البخاري ذكر الوضوء عند إرادة الأكل. والحديث أخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه. 458- قوله: (إذا أتى) أي: جامع. (أهله) أي: امرأته أو جاريته. (ثم أراد أن يعود) أي: إلى الجماع. (فليتوضأ بينهما) أي: بين الجماع الأول والعود، فإنه أنشط للعود. (وضوءاً) أتى بالمصدر تأكيداً لئلا يتوهم أن المراد بالوضوء غير المتعارف، فالمعنى فليتوضأ وضوءه للصلاة. وقد رواه البيهقي وابن خزيمة بلفظ: فليتوضأ وضوءه للصلاة وفيه رد على من حمل الوضوء في الحديث على الوضوء اللغوي. وفيه وفي الحديث الآتي دليل على أن الغسل بين الجماعين لا يجب. ويدل على استحبابه قبل المعاودة حديث أبي رافع الآتي في الفصل الثالث. والأمر بالوضوء في الحديث

رواه مسلم. 459- (5) وعن أنس، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يطوف على نسائه بغسل واحد)) . رواه مسلم. 460- (6) وعن عائشة، قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله عزوجل على كل أحيانه)) . رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ للاستحباب لا للوجوب لما روى الطحاوى عن عائشة، قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجامع ثم يعود ولا يتوضأ. ويدل على كونه للاستحباب أيضاً ما زاده ابن خزيمة وابن حبان والحاكم في هذه الرواية من قوله: فإنه أنشط للعود، فإنه قرينة صارفة للأمر إلى الندب. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم. 459- قوله: (يطوف) أي: يدور أي: أحياناً وهو كناية عن الجماع (بغسل واحد) أي: يجامعهن متلبساً ومصحوباً بنية غسل واحد بعد الفراغ من جماعهن. وفي رواية لأحمد والنسائي: طاف على نسائه في ليلة بغسل واحد. وهذا يحتمل أنه كان يتوضأ عقب الفراغ من كل واحدة منهن، ويحتمل ترك الوضوء لبيان الجواز ومحمله على عدم وجوب القسم عليه، أو على أنه كان يرضيهن. وقال القرطبي: يحتمل أن يكون عند قدومه من سفر، أو عند تمام الدور عليهن وابتداء دور آخر، أو يكون ذلك عن إذن صاحبة النوبة، أو يكون ذلك مخصوصاً به وإلا فوطء المرأة في نوبة ضرتها ممنوع عنه. وقال ابن العربي: إن الله خص نبيه بأشياء: منها أنه أعطاه ساعة في كل يوم لا يكون لأزواجه فيها حق يدخل فيها على جميعهن أو بعضهن، فيفعل ما يريد ثم يستقر عند من لها النوبة، وكانت تلك الساعة بعد العصر، فإن اشتغل عنها كانت بعد المغرب. والحديث يدل على ما أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - من القوة على الجماع. وفي كثرة أزواجه حكم ومصالح: منها أن الأحكام التي ليست ظاهرة يطلعن عليها فينقلنها، وقد جاء عن عائشة من ذلك الكثير الطيب: ومن ثم فضلها بعضهم على الباقيات. (رواه مسلم) ورواه البخاري أيضاً في كتاب الغسل، وفي النكاح، إلا أنه لم يذكر بغسل واحد لكن يفهم من سياقه. وذكر البخاري عدد النسوة ولم يذكره مسلم. والحديث أخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه. 460- قوله: (على كل أحيانه) أي: في كل أوقاته متطهراً ومحدثاً وجنباً وقائماً وقاعداً ومضطجعاً وماشياً. قال النووي: هذا الحديث أصل في جواز ذكر الله بالتسبيح والتهليل والتكبير والتحميد وشبهها من الأذكار، وهذا جائز بإجماع المسلمين، وإنما اختلف العلماء في جواز قراءة القرآن للجنب والحائض، فالجمهور على تحريم القراءة عليهما جميعاً، واستدلوا بحديثي علي وابن عمر الآتيين في الفصل الثاني، وسيأتي الكلام على ذلك هناك. واعلم أنه يكره الذكر في حالة الجلوس على البول والغائط وفي حالة الجماع، فيكون الحديث مخصوصاً بما سوى هذه الأحوال، ويكون المراد "بكل أحيانه" معظمها، كما قال الله تعالى {يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم} [191:3] (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي

{الفصل الثاني}

وحديث ابن عباس سنذكره في كتاب الأطعمة، إن شاء الله تعالى. {الفصل الثاني} 461- (7) عن ابن عباس، قال: ((اغتسل بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في جفنة، فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتوضأ منه، فقالت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! إني كنت جنباً، فقال: إن الماء لا يجنب)) رواه الترمذي وأبوداود وابن ماجه وروى الدارمي نحوه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأبوداود وابن ماجه. وذكر البخاري تعليقاً في الطهارة وفي الأذان. (وحديث ابن عباس) أي: المذكور في المصابيح هنا الذى رواه مسلم وهو "خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من الخلاء فأتى بطعام فذكروا له الوضوء" الحديث (سنذكر في كتاب الأطعمة) فإنه أنسب بذلك الكتاب. 461- قوله: (اغتسل بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -) هي ميمونة خالة ابن عباس، كما صرح به في رواية الدارقطني. (في جفنة) أي: مدخلة يدها في جفنة تغترف منها وهي بفتح الجيم وسكون الفاء صحنة كبيرة. (أن يتوضأ منه) أي: من الماء الذي في الجفنة (إني كنت جنباً) أي: واغتسلت بهذا الماء وهو فضلة يدي. (إن الماء لا يجنب) يجوز فيه ضم الياء مع كسر النون وفتح الياء مع ضم النون، يقال: أجنب وجنب على وزن قرب أي: إن الماء لا يتجنس باغتسال الجنب من الإناء الذي فيه الماء، ولا يظهر فيه أثر جنابته بحيث لا يحل استعماله. قال التوربشتي: الماء إذا غمس فيه الجنب يده لم ينجس، فريما سبق إلى فهم بعضهم أن العضو الذي عليه الجنابة في سائر الأحكام كالعضو الذي عليه النجاسة، فيحكم بنجاسة الماء من غمس العضو الجنب كما يحكم بنجاسة من غمس النجس فيه فبين لهم أن الأمر بخلاف ذلك - انتهى. والحديث يدل على جواز تطهر الرجل بفضل طهور المرأة وإن خلت به. وإليه ذهب الجمهور وهو الصواب. وأما حديث الحكم بن عمرو الغفاري، وحديث حميد الحميري في الفصل الثالث، فالنهى فيهما محمول على التنزيه جمعاً بين الأدلة. وقيل: إن قول ميمونة في هذا الحديث: إني كنت جنباً، عند إرادته - صلى الله عليه وسلم - التوضأ بفضها يدل على أن النهى كان مقدماً فحديث الجواز ناسخ لحديث النهي. وقيل: إن أحاديث الجواز أكثر وأقوى وأصح من أحاديث النهي. (رواه الترمذي) وقال حسن صحيح (وأبوداود) وسكت عنه، ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره. (وابن ماجه وروى الدارمي نحوه) وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي والدارقطني وصححه ابن خزيمة وأخرجه الحاكم (ج1:ص159) من طريق الثوري وشعبة عن سماك بن حرب، وقال: هذا حديث صحيح في الطهارة ولم يخرجاه، ولا يحفظ له علة، ووافقة الذهبي. وقال الحافظ في الفتح: وقد أعله قوم بسماك بن حرب؛ لأنه كان يقبل التلقين، لكن قد رواه عنه شعبة وهو لا يحمل عن مشائخه إلا صحيح حديثهم- انتهى. وأخرج أحمد ومسلم والدارقطني عن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

462- (8) وفي شرح السنة عنه، عن ميمونة، بلفظ المصابيح. 463- (9) وعن عائشة، قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغتسل من الجنابة، ثم يستدفئ بي قبل أن أغتسل)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ كان يغتسل بفضل ميمونة وأخرج أحمد وابن ماجه والدارقطني عن ابن عباس عن ميمونة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ بفضل غسلها من الجنابة. 462- قوله: (وفي شرح السنة عنه) أي: عن ابن عباس (عن ميمونة) يعني أن البغوي رواه في شرح السنة عن ابن عباس عن ميمونة فجعله من مسندها، لا من مسند ابن عباس وهو رواية لأحمد والدارقطني. قال الألباني لكنها وهم من بعض رواته، والصواب أنه من مسند ابن عباس كما رواه الجماعة وبينته في صحيح أبي داود –انتهى. وميمونة هذه هي ميمونة بنت الحارث العامرية الهلالية أم المؤمنين، قيل: اسمها برة فسماها النبي - صلى الله عليه وسلم - ميمونة، وتزوجها في ذي القعدة سنة سبع في عمرة القضية بسرف على عشرة أميال من مكة، وقدر الله تعالى أنها ماتت في المكان الذي تزوجها فيه بسرف سنة (51) وصلى عليها ابن عباس. وهي أخت أم الفضل امرأة العباس، وأخت أسماء بنت عميس، وهي آخر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -. قيل إنه لم يتزوج بعدها. لها ستة وأربعون حديثاً، اتفقا على سبعة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بخمسة. روى عنها جماعة، منهم عبد الله بن عباس (بلفظ المصابيح) قال القاري: وسنده صحيح أيضاً، ولفظه: قالت ميمونة: أجنبت أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاغتسلت من جفنة، وفضلت فيها فضلة، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ليغتسل منها، فقلت: إني قد اغتسلت منها، فاغتسل وقال: إن الماء ليس عليه جنابة. وفي رواية إن الماء لا يجنب - انتهى. وأخرج الدارقطني نحوه (ص19) . 463- قوله: (يستدفئ) بهمزة في آخره، أي: يطلب الدفاءة وهي الحرارة بأن يضع أعضاء الشريفة على أعضائي، يعني يطلب مني حرارة بدني ليدفع به البرودة الحاصلة بالاغتسال، ومنه قوله تعالى: {ولكم فيها دفء} [5:61] أي: تتخذون من أصوافها وأوبارها ما تستدفأون به. قال الطيبي: فيه أن بشرة الجنب طاهرة؛ لأن الاستدفاء إنما يحصل من مس البشرة البشرة. قيل: وفيه بحث لأن الاستدفاء يمكن مع الثوب أيضاً. والحديث قد استدل به على طهارة عرق المرأة الجنب ولعابها وسؤرها كالرجل الجنب، وكذا الحائض والنفساء، وعلى طهارة الماء المستعمل، فإن الماء المستعمل هو الذي انفصل عن عضو المتطهر بعد التطهر، ولا شك أنه ينفصل البلل من جسده - صلى الله عليه وسلم - عند الاستدفاء ويبتل به شئ من أعضاء عائشة وثيابها، ثم ينتقل إليه - صلى الله عليه وسلم - شئ من ذلك البلل المنفصل أولاً، ولم يثبت ولو برواية ضعيفة أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يغسل أعضاءه التي كان يضعها على أعضاء عائشة عند الاستدفاء بها، فعلم به أن الماء المستعمل طاهر. (قبل أن أغتسل) قال الترمذي: وهو قول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين؛ أن الرجل إذا اغتسل فلا بأس بأن يستدفئ بامرأته

رواه ابن ماجه، وروى الترمذي نحوه. وفي شرح السنة بلفظ المصابيح. 464- (10) وعن علي، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم -، يخرج من الخلاء فيقرئنا القرآن، ويأكل معنا اللحم، ولم يكن يحجبه – أو يحجزه – عن القرآن شئ ليس الجنابة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ وينام معها قبل أن تغتسل المرأة. وبه يقول سفيان الثوري والشافعي وأحمد واسحق. قلت: هو قول جميع أهل العلم من السلف والخلف، لم يختلف فيه أحد. (رواه ابن ماجه) أي: بهذا اللفظ. قال القاري: وسنده حسن. (وروى الترمذي نحوه) ولفظه: قالت: ربما اغتسل النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجنابة ثم جاء فاستدفأ بي فضممته إليّ ولم أغتسل. قال الترمذي: هذا حديث ليس بإسناده بأس، وقال ابن العربي في شرح الترمذي. (ج1:ص191) حديث لم يصح ولم يستقم، فلا يثبت به شيء - انتهى. قلت: مدار الحديث على حريث بن عمرو الفزاري، وقد ضعفه أكثر العلماء. وقال البخاري: فيه نظر، وقال مرة أخرى: ليس بالقوى عندهم. وقال الحافظ في التقريب: ضعيف. (بلفظ المصابيح) ولفظه: قالت عائشة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجنب فيغتسل ثم يستدفئ بي قبل أن أغتسل. 464- قوله: (فيقرئنا القرآن) من الإقراء أي: يعلمنا القرآن قبل أن يتوضأ، يدل عليه الفاء في قوله: فيقرئنا، وكذا يأكل قبل الوضوء، قال الطيبي: لعل انضمام الأكل مع قراءة القرآن للإشعار بجواز الجمع بينهما من غير وضوء أو مضمضة كما في الصلاة. (ولم يكن يحجبه) أي: يمنعه. (أو يحجزه) أو للشك من الراوي، وفي رواية النسائي: ولم يكن يحجبه، على الجزم من غير شك. (شيء) بالرفع على أنه فاعل يحجب، أي: شئ من أنواع الحدث، ولم يرد "لم يكن يمنعه مباشرة شيء" ضرورة أن مباشرة الجماع والبول والغائط مما يمنع قراءة القرآن. (ليس الجنابة) قال السندهي: بالنصب على أن ليس من أدوات الاستثناء، والمراد بعموم شيء ما يجوز فيه القراءة من الأحوال، وإلا فحالة البول والغائط مثل الجنابة، لكن خروجها عقلاً أغنى عن الاستثناء - انتهى. وقال التوربشتي "ليس" بمعنى إلا تقول: جاءني القوم ليس زيداً، الضمير فيها اسمها وينصب خبرها، كأنك قلت: ليس الجائى زيداً. والحديث قد استدل به الجمهور على منع قرآءة القرآن للجنب، وكذا الحائض لأن حدثها أغلظ من حدث الجنابة، لكن قيل في الاستدلال به نظر لأنه فعل مجرد، غايته أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك القراءة حالة الجنابة، ومثله لا يصلح متمسكا للكراهة فكيف يستدل به على المنع والتحريم. إلا أنه أخرج أبويعلى من حديث علي قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، ثم قرأ شيئاً من القرآن، ثم قال: هكذا لمن ليس بجنب، فأما الجنب فلا ولا آية. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج1:ص276) : رجاله موثقون. قلت: وأخرجه أحمد أيضاً بسند رجاله ثقات كما سيأتي. وهو يدل على التحريم؛ لأنه نهي وأصله ذلك ويعاضد ما سلف. فإن قيل: حديث عائشة المتقدم بلفظ "كان يذكرالله على كل أحيانه" يخالف حديث علي هذا، فإنه بعمومه يدل على جواز قراءة القرآن للجنب. لأن قولها "على كل أحيانه" يشمل حالة الجنابة أيضاً، والذكر أعم من أن يكون بالقرآن أو بغيره، وإنما فرق بين الذكر والتلاوة

رواه أبوداود، والنسائي. وروى ابن ماجه نحوه. 465- (11) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تقرأ ـــــــــــــــــــــــــــــ بالعرف. يقال: إن حديث عائشة يخصص بحديث على هذا فيراد بذكر الله غير تلاوة القرآن. قال العيني: حديث عائشة لا يعارض حديث علي؛ لأنها أرادت الذكر الذي غير القرآن، انتهى. وقال الأمير اليماني: حديث عائشة قد خصصه حديث علي وأحاديث أخرى. (رواه أبوداود) أي: بهذا اللفظ وسكت عنه. (والنسائي وروى ابن ماجه نحوه) وأخرجه الترمذي مختصراً بلفظ يقرئنا القرآن على كل حال ما لم يكن جنباً، وقال: حديث حسن صحيح، وأخرجه أيضاً أحمد وابن خزيمة وابن حبان والبزار والدارقطني والبيهقي وابن الجارود وصححه أيضاً ابن حبان وابن السكن وعبد الحق والبغوي في شرح السنة والحاكم ووافقه الذهبي. وقال الحافظ في الفتح: وضعف بعضهم بعض رواته، والحق أنه من قبيل الحسن يصلح للحجة. وقال ابن الجارود بعد أن رواه من طريق يحيى بن سعيد عن شعبة عن عمرو بن مرة. قال يحيى: وكان شعبة يقول في هذا الحديث: نعرف وننكر، يعني أن عبد الله بن سلمة المرادي كان كبر حيث أدركه عمرو، وقال المنذري: ذكر أبوبكر البزار أنه لا يروى عن علي إلا من حديث عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة. وحكى البخاري عن عمرو بن مرة كان عبد الله يعني ابن سلمة يحدثنا فنعرف وننكر، وكان قد كبر، لا يتابع في حديثه، وذكر الشافعي هذا الحديث وقال: لم يكن أهل الحديث يثبتونه، قال البيهقي: وإنما توقف الشافعي في ثبوت هذا الحديث؛ لأن مداره على عبد الله بن سلمة الكوفي، وقد كان كبر، وأنكر من حديثه وعقله بعض النكرة، وإنما روى هذا الحديث بعد ما كبر، قاله شعبة. وذكر الخطابي أن أحمد كان يوهن حديث على هذا ويضعف أمر عبد الله بن سلمة، قلت: عبد الله بن سلمة هذا صدوق وقد توبع في معنى حديثه هذا عن علي بحديث قولي فارتفعت شبهة الخطأ عن روايته، إذا كان سيء الحفظ في كبره كما قالو. فقد روى أحمد في المسند (ج1:ص110) حدثنا عائذ بن حبيب، حدثني عامر بن السمط، عن أبي الغريف، قال: أتى على بوضوء فمضمض واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً وغسل يديه وذراعيه ثلاثاً ثلاثاً، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، ثم قرأ شيئاً من القرآن ثم قال: هذا لمن ليس بجنب، فأما الجنب فلا ولا آية. وهذا إسناد حسن جيد، عائذ بن حبيب أبوأحمد العبسي شيخ الإمام أحمد صدوق، ذكره ابن حبان في الثقات. وقال الأثرم: سمعت أحمد ذكره فأحسن الثناء عليه، وقال: كان شيخاً جليلاً عاقلاً. ورماه ابن معين بالزندقة. ورد عليه أبوزرعة بأنه صدوق في الحديث، وعامر بن السمط ثقة وثقه يحيى بن سعيد، والنسائي وغيرهما. وأبوالغريف اسمه عبيد الله بن خليفة الهمداني المرادي. قال الحافظ: صدوق. وذكره ابن حبان في الثقات وكان على شرطة علي. وأقل أحواله أن يكون حسن الحديث، تقبل متابعته لغيره. 465- قوله: (لا تقرأ) بالرفع على أنه نفى بمعنى النهي، وقيل: بالجزم على صيغة النهي فيقرأ بكسر الهمزة وصلاً

الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن)) رواه الترمذي. 466- (12) وعن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((وجهوا هذه البيوت عن المسجد، فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ لالتقاء الساكنين. (الحائض) وكذا النفساء. (ولا الجنب) زيادة لا للتأكيد. (شيئاً من القرآن) أي: لا القليل ولا الكثير. وفيه دليل على تحريم القراءة على الجنب والحائض. والحديث وإن كان ضعيفاً لكن له متابعات، منها ما تقدم، ومنها ما سيأتي، فينجبر بها ضعفه، ويكون مع هذه المتابعات حجة للجمهور على من ذهب إلى جواز القراءة للجنب والحائض، كابن المنذري والطبري وداود والبخاري أو للحائض فقط كمالك في رواية عنه. (رواه الترمذي) وأخرجه أيضاً ابن ماجه والدارقطني والبيهقي كلهم من طريق إسماعيل بن عياش، عن موسى بن عقبة، عن نافع عن ابن عمر, ورواية إسماعيل ابن عياش عن الحجازيين ضعيفة، وهذا منها. قال الخزرجي في الخلاصة: إسماعيل بن عياش وثقة أحمد، وابن معين، ودحيم والبخاري وابن عدي في أهل الشام، وضعفوه في الحجازيين، ورواه الدارقطني أيضاً من طريق عبد الملك بن مسلمة حدثني المغيرة بن عبد الرحمن، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً. قال الحافظ في التلخيص (ص51) : صححه ابن سيد الناس، وأخطأ في ذلك فإن عبد الملك بن مسلمة ضعيف فلو سلم عنه لصح إسناده. وقال في الفتح: حديث ابن عمر مرفوعاً ضعيف من جميع طرقه. وقال ابن أبي حاتم: حديث إسماعيل بن عياش هذا خطأ، وإنما هو عن ابن عمر قوله، يعني أن الصواب وقفه على عمر. وله شاهد من حديث جابر رواه الدارقطني مرفوعاً، وفيه محمد بن الفضل وهو متروك. وموقوفاً، وفيه يحيى بن أنيسة وهو كذاب. وقال البيهقي: وهذا الأثر ليس بقوي. وصح عن عمر أنه كان يكره أن يقرأ القرآن وهو جنب. وساقه في الخلافيات بإسناد صحيح. 466- قوله: (وجهوا هذا البيوت عن المسجد) أي: اصرفوا وحولوا أبوابها إلى جانب آخر من المسجد، وقد كانت أبواب بعض البيوت حول مسجده - صلى الله عليه وسلم - مفتوحة إليه، يدخلون منها في المسجد، يمرون فيه، فأمروا أن يصرفوها إلى جانب آخر من المسجد. (فإني لا أحل المسجد) تعليل وبيان للوصف الذي هو علة الحكم. (لحائض ولا جنب) الحديث يدل على عدم حل اللبث في المسجد والعبور فيه للحائض والجنب سواء كان لحاجة أو لغيرها، قائماً أو جالساً أو متردداً على أي حال، متوضأ كان أو غير متوضئ، وبه قال أبوحنيفة لإطلاق هذا الحديث، وهو محمول عندي على المكث واللبث طويلاً كان أو كثيراً، فلا يمنعان من المرور والعبور من غير مكث إلا إذا خافت الحائض وكذا النفساء التلوث في حال المرور. وإليه ذهب مالك والشافعي، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا جنباً إلا عابري سبيل} [43:4] قال الشوكاني: والعبور إنما يكون في محل الصلاة. وهو المسجد

رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ لا في الصلاة. وتقييد جواز ذلك بالسفر لا دليل عليه، بل الظاهر أن المراد مطلق المار، لأن المسافر ذكر بعد ذلك فيكون تكرارا يصان القرآن عن مثله- انتهى. وقال ابن عباس في قوله: "ولا جنباً إلا عابري سبيل": لا تدخلوا المسجد وأنتم جنب إلا عابري سبيل، قال: تمر به مراً ولا تجلس. ذكره ابن كثير في تفسيره نقلاً عن ابن أبي حاتم. والحاصل أن المراد بالصلاة في الآية مواضعها، فهو مجاز من ذكر الحال وإرادة المحل بقرينه قوله:"إلا عابري سبيل" فإنه يدل عليه بحسب الظاهر كما تقدم، فالمراد منه هو المجتاز في المسجد لا المسافر. والمعنى: لا تقربوا مواضع الصلاة وهي المساجد في حال الجنابة إلا أن تكونوا مجتازين فيها من جانب إلى جانب. وقيل: المراد من الصلاة معناها الحقيقي، وبقربها القيام إليها والتلبس بها إلا أنه نهى عن القرب مبالغة، والمعنى: لا تصلوا في حالة السكر حتى تعلموا, ولا حال كونكم جنباً إلا أن تكونوا عابري سبيل، والمراد به هنا السفر، أي: فيجوز لكم أن تصلوا بالتيمم. ولا يخفى ما فيه من التكلف. ويمكن أن يقال: إن بعض قيود النهي أعني"لا تقربوا" وهو قوله: وأنتم سكارى, يدل على أن المراد بالصلاة معناها الحقيقي، وبعض قيود النهي وهو قوله: إلا عابري سبيل، يدل على أن المراد مواضع الصلاة, ولا مانع من اعتبار كل واحد منهما مع قيده الدال عليه، ويكون ذلك بمنزلة نهيين مقيد كل واحد منهما بقيد، وهما لا تقربوا الصلاة التي هي ذات الأذكار والأركان وأنتم سكارى، ولا تقربوا مواضع الصلاة حال كونكم جنباً إلا حال عبوركم المسجد من جانب إلى جانب. وغاية ما يقال في هذا: أنه من الجمع بين الحقيقة والمجاز وهو جائز بتأويل مشهور، وقال بعض الحنفية: والذي تبين لي أن الآية سيقت لبيان أحكام الصلاة ثم انسحبت على ذكر موضعها أيضاً، فالحكم في القطعة الأولى للعبادة وفي الثانية لمواضع العبادة، فإن شئت سميته صنعة الاستخدام أو غيرها- انتهى بقدر الضرورة. وقال ابن جرير بعد حكايته للقولين: والأولى قول من قال: ولا جنباً إلا عابري سبيل إلا مجتازي طريق فيه، ثم بين وجه ذلك. وحاصله الصون من التكرار الذي يحصل في صورة حمل العبور على السفر. قال: فتأويل الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوها أيضاً جنباً حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل. قال: وعابر السبيل المجتاز مراً وقطعاً. قال ابن كثير: وهذا الذي نصره يعني ابن جرير هو قول الجمهور، وهو الظاهر من الآية. (رواه أبوداود) من طريق أفلت بن خليفة، عن جسرة بنت دجاجة، عن عائشة. والحديث قد ضعفه ابن حزم فقال: أفلت مجهول الحال، ورد عليه بأن أفلت وثقه ابن حبان. وقال أبوحاتم، هو شيخ. وقال أحمد، لا بأس به. وروى عنه سفيان الثوري وعبد الواحد بن زياد. وقال في الكاشف، صدوق. وقال في البدر المنير، هو مشهور ثقة. وقال العجلي، جسرة تابعية ثقة. وذكرها ابن حبان في الثقات. وقد حسن ابن القطان حديث جسرة هذا عن عائشة. وصححه ابن خزيمة. قال ابن سيد الناس، ولعمري أن التحسين لأقل مراتبه لثقة رواته، ووجود الشواهد له من خارج، فلا حجة لأبي محمد يعني ابن حزم في رده. قلت: وقد سكت عنه أبوداود، وله شاهد

467- (13) عن على، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة، ولا كلب، ولا جنب)) . رواه أبوداود والنسائي. ـــــــــــــــــــــــــــــ من حديث أم سلمة عند ابن ماجه والطبراني، لكن قال أبوزرعة: الصحيح حديث عائشة. 467- قوله: (لا تدخل الملائكة) اللام للعهد الذهني أي: الذين ينزلون بالبركة والرحمة والزيارة، واستماع الذكر دون الكتبة الحفظة، فإنهم لا يفارقون المكلفين طرفة عين في أحوالهم الحسنة والسيئة لقوله تعالى: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} [50: 18] وقوله - صلى الله عليه وسلم -: فإن معكم من لا يفارقكم، فاتقوا الله واستحيوا منهم. (بيتاً فيه صورة) أي: من ذوات الأرواح، كانت لها أشخاص منتصبة، أو كانت منقوشة في سقف أو جدار، أو منسوجة في الثوب، يدوية كانت أو مطبوعة، مخطوطة كانت أو فوتوغرافية، تامة كانت أو ناقصة، قطع منها النصف الأسفل. قيل: إن وجه امتناع الملائكة من البيت الذي فيه صورة، حرمة الصورة ومشابهة ذلك البيت بيوت الأصنام. وهذا اللفظ عام لكن خص منه ما هو منبوذ يوطأ ويداس. قيل: ويخص منه أيضاً ما في الدراهم والدنانير من الصورة وبنات اللعب لمن لم تبلغ من البنات. (ولا كلب) لأنه نجس خبيث كما روى، والملائكة أطهار، وبينهما تضاد كما بين النور والظلمة، ومن سوى نفسه بالكلاب فحقيق أن ينفر عن بيته الملائكة، واستثنى من عمومه كلب الماشية والزرع والصيد لمسيس الحاجة. (ولا جنب) لأنه ممنوع من معظم العبادات. والمراد بالجنب الذي يتهاون في الغسل ويؤخره من غير عذر حتى يمر عليه وقت الصلاة المفروضة، ويجعل ذلك دأباً وعادة، فإنه مستخف بالشرع، متساهل في الدين، لا من يؤخره ليفعله لما ثبت من تأخيره - صلى الله عليه وسلم - غسل الجنابة عن موجبه زماناً. ويحتمل أن يكون المراد بالجنب من لم يرتفع حدثه كله ولا بعضه، وإذا توضأ ارتفع بعض حدثه على الصحيح، وعليه تبويب البخاري في صحيحه حيث قال: باب كينونة الجنب في البيت إذا توضأ. وأورد فيه حديث عائشة: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يرقد وهو جنب إذا توضأ. وبنى عليه الكلام النسائي حيث أورد حديث علي هذا في "باب الجنب إذا لم يتوضأ" فأشار بالترجمة إلى أن المراد بالجنب في الحديث عنده من لم يتوضأ. (رواه أبوداود والنسائي) وأخرجه أيضاً ابن ماجه وليس في حديثه "ولاجنب" والحديث عند الثلاثة من طريق عبد الله بن نجى عن أبيه، عن علي قال البخاري: عبد الله بن نجى فيه نظر، ووثقه النسائي، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الحافظ: صدوق، ونجى ذكره ابن حبان في الثقات، وقال العجلى: كوفي تابعي ثقة، وقال الحافظ: مقبول، فالحديث حسن أو صحيح. وقد سكت عنه أبوداود، وقد أخرج الشيخان وغيرهما من حديث أبي طلحة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة.

468- (14) وعن عمار بن ياسر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاثة لا تقربهم الملائكة: جيفة الكافر، والمتضمخ بالخلوق، والجنب إلا أن يتوضأ)) . رواه أبوداود. 469- (15) وعن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: ((أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم أن لايمس القرآن إلا طاهر)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 468- قوله: (ثلاثة) أي: أشخاص. (جيفة الكافر) أي: جسد من مات كافراً، فالمراد بالجيفة الميت، لأن استعمالها في الميت أغلب، وفي رواية عطاء الخرساني، عن يحيى بن معمر عن عمار عند أبي داود: إن الملائكة لا تحضر جنازة الكافر بخير. (والمتضمخ) أي: الرجل المتلطخ. (بالخلوق) بفتح الخاء المعجمة طيب مركب من الزعفران وغيره. وفي الرواية المذكورة "ولا المتضمخ بالزعفران" وذلك لأنه متلبس بمعصية حتى يقلع عنها فقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التزعفر للرجال. (والجنب حتى يتوضأ) أي: الوضوء المتعارف وهو الوضوء الشرعي. وفي الرواية المتقدمة "ولاالجنب" ورخص للجنب إذا نام أو أكل أو شرب أن يتوضأ. (رواه أبوداود) من طريق الحسن بن أبي الحسن عن عمار، وقد سكت عنه أبوداود. وقال المنذري: الحسن لم يسمع عن عمار فهو منقطع. 469- قوله: (وعن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم) الأنصاري المدني القاضي يكنى أبا محمد، ثقة ثبت تابعي، روى عن أنس وأبيه، وسالم بن عبد الله، وغيرهم، وروى عنه الزهري ومالك وسفيانان وغيرهم. قال ابن عبد البر: كان من أهل العلم، ثقة فقيهاً محدثاً مأموناً حافظاً، وهو حجة فيما نقل وحمل. وقال مالك: كان كثير الحديث وكان رجل صدق، ومن أهل العلم والبصيرة. وقال أحمد: حديثه شفاء. مات سنة (135) ويقال (130) وهو ابن (70) سنة وليس له عقب. وأما عمرو بن حزم (بفتح الحاء المهملة وسكون الزاى) فهو عمرو بن حزم بن زيد بن لوذان الأنصاري الخزرجي أبوالضحاك المدني، صحابي مشهور، شهد الخندق وهو ابن (15) سنة، واستعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على أهل نجران وهو ابن (17) سنة، ليفقههم في الدين، ويعلم القرآن ويأخذ صدقاتهم وذلك سنة (10) . روى عنه ابنه محمد، وامرأته سودة بنت حارثة، وابن ابنه أبوبكر بن محمد - ولم يدركه - وغيرهم. مات بعد الخمسين، قيل: سنة (51) أو (52) ، أو (53) ، أو (54) . (أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله) في الفرائض، والسنن، والديات والصدقات وغير ذلك. (لعمرو بن حزم) قال الباجي: هذا أصل في كتابة العلم وتحصينه في الكتب، وفي صحة الرواية على وجه المناولة، لأنه - صلى الله عليه وسلم - دفعه إليه وأمره بالعمل بما فيه. (أن لايمس القرآن) بفتح السين على أنه نهى، وبالضم على أنه نفى بمعنى النهى، أحد (إلا) وهو (طاهر) فيه دليل على أنه لا يجوز مس القرآن إلا لمن كان طاهراً، لكن الطاهر يطلق بالاشتراك على الطاهر من الحدث الأكبر والطاهر من الحدث الأصغر، وعلى من ليس على بدنه نجاسة، وعلى المؤمن، ولا بد لحمله على معين

رواه مالك والدارقطني. ـــــــــــــــــــــــــــــ من قرينة. وقد وقع الإجماع على أنه لا يجوز للمحدث حدثاً أكبر أن يمس المصحف، وخالف في ذلك داود. وأما المحدث حدثاً أصغر فذهب ابن عباس والشعبي والضحاك إلى أنه يجوز له مس المصحف. وقال القاسم وأكثر الفقهاء منهم الأئمة الأربعة: لا يجوز. قلت: القول الراجح عندنا هو قول أكثر الفقهاء، وهو الذي يقتضيه تعظيم القرآن وإكرامه. والمتبادر من لفظ الطاهر في هذا الحديث هو الطاهر من الحدث الأصغر. أي: المتوضي، وهو الفرد الكامل للطاهر. واختلف في تفسير آية {لا يمسه إلا المطهرون} [56: 79] فقيل: إنها خبر عن اللوح المحفوظ أنه لا يمسه إلا الملائكة المطهرون، فالضمير في "لا يمسه" للكتاب المكنون الذي سبق ذكره في صدر الآية، والمطهرون هم الملائكة، وعلى هذا فلا حجة فيها لمن منع مس المصحف على غير طهارة. وقيل معنى الآية النهى للمكلفين من بني آدم عن مس القرآن على غير طهارة. والمراد "بالكتاب المكنون" المصاحف التي بأيدي الناس. وقوله تعالى:"لايمسه" وإن كان لفظه لفظ الخبر، فإن معناه النهى. لأن خبر الباري لا يكون بخلاف مخبره، ونحن نرى اليوم من يمس القرآن غير طاهر فثبت أن المراد به النهى، فيكون حجة على المنع من مس المصحف على غير طهارة. وقيل الآية حجة في وجوب الوضوء لمس المصحف على القول الأول أيضاً، وذلك أن الله تعالى وصف القرآن بأنه كريم، وأنه في الكتاب المكنون الذي لا يمسه إلا المطهرون، فوصفه بهذا تعظيماً له، والقرآن المكنون في اللوح المحفوظ هو المكتوب في المصاحف، فوجب أن تمتثل في ذلك ما وصف الله تعالى به القرآن. (رواه مالك) عن عبد الله بن أبي بكر مرسلاً (والدارقطني) بسنده عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه مرسلاً، وأخرجه الدارقطني أيضاً عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده موصولاً، فقول المصنف والدارقطني محل تأمل. قال ابن عبد البر: لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث، وقد روى مسنداً من وجه صالح، وهو كتاب مشهور عند أهل السير، معروف عند أهل العلم معرفة يستغنى بها في شهرتها عن الإسناد لأنه أشبه المتواتر في مجيئة لتلقى الناس له بالقبول، ولا يصلح عليهم تلقى مالا يصح - انتهى. وقال يعقوب بن سفيان: لا أعلم كتاباً، أصح من هذا الكتاب، فإن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين يرجعون إليه، ويدعون رأيهم. وقال الحاكم: قد شهد عمر بن عبد العزيز وإمام عصره الزهري بالصحة لهذا الكتاب. وقال ابن قدامة: هو كتاب مشهور، رواه أبوعبيد في فضائل القرآن، والأثرم - انتهى. والحديث أخرجه أيضاً أبوداود في المراسيل، والنسائي في الديات، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في المستدرك (ج1:ص397) في حديث طويل، والطبراني في معجمه، والبيهقي في سننه، وفي الخلافيات، وأحمد في مسنده، وابن راهوية، والدارمي. وقد بسط الزيلعي الكلام على طرقه في نصب الراية (ج1:ص 198،197) وله شواهد من حديث ابن عمر، أخرجه الطبراني. والدارقطني، والبيهقي، قال الحافظ: إسناده لا بأس به لكن فيه سليمان الأشدق، وهو مختلف فيه، رواه عن سالم عن أبيه. قال الحافظ: ذكر الأثرم أن أحمد احتج به. ومن حديث حكيم بن حزام أخرجه الحاكم (ج3:ص485)

470- (16) وعن نافع، قال: ((انطلقت مع ابن عمر في حاجة، فقضى ابن عمر حاجته، وكان من حديثه يومئذٍ أن قال: مر رجل في سكة من السكك، فلقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد خرج من غائط أو بول، فسلم عليه، فلم يرد عليه، حتى إذا كاد الرجل أن يتوارى في السكة، ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيديه على الحائط ومسح بهما وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى، فمسح ذراعيه، ثم رد على الرجل السلام، وقال: إنه ـــــــــــــــــــــــــــــ والطبراني والدارقطني. ومن حديث عثمان بن أبي العاص، أخرجه الطبراني وابن أبي داود في المصاحف، وفي إسناده انقطاع وفي رواية الطبراني من لايعرف. ومن حديث ثوبان أورده علي بن عبد العزيز في منتخب مسنده، وسنده ضعيف جداً. وقد ذكر طرق هذه الأحاديث الزيلعي في نصب الراية (ج1:ص 199،198) . مع الكلام عليها، وكذا تكلم عليها الشوكاني في النيل (ج1:ص200) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (ج1:ص277،276) . 470- قوله: (وعن نافع) أي: مولى ابن عمر. (انطلقت مع ابن عمر في حاجة) أي: في شأن حاجة له إلى ابن عباس. (وكان من حديثه) أي: من جملة حديثه الذي حدثه. (أن قال) أي: ابن عمر. (في سكة) بكسر السين وتشديد الكاف أي: طريق. (من السكك) أي: الطرق. (فلقي) أي: الرجل. (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد خرج) أي: رسول الله. (من غائط أو بول) أي: فرغ لأن الخروج بعد الفراغ، أو خرج من محلهما. (فسلم) أي: الرجل. (عليه) - صلى الله عليه وسلم - (فلم يرد) أي: النبي. (عليه) أي: على الرجل. (أن يتوارى) أي: يختفى ويغيب شخصه عن نظره - صلى الله عليه وسلم - (ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) جواب إذا (بيديه على الحائط ومسح بهما وجهه) أي: للتيمم. قد أخذ بعض الحنفية من أمثال هذا الحديث التيمم مع القدرة على الماء في الوضوء المندوب دون الواجب، صرح به ابن نجيم في البحر. وقال النووي: هو محمول على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان عادماً للماء حال التيمم، فإن التيمم مع وجود الماء لا يجوز للقادر على استعماله، سواء كان لفرض أو لنفل، قلت: وهو مقتضي صنيع البخاري حيث بوب على حديث أبي جهيم بن الحارث في التيمم لرد السلام: باب التيمم في الحضر إذا لم يجد الماء وخاف فوات الصلاة. قال النووي: ولا فرق بين أن يضيق وقت الصلاة وبين أن يتسع، ولا فرق بين صلاة الجنازة والعيد إذا خاف فوتهما. وإليه ذهب الجمهور. وقال أبوحنيفة: يجوز أن يتيمم مع وجود الماء لصلاة الجنازة والعيد إذا خاف فوتهما. واحتج له الطحاوى بهذا الحديث بأنه إذا جاز التيمم في الحضر لخوف فوت رد السلام، جاز التيمم لخوف ما يفوت لا إلى خلف. وفي الاستدلال به على ذلك نظر لأن الكلام في الوضوء الواجب دون المندوب، وأيضاً ليس فيه دليل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان واجداً للماء حال التيمم. (ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه) احتج به الحنفية على أن التيمم ضربتان، ضربة للوجه وضربة للذراعين، قالوا والذراع من طرف المرفق إلى الإصبع الوسطى، لكن الاستدلال به على ذلك

لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أني لم أكن على طهر)) . رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ غير صحيح، لأن ذكر الضربتين والذراعين في هذا الحديث منكر كما سيأتي. (لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أني لم أكن على طهر) أي: وكرهت ذكر الله على تلك الحالة. وفيه دليل على منع ذكر الله للمحدث حدثاً أصغر، لأن السلام من أسماء الله تعالى. والحديث الآتي صريح في كراهة الذكر للمحدث، ويعارضه ما تقدم من حديث عائشة: "أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يذكر الله على كل أحيانه"، فإنه مشعر بوقوع الذكر حال الحدث الأصغر، لأنه من جملة الأحيان المذكورة. وكذلك حديث علي لا يحجزه من القرآن شيء ليس الجنابة، فإذا كان الحدث الأصغر لا يمنعه عن قراءة القرآن وهو أفضل الذكر كان جواز ما عداه من الأذكار بطريق الأولى. والتوفيق بينهما، أنه - صلى الله عليه وسلم - أخذ في ذلك بالرخصة تيسيراً على الأمة، وفي هذا العزيمة، أي: تعليماً لهم بالأفضل، فالمراد بالمنع والكراهة أدنى الكراهة، فيدل على استحباب ذكر الله تعالى بالوضوء أو التيمم ولا خلاف في ذلك. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً الطحاوى، ومداره على محمد بن ثابت العبدي، وقد ضعفه ابن معين وأبوحاتم والبخاري وأحمد. وقال أحمد والبخاري ينكر عليه حديث التيمم، يعني هذا. زاد البخاري خالفه أيوب وعبيد الله والناس، فقالوا: عن نافع عن ابن عمر فعله. وقال أبوداود: ولم يتابع أحد محمد بن ثابت في هذ القصة على ضربتين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورووه عن فعل ابن عمر. وقال الخطابي في المعالم: حديث ابن عمر لا يصح، لأن محمد بن ثابت ضعيف جداً لا يحتج بحديثه. واعلم أن حديث محمد بن ثابت، عن نافع، عن ابن عمر هذا يدل على أن السلام كان بعد الخروج من غائط أو بول، وأن جواب السلام كان بعد التيمم مع ذكر التعليل فيه، وكذا وقع في رواية ابن الهاد، عن نافع، عن ابن عمر، إلا أنه لم يذكر العلة، ولا ذكر الضربتين والذراعين في صفة التيمم، بل قال: مسح وجهه ويديه. أخرجه أبوداود وسكت عنه وقال المنذري: حديث حسن، ويوافقه ما روى عن أبي جهيم بن الحارث عند الشيخين وغيرهما: أنه أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام. ففيه أن السلام بعد الفراغ، وجواب السلام كان بعد التيمم بدون ذكر العلة. وروى الضحاك بن عثمان عن نافع عن ابن عمر، أن رجلاً سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول، فلم يرد عليه. أخرجه مسلم والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه. وفيه أن السلام كان حالة البول وأنه لم يرد السلام، وكذا وقع ذكر السلام حالة البول في حديث المهاجر بن قنفذ الآتي، وفي حديث جابر بن عبد الله، وحديث أبي هريرة عند ابن ماجه، إلا أنه ذكر في حديث المهاجر رد السلام بعد الوضوء وفي حديث أبي هريرة بعد التيمم، وقيل: معنى قوله: "توضأ" في حديث المهاجر "تطهر" فيشمل التيمم. وفي الباب أحاديث من غير هؤلاء الصحابة ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد (ج1:ص276) مع الكلام عليها. واختلف في رفع الاختلاف الواقع في روايات ابن عمر، فحاول بعضهم ترجيح رواية الضحاك عن نافع، عن ابن عمر عند مسلم والترمذي وغيرهما، أن السلام كان في حالة البول كما في أحاديث جابر، وأبي هريرة والمهاجر. وأما قوله: في هذه الرواية: فلم يرد عليه، فمعناه أنه أخر الرد لا أنه ترك الرد مطلقاً، وقد تقدم أن رواية محمد بن ثابت العبدي عن نافع ضعيفة جداً فلا تعارض رواية الضحاك، وأما رواية ابن الهاد عن

471- (17) وعن المهاجر بن قنفذ: ((أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول، فسلم عليه، فلم يرد عليه حتى توضأ، ثم اعتذر إليه، وقال: إني كرهت أن أذكرالله إلا على طهر)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ نافع، وحديث أبي جهيم فقيل: أنه وقع فيهما تقديم وتأخير في بيان القصة، فمجيئة - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل كان بعد الفراغ عن البول، وبعد سلام الرجل عليه، يعني كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبول فلقيه ذلك الرجل وسلم عليه فلم يرد عليه؛ حتى إذا أقبل من نحو بئر جمل بعد البول تيمم، ورد عليه السلام. وأما حديث المهاجر الآتي فهو قصة أخرى رد عليه السلام فيها بعد الوضوء، فتحصل من هذا كله أن ههنا قصتان: إحداهما في حديث الضحاك عن نافع عن ابن عمر، والأخرى في حديث المهاجر بن قنفذ. وحمل بعضهم هذه الروايات على وقائع متعددة وقصص مختلفة وقعت في أوقات شتى، فوقع السلام مرة في حالة البول، وتارة بعد الفراغ عن البول، وترك الرد أحياناً تأديباً، وأخره أحياناً على حسب اختلاف الناس في التأديب وغيره، ورد السلام في بعضها بعد الوضوء، وفي بعضها بعد التيمم. والله تعالى أعلم وعلمه أتم. 471- قوله: (وعن المهاجر بن قنفذ) بضم القاف والفاء بينهما نون ساكنة وآخره ذال معجمة، هو المهاجر بن قنفذ بن عمير بن جدعان التيمي القرشي. قيل كان اسمه أولاً عمراً ومهاجر لقب، وكان اسم أبيه خلفاً وقنفذ لقب، فهو عمرو ابن خلف. قال الحافظ في الإصابة (ج3:ص466) كان أحد السابقين إلى الإسلام، ولما هاجر أخذه المشركون فعذبوه، فانفلت منهم وقدم المدينة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هذا المهاجر حقاً. وقيل: إنما أسلم بعد الفتح. ولاه عثمان على شرطته. قال ابن عبد البر: سكن البصرة ومات بها. (أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول، فسلم عليه) وعند أحمد: أنه سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يتوضأ. وهكذا عند الطحاوى، وابن ماجه بلفظ "وهو يتوضأ" أي: وهو في مقدمات الوضوء. وقد نبه ابن ماجه على ذلك بذكر الحديث في "باب الرجل يسلم عليه وهو يبول". (فلم يرد عليه) فيه دلالة على أن المسلم في هذه الحالة لا يستحق جواباً، وهذا متفق عليه بين العلماء، بل قالوا: يكره أن يسلم على المشتغل بقضاء حاجة البول والغائط، فإن سلم عليه كره له رد السلام، ويكره للقاعد لقضاء الحاجة أن يذكر الله تعالى بشيء من الأذكار، فلا يرد السلام، ولا يشمت العاطس، ولا يحمد الله تعالى إذا عطس. وفي حديث جابر بن عبد الله عند ابن ماجه أن رجلاً مر على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول، فسلم عليه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا رأيتني على مثل هذه الحالة، فلا تسلم علي، فإنك إن فعلت ذلك لم أرد عليك. (حتى توضأ) أي: فرغ من وضوءه. وظاهره تعدد الواقعة كما تقدم التنبيه على ذلك، ويمكن أن يكون معنى "توضأ" تطهر فيشمل التيمم. (ثم اعتذار إليه) يعني بعد رد السلام عليه. (وقال) بيان للإعتذار، وكأنه إعتذار لتأخير الرد إلى الفراغ من الوضوء، وإلا فترك الرد حالة البول لا يحتاج إلى الاعتذار. (إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر) أي: فلذا أخرته، ليكون على الوجه الأكمل. والمراد به أدنى كراهته، فمثل هذه الكراهة دعت إلى التأخير إلى

{الفصل الثالث}

رواه أبوداود، وروى النسائي إلى قوله: حتى توضأ، وقال فلما توضأ رد عليه. {الفصل الثالث} 472- (18) عن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجنب، ثم ينام، ثم ينتبه، ثم ينام)) . رواه أحمد. 473- (19) وعن شعبة، قال: إن ابن عباس رضي الله عنه كان إذا اغتسل من الجنابة، يفرغ بيده اليمنى على يده اليسرى سبع مرار، ـــــــــــــــــــــــــــــ الوضوء وأصل التأخير حصل بسبب كراهة الرد حالة البول. قال الخطابي: في قوله: "كرهت ذكر الله" دليل على أن السلام الذي يحيى به الناس بعضهم بعضاً اسم من أسمائه تعالى، فالمعنى: الله رقيب عليك فاتق الله، أو حافظ عليك ما تحتاج إليه. وفي الحديث دلالة على أنه ينبغي لمن سلم عليه في تلك الحال أن يدع الرد حتى يتوضأ، أو يتيمم، ثم يرد وهذا إذا لم يخش فوت المسلم، وأما إذا خشى فوته، فالحديث لا يدل على المنع، بل هو ساكت عنه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تمكن من الرد بعد أن توضأ، أو تيمم على اختلاف الروايتين، فيمكن أن يكون تركه لذلك طلباً للأشراف، وهو الرد حال الطهارة. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو، والمنذري، وقال النووي في الأذكار: هذا حديث صحيح، وأخرجه أيضاً أحمد وابن ماجه والطحاوى. (وروى النسائي إلى قوله: حتى توضأ) أي: لم يذكر الاعتذار وعلة التأخير. (وقال) أي: النسائي. (فلما توضأ رد عليه) وهو مفهوم من الرواية السابقة. 472- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجنب ثم ينام) أي: قبل الوضوء أحياناً بياناً للجواز وعملاً بالرخصة، أو بعد الوضوء طلباً للفضيلة، وقد تقدم أنه كان يتوضأ قبل النوم غالباً. والحديث يدل على تأخيره - صلى الله عليه وسلم - غسل الجنابة عن موجبه زماناً ولا اختلاف فيه. (رواه أحمد) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج1:ص275) : رجاله رجال الصحيح. 473- قوله: (عن شعبة) هو ابن دينار الهاشمي المدني مولى ابن عباس، ضعفه مالك، والجوزجاني والنسائي وابن سعد وأبوزرعة والساجي وأبوحاتم وابن حبان وابن معين في رواية ابن أبي خيثمة عنه. وقال أحمد وابن عدي وابن معين: في رواية الدوري عنه: ليس به بأس. وقال العجلي: جائز الحديث. وقال الحافظ: صدوق سيء الحفظ. (يفرغ) من الإفراغ أي: يصب الماء. (سبع مرار) لا يصلح هذا الحديث أن يكون حجة للتسبيع في غسل اليدين عند الاغتسال من الجنابة لأنه ضعيف، وإن صح، فيحمل فعل ابن عباس هذا على ما كان الأمر قبل ذلك، كما تقدم في حديث ابن عمر آخر حديث الفصل الثالث من باب الغسل، ثم رفع ذلك الأمر ولم يبلغ ابن عباس النسخ، ويحتمل أنه

ثم يغسل فرجه، فنسي مرة كم أفرغ، فسألني فقلت: لا أدرى. فقال: لا أم لك! وما يمنعك أن تدري؟ ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يفيض على جلده الماء، ثم يقول هكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتطهر)) . رواه أبوداود. 474- (20) وعن أبي رافع، قال: ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طاف ذات يوم على نسائه، يغتسل عند هذه، وعند هذه، قال: فقلت له: يا رسول الله! ألا تجعله غسلاً واحداً آخراً؟ قال: هذا أزكى وأطيب وأطهر)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ بلغه النسخ، وكان من مذهبه أنه إذا نسخ الوجوب بقي الندب كما قيل، أو كان يفعل التسبيع في صورة مخصوصة مبالغة في الإنقاء والتنظيف، كما جاء ذلك في تطهير الأواني وغسلها. (ثم يغسل فرجه) كذلك سبع مرار، وهو يعلم بطريق الأولى. (فنسي) أي: ابن عباس. (مرة كم أفرغ) أي: على يديه، أو على فرجه، أو على أي عضو من أعضائه. (فسألني) أي: كم أفرغت. أي: سبع مرار أو أقل من ذلك. (لا أم لك) هذا وارد على الذم، أي: أنت لقيط لا يعرف لك أم فأنت مجهول. (ومايمنعك أن تدري) أي: لم لم تنظر إلي حتى تعلم؟ والواو عطفت الجملة الاستفهامية على الجملة الدعائية، والجامع كونهما إنشائيتين، قاله الطيبي. (ثم يفيض على جلده الماء) قال ابن حجر: ذكر الجلد لأنه الأصل وإلا فغسل الشعر واجب أيضا. ً (ثم يقول هكذا) الظاهر رجوعه لجميع ما مر (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتطهر) فيه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يغسل اليدين والفرج عند غسل الجنابة سبع مرات، لكن الحديث ضعيف فلا يعارض الأحاديث الصحيحة التي تدل نصاً على التثليث. وقيل الإشارة راجعة إلى ما ذكر من الوضوء والإفاضة. قال ابن حجر: وفيه أنه لا مناسبة لهذا الحديث بالترجمة إلا أن فيه بعض أحكام تتعلق بالجنب فذكر استطراداً لأجلها، ولو ذكره في باب الغسل لكان أولى كذا في المرقاة. (رواه أبوداود) وسكت عنه. وقال المنذري: شعبة هذا مولى ابن عباس مدني لا يحتج بحديثه. 474- قوله: (ذات يوم) قال القاري: ذات زائدة زيد بها لدفع المجاز، أي: في نهار. وقيل: زائدة للتأكيد. (وعند هذه) أي: بعد المعاودة على حدة. (ألا) بالتخفيف فالهمزة للإستفهام، ولا نافية. وقيل: بالتشديد، فيكون بمعنى "هلا" للتحضيض. (تجعله) أي: غسلك. (غسلاً واحداً) أي: ألا تكتفي بالغسل الواحد في آخر الجماع. (آخراً) تأكيد لدفع التوهم قال الشيخ الألباني: هذه اللفظة "آخراً" ثابتة في جميع النسخ، لكنها لم ترد عند أحمد وأبي داود، ولا عند غيرهما، كابن ماجه والطحاوي في شرح المعاني والبيهقي في سننه. (قال هذا) أي: تعدد الغسل. (أزكى) أي: أكثر أجراً وثواباً. (وأطيب) أي: ألذ وأحلى وأجود عند النفس. (وأطهر) أي: أنظف وأحسن. وقال ابن حجر: هي قريبة من الترادف جمع بينهما

رواه أحمد وأبوداود. 475- (21) وعن الحكم بن عمرو، قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة)) . رواه أبوداود، وابن ماجه، والترمذي، وزاد: أو قال: بسؤرها. وقال: هذا حديث حسن صحيح. ـــــــــــــــــــــــــــــ تأكيداً ومبالغة. والحديث يدل على استحباب الغسل قبل المعاودة، ولا خلاف فيه، وليس بينه وبين ما تقدم من حديث أنس "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يطوف على نسائه بغسل واحد" اختلاف وتعارض، بل كان يفعل هذا مرة، وذاك أخرى، فمرة تركه بياناً للجواز، وتخفيفاً على الأمة، ومرة فعله لكونه أزكى وأطهر. قال النووي: هو محمول على أنه فعل الأمرين في وقتين مختلفين. (رواه أحمد وأبوداود) وأخرجه أيضاً ابن ماجه. قال الحافظ في التلخيص (ص52) وهذا الحديث طعن فيه أبوداود، فقال: حديث أنس أصح منه، قال الشوكاني: وهذا ليس بطعن في الحقيقة لأنه لم ينف عنه الصحة. 475- قوله: (وعن الحكم) بفتحتين (بن عمرو) بن مجدع الغفاري، ويقال له: الحكم بن الأقرع وهو ليس غفارياً؛ إنما هو من ولد ثعلبة بن مليل، ونسب إلى غفار لأن ثعلبة أخو غفار، وقد ينسبون إلى الإخوة كثيراً، صحابي، له أحاديث، انفرد له البخاري بحديث. نزل البصرة، وولي خراسان فسكن مرو ومات بها سنة (45) أو (50) أو (51) . (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة) النهى محمول على التنزيه بقرينة حديث ابن عباس أول أحاديث الفصل الثاني وغيره من الأحاديث الدالة على الجواز. (رواه أبوداود) وسكت عنه. (وابن ماجه والترمذي) من طريق شعبة، عن عاصم الأحول، عن أبي حاجب، عن الحكم بن عمرو. وأخرجه أيضاً أحمد (ج5:ص66) وأبوداود الطيالسي، والنسائي إلا أن ابن ماجه والنسائي قالا بفضل وضوء المرأة. (وزاد) أي: الترمذي. (أو قال بسؤرها) بالهمزة بقية الشيء، وقد يخفف الهمز بالابدال. قال الطيبي: شك الراوي أنه عليه الصلاة والسلام قال: بفضل طهور المرأة أو بسؤرها - انتهى. قلت: هذا الحديث رواه الترمذي عن شيخين: محمود بن غيلان ومحمد بن بشار كلاهما، عن أبي داود الطيالسي، عن شعبة، والشك إنما وقع من محمود بن غيلان، وأما محمد بن بشار فإنه لم يشك في اللفظ، كما حكى عنه الترمذي، وكما هو في رواية أبي داود، وابن ماجه، وكذلك لم يشك عمرو بن علي عند النسائي وأحمد (ج5:ص66) ويونس بن حبيب عن الطيالسي. ورواه أحمد (ج4:ص213) عن عبد الصمد بن عبد الوارث، عن شعبة على الشك. ورواه أيضاً (ج4:ص213) عن وهب بن جرير عن شعبة، فقال: نهى أن يتوضأ الرجل من سؤر المرأة، والمفهوم من الروايات أن المراد بالسؤر هو فضل الطهور لا فضل الشراب فإن أصل السؤر هو البقية من كل شيء. (وقال: هذا حديث حسن صحيح) وفي النسخ الحاضرة للترمذي: هذا حديث حسن، بدون لفظ "صحيح". قال الحافظ في الفتح: حديث

476- (22) وعن حميد الحميري، قال: لقيت رجلاً صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أربع سنين، كما صحبه أبوهريرة، قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تغتسل المرأة بفضل الرجل، أو يغتسل الرجل بفضل المرأة. زاد مسدد: وليغترفا جميعاً)) . رواه أبوداود، والنسائي وزاد أحمد في أوله: نهى أن يمتشط أحدنا كل يوم ـــــــــــــــــــــــــــــ الحكم بن عمرو أخرجه أصحاب السنن، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان، وأغرب النووي فقال: اتفق الحفاظ على تضعيفه - انتهى. قلت: قال البخاري: حديث الحكم بن عمرو في النهى لا يصح. 476- قوله: (وعن حميد) بالتصغير. (الحميري) بكسر المهملة وسكون الميم وفتح التحتانية، هو حميد بن عبد الرحمن الحميري البصري، قال المصنف هو من ثقات البصريين وأئمتهم، تابعي جليل من قدماء التابعين. روى عن أبي هريرة، وابن عباس وغيرهما. (لقيت رجلاً صحب النبي - صلى الله عليه وسلم -) إبهام الصحابي لا يضر لأن الصحابة كلهم عدول. (أربع سنين، كما صحبه أبوهريرة) لأن إسلامه سنة سبع من الهجرة، هاجر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في خيبر بعد مافتحها، وكانت وقعة خيبر في المحرم سنة سبع. (نهى أن تغتسل المرأة بفضل الرجل) أي: بالماء الذي يفضل عن غسل الرجل. (أو يغتسل الرجل بفضل المرأة) قيل: مناط النهى هو صيانة الطهور عن وقوع الماء المستعمل فيه، فإن الماء المستعمل وإن كان طاهراً غير نجس إلا أن المطلوب الاحتراز عنه لئلا يقع في ماء الغسل، ولما كانت النساء أقل احتياطاً في أمر التطهير في الواقع، نهى الرجل عن استعمال فضلها، وإنما نهى المرأة عن فضل الرجل جرياً على مقتضى طبع النساء، فإنهن يرين الرجال أقل نظافة، فروعى في الأول ما هو واقع في نفس الأمر، وفي الثاني ما هو في زعمهن، لئلا يقعن في الوسوسة في أمر الطهارة، لأن الحفظ عن الوسوسة في أمر التطهير مطلوب شرعاً، فنهى المرأة عن فضل الرجل قطعاً للوسوسة. (زاد مسدد) أي: عن أبي عوانة عند أبي داود، وكذا روى هذه الزيادة قتيبة عن أبي عوانة عند النسائي. ومسدد بضم الميم، وفتح السين المهملة، وتشديد الدال الأولى، وفتحها هو ابن مسرهد بن مسربل بن مستورد الأسدي البصري أبوالحسن، ثقة، حافظ، روى عنه البخاري وأبوداود وروى له أبوداود أيضاً، والترمذي والنسائي بواسطة محمد بن محمد ابن خلاد الباهلي، وأحمد بن محمد بن مدوية. يقال إنه أول من صنف المسند بالبصرة، مات سنة (228) . قال الحافظ: وزعم منصور الخالدي أنه مسدد بن مسرهد بن مسربل بن مغربل بن مرعبل بن أرندل بن سرندل بن عرندل بن ماسند. ولم يتابع عليه. ويقال: اسمه عبد الملك بن عبد العزيز ومسدد لقبه. (وليغترفا) بصيغة أمر واللام ساكنة وتكسر. (جميعاً) ظاهره معاً لا واحد بعد واحد، ويحتمل المناوبة والاختلاف. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري، وقال الحافظ في الفتح: رجاله ثقات ولم أقف لمن أعله على حجة قوية. وقال في بلوغ المرام إسناده صحيح. (وزاد أحمد) وكذا زاده أبوداود في باب البول في المستحم والنسائي. (نهى أن يمتشط) أي: عن الإكثار في الامتشاط والزينة

(7) باب أحكام المياه

أو يبول في مغتسل. 477- (23) ورواه ابن ماجه عن عبد الله بن سرجس. (7) باب أحكام المياه ـــــــــــــــــــــــــــــ (أويبول في مغتسل) لأنه يورث الريبة والوسوسة وهو عام في المكان الصلب واللين وقد تقدم الكلام في ذلك. 477- قوله: (ورواه ابن ماجه عن عبد الله بن سرجس) بفتح السين وكسر الجيم، يجوز فيه الصرف والمنع من الصرف للعلمية والعجمة. لفظه: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يغتسل الرجل بفضل المرأة، والمرأة بفضل الرجل، ولكن يشرعان جميعاً. قال ابن ماجه بعد إخراجه من طريق عاصم الأحول عن ابن سرجس: الصحيح هو الأول يعني حديث عاصم، عن أبي حاجب، عن الحكم بن عمرو، والثاني أي: حديث عاصم عن ابن سرجس وهم، وقال الألباني: سنده صحيح وإن قال ابن ماجه إنه وهم، والصحيح أنه من حديث الحكم بن عمرو – يعني المتقدم – وقال البخاري: حديث عبد الله بن سرجس في هذا الباب الصحيح هو موقوف. ومن رفعه فهو خطأ. ذكره البيهقي (193:1) ورده عليه ابن التركماني في الجوهر النقي فراجعه إن شئت. (باب أحكام المياه) من الطهارة، والنجاسة، وغيرهما، وأتى لكثرة أنواع الماء مثل ماء السماء، وماء البئر، وماء العين، وماء البحر، والماء الراكد، والماء الجاري، والقليل والكثير، والمستعمل، وغير المستعمل، وسؤر السباع، وماء الحياض في الفلاة، والماء المشمش، وغير ذلك. وجمع الماء على المياه دل على أن همزته منقلبة عن هاء، وأصل المياه، مواه، لدلالة جمعه الآخر على الأمواه، وتصغير الماء على مويه، فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. وقوله باب أحكام المياه كذا في طبعات الهند وهكذا في نسخة القاري، ووقع في نسخة الألباني باب المياه أي: بسقوط لفظ أحكام. واعلم أنه اختلف آراء العلماء في الماء إذا خالطته نجاسة، فذهب مالك والظاهرية إلى أنه لا ينجس الماء بما لاقاه من النجاسة ولو كان قليلاً إلا إذ تغير أحد أوصافه، عملاً بحديث: "الماء لا ينجسه شئ إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه" أخرجه ابن ماجه. فلم يفرقوا بين القليل والكثير، والاعتبار عندهم للتغير فقط. وذهبت الشافعية والحنفية إلى قسمة الماء إلى قليل تضره النجاسة مطلقاً، وكثير لا تضره إلا إذا غيرت بعض أوصافه، ثم اختلفوا بعد ذلك في تحديد القليل والكثير، فذهب أبوحنيفة إلى تحديد القليل بأنه ما ظن المستعمل للماء الواقعة فيه النجاسة استعمالها باستعماله، وماعدا ذلك فهو الكثير. قال في الدر المختار: والمعتبر في مقدار الراكد أكبر رأى المبتلي به، فإن غلب على ظنه عدم وصول النجاسة إلى الجانب الآخر جاز، وإلا لا، هذا ظاهر الرواية عن الإمام (أبي حنيفة) وإليه رجع محمد، وهو الأصح، كما في الغاية وغيرها، وحقق في البحر: أنه المذهب، وبه يعمل - انتهى. وأكثر ابن نجيم في ذكر النقول

عن المشائخ الحنفية في أن العبرة عندهم لرأى المبتلى به، فإن ظنه نجساً كان نجساً، وإن ظنه طاهراً كان طاهراً، لكنهم لما رأوا أن هذا يفضي إلى اختلاف العوام في أمر طهارة الماء الذي لاقته النجاسة، ويستلزم عدم انضباط مسألة الطهارة لتفرق آرائهم وظنونهم حددوا لذلك حدوداً ينتظم بها أمرهم، فمنهم من قدر الكثير من الماء، وهم قدماء الحنفية، وعزاه محمد في موطأه إلى أبي حنيفة بأنه الماء الذي إذا حرك أحد طرفيه آدمي لم تسر الحركة إلى الطرف الآخر، ثم اختلفوا في التحريك المعتبر هل هو بالوضوء، أو بالاغتسال، أو باليد؟ ومنهم من قدر الكثير - وهم أكثر المتأخرين من الحنفية - بالعشر في العشر. ولا دليل لهم على هذه التحديدات لا من كتاب الله، ولا من سنة رسوله، ولا من آثار الصحابة، ولا من قياس صحيح. وأما أصل مذهب أبي حنيفة وهو إدارة الأمر على رأى المبتلى به، فقد احتجوا لذلك بحديث الاستيقاظ أول أحاديث باب سنن الوضوء، وبحديث ولوغ الكلب، والأمر بإراقة ما ولغ الكلب فيه، وهو أول أحاديث باب تطهير النجاسات، وبحديث النهى عن البول في الماء الدائم، وقد طول ابن نجيم في البحر الرائق الكلام في تقرير الاستدلال بهذه الأحاديث، ونقله الشيخ عبد الحي اللكنوى في السعاية حاشية شرح الوقاية، ثم أجاب عنه، ولقد أجاد وأصاب في الجواب؛ وأجيب أيضاً بأن هذه الأحاديث ليست ورادة لبيان حكم نجاسة الماء، بل الأمر باجتنابها تعبدي لا لأجل النجاسة، وإنما هو لمعنى لا نعرفه، كعدم معرفتنا لحكمة أعداد الصلوات ونحوها. وقيل: بل النهى في هذه الأحاديث للكراهة فقط وهي طاهرة مطهرة. وقيل: هي محمولة على القليل أي: ما دون القلتين. وأجاب بعضهم عن أصل مذهب أبي حنيفة بأن الظن والرأى لا ينضبط، بل يختلف باختلاف الأشخاص، ففي إدارة الأمر على ذلك من الحرج ما لا يخفى، وأيضاً جعل ظن الاستعمال مناطاً يستلزم استواء القليل والكثير وذهبت الشافعية إلى تحديد الكثير من الماء بما بلغ قلتين من قلال هجر، وذلك نحو خمسمائة رطل عملاً بحديث القلتين وما عداه فهو القليل. وحديث "الماء لاينجسه شيء" الخ. محمول عندهم على ما بلغ القلتين فما فوقها، وهو كثير، وحديث الاستيقاظ، وحديث الدائم محمول على القليل، وهو أقوى المذاهب وأرجحها عندي. والله أعلم. وقال الشاه ولي الله الدهلوي في حجة الله (ج1:ص147) : قد أطال القوم في فروع موت الحيوان في البئر، والعشر في العشر، والماء الجاري، وليس في كل ذلك حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألبتة. وأما الآثار المنقولة عن الصحابة والتابعين، كأثر ابن الزبير في الزنجي، وعلي في الفارة، والنخعي والشعبي في نحو السنور، فليست مما يشهد له المحدثون بالصحة، ولا مما اتفق عليه جمهور أهل القرون الأولى، وعلى تقدير صحتها يمكن أن يكون ذلك تطييباً للقلوب، وتنظيفاً للماء، لا من جهة الوجوب الشرعي، كما ذكر في كتب المالكية، ودون نفي هذا الاحتمال خرط القتاد. وبالحملة فليس في هذا الباب شيء يعتد به، ويجب العمل عليه، وحديث القلتين أثبت من ذلك كله بغير شبهة، ومن المحال أن يكون الله تعالى شرع في هذه المسائل لعباده شيئاً زيادة على ما لا ينفكون عنه من الارتفاقات، وهي مما يكثر وقوعه، وتعم به البلوى، ثم لا ينص عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - نصاً جلياً، ولا يستفيض في الصحابة ومن بعدهم، ولا حديث واحد فيه – انتهى.

{الفصل الأول}

{الفصل الأول} 478- (1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 478- قوله: (لايبولن أحدكم في الماء الدائم) أي: الراكد الساكن. (الذي لا يجري) تفسير للدائم وإيضاح لمعناه وقيل: صفة ثانية مؤكدة للأولى. وقيل: الدائم من الأضداد، يقال للساكن والدائر المتحرك: دائم. ويطلق على البحار الكبار التي يدوم أصلها ولا ينقطع ماءها: أنها دائمة، بمعنى أن ماءها غير منقطع، وهو غير مراد هنا اتفاقاً، وعلى هذين القولين فقوله: الذي لا يجري، صفة مخصصة لأحد معنى المشترك، وهذا أولى من حمله على التوكيد. (ثم يغتسل فيه) برفع اللام على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: ثم هو يغتسل فيه. نبه به على مآل الحال، والمعنى: أنه إذا بال فيه قد يحتاج إليه فيمتنع عليه استعماله لما وقع فيه من البول، فالنهى في الظاهر مقصور على البول، وثم للإستبعاد وبيان المآل، ويرجع ذلك إلى النهي عن الجمع، أي: بعيد من العاقل أن يجمع بينهما. وقد جوز جزمه عطفاً على "يبولن" لأنه مجزوم الموضع بلا الناهية، ولكنه بني على الفتح لتوكيده بالنون، وهذا يدل على أن النهي عن كل واحد من البول والاغتسال. ونصبه على إضمار أن وإعطاء "ثم" حكم "واو الجمع" وهذا يفيد أن النهى إنما هو عن الجمع بين البول والاغتسال دون إفراد أحدهما مع أنه ينهى عن البول فيه مطلقاً. وأجيب بأن ذلك لا يمنع من جواز النصب، لأنه لا يلزم أن يدل على الأحكام المتعددة لفظ واحد، فيؤخذ من هذا الحديث النهى عن الجمع، ومن رواية مسلم التالية النهى عن إفراد الاغتسال، ومن حديث جابر الآتي عن إفراد البول، والنهى عن كل واحد منهما على انفراده ليستلزم النهى عن فعلهما جميعاً بالأولى، وقد ورد النهى عن كل واحد منهما في حديث واحد. رواه أبوداود بلفظ لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من الجنابة. قال الشاه ولي الله الدهلوي: وحكمة النهى أن كل واحد منهما لا يخلو من أحد أمرين، إما أن يغير الماء بالفعل، أو يفضى إلى التغيير بأن يراه الناس يفعل فيتتابعوا، وهو بمنزلة اللاعنين، أللهم إلا يكون الماء مستبحراً أو جارياً، والعفاف أفضل على كل حال – انتهى. واعلم أن الحديث لا بد من إخراجه عن ظاهره بالتخصيص أو التقييد، لأن الاتفاق واقع على أن الماء المستبحر الكثير جداً لا تؤثر فيه النجاسة، والاتفاق واقع على أن الماء إذا غيرته النجاسة امتنع استعماله فحملت المالكية النهى على التنزيه فيما لا يتغير، لاعتقدهم أن الماء لا ينجس إلا بالتغير قليلاً كان أو كثيراً، فالمعتبر عندهم هو التغير وعدمه. وقالت الحنفية: خرج عنه المستبحر الكثير جداً بالإجماع، فيبقى ماعداه على حكم النص، فيدخل تحته ما زاد على القلتين، ومن المعلوم أن البول القليل في ما زاد على القلتين، من الماء لا يغير لونه ولا طعمه ولا رائحته، ومع ذلك قد نهى، وليس

متفق عليه. وفي رواية لمسلم، قال: ((لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب)) . قالوا: كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولاً. 479- (2) وعن جابر، قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبال في الماء الراكد)) . رواه مسلم. 480- (3) وعن السائب بن يزيد، ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك إلا لكونه ينجس في رأي المبتلى به بعد قليل من الزمان إن كان هذا الماء كثيراً، وإن كان قليلاً لا يبلغ قدر الغدير العظيم فتنجسه عندهم ظاهر. وقالت الشافعية: خرج الكثير المستبحر بالإجماع، والقلتان فما زاد بالحديث، فيبقى ما نقص عن القلتين داخلاً تحت مقتضي الحديث، ويكون النهي للتحريم، وفي القلتين وما فوقهما للتنزيه. وقال القرطبي: يمكن حمله على التحريم مطلقاً على قاعدة سد الذريعة؛ لأنه يفضي إلى تنجيس الماء، قلت: أقوى المحامل وأرجحها عندي هو ما ذهب إليه الشافعية لصحة حديث القلتين، وارجع لمزيد الكلام إلى أبكار المنن في تنقيد آثار السنن (ص2) . (متفق عليه) واللفظ للبخاري، وأخرجه أيضاً عبد الرزاق وأحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وابن أبي شيبه، وابن حبان وغيرهم، إلا أن في رواية الترمذي وأحمد وعبد الرزاق، وابن أبي شيبه وابن حبان "ثم يتوضأ منه" مكان ثم يغتسل فيه. وفيه دليل على أن النهي لا يختص بالغسل بل الوضوء في معناه، ولو لم يرد هذا لكان معلوماً لاستواء الوضوء والغسل في المعنى المقتضي للنهي. (لايغتسل) بالجزم، وقيل بالرفع. (أحدكم في الماء الدائم وهو جنب) فيه دليل على المنع من الاغتسال في الماء الدائم للجنابة وإن لم يبل فيه. وتقييد النهي بالحال يدل على أن المستعمل في غسل الجنابة إذا كان راكداً لا يبقى على ما كان، وإلا لم يكن للنهي المقيد فائدة، وذلك بزوال الطهورية، كما قال به أكثر العلماء. وقال الشوكاني: إن علة النهي عن الاغتسال فيه ليست كونه يصير مستعملاً بل مصيره مستخبثاً بتوارد الإستعمال، فيبطل نفعه، ويوضح ذلك قول أبي هريرة. (يتناوله تناولاً) أي: يأخذه اغترافاً، ويغتسل خارجاً فإنه يدل على أن النهى إنما هو عن الانغماس لا عن الاستعمال، وإلا لما كان بين الانغماس والتناول فرق. وهذه الرواية أخرجها ابن ماجه والطحاوي أيضاً. 479- قوله: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبال في الماء الراكد) أي: الساكن الغير الجاري، لأن الماء الساكن إن كان دون قلتين تنجس، ولا يجوز الاغتسال والتوضأ منه، وإن كان قلتين فلعله يتغير به فيصير نجساً بالتغير، وكذا إن كثر غاية الكثرة، إذ لو جوز البول فيه لبال واحد بعد واحد، فيتغير من كثرة البول، قاله ابن الملك. التغوط في الماء كالبول فيه، بل أقبح. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً النسائي وابن ماجه. 480- قوله: (وعن السائب بن يزيد) بن سعيد بن ثمامة الكندي، ويقال: الأسدي، أو الليثي، أو الهذلي.

قال ذهبت بى خالتي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت يارسول الله - صلى الله عليه وسلم -! إن ابن أختي وجع، فمسح رأسي، ودعا لي بالبركة، ثم توضأ، فشربت من وضوءه، ثم قمت خلف ظهره، فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه مثل زر الحجلة. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال الزهري: هو من الأزد، عداده في كنانة، وهو ابن أخت النمر، لا يعرفون إلا بذلك صحابي صغير. قال المصنف ولد في السنة الثانية من الهجرة، وحضر مع أبيه حجة الوداع، وهو ابن سبع سنين وخرج مع الصبيان إلى ثنية الوداع لتلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - مقدمه من تبوك. له أحاديث قليلة، اتفقا على حديث، وانفرد البخاري بخمسة. وكان عاملاً لعمر على سوق المدينة. مات سنة (91) وقيل: قبل ذلك سنة (88) أو (86) أو (82) يقال: هو آخر من مات بالمدينة من الصحابة، والله أعلم. (ذهبت بي) الباء للتعدية أي: أذهبتني، وقيل: الفرق بين "ذهب به" وبين "أذهبه" أن معنى "أذهبه" أزاله وجعله ذاهباً ومعنى "ذهب به" استصحبه، ومضى به معه. (خالتي) لم تسم، قال الحافظ: لم أقف على اسمها، وأما أمه فاسمها علية بنت شريح أخت مخرمة بن شريح. (وجع) بفتح الواو وكسر الجيم، أي: مريض، والعرب تسمى كل مريض وجعاً. قال الحافظ: والمراد أنه كان يشتكي رجله: كما ثبت في غير هذا الطريق. وقال ابن حجر: يحتمل أن الوجع كان برأسه، فمسحه عليه الصلوة والسلام بيده المباركة، ليكون ذلك سبباً لشفاءه، فكان الأمر كذلك. قال عطاء مولى السائب: كان مقدم رأس السائب أسود، وهو الموضع الذي مسحه النبي - صلى الله عليه وسلم - من رأسه، وشاب ما سوى ذلك. رواه البيهقي والبغوي. (فشربت من وضوئه) الظاهر أن المراد بالوضوء هنا ما انفصل من أعضاء وضوئه، أي: الماء المتقاطر منها. ففيه دليل على أن الماء المستعمل في الوضوء طاهر، خلافاً لما ذهب إليه بعض الحنفية من أنه نجس مخفف أو مغلظ. وما قيل: أن ذلك من خصائصه، لأن فضلاته - صلى الله عليه وسلم - طاهرة، ففيه أن هذه دعوى غير نافقة، فإن الأصل أن حكمه وحكم أمته واحد، إلا أن يقوم دليل يقتضي بالاختصاص، ولا دليل على كونه من خصائصه، ولا على طهارة فضلاته، بل كان - صلى الله عليه وسلم - يعامل بفضلاته ما يعامل أحدنا بفضلاته. (فنظرت إلى خاتم النبوة) بكسر التاء أي: فاعل الختم، وهو الاتمام والبلوغ إلى الآخر، وبفتحها بمعنى الطابع، ومعناه الشيء الذي هو دليل على أنه لا نبي بعده. وقال البيضاوي: خاتم النبوة أثر كان بين كتفيه نعت به في الكتب المتقدمة، وكان علامة يعمل بها أنه النبي الموعود، وصيانة لنبوته عن تطرق القدح إليها صيانة الشيء المستوثق بالختم. (بين كتفيه) حال من الخاتم، أو صفة له. وفي حديث عبد الله بن سرجس عند مسلم أنه كان إلى جهة كتفه اليسرى. (مثل) بكسر الميم وفتح اللام مفعول نظرت، وروى بكسرها بدل من المجرور. وقال القاري: نصب بنزع الخافض، أي: كمثل، وقيل: بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف هو (هو) . (زر الحجلة) بكسر الزاء وتشديد الراء، واحد الأزرار التي يشد به الكلل والستور على ما يكون في حجلة العروس. والحجلة – بفتح الحاء والجيم – بيت كالقبة يستر

{الفصل الثاني}

متفق عليه. {الفصل الثاني} 481- (4) عن ابن عمر قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الماء يكون في الفلاة من الأرض وما ينوبه من الدواب والسباع، فقال: ((إذا كان الماء قلتين ـــــــــــــــــــــــــــــ بالثياب، وتكون له أزرار كبار، وتجمع على حجال، ومعناهما بالفارسية "تكمهء خانة عروسي". وقيل: إنما هو بتقديم الراء على الزاى، ويكون المراد البيض، يقال أرزت الجرادة- بفتح الراء وتشديد الزاى- إذا كبست ذنبها في الأرض فباضت، ويريد بالحجلة القبجة الطائر المعروف، ويشهد له ما عند الترمذي عن جابر بن سمرة: وكان خاتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي كان بين كتفيه غدة حمراء مثل بيضة الحمامة. اختلفت الروايات في بيان كيفية خاتم النبوة وقدره، ولا تعارض بينها لرجوع هذا الاختلاف إلى اختلاف الأحوال. ويأتي الكلام عليه مفصلاً في باب أسمائه - صلى الله عليه وسلم - وصفته - إن شاءالله تعالى-. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الطهارة، وصفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والدعوات، والمرضى، ومسلم في الفضائل. وأخرجه أيضاً الترمذي في المناقب. 481- قوله: (يكون) صفة أو حال. (في الفلاة) أي: في الصحراء الواسعة وتجمع على فلا وفلوات وفلى. (وما ينوبه) أي: ينزل به ويقصده وقال السندي: من ناب المكان وانتابه إذا تردد إليه مرة بعد أخرى ونوبة بعد نوبة. وهو عطف على الماء بطريق البيان نحو أعجبني زيد وكرمه، يعني أنهم سألوه عن حال الماء الذي ينوبه الدواب والسباع. أي: فتشرب منه، وربما تخوض، وتبول، وتلقى الروث فيه. (من الدواب والسباع) بيان لما. (إذا كان الماء قلتين) تثنية قلة بضم القاف وتشديد اللام. قال السندي: زاد عبد الرزاق عن ابن جريج بسند مرسل: بقلال هجر، قال ابن جريج: وقد رأيت قلال هجر فالقلة تسع قربتين أو قربتين وشيئاً، فاندفع ما يتوهم من الجهالة. وقال الخطابي في معالم السنن (ج1:ص35) : قد تكون القلة الإناء الصغير الذي تقله الأيدي ويتعاطى فيه الشرب كالكيزان ونحوها، وقد تكون القلة الجرة الكبيرة التي يقلها القوي من الرجال، إلا أن مخرج الخبر قد دل على أن المراد به ليس النوع الأول، لأنه إنما سئل عن الماء الذي يكون بالفلاة من الأرض في المصانع والوهاد والغدران ونحوها، ومثل هذه المياه لا تحمل بالكوز والكوزين في العرف والعادة لأن أدنى النجس إذا أصابه نجسه، فعلم أنه ليس معنى الحديث. وقد روى من غير طريق أبي داود من رواية ابن جريج "إذا كان الماء قلتين بقلال هجر" أخبرناه محمد بن هاشم. حدثنا الدبري، عن عبد الرزاق، عن ابن جريج وذكر الحديث مرسلاً، وقال في حديثه: بقلال هجر. قال: وقلال هجر مشهورة الصنيعة، معلومة المقدار، لا تختلف كما لا تختلف المكائل والصيعان والقرب المنسوبة إلى البلدان المحدودة على مثل واحد، وهي أكبر ما يكون من القلال

لم يحمل الخبث)) . رواه أحمد، وأبوداود، والترمذي، والنسائي، والدارمي، وابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأشهرها، لأن الحد لا يقع بالمجهول، ولذلك قيل: قلتين على لفظ التثنية، ولو كان وراءها قلة في الكبر لأشكلت دلالته فلما ثناها دل أنه أكبر القلال لأن التثنية لا بد لها من فائدة، وليست فائدتها إلا ما ذكرناها، وقد قدر العلماء القلتين بخمس قرب، ومنهم من قدرها بخمس مائة رطل- انتهى. قلت: قد جاء في حديث مرفوع ضعيف تقييد القلتين بقلال هجر، وهو ما روى ابن عدي في الكامل من حديث ابن عمر: إذا بلغ الماء قلتين من قلال هجر لم ينجسه شيء. وفي سنده المغيرة بن سقلاب، قال النفيلي: لم يكن مؤتمناً على الحديث. وقال ابن عدي: منكر الحديث لا يتابع على عامة حديثه. وقال الذهبي في الميزان في ترجمته: قال أبوحاتم: صالح الحديث. وقال أبوزرعة: لا بأس به. وقال الشيخ رشيد أحمد الكنكوهى شيخ مشائخ الطائفة الديوبندية: إلزام الإجمال في معنى القلة تحكم، أما أولاً فلأن القلة كانت معلومة عندهم فلا يضر جهالتها عندكم، وأما ثانياً فلما ورد في بعض الروايات من زيادة لفظ يفسر المراد ويتبين الإجمال وهو قوله: من قلال هجر- انتهى. فالاعتذار من القول بحديث القلتين بزعم الإجمال في معنى القلة كما قال الطحاوى (ص9) وابن دقيق العيد وابن عبد البر في التمهيد، وغيرهم اعتذار بارد لا يلتفت إليه. (لم يحمل الخبث) أي: مالم يتغير لونه، أو طعمه، أو ريحه. والخبث بفتحتين النجس يعنى لم ينجس بوقوع النجاسة فيه كما فسره به في رواية أبي داود الآتية. ولفظ ابن ماجه والحاكم: لم ينجسه شيء. وتقدير المعنى: لا يقبل النجاسة، بل يدفعها عن نفسه، كما يقال: فلان لا يحتمل الضيم، إذا كان يأباه ويدفعه عن نفسه. ولو كان المعنى أنه يضعف عن حمله فينجس، لما بقى الفرق بين ما بلغ قلتين وما دونه، والحديث مسوق لإفادة التحديد بين المقدار الذي لم ينجس. وقيل: معناه لا يقبل حكم النجاسة كما في قوله تعالى: "ثم لم يحملوها" أي: لم يقبلوا حكمها. والحديث بمنطوقه يدل على أن الماء إذا بلغ قلتين لم ينجس بملاقاة النجاسة، وكذا ما هو أكثر من ذلك بالأولى. وذلك إذا لم يتغير فإن تغير نجس، فهو مخصص أو مقيد بحديث إلا ما غير ريحه أو لونه أو طعمه. وهو وإن كان ضعيفاً فقد وقع الإجماع على معناه. قال ابن المنذر: قد أجمع العلماء على أن الماء القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسة فغيرت له طعماً أو لوناً أو ريحاً فهو نجس -انتهى. والحديث يدل بمفهومه على أن الماء إن كان أقل من قلتين ينجس بالملاقاة. وهذا المفهوم يخصص حديث "خلق الماء طهورا" عند من قال بالمفهوم. (رواه أحمد وأبوداود) وسكت عنه. (والترمذي) لم يتكلم الترمذي على الحديث، وإنما ذكر أقوال العلماء الذي أخذوا به، وهم الشافعي وأحمد واسحق وهذا يشير إلى صحته عندهم وعنده. (والنسائي والدارمي وابن ماجه) ورد في رواية لابن ماجه: قلتين أو ثلاثاً. قال السندي: أي: أو أزيد من قلتين، ذكره لإفادة أن التحديد بقلتين ليس لمنع الزيادة عليه، بل لمنع النقصان عنه، ومثله كثير في الكلام، وليس هو للشك حتى يلزم الاضطراب في الحديث، كما زعم من لا يقول بالحديث - انتهى. والحديث أخرجه أيضاً الشافعي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني والبيهقي. قال الحافظ في الفتح: رواته ثقات، وصححه جماعة من أهل العلم - انتهى. وقال ابن مندة: هو صحيح على شرط مسلم. وقال يحيى بن معين: الحديث جيد الإسناد. وقال البيهقي: إسناد صحيح موصول.

وفي أخرى لأبي داود: فإنه لا ينجس. 482- (5) وعن أبي سعيد الخدري، قال: قيل: يارسول الله! أنتوضأ من بئر بضاعة؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين، فقد احتجا جميعاً بجميع رواته، ووافقه الذهبي. وقال ابن السبكي في الطبقات (ج6:ص20) صحح الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد حديث القلتين. وقال الطحاوي خبر القلتين صحيح، وإسناده ثابت، ذكره القاري. وقال الحافظ أبوالفضل العراقي في أماليه: قد صحح هذا الحديث الجم الغفير من أئمة الحفاظ الشافعي وأبوعبيد وأحمد واسحق ويحيى بن معين وابن خزيمة والطحاوي وابن حبان والدارقطني وابن مندة والحاكم والخطابي والبيهقي وابن حزم وآخرون كذا في قوت المغتذي. وقال الشيخ عبد الحي اللكنوي شيخ النيموي وهما من العلماء الحنفية في السعاية (ص377) والذي يظهر بعد إدارة النظر من الجوانب هو أن نفس الحديث صحيح سالم عن المعارضة ومخالفة الإجماع، وعن النسخ والتأويل وغير ذلك، وغاية ما فيه هو إجمال في المعنى القلة وتعينها. قلت: قد تقدم الجواب عن دعوى الإجمال فتذكر. وقال الشيخ رشيد أحمد الكنكوهي: قد أخذ الشافعي في ما اختاره بحديث جيد الإسناد، قابل للاعتماد. قال: وقد أجاب بعض الأحناف عن حديث القلتين بأجوبة لا ترضاها الطبائع السليمة، ثم ذكرها وقال: وأنت تعلم أن كل ذلك تعسف. ثم رد تلك الأجوبة، قال إن في تضعيف سند الحديث انكار البداهة فإن صحة رواية القلتين غير منكرة. والروايات الواردة في السنن شاهد صدق على ذلك. كذا في الكواكب الدري (ج1:ص40-43) قلت: الحديث قد تكلم فيه ابن عبد البر، والقاضي اسماعيل بن اسحق، وابن العربي المالكيون من جهة دعوى الاضطراب في السند والمتن، وقد أجاب عنه الحافظ في التلخيص (ص6،5) وأجاد، فارجع إليه. قال القاري: إن الجرح مقدم على التعديل، فلا يدفعه تصحيح بعض المحدثين، وفيه أنه لا وجه لجرح من تكلم في هذا الحديث، كما أوضحه الحافظ والنووي والخطابي وغيرهم. وأيضاً تقديم الجرح على التعديل مختلف فيه. قال في مسلم الثبوت: إذا تعارض الجرح والتعديل فالتقديم للجرح مطلقاً، وقيل: بل للتعديل عند زيادة المعدلين، ومحل الخلاف إذا أطلقا، أو عين الجارح شيئاً لم ينفه المعدل، أو نفاه لا بيقين، وأما إذا نفاه يقيناً فالمصير إلى الترجيح اتفاقاً - انتهى. فيكون الترجيح ههنا للتعديل لجودة أسانيد الأحاديث من حيث ثقة الرواة وكثرة المعدلين والصححين له كما تقدم. وانظر تفصيل الكلام على الحديث في أبكار المنن (ص12،5) وتحفة الأحوذي (ج1:ص71،70) وعون المعبود (ج1:ص24،23) . وفي جعل القلتين حداً فاصلاً بين القليل والكثير كلام حسن للشاه ولي الله الدهلوي في حجة الله البالغة (ج1:ص147،146) فعليك أن تراجعها. 482- قوله: (بضاعة) بضم الباء وقد كسرها بعضهم، والأول أكثر، وهي دار بني ساعدة بالمدينة، وبئرها معروفة، قاله ياقوت. وقال أبوداود: سمعت قتيبة بن سعيد قال: سألت قيم بئر بضاعة عن عمقها، قال: أكثر ما يكون

وهي بئر يلقى فيها الحيض، ولحوم الكلاب، والنتن، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الماء طهور لا ينجسه)) رواه أحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي. ـــــــــــــــــــــــــــــ فيها الماء إلى العانة. قلت: فإذا نفص؟ قال: دون العورة. قال أبوداود: وقدرت أنا بئر بضاعة بردائي مددته عليها ثم ذرعته، فإذا عرضها ستة أذرع. وسألت الذي فتح باب البستان فأدخلني إليه: هل غير بناءها عما كانت عليه؟ قال: لا. ورأيت فيها ماء متغير اللون انتهى. (يلقى فيها الحيض) بكسر الحاء وفتح الياء، جمع حيضة بكسر الحاء وسكون الياء، وهي الخرقة التي تستعملها المرأة في دم الحيض. (والنتن) بفتح النون وإسكان التاء، وهو الشيء المنتن ويجوز كسر التاء أيضاً. قيل: عادة الناس دائماً في الإسلام والجاهلية تنزيه المياه وصونها عن النجاسات والأقذار، فلا يتوهم أن الصحابة - وهم أطهر الناس وأنزههم - كانوا يفعلون ذلك عمداً مع عزة الماء فيهم، وإنما ذلك من أجل أن هذه البئر كانت في الأرض المنخفضة، وكانت السيول تحمل الأقذار من الطرق وتلقيها فيها. وقيل: كانت الرياح تلقي ذلك. ويجوز أن تكون السيول والرياح تلقيان جميعاً، فعبر عنه القائل بوجه يوهم أن الإلقاء من الناس لقلة تدينهم، وهذا مما لا يجوزه مسلم، فيكف يظن بالذين هم أفضل القرون، وأزكاهم، وأطهرهم. ذكر هذا المعنى الخطابي في المعالم. (ج1:ص37) والطيبي في شرح المشكوة. (إن الماء طهور) أي: طاهر مطهر. قيل: الألف واللام للعهد الخارجي، فتأويله إن الماء الذي تسألون عنه وهو ماء بئر بضاعة، فالجواب مطابقي لا عموم كلي. (لا ينجسه شئ) قال الخطابي: كان ماء بئر بضاعة، لكثرته لا يؤثر فيه وقوع هذه الأشياء، ولا يغيره. فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شأنها ليعلموا حكمها في الطهارة والنجاسة، فكان من جوابه لهم أن الماء طهور لا ينجسه شيء، يريد الكثير منه الذي صفته صفة ماء هذه البئر في غزارته وكثرة جمامه، لأن السؤال إنما وقع عنها بعينها، فخرج الجواب عليها. وهذا لا يخالف حديث القلتين، إذ كان معلوماً أن الماء في بئر بضاعة يبلغ القلتين، فأحد الحديثين يوافق الآخر، ولا يناقضه، والخاص يقضي على العام، ويبينه، لا ينجسه ولا يبطله - انتهى. وإن كان الألف واللام في قوله: "الماء" للنجس فالحديث مخصص أو مقيد بحديث القلتين، وهما مخصصان بحديث: إلا ما غير ريحه أو لونه أو طعمه، وهو وإن كان ضعيفاً فقد وقع الإجماع على معناه كما تقدم. وقال الشاه ولي الله في حجة الله (ج1:ص147) قوله - صلى الله عليه وسلم -: الماء طهور لا ينجسه شيء، معناه المعادن لا تتنجس بملاقاة النجاسة إذا أخرجت ورميت، ولم يتغير أحد أوصافه، ولم تفحش، وهل يمكن أن يظن ببئر بضاعة أنها كانت تستقر فيها النجاسات. كيف وقد جرت عادة بني آدم بالاجتناب عما هذا شأنه فكيف يستقى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ بل كانت تقع فيها النجاسات من غير أن يقصد إلقاءها، كما تشاهد من آبار زماننا، ثم تخرج تلك النجاسات، فلما جاء الإسلام سألوه عن الطهارة الشرعية الزائدة على ما عندهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الماء طهور لا ينجسه شيء يعني لا ينجس نجاسة غير ما عندكم. (رواه أحمد والترمذي) وحسنه. (وأبوداود) وسكت عنه. (والنسائي) وأخرجه أيضاً الشافعي، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي، والطحاوي، وصححه أحمد، ويحيى بن معين، وأبومحمد بن

483- (6) وعن أبي هريرة، قال: ((سأل رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هو الطهور ماؤه ـــــــــــــــــــــــــــــ حزم، والحاكم، وأعله ابن القطان بجهالة راوية عن أبي سعيد، واختلاف الرواة في اسمه واسم أبيه. وقد رد عليه شيخ النيموى الشيخ عبد الحي اللكنوي في السعاية (ج1:ص363) بوجوه، وقد أحسن في الرد وأجاد. وقد أطال شيخنا الكلام في الحديث في أبكار المنن (ص13-20) والحافظ في التلخيص (ص4،3) فعليك أن تراجع هذه الكتب. 483- قوله: (سأل رجل) من بني مدلج، كما في مسند أحمد. قيل: اسمه عبد الله، ذكره الدارقطني، وابن بشكوال، كما في شرح ابن رسلان. وقيل: إسمه عبد، بسكون الباء بلا إضافة. وقال البغوي: بلغني أن إسمه عبدود، هكذا حكاه ابن بشكوال. وقال الطبراني: اسمه عبيد العركي بالتصغير، والعركي بفتح المهملة والراء بعدها كاف هو ملاح السفينة. (إنا نركب البحر) أي: مراكبه من السفن، والمراد به هنا المالح، لأنه المتوهم فيه لملوحته ومرارته ونتن ريحه. وزاد الحاكم نزيد الصيد. وفيه جواز ركوب البحر من غير حج ولا عمرة وجهاد ولا يعارضه ما ورد عند أبي داود: لا تركب البحر إلا حاجاً أو معتمراً أو غازياً، لأنه ضعيف. (ونحمل معنا القليل من الماء) أي: الحلو العذب. وفي رواية إنا ننطلق في البحر، نريد الصيد، فيحمل أحدنا معه الأدواة، وهو يرجو أن يأخذ الصيد قريباً، فربما وجده كذلك، وربما لم يجد الصيد حتى يبلغ من البحر مكاناً لم يظن أن يبلغه، فلعله يحتلم أو يتوضأ، فإن اغتسل أو توضأ بهذا الماء، فلعل أحدنا يهلكه العطش، فهل ترى في ماء البحر أن نغتسل به، أو نتوضأ به، إذا خفنا ذلك؟ وكأن السائل لما رأى ماء البحر خالف المياه بملوحة طعمه ونتن ريحه توهم أنه غير مراد من قوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم} أي: بالماء المعلوم إرادته من قوله: {فاغسلوا} أو أنه لما عرف من قوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهوراً} ظن اختصاصه فسأل عنه، فأفاده - صلى الله عليه وسلم - الحكم بقوله: (هو) أي: البحر يعني مكانه. (الطهور) بفتح الطاء أي: الطاهر المطهر. (ماءه) قوله: هو مبتدأ، والطهور مبتدأ ثان، خبره ماءه، والجملة خبر المبتدأ الأول. ويحتمل أن يكون هو مبتدأ، والطهور خبراً، وماءه فاعله، والمعنى: أن ماءه طاهر في ذاته، مطهر لغيره، لا يخرج عن الطهورية بحال إلا ما تقدم من تخصيصه بما إذا تغير أحد أوصافه بوقوع النجاسة، ولم يقل في جوابه نعم، مع حصول الغرض به ليقرن الحكم بعلته وهي الطهورية المتناهية في بابها. وقيل: لو أجابهم بنعم، لصار مقيداً بحال الضرورة لأنه عليه وقع سؤالهم وليس كذلك. وقيل: لو قال: نعم، لم يستفد منه من حيث اللفظ إلا جواز الوضوء الذي وقع السؤال عنه. وإذا قال: الطهور، الخ. أفاد جواز رفع جميع الأحداث وإزالة الأنجاس به لفظاً. وفي الحديث جواز الطهارة بماء البحر، وبه قال جميع العلماء، إلا ما روى عن ابن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص: أنه لا يجزئ التطهر به، وهذا رأيهما إن صح السند إليهما. ولا حجة في أقوال الصحابة لا سيما إذا

والحل ميتته)) . رواه مالك، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي. 484- (7) وعن أبي زيد، عن عبد الله بن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له ليلة الجن: ((ما في إداوتك؟ قال: قلت: نبيذ، ـــــــــــــــــــــــــــــ عارضت المرفوع. وتعريف الطهور باللام الجنسية المفيدة للحصر لا ينفي طهورية غيره من المياه، لوقوع ذلك جواباً لسؤال من شك في طهورية ماء البحر من غير قصد للحصر. وقيل: التعريف ههنا للدلالة على انحصار المسند إليه في المسند. قال الطيبي: تعريف الطرفين للحصر لإفادة أنه يتجاوز إلى النجاسة. (والحل) بكسر الحاء مصدر حل الشيء ضد حرم أي: الحلال. (ميتته) بفتح الميم، والجملة عطف على "الطهور ماءه". والمراد "بميتته" ما مات فيه من دوابه مما لا يعيش إلا فيه لا ما مات فيه مطلقاً، فإنه وإن صدق عليه لغة أنه ميتة بحر، فمعلوم أنه لا يراد إلا ما ذكرنا. وظاهره حل كل ما مات فيه ولو كان كالكلب والخنزير، وفيه اختلاف، وسيأتي بيانه وتحقيق الراجح فيه في محله. قال الرافعي: لما عرف - صلى الله عليه وسلم - اشتباه الأمر على السائل في ماء البحر أشفق أن يشتبه عليه حكم ميتته، وقد يبتلى بها راكب البحر، فعقب الجواب عن سؤاله ببيان حكم الميتته. وقيل: سأله عن ماءه فأجابه عن ماءه، وطعامه، لعلمه بأنه قد يعوزهم الزاد فيه، كما يعوزهم الماء فلما جمعتهم الحاجة انتظم الجواب بهما، وفيه أن المفتي إذا سئل عن شيء، وعلم أن للسائل حاجة إلى ذكر ما يتصل بمسألته استحب تعليمه إياه لأن الزيادة في الجواب بقوله: "الحل ميتته" لتتميم الفائدة، وهي زيادة تنفع لأهل الصيد، وكان السائل منهم، وهذا من محاسن الفتوى. (رواه مالك والترمذي) وقال: حديث حسن صحيح. (وأبوداود) وسكت عنه. (والنسائي، وابن ماجه، والدارمي) وأخرجه أيضاً الشافعي وأحمد وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني وابن الجارود والبيهقي وابن أبي شيبة وصححه ابن المنذر وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وابن مندة والبغوي وابن الأثير في شرح المسند وابن الملقن في البدر المنير والخطابي والطحاوي وآخرون. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج4:ص42) صحح البخاري فيما حكاه عنه الترمذي في العدل المفرد حديثه - انتهى. وانظر متابعاته وشواهده في المستدرك للحاكم، وقد أعلمه بعضهم بما هو مدفوع، إن شئت الوقوف عليه فارجع إلى النيل (ج1:ص16:15) . 484- قوله: (وعن أبي زيد) المخزومي مولى عمرو بن حريث، وقيل: أبوزائد، أو أبوزيد بالشك. قال ابن عبد البر: اتفقوا على أنه مجهول. وقال الترمذي: هو مجهول عند أهل الحديث، يعني أنه مجهول الحال. (ليلة الجن) هي الليلة التي جاءت الجن إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذهبوا به إلى قومهم ليتعلموا منه الدين وأحكام الإسلام. (ما في أدواتك) أي: أي شيء في مطهرتك؟ في النهائية الأدواة بالكسر إناء صغير من جلد. (قال) أي: ابن مسعود. (قلت: نبيذ) بفتح النون وكسر الباء، ماء ألقي فيه تمرات حتى صار حلواً رقيقاً غير مسكر مطبوخاً كان أو غير مطبوخ. قال الجزري: النبيذ ما

قال: تمرة طيبة وماء طهور. رواه أبوداود، وزاد أحمد، والترمذي. فتوضأ منه. وقال الترمذي: أبوزيد مجهول. ـــــــــــــــــــــــــــــ يعمل من الأشربة من التمر والزبيب والعسل والحنطة والشعير، نبذت التمر والعنب إذا تركت عليه الماء ليصير نبيذاً، وانتبذته اتخذته نبيذاً سواء كان مكسراً أم لا. (تمرة طيبة وماء طهور) أي: النبيذ ليس إلا تمرة وهي طيبة، وماء وهو طهور، فلا يضر اختلاطها، وليس فيه ما يمنع التوضئ. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً ابن ماجه والدارقطني والبيهقي والطحاوي. (وزاد أحمد والترمذي فتوضأ منه) فيه دليل على أن التوضؤ بالنبيذ جائز، لكن الحديث ضعيف جداً لا يصلح للاحتجاج، كما ستعرف. واعلم أنه إذا ألقى في الماء تمرات فتغير طعمه وصار حلواً لكن كان رقيقاً يسيل على الأعضاء كالماء غير مطبوخ ولا مسكر جاز الوضوء به عند الحنفية مطلقاً، سواء وجد الماء أو لا، خلافاً للأئمة الثلاثة، وهي مسألة الماء المضاف أي: المقيد المخلوط بالشيء، وهذا أحد أقسام النبيذ الأربعة، ولا خلاف في جواز الوضوء به عند أئمة الحنفية. والثاني: ما ألقى فيه تمرات حتى صار حلواً رقيقاً وطبخ ولم يسكر، ولا يجوز الوضوء به عند الأئمة الثلاثة مطلقاً كالأول، واختلف فيه أئمة الحنفية، قال ابن عابدين: لا يجوز به الوضوء في الصحيح كما في المبسوط، ورجح غيره الجواز. وقال الجصاص: عن أبي حنيفة في ذلك ثلاث روايات، إحداها: يتوضأ به ويشترط فيه النية، ولا يتيمم، وهذه هي المشهورة. وقال قاضي خان: هو قوله الأول، وبه قال زفر. والثانية: يتيمم ولا يتوضأ، رواها عنه نوح بن أبي مريم، وأسد بن عمر والحسن بن زياد، قال قاضي خان: وهو الصحيح عنه، والذي رجع إليها، وبها قال أبويوسف وأكثر العلماء، واختار الطحاوي هذا. والثالثة: روى عنه الجمع بينهما، وهذا قول محمد – انتهى. والثالث: من أنواع النبيذ ما أسكر ولا خلاف في عدم جواز الوضوء به. والرابع: ما ألقي فيه تمرات ولم يتغير أي لم يحل، وهذا مما لا خلاف في جواز الوضوء به. وقد ظهر من هذا التفصيل أن محل الاختلاف بين الأئمة الثلاثة وبين أبي حنيفة إنما هو القسمان الأولان والحق في ذلك قول الجمهور لأن النبيذ ليس بماء، وقال تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً} . واحتج لأبي حنيفة بحديث ابن مسعود هذا، وقد أجاب الجمهور عنه بأنه ضعيف لا يصح الاحتجاج به. قال القاري في المرقاة (ج1:ص344) : قال السيد جمال الدين: أجمع المحدثون على أن هذا الحديث ضعيف. وقال الحافظ في الفتح: هذا الحديث أطبق علماء السلف على تضعيفه – انتهى. وقال النووي: حديث النبيذ ضعيف باتفاق المحدثين. قلت: وضعفه العلماء لوجوه: منها أن في سنده أبازيد وهو مجهول قاله البخاري، وأبوأحمد الحاكم والترمذي وأبوزرعة وابن حبان وأبواسحق الحربي وابن عدى والنووي والبيهقي والحافظ وآخرون. وقال ابن عبد البر: اتفقوا على أن أبا زيد مجهول وأجاب عنه بعض الحنفية بأن جهالة أبي زيد لا تقدح في ثبوت الحديث بعد ورود المتابعات له، فقد تابعه جماعة عن ابن مسعود. قال العيني (ج3:ص180) : روى هذا الحديث أربعة عشر رجلاً عن ابن مسعود كما رواه أبوزيد. الأول أبورافع

عند الطحاوى (ج1:ص57) والحاكم. والثاني: رباح أبوعلي عند الطبراني في الأوسط. الثالث: عبد الله بن عمر عند أبي موسى الأصبهاني في كتاب الصحابة. الرابع: عمرو البكالي عند أبي أحمد في الكنى بسند صحيح. الخامس: أبوعبيدة بن عبد الله بن مسعود. والسادس: أبوالأحوص، وحديثهما عند محمد بن عيسى المدائني. فإن قلت: قال البيهقي: محمد بن عيسى المدائني واهي الحديث، والحديث باطل، قلت: قال البرقاني فيه: ثقة لا بأس به، وقال اللالكائي: صالح ليس يدفع عن السماع. السابع: عبد الله بن مسلمة عند الحافط أبي الحسن بن المظفر في كتاب غرائب شعبة. الثامن: قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عند ابن المظفر أيضاً بسند لابأس به. التاسع: عبد الله بن عمرو بن غيلان الثقفي عند الإسماعيلي في جمعه حديث يحيى بن أبي كثير عن يحيى عنه. العاشر: عبد الله بن عباس عند ابن ماجه والطحاوي. الحادي عشر: أبووائل شقيق بن سلمة عند الدارقطني. الثاني عشر: ابن عبد الله، رواه أبوعبيدة بن عبد الله، عن طلحة بن عبد الله، عن أبيه أن أباه حدثه. الثالث عشر: أبوعثمان بن سنة عند أبي حفص بن شاهين في كتاب الناسخ والمنسوخ من طريق جيدة وخرجها الحاكم في مستدركه. الرابع عشر: أبوعثمان النهدى عند الدورقي في مسنده بطريق لا بأس بها - انتهى كلام العيني. قلت: لم يذكر العيني أسانيد هذه المتابعات حتى يعرف حالها وأنها تصلح للمتابعة أم لا. ولا يكفي تصحيحه لبعض تلك الأحاديث لأنه ليس من أهل هذا الشأن، فلا يعتمد على تصحيحه أبداً. وأنا أذكر الكلام في بعضها حسبما وقفت عليه فأقول: أما حديث أبي رافع عن ابن مسعود فقد رواه أيضاً أحمد (ج1:ص455) ، والدارقطني (ص28) ، وفي سنده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف، قاله الدارقطني وغيره. قال صاحب العرف الشذى لم آخذ حديثه في باب الوضوء بالنبيذ لكونه سيء الحفظ. وأما حديث رباح أبي علي فأخرجه أيضاً البيهقي من طريق موسى بن علي بن رباح عن أبيه، عن ابن مسعود، وفيه أبوعبد الرحمن محمد بن الحسين، وروح بن الصلاح، وهما ضعيفان على أنه ليس فيه ذكر الوضوء بالنبيذ، وأما حديث عبد الله بن عمر وأماحديث عمرو البكالي فلعله هو ما أخرجه أحمد في مسنده (ج1:ص399) في حديث طويل لكن ليس فيه ذكر الوضوء بالنبيذ. وأما حديث أبي عبيده بن عبد الله بن مسعود، وأبي الأحوص فأخرجه أيضاً الدارقطني من حديث محمد بن عيسى بن حيان، عن الحسن بن قتيبة، عن يونس بن أبي اسحق، قال الدارقطني: تفرد به الحسن بن قتيبة عن يونس، والحسن بن قتيبة، ومحمد بن عيسى ضعيفان، وقال الدارقطني: لا يصح. وأما حديث عبد الله بن مسلمة وأما حديث قابوس بن أبي ظيبان فأخرجه أيضاً الطحاوي، وقابوس هذا فيه لين، على أنه ليس في حديثه ذكر الوضوء بالنبيذ. وأما حديث عبد الله بن عمرو بن غيلان فأخرجه أيضاً ابن جرير، وعبد الله بن عمرو هذا لا يعرف بجرح ولا تعديل. وأخرجه الدارقطني (ص29) ، عن معاوية بن سلام، عن أخيه زيد، عن جده أبي سلام عن ابن غيلان الثقفي أنه سمع عبد الله بن مسعود. قال الدارقطني: وابن غيلان هذا مجهول، قيل: اسمه عمرو، وقيل: عبد الله بن عمرو بن غيلان، ورواه أبونعيم في دلائل النبوة مطولاً من طريق الطبراني بسنده إلى معاوية بن سلام، عن زيد بن سلام، عن أبي سلام عن من حدثه عمرو بن غيلان الثقفي. قال ابن كثير: هذا إسناد غريب جداً، ولكن فيه رجل مبهم

لم يسلم. قلت: ومع ذلك ليس في رواية أبي نعيم هذه ذكر الوضوء بالنبيذ. وأما حديث عبد الله بن عباس فأخرجه أيضاً أحمد (ج1:ص398) والدارقطني (ص28) والطبراني في معجمه والبزار في مسنده، وفيه ابن لهيعة، وقد تفرد به، وهو ضعيف الحديث. وأما حديث أبي وائل ففيه الحسين بن عبيد الله العجلي، قال الدارقطني: يضع الحديث على الثقات - انتهى. ولم يذكر العيني كلام الدارقطني هذا، فإن كان لا يدري فتلك مصيبة ... ... وإن كان يدري فالمصيبة أعظم وأما حديث ابن عبد الله، فلم يذكر العيني من خرجه، فلا يدري في أي كتاب هو وكيف هو. وأما حديث أبي عثمان بن سنة الخزاعي، فأخرجه أيضاً ابن جرير، وليس فيه ذكر الوضوء بالنبيذ. وأما حديث أبي عثمان النهدي فلعله هو ما رواه البيهقي عنه أن ابن مسعود أبصر زطافي بعض الطريق، الحديث، أو ما رواه الترمذي في أبواب الأمثال من جامعه. وليس فيهما ذكر الوضوء بالنبيذ. ومن وجوه تضعيف حديث ابن مسعود في الوضوء بالنبيذ أن أبا زيد هذا كان نباذاً، قال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج1:ص102) قال أبوداود: كان أبوزيد نباذاً بالكوفة. ومنها أن أبا زيد لا يعرف سماعه من ابن مسعود قال البخاري: أبوزيد مجهول لا يعرف بصحبة عبد الله، وقال ابن المديني: أخاف أن لا يكون أبوزيد سمعه من عبد الله. وقال أبوحاتم: لم يلق أبوزيد عبد الله. ومنها أن الراوي عن أبي زيد أبا فزارة راشد بن كيسان العبسي قال ابن حبان فيه: أنه مستقيم الحديث إذا كان فوقه ودونه ثقة، فأما مثل أبي زيد مولى عمرو بن حريث الذي لا يعرفه أهل العلم فلا. كذا في تهذيب التهذيب (ج3ص227) . ومنها أنه معارض بما هو أقوى منه، وهو ما روى مسلم عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود أنه قال: لم أكن ليلة الجن مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهذا نص على أن ابن مسعود لم يشهد ليلة الجن، فلم يكن ما روى عنه في الوضوء بالنبيذ في هذه الليلة ثابتاً. قال الطحاوي: إن حديث ابن مسعود روي من طريق لا تقوم بمثلها حجة. وقد قال عبد الله بن مسعود: إني لم أكن ليلة الجن مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وددت أني كنت معه. وسئل أبوعبيدة هل كان أبوك ليلة الجن مع النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال لا. مع أن فيه انقطاعاً، لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه، ولم نعتبر فيه اتصالاً ولا انقطاعاً، ولكنا احتججنا بكلام أبي عبيدة لأن مثله في تقدمه في العلم ومكانه من أمره لا يخفى عليه مثل هذا، فجعلنا قوله حجة فيه. ذكره الزيلعي في نصب الراية (ج1: ص146) قال بعض الحنفية: إن ليلة الجن كانت غير مرة، فإنكار المعية في مرة من تلك المرات لا يستلزم إنكار معيته في التارة الأخرى. وذكر بعضهم أنه وقع ذهاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الجن في مكة ثلاث مرات، لم يحضر ابن مسعود أول مرة منها، وهي التي نفى ابن مسعود حضوره فيها في رواية مسلم، وحضرها في المرتين الأخريين، مرة بالحجون جبل بمكة، ومرة بأعلى مكة قد غاب عليه السلام في الجبال فيها، ووقع في المدينة أيضاً ثلاث مرات، منها واقعة بقيع الغرقد، قد حضرها ابن مسعود، كما رواه أبونعيم في دلائل النبوة. قلت: المشهور عند الصحابة والتابعين من ليلة الجن هي ليلة واحدة فقط ولم يحضرها ابن مسعود وأما بقية المرات التي يقال إنه حضرها هو فلم تثبت. وجمع بعضهم بأن ابن مسعود لم يكن عند المخاطبة وتعليم الأحكام، وإنما كان بعيداً منه. قلت: إنما يحتاج إلى الجمع إذا تساوت طرق الحديث في القوة, وتعارضت. وأما إذا كان أحدها

ضعيفاً والآخر قوياً فلا، لعدم التعارض حينئذٍ، بل يقدم القوي على الضعيف، لأن القوي لا يؤثر فيه مخالفة الضعيف، وأيضاً قد نفى ابن مسعود شهوده ليلة الجن مطلقاً، ولم يقيده بحال دون حال، فتخصيص إنكاره بوقت دون وقت من غير قرينة مما لا يصغي إليه. وقال بعضهم إن حديث النفي قد أسقط الرواة منه حرفاً. قال ابن قتيبة في مختلف الحديث (ص119) بعد ما ذكر حديثاً أسقط الرواة منه حرفاً فاختل بسببه المعنى: وهذا مثل قول ابن مسعود في ليلة الجن: ما شهدها أحد غيري، فأسقط الراوي"غيري" قلت: هذه مجرد دعوى من غير بينه ولا برهان، فلا يلتفت عليها، فإن نسبة الغلط والإسقاط إلى الثقات العدول من غير دليل مما يرفع الأمان من السنن النبوية، وأما الاستشهاد على ذلك بما رواه الحاكم في المستدرك (ج2:ص503) عن ابن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه وهو بمكة:" من أحب منكم أن يحضر الليلة أمر الجن فليفعل، فلم يحضر منهم أحد غيري"، الحديث. ففيه أن في سنده أبا عثمان بن سنة الشامي، وهو مجهول، قال أبوزرعة: لا أعرفه. وقال الذهبي في الميزان: ما أعرف روى عنه غير الزهري- انتهى. ولذا لم يصححه الحاكم. وقال الذهبي في تلخيصه: هو صحيح عند جماعة- انتهى. ولم يذكر الذهبي أسماء الجماعة حتى يعرف مرتبتهم في تصحيح الحديث وتضعيفه، ولو سلم صحته فهو مخالف ومناقض لما هو أقوى منه أن ابن مسعود قال: لم أكن ليلة الجن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، على أنه ليس في رواية الحاكم هذه ذكر الوضوء بالنبيذ. وقال بعضهم: إن المثبت مقدم على النافي. قلت: هذا إذا كانت رواية الإثبات مساوية لرواية النفي في القوة والصحة، وأما إذا كانت رواية الإثبات ضعيفة، فالترجيح لرواية النفي لقوتها وصحتها. وقد علمت أن رواية إنكار ابن مسعود لشهوده ليلة الجن صحيحة لا تقاومها رواية الإثبات. ومن وجوه الطعن في حديث ابن مسعود هذا أنه مخالف لكتاب الله، لأن الله تعالى قال: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيباً} ، والنبيذ ليس بماء. قال الزيلعي في نصب الراية (ج1:ص146) أنه عليه السلام قال: هل معك ماء؟ قال: لا. فدل على أن الماء استحال في التمر حتى سلب عنه اسم الماء وإلا لما صح نفيه عنه- انتهى. أو يقال: إن ماء النبيذ لا يسمى ماء مطلقاً، فواجده ليس واجد ماء، فيجب عليه التيمم بنص الكتاب، وعلى تقدير صحة الحديث كان ينبغي لأولئك أن يؤولوا هذا الحديث ليوافق الآية، على أن تلك التمرات الملقاة في الماء لم تغيره، وتسمية ابن مسعود له نبيذاً من المجاز الأول، أو المراد به الوضع اللغوي وهو ما ينبذ فيه شيء وإن لم يغيره وأجاب أيضاً الجمهور عن حديث ابن مسعود هذا بأنه لو كان صحيحاً وهو غير صحيح، فهو من أحاديث الآحاد، فلا يعارض الكتاب ولو صلح معارضاً لكان منسوخاً بآيتي النساء والمائدة، لأنهما مدنيتان بلا خلاف. وحديث ابن مسعود هذا إنما زعم رواته أنه كان ليلة الجن في مكة وهي قبل الهجرة. قال السندهي: قد اعترف المحققون كالنووي، والتوربشتي، والمحقق ابن الهمام بقوة هذا الكلام، وقال المحقق: إنه الذي مال إليه المتأخرون-انتهى. وقال صاحب البذل (ج1:ص55) بعد ذكر رواية التيمم عن أبي يوسف: وهي الرواية المرجوع إليها عن أبي حنيفة وقوله الأخير، وعليه الفتوى، واختاره الطحاوي، وهو المذهب المصحح المختار عندنا، لأن الحديث وإن صح آية التيمم ناسخة له إذ هي مدنية- انتهى. وقال الطحاوي في شرح الآثار (ج1:ص58) قد أجمع الناس على أنه لا يجوز الوضوء به أي:

485- (8) وصح عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود، قال: ((لم أكن ليلة الجن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) . رواه مسلم. 486- (9) وعن كبشة بنت كعب بن مالك - وكانت تحت ابن أبي قتادة - أن أباه قتادة دخل عليها، فسكبت له وضوءاً، فجاءت هرة تشرب منه، فأصغى لها الإناء حتى شربت، قالت كبشة: فرآني أنظر إليه، فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ بالنبيذ مع وجود الماء، فكذلك هو عند فقد الماء. والمروى في حديث ابن مسعود أنه توضأ به إنما هو، وهو عليه السلام غير مسافر، لأنه خرج من مكة يريدهم، فهو في حكم استعماله له بمكة، فلو ثبت ذلك جاز الوضوء به في حال وجود الماء فلما أجمعوا على خلاف ذلك ثبت طرحهم لهذا الحديث، وهو النظر عندنا- انتهي ملخصاً. 485- قوله: (عن علقمة) هو علقمة بن قيس بن عبد الله النخعي الكوفي، ثقة، ثبت، فقيه، عابد، من كبار التابعين، كان أعلم الناس وأشبههم هدياً ودلاً وسمتاً بابن مسعود، مات بعد الستين، وقيل: بعد السبعين. (لم أكن ليلة الجن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) لا عند المخاطبة وتعليم الأحكام إياهم، ولا قبل ذلك، ولا بعد. قال ابن مسعود: ووددت أني كنت معه. وفيه رد على ابن قتيبة وغيره ممن تأويل الحديث بأنه لم يكن منا أحد أي: غيري. (رواه مسلم) من طريق أبي معشر عن إبراهيم عن علقمة في باب الجهر بالقراءة في الصبح، والقراءة على الجن من كتاب الصلاة. وأخرجه أحمد ومسلم فيه والترمذي في تفسير سورة الأحقاف من طريق داود عن الشعبي، عن علقمة مطولاً، وأبوداود في الطهارة مختصراً. 486- قوله: (وعن كبشة) بفتح الكاف وسكون الموحدة بعدها شين معجمة. (بنت كعب بن مالك) الأنصارية زوجة عبد الله بن أبي قتادة، قال ابن حبان: لها صحبة. وتبعه الزبير بن بكار، وأبوموسى، والمستغفري، وقال الخزرجي في الخلاصة، والحافظ في اللسان (ج6:ص860) : وثقها ابن حبان وصحح الترمذي حديثها. (وكانت تحت ابن أبي قتادة) أي: كانت زوجة ولده عبد الله، وهو عبد الله بن أبي قتادة السلمي الأنصاري المدني ثقة من أوساط التابعين، توفي سنة (95) ، روى عن أبيه وجابر، وعنه جماعة. (أن أباقتادة) تقدم ترجمته. (دخل عليها) أي: على كبشة. (فسكبت) بصيغة المتكلم، ففي رواية الترمذي: قالت: فسكبت له، ويحتمل أن يكون بسكون التاء على التأنيث. (له) أي: لأبي قتادة. (وضوء) بفتح الواو أي: ماء الوضوء في إناء. (تشرب منه) أي: تريد الشرب من الماء الذي كان في الإناء، والجملة حال أو صفة. (فأصغى لها الإناء) أي: أماله للهرة ليسهل عليها الشرب. (فرآني أنظر إليه) أي: فرآني أبوقتادة والحال أني أنظر إلى شرب الهرة الماء من الإناء نظر المنكر المتعجب، أو أنظر إلى فعل أبي قتادة متعجبة، فقال أبوقتادة: (أتعجبين؟) أي: بشربها من وضوئي، أو بإصغائي لها الإناء. (يا ابنة أخي) المراد أخوة الإسلام. ومن عادة العرب

قالت: فقلت: نعم. فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم أو الطوافات)) . رواه مالك، وأحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجة، والدارمي. ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يدعوا بيا ابن أخي، ويا ابن عمي، وإن لم يكن أخاً أو عماً له في الحقيقة. (فقلت: نعم) أتعجب منه. (فقال) أي: لا تعجبي (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنها ليست بنجس) بفتح الجيم، قاله المنذري، والنووي وابن دقيق العيد، وابن سيد الناس. وقال السندي: بفتحتين مصدر نجس الشيء بالكسر، فلذلك لم يؤنث كما لم يجمع في "إنما المشركون نجس" والصفة منه نجس بكسر الجيم وفتحها. ولو جعل المذكور في الحديث صفة يحتاج التذكير إلى التأويل، أي: ليست ينجس ما تلغ فيه - انتهى. وذكر الكازروني: أن بعض الأئمة قال: هو بفتح الجيم. والنجس النجاسة، فالتقدير: إنها ليست بذات نجس. وفيما سمعنا وقرأنا على مشائخنا هو بكسر الجيم، وهو القياس، أي: ليست بنجسة، ولم يلحق التاء نظراً إلى أنها بمعنى السنور. (إنها) استيناف فيه معنى التعليل. (من الطوافين عليكم أو الطوافات) قيل: هو شك من الراوي، وقيل: ليست للشك لوروده بالواو في رواية أبي داود وغيره، بل للتنويع، ويكون ذكر الصنفين من الذكور والإناث يريد أن هذا الحيوان لا يخلو أن يكون من جملة الذكور الطوافين أو الإناث الطوافات. ومحصل الكلام أنه شبه ذكور الهر بالطوافين وإناثها بالطوافات، والجمع بالواو والنون في الذكور تشبيهاً له بالعبيد والخدم العقلاء الذي يدخلون على الإنسان ويطوفون حوله للخدمة، كقوله تعالى: {طوافون عليكم} [58:24] وهذا إشارة إلى علة الحكم بطهارتها، وهي أنها كثيرة الدخول والاتصال بأهل المنزل وبما في منزلهم، ففي الحكم بنجاستها حرج، وهو مدفوع. والحديث دليل على أن ذات الهرة طاهرة، وأن سؤرها غير نجس، وأن الوضوء منه وكذا الشرب غير مكروه، وحديث عائشة الآتي نص في ذلك. وفيه رد على من قال: إن سؤر الهرة مكروه بكراهة تحريمية أو تنزيهية. وارجع للتفصيل إلى شرح الترمذي لشيخنا الأجل المباركفوري. (رواه مالك) عن اسحق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن حميدة بنت عبيد بن رفاعة، عن كبشة. قال البخاري: جود مالك بن أنس هذا الحديث، وروايته أصح من رواية غيره. وقال الحاكم: قد صحح مالك هذا الحديث، واحتج به في موطئه، وقد شهد البخاري ومسلم لمالك أنه الحكم في حديث المدنيين، فوجب الرجوع إلى هذا الحديث في طهارة الهرة. (وأحمد والترمذي) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وهذا أحسن شيء في هذا الباب. وقد جود مالك هذا الحديث عن اسحق بن عبد الله، ولم يأت به أحد أتم من مالك. (وأبوداود) وسكت عنه، ونقل المنذري تصحيح الترمذي وكلام البخاري، وأقرهما. (والنسائي وابن ماجه والدارمي) وأخرجه أيضاً الشافعي، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والدارقطني، والبيهقي. قال الحافظ: وصححه البخاري، والعقيلي، والدارقطني، وابن خزيمة.

487- (10) وعن داود بن صالح بن دينار، عن أمه، أن مولاتها أرسلتها بهريسة إلى عائشة. قالت: فوجدتها تصلي، فأشارت إلى أن ضعيها. فجاءت هرة فأكلت منها. فلما انصرفت عائشة من صلاتها، أكلت من حيث أكلت الهرة. فقالت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم. وإني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بفضلها)) . رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ 487- قوله: (وعن داود بن صالح بن دينار) التمار المدني مولى الأنصار، قال أحمد: لا أعلم به بأساً. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الحافظ: صدوق من صغار التابعين، روى عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، والقاسم، وسالم، وأبي سلمة، وأبيه صالح، وأمه وغيرهم. (عن أمه) أي: والدة داود بن صالح، وهي مجهولة لم يذكرها إلا الذهبي في الميزان، فقال في آخر كتابه في من لم تسم من النساء: والدة داود بن صالح التمار عن عائشة، وعنها ابنها، ولم يزد على ذلك، وهذا ظاهر في أنها لا تعرف. (أن مولاتها) أي: مولاة أمه أي: معتقة أم داود بصيغة المعلوم ولم تسم أيضاً. (أرسلتها) أي: أم داود (بهريسة) فعلية بمعنى مفعولة، هرسها من باب قتل أي: دقها، وفي النوادر الهريس الحب المدقوق بالمهراس قبل أن يطبخ فإذا طبخ فهو الهريسة بالهاء، وفي بعض كتب اللغة الهريس والهريسة طعام يعمل من الحب المدقوق واللحم. (قالت) أي: أمه. (فوجدتها) أي: عائشة. (فأشارت) أي: عائشة باليد أو بالرأس. (أن ضعيها) أي: الهريسة وأن مفسرة لمعنى القول في الإشارة. وفيه إن مثل هذه الأشياء جائزة في الصلاة، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة الإشارة في الصلاة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وسيأتي الكلام في هذه المسألة في موضعها إن شاءالله تعالى. (فأكلت منها) أي: بعضها (أكلت من حيث أكلت الهرة) أي: من محل أكلها. (إنها من الطوافين عليكم) قال القاري: ظاهره أن أو فيما تقدم للشك، ويمكن أن يكون هنا اقتصاراً، أو يحمل على التغليب. (وإني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بفضلها) أي: بسؤر الهرة وفيه رد صريح على الطحاوي حيث قال في الجواب عن حديث أبي قتادة المتقدم: أنه محمول على مماسة الثياب وغيرها، فإن المرفوع منه قوله عليه السلام: ليست بنجس، لا يثبت طهارة سؤرها، والاصغاء فعل أبي قتادة، مستدلاً بهذا المرفوع، لأن حديث عائشة هذا نص في أن التوضوء بسؤرها من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، على أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: ليست بنجس، ظاهر في طهارة ذاتها وطهارة سؤرها المتولد من لحمها الطاهر، وهو الذي فهمه أبوقتادة وعائشة، مع أنه لا دليل فيه على حمله على مماسة الثياب، فجواب الطحاوي مردود عليه لبطلانه. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري، وأخرجه أيضاً الدارقطني، والبيهقي كلهم من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن داود. قال الدارقطني رفعه الدراوردي عن داود بن صالح، ورواه عنه هشام بن عروة موقوفاً على عائشة – انتهى. قلت: عبد العزيز الدراوردي صدوق، وثقه مالك والنسائي وابن معين وابن سعد، وغيرهم. نعم في سنده أم داود، وهي مجهولة. وفي الباب أحاديث أخرى

488- (11) وعن جابر، قال: ((سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنتوضأ بما أفضلت الحمر؟ قال: نعم وبما أفضلت السباع كلها)) . رواه في شرح السنة. 489- (12) وعن أم هانئ، قالت: ((اغتسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو وميمونة في قصعة فيها اثر العجين)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن عائشة، وأنس، ذكرها الزيلعي في نصب الراية، والهيثمي في مجمع الزوائد، وهي تؤيد حديث الدراوردي، عن داود، عن أمه، عن عائشة. 488- قوله: (بما أفضلت الحمر) أي: الأهلية، بضمتين جمع حمار، أي: أبقته من فضالة الماء الذي تشربه. (وبما أفضلت السباع كلها) فيه دليل على طهارة سؤر الحمر والسباع خلافاً لمن قال: إن سؤر السباع كلها نجس، وسؤر الحمار مشكوك، قالوا: الحديث محمول على الحياض والغدران، أي: الماء الكثير وإلا لزم طهارة سؤر الكلاب أيضاً، لأن التأكيد بكل يجعل العام محكماً في العموم، فلا يقبل التخصيص. وقال من ذهب إلى طهارة سؤر السباع: إن الكلب والخنزير مخصوصان من عموم الحديث بالأدلة الأخرى القاضية بنجاستها. والحديث عام للأواني الصغيرة والحياض في الفلوات، فتخصيصه بالحياض تخصيص من غير دليل. وحديث القلتين لا يدل على نجاسة سؤر السباع كما ظن هؤلاء، فإن منشأ السؤال أن المعتاد من السباع إذا وردت المياه أن تخوض فيها وتبول، وربما لا تخلوا أعضائها من لوث أبوالها ورجعيها. وأيضا جوابه - صلى الله عليه وسلم - في حديث القلتين عموم كلي لا مطابقي فتأمل. (رواه في شرح السنة) وأخرجه أيضاً الشافعي (ص3) والدارقطني (ص23) والبيهقي في المعرفة، وفي السنن (ج1:ص249) وقال: له أسانيد إذا ضم بعضها إلى بعض كانت قوية قاله الشوكاني. قلت: الحديث رواه الدارقطني من طريقين، في أحدهما إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، وهو متروك، وفي الثاني إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة هو ضعيف، وقد ضعف الدارقطني هذا الحديث بسببهما. 489- قوله: (وعن أم هانئ) بالهمزة هي بنت أبي طالب الهاشمية، اسمها فاختة، وقيل: هند. وهي شقيقة علي وإخوته، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبها في الجاهلية، وخطبها هبيرة بن أبي وهب، فزوجها أبوطالب من هبيرة، وأسلمت يوم الفتح، ففرق الإسلام بينها وبين هبيرة. وخطبها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: والله إن كنت لأحبك في الجاهلية، فكيف في الإسلام، ولكني امرأة مصبية، فسكت عنها. لها ستة وأربعون حديثا، اتفقا على حديث، روى عنها جماعة. (اغتسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو وميمونة) بالرفع، وقيل: بالنصب. (في قصعة) أي: من قصعة، وهي بفتح الكاف وسكون الصاد ظرف كبير. (فيها أثر العجين) هو الدقيق المعجون بالماء، من عجن الدقيق. (من بابي ضرب ونصر) اعتمد عليه بجمع كفه يغمزه، والظاهر أن أثر العجين في تلك القصعة لم يكن كثيراً مغيراً للماء، وهذا يدل على أن الطاهر القليل لا

{الفصل الثالث}

رواه النسائي وابن ماجه. {الفصل الثالث} 490- (13) عن يحيى بن عبد الرحمن، قال: ((إن عمر خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص حتى وردوا حوضاً. فقال عمرو: يا صاحب الحوض! هل ترد حوضك السباع؟ فقال عمر بن الخطاب: يا صاحب الحوض! لا تخبرنا، فإنا نرد على السباع وترد علينا)) . رواه مالك. ـــــــــــــــــــــــــــــ يخرج الماء عن الطهورية، ولا حجة فيه لمن ذهب إلى جواز التطهر بالماء المضاف كما لايخفي. (رواه النسائي وابن ماجه) وسنده حسن، أو صحيح، وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه. 490- قوله: (عن يحيى بن عبد الرحمن) بن حاطب بن أبي بلتعة اللخمي يكنى أبا محمد، ويقال: أبابكر المدني ثقة من أوساط التابعين، ولد في خلافة عثمان، ومات سنة (104) قال ابن سعد: كان ممن أدرك علياً وعثمان، وزيد ابن ثابت، وكان ثقة كثير الحديث، روى عن جماعة من الصحابة منهم أسامة بن زيد وحسان بن ثابت وابن عمر وابن الزبير، وأبوسعيد وعائشة، وروى عنه جماعة من التابعين. وأبوه عبد الرحمن بن حاطب صاحبي رؤية، تابعي رواية، عداده في كبار ثقات التابعين، وجده حاطب بن أبي بلتعة صحابي مشهور، بدري حليف لقريش. (خرج في ركب) جمع راكب أي: في جماعة من الراكبين. (حتى وردوا) أي: الركب وخص عمراً بالذكر لما وقع منه السؤال عن ماء الحوض. (حوضاً) أي: وحضرت الصلاة. (لاتخبرنا) قال الطيبي: يعني أن إخبارك بوردها وعدمه سواء، فإن أخبرتنا بسوء الحال فهو عندنا جائز وسائغ. قال ابن حجر: لأنا لا نمتنع مما ترده لعسر تجنبه المقتضي لبقاءه على طهارته. (فإنا نرد على السباع وترد علينا) أي: لأنا نخالط السباع وهي ورادة علينا. قال ابن حجر: لأننا نرد على ما فضل عنها، وهي ترد على ما فضل عنا. والحاصل أن غرض عمر من قوله: لا تخبرنا، أن كل ذلك عندنا سواء أخبرتنا أو لم تخبرنا، فلا حاجة إلى إخبارك. وفي الحديث دليل على طهارة سؤر السباع. والزيادة الآتية صريحة في ذلك، وحمل ماء الحوض على أنه كان كثيراً يحتاج لدليل، بل فيه قرينة على أن الحوض كان صغيراً لأنه لو كان كبيراً لما سأل. (رواه مالك) عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم الحارث، عن يحيى بن عبد الرحمن. قال البيهقي: هذا الأثر إسناده صحيح إلى يحيى لكنه مرسل منقطع، فإن يحيى وإن كان ثقة فلم يدرك عمر، بل ولد في خلافة عثمان، هو الصواب – انتهى. وأما ما وقع في بعض الروايات أنه اعتمر مع عمر رضي الله عنه، فالظاهر أنه وقع فيه سقوط، والأصل عن يحيى بن عبد الرحمن عن أبيه أنه اعتمر مع عمر. قال في تهذيب التهذيب (ج11:ص250) في ترجمة يحيى: قال الدوري عن ابن معين: بعضهم يقول عنه: سمعت عمر وإنما هو عن أبيه سمع

وزاد رزين، قال: زاد بعض الرواة في قول عمر: ((وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لها ما أخذت في بطونها، وما بقي فهو لنا طهور وشراب)) . 491- (14) وعن أبي سعيد الخدري: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة تردها السباع والكلاب والحمر عن الطهر منها. فقال: لها ما حملت في بطونها، ولنا ما غبر طهور)) . رواه ابن ماجه. 492- (15) وعن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال: ((لا تغتسلوا بالماء المشمس، فإنه يورث البرص)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ عمر (وزاد رزين قال: زاد بعض الرواة) الخ. هذه الزيادة سيأتي معناها عن أبي سعيد عند ابن ماجه. (لها) أي: للسباع. (ما أخذت) أي: مما شربته في بطونها. (وما بقي فهو لنا طهور وشراب) يعني: أن الله تعالى قسم لها في هذا الماء، ما أخذت في بطونها فما شربته حقها الذي قسم لها وما فضلت فهو حقنا. 491- قوله: (بين مكة والمدينة) في الفلوات والبرارى. (عن الطهر منها) أي: التطهر بدل من الحياض بإعادة العامل قاله القاري، وفي نسخ ابن ماجه الموجودة عندنا: وعن الطهارة منها، أي: بذكر الواو، وبلفظ الطهارة بدل الطهر. (ولنا ما غبر) بفتح الباء أي: بقي. (طهور) بفتح الطاء، وهوخبر مبتدأ محذوف. قال ابن حجر: الحديث صريح في طهارة سؤر السباع. وفيه أن فيه ذكر الكلاب أيضاً، وهي منجسة. قال القاري: والجواب بأن نجاسة الكلب علم من حديث آخر، مدفوع بعدم علم التاريخ. قلت: حديث أبي سعيد هذا ضعيف جداً لا يصلح للاستدلال على طهارة سؤر البهائم عندي كما ستعرف. (رواه ابن ماجه) من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد وعبد الرحمن هذا ضعيف جداً. قال ابن الجوزي: أجمعوا على ضعفه. وقال محمد بن نصر المروزي: أصحاب الحديث لا يحتجون بحديثه. وقال الطحاوي: حديثه عند أهل العلم بالحديث في النهاية من الضعف. وقال ابن خزيمة ليس هو ممن يحتج أهل العلم بحديثه لسوء حفظه. 492- قوله: (لا تغستلوا بالماء المشمس) أي: الذي سخن بحرارة الشمس. فيه دليل على كراهية الاغتسال بالماء المشمس. والأصح من مذهب الشافعي كراهة استعمال الماء المشمس في البدن مطلقاً قليلاً كان أوكثيراً. والمختار عند متأخري أصحابه عدم كراهته، وهو مذهب الأئمة الثلاثة، وهو الراجح، لأنه لم يصح فيه شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. والأصل الإباحة حتى يصح عن الشارع ما يدل على المنع والكراهة. وأثر عمر هذا وإن صح ليس في حكم المرفوع لمجال الاجتهاد فيه، يدل عليه التعليل بقوله: (فإنه) أي: الاغتسال بالماء المشمس. (يورث البرص) ولو سلم فالمراد منه الاعتياد

(8) باب تطهير النجاسات

رواه الدارقطني. (8) باب تطهير النجاسات {الفصل الأول} 493- (1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا شرب الكلب في إناء أحدكم، فليغسله سبع مرات)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ والمداومة على ذلك. والبرص محركة بياض يظهر في ظاهر البدن لفساد مزاجه، كذا في القاموس. وأما الماء المسخن بالنار فغير مكروه بالاتفاق. روى ذلك عن عمر، وابنه عبد الله، وابن عباس، وسلمة بن الأكوع. (رواه الدارقطني) من حديث اسماعيل بن عياش، عن صفوان بن عمرو الحمصي الشامي، عن حسان بن أزهر، عن عمر، ورواية إسماعيل بن عياش عن الشاميين صحيحه، وقد تابعه المغيرة بن عبد القدوس، فرواه عن صفوان به. رواه ابن حبان في كتاب الثقات في ترجمة حسان بن أزهر، قاله الزيلعي في نصب الراية (ج1:ص103) ولقول عمر هذا طريق آخر أخرجه الشافعي عن إبراهيم بن أبي يحيى، عن صدقة بن عبد الله، عن أبي الزبير عن جابر عن عمر. ومن طريق الشافعي أخرجه البيهقي. قال الحافظ في التلخيص (ص7) : صدقة ضعيف، وأكثر أهل الحديث على تضعيف ابن أبي يحيى، لكن الشافعي كان يقول: إنه صدوق وإن كان مبتدعاً. وورد المنع عن الماء المشمس مرفوعاً من حديث عائشة، ومن حديث أنس ومن حديث ابن عباس، بسط طرقها الزيلغي في نصب الرابة (ج1:ص102) والحافظ في التلخيص (ص7،6) والسيوطي في اللآلي المصنوعة (ج2:ص3-4) ، مع بيان وجوه ضعفها، وسقوطها. قال العقيلي: لا يصح في الماء المشمس حديث مسند، إنما هو شيء يروى من قول عمر يعني الذي رواه الشافعي والدارقطني والبيهقي. (باب تطهير النجاسات) أي: الحقيقية بالماء وغيره، أتى بالجمع إشارة إلى أنواع النجاسة المختلفة في الأحكام. 493- قوله: (إذا شرب الكلب في إناء أحدكم) أي: من إناء أحدكم، أو ضمن"شرب" معنى ولغ، فعدى تعديته، والإضافة ملغاة هنا، وليست للتمليك والتخصيص، لأن حكم الطهارة والنجاسة لا يتوقف على ملكه الإناء وكذا قوله الآتي: فليغسله، لا يتوقف على أن يكون مالك الإناء هو الغاسل. (فليغسله) زاد مسلم والنسائي في رواية لهما: فليرقه، لكن تكلم النسائي، وابن مندة، وابن عبد البر وغيرهم في هذه الزيادة. (سبع مرات) فيه دليل على وجوب سبع غسلات للإناء من شرب الكلب وولوغه، خلافاً لمن ذهب إلى التثليث ولم يفرق بين لعاب الكلب وغيره من النجاسات وهم الحنفية. وقد بين بعض أطباء العصر وجه غسل الإناء سبعاً من ولوغ الكلب طباً، وهو أن في أمعاء أكثر الكلاب دودة شريطية صغيرة جداً طولها (4) ميليمترات، فإذا راث الكلب خرجت البويضات بكثرة في الروث، فليصق كثير منها بالشعر الذي

متفق عليه. وفي رواية مسلم قال: ((طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات، أولاهن بالتراب)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالقرب من دبره، فإذا أراد الكلب أن ينظف نفسه بلسانه كما هي عادته تلوث لسانه وفمه بها، وانتشرت في بقية شعره بواسطة لسانه أو غيره، فإذا ولغ الكلب في إناء، أو شرب ماء، أو قبله إنسان كما يفعل الأفرنج أو بعض من قلد الأفرنج في العادات القبيحة، علقت بعض هذه البويضات بتلك الأشياء، وسهل وصولها إلى فمه أثناء أكله أو شربه فتصل إلى معدته وتخرج منها الأجنة، فشقت جدار المعدة، وتصل إلى أوعية الدم، فتحدث أمراضاً كثيرة في المخ، والقلب، والرئة، إلى غير ذلك. وكل ذلك مشاهد لأطباء أوروبا في بلادهم. ولما كان تمييز الكلب المصاب بهذه الدودة عسيراً جداً لأنه يحتاج إلى زمن وبحث دقيق بالآلة التي لا يعرف استعمالها إلا قليل من الناس كان اعتبار الشارع إياه نجساً، وغسله سبع مرات إنقاء للإناء بحيث لا يعلق فيها شيء ما ذكرنا هو عين الحكمة والصواب، والله أعلم. كذا في حاشية إحكام الأحكام (ج1:ص27) شرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً مالك وأحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم. قوله (وفي رواية لمسلم) وأخرجها أبوداود والنسائي أيضاً (طهور إناء أحدكم) الأظهر فيه ضم الطاء ويقال بفتحها لغتان بمعنى التطهر أو الطهارة. (إذا ولغ) في القاموس ولغ الكلب في الإناء وفي الشراب يلغ كيهب ويالغ، وولغ كورث ووجل شرب ما فيه بأطراف لسانه، أو أدخل لسانه فيه فحركه، أي: شرب أو لم يشرب. وقال ابن مكي: إن كان ما في الإناء غير مائع يقال: لعقه. وقال المطرزي: فإن كان فارغاً يقال: لحسه. وفي حكم الولوغ ما إذا لعق أو لحس، وإنما ذكر الولوغ للغالب. قال الطيبي: طهور إناء أحدكم مبتدأ، والظرف معمول له، والخبر قوله: أن يغسله سبع مرات. (أولاهن بالتراب) فيه دليل على شرعية التتريب في غسل الإناء. واختلفت الروايات في غسلة التتريب، ففي رواية لمسلم وأبي داود والدارقطني "أولاهن" وفي رواية لأبي داود: السابعة بالتراب، وفي رواية الترمذي والبزار: "أولاهن أو أخراهن" وفي رواية للشافعي: أولاهن أو إحداهن، وفي رواية للدارقطني: إحداهن. وهذا الاختلاف ليس بقادح، لأن هذه الروايات ليست بمتساوية، فإن رواية "أولاهن" أرجح من حيث الأكثرية والأحفظية، ومن حيث المعنى أيضاً لأن تتريب الأخيرة يقتض الاحتياج إلى غسلة أخرى لتنظيفه. ووقع في حديث عبد الله بن مغفل عند أحمد، ومسلم، وأبي داود، والنسائي، وابن ماجه: فاغسلوه سبع مرات، وعفروه الثامنة بالتراب. وظاهره يدل على إيجاب ثمان غسلات، وأن غسلة التتريب غير الغسلات السبع، وأن التتريب خارج عنها. والحديث قد أجمعوا على صحة إسناده، وهي زيادة ثقة فتعين المصير إليها. وقد أهمل البغوي ذكر هذه الرواية، قيل لأنه شافعي وإمامه الشافعي لم يقل بالتثمين، فتركها البغوي لذلك، وكذا صاحب المشكوة محاماة على المذهب، والله أعلم. ونقل عن

494- (2) وعنه، قال: قام أعرابي، فبال في المسجد، ـــــــــــــــــــــــــــــ الشافعي أنه قال: هو حديث لم أقف على صحته، ولكن هذا لا يثبت العذر لمن وقف على صحته. وأوله النووي فقال: المراد بقوله: عفروه الثامنة بالتراب، أي: اغسلوه سبعاً، واحدة منهن بالتراب مع الماء، فكان التراب قائم مقام غسلة فسميت ثامنة لهذا. وقال الحافظ: جمع بعضهم بين الحديثين بضرب من المجاز فقال: لما كان التراب جنساً غير الماء جعل اجتماعهما في المرة الواحدة معدوداً باثنتين وتعقبه ابن دقيق العيد بأن قوله: وعفروه الثامنة بالتراب، ظاهر في كونها غسلة مستقلة، لكن لو وقع التعفير في أوله قبل ورود الغسلات السبع كانت الغسلات ثمانية، ويكون إطلاق الغسلة على التتريب مجازاً وهذا الجمع من مرجحات تعين التراب في الأولى انتهى. وفي الحديث دليل على نجاسة فم الكلب من حيث الأمر بالغسل لما ولغ فيه والإراقة للماء، وقوله: (طهور إناء أحدكم) فإنه لا غسل إلا من حدث أو نجس وليس ههنا حدث، فتعين النجس، والإراقة إضاعة مال، فلو كان الماء طاهراً لما أمر بإضاعته، إذ قد نهى عن إضاعة الماء، وهو ظاهر في نجاسة فمه، وألحق به سائر بدنه قياساً عليه، وذلك لأنه إذا ثبت نجاسة لعابه ولعابه جزء من فمه إذ هو عرق فمه، ففمه نجس إذ العرق جزء متحلب من البدن، فكذلك بقية بدنه. وفيه أيضاً أن الماء القليل ينجس بوقوع النجاسة فيه وإن لم يتغير، لأن ولوغ الكلب لا يغير الماء الذي في الإناء غالباً. واعلم أنه خالف حديث أبي هريرة وحديث عبد الله بن مغفل الحنفية حيث قالوا بالتثليث فقط، ولم يقولوا بوجوب السبع ولا الثمان ولا التتريب. والمالكية حيث لم يقولوا: بالتتريب وأوجبوا التسبيع فقط دون التثمين، لأن التتريب لم يقع في رواية مالك. قال القرافي منهم: قد صحت فيه الأحاديث. والعجب منهم كيف لم يقولوا بها. وخالف الشافعية حيث لم يقولوا بالتثمين، فجنح بعضهم إلى ترجيح حديث أبي هريرة على حديث ابن مغفل، وتعقب بأن الترجيح لا يصار إليه مع إمكان الجمع، والأخذ بحديث ابن مغفل يستلزم الأخذ بحديث أبي هريرة دون العكس، والزيادة من الثقة مقبولة ومال بعضهم إلى الجمع كما تقدم في كلام النووي والحافظ. واعتذر الطحاوي وغيره عن الحنفية بأمور قد ردها الحافظ في الفتح (ج1:ص139) أحسن رد، ثم إنه تعقب العيني على كلام الحافظ بما يدل على شدة تعصبه لمذهب إمامه. وقد نقل الشيخ عبد الحي اللكنوي الحنفي في السعاية (451) تعقبات العيني ثم ردها رداً حسناً. وللشيخ ابن الهمام في فتح القدير كلام مزخرف في الاعتذار عن العمل بحديث التسبيع والتتريب قد رده أيضاً الشيخ اللكنوي في السعاية، وأطال الكلام في هذا المبحث وأجاد، وقال في آخر البحث: ولعل المنصف غير المتعسف يعلم بعد ملاحظة هذا البحث ضعف كلام أرباب التثليث وقوة كلام أصحاب التسبيع والتثمين انتهى. وقد ذكر شيخنا تعقبات الشيخ اللكنوي على العيني وابن الهمام في أبكار المنن (ص29-32) فعليك أن تراجعه. 494- قوله: (قام أعرابي) بفتح الهمزة نسبة إلى الأعرب وهم سكان البادية سواء كانوا عرباً أو عجماً. قيل هو ذو الخويصرة اليمامي. وقيل: الأقرع بن حابس التميمي. وقيل: عيينة بن حصن بن بدر الفزاري. (فبال في المسجد)

فتناوله الناس. فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((دعوه وهريقوا على بوله سجلاً من ماء - أو ذنوباً من ماء - فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ أي: مسجد النبي. (فتناوله الناس) أي: بألسنتهم سبا وشتما. أو أرادوا أن يتناولوه بأيديهم فقد قاموا إليه كما في بعض الروايات. (دعوه) أمر بصيغة الجمع من ودع يدع أي: أتركوه فإنه معذور لأنه لم يعلم عدم جواز البول في المسجد لقربه بالإسلام. وقيل: لئلا يتعدد مكان النجاسة. وقيل لئلا يتضرر بانحباس البول. (وهريقوا) . بفتح الهاء أمر من هراق الماء يهرقه أي: صب، وأصله أراق يريق إراقة من باب الإفعال، أبدلت الهاء بالهمزة فصار هراق. وفيه لغة أخرى أهرق الماء يهرقه إهراقاً على وزن أفعل أفعالاً. قال سيبويه: قد أبدلوا من الهمزة الهاء ثم لزمت فصارت كأنها من نفس الكلمة، وحذفت الألف بعد الراء، وزيدت همزة أخرى وتركت الهاء عوضاً عن حذفهم العين لأن أصل أهرق أريق. وفيه لغة ثالثة أهراق يهريق إهرياقاً فهو مهريق والشيء مهراق ومهَراق أيضاً بالتحريك وهذا شاذ، ونظيره أسطاع يسطيع اسطياعاً بفتح الألف في الماضي وضم الياء في المضارع، وهو لغة في أطاع يطيع، فجعلوا السين عوضاً عن ذهاب حركة عين الفعل فكذلك حكم الهاء. (سجلاً) بفتح السين وسكون الجيم الدلو الملآى ماء لا فارغة. (أو ذنوباً من ماء) بفتح الذال الدلو الملآى لا فارغة، وأو للشك من الراوي، ومن في الموضعين زائدة تأكيداً، وقيل هو من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأو للتخيير، لما بين السجل والذنوب من الفرق، وهو أن السجل الدلو الواسعة، والذنوب الدلو العظيمة. وقال الطيبي: السجل الدلو فيه الماء قل أو كثر، وهو مذكور والذنوب يؤنث، وهو ما ملئ ماء، فقوله: من ماء في الموضعين زيادة وردت تاكيداً انتهى. لأن السجل والذنوب لا يستعملان إلا في الدلو التي فيها الماء. وقيل من للنبيين لاحتمال أن يكون من ماء وغيره، وهذا قول من يجوز التطهير بغير الماء. (فإنما بعثتم) إسناد البعث إليهم على طريق المجاز لأنه هو المبعوث - صلى الله عليه وسلم - بما ذكر، لكنهم لما كانوا في مقام التبليغ عنه في حضوره وغيبته أطلق عليهم ذلك أوهم مبعوثون من قبله بذلك أي: مأمورون. وكان ذلك شأنه - صلى الله عليه وسلم - في حق كل من بعثه إلى جهة من الجهات بقوله: يسروا ولا تعسروا (ميسرين) حال أي: مسهلين على الناس. (ولم تبعثوا معسرين) عطف على السابق على طريق الطرد والعكس مبالغة في اليسر قاله الطيبي، أي: فعليكم بالتيسير أيها الأمة. والحديث فيه دليل على نجاسة بول الآدمي وهو إجماع وعلى أن الأرض إذا تنجست طهرت بالمكاثرة والمغالبة من الماء وعلى أنه يكتفي بإضافة الماء ولا يشترط حفر الأرض ونقل التراب إذا صب عليها الماء، لأنه لم يرد في هذا الحديث الأمر بنقل التراب، ولكنه تكلم فيه لانقطاعه وإرساله كما في نصب الراية (ج1:ص212) للزيلعي، والفتح (ج1:ص162) للحافظ. وأيضا لو كان نقل التراب واجباً في التطهير لاكتفى به، فإن الأمر بصب الماء حينئذٍ يكون زيادة تكليف وتعب من غير منفعة تعود

رواه البخاري. 495- (3) وعن أنس، قال: ((بينما نحن في المسجد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذا جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد. فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مه مه. فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تزرموه، دعوه. فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاه، فقال له: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر. وإنما هي لذكرالله، ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى المقصود وهو تطهير الأرض واستدل بالحديث على أن الأرض إذا أصابتها نجاسة فجفت بالشمس أو بالهواء لا تطهر، لأنه لو كفى ذلك لما حصل التكليف بطلب الماء. وفيه نظر لأن ذكر الماء في الحديث لوجوب المبادرة إلى تطهير المسجد، لأنه كان نهاراً وقد لا يجف قبل وقت الصلاة، فبادر إلى تطهيره بالماء، أو لأن الوقت كان إذ ذاك قد آن، أو أريد إذ ذاك أكمل الطهارتين المتيسر في ذلك الوقت، وفي تركه إلى الجفاف تأخير لهذا الواجب مع ما فيه من المفاسد التي أشرنا إليها، وإذا تردد الحال بين الأمرين لا يكون دليلاً على أحدهما بعينه. والدليل على كون الجفاف مطهراً للأرض ما رواه أبوداود عن ابن عمر: كانت الكلاب تبول، وتقبل، وتدبر في المسجد، فلم يكونوا يرشون من ذلك. وقد بوب عليه أبوداود بقوله: باب في طهور الأرض إذا يبست. فاستدل به على طهارة الأرض المتنجسة بالجفاف، فإن قوله: لم يكونوا يرشون، يدل على نفي صب الماء من باب الأولى، فلولا أن الجفاف يفيد تطهير الأرض ما تركوا ذلك. ولا مخالفة بين حديث ابن عمر هذا وبين حديث أبي هريرة، فإنه يقال: إن الأرض تطهر بوجهين أعني بصب الماء وبالجفاف، واختار - صلى الله عليه وسلم - في حديث الأعرابي أحد المطهرين وهو الماء مبادرة إلى التطهير. ويدل على كون الجفاف مطهراً قول أبي جعفر محمد بن علي الباقر: زكاة الأرض يبسها. أخرجه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق. (رواه البخاري) في الطهارة وفي الأدب، وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه. 495- قوله: (مه مه) اسم فعل مبني على السكون، معناه اكفف، لأنه كلمة زجر أصله "ما هذا؟ ثم حذف تخفيفاً، وتقال: مكررة للتأكيد، ومفردة، وقد تنون مع الكسر، فيقال مَه مَه. (لا تزرموه) بضم التاء وسكون الزاى وكسر الراء من الازرام، وهو القطع أي: لا تقطعوا عليه بوله، فإنه يضره، ويحصل من تقويمه من محله مع ما قد حصل من تنجيس المسجد تنجيس بدنه وثيابه ومواضع من المسجد غير الذي وقع فيه البول أو لا. (دعاه) أي: طلب ذلك الأعرابي ليعلمه بما يجب للمساجد على أبلغ وجه وألطفه. (إن هذه المساجد) الإشارة للتعظيم، وإنما جمع لئلا يتوهم تخصيص الحكم بمسجده - صلى الله عليه وسلم -. (لشيء من هذا البول) الإشارة للتحقير. (والقذر) بفتح الذال، ما يتنفر منه الطبع كالنجاسات والأشياء المنتنة، فذكره بعد البول يكون تعميما بعد تخصيص، قاله ابن الملك. (وإنما هي لذكرالله) قال الشوكاني في النيل (ج1:ص43)

والصلاة، والقرآن)) . أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: ((وأمر رجلاً من القوم، فجاء بدلو من ماء، فسنه عليه)) . متفق عليه. 496- (4) وعن أسماء بنت أبي بكر، قالت: ((سألت امرأة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يارسول الله! أرأيت إحدانا ـــــــــــــــــــــــــــــ مفهوم الحصر مشعر بعدم جواز ماعدا هذه المذكورة من الأقذار. والقذى والبصاق، ورفع الصوت، والخصومات، والبيع والشراء وسائر العقود وإنشاد الضالة، والكلام الذي ليس بذكر، وجميع الأمور التي لا طاعة فيها. وأما التي فيها طاعة كالجلوس في المسجد للاعتكاف والقراءة للعلم، وسماع الموعظة، وانتظار الصلاة، ونحو ذلك، فهذه الأمور وإن لم تدخل في المحصور فيه لكنه أجمع المسلمون على جوازها كما حكاه النووي، فيخصص مفهوم الحصر بالأمور التي فيها طاعة لائقة بالمسجد لهذا الإجماع، وتبقى الأمور التي لا طاعة فيها داخلة تحت المنع وحكي الحافظ في الفتح (ج1:ص162) الإجماع على أن مفهوم الحصر منه غير معمول به قال: ولا ريب أن فعل غير المذكورات وما في معناها خلاف الأولى. (أو كما قال) شك من الراوي، أي: قال هذا القول أو قولاً شبيهاً به. قال النووي: ينبغي للراوي وقارئ الحديث إذا اشتبه عليه لفظه فقرأها على الشك أن يقول عقيبه: أو كما قال، وكذا يستحب لمن روى بالمعنى أن يقول بعده: أو كما قال، أو نحو هذا، كما فعلته الصحابة فمن بعدهم. والله أعلم. وقد روى الدارمي في مسنده في "باب من هاب الفتيا مخافة السقط، آثاراً كثيرة في ذلك من شاء رجع إليه. (قال) أي: أنس. (وأمر رجلاً) من القوم بإتيان دلو من ماء. (فسنه) بالمهملة وفي بعض النسخ بالمعجمة أي صبه. قال الطيبي: سننت الماء على وجهي إذا أرسلته إرسالاً من غير تفريق فإذا فرقته في الصب قلت بالشين المعجمة كما في الصحاح – انتهى. وكذا في النهاية، والقاموس، وقال النووي: يروى بالشين المعجمة وبالمهملة وهو في أكثر الأصول والروايات بالمعجمة، ومعناه صبه. وفرق بعض العلماء بينهما فقال: هو بالمهملة الصب في سهولة، وبالمعجمة التفريق في صبه – انتهى. وفيه دليل على أن النجاسة على الأرض إذا استهلكت بمكاثرة الماء فالأرض والماء طاهران ولا يكون ذلك أمراً بتكثير النجاسة في المسجد. (متفق عليه) أي: على أصل الحديث، والسياق المذكور لمسلم لأنه ليس عند البخاري قوله: إن هذه المساجد، إلى قوله: وقراءة القرآن، لا بهذا اللفظ ولا بمعناه، نعم أخرج أصل الحديث في الطهارة، وفي الأدب مختصراً في معنى الحديث السابق، فكان الأولى للمصنف أن يعزو هذا الحديث إلى مسلم فقط. قال السيد جمال الدين قوله: "متفق عليه" فيه تأمل لأن صاحب التخريج نسب هذا الحديث إلى مسلم دون البخاري، وقال الألباني: قوله: متفق عليه، فيه نظر. فإن هذا الحديث من رواية أنس، ولم يخرجه البخاري. أنظر شرحه للحافظ ابن حجر – انتهى. والحديث أخرجه مسلم في الطهارة، وأخرجه أيضاً النسائي وابن ماجه في الطهارة. 496- قوله: (سألت امرأة) في رواية للشافعي أن أسماء هي السائلة. (أرأيت إحدانا) بحذف مضاف أي: أخبرني

إذا أصاب ثوبها الدم من الحيضة، كيف تصنع؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أصاب ثوب إحداكن الدم من الحيضة فلتقرصه، ثم لتنضحه بماء، ثم لتصل فيه)) . متفق عليه. 497- (5) وعن سليمان بن يسار، قال: ((سألت عائشة عن المنى ـــــــــــــــــــــــــــــ في حال إحدانا أو عن حال إحدانا. (إذا أصاب ثوبها) بالنصب على المفعولية. (الدم) بالرفع على الفاعلية. (من الحيضة) بفتح الحاء أي: الحيض. (كيف تصنع؟) متعلق بالإستخبار، أي: أخبرنا كيف تصنع إحدانا بهذا الثوب، هل تترك لبسه، أو تقطع موضع الدم منه، أو تغسله فكيف تغسله؟. (فلتقرصه) بضم الراء وسكون الصاد المهملة من القرص، وهو الدلك بأطراف الأصابع والأظفار، أي: لتدلك موضع الدم بأطراف الأصابع بالماء ليتحلل بذلك، ويخرج ما تشربه الثوب منه. (ثم لتنضحه) أي: لتغسله، وهو بفتح الضاد المعجمة وتكسر. (ثم لتصل فيه) أي: في ذلك الثوب فإنه لا بأس بعد هذا. والحديث دليل على نجاسة دم الحيض، وعلى وجوب غسله، والمبالغة في إزالته بما ذكر من الحت في بعض الروايات، والقرص والنضح لإذهاب أثره. وظاهره أنه لا يجب غير ذلك، وإن بقي أثره ولونه، فلا يجب استعمال الحاد لإذهاب الأثر لعدم ذكره في الحديث وهو محل البيان، ولأنه قد ورد في غير حديث أسماء: ولا يضرك أثره. واستدل الخطابي بحديث أسماء هذا على أن الماء يتعين لإزالة النجاسات دون غيره من المائعات الطاهرة، لأن جميع النجاسات بمثابة الدم لا فرق بينه وبينها وتعقب هذا الاستدلال بأن هذا خرج مخرج الغالب لا مخرج الشرط، والمعنى في ذلك أن الماء أكثر وجوداً من غيره، أو يقال تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه، أو يقال: ذكر الماء لأنه المعتاد في إزالة النجاسات لا لاشتراط خصوصيته وأجيب بأن الخبر نص على الماء، فإلحاق غيره من المائعات به بالقياس. ومن شرطه أن لا ينقص الفرع عن الأصل في العلة، وليس في غير الماء ما في الماء من رقته وسرعة نفوذه، فلا يلحق به. وللشوكاني ههنا كلام حسن في النيل (ج1:ص39) . فارجع إليه وفي الحديث دليل على أن دم الحيض لا يعفى يسيره وإن قل لعمومه، حيث لم يفرق بين قليلة وكثيرة، ولا سألها عن مقداره، ولم يحد فيه مقدار الدرهم، ولا دونه، وبه قال الشافعي في الجديد، خلافاً للأئمة الثلاثة، فإنهم ذهبوا إلى الفرق بين القليل من الدم والكثير، فاليسير منه معفو عندهم، وإنما الاختلاف بينهم في مقدار اليسير وتحديده، والحديث محمول عندهم على الدم الكثير. وارجع للتفصيل إلى المغني (ج1:ص728-731) والشرح الكبير (ج1:ص304-305) . (متفق عليه) أخرجه البخاري في الطهارة والصلاة والبيوع، ومسلم في الطهارة، وأخرجه أيضاً مالك وأحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه. 497- قوله: (وعن سليمان بن يسار) بتحتية مفتوحة وسين مهملة خفيفة، الهلالي المدني مولى ميمونة زوج

يصيب الثوب. فقالت: كنت أغسله من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيخرج إلى الصلاة وأثر الغسل في ثوبه)) . متفق عليه. 498- (6) وعن الأسود وهمام، عن عائشة قالت: ((كنت أفرك المنى من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويقال: كان مكاتباً لأم سلمة أم المؤمنين، ثقة، فاضل، من كبار تابعي المدينة، وأحد الفقهاء السبعة. قال ابن سعد: كان ثقةً، عالماً رفيعاً، فقيهاً، كثير الحديث. مات سنة (107) وهو ابن (73) سنة. وقيل: في وفاته غير ذلك. (يصيب الثوب) يحتمل الوصف والحال. (كنت أغسله) أي: المنى. (من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قد استدل به لمالك وأبي حنيفة على نجاسة المنى. لأن الغسل لا يكون إلا من نجس. وأجيب بأن غسلها فعل وهو لا يدل على الوجوب بمجرده، فهو محمول على التنزه والاستحباب لأجل النظافة، وإزالة الدرن ونحوه. قال الشوكاني في النيل (ج1:ص54) لم يثبت الأمر بغسله من قوله - صلى الله عليه وسلم - في شيء من أحاديث الباب، وإنما كانت تفعله عائشة، ولا حجة في فعلها إلا إذا ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علم بفعلها وأقرها، على أن علمه بفعله وتقريره لها لا يدل على المطلوب، لأن غاية ما هناك أنه يجوز غسل المنى من الثوب وهذا مما لا خلاف فيه، بل يجوز غسل ما كان متفقاً على طهارته كالتراب والطيب، فكيف بما كان مستقذار انتهى. وقال ابن الجوزي: ليس في هذا الحديث حجة، لأن غسله كان للاستقذار لا للنجاسة، كذا في نصب الراية (ج1:ص210) . واحتج أيضاً على نجاسة المني بالقياس على غيره من فضلات البدن المستقذرة من البول والغائط لانصباب جميعها إلى مقر، وانحلالها عن الغذاء، ولأن الأحداث الموجبة للطهارة نجسة والمني منها، ولأنه يجري من مجرى البول فينجس، ولا يخفى ما فيه، وللقائلين بالنجاسة دلائل أخرى ذكرها النيموى في آثار السنن، وقد أوضح ما فيها من الخدشات شيخنا في أبكار المنن (ص33-36) . فعليك أن تراجعه. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه. 498- قوله: (وعن الأسود) وهو الأسود بن يزيد بن قيس النخعي أبوعمر أو أبوعبد الرحمن، مخضرم ثقة مكثر، فقيه من كبار التابعين. وقال الطيبي: أدرك زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يره، ورأى الخلفاء الراشدين. وهو خال إبراهيم النخعي. مات سنة (74) . وقيل سنة (75) وقال المصنف: هو الأسود بن هلال المحاربي (مخضرم ثقة) وفيه نظر لأنه لم يذكره أحد أنه روى عن عائشة. (وهمام) بالتشديد، هو همام بن الحارث بن قيس بن عمرو النخعي الكوفي، ثقة عابد من كبار التابعين مات سنة (65) . (كنت أفرك) بضم الراء من باب نصر، وقد تكسر، والفرك الدلك حتى يذهب الأثر عن الثوب. (المني من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وفي لفظ لمسلم عن عائشة: لقد كنت أحكه يابساً بظفرى من ثوبه. قال الحافظ: وقد ورد الأمر بفركه من طريق صحيحه. رواها ابن الجارود في المنتقي عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا

رواه مسلم. وبرواية علقمة والأسود، عن عائشة نحوه، وفيه: ثم يصلي فيه. ـــــــــــــــــــــــــــــ بحته. قال وأما الأمر بغسله فلا أصل له. والحديث قد استدل به للشافعي وأحمد وداود واسحق على طهارة المني لأنه لو كان نجساً لم يكف فركه كالدم. وللزم بطلان الصلاة فيما إذا صلى في الثوب الذي فرك منه المني لأن الفرك لا يقلع المني بل يخففه ويقلله فقط. ولما اكتفى فيه بالفرك مع أن الفرك لا يقطعه ولا يزيله بالكلية، وإنما يقلله، علم أنه طاهر. واستدل لهم أيضاً بحديث عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلت المني من ثوبه بعرق الإذخر ثم يصلي فيه، ويحته يابساً ثم يصلي فيه، أخرجه أحمد. قال الحافظ بإسناد حسن. وبحديث عائشة: أنها كانت تسلت المني من ثوبه بعرق الإذخر ثم يصلي فيه، وتحكه من ثوبه يابساً ثم يصلي فيه. أخرجه ابن خزيمة. ذكره الحافظ في الفتح وسكت عنه. وأجيب عن هذه الأحاديث بأن ذلك لا يدل على الطهارة وإنما يدل على كيفية التطهير، فغاية الأمر أنه نجس خفف في تطهيره بما هو أخف من الماء، والماء لا يتعين لإزالة جميع النجاسات وإلا لزم عدم طهارة العذرة التي في النعل، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بمسحها في التراب، ورتب على ذلك الصلاة فيها قاله الشوكاني في النيل (ج1:ص54) . واحتج لهم أيضاً بأن الأصل الطهارة فلا ينتقل عنها إلا بدليل. قال الشوكاني: وأجيب بأن التعبد بالازالة غسلاً، أو مسحاً، أو فركاً أو حتاً أو سلتاً أو حكاً ثابت ولا معنى لكون الشيء نجساً إلا أنه مأمور بإزالته بما أحال عليه الشارع، فالصواب أن المني نجس يجوز تطهيره بأحد الأمور الواردة - انتهى. قلت: الظاهر أن المني نجس يطهره الغسل، أو الفرك، أو الحت، أو الحك، أو السلت، والإزالة بالإذخر عملاً بالأحاديث. وأما الفرق بين الرطب واليابس بوجوب الغسل في الأول والاكتفاء بالفرك في الثاني فليس بصحيح عندي لما تقدم من حديث عائشة عند أحمد وابن خزيمة، فإنه يتضمن ترك الغسل في الحالتين. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وابن الجارود، ولم يخرجه البخاري بل اكتفى بالإشارة إليه في ترجمته، فقال"باب غسل المني وفركه" وهذا على عادته بالإشارة إلى الأحاديث التي لا تكون على شرطه في تراجم أبوابه. (وبرواية علقمة) النخعي. (والأسود عن عائشة نحوه) أي: نحو رواية الأسود، وهمام عن عائشة ومعناها، وهو مرفوع على أنه مبتدأ خبره الجار المتقدم، و"عن عائشة" متعلق برواية. (وفيه) أي: وفي مرويهما زيادة قولهما. (ثم يصلي فيه) أي: في ذلك الثوب الذي أفرك منه المني. وفي رواية أخرى لمسلم: فيصلي فيه، ذكر المصنف هذه الزيادة رداً على من قال من أصحاب مالك: إن الثوب الذي اكتفت عائشة فيه بالفرك ثوب النوم، والثوب الذي غسلته هو ثوب الصلاة، والرواية التي ذكرناها صريحة في الرد عليهم فإن التعقيب بالفاء ينفي احتمال تخلل الغسل بين الفرك والصلاة، وإنما احتاج أصحاب مالك إلى تأويله لأن مالكاً وأصحابه لم يقولوا بالفرك وأوجبوا الغسل رطباً ويابساً، وحمل بعضهم الفرك على الدلك بالماء, وهذا أيضاً مردود عليهم بما ورد في الباب من الروايات الصريحة في الاكتفاء بالفرك من غير ماء. هذا وفي المقام مجادلات ومقاولات ومناظرات محلها المطولات من كتب شروح الحديث، وكتب الفروع للمذاهب الأربعة.

499- (7) وعن أم قيس بنت محصن: ((أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في حجره، فبال على ثوبه، فدعاء بماء، فنضحه، ولم يغسله)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 499- قوله: (وعن أم قيس بنت محصن) بكسر الميم وسكون الحاء المهملة وفتح الصاد بعدها نون، الأسدية أخت عكاشة بن محصن الأسدي، أسلمت بمكة قديماً وبايعت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهاجرت إلى المدينة يقال: إن اسمها آمنة. لها أربعة وعشرون حديثاً، اتفقا على حديثين عن أبي الحسن مولى أم قيس عن أم قيس، قالت: توفى ابني فجزعت فقلت للذي يغسله: لا تغسله بالماء البارد فتقتله. فانطلق عكاشة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بقولها، فتبسم ثم قال: طال عمرها فلا نعلم امرأة عمرت ما عمرت. (أنها أتت بابن لها) لم يسم ومات في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. (صغير) بالجر صفة لابن. (لم يأكل الطعام) صفة ثانية لابن، والمراد بالطعام ما عدا اللبن الذي يرتضعه، والتمر الذي يحنك به، والعسل الذي يلعقه للمداواة وغيرها، فكان المراد أنه لم يحصل له الاغتذاء بغير اللبن على الاستقلال. (في حجره) بفتح الحاء على الأشهر وتكسر وتضم، أي: حضنه. (فبال على ثوبه) أي: ثوب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحمله على ثوب الصبي كما قال بعض المالكية بعيد خلاف الظاهر. (فنضحه) أي: رش الماء على موضع البول من الثوب، ففي رواية الترمذي وابن ماجه وابن حبان "فرشه عليه"وكذا وقع في لفظ لمسلم, والروايات يفسر بعضها بعضاً، ويؤيده ما في الصحاح، والقاموس، والمصباح، والكشاف، والنهاية أن النضح الرش، وقد يذكر النضح، والرش، ويراد بهما الغسل، لكن إذا لم يكن هناك مانع يمنع من إرادة الرش بل يكون دليل يدل على إرادة الغسل كما لايخفى على من له وقوف على موارد استعمالهذين اللفظين، وليس فيما نحن فيه قرينة تدل على أن المراد بالنضح والرش الغسل، بل ههنا دليل صريح يدل على عدم إرادة الغسل، وهو قوله: (ولم يغسله) وفي رواية لمسلم: ولم يزد على أن نضح بالماء، فقوله: لم يغسله، دليل واضح على أنه لم يرد بالنضح الغسل، ورد صريح على من تأول من الحنفية والمالكية القائلين بعدم التفرقة بين بول الصبي الرضيع وبول الجارية النضح بالغسل، فإنه لو كان المراد بالنضح الغسل لكان المعنى فغسله ولم يغسله وهو كما ترى وأما قولهم: بأن المراد بقولها: ولم يغسله، أي: غسلاً مبالغاً فيه فمردود عليهم، فإنه خلاف الظاهر، ولا دليل عليه. قال السندي بعد ذكر تأويلهم هذا: هو تأويل بعيد، ومع بعده مخالف للمذهب أيضاً إذ ما تعرضوا في كتب الفقه للخفة والمبالغة - انتهى. وقال ابن دقيق العيد: هو خلف الظاهر، وببعده ما ورد في الأحاديث الأخر من التفرقة بين بول الصبي والصبية فإنهم لا يفرقون بينهما- انتهى. قلت: أراد بالأحاديث الأخر حديث لبابة، وحديث أبي السمح الآتيين في الفصل الثاني وحديث علي عند أحمد والترمذي وأبي داود، وغيرهم بلفظ: يغسل بول الجارية، وينضح بول الغلام. قال قتادة راوية: هذا ما لم يطعما الطعام، فإذا طعما غسلاً جميعاً. فهذه الأحاديث لا شك أنها تبعد تأويلهم بل تبطله، فإن حمل النضح والرش على الغسل يحيل معنى هذه الأحاديث إلى أنه يغسل بول الجارية، ويغسل بول الغلام وما أظن أن أحداً له مساس بالعلم أو معرفة باللغة يرضي أن يحمل كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هذا المعنى. وأما ما وقع في

متفق عليه. 500- (8) وعن عبد الله بن عباس، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا دبغ الإهاب فقد طهر)) . رواه مسلم. 501- (9) وعنه، قال: تصدق على مولاة لميمونة بشاة، فماتت، فمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((هلا أخذتم إهابها فدبغتموه، فانتفعتم به! فقالوا إنها ميتة، فقال: إنما حرم أكلها)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ في حديث عائشة عند مسلم: فدعاء بماء فصبه عليه، وعند البخاري"فأتبعه إياه" فالمراد بالصب وإتباع الماء، هو الرش والنضح لا الغسل، يدل عليه ما في رواية لمسلم والطحاوي: فأتبعه الماء ولم يغسله. وفي أخرى للطحاوي: فنضحه عليه. ويأتي بقية الكلام في شرح حديث لبابة. (متفق عليه) أخرجاه في الطهارة، وفي الطب، وأخرجه أيضاً مالك وأحمد واو داود الطيالسي، وابن سعد في الطبقات، والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه. 500- قوله: (إذا دبغ) بصيغة المجهول من ضرب ونصر وفتح، الدبغ والدباغ والدباغة عبارة عن إزالة الرائحة الكريهة والرطوبات النجسة باستعمال الأدوية أو بغيرها. قال إبراهيم النخعي: كل شيء يمنع الجلد من الفساد فهو دباغ. (الإهاب) بكسر الهمزة هو الجلد، أو ما لم يدبغ كما في القاموس، ومثله في النهاية، وفي الصحاح: الإهاب الجلد ما لم يدبغ. وبه فسر النضر بن شميل، كما روى أبوداود عنه في سننه. (فقد طهر) بضم الهاء وفتحها لغتان، والفتح أفصح، أي: ظاهره وباطنه فيجوز استعماله في الأشياء اليابسة والمائعة. وفي رواية أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه: أيما إهاب دبغ فقد طهر، وفيه دليل على أن الدباغ يطهر جلد ميتة كل حيوان من غير فرق بين مأكول اللحم وغيره، لعموم كلمة"أيما" ولأن لفظ الإهاب بعمومه يشمل جلد مأكول اللحم وغيره. واستثنى منه الخنزير لنجاسة عينة، لقوله تعالى: {فإنه رجس} والضمير للخنزير فقط، حكم برجسية كله، والكلب مقيس عليه بجامع النجاسة. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً الشافعي وأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم. 501- قوله: (تصدق) بصيغة المجهول. (على مولاة) أي: عتيقة. (لميمونة) أم المؤمنين. (بشاة) متعلق بتصدق. (فماتت) أي: الشاة. (فمر بها) أي: بالشاة. (هلا) تحضيضية أي: لم لا (فدبغتموه فانتفعتم به) فيه دليل على أن جلود الميتة لا يجوز الانتفاع بها أي: انتفاع كان إلا بعد الدباغ، وأما قبل الدباغ فلا يجوز الانتفاع كالبيع وغيره، وهو القول الراجح المعول عليه. ولم يقع في رواية البخاري والنسائي ذكر الدباغ، وهي محمولة على الرواية المقيدة بالدباغ. (إنما حرم) قال النووي: رويناه على وجهين: حرم بفتح الحاء وضم الراء وحرم بضم الحاء وكسر الراء المشددة. (أكلها) أي: أكل الميتة. وأما جلدها فيجوز دباغته ويطهر بها حتى يجوز استعماله في الأشياء الرطبة والوضوء منه، والصلاة معه وعليه.

{الفصل الثاني}

متفق عليه. 502- (10) وعن سودة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالت: ((ماتت لنا شاة، فدبغنا مسكها، ثم مازلنا ننبذ فيه حتى صار شناً)) . رواه البخاري. {الفصل الثاني} 503- (11) عن لبابة بنت الحارث، قالت: ((كان الحسين بن علي في حجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبال على ثوبه. فقلت: إلبس ثوباً، وأعطني إزارك حتى أغسله، قال: إنما يغسل من بول الأنثى، وينضح من بول الذكر)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ وفي شرح السنة: فيه دليل لمن ذهب إلى أن ماعدا المأكول غير محرم الانتفاع كالشعر، والسن والقرن ونحوها، وقالوا: لا حياة فيها فلا تنجس بموت الحيوان. وجوزوا استعمال عظام الفيل، وقالوا: لا بأس بتجارة العاج - انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الزكاة، والبيوع والذبائح، ومسلم في الطهارة، وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود في اللباس والنسائي في الفرع، وابن ماجه في اللباس إلا أنه قال فيه "عن ميمونة" جعله من مسندها. 502- قوله: (وعن سودة) بنت زمعة بن قيس بن عبدشمس العامرية القرشية أم المؤمنين، أسلمت بمكة قديماً، وهاجرت هي وزوجها إلى الحبشة الهجرة الثانية، ومات زوجها هناك، واسمه السكران بن عمرو، فتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودخل بها مكة، وذلك بعد موت خديجة، وقبل أن يعقد عائشة، وهاجرت إلى المدينة. قالوا: لما أسنت هم النبي - صلى الله عليه وسلم - بطلاقها فوهبت يومها لعائشة. وتوفيت سنة (55) على الصحيح، لها أحاديث، انفرد البخاري بحديث. (فدبغنا مسكها) بفتح الميم أي: جلدها، وسمى به لأنه يمسك ما فيه من الماء وغيره. (ثم مازلنا) بكسر الزاى. (ننبذ فيه) بكسر الباء من ضرب أي: ننقع فيه التمر وغيره، يعني نعمل فيه نبيذاً من تمر وغيره. (حتى صار شناً) بفتح الشين المعجمة وتشديد النون أي: قربة خلقة. (رواه البخاري) في النذور، وأخرجه أيضاً أحمد، والنسائي في الفراغ. 503- قوله: (عن لبابة) بضم اللام وتخفيف الموحدتين. (بنت الحارث) بن حزن الهلالية أم الفضل زوج العباس بن عبد المطلب، وأم ستة من بنيه، وأخت ميمونة أم المؤمنين لأبويها. قال ابن عبد البر: يقال: إنها أول امرأة أسلمت بعد خديجة، وكانت من المنجبات، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يزورها. لها ثلاثون حديثاً، اتفقا على حديث، وانفرد كل منهما بحديث. ماتت بعد زوجها العباس في خلافة عثمان. (في حجر رسول الله) بكسر الحاء وتفتح وتضم. (فبال على ثوبه) أي: إزاره - صلى الله عليه وسلم -. (إلبس) بفتح الباء أمر من سمع. (ثوباً) آخر. (وأعطني إزارك) أي: المتلوث بالبول. (إنما يغسل من بول الأنثى، وينضح من بول الذكر) الحديث حجة صريحة في الفرق بين بول الصبي وبول الصبية، وأن

رواه أحمد، وأبوداود، وابن ماجه. 504- (12) وفي رواية لأبي داود، والنسائي، عن أبي السمح، قال: ((يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام)) ـــــــــــــــــــــــــــــ بول الصبي يكفي فيه النضح بالماء، ولا حاجة فيه للغسل، وأن بول الصبية لا يكفي فيه النضح والرش بل لا بد من غسله، وهو أصح المذاهب في ذلك وأقواها، وذلك قبل أن يأكلا الطعام كما قيده به قتادة راوي حديث علي، وقد ذكرنا لفظه. وعند ابن حبان في صحيحه، وابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن شهاب: مضت السنة أن يرش بول من لم يأكل الطعام من الصبيان. والمراد بالنضح كما قاله النووي في شرح مسلم: هو أن الشيء الذي أصابه البول يغمر ويكاثر بالماء مكاثرة لا تبلغ جريان الماء وتردده وتقاطره، بخلاف المكاثرة في غيره، فإنه يشترط أن تكون بحيث يجري عليها بعض الماء ويتقاطر من المحل، وإن لم يشترط عصره، وهذا هو الصحيح المختار، وهو قول إمام الحرمين والمحققين كذا في سبل السلام (ج1:ص54) . (رواه أحمد) (ج6:ص339) . (وأبوداود) وسكت عليه هو والمنذري. (وابن ماجه) وأخرجه أيضاً ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والطبراني والكجي في سننه والبيهقي والطحاوي. 504- قوله: (وفي رواية لأبي داود، والنسائي عن أبي السمح) هو مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخادمه. قيل: اسمه إياد، بكسر الهمزة وتخفيف الياء تحتها نقطتان، وقيل: اسمه كنيته، صحابي، له حديث واحد، قطعه النسائي في موضعين: أي: في باب ذكر الاستتار عند الاغتسال، وفي باب بول الجارية. قال ابن عبد البر يقال: إنه ضل فلا يدري أين مات قال ميرك: قوله: والنسائي بالرفع، عطف على ابن ماجه. قال القاري: وفي سائر النسخ المصححة بالجر وهو الظاهر، لكن إنما يصح الجر لو كان للنسائي روايتان كما لا يخفى، فحينئذٍ لو كانت الرواية الأخرى له كأحمد وغيره من المذكورين فكان للمصنف أن يذكره معهم أولاً أيضاً كما ذكر أباداود مرتين، وإن كان النسائي ليس له إلا رواية واحدة كالرواية الثانية لأبي داود فيتعين الرفع، لكن لا بالعطف على ابن ماجه لوجود الفصل بالأجنبي، بل على أنه مبتدأ خبره كذلك، كما قيل في قوله تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابؤون} [69:5] بالرفع والله أعلم - انتهى. قلت: عبارة المصنف بظاهرها توهم أن للنسائي روايتين كأبي داود، إحداهما عن لبابة، والأخرى عن أبي السمح، والأمر ليس كذلك، فإن حديث لبابة لم يروه النسائي، فالأحسن أن يقول: وروى أبوداود أيضاً والنسائي عن أبي السمح، الخ. والحديث أخرجه أيضاً البزار وابن ماجه وابن خزيمة والبغوي والحاكم وصححه، وسكت عنه أبوداود والمنذري، وقال البخاري: حديث حسن، ولفظه عند أبي داود: قال كنت أخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان إذا أراد أن يغتسل قال: ولني قفاك فأوليه قفاي بأستره به فأتى بحسن أو حسين رضي الله عنهما فبال على صدره يعني موضعه من الثياب فجئت أغسله، فقال: (يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام) أي: الرضيع. ففي حديث علي عند أحمد والترمذي وابن ماجه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في بول الرضيع: ينضح بول الغلام

505- (13) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى، فإن التراب له طهور)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث. فهذا تقييد للفظ اللام بكونه رضيعاً، وهكذا يكون تقييداً للفظ الصبي والصغير والذكر الواردة في بقية الأحاديث. وحديث أبي السمح يبين أن المراد بالنضح في حديث لبابة هو الرش. ويرد كغيره من أحاديث الباب على من لم يفرق بين بول الرضيع وبول الجارية إتباعاً للقياس على بول الشيخ. وفي صنيعهم هذا تقديم للقياس على النص ورد للسنن الصحيحة الصريحة. قال ابن القيم: والفرق بين الصبي والصبية من ثلاثة أوجه: أحدها: كثرة حمل الرجال والنساء للذكر فتعم البلوى ببوله فيشق عليه غسله. والثاني: أن بوله لا ينزل في مكان واحد بل ينزل متفرقاً ههنا وههنا، فيشق غسل ما أصابه كله بخلاف بول الأنثى. الثالث: أن بول الأنثى أخبث وأنتن من بول الذكر، وسببه حرارة الذكر، ورطوبة الأنثى، فالحرارة تخفف من نتن البول، وتذيب منها ما يحصل مع الرطوبة، وهذه المعاني مؤثرة يحسن اعتبارها في الفرق - انتهى. وذكر الشافعي في الفرق وجها آخر كما رواه ابن ماجه في سننه، والحق فيه وفي مثله التعبد والإتباع، والسؤال عن الحكم خارج عن ذلك، فالواجب على الفقيه أن يتبع أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث وجده، ولا يضرب له الأمثال. 505- قوله: (إذا وطئ) بكسر الطاء أي: مسح وداس. (أحدكم بنعله) وفي معناه الخف. (الأذى) أي: النجاسة رطبة كانت أو يابسة، متجسدة أو غير متجسدة. (فإن التراب) أي: بعد المكان الموطؤ. (له) أي: لنعل أحدكم. (طهور) وفي رواية: إذا وطئ الأذى بخفيه فطورهما التراب. والحديث يدل بإطلاقه على أنه إذا أصابت النجاسة النعل فطهارته بالمسح والدلك، سواء كانت ذات جرم كالعذرة أو غير ذات جرم كالبول، وسواء كانت رطبة أو جافة، ويؤيده ما رواه أبوداود وغيره عن أبي سعيد الخدري قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه - الحديث. وفيه: إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر، فإن رأي في نعليه قذراً أو أذى فليمسحه وليصل فيهما. وأعلم أن الحديثين قد خالف ظاهرهما أبوحنيفة، فإن مذهبه أن النعل لا يطهر بالمسح إلا بالغسل، ولأجل هذين الحديثين وما في معناهما ترك الحنفية مذهبه في هذا الباب، واختاروا مذهب أبي يوسف، ومذهبه أن النعل يطهر بالدلك إذا أصابته نجاسة لها جرم، رطبة كانت أو جافة أما إذا لم تكن لها جرم فلا يطهر إلا بالغسل. والفتوى عند الحنفية على قول أبي يوسف، ففي البحر الرائق (ج1:ص223) : وعلى قوله: أكثر المشائخ. وفي النهائية والعناية والخلاصة: وعليه الفتوى. وفي فتح القدير: وهو المختار لعموم البلوى، ولإطلاق الحديث - انتهى. وفي فتاوى قاضي خان: وعليه الفتوى لعموم البلوى. قال شيخنا في أبكار المنن (ص46) هذان الحديثان بإطلاقهما حجتان على أبي يوسف أيضاً أي: كما أنهما

رواه أبوداود، ولابن ماجه معناه. 506- (14) وعن أم سلمة، قالت لها امرأة: ((إني أطيل ذيلي، وأمشي ـــــــــــــــــــــــــــــ حجتان على أبي حنيفة، لأن إطلاقهما يدل على أنه لا فرق بين أن تكون النجاسة ذات جرم أو لم تكن، كما أن إطلاقهما يدل على أنه لا فرق بين أن تكون النجاسة رطبة أو جافة، وهو أي: أبويوسف يقول بالفرق بين الرقيقة والكثيفة، وإن لم يقل بالفرق بين الرطب واليابس. وأما ما قالوا في توجيه الفرق بينهما عنده: أنه مفاد بقوله: طهور أي: مزيل، ونحن نعلم أن النعل إذا تشرب البول لا يزيله المسح، فإطلاقه مصروف إلى ما يقبل الإزالة بالمسح. فقد رده العلامة ابن الهمام في فتح القدير (ص76) بأنه لا يخفى ما فيه، إذ معنى طهور مطهر. واعتبر ذلك شرعاً بالمسح المصرح في الحديث وكما لا يزيل ما تشربه من الرقيق كذلك لا يزيل ما تشرب من الكثيف حالة الرطوبة، والحاصل فيه بعد إزالة الجرم كالحاصل قبل الدلك في الرقيق، فإنه لا يشرب إلا ما في استعداده قبوله وقد يصيبه من الكثيفة الرطبة مقدار كثير يشربه من رطوبته مقدار ما يشربه من بعض الرقيق - انتهى. والحاصل أن النعل أو الخف إذا أصابته نجاسة يطهر بالدلك كثيفة كانت أو رقيقة، رطبة كانت أو يابسة، لإطلاق الحديثين وهو الحق، وما ذهب إليه الإمام أبوحنيفة وأبويوسف ليس بصواب - انتهى. (رواه أبوداود) من طريق أبي المغيرة، والوليد بن مزيد، وعمر بن عبد الواحد عن الأوزاعي قال: أنبئت أن سعيد بن أبي سعيد المقبري حدث عن أبيه، عن أبي هريرة، وفيه مجهول كما ترى، لأن الأوزاعي لم يسم شيخه. ولعل الرجل الذي أبهمه هو محمد بن عجلان في الطريق الآتي، فروى أبوداود أيضاً من طريق محمد بن كثير الصنعاني، عن الأوزاعي، عن ابن عجلان عن سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعناه، ومحمد بن كثير وإن ضعف لكنه تابعه على هذا أبوالمغيرة، والوليد، وعمر كما تقدم، وكلهم ثقات، وابن عجلان وإن ضعفه بعضهم لكن الأكثرين على توثيقه. والحديث أخرجه أيضاً ابن السكن وابن حبان في صحيحه، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، والبيهقي والطحاوي. قال النووي في الخلاصة: رواه أبوداود بإسناد صحيح - انتهى. وقال ابن الهمام: حديث أبي هريرة حسن لم يطعن فيه. كذا في المرقاة (ج1:ص356) وقد اعترف بحسن إسناد حديث أبي هريرة هذا النيموي أيضاً. قلت: وله شاهدان بمعناه عند أبي داود وغيره من حديث عائشة، ومن حديث أبي سعيد. وتقدم ذكر لفظ حديث أبي سعيد. (ولابن ماجه معناه) ولفظه: قيل: يارسول الله! إنا نريد المسجد فنطأ الطريق النجسة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يطهر بعضها بعضاً. قال في الزوائد: إسناده ضعيف، فإن إبراهيم بن إسماعيل اليشكري مجهول الحال، قال الذهبي: وشيخه إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة مما اتفقوا على ضعفه. 506- قوله: (إني أطيل) من الإطالة (ذيلي) بفتح الذال المعجمة، هو طرف الثوب الذي يلي الأرض وإن

في المكان القذر، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يطهر ما بعده)) . رواه مالك، وأحمد، والترمذي، وأبوداود، والدارمي وقالا: المرأة أم ولد لإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف. ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يمسها. (في المكان القذر) بفتح فكسر، النجس، أي: في مكان ذي قذر. (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) في جواب مثل هذا السؤال. (يطهره) أي: الذيل. (ما بعده) في محل الرفع فاعل يطهر، أي: المكان الذي بعد المكان القذر بزوال ما يتثبت بالذيل من القذر، سواء كان المكان القذر رطباً أو يابساً، والنجاسة متجسدة أو غير متجسدة، فلا حاجة إلى الغسل لإطلاق الحديث. وهذا يدل على عدم الفرق بين الذيل للمرأة، والخف والنعل للرجل، وهو الحق، ويؤيد ذلك الحديث الأول من الفصل الثالث من هذا الباب. قال الشيخ ولي الله الدهلوي في المسوى شرح المؤطا تحت حديث أم سلمة هذا: إن أصاب الذيل نجاسة الطريق ثم مر بمكان آخر، واختلط به طين الطريق، وغبار الأرض، وتراب ذلك المكان، ويبست النجاسة المتعلقة، فيطهر الذيل المنجس بالتناثر أو الفرك، وذلك معفو عنه عن الشارع بسبب الحرج والضيق، كما أن غسل العضو والثوب من دم الجراحة معفو عنه عند المالكية، وكما أن النجاسة الرطبة التي أصابت الخف تزيل بالدلك، ويطهر الخف عند الحنفية والمالكية بسبب الحرج، وكما أن الماء الواقع المستنقع في الطريق وإن وقع فيه النجاسة معفو عنه عند المالكية بسبب الحرج، وإني لا أجد الفرق بين الثوب الذي أصابه دم الجراحة والثوب الذي أصابه الماء المستنقع النجس، وبين الذيل الذي تعلقت به نجاسة رطبة، ثم اختلط به غبار الأرض وترابها وطين الطريق، فتناثرت به النجاسة أو زالت بالفرك فإن حكمها واحد، وما قال البغوي: إن الحديث محمول على النجاسة اليابسة التي أصابت الثوب ثم تناثرت بعد ذلك ففيه نطر، لأن النجاسة التي تتعلق بالذيل في المشى في المكان القذر تكون رطبة في غالب الأحوال، وهو معلوم بالقطع في عادة الناس، فإخراج الشيء الذي تحقق وجوده قطعاً أو غالباً عن عادته الأصلية بعيد. وأما طين الشارع يطهره ما بعده، ففيه نوع من التوسع في الكلام، لأن المقام يقتضي أن يقال: هو معفو عنه، أو لا بأس به، لكن عدل عنه إلى إسناد التطهير إلى شيء لا يصلح أن يكون مطهراً للنجاسة، فعلم أنه معفو عنه، وهذا أبلغ من الأول -انتهى. (رواه مالك، وأحمد، والترمذي، وأبوداود والدارمي) وأخرجه أيضاً الشافعي، وابن ماجه، وسكت عنه أبوداود والمنذري. وقال القاضي أبوبكر بن العربي: هذا الحديث مما رواه مالك فصح وإن كان غيره لم يره صحيحا- انتهى. والعلة على ما قيل جهالة المرأة التي روت هذا الحديث عن أم سلمة وهي مدفوعة كما سيأتي. (وقالا) أي: أبوداود والدارمي. (المرأة) أي: السائلة الراوية للحديث. (أم ولد لإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف) وكذا قال ابن ماجه، وهي تابعية صغيرة مقبولة اسمها حميدة على ما في التقريب. واختيار مالك حديثها وإخراجه في موطئه يدل أيضاً على أنها غير مجهولة، لأنه أعرف الناس بأهل المدينة وأشدهم احتياطاً في الرواية عنهم، والقول قول من عرف.

507- (15) وعن المقدام بن معديكرب، قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبس جلود السباع والركوب عليها)) . رواه أبوداود، والنسائي. 508- (16) وعن أبي المليح بن أسامة، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((نهى عن جلود السباع)) . رواه أحمد، وأبوداود، والنسائي، وزاد الترمذي، والدارمي: أن تفترش. ـــــــــــــــــــــــــــــ 507- قوله: (نهى عن لبس جلود السباع) بضم اللام، فإنه مصدر لبس يلبس كعلم يعلم، بخلاف فتح اللام فإنه مصدر لبس يلبس كضرب يضرب بمعنى خلط. (والركوب عليها) أي: عن القعود عليها. وفيه وفي حديث أبي المليح الآتي دليل على أنه لا يجوز الانتفاع بجلود السباع من اللبس والركوب، وقيل: قبل الدباغ لأنها نجسة، أو مطلقاً إن قيل بعدم طهارة الشعر بالدبغ بناء على أن الدباغ لا يؤثر في الشعر ولا يغيره عن حاله. وإن قيل بطهارته، فالنهي عنها لكونها من دأب الجبابرة وأهل الخيلاء والسرف وعمل المترفهين. وقد استدل بعضهم بحديث المقدام هذا وما في معناه على أن الدباغ لا يطهر جلود السباع، بناء على أنه مخصص للأحاديث القاضية بأن الدباغ مطهر على العموم. قال الشوكاني: وهذا الاستدلال غير ظاهر، لأن غاية ما فيه مجرد النهي عن الركوب عليها وافتراشها. ولا ملازمة بين ذلك وبين النجاسة، كما لا ملازمة بين النهي عن الذهب والحرير ونجاستهما فلا معارضة، بل يحكم بالطهارة بالدباغ مع منع الركوب عليها ونحوه، مع أنه يمكن أن يقال: أن النهي عن جلود السباع أعم من وجه من الأحاديث القاضية بأن الدباغ مطهر على العموم لشمولها لما كان مدبوغاً من جلود السباغ وما كان غير مدبوغ - انتهى. (رواه أبوداود) في اللباس في قصة طويلة وسكت عنه. وفيه بقية بن الوليد عن بحير بن سعد. وبقية صدوق كثير التدليس. وروى أحمد (ج1:ص132) طرفاً من تلك القصة من حديث بقية عن بحير، وقد صرح فيه بقية بالتحديث. (والنسائي) في الفرع مختصراً من غير ذكر القصة. 508- قوله: (وعن أبي المليح) بفتح الميم وكسر اللام. (بن أسامة) بن عمير أو عامر بن حنيف بن ناجية الهذلي. قيل: اسم أبي المليح عامر، وقيل: زيد، وقيل: زياد، ثقة من أوساط التابعين. مات سنة (98) وقيل: سنة (108) وقيل: بعد ذلك. روى عن جماعة من الصحابة. (عن أبيه) أي: أسامة بن عمير الهذلي البصري، صحابي، له سبعة أحاديث، روى عنه ابنه أبوالمليح فقط، تفرد عنه. (نهى) وفي بعض النسخ: أنه نهي. (عن جلود السباع) أي: عن الانتفاع بها من اللبس والقعود ونحوهما لما فيه من التكبر، أو لأن الشعر نجس لا يقبل الدباغ. (رواه أحمد وأبوداود) في اللباس وسكت عنه. (والنسائي) في الفرع. (وزاد الترمذي) في اللباس. (والدارمي) في الأضاحي، يعني رويا هذا الحديث وزادا فيه (أن تفترش) أي: تبسط ويجلس عليها. قال الترمذي: لا نعلم أحداً قال: عن أبي المليح

509- (17) وعن أبي المليح، أنه كره ثمن جلود السباع. رواه 510- (18) وعن عبد الله بن عكيم، قال: أتانا كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن أبيه، غير سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، ثم أخرجه الترمذي من حديث شعبة، عن يزيد الرشك، عن أبي المليح، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً، وقال: وهذا أصح. ونقل المنذري كلام الترمذي هذا وأقره، ونظر بعضهم في كلام الترمذي بأن شعبة وإن كان أحفظ وأتقن من سعيد بن أبي عروبة، لكن ابن أبي عروبة لم يتفرد بروايته موصولاً بل تابعه عليه يحيى بن سعيد عن قتادة عند الدارمي، ويؤيده أيضاً أن البيهقي (ج1:ص21) أخرجه من طريق يزيد بن هارون عن شعبة عن يزيد الرشك موصولاً، وقال: رواه غيره عن شعبة عن يزيد عن أبي المليح مرسلاً دون ذكر أبيه - انتهى. 509- قوله: (وعن أبي المليح أنه) أي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (كره ثمن جلود السباع) أي: بيعها وشراءها، قاله ابن الملك. قال المظهر: ذلك قبل الدباغ لنجاستها أما بعده فلا كراهة (رواه) أي: مرسلاً من غير ذكر عن أبيه، وههنا بياض، وألحق به "الترمذي" قال الطيبي: رواه في كتاب اللباس من جامعه، وسنده وجيه، وكذا قال السيد جمال الدين. وقال الجزري: هذا الأثر سنده جيد. رواه الترمذي في اللباس من جامعه ولفظه: أنه كره، الخ. والظاهر أنهم أرادوا الرواية المرسلة التي حكم الترمذي بكونها أصح من الموصولة، لكن لفظها عنده عن أبي المليح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى عن جلود السباع، أي: بلفظ "نهى" مكان "كره" وبدون لفظ "ثمن" ولم نقف على من خرج هذه الرواية المرسلة باللفظ الذي ذكره المصنف نقلاً عن المصابيح مع عدم مناسبتها لكتاب الطهارة. 510- قوله: (وعن عبد الله بن عكيم) بضم العين وفتح الكاف مصغراً، يكنى أبا معبد الجهني، مخضرم، ثقة، أدرك زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا تعرف له روية ولا رواية، وقد خرجه غير واحد في عداد الصحابة، والصحيح أنه تابعي من كبار التابعين، سمع كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى جهنية، مات في إمرة الحجاج. (أن لا تنتفعوا) أن هذه مفسرة أو مخففة. (ولا عصب) بفتحتين أطناب مفاصل الحيوان، وفي بعض كتب اللغة أطناب منتشرة في الجسم كله، وبها تكون الحركة والحس. ونهى عن الانتفاع به لأن عصب الميتة نجس لأن فيه حياة بدليل تألمه بالقطع. والحديث قد تمسك به من قال: أن الدباغ لا يطهر شيئاً من الجلود، فلا ينتفع من الميتة بشيء، سواء دبغ جلدها أو لم يدبغ. وزعم أنه ناسخ للأحاديث القاضية بطهارة جلد الميتة بالدباغ لما ورد في رواية الشافعي وأحمد، وأبي داود: قبل موته بشهر، وفي رواية، بشهر أو شهرين، فصار متأخراً. والجمهور على خلافه، وأجابوا عن هذا الحديث بأجوبة، محصلها: الإرسال

رواه الترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه. 511- (19) وعن عائشة، رضي الله عنها، ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت)) . رواه مالك وأبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ لعدم سماع عبد الله بن عكيم من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم الانقطاع لعدم سماع عبد الرحمن بن أبي ليلى من عبد الله بن عكيم. ثم الاضطراب في سنده، فإنه قال تارة: عن كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. وتارة: عن مشيخة من جهنية. وتارة: عمن قرأ الكتاب. ثم الاضطراب في متنه، فرواه الأكثر من غير تقييد، ومنهم من رواه بتقييد شهر، أو شهرين، أو أربعين يوماً أو ثلاثة أيام. ثم الترجيح بالمعارضة لأن حديث الدباغ أكثر وأصح، لأنه روى في تطهير الدباغ خمسة عشر حديثاً، منها ما اتفق الشيخان. ثم القول بأن الإهاب كما تقدم من القاموس، اسم لما لم يدبغ في أحد القولين. وقال النضر بن شميل: الإهاب لما لم يدبغ، وبعد الدبغ يقال له: شن، وقربة، وبه جزم الجوهري، فلما احتمل الأمرين وورد الحديثان في صورة المتعارضين جمعنا بينهما بأنه نهى عن الانتفاع بالإهاب مالم يدبغ، فإذا دبغ لم يسم إهاباً، فلا يدخل تحت النهي، وهو حسن. وقد بسط تلك الأجوبة الحافظ في التلخيص (ص17) والشوكاني في النيل (ج1:ص61) والأمير اليماني في السبل (ج1:ص42، 41) فارجع إلى هذه الكتب. (رواه الترمذي) وقال: حديث حسن. قيل: في تحسينه نظر لما في سنده من الاضطراب والإرسال والانقطاع. قال صاحب الإمام: تضعيف من ضعفه ليس من قبل الرجال فإنهم كلهم ثقات، وإنما ينبغي أن يحمل الضعف على الاضطراب. وقد حكى الخلال أن أحمد توقف في حديث ابن عكيم لما رأى تزلزل الرواة فيه. وقال بعضهم: رجع عنه كما ذكره الترمذي. (وأبوداود) وقال: قال النضر بن شميل: يسمى إهاباً مالم يدبغ، فإذا دبغ لا يقال له إهاب، إنما يسمى شناً وقربة. (والنسائي) وقال: أصح ما في هذا الباب في جلود الميتة إذا دبغت حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة. (وابن ماجه) وأخرجه أيضاً الشافعي، وأحمد، والبخاري في تاريخه، والدارقطني، والبيهقي، وابن حبان. 511- قوله: (أمر) أي: أذن ورخص. (أن يستمتع) على بناء المفعول. (بجلود الميتة) الحديث بإطلاقه يرد على من خص الاستمتاع بها بالأشياء اليابسة، وبالماء من بين سائر المائعات. (إذا دبغت) فيه رد صريح على من أباح الاستمتاع بجلود الميتة وإن لم تدبغ، متمسكا بالروايات المطلقة. (رواه مالك) في كتاب الصيد من مؤطاه. (وأبوداود) في اللباس وسكت عنه، وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان كلهم من طريق محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أمه، عن عائشة. قال المنذري: أم محمد بن عبد الرحمن لم تنسب ولم تسم. قلت: أم محمد هذه قال الحافظ في التقريب: إنها مقبولة، وذكرها ابن حبان في الثقات، واختيار مالك حديثها وإخراجه في مؤطاه يدل على صحته عنده، لأنه أعرف الناس بأهل المدينة وأشدهم احتياطا في الرواية عنهم.

512- (20) وعن ميمونة، قالت: ((مر على النبي - صلى الله عليه وسلم - رجال من قريش يجرون شاة لهم مثل الحمار، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو أخذتم إهابها. قالوا: إنها ميتة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يطهرها الماء والقرظ)) . رواه أحمد وأبوداود. 513- (21) وعن سلمة بن المحبق، قال: ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء في غزوة تبوك على أهل بيت، فإذا قربة معلقة، فسأل الماء، فقالوا: يا رسول الله! إنها ميتة فقال: دباغها ـــــــــــــــــــــــــــــ 512- قوله: (يجرون) بضم الجيم يسحبون. (شاة) أي: ميتة. (مثل الحمار) أي: مثل جره، أوفي كونها ميتة منتفخة. (لو أخذتم إهابها) قيل كلمة لو للتمني بمعنى ليت، يعني ليتكم أخذتم. وقيل: كلمة شرط حذف جوابها، أي: لكان حسناً، أو لحل لكم الانتفاع به بعد الدباغ. (يطهرها الماء والقرظ) بفتحتين، ورق السلم يعني يطهرها خلط القرظ بالماء ودباغة الجلد به. قال الخطابي: القرظ شجر يدبغ به الأهب، وهو لما فيه من العفوصة والقبض ينشف البلة، ويذهب الرخاوة ويخفف الجلد ويصلحه ويطيبه، فكل شيء عمل عمل القرظ كان حكمه في التطهير حكمه - انتهى. وقال النووي: يجوز الدباغ بكل شيء ينشف فضلات الجلد، ويطيبه ويمنع من ورود الفساد عليه كالشث، والقرظ، وقشور الرمان، وغير ذلك من الأدوية الطاهرة، ولا يحصل بالشمس إلا عند الحنفية. ولا بالتراب، والرماد والملح على الأصح - انتهى. والحديث دليل على وجوب استعمال الماء في أثناء الدباغ أو بعد الدباغ لإزالة الدرن ووضر الدبغ. وحمله بعضهم على الندب أو على الطهارة الكاملة لعدم اشتراط الماء في الدبغ عنده، وهو خلاف الظاهر. (رواه أحمد) (ج6:ص336) . (وأبوداود) وسكت عنه هو والمنذري، وأخرجه أيضاً النسائي والدارقطني وابن حبان، وصححه ابن السكن والحاكم. 513- قوله: (وعن سلمة) بفتح اللام. (بن المحبق) بضم الميم وفتح الحاء المهملة وكسر الموحدة المشددة وتفتح. قال في جامع الأصول: المحبق بتشديد الباء المكسورة، وأصحاب الحديث يفتحونها - انتهى. وقال في تهذيب التهذيب (ج4:ص158) : قال العسكري في التصحيف عن أحمد بن عبد العزيز الجوهري: قال ما سمعت ابن شبة وغيره إلا بكسر الباء، قال العسكري: فقلت: إن أصحاب الحديث كلهم يفتحون الباء، فقال: أيش المحبق في اللغة؟ قلت: المضرط. فقال: هل يستحسن أحد أن يسمى ابنه المضرط؟ وإنما سماه المضرط تفاؤلاً بأنه يضرط أعداءه كما سموا عمرو بن هند مضرط الحجارة - انتهى. وقيل: هو سلمة بن ربيعة بن المحبق، وأنه نسب إلى جده، جزم به ابن حبان. واسم المحبق صخر بن عبيد. وسلمة هذا يكنى أبا سنان الهذلي البصري، صحابي، له اثنا عشر حديثاً، روى عنه ابنه سنان وغيره. (في غزوة تبوك) موضع بين الشام ووادي القرى، والمشهور فيه عدم الصرف للعلمية والتأنيث باعتبار البقعة، ومن صرفها أراد الموضع. (قربة معلقة) أي: فيها ماء وهي مدبوغة. (إنها) أي: القربة. (ميتة) أي: جلد ميتة دبغ. (دباغها) بكسر

{الفصل الثالث}

طهورها)) . رواه أحمد وأبوداود. {الفصل الثالث} 514- (22) عن امرأة من بني عبد الأشهل، قالت: قلت يارسول الله! إن لنا طريقاً إلى المسجد منتنة، فكيف نفعل إذا مطرنا؟ قالت: فقال: ((أليس بعدها طريق هي أطيب منها؟ قلت: بلى. قال: فهذه بهذه)) . رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ الدال (طهورها) بفتح الطاء وتضم، أي: مطهرها أو طهارتها. وفي رواية النسائي وغيره: دباغها ذكاتها، بفتح الذال المعجمة، وهي الذبح، والمراد هنا التطهير لأن الذبح يطهر المذبوح ويحل أكله. والحديث قد استدل بإطلاقه على عدم وجوب استعمال الماء في أثناء الدباغ وبعده. قال الخطابي: هذا الحديث يدل على بطلان قول من ذهب إلى أن إهاب الميتة إذا مسه الماء بعد الدباغ ينجس، ويبين أنه طاهر كطهارة المذكى، وأنه إذا بسط وصلى عليه أو خرز منه خف، فصلى فيه جاز. (رواه أحمد) (ج5:ص6، 7) و (ج3:ص476) . (وأبوداود) وأخرجه أيضاً الشافعي والنسائي، وابن حبان في صحيحه، والبيهقي من حديث الجون بن قتادة عن سلمه بن المحبق، وسكت عنه أبوداود. وقال الحافظ: إسناده صحيح. وقال أحمد: الجون لا أعرفه. وبهذا أعله الأثرم. قال الحافظ: قد عرفه غيره. عرفه علي بن المديني وروى عنه الحسن، وقتادة، وصحح ابن سعد، وابن حزم، وغير واحد أن له صحبة وتعقب أبوبكر بن مفوز ذلك على ابن حزم. 514- قوله: (عن امرأة من بني عبد الأشهل) صحابية لم تسم، قاله الحافظ في التقريب. وقال في تهذيب التهذيب في ترجمة موسى بن عبد الله بن يزيد الخطمي: روى عن أبيه، وأمه، وأبي حميد الساعدي، وعن امرأة من بني الأشهل لها صحبة. (منتنة) صفة طريق، وهو يذكر ويؤنث، أي: نجسة يعني فيها أثر الجيف والنجاسات. (إذا مطرنا) على بناء المجهول أي: ومررنا على تلك النجاسات بأذيالنا المنسحبة على الأرض. (هي أطيب منها) أي: أطهر بمعنى الطاهر. (فهذه بهذه) أي: ما حصل التنجس بتلك يطهره انسحابه على تراب هذه الطيبة. وهذا الحديث موافق لما تقدم من حديث أم سلمة في الفصل الثاني، وهما يدلان صريحاً على أن الذيل المنجس بنجاسة الطريق الرطبة يطهر إذا انسحب على الطريق الطاهرة، واختلط بالتراب الطاهر من الطريق وقت المرور، ولا يصح حمل القذر على اليابس لأنه يأبى عنه قولها، فكيف نفعل إذا مطرنا؟ وكذا لا يصح تخصيص الحديث بالنعل والخف لأنه يبطله حديث أم سلمة المتقدم، ففي الحديثين رد صريح على الأئمة الأربعة وأتباعهم. وقد تأول السندي في حاشية ابن ماجه حديث المرأة الأشهلية هذا بما يمجه السمع ويستكرهه القلب. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري. قال الخطابي: الحديث فيه مقال، لأن امرأة من بني عبد الأشهل مجهولة،

515- (23) وعن عبد الله بن مسعود، قال: ((كنا نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا نتوضأ من الموطئ)) ، رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ والمجهول لا تقوم به الحجة في الحديث - انتهى. قلت: المرأة من بني عبد الأشهل هذه صحابية، ذكرها ابن الأثير الجزري في أسد الغابة، وصرح الحافظ في التقريب وتهذيب التهذيب بكونها صحابية كما تقدم، بل كونها صحابية ظاهر من نفس الحديث، ألا ترى أنها شافهت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسألته بلا واسطة، وقالت: قلت يا رسول الله إن لنا، الخ. وقد تقرر أن جهالة اسم الصحابي ونسبه لا تقدح في كونه صحابياً، ولا تؤثر في صحة الحديث، فالحديث صحيح، وكلام الخطابي ومن تبعه مردود عليه. والحديث أخرجه ابن ماجه أيضاً. 515- قوله: (ولا نتوضأ من الموطئ) بفتح الميم وإسكان الواو وكسر الطاء المهملة والهمزة، وقيل: الموطأ بفتح الميم وسكون الواو وفتح الطاء وبالهمزة. قيل: كسر الطاء هو الأصل، والفتح شاذ، وقيل: بل الفتح هو القياس، وهو أعلى وأرجح من الكسر. وارجع للبسط إلى تعليق الترمذي للشيخ أحمد شاكر. قال ابن العربي في شرح الترمذي (ج1:ص237) : الموطئ مفعل بكسر العين من وطئ، وهو اسم للموضع، فيكون معناه الوضوء من وطئ الموضع القذر، ويكون بفتحها، والمعنى واحد، وفيه كلام كثير- انتهى. وقال الخطابي في المعالم: الموطئ ما يوطئ في الطريق من الأذى، وأصله الموطؤ. قال العراقي: يحتمل أن يحمل الوضوء على الوضوء اللغوي وهو التنظيف، فيكون المعنى أنهم كانوا لا يغسلون أرجلهم من الطين ونحوها، ويمشون عليه بناء على أن الأصل فيه الطهارة - انتهى. وحمله البيهقي على النجاسة اليابسة، وأنهم كانوا لا يغسلون الأقدام إذا وطئوا على نجاسة يابسة، وإنما كانوا يغسلونها إذا كانت النجاسة رطبة، وهو الذي فهمه الترمذي، وحمل عليه الحديث. وقد نقل ذلك عن غير واحد من أهل العلم. قلت: معنى حديث ابن مسعود هذا قريب من معنى حديث المرأة الأشهلية وحديث أم سلمة، فالظاهر أن يترك حديث ابن مسعود على إطلاقه، ولا يخصص بالنجاسة اليابسة لعدم وجود دليل على هذا التخصيص، فالقدم التي أصابتها الرطبة كالخف والنعل والذيل تطهر إذا مرت على الأرض اليابسة الطاهرة، وزالت النجاسة المتعلقة بالقدم بالتناثر والدلك والمسح، والله أعلم. (رواه الترمذي) فيه نظر ظاهر لأنه لم يروه الترمذي في جامعه، بل ذكره بقوله: وفي الباب عن عبد الله بن مسعود قال: كنا نصلى، الخ. والحديث إنما أخرجه أبوداود، وسكت عنه هو والمنذري، وأخرجه ابن ماجه في الصلاة، والحاكم وصححه، والطبراني في الكبير. قال: الهيثمي في مجمع الزوائد (ج1:ص285) : رجاله ثقات، واللفظ الذي ذكره الترمذي موافق لرواية الحاكم (ج1:ص139) والطبراني، ولفظ أبي داود: قال عبد الله: كنا لا نتوضأ من موطئ ولا نكف شعراً ولا ثوباً. ولفظ ابن ماجه: قال عبد الله: أمرنا أن لا نكف شعراً ولا ثوباً ولا نتوضأ من موطئ. وكان على المصنف أن يعزو الحديث إلى الثلاثة أو إلى أبي داود على الأقل.

516- (24) وعن ابن عمر قال: ((كانت الكلاب تقبل وتدبر في المسجد في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك)) . رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ 516- قوله: (كانت الكلاب تقبل وتدبر) من الإقبال والإدبار جملة في محل النصب على الخبرية على أن "كانت" ناقصة، وعلى الحال على أنها تامة بمعنى وجدت. وفي رواية أبي داود والإسماعيلي وأبي نعيم والبيهقي: كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر، بزيادة "تبول" قبل "تقبل وتدبر" والظاهر أن هذه الزيادة محفوظة. (في المسجد) الألف واللام للعهد أي: في مسجد النبي. قال الخطابي: كان إقبالها وإدبارها في أوقات نادرة، ولم يكن على المسجد أبواب تمنع من عبورها فيه. قلت: ويمكن ذلك مع وجود الغلق والأبواب أيضاً كما في زماننا. (فلم يكونوا يرشون) في نفى الرش مبالغة ليست في نفى الغسل والصب، لأن الرش ليس جريان الماء بخلاف الغسل، فإنه يشترط فيه الجريان والسيلان، فنفى الرش أبلغ من نفى الغسل والصب. (شيئاً) عام لأنه نكرة وقعت في سياق النفي، وهو أيضاً يفيد المبالغة في عدم النضح بالماء أي: شيئاً من الماء. (من ذلك) أي: من أجل البول والإقبال والإدبار. والحديث فيه دليل على أن الأرض إذا أصابتها نجاسة فجفت بالشمس أو الهواء فذهب أثر النجاسة تطهر، إذ عدم الرش يدل على عدم الصب والغسل بالأولى، فلولا أن الجفاف يفيد تطهير الأرض ما تركوا ذلك. والحديث مشكل جداً على الشافعية، حيث لم يقولوا: بكون الجفاف مطهراً للأرض، فقال: بعضهم لفظ "تبول" ليس بمحفوظة في الحديث، يدل على كونه غير محفوظ في ترك البخاري هذا اللفظ في روايته. قلت: روى هذا الحديث عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثنا سكن بن نافع الباهلي أبوالحسين: ثنا صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه قال: كنت أعزب شاباً، أبيت في المسجد في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت الكلاب تقبل وتدبر في المسجد، فلم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك. وهذا كما ترى ليس فيه لفظ "تبول" والطريق غير طريق البخاري، فالظاهر أن ترك لفظ "تبول" والاقتصار على تقبل وتدبر من ابن عمر، أو من غيره من الرواة، لا من البخاري، فكان ابن عمر أو غيره يذكر لفظة "تبول" مرة ويتركها أخرى، وكيف ما كان الأمر، فالظاهر أن هذه اللفظة محفوظة. وتأوله ابن المنذر فقال: كانت الكلاب تبول خارج المسجد في مواطنها ثم تقبل وتدبر في المسجد، وكذا قال الخطابي. قلت: هذا خلاف الظاهر، لا يتكلف له إلا المتعصب لرأي إمامه، وهلا قال: كانت الكلاب تبول خارج المسجد وتستنجي هناك ثم تدخل المسجد؟ ومن أكبر موانع هذا التأويل أن قوله في المسجد. ليس ظرفاً لقوله: "وتقبل وتدبر" وحده وإنما هو ظرف لقوله: تبول وما بعده كلها، وتقدم شيء من الكلام فيه في شرح حديث صب الماء على بول الأعرابي فتذكر. (رواه البخاري) الحديث أورده البخاري في صحيحه معلقاً بصيغة الجزم، فقال: قال أحمد بن شبيب عن أبيه، الخ. قال أبونعيم: رواه البخاري بلا سماع. وقال العيني: ذكره البخاري معلقاً, وأورده الحافظ في المقدمة في سياق تعاليقه المرفوعة، فقال: حديث أحمد بن شبيب عن أبيه وصله

517- (25) وعن البراء، قال: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا بأس ببول ما يؤكل لحمه)) . 518- (26) وفي رواية جابر، قال: ((ما أكل لحمه فلا بأس ببوله)) رواه أحمد، والدارقطني. ـــــــــــــــــــــــــــــ أبو نعيم والبيهقى، وغيرهما- انتهى. وأخرجه أيضاً أحمد في مسنده (ج2:ص 17) . 517- قوله: (لا بأس ببول ما يؤكل لحمه) فيه دليل على أن بول ما يؤكل لحمه طاهر، لكن الحديث ضعيف جداً لا يصلح للاستدلال كما ستقف عليه، والعجب من المصنف أنه أورد هذا الحديث الضعيف، ولم يذكر حديث العرنيين وأحاديث الإذن بالصلاة في مرابض الغنم، وهي أحاديث صحيحة، وأصل استدلال القائلين بطهارة بول ما يؤكل لحمه بهذه الأحاديث الصحيحة، ولذلك ذكرها المحدثون في باب طهارة أبوال مأكولات اللحم، فحديث العرنيين، وحديث الإذن بالصلاة في مرابض الغنم يدلان على طهارة أبوال الإبل والغنم نصاً، ويقاس عليها غيرها مما يؤكل لحمه. وأما حديث أبي هريرة مرفوعاً: استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه. أخرجه ابن خزيمة وغيره، فمحمول على بول الإنسان لا بول سائر الحيوان. وكذا حديث ابن عباس المتفق عليه قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبرين، فقال: إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول- الحديث. المراد به بول الناس لا بول سائر الحيوان، لما في رواية للبخاري: كان لا يستتر من بوله. قال البخاري: ولم يذكر سوى بول الناس- انتهى. فلا يكون في حديث ابن عباس هذا حجة لمن حمله على العموم في بول جميع الحيوان. وارجع للبسط والتفصيل إلى الفتح (ج1:ص168) والنيل (ج1:ص49) وأبكار المنن (ص43) . 518- قوله: (وفي رواية جابر قال: ما أكل لحمه فلا بأس ببوله رواه) لو قال: رواهما لكان أقرب إلى الصواب، فإنهما حديثان، الأول عن البراء بن عازب، والثاني عن جابر بن عبد الله مرفوعاً. (أحمد) ما وجدت الحديث في مسنده لا في مسند البراء ولا في مسند جابر، ولم أر أحداً من أصحاب كتب التخريج والأحكام والجوامع، وشروح الحديث كالحافظ، والزيلعي والسيوطي والهيثمي وعلى المتقي والشوكاني وغيرهم أنه عزاه لأحمد. (والدارقطني) (ص47) في سند حديث البراء سوار بن مصعب، وهو متروك الحديث عند جميع أهل النقل، متفق على ترك الرواية عنه، وفي سند حديث جابر عمرو بن الحصين، عن يحي بن العلاء، وهما أيضاً متروكان ذاهبا الحديث. وقال: أحمد في يحي بن العلاء: كذاب، يصنع الحديث. وقال الحافظ في التلخيص (ص16) : إسناد كل من الحديثين ضعيف جداً - انتهى. والحديث أخرجه أيضاً البيهقي وضعفه، وأخرجه الخطيب في تاريخه عن علي بن أبي طالب بلفظ: لا بأس ببول الحمار، وكل ما أكل لحمه. كذا في كنز العمال (ج5:ص88) وأورد حديث علي هذا ابن الجوزي في الموضوعات، وأقره السيوطي في اللآلئ المصنوعة، ثم ابن عراق في تنزيه الشريعة (ج2:ص66) والشوكاني في الفوائد المجموعة (ص6) .

(9) باب المسح على الخفين

(9) باب المسح على الخفين {الفصل الأول} 519- (1) عن شريح بن هانئ، قال: سألت: علي بن أبي طالب عن المسح على الخفين، فقال: ((جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم)) . رواه مسلم. 520- وعن المغيرة بن شعبة: أنه غزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزوة تبوك. قال المغيرة: فتبرز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـــــــــــــــــــــــــــــ (باب المسح على الخفين) أي: باب ذكر أدلة شرعية على ذلك، وما يتعلق به من التوقيت في المسح، وبيان محله، وشرطه، والمسح إصابة اليد المبتلة بالعضو، وإنما عدي بعلى إشارة إلى موضعه، وهو فوق الخف دون داخله وأسفله على ما ورد مخالفاً للقياس. والخف نعل من أدم يغطي الكعبين، والجورب لفافة الرجل من أي شيء كان من الشعر، أو الصوف أو الكرباس، أو الجلد ثخيناً أو رقيقاً إلى ما فوق الكعب يتخذ للبرد. والمسح على الخفين ثابت بالسنة كما سترى. وقد صرح جمع من الحفاظ بأن المسح على الخفين متواتر، وجمع بعضهم رواته، فجاوزوا الثمانين، ومنهم العشرة. وقال الحسن البصري: حدثني سبعون من الصحابة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يمسح على الخفين. أخرجه ابن أبي شيبة. وذكر أبوالقاسم بن منده أسماء من رواه في تذكرته، فكانوا ثمانين صحابياً. وذكر الترمذي والبيهقي في سننهما، وابن عبد البر في الاستذكار منهم جماعة. قال النووي: أجمع من يعتد به في الإجماع على جواز المسح على الخفين في السفر والحضر سواء كان لحاجة أو لغيرها. 519- قوله: (عن شريح) بالتصغير (بن هانئ) بالهمزة على وزن فاعل، أدرك زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبه كنى النبي - صلى الله عليه وسلم - أباه هانئ بن يزيد، فقال: أنت أبوشريح. وشريح من جملة أصحاب علي رضي الله عنه، كذا ذكره المصنف في أسماء رجاله في عداد الصحابة، وقد تقدم أنه مخضرم تابعي، فكأن المصنف تبع ابن عبد البر في ذكر المخضرمين مع الصحابة. (عن المسح) أي: عن مدته. (ثلاثة أيام ولياليهن) بفتح الياء. (للمسافر ويوما وليلة للمقيم) فيه دليل لما ذهب إليه جمهور العلماء من توقيت المسح بثلاثة أيام للمسافر، ويوم وليلة للمقيم، وهو الحق والصواب، لما ورد في التوقيت بذلك أحاديث عن أكثر من عشرة من الصحابة. وإنما زاد في المدة للمسافر لأنه أحق بالرخصة من المقيم لمشقة السفر واختلفوا في ابتداء مدة المسح، فقال كثير من العلماء: إن ابتداء المدة من حين الحدث بعد لبس الخف لا من حين اللبس ولا من حين المسح. ونقل عن أحمد أنه قال: إن ابتداءها من وقت اللبس. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان. 520- قوله: (فتبرز) أي: خرج إلى البراز، وهو الفضاء الواسع فكنوا به عن قضاء الحاجة

قبل الغائط، فحملت معه إداوة قبل الفجر، فلما رجع أخذت أهريق على يديه من الإداوة، فغسل يديه ووجهه، وعليه جبة من صوف، ذهب يحسر عن ذراعيه، فضاق كم الجبة، فأخرج يديه من تحت الجبة، وألقى الجبة على منكبيه، وغسل ذراعيه، ثم مسح بناصيته وعلى العمامة، ثم أهويت لأنزع خفيه، فقال: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين، فمسح عليهما، ـــــــــــــــــــــــــــــ (قبل الغائط) بكسر القاف وفتح الباء. أي: جانبه لقضاء الحاجة. والغائط هو المكان المطمئن في الفضاء أو المكان المنخفض من الأرض. (فحملت معه) أي: ذاهبا معه. (إداوة) بكسر الهمزة، أي: إناء من ماء أخذ المغيرة من أعرابية صبته له من قربة جلد ميتة دبغته، وأخذ الماء ليتوضأ به لا ليستنجى. (قبل الفجر) أي: قبل صلاة الصبح وبعد طلوع الفجر. (فلما رجع) من قضاء الحاجة. (أخذت) أي: شرعت. (أهريق على يديه من الإداوة) أي: أصب الماء. وفيه دلالة على جواز الاستعانة في الطهارة بصب الماء. (فغسل يديه) أي: كفيه. (ووجهه) لا دلالة فيه على عدم وجوب المضمضة والاستنشاق في الوضوء كما زعم ابن حجر لاحتمال عدم ذكره لهما إما اختصاراً أو نسياناً، أو لكونهما داخلين في حد الوجه من وجه على ما حققه في محله، ومع تحقق الاحتمال لا يصح الاستدلال، قاله القاري. قلت: قد وقع ذكر المضمضة والاستنشاق عند البخاري في الجهاد ففيه: أنه تمضمض واستنشق وغسل وجهه. (وعليه) أي: على بدنه، والواو للحال. (جبة) أي: شامية من جباب الروم. (ذهب) أي: شرع وأخذ، وهو استئناف. (يحسر) من باب ضرب أي: يكشف كميه. (عن ذراعيه) أي: ليغسلهما. (فضاق كم الجبة) بحيث لم يقدر على أن يخرج يديه إلى المرفقين عن كمي الجبة من غاية ضيقهما. (وألقى الجبة) أي: ذيلها. (وعلى العمامة) تحصيلاً وتكميلاً للاستيعاب الواجب. (ثم أهويت) أي: مددت يدي. وقيل: قصدت الهوى من القيام إلى القعود. وقيل: الإهواء إمالة اليد إلى شيء ليأخذه، أي: انحنيت. (لأنزع خفيه) كأنه لم يكن قد علم برخصة المسح، أو علمها وظن أنه - صلى الله عليه وسلم - سيفعل الأفضل بناء على أن الغسل أفضل، أوجوز أنه لم يحصل شرط المسح وهذا الأخير أقرب لقوله: (دعهما) أي: أتركها ولا تنزعها عن رجلي. (فإني أدخلتهما) أي: القدمين. (طاهرتين) أي: لبستهما حال كون قدمي طاهرتين. وفيه دليل على أن الشرط لمسح الخفين طهارة القدمين وقت اللبس. ويلزم منه اشتراط تمام الوضوء عند من يقول بوجوب الترتيب في الوضوء، ولا يلزم عند غيره كما لا يخفى. والراجح هو القول الأول، لقوله: - صلى الله عليه وسلم - " إذا تطهر ولبس خفيه) . في حديث أبي بكرة الآني في الفصل الثاني. ولحديث صفوان بن عسال عند أحمد وغيره: قال: أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهر- الحديث. ولحديث أنس مرفوعاً: إذا توضأ أحدكم فلبس خفيه فليمسح عليهما- الحديث. أخرجه الدارقطني والحاكم وصححه. قال الأمير اليماني: تقييد اللبس والمسح ببعد الوضوء دليل على أنه أريد بالطهارة في حديث المغيرة وما في معناه الطهارة المحققة من الحدث الأصغر. (فمسح عليهما) فيه رد على من زعم أن المسح على

ثم ركب فركبت، فانتهينا إلى القوم، وقد قاموا إلى الصلاة ويصلي بهم عبد الرحمن بن عوف، وقد ركع بهم ركعة، فلما أحس بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ذهب يتأخر فأومأ إليه، فأدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - إحدى الركعتين معه. فلما سلم، قام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقمت معه، فركعنا الركعة التي سبقتنا)) . رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الخفين منسوخ بآية المائدة لأنها نزلت في غزوة المريسيع، وهذه القصة كانت في غزوة تبوك، وهي بعدها باتفاق، إذ هي آخر المغازي. (فانتهينا) أي: وصلنا. (وقد قاموا إلى الصلاة) أي: صلاة الصبح، جملة حالية. (ويصلي بهم) أي: والحال أنه يصلي إماماً لهم. وفي مسلم: وقد قاموا في الصلاة يصلي بهم. (عبد الرحمن بن عوف) بن عبدعوف بن عبدبن الحارث بن زهرة القرشي الزهري أبومحمد المدني، أحد العشرة، ولد بعد الفيل بعشر سنين، وأسلم قديماً على يد أبي بكر الصديق، وهاجر إلى الحبشة الهجرتين، وأحد الستة، شهد بدراً والمشاهد كلها، وكان اسمه عبد الكعبة، ويقال: عبدعمرو، فغيره النبي - صلى الله عليه وسلم -. أصيب يوم أحد، وجرح عشرين جراحة أو أكثر فأصابه بعضها في رجله فعرج. قال الزهرى: تصدق على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بأربعة آلاف، ثم بأربعين ألف دينار، ثم حمل على خمس مائة فرس، ثم على خمس مائة راحلة. وكان عامة ماله من التجارة. وأوصى لنساء النبي - صلى الله عليه وسلم - بحديقة قومت بأربعمائة ألف. ومناقبه كثيرة شهيرة. له خمسة وستون حديثاً، اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بخمسة. مات سنة (34) . وقيل: (33) . وقيل (31) . قال بعضهم: وله (75) سنة، ودفن بالبقيع. (فلما أحس بالنبي) أي: علم بمجيئة. (ذهب يتأخر) من موضعه ليتقدم النبي - صلى الله عليه وسلم -. (فأومأ إليه) أي: أشار إليه أن يكون على حاله. (فأدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - إحدى الركعتين معه) أي:اقتدى به في الركعة الثانية. وفيه جواز اقتداء الفاضل بالمفضول، وأن الأفضل تقديم الصلاة في أول الوقت، فإنهم فعلوها أول الوقت، ولم ينتظروا النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن الإمام الراتب إذا أخر عن أول الوقت استحب للجماعة أن يقدموا أحدهم فيصلي بهم. (فلما سلم) أي: عبد الرحمن. (قام النبي) أي: لأداء ما سبق. فيه أن من سبقه الإمام ببعض الصلاة أتى بما أدرك، فإذا سلم أتى بما بقي عليه، ولا يسقط ذلك عنه. وفيه إتباع المسبوق للإمام في فعله في ركوعه، وسجوده، وجلوسه، وإن لم يكن ذلك موضع فعله للإمام، وإنما المسبوق إنما يفارق الإمام بعد سلام الإمام. (فركعنا) أي: صلى كل منا منفرداً، ويحتمل على بعد أن يكون المعنى: صليت معه مقتدياً به في الركعة التي فاتتنا، فيكون دليلاً على جواز إمامة المسبوق، ولا يخفى ما في هذا الاستدلال من الضعف والوهن، لأن ضمير الجمع يكفي له الاشتراك في أصل القضاء، ولا يقتضي ذلك التبعية بحيث أن يكون أحدهما إماماً للآخر في قضاء ما فاتتهما من الركعة، ولو سلم فهي واقعة حال تحتمل الخصوصية وغير ذلك. (رواه مسلم) للحديث طرق وألفاظ عند مسلم ليس السياق المذكور من أوله إلى آخره، أي: بتمامه في طريق منها، بل هو مأخوذ مركب من عدة طرق عنده كما لا يخفى على من تأمل في طرقه وألفاظه. وأصل الحديث متفق عليه بين الشيخين وله ألفاظ في الصحيحين، وأبي داود، والنسائي وابن ماجه، أخرجوه مطولاً ومختصراً، أورده مسلم في الطهارة والصلاة

{الفصل الثاني}

{الفصل الثاني} 521- (3) عن أبي بكرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أنه رخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوماً وليلة، إذا تطهر فلبس خفيه أن يمسح عليهما)) . رواه الأثرم في سننه، وابن خزيمة، ـــــــــــــــــــــــــــــ والبخاري فيهما، وفي الجهاد، والمغازي، واللباس، وليس في روايته ذكر المسح على الناصية والعمامة، وصلاة عبد الرحمن بن عوف بالناس. 521- قوله: (عن أبي بكرة) بسكون الكاف وبالتاء، هو نفيع - بضم النون وفتح الفاء وسكون الياء - ابن الحارث ابن كلدة - بفتحتين - ابن عمرو الثقفي. وقيل: اسمه مسروح، بمهملات. قيل: تدلى من حصن الطائف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ببكرة وأسلم، فكناه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأبي بكرة وأعتقه، فهو من مواليه. كان من خيار الصحابة، ونزل البصرة، وكان ممن اعتزل يوم الجمل وصفين، ولم يقاتل مع واحد من الفريقين. له مائة واثنان وثلاثون حديثاً، اتفقا على ثمانية، وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم بآخر. روى عنه أولاده عبد الرحمن وعبيد الله ومسلم وغيرهم. مات سنة (51) أو (52) . (رخص للمسافر) أي: في المسح على الخفين. (إذا تطهر) أي: كل من المسافر والمقيم إذا تطهر من الحدث الأصغر. (فلبس خفيه) أي: لبس خفيه بعد تمام الطهارة، قاله ابن الملك. قال القاري: ولا يشترط التعقيب، فالفاء لمجرد البعدية. وقال الأمير اليماني: ليس المراد من الفاء التعقيب بل مجرد العطف لأنه معلوم أنه ليس شرطاً في المسح. وفي رواية ابن ماجه: إذا توضأ ولبس خفيه. قال السندي: ظاهره أنه يلبس خفيه بعد الوضوء. (أن يمسح عليهما) هذا الحديث مثل حديث علي رضي الله عنه في إفادة مقدار المدة للمسافر والمقيم، ومثل حديث أنس وصفوان في شرطية الطهارة أي: الوضوء وقت اللبس، وفيه إبانة أن المسح رخصة لتسمية الصحابي له بذلك. (رواه الأثرم) بفتح الهمزة وسكون المثلثة وفتح الراء، هو أبوبكر أحمد بن محمد بن هانئ الإسكافي الطائي، ويقال: الكلبي، صاحب الإمام أحمد بن حنبل، سمع عفان بن مسلم، وأبا الوليد الطيالسي والقعنبي وأبا نعيم ومسدداً وطبقتهم، وصنف التصانيف. حدث عنه النسائي في السنن، وموسى بن هارون، وابن صاعد، وآخرون، وله كتاب في علل الحديث ومسائل أحمد بن حنبل، وكان من أفراد الحفاظ. قال أبوبكر الخلال: كان جليل القدر، حافظاً. وقال الخطيب في تاريخه (ج5:ص110) : كان الأثرم ممن يعد في الحفاظ والأذكياء. وقال الذهبي في التذكرة: كان له تيقظ عجيب. قال ابن معين: كان أحد أبويه جنياً. وقال إبراهيم الأصبهاني: الأثرم أحفظ من أبي زرعة الرازي وأتقن. قال الذهبي: أظنه مات بعد الستين ومائتين. وله كتاب نفيس في السنن يدل على إمامته وسعة حفظه. وقال الخطيب: كان الأثرم من أهل إسكاف بني جنيد، وبه مات (وابن خزيمة) بضم الخاء المعجمة فزأي بعدها تحتية مثناة فتاء تأنيث، هو الحافظ الكبير، إمام الأئمة، شيخ الإسلام أبوبكر محمد بن إسحق بن خزيمة السلمي النيسابوري، ولد سنة (223) وعنى بهذا الشأن في الحداثة، انتهت إليه الإمامة والحفظ في عصره بخراسان، حدث عنه الشيخان خارج صحيحهما. قال: الذهبي: كان هذا الإمام فريد عصره. قال أبوحاتم

والدارقطني. وقال الخطابي: هو صحيح الإسناد، هكذا في المنتقى. 522- (4) وعن صفوان بن عسال، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر إذا كنا سفراً أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ محمد بن حبان التميمي: ما رأيت على وجه الأرض من يحسن صناعة السنن، ويحفظ ألفاظها الصحاح وزياداتها حتى كأن السنن بين عينيه إلا محمد بن إسحق بن خزيمة فقط. وقال الدارقطني: كان ابن خزيمة إماماً ثبتاً معدوم النظير، وفضائله كثيرة استوعب الحاكم سيرته وأحواله، وقد ذكر شيئاً منها الذهبي في التذكرة (ج2:ص287-296) توفي سنة (311) وهو في تسع وثمانين سنة. (والدارقطني. وقال الخطابي) بفتح الخاء المعجمة وتشديد الطاء المهملة نسبة إلى الخطاب، وهو أبوسليمان أحمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب البستي، صاحب معالم السنن في شرح أبي داود، وإعلام السنن في شرح صحيح البخاري، توفي سنة (388) . (هو صحيح الإسناد هكذا في المنتقى) من الأخبار في الأحكام، كتاب مشهور شرحه الشوكاني، وسمى شرحه نيل الأوطار. وهو لمجد الدين أبي البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم المعروف بابن تيمية الحنبلي المتوفي سنة (652) وهو جد شيخ ابن القيم تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن تيمية الحراني المتوفى سنة (728) وارجع لترجمتهما، وكشف أحوال "المنتقى" إلى "إتحاف النبلاء" وأوائل "نيل الأوطار" و"مقدمة تحفة الأحوذي" والحديث أخرجه أيضاً الشافعي وابن أبي شيبة وابن حبان وابن الجارود والبيهقي، والترمذي في العلل المفرد، وصححه أيضاً الشافعي وابن خزيمة. 522- قوله: (وعن صفوان) بفتح الصاد وسكون الفاء. (بن عسال) بفتح العين. (يأمرنا) ظاهره وجوب المسح، ولكن الإجماع صرفه عن ظاهره، فبقى للإباحة والندب. وقد اختلف العلماء هل الأفضل المسح على الخفين أو نزعهما وغسل القدمين؟ فذهب جماعات من الصحابة، والعلماء بعدهم إلى أن الغسل أفضل لكونه الأصل. قال النووي: صرح أصحابنا بأن الغسل أفضل بشرط أن لا يترك المسح رغبة عن السنة، كما قالوا في تفضيل القصر على الإتمام. قلت: ويؤيدهم قول أبي بكرة في الحديث السابق: رخص. وذهب جماعة من التابعين إلى أن المسح أفضل لحديث صفوان هذا، ولأجل من طعن فيه من أهل البدع من الخوارج والروافض، وإحياء ما طعن المخالفون فيه أفضل من تركه. (إذا كنا سفراً) بسكون الفاء جمع سافر، كصحب جمع صاحب أي مسافرين. (أن لا ننزع خفافنا) يعني يأمرنا أن نمسح عليهما، والخفاف بكسر الخاء جمع الخف. (إلا من جنابة) أي: فنزعهما ولو قبل مرور الثلاث، وهو استثناء مفرغ تقديره: أن لا ننزع خفافنا من حديث من الأحداث إلا من جنابة، فإنه لا يجوز للمغتسل أن يمسح على الخف، بل يجب عليه النزع، وغسل الرجلين كسائر الأعضاء. (ولكن) عطف على مقدر يدل عليه "إلا من جنابة" وقوله: (من غائط) متعلق بمحذوف تقديره أمرنا أن ننزع خفافنا من جنابة، ولكن لا ننزعهن من غائط. (وبول ونوم) أي: لأجل هذه الأحداث إلا إذا مرت المدة

رواه الترمذي والنسائي. 523- (5) وعن المغيرة بن شعبة، قال: ((وضأت النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك، فمسح أعلى الخف وأسفله)) . رواه أبوداود، والترمذي، وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث معلول. وسألت أبا زرعة ـــــــــــــــــــــــــــــ المقدرة. وقال الخطابي في معالم السنن (ج1:ص62) : كلمة لكن موضوعة للاستدراك، وذلك لأنه تقدمه نفي واستثناء، وهو قوله: كان يأمرنا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام وليالهن إلا من جنابة. ثم قال: لكن من بول وغائط ونوم. فاستدركه بـ "لكن" ليعلم أن الرخصة إنما جاءت في هذا النوع من الأحداث دون الجنابة، فإن المسافر الماسح على خفه إذا أجنب كان عليه نزع الخف وغسل الرجل مع سائر البدن، وهذا كما تقول: ما جاءني زيد لكن عمرو، وما رأيت زيداً لكن خالداً - انتهي. والحديث فيه دليل على اختصاص المسح على الخفين بالوضوء دون الغسل، وهو مجمع عليه. (رواه الترمذي والنسائي) وأخرجه أيضاً الشافعي وأحمد وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان والدارقطني والبيهقي، والخطابي في معالم السنن. قال الترمذي عن البخاري: إنه حديث حسن، بل قال البخاري: ليس في التوقيت شيء أصح من حديث صفوان بن عسال المرادي. ذكره في سبل السلام (ج1:ص86) وصححه الترمذي، وابن خزيمة والخطابي. 523- قوله: (وضأت النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي: سكبت الوضوء على يديه. وقيل: حصلت وضوءه. (فمسح أعلى الخف وأسفله) فيه بيان محل المسح على الخف وأنه أعلاه وأسفله، لكن الحديث فيه كلام كما ستعرف. ولم أقف في المسح على ظاهر الخف وباطنه على حديث مرفوع صحيح خال عن الكلام، وقد ثبت عن علي والمغيرة مرفوعاً بإسناد جيد مسح الخفين على ظاهرهما فقط، كما سيأتي، فالراجح أن محل المسح هو أعلى الخف دون أسفله. (رواه أبوداود والترمذي وابن ماجه) وأخرجه أيضاً أحمد وابن الجارود والدارقطني والبيهقي كلهم من طريق الوليد بن مسلم عن ثور بن يزيد، عن رجاء بن حيوة عن كاتب المغيرة، عن المغيرة. وفي رواية ابن ماجه: عن وراد كاتب المغيرة، عن المغيرة. (وقال الترمذي: هذا حديث معلول) هذا لحن على طريق أهل اللغة لأنه من عله بالشراب إذا سقاه مرة بعد أخرى. ويقال له: المعلل، أيضاً. والأجود فيه أن يقال: معل بلام واحدة لأنه مفعول أعل قياساً، وأما معلل فمفعول علل وهو لغة بمعنى ألهاه بالشيء وشغله. والحديث المعلل أو المعل ما اطلع فيه على علة غامضة خفية تقدح في صحته مع ظهور السلامة، يتنبه لها الحذاق المهرة من أهل هذا الشأن، كإرسال في الموصول، ووقف في المرفوع، ونحو ذلك. وحديث المغيرة هذا قد بين الترمذي علته بقوله: لم يسنده أي: لم يروه متصلاً عن ثور بن يزيد غير الوليد بن مسلم (وسألت أبازرعة) هو

ومحمداً يعني البخاري، عن هذا الحديث، فقالا: ليس بصحيح، وكذا ضعفه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ عبيد الله بن عبد الكريم بن يزيد بن فروخ أبوزرعة الرازي القرشي مولاهم، إمام حافظ ثقة مشهور، عن خلق كثير وعنه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وأبو حاتم وآخرون. قال الخطيب: كان إماماً ربانياً حافظاً مكثراً. وقال الذهبي: سمع خلقاً كثيراً بالحرمين، والعراق، والشام، والجزيرة، وخراسان، ومصر. وكان من أفراد الدهر حفظاً، وذكاءً، وديناً، وإخلاصاً، وعلماً، وعملاً. وقال ابن حبان في الثقات: كان أحد أئمة الدنيا في الحديث مع الدين والورع، والمواظبة على الحفظ والمذاكرة، وترك الدنيا وما فيه الناس. مات في آخر يوم من سنة (264) وله أربعون ستون سنة. وقد بسط ترجمته الذهبي في التذكرة (ج2:ص136-138) والحافظ في تهذيب التهذيب (ج7:ص30-33) والشيخ في مقدمة شرح الترمذي (ص229) . (ومحمداً يعني البخاري عن هذا الحديث، فقالا ليس بصحيح) لأن ابن المبارك روى هذا عن ثور عن رجاء، قال: حدثت عن كاتب المغيرة مرسلاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يذكر فيه المغيرة. (وكذا ضعفه أبوداود) قال: بلغني أنه لم يسمع ثور هذا الحديث من رجاء، وهذا خلاف ما علل به أبوزرعة والبخاري، أن رجاء لم يسمعه من كاتب المغيرة. قلت: وضعفه أيضاً الشافعي وأحمد وأبوحاتم وموسى بن هارون والدارقطني، وغيرهم. واعلم أنه أعل هذا الحديث بخمس علل: الأولى: تدليس الوليد بن مسلم، وهي مدفوعة بأن الوليد قال: حدثنا ثور، كما في رواية ابن ماجه، وفي رواية الترمذي أخبرني ثور، فلا تدليس. والثانية: أن ثوراً لم يسمعه من رجاء، فإنه قال: حدثت عن رجاء، كما ذكره الأثرم عن أحمد. وأجيب عنها بأن الدارقطني والبيهقي، روياه من طريق داود بن رشيد، وهو ثقة، ثنا الوليد بن مسلم عن ثور بن يزيد: ثنا رجاء بن حيوة. فقد صرح ثور في هذه الرواية بالسماع من رجاء، فزالت العلة. قال الحافظ: لكن رواه أحمد بن عبيد الصفار في مسنده عن أحمد بن يحيى، عن الحلواني، عن داود بن رشيد، فقال عن رجاء، ولم يقل: حدثنا رجاء، فهذا اختلاف على داود يمنع القول بصحة وصلة مع ما تقدم في كلام الأئمة - انتهى. الثالثة: الإرسال، فقد رواه ابن المبارك عن ثور مرسلاً لم يذكر المغيرة، وأجيب عنها بأن الوليد بن مسلم ثقة، فإن خالفه ابن المبارك في هذه الرواية فإنما زاد أحدهما من الآخر، وزيادة الثقة مقبولة، ولم يتفرد الوليد بذكر المغيرة بل تابعه على ذلك إبراهيم بن أبي حبيبة عند الشافعي في الأم ومحمد بن عيسى بن سميع على ما ذكره الدارقطني في العلل، فقد روياه عن ثور مثل الوليد بن مسلم. والرابعة: أن رجاء لم يسمعه عن كاتب المغيرة، فإنه قال: حدثت عن كاتب المغيرة. كما تقدم. والخامسة: جهالة كاتب المغيرة وهي مدفوعة بما في رواية ابن ماجه من تصريح اسمه بأنه وراد. قلت: الظاهر أن حديث المغيرة هذا ضعيف، فإن العلة الرابعة عقيمة عن الجواب، وهي مؤثرة وحدها في صحة الحديث. وأما ما ذكر من متابعة إبراهيم بن أبي حبيبة، ومحمد بن عيسى بن سميع لثور ففيه أن ابن أبي حبيبة هذا قد ضعفه عامة المحدثين، ووثقة تلميذه الشافعي فقط، ومحمد بن عيسى وإن كان صدوقاً لكنه يخطئ ويدلس.

524- (6) وعنه، أنه قال: ((رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح على الخفين على ظاهرهما)) . رواه الترمذي، وأبوداود. 525- (7) وعنه، قال: ((توضأ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومسح على الجوربين والنعلين)) . رواه أحمد، والترمذي، وابوداود، وابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ 524- قوله: (على ظاهرهما) أي: على أعلاهما، فيه دليل على أن محل المسح أعلى الخفين وظاهرهما، لا غير. (رواه الترمذي) وقال: حديث حسن. (وأبوداود) وسكت عنه. ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره. وقال: الحافظ في التلخيص: إسناده صحيح. والحديث أخرجه أيضاً البخاري في التاريخ الأوسط والطيالسي والبيهقي. وفي الباب أيضاً عن عمر بن الخطاب عند ابن أبي شيبة والبيهقي، قاله الشوكاني. 525- قوله: (ومسح على الجوربين) تثنية جورب، وهو لفافة الرجل، وقيل: غشاء للقدم من صوف أو شعر أو كرباس، أو جلد، ثخيناً كان أو رقيقاً إلى نحو الساق. (والنعلين) أي: مع النعلين، تثنية النعل، وهو ما وقيت به القدم من الأرض كالنعلة، قاله في القاموس. وقال الجزري: النعل مؤنثة، وهي التي تلبس في المشى، تسمى الآن تاسومة – انتهى. والمعنى النعلين لبسهما فوق الجوربين، فمسح على الجوربين والنعلين معاً، وكان قاصداً بمسحه ذلك إلى جوربيه لا إلى نعليه، فكان مسحه على الجوربين هو الذي تطهر به، ومسحه على النعلين فضل. هذا حاصل ما قاله الخطابي والطحاوي وابن القيم والطيبي وقيل في معناه غير ذلك، والصواب ما قال: هؤلاء الأئمة. وفي الحديث دليل على جواز مسح الجورب من أي: شيء كان ثخيناً أو رقيقاً، لأنه ورد في الحديث مطلقاً غير مقيد بوصف التجليد، أو التنعيل، أو الصفافة والثخونة من كرباس، أو صوف، أو شعر أو جلد، لكن الحديث قد تكلم فيه الأئمة كما سيأتي. وفي الباب عن أبي موسى أخرجه ابن ماجه والطحاوي والبيهقي وهو ضعيف، وعن بلال أخرجه الطبراني وغيره، وفيه أيضاً ضعف، نعم قد صح المسح على الجوربين عن كثير من الصحابة، ذكر أسماءهم أبوداود في سننه. وقد أشبع شيخنا الكلام على هذه المسألة في شرح الترمذي (ج1:ص100-104) وابن حزم في المحلي (ج2:ص84-87) فارجع إليهما. والراجح عندي أن الجوربين إذا كان ثخينين بحيث يستمسكان على القدمين بلا شد ويمكن المشي فيهما يجوز المسح عليهما لأنهما في معنى الخفين، وإن لم يكونا كذلك ففي جواز المسح عليهما عندي تأمل، عملاً بقوله: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك. ومن اطمئن قلبه بعد إمعان النظر في المسألة بإطلاق القول في المسح عليهما فهو وشأنه. (رواه أحمد والترمذي وأبوداود وابن ماجه) وأخرجه أيضاً البيهقي، وابن حبان في صحيحه، كلهم من حديث أبي قيس، عن هزيل بن شرجيل عن المغيرة. والحديث قد صححه الترمذي، وضعفه كثير من الأئمة مثل سفيان الثوري، وعبد الرحمن بن مهدى وأحمد

{الفصل الثالث}

{الفصل الثالث} 526- (8) عن المغيرة، قال: ((مسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الخفين. فقلت: يا رسول الله! نسيت؟ قال: بل أنت نسيت، بهذا أمرني ربي عزوجل)) . رواه أحمد، وأبوداود. 527- (9) وعن علي، قال: لو كان الدين بالرأي: لكان أسفل الخف ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني ومسلم بن الحجاج، وأبي داود، والنسائي، والبيهقي، والنووي. وحاصل ما ضعفوه به أن المعروف عن المغيرة حديث المسح على الخفين، وأن هزيل بن شرجيل رواه عن المغيرة فقال: مسح على الجوربين، فخالف جميع الناس الذين رووا عن المغيرة المسح على الخفين. قلت: قال الشيخ تقي الدين في الإمام: ومن يصححه يعتمد على كونه ليس مخالفاً لرواية الجمهور مخالفة معارضة، بل هو أمر زائد على ما رووه ولا يعارضه، ولا سيما وهو طريق مستقل برواية هزيل عن المغيرة لم يشارك المشهورات في سندها. وقال غيره: مخالفة هزيل للناس إنما تضر إذا كان ما رووه حكاية عن فعل وقت واحد، وأما إذا كان حكاية عن وضوءين مختلفين وقعا في وقتين مختلفين، فلا يضره الرواية المعروفة عن المغيرة في المسح على الخفين، لأنهما حديثان مختلفان، وروايتان عن حادثتين مختلفتين، والمغيرة صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو خمس سنين، فلا بعد في أن يشهد من النبي وقائع متعددة يحكيها، فيسمع بعض الرواة منه شيئاً، ويسمع غيره شيئاً آخر. 526- قوله: (نسيت) يحتمل تقدير همزة الاستفهام وتركه. (قال) أي: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما نسيت. (بل أنت نسيت) أي: إني مشرع حيث نسبت إلى النسيان. (بهذا أمرني ربي) ففعلي عمد، أو المعنى تركت الأدب حيث جزمت بنسبة النسيان إلي، فيكون قوله: بل نسيت. معناه أخطأت، ويكون من باب المشاكلة، ومعنى قوله: بهذا. أي: بالمسح أمرني. أي: أمر إباحة وندب. ربي أي: بالوحي الغير المتلو. وقيل: فيه إشارة إلى أن المسح على الخفين ثابت بالكتاب أيضاً أي: على قراءة الجرفي {أرجلكم} . (رواه أحمد وأبوداود) قال الشوكاني: الحديث إسناده صحيح، ولم يتكلم عليه أبوداود، ولا المنذري في تخريج السنن ولا غيرهما. قلت: في سنده بكير بن عامر البجلى، قال: الحافظ في التقريب: ضعيف - انتهى. وضعفه يحيى بن معين والنسائي وأبو زرعة وأحمد في رواية. ووثقه ابن سعد والحاكم والعجلي، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: أبوداود: ليس بالمتروك. 527- قوله: (لو كان الدين بالرأي) أي: بالقياس، وملاحظة المعاني دون الرواية والنقل (لكان أسفل الخف)

(10) باب التيمم

أولى بالمسح أعلاه، وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على ظاهر خفيه. رواه أبوداود، وللدارمي معناه. (10) باب التيمم ـــــــــــــــــــــــــــــ لقربة من القاذورات والأوساخ. (أولى بالمسح من أعلاه) أي: ما تحت القدمين أولى بالمسح من الذي هو على أعلاهما، لأنه الذي يباشر المشي ويقع على ما ينبغي إزالته، بخلاف أعلاه، وهو ما على ظهر القدم. (يمسح على ظاهر خفيه) أي: على أعلاهما دون أسفلهما يعني فلا يعتبر بالرأي والقياس الذي هو على خلاف فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. واعلم أن العقل الكامل تابع للشرع لأنه عاجز عن إدراك الحكم الإلهية، فعليه التعبد المحض بمقتضى العبودية، وما ضل من ضل من الكفرة، والحكماء، والمبتدعة وأهل الأهواء إلا بمتابعة العقل، وترك موافقة النقل. والحديث نص على المسح المشروع هو مسح ظاهر الخف أي: أعلاه دون باطنه أي: أسفله. (رواه أبوداود) بإسناد حسن، قاله الحافظ في بلوغ المرام. وقال في التلخيص: إسناده صحيح. (وللدارمي) جار ومجرور خبر مقدم مبتدأه. (معناه) أي: معنى هذا الحديث دون لفظه. وأعلم أن الأحاديث المذكورة في الباب ليس فيها تعرض للقدر المجزئ من المسح، نعم قد روى عن علي رضي الله عنه أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على ظاهر الخف خطوطاً بالأصابع. قال النووي في شرح المهذب: إنه حديث ضعيف وروى عن جابر أنه - صلى الله عليه وسلم - أرى بعض من علمه المسح أن يمسح بيده من مقدم الخفين إلى أصل الساق مرة، وفرج بين أصابعه. أخرجه الطبراني في الأوسط، وعزاه ابن الجوزي في التحقيق إلى رواية ابن ماجه. قال الحافظ: هو في بعض نسخ ابن ماجه دون بعض. وقد استدركه المزى على ابن عساكر في الأطراف، وإسناده ضعيف جداً - انتهى. وقد عرفت من هذا أنه لم يرد في الكيفية والكمية حديث يعتمد عليه إلا حديث علي والمغيرة في بيان محل المسح. قال الأمير اليماني: والظاهر أنه إذا فعل المكلف ما يسمى مسحاً على لغة أجزأه - انتهى. (باب التيمم) قال الله تعالى: {إن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم في الدين من حرج ولكن يريد ليطهركم} الآية [6:5] . والتيمم في اللغة القصد، وفي الشرع: القصد إلى الصعيد الطيب لمسح الوجه واليدين بنية استباحة الصلاة ونحوها. وهو من خصائص هذه الأمة نصاً وإجماعاً. واختلف هل التيمم عزيمة أورخصة؟ وفصل بعضهم، فقال: هو لعدم الماء عزيمة، وللعذر رخصة. قال الشاه ولي الله: لما كان من سنة الله في شرائعه أن يسهل عليهم كل ما لا يستطيعونه وكان أحق أنواع التيسير أن يسقط ما فيه حرج إلى بدل لتطمئن نفوسهم، ولا تختلف الخواطر عليهم بإهمال ما التزموه غاية الالتزام مرة واحدة ولا يألفوا ترك الطهارات أسقط الوضوء والغسل

{الفصل الأول}

{الفصل الأول} 528- (1) عن حذيفة، قال: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً، ـــــــــــــــــــــــــــــ في المرض والسفر إلى التيمم، ولما كان ذلك كذلك نزل القضاء في الملأ الأعلى بإقامة التيمم مقام الوضوء والغسل، وحصل له وجود تشبيهي أنه طهارة من الطهارات، وهذا القضاء أحد الأمور والعظام التي تميزت به الملة المصطفوية من سائر الملل، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: جعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء. قال: إنما خص الأرض لأنها لا تكاد تفقد، فهي أحق ما يرفع به الحرج، ولأنها طهور في بعض الأشياء كالخف والسيف بدلاً عن الغسل بالماء، ولأن فيه تذللاً بمنزلة تعفير الوجه في التراب، وهو يناسب طلب العفو، وإنما لم يفرق بين بدل الغسل والوضوء، ولم يشرع التمرغ لأن من حق ما لا يعقل معناه بادي الرأي: أن يجعل كالمؤثر بالخاصية دون المقدار، فإنه هو الذي اطمأنت نفوسهم به في هذا الباب، ولأن التمرغ فيه بعض الحرج فلا يصلح رافعاً للحرج بالكلية. وفي معنى المرض البرد الضار لحديث عمرو بن العاص، والسفر ليس بقيد، إنما هو صورة لعدم وجدان الماء يتبادر إلى الذهن. وإنما لم يؤمر بمسح الرجل بالتراب لأن الرجل محل الأوساخ، وإنما يؤمر بما ليس حاصلاً ليحصل التنبه – انتهى. وقد يظن من لا يفقه أغراض الشريعة الإسلامية أن التراب قد يكون ملوثاً بالميكروبات الضارة أي: جراثيم الأمراض، فمسح الوجه به ضرر لا نفع فيه. والذي يقول لم يفهم معني التيمم، ولم يدرك الغرض منه لأن الشارع قد اشترط أن يكون التراب طاهراً نظيفاً، ولم يشترط أن يأخذ التراب ويضعه على وجهه، بل المفروض هو أن يأتي بكيفية خاصة تبيح له العبادة الموقوفة على الوضوء والغسل. كذا في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة. 528- قوله: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) متحدثاً بنعمة الله ومبيناً لأحكام شرعه. (فضلنا على الناس) بصيغة المجهول مشدداً أي: فضلنا الله على جميع الأمم السالفة، وحذف الفاعل للعلم. (بثلاث) أي: بثلاث خصال لم تكن لهم واحدة منها، ومفهوم العدد غير مراد، لأنه قد ثبت أنه فضل بأكثر من ذلك. وقيل: كان تنزل عليه - صلى الله عليه وسلم - خصائص أمته شيئاً فشيئاً، فيخبر عن كل نزل عليه عند إنزاله بما يناسبه. وقد عد السيوطي خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيها خصائص أمته أيضاً في "خصائصه الكبرى" زيادة عن المائتين، وهذا إجمال، فصله قوله: (جعلت صفوفنا) أي: وقوفنا في الصلاة. (كصفوف الملائكة) أي: في الطاعة، أو في الصلاة، وهي أنهم يتمون المقدم، ثم الذي يليه من الصفوف، ثم يراصون الصفوف، كما ورد التصريح بذلك في سنن أبي داود وغيره. بخلاف الأمم الماضية، فإنهم كانوا يقفون في الصلاة كيف ما اتفق. (مسجداً) أي: موضع سجود لا يختص السجود منها بموضع دون غيره، وهذه لم تكن لغير أمته - صلى الله عليه وسلم - كما صرح به في رواية عمرو بن شعيب عند أحمد: وكان من قبلي إنما يصلون في كنائسهم. وفي رواية ابن عباس عند البزار:

وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولم يكن أحد من الأنبياء يصلي حتى يبلغ محرابه. (وجعلت تربتها) أي: ترابها كما في حديث علي عند أحمد والبيهقي. والتراب أعم من أن يكون سبخاً أو غيره لأن المدينة سبخة، وقد كانوا يتيممون منها. (لنا طهوراً) أي: مطهراً. فيه دليل على أن التراب يرفع الحدث كالماء لاشتراكهما في الطهورية. (إذا لم نجد الماء) هذا القيد قرآني معتبر في الأحاديث المطلقة. واستدل بالحديث على أن التراب متعين للتيمم دون بقية الجامدات من أجزاء الأرض كالحجر، والكحل، والزرنيخ، والجص، والنورة، والإثمد، والمرجان، والآجر، والملح معدنياً كان أو مائياً، وكالحديد والنحاس والصفر والذهب والفضة، ونحوها مما يذاب بالنار متميزاً عن التراب. قال الحافظ: دل الافتراق في اللفظ حيث حصل التأكيد في جعلها مسجداً دون الآخر على الافتراق في الحكم، أي: بتعين التراب للتيمم دون السجود، وإلا لعطف أحدهما على الآخر نسقاً كما وقع في حديث جابر عند الشيخين بلفظ: وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً – انتهى. وقال الشوكاني في السيل الجرار: ومما يعين التراب ويقيد أنه المراد أن جماعة من أهل اللغة كصاحب القاموس وغيره فسروا الصعيد بالتراب، وما صعد على وجه الأرض، فجعلوا التراب أحد معنى الصعيد، فالروايات المصرحة بالتراب هي معينة لأحد معنى الصعيد انتهى. وقال العلامة القنوجي في تفسير سورة النساء من فتح البيان (ج2:ص228) بعد ذكر حديث حذيفة هذا ما لفظه: فهذا مبين لمعنى الصعيد المذكور في الآية، أو مخصص لعمومه، أو مقيد لإطلاقه. ويؤيد هذا ما حكاه ابن فارس عن كتاب الخليل: تيمم بالصعيد أي: خذ من غباره - انتهى. والحجر الصلد لا غبار عليه. قلت: ويقوى كون المراد التراب قوله تعالى في المائدة: {فامسحوا بوجوهكم وأيدكم منه} [6:5] وذلك أن كلمة "من" للتبعيض كما قال في الكشاف حيث قال: إنه لا يفهم أحد من العرب قول القائل: مسحت برأسه من الدهن ومن التراب، إلا معنى التبعيض والتبعيض لا يتحقق إلا في المسح بالتراب لا من الحجارة ونحوها. وأيضاً التنصيص على التراب في الأحاديث يدل على أن ذلك البعض هو التراب. قال الشوكاني في السيل الجرار: ولا يعارض هذا تيممه - صلى الله عليه وسلم - من الحائط، فإنه لم يرو أنه كان معموراً من الحجر، بل الظاهر أنه معمور بالطين، وإذا كان كذلك فالضرب فيه لا يبعد أن يعلق باليد من تربته ما له أثر يمسح به. وقد أخرج الشافعي أنه حته أي: الحائط الذي تيمم منه، وقد أخرج هذه الزيادة البيهقي من طريق الشافعي، ثم قال: وفي إسنادها يعني هذه الزيادة إبراهيم بن أبي يحيى شيخ الشافعي، عن أبي الحويرث- وهو متكلم فيهما - عن الأعرج، عن أبي الصمة، وهو يعني الأعرج لم يسمع منه – انتهى. قلت: ويلتحق بالتراب الرمل، فيجوز التيمم به أيضاً كالتراب. قال ابن القيم في زاد المعاد (ج1:ص51) : صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: حيثما أدركت رجلاً من أمتي الصلاة، فعنده مسجده وطهوره. وهذا نص صريح في أن من أدركته الصلاة في الرمل له طهور. ولما سافر هو وأصحابه في غزوة تبوك قطعوا تلك الرمال في طريقهم، وماءهم في غاية القلة، ولم يرو عنه أنه حمل معه التراب ولا أمر به، ولا فعله أحد من أصحابه مع القطع بأن في المفاوز الرمال أكثر من التراب، وكذلك أرض الحجاز وغيره.

رواه مسلم. 529- (2) وعن عمران، قال: ((كنا في سفر مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فصلى بالناس، فلما انفتل من صلاته، إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم، فقال: ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟) . قال: أصابتني جنابة، ولا ماء. قال: عليك بالصعيد، فإنه يكفيك)) . متفق عليه. 530- (3) وعن عمار، قال: ((جاء رجل إلى عمر بن الخطاب، فقال: إني أجنبت، فلم أصب الماء. ـــــــــــــــــــــــــــــ ومن تدبر هذا قطع بأنه كان تيمم بالرمل- انتهى. هذا والخصلة الثالثة مبهمة، وقد بينها ابن خزيمة والنسائي وهي: وأعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرض، يشير إلى ما حطه الله عن أمته من الإصر وتحميل ما لا طاقة لهم به، ورفع الخطأ والنسيان. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً ابن خزيمة والنسائي. 529- قوله: (كنا في سفر) أي: عند رجوعهم من خيبر، أو الحديبية، أو في طريق مكة، أو بطريق تبوك. (فصلى بالناس) أي: إماماً لهم. (فلما انفتل) أي: انصرف وفرغ. (إذا هو) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو مبتدأ خبره قوله: (برجل) لم يسم، وقيل: هو خلاد بن رافع أخو رفاعة، ولكن وهموا قائله. (معتزل) أي: منفرد عن القوم، خارج من بينهم، واقف في ناحية. والجملة جواب لما، أي: فلما انفتل فاجأه رؤية رجل معتزل غير مصل. (ولا ماء) موجود بالكلية. وماء بفتح الهمزة، ويحتمل أن تكون لا ههنا بمعنى ليس، فيرتفع الماء حينئذ، ويكون المعنى ليس ماء عندي. (عليك بالصعيد) اسم فعل بمعنى خذ والزم، والباء زائدة، واللام للعهد المذكور في الآية. (فإنه) أي: الصعيد. (يكفيك) أي: لصحة الصلاة، ويجزئك عن الماء عند عدمه. والحديث نص في جواز التيمم للجنب، وهو مجمع عليه، لم يخالف فيه أحد من الخلف ولا من السلف إلا ما جاء عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود، وحكى مثله عن إبراهيم النخعي من عدم جوازه للجنب. وقيل: إن عمر وعبد الله رجعا عن ذلك، وقد جاءت في جوازه للجنب الأحاديث الصحيحة. واستدل بالحديث على كون التيمم طهارة مطلقة. قال الحافظ: احتج البخاري لعدم وجوب التيمم لكل صلاة بعموم قوله: - صلى الله عليه وسلم - عليك بالصعيد، فإنه يكفيك. قال: وهذه المسألة وافق فيها البخاري الكوفيين والجمهور – انتهى. قلت: وهو الراجح عندي. (متفق عليه) أخرجه البخاري في التيمم، وفي علامات النبوة، ومسلم في الصلاة مطولاً، وأخرجه أيضاً النسائي في الطهارة مختصراً. 530- قوله: (وعن عمار) فيه: أن الذي وقع في الصحيحين وغيرهما أن عبد الرحمن بن أبزى هو الذي روى أول القصة، أعنى قوله: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب. فقال: إن أجنبت، فلم أصب الماء. فهذا القدر إنما هو رواية عبد الرحمن دون عمار، فالصواب أن يقول المصنف: عن عبد الرحمن بن أبزى بدل عن عمار، ويدل على ما قلنا قوله: فقال: عمار لعمر. (جاء رجل) لم يسم. (إني أجنبت) أي: صرت جنباً. (فلم أصب الماء) من الإصابة أي: لم أجده، فقال

فقال عمار لعمر: أما تذكر أنا كنا في سفر أنا وأنت؟ فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت فصليت، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إنما كان يكفيك هكذا، فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض، ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه. ـــــــــــــــــــــــــــــ عمر: لا تصل حتى تجد الماء. (في سفر) ولمسلم: في سرية، وزاد: فأجنبنا. (أنا وأنت) تأكيد وبيان لضمير كنا، فالمعنى فأجنبنا كلنا. (فأما أنت فلم تصل) لأنه كان يتوقع الوصول إلى الماء قبل خروج الوقت، أو لاعتقاد أن التيمم إنما هو عن الحديث الأصغر لا الأكبر، وهذا هو الأظهر، وقاس عمار الحدث الأكبر على الأصغر. (فتمعكت) أي: تمرغت وتقلبت في التراب، كأنه ظن أن إيصال التراب إلى جميع الأعضاء واجب في تيمم الجنابة كإيصال الماء في غسلها. وبه يظهر أن المجتهد يخطئ ويصيب. (فذكرت ذلك) أي: ما ذكر من امتناع عمر عن الصلاة، وتمعكي في التراب. (إنما كان يكفيك هذا) مجمل تفسيره. (فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض) فيه أن تعليمه - صلى الله عليه وسلم - لعمار كيفية التيمم كان بالفعل، والرواية الآتية تدل على أنه كان بالقول. قال القاري: والجمع بين الحديثين: أنه عليه الصلاة والسلام جمع في التعليم بين القول والفعل تأكيداً للإعلام وتنبيها على الإهتمام. (ونفخ فيهما) يحتمل أن يكون النفخ لشيء علق بيده خشي أن يصيب وجهه الكريم، أو علق بيده من التراب شيء له كثرة، فأراد تخفيفه لئلا يبقى له أثر في وجهه. (ثم مسح بهما وجهه وكفيه) أي: ظاهرهما. والحديث فيه دليل على أنه يكفي في التيمم ضربة واحدة، ويكفي في اليدين مسح الكفين، وأن الآية مجملة بينها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاقتصار على الكفين. والاكتفاء بالضربة الواحدة، وبمسح الراحتين وظاهر الكفين، هو مذهب جمهور العلماء، وأهل الحديث عملاً بحديث عمار هذا، فإنه أصح حديث في الباب، كما أقر به التوربشتي والخطابي وابن دقيق العيد وغيرهم قال الشيخ عبد الحى اللكنوي: أقوى الأقوال فيه من حيث الدليل هو الاكتفاء بمسح اليدين إلى الرسغين لما ثبت في روايات حديث عمار الصحيحة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه كيفية التيمم حين بلغه تمعكه في التراب، واكتفى فيه على مسح الوجه والكفين – انتهى. وقال الحافظ في الفتح: - وما أحسن ما قال! - إن الأحاديث الواردة في التيمم لم يصح منها سوى حديث أبي جهيم، وعمار. وما عداهما، فضعيف أو مختلف في رفعه ووقفه، والراجح عدم رفعه. فأما حديث أبي جهيم فورد بذكر اليدين مجملاً، وأما حديث عمار فورد بذكر الكفين في الصحيحين، وبذكر المرفقين في السنن، وفي رواية إلى نصف الذراع، وفي رواية إلى الآباط. فأما رواية المرفقين، وكذا نصف الذراع، ففيهما مقال، وأما رواية الآباط أي الآتية في الفصل الثالث، فقال الشافعي وغيره: إن كان ذلك وقع بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكل تيمم صح للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعده فهو ناسخ له، وإن كان بغير أمره فالحجة فيما أمر به. ومما يقوى رواية الصحيحين في الاقتصار على الوجه والكفين كون عمار يفتى بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وراوي الحديث أعرف بالمراد به من غيره، ولا سيما الصحابي المجتهد - انتهى.

رواه البخاري. ولمسلم نحوه، وفيه قال: ((إنما يكفيك أن تضرب بيديك الأرض، ثم تنفخ ثم تمسح بهما وجهك وكفيك)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال الشوكاني في السيل الجرار: إن جميع الأحاديث الصحيحة ليس فيها إلا ضربة واحدة للوجه والكفين فقط. وجمع ما ورد في الضربتين أو كون المسح إلى المرفقين لا يخلو عن ضعف يسقط به عن درجة الاعتبار، ولا يصلح للعمل عليه، حتى يقال: إنه مشتمل على زيادة، والزيادة يجب قبولها، فالواجب الاقتصار على ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة - انتهى. قال ابن رشد في البداية: إن الصواب هو أن يعتقد أن الفرض إنما هو الكفان فقط، وذلك أن اسم اليد لا يخلو أن يكون في الكف أظهر منه في سائر الأجزاء، أو يكون دلالته على سائر أجزاء الذراع والعضد بالسواء، فإن كان أظهر فيجب المصير إليه على ما يجب المصير إلى الأخذ بالظاهر، وإن لم يكن أظهر، فيجب المصير إلى الأخذ بالأثر الثابت، فأما أن يغلب القياس ههنا على الأثر فلا معنى له، ولا أن ترجح به أيضاً أحاديث لم تثبت بعد، فالقول في هذه المسألة بين من الكتاب والسنة - انتهى. وفي الحديث أن مسح الوجه واليدين بدل في الجنابة عن كل البدن، وإنما لم يأمر عماراً بالإعادة لأنه عمل أكثر مما كان يجب عليه في التيمم. (رواه البخاري) أي: بهذا اللفظ في "باب هل ينفخ في يديه بعد ما يضرب بهما الصعيد للتيمم" وأخرجه أيضاً مسلم كما ذكره المصنف والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه بألفاظ مطولاً ومختصراً. قوله: (إنما يكفيك أن تضرب بيدك الأرض ثم تنفخ) الخ. فيه رد صريح على من أجاب عن رواية عمار المتقدمة بأن تعليمه له وقع بالفعل، وقد ورد في الأحاديث القولية المسح إلى المرفقين، ومن المعلوم أن القول مقدم على الفعل. ووجه الرد أن رواية مسلم هذه تدل صريحاً على أن التعليم وقع بالقول أيضاً، كما يدل على ذلك ما وقع في رواية للبخاري: يكفيك الوجه والكفان. وقد تفوه بعض أهل الأهواء أن قوله: يكفيك الوجه والكفان، لعله رواية بالمعنى، وحكاية للفعل بالقول، وإنما كان أشار إليه كما في الرواية المارة؛ إنما كان يكفيك هكذا، وكانت تلك إشارة إلى المعهود. وقال تلميذه الذي لا يتحاشى مثل شيخه عن استطالة اللسان على فقهاء أصحاب الحديث وإساءة الأدب في شأنهم نصرة لقول هذا البعض، والقرينة على أن الأصل في روايته هو التعليم بالإشارة، وأن التعليم بالقول رواية بالمعنى، ما عنه عند البخاري: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما كان يكفيك هكذا، فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض، الخ. ففيه ذكر التعليم القولي مع فعله - صلى الله عليه وسلم - بالكفين، فلما كان ذكر الكفين جرى في ذيل فعله، وكان بياناً لقوله: أخذ بعض الرواة في بيان القول، ثم رفعه - انتهى. قلت: من عادة هؤلاء المشغوفين بآراء الرجال والأقيسة والأهواء أنهم إذا رأوا حديثاً مرفوعاً صحيحاً مخالفاً لقول إمامهم اشمأزوا منه، واخترعوا لرده تأويلات متبجحين بها، فتارة يجعلونه منسوخاً، وأخرى رواية بالمعنى، وتارة يحاولون

531- (4) وعن أبي الجهيم بن الحارث بن الصمة، قال: ((مررت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول، فسلمت عليه، فلم يرد علي حتى قام إلى جدار، فحته بعصاً كانت معه، ثم وضع يديه على الجدار، ـــــــــــــــــــــــــــــ تضعيفه، وأخرى ينسبون إلى الصحابي فهم خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونحو ذلك من الوجوه الباطلة التي هي تحريفات معنوية للحديث الصحيح. وعندنا لا تخالف بين هذه الروايات، فقد جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - في تعليمه لعمار كيفية التيمم بين الإشارة والقول والفعل، مبالغة في الإعلام، كما أقربه القاري، والشيخ اللكنوي. فالظاهر أنه أشار - صلى الله عليه وسلم - أولاً، ثم فسر إشارته بفعله، وعلم مع ذلك بالقول أيضاً. وأما رواية البخاري هذه فالأظهر أن الراوي اكتفى فيها بذكر التعليم بالإشارة والفعل دون القول فلا دلالة فيها على أن الرواية الأخرى التي فيها ذكر القول رواية بالمعنى، فإنها تحمل على أن الراوي اقتصر مرة على ذكر الإشارة والفعل، وأخرى على ذكر القول، ولا بعد فيه عند من له خبرة وإطلاع على الأحاديث. وأما من أعمى الله قلبه وبصيرته فهو معذور. هذا، وقد أجاب القائلون بمسح اليدين إلى المرفقين، وتعدد الضربة عن حديث عمار هذا بوجوه أخرى كلها واهية، قد ردها وأبطلها شيخنا في شرح الترمذي (ج1:ص 134، 135) فارجع إليه لتقف على ما تعللوا به لرد هذا الحديث الصحيح من الأعذار الباردة، وتعتبر. وقد استدل هؤلاء على ما ذهبوا إليه بأحاديث لا تصلح للاحتجاج لما لا يخلوا واحد منها من المقال، كما تقدم إليه الإشارة في كلام الحافظ. واحتجوا أيضاً بآثار الصحابة، وأنت تعلم أن الأثر لا يقاوم الحديث المرفوع. وقد ذكر شيخنا في شرح الترمذي وفي أبكار المنن (ص63-65) أحاديث الضربتين، وبين ما فيها من الكلام، فعليك أن تراجعهما. 531- قوله: (وعن أبي الجهيم) بضم الجيم وفتح الهاء وسكون الياء. (بن الحارث بن الصمة) بكسر الصاد المهملة وتشديد الميم، ابن عمرو الأنصاري الخزرجي ابن أخت أبي بن كعب، صحابي معروف، بقى إلى خلافة معاوية. واختلف في اسمه، فقيل: هو عبد الله بن الحارث بن الصمة. وقيل: هو عبد الله بن الجهيم بن الحارث بن الصمة، نسب إلى جده. وقيل: إنه الحارث بن الصمة. ولفظ "ابن" بين أبي الجهيم والحارث غلط. وقيل: الحارث بن الصمة رجل آخر غير أبي الجهيم. ولأبي الجهيم حديثان في الصحيحين، أحدهما في التيمم على الجدار، والثاني في المار بين يدي المصلي. وسيأتي في باب السترة. وقال ابن الأثير، وابن عبد البر: راوي حديث التيمم غير راوي حديث المرور، فالأول هو أبوالجهيم بن الحارث بن الصمة، والثاني أبوالجهيم عبد الله بن الجهيم الأنصاري، وجعلهما ابن مندة وأبو نعيم والحافظ واحداً. وأبوالجهيم راوي حديث التيمم وحديث المرور غير أبي الجهم صاحب الأنبجانية المذكور في حديث عائشة الآتي في باب الستر، واسمه عامر بن حذيفة. (فحته) بالتاء الفوقية أي: خدشه حتى يحصل منه التراب. وفيه دليل على أنه لا بد في التيمم من التراب. وقيل: حته لتحصيل التراب قصداً إلى الأفضل، وهو محمول على أنه كان جداراً مباحاً أو مملوكاً لإنسان يعرف رضاه. (ثم وضع يديه على الجدار)

{الفصل الثاني}

فمسح وجهه وذراعيه، ثم رد على. ولم أجد هذه الرواية في "الصحيحين" ولا في " كتاب الحميدي" ولكن ذكره في "شرح السنة" وقال: هذا حديث حسن. {الفصل الثاني} 532- (5) عن أبي ذر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه أنه يجزئ وضع اليدين في التراب للتيمم، ولا يجب ضربة التراب. وفيه أن الضربة الواحدة كافية. (فمسح وجهه وذراعيه) الذراع- بكسر الذال- الساعد ومن الطرف المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى. قال الحافظ: الثابت في حديث أبي جهيم بلفظ: يديه، لا ذراعيه فإنها رواية شاذة مع ما في أبي الحويرث من الضعف-انتهى. (ثم رد على) أي: السلام، فيه دليل على استحباب الطهارة لذكر الله. (ولم أجد هذه الرواية) أي: بهذا اللفظ، أي: نقلت هذا الحديث هنا تبعاً للمصنف ولم أجده. (في الصحيحين) وروايتهما مذكورة في أول الفصل الثالث من هذا الباب. (ولا في كتاب الحميدي) أي: الجمع بين الصحيحين للحميدي، فالاعتراض وارد على صاحب المصابيح حيث ذكر هذا الحديث في الصحاح الموضوع في اصطلاحه لحديث الشيخين أو أحدهما. (ولكن ذكره) أي: صاحب المصابيح. (في شرح السنة) من كتبه بإسناده من حديث الشافعي، عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى عن أبي الحويرث عن الأعرج عن أبي جهيم بن الصمة، فكأنه غفل عنه في المصابيح. (وقال: هذا حديث حسن) قيل: في تحسينه نظر لأن شيخ الشافعي إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى قد ضعفه عامة المحدثين. وشيخ شيخه أبا الحويرث متكلم فيه، وأيضاً هو منقطع لأن ما بين الأعرج وأبي جهيم، عمير كما في رواية البخاري وغيره. ونص عليه أيضاً البيهقي وغيره كما تقدم في كلام الشوكاني أنه أخرجه البيهقي من طريق الشافعي وتكلم فيه. قلت: أصل الحديث متفق عليه، لكن ليس في روايتهما ذكر الذراع، ولاحت الجدار بالعصا، ولا أنه سلم عليه وهو يبول، بل فيه: أنه أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل، فلقيه رجل، فسلم عليه - الحديث. كما سيأتي في الفصل الثالث. 532- قوله: (الطيب) أي: الطاهر. (وضوء المسلم) بفتح الواو، أي: طهوره، وأطلق عليه اسم الوضوء مجازاً لأن الغالب في الطهور هو الوضوء، قاله السندي. وقال القاري: بفتح الواو لأن التراب بمنزلة الماء في صحة الصلاة. وقيل: بضم الواو، أي: استعمال الصعيد على الوجه المخصوص كوضوء المسلم، فهو تشبيه بليغ، وعلى التقديرين يفيد أن التيمم رافع للحدث، فيصلي بواحد ما شاء من الفرائض والنوافل. قلت: ومما يؤيد ذلك أن الله تعالى جعل التيمم عوضاً عن الماء عند عدمه، والأصل أنه قائم مقامه في جميع أحكامه، فلا يخرج عن ذلك إلا بدليل، ويجوز لمن تطهر بالصعيد الطيب ما يفعله المتطهر بالماء. قال الخطابي: يحتج بهذا الحديث من يرى أن للمتيمم أن يجمع بتيممه بين صلوات ذوات عدد، وهو مذهب أصحاب الحديث – انتهى. (وإن لم يجد الماء) إن وصلية. (عشر سنين) المراد منه الكثرة

فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك خير)) . رواه أحمد، والترمذي، وأبوداود. وروى النسائي نحوه إلى قوله: عشر سنين. ـــــــــــــــــــــــــــــ والمبالغة لا المدة المقدرة أي: التحديد، والمعنى: أن له أن يفعل التيمم مرة بعد أخرى وإن بلغت مدة عدم الماء واتصلت إلى عشر سنين، وليس في معنى: أن التيمم دفعة واحدة يكفيه لعشر سنين، قاله الخطابي. وفيه دلالة على أن خروج الوقت غير ناقص للتيمم بل حكمه حكم الوضوء، وما صح عن ابن عمر: أنه تيمم لكل صلاة وإن لم يحدث. محمول على الاستحباب. وفيه دليل على جواز التيمم لرفع الجنابة عند عدم الماء لأنه - صلى الله عليه وسلم - جعل الصعيد طهور للمسلم، كما في رواية الترمذي وغيره، وهو بعمومه يشمل الطهور من الحدثين الأصغر والأكبر معاً لإطلاقه وعدم تقييده بأحدهما قلت: ويؤيده أيضاً سبب ورود الحديث كما في رواية أحمد وأبي داود، وحاصله: أنه قال: أبو ذر: اجتويت المدينة، فأمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإبل، فكنت فيها، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: هلك أبوذر، قال: ما حالك؟ قلت: أتعرض للجنابة وليس قربي ماء. قال: الصعيد طهور، الخ. (فإذا وجد الماء) أي: كافياً لغسله، أو وضوئه. (فليمسه) بضم الياء وكسر الميم من الإمساس. (بشرته) بفتحتين، ظاهر الجلد، أي: فليوصل الماء إلى بشرته وجلده، يعني فليتوضأ، أو يغتسل. (فإن ذلك) أي: الإمساس. (خير) أي: من الخيور، وليس معناه أن كليهما جائز عند وجود الماء، لكن الوضوء أو الغسل خير، بل المراد أن الوضوء أو الغسل فرض عند وجود الماء، والخيرية لا ينافي الفرضية، ونظيره قوله تعالى: {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلاً} [24:25] ووقع في رواية لأحمد (ج5:ص146) : فإذا وجدت الماء فأمس بشرتك. وفي رواية لأبي داود: فأمس جلدك. وهذا أمر وهو للوجوب. واستدل بقوله: فإذا وجد الماء فليمس بشرته. على وجوب الإعادة على من وجد الماء قبل الفراغ من الصلاة. قال الشوكاني: وهو استدلال صحيح، لأن هذا الحديث مطلق فيمن وجده بعد الوقت، ومن وجده قبل خروجه، وحال الصلاة، وبعدها. وحديث أبي سعيد الآتي مقيد بمن وجد الماء في الوقت بعد الفراغ من الصلاة، فتخرج هذه الصورة بحديث أبي سعيد وتبقى صورة وجود الماء قبل الدخول في الصلاة بعد فعل التيمم، وبعد الدخول في الصلاة قبل الفراغ منها، داخلتين تحت إطلاق الحديث. (رواه أحمد) (ج5: ص18، 146،155) . (والترمذي) وقال: هذا حديث حسن صحيح. (وأبوداود) وسكت عنه، ونقل المنذري تصحيح الترمذي، وأقره، وأخرجه أيضاً الحاكم (ج1:ص186،187) والبيهقي (ج1:ص212،220) والدارقطني (ص68) وابن حبان في صحيحه، والأثرم، وصححه أيضاً أبوحاتم والحاكم ووافقه الذهبي على تصحيحه في تلخيصه. وفي الباب عن أبي هريرة، أخرجه البزار، وصححه ابن القطان، لكن قال الدارقطني في العلل: إرساله أصح. وعن عمران بن حصين، وهو الحديث الثاني من الفصل الأول.

533- (6) وعن جابر، قال: ((خرجنا في السفر، فأصاب رجلاً منا حجر، فشجه في رأسه، فاحتلم، فسأل أصحابه: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ قالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء. فاغتسل فمات. فلما قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بذلك. قال: قتلوه، قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا! فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 533- قوله: (خرجنا في سفر) قيل: "في" تعليلية أي: خرجنا لإرادة سفر، وقيل: الجار والمجرور في محل نصب على أنه حال، أي: خرجنا مسافرين. (فشجه في رأسه) الشج كسر الرأس خاصة وجرحه، وقد يستعمل في غيره، وضمير المفعول للرجل، وذكر الرأس لزيادة التأكيد، فإن الشج هو كسر الرأس، ففيه تجريد والمعنى: فجرحه في رأسه. (وأنت تقدر على الماء) الجملة حال، حملوا الوجدان على حقيقته، ولم يعلموا أن الوجدان عند الضرورة في حكم الفقدان. (أخبر) بالبناء للمجهول. (قتلوه) أسند القتل إليهم لأنهم تسببوا له بتكليفهم له باستعمال الماء مع وجود الجرح في رأسه ليكون أدل على الإنكار عليهم. (قتلهم الله) أي: لعنهم، إنما قاله زجراً وتهديداً. وفيه أن صاحب الخطأ الواضح غير معذور، لأنه عابهم بالفتوى بغير علم، وألحق بهم الوعيد بأن دعا عليهم، وجعلهم في الإثم قتلة له. (ألا سألوا) بفتح الهمزة وتشديد اللام حرف تحضيض دخل على الماضي فأفاد التنديم. (فإنما شفاء العي) بكسر العين وتشديد الياء هو التحير في الكلام، وعدم الضبط، كذا في الصحاح. وفي النهاية ولسان العرب: العي بكسر العين الجهل، والمعنى: أن الجهل داء شفاءه السؤال والتعلم. (إنما كان يكفيه) أي: الرجل المحتلم. (أن يتيمم) أولاً. (ويعصب) بتشديد الصاد المكسورة، أي: يشد. (على جرحه) بضم الجيم. (خرقة) بكسر الخاء، أي: حتى لا يصل الماء إلى الجرح. (ثم يمسح عليها) أي: على الخرقة بالماء. والحديث دليل على جواز العدول إلى التيمم لخشية الضرر وعلى وجوب المسح على الجبائر، ومثله حديث على رضي الله عنه قال: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أمسح على الجبائر. أخرجه ابن ماجه، وهو ضعيف اتفق الحفاظ على ضعفه، وصح عن ابن عمر: أنه مسح على الجبيرة، ويؤيد وجوب المسح أيضاً ما قيل من أنه عضو تعذر غسله بالماء، فمسح ما فوقه كشعر الرأس، وقياسا على مسح أعلى الخفين, وعلى العمامة، وهذا القياس يقوي النص. ثم في حديث جابر هذا دليل على أنه يجمع بين التيمم والمسح على الجبيرة، وغسل سائر الجسد بالماء، وهو الجمع بين التيمم والغسل، ولم ير أحد الأمرين كافياً دون الآخر. وفيه مخالفة القياس، وهو الجمع بين البدل والمبدل منه. فقيل: الحديث ضعيف لأن في سنده زبير بن خريق، وهو لين الحديث، وقد برواية الجمع بين التيمم والغسل، وهو مع كونه غير قوي في الحديث، قد خالف الأوزاعي كما سيأتي، فرواية الجمع بين

رواه أبوداود. 534- (7) ورواه ابن ماجه، عن عطاء بن رباح، عن ابن عباس. ـــــــــــــــــــــــــــــ التيمم والغسل ضعيفة لا تثبت بمثلها حكم شرعي وقيل: الواو في قوله: ويعصب. بمعنى أو. (رواه أبوداود) من طريق زبير بن خريق، عن عطاء بن أبي رباح عن جابر وسكت عنه، وصححه ابن السكن. وقال ابن أبي داود: تفرد به الزبير بن خريق. وكذا قال الدارقطني (ص70) قال: وليس بالقوى، وخالفه الأوزاعي، فرواه عن عطاء عن ابن عباس، وهو الصواب. ونقل ابن السكن عن ابن أبي داود أن حديث الزبير بن خريق أصح من حديث الأوزاعي. قال: وهذا أمثل ما ورد في المسح على الجبيرة. وقال البيهقي في المعرفة: هذا الحديث يعني حديث زبير بن خريق، عن عطاء بن جابر أصح ما روى في هذا الباب مع اختلاف في إسناده قد بيناه في كتاب السنن- انتهى. قال الدارقطني: واختلف فيه أي: في حديث الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس، على الأوزاعي، فقيل: عنه عن عطاء. وقيل: بلغني عن عطاء، وأرسل الأوزاعي آخره، فقال: عن عطاء، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهو الصواب. قلت: هي رواية ابن ماجه، والدارمي. واختلف في أن الأوزاعي سمع هذا الحديث عن عطاء، فقال: أبوحاتم وأبوزرعة: لم يسمعه الأوزاعي من عطاء إنما سمعه من إسماعيل بن مسلم عن عطاء، بين ذلك ابن أبي العشرين في روايته عن الأوزاعي، ورواه الحاكم في المستدرك (ج1:ص128) من حديث بشر بن بكر، عن الأوزاعي: حدثنا عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس به. قال الحاكم: وقد رواه الهقل بن زياد، وهو من أثبت أصحاب الأوزاعي، ولم يذكر سماع الأوزاعي من عطاء - انتهى. ونقل العلامة أبوالطيب في تعليق المغني (ص70) عن الحاكم أنه قال: بعد رواية الحديث من طريق بشر بن بكر بتصريح سماع الأوزاعي من عطاء ما لفظه: بشر بن بكر ثقة مأمون، وقد أقام إسناده، وهو صحيح على شرطهما - انتهى. قلت: ويمكن الجمع بين الروايتين بأن يكون الأوزاعي سمعه من عطاء بلا واسطة، ثم سمعه من إسماعيل بن مسلم عن عطاء أو بالعكس، والله أعلم. وحديث جابر أخرجه أيضاً الدارقطني والبيهقي. 534- قوله: (ورواه ابن ماجه) من طريق الأوزاعي. (عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس) وكذا أبوداود أخرجه من طريق الأوزاعي لكن بلاغاً عن عطاء عن ابن عباس عقيب رواية عطاء عن جابر، ولعل وجه التخصيص بتخريج ابن ماجه أن رواية أبي داود عن ابن عباس مختصرة ليس فيها ما أرسله الأوزاعي بآخره، وهو قوله: قال عطاء: وبلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لو غسل جسده وترك رأسه حيث أصابه الجرح. وحديث ابن عباس أخرجه أيضاً أحمد والدارقطني، والحاكم والبيهقي، لكن لم يقع في رواية عطاء هذه عن ابن عباس ذكر للتيمم فيه، فثبت أن الزبير بن خريق تفرد بسياقه، نبه على ذلك ابن القطان. قال الحافظ: لكن روى ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم (ج1:ص165) من حديث الوليد بن عبيد الله بن أبي رباح، عن عمه عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس: أن رجلاً أجنب في شتاء، فسأل، فأمر بالغسل، فمات، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ما لهم قتلوه قتلهم الله، ثلاثاً، قد جعل الله الصعيد أو التيمم طهوراً.

535- (8) وعن أبي سعيد الخدري، قال: ((خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فتيمما صعيداً طيباً، فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة بوضوء، ولم يعد الآخر. ثم أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرا ذلك. فقال للذي لم يعد: أصبت السنة، أجزأتك صلاتك)) . وقال: للذي توضأ وأعاد: ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الحاكم: هذا حديث صحيح، ووافقه الذهبي. وقال الحافظ: والوليد بن عبيد الله ضعفه الدارقطني، وقواه من صحح حديثه هذا، وله شاهد ضعيف جداً من رواية عطية عن أبي سعيد الخدري رواه الدارقطني ولم يقع في رواية ابن أخي عطاء أيضاً ذكر المسح على الجبيرة، فهو من إفراد الزبير بن خريق - انتهى. وعطاء بن أبي رباح - بفتح الراء والموحدة- واسم أبي رباح أسلم، القرشي مولاهم، أبومحمد المكي، ثقة، فقيه، فاضل، لكنه كثير الإرسال. قال ابن سعد: كان من مولدي الجند، ونشأ بمكة، وهو مولى لبنى فهر أو الجمح، وانتهت إليه فتوى أهل مكة وإلى مجاهد في زمانهما. وأكثر ذلك إلى عطاء، سمعت بعض أهل العلم يقول: كان عطاء أسود، أعور، أفطس، أشل، أعرج، ثم عمى بعد، وكان ثقة فقيهاً، عالماً، كثير الحديث. وذكر أبوداود العيوب المذكورة، وزاد: وقطعت يده مع ابن الزبير، وروى عن ابن عباس أنه قال: تجتمعون إلي يا أهل مكة! وعندكم عطاء. وكذا روى عن ابن عمر. وقال أبوحنيفة: ما رأيت فيمن لقيت أفضل من عطاء. وقال الأوزاعي: مات عطاء يوم مات وهو أرضى أهل الأرض عند الناس. مات سنة (115) وقيل (114) وله ثمان وثمانون سنة، وفضائله كثيرة، بسط ترجمته الحافظ في تهذيب التهذيب (ج7:ص199-203) وقال الذهبي في التذكرة (ج1:ص86) : مناقب عطاء في العلم والزهد والتأله كثيرة. مات على الأصح في رمضان سنة (114) وقيل (115) بمكة. 535- قوله: (فحضرت الصلاة) أي: حان وقتها. (فتيمما صعيداً) أي: قصداه على الوجه المخصوص، فالمراد به المعنى اللغوي، أو فتيمما بالصعيد، على نزع الخافض، وأريد به المعنى الشرعي. (ثم وجدا الماء في الوقت) أي: في وقت الصلاة التي صلياها، وفيه رد على من تأول الحديث بأنهما وجدا الماء بعد الوقت. (فأعاد أحدهما الصلاة بوضوء) إما ظناً بأن الأولى باطلة، أو احتياطاً. (ولم يعد الآخر) على ظن أن تلك الصلاة صحيحة. (فذكرا ذلك) أي: ما وقع لهما. (أصبت السنة) أي: الطريقة الشرعية الثابتة بالسنة، يعني وافقت الحكم المشروع، وهذا تصويب لاجتهاد وتخطئة لاجتهاد الآخر. (وأجزأتك صلاتك) أي: كفتك عن القضاء. والإجزاء عبارة عن كون الفعل مسقطاً للإعادة. قال القاري: وهو تفسير لما سبق، أي: لأنها وقعت في وقتها. والماء مفقود، فالواجب التراب. (وأعاد) أي: الصلاة في الوقت.

لك الأجر مرتين)) . رواه أبوداود والدارمي، وروى النسائي نحوه. 536- (9) وقد روى هو وأبوداود أيضاً عن عطاء بن يسار مرسلاً. ـــــــــــــــــــــــــــــ (لك الأجر مرتين) أجر الصلاة بالتراب، وأجر الصلاة بالماء، فإن كلاً منهما صحيحة تترتب عليها مثوبة، لكون الله لا يضيع عمل عامل. وفيه أن الخطأ في الاجتهاد لا ينافي الأجر في العمل المبني عليه. والظاهر ثبوت الأجر له، ولمن تبعه على وجه يصح، ولا يستلزم ثبوت الأجر له أصابته، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أثبت لمن أخطأ في اجتهاده أجراً كما في الصحيحين وغيرهما، فهذا الذي أعاد الصلاة بالوضوء قد أخطأ في اجتهاده، وثبت له الأجر كما ثبت للحاكم المخطئ في اجتهاده. وفي الحديث من الفقه: أن السنة تعجيل الصلاة للتيمم في أول وقتها كهو للمتطهر بالماء، فلا يجب الطلب والتلوم له، أي: الإنتظار. وفيه أيضاً أن من صلى بالتيمم ثم وجد الماء بعد الفراغ من الصلاة لا يجب عليه الإعادة. (رواه أبوداود والدارمي) أي: مسنداً بذكر أبي سعيد، وأخرجه أيضاً الدارقطني والحاكم (ج1:ص128) وصححه على شرط الشيخين. (وروى النسائي نحوه) أيضاً. 536- قوله: (وقد روى هو) أي: النسائي. (وأبوداود أيضاً عن عطاء بن يسار مرسلاً) قال الدارقطني: تفرد به عبد الله بن نافع عن الليث، عن بكر بن سوادة، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد موصولاً، وخالفه ابن المبارك، فأرسله، وكذا قال الطبراني في الأوسط: لم يروه متصلاً إلا ابن نافع. وقال أبوداود: رواه غير ابن نافع، عن الليث، عن عميرة بن أبي ناجية، عن بكر عن عطاء مرسلاً. قال: وذكر أبي سعيد فيه ليس بمحفوظ. قال الحافظ: لكن هذه الرواية رواها ابن السكن في صحيحه من طريق أبي الوليد الطيالسي، عن الليث، عن عمرو بن الحارث وعميرة بن أبي ناجية جميعاً، عن بكر موصولاً. قال أبوداود: ورواه ابن لهيعة عن بكر فزاد بين عطاء وأبي سعيد أباعبد الله مولى إسماعيل بن عبيد الله - انتهى. وابن لهيعة ضعيف، فلا يلتفت لزيادته، ولا يعل بها رواية الثقة عمرو بن الحارث ومعه عميرة بن أبي ناجية، وقد وثقه النسائي، وابن حبان، ويحيى بن بكير، وأثنى عليه أحمد بن صالح، وابن يونس، وأحمد بن سعيد بن أبي مريم. وله شاهد من حديث ابن عباس، رواه اسحق بن راهوية في مسنده. وعطاء بن يسار يكنى أبا محمد الهلالي المدني مولى ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ثقة فاضل، صاحب مواعظ وعبادة، من صغار الطبقة الوسطى من التابعين. وقال المصنف: كان من التابعين المشهورين بالمدينة، كان كثير الرواية عن ابن عباس. مات بالإسكندرية سنة (94) وقيل سنة (97) وقيل (103) وقيل (104) وهو ابن (84) سنة.

{الفصل الثالث}

{الفصل الثالث} 537- (10) عن أبي الجهيم بن الحارث بن الصمة، قال: ((أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل، فلقيه رجل، فسلم عليه فلم يرد النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام)) . متفق عليه. 538- (11) وعن عمار بن ياسر، أنه كان يحدث ((أنهم تمسحوا وهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصعيد لصلاة الفجر، فضربوا بأكفهم الصعيد، ثم مسحوا بوجوههم مسحة واحدة، ثم عادوا، فضربوا بأكفهم الصعيد مرة أخرى، فمسحوا بأيدهم كلها إلى المناكب والآباط من بطون أيديهم)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 537- قوله: (من نحو بئر جمل) بفتح الجيم والميم، أي: من جهة الموضع الذي يعرف بذلك، وهو معروف بالمدينة. (فلقيه رجل) هو أبوالجهيم الراوي، بينه الشافعي في روايته لهذا الحديث من طريق أبي الحويرث، عن الأعرج، قاله الحافظ. قلت: أراد بذلك حديث أبي الجهيم السابق ففيه تصريح بذلك حيث قال: فسلمت عليه. (فلم يرد النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي: السلام عليه. (حتى أقبل على الجدار) وفي رواية للدارقطني: حتى وضع يده على الجدار. واستدل بالحديث على جواز التيمم على الحجر، لأن حيطان المدينة مبنية بحجارة سود، وهي لا تحتمل التراب لأنه لا يثبت عليها. قال القسطلاني أخذاً عن الكرماني: وأجيب بأن الغالب وجود الغبار على الجدار. قلت: لم يرو في شيء من الروايات أن الجدار الذي تيمم منه النبي - صلى الله عليه وسلم - كان معموراً من الحجر، بل الظاهر أنه معمور من الطين، ولو سلم كون الجدار من الحجر، فيحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - تيمم بالطين الذي بين السافتين. وأيضاً عدم كون التراب على الجدار غير معلوم بل هو محتمل. (فمسح بوجهه ويديه) وللدارقطني من طريق أبي صالح عن الليث: فمسح بوجهه وذراعيه. قال الحافظ: الثابت في حديث أبي جهيم بلفظ "يديه" لا ذراعيه، فإنها رواية شاذة، مع ما في أبي صالح من الضعف - انتهى. وقد تقدم بقية الكلام على هذا الحديث في باب مخالطة الجنب فتذكر. (متفق عليه) أخرجه البخاري موصولاً، ومسلم معلقاً، وهو أحد الأحاديث المعلقة فيه. والحديث أخرجه أيضاً النسائي والدارقطني. 538- قوله: (تمسحوا) أي: تيمموا. (وهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) جملة معترضة. (بالصعيد) متعلق بتمسحوا. (لصلاة الفجر) أي: لأدائها. (فضربوا بأكفهم الصعيد) الخ. بيان لتمسحوا. (مرة أخرى) أي: ضربة أخرى. (فمسحوا بأيديهم) جمع اليد وهي مؤنثة، وهي من المنكب إلى أطراف الأصابع. (إلى المناكب والآباط) بالمد جمع إبط يذكر ويؤنث. (من بطون أيديهم) متعلق بمسحوا أي: مسحوا من بطون الأيدي لا من ظهورها. قال القاري: من للابتداء أي:

(11) باب الغسل المسنون

رواه أبوداود. (11) باب الغسل المسنون {الفصل الأول} 539- (1) عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابتدأوا بالمسح من بطون الأيدي لا من ظهورها، ويمكن أن يقال: المراد بالابتداء ابتداء آلة المسح لا ابتداء الممسوح - انتهى. قال: شيخ شيخ مشائخنا الشهير في الآفاق الشيخ محمد إسحق المحدث الدهلوي: هذا قياس الصحابة في أول الأمر قبل بيان النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما بينه لهم علموا كيفية التيمم-انتهى. وقال إسحق بن راهوية ما حاصله: أنه قال عمار: تيممنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المناكب والآباط. وروى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الوجه والكفين، وليس بينهما تخالف، لأن عمارا لم يذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بذلك، وإنما قال: فعلنا كذا وكذا، فتيممهم إلى المناكب والآباط لم يكن بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بالوجه والكفين، فانتهى إلى ما علمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والدليل على ذلك ما أفتى به عمار بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالوجه والكفين، فكان هو آخر الأمرين، فالأول ما فهموا من إطلاق اليد في الكتاب في آية التيمم، والثاني ما انتهوا إليه بتعليم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان الثاني هو المعتبر والمعمول به. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً ابن ماجه وهو منقطع، فإن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة لم يدرك عماراً. وقد أخرجه النسائي وابن ماجه مختصراً من حديث عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبيه، عن عمار، موصولاً. وأخرجه أبوداود أيضاً وغيره من حديث الزهري: حدثني عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس عن عمار أتم منه، ثم ذكر أبوداود فيه الإضطراب في السند والمتن. (باب الغسل المسنون) بضم الغين لا غير، ولم يذكر المصنف في الباب الغسل يوم الفطر ويوم الأضحى، لأنه لم يصح فيه حديث، وقد ورد فيه ثلاثة أحاديث كلها ضعيفة. 539- قوله: (إذا جاء أحدكم الجمعة) أي: صلاتها، وهي منصوبة على المفعولية، أي: إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة. كما جاء مصرحاً به في رواية لمسلم. (فليغتسل) فيه دليل على وجوب غسل الجمعة، والحديث الثاني صريح في ذلك لا يحتمل التأويل للتصريح فيه بلفظ واجب. ويدل أيضاً على الوجوب حديث أبي هريرة الذي يتلوه. وكذا ما أخرجه النسائي عن جابر مرفوعاً بلفظ: على كل رجل مسلم في كل سبعة أيام غسل يوم وهو يوم الجمعة. وما أخرجه أحمد والترمذي عن البراء مرفوعاً بلفظ: حقاً على المسلمين أن يغتسلوا يوم الجمعة. وما أخرجه أحمد عن رجل من الأنصار من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مرفوعاً: حق على كل مسلم يغتسل يوم الجمعة، ويتسوك – الحديث. وما روى عن ثوبان عند البزار، وأبي

متفق عليه. 540- (2) وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم)) . متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ أيوب عند الطبراني في الكبير، وأبي هريرة عند الطبراني في الأوسط، وبريدة عند الطبراني أيضا، وعائشة عند البزار وجابر عند الطبراني في الأوسط. ذكر أحاديثهم الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2:ص183، 182) وقد اختلفوا في ذلك، والراجح عندي أن غسل الجمعة واجب مستقل في نفسه لهذه الأحاديث، وليس شرطاً في صحة الصلاة، فمن لم يأت به صحت صلاته، وكان مقصراً في الواجب عليه. وأما ما روى مما يدل على خلاف ذلك، كحديث سمرة، وحديث ابن عباس، ونحوهما، فسيأتي الجواب عنه. قال الشوكاني في السيل الجرار: حديث إذا جاء أحدكم إلى الجمعة. يدل على أن الغسل لصلاة الجمعة، وأن من فعله لغيرها لم يظفر بالمشروعية، سواء فعله في أول اليوم، أو في أوسطه، أو في آخره. ويؤيد هذا ما أخرجه ابن خزيمة وابن حبان، وغيرهما عن ابن عمر مرفوعاً: من أتى الجمعة من الرجال والنساء، فليغتسل زاد ابن خزيمة: ومن لم يأتها، فليس عليه غسل – انتهى. قلت: رواية ابن خزيمة هذه تدل بمنطوقها نصاً على أنه لا يجب غسل الجمعة على من لم يشهد الجمعة، وهي تؤيد وتقوي مفهوم وقوله: إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم. قال الحافظ: وله طريق كثيرة. وعد ابن مندة من رواه عن نافع، فبلغوا فوق ثلاث مائة نفس. وعد من رواه من الصحابة غير ابن عمر، فبلغوا أربعة وعشرين صحابياً وقد جمعت طرقة عن نافع فبلغوا مائة وعشرين نفساً - انتهى. 540- قوله: (غسل يوم الجمعة) استدل بإضافة "الغسل" إلى "يوم الجمعة" على أن وقت غسلها يدخل بفجر يومها ولا يتوقف على الرواح إليها. وهو مذهب الجمهور. (واجب) قال ابن دقيق العيد: ذهب الأكثرون إلى استحباب غسل الجمعة، وهم محتاجون إلى الاعتذار عن مخالفة هذا الظاهر، وقد أولوا صيغة الأمر على الندب، وصيغة الوجوب على التأكيد، كما يقال: إكرامك علي واجب، وهو تأويل ضعيف، إنما يصار إليه إذا كان المعارض راجحاً على هذا الظاهر، وأقوى ما عارضوا به هذا الظاهر حديث من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل. ولا يعارض سنده سند هذه الأحاديث – انتهى. (على كل محتلم) أي: بالغ، فشمل من بلغ بالسن أو الإحبال، والمراد بالغ، خال عن عذر يبيح الترك، وإلا فالمعذور مستثنى بقواعد الشرع. والمراد الذكر كما هو مقتضي الصيغة، وأيضاً الاحتلام أكثر ما يبلغ به الذكور دون الإناث، وفيهن الحيض أكثر، وعمومه يشمل المصلى وغيره، لكن الحديث الذي قبله وغيره يخصه بالمصلي. (متفق عليه) وأخرجه أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم.

{الفصل الثاني}

541- (3) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوماً، يغسل فيه رأسه وجسده)) متفق عليه. {الفصل الثاني} 542- (4) عن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 541- قوله: (حق) أي: ثابت ولازم. (على كل مسلم) أي: مكلف فإنه المتبادر في موضع التكليف، فخرج الصبي، وبتذكير اللفظ خرجت المرأة. والمراد بالحق الواجب، والدليل عليه حديث أبي سعيد المتقدم، ففيه دليل على وجوب غسل الجمعة. (أن يغتسل في كل سبعة أيام يوماً) هكذا أبهم في هذه الرواية، وقد عينه جابر في حديثه عند النسائي، وقد ذكرنا لفظه. قال الحافظ بعد ذكره: وصححه ابن خزيمة. ولسعيد بن منصور، وأبي بكر بن أبي شيبه من حديث البراء ابن عازب مرفوعاً نحوه، ولفظه: إن من الحق على المسلم أن يغتسل يوم الجمعة، ونحوه لأحمد والطحاوى من طريق محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن رجل من الصحابة أنصاري مرفوعاً- انتهى. والقول: بأن قوله في حديث جابر: وهو يوم الجمعة. تفسير من بعض الرواة، ادعاء محض لا دليل عليه، فلا يلتفت إليه. (يغسل فيه رأسه وجسده) ذكر الرأس وإن كان الجسد يشمله للاهتمام به، لأنهم كانوا يجعلون فيه الدهن، والخطمى، ونحوهما، وكانوا يغسلونه أولاً ثم يغتسلون. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً البيهقي، والطحاوي. 542- قوله: (فبها) أي: فيكتفي بها أي بتلك الفعلة التي هي الوضوء. (ونعمت) بكسر فسكون، هو المشهور. وروى بفتح فكسر كما هو الأصل، والمقصود أن الوضوء ممدوح شرعاً لا يذم من اقتصر عليه. وقيل: قوله: فبها أي: فهذه الخصلة أو الفعلة أي: الوضوء ينال الفضل، ونعمت الخصلة أو الفعلة هذه. وقيل: فبطهارة الوضوء حصل الواجب ونعمت الطهارة للصلاة هذه. وقيل: فبالرخصة أخذ، ونعمت الرخصة هذه. وقيل: فبالفريضة أخذ، ونعمت الفريضة هذه. (ومن اغتسل الغسل أفضل) ليس المراد تفضيل الغسل على الوضوء نفسه، حتى يقال: كيف يفضل الغسل، وهو سنة على قول من ذهب إلى سنيته، على الوضوء، وهو فريضة، والفريضة أفضل إجماعاً، بل المقصود التفضيل على الوضوء الذي لا غسل معه، كأنه قال: من توضأ واغتسل فهو أفضل ممن توضأ فقط. والحديث يدل على عدم وجوب غسل الجمعة، لأن قوله: "فالغسل أفضل" يقتضي اشتراك الغسل والوضوء في أصل الفضل، فيستلزم إجراء الوضوء، وهو من أقوى حجج القائلين بعدم الوجوب، ومن أوضح القرائن الدالة على تأويل الأحاديث القاضية للوجوب. وقد تقدم

رواه أحمد وأبوداود والترمذي والنسائي والدارمي. 543- (5) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من غسل ميتاً فليغتسل)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الجواب عنه في كلام ابن دقيق العيد. وقد احتجوا أيضا، وعارضوا بأحاديث، ذكرها الحافظ في الفتح (ج4:ص477) والشوكاني في النيل (ج1:ص224-226) مع الجواب عنها، فارجع إليهما. قال الشوكاني بعد إيراده والتعقب على الاستدلال بها ما لفظه: وبهذا يتبين لك عدم انتهاض ما جاء به الجمهور من الأدلة على عدم الوجوب وعدم إمكان الجمع بينها وبين أحاديث الوجوب، لأنه وإن أمكن بالنسبة إلى الأوامر، لم يمكن بالنسبة إلى لفظ واجب وحق إلا بتعسف، لا يلجئ طلب الجمع إلى مثله. ولا يشك من له أدنى إلمام بهذا الشأن أن أحاديث الوجوب أرجح من الأحاديث القاضية بعدمه، لأن أوضحها دلالة على ذلك حديث سمرة، وهو غير سالم من مقال، وأما بقية الأحاديث فليس فيها إلا مجرد استنباطات واهية- انتهى. (رواه أحمد وأبوداود) وسكت عنه. (والترمذي) وحسنه، وقال: قد روى عن قتادة، عن الحسن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً. (والنسائي) وقال: الحسن عن سمرة كتاب، ولم يسمع الحسن من سمرة إلا حديث العقيقة. وقال العراقي في شرح الترمذي: قد صح سماعه منه لغير حديث العقيقة، ولكن هذا الحديث لم يثبت سماعه منه، لأنه رواه بالعنعنة في سائر الطرق، ولا يحتج به لكونه يدلس، ذكره السيوطي في قوت المغتذى. (والدارمي) قال الحافظ في الفتح (ج4:ص477) : لهذا الحديث طرق، أشهرها وأقواها رواية الحسن عن سمرة، أخرجها أصحاب السنن الثلاثة وابن خزيمة وابن حبان. وله علتان: إحداهما أنه من عنعنة الحسن، والأخرى أنه اختلف عليه فيه. وأخرجه ابن ماجه من حديث أنس، والطبراني من حديث عبد الرحمن بن سمرة، والبزار من حديث أبي سعيد وابن عدي من حديث جابر، وكلها ضعيفة-انتهى. قال ابن دقيق العيد في الإمام: من يحمل رواية الحسن عن سمرة على الاتصال يصحح هذا الحديث. قال الحافظ: وهو مذهب علي بن المديني كما نقله عنه البخاري، والترمذي والحاكم وغيرهم. وقيل: لم يسمع منه إلا حديث العقيقة، وهو قول البزار وغيره. وقيل: لم يسمع منه شيئاً أصلاً وإنما يحدث من كتابه. 543- قوله: (من غسل) بالتخفيف ويشدد. (فليغتسل) الحديث بظاهره يدل على وجوب الغسل على من غسل الميت. وقد اختلفوا فيه، والراجح عندي أنه مندوب، والأمر فيه للاستحباب، أمر به ندباً احتياطاً لدفع ما يتوهم من إصابة نجاسة بالبدن بواسطة أن بدن الميت لا يخلو عنها غالباً. والله أعلم. والدليل على كون الأمر للندب لا للوجوب حديث ابن عباس مرفوعاً: ليس عليكم في غسل ميتكم غسل إذا غسلتموه، إن ميتكم يموت طاهراً، وليس بنجس، فحسبكم أن تغسلوا أيديكم. أخرجه البيهقي، وقد حسن الحافظ إسناده، وقال: فيجمع بينه وبين الأمر في حديث أبي هريرة

رواه ابن ماجه. وزاد أحمد والترمذي وأبوداود: ومن حمله فليتوضأ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بأن الأمر على الندب، أو المراد بالغسل غسل الأيدي كما صرح به في هذا – انتهى. وحديث ابن عمر: كنا نغسل الميت فمنا من يغتسل، ومنا من لا يغتسل. قال الحافظ في التلخيص: إسناده صحيح، وهو يؤيد أن الأمر في حديث أبي هريرة للندب، وهو أحسن ما جمع به بين مختلف هذه الأحاديث- انتهى. وحديث أسماء بنت عميس امرأة أبي بكر الصديق: أنها غسلت أبا بكر حين توفى، ثم خرجت فسألت من حضرها من المهاجرين، فقالت: إن هذا يوم شديد البرد وأنا صائمة، فهل علي من غسل؟ قالوا: لا. رواه مالك في المؤطا. قال الشوكاني: وهو من الأدلة الدالة على استحباب الغسل دون وجوبه، وهو أيضاً من القرائن الصارفة عن الوجوب. قال: والقول بالاستحباب هو الحق، لما فيه من الجمع بين الأدلة بوجه مستحسن- انتهى. (رواه ابن ماجه وزاد أحمد, والترمذي وأبوداود، ومن حمله فليتوضأ) هذا يدل على وجوب الوضوء على من حمل الميت. والظاهر أن الأمر فيه أيضاً للندب، يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: فحسبكم أن تغسلوا أيديكم، في حديث ابن عباس المتقدم. وقال المناوي: معناه من أراد حمل الميت، فليكن على وضوء، ليتأهب للصلاة عليه حين وصوله المصلى خوف الفوت. قال المجد بن تيمية في المنتقى: وقال بعضهم: معناه من أراد حمله ومتابعته، فليتوضأ من أجل الصلاة عليه- انتهى. قال القاري: ويجوز أن يكون لمجرد الحمل فإنه قربة- انتهى. والحديث أخرجه الترمذي وابن ماجه وابن حبان من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة. قال الحافظ في الفتح: هو معلول، لأن أبا صالح لم يسمعه من أبي هريرة- انتهى. وقال ابن دقيق العيد في الإمام: هي معلولة وإن صححها ابن حبان وابن حزم، فقد رواه سفيان عن سهيل عن أبيه عن إسحق مولى زائدة عن أبي هريرة. قال الحافظ: إسحق هذا أخرج له مسلم، فينبغي أن يصح الحديث، وأخرجه أحمد والبيهقي من رواية ابن أبي ذئب عن صالح مولى التؤمة عن أبي هريرة، وصالح صدوق، اختلط بآخره. قال ابن عدي لا بأس برواية القدماء عنه كابن أبي ذئب وابن جريج، وأخرجه أبوداود من رواية عمرو بن عمير، وأحمد أيضاً من رواية شيخ يقال له: أبوإسحق، كلا هما عن أبي هريرة. وأخرجه البزار من رواية العلاء عن أبيه، ومن رواية محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ومن رواية أبي بحر البكراوي، عن محمد ابن عمرو عن أبي سلمة كلهم عن أبي هريرة. وذكر البيهقي له طرقاً، وضعفها، ثم قال: والصحيح أنه موقوف. وقال ابن دقيق العيد: أما رواية محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة فإسناد حسن إلا أن الحفاظ من أصحاب محمد بن عمرو رووه عنه موقوفاً. قال الحافظ في التلخيص (ص50) : وفي الجملة هو لكثرة طرقه أسوأ أحواله أن يكون حسناً، فإنكار النووي على الترمذي تحسينه معترض. وقد قال الذهبي في مختصر البيهقي: طرق هذا الحديث أقوى من عدة أحاديث احتج بها الفقهاء ولم يعلوها بالوقف بل قدموا رواية الرفع - انتهى. وقد أجاب أحمد عن هذا الحديث بأنه منسوخ، وكذا جزم بذلك أبوداود. وفيه أن النسخ لا يثبت بالاحتمال، بل إذا وجد ناسخ صريح وهو متأخر.

544- (6) وعن عائشة رضي الله عنها، ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان يغتسل من أربع: من الجنابة، ويوم الجمعة، ومن الحجامة، ومن غسل الميت)) رواه أبوداود. 545- (7) وعن قيس بن عاصم، ((أنه أسلم، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغتسل بماء وسدر)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 544- قوله: (كان يغتسل من أربع) أي: يأمر الناس بالاغتسال من أربع، ففي رواية أحمد والدارقطني قال: يغتسل من أربع. (من الجنابة) بدل بإعادة الجار أي: من أجلها، فمن تعليلية. (ويوم الجمعة) بالجر، وهو الملائم للسابق واللاحق، وإن صح النصب فيكون على نزع الخافض، قاله القاري. (ومن الحجامة) بكسر الحاء أي: للمحجوم، والاغتسال من الحجامة لإماطة الأذى، ولما لا يؤمن أن يصيبه من رشاشة الحجامة فتستحب النظافة. (ومن غسل الميت) بضم الغين. والحديث دليل على مشروعية الغسل في هذه الأربعة الأحوال. فأما الجنابة فالوجوب ظاهر. وأما الجمعة ففي حكمه ووقته خلاف، وقد تقدم أن الراجح في حكمه الوجوب، وفي وقته أنه من فجر الجمعة إلى الذهاب، ويستحب تأخيره إليه، وأما الحجامة فقيل: إنه سنة. وقد روى عن أنس: أنه - صلى الله عليه وسلم - احتجم، فصلى ولم يتوضأ، ولم يزد على غسل محاجمه. أخرجه الدارقطني ولينه، لأن فيه صالح بن مقاتل، وليس بالقوى، وذكره النووي في فصل الضعيف، فدل على أنه سنة يفعل تارة كما أفاده حديث عائشة هذا، ويترك أخرى كما في حديث أنس. ويروي عن على: الغسل من الحجامة سنة وإن تطهرت أجزأك. وأما الغسل من غسل الميت، فقد تقدم في شرح حديث أبي هريرة الذي قبل هذا. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً أحمد، والبيهقي والدارقطني وفي سنده مصعب بن شيبة، وفيه مقال، وضعفه أبوزرعة وأحمد والبخاري وصححه ابن خزيمة. وقال الدارقطني: مصعب بن شيبة ليس بالقوى ولا بالحافظ. وقال أبوداود: حديث مصعب ضعيف، فيه خصال ليس العمل عليه- انتهى. 545- قوله: (وعن قيس بن عاصم) بن سنان بن خالد التميمي السعدي المنقري، صحابي مشهور بالحلم، قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - في وفد بني تميم سنة تسع فأسلم، فلما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: هذا سيد أهل الوبر. وكان عاقلاً، حليماً، سمحاً، جواداً. قيل للأحنف: ممن تعلمت الحلم؟ قال: من قيس. قال ابن عبد البر: قد حرم على نفسه الخمر في الجاهلية. نزل البصرة، وبنى بها داراً، وبها مات عن اثنين وثلاثين ذكراً من أولاده. (فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي: بعد ما أسلم. (أن يغتسل بماء وسدر) للمبالغة في التنظيف، وإزالة الوسخ والرائحة الكريهة، لأنه يطيب الجسد. والحديث فيه دليل على مشروعية الغسل لمن أسلم. وقد ذهب إلى الوجوب مطلقاً أحمد لهذا الحديث، ولحديث أبي هريرة: أن ثمامة أسلم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اذهبوا به إلى حائط بني فلان، فمروه أن يغتسل) أخرجه أحمد، وعبد الرزاق، والبهيقي، وابن خزيمة، وابن حبان، وأصله في الصحيحين. وليس فيهما الأمر بالاغتسال، ولكن فيهما أنه اغتسل، ولحديث أمره

{الفصل الثالث}

رواه الترمذي وأبوداود والنسائي. {الفصل الثالث} 546- (8) عن عكرمة، قال: ((إن ناساً من أهل العراق جاءوا فقالوا: يا ابن عباس أترى الغسل يوم الجمعة واجباً؟ قال: لا، ولكنه أطهر وخير لمن اغتسل، ومن لم يغتسل فليس عليه بواجب. وسأخبركم كيف بدء الغسل: كان الناس مجهودين يلبسون الصوف ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى الله عليه وسلم - لواثله وقتادة الرهاوي عند الطبراني، وعقيل بن أبي طالب عند الحاكم في تاريخ النيسابور. قال الحافظ: وفي أسانيد الثلاثة ضعف. قال الشوكاني في السيل الجرار: الظاهر وجوب الغسل، ولا وجه لمن تمسك ممن قال: بعدم الوجوب من أنه لو كان واجبا لأمر به - صلى الله عليه وسلم - كل من أسلم، لأنا نقول: قد كان هذا في حكم المعلوم عندهم، ولهذا إن ثمامة لما أراد الإسلام ذهب فاغتسل، كما في الصحيحين. والحكم يثبت على الكل بأمر البعض، ومن لم يعلم الأمر بذلك لكل من أسلم لا يكون عدم علمه حجة له - انتهى. وقال في النيل: والظاهر الوجوب، لأن أمر البعض قد وقع به التبليغ، ودعوى عدم الأمر لمن عداهم لا يصلح متمسكاً، لأن غاية ما فيها عدم العلم بذلك وهو ليس علماً بالعدم. (رواه الترمذي) وحسنه. (وأبوداود) وسكت عنه. ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره. (والنسائي) وأخرجه أيضاً أحمد (ج5:ص61) وابن حبان، وابن خزيمة، وابن سعد في الطبقات (ج1: ص23،24) وصححه ابن السكن. 546- قوله: (من أهل العراق) هو بلاد من عبادان إلى موصل طولاً، ومن القادسية إلى حلوان عرضاً، والعراقان الكوفة والبصرة كذا في القاموس. (جاءوا) أي إلى ابن عباس حين كان والياً على البصرة. (أترى) بفتح التاء من الرأي أي تعتقد. (يوم الجمعة) ظرف للغسل. (ولكنه أطهر) أي: أكمل تطهيراً وأكثر تنظيفاً، فهو أفعل التفضيل من التطهير بحذف زوائده كما هو مذهب بعض النحاة، أو معناه أكثر طهارة صاحبه. (وخير) أي: نفع كثير. (ومن لم يغتسل) واكتفى بالوضوء. (فليس) الغسل. (عليه بواجب) هذا دليل لجواب مقدر تقديره: فلا بأس، إذ ليس الغسل فيه واجباً. (كيف بدأ الغسل؟) بضم الهمزة أي: سبب ابتداء مشروعيته للجمعة. (كان الناس) استئناف بيان، والمراد من الناس الصحابة. (مجهودين) من الجهد بالفتح وهو المشقة والعسرة، يقال: جهد الرجل فهو مجهود، إذا وجد مشقة، وجهد الناس فهم مجهودون إذا أجدبوا، أي: أصابهم الجدب، وهو المحل والفقر، ومجهدون معسرون. والمعنى أنهم كانوا في المشقة والعسرة لشدة فقرهم. (يلبسون الصوف) جملة مبنية، والصوف للضأن كالشعر للمعز والوبر للإبل.

ويعملون على ظهورهم، وكان مسجدهم ضيقاً مقارب السقف، إنما هو عريش، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم حار، وعرق الناس في ذلك الصوف، حتى ثارت منهم رياح آذى بذلك بعضهم بعضاً. فلما وجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الرياح، قال: أيها الناس! إذا كان هذا اليوم، فاغتسلوا وليمس أحدكم أفضل ما يجد من دهنه وطيبه. قال: ابن عباس: ثم جاء الله بالخير، ولبسوا غير الصوف، وكفوا العمل، ووسع مسجدهم، وذهب بعض الذي كان يؤذي بعضهم بعضاً من العرق)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ (ويعملون على ظهورهم) أي: فيعرقون. (وكان مسجدهم) أي: مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأضيف إليهم لصلاتهم فيه. (ضيقاً) بالطول والعرض. (مقارب السقف) أي: قريب السقف من الأرض لقلة ارتفاع الجدار. (إنما هو) أي: سقف المسجد. (عريش) بفتح العين، هو كل ما يستظل به. والمراد أن سقف المسجد لم يكن مرتفعاً كسائر السقوف بل كان شيئاً يستظل به عن الشمس كعريش الكرم، وهو خشبات تجعل تحت أغصانه ليرتفع عليها، يعني القصد منه الاستظلال عن الشمس، وإن كان على رأس الواقف. (فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) إلى المسجد. (في يوم حار) من أيام الجمعة. (وعرق الناس) بكسر الراء جملة حالية أو عطف على"فخرج". (في ذلك الصفوف) أي: الذين يعملون على ظهورهم حين لبسه. (حتى ثارت) أي: انتشرت. (منهم رياح) منتنة. (آذى بذلك) أي: بما ذكر من العرق والرياح. (فلما وجد) أي: أحس. (تلك الرياح) كذا في سائر النسخ بالجمع، وفي سنن أبي داود: والريح، بالإفراد. (هذا اليوم) إشارة إلى الجنس، أو المراد مثل هذا اليوم. (وليمس) بفتح الميم والسين. (ثم جاء الله بالخير) أي: المال من الثياب والعبيد والخدم، عطف على أول القصة، وهو كان الناس، أو على بدأ الغسل، وآثر ثم دلالتها على التراخي في الزمان. لأنهم مكثوا مجهودين مدة طويلة، والفتوحات إنما حصلت أواخر حياته - صلى الله عليه وسلم -. (ولبسوا غير الصوف) من القطن والكتان عطف تفسير. (وكفوا) بصيغة المجهول مخففاً من كفاه مؤنته أي: قام بها دونه، فأغناه عن القيام بها. (العمل) مفعول ثان، أي: وقاهم خدمهم عن العمل والتعب والمشقة. (وذهب) أي: زال. (بعض الذي كان يؤذي) أي: به. (بعضهم بعضاً) ويتأذى الكل. (من العرق) بفتحتين بيان للبعض. والحديث قد استدل به على عدم وجوب الغسل للجمعة. قال القاري في شرح المؤطا بعد ذكر هذا الحديث: فهذا يشير إلى أن الغسل كان واجباً، ثم صار سنة، يعني أن وجوب الغسل كان بعلة الروائح الكريهة، فلما زالت تلك العلة زال الوجوب. وفيه أنه لا نسلم أنها إذا زالت العلة زال الوجوب مسندين ذلك بوجوب السعي مع زوال العلة التي شرع لها، وهي إغاظة المشركين. وقال: الحافظ في ذكر حديث ابن عباس هذا: إسناده حسن، لكن الثابت عن ابن عباس خلافه كما سيأتي قريباً، وعلى تقدير الصحة، فالمرفوع منه

(12) باب الحيض

رواه أبوداود. (12) باب الحيض {الفصل الأول} 547- (1) عن أنس بن مالك، قال: ((إن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله تعالى: {ويسألونك عن المحيض} الآية. ـــــــــــــــــــــــــــــ ورد بصيغة الأمر الدالة على الوجوب، وأما نفي الوجوب، فهو موقوف، لأنه من استنباط ابن عباس، وفيه نظر، إذ لا يلزم من زوال المسبب كما في الرمل والجمار، وعلى تقدير تسليمه، فلمن قصر الوجوب على من به رائحة كريهة أن يتمسك به - انتهى. وقال بعد الجواب عن الأحاديث التي استدل بها الجمهور على عدم الوجوب وعارضوا بها ما لفظه: ثم هذه الأحاديث كلها لو سلمت لما دلت إلا على نفي اشتراط الغسل لا على الوجوب المجرد كما تقدم - انتهى. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري، وأخرجه أيضاً الطحاوي، وقد تقدم أن الحافظ حسن إسناده. (باب الحيض) بفتح الحاء مصدر حاضت المرأة تحيض حيضاً ومحيضاً فهي حائض وحائضة، وهو لغة: السيلان، وفي العرف: جريان دم المرأة في أوقات معلومة من رحمها بعد بلوغها. وقيل: هو دم ينفضه رحم امرأة سليمة من الداء والصغر. ولما كانت له أحكام شرعية من أفعال وتروك عقد له باباً ساق فيه ما ورد فيه من أحكامه. 547- قوله: (إن اليهود) قيل: اليهود جمع يهودي كروم ورومي، وأصله اليهوديين ثم حذف ياء النسبة. قال القاري: والظاهر أن اليهود قبيلة سميت باسم جدها يهودا أخي يوسف الصديق، واليهودي منسوب إليهم بمعنى واحد منهم. (لم يؤاكلوها) بالهمزة ويبدل واواً. وقيل: إنه لغة. (ولم يجامعوهن) أي: لم يساكنوهن ولم يخالطوهن. وإنما جمع الضمير فيه لأن المراد بالمرأة الجنس، فعبر أولاً بالمفرد ثم بالجمع رعاية للفظ والمعنى على طريق التفنن. (فسأل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي: عن المواكلة والمجامعة في البيوت. {ويسألونك عن المحيض} المحيض مفعل من الحيض يصلح لغة للمصدر والزمان والمكان. وأكثر المفسرين على أن المراد به ههنا المصدر. ويقال: فيه اسم مصدر والمعنى واحد. وقيل المراد به موضع الدم ومكانه، والمعنى يسألونك عن دم الحيض، أو موضعه ماذا يفعل بالنساء فيه. (الآية) بالرفع والنصب والجر تتمها. {قل هو} أي: دم الحيض. {أذى} أي: شيء قذر يتأذى به من يقربه، أو مكان الحيض وموضعه ذو أذى أو محل أذى. {فاعتزلوا النساء} أي: اتركوا وطيهن. {في المحيض} [222:2] أي: في زمان الحيض أو مكانه أو في

فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اصنعوا كل شيء إلا النكاح. فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه. فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر، فقالا: يا رسول الله! إن اليهود تقول كذا وكذا، أفلا نجامعهن؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ الدم (فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) مبيناً للاعتزال المطلق المذكور في الآية بقصره على بعض أفراده. (اصنعوا كل شيء) من أنواع الاستمتاع. (إلا النكاح) أي: الجماع إطلاقاً لاسم السبب على المسبب، لأن عقد النكاح سبب للجماع. وهذا تفسير للآية، وبيان لقوله: ((فاعتزلوا)) فإن الاعتزال شامل للمجانبة عن المؤاكلة والمصاحبة والمجامعة، فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ليس المراد بالاعتزال وعدم القربان مطلق المجانبة، بل مجانبة مخصوصة، وهو ترك الوطى والجماع فقط لا غير. والحديث يدل على جواز المباشرة في ما بين السرة والركبة في غير القبل والدبر. وإليه ذهب أحمد ومحمد ورجحه الطحاوي. وقال العيني والسندهي: هو أقوى دليلاً. وقال النووي: هو الأرجح دليلاً وهو اختيار أصبغ من المالكية، ويدل على الجواز أيضاً ما رواه أبوداود بإسناد قوي عن عكرمة عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه إذا أراد من الحائض شيئاً ألقى على فرجها ثوباً، وحملوا حديث عائشة الآتي وما في معناه على الاستحباب جمعاً بين الأدلة. (فبلغ ذلك) أي: الحديث. (ما يريد هذا الرجل) يعنون النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعبروا به لإنكارهم نبوته. (أن يدع) أي: يترك. (من أمرنا) أي: من أمور ديننا. (شيئاً) من الأشياء في حال من الأحوال. (إلا خالفنا) بفتح الفاء. (فيه) أي: إلا حال مخالفته إيانا فيه، يعني لا يترك أمراً من أمورنا إلا مقرونا بالمخالفة كقوله تعالى: {لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها} [49:18] . (فجاء أسيد بن حضير) بالتصغير فيهما، أبي سماك بن عتيك الأنصاري الأشهلي الأوسى، كان أحد النقباء ليلة العقبة الثانية، شهد بدراً وما بعدها من المشاهد. قالت عائشة: كان من أفاضل الناس، وشهد الجابية، وفتح بيت المقدس. له ثمانية عشر حديثاً، اتفقا على حديث. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: نعم الرجل أسيد بن حضير. مات سنة (20) . وحمله عمر بين عمودي السرير حتى وضع بالبقيع. قال عروة: مات أسيد بن حضير وعليه دين أربعة آلاف درهم، فبيعت أرضه، فقال عمر: لا أترك بني أخي عالة، فرد الأرض، وباع ثمرها من الغرماء أربع سنين بأربعة آلاف كل سنة ألف درهم. (وعباد) بفتح أوله وتشديد الموحدة. (بن بشر) بكسر الباء، ابن وقش الأنصاري الأشهلي، أسلم بالمدينة على يدي مصعب بن عمير قبل إسلام سعد بن معاذ, وشهد بدراً والمشاهد كلها، وكان ممن قتل كعب بن الأشرف، وأبلى يوم اليمامة فاستشهد بها، وهو ابن (45) سنة. قالت عائشة: سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - صوت عباد بن بشر ليلة، فقال: اللهم اغفر له، وأضاءت له عصاه لما خرج من عند النبي - صلى الله عليه وسلم -. له حديثان. (أفلا نجامعهن؟) وفي رواية أبي داود، والترمذي: أفلا ننكحهن في المحيض؟ أي: أفلا نطأهن

فتغير وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ظننا أن قد وجد عليهما، فخرجا، فاستقبلتهما هدية من لبن إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأرسل في آثارهما، فسقاهما، فعرفا أنه لم يجد عليهما)) . رواه مسلم. 548- (2) وعن عائشة، قالت: ((كنت أغتسل أنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد، وكلانا جنب، وكان يأمرني، فأتزر، فيباشرني وأنا حائض. وكان يخرج رأسه إلي وهو معتكف، فأغسله، وأنا حائض)) . متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ لكي تحصل المخالفة التامة معهم. (فتغير وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) لأن تحصيل المخالفة بارتكاب المعصية لا يجوز. (قد وجد) أي: غضب. (فخرجا) خوفاً من الزيادة في الغضب. (فاستقبلتهما هدية) أي: استقبل الرجلين شخص معه هدية يهديها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والإسناد مجازى. (من لبن) من بيانية. (إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي: واصلة، أو واصل إليه. (فأرسل في آثارهما) أي: عقبهما رسولاً فناداهما فجاءاه. (فسقاهما) أي: من اللبن تلطفا بهما وإظهارا للرضا. (لم يجد) أي: لم يغضب. (عليهما) لأنهما كانا معذورين لحسن نيتهما فيما تكلما به، أو ما استمر الغضب بل زال، أو ذهب. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي في التفسير وأبوداود والنسائي وابن ماجه. 548- قوله: (والنبي) بالرفع على العطف للفصل ويجوز النصب على أنه مفعول معه. (وكلانا) الواو للحال (وكان يأمرني) بالاتزار. (فأتزر) بتشديد يد التاء المثناه بعد الهمزة، وأصله أأتزر بهمزة ساكنة بعد الهمزة المفتوحة ثم المثناه بوزن افتعل، وإدغام الهمزة في التاء مذهب الكوفيين، حكاه الصغاني في مجمع البحرين. وقول عائشة وهي من فصحاء العرب حجة على الجواز. وقال ابن مالك: إنه مقصور على السماع كالكل، ومنه قراءة ابن محيصن: فليؤد الذي اتمن، بهمزة وصل وتاء مشددة مضمومة من الأمانة. والمراد بالاتزار أن تشد إزارها على وسطها، وحدد ذلك الفقهاء بما بين السرة والركبة عملا بالعرف الغالب. (فيباشرني) أي: يلصق بشرته ببشرته فيما دون الإزار. وقال الطيبي: يعني أنه كان يستمتع مني بعد أن يأمرني بشد الإزار، فيمس بشرته ببشرتي. (وأنا حائض) والحديث قد استدل به على عدم جواز المباشرة فيما بين السرة والركبة، وفيه ما قال ابن دقيق العيد، من أنه ليس في حديث الباب ما يقتضي منع ما تحت الإزار، لأنه فعل مجرد- انتهى. (وكان يخرج رأسه إلى وهو معتكف) في المسجد بأن كان باب الحجرة مفتوحاً إلى المسجد، فيخرج رأسه منه إلى الحجرة، وهي فيها. وهذا يدل على أن المعتكف إذا أخرج بعض أعضاءه من المسجد لم يبطل اعتكافه. (فأغسله) أي: رأسه. (وأنا حائض) في الحديث دلالة على طهارة بدن الحائض وعرقها، وأن المباشرة الممنوعة للمعتكف هي الجماع ومقدماته، وأن الحائض لا تدخل المسجد، وفيه استخدام الزوجة. (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب مباشرة الحائض من كتاب الحيض. والحديث أخرجه أيضاً الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه.

549- (3) وعنها، قالت: ((كنت أشرب وأنا حائض ثم أناوله النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيضع فاه على موضع في، فيشرب، وأتعرق العرق، وأنا حائض، ثم أناوله النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيضع فاه على موضع في)) . رواه مسلم 550- (4) وعنها، قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتكئ في حجري، وأنا حائض، ثم يقرأ القرآن)) . متفق عليه. 551- (5) وعنها، قالت: قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ناوليني الخمرة من المسجد، ـــــــــــــــــــــــــــــ 549- قوله: (ثم أناوله النبي) أي: أعطيه الإناء الذي شربت فيه. (فيضع فاه) أي: فمه. (على موضع في) بتشديد الياء، أي: فمي. (وأتعرق العرق) بفتح فسكون، العظم الذي بقي عليه شيء من اللحم، وتعرق العرق أكل ما عليه من اللحم. يقال: عرقت العظم وتعرقته واعترقته، إذا أخذت عنه الحم بأسنانك. والمعنى: وكنت آخذ ما على العظم من اللحم بأسناني. وهذا يدل على جواز مؤاكلة الحائض، ومشاربتها، ومجالستها، وطهارة أعضائها من اليد والفم وغيرهما، وطهارة ريقها وسؤرها من طعام أو شراب. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي وابن ماجه. 550- قوله: (كان يتكئ في حجري) بتثليث الحاء أي: في حضني، وفي رواية البخاري في التوحيد: كان يقرأ القرآن ورأسه في حجري، وأنا حائض. وفي رواية أبي داود: كان يضع رأسه في حجري، فيقرأ وأنا حائض. فعلى هذا فالمراد بالاتكاء وضع رأسه في حجرها. قال ابن دقيق العيد: في هذا الفعل إشارة إلى أن الحائض لا تقرأ القرآن، لأن قراءتها لو كانت جائزة لما توهم امتناع القراءة في حجرها حتى احتيج إلى التنصيص عليها- انتهى. وفي الحديث جواز ملامسة الحائض، وأن ذاتها وثيابها على الطهارة ما لم يلحق شيئاً منها نجاسة. وهذا مبني على منع القراءة في المواضع المستقذرة. وفيه جواز القراءة بقرب محل النجاسة، قاله النووي. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي وابن ماجه. 551- قوله: (ناوليني) أي: أعطيني. (الخمرة) بالضم، ما يضع عليه المصلى وجهه في سجوده، أو يصلي عليه، أو يجلس عليه من حصير أو نسيجة خوص، سميت بذلك لأن خيوطها مستورة بسعفها. وفي حديث الفارة عند أبي داود تصريح بإطلاق الخمرة على الكبير من نوعها. (من المسجد) قيل: حال من النبي - صلى الله عليه وسلم -، أي: قال: لي حال كونه - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، فتكون الخمرة في الحجرة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد. وقيل: حال من الخمرة، فيكون الأمر على العكس، وهو الظاهر. قال السندي في حاشية ابن ماجه: قوله "من المسجد" الظاهر أنه متعلق بناوليني، وعلى هذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - خارج المسجد، وأمرها أن تخرجها له من المسجد بأن كانت الخمرة قريبة إلى باب عائشة تصل إليها اليد من الحجرة. وهذا هو الموافق لترجمة المصنف وأبي داود والترمذي. وقال عياض: إنه قال: ذلك من المسجد لتناوله إياها من خارج المسجد، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان معتكفاً، وكانت عائشة في حجرتها. قال السندي: فكلمة "من" متعلقة بقال, ولا يخفى

فقلت إني حائض، فقال: إن حيضتك ليست في يدك)) . رواه مسلم 552- (6) وعن ميمونة، رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في مرط، ـــــــــــــــــــــــــــــ بعده. والحامل له على ذلك أنه جاء في حديث أبي هريرة عند مسلم، مثل هذه الواقعة، وفيه: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان في المسجد فحمل القاضي حديثين على اتحاد الواقعة، وهو غير لازم، بل التعدد هو الظاهر. وقال في حاشية مسلم بعد ذكر قول عياض ما نصه: هذا مبني على أن هذه الواقعة، والواقعة المروية في حديث أبي هريرة واحدة لكن المذكور في حديث أبي هريرة الثوب، وفي حديث عائشة الخمرة، فعند الحمل على الاتحاد لا بد من القول بأنه أمر بتناول الأمرين جميعاً ووقع الاقتصار في كل من الحديثين على أحدهما أو أن بعض الرواة نسي الثوب مكان الخمرة، والله تعالى أعلم. فكلمة من على هذا متعلقة بقال في الرواية، وبأمر في الرواية الثانية، وقد يقال: لا حاجة إلى القول بالاتحاد، فيجوز أنه قال لها أولاً وهو في المسجد: ناوليني الثوب. وهذا هو ما روى أبوهريرة، وقال لها ثانياً وهو في البيت: ناوليني الخمرة من المسجد. بأن كان الخمرة قريباً إلى باب عائشة يصل إليها اليد من الحجرة، فرأت عائشة أن الثاني أشد من الأول، فاعتذرت بالحيض ثانياً، وعلى هذا فكلمة من متعلقة بناوليني كما هو الظاهر. (فقلت) أي: معتذرة. (إن حيضتك ليست في يدك) بكسر الحاء اسم للحالة كالجلسة. والمراد الحال التي تلزمها الحائض من التجنب ونحوه، والفتح لا يصح لأنه اسم للمرة، هذا حاصل ما قاله الخطابي. وأنكر هذا عليه عياض، وقال: الصواب ههنا الفتح، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما نفي عم يدها الحيض الذي هو الدم والنجاسة، التي يجب تجنبها واستقذارها. فأما حكم الحيض، وحالتها التي تتصف بها المرأة، فلازم ليدها وجميعها وإنما جاءت الفعلة في هيئات الأفعال كالعقدة والجلسة لا في الأحكام والأحوال. قال النووى: هذا الذي اختاره عياض من الفتح هو الظاهر ههنا، ولما قاله الخطابي وجه – انتهى. قلت: الظاهر عندي هو الكسر، لأن عائشة رضي الله عنها كانت تعلم أن نجاسة الحيض التي يصان المسجد عنها ليست في يدها، وإنما امتنعت من إدخال يدها في المسجد لأنها علمت أن الحالة العارضة لها من الحيض، وحكمها قد حلت يدها أيضاً، وصارت يدها أيضاً متلبسة بها، فامتنعت من إدخال اليد معتذرة بأنها حائض، فقال لها - صلى الله عليه وسلم -: إن حيضتك ليست في يدك، أي: الحالة التي هي كونها حائضة عرضت لها باعتبار مجموعها، لا باعتبار أجزاءها، واتصف بها المجمع اتصافاً واحداً، فلا يقال لليد حائضة حتى يمتنع من إدخالها في المسجد. والحديث فيه دليل على أن للحائض أن تتناول شيئاً من المسجد، وأن من حلف أن لا يدخل داراً أو مسجداً فإنه لا يحنث بإدخال بعض جسده فيه. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وصححه الترمذي وهو صحيح بتصحيح مسلم إياه كما قاله ابن سيد الناس، وإخراجه له في صحيحه. 552- قوله: (يصلي في مرط) بكسر الميم وسكون الراء كساء من صوف أو خز كانوا يتزرون به ويكون إزاراً

{الفصل الثاني}

بعضه علي وبعضه عليه، وأنا حائض)) . متفق عليه. {الفصل الثاني} 553- (7) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أتى حائضاً، أوامرأة في دبرها، أوكاهناً، فقد كفر ـــــــــــــــــــــــــــــ ورداء (بعضه على) أي: ملقى على بدني. (وبعضه عليه) أي: بعض المرط ألقاه عليه الصلاة والسلام على كتفه. (وأنا حائض) في الحديث دليل على أن أعضاء الحائض طاهرة وإلا فالصلاة في مرط واحد بعضه ملقى على النجاسة وبعضه متصل بالمصلى غير جائز. وفيه أنه يجوز الصلاة في ثوب بعضه على المصلي وبعضه على حائض أو غيرها. (متفق عليه) فيه نظر لأني لم أجده في الصحيحين ولا في أحدهما بهذا اللفظ. وقد أخرج البخاري من حديث ميمونة معنى ما ذكره المصنف في أربعة مواضع من صحيحه في آخر كتاب الحيض قبل التيمم عن الحسن بن مدرك، وفي باب "أصاب ثوب المصلي امرأته إذا سجد " عن مسدد، وفي باب: إذا صلى إلى فراش فيه حائض، عن عمرو بن زرارة، وعن أبي النعمان. وأخرجه مسلم في الصلاة عن يحي بن يحي، وعن أبي بكر بن أبي شيبة، لكن ليس عندهما باللفظ الذي ذكره المصنف، نعم أخرج أبوداود عن ميمونة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى وعليه مرط وعلى بعض أزواجه منه وهي حائض، وهو يصلي، وهو عليه. ولفظ ابن ماجه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى وعليه مرط، بعضه عليه وعليها بعضه وهي حائض. ولأبي داود وابن ماجه نحوه عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالليل وأنا إلى جنبه وأنا حائض، وعلى مرط لي وعليه بعضه. 553- قوله: (من أتى حائضاً) أي: جامعها، فالماد بالإتيان ههنا المجامعة. (أو امرأة) مطلقاً سواء كانت حائضاً أو غيرها. (أو كاهناً) لا يصح عطفه على حائضاً، فلا بد من تقدير "أتى" بمعنى جامع، وجعل الجملة عطفاً على الجملة. ومن جوز استعمال المشترك في معنييه يجوز عنده عطف المفرد، على أن المراد بالإتيان بالنسبة إلى المعطوف عليه معنى، وبالنسبة إلى المعطف معنى آخر. وقال الطيبي: "أتى"لفظ مشترك هنا بين المجامعة، وإتيان الكاهن- انتهى. قال القاري: والأولى أن يكون التقدير "أو صدق كاهناً" فيصير من قبيل " علفتها تبناً وماءً بارداً" والمراد بالكاهن، الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان ومن الكهنة من يدعى أن له تابعاً من الجن يلقى إليه الأخبار، ومنهم من يزعم أنه يعرف الأمور بمقدمات أسباب يستدل بها على مواقعها من كلام من يسأله أو فعله أو حاله، وهذا يخصونه باسم العراف، كالذي يدعي معرفة الشيء المسروق. ومكان الضالة, ونحوهما. قال الجزري: وحديث من أتى كاهناً يشمل الكاهن والعراف والمنجم. (فقد كفر) الظاهر أنه محمول على التغليظ والتشديد كما يقال الترمذي: إنما معنى عند أهل العلم على التغليظ. وقد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من أتى حائضاً فليتصدق بدينار, فلو كان إتيان الحائض كفراً لم يؤمر فيه بالكفارة - انتهى. وقيل: إن

بما أنزل على محمد)) رواه الترمذي، وابن ماجه، والدارمي. وفي روايتهما: فصدقه بما يقول فقد كفر، وقال: الترمذي: لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث حكيم الأثرم، عن أبي تميمة عن أبي هريرة. 554- (8) وعن معاذ بن جبل، قال: قلت: ((يا رسول الله! ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ قال: ما فوق الإزار، والتعفف عن ذلك أفضل، ـــــــــــــــــــــــــــــ كان المراد الإتيان باستحلال وتصديق فالكفر محمول على ظهره، وإن كان بدونهما فهو على كفران النعمة، أو على معنى عمل معاملة من كفر. (بما أنزل على محمد) من الكتاب والسنة. (رواه الترمذي وابن ماجه والدارمي) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود في الكهانة والتطير، وابن الجارود في المنتقى (ص58) والحاكم (وفي روايتهما) أي: ابن ماجه والدارمي (فصدقه) أي: الكاهن. (بما يقول فقد كفر) وبه تقيد رواية الترمذي، فيخرج من أتاه ليظهر كذبه، أو للاستهزاء بما هو عليه. وهذه الزيادة عند أحمد وأبي داود، وابن الجارود، والحاكم أيضاً. ولعل الترمذي اختصرها. (وقال الترمذي: لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث حكيم) بمفتوحة وكسر كاف، ولفظه حديث سقطت من جميع نسخ الكتاب وهي ثابتة عند الترمذي. (الأثرم) بمفتوحة فمثلثة ساكنة البصرى، قال في التقريب: فيه لين. (عن أبي تميمة) بفتح أوله، اسمه طريف بن مجالد الهجيمي، بضم الهاء وفتح الجيم، ثقة، من طبقة الوسطى من التابعين، مات سنة (97) أو قبلها أو بعدها. (عن أبي هريرة) قال الترمذي: ضعف محمد هذا الحديث من قبل إسناده - انتهى. قال الحافظ في ترجمة حكيم الأثرم: قال الذهلي عن ابن المديني أعياناً هذا، وقال مرة: لا أدري من هو. وقال البخاري: لا يتابع في حديثه، يعني عن أبي تميمة عن أبي هريرة: من أتى كاهناً، ولا نعرف لأبي تميمة سماعاً من أبي هريرة. وقال النسائي: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الأجري عن أبي داود: ثقة. وقال ابن أبي شيبة: سألت عنه ابن المديني، فقال: ثقة عندنا - انتهى. قلت: فتوثيق النسائي وأبي داود وابن حبان، وابن المديني في رواية ابن أبي شيبة لحكمي الأثرم يرد تضعيف الحديث، ويجعل إسناده حسنا أو صحيحا. والله أعلم. 554- قوله: (ما يحل لي من امرأتي؟) أي: أي: موضع يباح لي من أعضاءها؟ (قال: ما فوق الإزار) أي: يجوز لك الاستمتاع ما فوق الإزار، أي: ما فوق السرة، لأن موضع الإزار هو السرة. (والتعفف) أي: ومع ذلك التجنب والامتناع. (عن ذلك) أي: عن الاستمتاع بما فوق الإزار. (أفضل) لأنه من رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه، فلعل غلبة الشهوة توقعه في الحرام، فندب إلى التعفف احتياطاً. والحديث دليل على تحريم المباشرة محل الإزار، وهو ما بين السرة والركبة، لكن الحديث ضعيف، وقد عارضه حديث أنس: اصنعوا كل شيء إلا النكاح. وهو أصح من هذا، فهو أرجح منه، ولا يكون مثل هذا المفهوم مخصصاً لعموم كل شيء، فلا يعارض المنطوق الدال على الجواز.

رواه رزين، وقال محى السنة: إسناده ليس بقوي. 555- (9) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا وقع الرجل بأهله، وهي حائض، فليتصدق بنصف دينار، ـــــــــــــــــــــــــــــ قال العراقي: قوله: والتعفف عن ذلك أفضل، هذا يقوي ما يقرر من ضعف الحديث، فإنه خلاف المنقول عن فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يستمتع بما فوق الإزار، وما كان ليترك الأفضل، وعلى ذلك عمل الصحابة، والتابعون والسلف الصالحون. قال السيوطي: لعله علم من حال السائل غلبة شهوته فرأي أن تركه لذلك أفضل في حقه لئلا يوقعه في محظور. (رواه رزين) وأخرجه أيضاً أبوداود في باب المذى، وضعفه، قال: ليس هو يعني الحديث بقوى، أي: لأن في سنده بقية بن الوليد وهو مدلس، وقد رواه عن سعد بن عبد الله الأغطش بالعنعنة، وسعد الأغطش ليس الحديث، وعبد الرحمن بن عائذ لم يسمع من معاذ، فهو منقطع. قال الحافظ في التلخيص: ورواه الطبراني من رواية إسماعيل بن عياش، عن سعيد بن عبد الله الخزاعي، فإن كان هو الأغطش، فقد توبع بقية، وبقيت جهالة سعيد، فإنا لا نعرف أحدا وثقة، وأيضاً فعبد الرحمن بن عائذ رواية عن معاذ، قال أبوحاتم: روايته عن على مرسلة، فإذا كان كذلك، فعن معاذ أشد إرسالاً- انتهى. وفي الباب عن حرام بن حكيم عن عبد الله بن سعد، أخرجه أبوداود. 555- قوله: (إذا وقع الرجل بأهله) أي: جامعها. (فليتصدق بصنف دينار) كذا وقع في هذه الرواية، ولعلها اختصار من بعض الرواة، أو سهو، ففي سندها خصيف، وهو سيء الحفظ، خلط بآخره. والحديث قد روى بأسانيد كثيرة، وبألفاظ مختلفة، أصحها وأرجحها ما رواه أبوداود، قال: حدثنا مسدد، نا يحيى عن شعبة قال: حدثني الحكم عن عبد الحميد بن عبد الرحمن عن مقسم عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، في الذي يأتي امرأته وهي حائض، قال: يتصدق بدينار، أو نصف دينار. ورواه النسائي عن عمرو بن علي، عن يحيى. ورواه ابن ماجة، عن محمد بن بشار، عن يحي ابن سعيد، ومحمد بن جعفر، وابن أبي عدى. ورواه أحمد عن يحيى ومحمد بن جعفر. ورواه ابن الجارود عن محمد بن يحيى عن وهب ابن جرير، وعن أحمد بن محمد الشافعي، ع الحسن بن علي الحلواني، عن سعيد بن عامر. ورواه الحاكم في المستدرك من طريق مسدد عن يحيى. ورواه البيهقي من طريق الفضل بن عبد الجبار، عن النضر بن شميل كل هؤلاء عن شعبة، عن الحكم عن عبد الحميد عن مقسم عن ابن عباس مرفوعاً. قال أبوداود: هكذا الرواية الصحيحة، قال: دينار أو نصف دينار. وربما لم يرفعه شعبة- انتهى. فهذه الرواية أصح الروايات في ذلك وأرجحها، فكل رواتها مخرج لهم في الصحيح إلا مقسماً الراوي عن ابن عباس، فانفرد به البخاري، لكن ما أخرج له إلا حديثاً واحداً. وقد صحح هذه الرواية الحاكم، ووافقه الذهبي وصححها أيضاً ابن القطان وابن دقيق العيد. وقال أحمد: ما أحسن حديث عبد الحميد عن مقسم عن ابن عباس، فقيل له: تذهب إليه؟

قال: نعم، إنما هو كفارة، ذكره الخلال. وبالجملة رواية عبد الحميد هذه صحيحة لكن وقع الاختلاف في رفعها ووقفها فرفعها شعبة مرة ووقفها مرة. قال الحافظ في بلوغ المرام بعد ذكر هذه الرواية مرفوعة: صححه الحاكم، وابن القطان، ورجح غيرهما وقفه. قال الشوكاني في النيل (ج1:ص268) : ويجاب عن دعوى الاختلاف في رفعه ووقفه بأن يحيى بن سعيد ومحمد بن جعفر وابن أبي عدى رفعوه عن شعبة، وكذلك وهب بن جرير، وسعيد بن عامر، والنضر بن شميل، وعبد الوهاب بن عطاء الخفاف. قال: ابن سيد الناس: من رفعه عن شعبة أجل وأكثر وأحفظ ممن وقفه. وأما قول شعبة: أسنده لي الحكم مرة ووقفه مرة، فقد أخبر عن المرفوع والموقوف أن كلا عنده، ثم لو تساوي رافعوه مع واقفيه لم يكن في ذلك ما يقدح فيه. قال: أبوبكر الخطيب: إختلاف الروايتين لا يؤثر في الحديث ضعفا، وهو مذهب أهل الأصول، لأن إحدى الروايتين ليست مكذبة لأخرى، والأخذ بالمرفوع بالزيادة وهي واجبة القبول-انتهى. وإذا عرفت أن هذه الرواية صحيحة، فاعلم أنهم اختلفوا في لفظه "أو" فحملها بعضهم على الشك، وبعضهم على التنويع، والتفصيل بين حالي الدم ووقتيه، وبعضهم على التخيير، فقد نقل الخطابي في معالم السنن (ج1:ص84) أن أحمد بن حنبل كان يقول: وهو مخير بين الدينار ونصف الدينار، فهذا يدل على أن أحمد كان يرى أن أصل اللفظ في الحديث على التخيير لا على الشك، ولا على التفصيل. قال الشوكاني: والحديث يدل على وجوب الكفارة على من وطى امرأته وهي حائض، وإلى ذلك ذهب ابن عباس والحسن البصري، وسعيد بن جبير وقتادة والأوزاعي وإسحق وأحمد في الرواية الثانية عنه، والشافعي في قوله: القديم – انتهى. قال العيني: ثم إن الذين ذهبوا إلى عدم الوجوب أجابوا أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: يتصدق، محمول على الاستحباب. وقال العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي بعد ذكر القول بالتخيير عن أحمد ما لفظه: وإذا ثبت أن أصل الحديث الأمر بالتخيير بين الدينار وبين نصف الدينار فإني أي: أن الأمر فيه ليس للوجوب، وإنما هو للندب، لأن الأصل في الأمر أن يكون للوجوب على الحقيقة. ولا يكون للندب إلا مجازاً، والمجاز لا بد له من قرينة تمنع إرادة المعنى الحقيقي، والقرينة هنا في نفس اللفظ، لأن التخيير في المأمور به بين أن يكون قليلاً أو كثيراً من نوع واحد يجل على أن الزائد عن القليل ليس واجباً، لأن الدينار الواحد له نصفان، وقد أمر مخيراً بين أداءه كله، وبين أداء نصف من نصفيه فإذا أدى النصف كان آتيا بالمأمور به في أحد شقى الأمر، ولم يأت إلا ببعضه في الشق الآخر، وبرئت ذمته بما أتاه من المأمور به، فكان الذي لم يأت به غير واجب بنفس دلالة اللفظ، فدل لفظ الأمر على أن بعض مدلوله ليس مراداً به الوجوب، فخرج بذلك عن الحقيقة إلى المجاز. وإذ خرج في بعض مدلوله عن الحقيقة لهذه القرينة القاطعة، خرج في كل مدلوله، لامتناع استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه معاً. وتحقيق ذلك في موضعه من علو الأصول. وليس هذا من باب الواجب المخير المعروف في الفقة والأصول، لأن الواجب المخير إنما يكون في التخيير بين أنواع مأمور بها لا في التخيير بين القليل والكثير من نوع واحد وهذا ثابت بالتتبع - انتهى كلامه.

رواه الترمذي، وأبوداود، والنسائي، والدارمي، وابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ (رواه الترمذي وأبوداود) كلاهما من طريق شريك بن عبد الله، عن خصيف عن مقسم عن ابن عباس. ورواه أيضاً من هذا الطريق أحمد والبيهقي. (والنسائي) فيه نظر، لأن النسائي لم يرو هذه الرواية. (والدارمي) من طريق شريك عن خصيف عن مقسم. ورواه أيضاً من طريق الثوري عن خصيف نحو رواية شريك. (وابن ماجه) من طريق أبي الأحوص، عن عبد الكريم بن مالك الجزري، عن مقسم، عن ابن عباس. قال المنذرى: هذا الحديث يعني حديث ابن عباس في كفارة إتيان الحائض قد وقع الاضطراب في سنده ومتنه، فروى مرفوعاً موقوفاً ومرسلاً ومعضلاً. وقال عبد الرحمن بن مهدي: قيل لشعبة: إنك كنت ترفعه، قال: إني كنت مجنوناً، فصححت-انتهى. وقال الحافظ في التلخيص: والاضطراب في إسناد هذا الحديث ومتنه كثير. قلت: لاشك في أن في إسناد هذا الحديث ومتنه اختلافاً كثيراً لكن قد تقرر في موضعه أن مجرد الاختلاف لا يؤثر في صحة الحديث بل يشترط له استواء وجوه الاختلاف، فمتى رجحت رواية من الروايات المختلفة من حيث الصحة قدمت، ولا تعل الرواية الراجحة بالمرجوحة، وههنا رواية عبد الحميد، عن مقسم، عن ابن عباس بلفظ: فليتصدق بدينار أو بنصف دينار صحيحة راجحة، كما تقدم النقل في تصحيحها عن الحاكم، والذهبي وابن القطان وابن دقيق العيد، وأحمد بن حنبل، وأما باقي الروايات فضعيفة مرجوحة لا توازي رواية عبد الحميد فلا تعل رواية عبد الحميد هذه بالروايات المرجوحة. والعجب من المصنف أنه أورد هذا الباب رواية خصيف عن مقسم عن ابن عباس بلفظ: يتصدق بنصف دينار، وهي رواية ضعيفة مرجوحة، ولم يورد رواية عبد الحميد عن مقسم عن ابن عباس بلفظ: يتصدق بدينار أونصف دينار، وهي أرجح الروايات وأصحها. قال الحافظ في التلخيص: قد أمعن ابن القطان القول في تصحيح هذا الحديث، والجواب عن طريق الطعن فيه بما يراجع منه، وأقر ابن دقيق العيد تصحيح ابن القطان وقواه في الإمام وهو الصواب، فكم من حديث قد احتجوا به، وفيه من الاختلاف أكثر مما في هذا الحديث كحديث بئر بضاعة، وحديث القلتين، ونحوهما. وفي ذلك ما يرد على النووي في دعواه في شرح المهذب، والتنقيح، والخلاصة، أن الأئمة كلهم خالفوا الحاكم في تصحيحه، وأن الحق أنه ضعيف باتفاقهم، وتبع في بعض ذلك ابن الصلاح-انتهى كلام الحافظ. وأما قول عبد الرحمن بن مهدي: قيل لشعبة: إنك كنت ترفعه؟ قال: "إني كنت مجنوناً فصححت" ففيه أنه اختلف النقل فيه عن شعبة، فروى هذا الحديث الدارمي، عن أبي الوليد، عن شعبة موقوفاً، وعن سعيد بن عامر عن شعبة موقوفاً أيضاً. وقال: قال شعبة: أما حفظي فهو مرفوع، وأما فلان وفلان، فقالا غير مرفوع. قال بعض القوم: حدثنا بحفظك ودع ماقال فلان وفلان، فقال: والله ما أحب أني عمرت في الدنيا عمر نوح وإني حدثت بهذا أو سكت عن هذا. فهذه الرواية عن شعبة ترشد إلى أنه كان على وثوق من حفظه، ويقين برفعة، ثم إنه تردد واضطرب حين رأى غيره يخالفه، فيرويه موقوفاً، ثم جعل هو يرويه موقوفاً أيضا، وهذا كما ترى لا يؤثر في يقينه الأول برفعة. وقد تابعه في رفعه غيره، فرواه البيهقي عن إبراهيم بن طهمان عن مطر الوراق عن الحكم عن المقسم عن ابن عباس مرفوعاً. قال المنذري: وأما الاضطراب في متنه فروى"بدينار أو نصف دينار"على الشك. وروى: يتصدق بدينار، فإن لم يجد فنصف دينار. وروى "إذا كان

{الفصل الثالث}

556- (10) وعنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا كان دما أحمر، فدينار، وإن كان دماً أصفر، فنصف دينار)) . رواه الترمذي. {الفصل الثالث} 557- (11) عن زيد بن أسلم، قال: ((إن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ما يحل لي من ـــــــــــــــــــــــــــــ دما أحمر فدينار، وإن كان دماً أصفر فنصف دينار"وروى"إن كان الدم عبيطاً فليتصدق بدينار، وإن كان صفرة فنصف دينار"- انتهى. قلت: قد تقدم أن أصح الروايات وأرجحها في ذلك رواية من قال: بدينار أو نصف دينار. وهي التي صحح لفظها أبوداود بقوله: هكذا الرواية الصحيحة، قال: دينار أو نصف دينار. فتقدم هذه الرواية على غيرها من الروايات. 556- قوله: (إذا كان) أي: الحيض (دمًا أحمر فدينار) أي: على المجامع فيه. (وإذا كان دماً أصفر فنصف دينار) إن صح الحديث فالأظهر فيه أنه تعبد محض لا مدخل للعقل فيه، لكن قد تقدم أن الرواية الصحيحة دينار أو نصف دينار من غير تفصيل بين حالي الدم أو وقتيه. وقال: العلامة المصري في تعليقه على الترمذي: أما التفصيل بين حالي الدم أو وقتيه فإنه تفسير من الرواة قطعًا. ثم دخل على بعض الرواة عنهم، فظنوه من متن الحديث، فنقلوه كذلك. وقد حفظ لنا سعيد بن أبي عروبة الدليل الصريح على أن التفسير أو التفصيل إنما هو من بعض الرواة. ففي رواية البيهقي (ج1:ص315) من طريق عبد الوهاب بن عطاء عن سعيد عن قتادة عن مقسم عن ابن عباس مرفوعاً "بدينار أو نصف دينار" ففسره قتادة، قال: إن كان واجداً فدينار وإن لم يجد فنصف دينار. وفي رواية أيضاً (ج1: ص317) من طريق عبد الوهاب عن سعيد عن عبد الكريم عن مقسم عن ابن عباس مرفوعاً. وفسر ذلك مقيم، فقال: إن غشيها في الدم فدينار، وإن غشيها بعد انقطاع الدم قبل أن تغتسل، فنصف دينار. وفي رواية أيضاً من طريق روح بن عبادة عن سعيد عن عبد الكريم أبي أمية عن عكرمة عن ابن عباس، فذكر نحو هذا، ونسب التفسير إلى مقسم أيضاً مع أنه ليس في هذا الإسناد- انتهى. (رواه الترمذي) من طريق أبي همزة السكري، عن عبد الكريم عن مقسم عن ابن عباس. وأخرج بنحوه الدارمي، والدارقطني كلاهما من طريق أبي جعفر الرازي عن عبد الكريم عن مقسم عن ابن عباس مرفوعاً. 557- قوله: (عن زيد بن أسلم) العدوى مولى عمر بن الخطاب، يكنى أبا عبد الله أو أبا أسامة المدني، ثقة من أهل الفقه والعلم، وكان عالماً بتفسير القرآن، وكان يرسل من الطبقة الوسطى من التابعين، مات سنة (136) في العشر الأول من ذي الحجة. (إن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) لعل الرجل السائل هو عمر بن الخطاب مولى زيد بن أسلم، فقد روى أبويعلى عن

امرأتي وهي حائض؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تشد عليها إزارها، ثم شأنك بأعلاها)) رواه مالك والدارمي مرسلاً. 558- (12) وعن عائشة، قالت: ((كنت إذا حضت نزلت عن المثال على الحصير، فلم نقرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم ندن منه حتى نطهر)) . رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ عاصم بن عمر أن عمر قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض؟ قال: ما فوق الإزار. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، ويمكن أن يكون السائل عبد الله بن سعد. فقد روى أبوداود عنه قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ قال: لك ما فوق الإزار (تشد) بفتح التاء وضم الشين والدال، خبر معناه الأمر. وفي الموطأ والدارمي "لتشد" بزيادة اللام (ثم شأنك بأعلاها) أي: استمتع بما فوق فرجها، وشأنك بالنصب بإضمار فعل، أي: خذ، ويجوز رفعه على الإبتداء، والخبر محذوف تقديره مباح أو جائز. وفيه دليل على منع الاستمتاع بما تحت الإزار، لكن الحديث مرسل، والمرسل على القول الأصح ليس بحجة، ولو سلم اعتضاده بما تقدم من حديث عاصم بن عمر وعبد الله بن سعد، فلا يدل على منع ذلك إلا بالمفهوم، وقد عارضه منطوق حديث: إصنعوا كل شيء إلا النكاح، وهو أصح منه، فيقدم عليه، وقد تقدم أن الطحاوي رجح الجواز، وقواه العيني والسندي دليلاً، واختاره أصبغ من المالكية، ورجحه النووي دليلاً (رواه مالك والدارمي) من طريق مالك (مرسلاً) بفتح السين. والحديث المرسل ما سقط منه الصحابي كقول نافع: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا أو فعل كذا أو فعل بحضرته كذا. قال ابن عبد البر: لا أعلم أحدا رواه بهذا اللفظ مسنداً، ومعناه صحيح ثابت- انتهى. قلت: روى الطبراني في الكبير عن ابن عباس أن رجلاً قال: يا رسول الله! مالي من امرأتي وهي حائض؟ قال: تشد عليها إزارها ثم شأنك بها. وفيه أبونعيم ضرار بن صرد، وهو ضعيف، قاله الهيثمي. 558- قوله: (إذا حضت) بكسر الحاء (عن المثال) أي: الفراش (فلم نقرب) بفتح النون والراء (رسول الله) بالنصب (- صلى الله عليه وسلم -، ولم ندن) بفتح النون الأولى وضم الثانية (منه حتى نطهر) بالنون. هذا مخالف لما سبق، ولعله منسوخ إلا أن يحمل القربان والدنو على الغشيان كما في قوله تعالى: {ولا تقربوهن حتى يطهرهن} [222:2] فإن كل واحد من الزوجين يدنو ويقرب من الآخر عند الغشيان، قاله القاري نقلاً عن الطيبي. قلت: التأويل هو المتعين للجمع بين الأحاديث. وقال ابن حجر: هذا كان شأنهن معه - صلى الله عليه وسلم -، أعنى إنهن يعتزلنه خوفا من شمه أو رؤيته لبعض ما ينفر مما بهن حتى يدعونهن إلى معاشرته (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري. قلت: في سنده أبواليمان الرحال، قال الحافظ في التقريب: مستور، وذكره ابن حبان في الثقات.

(13) (باب المستحاضة)

(13) (باب المستحاضة) ـــــــــــــــــــــــــــــ (باب المستحاضة) هي المرأة التي استمر بها الدم بعد أيامها، من الإستحاضة، وهي جريان الدم من فرجها في غير أوانه من عرق في أدنى الرحم دون قعره، يقال: لذلك العرق العاذل. يقال: استحيضت المرأة- بالبناء للمفعول- إذا استمر بها الدم، فهي مستحاضة، وهي من الأفعال اللازمة البناء للمفعول، وأصلها من الحيض، لحق الزوائد للمبالغة كما يقال: قر في المكان واستقر، وأعشب، ثم يزاد للمبالغة فيقال: اعشوشب. قال العيني (ج1:ص142) فإن قلت: ما وجه بناء الفعل للفاعل في الحيض، وللمفعول في الإستحاضة؟ قلت: لما كان الأول معروفا معتادا نسب إليها، والثاني لما كان نادرا غير معروف الوقت، وكان منسوبا إلى الشيطان كما ورد أنها ركضة منه، بنى لما لم يسم فاعله. فإن قلت: ما هذه السين؟ قلت: يجوز أن تكون للتحول كما في استحجر الطين، وههنا تحول دم الحيض إلى غيره، وهو دم الإستحاضة- انتهى. وحكمها حكم الطاهرة في العبادات والوطي عند الجمهور، خلافا لأحمد في الوطي. واعلم أن المستحاضة على أربعة أقسام: الأولى مبتدأة مميزة. الثانية مبتدأة غير مميزة. الثالثة معتادة من غير تمييز. الرابعة معتادة بتمييز، فأما الأولى فهي التي ابتدأ بها الحيض، ولم تكن حاضت قبله، واستمر بها الدم، وكانت مميزة بأن ترى في بعض الأيام دما أسود، وفي بعضها دما أحمر أو أصفر، فحيضها مدة تمييزها، أي: حكمها أن حيضها زمن الدم الأسود بشرط أن لا يزيد على أكثر الحيض، فإن زاد على أكثره لم يكن حيضا. قال ابن العربي في شرح الترمذي: الأصل في اعتبار التمييز حديث لا بأس به، يرويه العلماء عن فاطمة بنت أبي حبيش: أن دم الحيض دم أسود يعرف. وقد خرجناه من طريق حسنة، لها مدخل في الصحة يعضده قوله: في الصحيح حسب ما قدمناه لها "إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة" وفي هذا الحديث عندي نظر عظيم، والأول أقرب إلى الحجة وأسلم واضح المحجة- انتهى. وأما الثانية وهي مبتدأة من غير تمييز فإن حاضت حيض لداتها يعني أهل سنها، وقيل: أقرانها، حكم لها بحكم الحيض، وإن زادت عليه، فقيل: تجلس أكثر الحيض يعني خمسة عشر يوما، ثم يحكم لها بالإستحاضة. وقيل: تجلس عادة نسائها كأختها وأمها. وقيل: تجلس غالب من كل شهر، وذلك ستة أيام أو سبعة أيام. وهذا أشبه بالحق لحديث حمنة بنت جحش الآتي في الفصل الثاني. وأما الثالثة وهي المعتادة من غير تمييز، يعني التي لها عادة معلومة قبل أن تستحاض، ولا تمييز لها لكون دمها لا يتميز بعضه من بعض، فإنها تجلس أيام عادتها، ثم تغتسل عند انقضائها، وتتوضأ لكل صلاة. وعليه يدل حديث أم سلمة وحديث عدي بن ثابت، عن أبيه، عن جده في الفصل الثاني، وحديث عائشة في أم حبيبة بنت جحش عند مسلم وغيره، ففيه: امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي. وأما الرابعة وهي المعتادة بتمييز، فإن كان الأسود في زمن العادة فقد اتفقت العادة والتمييز، فيعمل بهما، وإن اختلفت العادة والتمييز فقيل: يقدم التمييز وتدع العادة، يعني يكون الاعتبار للتمييز لا للعادة، لأن التمييز أولى، لأن العادة قد تختلف والتمييز لا يختلف، ولأن

{الفصل الأول}

{الفصل الأول} 559- (1) عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: ((جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله! إني امرأة، أستحاض، فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ النظر إلى اللون اجتهاد والنظر إلى العادة تقليد، والاجتهاد أولى من التقليد. وقيل: العبرة للعادة لا للتمييز فترد إلى العادة وهو الراجح عندي، لأن العادة أقوى لكونها لا تبطل دلالتها، والدم الأسود إذا زاد على أكثر مدة الحيض بطلت دلالته، فما لا تبطل دلالته أولى، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - رد أم حبيبة والمرأة التي استفتت لها أم سلمة إلى العادة من غير استفصال وتفريق بين كونها مميزة، وكذا حديث عدي بن ثابت عام في كل مستحاضة، وقد تكلم في إسناده بما لا يوجب سقوطه عن درجة الاعتبار ثم اعلم أن الحنفية لم يعتبروا التمييز مطلقاً فالمستحاضة عندهم على ثلاثة أنواع، الأولى مبتدأة مميزة كانت أو غير مميزة، وحكمها عندهم أنها تجلس أكثر الحيض. والثانية معتادة ذات تمييز كانت أو غير ذات تمييز، وحيضها أيم عادتها. والثالثة متحيرة، وهي التي كانت لها عادة معلومة لكن نسيت أيامها، والتبس عليها قدر عادتها. وقد تحيروا في حكم المتحيرة، وتخبطوا، واضطربت أقوالهم فيه اضطراباً يبعد فهمه على أذكياء الطلبة، فضلاً عن النساء الموصوفات بنقصان العقل والدين، ولا إشكال في حكمها عندنا، فإنها إن كانت ذات تمييز، فالدم الأسود حيض وإن كانت غير ذات تمييز، جلست ستة أيام أو سبعة أيام، كما في حديث حمنة، وحديث فاطمة: إن دم الحيض دم أسود يعرف. يرد عليهم في منع اعتبار التمييز مطلقاً. هذا، وقد وردت في المستحاضة روايات مختلفة، لكنها عند الإمعان ترجع إلى ثلاثة أحاديث، يعلم منها أحكام جميع أنواع المستحاضة كما أشرنا إلى ذلك. قال ابن قدامة في المغني (ج1:ص323) : قال الإمام أحمد: الحيض يدور على ثلاثة أحاديث، حديث فاطمة وأم حبيبة وحمنة. وفي رواية حديث أم سلمة مكان حديث أم حبيبة-انتهى. وقد بسط الكلام في أحوال المستحاضة وأنواعها في المغني (ج1:ص328-352) فمن شاء رجع إليه. 559- قوله: (فاطمة بنت أبي حبيش) بضم حاء مهملة وفتح باء موحدة وياء ساكنة بعدها شين معجمة، واسمه قيس بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي، مهاجرية جليلة، روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث الإستحاضة، وعنها عروة ابن الزبير. وقيل: عن عروة عن عائشة أن فاطمة بنت أبي حبيش قالت: فذكره. وهو أول أحاديث الفصل الثاني (أستحاض) بهمزة مضمومة وفتح تاء، أي: استمر بي الدم فلا ينقطع، ولم ترد الإستحاضة الفقهية، وهي جريان الدم في غير أوانه، لأنها لو كانت تعلم أنها إستحاضة شرعية ما أشكل عليها الأمر (فلا أطهر) أي: لا ينقطع عني الدم (أفأدع الصلاة) عطف على مقدرة بعد الهمزة لأن لها صدر الكلام، أي: أيكون لي حكم الحائض؟ فأترك الصلاة

فقال: لا، إنما ذلك عرق وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك ـــــــــــــــــــــــــــــ (فقال: لا) أي: لا تدع الصلاة (إنما ذلك) بكسر الكاف خطاب للمؤنث أي: الذي تشتكينه (عرق) بكسر العين، أي: دم عرق انشق وانفجر منه الدم، أو إنما سبب ذلك عرق في أدنى الرحم، وهذا بيان لعدم كونه حيضا، وليس بياناً لكونه ناقضاً للوضوء كما توهمت الحنفية. قال الخطابي: ليس معنى الحدث ما ذهب إليه هؤلاء، ولا مراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - من ذلك ما توهموه، وإنما أراد أن هذه العلة إنما حدثت بها من تصدع العرق، وتصدع العرق علة معروفة عند الأطباء، يحدث ذلك عند غلبة الدم، فتتصدع العروق إذا امتلأت تلك الأوعية- انتهى. قلت: لا شك في أن هذا هو مراده - صلى الله عليه وسلم - بذلك الكلام، وما ساق الكلام إلا لأجله، وليس فيما قاله الخطابي، تخصيص لعمومه، ولا تقييد لإطلاقه كما لا يخفى (وليس بحيض) فإن الحيض يخرج من قعر رحم المرأة، فهو إخبار باختلاف المخرجين، وهو رد لقولها: لا أطهر، لأنها اعتقدت أن طهارة الحائض لا تعرف إلا بانقطاع الدم، فكنت بعدم الطهر عن اتصاله، وكانت قد علمت أن الحائض لا تصلي، فظننت أن ذلك الحكم مقترن بجريان الدم، فأبان لها - صلى الله عليه وسلم - أنه ليس بحيض وأنها طاهرة يلزمها الصلاة (فإذا أقبلت حيضتك) بفتح الحاء ويجوز كسرها، والمراد بالإقبال ابتداء دم الحيض، وبالإدبار ابتداء انقطاعها. واعلم أنهم اختلفوا في أن فاطمة بنت أبي حبيش معتادة كانت أو مميزة غير معتادة. فمال البيهقي والترمذي وغيرهما من فقهاء أصحاب الحديث إلى أنها مميزة. قال الترمذي: قال أحمد وإسحق في المستحاضة إذا كانت تعرف حيضها بإقبال الدم وإدباره، فإقباله أن يكون أسود، وإدباره أن يتغير إلى الصفرة، فالحكم فيها على حديث فاطمة بنت أبي حبيش- انتهى. واستدل هؤلاء على كونها مميزة بأول حديث الفصل الثاني، وبقوله: إذا أقبلت حيضتك، في هذا الحديث. قالوا: الحيضة بالكسر، والمراد بها الحالة التي تكون للحيض من قوة الدم في اللون والقوام. وإن كان بالفتح فالمراد بإقبال حيضتها بالصفة. قال بعض الحنفية: لفظ الإقبال والإدبار يؤيد الشافعي في اعتبار اللون، فإنه يعلم منه أن دم الحيض دم متميز بنفسه يعرف إذا أقبل وإذا أدبر، فالإحالة على الدم مشعر بأن دم الطمث مغاير لدم الإستحاضة بنفسه، ومتميز كتمايز سائر الماهيات، ولذا اكتفى بالإحالة على الإسم لأنه كان من الأشياء المتميزة بنفسها كما في رواية: فإنه دم أسود يعرف. قلت: في الاستدلال به على كونها ذات تمييز خفاء لأنه يمكن أن يقال: أن المراد بالحيضة- بالكسر- الحالة التي كانت تحيض فيها، وهي تعرفها، فيكون ردا إلى العادة. وبإقبال حيضتها– بالفتح – إقبال أيام الحيض، أي: وجود الدم في أول أيام العادة، ويؤيده ما في رواية للبخاري من هذا الحديث: فإذا ذهب قدرها، يعني قدر أيم الحيضة وقال من ذهب إلى كونها مميزة: أي: ذهب قدر الحيضة على ما قدره الشارع، أو على ما تراه المرأة باجتهادها، ولا يخفى بعد هذا التأويل بل يبطله ما وقع في رواية أخرى للبخاري أيضاً: ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها. فإنها صريحة في أنه - صلى الله عليه وسلم - ردها إلى عادتها، وبالجملة في الاستدلال بلفظ"إقبال الحيض وإدباره"على كونها مميزة نظر.

فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم، ثم صلي)) . متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ واحتج من ذهب إلى كونها معتادة بروايتي البخاري المتقدمتين، وبما رواه أبوداود وغيره من طريق المنذر عن عروة عن فاطمة أنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث. وفيه: فانظري إذا أتاك قرءك فلا تصلي وإذا مر قرءك فتطهري، ثم صلي ما بين القرء إلى القرء. والأصل في القرء الوقت المعلوم، ولذلك أطلق على الضدين الحيض والطهر، لأن لكل منهما وقتا. وبما رواه أبوداود أيضاً والدارقطني عن عروة، عن أسماء بنت عميس أن فاطمة أمرتها أن تسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر أن تقعد الأيام التي كانت تقعد، ثم تغتسل. قال المنذري: حديث حسن. وبحديث أم سلمة الآتي, فإن المرأة التي استفتت لها أم سلمة هي فاطمة بنت أبي حبيش كما ستقف عليه. والظاهر عندي أن فاطمة بنت أبي حبيش كانت معتادة متميزة. وكان الدم الأسود في زمن عادتها، أي: اتفقت العادة والتمييز، فردها إلى العادة مرة، وإلى التمييز أخرى، لأنه لم يكن بينهما تخالف ويحتمل كما قال البيهقي: أن كانت لها حالان في مدة استحاضتها حالة تميز بين الدمين، فأمرها بالجوع إلى العادة- انتهى (فاغسلي عنك الدم) أي: واغتسلي. ففي رواية للبخاري: ثم اغتسلي، وصلي. لكن ليس فيها ذكر غسل الدم. وهذا الاختلاف من الرواة، اقتصر بعض الرواة على أحد الأمرين والآخر لوضوحه عنده (ثم صلي) أي: بعد الاغتسال. زاد البخاري في هذه الرواية: ثم توضئ لكل صلاة حتى يجئ ذلك الوقت. والحديث فيه دليل على أن المستحاضة إذا أقبلت حيضتها بالعادة أو بالصفة تعمل على إقبالها، فتترك الصلاة، فإذا انقضى قدرها أي: قدر أيام العادة، أو قدر الحيضة على ما تراه المرأة باجتهادها بحسب قوة الدم ولونه، اغتسلت منه، ثم صار حكم دم الإستحاضة حكم الحدث، فتتؤضأ لكل صلاة لا تصلي بذلك الوضوء أكثر من فريضة واحدة مؤداة أو مقضية، لظاهر قوله: ثم توضئ لكل صلاة. وبهذا قال الجمهور، فوضوء المستحاضة عندهم للصلاة لا للوقت. وأما ما روى أبوحنيفة, عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لفاطمة بنت أبي حبيش: توضئ لوقت كل صلاة. ففي كونه محفوظاً نظر قوي وكلام ظاهر، فإن الطرق الصحيحة كلها قد وردت بلفظ: توضئ لكل صلاة، وأما هذا اللفظ فلم يقع في واحد منها. وقد تفرد به أبوحنيفة، وهو سيء الحفظ كما صرح به ابن عبد البر. وقال بعض الحنفية: لو ثبت لفظ"وقت الصلاة" لم ينفصل منه الأمر أيضا، لأنه يجري البحث بعده في السبب هل هو الصلاة أو الوقت؟ ويسوغ لهم أي: الشافعية أن يقولوا: أن للام للظرف، فوقت الصلاة ظرف للوضوء لا سبب وإنما السبب هو الصلاة كما في قولنا: أتيت فلاناً لخمس مضين من رمضان. فإن اللام فيه للظرف لا للسبب، فالوضوء يجب على المعذور لأجل الصلاة في وقتها عندهم، فصح ما في المعنى لوقت كل صرة على مذهبهم أيضاً- انتهى (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب غسل الدم. وأخرجه أيضاً الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم.

{الفصل الثاني}

{الفصل الثاني} 560- (2) عن عروة بن الزبير، عن فاطمة بنت أبي حبيش، ((أنها كانت تستحاض، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا كان دم الحيض فإنه دم أسود يعرف، فإذا كان ذلك، فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر، فتوضئ وصلي، فإنما هو عرق)) رواه أبوداود، والنسائي. ـــــــــــــــــــــــــــــ 560- قوله (فإنه) أي: الحيض، أو دمه (يعرف) بصيغة المجهول من المعرفة أي: تعرفه النساء باعتبار لونه، وثخانته، ونتنه. وقيل: بكسر الراء من الأعراف أي: له عرف ورائحة (فإذا كان ذلك) بكسر الكاف، أي: فإذا كان الدم دما أسود. قال القاري: أعاده لطول الفصل كما في قوله تعالى: {ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم، وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا، فلما جاءهم ما} [89:2] وقوله "فإنه دم أسود" استئناف مبين متفرع على كون الدم دم الحيض، ولا يصلح أن يكون تعليلا للجواب المذكور أو المقدر كما قرره ابن حجر، فتدبر (فأمسكي عن الصلاة) من الإمساك أي: أتركيها (فإذا كان الآخر) بفتح الخاء أي: الذي ليس بتلك الصفة بأن كان دما أحمر أو أصفر (فتوضئ) لكل صلاة مفروضة أي: بعد الاغتسال من انقطاع دم الحيض (فإنما هو) أي: الدم الذي هو على غير صفة السواد (عرق) أي: دم عرق انفجر، يقال له: العاذل. يعني دم الإستحاضة يخرج من عرق في أدنى الرحم دون قعره. والحديث فيه دليل على أنه يعتبر التمييز بصفة الدم، فإذا كان متصفا بصفة السواد فهو حيض، وإلا فهو استحاضة. وفيه دلالة على أنه فاطمة كانت مميزة، ولا مانع من اجتماع المعرفتين في حقها وحق غيرها، وقد تقدم الكلام في ذلك (رواه أبوداود) قال حدثنا محمد بن المثنى: عن محمد بن أبي عدي، عن محمد يعني ابن عمرو، قال: ثنى ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن فاطمة بنت أبي حبيش، قال: إنها كانت تستحاض- الحديث. قال أبوداود: قال ابن المثنى: ثنا به ابن عدي من كتابة هكذا، ثم ثنا به بعد حفظا، قال: حدثنا محمد بن عمرو عن الزهري عن عروة، عن عائشة قالت: إن فاطمة كانت تستحاض، فذكر معناه. قال في عون المعبود (ج1:ص115) : والحاصل أن ابن عدي لما حدث ابن المثنى من كتابة حدثه من غير ذكر عائشة بين عروة وفاطمة. ولما حدثه من حفظه ذكر عائشة بين عروة وفاطمة، ولذلك قال ابن القطان: هذا الحديث منقطع. وأجاب ابن القيم بأنه ليس كذلك، فإن محمد بن أبي عدي مكانه من الحفظ والإتقان لا يجهل، وقد حفظه، وحدث به مرة عن عروة عن فاطمة، ومرة عن عائشة عن فاطمة وقد أدرك كلتيهما، وسمع منها بلا ريب، ففاطمة بنت عمه، وعائشة خالته. فالانقطاع الذي رمى به الحديث مقطوع دابره، وقد صرح بأن فاطمة حدثته- انتهى. والحديث أخرجه أيضاً ابن حبان والحاكم وصححاه، وأخرجه أيضاً الدارقطني والبيهقي.

561- (3) وعن أم سلمة، قالت: ((إن امرأة كانت تهراق الدم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستفت لها أم سلمة النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقال: لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر، فإذا خلفت ذلك، فلتغتسل، ثم لتستثفر بثوب، ثم لتصل)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 561- قوله: (إن امرأة) هي فاطمة بنت أبي حبيش، سماها حماد بن زيد ووهيب، وعبد الوارث، وسفيان الثوري في روايتهم عن أيوب، عن سليمان بن يسار عند الدارقطني (كانت تهراق) بضم التاء وفتح الهاء وتسكن، أي: تصب، وتهراق هكذا جاء مجهولا، ونائب فاعله ضمير يرجع إلى المرأة، وهاءه بدل من الهمزة. أراق الماء يريقه، وهراقه يريقه بفتح هاء هراقة، ويقال: أهرقته أهرقه إهراقا بجمع بين البدل والمبدل منه كذا في المجمع. وقد تقدم تحقيقه بأبسط من هذا (الدم) بالنصب على التمييز وإن كانت معرفة على تقدير زيادة اللام، أي: تهراق هي الدم، أو منصوب بنزع الخافض، أي: تهراق بالدم، وفي رواية الدماء بالجمع للدلالة على الكثرة. قيل يجوز فيه الرفع على أنه بدل من ضمير تهراق، أو على أنه مسند إليه، والألف واللام بدل من الإضافة، والتقدير تهراق دماءها (فاستفتت لها أم سلمة) هذا قول الراوي عن أم سلمة، أي: سألت لهذه المرأة بأمرها إياها، ففي رواية للدارقطني: أن فاطمة بنت أبي حبيش استحيضت، فأمرت أم سلمة أن تسأل لها. وتقدم في حديث عائشة المتفق عليه: أن فاطمة هي السائلة، وفي حديث أسماء بنت عميس الآتي في الفصل الثالث أن السائلة أسماء، ولا تخالف بين هذه الروايات، فإنه يقال: إن فاطمة أمرت أسماء وأم سلمة كلتيهما أن تسألا لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألتا مجتمعتين أو غيرمجتمعتين، وسألت فاطمة بنفسها أيضاً لمزيد التوثق والاحتياط (لتنظر) أي: تتفكر وتعرف (عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن) أي: تحيض فيهن (من الشهر) بيان لهن أو للأيام والليالي. قال الزرقاني: فيه تصريح بأنها لم تكن مبتدأة بل كانت لها عادة تعرفها، وليس فيه بيان كونها مميزة أو غيرها، فاحتج به من قال: أن المستحاضة المعتادة ترد لعادتها ميزت أم لا، وافق تمييزها عادتها أو خالفها-انتهى (قدر ذلك) أي: قدر عادة حيضها (فإذا خلفت ذلك) أي: تركت أيام الحيض التي اعتادتها خلفها، وجاوزتها، ودخلت في أيام الإستحاضة (فلتغتسل) أي: غسل انقطاع الحيض (ثم لتستثقر بثوب) الاستثفار أن تشد فرجها ودبرها بخرقة عريضة بعد أن تحتشى قطنا وتوثق طرفي الخرقة في شيء تشده على وسطها، فتمنع بذلك سيل الدم. وهو مأخوذ من ثقر الدابة الذي يجعل تحت ذهبه (ثم لتصل) بكسر اللام وإسكانها. وفيه دليل على أن الاغتسال إنما هو مرة واحدة عند انقضاء أيام الحيض، وأن حكم المستحاضة حكم الطاهرة في الصلاة، وكذا في الصيام، والقراءة،

رواه مالك، وأبوداود، والدارمي. وروى النسائي معناه. 562- (4) وعن عدي بن ثابت عن أبيه، عن جده، قال يحيى بن معين: ـــــــــــــــــــــــــــــ وسائر العبادات إجماعاً، وغشيان الزوج إياها إلا أنها توضأ لكل صلاة (رواه مالك، وأبوداود، والدارمي) وأخرجه أيضاً الشافعي وأحمد وابن ماجه والدارقطني والبيهقي، بعضهم حديث نافع وأيوب، فبعضهم قال: عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة، وبعضهم قال: عن سليمان بن يسار، عن رجل، عن أم سلمة، وبعضهم قال: عن سليمان بن يسار، عن رجل. ولم يذكر أم سلمة. ورجح أبوداود رواية من قال: عن سليمان بن يسار عن أم سلمة. قال البيهقي: هو حديث مشهور إلا أن سليمان لم يسمعه ههنا. وكذا قال المنذري. وقد رواه البيهقي أيضاً من طريق موسى بن عقبة، عن سليمان، عن مرجانة، عن أم سلمة. قال الحافظ في التقريب: مرجانة والدة أم علقمة، علق لها البخاري في الحيض، وهي مقبولة. وقال النووي في الخلاصة: حديث صحيح، ولم يلتفت إلى دعوى الانقطاع. وقال الحافظ في التلخيص: قال النووي: على شرطهما وجمع ابن عبد البر بين هذا الإختلاف في الرواية بأنه يحتمل أن سليمان سمع عن رجل، عن أم سلمة، ثم سمعه عن أم سلمة، فحدث به على الوجهين. وقال في الجوهر النقي: ذكر صاحب الكمال أن سليمان سمع من أم سلمة، فيحتمل أنه سمع هذا الحديث عنها وعن رجل عنها. 562- قوله: (وعن عدي بن ثابت) الأنصاري الكوفي ثقة، رمى بالتشيع، مات سنة (116) (عن أبيه) هو ثابت الأنصاري والد عدي، ذكره ابن حبان في الثقات. وقال الحافظ مجهول الحال (عن جده) أي: جد عدي صحابي. واختلف في اسمه على أقوال فقيل: اسمه دينار، وقيل عمرو بن أخطيب، وقيل عبيد بن عازب، وقيل: قيس بن الخطيم، وقيل: إنه يعني جده أبوأمه، وهو عبد الله بن يزيد الخطمي، كذا زعم يحيى بن معين فيما حكى الدارقطني. وكذا قال أبوحاتم الرازي، واللالكائي، وغير واحد. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب: ولم يترجح لي في اسم جده إلى الآن شيء من هذه الأقوال كلها، إلا أن أقربها إلى الصواب أن جده هو جده لأمه عبد الله بن يزيد الخطمي. والله أعلم-انتهى. وعبد الله ابن يزيد هو أبوموسى الأوسي الأنصاري الخطمي، صحابي صغير، شهد الحديبية وهو ابن سبع عشر سنة، وشهد الجمل والصفين مع علي. وكان أميرا على الكوفة زمن ابن الزبير. له سبعة وعشرون حديثا، روى له البخاري حديثين (قال يحيى بن معين) بفتح الميم ابن عون الغطفاني المرى مولاهم، أبوزكريا البغدادي، أحد الثقات الحفاظ المشهورين، وأحد أئمة الجرح والتعديل. ولد سنة (158) ومات بالمدينة النبوية سنة (233) وله (77) سنة إلا نحوا من عشرة أيام، وغسل على أعواد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحمل على سريره - صلى الله عليه وسلم -. مات أبوه فخلف لابنه يحيى هذا ألف درهم وخمسين ألف

جد عدي اسمه دينار عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال في المستحاضة: تدع الصلاة أيام أقرائها التي كانت تحيض فيها، ثم تغتسل، وتتوضأ عند كل صلاة، وتصوم، وتصلي. رواه الترمذي، وأبوداود. 563- (5) وعن حمنة بنت جحش، قالت: ((كنت أستحاض حيضة كثيرة شديدة، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أستفتيه وأخبره، ـــــــــــــــــــــــــــــ درهم، فأنفق جميع المال على الحديث، وكتب بيده ستمائة ألف حديث. روى عنه البخاري ومسلم وأبوداود وأحمد وأبو حاتم وأبو زرعة الرازيان وغيرهم. قال أحمد بن حنبل: كل حديث لا يعرفه يحيى بن معين فليس هو بحديث وفضائله كثيرة، بسط ترجمته الحافظ في تهذيب التهذيب (ج11:ص280-288) وابن خلكان في تاريخه (ج2:ص2140216) والذهبي في التذكرة (ج2:ص18، 17) (جد عدي اسمه دينار) قال الترمذي: سألت محمدا يعني البخاري عن هذا الحديث، فقلت: عدي بن ثابت عن أبيه عن جده، جد عدي ما اسمه؟ فلم يعرف محمد اسمه. وذكرت لمحمد قول يحيى بن معين: اسمه دينار، فلم يعبأ به (قال في المستحاضة) أي: في شأنها (تدع الصلاة) أي: تتركها (أيام أقرائها) جمع قرء وهو مشترك بين الحيض والطهر. والمراد به ههنا الحيض للسباق واللحاق (التي كانت تحيض فيها) أي: قبل أن يصيبها ما أصابها من الإستحاضة (ثم) أي: بعد فراغ زمن حيضها باعتبار العادة (تغتسل) أي: للطهارة من الحيض مرة (وتتوضأ عند كل صلاة) عند كل متعلق بتتوضأ لا بتغتسل. وفيه دليل على أن المستحاضة تتوضأ عند كل صلاة. والحديث ضعيف كما ستعرف، لكن له شواهد، ذكرها الزيلعي في نصب الراية، والحافظ في الدراية، ومنها حديث عائشة في الفصل الأول (وتصوم) أي: الفرض والنفل (رواه الترمذي وأبوداود) وأخرجه أيضاً الدارمي، وابن ماجه كلهم من حديث شريك، عن أبي اليقظان، عن عدي بن ثابت. وشريك هذا هو ابن عبد الله النخعي قاضي الكوفة، قد تكلم فيه غير واحد، وأبو اليقظان هو عثمان بن عمير الكوفي، وهو ضعيف جداً. قال الحافظ في التقريب: إنه ضعيف، واختلط، وكان يدلس، ويغلو في التشيع. 563- قوله: (وعن حمنة) بفتح الحاء المهملة وسكون الميم بعدها نون وهاء (بنت جحش) بتقديم الجيم المفتوحة على الحاء الساكنة بعدها شين معجمة، الأسدية، أخت زينب زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -. كانت تحت مصعب بن عمير، فقتل عنها يوم أحد، وخلف عليها طلحة بن عبيد الله. صحابية، لها حديث، وهي أم ولدى طلحة: عمران ومحمد (حيضة) بفتح الحاء، وهو مصدر إستحاض على حد أنبته الله نباتا. ولا يضره الفرق في اصطلاح العلماء بين الحيض والإستحاضة، إذا الكلام وارد على أصل اللغة (كثيرة) في الكمية (شديدة) في الكيفية (أستفتيه وأخبره) الواو لمطلق الجمع، وإلا

فوجدته في بيت أختي زينب بنت جحش، فقلت: يارسول الله! إني أستحاض حيضة كثيرة شديدة، فما تأمرني فيها؟ قد منعتني الصلاة والصيام. قال: أنعت لك الكرسف، فإنه يذهب الدم. قالت: هو أكثر من ذلك. قال: فتلجمي. قالت: هو أكثر من ذلك. قال: فاتخذي ثوبا. قالت: هو أكثر من ذلك، إنما أثج ثجاً. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: سآمرك بأمرين، أيهما صنعت أجزأ عنك من الآخر، وإن قويت عليهما فأنت أعلم. قال لها: إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان، فتحيضي ستة أيام أوسبعة أيام ـــــــــــــــــــــــــــــ كان حقها أن تقول: أخبره وأستفتيه (فما تأمرني) ما استفهامية (فيها) أي: في حال وجود الحيضة (قد منعتني) استئناف مبين لما ألجأها إلى السؤال. ويمكن أن يجعل حالاً من الضمير المجرور في قولها فيها (الصلاة والصيام) أي: على زعمها (أنعت) أي: أصف (الكرسف) بضم الكاف والسين بينهما راء. أي: القطن وكأنه ينعت لها لتحتشى به فيمنع نزول الدم ثم يقطعه (فإنه يذهب الدم) أي: يمنع خروجه إلى ظاهر الفرج، أو معناه فاستعمليه لعل دمك ينقطع (هو أكثر من ذلك) أي: من أن يكون الكرسف مانعا من الخروج أو قاطعاً (فتلجمى) قال ابن العربي: قوله: تلجمى، كلمة غريبة لم يقع لي تفسيرها في كتاب، وإنما أخذتها استقراء. قال الخليل: اللجام معروف، أخذناه من هذا كأن معناه: افعلي فعلا يمنع سيلانه واسترساله، كما يمنع اللجام استرسال الدابة. وقال الجزري في النهائية: أي: اجعلي موضع الدم عصابة تمنع الدم، تشبيها بوضع اللجام في فم الدابة (فاتخذي ثوبًا) أي: تحت اللجام مبالغة في الاحتياط من خروج الدم (هو أكثر من ذلك) أي: من أن يمنعه (أثج) بضم المثلثة وتشديد الجيم، من ثج الدم والماء لازم ومتعد، أي: أنصب أو أصبه، فعلى الثاني تقديره أثج الدم، وعلى الأول إسناد الثج إلى نفسها للمبالغة، على معنى أن النفس جعلت كأن كلها دم ثجاج، وهذا أبلغ في المعنى (سآمرك) السين للتأكيد (بأمرين) أي: حكمين أو صنعين (أيهما) بالنصب لا غير، والناصب له صنعت قاله أبوالبقاء (أجرأ عنك) أي: أغنى عنك (من الآخر) من بمعنى البدل (وإن قويت عليهما) أي: قدرت على كل واحد منهما (فأنت أعلم) بما تختارينه منهما، فاختاري أيهما شئت (إنما هذه) أي: الثجة أو العلة (ركضة) بفتح الراء أي: دفعة وضربة. والركض الضرب بالرجل والإصابة بها كما تركض الدابة وتصاب بالرجل. أراد الإضرار بها والأذى. والمعنى: أن الشيطان قد وجد بذلك طريقاً إلى التلبيس عليها في أمر دينها وطهرها وصلاتها، حتى أنساها ذلك عادتها، وصار في التقدير كأنه ركضة بآلة من ركضاته، ولا ينافي ما تقدم من أنها عرق يقال: له العاذل، لأنه يحمل على أن الشيطان ركضه حتى انفجر. والأظهر أنها ركضة منه حقيقة إذا لا مانع من حملها عليه (فتحيضي) بتشديد الياء المفتوحة بعد الحاء، أي: التزمي أحكام الحيض، وعدي نفسك حائضا (ستة أيام أو سبعة أيام) قيل: أو للشك من بعض الرواة. وقد ذكر

في علم الله، ثم اغتسلي، حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت، فصلي ثلاثاً وعشرين ليلة، أو أربعا وعشرين ليلة وأيامها، وصومي، فإن ذلك يجزئك. وكذلك فافعلي كل شهر كما تحيض النساء وكما يطهرن ميقات حيضهن وطهرهن. وإن قوت على ـــــــــــــــــــــــــــــ النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد العددين اعتبار بالغالب من حال نساء قومها. وقيل للتخيير بين كل واحد من العددين، لأنه العرف الظاهر والغالب من أحوال النساء. وقيل: ليس للتخيير بين الستة والسبعة بل للتنويع على معنى اعتبار حالها بحال من هي مثلها وفي مثل سنها من نساء أهل بيتها، فإن كانت عادة مثلها منهن أن تقعد ستا قعدت ستا، وإن سبعا فسبعا فكأنها كانت مبتدأة لم يتقدم لها أيام، ولم تميز بين الدمين ويحتمل أنها كانت معتادة ونسيت أن عادتها كانت ستاً أو سبعا، يعني أنه قد ثبت لها في ما تقدم أيام ستة أو سبعة، إلا أنها قد نسيتها، فلا تدري أيتهما كانت، فأمرها أن تتحرى، وتجتهد، وتبنى أمرها على ما تيقنته من أحد العددين (في علم الله) معناه على قول الشك، أي: في علمه الذي بينه وشرعه لنا، كما يقال: في حكم الله وفي كتاب الله. وقيل معناه ما أمرتك فهو حكم الله. وعلى قول التخيير فيما علم الله من ستة أو سبعة وقيل فيما أعلمك الله من عادات النساء من الست أو السبع. وقيل: في علم الله من أمرك من الست أو السبع، أي: هذا شيء بينك وبين الله، فإنه يعلم ما تفعلين من الإتيان بما أمرتك به أو تركه (ثم اغتسلي) أي: مرة واحدة بعد الستة أو السبعة من الحيض (حتى إذا رأيت) أي: علمت (واستنقأت) من الإستنقاء وهو مبالغة في تنقية البدن وتنظيفه، وهو في نسخ المشكاة كلها مضبوط بالهمزة دون الياء، وهو استعمال جائز ومسموع، إذ أن همزة ما ليس بمهموز كثير في كلام العرب. قال يونس: أهل مكة يخالفون غيرهم من العرب، فيهمزون النبئ. والبرئية، والذرئية والخابئة، نقله السيوطي في المزهر (ج2:ص133) وقال الجوهري في الصحاح: (مادة ر ث ى) ابن السكيت. قالت امرأة من العرب: وثأت زوجي بأبيات وهمزت. قال الفراء: ربما خرجت فصاحتهم إلى أن يهمزوا ما ليس بمهموز. قالوا: رثأث الميت ولبأت بالحج وحلأت السويق تحلئة، وإنما هو من الحلاوة- انتهى. فقول أبي البقاء، وصاحب المغرب: أن "استنقأت" بالهمز خطأ. جرأة عظيمة منهما منشأها قصور العلم والإطلاع (فصلى) أي: بالوضوء عند كل صلاة (ثلاثا وعشرين ليلة) يعني وأيامها إن كانت مدة الحيض سبعة (أو أربعا وعشرين ليلة وأيامها) إن كانت مدة الحيض ستة (وصومي) ما شيءت من فريضة وتطوع (فإن ذلك) أي: ما قدر لك من الأيام في حق الصلاة والصوم (يجزئك) أي: يكفيك (وكذلك) أي: مثل ما ذكرت لك الآن (فافعلي كل شهر كما تحيض النساء وكما يطهرن) أي: اجعلي حيضك بقدر ما يكون عادة النساء من ستة أو سبع، وكذلك اجعلي طهرك بقدر ما يكون عادة النساء من ثلاث وعشرين أو أربع وعشرين (ميقات حيضهن وطهرهن) نصب على الظرف يعني إن كان وقت حيضهن في أول الشهر فليكن حيضك في ذلك الوقت (وإن قويت

أن تؤخرين الظهر وتعجلين العصر، فتغتسلين وتجمعين بين الصلاتين: الظهر والعصر، وتؤخرين المغرب وتعجلين العشاء. ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين، فافعلي. وتغتسلين مع الفجر، فافعلي، وصومي إن قدرت على ذلك. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:وهذا أعجب الأمرين إلى)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ على أن تؤخرين الظهر) فتأتي بها في آخر وقتها قبل خروجه (وتعجلين العصر) فتأتي به في أول وقته، فتكون قد أتت بكل صلاة في وقتها، وجمعت بينهما جمعاً صورياً (وتجمعين بين الصلاتين) أي: بغسل واحد (الظهر والعصر) بالجر بدل، ويجوز الرفع والنصب، وإثبات النون في أن تؤخرين وتعجلين بإهمال أن الناصية، تشبيهها لها بما المصدرية. قال في الألفية: وبعضهم أهمل أن حملاً على ... ... ما أختها حيث استحقت عملا قال ابن حجر: الظاهر أن كلمة أن مصدرية لكنها لا تنصبه حملا على ما المصدرية. ومنه قراءة مجاهد ((لمن أراد أن الرضاعة-233:2)) بضم الميم، كما أن ما قد تنصب حملا على أن. ومنه كما تكونوا يولى عليكم، وفي رواية أخرجها الديلمي من حديث أبي بكرة مرفوعا، وأخرجها البيهقي بلفظ: يؤمر عليكم، وبحذف أبي بكرة، وقال: إنه منقطع، وفي طريقه يحيى بن هاشم، وهو في عداد من يضع، ويجوز أن تكون مخففة من الثقيلة. وارجع للتفصيل إلى شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح (ص118، 117) (وتغتسلين مع الفجر، فافعلي) هذا تأكيد، والشرطية باعتبار المجموع (وصومي) أي: في هذه المدة التي تصلي فرضا ونفلا (إن قدرت على ذلك) بدل من الشرط الأول هذا، والجمع بين الصلاتين بغسل واحد هو الأمر الثاني، بدليل قوله: وهذا أعجب الأمرين إلى. وأما الأمر الأول، فقيل: هو الوضوء لكل صلاة بعد الاغتسال عن الحيض بمرور الستة أو السبعة الأيام، فإن في صدر الحديث سآمرك بأمرين، ثم ذكر لها الأمر الأول أنها تحيض ستا أو سبعا، ثم تغتسل وتصلي، وقد علم أنها توضأ لكل صلاة، لأن استمرار الدم ناقض للوضوء، فلم يذكره في هذه الرواية. وقد ذكره في غيرها. ثم ذكر الأمر الثاني من جمع الصلاتين. وقيل: الأمر الأول هو الاغتسال لكل صلاة. قلت: لم يصرح في حديث حمنة هذا بالوضوء لكل صلاة، ولا بالاغتسال لكل صلاة. والظاهر عندي هو القول الأول، وإليه ذهب الأمير اليماني، وأبو الطيب السندي، والإمام الشافعي. ورجح شيخنا في شرح الترمذي أن الأمر الأول هو الاغتسال لكل صلاة، وبه فسر القاري وغيره مستدلاً بما ورد في روايات قصة أم حبيبة المفسرة عند أبي داود وغيره، ولا يخفى ما فيه. قال القاري: وتعليقه عليه الصلاة والسلام هذا بقوتها لا ينافي قوله: السابق: وإن قويت عليهما، لأن ذلك لبيان أنها إذا قويت عليهما تختار ما شاءت. وهذا لبيان أنها إذا قويت عليهما تختار الأحب إليه عليه الصلاة والسلام (وهذا) أي: الجمع بين الصلاتين بغسل واحد (اعجب الأمرين إلى) الحديث قد استدل به على

{الفصل الثالث}

رواه أحمد وأبوداود والترمذي. {الفصل الثالث} 564- (6) عن أسماء بنت عميس، قالت ((قلت: يارسول الله! إن فاطمة بنت أبي حبيش أستحيضت منذ كذا وكذا فلم تصل. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سبحان الله! ـــــــــــــــــــــــــــــ أن المستحاضة ترجع إلى الغالب من عادة النساء. ولا مخالفة بينه وبين الأحاديث القاضية بالرجوع إلى عادة نفسها، كحديث أم حبيبة وغيرها، والقاضية بالرجوع إلى التمييز بصفات الدم كحديث عروة عن فاطمة بنت أبي حبيش، فإنه يحمل هذا الحديث على عدم معرفتها لعادتها، وعدم إمكان التمييز بصفات الدم. وحاصل الكلام في المستحاضة: أنها إن كانت معتادة ترجع إلى عادتها المعروفة، سواء كانت مميزة أو غير مميزة لحديث أم حبيبة عند مسلم وغيره، ففيه: امكثى قدر ما كانت تحبسك حيضتك. وإن كانت غير معتادة وهي مميزة تعمل بالتمييز لحديث: إذا كان دم الحيض فإنه أسود يعرف. وإن كانت مبتدأة غير مميزة لا عادة لها ولا تمييز، أو كانت معتادة لكنها نسيت عادتها، ترجع إلى عادة النساء القرائب. فإن اختلفت عادتهن فالاعتبار بالغالب منهن. فإن لم يوجد غالب، تحيضت ستا أو سبعا كما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمنة بنت جحش. والله أعلم (رواه أحمد) (ج6:ص439، 382، 381) (وأبوداود والترمذي) وأخرجه أيضاً الشافعي في الأم (ج1:ص52، 51) وابن ماجه، والدارقطني (ص79) والحاكم (ج1:ص173، 172) والبيهقي (ج1:ص339، 338) كلهم من طريق عبد الله بن محمد عقيل، عن إبراهيم بن محمد بن طلحة، عن عمران ابن طلحة، عن أمه حمنة. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وسألت محمدا عن هذا الحديث، فقال: هو حديث حسن. وهكذا قال أحمد بن حنبل: هو حديث صحيح – انتهى. وقال أبوداود: سمعت أحمد يقول: حديث ابن عقيل في نفسي منه شيء. وهذا يخالف ما نقله الترمذي عنه هنا من تصحيحه. وأجيب عنه بأنه يمكن أن يكون قد كان في نفسه من الحديث شيء، ثم ظهرت له صحته. وقيل: لعله يريد أن في نفسه شيئاً من جهة الفقه، والاستنباط، والجمع بينه وبين الأحاديث الأخرى، وإن كان صحيحا ثابتا عنده من جهة الإسناد. 564- قوله: (عن أسماء بنت عميس) بالمهملتين مصغرا الخثعمية من المهاجرات الأول، وأخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين لأمها، هاجرت مع زوجها جعفر بن أبي طالب إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، ثم تزوجها أبوبكر، ثم علي بن أبي طالب، وولدت لهم. كان عمر يسألها عن تعبير الرؤيا. ولما بلغها قتل محمد بن أبي بكر جلست في مسجدها، وكظمت غيظها حتى شخبت ثديا هادما. لها ستون حديثا انفرد له البخاري بحديث. ماتت بعد علي (منذ كذا وكذا) أي: سبع سنين (فلم تصل) ظنا منها أن الإستحاضة تمنع الصلاة كالحيض (سبحان الله) قاله تعجبا من تركها الصلاة بمجرد ظنها المذكور من غير أن تراجعه

إن هذا من الشيطان. لتجلس في مركن، فإذا رأت صفارة فوق الماء، فلتغتسل للظهر والعصر غسلاً واحداً، وتغتسل للمغرب والعشاء غسلاً واحداً، وتغتسل للفجر غسلاً واحداً، وتوضأ في ما بين ذلك)) رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه الصلاة والسلام في ذلك (إن هذا) أي: أمر الإستحاضة، وترك الصلاة بها (من الشيطان) أي: من ركضه وتسويله (لتجلس) أمر (في مركن) أي: فيه ماء وهو بكسر الميم وفتح الكاف، إناء كبير يغسل فيه الثياب (فإذا رأت صفارة) كذا وقع في نسخ المشكاة كلها صفارة بزيادة الألف بعد الفاء، والذي في سنن أبي داود صفرة بغير ألف (فوق الماء) أي: فوق الماء الذي تجلس فيه فإنه تظهر الصفرة فوق الماء فعند ذلك تصب الماء للغسل خارج المركن. وفائدة الجلوس في المركن أن يعلو الدم الماء، فيظهر به تمييز دم الإستحاضة من غيره، فإنه إذا علا الدم الأصفر فوق الماء فهي مستحاضة، وإذا علا الدم الأسود فهو حيض، فهذه هي النكتة في الجلوس في المركن. وأما الغسل فخارج المركن لا فيه في الماء النجس، قاله الأمير اليماني (فلتغتسل للظهر والعصر غسلاً واحداً، وتغتسل) بالجزم عطف على المجزوم (وتغتسل للفجر غسلاً واحداً) جاء بطريق المشاكلة (وتوضأ) بحذف أحد التائين) فيما بين ذلك) أي: فيما بين الظهر والعصر للعصر، وفيما بين المغرب والعشاء للعشاء، لأنها صاحبة عذر، وهي مأمورة بالوضوء لكل صلاة. وهذا الحديث وحدي حمنة المتقدم فيهما الأمر بالاغتسال في اليوم والليلة ثلاث مرات، وقد بين في حديث حمنة أن المراد إذا أخرت الظهر والمغرب، ومفهومه أنه إذا وقتت اغتسلت لكل فريضة. وقد اختلفوا فيه، فروى عن بعض العلماء أنه يجب عليها الاغتسال لكل صلاة. واستدل بما روى أبوداود والبيهقي وغيرهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: اغتسلي لكل صلاة. وذهب جمهور العلماء من السلف والخلف إلى أنه لا يجب عليه الاغتسال لشيء من الصلوات، ولا في وقت من الأوقات إلا مرة واحدة في وقت انقطاع حيضها. وقالوا: رواية الأمر بالاغتسال لكل صلاة ضعيفة، غير ثابتة، قد بين البيهقي ومن قبله ضعفها. وقيل: بل هي منسوخة بحديث فاطمة بنت أبي حبيش أنها توضأ لكل صلاة. وقيل: إن حديث تعدد الغسل محمول على الندب والاستحباب. واختاره أحمد، وجنح إليه الشافعي بقرينه عدم أمر فاطمة به، واقتصار على أمرها بالوضوء، فالوضوء هو الواجب. وقيل: محمول على العلاج، والتبريد، وتقليل الدم. قلت: القول الراجح عندي أن أحاديث تعدد الغسل محمولة على الاستحباب. قال ابن قدامة في المغنى: قوله: - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة "توضئ لكل صلاة" يدل على أن الغسل كل يوم بعد الغسل عند انقطاع الحيض، ثم تتوضأ لكل صلاة، وهو أقل المأمور، ويجزئه إن شاءالله-انتهى مختصراً (رواه أبوداود) وسكت عنه. وقال المنذري: حسن.

565- (7) وقال: روى مجاهد عن ابن عباس: لما اشتد عليها الغسل، أمرها أن تجمع بين الصلاتين. ـــــــــــــــــــــــــــــ 565- قوله: (وقال) أي: أبوداود (روى مجاهد) هو مجاهد بن جبر – بفتح الجيم وسكون الباء- الإمام أبوالحجاج المخزومي مولاهم، المكي المقرئ المفسر الحافظ، مولى السائب بن أبي السائب المخزومي. ولد سنة (21) في خلافة عمر سمع سعداً وعائشة وأبا هريرة وعبد الله بن عمر وابن عباس، ولزمه مدة، وقرأ عليه القرآن. وكان أحد أوعية العلم. روى عنه أنه قال: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات، أقف عند كل آية أسأله فيم نزلت وكيف كانت؟ قال الذهبي: أجمعت الأمة على إمامة مجاهد، والاحتجاج به. وقال ابن سعد: كان ثقةً فقيهاً عالماً، كثير الحديث، من الطبقة الوسطى من تابعي مكة، وفقهاءها، وقراءها، والمشهورين بها. مات بمكة سنة (102) أو (103) أو (104) وهو ساجد، وقد بلغ (83) سنة (عن ابن عباس) وصل الطحاوى هذا التعليق بسنده عن مجاهد عن ابن عباس (لما اشتد عليها) أي: على المستحاضة التي سألت عنه حكمها، واعتذرت بأن أرضنا أرض باردة (الغسل) أي: لكل صلاة (أمرها) أي: ابن عباس (أن تجمع بين الصلاتين) أي: جمعاً صورياً بغسل واحد.

(4) كتاب الصلاة

(4) كتاب الصلاة {الفصل الأول} 566- (1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ (كتاب الصلاة) كان فرض الصلوات الخمس ليلة المعراج قبل الهجرة، وكانت الصلاة قبل الإسراء صلاتين، صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروبها. قال تعالى: {وسبح بحمد ربك بالعشى والإبكار} [55:40] واختلفوا في اشتقاق الصلاة، فقيل: من الصلاة بمعنى الرحمة، وقيل: بمعنى الدعاء، وقيل: من الصلوين، وهما عرقان في الردف ينحنيان في الصلاة، وقيل: من الصلى وهو دخول الناء. ونقل الإمام ابن القيم في بدائع الفوائد عن السهيلي كلاماً حسناً في اشتقاق الصلاة، فارجع إليه. 566- قوله: (الصلوات الخمس) أي: بعضها إلى بعض، ففي رواية لأحمد: الصلاة إلى الصلاة التي قبلها كفارة (والجمعة) أي: صلاتها (إلى الجمعة) أي: منتهية إلى الجمعة، أو منضمة إليها. وعلى هذا قوله: (ورمضان) أي: صومه (إلى رمضان) وقوله: (مكفرات لما بينهن) أي: ن الذنوب، خبر عن الكل و"مابينهن" معمول لاسم الفاعل، قاله الطيبي. والتكفير التغطية، والمراد هنا المحو (إذا اجتنبت الكبائر) على صيغة المجهول، شرط جزاءه محذوف دل عليه ما قبله. وقيل إذا لمجرد الظرفية، فمعنى قوله: إذا اجتنبت الكبائر. أي: وقت اجتنابها. والحديث بظاهره يفيد أن التكفير مشروط باجتناب الكبائر، فإن لم يجتنبها لم تكفر الصغائر، ومثله قوله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيآتكم} [31:4] . وهذا إنما يلزم عند من يقول بالمفهوم. وأما من لم يقل بمفهوم المخالفة، فأمر تكفير الصغائر وقت ارتكاب الكبائر مسكوت عنده، وقد علم من الأدلة الأخرى أنه تغفر الصغائر بالطاعات وإن لم يجتنب الكبائر. وقيل في توجيه الآية: أن محو الصغائر لمن اجتنب الكبائر وعد مقطوع به، ومحوها لمن تعاطى الكبائر ليس كذلك، بل في مشيئته وإرادته تعالى. وقال النووي: معنى الحديث: أن ما بينهن من الذنوب كلها مغفور إلا الكبائر لا يكفرها إلا التوبة، أو فضل الله. هذا مذهب أهل السنة، ذكره القاري. وقال الشيخ محمد طاهر الفتني: لا بد في حقوق الناس من القصاص ول صغيرة، وفي الكبائر من التوبة. ثم ورد المغفرة في الصلوات الخمس والجمعة ورمضان، فإذا تكرر يغفر بأولها الصغائر، وبالبواقي يخفف عن الكبائر، وإن لم يصادف صغيرة ولا كبيرة يرفع بها الدرجات-انتهى (رواه مسلم) في الطهارة وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي في الصلاة.

567- (2) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمساً، هل يبقى من درنة شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحوالله بهن الخطايا)) . متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ 567- قوله: (أرأيتم لو أن نهراً) بفتح الهاء وسكونها (يغتسل) أي: أحدكم (فيه) أي: في النهر (خمساً) أي: خمس مرات (هل يبقى من درنة شيء) بفتح الدال والراء أي: وسخه، ومن زائدة، وقيل بيانية. قال الطيبي: لو الامتناعية تقتضي أن تدخل على الفعل الماضي، وأن يجاب. والتقدير لو ثبت نهر بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات لما بقى من درنة شيء. فوضع الاستفهام موضعه تأكيدا وتقريرا، إذ هو في الحقيقة متعلق الاستخبار، أي: أخبروني هل يبقى لو كان كذا؟ ومن في قوله:"من درنة" استغراقية زائدة لما دخل في حين الاستفهام، ودرنه مفعول يبقى، وفيه مبالغة في نفي درن الذنوب ووسخ الآثام-انتهى (فذلك) أي: النهر المذكور أو الغسل فيه خمس مرات. قال الطيبي: الفاء جزاء شرط محذوف، أي: إذا أقررتم ذلك وصح عندكم فهو مثل الصلوات (مثل الصلوات) فتح الميم والمثلثة، فيكون تشبيه المعقول – أي: الصلاة – بالمحسوس – أي: الغسل في النهر – وهو الظاهر. وقيل بكسر الميم وسكون الثاء، فيكون تشبيه الغسل بالصلاة، لكن المقصود تشبيه الصلاة بالغسل وإنما عكس في اللفظ مبالغة. قال القاري: عكس في التشبيه حيث أن الأصل تشبيه المعقول بالمحسوس مبالغة يمحوالله بهن الخطايا) أي: الصغائر. والجملة مبنية لوجه الشبه قال ابن العربي: وجه التمثيل أن المرء كما يتدنس بالأقذار المحسوسة في بدنه وثيابه، ويطهره الماء الكثير، فكذلك الصلوات تطهر العبد عن أقذار الذنوب حتى لا تبقى له ذنبا إلا أسقطته – انتهى. وظاهر الحديث أن المراد بالخطايا ما هو أعم من الصغيرة والكبيرة، لكن الحديث المتقدم يدل على أن المراد بها هي الصغائر دون الكبائر. وقال السندي: خصها العلماء بالصغائر ولا يخفى أنه بحسب الظاهر لا يناسب التشبيه بالنهر في إزالة الدرن، إذ النهر المذكور لا يبقى من الدرن شيئاً أصلا. وعلى تقدير أن يبقى، فإبقاء القليل والصغير أقرب من إبقاء الكثير والكبير، فاعتبار بقاء الكبير وارتفاع الصغير قلب لما هو المعقول نظرا إلى التشبيه، فلعل ما ذكروا من التخصيص مبنى على أن للصغائر تأثيرا في درن الظاهر فقط، كما يدل عليه ما ورد في خروج الصغائر من الأعضاء عند التوضوء بالماء بخلاف الكبائر، فإن لها تأثيرا في درن الباطن كما يفيده بعض الأحاديث أن العبد إذا ارتكب المعصية تحصل في قلبه نكتة سوداء، ونحو ذلك. وقد قال تعالى {بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} [14:83] فكما أن الغسل يذهب بدرن الظاهر دون الباطن، فكذلك الصلاة. فتفكر-انتهى (متفق عليه) واللفظ المذكور لمسلم إلا أن فيه: يغتسل منه كل يوم خمس مرات. وفي لفظ البخاري بعض ما يتفاوت ذلك اللفظ. والمؤلف ربما ينسب الحديث إلى الشيخين، ويحكم بكونه متفقا عليه مع تفاوت في لفظهما، نظرا إلى أصل الحديث. وقد يصرح بالاختلاف. ولعل ذلك فيما يفحش التفاوت. والحديث أخرجه أيضاً الترمذي

568- (3) وعن ابن مسعود، قال: ((إن رجلاً أصاب من امرأة قبلة، فأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فأنزل الله تعالى: {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل، إن الحسنان يذهبن السيئات} فقال الرجل: يارسول الله! ألي هذا؟ قال: لجميع أمتي كلهم. وفي رواية: لمن عمل بها من أمتي)) ـــــــــــــــــــــــــــــ في الأمثال، والدارمي في الصلاة، وفي الباب عن جابر عند مسلم، والدارمي، وعثمان عند ابن ماجه. 568- قوله: (إن رجلاً) هو أبواليسر بفتحتين كعب بن عمرو الأنصاري أخرج قصته الترمذي، والنسائي، البزار عنه، قال: أتتني امرأة تبتاع تمراً فقلت: إن في البيت تمراً أطيب منه، فدخلت معي في البيت، فأهويت إليها، فقبلتها-الحديث. وقيل: اسم هذا الرجل نبهان التمار. ذكر قصته عبد الغني بن سعيد الثقفي أحد الضعفاء في تفسيره عن ابن عباس. وقيل: عمرو بن غزية. وقيل: عامر بن قيس. وقيل: عباد. قال الحافظ: وأقوى الجميع أنه أبواليسر، واسمه كعب بن عمرو الأنصاري السلمي، مشهور باسمه وكنيته، شهد العقبة، وبدرا وله فيها آثار كثيرة، وهو الذي أسر العباس، كان قصيرا، دحداحا، عظيم البطن. مات بالمدينة سنة (55) (أصاب من امرأة) أنصارية وهي حال من قوله: (قبلة) بضم القاف أي: من غير مجامعه (فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم -) بعد أن ندم على فعله، وعزم على تلافي حاله عملا بقوله تعالى: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤك} الآية [64:4] (فأخبره) أي: بالواقعة (فأنزل الله تعالى) قال الطيبي: الفاء عطف على مقدر أي: فأخبره، فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلى الرجل، فأنزل الله، يدل عليه الحديث الآتي (وأقم الصلاة طرفي النهار) أي: الغداة والعشى، أي: الصبح والظهر والعصر (وزلفا) جمع زلفة أي: طائفة (من الليل) أي: المغرب والعشاء. قال: في المدارك {وأقم الصلاة طرفي النهار} غدوة وعشية (وزلفات من الليل) وساعات من الليل جمع زلفة، وهي ساعة القريبة من آخر النهار، من أزلفة إذا قربه. وصلاة الغدوة الفجر. وصلاة العشية الظهر والعصر، لأن ما بعد الزوال عشى. وصلاة الزلف المغرب والعشاء-انتهى. وقيل في تفسير "كرفي النهار والزلف" غير ذلك. والأقرب عندي ما نقلته من المدارك. واستدل مغلطائي الحنفي بقوله: (زلفا من الليل) على وجوب الوتر، لأن زلفا جمع وأقله الثلاث، فلا بد أن تكون هناك صلاة ثالثة، وهي الوتر. قال بعض الحنفية: لا دليل في الآية على وجوب الوتر. أما جمعية الزلف فهي باعتبار وقوع العشاء في هذه الحصة تارة وتارة في الحصة الأخرى، فكانت باعتبار حصص الليل وساعاته من حيث تعجيل العشاء وتأخيره-انتهى (إن الحسنات) أي: كالصلوات الخمس (يذهبن) أن يكفرن (السيئات) أي: الصغائر لحديث أبي هريرة السابق (ألي هذا؟) هذا مبتدأ و"لي" خبره، والهمزة حرف الاستفهام لإرادة التخصيص، أي: مختص لي هذا الحكم أو عام لجميع المسلمين؟ (كلهم) تأكيد بعد تأكيد ليشمل الموجودين والمعدومين، أي: هذا لهم وأنت منهم (وفي رواية) للشيخين عن ابن مسعود أيضاً كما أفاده تأخير المصنف قوله: متفق عليه إلى ما بعدها (لمن عمل بها) أي: بهذه الآية بأن فعل حسنة بعد سيئة. واستدل بهذا الحديث على عدم

متفق عليه. 569- (4) وعن أنس، قال: ((جاء رجل فقال: يارسول الله! إني أصبت حداً فأقمه علي. قال: ولم يسأله عنه. وحضرت الصلاة، فصلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة، قام الرجل، فقال: يارسول الله! إني أصبت حداً فأقم في كتاب الله. قال: أليس قد صليت معنا؟ قال: نعم. قال: فإن الله قد غفر لك ذنبك أو حدك)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وجوب الحد في القبلة واللمس ونحوهما، وعلى سقوط التعزير عمن أتى شيئاً منها وجاء تائباً نادماً (متفق عليه) أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة، وفي تفسير سورة هود، ومسلم في التوبة، وأخرجه أيضاً الترمذي في التفسير، وابن ماجه في الصلاة، واللفظ المذكور للبخاري في مواقيت الصلاة. 569- قوله: (جاء رجل فقال: يارسول الله! إني أصبت حداً) أي: موجبه على حذف المضاف، أي: فعلت شيئاً يوجب الحد (فأقمه) أي: الحد، والمراد حكم الله (علي) قال الحافظ في الفتح: لم أقف على اسم هذا الرجل، ولكن من وحد بين هذه القصة والتي في حديث ابن مسعود فسره به، وليس بجيد لاختلاف القصتين، وعلى التعدد جرى البخاري في هاتين الترجمتين، فحمل الأولى على من أقر بذنب دون الحد للتصريح بقوله: غير أني لم أجامعها. وحمل الثانية على ما يوجب الحد، لأنه ظاهر قول الرجل، وأما من وحد بين القصتين، فقال: لعله ظن ما ليس بحد حداً، أو استعظم الذي فعله، فظن أنه يجب فيه الحد-انتهى. ولحديث أنس هذا شاهد من حديث أبي أمامة عند مسلم، وابن جرير (ولم يسأله عنه) أي: لم يستفسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل عن موجب الحد ما هو؟ لأنه قد يدخل في التجسس المنهى عنه، أو إشارا للستر. ويحتمل أن يكون - صلى الله عليه وسلم - اطلع بالوحي على أن الله قد غفر له، لكونها واقعة عين، وإلا لكان يستفسره عن الحد، ويقيمه عليه. قال الخطابي، وجزم النووي، وجماعة: أن الذنب الذي فعله كان من الصغائر بدليل قوله: إنه كفرته الصلاة، بناء على أن الذي تكفر الصلاة من الذنوب الصغائر لا الكبائر. وترجم البخاري على هذا الحديث بقوله: إذا أقر بالحد، ولم يبين هل للإمام أن يستر عليه؟ قال الحافظ: ظاهر ترجمته حمله على من أقر بحد ولم يفسره فإنه لا يجب على الإمام أن يقيمه عليه إذا تاب، أي: وكان موجب الحد مخفيا (فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة) أي: أداها وانصرف عنها (قام الرجل) وفي البخاري، قال: إليه الرجل (فأقم في) أي: في حقي (كتاب الله) أي: حكم الله من الكتاب والسنة، أو ما حكم به الله تعالى في كتابه من الحد (أو حدك) شك من الراوي أي: سبب حدك (متفق عليه) أخرجه البخاري في المحاربين، ومسلم في التوبة، واللفظ البخاري.

570- (5) وعن ابن مسعود، قال: ((سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أي: الأعمال أحب إلى الله؟ قال: الصلاة لوقتها. قلت: ثم أى؟ بر الوالدين. قلت: ثم أى؟ قال: الجهاد في سبيل الله. قال: حدثني بهن، ولو استزدته لزادني)) . متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ 570- قوله: (أي: الأعمال) أي: البدنية، فلا يعارض "أفضل الأعمال الإيمان بالله" كذا قيل (الصلاة لوقتها) أي: في وقتها المندوب، فاللام فيه بمعنى في، لأن الوقت ظرف لها. قال تعالى: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة} [47:21] أي: فيه. وفي رواية للشيخين على وقتها. قيل على بمعنى اللام، ووقع في رواية الحاكم والدارقطني والبيهقي: في أول وقتها، وهي رواية صحيحة صححها الحاكم ووافقه الذهبي، وأخرجها ابن خزيمة في صحيحه. قيل: رواية لوقتها باللام تفيد معنى لفظ أول، لأن اللام لاستقبال وقتها كقوله: {فطلقوهن لعدتهن} [1:65] أي: مستقبلات لعدتهن، ومعلوم ضرورة شرعية أن الصلاة لا تصح قبل دخول الوقت، فتعين أن المراد لاستقبالكم الأكثر من وقتها، وذلك بالإتيان بها في أول وقتها. ورواية "على وقتها" أيضاً تفيد ذلك، لأن كلمة "على" تقتضي الاستعلاء على جميع الوقت. وفائدته تحقق دخول الوقت ليقع الأداء فيه. وعورض تفضيل الصلاة في أول وقتها على ما كان منها في غيره بحديث العشاء، وبأحاديث الإبراد بالظهر عند القائلين بأفضلية الإبراد. والجواب أن ذلك تخصيص لعموم أول الوقت، ولا معارضة بين عام وخاص، هذا. وقد وردت أحاديث أخرى في أنواع من أعمال البر بأنها أفضل الأعمال، وهي تعارض حديث ابن مسعود هذا ظاهرا. وأجيب بأنه - صلى الله عليه وسلم - أخبر كل مخاطب بما هو أليق به وهو به أقوم، وإليه أرغب، ونفعه فيه أكثر، فالشجاع أفضل الأعمال في حقه الجهاد، فإنه أفضل من تخليه للعبادة، والغنى أفضل الأعمال في حقه الصدقة وغير ذلك. أو كان الاختلاف في الجواب بإختلاف الأوقات بأن يكون العمل في ذلك الوقت أفضل منه في غيره، فقد كان الجهاد في ابتداء الإسلام أفضل الأعمال لأنه الوسيلة إلى القيام بها، والتمكن من أدائها وقد تضافرت النصوص على أن الصلاة أفضل من الصدقة، ومع ذلك ففي وقت مواساة المضطر تكون الصدقة أفضل. أو أن كلمة من مقدرة، والمراد من أفضل الأعمال. أو كلمة أفضل لم يرد به الزيادة بل الفضل المطلق. وأجاب الطحاوي عن هذا الإشكال بجواب آخر أطال في تقريره، إن شيءت الوقوف عليه فارجع له إلى مشكله (ثم أى) بالتشديد والتنوين، وثم لتراخى الرتبة لا لتراخي الزمان، أي: ثم بعد الصلاة أيها أحب وأفضل (بر الوالدين) بكسر الباء وتشديد الراء الإحسان، وبر الوالدين ضد العقوق، وهو الإساءة وتضييع الحقوق (حدثني بهن) أي: بهذه الأشياء الثلاثة (ولو استزدته) أي: طلبت منه الزيادة في السؤال يعني لو سألته أكثر من هذا (لزادني) في الجواب (متفق عليه) أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة، والجهاد، والأدب والتوحيد. ومسلم في الإيمان. وأخرجه أيضاً الترمذي في الصلاة، وفي البر والصلة. والنسائي والدارمي في الصلاة. وأبوداود الطيالسي في مسنده. واعلم أن هذا الحديث ليس مروياً في الصحيحين بعين هذا اللفظ وتمامه الذي ذكره المؤلف تبعاً للبغوي، بل اللفظ المذكور

571- (6) وعن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة)) ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يوافق رواية من روايات غيرهما أيضاً. وكأن البغوي أخذ شيئاً من رواية وشيئاً من رواية أخرى، وجعل المأخوذ المجموع سياقاً واحد، وهذا كما ترى ليس مما ينبغي، بل كان عليه أن يورد رواية واحدة معينة للحديث، ثم يذكر الاختلاف في ألفاظها إن كان، هذا هو الطريق الصحيح في نقل الرواية. والعجب من صاحب المشكاة أنه لم يتنبه لذلك، أو تنبه لكن لم يعد صنيع البغوي هذا مخالفاً للقاعدة. 571- قوله: (بين العبد) أي: المسلم وفي حكمه المسلمة (وبين الكفر) كرر بين لمزيد التأكيد (ترك الصلاة) مبتدأ مؤخر، والظرف المقدم خبره، ومتعلقة محذوف تقديره: ترك الصلاة وصلة بين العبد والكفر، والمعنى أنه يوصله إليه، وبهذا التقدير زال الإشكال، فإن المتبادر أن الحاجزين الإيمان والكفر فعل الصلاة لا تركها. وقيل: المعنى الفارق بين المؤمن والكافر ترك الصلاة، لوجوده في الكافر دون المؤمن، فإن من حق ما به الفرق أن يوجد في أحد الطرفين دون الآخر، فترك الصلاة فارق بينهما لتحققه في الكافر دون المؤمن، وقال السندهي في حاشية ابن ماجه: مثل هذه العبارة كما يستعمل في المانع الحائل بين الشيئين كذلك يستعمل في الوسيلة المفضية لأحدهما إلى الآخر. وفي الحديث من هذا القبيل، فلا يرد أن الحائل بينهما هي الصلاة، فإنها تمنع العبد من الوصول إلى الكفر لا تركها، فليتأمل. ومثل هذا قول القائل بينك وبين مرادك الاجتهاد، وليس هو نظير قوله تعالى: {ومن بيننا وبينك حجاب} [5:41] وقوله: {وجعل بين البحرين حاجزاً} [61:27] انتهى. واللفظ المذكور لفظ ابن ماجه. ولفظ مسلم: بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة. قال النووي معناه أي: الذي يمنع من كفره كونه لم يترك الصلاة، فإذا ترك لم يبق بينه وبين الشرك حائل، بل دخل فيه. ثم إن الشرك والكفر قد يطلقان بمعنى واحد، وهو الكفر بالله تعالى. وقد يفرق بينهما فيكون الكفر أعم من الشرك-انتهى. وعلى هذا عطف الكفر على الشرك في رواية مسلم عطف عام على خاص. والحديث يدل على أن ترك الصلاة من موجبات الكفر، ولا خلاف بين المسلمين في كفر من ترك الصلاة منكرا لوجوبها إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام، أو لم يخالط المسلمين مدة يبلغه فهيا وجوب الصلاة. وإن كان تركه لها تكاسلا مع اعتقاده لوجوبها كما هو حال كثير من الناس، فقد اختلف العلماء فيه، فذهب أحمد وإسحق، وبعض المالكية، وبعض الشافعية إلى أنه يكفر وتمسكوا بحديث جابر هذا وبحديث بريدة في الفصل الثاني، وبأحاديث عبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن شقيق، وأبي الدرداء في الفصل الثالث وبأحاديث أخرى وردت بتكفيره، ذكرها الحافظ في التلخيص (ص172) والهيثمي في مجمع الزوائد (ج1:ص295) والمنذري في الترغيب (ج1:ص164-166) وذهب مالك والشافعي إلى أنه لا يكفر بل يفسق، فإن تاب وإلا قتل حدا كالزاني المحصن، ولكنه يقتل بالسيف. وذهب صاحب الرأي: إلى أنه لا يكفر، ولا يقتل، بل يعزر، ويحبس حتى يصلى. ومن أقوى ما يستدل به على عدم كفره حديث عبادة الآتي، وقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء-116-4)) وحمل القائلون بعدم كفره الأحاديث

{الفصل الثاني}

رواه مسلم. {الفصل الثاني} 572- (7) عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خمس صلوات افتراضهن الله تعالى من أحسن وضوءهن، وصلاهن لوقتهن، ولم أتم ركوعهن وخشوعهن، ـــــــــــــــــــــــــــــ الفاضية بكفره على من تركها جحداً. وقال بعضهم: هي محمولة على التغليظ والتهديد، أو على أنه قد يؤل به إلى الكفر، أو أن فعله شابه فعل الكفار. والحق عندي: أن تارك الصلاة عمداً كافر ولو لم يجحد وجوبها، لصحة الأحاديث في إطلاق الكفر عليه، لكنه كفر دون كفر أي: لم يرد بهذا الكفر كفراً يرده إلى ما كان عليه في الإبتداء، ففي الكفر مراتب كثيرة بعضها أخف من بعض غير موجب للخلود وعدم المغفرة، كما أن في الإيمان مراتب بعضها أعلى من بعض. والله أعلم. وارجع للتفصيل إلى النيل (ج1:ص280-286) والفتح (ج28:ص293) (رواه) أي: أصل الحديث (مسلم) وإلا فاللفظ الذي ذكره المؤلف تبعاً للبغوي لفظ ابن ماجه. وأما لفظ مسلم فقد ذكرناه مع شرحه. والحديث أخرجه أيضاً أحمد والترمذي في الإيمان وأبوداود في السنة والنسائي وابن ماجه في الصلاة وابن حبان. قال الحفاظ: ورواه ابن حبان والحاكم، من حديث بريدة بن الحصيب نحوه. 572- قوله: (خمس صلوات) مبتدأ لتخصيصه بالإضافة خبره جملة (افترضهن الله تعالى) وجملة (من أحسن وضوئهن) الخ. استئناف مبين لبيان ما ترتب على افتراضهن، ويحتمل أن يكون جملة افتراضهن صفة، وما بعدها خبر. قال السندي: قد استدل عبادة بن الصامت بالعدد على عدم وجوب الوتر. كما جاء عنه أي: عند مالك، وأبي داود والنسائي، لكن دلالة المفهوم للعدد ضعيفة عندهم إلا أن يقال: قد قويت ههنا لما لحقها من القرائن المقتضية لاعتبارها ههنا، وذلك لأنه لو كان فرض سادس في جملة الصلوات كل يوم لبين لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بياناً وافياً بحيث ما خفي على أحد لعموم الابتلاء، فضلا عن أن يخفى على نحو عبادة، فكيف وقد بين لهم ما يؤهم خلافه، فظهر بهذا أن المفهوم هنا معتبر. قلت: ويؤيد ذلك أيضاً أن الصحابي أعلم منا بفحوى الكلام، فيكون استدلاله بمفهوم العدد حجة، لاسيما إذا لم يعارضه عنده منطوق. قال السندي: وقد يقال: لعله استدل على ذلك بقوله: من جاء بهن، الخ. حيث رتب دخول الجنة على أداء الخمس، ولو كان هناك صلاة غير الخمس فرضا لما رتب هذا الجزاء على أداء الخمس. وفيه أنه كيف يحصل دخول الجنة بالصلاة فقط مع وجود سائر الفرائض، فإن جوز ذلك فليجوز مثله مع وجود الفرض السادس في جملة الصلوات-انتهى. قلت: الفرائض الأخر غير الصلاة منطوقات فتقدم على هذا المفهوم، ويشترط لدخول الجنة وجودها مع الصلاة، وأيضاً هي من غير جنس الصلاة وكلامنا في ما هو من جنسها (وصلاهن لوقتهن) أي: في أوقاتهن المختارة. وقال الطيبي: أي: قبل أوقاتهن وأولها

كان له على الله عهد أن يغفر له. ومن لم يفعل فليس له على الله عهد إن شاء غفر له وإن شاء عذبه)) . رواه أحمد، وأبوداود، وروى مالك، والنسائي نحوه. 573- (8) وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلوا خمسكم، ـــــــــــــــــــــــــــــ (وأتم ركوعهن) أي: وسجودهن كما في رواية لأحمد (ج5:ص317) أي: أتى بهما تامين بأن اطمأن فيهما (وخشوعهن) المراد به سكون الجوارح عن العبث والقلب عما يشتغل بغير ما هو فيه من صلاته. واختلفوا في وجوب الخشوع واشتراطه في الصلاة، فذهب الأكثرون إلى عدم الوجوب والاشتراط. وروى عن سفيان الثوري أنه قال: من لم يخشع فسدت صلاته. وروى عن الحسن أنه قال: كل صلاة لا يحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة أسرع، ولا شك أن حضور القلب في الصلاة شرط من حيث أن الصلاة لا تنفع في الآخرة إلا به، فإن حضور القلب هو روح الصلاة، فصلاة الغافل في جميعها كالميت، وصلاة الغافل في جميعها إلا عند التكبير كمثل حي لا حراك به، فهو قريب من ميت. قد مال الغزالي إلى اشتراطه في الصلاة، فقد ذكر أدلته في إحياء العلوم، ولأبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي رسالة مفيدة في الخشوع في الصلاة فعليك أن تراجعها (كان له على الله) أي: كرما وتفضلا (عهد) أي: وعد. والعهد حفظ الشيء ومراعاته حالا فحالا، سمى ما كان من الله تعالى على طريقة المجازاة لعبادة عهدا على جهة مقابلة عهده على العباد، ولأنه وعد القائمين بحفظ عهده أن لا يعذبهم، ووعده حقيق بأن لا يخلفه، فسمي وعده عهدا لأنه أوثق من كل وعد وعهد، قاله التوربشتي. وقال القاضي: شبه وعد الله بإثابة المؤمنين على أعمالهم بالعهد الموثوق به الذي لا يخلف، ووكل أمر التارك إلى مشيته تجويز العفوه لأنه لا يجب على الله شيء، ومن ديدن الكرام محافظة الوعد والمسامحة في الوعيد (أن يغفر له) خبر مبتدأ محذوف أي: هو، أو صفة عهد أو بدل منه (ومن لم يفعل) أي: ذلك استخفافاً، وقال القاري أي: مطلقاً، أو ترك الإحسان (إن شاء غفر له) برحمته فضلاً (وإن شاء عذبه) عدلاً، قد استدل به على عدم كفر من ترك الصلاة، وعدم استحقاقه للخلود في النار، وقد تقدم أن للفكر مراتب، ومنها ما لا ينافي المغفرة ولا يوجب الخلود في النار (رواه أحمد) (ج5:ص316، 315) (وأبوداود) أي: باللفظ المذكور في باب المحافظة على الصلوات من حديث عبد الله الصنابحي ورواه أيضاً في "باب من لم يؤتر" من حديث المخدجي بنحوه، وسكت عنه هو والمنذري (وروى مالك) في باب الأمر بالوتر من مؤطاه (والنسائي) في باب المحافظة على الصلوات الخمس، وكذا ابن ماجه وابن حبان والحاكم وابن السكن كلهم من حديث المخدجي (نحوه) أي: بمعناه. قال المنذري: قال أبوعمر النمري يعني ابن عبد البر: لم يختلف عن مالك في إسناد هذا الحديث، وهو صحيح ثابت-انتهى. وله شاهد من حديث أبي قتادة عند ابن ماجه، ومن حديث كعب ابن عجزة عند أحمد. 573- قوله: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خطبة حجة الوداع (صلوا خمسكم) أي: صلواتكم الخمس، وأضافها إليهم

وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا ذا أمركم، تدخلوا جنة ربكم)) رواه أحمد، والترمذي. 574- (9) وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنها لم تجمع لغيرهم. قال الطيبي: حكمة إضافة هذا وما بعده إليهم أعلامهم بأن ذوات هذه الأعمال بكيفياتها المخصوصة من خصوصياتهم التي امتازوا بها عن سائر الأمم، وحثهم على المبادرة للامتثال بتذكيرهم بما خوطبوا به، وتذكيرهم بأن هذه الإضافة العملية يقابلها إضافة فضلية هي أعلى منها وأتم، وهي الجنة المضافة إلى وصف الربوبية المشعر بمزيد تربيتهم وتربية نعيمهم بما فارقوا به سائر الأمم (وصوموا شهركم) أي: رمضان. والإضافة للاختصاص، وقيل أضافه إلينا مع أن الراجح أنه ما من أمة إلا وفرض عليها رمضان، لأنه لم يغير ولم يضل عندنا، بخلاف الأمم السابقة فإنهم غيروه وأضلوه في أيام السنة. وأبهمه للدلالة على أنه صار من الظهور عندهم إلى حد لا يقبل الشك والتردد (وأدوا زكاة أموالكم) أي: التي هي ملك لكم، إلى الإمام أو إلى مستحقيها إن لم يكن الإمام. ولم يذكر الحج في هذه الرواية اختصارا، ففي رواية لأحمد (ج5:ص262) : وحجوا بيتكم، وأدوا زكاتكم طيبة بها أنفسكم (وأطيعوا ذا) صاحب (أمركم) أي: من ولى أمرا من أموركم في غير معصية (تدخلوا) جواب الأوامر السابقة، أي: من غير سابقة عذاب، لأن الغالب أن من فعل الأشياء المذكورة فهو يكون من الصالحين (جنة ربكم) الإضافة للتنبيه على كمال اختصاصهم به سبحانه وتعالى كإضافة الصلاة، والصوم، والزكاة إليهم للتنبيه على مقابلة العمل بالثواب. قال القاري: والمراد تناولوا من درجات الجنة ما يليق بأعمالكم، لأن الحق أن دخول الجنة بفضل الله، والدرجات على حسب الطاعات (رواه أحمد) (ج5:ص262، 251) (والترمذي) في آخر الصلاة، وقال: حديث حسن صحيح، وأخرجه أيضاً ابن حبان، والحاكم في المستدرك (ج1:ص9) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولا نعرف له علة، ولم يخرجاه، وقد احتج البخاري، ومسلم بأحاديث سليم بن عامر راوي الحديث عن أبي أمامة، وسائر رواته متفق عليهم. ووافقه الذهبي. وفي الباب عن أبي الدرداء أخرجه الطبراني في مسند الشاميين مرفوعاً بلفظ: أخلصوا عبادة ربكم، وصلوا خمسكم، وأدوا زكاة أموالكم، وصوموا شهركم، وحجوا بيت ربكم، تدخلوا جنة ربكم. ذكره الزيلعي في نصب الراية. 574- قوله: (مروا) أمر من الأمر وهو أمر للأولياء، لأن الصبي غير مكلف لحديث: رفع القلم عن ثلاثة. وفيه عن الصبي حتى يشب أو يحتلم، فهو ليس بمخاطب إلا ما ورد في قوله: {ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم، والذين لم يبلغوا الحلم منكم} [58:24] (أولادكم) ذكورا أو إناثا (بالصلاة) بأن تعلموهم ما تحتاج إليه الصلاة من شروط وأركان، وأن تأمروهم بفعلها بعد التعليم (وهم أبناء) فيه تغليب للذكور على الإناث (سبع سنين) أي: عقب تمامها ليتمرنوا عليها، وليعتادوها ويستأنسوا بها. الجملة حالية. وعين السبع لأنه وقت ظهر العقل والتمييز في الولد (وأضربوهم) أي:

عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع)) رواه أبوداود، وكذا رواه في شرح السنة عنه. 575- (10) وفي المصابيح عن سبرة بن معبد. ـــــــــــــــــــــــــــــ ضرباً غير مبرح متقين عن الوجه (عليها) أي: على تركها (وهم أبناء عشر سنين) أي: عقب تمامها، لأنه حد يحتمل فيه الضرب غالباً (وفرقوا) أمر من التفريق (بينهم) أي: بين البنين والبنات على ما هو الظاهر، لأن بلوغ العشر مظنة الشهوة (في المضاجع) قال المناوي في فتح القدير: أي: فرقوا بين أولادكم في مضاجعهم التي ينامون فيها إذا بلغوا عشراً، حذروا من غوائل الشهوة وإن كن أخوات-انتهى. قال الطيبي: إنما جمع بين الأمر بالصلاة والفرق بينهم في المضاجع في الطفولية تأديبا ومحافظة لأمر الله تعالى، لأن الصلاة أصل العبادات، وتعليماً لهم المعاشرة بين الخلق، وأن لا يقفوا مواقف التهم، فيجتنبوا محارم الله كلها-انتهى. والحديث يدل على وجوب أمر الصبيان بالصلاة على الأولياء إذا بلغوا سبع سنين، وضربهم عليها إذا بلغوا عشراً، والتفريق بينهم في المضاجع لعشر سنين. وأما ما قيل من أن عدم تكليف الصبي يمنع من حمل الأمر على حقيقته، لأن الإجبار إنما يكون على فعل واجب أو ترك محرم، وليست الصلاة بواجبة على الصبي، ولا تركها محظور عليه، ففيه أن ذلك إنما يلزم ذلك لو اتحد المحل، وهو هنا مختلف، فإن محل الوجوب الولي، ومحل عدمه ابن السبع، وابن العشر، ولا يلزم من عدم الوجوب على الصبي عدمه على الولي. وفي قوله: واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، دليل على إغلاظ العقوبة إذا تركها متعمداً بعد البلوغ. وللشيخ الأجل الشاه ولي الله الدهلوي كلام حسن في التحديد بالسبع والعشر في حجة الله البالغة (ج1:ص48) فعليك أن تراجعه (رواه أبوداود) في الصلاة وسكت عنه هو والمنذري (وكذا رواه) البغوي (في شرح السنة عنه) وأخرجه أيضاً أحمد والحاكم. 575- قوله: (وفي المصابيح عن سبرة بن معبد) يعني قال البغوي في المصابيح بعد ذكر الحديث باللفظ المذكور: رواه سبرة بن معبد الجهني، وفيه نظر، لأن هذا اللفظ من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، لا سبرة بن معبد. وقد أخرجه أبوداود عنه أيضا، لكن بلفظ: مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، وإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها. وليس في رواية سبرة، التفريق. وأخرجه أيضاً الترمذي وابن خزيمة والدارقطني والحاكم، قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وسكت عنه أبوداود، وذكر المنذري تصحيح الترمذي، وأقره. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. وسبرة – بفتح أوله وسكون الموحدة- ابن معبد بن عوسجة، ويقال: سبرة بن عوسجة الجهني أبوثرية المدني صحابي، نزل المدينة، وأقام بذى المروة. أول مشاهد الخندق. وكان رسول على لما ولى الخلافة بالمدينة إلى معاوية، يطلب منه بيعة أهل الشام. مات في آخر خلافة معاوية. له أحاديث انفرد له مسلم بحديث المتعة.

{الفصل الثالث}

576- (11) وعن بريدة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها: فقد كفر)) . رواه أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه. {الفصل الثالث} 577- (12) عن عبد الله بن مسعود، قال: ((جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يارسول الله! إني عالجت امرأة في أقصى المدينة. وإني أصبت منها ما دون أن أمسها. فأنا هذا، فاقض في ما شئت. ـــــــــــــــــــــــــــــ 576- قوله: (العهد الذي بيننا وبينهم) قال القاضي: الضمير الغائب للمنافقين، شبه الموجب لإبقائهم وحقن دمائهم بالعهد المقتضي لإبقاء المعاهد والكف عنه. والمعنى أن العمدة في إجراء أحكام الإسلام عليهم تشبههم بالمسلمين في حضور صلاتهم، ولزوم جماعتهم، وانقيادهم للأحكام الظاهرة، فإذا تركوا ذلك كانوا هم والكفار سواء. قال التوربشتي: ويؤيد هذا المعنى قوله: عليه الصلاة والسلام لما استؤذن في قتل المنافقين: إلا أنى نهيت عن قتل المصلين. قلت: الظاهر أن الضمير عام فيمن تابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالإسلام سواء كان منافقا أم لا. ويدل عليه قوله: - صلى الله عليه وسلم - لأبي الدرداء في آخر أحاديث الباب: لا تترك الصلاة متعمدا، فمن تركها فقد برئت منه الذمة. قال السندي في حاشية النسائي: قوله: "إن العهد" أي: العمل الذي أخذ الله تعالى عليه العهد والميثاق من المسلمين، كيف وقد سبق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بايعهم على الصلوات. وذلك من عهد الله تعالى. "الذي بيننا وبينهم" أي: الذي يفرق بين المسلمين والكافرين، ويتميز به هؤلاء عن هؤلاء صورة على الدوام. "الصلاة" وليس هناك عمل على صفتها في إفادة التمييز بين الطائفتين على الدوام "فمن تركها فقد كفر" أي: صورة، وتشبه بهم إذ لا يتميز إلا المصلى. وقيل: يخاف عليه أن يؤويه إلى الكفر وقيل: كفر أي: أبيح دمه. وقيل: المراد من تركها جحدا. وقال أحمد: تارك الصلاة كافر لظاهر الحديث-انتهى. قلت: الراجح في ذلك ما ذهب إليه أحمد، لأن ظواهر الأحاديث الواردة بتكفير تؤيده، لكن المراد كفر دون كفر، أي: كفر غير الكفر المخرج من الملة. والله تعالى أعلم. ولا حاجة إلى هذه التأويلات التي ذكرها السندي وغيره ممن لم يذهب إلى تكفيره. وارجع إلى كتاب الصلاة للإمام ابن القيم، فإنه قد بسط الكلام فيه في ذلك بسطا حسنا (رواه أحمد) (ج5:ص355، 346) (والترمذي) في الإيمان، وقال: حسن صحيح غريب (والنسائي وابن ماجه) في الصلاة. قال الشوكاني في النيل: الحديث صححه النسائي والعراقي، ورواه ابن حبان في صحيحه والحاكم. وقال: صحيح ولا نعرف له علة. 577- قوله: (إني عالجت امرأة) أي: داعبتها ولا عبتها وناولت منها ما يكون بين الرجل والمرأة غير أني ما جامعتها (في أقصى المدينة) أي: أسفلها وأبعدها عن المسجد (ما دون أن أمسها) ما موصولة، أي: الذي تجاوز المس أي: الجماع (فأنا هذا) أي: أنا حاضر بين يديك، ومنقاد لحكمك (فاقض في ما شئت) أي: فاحكم بسبب ذلك في حقي ما أردته مما يجب علي، كناية عن غاية التسليم

فقال له عمر: لقد سترك الله لو سترت على نفسك. قال: ولم يرد النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه شيئاً. وقام الرجل، فانطلق. فأتبعه النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً فدعاه، وتلا عليه هذه الآية} وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل، إن الحسنات يذهبن السيئات، ذلك ذكرى للذاكرين} فقال رجل من القوم: يا نبي الله! هذا له خاصة؟ فقال: بل للناس كافة)) رواه مسلم. 578- (13) وعن أبي ذر، ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج زمن الشتاء، والورق يتهافت، فأخذ بغصنين من شجرة. قال: فجعل ذلك الورق يتهافت. قال: يابا ذر! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: إن العبد المسلم ليصلي الصلاة يريد بها وجه الله، فتهافت عنه ذنوبه، كما تهافت هذا الورق ـــــــــــــــــــــــــــــ والانقياد لحكم الله ورسوله (لو سترت على نفسك) أي: لكان حسناً، أو لو للتمنى (قال) أي: ابن مسعود (ولم يرد النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه) أي: على الرجل السائل أو على عمر (شيئاً) من الكلام انتظار لقضاء الله فيه رجاء أن يخفف عن عقوبته (فانطلق) ظناً منه بسكوته - صلى الله عليه وسلم - أن الله تعالى سينزل فيه شيئاً، وأنه لا بد أن يبلغه (فأتبعه النبي) أي: أرسل عقبه (رجلاً) ليدعوه (وتلا) عليه الصلاة والسلام (عليه) أي: على الرجل السائل (وأقم الصلاة) بدل من الآية (ذلك) أي: ما ذكر في هذه الآية العظيمة من المنة الجسيمة (ذكرى) أي: تذكرة وموعظة (للذاكرين) لنعمة الله أو المتعظين (فقال رجل) قيل: هو عمر ابن الخطاب. وقيل هو معاذ بن جبل (هذا له) أي: هذا الحكم للسائل (خاصة) أي: يخصه خصوصاً أم للناس عامة (كافة) أي: كلهم يعني يعم جميعاً، لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب. قال النووي: هكذا تستعمل كافة حالاً ولا يضاف، فيقال: كافة الناس ولا الكافة بالألف واللام، وهو معدود في تصحيف العوام ومن أشبههم (رواه مسلم) في التوبة، وأخرجه أيضاً الترمذي في تفسير سورة هود. وقال: حديث حسن صحيح. والظاهر أن الحديث السابق أو الفصل الأول مختصر من هذا الحديث الطويل. وذهب بعضهم إلى أن الواقعة تكررت لرجلين لمغايرة سياقيهما، والله أعلم. 578- قوله: (زمن الشتاء) أي: البرد أو قريباً من فصل الشتاء، وهو الخريف (يتهافت) أي: يتساقط متوالياً (فجعل ذلك الورق يتهافت) أي: طفق الورق من الغصنين يتساقط تساقطاً سريعاً لأنهما عند القبض بهما أسرع سقوطا من تركهما على حالهما (يريد بها وجه الله) أي: ذاته ومرضاته. والجملة حالية من الفاعل أو المفعول، أي: خالصاً لله أو خالصة له تعالى بأن لا يكون فيها سمعة ولا رياء بل يقصد بها امتثال أمر الله ورضاءه عنه فقط (فتهافت عنه) بحذف إحدى التائين (كما تهافت) بصيغة الماضي، وفي نسخة صحيحة يتهافت بالمضارع للمذكر، قاله القاري. قلت: وكذا وقع بصيغة المضارع

عن هذه الشجرة)) رواه أحمد. 579- (14) وعن يزيد بن خالد الجهني، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى سجدتين لا يسهو فيهما، غفر الله له ما تقدم من ذنبه)) . رواه أحمد. 580- (15) وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر الصلاة يوماً فقال: ((من حافظ عليها، كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة. ـــــــــــــــــــــــــــــ المذكر في مسند أحمد (عن هذه الشجرة) أي: عن غصنيها (رواه أحمد (ج5:ص159) قال المنذري في الترغيب (ج1:ص119) بإسناد حسن: وفي الباب عن أبي عثمان عن سلمان عند أحمد والنسائي والطبراني. قال المنذري: رواة أحمد محتج بهم في الصحيح إلا علي بن زيد. 579- قوله: (من صلى سجدتين) أي: ركعتين كما في رواية لأحمد (لا يسهو) أي: لا يغفل (فيهما) قال الطيبي: أي: يكون حاضر القلب، يقظان النفس، يعلم من يناجى، وبما يناجيه، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: تعبد الله كأنك تراه. ولهذا المعنى خصت السجدة في التغليب دون الركوع تلميحاً إلى قوله: {واسجد واقترب} [19:96] انتهى. قلت: قد تقدم في أوائل الطهارة حديث عثمان بلفظ: من توضأ نحو وضوئي هذا ثم يصلى ركعتين لا يحدث نفسه فيهما بشيء غفر له ما تقدم من ذنبه، فلو أريد بقوله: لا يسهو فيهما أي: لا يحدث فيهما نفسه لكان أولى، لأن الأحاديث يفسر بعضها بعضاً (رواه أحمد) (ج5:ص194) وأخرجه أيضاً هو في (ج4:ص117) وأبوداود في كراهية الوسوسة وحديث النفس في الصلاة، والحاكم بلفظ: من توضأ فأحسن وضوءه ثم صلى ركعتين لا يسهو فيهما، غفر الله له ما تقدم من ذنبه، وقد سكت عنه أبوداود، والمنذري. 580- قوله: (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص) قال الكرماني: الجمهور على كتباته بالياء، وهو الفصيح عند أهل العربية. وفي كثير من الكتب أو أكثر بحذفها-انتهى. قال: القاري: والصحيح كتابته بلا ياء على ما في النسخ الصحيحة، وهو مبنى على حذف الياء لفظاً وخطًا للتخفيف كما في نحو المتعال، أو بناء على أن أصله العوص أو العيص على ما يفهم من القاموس (أنه ذكر الصلاة) أي: أراد أن يذكر فضلها وشرفها، قاله الطيبي. (فقال) الفاء للتفسير (من حافظ عليها) أي: من أن يقع زيغ في فرائضها وسننها، ودوام عليها، ولم يفتر عنها (كانت) أي: صلاته أو محافظته عليها (نوراً وبرهانًا) تقدم معناهما في أوائل الطهارة. وقيل أي: نوراً بين يديه، مغنياًذ عن سؤاله عنها، وبرهانا أي: دليلاً على محافظته على سائر الطاعات. وقيل: أي: زيادة في نور إيمانه، وحجة واضحة على كمال عرفانه (ونجاة) بفتح النون أي: ذات نجاة، أو جعلت نفسها نجاة مبالغة كرجل عدل (يوم القيامة) لأن الصلاة أول ما يسأل عنه من العبادات، وكذلك نور وبرهان ونجاه له في

ومن لم يحافظ عليها، لم تكن له نوراً ولا برهاناً ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي خلف)) . رواه أحمد، والدارمي، والبيهقي في شعب الإيمان. 581- (16) وعن عبد الله بن شقيق، قال: ـــــــــــــــــــــــــــــ القبر كما ورد في الأحاديث، فإن من مات فقد قامت قيامته، قاله القاري (ومن لم يحافظ عليها) أي: على شرائطها وأركانها، فمن تركها بالكلية فهو أولى بالمحرومية (لم تكن له نوراً) الخ. فيه أنه لا بانتفاع للمصلى بصلاته إلا إذا كان محافظا عليها لأنه إذا انتفى كونها نوراً وبرهاناً ونجاة مع عدم المحافظة انتفى نفعها (وكان يوم القيامة) محشوراً أو معذباً في الجملة (مع قارون) الذي منعه ماله عن الطاعة، وهو على وزن فاعول اسم أعجمي ممتنع للعجمة والعلمية، وليس بعربي مشتق من قرنت. كان ابن عمر موسى، وهو قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب، وموسى هو ابن عمران ابن قاهث. وقيل: كان عم موسى لأب وأم. وقيل: هو ابن خالة موسى. وأكثر أهل العلم على الأول. وكان يسمى المنور لحسن صورته. وقيل: لحسن صوته بالتوراة. وكان من السبعين الذي اختارهم موسى للمناجاة، فسمع كلام الله. قاله الرازي. ولم يكن في بني إسرائيل أقرأ للتوراة منه، فنافق كما نافق السامري، وخرج عن طاعة موسى، فأهلكه البغي لكثرة ماله (وفرعون) لقب لمن ملك العمالقة أولاد عمليق بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح، ككسرى وقيصر لملكي الفرس والروم، واسمه الوليد بن مصعب بن زيان كما عليه أكثر المفسرين. وفرعون يوسف عليه السلام ريان جد فرعون موسى. وكان بينهما أكثر من أربع مائة سنة. قال المسعودي: ولا يعرف لفرعون تفسير بالعربية. وظاهر كلام الجوهري أنه مشتق من معنى العتو فإنه قال: والعتاة الفراعنة، وقد تفرعن وهو ذو فرعنة أي: دهاء ومكر-انتهى. وقيل: لأجل أن الفراعنة كانوا عاتين حتى فهم العرب من ذكرهم العتو، اشتقوا من فرعون تفرعن الرجل إذا عتا (وهامان) وزير فرعون، ومدبر رعيته، ومشير دولته (وأبي بن خلف) بفتح الخاء عدو النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي قتله النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده يوم أحد، وهو مشرك، وقد كان واعده النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتله، وهو بمكة كما في السيرة لابن هشام. وقوله: - صلى الله عليه وسلم - كان يوم القيامة مع قارون، كناية عن دخول النار، أي: كان معهم في النار، وإن اختلفت المحال وكيفية العذاب. وفيه تغليظ شديد، وتهديد عظيم لتارك المحافظة على الصلاة. واستدل به بعضهم على كفر تارك الصلاة لأن هؤلاء المذكورين هم أشد أهل النار عذاباً، وعلى تخليد تاركها في النار كتخليد من جعل معهم في العذاب. ويمكن أن يقال: مجرد المعية والمصاحبة لا يدل على الاستمرار والتأييد لصدق المعنى اللغوي بلبثه معهم مدة (رواه أحمد والدارمي) الخ. وأخرجه أيضاً الطبراني في الكبير، والأوسط، وابن حبان في صحيحه. قال المنذري: إسناد أحمد جيد. وقال الهيثمي: رجاله ثقات. 581- قوله: (وعن عبد الله بن شقيق) العقيلي البصري ثقة، فيه نصب من الطبقة الوسطى من التابعين، روى عن

كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة. رواه الترمذي. 582- (17) وعن أبي الدرداء، قال: ((أوصاني خليلي أن لا تشرك بالله شيئاً. وإن قطعت وحرقت. ولا تترك صلاة مكتوبة متعمداً، فمن تركها متعمداً، فقد برئت منه الذمة. ـــــــــــــــــــــــــــــ عمر، وعثمان وعلي وأبي ذر وأبي هريرة وعائشة وابن عباس وغيرهم. مات سنة (108) وقيل: غير ذلك. قال الجريري: كان عبد الله بن شقيق مجاب الدعوة، كانت تمر به السحابة فيقول اللهم لا تجوز كذا وكذا حتى تمطر، فلا تجوز ذلك الموضع حتى تمطر. حكاه ابن أبي خيثمة في تاريخه (كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) منهم عمر، وابن مسعود وابن عباس ومعاذ بن جبل وجابر بن عبد الله، وأبوالدرداء وعلي (لا يرون) من الرأي أي: لا يعتقدون (شيئاً) مفعوله (من الأعمال) صفة شيئاً (تركه كفر) صفة أخرى لشيئاً (غير الصلاة) استثناء، والمستثنى منه الضمير الراجع إلى شيئاً قاله الطيبي. والمراد ضمير تركه. والحديث فيه دليل ظاهر على أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يعتقدون أن ترك الصلاة كفر. والظاهر من الصيغة أن هذه المقالة اجتمع عليها الصحابة، لأن قوله: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، جمع مضاف، وهو من المشعرات بذلك. قال محمد بن نصر المروزي: سمعت إسحق يقول: صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تارك الصلاة كافر. وكذلك كان رأي: أهل العلم من لدن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تارك الصلاة عمداً من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر. وقال ابن حزم: وقد جاء عن عمر وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم: أن من ترك صلاة فرض واحدة متعمداً حتى يخرج وقتها فهو كافر مرتد، ولا نعلم لهؤلاء من الصحابة مخالفاً - انتهى. (رواه الترمذي) في الإيمان، ولم يتكلم عليه، ورواته ثقات أثبات. وأخرجه أيضاً الحاكم، وصححه على شرطهما. وذكره الحافظ في التخليص والمنذري في الترغيب، ولم يتكلما عليه. 582- قوله: (أوصاني خليلي) لما كان هذا الحديث في الوصية متناهياً، وللزجر عن رذائل الأخلاق جامعاً وضع "خليل" مكان "رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إظهار الغاية تعطفه وشفقته، قاله الطيبي (أن لا تشرك) بالجزم على أنه صيغة نهى، وأن تفسيرية لأن في "أوصى" معنى القول. ويجوز النصب على أنه صيغة مضارع، وأن ناصبة مصدرية، والمراد أن لا تظهر الشرك (وإن قطعت) بالتشديد ويخفف (وحرقت) بالتشديد لا غير. وهذا يدل على أنه ينبغي اختبار الموت والقتل دون إظهار الشرك، وهو وصية بالأفضل والعزيمة، فإنه يجوز التلفظ بكلمة الكفر والشرك عند الإكراه لقوله تعالى: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} [106:16] (متعمداً) احتراز عن الخطأ، والنسيان والنوم والضرورة وعدم القدرة (فقد برئت منه الذمة) كناية عن الكفر تغليظاً، قاله الطيبي. أو المراد منه الأمان من التعرض بالقتل أو التعزير، كذا في المرقاة. وقال الجزري: الذمة والذمام هما بمعنى العهد والأمان، والضمان والحرمة والحق، وسمي أهل الذمة لدخولهم في عهد المسلمين وأمانهم. وحديث: فقد برئت منه الذمة. أي: أن لكل أحد من الله عهداً بالحفظ

(1) باب المواقيت

ولا تشرب الخمر، فإنها مفتاح كل شر)) . رواه ابن ماجه. (1) باب المواقيت ـــــــــــــــــــــــــــــ والكلاءة، فإذا ألقى بيده إلى التهلكة، أو فعل ما حرم الله تعالى، أو خالف ما أمر به، خذلته ذمة الله تعالى (ولا تشرب الخمر) قال الطيبي: قرن ترك الصلاة وشرب الخمر، مع الشرك إيذانا بأن الصلاة عمود الدين، وتركها ثلمة في الدين. وأن شرب الخمر كعبادة الوثن، ولأن أم الأعمال ورأسها الصلاة، وأم الخبائث الخمر فأنى يجتمعان؟ قال تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [45:29] فالصلاة مفتاح كل خير، والخمر مفتاح كل شر، أي: لأنها تزيل العقل فلا يبالي بشيء، فقد انفتح له باب الشر بعد أن كان مغلقاً بقيد العقل (رواه ابن ماجه) في الفتن من حديث شهر بن حوشب عن أم الدرداء عن أبي الدرداء. قال في الزوائد: إسناده حسن، وشهر مختلف فيه. وقال الحافظ في التلخيص (ص127) : في إسناده ضعف. ورواه الحاكم في المستدرك من طريق جبير بن نفير عن أميمة مولاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت: بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالساً إذ دخل عليه رجل، فقال: إني أريد الرجوع إلى أهلي فأوصني، فذكر نحوه مطولاً. ورواه أحمد والبيهقي من حديث مكحول، عن أم أيمن. وفيه انقطاع. ورواه الطبراني من حديث عبادة بن الصامت، ومن حديث معاذ بن جبل، وإسنادهما ضعيفان - انتهى. وقال المنذري بعد ذكر حديث عبادة: رواه الطبراني ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة بإسنادين لا بأس بهما. (باب المواقيت) أي: باب بيان مواقيت الصلاة، جمع ميقات وهو مفعال من الوقت. والمراد به الوقت الذي عينه الله لأداء هذه العبادة، وهو القدر المحدود للفعل من الزمان. قال تعالى: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} [103:4] أي: مفروضاً في أوقات معينة معلومة، فأجمل ذكر الأوقات في هذه الآية، وبينها في مواضع أخر من الكتاب من غير ذكر تحديد أوائلها وأواخرها، وبين على لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم - تحديدها ومقاديرها. قال تعالى: {أقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل} [114:11] وقد تقدم تفسيره. وقال تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} أي: الظهر والعصر {إلى غسق الليل} أي: المغرب والعشاء {وحين تصبحون} فيه ذكر الصبح {وعشياً} يعني العصر {وحين تظهرون} [18، 17:30] يعني الظهر. وقال تعالى: {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس} يعني الفجر {وقبل غروبها} يعني العصر {ومن آناء الليل} هو مثل قوله: {زلفاً من الليل} {فسبح وأطراف النهار} [130:20] فيه ذكر الظهر. والجمع باعتبار وقوع صلاة الظهر تارة في أول وقتها، وأخرى في غيره، فجمعية الأطراف باعتبار الساعات كجمعية الإناء والزلف.

{الفصل الأول}

{الفصل الأول} 583- (1) عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((وقت الظهر إذا زالت الشمس، وكان ظل الرجل كطوله، ما لم يحضر العصر. ووقت العصر ما لم تصفر الشمس. ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق. ـــــــــــــــــــــــــــــ 583- قوله: (وقت الظهر) أي: أول وقته، وسميت بالظهر لفعلها في وقت الظهيرة (إذا زالت الشمس) أي: حين مالت عن بطن السماء ووسطه المسمى بلوغها إليه بحالة الاستواء، إلى جهة المغرب باعتبار ظهوره لنا بزيادة ظل الاستواء إلى جهة المشرق. والميل إلى جهة المغرب هو الدلوك الذي أراده تعالى بقوله: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} وهذا بيان لأول وقت الظهر (وكان) أي: صار (ظل الرجل كطوله) أي: قريبا منه. ويستمر ويمتد وقتها إلى أن يصير ظل كل شيء مثله. وذكر الرجل في الحديث تمثيلاً. وهذا تعريف لآخر وقتها. فقوله: وكان، عطف على زالت، أي: ويستمر وقت الظهر إلى صيرورة ظل الرجل قدر قامته (مالم يحضر العصر) أي: وقته وحضوره. بمصير ظل لكل شيء مثله، كما يفيده مفهوم هذا، وصريح غيره. قال الأبهرى: قوله: ما لم يحضر العصر، بيان وتأكيد لقوله: وكان ظل الرجل كطوله، ثم المراد بالظل الظل الحادث، أو مطلق الظل، ويلائمه قوله: مالم يحضر العصر، أي وقته، وهو الظل الحادث لطول الرجل. وهذا الحديث يدل على أنه لا فاصلة بين وقت الظهر ووقت العصر، ولا اشتراك بينهما، بل متى خرج وقت الظهر دخل وقت العصر، وإذا دخل وقت العصر لم يبق شيء من وقت الظهر. وأما حديث جبريل في الفصل الثاني الذي يدل على الاشتراك فسيأتي الجواب عنه. وعلى أن لا كراهة في تأخير الظهر إلى آخر الوقت (ووقت العصر) أي: يستمر من دخوله بما ذكر من صيرورة ظل الرجل كطوله إلى (ما لم تصفر) بفتح الراء المشددة وتكسر (الشمس) والمراد به وقت الاختيار لقوله - صلى الله عليه وسلم -: من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر، أي: مؤداة. ولما في رواية لمسلم من زيادة: ويسقط قرنها الأول. قال النووي: فيه دليل لمذهب الجمهور أن وقت العصر يمتد إلى غروب الشمس. والمراد بقرنها جانبها. وفيه أن العصر يكون أداء مالم يغب الشمس (ووقت صلاة المغرب) يمتد ويستمر من غروب الشمس (ما لم يغب الشفق) هو الحمرة التي تلي الشمس بعد الغروب لما روى ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الشفق الحمرة، رواه الدارقطني، وصحح ابن خزيمة، وغيره وقفه على ابن عمر. قال البيهقي: روى هذا الحديث عن علي وعمر وابن عباس وعبادة بن الصامت، وشداد بن أوس، وأبي هريرة ولا يصح منها شيء. قال الأمير اليماني: البحث لغوى والمرجع فيه إلى أهل اللغة، وابن عمر من أهل اللغة، وقح العرب، فكلامه حجة، وإن كان موقوفاً عليه. وفي القاموس: الشفق – محركة- الحمرة في الأفق من الغروب إلى العشاء، وإلى قريبها، أو إلى قريب العتمة – انتهى. وقال

ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط. ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس فأمسك عن الصلاة، فإنها تطلع بين قرني الشيطان)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الخليل: الشفق الحمرة من غروب الشمس إلى وقت العشاء، فإذا ذهب قيل: غاب الشفق. وقال الفراء: سمعت العرب يقول: عليه ثوب كأنه الشفق، وكان أحمر – انتهى. وبه قال الشافعي، ومالك، وأحمد، وأبو يوسف، ومحمد. قال القاري: وبه يفتى. وقال في الدار: الشفق هو الحمرة. وبه قال الثلاثة، وإليه رجع الإمام كما هو في شروح المجمع وغيره، فكان هو المذهب. قال صدر الشريعة: وبه يفتى. وفي المواهب: وعليه الفتوى. ورجحه في البرهان. وفيه دليل على أن وقت المغرب يمتد إلى غروب الشفق، ولا يعارضه حديث جبريل الآتي الدال على عدم الامتداد والاتساع، لأنه اقتصر على بيان وقت الاختيار، ولم يستوعب وقت الجواز. وهذا جار في كل الصلوات سوى الظهر. ولأنه متقدم في أول الأمر بمكة، وحديث عبد الله بن عمرو هذا وأمثاله بامتداد وقت المغرب إلى غروب الشفق متأخرة في أواخر الأمر بالمدينة، فوجب اعتمادها. ولأن أحاديث الامتداد أصح إسناداً من حديث جبريل فوجب تقديمها (ووقت صلاة العشاء) من غيبوبة الشفق يستمر (إلى نصف الليل الأوسط) المراد به الأول، والأوسط صفة النصف. وفيه دليل على أن آخر وقت العشاء إلى نصف الليل، وقد ثبت في الحديث التحديد لآخره بثلث الليل لكن أحاديث النصف صحيحة، فيجب العمل بها. واحتج به أبوسعيد الأصطخري على أن وقت العشاء إلى نصف الليل فقط، وعند غيره محمول على بيان وقت الاختيار. وأما وقت الجواز فيمتد إلى طلوع الفجر لما روى أبوقتادة مرفوعا: إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجئ وقت الصلاة الأخرى. قال: الحافظ: عموم حديث أبي قتادة مخصوص بالإجماع في الصبح، فللأصطخري أن يقول: إنه مخصوص بالحديث المذكور وغيره من الأحاديث في العشاء، قال: ولم أر في امتداد وقت العشاء إلى طلوع الفجر حديثاً صريحاً يثبت – انتهى (ووقت صلاة الصبح) أي: أوله (من طلوع الفجر) أي: الصادق، ويستمر إلى (ما لم تطلع الشمس) أي: شيء منها، ففي رواية: مالم يطلع قرن الشمس الأول (فإذا طلعت الشمس) أي: أرادت الطلوع (فإنها تطلع بين قرني الشيطان) أي: ناحتي رأسه، وذلك لأن الشيطان يرصد وقت طلوع الشمس فينتصب قائماً في وجه الشمس، ويدلى رأسه إليها في وقت الطلوع فيكون في مقابلة من يعبد الشمس ويسجد له، فينقلب سجود الكفار للشمس عبادة له، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته عن الصلاة في ذلك الوقت لتكون صلاة من يعبد الله في غير وقت عبادة من يعبد الشيطان. وفي تأويل مختلف الحديث (ص154-156) لابن قتيبة (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد، وأبوداود، والنسائي لكن ليس عندهما: فإذا طلعت الشمس، الخ.

584- (2) وعن بريدة، قال: ((إن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن وقت الصلاة. فقال: له: صل معنا هذين – يعني اليومين – فلما زالت الشمس أمر بلالاً فأذن، ثم أمره فأقام الظهر، ثم أمره فأقام العصر، والشمس مرتفعة بيضاء نقية، ثم أمره فأقام المغرب حين غابت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حيث غاب الشفق، ثم أمره فأقام الفجر حين طلع الفجر. فلما أن كان اليوم الثاني أمره: فأبرد بالظهر، فابرد بها - فأنعم أن يبرد بها - وصلى العصر والشمس مرتفعة - أخرها فوق الذي كان - وصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق، ـــــــــــــــــــــــــــــ 584- قوله: (عن وقت الصلاة أريد به الجنس أي: الصلوات الخمس (صل معنا هذين يعني اليومين) وفي رواية النسائي: هذين اليومين، بغير زيادة يعني أي: لتعلم أوقات الصلاة كلها أوائلها وأواخرها، ووقت الفضيلة، والاختيار، وغيرهما بالمشاهدة التي هي أقوى من السماع (فلما زالت الشمس) عن حد الاستواء وبطن السماء من اليوم الأول (أمر بلالا) بالأذان (ثم أمره) بالإقامة (فأقام الظهر) بنزع الخافض أي: للظهر (ثم أمره) أي: في أول وقت العصر (فأقام العصر) أي: بعد أن أذن له، وتركه اختصاراً أو اعتماداً على ذكره في الأول (والشمس مرتفعة) الجملة حالية أي: صلى في أول وقته (بيضاء (أي: لم تختلط بها صفرة (نقية) أي: صاف لونها بحيث لم يدخلها تغير (فأقام الفجر) أي: لصلاة الفجر (حيث طلع الفجر) أي: الصادق (فلما أن كان اليوم الثاني) أن زائدة، وكان قيل تامة أي: فلما وجد أو حصل، ويحتمل أنها ناقصة، واسمها ضمير الزمان، أي: فلما كان الزمان اليوم الثاني (أمره) أي: بالإبراد وهو جواب لما (فأبرد بالظهر) على صيغة الأمر أي: فقال: له أبرد بالظهر. قال القاري: وفي نسخة فأبرد على صيغة الماضي أي: فأمره بالإبراد فيكون تفسير الأمر وتأكيدا (فأبرد بها) أي: بصلاة الظهر. والإبراد هو الدخول في البرد، والباء للتعدية أي: إدخالها في البرد. وقال الخطابي: الإبراد أن يتفيأ الأفياء، وينكسر وهج الحر، فهو برد بالإضافة إلى حر الظهيرة، وذكره الطيبي (فأنعم) أي: أفضل. وزاد وبالغ. قال الجزري: أي: أطال الإبراد وأخر الصلاة. ومنه قولهم: أنعم النظر في الشيء إذا أطال التفكر فيه (أخرها) بالتشديد أي: أخر صلاة العصر في اليوم الثاني (فوق الذي) أي: التأخير الذي (كان) أي: وجد في اليوم الأول بأن أوقعها حين صار ظل الشيء مثليه كما بينته الروايات الأخر، أو التقدير: كان أخرها بالأمس يريد أن صلاة العصر بالأمس كانت مؤخرة عن الظهر، لا أنها كانت مؤخرة عن وقتها. والحاصل أنه أخر عصر اليوم الثاني تأخيرا هو فوق التأخير الذي كان. وتحقق ذلك التأخير في اليوم الأول، وتأخير اليوم الأول ليس بالنظر إلى أول وقت العصر وإنما هو بالنظر إلى وقت الزوال، فإنه كان صلاها في اليوم الأول حين كان ظل الشيء مثله (قبل أن يغيب الشفق) أي:

{الفصل الثاني}

وصلى العشاء بعد ما ذهب ثلث الليل، وصلى الفجر فأسفر بها. ثم قال: أين السائل عن وقت الصلاة؟ فقال: الرجل: أنا يا رسول الله! قال: وقت صلاتكم بين ما رأيتم)) رواه مسلم. {الفصل الثاني} 585- (3) عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أمنى جبرئيل عند البيت مرتين. فصلى بي الظهر حين زالت الشمس وكانت قدر الشراك ـــــــــــــــــــــــــــــ صلاها في آخر الوقت (فأسفر بها) أي: أدخلها في وقت إسفار الصبح، أي: انكشافه وإضاءته (فقال: الرجل أنا) هذا كناية عن حضوره عنده، والتقدير أنا حاضر عندك (وقت صلاتكم) لعله جمع الضمير إشعاراً بأن الحكم عام (بين ما رأيتم) أي: بين وقت الشروع في المرة الأولى، ووقت الفراغ في المرة الثانية. وهذا محمول على بيان الوقت المختار، إذ يجوز صلاة الظهر بعد الإبراد التام مالم يدخل وقت العصر. ويجوز العصر بعد ذلك التأخير الذي هو فوق ما لم تغرب الشمس، ويجوز صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر على قول الجمهور، أو إلى نصف الليل على قول الأصطخري بناء على الحديث السابق، وصلاة الفجر بعد الإسفار ما لم تطلع الشمس (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد (ج5:ص349) وابن الجارود، والترمذي، وصححه، والنسائي، وابن ماجه. 585- قوله: (أمنى) بتشديد الميم، أي: صار إماماً لي (عند البيت) وفي رواية للشافعي في الأم: عند باب الكعبة (مرتين) أي: في يومين ليعرفني كيفية الصلاة وأوقاتها (فصلى بي الظهر) الباء للمصاحبة والمعية، أي: صلى معي، وكان إمامة جبريل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في اليوم الذي يلي ليلة الإسراء، وأول صلاة أديت كذلك الظهر على المشهور، ولذلك سميت الأولى. قيل: ابتدأ بأداء صلاة الظهر مع أن فرض الصلاة كان ليلاً، وقياسه أن أول صلاة وجبت الصبح لأن الصلاة لما لم تبين حينئذ لم يلزم أداء صلاة الفجر لعدم الإحاطة بكيفيتها، لأن أداء الوجوب متوقف على علم الكيفية، وهو لم يقع إلا في الظهر بصلاة جبرئيل، فهي التي أول صلاة وجبت، ولا حاجة إلى بيان النكتة عند من يقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الفجر والعصر قبل الإسراء على صفة الفريضة (وكانت) الضمير للشمس، والمراد منها الفيء لأنه بسببها، ففيه تجوز بينته رواية الترمذي: وكان الفيء قدر الشراك. والفيء هو الظل، ولا يقال: إلا للراجع منه، وذلك بعد الزوال (قدر الشراك) أي: كان الفيء مثل شراك النعل، وهو بكسر الشين أحد سيور النعل الذي على وجهها. وهذا على وجه التقريب لا التحديد، لأن زوال الشمس لا يتبين إلا بأقل مما يرى من الظل في جانب المشرق، وكان حينئذ بمكة هذا القدر والظل يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، فكل بلد هو أقرب إلى خط الاستواء ومعدل النهار كان الظل فيه أقصر، وكل بلد كان أبعد عنهما إلى جانب الشمال كان فيه أطول، قاله ابن الملك. وقال الطيبي: وإنما يتبين ذلك في مثل مكة

وصلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثله، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلى بين الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم. فلما كان الغد: صلى بي الظهر حين كان ظله مثله، ـــــــــــــــــــــــــــــ من البلاد التي يقل فيها الظل، فإذا كان أطول النهار، واستوت الشمس فوق الكعبة لم ير لشيء من جوانبها ظل-انتهى. والمراد منه أن وقت الظهر حين يأخذ الظل في الزيادة بعد الزوال (وصلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثله) أي: بعد ظل الزوال، فيه دليل على أن أول وقت العصر من حين يصير ظل كل شيء مثله. وبه قال: الأئمة الثلاثة، وأبو يوسف ومحمد والحسن وزفر والطحاوي وغيرهم، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة على ما في عامة الكتب. ورواية محمد عنه على ما في المبسوط. كذا في حلية المحلى لابن أمير الحاج. وفي غرر الأذكار: هو المأخوذ به. وفي البرهان: هو الأظهر. وفي الغيض للكركي: عليه عمل الناس اليوم، وبه يفتى. كذا في الدر المختار. والمشهور عن أبي حنيفة أنه لا يدخل وقت العصر حتى يصير ظل كل شيء مثليه. قال الحافظ: لم ينقل عن أحد من أهل العلم مخالفة في ذلك إلا عن أبي حنيفة، فالمشهور عنه أن أول وقت العصر مصير ظل كل شيء مثليه بالتثنية – انتهى. قلت: والرواية الثانية عنه كمذهب الجمهور كما تقدم. قال بعض الحنفية: ونقل السيد أحمد الدحلان رجوع الإمام إلى هذه الرواية عن خزانة المفتين والفتاوى الظهيرية، وهما من المعتبرات، قال: وبها أفتى صاحب الدر المختار، ورد عليه أن عابدين بأنه خلاف ظاهر الرواية فلا يفتى بها وقال: الأرجح عندي ما اختاره صاحب الدر المختار-انتهى. وقال الشيخ رشيد أحمد الكنكوهي: الدليل يرجح قولهما، وما استدل به على رواية المثلين لا يخلو شيء منها عن شيء. ثم قال: بعد تنقيد ما احتجوا بها على المثلين من الروايات والجواب عنها: فالتحقيق الذي ارتضاه المحققون أن الصحيح من المذهب هو العمل برواية المثل في الظهر ويدخل بعده وقت العصر-انتهى. وقال الشيخ عبد الحى اللكنوى في التعليق الممجد بعد ذكر ما استدلوا بها من الأحاديث على المثلين، والتعقب عليها: والإنصاف في هذا المقام أن أحاديث المثل صريحة صحيحة وأخبار المثلين ليست صريحة في أنه لا يدخل وقت العصر إلا بالمثلين، وأكثر من اختار المثلين إنما ذكر في توجيه أحاديث استنبط منها هذا الأمر، والأمر المستنبط لا يعارض الصريح. وقد أطال الكلام في هذا المبحث صاحب البحر الرائق فيه وفي رسالة مستقلة، فلم يأت بما يفيد المدعي ويثبت الدعوى (حين أفطر الصائم) أي: دخل وقت إفطاره بأن غابت الشمس ودخل الليل، لقوله: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} [187:2] وفي رواية الترمذي: حين وجبت الشمس وأفطر الصائم، وهو عطف تفسير إذ بوجوبها أي: سقوطها وغروبها يدخل وقت الإفطار (حين حرم الطعام والشراب على الصائم) يعني أول طلوع الفجر الثاني (فلما كان الغد) أي: اليوم الثاني (صلى بي الظهر حين كان ظله) أي: ظل كل شيء (مثله) أي: مع فيء الزوال. وقال: القاري: أي: قريباً منه

وصلى بي العصر حين كان ظله مثليه، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء إلى ثلث الليل، وصلى بي الفجر فأسفر. ثم التفت إلي، فقال: يا محمد! هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت ما بين هذين الوقتين)) ـــــــــــــــــــــــــــــ من غير الفيء. قال الطيبي: ليس المراد بعد ظل الزوال، فلا يلزم كون الظهر والعصر في وقت واحد-انتهى. وقال السندي في حاشية النسائي: قوله: صلى به الظهر أي: فرغ منها. وأما في العصر الأول فالمراد بقوله: صلى، شرع فيها، وهذا لأن تعريف وقت الصلاة بالمرتين يقتضي أن يعتبر الشروع في أولى المرتين والفراغ في الثانية منهما ليتعين بهما الوقت ويعرف أن الوقت من شروع الصلاة في أولى المرتين إلى الفراغ منها في المرة الثانية. وهذا معنى قول جبريل أي: في حديث أبي هريرة: الصلاة ما بين صلاتك أمس وصلاتك اليوم، أي: وقت الصلاة من وقت الشروع في المرة الأولى إلى وقت الفراغ في المرة الثانية. وبهذا ظهر صحة هذا القول في صلاة المغرب، وإن صلى في اليومين في وقت واحد. وسقط ما يتوهم أن لفظ الحديث يعطي وقوع الظهر في اليوم الثاني في وقت صلاة العصر في اليوم الأول، فيلزم التداخل أي: الاشتراك في الأوقات، وهو مردود عند الجمهور، ومخالف لحديث: لا يدخل وقت صلاة حتى يخرج وقت صلاة أخرى ومخالف لحديث مسلم بلفظ: وقت الظهر ما لم يحضر العصر. أو النسخ، وهو يفوت التعريف المقصود بإمامة جبريل مرتين، فإن المقصود في أولى المرتين تعريف أول الوقت، وبالثانية تعريف آخره، وعند النسخ لا يحصل ذلك، على أن قوله: والصلاة ما بين صلاتك، الخ. تصريح في رد القول بالنسخ - انتهى. وبنحو ذلك قرره الخطابي في المعالم، والنووي وغيره (وصلى بي العصر حين كان ظله) أي: ظل الشيء (مثليه) أي: غير ظل الاستواء (إلى ثلث الليل) أي: منتهياً إليه. وقيل إلى بمعنى مع أو بمعنى في، ووقع في رواية الترمذي: حين ذهب ثلث الليل (فأسفر) أي: أضاء به، أو دخل في وقت الإسفار. والظاهر أنه صلى الفجر بحيث وقع الفراغ عند الإسفار، فضبط آخر الوقت بالفراغ من الثانية كما ضبط أوله بالشروع في الأولى (هذا) أي: ما ذك رمن الأوقات الخمسة (وقت الأنبياء من قبلك) قال: ابن العربي في عارضة الأحوذى (ج1:ص258، 257) : ظاهره يؤهم أن هذه الصلوات في هذه الأوقات كانت مشروعة لمن قبله من الأنبياء، والأمر ليس كذلك، وإنما معنى هذا وقتك المشروع لك، يعني الوقت الموسع المحدود بطرفين الأول والآخر، وقوله: وقت الأنبياء قبلك: يعني ومثله وقت الأنبياء قبلك، أي: كانت صلاتهم واسعة الوقت وذات طرفين مثل هذا وإلا فلم تكن هذه الصلوات على هذا الميقات إلا بهذه الأمة خاصة، وإن كان غيرهم قد شاركهم في بعضها – انتهى. وقال ابن حجر أي: المكي: هذا باعتبار التوزيع بالنسبة لغير العشاء إذ مجموع هذه الخمس من خصوصياتنا، وأما بالنسبة إليهم فكان ماعدا العشاء مفرقاً فيهم، وقيل: الاختصاص بالنسبة إلى الأمم دون الأنبياء فالأنبياء كانوا يصلون العشاء نافلة لهم (والوقت) المختار والمستحب (مابين) وفي رواية الترمذي فيما بين (هذين الوقتين) إشارة إلى أول آن الشروع في اليوم الأول

{الفصل الثالث}

رواه أبوداود، والترمذي. {الفصل الثالث} 586- (4) عن ابن شهاب: أن عمر بن عبد العزيز أخر العصر شيئاً، ـــــــــــــــــــــــــــــ وآخر آن الفراغ في اليوم الثاني (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري (والترمذي) وقال: حديث حسن، وفي بعض النسخ حديث حسن صحيح، وصححه أيضاً ابن عبد البر، وابن العربي في شرح الترمذي (ج1:ص251، 250) وقال: رواة حديث ابن عباس هذا كلهم ثقات مشاهير، لاسيما وأصل الحديث صحيح في صلاة جبريل بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هذه الرواية تفسير مجمل، وإيضاح مشكل. وقال ابن عبد البر في التمهيد: وقد تكلم بعض الناس في حديث ابن عباس هذا بكلام لا وجه له، ورواته كلهم مشهورون بالعلم. وارجع لتفصيل الكلام عليه إلى التلخيص (ص64) والنيل (ج1:ص289) ونصب الراية (ج1:ص116) والحديث أخرجه أيضاً الشافعي وأحمد، وابن الجارود وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والدارقطني والحاكم، وفي الباب عن جابر عند أحمد والترمذي والنسائي والحاكم وأبي هريرة عند النسائي والدارقطني، وأبي سعيد عند أحمد والطبراني في الكبير. 586- قوله: (عن ابن شهاب) هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب القرشي الزهري المدني، وكنيته أبوبكر، التابعي الفقيه الحافظ متفق على جلالته وإتقانه. مات في رمضان سنة (124) روى عن ابن عمر، وسهل بن سعد، وأنس بن مالك، ومحمود بن الربيع، وسعيد بن المسيب، وأبي أمامة بن سهل، وطبقتهم من صغار الصحابة، وكبار التابعين، وروى عنه الأوزاعي، والليث، ومالك، وابن عيينة، وغيرهم. قال أبوداود: حديثه ألفان ومائتان، النصف فيها مسند. قال عمر بن عبد العزيز: لم يبق أحد أعلم بسنة ماضية من الزهري. وقال مالك: بقى ابن شهاب وما له في الدنيا نظير، وفضائله كثيرة، بسط ترجمته الحافظ في التهذيب (ج9:ص445-451) والذهبي في التذكرة (ج1:ص96-100) وابن خلكان في تاريخه (ج1:ص452، 451) (أن عمر بن عبد العزيز) بن مروان الأموي، أحد الخلفاء الراشدين، وفي رواية عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب، قال: كنا مع عمر بن عبد العزيز، فذكره، وفي رواية شعيب عن الزهري سمعت عروة يحدث عمر بن عبد العزيز الحديث (أخر العصر) وهو يومئذ أمير المدينة في زمان الوليد بن عبد الملك، وكان ذلك زمان يؤخر فيه الصلاة بنو أمية (شيئًا) أي: تأخيرا يسيراً، أو شيئاً قليلاً من الزمان، يعني أخر شيئاً حتى خرج الوقت المستحب لا أنه أخرها حتى غربت الشمس، وفي رواية للبخاري: أخر الصلاة يوماً، وفي رواية عبد الرزاق: مرة، وظاهر السياقين أنه فعل ذلك يوماً ما لا أن ذلك كان عادة له، وإن كان أهل بيته معروفين بذلك، وفي رواية أبي داود: وكان قاعداً على المنبر فأخر

فقال: له عروة: أما إن جبرئيل قد نزل فصلى أمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له عمر: اعلم ما تقول يا عروة! فقال: سمعت بشير بن أبي مسعود، يقول: سمعت أبا مسعود، يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: نزل جبرئيل فأمنى، فصليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ـــــــــــــــــــــــــــــ العصر شيئاً، وفيها إشارة إلى سبب تأخيره وهو اشتغاله بشيء من مصالح المسلمين (فقال له عروة) أي: ابن الزبير (أما) بالتخفيف حرف استفتاح بمنزلة ألا (قد نزل) صبيحة ليلة الإسراء (فصلى أمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال السيوطي: لا إشكال في فتح همزة "أمام" بل في كسرها لأن إضافة أمام معرفة والموضع موضع الحال فيوجب جعله نكرة بالتأويل كغيره من المعارف الواقعة أحوالاً كأرسلها العراك، وقال السندهي: بكسر الهمزة، وهو حال لكون إضافته لفظيه نظراً إلى المعنى، أو بفتح الهمزة، وهو ظرف، والمعنى يميل إلى الأول، قلت: ويؤيده قوله في الحديث: فأمنى، ومقصود عروة بذلك أن أمر الأوقات عظيم قد نزل لتحديدها جبرئيل، فعلمها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالفعل، فلا ينبغي التقصير في مثله (اعلم) أم رمن العلم أي: كن حافظاً ضابطاً له، ولا تقله عن غفلة، أو من الإعلام أي: بين لي حاله وإسنادك فيه (ما تقول يا عروة) الظاهر أنه استبعاد لإخبار عروة بنزول جبرئيل بدون الإسناد، فكأنه غلط عليه بذلك مع عظيم جلالته إشارة إلى مزيد الاحتياط في الرواية لئلا يقع في محظور الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن لم يتعمد، وزاد في رواية للبخاري وغيره: أو أن جبرئيل هو الذي قام لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقت الصلاة (فقال) أي: عروة (سمعت بشير بن أبي مسعود) عقبة بن عمرو الأنصاري، ذكره ابن مندة في الصحابة، وجزم ابن عبد البر بأنه ولد على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجزم البخاري، والعجلى، ومسلم، وأبوحاتم الرازي بأنه تابعي، وذكره ابن حبان في الثقات في التابعين، وذكره الحافظ في القسم الثاني من حرف الباء في ذكر من له رؤية من الإصابة (ج1:ص168) (سمعت أبا مسعود) تقدم ذكره (يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: نزل جبرئيل فأمنى، فصليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه) قال: الطيبي: معنى إيراد عروة الحديث أنى كيف لا أدرى ما أقول وأنا صحبت وسمعت ممن صحب وسمع ممن صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسمع منه هذا الحديث، فعرفت كيفية الصلاة وأوقاتها وأركانها – انتهى. قال القرطبي: قول عروة: أن جبرئيل نزل، ليس فيه حجة واضحة على عمر بن عبد العزيز، إذ لم يبين له الأوقات، قال: وغاية ما يتوهم عليه أنه نبهه وذكره بما كان يعرفه من تفاصيل الأوقات، قال: وفيه بعد لإنكار عمر على عروة حيث قال: له: اعلم ما تحدث يا عروة. قال: وظاهر هذا الإنكار أنه لم يكن عنده علم من إمامة جبرئيل. قال الحافظ في الفتح: لا يلزم من كونه لم يكن عنده علم منها أن لا يكون عنده علم بتفاصيل الأوقات المذكورة من جهة العمل المستمر،

يحسب بأصابعه خمس صلوات)) متفق عليه. 587- (5) وعن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أنه كتب إلى عماله أن أهم أموركم عندي الصلاة، من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع. ـــــــــــــــــــــــــــــ لكن لم يكن يعرف أن أصله بتبيين جبرئيل بالفعل، فلهذا استثبت فيه، وكان يرى أن لا مفاضلة بين أجزاء الوقت الواحد. قال: وورد في هذه القصة بيان أبي مسعود للأوقات، وفي ذلك ما يرفع الأشكال، ويوضح توجيه احتجاج عروة به، فروى أبوداود والدارقطني وابن خزيمة والطبراني، عن أسامة زيد، عن الزهري هذا الحديث، وزاد في آخره: قال أبومسعود: فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الظهر حين تزول الشمس، فذكر الحديث، ويعضد رواية أسامة ويزيد عليها أن البيان من فعل جبرئيل، ما رواه الباغندي في مسند عمر بن عبد العزيز والبيهقي في السنن الكبرى من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري، عن أبي بكر بن حزم، عن عروة، فرجع الحديث إلى عروة ووضح أن له أصلا وأن في رواية مالك ومن تابعه اختصارا، وبذلك جزم ابن عبد البر- انتهى كلام الحافظ بتلخيص وزيادة يسيرة. قلت: رواية الطبراني ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد (ج1:ص306، 305) وقال بعد إيرادها: في الصحيح أصله من غير بيان لأول الوقت وآخره، وفي رواية الطبراني هذه (وكذا في رواية الدارقطني) أيوب بن عتبة، ضعفه ابن المديني، ومسلم، وجماعة، ووثقه عمرو بن علي في رواية، وكذلك يحيى بن معين في رواية وضعفه في روايات، والأكثر على تضعيفه انتهى (يحسب) بضم السين مع التحتانية من الحساب، والظاهر أن فاعله النبي - صلى الله عليه وسلم - أي: يقول ذلك حال كونه يحسب تلك المرات بعقد أصابعه (بأصابعه خمس صلوات) كل واحدة منها مرتين تحديداً لأوائل الأوقات وأواخرها، وهو بالنصب مفعول يحسب أو صليت (متفق عليه) أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة وبدء الخلق والمغازي، ومسلم في الصلاة، وأخرجه أيضاً مالك وأحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم. 587- قوله: (عماله) جمع عامل أي: أمراءه (أن) بفتح الهمزة وكسرها (أهم أموركم) وفي المؤطا أهم أمركم أي: بالإفراد (عندي) أي: في اعتقادي (من حفظها) بأن أدى بشرائطها وأركانها (وحافظ عليها) أي: سارع إلى فعلها في وقتها، أو داوم عليها، أو لم يبطلها بالرياء والسمعة (حفظ دينه) أي: حفظ معظم دينه وعماده كقوله: الحج عرفة، أو حفظ بقية أمور دينه، فإن المواظبة عليها يستدل بها على صلاح المرء. وقال الطيبي: المحافظة على الصلاة أن لا يسهو عنها ويؤديها في أوقاتها ويتم أركانها وركوعها وسجودها ويؤكد نفسه بالاهتمام بها والتكرير بمعنى الاستقامة والدوام (ومن ضيعها) أي: ذالصلاة بأن أخرها أو ترك بعض ما يجب فيها فضلاً عن تركها رأساً (فهو لما سواها) من بقية أمور الدين (أضيع) أي: أكثر تضييعاً وهو أفعل التفضيل من التضييع على ما روى عن سببويه، ويحتمل أن يكون اللام بمعنى في يعني أنه

ثم كتب أن صلوا الظهر أن كان الفيء ذراعاً، إلى أن يكون ظل أحدكم مثله، والعصر والشمس مرتفعة بيضاء قدر ما يسير الراكب فرسخين أو ثلاثة قبل مغيب الشمس، والمغرب إذا غابت الشمس، والعشاء إذا غاب الشفق إلى ثلث الليل، فمن نام فلا نامت عينه، فمن نام فلا نامت عينه، فمن نام فلا نامت عينه، والصبح والنجوم بادية مشتبكة)) ـــــــــــــــــــــــــــــ ضائع في تركه الصلاة وأنه أضيع في غيره، والمعنى أنه إذا علم أنه مضيع للصلاة ظن به التضييع لسائر العبادات التي تخفى، أو يقال: إنه إذا ضيع الصلاة فقد ضيع سائر العبادات وإن عملها، لما روى: أن أول ما ينظر فيه من عمل العبد الصلاة، فإن قبلت منه نظر فيما بقي من عمله، وإن لم تقبل منه لم ينظر في شيء من عمله، قاله الباجي (ثم كتب) أي: عمر إليهم بعد التنبيه المذكور (أن) أي: بأن (صلوا الظهر أن كان الفئ ذراعاً) أن مصدرية والوقت مقدر أي: وقت كون الفئ قدر ذراع، وهو مختص بمحل يكون كذلك، فإن مقدار الفئ يختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة. وفيه دليل على تعجيل صلاة الظهر (إلى أن يكون) أي: يستمر وقتها إلى أن يصير (ظل أحكم مثله) أي: سوى فئ الزوال (والعصر) بالنصب عطف على الظهر (والشمس مرتفعة) الجملة حالية (قدر ما يسير الراكب) ظرف لقوله: مرتفعة، أي: ارتفاعها قدر أن يسير الراكب (فرسخين) للبطئ (أو ثلاثة) أي: ثلاثة فراسخ للسريع، وقيل فرسخين في الشتاء، وثلاثة في القيظ، فأو للتنويع، وقيل للشك من الراوي. ووقع في كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري عند مالك: ثلاثة فراسخ. على سبيل الجزم. والفرسخ ثلاثة أميال، واختلفوا في تحديد الميل. وفيه دليل على أن وقت العصر يدخل قبل أن يصير ظل الشيء مثليه، لأن هذا السير لا يمكن إلا إذا صلى العصر قبل المثلين بل على المثل متصلا (قبل مغيب الشمس) وفي المؤطا: قبل غروب الشمس (إذا غاب الشفق) الأحمر (إلى ثلث الليل) أي: ويستمر إلى ثلث الليل (فمن نام) أي: قبل العشاء كما في رواية البزار، ورويت هذه الجملة في مسند البزار عن عائشة مرفوعا، قاله السيوطي (فلا نامت عينه) دعاء بنفي الاستراحة على من ينام عن صلاة العشاء، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يكره النوم قبلها، وكرره ثلاثاً زيادة في التغليظ والتنفير عنه، وفيه كراهة النوم قبل العشاء، ولا يختص ذلك بالعشاء بل يدخل في معناها بقية الصلوات. قال: ابن حجر: هو محمول عندنا على تفصيل، وهو أنه تارة ينام قبل الوقت، وتارة بعد دخوله، ففي الثاني إن علم أو ظن أن نومه يستغرق الوقت لم يجز له النوم إلا أن وثق من غيره أنه يوقظه بحيث يدرك الصلاة كاملة في الوقت، وكذا في الأول عند جماعات من أصحابنا. وقال: آخرون لا حرمة فيه مطلقاً لأنه قبل الوقت لم يكلف بها بعد- انتهى (بادية) أي: ظاهرة من البدو وهو الظهور (مشتبكة) قال الجزري: اشتبكت النجوم أي: ظهرت واختلط بعضها ببعض لكثرة ما

(2) باب تعجيل الصلاة

رواه مالك. 588- (6) وعن ابن مسعود، قال: ((كان قدر صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر في الصيف ثلاثة أقدام إلى خمسة أقدام، وفي الشتاء خمسة أقدام إلى سبعة أقدام)) رواه أبوداود والنسائي. (2) باب تعجيل الصلاة ـــــــــــــــــــــــــــــ ظهر منها (رواه مالك) في أوائل المؤطا عن نافع مولى عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب كتب، الخ. وهو منقطع لأن نافعا لم يلق عمر. 588- قوله: (كان قدر صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) بالجر على البدلية من الصلاة، وبالنصب بتقدير أعني (ثلاثة أقدام) أي: من الفيء (إلى خمسة أقدام) الخ. قال السندي: أي: قدر تأخير الصلاة عن الزوال ما يظهر فيه قدر ثلاثة أقدام للظل، أي: يصير ظل كل شيء ثلاثة أقدام من أقدامه فيعتبر قدم كل إنسان بالنظر إلى ظله. والمراد أن يبلغ مجموع الظل الأصلي والزائد هذا المبلغ، لا أن يصير الزائد هذا القدر ويعتبر الأصلي سوى ذلك، فهذا قد يكون لزيادة الظل الأصلي كما في أيام الشتاء، وقد يكون لزيادة الظل الزائد بسبب التبريد كما في أيام الصيف – انتهى. وقال: الخطابي: هذا أمر يختلف في الأقاليم والبلدان، ولا يستوي في جميع المدن والأمصار، وذلك أن العلة في طول الظل وقصره هو زيادة ارتفاع الشمس في السماء وانحطاطها، فكلما كانت أعلى وإلى محاذاة الرؤس في مجراها أقرب، كان الظل أقصر، وكلما كانت أخفض ومن محاذاة الرؤس أبعد، كان الظل أطول، ولذلك ظلال الشتاء تراها أبدا أطول من ظلال الصيف في كل مكان وكانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة والمدينة وهما من الإقليم الثاني. ويذكرون أن الظل فيهما في أول الصيف في شهر آذار – هو الشهر الثالث من السنة الشمسية أعنى مارس – ثلاثة أقدام وشيء. ويشبه أن تكون صلاته عليه السلام إذا اشتد الحر متأخرة عن الوقت المعهود قبله، فيكون الظل عند ذلك خمسة أقدام، وأما الظل في الشتاء فإنهم يذكرون أنه في تشرين الأول – هو الشهر العاشر من السنة الشمسية أعنى أكتوبر – خمسة أقدام أو خمسة أقدام وشيء، وفي كانون – أي: الأول وهو الشهر الثاني عشر من السنة الشمسية أعنى ديسمبر، وكانون الثاني وهو الشهر الأول أعنى يناير – سبعة أقدام أو سبعة أقدام وشيء، فقول ابن مسعود ينزل على هذا التقدير في ذلك الإقليم دون سائر الأقاليم والبلدان التي هي خارجة عن الإقليم الثاني – انتهى. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري (والنسائي) واللفظ له، وأخرجه أيضاً الحاكم. (باب تعجيل الصلاة) المراد بها جنس الصلاة المكتوبة، وفي بعض النسخ الصلوات، بلفظ الجمع يعني أن الأصل في الصلاة تعجيلها، والمبادرة إليها، وأداءها في أول الوقت، لقوله تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم} [133:4] .

{الفصل الأول}

{الفصل الأول} 589- (1) عن سيار بن سلامة، قال: ((دخلت أنا وأبي على أبي برزة الأسلمي، فقال له أبي: كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلى المكتوبة؟ فقال: كان يصلي الهجير التي تدعونها الأولى حين تدحض الشمس، ويصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية، ـــــــــــــــــــــــــــــ ولقوله تعالى: {فاستبقوا الخيرات} [148:2] إلا ما خصه الشارع لحكمة اقتضت تأخيرها كصلاة العشاء والظهر في شدة الحر. 589- قوله: (عن سيار) بفتح سين وتشديد تحتية (بن سلامة) بفتح السين وتخفيف لام، الرياحي، يكنى أبا المنهال البصري، من ثقات التابعين، روى عن أبي برزة الأسلمي وغيره، مات سنة (129) (دخلت أنا وأبي) أي: سلامة، قال: الحافظ: لم أقف على من ترجمة (على أبي برزة) بفتح موحدة وسكون راء (الأسلمي) بفتح الهمزة، وسكون اللام نسبة إلى أسلم بن أفصى، واسم أبي برزة نقلة – بنون مفتوحة ومعجمة ساكنة – ابن عبيد، صحابي مشهور بكنيته، أسلم قبل الفتح وغزا سبع غزوات، ثم نزل البصرة، وغزا خراسان، ومات بها سنة (65) على الصحيح، له ستة وأربعون حديثاً اتفقا على حديثين وانفرد البخاري بحديثين ومسلم بأربعة (يصلي المكتوبة) أي: الصلوات المفروضة باعتبار أوقاتها (كان يصلي الهجير) أي: صلاة الهجير، والهجير-بفتح الهاء وتخفيف الجيم- والهاجرة بمعنى، وهو وقت شدة الحر، وسميت بذلك الظهر لأن وقتها يدخل حينئذ (التي تدعونها) أي: تسمونها وأنث الموصول والضمير لكون الصلاة مرادة أو أنثهما لأن الهجير بمعنى الهاجرة، أو التقدير صلاة الهجير (الأولى) لأنها أول صلاة ظهرت وصليت، أو لأنها أول صلاة النهار العرفي (حين تدحض الشمس) أي: تزول عن وسط السماء إلى جهة المغرب، مأخوذ من الدحض وهو الزلق، وفي رواية لمسلم: حين تزول الشمس، وهي تفسير لقوله: تدحض، ومقتضي ذلك أنه كان يصلي الظهر في أول وقتها ولا يخالف ذلك الأمر بالإبراد، لاحتمال أن يكون ذلك في البرد، أو قبل الأمر بالإبراد، أو عند فقد شروط الإبراد لأنه يختص بشدة الحر، أو لبيان الجواز، قاله الحافظ (إلى رحله) أي: منزله ومسكنه ومحل أثاثه (في أقصى المدينة) حال من رحله، أو صفة له، وليس بظرف للفعل، أي: الكائن في أبعد المدينة وآخرها (والشمس حية) أي: بيضاء نقية قوية الأثر حرارة ولونا وإنارة وشعاعاً، والجملة حالية أي: حال كون الشمس صافية اللون عن التغيير والاصفرار، فإن كل شيء ضعفت قوته فكأنه قد مات. وقال العيني: حياة الشمس عبارة عن بقاء حرها لم يفتر، وبقاء لونها لم يتغير، وإنما يدخلها التغيير بدنو المغيب، كأنه جعل مغيبها موتاً لها – انتهى. والحديث يدل على المبادرة بصلاة العصر في أول وقتها، وأن وقتها يدخل بمصيره ظل كل شيء مثله، لأنه لا يكون أن يذهب بعد صلاة العصر إلى منزله

ونسيت ما قال: في المغرب، وكان يستحب أن يؤخر العشاء التي تدعونها العتمة، وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها، وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه، ويقرأ بالستين إلى المائة. وفي رواية: ولا يبالي بتأخير العشاء إلى ثلث الليل، ولا يحب النوم قبلها والحديث بعدها. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ في أبعد المدينة والشمس بيضاء نقية بعد مصير الظل مثلي الشيء (ونسيت ما قال) أي: أبو برزة (في المغرب) قائل ذلك هو سيار بينه أحمد في روايته (وكان) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو عطف على "كان يصلي" (يستحب) بفتح الياء وكسر الحاء (أن يؤخر) على بناء المعلوم أو المجهول (العشاء) إلى ثلث الليل كما سيأتي (التي تدعونها العتمة) بفتحات، هي الظلمة التي بعد غيبوبة الشفق، وفيه إشارة إلى ترك تسميتها (وكان يكره النوم قبلها) لما فيه من التعريض لصلاة العشاء على الفوات (والحديث) أي: التحادث مع الناس بكلام الدنيا (بعدها) لما فيه من تعريض قيام الليل بل صلاة الفجر على الفوات عادة ولينام عقب تكفير الخطيئة بالصلاة فيكون ختم عمله على عبادة كفرت خطاياه، وقد ورد الكلام بعدها في العلم وغيره من أمور المسلمين ومصالحهم مما لا يخل، ولذلك حمل هذا الحديث على ما لا يكون من الخير، وخص منه أيضاً المسافر والمصلي لما روى أحمد وأبو يعلى والطبراني في الكبير والأوسط عن ابن مسعود مرفوعاً: لا سمر بعد الصلاة يعني العشاء الآخرة إلا لأحد رجلين مصل أو مسافر، ولما روى أيضاً في الأحكام عن عائشة مرفوعاً: لا سمر إلا لثلاثة: مصل، أو مسافر أو عروس (وكان ينفتل) أي: ينصرف أو يلتفت إلى المأمومين (من صلاة الغداة) أي: الصبح (حين يعرف الرجل جليسه) أي: الذي بجنبه، وإذا كان هذا وقت الفراغ فيكون الشروع بغلس، ففيه دليل على استحباب التعجيل بصلاة الصبح، لأن ابتداء معرفة الإنسان وجه جليسه يكون في أواخر الغلس، وقد صرح بأن ذلك كان عند فراغ الصلاة، ومن المعلوم من عادته - صلى الله عليه وسلم - ترتيل القراءة، وتعديل الأركان، فمقتضى ذلك أنه كان يدخل فيها مغلساً، ولا يخالف ذلك حديث عائشة الآتي حيث قالت: ما يعرفن من الغلس، لأن الفرق بينهما ظاهر، وهو أن حديث أبي برزة متعلق بمعرفة من هو مسفر جالس إلى جنب المصلي، فهو ممكن، وحديث عائشة متعلق بمن هو متلفف مع أنه على بعد فهو بعيد، قاله الحافظ (ويقرأ) أي: في الصبح (بالستين) أي: آية يعني أنه كان يقرأ بهذا القدر من الآيات، وربما يزيد (إلى المائة) من الآية، وقدرها في رواية للطبراني بسورة الحاقة ونحوها، قال العيني: قوله: يقرأ بالستين إلى المائة. يدل على أنه كان يشرع في الغلس، ويمدها بالقراءة إلى وقت الأسفار، وإليه ذهب الطحاوي (وفي رواية) للشيخين (ولا يبالي) بل يستحب، وهو من المبالاة بمعنى الاكتراث بالشيء (ولا يحب النوم قبلها) بل يكرهه (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب وقت العصر وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه، وأخرج الترمذي طرفاً منه.

590- (2) وعن محمد بن عمرو بن الحسن بن على، قال: ((سألنا جابر بن عبد الله عن صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: كان يصلي الظهر بالهاجرة، والعصر والشمس حية، والمغرب إذا وجبت، والعشاء إذا كثر الناس عجل، وإذا قلوا أخر، والصبح بغلس)) . متفق عليه. 591- (3) وعن أنس، قال: ((كنا إذا صلينا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - بالظهائر، سجدنا على ثيابنا إتقاء الحر)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 590- قوله: (وعن محمد بن عمرو بن الحسن بن على) بن أبي طالب الهاشمي أبوعبد الله المدني، أمه رملة بنت عقيل ابن أبي طالب من ثقات لتابعين (عن صلاة النبي) أي: عن أوقات صلاته (بالهاجرة) هي شدة الحر نصف النهار عقب الزوال، سميت بذلك من الهجر وهو الترك لأن الناس يتركون التصرف حينئذ لشدة الحر، أو لأنهم يستكنون في بيوتهم كأنهم قد تهاجروا. قال القسطلاني: قوله: كان يصلي الظهر بالهاجرة، أي: إلا أن يحتاج إلى الإبراد لشدة الحر- انتهى. وتعقب بأنه لو كان ذلك مراده لفصل كما فصل في العشاء. وقال السندي: لعل المطلوب أنه كان يصلي الظهر في أول وقتها أي: لا يؤخرها تأخيراً كثيراً فلا ينافي الإبراد. ولعل تخصيص أيام الحر لبيان أن الحر لا يمنعه من أول الوقت فكيف إذا لم يكن هناك حر (إذا وجبت) المراد بوجوب الشمس أي: سقوطها وغيبوبة جميعها (إذا كثر الناس عجل، وإذا قلوا أخر) قال الطيبي: الجملتان الشرطيتان في محل النصب حالان من الفاعل أي: يصلي العشاء معجلاً إذا كثر الناس، ومؤخرا إذا قلوا، أو يحتمل أن يكونا من المفعول والراجح مقدر أي: عجلها أو أخرها- انتهى. والتقدير معجلة ومؤخرة، وفي رواية إذا رآهم اجتمعوا عجل وإذا رآهم أبطؤا أخر. والحديث فيه مشروعية ملاحظة أحوال المؤتمين، والمبادرة بالصلاة مع اجتماع المصلين لأن انتظارهم بعد الاجتماع ربما كان سبب لتأذى بعضهم وأما الانتظار قبل الاجتماع فلا بأس به لهذا الحديث, ولأنه من باب المعاونة على البر والتقوى. قال الشوكاني: الحديث يدل على استحباب تأخير صلاة العشاء لكن مقيداً بعدم اجتماع المصلين (والصبح بغلس) ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب "وقت العشاء إذا اجتمع الناس أو تأخروا" وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي. 591- قوله: (بالظهائر) الباء زائدة، وهي جمع ظهيرة، وهي الهاجرة أي: شدة الحر من نصف النهار عقب الزوال، ولا يقال: في الشتاء ظهير، والمراد بها صلاة الظهر، وجمعها بالنظر إلى تعدد الأيام (على ثيابنا) الظاهر أنها الثياب التي هم لابسوها، ضرورة أن الثياب في ذلك الوقت قليلة، فمن أين لهم ثياب فاضلة؟ فهذا يدل على جواز أن يسجد المصلي على ثوب هو لابسه، كما عليه الجمهور، ومن لم يجوز يحمله على الثياب المنفصلة عن البدن، أو التي لا تتحرك بحركة المصلي، وهو تأويل لا تساعده الروايات، ولا النظر في الواقع (إتقاء الحر) بالنصب على أنه مفعول له أي: لأجل اتقاء الحر. وفي الحديث جواز استعمال الثياب، وكذا غيرها في الحيلولة بين المصلي وبين الأرض لاتقاء حرها وكذا

متفق عليه، ولفظه للبخاري. 592- (4) وعن أبي هريرة، قال: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة)) . 593- (5) وفي رواية للبخاري عن أبي سعيد، بالظهر، فإن شدة الحر من فيح جهنم، ـــــــــــــــــــــــــــــ بردها. وفيه تقديم الظهر في أول الوقت، وظاهر الأحاديث الواردة في الأمر بالإبراد يعارضه، فمن قال: الإبراد رخصة فلا إشكال. ومن قال: سنة فإما أن يقول التقديم المذكور رخصة، وإما أن يقول منسوخ بالأمر بالإبراد كحديث المغيرة بن شعبة: كنا نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الظهر بالهاجرة، فقال لنا: أبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم. أخرجه ابن ماجه وغيره، وصححه أبوحاتم وأحمد. وأحسن منهما أن يقال: إن شدة الحر قد توجد مع الإبراد فيحتاج إلى السجود على الثوب، أو إلى تبريد الحصى، لأنه قد يستمر حره بعد الإبراد، ويكون فائدة الإبراد وجود طل يمشي فيه إلى المسجد، أو يصلي فيه في المسجد، كذا في الفتح (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه (ولفظه للبخاري) في باب وقت الظهر عند الزوال. 592- قوله: (فأبردوا) من الإبراد وهو الدخول في البرد، يقال: أبرد إذا دخل في البرد كأظهر إذا دخل في الظهيرة (بالصلاة) أي: بصلاة الظهر، والباء للتعدية أي: أدخلوها في البرد، وأخروها عن شدة الحر في أول الزوال، وقيل: الباء زائدة وأبرد متعد بنفسه، ومعنى" أبردوا أخروا على سبيل التضمين أي: أخروا الصلاة إلى أن يبرد الوقت وينكسر الوهج، والأمر للندب والقرينة الصارفة أن العلة فيه دفع المشقة عن المصلي لشدة الحر فصار من باب الشفقة والنفع. 593- قوله: (بالظهر) أي: بدل بالصلاة (فإن شدة الحر من فيح جهنم) بفتح فاء وسكون ياء ثم حاء مهملة أي: من سطوع حرها، وسعة انتشارها، وتنفسها. ومنه مكان أفيح أي: متسع، وأرض فيحاء أي: واسعة، وهذا كناية عن شدة استعارها، وظاهره أن مثار وهج الحر في الأرض من فيح جهنم حقيقية، وقيل بل هو على وجه التشبيه والاستعارة، وتقديره أن شدة الحر تشبه نار جهنم فاحذروه، واجتنبوا ضرره، والأول أولى، ويؤيده قوله: اشتكت النار إلى ربها فأذن لها بنفسين. قال النووي: هو الصواب، لأنه ظاهر الحديث ولا مانع من حمله على حقيقته، فوجب الحكم بأنه على ظاهره. واستبعد هذا بل استشكل لأن اشتداد الحر في الأرض تابع لقرب الشمس وبعدها كما هو المشاهد المحسوس. وأجيب بأنه يمكن أن يكون الشمس بحيث أن جعل الله تعالى بين مادة جرمها وبين جهنم ارتباطاً وعلاقة ومناسبة تقبل بها الشمس حرارة نار جهنم حتى تكون حرارة الشمس سبباً لاشتداد الحر في الأرض في الظاهر، وحينئذ فلا استبعاد في نسبة اشتداد الحر في البلاد إلى فيح جهنم لأنه هو السبب الأصلي الباطني الغيبي لذلك، والله تعالى أعلم. والفاء في "فإن " لتعليل الإبراد أي: وعند شدته يذهب الخشوع الذي هو روح الصلاة وأعظم المطلوب منها. قيل وإذا كان العلة ذلك

واشتكت النار إلى ربها فقالت: رب! أكل بعضي بعضا. فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف، أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلا يشرع الإبراد في البلاد الباردة. واختلفوا في حد الإبراد ولم يرد في تحديده إلا ما تقدم من حديث ابن مسعود: كان قدر صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر في الصيف، الخ. وما روى من حديث أبي ذر عند الشيخين فإن فيه: فقال له: أبرد حتى رأينا فئ التلول - الحديث. فهذه الغاية متعلقة بأبرد أي: قال له: أبرد إلى أن ترى، أو متعلقة بمقدر أي: قال له: أبرد فأبرد إلى أن رأينا، والفيء هو ما بعد الزوال من الظل، ومعنى الحديث أنه أخر تأخيراً كثيرا حتى صار للتلول فيء، وهي في الغالب منبطحة غير شاخصة لا يصير لها فئ في العادة إلا بعد زوال الشمس بكثير فيستنبط منه حد الإبراد وهو أن يؤخر بحيث يصير للجدر ظلال يمشون فيها، والله أعلم (واشتكت) جملة مبنية للأولى وإن دخلت الواو بين المبين والمبين كما في قوله تعالى: {وإن من الحجارة لما يتفجر} [74:2] (النار إلى ربها) شكاية حقيقية بلسان المقال بحياة وإدراك خلقهما الله تعالى فيها، وقيل: مجازية عرفية بلسان الحال. قال ابن عبد البر: لكلا القولين وجه ونظائر والأول أرجح، وقال عياض: إنه الأظهر، والله قادر على خلق الحياة بجزء منها حتى تكلم أو يخلق لها كلاما يسمعه من شاء من خلقه. وقال القرطبي: لا إحالة في حمل اللفظ على حقيقيته، وإذ أخبر الصادق بأمر جائز لم يحتج إلى تأويله، فحمله على حقيقته أولى. وقال النووي نحو ذلك، ثم قال: حمله على حقيقته هو الصواب، وقال: نحو ذلك التور بشتي، ورجح البيضاوي حمله على المجاز فقال: شكواها مجاز عن غليانها، وأكلها بعضها بعضاً مجاز عن ازدحام أجزاءها بحيث يضيق مكانها عنها فيسعى كل جزء في إفناء الجزء الآخر والاستيلاء على مكانه، وتنفسها مجاز عن لهبها وخروج ما يبرز منها. وقال الزين بن المنير: المختار حمله على الحقيقة لصلاحية القدرة لذلك، ولأن استعارة الكلام للحال وإن عهدت وسمعت لكن الشكوى وتفسيرها والتعليل له والإذن، والقبول، والتنفس، وقصره على اثنين فقط. بعيد من المجاز خارج عما ألف من استعماله (فأذن لها بنفسين) تثنية نفس وهو ما يخرج من الجوف ويدخل فيه من الهواء (نفس) بالجر على البدل أو البيان، ويجوز الرفع بتقدير أحدهما (أشد ما تجدون من الحر) برفع أشد على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: ذلك أشد ما تجدون، أو مبتدأ خبر محذوف أي: أشد ما تجدون من الحر من ذلك النفس، ويجوز الجر على البدل من النفس المجرور، والنصب بتقدير أعنى، وعلى كل تقدير فما إما موصولة أو موصوفة، ومن الحر ومن الزمهرير بيان (وأشد ما تجدون من الزمهرير) أي: شدة البرد ولا مانع من حصول الزمهرير من نفس النار لأن المراد بالنار محلها، وهو جهنم وفيها طبقة زمهريرية. والحديث يدل على استحباب الإبراد، ولا يعارض ذلك الأحاديث الواردة بتعجيل الظهر وأفضلية أول الوقت لأنها عامة أو مطلقة، وحديث الإبراد خاص أو مقيد، ولا تعارض بين عام وخاص ولا بين مطلق ومقيد، وأما حديث خباب عند مسلم، قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا

متفق عليه. وفي رواية للبخاري: فأشد ما تجدون من الحر فمن سمومها، وأشد ما تجدون من البرد فمن زمهريرها. 594- (6) وعن أنس، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي العصر، والشمس مرتفعة حية، فيذهب الذاهب إلى العوالي، فيأتيهم والشمس مرتفعة، وبعض العوالي من المدينة على أربعة أميال أو نحوه)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلم يشكنا. أي: لم يعذرنا ولم يزال شكوانا، فمحمول على أنهم طلبواً تأخيراً زائداً على قدر الإبراد، لأن الإبراد أن يؤخر بحيث يصير للحيطان فئ يمشون فيه، ويتناقص الحر، والتأخير الزائد عنه أن يزول حر الرمضاء، وذلك قد يستلزم خروج الوقت فلذلك لم يجبهم (متفق عليه) للحديث طرفان أما طرفه الأول وهو طرف الإبراد فأخرجه أيضاً مالك وأحمد والترمذي في صفة جهنم، وابن ماجه في الزهد. قال العيني والقسطلاني: وأخرجه النسائي في الصلاة (وفي رواية للبخاري فأشد ما تجدون من الحر) الخ. لم أجد هذه الرواية في البخاري، نعم رواها مسلم والترمذي وابن ماجه بنحوها (فمن سمومها) بفتح السين المهملة، الريح الحارة (فمن زمهريرها) أي: من أثر طبقتها الباردة. 594- قوله: (والشمس مرتفعة حية) أي: صافية اللون عن التغير والاصفرار (فيذهب الذاهب) أي: بعد صلاة العصر (إلى العوالي) جمع عالية وهي قري مجتمعة حول المدينة أبعدها على ثمانية أميال كما جزم به عياض وابن عبد البر وغير واحد، وآخرهم صاحب النهاية، وأقربها من المدينة على ميلين وبعضها على ثلاثة أميال (فيأتيهم) أي: فيصل إلى أهل العوالي (والشمس مرتفعة) أي: دون ذلك الارتفاع لكنها لم تصل إلى الحد الذي توصف به لأنها منخفضة. وفي ذلك دليل على تعجيله - صلى الله عليه وسلم - لصلاة العصر لوصف الشمس بالارتفاع بعد أن تمضي مسافة أربعة أميال (وبعض العوالي) أي: بين العوالى والمدينة المسافة المذكورة (أو نحوه) أي: نحو هذا المقدار أي: قريب من أربعة أميال، وظاهر إيراد المصنف يقتضى أن هذا من كلام أنس، وليس كذلك بل هو مدرج من كلام الزهري الراوي عن أنس في الحديث، بينه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في هذا الحديث فقال: فيه بعد قوله: والشمس حية: قال الزهري: والعوالي من المدينة على ميلين أو ثلاثة، فهذا اختصار مخل موهم لخلاف المقصود، وحق العبارة أن يقول: وعن الزهري عن أنس، ثم يقول: قال الزهري: وبعض العوالي، الخ. والحديث يدل على استحباب المبادرة بصلاة العصر أول وقتها لأنه لا يمكن أن يذهب بعد صلاة العصر ميلين وثلاثة والشمس لم تتغير بصفرة ونحوها إلا إذا صلى العصر حين صار ظل الشيء مثله. قال النووي: ولا يكاد يحصل هذا إلا في الأيام الطويلة وهو دليل للجمهور القائلين بأن أول وقت العصر إذا صار ظل كل

متفق عليه 595- (7) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تلك صلاة المنافق: يجلس يرقب الشمس، حتى إذا اصفرت، وكانت بين قرني الشيطان؛ قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ شيء مثله (متفق عليه) فيه نظر لأن زيادة: وبعض العوالي، الخ. من إفراد البخاري. والحديث أخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم. 595- قوله: (تلك صلاة المنافق) إشارة إلى مذكور حكماً أي: صلاة العصر التي أخرت إلى الاصفرار، قاله ابن الملك. وقال الطيبي: إشارة إلى ما في الذهن من الصلاة المخصوصة، والخبر بيان لما في الذهن. والمنافق إما محمول على حقيقته بأن يكون بياناً لصلاته، أو يكون تغليظاً، يعني من أخر صلاة العصر إلى قبيل الغروب فقد شبه بالمنافق، فإن المنافق لا يعتقد حقيقة الصلاة بل إنما يصلي لدفع السيف، ولا يبالي بالتأخير إذ لا يطلب فضيلة، ولا ثوابا والواجب على المسلم أن يخالف المنافق (يجلس يرقب الشمس) أي: ينتظر غروبها، وهي جملة استئنافية بيان للجملة السابقة. قال النووي: فيه تصريح بذم تأخير صلاة العصر بلا عذر (حتى إذا اصفرت) أي: الشمس (وكانت بين قرني الشيطان) أي: جانبي رأسه، وهو كناية عن قرب الغروب، وذلك لأن الشيطان عند الطلوع والإستواء والغروب ينتصب دون الشمس، بحيث يكون الطلوع والغروب بين قرنيه، فهو محمول على حقيقته، وكلمة إذا للشرط وقوله: (قام) أي: إلى الصلاة جزاءها والشرطية استئنافية (فنقر أربعاً) من نقر الطائر الحبة نقرأ أي: التقطها. قال الجزري: يريد تخفيف السجود، وأنه لا يمكث فيه إلا قدر وضع الغراب منقاره فيما يريد أكله- انتهى. وقال السندي: كأنه شبه كل سجدتين من سجداته من حيث أنه لا يمكن يمكث فيهما ولا بينهما بنقر طائر إذا وضع منقارة يلتقط شيئاً- انتهى. يعني إنما قال: أربعاً أي: أربع سجدات مع أن في العصر ثماني سجدات لأنه لا يمكث بينهما، فكأنه سجد أربعاً. وفيه تصريح بذم من صلى مسرعاً بحيث لا يكمل الخشوع والطمأنينة والأذكار، وقيل معنى نقرأ أربعاً أي: لقط أربع ركعات سريعاً، فالنقر عبارة عن السرعة في أداء الصلاة، وقيل عن سرعة القراءة وقلتها وقلة الذكر فيها (لا يذكر اله فيها) لعدم اعتقاده أو لخلوة الإخلاص (إلا قليلا) أي: ذكرا قليلا، وقيل: الظاهر أنه منفصل أي: لكنه في زمن قليل يذكر الله فيه بلسانه فقط. قيل: وتخصيص الأربع بالنقر وفي العصر ثمان سجدات اعتبار بالركعات (رواه مسلم) فيه نظر لأن لفظة (إذا اصفرت) ليست في رواية مسلم بل هي في رواية أبي داود، ولفظ مسلم كذا: حتى إذا كانت بين قرني الشيطان. والحديث أخرجه أيضاً أحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي.

596- (8) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله)) متفق عليه. 597- (9) وعن بريدة، قال: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 596- قوله: (الذي تفوته) أي: بغروب الشمس، قاله نافع الراوي لهذا الحديث، وقيل بفوت الوقت المختار ومجئ وقت الاصفرار، روى ذلك أبوداود عن الأوزاعي في هذا الحديث، وقيل بفوت الجماعة والإمام، والراجح هو الأول لما روى ذلك مرفوعاً عند ابن أبي شيبة، ذكره السيوطي (صلاة العصر) أي: بغير اختياره، وظاهره التغليظ على من تفوته صلاة العصر وأن ذلك مختص بها والله تعالى يختص ما شاء من الصلوات بما شاء من الفضيلة (فكأنما وتر أهله وماله) على بناء المفعول ونصب الأهل والمال أو رفعهما، قيل النصب المشهور وعليه الجمهور، وهو مبنى على أن وتر بمعنى سلب وهو يتعدى إلى مفعولين، والرفع على أنه بمعنى أخذ فيكون أهله هو نائب الفاعل، والمعنى: أخذ أهله وماله فبقى وترا فرداً بلا أهل ومال، يريد أنه فليكن على حذر من فوتها كحذره من ذهاب أهله وماله. وقيل: الوجه أن المراد أنه حصل له النقصان في الأجر في الآخرة ما لو وزن بنقص الدنيا لما وازنه إلا نقصان من نقص أهله وماله. وقال الحافظ: قوله: أهله. هو بالنصب عند الجمهور على أنه مفعول ثان لوتر، وأضمر في "وتر" مفعول ما لم يسم فاعله، وهو عائد على الذي فاته العصر، فالمعنى: أصيب بأهله وماله، وهو متعد إلى مفعولين، ومثله قوله تعالى: {ولن يتركم أعمالكم} [35:47] . وقيل: "وتر" ههنا بمعنى نقص فعلى هذا يجوز نصبه ورفعه، لأن من رد النقص إلى الرجل نصب وأضمر ما يقوم مقام الفاعل ومن رده إلى الأهل رفع-انتهى. والحديث حمله الترمذي على الساهي والناسي، وعلى هذا فالمراد بالحديث أنه يلحقه من الأسف عند معاينة الثواب لمن صلى ما يلحق من ذهب أهله وماله. وقد روى معنى ذلك عن سالم بن عبد الله بن عمر، ويؤخذ منه التنبيه على أن أسف العامد أشد لاجتماع فقد الثواب وحصول الإثم، وحمله بعضهم على العامد، والظاهر أنه محمول على الساهي، والله أعلم (متفق عليه) وأخرجه أيضاً مالك والترمذي وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي، وغيرهم. وفي الباب عن نوفل بن معاوية عند النسائي وغيره. 597- قوله (من ترك) أي: متعمداً كما في رواية لأحمد وكما في حديث أبي الدرداء عنده أيضاً (صلاة العصر) متكاسلاً (فقد حبط عمله) قال. ابن عبد البر: مفهوم قوله تعالى: {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله} [5:5] أن من لم يكفر بالإيمان لم يحبط عمله، فيتعارض مفهومه ومنطوق الحديث، فيتعين تأويل الحديث لأن الجمع إذا أمكن كان أولى من الترجيح. فقيل في تأويله أن الوعيد خرج مخرج الزجر الشديد، وظاهره غير مراد كقوله: لا يزني الزاني وهو مؤمن، وقيل: هو من مجاز التشبيه كأن المعنى فقد أشبه من حبط عمله. وقيل معناه: كاد أن يحبط. وقيل: المراد بالحبط الإبطال، أي: يبطل انتفاعه بعمله في وقت ما، ثم ينتفع به كمن رجحت سيئاته على حسناته فأنه

رواه البخاري. 598- (10) وعن رافع بن خديج، قال: ((كنا نصلي المغرب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فينصرف أحدنا وإنه ليبصر مواقع نبله)) . متفق عليه. 599- (11) وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كانوا يصلون العتمة فيما بين أن يغيب الشفق إلى ـــــــــــــــــــــــــــــ موقوف في المشيئة، فإن غفر له فمجرد الوقوف إبطال لنفع الحسنة إذ ذاك، وإن عذب ثم غفر له فكذلك. قال: معنى ذلك القاضي أبوبكر بن العربي، ومحصل ما قال: أن المراد بالحبط في الآية غير المراد بالحبط في الحديث. وقال: في شرح الترمذي ما حاصله: أن الحبط على قسمين حبط إسقاط، وهو إحباط الكفر للإيمان وجميع الحسنات، وهو إحباط حقيقي. وحبط موازنة وهو إحباط المعاصي للانتفاع بالحسنات عند رحجانها عليها إلى أن تحصل النجاة فيرجع إليه جزاء حسناته، وهو إحباط مجازي أطلق عليه الإحباط مجازاً لا حقيقة وهذا هو المراد في الحديث، وقيل في تأويله غير ذلك، قال الحافظ: أقرب هذه التأويلات قول من قال: إن ذلك خرج مخرج الزجر الشديد، وظاهره غير مراد-انتهى. وقال السندي: حبط عمله، بكسر الباء أي: بطل. قيل: أريد به تعظيم المعصية لا حقيقة اللفظ. ويكون مجاز التشبيه. قال: وهذا مبنى على أن العمل لا يحبط إلا بالكفر، لكن ظاهر قوله تعالى: {لا ترفعوا أصواتكم} الآية [2:49] ، يفيد أنه يحبط ببعض المعاصي أيضاً فيمكن أن يكون ترك العصر عمدا من جملة تلك المعاصي-انتهى (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً أحمد، والنسائي، وابن ماجه. 598- قوله: (كنا نصلي المغرب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فينصرف أحدنا) من الصلاة (وإنه) أي: والحال أن أحدنا (ليبصر) من الإبصار أي: بعد الصلاة (مواقع نبله) بفتح النون وسكون الموحدة، وهي السهام العربية لا واحد لها من لفظها. وقيل: واحدها نبلة كتمرة وتمرة يعني أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعجل بها في أول وقتها بمجرد غروب الشمس حتى ينصرف أحدنا بعد الصلاة، ويرمي السهم عن قوسه ويبصر موقعه لبقاء الضوء، ففيه دليل على المبادرة بصلاة المغرب في أول وقتها بحيث أن الفراغ منها يقع والضوء باق، وقد كثر الحث على المسارعة بها، وأما الأحاديث الواردة في تأخيرها إلى قرب سقوط الشفق فكانت لبيان جواز التأخير، قلت: والحديث يدل على أنه يقرأ فيها السور القصار إذ لا يتحقق مثل هذا إلا عند المبادرة وقراءة السور القصار، فليتأمل (متفق عليه) وأخرجه أيضاً ابن ماجه. وفي الباب عن أنس عند أبي داود، ورجل من أسلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عند النسائي، وعن ناس من الأنصار عند أحمد، قال: الحافظ: إسناده حسن. 599- قوله: (كانوا) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه (يصلون العتمة) أي: صلاة العشاء (فيما بين أن يغيب الشفق إلى

ثلث الليل الأول)) متفق عليه. 600- (12) وعنها، قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصلي الصبح، فتنصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثلث الليل الأول) بالجر صفة ثلث، وفيه بيان الوقت المرغوب المختار لصلاة العشاء لما يشعر به السياق من المواظبة على ذلك، وقد ورد بصيغة الأمر في هذا الحديث عند النسائي، ولفظه: ثم قال: صلوا فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل. وليس بين هذا وبين قوله في حديث أنس: أنه أخر الصلاة إلى نصف الليل. معارضة، لأن حديث عائشة محمول على الأغلب من عادته - صلى الله عليه وسلم -، كذا في الفتح (متفق عليه) أي: على أصل الحديث الذي اللفظ المذكور طرف منه. وإلا فالسياق المذكور من إفراد البخاري، وهو طرف من حديث اتفق الشيخان على روايته، وبين ألفاظهما اختلاف يسير والطرف الذي ذكره المصنف ليس عند مسلم بل هو من إفراد البخاري، فقول المصنف "متفق عليه" لا يخلو عن نظر. 600- قوله: (ليصلي) اللام فيه للإبتداء، وقد دخل على الخبر وهو جائز عند الكوفيين (فتنصرف النساء) أي: اللاتي يصلين معه (متلفعات) جمع مرط- بكسر ميم وسكون راء – وهو كساء معلم من خز أو صوف أو غير ذلك. وقيل هي ملحفة يؤتزر بها. قال الجزري: أي: متلففات بأكسيتهن، واللفاع ثوب يجلل به الجسد كله كساء كان أو غيره، وتلفع بالثوب إذا اشتمل به – انتهي. وقال السيوطي: التلفع هو التلفف إلا أن فيه زيادة تغطية الرأس، فكل متلفع متلفف، وليس كل متلفف متلفعاً (مايعرفن) ما نافية أي: ما يعرفن أنساء أم رجال؟ أي: لا يظهر للرائي إلا الأشباح خاصة. وقيل: لا يعرف أعيانهن فلا يفرق بين خديجة وزينب، فإن لكل امرأة هيئة غير هيئة الأخرى غالباً، ولو كان بدنها مغطى، وهذا هو الظاهر، فإن المعرفة إنما تتعلق بالأعيان، ولو كان المراد الأول لعبر بنفي العلم، ووقع في رواية للبخاري أي: في باب سرعة انصراف النساء من الصبح: لا يعرف بعضهن بعضا، وهذا كالصريح في عدم معرفة أعيانهن وأشخاصهن دون معرفة الذكر من الأنثى. قال السندي: ما يعرفن أي: حال الانصراف إلى البيت في الطريق لا في داخل المسجد كما زعمه المحقق ابن الهمام، لأن جملة "ما يعرفن" حال من فاعل تنصرف فيجب المقارنة بينهما – انتهى. قلت: فبطل ذلك تأويل من قال: من الحنفية أن المراد من الغلس غلس المسجد لأنه كان مسقفاً فما كان يظهر فيه النور إلا بطلوع الشمس. (من الغلس) أي: لأجل الظلمة لا لأجل التلفع، فمن ابتدائية أو تعليلية، وهو بفتحتين بقايا ظلام الليل يخالطها ظلام الفجر، وقال الجزري: ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح. قال الحافظ: في الحديث استحباب المبادرة بصلاة الصبح في أول الوقت، وجواز خروج النساء إلى المساجد لشهود الصلاة في الليل، ويؤخذ منه جوازه في النهار من باب الأولى. لأن الليل مظنة الريبة أكثر من النهار، ومحل ذلك إذا لم يخش عليهن أو بهن فتنة-انتهى.

متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قلت: الحديث يدل على أن التغليس أفضل من الإسفار، وبه قال مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحق. قال ابن عبد البر: صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعن أبي بكر وعمر وعثمان أنهم كانوا يغلسون، ومحال أن يتركوا الأفضل، وياتوا الدون، وهم النهاية في إتيان الفضائل. واستدل هؤلاء الأئمة على أفضلية التغليس بحديث عائشة هذا، وبحديث إبن عمر عند ابن ماجه، وبحديث أنس الآتي، وبحديث قيلة بنت مخرمة عند الطبراني وابن مندة، ذكره الحافظ في الإصابة (ج4:ص394، 391) في قصة طويلة قال ابن عبد البر: هو حديث طويل فصيح حسن، وبحديثي أبي برزة وجابر بن عبد الله المتقدمين، وبحديث أبي مسعود قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبح مرة بغلس، ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات، لم يعد إلى أن يسفر. رواه الحازمي، وأبوداود، وغيرهما، وصححه ابن خزيمة وغيره. قال الحازمي: تغليس النبي - صلى الله عليه وسلم - ثابت، وأنه دوام عليه إلى أن فارق الدنيا، ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يداوم إلا على ما هو الأفضل، وكذلك أصحابه من بعده تأسياً به - صلى الله عليه وسلم -، ثم روى بسنده حديث أبي مسعود هذا وقال بعد روايته: هذا طرف من حديث طويل في شرح الأوقات، وهو حديث ثابت مخرج في الصحيحين بدون هذه الزيادة، وهذا إسناد رواته عن آخره ثقات، والزيادة عن الثقة مقبولة. وقال المنذري في تلخيص السنن نحو هذا. وقال الخطابي: هو صحيح الإسناد. وقال ابن سيد الناس: إسناده حسن. وقال الشوكاني: رجاله في سنن أبي داود رجال الصحيح، وقد أعل بعضهم حديث أبي مسعود هذا بما قد رده شيخنا في أبكار المنن (ص71-73) وفي شرح الترمذي (ج1:ص143) فارجع إليهما. وقد خالف الحنفية أحاديث التغليس، وقالوا باستحباب الإسفار، واستدلوا لذلك بحديث رافع بن خديج الآتي: أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر، وسيأتي كلام فيه فانتظر. وأجابوا عن أحاديث التغليس بأجوبة كلها مخدوشة مردودة. فمنها أن هذه الأحاديث محمولة على الخصوصية، وفيه أن هذا مجرد دعوى لا دليل عليه بل يبطله عمل الخلفاء الراشدين من بعده. ومنها أنها منسوخة فكان التغليس في ابتداء حين كن يحضرن الجماعات، ثم لما أمرن بالقرار في البيوت انتسخ ذلك، وفيه ما في الأول مع أنه لم يثبت منعهن من المساجد بل ثبت النهي عن منعهن من المساجد كما لا يخفى. ومنها أنها محمولة على عذر الخروج إلى سفر، وفيه أنه - صلى الله عليه وسلم - قد داوم على التغليس في الحضر والسفر، ولازمه حتى فارق الدنيا، فلو كان مستحباً لما اجتمع الصحابة على الإسفار. وقد روى الطحاوي عن إبراهيم النخعي قال: ما اجتمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على شيء ما اجتمعوا على التنوير، وفيه أن دعوى إجماع الصحابة على الإسفار باطلة جداً يبطلها عمل الخلفاء الراشدين، ومن سواهم من الصحابة والتابعين بالتغليس. ومنها أنها محمولة على أطول القراءة كسورة البقرة، فيحمل على الخصوصية أيضاً لقوله - صلى الله عليه وسلم -:صل بالقوم صلاة أضعفهم، وفيه أنه قد تقدم أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي في الصبح ما بين الستين إلى المائة، وهذا لا يخالف قوله: صل بالقوم صلاة أضعفهم، فلا حاجة إلى حمل تغليسه على الخصوصية (متفق عليه) وأخرجه أيضاً مالك، وأحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم.

601- (13) وعن قتادة، عن أنس: ((أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وزيد بن ثابت تسحرا، فلما فرغا من سحورهما، قام نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الصلاة، فصلى. قلنا؛ لأنس: كم كان بين فراغهما من سحورهما ودخولهما في الصلاة.؟ قال: قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية)) رواه البخاري. 602- (14) وعن أبي ذر، قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كشف أنت إذا كانت عليك أمراء يميتون الصلاة، أو يؤخرون الصلاة عن وقتها؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ 601- قوله: (وعن قتادة) بفتح القاف، ابن دعامة – بكسر المهملة، وخفة العين – ابن قتادة السدوسي، يكنى أبا الخطاب البصري الأعمى، أحد ألأئمة الأعلام، ثقة، ثبت، حافظ مدلس، روى عن أنس، وابن المسيب، والحسن، وابن سيرين، وغيرهم. يقال: ولد أكمه. قال سعيد بن المسيب لما رأى جودة حفظه وإتقانه: ما أظن أن الله خلق مثلك. وقال أيضا: ما أتاني عراقي أحسن من قتادة. وقال ابن سيرين: قتادة أحفظ الناس. قال ابن مهدي: قتادة أحفظ من خمسين مثل حميد. وقال قتادة: ما سمعت أذناي شيئاً إلا وعاه قلبي. قيل: مات بواسط في الطاعون سنة (117) أو (118) وهو ابن (55) أو (56) أو (57) سنة بعد الحسن بسبع سنين. (تسحرا) أي أكلا السحور. (من سحورهما) بفتح السين اسم لما يتسحر به، وقيل بضمها وهو مصدر. (إلى الصلاة) أي صلاة الصبح. (فصلى) أي إماماً وهو معه. (كم كان) أي مقدار، قال ابن الملك: اشتق منه مبتدأ وخبرها الجملة أي أيّ زمان كان. (قال: قدر) بالنصب خبر لكان المقدر، أي كان ما بينهما قدر، ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الفاضلة قدر (ما يقرأ الرجل خمسين آية) فيه دليل على استحباب التغليس، وأن أول وقت الصبح طلوع الفجر؛ لأنه الوقت الذي يحرم فيه الطعام والشراب، والمدة التي بين الفراغ من السحور والدخول في الصلاة وهي قراءة الخمسين آية أو نحوها لعلها مقدار ما يتوضأ، فأشعر بذلك أن أول وقت الصبح أول ما يطلع الفجر، وفيه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يدخل فيها بغلس. (رواه البخاري) وأخرجه أيضا النسائي في الصيام. 602- قوله: (كيف أنت) أي كيف الحال والأمر بك. (إذا كانت عليك أمراء) قال الطيبي: أي ما حالك حين ترى من هو حاكم عليك متهاوناً في الصلاة يؤخرها عن أول وقتها وأنت غير قادر على مخالفته؟ إن صليت معه فاتتك فضيلة أول الوقت، وإن خالفته خفت أذاه وفاتتك فضيلة الجماعة. فسأل كيف أفعل حينئذٍ، و"عليك" خبر كان، أي كانت الأمراء مسلطين عليك قاهرين لك، وفي الحديث إخبار بالغيب، وقد وقع في زمن بني أمية فكان معجزة. (يميتون الصلاة) أي يؤخرونها ويجعلونها كالميت الذي خرجت روحه. (أو يؤخرون الصلاة) وفي بعض النسخ أو يؤخرونها، وأو للشك من الراوي. (عن وقتها) قال الطيبي: شبه إضاعة الصلاة وتأخيرها عن وقتها بجيفة ميت تنفر عنها الطباع كما شبه المحافظة عليها وأداءها في وقت اختيارها بذي حياة له نضارة وطراوة في عنفوان شبابه، ثم أخرجها مخرج

قال: قلت: فما تأمرني؟ قال: صل الصلاة لوقتها. فإن أدركتها معهم، فصل، فإنها لك نافلة)) رواه مسلم. 603- (15) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس، فقد أدرك الصبح. ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الاستعارة وجعل القرينة يميتون؛ لأنه غير لازم المشبه به. قال النووي: المراد بتأخيرها تأخيرها عن وقتها المختار؛ لأنهم لم يكونوا يؤخرونها عن جميع وقتها. قلت: ظاهر الحديث إخراج الصلاة وتأخيرها عن جميع وقتها، وعليه حمله النسائي. وقد صح أن الحجاج وأميره الوليد وغيرهما كانوا يؤخرون الصلاة عن وقتها، فينبغي أن يحمل هذا الحديث على الواقع. قال الحافظ في الفتح: قد صح أن الحجاج وأميره الوليد وغيرهما كانوا يؤخرون الصلاة عن وقتها، والآثار في ذلك مشهورة، ثم ذكرها. (فما تأمرني) أي فما الذي تأمرني أن أفعل في ذلك الوقت؟. (فإن أدركتها) بأن حضرتها. (معهم فصل فإنها) أي الصلاة التي صليت مع الأمراء. (لك نافلة) يعني صل الصلاة في أول الوقت، فإن صادفتهم بعد ذلك وقد صلوا أجزأتك صلاتك، وإن أدركت الصلاة معهم فصل معهم، وتكون هذه الثانية نافلة لك. والحديث يدل على مشروعية الصلاة لوقتها وترك الإقتداء بالأمراء إذا أخروها عن أول وقتها، وأن المؤتم يصليها منفرداً، ثم يصليها مع الإمام لئلا تتفرق الكلمة وتقع الفتنة، فيجمع بين فضيلتي أول الوقت والجماعة. وقوله: فإنها لك نافلة. صريح في أن الصلاة التي يصليها مرتين تكون الأولى فريضة، والثانية نفلاً. وفي الحديث دليل على أنه لا بأس بإعادة الصبح والعصر وسائر الصلوات؛ لأن النبي أطلق الأمر بالإعادة، ولم يفرق بين الصلاة والصلاة، فيكون مخصصاً لحديث: لا صلاة بعد العصر وبعد الفجر. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه. 603- قوله: (من أدرك ركعة) بأن أتى بها بواجباتها من الفاتحة، واستكمال الركوع والسجود، ومفهومه أن من أدرك أقل من ركعة لا يكون مدركاً للوقت، وأن صلاته تكون فضاء، وإليه ذهب الجمهور، وقيل: تكون أداء. والحديث يرده. (من الصبح) أي من صلاة الصبح. (قبل أن تطلع الشمس) أي وأضاف إليها أخرى بعد طلوعها. (فقد أدرك الصبح) أي أدرك صلاة الصبح أداء لوقوع ركعة في الوقت، فالإتيان ببعضها قبل خروج الوقت ينسحب حكمه على ما بعد خروجه فضلاً من الله، فيكون الكل أداء. وقيل: أي تمكن من إدراكها بأن يضم إلى الركعة المؤداة بقية الصلاة. وليس المراد أن الركعة تكفي عن الكل. وهذا لصاحب العذر كالرجل ينام عن الصلاة، أو ينساها فيذكر، أو يستيقظ عند طلوع الشمس وغروبها. قال النووي: وقد اتفق العلماء على أنه لا يجوز تعمد التأخير إلى هذا الوقت-انتهى.

قال الحافظ: الإدراك الوصول إلى الشيء، فظاهره أنه يكتفي بذلك، وليس ذلك مراداً بالإجماع، فقيل: يحمل على أنه أدرك الوقت، فإذا صلى ركعة أخرى فقد كملت صلاته، وهذا قول الجمهور، وقد صرح بذلك في رواية الدراوردي عن زيد بن أسلم، أخرجه البيهقي من وجهين، ولفظه: من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس، وركعة بعد ما تطلع الشمس، فقد أدرك الصلاة. وأصرح منه رواية أبي غسان محمد بن مطرف، عن زيد بن أسلم عن عطاء وهو ابن يسار، عن أبي هريرة بلفظ: من صلى ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، ثم صلى ما بقي بعد غروب الشمس فلم يفته العصر. وقال مثل ذلك في الصبح، وفي رواية للبخاري يعني التي بعد هذا الحديث: فليتم صلاته، وللنسائي من وجه آخر: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة كلها إلا أنه يقضي ما فاته. وللبيهقي من وجه آخر: من أدرك ركعة من الصبح فليصل إليها أخرى. ويؤخذ من هذا الرد على الطحاوي حيث خص الإدراك باحتلام الصبي، وطهر الحائض وإسلام الكافر، ونحوها، وأراد بذلك نصرة مذهبه في أن من أدرك من الصبح ركعة تفسد صلاته؛ لأنه لا يكملها إلا في وقت الكراهة – انتهى. والحديث يدل على أن من أدرك ركعة من صلاة الصبح قبل طلوع الشمس فقد أدرك صلاة الصبح ولا تبطل بطلوعها، كما أن من أدرك ركعة من صلاة العصر قبل غروب الشمس فقد أدرك صلاة العصر ولا تبطل بغروبها، وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق، وهو الحق، وخالف أبوحنيفة هذا الحديث فقال: من طلعت عليه الشمس وهو في صلاة الصبح بطلت صلاته. واحتج في ذلك بالأحاديث الواردة في النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس. وأجيب عنه بأن أحاديث النهي عامة تشمل ذوات الأسباب المتقدمة وغير ذوات الأسباب من النوافل والفرائض. وحديث أبي هريرة هذا خاص ليس فيه إلا ذكر صلاة ذات سبب متقدم، فتحمل أحاديث النهي على ما لا سبب له من النوافل جمعاً بين الحديثين، فإن الجمع بالتخصيص أولى من ادعاء النسخ، قاله الحافظ. قال الشوكاني: هذا جمع بما يوافق مذهب الحافظ، والحق أن أحاديث النهي عامة تشمل كل صلاة، وهذا الحديث خاص فيبني العام على الخاص، ولا يجوز في ذلك الوقت شيء من الصلوات إلا بدليل يخصه، سواء كان من ذوات الأسباب أوغيرها-انتهى. وقال النووي: قال أبوحنيفة: تبطل صلاة الصبح بطلوع الشمس؛ لأنه دخل وقت النهي الصلاة بخلاف غروب الشمس. (ففرق بين فجر اليوم وعصره) والحديث حجة عليه-انتهى. قال القاري بعد ذكر كلام النووي ما نصه: وجوابه ما ذكره صدر الشريعة (في شرح الوقاية) : أن المذكور في كتب أصول الفقه أن الجزء المقارن للأداء سبب لوجوب الصلاة، وآخر وقت العصر وقت ناقص إذ هو وقت عبادة الشمس، فوجب ناقصاً، فإذا أداه أداه كما وجب فإذا اعترض الفساد بالغروب لا تفسد، والفجر كل وقته وقت كامل؛ لأن الشمس لا تعبد قبل طلوعها، فوجب كاملاً، فإذا اعترض الفساد بالطلوع تفسد؛ لأنه لم يؤديها كما وجب، فإن قيل: هذا تعليل في معرض النص، قلنا: لما وقع التعارض بين هذا الحديث وبين النهي الواردة عن الصلاة في الأوقات الثلاثة رجعنا إلى القياس كما هو حكم التعارض، والقياس رجح هذا الحديث في صلاة العصر، وحديث النهي في صلاة الفجر، وأما سائر الصلوات فلا تجوز في الأوقات الثلاثة المكروهة لحديث النهي الوارد، إذ لا معارض لحديث النهي فيها. قلت: قد رد هذا التقرير المزخرف الشيخ عبد الحي اللكنوي

وهو من الحنفية في حاشيته على شرح الوقاية حيث قال: فيه بحث، وهو أن المصير إلى القياس عند تعارض النصين إنما هو إذا لم يمكن الجمع بينهما، وأما إذا أمكن يلزم أن يجمع بينهما، وههنا العمل بكليهما ممكن بأن يخص صلاة العصر والفجر الوقتيتان من عموم حديث النهي، ويعمل بعمومه في غيرهما، وبحديث الجواز فيهما إلا أن يقال حديث الجواز خاص، وحديث النهي عام، وكلاهما قطعيان عند الحنفية، ومتساويان في الدرجة والقوة، فلا يخص أحدهما الآخر، وفيه أن قطعية العام كالخاص ليس متفقاً عليه بين الحنفية، فإن كثيراً منهم وافقوا الشافعية في كون العام ظنياً كما هو مبسوط في شروح المنتخب الحسامي وغيرها-انتهى. وقال صاحب الكوكب الدري بعد ذكر وجه الفرق بين الفجر والعصر بنحو ما ذكره صدر الشريعة ما لفظه: هذا ما قالوا، وأنت تعلم ما فيه من الاختلال وتزويق المقال، فإن قولهم: النهي عن الأفعال الشرعية يقتضي صحتها في أنفسها، ينادي بأعلى نداء على جواز الصلاتين كلتيهما وإن اعتراهما حرمة بعارض التشبه بعبدة الشمس، فادعاء المعارضة بينهما باطل، وإن قطع النظر عن ذلك فلا وجه لعدم الجواز في الفجر والجواز في العصر، فإن الوقت شرط لكلتيهما، فإذا غربت الشمس بأداء ركعة أو ركعتين لم يبق الوقت المشروط لصحة الباقي، فكيف يمكن لهم القول بأن الصلاة تامة، إذ ليس ذلك إلا قولاً بعدم اشتراط الوقت، فعلى هذا يلزم عليهم جواز صلاة من شرع في الصلاة وثوبه نجس بقدر الدرهم أو دونه، ثم بعد أدائه ركعة وضع عليه رجل شيئاً نجساً ليس ذلك إلا أداء الصلاة على الكيفية التي التزمها، أو من أخذ في الصلاة وهو يدافعه الأخبثان، فلما قضى ركعة أو ركعتين بال أو تغوط، أو ليس نظير ما قالوا، فإنه أدى صلاته بعد الحدث على نحو مما التزمه. (إلى آخر ما قال وأطال في الرد عليهم) قلت: ويلزمهم أيضاً أن يقولوا بفساد صلاة العصر إذا شرع فيها في الجزء الصحيح الكامل أي قبل الاصفرار ومدها إلى أن غربت، مع أنها لا تكره عندهم فضلاً عن أن تفسد. وما اعتذروا عنه بعذر الخشوع والخضوع لا ينفع كما أقربه صاحب فيض الباري، فإن الاحتراز عن المد إلى غروب الشمس ليس مما يتعذر كما لا يخفى على المنصف غير المتعسف. واختار صاحب الكوكب في معنى الحديث ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة من جواز الصلاتين العصر والصبح، وفراغ الذمة لمن صلى في هذين الوقتين، وإن لم يخل فعله ذلك من الكراهة، واعلم أن الحنفية قد عجزوا عن دفع إلزام العمل ببعض هذا الحديث وترك بعضه مع أن النقص قارن العصر ابتداء والفجر بقاء، ولذلك ذهب الطحاوي إلى عدم جواز عصر يومه كالفجر خلافاً لمذهب الحنفية. قال صاحب الفيض: إن الحديث لا يفرق بين الفجر والعصر، وظاهره موافق لما ذهب إليه الجمهور، وتفريق الحنفية باشتمال العصر على الوقت الناقص دون الفجر عمل بإحدى القطعتين وترك الأخرى بنحو من القياس، وذا لا يرد على الطحاوي، فإنه ذهب إلى النسخ بالكلية بالأحاديث الواردة في النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، إلا أن المعروف من مذهب الحنفية خلافه، فإنهم قائلون في العصر بصحتها كما في الحديث، قال: فلم أر جواباً شافياً عنه في أحد من كتب الحنفية بعد، ثم حمل هو هذا الحديث على المسبوق، وقال: إن المراد بالإدراك إدراك الجماعة لا إدراك الوقت، وإن الصلاة كلها في الوقت قبل الطلوع في الفجر، وقبل الغروب في العصر، ومعنى الحديث: من أدرك ركعة من الصبح مع الإمام وركعة أخرى بعد انصرافه، وكلتاهما في الوقت قبل الطلوع، وكذا في العصر أدرك

متفق عليه. 604- (16) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس، فليتم صلاته. وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس، فليتم صلاته)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ ركعة مع الإمام وثلاث ركعات بعد سلامه لكن الصلاة كلها وقعت في الوقت قبل الغروب، وهذا كما ترى تحريف للحديث وإبطال لمؤداه، لا توجيه له مع أنه يبطل شرحه ويهدمه، كما اعترف به هو ما تقدم من رواية البيهقي بلفظ: من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس، وركعة بعد ما تطلع الشمس، فقد أدرك الصلاة، هذا. وقد أطال الكلام في الجواب عن هذه الرواية وتقرير ما رامه من تحريف الحديث، وأتى بكلام كله تكلفات ودعاوي محضة، ونسبة الوهم وسوء الفهم والاختصار إلى الرواة من غير دليل وبرهان. واعلم أيضاً أن إدراك الركعة قبل خروج الوقت لا يختص بصلاة الفجر والعصر؛ لما ثبت عند الشيخين وغيرهما من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة. وهو أعم من حديث الباب. قال الحافظ: ويحتمل أن تكون اللام عهدية، ويؤيده أن كلاً منهما من رواية أبي سلمة عن أبي هريرة، وهذا مطلق وذاك يعني حديث الباب مقيد فيحمل المطلق على المقيد – انتهى. ويمكن أن يقال أن حديث الباب دل بمفهومه على اختصاص ذلك الحكم بالفجر والعصر، وهذا الحديث دل بمنطوقه على أن حكم جميع الصلوات لا يختلف في ذلك، والمنطوق أرجح من المفهوم فيتعين المصير إليه، ولاشتماله على الزيادة التي ليست منافيه للمزيد، كذا في النيل. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً مالك وأحمد والترمذي وأبوداود والنسائي، وابن ماجه وغيرهم. 604- قوله: (إذا أدرك أحدكم سجدة) أي ركعة كما ذكره المجد بن تيمية في المنتقى، ومسلم في صحيحه، وقد ثبت عند الإسماعيلي بلفظ "ركعة" مكان سجدة، فدل على أن الاختلاف في اللفظ وقع من الرواة، وقد تقدم الرواية بلفظ: من أدرك ركعة، قال الحافظ: ولم يختلف على راويها في ذلك، فكان عليها الاعتماد، قال الخطابي: المراد بالسجدة الركعة بركوعها وسجودها، والركعة إنما يكون تمامها بسجودها، فسميت على هذا المعنى سجدة – انتهى. (فليتم صلاته) أي ليكملها بالباقية، ويكون الكل أداء. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي، وفي الباب عن عائشة عند أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه. ومناسبة هذا الحديث وما قبله لعنوان الباب غير ظاهرة، وإنما ذكرهما استطراداً، أو يقال: فيهما إشارة إلى أن من أخر الصلاة إلى آخر أجزاء وقتها بسبب السهو والنسيان أو النوم لا يكون مقصراً، ويصدق عليه أنه عجلها في الجملة حيث أداها قبل الفوت.

605- (17) وعن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من نسي صلاة، أو نام عنها، فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها، وفي رواية: لا كفارة لها إلا ذلك)) متفق عليه. 606- (18) وعن أبي قتادة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس في النوم تفريط، ـــــــــــــــــــــــــــــ 605- قوله: (من نسي صلاة) أي تركها نسياناً. (أو نام عنها) ضمن نام معنى غفل أي غفل عنها في حال نومه، قاله الطيبي. أو نام غافلاً عنها. (فكفارتها) هذا يدل على أنه لا يخلو عن تقصير ما يترك المحافظة، لكن يكفي في نحو تلك الخطيئة القضاء، وما سيجئ أنه لا تفريط في النوم فبالنظر إلى الذات. (أن يصليها إذا ذكرها) أي بعد النسيان أو النوم، وقيل: فيه تغليب للنسيان، فعبر بالذكر وأراد به ما يشمل الاستيقاظ، والأظهر أن يقال: أن النوم لما كان يورث النسيان غالباً قابلهما بالذكر. وظاهر الحديث أنه يصليها إذا ذكرها، أي وإن كان عند طلوع الشمس أو عند غروبها أو عند استواءها. وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق، فجعلوا هذا الحديث وما في معناه مخصصاً لأحاديث النهي عن الصلاة في هذه الأوقات الثلاثة. ووقع في رواية لغير الشيخين "فوقتها حين يذكرها لا وقت لها إلا ذلك"، وهذا يفيد أن ذلك وقتها أداء لا قضاء، فتكون أحاديث الباب مخصصة لما ورد من توقيت الصلاة وتعيين أوقاتها ابتداء وانتهاء، فيقال إلا الصلاة التي سها عنها المصلى أو نسيها أو نام عنها، فإن فعلها عند الذكر هو وقت أداءها ولو بعد خروج الوقت المضروب لتلك الصلاة، فإن حين التذكر والاستيقاظ هو وقت أدائها. (وفي رواية) أي للشيخين. قال الطيبي: أراد أنه زاد في رواية أخرى هذه العبارة، لا أن هذه الرواية بدل على الرواية السابقة؛ لأن اسم الإشارة يقتضي مشاراً إليه، وهو قوله: فليصلها إذا ذكرها. جيء بالثانية تأكيداً وتقريراً على سبيل الحصر، لئلا يتوهم أن لها كفارة غير القضاء. (لا كفارة لها إلا ذلك) قال الخطابي في المعالم: يريد أنه لا يلزمه في تركها غرم أو كفارة من صدقة أو نحوها كما تلزمه في ترك الصوم في رمضان من غير عذر الكفارة، وكما تلزم المحرم إذا ترك شيئاً من نسكه كفارة وجبران من دم أو طعام ونحوه. وقال الطيبي: يحتمل ذلك وجهين: أحدهما أنه لا يكفرها غير قضائها، والآخر أنه لا يلزمه في نسيانها غرامة ولا زيادة تضعيف ولا كفارة من صدقة ونحوها كما يلزم في ترك الصوم. (متفق عليه) أي بروايته إلا أن لفظ الرواية الأولى لفظ مسلم. والحديث أخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه. 606- قوله: (ليس في النوم) أي في حاله (تفريط) أي تقصير، ينسب إلى النائم في تأخيره الصلاة، وكذا في النسيان، ولم يذكر لأنه في معناه، ولهذا ذكره في التفريغ، وليس المراد أن نفس فعل النوم والمباشرة بأسبابه لا يكون فيه تفريط أي تقصير، فإنه قد يكون فيه تفريط إذا كان في وقت يقتضي فيه النوم إلى فوات الصلاة كالنوم قبل العشاء، وإنما المراد أن ما فات حالة النوم فلا تفريط في فوته فإنه فات بلا اختيار، وأما المباشرة بالنوم فالتفريط فيها تفريط حالة

{الفصل الثاني}

إنما التفريط في اليقظة. فإذا نسي أحدكم صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها، فإن الله تعالى قال: {وأقم الصلاة لذكري} رواه مسلم. {الفصل الثاني} 607- (19) عن علي: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يا علي! ثلاث ـــــــــــــــــــــــــــــ اليقظة، قاله السندي. (إنما التفريط في اليقظة) بفتح القاف، أي إنما يوجد التقصير في حال اليقظة، بأن يفعل ما يؤدي إلى النوم أو النسيان، كاضطجاع عند غلبة النوم والاشتغال بما يترتب عليه النسيان من المشاغل كلعب الشطرنج ونحوه فيكون مقصراً حينئذٍ ويأثم بذلك. قال الشوكاني: ظاهر الحديث أنه لا تفريط في النوم سواء كان قبل دخول وقت الصلاة أو بعده قبل تضييقه. وقيل: إنه إذا تعمد النوم قبل تضييق الوقت واتخذ ذلك ذريعة إلى ترك الصلاة لغلبة ظنه أنه لا يستيقظ إلا وقد خرج الوقت كان آثماً. والظاهر أنه لا إثم عليه بالنظر إلى النوم؛ لأن فعله في وقت يباح فعله، فيشمله الحديث. وأما إذا نظر إلى التسبب به للترك، فلا إشكال في العصيان بذلك، ولا شك في إثم من نام بعد تضييق الوقت لتعلق الخطاب به، والنوم مانع من الامتثال، والواجب إزالة المانع. (أقم الصلاة لذكري) اللام فيه للوقت، وهو بالإضافة إلى ياء المتكلم وهي القراءة المشهورة لكن بظاهرها لا يناسب المقصود، فأوله بعضهم بأن المعنى: وقت ذكر صلاتي، على حذف المضاف، أو المراد بالذكر المضاف إلى الله تعالى ذكر الصلاة لكون ذكر الصلاة يفضي إلى فعلها المفضي إلى ذكر الله تعالى فيها، فصار وقت ذكر الصلاة كأنه وقت لذكر الله، فقيل في موضع أقم الصلاة لذكرها: لذكر الله. وقراءة ابن شهاب للذكرى بلام الجر ثم لام التعريف وآخره ألف مقصورة، وهي قراءة شاذة لكنها موافقة للمطلوب هنا بلا تكلف، قاله السندي. وقال الطيبي: الآية تحتمل وجوهاً كثيرة من التأويل، لكن الواجب أن يصار إلى وجه يوافق الحديث؛ لأنه حديث صحيح، ثم ذكر التوجيهين الذي تقدما في كلام السندي، قال: أو وضع ضمير الله موضع ضمير الصلاة لشرفها وخصوصيتها. والحديث يدل على أن شرع من قبلنا شرع لنا؛ لأن المخاطب بالآية المذكورة موسى عليه الصلاة والسلام، وهو الصحيح في الأصول ما لم يرد ناسخ. (رواه مسلم) فيه نظر؛ لأن اللفظ المذكور ليس لمسلم بل هو للنسائي والترمذي، إلا أنه ليس عندهما: فإن الله تعالى يقول: {أقم الصلاة لذكري} [20: 14] قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود وابن ماجه. قال الحافظ: إسناد أبي داود على شرط مسلم، ورواه مسلم بنحوه في قصة نومهم في صلاة الفجر، ولفظه: ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى، فمن فعل ذلك فليصلها حيث ينتبه لها، فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها. 607- قوله: (ثلاث) أي من المهمات وهو المسوغ للإبتداء، والمعنى: ثلاثة أشياء، وهي الصلاة، والجنازة،

لا تؤخرها: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت لها كفؤاً)) رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ والمرأة، ولذا ذكر العدد. (لا تؤخرها) بالرفع إما خبر لثلاث أو صفة، أي فإن في التأخير آفات بل تعجل فيها، وهذه الأشياء مستثناه من حديث: العجلة من الشيطان. (الصلاة) بالرفع أي منها، أو أحدها، أو هي. وقيل: بالنصب بتقدير أعني. (إذا أتت) بالتائين مع القصر، من الإتيان، أي جاءت، يعني وقتها. قال التوربشتي: في أكثر النسخ المقروءة، أي للمصابيح "أتت" بتاءين، وكذا عند أكثر المحدثين، وهو تصحيف، والمحفوظ من ذوي الإتفاق "آتت" على وزن حانت وبمعناه ذكره الطيبي. والظاهر أنهما روايتان صحيحتان ومعناهما متقارب. قال ابن العربي في عارضة الأحوذى (ج1: ص284) : كذا رويته بالتاءين كل واحد منهما معجمة باثنتين من فوقها، وروي "إذا آنت" بنون وتاء معجمة من فوقها بمعنى حانت. تقول: آن الشيء بئين أيناً أي حان يحين حيناً – انتهى. وكذا قال ابن سيد الناس كما ذكره السيوطي في قوت المغتذي. وقال الأبهرى: "إذا أنت" بفتح الهمزة من أنى يأنى، وهو أيضاً بمعنى حان، ومنه قوله تعالى. {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم} [57: 16] . (والجنازة) بكسر الجيم وفتها لغتان للميت في النعش. (إذا حضرت) ؛ لأن تأخيرها قد يؤدي إلى التغير فالتعجيل فيها أحب، وأيضاً إن كانت خيراً فالتقديم إليه أحب، وإن كانت شراً فتبعيده أول كما في حديث: لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس، عند أبي داود. وكما في حديث أسرعوا بالجنازة، عند الشيخين. وفيه دليل على أن الصلاة على الجنازة لا تكره في الأوقات المكروهة، ذكره الطيبي. قال القاري: وهو كذلك عندنا، يعني الحنفية أيضاً، إذا حضرت في تلك الأوقات من الطلوع والغروب ولاستواء، وأما إذا حضرت قبلها وصلى عليها في تلك الأوقات، فمكروهة، وكذا حكم سجدة التلاوة، وأما بعد الصبح وقبله، وبعد العصر فلا يكرهان مطلقاً. (والأيم) بفتح الهمزة وكسر الياء المشددة، هي التي لا زوج لها بكراً كانت أو ثيباً، مطلقة كانت أو متوفى عنها. (كفؤاً) بضم الكاف وسكون الفاء، المثل والنظير، وفي النكاح أن يكون الرجل مثل المرأة في الإسلام، والصلاح. وقيل: في الحرية، والنسب، وحسن الكسب والعمل، والأول هو المعتمد. (رواه الترمذي) في الصلاة من حديث سعيد بن عبد الله الجهني، عن محمد بن عمر بن علي، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب. قال الترمذي: هذا حديث غريب حسن. على ما في النسخة المصرية المطبوعة بتعليق العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر. وقد نقل هذا الحديث الزيلعي في نصب الراية (ج1: ص244) عن الترمذي، ونقل أنه قال: حديث غريب، وما أرى إسناده بمتصل. وهكذا نقل الحافظ في التلخيص (ص96) أيضاً. قال صاحب التعليق المذكور: ليس في شيء من النسخ التي معي من الترمذي عبارة "وما أرى إسناده بمتصل"، وكذلك قال شيخنا في شرح الترمذي: إن هذه العبارة ليست في النسخ المطبوعة والقلمية الموجودة عندنا. قال صاحب التعليق: وأنا أظن أن الحافظ الزيلعي انتقل نظره حين الكتابة إلى كلام الترمذي على حديث عائشة الآتي، وأن الحافظ ابن حجر نقل منه تقليداً له فقط – انتهى. وقال الحافظ في الدراية: أخرجه الترمذي والحاكم بإسناد ضعيف. قلت: الظاهر أن هذا الحديث لا ينحط عن درجة الحسن، وأن سنده متصل، فإن سعيد بن عبد الله الجهني

608- (20) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الوقت الأول من الصلاة رضوان الله، والوقت الآخر عفو الله)) رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ ذكره ابن حبان في الثقات، وقال الحافظ: إنه مقبول. ومحمد بن عمر بن علي صدوق، وعمر بن علي ثقة، وقد سمع من أبيه على بن أبي طالب، قاله أبوحاتم، فاتصل سنده. والحديث أخرجه أيضاً أحمد، والنسائي في مسند علي، وأخرج ابن ماجه منه النهي عن تأخير الجنازة فقط، وأخرجه الحاكم في النكاح (ج2: ص162) مطولاً وقال: هذا حديث غريب صحيح ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. 608- قوله: (الوقت الأول من الصلاة) من تبعيضية، والتقدير من أوقات الصلاة، قاله القاري. وقال الطيبي: من بيان للوقت- انتهى. وخص منه بعض الأوقات كالعشاء والظهر في شدة الحر. (رضوان الله) أي يحصل بأدائها فيه رضوان الله تعالى عن فاعلها، وهو خبر إما بحذف مضاف، أي الوقت الأول سبب رضوان الله لما فيه من المبادرة إلى الطاعة، وهي مؤدية إلى رضاه، أو على المبالغة، أي الوقت الأول عين رضا الله تعالى عنه. (والوقت الآخر) أي بحيث يحتمل أن يكون خروجاً عن الوقت، أو المراد به وقت الكراهة نحو الاصفرار في العصر، والتجاوز عن نصف الليل في العشاء، قاله القاري. (عفو الله) ولا عفو إلا عن ذنب. قال المناوي: والعفو يكون عن المقصرين، فأفاد أن تعجيل الصلاة أول وقتها أفضل- انتهى. وقال الشافعي: ولا يؤثر على رضوان الله شيء؛ لأن العفو لا يكون إلا عن تقصير، نقله البيهقي، زاد في حديث أبي محذورة عند الدارقطني بسند ضعيف جدا: وأوسطه رحمة الله، أي يحصل لفاعل الصلاة فيه رحمته، ومعلوم أن رتبة الرضوان أبلغ. (رواه الترمذي) وكذا الدارقطني والبيهقي كلهم من طريق يعقوب بن الوليد المدني، عن عبد الله بن عمر العمري، عن نافع، عن ابن عمر. ونقل البيهقي عن أبي أحمد بن عدي الحافظ أنه قال: هذا الحديث بهذا الإسناد باطل، ثم قال البيهقي: هذا حديث يعرف بيعقوب بن الوليد المدني، ويعقوب منكر الحديث، ضعفه يحيى بن معين، وكذبه أحمد بن حنبل، وسائر الحفاظ، ونسبوه إلى الوضع نعوذ بالله من الخذلان. وقال في المعرفة: حديث "الصلاة في أول وقتها رضوان الله" إنما يعرف بيعقوب بن الوليد، وقد كذبه أحمد بن حنبل، وسائر الحفاظ. قال: وقد روي هذا الحديث بأسانيد كلها ضعيفة، وإنما يروى عن أبي جعفر محمد بن على من قوله- انتهى. قال الزيلعي في نصب الراية (ج1: ص127) بعد ذكر كلام البيهقي هذا: وأنكر ابن القطان في كتابه على أبي محمد عبد الحق كونه أعل الحديث بالعمري، وسكت عن يعقوب، قال: ويعقوب هو علة، فإن أحمد قال فيه: كان من الكذابين الكبار، وكان يضع الحديث. وقال أبوحاتم: كان يكذب، والحديث الذي رواه موضوع، وابن عدي إنما أعله به، وفي بابه، ذكره- انتهى. والعجب من الترمذي أنه سكت عن هذا الحديث، ولم يعله بيعقوب ولا بالعمري.

609- (21) وعن أم فروة، قالت: ((سئل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة لأول وقتها)) . رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود، وقال الترمذي: لا يروى الحديث إلا من حديث عبد الله بن عمر العمري، وهو ليس بالقوي عند أهل الحديث. ـــــــــــــــــــــــــــــ 609- قوله: (عن أم فروة) ذكر ابن عبد البر والطبراني أن أم فروة هذه بنت أبي قحافة أخت أبي بكر الصديق لأبيه، كانت ممن بايع تحت الشجرة، وكانت من المهاجرات، وتبعهما على ذلك المنذري، وابن العربي، وغيرهما من العلماء، ووهموا وغلطوا من قال: إنها أنصارية. ورجح الحافظ وغيره أنها غير أخت أبي بكر الصديق، وأنها أنصارية، أخذ ذلك من ظاهر بعض الروايات أنها جدة القاسم بن غنام الأنصاري، أو عمته. والراجح عندنا هو القول الأول. والظاهر أنها جدة القاسم بن غنام من جهة أمه أو أم أبيه، ففي رواية للحاكم عن القاسم بن غنام الأنصاري، عن جدته أم أبيه الدنيا، عن أم فروة جدته، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية أخرى له عن القاسم بن غنام، عن جدته الدنيا، عن جدته أم فروة. وكانت ممن بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكانت من المهاجرات الأول، فهذا يدل على غلط من ظن أنها أنصارية. (أي الأعمال أفضل) أي أكثر ثواباً. (الصلاة لأول وقتها) اللام بمعنى في، قاله ابن الملك. وقال الطيبي: اللام للتأكيد، فيه دليل على أن الصلاة لأول الوقت أفضل الأعمال، لكن الحديث ضعيف كما سيأتي، لكن له شاهد من حديث ابن مسعود عند الحاكم والدارقطني والبيهقي، وأيضاً المحافظة منه - صلى الله عليه وسلم - على الصلاة أول الوقت دالة على أفضليته. (رواه أحمد) (ج6: ص374، 375، 440) . (والترمذي وأبوداود) وسكت عنه هو والمنذري. (وقال الترمذي: لا يروى الحديث) أي هذا الحديث. (إلا من حديث عبد الله بن عمر) بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب المدني، وفي كلام الترمذي هذا نظر؛ لأنه رواه عن القاسم بن غنام غيره أيضاً، فقد رواه عنه عبيد الله بن عمر العمري عند الحاكم، والدارقطني، والضحاك بن عثمان عند الدارقطني، ونسب الحافظ رواية الضحاك هذه في الإصابة للطبراني. (وهو ليس بالقوي عند أهل الحديث) قد اختلف في جرحه وتعديله، فضعفه الحاكم، وابن حبان، وابن المديني، وأبوحاتم، وصالح جزرة، ويحيى بن سعيد، والنسائي، والبخاري فيما حكاه الترمذي عنه، ووثقه أحمد بن حنبل، وابن معين، وابن عدي، ويعقوب بن شيبة، والعجلى. وقال الذهبي في الميزان: صدوق في حفظه شيء. وقال الخليلي: ثقة، غير أن الحفاظ لم يرضوا حفظه. ثم إنه يظهر من كلام الترمذي الذي نقله المصنف أن الحديث قد تفرد به عبد الله بن عمر العمري، وهو ضعيف، فيكون الحديث ضعيفاً، لكن الظاهر أن سبب ضعف الحديث كونه مضطرب الإسناد، كما قال الترمذي بعد ذلك: واضطربوا عنه في هذا الحديث، واختلف في أن اضطرابه من قبل عبد الله بن عمر العمري أو من قبل شيخه القاسم بن غنام، والظاهر أن اضطراب سنده من جهة القاسم بن غنام، وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وذكره العقيلي في الضعفاء، وقال في حديثه اضطراب. وقال الحافظ: صدوق مضطرب الحديث، وتفصيل الاضطراب أنه ورد

610- (22) وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة لوقتها الآخر مرتين حتى قبضه الله تعالى)) رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ في بعض الروايات عن القاسم، عن جدته أم فروة. وفي بعضها "عن عمته أم فروة" بدون واسطة، وفي بعضها "عن بعض أمهاته"، وفي بعضها "عن بعض أهله"، وفي بعضها "عن عماته"، وفي بعضها "عن أهل بيته"، كل هؤلاء عن أم فروة، وتقدمت روايتا الحاكم وهما أوضح الروايات في ذلك. والذي يظهر أن القاسم بن غنام يروي الحديث تارة فيذكر الواسطة المبهمة، ويرويه أخرى فيحذفها، ويقول عن أم فروة. قال الزيلعي في نصب الراية (ج1: ص241) : ذكر الدارقطني في كتاب العلل في هذا الحديث اختلافاً كثيراً واضطراباً، ثم قال: والقول قول من قال عن القاسم، عن جدته الدنيا، عن أم فروة- انتهى. وهكذا رواه الحاكم في المستدرك، والدارقطني في سننه. قال في الإمام: وما فيه من الاضطراب في إثبات الواسطة بين القاسم وأم فروة، وإسقاطها يعود إلى العمري، وقد ضعف، ومن أثبت الواسطة يقضي على من أسقطها، وتلك الواسطة مجهولة- انتهى. فالحديث ضعيف بكل حال لجهل الواسطة بين القاسم بن غنام وبين أم فروة. 610- قوله: (ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة لوقتها الآخر مرتين) الخ. يعني أنه صلى بعض الصلوات في أخر وقتها لكنه لم يقع له ذلك أكثر من مرة إلى أن توفاه الله تعالى. قيل: وتلك المرة هي التي صلاها - صلى الله عليه وسلم - للتعليم حين جاء رجل سائل عن أوقات الصلاة، فكان كل صلاة في آخر وقته. وأما حديث إمامة جبريل فخارج عن المبحث؛ لأنه لم يكن اختياراً منه، أو المقصود المبالغة في عدم وقوع ذلك منه - صلى الله عليه وسلم -، فلا يحتاج إلى الجواب عما وقع ذلك منه أحياناً، يعني أن أوقات صلاته عليه الصلاة والسلام كلها كانت في وقتها الاختياري إلا ما وقع من التأخير إلى آخره نادراً لبيان الجواز، ووقع في بعض نسخ الترمذي: لوقتها الآخر إلا مرتين. بزيادة إلا، وهو يوافق ما نقله الزيلعي في نصب الراية (ج1: ص244) وصاحب جمع الفوائد (ج1: ص60) كلاهما عن الترمذي. والظاهر أن المراد منه حين إمامة جبريل وسؤال الرجل، لكن الظاهر أن يكون المراد غير ما هو للتعلم والتعليم، أو لم يفعل من حين تزوجها فأخبرت بما أحاط به علمها، كذا قيل. (رواه الترمذي) وقال غريب، وفي بعض النسخ "حسن غريب" قال: وليس إسناده بمتصل. وأخرجه أيضاً الدارقطني، والحاكم، والبيهقي كلهم من طريق سعيد بن أبي هلال، عن إسحاق بن عمر، عن عائشة. قال الزيلعي في نصب الراية (ج1: ص244) : قال البيهقي: وهو مرسل، إسحاق بن عمر لم يدرك عائشة، وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: إسحاق بن عمر روى عنه سعيد بن هلال مجهول- انتهى. وكذلك قال ابن القطان في كتابه: أنه منقطع، وإسحاق بن عمر مجهول، وأخرجه أيضاً الدارقطني عن عمرة عن عائشة نحوه، وفي سنده معلى بن عبد الرحمن،

611- (23) وعن أبي أيوب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يزال أمتي بخير، أو قال: على الفطرة، ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم)) رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه، فقال: متروك الحديث، وأخرجه أيضاً عن أبي سلمة، عن عائشة نحوه، وفيه الواقدي، وهو معروف عندهم- انتهى مختصراً. قال العلامة أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي (ج1: ص329) : قد ترك الزيلعي أصح إسناد لهذا الحديث، فقد روى الحاكم (ج1: ص190) من طريق أبي النضر هاشم بن القاسم قال: حدثنا الليث بن سعد، عن أبي النضر، عن عمرة، عن عائشة قالت: ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة لوقتها الآخر حتى قبضه الله. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، ورواه البيهقي (ج1: ص435) عن الحاكم، وأبوالنضر شيخ الليث هو سالم أبوالنضر مولى عمر بن عبيد الله، وهو مجمع على توثيقه، وهذا الحديث هو الذي أشار الزيلعي إلى أن الدارقطني رواه من طريق معلى بن عبد الرحمن، عن الليث، وهو في سنن الدارقطني (ص92) وقد أشار البيهقي إلى رواية معلى، ومعلى هذا ليس بثقة كان يضع الحديث، ولكن الرواية صحت برواية أبي النضر هاشم بن القاسم عن الليث- انتهى. 611- قوله: (لا يزال) بالتحتية وفي رواية لأحمد، وكذا في أبي داود بالمثناة الفوقية. (أمتي بخير أو قال على الفطرة) أي السنة المستمرة، أو الإسلام أو الاستقامة، أو للشك من الراوي. (إلى أن تشتبك النجوم) أي تظهر جميعا، ويختلط بعضها ببعض لكثرة ما ظهر منها، وهو كناية عن الظلام. فيه دليل على استحباب المبادرة والتعجيل بصلاة المغرب وكراهة تأخيرها إلى اشتباك النجوم، وقد عكست الروافض القضية، فجعلت تأخير صلاة المغرب إلى اشتباك النجوم مستحباً، والحديث يرده. قال النووي في شرح المسلم: إن تعجيل صلاة المغرب عقيب غروب الشمس مجمع عليه. قال: وقد حكي عن الشيعة فيه شيء لا التفات إليه، ولا أصل له. وأما الأحاديث الواردة في تأخير المغرب إلى قرب غروب الشفق فكانت لبيان آخر الوقت؛ لأنها كانت جوابا للسائل عن الوقت، وأحاديث التعجيل عامتها إخبار عن عادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتكررة التي واظب عليها إلا لعذر فالاعتماد عليها. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري، وأخرجه أيضاً أحمد (ج5: ص417، 422) والحاكم في المستدرك (ج1: ص190) وقال: صحيح على شرط مسلم، وأقره الذهبي، وفي سنده عندهم محمد بن إسحاق، وهو مدلس لكنه صرح بالتحديث، قال الزيلعي: قال الشيخ في الإمام: وقد خولف ابن إسحاق في هذا الحديث، قال ابن أبي حاتم: ورواه حيوة وابن لهيعة، عن يزيد بن حبيب، عن أسلم أبي عمران التجيبي، عن أبي أيوب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: بادروا بصلاة المغرب قبل طلوع النجوم، قال أبوزرعة: وحديث حيوة أصح- انتهى كلامه. قلت: حديث ابن لهيعة أخرجه أحمد (ج5: ص415) وأخرج أحمد أيضاً (ج5: ص421) من حديث ابن أبي ذئب، عن يزيد بن أبي حبيب عن رجل عن أبي أيوب بنحوه.

612- (24) ورواه الدارمي عن العباس. 613- (25) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه)) رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه. 614- (26) وعن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أعتموا بهذه الصلاة؛ فإنكم قد فضلتم بها على سائر الأمم، ولم تصلها أمة قبلكم)) ـــــــــــــــــــــــــــــ 612- قوله: (ورواه الدارمي عن العباس) وكذا روى ابن ماجه والحاكم وابن خزيمة في صحيحه وأبوبكر البزار كلهم من حديث إبراهيم بن موسى، عن عباد بن العوام، عن عمر بن إبراهيم، عن قتادة، عن الحسن، الأحنف بن قيس، عن العباس بن عبد المطلب. قال البوصيري في الزائد: إسناده حسن، وجعله الحاكم شاهداً صحيحاً لحديث أبي أيوب المتقدم ووافقه الذهبي. وقال أبوبكر البزار: لا نعلمه يروى عن العباس إلا من هذا الوجه، ورواه غير واحد عن عمر بن إبراهيم، عن قتادة، عن الحسن مرسلاً. قال الترمذي: وحديث العباس قد روى عنه موقوفاً وهو أصح، قال ابن سيد الناس: ومراد البزار بالمرسل هنا الموقوف؛ لأنه متصل الإسناد إلى العباس. وذكر الخلال بعد إيراد هذا الحديث: قال أبوعبد الله: هذا حديث منكر. كذا في النيل. 613- قوله: (إلى ثلث الليل أو نصفه) قال ميرك: "أو" يحتمل التنويع، أي إلى ثلث الليل في الصيف ونصف الليل في الشتاء. وقيل: بمعنى بل، والظاهر أنه شك من الراوي، أي سعيد بن أبي سعيد المقبري، أو من الرواة عنه، وأخرجه الحاكم من طريق عبد الرحمن السراج، عن سعيد، عن أبي هريرة. وفيه إلى نصف الليل بغير شك. والحديث صريح في أن التأخير في العشاء أولى من التعجيل، ولا يعارضه ما تقدم من أحاديث أفضلية أول الوقت؛ لأنها عامة، وحديث أبي هريرة هذا وما في معناه من الأحاديث الدالة على تأخير العشاء خاصة، فيجب بناء العام عليها. (رواه أحمد والترمذي) وقال: حديث حسن صحيح. (وابن ماجه) وأخرجه أيضاً الحاكم (ج1: ص146) . 614- قوله: (أعتموا) بفتح الهمزة وكسر التاء، أمر من باب الإفعال. (بهذه الصلاة) أي العشاء والباء للتعدية، أي أدخلوها في العتمة، أو للمصاحبة، أي أدخلوا العتمة متلبسين بهذه الصلاة، فالجار والمجرور حال، يقال: أعتم الرجل إذا دخل في العتمة، وهي ثلث الليل الأول بعد غيبوبة الشفق، أو مطلق الظلمة بعد غيبوبته، وقيل: هو مأخوذ من العتم الذي هو الإبطاء، والمعنى أخروا العشاء الآخرة. وفيه دليل على استحباب تأخير صلاة العشاء عن أول وقتها، وتنبيه على أفضلية التأخير، وهو مقيد إلى الثلث أو النصف لما تقدم. (قد فضلتم) بصيغة المجهول من التفضيل. (بها) أي بصلاة العشاء. (على سائر الأمم) أي جميعها أو باقيها. (ولم تصلها أمة قبلكم) التوفيق بينه وبين قوله في حديث جبريل: هذا

رواه أبوداود. 615- (27) وعن النعمان بن بشير قال: ((أنا أعلم بوقت هذه الصلاة صلاة العشاء الآخرة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصليها لسقوط القمر لثالثة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقت الأنبياء من قبلك. أن صلاة العشاء كانت تصليها الرسل نافلة لهم أي زائدة، ولم تكتب على أممهم كالتهجد، فإنه وجب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يجب علينا، قاله الطيبي. وقال ميرك: يحتمل أنه أراد أنه لم تصلها على النحو الذي تصلونها من التأخير وانتظار الاجتماع في وقت حصول الظلام وغلبة المنام على الأنام، كذا في المرقاة. (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري. 615- قوله: (وعن النعمان) بضم النون. (بن بشير) مكبراً، ابن سعد بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي أبوعبد الله المدني، له ولأبويه صحبة، وأمه عمرة بنت رواحة. ولد على رأس أربعة عشر شهراً من الهجرة، وهو أول مولود ولد في الأنصار بعد قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم -، سكن الشام، ثم ولى إمرة كوفة. ثم حمص. وكان فصيحاً. له مائة وأربعة وعشرون حديثاً، اتفقا على خمسة, وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بأربعة، قتله خالد بن خلى الكلاعي بحمص يوم راهط سنة (64) أو (65) أو (66) وله (64) سنة. (أنا أعلم بوقت هذه الصلاة) هذا من باب التحدث بنعمة الله عليه بزيادة العلم، مع ما فيه من حمل السامعين على اعتماد مرويه، ولعل وقوع هذا القول منه بعد موت غالب أكابر الصحابة وحفاظهم الذين هم أعلم بذلك منه، قاله القاري. ويحتمل أنه قال ذلك على ظن أنه لم يضبط وقت صلاة العشاء من الصحابة أحد كما ضبطه هو بناء على أنه بحث عنه واستقرأه واجتهد في علمه ومشاهدته ما لم ير شيئاً من ذلك لأحد غيره من الصحابة. (صلاة العشاء) بالجر على البدل، وبالنصب بتقدير أعني. (الآخرة) احتراز عن المغرب. (لسقوط القمر) اللام للوقت أي وقت غروبه وغيبته. (لثالثه) أي في ليلة ثالثه من الشهر، وهو متعلق بسقوط القمر، وقيل صفة للقمر أي لسقوط القمر الكائن لليلة ثالثة من الشهر. والحاصل أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي العشاء وقت مغيب القمر في الليلة الثالثة من الشهر، وكان هذا هو الغالب، وإلا فقد علم أنه كان يعجل تارة ويؤخر أخرى حسب ما يرى من المصلحة. قال العلامة في تعليقه على الترمذي: قد استدل بعض علماء الشافعية بهذا الحديث على استحباب تعجيل العشاء. انظر المجموع للنووي (ج3: ص55-58) وتعقبهم ابن التركماني في الجوهر النقي (ج1: ص45) فقال: إن القمر في الليلة الثالثة يسقط بعد مضيى ساعتين ونصف ساعة ونصف سبع ساعة من ساعات تلك الليلة المجزأة على ثنتي عشرة ساعة، والشفق الأحمر يغيب قبل ذلك بزمن كثير، فليس في ذلك دليل على التعجيل عند الشافعية، ومن يقول بقولهم. قال: وقد يظهر هذا النقد صحيحاً دقيقاً في بادي الرأي، وهو صحيح من جهة أن الحديث لا يدل على تعجيل العشاء، وخطأ من جهة حساب غروب القمر، فلعل ابن التركماني راقب غروب القمر في ليلة ثالثة من بعض الشهور، ثم ظن أن موعد غروبه متحد في كل ليلة

رواه أبوداود، والدارمي. ـــــــــــــــــــــــــــــ ثالثة من كل شهر، وليس الأمر كذلك. ثم نقل لإثبات خطأ ابن التركماني جدولين لأوقات غروب القمر في الليالي الثالثة من شهور سنة 1345هـ. وسنة 1356هـ. بحساب مدينة القاهرة ذكر فيهما أوقات العشاء، وأوقات الفجر، وأوقات غروب القمر بالساعة العربية. بتقسيم اليوم والليلة إلى 24 ساعة واحتساب مبدأها من غروب الشمس. قال: ومنه يظهر خطأ ابن التركماني، فإنك إذا قسمت الوقت بين غروب الشمس وبين طلوع الفجر إلى اثنى عشر قسماً – سماها ابن التركماني ساعات – وجدت أن القمر يغرب في بعض الليالي الثالثة قبل الوقت الذي ذكر، وفي بعض الليالي بعده. ومنه يظهر أيضاً أن النعمان بن بشير لم يستقرأ أوقات صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء استقراء تاماً، ولعله صلاها في بعض المرات في ذلك الوقت، فظن النعمان أن هذا الوقت يوافق غروب القمر لثالثة دائماً، ومما يؤيد ذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يلتزم وقتاً معيناً في صلاتها، كما قال جابر بن عبد الله في ذكر أوقات صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -: والعشاء أحياناً يؤخرها، وأحياناً يعجل، إذا رآهم اجتمعوا عجل، وإذا رآهم أبطأوا أخر. وهو حديث صحيح أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وأبوداود والنسائي. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري. (والدارمي) وأخرجه أيضاً أحمد (ج4: ص274) والترمذي والحاكم (ج1: ص194) والبيهقي (ج1: ص448، 449) . قال ابن العربي في عارضة الأحوذى (ج1: ص277) : حديث النعمان حديث صحيح وإن لم يخرجه الإمامان فإن أباداود خرجه عن مسدد، والترمذي عن ابن أبي الشوارب كلاهما عن أبي عوانة، عن أبي بشر جعفر بن أبي وحشية، عن بشير بن ثابت، عن حبيب بن سالم، فأما حبيب بن سالم مولى النعمان بن بشير، فقال أبوحاتم: هو ثقة، وأما بشير بن ثابت، فقال: يحيى بن معين: إنه ثقة. ولا كلام فيمن دونهما، وإن كان هشيم قد رواه عن أبي بشر، عن حبيب بن سالم بإسقاط بشير. وما ذكرناه أصح. وكذلك رواه شعبة وغيره، وخطأ من أخطأ في الحديث لا يخرجه عن الصحة – انتهى. قلت: حديث شعبة أخرجه أحمد (ج4: ص272) عن يزيد بن هارون، والحاكم (ج1: ص194) من طريق يزيد بن هارون، عن شعبة، عن أبي بشر نحو رواية أبي عوانة. وحديث هشيم أخرجه أيضاً أحمد (ج4: ص270) وأبوداود الطيالسي كلاهما عن هشيم، وأخرجه الحاكم (ج1: ص194) من طريق عمرو بن عون، عن هشيم، عن أبي بشر، عن حبيب بن سالم بغير ذكر واسطة بشير بن ثابت، قال الحاكم: تابعه رقبة مصقلة، عن أبي بشر، هكذا اتفق رقبة وهشيم على رواية هذا الحديث عن أبي بشر، عن حبيب بن سالم، وهو إسناد صحيح، وخالفهما شعبة وأبوعوانة فقالا: عن أبي بشر، عن بشير بن ثابت، عن حبيب بن سالم – انتهى. ورقبة بن مصقلة ثقة، وروايته عند النسائي عن محمد بن قدامة، عن جرير بن عبد الحميد. عن رقبة. وهذا كما ترى قد اختلفت الرواية عن أبي بشر، فبعضهم رواه عنه، عن حبيب بن سالم بلا واسطة، وبعضهم رواه عنه، عن بشير بن ثابت، عن حبيب. وقد رجح الترمذي وتابعه ابن العربي رواية من زاد عن بشير بن ثابت. قال الترمذي: وحديث أبي عوانة أصح عندنا؛ لأن يزيد بن هارون روى عن شعبة، عن أبي بشر نحو رواية أبي عوانة،

616- (28) وعن رافع بن خديج، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر)) ـــــــــــــــــــــــــــــ وصرح ابن العربي كما تقدم بأن هشيماً أخطأ في روايته، ولكن متابعة رقبة بن مصقلة له تبعد احتمال الخطأ. والظاهر أن أبا بشر سمعه من حبيب وسمعه من بشير بن ثابت عن حبيب، فكان يرويه مرة هكذا ومرة هكذا كما تراه كثيراً في صنيع الرواة، والإسناد صحيح في الحالين كذا حققه صاحب التعليق، وهو تحقيق جيد. 616- قوله: (أسفروا بالفجر) أي صلوا صلاة الفجر إذا أضاء الفجر وأشرق. (فإنه) أي الإسفار بالفجر. (أعظم للأجر) احتج به الحنفية على أفضلية تأخير الفجر إلى الإسفار. وأجيب عنه بأن استمرار صلاته - صلى الله عليه وسلم - بغلس ومداومته على التغليس يشعر بأن المراد بأسفروا غير ظاهره، فقيل: يحمل على التأخير حتى يتبين وينكشف بحقيقة الأمر، ويعرف يقيناً طلوع الفجر، وعلى هذا "أعظم" ليس للتفضيل. وقيل: يحمل على الليالي المقمرة؛ لأن أول الفجر لايتضح معها لغلبة نور القمر لنوره. وقيل: يحمل على الليالي القصيرة لإدراك النوم الصلاة كما في حديث معاذ بن جبل قال: بعثنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن فقال: يا معاذ إذا كان في الشتاء فغلس بالفجر، وأطل القراءة قدر ما يطيق الناس ولا تملهم، وإذا كان الصيف فأسفر بالفجر، فإن الليل قصير والناس ينامون، فأمهلهم حتى يدركوا. ذكره البغوي في شرح السنة، وأخرجه بقي بن مخلد في مسنده، وأبونعيم في الحلية. وقيل: المراد طولوا القراءة في صلاة الصبح حتى تخرجوا منها مسفرين، وهو الأوفق بحديث: ما أسفرتم بالفجر فإنه أعظم للأجر، قال الإمام ابن القيم في إعلام الموقعين بعد ذكر حديث رافع بن خديج ما لفظه: وهذا بعد ثبوته إنما المراد به الإسفار دواماً لا ابتداء فيدخل فيها مغلساً، ويخرج منها مسفراً كما كان يفعله - صلى الله عليه وسلم -، فقوله موافق لفعله لا مناقض له، وكيف يظن به المواظبة على فعل ما الأجر الأعظم في خلافه – انتهى. وهذا هو الذي اختباره الطحاوي في شرح الآثار، وبسط الكلام فيه، وقال في آخره: فالذي ينبغي الدخول في الفجر في التغليس والخروج منها في وقت الإسفار، على موافقة ما روينا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن – انتهى. ولا يخدش هذا الجواب حديث عائشة المتقدم: فتنصرف النساء ما يعرفن من الغلس؛ لأنه يمكن أن يقال: إنه كان أحياناً. وقيل في جواب حديث رافع هذا: أن قوله: أسفروا بالفجر، مروي بالمعنى، والأصل أصبحوا بالصبح، كما في رواية أبي داود. قال الجزري: أي صلوها عند طلوع الصبح، يقال: أصبح الرجل إذا دخل في الصبح – انتهى. قال السيوطي في حاشية أبي داود: وبهذا يعرف أن رواية من روى هذا الحديث بلفظ "أسفروا بالفجر" مروية بالمعنى، وأنه دليل على أفضلية التغليس بها لا على التأخير إلى الإسفار-انتهى. وقال السندي في حاشية ابن ماجه: تعين أن "أسفروا " منقول بالمعنى، محتاج إلى الدليل، إذ يمكن العكس. نعم! قد سقط استدلال من يقول بالإسفار بلفظ "أسفروا"؛ لاحتمال أنه من تصرف الرواة، والأصل أصبحوا، كما سقط استدلال من يقول بالتغليس بلفظ "أصبحوا" لاحتمال أنه من تصرف الرواة، إلا أن يقال

{الفصل الثالث}

رواه الترمذي، وأبوداود، والدارمي، وليس عند النسائي: فإنه أعظم للأجر. {الفصل الثالث} 617- (29) عن رافع بن خديج، قال: ((كنا نصلي العصر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم تنحر الجزور فتقسم عشر قسم، ثم تطبخ، فنأكل لحماً نضيجاً قبل مغيب الشمس)) ـــــــــــــــــــــــــــــ الموافق لأدلة التغليس لفظ أصبحوا، وتلك أدلة كثيرة، ولا دليل على الإسفار إلا هذا الحديث بلفظ "أسفروا" والأصل عدم التعارض، فالظاهر أن الأصل لفظ "أصبحوا" الموافق لباقي الأدلة لا لفظ "أسفروا" المعارض، وإنما جاء لفظ "أسفروا" من تصرف الرواة، لكن قد يقال "أسفروا" هو الظاهر لا "أصبحوا"؛ لأنه لو كان "أصبحوا" صحيحاً لكان مقتضى قوله "أعظم للأجر" أنه بلا إصباح تجوز الصلاة وفيها أجر دون أجر، ويمكن الجواب بأن معنى "أصبحوا" تيقنوا بالإصباح بحيث لا يبقى فيه أدنى وهم، ولو كان ذلك الوهم غير مناف للجواز، وذلك لأنه إذا قوى الظن بطلوع الفجر يجوز الصلاة ويثاب عليها، لكن التأخير حتى يتبين وينكشف بحيث لا يبقى وهم ضعيف فيه أولى وأحسن، فأجره أكثر، وعلى هذا المعنى حمل الإسفار إن صح توفيقاً بين الأدلة – انتهى كلام السندي. قلت: أحسن الأجوبة وأسلمها وأولاها ما قاله الإمام ابن القيم بأن المراد الإسفار دواماً لا ابتداء، والله أعلم. (رواه الترمذي) وقال حديث حسن صحيح. (وأبوداود) وسكت عليه هو والمنذري. (والدارمي) وأخرجه أيضاً الطيالسي وأحمد (ج3: ص465، وج4: ص140، 142، 143) وابن ماجه والبيهقي وابن حبان والطبراني والطحاوي في معاني الآثار، قال الحافظ في الفتح: رواه أصحاب السنن، وصححه غير واحد. 617- قوله: (الجزور) بفتح الجيم، قال الطيبي: هو البعير ذكراً كان أو أنثى إلا أن اللفظ مؤنثة، يقال: هذه الجزور وإن أردت ذكراً – انتهى. وقال النووي: الجزور-بفتح الجيم- لا يكون إلا من إلإبل، وقال المجد في القاموس: الجزور البعير، أو خاص بالناقة المجزورة، الجمع جزائر، وجزر، وجزرات. (فتقسم عشر قسم) بكسر القاف وفتح السين، جمع قسمة. (ثم تطبخ) بالتأنيث، وفي بعض النسخ "نطبخ" بالنون، وكذا وقع في صحيح مسلم، وهو من باب نصر ومنع. (لحماً نضيجاً) أي مشوياً، وقال الجزري: النضيج المطبوخ، فعيل بمعنى مفعول. (قبل مغيب الشمس) قال الطيبي: في تخصيص القسم بالعشر، والطبخ بالنضج، وعطف تنحر على نصلي إشعار بإمتداد الزمان، وأن الصلاة واقعة أول الوقت. قلت: الحديث يدل على مشروعية المبادرة بصلاة العصر وتعجيلها، فإن نحر الجزور ثم قسمتها ثم طبخها ثم أكلها نضجاً، ثم الفراغ من ذلك قبل غروب الشمس من أعظم المشعرات بالتبكير بصلاة العصر، فهو من حجيج

متفق عليه. 618- (30) وعن عبد الله بن عمر، قال: ((مكثنا ذات ليلة ننتظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة العشاء الآخرة، فخرج إلينا حين ذهب ثلث الليل أو بعده، فلا ندري: أشيء شغله في أهله أو غير ذلك؟ فقال حين خرج: إنكم لتنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم، ولولا أن يثقل على أمتي لصليت بهم هذه الساعة. ثم أمر المؤذن، فأقام الصلاة وصلى)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الجمهور، وهو يرد ما قاله أبوحنيفة من أن أول وقت العصر مصير ظل الشيء مثليه، وقد خالفه الناس في ذلك، ومن جملة المخالفين له أصحابه، وقد تقدم البسط في ذلك. (متفق عليه) أخرجه البخاري في كتاب الشركة، وهو من الأحاديث المذكورة في غير مظنتها، وأخرجه مسلم في الصلاة، واللفظ له، وفي الباب عن أنس عند مسلم. 618- قوله: (مكثنا) بفتح الكاف وضمها، أي لبثنا في المسجد. (ذات ليلة) أي ليلة من الليالي (صلاة العشاء) ظرف لننتظر أي ننتظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقت صلاة العشاء. (الآخرة) بالجر على النعت، ولعل تأنيثها باعتبار مرادف العشاء، وهو العتمة، وجوز النصب على أنها صفة الصلاة أو بتقدير أعني. (حين ذهب) أي مضى. (أو بعده) عطف على حين ذهب وأو للشك من الراوي. (أشيء شغله) أي عن تقديمها المعتاد. (أو غير ذلك) بأن قصد بتأخيرها إحياء طائفة كثيرة من أول الليل بالسهر في العبادة التي هي انتظار الصلاة. وغير بالرفع عطف على شيء، وبالجر عطف على أهله، قاله القاري. (فقال حين خرج) من الحجرة الشريفة. (ما ينتظرها أهل دين غيركم) ؛ لأنها صلاة مخصوصة بهذه الأمة كما في حديث معاذ بن جبل المتقدم، أي فانتظاركم لها شرف مخصوص بكم فلا تكرهوه. قال القاري: غيركم بالرفع على البدل، وبالنصب على الاستثناء، والأول هو المختار، أي انتظار هذه الصلاة من بين سائر الصلوات من خصوصياتكم التي خصكم الله بها، فكلما زدتم يكون الأجر أكمل مع أن الوقت زمان يقتضي الاستراحة، فالمثوبة على قدر المشقة-انتهى. (ولولا أن يثقل) بصيغة التذكير أي التأخير أو هذا الفعل، وفي سنن أبي داود: تثقل، بالتأنيث أي الصلاة هذه الساعة. (لصليت بهم) أي دائماً. (هذه الساعة) قال الطيبي: أي لزمت على صلاتها في مثل هذه الساعة. وفي الحديث أنه يستحب للإمام والعالم إذا تأخر عن أصحابه، أو جرى منه ما يظن أنه يشق عليهم أن يعتذر إليهم ويقول: لكم في هذا مصلحة من جهة كذا، أو كان لي عذر، أو نحو هذا. وفيه أيضاً التصريح بأن ترك التأخير إنما هو للمشقة والثقل على الأمة. واختلفوا هل الأفضل تقديمها أم تأخيرها ويأتي أيضاح القول الحق فيه في شرح حديث أبي سعيد الآتي. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي.

619- (31) وعن جابر بن سمرة، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الصلوات نحوا من صلاتكم، وكان يؤخر العتمة بعد صلاتكم شيئاً، وكان يخفف الصلاة)) رواه مسلم. 620- (32) وعن أبي سعيد، قال: ((صلينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة العتمة، فلم يخرج حتى مضى نحو من شطر الليل، فقال: خذوا مقاعدكم، فأخذنا مقاعدنا، فقال: إن الناس قد صلوا وأخذوا مضاجعهم، وإنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة، ولولا ضعف الضعيف وسقم السقيم، لأخرت هذه الصلاة إلى شطر الليل) ـــــــــــــــــــــــــــــ 619- قوله: (نحواً) أي قريباً. (من صلاتكم) أي في هذه الأوقات المعتادة لكم. (وكان يؤخر العتمة) أي العشاء، وإطلاق العتمة على العشاء لبيان الجواز وأن النهي للتنزيه لا للتحريم، أو للتعريف؛ لأنها أشهر عندهم. (بعد صلاتكم) في وقتكم المعتاد. (شيئاً) أي يسيراً أو كثيراً. (وكان يخفف الصلاة) وفي صحيح مسلم: وكان يخفف في الصلاة. أي بزيادة "في" قال ابن حجر: أي إذا كان إماماً، وذلك أغلبي أيضاً لما يأتي أنه عليه الصلاة والسلام طول بهم حيث قرأ الأعراف في ركعتي المغرب-انتهى. والحديث يدل على استحباب مطلق التأخير للعشاء، وهو مقيد بنصف الليل أو ثلثه. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي مختصراً بلفظ: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤخر العشاء الآخرة. 620- قوله: (صلينا) أي أردنا أن نصلي جماعة. (نحو) أي قريب. (من شطر الليل) أي نصفه. (فقال) أي فخرج فقال: (خذوا) أي الزموا. (فأخذنا مقاعدنا) أي ما تفرقنا عن أماكننا. (إن الناس) أي غير أهل مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -. (قد صلوا) بفتح اللام. (وأخذوا مضاجعهم) أي مكانهم للنوم يعني وناموا. (لن تزالوا) وفي بعض نسخ أبي داود: لم تزالوا. (في صلاة) أي حكماً وثواباً، والتنكير للتعميم لئلا يتوهم خصوص الحكم بصلاة العشاء، أي أى صلاة انتظرتموها فأنتم فيها مادمتم تنتظرونها. (ولولا ضعف الضعيف) الخ. هو بضم أو فتح فسكون، والسقم بضم فسكون أو بفتحتين، ومقتضى الموافقة أن يختار فيهما الضم مع السكون، ثم السقم هو المرض، والضعف أعم فقد يكون بدونه، أي لولا مخافة المشقة عليهما. زاد أحمد في روايته: وحاجة ذي الحاجة. (لأخرت) أي دائما. (هذه الصلاة) أي العشاء. (إلى شطر الليل) أي نصفه أو قريباً منه وهو الثلث. والحديث فيه تصريح بأفضلية التأخير لولا ضعف الضعيف، وسقم السقيم، وحاجة ذي الحاجة، وهو من حجج من قال: بأن التأخير أفضل، قال الحافظ في الفتح بعد ذكر حديث أبي سعيد هذا وحديث أبي هريرة المتقدم بلفظ "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه" ما نصه: فعلى هذا من وجد به قوة على تأخيرها، ولم يغلبه النوم، ولم يشق على أحد من المأمورين، فالتأخير في حقه أفضل، وقد قرر النووي ذلك في شرح مسلم، وهو اختيار كثير من أهل الحديث من الشافعية وغيرهم، والله أعلم. ونقل انب المنذر عن الليث وإسحاق: أن

رواه أبوداود والنسائي. 621- (33) وعن أم سلمة، قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشد تعجيلا للظهر منكم، وأنتم أشد تعجيلاً للعصر منه)) رواه أحمد، والترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ المستحب تأخير العشاء إلى قبل الثلث، وقال الطحاوي: يستحب إلى الثلث، وبه قال مالك وأحمد وأكثر الصحابة والتابعين، وهو قول الشافعي في الجديد، وقال في القديم التعجيل أفضل، وكذا قال في الإملاء، وصححه النووي، وجماعة، وقالوا: إنه مما يفتى به في القديم، وتعقب بأنه ذكره في الإملاء وهو من كتبه الجديدة والمختار من حيث الدليل أفضلية التأخير، ومن حيث النظر التفضيل، والله أعلم-انتهى كلام الحافظ. (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري. (والنسائي) وأخرجه أيضاً أحمد وابن ماجه وابن خزيمة في صحيحه، وغيرهم، واللفظ المذكور لأبي داود. وقال الشوكاني: وإسناده صحيح. 621- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشد تعجيلاً للظهر منكم) فيه دليل على استحباب تعجيل الظهر، ونحوه ما روى الترمذي عن عائشة: ما رأيت أحداً أشد تعجيلا للظهر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا من أبي بكر، ولا من عمر. قال ابن قدامة في المغنى: لا نعلم في استحباب لتعجيل الظهر في غير الحر والغيم خلافاً-انتهى. (وأنتم أشد تعجيلا للعصر منه) قال الطيبي: ولعل هذا للإنكار عليهم بالمخالفة. قال القاري: الظاهر أن الخطاب لغير الأصحاب، قال: وفي الجملة يدل الحديث على استحباب تأخير العصر كما هو مذهبنا. قلت: وكذا استدل به العيني في البناية شرح الهداية على أفضلية تأخير العصر. وقد أجاب عن هذا الاستدلال الشيخ عبد الحي اللكنوي فقال: ولا يخفى على الماهر ما في الاستناد بهذا الحديث، فإنه إنما يدل على كون التعجيل في الظهر أشد من التعجيل في العصر، لا على استحباب التأخير. وقال شيخنا في شرح الترمذي بعد نقل كلام القاري: ليس فيه دلالة على استحباب تأخير العصر، نعم فيه أن الذين خاطبتهم أم سلمة كانوا أشد تعجيلاً للعصر منه - صلى الله عليه وسلم -، وهذا لايدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يؤخر العصر، حتى يستدل به على استحباب التأخير. وقال صاحب العرف الشذى ما لفظه: حديث الباب ظاهره مبهم والتأخير ههنا إضافي، وإطلاق الألفاظ الإضافية ليست بفاصلة-انتهى. ثم قال بعد هذا الاعتراف: نعم يخرج شيء لنا-انتهى. قال شيخنا: لا يخرج لكم شيء من هذا الحديث أيها الأحناف، كيف وظاهره مبهم، والتأخير فيه إضافي، وأطلق فيه اللفظ الإضافي، وهو ليس بفاصل، وقد ثبت بأحاديث كثيرة صحيحة صريحة استحباب التعجيل، وترك الأحاديث الصحيحة الصريحة في أفضلية التعجيل، والتشبث بمثل هذا الحديث ليس إلا من أثر التقليد، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. (رواه أحمد) (ج6: ص289، 310) . (والترمذي) قال العلامة أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي: لم أجده في شيء من الكتب الستة وغيرها إلا في الترمذي ومسند أحمد.

622- (34) وعن أنس، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان الحر أبرد بالصلاة وإذا كان البرد عجل)) رواه النسائي. 623- (35) وعن عبادة الصامت، قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنها ستكون عليكم بعدي أمراء يشغلهم أشياء عن الصلاة لوقتها حتى يذهب وقتها، فصلوا الصلاة لوقتها. فقال رجل: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! أصلي معهم؟ قال: نعم)) رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ 622- قوله: (أبرد) من الإبراد وهو الدخول في البرد، والباء للتعدية أي أدخلها في البرد، وأخرها عن شدة الحر في أول الزوال، وكان حد التأخير غالباً أن يظهر الفئ للجدر. (بالصلاة) أي بصلاة الظهر، ففي رواية الإسماعيلي والبيهقي: كان إذا كان الشتاء بكر بالظهر، وإذا كان الصيف أبرد بها. والحديث فيه دليل على استحباب تأخير الظهر عن أول وقته في الحر، وقد تقدم الكلام فيه. واختلفوا في مشروعية الإبراد بالجمعة، وليس عند القائلين بالإبراد بالجمعة نص، إنما هو بالقياس على الظهر. (رواه النسائي) قال المجد بن تيمية في المنتقى: وللبخاري نحوه يعني حديث أنس الذي أخرجه البخاري في "باب إذا اشتد الحر يوم الجمعة" لفظ: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتد البرد بكر بالصلاة، وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة. وسيأتي في باب الخطبة والصلاة من أبواب الجمعة. 623- قوله: (إنها) الضمير للقصة ويفسرها ما بعدها. (يشغلهم) بفتح الياء والغين المعجمة، ويجوز أن يكون بضم الياء وكسر الغين، وفي سنن أبي داود بالتاء بدل التحتية، أي يمنعهم. (أشياء) أي أمور. (عن الصلاة) أي عن أداء جنس الصلاة. (حتى يذهب وقتها) أي وقتها مطلقاً، فإنهم كانوا يخرجونها عن جميع وقتها كما تقدم. وقيل وقتها المستحب المختار. (فصلوا) أي إذا كان كذلك فصلوا أنتم أي في بيوتكم كما في حديث ابن مسعود عند ابن ماجه. (الصلاة لوقتها) أي ولو منفردين لكن على وجه لا يترتب عليه فتنة ومفسدة. (أصلي) بحذف حرف الاستفهام. (معهم) أي مع الإمام والجماعة إذا أدركتها معهم. (قال: نعم) ؛ لأنها زيادة خير ودفع شر، زاد أحمد وكذا أبوداود "إن شئت" بعد قوله نعم. ولا أدري لِم لم يذكرها المصنف، وفي لفظ لأحمد: واجعلوا صلاتكم معهم تطوعاً. والحديث فيه دليل على وجوب تأدية الصلاة لوقتها وترك ما عليه أمراء الجور من التأخير، وعلى استحباب الصلاة معهم؛ لأن الترك من دواعي الفرقة، وعدم الوجوب لقوله في هذا الحديث: إن شئت، وقوله: تطوعاً، وفيه دليل على أن المعادة نافلة، وأن إمامة الفاسق تجوز، وسيأتي الكلام عليه. (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري، وأخرجه أيضاً أحمد (ج5: ص314، 315) وابن ماجه، قال الشوكاني: الحديث رجال إسناده في سنن أبي داود ثقات. قلت: الحديث حسن أو صحيح، ويشهد له حديث

624- (36) وعن قبيصة بن وقاص، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يكون عليكم أمرآء من بعدي يؤخرون الصلاة، فهي لكم، وهي عليهم؛ فصلوا معهم ما صلوا القبلة)) رواه أبوداود. 625- (37) وعن عبيد الله بن عدي بن الخيار: ((أنه دخل على عثمان وهو محصور، فقال: إنك إمام عامة، ـــــــــــــــــــــــــــــ أبي ذر المقدم، وحديث ابن مسعود عند ابن ماجه، وحديث قبيصة الآتي وغير ذلك من الأحاديث التي ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد (ج1: ص324، 325) . 624- قوله: (وعن قبيصة) بفتح أوله وكسر الموحدة. (بن وقاص) بفتح الواو وتشديد القاف السلمي، ويقال: الليثي وهو أصح، صحابي نزل البصرة، له هذا الحديث فقط، لا يعرف له غير هذا الحديث الواحد، ذكره في الصحابة البخاري، وابن أبي خيثمة، وأبوعلي بن السكن، وأبوزرعة الرازي، وغيرهم. (يؤخرون الصلاة) أي عن وقتها. (فهي لكم وهي عليهم) أي الصلاة المؤخرة عن الوقت نافعة لكم؛ لأن تأخيركم للضرورة تبعاً لهم ومضرة عليهم؛ لأنهم يقدرون على عدم التأخير وإنما شغلهم أمور الدنيا عن أمر العقبى. وقال الطيبي: أي إذا صليتم أول وقتها ثم صليتم معهم تكون منفعة صلاتكم لكم، ومضرة الصلاة ووبالها عليهم لما أخروها، كما في الفصل الأول في الحديث الثالث عشر. (فصلوا) بضم اللام. (معهم) أي مع الأمراء. (ما صلوا) بفتح اللام. (القبلة) أي ماداموا مصلين متوجهين إلى القبلة، وهي الكعبة الحرام، يعني ما داموا مسلمين صلوا معهم الصلاة وإن أخروها عن أوقاتها. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري. 625- قوله: (وعن عبيد الله) بالتصغير. (بن عدي) بفتح العين وكسر الدال وتشديد الياء. (بن الخيار) بكسر الخاء معجمة وتخفيف الياء التحتية، ابن عدي بن نوفل بن عبد مناف القرشي النوفلي المدني، يقال: قتل أبوه ببدر كافراً، ولد عبيد الله في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكره ابن حبان في الصحابة، وقال: له رؤية، ثم ذكره في ثقات التابعين. وذكره الحافظ في الإصابة في القسم الثاني من حرف العين، وقال في التقريب: كان هو في الفتح مميزاً فعد في الصحابة لذلك، وعده العجلي وغيره في ثقات التابعين، مات في خلافة الوليد بن عبد الملك، وقيل سنة (90) . قال ابن إسحاق: حدثني الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار. وكان من فقهاء قريش وعلمائهم، وقد أدرك أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - متوافرين. (أنه دخل على عثمان) قيل: كان عثمان من أقارب عبيد الله بن عدي. (وهو محصور) أي محبوس في داره، ممنوع عن أموره، حصره أهل الفتنة من قبل اختلاط فسقة، اجتمعوا عليه من مصر وغيرها لإرادة خلعه أو قتله، لما زعموا من أمره بقتل محمد بن أبي بكر وغير ذلك مما هو بريء منه. (إمام عامة) أي جماعة، يعني أنت أمير المؤمنين

ونزل بك ما ترى، ويصلي لنا إمام فتنة، ونتحرج، فقال: الصلاة أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساؤا فاجتنب إساءتهم)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ وخليفة المسلمين وإمامهم لإجماع أهل الشورى وغيرهم على إمامته. وفي رواية الإسماعيلي: وأنت الإمام، أي الإمام الأعظم. (ونزل بك ما ترى) أي من الحصار وخروج الخوارج عليك. (ويصلي لنا) أي يؤمنا. (إمام فتنة) أي رئيسها عبد الرحمن بن عديس البلوي أحد رؤوس المصريين الذين جلبوا على عثمان أهل مصر وحصروه في داره، أو هو كنانة بن بشر أحد رؤوسهم أيضاً، قال الحافظ وهو المراد هنا. (ونتحرج) وفي رواية عند الإسماعيلي وأبي نعيم: وإنا لنتحرج من الصلاة معه، والتحرج التأثم أي نخاف الوقوع في الإثم بمتابعته، وأصل الحرج الضيق ثم استعمل للإثم؛ لأنه يضيق على صاحبه. (الصلاة أحسن ما يعمل الناس) الصلاة مبتدأ وقوله: أحسن مضاف إلى ما بعده خبره، أى الصلاة أفضل أعمال المسلمين. (فإذا أحسن الناس فأحسن معهم) ظاهره أنه أذن ورخص له في الصلاة معهم، كأنه يقول: لا يضرك كونه مفتوناً بفسق، بل إذا أحسن فوافقه على إحسانه واترك ما افتتن به. قال الطيبي: وفيه دليل على جواز الصلاة خلف الفرقة الباغية وكل فاجر-انتهى. (وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم) من قول أو فعل أو اعتقاد. لا صلاة التي هي أحسن أنواع الإحسان معهم، وفيه التحذير من الفتنة والدخول فيها، ومن جميع ما ينكر من قول أو فعل أو اعتقاد، وفي هذا الأثر الحض على شهود الجماعة ولاسيما في زمن الفتنة لئلا يزداد تفرق الكلمة، وفيه أن الصلاة خلف من تكره الصلاة خلفه أولى من تعطيل الجماعة. واعلم أنهم اختلفوا في صحة إمامة الفاسق بجارحة واعتقاد، والراجح عندي أنه يجوز الإئتمام بالفاسق إذا لم يكن فسقه بجوارحه أو اعتقاده من الأمور التي يكفر بها صاحبها، لما لم يصح شيء في المنع عن الإئتمام بهم، وقد ورد ما يدل على صحة إمامته عند أبي داود وغيره، وهو وإن كان ضعيفاً لكنه قد تأيد بما كان عليه السلف الصالح من الصلاة خلف الأمراء المشتهرين بظلم العباد والإفساد في البلاد، وبما هو الأصل والأصيل، وهو أن من صحت صلاته لنفسه صحت لغيره، فلا نتنقل عن هذا الأصل إلى غيره إلا لدليل ناهض، نعم يجب أن يجعل المصلون إمام صلاتهم من خيارهم عند القدرة، كما أخرجه الدارقطني عن ابن عباس مرفوعاً: اجعلوا أئمتكم خياركم، فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم، وفي إسناده سلام بن سليمان المدائني وهو ضعيف، وأخرج الحاكم في ترجمة مرثد الغنوي عنه - صلى الله عليه وسلم -: إن سركم أن تقبل صلاتكم فليؤمكم خياركم، فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم. ولكن ليس محل النزاع إلا أنه لا يصح أن يكون الفاسق ومن في حكمه إماماً، لا في أن الأولى أن يكون الإمام من الخيار، فإن ذلك لا خلاف فيه، وسيأتي بسط الكلام في هذه المسألة في باب الإمامة إن شاء الله تعالى. (رواه البخاري) في باب إمامة المفتون والمبتدع، قال: وقال لنا محمد بن يوسف: حدثنا الأوزاعي قال: حدثنا الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار، الخ. وإنما عبر بصيغة "قال لنا" ولم يقل حدثنا أو أخبرنا مع متصل من حيث اللفظ والمعنى؛ لأن المتن

(3) باب فضائل الصلاة

(3) باب فضائل الصلاة {الفصل الأول} 626- (1) عن عمارة بن رويبة، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها. يعني الفجر والعصر)) ـــــــــــــــــــــــــــــ موقوف. قال الحافظ: والذي ظهر لي باستقراء أنه لا يعبر بهذه الصيغة إلا إذا كان المتن موقوفاً، أو كان فيه راو ليس على شرطه، والذي هنا من قبيل الأول، وقد وصله الإسماعيلي، ورواه أبونعيم الأصبهاني. (باب فضائل الصلاة) كذا وقع في بعض النسخ، وفي بعضها "باب في فضل الصلوات في مواقيتها"، وفي بعضها "باب" لا غير، وهو بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هذا باب، ويجوز فيه الوقف على سبيل تعداد الكلمات فلا إعراب له حينئذٍ؛ لأن الإعراب لا يكون إلا بعد العقد والتركيب، قال ابن حجر: أي في متمات فضائل الصلوات وأوقاتها، ووقع في المصابيح فصل لا غير، قال ابن الملك: إنما أفرد هذا الفصل عما تقدم؛ لأن أحاديثه من جنس آخر-انتهى. 626- قوله: (عن عمارة) بضم العين وتخفيف الميم. (بن رويبة) بضم الراء وفتح الواو وسكون التحتية بعدها موحدة. الثقفي، يكنى أبا زهير الكوفي. صحابي نزل الكوفة. له تسعة أحاديث، انفرد له مسلم بحديثين، تأخر إلى ما بعد السبعين. (لن يلج) أي لن يدخل. (النار) أي أصلاً للتعذيب، وقيل: أو على وجه التأبيد (صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها يعني الفجر والعصر) أي داوم على أدائهما، وخص الصلاتين بالذكر؛ لأن وقت الصبح وقت لذيذ السكرى والنوم. والقيام فيه أشق على النفس من القيام في غيره. ووقت صلاة العصر وقت قوة الاشتغال بالتجارة، وحينئذٍ يحمى البيع والشراء، فمن يتلهى عنه إلا من كمل دينه. قال تعالى. {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة} [24: 37] ، والمسلم إذا حافظ عليهما مع ما فيه من التثاقل والشاغل كان الظاهر من حاله أن يحافظ على غيرهما أشد محافظة، وما عسى أن يقع منه تفريط، ولأن الوقتين مشهودان يشهدهما ملائكة الليل والنهار، ويرفعون فيهما أعمال العباد إلى الله تعالى، فبالحري أن من داوم عليهما لا يدخل النار أصلا، ويدخل الجنة لصيرورة ذلك مكفر الذنوب، وإن كان هذا ينافي ما عليه الجمهور من اختصاص كفارة الصلاة بالصغائر، ولكن فضل الله واسع، وقيل: خصتا بالذكر؛ لأن أكرم أهل الجنة على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية، كما في حديث ابن عمر عند أحمد والترمذي، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا، الخ. يدل على رؤية الله تعالى والنظر إلى وجهه قد يرجى نيله بالمحافظة على

رواه مسلم. 627- (2) وعن أبي موسى، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى البردين دخل الجنة)) متفق عليه. 628- (3) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يتعاقبون ـــــــــــــــــــــــــــــ هاتين الصلاتين اللتين تؤديان طرفي النهار غدوة وعشية. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي. 627- (من صلى البردين) بفتح الموحدة وسكون الراء تثنية برد، قال البغوي: أراد بهما صلاة الفجر والعصر لكونهما في طرفي النهار، وقال الخطابي: سميتا بردين؛ لأنهما تصليان في بردي النهار، وهما طرفاه حين يطيب الهواء وتذهب سورة الحر- انتهى. قال التوربشتي: أراد به المحافظة على صلاتي الصبح والعصر لما في حديث فضالة بن عبيد (عند أبي داود والحاكم) : حافظ على العصرين، قال: وما كانت لغتنا، فقامت: وما العصران؟ قال: صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها. ومن المفهوم الواضح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخصص هاتين الصلاتين تسهيلاً للأمر في إضاعة غيرهما من الصلوات، أو ترخيصاً لتأخيرها عن أوقاتها، وإنها أمر بأدائهما في الوقت المختار والمحافظة عليهما في جماعة لما فيهما من الفضل والزيادة في الأجر. قال: وهذا الذي ذكرناه من طريق المفهوم في تفسير هذا الحديث، فمعظمه مذكور في حديث فضالة، فإنه لما قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: حافظ على الصلوات، قال: إن هذه ساعات لي فيها أشغال، فمرني بأمر جامع إذا أنا فعلته أجزأ عني، فقال: حافظ على العصرين، وقد علم - صلى الله عليه وسلم - أنه إذا حافظ عليهما مع ما في وقتهما من الشواغل والقواطع لم يكن ليضيع غيرهما من الصلوات، والأمر في إقامة ذلك أيسر- انتهى. (دخل الجنة) أي دخولاً أولياً، وهو جواب الشرط وعدل عن الأصل وهو فعل المضارع كأن يقول: يدخل الجنة، إرادة للتأكيد في وقوعه يجعل ما سيقع كالواقع. (متفق عليه) في المحافظة على صلاتي الصبح والعصر أحاديث عن جماعة من الصحابة في الصحيحين وغيرهما، ذكرها المنذري في الترغيب، وعلي المتقي في الكنز، والهيثمي في مجمع الزوائد. 628- قوله: (يتعاقبون) أي تأتي طائفة عقب طائفة، ثم تعود الأولى عقب الثانية، والواو في يتعاقبون لعلامة جمع الفاعل المذكر على لغة بلحارث، وليس بفاعل، فإن إظهار ضمير الجمع والتثنية في الفعل إذا تقدم جائز عندهم، وهم القائلون أكلوني البراغيث. قال القرطبي: هذه لغة فاشية، ولها وجه في القياس صحيح، وعليها حمل الأخفش قوله تعالى: {وأسروا النجوى الذين ظلموا} [21: 3] وقيل: فاعل "يتعاقبون" مضمر، تقديره ملائكة يتعاقبون، وقوله: ملائكة بالليل، بدل من الضمير الذي فيه، أو بيان، كأنه قيل: من هم؟ فقيل ملائكة. وقيل: "ملائكة بالليل" مبتدأ خبره"يتعاقبون فيكم" تقدم عليه لفظاً، هذا هو المشهور في مثله. ورد بأن في هذا الحديث وقع اختصار من الرواة، ففي رواية البخاري في بدء الخلق "الملائكة يتعاقبون ملائكة بالليل وملائكة بالنهار"، وحينئذٍ ففي سياقه هنا إضمار الفاعل، كأن الراوي اختصر المسوق هنا من المذكور في بدء الخلق, وأخرجه البزار، وابن خزيمة، والسراج من وجه آخر بلفظ: إن لله ملائكة

فيكم ملائكة في الليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم- وهو أعلم بهم- كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون)) ـــــــــــــــــــــــــــــ يتعاقبون. (فيكم) أي في المصلين. (ملائكة) هم الحفظة عند الأكثرين، وقال القرطبي: الأظهر عندي أنهم غيرهم، قال الحافظ: ويقويه أنه لم ينقل أن الحفظة يفارقون العبد، ولا أن حفظة الليل غير حفظة النهار، وبأنهم لو كانوا هم الحفظة لم يقع الاكتفاء في السؤال منهم عن حالة الترك دون غيرها في قوله: كيف تركتم عبادي؟ - انتهى. وتنكير ملائكة في الموضعين ليفيد أن الثانية غير الأولى كقوله تعالى: {غدوها شهر ورواحها شهر} [34: 12] . (ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر) أي في وقتهما. فإن قلت: التعاقب يغائر الاجتماع، أجيب بأن تعاقب الصنفين لا يمنع اجتماعهما؛ لأن التعاقب أعم من أن يكون معه اجتماع هكذا، أو لا يكون معه اجتماع كتعاقب الضدين، أو المراد حضورهم معهم الصلاة في الجماعة، فينزل على حالين، وتخصيص اجتماعهم معهم في الورود والصدور بأوقات العبادة تكرمة بالمؤمنين ولطفاً بهم؛ لتكون شهادتهم بأحسن الثناء وأطيب الذكر، ولم يجعل اجتماعهم معهم في حال خلواتهم بلذاتهم وانهماكهم على شهواتهم، فلله الحمد. (الذين باتوا فيكم) وفي رواية للنسائي: الذين كانوا فيكم، وهي أوضح لشمولها لملائكة الليل والنهار، وفي الأولى استعمال لفظ "بات" في الإقامة مجازاً، فلا تختص بليل دون نهار ولا نهار دون ليل، فكل طائفة منهم إذا صعدت سئلت، ويكون قوله "فيسألهم" أي كلا من الطائفتين في الوقت الذي يصعد فيه، والدليل على حمل بات على الإقامة رواية النسائي، بل قد وقع في حديث أبي هريرة هذا من وجه آخر عند ابن خزيمة في صحيحه مرفوعاً التصريح بسؤال كل من الطائفتين، ولفظه: تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر وصلاة العصر، فيجتمعون في صلاة الفجر، فتصعد ملائكة الليل وتثبت ملائكة النهار، ويجتمعون في صلاة العصر فتصعد ملائكة النهار وتبيت ملائكة الليل، فيسألهم ربهم كيف تركتم عبادي؟ الحديث. فهذه الرواية تزيل الإشكال وتغني عن كثير من الاحتمالات التي ذكرها الشراح، فهي المعتمدة ويحمل ما نقص منها على تقصير بعض الرواة. (فيسألهم) قيل: الحكمة فيه استدعاء شهادتهم لبني آدم بالخير واستنطاقهم بما يقتضي التعطف عليهم، وذلك لإظهار الحكمة في خلق الإنسان في مقابلة من قال من الملائكة: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم مالا تعلمون} [2: 30] أي وقد وجد فيهم من يسبح ويقدس مثلكم بنص شهادتكم. وقال عياض: هذا السؤال على سبيل التعبد للملائكة، كما أمروا أن يكتبوا أعمال بني آدم، وهو سبحانه وتعالى أعلم من الجميع بالجميع. (وهو أعلم بهم) أي بالمصلين من الملائكة، فحذف صلة أفعل التفضيل. (كيف تركتم عبادي) وقع السؤال عن آخر الأعمال؛ لأن الأعمال بخواتيمها، قاله ابن أبي جمرة. (تركناهم وهم يصلون وأتيناهم) أي جئناهم ونزلنا عليهم. (وهم يصلون) لم يراعوا الترتيب الوجودي؛ لأنهم بدءوا بالترك قبل الإتيان، والحكمة فيه أنهم

متفق عليه. 629- (4) وعن جندب القسري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ـــــــــــــــــــــــــــــ طابقوا السؤال؛ لأنه قال: كيف تركتم، ولأن المخبر به صلاة العباد والأعمال بخواتيمها، فناسب ذلك إخبارهم عن آخر عملهم قبل أوله، وقوله: تركناهم وهو يصلون، ظاهره أنهم فارقوهم عند شروعهم في العصر، سواء تمت أم منع مانع من إتمامها، وسواء شرع الجميع فيها أم لا؛ لأن المنتظر في حكم المصلي، ويحتمل أن يكون المراد بقوله "وهم يصلون" أي ينتظرون المغرب، وقال ابن التين: الواو في قوله "وهم يصلون" واو للحال أي تركناهم على هذه الحال، ولا يقال: يلزم منه أنهم فارقوهم قبل انقضاء الصلاة فلم يشهدوها معهم، والخبر ناطق بأنهم يشهدونها؛ لأنا نقول: هو محمول على أنهم شهدوا الصلاة مع من صلاها في أول وقتها، وشهدوا من دخل فيها بعد ذلك، ومن شرع في أسباب ذلك، فإن قيل: فما الفائدة في قولهم "وأتيناهم" وكان السؤال عن كيفية الترك؟ أجيب بأنهم أجابوا بأكثر مما سئلوا؛ لأنهم علموا أنه سؤال يستدعي التعطف على بني آدم فزادوا في الجواب إظهاراً لبيان فضيلة المصلين، وحرصاً على ذكر ما يوجب مغفرة ذنوبهم، كما هو وظيفتهم فيما أخبر الله عنهم: {ويستغفرون للذين آمنوا} . ووقع في صحيح ابن خزيمة في آخر هذا الحديث: فاغفر لهم يوم الدين، ويستفاد من الحديث أن الصلاة أعلى العبادات؛ لأنه عليها وقع السؤال والجواب. وفيه التنبيه على أن الفجر والعصر من أعظم الصلوات لكونهما تجتمع فيهما الطائفتان، وفي غيرهما طائفة واحدة، والإشارة إلى شرف الوقتين المذكورين، وقد ورد أن الرزق يقسم بعد صلاة الصبح، وأن الأعمال ترفع آخر النهار، فمن كان حينئذٍ في طاعة بورك له في رزقه وفي عمله، ويترتب عليه حكمة الأمر بالحافظة عليهما والاهتمام بهما. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصلاة، وفي بدء الخلق، وفي التوحيد، ومسلم في الصلاة، وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي وغيرهما. 629- قوله: (وعن جندب) بضم أوله، والدال تفتح وتضم، هو جندب بن عبد الله بن سفيان البجلي ثم العلقي، يكنى أبا عبد الله، وربما نسب إلى جده، وصحابي، وقال البغوي عن أحمد: ليست له صحبة قديمة. مات بعد الستين، وتقدم ذكره. (القسري) بفتح القاف وسكون السين المهملة، قال القارئ: هو كذلك في جميع النسخ المقروأة المصححة الحاضرة من نسخ المشكاة، وقال التوربشتي: في سائر نسخ المصابيح: القشري بضم القاف والشين والمعجمة وهو غلط، نقله الطيبي- انتهى. وقال النووي: القسري هو بفتح القاف وإسكان السين المهملة، وقد توقف بعضهم في صحة قولهم القسري؛ لأن جندباً ليس من بني قسر إنما هو بجلي علقي، وعلقة بطن من بجيلة، هكذا ذكره أهل التواريخ والأنساب والأسماء، وقسر هو أخو علقة. قال القاضي: لعل لجندب حلفاً في بني قسر أو سكناً أو جواراً فنسب إليهم لذلك، أو لعل بني علقة ينسبون إلى بني عمهم قسر كغير واحدة من القبائل ينسبون بنسبة بني عمهم لكثرتهم أو شهرتهم- انتهى.

من صلى صلاة الصبح؛ فهو في ذمة الله، فلا يطلبكم الله من ذمته بشيء؛ فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه ثم يكبه على وجهه في نار جهنم)) رواه مسلم. وفي بعض النسخ المصابيح: القشيري. بدل القسري. 630- (5) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا ـــــــــــــــــــــــــــــ (من صلى صلاة الصبح) أي في جماعة. (فهو في ذمة الله) أي في عهده أو في ضمانه، أو أمانه في الدنيا والآخرة، وهذا غير الأمان الذي ثبت بكلمة التوحيد. (فلا يطلبنكم الله) أي لا يؤاخذكم من باب لا أرينك، المراد نهيهم عن أذيته والتعرض لما يوجب مطالبة الله إياهم. (من ذمته) من بمعنى لأجل، والضمير في ذمته إما لله وإما لمن، والمضاف محذوف أي لأجل ترك ذمته (بشيء) أي يسير، وفي المصابيح: بشيء من ذمته. قيل: أي بنقض عهده بالتعرض لمن له ذمة بالأذى، أو المراد بالذمة الصلاة الموجبة للأمان، أي لا تتركوا صلاة الصبح فينتقض به العهد الذي بينكم وبين ربكم فيطلبكم به. (فإنه من يطلبه) بالجزم أي الله تعالى. (من ذمته) أي من أجل ذمته. (بشيء يدركه) بالجزم أي يأخذه الله. (ثم يكبه) بالرفع أي هو يكبه، وبالفتح عطفاً على يدركه، ويمكن أن يكون بالضم مجزوماً أيضاً، والمعنى لا تتعرضوا له بشيء ولو يسيراً، فإنكم إن تعرضتم له يدرككم الله ويكبكم في النار، قال الطيبي: وإنما خص صلاة الصبح لما فيها من الكلفة والمشقة، وأدائها مظنة خلوص الرجل ومئنة إيمانه أي علامته، ومن كان خالصاً كان في ذمة الله. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد (ج4: ص312، 313) والترمذي، وفي الباب عن ابن عمر عند أحمد، والبزار، والطبراني في الكبير، وعن أنس عند أبي يعلى، وعن أبي بكرة عند الطبراني في الكبير، وعن أبي مالك الأشجعي عن أبيه عند الطبراني أيضاً. (وفي بعض نسخ المصابيح القشيري) بضم الكاف وفتح المعجمة بعدها تحتية، قال القاري: وفي نسخة يعني من المشكاة القشري. (بدل القسري) وقد تقدم ضبطهما. 630- قوله: (ما في النداء) أي الأذان، وقد روى بهذا اللفظ عند السراج. (والصف الأول) زاد أبوالشيخ في روايته: من الخير والبركة، وقال الطيبي: أطلق مفعول "يعلم" وهو"ما"ولم يبين الفضيلة ما هي؟ ليفيد ضرباً من المبالغة وأنه مما لا يدخل تحت الوصف، والإطلاق إنما هو في قدر الفضيلة، وإلا فقد بينت في الرواية الأخرى بالخير والبركة. قال القرطبي: اختلف في الصف الأول هل هو الذي يلي الإمام أو المكبر؟ والصحيح الأول. (ثم لم يجدوا) أي لم يجدوا شيئاً من وجوه الأولوية، أما في الأذان فبأن يستووا في معرفة الوقت وحسن الصوت ونحو ذلك من شرائط المؤذن وتكملاته، وأما في الصف الأول فبأن يصلوا دفعة واحدة ويستووا في الفضل فيقرع بينهم إذا لم يتراضوا فيما بينهم في

إلا أن يستهموا عليه، لاستهموا؛ ولو يعلمون ما في التهجير، لاستبقوا إليه؛ ولو يعلمون ما في العتمة ـــــــــــــــــــــــــــــ الحالين. (إلا أن يستهموا) أي بأن يقترعوا، والاستهام الاقتراع، يدل على هذا ما في رواية لمسلم: لكانت قرعة. قيل: سمي بذلك؛ لأنهم كانوا يكتبون أسماءهم على سهام إذا اختلفوا في الشيء، فمن خرج له منها سهم فاز بالحظ المقسوم وغلب. والتقدير إلا بالاستهام وطلب السهم بالقرعة عليه. (عليه) أي على ما ذكر ليشمل الأمرين الأذان والصف الأول، وقد رواه عبد الرزاق بلفظ: لاستهموا عليهما، فهذا مفصح بالمراد من غير تكلف، وقيل: عليه أي على السبق إليه أو على الاستحقاق فيهما. قال السندي: فيه تجهيل للمتساهلين في هذا الأمر، فلا يرد أنهم قد علموا بخبر الصادق وهم بسعة من تحصليه بلا استهام، ومع هذا لا يحصلونه، فكيف يصدق الخبر بأنهم لو علموا لاستهموا. (التهجير) أي التبكير إلى الصلاة مطلقاً أي صلاة كانت، قاله الهروي، وصوبه النووي، واختاره ابن عبد البر إذ قال: هو البدار إلى الصلاة أول وقتها، وحمله الخليل وغيره على ظاهره، فقالوا: المراد الإتيان إلى صلاة الظهر في أول الوقت؛ لأن التهجير مشتق من الهاجرة، وهي شدة الحر نصف النهار، وهو أول وقت الظهر، وإلى ذلك مال البخاري إذ بوب على هذا الحديث في جامعه الصحيح ترجمة بلفظ: باب فضل التهجير إلى الظهر. ولا يرد على ذلك مشروعية الإبراد؛ لأنه أريد به الرفق، وأما من ترك قائلته وقصد إلى المسجد لينتظر الصلاة فلا يخفى ماله من الفضل. (لاستبقوا إليه) أي سبق بعضهم بعضاً إليه لا بسرعة في المشي في الطريق فإنه ممنوع، بل بالخروج إليه والانتظار في المسجد قبل الآخر، قال ابن أبي جمرة: المراد بالاستباق معنى لا حساً؛ لأن المسابقة على الأقدام حساً تقتضي السرعة في المشي وهو ممنوع منه. والحديث يدل على استحباب القيام بوظيفة الأذان، والملازمة للصف الأول، والمسارعة إلى جماعة العشاء والفجر. (العتمة) أي صلاة العشاء الآخرة في الجماعة. فيه دليل على جواز تسمية العشاء بالعتمة، وقد استشكل الجمع بين هذا الحديث وبين حديث ابن عمر الآتي، فقال النووي وغيره: الجواب من وجهين: أحدهما أنه استعمل لبيان الجواز، وأن النهي عن العتمة للتنزيه لا للتحريم. والثاني أنه يحتمل أنه خوطب بالعتمة من لا يعرف العشاء فخوطب بما يعرفه، فهو لقصد التعريف لا لقصد التسمية، أو استعمل لفظ العتمة؛ لأنه أشهر عند العرب، وإنما كانوا يطلقون العشاء على المغرب كما سيأتي، فلو قال: لو يعلمون ما في الصبح والعشاء. لتوهموا أن المراد المغرب. قال الحافظ: وهو ضعيف؛ لأنه قد ثبت في نفس هذا الحديث: لو يعلمون ما في الصبح والعشاء، فالظاهر أن التعبير بالعشاء تارة، وبالعتمة تارة من تصرف الرواة. وقيل: إن النهي عن تسمية العشاء عتمة نسخ الجواز، وفيه نظر للاحتياج في مثل ذلك إلى التاريخ. قال الحافظ: ولا يبعد أن ذلك كان جائزاً، فلما كثر إطلاقهم له نهوا عنه لئلا تغلب السنة الجاهلية على السنة الإسلامية، ومع ذلك فلا يحرم ذلك بدليل أن الصحابة الذين رووا النهي استعملوا التسمية المذكورة، وأما استعمالها في مثل حديث أبي هريرة فلدفع الالتباس بالمغرب- انتهى.

والصبح، لأتوهما ولو حبواً)) متفق عليه. 631- (6) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما، لأتوهما ولو حبواً)) متفق عليه. 632- (7) وعن عثمان، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى العشاء في جماعة؛ فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة؛ فكأنما صلى الليل كله)) ـــــــــــــــــــــــــــــ (والصبح) أي صلاة الصبح في الجماعة يعني من مزيد الفضل وكثرة الأجر. (لأتوهما) أي الصلاتين، والمراد المحل الذي يصليان فيه جماعة وهو المسجد. (ولو حبواً) أي ولو كان الإتيان حبواً أي زحفاً، وهو مشى الصبي على أربع أو دبيبه على إسته. وقيل: التقدير ولو كانوا حابين يعني يزحفون إذا منعهم مانع من المشي كما يزحف الصغير، ولابن أبي شيبة من حديث أبي الدرداء: ولو حبواً على المرافق والركب. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصلاة، وفي الشهادات، ومسلم في الصلاة، وأخرجه أيضاً مالك وأحمد والنسائي، وأخرج الترمذي القطعة الأول فقط. 631- قوله: (ليس صلاة أثقل) بالنصب خبر ليس. (على المنافقين) فيه دليل على أن الصلاة كلها ثقيلة على المنافقين، ومنه قوله تعالى: {ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى} [9: 54] وقوله: {إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤن} [4: 142] . وإنما كانت العشاء والفجر أثقل عليهم من غيرهما لقوة الداعي إلى تركهما؛ لأن العشاء وقت السكون والاستراحة والشروع في النوم، والصبح وقت طعم النوم ولذته، والمقصود أن الكسل فيهما من عادة المنافقين، فمن كان مخلصاً في إيمانه فعليه أن يحترز من عادتهم. (ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما) أي لحضروا المسجد لأجلهما ولو مع كلفة، وفيه تنزيل من يعلم ولا يعمل بعلمه منزلة من لا يعلم، وإلا فكم ممن يعلم ذلك بخبر الشارع ولا يحضر بلا كلفة. (متفق عليه) واللفظ للبخاري، وأخرجه أيضاً ابن ماجه، وفي الباب عن أبيّ بن كعب عند أحمد، وأبي داود، والنسائي وغيرهم. 632- قوله: (فكأنما قام نصف الليل) قال القرطبي: معناه أنه قام نصف ليلة لم يصل فيها العشاء في جماعة، إذ لو صلى ذلك في جماعة لحصل له فضلها وفضل القيام. وقال البيضاوي: نزل صلاة كل من طرفي الليل منزلة نوافل نصفه، ولا يلزم منه أن يبلغ ثواب من قام الليل كله؛ لأن هذا تشبيه مطلق مقدار الثواب، ولا يلزم من تشبيه الشيء بالشيء أخذه بجميع أحكامه، ولو كان قدر الثواب سواء لم يكن لمصلى العشاء والصبح جماعة منفعة في قيام الليل غير التعب-انتهى. (ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله) عبر ههنا بـ"صلى" وفيما سبق بـ"قام" تفنناً وإيماء إلى أن صلاة الليل تسمى قياما وظاهره يقتضي أن صلاة الفجر في الجماعة أفضل من صلاة العشاء في الجماعة، وأن فضلها في الجماعة ضعفا فضل العشاء في

رواه مسلم. 633- (8) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم المغرب، قال: وتقول الأعراب: هي العشاء. ـــــــــــــــــــــــــــــ الجماعة، فمن صلى العشاء والفجر في جماعة كان له قيام ليلة ونصف، وهذا ينافي رواية الترمذي وأبي داود بلفظ: ومن صلى العشاء والفجر في جماعة كان كقيام ليلة. وأجيب بأن المراد بقوله: ومن صلى الصبح في جماعة، في رواية مسلم أي منضماً لصلاة العشاء جماعة، قاله المناوى. وقال الطيبي في شرح قوله فكأنما صلى الليل كله: أي بانضمام ذلك النصف، فكأنه أحي نصف الليل الأخير-انتهى. وقال المنذري في تلخيص السنن: اللفظ الذي أخرجه أبوداود تفسير لفظ مسلم، ويبين أن المراد بقوله: ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله، يعني ومن صلى الصبح والعشاء، وطرق هذا الحديث مصرحة بذلك، وأن كل واحد منهما يقوم مقام نصف ليلة، وأن اجتماعهما يقوم مقام ليلة. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد، والترمذي، وأبوداود، وأخرجه مالك موقوفاً على عثمان من قوله. 633- قوله: (لا يغلبنكم) بالتحتية، وروي بالفوقية أيضاً. (الأعراب) هم سكان البوادي خاصة، والمراد أعراب الجاهلية. (على اسم صلاتكم المغرب) بالجر، صفة للصلاة، ويجوز رفعه على أنه خبر المبتدأ أي هي، ونصبه بتقدير أعني، وإنما شرع لها التسمية بالمغرب؛ لأنه اسم يشعر بمسماها، وبابتداء وقتها. قيل: معنى الغلبة أنكم تسمونها أسماء، وهم يسمونها أسماء، فإن سميتموها بالاسم الذي يسمونها به وافقتموهم، وإذا وافق الخصم خصمه صار كأنه انقطع له حتى غلبه، والمقصود النهي عن تسمية المغرب بالعشاء كما تفعل الأعراب، فإنه إذا وقعت الموافقة لهم فقد غلبتهم الأعراب عليها، إذ من رجع إليه خصمه فقد غلبه، وقد اختلف في علة النهي، فقيل: إن لفظ العشاء لغة هو أول ظلام الليل، وذلك من غيبوبة الشفق، فلو قيل للمغرب عشاء لأدى إلى أن أول وقتها غيبوبة الشفق، وقيل: هي خوف التباس المغرب بالعشاء، وعلى هذا لا يكره أن يقال للمغرب العشاء الأولى، ويؤيده قولهم: العشاء الآخرة، كما ثبت في الصحيح، وكذا لا يكره تسمية المغرب عشاء على سبيل التغليب، كمن قال مثلا: صليت العشاءين. لزوال اللبس في الصيغتين المذكورتين، وقيل: العلة الجامعة أن تسميتها بالعشاء مخالفة لإذن الله، فإنه سمى الأولى المغرب والثانية العشاء، وقيل غير ذلك، والله أعلم. (قال: وتقول الأعراب) قد جزم الكرماني أن فاعل "قال" هو عبد الله بن مغفل المزني الصحابي راوي الحديث، على ما في صحيح البخاري. قال الحافظ: ويحتاج إلى نقل خاص لذلك، وإلا فظاهر إيراد الإسماعيلي أنه من تتمة الحديث، فإنه أورده بلفظ: فإن الأعراب تسميها، والأصل في مثل هذا أن يكون كلاماً واحداً حتى يقوم دليل على إدراجه-انتهى. (هي) أي المغرب. (العشاء) ؛ لأن العشاء، لغة: أول ظلام الليل.

634- (9) وقال: ((لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء فإنها في كتاب الله العشاء، فإنها تعتم بحلاب الإبل)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ 634- قوله: (وقال) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء) قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: المعنى فيه أن العادة أن العظماء إذا سموا شيئاً باسم فلا يليق العدول عنه إلى غيره؛ لأن ذلك تنقيص لهم. ورغبة عن صنيعهم، وترجيح لغيره عليه، وذلك لا يليق، والله سبحانه وتعالى سماها في كتابه العشاء في قوله: {ومن بعد صلاة العشاء} [24: 58] فيقبح بعد تسمية ذي الجلال والإكرام العدول إلى غيره، انتهى. والحديث يدل على كراهة تسمية العشاء العتمة، وقد ذهب إلى ذلك ابن عمر راوي الحديث. ومنهم من أطلق جوازه، نقله ابن أبي شيبة عن أبي بكر الصديق وغيره، ومنهم من جعله خلاف الأولى، نقله ابن المنذر عن مالك، والشافعي، واختاره، واليه ذهب البخاري حيث قال في صحيحه: والاختيار أن يقول العشاء؛ لقوله تعالى. {من بعد صلاة العشاء} قال الحافظ: وهو الراجح. قلت: قد تقدم وجه التوفيق بين حديث ابن عمر هذا وبين الحديث السابق عن أبي هريرة، فتذكر. وقال السندي: قوله: فلا تغلبنكم الأعراب، الخ. أي الإسم الذي ذكر الله تعالى لهذه الصلاة اسم العشاء، والأعراب يسمونها العتمة، فلا تكثروا استعمال ذلك الاسم لما فيه من غلبة الأعراب عليكم، بل أكثروا استعمال اسم العشاء موافقة للقرآن، فالمراد النهي عن إكثار اسم العتمة لا عن إستعماله أصلاً، فاندفع ما يتوهم من التنافي بين أحاديث المنع والثبوت في استعمالاته - صلى الله عليه وسلم - انتهى. (فإنها في كتاب الله العشاء) الفاء فيه علة للنهي، وفي قوله: (فإنها تعتم) علة للتسمية، أي لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء؛ لأن اسمها في كتاب الله العشاء، وهم يسمونها بالعتمة؛ لأنها تعتم. (بحلاب الإبل) بكسر الحاء، أي بسبب حلبها، فالباء للسببية. قال ابن الملك: قوله: فإنها تعتم، روى مجهولاً فالضميران للصلاة، ومعلوماً فهما للأعراب. وقال السيد: تعتم معروف لرواية: فإنهم يعتمون بالإبل، ويجوز كونه مجهولاً، والضمير للصلاة- انتهى. قلت: رواه ابن ماجه بلفظ: وإنهم ليعتمون بالإبل، وعند النسائي: فإنهم يعتمون على الإبل، قال السندي: من أعتم إذا دخل في العتمة وهي الظلمة، وعلى بمعنى اللام، أي يؤخرون الصلاة ويدخلون في ظلمة الليل بسبب الإبل وحلبها انتهى. وقيل: كانوا يؤخرون الحلاب إلى الظلمة، ويسمون ذلك الوقت العتمة، فهو من باب تسمية الشيء باسم وقته. (رواه مسلم) فيه نظر فإنه يوهم أنه حديث واحد من رواية ابن عمر، وأنه عند مسلم بهذا التمام، وليس كذلك، فإن الجملة الأولى مروية في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن مغفل المزني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في باب من كره أن يقال للمغرب العشاء، وهي كما ترى في صلاة المغرب. قال ميرك: قال صاحب التخريج: ولم أره في غير البخاري، وكذا قال الشيخ الجزري، رواه البخاري من حديث عبد الله بن مغفل. قلت: الحديث من إفراد البخاري، كما قال العيني ثم القسطلاني، وذكره الشيخ عبد الغني النابلسي في ذخائر المواريث في مسند عبد الله بن مغفل، وعزاه للبخاري فقط، وهو يدل على أنه لم يروه

635- (10) وعن علي، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم الخندق: ((حبسونا عن صلاة الوسطى: ـــــــــــــــــــــــــــــ من أصحاب الكتب الستة إلا البخاري وحده، وقد أخرجه أحمد في مسنده (ج5: ص55) وأبونعيم في مستخرجه، وابن خزيمة في صحيحه، وأما الجملة الثانية أي قوله "لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء" الخ. فهي في صلاة العشاء لا في صلاة المغرب، وهي مما تفرد به مسلم عن البخاري، وأخرجه أيضاً أحمد (ج2: ص10، 18، 49، 144) وأبوداود والنسائي وابن ماجه كلهم من حديث ابن عمر، ولم يخرج البخاري في هذا شيئاً، وتوهم صاحب المشكاة أن الجميع حديث واحد مروي عن ابن عمر عند مسلم، ولم أقف على منشأ توهمه، فإن محي السنة أورد الجملة الأولى في المصابيح، وقال عقبها: رواه عبد الله المزني، ثم أورد الجملة الثانية أي الحديث الثاني، وقال في آخره: رواه ابن عمر. على ما في أيدينا من نسخة المصابيح المطبوعة بمصر، وقال ميرك: ومنشأ توهم صاحب المشكاة أن محي السنة أودر الحديثين في المصابيح: أحدهما عقيب الآخر، وقال في الآخر: رواه ابن عمر، فظن المصنف أنه حديث واحد مروي عن ابن عمر فوقع فيما وقع، والله أعلم. قلت: هذا يدل على اختلاف نسخ المصابيح في ذكر قوله: رواه عبد الله المزني. 635- قوله: (يوم الخندق) وهو يوم الأحزاب، وكان في شوال سنة أربع من الهجرة، قاله موسى بن عقبة، واختاره البخاري، وقيل: سنة خمس، وعليه كثيرون. وسميت الغزوة بالخندق لأجل الخندق الذي حفر بأمره - صلى الله عليه وسلم - حول المدينة لما أشار به سلمان الفارسي، فإنه من مكايد الفرس دون العرب. وعمل فيه عليه الصلاة والسلام بنفسه ترغيباً للمسلمين، فإنهم قاسوا في حفره شدائد، منها شدة الجوع، والبرد، وكثرة الحفر، والتعب، وأقاموا في عمل الحفر عشرين ليلة، أو خمسة عشر يوماً، أو أربعاً وعشرين، أو شهراً على أقوال. وسميت بالأحزاب لاجتماع طوائف من المشركين: قريش، وغطفان، وبني أسد، وبني سليم، وبني سعد، واليهود، على حرب المسلمين، وهم كانوا ثلاثة آلاف، والمشركون عشرة آلاف، وقيل: أربعة وعشرون ألفاً. (حبسونا) أي منعونا وشغلونا عن فعل الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس، وكان ذلك قبل نزول صلاة الخوف. (عن صلاة الوسطى) بإضافة الصلاة إلى الوسطى، وهو من باب قول الله تعالى: {وما كنت بجانب الغربي} [28: 44] وفيه المذهبان المعروفان: مذهب الكوفيين جواز إضافة الموصوف إلى صفته، ومذهب البصريين منعه، ويقدرون فيه محذوفاً، وتقديره هنا: عن صلاة الصلاة الوسطى، أي عن فعل الصلاة الوسطى، وهي تأنيث الأوسط كالفضلى تأنيث الأفضل، والأوسط الأعدل من كل شيء، قال أعرابي يمدح النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا أوسط الناس طرا في مفاخرهم ... وأكرم الناس أماً برة وأباً وقال تعالى: {قال أوسطهم} [68: 28] أي أفضلهم وليست من الوسط الذي معناه المتوسط بين شيئين؛ لأن فعلى أفعل التفضيل، ولا يبنى منه إلا ما يقبل الزيادة والنقصان، والوسط بمعنى العدل والخيار يقبلهما، بخلاف المتوسط بين الشيئين فإنه لا يقبلهما، فلا يبنى منه أفعل التفضيل، قاله القسطلاني، ورجح الرازي في تفسيره كونه من التوسط بين الشيئين، وقال: المراد من الوسطى ما تكون وسطى في العدد لا ما تكون وسطى بسبب الفضيلة-انتهى. وذكره الزمخشري

صلاة العصر، ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وابن العربي القولين على احتمال (صلاة العصر) بالجر بدل من صلاة الوسطى، أو عطف بيان لها. والحديث نص في أن الصلاة الوسطى هي العصر، وقد اختلف الناس في تعيين الوسطى على أكثر من عشرين قولاً، أشهرها ثلاثة: أحدها أنها الصبح، قال به مالك والشافعي. والثاني: أنها الظهر، قال به زيد بن ثابت، وعروة. والثالث: أنها العصر، ذهب إليه أكثر علماء الصحابة وجمهور التابعين وأكثر أهل الأثر، قاله الترمذي والبغوي والماوردي وابن عبد البر والطيبي، وهو مذهب أحمد، وأبي حنيفة. واحتجوا بالأحاديث الصحيحة الصريحة، ذكرها الحافظ في الفتح، وابن كثير في تفسيره والمجد بن تيمية في المنتقى، منها حديث علي هذا، ولا يساويه سائر الأحاديث، والآثار الدالة على خلاف ذلك، فهو أصح الأقوال في ذلك، والمذهب الحق الذي يتعين المصير إليه، قال النووي: الذي يقتضيه الأحاديث الصحيحة أنها العصر وهو المختار. وقال الحافظ: كونها العصر هو المعتمد. (ملأ الله) دعاء عليهم، وأخرجه في صورة الخبر تأكيداً وإشعاراً بأنه من الدعوات المجابة سريعاً، وعبر بالماضي ثقة بالاستجابة فكأنه أجيب سؤاله فأخبر عن وجود إجابته ووقوعها. (بيوتهم وقبورهم ناراً) قال الأشرف: خصهما بالذكر؛ لأن أحدهما مسكن الأحياء والآخر مضجع الأموات، أي جعل النار ملازمة لهم بحيث لا تنفك عنهم لا في حياتهم ولا في مماتهم. قال الطيبي: دعا عليهم بعذاب الدارين من خراب بيوتهم في الدنيا بنهب أموالهم، وسبى ذراريهم، وهدم دورهم، ومن عقاب في الآخرة باشتعال قبورهم ناراً-انتهى. قال الحافظ: وقد استشكل هذا الحديث بأنه تضمن دعاء صدر من النبي - صلى الله عليه وسلم - على من يستحقه، وهو من مات منهم مشركاً، ولم يقع أحد الشقين وهو البيوت، أما القبور فوقع في حق من مات منهم مشركاً لا محالة، ويجاب بأن يحمل على سكانها، وبه يتبين رحجان الرواية بلفظ: قلوبهم أو أجوافهم أي بدل بيوتهم-انتهى. واعلم أنه وقع في هذا الحديث أن الصلاة الفائتة كانت صلاة العصر، وظاهره أنه لم يفت غيرها، وفي المؤطا: أنها الظهر والعصر، وفي غيره: أنه أخر أربع صلوات: الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء حتى ذهب هوى من الليل، وطريق الجمع بين هذه الروايات أن وقعة الخندق بقيت أياماً، فكان هذا في بعض الأيام، وهذا في بعضها. (متفق عليه) أي على أصل الحديث، وإلا فقوله "صلاة العصر" ليس عند البخاري، قد تفرد به مسلم، قال الزيلعي في نصب الراية (ج2: ص200) وظيفة المحدث أن يبحث عن أصل الحديث فينظر من خرجه، ولا يضره تغير بعض ألفاظه، ولا الزيادة فيه ولا النقص. والحديث أخرجه البخاري في الجهاد، والمغازي، والتفسير، والدعوات، ومسلم في الصلاة، وأخرجه أيضاً أحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم.

{الفصل الثاني}

{الفصل الثاني} 636، 637- (11، 12) عن ابن مسعود، وسمرة بن جندب، قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلاة الوسطى صلاة العصر)) رواه الترمذي. 638- (13) وعن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى. {إن قرآن الفجر كان مشهودا} قال: ((تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار)) رواه الترمذي. {الفصل الثالث} 639، 640- (14، 15) عن زيد بن ثابت، وعائشة، قالا: ((الصلاة الوسطى صلاة الظهر ـــــــــــــــــــــــــــــ 636، 637- قوله: (صلاة الوسطى صلاة العصر) ؛ لأنها وسطى بين صلاتي الليل وصلاتي النهار كالأصبع الوسطى بين الأصابع. وهذا الحديث أيضاً نص صريح في أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر. (رواه الترمذي) حديث ابن مسعود أخرجه أيضاً أبوداود الطيالسي وأحمد ومسلم، وصححه الترمذي وحديث سمرة حسنه الترمذي في كتاب الصلاة، وصححه في التفسير، ولكنه من رواية الحسن عن سمرة، وقد اختلف في صحة سماعه منه، فقال: شعبة: لم يسمع منه شيئاً، وقيل: سمع منه حديث العقيقة، وقال البخاري: قال علي بن المديني: سماع الحسن من سمرة صحيح. ومن أثبت مقدم على من نفي، قاله الشوكاني، وتقدم بسط الكلام فيه. وانظر تفصيل الكلام في تهذيب التهذيب في ترجمة الحسن (ج2: ص263-270) ، ونصب الراية (ج2ص89) ، والحديث أخرجه أيضاً أحمد (ج5: ص7، 12، 13) وفي رواية له: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: حافظوا على الصلوات، وسماها لنا أنها صلاة العصر. 638- قوله: (إن قرآن الفجر) أي صلاة الفجر، سميت قرآناً وهو القراءة؛ لأنها ركن منها لا تجوز الصلاة إلا بها كما سميت ركوعاً وسجوداً وقنوتاً أي قياماً. (كان) كلمة كان لإفادة أنه كذلك في تقدير الله أو علمه، أو زائدة، أو للدلالة على الاستمرار مثل كان الله غفوراً رحيماً. (مشهوداً) أي محضوراً. (تشهده) أي تحضره، وهو استئناف مبين. (ملائكة الليل وملائكة النهار) أي ينزل هؤلاء ويصعد هؤلاء، فهو في آخر ديوان الليل وأول ديوان النهار. وفائدة تسميته بالقرآن الحث على طول القراءة فيها فيسمع الناس القرآن، ولذلك كانت صلاة الفجر أطول الصلوات قراءة، قاله الطيبي. (رواه الترمذي) في التفسير وصححه، وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي وابن ماجه. 639، 640- قوله: (عن زيد بن ثابت وعائشة) أي موقوفاً. (قالا: الصلاة الوسطى صلاة الظهر) ؛ لأنها وسط طرفي النهار ولأنها متوسطة بين نهاريتين، وجاء ذلك أيضاً عن أبي سعيد، وعبد الله بن شداد، وابن عمر، أخرجه ابن المنذر وغيره، وعن أسامة بن زيد، أخرجه الطيالسي وأحمد. واحتج لهم بحديث زيد بن ثابت الآتي، وسيأتي الجواب

رواه مالك عن زيد، والترمذي عنهما تعليقاً. 641- (16) وعن زيد بن ثابت، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الظهر بالهاجرة، ولم يكن يصلي صلاة أشد على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها. فنزلت. {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} وقال: ـــــــــــــــــــــــــــــ عنه. (رواه مالك عن زيد) أي وحده، وأخرجه أحمد (ج5: ص183) والطيالسي، وابن جرير أيضاً. (والترمذي عنهما) أي عن زيد وعائشة جميعاً. (تعليقاً) قال الترمذي في جامعه: وقال زيد بن ثابت وعائشة: صلاة الوسطى صلاة الظهر انتهى. وهذا كما ترى ذكر الترمذي قولهما بلا إسناد. وقد تقدم التنبيه على أنه لا يقال في مثل هذا "رواه"، إنما يقال "ذكره" أو "أورده"، فقول المصنف "رواه الترمذي عنهما تعليقاً" لا يخلو عن تسامح. والتعليق هو أن يحذف من مبدأ إسناده واحد فأكثر على التوالي، ويعزى الحديث إلى فوق المحذوف من رواته، واستعمله بعضهم في حذف كل الإسناد، كقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا، وهو مأخوذ من تعليق الجدار والطلاق لإشتراكهما في قطع الاتصال. هذا، والصحيح عن عائشة مثل قول الجمهور: أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر. كما نص عليه ابن كثير، روى ذلك عنها ابن أبي شيبة، وابن جرير، وسعيد بن منصور، وأبوعبيد. 641- قوله: (بالهاجرة) أي في شدة الحر بعد الزوال. (أشد) أي أشق وأصعب. (منها) أي من صلاة الظهر بالهاجرة، ولذا كانوا يسجدون على ثيابهم. (حافظوا على الصلوات) أي بالأداء لوقتها والمداومة عليها بجميع شروطها وأركانها، وفي "فاعل" هنا قولان: أحدهما أنه بمعنى فعل، كطارقت النعل، وعاقبت اللص، ولما ضمن المحافظ معنى المواظبة عداها بعلى. والثاني أن "فاعل" على بابها من كونها بين اثنين، فقيل بين العبد وربه كأنه قال: احفظ هذه الصلاة يحفظك الإله الذي أمرك بها. وقيل: بين العبد والصلاة أي احفظها تحفظك عن المعاصي، وعن البلايا والمحن، وبالشفاعة في المحشر. (والصلاة الوسطى) ذكر للخاص بعد العام أي ما كان ينبغي أن تضيعوها لثقلها عليكم، فإنها الوسطى أي الفضلى، قاله الطيبي. (وقال) أي زيد بن ثابت، أو قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، والأول هو الصواب، قاله السيد، ويؤيده رواية الطحاوي عن زيد بن ثابت، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الظهر بالهجير، وكانت أثقل الصلوات على أصحابه، فنزلت: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} [2: 238] ؛ لأن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين. قال الحافظ: وروى الطيالسي من طريق زهرة بن معبد قال: كنا عند زيد بن ثابت فأرسلوا إلى أسامة فسألوه عن الصلاة الوسطى، فقال: هي الظهر. ورواه من وجه آخر وزاد: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الظهر بالهجير، فلا يكون وراءه إلا الصف أو الصفان، والناس في قائلتهم، وفي تجارتهم، فنزلت. قال الشوكاني: أثر زيد وأثر أسامة استدل بهما من قال: إن الصلاة الوسطى هي الظهر، وأنت خبير بأن مجرد كون صلاة الظهر كانت شديدة على الصحابة لا يستلزم أن تكون الآية نازلة فيها، غاية ما في ذلك أن المناسب أن تكون الوسطى هي الظهر، ومثل هذا لا يعارض به تلك النصوص الصحيحة الصريحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما من طرق

إن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين)) رواه أحمد، وأبوداود. 642، 643- (17، 18) وعن مالك، بلغه أن على بن أبي طالب وعبد الله بن عباس كانا يقولان: ((الصلاة الوسطى صلاة الصبح)) رواه في الموطأ. ـــــــــــــــــــــــــــــ متعددة، وعلى فرض أن قول هذين الصحابيين تصريح ببيان سبب النزول لا إبداء مناسبة، فلا يشك من له أدنى إلمام بعلوم الاستدلال أن ذلك لا ينتهض لمعارضة ما سلف. (إن قبلها صلاتين) أى إحداهما نهارية وأخرى ليلية. (وبعدها صلاتين) كذلك، أو هي واقعة وسط النهار. (رواه أحمد) (ج5: ص183) . (وأبوداود) وسكت عليه هو والمنذري. قال الشوكاني: وأخرجه البخاري في التاريخ، والنسائي بإسناد رجاله ثقات 642، 643- قوله: (عن مالك بلغه أن على بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس كانا يقولان: الصلاة الوسطى صلاة الصبح) وهو قول أبي أمامة، وأنس، وجابر. قال الحافظ: والمعروف عن على خلافه. وقال الزرقاني: المعروف عنه أنها العصر، أخرجه عنه عبد الرزاق، وابن جرير، والبيهقي، وابن المنذر. وروى ابن أبي حاتم وابن جرير عن زر، قال: قلت لعبيدة: سل علياً عن الصلاة الوسطى، فسأله، فقال: كنا نراها الفجر أو الصبح حتى سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول يوم الأحزاب: شغلونا عن الصلاة الوسطى: صلاة العصر. وروى عبد الله بن أحمد في مسند أبيه عن علي قال: كنا نراها الفجر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هي صلاة العصر، يعني صلاة الوسطى. قلت: واحتج لمن قال: إنها صلاة الصبح بما رواه النسائي عن ابن عباس، قال: أدلج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم عرس، فلم يستيقظ حتى طلعت الشمس أو بعضها، فلم يصل حتى ارتفعت الشمس فصلى، وهي صلاة الوسطى. قال الشوكاني: ويمكن الجواب عنه بوجهين: الأول أن ما روي من قوله في هذا الخبر: وهي صلاة الوسطى، يحتمل أن يكون من المدرج وليس من قول ابن عباس، ويحتمل أن يكون من قوله. وقد أخرج عنه أبونعيم، وابن جرير، وابن المنذر، والبزار أنه قال: الصلاة الوسطى صلاة العصر، وهذا صريح لا يتطرق إليه من الاحتمال ما يتطرق إلى الأول، فلا يعارضه. الوجه الثاني ما تقرر من القاعدة أن الاعتبار عند مخالفة الراوي روايته بما روى لا بما رأى، فقد روى عنه أحمد في مسنده قال: قاتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عدواً فلم يفرغ منهم حتى أخر العصر عن وقتها، فلما رأى ذلك قال: اللهم من حبسنا عن الصلاة الوسطى املاء بيوتهم نارا أو قبورهم ناراً، على أن ابن عباس لم يرفع تلك المقالة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل قالها من قبل نفسه، وقوله ليس بحجة-انتهى بزيادة يسيرة. (رواه) أي مالك. (في الموطأ) قال القاري: فيه أنه ينحل الكلام إلى أن مالكاً رواه في الموطأ عن مالك بلغه، ولا يخفى ما فيه من الحزازة، فكان حق المصنف أن يقول أولاً: عن علي وابن عباس، الخ. ثم يقول رواه مالك في الموطأ بلاغاً. فإن مالكا ليس من الرواة بل من المخرجين-انتهى. قلت: أما أثر على فأخرجه البيهقي بسنده عن مالك هكذا بلاغاً. قال ابن التركماني: وفي التمهيد روى من حديث حسين بن عبد الله بن ضمرة عن أبيه. عن جده، عن علي قال: هي صلاة الصبح، وحسين هذا متروك الحديث، ولا يصح حديثه. وقال قوم: ما أرسله مالك

(4) باب الأذان

644- (19) ورواه الترمذي عن ابن عباس وابن عمر تعليقاً. 645- (20) وعن سلمان، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من غدا إلى صلاة الصبح غدا براية الإيمان، ومن غدا إلى السوق إذا براية إبليس)) رواه ابن ماجه. (4) باب الأذان ـــــــــــــــــــــــــــــ في موطأ عن علي أنها الصبح أخذه من حديث ابن ضمرة؛ لأنه لا يوجد عن علي إلا من حديثه-انتهى. وأما أثر ابن عباس فوصله ابن جرير من طرق، وأخرجه أيضاً سعيد بن منصور وعبد بن حميد. 644- قوله: (ورواه الترمذي عن ابن عباس وابن عمر تعليقاً) قال الترمذي: وقال ابن عباس وابن عمر: صلاة الوسطى صلاة الصبح-انتهى. ولم أقف على من وصله عن ابن عمر، نعم قال ابن كثير: حكاه ابن أبي حاتم عن ابن عمر، وحكى أبومحمد عبد المؤمن خلف الدمياطي في كتابه المسمى "كشف الغطاء عن الصلاة الوسطى" عن ابن عمر على الصحيح عنه: أنها العصر. والله أعلم. 645- قوله: (من إذا إلى صلاة الصبح) إلخ. قال الطيبي: تمثيل لبيان حزب الله وحزب الشيطان، فمن أصبح يغدو إلى المسجد كأنه يرفع أعلام الإيمان، ويظهر شعائر الإسلام، ويوهن أمر المخالفين. وفي ذلك ورد الحديث "فذلكم الرباط"، ومن أصبح يغدو إلى السوق فهو من حزب الشيطان، يرفع أعلامه ويشيد من شوكته، وهو في توهين دينه، وفي قوله "غدا" إشارة إلى أن التبكير إلى السوق محظور، فمن راجع بعد أدائه وظائف طاعته لطلب الحلال، وما يتقوم به صلبه للعبادة، ويتعفف عن السؤال كان من حزب الله تعالى-انتهى. (غدا براية إبليس) أي فينبغي أن لا يدخل السوق إلا لضرورة، وقيل: هذا في حق من غدا إلى السوق من غير أن يغدوا إلى صلاة الصبح، وإلا فمن غدا إلى السوق بعد الغدو إلى الصلاة لكسب الرزق الحلال فلا بأس به، كما تقدم. (رواه ابن ماجه) في التجارات. قال في الزوائد: في إسناد عيسى بن ميمون، متفق على تضعيفه. (باب الأذان) بفتح الهمزة أي مشروعيته كيفية وكمية، وهو في اللغة الإعلام، وفي الشرع: الإعلام بوقت الصلاة بألفاظ مخصوصة. قال الحافظ: وردت أحاديث تدل على أن الأذان شرعت بمكة قبل الهجرة، فذكر تلك الأحاديث، ثم قال: والحق أنه لا يصح شيء من هذه الأحاديث. وقد جزم ابن المنذر بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بغير أذان منذ فرضت الصلاة بمكة إلى أن هاجر إلى المدينة، وإلى أن وقع التشاور في ذلك على ما في حديث عبد الله بن عمر، ثم حديث عبد الله بن زيد-انتهى. والمراد بحديث عبد الله بن عمر وحديث عبد الله بن زيد اللذان ذكرهما المصنف في الفصل الثالث، وهما أصح ما ورد في تعيين إبتداء وقت الأذان، وفيهما دليل أيضاً على أن بدأ الأذان كان في السنة

{الفصل الأول}

{الفصل الأول} 646- (1) عن أنس، قال: ((ذكروا النار والناقوس، فذكروا اليهود والنصارى، فأمر بلال أن يشفع الأذان، وأن يؤتر الإقامة)) ـــــــــــــــــــــــــــــ الأولى من الهجرة؛ لأن المراد بقوله "فناد بالصلاة" في حديث ابن عمر أي بالصلاة جامعة، وكان ذلك قبل الأذان المخصوص المشروع برؤيا عبد الله بن زيد، وكانت رؤياه في السنة الأولى بعد بناء المسجد، على ما قال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج5: ص224) وقيل: كان بدءه في السنة الثانية، والأول هو الراجح. 646- قوله: (ذكروا) أي الصحابة لإعلام وقت الصلاة. (النار والناقوس) أي ذكر جمع منهم إيقاد النار، وذكر جمع ضرب الناقوس، وهو خشبة طويلة يضربها النصارى بأقصر منها لإعلام أوقات صلاتهم. (فذكروا) أي الصحابة. (اليهود والنصارى) وفي رواية: لما كثر الناس ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه، فذكروا أن يوروا ناراً أو يضربوا ناقوساً. وأوضح من ذلك ما وقع عند أبي الشيخ بلفظ: فقالوا لو اتخذنا ناقوساً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ذاك للنصارى، فقالوا: لو اتخذنا بوقاً، فقال: ذاك لليهود، فقالوا: لو رفعنا ناراً، فقال: ذاك للمجوس. فعلى هذا ففي الرواية التي ذكرها المصنف اختصار، كأنه كان فيه: فذكروا النار والناقوس والبوق، فذكروا اليهود والنصارى والمجوس. واللف والنشر فيه معكوس، فالنار للمجوس، والناقوس للنصارى، والبوق لليهود، وسيأتي في حديث ابن عمر التنصيص على أن البوق لليهود، وقال الكرماني: يحتمل أن تكون النار والبوق جميعاً لليهود جمعاً بين حديثى أنس وابن عمر-انتهى. ورواية أبي الشيخ تغني عن هذا الاحتمال. (فأمر) ببناء المجهول. (بلال) أي أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - كما وقع مصرحاً به في رواية النسائي وغيره، وفي الكلام اختصار، والتقدير: فافترقوا بعد أن ذكروا ما ذكروا من نار وناقوس وبوق، فرأى عبد الله بن زيد الأذان، فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقص عليه رؤياه فصدقه فأمر بلال، الخ.. (أن يشفع الأذان) أي يأتي بكلماته مثنى مثنى إلا كلمة التوحيد في آخره فإنها مفردة. وإلا لفظ التكبير في أوله فإنه أربع، وقد جاء به صريح الروايات، فالمراد معظمه. (وأن يؤتر الإقامة) أي يأتي بألفاظها مرة مرة سوى التكبير في أولها وآخرها، فهو أيضاً محمول على التغليب، أو معناه أن يجعل على نصف الأذان فيما يصلح للإنتصاف، فلا يشكل بتكرار التكبير في أولها وآخرها، ولا بكلمة التوحيد في آخرها، وفيه دليل على أن الإقامة فرادى، وهو مذهب أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين، وإليه ذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق. إلا أن مالكاً يقول: إن الإقامة عشر كلمات بتوحيد "قد قامت الصلاة". وأما الشافعي وأحمد وإسحاق، فعندهم إحدى عشرة كلمة، فإنهم يقولون بتثنية قد قامت الصلاة، والحديث حجة لهم على مالك كما سيأتي، وكذلك حجة على من زعم أن الإقامة مثنى مثل الأذان، وهم الحنفية. وقال صاحب فيض الباري: لم يسنح لي ترجيح تثنية الإقامة بعد، مع

قال إسماعيل: فذكرته لأيوب، فقال: ((إلا الإقامة)) متفق عليه. 647- (2) وعن أبي محذورة، قال: ((ألقى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التأذين هو بنفسه، فقال: قل: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ـــــــــــــــــــــــــــــ ثبوت كلا الأمرين قطعاً. (قال إسماعيل) أي ابن إبراهيم بن مقسم الأسدي مولاهم، أبوبشر البصري المعروف بابن علية، ثقة حافظ قال شعبة: إسماعيل ابن علية ريحانة الفقهاء. وقال أيضاً: هو سيد المحدثين. مات سنة (193) أو (194) وهو ابن (83) . (فذكرته) أي الحديث. (لأيوب) أى ابن أبي تميمة السختياني نسبة إلى عمل السختيان وبيعه، وهو جلود الضان، ثقة ثبت حجة من كبار الفقهاء العباد، من صغار التابعين، مات سنة (131) وله (65) وبسط فضائله وفضائل ابن علية في تهذيب التهذيب، فارجع إليه. (فقال: إلا الإقامة) أي إلا قوله قد قامت الصلاة، فإنها تشفع؛ لأنها المقصود من الإقامة بالذات، فالمراد بالمنفي غير المراد بالمثبت، فالمراد بالمثبت جميع الألفاظ المشروعة عند القيام إلى الصلاة، والمراد بالمنفي خصوص قوله: قد قامت الصلاة، وحصل من ذلك جناس تام. وقد ادعى ابن مندة أن قوله: إلا الإقامة، من قول أيوب غير مسند، وكذا قال أبومحمد الأصيلي: إنه من قول أيوب، وليس من الحديث، وقولهما متعقب بحديث. معمر عن أيوب عند عبد الرزاق؛ لأنه رواه عنه بسنده متصلاً بالخبر مفسراً، ولفظه: كان بلال يثني الأذان ويؤتر الإقامة إلا قوله: قد قامت الصلاة. والأصل أن ما كان في الخبر فهو منه حتى يقوم دليل على خلافه، ولا دليل في رواية إسماعيل هذه؛ لأنه إنما يتحصل منها أن خالداً الحذاء كان لا يذكر الزيادة، وكان أيوب يذكرها، وكل منهما روى الحديث، عن أبي قلابة عن أنس. فكان في رواية أيوب زيادة من حافظ فتقبل، قاله الحافظ في الفتح. (متفق عليه) واللفظ للبخاري، إلا أن أول الحديث وصدره إلى قوله "وأن يوتر الإقامة" من رواية عبد الوارث، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، ذكرها في باب بدء الأذان، وقوله إسماعيل، الخ. ليس في هذه الرواية، إنما هي في رواية أخرى، وهي رواية إسماعيل، عن خالد أبي قلابة، ذكرها في باب الإقامة واحدة إلا قوله: قد قامت الصلاة. والحاصل أن أول الحديث مروي من طريق، وآخره من طريق آخر، وصنيع المنصف يدل على أن جميع الحديث مروي من طريق واحدة، ولا يخفى ما فيه. والحديث أخرجه أيضاً أحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه، إلا أنه ليس في الترمذي، والنسائي، وابن ماجه "إلا الإقامة". 647- قوله (وعن أبي محذورة) القرشي الجمحي المكي المؤذن، صحابي مشهور، قيل: اسمه أوس، وقيل: سمرة، وقيل: سلمة، وقيل: سلمان. وأبوه معير- بكسر الميم وسكون العين المهملة وفتح التحتانية-، وقيل: عمير بن لوذان. مات بمكة سنة (59) وقيل: تأخر بعد ذلك أيضاً. (ألقى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التأذين) أي الأذان يعني لقنني كل كلمة من هذه الكلمات. (الله أكبر) بسكون الراء؛ لأنه روي وسمع موقوفاً غير معرب في مقاطعه في الصلاة والأذان، وأكبر

أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، ثم تعود فتقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله. حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله)) ـــــــــــــــــــــــــــــ بمعنى كبير، أو المراد أكبر من كل شيء. (أشهد) أى أعلم وأبين، وقيل: أقضى، وقيل: أتيقن وأتحقق. (ثم تعود) أي ترجع بهذه الكلمات. (فتقول) بالخطاب فيهما، وهما فعلان بمعنى الأمر، وفي بعض روايات أبي محذورة: ثم ارجع فمد من صوتك أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله. وفي بعض رواياته، تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله. تخفض بها صوتك ثم ترفع صوتك بالشهادة: أشهد أن لا إله إلا الله، الخ. وهذه الروايات نصوص صريحة في مشروعية الترجيع وسنيته في الأذان. قال النووي: في حديث أبي محذورة حجة بينة ودلالة واضحة لمذهب مالك والشافعي وجمهور العلماء أن الترجيع في الأذان ثابت مشروع، وهو العود إلى الشهادتين مرتين برفع الصوت بعد قولهما مرتين بخفض الصوت. وقال أبوحنيفة والكوفيون: لا يشرع الترجيع، عملاً بحديث عبد الله بن زيد، فإنه ليس فيه ترجيع، وحجة الجمهور هذا الحديث الصحيح، والزيادة مقدمة مع أن حديث أبي محذورة هذا متأخر من حديث عبد الله بن زيد، فإن حديث أبي محذورة سنة ثمان من الهجرة بعد حنين، وحديث ابن زيد في أول الأمر، وانضم إلى هذا كله عمل أهل مكة والمدينة وسائر الأمصار-انتهى. قلت: اختلف أقوال الحنفية في الترجيع، فقال بعضهم بكراهته كما في ملتقى الأبحر، وقال بعضهم: هو خلاف الأولى. وقال ابن نجيم في البحر الرائق: الظاهر من عباراتهم أن الترجيع عندنا مباح فيه ليس بسنة ولا مكروه. وقال صاحب فيض الباري: لا خلاف فيه عند التحقيق إلا في الأفضلية-انتهى. وللحنفية ومن تبعهم في القول بكراهة الترجيع أو كونه خلاف الأولى والأفضل أعذار عن العمل بروايات الترجيع الصريحة الصحيحة، وكلها باردة سخيفة مخدوشة، ذكرها شيخنا في شرح الترمذي (ج1: ص170، 171) وفي أبكار المنن (ص76-80) ثم بسط الكلام في ردها فعليك أن تراجعهما. قال السندي في حاشية ابن ماجه في شرح قوله: ثم قال لي ارجع فمد من صوتك، ما لفظه: هذا صريح في أنه - صلى الله عليه وسلم - أمره بالترجيع، فسقط ما توهم أنه كرره له تعليماً فظنه ترجيعاً، وقد ثبت عدم الترجيع في أذان بلال يعرفه من له معرفة بهذا العلم بلا ريب، فالوجه القول بجواز الوجهين-انتهى. قلت: هذا هو الحق أن الوجهين جائزان ثابتان مشروعان سنتان من سنن النبي - صلى الله عليه وسلم -. (حي على الصلاة) حي اسم فعل بمعنى الأمر، وفتحت ياءه لسكونها وسكون ما قبلها أي هلموا إليها، واقبلوا عليها، وتعالوا مسرعين إليها. (حي على الفلاح) هو الخلاص من كل مكروه والظفر بكل مراد، وقيل: هو البقاء أي

{الفصل الثاني}

رواه مسلم. {الفصل الثاني} 648- (3) عن ابن عمر، قال: ((كان الأذان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرتين مرتين، والإقامة مرة مرة، ـــــــــــــــــــــــــــــ أسرعوا إلى ما هو سبب الخلاص من العذاب، والفوز بالثواب، والبقاء في دار القرار وهو الصلاة في المسجد. (رواه مسلم) فيه نظر؛ لأن نص الحديث في صحيح مسلم هكذا: عن أبي محذورة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه هذا الأذان: الله أكبر، الله أكبر. أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلاالله. أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله. ثم يعود فيقول، أي بالغيبة فيهما: أشهد أن لا إله إلا الله، مرتين. أشهد أن محمداً رسول الله، مرتين. حي على الصلاة، مرتين. حي على الفلاح، مرتين. زاد إسحاق-أى شيخ مسلم راوي الحديث- الله أكبر الله أكبر. لاإله إلا الله. قال النووي: هكذا وقع في هذا الحديث في صحيح مسلم في أكثر الأصول في أوله الله أكبر الله أكبر. مرتين فقط. ووقع في غير مسلم: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أربع مرات. قال عياض: ووقع في بعض طرق الفارسي في صحيح مسلم أربع مرات-انتهى. قلت: وأخرجه أيضاً بتربيع التكبير الشافعي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وابن حبان. وقال ابن القطان: الصحيح في هذا تربيع التكبير، وبه يصح كون الأذان تسع عشر كلمة، كما في الرواية الآتية مضموماً إلى تربيع التكبير الترجيع. قال الحافظ حاكياً عن ابن القطان: وقد وقع في بعض روايات مسلم بتربيع التكبير، وهي التي ينبغي أن تعد في الصحيح-انتهى. وقد رواه أبونعيم في المستخرج، والبيهقي بتربيع التكبير، وقال بعده: أخرجه مسلم عن إسحاق، وكذلك أخرجه أبوعوانة في مستخرجه من طريق ابن المديني عن معاذ. واعلم أن ما ذكره البغوي ههنا في المصابيح هو لفظ أبي داود، والنسائي، وابن ماجه، كما لا يخفى، وصنيعه هذا مخالف لما اشترط على نفسه من أنه يورد في الصحاح ما أخرجه الشيخان أو أحدهما. وأما اللفظ الذي ذكره صاحب المشكاة فليس هو لمسلم كما عرفت ولا لأبي داود والنسائي وابن ماجه. 648- قوله: (كان الأذان) أي ألفاظه من الجمل. (علىعهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي في عهده، عدى بعلى لمعنى الظهور، قاله الطيبي. (مرتين مرتين، والإقامة مرة مرة) أي كانت كلمات الأذان مكررة، والإقامة مفردة نظرا إلى الغالب. وقال القاري: خص التكبير عن التكرير في أول الأذان فإنه أربع لما تقدم، وخص التهليل عنه في آخره فإنه وتر بالاتفاق. وهذا الحديث بظاهره يدل على نفي الترجيع-انتهى. قلت: الترجيع وإن كان غير مذكور في هذا الحديث لكنه ثبت بحديث أبي محذورة، وهو حديث صحيح مشتمل على زيادة غير منافية فيجب قبولها، ولو صرح ابن عمر بالنفي لكان حديث أبي محذورة أخرى بالقبول؛ لأن المثبت مقدم على النافي، وخص التكبير عن الإفراد في أول الإقامة وآخرها

غير أنه كان يقول: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة)) رواه أبوداود، والنسائي، والدارمي. 649- (4) وعن أبي محذورة، ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه الأذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة كلمة)) رواه أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي والدارمي وابن ماجه. 650- (5) وعنه، قال: ((قلت: يارسول الله - صلى الله عليه وسلم -! علمني سنة الأذان، قال: فمسح مقدم رأسه. ـــــــــــــــــــــــــــــ لحديث عبد الله بن زيد عند أبي داود وغيره. (غير أنه) أي المؤذن. (كان يقول) أي في الإقامة. (قد قامت الصلاة) أي مرتين. والمعنى قاربت قيامها. وقال في النهاية: أي قام أهلها، أو حان قيام أهلها. وقيل: عبر بالماضي إعلاماً بأن فعلها القريب الوقوع كالمحقق حتى يتهيأ له ويبادر إليه. كذا في المرقاة. (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري. (والنسائي والدارمي) وأخرجه أيضاً الشافعي، وأحمد، وأبوعوانة، وابن خزيمة، والدارقطني، وابن حبان، والحاكم، وفي إسناده أبوجعفر المؤذن. قال ابن حبان: اسمه محمد بن مسلم بن مهران. قال شعة: لا يحفظ لأبي جعفر غير هذا الحديث. وقال الحافظ في التقريب: أبوجعفر المؤذن مقبول. وقال ابن معين والدارقطني: ليس به بأس، وقد صرح اليعمري في شرح الترمذي أن حديث ابن عمر إسناده صحيح. 649- قوله: (الأذان تسع عشرة كلمة) ؛ لأن التكبير في أوله أربع، والترجيع في الشهادتين يصير كل واحدة منهما أربعة ألفاظ، والحيعلتين أربع كلمات، والتكبير كلمتان، وكلمة التوحيد في آخره، وهذا نص صريح في سنية الترجيع في الأذان. (والإقامة) بالنصب عطفاً على الأذان أي وعلمه الإقامة. (سبع عشرة كلمة) بتربيع التكبير في أول الإقامة وترك الترجيع وزيادة قد قامت الصلاة مرتين، وباقي ألفاظها كالأذان، فتكون الإقامة ذلك المقدار. قال السندي: هذا العدد لا يستقيم إلا على تربيع التكبير في أول الأذان، والترجيع والتثنية في الإقامة، وقد ثبت عدم الترجيع في أذان بلال وإفراد إقامته، فالوجه جواز الكل. (رواه أحمد) (ج3: ص409) و (ج6: ص401) بذكر ألفاظ الأذان والإقامة تفصيلاً. (والترمذي) مختصراً، وقال: حديث حسن صحيح. (وأبوداود) بذكر الأذان والإقامة مفسراً، وسكت عليه هو والمنذري. (والنسائي والدارمي) كلاهما مختصراً إلا أن النسائي قال: ثم عدها أبومحذورة تسع عشرة كلمة وسبع عشرة كلمة. (وابن ماجه) مطولاً، وأخرجه أيضاً الطيالسي، وابن الجارود، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي، وتكلم عليه بأوجه من التضعيف ردها ابن دقيق العيد في الإمام، وصحح الحديث. وأخرجه أيضاً الطبراني، وإن شئت الوقوف على كلام ابن دقيق فارجع إلى نصب الراية (ج1: ص268، 269) . 650- قوله: (سنة الأذان) أي طريقته في الشرع. (قال) أي الراوي. (فمسح) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (رأسه) أي

قال: تقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ترفع بها صوتك. ثم تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله. تخفض بها صوتك. ثم ترفع صوتك بالشهادة: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله. حي على الصلاة، حي على الصلاة. حي على الفلاح، حي على الفلاح. فإن كان صلاة الصبح، ـــــــــــــــــــــــــــــ رأس أبي محذورة ليحصل له بركة يده الموصلة إلى الدماغ وغيره فيحفظ ما يلقى إليه ويملى عليه. (قال: تقول) بتقدير أن أي الأذان قولك. وقيل: أطلق الفعل وأريد به الحدث على مجاز ذكر الكل وإرادة البعض، أو خبر معناه الأمر أي قل. (الله أكبر) قال ابن حجر: يسن للمؤذن الوقف على كل كلمة من هذه الأربعة، وكذا ما بعدها؛ لأنه روي موقوفاً. وإن وصل على خلاف السنة، فالذي عليه الأكثرون ضم الراء، واختار المبرد فتحها، ووجهه أن الفتح أخف، وهو مستلزم تفخيم لام الجلالة كما حقق في الم الله. كذا في المرقاة. (ترفع بها صوتك) جملة حالية أو استئنافية مبينة. (تخفض بها صوتك، ثم ترفع صوتك بالشهادة) الخ. قال الزيلعي في نصب الراية (ج1: ص263) بعد ذكره: وهو لفظ ابن حبان في صحيحه، واختصره الترمذي ولفظه: عن أبي محذورة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقعده وألقى عليه الأذان حرفاً حرفاً. قال بشر: فقلت له: أعد على، فوصف الأذان بالترجيع-انتهى. وطوله النسائي وابن ماجه وأوله: خرجت في نفر، فلما كنا ببعض الطريق أذن مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلى أن قال: ثم قال لي: ارجع فامدد من صوتك أشهد أن لا إله إلا الله، الحديث. قال صاحب الهداية اعتذار عن العمل بحديث أبي محذورة: إن ما رواه كان تعليماً، فظنه ترجيعاً. وقال الطحاوي في شرح الآثار (ص79) : يحتمل أن الترجيع إنما كان لأن أبا محذورة لم يمد بذلك صوته، فقال له عليه السلام: ارجع فامدد من صوتك، وقال ابن الجوزي في التحقيق: إن أبا محذورة كان كافراً قبل أن يسلم، فلما أسلم ولقنه النبي - صلى الله عليه وسلم - الأذان أعاد عليه الشهادة وكررها لتثبت عنده ويحفظها، ويكرر على أصحابه المشركين، فإنهم كانوا ينفرون منها خلاف نفورهم من غيرها، فلما كررها عليه ظنها من الأذان، فعده تسع عشرة كلمة-انتهى. وقد ذكر الزيلعي في نصب الراية هذه الأقوال الثلاثة، وقال: هذه الأقوال متقاربة في المعنى، ثم ردها فقال: ويردها لفظ أبي داود: قلت: يارسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمني سنة الأذان، وفيه، ثم تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، تخفض بها صوتك ثم ترفع صوتك بها، فجعله من سنة الأذان، وهو كذلك في صحيح ابن حبان، ومسند أحمد (ج3: ص408) –انتهى. وكذلك رد هذه الأقوال الثلاثة الحافظ في الدراية، ولردها وجوه أخرى لا تخفى على المتأمل المنصف غير المتعسف. (فإن كان) أي الوقت أو

قلت: الصلاة خير من النوم، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله)) رواه أبوداود. 651- (6) وعن بلال، قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تثوبن في شيء من الصلوات إلا في صلاة الفجر)) ـــــــــــــــــــــــــــــ ما يؤذن لها (صلاة الصبح) بالنصب أي وقته، وقيل بالرفع فكان تامة. (قلت) أي في أذانها. (الصلاة خير من النوم) أي لذتها خير من لذته عند أرباب الذوق وأصحاب الشوق، ويمكن أن يكون من باب "العسل أحلى من الخل" قاله القاري. (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري. وقال القاري: قال النووي: حسن، نقله ميرك. وقال ابن الهمام: إسناده صحيح- انتهى. قلت: في سنده الحارث بن عبيد أبوقدامة، قال الحافظ في التقريب: صدوق يخطئ. وقال الذهبي في الميزان: قال الفلاس: رأيت ابن مهدي يحدث عن أبي قدامة، وقال: ما رأيت إلا خيراً، وفيه أيضاً محمد بن عبد الملك بن أبي محذورة الجمحي المكي المؤذن، وقد وثقه ابن حبان. وقال الحافظ في التقريب: مقبول. فالحديث إن لم يكن صحيحاً فلا ينحط عن درجة الحسن، وأخرجه أيضاً أحمد (ج3: ص408) وابن حبان وغيرهما. 651- قوله: (وعن بلال) هو بل بن رباح التيمي مولاهم المؤذن أبوعبد الله، ويقال أبوعبد الرحمن، وقيل غير ذلك في كنيته، وهو ابن حمامة، وهي أمه، أسلم قديماً. وعذب في الله، وشهد بدراً والمشاهد كلها، وسكن دمشق آخراً. قال أنس: بلال سابق الحبشة، وقال عمر: أبوبكر سيدنا، وأعتق سيدنا، أذن للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يؤذن لأحد بعده إلا مرة في قدمة قدمها المدينة، وقيل: إنه لم يتمها من كثرة الضجيج، له أربعة وأربعون حديثاً، اتفق على حديث، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بحديث، مات بالشام سنة (17) أو (18) أو (20) وله بضع وستون سنة، ولا عقب له. (لا تثوبن) من التثويب، وهو لغة العود إلى الإعلام بعد الإعلام، ويطلق على الإقامة كما في حديث: حتى إذا ثوب أدبر، حتى إذا فرغ أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه، وعلى قول المؤذن في أذان الفجر "الصلاة خير من النوم". وكل من هذين تثويب قديم ثابت من وقته - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا. وقد أحدث الناس تثويباً ثالثاً بين الأذان والإقامة، قاله في فتح الودود، قلت: والمراد في حديث بلال هذا هو قول المؤذن في أذان الفجر "الصلاة خير من النوم"، قال الجزري: هو قوله: الصلاة خير من النوم. قال: والأصل في التثويب أن يجيء الرجل مستصرخاً فيلوح بثوبه ليرى ويشتهر فكان ذلك كالدعاء فسمى الدعاء تثويباً لذلك، وكل داع مثوب. وقيل: إنما سمى تثويباً من ثاب يثوب إذا رجع، فهو رجوع إلى الأمر بالمبادرة إلى الصلاة، فإن المؤذن إذا قال: حي على الصلاة، فقد دعاهم إليها، وإذا قال بعدها "الصلاة خير من النوم" فقد رجع إلى كلام معناه المبادرة إليها-انتهى كلام الجزري. (في شيء من الصلوات إلا في صلاة الفجر) الحديث يدل على مشروعية قول المؤذن في أذان الفجر "الصلاة خير من النوم"، وأنه مخصوص بالفجر، ومحل هذا القول هو بعد قوله: حي على الفلاح، كما تقدم في حديث أبي محذورة. ويدل عليه أيضاً حديث أنس عند ابن خزيمة في صحيحه.

رواه الترمذي. وابن ماجه. وقال الترمذي: أبوإسرائيل الراوي ليس هو بذاك القوي عند أهل الحديث. 652- (7) وعن جابر: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال: إذا أذنت فترسل، وإذا أقمت فاحدر، ـــــــــــــــــــــــــــــ والدارقطني والبيهقي، قال البيهقي: إسناده صحيح، وصححه ابن السكن، وحديث ابن عمر عند السراج، والطبراني، والبيهقي، وسنده حسن كما صرح به الحافظ. وخص به الفجر لكونه وقت نوم وراحة وغفلة. وأما الأوقات الأخرى فهي على غير ذلك. روى أبوداود عن مجاهد، قال: كنت مع ابن عمر، فثوب رجل في الظهر والعصر، قال: أخرج بنا فإن هذه بدعة. قال ابن الهمام: وأما التثويب بين الأذان والإقامة فلم يكن على عهده عليه السلام. (رواه الترمذي وابن ماجه) واللفظ للترمذي، ولفظ ابن ماجه عن بلال قال: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أثوب في الفجر، ونهاني أن أثوب في العشاء. وأخرجه أيضاً أحمد (ج6: ص14-15) والبيهقي (ج1: ص424) كلهم من طريق أبي إسرائيل، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن بلال. قال الترمذي: أبوإسرائيل لم يسمع هذا الحديث من الحكم بن عتيبة، قال: إنما رواه عن الحسن بن عمارة، عن الحكم-انتهى. والحسن بن عمارة متروك الحديث. وقال البيهقي: عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يلق بلالاً. والحديث وإن كان ضعيف الإسناد لكنه تأيد بأحاديث أبي محذورة وأنس، وابن عمر وغيرهم. (أبو إسرائيل الراوي) اسمه إسماعيل بن أبي إسحاق خليفة الملائي. (ليس هو بذاك القوي عند أهل الحديث) الظاهر أن ضعفه أكثره من سوء حفظه، قال أبوحاتم: حسن الحديث، جيد اللقاء، وله أغاليط، لا يحتج بحديثه، ويكتب حديثه، وهو سيء الحفظ، وقال ابن المبارك: لقد من الله على المسلمين بسوء حفظ أبي إسرائيل. وقال العقيلي: في حديثه وهم واضطراب، له ومع ذلك مذهب سوء. وقال الحافظ في التقريب: إسماعيل بن خليفة العبسي أبوإسرائيل الملائي الكوفي معروف بكنيته، وقيل: اسمه عبد العزيز، صدوق، وسيء الحفظ، نسب إلى الغلو في التشيع، مات سنة (69) وله أكثر من. (80) سنة. 652- قوله: (إذا أذنت فترسل) أي تأن، وترفق، وتمهل، ورتل ألفاظه، ولا تعجل، ولا تسرع في سردها، يقال: ترسل في كلامه ومشيه إذا لم يعجل. وفيه دليل على شرعية الترسل في الأذان؛ لأن المراد منه الإعلام للبعيد، وهو مع الترسل أكثر إبلاغاً. قال ابن العربي: السنة في الأذان الترسل والترفق؛ لأنه يكون لإسماع جميع المصلين وعنده يحصل الإعلام. (وإذا أقمت فاحدر) بضم الدال من باب نصر أي أسرع في التلفظ بكلمات الإقامة. وفيه دليل على شرعية الحدر والإسراع في الإقامة؛ لأن المراد منها إعلام الحاضرين، فكان الإسراع بها أنسب فيفرغ منه بسرعة،

واجعل بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغ الآكل من أكله. والشارب من شربه، والمعتصر إذا دخل لقضاء حاجته، ولا تقوموا حتى تروني)) رواه الترمذي. وقال: لا نعرفه إلا من حديث عبد المنعم، وهو إسناد مجهول. 653- (8) وعن زياد بن الحارث الصدائي قال: ((أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ـــــــــــــــــــــــــــــ فيأتي بالمقصود وهو الصلاة. (واجعل بين أذانك وإقامتك) أي زماناً يسيراً بحيث يكون. (قدر ما يفرغ الآكل من أكله) الخ. يعني تمهل وقتا يقدر فيه فراغ الآكل من أكله الخ، فإن الأذان نداء لغير الحاضرين ليحضروا الصلاة، فلا بد من تقدير وقت يتسع للذاهب للصلاة وحضورها وإلا لضاعت فائدة النداء، وقد ترجم البخاري: باب كم بين الأذان والإقامة، ولعله أشار بذلك إلى هذا الحديث، وسنده ضعيف كما سيأتي، فكأنه أشار إلى أن التقدير بذاك لم يثبت، وقال ابن بطال: لا حد لذلك غير تمكن دخول الوقت واجتماع المصلين. (والمعتصر) هو من يؤذيه بول أو غائط. (إذا دخل) أي الخلاء. (لقضاء الحاجة) يفرغ الذي يحتاج إلى الغائط ويعصر بطنه وفرجه. (ولا تقوموا) أي للصلاة. (حتى تروني) أي قد خرجت من الحجرة الشريفة، وسيأتي توضيح هذا في شرح أبي قتادة عند الشيخين: إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني قد خرجت. (رواه الترمذي) وأخرجه أيضاً الحاكم، والبيهقي، وابن عدي. (وقال) أي الترمذي: (لا نعرفه إلا من حديث عبد المنعم) عن يحيى بن مسلم البكاء، عن الحسن وعطاء، عن جابر، وعبد المنعم هذا هو ابن نعيم الأسواري صاحب السقا، وهو ضعيف، قال البخاري وأبوحاتم: منكر الحديث. وقال الحافظ: متروك. وليس له في الكتب الستة إلا هذا الحديث عند الترمذي وحده. وشيخه يحيى بن مسلم البكاء-بفتح الباء وتشديد الكاف-ضعيف أيضاً، ضعفه أبوداود، وابن حبان، والدارقطني. وقال أحمد والنسائي: ليس بثقة. ومدار هذا الحديث عليه. وقد رواه عنه راوٍ آخر ضعيف، فرواه الحاكم في المستدرك (ج1: ص204) من طريق عمرو بن فائد الأسواري: ثنا يحيى بن مسلم، عن الحسن وعطاء، عن جابر فذكره، وقال: هذا حديث ليس في إسناده مطعون فيه غير عمرو بن فائد والباقون شيوخ البصرة، وهذه سنة غريبة، لا أعرف لها إسناداً غير هذا، ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي، وقال: عمرو بن فائد قال الدارقطني: متروك. وقال الحاكم في التلخيص (ص74) : لم يقع إلا في روايته هو. ولم يقع في رواية الباقين لكن عندهم فيه عبد المنعم وهو كافٍ في تضعيف الحديث-انتهى. وقال في الفتح (ج3: ص347) : وله شاهد من حديث أبي هريرة، ومن حديث سليمان أخرجهما أبوالشيخ، ومن حديث أبيّ بن كعب أخرجه عبد الله بن أحمد في زيادات المسند، وكلها واهية-انتهى. (وهو) أي إسناده. (إسناد مجهول) ؛ لأن فيه يحيى بن مسلم البكاء، وهو مجهول كما في التقريب. 653- قوله: (وعن زياد) بكسر زاي وخفة مثناة تحت. (بن الحارث الصدائي) بضم صاد وخفة دال مهملة

أن أذن في صلاة الفجر فأذنت فأراد بلال أن يقيم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أخا صداء قد أذن، ومن أذن فهو يقيم)) رواه الترمذي وأبوداود وابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ فألف فهمزة، نسبة إلى صداء ممدوداً، وهو حي من اليمن، وزياد هذا صحابي قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأذن له في سفره، له حديث. (أن أذن) أن مفسرة لما في أمر من معنى القول. (أن أخا صداء) أي صاحب صداء، وهو زياد بن الحارث، قيل له ذلك؛ لأنه كان من نسل صداء وولده، كما يقال لمن كان من العرب: يا أخا العرب، ولمن كان من تميم: يا أخا تميم. (ومن أذن فهو يقيم) أي فهو أحق بالإقامة، فلا يقيم غيره إلا لداع إلى ذلك كما في إقامة عبد الله بن زيد رائي الأذان. وفيه دليل على أن الإقامة حق لمن أذن، فيكره أن يقيم غيره، قال الترمذي: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم أن من أذن فهو يقيم، وعضد حديث زيادة هذا حديث ابن عمر بلفظ: "فهلا يا بلال! فإنما يقيم من أذن"، أخرجه ابن شاهين، والطبراني، والعقيلي، وأبوالشيخ، والخطيب، وإن كان قد ضعفه أبوحاتم، وابن حبان. وقال أبوحنيفة ومالك: لا يكره إقامة غير المؤذن، فلا فرق بين إقامة المؤذن وإقامة غيره، والأمر متسع. قال ابن الملك: وحديث زياد محمول على ما إذا لحقه الوحشة بإقامة غيره. واستدل لهما بحديث عبد الله بن زيد عند أبي داود أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - لما أمره أن يلقي الأذان على بلال: أنا رأيته يعني الأذان في المنام، وأنا كنت أريده، قال: فأقم أنت. وفي سنده محمد بن عمرو الواقفي، وهو ضعيف، ضعفه القطان، وابن نمير، ويحيى بن معين. وذكر البيهقي: أن في إسناده ومتنه اختلافاً. وقال الحازمي: في إسناده مقال، قلت: الأخذ بحديث الصدائي أولى؛ لأنه أقوم إسناداً من حديث عبد الله بن زيد كما ستعرف، ولأن حديث عبد الله بن زيد كان في أول ما شرع الأذان، وذلك في السنة الأولى، وحديث الصدائي كان بعده بلا شك، والأخذ بآخر الأمرين أولى، ولأن لحديث الصدائي شاهداً من حديث ابن عمر وإن كان ضعيفاً، وقد تقدم ذكره، ولأن قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الصدائي: من أذن فهو يقيم، قانون كلي. وأما حديث عبد الله بن زيد ففيه بيان واقعة جزئية يحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - أراد بقوله لعبد الله بن زيد "فأقم أنت" تطييب قلبه؛ لأنه رأى الأذان في المنام، ويحتمل أن يكون لبيان الجواز. (رواه الترمذي، وأبوداود، وابن ماجه) واللفظ للترمذي، وأخرجه أيضاً أحمد (ج4: ص169) والبيهقي (ج1: ص399) والحديث في سنده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي. قال السندي في حاشية ابن ماجه: والإفريقي في إسناد الحديث وإن ضعفه يحيى بن سعيد القطان وأحمد، لكن قوى أمره محمد بن إسماعيل البخاري، فقال: هو مقارب الحديث. وقال الترمذي: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم أن من أذن فهو يقيم، وتلقيهم الحديث بالقبول مما يقوي الحديث أيضاً فالحديث صالح، فلذلك سكت عليه أبوداود-انتهى. قلت: وسكت عليه المنذري أيضاً. وقال ميرك: ضعفه الترمذي لأجل الإفريقي، وحسنه الحازمي وقواه العقيلي وابن الجوزي-انتهى. وقال الشوكاني في السيل الجرار: حديث "من أذن فهو يقيم" لم يتكلم عليه إلا بأن في إسناده عبد الرحمن بن زياد الإفريقي، وقد وثقه جماعة، ولم يقدح

{الفصل الثالث}

{الفصل الثالث} 654- (9) عن ابن عمر، قال: ((كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون للصلاة، وليس ينادي بها أحد، فتكلموا يوماً في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا مثل ناقوس النصارى. وقال بعضهم: قرناً مثل قرن اليهود. فقال عمر: أو لا تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا بلال! قم فناد بالصلاة)) ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه بما يوجب سقوط الاحتجاج بحديثه-انتهى. فحديث زياد بن الحارث الصدائي هذا في قصة طويلة روى أحمد، والترمذي، وأبوداود، وابن ماجه، والبيهقي مختصراً كما هنا، وقد روى البيهقي أيضاً في السنن (ج1: ص381) قطعة مطولة منه. ورواه المزي بطوله في تهذيب الكمال بسنده، وطبع متن الحديث بحاشية تهذيب التهذيب للحافظ بدون ذكر الإسناد. قال صاحب تعليق الترمذي: ورواه عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم في كتاب فتوح مصر (ص212، 213 طبعة ليدن) مطولاً أيضاً. 654- قوله: (حين قدموا المدينة) أي من مكة في الهجرة. (يجتمعون) في المسجد. (فيتحينون) بحاء مهملة يتفعلون من التحين، والحين الوقت والزمان أي يقدرون حين الصلاة ويعينون وقتها بالتقدير والتخمين ليأتوا فيه. (للصلاة) أي لتحصيل الصلاة بالجماعة متعلق بالفعلين على طريق التنازع. (وليس ينادي بها أحد) قيل: كلمة ليس بمعنى لا النافية، وهي حرف فلا اسم لها ولا خبر، وقيل: بل فيها ضمير الشأن، وهو اسمها، والجملة بعدها خبر واسمها أحد قد أخر. (فتكلموا) أي الصحابة. (اتخذوا) بكسر الخاء على صيغة الأمر. (قرناً) أي بل اتخذوا قرنا – بفتح القاف وسكون الراء – هو البوق بضم الباء، ويسمى أيضاً الشبور. والمراد أنه ينفخ فيه فيخرج منه صوت يكون علامة للأوقات، فيجتمعون عند سماعه كما كانت اليهود يفعلونه. (أو لا تبعثون) ألهمزة للاستفهام، والواو للعطف على مقدر، أي أتقولون بموافقة اليهود والنصارى ولا تبعثون. قال الطيبي: الهمزة إنكار للجملة الأولى أي المقدرة، وتقرير للجملة الثانية. (رجلاً ينادي بالصلاة) قال الحافظ: الظاهر أن إشارة عمر بإرسال رجل ينادي للصلاة كانت عقب المشاورة فيما يفعلونه، وأن رؤيا عبد الله بن زيد كانت بعد ذلك. (فناد بالصلاة) قال القاضي عياض: ظاهره أنه إعلام ليس على صفة الأذان الشرعي، بل إخبار بحضور وقتها. قال النووي: هذا الذي قاله محتمل أو متعين، فقد صح في حديث عبد الله بن زيد عند أبي داود وغيره: أنه رأى الأذان في المنام، فجاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبره به فجاء عمر، فقال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! والذي بعثك لقدر رأيت مثل الذي رأى. وذكر الحديث، فهذا ظاهره أنه كان في مجلس آخر، فيكون الإعلام أولاً، ثم رأى عبد الله بن زيد الأذان فشرعه

متفق عليه. 655- (10) وعن عبد الله بن زيد بن عبدربه، قال: ((لما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناقوس يعمل ليضرب به للناس لجمع الصلاة، طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوساً في يده، فقلت: يا عبد الله! أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ قلت: ندعو به إلى الصلاة. قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت له: بلى. قال: فقال: تقول: الله أكبر، إلى آخره، ـــــــــــــــــــــــــــــ النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك إما بالوحي وإما باجتهاده - صلى الله عليه وسلم - على مذهب الجمهور في جواز الاجتهاد له - صلى الله عليه وسلم -، وليس هو عملاً بمجرد المنام، هذا ما لا شك فيه بلا خلاف-انتهى. قال الحافظ: ويؤيد الأول ما رواه عبد الرزاق وأبوداود في المراسيل من طريق عبيد بن عمير الليثي أحد كبار التابعين: أن عمر لما رأى الأذان جاء ليخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فوجد الوحي قد ورد بذلك، فما راعه إلا أذان بلال، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: سبقك بذلك الوحي-انتهى. وكان اللفظ الذي ينادي به بلال للصلاة بإشارة عمر قوله: "الصلاة جامعة" أخرجه ابن سعد في الطبقات من مراسيل سعيد بن المسيب، وعلى هذا فإدراج المصنف الحديث في الباب؛ لأن هذا النداء كان من جملة بداءة الأذان ومقدماته. (متفق عليه) واللفظ لمسلم إلا قوله "للصلاة" فإنه للبخاري على ما في الكشمهيني، ووقع عند مسلم الصلوات. والحديث أخرجه أيضاً أحمد، والترمذي، والنسائي. 655- قوله: (وعن عبد الله بن زيد بن عبد ربه) بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي يكنى أبا محمد المدني، صحابي مشهور، شهد العقبة وبدراً والمشاهد، وهو الذي أرى النداء للصلاة في النوم، وكانت رؤياه في السنة الأولى من الهجرة بعد بناء المسجد. قال الترمذي عن البخاري: لا يعرف له إلا حديث الأذان. وقال ابن عدي: لا نعرف له شيئاً يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا حديث الأذان. قال الحافظ: وأطلق غير واحد أنه ليس له غيره، وهو خطأ فقد جاءت عنه عدة أحاديث، ستة أو سبعة جمعتها في جزء مفرد، مات سنة (32) ، وقيل: استشهد بأحد. (لما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي أراد أن يأمر فهو بصيغة المعلوم يدل عليه سياق حديث الدارمي وابن ماجه. (بالناقوس) لعله مال إلى شعار النصارى مع كراهته لأمر اليهود والنصارى لكون النصارى أقرب إلى المسلمين من اليهود باعتبار المودة والطواعية، أو مال إليه للإضطرار بعد ذلك. (يعمل) حال وهو مجهول كقوله. (ليضرب به) أي ببعضه على بعض. (للناس) أي لحضورهم. (لجمع الصلاة) أي لأدائها جماعة. (طاف بي) جواب لما أي مر بي. (رجل) فاعل طاف. (يحمل) صفة رجل. (ندعو به) أي بسبب ضربه وحصول الصوت به. (إلى الصلاة) أي ليجتمعوا في المسجد ويصلوا بالجماعة. (خير من ذلك) أي من الناقوس وضربه. (قال) أي الراوي وهو عبد الله بن زيد. (فقال) أي الرجل الطائف. (إلى آخره) أي إلى آخر

وكذا الإقامة. فلما أصبحت أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبرته بما رأيت. فقال: إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال، فألق عليه ما رأيت فليؤذن به، فإنه أندى صوتاً منك. فقمت مع بلال، فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به. قال: فسمع بذلك عمر بن الخطاب، وهو في بيته، فخرج يجر رداءه يقول: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل ما أرى. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فلله الحمد)) رواه أبوداود، والدارمي، وابن ماجه، إلا أنه لم يذكر الإقامة. وقال الترمذي: هذا حديث صحيح، لكنه لم يصرح قصة الناقوس. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأذان. (وكذا الإقامة) قال القاري: أي مثل الأذان، وظاهره يؤيد مذهبنا، أي أعلمه أياها-انتهى. قلت: الحديث لا يؤيد الحنفية بل يخالفهم ويرد عليهم، فإن نص رواية أبي داود بعد ذكر الأذان: ثم استأخر عني غير بعيد، أي بعد ما علمه الأذان، ثم قال: ثم تقول إذا أقمت الصلاة: الله أكبر، الله أكبر. أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمداً رسول الله. حي على الصلاة. حي على الفلاح. قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة. الله أكبر، الله أكبر. لا إله إلا الله. قال صاحب بذل المجهود: هذا الحديث الذي أخرجه أبوداود من طريق إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق فيه ذكر الأذان مثنى مثنى والإقامة مرة مرة، ويؤيده ما قال الترمذي بعد ما أخرج هذا الحديث من طريق يحيى بن سعيد الأموي عن محمد بن إسحاق: وقد روى هذا الحديث إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق أتم من هذا الحديث وأطول، وذكر فيه قصة الأذان مثنى مثنى، والإقامة مرة مرة، وكذلك أخرج الدارمي في سننه هذا الحديث من طريق مسلمة عن محمد بن إسحاق، وفيه: ثم استأخر غير كثير، ثم قال مثل ما قال، وجعلها وتراً، إلا أنه قال: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة. فهذه الأحاديث تدل على أن الإقامة مرة مرة إلا قوله: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة- انتهى كلام صاحب البذل. فالمراد بقول المصنف: وكذا الإقامة أي مثل كلمات الأذان في الكيفية لا الكمية، وظهر من هذا أن منشأ توهم القاري هو هذا الاختصار المخل. (فأخبرته بما رأيت) أي من الرؤيا. (فقال: إنها) أي رؤياك. (لرؤيا حق) أي ثابتة صحيحة صادقة مطابقة للوحي. (إن شاء الله) للتبرك لا للشك. (فألق) أمر من الإلقاء. (ما رأيت) من الأذان. (فليؤذن به) أي بأذانك الذي تلقى عليه. (فإنه) أي بلالاً. (أندى) أفعل تفضيل من النداء، أي أبعد، وأعلى، وأرفع. وقيل: أحسن وأعذب (صوتاً منك) فيه دليل على استحباب اتخاذ المؤذن رفيع الصوت حسنه. (ألقيه عليه) أي ألقن الأذان على بلال. (فسمع بذلك) أي بصوت الأذان. (وهو في بيته) جملة حالية. (مثل ما رأى) أي عبد الله بن زيد، ولعل هذا القول صدر عن عمر بعد ما حكى له بالرؤيا السابقة. (فلله الحمد) حيث أظهر الحق إظهاراً وزاد في البيان نوراً. (رواه أبوداود) وسكت عنه. (والدارمي وابن ماجه) وأخرجه أيضاً أحمد (ج4: ص43)

656- (11) وعن أبي بكرة، قال: ((خرجت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لصلاة الصبح، فكان لا يمر برجل إلا ناداه بالصلاة، أو حركه برجله)) رواه أبوداود. 657- (12) وعن مالك، بلغه أن المؤذن جاء عمر يؤذنه لصلاة الصبح، فوجده نائماً. فقال: الصلاة خير من النوم، فأمره عمر أن يجعلها في نداء الصبح. ـــــــــــــــــــــــــــــ وابن خزيمة، وابن حبان في صحيحهما، والبيهقي كلهم من طريق محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن محمد بن عبد الله بن زيد، عن أبيه عبد الله بن زيد، وصرح ابن إسحاق في رواية أحمد، وأبي داود، وابن ماجه بسماعه من محمد بن إبراهيم، قال محمد بن يحيى الذهلي: ليس في أخبار عبد الله بن زيد في قصة الأذان خبر أصح من هذا يعني حديث محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عم محمد بن عبد الله بن زيد؛ لأن محمداً سمع من أبيه، وابن أبي ليلى لم يسمع من عبد الله بن زيد، وقال ابن خزيمة في صحيحه: هذا حديث صحيح ثابت من جهة النقل؛ لأن محمداً سمع من أبيه، وابن إسحاق سمع من التيمي وليس هذا مما دلسه. وقد نقله البيهقي عن كتاب العلل الكبير للترمذي قال: سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث، فقال: هو عندي حديث صحيح- انتهى. وأصل هذا الحديث مروي في سيرة ابن إسحاق التي هذبها ابن هشام، وعرفت باسمه، وصرح فيه ابن إسحاق بسماعه من محمد بن إبراهيم التيمي. ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره، وحديث عبد الله بن زيد في الأذان أخرجه أيضاً محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن عبد الله بن زيد، وهو في مسند أحمد (ج4: ص42، 43) وذكره المجد بن تيمية في المنتقى في باب صفة الأذان. 656- قوله: (إلا ناداه بالصلاة) قال ابن حجر: أي أعلمه بها لفظاً، وفيه حث على الأذان؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لما تعاطى النداء للصلاة بنفسه كان في ذلك أبلغ حث على الأذان- انتهى. قال القاري: ويؤخذ منه مشروعية التثويب في الجملة على ما ظهر لي، والله أعلم. وقال الطيبي: مناسبته للباب مجرد النداء. (أو حركة برجله) أي إذا كان مشغولاً بنوم ونحوه، وفيه حث على إيقاظ النائم ونحوه للصلاة بالنداء، أو بتحريك الرجل، ويؤخذ من تحريكه برجله جواز ذلك من غير كراهة. (رواه أبوداود) في باب الاضطجاع بعد ركعتي الفجر، وسكت عنه. وقال المنذري: في إسناده أبوالفضل الأنصاري وهو غير مشهور- انتهى. وقال الحافظ في التقريب، وابن القطان: مجهول. وقال الذهبي في الميزان: لا يدرى من هذا. 657- قوله: (يؤذنه) بهمز ويبدل من الإيذان بمعنى الإعلام والإظهار. (أن يجعلها) أي هذه الجملة. (في نداء الصبح) ظاهره يدل على أن دخول "الصلاة خير من النوم" في أذان الفجر كان بأمر عمر، واستشكل هذا بأن دخول هذه الكلمة في نداء الصبح كان بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لبلال، وكان ذلك شائعاً في أذان بلال، وأذان أبي محذورة وغيرهما من

رواه في الموطأ. 658- (13) وعن عبد الرحمن بن سعد بن عمار بن سعد مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: حدثني أبي، عن جده، ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بلال أن يجعل إصبعيه في أذنيه، ـــــــــــــــــــــــــــــ المؤذنين، فما معنى جعله في نداء الصبح بأمر عمر؟ وأجيب عنه بوجوه أوجهها وأولاها أن معنى "أن يجعلها في نداء الصبح" أن يبقيها فيه، ولا يجاوزها إلى غيره بل يقصرها على أذان الصبح، فمقصوده إنكار استعمال هذه الكلمة عند باب الأمير لإيقاظ النائم في غير الأذان المشروع، وإلا فكون "الصلاة خير من النوم" في أذان الفجر أشهر عند العلماء والعامة أن يظن بعمر أنه جهل ما سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمر به مؤذنه بلالاً بالمدينة، وأبا محذورة بمكة، فمعنى جعله في نداء الصبح أن يستمر على جعله فيه، ولا يستعمله خارجه عند باب الأمير أو غيره لإيقاظ النائم ونحوه، واختار هذا التوجيه ابن عبد البر، والباجي، وقال الزرقاني: هو المتعين. (رواه) أي مالك في الموطأ بلاغاً. قال ابن عبد البر: لا أعلم أنه روي من وجه يحتج به وتعلم صحته، وإنما فيه حديث هشام بن عروة عن رجل يقال له إسماعيل لا أعرفه. ذكر ابن أبي شيبة: نا عبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة، عن رجل يقال له إسماعيل قال: جاء المؤذن يؤذن عمر لصلاة الصبح فقال: "الصلاة خير من النوم"، فأعجب به عمر وقال للمؤذن: أقرها في أذانك- انتهى. ورده الزرقاني بأنه قد أخرجه الدارقطني في السنن من طريق وكيع في مصنفه، عن العمري، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر. وأخرج أيضاً عن وكيع، عن سفيان، عن محمد بن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر أنه قال لمؤذنه: إذا بلغت "حي على الفلاح" في الفجر فقل: الصلاة خير من النوم- انتهى. 658- قوله: (عن عبد الرحمن بن سعد بن عمار بن سعد) القرظ المدني، قال البخاري: فيه نظر، وقال ابن معين: ضعيف، وقال الحاكم أبوأحمد: حديثه ليس بالقائم، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الحافظ في التقريب: ضعيف. (مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) بالجر بدل من سعد، ويجوز رفعه ونصبه. (قال) أي عبد الرحمن. (حدثني أبي) أي سعد بن عمار بن سعد، قال ابن القطان: لا يعرف حاله ولا حال أبيه، وقال الحافظ مستور. (عن أبيه) أي عمار بن سعد ذكره ابن حبان في الثقات، وقال الحافظ مقبول. (عن جده) أي جد أبي وهو سعد بن عائذ، ويقال ابن عبد الرحمن مولى الأنصار، ويقال: مولى عمار المعروف بسعد القرظ، قيل له ذلك لتجارته في القرظ. كان يؤذن بقباء، فلما ترك بلال الأذان، نقله أبوبكر إلى مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتوارث عنه بنوه الأذان، روى البغوي في معجم الصحابة بسنده: أن سعداً شكا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قلة ذات يده، فأمره بالتجارة، فخرج إلى السوق فاشترى شيئاً من قرظ فباعه فربح فيه، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فأمره بلزوم ذلك فلزمه، فسمي سعد القرظ، بقي إلى ولاية الحجاج على الحجاز، وذلك سنة (74) . (أن يجعل إصبعيه) أي أنملتي مسبحتيه. (في أذنيه) أي في صماخيهما، قال الحافظ: لم يرد تعيين الإصبع التي يستحب وضعها، وجزم النووي: أنها المسبحة، وإطلاق الإصبع مجاز عن الأنملة.

(5) باب فضل الأذان وإجابة المؤذن

قال: إنه أرفع لصوتك)) رواه ابن ماجه. (5) باب فضل الأذان وإجابة المؤذن {الفصل الأول} 659- (1) عن معاوية، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ (قال إنه) أي جعلهما في الأذنين. (أرفع لصوتك) قال الطيبي: ولعل الحكمة أنه إذا سد صماخيه لا يسمع إلا الصوت الرفيع فيتحرى في استقصائه كالأطروش أي الأصم. قيل: وبه يستدل الأصم على كونه أذاناً فيكون أبلغ في الإعلام. قال الترمذي: وعليه العمل عند أهل العلم يستحبون أن يدخل المؤذن إصبعيه في أذنيه في الأذان. قال الحافظ: قالوا: في ذلك فائدتان، إحداهما أنه قد يكون أرفع لصوته، وفيه حديث ضعيف. أخرجه أبوالشيخ من طريق سعد القرظ، عن بلال. وثانيتهما أنه علامة للمؤذن ليعرف من رآه على بعد، أو كان به صمم أنه يؤذن. (رواه ابن ماجه) قال في الزوائد: إسناده ضعيف لضعف أولاد سعد- انتهى. وأخرجه أيضاً الحاكم في كتاب الفضائل وسكت عنه، وأخرجه الطبراني في معجمه من حديث بلال، وأخرج ابن عدي في الكامل من حديث أبي أمامة، وروى الترمذي عن أبي جحيفة وصححه، قال: رأيت بلالاً يؤذن ويدور، يتبع فاه ههنا وههنا وإصبعاه في أذنيه. (باب فضل الأذان وإجابة المؤذن) عطف على الأذان. 659- قوله: (وأطول الناس أعناقاً) بفتح الهمزة جمع عنق، واختلفوا في معناه، فقيل: معناه أكثر الناس تشوقاً إلى رحمة الله؛ لأن المتشوق يطيل عنقه لما يتطلع إليه، فمعناه إليه، فمعناه كثرة ما يرونه من الثواب. وقيل: إذا ألجم الناس العرق يوم القيامة طالت أعناقهم لئلا ينالهم ذلك الكرب والعرق، وقيل: هو كناية عن كونهم رؤساء، فإن العرب تصف السادة بطول العنق، وقيل: كناية عن فرحتهم وسرورهم وأنهم لا يلحقهم الخجل، وقيل معناه: أكثرهم أعمالاً، يقال: لفلان عنق من الخير أي قطعة منه. وقيل: معناه أن الناس يعطشون يوم القيامة، فإذا عطش الإنسان انطوت عنقه، والمؤذنون لا يعطشون، فأعناقهم قائمة. قال الشوكاني: وفي صحيح ابن حبان من حديث أبي هريرة: يعرفون بطول أعناقهم يوم القيامة، زاد السراج: لقولهم لا إله إلا الله. وظاهره الطول الحقيقي فلا يجوز المصير إلى التفسير بغيره إلا لملجئ. والحديث يدل على فضيلة الأذان وأن صاحبه يوم القيامة يمتاز عن غيره، ولكن إذا كان فاعله غير متخذ أجراً عليه وإلا كان فعله لذلك من طلب الدنيا والسعي للمعاش، وليس من أعمال الآخرة،. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد، وابن ماجه. وفي الباب عن أبي هريرة، وابن الزبير بألفاظ مختلفة.

660- (2) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا نودي للصلاة، أدبر الشيطان له ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضي النداء أقبل، حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر، حتى إذا قضي التثويب، أقبل، حتى يخطر بين المرء ونفسه، يقول: اذكر كذا، اذكر كذا لما لم يذكر، ـــــــــــــــــــــــــــــ 660- قوله: (للصلاة) أي لأجل الصلاة. (أدبر الشيطان) أي عن موضع الأذان، قيل: المراد بالشيطان إبليس، ويحتمل أن المراد جنس الشيطان، وهو كل متمرد من الجن والإنس، لكن المراد هنا شيطان الجن خاصة. (له ضراط) بضم الضاد كغراب، وهو ريح من أسفل الإنسان وغيره، وهي جملة اسمية، وقعت حالاً بدون الواو لحصول الارتباط بالضمير، وفي بعض الروايات"وله ضراط" بالواو، وحقيقته ممكنة؛ لأن الشياطين أجسام يأكلون ويشربون كما ورد في الأخبار، فيصح منهم خروج الريح، فالظاهر حمله على الحقيقة، فقيل: يحصل له عند سماع الأذان شدة خوف وهيبة، ويحدث له ذلك الصوت بسببها من غير أن يتعمد ذلك. قال القاري: هذا لثقل الأذان عليه كما للحمار من ثقل الحمل عليه- انتهى. وقيل: يتعمد إخراج ذلك إما ليشتغل بسماع الصوت الذي يخرجه عن سماع الأذان، أو يصنع ذلك استخفافاً بالأذان كما يفعله السفهاء، أو ليقابل ما يناسب الصلاة من الطهارة بالحدث، وقيل الحديث محمول على التشبيه، شبه شغل الشيطان نفسه وإغفاله عن سماع الأذان بالصوت الذي يملأ السمع ويمنعه عن سماع غيره، ثم سماه ضراطاً تقبيحاً له. وقيل: هو عبارة عن شدة نفاره. (حتى لا يسمع التأذين) تعليل لإدباره. واستدل به على استحباب رفع الصوت بالأذان؛ لأن قوله "حتى لا يسمع" ظاهر في أنه يبعد إلى غاية ينتفي فيها للصوت، وقد وقع بيان الغاية في رواية لمسلم من حديث جابر فقال: "حتى يكون مكان الروحاء" وبين الروحاء والمدينة ستة وثلاثون ميلاً. (فإذا قضى) على بناء لمفعول أو الفاعل، والضمير للمنادى، أي فرغ المؤذن منه. (أقبل) الشيطان أي فوسوس كما في رواية مسلم: (حتى إذا ثوب بالصلاة) أي أقيم لها، ففي رواية لمسلم: إذا أقيمت، وفي أخرى له: إذا سمع الإقامة. (أدبر حتى) لا يسمع الإقامة. (حتى يخطر) بفتح ياء وكسر طاء، وحتى تعليلية. (بين المرء ونفسه) أي قلبه، والمعنى: حتى يوسوس بما يكون حائلاً بين الإنسان وما يقصده، ويريد إقبال نفسه عليه مما يتعلق بالصلاة من خشوع وغيره، وأكثر الرواة على ضم الطاء أي يسلك ويمر، ويدخل بين الإنسان ونفسه، فيكون حائلاً بينهما على المعنى الذي ذكرنا أولاً، وهذا لا ينافي إسناد الحيلولة إلى الله تعالى في قوله. {إن الله يحول بين المرء وقلبه} [8: 24] ؛ لأن إسناده إليه تعالى حقيقي، وهذا باعتبار أن الله تعالى مكنه منها حتى يتم ابتلاء العبد به. (يقول) أي للمصلي، وهو بالرفع استئناف مبين، وقيل: بالنصب على أنه يدل من يخطر. (أذكر كذا، أذكر كذا) كناية عن أشياء لم تتعلق بالصلاة. (لما لم يذكر) أي لشيء لم يكن على ذكره قبل دخوله

حتى يظل الرجل لا يدري: كم صلى؟)) متفق عليه. 661- (3) وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يسمع مدى صوت المؤذن جن، ولا إنس، ولا شيء، إلا شهد له ـــــــــــــــــــــــــــــ في الصلاة (حتى يظل الرجل) بفتح الظاء أي يصير ويبقى من الوسوسة بحيث. (لا يدري كم صلى) أي يقع في الشك. قال الطيبي: كرر "حتى" في الحديث خمس مرات، الأولى والأخيرتان بمعنى "كي"، والثانية والثالثة دخلتا على الجملتين الشرطيتين وليستا للتعليل- انتهى. وقد اختلف العلماء في الحكمة في هروب الشيطان عند سماع الأذان والإقامة دون سماع القرآن والذكر في الصلاة، فقيل: يهرب حتى لا يشهد للمؤذن يوم القيامة، فإنه لا يسمع مدى صوته جن ولا إنس إلا شهد له يوم القيامة. وقيل: لأن الأذان دعاء إلى الصلاة المشتملة على السجود الذي أباه وعصى بسببه. وقيل: غير ذلك مما بسطه الحافظ في الفتح، والزرقاني في شرح الموطأ. قال ابن بطال: يشبه أن يكون الزجر عن خروج المرء من المسجد بعد أن يؤذن المؤذن من هذا المعنى، لئلا يكون متشبهاً بالشيطان الذي يفر عند سماع الأذان. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً مالك، وأبوداود، والنسائي. 661- قوله: (لا يسمع مدى صوت المؤذن) بفتح الميم والقصر، أي غاية صوته، قال البيضاوي: غاية الصوت تكون أخفى، فإذ شهد له من بعد عنه ووصل إليه منتهى صوته فلأن يشهد له من دنا منه، وسمع مبادئ صوته أولى بالشهادة. (جن ولا إنس) تنكيرهما في سياق النفي لتعميم الأحياء والأموات. (ولا شيء) أي من النبات والحيوانات والجمادات، فهو من باب عطف العام على الخاص، يدل عليه ما في رواية ابن خزيمة: "لا يسمع صوته شجر ولا مدر، ولا حجر، ولا جن، ولا إنس". ولأبي داود والنسائي من حديث أبي هريرة: "المؤذن يغفر له مدى صوته، ويشهد له كل رطب ويابس"، ونحوه لأحمد والنسائي من حديث البراء، وصححه ابن السكن، فهذه الأحاديث تبين المراد من قوله في حديث الباب: "ولا شيء"، وغير ممتنع عقلاً ولا شرعا أن يخلق الله في الجمادات الحياة والقدرة على السماع والكلام والشهادة، ومثله قوله تعالى. {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} [17: 44] وفي صحيح مسلم: إني لأعرف حجراً كان يسلّم عليّ. ومنه ما ثبت في البخاري وغيره من قول النار: أكل بعضي بعضاً. قال القاري: والصحيح أن للجمادات والحيوانات والنباتات علماً وإدراكاً وتسبيحاً كما يعلم من قوله تعالى: {وإن منها لما يهبط من خشية الله} [2: 74] ، وقوله تعالى: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} ومن حديثه عليه السلام: "يقول الجبل للجبل: هل مر بك أحد ذكر الله؟ فإذا قال: نعم استبشر". قال البغوي: وهذا مذهب أهل السنة، ويدل عليه قضية كلام الذئب والبقر وغيرهما فلا يحتاج إلى ما قاله ابن حجر: بأن يخلق الله تعالى فهماً وسمعاً حيى تسمع أذانه وتعقله. (إلا شهد له) أي بلسان القال. والسر في

يوم القيامة)) رواه البخاري. 662- (4) وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ـــــــــــــــــــــــــــــ هذه الشهادة مع أنها تقع عند الغيب والشهادة أن أحكام الآخرة جرت على نعت أحكام الخلق في الدنيا من توجيه الدعوى والجواب والشهادة، قاله الزين بن المنير، وقال التوربشتي: المراد من شهادة الشاهدين له {وكفى بالله شهيداً} اشتهاره يوم القيامة فيما بينهم بالفضل والعلو، فإن الله تعالى يهين قوماً ويفضحهم بشهادة الشاهدين، فكذلك يكرم قوماً تكميلاً لسرورهم وتطييباً لقلوبهم. وفي الحديث استحباب رفع الصوت بالأذان ليكثر من يشهد له ما لم يجهده أو يتأذى، وفيه أن أذان الفذ مندوب إليه، ولو كان في قفر، ولو لم يترج حضور من يصلي معه؛ لأنه إن فاته دعاء المصلين فلم يفته استشهاد من سمعه من غيرهم. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً مالك، والشافعي، وأحمد والنسائي، وابن ماجه وغيرهم. 662 – قوله: (إذا سمعتم المؤذن) أي صوته أو أذانه. وظاهره اختصاص الإجابة بمن سمع حتى لو رأى المؤذن على المنارة مثلاً في الوقت وعلم أنه يؤذن لكن لم يسمع لبعد أو صمم لا تشرع له المتابعة (فقولوا) قال ابن رسلان: الأمر للندب عند الجمهور، والصارف عن الوجوب على ما قيل اقترانه بأمر الصلاة وسؤال الوسيلة، وهما مستحبان، وفيه نظر، فإن دلالة الاقتران غير معمول عند الجمهور خلافاً للمزني- انتهى. قال الحافظ استدل الجمهور بحديث أخرجه مسلم وغيره: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع مؤذناً، فلما كبر قال: على الفطرة، فلما تشهد قال: خرجت من النار، قالوا: فلما قال - صلى الله عليه وسلم - غير ما قال المؤذن علمنا أن الأمر بذلك للاستحباب. ورد بأنه ليس في الرواية أنه لم يقل مثل ما قال. فيجوز أن يكون قاله، ولم ينقله الراوي اكتفاء بالعادة ونقل القول الزائد، وباحتمال أنه وقع ذلك قبل الأمر بالإجابة. (مثل ما يقول) أي مثل قول المؤذن أي إلا في الحيعلتين، فيأتي بلا حول ولا قوة إلا بالله، لحديث عمر الآتي فهو عام مخصوص. وقال ابن المنذر: يحتمل أن يكون ذلك من الاختلاف المباح، فيقول تارة كذا وتارة كذا. وحكى بعض المتأخرين عن بعض أهل الأصول أن العام والخاص إذا أمكن الجمع بينهما وجب إعمالهما، قال: فلم لا يقال يستحب للسامع أن يجمع بين الحيعلة والحوقلة، وهو وجه عند الحنابلة؟ قال القسطلاني: ويقول بدل كل من كلمتي التثويب في الصبح: صدقت وبررت. (بكسر الراء الأولى، أي صرت ذابر وخير كثير) . قال في الكفاية: لخبر ورد فيه- انتهى. وقال الأمير اليماني: وقيل: يقول في جواب التثويب: صدقت وبررت، وهذا استحسان من قائله، وإلا فليس فيه سنة تعتمد- انتهى. وقيل: يقول في جوابه: صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الصلاة خير من النوم. وهذا أيضاً استحسان من قائله لا دليل عليه من السنة، قال الكرماني: قال: مثل ما يقول، ولم يقل: "مثل ما قال" ليشعر بأنه يجيب بعد كل كلمة مثل كلمتها. قال الحافظ.

ثم صلوا عليّ؛ فإنه من صلى عليّ صلاة، صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة)) . رواه مسلم. 663- (5) وعن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قال المؤذن: الله أكبر، الله أكبر؛ فقال أحدكم: الله أكبر، الله أكبر. ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله؛ قال: أشهد أن لا إله إلا الله. ثم قال: أشهد أن محمداً رسول الله؛ قال: أشهد أن محمداً رسول الله. ثم قال: حي على الصلاة؛ قال: لا حول ـــــــــــــــــــــــــــــ والصريح في ذلك ما رواه النسائي من حديث أم حبيبة: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول كما يقول المؤذن حتى يسكت. وأصرح من ذلك حديث عمر الآتي بعد هذا. (ثم صلوا عليّ) بتشديد الياء، أي ندباً وسلموا. قال المناوي: وصرف عن الوجوب الإجماع على عدمه خارج الصلاة. (فإنه) الضمير للشأن (صلاة) أي واحدة (صلى الله بها عشراً) أي أعطاه الله بتلك الصلاة الواحدة عشراً من الرحمة (ثم سلوا) أمر من سأل (الوسيلة) هي ما يتقرب به إلى الكبير، يقال: توسلت أي تقربت، وتطلق على المنزلة العلية، قاله الحافظ. والمتعين المصير إلى ما في هذا الحديث من تفسيرها (فإنها) أي الوسيلة (منزلة في الجنة) من منازلها وهي أعلاها على الإطلاق (لا تنبغي) أي لا تليق ولا تصلح ولا تحصل ولا تتيسر تلك المنزلة (وأرجو) قال المناوي: ذكره على منهج الترجي تأدبا وتشريعا. وقال القرطبي: قال ذلك قبل أن يوحى إليه أنه صاحبها، ثم أخبر بذلك، ومع ذلك فلا بد من الدعاء بها، فإن الله يزيد بكثرة دعاء أمته رفعة كما زاده بصلاتهم، ثم يرجع ذلك إليهم بنيل الأجور ووجوب شفاعته - صلى الله عليه وسلم -. (أكون أنا هو) من وضع الضمير المرفوع موضع المنصوب على أن "أنا" تأكيد أو فصل، ويحتمل أن يكون" أنا" مبتدأ خيره "هو" والجملة خبر "أكون" والله أعلم،. (حلت عليه الشفاعة) وفي حديث جابر الآتي حلت له، قال الحافظ: واللام بمعنى علي أي استحقت ووجبت، أو نزلت عليه، ولا يجوز أن تكون من الحل؛ لأنها لم تكن قبل ذلك محرمة. ثم المراد شفاعة مخصوصة. (رواه مسلم) أخرجه أيضاً أحمد، والترمذي في أوائل المناقب، وأبوداود والنسائي في الصلاة. 663- قوله: (إذا قال المؤذن) شرطية جزاؤها "دخل الجنة". (الله أكبر، الله أكبر) لم يذكر الأربع اكتفاء بذكر اثنين منها، ومن ثم ذكر واحداً من الاثنين فيما بعد، وفيه دليل أنه يستحب للمؤذن أن يقول كل تكبيرتين بنفس واحد. (فقال أحدكم) عطف على فعل الشرط. (ثم قال) عطف على قال الأول، قال الطيبي: المعطوفات بثم مقدرات بحرف الشرط والفاء في فقال، أي إذا قال المؤذن أشهد (أن لا إله إلا الله قال) أي فقال أحدكم فحذف اختصارا. (لا حول

ولا قوة إلا بالله. ثم قال: حي على الفلاح؛ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. ثم قال: الله أكبر، الله أكبر؛ قال الله أكبر؛ الله أكبر. ثم قال: لا إله إلا الله؛ قال: لا إله إلا الله من قلبه، دخل الجنة)) رواه مسلم. 664- (6) وعن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا قوة إلا بالله) أى لا حيلة في الخلاص عن موانع الطاعة، ولا حركة ولا قوة على الطاعة إلا بتوفيق الله، وإنما أفرد - صلى الله عليه وسلم - الشهادتين والحيعلتين في هذا الحديث مع أن كل نوع منها مثنى كما هو المشروع لقصد الاختصار. قال النووي: فاختصر - صلى الله عليه وسلم - من كل نوع شطراً تنبيهاً على باقيه. (من قلبه) قيد للأخير أو للكل وهو الأظهر قاله القاري. (دخل الجنة) قال عياض: إنما كان كذلك؛ لأن ذلك توحيد وثناء على الله تعالى، وانقياد لطاعته، وتفويض إليه بقوله: لا حول ولا قوة إلا بالله، فمن حصل هذا فقد حاز حقيقة الإيمان، وكمال الإسلام، واستحق الجنة بفضل الله. وقال الطيبي: وإنما وضع الماضي موضع المستقبل لتحقيق الموعود، قال ابن حجر: على حد قوله. {أتى أمرالله} [16: 1] . {ونادى أصحاب الجنة} [7: 44] . والمراد أنه يدخل مع الناجين، وإلا فكل مؤمن لا بد له من دخولها، وإن سبقه عذاب بحسب جرمه إذا لم يعف عنه إلا إن قال ذلك بلسانه مع اعتقاده بلقبله حقيقة ما دل عليه وإخلاصه فيه-انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود وأخرج البخاري نحوه من حديث معاوية. 664- قوله: (حين يسمع النداء) أي تما الأذان، إذا المطلق يحمل على الكامل، ويدل عليه أيضاً حديث عبد الله بن عمرو بن العاص المتقدم. (اللهم) أي الله! والميم عوض عن "يا" فلذلك لا يجتمعان. (رب) بالنصب على أنه منادي ثان، أو بدل، ويجوز رفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي أنت رب هذه الدعوة. (هذه الدعوة) بفتح الدال، قال العيني: المراد بالدعوة ههنا ألفاظ الأذان التي يدعى بها الشخص إلى عبادة الله –انتهى. وقال الحافظ: المراد بها دعوة التوحيد كقوله تعالى. {له دعوة الحق} [13: 14] وقيل لدعوة التوحيد: تامة لأن الشرك نقص، أو التامة التي لا يدخلها تغيير ولا تبديل، بل هي باقية إلى يوم القيامة، أو لأنها هي التي تستحق صفة التمام، وما سواها فمعرض للفساد والنقص، وقال ابن التين: وصفت بالتامة؛ لأن فيها أتم القول، وهو لا إله إلا الله، ومعنى رب هذه الدعوة أنه صاحبها، أو المتمم لها، والزائد في أهلها، والمثيب عليها أحسن الثواب، والآمر بها ونحو ذلك، وقيل المراد الكاملة الفاضلة. (والصلاة القائمة) أي الدائمة التي لا تغيرها ملة ولا تنسخها شريعة، أو القائمة إلى يوم القيامة، أو التي ستقوم. (آت) أي أعط أمر من الإيتاء. (الوسيلة) تقدم تفسيرها في حديث عبد الله بن عمرو. (والفضيلة) هي المرتبة الزائدة على سائر الخلائق، ويحتمل أن تكون تفسيراً للوسيلة، وأما زيادة "الدرجة الرفيعة" المشتهرة على الألسنة، فقال السخاوي: لم أرها

وابعثه مقاما محموداً الذي وعدته؛ حلت له شفاعتي يوم القيامة)) رواه البخاري. 665- (7) وعن أنس، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغير إذا طلع الفجر، وكان يستمع الأذان، فإن سمع أذاناً أمسك، وإلا أغار. ـــــــــــــــــــــــــــــ في شيء من الروايات ذكره القاري. (وابعثه مقاماً محموداً) على حكاية لفظ القرآن، أي مقاماً يحمدك فيه الأولون والآخرون، أو مقاماً يحمد القائم فيه، وهو يطلق على كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات، ونصبه على الظرفية، أي ابعثه يوم القيامة فأقمه مقاما محموداً. أو ضمن "ابعثه" معنى "أقمه" أو على أنه مفعول به، ومعنى "ابعثه" "أعطه"، أو على الحال أي ابعثه ذا مقام، والتنكير للتعظيم والتفخيم كما قال الطيبي، كأنه قال: مقاماً أي مقام محمودا بكل لسان. وقد روي بالتعريف عند النسائي، وابن حبان، والطحاوي، والطبراني، والبيهقي. وهذا يرد على من أنكر ثبوته معرفاً كالنووي. (الذي وعدته) أراد بذلك قوله تعالى. {عسى أن يبعثك ربك مقاما محموداً} [17: 79] ، وأطلق عليه الوعد؛ لأن عسى في كلام الله للوقوع، والموصول إما بدل من "مقاماً" أو عطف بيان، أو خبر مبتدأ محذوف، وليس صفة للنكرة لعدم المطابقة في التنكير، ووقع في رواية النسائي وغيره "المقام المحمود" بالألف واللام، فيصح وصفه بالموصول. قال ابن الجوزي: والأكثر على أن المراد بالمقام المحمود الشفاعة. والحكمة في سؤال ذلك مع كونه واجب الوقوع بوعد الله، وعسى في الآية للتحقيق إظهار لشرفه، وعظم منزلته، وتلذذ بحصول مرتبته ورجاء لشفاعته. (حلت) كذا في رواية البخاري بدون إلا، وهو الظاهر، وفي رواية الترمذي، وأبي داود والنسائي، وابن ماجه: إلا حلت، بإثبات إلا، وهي تحتاج إلى تأويل، ورواية البخاري أوضح؛ لأن أول الكلام "من قال" وهو شرطية و"حلت" جوابها، ولا يقترن جواب الشرط بإلا، وأما مع إلا فينبغي أن يجعل من في قوله "من قال" استفهامية للإنكار، فيرجع إلى النفي. وقال بمعنى "يقول" أي ما من أحد يقول ذلك إلا حلت له، ومثله: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} [2: 255] و {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} [55: 60) وأمثلته كثيرة. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وابن السني في عمل اليوم والليلة عن النسائي. 665- قوله: (يغير) من الإغارة. (إذا طلع الفجر) ليعلم أنهم مسلمون أو كفار. (وكان يستمع الأذان) أي يطلب سماعه، ويتوجه بسمعه إلى صوت الأذان ليعرف حالهم. (أمسك) أي عن الإغارة به. (وإلا) أي وإن لم يسمع الأذان (أغار) قال القاضي: أي كان يتثبت فيه ويحتاط في الإغارة حذراً عن أن يكون فيهم مؤمن، فيغير عليه غافلا عنه جاهلا بحاله. وفي الحديث دليل على جواز الحكم بالدليل لكونه - صلى الله عليه وسلم - كف عن القتال بمجرد سماع الأذان، وفيه الأخذ بالأحوط في أمر الدماء؛ لأنه كف عنهم في تلك الحال مع احتمال أن لا يكون ذلك على الحقيقة، وقال الخطابي: فيه بيان أن الأذان شعار لدين الإسلام،

فسمع رجلا يقول: الله أكبر، الله أكبر. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: على الفطرة. ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خرجت من النار. فنظروا إليه فإذا هو راعي معزي)) رواه مسلم. 666- (8) وعن سعد بن أبي وقاص، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من قال حين يسمع المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، رضيت بالله رباً، وبمحمد رسولاً، وبالإسلام ـــــــــــــــــــــــــــــ فلو أن أهل بلد أجمعوا على تركه كان للسلطان قتالهم عليه، ذكره القاري. (فسمع رجلاً) الفاء فصيحة، أي لما كانت عادته ذلك استمع فسمع. (على الفطرة) أي أنت أو هو على الدين، أو السنة، أو الإسلام؛ لأن الأذان لا يكون إلا للمسلمين. وفيه أن التكبير من الأمور المختصة بأهل الإسلام، وأنه يصح الاستدلال به على إسلام أهل قرية سمع منهم ذلك. (خرجت) أي بالتوحيد. (من النار) قال الطيبي إشارة إلى استمرار تلك الفطرة وعدم تصرف الوالدين فيه بالشرك. وأما خرجت بلفظ الماضي فيحتمل أن يكون تفاولاً وأن يكون قطعاً؛ لأن كلامه عليه السلام حق وصدق، كذا في المرقاة. وقال الشوكاني: هو نحو الأدلة القاضية بان من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة، وهي مطلقة مقيدة بعدم المانع جمعاً بين الأدلة. (فنظروا) أي الصحابة. (إليه) أي إلى ذلك الرجل. (فإذا هو) أي الرجل المؤذن. (راعي معزي) بكسر الميم منوناً بمعنى المعز، وهو اسم جنس، وواحد المعزي ماعز، وهو خلاف الضأن قاله الطيبي. واحتج به على أن الأذان مشروع للمنفرد. (رواه مسلم) أخرج البخاري منه ذكر الإغارة بدون ذكر قصة الرجل الراعي للمعز، وأخرجه أيضاً أحمد، والترمذي في آخر أبواب السير، وصححه أبوداود في أواخر كتاب الجهاد مختصراً بغير قصة الرجل. 666- قوله: (من قال حين يسمع المؤذن) أي قوله، وهو يحتمل أن يكون المراد به حين يسمع تشهده الأول أو الأخير، وهو قوله آخر الأذان: لا إله إلا الله، وهو أنسب، ويمكن أن يكون معنى يسمع يجيب، فيكون صريحاً في المقصود وأن الثواب المذكور مرتب على الإجابة بكمالها مع هذه الزيادة، ولأن قوله بهذه الشهادة في أثناء الأذان ربما يفوته الإجابة في بعض الكلمات الآتية. كذا في المرقاة. (أشهد) الخ. كذا في رواية لمسلم بغير لفظ أنا، وبغير الواو، وفي أخرى له: وأنا أشهد، وكذا وقع عند أحمد والترمذي وأبي داود والنسائي وابن ماجه. قال السندي في حاشية النسائي: قوله حين يسمع المؤذن أي يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، فقوله: وأنا أشهد، عطف على قول المؤذن، أي وأنا أشهد كما تشهد. (رضيت بالله رباً) تمييز، أي بربوبيته، وبجميع قضائه وقدره، وقيل: حال أي مربياً، ومالكاً، وسيداً، ومصلحاً. (وبمحمد رسولاً) أي بجميع ما أرسل به، وبلغه إلينا من الأمور الاعتقادية وغيرها. (وبالإسلام)

ديناً، غفر له ذنبه)) رواه مسلم. 667- (9) وعن عبد الله بن مغفل، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة. ثم قال في الثالثة: لمن شاء)) ـــــــــــــــــــــــــــــ أي بجميع أحكام الإسلام من الأوامر والنواهي. (ديناً) أو إعتقاداً أو انقياداً. (غفر له ذنبه) أى من الصغائر جزاء لقوله من قال حين يسمع المؤذن. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه. والعجب أن الحاكم أخرجه في مستدركه (ج1: ص203) . وأعجب من ذلك تقرير الذهبي له في استدراكه عليه، وهو في صحيح مسلم بلفظه، وأخرجه الحاكم من طريق قتيبة عن الليث، وقتيبة هذا شيخ مسلم في هذا الحديث. 667- قوله: (بين كل أذانين) أي أذان وإقامة، وهذا من باب التغليب كالقمرين للشمس والقمر، ويحتمل أن يكون أطلق على الإقامة أذان حقيقة؛ لأن الأذان في اللغة بمعنى الإعلام، فالإقامة إعلام بحضور فعل الصلاة، كما أن الأذان إعلام بدخول الوقت. قال السندي في حاشية ابن ماجه: وعمومه يشمل المغرب، بل قد جاء صريحاً كما في حديث أنس وغيره، فلا وجه للقول بالكراهة-انتهى. قلت: قد ورد ذكر المغرب بخصوصه نصاً في حديث عبد الله ن مغفل أيضاً، ففي الصحيحين عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: صلوا قبل صلاة المغرب. قال في الثالثة: لمن شاء كراهية أن يتخذها الناس سنة، وأما حديث أنس فسنذكره إن شاء الله تعالى (صلاة) أي نافلة، أو نكرت لتتناول كل عدد نواه المصلي من النافلة كركعتين، أو أربع، أو أكثر. (بين كل أذانين صلاة) قال ابن الملك: كرر تأكيداً للحث على النوافل بينهما. قال المظهر: إنما حرض عليه السلام أمته على صلاة النفل بين الأذانين؛ لأن الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة لشرف ذلك الوقت، وإذا كان الوقت أشرف كان ثواب العبادة أكثر. (لمن شاء) ذكره دلالة على عدم وجوبها. قال السندي في حاشية النسائي: وهذا الحديث وأمثاله يدل على جواز الركعتين قبل صلاة المغرب بل ندبهما. قلت: أراد بأمثاله ما روي في ذلك من الأحاديث الصحيحة الصريحة. منها حديث عبد الله بن مغفل الذي ذكرنا لفظه، وهو حديث صحيح أخرجه الشيخان. ومنها حديث أنس بن مالك أخرجه أيضاً الشيخان. قال: كان المؤذن إذا أذن قام ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يبتدرون السواري حتى يخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم كذلك، يصلون الركعتين قبل المغرب. زاد مسلم: حتى أن الرجل الغريب ليدخل المسجد فيحسب أن الصلاة صليت من كثرة من يصليها. ومنها حديث عقبة بن عامر أخرجه البخاري عن مرثد بن عبد الله اليزني، قال: أتيت عقبة بن عامر الجهني فقلت: ألا أعجبك من أبي تميم يركع ركعتين قبل صلاة المغرب، فقال: إنا كنا نفعله على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، قلت: فما يمنعك الآن؟ قال: الشغل، وسيأتي هذه الأحاديث في باب السنن وفضائلها. ومنها حديث عبد الله بن مغفل أيضاً: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى قبل المغرب ركعتين، أخرجه ابن حبان في صحيحه، وأخرجه محمد بن نصر في قيام الليل بلفظ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى قبل المغرب ركعتين، ثم قال:

{الفصل الثاني}

متفق عليه. {الفصل الثاني} 668- (10) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن. اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين)) ـــــــــــــــــــــــــــــ صلوا قبل المغرب ركعتين، ثم قال عند الثالثة: لمن شاء، خاف أن يحسبها الناس سنة. قال العلامة أحمد بن علي المقريزي في مختصر قيام الليل: هذا إسناده صحيح على شرط مسلم، وقد صح في ابن حبان حديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى ركعتين قبل المغرب- انتهى. وقد روى محمد بن نصر عن جماعة من الصحابة والتابعين: أنهم كانوا يصلون الركعتين، فهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة وآثار الصحابة والتابعين تدل على استحباب الركعتين بعد أذان المغرب وقبل صلاته، وهو الحق. وترد على الحنفية والمالكية ومن وافقهم. وارجع لتفصيل الكلام في ذلك إلى شرح الترمذي لشيخنا الأجل المباركفورى. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم. 668- قوله: (الإمام ضامن) قال الجزري: أراد بالضمان ههنا الحفظ والرعاية لا ضمان الغرامة؛ لأنه يحفظ على القوم صلاتهم. وقيل: إن صلاة المقتدين في عهدته، وصحتها مقرونة بصحة صلاته، فهو كالمتكفل لهم صحة صلاتهم- انتهى. وقال الخطابي في المعالم (ج1: ص156) : قال أهل اللغة: الضامن في كلام العرب معناه الراعي، والضمان معناه الرعاية، والإمام ضامن بمعنى أنه يحفظ الصلاة وعدد الركعات على القوم، وقيل: معناه ضامن الدعاء يعمهم به، ولا يختص بذلك دونهم، وليس الضمان الذي يوجب الغرامة من هذا في شيء، وقد تأوله قوم على معنى أنه يتحمل القراءة عنهم في بعض الأحوال، وكذلك يتحمل القيام أيضاً إذا أدركه المأموم راكعاً، وهذا التأويل الأخير الذي ذكره الخطابي بعيد من اللفظ والسياق كما لا يخفى. وأبعد منه حمله على معنى أن الإمام متكفل لصحة صلاة المقتدين، فإن الضمان في كلام العرب هو الرعاية والحفظ، والمراد أن الإمام يحفظ أفعال الصلاة وعدد الركعات على القوم، فلا دليل فيه على ما ذهب إليه الحنفية من عدم جواز صلاة المفترض خلف المتنفل. (والمؤذن مؤتمن) أي أمين في الأوقات يعتمد الناس على صوته في الصلاة والصيام وغيرهما. وقيل: أمين على حرم الناس؛ لأنه يشرف على المواضع العالية. قال الجزري: مؤتمن القوم الذي يثقون إليه ويتخذونه أميناً حافظاً. يقال: ائتمن الرجل فهو مؤتمن، يعني أن المؤذن أمين الناس على صلاتهم وصيامهم-انتهى. ولابن ماجه من حديث ابن عمر مرفوعاً: خصلتان معلقتان في أعناق المؤذنين للمسلمين: صلاتهم وصيامهم. (اللهم أرشد الأئمة) للعلم بما تكفلوه والقيام به والخروج عن عهدته. (واغفر للمؤذنين) أي ما عسى يكون لهم تفريط في الأمانة التي حملوها من جهة تقديم على الوقت أو تأخير عنه سهواً. والحديث يستدل به على فضل الأذان على

رواه أحمد وأبوداود والترمذي والشافعي. ـــــــــــــــــــــــــــــ الإمامة؛ لأن حال الأمين أفضل من حال الضمين، ورد بذلك بأن هذا الأمين يتكفل الوقت فحسب، وهذا الضامن يتكفل أركان الصلاة ويتعهد للسفارة بينهم وبين ربهم في الدعاء، فأين أحدهما من الآخر؟ وكيف لا والإمام خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والمؤذن خليفة بلال. وأيضاً الإرشاد الدلالة الموصولة في البغية، والغفران مسبوق بالذنوب. قال الطيبي. (رواه أحمد وأبوداود والترمذي والشافعي) في الأم، ولعل تأخير الإمام الشافعي عن المخرجين المذكورين مع أنه أجل منهم رواية ودراية باعتبار صحة أسانيد كتبهم واشتهارها، وقبول العامة لها. أما ترى أن البخاري ومسلماً يتقدمان عليه بل على أستاذه الإمام مالك، وما ذلك إلا لقوة صحة كتابيها، وتلقي الأمة لهما بالقبول. وقال ابن حجر: إنما أخره عنهم مع أنهم من جملة تلامذته أو تلاميذه ليفيد أن له رواية أخرى. ولذا قال: وفي أخرى الخ. كذا في المرقاة. والحديث أخرجه أيضاً أبوداود الطيالسي في مسنده، وابن حبان في صحيحه كلهم عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة. وروي أيضاً عن محمد بن أبي صالح، عن أبيه أبي صالح، عن عائشة، واختلفوا في صحة الحديث، فرجع أبوزرعة، والعقيلي، والدارقطني طريق أبي صالح عن أبي هريرة على طريق أبي صالح عن عائشةِ. ورجح البخاري عكسه، وذكر عن علي بن المديني أنه لم يثبت واحداً منهما. أما حديث أبي هريرة فللانقطاع بين الأعمش وأبي صالح؛ لأنه يقول: نبئت عن أبي صالح، عن أبي هريرة كما في رواية لأحمد وأبي داود. وفي رواية لأحمد عن الأعمش، عن رجل، عن أبي صالح، عن أبي هريرة. وأما حديث عائشة فللاختلاف في محمد بن أبي صالح، فأنكر بعضهم وجوده كابن عدي، فقد نقل في التهذيب عنه: أنه قال: ليس في ولد أبي صالح من اسمه محمد، وأثبته بعضهم كأبي داود وأبي زرعة الدمشقي. ولأنه تفرد نافع بن سليمان بذكر عائشة، وخالف الثقات في ذلك، وهو ليس بقوي، وصحح حديث أبي هريرة وعائشة جميعاً ابن حبان، وقال: قد سمع أبوصالح هذين الخبرين من عائشة وأبي هريرة جميعاً، وهذا هو الصواب عندي، ويجاب عن الانقطاع بين الأعمش وأبي صالح بأن ابن نمير قد قال: عن الأعمش، عن أبي صالح، ولا أراني إلا قد سمعته منه. وقال إبراهيم بن حميد الرواسي: قال الأعمش: وقد سمعته من أبي صالح، وقال هشيم عن الأعمش: حدثنا أبوصالح، عن أبي هريرة، ذكر ذلك الدارقطني، فبينت هذه الطرق أن الأعمش سمعه عن غير أبي صالح. ثم سمعه منه، أو يقال: إنه سمعه من أبي صالح، ثم وقع في نفسه الشك في سماعه، فكان تارة يرويه عن أبي صالح، وتارة يرويه عن رجل عنه، وتارة يقول نبئت عن أبي صالح، ولا أراني إلا قد سمعته منه كما في رواية لأحمد وأبي داود. والطرق التي ذكرها الدارقطني تكفي في ترجيح سماع الأعمش إياه، وإن شك فيه بعد ذلك، قال اليعمري: الكل صحيح، والحديث متصل، وبجاب عن الكلام في حديث عائشة بأن الراجح أن محمد بن أبي صالح كان موجوداً، فقد نقل في التهذيب أنه روى عنه هشيم أيضاً، فلم ينفرد نافع بن سليمان بالرواية عنه، ولعله كان غير مشهور في الرواة، فلذلك خفي أمره على بعض العلماء. وقد نقل في التهذيب: أن ابن حبان ذكره في الثقات، وقال: يخطئ، ونقل فيه

وفي أخرى له بلفظ المصابيح. 669- (11) وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أذن سبع سنين محتسباً؛ كتب له براءة من النار)) رواه الترمذي وأبوداود، وابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وفي التلخيص: أن ابن جبان أخرج حديثه هذا في صحيحه، ووقوع الخطأ من الراوي في بعض رواياته لا يمنع إصابته فيما لم يخالفه فيه غيره، وأولى أن يصيب فيما وافق غيره فيه، ونافع بن سليمان وثقه ابن معين، وقال أبوحاتم: صدوق يحدث عن الضعفاء مثل بقية. وقد روى أيضاً هذا الحديث من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة. أخرجه أحمد، وابن حبان، ومن طريق زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن أبي صالح، عن أبي هريرة أخرجه أحمد، وهذان إسنادان صحيحان لا مطعن فيهما. وقد ثبت بهما أن الحديث رواه أبوصالح يقيناً، فلو شك الأعمش في سماعه منه لم يكن ذلك بضاره شيئاً. كذا حققه العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي، وهو تحقيق جيد نفيس حقيق بالقبول، وقد بسط الحافظ الكلام في طرق هذا الحديث في التلخيص فارجع إليه إن شئت. هذا، وفي الباب عن أبي أمامة عند أحمد، وابن عمر عند أبي العباس السراج، وصححه الضياء في المختارة وسهل بن سعد عند ابن ماجه، والحاكم، وواثله، وأبي محذورة عند الطبراني في الكبير. (وفي أخرى له) أي في رواية أخرى للشافعي (بلفظ المصابيح) وهو: الأئمة ضمناء، والمؤذنون أمناء، فأرشد الله الأئمة، وغفر للمؤذنين. قال ابن الملك: الضمناء جمع ضمين، والأمناء جمع أمين، وقال الطيبي: دعاء أخرجه في صورة الخبر مبالغة، وعبر بالماضي ثقة بالاستجابة، كأنه استجيب فيه، ويخبر عنه موجوداً. 669-قوله (سبع سنين) العلم بتعيين هذه المدة موكول إلى الشارع (محتسباً) أي طالباً للثواب لا للأجرة (براءة من النار) أي خلاص منها، وهذا يستلزم الدخول في الجنة ابتداء، ومغفرة الذنوب كلها صغائرها وكبارها، بل المتقدمة والمتأخرة، ويحتمل أن يكون مقيداً بالموت على الإيمان، أو يكون بشارة بذلك، قاله السندي. وقال المناوي: لأن مداومته على النطق بالشهادتين والدعاء إلى الله تعالى هذه المدة الطويلة من غير باعث دنيوي صير نفسه كأنها معجونة بالتوحيد، والنار لا سلطان لها على من صار كذلك. وأخذ منه أنه يندب للمؤذن على أن لا يأخذ على أذانه أجراً-انتهى.. (رواه الترمذي) وفي سنده جابر بن يزيد الجعفي وهو ضعيف جداً. قال الترمذي وجابر بن يزيد ضعفوه، تركه يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي، وقال ابن سعد في الطبقات (ج6: ص240) : كان ضعيفاً في رأيه وحديثه. قال ابن عيينة: كنت معه في بيت فتكلم بكلام ينقض البيت أو كاد ينقض أو نحو هذا. وقال أبوحنيفة: ما لقيت فيمن لقيت أكذب من جابر الجعفي، ما أتيته بشيء من رأيي إلا جاءني فيه بأثر. كذا في نصب الراية، وتهذيب التهذيب، وكذبه أيضاً ابن معين وغيره. (وأبوداود) كذا في بعض النسخ، وفيه نظر، فإن الحديث ليس في سنن أبي داود، قال الحافظ في تهذيب

670- (12) وعن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يعجب ربك من راعى غنم في رأس شظية للجبل يؤذن بالصلاة ويصلي، فيقول الله عزوجل: أنظروا إلى عبدي هذا، يؤذن ويقيم الصلاة، يخاف مني، ـــــــــــــــــــــــــــــ التهذيب (ج2: ص48) : روى له أبوداود حديثاً واحداً في السهو في الصلاة من حديث مغيرة بن شعبة، وقال عقبة: ليس في كتابي عن جابر الجعفي غيره. 670- قوله: (يعجب ربك) قال النووي: التعجب على الله محال إذ لا يخفى عليه أسباب الأشياء، والتعجب إنما يكون مما خفي سببه، فالمعنى: عظم ذلك عنده وكبر. وقيل: معناه الرضا، أي يرضى ربك منه، وبثيب عليه. والخطاب إما للراوي أو لواحد من الصحابة غيره، أو عام لكل من يتأتى منه السماع، كذا في المرقاة. وقيل: العجب روعة تعترى الإنسان عند استعظام الشيء، والله تعالى منزه عن الروعة، فيحمل على الاستعظام من غير ورعة. وقال الإمام ابن تيمية في بعض رسائله بعد ذكر الأحاديث التي فيها نسبة العجب إلى الله تعالى: أن قول القائل: التعجب استعظام للمتعجب منه، فيقال نعم، وقد يكون مقروناً بجهل بسبب المستعجب منه، وقد يكون لما خرج عن نظائره، والله تعالى بكل شيء عليم، فلا يجوز عليه أن لا يعلم سبب ما يعجب منه، بل يتعجب منه لخروجه عن نظائره تعظيماً له، والله تعالى يعظم ما هو عظيم إما لعظمه أو لعظمته، فإنه واصف بعض الخير بأنه عظيم، ووصف بعض الشر بأنه عظيم، فقال: {رب العرش العظيم} [23: 86] وقال: {لقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم} [15: 87] وقال: (لآتيناهم من لدنا أجراً عظيماً} [4: 67] وقال: {سبحانك هذا بهتان عظيم} [24: 16] وقال: {إن الشرك لظلم عظيم} [31: 13] . وقول القائل: إن هذه انفعالات نفسانية، فيقال: كل ما سوى الله مخلوق منفعل، ونحن ذواتنا منفعلة، فكونها انفعالات فينا لغيرنا نعجز عن دفعها لا يوجب أن يكون الله منفعلاً لها، عاجزاً عن دفعها، فإن كل ما يجري في الوجود فإنه بمشيئته وقدرته، لا يكون إلا ما يشاء، ولا يشاء إلا ما يكون له الملك وله الحمد. (من راعي الغنم) اختار العزلة من الناس. (في رأس شظية للجبل) بفتح الشين وكسر الظاء المعجمتين وتشديد التحتانية، قطعة مرتفعة في رأس الجبل. (يؤذن بالصلاة) وفائدة تأذنيه إعلام الملائكة والجن بدخول الوقت، فإن لهم صلاة أيضاً. وشهادة الأشياء على توحيده، ومتابعة سنته، والتشبه بالمسلمين في جماعتهم. وقيل: إذا أذن وأقام تصلي الملائكة معه، ويحصل له ثواب الجماعة. (فيقول الله) أي لملائكته. (أنظروا إلى عبدي هذا) تعجيب للملائكة من ذلك الأمر بعد التعجب لمزيد التفخيم، وكذا تسميته بالعبد وإضافته إلى نفسه، والإشارة بهذا تعظيم على تعظيم. (ويقيم الصلاة) منصوب بنزع الخافض أي للصلاة تنازع فيه الفعلان. وقال ابن الملك: أي يحافظها ويداوم عليها. (يخاف مني) أي يفعل ذلك خوفاً مني لا يراه أحد قاله ابن حجر. وقال الطيبي: الأظهر أنه جملة مستأنفة، وإن احتمل الحال فهو كالبيان لعلة عبوديته واعتزاله التام عن الناس

قد غفرت لعبدي، وأدخلته الجنة)) رواه أبوداود والنسائي. 671- (13) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاثة على كثبان المسك يوم القيامة: عبد أدى حق الله وحق مولاه، ورجل أمّ قوماً وهم به راضون، ورجل ينادي بالصلوات الخمس كل يوم وليلة)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. ـــــــــــــــــــــــــــــ حق اعتزال ولذا آثر الشظية بالرعي فيها. وفي الحديث دليل على شرعية الأذان واستحبابها للمنفرد وإن كان بحيث لا يسمعه أحد فيكون صالحاً لرد قول من قال: أن شرعية الأذان تختص بالجماعة، وفيه أيضاً أن الأذان من أسباب المغفرة للذنوب. (وأدخلته الجنة) أي حكمت به، أو سأدخله الجنة. (رواه أبوداود) في باب الأذان في السفر. (والنسائي) وأخرجه أيضاً أحمد، وسعيد بن منصور، والطبراني، والبيهقي، وقد سكت عنه أبوداود. وقال المنذري: رجال إسناده ثقات. 671- قوله: (ثلاثة) أي أشخاص. (على كثبان المسك) الكثبان بضم الكاف جمع كثيب، وهو ما ارتفع من الرمل كالتل الصغير، قال الطيبي: عبر عن الثواب بكثبان المسك لرفعته وظهور فوحه، وروح الناس من رائحته. لتناسب حال هؤلاء الثلاثة فإن أعمالهم متجاوزة إلى الغير-انتهى. والأولى الحمل على الحقيقة بل هو المتعين. (يوم القيامة) وفي الترمذي: أراه قال: يوم القيامة. أي أظنه. قال شيخنا: الظاهر أن الضمير المنصوب راجع إلى ابن عمر، وقائله هو زاذان الراوي عنه. والمعنى: إني أظن أن ابن عمر قال بعد لفظ على كثبان المسك: لفظ يوم القيامة-انتهى. وزاد في رواية للترمذي: يغبطهم الأولون والآخرون. (عبد) أي ظن ذكر أو أنثى. (أدى حق الله وحق مولاه) أي قام بالحقين معاً فلم يشغله أحدهما من الآخر. (وهم به راضون) لعلمه، وورعه، وصحة قراءته، فبرضاهم يكون ثواب الإمام أكثر، ولأن إجماعهم على الرضا به دليل على صلاح حاله، والعبرة رضا أكثرهم من أهل الدين. (ورجل ينادي) أي يؤذن محتسباً. (كل يوم وليلة) وفي الترمذي في كل يوم وليلة. قال ابن الملك: وإنما أثيبوا بذلك؛ لأنهم صبروا أنفسهم في الدنيا على كرب الطاعة، فروحهم الله في عرضات القيامة بأنفاس عطرة على تلال مرتفعة من المسك إكراما لهم بين الناس لعظم شأنهم وشرف أعمالهم. (رواه الترمذي) في البر والصلة، وفي أواخر صفة الجنة. (وقال: هذا حديث غريب) وفي نسخ الترمذي الموجودة عندنا: هذا حديث حسن غريب، وفي سنده أبواليقظان عثمان بن عمير البجلي الكوفي الأعمى، ضعيف واختلط، وكان يدلس ويغلو في التشيع، كذا في التقريب. وقال المنذري في الترغيب بعد ذكر هذا الحديث: رواه أحمد، والترمذي من رواية سفيان، عن أبي اليقظان، عن زاذان، عنه، وقال: حديث حسن غريب. قال المنذري، وأبواليقظان واه، وقد روى عنه الثقات. ورواه الطبراني في الأوسط والصغير بإسناد لا بأس به، ثم ذكر لفظه: ورواه الطبراني في الكبير أيضاً.

672- (14) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((المؤذن يغفر له مدى صوته، ويشهد له كل رطب ويابس. وشاهد الصلاة يكتب له خمس وعشرون صلاة، ويكفر عنه ما بينهما)) رواه أحمد وأبوداود، وابن ماجه. وروى النسائي إلى قوله: ((كل رطب ويابس)) وقال: ((وله مثل أجر من صلى)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 672- قوله: (يغفر له مدى صوته) بفتح الميم والدال، أي نهايته، وهو منصوب على الظرفية، قال الخطابي: مدى الشيء غايته، والمعنى أنه يستكمل مغفرة الله تعالى إذا استوفى وسعه في رفع الصوت فيبلغ الغاية من المغفرة إذا بلغ الغاية من الصوت، قال المنذري: ويشهد لهذا القول رواية من قال "يغفر له مد صوته" بتشديد الدال، أي بقدر مده صوته. قال الخطابي: وفيه وجه آخر وهو أنه كلام تمثيل وتشبيه، يريد أن المكان الذي ينتهي إليه الصوت لو يقدر أن يكون ما بين أقصاه وبين مقامه الذي هو فيه ذنوب تملأ تلك المسافة غفرها الله-انتهى. وقيل: معناه يغفر له من الذنوب ما فعله في زمان مقدر بهذه المسافة. (ويشهد له كل رطب ويابس) مما يبلغه صوته. وتحمل شهادتهما على الحقيقة لقدرته تعالى على إنطاقهما. (وشاهد الصلاة) عطف على قوله: المؤذن يغفر له. أي والذي يحضر لصلاة الجماعة. (يكتب له خمس وعشرون) أي ثواب خمس وعشرين صلاة. (ويكفر عنه) أي عن الشاهد. (ما بينهما) أي ما بين الأذان والصلاة، أو ما بين الأذانين، أو ما بين الصلاتين، والحديث يدل على استحباب مد الصوت بالأذان لكونه سبباً للمغفرة، وشهادة الموجودات، ولأنه أمر المجئ إلى الصلاة، فكل ما كان أدعى لإسماع المأمورين بذلك كان أولى. (رواه أحمد، وأبوداود، وابن ماجه) وأخرجه أيضاً ابن حبان وابن خزيمة، وفي سنده أبويحيى الراوي له عن أبي هريرة. قال المنذري: أبويحيى هذا لم ينسب فيعرف حاله، وقال ابن القطان: لا يعرف أصلاً، وقال الثوري: إنه مجهول، وذكره ابن حبان في الثقات، وزعم أنه سمعان الأسلمي، وقال ابن عبد البر: أبويحيى المكي اسمه سمعان، سمع من أبي هريرة، روى عنه بعض المدنيين في الأذان. كذا في تهذيب التهذيب (ج12: ص279) وقال في التقريب: أبويحيى المكي يقال هو سمعان الأسلمي مقبول. (وقال) أي النسائي في روايته. (وله) أي للمؤذن. (مثل أجر من صلى) أي بأذانه، وفيه نظر؛ لأن هذه الزيادة ليست في رواية أبي هريرة، وقد روى أحمد والنسائي من حديث البراء بن عازب بإسناد جيد بلفظ: المؤذن يغفر له بمد صوته، ويصدقه من سمعه من رطب ويابس، وله مثل أجر من صلى معه، أي إن كان إماماً، أومع إمامه إن كان مقتدياً بإمام آخر لحكم الدلالة، لكن هذا يقضي أن يخص بمن حضر بأذانه، والأقرب العموم تخصيصاً للمؤذن بهذا الفضل وفضل الله أوسع. قاله السندي.

673- (15) وعن عثمان بن أبي العاص، قال: قلت يارسول الله - صلى الله عليه وسلم -! ((اجعلني إمام قومي. قال: أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم، واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً)) رواه أحمد وأبوداود والنسائي. 674- (16) وعن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: ((علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقول عند أذان المغرب: اللهم هذا ـــــــــــــــــــــــــــــ 673- قوله: (واقتد بأضعفهم) بمرض أو زمانة أو نحوهما، أي تابع أضعف المقتدين في تخفيف الصلاة من غير ترك شيء من الأركان، يريد تخفيف القراءة والتسبيحات حتى لا يمل القوم. وقوله: واقتد، عطف على مقدر أي فأمهم واقتد بأضعفهم. وقيل: هو عطف على الخبرية السابقة؛ لأنها بتأويل أمهم، وعدل إلى الاسمية دلالة على الدوام والثبات كأن إمامته ثبتت ويخبر عنها، وقد جعل فيه الإمام مقتدياً، والمعنى كما أن الضعيف يقتدي بصلاتك فاقتد أنت أيضاً بضعفه، واسلك له سبيل التخفيف في القيام والقراءة، بحيث كأنه يقوم ويركع على ما يريد، وأنت كالتابع الذي يركع بركوعه. وقال التوربشتي: ذكر بلفظ الإقتداء تأكيداً للأمر المحثوث عليه؛ لأن من شأن المقتدي أن يتابع المقتدى به ويجتنب خلافه، فعبر عن مراعات القوم بالإقتداء مشاكله لما قبله. قال الأمير اليماني: الحديث يدل على جواز طلب الإمامة في الخير، وقد ورد في أدعية عباد الرحمان الذين وصفهم الله بتلك أنهم يقولون: {واجعلنا للمتقين إماماً} [25: 74] وليس من طلب الرياسة المكروهة، فإن ذلك فيما يتعلق برياسة الدنيا التي لا يعان من طلبها، ولا يستحق أن يعطاها، وأنه يجب على إمام الصلاة أن يلاحظ حال المصلين خلفه، فيجعل أضعفهم كأنه المقتدى به فيخفف لأجله. (واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً) أي أجرة. فيه دليل على أنه يكره أخذ الأجرة على الأذان. قال الخطابي: أخذ المؤذن الأجر على أذانه مكروه في مذاهب أكثر العلماء، وقال مالك: لا بأس به، ويرخص فيه. وقال الأوزاعي: مكروهة ولا بأس بالجعل. وذهب الحنفية إلى تحريم الأجر شرطاً على الأذان والإقامة. واستدل بعضهم على التحريم بهذا الحديث، ولا يخفى أنه لا يدل على التحريم. وقيل: يجوز أخذها على التأذين في محل مخصوص، إذ ليست على الأذان حينئذٍ بل على ملازمة المكان كأجرة الرصد، والقول الراجح عندنا ما ذهب إليه أكثر العلماء. (رواه أحمد وأبوداود والنسائي) أي بتمامه، وأخرج مسلم الفصل الأول فقط، وأخرج ابن ماجه الفصلين في موضعين، وأخرج الترمذي الفصل الأخير وحسنه، وأخرجه الحاكم بتمامه (ج1: ص199، 201) وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. 674- قوله: (عند أذان المغرب) الظاهر أن يقال هذا بعد جواب الأذان أو في أثنائه، قاله القاري. (هذا) إشارة إلى ما في الذهن، وهو مبهم مفسر بالخبر، قاله الطيبي. وقال القاري: والظاهر أنه إشارة إلى الأذان لقوله:

إقبال ليلك، وإدبار نهارك، وأصوات دعائك، فاغفر لي)) . رواه أبوداود، والبيهقي في الدعوات الكبير. 675- (17) وعن أبي أمامة، أو بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: (إن بلالاً أخذ في الإقامة، فلما أن قال: قد قامت الصلاة. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أقامها الله وأدامها. وقال في سائر الإقامة كنحو حديث عمر في الأذان)) رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأصوات. (إقبال ليلك) أي هذا الأذان أوان إقبال ليلك. (وإدبار نهارك) أي في الأفق. (وأصوات دعائك) أي في الآفاق، جمع داع وهو المؤذن كقضاة جمع قاض. (فاغفرلي) بحق هذا الوقت الشريف والصوت المنيف، وبه يظهر وجه تفريع المغفرة، ومناسبة الحديث للباب، فإنه يدل على أن وقت الأذان زمان استجابة الدعاء قاله القاري. (رواه أبوداود) في الصلاة من طريق المسعودي عن أبي كثير مولى أم سلمة، عن أم سلمة، وسكت عنه. وأخرجه الحاكم من هذا الطريق (ج1: ص199) وصححه، ووافقه الذهبي، وأخرجه الترمذي في الدعوات من طريق حفصة بنت أبي كثير، عن أبيها أبي كثير، عن أم سلمة. وقال: حديث غريب إنما نعرفه من هذا الوجه، وحفصة بنت أبي كثير لا نعرفها ولا أباها-انتهى. ونقل المنذري كلام الترمذي هذا وأقره. وقال الذهبي في الميزان: لا يعرفان. وقال الحافظ في التقريب: أبوكثير مولى أم سلمة مقبول، فالظاهر أن الحديث من طريق أبي داود والحاكم حسن. 675- قوله: (أخذ) أي شرع. (فلما أن قال: قد قامت الصلاة) قال الطيبي: لما تستدعى فعلاً فالتقدير: فلما انتهى إلى أن قال. واختلف في "قال" أنه متعد أو لازم، فعلى الأول يكون مفعولاً به، وعلى الثاني يكون مصدراً-انتهى. قال القاري: والأظهر أن "لما" ظرفية "وأن" زائدة للتأكيد كما قال تعالى: {فلما أن جاء البشير} [12: 96] كما قال صاحب الكشاف وغيره في قوله تعالى: {ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم} [11: 77] . (أقامها الله) أي الصلاة يعني ثبتها. (وقال في سائر الإقامة) أي في جميع كلمات الإقامة غير قد قامت الصلاة، أو قال في البقية مثل ما قال المقيم إلا في الحيعلتين فإنه قال فيه: لا حول ولا قوة إلا بالله. (كنحو حديث عمر في الأذان) يريد أنه قال مثل ما قال المؤذن لما مرّ في الحديث الخامس من الفصل الأول من الباب، يعني وافق المؤذن في غير الحيعلتين. وفيه دلالة على استحباب مجاوبة المقيم، وفيه أيضاً أنه يستحب لسامع الإقامة أن يقول عند قول المقيم قد قامت الصلاة: أقامها لله وأدامها. قال المجد ابن تيمية في المنتقى: وفيه دليل على أن السنة أن يكبر الإمام بعد الفراغ من الإقامة-انتهى. وسيأتي الكلام فيه إن شاءالله تعالى. (رواه أبوداود) وسكت عنه، وفي إسناده رجل من أهل الشام مجهول وشهر بن حوشب تكلم فيه غير واحد، ووثقه الإمام أحمد ويحيى بن معين. قاله المنذري.

676- (18) وعن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة)) رواه أبوداود، والترمذي. 677- (19) وعن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثنتان لا تردان- أو قلما تردان – الدعاء عند النداء، وعند البأس حين يلحم بعضهم بعضاً. وفي رواية: وتحت المطر)) رواه أبوداود، والدارمي إلا أنه لم يذكر: تحت المطر. ـــــــــــــــــــــــــــــ 676- قوله: (لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة) بل يقبل ويستجاب، يعني فادعوا كما في رواية ابن حبان، وفيه دليل على قبول الدعاء في هذا الوقت، إذ عدم الرد يراد به القبول، ولفظ الدعاء بإطلاقه شامل لكل دعاء، ولا بد من تقييده بما في الأحاديث الأخرى الصحيحة من أنه ما لم يكن دعاء بإثم أو قطيعة رحم، فالدعاء في هذا الوقت مستجاب لكن بعد جمع شروط الدعاء وأركانه وآدابه، فإن تخلف شيء منها فلا يلوم إلا نفسه. وقد ورد تعيين أدعية تقال حال الأذان وبعده، وهو ما بين الأذان والإقامة، منها ما تقدم، ومنها ما سيأتي. وقد عين - صلى الله عليه وسلم - ما يدعى به أيضاً لما قال: الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد، قالوا: فما نقول يا رسول الله؟ قال: سلوا الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة. قال ابن القيم: هو حديث صحيح. وفي المقام أدعية أخرى. (رواه أبوداود والترمذي) من طريق معاوية بن قرة عن أنس، وسكت عنه أبوداود وحسنه الترمذي، وأخرجه أحمد، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" وابن حبان وابن خزيمة في صحيحهما من طريق بريد بن أبي مريم عن أنس، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره، وقال: أخرجه النسائي من حديث بريد بن أبي مريم عن أنس، وهو أجود من حديث معاوية بن قرة. 677- قوله: (ثنتان) أي دعوتان ثنتان. (أو قلما) فعل ماض من القلة بمعنى النفي: وهو من الأفعال التي لا تصرف. قال السيوطي: إن "قل" ههنا للنفي المحض كما هو أحد استعمالاتها، صرح به ابن مالك في التسهيل وغيره. وقال في المغنى: ما زائدة كافة عن العمل. (عند النداء) أي حين الأذان أو بعده. (وعند البأس) أي الشدة والمحاربة مع الكفار. (حين) بدل من قوله عند البأس أو بيان. (يلحم بعضهم بعضا) بفتح ياء من لحم كسمع أي يقتل بعضهم بعضاً. وقيل: بضم الياء وكسر الحاء من ألحم أي يشتبك الحرب بينهم ويلزم بعضهم بعضاً. والملحمة الحرب وموضع القتال، وجمعه الملاحم. أخذ من اشتباك الناس واختلاطهم فيها كاشتباك لحمة الثوب بالسدي. (وفي رواية) أي بدل قوله وعند اليأس حين يلحم بعضهم بعضاً. (وتحت المطر) أي ودعاء من دعا تحت المطر، أي وهو نازل عليه؛ لأنه وقت نزول الرحمة والبركة. (رواه أبوداود والدارمي) وسكت عنه أبوداود، وقال المنذري: في إسناده موسى بن يعقوب الزمعي، قال النسائي: ليس بالقوي. وقال ابن معين: ثقة. وقال أبوداود السجستاني: صالح، له مشائخ مجهولون-انتهى.

{الفصل الثالث}

678- (20) وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رجل: ((يارسول الله! إن المؤذنين يفضلوننا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قل كما يقولون، فإذا انتهيت فسل تعط)) رواه أبوداود. {الفصل الثالث} 679- (21) عن جابر، قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الشيطان إذا سمع النداء بالصلاة ذهب حتى يكون مكان الروحاء. قال الراوي: والروحاء من المدينة: على ستة وثلاثين ميلاً)) رواه مسلم 680- (22) وعن علقمة بن وقاص، قال: ((إني لعند معاوية، إذ أذن مؤذنه، فقال معاوية. كما قال مؤذنه، حتى إذا قال: حي على الصلاة؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال الحافظ: صدوق سيء الحفظ. والحديث أخرجه أيضاً ابن خزيمة. وابن حبان في صحيحهما، والحاكم (ج1: ص198) وقال: هذا حديث ينفرد به موسى بن يعقوب، ووافقه الذهبي، وأخرجه مالك في الموطأ موقوفاً. 678- قوله: (يفضلوننا) بفتح الياء وضم الضاد، أي يحصل لهم فضل ومزية علينا في الثواب بسبب الأذان، والظاهر أنه خبر، يعني فما تأمرنا به من عمل نلحقهم بسببه؟. (قل كما يقولون) أي إلا عند الحيعلتين لما تقدم فيحصل لك الثواب مثله، ثم أفاد زيادة على الجواب بقوله. (فإذا انتهيت) أي فرغت من الإجابة. (فسل) أي أطلب من الله حينئذٍ ما تريد. (تعط) بغير هاء في آخره، وفي أبي داود: تعطه، بزيادة الهاء، أي يقبل الله دعاءك ويعطيك سؤالك. (رواه أبوداود) وسكت عنه، وأقره المنذري، وأخرجه أيضاً النسائي في عمل اليوم والليلة، وابن حبان في صحيحه، وقالا: تعط، بغير هاء. 679- قوله: (حتى يكون مكان الروحاء) بفتح الراء بالحاء المهملة وبالمد، أي يبعد الشيطان من المصلى بعد ما بين لمكانين. والتقدير: يكون الشيطان مثل الروحاء في البعد، قاله الطيبي. ولفظ إسحاق في مسنده: حتى يكون بالروحاء، فيه بيان غاية بعد الشيطان من المدينة عند سماعه النداء بالصلاة. (قال الراوي) المراد به أبوسفيان طلحة بن نافع الراوي من جابر كما هو مصرح به في رواية مسلم. (والروحاء من المدينة) أي إلى مكة. (على ستة وثلاثين ميلاً) أي اثني عشر فرسخاً. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً البغوي في شرح السنة (ج2: ص276) . 680- قوله: (وعن علقمة بن وقاص) الليثي المدني ثقة ثبت من كبار التابعين، أخطأ من زعم أن له صحبة. قيل: إنه ولد في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولذا ذكره المصنف في الصحابة، مات في خلافة عبد الملك بن مروان. (إني لعند معاويه) أي ابن أبي سفيان. (إذ) بسكون الذال. (أذن مؤذنه) أي الخاص لمسجده. (حي على الصلاة) بالهاء على الوقف.

قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. فلما قال: حي على الفلاح؛ قال: لاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وقال بعد ذلك ما قال المؤذن. ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك)) رواه أحمد. 681- (23) وعن أبي هريرة، قال: ((كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقام بلال ينادي، فلما سكت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قال مثل هذا يقيناً، دخل الجنة)) رواه النسائي. 682- (24) وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سمع المؤذن يتشهد قال: وأنا وأنا)) رواه أبوداود. 683- (25) وعن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أذن ثنتى عشرة سنة، وجبت له الجنة، وكتب له بتأذينه، ـــــــــــــــــــــــــــــ (قال) أي معاوية. (لا حول ولا قوة إلا بالله) تقدم معناه. (إلا بالله العلي العظيم) قال الطيبي: هذه الزيادة زيادة نادرة في الروايات وارجع إلى تعليق الشيخ الألباني،. (رواه أحمد) وأخرجه أيضاً النسائي، وابن خزيمة، وغيرهما. وأصل حديث معاوية عند البخاري، وقد تقدم نحوه من حديث عمر بن الخطاب. 681- قوله: (فقام بلال ينادي) أي يؤذن للصلاة. (فلما سكت) أي فرغ. (من قال مثل هذا) أي القول مجيباً، أو مؤذناً، أو مطلقاً. (يقيناً) أي خالصاً مخلصاً من قلبه. (دخل الجنة) أي أستحق دخول الجنة، أو دخل مع الناجين. (رواه النسائي) وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه والحاكم (ج1: ص204) وصححه، ووافقه الذهبي. 682- قوله: (إذا سمع المؤذن) أي صوته. (يتشهد) حال. (وأنا وأنا) عطف على قوله: المؤذن، بتقدير العامل، أي وأنا أشهد كما تشهد بالتاء والياء، والتكرير في "أنا" راجع إلى الشهادتين، قاله الطيبي. قال القاري: والأظهر: وأشهد أنا وأشهد أنا، ويمكن أن يكون التكرير للتأكيد فيهما. قال الطيبي: فيه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان مكلفاً بأن يشهد على رسالته كسائر الأمة. قال ميرك: فيه تأمل، ولعل وجهه أن التكليف غير مستفاد منه. (رواه أبوداود) وسكت عنه، وأقره المنذري. والحديث أخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه، والحاكم (ج1: ص204) وسكت عنه. 683- قوله: (من أذن ثنتي عشرة سنة) قيل: لا منافاة بينه وبين ما تقدم من حديث ابن عباس ثاني أحاديث الفصل الثاني؛ لأن هذا الحديث كما زيد فيه في المدة زيد في الأجر، حيث قيل: وكتب له بتأذينه، الخ. وقيل: الاختلاف في ذلك لاختلاف أحوال المؤذنين. (وجبت له الجنة) أي بصادق وعدالله ورحمته. (وكتب له بتأذينه) أي فقط دون

(6) باب

في كل يوم ستون حسنة، ولكل إقامة ثلاثون حسنة)) رواه ابن ماجه. 684- (26) وعنه، قال: ((كنا نؤمر بالدعاء عند أذان المغرب)) رواه البيهقي في الدعوات الكبير. (6) باب {الفصل الأول} 685- (1) عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن بلالاً ينادي بليل، ـــــــــــــــــــــــــــــ صلاة. (في كل يوم) أي لكل أذان بقرينة قوله الآتي: ولكل إقامة. (ستون حسنة) فيه حذف أي كتب له بسبب تأذينه كل مرة في كل يوم، كذا في شرح السنة نقله ميرك. (ولكل إقامة) أي في كل يوم. (ثلاثون حسنة) ولعل التنصيف في الأجر لسهولة الإقامة، ومشقة الأذان برفع الصوت والتوءدة والترسل، والأجر على قدر المشقة، أو لإفراد ألفاظ الإقامة. (رواه ابن ماجه) وأخرجه أيضاً الدارقطني (ص89) والحاكم (ج1: ص205) وقال: صحيح على شرط البخاري، ووافقه الذهبي: وفي سنده عبد الله بن صالح المصري كاتب الليث. قال في الزوائد: إسناده ضعيف لضعف عبد الله بن صالح: وقال المنذري في الترغيب بعد ذكر تصحيح الحاكم: وهو كما قال: فإن عبد الله بن صالح كاتب الليث وإن كان فيه كلام، فقد روى عنه البخاري في الصحيح-انتهى. قلت: قد اختلفوا في أنه روى عنه البخاري في صحيحه أم لا. وقد أطال الحافظ الكلام فيه في تهذيب التهذيب (ج5: ص260) فارجع إليه. وقال في التقريب في ترجمته: صدوق كثير الغلط، ثبت في كتابه وكانت فيه غفلة. 684- قوله: (عند أذان المغرب) قد تقدم أن الدعاء بعد كل أذان مستحب، ولعله عند أذان المغرب أوكد، قال الطيبي: لعل هذا الدعاء ما مر في حديث أم سلمة. (رواه البيهقي) وأخرجه أيضاً الطبراني. (باب) بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هذا باب في تتمات لما سبق في البابين قبله. وقيل: بالسكون على الوقف، وفي المصابيح بدله فصل، قال ابن الملك: وإنما أفرد هذا الفصل؛ لأن أحاديثه كلها صحاح، وليست فيه أحاديث مناسبة لصحاح الباب السابق، فكانت مظنة الإفراد-انتهى. وفي بعض نسخ المشكاة: باب فيه فصلان. وفي بعضها: باب تأخير الأذان. 685- قوله: (ينادي بليل) أي فيه، وقد ورد ما يشعر بتعيين الوقت الذي كان بلال يؤذن فيه، وهو ما رواه النسائي والطحاوي من حديث عائشة: أنه لم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويصعد هذا. وعند البخاري في الصيام، قال القاسم. (أى في رواية عن عائشة) لم يكن بين أذانيهما إلا أن يرقى هذا وينزل ذا. فهذه الرواية تقيد إطلاق سائر الروايات،

فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم، ـــــــــــــــــــــــــــــ وتدل على أن الوقت الذي يقع فيه الأذان قبل الفجر هو وقت السحور، وأرادت عائشة بذلك بيان قلة ما بين أذانيهما من المدة لا التحديد. (فكلوا واشربوا) أي أيها المريدون الصيام، والأمر للإباحة والرخصة، وبيان بقاء الليل بعد أذان بلال، وفيه إشعار بأن الأذان كان علامة عندهم على دخول الوقت، فبين لهم أن أذان بلال بخلاف ذلك. (حتى) أى إلى أن (ينادي) أي يؤذن. (ابن أم مكتوم) اسمه عمرو، أو عبد الله بن قيس بن زائدة القرشي، وهو الأعمى المذكور في سورة عبس، واسم أمه عاتكة بنت عبد الله المخزومية. وروى ابن خزيمة في صحيحه عن عائشة مرفوعاً: إذا أذن عمرو فإنه ضرير البصر فلا يغرنكم، وإذا أذن بلال فلا يطعمن أحد. وروى النسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما، وأحمد في مسنده عن أنيسة بنت خبيب بلفظ: إذا أذن ابن أم مكتوم فكلوا واشربوا وإذا أذن بلال فلا تأكلوا ولا تشربوا. وهذا كما ترى مخالف لحديث ابن عمر. وقد جمع بينهما ابن خزيمة وغيره: بأنه يجوز أن يكون عليه السلام جعل الأذان بين بلال وابن أم مكتوم نوائب، فأمر في بعض الليالي بلالاً أن يؤذن بليل، فإذا نزل بلال صعد ابن أم مكتوم، فأذن في الوقت، فإذا جاءت نوبة ابن أم مكتوم بدأ فأذن بليل، فإذا نزل، صعد بلال فأذن في الوقت، فكانت مقالة النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن بلالاً يؤذن بليل. في وقت نوبة بلال، وكانت مقالته: إن ابن أم مكتوم يؤذن بليل. في وقت نوبة ابن أم مكتوم. وقيل: لم يكن الأذان بينهما نوباً، وإنما كانت لهما حالتان مختلفتان، فإن بلال كان في أول ما شرع الأذان يؤذن وحده، ولا يؤذن للصبح حتى يطلع الفجر، وعلى ذلك تحمل رواية عروة عن امرأة من بني النجار قالت: كان بلال يجلس على بيتي، وهو أعلى بيت في المدينة، فإذا رأى الفجر تمطأ ثم أذن. أخرجه أبوداود وإسناده حسن. ثم أردف ابن أم مكتوم، فكان يؤذن بليل، واستمر بلال على حالته الأولى، وعلى ذلك تنزل رواية أنيسة وعائشة، ثم في آخر الأمر أخر ابن أم مكتوم لضعفه، ووكل به من يراعي له الفجر، واستقر أذان بلال بليل، وكان سبب ذلك ما رواه أبوداود وغيره عن ابن عمر: أن بلالاً كان ربما أخطأ الفجر فأذن قبل طلوعه، وإنه أخطأ مرة فأمره عليه السلام أن يرجع فيقول: ألا إن العبد نام، يعني أن غلبة النوم على عينيه منعته من تبين الفجر، فلهذا-والله أعلم- استقر أن بلالاً يؤذن الأذان الأول، وبهذا ظهر أنه لا مخالفة بين قوله - صلى الله عليه وسلم -: إن بلالاً يؤذن بليل. وبين أمره إباه بالاعتذار بقوله: ألا إن العبد قد نام، فإن قوله عليه السلام: إن بلالاً يؤذن بليل، إنما هو محمول على حالته الأخرى. أي على زمان كان بلال يؤذن بالليل وابن أم مكتوم بالصبح، وأما أمره بلالاً أن ينادي: ألا إن العبد قد نام. فيحمل على حالته الأولى، أي على زمان كان بلال يؤذن فيه للصبح، واتفق أنه أذن مرة في الليل على ظن أن الفجر قد طلع فاحتاج إلى الاعتذار؛ لأن الفجر لم يطلع، ولأن الأذان بالليل قد كان فرع عنه ابن أم مكتوم. قال الخطابي في المعالم (ج1: ص157) : يشبه أن يكون هذا أي قوله: ألا إن العبد نام، فيما تقدم من أول زمان الهجرة، فإن الثابت عن بلال أنه كان في آخر أيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤذن بليل ثم يؤذن بعده ابن أم مكتوم مع الفجر، وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إن

قال: وكان ابن أم مكتوم رجلاً أعمى، لا ينادي حتى يقال له: أصبحت أصبحت)) ـــــــــــــــــــــــــــــ بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم-انتهى. قال الأمير اليماني في السبل: في الحديث شرعية الأذان قبل الفجر، لا لما شرع له الأذان، فإن الأذان شرع للإعلام لدخول الوقت، ولدعاء السامعين بحضور الصلاة، وهذا الأذان الذي قبل الفجر قد أخبر - صلى الله عليه وسلم - بوجه شرعيته بقوله: ليرجع قائمكم، ويوقظ نائمكم. رواه الجماعة إلا الترمذي عن ابن مسعود، والقائم هو الذي يصلي صلاة الليل، ورجوعه عوده إلى نومه أو قعوده عن صلاته إذا سمع الأذان، فليس للإعلام بدخول الوقت ولا لحضور الصلاة، فذكر الخلاف في المسألة والاستدلال للمانع وللمجيز لا يلتفت إليه من همه العمل بما ثبت-انتهى كلام الأمير. قلت: أشار بقوله: بذكر الخلاف. إلى ما ذكره الشراح من الاختلاف بين الأئمة، قالوا: ذهب مالك والشافعي وأحمد وأبويوسف إلى جواز الأذان لصلاة الفجر قبل طلوعه والاكتفاء به، وعدم وجوب الإعادة. قال هؤلاء: كان الأذانان لصلاة الفجر، ولم يكن الأول مانعاً من التسحر، وكان الثاني من قبيل الإعلام بعد الإعلام، وإنما اختصت صلاة الفجر بهذا من بين الصلوات، لما ورد من الترغيب في الصلاة لأول الوقت، والصبح يأتي غالباً عقيب النوم، فناسب أن ينصب من يوقظ الناس قبل دخول وقتها، ليتأهبوا ويدركوا فضيلة أول الوقت، وقال أبوحنيفة ومحمد: لا يجوز الأذان لصلاة الصبح قبل طلوع الفجر كما في سائر الصلوات، فلو أذن قبل طلوعه يجب الإعادة ولا يكتفي به. قالا: لم يكن الأذان الأول لصلاة الفجر بل كان لغرض آخر بينه - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن مسعود بقوله: ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم. قلت: ليس في حديث ابن مسعود ما يدل على الحصر فيما ذكر من السبب لأذان بلال، ولا تزاحم في الأسباب مع أنه ليس فيه بيان علة الأذان بل بيان نكتة التقديم، والراجح عندي أنه يجوز الأذان لصلاة الفجر قبل طلوع الصبح، ويكتفى به إن قدم قبل الفجر بزمان يسير، ولا يجب الإعادة. هذا هو الذي يستفاد من أحاديث الباب عندي. ولا يخفى ذلك على من تأمل في الأحاديث الواردة في ذلك إن شاء الله تعالى. واعلم أنه ادعى ابن القطان وابن دقيق العيد ومحمد بن الحسن أن قوله: إن بلالاً يؤذن بليل. كان في رمضان خاصة لا في سائر العام. وفيه نظر؛ لأن قوله "كلوا واشربوا" يتأتى في غير رمضان أيضاً، وهذا لمن كان يريد صوم التطوع، فإن كثيراً من الصحابة في زمنه - صلى الله عليه وسلم - كانوا يكثرون صيام النفل، فكان قوله "فكلوا واشربوا" بالنظر إلى هؤلاء، ويدل على ذلك ما رواه عبد الرزاق عن ابن المسيب مرسلاً بلفظ: إن بلالاً يؤذن بليل، فمن أراد الصوم فلا يمنعه أذان بلال حتى يؤذن ابن أم مكتوم. ذكره علي المتقي في كنز العمال (ج4: ص311) . فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الصوم فيه باختيار الرجل، ولا يكون ذلك إلا في غير رمضان، فدل على أن قوله عليه السلام "إن بلالاً يؤذن بليل" ليس مختصاً برمضان. (قال) أي ابن شهاب راوي الحديث، أو شيخه سالم، أوشيخ شيخه ابن عمر. (رجلاً أعمى) قيل: عمي ابن أم مكتوم بعد بدر بسنتين، وفيه أن سورة عبس مكية في قول الجميع، وعن ابن عباس: نزلت بمكة، فكيف يصح أن يقال أنه عمي بعد بدر سنتين؟ فالظاهر أنه عمي بعد البعثة بسنتين. وقيل: ولد أعمى فكنيت أمه أم مكتوم لإكتتام نور بصره، والأول هو المشهور. (أصبحت أصبحت) بالتكرار للتأكيد، وهي تامة تستغنى بمرفوعها، أي دخلت في الصباح، هذا

متفق عليه. 686- (2) وعن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال، ولا الفجر المستطيل، ولكن الفجر المستطير في الأفق)) رواه مسلم ولفظه للترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ ظاهره. واستشكل لأنه جعل أذانه غاية للأكل، فلو لم يؤذن حتى يدخل في الصباح للزم منه جواز الأكل بعد طلوع الفجر، والإجماع على خلافه إلا من شذ كالأعمش. وأجيب بأن الغرض أن أذان ابن أم مكتوم جعل علامة لتحريم الأكل والشرب. والظاهر أنه كان له من يراعي الوقت بحيث يكون أذانه مقارناً لابتداء طلوع الفجر، وعند أخذه في الأذان يعترض الفجر في الأفق، ولم يكن الصحابة يخفى عليهم الأكل في غير وقته، بل كانوا أحوط لدينهم من ذلك. وقيل: المعنى قاربت الصباح جداً، فإن قرب الشيء قد يعبر به عنه، كما في قوله تعالى: {فإذا بلغن أجلهن} أي قارين لأن العدة إذا تمت فلا رجعة، فلا يلزم وقوع أذان ابن أم مكتوم قبل الفجر ولا الأكل بعد طلوع الفجر، لاحتمال أن يكون قولهم ذلك يقع في آخر جزء من الليل، وأذانه يقع في أول جزء من طلوع الفجر، وهذا وإن كان مستبعداً في العادة فليس بمستبعد من مؤذن النبي - صلى الله عليه وسلم - المؤيد بالملائكة، فلا يشاركه فيه من لم يكن بتلك الصفة. وقيل: إن أذانه كان يقع في أول طلوع الفجر الثاني قبل تببنه وانتشاره، وتحريم الأكل إنما يتعلق بانتشاره وتبينه، لا بطلوعه كما يدل عليه قوله تعالى. {حتى يتبين لكم} [2: 187] . وفي الحديث دليل على جواز أذان الأعمى من غير كراهة إذا كان عنده من يخبره بدخول الوقت؛ لأن الوقت في الأصل مبني على الشهادة. وفيه جواز تقليد الأعمى للبصير في دخول الوقت. وفيه جواز ذكر الرجل بما فيه من العاهة إذا كان القصد التعريف به ونحوه. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً مالك وأحمد والترمذي والنسائي. 686-قوله: (من سحوركم) بضم السين مصدراً أي تسحركم، وبفتحها اسم للمأكول، أي من أكل سحوركم وهو ما يتسحر به (أذان بلال) أي فإنه يؤذن بليل. (ولا الفجر المستطيل) أي ولا يمنعكم الصبح الذي يصعد إلى السماء كالعمود تسميه العرب ذنب السرحان، وبطلوعه لا يدخل وقت صلاة الصبح، ولا يحرم الطعام. قال ابن الملك: وهو الفجر الكاذب، يطلع أولاً مستطيلاً إلى السماء ثم يغيب، وبعد غيبوبته بزمان يسير يظهر الفجر الصادق. (ولكن) بالتخفيف ويشدد. (الفجر) بالرفع وينصب. (المستطير في الأفق) هو الذي انتشر ضوءه، واعترض في الأفق الشرقي كأنه طار في نواحي السماء بخلاف المستطيل كذب السرحان بكسر السين وهو الذئب. وفي الحديث بيان صفة الفجر الذي يتعلق به الأحكام من الدخول في الصوم، ودخول وقت صلاة الصبح، وهو الفجر الثاني، ويسمى الصادق والمستطير، وأنه لا أثر للفجر الأول في الأحكام، وهو الفجر الكاذب والمستطيل كذنب الذئب. (رواه مسلم) في الصيام أي بمعناه بألفاظ مختلفة. (ولفظه للترمذي) أخرجه الترمذي في الصيام، وحسنه. قيل: الأظهر أن يقول: رواه الترمذي، ولمسلم معناه. وقيل: الأنسب "رواه مسلم والترمذي واللفظ له". قلت: يستفاد هذا من كلام المصنف مع الاختصار، وهو أنسب

687- (3) وعن مالك بن الحويرث، قال: ((أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا وابن عم لي، فقال: إذا سافرتما فأذنا وأقيما، وليؤمكما أكبركما)) . رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ للفصل الأول، فهو أولى بالاعتبار. والحديث أخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي والدارقطني والحاكم وابن خزيمة والطبراني وأبويعلى وابن أبي شيبة. 687- قوله: (وعن مالك بن الحويرث) بالتصغير، يكنى أبا سليمان الليثي الصحابي، نزل البصرة، له خمسة عشر حديثا، اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بحديث، مات سنة (74) . (أنا وابن عم لي) بالرفع على العطف، وبالنصب على أنه مفعول معه. (فقال) أي لنا، ففي رواية للنسائي: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولصاحب لي. ولفظ البخاري في باب سفر الاثنين من كتاب الجهاد "انصرفت من عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال لنا أنا وصاحب لي". قال الحافظ: لم أرى في شيء من طرقه تسمية صاحبه. (فأذنا) أي ليؤذن أحدكما ويجيب الآخر، وإنما احتيج إلى هذا التأويل وصرف عن ظاهره لقوله في الرواية الآتية "فليؤذن لكم"، ولما رواه الطبراني في هذا الحديث: إذا كنت مع صاحبك فأذن وأقم، وليؤمكما أكبركما. ولأن أذان الواحد يكفي الجماعة إجماعاً، فاجتماعهما في الأذان غير مطلوب. وقيل: الإسناد مجازى، أي ليتحقق بينكما الأذان، كما في "بنو فلان قتلوا" أي وجد القتل فيما بينهم. والمعنى: يجوز لكل منكما الأذان أيكما فعل حصل، فلا يختص بأكبر كالإمامة، فنسب الأذان إليهما للتنبيه على عدم خصوصه بأحدهما بعينة كالإمامة. وقيل: المراد من أحب منكما أن يؤذن فليؤذن، ونسب إليهما لإستوائهما في الفضل، ولا يعتبر في الأذان السن بخلاف الإمامة. وقال الكرماني: قد يطلق الأمر بالتثنية والجمع والمراد واحد كقوله: يا حرسي! اضربا عنقه. مع أن الضارب واحد. (وأقيما) فيه حجة لمن قال باستحباب إجابة المؤذن بالإقامة إن حمل الأمر على ما مضى من التأويل الأول، وإلا فالذي يؤذن هو الذي يقيم. (وليؤمكما أكبركما) أي سناً، وإنما خص الأكبر بالإمامة لمساواتهما في سائر الأشياء الموجبة للتقدم كالأقرئية والأعلمية بالسنة لمساواتهما في المكث والحضور عنده - صلى الله عليه وسلم -، وذلك يستلزم المساواة في هذه الصفات عادة. والحديث قد استدل به من قال بوجوب الأذان. قال القسطلاني: لكن الإجماع صارف للأمر عن الوجوب، وفيه نظر. وفي الحديث الحض على المحافظة على الأذان في السفر. وفيه أن أقل صلاة الجماعة إمام ومأموم، وهو إجماع المسلمين. وفيه أن الأذان والجماعة مشروعان للمسافرين. (رواه البخاري) في باب الأذان للمسافرين إذا كانوا جماعة والإقامة، وفي باب اثنان فما فوقهما جماعة، وفي باب سفر الإثنين من كتاب الجهاد، لكن ليس في واحد من هذه الروايات لفظ "وابن عم لي"، نعم هو عند الترمذي وأبي داود والنسائي. والحديث أخرجه أيضاً أحمد ومسلم والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه، فكان الأنسب للمنصف أن يقول متفق عليه.

688- (4) وعنه، قال: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلوا كما رأيتموني أصلي، وإذا حضرت الصلاة، فليؤذن لكم أحدكم، ثم ليؤمكم أكبركم)) . متفق عليه. 689- (5) وعن أبي هريرة، قال: ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قفل من غزوة خيبر، سار ليلة، حتى إذا أدركه الكرى عرس، ـــــــــــــــــــــــــــــ 688- قوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي) أي في مراعاة الشروط والأركان والسنن والآداب. (وإذا حضرت الصلاة) أي وقتها. (ثم ليؤمكم أكبركم) أي في السن، وإنما قدمه وإن كان الأقرأ والأعلم مقدمين عليه؛ لأنهم استووا في الفضل؛ لأنهم مكثوا عنده عشرين ليلة فاستووا في الأخذ عنه عادة، فلم يبق ما يقدم به إلا السن. قال الشوكاني: الحديث يدل على وجوب جميع ما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة من الأقوال والأفعال، ويؤكد الوجوب كونها بيانا لمجمل قوله تعالى: {وأقيموا الصلاة} وهو أمر قرآني يفيد الوجوب، وبيان المجمل الواجب واجب كما تقرر في الأصول، إلا أنه ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - اقتصر في تعليم المسيء صلاته على بعض ما كان يفعله، ويداوم عليه، فعلمنا بذلك أنه لا وجوب لما خرج عنه من الأقوال والأفعال؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز كما تقرر في الأصول بالإجماع. ووقع الخلاف إذا جاءت صيغة أمر بشيء لم يذكر في حديث المسيء، فمنهم من قال يكون قرينة لصرف الصيغة إلى الندب، ومنهم من قال تبقى الصيغة على الظاهر الذي تدل عليه ويؤخذ بالزائد فالزائد. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصلاة، وفي الأدب، وفي أخبار الآحاد، ومسلم في الصلاة، وأخرجه أيضاً أحمد (ج3: ص436 وج5: ص53) والنسائي. قال السيد: لم يذكر مسلم "صلوا كما رأيتموني أصلي"، فقول المصنف "متفق عليه" محل بحث. وأجيب بأنه يحمل على الغالب، أو محل الشاهد والأمر الذي يتعلق به الحكم ويترتب عليه الخلاف من الوجوب والندب. واعلم أن حديث مالك هذا وحديثه السابق واحد في الأصل، وفيه قصة، وبعضهم أطال، وبعضهم اختصر، والمعنى متقارب. وقيل في توجيه اختلاف السياق: أنه يحتمل أن تكون هذه الألفاظ المتعددة كانت منه في وفاتين أو في وفادة واحدة غير أن النقل تكرر منه ومن النبي - صلى الله عليه وسلم -. والله أعلم. 689- قوله: (حين قفل) أي رجع إلى المدينة. (من غزوة خيبر) في المحرم سنة سبع، وخيبر غير منصرف للعلمية والتأنيث، وهي اسم موضع على ستة مراحل، وقيل على ستة وتسعين ميلاً من المدينة. (حتى إذا أدركه الكرى) بفتحتين وهو النعاس، وقيل النوم. (عرس) من التعريس أي نزل آخر الليل للنوم والاستراحة. قال النووي: التعريس نزول المسافرين آخر الليل للنوم والاستراحة، هكذا قاله الخليل والجمهور. وقال أبوزيد: هو النزول أي وقت كان

وقال لبلال: إكلأ لنا الليل. فصلى بلال ما قدر له، ونام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. فلما تقارب الفجر، استند بلال إلى راحلته موجه الفجر، فغلبت بلالاً عيناه، وهو مستند إلى راحلته، فلم يستيقظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا بلال، ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولهم استيقاظاً، ففزع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أي بلال! فقال بلال: أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك. قال: اقتادوا. ـــــــــــــــــــــــــــــ من ليل أو نهار، وفي الحديث معرسون في نحر الظهيرة – انتهى. وقال الخطابي: هو النزول لغير إقامة. (إكلأ) بهمزة في آخره، أي ارقب واحفظ واحرس، ومصدره الكلأ بكسر الكاف والمد. (الليل) أي آخره لإدراك الصبح. (فصلى بلال ما قدر له) أي ما تيسر له من التهجد. (وأصحابه) بالرفع على العطف، ويجوز نصبه على أنه مفعول معه. (استند بلال إلى راحلته) لغلبة ضعف السهر وكثرة الصلاة. (موجه الفجر) أي ليرقبه حتى يوقظهم عقب طلوعه. قال القاري: هو بكسر الجيم على أنه فعل لازم، ولذا قال الطيبي: أي متوجه الفجر يعني موضعه، وفي نسخة بفتح الجيم على أن الفعل متعد، والموجه هو الله تعالى. {ولكل وجهة} - انتهى. ووقع في صحيح مسلم، وكذا عند ابن ماجه "مواجه الفجر" بزيادة الألف بعد الواو من المواجهة، قال النووي: أي مستقبله بوجهه. (فغلبت بلالاً عيناه) قال الطيبي: هذا عبارة عن النوم كأن عينيه غالبتاه فغلبتاه على النوم، تم كلامه. وحاصله أنه نام من غير اختيار. (وهو مستند إلى راحلته) جملة حالية تفيد عدم اضطجاعه عند غلبة نومه. (حتى ضربتهم الشمس) أي أصابتهم ووقع عليهم حرها، وألقت عليهم ضوءها. (ففزع) بكسر زاي معجمة وعين مهملة أي قام قيام المتحير. (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي من استيقاظه وقد فاتته الصبح. وقال الخطابي: معناه انتبه من نومه، يقال: أفزعت الرجل من نومه. إذا استيقظته ففزع، أي نبهته فانتبه. (فقال: أي بلال) العتاب محذوف أو مقدر أي لم نمت حتى فاتتنا الصلاة؟. (أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك) أي كما توفاك الله في النوم توفاني، أو يقال: معناه غلب على نفسي ما غلب على نفسك من النوم، أي كان نومي بطريق الاضطرار دون الاختيار ليصح الاعتذار، وليس فيه احتجاج بالقدر كما توهمه بعضهم. (اقتادوا) أمر من الاقتياد، وهو جر حبل العير، أي سوقوا رواحلكم من هذا الموضع، وفي رواية مسلم: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ليأخذ كل رجل برأس راحلته، فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان. وفيها بيان سبب تأخير الصلاة عن المكان الذي كانوا فيه، وهو أنه أراد أن يتحول عن المكان الذي أصابته الغفلة فيه. وفيها رد على من قال: إنه أخر قضاء الصلاة في ذلك المكان لكون ذلك وقت الكراهة. قال النووي: فإن قيل: كيف نام النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس مع قوله: إن عيني تنامان ولا ينام قلبي؟ فجوابه من وجهين:

فاقتادوا رواحلهم شيئاً، ثم توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمر بلالاً فأقام الصلاة، فصلى بهم الصبح، فلما قضى الصلاة، قال: من نسي الصلاة، فليصلها إذا ذكرها، فإن الله تعالى قال: {وأقم الصلاة لذكرى} . رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ أصحهما وأشهرهما أنه لا منافاة بينهما؛ لأن القلب إنما يدرك الحسيات المتعلقة به كالحدث والألم ونحوهما، ولا يدرك طلوع الفجر وغيره مما يتعلق بالعين وإنما يدرك ذلك بالعين، والعين نائمة وإن كان القلب يقظان. والثاني أنه كان له حالان أحدهما ينام فيه القلب، وصادف هذا الموضع، والثاني لا ينام، وهذا هو الغالب من أحواله، وهذا التأويل ضعيف، والصحيح المعتمد هو الأول- انتهى. (فاقتادوا) ماض أي ساقوا. (شيئاً) أي يسيراً من الزمان أو اقتياداً قليلاً من المكان، أي ذهبوا برواحلهم من ثمة مسافة قليلة. (وأمر بلالاً) أي بالإقامة. (فأقام الصلاة) أي للصلاة، وفيه إثبات الإقامة للفائتة، وفيه إشارة إلى ترك الأذان للفائتة، وفي حديث أبي قتادة عند الشيخين إثبات الأذان للفائتة، وهي زيادة صحيحة، والزيادة إذا صحت قبلت وعمل بها. وأما ترك ذكر الأذان في حديث أبي هريرة فجوابه من وجهين: أحدهما لا يلزم من ترك ذكره أنه لم يؤذن فلعله أذن وأهمله الراوي، أو لم يعلم به، والثاني لعله ترك الأذان في هذه المرة لبيان جواز تركه، وإشارة إلى أنه ليس بواجب متحتم لا سيما في السفر. (فصلى بهم الصبح) أي قضاء، وفيه استحباب الجماعة في الفائتة. (فلما قضى الصلاة) أي فرغ منها. (من نسي الصلاة) وفي معنى النسيان النوم، أي من تركها بنسيان أو نوم، واكتفى بالنسيان عن النوم؛ لأنه مثله بجامع ما في كل من الغفلة وعدم التقصير. (فليصلها إذا ذكرها) فيه وجوب قضاء الفريضة الفائتة سواء تركها بعذر كنوم أو نسيان، أم بغير عذر، وإنما قيد في الحديث بالنسيان لخروجه على سبب، ولأنه إذا وجب القضاء على المعذور فغيره أولى بالوجوب، وهو من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، وقوله: فليصلها إذا ذكرها محمول على الاستحباب، فإنه يجوز تأخير قضاء الفائتة بعذر على الصحيح. {أقم الصلاة لذكرى} بالإضافة إلى ياء المتكلم، وهي القراءة المشهورة، وظاهرها لا يناسب المقصود فأوله بعضهم بأن المعنى: وقت ذكر صلاتي، على حذف المضاف وإضافة المصدر إلى المفعول، واللام بمعنى الوقت أي إذا ذكرت صلاتي بعد النسيان، أو المراد بالذكر المضاف إلى الله تعالى ذكر الصلاة لكون ذكر الصلاة يفضى إلى فعلها المفضي إلى ذكر الله تعالى فيها، فصار وقت ذكر الصلاة كأنه وقت لذكر الله، فقيل في موضع: أقم الصلاة لذكر الله، وقراءة ابن شهاب "للذكرى" بلام الجر ثم لام التعريف وآخره ألف مقصورة، وهي قراءة شاذة لكنها موافقة للمطلوب هنا بلا تكلف. (رواه مسلم) في الصلاة، وأخرجه أيضاً الترمذي في تفسير سورة طه. وأبوداود، وابن ماجه في الصلاة.

690- (6) وعن أبي قتادة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني قد خرجت)) . متفق عليه. 691- (7) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أقيمت الصلاة، ـــــــــــــــــــــــــــــ 690- قوله: (إذا أقيمت الصلاة) أي ذكرت ألفاظ الإقامة ونودي بها. (فلا تقوموا حتى تروني قد خرجت) أي من الحجرة الشريفة، أي فإذا رأيتموني قد خرجت فقوموا، وذلك لئلا يطول عليهم القيام، ولأنه قد يعرض له ما يؤخره. وفيه أنه إذا لم يكن الإمام في المسجد لا يقوم المؤتمون عند الإقامة إلى الصلاة إلا حين يرونه. وإليه ذهب الجمهور. وأما إذا كان هو معهم في المسجد فالمستحب أن يقوم الناس إذا أخذ المؤذن في الإقامة. وفيه جواز الإقامة والإمام في منزله إذا كان يسمعها وتقدم إذنه في ذلك. قال القرطبي: ظاهر الحديث أن الصلاة كانت تقام قبل أن يخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من بيته، وهو معارض لحديث جابر بن سمرة: إن بلالاً كان لا يقيم حتى يخرج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا خرج أقام الصلاة حين يراه. أخرجه مسلم. ويجمع بينهما بأن بلالاً كان يراقب خروج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأول ما يراه يشرع في الإقامة قبل أن يراه غالب الناس، ثم إذا رأوه قاموا، فلا يقوم في مقامه حتى تعتدل صفوفهم، وأما حديث أبي هريرة عند مسلم بلفظ: أقيمت الصلاة فقمنا فعدلنا الصفوف قبل أن يخرج إلينا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأتى فقام مقامه-الحديث. وعند البخاري بلفظ: أقيمت الصلاة فسوى الناس صفوفهم، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم -. وعنه في رواية أبي داود "إن الصلاة كانت تقام لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيأخذ الناس مقامهم قبل أن يجئ النبي - صلى الله عليه وسلم - "، فيجمع بينه وبين حديث أبي قتادة بأن ذلك ربما وقع لبيان الجواز، وبأن صنيعهم في حديث أبي هريرة كان سبب النهي عن ذلك في حديث أبي قتادة، وأنهم كانوا يقومون ساعة تقام الصلاة، ولو لم يخرج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنهاهم عن ذلك لاحتمال أن يقع له شغل يبطئ فيه عن الخروج فيشق عليهم انتظاره، ولا يرد هذا الحديث أنس عند البخاري وغيره: أنه قام في مقامه طويلاً في حاجة بعض القوم. لاحتمال أن يكون ذلك وقع نادراً، أو فعله لبيان الجواز. (متفق عليه) قال ميرك: فيه نظر؛ لأن قوله "قد خرجت" من إفراد مسلم، قال القاري: هذا من باب التأكيد الذي بدونه تحصل الإفادة، فكان اللفظ للبخاري والمعنى لمسلم. قلت: الظاهر أن المراد اتفاق الشيخين على إخراج أصل الحديث من غير نظر إلى خصوص اللفظ، والحديث أخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي. 691- قوله: (إذا أقيمت الصلاة) ذكر الإقامة ليس بقيد لما في حديث أبي قتادة عند البخاري "إذا أتيتم الصلاة" فإنه يتناول ما قبل الإقامة، فالمراد الذهاب والمشي إلى الصلاة، وإنما ذكر الإقامة في حديث أبي هريرة؛ لأنها هي الحاملة في الغالب على الإسراع، وهي محل توهم جواز الإسراع لإدراك أول الصلاة مع الإمام، فإن المسرع إذا أقيمت الصلاة يترجى إدراك فضيلة التكبير الأولى، فإذا لم يجز الإسراع مع وجود هذه المصلحة. فعند انتفائها بالأولى،

فلا تأتوها تسعون، وأتوها تمشون وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن غيره ممن جاء قبل الإقامة لا يحتاج إلا الإسراع؛ لأنه يتحقق إدراك الصلاة كلها، فينهى عن الإسراع من باب الأولى، ففي هذا التقييد تنبيه على ما سواه، وإفادة أن الإسراع لا يجوز بحال. (تسعون) حال أي لا تأتوا إلى الصلاة مسرعين في المشي وإن خفتم فوت بعض الصلاة، والمراد بالسعي ههنا هو الإسراع، وقد يطلق على مطلق المشي والذهاب، وهو المراد في قوله تعالى. {فاسعوا إلى ذكر الله} [62: 9) يدل عليه قراءة عمر: فامضوا إلى ذكر الله. وقيل المراد في الآية العمل والقصد، يدل عليه قوله تعالى: {وذرو البيع} [62: 9] أي اشتغلوا بأمر المعاد واتركوا أمر المعاش، ومنه قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} [53: 39] وقوله. {إن سعيكم لشتى} [92: 4] ، وعلى هذا فلا تنافي بين الآية والحديث في الذهاب إلى الجمعة. (تمشون) المشي وإن كان يعم الإسراع لكن التقييد بقوله "وعليكم" الخ خصه بغيره ولولا التقييد صريحا لكفى المقابلة في إفادته. (وعليكم السكينة) ضبطها القرطبي بالنصب بعليكم، أي على الإغراء، يعني على أنها مفعول بها، والمعني الزموا السكينة، وضبطها النووي بالرفع على الابتداء، والخبر سابقها، والجملة في موضع الحال، زاد في رواية للشيخين "والوقار"، فقيل: هو بمعنى السكينة وذكر على سبيل التأكيد، وقيل: إن بينهما فرقاً وإن السكينة التأنى في الحركات، واجتناب العبث. والوقار في الهيئة كغض البصر، وخفض الصوت وعدم الالتفات. (فما أدركتم) الفاء جواب شرط محذوف، أي إذا بينت لكم ما هو أولى بكم "فما أدركتم فصلوا"، أو التقدير إذا فعلتم الذي أمرتكم به من السكينة وترك الإسراع فما أدركتم فصلوا. واستدل به الجمهور على حصول فضيلة الجماعة بإدراك أي جزء كان من الصلاة، لعموم قوله "فما أدركتم فصلوا" ولم يفصل بين القليل والكثير. وقيل: لا يدرك فضل الجماعة بأقل من ركعة لحديث: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك. وقياساً على الجمعة. والجواب عن الحديث أنه وارد في الأوقات، وحديث الجمعة خاص بها. واستدل الحنفية بإطلاق الحديث على أن من أدرك مع الإمام شيئاً من صلاة الجمعة ولو في التشهد يصلي ما أدرك معه ويتم الباقي، ولا يصلي الظهر، وسيأتي الكلام في هذه المسألة في موضعها. واستدل به على استحباب الدخول مع الإمام في أي حالة وجد عليها. وفيه حديث أصرح أخرجه ابن أبي شيبة من طريق عبد العزيز بن رفيع عن رجل من الأنصار مرفوعاً: من وجدني راكعاً أو قائماً أو ساجداً فليكن معي على حالتي التي أنا عليها. (وما فاتكم) أي بحسب الحس والمشاهدة دون الحكم. (فأتموا) أي أكملوه وحدكم كذا في أكثر الروايات بلفظ فأتموا، وفي بعضها فاقضوا. وقد اختلفوا في المسبوق هل ما يصلي بعد الإمام أول صلاته أم آخرها؟ فمن قال بالأول - وهو أبوحنيفة - استدل برواية "اقضوا"؛ لأن القضاء لا يكون إلا للفائت، فمن سبق بثلاث ركعات فإنه إذا سلم الإمام يقوم فيصلي ركعة بالفاتحة وسورة، ثم يقوم من غير تشهد فيصلي أخرى بالفاتحة وسورة، ثم يقعد ويتشهد ثم يقوم فيصلي أخرى بالفاتحة لا غير، ويتشهد ويسلم، بناء على أن ما أدركه مع الإمام هو آخر صلاته وأنه يكون قاضياً في الأقوال والأفعال. ومن قال بالآخر - وهو الشافعي - استدل

متفق عليه. وفي رواية لمسلم: ((فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ برواية "أتموا"؛ لأن لفظ الإتمام واقع على باق من شيء قد تقدم سائره، فمن سبق بثلاث ركعات فإنه يقوم بعد سلام الإمام فيصلي ركعة بالفاتحة وسورة، ثم يجلس ويتشهد، ثم يقوم فيصلي ركعتين بالفاتحة فقط، ثم يتشهد ويسلم، بناء على أن ما أدرك مع الإمام هو أول صلاته، وأنه يكون بانياً عليه في الأقوال والأفعال. وروى البيهقي من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي: "ما أدركت فهو أول صلاتك". وعن ابن عمر بسند جيد مثله. وقال مالك: إنه أول صلاته بالنسبة إلى الأفعال، فيبني عليها، وآخرها بالنسبة إلى الأقوال فيقضيها، فمن سبق بثلاث ركعات يقضي ركعة بالفاتحة وسورة ويقعد ويتشهد، ثم يقوم فيصلي ركعتين أولاهما بالفاتحة وسورة، وآخراهما بالفاتحة خاصة، وكأنه أراد الجمع بين الروايتين والعمل بمقتضى اللفظين، واستدل لذلك بما رواه البيهقي من حديث قتادة أن علياً قال: ما أدركت مع الإمام فهو أول صلاتك، واقض ما سبقك من القرآن. والراجح عندي هو ما ذهب إليه الشافعي؛ لأن أكثر الرواة أجمعوا على قوله عليه السلام: وما فاتكم فأتموا. ولا يخالفه لفظ "اقضوا" كما سيأتي. قال الحافظ: إن أكثر الروايات ورد بلفظ "فأتموا" وأقلها بلفظ "فاقضوا"، وإنما تظهر فائدة ذلك إذا جعلنا بين الإتمام والقضاء مغايرة، لكن إذا كان مخرج الحديث واحداً واختلف في لفظه منه وأمكن رد الاختلاف إلى معنى واحد كان أولى، وهنا كذلك؛ لأن القضاء وإن كان يطلق على الفائت غالباً لكنه يطلق على الأداء أيضاً، ويرد بمعنى الفراغ كقوله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة} [62: 10] ويرد بمعان آخر، فيحمل قوله هنا "فاقضوا" على معنى الأداء، أو الفراغ، فلا يغاير قوله "فأتموا"، فلا حجة فيه لمن تمسك برواية "فاقضوا" على أن ما أدركه المأموم هو آخر صلاته بل هو أولها، وإن كان آخر صلاته إمامه؛ لأن الآخر لا يكون إلا عن شيء تقدمه، وأوضح دليل على ذلك أنه يجب عليه أن يتشهد في آخر صلاته على كل حال، فلو كان ما يدركه مع الإمام آخراً له لما احتيج إلى إعادة التشهد، وقول ابن بطال: إنه ما تشهد إلا لأجل السلام؛ لأن السلام يحتاج إلى سبق تشهد. ليس بالجواب الناهض على دفع الإيراد المذكور. واستدل ابن المنذر لذلك أيضاً على أنهم أجمعوا على أن تكبيرة الافتتاح لا تكون إلا في الركعة الأولى-انتهى. واستدل بالحديث على أن مدرك الركوع لا يعتد بتلك الركعة للأمر بإتمام ما فاته؛ لأنه فاته القيام والقراءة فيه، وهو قول أبي هريرة وجماعة، بل حكاه البخاري في القراءة خلف الإمام عن كل من ذهب إلى وجوب القراءة خلف الإمام، واختاره ابن خزيمة والضبعي وغيرهما من محدثي الشافعية، وقواه الشيخ تقي الدين السبكي من المتأخرين. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه. (وفي رواية لمسلم فإن أحدكم) تعليل لقوله: وعليكم السكينة. (إذا كان يعمد) بكسر الميم أي يقصد. (فهو في صلاة) أي حكماً وثواباً، فينبغي له من الخشوع والوقار الذي يجب على المصلي، مع أن عدم الإسراع يستلزم كثرة الخطأ وهو معنى مقصود لذاته وردت فيه أحاديث.

{الفصل الثالث}

وهذا الباب خال عن الفصل الثاني. {الفصل الثالث} 692- (8) عن زيد بن أسلم قال: ((عرس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة بطريق مكة، ووكل بلالاً أن يوقظهم للصلاة، فرقد بلال ورقدوا حتى استيقظوا وقد طلعت عليهم الشمس، فاستيقظ القوم، فقد فزعوا، فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يركبوا حتى يخرجوا من ذلك الوادي، وقال: إن هذا واد به شيطان، ـــــــــــــــــــــــــــــ (وهذا الباب) أي بالنسبة إلى تبويب صاحب المشكاة، وإلا فهو في المصابيح "فصل". (خال عن الفصل الثاني) ؛ لأنه لم يجد صاحب المصابيح في السنن أحاديث حساناً مناسبة لهذا الفصل. 692- قوله: (بطريق مكة) هذا يدل على أن هذه القضية غير الأولى؛ لأن تلك بين خيبر والمدينة، وهذه بين مكة والمدينة، وفي أبي داود من حديث ابن مسعود: أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية ليلاً فنزل فقال: من يكلؤنا؟ فقال بلال: أنا - الحديث. وفي مصنف عبد الرزاق عن عطاء بن يسار مرسلاً: أن ذلك كان بطريق تبوك، وللبيهقي في الدلائل نحوه من حديث عقبة بن عامر، وفي أبي داود من حديث أبي قتادة أن ذلك كان غزوة جيش الأمراء. وروى مسلم من حديث أبي قتادة مطولاً، والبخاري مختصراً في الصلاة قصة نومهم عن صلاة الصبح أيضاً في السفر، لكن لم يعينه وكذا وقع بالإبهام في حديث عمران عندهما. واختلف العلماء هل كانت قصة تعريسهم ونومهم عن صلاة الصبح مرة أو أكثر؟ فجزم بعضهم بأن القصة واحدة وحاول الجمع بين هذه الروايات، ولا يخلوا عن تكلف. ورجح النووي وعياض تعدد القصة لاختلاف مواطنها وتغاير سياقها وغير ذلك من وجوه المغايرات مما يدل على تعدد القصة. قال السيوطي: لا يجمع إلا بتعدد القصة، وإليه مال أكثر المحدثين. وقال ابن العربي: وقع ذلك ثلاث مرات. (ووكل بلالاً) أي أمر. (أن يوقظهم للصلاة) أي لصلاة الصبح، وخص بلالاً بذلك؛ لأنه هو الذي قال: أنا أوقظكم. في جواب قوله عليه الصلاة والسلام: أخاف أن تناموا عن الصلاة، فكأن بلالاً سأله التوكيل فوكله. (فرقد بلال) أي بعد ما سهر مدة وغلبه النوم. (ورقدوا) أي نام النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه اعتمادا على بلال، واستمروا راقدين. (حتى استيقظوا) كلهم جميعاً. (وقد طلعت عليهم الشمس) أي وأصابهم حرها. (فاستيقظ القوم) قال الطيبي: كرره لينيط به قوله: (فقد فزعوا) من فوات الصحب. (أن يركبوا) أن يرحلوا. (إن هذا واد به شيطان) فيه رد على من قال: إن تأخيره قضاء الصلاة كان لخروج وقت الكراهة، ولم يكن قوله عليه السلام هذا على سبيل التشاؤم بذلك الوادي؛ لأنه علمه وحققه وعرف أثر

فركبوا حتى خرجوا من ذلك الوادي، ثم أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينزلوا، وأن يتوضؤا، وأمر بلالاً أن ينادي للصلاة- أو يقيم – فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس، ثم انصرف وقد رأى من فزعهم، فقال: يا أيها الناس! إن لله قبض أرواحنا، ولو شاء لردها إلينا في حين غير هذا، فإذا رقد أحدكم عن الصلاة أو نسيها، ثم فزع إليها، فليصلها كما كان يصليها في وقتها، ثم التفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بكر الصديق، فقال: إن الشيطان ـــــــــــــــــــــــــــــ الشيطان فيه فأخبر به. (فركبوا) أي رحلوا، أو ركب بعضهم واقتاد الآخرون. (أويقيم) أي بعد الأذان فأو للشك أو بمعنى الجمع المطلق كالواو، وهو الظاهر لثبوت الجمع بين الأذان والإقامة في حديث أبي قتادة وغيره. (فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أى قضى صلاة الصبح جماعة. (وقد رأى من فزعهم) أي أدرك بعض فزعهم أسفاً على فوات الصبح، أو رأى عليهم بعض آثار خوفهم لما حسبوا أن في النوم تقصيراً. (قبض أرواحنا) أي ثم ردها إلينا، وهو كقوله تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها} [39: 42] ولا يلزم من قبض الروح الموت، فالموت انقطاع تعلق الروح بالبدن ظاهراً وباطناً، والنوم انقطاعه عن ظاهره فقط، قاله الحافظ. وقال العز بن عبد السلام: في كل جسد روحان: روح اليقظة التي أجرى الله تعالى العادة أنها إذا كانت في الجسد كان الإنسان مستيقظاً، فإذا نام خرجت ورأت المنامات، وروح الحياة التي أجرى العادة أنها إذا كانت في الجسد فهو حي. ثم إنه لا يخفى ما في فوات صلاته - صلى الله عليه وسلم - من المصالح، ولأحمد من حديث ابن مسعود: لو أن الله أراد أن لا يناموا عنها لم يناموا، ولكن أراد أن يكون لمن بعدكم. (في حين) أي وقت. (غير هذا) بالجر على الصفة، وقيل بالنصب على الاستثناء، أي قبل ذلك الوقت أو بعده. (فإذا رقد أحدكم) أي غافلاً أو ذاهلاً. (عن الصلاة أو نسيها) للتنويع لا للشك. (ثم فزع إليها) أي تنبه بالاستيقاظ أو التذكير. (فليصلها) أي حين قضاها. (كما كان يصليها في وقتها) ولا كفارة لها إلا ذلك ولا قضاء عليه إلا ذلك، لا كما زعم بعضهم أنه يعيد القضاء مرتين: عند ذكرها وعند حضور مثلها من الوقت الآتي، مستدلاً بما في حديث عمران بن حصين عند أبي داود في مثل هذه القصة: من أدرك منكم صلاة الغداة من غد صالحاً فليقض معها مثلها. قال الحافظ: لم يقل أحد من السلف باستحباب ذلك، بل عدوا الحديث غلطاً من راويه. وحكي ذلك الترمذي وغيره عن البخاري، ويؤيد ذلك ما رواه النسائي من حديث عمران بن حصين أيضاً أنهم قالوا يا رسول الله! ألا نقضيها لوقتها من الغد؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: لا. ينهاكم الله عن الربا ويأخذه منكم – انتهى. وظاهر الحديث أنه يجهر في الجهرية، ويسر في السرية. (أبي بكر الصديق) قال الزرقاني: كان علي يحلف أن الله أنزل من السماء اسمه الصديق. (إن الشيطان) أي شيطان الوادي، أو شيطان بلال،

(7) باب المساجد ومواضع الصلاة

أتى بلالاً وهو قائم يصلي فأضجعه، ثم لم يزل يهدئه كما يهدأ الصبي حتى نام. ثم دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلالاً، فأخبر بلال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل الذي أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر، فقال أبوبكر: أشهد أنك رسول الله)) رواه مالك مرسلاً. 693- (9) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خصلتان معلقتان في أعناق المؤذنين للمسلمين: صيامهم وصلاتهم)) رواه ابن ماجه. (7) باب المساجد ومواضع الصلاة {الفصل الأول} ـــــــــــــــــــــــــــــ أو الشيطان الكبير. (فأضجعه) أي أسنده لما تقدم في الحديث السابق، ويمكن أنه اضطجع في هذه القضية على أنها غير القضية الأولى. (يهدئه) من الإهداء، أي يسكنه وينومه، من أهدأت الصبي إذا أسكنته بأن تضرب كفك لينًا عليه حتى يسكن وينام. قال الجزري في النهاية: الهدو السكون عن الحركات من المشي والاختلاف في الطريق. (كما يهدأ) بالنباء للمفعول. (ثم دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلالاً) أي فسأله عن سبب نومه وعدم إيقاظه إياهم. (فأخبر بلال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل الذي أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبابكر) الخ. قال الطيبي: في الحديث إظهار معجزة، ولذا صدقه الصديق رضي الله عنه بالشهادة. (رواه مالك مرسلاً) لما أن زيد بن أسلم تابعي، ولم يذكر الصحابي. وهذا الحديث وإن كان مرسلاً عند جميع رواة الموطأ لكن روي معناه متصلاً من وجوه صحيحه كما تقدم. 693- قوله: (معلقتان) صفة لخصلتان وقوله "للمسلمين" خبر، وقوله: صيامهم وصلاتهم. بيان للخصلتين أو بدل منه، شبهت حال المؤذنين وإناطة الخصلتين للمسلمين بحال الأسير الذي في عنقه ربقة الرق لا يخلصه منها إلا المن والفداء، قاله الطيبي. (في أعناق المؤذنين) أي ثابتتان في ذمتهم ليحفظوهما (صيامهم وصلاتهم) فالصيام ابتداء وانتهاء مما يتعلق بالأذان، والصلاة يعرف وقتها به. (رواه ابن ماجه) قال القاري: وسنده حسن. وفيه نظر؛ لأن في سنده بقية بن الوليد وهو مدلس رواه بالعنعنة عن مروان بن سالم الغفاري الجزري، وهو متروك، ورماه الساجي وغيره بالوضع كذا في التقريب. (باب المساجد ومواضع الصلاة) تعميم بعد تخصيص أو عطف تفسير، والمسجد لغة محل السجود، وشرعاً المحل الموقوف للصلاة فيه.

694- (1) عن ابن عباس، قال: ((لما دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - البيت، دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج منه، فلما خرج ركع ركعتين في قبل الكعبة، وقال: هذه القبلة)) ـــــــــــــــــــــــــــــ 694- قوله: (البيت) أي الكعبة وهو بيت الله الحرام. (دعا في نواحيه) أي جوانبه جمع ناحية وهي الجهة. (كلها) وفي رواية فكبر فيها. وفيه دليل على استحباب الدعاء والتكبير في الكعبة، ولا خلاف فيه لأحد. (ولم يصل) أي في البيت. وفي حديث ابن عمر الذي بعده عن بلال: أنه صلى فيه، فأثبت بلال صلاته - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة، وابن عباس نفاها، وقد أجمع أهل الحديث على الأخذ برواية بلال، وتقديم إثباته على نفي غيره لأمرين: أحدهما أن بلالاً كان معه - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ ولم يكن معه ابن عباس، وإنما استند في نفيه تارة إلى أسامة وتارة إلى أخيه الفضل مع أنه لم يثبت أن الفضل كان معهم إلا في رواية شاذة، وقد روى مسلم عن أسامة نفي الصلاة في الكعبة من طريق ابن عباس كما سيأتي التصريح به من المصنف، ووقع إثبات صلاته فيها عن أسامة من رواية ابن عمر عند أحمد وغيره. فتعارضت الرواية في ذلك عنه، فترجح رواية بلال من جهة أنه مثبت ومعه زيادة علم، وغيره نافٍ. ومن جهة أنه لم يختلف فيه في الإثبات، واختلف على من نفي، ويمكن الجمع بين روايتي أسامة المثبتة والنافية بأنه حيث أثبتها اعتمد في ذلك على خبر غيره، وحيث نفاها أراد ما في علمه لكونه لم يره - صلى الله عليه وسلم - حين صلى فيها. وقال النووي: يجب ترجيح رواية بلال؛ لأنه مثبت فمعه زيادة علم، وأما نفي أسامة فسببه أنهم لما دخلوا الكعبة أغلقوا الباب واشتغلوا بالدعاء، فرأى أسامة النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو فاشتغل أسامة بالدعاء في ناحية، والنبي - صلى الله عليه وسلم - في ناحية، ثم صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في ناحية فرأه بلال لقربه منه ولم يره أسامة لبعده واشتغاله بالدعاء، ولأن بإغلاق الباب تكون الظلمة مع احتمال أن يحجبه عنه بعض الأعمدة فنفاها عملاً بظنه، وأما بلال فحققها فأخبر بها. وقيل يحتمل أن يكون أسامة غاب عنه بعد دخوله لحاجة لم يشهد صلاته، ويشهد له ما رواه أبوداود الطيالسي في مسنده عن أسامة، قال: دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكعبة فرأى صوراً، فدعا بدلو من ماء فأتيته به فضرب به الصور. قال القرطبي: فلعله استصحب النفي لسرعة عوده. وقيل: إنه - صلى الله عليه وسلم - دخل الكعبة مرتين، مرة صلى، ومرة دعا وكبر ولم يصل، وقال ابن حبان: الأشبه عندي في الجمع أن يجعل الخبران في وقتين، فيقال: لما دخل الكعبة في الفتح صلى فيها على ما رواه ابن عمر عن بلال، ويجعل نفي ابن عباس الصلاة في الكعبة في حجته التي حج فيها؛ لأن ابن عباس نفاها وأسنده إلى أسامة، وابن عمر أثبتها وأسند إثباته إلى بلال وإلى أسامة أيضاً، فإذا حمل الخبر على ما وصفنا بطل التعارض. (ركع ركعتين) أي صلى فأطلق الجزء وأراد به الكل. (في قبل الكعبة) بضم القاف والموحدة وقد تسكن، أي مقابلها أو ما استقبلك منها وهو وجهها الذي فيه الباب وهذا موافق لرواية ابن عمر عند البخاري فصلى في وجه الكعبة ركعتين. (هذه) أي الكعبة. (القبلة) التي استقر الأمر على استقبالها فلا تنسخ إلى غيرها كما نسخ بيت المقدس،

رواه البخاري. 695- (2) ورواه مسلم عنه، عن أسامة بن زيد. 696- (3) وعن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل الكعبة هو وأسامة بن زيد، وعثمان بن طلحة الحجبي، ـــــــــــــــــــــــــــــ فالمراد بذلك تقرير حكم الانتقال عن بيت المقدس، وقيل: المراد أن حكم من شاهد البيت وجوب مواجهة عينه جزماً بخلاف الغائب، وقيل: المراد أن الذي أمرتم باستقباله ليس هو الحرام كله ولا مكة ولا المسجد الذي حول الكعبة بل الكعبة نفسها، وقيل: الإشارة إلى وجه الكعبة علمهم بذلك سنة موقع الإمام في وجهها دون أركانها وجوانبها الثلاثة وإن كان الكل جائزاً. (رواه البخاري) في الصلاة، وفي المناسك، وفي ذكر الأنبياء، وفي المغازي مطولاً ومختصراً. وأخرجه مسلم والنسائي في المناسك مختصراً، ولفظه عند مسلم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل الكعبة وفيه ست سوار، فقام عند كل سارية فدعا ولم يصل. وحديث ابن عباس هذا من مراسيل الصحابة؛ لأنه لم يكن معهم، وأسنده عن غيره ممن دخل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الكعبة فيكون مرسلاً. 695- قوله: (ورواه مسلم عنه) أي عن ابن عباس في المناسك. (عن أسامة بن زيد) وأخرجه أيضاً النسائي في المناسك. وأسامة هذا هو أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل الكلي الأمير أبومحمد، ويقال: أبوزيد، وأمه أم أيمن واسمها بركة، وهي حاضنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت مولاة لأبيه عبد الله بن عبد المطلب، وأسامة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابن مولاه، وحبه وابن حبه، قبض النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن (20) سنة، وقيل: (18) سنة، ونزل وادي القرى، وتوفى به بعد قتل عثمان (رض) . وقيل: سكن المزة مدة ثم انتقل إلى المدينة فمات سنة (54) وهو ابن (75) سنة. استعمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جيش فيه أبوبكر (رض) وعمر (رض) فلم ينفذ حتى توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبعثه أبوبكر إلى الشام. له مائة وثمانية وعشرون حديثاً، اتفقا على خمسة عشر، وانفرد كل منهما بحديثين، روى عنه جماعة. 696- قوله: (دخل الكعبة) يوم فتح مكة كما وقع مبينا عند البخاري في الجهاد. (وأسامة بن زيد) برفع أسامة على العطف. (وعثمان بن طلحة) بن أبي طلحة بن عبد العزى بن عبد الدار ين بن قصى بن كلاب العبدري، أسلم في الهدنة بعد عمرة القضاء وهاجر مع خالد بن الوليد، ثم سكن مكة إلى أن مات بها سنة (42) وقيل: قتل بأجنادين وأدخله الكعبة لئلا يتوهم الناس عزله عن سدانة البيت وحجابته. (الحجبي) بفتح المهملة والجيم، ويقال لآل بيته الحجبة لحجبهم الكعبة، ويعرفون الآن بالشيبيين نسبة إلى شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، وذلك أن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة لم يزل بلى فتح البيت إلى أن توفي فدفع إلى شيبة بن عثمان بن أبي طلحة وهو ابن عم عثمان هذا لا ولده، فبقيت الحجابة في بني شيبة، ولشيبة هذا أيضاً

وبلال بن رباح، فأغلقها عليه، ومكث فيها، فسألت بلالاً حين خرج: ماذا صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: جعل عموداً عن يساره، وعمودين عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه، وكان البيت يومئذٍ على ستة أعمدة، ثم صلى)) ـــــــــــــــــــــــــــــ صحبة ورواية، قتل أبوه يوم أحد كافراً، وأسلم شيبة بعد الفتح، وكان ممن صبر بحنين مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال مصعب الزبيري دفع النبي - صلى الله عليه وسلم - المفتاح إليه وإلى عثمان بن طلحة فقال: خذوها يا بني أبي طلحة خالدة تالدة لا يأخذها منكم إلا ظالم. مات شيبة سنة (59) . (وبلال بن رباح) بفتح الراء مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخادم أمر صلاته، وأدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - معه أسامة وبلالاً لملازمتهما خدمته. (فأغلقها) أي الكعبة يعني بابها، والفاعل عثمان كما وقع التصريح به في رواية لمسلم، ووقع في الموطأ بلفظ "فأغلقاها" فالضمير لعثمان وبلال، وفي رواية للشيخين "فأغلقوا" والجمع بين الروايات أن عثمان هو المباشر لذلك؛ لأنه من وظيفته، وأما ضم بلال فلعله ساعده في ذلك، ورواية الجمع يدخل فيها الآمر بذلك والراضي به. (عليه) أي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي رواية "عليهم" وهو ظاهر، وإنما أغلق الباب لئلا يزدحم الناس عليه لتوفر دواعيهم على مراعاة أفعاله ليأخذوها عنه، أو ليكون ذلك أسكن لقلبه، وأجمع لخشوعه، وقيل: لئلا يكثر الناس فيصلوا بصلاته، ويكون ذلك عندهم من المناسك كما فعل في صلاة الليل في رمضان. واستدل البخاري بحديث ابن عمر هذا على جواز اتخاذ الغلق للمساجد لأجل صونها عما لا يصلح فيها، ولأجل حفظ ما فيها من الأيدي العادية. (ومكث) بضم الكاف وفتحها أي توقف. (ماذا صنع) أي داخل البيت. (جعل عموداً عن يساره، وعمودين عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه، وكان البيت يومئذٍ على ستة أعمدة) كذا في هذه الرواية ولا إشكال فيها. ووقع في رواية للبخاري: جعل عموداً عن يساره، وعموداً عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه، وكان البيت يومئذٍ على ستة أعمدة. ولا يخفى ما فيها من الإشكال إذ في قوله: وكان البيت يومئذٍ على ستة أعمدة، إشعار بكون ما عن يمينه أو يساره اثنين. وأجيب بأن التثنية بالنظر إلى ما كان عليه البيت في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والإفراد بالنظر إلى ما صار إليه بعد، ويؤيده قوله "وكان البيت يومئذٍ"؛ لأن فيه إشعاراً بأنه تغير عن هيئته الأولى. أو يقال لفظ العمود جنس يحتمل الواحد والاثنين، فهو مجمل بيّنته رواية عمودين، أو لم تكن الأعمدة الثلاثة على سمت واحد بل عمودان متسامتان والثالث على غير سمتهما، ولفظ المقدمين في الرواية الأخرى ليشعر به، أو كان هناك ثلاثة أعمدة مصطفة فصلى إلى جنب الأوسط، فمن قال: جعل عموداً عن يمينه وعموداً عن يساره، لم يعتبر الذي صلى إلى جنبه، ومن قال: عمودين اعتبره. وقوله: كان البيت يومئذٍ على ستة أعمدة. إخبار عما كان عليه البيت قبل أن يهدم، ويبنى في زمن ابن الزبير، وأما الآن فعلى ثلاثة أعمدة. (ثم صلى) أي متوجهاً إلى الجدار الغربي المقابل للجدار الشرقي الذي فيه الباب تقريباً بينه - صلى الله عليه وسلم - وبين الجدار الغربي ثلاثة أذرع. وفي الحديث مشروعية الدخول في الكعبة واستحبابه، وفيه استحباب الصلاة فيها، وهو ظاهر في النفل، ويلتحق به الفرض إذا لا فرق بينهما

متفق عليه. 697- (4) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلاة في مسجدي هذا ـــــــــــــــــــــــــــــ في الاستقبال للمقيم، وهو قول الجمهور، ومنع منه مالك لقوله: {فولوا وجوهكم شطره} [2: 144] أي قبالته، ومن فيه مستدبر لبعضه، ولم يثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى الفرض داخله، وإن ثبت أنه صلى النفل، إذ يسامح في النافلة ما لا يسامح في الفريضة. (متفق عليه) فيه أن قوله: جعل عموداً عن يساره وعمودين عن يمينه من إفراد البخاري: ولفظ مسلم: جعل عمودين عن يساره، وعموداً عن يمينه، عكس رواية البخاري، فنسبة المصنف للرواية التي ذكرها هو إلى الشيخين فيه نظر، اللهم! إلا أن يقال: أن مراد المصنف اتفاق الشيخين على أصل الحديث. وجمع بعرض المتأخرين بين هاتين الروايتين باحتمال تعدد الواقعة. قال الحافظ: وهو بعيد لاتحاد مخرج الحديث، وقد جزم البيهقي بترجيح رواية البخاري. 697- قوله: (صلاة) التنكير للوحدة أي صلاة واحدة فرضاً كانت أو نفلاً، فالتضعيف المذكور في الحديث لا يختص بالفرض بل يعم النفل أيضاً. وقال الطحاوي: إن ذلك مختص بالفرائض لقوله - صلى الله عليه وسلم -: أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة. قال الحافظ: ويمكن أن يقال: لا مانع من إبقاء الحديث على عمومه فتكون صلاة النافلة في بيت بالمدينة أو مكة تضاعف على صلاتها في البيت بغيرهما، وكذا في المسجدين، وإن كانت في البيوت أفضل مطلقاً. (في مسجدي هذا) أي مسجد المدينة لا مسجد قباء، واختلف هل يدخل في التضعيف ما زيد في المسجد النبوي في زمن الخلفاء الراشدين من بعدهم أم لا؟ إن غلبنا اسم الإشارة انحصر التضعيف فيه ولم يعم ما زيد فيه؛ لأن التضعيف إنما ورد في مسجده وقد أكده بقوله "هذا"، فإن الإشارة لخصوص البقعة الموجودة يومئذٍ فلم تدخل فيه الزيادة، ولا بد في دخولها من دليل، قال النووي: ينبغي أن يحرص المصلي على الصلاة في الموضع الذي كان في زمانه - صلى الله عليه وسلم - دون ما زيد فيه بعده بخلاف المسجد الحرام، فإنه يشمل جميع مكة بل صحح أنه يعم جميع الحرم، وإن غلبنا التسمية لم يختص التضعيف بما كان في زمنه - صلى الله عليه وسلم -، وإليه ذهبت الحنفية كما صرح به في الدر المختار، قال ابن عابدين: وأصل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: صلاة في مسجدي هذا. ومعلوم أنه قد زيد في المسجد النبوي، فقد زاد فيه عمر، ثم عثمان، ثم الوليد، ثم المهدي، والإشارة "بهذا" إلى المسجد المضاف المنسوب إليه - صلى الله عليه وسلم -، ولا شك أن جميع المسجد الموجود الآن يسمى مسجده - صلى الله عليه وسلم -، فقد اتفقت الإشارة والتسمية على شيء واحد، فلم تلغ التسمية فتحصل المضاعفة المذكورة في الحديث فيما زيد فيه، وخصها الإمام النووي بما كان في زمنه - صلى الله عليه وسلم - عملاً بالإشارة، قال القاري واعترضه ابن تيمية وأطال فيه، والمحب الطبري، وأوردا آثاراً استدلا بها، وبأنه سلم في مسجد مكة أن المضاعفة لا تخصتص بما كان موجوداً في زمنه - صلى الله عليه وسلم -، وبأن الإشارة في الحديث إنما هي لإخراج غيره من المساجد المنسوبة إليه - صلى الله عليه وسلم -، وبأن الإمام مالكاً سئل عن ذلك فأجاب بعدم الخصوصية وقال: لأنه عليه السلام أخبر بما يكون بعده، وزويت له الأرض، فعلم بما يحدث بعده، ولولا هذا ما استجاز الخلفاء الراشدون أن

خير من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام)) ـــــــــــــــــــــــــــــ يستزيدوا فيه بحضرة الصحابة ولم ينكر ذلك عليهم، وبما في تاريخ المدينة عن عمر رضي الله عنه أنه لما فرغ من الزيادة قال لو انتهى إلى الجبانة – وفي رواية إلى ذي الحليفة – لكان الكل مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبما روي عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لو زيد في هذا المسجد ما زيد كان الكل مسجدي. وفي رواية: لو بني هذا المسجد إلى صنعا كان مسجدي. هذا خلاصة ما ذكره ابن حجر في الجوهر المنظم-انتهى مافي المرقاة. قلت: لو كان حديث أبي هريرة: لو زيد في هذا المسجد، الخ. قابلاً للإحتجاج لكان قاطعاً للنزاع، لكنه ضعيف بجميع طرقه لا يصلح بمجموعها للاستدلال، قال في تمييز الطيب من الخبيث (ص119) : حديث صلاة في مسجدي هذا ولو وسع إلى صنعاء اليمن بألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام. أخرجه ابن أبي شيبة في أخبار المدينة عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ "لو مد مسجدي هذا إلى صنعاء كان مسجدي"، وفي سنده ضعف، وله شواهد لا تقوم الحجة بمجموعها فضلاً عن أفرادها، ولذا خصص النووي اختصاص التضعيف بمسجده الشريف عملاً بالإشارة في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة-انتهى. وقال ابن عابدين: وأما حديث: لو مد مسجدي هذا إلى صنعاء كان مسجدي. فقد اشتد ضعف طرقه فلا يعمل به في فضائل الأعمال كما ذكره السخاوي في المقاصد الحسنة-انتهى. (خير) أي من جهة الثواب لا من جهة الإجزاء فالتضعيف يرجع إلى الثواب ولا يتعدى إلى الإجزاء بإتفاق العلماء كما نقله النووي وغيره، فلو كان عليه صلاتان فصلى في أحد المسجدين صلاة لم تجزه إلا عن واحدة، وهذا مع قطع النظر عن التضعيف بالجماعة، فإنها تزيد سبعاً وعشرين درجة كما سيأتي في فضل الجماعة لكن هل يجتمع التضعيفان أو لا؟ محل بحث. (من ألف صلاة) تصلي. (فيما سواه) من المساجد. (إلا المسجد الحرام) بالنصب على الاستثناء ويجوز الجر على أن إلا بمعنى غير أي فإن الصلاة فيه خير من الصلاة في مسجدي، ويدل له حديث عبد الله بن الزبير أخرجه أحمد، وصححه ابن حبان من طريق عطاء عن عبد الله بن الزبير قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا. وفي رواية ابن حبان: وصلاة في ذلك أفضل من مائة صلاة في مسجد المدينة. قال ابن عبد البر: اختلف على ابن الزبير في رفعه ووقفه، ومن رفعه أحفظ وأثبت، ومثله لا يقال بالرأي. ويدل له أيضاً حديث جابر أخرجه ابن ماجه مرفوعاً، وفيه: وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه. قال الحافظ: وفي بعض النسخ "من مائة صلاة فيما سواه"، فعلى الأول معناه في ما سواه إلا مسجد المدينة، وعلى الثاني معناه من مائة صلاة في مسجد المدينة. ورجال إسناده ثقات، لكنه من رواية عطاء في ذلك عنه قال ابن عبد البر: جائز أن يكون عند عطاء في ذلك عنهما، وعلى ذلك يحمله أهل الحديث، ويؤيده أن عطاء إمام واسع الرواية، معروف بالرواية عن جابر وابن الزبير، ويدل لذلك أيضاً حديث أبي الدرداء، أخرجه البزار والطبراني

متفق عليه. 698- (5) وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، ـــــــــــــــــــــــــــــ مرفوعاً: الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمس مائة صلاة. قال الحافظ في الفتح: قال البزار: إسناده حسن، ففي هذه الأحاديث الثلاثة دلالة واضحة على أن المراد بالاستثناء في حديث أبي هريرة تفضيل المسجد الحرام، ورد صريح على من حمل الاستثناء على المساواة، أو على أن المراد أن الصلاة في مسجدي لا تفضل الصلاة في المسجد الحرام بألف بل بدونها. قال القاري: لا تنافي بين الروايات المختلفة في التضعيف لاحتمال أن حديث الأقل قبل حديث الأكثر، ثم تفضل الله تعالى بالأكثر شيئاً بعد شيء، ويحتمل أن يكون تفاوت الأعداد لتفاوت الأحوال لما جاء: أن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعين إلى سبعمائة إلى غير نهاية-انتهى. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً الترمذي وابن ماجه في الصلاة والنسائي في المناسك، وفي الباب عن جماعة من الصحابة ذكر أحاديثهم الحافظ المنذري والعيني. جمادى ثان رمضان شعبان ذو القعدة قوله. (لا تشد الرحال) بضم التاء على البناء للمفعول بلفظ النفي، والمراد النهي عن المسافرة إلى غيرها، قال الطيبي: وهو أبلغ مما لو قيل: لا تسافر لأنه صور حالة المسافرة وتهيئة أسبابها من الراكب وفعل الشد، ثم أخرج النهي مخرج الإخبار، أي لا ينبغي ولا يستقيم أنيقصد الزيارة بالرحلة إلا إلى هذه البقاع الشريفة لاختصاصها بالمزايا والفضائل؛ لأن إحداها بيت الله وقبلتهم، رفع قواعدها الخليل عليه السلام، والثانية قبلة الأمم السالفة، عمرها سليمان عليه السلام، والثالثة أسست على التقوى، عمرها خير البريه، فكأن المسافرة إليها وفادة إلى بانيها – انتهى. والرحال – بكسر الراء – جمع رحل بالفتح وهو للبعير كالسرج للفرس، وهو أصغر من القتب، وشده كناية عن السفر لأنه لازمه، والتعبير بشدها خرج مخرج الغالب في ركوبها للمسافر في بلاد العرب إذ ذاك، فلا فرق بين ركوب الرواحل والخيل والبغال والحمير والقطار الحديدي، والسيارات والدراجات والعربات في البر، والسفن والبواخر في البحر، والطيارات في الجو، والمشي على الأقدام في هذا المعنى، ويدل لذلك قوله في بعض طرقه: إنما يسافره. أخره مسلم. (إلا إلى ثلاثة مساجد) الاستثناء مفرغ، والتقدير لا تشد الرحال إلى موضع. ولازمه منع السفر إلى كل موضع غيرها؛ لأن المستثنى منه في المفرغ مقدر بأعم العام، لكن يمكن أن يكون المراد بالعموم ههنا الموضع المخصوص وهو المسجد، قاله الحافظ. (مسجد الحرام) بإضافة الموصوف إلى الصفة، والحرام بمعنى المحرم كالكتاب بمعنى المكتوب. والمسجد - يخفض الدال- بدل من ثلاثة، ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أى هي المسجد الحرام، والتاليان عطف عليه، ويجوز النصب بتقدير أعني، قيل: المراد به جميع الحرم، وقيل: يختص بالموضع الذي يصلي

والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا)) ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه دون البيوت وغيرها من أجزاء الحرم. (والمسجد الأقصى) أي بيت المقدس وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة عند الكوفيين كقوله تعالى: {وماكنت بجانب الغربي} [28: 44] . والبصريون يؤولونه بإضمار المكان، الذي بجانب المكان الغربي ومسجد المكان الأقصى، وسمي به لبعده عن مسجد مكة في المسافة، أو لأنه لم يكن وراءه مسجد. (ومسجدي هذا) أي مسجد المدينة، وفي رواية مسجد الرسول. وفي الحديث مزية هذه المساجد وفضيلتها على غيرها لكونها مساجد الأنبياء، ولأن الأول قبلة الناس وإليه حجهم، والثاني كان قبلة الأمم الماضية، والثالث أسس على التقوى واختلف في شد الرحال إلى غيرها كالذهاب إلى زيارة الصالحين أحياء وأمواتاً، وإلى الموضع الفاضلة لقصد التبرك بها والصلاة فيها، فقال الشيخ أبومحمد الجويني: يحرم شد الرحال إلى غيرها عملاً بظاهر هذا الحديث، وأشار القاضي حسين إلى اختياره، وبه قال عياض وطائفة، ويدل عليه ما رواه أصحاب السنن من إنكار بصرة الغفاري على أبي هريرة خروجه إلى الطور، وقال له: لو أدركت قبل أن تخرج ما خرجت. واستدل بهذا الحديث، فدل على أنه يرى حمل الحديث على عمومه، ووافقه أبوهريرة. والصحيح عند إمام الحرمين وغيره من الشافعية أنه لا يحرم، وأجابوا عن الحديث بأجوبة لا يخلو واحد منها عن النظر، وأحسنها وأقواها عندهم أن المراد حكم المساجد فقط، وأنه لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد للصلاة فيه غير هذه الثلاثة، وأما قصد غير المساجد لزيارة صالح أو قبر أو طلب علم أو تجارة أو نزهة فلا يدخل في النهي، وقد ورد ذلك مصرحاً في بعض طرق الحديث في مسند أحمد برواية أبي سعيد الخدري، وذكر عنده صلاة في الطور فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا ينبغي للمصلى أن يشد رحاله إلى مسجد يبتغى فيه الصلاة غير المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا، وفي سنده شهر بن حوشب وهو حسن الحديث وإن كان فيه بعض الضعف، وقال بعضهم: قوله: إلا إلى ثلاثة مساجد. المستثنى منه محذوف، فإما أن يقدر عاماً فيصير: لا تشد الرحال إلى مكان في أي أمر كان إلا إلى الثلاثة. أو أخص من ذلك، لا سبيل إلى الأول لإفضائه إلى سد باب السفر للتجارة وصلة الرحم وطلب العلم وغيرها فتعين الثاني، والأولى أن يقدر ما هو أكثر مناسبة، وهو لا تشد الرحال إلى مسجد للصلاة فيه إلا إلى الثلاثة. قال شيخنا في شرح الترمذي بعد ذكر هذا الجواب: إن قولهم: المراد حكم المساجد فقط وأنه لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد ... الخ، غير مسلم، بل ظاهر الحديث العموم وأن المراد لا تشد الرحال إلى موضع إلا إلى ثلاثة مساجد، فإن الاستثناء مفرغ، والمستثنى منه في المفرغ يقدر بأعم العام، نعم لو صح رواية أحمد بلفظ: لا ينبغي للمصلي أن يشد رحاله إلى مسجد ... الخ. لاستقام هذا الجواب، لكنه تفرد بهذا اللفظ شهر بن حوشب ولم يزد لفظ "مسجد" أحد غيره فيما أعلم، وهو كثير الأوهام كما صرح به الحافظ في التقريب، ففي ثبوت لفظ "مسجد" في هذا الحديث كلام، فظاهر الحديث هو العموم وأن المراد: لا يجوز السفر إلى موضع للتبرك به والصلاة فيه إلا إلى ثلاثة

متفق عليه. 699- (6) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي)) ـــــــــــــــــــــــــــــ مساجد، وأما السفر إلى موضع للتجارة أو لطلب العلم أو لغرض آخر صحيح مما ثبت جوازه بأدلة أخرى فهو مستثنى من حكم هذا الحديث- انتهى كلام الشيخ. وقال الشاه عبد العزيز الدهلوي في تعليقه على البخاري في شرح هذا الحديث: المستثنى منه المحذوف في هذا الحديث إما جنس قريب أو جنس بعيد، فعلى الأول تقدير الكلام: لا تشد الرحال إلى المساجد إلا إلى ثلاثة مساجد. وحينئذٍ ما سوى المساجد مسكوت عنه، وعلى الوجه الثاني، لا تشد الرحال إلى موضع يتقرب به إلا إلى ثلاثة مساجد، فحينئذٍ شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة المعظمة منهي عنه بظاهر سياق الحديث، ويؤيده ما روى أبوهريرة عن بصرة الغفاري حين رجح عن الطور، وتمامه في الموطأ. وهذا الوجه قوي من جهة مدلول حديث بصرة انتهى، كذا في عون المعبود. وقال الشاه ولي الله الدهلوي في حجة الله (ج1: ص153) : كان أهل الجاهلية يقصدون مواضع معظمة بزعمهم يزورونها ويتبركون بها، وفيه من التحريف والفساد ما لا يخفى، فسد النبي - صلى الله عليه وسلم - الفساد بهذا الحديث لئلا يلتحق غير الشعائر بالشعائر، ولئلا يصير ذريعة لعبادة غير الله، والحق عندي أن القبر ومحل عبادة ولي من أولياء الله والطور كل ذلك سواء في النهي-انتهى. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً الترمذي وابن ماجه في الصلاة. 699- قوله: (ما بين بيتي ومنبري) الموصول مبتدأ وخبره قوله: روضة ... الخ. والمراد بالبيت البيت المعهود وهو بيت عائشة الذي صار فيه قبره - صلى الله عليه وسلم -، وفي رواية الطبراني: ما بين المنبر وبيت عائشة. وفي حديث سعد بن أبي وقاص عند البزار بسند رجاله ثقات، وعند الطبراني من حديث ابن عمر بلفظ: ما بين قبري ومنبري. (روضة) بفتح الراء، أرض مخضرة بأنواع النباتات، وروضات الجنة أطيب بقاعها وأنزهها. (من رياض الجنة) اختلف في تأويله فقيل: المعنى أن العبادة فيه تؤدي إلى الجنة، فهو مجاز باعتبار المآل كقوله: الجنة تحت ظلال السيوف. أي الجهاد مآله الجنة. وقيل: المعنى أي كروضة الجنة في نزول الرحمة وحصول السعادة بما يحصل من ملازمة حلق الذكر لا سيما في عهده - صلى الله عليه وسلم -، فيكون تشبيهاً بغير أداة، وهذا القول لا يخلو عن بعد؛ لأنه خلاف الظاهر يشترك فيه سائر المساجد وبقاع الخير. وقال أهل التحقيق: إن الكلام محمول على الحقيقة بأن ينقل هذا المكان يوم القيامة إلى الفردوس الأعلى، ولا يفنى ولا يهلك مثل سائر البقاع. ويحتمل أن يكون عين هذه البقعة روضة من رياض الجنة أنزلت منها إلى المسجد كما ورد في الحجر الأسود ومقام إبراهيم، وبعد قيام الساعة ينقل إلى مقامه الأصلي. (ومنبري على حوضي) أي على حافته والمراد بالحوض نهر الكوثر الكائن داخل الجنة لا حوضه الذي خارجها بجانبها المستمد من الكوثر. قيل: هذا إخبار

متفق عليه. 700- (7) وعن ابن عمر، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتي مسجد قباء كل سبت ماشياً وراكباً، ويصلي فيه ركعتين)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ عن المنبر الذي يكون له - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة، يوضع عليه بأمر ربه، يدعو الناس عليه إليه، لا هذا المنبر في المسجد الشريف، وهذا القول بعيد من سياق الحديث. والراجح ما قال به الأكثر من أن المراد منبره بعينه الذي قال هذه المقالة وهو فوقه. فينقله الله بعينه ويضعه عليه، ويؤيده حديث أم سلمة عند النسائي مرفوعاً: إن قوائم منبري هذا رواتب في الجنة. وقيل: معناه أن قصد منبره والحضور عنده لملازمة الأعمال الصالحة يورد صاحبه إلى الحوض، ويقتضي شربه منه. ونقل ابن زبالة أن ذرع ما بين المنبر والبيت الذي فيه القبر الآن ثلاث وخمسون ذراعاً، وقيل: أربع وخمسون وسدس. وقيل: خمسون إلا ثلثي ذراع، وهو الآن كذلك، فكأنه نقص لما أدخل من الحجرة في الجدار. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصلاة، وفي أواخر الحج، وفي الحوض، والاعتصام، ومسلم في الحج. 700- قوله: (مسجد قباء) بضم القاف ممدوداً وقد يقصر، ويذكر على أنه اسم موضع، ويؤنث على أنه اسم بقعة، وبينه وبين المدينة ثلاثة أميال أو ميلان على يسار قاصد مكة، وهو من عوالى المدينة وسمي باسم بئر هناك، والمسجد المذكور هو مسجد بني عمرو بن عوف وهو أول مسجد أسسه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (كل سبت) خص السبت لأجل مواصلته لأهل قباء، وتفقد حال من تأخر منهم عن حضور الجمعة معه في مسجده بالمدينة، وفيه دلالة على جواز تخصيص بعض الأيام ببعض الأعمال الصالحة والمداومة على ذلك. (ماشياً) تارة. (وراكباً) أخرى بحسب ما تيسر، والواو بمعنى أو (ويصلي فيه ركعتين) ادعى الطحاوي أن هذه الزيادة مدرجة، قالها أحد الرواة من عنده لعلمه أنه عليه الصلاة والسلام كان من عادته أنه لا يجلس حتى يصلي، وقد روى النسائي من حديث سهل بن حنيف مرفوعاً: من خرج حتى يأتي مسجد قباء فيصلي فيه كان له عدل عمرة. وعند الترمذي من حديث أسيد بن حضير رفعه: الصلاة في مسجد قباء كعمرة. وعند عمر بن شبة في أخبار المدينة بإسناد صحيح عن سعد بن أبي وقاص قال: لأن أصلي في مسجد قباء ركعتين أحب إلى من أن آتي بيت المقدس مرتين، لو يعلمون ما في قباء لضربوا إليه أكباد الإبل. وفي هذه الأحاديث مع حديث الباب دلالة على فضل قباء، وفضل مسجده، وفضل الصلاة فيه، لكن لم يثبت في ذلك تضعيف بخلاف المساجد الثلاثة. قال بعضهم حديث ابن عمر يدل على أن النهي عن شد الرحال لغير المساجد الثلاثة ليس على التحريم لكون النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتي قباء ماشياً وراكباً، وتعقب بأن مجيئه - صلى الله عليه وسلم - إلى قباء إنما كان بلا سفر، فهو غير مخالف لحديث النهي، فلا يكون قرينة على كون النهي فيه للتنزيه. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصلاة، ومسلم في الحج، وأخرجه أيضاً أبوداود في الحج.

701- (8) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها)) رواه مسلم. 702- (9) وعن عثمان رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من بنى لله مسجدا، بنى الله له بيتاً في الجنة)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ 701- قوله: (أحب البلاد) أي أحب أماكن البلاد وبقاعها، ويمكن أن يراد بالبلد مأوى الإنسان فلا تقدير. (إلى الله مساجدها) ؛ لأنها بيوت الطاعة، وأساس التقوى، ومحل تنزل الرحمة، وموضع التقرب إلى الله تعالى. (وأبغض البلاد إلى الله أسواقها) ؛ لأنها محل أفعال الشياطين من الحرص والطمع والخيانة والغش والخداع والربا والأيمان الكاذبة، وإخلاف الوعد، والفتن والغفلة، فالمراد محبة وبغض ما يقع فيهما. وقيل: المعنى أي من يمكث في المساجد أحب إلى الله ممن يمكث في غيرها إذ المحبة الإثابة، ولا معنى لإثابة نفس المساجد، فالمراد الماكث فيها لذكر الله أو اعتكاف أو نحوهما. وكذا المراد بغض من في الأسواق لتعاطيه الأيمان الكاذبة، والغش، والأعراض الفانية لا بغض نفس الأسواق، نظير ما ورد في مدح الدنيا وذمها، فالمراد مدح من قام بحقوق الله تعالى فيها وذم ضده. وقال النووي: الحب والبغض من الله تعالى إرادته الخير والشر، أو فعله ذلك بمن أسعده أو أشقاه. والمساجد محل نزول الرحمة والأسواق ضدها، وهي جمع سوق سمى به لأن الأشياء تساق للبيع، أو لأن الناس تمشي فيه للبيع والشراء على سوقها جمع ساق. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً ابن حبان وأخرجه أحمد والحاكم عن جبير بن مطعم. 702- قوله: (من بنى) حقيقة أو مجازاً. (لله) أي يبتغي به وجه الله لا رياء وسمعة. قال ابن الجوزي: من كتب اسمه على المسجد الذي يبنيه كان بعيداً من الإخلاص- انتهى. ومن بناه بالأجرة لا يحصل له هذا الوعد المخصوص لعدم الإخلاص وإن كان يؤجر في الجملة، وهل يحصل الثواب المذكور لمن جعل بقعة من الأرض مسجداً بأن يكتفي بتحويطها من غير بناء؟ وكذا من عمد إلى بناء كان يملكه فوقفه مسجدا؟ وإن وقفنا مع ظاهر اللفظ فلا، وإن نظرنا إلى المعنى فنعم، وهو المتجه. وكذا قوله "بنى" حقيقة في المباشرة بشرطها لكن المعنى يقتضي دخول الأمر بذلك أيضاً، قاله الحافظ. (مسجداً) أي كبيراً كان أو صغيراً، فقد رواه الترمذي عن أنس مرفوعاً بزيادة لفظ "صغيراً كان أو كبيراً"، ويدل لذلك رواية "كمفحص قطاة"، وهي مرفوعة ثابتة عند ابن أبي شيبة عن عثمان، وابن حبان والبزار عن أبي ذر، وأبي مسلم الكجي من حديث ابن عباس، والطبراني عن أبي بكر، وابن خزيمة عن جابر. وحمل ذلك العلماء على المبالغة وقيل: هي على ظاهرها. (بنى الله) إسناد البناء إلى الله تعالى مجاز أي أمر الملائكة ببنائه، أو البناء مجاز عن الخلق والإسناد حقيقة، وأبرز الفاعل تعظيماً وافتخاراً. (بيتاً في الجنة) زاد الشيخان في رواية "مثله" وكذا الترمذي، وقد اختلف في معنى المماثلة، فقيل: مثله في الشرف والفضل والتوقير؛ لأنه جزاء المسجد فيكون مثلاً له في صفات الشرف. وقيل: مثله في مسمى

703- (10) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من غدا إلى المسجد أو راح، أعد الله له نزله من الجنة كلما غدا أو راح)) متفق عليه. 704- (11) وعن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أعظم الناس أجرا في الصلاة، أبعدهم فأبعدهم ممشى، ـــــــــــــــــــــــــــــ البيت، وأما صفته في السعة وغيرها فمعلوم فضلها، فإنها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وقيل: المراد أن فضله على بيوت الجنة كفضل المسجد على بيوت الدنيا، وقيل: غير ذلك. وقوله "في الجنة" متعلق ببنى أو بمحذوف صفة لبيتاً. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وابن ماجه، وفي الباب عن جماعة من الصحابة. ذكر أحاديثهم مع تخريجها شيخنا في شرح الترمذي. 703- قوله: (من غدا إلى المسجد أو راح) قيل: المراد بالغدو هنا مطلق الذهاب للمسجد في أي وقت كان، وبالرواح الرجوع منه، أي من ذهب للصلاة في المسجد ورجع، والأصل في الغدو المضي من بكرة النهار، والرواح بعد الزوال، ثم قد يستعملان في كل ذهاب ورجوع توسعاً. وظاهر الحديث حصول الفضل لمن أتى المسجد مطلقاً، لكن المقصود منه اختصاصه بمن يأتيه للعبادة، والصلاة رأسها. (أعد) أي هيأ من الإعداد. (نزله) بضم النون والزاي: المكان الذي يهيأ للنزول فيه. وبسكون الزاي: ما يهيأ للقادم من الضيافة ونحوها. فعلى هذا "من" في قوله: (من الجنة) للتبعيض على الأول، وللتبيين على الثاني. (كلما غدا أو راح) قال الطيبي: النزل ما هيأ للنزيل، و"كلما غدا" ظرف وجوابه ما دل عليه ما قبله، وهو عامل فيه، والمعنى: كلما استمر غدوه ورواحه استمر إعداد نزله في الجنة، فالغدو والرواح في الحديث كالبكرة والعشي في قوله تعالى: {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً} [19: 62] يراد بها الديمومة لا الوقتان المعلومان. قال المظهر: من عادة الناس أن يقدموا طعاماً إلى من دخل بيوتهم، والمسجد بيت الله، فمن دخله أي وقت كان من ليل أو نهار يعطيه الله أجره من الجنة؛ لأن الله أكرم الأكرمين فلا يضيع أجر المحسنين- انتهى. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد. 704- قوله: (أعظم الناس أجراً) أي أكثرهم ثواباً. (في الصلاة) أي في الإتيان إليها. (أبعدهم فأبعدهم ممشى) بفتح الميم الأولى وسكون الثانية أي مسافة، وهو منصوب على التمييز يعني أبعدهم مسافة إلى المسجد، وإنما كان أعظم أجراً لما يحصل في بعيد الدار عن المسجد من كثرة الخطا، وفي كل خطوة عشر حسنات كما رواه أحمد. فإن قيل: روى أحمد في مسنده (ج5: ص387، 399) عن حذيفة مرفوعاً: أن فضل الدار القريبة يعني من المسجد على الدار البعيدة

والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجراً من الذي يصلي ثم ينام)) متفق عليه. 705- (12) وعن جابر، قال: ((خلت البقاع حول المسجد، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال لهم: بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد. قالوا: نعم يا رسول الله! قد أردنا ذلك. فقال: يا بني سلمة! دياركم، تكتب آثاركم، دياركم، تكتب آثاركم)) ـــــــــــــــــــــــــــــ كفضل الغازي على القاعد. أي من الجهاد. فالجواب أن هذا في نفس البقعة، وذاك في الفعل، فالبعيد داراً مشيه أكثر وثوابه أعظم، والبيت القريب أفضل من البعيد، قاله العلقمي. قلت: حديث حذيفة هذا ضعيف لضعف علي بن يزيد أبي عبد الملك الدمشقي، وقد رواه عن حذيفة بلاغاً. وفاء "فأبعدهم" قال البرماوي كالكرماني والطيبي: للاستمرار نحو الأمثل فالأمثل والأكمل فالأكمل. وتعقبه العيني بأنه لم يذكر أحد من النحاة أن الفاء تجيء بمعنى الاستمرار، ثم رجح كونها بمعنى ثم أي أبعدهم ثم أبعدهم ممشى. وقال السندي في حاشية ابن ماجه: الفاء للترتيب أي الأبعد على مراتب البعد أعظم أجراً من الأقرب على مراتب القرب، فكل من كان أبعد فهو أكثر أجراً ممن كان أقرب منه، ولو كان هذا الأقرب أبعد من غيره، فأجره أكثر من ذلك الغير. والمراد أنه إذا حضر المسجد مع ذلك البعد ولم يمنعه البعد عن الحضور. (حتى يصليها مع الإمام) زاد مسلم "في جماعة". (أعظم أجراً من الذي يصلي) أي وحده. (ثم ينام) أي يستريح بخروجه من عهدة ما عليه، فكما أن بعد المكان مؤثر في زيادة الأجر كذلك طول الزمان، للمشقة فيهما، فأجر منتظر الإمام أعظم من أجر من صلى منفرداً من غير انتظار، وفائدة قوله "ثم ينام" الإشارة إلى الاستراحة المقابلة للمشقة التي في ضمن الانتظار، وقيل: الحديث في صلاة العشاء لقوله: ثم ينام. وظاهر الحديث يقضى أن تأخير الصلاة للجماعة أفضل من تقديمها أول الوقت ولو مع الجماعة لزيادة أجره بمشقة الانتظار، وليس مراداً إذ يعارضه الأخبار الدالة على طلب الصلاة أول الوقت. وقد استنبط من الحديث بعضهم استحباب قصد المسجد البعيد ولو كان بجنبه مسجد قريب، وإنما يتم ذلك إذ لم يلزم من ذهابه إلى البعيد هجر القريب، وإلا فإحياءه بذكر الله أولى، وكذا إذا كان في البعيد مانع من الكمال كأن يكون إمامه مبتدعاً. (متفق عليه) وأخرجه أحمد وأبوداود وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجرا. 705- قوله: (خلت البقاع) بكسر الباء. (حول المسجد) أي أطرافه قريبا منه. (فأراد بنو سلمة) بكسر اللام، قبيلة معروفة من الأنصار. (قرب المسجد) منصوب بنزع الخافض، أي إلى مكان بقربه. (فبلغ ذلك) أي انتقالهم. (دياركم) نصب على الإغراء، أي الزموا دياركم. (تكتب) يروي بالجزم على جواب الزموا ويجوز الرفع على الاستئناف. (آثاركم) جمع أثر، يعني الزموا دياركم فإنكم إذا لزمتموها كتبت خطاكم الكثيرة إلى المسجد. قال الطيبي: بنو سلمة بطن

رواه مسلم. 706- (13) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ـــــــــــــــــــــــــــــ من الأنصار، وليس في العرب سلمة- بكسر اللام- غيرهم، كانت ديارهم بعيدة من المسجد، وكان يجهدهم في سواد الليل وعند وقوع الأمطار واشتداد البرد، فأرادوا أن يتحولوا قرب المسجد، فكره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تعرى جوانب المدينة، فرغبهم فيما عند الله من الأجر على نقل الخطا. والمراد بالكتابة أن تكتب في صحف الأعمال، أي كثرة الخطا سبب لزيادة الأجر- انتهى. وفي الحديث أن أعمال البر إذا كانت خالصة تكتب آثارها حسنات. وفيه استحباب السكنى بقرب المسجد للفضل إلا لمن حصلت به منفعة أخرى، أو أراد تكثير الأجر بكثرة المشي ما لم يحمل على نفسه، ووجهه أنهم طلبوا السكنى بقرب المسجد للفضل الذي علموه منه فما أنكر عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك بل رجح درء المفسدة بإخلائهم جوانب المدينة على المصلحة المذكورة، وأعلمهم بأن لهم في التردد إلى المسجد من الفضل ما يقوم مقام السكنى بقرب المسجد أو يزيد عليه. (رواه مسلم) وأخرج البخاري قريباً من معناه من حديث أنس، وروى ابن ماجه وغيره عن ابن عباس بسند قوي، قال: كانت الأنصار بعيدة منازلهم من المسجد فأرادوا أن يقتربوا فنزلت: {ونكتب ما قدموا وآثارهم} [36: 12] قال فثبتوا. 706- قوله: (سبعة) أي سبعة أشخاص أو سبعة من الناس، وهذا العدد لا مفهوم له، فقد وردت أحاديث بزيادة على ذلك لا تخفى على من تتبع دواوين الحديث، وقد أفردها الحافظ بتأليف سماه معرفة الخصال الموصلة إلى الظلال، وتتبعها السيوطي فأوصلها إلى سبعين خصلة، وأفردها في المؤلف بالأسانيد ثم اختصره. (يظلهم الله) جملة في محل الرفع على أنها خبر للمبتدأ أعني قوله: سبعة، أي يدخلهم (في ظله) إضافة تشريف ليحصل امتياز هذا عن غيره كما يقال للكعبة: بيت الله. مع أن المساجد كلها ملكه، وقيل: المراد بظله كرامته وحمايته وكنفه، يقال: فلان في ظل الملك أي في كنفه وحمايته، والمعنى يحفظهم من كرب الآخرة ويكنفهم في رحمته. قال عياض: وهو أولى الأقوال. وقيل المراد ظل عرشه. ويدل عليه ما رواه سعيد بن منصور بإسناد حسن من حديث سلمان: سبعة يظلهم الله في ظل عرشه- فذكر الحديث، ثم كونهم في ظل عرشه يستلزم ما ذكر من كونهم في كنف الله وكرامته من غير عكس، فهو أرجح وبه جزم القرطبي، ويؤيده أيضاً تقييد ذلك بيوم القيامة كما صرح به في رواية. (يوم لا ظل إلا ظله) أي ظل عرشه على حذف المضاف، والمراد يوم القيامة إذا قام الناس لرب العالمين، وقربت الشمس من الرؤوس، واشتد عليهم حرها، وأخذهم العرق ولا ظل هناك لشيء إلا العرش. قيل: المراد إن ظل العرش يغلب على الشمس بالنسبة إليه فلا يبقى لها

إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ـــــــــــــــــــــــــــــ تأثير الحرارة. (إمام عادل) أي أحدهم إمام عادل، والمراد به صاحب الولاية العظمى، ويلتحق به كل من ولي شيئاً من أمور المسلمين، فعدل فيه لحديث: "إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن الذي يعدلون في حكمهم وأهلهم وما ولوا" رواه مسلم. وأحسن ما فسر به العادل أنه الذي يتبع أمر الله بوضع كل شيء في موضعه من غير إفراط ولا تفريط. وقدمه في الذكر على تاليه لكثرة مصالحه وعموم نفعه. (وشاب) خص الشاب؛ لأن العبادة في الشباب أشق لكثرة الدواعي وغلبة الشهوات وقوة البواعث على إتباع الهوى، فملازمة العبادة مع ذلك أشد وأدل على غلبة التقوى. وفي الحديث: "يعجب ربك من شاب ليست له صبوة". (نشأ) أي نما وتربى وشب. (في عبادة الله) أي حتى توفي على ذلك كما في رواية الجوزقي. وفي حديث سلمان: "أفنى شبابه ونشاطه في عبادة الله". (معلق) بفتح اللام. (بالمسجد) قال القاري: وفي نسخة يعني من المشكاة "في المسجد". قال الحافظ: قوله "معلق في المساجد" هكذا في الصحيحين، وظاهره أنه من التعليق كأنه شبهه بالشيء المعلق في المسجد كالقنديل مثلاً إشارة إلى طول الملازمة بقلبه، وإن كان جسده خارجاً عنه، ويحتمل أن يكون من العلاقة، وهي شدة الحب، ويدل عليه رواية أحمد: معلق بالمساجد. وكذا رواية سلمان: من حبها. قال النووي: معناه شديد الحب لها والملازمة فيها، وليس معناه دوام القعود فيها، يعني أنه كنى به عن انتظاره أوقات الصلاة، فلا يصلي صلاة في المسجد ويخرج منه إلا وهو ينتظر الأخرى ليصليها فيه، يعني أنه كنى به عن انتظاره أوقات الصلاة، فلا يصلي صلاة في المسجد ويخرج منه إلا وهو ينتظر الأخرى ليصليها فيه، فهو ملازم للمسجد بقلبه وإن عرض لجسده عارض، وهذه الخصلة هي المقصودة من هذا الحديث للباب. (ورجلان) مثلاً. (تحابا) بتشديد الباء وأصله تحابيا من التفاعل، أي اشتركا في جنس المحبة وأحب كل منهما الآخر حقيقة لا إظهاراً فقط. (في الله) أي في طلب رضاه أو لأجله لا لغرض دنياوي. (اجتمعا عليه) أي على الحب في الله إن اجتمعا. (وتفرقا عليه) أي على الحب إن تفرقا، يعني يحفظان الحب في الحضور والغيبة. وقال الحافظ: والمراد أنهما داما على المحبة الدينية ولم يقطعاها بعارض دنيوي سواء اجتمعا حقيقة أم لا. حتى فرق بينهما الموت. وذكر المتحابين لا يصير العدد ثمانية؛ لأن معناه: رجل يحب غيره في الله والمحبة أمر نسبي فلا بد لها من المنتسبين، فلذلك قال: رجلان، أو المراد عد الخصال لا عد المتصفين بها. (ورجل ذكر الله) بلسانه أو بقلبه. (خالياً) من الخلو، أي من الناس؛ لأنه أقرب إلى الإخلاص وأبعد من الرياء، أو المراد خالياً من الالتفات إلى غير الله تعالى ولو كان في ملأ، ويؤيده رواية البيهقي: ذكر الله بين يديه، ويؤيد الأول ما وقع في رواية للبخاري وغيره: ذكر الله في خلاء، أي في موضع خال من الناس. (ففاضت عيناه) من الدمع لرقة قلبه، وشدة خوفه من جلاله، أو مزيد شوقه إلى جماله. والفيض انصباب عن امتلاء فوضع موضع الامتلاء للمبالغة، أو المعنى: فاضت أي سالت

ورجل دعته امرأة ذات حسب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)) متفق عليه. 707- (14) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه ـــــــــــــــــــــــــــــ وجرت دموع عينيه، وأسند إلى العين مبالغة، جعلت من فرط البكاء كأنها تفيض بنفسها. (ورجل دعته امرأة) أي إلى الزنا بها. (ذات حسب) بفتحتين، وهو ما يعده الإنسان من مفاخر آبائه، وقيل: الخصال الحميدة له ولآبائه. قال الحافظ: الحسب يطلق على الأصل والمال أيضاً. وفي رواية ذات منصب- بكسر الصاد- أي حسب ونسب شريف ومال. (وجمال) أي مزيد حسن. (فقال) بلسانه زاجراً لها عن الفاحشة، ومعتذراً إليها، أو المراد قال بقلبه زاجراً لنفسه. (إني أخاف الله) زاد في رواية: رب العالمين. قال عياض: خص ذات المنصب والجمال لكثرة الرغبة فيها وعسر حصولها، وهي جامعة للمنصب والجمال لا سيما وهي داعية إلى نفسها، طالبة لذلك، قد أغنت عن مشاق التوصل إلى مراودة ونحوها، فالصبر عنها لخوف الله تعالى- وقد دعت إلى نفسها مع جمعها المنصب والجمال- من أكمل المراتب وأعظم الطاعات، فرتب الله تعالى عليه أن يظله في ظله. (بصدقة) نكرها ليشمل كل ما يتصدق به من قليل وكثير، وظاهره أيضاً يشمل المندوبة والمفروضة، لكن نقل النووي عن العلماء أن إظهار المفروضة أولى من إخفائها. (فأخفاها) قال ابن الملك: هذا محمول على التطوع؛ لأن إعلان الزكاة أفضل. قلت: في كل من الصدقة المندوبة والمفروضة عندي تفصيل. (حتى لا تعلم شماله) الخ. ذكره للمبالغة في إخفاء الصدقة والإسرار بها، وضرب المثل بهما لقربهما وملازمتهما أي لو قدر أن الشمال رجل متيقظ لما علم صدقة اليمين للمبالغة في الإخفاء، فهو من مجاز التشبيه، أو من مجاز الحذف أي حتى لا يعلم ملك شماله، أو حتى لا يعلم من على شماله من الناس، أو هو من باب التسمية الكل بالجزء، فالمراد بشماله نفسه، أي إن نفسه لا تعلم ما تنفق يمينه، ووقع في صحيح مسلم: حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله. وهو مقلوب سهو عند المحققين. وذكر الرجال في هذا الحديث لا مفهوم له، فتدخل النساء، نعم لا يدخلن في الإمامة العظمى، ولا في خصلة ملازمة المسجد؛ لأن صلاتهن في بيتهن أفضل، لكن يمكن في الإمامة حيث يكن ذوات عيال فيعدلن، ولا يقال: لا يدخلن في خصلة من دعته امرأة؛ لأنا نقول إنه يتصور في امرأة دعاها ملك جميل مثلاً للزنا فامتنعت خوفاً من الله مع حاجتها. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصلاة والزكاة والرقاق، وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي في الزهد والنسائي في القضاء. 707- قوله: (صلاة الرجل) أي ثواب صلاته. (تضعف) بضم الفوقية وتشديد العين أي تزاد، يقال: ضعف الشيء، إذا زاد. وضعفته وأضعفته بمعنى، كذا في النهاية. (على صلاته في بيته وفي سوقه) أي منفرداً، إذ الغالب

خمساً وعشرين ضعفاً، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى، لم تزل الملائكة تصلي عليه مادام في مصلاه: اللهم صل عليه، اللهم ارحمه. ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة)) . وفي رواية: قال: ((إذا دخل المسجد كانت الصلاة تحبسه)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ أن من لم يحضر الجماعة في المسجد صلى منفرداً، ولا يلزم من استواء الصلاة في البيت والسوق في المفضولية عن المسجد أن لا يكون أحدهما أفضل من الآخر، وكذا لا يلزم منه أن الصلاة جماعة في البيت أو السوق لا فضل فيها على الصلاة منفرداً، بل الظاهر أن التضعيف المذكور مختص بالجماعة في المسجد، والصلاة في البيت مطلقاً أولى منها في السوق لما ورد من أن الأسواق موضع الشياطين، والصلاة جماعة في البيت وفي السوق أولى من الانفراد. (خمساً وعشرين ضعفاً) بكسر الضاد أي مثلاً، ووجه حذف التاء من "خمساً" بتأويل الضعف بالدرجة أو بالصلاة، وتوضيحه أن ضعفاً مميز مذكر فتجب التاء فقيل بالتأويل المذكور، وفي المصابيح: خمسة وعشرين ضعفاً. وكذا وقع في بعض نسخ البخاري، والمرجع في سر الأعداد إلى علوم النبوة التي قصرت عقول الألباء عن إدراك جملها وتفاصيلها. (وذلك) إشارة إلى التضعيف الذي يدل عليه قوله: تضعف. (أنه إذا توضأ) قال الحافظ: هذا ظاهر في أن الأمور المذكورة علة للتضعيف المذكور، إذ التقدير: وذلك لأنه. فكأنه يقول: التضعيف المذكور سببه كيت وكيت. وإذا كان كذلك فما رتب على موضوعات متعددة لا يوجد بوجود بعضها إلا إذا دل دليل على إلغاء ما ليس معتبراً، أو ليس مقصوداً لذاته، وهذه الزيادة التي في حديث أبي هريرة معقولة المعنى، فالأخذ بها متوجه، والروايات المطلقة لا تنافيها بل يحمل مطلقها على هذه المقيدة. (فأحسن الوضوء) أي أسبغه برعاية السنن والآداب. (لا يخرجه إلا الصلاة) أي قصد الصلاة المكتوبة في جماعة، جملة حالية، والمضارع المنفي إذا وقع حالاً يجوز فيه الواو وتركه. (لم يخط) بفتح أوله وضم الطاء من خطا يخطو خطوا: فتح ما بين قدميه ومشى. (خطوة) بضم أوله ويجوز الفتح، قال الجوهري: الخطوة بالضم ما بين القدمين، وبالفتح المرة الواحدة. وجزم اليعمري: أنها هنا بالفتح، وقال القرطبي: إنها في روايات مسلم بالضم. (تصلي عليه) أي تدعو له بالخير وتستغفر من ذنوبه، وتطلب له الرحمة. (مادام) أي مدة دوامه. (في مصلاه) بضم الميم، أي في المكان الذي أوقع فيه الصلاة من المسجد، وكذا لو قام إلى موضع آخر من المسجد مع دوام نية انتظاره للصلاة، فالأول خرج مخرج الغالب. (اللهم صل عليه) أي لم تزل الملائكة تصلي عليه حال كونهم قائلين ذلك. (اللهم ارحمه) قال الطيبي: طلب الرحمة بعد طلب المغفرة؛ لأن صلاة الملائكة استغفار لهم. (في الصلاة) أي في ثواب صلاة. (ما انتظر الصلاة) أي مادام ينتظرها سواء ثبت في مجلسه الذي صلى فيه من المسجد أم تحول إلى غيره. (وفي رواية: إذا دخل المسجد كانت الصلاة تحبسه) أي تمنعه

وزاد في دعاء الملائكة: ((اللهم اغفر له، اللهم تب عليه. ما لم يؤذ فيه، ما لم يحدث فيه)) . متفق عليه. 708- (15) وعن أبي أسيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ـــــــــــــــــــــــــــــ من الخروج من المسجد، ولم أجد هذه الرواية في الصحيحين، نعم وقع في رواية لهما: إذا دخل المسجد كان في صلاة ما كانت الصلاة هي تحبسه. أي مدة كون الصلاة حابسة له بأن كان جالساً لانتظار الصلاة، أما جلوسه بعد الصلاة لذكر أو اعتكاف مثلاً، فلا يترتب عليه خصوص هذا الثواب وإن كان فيه ثواب عظيم. (وزاد) أي في هذه الرواية، وهذه الزيادة من إفراد مسلم. (اللهم تب عليه) أي وفقه للتوبة وتقبلها منه، أو ثبته عليها. (ما لم يؤذ فيه) أي لا تزال الملائكة داعين له مادام في مصلاه منتظراً للصلاة ما لم يؤذ في مجلسه أحداً من المسلمين بقوله أو فعله. وقيل: أي ما لم يؤذ الملائكة، وإيذاءه إياهم بالحدث في المسجد، وهو معنى قوله. (ما لم يحدث) من أحدث أي ما لم ينقض وضوءه. وظاهره عموم النقض لغير الاختيار أيضاً، ويحتمل الخصوص، ولفظ البخاري: اللهم اغفر له اللهم ارحمه، ما لم يؤذ يحدث فيه. قال الحافظ: كذا للأكثر بالفعل المجزوم على البدلية، ويجوز بالرفع على الاستئناف. وللكشمهيني: ما لم يؤذ بحدث فيه. بلفظ الجار والمجرور متعلقاً بيؤذ. وقال الكرماني: وفي بعض النسخ: ما لم يحدث فيه. بطرح لفظ يؤذ، أي ما لم ينقض الوضوء، فالمراد بالحدث الناقض للوضوء، ويدل عليه ما روي: أن أبا هريرة لما روى هذا الحديث قال له أبورافع: ما يحدث؟ قال: يفسو أو يضرط، وهو في بعض طرق الحديث عند مسلم، وقيل: يحتمل أن يكون المراد بالحدث هنا أعم من الحدث الناقض للوضوء، أي ما لم يحدث سوء، ويدل عليه رواية أبي داود: ما لم يؤذ فيه أو يحدث فيه؛ لأنه عطف قوله: أو يحدث. على قوله: لم يؤذ فيه. قال ابن المهلب: معنى الحديث أن الحدث في المسجد خطيئة يحرم بها المحدث استغفار الملائكة ودعائهم المرجو بركته. وقيل: إخراج الريح من الدبر لا يحرم، لكن الأولى اجتنابه؛ لأن الملائكة تتأذى بما يتأذى منه بنو آدم، كما يأتي في الحديث، ويؤخذ منه أن الحدث الأصغر وإن منع دعاء الملائكة لا يمنع جواز الجلوس في المسجد، كذا في المرقاة. قال الحافظ: في الحديث دليل على أن الحدث في المسجد أشد من النخامة؛ لأن لها كفارة ولم يذكر لهذا كفارة بل عومل صاحبه بحرمان استغفار الملائكة، ودعاء الملائكة مرجو الإجابة، لقوله تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} [21: 28] قال: واستدل بالحديث على أفضلية الصلاة على غيرها من الأعمال لما ذكر من صلاة الملائكة عليه، ودعائهم له بالرحمة والمغفرة والتوبة. (متفق عليه) واللفظ إلى قوله: ما انتظر الصلاة. للبخاري، ولمسلم معناه. وأما قوله: اللهم تب عليه، الخ. فهو من إفراد مسلم كما تقدم، والحديث أخرجه أيضاً أحمد وأبوداود، وابن ماجه بنحوه. 708- قوله: (عن أبي أسيد) بضم الهمزة وفتح السين المهملة وسكون الياء، اسمه مالك بن ربيعة بن البدن الساعدي الخزرجي مشهور بكنيته، صحابي جليل، شهد بدراً والمشاهد كلها، له ثمانية وعشرون حديثاً، اتفقا على حديث

إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك. وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك)) رواه مسلم. 709- (16) وعن أبي قتادة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين ـــــــــــــــــــــــــــــ وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بآخر، مات سنة (30) وقيل: بعد ذلك حتى قال المدائني: مات سنة (60) وله. (87) سنة بعد ما ذهب بصره، قال: هو آخر من مات من البدريين. (إذا دخل أحدكم المسجد) أي أراد دخوله عند وصول بابه. (فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك) وفي رواية أي داود: فليسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم ليقل: اللهم افتح لي، الخ.. (وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك) قال النووي: في الحديث استحباب هذا الذكر، وقد جاءت فيه أذكار كثيرة غير هذا في سنن أبي داود وغيره ومختصر مجموعها: أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم، بسم الله والحمدلله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وسلم، اللهم اغفرلي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك. وفي الخروج يقوله لكن يقول: اللهم إني أسألك من فضلك-انتهى. وتخصيص الرحمة بالدخول والفضل بالخروج؛ لأن الرحمة في كتاب الله أريد به النعم النفسانية والأخروية. قال تعالى: {ورحمة ربك خير مما يجمعون} [43: 32] ، والفضل على النعم الدنيوية، قال تعالى: {لا جناح عليكم أن تبتغوا فضلاً من ربكم} [2: 198] وقال. {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} [62: 10] ومن دخل المسجد يطلب القرب من الله، ويشتغل بما يزلفه إلى ثوابه وجنته فيناسب ذكر الرحمة، والخروج وقت ابتغاء الرزق فناسب ذكر الفضل. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أبوداود، وكلاهما من حديث أبي حميد. (اسمه عبد الرحمن بن سعد الساعدي) أو أبي أسيد على الشك، والنسائي عنهما من غير شك، وابن ماجه عن أبي حميد وحده. 709- قوله: (إذا دخل أحدكم المسجد) عمومه يشمل أوقات الكراهة أيضاً. فقيل: هذا الحديث مخصوص بغير أوقات الكراهة، وقيل: بل محمول على عمومه، والكراهة في تلك الأوقات مخصوصة بالصلاة التي لا يكون لها سبب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بعد العصر قضاء سنة الظهر فخص وقت النهي، وصلى به ذات السبب، ولم يترك التحية في حال من الأحوال بل أمر الذي دخل المسجد يوم الجمعة وهو يخطب فجلس أن يقوم فيركع ركعتين مع أن الصلاة في حال الخطبة ممنوع منها إلا التحية، فلو كانت التحية تترك في حال من الأحوال لتركت الآن؛ لأنه قعد وهي مشروعية قبل القعود، ولأنه كان يجهل حكمها، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع خطبته وكلمه وأمره أن يصلي التحية، فلولا شدة الاهتمام بالتحية في جميع الأوقات لما اهتم هذا الاهتمام، قاله النووي. (فليركع ركعتين) أي فليصل ركعتين يعني تحية المسجد أو ما يقوم مقامهما من صلاة فرض أو سنة تعظيماً للمسجد. قال النووي: لا يشترط أن ينوي التحية بل تكفيه ركعتان من فرض

قبل أن يجلس)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وسنة راتبة أو غيرهما، ولو نوى بصلاته التحية والمكتوبة انعقدت صلاته وحصلتا له –انتهى. قال الحافظ: قوله: ركعتين. هذا العدد لا مفهوم لأكثره بالاتفاق، واختلف في أقله، والصحيح اعتباره فلا تتأدى هذه السنة بأقل من ركعتين. واتفق أئمة الفتوى على أن الأمر في ذلك للندب. ونقل ابن بطال عن أهل الظاهر: الوجوب، والذي صرح به ابن حزم عدمه، ومن أدلة عدم الوجوب قوله - صلى الله عليه وسلم - للذي رآه يتخطى: اجلس فقد آذيت. ولم يأمره بصلاة، كذا استدل به الطحاوي وغيره، وفيه نظر-انتهى. قال شيخنا: لعل وجه النظر أنه لا مانع له من أن يكون قد فعلها في جانب من المسجد قبل وقوع التخطي منه، أو أنه كان ذلك قبل وقوع الأمر بها والنهي عن تركها. ومن أدلة عدم الوجوب ما أخرجه ابن أبي شيبة عن زيد بن أسلم، قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخلون المسجد، ثم يخرجون ولا يصلون. ومشروعية تحية المسجد لا تختص بمن قصد الجلوس في المسجد بل تسن لكل من دخل أراد الجلوس فيه أو لا. ومن أدلة عدم الوجوب حديث كعب بن مالك في تخلفه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك، وفيه حتى جئت أي إلى المسجد فلما سلمت أي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تبسم تبسم المغضب، ثم قال: تعالى، فجئت حتى جلست بين يديه. الحديث، وفيه: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك، فقمت فمضيت. فقوله: حتى جئت، الخ. يدل بظاهره على أنه جلس بلا صلاة، وقوله: فمضيت. على أنه خرج بلا صلاة، وقد استنبط منه النسائي في سننه الرخصة في الجلوس في المسجد والخروج منه بغير صلاة. قال الخطابي: في حديث أبي قتادة من الفقة أنه إذا دخل المسجد كان عليه أن يصلي ركعتين تحية المسجد قبل أن يجلس، سواء كان ذلك في جمعة أو غيرها، كان الإمام على المنبر أو لم يكن؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عم ولم يخص. قلت: هذا هو الصحيح، وقد جاء مصرحاً في حديث جابر أن رجلاً جاء والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب، فقال: أصليت يا فلان؟ قال: لا، قال: قم فاركع. وقد تقدم الإشارة إليه في كلام النووي. واختلفوا فيمن جاء المسجد وقد ركع ركعتي الفجر في بيته، هل يركع عند دخوله المسجد أم لا؟ فقال الشافعي: يركع. وهي رواية أشهب عن مالك. وقال أبوحنيفة: لا يركع. وهي رواية ابن القاسم عن مالك. قال ابن رشد: وسبب اختلافهم معارضة الأمر قوله عليه السلام: لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتي الصبح. فههنا عمومان وخصوصان: أحدهما في الزمان والآخر في الصلاة، وذلك أن حديث الأمر بالصلاة عام في الزمان، خاص في الصلاة، وحديث النهي عام في الصلاة، خاص في الزمان، فمن استثنى خاص الصلاة من عامها رأى الركوع بعد ركعتي الفجر، ومن استثنى خاص الزمان من عامه لم يوجب ذلك –انتهى. (قبل أن يجلس) الظاهر أنه خرج مخرج الغالب من فعل الصلاة من قيام، فلو جلس ليأتي بها وأتى بها فوراً من قعود جاز، وكذا لو أحرم بها قائماً ثم أراد القعود لإتمامها. قال ابن رسلان: المراد بالركعتين الإحرام بهما حتى لو صلاهما قاعداً كفى سواء أحرم قائماً ثم جلس أو أحرم جالساً

710- (17) وعن كعب بن مالك، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقدم من سفر إلا نهاراً في الضحى، فإذا قدم بدأ بالمسجد، فصلى فيه ركعتين، ثم جلس فيه)) متفق عليه. 711- (18) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد، فليقل: لا ردها الله عليك، ـــــــــــــــــــــــــــــ واتصل إحرامه بأول جلوسه؛ لأن النهي عن جلوس في غير صلاة-انتهى. ثم إنه إذا خالف وجلس قبل أن يصلي يشرع له التدارك ولا تفوت بالجلوس؛ لما روى ابن حبان في صحيحه من حديث أي ذر أنه دخل المسجد فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: أركعت ركعتين؟ قال: لا، قال: قم فأركعهما. ترجم عليه ابن حبان أن تحية المسجد لا تفوت بالجلوس، ومثله قصة سليك الغطفاني. ويحتمل أن تحمل مشروعيتهما بعد الجلوس على ما إذا لم يطل الفصل. قال القاري: وما يفعله بعض العوام من الجلوس أولاً ثم القيام للصلاة ثانياً باطل لا أصل له. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً مالك وأحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه. 710- قوله: (لا يقدم) بفتح الدال أي لا يرجع. (إلا نهاراً في الضحى) بضم المعجمة والقصر، وهو وقت تشرق الشمس، قيل: الحكمة في ذلك أنه وقت نشاط فلا مشقة على أصحابه في المجيء إليه بخلاف نصف النهار فإنه وقت نوم وراحة، وبخلاف أواخره لأنه وقت اشتغال بأسباب العشاء ونحوه، وبخلاف الليل فإنه يشق الحركة فيه. (بدأ بالمسجد) أي بدخوله. (فصلى فيه ركعتين) هذا فعله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يتوهم أنه من خصائصه؛ لأنه قد أمر جابراً بصلاة القدوم من السفر، وحديثه عند الشيخين وغيرهما، وفي الحديثين استحباب ركعتين للقادم من سفره في المسجد أول قدومه، وهذه الصلاة مقصودة للقدوم من السفر ينوي بها صلاة القدوم، لا أنها تحية المسجد التي أمر الداخل بها قبل أن يجلس لكن تحصل التحية بها. (ثم جلس فيه) قبل أن يدخل بيته ليزوره المسلمون شفقة على خلق الله. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي، وهو طرف من حديث طويل لكعب بن مالك في قصة تخلفه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك وتوبته. 711- قوله: (ينشد ضالة) أي يطلبها برفع الصوت، وينشد بفتح الياء وضم الشين، يقال: نشد الضالة أي نادى وسأل عنها وطلبها، وهو من النشد رفع الصوت، والضالة تطلق على الذكر والأنثى، والجمع ضوال كدابة ودواب، وهي مختصة بالحيوان الضائع، ويقال لغير الحيوان ضائع ولقيط. (في المسجد) متعلق بينشد. (فليقل) أي السامع يعني عقوبة له لارتكابه في المسجد ما لا يجوز، وظاهره أنه يقوله جهراً. (لا ردها الله عليك) معناه ما رد الله الضالة إليك

فإن المساجد لا تبن لهذا)) رواه مسلم. 712- (19) وعن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أكل من هذه الشجرة المنتنة، ـــــــــــــــــــــــــــــ وما وجدتها. قال السندي: يحتمل أنه دعاء عليه، فكلمة لا لنفي الماضي، ودخولها على الماضي بلا تكرار جائز في الدعاء، وفي غير الدعاء الغالب هو التكرار كقوله تعالى: {فلا صدق ولا صلى} [75: 31] ويحتمل أن لا ناهية أي لا تنشد، وقوله: ردها الله عليك، دعاء له لإظهار أن النهي عنه نصح له، إذا الداعي بالخير لا ينهى إلا نصحاً، لكن اللائق حينئذٍ الفصل بأن يقال: لا، وردها الله عليك، بالواو؛ لأن تركها يوهم، إلا أن يقال: الموضع موضع زجر، ولا يضر به الإبهام لكونه إيهام شيء هو آكد في الزجر-انتهى. (فإن المساجد لم تبن لهذا) أي لنشدان الضالة ونحوه، بل بنيت لذكرالله والصلاة، والعلم والمذاكرة في الخير، ونحوهما. وقوله: فإن المساجد، الخ. يحتمل أنه في حيز القول فلا بد أن يقوله القائل تعليلاً لقوله، ويؤيده حديث بريدة عند مسلم: أن رجلاً نشد في المسجد فقال: من دعا إلى الجمل الأحمر فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا وجدته، إنما بنيت المساجد لما بنيت له. ويحتمل أنه تعليل لقوله فليقل، فلا حاجة إلى أن يقول. والحديث دليل على تحريم السؤال برفع الصوت عن ضالة الحيوان في المسجد، وهل يلحق به السؤال عن غيرها من المتاع ولو ذهب في المسجد؟ قيل: يلحق للعلة، وهي قوله: فإن المساجد لم تبن لهذا، وإن من ذهب عليه متاع فيه أو في غيره قعد في باب المسجد يسأل الخارجين والداخلين إليه. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود وابن ماجه. 712- قوله: (من هذه الشجرة المنتنة) بضم الميم وكسر التاء الفوقية من أنتن الشيء أي خبثت رائحته، يعني بها الثوم كما وقع في رواية للشيخين، وفي رواية لمسلم: من أكل البصل والثوم والكراث. وفي قوله: شجرة، مجاز؛ لأن المعروف في اللغة أن الشجرة ما كان لها ساق، وما لا ساق له يقال له: نجم، وبهذا فسر ابن عباس قوله تعالى. {والنجم والشجر يسجدان} [55: 6] ومن أهل اللغة من قال: كل ما ثبت له أرومة أي أصل في الأرض يخلف ما قطع من ظاهرها فهو شجر، وما ليس لها أرومة تبقى فهو نجم. قال العيني: فإن قلت على ما ذكر: كيف أطلق الشجر على الثوم ونحوه، قلت: قد يطلق كل منهما على الآخر، وتكلم أفصح الفصحاء به من أقوى الدلائل-انتهى. والمراد بالثوم في الحديث النيئ منه، وأما المطبوخ فلا كراهة فيه لما روى أبوداود والترمذي من حديث علي قال: نهى عن أكل الثوم إلا مطبوخاً، ولما يأتي في الفصل الثاني من حديث معاوية بن قرة، عن أبيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن هاتين الشجرتين-الحديث. وفيه: إن كنتم لابد آكليهما فأميتوهما طبخاً. فهذان الحديثان يفيدان تقييد ما ورد من الأحاديث المطلقة في النهي. ويلحق بما نص عليه في الحديث من الثوم في رواية، والبصل والكراث في أخرى، والفجل في رواية

فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنس)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ المعجم الصغير للطبراني، كل ما له رائحة كريهة من المأكولات وغيرها لاسيما التتن والتبغ والتنباك والسيجارة، وإنما خص الثوم والبصل والكراث والفجل بالذكر لكثرة أكلهم بها. (قلا يقربن) بفتح الراء والباء الموحدة وبنون التأكيد المشددة. (مسجدنا) يريد به المكان الذي أعد ليصلى فيه مدة إقامته بخيبر، لأن القول المذكور صدر منه - صلى الله عليه وسلم - عقب فتح خيبر، أو المراد بالمسجد الجنس، والإضافة إلى المسلمين أي فلا يقربن مسجد المسلمين، ويؤيده رواية أحمد بلفظ "فلا يقربن المساجد" ونحوه لمسلم، وهذا يدفع قول من خص النهي بمسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن لفظ المساجد لا يساعده، وكذا التعليل يتأذى الملائكة؛ لأن ذلك يوجد في المساجد كلها، ثم إن ظاهر التقييد بالمساجد يقتضي أن قربهم في الأسواق غير منهي عنه، ويؤيده التعليل؛ لأن المساجد محل اجتماع الملائكة دون الأسواق، وكان المقصود مراعاة الملائكة الحاضرين في المساجد الخيرات، وإلا فالإنسان لا يخلو عن صحبة ملك فينبغي له دوام الترك لهذه العلة، قاله السندي. قلت: قد وقع في حديث أنس عند الشيخين "فلا يقربنا" قال الحافظ: ليس في هذا تقييد النهي بالمسجد فيستدل بعمومه على إلحاق المجامع بالمساجد كمصلى العيد والجنازة، ومكان الوليمة، وقد ألحقها بعضهم بالقياس، والتمسك بهذا العموم أولى، ونظيره قوله: وليقعد في بيته. لكن قد علل المنع في الحديث بترك أذى الملائكة وترك أذى المسلمين. (كما في حديث أبي هريرة عند مسلم: "فلا يقربن مسجدنا ولا يؤذينا بريح الثوم" فإن كان كل منهما جزء علة اختص النهي بالمساجد وما في معناها، وهذا هو الأظهر، وإلا لعم النهي كل مجمع كالأسواق-انتهى. وقال ابن دقيق العيد: والظاهر أن كل واحد منهما علة مستقلة- انتهى. وعلى هذا الأسواق كغيرها من مجامع العبادات. (فإن الملائكة تتأذى) أريد بهم الحاضرون مواضع العبادات عامة، ويدل هذا التعليل على أنه لا يدخل المسجد وإن كان خالياً عن الإنسان؛ لأنه محل ملائكة، فقوله: مما يتأذى منه الإنس-بكسر الهمزة- يكون محمولاً على تقدير وجودهم فيه. والحديث يدل على جواز أكل الثوم وغيره من البقول مما فيه رائحة كريهة مطبوخاً كان أو غير مطبوخ لمن قعد في بيته، وعند حضور المسجد إذا كان مطبوخاً لئلا يؤذي برائحته الخبيثة من يحضره من الملائكة وبني آدم، فالنهي إنما هو عن حضور المسجد بعد أكل الثوم النيئ ونحوه لا عن أكل الثوم والبصل ونحوهما، فهذه البقول حلال لقوله - صلى الله عليه وسلم -: كل فإني أناجي من لا تناجي. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: أيها الناس ليس لي تحريم ما أحل الله لي. وشذ أهل الظاهر فحرموا هذه الأشياء لإفضائها إلى ترك الجماعة، وهي عندهم فرض عين، وتقريره أن يقال: صلاة الجماعة فرض، ولا تتم إلا بترك أكلها وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فترك أكلها واجب، فتكون حراماً، كذا نقله ابن دقيق العيد وغيره عن أهل الظاهر، لكن صرح ابن حزم منهم بان أكلها حلال مع قوله: بأن الجماعة فرض عين، وانفصل عن اللزوم المذكور بأن المنع من أكلها مختص بمن علم بخروج الوقت قبل زوال الرائحة، ونظيره أن صلاة الجمعة فرض عين بشروطها ومع ذلك تسقط بالسفر، وهو في أصله مباح لكن يحرم

متفق عليه. 713- (20) وعن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((البزاق في المسجد خطيئة، ـــــــــــــــــــــــــــــ على من أنشأه بعد سماع النداء، قلت: الحديث قد استدل به على أن صلاة الجماعة ليست فرض عين، قال ابن دقيق العيد: وتقريره أن يقال: أكل هذه الأمور جائز، ومن لوازمه ترك صلاة الجماعة في حق آكلها، ولازم الجائز جائز، فيكون ترك صلاة الجماعة في حق آكلها جائزاً، وذلك ينافي الوجوب، قال: وقد يستدل بهذا الحديث على أن أكل هذه الأمور من الأعذار المرخصة في ترك حضور الجماعة، وقد يقال: إن هذا الكلام خرج مخرج الزجر عنها فلا يقتضي ذلك أن يكون عذراً في تركها إلا أن تدعو إلى أكلها ضرورة، قال: ويبعد هذا من وجه تقريبه إلى بعض أصحابه فإن ذلك ينفي الزجر-انتهى. (متفق عليه) واللفظ لمسلم، وأخرجه أيضاً أحمد، والترمذي في الأطعمة والنسائي في الصلاة وفي الباب روايات عن جماعة من الصحابة عند الشيخين وغيرهما بألفاظ متقاربة. 713- قوله: (البزاق) أي إلقاءه، وهو بضم الباء بعدها زاي، وفي رواية لمسلم "التفل" بدل البزاق، وفي رواية النسائي: البصاق بالصاد والتفل بفتح المثناة فوق وسكون الفاء هو البزاق والبصاق، وهما ماء الفم إذا خرج منه، ومادام فيه فهو ريق. (في المسجد) أي في أرضه وجدرانه، قال الحافظ: قوله: في المسجد. ظرف للفعل فلا يشترط كون الفاعل فيه حتى لو بصق من هو خارج المسجد فيه تناوله النهي. (خطيئة) بالهمزة أي إثم وفي رواية لأحمد: سيئة، ومثل البزاق المخاط والنخامة بل أولى. قال القاضي عياض: إنما يكون خطيئة إن لم يدفنه، فمن أراد دفنه فلا، ورده النووي فقال: هو خلاف صريح الحديث، فالبزاق في المسجد عنده خطيئة مطلقاً أراد دفنه أو لا. قال الحافظ: وحاصل النزاع أن ههنا عمومين تعارضا وهما قوله: البزاق في المسجد خطيئة. وقوله: وليبصق عن يساره أو تحت قدمه، فالنووي يجعل الأول عاماً ويخص الثاني بما إذا لم يكن في المسجد، والقاضي بخلافه يجعل الثاني عاماً ويخص الأول بمن لم يرد دفنها. وقد وافق القاضي جماعة منهم ابن مكي في التنقيب، والقرطبي في المفهم، ويشهد لهم ما رواه أحمد والطبراني بإسناد حسن من حديث أبي أمامة مرفوعاً، قال: من تنخع في المسجد فلم يدفنه فسيئة، وإن دفنه فحسنة، فلم يجعله سيئة إلا بقيد عدم الدفن، ونحوه حديث أبي ذر عند مسلم مرفوعاً قال: وجدت في مساوئ أعمال أمتي النخاعة تكون في المسجد لا تدفن. قال القرطبي: فلم يثبت لها حكم السيئة بمجرد إيقاعها في المسجد بل به وبتركها غير مدفونة-انتهى. ومما يدل على أن عمومه مخصوص جواز ذلك في الثواب ولو كان في المسجد بلا خلاف، وعند أبي داود من حديث عبد الله بن الشخير أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فبصق تحت قدمه اليسرى ثم دلكه بنعله. إسناده صحيح، وأصله في مسلم، والظاهر أن ذلك كان في المسجد فيؤيد ما تقدم. وتوسط بعضهم فحمل الجواز على ما إذا كان له عذر كأن لم يتمكن من الخروج من المسجد، والمنع على ما إذا لم يكن له عذر،

وكفارة دفنها)) متفق عليه. 714- (21) وعن أبي ذر، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عرضت على أعمال أمتي حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق، ووجدت في مساوي أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن)) رواه مسلم. 715- (22) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق أمامه، ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو تفصيل حسن-انتهى كلام الحافظ باختصار يسير. (وكفارتها) أي كفارة الخطيئة إذا فعلها. (دفنها) أي في تراب المسجد ورمله وحصياته إن كان، وإلا فيخرجها يعني أنه إذا أزال ذلك البزاق أو ستره بشيء طاهر عقيب الإلقاء زال منه تلك الخطيئة، قال الحافظ: قال ابن أبي جمرة: لم يقل: وكفارتها تغطيتها؛ لأن التغطية يستمر الضرر بها إذ لا يأمن أن يجلس غيره عليها فتؤذيه بخلاف الدفن فإنه يفهم منه التعميق في باطن الأرض-انتهى. قيل: إن لم يكن المسجد ذا تراب وكان ذا حصير لا يجوز إلقاء البزاق فيه احتراماً للمالية. قلت: إذا احتاج إلى دفع البزاق وكان المسجد مجصصاً ومبلطاً فألقى البزاق تحت قدمه اليسرى ودلكه بحيث لم يبق في المسجد للبزاق أثر فلا حرج، وعلى هذا يحمل حديث عبد الله بن الشخير الذي تقدم في كلام الحافظ. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً الترمذي، وأبوداود والنسائي. 714- قوله: (عرضت على) أي إجمالاً أو تفصيلاً. (حسنها وسيئها) بالرفع عطف بيان للأعمال أو بدل اشتمال. (في محاسن أعمالها) جمع حسن بالضم والسكون على غير قياس. (الأذى) أي المؤذي يعني إزالته، واللام فيه للجنس. (يماط) أي يزال. (عن الطريق) صفة الأذى، قاله الطيبي. وفيه التنبيه على أن كل ما نفع المسلمين أو أزال عنهم ضراراً كان من حسن الأعمال. (مساوي أعمالها) جمع سوء على غير قياس والياء منقلبة عن الهمزة. (النخاعة) بضم النون أي البزاقة التي تخرج من أصل الفم والمراد إلقائها، وقيل: المراد بها البزاق. (تكون في المسجد) صفة النخاعة. (لا تدفن) قال ابن الملك: الجملتان صفتان أو حالان أي متداخلتان أو مترادفتان. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد، وابن ماجه وابن حبان. 715- قوله: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة) أي شرع فيها ففي حديث أنس عند الشيخين: إذا كان أحدكم في الصلاة. وفي حديث عبد الله بن عمر عندهما أيضاً: إذا كان أحدكم يصلي. (فلا يبصق) بالصاد والجزم على النهي، وقيل: نفي معناه النهي. (أمامه) بفتح الهمزة أي قدامه، وظاهر الإطلاق يعم المسجد وغيره، بل الواقعة كانت في المسجد

فإنما يناجي الله ما دام في مصلاه، ولا عن يمينه، فإن عن يمينه ملكاً. وليبصق عن يساره أو تحت قدمه فيدفنها)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ كما يدل عليه سبب الحديث فيدل على أن الحكم ليس معللاً بتعظيم المسجد وإلا لكان اليمين واليسار سواء، بل المنع عن تلقاء الوجه للتعظيم بحالة المناجاة مع الرب تعالى، وعن اليمين للتأدب مع ملك اليمين كما يفهم من الأحاديث، قاله السندي. (فإنما يناجي الله) والمناجاة من قبل العبد حقيقة، ومن قبل الله إقباله تعالى عليه بالرحمة والرضوان فمناجاة الله مجاز، إذ المناجاة هي المسارة بين الاثنين، ولا كلام محسوساً إلا من طرف العبد فيكون المراد لازم المناجاة وهو إرادة الخير. (مادام في مصلاه) أي ومن يناجي أحداً مثلاً لا يبصق نحوه، وظاهره يقتضي تخصيص المنع بحالة الصلاة لكن التعليل بتأذي المسلم في حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعاً عند أحمد بإسناد حسن: من تنخم في المسجد فليغيب نخامته أن تصيب جلد مؤمن أو ثوبه فتؤذيه، يقتضي المنع في جدار المسجد مطلقاً، ولو لم يكن في الصلاة، فيجمع بأن يقال: كونه في الصلاة أشد إثماً مطلقاً، وكونه في جدار القبلة أشد إثماً من كونه في غيرها من جدار المسجد. (ولا عن يمينه) تعظيماً لليمين وزيادة لشرفها. (فإن عن يمينه ملكاً) لا بد من وجه يقتضي اختصاص المنع باليمين لأجل الملك، إذا الملك في يساره أيضاً، وذلك الوجه هو أن يقال: أن ملك اليمين يكتب حسنات المصلى في حالة صلاته، والصلاة هي أم الحسنات البدنية، وهي أيضاً تنهى عن الفحشاء والمنكر، فلا دخل لكاتب السيأت الكائن عن اليسار فيها، ويكون هو فارغاً. وأحسن ما قيل فيه: أن لكل أحد قريناً أي شيطاناً، وموقعه يساره كما في حديث أبي أمامة عند الطبراني، فإنه يقوم بين يدي الله، وملكه عن يمينه وقرينه على يساره، فلعل المصلي إذا تفل عن يساره يقع على قرينه وهو الشيطان، ولعل ملك اليسار حينئذٍ يكون بحيث لا يصيبه شيء من ذلك، أو أنه يتحول في الصلاة إلى اليمين. وقيل: التنكير في ملكاً للتعظيم أي ملكاً عظيماً، فلا يشكل بأن على اليسار أيضاً ملكاً. وقال الطيبي: يحتمل أن يراد ملك آخر غير الحفظة يحضر عند الصلاة للتائيد والإلهام والتأمين على دعائه، فسبيله سبيل الزائر فيجب أن يكرم زائره فوق من يحفظه من الكرام الكاتبين. (وليبصق عن يساره) أي إن كان فارغاً. قال الخطابي: إن كان عن يساره أحد فلا يبزق في واحد من الجهتين لكن تحت قدمه أو ثوبه. ويؤيده ما رواه أبوداود من حديث طارق المحاربي مرفوعاً، فإنه قال فيه: ولكن عن تلقاء يساره إن كان فارغاً، أو تحت قدمه اليسرى، ثم ليقل به. وفي رواية النسائي: أو تلقاء شمالك إن كان فارغاً، وإلا فهكذا وبزق تحت رجله ودلكه، ومعنى قوله "فارغاً" أي متمكناً من البزق في يساره، وقوله "ثم ليقل به" أي ليدفنه إذا بزقه تحت قدمه اليسرى. (أو تحت قدمه) أي اليسرى وأو للتنويع أي إذا تعذر في جهة اليسار لوجود مصل فيها بصق تحت قدمه. (فيدفنها) بنصب النون؛ لأنه جواب الأمر، وبرفعها على أنها خبر مبتدأ محذوف، أي فهو يدفنها، ويجوز الجزم عطفاً على الأمر،

716- (23) وفي رواية أبي سعيد: ((تحت قدمه اليسرى)) متفق عليه. 716- (24) وعن عائشة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في مرضه الذي لم يقم منه: ((لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) ـــــــــــــــــــــــــــــ وتأنيث الضمير في "فيدفنها" بتأويل البصقة التي يدل عليها قوله "وليبصق" أي فيغيب البصقة بالتعميق في باطن أرض المسجد بحيث يأمن الجالس عليها من الإيذاء، فلو كان المسجد غير ترابي فيدلكها بشيء حتى يذهب أثرها ألبتة، وإذا بدره البزاق ولم يكن يساره فارغاً وكان تحت قدمه فراش من ثوب ونحوه تعين الثوب للبزق فيتفل فيه ثم يرد بعضه على بعض، ولو فقد الثوب مثلاً فلعل بلعه أولى من ارتكاب المنهي عنه. 716- قوله: (وفي رواية أبي سعيد) أي عند الشيخين. (متفق عليه) واللفظ للبخاري، وفي الباب عن أنس، وابن عمر، وأبي سعيد عند الشيخين، وجابر بن عبد الله عند أبي داود وغيره. 717- قوله: (قال في مرضه الذي لم يقم منه) كأنه - صلى الله عليه وسلم - علم أنه مرتحل من ذلك المرض، فخاف أن يعظم قبره كما فعل اليهود والنصارى، فعرض بلعنهم إشارة إلى ذم من يفعل فعلهم كيلا يعامل معه ذلك، فقال: (لعن الله اليهود والنصارى) واللعن أمارة الكبيرة المحرمة أشد التحريم فيكون الفعل الذي أوجب اللعن حراماً. (اتخذوا قبور أنبياءهم مساجد) جملة مستأنفة على سبيل البيان لموجب اللعن، كأنه قيل: ما سبب لعنهم؟ فأجيب بقوله: اتخذوا. زاد في رواية: يحذر ما صنعوا. وهي جملة مستأنفة أخرى من كلام الراوي، كأنه سئل عن حكمة ذكر ذلك في ذلك الوقت، فقالك ليحذر أمته أن يصنعوا بقبره مثل ما صنع اليهود والنصارى بقبور أنبيائهم. واتخاذ القبور مساجد أعم من أن يكون بمعنى الصلاة إليها، أو بمعنى الصلاة عليها. وفي مسلم: لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها، ولا عليها. والظاهر أن العلة سد الذريعة والبعد عن التشبه بعبدة الأوثان الذين يعظمون الجمادات التي لا تسمع ولا تنفع ولا تضر، ولما في إنفاق المال في ذلك من العبث والتبذير الخالي عن النفع بالكلية، ولأنه سبب لإيقاد سرج عليها الملعون فاعله، ومفاسد ما يبنى على القبور من المشاهد والقباب لا تحصر. وقال التوربشتي الحنفي في شرح المصابيح: معنى إنكار النبي - صلى الله عليه وسلم - على اليهود والنصارى صنيعهم هذا مخرج على وجهين: أحدهما أنهم كانوا يسجدون لقبور الأنبياء تعظيماً لهم، والثاني أنهم كانوا يتحرون الصلاة في مدافن الأنبياء، والسجود على مقابرهم، والتوجه إلى قبورهم حالة الصلاة نظراً منهم بأن ذلك الصنيع أعظم موقعاً عند الله لاشتماله على الأمرين: عبادة الله سبحانه، والمبالغة في تعظيم الأنبياء، وذهاباً إلى أن تلك البقاع بإقامة الصلاة والتوسل بالعبادة فيها إلى الله لاختصاصها بقبور الأنبياء، وكلا الطريقين غير مرضية، أما الأولى فلأنها من الشرك الجلي، أما الثانية فلأنها متضمنة معنى ما من الإشراك في عبادة الله حيث أتى بها على صنعة

متفق عليه. 718- (25) وعن جندب، قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد. ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، ـــــــــــــــــــــــــــــ الإشراك أو التبعية لمخلوق. والدليل على ذم الوجهين قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. والوجه الأول أشبه به. وأما نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته عن الصلاة في المقابر فإنه لمعنيين: أحدهما لمشابهة ذلك الفعل سنة اليهود، وإن كان القصدان مختلفين، والثاني لما يتضمنه من الشرك الخفي حيث أتى في عبادة الله بما يرجع إلى تعظيم مخلوق فيما لم يؤذن له. قال: والصلاة في المواضع المتبركة بها من مقابر الصالحين داخلة في جملة هذا النهي، لا سيما إذا كان الباعث تعظيم هؤلاء، وتخصيص تلك الموضع لما أشرنا إليه من الشرك الخفي-انتهى كلام التوربشتي بقدر الضرورة. قلت: ويدخل أيضاً في هذا النهي والوعيد اتخاذ مسجد بجوار نبي أو صالح، والصلاة عند قبره لا لتعظيمه، ولا بالتوجه نحوه بل لحصول مدد منه، ورجاء كمال عبادته ببركة مجاورته لتلك الروح، وهذا لأن اتخاذ المسجد بقربه وقصد التبرك به تعظيم له، ولأن في هذا الصنيع أيضاً من المفاسد ما لا يخفى، ولأنه لم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أحداً من أمته بالاستفاضة بقبره أو بقبر أحد من صلحاء أمته، ولا بالاستمداد منه، ولا بالمجاورة به، ولا التبرك به، وإنما أمر أمته بالسلام على أهل القبور والدعاء والاستغفار لهم عند زيارة القبور وحث على الاعتبار بهم، فالاستفاضة بالقبور، والاستمداد منها، والتبرك بها ولو كان بدون التوجه إليها حرام عندنا لكونه داخلاً في الشرك الخفي. واعلم أنه قد استشكل ذكر النصارى في الحديث؛ لأنه ليس لهم نبي إلا عيسى عليه السلام، إذ لا نبي بينه وبين محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو حي في السماء لم يمت، فليس له قبر، وأجيب بأن ضمير الجمع في قوله "أنبيائهم" للمجموع من اليهود والنصارى، فإن اليهود لهم أنبياء، أو المراد الأنبياء وكبار أتباعهم، فاكتفى بذكر الأنبياء، ويؤيده رواية جندب التالية حيث قال: كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ولهذا أفرد النصارى، كما في رواية لعائشة رضي الله عنها عند الشيخين. قال: إذا مات فيهم الرجل الصالح، ولما أفرد اليهود كما في حديث أبي هريرة قال: قبور أنبيائهم، أو أنه كان فيهم أنبياء أيضاً لكنهم غير مرسلين كالحواريين، أو يقال: أنبياء اليهود أنبياء النصارى؛ لأن النصارى مأمورون بالإيمان بكل رسول، فرسل بني إسرائيل يسمون أنبياء في حق الفريقين، والمراد من الإتخاذ أعم من أن يكون ابتداعاً أو إتباعاً، فاليهود ابتدعت، والنصارى اتبعت، ولا ريب أن النصارى تعظم قبور كثير من الأنبياء الذين تعظمهم اليهود، وخصص اليهود بالذكر في حديث أبي هريرة لكونهم ابتدعوا هذا الاتخاذ فهم أظلم. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصلاة، والجنائز، والمغازي، ومسلم في الصلاة، وأخرجه أيضاً النسائي. 718- قوله: (ألا) للتنبيه. (وإن) بالكسر على تقدير أنبهكم وأقول إن. قال القاري: وروى بالفتح، فالتقدير: تنبهوا واعلموا أن. (من كان قبلكم) أي اليهود والنصارى، أو أعم منها. (ألا فلا تتخذوا القبور مساجد) كرر التنبيه

إني أنهاكم عن ذلك)) رواه مسلم. 719- (26) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم، ولا تتخذوها قبوراً)) ـــــــــــــــــــــــــــــ بإقحام أداته بين السبب والمسبب مبالغة، وكرر النهي أيضاً كما كرر التنبيه بقوله. (إني أنهاكم عن ذلك) وفي الصحيحين عن عائشة: أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير، فذكرتا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح، فمات بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، وأولئك شرار الخلق عندالله يوم القيامة. قال الحافظ: وإنما فعل ذلك أوائلهم ليتأنسوا برؤية تلك الصور، ويتذكروا أحوالهم الصالحة فيجتهدون كاجتهادهم، ثم خلف من بعدهم خلوف جهلوا مرادهم، ووسوس لهم الشيطان أن أسلافكم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها فاعبدوها، فحذر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مثل ذلك سداً للذريعة المؤدية إلى ذلك. (رواه مسلم) .... 719- قوله: (اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم) قيل من زائدة، والمراد من الصلاة النوافل، والتقدير: اجعلوا صلاتكم أي نوافلكم في بيوتكم، يدل على هذا ما رواه مسلم من حديث جابر مرفوعاً: إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيباً من صلاته. وفي الصحيحين حديث: صلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة. وإنما شرع ذلك لكونه أبعد من الرياء، وليتبرك به البيت، وتنزل الرحمة فيه والملائكة، وتنفر الشياطين منه، لكن استثنى منه ركعتا الطواف والإحرام، وتراويح رمضان، وصلاة الكسوف والاستسقاء وتحية المسجد، وصلاة القدوم من السفر، وما ورد من صلاته - صلى الله عليه وسلم - بعض النوافل في المسجد- كركعتين بعد المغرب مثلاً – فهو لبيان الجواز، وقيل: من للتبعيض، والمراد من الصلاة مطلق الصلاة، والمعنى: اجعلوا بعض صلاتكم وهو النفل من الصلاة المطلقة في بيوتكم، والصلاة المطلقة تشمل النفل والفرض، قال القاري: "من صلاتكم" مفعول أول و"في بيوتكم" مفعول ثان، قدم على الأول للإهتمام بشأن البيوت، أي اجعلوا بعض صلاتكم التي هي النوافل مؤداة في بيوتكم، وإن من حقها أن يجعل لها نصيباً من الطاعات لتصير منورة؛ لأنها مأواكم ومنقلبكم، وليست كقبوركم التي لا تصلح لصلاتكم، ولذا قال: (لاتتخذوها) أي بيوتكم. (قبوراً) بأن تتركوا الصلاة فيها كما تتركون في المقابر، والمعنى: أعطوا البيوت حظها من الصلاة، ولا تجعلوها كالمقابر حيث لا يصلى فيها، فأحال على المقابر لكونها معهودة معروفة بهذه الصفة بحسب الحس والمشاهدة والشرع، ويؤيده ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ: لا تجعلوا بيوتكم مقابر. فالحديث فيه دليل على كراهة الصلاة في المقابر، وعليه حمله البخاري في صحيحه حيث عقد عليه "باب كراهية الصلاة في المقابر"، وقد نقل ابن المنذر عن أكثر أهل العلم أنهم استدلوا بهذا الحديث على أن المقبرة ليست بموضع الصلاة، وكذا قال البغوي في شرح السنة

{الفصل الثاني}

متفق عليه. {الفصل الثاني} 720- (27) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما بين المشرق والمغرب قبلة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ والخطابي. وقيل: المراد من الحديث الندب إلى الصلاة في البيوت، إذ الموتى لا يصلون كأنه قال: لا تكونوا كالموتى الذين لا يصلون في بيوتهم، وهي القبور. وقيل: المراد لا تجعلوا بيوتكم وطناً للنوم فقط لا تصلون فيها، فإن النوم أخو الموت، والميت لا يصلي. ويحتمل أن يكون المراد أن من لم يصل في بيته جعل نفسه كالميت وبيته كالقبر، ويؤيده ما رواه مسلم: مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه كمثل الحي والميت. وهذا يرجع إلى المعنى الثاني. وقيل: المراد النهي عن دفن الموتى في البيوت، والمعنى: لا تدفنوا في بيوتكم موتاكم لئلا يكدر عليكم معايشكم ومأواكم، ولأن استمرار الدفن في البيوت ربما صيرها مقابر فتصير الصلاة فيها مكروهة، ولفظ حديث أبي هريرة عند مسلم أصرح من حديث ابن عمر وهو قوله: لا تجعلوا بيوتكم مقابر، فإن ظاهره يقتضي النهي عن الدفن في البيوت مطلقاً. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه. 720- قوله: (ما بين المشرق والمغرب قبلة) قد اضطربت أقوال العلماء في شرح هذا الحديث ومعناه، فقال العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي: هذا الحديث كحديث أبي أيوب المتقدم: إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا. إنهما كلاهما فيما كان من المواضع سمته وجهته كسمت المدينة وجهتها؛ لأنها في شمال مكة، بينها وبين الشام، فإذا استقبل القبلة استدبر الشام، وإذا استدبر القبلة استقبل الشام، وإن المراد بقوله: ما بين المشرق والمغرب قبلة، أن الفرض على المصلى إذا كان بعيداً عن الكعبة أن يتوجه جهتها، لا أن يصيب عينها على اليقين، فإن هذا محال أو عسير-انتهى. وقال العراقي: ليس هذا عاماً في سائر البلاد، وإنما هو بالنسبة إلى المدينة المشرفة وما وافق قبلتها، قال: ولسائر البلدان من السعة في القبلة مثل ذلك بين الجنوب والشمال ونحو ذلك. وقال الأثرم: سألت أحمد بن حنبل عن معنى الحديث فقال: هذا في كل البلدان إلا بمكة عند البيت فإنه إن زال عنه شيئاً وإن قل فقد ترك القبلة، ثم قال: هذا المشرق- وأشار بيده- وهذا المغرب – وأشار بيده- وما بينهما قبلة. قلت: فصلاة من صلى بينهما جائزة؟ قال: نعم. وينبغي أن يتحرى الوسط. قال ابن عبد البر: تفسير قول أحمد هذا في كل البلدان يريد أن البلدان كلها لأهلها في قبلتهم مثل ما لمن كانت قبلتهم بالمدينة الجنوب التي يقع لهم فيها الكعبة، فيستقبلون جهتها ويتسعون يميناً وشمالاً فيها ما بين المشرق والمغرب، يجعلون المغرب عن أيمانهم والمشرق عن يسارهم، وكذلك لأهل اليمن من السعة في قبلتهم مثل ما بين المشرق والمغرب إذا توجهوا أيضاً قبل القبلة إلا أنهم يجعلون المشرق

عن أيمانهم والمغرب عن يسارهم، وكذلك أهل العراق وخراسان لهم من السعة في استقبال القبلة ما بين الجنوب والشمال مثل ما كان لأهل المدينة من السعة فيما بين المشرق والمغرب، وكذلك ضد العراق على ضد ذلك أيضاً، وإنما تضيق القبلة كل الضيق على أهل المسجد الحرام، وهي لأهل مكة أوسع قليلاً، ثم هي لأهل الحرم أوسع قليلاً ثم لأهل الآفاق من السعة على حسب ما ذكرنا_ انتهى. قال الترمذي: قال ابن عمر: إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة إذا استقبلت القبلة. وقد ذكر العلامة أحمد بن علي المقريزي هذا الحديث في أثناء الفصل الذي عقده في خططه (1) عن المحاريب التي بديار مصر (ج4: ص21-33 من طبعة مصر سنة 1326) ومما قال في شرحه: إذا تأملت وجدت هذا الحديث يختص بأهل الشام والمدينة وما على سمت تلك البلاد شمالاً وجنوباً فقط، والدليل على ذلك أنه يلزم من حمله على العموم إبطال التوجه إلى الكعبة في بعض الأقطار، وقد عرفت إن كنت تمهرت في معرفة البلدان وحدود الأقاليم أن الناس في توجههم إلى الكعبة كالدائرة حول المركز، فمن كان في الجهة الغربية من الكعبة فإن جهة قبلة صلاته إلى المشرق، ومن كان في الجهة الشرقية من الكعبة فإنه يستقبل في صلاته جهة المغرب، ومن كان في الجهة الشمالية من الكعبة فإنه يتوجه في صلاته إلى جهة الجنوب، ومن كان في الجهة الجنوبية من الكعبة كانت صلاته إلى جهة الشمال، ومن كان من الكعبة فيما بين المشرق والجنوب فإن قبلته فيما بين الشمال والمغرب، ومن كان من الكعبة فيما بين الجنوب والمغرب فإن قبلته فيما بين الشمال والمشرق، ومن كان من الكعبة فيما بين المشرق والشمال فقبلته فيما بين الجنوب والمغرب، ومن كان من الكعبة فيما بين الشمال والمغرب فقبلته فيما بين الجنوب والمشرق، إلى آخر ما قال. وقد علمت مما تقدم أن الحديث على هذا المعنى يدل على أن الواجب استقبال جهة الكعبة في حق من بعد عن الكعبة وتعذرت عليه العين، وقد ذهب إليه أكثر السلف مالك، وأحمد، وأبوحنيفة وغيرهم، وهو ظاهر ما نقله المزني عن الشافعي، ووجه الاستدلال به على ذلك أن المراد أن بين الجهتين قبلة لغير المعاين ومن في حكمه؛ لأن المعاين لا تنحصر قبلته بين الجهتين المشرق والمغرب، بل كل الجهات في حقه سواء متى قابل العين. فالحديث دليل على أن ما بين الجهتين قبلة، وأن الجهة كافية في الاستقبال، وذهب الشافعي في أظهر القولين عنه: أن فرض من بعد إصابة العين، وأنه يلزمه ذلك بالظن، وقوله تعالى: {حيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره} [2: 144] يدل على كفاية الجهة، إذ العين في كل محل تتعذر على كل مصل، فالحق أن الجهة كافية لمن تعذر عليه العين. وقال ابن المبارك في معنى الحديث: ما بين المشرق. (أى مشرق الشتاء) والمغرب. (أى مغرب الصيف) قبلة، هذا لأهل المشرق، واختبار التياسر لأهل مرو-انتهى. قال الشوكاني: أراد ابن المبارك بالمشرق البلاد التي يطلق عليها اسم المشرق كالعراق مثلاً، فإن قبلتهم أيضاً بين المشرق والمغرب وقد ورد مقيداً بذلك في بعض طرق حديث أبي هريرة: ما بين المشرق والمغرب قبلة لأهل العراق. رواه البيهقي في الخلافيات، وروى ابن أبي شيبة عن ابن عمر أنه قال: إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة لأهل المشرق- انتهى. (1) أعنى به كتابة "الواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار".

رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال المظهر: يعني من جعل من أهل المشرق أول المغارب-وهو مغرب الصيف- عن يمينه وآخر المشارق - وهو مشرق الشتاء- عن يساره كان مستقبلاً للقبلة، والمراد بأهل المشرق أهل الكوفة وبغداد وخوزستان وفارس وعراق وخراسان وما يتعلق بهذه البلاد-انتهى. فليس المراد بأهل المشرق في قولي ابن المبارك وابن عمر جميع من هم في المشرق إلى أقصى المعمورة، بل أهل العراق وبخاري وبلخ وسمرقند ونحوهم؛ لأن بلادهم في مشرق الصيف من المدينة، وقبلتهم بين مغرب الصيف ومشرق الشتاء. وانظر الخريطة وهي هذه: وقال بعضهم: أراد به بيان قبلة من التبس عليه قبلته فإلى أي جهة صلى بالتحري والاجتهاد كفته. قال تعالى: {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله} [2: 115] وقال بعضهم: المراد منه المتطوع على الدابة في السفر إلى أي جهة. وفي القولين نظر، إذا لا وجه فيهما للتقييد بما بين المشرق والمغرب، قاله القاري. وقال بعضهم: المراد منه صحة الصلاة في جميع الأرض، ذكره الزيلعي في نصب الراية (ج1: ص304) وقيل: المراد به بيان حكم المريض الذي لا يقدر أن يتوجه إلى القبلة. وقيل: هو محمول على المجاهد المطلوب. والراجح عندي هو القول الأول، والله أعلم بالصواب. (رواه الترمذي) وابن ماجه كلاهما من طريق أبي معشر نجيح السندي وهو صدوق أسن واختلط فتكلم فيه من قبل حفظه. وقد تابعه عليه علي بن

721- (28) وعن طلق بن علي، قال: ((خرجنا وفدا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبايعناه، وصلينا معه، وأخبرناه أن بأرضنا بيعة لنا، فاستوهبناه من فضل طهوره، فدعا بماء، فتوضأ ـــــــــــــــــــــــــــــ ظبيان قاضي حلب كما رواه ابن عدي في الكامل قال: ولا أعلم يرويه عن محمد بن عمرو غير علي بن ظبيان، وأبي معشر، وهو بأبي معشر أشهر منه بعلي بن ظبيان. قال: ولعل علياً سرقه من أبي معشر، وذكر قول ابن معين فيه: أنه ليس بشيء، وقول النسائي: أنه متروك الحديث. وقد تابعه عليه أيضاً أبوجعفر الرازي، رواه البيهقي في الخلافيات، وأبوجعفر وثقة ابن معين، وابن المديني، وأبوحاتم، والحاكم، وابن عبد البر، وابن سعد. وقال أحمد والنسائي: ليس بقوي. وقال الحافظ: صدوق سيء الحفظ. وقد أخرج الترمذي الحديث من طريق أخرى غير طريق أبي معشر، وقال: حديث حسن صحيح. وقال أيضاً: هو أقوى من حديث أبي معشر وأصح. وقد خالفه البيهقي فقال بعد إخراجه من هذه الطريق: هذا إسناد ضعيف. قال الشوكاني: فنظرنا في الإسناد فوجدنا عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس بن شريق قد تفرد به عن المقبري، وقد اختلف فيه فقال علي بن المديني: إنه روى أحاديث مناكير، ووثقة ابن معين وابن حبان، فكان الصواب ما قاله الترمذي-انتهى. قلت: الحديث قد تأيد بروايته من حديث ابن عمر، فقد رواه الحاكم (ج1: ص205) من طريق شعيب بن أيوب، عن عبد الله بن نمير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً، ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، فإن شعيب بن أيوب ثقة وقد أسنده، ورواه محمد بن عبد الرحمن بن مجبر-وهوثقة- عن نافع، عن ابن عمر مسنداً، ثم أخرجه كذلك (ج1: ص206) وقال: هذا حديث صحيح، قد أوقفه جماعة عن عبد الله بن عمر، ووافقه الذهبي على ما قال، وزاد: وصححه أبوحاتم الرازي موقوفاً على عبد الله، ورواه البيهقي في السنن الكبرى (ج2: ص9) عن الحاكم بالإسنادين ثم قال: تفرد بالأول ابن مجبر وتفرد بالثاني يعقوب بن سفيان الخلال، والمشهور رواية الجماعة: حماد بن سلمة، وزائدة بن قدامة، ويحيى بن سعيد القطان وغيرهم، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر عن عمر من قوله-انتهى. ورواه أيضاً الدارقطني (ص101) بالإسنادين. قلت: الرفع زيادة ثقة فنقبل، ولا تكون رواية من أوقفها علة للحديث بل تكون مؤيدة له، وليس ههنا قرينة على كون الرفع وهماً. والله أعلم. 721- قوله: (خرجنا وفداً) الوفد بفتح الواو وإسكان الفاء، جماعة قاصدة عظيماً لشأن من الشؤون فهو حال أي قاصدين، يقال: وفد إلى أو على الأمير كضرب إذا قدم وورد رسولاً فهو وافد والجمع وفد ووفود. (فبايعناه) أي على التوحيد والرسالة والسمع والطاعة. (بيعة) بكسر الباء وهي معبد النصارى. (فاستوهبناه) الفاء عطفت ما بعدها على المجموع أي خرجنا وفعلنا فاستوهبناه أي سألناه أن يعطينا. (من فضل طهوره) بفتح الطاء، والظاهر أن المراد ما استعمله في الوضوء وسقط من أعضائه الشريفة، ويحتمل أن المراد ما بقي في الإناء عند الفراغ من الوضوء، قال ابن حجر: من

وتمضمض، ثم صبه لنا في إدواة، وأمرنا فقال: اخرجوا فإذا أتيتم أرضكم، فاكسروا بيعتكم، وانضحوا مكانها بهذا الماء، واتخذوها مسجداً. قلنا: إن البلد بعيد، والحر شديد، والماء ينشف. فقال: مدوه من الماء، فإنه لا يزيده إلا طيباً)) رواه النسائي. 722- (29) وعن عائشة، قالت: ((أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببناء المسجد في الدور، ـــــــــــــــــــــــــــــ تبعيضية وهي وما بعدها في محل نصب بدل اشتمال من المفعول به. (وتمضمض) منه بعد الوضوء أو في أثنائه. (ثم صبه) أي الماء المتمضمض به زيادة على مطلوبهم فضلاً، ويمكن أن يكون المصبوب هو الماء الباقي المطلوب. (في إدواة) بكسر الهمزة ظرف صغير من جلد. (وأمرنا) أي بالخروج. (فقال) بيان للأمر، أو أمرنا بمعنى أراد أمرنا فقال: (اخرجوا) إذناً بالخروج. (فإذا أتيتم أرضكم) أي دياركم. (فاكسروا) بكسر السين. (بيعتكم) أي غيروا محرابها وحولوه إلى الكعبة، وقيل: خربوها. (وانضحوا) بكسر الضاد وفتحها من ضرب وفتح أي رشوا. (مكانها بهذا الماء) ليصل إليها بركة فضل وضوئه، فالإشارة إلى فضل الوضوء. (واتخذوها) أي البيعة يعني مكانها. (مسجداً) فيه دليل على جواز اتخاذ البيع مساجد، وغيرها من الكنائس وبيوت الأصنام ونحوها ملحق بها بالقياس. (والحر) بالنصب ويرفع. (ينشف) بالتخفيف بصيغة المجهول، يقال نشف الثوب العرق-بالكسر- ونشف الحوض الماء ينشفه إذا شربه. (مدوه من الماء) أي زيدوا فضل ماء الوضوء من الماء غيره يعني صبوا عليه ماء آخر. (فإنه لا يزيده إلا طيباً) قال الطيبي: الضمير في "فإنه" إما للماء الوارد أو المورود، أي الوارد لا يزيد المورورد الطيب ببركته إلا طيباً أو المورورد الطيب لا يزيد بالوارد إلا طيباً-انتهى. وفي الحديث التبرك بفضله - صلى الله عليه وسلم -، ونقله إلى البلاد، ونظيره ماء زمزم، قيل: ويؤخذ من ذلك أن فضلة وارثيه من العلماء والصلحاء كذلك. (رواه النسائي) أي عن هناد بن السري، عن ملازم هو ابن عمر، وعن عبد الله بن بدر، عن قيس بن طلق، عن أبيه طلق بن علي. وقد أكثر الناس في قيس بن طلق، والحق أنه صدوق، وثقه العجلي، وابن معين في رواية عثمان بن سعد عنه. وقال ابن القطان: يقتضي أن يكون خبره حسناً لا صحيحاً، وأما بقية رجاله وهم من دون قيس بن طلق فهم ثقات. والحديث أخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه مطولاً عن خليفة: حدثنا مسدد بن مسرهد: حدثنا ملازم بالسند المتقدم، قال: خرجنا ستة وفداً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث. نقله ميرك عن التخريج، كذا في المرقاة. 722- قوله: (أمر) الظاهر أن الأمر للندب لا للوجوب فكان معناه أذن. وهذا لأن مبناه على دفع المشقة عنهم كما سيأتي. (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببناء المسجد في الدور) جمع دار وهو اسم جامع للبناء والعرصة والمحلة، والمراد المحلات، فإنهم كانوا يسمون المحلة التي اجتمعت فيها قبيلة داراً. قال البغوي في شرح السنة: يريد بالدور المحال التي

وأن ينظف ويطيب)) رواه أبوداود والترمذي وابن ماجه. 723- (30) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أمرت بتشييد المساجد، ـــــــــــــــــــــــــــــ فيها الدور. ومنه قوله تعالى: {سأريكم دار الفاسقين} [7: 145] ؛ لأنهم كانوا يسمون المحلة التي اجتمعت فيها قبيلة داراً. ومنه الحديث: ما بقيت دار إلا بني فيها مسجد. قال سفيان: بناء المساجد في الدور يعني القبائل أي من العرب يتصل بعضها ببعض وهو بنو أب واحد يبنى لكل قبيلة مسجد، هذا ظاهر معنى تفسير سفيان الدور. قال أهل اللغة: الأصل في إطلاق الدور على المواضع، وقد تطلق على القبائل مجازاً. وحكمة أمره لأهل كل محلة ببناء مسجد فيها أنه قد يتعذر أو يشق على أهل محلة الذهاب للأخرى فيحرمون أجر المسجد وفضل إقامة الجماعة فيه فأمروا بذلك ليتسر لأهل كل محلة العبادة في مسجدهم من غير مشقة تلحقهم. وقال البغوي: قال عطاء: لما فتح الله على عمر الأمصار أمر المسلمين ببناء المساجد وأمرهم أن لا يبنوا مسجدين يضار أحدهما الآخر، ومن المضارة فعل تفريق الجماعة إذا كان هناك مسجد يسعهم، فإن ضاق سن توسعته أو اتخاذ مسجد يسعهم. (وأن ينظف) أي يطهر كما في رواية ابن ماجه أي من الأقذار. (ويطيب) أي يرش العطر ويجوز أن يحمل التطيب على التجمير بالبخور في المسجد، وفيه أنه يستحب تجمير المسجد بالبخور، فقد كان عبد الله يجمر المسجد إذا قعد عمر على المنبر، واستحب بعض السلف التخليق بالزعفران والطيب، وروى عنه عليه السلام فعله. قال الشعبي هو سنة، وأخرج ابن أبي شيبة أن ابن الزبير لما بنى الكعبة طلى حيطانها بالمسك. وفيه أنه يستحب كنس المسجد وتنظيفه، وقد روى ابن أبي شيبة أنه عليه السلام كان يتتبع غبار المسجد بجريدة. (رواه أبوداود) مسنداً وسكت عنه. (والترمذي) مسنداً ومرسلاً. وقال: المرسل أصح. وإنما صحح الترمذي إرساله؛ لأن في سند الموصول عامر بن صالح وقد ضعفه بعض العلماء وكذبه ابن معين، لكنه رواه غير الترمذي موصولاً من غير طريق عامر بن صالح، فرواه أبوداود، وابن ماجه من طريق زائدة بن قدامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة مسنداً مرفوعاً، وزائدة ثقة ثبت. ورواه ابن ماجه أيضاً من طريق مالك بن سعير عن هشام بن عروة، ومالك بن سعير لا باس به، وأيضاً عامر بن صالح قال فيه أحمد بن حنبل: ثقة لم يكن صاحب كذب. والحديث أخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه. 723- قوله: (ما أمرت) بضم الهمزة وكسر الميم، مبني للمفعول وما نافية. (بتشديد المساجد) أي برفعها وأعلاء بنائها. قال البغوي في شرح السنة: التشييد رفع البناء وتطويله، ومنه قوله تعالى: {ولو كنتم في بروج مشيدة} [4: 78] وهي التي طول بنائها، يقال: شدت الشيء أشيده مثل بعته أبيعه إذا بنيته بالشييد وهو الجص، وشيدته تشييداً طولته ورفعته. وقيل: المراد بالبروج المشيدة المجصصة. قال ابن رسلان: والمشهور في الحديث أن المراد بتشييد المساجد هنا رفع البناء وتطويله كما قال البغوي-انتهى. والحديث قد استدل به بعضهم على منع تشييد المساجد

قال ابن عباس: لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى)) رواه أبوداود. 724- (31) وعن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أشراط الساعة أن يتباهي الناس في المساجد)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ وفيه نظر؛ لأن نفي كون التشييد مأموراً به لا يقتضي الكراهة والمنع بل يدل على عدم الوجوب، ونفي الوجوب قد يتحقق بجواز الفعل أيضاً فلا يستوجب الكراهة والمنع، فتشييد المسجد وإحكام بنائه بما يستحكم به الصنعة من غير تزيين وتزويق وزخرفة ليس بمكروه عندنا إذا لم يكن مباهاة ورياء وسمعة لما تقدم من حديث عثمان بن عفان: من بنى لله مسجداً بنى الله له مثله في الجنة. وأيضاً يؤيده ما فعله عثمان في خلافته في بناء المسجد النبوي، فإنه صنع ما صنع في بنائه مستدلاً بهذا الحديث، وكل ما صنع كان من باب الإحكام والتجصيص من غير تزويق وزخرفة، وأما الحجارة المنقوشة فلم يكن نقشها بأمره بل حصلت له كذلك منقوشة، ولم يكن عند الذين أنكروا عليه من الصحابة دليل يوجب المنع إلا الحث على إتباع ما فعله - صلى الله عليه وسلم - وعمر في بناء المسجد من ترك الرفاهية، وهذا لا يقتضي منع التشييد وكراهته. (قال ابن عباس) هو موقوف لكنه في حكم المرفوع؛ لأنه إخبار عن ما يأتي، وهو لا يكون إلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال الأمير اليماني: هذا مدرج من كلام ابن عباس كأنه فهمه من الأخبار النبوية من أن هذه الأمة تحذو حذو بني إسرائيل. (لتزخرفنها) بفتح اللام على أنها جواب القسم، وبضم المثناة وفتح الزاي، وسكون الخاء المعجمة، وضم الفاء، وتشديد النون، وهي نون التأكيد. والزخرفة الزينة، وأصل الزخرف الذهب، ثم استعمل في كل ما يتزين به. قال الخطابي معنى قوله: لتزخرفنها، لتزيننها. وأصل الزخرف الذهب، يريد تموية المساجد بالذهب ونحوه، ومنه قولهم: زخرف الرجل كلامه إذا موهه وزينه بالباطل. (كما زخرفت اليهود والنصارى) أي بيعهم وكنائسهم، يعني أن اليهود والنصارى زخرفوا مساجدهم عندما حرفوا أمر دينهم وتركوا العمل بما في كتبهم، فأنتم تصيرون إلى مثل حالهم إذا طلبتم الدنيا بالدين، وتركتم الإخلاص في العمل، وصار أمركم إلى المراآة بالمساجد والمباهاة في تشييدها وتزينها. قال القاري: هذا أي زخرفة المساجد بدعة؛ لأنه لم يفعله عليه الصلاة والسلام. وفيه موافقة أهل الكتاب-انتهى. قال البخاري في صحيحه: أمر عمر ببناء المسجد وقال: أكن الناس من المطر، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس. وهذا الحديث فيه معجزة ظاهرة لإخبار عما سيقع بعده، فإن تزويق المساجد والمباهاة بزخرفتها قد كثر في هذا الزمان في جميع بلاد المسلمين إلا بلاد نجد، فسلام على نجد ومن حل بالنجد. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري، وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه، وذكر البخاري قول ابن عباس المذكور تعليقاً، وإنما لم يذكر البخاري المرفوع للاختلاف على يزيد بن الأصم في وصله وإرساله، قاله الحافظ. 724- قوله: (من أشراط الساعة) جمع شرط بالتحريك وهو العلامة، قدم الخبر على المبتدأ للإهتمام به وزيادة الإنكار على فاعله لا للتخصيص ولا للحصر أي من علامات القيامة. (أن يتباهى الناس) أي يتفاخرون، والتباهي إما

رواه أبوداود، والنسائي، والدارمي، وابن ماجه. 725- (32) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عرضت عليّ أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد. وعرضت على ذنوب أمتي فلم أرَ ذنباً أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها)) ـــــــــــــــــــــــــــــ بالقول كما ستعرف أو بالفعل كأن يبالغ كل واحد في تزين مسجده وتزويقه وغير ذلك، وفيه دلالة مفهمة بكراهة ذلك. (في المساجد) أي في بنائها يعني يتفاخر كل أحد بمسجده، يقول: مسجدي أرفع أو أزين أو أوسع أو أحسن علواً وزينة، رياء وسمعة واجتلاباً للمدحة، أو يأتون بهذا الفعل الشنيع-وهو المباهاة بما ذكر- وهم جالسون في المساجد. والحديث على المعنيين مما يشهد بصدقه الوجود، فهو من جملة المعجزات الباهرة له - صلى الله عليه وسلم -. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري. (والنسائي والدارمي وابن ماجه) واللفظ للنسائي وابن ماجه، ورواه أبوداود والدارمي بلفظ: لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد. وهكذا رواه ابن حبان في صحيحه، وأخرجه أبويعلى في مسنده، وابن خزيمة في صحيحه بلفظ: يأتي على الناس زمان يتباهون بالمسجد ثم لا يعمرونها إلا قليلاً. وعند أبي نعيم في كتاب المساجد: يتباهون بكثرة المساجد. 725- قوله: (عرضت عليّ) لعل هذا العرض في ليلة المعراج. (أجور أمتي) أي ثواب أعمالهم. (حتى القذاة) بزنة حصاة وهي ما يقع في العين من تراب أو تبن أو وسخ، ثم استعمل في كل شيء يقع في البيت وغيره إذا كان يسيراً، والمراد هنا الشيء القليل مما يؤذي المسلمين سواء كان من تين أو وسخ أو غير ذلك، ولا بد في الكلام من تقدير مضاف أي أجور أعمال أمتي، وأجر القذاة أي أجر إخراج القذاة، إما بالجر وحتى بمعنى إلى والتقدير: إلى إخراج القذاة، وعلى هذا قوله: (يخرجها الرجل من المسجد) جملة مستأنفة للبيان، وإما بالرفع عطفاً على أجور، فالقذاة مبتدأ ويخرجها خبره. وهذا إخبار بأن ما يخرجه الرجل من المسجد وإن قل فهو مأجور فيه؛ لأن فيه تنظيف بيت الله، ويفيد الحديث بمفهومه أن من الأوزار إدخال القذاة إلى المسجد، وفيه تنبيه بالأدنى على الأعلى؛ لأنه إذا كتب هذا القليل وعرض على نبيهم فيكتب الكبير ويعرض من باب الأولى. (فلم أرَ ذنباً) أي يترتب على نسيان. (أعظم من سورة) أي من ذنب نسيان سورة كائنة. (من القرآن) فإن قلت: هذا مناف لما مر في باب الكبائر، قلت: إن سلم أن أعظم وأكبر مترادفان، فالوعيد على النسيان لأجل أن مدار هذه الشريعة على القرآن، فنسيانه كالسعي في الإخلال بها. فإن قلت: النسيان لا يؤاخذ به، قلت: المراد تركها عمداً إلى أن يفضي إلى النسيان، وقيل: المعنى أعظم من الذنوب الصغار إن لم تكن عن استخفاف وقلة تعظيم، كذا في الأزهار شرح المصابيح. (أو آية) أو للتنويع. (أوتيها رجل) أي تعلمها أو حفظها عن ظهر قلب. (ثم نسيها) قال الطيبي: إنما قال: أوتيها دون حفظها، إشعاراً بأنها كانت نعمة جسيمة أولاها الله ليشكرها، فلما

رواه الترمذي وأبوداود. 726- (33) وعن بريدة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)) رواه الترمذي، وأبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ نسيها فقد كفر تلك النعمة، فبالنظر إلى هذا المعنى كان أعظم جرماً، فلما عدّ إخراج القذاة التي لا يؤبه لها من الأجور تعظيماً لبيت الله عدّ أيضاً النسيان من أعظم الجرم تعظيماً لكلام الله سبحانه، فكأن فاعل ذلك عدّ الحقير عظيماً بالنسبة إلى العظيم فأزاله عنه، وصاحب هذا عدّ العظيم حقيراً فأزاله عن قلبه. (رواه الترمذي) في فضائل القرآن واستغربه. (وأبوداود) في الصلاة وسكت عنه، وقال الترمذي: ذاكرت به محمد بن إسماعيل يعني البخاري فلم يعرفه واستغربه. قال محمد: ولا أعرف للمطلب بن عبد الله يعني الراوي له عن أنس سماعاً من أحد أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا قوله: حدثني من شهد خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: وسمعت عبد الله بن عبد الرحمن، يقول: لا يعرف للمطلب سماع من أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال عبد الله: وأنكر علي بن المديني أن يكون المطلب سمع من أنس-انتهى. وقال المنذري بعد نقل كلام الترمذي هذا: وفي إسناده عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي روّاد الأزدي، وثقة يحيى بن معين، وتكلم فيه غير واحد-انتهى. قلت: ووثقة أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي كما في تهذيب التهذيب. وقال الحافظ في بلوغ المرام: وصححه ابن خزيمة. 726- قوله: (بشر) هذا من الخطاب العام ولم يرد به امرأ واحداً بعينه، قاله السيوطي. وقال السندي: لعله خطاب لكل من يتولى تبليغ الدين ويصلح له. (المشائين) بالهمزة والمد من صيغ المبالغة والمراد منه كثرة مشيهم ويعتادون ذلك، لا من اتفق منهم المشي مرة أو مرتين. (في الظلم) بضم الظاء وفتح اللام جمع ظلمة بسكونها أي ظلمة الليل، والحديث يشمل العشاء والصبح بناء على أنها تقام بغلس. (إلى المساجد) قيل: لو مشى في الظلام بضوء لدفع آفات الظلام فالجزاء بحاله، وإلا فلا، قاله ابن الملك. وعلى هذا فالمراد من "في الظلم" أي في وقت ظلمة الليل وإن كان معهم مصباح. (بالنور) متعلق ببشر. (التام) الذي يحيط بهم من جميع جهاتهم، أي على الصراط لما قاسوا مشقة المشي في ظلمة الليل جوزوا بنور يضيء لهم ويحوط بهم. (يوم القيامة) قال الطيبي: في وصف النور بالتام وتقييده بيوم القيامة تلميح إلى وجه المؤمنين يوم القيامة في قوله تعالى: {نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا} [66: 8] ، وإلى وجه المنافقين في قوله تعالى: {انظرونا نقتبس من نوركم} [57: 13] انتهى. (رواه الترمذي) من طريق إسماعيل الكحال، عن عبد الله بن أوس، عن بريدة، واستغربه. (وأبوداود) من هذا الطريق وسكت عنه. وقال المنذري: قال الدارقطني: تفرد به إسماعيل بن سليمان الضبي الكحال عن عبد الله بن أوس. وقال المنذري في الترغيب: رجال إسناده ثقات.

727، 728 - (35، 34) ورواه ابن ماجه، عن سهل بن سعد، وأنس. 729- (36) وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا رأيتم الرجل يتعاهد المسجد، فاشهدوا له بالإيمان؛ فإن الله يقول: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر} . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأخرجه ابن ماجه بلفظ من حديث أنس-انتهى. قلت: إسماعيل الكحال، قال أبوحاتم: صالح الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يخطئ. وقال الحافظ: صدوق يخطئ. وعبد الله بن أوس الخزاعي ذكره ابن حبان في الثقات. وقال الحافظ: لين الحديث. فالظاهر أن الحديث حسن، ويؤيده توثيق المنذري لرجال إسناده. وتفرد إسماعيل وعبد الله لا يضر؛ لأن له شواهد كثيرة بمعناه، وبعضها بلفظه أو بنحوه، وبعض أسانيدها صحاح وبعضها حسان من أحاديث بعض الصحابة، وكلها مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وانظرها في الترغيب (ج1: ص106) ومجمع الزوائد (ج2: ص31، 30) . 728، 727- قوله: (ورواه ابن ماجه عن سهل بن سعد) وأخرجه أيضاً ابن خزيمة في صحيحه، والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين. وقال في الزوائد: إسناده حسن، وصححه الحاكم وإبراهيم بن محمد الحلبي (شيخ ابن ماجه) قال ابن حبان في الثقات: يخطئ، وقال الذهبي في الكاشف: صدوق. وباقي رجاله ثقات. قال السندي: وهذا يؤيد قول من قال: إسناده حسن (وأنس) قال في الزوائد: إسناده ضعيف. 729- قوله: (يتعاهد المسجد) أي: يخدمه ويعمره. وقيل: المراد التردد إليه في إقامة الصلاة وجماعته. وهذا هو التعهد الحقيقي وهو عمارته صورة ومعنى. وفي رواية للترمذي "يعتاد" بدل يتعاهد" أي: يلازم المسجد ويرجع إليه كرة بعد أخرى. قال الطيبي: التعهد والتعاهد الحفظ بالشئ، وفي التعاهد المبالغة لأن الفعل إذا أخرج على زنة المبالغة دل على قوته، وورد في رواية للترمذي "يعتاد" بدل "يتعاهد" وهو أقوى سندا وأوفق معنى لشموله جميع ما يناط به المسجد من العمارة واعتياد الصلاة وغيرها. ألا ترى إلى ما أشهد به النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله (فاشهدوا له) أي: اقطعوا له القول (بالإيمان) لأن الشهادة قول صدر عن مواطأة القلب اللسان على سبيل القطع-انتهى. قال السندي: وهو الموافق للاستشهاد بالآية، لكن يشكل عليه حديث سعد: قال في رجل إنه مؤمن فقال - صلى الله عليه وسلم -: أو مسلم. رواه في الصحيحين، فإنه يدل على المنع عن الجزم بالإيمان إلا أن يقال ذلك الرجل لم يكن ملتزما للمساجد، أو يراد بالإيمان ههنا الإسلام، وفيه أن الجزم بالإسلام لا يحتاج إلى ملازمة المساجد، والأقرب أن المراد بالشهادة الاعتقاد وغلبة الظن-انتهى. وقال ابن حجر: بل التعهد أولى، أي: من لفظ يعتاد لأنه مع شموله لذلك يشمل تعهدها بالحفظ، والعمارة، والكنس، والتطييب، وغير ذلك ما يدل عليه استشهاده عليه السلام بالآية الآتية (إنما يعمر مساجد الله) أي: بإنشائها أو ترميمها، أو إحيائها بالعبادة والدروس {من آمن بالله واليوم الآخر} [18:9] قال في الكشاف: عمارتها كنسها وتنظيفها وتنويرها بالمصابيح،

رواه الترمذي، وابن ماجه، والدارمي. 730- (37) وعن عثمان بن مظعون، قال: ((يارسول الله! ائذن لنا في الاختصاء. فقال رسول الله: ((ليس منا من خصى ولا اختصى، إن خصاء أمتي الصيام. فقال: ائذن لنا في السياحة. ـــــــــــــــــــــــــــــ وتعظيمها واعتيادها بالعبادة والذكر، وصيانتها عما لم تبن له المساجد من حديث الدنيا فضلاً عن فضول الحديث-انتهى (رواه الترمذي) في الإيمان، وفي التفسير، وحسنه (وابن ماجه والدارمي) وأخرجه أيضاً ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما، والحاكم كلهم من طريق دراج أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد. قال الحاكم: صحيح الإسناد. قال الذهبي في سنده دراج وهو كثير المناكير. وكذا قال أحمد، وقال ابن معين: ثقة. وقال يحيى بن سعيد: ليس به بأس. وقال الحافظ: صدوق في حديثه عن أبي الهيثم ضعف. 730- قوله: (عن عثمان بن مظعون) بالظاء المعجمة ابن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح الجمحي القرشي، يكنى أبا السائب، أسلم بعد ثلاثة عشرة رجلاً، وهاجر هجرتين، وشهد بدراً، وكان ممن حرم الخمر في الجاهلية، وكان عابداً مجتهداً، من فضلاء الصحابة، وهو أول من مات بالمدينة من المهاجرين في شعبان على رأس ثلاثين شهراً من الهجرة بعد شهوده بدراً، وقيل: بعد اثنين وعشرين شهراً من مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة. ولما غسل وكفن قبله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين عينيه، ولما دفن قال: نعم السلف هو لنا. وهو أول من دفن ببقيع الغرقد من المهاجرين، ووضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجراً عند رأسه، وقال: هذا قبر فرطنا (ائذن لنا في الاختصاء) أي: سل الخصيتين لتزول شهوة النساء لأنه تشق علينا العزبة في المغازي (ليس منا) أي: ممن يقتدى بسنتنا ويهتدي بطريقتنا، لكن هذا التأويل لا يقال إلا في مقام التعليم، فلا يقال للعامة لئلا تتساهل في ذلك (من خصى) أي: سل خصية غيره (ولا اختصى) أي: بنفسه بحذف "من" لدلالة ما قبله عليه، يعني ولا من سل خصية نفسه واخرجها. قيل: واحتيج لتقدير "من" لئلا يتوهم أن المنهى عنه الجمع بينهما. قال ابن حجر: وكل من هذين حرام. وفي معناه إطعام دواء لغيره أو أكله، إن كان يقطع الشهوة والنسل دائماً. وكذا نادراً إن أطعم غيره بغير إذنه (إن خصاء) بكسر الخاء (أمتي الصيام) أي: فأكثروا الصوم، فإنه يكسر الشهوة وضررها. كما أفاده قوله - صلى الله عليه وسلم -: يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء. يعني أن تكثير الصوم مسكن لشهوة الجماع وقاطع لها مع ما فيه من سلامة النفس من التعذيب وقطع النسل، ومن حصول الثواب بالصوم المقتضي لرياضة النفس المؤدية إلى إطاعتها لأمر الله تعالى. وفيه دليل على كراهة الاستمناء باليد (في السياحة) بكسر السين المهملة بعدها تحتية، وهي مفارقة الأمصار والذهاب في الأرض كفعل عباد بني إسرائيل،

قال: إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله. فقال: ائذن لنا في الترهب. فقال: إن ترهب أمتي الجلوس في المساجد انتظار الصلاة)) . رواه في شرح السنة. 731- (38) وعن عبد الرحمن بن عائش، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((رأيت ربي عزوجل في أحسن صورة. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الطيبي: (إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله) وهو أفضل، فإنه عبادة شاقة على النفس ونفعه متعد إلى الغير، وهو يشمل الجهاد الأكبر والأصغر (في الترهب) أي: في التعبد، وإرادة العزلة، والفرار من الناس إلى رؤوس الجبال كالرهبان. وأصل الترهب من الرهب بمعنى الخوف، كانوا يترهبون بالتخلي من أشغال الدنيا وملاذها. (انتظار الصلاة) بالإضافة، ونصبه بأنه مفعول له للجلوس أي: لانتظار الصلاة، فإن الجلوس في المسجد يتضمن فوائد الترهب مع زيادة الفضائل (رواه) أي: البغوي (في شرح السنة) بسنده المتصل من حديث سعد بن مسعود الصحابي: أن عثمان بن مظعون أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يارسول الله! ائذن لنا في الاختصاء. وساقه بسند فيه مقال، قاله ميرك. وقال الحافظ في الإصابة (ج2:ص27) في ترجمة سعد بن مسعود الكندي: قال ابن المبارك في الزهد: أنبأنا رشدين بن سعد، عن ابن أنعم عن سعد بن مسعود أن عثمان بن مظعون أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ائذن لنا في الاختصاء-فذكر الحديث انتهى. وروى الطبراني في الكبير عن ابن عباس: ليس منا من خصى أو اختصى، ولكن صم ووفر شعر جسدك. قال المناوي: قاله لعثمان بن مظعون لما قال له: إني رجل شبق فأذن لي في الاخصاء. وأخرج الطبراني أيضاً من حديث عثمان نفسه أنه قال: يارسول الله! إني رجل يشق على العزوبة فأذن لي في الخصاء، قال: لا ولكن بالصيام-الحديث. ومن طريق سعيد بن العاص أن عثمان قال: يارسول الله! ائذن لي في الاختصاء، فقال: إن الله قد أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة. 731- قوله: (عبد الرحمن بن عائش) بكسر الهمزة والشين المعجمة، كذا في المفاتيح. وقال في التقريب بمثانة تحتية ثم معجمة يعنى أن أصله ياء، قال ابن حبان: له صحبة. وقال ابن السكن: يقال: له صحبة. وذكره في الصحابة محمد بن سعد، والبخاري، وأبوزرعة الدمشقي، وأبوالحسن بن سميع، وأبوالقاسم، والبغوي، وأبوزرعة الحراني، وغيرهم. وقال أبوحاتم الرازي: أخطأ من قال: له صحبة. وقال ابن خزيمة، والترمذي: لم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال البخاري: له حديث واحد إلا أنهم مضطربون فيه، كذا في الإصابة (ج2:ص45) وقال في تهذيب التهذيب (ج6:ص204) : عبد الرحمن بن عائش الحضرمي- ويقال السكسكي- مختلف في صحبته، وفي إسناد حديثه (رأيت ربي عزوجل في أحسن صورة) الصواب أن هذا الحديث مستند إلى رؤيا رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يدل على ذلك

قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت أنت أعلم. قال: فوضع كفه بين كتفي، فوجدت بردها بين ثدي، فعلمت ما في السموات والأرض، ـــــــــــــــــــــــــــــ حديث ابن عباس عند الترمذي ففيه: أتاني الليلة ربي تبارك وتعالى في أحسن صورة، قال أحسبه قال: في المنام، ويدل على ذلك أيضاً حديث معاذ بن جبل الآتي في الفصل الثالث فإن فيه: فنعست في صلاتي حتى استثقلت، فإذا أنا بربي في أحسن صورة. قال الحافظ ابن كثير بعد نقله عن مسند أحمد: وهو حديث المنام المشهور، ومن جعله يقظة غلط-انتهى. والروايات التي أطلق فيها الرؤية محمولة على المقيدة. وإليه أشار الدارمي حيث بوب على حديث عبد الرحمن بن عائش هذا "باب رؤية الرب تعالى في النوم" وعلى هذا فلا إشكال في الحديث، إذ الرأى قد يري غير المتشكل متشكلاً والمتشكل بغير شكله، ثم لم يعد ذلك بخلل في الرؤيا ولا في خلد الرأي، بل له أسباب أخرى تذكر في علم المنام أي: التعبير، ولولا تلك الأسباب لما افتقرت رؤيا الأنبياء عليهم السلام إلى تعبير، وعلى تقدير كون ذلك في اليقظة فمذهب السلف في مثل هذا من أحاديث الصفات إذا صح أن يمر كما جاء من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل، وأن يؤمن به من غير تأويل له، وأن يسكت عنه وعن أمثاله مع الاعتقاد بأن الله تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. وقال من ذهب إلى التأويل: إن قوله في أحسن صورة، حال من الفاعل، أي: رأيت ربي حال كوني في أحسن صورة وصفة من غاية إنعامه ولطفه على، وإن كان حالا من المفعول فالمراد بالصورة صفته أو شأنه أو مثل ذلك، كما يقال: صورة المسألة كذا، وصورة الحال كذا، فإن إطلاق الصورة على الصفة شائع، والمعنى: رأيت ربي حال كون الرب في أحسن صفة أو شأن، قلت: مذهب السلف هو المنهج القويم والمسلك الصحيح فهو المتعين ولا حاجة إلى التأويل (قال) أي: ربي (فيم) أي: في أي: شيء (يختصم أي: يبحث (الملأ الأعلى) أي: الملائكة المقربون، والملأ هم الأشراف الذين يملؤن المجالس والصدور عظمة وإجلالا، وصفوا بالأعلى إما لعلو مكانهم وإما لعلو مكانتهم عند الله تعالى. قال الطيبي: المراد بالاختصام التقاول الذي كان بينهم في الكفارات والدرجات، شبه تقاولهم في ذلك وما يجري بينهم من السؤال والجواب، بما يجري بين المتخاصمين (أنت أعلم) أي: بما ذكر وغيره، وزاد في المصابيح كما في الدارمي: أي: رب (قال) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - (فوضع) أي: ربي (كفه بين كتفي) بتشديد الياء. قيل: هو مجاز من تخصيصه إياه بمزيد الفضل عليه وإيصال الفيض إليه، لأن من ديدن الملوك إذا أرادوا أن يدنوا إلى أنفسهم بعض خدمهم يضعون أيديهم على ظهره تلطفاً به وتعظيماً لشأنه فجعل ذلك حيث لا كف ولا وضع حقيقة كناية عن التخصيص بمزيد الفضل والتأييد - انتهى. قلت: قد تقدم في مثل هذا مذهب السلف أنه يؤمن بظاهره من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا يفسر بما يفسر به صفات الخلق بل تنفي عنه الكيفية ويوكل علم الكيفية إلى الله تعالى وهذا هو المعتمد المعمول عليه (فوجدت بردها بين ثدي) بالتثنية والإضافة إلى ياء المتكلم أي: قلبي وصدري. قال القاري: هو كناية عن وصول ذلك الفيض إلى قلبه، ونزول الرحمة، وانصباب العلوم عليه، وتأثره عنه، ورسوخه فيه، وإتقانه له –انتهى. وفيه ما تقدم آنفاً (فعلمت ما في السموات والأرض) الأرض بمعنى الجنس أي: وما

في الأرضين السبع. قال القاري: يعني ما أعلمه الله تعالى مما فيهما من الملائكة والأشجار وغيرهما، وهو عبارة عن سعة علمه الذي فتح الله به عليه، قال: ويمكن أن يراد بالسموات الجهة العليا، وبالأرض الجهة السفلى، فيشمل الجميع لكن لا بد من التقييد الذي ذكرنا، إذ لا يصح إطلاق الجميع كما هو الظاهر-انتهى. اعلم أنه قد استدل بعض القبوريين في هذا الزمان بقوله: فعلمت ما في السموات والأرض، على ما ابتدعوا واعتقدوا من أن الله تعالى قد خص نبينا محمداً - صلى الله عليه وسلم - من بين الأنبياء بعلم جميع ما كان من بدء الخلق وما هو كائن إلى يوم القيامة إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، فكان علمه - صلى الله عليه وسلم - عند هؤلاء محيطاً بجميع الأشياء حقائقها وعوارضها وصفاتها إحاطةً تامةً كليةً بتعليم الله تعالى وإلهامه، كما أنه تعالى أحاط بكل شيء علماً، ولا فرق بين علمه تعالى وعلم رسوله عندهم إلا أن علم الله ذاتي وحقيقي، وعلم رسوله ليس بذاتي بل وهبي، حصل له بتعليم الله وانكشف له الأشياء بإلهامه، وهذا كما تراه مخالف للعقل والنقل من النصوص الصريحة من كتاب الله وسنة رسوله، وتصريحات السلف الصالح من الصحابة والتابعين والمحدثين، وفقهاء المذاهب الأربعة، وغيرهم. قالوا في وجه الاستدلال: أن لفظه "ما" في الحديث للعموم الاستغراق فتعم جميع الممكنات من الموجودات، والمعدومات وذوات العقول، وغيرها بل تشتمل الواجبات والممتنعات أيضاً. قلت: استدلالهم هذا مخدوش من وجوه بل باطل، الأول: أن لفظة "ما" في أصل الوضع لغير ذوى العقول عند المحققين فيخرج من مفهومها ذوات العقول كما يدل عليه قصة ابن الزبعري في قوله تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} [98:21] وعلى هذا فلا تكون الرواية دليلاً على كون علمه - صلى الله عليه وسلم - محيطاً بجميع الأشياء إحاطة كلية. والثاني: أن من ذهب إلى كونها شاملة لذوى العقول وهم الأكثر من علماء الأصول قد صرحوا بأنها إنما تشمل صفات من يعقل فقط لا ذواتهم، أعنى أن ذوات من يعقل خارجة من مفهومها عندهم أيضاً بحسب أصل الوضع، فلا تشملها إلا بقرينة ولا قرينة ههنا تدل على ذلك، بل الأمر بالعكس كما سيأتي، فبطل بذلك دعوى العلم الكلي له - صلى الله عليه وسلم -. والثالث: أن قوله: في السموات والأرض، في الحديث يدل على أن المراد بلفظه "ما" إنما هي الممكنات فقط لا الواجبات والممتنعات، وذلك لأن تقدير الكلام: فعلمت ما هو كائن، أو ثابت، أو متحقق، أو موجود، أو حاصل، أو مستقر، أو حادث في السموات والأرض. وهذا إنما هو شأن الممكن بالإمكان الخاص لا الواجب والممتنع، وهذا يبطل دعوى القبوريين بكون علمه عليه السلام كليا محيطا بجميع الأشياء. والرابع: أن سياق الحديث يدل على أن لفظة ما ههنا ليست للعموم والاستغراق، فإنه - صلى الله عليه وسلم - قد بين ذلك باستشهاده بقوله تعالى: {وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض} [75:6] ما علمه الله عزوجل في المنام، وهو عجائب السموات والأرض فقط لا جميع ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، وإلا يلزم أن يقال: إن إبراهيم عليه السلام أيضاً كان عالما بجميع الأشياء بعلم كلي محيط إحاطة تامة، ويبطل بذلك دعوى الخصوصية، وهو خلاف ما ذهب إليه القبوريون من أن ذلك من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -، فلا مناص من أن يقال أن لفظة "ما" في الحديث ليست للعموم والاستغراق. والخامس: أنه قد ثبت بنصوص الكتاب والسنة

وتلا {وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين} رواه الدارمي. ـــــــــــــــــــــــــــــ الصحيحة الصريحة عدم علمه - صلى الله عليه وسلم - ببعض الأشياء كما يدل عليه قوله تعالى: {مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم} [101:9] وقوله: {وما علمناه الشعر، وما ينبغي له} [69:36] وقوله: {قل إنما علمها عند ربي} [187:7] وقوله عليه السلام (أنتم أعلم بأمور دنياكم) . وقوله: (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) وقوله في حديث الشفاعة (أحمده بمحامد لا أقدر عليه الآن يلهمنيه الله تعالى) وفي رواية (فأحمده بتحميد يعلمنيه ربي) وغير ذلك من الآيات والأحاديث الصحيحة الصريحة، فعدم علمه - صلى الله عليه وسلم - ببعض الأشياء أو ببعض أوصافها قرينة صريحة على أن لفظه "ما" في الحديث ليست للعموم والاستغراق، وهو يبطل دعوى القبوريين. وأما قولهم: بأن المراد بنفي علم الغيب عنه - صلى الله عليه وسلم - في بعض الآيات والأحاديث نفى العلم الذاتي لا الو هبي فهو تحكم محض وادعاء بحت ليست عليه أثارة من علم لا من كتاب، ولا من سنة، ولا من إجماع، ولا من قياس، بل يبطله قوله تعالى: {ولا يحيطون بشيء من علمه} [255:2] وقوله: {وما يعلم جنود ربك إلا هو} [31:74] فتفكر وتأمل ولا تعجل (وتلا) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - استشهادا على ما تقدم (وكذلك نرى إبراهيم) مضارع في اللفظ ومعناه الماضي والعدول لإرادة حكاية الحال الماضية استعجابا، أي: أرينا إبراهيم، يعني كما أن الله أرى إبراهيم عليه السلام ملكوت السموات والأرض وكشف له ذلك، فتح على أبواب الغيوب التي تليق لشأن الرسالة والكاف للتشبيه، وهي في محل نصب نعتاً لمصدر محذوف فقدره الزمخشري: ومثل ذلك التعريف والتبصير نعرف إبراهيم ونبصره ملكوت. وقدره بعضهم: وكما أريناك يا محمد الهداية أو أحكام الدين، وعجائب ما في السموات وما في الأرض أرينا إبراهيم. وقال الخازن، معناه: وكما أرينا إبراهيم البصيرة في دينه، والحق في خلاف قومه وما كانوا عليه من الضلال في عبادة الأصنام، نريه ملكوت السموات والأرض، فلهذا السبب عبر عن هذه الرؤية بلفظ المستقبل في قوله {وكذلك نرى} لأنه تعالى كان أراه بعين البصيرة أن أباه وقومه على غير الحق فخالفهم فجزاه الله بأن أراه بعد ذلك ملكوت السموات ولأرض فحسنت هذه العبارة لهذا المعنى (ملكوت السموات والأرض) أي: ملكهما وهو فعلوت من الملك، وزيدت التاء والواو للمبالغة في الصفة، ومثله الرغبوت والرحموت والرهبوت مبالغة في الرغبة والرحمة والرهبة قيل: أراد بملكوتها ما فيهما من الخلق، وقيل: عجائبهما وبدائعهما، وقيل الربوبية والألوهية. أي: نريه ذلك ونوفقه لمعرفته بطريق الاستدلال التي سلكها. وقال ابن كثير: أي: نبين له وجه الدلالة في نظره إلى خلقها إلى وحدانية الله عزوجل في ملكه وخلقه وإنه لا إله غيره كقوله {أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض} [185:7] (وليكون من الموقنين) عطف على مقدر، أي: ليستدل به على وحدانيتنا، ويصح أن يكون علة لمحذوف أي: وليكون من الموقنين فعلنا ذلك، والجملة معطوفة على الجملة قبلها، واليقين عبارة عن علم يحصل بسبب التأمل بعد زوال التشبه لأن الإنسان في أول الحال لا ينفك عن شبهة وشك، فإذا كثرت الدلائل وتوافقت صارت سبباً لحصول اليقين والطمأنينة في القلب (رواه الدارمي) في كتاب الرؤيا من طريق الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن خالد بن اللجلاج، عن عبد الرحمن بن عائش الحضرمي أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: رأيت ربي – الحديث. وأخرجه أيضاً

مرسلاً. 733، 732- (40، 39) وللترمذي نحوه عنه، ـــــــــــــــــــــــــــــ من هذا الطريق ابن خزيمة، والبغوي وابن السكن، وأبونعيم. ووقع في أسانيدهم التصريح بسماع عبد الرحمن من النبي - صلى الله عليه وسلم - (مرسلاً) إنما أطلق عليه المرسل مع التصريح فيه بسماع عبد الرحمن بن عائش من النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن ابن عائش هذا مختلف في صحبته كما تقدم، والراجح عند المصنف أنه لم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن "سمعت" في هذا الحديث وهم. قال ميرك: قوله: رواه مرسلاً، بل معضلاً فإن عبد الرحمن هذا مختلف في صحبته، والصحيح أنه لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - بل رواه عن مالك بن يخامر، عن معاذ بن جبل، كما في مسند أحمد وهو إسناد جيد – انتهى. 733، 732- قوله: (وللترمذي) أي: في تفسير سورة ص (نحوه) أي: نحو هذا اللفظ أي: معناه (عنه) أي: عن عبد الرحمن لكن لم يذكر الترمذي لفظ حديثه، بل قال بعد إخراج حديث معاذ بن جبل الآتي في الفصل الثالث: قال البخاري: هذا أصح من حديث الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال: حدثنا خالد بن اللجلاج: حدثني عبد الرحمن بن عائش الحضرمي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر الحديث، وهذا غير محفوظ، هكذا ذكر الوليد في حديثه عن عبد الرحمن بن عائش قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ورواه بشر بن بكر عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر هذا الحديث بهذا الإسناد عن عبد الرحمن بن عائش، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا أصح، وعبد الرحمن بن عائش لم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى كلام الترمذي. وقال ابن خزيمة "سمعت" في هذا الحديث وهم فإن هذا الخبر لم يسمعه عبد الرحمن، ثم استدل على ذلك بما أخرجه هو والترمذي من رواية أبي سلام، عن عبد الرحمن بن عائش، عن مالك ابن يخامر، عن معاذ بن جبل فذكر نحوه، قال الترمذي: صحيح. وقال أبوعمرو: هو الصحيح عندهم، وقال، وقد سبقه ابن خزيمة: لم يقل في حديثه: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا الوليد بن مسلم. قال الحافظ في الإصابة (ج2: ص405) في ترجمة عبد الرحمن بن عائش: لم ينفرد الوليد بن مسلم بالتصريح المذكور بل تابعه حماد بن مالك الأشجعي والوليد بن يزيد البيروتي، وعمارة بن بشر، وغيرهم عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر. فأما الوليد بن يزيد فأخرجه الحاكم، وابن مندة والبيهقي من طريق العباس بن الوليد، عن أبيه: حدثنا ابن جابر، قال: وهذه متابعة قوية للوليد بن مسلم، وأما حماد بن مالك فأخرجه البغوي. وابن خزيمة من طريقه، قال: حدثنا ابن جابر، وأما رواية عمارة بن بشر فأخرجها الدارقطني في كتاب الرواية من طريقه: حدثنا عبد الرحمن بن جابر، فذكر نحو رواية حماد بن مالك، وزاد: وذكر ابن جابر عن أبي سلام أنه سمع عبد الرحمن بن عائش يقول في هذا الحديث: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر بعضه. وأما رواية بشر الذي أشار إليها الترمذي فأخرجها الهيثم بن كليب في مسنده، وابن خزيمة والدار القطني من طريقه، عن ابن جابر عن خالد سمعت عبد الرحمن بن عائش يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم ذكر الحافظ الاختلاف على خالد بن اللجلاج فقال: وروى هذا الحديث يزيد بن يزيد بن جابر أخو عبد الرحمن، عن خالد فخالف أخاه، أخرجه أحمد من طريق زهير بن محمد عنه عن خالد، عن عبد الرحمن بن عائش، عن رجل من الصحابة فزاد فيه رجلاً، ولكن رواية

وعن ابن عباس، ومعاذ بن جبل، وزاد فيه: ((قال: يا محمد! هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: نعم، في الكفارات. والكفارات: المكث في المساجد ـــــــــــــــــــــــــــــ زهير بن محمد عن الشاميين ضعيفة كما قال البخاري وغيره، وهذا منها. وقال هشام الدستوائي عن أبي قلابة، عن خالد ابن اللجلاج، عن ابن عباس أخرجه الترمذي وأبويعلى، عن قتادة، عن أبي قلابة. وقد ذكر أحمد بن حنبل أن قتادة أخطأ فيه، والقول ما ابن جابر. ورواه أيوب عن أبي قلابة مرسلاً لم يذكر خالداً، أخرجه الترمذي وأحمد، وكذا أرسله بكر بن عبد الله المزني عن أبي قلابة أخرجه الدارقطني، ورواه سعيد بن بشير، عن قتادة، عن أبي قلابة فخالف الجميع، قال: عن أبي أسماء، عن ثوبان، وهي رواية أخطأ فيه سعيد بن بشير وأشد منها خطأ رواية أخرجها أبوبكر النسيابوري في الزيادات من طريق يوسف بن عطية، عن قتادة، عن أنس، وأخرجها الدارقطني، ويوسف متروك. قال: ويستفاد من مجموع ما ذكرت قوة رواية عبد الرحمن بن يزيد بن جابر بإتقانها، ولأنه لم يختلف عليه فيها. وأما رواية أبي سلام فاختلف عليه. وروى حماد بن مالك كما تقدم كرواية عبد الرحمن بن يزيد بن جابر. وخالفه زيد بن سلام. فرواه عن جده أبي سلام، عن عبد الرحمن بن عائش، عن مالك بن يخامر، عن معاذ، وقد ذكره مطولاً، وفيه قصة، هكذا رواه جهضم بن عبد الله اليمامي، عن يحيى بن أبي كثير، عن زيد. أخرجه أحمد (ج 5: ص243) وابن خزيمة والرؤياني والترمذي والدارقطني وابن عدي وغيرهم. وخالفهم موسى بن خلف فقال: عن يحيى، عن زيد عن جده عن أبي عبد الرحمن السكسكي، عن مالك بن يخامر، عن معاذ، أخرجه الدارقطني وابن عدي. ونقل عن أحمد أنه قال: هذه الطريق أصحها. قال الحافظ: فإن كان الأمر كذلك فإنما روى هذا الحديث المالك بن يخامر أبوعبد الرحمن السكسكي لا عبد الرحمن بن عائش. ويكون للحديث سندان: ابن جابر عن خالد عن عبد الرحمن بن عائش. ويحي، عن زيد، أبي سلام، عن أبي عبد الرحمن عن مالك عن معاذ. ويقوي ذلك اختلاف السياق بين الراويتين- انتهى كلام الحافظ في الإصابة مختصراً ومخلصاً (وعن ابن عباس) عطف على عنه. والحديث أخرجه الترمذي عن ابن عباس من طريق أبي قلابة، عن ابن عباس، وعنه، عن خالد بن اللجلاج، عن ابن عباس. وقال: حديث حسن. وأخرجه أيضاً عبد الرزاق، وأبويعلى، وعبد بن حميد، ومحمد بن نصر (ومعاذ بن جبل) أراد حديثه الذي ذكره في الفصل الثالث، وقد تقدم تخريجه في كلام الحافظ (وزاد) أي: الترمذي (فيه) أي: في نحوه من الحديث (قال) أي: الله تعالى سائلاً مرة أخرى كما يدل عليه أول الحديث الذي اختصره المصنف، وهو مذكور عند الترمذي وغيره، وسياق الحديث الذي ذكره المصنف إنما هو من رواية أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس (قلت نعم، في الكفارات) أي: يختصمون في الكفارات يعني في أعمال تكفر الذنوب، وفي رواية قتادة عن أبي قلابة عن خالد بن اللجلاج عن ابن عباس في الدرجات والكفارات (والكفارات) مبتدأ وخبره "المكث في المساجد" الخ. وسميت هذه الخصال كفارات لأنها تكفر الذنوب عن فاعلها، فهي من باب تسمية الشيء باسم لازمه (في المساجد) وفي بعض نسخ الترمذي "المسجد" بلفظ

بعد الصلوات، والمشي على الأقدام إلى الجماعات، وإبلاغ الوضوء في المكاره، فمن فعل ذلك عاش بخير، ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه، وقال: يا محمد! إذا صليت فقل: أللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون، قال: والدرجات: إفشاء السلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام) . ولفظ هذا الحديث كما في "المصابيح" لم أجده عن عبد الرحمن إلا في شرح السنة. ـــــــــــــــــــــــــــــ الإفراد (بعد الصلوات) أي: بعد كل صلاة انتظار الصلاة أخرى، وفي الترمذي "بعد الصلاة" بلفظ الإفراد (والمشي على الأقدام إلى الجماعات) فإن الآتي إلى المسجد زائر الله، والزيارة على الأقدام أقرب إلى الخضوع والتواضع والتذلل (وإبلاغ الوضوء) بفتح الواو وتضم، أي: إيصال ماء الوضوء بطريق المبالغة مواضع الفروض والسنن. وفي الترمذي "إسباغ الوضوء" بدل إبلاغ. والإبلاغ بمعنى الإسباغ (في المكاره) جمع مكره بفتح ميم ما يكرهه شخص ويشق عليه أي: التوضى مع برد شديد وعلل، يتأذى معها بمس الماء. قال ابن الملك: إنما خص هذه الأشياء بالذكر حثاً على فعلها لأنها دائمة فكانت مظنة أن تمل-انتهى (فمن فعل) وفي الترمذي "ومن" بالواو (ذلك) أي: المذكور (عاش بخير ومات بخير) كما دل عليه قوله تعالى: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياةً طيبةً ولنجزينهم بأحسن ما كانوا يعملون} [97:16] (وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه) أي: فيه بفتح "يوم" قال الطيبي: مبنى على الفتح لإضافته إلى الماضي، وإذا أضيف إلى المضارع اختلف في بناءه، أي: كان مبرأ كما كان مبرأ يوم ولدته أمه (إذا صليت) أي: فرغت من الصلاة (فعل الخيرات) بكسر الفاء، وقيل: بفتحها، وقيل: الأول اسم، والثاني مصدر، والخيرات ما عرف من الشرع من الأقوال الحميدة والأفعال السعيدة (وترك المنكرات) هي التي لم تعرف من الشرع من الأقوال القبيحة والأفعال السيئة (وحب المساكين) الظاهر أنه كما قبله من إضافة المصدر إلى المفعول، وهو تخصيص بعد تعميم لدخوله في الخيرات اهتماماً بهاذ الفرد منه (فتنة) أي: ضلالة أو عقوبة دنيوية (فاقبضني) بكسر الباء، أي: توفني (غير مفتون) أي: غير ضال أو غير معاقب (قال) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - (والدرجات) مبتدأ، أي: ما ترفع به الدرجات (إفشاء السلام) أي: بذله على من عرفه ومن لم يعرفه (والناس نيام) بكسر النون جمع نائم، والجملة حالية، وإنما عدت هذه الأشياء من الدرجات لأنها فضل منه على ما وجب عليه فلا جرم استحق بها فضلاً وهو علو الدرجات، هذا. وارجع لشرح الحديث مفصلا، وبسط الكلام عليه مطولاً إلى كتاب "اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى" لابن رجب.

734- (41) وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاثة كلهم ضامن على الله: رجل خرج غازياً في سبيل الله، فهو ضامن على الله حتى يتوفاه، فيدخله الجنة، أو يرده بما نال من أجر أو غنيمة؛ ورجل راح إلى المسجد، فهو ضامن على الله؛ ورجل دخل بيته بسلام، فهو ضامن على الله)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 734- قوله: (ثلاثة) أي: أشخاص (كلهم) أي: كل واحد منهم، والإفراد باعتبار لفظ الكل. قال الخطابي: أنشدني أبوعمر، عن أبي العباس في كل بمعنى كل واحد: فكلهم لا بارك الله فيهم ... إذا جاء ألقى خده يتسمعا (ضامن على الله) عدى الضمان بعلى بتضمين معنى الوجوب والمحافظة، والضامن بمعنى المضمون كدافق بمعنى مدفوق في قوله تعالى: {من ماء دافق} [6:86] ) وعاصم بمعنى معصوم في قوله: {لا عاصم اليوم من أمر الله} [43:11] على تأويل و"راضية بمعنى مرضية" في قوله: {عيشة راضية} [7:101) أو هو بمعنى ذو ضمان أي: حفظ ورعاية كلا بن وتامر أي: صاحب لبن وتمر. وحاصل المعنى أنه يجب على الله بمقتضى وعده الصادق أن يحفظ كلا من هؤلاء الثلاثة من الضرر والخيبة والضياع والآفة (خرج غازياً) أي: حال كونه مريداً للغزو (فهو ضامن على الله) أي: واجب الحفظ والرعاية على الله كالشئ المضمون (حتى يتوفاه) أي: يقبض روحه إما بالموت أو بالقتل في سبيل الله (فيدخله الجنة) أي: مع الناجين (أو يرده) عطف على يتوفاه (بما نال) أي: مع ما وجد (من أجر) أي: ثواب فقط (أو غنيمة) أي: مع الأجر فأو للتنويع (ورجل راح) أي: مشى إلى المسجد (فهو ضامن على الله) أي: يعطيه الأجر وأن لا يضيع سعيه، أو واجب الوقاية والرعاية، ووقع في سنن أبي داود بعد قوله "ضامن على الله" حتى يتوفاه، فيدخله الجنة، أو يرده بما نال من أجر أوغنيمة، وهكذا رواه الحاكم وكذا ذكره السيوطي في الجامع الصغير، وسقط هذا من جميع نسخ المشكاة (ورجل دخل بيته بسلام) يحتمل وجهين، أحدهما: أن يسلم على أهله إذا دخل منزله كقوله تعالى: {فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم} [61:24] والمضمون عليه أن يبارك عليه وعلى أهله فمعنى قوله: (فهو ضامن على الله) أي: يعطيه البركة والثواب الكثير لما روى أنه عليه السلام قال لأنس: إذا دخلت على أهلك فسلم، يكون بركة عليك وعلى أهل بيتك. والوجه الآخر: أن يكون أراد بدخول بيته سالماً من الفتن، أي: طالباً للسلامة منها. قال الطيبي: وهذا أوجه لأن المجاهدة في سبيل الله سفرا، والرواح إلى المسجد حضراً، ولزوم البيت اتقاء من الفتن آخذ بعضها بحجزة بعض، فعلى هذا المضمون به هو رعاية الله تعالى وجواره من الفتن-انتهى. وإنما لم يذكر المضمون به في الأخير اكتفاء لظهور المراد وهو الأجر والمثوبة حسب ما يليق به من

رواه أبوداود 735- (42) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من خرج من بيته متطهراً إلى الصلاة مكتوبة؛ فأجره كأجر الحاج المحرم. ومن خرج إلى تسبيح الضحى لا ينصبه إلا إياه، فأجره كأجر المعتمر. ـــــــــــــــــــــــــــــ البركة والسلامة (رواه أبوداود) في الجهاد وسكت عنه، وأخرجه أيضاً ابن حبان والحاكم في الجهاد وقال "صحيح" ووافقه الذهبي. 735- قوله: (من خرج من بيته متطهراً إلى صلاة مكتوبة، فأجره كأجر الحاج المحرم) أي: كما أن الحاج إذا كان محرما قبل الميقات كان ثوابه أتم، فكذلك الخارج إلى الصلاة إذا كان متطهراً من بيته كان ثوابه أفضل، شبه بالحاج المحرم لكون التطهر من الصلاة بمنزلة الإحرام من الحج لعدم جوازهما بدونهما. وقيل: المراد كأصل أجره، وقيل: كأجره من حيث أنه يكتب له بكل خطوة أجر كالحاج، وإن تغاير الأجران كثرة وقلة أو كمية وكيفية. وقال الطيبي: من خرج من بيته أي: قاصداً إلى المسجد لأداء الفرائض. وإنما قدرنا القصد ليطابق الحج لأنه القصد الخاص، فنزل النية مع التطهير منزلة الإحرام. وأمثال هذه الأحاديث ليست للتسوية، كيف وإلحاق الناقص بالكامل يقتضى فضل الثاني وجوبا ليفيد المبالغة، وإلا كان عبثاً، فشبه حال المصلي القاصد إلى المكتوبة بحال الحاج المحرم في الفضل مبالغةً وترغيباً للمصلي ليركع مع الراكعين، ولا يتقاعد عن حضور الجماعات (تسبيح الضحى) أي: صلاة الضحى، وكل صلاة تطوع تسبيحة وسبحة. قال الطيبي: المكتوبة والنافلة وإن اتفقتا في أن كل واحدة منهما يسبح فيها إلا أن النافلة جاءت بهذا الاسم أخص من جهة أن التسبيحات في الفرائض والنوافل سنة، فكأنه قيل للنافلة تسبيحة على أنها شبيهة بأذكار في كونها غير واجبة (لا ينصبه) أي: لا يتعبه ولا يخرجه، بضم الياء من الأنصاب وهو الإتعاب، مأخوذ من نصب بكسر الصاد أي: تعب، وأنصبه غيره أي: أتعبه، ويروي بفتح الياء من نصبه إذا أقامه، قاله زين العرب. وقال التوربشتي: هو بضم الياء والفتح احتمال لغوي لا أحققه رواية (إلا إياه) أي: لا يزعجه ولا يحمله على الخروج إلا ذلك، أي: تسبيح الضحى. وحقه أن يقال: إلا هو، فوضع الضمير المنصوب موضع المرفوع. قال ابن الملك: وضع الضمير المنصوب موضع المرفوع لأنه استثناء مفرغ يعني لا يتعبه إلا الخروج إلى تسبيح الضحى (فأجره كأجر المعتمر) إشارة إلى أن فضل ما بين المكتوبة ولا نافلة، والخروج إلى كل واحد منهما، كفضل ما بين الحج والعمرة، والخروج إلى كل واحد منهما. ولا تخالف بين هذا الحديث وحديث "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" لأن حديث الباب يدل على جوازه في المسجد لا على أفضليته، أو يحمل على من لا يكون له مسكن، أو في مسكنه شاغل ونحوه على أنه ليس للمسجد ذكر في الحديث أصلاً، فالمعنى: من خرج من بيته أو سوقه أو شغله متوجها إلى صلاة الضحى تاركاً أشغال الدنيا. وقال التوربشتي: يحتمل أن يكون قوله - صلى الله عليه وسلم -: يا أيها الناس صلوا في بيوتكم، فإن خير صلاة الرجل في بيته إلا المكتوبة، مختصاً بصلاة

وصلاة على إثر صلاة لا لغو بينهما، كتاب في عليين)) رواه أحمد، وأبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ الليل وإن كان ظاهر لفظه يقتضي العموم، وذلك لأنه قال هذا القول بعد أن قام ليالي رمضان، فلما رآهم يجتمعون إليه ويتنحنحون ليخرج إليهم قال ذلك. ومن الدليل على صحة ما ذهبنا إليه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقعد في مصلاه حتى تطلع الشمس، ثم يركع ركعتين، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: من قعد في مصلاه حين ينصرف من صلاة الصبح حتى يسبح ركعتي الضحى لا يقول إلا خيراً إلا غفر له خطاياه، وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، وكان - صلى الله عليه وسلم - يأتي مسجد قباء كل سبت ماشياً وراكباً فيصلي فيه ركعتين، فلو كانت صلاته هذا في البيت خيراً لم يكن ليأخذ بالأدنى ويدع الأعلى والأفضل. وإذ قد ثبت هذا فنقول الظاهر أنه أمرهم بالصلاة في بيوتهم لمعان، أو لبعض تلك المعاني: أحدها، وهو آكد الوجوه: أنه أحب أن يجعلوا لبيوتهم حظا من الصلاة، ولا يتركوا الصلاة فيها فيجعلوها قبورا مثل بيوت بني إسرائيل، فإنهم كانوا لا يصلون إلا في كنائسهم وبيعهم. والثاني: أحب أن يتنفلوا في بيوتهم ليشملها بركة الصلاة فيرتحل عنها الشيطان، وينزل فيها الخير والسكنية. والثالث: أنه رأى النافلة في البيت أفضل حذرا من دواعي الرياء وطلب المحمدة التي جبل عليها الإنسان ونظراً إلى سلامته من العوارض والموانع التي تصيبه في المسجد بخلاف البيت، فإنه يخلو هناك بنفسه فينسد مداخل تلك الآفات والعوارض. فعلى الوجه الأول والثاني، إذا أدى الإنسان بعض نوافله في البيت فقد خرج من عهدة ما شرع له. وعلى الوجه الثالث، إذا تمكن عن أداء نافلة في المسجد عارية عن تلك القوادح لم تتأخر صلاته تلك عن صلاته في البيت فضيلة. وأرى قوله "لا ينصبه إلا إياه" إشارة إلى هذا المعنى، وهو أن لا يشوب قصده ذلك شيء آخر، فلا يزعجه إلا القصد المجرد بخروجه إلى الصلاة سالما من الآفات التي أشرنا إليها- انتهى كلام التوربشتي مختصراً (وصلاة على إثر صلاة) بكسر الهمزة وسكون الثاء وبفتحتين لغتان، أي: عقبيهما، يعني صلاة تتبع صلاة وتتصل بها ليلاً ونهاراً فرضاً وسنة (لا لغو بينهما) أي: ما لا يعني من القول والفعل، قال في النهاية: يقال: لغا الإنسان يلغو ولغى يلغى، إذا تكلم بالمطروح من القول وما لا يعني. وقال في القاموس: اللغو واللغى كالفتى السقط وما لا يعتد به من كلام وغيره - انتهى. فيشمل اللغو من الفعل كما جاء في الحديث: من مس الحصى فقد لغى (كتاب) أي: عمل مكتوب (في عليين) قال ابن رسلان: أي: مكتوب ومقبول تصعد به الملائكة المقربون إلى عليين لكرامة المؤمن وعمله الصالح. قال القاري: هو علم لديوان الخير الذي دون فيه أعمال الأبرار. قال تعالى {إن كتاب الأبرار لفي عليين، وما أدراك ما عليون؟ كتاب مرقوم، يشهد المقربون} [21، 18:83) منقول من جمع علي فعيل من العو، سمى به لأنه مرفوع إلى السماء السابعة تكريما، ولأنه سبب الارتفاع إلى أعلى الدرجات، والعليلة بتشديد اللام والياء الغرفة، كذا قاله بعضهم. وقيل: أراد أعلى الأمكنة وأشرف المراتب، أي: مداومة الصلاة والمحافظة عليها من غير شوب بما ينافيها لا شيء من الأعمال أعلى منها فكنى عن ذلك بقوله في عليين (رواه أحمد وأبوداود) وسكت عنه. وقال المنذري: فيه القاسم أبوعبد الرحمن، وفيه مقال-انتهى. قلت: قد وثقه ابن معين، والعجلي،

736- (43) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا. قيل: يارسول الله! وما رياض الجنة؟ قال: المساجد. قيل: وما الرتع؟ يارسول الله! قال: سبحان الله، والحمدلله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)) رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ ويعقوب بن سفيان، والترمذي، ويعقوب بن شيبة، وإسحاق الحربي، وغيرهم. فالحديث لا ينحط عن درجة الحسن. 736- قوله: (إذا مررتم برياض الجنة) جمع روضة وهي أرض مخضرة بأنواع النبات (فارتعوا) من رتعت الماشية رتعا ورتوعا من باب نفع. رعت كيف شاءت. قال في القاموس: رتع كمنع، أكل وشرب ما شاء في خصب وسعة، أو هو الأكل والشرب رغداً في الريف. وتلخيص الحديث: إذا مررتم بالمساجد قولوا هذه الأذكار، فلما وضع رياض الجنة موضع المساجد بناء على أن العبادة فيها سبب للحلول في رياض الجنة روعيت المناسبة لفظاً ومعنى، فوضع الرتع موضع القول، أي: استعير للعوض في الأذكار الواقعة فيها، لأن هذا القول سبب لنيل الثواب الجزيل. والرتع هنا كما في قول إخوة يوسف {يرتع ويلعب} [12:12] وهو أن يتسع في أكل الفواكه والمستلذات والخروج إلى التنزه في الأرباف والمياه كما هو عادة الناس إذا خرجوا إلى الرياض والبساتين، ثم اتسع واستعمل في الفوز بالثواب الجزيل والأجر الجميل (قيل: يارسول الله) السائل في الفصلين هو أبوهريرة راوي الحديث وهو صريح في كتاب الترمذي (وما رياض الجنة؟ قال: المساجد) وفي حديث أنس عند أحمد والترمذي: حلق الذكر. ولا منافاة بينهما لأنها تصدق بالمساجد وغيرها فهي أعم، وخصت المساجد هنا لأنها أفضل، قاله القاري. وفسر في حديث ابن عباس عند الطبراني في الكبير بمجالس العلم. قال الشوكاني: لا مخالفة بين هذه الأحاديث، فرياض الجنة تطلق على حلق الذكر، ومجالس العلم، والمساجد، ولا مانع من ذلك-انتهى. وقيل: اختلف الجواب في تفسير الرتع باختلاف أحوال السائلين، فرأى أن الأولى بحال سائل حلق العلم، وبحال سائل آخر حلق الذكر، ولهذا قال العلقمي: المراد من هذه الأحاديث في تفسير الرتع مناسبة كل شخص بما يليق به من أنواع العبادة (وما الرتع؟) بسكون المثناة الفوقية (يارسول الله! قال: سبحان الله) إلخ. لا يخفى أن الرتع ليس منحصراً في هذه الأذكار، بل المقصود هذه وأمثالها من الباقيات الصالحات التي هي سبب وصول الروضات، ورفع الدرجات العالية، وهذا لأن في قوله "حلق الذكر" في حديث أنس و"مجالس الذكر" في حديث جابر عند أبي يعلى، والبزار، والطبراني، والحاكم، والبيهقي إشارة إلى أن كل ذكر رتع، وإنما خصت الكلمات المذكورة بالذكر لأن الباقيات الصالحات في الآية مفسر بها. ولحديث "إنها أحب الكلام إلى الله" أخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه من حديث سمرة بن جندب (رواه الترمذي) في الدعوات وغربه، وفي سنده حميد المكي، وهو مجهول، لكن له شواهد ترتقى بها إلى الصحة أو الحسن.

737- (44) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أتى المسجد لشيء، فهو حظه)) رواه أبوداود. 738- (45) وعن فاطمة بنت الحسين، عن جدتها فاطمة الكبرى، رضي الله عنها، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم، وقال: رب اغفرلي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك. وإذا خرج صلى على محمد وسلم، وقال: رب اغفرلي ذنوبي، وافتح لي أبواب فضلك)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 737- قوله: (من أتى المسجد لشيء) أي: لقصد حصول شيء من غرض أخروي أو دنيوي (فهو) أي: ذلك الشيء (حظه) أي: نصيبه، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: إنما لكل امرئ ما نوى-الحديث. ففيه تنبيه على تصحيح النية في إتيان المسجد لئلا يكون مختلطاً بغرض دنيوي كالتمشية والمصاحبة مع الأصحاب مثلاً، بل ينوي العبادة كالصلاة، والاعتكاف، واستفادة علم وإفادته ونحوها (رواه أبوداود) وسكت عليه. وقال المنذري: في إسناده عثمان بن أبي العاتكة الدمشقي، وقد ضعفه غير واحد-انتهى. قلت: قال العجلي: لا بأس به، وكان دحيم يثنى عليه، وينسبه إلى الصديق. وقال أبوحاتم عنه: لا بأس به. وقال أبودواد: صالح. وقال خليفة: كان ثقة كثير الحديث. وقال الحافظ في التقريب: ضعفوه في روايته عن علي بن يزيد الألهاني-انتهى. وهذا الحديث إنما هو من روايته عن عمير بن هانئ العنسي، لا علي بن يزيد الألهاني، فحديثه هذا لا ينحط عن درجة الحسن، ويقويه حديث: إنما لكل امرئ ما نوى، إلخ. 738- قوله: (وعن فاطمة بنت الحسين) بن علي بن أبي طالب الهاشمية القرشية المدنية، تزوجها ابن عمها الحسن ابن الحسن بن علي بن أبي طالب، ومات عنها، فتزوجها عبد الله بن عثمان بن عفان. ثقة تابعية، روت عن أبيها وأخيها زين العابدين، وعمتها زينب بنت علي، وجدتها فاطمة الزهراء مرسل، وبلال المؤذن مرسل، وابن عباس، وأسماء بنت عميس، وروى عنها جماعة. ماتت بعد المائة وقد أسنت. ذكرها ابن حبان في الثقات، وقال: ماتت وقد قاربت التسعين. ووقع ذكرها في صحيح البخاري في الجنائز: قال: لما مات الحسن بن الحسن ضربت امرأته القبة (عن جدتها فاطمة الكبرى) أي: الزهراء بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمها خديجة، وهي أصغر بناته في قول. وهي سيدة نساء هذا الأمة. تزوجها علي بن أبي طالب في السنة الثانية من الهجرة في شهر رمضان، وبنى عليها في ذي الحجة. وكان سنها يوم تزوجها خمس عشر سنة وخمسة أشهر ونصف، فولدت له الحسن، والحسين، والمحسن، وزينب، وأم كلثوم، ورقية. وماتت بالمدينة بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - بستة أشهر، وقيل: بثلاثة أشهر، وقيل: غير ذلك، ولها سبع وعشرون سنة. وقيل: ثمان، وقيل: جاوزت العرشين بقليل، وكان أول آل النبي - صلى الله عليه وسلم - لحوقاً به. وغسلها علي مع أسماء بنت عميس، وصلى عليها. ودفنت ليلاً. روى عنها جماعة من الصحابة، ومناقبها كثيرة جداً (إذا دخل المسجد) أي: أراد دخوله (صلى على محمد وسلم) تشريعاً للأمة وبيانا، لأن حكمه حكم الأمة حتى ابتغاء الصلاة والسلام

رواه الترمذي، وأحمد، وابن ماجه، وفي روايتهما، قالت: إذا دخل المسجد، وكذا إذا خرج، قال: بسم الله، والسلام على رسول الله، بدل: صلى على محمد وسلم. وقال الترمذي: ليس إسناده بمتصل، وفاطمة بنت الحسين لم تدرك فاطمة الكبرى. 739- (46) وعن عمر بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـــــــــــــــــــــــــــــ على نفسه إلا ما خصه الدليل، وإنما شرع الصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند دخول المصلى المسجد وعند خروجه، لأنه السبب في دخوله المسجد، ووصوله الخير العظيم، فينبغي أن يذكره بالخير. وقال القاري: هو يحتمل قبل الدخول وبعده. والأول أولى. ثم حكمته بعد تعليم أمته أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجب عليه الإيمان بنفسه، كما كان يجب على غيره، فكذا طلب منه تعظيمها بالصلاة منه عليها، كما طلب ذلك من غيره-انتهى (رواه الترمذي) وقال: حديث حسن، وإنما حسنه مع اعترافه بعدم اتصال سنده كما سيأتي، لأن الترمذي قد يحسن الحديث مع ضعف الإسناد للشواهد لحديث فاطمة هذا حسنه لأن له شواهد يرتقى بها درجة الحسن (بسم الله والسلام على رسول الله) فيه زيادة التسمية وهي ثابتة أيضاً عند ابن السني من حديث أنس، فينبغي لداخل المسجد والخارج منه أن يجمع بين التسمية والصلاة والسلام على رسول الله، والدعاء بالمغفرة، وبالفتح لأبواب الرحمة داخلاً، ولأبواب الفضل خارجاً، ويزيد في الخروج سؤال الفضل، وينبغي أيضاً أن يضم إلى ذلك ما سيأتي في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً: أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، الخ (ليس إسناده بمتصل) لأن فاطمة الصغرى بنت الحسين تروى هذا الحديث عن جدتها فاطمة الكبرى، وهي ما أدركتها، لأن الكبرى ماتت بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بستة أشهر، وفي سنده أيضاً ليث ابن أبي سليم، وفيه مقال معروف. قال الحافظ: صدوق، اختلط أخيراً فلم يتميز حديثه، فترك. 739- قوله: (عن أبيه) شعيب (عن جده) أي: جد شعيب، وهو عبد الله بن عمرو بن العاص الصحابي، وقد صح سماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو. والدليل على أن المراد بقولهم في الإسناد "عن جده" جد شعيب-أعنى عبد الله بن عمرو الصحابي – ما رواه البيهقي في السنن الكبرى (ج5:ص92) عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، قال: كنت أطوف مع أبي عبد الله بن عمرو بن العاص. فهذا يشير إلى صحة ما قال الذهبي في الميزان: أن محمداً والد شعيب مات في حياة أبيه عبد الله، وترك ابنه شعيباً صغيراً، فكفله جده عبد الله ورباه ولذلك يسميه هنا أباه، إذ هو أبوه الأعلى وهو الذي رباه، ومما يدل صريحاً على صحة سماع شعيب عن جده عبد الله بن عمرو ما رواه الدارقطني (ص310) والحاكم (ج2:ص65) في المستدرك عنه في قصة سؤال الرجل عن محرم وقع بامرأة، فإن فيه تصريحا بسماع شعيب من جده عبد الله، وإنه كان يجالسه، ويجالس الصحابة في عصره، وعلى هذا فحديث عمرو

عن تناشد الأشعار في المسجد، وعن البيع والشراء فيه، وأن يتحلق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة في المسجد)) رواه أبوداود، والترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن شعيب عن أبيه عن جده، صحيح أو حسن إذا كان الإسناد إلى عمرو صحيحاً، وهو الذي عليه المحققون من أهل الحديث: علي بن المديني وأحمد بن حنبل والحميدي وإسحاق بن راهويه وأبوعبيد والبخاري والحاكم والبيهقي، وغيرهم. وبه قال الذهبي والنووي وابن عبد البر، وقد تقدم شيء من البسط في هذا في باب الإيمان بالقدر. وانظر تفصيل الكلام في تهذيب التهذيب (ج8:ص48-55) والميزان (ج2:ص289) والتدريب (ص221) ونصب الراية (ج1:ص59، 58) وتعليق الشيخ أحمد محمد شاكر على جامع الترمذي (ج2:ص141-144) (عن تناشد الأشعار) قال التوربشتي: التناشد أن ينشد كل واحد صاحبه نشيداً لنفسه أو لغيره افتخاراً ومباهاة، أو على وجه التفكه بما يستطاب منه ترجية للوقت بما تركن إليه النفس أو لغيره، فهو مذموم، وأما ما كان منه في مدح الحق وأهله، وذم الباطل وذويه، أو كان منه تمهيدا لقواعد الدين، أو إرغاماً لمخالفيه فهو خارج عن الذم وإن خالطه التشبيب. وقد كان يفعل ذلك بين يدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا ينهى عنه، لعلمه بالغرض الصحيح، كذا نقله الطيبي. وقيل التناشد هو المفاخر بالشعر، والإكثار منه حتى يغلب على غيره، وحتى يخشى منه كثرة اللغط والشغب مما ينافي حرمة المساجد، وهذا غير إنشاد بعض القصائد. وقيل المراد تناشد أشعار الجاهلية والمبطلين (وعن البيع والاشتراء فيه) فيه دليل على تحريم البيع والشراء في المسجد. وقال الشوكاني: ذهب جمهور العلماء إلى أن النهي محمول على الكراهة. قال العراقي: وقد أجمع العلماء على أن ما عقد البيع في المسجد لا يجوز نقضه، وهكذا قال الماوردي. وأنت خبير بأن حمل النهي على الكراهة يحتاج إلى قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي الذي هو التحريم عند القائلين: بأن النهي حقيقة في التحريم، وهو الحق، وإجماعهم على عدم جواز النقض وصحة العقد لا منافاة بينه وبين التحريم، فلا يصح جعله قرينة لحمل النهي على الكراهة (وأن يتحلق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة في المسجد) أي: نهى أن يجلسوا محلقين حلقة واحدة أو أكثر وإن كان لمذاكرة علم. وفيه دليل على حرمة التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة، وذلك لأنه ربما قطع الصفوف مع كونهم مأمورين بالتبكير يوم الجمعة، والتراص في الصفوف، الأول فالأول، ولأنه يخالف هيئة اجتماع المصلين، ولأن الاجتماع للجمعة خطب عظيم لا يسمع من حضرها أن يهتم ما سواها حتى يفرغ منها، والتحلق قبل الصلاة يوهم غفلتهم عن الأمر الذي ندبوا إليه، ولأن الوقت وقت الاشتغال بالإنصات للخطبة. والتقييد بقبل الصلاة يدل على جوازه بعدها للعلم، والذكر، والتقييد بيوم الجمعة يدل على جوازه في غيرها (رواه أبوداود) في أبواب الجمعة، وزاد: وأن تنشد فيه ضالة. وسكت عليه (والترمذي) وحسنه، وصححه ابن خزيمة. وقال الحافظ في الفتح: إسناده صحيح إلى عمرو بن شعيب، فمن يصحح نسخته يصححه. قال: وفي المعنى عدة أحاديث لكن في أسانيدها مقال-انتهى. والحديث أخرجه أيضاً أحمد والنسائي وابن ماجه.

740- (47) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك. وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالة، فقولوا: لا رد الله عليك)) رواه الترمذي، والدارمي. 741- (48) وعن حكيم بن حزام، قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستقادر في المسجد، وأن ينشد فيه الأشعار، وأن تقام فيه الحدود)) رواه أبوداود في سننه، ـــــــــــــــــــــــــــــ 740- قوله: (يبيع أو يبتاع) أي: يشتري. قال القاري: حذف المفعول يدل على العموم فيشمل ثوب الكعبة، والمصاحف، والكتب، والسبح (فقولوا) أي: لكل منهما باللسان جهرا، وقيل: سرا (لا أربح الله تجارتك) أي: لا جعل الله تجارتك ذات ربح ونفع، وهو دعاء عليه. ولو قال لهما معاً: لا أربح الله تجارتكما لجار لحصول المقصود (من ينشد فيه ضالة) أي: يطلبها برفع الصوت (رواه الترمذي) في آخر البيوع وحسنه (والدارمي) وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي في اليوم والليلة، وابن حبان وابن خزيمة والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم، ذكره ميرك. وقد أخرج الشطر الثاني مسلم أيضاً كما تقدم في الفصل الأول. 741- قوله: (وعن حكيم بن حزام) بكسر مهملة وفتح زاى، هو حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى القرشي الأسدي. أبوخالد المكي، ابن أخي خديجة أم المؤمنين، ولد قبل الفيل بثلاث عشرة سنة، أسلم يوم الفتح، وكان من المؤلفة، أعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - من غنائم حنين مائة من الإبل، وحسن إسلامه، وكان من سادات قريش وأشرافها ووجوهها في الجاهلية والإسلام، وكان عاقلاً فاضلاً تقياً جواداً، أعتق في الجاهلية مائة رقبة، وفي الإسلام مثلها، وجاء الإسلام ودار الندوة بيده فباعها من معاوية بعد بمائة ألف درهم، فقال له ابن الزبير: بعت مكرمة قريش، فقال: ذهب المكارم إلا التقوى، اشتريت بها داراً في الجنة، أشهدكم أنى قد جعلتها في سبيل الله يعني الدراهم. وكان عالماً بالنسب. مات بالمدينة في داره سنة (54) وله مائة عشرون سنة، ستون في الجاهلية وستون في الإسلام. وقيل في سنة وفاته غير ذلك، له أربعون حديثاً، اتفقا على أربعة. روى عنه نفر (أن يستقاد) أي: يطلب القود أي: القصاص يعني يقتص (في المسجد) لئلا يقطر الدم فيه (وأن ينشد) بضم التحتية مذكراً، وفي أبي داود بالتأنيث: أي: يقرأ (الأشعار) أي: القبيحة المذمومة (وأن تقام فيه الحدود) أي: سائرها، أي: تعميم بعد تخصيص، أي: الحدود المتعلقة بالله، أو بالآدمي، لأن في ذلك نوع هتك حرمته، ولاحتمال تلوثه بجرح أو حدث، ولأنه إنما بنى المسجد للصلاة والذكر لا لإقامة الحدود. والحديث دليل على تحريم إقامة الحدود في المساجد وتحريم الإستفادة فيها، لأن النهي كما تقرر في الأصول حقيقة في التحريم، ولا صارف له ههنا عن معناه الحقيقي (رواه أبوداود في سننه) في أواخر كتاب الحدود،

وصاحب جامع الأصول فيه عن حكيم، وفي المصابيح عن جابر. 742- (49) وعن معاوية بن قرة، عن أبيه، ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن هاتين الشجرتين – يعني البصل والثوم – وقال: من أكلها فلا يقربن مسجدنا. وقال: إن كنتم لا بد ـــــــــــــــــــــــــــــ وأخرجه أيضاً أحمد والدارقطني والحاكم وابن السكن والبيهقي. والحديث سكت عنه أبوداود. وقال الحافظ في التلخيص: لا بأس بإسناده. وقال في بلوغ المرام: إن إسناده ضعيف. وقال الذهبي في الميزان: ضعفه عبد الحق. وقال ابن القطان: علته الجهل بحال زفر بن وثيمة، تفرد عنه محمد بن عبد الله الشعيثي. قال الذهبي: قد وثقه ابن معين، ودحيم. قلت: وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الحافظ: مقبول، فمن عرفه حجة على من لم يعرف، وجهل في جهله لا يضر. وقال المنذري: في إسناده محمد بن عبد الله بن المهاجر الشعيثي النصر الدمشقي، وقد وثقه غير واحد. وقال أبوحاتم الرازي: يكتب حديثه ولا يحتج به –انتهى. قلت: قد وثقه دحيم، والمفضل بن غسان الغلابي، وقال النسائي لا بأس به. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الحافظ، صدوق، فحديثه لا ينحط عن درجة الحسن. وفي الباب عن ابن عباس عند الترمذي وابن ماجه، وفي سنده إسماعيل بن مسلم المكي، وهو ضعيف من قبل حفظه. وعن جبير بن مطعم عند البزار، وفيه الواقدي. وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وفيه ابن لهيعة. كذا في النيل (وصاحب جامع الأصول فيه) أي: الجامع (عن حكيم) متعلق برواه (وفي المصابيح عن جابر) قال الطيبي: ولم يوجد في الأصول الرواية عنه. وقال ميرك: صوابه عن حكيم بن حزام. 742- قوله: (وعن معاوية بن قرة) بضم القاف وتشديد الراء، ابن إباس-بكسر الهمزة وتخفيف الياء تحتها نقطتان-ابن هلال المزني، يكنى أبا إباس البصري، ثقة عالم من الطبقة الوسطى من التابعين، وثقه ابن معين، والنسائي والعجلي وأبوحاتم وابن سعد وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان من عقلاء الرجال، مات سنة (113) وهو ابن (76) سنة (عن أبيه) قرة بن إباس بن هلال بن رياب المزني أبومعاوية جد إباس بن معاوية القاضي، صحابي. قال ابن عبد البر: سكن البصرة. لم يرو عنه غير ابنه. قتل في حرب الأزارقة مع عبد الرحمن ابن عبيس في زمن معاوية، وقد أرخه ابن سعد، وخليفة وأبوعروبة وابن حبان سنة (64) فيكون ذلك في زمن معاوية ابن يزيد بن معاوية. وذكره ابن سعد في طبقة من شهد الخندق، له اثنان وعشرون حديثاً (يعني البصل والثوم) وفي معناهما الكراث، والفجل، وما له رائحة كريهة (من أكلهما فلا يقربن مسجدنا) أي: مسجد المسلمين، قال الطيبي: وهذه الجملة كالبيان للجملة الأولى، أي: أفاد هذا البيان أن التقدير: نهى عن أكلهما. وأفاد أيضاً أن شرط النهي عن أكلهما اقترانه بدخول المسجد مثلا مع بقاء ريحهما. وأما أكلهما بحيث تزول الرائحة عند دخول المسجد، فلا يدخل تحت النهى، وفي النهي عن القربان إشارة إلى أن النهي عن الدخول أوله (إن كنتم لا بد) أي: لا فراق،

أكليهما، فأميتوهما طبخاً)) رواه أبوداود. 743- (50) وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام)) رواه أبوداود، والترمذي، والدارمي. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا محالة، ولا غنى بكم عن أكلهما لفرط حاجة أو شهوة، فخبر لا محذوف كما قدرنا. وهذه الجملة معترضة بين اسم كان وخبرها وهو (أكليهما) يعني وأردتم دخول المسجد (فأميتوهما طبخا) أي: أزيلوا رائحتهما بالطبخ، وفي معناه الإمانة والإزالة بغير الطبخ، وإنما خرج مخرج الغالب (رواه أبوداود) في الأطعمة، وسكت عنه هو والمنذري. 743- قوله: (الأرض كلها مسجد) أي: يجوز الصلاة فيها من غير كراهة (إلا المقبرة) في القاموس مثلثة الباء، وكمكنسة، موضع القبو (والحمام) بتشديد الميم الأولى، هو الموضع الذي يغتسل فيه بالحميم، وهو في الأصل الماء الحار ثم قيل لموضع الاغتسال بأى ماء كان. والمراد إلا المقبرة والحمام وما في معناهما، فلا يشكل الحصر بما سيجيء. الحديث دليل على أن الأرض كلها تصح فيها الصلاة ماعدا المقبرة، وهي التي يدفن فيها الموتى، فلا تصح الصلاة فيها. وظاهره سواء كان على القبر أو بين القبور أو في مكان منفرد منها كالبيت أعد للصلاة، وسواء كانت القبور منبوشة، أو غير منبوشة، وسواء فرش عليها شيء يقيه من النجاسة، أو لم يفرش، وسواء كان قبر مؤمن أو كافر. وإلى ذلك ذهب أحمد، والظاهرية، وهو الراجح عندي. وكذلك الحمام، فإنه لا تصح فيه الصلاة، سواء صلى في مكان نظيف منه أو في مكان نجس. وإليه ذهب أحمد عملا بإطلاق الحديث. وقيل: يختص النهي بالمكان النجس منه. وإن صلى في مكان طاهر فلا بأس. وذهب الجمهور إلى صحتها مع الطهارة لكن تكون مكروهة. وقد ورد النهي معللا بأنه محل الشياطين، وظاهر الحديث مع أحمد وهو مخصص لقوله: جعلت لي الأرض كلها مسجدا (رواه أبوداود والترمذي والدارمي) وأخرجه أيضاً أحمد وابن ماجه والحاكم والبيهقي وابن خزيمة وابن حبان والشافعي. والحديث سكت عنه أبوداود. وقال الترمذي: هذا حديث فيه اضطراب، أي: من جهة إسناده، وذكر أن سفيان الثوري أرسله، قال: وكأن رواية الثوري، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أي: مرسلاً – أثبت وأصح – انتهى. وقال الحافظ في بلوغ المرام: رواه الترمذي، وله علة، ويعني بها الاختلاف في وصله وإرساله، فرواه حماد بن سلمة، وعبد الواحد بن زيادة، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - موصولا. ورواه الثوري عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً. ورجح الترمذي كما تقدم، ثم الدارقطني، والبيهقي الإرسال. والراجح وصله لأن الذي وصله ثقة، فلا يضر إرسال من أرسله. قال العلامة الشيخ أحمد في تعليقه على الترمذي: الحديث رواه الشافعي في الأم (ج1:ص79) عن سفيان بن عيينة مرسلاً، ورواه أيضاً البيهقي من طريق يزيد بن هارون عن الثوري موصولا، ثم قال: حديث الثوري مرسل، وقد روى موصولا وليس بشيء. وحديث حماد بن سلمة موصول، وقد تابعه على وصله عبد الواحد بن زياد والدراوردي، قال: ولا أدري كيف

744- (51) وعن ابن عمر، قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي في سبعة مواطن: في المزيلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، وفي الحمام، وفي معاطن الإبل، ـــــــــــــــــــــــــــــ يزعم الترمذي ثم البيهقي أن الثوري رواه مرسلاً في حين أن روايته موصولة أيضا، ثم الذي وصله عن الثوري هو يزيد ابن هارون، وهو حجة حافظ، وأنا لم أجده مرسلاً من رواية الثوري، إنما رأيته كذلك من رواية سفيان بن عيينة فلعله أشتبه عليهم سفيان بسفيان، ثم ماذا يضر في إسناد الحديث أن يرسله الثوري أو ابن عينه إذا كان مرويا بأسانيد أخرى صحاح موصولة، المفهوم في مثل هذا أن يكون المرسل شاهدا للمسند ومؤيدا له. وقد ورد من طريق أخرى ترفع الشك، وتؤيد من رواه موصولا، وهي في المستدرك للحاكم من طريق بشر بن المفضل: ثنا عمارة بن غزية، عن يحيى بن عمارة الأنصاري- وهو والد عمرو بن يحي- عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً. ولذلك قال الحاكم بعد أن رواه بهذه الطريق، ومن طريق عبد الواحد بن زياد والدراوردي كلهم عن عمرو، عن أبيه: هذه الأسانيد كلها صحيحة على شرط البخاري ومسلم، ووافقه الذهبي، وقد صدقا. ثم إن رواية سفيان بن عينية المرسلة ليست قولا واحدا بالإرسال، بل هي تدل على أنهم كانوا يروونه تارة بالإرسال وتارة بالوصل، لأن الشافعي بعد أن رواه عنه مرسلاً قال: وجدت هذا الحديث في كتابي في موضعين: أحدهما منقطع والآخر عن أبي سعيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى. وهذا عندي قوة للحديث لا علة له- انتهى كلام الشيخ. وقال صاحب الإمام: حاصل ما علل به الإرسال، وإذا كان الواصل له ثقة فهو مقبول، وله شواهد: منها حديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً: نهى عن الصلاة في المقبرة، أخرجه ابن حبان. ومنها حديث علي: إن حبي نهاني أن أصلي في المقبرة، أخرجه أبوداود. 744- قوله: (أن يصلي) على بناء المفعول (في المزبلة) بفتح الباء، وقيل: بضمها، الموضع الذي يكون فيه الزبل وهو السرجين، ومثله سائر النجاسات، أي: وإن وجد فيها موضع خال عن الزبل، أو بسط عليها بساط في المكان اليبس، لأن في ذلك استخفافاً بأمر الدين لأن من حق الصلاة أن تؤدي في الأمكنة النظيفة، والبقاع المحترمة، وكذلك المجزرة لأنها مسفح الدماء، وملقى القاذورات، وكذلك القول في الحمام لأنه مكتثر الأوساخ، ومجتمع الغسالات، ثم إنه محل تعرى الأبدان عن اللباس (والمجزرة) بفتح الميم والزاي تفتح وتكسر: الموضع الذي تجزر فيه الحيوانات أي: تنحر وتذبح (والمقبرة) قيل: لأن فيها اتخاذ القبور مساجد استناناً بسنة اليهود (وقارعة الطريق) الإضافة بيانية، أي: الطريق الذي يقرعها الناس بأرجلهم أي: يدقونها ويمرون عليها. وقيل: هي وسطها أو أعلاها، والمراد هنا نفس الطريق، وكأن القارعة بمعنى المقروعة أو الصيغة للنسبة أي: ذات قرع، وإنما نهى عن الصلاة فيها لإشغال القلب بمرور الناس، وتضييق المكان عليهم، وإيقاعهم في الإسم إن مروا بلا ضرورة، وإيقاع نفسه فيه لو كان لهم ضرورة (وفي معاطن الإبل) جمع معطن بكسر الطاء، وهو وطن الإبل ومبركها حول الحوض كالعطن- محركة- وجمعه أعطان، وكذا الحكم في سائر مباركها ومواطنها، فقد ورد النهي بلفظ"مزابل الإبل" وفي لفظ"مزابل الإبلي" وفي أخرى"مناخ الإبل" وهي أعم من معاطن الإبل. وقد ورد

وفوق ظهر بيت الله)) رواه الترمذي، وابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ التعليل فيها منصوصاً بأنها من الشياطين. أخرجه أبوداود. وفي حديث ابن مغفل عنده: فإنها خلقت من الجن، ألا ترون إلى عيونها وهيئتها إذا نفرت. قيل المعنى أنها كثيرة الشراد، شديدة النفار، معها أخلاق جنية، فلا يأمن المصلي في أعطانها أن تنفر، فتقطع عليه صلاته. وعلى هذا فيفرق بين كون الإبل في معاطنها، وبين غيبتها عنها، إذ يؤمن نفورها حينئذٍ (وفوق ظهر بيت الله) لأن الصلاة على ظهر البيت تفضي إلى ارتفاع سطح البيت، وذلك مخل بشرط التعظيم لمشابهته صنيع أهل العادة في استعلاء البيوت للتطلع والتفرج، ثم لخلوه عن الفائدة. والحديث يدل على منع الصلاة في هذه المواطن السبعة، ولو صح لكان بقاء النهي على ظاهره الذي هو التحريم في جميع ما ذكر هو الواجب، وكان مخصصا لعموم"جعلت لي الأرض مسجدا"لكن فيه كلام كما ستعرف، إلا أن الحديث في القبور والحمام والمعاطن من بين هذه المذكورات قد صح كما تقدم، وكما يفيده الحديث الثاني (رواه الترمذي وابن ماجه) كلاهما من طريق زيد بن جبيرة، عن داود بن الحصين، عن نافع، عن ابن عمر، قال الترمذي: حديث ابن عمر ليس بذاك القوي، وقد تكلم في زيد بن جبيرة من قبل حفظه- انتهى. قال الزيلعي: اتفق الناس على ضعف زيد بن جبيرة، فقال البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: ليس بثقة. وقال أبوحاتم والأزدي: منكر الحديث، لا يكتب حديثه، وقال الدارقطني: ضعيف الحديث- انتهى. وقال الحافظ في التلخيص: إنه ضعيف جداً. وأخرجه أيضاً ابن ماجه من حديث عمر، من طريق أبي صالح عبد الله بن صالح المصري، كاتب الليث، عن سعد، عن الليث بن سعد: حدثني نافع، عن ابن عمر، عن عمر. وقد أشار الترمذي إلى هذه الرواية، لكن زاد في سنده عبد الله بن عمر العمري بين الليث بن سعد ونافع، والعمري ضعيف، قاله في التقريب. وقال الذهبي: صدوق، في حفظه شيء. ثم رجح الترمذي رواية زيد بن جبيرة، عن داود، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - على رواية الليث من أجل عبد الله بن عمر العمري، وفيه نظر ظاهر، بل الأمر بالعكس، لأن زيد بن جبيرة منكر الحديث متروك الحديث ضعيف جداً. وأما العمري فروى أحمد بن أبي مريم، عن ابن معين ليس به بأس، يكتب حديثه. وقال الدارمي: قلت لابن معين: كيف حاله في نافع؟ قال: صالح ثقة. وقال أحمد بن حنبل: صالح لا بأس به. وقال ابن عدي: في نفسه صدوق. على أن الليث بن سعد رواه عند ابن ماجه، عن نافع من غير واسطة العمري كما عرفت، وقد ضعفه بعضهم بأبي صالح عبد الله بن صالح كاتب الليث، والظاهر أنه ثقة مأمون كما قال عبد الملك بن شعيب بن الليث. وقال ابن معين: هما ثبتان: ثبت حفظ وثبت كتاب، وأبوصالح كاتب الليث ثبت كتاب. وقال أبوزرعة: كان حسن الحديث. وقال ابن القطان: هو صدوق، ولم يثبت عليه ما يسقط له حديثه إلا أنه مختلف فيه فحديثه حسن. وقال الحافظ: صدوق كثير الغلط ثبت في كتابه، وكانت فيه غفلة. قلت: فالظاهر أن حديث الليث حديث حسن، وأنه أرجح وأحسن من حديث زيد بن جبيرة عن داود، خلافاً لما قال الترمذي.

754- (52) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل)) . رواه الترمذي. 746- (53) وعن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: ((لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور، ـــــــــــــــــــــــــــــ 754- قوله: (صلوا في مرابض الغنم) جمع مربض بفتح الميم وسكون الراء وكسر الباء الموحدة وآخره ضاد معجمة، وهو مأوى الغنم، ومكان ربوضها. والأمر للإباحة. قال العراقي: اتفاقاً، وإنما نبه - صلى الله عليه وسلم - لئلا يظن أن حكمها حكم الإبل، أو أنه أخرج على جواب السائل حين سأله عن الأمرين، فأجاب في الإبل بالمنع، وفي الغنم بالإذن وأما الترغيب المذكور في الأحاديث بلفظ: فإنها بركة. فهو إنما لقصد تبعيدها عن حكم الإبل، كما وصف أصحاب الإبل بالغلظ والقسوة، ووصف أصحاب الغنم بالسكينة- انتهى. وفيه دليل على طهارة أبوال مأكول اللحم، وأرواثه لأنه أذن للصلاة في المرابض مطلقاً من غير تقييد بحائل، ومن غير تخصيص بموضع دون موضع (ولا تصلوا في أعطان الإبل) جمع عطن بالعين والطاء المهملتين المفتوحتين، وهي أماكن بروكها. وقد تكلفوا في استخراج علة النهي فيها واختلفوا، فقيل: هي النجاسة. وفيه أن ذلك متوقف على نجاسة أبوال الإبل وأزبالها، وقد تقدم أن الحق طهارتها، ولو سلمنا النجاسة لم يصح جعلها علة، إذ لا فرق حينئذٍ بين المرابض والمعاطن لأن كل واحد من الجنسين مأكول اللحم فهما سيان في الحكم. وقيل علة النهي شدة نفار الإبل، فقد يؤدي ذلك إلى بطلان الصلاة، أو قطع الخشوع، أو غير ذلك، فلذلك جاء: إنها من الشياطين، وعلى هذا فيفرق بين كون الإبل في المعاطن وبين غيبتها إذ يؤمن حينئذٍ نفورها. وفيه أنه نهى عن الصلاة في الأعطان مطلقاً سواء كانت الإبل فيها أو غابت عنها. وقيل: العلة أن الرعاة كانوا يبولون، ويتغوطون بينها. وقيل: الحكمة في النهي كونها خلقت من الشياطين كما في حديث ابن مغفل عند ابن ماجه وغيره. والظاهر أن النهي تعبدي فالحق الوقوف على مقتضى النهي وهو التحريم، فيحرم الصلاة في المعاطن، ولا تصح. وهو مذهب أحمد، والظاهرية، وغيرهم (رواه الترمذي) وصححه، وأخرجه أيضاً أحمد وابن ماجه، وفي الباب عن جماعة من الصحابة ذكر تخريج أحاديثهم الشوكاني في النيل. 746- قوله: (لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور) قيل: هذا كان قبل الترخص بقوله: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها الآن لأنها تذكر الآخرة) أخرجه مسلم وأبوداود والنسائي. فلما رخص دخل في الرخصة الرجال والنساء، ومحله ما إذا أمنت الفتنة. وقيل: بل نهى النساء عن زيارة القبور باق لقلة صبرهن، وكثرة جزعهن إذا رأين القبور. وقيل بل يحرم زيارة القبور على النساء مطلقاً، فإن النهي ورد خاصا بهن، والإباحة والرخصة لفظها عام، ولا منافاة بين العام والخاص حتى يقال: إن العام نسخ الخاص، بل الخاص حاكم عليه، ومقيد له، فيكون الإذن خاصا بالرجال، ولا يجوز للنساء زيارة القبور مطلقاً سواء أمنت الفتنة والجزع أم لم تأمن، هذا وقد بسط ابن القيم القول

والمتخذين عليها المساجد والسرج)) رواه أبوداود، والترمذي، والنسائي. 747- (54) وعن أبي أمامة، قال: ((إن حبراً من اليهود سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي: البقاع خير؟ فسكت عنه، وقال: ـــــــــــــــــــــــــــــ في مختصر السنن في مسألة زيارة النساء للمقابر فارجع إليه (والمتخذين عليها المساجد) لأن في ذلك استنانا بصفة اليهود (والسرج) بضمتين جمع سراج بكسر أوله، وهو المصباح أي: لما فيه من تضييع بلا نفع، ويشبه تعظيم القبور كاتخاذها مساجد، وفيه رد صريح على القبوريين الذين يبنون القباب على القبور، ويسجدون إليها، ويسرجون عليها، ويضعون الزهور والرياحين عليها تكريما وتعظيما لأصحابها (رواه أبوداود) في الجنائز (والترمذي) في الصلاة (والنسائي) في الجنائز. وأخرجه أيضاً أحمد وابن ماجه وابن حبان. والحديث سكت عنه أبوداود. وقال الترمذي: حديث حسن. قال المنذري في مختصر السنن (ج4:ص350) : وفيما قاله نظر، فإن أبا صالح هذا أي: الراوي للحديث عن ابن عباس هو باذام، ويقال: باذان مكي مولى أو هانئ بنت أبي طالب، وهو صاحب الكلبي، وقد نقل: أنه لم يسمع من ابن عباس. وقد تكلم فيه جماعة من الأئمة، وقال ابن عدي: لم أعلم أحداً من المتقدمين رضيه. وقد قيل عن يحيى ابن سعيد القطان وغيره تحسين أمره، فلعله يريد: رضيه حجة، أو قال: هو ثقة- انتهى. وذكر المنذري أيضاً في الترغيب، ونسبه أيضاً لصحيح ابن حبان، ثم قال: وأبوصالح هذا هو باذام، ويقال: باذان، مكي مولى أم هانئ وهو صاحب الكلبي. قيل: لم يسمع من ابن عباس، وتكلم فيه البخاري والنسائي وغيرهما- انتهى. وقال ابن القيم: قد تقدم أن أبا حاتم خالفه أي: المنذري في ذلك وقال: صالح هذا هو مهران ثقة وليس بصاحب الكلبي، ذاك اسمه باذام- انتهى. وقيل: الظاهر هو قول الترمذي: أن هذا الحديث حسن، لأنه ليس لتضعيف أبي صالح حجة قوية، والذي ادعى أنه لم يسمع من ابن عباس هو ابن حبان كما في تهذيب التهذيب (ج1:ص407) ولعلها فلتته منه، فإن أبا صالح تابعي قديم، روى عن مولاته أم هانئ، وعن أخيها على بن أبي طالب، وعن أبي هريرة. وابن عباس أصغر من هؤلاء كلهم، وأما وصف الحافظ، والخزرجي أبا صالح بالتدليس فلعله مبني على قول ابن حبان، وإنما تكلم فيه من تكلم من أجل التفسير الكثير المروى عنه والحمل في ذلك على تلميذه محمد بن السائب الكلبي، ولذلك قال ابن معين: ليس به بأس، وإذا روى عنه الكلبي فليس بشيء. وهذا الحديث رواه عنه محمد بن جحادة لا الكلبي. وقال يحيى القطان: لم أر أحداً من أصحابنا تركه، وما سمعت أحداً من الناس يقول فيه شيئا، ووثقه أيضاً العجلي. 747- قوله: (إن حبراً) أي: عالماً، وهو بفتح الحاء أشهر من كسرها، قاله ابن الملك. وذكر في الصحاح أن كسر الحاء أصح، لكن المشهور في الاستعمال الفتح ليفرق بين العالم وبين ما يكتب به، كذا في المفاتيح (أي البقاع) بكسر الباء جمع البقعة بالضم (خير) أي: أفضل يعني كثير الخير (فسكت عنه) أي: عن جوابه (وقال) أي: في نفسه وقلبه أو بلسانه

أسكت حتى يجيء جبريل، فسكت، وجاء جبرئيل عليه السلام، فسأل، فقال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، لكن أسأل ربي تبارك وتعالى. ثم قال جبريل: يا محمد! إني دنوت من الله دنواً ما دنوت منه قط. قال: وكيف كان يا جبريل؟ قال: كان بيني وبينه سبعون ألف حجاب من نور، فقال: شر البقاع أسواقها وخير القاع مساجدها)) . رواه. . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ (أسكت) بصيغة المتكلم أو الأمر (فسكت) أي: إلى مجيء جبريل. قال الطيبي: فيه أن من استفتى عن مسألة لا يعلمها فعليه أن لا يعجل في الإفتاء، ولا يستنكف عن الاستفتاء ممن هو أعلم منه، ولا يبادر إلى الاجتهاد ما لم يضطر إليه، فإن ذلك من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنة جبرئيل (فسأل) أي: فسأله النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذه المسألة (فقال: ما المسئول عنها) أي: عن هذه المسألة (ثم قال جبرئيل) أي: بعد سؤاله ورجوعه من حضرة الله تعالى (دنوت من الله دنوا) فعول مصدر دنا بمعنى قرب (ما دنوت منه قط) أي: أذن لي أن أقرب منه تعالى أكثر مما قربت منه في سائر الأوقات. قال ابن الملك: ولعل زيادة تقريبه منه في هذه المرة لتعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد يزيد المحب في احترام رسول الحبيب لأجل الحبيب- انتهى كلامه. أو لأنه تقرب إليه تعالى بطلب العلم، ومن وعده تعالى أن من تقرب إليه شبرا تقرب عليه باعا، كذا في المرقاة (وكيف كان) أي: دنوك (سبعون ألف حجاب من نور) قالوا المراد به التكثير لا التحديد، و"من نور" إشارة إلى أن الحجب للملائكة نورانية، وهي حجب أسماءه وصفاته وأفعاله، وهي غير متناهية وإن كانت أصول الصفات الحقيقية سبعة أو ثمانية. والملائكة محجوبون بنور المهابة والعظمة والجلال، والإنسان منهم من حاله كذلك، ومنهم من حجب بحجب ظلمانية، كذا في اللمعات. وقال القاري: اعلم أن الحجب إنما تحيط بمقدر محسوس، وهو الخلق، فهم محجوبون عنه تعالى بمعاني أسماءه وصفاته وأفعاله، وأقرب الملائكة الحافون بالعرش، وهو محجوبون بنور المهابة والعظمة والكبرياء والجلال، وأما الآدميون فمنهم من حجب برؤية النعم عن المنعم، وبشاهدة الأسباب عن المسبب، ومنهم من حجب بالشهوات المباحة أو المحرمة، أو بالمال والنساء والبنين وزينة الحياة الدنيا والجاه. ومنه قول الصوفية: العلم حجاب. قال بعض مشائخنا: لكنه نوراني، فأفاد أن الحجب على نوعين: نوراني وظلماني. وقد أشار إليه الحديث بقوله من نور- انتهى. وقال النووي: حقيقة الحجاب إنما يكون للأجسام المحدودة، والله تعالى منزه عن الجسم والحد، والمراد هنا المانع من رؤيته، وسمي ذلك المانع نوراً أو ناراً لأنهما يمنعان من الإدراك في العادة لشعاعهما- انتهى (شر البقاع أسواقها) لأنها محل الغفلة والمعصية (وخير البقاع مساجدها) لأنها محل الحضور والطاعة. قال الطيبي: أجاب عن الشر والخير، وإن كان السؤال عن الخير فقط تنبيهاً على بيت الرحمن وبيت الشيطان. قلت: الأشياء تتبين بأضدادها (رواه. . . .) كذا في أصل المصنف هنا بياض، وألحق به ابن حبان عن ابن عمر، ولذا قال الطيبي: ذكر الراوي أي: المخرج ملحق.

{الفصل الثالث}

{الفصل الثالث} 748- (55) عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من جاء مسجدي هذا لم يأت إلا لخير يتعلمه أو يعلمه؛ فهو بمنزلة المجهد في سبيل الله. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال السيد جمال الدين: هذا الحديث بهذا اللفظ لم أره مخرجاً في شيء من الكتب المعتمدة المشهورة، ولكن رأيت في تخريج أحاديث المصابيح للسلمي أنه قال: وروى ابن حبان في صحيحه، عن محارب بن دثار، عن ابن عمر، أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أي: البقاع خير؟ وأي البقاع الشر؟ قال: لا أدري حتى أسأل جبرئيل عليه السلام، فسأل جبرئيل فقال: لا أدري حتى أسأل ميكائيل، فجاء فقال: خير البقاع المساجد، وثر البقاع الأسواق- انتهى. وذكر المنذري حديث ابن عمر هذا في الترغيب مختصراً ليس فيه الدنو من الله ولا الحجب ونسبه للطبراني وابن حبان، وكذلك رواه الحاكم (ج2:ص8، 7) بأطول منه، وفي سنده عندهم جميعاً عطاء بن السائب وكان اختلط وله شاهد من حديث جبير بن مطعم أن رجلاً قال: يا رسول الله أي: البلدان أحب إلى الله وأي البلدان أبغض إلى الله؟ قال: لا أدري حتى أسأل جبرئيل، فأتاه فأخبره أن أحسن البقاع إلى الله المساجد، وأبغض البقاع إلى الله الأسواق، رواه أحمد (ج4:ص81) والبزار واللفظ له. وأبويعلى، والحاكم وقال صحيح الإسناد، وفي الباب أيضاً عن أنس أخرجه الطبراني في الأوسط. وقد تقدم في الفصل الأول حديث أبي هريرة بلفظ أحب البلاد إلى الله تعالى مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها. ومن هذا كله عرفت أن عدد السبعين وتكثير الحجب لم يرد في حديث صحيح، وأما الحجاب نفسه فقد ورد في صحيح مسلم على ما تقدم في صدر الكتاب من حديث أبي موسى مرفوعاً. 748- قوله: (مسجدي هذا) قال السندي: أراد مسجده وتخصيصه بالذكر إما لخصوص هذا الحكم به، أو لأنه كان محلاً للكلام حينئذٍ، وحكم سائر المساجد كحكمه- انتهى. وقال الشوكاني: فيه تصريح بأن الأجر المرتب على الدخول إنما يحصل لمن كان في مسجده - صلى الله عليه وسلم -، ولا يصح إلحاق غيره به من المساجد التي هي دونه في الفضيلة لأنه قياس مع الفارق (لم يأت) الجملة حال أي: حال كونه غير آتٍ (إلا لخير) أي: علم أو عمل (يتعلمه أو يعلمه) أو للتنويع، وفي رواية أحمد: من دخل مسجدنا هذا ليتعلم خيراً أو ليعلمه. قال الشوكاني: فيه أن الثواب المذكور إنما يتسبب عن هذه الطاعة الخاصة لا عن كل طاعة، وفيه أيضاً التنويه بشرف تعلم العلم وتعليمه، لأنه هو الخير الذي لا يقاوم قدره، وهذا إن جعل تنكير الخير للتعظيم، ويمكن إدراج كل تعلم وتعليم لخير أي: خير كان تحت ذلك، فيدخل كل ما فيه قربة يتعلمها الداخل أو يعلمها غيره، وفيه أيضاً الإرشاد إلى أن التعليم والتعلم في المسجد أفضل من سائر الأمكنة (بمنزلة المجاهد) من حيث أن كلا منهما يريد إعلاء كلمة الله العليا، أو لأن كل واحد من العلم والجهاد عبادة نفعها متعد إلى عموم المسلمين،

فمن جاء لغير ذلك، فهو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره)) رواه ابن ماجه، والبيهقي في شعب الإيمان. 749- (56) وعن الحسن مرسلاً، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يأتي على الناس زمان يكون حديثهم في مساجدهم في أمر دنياهم. فلا تجالسوهم؛ فليس لله فيهم حاجة)) رواه البيهقي في شعب الإيمان. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقيل: وجه مشابه طلب العلم بالمجاهدة في سبيل الله أنه إحياء للدين، وإذلال للشيطان وإتعاب النفس، وكسر ذرى اللذة، كيف وقد أبيه لح التخلف عن الجهاد فقال تعالى {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} [122:9] الآية (ومن جاء لغير ذلك) أي: لغير ما ذكر من الخير، وهو العلم والعمل الذي يشمل الصلاة، والاعتكاف، والزيارة. قال الطيبي: يوهم أن الصلاة داخلة في الغير، وليس كذلك لأن الصلاة مفرغ عنها، وإنها مستثناة من أصل الكلام. وقال الشوكاني: ظاهر الحديث أن كل ما ليس فيه تعليم ولا تعلم من أنواع الخير لا يجوز فعله في المسجد، ولا بد من تقييده بما عدا الصلاة، والذكر والاعتكاف، ونحوها مما ورد فعله في المسجد أو الإرشاد إلى فعله فيه (فهو بمنزلة الرجل) إلخ. أي: بمنزلة من دخل السوق لا يبيع ولا يشتري بل لينظر إلى أمتعة الناس فهل يحصل له بذلك فائدة فكذلك هذا. وفيه أن مسجده - صلى الله عليه وسلم - سوق العلم فينبغي للناس شراء العلم بالتعلم والتعليم. وقيل المقصود: أن من لم يأت المسجد لخير يتعلمه أو يعلمه ينظر يوم القيامة إلى ثواب غيره ممن يعمل أعمال الخير في المسجد كمن ينظر إلى متاع غيره نظر إعجاب واستحسان وليس له مثله (رواه ابن ماجه) في السنة. قال في الزوائد: إسناده صحيح على شرط مسلم (والبيهقي في شعب الإيمان) وأخرجه أيضاً أحمد، وفي الباب عن سهل بن سعد، وأبي أمامة، أخرجهما الطبراني بإسناد حسن. 749- قوله: (وعن الحسن) أي: البصري (حديثهم) أي: كلامهم ومحادثتهم (فلا تجالسوهم) أي: في المسجد أو مطلقاً (فليس لله فيهم) أي: في إتيانهم إلى المسجد (حاجة) قال الطيبي: هو كناية عن براءة الله تعالى عنهم، وخروجهم عن ذمة الله، وإلا فالله سبحانه وتعالى منزه عن الحاجة مطلقاً. وفيه تهديد عظيم، ووعيد شديد، وذلك أنه ظالم مبالغ في ظلمه حيث يضع الشيء في غير موضعه لأن المساجد لم تبن إلا للعبادات-انتهى (رواه البيهقي في شعب الإيمان) وفي حديث ابن مسعود: سيكون في آخر الزمان قوم يجلسون في المساجد حلقاً حلقاً أمانيهم الدنيا، فلا تجالسوهم، فإنه ليس لله فيهم حاجة، ذكره العراقي في شرح الترمذي. قال: وإسناده ضعيف فيه بزيغ أبوالخليل وهو ضعيف جداً، وفي الترغيب للمنذري عن عبد الله بن مسعود قال: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سيكون في آخر الزمان قوم يكون حديثهم في مساجدهم، ليس لله فيهم حاجة) رواه ابن حبان في صحيحه.

750- (57) وعن السائب بن يزيد، قال: ((كنت نائماً في المسجد، فحصبني رجل، فنظرت فإذا هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: اذهب فائتني بهذين. فجئته بهما. فقال: ممن أنتما-أو من أين أنتما- قالا: من أهل الطائف. قال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما؛ ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله؟)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ 750- قوله: (كنت نائماً) وفي رواية الإسماعيلي: كنت مضطجعاً (فحصبني) أي: رماني بالحصباء، وهي الحجارة الصغيرة (فإذا هو) أي: الرجل الحاصب (عمر بن الخطاب) كلمة إذا للمفاجأة، وهو مبتدأ وخبره محذوف تقديره: فإذا عمر حاضر، أو قائم، أو واقف (فقال) أي: عمر للسائب (بهذين) قال الحافظ: لم أقف على تسمية هذين الرجلين لكن في رواية عبد الرزاق أنهما ثقفيان (ممن أنتما) أي: من أي: قبيلة وجماعة (أو من أين أنتما) أي: من أي: بلد (لو كنتما من أهل المدينة) وفي البخاري: لو كنتما أهل البلد. والمراد بالبلد المدينة. وهذا يدل على أنه كان تقدم نهيه عن ذلك. وفيه المعذرة لأهل الجهل بالحكم إذا كان مما يخفى مثله (لأوجعتكما) إذ لا عذر لكما حينئذٍ، قاله الطيبي. يعني أهل المدينة يعرفون حرمة مسجده - صلى الله عليه وسلم - أكثر من غيرهم، فلا يسامحون مسامحة الغرباء، إذ يمكن أن يكونوا قريبي العهد بالإسلام وبمعرفة الأحكام. وفي رواية الإسماعيلي: لأوجعتكما جلدا. ومن هذه الجهة يتبين كون هذا الحديث له حكم الرفع. لأن عمر لا يتوعد هما بالجلد إلا على مخالفة أمر توقيفي (ترفعان) جملة استئنافية، وهي في الحقيقة جواب عن سؤال مقدر كأنهما قالا له: لم توجعنا؟ قال: لأنكما ترفعان أصواتكما في مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - (أصواتكما) عبر بأصواتكما بالجمع دون صوتيكما بالتثنية لأن المضاف المثنى معنى إذا كان جزء ما أضيف إليه فالأصح الأجود الأفصح أن يذكر بالجمع كقوله تعالى: {فقد صغت قلوبكما} [4:66] ويجوز إفراده نحو أكلت رأس شاتين. والتثنية مع إصالتها قليلة الاستعمال، وإن لم يكن جزئه فالأكثر مجيئة بلفظ التثنية نحو سل الزيدان سيفيهما. وإن أمن اللبس جاز جعل المضاف بلفظ الجمع كما يعذبان في قبورهما، قاله المالكي، وفي رواية الإسماعيلي: يرفعكما أصواتكما. وإنما أنكر عليهما عمر لأنهما رفعا أصواتهما فيما لا يحتاجان إليه من اللغط الذي لا يجوز في المسجد، فيمنع رفع الصوت في المسجد فيما لا منفعة فيه، وأما إذا ألجئت الضرورة إليه فلا منع لعدم إنكاره - صلى الله عليه وسلم - على ابن أبي حدرد وكعب بن مالك رفع أصواتهما في المسجد عند تقاضى الدين وقد وردت أحاديث في النهي عن رفع الصوت في المساجد مطلقاً، لكنها ضعيفة. أخرج ابن ماجه بعضها. وقيل: أحاديث المنع محمولة على ما إذا كان الصوت متفاحشا، وحديث الإباحة محمول على ما إذا كان غير متفاحش (في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) إذ مع شرافته له زيادة مزية كون حجرته - صلى الله عليه وسلم - متصلة بالمسجد (رواه البخاري) وأخرجه

751- (58) وعن مالك، قال: ((بنى عمر رحبة في ناحية المسجد تسمى الطيحاء، وقال: من كان يريد أن يلغط، أو ينشد شعرا، أو يرفع صوته؛ فليخرج إلى هذه الرحبة)) رواه في الموطأ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أيضاً الإسماعيلي. وروى عبد الرزاق عن نافع قال: كان عمر يقول: لا تكثروا اللغط، فدخل المسجد فإذا هو برجلين قد ارتفعت أصواتهما، فقال: إن مسجدنا هذا لا يرفع فيه الصوت – الحديث. وفيه انقطاع لأن نافعا لم يدرك ذلك الزمان. 751- قوله: (عن مالك) بن أنس الإمام صاحب المذهب المشهور إمام دار الهجرة (قال: بنى عمر رحبة) من بلاغات مالك، ففي الموطأ مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب بنى رحبة. قال الزرقاني: كذا ليحيى-أى ابن يحيى المصمودي الأندلسي – ولغيره: مالك، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه أن عمر بن الخطاب (في ناحية المسجد) أي: بنى فضاء في خارج المسجد. قال في القاموس: رحبة المكان – وتسكن –ساحته ومتسعه. وقال الطيبي: الرحبة بالفتح الصحراء بين أفنية القوم، ورحبة المسجد ساحته (تسمى) أي: تلك الرحبة (البطيحاء) بضم الباء وفتح الطاء تصغير البطحاء، والبطحاء مسيل واسع فيه دقاق الحصى، وتسمية الرحبة بها إما لسعتها أو لوجود دقاق الحصى فيها. قال الباجي: هذه البطيحاء بناء يرفع على الأرض أزيد من الذراع، ويحدق حواليه بشئ من جدار قصير، ويوسع كهيئة الرحبة، ويبسط بالحصباء يجتمع فيها للجلوس-انتهى (وقال) أي: عمر (من كان يريد أن يلغط) بفتح أوله وثالثه أي: يتكلم بكلام فيه جلبة واختلاط، ولا يتبين. قال الطيبي: اللغط – بفتح الغين المعجمة وسكونها – صوت وضجة لا يفهم معناه. قال القاري: والمراد من أراد أن يتكلم بما لا يعنيه (أو ينشد شعرا) لنفسه أو لغيره أي: وإن كان مباحا (أو يرفع صوته) ولو بالذكر (فليخرج إلى هذه الرحبة) فإن الأمر فيها أسهل وأهون. قال الباجي: لما رأى عمر بن الخطاب كثرة جلوس الناس في المسجد وتحدثهم فيه، وربما أخرجهم ذلك إلى اللغط- وهو المختلط من القول وارتفاع الأصوات – وربما جرى في أثناء ذلك إنشاد شعر، بنى هذه البطيحاء إلى جانب المسجد وجعلها لذلك ليتخلص المسجد لذكر الله وما يحسن من القول، وينزه من اللغط وإنشاد الشعر، ولم يرد أن ذلك محرم. وإنما ذلك على معنى الكراهية، وتنزيهه المساجد، لاسيما مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيجب أن ينزه المسجد من مثل هذا، ومعنى هذا أن المسجد مما أمرنا بتعظيمه وتوقيره. والثانية لأنه مبنى للصلاة وقد أمرنا أن نأتيها وعلينا السكنية والوقار، فبأن يلتزم ذلك بموضعها المتخذ لها أولى (رواه) أي: مالك (في الموطأ) بالهمزة والألف، وقد سبق الاعتراض على مثل صنيع المؤلف هذا، وكان حقه في هذا المقام أن يقول: وعن عمر أنه بنى رحبة، ثم يقول: رواه مالك بلاغا. وقد تقدم أيضاً أن ابن عبد البر صنف كتابا وصل ما في الموطأ من المرسل والمنقطع والمعضل،

752- (59) وعن أنس، قال: ((رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - نخامة في القبلة؛ فشق ذلك عليه حتى رئى في وجهه، فقام فحكه بيده، فقال: إن أحدكم إذا قام في الصلاة فإنما يناجي ربه، وإن ربه بينه وبين القبلة؛ فلا يبزقن أحدكم قبل قبلته، ولكن عن يساره، أو تحت قدمه، ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال: جميع ما فيه من قوله "بلغني" ومن قوله "عن الثقة عنده" مما لم يسنده، أحد وستون حديثاً كلها مسندة من غير طريق مالك إلا أربعة أحاديث، ثم ذكرها. وأثر عمر هذا ليس من الأربعة، فهو مسند إلى عمر في موضعه. وقد تقدم عن الزرقاني: أن صورة البلاغ إنما هي ليحيى، وأما غيره فقد ذكره مسندا. 752- قوله: (نخامة) بالميم مع ضم النون، قيل: هي ما يخرج من الصدر، وقيل: النخاعة- بالعين – من الصدر، و–بالميم – من الرأس. وقيل: النخاعة هي البزاقة التي تخرج من أقصى الحلق (في القبلة) أي: في الحائط الذي في جهة القبلة (فشق) أي: صعب (ذلك) أي: ما ذكر من رؤية النخامة (حتى رئى) بضم الرأى وكسر الهمزة وفتح الياء، أي: شوهد أثر المشقة. قال الطيبي: الضمير الذي أقيم مقام الفاعل راجع إلى معنى قوله: فشق ذلك عليه. وهو الكراهة، وفي رواية النسائي: فغضب حتى أحمر وجهه (فكه) أي: أثر النخامة (بيده) المباركة تعليما لأمته، وتواضحا لربه جل جلاله ومحبة لبيته (إذا قام في الصلاة) أي: دخل فيها سواء كان في المسجد أو غيره (فإنما يناجي ربه) من جهة مساررته بالقرآن والأذكار فكأنه يناجيه تعالى، والرب تعالى يناجيه من جهة لازم ذلك، وهو إرادة الخير، فهو من باب المجاز، لأن القرينة صارفة عن إرادة الحقيقة، إذ لا كلام محسوسا إلا من جهة العبد. قال الحافظ: المراد بالمناجاة من قبل العبد حقيقة النجوى. ومن قبل الرب لازم ذلك، فيكون مجازا عن إقباله على العبد بالرحمة والرضوان (وإن) بكسر الهمزة (ربه بينه وبين القبلة) قال الخطابي: معناه أن توجهه إلى القبلة مفض بالقصد منه إلى ربه، فصار في التقدير كأن مقصوده بينه وبين القبلة، وقيل: هو على حذف مضاف أي: عظمة ربه، أو ثواب ربه، أو إطلاع ربه على ما بينه وبين القبلة أي: فيجب على المصلى إكرام قبلته بما يكرم به من يناجيه من المخلوقين عند استقبالهم بوجهه، ومن أعظم الجفاء وسوء الأدب أن تتنخم في توجهك إلى رب الأرباب، وقد أعلما الله تعالى بإقباله على من توجه إليه (فلا يبزقن أحدكم قبل) بكسر القاف وفتح الموحدة إلى جهة (قبلته) التي عظمها الله، فلا تقابل بالبزاق المقتضي للاستخفاف والاحتقار، والأصح أن النهي للتحريم. قيل البزاق إلى القبلة دائماً ممنوع، ففي صحيحي ابن خزيمة وابن حبان من حديث حذيفة مرفوعاً: من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة وتفله بين عينيه. وفي رواية لابن خزيمة من حديث ابن عمر مرفوعاً: يبعث صاحب النخامة في القبلة يوم القيامة وهي في وجهه (ولكن) أي: ليبصق (عن يساره) أي: إذا كان فارغاً لا عن يمينه، فإن عن يمينيه كاتب الحسنات. كما رواه ابن أبي شيبة بسند صحيح (أو تحت قدمه) أي: اليسرى. وأو للتنويع وهو محمول على ما إذا لم يكن يساره

ثم أخذ طرف ردائه فبصق فيه، ثم رد بعضه على بعض، فقال: أو يفعل هكذا)) رواه البخاري. 753- (60) وعن السائب بن خلاد - وهو رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن رجلاً أم قوماً، فبصق في القبلة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقومه حين فرغ: لا يصلي لكم. فأراد بعد ذلك أن يصلي لهم، فمنعوه، فأخبروه بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: نعم. وحسبت ـــــــــــــــــــــــــــــ فارغاً (ثم أخذ) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - (ثم رد بعضه) أي: بعض ردائه (أو يفعل) عطف على المقدر بعد حرف الاستدراك، أي: ولكن ليبزق عن يساره أو يفعل هكذا، أي: مثل هذا الذي فعلته، وفيه البيان بالفعل لأنه أوقع في نفس السامع، وليست لفظه أو هنا للشك أو للتخيير بل للتنويع، فهو محمول على ما إذا بدره البزاق. فقد رواه مسلم من حديث جابر بلفظ: وليبصق عن يساره وتحت رجله اليسرى، فإن عجلت به بادرة فليقل بثوبه هكذا، ثم طوى بعضه على بعض. ولابن أبي شيبه وأبي داود من حديث أبي سعيد نحوه، وفسره في رواية أبي داود بأن يتفل في ثوبه ثم يرد بعضه على بعض (رواه البخاري) من طريق حميد عن أنس، وحمد مدلس، لكن قد صرح عبد الرزاق في روايته بسماع حميد من أنس، فأمن تدليسه. 753- قوله: (وعن السائب بن خلاد) بمفتوحة وشدة لام وإهمال دال، ابن سويد بن ثعلبة بن عمرو الخرزجي الأنصاري، أبوسهلة المدني، قال أبوعبيد: شهد بدراً، وولي اليمن لمعاوية. وله أحاديث، روى عنه ابنه خلاد، وصالح بن حيوان، وعطاء بن يسار، وغيرهم. وقيل استعمله عمر على اليمن. مات سنة (71) فيما قال الواقدي (إن رجلاً أم قوماً) أي: صلى بهم إماماً، ولعلهم كانوا وفداً. (فبصق) أي: الرجل (في القبلة) أي: في جهتها (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقومه) لما رأى منه قلة الأدب، وليس في نسخ أبي داود التي بأيدينا لفظة "لقومه" (حين فرغ) أي: هذا الرجل من الصلاة (لا يصلي لكم) بإثبات الياء، أي: لا يكن هذا الرجل إماماً لكم في الصلاة بعد هذا. قال في شرح السنة: أصل الكلام "لاتصل لهم" فعدل إلى النفي ليؤذن بأنه لا يصلح للإمامة، وأن بينه وبينها منافاة. وأيضا في الإعراض عنه غضب شديد حيث لم يجعله محلاً للخطاب، وكأن النهي في غيبته، كذا في المرقاة (فأراد) أي: ذلك الرجل (بعد ذلك) أي: بعد القول الذي ظهر منه - صلى الله عليه وسلم - (أن يصلي لهم) أي: يؤمهم، ولعله لم يبلغه قوله - صلى الله عليه وسلم - فيه (فمنعوه) من الإمامة، فسأل عن سبب المنع (فأخبره وبقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو: لا يصلي لكم (فذكر) أي: الرجل (ذلك) أي: منع القوم إياه عن الإمامة وأنه - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك (فقال: نعم) أنا أمرتهم بذلك (وحسبت) أي: قال السائب بن خلاد:

أنه قال: إنك قد آذيت الله ورسوله)) رواه أبوداود. 754- (61) وعن معاذ بن جبل: ((احتبس عنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات غداة عن صلاة لصبح، حتى كدنا نتراءى عين الشمس، فخرج سريعاً، فثوب بالصلاة، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتجوز في صلاته. فلما سلم دعا بصوته، فقال لنا: على مصافكم كما أنتم، ثم انفتل إلينا، ثم قال: أما إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة: إني قمت من الليل، فتوضأت وصليت ما قدر لي، فنعست في صلاتي حتى استثقلت، فإذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن صورة، فقال: يا محمد! قلت: ـــــــــــــــــــــــــــــ حسبت (أنه) أي: الرسول - صلى الله عليه وسلم - (قال) أي: له زيادة على نعم (إنك قد آذيت الله ورسوله) أي: فعلت فعلاً لا يرضى الله ورسوله. وفي هذا القول زجر عظيم. قال الله تعالى: {إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً} [57:33] ولكن لما فعل الرجل ذلك الفعل جهلاً وخطأ لم يعده كفراً. وقيل: يحتمل أن يكون ذلك الرجل منافقاً، وعلم - صلى الله عليه وسلم - نفاقه إذ ذاك فنهى عن إمامته (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري، وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه. وروى الطبراني في الكبير بإسناد جيد عن عبد الله بن عمر، قال أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يصلي بالناس الظهر، فتفل في القبلة وهو يصلي للناس، فلما كانت صلاة العصر أرسل إلى آخر فأشفق الجل الأول، فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله! أأنزل في شيء؟ قال لا، ولكنك تفلت بين يديك وأنت قائم تؤم الناس، فآذيت الله والملائكة، كذا في الترغيب. 754- قوله: (احتبس) بصيغة المعلوم، ويحتمل أن يكون على بناء المفعول (ذات غداة) لفظة ذات مقحمة أي: غداة (عن صلاة الصبح) بدل اشتمال بإعادة الجار (حتى كدنا) بكسر الكاف أي: قاربنا (نتراءى) أي: نرى، وعدل عنه إلى ذلك لما فيه من كثرة الاعتناء بالفعل، وسبب تلك الكثرة خوف طلوعها المفوت لأداء الصبح (فخرج سريعاً) أي: مسرعاً أو خروجاً سريعاً (فثوب بالصلاة) بصيغة المجهول من التثويب أي: أقيم بها (وتجوز في صلاته) أي: خفف واقتصر على خلاف عادته مع أداء الأركان والواجبات والسنن (دعا) أي: نادى (بصوته فقال لنا) أي: رفع صوته بقوله لنا (على مصافكم) أي: اثبتوا عليها جمع مصف وهو موضع الصف (كما أنتم) أي: ما أنتم عليه، أو ثبوتا مثل الثبوت الذي أنتم عليه قبل النداء من غير تغيير وتقديم وتأخير (ثم انفتل علينا) أي: توجه إلينا وأقبل علينا (أما) بالتخفيف للتنبيه (ما حبسني) ما موصولة أو موصوفة (الغداة) بالنصب على الظرفية (من الليل) أي: في الليل (فنعست) بالفتح من النعاس وهو النوم الخفيف من باب نصر وفتح (استثقلت) بصيغة المعلوم أو المجهول أي: غلب على النعاس (فإذا أنا بربي) إذا

لبيك رب! قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري. قالها ثلاثاً. قال: فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي، فتجلى لي كل شيء وعرفت. ـــــــــــــــــــــــــــــ للمفاجأة، أي: فاجأ استثقالي رؤيتي ربي تبارك وتعالى، وهذا ظاهر في أن هذه الرؤية في النوم فلا إشكال فيه (رب) بحذف النداء وياء الإضافة (فيم) ما الاستفهامية إذا دخل عليه حرف الجر حذف ألفها (قالها ثلاثاً) أي: قال الله تعالى هذه المقولة المترتب عليها جوابها ثلاثا، وأجبت عنها بلا أدري تأكيدا للاعتراف بعدم العلم (فتجلى لي كل شيء) أي: مما أذن الله في ظهوره لي مما في السموات والأرض مطلقاً، أو مما يختصم فيه الملأ الأعلى خصوصا وهذا هو الظاهر. وقد تمسك به بعض القبوريين على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان عالماً بجميع ما كان وما يكون من المغيبات علماً كلياً تفصيلياً محيطاً بناء على أن لفظ الكل من ألفاظ العموم والاستغراق وإحاطة الأفراد. ولا متمسك لهم فيه لأن لفظ الكل لا يراد به الاستغراق دائماً كما في قوله تعالى: {كل نفس ذائقة الموت} [57:29] وقد أطلق لفظ النفس على ذاته تعالى في قوله: {تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك} [116:5] وكما في قوله تعالى: {وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً} [79:18] وقد علم أن الملك كان لا يغصب إلا السفن الصالحة الغير المعيبة. وكما في قوله تعالى: {الله خالق كل شيء} [16:13] وقد ورد إطلاق الشيء على الله في قوله تعالى: {قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد} [19:6] وكما في قوله تعالى: {تدمر كل شيء} [25:46] وقوله تعالى: {يجبى إليه ثمرات كل شيء} [57:28] وقوله تعالى: {وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق} [27:22] وكما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب) ، وفي قوله: (كل مصور في النار) . وقول ابن مسعود: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى يكبر في كل خفض ورفع. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (كل صلاة لا يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج) (وقد خصه الحنفية بالإمام والمنفرد، واستثنوا منه المقتدي) وقوله: (كل شيء خلق من الماء) . وقوله: (كل بني آدم خطاؤن) . وقوله: (كل بني آدم حسود) . وغير ذلك من الآيات والأحاديث. ولا يخفى على من له أدنى شيء من العقل والفهم أن لفظ الكل في هذه الآيات والأحاديث ليس لا لاستغراق وإحاطة الأفراد لفساد المعنى في بعضها ولزوم الاستحالة في بعضها، مع ذلك إن حمل على العموم والاستغراق فعلم بذلك أن لفظ الكل لا يكون دائماً للاستغراق الحقيقي التام، ولذلك اتفق العلماء على جواز تخصيص ألفاظ العموم كما صرح به في كشف الأسرار وغيره من كتب الأصول حتى اشتهر عند الشافعية ما من عام إلا وقد خص منه البغض. وقد صرح رئيس الطائفة القبورية في الهند الشيخ البريلوي في فتاواه المطبوعة: أنه قد يطلق الكل ويراد به الأكثر. وإذا كان الأمر كذلك جاز، بل وجب أن يقال: إن لفظ الكل في حديث معاذ بن جبل هذا ليس للاستغراق وعموم الأفراد لقيام القرائن القوية والدلائل الواضحة على ذلك، كيف لا وقد صرح رئيسهم المذكور وغيره من أتباعه أن ذات الله تعالى وصفاته، وتجلياته، وما يكون بعد القيامة خارجة من علمه - صلى الله عليه وسلم -، قالوا: لا ندعى أن علمه - صلى الله عليه وسلم - محيط بذاته تقدس

فقال: يا محمد! قلت: لبيك رب! قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفارات. قال: وما هن؟ قلت: مشى الأقدام إلى الجماعات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وإسباغ الوضوء حين الكريهات. قال: ثم فيم؟ قلت: في الدرجات. قال: وما هن؟ قلت: إطعام الطعام، ولين الكلام، والصلاة والناس نيام. قال: سل. قال: قلت: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفرلي وترحمني، وإذا أردت فتنة في قوم فتوفني غير مفتون، وأسألك حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يقربني إلى حبك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنها حق فادرسوها ثم تعلموها)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ وتعالى، وصفاته وتجلياته، وما يكون بعد القيامة، بل نقول: إنه - صلى الله عليه وسلم - كان عالماً بجميع ما كان من بدء الخلق وما يكون إلى قيام الساعة إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار بعلم كلي تفصيلي محيط، فهذا كما ترى صريح في أنهم قد خصوا علمه عليه السلام بما كان من بدء الخلق إلى قيام الساعة فقط، واستثنوا منه ماعدا ذلك؟ فكأنهم صرحوا بصنيعهم هذا بأن لفظ الكل في حديث معاذ هذا ليس لاستغراق والعموم. وهذا هو المطلوب. وإذا كان كذلك بطل استدلالهم به على ما ابتدعوه. ومما يدل على عدم إرادة الاستغراق في الحديث، الآيات والأحاديث الصريحة الدالة على نفى علمه - صلى الله عليه وسلم - ببعض المغيبات من الممكنات، وقد تقدمت الإشارة إليه. ومما يدل على ذلك أيضاً سياق هذا الحديث، فإنه يدل على أن المراد بقوله: تجلى لي كل شيء أي: ظهر وانكشف لي كل شيء مما يتعلق باختصام الملأ الأعلى، لا جميع ما كان وما يكون كما لا يخفى على المتأمل (وعرفت) تأكيد لما قبله (في الكفارات) أي: للسيئات (إلى الجماعات) أي: الصلوات المكتوبات (حين الكريهات) أي: وقت المكروهات من أيام البرد أو أزمنة الغلاء في ثمن الماء (قال: ثم فيم؟) أي: فيم يختصم الملأ الأعلى أيضاً (في الدرجات) أي: في ما يرفع الجنات العاليات (ولين الكلام) أي: لطفه مع الأنام (قال: سل، قال: قلت) كذا في بعض النسخ للمشكاة وفي جامع الترمذي "قال: قلت" أي: بحذف"قال" الثانية، وهكذا في مسند أحمد (ج5:ص243) (وأسألك حبك) قال الطيبي: يحتمل أن يكون معناه أسألك حبك إياي، أو حبي إياك. وعلى هذا يحمل قوله: وحب من يحبك. وقيل: الإضافة هنا إلى المفعول أنسب (وحب عمل يقربني إلى حبك) قال الطيبي: هذا يدل على أنه طالب لمحبته ليعمل حتى يكون وسيلة إلى محبة الله إياه، فينبغي أن يحمل الحديث على أقصى ما يكون من المحبة في الطرفين. ولعل السر في تسميته بحبيب الله لا يخلو من هذا القول- انتهى (إنها) أي: هذه الرؤيا (حق) لأن رؤيا الأنبياء وحي (فادرسوها) أي: فاحفظوا الألفاظ التي ذكرتها لكم في ضمنها، أو أن هذه

رواه أحمد، والترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح، سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث. فقال: هذا حديث حسن صحيح. 755- (62) وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول إذا دخل المسجد: أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم، قال: فإذا قال ذلك، قال الشيطان: حفظ مني سائر اليوم)) رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ الكلمات حق فادرسوها، أي: اقرؤوها (ثم تعلموها) أي: معانيها الدالة هي عليها. قال الطيبي: أي: لتعلموها، فحذف اللام أي: لام الأمر (رواه أحمد والترمذي) في تفسير سورة ص. وأخرجه أيضاً ابن خزيمة والدارقطني والحاكم والطبراني وابن عدي ومحمد بن نصر وابن مردويه وغيرهم. وهذا الحديث هو الذي أشار إليه المصنف بعد ذكر حديث عبد الرحمن ابن عائش في الفصل الثاني عن الدارمي بقوله: وللترمذي مثله عنه، وعن ابن عباس، ومعاذ بن جبل. وقد تقدم الكلام فيه هناك مفصلاً. 755- قوله: (إذا دخل المسجد) أي: أراد دخوله عند وصول بابه (العظيم) ذاتاً وصفة (وسلطانه) أي غلبته وقدرته (القديم) أي: الأزلي الأبدي (من الشيطان) مأخوذ من شطن أي: بعد، أي: المبعد من رحمة الله تعالى (الرجيم) فعيل بمعنى مفعول أي: المطرود من باب الله تعالى، أو المشتوم بلعنة الله. والظاهر أنه خبر معناه الدعاء يعني أللهم احفظني من وسوسته وإغوائه، وخطراته، وإضلاله، فإنه السبب في الضلالة، والباعث على الغواية والجهالة، وإلا ففي الحقيقة إن الله هو الهادي المضل، ويحتمل أن يكون التعوذ من صفاته وأخلاقه من الحسد، والعجب والكبر والغرور والإباء والإغواء (قال) أي: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فإذا قال) أي: المؤمن (ذلك) أي: القول المذكور (قال الشيطان حفظ) أي: قائل هذا القول (مني سائر اليوم) أي: بقيته أو جميعه ويقاس عليه الليل، أو يراد باليوم مطلق الوقت فيشمله، قال ابن حجر المكي: إن أريد حفظه من جنس الشياطين تعين حمله على حفظه من كل شيء مخصوص كأكبر الكبائر، أو من إبليس اللعين فقط، بقى الحفظ على عمومه، وما يقع منه من إغواء جنوده. وإنما ذكرت ذلك لأنا نرى ونعلم من يقول ذلك، ويقع في كثير من الذنوب، فتعين حمل الحديث على ما ذكرته- انتهى. قال القاري: وفيه أن الظاهر أن لام الشيطان للعهد والمراد منه قرينة المؤكل على إغوائه، وبه يرتفع أصل الإشكال، والله أعلم (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري.

756- (63) وعن عطاء بن يسار، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) رواه مالك مرسلاً. 757- (64) وعن معاذ بن جبل، قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يستحب الصلاة في الحيطان)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 756- قوله: (اللهم لا تجعل قبري وثناً) بفتح الواو والمثلثة، وهو كل ماله جثة معمولة من الجواهر، أو الخشب والحجارة كصورة الآدمي. والصنم الصورة بلا جثة. وقيل: هما سواء. وقد يطلق الوثن على غير الصورة. ومنه حديث عدي بن حاتم: قدمت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: ألق هذا الوثن عنك (يعبد) بصيغة المجهول أي: لا تجعل قبري مثل الوثن في تعظيم الناس وعودهم للزيارة بعد بدءهم واستقبالهم نحوه في السجود، كما نسمع ونشاهد الآن في بعض المزارات والمشاهد، قاله القاري. وقال الباجي: دعاءه - صلى الله عليه وسلم - أن لا يجعل قبره وثنا يعبد، تواضعا، والتزاما للعبودية لله تعالى، وإقرار بالعبودية، وكراهية أن يشركه أحد في عبادته، وعن مالك أنه كره لذلك أن يدفن في المسجد (اشتد) استئناف كأنه قيل: لم تدعوا بهذا الدعاء فأجاب بقوله اشتد (غضب الله) ترحما على أمته وتعطفا لهم، قاله الطيبي. وقال القاري: والأظهر أنه إخبار عما وقع في الأمم السالفة تحذيرا للأمة من أن يفعلوا فعلهم فيشتد غضبه عليهم (على قوم) هم اليهود والنصارى كما تقدم (اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) تقدم الكلام عليه (رواه مالك) أي: عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار (مرسلا) أي: بحذف الصحابي، قال ابن عبد البر: لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث، وهو حديث غريب لا يكاد يوجد. قال: وزعم البزار أن مالكا لم يتابعه أحد على هذا الحديث إلا عمر بن محمد، عن زيد بن أسلم، وليس بمحفوظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بوجه من الوجوه إلا بهذا الوجه لا إسناد له غيره، إلا أن عمر بن محمد أسنده عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعمر بن محمد ثقة. وقوله: اشتد غضب الله- الحديث. محفوظ من طرق كثيرة صحاح، هذا كلام البزار. قال ابن عبد البر: مالك عند جميعهم حجة فيما نقل. وقد أسند حديثه هذا عمر بن محمد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وهو من ثقات أشراف أهل المدينة. فالحديث صحيح عند من يحتج بالمراسيل. وعند من قال بالمسند لإسناد عمر بن محمد، وهو ممن تقبل زيادته، وله شاهد عند العقيلي من طريق سفيان، عن حمزة بن المغيرة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رفعه: أللهم لا تجعل قبري وثنا، لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، كذا في شرح الزرقاني، وتنوير الحوا لك للسيوطي. وفي مجمع الزوائد (ج2: ص28) عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أللهم إني أعوذ بك أن يتخذ قبري وثنا، فإن الله تبارك وتعالى اشتد غضبه على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. رواه البزار. وفيه عمر بن صهبان، وقد اجمعوا على ضعفه. 757- قوله: (يستحب) بصيغة المعلوم (الصلاة) أي: النافلة. أو مطلقاً (في الحيطان) بكسر المهملة جمع الحائط،

قال بعض رواته: يعني البساتين. رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الحسن بن أبي جعفر، وقد ضعفه يحيى بن سعيد وغيره. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الجزري: الحائط البستان من النخل إذا كان عليه حائط وهو الجدار. قال العراقي: استحبابه - صلى الله عليه وسلم - الصلاة في الحيطان يحتمل معاني: أحدها: قصد الخلوة عن الناس فيها، وبه جزم ابن العربي. الثاني: قصد حلول البركة في ثمارها ببركة الصلاة، فإنها جالبة للرزق. الثالث: أن هذا من كرامة المزور أن يصلي في مكانه. الرابع: أنها تحية كل منزل نزله أو توديعه، كذا في قوت المغتذي (قال بعض رواته) هو أبوداود الطيالسي الراوي للحديث عن الحسن بن أبي جعفر (يعني البساتين) جمع بستان (رواه الترمذي) وفي بعض النسخ "رواه أحمد والترمذي" وهو غلط من الناسخ (لا نعرفه إلا من حديث الحسن بن أبي جعفر) الجفري- بضم الجيم وسكون الفاء- نسبة إلى جفرة خالد مكان بالصرة. واسم أبيه عجلان. وقيل: عمرو الأزدي. ويقال: العدوى البصري (وقد ضعفه يحيى بن سعيد وغيره) كأحمد وابن المديني وأبي داود والعجلى. وقال الساجي: منكر الحديث، من مناكيره حديث معاذ "كان يعجبه الصلاة في الحيطان" وقال عمرو بن علي: صدوق، منكر الحديث. كان يحيى بن سعيد لا يحدث عنه. وقال الأزدي: هو عندي ممن لا يتعمد الكذب، وهو صدوق. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال ابن حبان: من خيار عباد الله الخشن. ضعفه يحيى وتركه أحمد، وكان من المتعبدين المجابى الدعوة، ولكنه ممن غفل عن صناعة الحديث وحفظه، فإذا حدث وهم وقلب الأسانيد وهو لا يعلم حتى صار ممن لا يحتج به، وإن كان فاضلا. وقال الحافظ في التقريب: ضعيف الحديث مع عبادته وفضله. مات سنة (167) والظاهر أنه ضعيف من قبل حفظه. ويحيى بن سعيد المذكور هو يحيى بن سعيد بن فروخ الإمام العلم سيد الحفاظ القطان أبوسعيد التميمي مولاهم البصري الأحول، أحد أئمة الجرح والتعديل، وأحد فقهاء المحدثين ومجتهديهم، ولد سنة (120) روى عن هشام بن عروة، وحميد الطويل، والأعمش، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وطبقتهم، فأكثر جداً. وعنه ابن المهدي، وأحمد ومسدد وإسحاق وابن المديني، وابن معين، وعمرو بن على الفلاس، وبندار وأمم سواهم. قال الحافظ: ثقة متقن، حافظ إمام قدوة. وقال أحمد: ما رأت عيناي مثله. وقال ابن المديني: ما رأيت أحداً أعلم بالرجال منه. وقال إسحاق بن إبراهيم بن أبي حبيب الشهيد: كنت أرى يحيى القطان يصلي العصر ثم يستند فيقف بين يديه على بن المديني وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين والشاذكوني، وعمرو بن على يسألونه عن الحديث وهم قيام هيبة له، وقال ابن عمار: كنت إذا نظرت إلى يحيى القطان ظننت أنه لا يحسن شيئا، فإذا تكلم أنصت له الفقهاء. وقال بندار: اختلفت إلى يحيى بن سعيد عشرين سنة، فما أظن أنه عصى الله قط. وقال ابن معين: أقام يحيى القطان عشرين سنة يختم القرآن في كل ليلة، ولم يفته الزوال في المسجد أربعين سنة. وقال ابن حبان: كان من سادات أهل زمانه حفظاً، وورعاً، وفهماً، وفضلاً، وديناً، وعلماً، وهو الذي مهد لأهل العراق رسم الحديث، وأمعن في البحث عن

758- (65) وعن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلاة الرجل في بيته بصلاة، وصلاته في مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة، وصلاته في المسجد الذي يجمع فيه بخمسمائة صلاة، وصلاته في المسجد الأقصى بخمسين ألف صلاة، وصلاته في مسجدي بخمسين ألف صلاة، وصلاته في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة)) . رواه ابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الثقات، وترك الضعفاء. مات سنة (198) وله (78) سنة. قال الذهبي في الميزان في ترجمة ابن عيينة: إن يحيى القطان متعنت جداً في الرجال، وهو غير ابن القطان الحافظ الإمام أبي الحسن على بن محمد الحميري الفاسي الشهير بابن القطان. 758- قوله: (صلاة الرجل في بيته) أي: منفرداً كذا قيل: والأظهر أن يكون أعم (بصلاة) أي: محسوبة بصلاة واحدة أي: لا يزداد له في الأجر بسبب خصوص المكان، وهذا لا ينافي الزيادة التي ورد بها الشرع عموماً، كقوله تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} [160:6] (في مسجد القبائل) أي: في المسجد الذي تجتمع فيه القبائل للصلاة جماعة. والمراد به مسجد الحي والمحلة (بخمس وعشرين صلاة) أي: بالإضافة إلى صلاته في بيته لا مطلقاً (وصلاته في المسجد الذي يجمع فيه) بتشديد الميم أي: يصلي فيه الجمعة (بخمس مائة صلاة) أي: بالنسبة إلى مسجد الحي (في المسجد الأقصى) أي: مسجد بيت المقدس، وسمي به لبعده من المسجد الحرام. وقيل: لبعده عن الأقذار والخبائث. والمقدس المطهر عن ذلك (بخمسين ألف صلاة) أي: بالإضافة إلى ما قبله (وصلاته في مسجدي بخمسين ألف صلاة) أي: بالنسبة إلى ما يليه (وصلاته في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة) أي: بالنسبة إلى مسجد المدينة على ما يدل عليه سياق الكلام، فيحتاج إلى ضرب بعض الأعداد في بعض، فإنه ينتج مضاعفة كثيرة، وبه يجمع بين الروايات، ذكره القاري. قال ابن حجر المكي: قيل: إن هذا الحديث منكر لأنه مخالف لما رواه الثقات، وقد يقال: يمكن الجمع بينه وبين ما رووه بأن روايتهم "إن صلاة الجماعة تعدل صلاة المنفرد بخمس أو سبع وعشرين" تحمل على أن هذا كان أولاً، ثم زيد هذا المقدار في المسجد الذي تقام فيه الجمعة، وكذا ما جاء "أن صلاة المسجد الأقصى بألف في سائر المساجد، وصلاة بمسجده - صلى الله عليه وسلم - بألف صلاة في المسجد الأقصى" كان أولاً ثم زيد فيهما، فجعل الأول بخمسين ألفا في سائر المساجد، والثاني بخمسين ألفا في المسجد الأقصى، ومسجد مكة بمائة ألف في مسجده عليه الصلاة والسلام، وحينئذٍ فتزداد المضاعفة في مسجد مكة بأضعاف مضاعفة، فتأمله ضاربا مائة ألف في خمسين ألف ألف، ثم الحاصل في الخمسين ألفا تجد صحة ما ذكرته، كذا في المرقاة (رواه ابن ماجه) في أواخر الصلاة من طريق أبي الخطاب الدمشقي، عن زريق أبي عبد الله الألهاني عن أنس. قال في الزوائد: إسناده ضعيف، لأن أبا الخطاب الدمشقي لا يعرف حاله. وزريق فيه مقال، حكى عن أبي زرعة أنه

759- (66) وعن أبي ذر، قال: ((قلت: يا رسول الله! أي: مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام. قال: قلت: ثم أي؟ قال: ثم مسجد الأقصى. قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون عاماً؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ قال لا بأس به. ذكره ابن حبان في الثقات وفي الضعفاء، وقال يتفرد بالأشياء التي لا تشبه حديث الإثبات. لا يجوز الاحتجاج بخبره إلا عند الوفاق- انتهى. وقال الذهبي في الميزان: إنه حديث منكر جداً. 759- قوله: (وضع في الأرض أول) بضم اللام وهي ضمة بناء لقطعة عن الإضافة مثل قبل وبعد. قال أبوالبقاء: وهو الوجه. والتقدير: أول كل شيء، ويجوز النصب منصرفا أي: أولاً بالتنوين كما في رواية للبخاري. وغير منصرف لوزن الفعل والو صفية نحو قوله تعالى: {والركب أسفل منكم} [42:8] (ثم أي) بالتنوين مشددا أي: ثم أي: مسجد وضع بعد المسجد الحرام؟ وهذا الحديث يفسر المراد بقوله {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين} [96:3] ويدل على أن المراد بالبيت بيت العبادة لا مطلق البيوت، قاله الحافظ. وقال الرازي في تفسيره: إن قوله تعالى: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة} يحتمل أن يكون المراد كونه أولاً في الوضع والبناء، وأن يكون المراد كونه أولاً في كونه مباركا وهدى. ثم قال: إن دلالة الآية على الأولية في الفضل والشرف أمر لا بد منه، لأن المقصود الأصلي بيان الفضيلة، لأن المقصود ترجيحه على بيت المقدس، وهذا إنما يتم بالأولية في الفضيلة والشرف، ولا تأثير للأولية في البناء في هذا المقصد إلا أن ثبوت الأولية بسبب الفضيلة لا ينافي ثبوت الأولية في البناء (أربعون عاماً) فيه إشكال، وذلك أن المسجد الحرام بناه إبراهيم عليه السلام بنص القرآن، والمسجد الأقصى بناه سليمان عليه السلام، كما أخرجه النسائي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وإسناده صحيح، وبين إبراهيم وسليمان عليهما السلام أيام طويلة. قال أهل التاريخ: أكثر من ألف سنة. وجوابه أن الإشارة إلى أول البناء، ووضع أساس المسجد، وليس إبراهيم أول من بني الكعبة، ولا سليمان أول من بني بيت المقدس، فقد روي أن أول من بنى الكعبة آدم، ثم انتشر ولده، فجائز أن يكون بعضهم قد وضع بيت المقدس من بعده بأربعين عاماً. قال القرطبي: يرتفع الإشكال بأن يقال: الآية والحديث لا يدلان على أن إبراهيم وسليمان لما بنيا المسجدين ابتداء وضعهما لهما، بل ذاك تجديد لما كان أسسه غيرهما وبدأه، وبناء آدم لكعبة مشهور قلت: بل هو الذي أسس كلا من المسجدين، فذكر ابن هشام في كتاب التيجان أن آدم لما بنى الكعبة أمره الله بالسير إلى بيت المقدس، وأن يبنيه فبناه ونسك. والحاصل أن المراد في الحديث بناءهما قبل بناء إبراهيم للمسجد الحرام، وبناء سليمان للمسجد الأقصى، فإبراهيم وسليمان عليهما السلام مجددان للبناء لا مؤسسان. وقال ابن القيم في الهدى (ج1:ص9) : قد أشكل هذا الحديث على من لم يعرف المراد به، فقال: معلوم أن سليمان بن داود الذي بنى المسجد الأقصى، وبينه وبين إبراهيم أكثر من ألف عام. وهذا من جهل هذا القائل، فإن سليمان إنما كان له من المسجد الأقصى

(8) باب الستر

ثم الأرض لك مسجد، فحيث ما أدركت الصلاة فصل)) متفق عليه. (8) باب الستر {الفصل الأول} 760- (1) عن عمر بن أبي سلمة، قال: ((رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في ثوب واحد ـــــــــــــــــــــــــــــ تجديده لا تأسيسه، والذي أسسه هو يعقوب بن إسحاق صلى الله عليهما وسلم بعد بناء إبراهيم الكعبة بهذا المقدار- انتهى (ثم الأرض لك مسجد) أي: صالحة للصلاة فيها. ويخص هذا العموم بما ورد فيه النهي. قال السندي: كلمة "ثم" للتراخي بالإخبار، والمراد أنها كلها مسجد ما دامت على الحالة الأصلية التي خلقت عليها. وأما إذا انتجست فلا. ذكره لبيان أنه لا يؤخر الصلاة لإدراك فضل هذه المساجد (فحيث ما أدركتك الصلاة) أي: وقت الصلاة. وفيه إشارة إلى المحافظة على الصلاة في أول وقتها. ويتضمن ذلك الندب إلى معرفة الأوقات. وفي بعض الطرق: فأينما أدركتك الصلاة فصل، فإن الفضل فيه. قال الحافظ: في الحديث إشارة إلى أن المكان الأفضل للعبادة إذا لم يحصل لا يترك المأمور به لفواته، بل يفعل المأمور في بالمفضول، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كأنه فهم عن أبي ذر من تخصيصه السؤال عن أول مسجد وضع، أنه يريد تخصيص صلاته فيه، فنبه على أن إيقاع الصلاة إذا حضرت لا يتوقف على المكان الأفضل (فصل) وفي بعض النسخ"فصله" بهاء ساكنة وهي هاء السكت. قال الطيبي: يعني سألت أبا ذر عن أما كن بنيت مساجد، واختصت العبادة بها، وأيها أقدم زماناً فأخبرتك بوضع المسجدين وتقدمهما على سائر المساجد، ثم أخبرك بما أنعم الله علي وعلى أمتي من رفع الجناح وتسوية الأرض في أداء العبادة فيها (متفق عليه) أخرجه البخاري في الأنبياء ومسلم في الصلاة، وأخرجه أيضاً النسائي وابن ماجه في الصلاة. (باب الستر) أي: ستر العورة وسائر الأعضاء، وهو بالفتح مصدر سترته إذا غطيته، وبالكسر واحد الستور والأستار. قال الله تعالى: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} [7: 31] ، روى مسلم من حديث ابن عباس، قال: كانت المرأة تطوف بالبيت عريانة- الحديث. وفيه"فنزلت: {خذوا زينتكم} ووقع في تفسير طاؤس قال: في قوله تعالى: {خذوا زينتكم} قال: الثياب. وصلة البيهقي، ونحوه من مجاهد. ونقل ابن حزم الاتفاق على أن المراد ستر العورة شرط لصحة الصلاة وإن كان في مكان خال. وفي غير حالة الصلاة يجب سترها عن أعين الناس ممن يحرم نظره. 760-قوله: (عن عمر بن أبي سلمة) هو عمر بن أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي القرشي أبوحفص المدني، ربيب النبي - صلى الله عليه وسلم -. صحابي صغير، وأمه أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولد بأرض الحبشة في السنة الثانية من الهجرة. وقبض

مشتملاً به، في بيت أم سلمة، واضعاً طرفيه على عاتقيه)) . متفق عليه. 761- (2) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقيه منه شيء)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وله تسع سنين، وشهد مع علي الجمل. وأمره علي على البحرين. توفي في زمن عبد الملك بن مروان سنة (83) على الصحيح، له اثنا عشر حديثاً، اتفقا على حديثين، روى عنه جماعة (مشتملاً به) أي: بالثوب. ووقع في رواية للبخاري "متوشحا به". وفي بعض روايات مسلم "ملتحفاً به" ومعنى الاشتمال والتو شح والالتحاف واحد هنا. وهو المخالفة بين طرفي الثوب بأن يأخذ الأيمن من تحت يده اليمنى فيلقيه على منكبه الأيسر، ويلقي طرف الثوب الأيسر من تحت يده اليسرى على منكبه الأيمن. قال الطيبي: الاشتمال، التوشح والمخالفة بين طرفي الثوب الذي ألقاه على منكبه الأيمن من تحت يده اليسرى، ويأخذ طرفيه الذي ألقاه على منكبه الأيسر من تحت يده اليمنى، ثم يعقدهما على صدره، يعني لئلا يكون سدلاً. قلت: الاشتمال على أنواع، أحدها: التوشح، وهو المذكور في حديث الإباحة. والثاني: ما فسر به الأخفش أن الاشتمال هو أن يلتف الرجل برداءه أو بكسائه من رأسه إلى قدمه، ويرد طرف الثوب الأيمن على منكبه الأيسر، ذكره الشوكاني. والثالث: اشتمال الصماء المنهى عنه. وقد اختلفوا في تفسيره، فقال أهل اللغة: هو أن يشتمل بالثوب حتى يجلل به جسده، لا يرفع منه جانبا، فلا يبقى ما يخرج منه يده، وإنما كره لئلا تعرض له حاجة من دفع بعض الهوام، فيعسر عليه إخراج يده فيلحقه الضرر، ولأنه يعسر عليه حينئذٍ رفع اليدين حذو أذنيه، وبسطهما على الأرض حذاء أذنيه في السجدة. وقالت الفقهاء: هو أن يشتمل بثوب واحد ليس عليه غيره، ثم يرفعه من أحد جانبيه فيضعه على أحد منكبيه فيبدو منه فرجه. وفائدة التوشح والاشتمال والالتحاف المذكورة في الأحاديث أن لا ينظر المصلى إلى عورة نفسه إذا ركع، ولئلا يسقط الثوب عند الركوع والسجود. والحديث يدل على أن الصلاة في الثوب الواحد صحيحة إذا توشح به المصلي، أي: وضع طرفيه على عاتقيه مخالفا بين طرفيه (في بيت أم سلمة) ظرف ليصلي (واضعاً طرفيه) تفسير مشتملاً (على عاتقيه) العاتق ما بين المنكبين إلى أصل العنق (متفق عليه) وأخرجه أيضاً مالك واحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه. 761- قوله: (لا يصلين) بنون التأكيد المشددة. قال ابن الأثير: وفي رواية الصحيحين "لا يصلي" بإثبات الياء، ووجهه أن لا نافية، وهو خبر بمعنى النهي. ورواه الدارقطني في غرائب مالك من طريق الشافعي بلفظ "لا يصل" ومن طريق عبد الوهاب بن عطاء" لا يصلين" أي: بزيادة التأكيد، قلت: وكذا رواه النسائي بلفظ "لا يصلين" (ليس على عاتقه منه شيء) الجملة المنفية حال. والمراد أنه لا يتزر في وسطه، ويشد طرفيه الثوب في حقويه بل يتوشح

متفق عليه. 762- (3) وعنه، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من صلى في ثوب واحد، فليخالف بين طرفيه)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ بهما على عاتقيه، فيحصل الستر من أعالي البدن وإن كان ليس بعورة. أو لكون ذلك أمكن في ستر العورة، وهذا إذا كان الثوب واسعاً، وذلك لأنه إذا خالف بين طرفيه وضعهما على عاتقيه يكون بمنزلة الإزار والرداء جميعاً، ويكون أستر وأجمل. وأما إذا كان ضيقاً وليس عنده ثوب آخر شده على حقوه كما في حديث جابر عند الشيخين مرفوعاً "إذا صليت في ثوب واحد، فإن كان واسعاً فالتحف به، وإن كان ضيقاً فاتزر به". وقيل: في حكمة وضع الثوب على العاتق إذا كان واسعاً أنه إذا اتزر به ولم يكن على عاتقه منه شيء لم يؤمن أن تنكشف عورته، بخلاف ما إذا جعل بعضه على عاتقه. ولأنه قد يحتاج إلى إمساكه بيده أو بيديه، فيشتغل بذلك، ولا يتمكن من وضع اليد اليمنى على اليسرى على الصدر فتفوت السنة والزينة المطلوبة في الصلاة. والحديث يدل على المنع من الصلاة في الثوب الواحد إذا لم يكن على عاتق المصلى منه شيء، وقد حمل الجمهور هذا النهي على التنزيه، فلو صلى في ثوب واحد ساتر لعورته وليس على عاتقه شيء منه صحت صلاته مع الكراهة، ولو كان الثوب واسعا. وأما أحمد وبعض السلف فذهبوا إلى أنه لا يصح صلاته، عملا بظاهر الحديث. وهذا هو الحق لأنه لا صارف للنهي عن معناه الحقيقي فيجب الجزم بمعناه الحقيقي وهو تحريم ترك جعل طرف الثوب الواحد حال الصلاة على العاتق، والجزم بوجوبه مع المخالفة بين طرفيه بالحديث الآتي حتى ينتهض دليل يصلح للصرف. ولكن هذا إذا كان الثوب واسعاً، جمعاً بين الأحاديث كما تقدم التصريح بذلك في حديث جابر. وقد عمل بظاهر الحديث ابن حزم (متفق عليه) قال ميرك: وفيه نظر من وجوه، الأول: أن قوله "لا يصلين" ليس فيهما بل فيهما "لا يصلي" والثاني: أن قوله "على عاتقيه" ليس في البخاري، وإنما فيه "على عاتقه" والثالث: أن قوله "منه" ليس في البخاري، وإنما هو من إفراد مسلم، كما صرح به الشيخ ابن حجر- أي: العسقلاني صاحب فتح الباري- انتهى. والحديث أخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي. 762- قوله: (فليخالف بين طرفيه) زاد أحمد وأبوداود على عاتقيه. وهذا إذا كان الثوب واسعا، وأما إذا كان ضيقا فيشده على حقوه. قال النووي: المشتمل، والمتوشح، والمخالف بين طرفيه، معناه واحد هنا، وقد سبقه إلى ذلك الزهري. وقد حمل الجمهور هذا الأمر على الاستحباب، وخالفهم في ذلك أحمد. والخلاف في النهي في الحديث الذي قبل هذا. وقد تقدم أن الحق فيه ما ذهب إليه أحمد (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود.

763- (4) وعن عائشة، قالت: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خميصة لها أعلام، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما انصرف، قال: ((اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم، وائتوني بأنبجانية أبي جهم؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ 763- قوله: (في خميصة) بفتح خاء وكسر ميم وصاد مهملة، ثوب رقيق مربع من خز أو صوف معلم، وقيل: لا تسمى خميصة إلا أن تكون سوداء معلمة، فعلى هذا قول عائشة (لها) أي: للخميصة (أعلام) جمع علم وهو رسم الثوب ورقمه، على وجه البيان والتأكيد، ولا يبعد أن يكون من طريق التجريد. وقال ابن عبد البر في التمهيد: الخميصة هي كساء رقيق قد يكون بعلم وبغيره، وقد يكون أبيض معلماً، وقد يكون أصفر وأحمر وأسود. وهي من لباس أشراف العرب، والجملة صفة لخميصة (فلما انصرف) أي: عن الصلاة (اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم) بفتح الجيم وسكون الهاء، هو أبوالجهم بن حذيفة بن غانم بن عامر بن عبد الله القرشي العدوي. قال البخاري وجماعة: اسمه عامر، وقيل: عبيد. أسلم عام الفتح، وصحب النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكان مقدماً في قريش معظماً، وعالما بالنسب. وهو أحد الأربعة الذين كانت قريش تأخذ عنهم علم النسب. وكان من المعمرين. حضر بناء الكعبة حين بنتها قريش، وحين بناها زبير. وهو أحد الأربعة الذين تولوا دفن عثمان، بقي إلى أول خلافة ابن الزبير. ووجه تخصيص أبي جهم بإرسال الخميصة إليه أنه هو الذي أهداها له - صلى الله عليه وسلم -، فلذلك ردها عليه، فقد روى مالك، عن علقمة بن أبي علقمة، عن أمه أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: أهدى أبوجهم بن حذيفة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خميصة شامية، لها علم، فشهد فيها الصلاة- الحديث. قال ابن الأثير في أسد الغابة: قد اختلفوا في هذه الخميصة، فقال مالك: هكذا. ومنهم من قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى بخميصتين سوداوين، فلبس إحداهما وبعث بالأخرى إلى أبي جهم، فلما ألهته في الصلاة بعثها إلى أبي جهم، وطلب التي كانت عنده بعد أن لبسها لبسات. روى ذلك سعيد بن عبد الكبير – انتهى. وقال الحافظ في الإصابة (ج4:ص35) بعد ذكر الحديث برواية الصحيحين: وذكر الزبير من وجه آخر مرسلاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى بخميصتين سوداوين، فلبس إحداهما وبعث الأخرى إلى أبي جهم، ثم إنه أرسل إلى أبي جهم في تلك الخميصة، وبعث إليه التي لبسها هو، ولبس هو التي كانت عند أبي جهم بعد أن لبسها أبوجهم لبسات – انتهى. (وائتوني بأنبجانية أبي جهم) وإنما طلب انبجانيته بدلها لئلا يتأذى برد هديته. قال ابن بطال: إنما طلب منه ثوبا غيرها ليعلمه أنه لم يرد عليه هديته استخفافا به وهي – بفتح الهمزة وسكون النون وكسر الموحدة وتخفيف الجيم وبعد النون ياء نسبة مشددة – كساء يتخذ من الصوف وله خمل ولا علم له، وهو من أدون الثياب الغليظة. ويجوز كسر الهمزة وسكون النون وفتح الموحدة وتخفيف الياء بالمثناة. قال عياض: يروي بفتح الهمزة وكسرها، وبتشديد الياء وتخفيفها – انتهى. نسبة إلى منبج – بفتح الميم وكسر الموحدة – موضع معروف بالشام، فأبدلت الميم همزة في النسب. ويقال: نسبة إلى موضع يقال له: أنبجان، وفي هذه قال ثعلب: كساء أنبجاني، وهذا هو الأقرب إلى الصواب في لفظ الحديث. والأول فيه

فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ تعسف (فإنها) أي: الخميصة (ألهتي) من لهي – بكسر – إذا غفل، لا من "لها لهوا" إذا لعب (آنفاً) أي: قريباً، أو في هذه الساعة (عن صلاتي) وعند مالك في الموطأ: فإني نظرت إلى علمها في الصلاة فكاد يفتنني. وفي الرواية الآتية "فأخاف أن يفتنني" فيحمل قوله "ألهتني" على قوله "كاد" فيكون الإطلاق للمبالغة في القرب لا لتحقق وقوع الإلهاء. وقيل: معنى قوله "يفتنني" يلهني عن الصلاة إلهاء أتم مما وقع منها أولا، فلا تنافي بين الجزم بوقوع الإلهاء بهاء ثم، وخشية وقوعه بها هنا. وكان ذلك هو حكمة التغاير بين الأسلوبين حيث عبر أولاً بالإلهاء وثانياً بالفتنة. والحاصل أن المراد بالفتنة شيء فوق الإلهاء. وقيل: معنى ألهتني: أرادت أن تلهيني فلا ينافي قوله "فأخاف أن يفتنني" بمعنى يلهيني، بل يكون الثاني تفسيرا للأول. ولا يقال: إن المعنى شغلتني عن كمال الحضور في صلاتي، لأنا نقول: قوله "فأخاف أن يفتنني" يدل على نفي وقوع ذلك. وقد يقال: إن له عليه الصلاة والسلام حالتين حالة بشرية، وحالة يختص بها خارجة عن ذلك فبالنظر إلى الحالة البشرية قال ألهتني، وبالنظر إلى الحالة الثانية لم يجزم به، بل قال: أخاف. ولا يلزم من ذلك الوقوع. ونزع الخميصة ليستن به في ترك كل شغل، فهو تشريع لأمته، وليس المراد أن أبا جهم يصلي في الخميصة، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ليبعث إلى غيره بما يكرهه لنفسه، فهو كإهداء الحلة لعمر مع تحريم لباسها عليه، لينتفع بها ببيع أو غيره. وقيل كان هو أعمى فالإلهاء مفقود في حقه. قال ابن الجوزي: قيل: كيف خاف الإفتتنان بعلم من لم يلتفت إلى الأكوان بليلة ما زاغ البصر؟ وأجيب بأنه كان في تلك الليلة خارجا عن طباعه، فأشبه ذلك نظره من وراءه، فإذا رد إلى طبعة أثر فيه ما يؤثر في البشر. وقيل: أيضاً إن المراقبة في الصلاة شغلت خلقا من أتباعه حتى أنه وقع السقف إلى جانب مسلم بن يسار ولم يعلم. وأجيب بأن أولئك كانوا يؤخذون عن طبائعهم فيغيبون عن وجودهم. وكان الشارع يسلك طريق الخواص وغيرهم، فإذا سلك طريق الخواص وغير الكل فقال: لست كأحدكم، وإن سلك طريق غيرهم قال "إنما أنا بشر مثلكم" فرد إلى حالة الطبع ليستن به في ترك كل شاغل-انتهى. واستنبط من الحديث الحث على حضور القلب في الصلاة، وترك ما يؤدي إلى شغله. وقد شهد القرآن بالفلاح للمصلين الخاشعين، والفلاح أجمع اسم لسعادة الآخرة. وبانتفاء الخشوع ينتفي الفلاح. قال الأمير اليماني: في الحديث دليل على كراهة ما يشغل عن الصلاة من النقوش ونحوها مما يشغل القلب. وقال الطيبي: فيه إيذان بأن للصور والأشياء الزاهرة تأثيراً في القلوب الطاهرة والنفوس الزكية فضلاً عما دونها. وفيه كراهة الصلاة على المفارش والسجاجيد المنقوشة، وكراهة نقش المساجد ونحوه (متفق عليه) واللفظ للبخاري. وقال ميرك: فيه نظر لأنه ليس هذا الحديث في مسلم بهذا اللفظ، وإنما هو لفظ البخاري. ولفظ مسلم عن عائشة، قالت: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في خميصة ذات أعلام، فنظر إلى أعلامها، فلما قضى صلاته قال: اذهبوا بهذه الخميصة إلى أبي جهم بن حذيفة، رائتوني بأنجانيته، فإنها ألهتني آنفاً في صلاتي. فانظر في اختلاف الألفاظ-انتهى. قلت: مقصود المصنف أن أصل الحديث متفق عليه لا خصوص هذا اللفظ. وعلى هذا

وفي الرواية للبخاري، قال: كنت أنظر إلى عملها وأنا في الصلاة فأخاف أن يفتنني. 764- (5) وعن أنس، قال: كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أميطي عنا قرامك هذا، فإنه لا يزال تصاويره تعرض لي في صلاتي)) رواه البخاري. 765- (6) وعن عقبة بن عامر، قال: ((أهدي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فروج حرير، فلبسه ثم صلى فيه، ثم انصرف فنزعه نزعاً شديداً كالكاره له، ـــــــــــــــــــــــــــــ فلا اعتراض على المصنف في عزو الحديث إلى الشيخين. والحديث أخرجه أيضاً مالك، وأحمد والنسائي (وفي رواية) أي: معلقة (إلى علمها) أي: علم الخميصة (وأنا في الصلاة) جملة حالية (فأخاف أن يفتنني) بفتح المثناة التحتية في أوله، وكسر المثناة فوق، وبالنونين من باب ضرب يضرب، وفي رواية تفتنني بفتح المثناة الفوقية في أوله بدل التحتية أي: تمنعني من الصلاة وتشغلني عنها. 764- قوله: (قرام) بكسر القاف وتخفيف الراء، الستر الرقيق، وقيل: الصفيق من صوف ذى ألوان. وقيل الستر الرقيق وراء الستر الغليظ (جانب بيتها) هو يحتمل جانب الباب وجانب الجدار (أميطي) أمر من أماط يميط أي: أزيلي (فإنه) الضمير للشأن أو لقرام (تصاويره) جمع تصوير بمعنى الصورة أي: تماثيله، أو نقوشه (تعرض) بفتح المثناة الفوقية وكسر الراء أي: تلوح وتظهر لي (في صلاتي) في الحديث دلالة على إزالة ما يشوش على المصلى صلاته مما في منزله أو في محل صلاته. ولا دليل فيه على بطلان الصلاة، لأنه لم يرو أنه - صلى الله عليه وسلم - أعادها أو قطعها، نعم! تكره الصلاة حينئذٍ لما فيه من سبب اشتغال القلب المفوت للخشوع. قال الحافظ: وقد استشكل الجمع بين هذا الحديث وبين حديث عائشة أيضاً أنه اشترت نمرقة فيها تصاوير، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - بالباب، فلم يدخل – الحديث. لأنه يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يدخل البيت الذي كان فيه الستر المصور أصلاً حتى نزعه. وهذا يدل على أنه أقره وصلى، وهو منصوب إلى أن أمر بنزعه من أجل ما ذكر من رؤية الصورة حالة الصلاة، ولم يتعرض لكونها صورة، ويمكن الجمع بأن الأول كانت تصاويره من ذوات أرواح، وهذا أي: القرام المذكور في حديث الباب كانت تصاوير من غير الحيوان كصورة الشجرة ونحوها (رواه البخاري) في الصلاة، وفي اللباس. 765- قوله: (أهدى) على بناء المفعول (فروج حرير) بالإضافة كثوب خز، وخاتم فضة. وفي رواية أحمد "فروج من حرير" وهو بفتح الفاء وتشديد الراء المضمومة وتخفيفها وآخرها جيم. وحكى عن أبي العلاء المعرى ضم أوله وخفة الراء على وزن خروج، قباء مشقوق عن خلفه، وهو من لبوس الأعاجم. وكان الذي أهداه له أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة (فلبسه) قبل تحريم الحرير (فنزعه نزعاً) بفتح النون وسكون الزاى (شديدا كالكاره له)

{الفصل الثاني}

ثم قال: لا ينبغي هذا للمتقين)) متفق عليه. {الفصل الثاني} 766- (7) عن سلمة بن الأكوع، قال قلت: ((يارسول الله! إني رجل أصيد؛ أفأصلي في القميص الواحد؟ قال: نعم، وازرره ـــــــــــــــــــــــــــــ وفي حديث جابر بن مسلم "صلى في قباء ديباج، ثم نزعه، وقال: نهاني جبريل عليه السلام، فهذا ظاهر في أن صلاته فيه كانت قبل تحريمه. وأن النهي سبب نزعه له، وذلك ابتداء تحريمه. قال ابن تيمية: حديث عقبة محمول على أنه لبسه قبل تحريمه، إذ لا يجوز أن يظن به أنه لبسه بعد التحريم في صلاة ولا غيرها. ويدل على إباحته في أول الأمر ما روى أنس بن مالك: أن أكيدردومة أهدى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - جبة سندس أو ديباج قبل أن ينهى عن الحرير، فلبسها، فتعجب الناس منها، فقال: والذي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن منها. رواه أحمد (لا ينبغي هذا) أي: لا يجوز استعمال الحرير (للمتقين) عن الكفر، وهم المؤمنون، وعبر بجمع الذكر ليخرج النساء لأنه حلال لهن. فإن قلت: يدخلن تغليبا، أجيب بأنهن خرجن بدليل آخر قال - صلى الله عليه وسلم -: أحل الذهب والحرير لإناث أمتي، وحرم على ذكورها، أخرجه أحمد والترمذي وصححه. والحديث يدل على تحريم الصلاة في الحرير، وقد اختلفوا هل تجزئ الصلاة في الحرير بعد تحريمه أم لا؟ فقال الحافظ: إنها تجزئ عند الجمهور مع التحريم، وعن مالك يعيد في الوقت إن وجد ثوبا غيره. وقد استدل بعضهم لجواز الصلاة في ثياب الحرير بعدم إعادته - صلى الله عليه وسلم - لتلك الصلاة، وهو مردود لأن ترك إعادتها لكونها وقعت قبل التحريم كما دل عليه حديث جابر (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصلاة، وفي اللباس، ومسلم في اللباس، وأخرجه أيضاً النسائي في اللباس. 766- قوله: (عن سلمة) بفتح السين واللام (بن الأكوع) هو سلمة بن عمرو بن الأكوع، واسمه سنان بن عبد الله ابن قشير الأسلمي، أبومسلم المدني، شهد بيعة الرضوان. قال الخزرجي: بايع تحت الشجرة أو الناس وأوسطهم وآخرهم على الموت، وكان شجاعاً رامياً سخياً خيراً فاضلاً، كان يسبق الفرس شداً على قدميه، استوطن الربذة بعد قتل عثمان، وتزوج بها امرأة، وولدت له أولاداً، فلم يزل بها حتى قبل أن يموت بليال فنزل المدينة وتوفي بها سنة (74) له سبعة وسبعون حديثاً، اتفقا على ستة عشر، وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم بتسعة، روى عنه خلق كثير (إني رجل أصيد) بصيغة المتكلم كأبيع من صاد يصيد، أي: أخرج للإصطياد، وفي رواية أحمد والنسائي: إن أكون في الصيد. وفي رواية ابن حبان "إني رجل أتصيد" وإنما ذكر الصيد لأن الصائد يحتاج أن يكون خفيفا ليس عليه ما يشغله عن الإسراع في طلب الصيد، قاله ابن الأثير (قال نعم) أي: صل فيه (وازرره) بضم الراء من باب نصر، أي: شد جيب القميص،

ولو بشوكة)) . رواه أبوداود، وروى النسائي نحوه. 767- (8) وعن أبي هريرة، قال: ((بينما رجل يصلي مسبل إزاره، قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذهب فتوضأ، فذهب وتوضأ، ـــــــــــــــــــــــــــــ وأربطه، واجمع بين طرفيه لئلا تظهر عورتك (ولو بشوكة) أي: ولو لم يمكنك ذلك إلا بأن تغرز في طرفة شوكة تستمسك بها. قال الطيبي: هذا إذا كان جيب القميص واسعاً يظهر منه عورته فعليه أن يزره لئلا تنكشف العورة- انتهى. والحديث يدل على جواز الصلاة في الثوب الواحد، وفي القميص منفردا عن غيره مقيداً بعقد الإزار. قال في شرعة الإسلام ومن آداب الصلاة زر القميص بناء على أن الصحيح أن ستر عورته عن نفسه ليس بشرط، حتى لو كان محلول الجيب فنظر إلى عورته لا يعيد صلاته، كذا في التبيين. وفي شرح المنية أفتى بعض المشائخ بأنه إذا رأى عورته تفسد صلاته. وهو ظاهر الحديث. قال القاري (رواه أبوداود) من طريق الدراوردي، عن موسى بن إبراهيم المخزومي، عن سلمة بن الأكوع. وأخرجه أيضاً أحمد والشافعي وابن خزيمة والطحاوي وابن حبان والحاكم، وعلقه البخاري في صحيحه، وقال: في إسناده نظر. قال الحافظ في الفتح: وقد وصله المصنف أي: البخاري في تاريخه. وأبوداود وابن خزيمة وابن حبان من طريق الدراوردي. قال: ورواه البخاري أيضاً عن إسماعيل بن أبي أويس، عن أبيه، عن موسى بن إبراهيم، عن أبيه، عن سلمة. زاد في الإسناد رجلاً. ورواه أيضاً عن مالك بن إسماعيل، عن عطاف ابن خالد. قال: حدثنا موسى بن إبراهيم، قال: حدثنا سلمة، فصرح بالتحديث بين موسى وسلمة، فاحتمل أن يكون رواية أبي أويس من المزيد في متصل الأسانيد، أو يكون التصريح في رواية عطاف وهما، فهذا وجه النظر في إسناده- انتهى. والحديث سكت عنه أبوداود والمنذري. قال الحافظ في الفتح: أما من صححه فاعتمد رواية الدراوردي، وجعل رواية عطاف شاهدة لاتصالها. وطريق عطاف أخرجها أيضاً أحمد والنسائي- انتهى. وقال في التلخيص قد بينت طرق الحديث في تعليق العليق، وله شاهد مرسل، وفيه انقطاع أخرجه البيهقي. 767- قوله (مسبل إزاره) صفة بعد صفة لرجل، أي: مرخ إزاره عن الحد الشرعي- وهو الكعبان- ففي حديث أبي هريرة عند أبي داود: ما كان أسفل من الكعبين فهو في النار (قال له) وفي أبي داود "إذ قال له"بزيادة "إذ" قال القاري: أي: بعد صلاته لكون صلاته صحيحة، فأراد أن يبين أنها غير مقبولة، وقال ابن حجر: ظاهر الحديث أنه أمر المسبل بقطع صلاته ثم بالوضوء (إذهب فتوضأ) قيل: نما أمره بالوضوء ليعلم أنه مرتكب معصية لما أسبقه في نفوسهم أن الوضوء يكفر الخطايا ويزيل أسبابها كالغضب ونحوه، وقال الطيبي: لعل السر في أمره بالتوضي وهو ظاهر أن يتفكر الرجل في سبب ذلك الأمر فيقف على ما ارتكبه من المكروه (أى ينظر إلى إسباله المخل في إسباغ الوضوء المسبب لعدم قبول الصلاة) وأن الله ببركة أمر رسوله عليه الصلاة والسلام إياه بطهارة الظاهر يطهر باطنه من

ثم جاء. فقال رجل يا رسول الله! مالك أمرته أن يتوضأ؟ قال: إنه كان يصلي وهو مسبل إزاره، وأن الله لا يقبل صلاة رجل مسبل إزاره)) . رواه أبوداود. 768- (9) وعن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقبل صلاة حائض ـــــــــــــــــــــــــــــ دنس الكبر، لأن طهارة الظاهر مؤثرة في طهارة الباطن، فعلى هذا ينبغي أن يعبر كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أن الله تعالى لا يقبل صلاة المتكبر المختال، فتأمل في طريق التنبيه، ولطف هذا الإرشاد. ومنه ما روى عن عطية، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما يطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ) . أخرجه أبوداود- انتهى كلام الطيبي (ثم جاء) كأنه جاء وهو غير مسبل إزاره (فقال رجل) لم يعرف اسمه (مالك أمرته أن يتوضأ) أي: والحال أنه طاهر متوضئ لم يوجد منه ما ينقض وضوئه (لا يقبل) أي: قبوله كاملا (صلاة رجل مسبل إزاره) قال القاري: ظاهر جوابه عليه السلام أنه أعاده بالوضوء- والله أعلم- أنه لما كان يصلي وما تعلق القبول الكامل بصلاته، والطهارة من شرائط الصلاة وأجزائها الخارجية، فسرى عدم القبول إلى الطهارة أيضا، فأمره بإعادة الطهارة حثا على الأكمل والأفضل- انتهى. قلت: ويمكن أن يستدل بالحديث على كون الإسبال من مفسدات الصلاة بناء على أن عدم القبول يرادف الرد، وإذا كانت صلاة المسبل مردودة كانت باطلة، والله أعلم (رواه أبوداود) في الصلاة واللباس، وفي سنده أبوجعفر، وهو رجل من أهل المدينة لا يعرف اسمه. قال الحافظ: أبوجعفر المؤذن الأنصاري المدني مقبول، ومن زعم أنه محمد بن على بن الحسين (الباقر) فقدوهم- انتهى. قال النووي في "رياض الصالحين" بعد ذكر هذا الحديث: رواه أبوداود بإسناد صحيح على شرط مسلم- انتهى. وفي الباب عن ابن عباس مرفوعاً: (إذا صليتم فارفعوا سبلكم (أي لثياب المسبلة) فكل شيء أصاب الأرض من سبلكم فهو في النار) . رواه الطبراني في الكبير، وفيه عيسى بن قرطاس وهو ضعيف جداً. وعن عطاء بن يسار، عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: بينما رجل يصلي وهو مسبل إزاره قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اذهب فتوضأ. . . قال: فذهب فتوضأ ثم جاء، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اذهب فتوضأ، ثم جاء، فقال (رجل) : يا رسول الله! مالك أمرته يتوضأ ثم سكت عنه؟ فقال: إنه كان يصلي وهو مسبل إزاره، وإن الله تبارك وتعالى لا يقبل صلاة عبد مسبل إزاره، ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج5:ص125) وقال: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح. وعزاه صاحب الأطراف إلى النسائي، ولم أجد في نسختي، فلعله في الكبرى انتهى. وعن ابن مسعود، أنه رأى أعرابياً يصلي قد أسبل إزاره، فقال: المسبل إزاره في صلاته ليس من الله في حل ولا حرام. رواه الطبراني ورجاله ثقات. 768- قوله: (لا تقبل) أي: لا تصح إذ الأصل في نفى القبول نفى الصحة والإجزاء إلا لدليل (صلاة حائض) يعني

إلا بخمار)) رواه أبوداود والترمذي. 769- (10) وعن أم سلمة، ((أنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتصلي المرأة في درع وخمار ليس عليها إزار؟ قال: إذا كان الدرع سابغاً يغطى ظهور قدميها)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ به المرأة البالغة أي: المكلفة، وإن تكلفت بالاحتلام مثلا. وإنما عبر بالحيض نظرا إلى الأغلب. قال الخطابي: يريد بالحائض المرأة التي بلغت سن الحيض، ولم يرد به التي هي في أيام حيضها، لأن الحائض لا تصلي بوجه- انتهى. وقيل: الأصواب أن يراد بالحائض من شأنها الحيض، ليتناول الصغيرة أيضا، فإن ستر رأسها شرط لصحة صلاتها أيضا. قلت: ويدل لما قال الخطابي ما رواه الطبراني في الصغير والأوسط من حديث أبي قتادة مرفوعاًبلفظ: لا يقبل الله من امرأة صلاة حتى توارى زينتها، ولا من جارية بلغت الحيض حتى تختمر (إلا بخمار) بكسر الخاء المعجمة آخره راء، قال في القاموس: الخمار بالكسر النصيف، وكل ما ستر شيئاً فهو خماره. وقال: نصيف كأمير: الخمار والعمامة، وكل ما غطى الرأس- انتهى. والمراد به هنا ما تغطى به المرأة رأسها وعنقها. والحديث يدل على أن رأس المرأة عورة، وأنه يجب عليها ستر رأسها وعنقها حال الصلاة. واستدل به من سوى بين الحرة والأمة في العورة لعموم ذكر الحائض، ولم يفرق بين الحرة والأمة، وهو قول أهل الظاهر. وفرق الجمهور بين عورة الحرة والأمة، وحملوا الحديث على الحرة. والحديث قد استدل به على أن ستر العورة شرط في صحة الصلاة، لأن قوله"لا تقبل" صالح للاستدلال به على الشرطية كما تقدم وقد اختلف في ذلك. ومذهب الجمهور أن ستر العورة من شروط الصلاة (رواه أبوداود والترمذي) وحسنه. ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره. والحديث أخرجه أيضاً أحمد وابن ماجه وابن خزيمة والحاكم في المستدرك (ج1:ص251) وقال هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وأظن أنه لخلاف فيه على قتادة، ثم رواه الحاكم من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن مرفوعاًمرسلا. وكذلك أشار أبوداود بعد روايته إلى رواية الحسن المرسلة كأنه يعلل الحديث بها. وليست هذه بالعلة، فإن حماد بن سلمة ثقة، والرواية المرسلة تؤيد المتصلة، وهي من طريق آخر، فهو عند قتادة عن شيخين عن ابن سيرين متصلا، وعن الحسن مرسلاً. والحديث صحيح كما قال الحاكم، أو حسن كما قال الترمذي. 769- قوله: (في درع) أي: قميص (ليس عليها) أي: ليس تحت قميصها أو فوقه (إزار) أي: ولا سراويل (قال) أي: نعم (إذا كان الدرع سابغاً) أي: كاملاً واسعاً (يغطى ظهور قدميها) يعني يجوز لها حينئذٍ أن تصلي في درع وخمار ليس عليها إزار، ففي بعض ألفاظ الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: لا بأس إذا كان الدرع سابغاً، الخ. والحديث دليل لمن قال: إن قدمي المرأة عورة يجب سترها، لأن قوله: "يغطى ظهور قدميها" يدل على عدم العفو، فهو حجة لمن

رواه أبوداود، وذكر جماعة وقفوه على أم سلمة. 770- (11) وعن أبي هريرة، ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن السدل في الصلاة، ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يستثن القدمين من العورة. وإليه ذهب أكثر العلماء. وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة. قال الأمير اليماني في السبل بعد ذكر حديث أم سلمة هذا وحديث عائشة السابق ما لفظه: هذا يدل على أنه لا بد في صلاتها من تغطية رأسها ورقبتها كما أفاد حديث الخمار، ومن تغطية بقية بدنها حتى ظهر قدميها كما أفاده حديث أم سلمة ويباح كشف وجهها حيث لم يأت دليل بتغطيته. والمراد كشفه عند صلاتها بحيث لا يراها أجنبي، فهذه عورتها في الصلاة. وأما عورتها بالنظر إلى نظر الأجنبي إليها فكلها عورة كما يأتي تحقيقه. وذكره هنا، وجعل عورتها في الصلاة هي عورتها بالنظر إلى نظر الأجنبي، وذكر الخلاف في ذلك ليس محله هنا، إذ لها عورة في الصلاة، وعورة في نظر الأجانب، والكلام الآن في الأول، والثاني يأتي في محله- انتهى. قلت: قد اختلف العلماء في تحديد عورة المرأة في الصلاة وخارجها اختلافاً كثيراً، إن شئت الوقوف على ذلك فارجع إلى المغني لابن القدامة. والراجح عندي ما ذهب إليه الحنابلة من أن الحرة البالغة كلها عورة في الصرة حتى ظفرها وشعرها إلا وجهها، والوجه والكفان عورة خارج الصلاة باعتبار النظر إليها كبقية البدن. قال الخطابي: في خبر أم سلمة دليل على صحة قول من لم يجز صلاتها إذا انكشف من بدنها شيء، ألا تراه عليه السلام يقول: إذا كان سابغاً يغطى ظهور قدميها، فجعل من شرط جواز صلاتها لئلا يظهر من أعضاءها شيء- انتهى (رواه أبوداود) أي: مرفوعاً (وذكر) أي: أبوداود (جماعة) أي: من الرواة (وقفوه على أم سلمة) قال أبوداود بعد روايته من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن محمد بن زيد بن قنفذ، عن أمه، عن أم سلمة مرفوعاً: روى هذا الحديث مالك بن أنس، وبكر بن مضر، وحفص بن غياث، وإسماعيل بن جعفر، وابن أبي ذئب، وابن إسحاق عن محمد بن زيد، عن أمه عم أم سلمة، لم يذكر أحد منهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، قصروا به على أم سلمة- انتهى. يعني أن هؤلاء الرواة الثقات كلهم رووه وقوفا على أم سلمة، ولم يرفعوه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخالفهم عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، فروى عن محمد بن زيد عن أم سلمة مرفوعاً: فكأنه أشار إلى أن هذا الرفع شاذ. قال الزرقاني: يعني فرواية عبد الرحمن شاذة، وهو وإن كان صدوقاً لكنه يخطئ، فلعله أخطأ في رفعه. وأعله أيضاً عبد الحق بأن مالكا وغيره رووه موقوفاً. قال الحافظ: وهو الصواب، ولكنه قد قال الحاكم بعد إخراجه: أن رفعه صحيح على شرط البخاري- انتهى. وقال الشوكاني: الرفع زيادة لا ينبغي إلغاءها كما هو مصطلح أهل الأصول، وبعض أهل الحديث، وهو الحق. وقال الأمير اليماني: له حكم الرفع وإن كان موقوفاً، إذ الأقرب أنه لا مسرح للاجتهاد في ذلك. 770- قوله: (نهى عن السدل في الصلاة) قال الجوهري: سدل ثوبه يسدله- بالضم- سدلاً أي: أرخاه. وقال

وأن يغطى الرجل فاه)) رواه أبوداود، والترمذي. 771- (12) وعن شداد بن أوس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خالفوا اليهود، ـــــــــــــــــــــــــــــ الخطابي: السدل إرسال الثوب حتى يصيب الأرض- انتهى. فعلى هذا السدل والإسبال واحد. وقال أبوعبيد في غريبه: السدل إسبال الرجل ثوبه من غير أن يضم جانبيه بين يديه، فإن ضمه فليس بسدل- انتهى. وقال الجزري: هو أن يلتحف بثوبه ويدخل يديه من داخل فيركع ويسجد وهو كذلك. قال: وهذا مطرد في القميص وغيره من الثياب. قال: وقيل: هو أن يضع وسط الإزار على رأسه (أو على كتفه) ويرسل طرفيه عن يمينه وشماله من غير أن يجعلهما على كفيه- انتهى. ولا مانع من حمل الحديث على جميع هذه المعاني إن كان السدل مشتركا بينها. وحمل المشترك على جميع معانيه هو المذهب القوي، قاله الشوكاني. والحديث يدل على تحريم السدل في الصلاة، سواء كان عليه قميص أو سراويل أو لم يكن، لأنه معنى النهي الحقيقي، ولا موجب للعدول عن تحريم لعدم وجدان صارف له عن ذلك. وقد روى أن السدل من فعل اليهود. أخرج الخلال في العلل، وأبوعبيد في الغريب عن على أنه خرج فرأى قوما يصلون قد سدلوا ثيابهم فقال: كأنهم اليهود خرجوا من قهرهم (وأن يغطى الرجل فاه) أي: فمه في الصلاة. قال الخطابي: فإن من عادة العرب التلثم بالعمائم على الأفواه، فنهوا عن ذلك في الصلاة إلا أن يعرض الثوباء فيغطى فمه عند ذلك للحديث الذي جاء فيه- انتهى. والحديث يدل على تحريم أن يصلى الرجل متلثما أي: مغطيا فمه. وحكمة النهي أن في التغطية منعا من القراءة والأذكار المشروعة. ولأنه لو غطى بيده فقد ترك سنة اليد، ولو غطاه بثوب فقد تشبه بالمجوس لأنهم يتلثمون في عبادتهم النار. قال ابن حبان: وإنما زجر عن تغطية الفم في الصلاة على الدوام لا عند التثاؤب بمقدار ما يكظمه لحديث"إذا تثاؤب أحدكم في الصلاة فليكظم ما استطاع" وفي رواية "فليمسك بيده على فمه، فإن الشيطان يدخل فيه" رواه مسلم (رواه أبوداود والترمذي) فيه نظر لأنه ليس في الترمذي "أن يغطى الرجل فاه" فروى الحديث الترمذي مقتصراً على الفصل الأول، وكذا رواه أحمد، والحاكم، والطبراني في الأوسط. وروى ابن ماجه الفصل الثاني فقط. ورواه ابن حبان بتمامه كأبي داود. والحديث حسن، فرجال إسناده كلهم ثقات إلا عسل بن سفيان، وهو لم يتفرد به بل تابعه سليمان الأحول عند أبي داود. وتابعه أيضاً عامر الأحول كما أخرجه الطبراني في معجمه الوسط. قال الزيلعي: رجاله كلهم ثقات إلا أبا بكر البحراوي فإنه ضعفه أحمد، وابن معين، وغيرهما. وكان يحيى بن سعيد حسن الرأى فيه، وروى عنه، وقال ابن عدي: وهو ممن يكتب حديثه. 771- قوله: (وعن شداد بن أوس) بن ثابت الأنصاري النجاري، يكنى أبا يعلى، المدني ابن أخي حسان بن ثابت، صحابي، مات بالشام سنة (58) وهو ابن خمس وسبعين سنة. وقيل: توفي سنة (64) قال عبادة بن الصامت: شداد ابن الأوس من الذين أوتوا العلم والحلم. له خمسون حديثاً. انفرد له البخاري بحديث، ومسلم بآخر (خالفوا اليهود)

فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم)) . رواه أبوداود. 772- (13) وعن أبي سعيد الخدري، قال: ((بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم، ألقوا نعالهم. ـــــــــــــــــــــــــــــ أي: بالصلاة في نحو النعال (فإنهم لا يصلون في نعالهم) بكسر النون، جمع نعل وهي معروفة (ولا خفافهم) بكسر الخاء المعجمة جمع خف بالضم. قال الشاه ولى الله: كان اليهود يكرهون الصلاة في نعالهم وخفافهم، لما فيه ترك التعظيم، فإن الناس يخلعون نعالهم بحضرة الكبراء وهو قوله تعالى: {فاخلع نعليك، إنك بالواد المقدس طوى} [12:20] وكان هناك وجه آخر، وهو أن الخف والنعل تمام زى الرجل فترك النبي - صلى الله عليه وسلم - القياس الأول، وأبدى الثاني مخالفة لليهود- انتهى. والحديث يدل على مشروعية الصلاة في النعال. وقد اختلف نظر الصحابة والتابعين في ذلك هل هو مستحب أو مباح أو مكروه؟ وأقل أحوال هذا الحديث الدلالة على الاستحباب من جهة قصد مخالفة اليهود. وقال الحافظ في الفتح في شرح حديث أبي سلمة سعيد بن يزيد: سألت أنساً أكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في نعليه؟ قال نعم. قال ابن بطال: هو محمول على ما إذا لم يكن فيهما نجاسة، ثم هي من الرخص كما قال ابن دقيق العيد، لا من المستحبات، لأن ذلك لا يدخل في المعنى المطلوب من الصلاة، وهو وإن كان من ملابس الزينة إلا أن ملامسة الأرض التي تكثر فيها النجاسات قد تقصر عن هذه الرتبة. وإذا تعارضت مراعاة مصلحة التحسين ومراعاة مصلحة النجاسة قدمت الثانية، لأنها من باب رفع المفاسد والأخرى من باب جلب المصالح. قال: إلا أن يرد دليل بإلحاقه بما يتجمل، فيرجع إليه، ويترك هذا النظر. قال الحافظ: قد روى أبوداود والحاكم من حديث شداد بن أوس مرفوعاً" خالفوا اليهود، فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم" فيكون استحباب ذلك من جهة قصد المخالفة المذكورة. قال: وورد في كون الصلاة في النعال من الزينة المأمور بأخذها في الآية حديث ضعيف جداً، أورده ابن عدي في الكامل، وابن مردويه في تفسيره من حديث أبي هريرة، والعقيلي من حديث أنس – انتهى (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري. وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه والحاكم والبيهقي. قال الشوكاني: لا مطعن في إسناده. وفي الباب عن جماعة من الصحابة، ذكر تخريج أحاديثهم الشوكاني في النيل، والهيثمي في مجمع الزوائد. 772- قوله: (إذا خلع نعليه) أي: نزعهما عن رجليه (فوضعهما عن يساره) فيه معنى التجاوز، أي: وضعهما بعيدا متجاوزا عن يساره. وفيه من الأدب أن المصلي إذا صلى وحده وخلع نعله وضعها عن يساره. وإذا كان مع غيره في الصف، وكان عن يمينه ويساره ناس فإنه يضعها بين رجليه كما سيأتي. وفيه دليل على جواز عمل قليل في الصلاة. وأن العمل اليسير لا يقطع الصلاة (فلما رأى ذلك) أي: خلع النعل (ألقوا نعالهم) أي: خلعوها عن أرجلهم ثم ألقوها

فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته، قال: ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟ قالوا: رأيناك ألقيت نعليك، فألقينا نعالنا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن جبرئيل أتاني فأخبرني أن فيهما قذراً. إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر، فإن رأى في نعليه قذراً فليمسحه وليصل فيهما)) . رواه أبوداود والدارمي. 773- (14) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا صلى أحدكم فلا يضع نعليه عن يمينه، ولا عن يساره فتكون عن يمين غيره، إلا أن لا يكون على يساره أحد، ـــــــــــــــــــــــــــــ (نعالكم) بالنصب (أن فيهما قذرا) بفتحتين، أي: نجاسة، وفي رواية أحمد"أن بهما خبثاً" والحديث يدل على أن المصلي إذا دخل في الصلاة وهو متلبس بنجاسة غير عالم بها أو ناسياً لها ثم عرف بها أثناء صلاته أنه يجب عليه إزالتها، ثم يستمر في صلاته، ويبنى على ما صلى. قال الخطابي: في الحديث من الفقه أن من صلى وفي ثوبه نجاسة لم يعلم بها فإن صلاته مجزية ولا إعادة عليه. قال القاضي: ومن يرى فساد الصلاة حمل القذر على ما تقذر عرفاً كالمخاط. وحمله بعضهم على المقدار المعفو من النجاسة. قلت: حمله على مستقذر غير نجس، أو نجس معفو عنه تحكم، ويرد حمل القذر على المستقذر الغير النجس رواية الخبث المذكورة للاتفاق بين أئمة اللغة وغيرهم أن الأخبثين هما البول والغائط (فإن رأى في نعليه) أو في أحدهما (قذرا فليمسحه وليصل فيهما) فيه دليل على استحباب الصلاة في النعال، وعلى أن مسح النعل من النجاسة مطهر له من القذر. والظاهر عند الإطلاق فيه أن النعل يطهر بالمسح مطلقاً أي: سواء كانت النجاسة رطبة أو جافة. قال القاضي: فيه دليل على أن من تنجس نعله إذا دلك على الأرض طهر، وجاز الصلاة فيه – انتهى. ومن يرى خلافه أول بالمستقذر الغير النجس أو بالمقدار المعفو من النجاسة، وهو تحكم فلا يلتفت إليه. وقد تقدم الكلام مفصلاً على كون دلك النعال مطهرا لها في باب تطهير النجاسات (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري، وأخرجه أيضاً أحمد والحاكم وابن خزيمة وابن حبان. واختلف في وصله وإرساله. ورجح أبوحاتم في العلل وصله. ورواه الحاكم من حديث أنس وابن مسعود. ورواه الدارقطني من حديث ابن عباس، وعبد الله بن الشخير، وإسنادهما ضعيفان، ورواه البزار من حديث أبي هريرة، وإسناده ضعيف معلول أيضا، قاله الحافظ. وذكر الهيثمي أحاديث هؤلاء الصحابة مع الكلام عليها، إن شئت الوقوف عليها فارجع إلى مجمع الزوائد (ج2: ص55) . 773- قوله: (إذا صلى أحدكم) أي: أراد أن يصلي (فلا يصنع نعليه) بالجزم جواب إذا (عن يمينه) لأن جهة اليمين محرمة (فتكون) أي: فتقع النعل (عن يمين غيره) قال الطيبي: هو بالنصب جوابا للنهي، أي: وضعه عن يساره مع وجود غيره سبب لأن تكون عن يمين صاحبه. يعني وفيه نوع إهانة وإيذاء له، وعلى المؤمن أن يحب لصاحبه ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه (إلا أن لا يكون على يساره) وفي بعض النسخ "عن يساره" (أحد) أي: فيجوز له حينئذٍ أن يضعهما عن

{الفصل الثالث}

وليضعهما بين رجليه. وفي رواية: أو ليصل فيهما)) . رواه أبوداود، وروى ابن ماجه معناه. {الفصل الثالث} 774- (15) عن أبي سعيد الخدري، قال: ((دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فرأيته يصلي على حصير يسجد عليه قال: ورأيته يصلي في ثوب واحد متوشحاً به)) . رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ عن يساره (وليضعهما بين رجليه) إذا كان عن يساره أحد. والمراد الفرجة التي بين رجليه (وفي رواية) أي: زيادة لا بدلا أي: إذا صلى أحدكم فخلع نعليه فلا يؤذ بهما أحداً (بأن يضعهما عن يمينه أو قدامه) ليجعلهما (في الفرجة التي) بين رجليه (أو ليصل فيهما) أي: إن كان طاهرين. وإنما لم يقل "أو خلفه" لئلا يقع قدام غيره، أو لئلا يذهب خشوعه لاحتمال أن يسرق (رواه أبوداود) وسكت عليه. وقال العراقي: هذا حديث صحيح الإسناد-انتهى. وفي سنده عبد الرحمن بن قيس عن يوسف بن ماهك. قال المنذري: يشبه أن يكون الزعفراني البصري، كنيته أبومعاوية، لا يحتج به-انتهى. قلت: عبد الرحمن بن قيس هذا هو العتكي أبوروح البصري لا الزعفراني، ذكره ابن حبان في الثقات، له هذا الحديث الواحد عند أبي داود. قال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج6:ص257) : وأخرجه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما وقال المنذري في مختصره: يشبه أن يكون الزعفراني فواهي الحديث-انتهى. وفي الباب عن أبي بكرة عند الطبراني في الكبير. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: وفيه زياد الجصاص ضعفه ابن معين وابن المديني وغيرهما. وذكره ابن حبان في الثقات (وروى ابن ماجه) في آخر الصلاة (معناه) وفي سنده عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد. قال في الزوائد: متفق على تضعيفه-انتهى. ولفظه "الزم نعليك قدميك" فإن خلعتهما فاجعلهما بين رجليك، ولا تجعلهما عن يمينك، ولا عن يمين صاحبك، ولا ورائك فتؤذي من خلفك. 774- قوله: (يصلي على حصير) فيه دليل على جواز الصلاة على شيء يحول بينه وبين الأرض من ثوب، وحصير وصوف وشعر وغير ذلك، وسواء نبت من الأرض أم لا. قال القاضي: الصلاة على الأرض أفضل إلا لحاجة، حر أو برد أو نحوهما، لأن الصلاة سرها التواضع والخضوع، والأرض أقرب إلى التواضع (يسجد عليه) بدل بعض من يصلي (متوشحاً به) أي: مخالفا بين طرفيه. قال ابن السكيت: التوشح أن يأخذ طرف الثوب الذي ألقاه على منكبه الأيمن من تحت يده اليسرى ويأخذ طرفه الذي ألقاه على الأيسر من تحت يده اليمنى، ثم يعقدهما على صدره فيكون بمنزلة الإزار والرداء (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً ابن ماجه.

775- (16) وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: ((رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي حافياً ومنتعلاً)) رواه أبوداود. 776- (17) وعن محمد بن المنكدر، قال: ((صلى جابر في إزار قد عقده من قبل قفاه. وثيابه موضوعة على المشجب. فقال له قائل: تصلي في إزار واحد؟ إنما صنعت ذلك ليراني أحمق مثلك وأينا كان له ثوبان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟)) ـــــــــــــــــــــــــــــ 775- قوله: (حافياً) أي: بلا نعال تارة (ومنتعلاً) أي: أخرى، من الانتعال. وفي بعض النسخ "متنعلاً" من التنعل، أي: لابساً نعليه في رجليه (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري، وأخرجه أيضاً ابن ماجه. 776- قوله: (وعن محمد بن المنكدر) هو محمد بن المنكدر بن عبد الله بن الهدير-بالتصغير- التيمي المدني، أحد الأئمة الأعلام الحفاظ. سمع عن جابر، وأنس، وابن الزبير، وعمه ربيعة وغيرهم، وأكثر عن جابر. روى عنه جماعة، منهم الثوري ومالك والزهري وجعفر الصادق وهشام بن عروة. وهو من مشاهير التابعين وجلتهم، جمع بين العلم والزهد والعبادة والدين المتين والصدق والعفة. قال إسحاق بن راهويه عن ابن عيينة: كان من معادن الصدق، ويجتمع إليه الصالحون، ولم يدرك أحد أجدر أن يقبل الناس منه إذا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يسأل عمن هو، من ابن المنكدر، يعني لتحريه. وقال إبراهيم بن المنذر: كان غاية في الحفظ والإتقان والزهد، حجة. مات سنة (130) وقيل: (131) وقد بلغ (76) سنة (من قبل قفاه) بكسر القاف وفتح الموحدة أي: من جهة قفاه (وثيابه) الواو للحال (موضوعة على المشجب) بكسر الميم وسكون الشين المعجمة وفتح الجيم بعدها موحدة، هو ثلاث عيدان تضم وتعقد رؤسها ويفرج بين قوائمها، توضع عليها الثياب، وقد تعلق عليها الأسقية لتبريد الماء، قال ابن سيدة: المشجب والشجاب خشبات ثلاث يعلق عليها الراعي دلوه وسقاءه. ويقال في المثل: "فلان كالمشجب من حيث قصدته وجدته" والجملة اسمية حالية (فقال له قائل) هو عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت كما في مسلم (تصلي في إزار واحد) همزة الإنكار محذوفة (إنما صنعت ذلك) أي: الذي فعله من صلاته، وإزاره معقود على قفاه، وثيابه موضوعة على المشجب (ليراني أحمق) بالرفع غير منصرف من الحمق – بضم الحاء وسكون الميم – وهو قلة العقل. والمراد بالأحمق هنا الجاهل. وحقيقة الحمق وضع الشيء في غير موضعه مع العلم بقبحة، قاله في النهاية. وإنما أغلظ له في الخطاب زجرا عن الإنكار على العلماء، وليحثه على البحث عن الأمور الشرعية (مثلك) أي: فيعلم أنه جائز، أو فينكر على بجهله، فأظهر له جوازه ليقتدي بي الجاهل ابتداء. ومثلك – بالرفع – صفة أحمق لأنها وإن أضيفت إلى المعرفة لا تتعرف لتوغلها في الإبهام إلا إذا أضيفت لما اشتهر بالمماثلة وههنا ليس كذلك، ولذا وقعت صفة لنكرة وهي أحمق (وأينا كان له ثوبان) استفهام

رواه البخاري. 777- (18) وعن أبي بن كعب، قال: ((الصلاة في الثوب الواحد سنة. كنا نفعله مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يعاب علينا. فقال ابن مسعود: إنما كان ذاك إذا كان في الثياب قلة؛ فأما إذا وسع الله، فالصلاة في الثوبين أزكى)) رواه أحمد. ـــــــــــــــــــــــــــــ يفيد النهى، وغرضه أن الفعل كان مقررا (على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وحينئذٍ فلا ينكر. والمعنى: كان أكثرنا في عهده - صلى الله عليه وسلم - لا يملك إلا الثوب الواحد، ومع ذلك فلم يكلف تحصيل ثوب ثان ليصلي فيه، فدل على الجواز. والحديث فيه دليل على جواز الصلاة في الثوب الواحد لمن يقدر على أكثر منه، وهو قول عامة الفقهاء. وروى عن ابن عمر خلاف ذلك، وكذا عن ابن مسعود، فروى ابن أبي شيبة عنه "لا يصلين في ثوب وإن كان أوسع مما بين السماء والأرض" قال في الفائق: أجمعوا على أن الصلاة في ثوبين أفضل، فلو أوجبناه لعجز من لا يقدر عليهما، وفي ذلك حرج. وأما صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في ثوب واحد، ففي وقت كان لعدم ثوب آخر، وفي وقت كان مع وجوده لبيان الجواز، نقله الطيبي. وأخرج البخاري من طريق سعيد بن المسبب، عن أبي هريرة أن سائلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في ثوب واحد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أو لكلكم ثوبان؟ قال الخطابي: لفظه إستخبار ومعناه الإخبار عما هم عليه من قلة الثياب، ووقع في ضمنه الفتوى من طريق الفحوى. كأنه يقول: إذا علمتم أن ستر العورة فرض، والصلاة لازمة، وليس لكل أحد منكم ثوبان فيكف لم تعلموا أن الصلاة في الثوب الواحد جائزة؟ أي: مع مراعاة ستر العورة به (رواه البخاري) قال العيني: هذا الطريق انفرد به البخاري. 777- قوله: (سنة) أي: جائز بالسنة وإن كانت في الثوبين أفضل، كما يأتي عن ابن مسعود، فلا تنافي بينهما، قاله القاري (كنا نفعله) أي: ما ذكر من الصلاة في الثوب الواحد (مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي: مع فعله، أو حال كوننا معه. ويؤيد الثاني قوله (ولا يعاب علينا) أي: وما نهانا. فيكون تقريرا نبويا، فثبت جوازه بالسنة، إذ عدم الإنكار دليل الجواز لا دليل الندب (إنما كان ذاك) أي: المذكور من الصلاة في الثواب الواحد من غير كراهة (إذا كان) وفي المسند "إذ كان" (في الثياب قلة) أي: في وقت كون الثياب قليلة (فأما إذا) وفي المسند "إذ" (وسع الله) بتكثير الثياب، شرطية جزاؤها (فالصلاة في الثوبين) أي: الإزار والرداء، أو القميص والإزار (أزكى) أي: أولى. وقال الطيبي: أي: أطهر، أو أفضل، لأن الزكاة النمو الحاصل عن بركة الله تعالى، أو طهارة النفس عن الخصال الذميمة، وكلا المعنيين محتمل في الحديث، وقيل: أزكى بمعنى أنمى، أي: أكثر ثوابا، أو بمعنى أطهر، لأنه أبعد من الخصلة الذميمة التي هي أداء الصلاة على وجه الكراهة (رواه أحمد) فيه نظر لأنه لم يروه أحمد، بل هو مما رواه ابنه عبد الله زائدا على أبيه

(9) باب السترة

(9) باب السترة {الفصل الأول} 778- (1) عن ابن عمر، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغدو إلى المصلى والعنزة بين يديه تحمل، وتنصب بالمصلى بين يديه فيصلي إليها. ـــــــــــــــــــــــــــــ (ج5:ص141) من طريق أبي نضرة بن بقية، قال: قال أبي بن كعب، الخ. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2:ص49) بعد ذكره: رواه عبد الله من زياداته، والطبراني في الكبير بنحوه من رواية زر عنه موقوفا، وأبونضرة لم يسمع من أبي ولا من ابن مسعود-انتهى. وعن ابن عمر، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه، فإن الله أحق من يزين له) . رواه الطبراني في الكبير، وإسناده حسن، قاله الهيثمي. (باب السترة) هي – بالضم – ما يستتر به كائنا ما كان، وقد غلب على ما ينصبه المصلى قدامه من عصا، أو رمح، أو حربه، أو سهم، أو غير ذلك مما يظهر به موضع سجود المصلى كيلا يمر مار بينه وبين موضع سجوده. قال النووي: قال العلماء: الحكمة في السترة كف البصر عما ورائها، ومنع من يجتاز بقربه. وقال ابن الهمام في فتح القدير: المقصود من الستر جمع الخاطر بربط الخيال به كيلا ينتشر. يريد أن في فطرة الإنسان أن خياله ينتشر في كل واد، ويطوف بكل جانب إذا كان في مكان واسع، بخلاف ما إذا كان في مكان ضيق، فإنه لا يكون له جولان وتطواف مثل الأول، بل ينقبض وينحصر فيه، فأراد الشارع بأمر نصب السترة أن يضيق عليه مكان صلاته بجمع خاطره بربط الخيال به كيلا ينتشر. والله أعلم. 778- قوله: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغدو) أي: يذهب غدوة (إلى المصلى) أي: مصلى العيد (والعنزة) بفتحات وهي أقصر من الرمح، في طرفها زج كزج الرمح، والزج-بضم الزاي- الحديدة التي في أسفل الرمح، يقابله السنان. وقيل: العنزة أطول من العصا، وأقصر من الرمح، وفيها سنان كسنان الرمح (وتنصب) أي: تغرز (بالمصلى بين يديه) أي: قدامه أي: قبالة أحد حاجبيه لا بين عينيه (فيصلي إليها) زاد ابن ماجه وابن خزيمة، والإسماعيلي "وذلك أن المصلى كان فضاء، ليس فيه شيء يستره". وفي رواية للبخاري: كان إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة، فتوضع بين يديه، فيصلي إليها والناس وراءه. وكان يفعل ذلك (أى نصب الحربة بين يديه وحيث لا يكون جدار، والصلاة إليها) في السفر (فليس مختصا بيوم العيد) والحديث يدل على مشروعية اتخاذ السترة في الفضاء، وملازمة ذلك في السفر، وعلى أن السترة تحصل بكل شيء ينصب تجاه المصلى وإن دق إذا كان قدر مؤخرة الرحل وعلى مشروعية المشى بين يدي الإمام بآلة من السلاح. ولا يعارض ذلك ما روى من النهي عن حمل السلاح يوم العيد، لأن ذلك إنما هو عند

رواه البخاري. 779- (2) وعن أبي جحيفة، قال: ((رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة وهو بالأبطح في قبة حمرآء من أدم، ورأيت بلالاً أخذ وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورأيت الناس يبتدرون ذلك الوضوء، فمن أصاب منه شيئاً تمسح به، ومن لم يصب منه أخذ من بلل يد صاحبه. ثم رأيت بلالاً أخذ عنزة فركزها. وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حلة حمرآء مشمرًا، صلى إلى العنزة ـــــــــــــــــــــــــــــ خشية التأذى به (رواه البخاري) في العيدين. وأخرجه أيضاً مسلم، وأبوداود والنسائي وابن ماجه بنحوه. 779- قوله: (وعن أبي جحيفة) بضم الجيم وفتح الحاء المهملة وسكون الياء وبالفاء، اسمه وهب بن عبد الله السوائى – بضم المهملة وخفة الواو والمد – نسبة إلى سواءة بن عامر. ويقال: اسم أبيه وهب أيضا، مشهور بكنيته. ويقال له: وهب الخير، صحابي معروف. قيل: مات النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يبلغ الحلم، ولكنه سمع منه وروى عنه. وكان من كبار أصحاب على وخواصه، وكان على شرطته، واستعمله على خمس المتاع. مات بالكوفة سنة (74) له خمسة وأربعون حديثاً، اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بثلاثة. روى عنه جماعة (وهو بالأبطح) بفتح الهمزة، وهو في اللغة مسيل واسع فيه دقاق الحص. والبطيحة والبطحاء مثله، صار علما للمسيل الذي بين مكة ومنى، ينتهى إليه السيل من وادي منى، وهو أقرب إلى مكة، يكون فيه دقاق الحصى، ويسمى البطحاء والمحصب أيضاً فكثرة الحصباء فيه (من أدم) بفتحتين، جمع أديم أي: جلد (وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) بفتح الواو، أي: الماء الذي توضأ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والظاهر أن المراد به ما سال من أعضاء وضوءه - صلى الله عليه وسلم -. وفيه دلالة بينة على طهارة الماء المستعمل (يبتدرون) أي: يتسارعون ويتسابقون (ذلك الوضوء) أي: إلى أخذ ماء وضوئه تبركا بآثاره الشريفة (فمن أصاب) أي: أخذ (منه) أي: من بلال (شيئا) من الماء، أو فمن وجد من ذلك الماء شيئاً قليلا وقدرا يسيرا (تسمح به) أي: مسح به وجهه وأعضائه لينال بركته - صلى الله عليه وسلم - (ومن لم يصب منه) أي: من بلل يد بلال (أخذ من بلل يد صاحبه) فيه دليل بين على أن الماء المستعمل طاهر، ولا دليل على كونه من خصائصه (فركزها) أي: غرزها (في حلة) أي: حال كونه في حلة. وهي بضم الحاء إزار ورداء، ولا تسمى حلة حتى يكون ثوبين (حمرآء) فيه أظهر دليل على أنه يجوز لبس الأحمر الصرف للرجال وإن كان قانئا، خلافاً للحنفية، فإنهم قالوا: يكره، وتأولوا هذا الحديث بأنها كانت حلة من برود فيها خطوط حمر. وهو تأويل ضعيف أو باطل. وسيأتي الكلام عليه مفصلاً في موضعه (مشمراً) بكسر الميم الثانية من التشمير، وهو ضم الذيل ورفعه للعدو أي: مسرعاً، يقال: فلان شمر عن ساقه، وتشمر في أمره أي: خف، وقيل: المراد رافعاً ثوبه قد كشف شيئاً من ساقيه. قال في مسلم: كأنى أنظر إلى بياض ساقيه (صلى)

بالناس ركعتين. ورأيت الناس والدواب يمرون بين يدي العنزة)) . متفق عليه. 780- (3) وعن نافع، عن ابن عمر ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعرض راحلته فيصلي إليها)) . متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولمسلم: تقدم فصلى إلى العنزة (بالناس) أي: إماماً بهم (ركعتين) أي: للظهر كما في رواية (يمرون) فيه تغليب للعقلاء (بين يدي العنزة) أي: وراءها. وفيه استعمال المجاز، وإلا فالعنزة لا يدلها. وفي الحديث من الفوائد: استعمال البركة مما لامسه الصالحون، ووضع السترة للمصلى حيث يخشى المرور بين يديه، والإكتفاء فيها بمثل غلظ العنزة. وفيه تعظيم الصحابة للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وفيه استحباب استصحاب العنزة ونحوها (متفق عليه) أخرجه البخاري مطولاً ومختصراً في الطهارة وفي الصلاة وفي اللباس وفي صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه مسلم في الصلاة. قال ميرك: ولفظه للبخاري. وأخرجه أيضاً الترمذي وأبوداود في الصلاة، والنسائي في الزينة، وابن ماجه في الصلاة. 780- قوله: (كان يعرض راحلته) أي: ينيخها بالعرض بينه وبين القبلة حتى تكون معترضة بينه وبين من يمر بين يديه. من عرض العود على الإناء يعرض-بضم الراء وكسرها- وضعه عرضا، قاله التوربشتي. وقال النووي: هو بفتح الياء وكسر الراء، وروى بضم الياء وفتح العين وتشديد الراء المكسورة. ومعناه يجعلها معترضة بينه وبين القبلة-انتهى. والراحلة الناقة التي تصلح لأن يوضع الرحل عليها، قاله الجوهري. وقال الأزهري: الراحلة المركوب النجيب ذكرا كان أو أنثى. والهاء فيها للمبالغة (فيصلي إليها) فيه دليل على جواز الصلاة إلى الحيوان، والاستتار بما يستقر منه من غير كراهة، وجواز الصلاة بقرب البعير، ولا يعارضه النهي عن الصلاة في معاطن الإبل، لأن المعاطن مواضع إقامتها عند الماء، ولا يستلزم من النهي عن الصلاة في معاطن الإبل النهي عن الصلاة إلى البعير الواحد في غير المعاطن. قال ابن حزم: من منع الصلاة إلى البعير فهو مبطل. وقال ابن عبد البر في الاستذكار: أما الاستتار بالراحلة فلا أعلم فيه خلافا. قلت: قال الشافعي: لا يستتر بامرأة ولا دابة. وفي الشرح الكبير للمالكية: وسترة لإمام وفذ بطاهر ثابت لا دابة إما لنجاسة فضلتها كالبغال، وإما لخوف زوالها، وإما لهما. قال الدسوقي: فلا تحصل السنة أو المندوب بالاستتار بها-انتهى. وبهذا علم أن التستر بالدابة والصلاة إليها لا يخلوا عن الكراهة عند الشافعية والمالكية. ولذلك حملوا الحديث على حال الضرورة، فقال الحافظ في الفتح، والزرقاني في شرح الموطأ، وابن رسلان: يحمل ما وقع منه في السفر من الصلاة إليها على حالة الضرورة. ونظيره صلاته إلى السرير الذي عليه المرأة، لكون البيت كان ضيقاً. قال الحافظ: وعلى هذا فقول الشافعي في البويطي "لايستتر بامرأة ولا دابة" في حال الاختيار. وقال النووي: لعل الحديث لم يبلغ الشافعي ومذهبه اتباع الحديث، فتعين العلم به، إذ لا معارض له-انتهى. قال الحافظ: وروى عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عبد الله بن دينار أن ابن عمر كان يكره أن يصلي إلى البعير إلا وعليه رحل. وكان الحكمة في ذلك أنها في حال شد الرحل عليها أقرب إلى السكون من حال تجريدها-انتهى (متفق عليه) ولفظه للبخاري،

وزاد البخاري، قلت: أفرأيت إذا هبت الركاب. قال: كان يأخذ الرحل فيعدله، فيصلي إلى أخرته. 781- (4) وعن طلحة بن عبيد الله، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل، ولا يبال ـــــــــــــــــــــــــــــ وأخرجه أيضاً الترمذي وأبوداود (قلت) أي: قال عبيد الله بن عمر: قلت: لنافع، كذا بينه إسماعيلي، وحينئذٍ فيكون مرسلاً لأن فاعل قوله "يأخذ" الآتي هو الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يذكر نافع. قال الحافظ: قوله "قلت أفرأيت" ظاهره أنه كلام نافع والمسؤل ابن عمر، لكن بين الإسماعيلي من طريق عبيدة بن حميد، عن عبيد الله بن عمر أنه كلام عبيد الله، والمسؤل نافع فعلى هذا هو مرسل، لأن فاعل "يأخذ" هو النبي. ولم يدركه نافع-انتهى. قال ميرك شاه: فعلى هذا إيراد محي السنة، وصاحب المشكاة ليس بسديد، لأنهما ذكرا في كتابيهما كلا مالم يذكر قائله فيهما مع أنه يوهم خلاف الواقع-انتهى (إذا هبت الركاب) بكسر الراء، أي: هاجت الإبل. وشوشت على المصلى لعدم استقرارها. يقال: "هب الفحل" إذا هاج، و"هب البعير في السير" إذ نشط. والركاب الإبل التي يسار عليها. ولا واحد لها من لفظها. والمعنى إلى أي: شيء كان يصلي عند هبوب الركاب؟ (قال) أي: نافع (كان يأخذ) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - (الرحل) بفتح الراء وسكون الحاء، ما يوضع على ظهر البعير ليركب عليه كالسرج للفرس (فيعدله) بضم المثناة التحتية وفتح العين وتشديد الدال، من التعديل وهو تقويم الشيء وتسويته. وضبطه الحافظ وغيره بفتح أوله، وسكون العين، وكسر الدال أي: يقيمه تلقاء وجهه (فيصلي إلى آخرته) بفتح الهمزة والمعجمة والراء من غير مد، ويجوز المد لكن مع كسر الخاء، والمراد بها العود الذي في آخر الرحل الذي يستند إليه الراكب خلاف قادمته. 781- قوله: (إذا وضع أحدكم بين يديه) أي: قدامه. وهذا مطلق، وقد ورد في حديث بلال "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في الكعبة وبينه وبين الجدار ثلاثة أذرع" فينبغي للمصلي أن يدنو من السترة ولا يزيد ما بينهما على ثلاثة أذرع. قال البغوي: استحب أهل العلم الدنو من السترة بحيث يكون بينه وبينها قدر إمكان السجود، وكذلك بين الصفوف. وقد ورد الأمر بالدنو منها كما سيأتي (مثل مؤخرة الرحل) أي: سترة مثل آخرة الرحل. وفي المؤخرة لغات: ضم الميم وسكون الهمزة وكسر الخاء المخففة وفتحها. وفتح الهمزة والخاء معا مع تشديد الخاء، وفتح الهمزة وكسر الخاء المشددة. وفتح الميم وسكون الواو من غير همزة وكسر الخاء. وهو العود الذي يستند إليه راكب الرحل، قال الحافظ: اعتبر الفقهاء مؤخرة الرحل في مقدار أقل السترة، واختلفوا في تقديرها بفعل ذلك، فقيل: ذراع، وقيل: ثلثا ذراع. وهو أشهر، لكن في مصنف عبد الرزاق عن نافع: أن مؤخرة رحل ابن عمر كانت قدر ذراع. وقال النووي: في هذا الحديث بيان أن أقل السترة مؤخرة الرحل، وهي قدر عظم الذراع وهو نحو ثلثي ذراع. ويحصل بأي شيء أقامه بين يديه. قال: وليس في هذا الحديث دليل على بطلان الخط-انتهى (ولا يبال) وفي بعض نسخ مسلم "ولا يبالى" من المبالاة، يقال: بالى الأمر

من مر وراءه ذلك)) رواه مسلم. 782- (5) وعن أبي جهيم، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه، لكان أن يقف أربعين ـــــــــــــــــــــــــــــ وبالأمر، اهتم به وأكترث له (من) أي: بمن أو ممن (مر وراء ذلك) من المرأة ونحوها. ولا يدفعه بالإشارة وغيرها. ولفظ أبي داود "إذا جعلت بين يديك مثل مؤخرة الرحل فلا يضر من مر بين يديك" والمراد بالضرر الضرر الراجع إلى نقصان صلاة المصلى. وفيه إشعار بأنه لا ينقص شيء من صلاة من اتخذ سترة بمرور من مر بين السترة والقبلة. ويحصل النقص إذا لم يتخذ سترة، وكذا إذا مر المار بينه وبين السترة (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً الترمذي، وأبوداود، وابن ماجه. 782- قوله: (بين يدي المصلي) ظرف الماء، أي: أمامه بالقرب منه. وعبر باليدين لكون أكثر الشغل يقع بهما. واختلف في تحديد ذلك فقيل: ما بين موضع جبهته في سجوده وقدميه، وقال بعض الحنفية: المرور المحرم، المرور بينه وبين موضع سجوده. والمراد بموضع السجود المكان الذي بينه وبين منتهى بصره إذا قام متوجهاً إلى مكان يسجد فيه. وقيل: المراد قدر ما يقع بصره على المار لو صلى بخشوع، أي: رامياً ببصره إلى موضع سجوده. وقال بعضهم: مقدار صف. وقال بعضهم: مقدار صفين. وقال بعضهم: مقدار ثلاثة صفوف. وهذا كله في الصحراء والمسجد الكبير. وأما في المسجد الصغير فما بينه وبين جدار المسجد. وقال ابن العربي: حريم المصلى الذي يمنع المرور فيه مقدار ما يحتاجه لقيامه وركوعه وسجوده. وقيل: إنه قدر رمية الحجر، أو السهم، أو المضاربة بالسيف، أقوال عند المالكية. وقالت الشافعية والحنابلة: مقدار ثلاثة أذرع. قلت: أرجح الأقوال في ذلك عندي أنه قدر ما يقع بصره على المار لو صلى بخشوع، أي: راميا ببصره إلى موضع سجوده من غير تفصيل بين المسجد وغيره. والله أعلم. قال السيوطي: المراد بالمرور أن يمر بين يديه معترضا. أما إذا مشى بين يديه ذاهبا لجهة القبلة فليس داخلا في الوعيد-انتهى. وقال الحافظ: ظاهر الحديث أن الوعيد المذكور يختص بمن مر لا بمن وقف عامداً مثلاً بين يدى المصلى أو قعد، أو رقد لكن إن كانت العلة فيه التشويش على المصلي فهو في معنى المار-انتهى. والحديث عام في كل مصل فرضاً أو نفلاً، سواء كان إماماً أو منفرداً أو مأموماً، والمفرد في ذلك (ماذا عليه) أي: من الإثم أو الضرر بسب مروره بين يديه، وهو في موضع نصب ساد مسد مفعولى يعلم، وجواب "لو" قوله: (لكان أن يقف أربعين) أي: أن المار لو علم مقدار الإثم الذي يلحقه من مروره بين يدي المصلي لاختار أن يقف المدة المذكورة حتى لا يلحقه ذلك الإثم. وقال الكرماني:

خيراً له من أن يمر بين يديه. قال أبوالنضر: لا أدري قال: أربعين يوماً، أو شهراً، أو سنة)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ جواب "لو" ليس هو المذكور بل التقدير: لو يعلم ما الذي عليه لوقف أربعين، ولو وقف أربعين لكان خيراً له. قال الحافظ: وليس ما قاله متعيناً. وقال السندي: أي: لكان وقوفه خيراً له من المرور عنده. ولهذا علق بالعلم، وإلا فالوقوف خيراً له سواء علم أو لم يعلم (خيراً له) بالنصب على أنه خبر كان، واسمه قوله: أن يقف. وروى بالرفع، وهي رواية الترمذي. قيل: هو مرفوع على أنه اسم كان، وسوغ الابتداء بالنكرة لكونها موصوفة. ويحتمل أن يقال: اسمها ضمير الشأن، والجملة خبرها. قال الكرماني: أبهم العدد تفخيماً للأمر وتعظيماً له. قال الحافظ: ظاهرالسياق أنه عين المعدود، ولكن شك الراوي فيه. وقد وقع في مسند البزار من حديث أبي جهيم "لكان أن يقف أربعين خريفا" أي: عاماً. أطلق الخريف على العام من إطلاق الجزء على الكل. وسيأتي في الفصل الثالث من حديث أبي هريرة "كان لأن يقيم مائة عام خير له من الخطوة التي خطاها" وهذا مشعر بأن إطلاق الأربعين للمبالغة في تعظيم الأمر لا لخصوص عدد معين. وجنح الطحاوي إلى أن التقييد بالمائة وقع بعد التقييد بالأربعين زيادة في تعظيم الأمر على المار، لأنهما لم يقعا معاً، إذ المائة أكثر من الأربعين، والمقام مقام زجر وتخويف، فلا يناسب أن يتقدم ذكر المائة على الأربعين، بل المناسب أن يتأخر ومميز الأربعين إن كان هو السنة ثبت المدعى، أو ما دونها فمن باب الأولى (من أن يمر) أي: من المرور (بين يديه) أي: المصلي لأن إثم المرور يفضى إلى تعب هو أشد من هذا التعب، فإن عذاب الدنيا وإن عظم يسير (قال أبوالنضر) هذه مقولة مالك، وأبوالنضر-بفتح النون وسكون الضاد المعجمة-اسمه سالم بن أبي أمية المدني مولى عمر بن عبيد الله التيمي، سمع أنساً. قال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه ثقة ثبت، وكان ابن عيينة يصفه بالفضل، والعقل، والعبادة. وقال الحافظ: ثقة ثبت، وكان يرسل من صغار التابعين، روى عنه مالك، والسفيانان، وغيرهم. مات سنة (129) (قال) وفي رواية "أقال" بهمزة الاستفهام. والضمير يرجع إلى بسر بن سعيد، وقيل: إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أربعين يومًا، أو شهراً، أو سنةً) معنى هذا الكلام أن أبالنضر قال: لا أدري-أى لا أحفظ- أن شيخي بسر بن سعيد أقال بعد قوله عن أبي جهيم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يذكر بعد قوله "أربعين" لا يوماً، ولا شهراً، ولا سنة، فلا أدري هل ذكر بعد ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً من هذه الثلاثة أو لم يذكر. والحديث يدل على تحريم المرور بين يدي المصلي، فإن في معنى الحديث النهي الأكيد، والوعيد الشديد على ذلك، قاله النووي. ومقتضى ذلك أن يعد في الكبائر. وظاهره يدل على منع المرور مطلقاً، ولو لم يجد مسلكاً، بل يقف حتى يفرغ المصلى من صلاته (متفق عليه) واللفظ للبخاري، وأخرجه أيضاً مالك، وأحمد والترمذي وأبوداود، والنسائي وابن ماجه.

783- (6) وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه، فليدفعه، فإن أبى فليقاتله، فإنما هو الشيطان)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 783- قوله: (إلى شيء يستره من الناس) مما سلف تعيينه من السترة، وقدرها، وقدركم يكون بينها وبين المصلي. وفيه أنه لا يجوز الدفع والمقاتلة إلا لمن كان له سترة. قال النووي: اتفقوا على أن هذا كله لمن لم يفرط في صلاته بل احتاط وصلى إلى سترة، أو في مكان يأمن المرور بين يديه (أن يجتاز) من الجواز أي: يعبر ويمر ويتجاوز (بين يديه) وليدرأه ما استطاع، قيل: ندبا. وقال أهل الظاهر: وجوبا، وهو الظاهر. قال القرطبي: أي: بالإشارة ولطيف المنع، أو بوضع اليد على نحره كما في رواية. وقيل: بالتسبيح أو الجهر بآية في الصلاة السرية، فإن كانت الصلاة جهرية يرفع بها صوته أزيد من قرأته. قال عياض: اتفقوا على أنه لا يجوز له المشى إليه من موضعه ليرده، إنما يرده ويدفعه من موقفه لأن مفسدة المشي في صلاته أعظم من مروره من بعيد بين يديه. وإنما أبيح له قدر ما تناله يده من موقفه. ولهذا أمر بالقرب من سترته، وإنما يرده إذا كان بعيدا منه بالإشارة والتسبيح-انتهى (فإن أبى) أي: امتنع من الاندفاع (فليقاتل) حملوه على أشد الدفع، وقالوا: يزيد في دفعه الثاني أشد من الدفع الأول. قال القرطبي: اجمعوا على أنه لا يلزمه أن يقاتله بالسلاح لمخالفة ذلك لقاعدة الإقبال على الصلاة، والإشتغال بها، والخشوع فيها – انتهى. وقال الحافظ: وقد رواه الإسماعيلي بلفظ "فإن أبى فليجعل يده في صدره ويدفعه، " وهو صريح في الدفع باليد، قال: وقال أصحابنا يرده بأسهل الوجوه، فإن أبى فبأشدها ولو أدى إلى قتله، فلو قلته فلا شيء عليه، لأن الشارع أباح له مقاتلته، والمقاتلة المباحة لا ضمان فيها. ونقل عياض وغيره أن عندهم خلافاً في وجوب الدية في هذه الحالة (فإنما هو شيطان) تعليل للأمر بقتاله، أو لعدم اندفاعه، أولهما. أي: مطيع له فيما يفعل من المرور. وإطلاق الشيطان على مارد الإنس شائع ذائع. وقد جاء في القرآن قوله تعالى: {شياطين الإنس والجن} [111:6] وسبب إطلاقه عليه أنه فعل فعل الشيطان في إرادة التشويش على المصلي. وقيل المراد: إنما الحامل له على ذلك شيطان. وقد وقع في رواية للإسماعيلي "فإن معه الشيطان" ونحوه لمسلم من حديث ابن عمر بلفظ "فإن معه القرين" أي: الشيطان المقرون بالإنسان لا يفارقه، الحامل له هذا الفعل، يعني فينبغي منعه مهما أمكن عن ذلك الفعل الذي الحامل عليه الشيطان. وقد اختلف في الحكمة المقتضية للدفع، فقيل: لدفع الإثم عن المار. وقيل: لدفع الخلل الواقع بالمرور في الصلاة. وهذا الأرجح لأن عناية المصلى بصيانة صلاته أهم من دفعه الإثم عن غيره. قال الأمير اليماني، ولو قيل: إنه لهما معا لما بعد، فيكون لدفع الإثم عن المار الذي أفاده حديث "لو يعلم المار" ولصيانة الصلاة عن النقصان من أجرها، فقد أخرج أبونعيم عن عمر "لو يعلم المصلى ما ينقص من صلاته بالمرور بين يديه ما صلى إلا

هذا لفظ البخاري، ولمسلم معناه. 784- (7) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب. ويقى ذلك مثل مؤخرة الرحل)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى شيء يستره من الناس، وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود: أن المرور بين يدي المصلي يقطع نصف صلاته. ولهما حكم الرفع وإن كانا موقوفين لأن مثلهما لا يقال بالرأي. وهذان الأثران مقتضاهما أن الدفع لخلل يتعلق بصلاة المصلي ولا يختص بالمار (هذا لفظ البخاري) أي: في كتاب الصلاة، وأخرجه أيضاً في صفة إبليس (ولمسلم معناه) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه مطولاً ومختصراً. 784- قوله: (تقطع) بالتأنيث (الصلاة) أي: تفسدها وتبطلها، أو تقلل ثوابها وتنقص أجرها بقطع حضورها وخشوعها وكمالها. وهذا إذا لم يكن بين يديه سترة كما سيأتي (المرأة) هو فاعل تقطع، أي: مرور المرأة إذا مرور هو محل النزاع. ولأبي داود وابن ماجه من حديث ابن عباس "يقطع الصلاة المرأة الحائض". قال السندي: يحتمل أن المراد ما بلغت سن الحيض أي: البالغة وهي المتبادرة من لفظ المرأة. وعلى هذا فالصغيرة لا تقطع. قلت: تقييد المرأة بالحائض يقتضي حمل المطلق على المقيد، فلا تقطع الصلاة إلا الحائض، كما أنه أطلق الكلب عن وصفه بالأسود في حديث أبي هريرة هذا، وقيد به في حديث أبي ذر عند مسلم وغيره، فحملوا المطلق على المقيد، وقالوا: لا يقطع إلا الأسود، فتعين في المرأة الحائض حمل المطلق على المقيد (والحمار الكلب) وجه تخصيص هذه الأشياء مفوض إلى رأى الشارع، والله أعلم (ويقى) أي: يحفظ (ذلك) أي: القطع (مثل مؤخرة الرحل) أي: مثلا، وإلا فقد أجزأ السهم كما رواه الحاكم من حديث سبرة بن معبد مرفوعاً"يستتر أحدكم في الصلاة ولو بسهم". وفي قطع الصلاة بمرور هذه الأشياء أحاديث عن جماعة من الصحابة: عن عبد الله بن مغفل عند أحمد وابن ماجه. أبي ذر عند أحمد ومسلم والترمذي وأبي داود والنسائي وابن ماجه. والحكم الغفاري عند الطبراني في الكبير. قال الهيثمي: وفيه عمر بن دريج، ضعفه أبوحاتم، ووثقه ابن معين وابن حبان، وبقية رجاله ثقات. وأنس عند البزار. قال العراقي: رجاله ثقات. وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. وابن عباس عند أبي داود وابن ماجه. وعبد الله بن عمرو عند أحمد. قال الهيثمي: رجاله موثقون، وقال العراقي: إسناده صحيح. وعائشة عند أحمد قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يقطع صلاة المسلم شيء إلا الحمار، والكافر والكلب والمرأة، فقالت عائشة: يارسول الله! لقدر قرنا بدواب سوء. قال العراقي والهيثمي: رجاله ثقات. وهذه الأحاديث نص في أن الأشياء المذكورة فيها تقطع صلاة من لا سترة له. وظاهر القطع الإبطال. وقد عارضها حديث "لا يقطع الصلاة شيء" أخرجه أبوداود من حديث أبي سعيد، وسيأتي الكلام فيه في الفصل الثاني. وروى أيضاً من حديث أنس عند الدارقطني، قال الحافظ في الدراية: إسناده حسن. ومن حديث أبي أمامة عند الدارقطني

والطبراني في الكبير، قال الهيثمي: إسناده حسن. وقال الشوكاني: في إسناده عفير بن معدان، وهو ضعيف. ومن حديث جابر عند الطبراني في الأوسط. قال الهيثمي: وفيه يحيى بن ميمون التمار، وهو ضعيف، وقد ذكره ابن حبان في الثقات. ومن حديث أبي هريرة عند الدارقطني، وفيه إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، وهو متروك. ومن حديث ابن عمر عند الدارقطني أيضا، وفيه إبراهيم بن يزيد الخوزي، وهو ضعيف. قال العراقي: والصحيح ما رواه مالك في الموطأ من قوله. وقد أخرج سعيد بن منصور، عن علي وعثمان وغيرهما من أقوالهم نحو هذا الحديث بأسانيد صحيحة. قيل ويعارض أحاديث القطع حديث عائشة، وحديث ابن عباس التاليان، وحديث الفضل بن عباس في الفصل الثاني، وحديث عائشة في الفصل الثالث. وقد اختلف العلماء في العمل بهذه الأحاديث، واختلفت آراؤهم في الكلام على هذه الروايات وتعارضها: فقال بقطع الصلاة بالمرأة والكلب والحمار أبوهريرة وأنس من الصحابة، والحسن البصري وأبوالأحوص من التابعين، وأحمد بن حنبل من الأئمة فيما حكاه عنه ابن حزم الظاهري. وحكى الترمذي عنه أنه يخصصه بالكلب الأسود، ويتوقف في الحمار والمرأة. ووجهه ابن دقيق العيد وغيره بأنه لم يجد في الكلب الأسود ما يعارضه، ووجد في الحمار حديث ابن عباس، وفي المرأة حديث عائشة يعني الذين يليان حديث أبي هريرة وسيأتي الكلام في دلالتهما على ذلك. وقال عطاء وابن جرير: يقطعها الكلب الأسود والمرأة الحائض دون الحمار لحديث ابن عباس الآتي. وذهب أهل الظاهر- كما قال ابن حزم في المحلى- إلى أنه يقطع الصلاة كون الكلب والحمار بين يدي المصلي مارا أو غير مار، صغيرا أو كبيرا، حيا أو ميتا، وكذا كون المرأة بين يدي الرجل مارة أو غير مارة، صغيرة أو كبيرة، إلا أن تكون مضطجعة معترضة فقط. ثم اختلف القائلون بالقطع بمعنى الإبطال بالثلاثة في الجواب عن أحاديث عدم القطع، فقال بعضهم: الأحاديث التي تعارض حديث أبي ذر ومن وافقه بعضها صحيحة لكنها غير صريحة في عدم القطع كحديث عائشة وابن عباس، فإن في دلالتهما على ذلك نظرا قويا كما ستعرف، فلا يترك العمل بحديث أبي ذر الصريح بالمحتمل. وبعضها صريحة كحديث أبي سعيد ومن وافقه، لكنها ضعيفة لا تنهض للاحتجاج، ولو سلم انتهاضها فهي عامة مخصصة بأحاديث القطع. أمل عند من يقول إنه يبني العام على الخاص مطلقاً فظاهر. وأما عند من يقول إن العام المتأخر ناسخ فلا تأخر لعدم العلم بالتاريخ، ومع عدم العلم يبني العام الخاص عند الجمهور. وأما على القول بالتعارض بين العام والخاص مع جهل التاريخ كما هو مذهب الحنفية فلا شك أن الأحاديث الخاصة- أي: أحاديث أبي ذر ومن وافقه- أرجح وأقوى وأصح من هذه الأحاديث العامة، فالأخذ بالأقوى أولى. وقال بعضهم: أحاديث عدم القطع منسوخة بحديث أبي ذر ومن وافقه. قال ابن حزم في المحلى (ج4:ص 14) : لو صحت هذه الآثار- وهي لا تصح- لكان حكمه - صلى الله عليه وسلم - بأن الكلب والحمار والمرأة يقطعون الصلاة، هو الناسخ بلا شك لما كانوا عليه قبل من أن لا يقطع الصلاة شيء من الحيوان كما لا يقطعها الفرس والسنور والخنزير وغير ذلك، فمن الباطل الذي لا يخفي، ولا يحل ترك الناسخ المتيقن والأخذ بالمنسوخ المتيقن. ومن المحال أن تعود الحالة المنسوخة ثم لا يبين

عليه السلام عودها- انتهى. وذهب الجمهور مالك والشافعي وأبوحنيفة وغيرهم من السلف والخلف إلى أنه لا يقطعها شتى. ثم اختلف هؤلاء في تأويل أحاديث القطع، فمال بعضهم إلى النسخ. قال الطحاوي وابن عبد البر: إن حديث أبي ذر ومن وافقه منسوخ بحديث عائشة وحديث ابن عباس الآتيين، واستدلا على تأخر تاريخ حديث ابن عباس بأنه كان في حجة الوداع، وهي في سنة عشر، وفي آخر حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى تأخر حديث عائشة بأن ما حكاه عائشة عنه يعلم تأخره لكونه صلاته بالليل عندها، ولم يزل على ذلك حتى مات مع تكرر قيامه في كل ليلة، فلو حدث شيء مما يخالف ذلك لعلمت به. وفي هذا الاستدلال نظر لا يخفى على المتأمل، وعلى تسليم صحته لا يتم به المطلوب من النسخ لوجوه ذكرها الشوكاني في النيل، وسنورد بعضها في شرح حديث ابن عباس وعائشة. ووجه النسخ بعضهم بأن ابن عمر وابن عباس من رواة حديث القطع وقد حكما بعدم قطع شيء وهو من أمارات النسخ. وفيه أن عمل الراوي خلاف ما رواه لا يدل على نسخ مروية على ما هو الحق في ذلك. وقال العلامة الشيخ أحمد في تعليقه على الترمذي (ج2:ص164) : والصحيح الذي أرضاه وأختاره أن أحاديث القطع منسوخة بحديث "لا يقطع الصلاة شيء" الذي رواه أبوداود، وقد ضعفه ابن حزم في المحلى (ج4:ص13) بأن أبا الوداك ومجالدا ضعيفان. وأبوالوداك هو جبر بن نوف البكالي، وهو ثقة، وثقة ابن معين، وابن حبان. واختلف فيه قول النسائي، فمرة قال "صالح" ومرة قال "ليس بالقوي" ومثل هذا لا يطلق عليه الحكم بالضعف. وقد أخرج له مسلم في الصحيح. ومجالد هو ابن سعيد الهمداني الكوفي ضعفه أحمد وغيره. وقال يعقوب بن سفيان: تكلم الناس فيه وهو صدوق. وقال البخاري: صدوق، وأخرج له مسلم مقرونا بغيره، ومثله أيضاً لا يطرح حديثه، وقد ورد أيضاً عن أبي أمامة مرفوعاًرواه الطبراني في الكبير. قال في مجمع الزوائد: إسناده حسن. قال: وقد حققت ترجيح النسخ في تعليقي على المحلى لابن حزم (ج4:ص15، 14) وقلت: إن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "لا يقطع الصلاة شيء" فيه إشارة إلى أنه كان معروفا عند السامعين قطعها بأشياء من هذا النوع بل هو يكاد يكون كالصريح فيه لمن تأمل وفكر في معنى الحديث. ثم قد ورد ما يؤيد هذا، فروى الدارقطني (ص141، 140) والبيهقي (ج2:ص278، 277) من طريق إبراهيم بن منقذ الخولاني، ثنا إدريس بن يحيى أبوعمرو المعروف بالخولاني، عن بكر بن مضر، عن صخر بن عبد الله بن حرملة أنه سمع عمر بن عبد العزيز يقول عن أنس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بالناس فمر بين أيديهم حمار، فقال عياش بن أبي ربيعة: سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله. فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من المسبح آنفاً سبحان الله؟ قال: أنا يارسول الله! إني سمعت أن الحمار يقطع الصلاة. قال: لا يقطع الصلاة شيء) . قال: ولم أجد ترجمة لإدريس بن يحيى، وما أظن أحداً ضعفه، ولذلك لما أراد ابن الجوزي أن ينصر مذهبه ضعف الحديث بصخر بن عبد الله فأخطأ جداً، لأنه زعمه صخر بن عبد الله الحاجي المنقري، وهو كوفي متأخر، روى عن مالك والليث، وبقي في حدود سنة (230) وأما الذي في الإسناد، فهو صخر ابن عبد الله بن حرملة المدلجي، وهو حجازي قديم، كان في حدود سنة (130) وهو ثقة. قال: وهذا صريح في

رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الدلالة على أن الأحاديث التي فيها الحكم بقطع الصلاة بالمرأة، والحمار، والكلب منسوخة، فقد سمع عياش أن الحمار يقطع الصلاة، وعياش من السابقين الذين هاجروا الهجرتين، ثم حبس بمكة. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعوا له في القنوت كما ثبت في الصحيحين، فعلم الحكم الأول، ثم غاب عنه نسخة، فأعلمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الصلاة لا يقطعها شيء- انتهى كلامه ملخصا مختصراً. ومال بعضهم إلى الترجيح، فقال: أحاديث الجمهور مثل حديث عائشة، وحديث ابن عباس أقوى وأصح من الأحاديث التي فيها الحكم بالقطع، فالأخذ بالأقوى أولى. قال الشيخ أحمد في تعليقه بعد نقل كلام الشافعي من "اختلاف الحديث" المطبوع بحاشيته كتاب الأم (ج7:ص164، 163) : وكأن الشافعي يريد تضعيف الحديث الذي فيه قطع الصلاة بأنه حديث يخالف أحاديث أثبت منه وأقوى، كأنه يقول شاذ، ولكن القطع ثابت بأحاديث صحيحة من غير وجه، فلا تكون شاذة. واختار بعضهم للترجيح مسلكا آخر، قال: لما اختلفت أحاديث الباب، ولم يتبين الراجح منها نظرنا إلى ما عمل به الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فرجحنا به أحد الجانبين. قال أبوداود في سننه بعد رواية حديث أبي سعيد: إذا تنازع الخبران عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نظر إلى ما عمل به أصحابه من بعده، يعني وقد ذهب أكثرهم مثل عائشة، وابن عباس، وابن عمر، وعلى، وعثمان، وحذيفة إلى عدم القطع فليكن هو الراجح. ومال بعضهم إلى التأويل، فقال الخطابي والنووي وغيرهما: المراد بالقطع في حديث أبي ذر نقص الصلاة بشغل القلب بمرور هذه الأشياء عن مراعاة الصلاة، وبعدم القطع في حديث أبي سعيد عدم البطلان، أي: أنه لا يبطلها شيء وإن نقص ثوابها بمرور ما ذكر في حديث أبي ذر وأبي هريرة. قال الحافظ: ويؤيد ذلك أن الصحابي راوى الحديث سأل عن الحكمة في التقييد بالأسود، فأجيب بأنه شيطان. وقد علم أن الشيطان لو مر بين يدى المصلي لم تفسد عليه صلاته. وقال القرطبي: هذا مبالغة في الخوف على قطعها بالشغل بهذه المذكورات، فإن المرأة تفتن، والحمار ينهق، والكلب يخوف، فيشوش المتفكر في ذلك حتى تنقطع عليه الصلاة. فلما كانت هذه الأمور آئلة إلى القطع جعلها قاطعة- انتهى. وفيه ما قال السندي: من أن شغل القلب لا يرتفع بمؤخرة الرحل، إذ المار وراء مؤخرة الحل في شغل القلب قريب من المار في شغل القلب إن لم يكن مؤخرة الرحل فيما يظهر، فالوقاية بمؤخرة الرحل على هذا المعنى غير ظاهر- انتهى. قلت: الراجح عندي أنه لا يقطع الصلاة مرور شيء وإن لم يكن بين يديه مثل مؤخرة الرحل. وأقرب المسالك في الأحاديث التي فيها الحكم بقطع الصلاة أنها منسوخة بحديث "لا يقطع الصلاة شيء" وإن لم يرتض بذلك النووي. وهذا لأن الجمع بما تأول به الخطابي والنووي لا يخلو عن تكلف وخفاء كما أشار إليه السندي. ولا شك في أن الجميع المذكور خلاف الظاهر. وقد علم تأخر حديث "لا يقطع الصلاة شيء" بما حققه الشيخ في تعليقه على المحلى، وهو تحقيق جيد فهو أحق وأحرى بالقبول، والله أعلم (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وابن ماجه.

785- (8) وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل وأنا معترضة بينه وبين القبلة كاعتراض الجنازة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 785- قوله: (وأنا معترضة بينه وبين القبلة) قال ابن الملك: الاعتراض صيرورة الشيء حائلا بين شيئين، ومعناه ههنا مضطجعة (كاعتراض الجنازة) بفتح الجيم وكسرها. والمراد أنها تكون نائمة بين يديه من جهة يمينه إلى جهة شماله كما تكون الجنازة بين يدي المصلي عليها. وفي رواية للبخاري: ذكر عند عائشة ما يقطع الصلاة، فقالوا: يقطعها الكلب والحمار، والمرأة، فقالت: لقد جعلتمونا كلابا، وفي رواية: ذكر عندها ما يقطع الصلاة، الكلب والحمار، والمرأة، فقالت شبهتمونا بالحمر والكلاب، والله لقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي وإني على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة، فتبدو لي الحاجة، فأكره أن أجلس فأوذي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأنسل (أي أمضى وأخرج بتأن وتدريج) من عند رجليه. والحديث استدلت به عائشة والجمهور بعدها على أن المرأة لا تقطع صلاة الرجل لأنها إذا كانت لا تقطع في حالة كونها معترضة مضطجعة- وهذه الحالة أقوى من المرور- ففي المرور بالأولى. وفيه أنه ليس فيما ذكرت مرور امرأة بين يدي المصلى، ومحمل حديث"يقطع الصلاة الكلب" الخ. هو المرور. قال السندي: لا دلالة في حديث عائشة أنها مرت بين يديه، وقال ابن بطال: هذا الحديث وشبهه من الأحاديث التي فيها اعتراض امرأة بين المصلي وقبلته تدل على جواز القعود لا على جواز المرور- انتهى. لا يقال: إن قولها "أنسل" صريح في المرور، فإن الانسلال هو المرور. لأن المرور المتنازع فيه هو أن يمر المار بين يدي المصلي معترضا، لا أن يمشي ذاهبا لجة القبلة أو لجهة الرجلين، ولم يتحقق ههنا إلا المضيء إلى جهة الرجلين كما يدل عليه قولها "فأنسل من عند رجليه" وأما ما قيل: من أن اعتراض المرأة أشد من المرور، فإذا لم يقطع الصلاة الاعتراض لا يقطع المرور أيضاً بالأولى، ففيه أن الظاهر أن حصول التشويش بالمرأة من جهة الحركة والسكون، وعى هذا فمرورها أشد من اعتراضها واضطجاعها وجلوسها. وفي النسائي في هذا الحديث "فإذا أردت أن أقوم كرهت أن أقوم فأمر بين يديه انسللت انسلالا". فالظاهر أن عائشة إنما أنكرت إطلاق كون المرأة تقطع الصلاة في جميع الحالات لا المرور بخصوصه. وأما إنكار عائشة على من ذكر المرأة مع الكلب والحمار فيما يقطع الصلاة مع أنها روت الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ "لا يقطع صلاة المسلم إلا الحمار، والكافر، والكلب، والمرأة" فقالت عائشة: يا رسول الله! لقد قرنا بدواب سوء. أخرجه أحمد. فيحتمل أنها نسيت حديث القطع عند الإنكار، ويمكن أن يكون عندها معنى القطع بمرور المرأة فيما روت، وهو قطع الخشوع بمرورها. وأما حديث الاعتراض فذكرته للرد على من قال بقطع الصلاة بالمرأة بمعنى إبطالها بالكلية. وقيل: أنكرت كون الحكم باقيا هكذا فلعلها كانت ترى نسخه. وروى البخاري أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم فيصلي من الليل وإني لمعترضة بينه وبين القبلة على فراشه. قال الحافظ: وجه الدلالة من حديث عائشة الذي احتج به ابن شهاب أن حديث "يقطع الصلاة المرأة" إلى

متفق عليه. 786- (9) وعن ابن عباس، قال: ((أقبلت راكباً على أتان، وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـــــــــــــــــــــــــــــ آخره، يشمل ما إذا كانت مارة أو قائمة أو قاعدة أو مضطجعة، فلما ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى وهي مضطجعة أمامه دل ذلك على نسخ الحكم في المضطجع، وفي الباقي بالقياس عليه (ولما كان ذلك كذلك مع أن النفوس جبلت على الإشغال بها فغيرها من الكلب والحمار كذلك بل أولى) قال: وهذا يتوقف على إثبات المساواة بين الأمور المذكورة، وقد تقدم ما فيه، فلو ثبت أن حديثها متأخر عن حديث أبي ذر لم يدل إلا على نسخ الاضطجاع فقط. وقد نازع بعضهم في الاستلال به مع ذلك من أوجه أخرى، أحدها: أن العلة في قطع الصلاة فيها ما يحصل من التشويش، وقد قالت "إن البيوت يومئذ لم يكن فيها مصابيح" فانتفى المعلول بانتفاء علته. ثانيها: أن المرأة في حديث أبي ذر مطلقة، وفي حديث عائشة مقيدة بكونها زوجته، فقد يحمل المطلق على المقيد ويقال يتقيد القطع بالأجنبية لخشية الافتتان بها بخلاف الزوجة، فإنها حاصلة. ثالثها أن حديث عائشة واقعة حال يتطرق الاحتمال بخلاف حديث أبي ذر فإنه مسوق مساق التشريع العام. وقال بعض النابلة: يعارض حديث أبي ذر وما وافقه أحاديث صحيحة غير صريحة، وصريحة غير صحيحة، فلا يترك العمل بحديث أبي ذر الصريح بالمحتمل، يعني حديث عائشة وما وافقه. والفرق بين المار وبين النائم في القبلة أن المرور حرام بخلاف الاستقرار نائما كان أم غيره، فهكذا المرأة يقطع مرورها لا لبثها- انتهى. ومن وجوه المنازعة أيضاً ما قيل: إنه يحمل على أن ذلك وقع في غير حالة الحيض، والحكم بقطع المرأة للصلاة إنما هو إذا كانت حائضا كما تقدم (متفق عليه) واللفظ لمسلم، وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود، والنسائي وابن ماجه بألفاظ متقاربة. 786- قوله: (على أتان) متعلق بقوله "راكباً" وأتان- بفتح الهمزة، وبالمثناه الفوقية، وفي آخره نون، وشد كسر الهمزة كما حكاه الصغاني، وهي الأنثى من الحمير، ولا يقال "أتانة" والحمار يطلق على الذكر والأنثى. وفي بعض طرق البخاري عل حمار أتان- بالتنوين فيهما- على أن قوله "أتان" صفة للحمار، أو بدل منه بدل بعض من كل، لأن الحمار يطلق على الجنس فيشمل الذكر والأنثى، أو بدل كل من كل نحو شجرة زيتونة، وروى بالإضافة، أي: حمار أنثى كفحل أتن (وأنا يومئذ) الواو للحال، وأنا مبتدأ وخبره قوله (قد ناهزت الاحتلام) أي: قاربت، يقال: ناهز الصبي البلوغ إذا قاربه وداناه. قال صاحب الأفعال: ناهز الصبي الفطام دنا منه، ونهز الشيء أي: قرب. والمراد بالاحتلام البلوغ الشرعي، وهو مشتق من الحلم بالضم. وقد أخرج البزار بإسناد صحيح أن هذه القصة كانت في حجة الوداع، ففيه دليل على أن ابن عباس كان في حجة الوداع دون البلوغ. وقد اختلف في سنه حين توفي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقيل: ثلاث عشرة، ويدل له قولهم "إنه ولد في الشعب قبل الهجرة بثلاث سنين". وقيل: كان عمره عشر سنين وهو ضعيف، وقيل:

يصلي بالناس بمنأ إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف، فنزلت وأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف، فلم ينكر ذلك على أحد. ـــــــــــــــــــــــــــــ خمس عشرة. قال أحمد: إنه الصواب (بمنأ) مذكر مصروف إن قلت علم للمكان، وغير منصرف إن قلت علم للبقعة. قال النووي: فيه لغتان الصرف والمنع، ولهذا يكتب بالألف والياء، والأجود صرفها وكتابتها بالألف، سميت بها لما يمنى بها من الدماء أي: تراق (إلى غير جدار) في محل النصب على الحال، والتقدير يضلى متوجها إلى غير جدار، يعني إلى غير سترة، نقله البيهقي عن الشافعي، وبوب عليه "باب من صلى إلى غير سترة" ويؤيده رواية البزار بلفظ "والنبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي المكتوبة، ليس شيء يستره" لكن البخاري بوب على حديث ابن عباس هذا "باب سترة الإمام سترة لمن خلفه" وهذا مصير منه إلى أن الحديث محمول على أنه كان هناك سترة. قال الحافظ: كأن البخاري حمل الأمر في ذلك على المألوف المعروف من عادته - صلى الله عليه وسلم - أنه كان لا يصلي في الفضاء إلا والعنزة أمامه. ثم أيد ذلك بحديثي ابن عمر وأبي جحيفة، (يعني المذكورين أول الباب) وأوردهما عقيب حديث ابن عباس هذا. وقال العيني: استنبط البخاري ذلك من قوله "إلى غير جدار" لأن لفظ غير يشعر بأن ثمة سترة لأنها تقع دائماً صفة، وتقديره" إلى شيء غير جدار" وهو أعم من أن يكون عصا أو عنزة أو غير ذلك- انتهى. قلت: حمل البخاري لفظ الغير على النعت، والبيهقي على النفي المحض، وما اختاره البخاري هنا أولى، فإن التعرض لنفى الجدار خاصة يدل على أنه كان هناك شيء مغاير للجدار، لأنه إذا لم يكن هناك جدار ولا غيره لم يكن في التعرض لنفى الجدار خاصة فائدة. وقال الطيبي: فإن قلت: قوله "إلى غير جدار" لا ينفي شيئاً فكيف فسره (الشافعي) بالسترة، قات: إخبار ابن عباس عن مروره بالقوم، وعن عدم جدار مع أنهم لم ينكروا عليه وأنه مظنة إنكار، يدل على حدوث أمر لم يعهد قبل ذلك من كون المرور مع عدم السترة غير منكر، فلو فرض سترة أخرى لم يكن لهذا الإخبار فائدة، إذ مروره حينئذٍ لا ينكره أحد أصلا- انتهى. قال القاري: يمكن إفادته أن سترة الإمام سترة للقوم كما فهم البخاري- انتهى. وأما رواية البزار التي فيها "ليس شيء يستره" فليس المراد فيها نفي السترة مطلقاً، بل أراد نفى السترة التي تحول بينهم وبينه كالجدار المرتفع الذي يمنع الرؤية وقد صرح بمثل هذا العراقي (فمررت) أي: راكبا (بين يدي بعض الصف) هو مجاز عن القدام لأن الصف لا يد له. والمراد الصف الأول، ففي البخاري في الحج "حتى سرت بين يدي بعض الصف الأول" (ترتع) بمثناتين فوقيتين مفتوحتين وضم العين، أي: تأكل ما تشاء، من رتعت الماشية ترتع رتوعا. وقيل تسرع في المشي (فلم ينكر) على صيغة المعلوم (ذلك) أي: مشية بأتانه وبنفسه بين يدي بعض الصف (على أحد) أي: لا النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا غيره ممن كانوا معه، لا في الصلاة ولا في بعدها. قال ابن دقيق العيد: استدل ابن عباس بترك الإنكار على الجواز، ولم يستدل بترك إعادتهم للصلاة، لأن ترك الإنكار أكثر فائدة. قال الحافظ: وتوجيهه أن ترك الإعادة يدل على صحتها فقط لا على جواز المرور، وترك الإنكار يدل على جواز المرور وصحة الصلاة معا. ويستفاد منه أن ترك الإنكار حجة على الجواز بشرطه، وهو انتفاء الموانع من الإنكار وثبوت العلم بالإطلاع على الفعل. ولا يقال:

متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يلزم مما ذكره إطلاع النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك لاحتمال أن يكون الصف حائلاً دون رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - له، لأنا نقول قد تقدم أي: في البخاري "أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يرى في الصلاة من ورائه كما يرى من أمامه". وتقدم أنه مر بين يدي بعض الصف الأول، فلم يكن هناك حائل دون الرؤية، ولو لم يرو شيء من ذلك لكان توفر دواعيهم على سؤاله - صلى الله عليه وسلم - عما يحدث لهم كافيا في الدلالة على إطلاعه على ذلك. واستدل به على أن مرور الحمار لا يقطع الصلاة، وأنه ناسخ للحديث الذي فيه الحكم بقطع الصلاة لكون هذه القصة في حجة الوداع. وتعقب بأنه لا دلالة فيه على ذلك لما تقدم أن صلاته - صلى الله عليه وسلم - كانت إلى سترة، وقد تقرر أن سترة الإمام سترة للقوم، فلا يتحقق المرور المضر في حق الإمام والقوم إلا إذا مرت بين يدي الإمام ما بينه وبين السترة، ولا دلالة لحديث ابن عباس على ذلك، قاله السندي. وقال ابن العربي: يحتمل أنه لم تقطع عليهم لأن الصلاة لا يقطعها شيء، ويحتمل أن تكون لم تقطع صلاة الإمام وسترته سترة لهم، وإذا مر ما يقطع الصلاة من وراء السترة لم يبال به بلا خلاف. ولا حجة بهذا الحديث بحال- انتهى. قلت: لا شك أن الحديث ليس حجة لمن قال بعدم القطع، لأنه صريح في أن الأتان مرت بين يدي الصف فلم تدخل بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين سترته فلم تقطع صلاته، وسترة الإمام سترة لمن خلفه. وقيل: منع المرور مختص بالإمام والمنفرد، ويختص منه حكم المأموم. قال ابن عبد البر: حديث ابن عباس هذا يخص حديث أبي سعيد "إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحداً يمر بين يديه". قال: فحديث أبي سعيد هذا يحمل على الإمام والمنفرد. فأما المأموم فلا يضره من بين يديه لحديث ابن عباس هذا. قال: والمرور بين يدي المصلي مكروه إذا كان إماماً أو منفردا. وأما المأموم فلا يضره من مر بين يديه كما أن الإمام أو المنفرد لا يضر واحدا منهما ما مر من وراء سترته لأن سترة الإمام سترة لمن خلفه. وقد قيل: إن الإمام نفسه سترة لمن خلفه- انتهى. ويظهر أثر هذا الخلاف فيما لو مر بين يدي الإمام أحد فعلى قول من يقول: إن سترة الإمام سترة من خلفه يضر صلاته وصلاتهم معا. وعلى قول من يقول: إن الإمام نفسه سترة لمن خلفه يضر صلاته ولا يضر صلاتهم. وقيل: إن حكم منع المرور يستثنى منه ضرورة، فقد بوب على حديث ابن عباس هذا مالك في الموطأ بلفظ "الرخصة في المرور بين يدي المصلي" وعقد عليه الشاه ولي الله الدهلوي في المصفى "باب الرخصة في المرور بين يدي الصف إذا أقيمت الصلاة" وقال مالك بعد ذكر حديث ابن عباس: وأنا أرى ذلك واسعا إذا أقيمت الصلاة، وبعد أن يحرم الإمام، ولم يجد المرأ مدخلا إلى المسجد إلا بين الصفوف. قال ابن عبد البر: هذا مع الترجمة يقتضي أن الرخصة عنده لمن لم يجد من ذلك بدا. وغيره لا يرى بذلك بأسا للآثار الدالة على أن سترة الإمام سترة لمن خلفه- انتهى. قلت: واستنبط بعضهم من الحديث نظرا إلى ما قاله مالك جواز تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة الخفيفة، أي: احتمال بعض المفاسد لمصلحة أرجح منها، فإن المرور أمام المصلين مفسدة خفيفة. والدخول في الصلاة وفي الصف مصلحة راجحة فاغتفرت المفسدة للمصلحة الراجحة من غير إنكار (متفق عليه) وهذا لفظ البخاري، قاله ميرك. والحديث أخرجه البخاري في

{الفصل الثاني}

{الفصل الثاني} 787- (10) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئاً. فإن لم يجد؛ فلينصب عصاه. فإن لم يكن معه عصاً؛ فليخطط خطاً، ثم لا يضره ما مر أمامه)) . رواه أبو داود وابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ العلم، وفي الصلاة، وفي الحج، وفي المغازي، ومسلم في الصلاة، وأخرجه أيضاً مالك، وأحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم. 787- قوله: (إذا صلى أحدكم) أي: أراد الصلاة (فليجعل تلقآء وجهه) أي: حذائه لكن إلى أحد حاجبيه لا بين عينيه (شيئاً) فيه أن السترة لا تختص بنوع بل كل شيء ينصبه المصلي تلقآء وجهه يحصل به الامتثال. قال سفيان بن عيينة: رأيت شريكاً صلى بنا في جنازة العصر فوضع قلنسوته بين يديه يعني في فريضة حضرت. أخرجه أبوداود (فإن لم يجد) أي: شيئاً منصوبا (فلينصب) بكسر الصاد أي: يرفع أو يقيم (عصاً) ظاهره عدم الفرق بين الرقيقة والغليظة. ويدل على ذلك قوله "ليستتر أحدكم في الصلاة ولو بسهم" وقوله "يجزىء من السترة قدر مؤخرة الرحل ولو برقة شعرة" أخرجه الحاكم. وقال على شرطهما (فإن لم يكن معه عصاً) هذا لفظ أبي داود، ولفظ ابن ماجه فإن لم يجد (فليخطط) بضم الطاء، وفي ابن ماجه فليخط (خطاً) حتى يبين فصلاً فلا يتخطى المار. واختلف في صفته فاختار أحمد أن يكون عرضاً مثل الهلال، أي: مقوسا كالمحراب فيصلي إليه كما يصلي في المحراب. وقيل يمد طولاً إلى جهة الكعبة، أي: يكون مستقيماً من بين يديه إلى القبلة. وقيل: يمد يميناً وشمالاً أي: من غير تقويس، والأول أولى (ثم لا يضره) أي: بعد استتاره. وفيه ما يدل أنه يضره إذا لم يفعل إما بنقصان من صلاته أو بإبطالها على ما ذكر أنه يقطع الصلاة، إذ في المراد بالقطع الخلاف كما تقدم. وهذا إذا كان المصلي إماماً أو منفرداً، لا إذا كان مؤتماً، فإن الإمام سترة له أو سترته سترة له كما سبق آنفاً (ما مر أمامه) أي: أمام سترته. والحديث دليل على جواز الاقتصار على الخط. وإليه ذهب أحمد وغيره، فجعلوا الخط عند العجز عن السترة سترة. واختلف فيه قول الشافعي فروى عنه استحبابه، وروى عنه عدم ذلك. وقال جمهور أصحابه: باستحبابه. وقال ابن الهمام: وأما الخط فقد اختلفوا فيه حسب اختلافهم في الوضع إذا لم يكن معه ما يغرزه أو يضعه. فالمانع يقول: لا يحصل المقصود به إذ لا يظهر من بعيد. والمجيز يقول: ورد الأثر به. واختار صاحب الهداية الأول. والسنة أولى بالإتباع من أنه يظهر في الجملة، إذ المقصود جمع الخاطر بربط الخيال به كيلا ينتشر – انتهى. (رواه أبوداود وابن ماجه) واللفظ لأبي داود. وأخرجه أيضاً أحمد وابن حبان في صحيحه والبيهقي وصححه أحمد وابن المديني فيما نقله ابن عبد البر في الاستذكار. وأشار إلى ضعفه سفيان بن عيينة والشافعي والبغوي

788- (11) وعن سهل بن أبي حثمة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها، لا يقطع الشيطان عليه صلاته)) . رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ وغيرهم. قال الحافظ: وأورده ابن الصلاح مثالاً للمضطرب، ونوزع في ذلك. قال في بلوغ المرام: ولم يصب من زعم أنه مضطرب بل هو حسن. وقال البيهقي: لا بأس به في مثل هذا الحكم إن شاء الله تعالى. 788- قوله: (وعن سهل بن أبي حثمة) بفتح الحاء المهملة ثم مثلثة، واسمه عبد الله، وقيل عامر. وقيل: هو سهل بن عبد الله بن أبي حثمة عامر بن ساعدة بن عامر الأنصاري الخزرجي المدني، صحابي صغير، ولد سنة (3) من الهجرة. واتفق الأئمة على أنه كان ابن ثمان سنين أو نحوها عند موت النبي - صلى الله عليه وسلم -، منهم ابن مندة وابن حبان وابن السكن والحاكم أبوأحمد وأبوجعفر الطبري. قال الواقدي: قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثمان سنين، ولكنه حفظ عنه فروى وأتقن. قال الذهبي: أظنه مات زمن معاوية وجزم الطبري أن الذي مات في خلافة معاوية هو أبوه أبوحثمة، وقال المصنف: سكن الكوفة. وعداده في أهل المدينة، وبها كانت وفاته في زمن مصعب بن الزبير. روى عنه جماعة. له خمسة وعشرون حديثاً، اتفقا على ثلاثة (إلى سترة) أي: متوجهاً إليها ومستقبلاً لها (فليدن) أمر من الدنو بمعنى القرب (منها) أي: من السترة. وفيه مشروعية الدنو من السترة حتى يكون مقدار ما بينهما ثلاثة أذرع، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لما صلي في الكعبة جعل بينه وبين الجدار الذي قبل وجهه قريبا من ثلاثة أذرع. قال البغوي: استحب أهل العلم الدنو من السترة بحيث يكون بينه وبينها قدر إمكان السجود، وكذلك بين الصفوف (لا يقطع الشيطان) بالجزم جواب الأمر، ثم حرك بالكسر لالتقاء الساكنين، قاله القاري. وقال السندي: جملة مستأنفة بمنزلة التعليل، أي: لئلا يقطع الشيطان بأن يحمل على المرور من يقطع عليه صلاته حقيقة عند قوم كالمرأة والحمار والكلب الأسود، وخشوعا عند آخرين (أي بإلقاء الوساوس والخواطر) ويحتمل أن المراد بالشيطان هو الكلب الأسود، فقد جاء في الحديث أنه شيطان – انتهى. وقال ابن حجر: استفيد من الحديث أن السترة تمنع استيلاء الشيطان على المصلي وتمكنه من قلبه بالوسوسة، إما كلا أو بعضا بحسب صدق المصلي وإقباله في صلاته على الله تعالى، وأن عدمها يمكن الشيطان من إزلاله عما هو بصدده من الخشوع والخضوع، وتدبره بالقراءة والذكر- انتهى (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً أحمد (ج4: ص2) والنسائي، والحاكم (ج1:ص252، 251) كلهم من طريق سفيان بن عيينة، عن صفوان بن سليم، عن نافع بن جبير، عن سهل بن أبي حثمة. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، فقال: على شرطهما. وقال أبوداود: اختلف في إسناده. وقد بين الاختلاف فيه بقوله: ورواه واقد بن محمد، عن صفوان، عن محمد بن سهل، عن أبيه، أو عن محمد بن سهل، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال بعضهم: عن نافع بن جبير، عن سهل بن سعد- انتهى. ولا يضر هذا الاختلاف، لأن الطريق الأول- أي: طريق سفيان بن عيينة- أرجح وأقوى من طريق واقد بن محمد

789- (12) وعن المقداد بن الأسود، قال: ((ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي إلى عود، ولا عمود، ولا شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر، ولا يصمد له صمداً)) . رواه أبوداود. 790- (13) وعن الفضل بن عباس، قال: ((أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذا ظاهر. واعلم أن ما وقع في رواية أبي داود في بيان الاختلاف مخالف لما ذكره الحافظ في الإصابة (ج3:ص514) حيث قال في القسم الرابع من حرف الميم: محمد بن سهل بن أبي حثمة الأنصاري المدني، قال أبوموسى في الذيل: ذكره بعض الحفاظ، ثم أخرج من طريق شعبة، وعن واقد بن محمد، سمعت صفوان بن سليم يحدث، عن محمد ابن سهل بن أبي حثمة، أو عن سهل بن أبي حثمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في سترة المصلي. قال الحافظ: هو مرسل أو منقطع، لأنه إن كان المحفوظ محمد بن سهل فهو مرسل، لأنه تابعي لم يولد إلا بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مات كان سن سهل بن أبي حثمة ثمان سنين، وإن كان عن سهل فهو منقطع، لأن صفوان لم يسمع من سهل- انتهى. فليتأمل. وفي الباب عن أبي سعيد أخرجه أبوداود وابن ماجه، وعن جبير بن مطعم أخرجه البزار والطبراني في الكبير، وعن بريدة أخرجه البزار، وعن سهل بن سعد أخرجه الطبراني في الكبير. 789- قوله: (إلى عود) كالعصا أو العنزة، أو الحربة أو مؤخرة الرحل، وهو واحد العيدان (ولا عمود) كالأسطوانة (ولا شجرة) أي: فيجعله سترة (إلا جعله) أي: العود، أو العمود، أو الشجرة (على حاجبه) أي: جانبه (الأيمن أو الأيسر) فيه استحباب أن تكون السترة على جهة اليمين أو اليسار. قال ابن حجر: وفي رواية للنسائي "إذا صلى أحدكم إلى عمود أو سارية، أو إلى شيء فلا يجعله بين عينيه، وليجعله على حاجبه الأيسر" وقد يؤخذ منه أن الأيسر أولى من الأيمن. ويوجه بأنه مانع للشيطان الذي هو على الأيسر، كذا في المرقاة (ولا يصمد) بضم الميم من باب نصر (له صمدا) الصمد القصد، يقال: أصمد صمد فلان، أي: أقصد قصده، يريد أنه لا يقصده قصدا مستويا يستقبله بحيث يجعله تلقاء وجهه ما بين عينيه حذرا عن التشبه بعبادة الأصنام (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً أحمد. والحديث سكت عنه أبوداود. وقال المنذري في سنده أبوعبيدة الوليد بن كامل البجلي الشامي، وفيه مقال. قلت: وثقه النسائي وقال أبوحاتم: شيخ، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال البخاري: عنده عجائب. قال الأزدي: ضعيف. وقال ابن القطان: لا تثبت عدالته. وقال الحافظ في التقريب: لين الحديث. 790- قوله: (وعن الفضل بن عباس) بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي المدني ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأمه أم الفضل لبابة الكبرى بنت الحارث الهلالية. أردفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع، وحضر غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان أكبر ولد العباس. وكان وسيما جميلا، وثبت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين فيمن ثبت، وخرج إلى الشام مجاهدا، فقيل مات بناحية الأردن بطاعون عمواس سنة (18) وقيل: استشهد يوم اليرموك. وقيل: بدمشق، وعليه درع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك

ونحن في بادية لنا، ومعه عباس، فصلى في صحراء ليس بين يديه سترة، وحمارة لنا وكلبة تعبثان بين يديه، فما بالي بذلك)) . رواه أبوداود. وللنسائي نحوه. 791- (14) وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يقطع الصلاة شيء، ـــــــــــــــــــــــــــــ في خلافة عمر. له أربعة وعشرون حديثاً، اتفقا على حديثين (ونحن) حال من المفعول (في بادية لنا) في القاموس: البدو والبادية والبداوة خلاف الحضر (ومعه عباس) بن عبد المطلب عم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والجملة حال من الفاعل (ليس بين يديه سترة) لأنه لم يكن هنا مظنة المرور. وفيه دليل على أن اتخاذ السترة غير واجب، فيكون قرينة لصرف الأوامر إلى الندب. قال ابن العربي في عارضة الأحوذى: اختلف العلماء في وضع السترة على ثلاثة أقوال، الأول: إنه واجب، وإن لم يجد وضع خطا. قاله أحمد وغيره. والثاني: أنها متسحبة، قاله الشافعي وأبوحنيفة ومالك في العتبية. وفي المدونة قولان: تركها، هذا إذا كان في موضع يؤمن المرور فيه، فإن كان في موضع لا يؤمن ذلك تأكد عند علمائنا وضع السترة-انتهى (وحمارة) بالتاء وهي لغة قليلة، والأفصح حمار بلا تاء للذكر والأنثى. وقال في المفاتيح: التاء في حمارة وكلبة للإراد، كما في تمر وتمرة. ويجوز أن تكون للتأنيث. قال الجوهري: وربما قالوا: حمارة، والأكثر أن يقال للأنثى أتان (تعبثان) أي: تلعبان (بين يديه) أي: قدامه (فما بالي بذلك) من المبالاة أي: ما اكترث به وما اعتده قاطعا. والحديث قد استدل به على أن الكلب والحمار لا يقطعان الصلاة. وتعقب بأنه ليس فيه نعت الكلبة بكونه سوداء. قال الخطابي، والمذري، والشوكاني، والسندي: لم يذكر فيه نعت الكلب. وقد يجوز أن يكون الكلب ليس بأسود-انتهى. على أن في سنده مقالا كما ستعرف، ولو سلم صحته فهو لا يقاوم أحاديث القطع فإنها أصح وأرجح وأقوى (رواه أبوداود) أي: بهذا اللفظ وسكت عنه (وللنسائي نحوه) ولفظه عن الفضل بن عباس قال: زار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عباس في بادية لنا، ولنا كليبة وحمارة ترعى، فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - العصر وهما بين يديه، فلم يزجرا ولم يؤخرا. وأخرجه أيضاً أحمد بهذا اللفظ. وأخرجه الطحاوي بمعناه. قال المنذري في مختصر السنن: ذكر بعضهم أن في إسناده مقالا. قلت في سند الحديث عباس بن عبيد الله بن عباس الهاشمي وهو مقبول، لكنه لم يدرك عمه الفضل، فالحديث منقطع. قال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج5:ص123) : ذكره ابن حبان في الثقات. روى له أبوداود، والنسائي حديثاً واحدا في الصلاة. قلت أعله ابن حزم بالانقطاع. قال: لأن عباسا لم يدرك عمه الفضل وهو كما قال-انتهى بلفظ. وأخرج أحمد وأبويعلى عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في فضاء ليس بين يديه شئ. قال الهيثمي: وفيه الحجاج بن أرطاة وفيه ضعف. 791- قوله: (لا يقطع الصلاة شيء) أي: مرور شيء بين يدي المصلى ولو بلا سترة وإلا فكم من شيء يقطعها. وقيل: يحتمل أن يراد بشيء الدفع، أي: لا يبطل الصلاة شيء من الدفع، فادفعوا المار بقدر استطاعتكم. وحذف المار لدلالة السياق

{الفصل الثالث}

وادرؤا ما استطعتم، فإنما هو شيطان)) رواه أبوداود. {الفصل الثالث} 792- (15) عن عائشة، قالت: ((كنت أنام بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجلاي في قبلته. فإذا سجد غمزني، فقبضت رجلي، وإذا قام بسطتهما. قال: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح)) . متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه. وقيل: المراد لا يقطعها شيء من فعل غير المصلى، وفيه أن غير المصلى مثل المصلى إذا فعل معه ما أبطل عليه استقبال القبلة أو ما نقض عليه الوضوء كإخراج الدم عند القائل بنقض الوضوء به، أو مس المرأة عند القائل به، أو ما حصل به نجاسة ثوبه عند القائل ببطلان الصلاة به، لكان ذلك الفعل من غير المصلى قاطعا للصلاة على المصلى (وادرؤا) أي: ادفعوا المار (فإنما هو) أي: المار (شيطان) قد تقدم أن الراجح أن أحاديث القطع بالمرأة، والحمار، والكلب منسوخة بهذا الحديث وقد سبق تقرير ذلك فتذكر (رواه أبوداود) وسكت عنه، وضعفه ابن حزم في المحلي (ج4:ص13) كما تقدم وتضعيفه مردود عليه. وقال المنذري: في إسناده مجالد بن سعيد بن عمير الهمداني، وقد تكلم فيه غير واحد. وأخرج له مسلم حديثاً مقرونا بجماعة من أصحاب الشعبي-انتهى. قلت: قال يعقوب بن سفيان والبخاري: هو صدوق. 793- قوله: (ورجلاي) الواو للحال (في قبلته) أي: في موضع سجوده (فإذا سجد) أي: أراد السجود (غمزني) الغمز هو العصر والكبس باليد، وغمزني جواب إذا. وفيه إشارة إلى أن مس المرأة غير ناقض الوضوء، والأفضل عدم الحائل (فقبضت) عطفا على قوله غمزني (رجلي) بفتح اللام وتشديد الياء. قال الحافظ: كذا بالتثنية للأكثر وكذا في قوله "بسطتهما" وللمستملي والحموى "رجلي" بكسر اللام بالإفراد. وكذا بسطتها (قالت) أي: عائشة معتذرة عن نومها على هذه الهيئة (والبيوت يومئذ) أي: حينئذٍ أو وقتئذ (ليس فيها مصابيح) أي: إذ لو كانت لقبضت رجليها عند إرادته السجود ولما أحوجته للغمز. والمعنى: ما كنت أدرى وقت سجوده لعدم المصابيح، وإلا لما احتاج - صلى الله عليه وسلم - إلى الغمز كل مرة، بل أنا ضممت رجلي إلى وقت السجود. وفي الحديث أن العمل اليسير في الصلاة غير قادح. وفيه جواز الصلاة إلى النائم من غير كراهة. وذهب مالك وغيره إلى كراهة الصلاة إلى النائم خشية ما يبدو منه مما يلهى المصلى عن صلاته. واستدلوا بحديث ابن عباس عند أبي داود وابن ماجه بلفظ "لا تصلوا خلف النائم والمتحدث" وقد قال أبوداود: طرقه كلها واهية. وفي الباب عن أبي هريرة عند الطبراني، وعن ابن عمر عند ابن عدي، وهما واهيان. والحديث قد استدل به على أن المرأة لا تقطع الصلاة، وأنه ناسخ لأحاديث القطع، وقد قدمنا ما في هذا الاستدلال من الكلام والنظر فتذكر (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أبوداود في الصلاة، والنسائي في الطهارة.

793- (16) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو يعلم أحدكم ما له في أن يمر بين يدى أخيه معترضا في الصلاة، كان لأن يقيم مائة عام خير له من الخطوة التي خطا)) . رواه ابن ماجه. 794- (17) وعن كعب الأحبار، ـــــــــــــــــــــــــــــ 793- قوله: (ماله) أي: من الإثم فحذف البيان ليدل الإبهام على ما لا يقادر قدره من الإثم، قاله الطيبي (في أن يمر) أي: بسبب مروه (بين يدى أخيه) ذكر لمزيد التلطف بالمار حتى ينكف عن مروره، إذ من شأن الأخ أن لا يؤذى أخاه بنوع من أنواع الأذى وإن قل (معترضاً) أي: حال كون المار معترضاً محل سجود (في الصلاة) حال من أخيه (كان لأن يقيم مائة عام خير له) بالرفع، قال الطيبي: اسم كان ضمير عائد إلى "أحدكم" أو ضمير الشأن، والجملة خبر كان، واللام لام الابتداء المقارنة بالمبتدأ المؤكدة لمضمون الجملة، أو التي يتلقى بها القسم وهو أقرب، وقيل: اللام هي الداخلة على جواب "لو" أخرت عن محلها-وهو كان- إلى خبرها- وهو إقامة مائة عام- ولهذا التقدير المقتضي لكونه أو غل في التعريف كان الأصل أنه الاسم و"خير" هو الخبر، لكنهما عكساً إبهاما على السامع ليظهر جودة فهمه وذكائه. وقد جرى على الأصل في الأمرين في الخبر الذي عقب هذا، فأدخل اللام على كان، وجعل المصدر المسبوك من أن والفعل هو الاسم و"خيرا" هو الخبر وتجوز زيادة كان هنا، كذا في المرقاة (من الخطوة التي خطا) وفي ابن ماجه "خطاها" بزيادة ضمير المؤنث المنصوب، والخطوة-بالضم وتفتح- ما بين القدمين وبالفتح المرة (رواه ابن ماجه) من طريق عبيد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن موهب، عن عمه، عن أبي هريرة، قال في الزوائد: في إسناد مقال لأن عم عبيد الله بن عبد الرحمن، اسمه عبيد الله بن عبد الله بن موهب. قال أحمد ابن حنبل: أحاديثه مناكير، ولكن ابن حبان خص ضعف أحاديثه بما إذا روى عنه ابنه-انتهى. قلت: عبيد الله بن عبد الله هذا قال فيه أحمد: لا يعرف، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال: روى عنه ابنه يحيى، ويحيى لا شيء، وأبوه ثقة. وإنما وقعت المناكير في حديثه من قبل ابنه. وقال الشافعي: لا نعرفه. وقال ابن القطان الفاسي: مجهول الحال -انتهى. وقال الحافظ في التقريب: مقبول. وأما عبيد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله فضعفه ابن عيينة وابن معين في رواية الدوري. وقال النسائي: ليس بالقوي، ووثقه العجلي وابن معين في رواية إسحاق بن منصور. وقال أبوحاتم: صالح. وقال ابن عدي: حسن الحديث. وذكره ابن حبان في الثقات، كذا في تهذيب التهذيب (ج7:ص29) فالظاهر أن الحديث لا ينحط عن درجة الحسن. وأخرجه أيضاً أحمد، وابن حبان، وابن خزيمة في صحيحهما. 794- قوله: (كعب الأحبار) بالإضافة جمع حبر-بالفتح، وبكسر- وهو العالم. قال في القاموس: كعب الحبر وبكسر، ولا تقل الأحبار-انتهى. قال الزرقاني: قول المجد "لا تقل الأحبار" فيه نظر، فقد اثبته غير واحد، ويكفي قول مثل أبي هريرة إذ قال: كعب الأحبار-انتهى. وقال الطيبي: الأحبار جمع حبر-بالفتح والكسر والإضافة-

قال: لو يعلم المسار بين يدي المصلى ما عليه؛ لكان أن يخسف به خيراً له من أن يمر بين يديه. وفي رواية: أهون عليه)) . رواه مالك 795- (18) وعن ابن عباس، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا صلى أحدكم إلى غير السترة، فإنه يقطع صلاته الحمار، والخنزير، واليهودي، والمجوسي، والمرأة. وتجزئ عنه إذا مروا بين يديه على قذفة بحجر)) رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ كما في زيد الخيل-انتهى (قال) يحتمل أن يكون أخذه من الكتب السابقة لأنه خبرها، قاله الزرقاني (لكان أن يخسف) بصيغة المجهول (به) أي: بالمار في الأرض (خيراً له) بالنصب، قال الطيبي: المذكور في الحديثين ليس جواب "لو" بل هو دال على ما هو جوابها والتقدير"لو يعلم المار ما عليه من الإثم لأقام مائة عام، وكانت الإقامة خيراً له" وفي الثاني "لو يعلم ماذا عليه من الإثم لتمنى الخسف، وكان الخسف خيراً له" (وفي رواية) أي: لمالك هذا هو الظاهر، لكن الموجود في نسخ الموطأ الموجودة الحاضرة هو "خيرا له" لا قوله "أهون عليه" والظاهر أن المصنف نسب الرواية الثانية للمؤطا تبعا للجزري حيث قال بعد ذكر الرواية الأولى: وفي رواية "أهون عليه" أخرجه في الموطأ (أهون عليه) أي: على المصلى، لأن عذاب الآخرة أشد وأصعب وأبقى من عذاب الدنيا (رواه مالك) أي: في مؤطاه عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار "أن كعب الأحبار" الخ. 795- قوله: (إلى غير السترة) كذا في نسخ المشكاة، وفي أبي داود "إلى غير سترة" أي: بغير اللام (الحمار) وفي أبي داود "الكلب والحمار" أي: بزيادة الكلب قبل الحمار. والظاهر أن سقوط لفظ الكلب من النساخ (وتجزئ) بالهمزة من الإجزاء، وبالتأنيث في أكثر النسخ، أي: تجزئ الصلاة بلا سترة على المصلى، قاله القاري. وفي بعض النسخ "يجزئ" بالياء، وكذا وقع في أبي داود، أي: يكفي عن المصلى أي: في عدم قطع الصلاة (إذا مروا) أي: وإن لم يكن سترة (بين يديه على قذفه) بالفتح أي: رمية (بحجر) أي: لو مروا على بعد هذا المقدار بين يدي المصلى لا يقطع مرورهم صلاته. والحديث دليل على أن قطع الصلاة بالمرور بين يدي المصلي ليس بمخصوص بالكلب، والحمار، والمرأة وأن ذكر هذه الثلاثة في حديثي أي: ذر وأبي هريرة ليس لاختصاص حكم القطع بها، لكن ذكر اليهودي، والمجوسي، والخنزير في هذا الحديث منكر كما سيأتي (رواه أبوداود) عن محمد بن إسماعيل بن أبي سمينة البصري، عن معاذ بن هشام، عن هشام، الخ. قال أبوداود: في نفسي من هذا الحديث شيء كنت أذاكر به إبراهيم وغيره لم أر أحداً جاء به عن هشام، ولا يعرفه، ولم أر أحداً يحدث به عن هشام، وأحسب الوهم من ابن أبي سمية، والمنكر فيه ذكر المجوسي، وفيه"على قذفة بحجر" وذكر الخنزير، وفيه نكارة. قال أبوداود: ولم أسمع هذا الحديث إلا من محمد بن

إسماعيل، وأحسبه وهم، لأنه كان يحدثنا من حفظه-انتهى. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج9:ص60) في ترجمة محمد بن إسماعيل: توقف أبوداود في صحة حديث أخرجه عنه، عن معاذ بن هشام، عن ابيه عن يحيى ابن كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس: يقطع الصلاة الكلب-الحديث. قال أبوداود: لم أسمعه إلا منه. وذاكرت به فلم يعرف - انتهى. قلت: في نسبة الوهم إلى محمد بن إسماعيل بن أبي سمينة نظر فإنه ثقة. وقد أخرج الطحاوي هذا الحديث فقال: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا المقدمي، قال: ثنا معاذ بن هشام، ثنا أبي، عن يحيى، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: أحسبه قد أسنده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يقطع الصلاة المرأة الحائض، والكلب، والحمار، واليهودي، والنصراني، والخنزير. ويكفيك إذا كانوا منك قدر رمية لم يقطعوا عليك صلاتك. فهذا الحديث هو ما رواه أبودود. وليس فيه محمد بن إسماعيل بن أبي سمينة البصري. بعون الله وحسن توفيقه تم الجزء الثاني من مشكاة المصابيح مع شرحه مرعاة المفاتيح، ويليه الجز الثالث إن شاء الله تعالى، وأوله "باب صفة الصلاة"

(10) باب صفة الصلاة

(10) باب صفة الصلاة {الفصل الأول} 796- (1) عن أبي هريرة: ((أن رجلاً دخل المسجد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في ناحية المسجد، فصلى، ثم جاء فسلم عليه. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وعليك السلام، ارجع فصل فإنك لم تصل. ـــــــــــــــــــــــــــــ (باب صفة الصلاة) المراد بها جنس صفتها الشاملة للأركان والفرائض والواجبات والسنن والمستحبات. قال ابن الهمام: قيل الصفة والوصف في اللغة واحد، وفي عرف المتكلمين بخلافه، والتحرير أن الوصف ذكر ما في الموصوف من الصفة، والصفة هي ما فيه. ثم المراد هنا بصفة الصلاة الأوصاف النفسية لها، وهي الأجزاء الفعلية الصادقة على الخارجية التي هي أجزاء الهوية من القيام الجزئي والركوع والسجود، كذا في المرقاة. 796- قوله: (إن رجلاً) هو خلاد بن رافع كما بينه ابن أبي شيبة، وهو المشهور بالمسيء في صلاته عند الشراح. (فصلى) أى ركعتين كما للنسائي في حديث رفاعة بن رافع في هذه القصة، وهل كانتا نفلاً أو فرضاً؟ الظاهر الأول، والأقرب أنهما ركعتا تحية المسجد. ووقع عند ابن أبي شيبة في حديث رفاعة هذا: دخل رجل فصلى صلاة خفيفة لم يتم ركوعها ولا سجودها. (فسلم عليه) قال القاري: قدم حق الله على حق رسوله - عليه السلام _ كما هو أدب الزيارة، لأمره - عليه السلام - بذلك لمن سلم عليه قبل صلاة التحية فقال له: ارجع فصل ثم ائت فسلم عليّ. (ارجع فصل) وفي حديث رفاعة الآتي: أعد صلاتك. (فإنك لم تصل) نفي لصحة الصلاة؛ لأنها أقرب لنفي الحقيقة من نفي الكمال، فهو أولى المجازين وأيضاً فلما تعذرت الحقيقة - وهي نفي الذات - وجب صرف النفي إلى سائر صفاتها. قال عياض: فيه أن أفعال الجاهل في العبادة على غير علم لا تجزئ. قال الحافظ: وهو مبني على أن المراد بالنفي نفي الإجزاء، وهو الظاهر. ومن حمله

على نفي الكمال تمسك بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمره بالإعادة بعد التعليم، فدل على إجزائها وصحتها، وإلا لزم تأخير البيان، كذا قاله بعض المالكية. وفيه نظر؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قد أمره في المرة الأخيرة بالإعادة، فسأله التعليم فعلمه، فكأنه قال له: أعد صلاتك على هذه الكيفية - انتهى. وقال القاري: تقريره على صلاته كرات يؤيد كونه نفي الكمال لا الصحة، فإنه يلزم منه أيضاً الأمر بعبادة فاسدة مرات. قلت: أراد القاري أنه لو حمل على نفي الصحة يلزم أنه - صلى الله عليه وسلم - قرره مراراً على أن يصلي صلاة فاسدة، ويلزم منه أيضاً أنه أمر بعبادة فاسدة مرات، بخلاف ما إذا أريد بالنفي نفي الكمال. وفيه نظر؛ لأنه لم يؤذن له في صلاة فاسدة، ولا علم من حاله أنه يأتي بها في المرة الثانية والثالثة فاسدة، بل هو محتمل أن يأتي بها صحيحة، وإنما لم يعلمه أولاً ليكون أبلغ في تعريفه وتعريف غيره بصفة الصلاة الصحيحة المجزئة، وسيأتي مزيد توضيح لذلك. وقد احتج بعضهم لتوجه النفي إلى الكمال بما وقع عند الترمذي في هذه القصة من حديث رفاعة بلفظ: فعاف الناس وكبر عليهم أن يكون من أخف صلاته لم يصل، حتى قال - صلى الله عليه وسلم -: إذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك، وإن انتقصت منه شيئاً انتقصت من صلاتك. وكان هذا أهون عليهم من الأول أنه من انتقص من ذلك شيئاً انتقص من صلاته، ولم تذهب كلها. قالوا: والنقص لا يستلزم الفساد، وإلا لزم في ترك المندوبات؛ لأنها تنتقص بها الصلاة. وأيضاً كون هذه المقالة كانت أهون عليهم يدل على أن المراد بالنفي نفي الكمال؛ لأن قوله أولاً: "لم تصل" يوهم نفى الصلاة برأسها، وقوله ثانياً: "إن انتقصت منه شيئا" الخ. يدل على النقصان، وعدم ذهاب الصلاة كلها، ولذا كان أهون عليهم من الأول، لكنهم علموا وفهموا حينما سمعوا قوله الثاني أنه إنما أراد بنفي الصلاة في قوله الأول: "لم تصل" نفي الكمال لا نفي الذات والحقيقة أو الصحة. وأجيب بأن الانتقاص يستلزم الفساد وعدم الصحة؛ لأنا متعبدون بصلاة لا نقصان فيها، فالناقصة فاسدة غير صحيحة، ومن ادعى صحتها وعدم فسادها فعليه البيان. ولا نسلم أن ترك مندوبات الصلاة ومسنوناتها انتقاص منها؛ لأنها أمور خارجة عن ماهية الصلاة، فلا يراد الإلزام بها، وكونها تزيد في الثواب لا يستلزم أنها منها، كما أن الثياب الحسنة تزيد في جمال الذات وليست منها. والحجة في الذي جاءنا عن الشارع من قوله، وفعله، وتقريره، لا في فهم بعض الصحابة. سلمنا أن فهمهم حجة لكونهم أعرف بمقاصد الشرع، لكن لا دليل هنا على أنهم فهموا حين سمعوا قوله الثاني نفي الكمال، وإنما كان قوله الثاني أهون عليهم من جهة أن من أتى ببعض واجبات الصلاة فقد فعل خيراً من قيام وذكر وتلاوة، وإنما يؤمر بالإعادة لدفع عقوبة ما ترك، وترك الواجب سبب للعقاب، فإذا كان يعاقب بسبب ترك البعض يلزمه أن يفعله إن أمكن فعله وحده، وإلا فعله مع غيره، والصلاة لا يمكن فعل المتروك منها إلا بفعل جميعها. وقال ابن تيمية: من قال: إن هذا لنفي الكمال قيل: إن أردت الكمال المستحب، فهذا باطل لوجهين: أحدهما: أن هذا لا يوجد قط في لفظ الشارع أنه ينفي عملاً فعله العبد على الوجه الذي وجب عليه، ثم ينفيه لترك المستحبات، بل الشارع لا ينفي عملاً إلا إذا لم يفعله العبد كما وجب عليه. والثاني: لو نفى لترك مستحب لكان عامة الناس لا صلاة لهم ولا صيام، فإن الكمال المستحب متفاوت، إذ كل من لم يكملها كتكميل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقال: لا صلاة له- انتهى. واستدل بقوله: "صل فإنك

لم تصل" للشافعي وأبي يوسف والجمهور على أن تعديل الأركان والطمأنينة فيها فرض. قالوا: إن قوله هذا صريح في كون التعديل من الأركان بحيث أن فوته يفوت الصلاة، وإلا لم يقل: "لم تصل" فإن من المعلوم أن خلاد بن رافع لم يكن ترك ركناً من الأركان المشهورة، إنما ترك التعديل والاطمئنان كما يدل عليه رواية ابن أبي شيبة، فعلم أن تركه مبطل للصلاة. قلت: الحديث فيه رد صريح على أبي حنيفة ومحمد، فإن المشهور من مذهبهما أن تعديل الأركان ليس بفرض بل هو واجب، واستدل لهما بقوله تعالى: {اركعوا واسجدوا} [77: 22] بأن الركوع والسجود لفظ خاص معناه معلوم، فالركوع هو الانحناء، والسجود هو وضع الجبهة على الأرض، فمطلق الميلان عن الاستواء، ووضع الجبهة على الأرض فرض بالآية المذكورة، وفرضية التعديل الثابتة بقوله - عليه السلام -: "لم تصل" لا يجوز إلحاقها بالقرآن لا على سبيل البيان، ولا على سبيل تغيير إطلاق القرآن. أما الأول فلأن البيان لا يكون إلا للمجمل، ولا إجمال في الركوع والسجود، وأما الثاني فلأن تغير إطلاق القرآن نسخ، وهو لا يجوز بالخبر الواحد، ولما لم يجز إلحاق ما ثبت بهذا الحديث بالثابت بالقرآن في مرتبته ولم يمكن ترك خبر الواحد بالكلية أيضاً فقلنا: ما ثبت بالكتاب- وهو مطلق الركوع والسجود- يكون فرضاً؛ لأنه قطعي، وما ثبت بهذا الخبر الظني الثبوت يكون واجباً مراعاة لمنزلة كل من الكتاب والسنة. ورد هذا الاستدلال بأن النص ليس بمطلق بل مجمل، فإن المراد بالركوع والسجود في الآية المذكورة معناهما الشرعي؛ لأنه قد تقرر أن أمثال هذه الألفاظ في النصوص يجب حملها على معانيها الشرعية إلا أن يمنع مانع، ولا مانع ههنا، ولأن من وضع الجبهة إلى غير القبلة أو على غير الوضوء فهو ساجد لغة، وليست هذه السجدة معتبرة في الشرع. ومعنى الركوع والسجود الشرعي غير معلوم، فهو محتاج إلى البيان، فحديث أبي هريرة وما وافقه بيان لذلك النص المجمل، وبيان الفرض المجمل يجوز بخبر الواحد، أي يكون فرضاً في مرتبة المجمل. قال الشيخ عبد الحليم اللكنوي الحنفي في حاشية نور الأنوار بعد ذكر نحو ما قدمنا من تقرير استدلال الحنفية: ولو سلمنا أن النص مطلق فنقول إن هذا الحديث ليس بخبر الواحد، بل هو حديث مشهور، تلقاه الأمة بالقبول، ورواه أئمة الحديث بأسانيد كثيرة، والزيادة على الكتاب بالخبر المشهور جائزة- انتهى. وقال بعد ذكر حديث أبي هريرة: هذا الحديث دال على أن تعديل الركوع والسجود فرض، والقومة والجلسة ركنان، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفى الصلاة بفواتها. وإن زللت بما قال بعض السابقين، من أن في آخر الحديث المذكور- يعني حديث رفاعة- زيادة تدل على توقف صحة الصلاة عليها، وهو قوله - عليه السلام -: فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك، وإن انتقصت منه شيئاً انتقصت من صلاتك، فسماها- عليه السلام -صلاة، والباطلة ليست بصلاة، وأيضاً وصفها بالنقص، والباطلة إنما توصف بالانعدام، فعلم أن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإعادة إنما كان لتقع الصلاة على غير كراهة لا لفساد صلاة ذلك الرجل، ثبتك أن معنى هذه الزيادة: إن فعلت ما بينت من التعديل على الكمال فقد صليت صلاة تامة، وإن نقصت من التعديل شيئاً من النقصان مع بقاء أصل التعديل- كما يدل عليه لفظ نقصت- فقد نقصت من صلاتك بقدر نقصان التعديل. فالإخلال بالتعديل رأساً يوجب الفساد. فإن غلب عليك جنود الوهم بأن القومة والجلسة

فرجع فصلى، ثم جاء، فسلم. فقال: وعليك السلام، ارجع فصل فإنك لم تصل. فقال في الثالثة- أو في التي بعدها- علمني يا رسول الله! ـــــــــــــــــــــــــــــ ليستا بمقصودتين، وإنما شرعتا للفصل بين الركوع والسجود، وبين السجدتين، فلا يكونان ركنين، بل الركن هو المقصود وهو الركوع والسجود، فعارضها بعسكر الفكر بأن هذا رأي في مقابلة النص المذكور فلا يسمع. كذا أفاد بحر العلوم أنار الله برهانه- انتهى كلام الشيخ عبد الحليم اللكنوي. وما نقله عن بعض السابقين قد رده أيضاً العيني بأن للخصم أن يقول: إنما سماه صلاته بحسب زعم المصلي، كما تدل عليه الإضافة، على أنه ورد في بعض الروايات: "وما نقصت شيئاً من ذلك" أي مما ذكر سابقاً، ومنه الركوع والسجود أيضًا، فيلزم أن تسمى ما لا ركوع فيه أو لا سجود فيه أيضاً صلاة بعين التقرير المذكور وإذ ليس فليس- انتهى. وقال بعض الحنفية في الجواب عن حديث أبي هريرة: إن هذا الحديث لا يدل على فرضية التعديل، بل يدل على عدم فرضيته؛ لأنه- عليه السلام - ترك الأعرابي حتى فرغ عن صلاته، ولو كان ما تركه ركناً لفسدت صلاته، فكان المضي يعد ذلك من الأعرابي عبثاً، فلا يحل له - صلى الله عليه وسلم - أن يتركه، فكان تركه دلالة منه أن صلاته جائزة إلا أنه ترك الإكمال فأمره بالإعادة زجراً عن هذه العادة. ورده العيني في البناية بأن للخصم أن يقول: كانت صلاته فاسدة ولذا أمر بالإعادة، وقال له: "لم تصل" وإنما تركه عليه لأنه ربما يهتدي إلى الصلاة الصحيحة، ولم ينكر عليه لأنه كان من أهل البادية كما شهدت به رواية الترمذي بلفظ: "إذ جاء رجل كالبدوي"، ومن المعلوم أن أهل البادية لهم جفاء وغلظ، فلو أمره ابتداء لكان يقع في خاطره شيء، وكان المقام مقام التعليم، وبالجملة لا دلالة لعدم إنكاره - عليه الصلاة والسلام - على صلاته ابتداء، وأمره بالإعادة، على ما ادعوه- انتهى. فإذا عرفت هذا كله ظهر لك أن ما ذهب إليه الجمهور هو الحق. وما ذهب إليه الحنفية ليس لهم عليه دليل صحيح، بل حديث أبي هريرة حجة صريحة عليهم. (فقال في الثالثة أو في التي بعدها) أي في المرتبة الرابعة. وفي رواية فقال في الثانية أو الثالثة، وفي أخرى ثلاثاً أي ثلاث مرات. وهذه الرواية أرجح لعدم الشك فيها. (علمني يا رسول الله) وفي رواية: والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني. وتوقف - صلى الله عليه وسلم - في التعليم إلى أن يسأل هو ليكون أوقع عنده، بخلاف ما لو بدأ به، وقيل: أعرض عنه أولاً لأنه أعرض عن السؤال، فكأنه عد نفسه عالماً فعامله زجراً وتأديباً له، وإرشاد إلى أنه كان اللائق به الرجوع إلى السؤال واستكشاف ما استبهم عليه، ولذا لما سأل وقال: لا أحسن، علمه، وبالجملة فليس فيه تأخير البيان عن وقت الحاجة بل تأخيره إلى وقت إظهار الحاجة ليكون أنفع. واستشكل تقريره- عليه السلام - على صلاته وهي فاسدة ثلاث مرات على القول بأن النفي للصحة، وأجيب بأنه أراد استدراجه بفعل ما جهله مرات لاحتمال أن يكون فعله ناسياً أو غافلاً، فيتذكر فيفعله من غير تعليم، فليس من باب التقرير على الخطأ بل من باب تحقق الخطأ، ويحتمل أن يكون ترديده لتفخيم الأمر وتعظيمه عليه، ورأى أن الوقت لم يفته فرأى إيقاظ الفطنة للمتروك. وقال ابن دقيق العيد: التقرير

فقال: إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة، فكبر، ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن ـــــــــــــــــــــــــــــ ليس بدليل على الجواز مطلقاً، بل لا بد من انتفاء الموانع وزيادة قبول المتعلم لما يلقى إليه بعد تكرار فعله واستجماع نفسه وتوجه سؤاله مصلحة مانعة من وجوب المبادرة إلى التعليم لا سيما مع عدم خوف الفوت، إما بناء على ظاهر الحال أو بوحي خاص. (ثم استقبل القبلة) فيه دليل على وجوب استقبال القبلة، وهو إجماع المسلمين إلا في حالة العجز، أو في الخوف عند التحام القتال، أو في صلاة التطوع، وقد دل على وجوبه القرآن والسنة المتواترة. (فكبر) أي تكبيرة الإحرام. وفي رواية الطبراني لحديث رفاعة: ثم يقول"الله أكبر". وهي تبين أن المراد من التكبير خصوص هذا اللفظ، فلا يصح افتتاح الصلاة إلا بلفظ الله أكبر دون غيره من الأذكار، خلافاً لأبي حنيفة فإنه يقول: يجزئ بكل لفظ يدل على التعظيم، وهذا نظر منه إلى المعنى، وأن المقصود التعظيم فيحصل بكل ما دل عليه. والحق ما ذهب إليه مالك وأحمد من تعيين التكبير وتخصيص لفظ الله أكبر. قال ابن دقيق العيد: ظاهر الحديث يعين التكبير، ويتأيد ذلك بأن العبادات محل التعبدات، ويكثر ذلك فيها، فالاحتياط فيها إتباع اللفظ. وأيضاً فالخصوص قد يكون مطلوبا أعني خصوص التعظيم بلفظ الله أكبر، وهذا لأن رتب هذه الأذكار مختلفة كما تدل عليه الأحاديث فقد لا يتأدى برتبة ما يقصد من أخرى، ونظيره الركوع، فإنا نفهم أن المقصود منه التعظيم بالخضوع، ولو أقام مقامه خضوعاً آخر لم يكتف به، ويتأيد هذا باستمرار العمل من الأمة على الدخول في الصلاة بهذه اللفظة أعني الله أكبر. (ثم اقرأ بما تيسر) أي لك حال كونه (معك) وقال الأبهرى: الباء للاستعانة أي أوجد القراءة مستعيناً بما تيسر، أو زائدة، ويؤيده رواية البخاري "ما تيسر" بدون الباء (من القرآن) استدل بالحديث على عدم فرضية الفاتحة إذ لو كانت فرضاً لأمره، لأن المقام مقام التعليم فلا يجوز تأخير البيان. وأجيب عنه بأنه قد أمره - صلى الله عليه وسلم - بقراءة الفاتحة، ففي حديث رفاعة عند أبي داود: ثم اقرأ بأم القرآن وبما شاء الله أن تقرأ. وعند أحمد وابن حبان: "اقرأ بأم القران ثم اقرأ بما شئت". وقد تقرر أنه يؤخذ بالزائد إذا جمعت طرق الحديث، ويقال: إن الراوي حيث قال ما تيسر ولم يذكر الفاتحة ذهل عنها، لكنه يلزم حينئذٍ إخراج صيغة الأمر عن ظاهرها؛ لأنه لا يجب قراءة ما زاد على الفاتحة. وقيل: قوله: "ما تيسر" عام يخصص بقوله: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب"، ولا يخفى بعده لأن سياق الكلام يقتضى تيسير الأمر عليه، وإنما يقرب هذا إذا جعلت ما بمعنى الذي، وأريد بها شيء معين، وهو الفاتحة لكثرة حفظ المسلمين لها فهي المتيسرة. وقيل: هو محمول على أنه عرف من حال الرجل أنه لا يحفظ الفاتحة، ومن كان كذلك كان الواجب عليه قراءة ما تيسر، ولا يخفى ضعفه لكنه محتمل، ومع الاحتمال لا يترك الصريح، وهو قوله: "لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب". وقيل: الحديث لا يصرف ما ورد في غيره من الأدلة المقتضية لفرضية الفاتحة؛ لأنه يؤخذ بالزائد فالزائد من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال الخطابي:

ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تستوي قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ ظاهره الإطلاق والتخيير، والمراد منه فاتحة الكتاب لمن أحسنها لا يجزيه غيرها بدليل قوله: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب"، وهذا في الإطلاق كقوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} [2: 196] ثم كان أقل ما يجزئ من الهدي معيناً معلوم المقدار ببيان السنة وهو الشاة - انتهى. وقال صاحب فيض الباري (ج2: ص299) : تمسك الحنفية به على عدم ركنية الفاتحة ليس بصحيح، لأن الفاتحة وإن لم تكن ركناً لكنها واجبة عندنا أيضاً، والسياق سياق التعليم، فلو فرضنا أنه لم يعلمه الفاتحة يلزم درج كراهية التحريم في سياق التعليم، ولا يجوز أصلاً مع أنها مذكورة في حديث رفاعة صراحة، وإن كانت مجملة في حديث أبي هريرة. ثم أقول: إن قوله هذا كان لكون الرجل بدوياً أعرابياً لا يدري أنه كان عنده شيء من القرآن أم لا، وحينئذٍ ينبغي أن يكون التعبير هكذا، ولذا قال: وإلا فاحمد الله وكبره، فدل على أنه كان ممن لا يستبعد منه أن لا يكون عنده قرآن أصلاً. وإذا لا يلائمه أن يأمره بالفاتحة والسورة تفصيلاً، وإنما أليق بحالة الإجمال فيقرأ بما يقدر. (ثم اركع حتى تطمئن راكعاً) حال مؤكدة، وقيل مقيدة. وفيه دليل على ما ذهب إليه الشافعي وأبويوسف من افتراض الطمأنينية في الركوع وهو الحق. (ثم ارفع) أي رأسك (حتى تستوي) أى تعتدل (قائماً) في رواية ابن ماجه: حتى تطمئن قائماً. وهي على شرط مسلم، وقد أخرجها السراج أيضاً بإسناد على شرط البخاري، فهي على شرط الشيخين، وهذه الروايات تدل على افتراض رفع الرأس من الركوع، وعلى افتراض الاستواء أي الاعتدال في الرفع، وعلى افتراض الاطمئنان في القومة، أي عند الاعتدال من الركوع، وإليه ذهب الشافعي وأبويوسف، وهو الصواب (ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً) فيه دليل على فرضية الطمأنينة في السجود، وقد فصلتها رواية النسائي من حديث رفاعة بلفظ: ثم يكبر ويسجد حتى يمكن وجهه وجبهته حتى تطمئن مفاصله وتسترخي. (ثم ارفع) أي رأسك من السجود (حتى تطمئن جالساً) أي بعد السجدة الأولى، وهي حال مؤسسة. وفيه دليل على افتراض القعود بين السجدتين. وفي رواية النسائي المذكورة: "ثم يكبر فيرفع رأسه حتى يستوي قاعداً على مقعدته ويقيم صلبه". (ثم اسجد) أي الثانية (حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً) أي للاستراحة. قال الطيبي: كلمة حتى في هذه القرائن لغاية ما يتم به الركن، فدلت على أن الطمأنينة داخلة فيه، والمنصوب حال مؤكدة -انتهى. والحديث يدل آخره على إيجاب جلسة الاستراحة، ولكنه لم يقل به أحد على أنه قد أشار البخاري إلى أنه – أى قوله الأخير حتى تطمئن جالساً – وهم، فإنه عقبه بأن قال: قال أبوأسامة (حماد بن أسامة مما وصله في كتاب الأيمان والنذور) في (اللفظ) الأخير (وهو حتى تطمئن جالساً) حتى تستوي قائماً. وقال القسطلاني: أراد البخاري بهذه الإشارة إلى أن راوي الأولى- وهو ابن نمير – خولف، وأن الثانية عنده أرجح. وقال الحافظ: كلام البخاري

وفي رواية: ثم ارفع حتى تستوي قائماً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها)) متفق عليه. 797- (2) وعن عائشة، قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين. ـــــــــــــــــــــــــــــ ظاهر في أن أبا أسامة خالف ابن نمير، لكن رواه إسحاق بن راهوية في مسنده عن أبي أسامة، كما قال ابن نمير. وأخرجه البيهقي من طريقه، وقال: كذا قال إسحاق بن راهوية عن أبي أسامة. والصحيح رواية عبيد الله بن سعيد بن أبي قدامة، ويوسف بن موسى عن أبي أسامة بلفظ: "حتى تستوي قائما" –انتهى. وقال بعضهم: يمكن أن يحمل إن كان محفوظاً عل الجلوس للتشهد، ويؤيده رواية رفاعة عند أبي داود: فإذا جلست في وسط الصلاة فاطمئن جالساً، ثم افرش فخذك اليسرى ثم تشهد. قال الحافظ: المعتمد الترجيح كما أشار إليه البخاري، وصرح به البيهقي. (وفي رواية) أي للبخاري بدل قوله الأخير "ثم ارفع حتى تطمئن جالساً" (ثم ارفع حتى تستوي قائماً) قد تقدم آنفاً أن البخاري أشار إلى ترجيح هذه الرواية الثانية، والبيهقي صرح به. وسيأتي الكلام على جلسة الاستراحة. (ثم افعل ذلك) أي جميع ما ذكر من الأقوال والأفعال إلا تكبيرة الإحرام، فإنها مخصوصة بالركعة الأولى لما علم شرعاً من عدم تكرارها. وقيل: التقدير "ثم افعل ذلك" أي ما ذكر مما يمكن تكريره، فخرج نحو تكبيرة الإحرام. (في صلاتك) أي في ركعات صلاتك (كلها) فرضاً ونفلاً على اختلاف أوقاتها وأسمائها. وإنما لم يذكر له - صلى الله عليه وسلم - بقية الواجبات في الصلاة كالنية والقعود في التشهد الأخير؛ لأنه كان معلوماً عنده، أو لعل الراوي اختصر ذلك. وفيه دليل على وجوب قراءة الفاتحة في الأخريين أيضاً، وإليه ذهب ابن الهمام من الحنفية. قال ابن دقيق العيد: هذا يقتضي وجوب القراءة في جميع الركعات، وإذا ثبت أن الذي أمر به الأعرابي هو قراءة الفاتحة دل على وجوب قراءتها في كل الركعات-انتهى. واعلم أن هذا الحديث جليل يعرف بحديث المسيء صلاته، يشتمل على فوائد كثيرة. قال ابن العربي في شرح الترمذي: فيه أربعون مسألة، ثم سردها. وقد أطال غيره من الشراح أيضاً الكلام في شرحه كالشوكاني في النيل (ج2: ص157-161) والحافظ في الفتح (ج3: ص432-434) وابن دقيق العيد في إحكام الأحكام (ج2: ص2-12) والعيني في عمدة القاري (ج6: ص15-20) . (متفق عليه) واللفظ للبخاري في كتاب الاستئذان. وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه بألفاظ متقاربة. 797- قوله: (يستفتح الصلاة) أي يفتتحها (بالتكبير) أي يقول: الله أكبر، كما ورد بهذا اللفظ في الحلية لأبي نعيم. والمراد تكبيرة الإحرام. (والقراءة) بالنصب عطفاً على الصلاة (بالحمد) بالرفع على الحكاية وإظهار ألف الوصل، ويجوز حذف همزة الوصل، وكذا جر الدال على الإعراب، ذكره القاري (رب العالمين) أي يبتدئ القراءة بسورة الفاتحة

وكان إذا ركع لم يشخص رأسه، ولم يصوبه، ولكن بين ذلك. وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائماً. وكان إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي جالساً. وكان يقول في كل ركعتين التحية. وكان يفرش رجله اليسرى، وينصب رجله اليمنى. ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم يقرأ السورة، وذلك لا يمنع تقديم دعاء الاستفتاح، فإنه لا يسمى في العرف قراءة، ولا يدل على أن البسملة ليست من الفاتحة؛ لأن المراد أنه يبدأ بقراءة أم القرآن قبل ما يقرأ ما بعدها، لا أنه يبدأ في القراءة بلفظ "الحمد لله"، وبهذا ظهر الرد على من تمسك بالحديث على مشروعية ترك الجهر بالبسملة في الصلاة، فإن المراد بذلك كما قلنا اسم السورة، لكن نوقش ذلك بأنه لو كان المراد اسم السورة لقالت عائشة: بالحمد؛ لأنه وحده هو الاسم. ورد بما ثبت عند أبي داود من حديث أبي هريرة مرفوعاً: الحمد لله رب العالمين، أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني. وبما عند البخاري من حديث سعيد بن المعلى: الحمد لله رب العالمين، هي السبع المثاني. فهو ظاهر أو نص في أن الفاتحة تسمى بهذا المجموع الذي هو "الحمد لله رب العالمين"، ويمكن الجواب عن ذلك التمسك أيضاً بأنها ذكرت أول آية من الآيات التي تخص السورة وتركت البسملة؛ لأنها مشتركة بينها وبين غيرها من السور، وسيأتي مزيد الكلام في شرح حديث أنس في باب القراءة في الصلاة. (لم يشخص) من باب الإفعال أو التفعيل أي لم يرفع (ولم يصوبه) أي لم ينكسه من التصويب وهو الإنزال من أعلى إلى أسفل، ومنه الصيب المطر، صاب يصوب إذا نزل. أي لم يخفضه خفضاً بليغاً بل بين الخفض والرفع، وهو التسوية. (ولكن بين ذلك) أي بين المذكور من الإشخاص والتصويب، بحيث يستوي ظهره وعنقه كالصفحة الواحدة. (وكان إذا رفع رأسه من السجدة) أي الأولى، وفي بعض النسخ من السجود (لم يسجد) الثانية (حتى يستوي) أي يعتدل بين السجدتين (جالساً) تقدم الكلام على الجلوس بين السجدتين وكذا القومة. (وكان يقول في كل ركعتين) أي بعدهما (التحية) بالنصب. وقيل بالرفع، والمراد بها الثناء المعروف بالتحيات لله الآتي لفظه في حديث ابن مسعود، وسمى هذا الذكر تحية وتشهداً لاشتماله عليهما، أي على التحية وهو الثناء الحسن وعلى التشهد لاشتماله على الشهادتين، فهو من باب إطلاق اسم الجزء على الكل، وفيه مشروعية التشهد الأوسط والأخير، ولا يدل على الوجوب؛ لأنه فعل، إلا أن يقال: إنه بيان لإجمال الصلاة في القرآن المأمور بها وجوباً، والأفعال لبيان الواجب واجبة. أو يقال بإيجاب أفعال الصلاة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وفي الاستدلالين بحث بسطه ابن دقيق العيد فارجع إليه. واستدل على الوجوب أيضاً بقوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل التحيات لله-الحديث. والأمر للوجوب. (وكان يفرش) بكسر الراء وضمها (وينصب) بفتح الياء وكسر الصاد (رجله اليمنى) أي يضع أصابعها على الأرض ويرفع عقبها. واستدل به من قال بمشروعية النصب والفرش في التشهدين جميعاً. ووجهه الإطلاق وعدم التقييد في مقام التصدي لوصف صلاته - صلى الله عليه وسلم - لا سيما بعد وصفها للذكر المشروع في كل ركعتين، وتعقيب ذلك بذكر هيئة الجلوس، لكن حديث أبي حميد التالي قد فرق بين الجلوسين فجعل هذا صفة الجلوس بعد

وكان ينهى عن عقبة الشيطان، وينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع. وكان يختم الصلاة بالتسليم)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الركعتين الأوليين، وجعل صفة الجلوس الأخير تقديم رجله اليسرى ونصب اليمنى، والقعود على مقعدته. وللعلماء خلاف في ذلك سيأتي بيانه مع تحقيق الحق فيه. (عن عقبة الشيطان) بضم العين المهملة وسكون القاف فموحدة، فسرها أبوعبيد وغيره بالإقعاء المنهي عنه، وهو أن يلصق إليتيه بالأرض، وينصب ساقيه، ويضع يديه على الأرض كإقعاء الكلب. وتفسيرها بافتراش القدمين، والجلوس بالإليتين على العقبين غلط؛ لأنه سنة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - كما رواه مسلم. وقد اختاره العبادلة في القعود في غير الأخير. وسيأتي مزيد الكلام عليه إن شاء الله. (وينهى أن يفترش الرجل) أي في السجود. قال الطيبي: التقيد بالرجل يدل على أن المرأة تفترش (ذراعيه افتراش السبع) أي كافتراشه. فسر السبع بالكلب، وقد ورد في رواية بلفظه، وافتراش الكلب هو أن يضع ذراعيه على الأرض في السجود، ويفضي بمرفقه وكفه إلى الأرض، والسنة أن يرفع ذراعيه، ويكون الموضوع على الأرض كفيه فقط. نعم إن طول السجود فشق عليه اعتماد كفيه فله وضع ساعديه على الركبتين لخبر: شكا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشقة السجود عليهم، فقال: استعينوا بالركب. (وكان يختم الصلاة بالتسليم) أي تسليم الخروج. واستدل به على تعين التسليم للخروج من الصلاة اتباعاً للفعل المواظب عليه، واستدل على ذلك أيضاً بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "تحليلها التسليم"، فإن الإضافة تقتضي الحصر، فكأنه قال: جميع تحليلها التسليم. أي انحصرت صحة تحليلها في التسليم لا تحليل لها غيره، كقولهم: مال فلان الإبل، وعلم فلان النحو. وقال ابن العربي ما معناه: قوله: "تحليلها التسليم" يقتضي حصر الخروج عن الصلاة على التسليم دون غيره من سائر الأفعال والأقوال المناقضة للصلاة؛ لأنه ذكره بالألف واللام الذي هو باب شأنه التعريف كالإضافة، وحقيقة الألف واللام إيجاب الحكم لما ذكر، ونفيه عما لم يذكر، وسلبه عنه، وعبر عنه بعضهم بأنه الحصر، وأبوحنيفة يخالف فيه حيث يرى الخروج منها بكل فعل وقول يضاد كالحدث ونحوه حملاً على السلام وقياساً عليه، وهذا يقتضي إبطال الحصر-انتهى (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود. والحديث له علة، وهي أنه أخرج مسلم من رواية أبي الجوزاء-بالجيم والزاي- عن عائشة، قال ابن عبد البر: لم يسمع منها، وحديثه عنها مرسل- انتهى. وأبو الجوزاء هذا اسمه أوس بن عبد الله الربعي البصري، وهو قد عاصر عائشة فأخرج مسلم حديثه في صحيحه بناء على مذهبه من أن المعنعن محمول على الاتصال والسماع إذا أمكن لقاء من أضيفت إليه العنعنة. قال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج1: ص384) : قال البخاري: في إسناده نظر، يريد أنه لم يسمع من مثل ابن مسعود وعائشة وغيرهما، لا أنه ضعيف عنده وأحاديثه مستقيمة، قال: حديثه عن عائشة في الافتتاح بالتكبير عند مسلم، وذكر ابن عبد البر في التمهيد أيضاً أنه لم يسمع منها. وقال جعفر الفريابي في كتاب الصلاة: ثنا مزاحم بن سعيد: ثنا ابن المبارك: ثنا إبراهيم بن طهمان: ثنا بديل العقيلي، عن أبي الجوزاء، قال: أرسلت رسولاً إلى عائشة يسألها_

798- (3) وعن أبي حميد الساعدي، قال في نفر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا أحفظكم لصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رأيته إذا كبر جعل يديه ـــــــــــــــــــــــــــــ فذكر الحديث. فهذا ظاهر أنه لم يشافهها، لكن لا مانع من جواز كونه توجه إليها بعد ذلك فشافهها على مذهب مسلم في إمكان اللقاء. والله أعلم – انتهى. وقال في جامع الأصول: أبوالجوزاء سمع من عائشة، فارتفعت العلة رأساً. 798- قوله: (وعن أبي حميد) بضم الحاء وفتح الميم، قيل: اسمه عبد الرحمن، وقيل: عمرو. وقيل: المنذر بن سعد بن المنذر. وقيل: اسم جده مالك، الأنصاري الخزرجي المدني، غلبت عليه كنيته، صحابي مشهور، شهد أحداً وما بعدها، وعاش إلى خلافة يزيد سنة (60) ، قال الواقدي: توفي في آخر خلافة معاوية أو أول خلافة يزيد. له ستة وعشرون حديثاً، اتفقا على ثلاثة، وانفرد كل منهما بحديث، روى عنه جماعة. (الساعدي) منسوب إلى ساعدة، وهو أبوالخزرج. (قال في نفر) أي وهو في جماعة، والنفر-بفتحتين-اسم جمع يقع على الرجال خاصة ما بين الثلاثة إلى العشرة، ولا واحد له من لفظه. وكانوا عشرة كما يدل عليه الرواية الآتية. (من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) كلمة من في محل الحال من نفر، أي حال كونهم من أصحابه، منهم أبوقتادة بن ربعي، وأبو أسيد الساعدي، وسهل بن سعد، ومحمد بن مسلمة، وأبوهريرة. (أنا أحفظكم) أي أكثركم حفظاً (لصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) كأنه أخذ ذلك من شدة رقوبه، وكثرة إتباعه، ومزيد اعتنائه، إذا المعتني قد يحفظ أكثر من غير المعتني وإن كان في الصحبة سواء. (إذا كبر) أي أراد أن يكبر، فيدل على تقديم الرفع على التكبير، أو إذا شرع في التكبير، وهو الموافق لحديث ابن عمر الآتي: كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، فإن المتبادر منه مقارنة الرفع للتكبير، ويؤيده أيضاً ما في رواية أخرى له: "يرفع يديه حين يكبر". (جعل يديه) أي رفع. كما صرحت به بقية الروايات. أي شرع في رفع يديه، فيدل على أن رفع اليدين مقارن للتكبير. وقد ورد تقديم الرفع على التكبير وعكسه، أخرجهما مسلم، ففي رواية له من حديث ابن عمر الآتي بلفظ: "رفع يديه ثم كبر"، وفي حديث مالك بن الحويرث عنده: "كبر ثم رفع يديه"، وفي ترجيح المقارنة وتقديم الرفع على التكبير خلاف بين العلماء، والمرجح عندي المقارنة، وهو الأصح عند الشافعية والمالكية والحنابلة لحديث وائل بن حجر عند أبي داود بلفظ: "رفع يديه مع التكبير"، وقضية المعية أن ينتهي بانتهائه، ولم يقل أحد بتقديم التكبير على الرفع، والمرجح عند الحنفية تقديم الرفع لحديث ابن عمر عند مسلم، ولحديث أبي حميد الآتي، ولأن الرفع نفي صفة الكبرياء عن غير الله، والتكبير إثبات ذلك، والنفي سابق على الإثبات كما في كلمة الشهادة، وهذا مبني على أن الحكمة في الرفع ما ذكر، وقد قال فريق من العلماء: الحكمة في اقترانهما أن يراه الأصم، ويسمع التكبير الأعمى، فيعلمان دخوله في الصلاة، وقد ذكرت للرفع مناسبات أخرى: فقيل الإشارة إلى طرح الدنيا والإقبال بكليته على العبادة. وقيل: إلى الاستسلام والانقياد، وليناسب فعله قوله: "الله أكبر". وقيل:

حذاء منكبيه، وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه، ثم هصر ظهره، ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى رفع الحجاب بين العبد والمعبود. وقيل غير ذلك. ثم إن الرفع عند تكبيرة الإحرام سنة عند الجمهور، وليس بواجب لعدم ذكره في حديث المسيء، وفرض عند ابن حزم، لا تجزئ الصلاة إلا به. وروي ذلك عن الأوزاعي. وقال الزرقاني: روي الوجوب عن الحميدى، وابن خزيمة، وداود، وبعض المالكية والشافعية. (حذاء منكبيه) بكسر الحاء، أي مقابلهما. والمنكب- بفتح الميم وكسر الكاف- مجمع رأس عظم الكتف والعضد، وبهذا أخذ الشافعي والجمهور خلافاً للحنفية حيث أخذوا بحديث مالك بن الحويرث الآتي بعد حديثين، وهو من إفراد مسلم، وبحديث وائل ابن حجر عند أبي داود بلفظ: "حتى حاذتا أذنيه". ورجح الأول لكون إسناده أصح وأثبت؛ لأنه متفق عليه. وروي عن الشافعي أنه جمع بينهما، فقال: يرفع يديه حذو منكبيه بحيث يحاذى أطراف أصابعه فروع أذنيه، وإبهاماه شحمة أذنيه، وراحتاه منكبيه. ويؤيده الرواية الآتية في الفصل الثاني عن وائل. واختاره ابن الهمام حيث قال: لا تعارض بين الروايتين، فإن محاذاة الشحمتين بالإبهامين تسوغ حكاية محاذاة اليدين بالمنكبين؛ لأن طرف الكف مع الرسغ يحاذى المنكب أو يقاربه، فالذي نص على محاذاة الإبهامين بالشحمتين وفق في التحقيق بين الروايتين فوجب اعتباره - انتهى. قلت: وقد استحب الحنفية شيئاً من المبالغة في الرفع حتى قيدوا مس الإبهامين بشحمتي الأذنين لتحقيق المحاذاة، ولا دليل عليه لا من سنة، ولا من قول صحابي، ولا من قياس. وجمع بعض العلماء بأن حديث المنكبين محمول على الشتاء، وعليهم الأكسية والبرانس كما أخرجه أبوداود من حديث وائل بن حجر قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - حين افتتح الصلاة رفع يديه حيال أذنيه قال: ثم أتيتهم فرأيتهم يرفعون أيديهم إلى صدورهم في افتتاح الصلاة وعليهم برانس وأكسية. وعليه حمله الطحاوي في شرح معاني الآثار. قلت: في الاستدلال بهذا الحديث على الجمع المذكور كلام، فإن مداره على شريك القاضي وقد تغير حفظه لما ولى القضاء, وقد تفرد هو بذكر لفظ "إلى صدورهم"، وخالف الثقات الحفاظ كزائدة وسفيان، ولم يرض العيني بهذا الجمع، وعده من التكلفات كما صرح به في البناية. وقيل: لا اختلاف بينهما لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل كلا الأمرين في أوقات مختلفة، فالرجل مخير بينهما. قال السندي: لا تناقض بين الأفعال المختلفة لجواز وقوع الكل في أوقات متعددة، فيكون الكل مستنداً إلا إذا دل الدليل على نسخ البعض، فلا منافاة بين الرفع إلى المنكبين، أو إلى شحمتي الأذنين، أو إلى فروع الأذنين أي أعاليهما. وقد ذكر بعض العلماء في التوفيق بسطاً لا حاجة إليه لكون التوفيق فرع التعارض، ولا يظهر التعارض أصلاً- انتهى. (أمكن يديه من ركبتيه) في المغرّب يقال: مكنه من الشيء وأمكنه فيه أقدره عليه، والمعنى مكنهما من أخذها والقبض عليهما (ثم هصر ظهره) بالهاء والصاد المهملتين المفتوحتين، أي أماله وثناه في استواء من رقبته ومتن ظهره من غير تقويس. وأصل الهصر أن تأخذ برأس العود فتثنيه إليك وتعطفه. قال الخطابي في المعالم (ج1:

فإذا رفع رأسه استوى حتى يعود كل فقار مكانه، فإذا سجد وضع يديه غير مفترش ولا قابضهما، واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة، فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى، فإذا جلس في الركعة الآخرة قدم رجله اليسرى ونصب الأخرى، وقعد على مقعدته)) ـــــــــــــــــــــــــــــ ص195) : معناه ثنى ظهره وخفضه. وأصل الهصر أن يأخذ بطرف الشيء ثم يجذبه إليه كالغصن من الشجرة ونحوه فينهصر أي ينكسر من غير بينونة- انتهى. زاد في رواية أبي داود: "غير مقنع رأسه ولا صافح بخده" أي غير مبرز صفحة خده مائلاً إلى أحد الشقين. (فإذا رفع رأسه) أي من الركوع (استوى) أي قائماً معتدلاً (حتى يعود كل فقار مكانه) بفتح الفاء والقاف آخره راء جمع فقارة، واستعمل الفقار للواحد تجوزاً وهي عظام الظهر، وهي العظام المنظمة التي يقال لها خرز الظهر، قاله القزاز. وفي المحكم: هي ما انتضد من عظام الصلب من لدن الكاهل إلى العجب. والمراد بذلك كمال الاعتدال. (فإذا سجد وضع يديه) حذاء منكبيه أي قبل وضع ركبتيه (غير مفترش) أي ساعديه أو ذراعيه كافتراش السبع، وغير حامل بطنه على شيء من فخذيه. وهو منصوب على الحال، يعني غير واضع مرفقيه على الأرض. (ولا قابضهما) بالجر أي ولا قابض يديه. أراد أن لا يضم الذراعين والعضدين إلى الجنبين بل يجافيهما معتمداً على راحتيه. (واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة) قال النووي: ولا يحصل توجيهاً للقبلة إلا أن يكون معتمداً على بطونها، ووضعها من غير تحامل عليها مخالف للحديث. (فإذا جلس) للتشهد (في الركعتين) أي عقب الأوليين (جلس على رجله اليسرى، ونصب اليمنى) هذا هو الافتراش. (فإذا جلس في الركعة الآخرة) للتشهد الأخير (قدم رجله اليسرى) أي أخرجها من تحت وركه إلى جانب الأيمن. (ونصب الأخرى) أي اليمنى (وقعد على مقعدته) اليسرى، وهذا هو التورك وفي ذكره كيفية الجلوسين- الجلوس الأوسط والأخير- دليل على تغايرهما، وأنه في الجلسة الأخيرة يتورك، أي يفضي بوركه اليسرى إلى الأرض، وينصب رجله اليمنى. وبهذا الحديث عمل الشافعي ومن وافقه، وألحق هو بالتشهد الأول الجلسات الفاصلة بين السجدات؛ لأنه يعقبها انتقالات، والانتقال من المفترش أيسر. وقد قيل في الحكمة في التغاير بين الجلوسين- الأوسط والأخير- أنه أقرب إلى عدم اشتباه عدد الركعات، فإن المخالفة في الهيئة قد تكون سبباً للتذكر عند الشك في كونه في التشهد الأول أو في التشهد الأخير، ولأن الأول تعقبه الحركات بخلاف الثاني، يعني أن الافتراش هيئة استيفاز فناسب أن تكون في التشهد الأول؛ لأن المصلي مستوفز للقيام للركعة الثالثة، والتورك هيئة اطمينان فناسب الأخير، ولأن المسبوق إذا رآه علم قدر ما سبق به. وعند الحنفية يفترش في الكل. وعند المالكية يتورك في الكل. والمشهور عن أحمد اختصاص التورك بالصلاة التي فيها تشهدان. واستدل الحنفية بحديث عائشة السابق. والجواب أنه محمول على التشهد الأول جمعاً بين الأحاديث، وأما قول ابن التركماني: بأن إطلاقه يدل على أن ذلك كان في التشهدين بل هو في قوة قولها "وكان يفعل ذلك في التشهدين" إذ قولها أولاً: "وكان يقول في كل ركعتين التحية" يدل على هذا التقدير.

رواه البخاري. 798- (4) وعن ابن عمر: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع ـــــــــــــــــــــــــــــ ففيه أن إطلاقه وإن كان يدل على ما قال، لكن حمله على التشهد الأول متعين جمعاً بين الأحاديث. على أن حديث أبي حميد نص صريح في ثبوت التورك في التشهد الأخير، وحديث عائشة ليست بنص في نفيه بل غاية ما يقال فيه: أنه يدل بظاهره على نفي التورك. وقد تقرر في مقره أن النص يقدم على الظاهر عند التعارض. واستدلوا أيضاً بأحاديث ذكرها الشيخ عبد الحي اللكنوي الحنفي في تعليقه على موطأ الإمام محمد. وقال بعد ذكرها: لا يخفى على الفطن أن هذه الأخبار وأمثالها لا تدل على مذهبنا صريحاً، بل تحتمله وغيره. وما كان منها دالاً صريحاً لا يدل على كونه في جميع القعدات على ما هو المدعى. والإنصاف أنه لم يوجد حديث يدل صريحاً على استنان الجلوس على الرجل اليسرى في القعدة الأخيرة. وحديث أبي حميد مفصل فليحمل لمبهم على المفصل- انتهى. واستدل لما ذهب إليه مالك بما رواه هو في موطأه عن يحيى بن سعيد، أن القاسم بن محمد أراهم الجلوس في التشهد، فنصب رجله اليمنى وثنى رجله اليسرى، وجلس على وركه الأيسر، ولم يجلس على قدمه، ثم قال: أراني هذا عبيد الله بن عبد الله بن عمر، وحدثني أن أباه كان يفعل ذلك. والجواب أن هذا معارض بما رواه النسائي من طريق عمرو بن الحارث، عن يحيى بن سعيد، أن القاسم حدثه عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه قال: "من سنة الصلاة أن ينصب اليمنى، ويجلس على اليسرى"، فيحمل ما رواه مالك على التشهد الأخير، وما رواه النسائي على التشهد الأول دفعاً للتعارض بين قول ابن عمر وفعله. والتربع غير التورك، وكان ابن عمر يتربع في بعض الأحيان للعذر، وكان ينكر على ابنه عبد الله التربع؛ لأنه لم يكن معذوراً، ولم يثبت عن ابن عمر إنكار التورك أبداً. والحاصل أنه ليس نص صريح فيما ذهب إليه أبوحنيفة ومالك، فالقول الراجح هو ما ذهب إليه الشافعي. واعلم أنه أجاب الحنفية عن حديث أبي حميد بأنه ضعفه الطحاوي، أو يحمل على الكبر. وقد رده الحافظ في الدراية، قال: أما تضعيف الطحاوي فمذكور في شرحه بما لا يلتفت إليه، وأما الحمل فلا يصح، لأن أبا حميد وصف صلاته التي واظب عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووافقه عشرة من الصحابة، ولم يخصوا ذلك بحال الكبر، والعبرة بعموم اللفظ، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني أصلي" انتهى. وقال الشيخ عبد الحي في التعليق الممجد: حمل أصحابنا هذا على العذر، وعلى بيان الجواز، وهو حمل يحتاج إلى دليل. ومال الطحاوي إلى تضعيفه، وتعقبه البيهقي وغيره في ذلك بما لا مزيد عليه- انتهى. (رواه البخاري) وأخرجه أحمد والترمذي وأبوداود وابن ماجه بلفظ أبسط من هذا كما سيأتي. 799- قوله: (كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع

رفعهما كذلك، ـــــــــــــــــــــــــــــ رفعهما كذلك) أي حذو منكبيه. وهذا دليل صريح على أن رفع اليدين في هذه المواضع سنة، وهو الحق والصواب، ونقل البخاري في صحيحه عقب ابن عمر هذا عن شيخه على بن المديني أنه قال: حق على المسلمين أن يرفعوا أيديهم عند الركوع والرفع منه؛ لحديث ابن عمر هذا. وهذا في رواية ابن العساكر وقد ذكره البخاري في جزء رفع اليدين، وزاد: "وكان أعلم أهل زمانه"-انتهى. قلت: وإليه ذهب عامة أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين وغيرهم. قال محمد بن نصر المروزي: أجمع علماء الأمصار على مشروعية ذلك إلا أهل الكوفة. وقال البخاري في جزء رفع اليدين: قال الحسن وحميد بن هلال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرفعون أيديهم في الصلاة. وروى ابن عبد البر بسنده عن الحسن البصري، قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرفعون أيديهم في الصلاة إذا ركعوا وإذا رفعوا كأنها المراوح. وروى البخاري عن حميد بن هلال، قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأنما أيديهم المراوح، يرفعونها إذا ركعوا وإذا رفعوا رؤوسهم. قال البخاري: ولم يستثن الحسن أحداً منهم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - دون أحد، ولم يثبت عند أهل العلم عن أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يرفع يديه. ثم ذكر البخاري عن عدة من علماء أهل مكة، وأهل الحجاز وأهل العراق والشام والبصرة واليمن وعدة من أهل الخرسان، وعامة أصحاب ابن المبارك ومحدثي أهل بخارى، وغيرهم ممن لا يحصى أنهم كانوا يرفعون أيدهم عند الركوع والرفع منه، لا اختلاف بينهم في ذلك. قلت: قول الحسن، وحميد بن هلال يدل على أن الصحابة أجمعوا على رفع اليدين عند الركوع، وعند الرفع منه، كيف لا وقد صح الرفع فيهما عن أبي بكر وعمر وعلي من الخلفاء الراشدين، ثم عن غيرهم من الصحابة، ثم عن التابعين، وهو أيضاً مذهب الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد. قال الترمذي في جامعه: وبه يقول: مالك ومعمر والأوزاعي وابن عيينة وعبد الله بن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق- انتهى. وقال الشعراني في ميزانه (ج1: ص129) : ومن ذلك قول مالك والشافعي وأحمد باستحباب رفع اليدين في التكبيرات والرفع منه- انتهى. وقال ابن عبد البر: لم يرو أحد عن مالك ترك الرفع فيهما- يعني في الركوع والرفع منه- إلا ابن القاسم، والذي نأخذ به الرفع حديث ابن عمر، وهو الذي رواه ابن وهب وغيره عن مالك، ولم يحك الترمذي عن مالك غيره، ونقل الخطابي وتبعه القرطبي في المفهم: أنه آخر قولي مالك وأصحهما. وقال العراقي في طرح التثريب (ج2: ص253) : وقد حكاه عن مالك أيضاً أبومصعب وأشهب والوليد بن مسلم، وسعيد بن أبي مريم، وجزم به الترمذي عن مالك- انتهى. واعلم أن البيهقي روى في سننه حديث ابن عمر هذا بزيادة في آخره بلفظ: "فما زالت تلك صلاته حتى لقي الله تعالى"، ذكره الحافظ في التلخيص (ص81) والزيلعي في نصب الراية (ج1: ص409) وسكتا عليه ولم يتكلما، لكن في سنده عبد الرحمن بن قريش، قال الذهبي في الميزان (ج2: ص114) : اتهمه السليماني بوضع الحديث. وقال الخطيب في تاريخه (ج10: ص283) : في حديثه

غرائب وأفراد، ولم أسمع فيه إلا خيراً. وفيه أيضاً عصمة بن محمد الأنصاري. قال أبوالحسن الدارقطني: عصمة بن محمد بن فضالة الأنصاري متروك ذكره الخطيب في تاريخه (ج12: ص286) وقال ابن عدي: كل حديثه غير محفوظ، ذكره الذهبي في ميزانه. ويظهر من صنيع النيموي في آثار السنن أن هذه الزيادة هي دليل القائلين بمواظبته - صلى الله عليه وسلم - على رفع اليدين عند الركوع وعند رفع الرأس منه، والأمر ليس كما توهم النيموي، فإن أصل الاستدلال على هذا المطلوب ليس بهذا الحديث بل بحديث مالك بن الحويرث وحديث وائل بن حجر الآتيين، وبالأحاديث التي استدل بها الحنفية على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واظب على رفع اليدين عند تكبيرة الافتتاح. قال شيخنا في أبكار المنن (ص195) : اعلم أن العلماء الحنفية ادعوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - واظب على رفع اليدين عند تكبيرة الافتتاح ما دام حياً، واستدلوا عليه بالأحاديث التي فيها ذكر رفع اليدين عند الركوع، وعند رفع الرأس منه، فكما ثبت مواظبته - صلى الله عليه وسلم - على رفع اليدين عند تكبيرة الافتتاح، كذلك تثبت مواظبته - صلى الله عليه وسلم - على رفع اليدين عند الركوع، وعند رفع الرأس منه أيضاً. قال صاحب الهداية: ويرفع يديه مع التكبير، وهو سنة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - واظب عليه. قال الزيلعي في نصب الراية: هذا معروف في أحاديث صفة صلاته - عليه السلام -، منها حديث ابن عمر أخرجه الأئمة الستة. - ثم ذكره بنحو حديث الباب - وحديث أبي حميد الساعدي - ثم ذكره بنحو أول أحاديث الفصل الثاني - ولم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك رفع اليدين عند الركوع، وعند رفع الرأس منه بحديث صحيح البتة، وما جاء فيه فهو ضعيف، غير قابل للاحتجاج، كما يأتي بيانه- انتهى كلام الشيخ. وقد عرفت مما تقدم أنه ليس رفع يد في غير التحريمة عند جماعة من أهل الكوفة، وإليه ذهبت الحنفية. ثم إنه اختلفت أقوال الحنفية، واضطربت آراؤهم في دفع هذه السنة الصحيحة الثابتة المتواترة سنداً وعملاً - أي رفع اليدين في المواضع الثلاثة-، فذهب بعضهم إلى عدم جواز الرفع في غير التحريمة، بناء على أن رفع اليدين في غير الافتتاح كان جائزاً ومباحاً في أول الأمر، ثم ترك ونسخ جوازه، فصار الرفع منهياً عنه، وترك الرفع مأموراً به، فيكره الرفع تحريماً عندهم، كما في الكبيري شرح المنية والبدائع. وبالغ بعضهم كأمير كاتب الإتقاني صاحب غاية البيان شرح الهداية فقال بفساد الصلاة بالرفع في غير التحريمة؛ لأنه عمل كثير، واعتمد في ذلك على ما روى مكحول النسفي عن أبي حنيفة من فساد الصلاة برفع اليد في غير التحريمة. وقد رد عليه تقي الدين السبكي الشافعي في عصره أحسن رد، ورد عليه الحنفية أيضاً وصرحوا بشذوذ هذه الرواية، وذهبوا إلى عدم الفساد من رفع اليدين في غير الافتتاح. وهذا القول يدلك على أن النزاع بين التاركين للرفع وبين القائلين به في الجواز وعدمه، لا في الأفضلية والأولوية. وذهب بعضهم إلى جواز الرفع في غير التحريمة، لكن الأولى والأرجح والمستحب عندهم ترك الرفع، فالمنسوخ عندهم إنما هو استحباب الرفع لا جوازه وإباحته، والنزاع عندهم إنما هو في الاختيار لا الجواز، قال صاحب الكوكب الدري (ج1: ص129) : لا خلاف بيننا وبين الشافعي في جواز الصلاة بالرفع وعدم الرفع، إنما النزاع في أن الأولى هل هو عدم الرفع أو الرفع؟ فاخترنا الأول واختاروا الثاني، وقال صاحب فيض الباري (ج1: ص257) :

قد ثبت الأمران (الرفع والترك) عندي ثبوتاً لا مرد له ولا خلاف إلا في الاختيار، وليس في الجواز، فما في الكبيري شرح المنية والبدائع "أنه مكروه تحريماً" متروك عندي، نعم إن كان عندهما نقل من صاحب المذهب فهما معذوران، وإلا فالقول بالكراهة في مسألة متواترة بين الصحابة شديد عندي. قال: وقد اشتهر في متأخري الحنفية القول بالنسخ، وإنما تعلموه من الشيخ ابن الهمام، والشيخ اختاره تبعاً للطحاوي، قال: إذا ثبت عندي القول بالجواز ممن هو أقدم في الحنفية - يعني به أبابكر الجصاص الرازي صاحب أحكام القرآن - وساعدته الأحاديث أيضاً فلا محيد إلا بالقول به، وخلافه لا يسمع، فمن شاء فليسمع. وقال صاحب البدر الساري (ج1: ص255) : إن الرفع متواتر إسناداً وعملاً ولم ينسخ منه ولا حرف. وإنما بقي الكلام في الأفضلية كما صرح به أبوبكر الجصاص في أحكام القرآن. وقال أيضاً: دع عنك حديث النسخ إذ قد شهد العمل بالجانبين، فإنه أقوى دليل على عدم النسخ. وذهب بعضهم إلى عدم النسخ مطلقاً، وقالوا: باستنان الأمرين، لكن الرفع عندهم أكثر وأرجح وأحب من ترك الرفع. قال الشاه ولي الله الدهلوي- الذي يزعم الحنفية أنه كان مقلداً لأبي حنيفة- في حجة الله البالغة (ج2: ص8) : والحق عندي أن الكل سنة، والذي يرفع أحب إلي ممن لا يرفع، فإن أحاديث الرفع أكثر وأثبت- انتهى. وقال السندي في حاشية ابن ماجه (ج1: ص282) : أما قول من قال: إن ذلك الحديث - أي حديث ابن مسعود في ترك الرفع - ناسخ رفع غير تكبيرة الافتتاح فهو قول بلا دليل، بل لو فرض الباب نسخ فيكون الأمر بعكس ما قالوا، فإن مالك بن الحويرث ووائل بن حجر من رواة الرفع ممن صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - آخر عمره، فروايتهما الرفع عند الركوع والرفع منه دليل على تأخر الرفع، وبطلان دعوى نسخه، فإن كان هناك نسخ فينبغي أن يكون المنسوخ ترك الرفع. كيف وقد روى مالك هذا جلسة الاستراحة فحملوها على أنها كانت في آخر عمره في سن الكبر، فهي ليس مما فعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - قصداً فلا تكون سنة. وهذا يقتضى أن يكون الرفع الذي رواه ثابتاً لا منسوخاً لكونه آخر عمره عندهم، فالقول بأنه منسوخ قريب من التناقض، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لمالك وأصحابه: صلوا كما رأيتموني أصلي. فالأقرب القول باستنان الأمرين، والرفع أقوى وأكثر انتهى. وقال في حاشيته على النسائي (ج1: ص140) : ومن لا يقول به يراه منسوخاً بما لا يدل عليه، فإن عدم الرفع إن ثبت فلا يدل على عدم سنيه الرفع، إذ شأن السنة تركها أحياناً. ويجوز استنان الأمرين جميعاً، فلا وجه لدعوى النسخ، والقول بالكراهة- انتهى. وقال الشيخ عبد الحي اللكنوي في تعليقه (ص89) على موطأ محمد: القدر المتحقق في هذا الباب هو ثبوت الرفع وتركه كليهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن رواة الرفع من الصحابة جم غفير، ورواة الترك جماعة قليلة مع عدم صحة الطرق عنهم إلا عن ابن مسعود، وكذلك ثبت الترك عن ابن مسعود وأصحابه بأسانيد محتجة بها، فإذن نختار أن الرفع ليس بسنة مؤكدة يلام تاركها إلا أن ثبوته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر وأرجح. وأما دعوى نسخه كما صدر عن الطحاوي مغتراً بحسن الظن بالصحابة

التاركين، وابن الهمام، والعيني وغيرهم من أصحابنا فليس بمبرهن عليها بما يشفى العليل ويروى الغليل. وقال أيضا: الانصاف في هذا المقام أنه لا سبيل إلى رد روايات الرفع برواية ابن مسعود وفعله وأصحابه ودعوى عدم ثبوت الرفع. ولا إلى رد روايات الترك بالكلية، ودعوى عدم ثبوته، بل يوفى كل من الأمرين حظه، ويقال: كل منهما ثابت، وفعل الصحابة والتابعين مختلف، وليس أحدهما بلازم يلام تاركه مع القول برجحان ثبوت الرفع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهى. وذهب بعضهم إلى كون الأمرين ثابتين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع عدم الجزم برجحان أحد من الطرفين. قال صاحب البدر الساري (ج1: ص261) : لعلك علمت أن العمل في هذا الباب بالنحوين ونفي الترك باطل. بقي أن الرفع أكثر أو الترك؟ فلم يجزم الشيخ - يعني شيخه الشاه محمد أنور الكشميري - فيه بشيء، ولو تبين له لم يحكم به لسراية الاجتهاد في هذا الباب، الخ. وإنما أطلنا الكلام في تفصيل آرائهم، وذكر أقوالهم لتقف على تخبطهم في هذه المسألة وتباين آرائهم، وتناقض أقوالهم فيها. وهذا هو شأنهم في أكثر المسائل الشرعية كما لا يخفى على من طالع كتب الفقه للحنفية، ولم يكن حاجة إلى رد القول بالنسخ بعد هذا التناقض الذي رأيته في أقوالهم، فإنهم قد كفونا بأنفسهم رداً لهذا القول الباطل لكن لما اشتهر في متأخريهم القول بالنسخ والاستدلال عليه نذكر دلائلهم مع بيان ما فيها من الخلل والخطل، فاعلم أن الذين قالوا بكراهة الرفع، وذهبوا إلى نسخ جوازه قد استدلوا على ذلك بحديث جابر بن سمرة، قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن يعني رافعي أيدينا في الصلاة، فقال: ما بالهم رافعين أيديهم في الصلاة كأنها أذناب خيل شمس؟ اسكنوا في الصلاة. أخرجه أحمد، ومسلم وأبوداود والنسائي من طريق تميم بن طرفة، عن جابر. وأجيب عنه بأنه لا دليل فيه على منه الرفع على الهيئة المخصوصة في المواضع المخصوصة وهو الركوع، والرفع منه؛ لأنه مختصر من حديث طويل كما سنبينه. قال النووي: المراد بالرفع المنهى ههنا رفع أيديهم عند السلام مشيرين إلى السلام من الجانبين، كما صرح به في الرواية الأخرى- انتهى. وقال الشوكاني: الحديث ورد على سبب خاص، فإن مسلماً رواه أيضاً من حديث جابر بن سمرة - من طريق عبيد الله بن القبطية - قال: إذا كنا صلينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، وأشار بيديه إلى الجانبين فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: علام تؤمون بأيديكم كأنها أذناب خيل شمس؟ إنما يكفي أحدكم أن يضع يديه على فخذيه، ثم يسلم على أخيه من يمينه وشماله. وفي رواية: إذا سلم أحدكم فليلتفت إلى صاحبه ولا يومئ بيده. وقال ابن حبان: ذكر الخبر المتقصي للقصة المختصرة المتقدمة بأن القوم إنما أمروا بالسكون في الصلاة عند الإشارة بالتسليم دون رفع الثابت عند الركوع، ثم رواه كنحو رواية مسلم، وفي رواية النسائي: كنا نصلي خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - فنسلم بأيدينا. قال الشيخ أبوالحسن محمد بن عبد الهادي السندي الحنفي: أي في الصلاة، وبهذه الرواية تبين أن الحديث مسوق للنهي عن رفع الأيدي عند السلام إشارة إلى الجانبين، ولا دلالة فيه على النهي عن الرفع عند الركوع وعند الرفع منه، ولذا قال النووي:

الاستدلال به على النهي عن الرفع عند الركوع وعند الرفع منه جهل قبيح. وقد يقال: العبرة لعموم اللفظ، ولفظ: "ما بالهم رافعي أيديهم في الصلاة" إلى قوله: "اسكنوا في الصلاة" عام، فصح بناء الاستدلال عليه، وخصوص المورد لا عبرة به إلا أن يقال: ذلك إذا لم يعارضه عن العموم عارض، وإلا يحمل على خصوص المورد، وههنا قد صح وثبت الرفع عند الركوع وعند الرفع منه ثبوتاً لا مرد له، فيجب حمل هذا اللفظ على خصوص المورد توفيقاً ودفعاً للتعارض- انتهى كلام السندي. وقال الشوكاني: ورد هذا الجواب - أي بأن الحديث ورد على سبب خاص - بأنه قصر للعام على السبب، وهو مذهب مرجوح، وهذا الرد متجه لولا أن الرفع قد ثبت من فعله - صلى الله عليه وسلم - ثبوتاً متواتراً - أي إسناداً وعملاً، وقد اعترف به بعض الحنفية كما سيأتي -، وأقل أحوال هذه السنة المتواترة أن تصلح لجعلها قرينة لقصر ذلك العام على السبب، أو لتخصيص ذلك العموم على تسليم عدم القصر. قال: وأيضاً المتقرر في الأصول بأن العام والخاص إذا جهل تاريخهما وجب البناء- انتهى. وقال البخاري: أما احتجاج بعض من لا يعلم بحديث جابر بن سمرة، قال: دخل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن رافعوا أيدينا- الحديث. فإنما كان هذا في التشهد لا في القيام، كان يسلم بعضهم على بعض، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن رفع الأيدي في التشهد، ولا يحتج بهذا - أي على منع الرفع عند الركوع والرفع منه - من له حظ من العلم، هذا معروف مشهور لا اختلاف فيه- انتهى. وقال الشيخ عابد بن أحمد السندي الحنفي في المواهب اللطيفة: أما حديث "ما لي أراكم رافعي أيديكم ... الخ". فلا يليق الاستدلال بهذا الحديث في نفي الرفع فافهم- انتهى. وقد ظهر بما ذكرنا أن أهل العلم اتفقوا على حمل حديث جابر المختصر على حديثه الطويل، وجعلهما قضية واحدة وقعت في وقت واحد، والقول بأن الحديث المختصر في رفع الأيدي، والإيماء والإشارة بها عند السلام بناء على أن أحدهما تفسير للآخر، وعليه يدل تبويب أبي داود والنسائي وعلى المتقي الحنفي صاحب كنز العمال، وصنيع مسلم في صحيحه. ولله در العلامة الشيخ أمير علي الحنفي فقد اعترف بوقوع إجماع المحدثين على ذلك حيث قال في حاشية صحيح مسلم (ج1: ص182) - طبعة نولكشور لكنؤ -: أجمع المحدثون على هذا التأويل، والسلام من تتمة الصلاة ونازع بعض الناس فيه فقال: بل هذا النهي عن رفع اليدين في الصلاة عند الركوع والرفع منه، فعلى هذا يكون تقبيحاً بعد تشريع بلا تقديم النهي- انتهى. ومما يدل على اتحاد القضية وكون أحد الحديثين تفسيراً للآخر أنه بعيد من الصحابة أن يرفعوا أيديهم عند السلام بعد ما سمعوا منه - صلى الله عليه وسلم - النهي عن الرفع في الصلاة مطلقاً، فإن المنع عن الرفع في الصلاة مطلقاً يستلزم المنع عن الرفع عند السلام أيضاً، وكذا يستبعد أن يرفعوا أيديهم عند الركوع والرفع منه بعد ما سمعوا منه النهي عن رفع الأيدي، والإيماء بها عند السلام، فإنه لما نهى عن الرفع عند السلام يكون الرفع عند الركوع والرفع منه قبل السلام منهياً عنه بطريق الأولى، وهذا ظاهر- ففي ادعاء التغاير بين الحديثين نسبة سوء الفهم إلى الصحابة، وفيه من إساءة الأدب في شأن الصحابة ما لا يخفى، وفي حمل الروايتين على التغاير مفاسد أخر لا تخفى على المتأمل المنصف غير

المتعسف المتعصب. وقال بعض الحنفية: سياق الحديثين ظاهر في أن أحدهما ورد في غير ما ورد فيه الآخر، ولا يمكن أن يكون أحدهما تفسيراً للآخر، وذلك من وجوه، الأول أن الحديث الأول وهو قوله- عليه السلام -: "اسكنوا في الصلاة" ورد في رفعهم في الصلاة. روى النسائي، عن جابر بن سمرة: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن رافعوا أيدينا في الصلاة، بخلاف الحديث الثاني: إذا سلم أحدكم فلا يلتفت إلى صاحبه، ولا يومئ بيده؛ لأن رفعهم كان عند السلام، وهي حالة الخروج من الصلاة-انتهى. قلت: حاصل كلامه أن الذي يرفع يديه حال التسليم لا يقال له: "اسكن في الصلاة"؛ لأنه ليس في أثناء الصلاة، بل هو في حالة الخروج من الصلاة، فلا يصح إطلاق لفظ "في الصلاة" عليه، وإنما يقال: ذلك لمن يرفع يديه في أثناء الصلاة وهو حالة الركوع والسجود ونحو ذلك. وفيه أن الذي يرفع يديه قبل الفراغ والانصراف من الصلاة وإن كان حال التسليم الثاني يقال له أيضاً: اسكن في الصلاة، فإن الفراغ والانصراف منها إنما يكون بالفراغ من التسليم الثاني، فما لم يفرغ من التسليم الثاني هو في الصلاة. كيف لا! وقد أطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذه الحالة لفظ "في الصلاة" وأمرهم بالسكون، ففي رواية لأحمد (ج5: ص102) من حديث جابر الطويل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما بال الذين يرمون بأيديهم في الصلاة كأنها أذناب الخيل الشمس. وفي أخرى له أيضاً (ج5: ص86) : ما بال أقوام يرمون بأيديهم كأنها أذناب الخيل الشمس، ألا يسكن أحدكم، الخ. ويؤيد ذلك أيضاً ما عند الترمذي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم في الصلاة تسليمة واحدة. وما عند البزار: قال سمرة: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نسلم على أئمتنا، وأن يسلم بعضنا على بعض في الصلاة. فالذين كانوا يومئون بأيديهم، ويرفعونها عند السلام يصدق عليهم أنهم رفعوا أيديهم في الصلاة. والحاصل أن الرفع عند السلام هو الرفع في أثناء الصلاة، فصح أن يقال له "اسكن في الصلاة". قال: والثاني أن في الحديث الأول كان خروجه - صلى الله عليه وسلم - من البيت، ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معهم في تلك الصلاة. روى أحمد في مسنده (ج5: ص93) من حديث جابر: أنه- عليه السلام -دخل المسجد فأبصر قوماً قد رفعوا أيديهم-الحديث. بخلاف الحديث الثاني، فإن رفعهم فيه كان خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - لقوله: "كنا إذا صلينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلنا السلام عليكم". وفيه أن هذا الاختلاف من تصرف الرواة، ذكر بعضهم ما لم يذكره الآخر، وكان الأصل أنه - صلى الله عليه وسلم - دخل المسجد فصلى بنا، وكنا إذا سلمنا قلنا بأيدينا: السلام عليكم، فنظر إلينا، فقال: ما شأنكم، الخ. وكثيراً ما يقع مثل هذا التصرف بل أكثر منه من الرواة كما لا يخفى على من له أدنى خبرة على مختلف الروايات، فدعوى التعدد والتغاير بمثل هذا الاختلاف ليس مما يلتفت إليه. والحديث الأول ليس بنص في أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن معهم في تلك الصلاة. قال: والثالث أن الحديث الأول يدل على أن الرفع كان فعل قوم مخصوصين، وهم الذين كانوا إذ ذاك يتنفلون في المسجد سواء فعل جميع المصلين أو بعضهم، سوى الذين لم يكونوا

إذ ذاك في الصلاة بخلاف الحديث الثاني، فإن الرفع الذي نهي عنه في هذا الحديث كان فعل جميعهم. وفيه أنه الحديث الأول رواه النسائي بلفظ: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن يعني رافعوا أيدينا في الصلاة، فقال ما بالهم-الحديث. وفي رواية لأحمد (ج5: ص107) : دخل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن رافعي أيدينا في الصلاة، فقال: ما لي أراكم ... -الحديث. وهاتان الروايتان كما ترى تدلان على أن الرفع كان فعل جميعهم لا فعل قوم مخصوصين، وليس في طريق من طرق الحديث الأول أنهم كانوا متنفلين، ولا أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن معهم في تلك الصلاة. وروى أحمد (ج5: ص107) الحديث الثاني بلفظ. كنا إذا صلينا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشار أحدنا إلى أخيه من عن يمينه ومن عن شماله، فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما بال أحدكم يفعل هذا كأنها أذناب خيل شمس، إنما يكفي أحدكم ... الخ. وفي رواية له: كنا نقول خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلمنا: السلام عليكم، السلام عليكم، يشير أحدنا بيده عن يمينه وعن شماله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما بال الذين يرمون بأيديهم في الصلاة كأنها أذناب الخيل الشمس؟ ألا يكفي أحدكم ... الخ. وفي أخرى (ج5: ص86) له أيضاً: ما بال أقوام يرمون بأيديهم. وهذه الروايات تدل على أن الرفع الذي نهى عنه في هذا الحديث لم يكن فعل جميعهم خلاف ما ادعى هذا البعض. قال: والرابع أن الحديث الثاني يدل على أن رفعهم كان كرفع المصافح عند السلام، ولا يمكن أن يكون هذا هو الرفع في الحديث الأول؛ لأنهم كانوا فرادى. وفيه أنه لا دليل في الحديث الأول على أنهم كانوا فرادى، بل كانوا يصلون خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما هو مصرح في الطريق الثاني لحديث جابر، وعلى هذا فالرفع المذكور في الطريق الثاني الطويل هو الرفع في الطريق المختصر، يدل على ذلك أنه ورد التقبيح على الرفعين في الحديثين بلفظ واحد وهو قوله: "كأنه أذناب الخيل الشمس". ولا يفهم كونهم فرادى من الحديث الأول إلا من ليس له اطلاع على تصرف الرواة واختلافهم في الروايات، وعلى من رسخ في قلبه كونهما حديثين متغايرين تمشية لمذهبه وإبطالاً للسنة الصحيحة الثابتة المتواترة تواتر إسناد وعمل، وهذا من ثمرات التقليد. قال: والخامس أن الحديث الأول ورد على الرفع، ونهى عنه بلفظ عام، أي اسكنوا في الصلاة، بخلاف الثاني فإنه ورد في الإشارة والإيماء، ونهى عنه بلفظ يختص بحالة السلام- انتهى. وحاصله أن الرفع لا يطلق على الإيماء. وفيه أن الحديث الثاني وإن لم يذكر فيه لفظ الرفع نصاً لكنه ورد على ما هو في معنى الرفع، ففي رواية لأحمد (ج5: ص86) : ما بال أقوام يرمون بأيديهم، والرمي بالأيدي هو الرفع، ونهى فيه أيضاً بلفظ عام، أي السكون، وورد التقبيح بلفظ واحد، ففي الرواية المذكورة: "كأنها أذناب الخيل الشمس، ألا يسكن أحدكم". على أن الإشارة يكون فيها أيضاً الرفع وبالعكس، ولذلك أطلق أحدهما على الآخر، ففي حديث ابن عمر عند مسلم في صفة صلاته - صلى الله عليه وسلم -: "رفع إصبعه اليمنى" وفي رواية: "أشار بالسبابة"، قال الطيبي: أي رفعها. وروى أبوداود عن وائل: "رفع إصبعه" وعن ابن الزبير: "كان يشير بإصبعه إذا دعا"، وهذا كما ترى قد أطلق فيهما الرفع

على الإشارة وبالعكس. وروى الترمذي مرفوعاً في حديث تسليم النصارى الإشارة بالأكف، والسلام بإشارة الكف أو اليد لا بد وأن يكون فيه الرفع كما هو مشاهد، ولذلك أطلق أحدهما على الآخر في روايتي حديث جابر المختصرة والطويلة، ومثل هذه الإطلاقات واختلاف ألفاظ الروايات في الأحاديث بسبب تعدد الرواة وتصرفهم كثير لا يخفى على من له وقوف بهذا الشأن. فادعاء التغاير بين الحديثين بمثل هذه الاختلافات بعيد من شأن أهل العلم. ولو سلم التغاير بينهما وكونهما قضيتين مختلفتين لم يكن في الحديث الأول أي المختصر دليل على منع الرفع عند الركوع والرفع منه على الهيئة المخصوصة، فإن النهي ورد فيه على الرفع الذي يكون كأذناب الخيل الشمس، وينافي السكون في الصلاة وهو الرفع الذي يكون بالإشارة إلى الجانبين، وأما الرفع المتنازع فيه أي الذي يكون عند الركوع والرفع منه فليس كأذناب الخيل الشمس، ولا منافياً للسكون في الصلاة، وإلا لكان رفع اليدين عند تكبيرة الافتتاح أيضاً منهياً عنه؛ لأنه لا فرق بين الرفعين، ولا يتصور أن يمنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أمر ويقبحه ويحرمه في أثناء الصلاة ثم يأذن فيه عند افتتاحها، بل يواظب على افتتاح الصلاة به. وكيف يعقل هذا وقد نهى عن التشبيك في الذهاب إلى المسجد قبل الدخول في الصلاة، وأمر بالسكينة والوقار في الإتيان إلى المسجد. وأيضاً لو كان الأمر كما زعمت الحنفية لكان الرفع في تكبير القنوت وتكبيرات العيدين أيضاً ممنوعاً؛ لأنه لم يستثن رفعاً دون رفع، ولا صلاة دون صلاة، بل أطلق، فما هو جوابهم عن الرفع عند تكبير القنوت وتكبيرات العيد فهو جوابنا عن الرفع عند الركوع والرفع منه. قال البخاري: ولو كان كما ذهبوا إليه لكان رفع الأيدي في أول التكبير، وأيضاً تكبيرات العيد منهياً عنه؛ لأنه لم يستثن رفعاً دون رفع-انتهى. والحق عندي أن القول بالمنع من أمر هو كأذناب الخيل الشمس، ومناف للخشوع والسكون في الصلاة الخمس والنوافل، ثم القول بجوازه وإباحته في صلاة الوتر وصلاتي العيد جهل قبيح، مع أنه لم يثبت بحديث مرفوع صحيح صريح التكبير في قنوت الوتر، ولا رفع اليدين فيه وفي تكبيرات العيد. ثم أبين دليل على أن الرفع عند الركوع والرفع منه ليس بمراد في حديث جابر، وعلى أنه ليس من أفراد الرفع المنهي عنه المذكور في حديثه، أنه - صلى الله عليه وسلم - قد واظب عليه حتى فارق الدنيا ثم أجمع عليه الصحابة بعده والتابعون وغيرهم إلا جماعة من أهل الكوفة، فإيراد حديث جابر هذا في معرض الاستدلال به على فسخ الرفع عند الركوع والرفع منه باطل. وقد تقدم الإشارة إلى ذلك في كلام الشوكاني والسندي فتذكر. وأما الذين ذهبوا إلى جواز الأمرين، وقالوا بنسخ استحباب الرفع، واختاروا ترك الرفع، فاستدلوا على ذلك بحديث ابن مسعود الآتي في الفصل الثالث، وبحديث البراء عند أبي داود وغيره. وأجيب عن ذلك بأنهما حديثان ضعيفان غير صالحين للاستدلال كما ستعرف، ولو سلم صلوحهما للاستدلال فغاية ما فيهما أنه ترك الرفع في غير الافتتاح أحياناً، وهذا إنما يدل على أن الرفع في غير الافتتاح ليس بسنة لازمة يلام تاركها، لا على أنه منسوخ؛ لأن مجرد الترك لا يدل على

النسخ. قال الشوكاني: قال ابن حزم في الكلام على حديث البراء ما لفظه: إن صح دل على أنه - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك لبيان الجواز، فلا تعارض بينه وبين حديث ابن عمر وغيره- انتهى. وقد سبق عن الشيخ عبد الحي والسندي أن الاستدلال بحديث ابن مسعود على نسخ الرفع ليس بصحيح، فلله درهما قد اعترفا بالصواب وباحا بالحق. واستدلوا أيضاً بما رواه البيهقي في الخلافيات عن عبد الله بن عون الخراز، عن مالك، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة ثم لا يعود- انتهى. قال صاحب العرف الشذي: قال الحاكم: إنه حديث موضوع، ولم اطلع على أول إسناده - إلى قوله -: "فلعل إسناده قوي"-انتهى. وقال صاحب المواهب اللطيفة بعد نقله عن الحاكم والبيهقي حكم الوضع على حديث ابن عمر هذا ما لفظه: تضعيف الحديث لا يثبت بمجرد الحكم، وإنما يثبت ببيان وجوه الطعن، وحديث ابن عمر الذي رواه البيهقي في خلافياته: رجاله رجال الصحيح، فما أرى له ضعفاً بعد ذلك إلا أن يكون الراوي عن مالك مطعوناً، لكن الأصل العدم، فهذا الحديث عندي صحيح لا محالة – انتهى. قلت: الاستدلال بحديث ابن عمر هذا على نسخ الرفع في الركوع والرفع منه كتشبث الغريق بالحشيش، فإنه حديث باطل موضوع. قال الزيلعي في نصب الراية (ج1: ص404) بعد نقل هذا الحديث من الخلافيات: قال البيهقي: قال الحاكم: هذا باطل موضوع، ولا يجوز أن يذكر إلا على سبيل القدح، فقد روينا بالأسانيد الصحيحة عن مالك. بخلاف هذا – انتهى. وقال الحافظ في الدراية: نقل البيهقي عن الحاكم أنه موضوع، وهو كما قال-انتهى. وقال في التلخيص: هو مقلوب موضوع-انتهى. فالعجب من هؤلاء المقلدين الذي يستدلون بحديث ابن عمر الذي حكم الحاكم والبيهقي والحافظ بأنه باطل موضوع على ترك الرفع في غير الافتتاح، ويجعلونه ناسخاً لحديثه الصحيح المتفق عليه، لا سيما من هذين المقلدين الذين مع عدم اطلاعهما على أول إسناد هذا الحديث - أى من دون عبد الله بن عون الراوي، عن مالك إلى البيهقي المخرج له؛ لأن بينهما مفاوز تنقطع دونهما الأعناق، ووسائط لا يدري من هم وكيف حالهم - ومع علمهما بأن الحاكم والبيهقي حكم عليه بأنه موضوع يرجو واحد منهما أن إسناده قوي، ويقول الآخر بملء شدقه: إن رجاله رجال الصحيح، ويحكم بأنه صحيح لا محالة بمجرد قوله: إن الأصل عدم الطعن. البيهقي هو مخرج هذا الحديث، والحاكم والحافظ كانا مطلعين على سنده من أوله إلى آخره، وقد اتفقوا على كونه باطلاً موضوعاً، ونقل الزيلعي كلام الحاكم، وسكت عنه وأقره، ثم أتى من المقلدين من ليس له خبرة ووقوف على أول سنده فرد أقوال هؤلاء الأئمة الحفاظ، وادعى عدم ضعفه، بل جزم بصحته. أليس هذا تحكماً محضاً ارتكبه تمشية للمذهب؟ هداهم الله تعالى إلى صراط المستقيم، وأخلصهم من ورطة التقليد الذي هذا من ثمراته. واستدلوا أيضاً بحديث رواه البيهقي في الخلافيات أيضاً عن عبادة بن الزبير: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه في أول الصلاة، ثم لم يرفعهما في شيء حتى يفرغ. كذا في نصب الراية

(ج1: ص404) قلت: قال الزيلعي بعد ذكره: عباد هذا تابعي، فهو مرسل- انتهى. والمرسل على القول الصحيح ليس بحجة. قال ابن الصلاح في مقدمته (ص21) : اعلم أن حكم المرسل حكم الحديث الضعيف إلا أن يصح مخرجه بمجيئه من وجه آخر، وما ذكرنا من سقوط الاحتجاج بالمرسل والحكم بضعفه هو المذهب الذي استقر عليه آراء جماهير حفاظ الحديث ونقاد الأثر، وقد تداولوه في تصانيفهم. وفي صدر صحيح مسلم: المرسل في أصل قولهم وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة-انتهى. وقال العراقي في ألفيته (ص. ... ... ... ورده جماهر النقاد ... للجهل بالساقط في الإسناد وقال الحافظ في الدراية بعد ذكر حديث عباد هذا: وهذا مرسل، وفي إسناده أيضاً من ينظر فيه-انتهى. وهذا يدل على أن في سنده مع كونه مرسلاً من هو منظور فيه. ولو تنزلنا وسلمنا أن سنده سالم من الكلام، وأن المرسل حجة لم يكن فيه دليل على نسخ الرفع عند الركوع والرفع منه؛ لأن أحاديث الرفع مثبتة، وهذا ناف، والمثبت مقدم على النافي، ولأنه لا تعارض بين الفعل والترك، فمجرد الترك لا يدل على نسخ الجواز. ولأنه يمكن التوفيق بينه وبين أحاديث الرفع بأن المعنى لم يرفعها رفعاً بالغاً فيه، فليس المراد نفي الرفع مطلقاً، بل المراد نفي الرفع المبالغ فيه. واستدلوا أيضاً بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن، تكبيرة الافتتاح- الحديث. أخرجه الطبراني عن ابن عباس مرفوعاً، وابن أبي شيبة موقوفاً عليه، وذكره البخاري في جزء رفع اليدين معلقاً عنه، وأخرجه البزار والبيهقي عن ابن عباس وابن عمر مرفوعاً وموقوفاً، وأخرجه الحاكم عنهما مرفوعاً. قلت: هو حديث ضعيف غير قابل للاحتجاج، وقد بسط الزيلعي طرقه في نصب الراية (ج1: ص 390-392) وقال بعد نقله من رواية البيهقي والحاكم: قال الشيخ في الإمام: اعترض على هذا بوجوه: أحدها: تفرد ابن أبي ليلى، وترك الاحتجاج به - لكونه سيء الحفظ -. وثانيها: رواية وكيع عنه بالوقف على ابن عباس وابن عمر. قال الحاكم: ووكيع أثبت من كل من روى هذا الحديث عن ابن أبي ليلى. وثالثها: رواية جماعة من التابعين بالأسانيد الصحيحة المأثورة عن عبد الله بن عمرو وعبد الله ابن عباس أنهما كانا يرفعان أيديهما عند الركوع وبعد رفع الرأس من الركوع، وقد أسنداه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. ورابعها: أن شعبة قال: لم يسمع الحكم من مقسم إلا أربعة أحاديث، وليس هذا الحديث منها - فهو منقطع غير محفوظ -. وخامسها: عن الحكم قال: إن جميع الروايات "ترفع الأيدي في سبعة مواطن" وليس في شيء منها "لا ترفع الأيدي إلا فيها" ويستحيل أن يكون "لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن" صحيحاً، وقد تواترت الأخبار بالرفع في غيرها كثيراً، منها الاستسقاء ودعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورفعه - عليه الصلاة والسلام - يديه في الدعاء في الصلوات، وأمره به، ورفع اليدين، والقنوت في صلاة الصبح والوتر- انتهى. وقال البخاري في جزء رفع اليدين بعد ذكر كلام شعبة المتقدم: فهو مرسل وغير محفوظ؛ لأن

أصحاب نافع خالفوا. وأيضاً فهم قد خالفوا الحديث، ولم يعتمدوا عليه في تكبيرات العيدين وتكبير القنوت. وفي رواية وكيع: "ترفع الأيدي" لا يمنع رفعه فيما سوى هذه السبعة- انتهى كلامه. ولو سلم كون هذا الحديث صالحاً للاحتجاج لم يكن فيه دليل على نسخ الرفع في الركوع والرفع منه لما تقدم فتأمل. واستدلوا أيضاً بما رواه الدارقطني والبيهقي في سننهما، وابن عدي في الكامل عن عبد الله بن مسعود، قال: صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر وعمر فلم يرفعوا أيديهم إلا عند استفتاح الصلاة. قلت: فيه محمد بن جابر وقد تفرد به، وهو ضعيف، ضعفه أحمد، وابن معين وعمرو بن علي وأبوزرعة والبخاري وأبوحاتم وأبوداود والنسائي ويعقوب بن سفيان والعجلى وابن حبان والدارقطني والحاكم. قال أحمد: كان محمد بن جابر ربما ألحق أو يلحق في كتابه يعني الحديث. وقال أيضاً: لا يحدث عنه إلا شر منه. وقال ابن معين: كان أعمى، واختلط عليه حديثه، وهو ضعيف. وقال: عمرو بن علي: صدوق، كثير الوهم، متروك الحديث. وقال أبوزرعة: محمد بن جابر ساقط الحديث عند أهل العلم. وقال البخاري: ليس بالقوى، يتكلمون فيه، روى مناكير. وقال أبوحاتم: ذهبت كتبه في آخر عمره، وساء حفظه، وكان يلقن، وكان ابن مهدي يحدث عنه، ثم تركه بعد، وكان يروي أحاديث مناكير، وهو معروف بالسماع، جيد اللقاء، رأوا في كتبه لحقاً. وحديثه عن حماد فيه اضطراب. وقال أبوداود: ليس بشيء. وقال النسائي وابن سفيان والعجلى: ضعيف. وقال ابن حبان: كان أعمى يلحق في كتبه ما ليس من حديثه يسرق، وما ذكر به فيحدث به. قال إسحاق بن عيسى بن الطباع: ذاكرت محمد بن جابر ذات يوم بحديث لشريك عن أبي إسحاق فرأيت في كتابه قد ألحقه بين السطرين كتاباً طرياً. وقال الدارقطني في سننه: تفرد به محمد بن جابر- وكان ضعيفاً- عن حماد، عن إبراهيم. وغير حماد يرويه عن إبراهيم مرسلاً، عن عبد الله من فعله، وهو الصواب. وقال الحاكم: هذا - أي ما روى عن إبراهيم، عن عبد الله بن مسعود من فعله - هو الصحيح، وإبراهيم لم ير ابن مسعود، والحديث منقطع، ومحمد بن جابر تكلم فيه أئمة الحديث. وأحسن ما قيل فيه: أنه يسرق الحديث من كل من يذاكره، حتى كثرت المناكير والموضوعات في حديثه. وقال الحافظ في التقريب: صدوق - أي حينما كتب عنه باليمامة وبمكة كما في التهذيب، لا مطلقاً - ذهبت كتبه فساء حفظه، وخلط كثيراً، وعمى فصار يلقن. وهذه كما ترى جروح مفسرة من جماعة من أئمة الحديث النقاد الحفاظ، وأئمة الجرح والتعديل الكبار، وقد حسن بعضهم أمره: ففي تهذيب التهذيب قال ابن أبي حاتم عن محمد بن يحيى: سمعت أبا الوليد يقول: نحن نظلم محمد بن جابر بامتناعنا من التحديث عنه. قال: وسئل أبي عن محمد بن جابر وابن لهيعة فقال: محلهما الصدق، ومحمد بن جابر أحب إلي من ابن لهيعة. وقال الذهلي: لا بأس به. وفي التقريب رجحه أبوحاتم على ابن لهيعة- انتهى. وقال ابن عدي: كان إسحاق بن أبي إسرائيل يفضل محمد بن جابر على جماعة الشيوخ هم أفضل منه وأوثق- انتهى. قلت: قد تقرر في موضعه أن الجرح

المفسر مقدم على التعديل، ولو كان عدد المعدلين أكثر، فكيف إذا كان عدد الجارحين أكثر، وههنا كذلك. قال ابن الصلاح في مقدمته: إذا اجتمع في شخص جرح وتعديل فالجرح مقدم؛ لأن المعدل يخبر عما ظهر من حاله، والجارح يخبر عن باطن خفي المعدل، فإن كان عدد المعدلين أكثر فقد قيل: التعديل أولى. والصحيح الذي عليه الجمهور أن الجرح أولى لما ذكرناه، والله أعلم. وقال السيوطي في التدريب: إذا اجتمع فيه جرح مفسر والتعديل، فالجرح مقدم ولو زاد عدد المعدل، هذا هو الأصح عند الفقهاء والأصوليين- انتهى. فلا يلتفت إلى قول من حسن أمر محمد بن جابر في جنب تضعيف هؤلاء الحفاظ النقاد، فما تفوه به بعض الحنفية من أن الأرجح فيه التوثيق والتعديل، بل كأنه من رجال الصحيحين أو من رجال مسلم، مردود عليه. وأما ما قال الحافظ في التقريب: أنه رجحه أبوحاتم على ابن لهيعة فالمراد رجحه في الصدق، يدل على ذلك قول أبي حاتم: "محلمها الصدق، ومحمد بن جابر أحب إليّ من ابن لهيعة"، فإن الظاهر أنه أراد به كونه أحب إليه أي أرجح في الصدق، ويدل على ذلك أيضاً قول أبي حاتم فيه: "ذهبت كتبه في آخر عمره، وساء حفظه، وكان يلقن". وقوله: "رأوا في كتبه لحقاً، وحديثه عن حماد فيه اضطراب"، وقوله: "إن في أحاديثه تخاليط، وأما أصوله فهي صحاح". ومن المعلوم أنه لا منافاة بين كون الرجل صدوقاً وبين كونه سيء الحفظ، كثير الاختلاط، مضطرب الحديث، كثير الوهم. على أنه قد تفرد أبوحاتم في قوله: "هو أحب إليّ من ابن لهيعة" ولم يوافقه أحد في ذلك. والظاهر أن ابن لهيعة أحسن حالاً من محمد بن جابر كما يظهر من تهذيب التهذيب، وميزان الاعتدال. وأما ما قال ابن عدي: إنه روى عنه أي عن محمد بن جابر الكبار: أيوب وابن عون وهشام بن حسان والثوري وشعبة وابن عيينة وغيرهم، ولولا أنه في ذلك المحل لم يرو عنه هؤلاء الذين هو دونهم- انتهى. ففيه أنه لا يلزم من ذلك كونه ثقة ضابطاً حافظاً غير مختلط وغير واهم، كما تقرر في موضعه. وارجع لذلك إلى كتاب العلل للترمذي وغيره من كتب الأصول، فالحق أن محمد بن جابر ضعيف لسوء حفظه، وكثرة اختلاطه، وقبوله التلقين، وقد تفرد هو برواية هذا الحديث فالاستدلال به على نسخ الرفع في الركوع والرفع منه باطل جداً. واستدلوا أيضاً بآثار الصحابة، منها أثر عمر بن الخطاب، روى الطحاوي والبيهقي وأبوبكر بن أبي شيبة عن الحسن بن عياش، عن عبد الملك بن أبجر، عن الزبير بن عدي، عن إبراهيم النخعي عن الأسود، قال: رأيت عمر بن الخطاب يرفع يديه في أول تكبيرة ثم لا يعود. قال النيموي تبعاً للطحاوي وابن التركماني، هو أثر صحيح، وقال: لا يخفي على أحد من أهل العلم أن عمر بن الخطاب كان أعلم بالسنة من ابنه عبد الله وممن كان مثله أو دونه، ولذلك جعل الطحاوي فعل عمر دليلاً على النسخ- انتهى. قلت: فيه كلام من وجوه: الأول: أن في سنده إبراهيم النخعي وهو مدلس، ورواه عن الأسود بالعنعنة فكيف يكون هذا الأثر صحيحاً؟. والثاني: أن في كون هذا الأثر بهذا اللفظ محفوظاً نظراً، روى الحاكم، وعنه البيهقي بسنده، عن سفيان الثوري، عن الزبير بن عدي بلفظ: "كان

يرفع يديه في التكبير"، ليس فيه: "ثم لا يعود"، والظاهر أن ما رواه الحسن بن عياش عن ابن أبجر عن ابن عدي، وما رواه الثوري عن ابن عدي كليهما في محل الرفع. وقد قال الحافظ في الدراية (ص85) بعد ذكر الروايتين: وقد رواه الثوري وهو المحفوظ. والثالث: أن هذا الأثر معارض بما رواه طاووس عن ابن عمر أن عمر كان يرفع يديه في الركوع وعند الرفع منه. قال الزيلعي في نصب الراية: اعترضه الحاكم بأن هذه رواية شاذة لا يقوم بها حجة، ولا تعارض بها الأخبار الصحيحة عن طاووس بن كيسان عن ابن عمر، أن عمر كان يرفع يديه في الركوع وعند الرفع منه. والرابع: أنه لو سلم أن أثر عمر هذا صحيح فلا يدل على النسخ، بل غاية ما يدل عليه هو أن الرفع فيهما لم يكن سنة لازمة عند عمر، بل كان مستحباً عنده. قال الشاه ولي الله الدهلوي في إزالة الخفاء: أبوبكر عن الأسود: صليت مع عمر، فلم يرفع يديه في شيء من صلاته إلا حين افتتح الصلاة. قلت تكلم الشافعية والحنفية في ترجيح الروايات، كل على حسب مذهبه، والأوجه عندي أن عمر رأى رفع اليدين عند الركوع والقومة منه مستحباً، فكان يفعل تارة ويترك أخرى، كما بين هو بنفسه في سجود التلاوة- انتهى. ومنها أثر علي، روى الطحاوي وابن أبي شيبة والبيهقي عن عاصم بن كليب، عن أبيه: أن علياً كان يرفع يديه في أول تكبيرة من الصلاة، ثم لا يرفع بعد. قال الزيلعي: هو أثر صحيح، وقال العيني: إسناده صحيح على شرط مسلم. وقال الطحاوي بعد روايته: لم يكن علي ليرى النبي - صلى الله عليه وسلم - يرفع ثم يتركه إلا وقد ثبت عنده نسخه- انتهى. قلت: في كون هذا الأثر صحيحاً نظر؛ لأنه انفرد به عاصم بن كليب، وقال ابن المديني: لا يحتج بما انفرد به. وقال عبد الرحمن بن مهدي: ذكرت للثوري حديث النهشلي عن عاصم بن كليب فأنكره، ذكره البخاري في جزء رفع اليدين. ولو سلم أن أثر علي هذا صحيح لم يكن فيه دليل على نسخ الرفع. قال الشيخ عبد الحي اللكنوي في تعليقه على موطأ محمد بعد ذكر قول الطحاوي المتقدم: فيه نظر، فقد يجوز أن يكون ترك علي، وكذا ترك ابن مسعود، وترك غيرهما من الصحابة إن ثبت؛ لأنهم لم يروا الرفع سنة مؤكدة يلزم الأخذ بها، ولا ينحصر ذلك في النسخ، بل لا يجترئ بنسخ أمر ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمجرد حسن الظن بالصحابي مع إمكان الجمع بين فعل الرسول وفعله- انتهى. ومنها أثر أبي سعيد الخدري، روى البيهقي، عن سوار بن مصعب، عن عطية العوفي، أن أباسعيد الخدري وابن عمر كانا يرفعان أيديهما أول ما يكبران ثم لا يعودان. قلت: قال البيهقي: قال الحاكم: عطية سيء الحال، وسوار أسوأ منه. وقال البخاري: سوار بن مصعب منكر الحديث. وعن ابن معين أنه غير محتج به- كذا في نصب الراية (ج1: ص406) . ثم هذا الأثر يعارضه ما رواه البيهقي عن عطاء، قال: رأيت جابر بن عبد الله وابن عمر، وأباسعيد وابن عباس وابن الزبير وأباهريرة يرفعون أيديهم إذا افتتحوا الصلاة، وإذا ركعوا، وإذا رفعوا. وفيه ليث بن أبي سليم وهو مختلف فيه. ومنها أثر ابن مسعود، روى الطحاوي عن إبراهيم النخعي، قال: كان عبد الله بن مسعود لا يرفع يديه في شيء من الصلوات إلا في الافتتاح. قلت: أثر ابن مسعود

هذا منقطع. إبراهيم لم يلق عبد الله، وكان يأخذ من الثقة وغير الثقة كما صرح به البيهقي في جزء القراءة. وقال الذهبي في ميزان الاعتدال (ج1: ص35) : استقر الأمر على أن إبراهيم حجة، وأنه إذا أرسل عن ابن مسعود وغيره فليس بحسن- انتهى. وقال الشافعي في كتاب الأم (ج7: ص272، 271) : إن إبراهيم النخعي لو روى عن علي وعبد الله لم يقبل منه؛ لأنه لم يلق واحداً منهما- انتهى. وأما ما روي عن أحمد ويحي بن معين وغيرهما أن مراسيل إبراهيم صحيحة أو مقبولة مطلقاً، ففيه أن الجرح المفسر مقدم على التعديل مطلقاً، ولو سلم أن هذا الأثر جيد فلا يدل على النسخ. قال الشيخ عبد الحي: الانصاف في هذا المقام أنه لا سبيل إلى رد روايات الرفع برواية ابن مسعود وفعله، ولا إلى دعوى النسخ ما لم يثبت بنص عن الشارع- انتهى باختصار يسير بقدر الضرورة، وقد تقدم كلامه بتمامه. ومنها أثر ابن عمر، روى الطحاوي، وأبوبكر بن أبي شيبة، والبيهقي في المعرفة، عن مجاهد، قال: صليت خلف ابن عمر فلم يكن يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى من الصلاة. قال النيموي: سنده صحيح. قلت: بل أثر ابن عمر هذا ضعيف من وجوه، الأول: أن في سنده أبا بكر بن عياش وكان تغير حفظه بآخره، فما لم يثبت أن الراوي عنه- وهو أحمد بن يونس- أخذ منه قديماً قبل التغير لا يحكم بصحته. والثاني: أنه شاذ فإن مجاهداً خالف جميع أصحاب ابن عمر وهم ثقات حفاظ، والعدد الكثير أولى من واحد. وأما ما روي من موافقة عبد العزيز بن حكيم لمجاهد عند محمد في موطأه، ففيه أن في سنده محمد بن أبان بن صالح- وهو ضعيف- ليس ممن يعتمد عليه. قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه فقال: ليس بالقوى، يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال البخاري في التاريخ: يتكلمون في حفظه لا يعتمد عليه- كذا ذكره صاحب التعليق الممجد نقلاً عن لسان الميزان (ج5: ص31) ، فموافقة عبد العزيز لمجاهد لا تجدي شيئاً. والثالث: أن إمام هذا الشأن يحيى بن معين قال: حديث أبي بكر عن حصين إنما هو توهم لا أصل له، ذكره البخاري في جزء رفع اليدين، ولا شك أن قول يحيى بن معين في هذا الباب حجة؛ لأنه إمام الجرح والتعديل، ومن القائمين بفن معرفة علل الحديث. وقال أحمد بن حنبل: كل حديث لا يعرفه يحيى بن معين فليس بحديث. وقد وافقه البخاري على ذلك ولم يخالفه أحد من مهرة هذا الفن. قال الطحاوي بعد رواية أثر ابن عمر هذا: فلا يكون هذا من ابن عمر إلا وقد ثبت عنده نسخ ما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله. قال: فإن قيل: فقد روى طاووس عن ابن عمر خلاف ما رواه مجاهد. قلنا: كان هذا قبل ظهور الناسخ- انتهى. قلت: وأجاب عنه البيهقي في كتاب المعرفة فقال: حديث أبي بكر بن عياش هذا أخبرناه أبوعبد الله الحافظ، فذكره بسنده ثم أسند عن البخاري أنه قال: أبوبكر بن عياش اختلط بآخره، وقد رواه الربيع وليث وطاووس وسالم ونافع وأبوالزبير ومحارب بن دثار وغيرهم، قالوا: رأينا ابن عمر يرفع يديه إذا كبر وإذا رفع، وكان يرويه أبوبكر قديماً عن حصين عن إبراهيم عن ابن مسعود مرسلاً موقوفا: أن ابن مسعود كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، ثم

لا يرفعهما بعد. وهذا هو المحفوظ عن أبي بكر بن عياش، والأول خطأ فاحش لمخالفته الثقات من أصحاب ابن عمر. قال الحاكم: كان أبوبكر بن عياش من الحفاظ المتقنين، ثم اختلط حين نسي حفظه فروى ما خولف فيه، فكيف يجوز دعوى نسخ حديث ابن عمر بمثل هذا الحديث الضعيف؟ أو نقول: إنه ترك مرة للجواز إذ لا يقول بوجوبه، ففعله يدل على أنه سنة، وتركه يدل على أنه غير واجب- انتهى. كذا في نصب الراية (ج1: ص409) وقد رد الشيخ عبد الحي أيضاً التمسك بأثر ابن عمر هذا على النسخ من وجوه، وأجاب في ضمنه عن كلام الطحاوي المذكور أيضاً قال في التعليق الممجد: المشهور في كتب أصول أصحابنا أن مجاهداً قال: صحبت ابن عمر عشر سنين فلم أر يرفع يديه إلا مرة. وقالوا: قد روى ابن عمر حديث الرفع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتركه، والصحابي الراوي إذا ترك مروياً ظاهراً في معناه، غير محتمل للتأويل، يسقط الاحتجاج بالمروي. وقد روى الطحاوي من حديث أبي بكرة بن عياش عن حصين، عن مجاهد قال: صليت خلف ابن عمر فلم يكن يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى من الصلاة، ثم قال: فهذا ابن عمر قد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يرفع، ثم ترك هو الرفع بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يكون ذلك إلا وقد ثبت عنده نسخة. وههنا أبحاث: الأول: مطالبة ما نقلوه عن مجاهد أنه صحب ابن عمر عشر سنين ولم يره إلا في التكبيرة الأولى. والثاني: المعارضة بخبر طاووس وغيره من الثقات أنهم رأوا ابن عمر يرفع. والثالث: أن في طريق الطحاوي أبابكر بن عياش، وهو متكلم فيه لا توازي روايته رواية غيره من الثقات. ثم ذكر كلام البيهقي الذي نقلناه عن نصب الراية، ثم قال: فإن قلت آخذاً من شرح معاني الآثار. أنه يجوز أن يكون ابن عمر فعل ما رآه طاووس قبل أن يقوم الحجة بنسخه، ثم لما ثبتت الحجة بنسخة عنده تركه، وفعل ما ذكره عنه مجاهد. قلت: هذا مما لا يقوم به الحجة، فإن لقائل أن يعارض ويقول: يجوز أن يكون فعل ابن عمر ما رواه مجاهد قبل أن تقوم الحجة بلزوم الرفع، ثم لما ثبت عنده التزم الرفع، على أن احتمال النسخ احتمال من غير دليل فلا يسمع. فإن قال قائل: الدليل هو خلاف الراوي مرويه. قلنا: لا يوجب ذلك النسخ كما مر. والرابع: وهو أحسنها أنا سلمنا ثبوت الترك عن ابن عمر، لكن يجوز أن يكون تركه لبيان الجواز، أو لعدم رؤية الرفع سنة لازمة، فلا يقدح ذلك في ثبوت الرفع عنه وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والخامس: أن ترك الراوي مروية إنما يكون مسقطاً للاحتجاج عند الحنفية إذا كان خلافه بيقين كما هو مصرح في كتبهم، وههنا ليس كذلك، لجواز أن يكون الرفع الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمله ابن عمر على العزيمة وتركه أحياناً لبيان الرخصة، فليس تركه خلافاً لروايته بيقين. والسادس: أنه لا شبهة في أن ابن عمر قد روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث الرفع، بل ورد في بعض الروايات عنه أنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا افتتح الصلاة رفع يديه، وإذا ركع، وإذا رفع، وكان لا يفعل ذلك في السجود، فما زالت تلك صلاته حتى لقي الله. أخرجه البيهقي.

ولا شك أيضاً في أنه ثبت عن ابن عمر بروايات الثقات فعل الرفع، وورد عنه برواية مجاهد، وعبد العزيز بن حكيم الترك، فالأولى أن يحمل الترك المروي عنه على وجه يستقم ثبوت الرفع منه. ولا يخالف روايته أيضاً إلا أن يجعل تركه مضاداً لفعله، ومسقطاً للأمر الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بروايته ورواية غيره- انتهى كلام الشيخ عبد الحي. وممن رد من الحنفية التمسك بأثر ابن عمر هذا على النسخ: العلامة الشيخ محمد معين السندي أيضاً، وهو من تلامذة الشاه ولي الله الدهلوي فارجع إلى دراسات اللبيب (ص171) . واستدلوا أيضاً بأنه قد ثبت الترك بالاتفاق في جنس ذلك الحكم، وهو الرفع بين السجدتين، وثبوت الترك في الجنس دليل على نسخ الأصل كما قرروا في حديث التسبيع في سؤر الكلب أنه كان في زمن التشديد في أمر الكلاب وكما في مسئلة الرضاعة. قالوا: قد تدرج النسخ فيها من عشر رضعات حتى نسخ رأساً. قلت: دعوى الاتفاق على ثبوت الترك في جنس ذلك الحكم ممنوعة، ولا نسلم أن الرفع بين السجدتين أو عند كل خفض ورفع كان مشروعاً ثم نسخ وترك، حتى يكون ذلك الترك دليلاً على تدرج النسخ إلى الأصل. ولو تنزلنا وسلمنا أن الرفع بين السجدتين كان ثم نسخ وترك، فلا يدل ذلك على نسخ الرفع عند الركوع، والرفع عند القيام إلى الركعة الثالثة، كما لا يدل على نسخ الرفع عند التكبيرة الأولى، وأما القول بأن حكم تثمين الغسلات والتسبيع والترتيب في سؤر الكلب كان في زمن التشديد في أمر الكلاب ثم وقع فيه النسخ تدريجاً فباطل مردود على قائله، قد رده الحافظ في الفتح، والشيخ عبد الحي في السعاية فارجع إليهما. وكذا دعوى تدرج النسخ في مسألة الرضاعة أيضاً باطلة فإنه لا دليل على نسخ حكم خمس رضعات الذي ذهب إليه الشافعي، ولا على نسخ حكم ثلاث رضعات الذي هو مذهب أحمد، لا من كتاب الله، ولا من سنة رسوله، ولا يثبت النسخ بالادعاء. واستدلوا أيضاً بأنه وقع في الصلاة تغيرات في أوقات مختلفة كما يدل عليه حديث معاذ بن جبل عند أبي داود: "أحيلت الصلاة ثلاث تحويلات"، وقد كانت أقوال وأفعال من جنس هذا الرفع مباحة في الصلاة، كالكلام، والتطبيق، وعدم استواء الصفوف، والمشي ونحو ذلك، ثم نسخت لكون مبنى الصلاة على السكون والخضوع، فلا يبعد أن يكون الرفع في المواضع الثلاثة أيضاً مشمولا بالنسخ. قلت: سلمنا وقوع التغييرات في الصلاة لكن هذه التغييرات إنما وقعت في الأمور التي هي من العادات، كالكلام، واختلال الصفوف، والمشي، والتطبيق، فنهوا عن الكلام وأمروا بالسكوت قبل وقعة بدر بقوله تعالى: {قوموا لله قانتين} [238: 2] ، وأمروا بتسوية الصفوف في أوائل الهجرة، وأما الأمور التي هي من العبادة فلم يقع النسخ والتغيير فيها. والكلام ههنا فيما هو من صلب الصلاة، وأمر القبلة من شرائط الصلاة لا من صلبها. والرفع بين السجدتين أو عند كل خفض ورفع لم يثبت. وأما الرفع في المواضع الثلاثة الذي هو من أمور العبادة فقد ثبت تواتراً، ولم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة ما يدل على نسخه، كما صرح به من الحنفية الشيخ عبد الحي، والشيخ أبوالحسن السندي،

والشيخ محمد بن معين السندي وغيرهم. فالقول بكونه مشمولاً بالنسخ بمجرد التخمين تقوّل على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وافتراء عليه. أعاذنا الله منه. وههنا أمور ينبغي أن نذكرها ليتضح لك هذا الجواب حق الاتضاح، وهي تنفعك فيما يأتي أيضاً: الأول: أن الأمور العادية هي التي منع منها في الصلاة ما منع؛ لأنها منافية للخشوع، بخلاف الأفعال التي هي من جنس العبادة، فلم يقع النهي عنها، بل أمروا بها لكونها مؤثرة في الباطن، مورثه للخشوع في القلب، والصلاة هي اسم لمجموع الأفعال الظاهرة والخشوع، لا لخشوع القلب فقط. والثاني: أن مطلق الحركة ليست بمنافية للخشوع، كحركة الانتقال من القيام إلى الركوع والسجود، ورفع الرأس منها، ورفع السبابة في التشهد، ورد السلام بالإشارة. وقال تعالى: {وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} [45: 2] . والثالث: أن رفع اليدين الذي هو حركة من الحركات، وعمل من أعمال الصلاة ليس من الأمور العادية، بل هو من العبادات؛ لأن اشتغال اليدين بالعبادة مع الأعضاء الظاهرة الأخرى من كمال العبادة، كما قيل في وضع اليمنى على اليسرى في القيام، ووضع اليدين على الركبتين في الركوع، ووضعهما حذاء الأذنين أو المنكبين في السجدة مستقبلاً بأصابعهما القبلة، ورفع المسبحة، والإشارة بها في التشهد، ونصب القدمين في السجدة. ومما يدل على كون رفع اليدين من أمور العبادة ما في شرح البخاري للعيني (ج5: ص272) : قال ابن بطال: رفعهما تعبد، وقيل: إشارة إلى التوحيد، وقيل: انقياد. وقيل: إشارة إلى طرح أمور الدنيا والإقبال بالكلية إلى الصلاة. وقيل: استعظام ما دخل فيه. وقال الشافعي: تعظيم لله، واتباع سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن عمر: هو من زينة الصلاة، وبكل رفع عشر حسنات، بكل إصبع حسنة – انتهى ملخصاً. وقال الشاه ولي الله في حجته (ج2: ص6) : الهيئات المندوبة إليها في الصلاة ترجع إلى معان: منها: ... ، ومنها: محاكاة ذكر الله، وإيثاره على من سواه بأصابعه ويده حذو ما يعقله بجنانه ويقول بلسانه، كرفع اليدين والإشارة بالمسبحة ليكون بعض الأمر معاضداً لبعض ... الخ. والرابع: أن رفع اليدين في المواضع الثلاثة على الهيئة المخصوصة ليس منافياً للخشوع الذي هو للصلاة كالروح للجسد، بل نقول: إن الرفع في هذه المواضع عين الخشوع. قال الشاه ولي الله في حجته (ج2: ص8) : السر في ذلك أن رفع اليدين فعل تعظيمي ينبه النفس على ترك الأشغال المنافية للصلاة والدخول في حيز المناجاة، فشرع ابتداء كل فعل من التعظيمات الثلاث لتنتبه النفس لثمرة ذلك الفعل مستأنفاً – انتهى. ثم إنهم قد اتفقوا على سنية افتتاح الصلاة برفع اليدين، وهذا دليل واضح على عدم منافاة الرفع للخشوع، وإلا لما جاز اقتران الصلاة به والمواظبة على الإفتتاح به. ولا فرق بين هذه الرفع وبين الرفع في المواضع الثلاثة الباقية. ومن ادعى الفرق فعليه البيان. ومما يؤكد ما قلنا من عدم المنافاة بين الرفع المذكور والخشوع، وعدم الفرق بين الرفعين أن الحنفية قالوا بمشروعيته في وسط الصلاة أيضاً، أي عند تكبير القنوت وتكبيرات العيدين، فالقول باستنان الرفع في أول الصلاة، والذهاب إلى

مشروعيته في وسطها، ثم الحكم بكراهته أو عدم استحبابه في المواضع الثلاثة على توهم أنه نسخ لكونه منافياً للخشوع والسكون صريح تناقض. وقد رد هذا الاستدلال الشيخ محمد معين السندي أيضاً في دراساته (ص169) فارجع إليه. هذا، وقد ذكروا لترجيح ترك الرفع في غير التحريمة، وترجيح روايات الترك على الرفع ورواياته وجوهاً كلها مخدوشة مردودة، فمنها أن الرفع فعل ينبىء عن الترك فلا يناسب كونه في أثناء الصلاة. وفيه أن تجديد التنبه لترك ما سوى الله عند كل فعل أصل من الصلاة مطلوب، وهذا يقتضي استحباب الرفع في أثناء الصلاة لا تركه. ومنها أنه قد ثبت ترك الرفع في غير الافتتاح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصداً فلم يكن تركه على طريق العدم الأصلي. وقد علم أن مبنى الصلاة على سكون الأطراف، وهذا يقتضي كون ترك الرفع أرجح. وفيه أنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك الرفع المتنازع فيه أصلاً كما تقدم، وعلى هذا فالترك عدمي محض، فيترجح عليه الرفع، لكونه عبادة بخلاف الترك فإنه ترك عبادة. وأيضاً الرفع فعل تعظيمي، ولذلك ابتدأ به الصلاة، وهذا أيضاً يقتضي كون الرفع أرجح. ومنها ما قال بعضهم في شرحه للموطأ: أن كل ما اختلف فيه شيء من الروايات أخذت الحنفية منها الأوفق بالقرآن، فلما رأوا أحاديث ترك الرفع أوفق بقوله تعالى: {قوموا لله قانتين} [238: 2] رجحوها به، قال: وهذا أوجه وجوه الترجيح. وفيه أن هذا الوجه ليس بوجيه فضلاً أن يكون أوجه، بل هو باطل جداً لما قد عرفت أن الروايات التي استدلوا بها على ترك الرفع في غير الافتتاح كلها ضعيفة غير قابلة للاحتجاج، بل بعضها باطلة موضوعة، فالتصدي لترجيح مثل هذه الروايات على روايات الرفع الصريحة الصحيحة الثابتة المتواترة إسناداً وعملاً جهل وسفه، لا يأتي ذلك إلا من متعصب معاند للسنة. وأيضاً قد تقدم أن قوله تعالى: {قوموا لله قانتين} نزل قبل وقعة بدر، وقد ثبت الرفع من النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بعد نزوله كما يدل عليه حديث مالك بن الحويرث، ووائل بن حجر، وابن عمر، وغيرهم، بل قد ثبتت مواظبته - صلى الله عليه وسلم -، وإجماع الصحابة عليه بعده، فلو كان ترك الرفع أوفق للقرآن، وأقرب إليه، وأشبه به لما واظب الرسول - صلى الله عليه وسلم - على خلاف مقتضى القرآن، ولا أجمع الصحابة عليه بعده؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا أحق وأكثر فهماً للقرآن. وأيضاً مبنى هذا الوجه على أن الرفع مناف للسكون والخشوع، وقد تقدم بطلانه، ولفساد هذا الوجه وجوه أخرى لا تخفى على المتأمل. ومنها ما قال هذا البعض أيضاً: أن بعض أنواع الرفع الثابتة متروك عند الجميع ومجمع عليه، فهذا قرينة على أنه وقع النسخ فيه، فالأخذ بالمتفق عليه أولى، وهو الرفع عند التحريمة. وفيه نظر من وجوه: الأول أن ترك الرفع بين السجدتين أو في كل خفض ورفع ليس بمجمع عليه كما سيأتي، فدعوى كون بعض أنواع الرفع متروكاً عند الجميع باطلة؛ لكونها خلاف الواقع. الثاني أن من لم يقل بالرفع فيما عدى المواضع الأربعة إنما اختار ذلك لعدم ثبوته عنده بطريق صحيح، لا لأنه كان مشروعاً ثم ترك ونسخ، فلا يكون عدم القول به دليلاً على وقوع النسخ. والثالث أن القائلين بالرفع في المواضع الأربعة ما تركوا المتفق عليه،

بل قد أخذوه، ثم أخذوا أيضاً ما واظب عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما قد أجمع عليه الصحابة بعده، وما هو ثابت بتواتر الإسناد والعمل، بخلاف الحنفية فإنهم تركوا بل طرحوا الثابت، وتمسكوا بما لم يثبت، وليس الأخذ بالضعيف أو غير الثابت من الاحتياط في شيء، إنما الاحتياط في الأخذ بما ثبت لا بما لم يثبت. ومنها ما قال هذا البعض أيضاً: أن الصلاة انتقلت عن الحركات إلى السكون، فإنه كان في أول الأمر المشي وأمثاله مباحة، فلما تعارضت الروايات أخذت الحنفية الأقرب إلى السكون. وفيه أن هذا الوجه يرجع إلى ما ذكره هو أولاً وقد بينا فساده. ثم نقول: إن تلك الحركات كانت من الأمور العادية، ومنع منها لكونها منافية للخشوع والسكون، بخلاف الرفع المتنازع فيه، فإنه من أمور العبادة وليس منافياً للخشوع، بل هو مورث للخشوع أو عينه كما بينا، ولم يثبت التغيير فيه أصلاً كما صرح به غير واحد من علماء الحنفية، وادعاء التعارض بين أحاديث الرفع والترك جهل، فإنه لا بد لتحققه من المساواة في القوة، والضعيف لا يعارض القوي والصحيح. والعجب ممن يفرق بين الرفع في القنوت والعيدين، وبين الرفع في المواضع الثلاثة، مع أن الرفعين من جنس واحد، ومع أن الترك مطلقاً أقرب إلى السكون، ومع أن الرفع في القنوت والعيدين لم يثبت مرفوعاً بسند صحيح، ومع أن الرفع في المواضع الثلاثة ثابت حقاً. ومنها ما قال هذا البعض أيضاً: أن أكثر من روى أحاديث الرفع تشمل رواياتهم الزائد من المواضع الثلاثة، فهو متروك عند من استدل بها أيضاً. وأحاديث الناقلين للترك محكم في موداه ليست مما يؤخذ بعضها ويترك بعضاً. وفيه أن الأحاديث في ذلك على ثلاثة أنواع: الأول أحاديث الترك في غير التحريمة. والثاني أحاديث الرفع في المواضع الثلاثة فقط. والثالث الأحاديث التي فيها الرفع زائداً على المواضع الأربعة. وقد سبق أن أحاديث الناقلين للترك كلها ضعيفة غير صالحة للاستدلال، بل بعضها باطلة موضوعة، فليست هي مما يؤخذ أصلاً لا كلاً ولا بعضاً، بل هي مما يترك ويطرح رأساً، ومع ضعفها محتملة للتأويل بخلاف النوع الثاني، أي أحاديث الرفع في المواضع الثلاثة فقط، فإنها صحيحة ثابتة محكمة في موادها، فيجب الأخذ بها على كل مسلم. وأما الأحاديث التي فيها الرفع زائداً على المواضع الأربعة فلم تثبت ولم يصح منها شيء، ولذلك لم نقل بالرفع في غير هذه المواضع. وأصل استدلال القائلين بالرفع ليس بهذه الأحاديث بل بالنوع الثاني، وهي محكمة في موادها ليست مما يؤخذ بعضها ويترك بعضها. ومنها ما قال هذا البعض أيضاً: أن روايات الفعل متعارضة، ورواية القول سالمة من المعارضة، فتبقى حجة. وفيه ما تقدم آنفاً من أن دعوى التعارض باطلة لتوقفه على المساواة في القوة والضعف، وأحاديث الخصوم كلها ضعيفة لا تصلح للمعارضة، ولو تنزلنا وسلمنا قوتها وصحتها فلا تصلح للمعارضة أيضاً، فإن أحاديث الرفع أقوى وأصح وأكثر قد بلغت التواتر، وبعضها متفق عليه، فمعارضتها بأحاديث الترك وجعلها ساقطة بادعاء التعارض بلادة ظاهرة. وأما رواية القول يعني حديث جابر بن سمرة: "مالي أرى رافعي أيديكم" فقد حققنا بما لا مزيد عليه أنه لا ذكر فيها للرفع المتنازع فيه،

وأن الاستدلال بها على ترك الرفع ونسخة جهل قبيح. ومنها ما قال هذا البعض: أن التعارض إذا وقع في الفعل والقول يقدم القول. وفيه أنه لم يرد في الترك حديث قولي، وأما حديث جابر فقد تقدم أنه ورد في الرفع عند السلام لا في الرفع المتنازع فيه. ومنها ما قال هذا البعض أيضاً ملخصاً لكلام الإمام محمد في موطأه: أن الناقلين للترك أولو الأحلام والنهى فكان موقفهم الصف الأول، فهم أعلم بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بخلاف مثل عبد الله بن عمر فإنه استصغر يوم أحد، وأول مشاهده الخندق. وفيه أنه لم ينفرد ابن عمر برواية الرفع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل اشترك معه جمع كثير من الصحابة كأبي بكر عند البيهقي، وعمر عند الدارقطني، وعلي عند أبي داود وغيرهم ممن ذكرهم السيوطي في رسالته. ولا شك أن هؤلاء أولو الأحلام والنهى، ومن أهل بدر، ومن الخلفاء الراشدين، ومن أهل الصف الأول، فهم أعلم بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليس في كبار الصحابة من روى عدم الرفع في غير الافتتاح إلا ابن مسعود مع أنه لم تثبت روايته عند المحدثين، فانعكس الأمر، وترجح الرفع بما لا يدفع. ومنها ما قال هذا البعض أيضاً: أن الرفع في غير التحريمة يدور بين السنية ونسخها لتعارض الروايات، ومعلوم أن الشيء إذا يدور بين السنة والبدعة يرجح الثاني، ومن المعلوم أيضاً أنه يرجح المحرم على المبيح أبداً. وقال صاحب الكوكب الدري - وهو شيخ مشائخ هذا البعض-: الاحتياط فيما ذهب إليه الإمام أبوحنيفة؛ لأن رفع اليدين على تقدير نسخه يكون عملاً بالمنسوخ، وعدم الرفع على تقدير استحبابه يكون ترك أدب، وإحداث بدعة أشنع من ترك أدب. وفيه أن مقتضى هذا الوجه أن يكون الرفع في غير التحريمة مكروهاً؛ لأنه إما دائر بين أن يكون سنة على تقدير استحبابه، وبين أن يكون بدعة على تقدير نسخه، أو دائر بين أن يكون مباحاً لأحاديث الرفع، وبين أن يكون محرماً لحديث جابر بن سمرة: مالي أرى رافعي أيديكم. وهذا مخالف لما تقدم من تصريح صاحب الكوكب بأنه لا خلاف في الجواز وعدم الجواز، وإنما النزاع في أن الأولى هل هو عدم الرفع أو الرفع، فاخترنا الأول واختار الشافعية الثاني، فإن كلامه هذا يدل على أن المحقق عنده أن جواز الرفع ليس بمنسوخ،، بل هو باق إلى الآن، وإنما المنسوخ هو استحبابه، فالأولى والمستحب عنده هو ترك الرفع، وهو أيضاً مخالف لتصريحات المحققين من الحنفية كأبي بكر الجصاص الرازي، فإنه صرح بأن الاختلاف في الأفضلية لا في الجواز، وتبعه في ذلك الشيخ محمد أنور الكشميري وقال: القول بكراهة التحريم في مسألة متواترة بين الصحابة شديد عندي. وقال جامع تقاريره: من رفع فهو على حق وسنة. وكالشاه ولي الله الدهلوي فإنه صرح بكون الرفع سنة، وبأن الذي يرفع أحب إليه ممن لا يرفع. وكتلميذه الشيخ محمد معين السندي فإنه رد على الحنفية رداً مشبعاً، وحقق كون الرفع سنة متواترة واظب عليها النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكالشيخ أبي الحسن السندي صاحب

الحواشي على الأصول الستة. والشيخ عبد الحي اللكنوي شيخ النيموي فإنهما صرحا بأن الرفع أرجح من الترك. وقد حققنا بما لا يدفع أن أحاديث الترك ضعيفة لا تصلح لمعارضة أحاديث الرفع لضعفها. ولأنه لا تعارض بين الفعل والترك؛ لأن مجرد الترك لا يدل على نسخ الجواز، ولقد صدق ابن الجوزي حيث حكم بالبلادة على من حاول معارضة أحاديث الرفعات بما روى من الأحاديث في عدم الرفع، فقال: ما أبلد من يحتج بهذه الأحاديث يعني التي تروى في عدم الرفع إلا مرة في التحريم ليعارض بها الأحاديث الثابتة. وقال البخاري: من زعم أنه بدعة فقد طعن في الصحابة، فإنه لم يثبت عن أحد منهم تركة- انتهى. وليس في كلام البخاري هذا شيء من المبالغة كما توهم بعض الحنفية. وقد قررنا أيضاً أن حديث جابر بن سمرة ليس بوارد في الرفع المتنازع فيه، فإذن لا احتمال، ولا مجال ههنا للقول بالنسخ والتحريم، فلم يبق حينئذٍ إلا جهة كون الرفع سنة ثابتة مستمرة، وكون خلافه مرجوحاً بل باطلاً، ولا شك أن الاحتياط إنما هو في العمل بالسنة الثابتة لا في ردها وتركها ومخالفتها. والعجب من هذا البعض وأمثاله إنهم يخترعون مثل هذه الوجوه الواهية المضحكة لرد الأحاديث الصحيحة الثابتة المتواترة. هداهم الله تعالى إلى الصراط المستقيم، إلى إتباع سنن نبيه الكريم. ومنها ما قال هذا البعض أيضاً أن رواة المنع والترك أفقه من رواة المثبتين. وهذا مما لم يقدر على إنكاره الأوزاعي أيضاً فيقدم روايتهم. وفيه أنه ليس في كتب الحديث على اختلاف أنواعها حديث مرفوع صحيح، أو ضعيف صريح في المنع عن الرفع في المواضع الثلاثة. ولا يمكن للحنفية أن يأتوا بحديث صريح في المنع عن الرفع المتنازع فيه ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً. وأما قوله: إن رواة أحاديث الترك أفقه، ثم ترجيحها بذلك على أحاديث الرفع، فهو ادعاء محض وتحكم مجرد، بل الأمر على خلاف ما قال هذا البعض كما سترى. وقد أشار بذلك على ما حكى أنه اجتمع أبوحنيفة مع الأوزاعي بمكة في دار الحناطين، فقال الأوزاعي: ما لكم لا ترفعون عند الركوع والرفع منه؟ فقال: لأجل أنه لم يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: الأوزاعي: كيف لم يصح وقد حدثني الزهري، عن سالم، عن أبيه، ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، وعند الركوع، وعند الرفع منه. فقال أبوحنيفة: حدثنا حماد، عن إبراهيم، عن علقمة والأسود، عن عبد الله بن مسعود: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يرفع يديه إلا عند الافتتاح ثم لا يعود. فقال الأوزاعي: أحدثك عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، وتقول: حدثني حماد عن إبراهيم؟! فقال أبوحنيفة: كان حماد أفقه من الزهري، وكان إبراهيم أفقه من سالم، وعلقمة ليس بدون ابن عمر أي في الفقة، وإن كان لابن عمر صحبة، وله فضل صحبته، وللأسود فضل كثير، وعبد الله عبد الله. ذكر هذه الحكاية ابن الهمام في فتح القدير، ومنه نقلها على القاري في المرقاة، والشيخ أحمد علي السهارنفوري في حاشية البخاري. قال ابن الهمام بعد ذكرها. فرجح أبوحنيفة بفقة الرواة كما رجح الأوزاعي بعلو الإسناد وهو أي

الترجيح بالفقة المذهب المنصور عندنا-انتهى. والقصة مشهورة بين الحنفية، لكن لا يشك من له أدنى عقل ودراية أنها حكاية مختلقة، وأكذوبة مخترعة. كيف ولم يذكرها أحد من تلاميذه أبي حنيفة وأصحابه، ولا أحد من متقدمي الحنفية، ولو كان لها أصل لذكرها محمد في موطأه أو في غيره من تصانيفه مع أنه لم يشر إليها أدنى إشارة. نعم ذكرها السيد مرتضى الحسيني في عقود الجواهر المنيفة في أدلة مذهب الإمام أبي حنيفة (ج1: ص43) نقلاً عن مسند أبي محمد عبد الله بن محمد بن يعقوب الحارثي البخاري المتوفي سنة (340) قال: روى الحارثي في مسنده قال: حدثنا محمد بن إبراهيم بن زياد الرازي: ثنا سليمان بن داود الشاذكوني ... الخ. وقال: وسليمان الشاذكوني واهٍ مع حفظه، إلا أن القصة مشهورة. وقال ابن التركماني في الجوهر النقي (ج2: ص82) : قال الرازي: الشاذكوني ليس بشيء، متروك الحديث. وقال البخاري: هو عندي أضعف من كل ضعيف. وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال مرة: كان يكذب ويضع الحديث-انتهى. قلت: وعبد الله الحارثي جامع مسند أبي حنيفة متهم بوضع الحديث. قال الذهبي في الميزان (ج2: ص74) : عبد الله بن محمد بن يعقوب الحارثي البخاري الفقيه عرف بالأستاذ. قال ابن الجوزي: قال أبوسعيد الرواس: يتهم بوضع الحديث. وقال أحمد السليماني: كان يضع هذا الإسناد على هذا المتن، وهذا المتن على هذا الإسناد، وهذا ضرب من الوضع. وقال حمزة السهمي: سألت أبازرعة أحمد بن الحسن الرازي عنه، فقال: ضعيف. وقال الحاكم: هو صاحب عجائب وأفراد عن الثقات. وقال الخطيب: لا يحتج به. وقال الخليلي: يعرف بالأستاذ، له معرفة بهذا الشأن، وهو لين، ضعفوه. حدثنا عنه الملاحمي وأحمد بن محمد البصير بعجائب. قال الذهبي: وقد جمع مسنداً لأبي حنفية - انتهى. قال الحافظ في اللسان (ج3: ص349) : وبقية كلام الخليلي: كان يدلس، وقال الخطيب: كان صاحب عجائب، ومناكير، وغرائب، وليس بموضع الحجة، وعلى كون هذه الحكاية مختلقة أدلة عقلية أيضاً، فمنها أنه جعل فيها مبنى الترجيح على فقه الراوي، ومرجعه إلى مسألة الرواية بالمعنى؛ لأنه يتعلق بمعرفة مدلولات الألفاظ كما لا يخفى، لكن مسألة الرفع خارجة عنها، فإن الترجيح بالفقه إنما يمكن في أقواله - صلى الله عليه وسلم - لا في أفعاله وأحواله وتقريراته. ومن المعلوم أن رفع اليدين في الصلاة من الأفعال لا من الأقوال، وإليه أشار الإمام الرازي حيث قال: أي مدخل للتفقه في الأمور الحسية؟ ومنها أن أبا حنيفة قال أولاً: لم يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه شيء، وكان مقتضى الحال أن يذكر حديث ابن مسعود، فإن الدليل على ترك الرفع في غير الافتتاح عند أهل الكوفة إنما هو حديث ابن مسعود، لا عدم ورد حديث صحيح في الرفع. ومنها أنه عارض بعد ذلك حديث ابن عمر بحديث ابن مسعود، فكأنه سلم صحة حديث الرفع بعد ما أنكر صحته أولاً، وهذا كما ترى صريح تناقض. ومنها أن المراد بالفقة إن كان هو الفهم والذكاء، وقوة الاستنباط والاستخراج فلا شك أن الزهري أفقه من حماد، وسالماً أفقه من إبراهيم، وابن عمر

مع كونه صحابياً أفقه من علقمة والأسود كما يظهر من كتب أسماء الرجال. وعلى هذا فالترجيح يكون لحديث ابن عمر لعلو سنده ولصحته، ولكون رواته أفقه، ولكونه مثبتاً، لا لحديث ابن مسعود لعدم وجود هذه الأمور فيه. قال الشيخ محمد معين السندي الحنفي تلميذ الشاه ولي الله الدهلوي في دراساته (ص177-184) : ومن الإغراب البديع معارضة حديث الرفعات من أكثر الحنفية بما حكى ابن عينية أنه اجتمع أبوحنيفة مع الأوزاعي بمكة في دار الحناطين، فقال الأوزاعي - فذكر مناظرتهما بمثل ما قدمنا ثم قال -: وذلك الإغراب من وجوه، الأول: أن هذه الحكاية عن ابن عينية معلقة، ولم أر من أسندها. ومن عنده السند فليأت به حتى ننظر رجاله. والمعلقات من أمثالها ليس من الاحتجاج في شيء، ولهذا لم يتعرض لها الحافظ الزيلعي في تخريج الهداية مع استيفائه حجج المسألة من كل قوي وضعيف يعتبر به ويشهد له، وذلك لأن المعلق من غير الجامع الصحيح كما لا يحتج به لا يصلح للاعتبار والشهادة مطلقاً. وليس في ذلك كالضعاف الذي تنقسم إلى ما يعتبر بها وإلى ما لا يعتبر، ولهذا يقول الإمام الدارقطني في تفاوت مراتب الرجال: فلان يعتبر به وفلان لا يعتبر به. ومن هذا سقط ما أشار إليه ابن الهمام من الاعتبار والشهادة بقوله: ويؤيد صحة هذه الزيادة يعني زيادة بعض الرواة في حديث ابن مسعود: "ثم لا يعود" رواية أبي حنيفة من غير الطريق المذكور، وذلك أنه اجتمع مع الأوزاعي بمكة في دار الحناطين كما حكى ابن عينية إلى آخرها، لما عرفت من تعليقها وحكم التعاليق. الثاني: أن قول أبي حنيفة في هذه الحكاية: "لم يصح فيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء" مفصح من عدم علمه بحديث ابن عمر على ما هو المتبادر الظاهر من كلامه، والتقييد بأن يقال: أراد عدم صحته بشيء غير معارض، كما ارتكبه القاري في شرح الموطأ من رواية محمد، خلاف الظاهر - قلت: قال القاري في المرقاة: قوله: "لم يصح فيه شيء" أي لم يصح معنى إذ هو معارض، وإلا فإسناده صحيح - فبإخبار الأوزاعي بمجرده من غير تصحيحه على شرائط الملتزمة عنده يجوز أن لا يحصل له الثقة بذلك فجرى الكلام معه على ما جرى. الثالث: فقه الرواة لا أثر له في صحة المروي، وإنما مدارها على العدالة والضبط، وكلما اشترط في صحة الحديث، إذ قلة الفقه لا يوجب الوهن في شرائط التحمل وما يلازمه الوثوق بالرواية، وإذا انتفى ذلك بقي العلو لسند ابن عمر مع ما له من الصحة. والحنفية لا يعتقدون أيضاً أن قلة فقه الراوي مما يتطرق به الوهن إلى مرويه، بل يرون أن رواية قليل الفقه من الصحابة إذا خالفها القياس من كل وجه يقدم القياس عليها من غير أن يتطرق عندهم وهن بعدم فقه الراوي في صحة مروية, أو يحصل زيادة وثوق بفقه الراوي لصحة مروية من مروي من دونه في الفقه. وما ذهبوا إليه من تقديم القياس على رواية مثل أبي هريرة، وأنس بن مالك, وجابر بن سمرة، وهم عندهم ممن يقل فقههم من الصحابة قد وقع عليهم بذلك الطعن الشديد, لا سيما في حكمهم على أبي هريرة بقلة الفقه، حيث نسبوهم بعظم الجسارة بهذا القول، وكما وقع

الطعن من هذا الوجه وقع على أشد من ذلك من حيث استلزام هذا القول منهم تقديم الرأي على السنة الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعدم التعبد في كلام الشارع المعصوم - صلى الله عليه وسلم -، فإن السند فيه باب القياس، وتعويلهم على رأي من يجوز عليه الخطأ والرجوع عن رأية في ساعة. وقد جروا على ذلك في حديث المصراة من مسند أبي هريرة، وقد أجبنا عنه في وريقات بما يتبين به وفاق القياس بالحديث من غير خافية، - ثم ذكر ما عللوا به تقديم القياس على السنة وبسط الكلام في الرد عليه ثم قال -: وإذ تبين أنه لا أثر لفقه الراوي في صحة الحديث وقوته على حديث غير الفقية، وأن أصحاب أبي حنيفة - أي المتأخرين - إنما يرون الأثر لكثرة الفقه وقلته من جهة أخرى غير ترجيح المروى- وهي تقديم القياس على فساده- فنسبة القول بترجيح رواية الفقية على غير الفقية إلى أبي حنيفة في هذه الحكاية من أمارات الإختلاق عليها. الرابع: كما دل العقل على أن فقه الراوي لا أثر له في صحة الرواية فلا يستند قول ذلك إلى أبي حنيفة دل النقل من الثقات على أنه قول موضوع مختلق على السلف الصالح، ومستحدث من المتأخرين ممن لا يعبأ بقوله على وضوح فساده. شهد بذلك فخر الإسلام، والشيخ الأجل عبد العزيز صاحب الكشف والتحقيق، وهو شيخ الإمام ابن الهمام. وصرح بذلك في التحقيق. قال: ولم ينقل من أحد من السلف اشتراط الفقه من الراوي، فثبت أنه قول مستحدث انتهى. وإذا اجتمع العقل والنقل قويت الأمارات، وصارت دليلاً قطعياً على كذب الحكاية واختلاقها. الخامس: سلمنا أن لفقه الراوي أثراً على ترجيح مرويه على مروي غير الفقيه- كأبي هريرة وأنس وجابر عند المتجاسرين من بعض الحنفية- فلا نسلم أن رجال حديث ابن عمر غير فقهاء، ترجح على مرويهم حديث ابن مسعود لفقه رواته، وكون رجاله أفقه من رجال ابن عمر إن سلم فلا نسلم حصول الترجيح بحديث ابن مسعود بحيث يترك به رأساً حديث ابن عمر لرجوعه إلى باب خلاف الأضبط مع الضابط، والترجيح الحاصل بكثرة الضبط مع إتقان ضبط المخالف على ما يدفع مخائل الخطأ عنه لا يوجب ترك المرجوح رأساً وعدم العمل به أصلاً حتى يعد من مكروهات الصلاة، بل البدعة الحادثة. على أن حديث ابن عمر في الرفعات قد عرفت فيما سبق أنه قل حديث يوازيه في القوة وأنه من المتواترات، فهو طور موطر لا يزعزعه عاصفات الرياح فضلاً عن غيرها. ولقد صدق ابن الجوزي حيث قال: ما أبلد من يحتج بهذه الأحاديث يعني التي تروى في عدم الرفع إلا مرة في التحريم، ليعارض بها الأحاديث الثابتة، حكاه الحافظ ابن حجر في تخريج مسند الرافعي (ص83) . وحاصل الكلام ههنا أن هذه الحكاية عن أبي حنيفة بعد كونها معلقة غير مقبولة قد قامت الدلائل الواضحة على عللها القادحة فيستغرب الإقدام ممن يقدم على إيرادها في محل الاحتجاج أو الاعتبار انتهى كلام الشيخ محمد معين مختصراً. ومنها ما قال هذا البعض أيضاً: أن مقتضى القياس ترجيح روايات الترك؛ لأن الشرع جعل لانتقالات الصلاة علامة، وهي التكبير والذكر، وجعل لابتداء الصلاة وانتهائها علامة أخرى أيضاً

مع الذكر، وهي الرفع عند البداية، وتحويل الوجه عند السلام، فينبغي أن يكون حكم الانتقالات واحداً على وفق نظائرها، وحكم الطرفين واحداً. وفيه كلام من وجوه، الأول: أن المصير إلى القياس إنما يكون إذا تعارض النصان، وهو ههنا منتف لما تقدم مراراً من عدم موازاة أحاديث الترك لأحاديث الرفع، ولو سلم التعارض فالرجوع إلى القياس إنما يكون إذا لم يمكن الجمع، وأما إذا أمكن يلزم أن يجمع، وههنا العمل بكلتيهما ممكن كما حققه السندي والشيخ عبد الحي اللكنوي وغيرهم ممن لم يقل بنسخ جواز الرفع، وإذا كان الأمر كذلك فمرجع هذا الوجه ترك السنة الصحيحة الثابتة المتواترة بمجرد القياس، ولا يجتريء عليه إلا مقلد جاهل. أو عالم متعصب لرأي إمامه. والثاني: أن الشرع الذي جعل لابتداء الصلاة علامة الرفع مع الذكر قد جعل لانتقالاتها أيضاً هذه العلامة، وهذا مما لا يمكن إنكاره لأحد كائناً من كان، فالإقرار بشرعية هذه العلامة في موضع وإنكارها في موضع آخر مع أنهما ثابتان بتواتر الإسناد والعمل بعيد من العاقل. والثالث: أن القياس يقتضي ترجيح روايات الرفع في المواضع الثلاثة، أي عند الركوع، وبعد رفع الرأس منه إرادة الهوي للسجود، وعند القيام إلى الركعة الثالثة؛ ليكون حكم جميع الانتقالات واحداً. وإليه أشار الشاة ولي الله حيث قال: السر في ذلك أن رفع اليدين فعل تعظيمي، ينبه النفس على ترك الأشغال المنافية للصلاة والدخول في حيز المناجاة، فشرع ابتداء كل فعل من التعظيمات الثلاث لتنتبه النفس لثمرة ذلك الفعل مستأنفاً- انتهى. والرابع: أن قوله "فينبغي أن يكون حكم الطرفين واحداً" يقتضي أن يشرع الرفع عند السلام أيضاً ليكون الطرفان متشابهين، ولا إغراب في ذلك؛ لأن هذا من نتائج تحكيم القياس والاعتماد على الرأي مع وجود النص الصريح الصحيح. ومنها ما ذكر هذا البعض أيضاً نقلاً عن الباجي: أن كل تكبير شرع في الصلاة يكون عند عمل قرن به للانتقال من حال إلى حال، فلما لم يكن عند تكبيرة الإحرام عمل من الانتقال عن حال إلى حال قرن به رفع اليدين، كما قرن بالسلام الإشارة بالوجه والرأس لما لم يكن عنده الانتقال من حال إلى حال- انتهى. وحاصله أن مقتضى القياس أن لا يشرع الرفع مع التكبير المقرون بعمل من الانتقال من حال إلى حال لعدم الاحتياج إلى عمل الرفع مع وجود عمل الانتقال، لكون هذا العمل كافياً للدلالة على الانتقال بخلاف التكبير الغير المقرون مع عمل الانتقال، فإن عدم وجود عمل دال على الانتقال هناك يقتضي أن يشرع الرفع منه، ليكون عمل الرفع علامة الانتقال من حال إلى حال، فترك الرفع في غير الافتتاح موافق للقياس من هذه الجهة بخلاف الرفع، فيترجح الترك ورواياته على الرفع ورواياته. وفيه أن القياس الصحيح يرجح الرفع لا الترك لما تقدم أن رفع اليدين فعل تعظيمي ينبه النفس على ترك الأشغال المنافية للصلاة والدخول في حيز المناجاة، ولذلك ابتدأ به في الصلاة فينبغي أن يشرع ابتداء كل فعل من التعظيمين أيضاً به لتنتبه النفس لثمرة ذلك الفعل مستأنفاً، وليكن التعظيمات الثلاث في حكم واحد، وليتقوى العبادة بتوافق القول وعمل الجوارح. ولما تقدم أيضاً أن ترك

الرفع عدمي محض وترك عبادة، بخلاف الرفع فإنه وجودي وعبادة، فيترجح على الترك. وقد ظهر من هذا أن القياس الذي أبداه الباجي ثم نقله هذا البعض عنه لترجيح الترك مردود، لما فيه من إهمال أحاديث الرفع الصحيحة الثابتة المتواترة وطرحها، بخلاف ما ذكرنا من الوجهين لترجح الرفع فإنه موافق لهذه الأحاديث ومؤيد بها، فلا يشك في كونه صحيحاً ومقبولاً. ومنها ما ذكر هذا البعض أيضاً نقلاً عن الطحاوي, وذكره الزيلعي أيضاً في نصب الراية. قال الطحاوي: مذهبنا أيضاً قوي من جهة النظر، فإنهم أجمعوا على أن التكبيرة الأولى معها رفع، وأن التكبيرة بين السجدتين لا رفع بينهما، واختلفوا في تكبيرة الركوع وتكبيرة الرفع منه، فألحقهما قوم بالتكبيرة الأولى، وألحقهما قوم بتكبيرة السجدتين. ثم إنا رأينا تكبيرة الافتتاح من صلب الصلاة، لا تصح بدونها الصلاة، والتكبيرة بين السجدتين ليست بذلك، ورأينا تكبيرة الركوع والنهوض ليستا من صلب الصلاة فألحقناهما بتكبيرة السجدتين-انتهى. وفيه نظر من وجوه، أولها: أن الرفع عند التكبيرة الأولى ليس بمجمع عليه، فإن مالكاً قال في رواية عنه: أنه لا يستحب، نقله صاحب التبصرة، وحكاه الباجي عن كثير من متقدميهم، كذا في الفتح (ج3: ص403) . وفي المنتقى شرح الموطأ لأبي الوليد الباجي: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن رفع اليدين عندها مشروع، وروي عن بعض المتقدمين المنع عن ذلك- انتهى. واستدل لهم بحديث جابر بن سمرة: "مالي أرى رافعي أيديكم"، وبما روى الطحاوي عن الأسود قال: صليت مع عمر فلم يرفع يديه في شيء من صلاته. وبما نقل بعض الحنفية عن الطحاوي أنه روى عن إبراهيم قال: كان عبد الله بن مسعود لا يرفع يديه في شيء من الصلاة. ثانيا: أن ترك الرفع بين السجدتين أيضاً ليس بمجمع عليه، فقد ذهب إلى شرعيته أيوب السختياني وطاووس ونافع وعطاء وغيرهم. وقد قال به من الشافعية ابن المنذرو ابن خزيمة وأبوعلي الطبري وغيرهم. وثالثها: أن الذين قالوا بالرفع عند تكبيرة الركوع ورفع الرأس منه إنما اعتمدوا في ذلك على ما ورد فيه من الأحاديث الصحيحة، لا على قياس تكبيرة الركوع والنهوض على التكبيرة الأولى وإلحاقها بها. رابعها: أن تكبيرة الركوع والنهوض، وكذا تكبيرات السجود الظاهر أنها واجبة، ومن صلب الصلاة مثل التكبيرة الأولى، لما روى أبوداود وابن حزم في المحلى (ج3: ص 256) ، وابن الجارود في المنتقى (ص103، 104) وغيرهم حديث المسيء في صلاته بلفظ: "لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله ... " الحديث. وفيه ذكر جميع التكبيرات بسياق واحد، ولما روى أبوداود أيضاً عن أبي موسى الأشعري: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبنا وعلمنا وبين لنا سنتنا، وعلمنا صلاتنا" الحديث. وفيه: "فإذا كبر - أي عند الافتتاح - فكبروا". وفيه أيضاً: "فإذا كبر وركع فكبروا واركعوا". وفيه أيضاً: "وإذا كبر وسجد فكبروا واسجدوا". فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تتم صلاة أحدكم حتى يفعل كذا وكذا". وقوله: "كبروا". يدلان على وجوب تكبيرات الانتقالات. قال ابن قدامة في المغنى: المشهور عن أحمد أن تكبير الرفع والخفض واجب. وهو قول داود وإسحاق- انتهى. قلت: وهو قول ابن حزم، وهو أيضاً

مؤدى رواية ابن القاسم من المالكية، إذ قال: لو أسقط ثلاث تكبيرات سجد للسهو، وإلا بطلت الصلاة- انتهى. ومنها ما يفهم من كلام بعض الحنفية في رسالته في مسألة رفع اليدين: أن الرفع والترك كلاهما ثابتان في الخارج لاتصال العمل بهما من لدن عصر النبوة إلى يومنا هذا، لكن من استقصى صفة الصلاة من الصحابة لم يذكر كثير منهم الرفع، وسكوتهم عن ذكره في حكم ذكر الترك، وحينئذٍ يزيد عدد روايات الترك على روايات الرفع، ومن المعلوم أن الكثرة من المرجحات عند الاختلاف كما صرح به الحازمي والعيني وغيرهما. وفيه أنه لم يثبت ترك الرفع في الخارج عن أحد إلا عن جماعة من أهل الكوفة كما تقدم، وعلى هذا فالروايات التي ليس فيها ذكر الرفع مع بيان صفات الصلاة الأخرى تحمل على أن الرواة اختصروا فيها ذكر الرفع لشهرته، فربما يذكر الراوي ما يحتاج إليه السائل، ويحذف ما كان معلوماً ومشهوراً، فسكوت من سكت عن ذكر الرفع لا يكون في حكم ذكر العدم والترك، فإيراد الحنفية هذه الأحاديث المختصرة الساكتة عن ذكر الرفع لإثبات الترك إيراد في غير محلها. وأما ما قال هذا البعض: أن كثيراً ممن استقصى صفة الصلاة لم يذكروا الرفع، فهو ادعاء محض، ولو سلم ذلك كله فلا يزيد بذلك عدد روايات الترك؛ لأن رواة الرفع قد بلغوا خمسين، بل قد صح فيه أربعمائة خبر وأثر، ورواه العشرة المبشرة على ما قاله المجد الفيروز آبادي في سفر السعادة. ولا وجه لحمل قوله على المبالغة كما توهم بعض الحنفية. ومنها ما يفهم من كلام هذا البعض أيضاً أنه جاء في التحريمة وغيرها من بعض أفعال الصلاة وأحوالها وأذكارها أحاديث قولية وفعلية، وفي بعضها أحاديث قولية فقط، ولم يرو حديث قولي في الرفع في غير الافتتاح أصلاً، وكثير ممن استقصى صفة الصلاة لم يذكره، وهذا يدل على أن الرفع ليس مقصوداً أصلياً. وفيه أن بت الحكم بعدم ورود حديث قولي في الرفع في غير الافتتاح متعذر بل هو غير صحيح، كيف وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمالك بن الحويرث وأصحابه بعد ما صلى بهم مع عمل الرفع: صلوا كما رأيتموني أصلي. فقوله هذا متضمن للأمر بالرفع في غير الافتتاح أيضاً. ولو سلم عدم ورود حديث قولي صريح فيه فلا يدل ذلك على أن الرفع ليس بمقصود أصلي؛ لأن مواظبته - صلى الله عليه وسلم - عليه ثم إجماع الصحابة عليه بعده وتواتر العمل به إلى يومنا هذا أهم وأعظم من ورود حديث قولي فيه. فهو أكبر دليل على كون الرفع مقصوداً ومطلوباً في الصلاة. وكيف لا يكون الرفع كذلك وهو فعل تعظيمي، وهو أيضاً فعل ينبىء عن ترك ما سوى الله، وتجديد التنبه لترك ما سوى الله أصل من الصلاة مطلوب. ومنها ما يفهم من كلام هذا البعض أيضاً أن استغراب الرواة الرفع وترددهم فيه وتساؤلهم عنه يرجح الترك، فعند أبي داود أن ميمون المكي رأى عبد الله بن الزبير وصلى بهم يشير بكفيه حين يقوم وحين يركع وحين يسجد وحين ينهض للقيام، فيقوم فيشير بيديه، فانطلقت إلى ابن عباس، فقلت: إني رأيت ابن الزبير صلى صلاة لم أر أحداً يصليها، فوصف له هذه الإشارة، فقال: إن أحببت أن تنظر إلى صلاة رسول الله

- صلى الله عليه وسلم - فاقتد بصلاة ابن الزبير. وعند أحمد في مسنده (ج2: ص145) : قال محارب بن دثار: رأيت ابن عمر يرفع يديه كلما ركع، وكلما رفع رأسه من الركوع. قال: فقلت له: ما هذا؟ قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الركعتين كبر ورفع يديه. وعنده أيضاً في (ج2: ص45) عن سالم بن عبد الله بن عمر، أنه رأى أباه يرفع يديه إذا كبر وإذا رفع رأسه من الركوع، فسألته عن ذلك، فزعم أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يصنعه. فتردد الرواة وتساؤلهم عنه يدل على خمول الرفع فيهم، وكونه متروكاً عندهم، وإلا لما استغربوه، وهذا يقتضي كون الترك أرجح. وفيه أن هذه الأحاديث الثلاثة تدل على أن الرفع سنة مستمرة غير منسوخة؛ لأنه لو كان جواز الرفع أو استحبابه منسوخاً لما أمر ابن عباس ميموناً المكي باقتداء صلاة ابن الزبير، ولما كان عمل ابن عباس وابن عمر بالرفع بعده - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه لا يجوز العمل بالمنسوخ، والاستمرار على غير المستحب والأولى. وكون الرفع سنة مستمرة غير منسوخة يقتضي أن الرفع أرجح من الترك. وأما قول ميمون: لم أر أحداً يصليها، فيمكن أن يكون المراد "لم أر أحداً أي في الكوفة"، فقد تقدم قول محمد بن نصر: أنه أجمع علماء الأمصار على مشروعية ذلك إلا أهل الكوفة. على أن ميموناً المكي هذا مجهول، وفيه أيضاً ابن لهيعة، وفيه مقال معروف، والسائل في الحديث الثاني محارب بن دثار، وهو كوفي، وقد علمت آنفاً أن ترك هذه السنة لم يكن إلا في الكوفة، فالظاهر أن محارباً لما رأى من ابن عمر خلاف ما عهده بالكوفة من عدم الرفع تعجب وسأل ابن عمر عن ذلك وهذا لعدم علمه بهذه السنة، وهذا لا يدل على كون الرفع مخمولاً ومتروكاً عندهم، وعلى فقدان العمل به فيهم. على أن استغراب محارب وتعجبه إنما كان من الرفع عند النهوض للركعة الثالثة، لا من الرفع عند الركوع وعند رفع الرأس منه، يدل على ذلك قول ابن عمر: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام في الركعتين كبر ورفع يديه، ولو لم يكن تعجب محارب من هذا الرفع لما سكت بسماع جواب ابن عمر المتقدم. وعلى هذا فإيراد هذا الحديث للاستدلال به على خمول الرفع عند الركوع والرفع منه، وعلى ترجح الترك فيهما ليس بصحيح. وأيضاً غاية ما تشير إليه هذه الروايات هو أن جماعة من الناس تسامحوا في هذه السنة فتركوها، كما أن بني أمية تركوا نفس التكبيرات، والمحافظة على أوقات الصلاة، والتعديل في الأركان ولا نعلم أحداً استدل بتسامحهم في هذه الأمور، وترك اهتمامهم بها، وتكاسلهم عنها، على أن ترك التكبيرات والتعديل، وتأخير الصلاة عن أوقاتها أرجح، فكذلك ههنا أيضاً لا يصح الاستدلال بهذه الروايات على خمول الرفع فيهم، ولا على كون الترك أرجح. سلمنا دلالتها على خمول الرفع، لكنها تدل عليه بالإشارة. ومن المعلوم أن العبارة مقدمة على الإشارة. علا أنه لا يعبأ بترك من تركه كائناً من كان بعد ما ثبت كونه سنة مستمرة متواترة إسناداً وعملاً، إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. ومنها ما قال هذا البعض أيضاً: أن تخصيص ابن عمر الرفع بالذكر من بين سائر صفات الصلاة، وتنويهه به، واهتمامه بأمره يدل على خموله في زمانه، ولذا لم يتوجه إلا إلى الرفع خاصة،

ولعله رأى فيه تركاً، فأراد إحياء الرفع، ورمى التاركين بالحصى، ولو لم يكن هناك تاركون فمن ذا الذي كان يرميهم؟ نعم: لو كان في طريق من طرق روايته ذكر صفات أخرى أيضاً لحملناه على الاختصار فقط، إلا أنه لما لم يتعرض إلا إلى هذا الجزء خاصة علمنا فيه خمولاً في زمانه بحيث احتاج إلى الاستدلال والتفصيل، ولو كان الرفع فاشياً ولم يكن هناك تارك كما زعموه فأي حاجة دعته إلى اهتمامه أي اهتمام. وقال تلميذه: إن التخصيص بالذكر مما يحتاج إلى نكتة، ألا ترى أن بعض الأمراء لما تركوا التكبيرات حالة الخفض احتاج الصحابة إلى التعرض لحالها خاصة، ففي البخاري عن عكرمة، قال: صليت خلف شيخ بمكة فكبر ثنتين وعشرين تكبيرة، فقلت لابن عباس: إنه أحمق. فقال: ثكلتك أمك، سنة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -. وعن سعيد بن الحارث، قال: صلى لنا أبوسعيد الخدري فجهر بالتكبير حين رفع رأسه من السجود وحين سجد وحين رفع من الركعتين. وفي الموطأ عن علي بن الحسين مرسلاً، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكبر في الصلاة كلما خفض ورفع، فلم تزل تلك صلاته حتى لقي الله. فما ترى أمثال ذلك كيف خصصوا التكبيرات بالذكر من بين سائر صفات الصلاة! فكما أن اعتناءهم ببيان التكبير دل عندهم على فقدان العمل في زمنهم، كذلك اعتناء ابن عمر بالرفع يدل على فشو العمل بالترك في الموضعين، وإثباته بين السجدتين، فاحتاج إلى إثباته أو نفيه. قال: وهناك نظائر أخرى بعضها ألصق من بعض، فقد أخرج مسلم عن جابر بن سمرة، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب قائماً، ثم يجلس، ثم يقوم، فيخطب قائماً، فمن نبأك أنه كان يخطب جالساً فقد كذب. وإنما احتاج إلى تأكيد القيام من بين سنن الجمعة؛ لأن بعضهم كعبد الرحمن بن أم الحكم كان يخطب قاعداً. وأخرج الشيخان عن ابن عمر قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبوبكر، وعمر يصلون العيد قبل الخطبة، ومثله روي عن جابر والبراء، وغيرهم. وذلك لأن بعض الأمراء كمروان بن الحكم كان قدم الخطبة، فقد علمت بما ذكرنا أن الصحابة ماذا كانوا يريدون من التخصيص بالذكر، وعليه فليقس حديث ابن عمر في رفع اليدين-انتهى. وفيه أن حديث ابن عمر هذا ليس فيه أدنى دلالة على خمول الرفع، وفقدان عمل الناس به، وفشو تركه في زمنه، بل هو يدل على عكس ما فهم منه هذا البعض، أي على كون الرفع سنة مستمرة فاشية معمولاً بها في زمانه، وكون خلافه مخمولاً في عصره؛ لأنه لم يرو الإنكار عن أحد من الصحابة على روايته وعمله به، بل وافقه كثير من الصحابة في رواية الرفعات، واتفق جميعهم معه على العمل بالرفع، وأيضاً صدق جماعة منهم أباحميد الساعدي في رواية الرفع، وهذا كله يدل على فشو هذه السنة في زمن الصحابة لا على خموله، نعم لا ننكر أنه كان هناك من غير الصحابة من يتركه إما لجهله بهذه السنة، وإما لرؤيته هذه السنة غير مؤكدة، وإما لتكاسله عنها كما ترك بعضهم التكبيرات ونحوها، فكان ابن عمر يعلم من تركها لجهله عنها، ويخبر بكونه سنة مؤكدة من يهون أمرها، ويحث على العمل بها من يتكاسل ويتوانى عنها، فكان إذا رأى مصلياً لا يرفع حصبه. رواه أحمد بسنده عن نافع بهذا

اللفظ. ورواه البخاري في جزئه بلفظ: "رماه بالحصى"، وترك بعض الناس هذه السنة لا يدل على كون الترك فاشياً وذائعاً، وعلى كون العمل بالرفع مفقوداً ومجهوراً ومتروكاً، بل يدل على شذوذ الترك وندرته وقلته كما لا يخفى. على أنا لا نسلم أن ابن عمر خصص الرفع بالذكر من بين سائر صفات الصلاة، ولم يتعرض لغيره من صفاتها؛ لأنه قد روي عنه صفات أخرى أيضاً للصلاة: ففي مسند أحمد (ج2: ص152) عن واسع، أنه سأل عبد الله بن عمر عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: كان يقول: الله أكبر كلما وضع وكلما رفع، ثم يقول: السلام عليكم ورحمة الله على يمينه، السلام عليكم على يسارة. ونحوه في (ج2: ص86) . وفيه أيضاً (ج2: ص147) عن سالم عن ابن عمر، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في صلاة الفجر حين رفع رأسه من الركعة، قال: ربنا ولك الحمد، في الركعة الآخرة. ثم قال: اللهم العن فلاناً- الحديث. وفيه أيضاً (ج2: ص147) عن نافع عن ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه، ورفع إصبعه اليمنى التي تلي الإبهام فدعا بها، ويده اليسرى على ركبته باسطها عليها. وفيه أيضاً (ج2: ص147) عن نافع عن ابن عمر، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجلس الرجل في الصلاة وهو يعتمد على يديه. وفيه أيضاً (ج2: ص72) أن رجلاً صلى إلى جنب ابن عمر فجعل يعبث بالحصى، فقال: لا تعبث بالحصى فإنه من الشيطان، ولكن اصنع كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع. قال هكذا..... وضع يده اليسرى وبسط على ركبته اليسرى، ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى، وكأنه عقد وأشار بالسبابة. وفيه أيضاً (ج2: ص14) عن ابن عمر، قال: بينا نحن نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ قال رجل في القوم: الله أكبر كبيراً، والحمدلله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من القائل كذا وكذا؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله! قال: عجبت لها، فتحت لها أبواب السماء. قال ابن عمر: فما تركتهن منذ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك. وهذه الروايات كما ترى مشتملة على صفات أخرى للصلاة غير الرفع، فروى ابن عمر لبعض أصحابه وهو ابنه سالم الرفعات، والتحميد، والقنوت في النازلة. ولمحارب بن دثار الكوفي الرفع فقط. ولبعضهم –وهو واسع- التكبير في كل خفض ورفع، والتسليم عن اليمين واليسار للانصراف من الصلاة. ولبعضهم-وهو مولاه نافع- الرفعات، ووضع اليدين على الركبتين في التشهد، ورفع المسبحة، والإشارة بها والنهي عن الاعتماد على اليدين في حالة الجلوس. ولبعضهم عقد الأصابع في التشهد، والإشارة بالسبابة. ولبعضهم شرعية قول الله أكبر كبيراً ... الخ. وعلى هذا فرواية الباب تحمل على الاختصار. ولو سلمنا عدم الاختصار في روايته، وأنه خصص الرفع بالذكر فنكتة التعرض لحالة خاصة إنما هو سؤال الجاهل عن هذه السنة، وعدم رفع بعض الناس لجهله، أو لرؤيته سنة غير مؤكدة، أو لتكاسله، وهذا لا يدل على خمول الرفع فيهم وفقدان العمل به عندهم، ولا على نسخه، ولا علىكون الترك أرجح والأولى.

وهذا كما تعرض الصحابة للتكبيرات خاصة لأجل ترك بعض بني أمية إباها، وتعرض جابر للقيام في خطبة الجمعة لأجل ترك معاوية أوعبد الرحمن بن أم الحكم القيام فيها. واهتم ابن عمر وغيره بأمر تقديم صلاة العيد على الخطبة لأجل تقديم مروان الخطبة على الصلاة. وتعرض جابر لكون صلاة العيد بغير أذان وإقامة. ولا شك أن تعرض هؤلاء الصحابة لهذه الأمور خاصة بسبب ترك بعض الناس لا يدل على كون التكبيرات والقيام في خطبة الجمعة وتقديم الصلاة على الخطبة، وكون صلاة العيد من غير أذان وإقامة مخمولة متروكة مهجورة، ولا على فقدان العمل بها في زمنهم، ولا على كون خلافها فاشياً ذائعاً. ولا نعلم أحد استدل بهذه الأحاديث على أن التكبيرات وغيرها مما تقدم ذكرها آنفاً منسوخة، أو على أن تركها أرجح وأولى، فكذا اعتناء ابن عمر بالرفع خاصة لا يدل على كون الرفع مخمولاً ومتروكاً ومهجوراً، وعلى كون تركه فاشياً ذائعاً شائعاً. ولذلك لم يذهب إليه ذهن أحد ممن كان قبل هذا البعض من المقلدين لكونه خلاف الظاهر والواقع حقاً. واعلم أنه قد تفوه بعض الحنفية أن حديث ابن عمر مع كونه مخرجاً في الصحيحين مضطرب من وجوه: أحدها الاختلاف في الرفع والوقف، فرفعه سالم ووقفه نافع. وثانيها الاختلاف في مواضع الرفع، فروي عنه بذكر الرفع في موضعين فقط أي عند الافتتاح وعند رفع الرأس من الركوع، وهو عند مالك في الموطأ، وبذكره عند الافتتاح والركوع، ورفع الرأس منه، وهو عن مالك خارج الموطأ، وبذكره بعد الركعتين أيضاً في رواية نافع، وعدم ذكره في رواية سالم بل بنفيه في رواية لنافع؛ فقد روى الدارقطني في الغرائب بإسناد حسن: "ولا يرفع بعد ذلك"، فإن ظاهره يشمل النفي عما عداً المواضع الثلاثة، وروي عنه بنفيه عند السجود في الصحيحين وغيرهما، وبذكره عنده في جزء رفع اليدين للبخاري، وفي المعجم الأوسط للطبراني، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: إسناده صحيح، وروي عنه الرفع في كل خفض، ورفع، وركوع، وسجود، وقيام، وقعود، وبين السجدتين، كما في مشكل الطحاوي. وثالثها الاختلاف في عمله؛ فروي عنه الرفع عند الافتتاح فقط، وهو عن مجاهد من طريق أبي بكر بن عياش، عن حصين. وقد تابع مجاهداً عبد العزيز بن حكيم، وعطية العوفي، وروي عنه الرفع عند الركوع والرفع منه، وعند النهوض للركعة الثالثة، وروي عنه الرفع عند السجدتين وبين الركعتين أيضاً كما في المحلي لابن حزم (ج4: ص93) ورابعها الاختلاف في مقدار الرفع، فروي عنه مرفوعاً الرفع حذو المنكبين عند رفع الرأس من الركوع كما يرفع حذو منكبيه عند الافتتاح وعند الركوع، وروي من عمله عند مالك أنه كان إذا رفع رأسه من الركوع رفعهما دون ذلك، ويعارضه ما في أبي داود، قال ابن جريج: قلت لنافع: أكان ابن عمر يجعل الأولى أرفعهن؟ قال: لا، سواء. قلت: أراد هذا البعض بادعاء الاضطراب في حديث ابن عمر الاعتذار عن ترك العمل به مع كونه صحيحاً مخرجا في الصحيحين. وهذا من عادة الحنفية خلفاً عن سلف أنهم إذا رأوا حديثاً يخالف قول إمامهم جعلوا يضعفونه،

وإن كان مخرجاً في الصحيحين، وفي أعلى مراتب الصحة، بل ولو كان متواتراً، وقد يحكمون عليه بكونه منسوخاً، وقد سلكوا في حديث ابن عمر المسلكين كما رأيت. وقد يأولون ما خالفهم بتأويلات يصير بها الحديث موافقاً لقول إمامهم، وهي في الحقيقة تكون تحريفات معنوية، وإذا وجدوا حديثاً ضعيفاً موافقاً لمذهبهم ومؤيداً لمسلكهم جعلوا يصححونه وإن كان في غاية الضعف، بل ولو كان ساقطاً أو موضوعاً باطلاً، كما صنعوا بحديث ابن عمر المروي في الخلافيات للبيهقي في رفع اليدين عند تكبير الافتتاح فقط. وقد تقدم البسط في الرد على دعوى نسخ حديث الباب وغيره من أحاديث الرفعات. وأما دعوى اضطرابه فهي أيضاً مردودة باطلة؛ لأن الوجوه التي ذكرها هذا البعض في إثبات اضطراب هذا الحديث من الاختلافات في الرفع والوقف. وفي محل الرفع، وفي مقداره ليس واحد منها موجباً لاضطراب الحديث لإمكان الجمع أو الترجيح، وشرط المضطرب أن يتعذر الجمع أو الترجيح. ولذلك لم ينتقد هذا الحديث على الشيخين أحد من النقاد الذين انتقدوا عليهما. قال الحافظ: الاختلاف على الحفاظ في الحديث لا يوجب أن يكون مضطرباً إلا بشرطين: أحدهما استواء وجوه الاختلاف؛ فمتى رجح أحد الأقوال قدم، ولا يعل الصحيح بالمرجوح. وثانيهما مع الاستواء أن يتعذر الجمع على قواعد المحدثين، أو يغلب على الظن أن ذلك الحافظ لم يضبط ذلك الحديث بعينه؛ فحينئذٍ يحكم على تلك الرواية وحدها بالاضطراب، ويتوقف على الحكم بصحة ذلك الحديث لذلك-انتهى. وههنا وجوه الاختلاف ليست بمستوية ولا تعذر الجمع بينهما كما سيأتي مفصلاً. أما الاختلاف الأول أي اختلاف سالم ونافع في الرفع والوقف فالراجح فيه الرفع وذلك من وجوه: أولها أن رواية سالم مجزومة الرفع، أي لم يختلف عليه أصحابه في الرفع والوقف، بل اتفقوا على روايته عنه مرفوعاً، بخلاف رواية نافع فإنها ليست مجزومة الوقف، أي لم يثبت نافع على الوقف، بل روى مرة مرفوعاً فوافق سالماً في الرفع وأخرى موقوفاً. واختلف عليه أصحابه فروى الليث ومالك وابن جريج عنه موقوفاً، وروى عبيد الله بن عمر في رواية عبد الأعلى عند البخاري وأبي داود عنه مرفوعاً، وكذا روى عنه مرفوعاً أيوب في رواية حماد بن سلمة، وإبراهيم بن طهمان عند البخاري في جزئه، والبيهقي في سننه. قال البخاري في صحيحه بعد إخراجه من طريق عبد الأعلى، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً: ورواه حماد بن سلمة عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورواه ابن طهمان عن أيوب وموسى بن عقبة مختصراً. قال الحافظ: قصد البخاري الرد على من جزم بأن رواية نافع موقوفة، وأنه خالف في ذلك سالماً كما نقله ابن عبد البر وغيره، وقد تبين بهذا التعليق أنه اختلف على نافع في وقفه ورفعه، والذي يظهر أن السبب في هذا الاختلاف أن نافعاً كان يرويه موقوفاً ثم يعقبه بالرفع، فكأنه كان أحياناً يقتصر على الموقوف أو يقتصر عليه بعض الرواة عنه- انتهى. وإخراج البخاري في صحيحه حديث نافع عن ابن عمر

مرفوعاً من طريق عبد الأعلى عن عبيد الله بن عمر ثم استشهاده بروايتي حماد بن سلمة وابن طهمان عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر يدل على أن الصحيح عنده في رواية نافع هو الرفع. وأما أبوداود فقد صحح وقفه، ولا يخفى أن القول قول البخاري. وثانيها: ما قال ابن عبد البر في التمهيد: أن هذا الحديث أحد الأحاديث الأربعة التي رفعها سالم عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ووقفها نافع عن ابن عمر، والقول فيها قول سالم، ولم يلتفت الناس فيها إلى نافع، ذكره الزيلعي في نصب الراية (ج1: ص407) . وثالثها: أنه إذا وقع الاختلاف بين الرواة في الرفع والوقف فالقول قول من رفعه؛ لأن الرفع زيادة ثقة وهي مقبولة إلا إن ظهرت قرينة تدل على أنها وهم من الراوي فحينئذٍ لا تقبل، وههنا لم تقم قرينة على كون زيادة الرفع وهماً، ولذلك اتفق المحدثون على قبولها والاحتجاج بها. قال السيوطي في التدريب (ص76) : إذا روى بعض الثقات الضابطين الحديث مرسلاً وبعضهم متصلاً، أو بعضهم موقوفاً وبعضهم مرفوعاً، أو وصله هو أو رفعه في وقت، وأرسله ووقفه في وقت آخر، فالصحيح عند أهل الحديث والفقة والأصول أن الحكم لمن وصله أو رفعه، سواء كان المخالف له مثله في الحفظ والإتقان أو أكثر منه؛ لأن ذلك أي الرفع والوصل زيادة ثقة وهي مقبولة ... الخ. وقال أبوبكر الخطيب: اختلاف الروايتين في الرفع لا يؤثر في الحديث ضعفاً، وهو مذهب أهل الأصول؛ لأن إحدى الروايتين ليست مكذبة للأخرى، والأخذ بالمرفوع أخذ بالزيادة، وهي واجبة القبول-انتهى. وأما الجمع فهو ظاهر، فإنه يقال: إن ابن عمر رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه في هذه المواضع فعمل وأفتى بما رأى؛ فروى سالم ومحارب بن دثار مشاهدته، أي المرفوع من حديثه، وروى نافع مرة المرفوع وأخرى الموقوف أي عمله وفتياه أي رميه بالحصى من لا يرفع يديه. قال الماوردي: لا تعارض بين ما ورد مرفوعاً مرة وموقوفاً على الصحابي أخرى؛ لأنه يكون قد رواه وأفتى به. وأما الاختلاف الثاني فالراجح فيه رواية من ذكر الرفع في المواضع الأربعة، وأما ما عداها من الروايات التي فيها ذكر الرفع عند السجدة، أو في كل خفض ورفع، وبين السجدتين والركعتين، فلم يصح منها شيء، ففي رواية البخاري في جزئه عبد الله بن عمر العمري، وهو ضعيف من قبل حفظه. ورواية الطبراني وإن صحح الهيثمي إسنادها لكن لا يطمئن القلب بتصحيحه؛ لأن له أوهاماً في كتابه، على أن صحة السند لا يستلزم صحة المتن كما تقرر في موضعه، فرواية الطبراني هذه شاذة؛ لأنها مخالفة لما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عمر مرفوعاً: ولا يفعل ذلك حين يسجد ولا حين يرفع رأسه من السجود. وفي رواية: ولا يفعل ذلك في السجود. قال الحافظ: أي في الهوي إليه ولا في الرفع منه-انتهى. ومن المعلوم أن الترجيح عند التعارض للبخاري، وأنه لا يعل الراجح بالمرجوح، ورواية الطحاوي في مشكله أيضاً شاذة، وقد بين الحافظ شذوذها في الفتح (ج3: ص406) فارجع إليه. وقال العراقي في التقريب: ذكر الطحاوي أن هذه الرواية شاذة، وصححها ابن القطان ثم قال: وصحح ابن حزم

وقال: سمع الله لمن حمده ـــــــــــــــــــــــــــــ وابن القطان حديث الرفع في كل خفض ورفع، وأعله الجمهور-انتهى. ولا تعارض بين رواية الرفع في المواضع الأربعة ورواية الرفع في المواضع الثلاثة؛ لأن الأولى مشتملة على زيادة رواها الثقة العدل غير منافية للرواية الثانية، وأيضاً لها شواهد فيجب قبولها. قال الحافظ: أبعد من استدل برواية سالم على ضعف رواية نافع. والحق أنه ليس بين روايتي نافع وسالم تعارض؛ بل رواية نافع زيادة لم ينفها سالم، وستأتي الإشارة إلى أن سالماً أثبتها من وجه آخر-انتهى. وأما رواية مالك في موطأه بالاقتصار على الرفع عند رفع الرأس من الركوع فهي وهم منه. قال الزيلعي بعد ذكر رواية مالك هذه من الموطأ: هكذا - أى بعدم ذكر الرفع في الركوع - وقع في رواية يحيى بن يحيى، وتابعه على ذلك جماعة من رواة الموطأ منهم: يحيى بن بكير، والقعنبي، وأبومصعب، وابن أبي مريم، وسعيد بن عفير، ورواه ابن وهب، وابن القاسم، ومعن بن عيسى، وابن أبي أويس عن مالك؛ فذكروا فيه الرفع في الركوع، وكذلك رواه جماعة من أصحاب الزهري عن الزهري، وهو الصواب. ذكر ذلك أبوعمر بن عبد البر في كتاب التقصي، وقال في التمهيد: وذكر جماعة من أهل العلم أن الوهم في إسقاط الرفع من الركوع إنما وقع من جهة مالك: فإن جماعة حفاظاً رووا عنه الوجهين جميعاً-انتهى. وكذلك قال الدارقطني في غرائب مالك: أن مالكاً لم يذكر في الموطأ الرفع عند الركوع، وذكره في غير الموطأ، حدث به عشرون نفراً من الثقات الحفاظ منهم محمد بن الحسن الشيباني، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الله بن المبارك، وعبد الرحمن بن مهدي، وابن وهب وغيرهم، ثم أخرج أحاديثهم عن عشرين رجلاً ... الخ. وأما رواية الدارقطني بلفظ: "ولا يرفع بعد ذلك" فهي لا تعارض رواية البخاري وغيره ممن رواها بزيادة الرفع في الموطن الرابع؛ لأنها أصح وأقوى، ولأنها مثبتة فتقدم على النافية، ولأنها نص والنص يقدم على الظاهر عند التعارض. وأما الاختلاف الرابع فالراجح فيه رواية سالم بعدم الفرق بين مقدار الرفعات؛ لأنها صحيحة مرفوعة بخلاف رواية الفرق، فإنها موقوفة على ابن عمر من فعله، ومن المعلوم أن العبرة لما روى الراوي لا لما رأى وعمل به؛ على أنه اختلفت الرواية في بيان عمله كما تقدم، ورواية من روى موافقة عمله لروايته أرجح من رواية من روى عنه مخالفته من حيث النظر، وأيضاً قد أشار أبوداود إلى غرابة رواية الفرق. وأما الاختلاف الثالث فالراجح فيه ما روي عنه من الرفع في المواضع الأربعة، وهي عند البخاري في صحيحه، وأما ما روي عنه من الاقتصار على الرفع في التحريمة فهو ضعيف جداً، وقد تقدم البسط فيه فتذكر. ورواية الرفع عند السجدة وبين الركعتين لا تعارض ما رواه هو مرفوعاً بلفظ: "ولا يفعل ذلك حين يسجد، ولاحين يرفع رأسه من السجود"؛ لأن العبرة لما رواه لا لما رأى وعمل به. وهذا ظاهر والله أعلم. (وقال: سمع الله لمن حمده) معناه قبل حمد من حمد. واللام في "لمن" للمنفعة، والهاء في "حمده" للكناية. وقيل: للسكتة والاستراحة، ذكره ابن الملك. وقال الطيبي: أي أجاب حمده وتقبله. يقال: اسمع دعائي أي أجب؛

ربنا لك الحمد، وكان لا يفعل ذلك في السجود ـــــــــــــــــــــــــــــ لأن غرض السائل الإجابة والقبول-انتهى. فهو دعاء بقبول الحمد ويحتمل الإخبار (ربنا لك الحمد) هكذا هو بلا واو، وفي رواية: "ربنا ولك الحمد" أي بزيادة الواو. قال الرافعي: روينا في حديث ابن عمر بإسقاط الواو وبإثباتها، والروايتان معاً صحيحتان – انتهى. والكل جائز، وإثبات الواو أولى وأرجح وأفضل؛ لأنها زيادة مقبولة، ولأنها تدل على زيادة معنى؛ لأنه يكون التقدير "ربنا استجب لنا" أو ما قارب ذلك، "ولك الحمد"، فيشتمل الكلام على معنى الدعاء ومعنى الخبر. وإذا قيل بإسقاط الواو دل على أحد هذين، والواو هي عاطفة، وعطف الخبر على الإنشاء جوزه جمع من النحويين وغيرهم. والتقدير: "ربنا تقبل منا، ولك الحمد على هدايتك إيانا لما يرضيك عنا"، وبتقدير اعتماد ما عليه الأكثرون من امتناع عطف الخبر على الإنشاء؛ فالخبر ههنا بمعنى إنشاء الحمد لا الإخبار بأنه موجود؛ إذ ليس فيه كبير فائدة، ولا يحصل به الامتثال لما أمرنا به من الحمد. وقيل: الواو زائدة. وقيل: هي واو الحال. والحديث قد احتج به من قال: إنه يجمع بين التسميع والتحميد كل مصل من غير فرق بين الإمام والمؤتم والمنفرد، فإذا رفع رأسه من الركوع يقول في حال ارتفاعه: "سمع الله لمن حمده"، فإذا استوى قائماً يقول: "ربنا ولك الحمد"، وفيه أن الدليل أخص من الدعوى؛ لأنه حكاية لصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - إماماً كما هو الغالب والمتبادر، إلا أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني أصلي" يدل على عدم اختصاص ذلك بالإمام. واحتج لذلك أيضاً بما نقله الطحاوي وابن عبد البر من الإجماع على أن المنفرد يجمع بينهما. وجعله الطحاوي حجة لكون الإمام يجمع بينهما للاتفاق على اتحاد حكم الإمام والمنفرد فيلحق بهما المؤتم؛ لأن الأصل استواء الثلاثة في المشروع في الصلاة إلا ما صرح الشرع باستنثائه، ولا دليل في قوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا لك الحمد. على استثناء المؤتم عن حكم الجمع بينهما، كما لا دليل فيه على استثناء الإمام عن ذلك. وسنوضح ذلك مع ذكر اختلاف العلماء في هذه المسألة في باب الركوع فانتظر. (وكان لا يفعل ذلك) أي رفع اليدين (في السجود) أي لا عند الهوي والانحطاط، ولا عند رفع الرأس من السجدة؛ ففي رواية للبخاري: "ولا يفعل ذلك حين يسجد، ولا حين يرفع رأسه من السجود"، ولمسلم: "ولا يفعل حين يرفع رأسه من السجود"، وله أيضاً: "ولا يرفعهما بين السجدتين"، وفي حديث علي عند الترمذي: "ولا يرفع يديه في شيء من صلاته، وهو قاعد"، وفي حديث أبي موسى عند الدارقطني: "ولا يرفع بين السجدتين". وهذه الروايات صريحة في نفي الرفع عند الهوي للسجود، وعند الرفع منه، وبين السجدتين. وهو قول جمهور العلماء من السلف والخلف. وذهب بعض أهل العلم إلى الرفع للسجود أيضاً بل لكل خفض ورفع، واستدلوا بحديث ابن عمر عند الطبراني، وقد تقدم الكلام فيه. وبحديث مالك بن الحويرث عند النسائي، وبحديث أنس عند أبي يعلى، وبحديث أبي هريرة عند ابن ماجه، وهذه الأحاديث ضعفها الجمهور وعللوها، وقد ذكرها شيخنا الأجل المباكفوري في أبكار المنن (ص197-200) مع بسط الكلام فيها

متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ فارجع إليه. والحق في ذلك ما ذهب إليه الجمهور؛ لأن أحاديث النفي صحيحة صريحة في النفي، بخلاف أحاديث الإثبات فإنها معلولة وبعضها غير صريحة في الإثبات، ولو سلم صحتها وكونها صريحة في الإثبات فحديث ابن عمر ومن وافقه أولى أن يعمل به؛ لكونه أصح وأقوى وأرجح وأصرح. وأما ما قيل: أن الإثبات يقدم على النفي لأن مع المثبت زيادة علم فات عن النافي وإن كان أوثق من المثبت؛ ففيه أن هذا إنما هو عند عدم تحقق التعارض لإمكان تعدد الجهة أو الوقت، وأما إذا تعارض النفي والإثبات باتحاد الجهتين والوقتين معاً فقبول زيادة الثقة يستلزم ترك قول الأوثق بقول الثقة، وذلك لا يجوز إلا أن يترجح قول الثقة بما يوجب الأخذ به، فذاك باب التعارض والترجيح دون تقديم المثبت على النافي بنفس الإثبات، وههنا روايات الباب تدل بظاهرها على اتحاد الجهة وعلى اتحاد الوقت أيضاً؛ لأن النافين والمثبتين لم يقيدوا النفي والإثبات بوقت دون وقت، وكلتا الروايتين وردت بلفظة "كان"، وهي تدل على الدوام إلا إذا قامت قرينة على انتفاء ذلك، ولا قرينة ههنا، فتعارض النفي والإثبات باتحاد الجهة والوقت معاً، فتقدم رواية النفي؛ لأنها أصح وأقوى. وأشار بعض الحنفية إلى أن قوله: "وكان لا يفعل ذلك في السجود" مدرج وإلا فهو شاذ، حيث قال بعد ذكر أحاديث الرفع في السجود: فهذه الروايات كلها تخالف حديث ابن عمر؛ فلو سلم لفظ: "وكان لا يفعل" من الإدراج يكون شاذاً لمخالفة الروايات الصحيحة العديدة-انتهى. قلت: الإدراج في المتن إنما يثبت إذا ورد ذلك منفصلاً في رواية أخرى، أو نص على ذلك أحد من رواة الحديث، أو بعض الأئمة المطلعين، أو كان صدور ذلك منه - صلى الله عليه وسلم - قولاً أو فعلاً مستحيلاً، والكل ههنا منتف. وأما أحاديث الإثبات فلا تكون فرينة على الإدراج؛ لأنها ضعيفة، والضعيف لا يعل به الصحيح، أو صحيحة لكنها مرجوحة، والمرجوح لا يعل به الراجح؛ فتوهم كونه مدرجاً مردود على من توهمه. وأما دعوى شذوذه فهي أيضاً باطلة لأن تعريف الشاذ المصطلح الذي عليه المحققون هو: ما رواه المقبول مخالفاً لرواية من هو أولى منه، ولا شك أن رواية النفي أصح وأقوى وأرجح لكونها مخرجة في الصحيحين، وأيضاً لها شاهدان صحيحان من حديث علي عند الترمذي، ومن حديث أبي موسى عند الدارقطني، وعلى هذا فالشاذ والمرجوح إنما هي رواية الإثبات لا رواية النفي؛ فترد الأولى لكونها شاذة مرجوحة، وتقبل الثانية لكونها محفوظة راجحة. وقد تحقق عند هذا البعض أيضاً ضعف دعوى الإدراج والشذوذ وبطلانها حيث قال بعد ذلك: اللهم إلا أن يقال: إنها أي روايات الإثبات محمولة على أول الزمان، ثم نسخ الرفع تدريجاً-انتهى. قلت: هذه الروايات مخالفة لما رواه الشيخان وغيرهما فترد لكونها مرجوحة، وأيضاً التاريخ غير معلوم، ولا يثبت النسخ بالادعاء والاحتمال، فما بنى عليه ورتب من دعوى تدرج النسخ لا يلتفت إليه. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً مالك وأحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم. وفي الباب عن جماعة كثيرة من الصحابة. قال الشافعي: روى الرفع

800- (5) وعن نافع ((أن ابن عمر كان إذا دخل في الصلاة كبر ورفع يديه، وإذا ركع رفع يديه، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، رفع يديه، وإذا قام من الركعتين رفع يديه. ورفع ذلك ابن عمر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -)) ـــــــــــــــــــــــــــــ جمع من الصحابة، لعله لم يرو قط حديث بعدد أكثر منهم. وذكر البخاري: من زعم أن رفع اليدين بدعة فقد طعن في الصحابة؛ فإنه لم يثبت عن أحد منهم تركه. قال: ولا أسانيد أصح من أسانيد الرفع. وذكر أيضاً: أن رفع اليدين عند الركوع وعند الرفع منه رواه سبعة عشر رجلاً من الصحابة. وذكر الحاكم وأبوالقاسم بن مندة ممن رواه العشرة المبشرة. وقال الحافظ العراقي في تقريب الأسانيد: واعلم أنه قد روي رفع اليدين من حديث خمسين من الصحابة منهم العشرة. انظر طرح التثريب (ج2: ص254) . وسرد البيهقي في السنن وفي الخلافيات أسماء من روى الرفع عن نحو من ثلاثين صحابياً، وقال: سمعت الحاكم يقول: اتفق على رواية هذه السنة العشرة المشهود لهم بالجنة ومن بعدهم من أكابر الصحابة. قال البيهقي: وهو كما قال. وقال السيوطي في "الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة": إن حديث الرفع متواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أخرجه الشيخان عن ابن عمر، ومالك بن الحويرث. ومسلم عن وائل بن حجر، والأربعة عن علي. وأبوداود عن سهل بن سعد، وابن الزبير، وابن عباس، ومحمد بن مسلمة، وأبي أسيد، وأبي قتادة، وأبي هريرة، وابن ماجه عن أنس، وجابر، وعمير الليثي. وأحمد عن الحكم بن عمير. والبيهقي عن أبي بكر والبراء. والدارقطني عن عمر، وأبي موسى. والطبراني عن عقبة بن عامر، ومعاذ بن جبل. 800- قوله: (وعن نافع: أن ابن عمر كان) الخ. الرواية السابقة كانت من طريق الزهري، عن سالم، عن أبيه عبد الله بن عمر، وهذه الثانية من طريق نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر. والفرق بين الروايتين أن سالماً اقتصر على رواية المرفوع، ولم يختلف عليه أصحابه في الرفع بخلاف نافع، فإنه رواه موقوفاً ثم عقبه بالمرفوع، واختلف عليه أصحابه في الرفع والوقف كما تقدم مفصلاً، ولم يكن عند البخاري هذا الاختلاف قادحاً في صحة رواية نافع المرفوعة، ولذلك أدخلها في صحيحه، وذكر لها شاهدين كما أسلفنا، وحكى الدارقطني في العلل الاختلاف في وقفه ورفعه، وقال: الأشبه بالصواب قول عبد الأعلى، وارجع إلى نصب الراية (ج1: ص408) وذكر المصنف هذه الرواية لأن فيها زيادة الرفع في موطن رابع، وهي زيادة العدل الثقة فيجب قبولها. (إذا دخل) أي أراد الدخول (كبر) للتحريمة (ورفع يديه) حذو منكبيه. (وإذا قام من الركعتين) أي من الأوليين بعد التشهد الأول. (ورفع ذلك) أي أسند وأضاف رفع اليدين في هذه المواضع الأربعة (ابن عمر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي قال: إنه فعل ذلك، والمرفوع عندهم ما أضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -

رواه البخاري. 801- (6) وعن مالك بن الحويرث، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كبر رفع يديه حتى يحاذى بهما أذنيه، وإذا رفع رأسه من الركوع فقال: سمع الله لمن حمده، فعل مثل ذلك. ـــــــــــــــــــــــــــــ خاصة من قول أو فعل أو تقرير سواء كان متصلاً أو منقطعاً بسقوط الصحابي منه أو غيره. والمسند على المعتمد هو ما اتصل سنده من راويه إلى منتهاه مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمتصل ويسمى الموصول هو ما اتصل سنده سواء كان مرفوعاً إليه - صلى الله عليه وسلم - أو موقوفاً، فالمسند متصل مرفوع، والمتصل قد يكون مرفوعاً وغير مرفوع، والمرفوع قد يكون متصلاً وغير متصل. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً أبوداود، كلاهما من طريق عبد الأعلى عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر. وكما رفع هذا الحديث عبد الأعلى عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، كذلك رفعه عبد الوهاب الثقفي ومعتمر عن عبيد الله، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، كما أخرجه البخاري في جزء رفع اليدين، وفيه هذه الزيادة أي زيادة الرفع عند القيام من الركعتين، وقد توبع نافع على ذلك عن ابن عمر، وهو فيما رواه أبوداود، وصححه البخاري في الجزء المذكور من طريق محارب بن دثار عن ابن عمر، قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام في الركعتين كبر ورفع يديه"، وله شواهد: منها حديث أبي حميد، وحديث علي بن أبي طالب، أخرجهما أبوداود، وصححهما ابن خزيمة وابن حبان. وقال البخاري في جزء الرفع: ما زاده ابن عمر وعلي وأبوحميد في عشرة من الصحابة من الرفع عند القيام من الركعتين صحيح؛ لأنهم لم يحكوا صلاة واحدة فاختلفوا فيها، وإنما زاد بعضهم على بعض، والزيادة مقبولة من أهل العلم. 801- قوله: (إذا كبر) أي عند التحريمة، أي شرع في تكبيره (رفع يديه) أي شرع في رفعهما (حتى يحاذي بهما أذنيه) هذا الظاهر مخالف لما تقدم من حديث ابن عمر عند الشيخين، وحديث أبي حميد عند البخاري، فذهب بعضهم إلى ترجيح الثاني لكونه متفقاً عليه بخلاف الأول، فإنه من أفراد مسلم كما سيأتي، وذهب آخرون إلى الجمع فقالوا: يرفع يديه حذو منكبيه بحيث يحاذى أطراف أصابعه أعلى أذنيه، وإبهاماه شحمة أذنيه، وظهر كفيه منكبيه، وهو جمع حسن، فمعنى قوله: "حتى يحاذي بهما" أي بطرف إبهاميه. "أذنيه" شحمة أذنيه. ومعنى قوله الآتي: "حتى يحاذي بهما" أي بأعلى أصابعه وأطراف أنامله "فروع أذنيه" أي أعليهما؛ لأن فرع كل شيء أعلاه. (وإذا رفع رأسه من الركوع فقال:) عطف على رفع (سمع الله لمن حمده، فعل مثل ذلك) أي فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ما فعل عند التكبير. كذا في النسخ الموجودة للمشكاة عندنا بدون ذكر رفع اليدين عند الركوع. وفي مسلم زاد قبل هذا: "وإذا

ركع رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه". وكذا وقع ذكر الرفع عند الركوع عند البخاري والنسائي وأبي داود وابن ماجه. وفي المصابيح: "فلا أدري سقوط هذا في نسخ المشكاة من المصنف أو من النساخ". واعلم أن حديث مالك هذا دليل واضح على تأخر الرفع عند الركوع والرفع منه، وبقاءه، وبطلان دعوى نسخه، وذلك من وجوه: الأول: أن مالك بن الحويرث وأصحابه قدموا المدينة قبل غزوة تبوك حينما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجهز ويتأهب لها، وكانت وقعة تبوك في رجب سنة تسع، وقد نزل قوله تعالى: {قد أفلح المؤمنون، الذين هم في صلاتهم خاشعون} [2، 1: 23] قبل قدوم مالك ورفقائه المدينة. والخشوع السكون، قال في فتح البيان: الخشوع في اللغة السكون والتواضع. وقال ابن عباس: "خاشعون" ساكنون. وهذا يدل على أن رفع اليدين عند الركوع والرفع منه ليس منافياً للخشوع والسكون، وأن الرفع الذي هو مناف للسكون ومخالف له هو شيء آخر غير ذلك الرفع المتنازع فيه، وأن المراد بالسكون في قوله: "اسكنوا في الصلاة" في حديث جابر هو السكون عن الرفع عند السلام اعتباراً للسبب، وعن الأفعال التي ليست من أعمال الصلاة اعتباراً لعموم اللفظ، لا عن الرفع عند الركوع وعند رفع الرأس منه، فعمله - صلى الله عليه وسلم - بالرفع بعد نزول قوله: {خاشعون} دليل على بقائه وعدم نسخه؛ لكونه غير مناف للسكون والخشوع. قال السندي في حاشية النسائي: مالك بن الحويرث ووائل بن حجر ممن صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - آخر عمره، فروايتهما الرفع عند الركوع والرفع منه دليل على بقائه، وبطلان دعوى نسخه. كيف وقد روى مالك هذا جلسة الاستراحة فحملوها على أنها كانت في آخر عمره في سن الكبر، فهي ليس مما فعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - قصداً فلا تكون سنة، وهذا يقتضي أن يكون الرفع الذي رواه ثابتاً لا منسوخاً لكونه في آخر عمره عندهم، فالقول بأنه منسوخ قريب من التناقض، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لمالك هذا وأصحابه: "صلوا كما رأيتموني أصلي" –انتهى. وقال في حاشية ابن ماجه مثل ذلك، وزاد: فإن كان هناك نسخ فينبغي أن يكون المنسوخ ترك الرفع. والثاني: أن مالك بن الحويرث الذي روى هذا الحديث قد كان يرفع يديه بعده - صلى الله عليه وسلم - عملاً بما رأى وشاهد منه - صلى الله عليه وسلم -، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - له ولرفقائه: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، فإن الرفع داخل في هذا العموم. روى البخاري في صحيحه عن أبي قلابة: أنه رأى مالك بن الحويرث إذا صلى كبر ورفع يديه، وإذا أراد أن يركع رفع يديه، وإذا رفع رأسه من الركوع رفع يديه، وحدث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صنع هكذا، فرفع مالك يديه في صلاته بعده - صلى الله عليه وسلم - عملاً بما رأى منه وبما أمره به يدل على عدم نسخه. والثالث: أن مالكاً قدم المدينة عام تبوك، وقد حكى ما رأى وشاهد من النبي - صلى الله عليه وسلم - من الرفع في صلاته، وهذا صريح في عدم وقوع النسخ قبل ذلك، وقد بقي - صلى الله عليه وسلم - حياً بعد تبوك قريباً من عشرين شهراً، ولم ينقل أنه ترك الرفع في هذه المدة ولو مرة لا بسند صحيح ولا ضعيف، والأصل في الأشياء بعد وجودها ثبوتها وبقاؤها لا عدمها؛ لأن عدم نقل الترك في مثل هذه المواقع بمنزلة نقل عدم

وفي رواية: حتى يحاذي بهما فروع أذنيه)) متفق عليه. 802- (7) وعنه: ((أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي، فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعداً)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الترك كما هو مقرر في موضعه، فلا بد لمن يدعى النسخ أن يأتي بدليل صريح في ترك الرفع في هذه المدة ولو مرة، ولو بسند ضعيف ودونه خرط القتاد، وقلل الجبال. (وفي رواية: حتى يحاذي بهما فروع أذنيه) تقدم معناه، وهذه الرواية من أفراد مسلم، وكذا قوله: "حتى يحاذي بهما أذنيه" من أفراد مسلم، ففي قوله: (متفق عليه) نظر، وقد وهم المحب الطبري أيضاً فعزاه للمتفق، نعم أصل الحديث متفق عليه، وقد أخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه. 802- قوله: (فإذا كان في وتر) أي فرد (من صلاته) المراد بالوتر الركعة الأولى، والثالثة من الرباعيات (لم ينهض) للقيام (حتى يستوي قاعداً) للاستراحة يعني يجلس للاستراحة ثم يقوم، وهذا دليل صريح على مشروعية جلسة الاستراحة وسنيتها. قال الحافظ: وأخذ بها الشافعي، وطائفة من أهل الحديث، وعن أحمد روايتان، وذكر الخلال أن أحمد رجع إلى القول بها، ولم يستحبها الأكثر– انتهى. وكذا صرح برجوع أحمد إلى القول بها نقلاً عن الخلال في المغني، والشرح الكبير، وزاد المعاد وغير ذلك من كتب الحنابلة وغيرهم، فلا شك في أن آخر قولي أحمد هو أن يجلس للاستراحة، وقال مالك وأبوحنيفة بتركها. والاختلاف في الأفضلية لا في الجواز. قال في رد المحتار: قال شمس الأئمة الحلوائي: الخلاف في الأفضلية حتى لو فعل كما هو مذهبنا لا بأس به عند الشافعي، ولو فعل كما هو مذهبه لا بأس به عندنا- انتهى. والحق ما ذهب إليه الشافعي وأحمد، يدل عليه حديث مالك هذا، وهو حديث صحيح، وأحاديث أخرى، منها: حديث أبي هريرة في قصة المسيء في صلاته، وهو أول أحاديث الفصل الأول من هذا الباب، وقد ورد فيه الأمر بجلسة الاستراحة. ومنها حديث أبي حميد الآتي، وهو أول أحاديث الفصل الثاني. قال ابن قدامة في المغني بعد ذكر حديث مالك هذا: وذكره أيضاً أبوحميد في صفة صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو حديث حسن صحيح، فيتعين العمل به والمصير إليه – انتهى. ومنها حديث ابن عباس الآتي في صلاة التسبيح، وهو حديث حسن أو صحيح لغيره. ومن لا يقول بجلسة الاستراحة اعتذار عن حديث مالك بن الحويرث بأعذار كلها واهية، فمنها: أنه محمول على حال الكبر، فعلها - صلى الله عليه وسلم - في آخر عمره حين ثقل وبدن، ولم يفعل قصداً، والسنة ما فعل قصداً لا ما فعله بسبب آخر. ورده السندي بأنه أورد عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - لمالك وأصحابه: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وأقل ذلك أن يكون مستحباً، وأيضاً قد جاء الأمر بها في بعض روايات الأعرابي المسيء صلاته- انتهى. ورده صاحب البحر الرائق أيضاً حيث قال: يرد عليه بأن هذا الحمل يحتاج إلى دليل، وقد قال - عليه الصلاة والسلام -: "صلوا كما رأيتموني أصلي"- انتهى. وقال الحافظ في الدراية: هذا تأويل يحتاج إلى دليل، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمالك بن الحويرث لما أراد أن يفارقه: "صلوا كما رأيتموني

أصلي"، ولم يفصل له، فالحديث حجة في الإقتداء به في ذلك- انتهى. قلت: ويرده أيضاً حديث أبي حميد الآتي فإن في آخره: "قالوا: صدقت هكذا كان يصلي"، فلم يفصل أحد أن هذه الجلسة كانت في آخر عمره حين ثقل. ومنها أن حديث أبي حميد حال عن جلسة الاستراحة، فقد رواه الطحاوي بلفظ: "فقام ولم يتورك" وأخرجه أبوداود أيضاً كذلك، فلما تخالفا احتمل أن يكون ما فعله في حديث مالك بن الحويرث لعلة كانت به، فقعد لأجلها لا أن ذلك من سنة الصلاة. والجواب عنه أن الأصل عدم العلة، وأن مالك بن الحويرث هو راوي حديث "صلوا كما رأيتموني أصلي"، فحكاياته لصفات صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - داخله تحت هذا الأمر، ولم تتفق الروايات عن أبي حميد على نفي هذه الجلسة؛ بل أخرجه أبوداود أيضاً من وجه آخر عنه بإثباتها. وكذا أخرجه الترمذي في جامعه بإثباتها، والمثبت مقدم على النافي. ومنها أنها لو كانت سنة لشرع لها ذكر مخصوص. والجواب عنه أنها جلسة خفيفة جداً استغنى فيها بالتكبير المشروع للقيام، فإنها من جملة النهوض إلى القيام. ومنها أنها لو كانت سنة لذكرها كل من وصف صلاته - صلى الله عليه وسلم -. والجواب عنه أن السنن المتفق عليها لم يستوعبها كل واحد ممن وصف صلاته، إنما أخذ مجموعها من مجموعهم. ومنها أن عمل أكابر الصحابة الذين كانوا أقرب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأشد اقتفاء لأثره وألزم لصحبته من مالك بن الحويرث كعلي، وابن مسعود، وعمر، على خلاف ما قال مالك، فوجب تقديمه، وحمل ما رواه على حالة عارضة اقتضت تلك الجلسة، وليس في روايته ما يدل على مواظبته عليها لتكون قرينة على السنة. والجواب عنه أن الأصل عدم عروض تلك الحالة، والحمل عليها يحتاج إلى دليل، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لمالك وأصحابه: "صلوا كما رأيتموني أصلي". وأقل ذلك أن يكون مستحباً كما قال السندي. ولم يثبت عن أحد من الصحابة تركها بسند صحيح غير ابن مسعود، ومتابعة السنة أولى. وليس بعد الحديث قول لأحد كائناً من كان. وأيضاً ترك من ترك من الصحابة على تقدير ثبوته عنه لا يقدح في سنيتها؛ لأن ترك ما ليس بواجب جائز، وأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - مالك بن الحويرث وأصحابه بإقتداء به بقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، واختيار مالك بن الحويرث بعده - صلى الله عليه وسلم - جلسة استراحة عملاً بهذا الأمر قرينة واضحة على مواظبته عليها وبقائها، وعلى سنيتها، وإستحبابها. واحتج هؤلاء على ترك جلسة الاستراحة بأحاديث: منها حديث أبي هريرة قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهض في الصلاة على صدور قدميه، أخرجه الترمذي. والجواب عنه أنه حديث ضعيف جداً لا يقوم بمثله الحجة؛ فإن في سنده خالد بن إلياس وهو متروك. قاله أحمد والنسائي. وقال البخاري وابن معين: ليس بشيء. وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الثقات حتى يسبق إلى القلب أنه الواضع لها، لا يكتب حديثه إلا على جهة التعجب. وفيه أيضاً صالح مولى التوأمة وقد اختلط بآخره، وخالد لا يعرف متى أخذ عنه. ومنها حديث أبي مالك الأشعري أنه جمع قومه فقال: يا معشر الأشعريين! اجتمعوا وأجمعوا نساءكم وأبناءكم أعلمكم صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - الحديث.

رواه البخاري. 803- (8) وعن وائل بن حجر: ((أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه حين دخل في الصلاة، كبر ـــــــــــــــــــــــــــــ وفيه: ثم كبر وخر ساجداً، ثم كبر فرفع رأسه، ثم كبر فسجد، ثم كبر فانتهض قائماً-الحديث أخرجه أحمد. والجواب عنه أن في إسناده شهر بن حوشب، وهو كثير الإرسال والأوهام كما في التقريب، ثم هذا الحديث ليس فيه تصريح بنفي جلسة الاستراحة، ولو سلم فهو إنما يدل على نفي وجوبها لا على نفي سنيتها؛ لأن الترك في بعض الأحيان إنما ينافي وجوبها لا القول بسنيتها. ومنها حديث وائل بن حجر عند البزار بلفظ: "كان إذا رفع رأسه من السجدتين استوى قائماً"، والجواب عنه: أن حديث وائل هذا قد ذكره النووي في الخلاصة في فصل الضعيف، ثم إنه يدل على تسليم كونه صريحاً في نفي تلك الجلسة على نفي وجوبها فقط لا على نفي سنيتها. واحتجوا أيضاً بآثار بعض الصحابة، وهي على تقدير ثبوتها لا تقدح في سنيتها؛ لأن الترك ينافي الوجوب لا السنية، فإن ترك ما ليس بواجب جائز. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي، وأبوداود، والنسائي. 803- قوله: (وعن وائل بن حجر) بضم الحاء المهملة وسكون الجيم وبالراء، ابن سعد بن مسروق الحضرمي، أبوهنيدة ويقال: أبوهند، صحابي جليل: وكان قيلا من أقيال حضر موت، وكان أبوه من ملوكهم، ووفد هو على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم، ويقال إنه بشر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه قبل قدومه، وقال: يأتيكم وائل بن حجر من أرض بعيدة من حضر موت طائعاً راغباً في الله ورسوله، وهو بقية أبناء الملوك، فلما دخل عليه رحب به، وأدناه من نفسه، وقرب مجلسه، وبسط له رداءه فأجلسه عليه مع نفسه على مقعده. وقيل: أصعده معه على المنبر، وقال: اللهم بارك في وائل وولده وولد ولده. واستعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على أقيال من حضر موت، وكتب معه ثلاثة كتب، منها كتاب إلى المهاجرين أبي أمية، وكتاب إلى الأقيال والعباهلة، وأقطعه أرضاً، وبعث معه معاوية بن أبي سفيان ليتسلمها، فقال له معاوية أردفني، فقال وائل: لست من أرداف الملوك. وعاش وائل حتى ولى معاوية الخليفة، فقصده وائل فتلقاه معاوية وأكرمه، فقال وائل: وددت أني حملته ذلك اليوم بين يدي. سكن وائل الكوفة وعقبه بها، ومات في ولاية معاوية. له أحد وسبعون حديثاً، انفرد له مسلم بستة، روى عنه ابناه علقمة وعبد الجبار، ومولى لهم، وأم يحيى زوجته وغيرهم، ولم يسمع عبد الجبار من أبيه. (رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه) حال، أي نظر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - رافعاً يديه (حين دخل في الصلاة كبر) قال الطيبي: كبر بالواو في بعض نسخ المصابيح وبدونها في صحيح مسلم، وكتاب الحميدي، وجامع الأصول، فعلى الأول عطف على "دخل"، وعلى الثاني إما حال بتقدير "قد" أو بيان لدخل، أو بدل منه، ففيه وجهان: أحدهما: أن يكون حالاً و"قد" مقدرة، وأن يراد بالدخول الشروع فيها والعزم عليها بالقلب فيوافق معنى العطف،

ثم التحف بثوبه، ثم وضع يده اليمنى على اليسرى، فلما أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب، ثم رفعهما وكبر فركع، فلما قال: "سمع الله لمن حمده" رفع يديه، فلما سجد، سجد بين كفيه، ـــــــــــــــــــــــــــــ ويلزم منه المواطأة بين اللسان والقلب، وثانيهما: أن يكون" كبر" بياناً لقوله: "دخل في الصلاة"، ويراد بالدخول افتتاحها بالتكبير، ونحوه في البيان قوله تعالى: {فوسوس إليه الشيطان قال يآدم هل أدلك على شجرة الخلد} [20: 120] أو بدلاً منه كقول الشاعر: ارحل لا تقيمن عندنا فعلى الأول يلزم اقتران النية بالتكبير- انتهى. (ثم التحف بثوبه) أي تستر به. قال ابن حجر: يحتمل أنه بعد تكبيرة الإحرام سقط ثوبه عن كتفه فأعاده، ويحتمل أنه كان نسيه ثم تذكره بعد إحرامه فأخذه والتحف به. قلت: ويحتمل أنه كان وضع ثوبه أي رداءه على كتفه قبل الدخول في الصلاة لكن بدون التحاف وتوشح بل سدلاً وإرسالاً، ثم التحف به، وتوشح بعد الدخول في الصلاة بالتكبير، وهذا هو الأقرب. (ثم وضع يده اليمنى على اليسرى) ورواه ابن خزيمة في صحيحه بلفظ: "وضع يده اليمنى على صدره"، وسيأتي الكلام في مسألة محل وضع اليدين وكيفية الوضع مفصلاً إن شاء الله. (فلما أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب) فيه استحباب كشف اليدين عند الرفع (فلما قال: سمع الله لمن حمده رفع يديه) أي لما شرع في قوله ذلك شرع في رفعهما كما علم من الروايات السابقة، واستفيد منه أن "سمع الله لمن حمده" ذكر الرفع والانتقال من الركوع إلى الاعتدال. (فلما سجد سجد بين كفيه) أي محاذيين لرأسه، قاله القاري. وقال ابن الملك: أي وضع كفيه بإزاء منكبيه في السجود. قال القاري: وفيه أن إزاء المنكبين لا يفهم من الحديث. قلت: في رواية عاصم بن كليب عن وائل بن حجر عند النسائي: "ثم سجد فجعل كفيه بحذاء أذنيه"، وفي رواية أبي داود: "فلما سجد وضع رأسه بذلك المنزل من بين يديه"، يعني وضع يديه حذاء أذنيه. وهذه الرواية تدل على مشروعية وضع الكفين حذو الأذنين، وحديث أبي حميد الآتي بلفظ: "وضع كفيه حذو منكبيه" يدل على مشروعية وضع الكفين في السجود حذو المنكبين، فجنح بعضهم إلى ترجيح ما في رواية مسلم والنسائي، وحمل حديث أبي حميد على بيان الجواز، وعكس آخرون. وقال بعضهم: إن المصلي مخير بين أن يضع كفيه حذو منكبيه، وبين أن يضع حذاء رأسه وجبهته حملاً للأحاديث على أوقات مختلفة. واختار بعضهم الجمع بما تقدم في مقدار الرفع، والله أعلم. تنبيه: حديث وائل بن حجر هذا دليل واضح على تأخر الرفع وبقائه، وبطلان دعوى نسخه؛ لأن وائلاً متأخر الإسلام جداً. قال العيني في شرح البخاري (ج 3: ص9) : وائل بن حجر أسلم في المدينة سنة تسع من الهجرة- انتهى. وقال السندي: وائل بن حجر ممن صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - آخر عمره، فروايته الرفع عند الركوع والرفع منه دليل على بقائه وبطلان دعوى نسخه – انتهى.

واعلم أن إبراهيم النخعي لما سمع حديث وائل هذا من عمرو بن مرة الجملي المرادي وغيره قال استبعاداً: ما أرى وائلاً رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا ذلك اليوم فحفظ عنه، وعبد الله بن مسعود لم يحفظ. إنما رفع اليدين عند افتتاح الصلاة. أخرجه الدارقطني والبيهقي والطحاوي، وأخرجه أبويعلى في مسنده بلفظ: "أحفظ وائل ونسى ابن مسعود؟ " وفي رواية للطحاوي: قال إبراهيم: فإن كان وائل رآه مرة يرفع فقد رآه عبد الله خمسين مرة لا يرفع- انتهى. ذكر هذا الكلام كله الشيخ عبد الحي اللكنوي في التعليق الممجد (ص 91) نقلاً عن نصب الراية، ثم قال رداً على النخعي: وههنا أبحاث، الأول: ما قاله البيهقي في كتاب المعرفة عن الشافعي أنه قال: الأولى أن يؤخذ بقول وائل؛ لأنه صحابي جليل فكيف يرد حديثه بقول رجل ممن هو دونه. والثاني: ما قاله البخاري في رسالة رفع اليدين: إن كلام إبراهيم هذا ظن منه، لا يرفع به رواية وائل، بل أخبر أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي فرفع يديه، وكذلك رأى أصحابه غير مرة يرفعون أيديهم، كما بينه زائدة، فقال: نا عاصم: نا أبى عن وائل بن حجر، أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي فرفع يديه في الركوع، وفي الرفع منه، قال: ثم أتيتهم بعد ذلك فرأيت الناس في زمان برد، عليهم جل الثياب تتحرك أيديهم من تحت الثياب. والثالث: ما نقله الزيلعي عن الفقية أبي بكر بن إسحاق أنه قال: ما ذكره إبراهيم علة لا يساوي سماعها؛ لأن رفع اليدين قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم عن الخلفاء الراشدين، ثم عن الصحابة والتابعين، وليس في نسيان ابن مسعود لذلك ما يستغرب، فقد نسى من القرآن ما لم يختلف المسلمون فيه بعد وهي المعوذتان، ونسي ما اتفق العلماء على نسخه كالتطبيق، ونسي كيف قيام الاثنين خلف الإمام، ونسي ما لم يختلف العلماء فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الصبح يوم النحر في وقتها، ونسي كيفية جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفة، ونسي ما لم يختلف العلماء فيه من وضع المرفق والساعد على الأرض في السجود، ونسي كيف كان يقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - {وما خلق الذكر والأنثى} [92: 3] . وإذا جاز على ابن مسعود أن ينسى مثل هذا في الصلاة كيف لا يجوز مثله في رفع اليدين؟. والرابع: أن وائلاً ليس بمتفرد في رواية الرفع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل اشترك معه جمع كثير كما مر ذكره سابقاً، بل ليس في الصحابة من روى ترك الرفع فقط إلا ابن مسعود، وأما من عداه فمنهم من لم ترو عنه إلا رواية الرفع، ومنهم من روى عنه حديث الرفع وتركه كليهما كابن عمر، والبراء إلا أن أسانيد رواية الرفع أوثق وأثبت، فعند ذلك لو عورض كلام إبراهيم بأنه يستبعد أن يكون ترك الرفع حفظ ابن مسعود فقط، ولم يحفظ من عداه من أجلة الصحابة الذين كانوا مصاحبين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل مصاحبة ابن مسعود أو أكثر لكان له وجه. والخامس: أنه لا يلزم من ترك ابن مسعود وأصحابه عدم ثبوت رواية وائل، فيجوز أن يكون تركهم؛ لأنهم رأوا الرفع غير لازم، لا لأنه غير ثابت، أو لأنهم رجحوا أحد الفعلين الثابتين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرفع والترك فداموا عليه، وتركوا الآخر، ولا يلزم منه بطلان الآخر. والسادس: أنه قد أخذ ابن مسعود بالتطبيق في الركوع، وداوم عليه أصحابه، وكذلك أخذوا بقيام الإمام في الوسط إذا

رواه مسلم. 804- (9) وعن سهل بن سعد، قال: كان الناس يؤمرون ـــــــــــــــــــــــــــــ كان من يقتدي به اثنين مع ثبوت ترك ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعن جمهور أصحابه بعده بأسانيد صحاح، فلم لا يعتبر فعل ابن مسعود في هذين الأمرين وأمثال ذلك؟. فما هو الجواب هناك هو الجواب ههنا. والإنصاف في هذا المقام أنه لا سبيل إلى رد روايات الرفع برواية ابن مسعود وفعله وأصحابه، ولا إلى دعوى نسخ الرفع ما لم يثبت ذلك بنص عن الشارع- انتهى. باختصار يسير. (رواه مسلم) من طريق عبد الجبار بن وائل عن علقمة ومولى لهم أنهما أخبراه عن أبيه وائل بن حجر، وهو إسناد صحيح متصل، ووهم من قال: إن علقمة لم يسمع من أبيه. قال الترمذي: علقمة بن وائل سمع من أبيه، وهو أكبر من عبد الجبار بن وائل، وعبد الجبار بن وائل لم يسمع من أبيه- انتهى. والحديث أخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه وابن حبان وابن خزيمة. 804- قوله: (كان الناس) أي في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يؤمرون) قال الحافظ: هذا حكمه الرفع؛ لأنه محمول على أن الآمر لهم بذلك هو النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال البيهقي: لا خلاف في ذلك في ذلك بين أهل النقل. وقال النووي في شرح مسلم: هذا حديث صحيح مرفوع. وقال السيوطي في التدريب (ص 62) : قول الصحابي: أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا وما أشبهه كله مرفوع على الصحيح الذي قاله الجمهور. قال ابن الصلاح: لأن مطلق ذلك ينصرف بظاهر إلى من له الأمر والنهي ومن يجب اتباع سنته، وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال غيره: لأن مقصود الصحابي بيان الشرع لا اللغة ولا العادة، الشرع يتلقى من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، ولا يصح أن يريد أمر الكتاب لكون ما في الكتاب مشهوراً يعرفه الناس، ولا الإجماع لأن المتكلم بهذا من أهل الإجماع، ويستحيل أمره نفسه، ولا القياس إذ لا أمر فيه، فتعين كون المراد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: ليس بمرفوع لاحتمال أن يكون الآمر غيره كأمر القرآن أو الإجماع أو بعض الخلفاء أو الاستنباط. وأجيب ببُعد ذلك مع أن الأصل الأول- انتهى. قال الجمال القاسمي: واحتمال أن يكون الآمر غيره بعيد، وإن كنا لا ننكر أن إطلاق ذلك يصدق مع الواسطة، ولكن العادة أن من له رئيس معظم فقال: "أمرنا بكذا" فإنما يريد أمر رئيسه، ولا يفهم عنه إلا ذلك. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو عظيم الصحابة، ومرجعهم، والمشار إليه في أقوالهم وأفعالهم، فتصرف إطلاقاتهم إليه - صلى الله عليه وسلم -. وما قيل: إن الفاعل إذا حذف احتمل النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره فلا نثبت شرعاً بالشك. فجوابه أن ظاهر الحال صارف للنبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم تقريره. قال: ومما يؤيد أن ذلك في حكم الرفع ما رواه الشيخان عن أبي موسى في قصة إستئذانه على عمر، ولفظ البخاري عن أبي موسى قال: استأذنت على عمر ثلاثاً فلم يؤذن لي، فكأنه كان مشغولاً، فرجعت، ففرغ عمر، فقال: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس؟ إيذنوا له. قيل: قد رجع. فدعاني، فقلت: كنا نؤمر بذلك, فقال: لتأتيني على ذلك بالبينة، فانطلقت إلى مجلس الأنصار فسألتهم

أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى ـــــــــــــــــــــــــــــ فقالوا: لا يشهد لك على هذا إلا أصغرنا أبوسعيد الخدري، فذهبت بأبي سعيد الخدري، فقال عمر: أخفى على هذا من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ألهاني الصفق بالأسواق، يعني الخروج إلى التجارة. زاد مالك في الموطأ، فقال عمر لأبي موسى: أما إني أتهمك، ولكن خشيت أن يتقوّل الناس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال الشراح: وحينئذٍ فلا دلالة في طلبه البينة على أنه لا يحتج بخبر الواحد، بل أراد سد الباب خوفاً من غير أبي موسى أن يخلق كذباً على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند الرغبة والرهبة. وقالوا: في الحديث أن قول الصحابي "كنا نؤمر بكذا" له حكم الرفع-انتهى. وأما قول بعضهم: إن كان مرفوعاً فلم لا يقولون فيه "قال رسول الله؟. فجوابه أنهم تركوا الجزم بذلك تورعاً واحتياطاً. وقيل: هو من التفنن في تبليغ الهدي النبوي، لا سيما وقد يكون الحكم الذي قيل فيه "أمرنا" أو "من السنة" من سنن الأفعال لا الأقوال. وقد يقولون ذلك إيجازًا أو لضيق المقام أو لغير ذلك. (أن) أي بأن (يضع الرجل) أي والمرأة تابعة له. وكان الأصل أن يقول "يضعون" فوضع المظهر موضع المضمر. قال الطيبي: في وضع الرجل موضع ضمير الناس تنبيه على أن القائم بين يدي الملك الجبار ينبغي أن لا يهمل شريطة الأدب، بل يضع يده على يده ويطأطأ رأسه كما يصنع بين يدي الملوك، نقله ميرك وكتب تحته: "وفيه ما فيه"، يعني وفيه أن هذه النكتة لمطلق الوضع لا لذكر الرجل موضع ضمير الناس، ولعله أراد أن لا يقوم بهذا الأدب إلا من اجتمعت فيه صفات الرجولية الكاملة لا لتخصيص الحكم به؛ لأن الناس يعمه ما لم يقم دليل خروجه، كذا في المرقاة. (اليد اليمنى على ذراعه اليسرى) الذراع-بكسر الذال- من طرف المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى، والساعد مؤنثة فيهما وقد تذكر. أبهم سهل بن سعد موضعه من الذراع. قال الشوكاني: وقد بينه حديث وائل عند أحمد وأبي داود والنسائي بلفظ: "ثم وضع يد اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد"، وصححه ابن خزيمة وغيره، وأصله في مسلم بدون الزيادة. والرسغ - بضم الراء وسكون السين بعدها معجمة- هو المفصل بين الكف والساعد. والمراد أنه وضع يده اليمنى بحيث صار وسط كفه اليمنى على الرسغ، ويلزم منه أن يكون بعضها على الكف اليسرى، والبعض على الساعد. قال بعضهم: ورد في بعض الأحاديث ذكر وضع اليد على اليد كما في رواية وائل عند مسلم، وفي بعضها ذكر وضع اليد على الذراع كما في حديث سهل بن سعد، وفي البعض أخذ الشمال والقبض عليها باليمين، كما روى النسائي من حديث وائل قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان قائماً في الصلاة قبض بيمينه على شماله. وروى الترمذي وابن ماجه من حديث قبيصة بن هلّب عن أبيه، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤمنا فيأخذ شماله بيمينه. وورد في رواية أحمد وأبي داود من حديث وائل: "وضع اليمنى على الكف اليسرى والرسغ والساعد". فالسنة أن يجمع بين الوضع والقبض جمعًا بين هذه الأحاديث، وكيفية الجمع أن يضع الكف اليمنى على الكف

اليسرى ويحلق الإبهام والخنصر على الرسغ ويبسط الأصابع الثلاث على الذراع، فيصدق أنه وضع اليد على اليد وعلى الذراع، وأنه أخذ شماله وقبض عليها بيمينه. قلت: لا حاجة إلى هذا التكلف للتوفيق والجمع لكون التوفيق فرع التعارض، ولا يظهر التعارض أصلاً؛ لأنه لا تناقض بين الأفعال المختلفة لجواز وقوع الكل في أوقات مختلفة، على أن حديث سهل بن سعد حديث قولي أخرجه مالك وأحمد والبخاري، وهو أيضاً أصح ما ورد في ذلك فهو أولى بالعمل. واعلم أنه لم يرد في رواية وضع الذراع على الذراع، فما يفعله بعض العوام من وضع الذراع على الذراع بحيث أنه يضعون الكف اليمنى على مرفق اليد اليسرى أو قريباً منه، ثم يأخذونه بأصابع اليد اليمنى هو مما لا أصل له. تنبيه: لم يذكر سهل ابن سعد في حديثه محل وضع اليدين من الجسد، وهو عندنا على الصدر لما ورد في ذلك من أحاديث صريحة قوية. فمنها حديث وائل بن حجر قال: "صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره"، أخرجه ابن خزيمة في صحيحه ذكره الحافظ في بلوغ المرام والدراية والتخليص وفتح الباري. والنووي في الخلاصة وشرح المهذب وشرح مسلم للاحتجاج به على ما ذهبت إليه الشافعية من وضع اليدين على الصدر، وذكرهما هذا الحديث في معرض الاحتجاج به، وسكوتهما عن الكلام فيه يدل على أن حديث وائل هذا عندهما صحيح أو حسن قابل للاحتجاج، لا سيما من الحافظ في الدراية والفتح، فإنه قال في الفتح في شرح حديث سهل بن سعد: لم يذكر أي سهل بن سعد محلهما من الجسد، وقد روى ابن خزيمة من حديث وائل "أنه وضعهما على صدره"، والبزار "عند صدره"، وعند أحمد في حديث هلّب الطائي نحوه، وفي زيادات المسند من حديث علي "أنه وضعهما تحت السرة" وإسناده ضعيف-انتهى. فالظاهر من كلام الحافظ هذا أن حديث وائل هذا عند صحيح أو حسن؛ لأنه ذكر ههنا لتعيين محل وضع اليدين ثلاثة أحاديث: حديث وائل وحديث هلب وحديث علي، وضعف حديث علي إذ قال: إسناده ضعيف، وسكت عن حديث وائل وحديث هلب، فلو كانا هما أيضاً ضعيفين لصرح بذلك وبين ضعفهما، ولأنه ذكر في أوائل مقدمة الفتح في بيان دأبة في الشرح أنه يستخرج ما يتعلق به غرض صحيح في الحديث من الفوائد المتنية والإسنادية، منتزعاً كل ذلك من أمهات المسانيد والجوامع والمستخرجات والأجزاء والفوائد بشرط الصحة والحسن فيما يورده من ذلك، فقوله هذا يدل على أن حديث وائل وكذا حديث هلب عنده صحيح أو حسن. وقد اعترف الشيخ محمد قائم السندي في رسالته فوز الكرام: أن هذا الحديث على شرط ابن خزيمة حيث قال فيها: الذي أعتقد أن هذا الحديث على شرط ابن خزيمة، وهو المبتادر من صنيع الحافظ في الإتحاف، والظاهر من قول ابن سيد الناس بعد ذكر حديث وائل في شرح جامع الترمذي: وصححه ابن خزيمة-انتهى. وقال ابن أمير الحاج في شرح المنية: إن الثابت من السنة وضع اليمين على الشمال، ولم يثبت حديث يوجب تعيين المحل الذي يكون الوضع فيه من البدن إلا حديث وائل المذكور، وهكذا قال صاحب البحر الرائق، كذا في فتح الغفور للشيخ

محمد حيات السندي. وقال الشوكاني في النيل: أخرجه ابن خزيمة في صحيحه وصححه-انتهى. ومن يدعى أن الشوكاني لم ير صحيح ابن خزيمة ولم ينقل تصحيح ابن خزيمة لهذا الحديث من أصل الكتاب بل اشتبه عليه من قول ابن سيد الناس، أو ظن أن كل حديث أورده ابن خزيمة في صحيحه فقد صححه. وكذا من يدعى أن الحديث الذي ذكر تصحيحه ابن سيد الناس هو الذي ذكره الحافظ في الفتح بلفظ: "ثم وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ من الساعد"، لا حديث وائل بزيادة "على صدره" فعليه البيان. وأما الادعاء المحض من غير إقامة برهان ودليل وإظهار قرينة فلا يلتفت إليه. والظاهر أن ابن خزيمة صحح الروايتين جميعاً، ذكر تصحيح إحداهما الحافظ في الفتح، وذكر تصحيح الرواية الثانية أي بزيادة "على صدره" ابن سيد الناس في شرح الترمذي والشوكاني في النيل، وسكوت النووي أو الحافظ عن ذكر تصحيح ابن خزيمة للرواية الثانية لا يدل على أن ابن خزيمة لم يصححها، فإن الحافظ لم يصرح بأنه التزم في تصانيفه أن يذكر تصحيح ابن خزيمة في كل حديث صرح ابن خزيمة بتصحيحه. وعدم ذكر مسلم هذه الزيادة في صحيحه لا يدل على كونها خطأ وغلطاً من الراوي، كما أن عدم ذكر من لم يذكر من الشيخين في صحيحه حديثاً أو زيادة اشتركاً في روايته من شيخ واحد بسند واحد لا يدل على كونه وهماً أو خطأ وغلطاً من الراوي عند من لم يذكره، وكذا عدم ذكر غيره ممن لم يذكرها من الرواة لا يدل على كونها شاذة، فإنها زيادة ثقة، وهي مقبولة إلا أن تقوم قرائن قوية ودلائل واضحة على كونها وهماً، أو حكم الأئمة النقاد على كونها غير محفوظة. ومنها حديث هلب الطائي قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينصرف عن يمينه ويساره، ورأيته يضع يده على صدره، ووصف يحيى بن سعيد القطان الراوي، اليمنى على اليسرى فوق المفصل. أخرجه أحمد في مسنده، ورواته كلهم ثقات، وإسناده متصل كما بينه شيخنا في شرح الترمذي. ومنها حديث طاووس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضع يده اليمنى على يده اليسرى ثم يشد بينهما على صدره وهو في الصلاة. أخرجه أبوداود في المراسيل وإسناده حسن، والمرسل حجة عند الحنفية مطلقاً، وههنا قد اعتضد هذا المرسل بحديث وائل وحديث هلب الطائي المذكورين، فالاستدال به على وضع اليدين على الصدر في الصلاة صحيح. قال العلماء: الحكمة في هذه الهيئة أنه صفة السائل الذليل وهو أمنع من العبث وأقرب إلى الخشوع. ومن اللطائف قول بعضهم: القلب موضع النية، والعادة أن من احترز على حفظ شيء جعل يديه عليه، وفيه حفظ نور الإيمان في الصلاة، فكان أولى من إشارته إلى العورة بالوضع تحت السرة. قال ابن عبد البر: لم يأت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه أي في وضع اليدين خلاف، وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين، وهو الذي ذكره مالك في الموطأ، ولم يحك ابن المنذر وغيره عن مالك غيره. وروى ابن القاسم عن مالك الإرسال، وصار إليه أكثر أصحابه، وعنه التفرقة بين الفريضة والنافلة. ومنهم من كره الإمساك. ونقل ابن حاجب أن ذلك حيث يمسك معتمداً لقصد الراحة، كذا

في الفتح. والذي ذكرنا من محل الوضع على الصدر هي إحدى الروايات الثلاث عن الشافعي، والمشهور المختار عند أصحابه، المذكور في أكثر متونهم وشروحهم هو أن يضعهما تحت الصدر فوق السرة. واستدل لذلك بما رواه أبوداود عن جرير الضبي قال: رأيت علياً يمسك شماله بيمينه على الرسغ فوق السرة. وإسناده صحيح أو حسن، لكنه فعل علي - رضي الله عنه -، ليس بمرفوع، ثم الظاهر أن المراد من قوله "فوق السرة" على مكان مرتفع من السرة أي على الصدر أو عند الصدر كما تقدم في حديث وائل، وفي حديث هلب، وفي حديث طاووس. واستدل لما ذهبت إليه الحنفية من أن الرجل يضع اليدين تحت السرة بأحاديث: منها حديث وائل أخرجه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن موسى بن عمير، عن علقمة بن وائل، عن أبيه، قال رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يضع يمينه على شماله تحت السرة. قال الشيخ قاسم بن قطلوبغا الحنفي: هذا سند جيد. وقال الشيخ أبوالطيب المدني في شرح الترمذي: هذا حديث قوي من حيث السند. وقال الشيخ محمد عابد السندي في طوالع الأنوار: رجاله ثقات. وفيه أن هذا الحديث وإن كان قوياً من حيث السند لكن من المعلوم أن صحة السند وقوته لا تستلزم صحة المتن وقوته، وههنا في ثبوت لفظ "تحت السرة" نظر بل هو غلط، فإن النسخ الصحيحة من المصنف لابن أبي شيبة خالية من هذه الزيادة في حديث وائل هذا، كما صرح بذلك الشيخ محمد حيات السندي في رسالته "فتح الغفور" (ص6-8) والشيخ محمد فاخر المحدث الإله آبادي في منظومته "نور السنة" وصاحب رسالة "الدرة في إظهار غش نقد الصرة" ويؤيدهم أن أحداً من أهل العلم ممن أكثروا النقل عن المصنف كابن عبد البر، والحافظ ابن حجر والسيوطي والعيني وابن أمير الحاج وغيرهم لم يذكروا هذا الحديث بهذه الزيادة، إلا القاسم بن قطلوبغا الحنفي. قال شيخنا في شرح الترمذي (ج1: ص214) : إسناد هذا الحديث وإن كان جيداً، لكن في ثبوت لفظ تحت السرة في هذا الحديث نظراً قوياً، ثم بين ذلك مفصلاً فعليك أن ترجع إليه، وإلى أبكار المنن أيضاً. ومنها حديث علي أخرجه أحمد وأبوداود، وابن أبي شيبة والدارقطني والبيهقي عن أبي جحيفة أن علياً قال: السنة وضع الكف على الكف تحت السرة. وفيه أن في سند هذا الحديث عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي، وعليه مدار هذا الحديث، وهو ضعيف لا يصلح للاحتجاج. قال البخاري: فيه نظر. وقال ابن حنبل وأبوحاتم: منكر الحديث. وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال البيهقي: لا يثبت إسناده، تفرد به عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي وهو متروك. وقال النووي في الخلاصة وشرح مسلم: هو حديث متفق على تضعيفه، فإن عبد الرحمن بن إسحاق ضعيف بالاتفاق، ذكره الزيلعي في نصب الراية (ج1: ص314) وقال ابن الهمام في التحرير: إذا قال البخاري للرجل: فيه نظر، فحديثه لا يحتج به، ولا يستشهد به، ولا يصلح للاعتبار- انتهى. فظهر بهذا كله أن حديث علي هذا لا يصلح للاحتجاج، ولا للاستشهاد، ولا للاعتبار. ثم حديث علي هذا منسوخ على طريق الحنفية. قال صاحب الدرة في إظهار غش نقد الصرة - وهو من العلماء الحنفية -: روى أبوداود عن جرير

في الصلاة)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ الضبي أنه قال: رأيت علياً يمسك شماله بيمينه على الرسغ فوق السرة. وأصل علمائنا إذا خالف الصحابي مرويه فهو يدل على نسخه، وهذا الفعل وإن لم يكن أقوى من القول فلا أقل أن يكون مثله-انتهى. قلت: إسناد أثر علي هذا أعني الذي رواه أبوداود عن جرير الضبي صحيح أو حسن كما عرفت. ومنها حديث أبي هريرة رواه أبوداود عن أبي وائل، قال: قال أبوهريرة: أخذ الأكف على الأكف في الصلاة تحت السرة. وفيه أن في إسناد حديث أبي هريرة أيضاً عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي، فهذا الحديث أيضاً لا يصلح للاحتجاج ولا للاستشهاد ولا للاعتبار. ومنها حديث أنس ذكره ابن حزم في المحلي تعليقاً بلفظ "ثلاث من أخلاق النبوة تعجيل الإفطار، وتأخير السحور، ووضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة تحت السرة". وفه أن سنده غير معلوم لينظر فيه هل رجالهم مقبولون أم لا، وما لم يعلم سنده لا يصلح للاحتجاج ولا للاستشهاد ولا للاعتبار، وإيراد ابن حزم هذا الحديث في المحلي من غير أن يذكر سنده، وكذا إيراد غيره من الحنفية في تصانيفهم بغير سند لا يدل على كونه قابلاً للاحتجاج. فهذه الأحاديث الأربعة هي كل ما احتج به الحنفية على وضع اليدين في الصلاة، وقد عرفت أنه لا يصلح واحد منها للاحتجاج، ويذكرون أثرين: أحدهما أثر أبي المجلز التابعي رواه ابن أبي شيبة عن الحجاج بن حسان، قال: سمعت أبا مجلز أو سألته قال: قلت: كيف أضع؟ قال: يضع باطن كف يمينه على ظاهر كف شماله، ويجعلهما أسفل من السرة. وفيه أن هذا قول تابعي ينفيه الحديث المرفوع فلا يلتفت إليه، وقد روي عنه وضع اليدين فوق السرة أيضاً. والثاني ما رواه ابن أبي شيبة أيضاً عن إبراهيم النخعي، قال: يضع يمينه على شماله في الصلاة تحت السرة. وفيه أن هذا قول رجل من صغار التابعين مخالف للحديث المرفوع فلا يعبأ به. واعلم أنه لم يرد ما يدل على الفرق بين الرجل والمرأة في محل الوضع، ومذهب الحنفية أن الرجل يضع اليدين تحت السرة والمرأة تضعهما على الصدر؛ لأنه أستر لها. ولا دليل على هذا الفرق من السنة ولا من قول الصحابي. (في الصلاة) ومحل الوضع منها كل قيام هو قبل الركوع لأن الأصل هو الإرسال كما هو وضع الإنسان خارج الصلاة، فلا يترك هذا الأصل إلا فيما ورد النص على خلافه، وهو القيام قبل الركوع، وأما القومة أي الاعتدال بعد رفع الرأس من الركوع فلم يرد حديث مرفوع صريح صحيح يدل على الوضع فيه، فيكون فيه العمل على الأصل، والأحاديث المطلقة تحمل على المقيدة. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً مالك وأحمد كلهم من طريق أبي حازم عن سهل بن سعد، وزادوا في آخره "قال أبوحازم: لا أعلمه إلا ينمي أي يرفع ويسند ويضيف ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ". واعترض الداني في أطراف الموطأ فقال: هذا معلول؛ لأنه ظن من أبي حازم. ورد بأن أبا حازم لو لم يقل: "لا أعمله" الخ. لكان في حكم المرفوع؛ لأن قول الصحابي "كنا نؤمر بكذا" يصرف بظاهره إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم. قبل: لو كان مرفوعاً ما احتاج أبوحازم إلى قوله: "لا أعمله" والجواب أنه أراد الانتقال إلى التصريح، فالأول لا يقال له مرفوع، وإنما يقال "له حكم الرفع" قاله الحافظ.

805- (10) وعن أبي هريرة، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: "سمع الله لمن حمده" حين يرفع صلبه من الركعة، ثم يقول وهو قائم: ربنا لك الحمد، ثم يكبر حين يهوي، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يفعل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها، ـــــــــــــــــــــــــــــ 805- قوله: (إذا قام إلى الصلاة يكبر) أي للدوام (حين يقوم) فيه أنه لا يتوجه ولا يصنع قبل التكبير شيئاً، وأن التكبير يكون مقارناً لحال القيام، وأنه لا يجزئ من قعود. قال ابن دقيق العيد: هذا يقتضي إيقاع التكبير في حال القيام، ولا شك أن القيام واجب في الفرائض للتكبير مع القدرة، فكل انحنا يمنع اسم القيام عند التكبير يبطل التحريم، ويقتضي عدم انعقاد الصلاة فرضاً. (ثم يكبر) أي تكبيرة النقل (حتى يركع) قال الأمير اليماني: ظاهر قوله: "يكبر حين كذا وحين كذا" أن التكبير يقارن هذه الحركات، فيشرع في التكبير عند ابتداءه للركن، وأما القول بأنه يمد التكبير حتى يتم الحركة فلا وجه له، بل يأتي باللفظ من غير زيادة على أدائه ونقصان منه. (ثم يقول: "سمع الله لمن حمده" حين يرفع صلبه) أي حين يشرع في رفعه (من الركعة) أي من الركوع يعني يقول ذلك في حال أخذه في رفع صلبه من هويه للقيام. (ثم يقول وهو قائم: ربنا لك الحمد) بحذف الواو، وفي رواية بإثباتها. وقد تقدم أن الرواية بثبوت الواو أرجح، وهي عاطفة على مقدر. أي ربنا أطعناك، وحمدناك، ولك الحمد. وقيل: زائدة. قال الأصمعي: سألت أبا عمرو عنها فقال: زائدة. تقول العرب: بعني هذا، فيقول المخاطب: نعم، وهو لك بدرهم، فالواو زائدة. وقيل: هي واو الحال، قاله ابن الأثير وضعف ما عداه. وفيه أن التسميع ذكر النهوض والرفع، والتحميد ذكر الاعتدال، واستدل به على أنه يشرع الجمع بين التسميع والتحميد لكل مصل من إمام، ومنفرد، ومؤتم، إذ هو حكاية لمطلق صلاته - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان يحتمل أنه حكاية لصلاته - صلى الله عليه وسلم - إماماً لكون ذلك هو الأكثر الأغلب من أحواله إلا أنه لو فرض هذا فإن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني أصلي" أمر لكل مصل أن يصلي كصلاته - صلى الله عليه وسلم - من إمام ومنفرد ومؤتم، ثم إن هذا الحديث مفسر للأحاديث التي فيها "كان يكبر في كل خفض ورفع". (ثم يكبر حين يهوي) بفتح أوله وكسر ثالثه، أي حين يسقط ساجداً. وفيه أن التكبير ذكر الهوي فيبتدئ به من حين يشرع في الهوي بعد الاعتدال. (ثم يفعل ذلك) أي جميع ما ذكر ما عدا التكبيرة الأولى التي للإحرام (في الصلاة كلها) أي جميع ركعاتها (حتى يقضيها) أي يتمها ويؤديها. والحديث يدل على إتمام التكبير بأن يوقع في كل خفض ورفع مع التسميع في الرفع من الركوع، وقد كان وقع من بعض أمراء بني أمية تركه تساهلاً، فقد روى أحمد عن مطرف، قال: قلنا: يعني لعمران

ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس)) متفق عليه. 806- (11) وعن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أفضل الصلاة طول القنوت)) ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن حصين يا أيا نجيد! من أول من ترك التكبير؟ قال: عثمان بن عفان حين كبر وضعف صوته. وهذا يحتمل إرادة ترك الجهر. وروى الطبراني عن أبي هريرة أن أول من ترك التكبير معاوية. وروى أبوعبيد أن أول من تركه زياد. وهذا لا ينافي الذي قبله؛ لأن زياداً تركه بترك معاوية، وكان معاوية تركه بترك عثمان. وقد حمل ذلك جماعة من أهل العلم على الإخفاء، لكن حكى الطحاوي أن قوما كانوا يتركون التكبير في الخفض دون الرفع. قال: وكذلك كانت بنوأمية تفعل، ثم استقر العمل من الأمة على فعله في كل ركعة خمس تكبيرات كما عرفته من لفظ هذا الحديث، ويزيد في الرباعية والثلاثية تكبير النهوض من التشهد الأوسط، فيتحصل في المكتوبات الخمس بتكبيرة الإحرام أربع وتسعون تكبيرة، ومن دونها تسع وثمانون تكبيرة. قال البغوي في شرح السنة: اتفقت الأمة على هذه التكبيرات، فقال النووي: هذا مجمع عليه اليوم، وقد كان فيه خلاف من زمن أبي هريرة. واختلف العلماء في حكم تكبير النقل. فقيل: واجب، وهو المشهور عن أحمد، وإليه ذهب داود وإسحاق، وابن حزم؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - داوم عليه، وقد قال: صلوا كما رأيتموني أصلي، ولأنه ورد تعليم ذلك في حديث المسيء في صلاته عند أبي داود وغيره كما سلف منا. واستدل لمن قال بندب تكبير الانتقال- وهم الجمهور- بما رواه أحمد وأبوداود، عن ابن أبزى عن أبيه أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان لا يتم التكبير. وفي لفظ لأحمد: إذا خفض ورفع. وفي رواية: فكان لا يكبر إذا خفض يعني بين السجدتين. قيل: هذا يدل على عدم الوجوب؛ لأن تركه - صلى الله عليه وسلم - له في بعض الحالات لبيان الجواز والإشعار بعدم الوجوب. وأجيب عنه بأن في إسناده الحسن بن عمران. قال أبوزرعة: شيخ، وذكره ابن حبان في الثقات. ونقل البخاري في التاريخ عن أبي داود الطيالسي أنه قال: هذا عندنا باطل. وقال الطبري في تهذيب الآثار، والبزار: تفرد به الحسن، وهو مجهول. وهذا لا يعارض الأحاديث فيها تكبيرات النقل لكثرتها وصحتها وكونها مثبتة ومشتملة على الزيادة، وكون بعضها دالة على الوجوب. وقيل: المراد في حديث ابن أبزى "لم يتم الجهر أو لم يمده". (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي. 806- قوله: (أفضل الصلاة طول القنوت) أي أفضل أركان الصلاة وأفعالها طول القنوت، أو أفضل الصلاة صلاة فيه طول القنوت، أو صلاة ذات طول القنوت. والقنوت يجئ لمعان كثيرة، والمراد هنا طول القيام. قال النووي باتفاق العلماء فيما علمت. وقال ابن العربي في شرح الترمذي (ج1: ص179، 178) : تتبعت موارد القنوت فوجدتها عشرة: الطاعة، العبادة، دوام الطاعة، الصلاة، القيام، طول القيام، الدعاء، الخشوع، السكوت، ترك الالتفات.

{الفصل الثاني}

رواه مسلم. {الفصل الثاني} 807- (12) عن أبي حميد الساعدي، قال في عشرة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا أعلمكم بصلاة رسول الله ـــــــــــــــــــــــــــــ وكلها محتملة أولاها السكوت والخشوع والقيام، وأحدها في هذا الحديث القيام-انتهى. ويدل على ذلك تصريح أبي داود في حديث عبد الله بن حبشي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل أي الأعمال أفضل؟ قال طول القيام. والحديث فيه دليل على أن القيام أفضل من الركوع والسجود وغيرهما. واختلف العلماء في أن القيام أفضل أو السجود. فقالت طائفة ومنهم الشافعي: إن القيام أفضل، فيكون تكميله وتطويله أهم لحديث جابر هذا وما في معناه، ولأنه أدخل في الخدمة والمشقة، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - كان في صلاة الليل يطول قيامه، ولو كان السجود أفضل لكان طوله، ولأن الذكر الذي شرع في القيام أفضل الأذكار-وهو القرآن- فيكون هذا الركن أفضل الأركان. وقالت طائفة: السجود أفضل؛ لأنه أدل على الذلة والخضوع، ولأنه روى عن أبي هريرة مرفوعاً: أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، أخرجه أحمد ومسلم وأبوداود والنسائي. ولقوله - صلى الله عليه وسلم - لم سأل مرافقته في الجنة: أعني بكثرة السجود، ولحديث "ما تقرب العبد إلى الله بأفضل من سجود خفي". ولا يخفى أن هذه الأحاديث لا تعارض حديث جابر ومن وافقه. أما الحديث الأول فلأنه لا يلزم من كون العبد أقر إلى ربه حال سجوده أفضليته على القيام لأن تلك الأقربة في حال السجود إنما هي باعتبار استحبابه الدعاء كما يقتضيه قوله "فأكثروا الدعاء" وهو لا ينافي أفضلية القيام. وأما الحديث الثاني فلأن غاية ما فيه أنه يدل على فضل السجود، ولا يلزم من فضل السجود أفضليته على طول القيام. وأما الحديث الثالث فلأنه لا يصح لإرساله كما قال العراقي. لأن في إسناده أبا بكر بن أبي مريم وهو ضعيف. وقيل: هما متساويان. وتوقف أحمد في المسألة ولم يقض فيها بشئ. وقال إسحق بن راهوية: أما في النهار فتكثير الركوع والسجود أفضل؛ لأنه يقرأ جزءه، ويربح كثرة الركوع والسجود. قال ابن عدي: إنما قال إسحق هذا؛ لأنهم وصفوا صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل بطول القيام، ولم يوصف من تطويله بالنهار ما وصف من تطويله بالليل-انتهى. قال العراقي: الظاهر أن حديث أفضلية طول القيام محمولة على صلاة النفل التي لا تشرع فيها الجماعة، وعلى صلاة المنفرد، فأما الإمام في الفرائض والنوافل فهو مأمور بالتخفيف المشروع إلا إذا علم من حال المأمومين المحصورين إيثار التطويل، ولم يحدث ما يقتضي التخفيف من بكاء صبي ونحوه، فلا بأس بالتطويل، وعليه يحمل صلاته في المغرب بالأعراف-انتهى (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وابن ماجه. 807- قوله: (في عشرة) أي في محضر عشرة، يعني بين عشرة أنفس وحضرتهم (أنا أعلمكم بصلاة رسول الله

- صلى الله عليه وسلم -، قالوا: فاعرض. قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يكبر، ثم يقرأ، ثم يكبر ويرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يركع ويضع راحتيه على ركبتيه، ثم يعتدل فلا يصبي رأسه ولا يقنع، ثم يرفع رأسه فيقول: سمع الله لمن حمده، ثم يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه معتدلاً، ثم يقول: الله أكبر، ثم يهوي ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى الله عليه وسلم -) فيه مدح الإنسان لنفسه لمن يأخذ عنه ليكون كلامه أوقع وأثبت عند السامع. قال الحافظ: في الحديث جواز وصف الرجل نفسه بكونه أعلم من غيره إذا أمن الإعجاب، وأراد تأكيد ذلك عند من سمعه، لما في التعليم والأخذ عن الأعلم من الفضل. وزاد في رواية: قالوا: فلِم؟ فوالله ما كنت أكثرنا له تبعة ولا أقدمنا له صحبة، وللطحاوي "قالوا: من أين؟ قال: رقبت ذلك منه حتى حفظت صلاته". (فأعرض) بهمزة وصل، أي إذا كنت أعلمنا فاعرض علينا ما تعلم، لنرى هل أصبت أو لا. قال في النهاية: يقال عرضت عليه أمر كذا، أو عرضت له الشيء: أظهرته وأبرزته إليه. اعرض بالكسر لا غير، أي بين علمك بصلاته - صلى الله عليه وسلم - إن كنت صادقاً لنوافقك إن حفظناه وإلا استفدناه. (قال كان النبي - صلى الله عليه وسلم -) الخ. هذا يدل على أن أباحميد حكي صلاته - صلى الله عليه وسلم - بالقول، وروى عنه أنه وصف صلاته بالفعل كما في رواية الطحاوي وابن حبان. قال الحافظ: ويمكن الجمع بين الروايتين بأن يكون وصفها مرة بالقول مرة بالفعل (حتى يحاذي بهما) أي بكفيه (منكبيه) ويكون رؤس الأصابع بحذاء أذنيه (ثم يكبر) قال ابن حجر: "ثم" ههنا بمعنى الواو لرواية البخاري السابقة "حين يكبر" وقدمت؛ لأنها أصح وأشهر. وفيه دليل على وجوب وقوع جميع تكبيرة الإحرام في القيام كما مرّ. (ثم يقرأ) قال القاري: لعل القراءة ههنا تعم التسبيح ودعاء الاستفتاح، أو التقدير: ثم يأتي بدعاء الافتتاح والتعوذ كما ثبت من روايات أخر، ثم يقرأ الفاتحة، ثم السورة كما ثبت من روايات أخر أيضاً (ويضع راحتيه على ركبتيه) أي ويفرج أصابعه، ففي رواية لأبي داود: وفرج بين أصابعه (ثم يعتدل) أي في الركوع بأن يسوي رأسه وظهره حتى يصيرا كالصفحة، وتفسيره قوله: (فلا يصبى) بالتشديد، أي لا ينزل (رأسه) أي عن ظهره. يقال: صبى الرجل رأسه يصيبه إذا خفضه جداً. قال في المجمع: وفيه أنه لا يصبي رأسه أي لا يخفضه كثيراً، ولا يميله إلى الأرض، من صبا إليه يصبو، إذا مال، وصبى رأسه تصيبه، شدد للتكثير. وقيل: هو مهموز من صبأ إذا خرج من دين. ويروي لا يصب-انتهى. ويروي أيضاً لا يصوب من التصويب، وكل من التصبية والصب والتصويب بمعنى. وقال القاري: الظاهر أن التشديد في التصبية للتعدية (ولا يقنع) من أقنع رأسه إذا رفع ونصب. أى لا يرفع رأسه حتى يكون أعلى من ظهره. (ثم يرفع رأسه) أي بالقومة إلى الاعتدال (معتدلاً) حال من فاعل يرفع (ثم يهوي) أي

إلى الأرض ساجداً، فيجافي يديه عن جنبيه، ويفتخ أصابع رجليه، ثم يرفع رأسه ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها، ثم يعتدل حتى يرجع كل عظم في موضعه معتدلاً، ثم يسجد، ثم يقول: الله أكبر، ويرفع ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها، ثم يعتدل حتى يرجع كل عظم إلى موضعه، ثم ينهض، ثم يصنع في الركعة الثانية مثل ذلك، ثم إذا قام من الركعتين كبر ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه كما كبر عند افتتاح الصلاة، ثم يصنع ذلك في بقية صلاته، حتى إذا كانت السجدة التي فيها التسليم أخّر رجله اليسرى، وقعد متوركاً على شقه الأيسر، ـــــــــــــــــــــــــــــ ينحط وينزل بعد شروعه في التكبير. والهوى السقوط من علو إلى سفل (ساجداً) أي قاصداً للسجود. (فيجافى) أي يباعد في سجوده (يديه) أي مرفقيه (ويفتح أصابع رجليه) بالخاء المعجمة المفتوحة أي يثنيها ويلينها فيوجهها إلى القبلة وأصل الفتخ الكسر واللين، والمراد أنه ينصبها مع الاعتماد على بطونها، ويجعل رؤسها للقبلة لخبر البخاري: أنه- عليه السلام - سجد واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة. ومن لازمها الاستقبال ببطونها والاعتماد عليها. (ثم يرفع رأسه) أي مكبراً (ويثنى) بفتح الياء الأولى، أي يعطف (ثم يعتدل) أي جالساً (حتى يرجع كل عظم في موضعه) أي يستقر فيه (معتدلاً) أي في الجلوس. وهو حال مؤكدة، وفيه الجلوس بين السجدتين والطمأنينة فيه (ثم يسجد) أي بعد التكبير (ثم يقول: الله أكبر ويرفع) أي رأسه من السجدة الثانية (ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها ثم يعتدل) الخ. فيه ندب جلسة الاستراحة في كل ركعة لا تشهد فيها، وقد تقدم بيانها مفصلاً. (مثل ذلك) أي مثل ما صنع في الركعة الأولى إلا ما استثني. (ثم إذا قام) أي شرع في القيام، أو أراده (من الركعتين كبر ورفع يديه) الخ. فيه استحباب رفع اليدين في القيام من الركعتين بعد التشهد، وهو الموطن الرابع من المواطن الأربعة التي شرع فيها الرفع. (ثم يصنع ذلك) أي ما ذكر من الكيفيات (حتى إذا كانت السجدة التي فيها) أي عقبها (التسليم أخر) أي أخرج (رجله اليسرى) أي من تحت مقعدته إلى الأيمن (وقعد متوركاً على شقه الأيسر) أي مفضياً بوركه اليسرى إلى الأرض غير قاعد على رجليه. فيه سنية التورك في القعدة الأخيرة، وأن هيئة الجلوس في التشهد الأخير مغايرة لهيئة غيره من الجلسات. وإليه ذهب الشافعي، وأحمد. وعند الحنفية يفترش في الكل. وعند المالكية يتورك في الكل. واستدل به الشافعية أيضاً على أن تشهد الصبح والجمعة وغيرهما من الثنائية كالتشهد الأخير في غير الثنائية؛ لعموم قوله "إذا كانت السجدة التي فيها التسليم" ولقوله "إذا جلس في الركعة الآخرة" عند البخاري. وفي هذا الاستدلال عندي نظر قوي، لا يخفى على المتأمل، واختلف فيه قول أحمد، والمشهور عنه اختصاص التورك بالصلاة التي فيها تشهدان. قيل: الاختلاف بين الشافعي وأحمد

ثم سلم. قالوا: صدقت هكذا كان يصلي)) رواه أبوداود، والدارمي. وروى الترمذي وابن ماجه معناه. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ـــــــــــــــــــــــــــــ مبني على علة التورك؛ فهي تطويل التشهد عند الشافعي، والتفريق بين التشهدين عند أحمد، فما ليس فيه إلا تشهد واحد لا حاجة فيه إلى التفريق. وقيل: مدار التورك عند الشافعي تعقيب السلام، كما يظهر من كلام النووي في شرح مسلم، حيث قال: قال الشافعي: السنة أن يجلس كل الجلسات مفترشاً إلا التي يعقبها السلام، فلو كان مسبوقاً وجلس إمامه متوركاً جلس المسبوق مفترشاً؛ لأن جلوسه لا يعقبه بسلام- انتهى. قلت: ويؤيد ذلك قوله: "إذا كانت السجدة التي فيها التسليم". وقوله "الركعة الآخرة" (قالوا) أي العشرة من الصحابة (صدقت) أي فيما قلت. (رواه أبوداود والدارمي) قال القاري: أي بهذا اللفظ، وفيه نظر؛ لأن بين السياق الذي ذكره المصنف تبعاً للبغوي وبين سياق أبي داود والدارمي فرقاً في عدة مواضع. والحديث أخرجه أيضاً أحمد (ج5: ص424) وابن حبان، والبيهقي، وابن خزيمة. (وروى الترمذي وابن ماجه معناه) وهو عندهم جميعاً من طريق عبد الحميد بن جعفر، عن محمد بن عمرو بن عطاء، سمعت أباحميد الساعدي في عشرة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، منهم أبوقتادة، قال أبوحميد: أنا أعلمكم، الخ. (وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح) وقال النووي: إسناده على شرط مسلم. وقال أبوحاتم في علله (ج1: ص163) : أصله صحيح. وقال الحافظ في الفتح (ج3: ص405) : صححه ابن خزيمة وابن حبان. وأخرجه البخاري في صحيحه مختصراً، وقد تقدم. وضعفه ابن التركماني بثلاثة وجوه: الأول أن في سنده عبد الحميد بن جعفر، قال ابن التركماني: وهو مطعون في حديثه كذا قال يحيى بن سعيد، وهو إمام الناس في هذا الباب. والجواب عنه أن عبد الحميد هذا ثقة، صدوق، صالح للاحتجاج، من رجال مسلم، ولا وجه لطعن من طعن فيه. قد وثقه أحمد، وابن معين، وابن المديني، وابن سعد، وابن حبان. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن عدي: أرجوا أنه لا بأس به وهو ممن يكتب حديثه، وقال أبوحاتم: محله الصدق. وقال الساجي: ثقة صدوق. واختلفت الرواية فيه عن يحيى بن سعيد؛ ففي تهذيب التهذيب (ج6: ص112) : قال الدوري عن ابن معين: ثقة ليس به بأس كان يحيى بن سعيد يضعفه. قلت ليحيى: فقد روى عنه، قال: قد روى عنه وكان يضعفه، وكان يرى القدر. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: كان يحيى بن سعيد يوثقه، وكان الثوري يضعفه. قلت ما تقول أنت فيه؟ قال: ليس بحديثه بأس وهو صالح- انتهى. والظاهر أن تضعيفه إياه إنما هو لأنه كان يرى القدر، والطعن في حديثه لذلك ليس بشيء كما لا يخفى، وضعفه الثوري؛ لأنه كان ممن خرج مع محمد بن عبد الله بن حسن. قال الذهبي في الميزان (ج2: ص94) : وقد نقم عليه الثوري خروجه مع محمد بن عبد الله- انتهى. وهذا

أيضاً ليس مما يطعن في حديثه لأجله. قال البيهقي في كتاب المعرفة: أما تضعيف الطحاوي لعبد الحميد فمردود بأن يحيى بن معين وثقه في جميع الروايات عنه. وكذلك أحمد بن حنبل، واحتج به مسلم في صحيحه- انتهى. فقد ظهر بهذا كله أن توثيق عبد الحميد بن جعفر هو الحق والصواب؛ لأنه اتفق أئمة الجرح والتعديل كأحمد، وابن معين، وابن المديني، وابن سعد، وغيرهم على توثيقه إلا الثوري، ولا وجه لطعنه فيه. واختلف فيه قول يحيى بن سعيد القطان. الوجه الثاني أن الحديث منقطع؛ لأنه لم يسمعه محمد بن عمرو بن عطاء عن أبي حميد، ولا من أحد ذكر مع أبي حميد. وذكر محمد بن عمرو في الحديث أنه حضر أبا قتادة، وسنه لا يحتمل ذلك، فإن أبا قتادة قتل مع علي وصلى عليه علي. قال الحافظ في الفتح (ج4: ص449) : زعم ابن القطان تبعاً للطحاوي أنه غير متصل لأمرين: أحدهما أن عيسى بن عبد الله رواه عن محمد بن عمرو بن عطاء فأدخل بينه وبين الصحابة عباس بن سهل. أخرجه أبوداود وغيره. وثانيهما أن في بعض طرقه تسمية أبي قتادة في الصحابة المذكورين، وأبوقتادة قديم الموت يصغر سن محمد بن عمرو بن عطاء عن إدراكه. والجواب عن ذلك: أما الأول فلا يضر الثقة المصرح بسماعه أن يدخل بينه وبين شيخه واسطة إما لزيادة في الحديث وإما ليثبت فيه. وقد صرح محمد بن عمرو المذكور بسماعه، فتكون رواية عيسى عنه من المزيد في متصل الأسانيد. وأما الثاني فالمعتمد فيه قول بعض أهل التاريخ إن أبا قتادة مات في خلافة علي، وصلى عليه علي، وكان قتل على سنة أربعين، وإن محمد بن عمرو بن عطاء مات بعد سنة عشرين ومائة، وله نيف وثمانون سنة، فعلى هذا لم يدرك أبا قتادة. والجواب أن أبا قتادة اختلف في وقت موته، فقيل: مات سنة أربع وخمسين، وعلى هذا فلقاء محمد له ممكن، وعلى الأول فلعل من ذكر مقدار عمره ووقت وفاته وهم، أو الذي سمى أبا قتادة في الصحابة المذكورين وهِمَ في تسميته، ولا يلزم من ذلك أن يكون الحديث الذي رواه غلطاً؛ لأن غيره ممن رواه معه عن محمد بن عمرو بن عطاء أو عن عباس ابن سهل قد وافقه- انتهى. وقال البيهقي: أما ما ذكر من انقطاعه فليس كذلك، فقد حكم البخاري في تاريخه بأنه سمع أباحميد، وأبا قتادة، وابن عباس. وقوله: "إن أبا قتادة قتل مع على" رواية شاذة رواها الشعبي، والصحيح الذي أجمع أهل التاريخ أنه بقي إلى سنة أربع وخمسين، ونقله عن الترمذي، والواقدي، والليث، وابن مندة في الصحابة، وأطال فيه، كذا في نصب الراية (ج1: ص412، 411) ولفظ البيهقي في معرفة السنن: واستشهاده على ذلك بوفاة أبي قتادة قبله خطأ؛ لأنه إنما رواه موسى بن عبد الله بن يزيد أن علياً صلى على أبي قتادة فكبر عليه سبعاً، وكان بدرياً. ورواه أيضاً الشعبي منقطعاً، وقال: فكبر عليه ستاً. وهو غلط لإجماع التواريخ على أباقتادة الحارث بن ربعي بقي إلى سنة أربع وخمسين، وقيل: بعدها، إلخ. وفي تهذيب التهذيب (ج12: ص204) : قال الواقدي: توفي أبوقتادة بالكوفة سنة أربع وخمسين، وهو ابن سبعين سنة. ولم أر بين علمائنا اختلافاً في ذاك. قال وروى أهل الكوفة أنه مات بالكوفة

وعلي بها وصلى عليه. وحكى خليفة: أن ذلك كان سنة ثمان وثلاثين وهو شاذ، والأكثر على أنه مات سنة أربع وخمسين. قال الحافظ: ومما يؤيد ذلك أن البخاري ذكره في الأوسط في فصل من مات بعد الخمسين إلى الستين، ثم روى بإسناده إلى مروان بن الحكم قال: كان والياً على المدينة من قبل معاوية، أرسل إلى أبي قتادة ليريه مواقف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فانطلق معه فأراه. وقال في الإصابة (ج4: ص159) : ويدل على تأخره أيضاً ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن محمد بن عقيل، أن معاوية لما قدم المدينة تلقاه الناس، فقال لأبي قتادة تلقاني الناس كلهم غيركم يا معشر الأنصار- انتهى. وقال في التقريب في ترجمة أبي قتادة: مات سنة أربع وخمسين. وقيل: سنة ثمان وثلاثين. والأول أصح وأشهر. وهذا كله يدل على أن الراجح في سنة وفاة أبي قتادة هو أنه توفي سنة أربع وخمسين، وهو أيضاً يدل على رجوع الحافظ مما ذكر في التلخيص (ص160) : أن الراجح عنده هو أن أبا قتادة مات في خلافة علي، والله أعلم. الوجه الثالث أن الحديث مضطرب والمتن، أما الأول فلأنه رواه عطاف بن خالد عن محمد بن عمرو بن عطاء، فجعل بينه وبين أبي حميد رجلاً مجهولاً. ورواه عيسى بن عبد الله، عن محمد بن عمرو، عن عباس بن سهل، أنه كان في مجلس فيه أبوه سهل بن سعد وأبوهريرة وأبوأسيد وأبوحميد، وفي رواية عن عباس أو عياش ابن سهل، وفي رواية أن عيسى بن عبد الله رواه عن عباس بن سهل عن أبي حميد، فلم يذكر محمداً في سنده. وأما الثاني فقد وقع الاختلاف في ذكر التورك في روايات الحديث، فإن عبد الحميد بن جعفر ومحمد بن عمرو بن حلحلة ذكر التورك في الجلسة الأخيرة في روايتهما عن محمد بن عمرو بن عطاء. وأما عيسى بن عبد الله فذكر التورك في الجلسة بين السجدتين ولم يذكره في غيرها من القعدة الأخيرة والأولى. ولم يذكر جلسة الاستراحة؛ لأنه قال: ولم يتورك أي مثل توركه بين السجدتين. وهذا في رواية الحسن بن الحر عن عيسى، وأما عتبة بن حكيم عن عيسى، وفليح عن عباس بن سهل فلم يذكر التورك أصلاً لا في الجلسة الأولى والثانية، ولا بين السجدتين، ولا في جلسة الاستراحة. والجواب عن ذلك أن هذا الاختلاف ليس بموجب للاضطراب القادح في صحة الحديث؛ لأن الجمع أو الترجيح ممكن بل متحقق، فإن رواية عيسى بواسطة العباس بن سهل محمولة، على أنها من المزيد في متصل الأسانيد كما تقدم، ورواية الجزم قاضية على رواية الشك، والرجل المبهم هو عباس بن سهل، ورواية الحسن بن الحر عن عيسى عن محمد بن عمرو بن عطاء عن عباس أقوى وأرجح من رواية عتبة عن عيسى، عن عباس؛ لأن عتبة وإن كان صدوقًا لكنه يخطئ كثيرًا. وأما الحسن بن الحر فهو ثقة فاضل ويمكن أن عيسى سمعه أولاً من محمد بن عمرو عن عباس ثم لقي عباساً فسمع منه بلا واسطة، ويحتمل عكسه، وهذا ليس ببعيد، بل يؤيده قول ابن المبارك: أرى فليحًا ذكر عيسى بن عبد الله أنه سمعه من عباس بن سهل قال: حضرت أبا حميد. وأما الاختلاف في ذكر التورك فالجواب عنه أن رواية عبد الحميد أرجح وأصح من جميع الروايات, وأيضاً

وفي رواية لأبي داود من حديث أبي حميد: ((ثم ركع فوضع يديه على ركبتيه كأنه قابض عليهما، ووتر يديه فنحاهما عن جنبيه، وقال: ثم سجد فأمكن أنفه وجبهته الأرض، ونحى يديه عن جنبيه، ووضع كفيه حذو منكبيه، وفرج بين فخذيه غير حامل بطنه على شيء من فخذيه حتى فرغ، ثم جلس، فافترش رجله اليسرى، وأقبل بصدر اليمنى على قبلته، ووضع كفه اليمنى على ركبته اليمنى، وكفه اليسرى على ركبته اليسرى، وأشار بإصبعه- يعني السبابة- وفي أخرى له: ـــــــــــــــــــــــــــــ المثبت مقدم على النافي، وأيضاً السكوت لا يعارض الذكر. (وفي رواية لأبي داود من حديث أبي حميد) الخ. أخرجها أبوداود من طريق عبد الملك بن عمرو أخبرني فليح، حدثني عباس بن سهل قال: اجتمع أبوحميد وأبوأسيد وسهل بن سعد ومحمد بن مسلمة فذكروا صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أبوحميد: أنا أعلمكم، الخ. (ووتر يديه) أي عوجهما، من التوتير وهو جعل الوتر على القوس. (فنحاهما عن جنبيه) من نحى ينحي تنحية إذا أبعد، وفي أبي داود "فتجافى عن جنبيه" يعني أبعد مرفقيه عن جنبيه حتى كان يده كالوتر وجنبه كالقوس. وفي النهاية أي جعلهما كالقوس من قولك: وترت القوس وأوترته، شبه يد الراكع إذا مدها قابضاً على ركبتيه بالقوس إذا أوترت (فأمكن أنفه وجبهته الأرض) بنزع الخافض أي منها، أي وضعهما على الأرض مع الطمأنينة وتحامل عليهما (ووضع كفيه حذو منكبيه) قد تقدم حديث وائل بلفظ: "سجد بين كفيه" ومن يصنع كذلك يكون يداه حذاء أذنيه، ورواية النسائي بلفظ: "جعل كفيه بحذاء أذنيه" صريحة في ذلك فيعارض حديث أبي حميد هذا، فقيل: السنة أن يفعل أيهما تيسر جمعاً للمرويات، بناء على أنه كان- عليه السلام - يفعل هذا أحيانا وهذا أحياناً إلا أن بين الكفين أفضل لأن فيه من تخليص المجافاة المسنونة ما ليس في الآخر. وقد أسلفنا الكلام في المسئلة بأزيد من هذا. (وفرج) بتشديد الراء، أي فرق (غير حامل) أي غير واضع (بطنه) بالنصب مفعول حامل (حتى فرغ) أي من سجوده (ثم جلس) أي في التشهد الأول (فافترش رجله اليسرى) أي وجلس على بطنها (وأقبل بصدر اليمنى على قبلته) أي وجه أطراف أصابع رجله اليمنى إلى القبلة، قاله الطيبي. ونقل ميرك عن الأزهار: أي جعل صدر الرجل اليمنى مقابلاً للقبلة، وذلك بوضع باطن الأصابع على الأرض مقابل القبلة مع تحامل قليل في نصب الرجل (وأشار بإصبعه) فيه دليل على مشروعية الإشارة في التشهد، ويجيء الكلام فيها مفصلاً في باب التشهد (يعني السبابة) الظاهر أن هذا التفسير من المصنف وهي فعالة من السبّ، فإن عادة العرب كانت عند السب والشتم والإشارة بالإصبع الذي يلي الإبهام. (وفي أخرى له) أي في رواية أخرى لأبي داود وقد أخرجها من طريق ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن محمد بن عمرو بن حلحلة، عن محمد بن عمرو العامري، قال: كنت في مجلس من

وإذا قعد في الركعتين قعد على بطن قدمه اليسرى، ونصب اليمنى. وإذا كان في الرابعة أفضى بوركه اليسرى إلى الأرض، وأخرج قدميه من ناحية واحدة)) . 808- (13) وعن وائل بن حجر: أنه أبصر النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قام إلى الصلاة رفع يديه حتى كانتا بحيال منكبيه، وحاذى إبهاميه أذنيه، ثم كبر)) رواه أبوداود. وفي رواية له: ((يرفع إبهاميه إلى شحمة أذنيه)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتذاكروا صلاته - صلى الله عليه وسلم -، فقال أبوحميد:.. الخ. (وإذا قعد في الركعتين) أي الأوليين يعني بعدهما (قعد على بطن قدمه اليسرى) هذا هو الافتراش. (أفضى بوركه اليسرى) أي أوصلها (إلى الأرض) أي مس بأليته اليسرى الأرض. قال الجوهري: أفضى بيده إلى الأرض إذا مسها ببطن راحته (وأخرج قدميه من ناحية واحدة) وهي ناحية اليمنى، وإطلاق الإخراج على اليمنى تغليب؛ لأن المخرج حقيقة هو اليسرى لا غير. كذا في المرقاة. واعلم أن للحديث طرقاً كثيرة وألفاظاً متقاربة تستفاد من سنن أبي داود ومن الجزء الثاني من السنن الكبرى للبيهقي، ذكرت مواضعها في فهرسة مفصلة. 808- قوله: (رفع يديه) حال بتقدير "قد" وقوله: "حين قام" ظرف له، أي رآه حال كونه رافعاً يديه حين قام إلى الصلاة (حتى كانتا) أي كفاه (بحيال منكبيه) بكسر مهملة وفتح تحتية خفيفة، أي إزائهما ومقابلهما (وحاذى) عطف على كانتا، أي قابل النبي - صلى الله عليه وسلم - (إبهاميه أذنيه) أي جعل إبهاميه محاذيين لأذنيه، والمراد شحمتيهما لما يأتي صريحاً. (ثم كبر) ثم بمعنى الواو، أو معنى "كبر" انتهى التكبير، فيكون ابتداء التكبير والرفع متقاربين. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً النسائي كلاهما من حديث عبد الجبار بن وائل عن أبيه، وعبد الجبار ولد في حياة أبيه لكن لم يسمع منه شيئاً، فالحديث منقطع. قال ابن معين والبخاري: لم يسمع عبد الجبار من أبيه شيئاً. وقال ابن حبان في الثقات: من زعم أنه سمع أباه فقد وهم. وقال ابن سعد: كان ثقة إن شاء الله قليل الحديث، ويتكلمون في روايته عن أبيه، ويقولون لم يلقه، وبمعنى هذا قال أبوحاتم وابن جرير الطبري والجريري ويعقوب بن سفيان ويعقوب بن شيبة والدارقطني والحاكم، وقبلهم ابن المديني وآخرون. وقال المزي والذهبي: قد صح (أي عند أبي داود وقال حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة الجشمي: ثنا عبد الوارث بن سعيد: ثنا محمد بن جحادة: حدثني عبد الجبار بن وائل) عن عبد الجبار؛ أنه قال: كنت غلاماً لا أعقل صلاة أبي، كذا في تهذيب التهذيب. (وفي رواية له) أي لأبي داود (يرفع إبهاميه إلى شحمة أذنيه) أي شحمتيهما. وهي ما لان من أسفلهما. وفي رواية للنسائي "رفع يديه حتى تكاد إبهاماه تحاذى شحمة أذنيه" وحديث

809- (14) وعن قبيصة بن هلب، عن أبيه، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤمنا فيأخذ شماله بيمينه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وائل هذا يؤيد ما تقدم من الشافعي في الجمع بين الروايات، وقد مر كلام السندي أنه لا حاجة إلى الجمع لعدم التناقض والمنافاة بين الأفعال المختلفة، لجواز وقوع الكل في أوقات متعددة، فيكون الكل سنة. 809- قوله: (وعن قبيصة) بفتح القاف وكسر الموحدة (بن هلب) بضم الهاء وسكون اللام، هكذا ضبط المحدثون. وضبط اللغويون بفتح الهاء وكسر اللام بوزن كتف، وهو الذي نص عليه ابن دريد في الاشتقاق (ص273) وعلله بأن الهلب- بالضم- هو الشعر. وقال: الهلب رجل كان أصلع فمسح النبي - صلى الله عليه وسلم - يده على رأسه فنبت شعره، فسمي الهلب. وقول اللغويين هو الذي صوبه الفيروز آبادي (صاحب القاموس) ورجح شارحه ما قاله المحدثون. وقال: لأنه من باب تسمية العادل بالعدل مبالغة خصوصاً، وقد ثبت النقل وهم العمدة. قال الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي (ج2: ص32) : وهذا هو الصحيح- انتهى. وقبيصة هذا طائي كوفي. قال ابن المديني والنسائي: مجهول. وذكر مسلم في الوحدان، وابن المدني أنه لم يرو عنه غير سماك بن حرب. وقال العجلي: تابعي ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الحافظ في التقريب: مقبول من أوساط التابعين. (عن أبيه) أي هلب الطائي. ويقال إن هلبا لقب غلب عليه، واسمه يزيد بن عدي بن قنافة الطائي، صحابي وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أقرع فمسح رأسه فنبت شعره، سكن الكوفة، وذكره ابن سعد في طبقة مسلمة الفتح. قال ابن دريد: كان أقرع فصار أفرع يعني كان بالقاف فصار بالفاء، والأهلب الكثير الشعر. له هذا الحديث فقط. (فيأخذ شماله بيمينه) أي ويضعهما على صدره، فعند أحمد من طريق يحيى بن سعيد القطان عن سفيان عن سماك عن قبيصة بن هلب عن أبيه: ورأيته يضع هذه على صدره، وصف يحيى (بن سعيد) اليمنى على اليسرى فوق المفصل. وهذا إسناد حسن، وزيادة "على صدره" زيادة ثقة، فيجب قبولها. قال شيخنا في أبكار المنن: يحيى بن سعيد القطان ثقة حافظ متقن، وزيادته "على صدره" ليست منافية لرواية غيره من أصحاب سفيان عن سماك، فهي مقبولة عند المحققين. قال السندي في حاشية ابن ماجه: قوله: "فيأخذ شماله بيمينه" وقد جاء حديث قبيصة بن هلب في مسند أحمد قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضع يده على صدره ويأخذ شماله بيمينه. وقد جاء في صحيح ابن خزيمة عن وائل بن حجر، قال: صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره. وقد روى أبوداود عن طاؤس، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضع يده اليمنى على يده اليسرى ثم يشد بهما على صدره وهو في الصلاة. وهذا الحديث وإن كان مرسلاً لكن المرسل حجة عند الكل. وبالجملة فكما صح أن الوضع هو السنة دون الإرسال ثبت أن محله الصدر لا غير. وأما حديث "إن من السنة وضع الأكف على الأكف في الصلاة تحت السرة" فقد اتفقوا على ضعفه. كذا ذكره ابن الهمام نقلاً عن النووي، وسكت عليه- انتهى

رواه الترمذي وابن ماجه. 810- (15) وعن رفاعة بن رافع، قال: ((جاء رجل فصلى في المسجد، ثم جاء فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أعد صلاتك، فإنك لم تصل. فقال: علمني يا رسول الله! كيف أصلي؟ قال: إذا توجهت إلى القبلة فكبر، ثم اقرأ بأم القرآن وما شاء الله أن تقرأ، فإذا ركعت فاجعل راحتيك على ركبتيك ومكّن ركوعك، ـــــــــــــــــــــــــــــ كلام السندي. (رواه الترمذي وابن ماجه) ، وأخرجه أيضاً أحمد والدارقطني. وقال الترمذي: حديث هلب حديث حسن. 810- قوله: (وعن رفاعة) بكسر راء وخفة فاء وإهمال عين (بن رافع) بن مالك بن العجلان أبومعاذ الزرقي الأنصاري المدني، بدري جليل، له أحاديث، انفرد له البخاري بثلاثة أحاديث. قال ابن عبد البر: شهد رفاعة مع علي الجمل وصفين. مات في أول خلافة معاوية، وأبو أول من أسلم من الأنصار, وشهد هو وابنه رفاعة العقبة (جاء رجل) هو أخوه خلاد بن رافع كما تقدم الكلام عليه في أول الباب (فصلي) صلاة خفيفة لم يتم ركوعها ولا سجودها (في المسجد، ثم جاء فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم -) فرد النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: وعليك السلام، وفي رواية لأحمد: جاء رجل ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في المسجد، فصلى قريباً منه، ثم انصرف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعد صلاتك (أعد) أمر من الإعادة (صلاتك، فإنك لم تصل) أي صلاة صحيحة، وفيه دلالة واضحة على فريضة التعديل؛ لأنه أمره بالإعادة، ومطلق الأمر للفريضة، ولأن الإعادة لا تجب إلا عند فساد الصلاة، وفسادها بفوات الركن، ولأنه نفى كون المؤدي صلاة. (فقال) أي الرجل في المرة الرابعة (كيف أصلي؟) وفي رواية أحمد؛ كيف أصنع؟ (إذا توجهت إلى القبلة) وفي رواية أحمد: إذا استقبلت القبلة (فكبر) للتحريمة (ثم اقرأ بأم القرآن) أي الفاتحة، وقراءة الفاتحة فرض عند الجمهور، وهو الحق خلافا للحنفية (وما شاء الله أن تقرأ) أي ما رزقك الله من القرآن بعد الفاتحة. وفيه أنه يجب قراءة ما زاد على الفاتحة كما هو مذهب الحنفية خلافا للشافعي، فإن ضم السورة وما قام مقامها سنة عنده. قال ابن حجر: ويجاب بحمل ذلك على التأكيد لا الوجوب للخبر الصحيح وهو قوله - عليه السلام -: أم القرآن عوض عن غيرها، وليس غيرها عوضا عنها- انتهى. قال الطيبي: وضع "ما شاء الله" موضع "ما شئت"؛ لأن مشيئته مسبوقة بمشيئة الله، كما قال تعالى: {وما تشاؤن إلا أن يشاء الله} [81: 29] انتهى. قلت: وفي رواية أحمد: ثم اقرأ بما شئت. (فاجعل راحتيك) تثنية راحة وهي الكف. (على ركبتيك) فيه رد على أهل التطبيق (ومكن) من التمكين (ركوعك) أي من أعضائك، يعني تمم بجميع أعضائك، قاله الطيبي. وقال ابن الملك: أي اركع ركوعاً تاما مع الطمأنينة. وفي

وامدد ظهرك. فإذا رفعت فأقم صلبك، وارفع رأسك حتى ترجع العظام إلى مفاصلها. فإذا سجدت فمكن للسجود. فإذا رفعت فاجلس على فخذك اليسرى. ثم اصنع ذلك في كل ركعة وسجدة حتى تطمئن)) . هذا لفظ المصابيح. ورواه أبوداود مع تغيير يسير. وروى الترمذي والنسائي معناه. وفي رواية للترمذي، قال: ((إذا قمت إلى الصلاة فتوضأ كما أمرك الله به، ثم تشهد، فأقم ـــــــــــــــــــــــــــــ رواية لأحمد: مكن لركوعك. ونقل الحافظ هذه الرواية من أحمد بلفظ: تمكن لركوعك. يقال: مكنته من الشيء وأمكنته منه أي جعلت له عليه سلطاناً وقدره. وتمكن من الأمر، واستمكن منه أي قدر وقوي عليه، أو ظفر به (وامدد) بضم الدال من باب نصر، أي ابسط (فإذا رفعت) أي رأسك من الركوع (فأقم صلبك) أي سو ظهرك (حتى ترجع العظام) برفعها وتنصب بناء على أنه لازم ومتعد، أي تعود أو ترد أنت (فمكن) أي يديك (للسجود) أي اسجد سجوداً تاماً مع الطمأنينة، قاله ابن الملك. ووضع اليدين في السجود سنة عند الحنفية، وفرض عند الشافعي، وقال ابن حجر: معناه فمكن جبهتك من مسجدك فيجب تمكينها بأن يتحامل علها بحيث لو كان تحتها قطن انكبس (فإذا رفعت) أي رأسك من السجود (فاجلس على فخذك اليسرى) أي ناصباً قدمك اليمنى وهو الافتراش المسنون في غير الجلسة الأخيرة. (ثم اصنع ذلك) أي جميع ما ذكر (في كل ركعة وسجدة) أي ركوع وسجود (حتى تطمئن) قال ابن الملك: يريد به الجلوس في آخر الصلاة فإنه موضع الاستقرار، يعني حتى يفرغ. وقال ابن حجر: راجع إلى جميع ما مرّ، فيفيد وجوب الطمأنينة في الركوع، والاعتدال، والسجود، والجلوس بين السجدتين. قلت: اقتصر أحمد في روايته على قوله "ثم اصنع ذلك في كل ركعة وسجدة" بدون ذكر قوله "تطمئن" (هذا لفظ المصابيح) قلت: أخرجه أحمد (ج4: ص340) بهذا اللفظ إلا ما تقدم من الاختلاف في بعض الألفاظ كما نبهنا على ذلك. (وروى الترمذي والنسائي معناه) وقال الترمذي: حديث رفاعة حديث حسن. وقال ابن عبد البر: هذا حديث ثابت. وقال الحاكم بعد روايته إياه من طريق همام، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن علي بن يحيى بن خلاد عن أبيه عن عمه رفاعة بن رافع: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، بعد أن أقام همام بن يحيى إسناده، فإنه حافظ ثقة، ووافقه الذهبي. والحديث أخرجه أيضاً الشافعي في الأم والدارمي وابن الجارود وابن حزم في المحلى والحاكم والبيهقي. (وفي رواية للترمذي) فيه نظر، فإن هذه الرواية ليست للترمذي خاصة بل أخرجها أبوداود أيضاً (إذا قمت إلى الصلاة) أي أردت القيام فوضع المسبب موضع السبب (كما أمرك الله به) أي في سورة المائدة (ثم تشهد) أي قل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، بعد الوضوء (فأقم) أي الصلاة. وقيل: معنى تشهد أذن؛ لأنه مشتمل على كلمتي الشهادة، فأقم على هذا يراد به الإقامة للصلاة، كذا نقله ميرك عن الأزهار، قلت: الظاهر أن المراد بقوله "ثم تشهد فأقم" الأذان والإقامة، يدل

فإن كان معك قرآن فاقرأ، وإلا فاحمد الله، وكبره، وهلله، ثم اركع)) . 811- (16) وعن الفضل بن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الصلاة مثنى مثنى، تشهد في كل ركعتين، ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه ما زاده الترمذي في روايته من لفظ "أيضا" بعد قوله "فأقم" (فإن كان معك قرآن فاقرأ) أي ما تيسر. وقد تقدم أن تمسك الحنفية على عدم ركنية الفاتحة ليس بصحيح؛ لأن الفاتحة وإن لم تكن ركناً لكنها واجبة عندهم أيضاً، والسياق سياق التعليم، فلو فرضنا أنه لم يعلمه يلزم درجة كراهة التحريم في سياق التعليم، ولا يجوز أصلاً مع أنها مذكورة في حديث رفاعة صراحة (كما تقدم آنفاً) وإن كانت مجملة في حديث أبي هريرة (وكذا في بعض طرق حديث رفاعة) . ثم أقول: إن قوله هذا كان لكون الرجل بدوياً أعرابياً لا يدري أنه كان عنده شيء من القرآن أم لا، وحينئذٍ ينبغي أن يكون التعبير هكذا، ولذا قال "وإلا فاحمد الله وكبره" فدل على أنه كان ممن لا يستبعد منه أن لا يكون عنده قرآن أصلاً. وإذن لا يلائمه أن يأمره بالفاتحة والسورة تفصيلاً، وإنما أليق بحاله الإجمال، فيقرأ بما يقدر، قاله الشيخ محمد أنور الكشميري. (وإلا) أي وإن لم يكن معك قرآن (فاحمد الله) أي قل: الحمد لله (وكبره) أي قل: الله أكبر (وهلله) أي قل: لا إله إلا الله. وفيه دليل على أن الذكر المذكور يجزئ من لم يكن معه شيء من القرآن، وليس فيه ما يقتضي التكرار فظاهره أنها تكفي مرة، وسيأتي الكلام فيه مفصلا ًفي باب القراءة في الصلاة. 811- قوله: (الصلاة مثنى مثنى) قيل: الصلاة مبتدأ ومثنى مثنى خبره، والأول تكرير والثاني توكيد، وقوله: (تشهد في كل ركعتين) خبر بعد خبر كالبيان لمثنى مثنى، أي ذات تشهد، وكذا المعطوفات، ولو جعلت أوامر اختل النظم، وذهبت الطراوة والطلاوة، قاله الطيبي. وقال التور بشتي: وجدنا الرواية فيهن بالتنوين لا غير، وكثير ممن لا علم له بالرواية يسردونها على الأمر ونراها تصحيفاً- انتهى. ونقل السيوطي في قوت المغتذي عن الحافظ العراقي في شرحه على الترمذي: المشهور في هذه الرواية أنها أفعال مضارعة حذف منها إحدى التائين، ويدل عليه قوله في رواية أبي داود "وأن تتشهد"، ووقع في بعض الروايات بالتنوين فيها على الاسمية، وهو تصحيف من بعض الرواة- انتهى. ونحو ذلك نقل السندي في حاشية ابن ماجه عن العراقي وزاد: قال أبوموسى المديني: ويجوز أن يكون أمراً أو خبراً- انتهى. قال العراقي: فعلى الاحتمال الأول يكون تشهد وما بعده مجزوماً على الأمر، وفيه بُعد لقوله بعد ذلك "وتقنع" فالظاهر أنه خبر- انتهى. وقد ظهر من هذا كله أنهم اختلفوا في ضبط هذه الكلمات. (أي غير قوله "تقنع" فإنه مضارع من الإقناع جزماً لا يحتمل وجها آخر) فضبطها بعضهم على المصدرية بالتنوين "تشهد" الخ. ورجحه التوربشتي والطيبي. وضبطها بعضهم أفعال أمر "تشهد" الخ. وضبطها بعضهم أفعالاً مضارعة "تشهد" الخ. وهذا رجحه العراقي وهو الراجح عندي لما في رواية لأحمد

وتخشع وتضرع وتمسكن، ثم تقنع يديك- يقول: ترفعهما- إلى ربك ـــــــــــــــــــــــــــــ (ج4: ص167) من حديث المطلب: الصلاة مثنى مثنى، وتشهد، وتسلم في كل ركعتين، الخ. فقوله: "تسلم" فعل مضارع جزما لا يحتمل أن يكون أمراً أو مصدراً فكذا قوله "تشهد" والمعطوفات بعده. ورواية أحمد هذه تدل على أن المراد من قوله "مثنى مثنى" أنه يسلم من كل ركعتين، فيكون المقصود بيان الأفضل. والمعنى أفضل الصلاة النافلة أن تكون ركعتين ركعتين أي بالليل، لما وقع في حديث المطلب بن ربيعة عند أحمد "صلاة الليل مثنى مثنى" إلا أن في سنده يزيد بن عياض الليثي وهو منكر الحديث متروك كذبه مالك وغيره. وفي قوله: "تسلم في كل ركعتين" رد على ابن الهمام حيث قال: إن "مثنى" معدول من"اثنين اثنين" فصار بالتكرار أربعاً، فمعنى قوله"الصلاة مثنى مثنى" أي أربع أربع، وهو مذهب الحنفية في النافلة. وفيه أنه قد صرح الزمخشري في الفائق أن مثنى ههنا مجرد عن التكرار، ومعناه اثنين فقط، ولذا احتيج إلى تكريره على أن ما ذكره ابن الهمام وإن كان نافعاً لهم في مسألة التطوع لكن يضرهم في مسألة الوتر جداً لأن صلاة الليل إذا كانت أربعاً فبإيتارها بواحدة يحصل الوتر خمس ركعات، بخلاف ما إذا كانت مثنى، فإنها بعد الإيتار تحصل ثلاث ركعات وهي ركعات الوتر عند الحنفية. (وتخشع) التخشع هو السكون والتذلل، وقيل الخشوع قريب المعنى من الخضوع إلا أن الخضوع في البدن والخشوع في البصر والبدن والصوت. وقيل: الخضوع في الظاهر، والخشوع في الباطن. وقال الحافظ: الخشوع تارة يكون من فعل القلب كالخشية، وتارة من فعل البدن كالسكون. وقيل: لابد من إعتبارهما حكاه الفخر الرازي في تفسيره. وقال غيره: هو معنى يقوم بالنفس، يظهر عنه سكون في الأطراف يلائم مقصود العبادة، ويدل على أنه من عمل القلب حديث علي: "الخشوع في القلب" أخرجه الحاكم. وأما حديث: "لو خشع هذا خشعت جواره" ففيه إشارة إلى أن الظاهر عنوان الباطن- انتهى. قال القاري: والخشوع من كمال الصلاة. قلت: بل هو روحها وسرها ومقصودها. وفي قوله: "تخشع" إشارة إلى أنه إن لم يكن له خشوع فيتكلف، ويطلب من نفسه الخشوع، ويتشبه بالخاشعين. (وتضرع) قال الجزري: التضرع التذلل، والمبالغة في السؤال، والرغبة. يقال ضرع يضرع- بالكسر والفتح - والتضرع إذا خضع وذل. (وتمسكن) قال ابن الملك: التمسكن إظهار الرجل المسكنة من نفسه. وقال الجزري: أي تذل وتخضع، وهو تمفعل من السكون، والقياس أن يقال: تسكن، وهو الأكثر الأفصح، وقد جاء على الأول أحرف قليلة. قالوا: تمدرع وتمنطق وتمندل- انتهى. (ثم تقنع يديك) من إقناع اليدين رفعهما في الدعاء ومنه قوله تعالى: {مقنعي رؤوسهم} [14: 43] أي ترفع يديك للدعاء بعد الصلاة لا فيها. وقيل: بل يجوز أن يرفع اليدين فيها في قنوت الصبح والوتر، وهو عطف على محذوف، أي إذا فرغت منها فسلم ثم ارفع يديك سائلاً حاجتك، فوضع الخبر موضع الطلب (يقول) أي الراوي معناه (ترفعهما) أي لطلب الحاجة (إلى ربك) متعلق بقوله

{الفصل الثالث}

مستقبلاً ببطونهما وجهك، وتقول: يا رب! يا رب! ومن لم يفعل ذلك فهو كذا وكذا)) . وفي رواية: ((فهو خداج)) . رواه الترمذي. {الفصل الثالث} 812- (17) عن سعيد بن الحارث بن المعلى، قال: ((صلى لنا أبوسعيد الخدري، فجهر بالتكبير حين رفع رأسه من السجود، وحين سجد، وحين رفع من الركعتين. ـــــــــــــــــــــــــــــ تقنع. وقيل "يقول" فاعله النبي - صلى الله عليه وسلم - و"ترفعهما" يكون تفسيرا لقوله" ثم تقنع يديك" والظاهر أن الفاعل هو عبدربه ابن سعيد أحد رواة الحديث، ففي مسند أحمد (ج4: ص167) من طريق شعبة أنه قال في آخر الحديث: فقلت له ما الإقناع؟ فبسط يديه كأنه يدعو (يا رب! يا رب) الظاهر أن المراد بالتكرير التكثير (ومن لم يفعل ذلك) أي ما ذكر من الأشياء في الصلاة فهو أي فعل صلاته (كذا وكذا) قال الطيبي: كناية عن أن صلاته ناقصة غير تامة يبين ذلك الرواية الأخرى أعني قوله "فهو خداج" قلت: وفي رواية أحمد في المسند (ج1: ص211) من طريق ابن المبارك "فمن لم يفعل ذلك فقال فيه قولاً شديداً" (فهو خداج) بكسر الخاء المعجمة، أي ناقص. قيل: تقديره "فهو ذات خداج" أي صلاته ذات نقصان، فحذف المضاف. أو وصفها بالمصدر نفسه للمبالغة، والمعنى: أنها ناقصة، قال الزمخشري في أساس البلاغة: أخدج صلاته، نقص بعض أركانها، وصلاتي مخدجة وخادجة وخداج وصفا بالمصدر- انتهى. وقال أبوعبيد: أخدجت الناقة إذا أسقطت، والسقط ميت لا ينتفع به، ذكره البخاري في جزء القراءة. وقال الخطابي: تقول العرب: أخدجت الناقة إذا ألقت ولدها وهو دم لم يستبن خلقه فهي مخدج، والخداج اسم مبني منه- انتهى. وقال المنذري في الترغيب: والخداج معناه ههنا الناقص في الأجر والفضيلة – انتهى. (رواه الترمذي) وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي وابن خزيمة في صحيحه وتردد في ثبوته. وأخرجه أبوداود الطيالسي وأبوداود السجستاني وابن ماجه وأحمد أيضاً من حديث المطلب. والظاهر أنه المطلب بالربيعة بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، ويقال له: عبد الطلب أيضاً، وهو صحابي معروف. ومدار الروايتين على عبد الله بن نافع بن العمياء، وهو مجهول على ما قال الحافظ في التقريب. وقال البخاري: لا يصح حديثه. وذكره ابن حبان في الثقات. 812- قوله: (عن سعيد بن الحارث بن المعلى) بضم الميم وفتح اللام المشددة اسم مفعول من التعلية، هو سعيد ابن الحارث بن أبي سعيد المعلى الأنصاري المدني القاص، من ثقات الطبقة الوسطى من التابعين (صلى لنا أبوسعيد الخدري) أي بالمدينة لما اشتكى أبوهريرة أو غاب، وكان يصلي بالناس في إمارة مروان على المدينة، وكان مروان وغيره من بني أمية يسرون بالتكبير (فجهر) أي أبوسعيد (بالتكبير) لكونه إماماً. زاد الإسماعيلي "حين افتتح، وحين ركع، وحين سجد" (حين رفع رأسه من السجود) ليعلم ويتابع عليه (وحين سجد) أي ثانياً (وحين رفع) أي رأسه (من الركعتين) أي

وقال: هكذا رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم -)) . رواه البخاري. 813- (18) وعن عكرمة، قال: صليت خلف شيخ بمكة، فكبر ثنتين وعشرين تكبيرة. فقلت لابن عباس: إنه أحمق. فقال: ثكلتك أمك، سنة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأولين. وفي البخاري "وحين رفع وحين قام من الركعتين" زاد الإسماعيلي: فلما انصرف قيل له: قد اختلف الناس على صلاتك، فقام عند المنبر فقال: إني والله ما أبالي اختلفت صلاتكم أو لم تختلف. (وقال: هكذا رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم -) قال الحافظ: والذي يظهر أن الاختلاف بينهم كان في الجهر بالتكبير والإسرار به، وكان مروان وغيره من بني أمية يسرون به- انتهى. والحديث يدل على مشروعية الجهر بالتكبير وقد عرفت مما أسلفنا أن أول من ترك تكبير النقل أي الجهر به عثمان ثم معاوية ثم زياد ثم مروان وغيره من بني أمية. وفيه أن التكبير للقيام من الركعتين يكون مقارناً للفعل، وهو مذهب الجمهور خلافاً لمالك حيث قال"يكبر بعد الإستواء" وكأنه شبه بأول الصلاة من حيث أنها فرضت ركعتين، ثم زيدت الرباعية فيكون افتتاح المزيد كافتتاح المزيد عليه، كذا قاله بعض أتباعه، لكن كان ينبغي أن يستحب رفع اليدين حينئذٍ لتكمل المناسبة ولا قائل به منهم. (رواه البخاري) تفرد به البخاري عن أصحاب الكتب الستة، وأخرجه أحمد بأطول من هذا. وقال الهيثمي (ج2: ص104) : رجاله رجال الصحيح_ انتهى. وأخرجه أيضاً البيهقي في سننه (ج2: ص18) والحاكم في المستدرك (ج2: 223) وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه بهذا السياق. 813- قوله: (صليت خلف شيخ) هو أبوهريرة كما جاء مسمى في رواية أحمد والطحاوي والطبراني (بمكة) أي عند المقام صلاة الظهر كما في مستخرج أبي نعيم والإسماعيلي (فكبر) أي جهر بالتكبير فيها (ثنتين وعشرين تكبيرة) أي في الرباعية مع تكبير الافتتاح والقيام عند التشهد؛ لأن في كل ركعة خمس تكبيرات فيحصل في كل رباعية عشرون تكبيرة سوى تكبيرة الإحرام وتكبيرة القيام من التشهد الأول، وفي الثلاثية سبع عشرة، وفي الثنائية إحدى عشرة، وفي الخمس أربع وتسعون تكبيرة. (إنه) أي الشيخ (أحمق) أي جاهل أو قليل العقل. (ثكلتك) بالمثلثة المفتوحة وكسر الكاف أي فقدتك (أمك) وهي كلمة تقولها العرب عند الزجر, فكأنه دعا عليه أن يفقد أمه، أو أن تفقده أمه, لكنهم قد يطلقون ذلك ولا يريدون حقيقته. واستحق عكرمة ذلك عند ابن عباس لكونه نسب ذلك الرجل الجليل إلى الحمق الذي هو غابة الجهل، وهو برىء من ذلك. (سنة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -) بالرفع، خبر مبتدأ محذوف، أي هذا الذي فعله الشيخ من التكبير المعدود طريقة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -. تنبيه: الحديث قد استدل به الحنفية على نفي جلسة الاستراحة. قال النيموي: يستفاد من الحديث ترك جلسة الاستراحة وإلا لكانت التكبيرات أربعاً وعشرين مرة، لأنه قد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكبر في كل خفض ورفع وقيام وقعود. وفيه أن جلسة الاستراحة جلسة خفيفة جداً ولذلك لم يشرع فيها ذكر، فهي

رواه البخاري. 814- (19) وعن علي بن الحسين مرسلاً، قال: ((كان الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكبر في الصلاة كلما خفض ورفع، فلم يزل تلك صلاته - صلى الله عليه وسلم - حتى لقي الله تعالى)) . رواه مالك. ـــــــــــــــــــــــــــــ ليست بجلسة مستقلة، بل هي من جملة النهوض إلى القيام؛ فكيف يستفاد من هذا الحديث ترك جلسة الاستراحة، ولو سلم فدلالته على الترك ليس إلا بالإشارة، وحديث مالك بن الحويرث المتقدم يدل على ثبوتها بالعبارة، ومن المعلوم أن العبارة مقدمة على الإشارة. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً أحمد والطحاوي والطبراني. 814- قوله: (وعن علي بن الحسين) هو علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب المعروف بزين العابدين الهاشمي أبوالحسن. ويقال: أبوالحسين المدني، من أكابر سادات أهل البيت وجلة التابعين وعلامهم. قال الحافظ: ثقة، ثبت، عابد، فقيه، فاضل، مشهور. قال الزهري: ما رأيت قرشياً أفضل منه، وما رأيت أفقه منه. وقال سعيد بن المسيب: ما رأيت أورع منه، وكان يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة إلى أن مات، وكان يسمى زين العابدين لعبادته، وكان مع أبيه يوم قتل وهو مريض فسلم. فقال ابن عيينة: حج علي بن الحسين، فلما أحرم أصفر، وانتفض، وارتعد، ولم يستطع أن يلبى، فقيل: ما لك لا تلبى؟ فقال: أخشى أن أقول لبيك، فيقول لا لبيك. فقيل له: لابد من هذا. فلما لبى غشى عليه، وسقط من راحلته، فلم يزل يعتريه ذلك حتى قضى حجه. ومناقبه كثيرة، مات سنة (94) وهو ابن (58) سنة، ودفن بالبقيع في القبر الذي فيه عمه الحسن. (مرسلاً) ؛ لأنه لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن حجر: "مرسلاً" حال متقدمة على صاحبها –انتهى. قال القاري: وهو موافق لما في النسخ المصححة المضبوطة على صيغة المفعول (كلما خفض) أي أراد الخفض إلى الركوع والسجود (ورفع) أي رأسه من السجود، فإنه إذا رفع رأسه من الركوع يسمع ويحمد، ثم يكبر للخفض، فذكر الرفع من الركوع التسميع والتحميد لا التكبير. قال الحافظ: هو عام في جميع الانتقالات في الصلاة، لكن خص منه الرفع من الركوع بالإجماع، فإنه شرع فيه التحميد – انتهى. ويؤيده الروايات المفصلة المفسرة مثل حديث أبي هريرة وحديث أبي حميد السابقين وغيرهما. (فلم يزل) بالتذكير، وقيل: بالتأنيث (تلك) أي تلك الصلاة المقترنة بذلك التكبير (صلاته) بالرفع، وقيل: بالنصب، قال الطيبي: يحتمل أن يكون اسم "لم يزل" مستكناً عائداً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، والجملة الاسمية خبرها، وأن يكون "تلك" اسمها و"صلاته" خبرها إذا رويت منصوبة، وبالعكس إذا رويت مرفوعة (حتى لقي الله) قد تقدم سبب إثبات تكبيرات النقل، وأنه استقر الأمر على مشروعيتها لكل مصل. (رواه مالك) في الموطأ عن ابن شهاب الزهري، عن علي بن الحسين مرسلاً. قال ابن عبد البر: لا أعلم خلافاً بين رواة الموطأ في إرسال هذا الحديث. ورواه عبد الوهاب، عن مالك، عن الزهري، عن علي، عن أبيه. ورواه عبد الرحمن بن خالد بن نجيح عن أبيه، عن مالك، عن الزهري، عن علي بن الحسين، عن علي بن

815- (20) وعن علقمة، قال: قال لنا ابن مسعود: ((ألا أصلي بكم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فصلى، ولم يرفع يديه إلا مرة واحدة مع تكبير الافتتاح. ـــــــــــــــــــــــــــــ أبي طالب. ولا يصح في الموطأ مرسلاً. وأخطأ فيه ابن مصعب، فرواه عن مالك، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، ولا يصح. والصواب عندهم ما في الموطأ – انتهى. قلت: الحديث وإن كان مرسلاً لكنه قد تعاضد بما جاء في الباب من الأحاديث المسندة باللفظ العام كحديث عمران بن حصين وأبي هريرة عند البخاري ومسلم، وحديث أبي موسى عند أحمد، وحديث ابن مسعود عند أحمد والنسائي والدارمي والترمذي والطحاوي، وحديث ابن عباس عند البخاري، وحديث ابن عمر عند أحمد والنسائي، وحديث عبد الله بن زيد عند سعيد بن منصور، وحديث وائل بن حجر عند ابن حبان، وحديث جابر عند البزار. 815- قوله: (فصلى ولم يرفع يديه إلا مرة واحدة) هذا لفظ النسائي في رواية، وفي أخرى له: "فقام فرفع يديه أول مرة، ثم لم يعد" ولفظ الترمذي: "فصلى فلم يرفع يديه إلا في أول مرة" ولفظ أبي داود في رواية: "فصلى فلم يرفع يديه إلا مرة" وفي أخرى له: "فرفع يديه في أول مرة" قال أبوداود: وقال بعضهم: مرة واحدة. (مع تكبير الافتتاح) ليست هذه اللفظة في النسخ موجودة عندنا للترمذي وأبي داود والنسائي. والحديث قد استدل به من قال من الحنفية بعدم استحباب رفع اليدين في غير تكبيرة الإحرام. وأجيب عنه بوجوه، أحدها: أنه حديث ضعيف غير صالح للاحتجاج، قد ضعفه الأئمة الحفاظ النقاد وعللوه كما ستعرف. ثانيها: أن مدار هذا الحديث على عاصم بن كليب، وهو قد انفرد به، وقال ابن المديني: لا يحتج بما انفرد به. وقال ابن عبد البر في التمهيد: أما حديث ابن مسعود فانفرد به عاصم بن كليب واضطرب فيه، وليس ممن يحتج بما انفرد به. ثالثها: وهو على تقدير كونه صحيحاً أو حسناً أنه قد نسي ابن مسعود رفع اليدين في غير التحريمة كما قد نسي أمورا كثيرة، وقد تقدم بيانها. قال الخطابي في معالم السنن: قد يجوز أن يذهب ذلك على ابن مسعود كما ذهب عليه الأخذ بالركبة في الركوع وكان يطبق على الأمر الأول، وخالفه الصحابة كلهم في ذلك – انتهى. وقد أوضح ذلك شيخنا الأجل المباركفوري في أبكار المنن (ص205) فارجع إليه. رابعها: أنه نفي الأحاديث الدالة على الرفع إثبات، والإثبات مقدم. قال الخطابي: الأحاديث الصحيحة التي جاءت في رفع اليدين عند الركوع، وبعد رفع الرأس منه أولى من حديث ابن مسعود، والإثبات أولى من النفي. خامسها: أن أحاديث الرفع في المواضع الثلاثة متضمنة لزيادة غير منافية وهي مقبولة بالإجماع، لا سيما وقد نقلها جماعة من الصحابة، واتفق على إخراجها الجماعة. سادسها: أن أحاديث الرفع مقدمة على حديث ابن مسعود؛ لأنها قد رويت عن عدد كثير من الصحابة حتى قال السيوطي: إن حديث الرفع متواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما عرفت فيما سلف. وقال العيني في شرح

البخاري: إن جملة أسباب الترجيح كثرة عدد الرواة وشهرة المروي، حتى إذا كان أحد الخبرين يرويه واحد، والآخر يرويه اثنان، فالذي يرويه اثنان أولى بالعمل به – انتهى. وقال الحازمي في كتاب الاعتبار: ومما يرجح به أحد الحديثين على الآخر كثرة العدد في أحد الجانبين، وهي مؤثرة في باب الرواية؛ لأنها تقرب مما يوجب العلم، وهو التواتر- انتهى. سابعها: يحتمل أن الاقتصار على الرفع في الافتتاح كان في الابتداء ثم زيد الرفع في المواضع الثلاثة لكونه عبادة وفعلاً تعظيما, لكن خفي ذلك على ابن مسعود كما خفي عليه نسخ التطبيق والأمر بأخذ الركبة، والحاصل أنه يحتمل أن يكون ابن مسعود حكى الصلاة الأولى كما حكى التطبيق في الركوع وهو منسوخ. قال البيهقي في معرفة السنن: وقد يكون ذلك في ابتداء قبل أن يشرع رفع اليدين في الركوع ثم صار التطبيق منسوخاً، وصار الأمر في السنة إلى رفع اليدين عند الركوع ورفع الرأس منه جميعاً، وخفيا جميعا على عبد الله بن مسعود-انتهى. ثامنها: أن هذا الحديث ليس بنص في أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يرفع يديه إلا مرة واحدة مع تكبيرة الافتتاح، نعم هو يدل بظاهره على ذلك, بخلاف الأحاديث المثبتة للرفع في المواضع الثلاثة، فإنها نص في الرفع في غير الافتتاح. قال الشيخ الإمام ابن تيمية في فتاواه (ج2: ص376) : وابن مسعود لم يصرح بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرفع إلا أول مرة، لكنهم رأوه يصلي ولا يرفع إلا أول مرة -انتهى. ومن المعلوم أن النص مقدم على الظاهر عند التعارض. تاسعها: أنه يحتمل أن يكون معنى قوله: لم يرفع يديه إلا مرة واحدة، أي لم يبالغ في الرفع إلا أول مرة، وأما بعد ذلك فكان يرفع دون ذلك، فالمراد من نفي الرفع في غير الافتتاح نفي المبالغة في الرفع في غير الافتتاح لا نفي نفس الرفع، فقد روي عن أبي هريرة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة رفع يديه مداً. رواه أحمد والترمذي وغيرهما. وقد فسر ابن عبد البر المد المذكور بمد اليدين فوق الأذنين مع الرأس، ومعنى قوله: "ثم لا يعود" أي إلى المبالغة في الرفع. عاشرها: أن معنى قوله: "لم يرفع يديه إلا مرة واحدة" أي لم يكرر الرفع عند الإحرام، بل اقتصر عند التحريمة على الرفع مرة. قال الشيخ الأكبر المعروف بابن عربي: وغاية المفهوم من حديث ابن مسعود والبراء أنه كان - عليه السلام - يرفع يديه عند الإحرام مرة واحدة لا يزيد عليها، أي أنه رفع مرة واحدة، ولم يصنع ذلك مرتين، ذكره في الفتوحات. ومعنى قوله: "ثم لم يعد" أو"لا يعود" أي إلى الرفع عند ابتداء الركعة الثانية. قال صاحب الفتوحات: معنى: "لا يعود" عدم الرفع في ابتداء الركعة الثانية كما كان في الأول. الحادي عشر: أن الرفع سنة وقد يتركها مرة أو مراراً، ولكن الفعل الأغلب والأكثر هو السنة، وهو الرفع عند الركوع وعند الرفع منه. قال السندي في حاشية النسائي: يكفي في إضافة الصلاة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كونه صلى هذه الصلاة أحيانا. وإن كان المتبادر الاعتياد والدوام فيجب الحمل على كونها كانت أحياناً، توفيقاً بين الأدلة ودفعاً للتعارض. وعلى هذا فيجوز أنه - صلى الله عليه وسلم - ترك الرفع عند الركوع وعند الرفع منه إما لكون الترك سنة كالفعل، أو لبيان

رواه الترمذي، وأبوداود، والنسائي. وقال أبوداود: ليس هو بصحيح على هذا المعنى. ـــــــــــــــــــــــــــــ الجواز، فالسنة هي الرفع لا الترك -انتهى. قلت: هذا كله على تقدير التنزل وتسليم كون حديث ابن مسعود صحيحاً أو حسناً، وإلا فهو حديث ضعيف لا يقوم بمثله حجة كما عرفت، وكما ستعرف. (رواه الترمذي) وقال: حديث ابن مسعود حديث حسن. وقال ابن حزم في المحلى (ج4: ص88) : إن هذا الخبر صحيح. (وأبو داود والنسائي) وأخرجه أيضاً أحمد وابن حزم (وقال أبوداود: ليس هو بصحيح على هذا المعنى) قال أبوداود في سنته بعد رواية هذا الحديث: هذا حديث مختصر من حديث طويل ليس هو بصحيح على هذا اللفظ –انتهى. يعني أن الراوي اختصر هذا الحديث من حديث طويل. (رواه أبوداود قبل ذلك ويأتي لفظه) فأداه بالمعنى وأخطأ في اختصاره. قال ابن أبي حاتم في كتاب العلل (ص96) : سألت أبي عن حديث رواه الثوري عن عاصم بن كليب عن عبد الرحمن بن الأسود عن علقمة عن عبد الله: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام فكبر فرفع يديه ثم لم يعد. قال أبي: هذا خطأ، يقال: وهم فيه الثوري. روى هذا الحديث عن عاصم جماعة فقالوا كلهم: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - افتتح الصلاة فرفع يديه، ثم ركع فطبق وجعلهما بين ركبتيه. ولم يقل أحد ما روى الثوري –انتهى. وقال البخاري في جزء رفع اليدين (ص9) بعد ذكر هذا الحديث: قال أحمد بن حنبل: عن يحيى بن آدم، قال نظرت في حديث عبد الله بن إدريس عن عاصم بن كليب ليس فيه: "ثم لم يعد" فهذا أصح؛ لأن الكتاب أحفظ عند أهل العلم؛ لأن الرجل يحدث بشيء ثم يرجع إلى الكتاب، فيكون كما في الكتاب: حدثنا الحسن بن الربيع: ثنا ابن إدريس عن عاصم بن كليب عن عبد الرحمن بن الأسود: ثنا علقمة أن عبد الله قال: علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة فقام فكبر ورفع يديه، ثم ركع وطبق يديه فجعلهما بين ركبتيه، فبلغ ذلك سعداً، فقال: صدق أخي، ألا بل قد نفعل ذلك في أول الإسلام ثم أمرنا بهذا. قال البخاري: هذا هو المحفوظ عند أهل النظر من حديث عبد الله بن مسعود –انتهى. وقال الحافظ في التلخيص (ص83) : وهذا الحديث حسنه الترمذي وصححه ابن حزم. وقال ابن المبارك: لم يثبت عندي. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: هذا خطأ. وقال أحمد بن حنبل وشيخه يحيى بن آدم: هو ضعيف، نقله البخاري عنهما وتابعهما على ذلك. وقال أبوداود: ليس هو بصحيح. وقال الدارقطني: لم يثبت. وقال ابن حبان في الصلاة: هذا أحسن خبر روي لأهل الكوفة في نفي رفع اليدين عند الركوع وعند الرفع منه، وهو في الحقيقة أضعف شيء يعول عليه؛ لأن له عللا تبطله –انتهى. وقال البزار: لا يثبت ولا يحتج بمثله. وقال ابن عبد البر: هو من آثار معلولة ضعيفة عند أهل العلم، وهؤلاء الأئمة كلهم إنما طعنوا في طريق عاصم بن كليب، كما قاله الحافظ. وقال النووي في الخلاصة: اتفقوا على تضعيف هذا الحديث. وقال البيهقي في سننه (ج2: ص79) : لم يثبت عندي حديث ابن مسعود- انتهى. فثبت بهذا كله أن حديث ابن مسعود ليس بصحيح ولا بحسن، بل هو ضعيف لا يقوم بمثله حجة، وأين يقع تحسين الترمذي مع ما فيه من التساهل وتصحيح ابن حزم من طعن أولئك الأئمة

816- (21) وعن أبي حميد الساعدي قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة استقبل القبلة، ـــــــــــــــــــــــــــــ الحفاظ النقاد القائمين بمعرفة فن المعلول؟ ولو تم ما قالا لا يخرج الحديث عن الاختلاف فيه جرحاً وتعديلاً، وقد اجتمع أهل الحديث والأصول على أن الجرح مقدم على التعديل. قال الشيخ محمد معين السندي في دراساته (ص176) : والترمذي وإن حسنه حكى قبل ذلك عن ابن المبارك عدم ثبوت هذا الحديث من غير قيد بطريق معين، وظاهره الإطلاق. قال: فلم يتأت أن يحكم على هذا الحديث بأزيد من أنه اختلف في كونه حسناً أوضعيفاً. وهذا يوجب انحطاطه مما سلم من هذا الاختلاف واتفقت الأمة على حسنه فضلاً عما حكم بصحته عموماً، فكيف عما اتفق عليه الشيخان خصوصاً، فما ظنك بما رواه الخمسون من الصحابة، وحكم عليه بالتواتر، ووردت في معناه أربعمائة حديث بين أثر ومرفوع؟ فقول ابن الهمام وجوابه- أي جواب حديث الرفعات المعارضة بما في أبي داود والترمذي- مما يقضي منه العجب، مع أن الصحيح من السنن لا يعارض المتفق عليه، والإمام ابن الهمام إذا تأيد مذهبه بحديث الصحيحين لا يبالي في كتابه هذا- أي فتح القدير- إلى تمسك الخصم بحديث غيرهما هذا إذا لم يكن حديث الغير معلولاً، وأما إذا اتسم بعلة من حكم إمام حافظ فليت شعري ما معنى معارضة بحديث الصحيحين بمجرد وصف إخراجها له من غير زيادة أخرى توجد في حديث الرفعات فكيف به معها-انتهى. وأما ما روي عن البراء بن عازب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا افتح الصلاة رفع يديه إلى قريب من أذنيه ثم لا يعود. أخرجه أبوداود والدارقطني وغيرهما، ففيه أنه من رواية يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف، كبر فتغير، فصار يتلقن. واتفق الحفاظ على أن قوله: "ثم لا يعود" مدرج في الخبر من قول يزيد بن أبي زياد، قال الحميدي: إنما روى هذه الزيادة يزيد، ويزيد يزيد. وقال عثمان الدارمي عن أحمد بن حنبل: لا يصح. وكذا ضعفه البخاري وأحمد بن حنبل وأبوداود ويحيى والدارمي والحميدي وغير واحد. وقال السندي في حاشية النسائي: التحقيق عدم ثبوت الحديث من رواية البراء. وارجع لتفصيل الكلام فيه إلى جزء رفع اليدين للبخاري (ص9) ، والسنن الكبرى للبيهقي (ج2: ص76-79) ، ونصب الراية للزيلعي (ج1: ص404، 403) ، والتلخيص (ص82) هذا، ولبعض شيوخنا تأليف مفرد مستقل في مسألة رفع اليدين سماه "التحقيق الراسخ في أن أحاديث الرفع ليس لها ناسخ". 816- قوله: (استقبل القبلة) فيه مشروعية استقبال في الصلاة. واتفقوا على وجوبه إلا في حالة العجز ـــــــــــــــــــــــــــــ 1- كتاب كبير باللغة الأردوية كمل في 200 صفحة، مرتب على مبادي ومقاصد وخاتمة. المبادي في تعريفات بعض مصطلحات أهل الحديث مما يحتاج إليه في تحقيق هذه المسألة، وفي ذكر مراتب كتب الحديث نقلاً عن حجة الله، وفي البحث عن شروط الشيخين. والمقاصد في ذكر اختلاف الروايات في مواضع الرفع، وذكر تعامل الصحابة والتابعين وغيرهم، وبسط الأحاديث المثبتة للرفع، والجواب عما يعترضها الحنفية، وذكر دلائلهم مع الرد عليها دليلاً دليلاً. والخاتمة في إبطال أصول اخترعها الحنفية لرد الأحاديث الصحيحة وتزييفها، وتنقييد ما يذكرونه من بعض المناظرات في هذه المسألة عقلاً ونقلاً.

ورفع يديه، وقال: الله أكبر)) رواه ابن ماجه. 817- (22) وعن أبي هريرة، قال: ((صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر، وفي مؤخر الصفوف رجل، فأساء الصلاة، فلما سلم ناداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا فلان! ألا تتقى الله؟ ألا ترى كيف تصلي؟ إنكم ترون ـــــــــــــــــــــــــــــ والخوف، قال القاري: وفيه إشارة إلى اعتبار الجهة حيث لم يقل "استقبل الكعبة". (ورفع يديه) أي حذو منكبيه (وقال) لا دلالة فيه على تقديم الرفع على التكبير، ولا على تأخيره. وروى الترمذي وابن ماجه هذا الحديث مطولاً في باب "رفع اليدين إذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع" بلفظ "ثم قال" وهو يدل على تقديم الرفع. وقد تقدم الكلام فيه (الله أكبر) فيه بيان المراد بالتكبير وهو قول "الله أكبر" وهو حجة الجمهور على تعين لفظ "الله أكبر" دون غيره من ألفاظ التكبير والتعظيم. قال السندي: الحديث ظاهر في أنه ما كان ينوي باللسان، ولذلك عند كثير من العلماء النية باللسان بدعة، لكن غالبهم على أنها مستحبة ليتوافق اللسان والقلب-انتهى. قلت: استحب مشائخ الحنفية النطق بالنية والتلفظ بها للاستعانة على استحضار النية لمن احتاج إليه. وقالت الشافعية باستحباب التلفظ بها مطلقاً. واتفق الفريقان على أن الجهر بالنية غير مشروع سواء يكون إماماً أو مأموما أو منفردا. وقالت المالكية بكراهة التلفظ بالنية. والحنابلة نصوا على أنه بدعة. وهذا هو الحق والصواب عندنا. فلا شك في كونه بدعة؛ إذ لم يثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطريق صحيح، ولا ضعيف، ولا مسند، ولا مرسل أنه كان يتلفظ بالنية كأن يقول: أصلي لله صلاة كذا مستقبل القبلة. وغير ذلك مما يتلفظ به الحنفية والشافعية عند افتتاح الصلاة. ولا عن أحد من الصحابة والتابعين، وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قام إلى الصلاة فكبر فلو نطق بشيء آخر لنقلوه، وورد في حديث المسيء في صلاته أنه قال له: "إذا قمت إلى الصلاة فكبر" فدل على عدم وجود التلفظ، وقد أطنب الإمام الحافظ ابن القيم في زاد المعاد في رد الاستحباب، وأكثر من الاستدلال على ذلك، فعليك أن تراجعه. (رواه ابن ماجه) وإسناده صحيح. وقال الحافظ في الفتح (ج3: ص402) بعد ذكره بلفظ: "إذا قام إلى الصلاة اعتدل قائماً ورفع يديه، ثم قال: الله أكبر". أخرجه ابن ماجه وصححه ابن خزيمة، وابن حبان-انتهى. قلت: وأخرجه الترمذي أيضاً باللفظ الذي ذكره الحافظ كما يظهر من تصريح الزيلعي في نصف الراية (ج1: ص311) . 817- قوله: (فأساء الصلاة) قال ابن حجر: أي أتى فيها بما يبطلها، كما يدل عليه قوله: "ألا تتقى الله"، والفاء هنا الظاهرة أنها زائدة لتزين اللفظ-انتهى. قال القاري: والأظهر أنه للتعقيب، والتقدير: وفي مؤخر الصفوف رجل صلى معنا فأساء الصلاة. (ألا تتقى الله) أي مخالفته أو معاقبته. (ألا ترى) أي تنظر وتتأمل (إنكم ترون) بضم التاء أي

(11) باب ما يقرأ بعد التكبير

أنه يخفى على شيء مما تصنعون، والله إني لأرى من خلفي كما أرى من بين يدي)) رواه أحمد. (11) باب ما يقرأ بعد التكبير {الفصل الأول} 818- (1) عن أبي هريرة، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسكت بين التكبير وبين القراءة إسكاتة. فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ـــــــــــــــــــــــــــــ تظنون (مما تصنعون) أي في صلاتكم (إني لأرى) أي أيصر، أي في حال الصلاة (من خلفي) بحرف الجر. قال القاري: وفي نسخة بمن الموصولة. (كما أرى من بين يدي) بكسر "من" وجر "بين" وفي نسخة بفتح "من" ونصب "بين يدي" على الظرفية، قال القاري. قيل: هذه رؤية قلب، وقيل: وحي أو إلهام. والصواب أنه رؤية مشاهدة بالبصر. قال الشيخ عبد الحق الدهلوي في اللمعات: الصواب أنه محمول على ظاهره، وأن هذا الإبصار إدراك حقيقي بحاسة العين: خاص به - صلى الله عليه وسلم - على خرق العادة، فكان يرى من غير مقابلة -انتهى. وفي معنى هذا خبر الصحيحين عن أبي هريرة أيضاً: هل ترون قبلتي ههنا، فوالله ما يخفى على ركوعكم ولا سجودكم، إني لأراكم من وراء ظهري. وفيه أيضاً رواية لمسلم عن أنس: أيها الناس! إني إمامكم فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود، فإني أراكم من أمامي ومن خلفي. قال النووي: قال العلماء: معناه أن الله تعالى خلق له - صلى الله عليه وسلم - إدراكاً في قفاه يبصر به من ورائه، وقد انخرقت العادة له - صلى الله عليه وسلم - بأكثر من هذا، وليس يمنع من هذا عقل ولا شرع، بل ورد الشرع بظاهره فوجب القول به. قال القاضي: قال أحمد بن حنبل وجمهور العلماء: هذه الرؤية رؤية عين حقيقة-انتهى. (رواه أحمد) وأخرجه أيضاً ابن خزيمة في صحيحه والحاكم في المستدرك (ج1: ص236) وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. (باب ما يقرأ بعد التكبير) الأولى باب ما يقول أو يقال بعد التكبير ليشمل دعاء الافتتاح، ولعله أراد به التغليب، والمراد التكبير الذي للاحرام، قاله القاري. 818- قوله: (يسكت) قال التوربشتي: ضبطناه بفتح أوله وضم ثالثه، من السكوت. وحكى الكرماني عن بعض الروايات بضم أوله من الإسكات. قال الجوهري: تكلم الرجل ثم سكت - بغير ألف- إذا انقطع كلامه فلم يتكلم، قلت أسكت (إسكاته) بكسر الهمزة بوزن إفعالة من السكوت، وهو من المصادر الشاذة إذ القياس سكوتاً، وهو منصوب مفعولاً مطلقاً، والمراد به ههنا السكوت عن الجهر لا عن مطلق القول، أو عن قراءة القرآن لا عن الذكر، وإلا فالسكوت الحقيقي ينافي القول، فلا يصح السؤال بقوله: "ما تقول" أي في سكوتك. (بأبي أنت وأمي) الباء متعلقة بمحذوف.

إسكاتك بين التكبير وبين القراءة ما تقول؟ قال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياى كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من الخطاياى كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم أغسل خطاياى بالماء والثلج والبرد)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قيل: هو اسم فيكون ما بعده مرفوعاً تقديره "أنت مفدى" بأبي وأمي"، وقيل: هو فعل أي فديتك بهما، وما بعده منصوب وحذف هذا المقدر تخفيفاً لكثرة الاستعمال وعلم المخاطب. (إسكاتك) بكسر أوله (ما تقول؟) أي في سكوتك عن الجهر. قال المظهر: قوله: "إسكاتك" بالنصب مفعول فعل مقدر أي أسألك إسكاتك ما تقول فيه؟ أو في إسكاتك ما تقول؟ بنزع الخافض، وقال الحافظ: والذي في روايتنا بالرفع للأكثر، وأعربه مبتدأ لكنه لم يذكر خبره، وروي بفتح الهمزة وضم السين على الاستفهام، وقوله "ما تقول" يشعر أنه فهم هناك قولاً فإن السؤال وقع بقوله "ما تقول" ولم يقع بقوله "هل تقول" والسؤال "بهل" مقدم على السؤال "بما". ولعله استدل على أصل القول بحركة الفم كما ورد في استدلالهم على القراءة في السر باضطراب لحيته، قاله ابن دقيق العيد (اللهم باعد بيني وبين خطاياى) أي بين أفعال لو فعلتها تصير خطايا، فالمطلوب الحفظ وتوفيق الترك، أو بين ما فعلتها من الخطايا والمطلوب المغفرة. قال ابن دقيق العيد: المراد بالمباعدة محو ما حصل منها وترك المؤاخذة بها، أو المنع من وقوعها والعصمة منها. وفيه مجازان: أحدهما استعمال المباعدة في ترك المؤاخذة أو في العصمة منها، وحقيقة المباعدة إنما هي في الزمان والمكان. الثاني استعمال المباعدة في الإزالة بالكلية مع أن أصلها لا يقتضي الزوال، وليس المراد ههنا البقاء مع البعد ولا ما يطابقه من المجاز. (كما باعدت) أي كتبعيدك (بين المشرق والمغرب) أخرجه مخرج المبالغة؛ لأن المفاعلة إذا لم تكن للمغالبة فهي للمبالغة، وموقع التشبيه أن التقاء المشرق والمغرب مستحيل، فكأنه أراد أن لا يقع منها اقتراب بالكلية، والمعنى أمح ما حصل من خطاياى، وحل بيني وبين ما يخاف من وقوعه حتى لا يبقى لها منى اقتراب بالكلية. (نقني) بتشديد القاف من التنقية (كما ينقى) بصيغة المجهول (الثوب الأبيض من الدنس) بفتح الدال والنون فسين مهملة، أي الدرن والوسخ، وهذا مجاز عن إزالة الذنوب ومحو أثرها بالكلية، أي طهرني منها بأتم وجه وأوكدها. وشبه بالثوب الأبيض لأن الدنس فيه أظهر من غيره من الألوان. (اللهم اغسل خطاياى بالماء والثلج) بسكون اللام (والبرد) بفتحتين جمع بردة، ماء الغمام يتجمد في الهواء البارد ويسقط على الأرض حبوباً. قال الخطابي: هذه أمثال ولم يرد أعيان هذه المسميات، وإنما أراد بها التأكيد في التطهير والمبالغة في محوها عنه. وقيل: خص الثلج والبرد بالذكر؛ لأنهما ماءان مفطوران على خلقتهما لم يستعملا ولم تنلهما الأيدي، ولم تخضهما الأرجل كسائر المياه التي خالطت التراب، وجرت في الأنهار، وجمعت في الحياض، فهما أحق بكمال الطهارة. وقال ابن دقيق العيد: عبر بذلك عن غاية المحو أعنى بالمجموع، فإن الثوب الذي تكرر عليه

819- (2) وعن علي رضي الله عنه قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة- ـــــــــــــــــــــــــــــ التنقية بثلاثة أشياء منقية يكون في غاية النقاء. قال: ويحتمل أن يكون المراد أن كل واحد من هذه الأشياء مجاز عن صفة يقع بها المحو. ولعل ذلك كقوله تعالى: {واعف عنا واغفر لنا وارحمنا} [2: 286] فكل واحدة من هذه الصفات أعني العفو والمغفرة والرحمة لها أثر في محو الذنب، فعلى هذا الوجه ينظر إلى الأفراد ويجعل كل فرد من أفراد الحقيقة دالاً على معنى فرد مجازي، وفي الوجه الأول لا ينظر إلى أفراد الألفاظ بل يجعل جملة اللفظ دالة على غاية المحو للذنب-انتهى. وقال الطيبي: يمكن أن يكون المطلوب من ذكر الثلج والبرد بعد الماء شمول أنواع الرحمة والمغفرة بعد العفو؛ لإطفاء حرارة عذاب النار التي هي في غاية الحرارة، ومنه قولهم: برد الله مضجعه، أي رحمه ووقاه عذاب النار-انتهى. ويؤيده ورود وصف الماء بالبرودة في حديث عبد الله بن أبي أوفى عند مسلم، وكأنه جعل الخطايا بمنزلة نار جهنم لكونها مسببة عنها، فعبر عن إطفاء حرارتها بالغسل، وبالغ فيه باستعمال المبردات ترقياً عن الماء إلى أبرد منه. وقال الكرماني: يحتمل أن يكون الدعوات الثلاث إشارة إلى الأزمنة الثلاثة، فالمباعدة للمستقبل، والتنقية للحال، والغسل للماضي-انتهى. وكان تقديم المستقبل للاهتمام بدفع ما سيأتي قبل رفع ما حصل. ثم إن أمثال هذا السؤال منه - صلى الله عليه وسلم - من باب إظهار العبودية وتعظيم الربوبية، وإلا فهو مع عصمته مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر لو كان هناك ذنب. وقيل: إن الاستغفار له زيادة خير، والمغفرة حاصلة بدون ذلك لو كان هناك ذنب. وفيه إرشاد للأمة إلى الاستغفار، وقد ورد الأمر بذلك الدعاء في حديث سمرة عند البزار. والحديث يدل على مشروعية دعاء الافتتاح بعد التحريم قبل القراءة بالفرض والنفل خلاف للمشهور عن مالك، وورد فيه أيضاً حديث: "وجهت وجهي" إلى أخره، وهو عند مسلم من حديث علي، قيل: يخير العبد بين هذا الدعاء والدعاء الذي في حديث علي، وسيأتي الكلام فيه في الفصل الثاني. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه. 819- قوله: (إذا قام إلى الصلاة) أي مكتوبة كانت أو نافلة، فإنه ليس فيه ما يدل على كون هذا الذكر مخصوصاً بالنوافل دون الفرض. وقد روى أيضاً هذا الحديث الترمذي وأبوداود والنسائي وابن حبان والدارقطني والشافعي، وليس في رواية لهؤلاء المخرجين أنه كان في صلاة الليل، بل وقع في رواية للترمذي وأبي داود: "إذا قام إلى الصلاة المكتوبة" ووقع في رواية للدارقطني: "إذا ابتدأ الصلاة المكتوبة". وقال الشوكاني: وأخرجه أيضاً ابن حبان وزاد: "إذا قام إلى الصلاة المكتوبة" وكذلك رواه الشافعي وقيده أيضاً بالمكتوبة وكذا غيرهما، فالقول بأن هذا الذكر مخصوص بصلاة التطوع ولا يكون مشروعاً في الفريضة كما هو مذهب الحنفية باطل جداً. وإيراد مسلم هذا الحديث في صحيحه في صلاة الليل لا يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقوله في التهجد دون الفرض ما لم يدل الحديث على ذلك كما لا يخفى

وفي رواية: كان إذا افتتح الصلاة- كبر، ثم قال: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأما ما وقع في حديث محمد بن مسلمة عند النسائي: "كان إذا قام يصلي تطوعا قال: الله أكبر، "وجهت وجهي" الخ. فليس فيه دليل على كونه مخصوصا بالتطوع لوجود التقييد بالمكتوبة في أكثر روايات علي رضي الله عنه، ولا منافاة بينهما؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول هذا الذكر في الفريضة وصلاة الليل كلتيهما، فقال علي في روايته: "إذا قام إلى الصلاة المكتوبة" وقال محمد بن سلمة: "إذا قام يصلي تطوعا" وأجاب بعض الحنفية عن الروايات التي فيها التقييد بالمكتوبة بأنه كان في أول الأمر كما في شرح المنية لابن أمير الحاج، وفيه أن هذا ادعاء محض لا دليل عليه، فهو مردود على قائله. (وفي رواية: كان إذا افتتح الصلاة كبر ثم قال: وجهت) هذا صريح في أن هذا الذكر بعد تكبير التحريمة لا كما ذهب إليه المتأخرون من الحنفية وغيرهم من أنه قبل التكبير ليكون أبلغ في إحضار القلب وجمع العزيمة، وقولهم هذا مما لا أصل له في السنة، بل هو منابذ للسنة الصحيحة الثابتة. لأن الثابت في الأحاديث التوجيه في الصلاة أي بعد التحريمة لا قبلها. (وجهي) بسكون الياء وفتحها أي توجهت بالعبادة بمعنى أخلصت عبادتي لله، وقيل: صرفت وجهي وعملي ونيتي، أو أخلصت وجهتي وقصدي. (للذي فطر السموات والأرض) أي ابتدأ خلقهما من غير مثال سبق (حنيفاً) حال من ضمير "وجهت" أي مائلاً إلى الدين الحق ثابتا عليه، قال الجزري: الحنيف المائل إلى الإسلام، الثابت عليه، والحنيف عند العرب من كان على دين إبراهيم - عليه السلام -، وأصل الحنف الميل. (وما أنا من المشركين) بيان للحنيف وإيضاح لمعناه. والمشرك يطلق على كل كافر من عابد وثن وصنم، ويهودي ونصراني ومجوسي ومرتد وزنديق وغيرهم. (إن صلاتي ونسكي) النسك - بضم النون والمهملة - الطاعة والعبادة وكل ما تقرب به إلى الله تعالى، وعطفه على الصلاة من عطف العام على الخاص (ومحياي ومماتي) أي حياتي ومماتي، ويجوز فتح الياء فيهما وإسكانهما، والأكثرون على فتح ياء محياي، وإسكان مماتي (لله) أي هو خالقهما ومقدرهما، أو هو المالك لهما والمختص بهما لا تصرف لغيره فيهما. وقيل: طاعات الحياة والخيرات المضافة إلى الممات كالوصية والتدبير، أو ما أنا عليه من العبادة في حياتي وما أموت عليه خالصة لوجه الله. (رب العالمين) بدل أو عطف بيان؛ أي مالكهم ومربيهم وهم ما سوى الله على الأصح. (لا شريك له) هو تأكيد لقوله: "رب العالمين" المفهوم منه الاختصاص. (وبذلك) أي بالتوحيد الكامل الشامل للإخلاص قولاً واعتقاداً. (وأنا من المسلمين) قال السندي: كأنه كان يقول أحياناً كذلك لإرشاد الأمة إلى ذلك ولإقتدائهم به فيه، وإلا فاللائق به - صلى الله عليه وسلم - "وأنا أول المسلمين" كما جاء في كثير من الروايات – انتهى. قلت: وقع في رواية أبي داود وكذا في رواية لمسلم. "وأنا أول المسلمين" أي من هذه الأمة؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان أول مسلمي هذه الأمة. قال في الانتصار: إن غير النبي إنما يقول: "وأنا من المسلمين" وهو وهم

اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفرلي ذنوبي جميعاً، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، لا يصرف عني سيئها إلا أنت. لبيك وسعديك والخير كله في يديك، والشر ليس إليك. ـــــــــــــــــــــــــــــ منشأه توهم أن معنى "وأنا أول المسلمين" إني أول شخص اتصف بذلك بعد أن كان الناس بمعزل عنه، وليس كذلك، بل معناه بيان المسارعة في الامتثال لما أمر به، ونظيره {قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين} [43: 81] وظاهر الإطلاق أنه لا فرق في قوله: "وأنا من المسلمين"، وقوله: "أنا من المشركين" بين الرجل والمرأة، وهو صحيح على إرادة الشخص. وفي المستدرك للحاكم من رواية عمران بن حصين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لفاطمة: قومي فاشهدي أضحيتك وقولي إن صلاتي ونسكي، إلى قوله "وأنا من المسلمين" فدل على ما ذكرناه (اللهم) أي يا الله! والميم بدل عن حرف النداء ولذا لا يجمع بينهما إلا في الشعر (أنت الملك) أي القادر على كل شيء، المالك الحقيقي لجميع المخلوقات (وأنا عبدك) أي معترف بأنك مالكي ومدبري وحكمك نافذ في (ظلمت نفسي) أي اعترفت بالتقصير. قدمه على سؤال المغفرة أدباً كما قال آدم وحواء عليهما السلام: {ربنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفرلنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} [7: 23] . (فاغفر لي ذنوبي) أي تقصيراتي (إنه) بالكسر استئناف فيه معنى التعليل والضمير للشأن (لا يغفر الذنوب) أي جميعها (واهدني لأحسن الأخلاق) أي أرشدني لأكملها وأفضلها، ووفقني للتخلق بها، وثبتني عليها (واصرف عني سيئها) أي قبيحها (لبيك) أي أقيم على طاعتك وامتثال أمرك إقامة متكررة. يقال: لب بالمكان لباً وألب إلباباً أي أقام به. وثنى هذا المصدر مضافا إلى الكاف، وأصل "لبيك" لبين حذفت النون للإضافة وأريد بالتثنية التكرير من غير نهاية (وسعديك) أي أسعد أمرك واتبعه إسعاداً متكرراً (والخير كله في يديك) معناه الإقرار بأن كل خير واصل إلى العباد ومرجو وصوله فهو في يديه تعالى (والشر ليس إليك) أي لا يضاف إليك على انفراده، فلا يقال: يا رب الشر، ويا خالق القردة والخنازير، ونحو هذا، وإن كان خالق كل شيء ورب كل شيء، ففيه الإرشاد إلى الأدب في الثناء على الله ومدحه بأن يضاف إليه محاسن الأمور دون مساوئها على جهة الأدب، وليس المقصود نفي شيء عن قدرته، أو إثبات شيء لغيره. وقيل: معنا الشر ليس مما يتقرب به إليك، بل هو سبب إبعاد، والتقدير: والشر ليس مقربا إليك. ولا بد من حذف لأجل خبر ليس فيقدر هنا خاصاً. وقيل: معناه: الشر لا يصعد إليك، فإنه إنما يصعد إليه الكلم الطيب والعمل الصالح. وقيل: معناه الشر ليس شراً بالنسبة إليك، فإنك خلقته لحكمة بالغة، وإنما هو شر بالنسبة إلى المخلوقين. وقيل: هذا كقول القائل: "فلان إلى بني تميم" إذا كان عداده فيهم أو صفوه معهم، حكى هذه الأقوال النووي. وقال:

أنا بك، وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك. وإذا ركع قال: اللهم لك ركعت، وبك أمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي، وبصري، ومخي، وعظمي، وعصبي. فإذا رفع رأسه قال: اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات والأرض وما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد. وإذا سجد قال: اللهم لك سجدت، وبك آمنت ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين. ثم يكون من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم: اللهم اغفرلي ما قدمت وما أخرت، ـــــــــــــــــــــــــــــ إنه مما يجب تأويله؛ لأن مذهب أهل الحق أن كل المحدثات فعل الله تعالى وخلقه سواء خيرها وشرها. (أنا بك وإليك) أى توفيقي بك والتجائي وانتمائي إليك، أو وجودي بإيجادك، ورجوعي إليك، أو بك أعتمد، وإليك ألتجئ، أو نحو هذا الكلام (تباركت) أي أستحققت الثناء. وقيل: ثبت الخير عندك. وقال ابن الأنباري: تبارك العباد بتوحيدك. وقيل: تكاثر خيرك. وأصل الكلمة للدوام والثبوت (وتعاليت) أي ارتفع عظمتك وظهر قهرك وقدرتك على من في الكونين. وقيل: أي عن مشابهة كل شيء (لك ركعت، وبك آمنت) في تقديم الجار إشارة إلى التخصيص (ولك أسلمت) أي لك ذللت وانقدت، أو لك أخلصت وجهي (خشع) أي خضع وتواضع، وأقبل عليك أو سكن من قولهم: خشعت الأرض إذا سكنت واطمأنت (لك سمعي وبصري) خصهما من بين الحواس؛ لأن أكثر الآفات بهما، فإذا خشعتا قلت الوساوس (ومخي) بضم الميم وتشديد المعجمة. قال ابن رسلان: المراد به هنا الدماغ، وأصله الودك الذي في العظم وخالص كل شيء (وعصبي) العصب بفتحتين طنب المفاصل، وهو ألطف من العظم (فإذا رفع رأسه) أي من الركوع قال أي بعد قوله: "سمع الله لمن حمده" كما في رواية للترمذي (ملء السموات) بكسر الميم ونصب الهمزة بعد اللام ورفعها، والنصب أشهر صفة مصدر محذوف، وقيل: حال، أي حال كونه مالئاً لتلك الأجرام على تقدير تجسمه، والرفع على أنه صفة الحمد (وملء ما شئت من شيء بعد) بالبناء على الضم، أي بعد السموات والأرض وما بينهما كالكرسي والعرش وغيرهما مما لم يعلمه إلا الله. والمراد الاعتناء في تكثير الحمد (سجد وجهي) أي خضع وذل وانقاد (وصوره) زاد مسلم في رواية وأبوداود: "فأحسن صوره" وهو الموافق لقوله تعالى: {فأحسن صوركم} [40: 64] . (أحسن الخالقين) أي المصورين والمقدرين، فإنه الخالق الحقيقي المنفرد بالإيجاد والإمداد وغيره إنما يوجد صوراً مموهة ليس فيها شيء من حقيقة الخلق مع أنه تعالى خالق كل صانع وصنعته. {والله خلقكم وما تعملون} {والله خالق كل شيء} . (ثم يكون) أي بعد فراغه من ركوعه وسجوده (ما قدمت) من سيئة (وما أخرت) من عمل

وما أسررت، وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني. أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت)) رواه مسلم. وفي رواية للشافعي: ((والشر ليس إليك، والمهدي من هديت، أنا بك وإليك، لا منجا منك ولا ملجأ إلا إليك، تباركت)) . 820- (3) وعن أنس ((أن رجلاً جاء فدخل الصف، وقد حفزه النفس، فقال: الله أكبر، الحمدلله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته قال: ـــــــــــــــــــــــــــــ أي جميع ما فرط مني، قاله الطيبي: وقيل: ما قدمت قبل النبوة وما أخرت بعدها. وقيل: ما أخرته في علمك مما قضيته علي. وقيل: معناه إن وقع مني في المستقبل ذنب فاجعله مقروناً بمغفرتك. فالمراد من طلب المغفرة قبل الوقوع أن يغفر إذا وقع. (وما أسررت، وما أعلنت) أي جميع الذنوب؛ لأنها إما سر أو علن (وما أسرفت) أي جاوزت الحد (وما أنت أعلم به مني) أي من ذنوبي التي لا أعلمها عدداً وحكماً (أنت المقدم وأنت المؤخر) قال البيهقي: قدم من شاء التوفيق إلى مقامات السابقين، وأخر من شاء عن مراتبهم. وقيل: قدم من أحب من أوليائه على غيرهم من عبيده وأخر من أبعده عن غيره، فلا مقدم لما أخر، ولا مؤخر لما قدم. وقيل: أنت الرافع والخافض، والمعز المذل على ما تقتضيه حكمتك. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي مطولاً وابن ماجه مختصراً وابن حبان والدارقطني والشافعي. (والمهدي من هديت) أي لا مهدي إلا من هديته، وترك مقابله وهو لا ضال إلا من أضللته لما تقدم من مراعاة الأدب، أو هو من باب الاكتفاء بمقابله كقوله تعالى: {سرابيل تقيكم الحر} [16: 81] (لا منجا) بالقصر لا غير. وهو مصدر ميمي أو اسم مكان، أي لا موضع ينجو به اللائذ (منك) أي من عذابك (ولا ملجأ) الأصل فيه الهمز، ومنهم من يلين همزته ليزدوج مع منجا، أي لا ملاذ عند نزول النوائب وحصول المصائب (إلا إليك) فإنك المفرج عن المهمومين، والمعيذ للمستعيذين. أو المراد "لا مهرب ولا مخلص ولا ملاذ لمن طالبته إلا إليك" والحديث يدل على مشروعية الاستفتاح بما في هذا الحديث. قال النووي: إلا أن يكون إماماً لقوم لا يرون التطويل. وفيه استحباب الذكر في الركوع، والسجود، والاعتدال، والدعاء قبل السلام. 820- قوله: (وقد حفزه) بفتح الحاء المهملة والفاء والزاي المعجمة (النفس) بفتحتين، أي جهده النفس من شدة السعي إلى الصلاة. وأصل الحفز الدفع العنيف، قاله الخطابي. وقال النووي: أي ضغطه لسرعته (حمداً كثيراً) قال الطيبي: منصوب بمضمر يدل عليه الحمد، ويحتمل أن يكون بدلاً منه جارياً على محله. وقوله: (طيباً) وصف له، أي خالصاً عن الرياء والسمعة. وقوله: (مباركاً فيه) يقتضي بركة وخيراً كثيراً يترادف إرفاده، ويتضاعف إمداده. قال

{الفصل الثاني}

أيّكم المتكلم بالكلمات؟ فأرم القوم. فقال: أيكم المتكلم بالكلمات؟. فأرم القوم. فقال: أيكم المتكلم بها؟ فإنه لم يقل بأساً. فقال رجل: جئت وقد حفزني النفس فقلتها. فقال: لقد رأيت اثنى عشر ملك يبتدرونها، أيهم يرفعها)) رواه مسلم. {الفصل الثاني} 821- (4) عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا افتتح الصلاة قال: سبحانك اللهم وبحمدك، ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن الملك: أى حمداً جعلت البركة فيه، يعني حمداً كثيراً غاية الكثرة (أيكم المتكلم بالكلمات) أي المذكورات المسموعة آنفاً. (فأرم القوم) بفتح الراء المهملة وتشديد الميم، أي سكتوا. ويحتمل إعجام الزاي وتخفيف الميم من الأزم وهو الامساك، أي أمسكوا عن الكلام، والأول أشهر رواية، أي سكت القائل خوفاً من الناس، قاله السندي (فقال: أيكم المتكلم بالكلمات؟ فأرم القوم) كذا وقع مكررا في بعض نسخ المشكاة، ووقع في بعضها مرة واحدة موافقاً لما في صحيح مسلم (فإنه لم يقل بأساً) قال الطيبي: يجوز أن يكون مفعولاً به، أي لم يتفوّه بما يؤخذ عليه، وأن يكون مفعولاً مطلقاً، أي ما قال قولاً يشدد عليه. (فقال رجل) الظاهر "فقال الرجل" كما في رواية أبي داود. (يبتدرونها) أي كل منهم يريد أن يسبق على غيره في رفعها إلى محل العرض أو القبول. وقال ابن الملك: يعني يسبق بعضهم بعضاً في كتب هذه الكلمات ورفعها إلى حضرة الله لعظمها وعظم قدرها. وتخصيص المقدار يؤمن به ويفوض إلى علمه تعالى. (أيهم يرفعها) هذه الجملة حال، أي قاصدين ظهور أيهم يرفعها. قال القاري: مبتدأ وخبر، والجملة في موضع نصب أي يبتدرونها ويستعجلون أيهم يرفعها. قال أبوالبقاء: في قوله تعالى: {إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم} [3: 44] "أيهم" مبتدأ وخبر في موضع نصب أي يقترعون أيهم، فالعامل فيه ما دل عليه "يلقون" كذا ذكره الطيبي. وقيل: المراد أيهم يرفعها أول. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي ولم يخرج البخاري في هذا عن أنس شيئاً، إنما أخرج عن رفاعة في فضل هذه الكلمات وسيأتي في باب الركوع، وقال أبوداود بعد رواية هذا الحديث: زاد حميد فيه أي عن أنس: "وإذا جاء أحكم فليمش نحو ما كان يمشى، فليصل ما أدرك وليقض ما سبقه". 821- قوله: (إذا افتتح الصلاة) أي بالتكبير. (سبحانك اللهم) قال ابن الملك: "سبحان" اسم أقيم مقام المصدر وهو التسبيح، منصوب بفعل مضمر تقديره: "أسبحك تسبيحاً" أي أنزهك تنزيهاً من كل السوء والنقائص، يعني اعتقدت براءتك من السوء ونزاهتك عما لا ينبغي لجلال ذاتك وكمال صفاتك. (وبحمدك) قيل: الواو للحال والباء إلصاقية والتقدير

وتبارك إسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك)) ـــــــــــــــــــــــــــــ أسبحك تسبيحاً وأنا متلبس بحمدك. وقيل: الواو زائدة، والجار والمجرور حال، أي أسبحك تسبيحاً حال كوني متلبساً ومقترناً بحمدك، فالباء للملابسة والواو زائدة، وعلى التقديرين هو حال من فاعل: "أسبح" المفهوم من: "سبحانك اللهم"، وقيل: الواو بمعنى مع، أي أسبحك مع التلبس بحمدك. وقيل: الواو عاطفة عطف جملة فعلية على مثلها والباء سببية، أي أنزهك تنزيهاً واعتقدت نزاهتك بسبب الثناء الجميل عليك. ويصح أن يكون صفة لمصدر محذوف، أي أسبحك تسبيحاً مقروناً بشرك إذ كل حمد من المكلف يستجلب نعمة متجددة ويستصحب توفيقاً إلهياً. قال الخطابي في معالم السنن. (ج1: ص197) أخبرني ابن الخلاد قال: سألت الزجاج عن الواو في: "وبحمدك" فقال: معناه سبحانك اللهم وبحمدك سبحتك. قال الطيبي: قول الزجاج يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون الواو للحال، وثانيهما أن يكون عطف جملة فعلية على مثلها، إذ التقدير: أنزهك تنزيهاً وأسبحك تسبيحاً مقيداً بشكرك، وعلى التقديرين: "اللهم" معترضة، والجار والمجرور أعني: "بحمدك" إما متصل بفعل مقدر والباء سببية، أو حال من فاعل؛ والباء إلصاقية، أو صفة لمصدر محذوف كقوله: {ونحن نسبح بحمدك} [2: 30] أي نسبح بالثناء عليك، أو نسبح متلبسين بشكرك، أو نسبح تسبيحاً مقيداً بشكرك. (وتبارك اسمك) أي كثرت بركة اسمك إذ وجد كل خير من ذكر اسمك. وقيل: تعاظم ذاتك، أو هو على حقيقته لأن التعاظم إذا ثبت لأسمائه تعالى فأولى لذاته، ونظيره. {سبح اسم ربك الأعلى} . (وتعالى جدك) الجد العظمة و"تعالى" تفاعل من العلو أي على جلالك وعظمتك على عظمة غيرك غاية العلو. وقيل: تعالى غنائك أن ينقصه إنفاق أو يحتاج إلى معين ونصير. والحديث يدل على مشروعية الاستفتاح بهذه الكلمات، وقد اختلف العلماء فيما يستفتح به الصلاة من الذكر بعد التكبير، فذهب الشافعي إلى ما رواه علي وهو حديث: "وجهت وجهي" إلى آخره. وذهب أحمد وأبوحنيفة إلى حديث عائشة، وكان مالك لا يقول شيئاً من ذلك، إنما يكبر ويقرأ: "الحمد لله رب العالمين" وأحاديث الباب ترد عليه فيما ذهب إليه من عدم استحباب الافتتاح بشئ. وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنواع من الذكر في استفتاح الصلاة، ذكر المصنف خمسة منها، وترك بعضاً آخر وهو من الاختلاف المباح فبأيها استفتح الصلاة كان جائزاً، لكن الأولى بالاختيار عندنا حديث أبي هريرة الذي جاء فيه دعاء الافتتاح بلفظ: "اللهم باعد بيني" الخ.؛ لأنه أصح ما ورد في ذلك. قال ابن الهمام في فتح القدير بعد ذكر هذا الحديث: وهو أصح من الكل؛ لأنه متفق عليه- انتهى. ثم بعد ذلك أولى بالاختيار حديث علي؛ لأنه رواه مسلم، ثم بعد ذلك ما روي عن أبي سعيد، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة بالليل كبر، ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك، ولا إله غيرك. ثم يقول: الله أكبر كبيراً، ثم يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزة، ونفخه، ونفثه. أخرجه أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي. وهو حديث صحيح أو حسن، وسيأتي في باب ما يقول إذا قام من الليل. تنبيه قال المجد بن تيمية في المنتقى بعد ذكر حديث عائشة، والإشارة إلى حديث أبي سعيد

رواه الترمذي وأبوداود. 822- (5) ورواه ابن ماجه عن أبي سعيد. وقال الترمذي. (هذا حديث لا نعرفه إلا من حارثة، ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا: وأخرج مسلم في صحيحه أن عمر كان يجهر بهؤلاء الكلمات يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك. وروى سعيد بن منصور في سننه عن أبي بكر الصديق أنه كان يستفتح بذلك، وكذلك رواه الدارقطني عن عثمان بن عفان، وابن منذر عن عبد الله بن مسعود، وقال الأسود: كان عمر إذا افتتح الصلاة قال: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك، يسمعنا ذلك ويعلمنا. رواه الدارقطني. ثم قال ابن تيمية: واختيار هؤلاء وجهر عمر به أحياناً بمحضر من الصحابة ليتعلمه الناس مع أن السنة إخفاءه يدل على أنه الأفضل وأنه الذي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يداوم عليه غالباً، وإن استفتح بما رواه علي أو أبوهريرة فحسن لصحة الرواية- انتهى. قال الشوكاني بعد ذكر كلام ابن تيمية هذا: ولا يخفى أن ما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى بالإيثار والاختيار، وأصح ما ورد في الاستفتاح حديث أبي هريرة ثم حديث علي. (إلى أن قال) : وقال ابن خزيمة: لا نعلم في الافتتاح: "بسبحانك اللهم" خبراً ثابتاً، وأحسن أسانيده حديث أبي سعيد، ثم قال: لا نعلم أحداً ولا سمعنا به استعمل هذا الحديث على وجهه- انتهى. (رواه الترمذي وأبوداود) وأخرجه أيضاً ابن ماجه والدارقطني والحاكم. 822- قوله: (ورواه ابن ماجه عن أبي سعيد) أي مختصراً مثل حديث عائشة، وأخرجه النسائي أيضاً مختصراً، وأخرجه أحمد والترمذي وأبوداود مطولاً كما ذكرنا لفظه. (وقال الترمذي: هذا) أي حديث عائشة (حديث لا نعرفه إلا من حارثة) أي ابن أبي الرجال. وقوله: "إلا من حارثة" كذا وقع في جميع نسخ المشكاة، والذي في جامع الترمذي: (إلا من حديث حارثة) والظاهر أنه سقط لفظ: "حديث" من نسخ المشكاة. حديث عائشة هذا قد روى من غير طريق حارثة وإن لم يعرفه الترمذي. قال أبوداود في سننه: حدثنا حسين بن عيسى: حدثنا طلق بن غنام: حدثنا عبد السلام ابن حرب الملائي، عن بديل بن ميسرة، عن أبي الجوزاء، عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا افتتح الصلاة قال: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك. قال أبوداود: هذا الحديث ليس بالمشهور عن عبد السلام بن حرب لم يروه عنه إلا طلق بن غنام، وقد روى قصة الصلاة عن بديل جماعة لم يذكر فيه شيئاً من هذا يعني دعاء الاستفتاح. وأجيب عنه بأن طلق بن غنام ثقة صدوق أخرج عنه البخاري في الصحيح، وعبد السلام بن حرب أخرج له الشيخان، وقد زاد في قصة الصلاة ما رواه أبوداود، والزيادة من الثقة المقبولة، وقد روى هذه الزيادة أيضاً حارثة بن أبي الرجال عن جدته عمرة، عن عائشة، ثم قد تأيدت روايتهما أعني حارثة وطلقاً بحديث أبي سعيد، وقد صح الحاكم حديث عائشة من طريق ابن غنام وأورد له شاهدا ووافقه الذهبي، وقال الحافظ في

وقد تكلم فيه من قبل حفظه. 823- (6) وعن جبير بن مطعم ((أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي صلاة قال: الله أكبر كبيراً، الله أكبر كبيراً، الله أكبر كبيراً، ـــــــــــــــــــــــــــــ التلخيص. (ص86) : رجال إسناده ثقات، لكن فيه انقطاع – انتهى. لأن أبا الجوزاء لم يسمع من عائشة، قاله ابن عبد البر، وقال البخاري: في إسناد أبي الجوزاء نظر، يريد أنه لم يسمع من مثل ابن مسعود وعائشة، لأنه ضعيف عنده، وأحاديثه مستقيمة. قلت: قال الحافظ في تهذيب التهذيب. (ج1: ص384) : قال جعفر الفريابي في كتاب الصلاة: حدثنا مزاحم بن سعيد: ثنا ابن المبارك: ثنا إبراهيم بن طهمان: ثنا بديل العقبلي، عن أبي الجوزاء، قال: أرسلت رسولاً إلى عائشة يسألها. فذكر الحديث، فهذا ظاهره أنه لم يشافهها، لكن لا مانع من جواز كونه توجه إليها بعد ذلك فشافهها على مذهب مسلم في إمكان اللقاء- انتهى. وظهر من هذا كله أن حديث عائشة من طريق طلق بن غنام أعلوه بثلاثة وجوه: أولها أنه ليس بالمشهور عن عبد السلام بن حرب. ثانيها أن جماعة رووا قصة الصلاة عن بديل بن ميسرة ولم يذكروا ذلك فيه. ثالثها أن فيه انقطاعاً، وهذه العلل الثلاث كلها مدفوعة كما بينا. فالظاهر أن حديث عائشة من طريق طلق بن غنام ليس بضعيف. (وقد تكلم فيه من قبل حفظه) قال الحافظ في تهذيب التهذيب. (ج2: ص166) : وقال ابن حبان: كان ممن كثر وهمه وفحش خطأه، تركه أحمد ويحيى. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال أبوحاتم والبخاري: منكر الحديث. وقال أبوزرعة: واهي الحديث ضعيف. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه منكر. وقال ابن خزيمة: حارثة ليس يحتج أهل الحديث بحديثه. وقال ابن عدي: بلغني أن أحمد نظر في جامع إسحاق فإذا أول حديث فيه حديث حارثة في استفتاح الصلاة فقال: منكر جداً- انتهى. 823- قوله: (وعن جبير) بمضمومة فمفتوحة وسكون ياء. (بن مطعم) بضم الميم، ابن عدي بن نوفل بن عبدمناف القرشي النوفلي المدني أبومحمد، قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - في فداء أسارى بدر، ثم أسلم بعد ذلك عام خيبر، وقيل: يوم الفتح. ذكر ابن إسحاق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه مائة من الإبل، كان حليماً، وقوراً، عارفاً بالنسب. وكان أخذ النسب عن أبي بكر. وسلحه عمر سيف النعمان بن المنذر. له ستون حديثاً، اتفقا على ستة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بآخر. توفي بالمدينة سنة. (58) أو. (59) . (رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي صلاة) قال عمرو بن مرة الراوي للحديث: لا أدري أي صلاة هي؟ ولفظ ابن حبان: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل في الصلاة. (قال) أي عقب تكبيرة الإحرام، قاله ابن حجر. والظاهر أنه هو عين التحريمة مع الزيادة، والله أعلم. (الله أكبر) بالسكون ويضم. (كبيراً) أي كبرت كبيراً، ويجوز أن يكون حالاً مؤكدة، أو صفة لمصدر محذوف بتقدير: "تكبيراً كبيراً" وأفعل لمجرد المبالغة، أو معناه: أعظم من أن يعرف عظمته. قال ابن الهمام: إن أفعل وفعيلاً في صفاته تعالى سواء؛ لأنه لا يراد: "بأكبر"

والحمد لله كثيراً، والحمد لله كثيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، ثلاثاً، أعوذ بالله من الشيطان، من نفخه ونفثه وهمزه)) . رواه أبوداود، وابن ماجه، إلا أنه لم يذكر: والحمد لله كثيراً. وذكر في آخره: من الشيطان الرجيم. وقال عمر: ـــــــــــــــــــــــــــــ إثبات الزيادة في صفته بالنسبة إلى غيره بعد المشاركة؛ لأنه لا يساويه أحد في أصل الكبرياء. (كثيراً) صفة لمحذوف مقدر، أي حمدا كثيراً. (بكرة وأصيلاً) أي في أول النهار وآخره، منصوبان على الظرفية، والعامل: "سبحان" وخص هذين الوقتين لاجتماع ملائكة الليل والنهار فيهما، كذا ذكره الأبهري وصاحب المفاتيح. ويمكن أن يكون وجه التخصيص تنزيه الله تعالى عن التغير في أوقات تغير الكون. وقال الطيبي: الأظهر أن يراد بها الدوام كما في قوله تعالى: {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً} [19: 62] . (ثلاثاً) كالذي قبله. (من نفخه) بدل اشتمال أي من تكبره يعني مما يأمر الناس به من التكبر. (ونفثه) أي مما يأمر الناس به من إنشاء الشعر المذموم مما فيه هجو مسلم أو كفر أو فسق. والنفث في اللغة قذف الريق، وهو أقل من التفل. والنفخ في اللغة إخراج الريح من الفم ونفخها في الشيء. (وهمزه) أي من جعله أحداً مجنوناً بنخسه وغمزه. كل من الثلاثة بفتح فسكون. قال التوربشتي: النفخ كناية عما يسوله الشيطان للإنسان من الاستكبار والخيلاء، فيتعاظم في نفسه كالذي نفخ فيه، ولهذا قال- عليه السلام - للذي رآه قد استطار غضبا: نفخ فيه الشيطان. قال: ولعل المراد من النفث السحر، فإنه أشبه لما شهد له التنزيل قال تعالى: {ومن شر النفاثات في العقد} [113: 4] وأما الهمز، فالأشبه أن يراد به ما يوسوس به، قال تعالى: {وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين} [23: 97] وهمزاته: خطراته التي يخطرها بقلب الإنسان. وقيل في معنى الآية: إن الشياطين يحثون أولياءهم على المعاصي ويغرونهم عليها، كما يهمز الركضة الدواب بالمهماز حثاً على المشي- انتهى مختصراً. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً أحمد وابن حبان والحاكم، وابن حزم في المحلى. والحديث سكت عنه أبوداود، والمنذري. (وابن ماجه إلا أنه) أي ابن ماجه. (لم يذكر والحمد لله كثيراً) ولا يضر؛ لأنه زيادة ثقة لا تعارض المزيد عليه فتقبل، قاله القاري، لكن في النسخ الموجودة في سنن ابن ماجه الحاضرة عندنا هذه الزيادة موجودة. (وذكر في آخره من الشيطان الرجيم) أي المرجوم. وهي زيادة يعمل بها كذلك بأن يجمع بين الروايات بلحوق الزيادات، أو باعتبار التارات. قال الحافظ في التلخيص. (ص86) بعد ذكر الحديث بلفظ ابن حبان مع هذه الزيادة: ولفظ الحاكم نحوه، وحكى ابن خزيمة الاختلاف فيه، وقد أوضحت طرقه في المدرج- انتهى. (وقال عمر) صوابه: "عمرو" بالواو كما صرح به صريحاً في رواية ابن ماجه، وهو عمرو بن مرة أحد رواة إسناد هذا الحديث. وروى ابن ماجه أيضاً نحو حديث أبي سعيد مختصراً من حديث ابن مسعود، وفي آخر هذا التفسير أيضاً مصدراً بلفظ: "قال" ولم يبين القائل، والظاهر أنه أحد رواة الإسناد.

نفخه الكبر، ونفثه الشعر، وهمزه المؤتة. 824- (7) وعن سمرة بن جندب: ((أنه حفظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سكتتين: سكتة إذا كبر، ـــــــــــــــــــــــــــــ وعمرو بن مرة هو عمرو بن مرة بن عبد الله بن طارق الجملي- بفتح الجيم والميم- المرادي، أبوعبد الله الكوفي الأعمى، ثقة عابد، كان لا يدلس، ورمي بالإرجاء، من رواة الكتب الستة. مات سنة (110) وقيل قبلها. (نفخه) بالرفع على الإعراب، وبالجر على الحكاية. (الكبر) بكسر فسكون، أي التكبر، وهو أن يصير الإنسان معظماً كبيراً عند نفسه، ولا حقيقة له إلا مثل الشيطان نفخ فيه فانتفخ فرأى انتفاخه مما يستحق به التعظيم مع أنه على العكس. قال الزمخشري في الفائق: إنما سمي الكبر نفخاً لما يوسوس إليه الشيطان في نفسه فيعظمها ويحقر الناس في عينه. (ونفثه الشعر) فإنه ينفثه من فيه كالرقية. والمراد الشعر المذموم وإلا فقد جاء: "إن من الشعر لحكمة". وقيل: إنما كان الشعر من نفثة الشيطان؛ لأنه يدعو الشعراء المداحين الهجائين المعظمين المحقرين إلى ذلك. (وهمزه المؤتة) بضم الميم وهمزة ساكنة، وقيل: بلا همز، بعدها مثناة فوقية، نوع من الجنون والصرع يعتري الإنسان، فإذا أفاق عاد عليه كمال عقله. وقال أبوعبيدة: المؤتة الجنون، سماه همزاً؛ لأنه جعله من النخس والغمز، وكل شيء دفعته فقد همزته. قال ابن سيد الناس: وتفسير الثلاثة بذلك من باب المجاز- انتهى. والحديث يدل على مشروعية الافتتاح بما ذكر فيه. وفيه أيضاً مشروعية التعوذ من الشيطان من نفخه ونفثه وهمزه، وقد ورد في التعوذ أحاديث أخرى: منها حديث أبي سعيد، وقد ذكرنا لفظه، ومنها حديث أبي أمامة أخرجه أحمد بنحو حديث أبي سعيد. ومنها حديث ابن مسعود أخرجه ابن ماجه وابن خزيمة والحاكم والبيهقي. ومنها حديث أنس أخرجه الدارقطني. ومنها ما روي عن عمر موقوفاً عند الدارقطني أيضاً، هذا مع ما يؤيد ثبوت هذه السنة من عموم قوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله} [16: 98] . ثم إن حديث أبي سعيد مصرح بأن التعوذ المذكور يكون بعد الافتتاح بالدعاء المذكور في الحديث. قال الشوكاني: الأحاديث الواردة في التعوذ ليس فيها إلا أنه فعل ذلك في الركعة الأولى. وقد ذهب الحسن وعطاء وإبراهيم إلى استحبابه في كل ركعة، محتجين بعموم قوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله} ولا شك أن الآية تدل على مشروعية الاستعاذة قبل قراءة القرآن، وهي أعم من أن يكون القاري خارج الصلاة أو داخلها. وأحاديث النهي عن الكلام في الصلاة تدل على المنع منه حال الصلاة من غير فرق بين الاستعاذة وغيرها مما لم يرد به دليل يخصه، ولا وقع الإذن بخسه، فالأحوط الاقتصار على ما وردت به السنة، وهو الاستعاذة قبل قراءة الركعة الأولى فقط. وسيأتي حديث أبي هريرة الدال على ذلك. 824- قوله: (سكتة إذا كبر) أي للإحرام، وكانت هذه السكتة لدعاء الاستفتاح كما وقع بيانها في حديث أبي هريرة السابق أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يسكت بيت التكبير والقراءة، يقول: اللهم باعد بيني، الخ. فالمراد من السكتة ههنا

وسكتة إذا فرغ من قراءة. {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} فصدقه أبي بن كعب. رواه أبوداود، وروى الترمذي، وابن ماجه، والدارمي نحوه. ـــــــــــــــــــــــــــــ السكوت عن الجهر وترك رفع الصوت؛ لأنها لم تكن مجردة خالية عن الذكر. (وسكتة إذا فرغ من قراءة غير المغضوب عليهم ولا الضالين) هذه السكتة الثانية كانت ليتراد إليه نفسه وليعلم المأمومون أن لفظة آمين ليست من القرآن، أي للتمييز بين الفاتحة وآمين لئلا يشتبه غير القرآن بالقرآن، وهي أخف من السكتة الأولى. واستدل بعض الحنفية بهذا الحديث على الإسرار بالتأمين والإخفاء به. قال: الأظهر أن السكتة الثانية كانت للتأمين سرا. والجواب عنه بأن السكتة الثانية لم تكن للتأمين سراً؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجهر بالتأمين ويرفع صوته بآمين، ولم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - الإسرار بالتأمين، فكيف يقال إنها كانت للتأمين سراً، بل السكتة الثانية كانت ليتراد إليه نفسه وليستريح، وليعلم المأموم أن لفظة آمين ليست من القرآن. قال زين العرب: الغرض من هذه السكتة أن يقرأ المأموم الفاتحة ويرجع الإمام إلى التنفس والاستراحة- انتهى. وقال ابن حزم في المحلي. (ج4: ص97) : يقرأ المأموم في السكتة الأولى أم القرآن فمن فاتته قرأ في السكتة الثانية. وفي رواية لأبي داود: أنه كان يسكت سكتتين: إذا استفتح الصلاة، وإذا فرغ من القراءة كلها. وفي أخرى: إذا فرغ من فاتحة الكتاب وسورة عند الركوع، أي قبل الركوع عند الفراغ من القراءة كلها. ولا مخالفة بينهما، بل يحصل من مجموعهما ثلاث سكتات: بعد الإحرام، وبعد الفاتحة، وبعد السورة عند الركوع، أي ليتراد إليه نفسه. قيل: والثالثة أخف من السكتتين اللتين قبلهما، وذلك بمقدار ما تنفصل القراءة عن التكبير، فقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوصل فيه. وقال القاري: وكأن المراد بالسكتات الزيادة على حد التنفس في أواخر الآيات، إذ ثبت عنه- عليه السلام -كان يقرأ الحمد لله رب العالمين فيقف، وهكذا على رؤس الآي. وأما إطلاق القراء السكتة على الوقف بلا تنفس فمبني على اصطلاحهم- انتهى. وهذه السكتات الثلاث قد ذهب إلى مشروعيتها الشافعي وأحمد وإسحاق والأوزاعي، وعند أبي حنيفة ومالك لا سكتة إلا الأولى. (فصدقه) من التصديق. (أبي بن كعب) الأنصاري الخزرجي سيد القراء، كتب الوحي، وشهد بدراً وما بعدها، وكان ممن جمع القرآن، أي وافق أبي سمرة، وقال صدق سمرة، - بالتخفيف- وحاصل القصة أنه وقع الاختلاف بين سمرة وعمران بن حصين في سكتتي الصلاة، قال سمرة: حفظت سكتتين، وأنكر ذلك عمران، وقال حفظت سكتة، وكانا إذ ذاك بالبصرة، فكتبا في ذلك إلى أبيّ بن كعب بالمدينة، فكتب أبيّ أن حفظ سمرة. (رواه أبوداود) أي بهذا اللفظ. (وروى الترمذي وابن ماجه والدارمي نحوه) أي معناه، وأخرجه أيضاً أحمد، وابن حبان في صحيحه، والبيهقي والحاكم كلهم من طريق الحسن البصري عن سمرة. وقد اختلف في سماع الحسن من سمرة، وقد تقدم في باب الغسل المسنون أن رواية الحسن عن سمرة محمولة على الاتصال عند

{الفصل الثالث}

825- (8) وعن أبي هريرة، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نهض من الركعة الثانية استفتح القراءة بالحمد لله رب العالمين، ولم يسكت)) هكذا في صحيح مسلم، وذكره الحميدى في أفراده. وكذا صاحب الجامع عن مسلم وحده. {الفصل الثالث} 826- (9) عن جابر، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا استفتح الصلاة كبر، ثم قال: إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن المديني كما نقله عنه البخاري، وما ذكر في هذا الحديث من الاختلاف بين سمرة وعمران في السكتتين هو حكاية من الحسن عن سمرة سماعاً منه، لا أنه كان حاضراً حينما جرى بين سمرة وعمران هذا الاختلاف. والحديث قد حسنه الترمذي. قال الشوكاني: وقد صحح الترمذي حديث الحسن عن سمرة في مواضع من سننه، منها حديث: (نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسئة) ، وحديث: (جار الدار أحق بدار الجار) ، وحديث: (لا تلاعنوا بلعنة الله ولا بغضب الله ولا بالنار) ، وحديث: (الصلاة الوسطى صلاة العصر) ، فكان هذا الحديث على مقتضى تصرفه جديراً بالتصحيح، وقد قال الدارقطني: رواة الحديث كلهم ثقات- انتهى. وقيل: إنما حسنه الترمذي للخلاف في سماع الحسن من سمرة، والله أعلم. 820- قوله: (إذا نهض) أي قام. (من الركعة الثانية) أي من أجلها. (استفتح القراءة بالحمد لله رب العالمين) المراد السورة المختصة، فلا يدل على أن البسملة ليست منها، قاله الطيبي. (ولم يسكت) أي للثناء ودعاء الاستفتاح والتعوذ. قال الشوكاني: الحديث يدل على عدم مشروعية السكتة قبل القراءة في الركعة الثانية، وكذلك عدم مشروعية التعوذ فيها، وحكم ما بعدها من الركعات حكمها، فتكون السكتة قبل القراءة مختصة بالركعة الأولى، وكذلك التعوذ قبلها، وقد رجح صاحب الهدي الاقتصار على التعوذ في الأولى لهذا الحديث واستدل لذلك بأدلة فليراجع. (هكذا في صحيح مسلم، وذكره الحميدي في إفراده) أي في مفردات مسلم ومختصاته. (وكذا صاحب الجامع) أي للأصول وهو ابن الأثير. (عن مسلم وحده) فإيراد صاحب المصابيح هذا الحديث في الفصل الثاني دون الفصل الأول غير مناسب لقاعدته. قال ميرك: والعجب أن الحاكم أخرجه في مستدركه (ج1: ص215، 216) وقال: على شرطهما، وأقره الذهبي فلم يستدركه. قال القاري: لعل الحاكم رواه بسند غير سند مسلم، وكان رجاله على شرطهما- انتهى. وأخرج النسائي عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت له سكتة إذا افتتح الصلاة، وفيه إشارة إلى أن السكتة إنما هي في الركعة الأولى عند افتتاحها. 826- قوله: (إذا استفتح الصلاة كبر) أي للتحريمة. (ومحياي ومماتي) أي أحوالي فيهما. (وبذلك) أي

وأنا أول المسلمين. اللهم اهدني لأحسن الأعمال، وأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وقني سيء الأعمال، وسيء الأخلاق، لا يقي سيئها إلا أنت)) رواه النسائي. 827- (10) وعن محمد بن مسلمة: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام يصلي تطوعاً، قال: الله أكبر، وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً، وما أنا من المشركين)) . وذكر الحديث مثل حديث جابر، إلا أنه ـــــــــــــــــــــــــــــ الإخلاص. (وأنا أول المسلمين) كذا في جميع النسخ الموجودة عندنا. وفي النسائي: "وأنا من المسلمين"، وأما ما هنا "أول المسلمين" فهي رواية الدارقطني، وهي الصواب. قال الطيبي: هذا أي: "أنا أول المسلمين" لفظ التنزيل حكاية عن قول إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -، وإنما قال: "لأن إسلام كل نبي مقدم على إسلام أمته- انتهى. والظاهر من القرآن أن نبينا - عليه الصلاة والسلام - مأمور بهذا القول، فإنه تعالى قال له: {قل إن صلاتي ونسكي} [6: 162] الآية، لكن كان يقول هذا تارة، و"أنا من المسلمين" أخرى تواضعاً حيث عد نفسه واحداً منهم، كما قال: احشرني في زمرة المساكين، قال القاري. (لا يهدي لأحسنها) أي المذكورات من النوعين. (وقني) بكسر القاف، أمر من وقى يقي. (سيء الأعمال) الخ. في العدول عن الأسوء المقابل للأحسن إلى السيء نكتة لا تخفى. (رواه النسائي) وأخرجه أيضاً الدارقطني. (ص112) وسنده صحيح. 827- قوله: (وعن محمد بن مسلمة) بفتح الميم واللام، ابن سلمة الأنصاري الحارثي الدوسي، أبوعبد الله المدني صحابي مشهور. قال ابن عبد البر: كان من أفضل الصحابة، وهو أحد الثلاثة الذين قتلوا كعب بن الأشرف، شهد المشاهد كلها إلا تبوك، واستخلفه النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض غزواته على المدينة، ولم يشهد الجمل ولا صفين. وكان من الذين أسلموا على يد مصعب بن عمير، وهو أكبر من اسمه محمد من الصحابة، له ستة عشر حديثاً، انفرد له البخاري بحديث. مات بالمدينة سنة (43) وقيل غير ذلك، وهو ابن (77) سنة. وقال ابن شاهين عن أبي داود: قتله أهل الشام لكونه اعتزل عن معاوية في حروبه. (إذا قام يصلي تطوعاً) قال القاري: ظاهره يؤيد مذهبنا المختار أنه يقرأ: "بوجهت وجهي" في النوافل والسنن. وقال صاحب اللمعات: هو دليل على المخصوصية بالتطوع كما هو مذهبنا- انتهى. قلت: قد تقدم الجواب عن هذا الاستدلال فتذكر. قال شيخنا في أبكار المنن (ص116) : ليس فيه دليل على المخصوصية بالتطوع، كيف وقد ثبت في أكثر روايات على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة قال وجهت وجهي، الخ. وقد تقدم ذكر هذه الروايات، على أنه لو كان في هذا دليل على المخصوصية بالتطوع لكان الدعاء الذي اختاره الحنفية للفرض أيضاً مخصوصاً بالتطوع، فإن الترمذي وأبا داود قد رويا عن أبي سعيد الخدري، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام من الليل كبر، ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك- الحديث. (وذكر) أي محمد بن مسلمة. (الحديث مثل حديث جابر، إلا أنه) أي محمداً.

(12) باب القراءة في الصلاة

قال: وأنا من المسلمين. ثم قال: ((اللهم أنت الملك، لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك. ثم يقرأ)) رواه النسائي. (12) باب القراءة في الصلاة {الفصل الأول} 828- (1) عن عبادة بن الصامت، قال: ((قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)) ـــــــــــــــــــــــــــــ (قال: وأنا من المسلمين) بدل: "وأنا أول المسلمين" وفيه نظر؛ لأن النسخ الموجودة عندنا من سنن النسائي من طبعة الهند ومصر كلها مطبقة على عكس ما ذكره المصنف، فقوله: "وأنا من المسلمين" إنما هو في حديث جابر، لا في حديث محمد بن مسلمة، ولفظ ابن مسلمة: "وأنا أول المسلمين"، وهذا عكس ما قال المصنف، ولا أدري هل وقع الخطأ في نسخ سنن النسائي الموجودة الحاضرة عندنا أو زاغ بصر المصنف فأخطأ وسها في بيان الفرق بين الروايتين، الله أعلم. (ثم قال) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (سبحانك وبحمدك) قال في اللمعات: اعلم أن: "سبحانك" مصدر مضاف مفعول مطلق للنوع أي أسبحك تسبيحاً لائقاً بجنابك الأقدس، والباء في: "بحمدك" للملابسة، والواو للعطف، والتقدير"وأسبحك تسبيحاً متلبساً بحمدك" فيكون المجموع في معنى: "سبحان الله والحمد لله" وهو أظهر الوجوه- انتهى. (رواه النسائي) . (باب القراءة في الصلاة) اعلم أن القراءة في الصلاة فرض عند جمهور علماء الأمة، فعند الشافعي ومالك وأحمد في المشهور، والصحيح من مذهبه في كلها، وعند الحنفية في الركعتين فقط. والحق ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة كما سيأتي. ثم الفرض عند الحنفية مطلق القراءة، والفاتحة ليست بفرض بل هي واجبة، يأثم من يتركها، وتجزئ الصلاة بدونها، وقالت الأئمة الثلاثة بتعيين الفاتحة، فهي فرض عندهم، لا تصح الصلاة بدونها، وهو الحق. قال ابن قدامة في المغني (ج1: ص528) : يجب قراءة الفاتحة في كل ركعة في الصحيح من المذهب، وهذا مذهب مالك والأوزاعي والشافعي، وقال ابن حزم في المحلي (ج3: ص236) : وقراءة أم القرآن فرض في كل ركعة من كل صلاة إماماً كان أو مأموماً أو منفرداً، والفرض والتطوع سواء، والرجال والنساء سواء- انتهى. 828- قوله. (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) أي فيها كما في مسند الحميدى ورواية البيهقي والإسماعيلي وأبي نعيم، وهذا يعين أن المراد قراءة الفاتحة في نفس الصلاة، وسميت فاتحة الكتاب؛ لأنه يبدأ بكتابتها في المصاحف، ويبدأ بقراءتها في الصلاة، وفاتحة كل شيء مبدأه الذي يفتح به ما بعده، افتتح فلان كذا ابتدأ به. قال ابن جرير في تفسيره (ج1: ص35) : وسميت فاتحة الكتاب؛ لأنها يفتتح بكتابتها المصاحف ويقرأ بها في الصلاة فهي فواتح لما يتلوها من سور القرآن في الكتابة والقراءة، وسميت أم القرآن لتقدمها على سائر سور القرآن غيرها، وتأخر ما سواها خلفها ف القراءة والكتابة

وذلك من معناها شبيه بمعنى فاتحة الكتاب، وإنما قيل لها لكونها كذلك أم القرآن تسمية العرب كل جامع أمراً أو مقدماً لأمر إذا كانت له توابع تتبعه، هو لها إمام جامع أماً – انتهى. وقال ابن منظور في لسان العرب. (ج1: ص297) : وأم الكتاب فاتحة؛ لأنه يبتدأ بها في كل صلاة، قال: وجاء في الحديث أن أم الكتاب هي فاتحة الكتاب؛ لأنها هي المقدمة أمام كل سورة في جميع الصلوات، وابتدئ بها في المصحف فقدمت– انتهى. والحديث دليل على أن قراءة الفاتحة في الصلاة ركن من أركانها وفرض من فروضها، وأنه لا تصح صلاة من لم يقرأ بفاتحة الكتاب فيها. قال الشاه ولي الله في حجته. (ج2: ص4) تحت قوله: الأمور التي لا بد منها في الصلاة: وما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ الركنية كقوله: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" وقوله: "لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود" وما سمي الشارع الصلاة به، فإنه تنبيه بليغ على كونه ركنا في الصلاة- انتهى. وحديث عبادة هذا رواه الدارقطني وابن خزيمة وابن حبان، وغيرهم بإسناد صحيح بلفظ: لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب. وهذه الرواية نص صريح في ركنية الفاتحة لا تحتمل تأويلاً. وأجاب من قال بعدم فرضية الفاتحة وهو الحنفية عن حديث الباب بأن المراد بالنفي في قوله: "لا صلاة" نفى الكمال، أي لا صلاة كاملة. ورد هذا الجواب بوجهين: الأول: أن رواية الدارقطني وغيره بلفظ: "لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب" لا تحتمل تأويلاً، بل هي تبطل تأويلهم هذا إبطالاً صريحاً؛ لأن النفي فيها نفي الإجزاء أي نفي الكفاية فلا يصح حملها على الكفاية مع نفى الكمال. والثاني: أن النفي في قوله: "لا صلاة" إما أن يراد به نفي الحقيقة، أو نفي الصحة أو نفى الكمال، فالأول حقيقة والثاني والثالث مجاز، والثاني أعني نفي الصحة أقرب المجازين إلى الحقيقة، والثالث أعني نفى الكمال أبعدهما، فحمل النفى على الحقيقة واجب إن أمكن، وإلا فحمله على أقرب المجازين واجب ومتعين، ومع إمكان الحقيقة أو أقرب المجازين، لا يجوز حمله على أبعد المجازين. قال الشوكاني: الحديث يدل على تعيين الفاتحة في الصلاة، وأنه لا يجزئ غيرها؛ لأن النفي المذكور في الحديث يتوجه إلى الذات إن أمكن انتفاءها، وإلا توجه إلى ما هو أقرب إلى الذات وهو الصحة، لا إلى الكمال؛ لأن الصحة أقرب المجازين، والكمال أبعدهما، والحمل على أقرب المجازين واجب، وتوجه النفي ههنا إلى الذات ممكن كما قال الحافظ في الفتح، لأن المراد بالصلاة معناها الشرعي لا اللغوي، لما تقرر من أن ألفاظ الشارع محمولة على عرفه لكونه بعث لتعريف الشرعيات لا لتعريف الموضوعات اللغوية، وإذا كان المنفي الصلاة الشرعية استقام نفي الذات؛ لأن المركب كما ينتفي بانتفاء جميع أجزائه ينتفي بانتفاء بعضها، فلا يحتاج إلى إضمار الصحة ولا الإجزاء ولا الكمال كما روى عن جماعة؛ لأنه إنما يحتاج إليه عند الضرورة، وهي عدم إمكان انتفاء الذات، ولو سلم أن المراد هنا الصلاة اللغوية فلا يمكن توجه النفي إلى الذات؛ لأنها قد وجدت في الخارج كما قاله البعض، لكان المتعين توجيه النفي إلى الصحة أو الإجزاء لا إلى الكمال، أما أولاً فلما ذكرناه، وأما ثانياً فرواية

الدارقطني المذكورة في الحديث، فإنها مصرحة بالأجزاء فتعين تقديره- انتهى. وقال الحافظ: إن سلمنا تعذر الحمل على الحقيقة، فالحمل على أقرب المجازين إلى الحقيقة أولى من الحمل على أبعدهما، ونفي الإجزاء أقرب إلى نفي الحقيقة وهو السابق إلى الفهم، ولأنه يستلزم نفي الكمال من غير عكس، فيكون أولى ويؤيده رواية الإسماعيلي بلفظ: "لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب"، وأخرجه الدارقطني أيضاً بهذا اللفظ، وله شاهد من حديث أبي هريرة مرفوعاً بهذا اللفظ أخرجه ابن خزيمة، وابن حبان وغيرهما. ولأحمد من طريق عبد الله بن سوادة القشيري، عن رجل، عن أبيه مرفوعاً: لا تقبل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن. وقال ابن الهمام في فتح القدير. (ج1: ص120) : وفيه أي في تقدير: "كاملة" نظر؛ لأن متعلق المجرور الواقع خبراً استقرار عام، فالحاصل: "لا صلاة كائنة" وعدم الوجود شرعاً هو عدم الصحة هذا هو الأصل، بخلاف: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" الخ.: "لا صلاة للعبد الآبق" فإن قيام الدليل على الصحة أوجب كون المراد كوناً خاصاً أي كاملة، وعلى هذا فيكون من حذف الخبر لا من وقوع الجار والمجرور خبراً، فلذا عدل المصنف عنه إلى الظنية في الثبوت، وبه لا يثبت الركن؛ لأن لازمه نسخ الإطلاق بخبر الواحد، وهو يستلزم تقديم الظني على القاطع، وهو لا يحل، فيثبت به الوجوب، فيأثم بترك الفاتحة ولا تفسد– انتهى. وقال الشيخ الآلوسي في تفسيره روح المعاني. (ج9: ص210) : ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" وهو ظاهر في المقصود. إذ التقدير: "لا صلاة صحيحة إلا بها" واعترض بجواز أن يكون التقدير: "لا صلاة كاملة" فإنه لما امتنع نفي مسمى الصلاة لثبوته دون الفاتحة لم يكن بد من صرفه إلى حكم من أحكامها، وليس الصرف إلى الصحة أولى من الصرف إلى الكمال. وأجيب بأنا لا نسلم امتناع دخول النفي على مسماها؛ لأن الفاتحة إذا كانت جزأ من ماهية الصلاة تنتفي الماهية عند عدم قراءتها فيصح دخوله على مسماها، وإنما يمتنع لو ثبت أنها ليست جزءاً منها، وهو أول المسئلة سلمناه لكن لا نسلم أن صرفه إلى الصحة ليس أولى من صرفه إلى الكمال، بل هو أولى؛ لأن الحمل على المجاز الأقرب عند تعذر الحمل على الحقيقة أولى بل واجب بالإجماع، ولا شك أن الموجود الذي لا يكون صحيحاً أقرب إلى المعدوم من الموجود الذي لا يكون كاملاً- انتهى. وقال الشيخ أبوالحسن السندي في حاشية النسائي. (ج2: ص137) وابن ماجه. (ج1: ص277) : ثم قد قرروا أن النفي لا يعقل إلا مع نسبته بين أمرين فيقتضي نفى الجنس أمراً مستنداً إلى الجنس ليستقل النفي مع نسبته، فإن كان ذلك الأمر مذكور في الكلام فذلك، وإلا يقدر من الأمور العامة كالكون والوجود، وأما الكمال فقد حقق الكمال ضعفه؛ لأنه مخالف لا يصار إليه إلا بدليل، والوجود في كلام الشارع يحمل على الوجود الشرعي دون الحسي، فمؤدي الحديث نفى الوجود الشرعي للصلاة التي لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فتعين نفى الصحة، وما قاله أصحابنا: أنه من أحاديث الآحاد وهو ظني لا يفيد العلم، وإنما يوجب الفعل فلا يلزم منه الافتراض، ففيه أنه يكفي في المطلوب أنه يوجب العمل بمدلوله لا بشيء آخر، ومدلوله عدم صحة صلاة لم يقرأ فيها

بفاتحة الكتاب، فوجوب العمل به يوجب القول بفساد تلك الصلاة وهو المطلوب، فالحق أن الحديث يفيد بطلان الصلاة إذا لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب- انتهى. واعلم أنه قد تأول بعض الحنفية رواية الدارقطني المذكورة بأن المراد نفي الأجزاء الكاملة. قال القاري: هو محمول على الأجزاء الكاملة. وقال الشيخ محمد أنور: لم لا يجوز أن يكون المراد من نفي الإجزاء نفي كمال الإجزاء كما في قوله: ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان. عند البخاري في الجهاد وفي المغازي من حديث سهل بن سعد قال: ليجعله نظيراً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: لا تجزئ صلاة من لم يقرأ بفاتحة الكتاب. قلت: حمل الإجزاء في رواية الدارقطني على الإجزاء الكامل تحكم صريح، وإدعاء محض، وتعصب بحت، بل هو تحريف للحديث؛ لأنه ليس بعد الإجزاء إلا البطلان، فلا جوز حمله على نفي كمال الإجزاء، ولا يصح أن يجعل قول القائل: "ما أجزأ منا اليوم أحد" الخ. في حديث سهل نظيرة لما في رواية الدارقطني؛ لأن قوله: "كما أجزأ فلان" قرينة صريحة على أن المراد بنفي الإجزاء فيه نفي إجزاء مخصوص، أي إجزاء يشبه إجزاء فلان، لا نفي الإجزاء رأساً، بخلاف رواية الدارقطني فإنه ليس فيها شيء يشير إلى حمله على الإجزاء المخصوص، بل فيها نفي الإجزاء مطلقاً من غير تقييد وتخصيص فحمله على الإجزاء الكامل تحكم محض ليس عليه آثارة من علم فهو مردود على قائله. تنبيه: قد تقدم أن مذهب الحنفية أن قراءة الفاتحة ليست بفرض بل هي واجبة. قالوا: الفرض عندنا مطلق القرآن لقوله تعالى: {فاقرؤا ما تيسر من القرآن} [73: 20] . فقد أمر الله تعالى بقراءة ما تيسر من القرآن مطلقاً، وتقييده بالفاتحة بالسنة زيادة على النص القرآني، وذا لا يجوز؛ لأنه نسخ فعملنا بالكتاب والسنة فقلنا: إن أدنى ما يطلق عليه القرآن فرض لكونه مأموراً به، وقراءة الفاتحة واجبة يأثم من يتركها، وتجزأ الصلاة بدونها ولا تفسد وأجاب عنه شيخنا في شرح الترمذي: بأن إثبات فريضة مطلق القرآن بهذه الآية مبني على أن المراد من قوله تعالى: {فاقرؤا} قراءة القرآن بعينها وهو ليس بمتفق عليه بل فيه قولان. قال الرازي في تفسيره. (ج8: ص345) : فيه قولان: الأول أن المراد من هذه القراءة الصلاة، أي فصلوا ما تيسر عليكم. والقول الثاني: أن المراد قراءة القرآن بعينها- انتهى. وهكذا في عامة كتب التفسير، والقول الثاني فيه بُعد عن مقتضى السياق. قال الشيخ الآلوسي البغدادي في تفسيره. (ج9: ص209) : أي فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل، عبر عن الصلاة بالقراءة كما عبر عنها بسائر أركانها. وقيل: الكلام على حقيقته من طلب قراءة القرآن بعينها، وفيه بُعد عن مقتضى الساق – انتهى كلامه. فلما ظهر أن في قوله تعالى: {فاقرؤا ما تيسر من القرآن} [73: 20] القولين المذكورين، وأن القول الثاني فيه بُعد، لاح لك أن الاستدلال به على فريضة مطلق القراءة غير صحيح، ولو سلمنا أن المراد هو القول الثاني أعني قراءة القرآن بعينها فحديث الباب مشهور بل متواتر، قال الإمام البخاري في جزء القراءة (ص4) : تواتر الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا صلاة إلا بقراءة أم القرآن. والزيادة بالحديث المشهور جائز عند الحنفية. على أن قوله تعالى: {فاقرؤا ما تيسر من القرآن} عام مخصوص منه البعض فهو ظني، فلا يدل على فرضية مطلق القراءة، ويجوز تخصيصه ولو بالآحاد. قال الملاجيون في تفسيره. () :

ثم أقل القراءة فرضاً عندنا آية واحدة طويلة كآية الكرسي وغيرها، أو ثلاث آيات قصيرة كـ {مدهامتان} ، وهذا هو الأصح. وقيل: إنه واحدة، طويلة كانت أو قصيرة، وذلك مما لا يعتد به، ينادي عليه كتب الفقه. وعلى كل تقدير يكون ما دون الآية مخصوصاً من هذا العام، فيكون العام ظنياً، فينبغي أن لا يدل على فرضية القراءة، وأن يعارضه الحديث حجة للشافعي_انتهى كلامه. وأما ما قيل: من أن ما دون الآية لا يسمى قراءة القرآن عرفاً، والعرف قاض على الحقيقة اللغوية فهذا دعوى لا دليل عليها، ويلزم أن يكون {مدهامتان} [55: 64] التي هي كلمة واحدة قراءة القرآن، ولا يكون أكثر آية المداينة التي هي كلمات كثيرة قراءة القرآن، وهذا كما ترى، وأيضاً يلزم منها أنه لو قرأ أحد نصف آية المداينة في الصلاة لا تجوز، وعامة الحنفية على جوازها. قال ابن الهمام في فتح القدير: ولو قرأ نصف آية المداينة قيل: لا يجوز لعدم الآية، وعامتهم على الجواز- انتهى. قلت: وقد رد أيضاً الشيخ محمد أنور استدلال الحنفية بقوله: {فاقرؤا ما تيسر من القرآن} على فرضية مطلق القرآن حيث قال: ما زعمه الحنفية من أن المراد من النص أي قوله تعالى: {فاقرؤا ما تيسر من القرآن} القراءة مطلقاً ولو بآية مرجوح، لأن المراد منه ما تفعله الأمة الآن أي الفاتحة مع السورة، وإلا يلزم حمل القرآن على الكراهة ودرجها في النظم، نعم كون هذا المراد مراداً بالنص ظني، ولذا كانت قراءة الفاتحة مع السورة واجبة. وقال: إن الله تعالى لما علم الاستثقال عليه في القيام بالليل رخص لهم أن لا يطولوه كما كانوا يفعلونه في الليل كله أو أكثره، بل لهم أن يقوموه حسب ما تيسر لهم فهذا تيسير في حصص الليل لا في الفاتحة كما فهموه –انتهى. تنبيه آخر: قد استدل بحديث عبادة على فرضية قراءة الفاتحة على المقتدي، وهو استدلال صحيح لأن لفظ: "من" فيه من ألفاظ العموم فهو شامل للمأموم قطعاً كما هو شامل للإمام والمنفرد، ولم يرد دليل على تخصيصه بمصل دون مصل. قال ابن عبد البر في التمهيد: وقال آخرون: لا يترك أحد من المأمومين قراءة فاتحة الكتاب فيما جهر الإمام بالقراءة، لأن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" عام لا يخصه شيء، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يخص بقوله ذلك مصلياً من مصل-انتهى. وقال الكرماني في شرح صحيح البخاري: وفي الحديث دليل على أن قراءة الفاتحة واجبة على الإمام والمنفرد والمأموم في الصلوات كلها-انتهى. ولأن لفظ صلاة في قوله: "لا صلاة" عام فيشمل كل صلاة فرضاً كانا أو نفلاً، سرية كانت أو جهرية، صلاة الإمام كانت أو صلاة المأموم أو صلاة المنفرد. قال الحافظ في الفتح تحت حديث عبادة: واستدل به على وجوب قراءة الفاتحة على المأموم سوى أسر الإمام أم جهر؛ لأن صلاته صلاة حقيقة فتنتفي عند انتفاء القراءة-انتهى. وتخصيص من خص هذا الحديث بالإمام والمنفرد مما لا يلتفت إليه؛ لأن لا دليل على هذا التخصيص لا من كتاب ولا من سنة، وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يخص إلا بدليل من الكتاب والسنة، ولا يجوز تخصيصه بقول أحد كائناً من كان. قال الخطابي بعد ذكر ما رواه أبوداود عن عبادة يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصاعداً. قال سفيان لمن يصلي وحده

متفق عليه. وفي رواية لمسلم: ((لمن لم يقرأ بأم القرآن فصاعداً)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ ما لفظه: قلت هذا عموم لا يجوز تخصيصه إلا بدليل-انتهى. وقيل: أراد سفيان بذلك قوله: "فصاعدا" كأنه خص ما يفهم منه من قراءة ما زاد على الفاتحة بالفذ والمنفرد، ويؤيده الأحاديث التي فيها المنع للمأموم من قراءة غير الفاتحة. وأما الاستدلال على التخصيص بقوله تعالى: {إذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} [7: 204] وبقوله عليه السلام: وإذا قرئ فأنصتوا، وبما روي: "من كان له إمام فإن قراءته له قراءة" فسيأتي الجواب عنه. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم. وأخرجه البيهقي في كتاب القراءة بلفظ: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب خلف الإمام" قال: إسناده صحيح، والزيادة التي فيه صحيحة مشهورة من أوجه كثيرة. (وفي رواية لمسلم) والنسائي من طريق معمر عن الزهري. (لمن لم يقرأ بأم القرآن) سميت بها لكونها أصلاً ومنشأ له، إما لمبدئيتها له وإما لاشتمالها على ما فيه من الثناء على الله عزوجل والتعبد بأمره ونهيه، وبيان وعده ووعيده، أو على جملة معانيه من الحكم النظرية والأحكام العملية. (فصاعداً) من الصعود وهو الارتفاع من سفل إلى علو، والصاعد اسم فاعل منه، ومعنى الصاعد هنا الزائد، وهو منصوب على الحال بفعل واجب الإضمار، أي فصعد القراءة صاعداً، يقال: أخذته بدرهم فصاعداً، نصب صاعدا في قولهم هذا على الحال، وحذف صاحب الحال والعامل فيه تخفيفا لكثرة الاستعمال، والتقدير: أخذته بدرهم فذهب الثمن صاعداً، فالثمن صاحب للحال، والفعل الذي هو"ذهب" العامل في الحال. قال في الحاشية العصامية على الفوائد الضيائية قوله: ويجب حذف العامل، الخ. وكذا في حال تبين ازدياد ثمن أو غيره مما دخله الفاء أو ثم نحو: بعته بدرهم فصاعداً، وقرأت جزأ من القرآن فصاعداً، أي فذهب القراءة في الصعود يعنى ذهبت القراءة الزائدة، وبنحوه ذكر الرضي في شرح الكافية. (ص153) ، وسيبوية في الكتاب. (ج1: ص147) وهذا اللفظ لا يتغير سواء كان حالاً من مذكر أو مؤنث، وتقدير الكلام: لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن فقط أو بأم القرآن في حال كون قراءته زائدة على أم القرآن. والمراد أن أقل ما تجزئ به الصلاة وأدنى ما يترتب عليه الجواز الفاتحة فإن زاد فهو حسن. وقيل: صاعداً صفة وقعت مقام المصدر. كما تقول: قم قائماً، وقع قائماً موضع قياماً، وعلى هذا فصاعدا منصوب على أنه مفعول مطلق لفعل مقدر، أي اصعد صاعداً، أي إلى ما عدا أم القرآن، يعني اقرأ قراءة زائدة على الفاتحة لكن الأمر بقراءة ما زاد على الفاتحة ليس للوجوب لما سيأتي من الأحاديث الدالة على عدم وجوب ما زاد، والفاء في الصورة زائدة لكنها لازمة؛ لأنه لم ترد هذه الكلمة في لغة العرب إلا بالفاء أو بثم، وفي الصورة الأولى عاطفة، والعطف لا يقتضي التشريك من كل الوجوه فهو من عطف غير الواجب على الواجب، والمقصود حصر صحة الصلاة في الفاتحة سواء كان معها سورة أخرى أو لا. وقيل: تقدير الكلام فما كان صاعداً فهو أحسن وعلى هذا"صاعداً" خبر لكان المحذوف. قال بعض الحنفية: قوله: "فصاعداً" يدل على أن قراءة ما زاد على الفاتحة من السورة واجبة في الصلاة، وعند الجمهور ليس هذا الحكم إلا لمن كان إماماً أو يصلي وحده، لا على المأموم. فكذلك يحمل حكم قراءة الفاتحة عليهما لا على المأموم، ويؤيد ما روى أحمد وغيره عن أبي هريرة أن

النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يخرج فينادي: لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب وما زاد. وأخرج أبوداود وغيره عن أبي سعيد، قال: أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر-انتهى. قلت: الاستدلال بقوله:: "فصاعداً" على وجوب ما زاد على الفاتحة وجعله قرينة لحمل قوله: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" على الإمام والمنفرد خاصة دون المقتدي، ليس بصحيح، فإن هذه الزيادة معلولة. قال في التلخيص (ص87) : قال ابن حبان: تفرد بها معمر عن الزهري وأعلها البخاري في جزء القراءة- انتهى. قلت: قال البخاري في جزء القراءة (ص2) : عامة الثقات لم يتابع معمراً في قوله: "فصاعداً" وقوله: "فصاعداً" غير معروف. ويقال: إن عبد الرحمن بن إسحاق تابع معمراً، وأن عبد الرحمن ربما روى عن الزهري ثم أدخل بينه وبين الزهري غيره، ولا نعلم أن هذا من صحيح حديثه أم لا. وقال (ص17) : وليس هذا يعني عبد الرحمن بن إسحاق ممن يعتمد على حفظه إذا خالف من ليس بدونه، وقال إسماعيل بن إبراهيم: سألت أهل المدينة عن عبد الرحمن فلم يحمد مع أنه لا يعرف له بالمدينة تلميذاً إلا أن موسى الزمعي روى عنه أشياء في عدة منها اضطراب – انتهى. وأما ما ذكر من متابعة سفيان بن عيينة عن الزهري عن أبي داود، ففيه أن هذا الحديث من هذا الطريق أعنى من طريق سفيان بن عيينة عن الزهري أخرجها البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارقطني وابن أبي شبة وأبوعوانة وغيرهم، لكن ليس في رواية واحد منهم هذه الزيادة، وأيضاً قد روى البخاري في جزء القراءة حديث عبادة من طريق سفيان، ثم ذكر زيادة معمر هذه، وقال: عامة الثقات لم يتابع معمراً في قوله: "فصاعداً"، فهذا يدل على أن هذه الزيادة لم يعرفها البخاري في رواية سفيان، فالظاهر أن زيادة قوله: "فصاعداً" في رواية سفيان وهم من أبي داود أو ممن فوقه بأن أدرج زيادة معمر في رواية سفيان، ولا بُعد فيه فإن الثقة قد يهم. وأما ما قيل من أن زيادة قوله: "فصاعداً" زيادة ثقة غير منافية لمن هو أوثق منه فتقبل، ففيه أن قبول الزيادة من الثقة ليس مجمعاً عليه بل فيه خلاف مشهور، فمن الناس من يقبل زيادة الثقة مطلقاً، ومنهم من لا يقبلها. قال الزيلعي في نصب الراية. (ج1: ص336) : والصحيح التفصيل، وهو أنها تقبل في موضع دون موضع، ومن حكم في ذلك حكماً عاماً فقد غلط، بل كل زيادة لها حكم يخصها، ففي موضع يجزم بصحتها، وفي موضع يغلب على الظن صحتها، وفي موضع يجزم بخطأها كزيادة معمر ومن وافقه قوله: "وإن كان مائعاً فلا تقربوه" وإن كان معمر ثقة، فإن الثقة قد يغلط، وفي موضع يغلب على الظن خطأها كزيادة معمر في حديث ماعز الصلاة عليه، رواها البخاري في صحيحه، وسئل هل رواها غير معمر؟ فقال: لا. وقد رواه أصحاب السنن الأربعة عن معمر: وقال فيه: "ولم يصل عليه" فقد اختلف على معمر في ذلك، والراوي عن معمر هو عبد الرزاق، وقد اختلف عليه أيضاً، والصواب أنه قال: "ولم يصل عليه". وفي موضع يتوقف في الزيادة كما في أحاديث كثيرة – انتهى كلام الزيلعي مختصراً. ومما يجب التنبه عليه أن الإطلاع على وهم الثقة وخطئه، والحكم بكون

الزيادة من الثقة صحيحة في موضع، وخطأ ووهماً في موضع، وكذا التوقف في أمرها في موضع، ليس إلا من شأن البخاري وأمثاله ممن رزقهم الله فهما ثاقباً، وحفظاً واسعاً، ومعرفة تامة بمراتب الرواة، وملكة قوية بالأسانيد والمتون، فلا يقبل في ذلك إلا قول البخاري، ومن كان من أهل هذا الشأن كعلي بن المديني، وأحمد بن حنبل، وأبي زرعة، والدارقطني وأبي حاتم وأمثالهم. وإذا كان الأمر كذلك فكون زيادة قوله: "فصاعداً" معلولة غير صحيحة، هو الراجح بل هو المتعين. ولو سلم صحتها فليست فيها دلالة على أن قراءة ما زاد على الفاتحة واجبة. قال الحافظ في الفتح: استدل به على وجوب قدر زائد، وتعقب بأنه ورد لدفع توهم قصر الحكم على الفاتحة. قال البخاري في جزء القراءة: هو نظير قوله: تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا- انتهى. يعني أن قوله: "فصاعداً" لبيان أدنى ما يترتب عليه الحكم مع شموله على فائدة أخرى وهي دفع توهم قصر الحكم على ما قبله، فكما أن ربع الدينار أدنى ما تقطع به اليد كذلك قراءة الفاتحة أدنى ما تجزئ به الصلاة، ولا يقتصر حكم صحة الصلاة على الفاتحة، بل تصح الصلاة في صورة الزيادة على الفاتحة أيضاً. وقال المظهر: قوله: "فصاعداً" أي فزائدا، وهو منصوب على الحال أي لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن فقط، أو بأم القرآن حال كون قراءته زائدة على أم القرآن- انتهى. وهذا يدل على أنه فهم منه التخيير فيما زاد على الفاتحة. وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي في أشعة اللمعات في تفسير قوله: "فصاعداً": بس بخواند فوق فاتحة وزيادة برآن، يعني فاتحة البتة مي بايد خواند، ومقتصر بر فاتحة هم نيست، واكر جيزبـ زيادة كند نيز درست است-انتهى. وقال السندي في حاشية النسائي: لعلهم أي الذين ذهبوا إلى عدم وجوب ما زاد على الفاتحة يحملونه على معنى: "فما كان صاعداً فهو أحسن" والله أعلم. وقال صاحب العرف الشذى (ص145) : زعم الأحناف مراد الحديث وجوب الفاتحة ووجوب ضم السورة، ولكنه يخالف اللغة، فإن أرباب اللغة متفقون على أن ما بعد الفاء يكون غير ضروري، وصرح به سيبوية في باب الإضافة-انتهى. ومما يدل على كون قوله: "فصاعداً" لدفع توهم قصر الحكم وعدم وجوب ما زاد، ما روى ابن أبي شيبة عن عائشة مرفوعاً: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب وآيتين فصاعداً". وعن عمران بن حصين قال: "لا يجوز صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب وآيتين فصاعداً. وروى ابن عدي عن ابن عمر: "لا تجزئ المكتوبة إلا بفاتحة الكتاب وثلاث آيات فصاعداً" كذا في كنز العمال. (ج4: ص96) وهذه الروايات وإن كانت ضعيفة لكنها تؤيد ما تقدم من أن قوله: "فصاعداً" لدفع توهم قصر الحكم على ما قبله، وأنه ليس فيه دلالة على وجوب ما زاد على الفاتحة. وأما حديث أبي هريرة بلفظ: "لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب وما زاد" فهو ضعيف، فإن مداره على جعفر بن ميمون، وقال أحمد فيه: ليس بقوي في الحديث. وقال ابن معين: ليس بذلك. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال البخاري: ليس بشيء. وذكره يعقوب بن سفيان في باب من يرغب عن الرواية عنهم. وقال العقيلي في روايته عن أبي عثمان،

829- (2) وعن أبي هريرة، قال ((قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ـــــــــــــــــــــــــــــ عن أبي هريرة في الفاتحة: لا يتابع عليه. وأما حديث أبي سعيد بلفظ: "أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر". فقد صحح الحافظ سنده في الفتح والتلخيص لكن فيه نظر؛ لأن فيه قتادة وهو مدلس، وهو روى الحديث عن أبي نضرة بالعنعنة، فإن كان روايته عنه عند غير أبي داود بالتحديث فهي صحيحة، وإلا ففي صحتها نظر. قال البخاري في جزء القراءة: روى همام، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، قال: أمرنا نبينا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر، ولم يذكر قتادة سماعاً من أبي نضرة في هذا-انتهى. وأيضاً قد عارض حديثي أبي هريرة وأبي سعيد ما رواه الحاكم عن عبادة مرفوعاً: أم القرآن عوض عن غيرها وليس غيرها عوضاً منها. ذكره الحافظ في التلخيص. قال: وله شواهد فساقها. وما رواه ابن خزيمة عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام فصلى ركعتين، لم يقرأ فيهما إلا بفاتحة الكتاب. ذكره الحافظ في الفتح. وما رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة يقول: في كل صلاة يقرأ، فما أسمعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسمعناكم وما أخفى عنا أخفينا عنكم، وإن لم تزد على أم القرآن أجزأت وإن زدت فهو خير-انتهى. وعلى هذا فلا يصح الاستدلال بقوله: "وما زاد وما تيسر" على وجوب قراءة ما زاد على الفاتحة، ولا يكون هو قرينة لحمل حكم قراءة الفاتحة للإمام والمنفرد دون المقتدي. واعلم أنه ضم السورة مع الفاتحة ليس بواجب عند الجمهور بل هو مستحب. قال الشيخ سلام الله الدهلوي في المحلى شرح المؤطا: قال الجمهور: إن ضم السورة بعد الفاتحة سنة، وبه قال الشافعي، ومالك، وأحمد-انتهى. وقال الحافظ في الفتح: وفيه. (أى في حديث أبي هريرة: وإن لم تزد على أم القرآن أجزأت، الخ) استحباب السورة أو الآيات مع الفاتحة، وهو قول الجمهور في الصبح والجمعة والأوليين من غيرهما، وصح إيجاب ذلك عن بعض الصحابة وهو عثمان بن أبي العاص، الخ. وبهذا ظهر أن ما تقدم من بعض الحنفية نسبة القول بوجوب ما زاد على الفاتحة من السورة إلى الجمهور ليس بصحيح. 829- قوله: (من صلى) إماماً كان، أو مأموماً، أو منفرداً (صلاة) جهرية كانت أوسرية، فريضة أو نافلة. (لم يقرأ فيها بأم القرآن) أي فاتحة الكتاب. (فهي) أي صلاته. (خداج) بكسر الخاء المعجمة، أي ناقص نقص فساد وبطلان. قال المناوي في شرح الجامع الصغير: أي ذات خداج- بكسر الخاء- مصدر خدجت الناقة إذا ألقت ولدها ناقصاً فلا تصح، فاستعير للناقص، أي فصلاته ذات نقصان، أو خديجة: ناقصة نقص فساد وبطلان – انتهى. وقال العزيزي: فهي خداج – بكسر المعجمة -، أي فصلاته ذات نقصان نقص فساد وبطلان، فلا تصحح الصلاة بدونها ولو لمقتد عند الشافعي وجمهور العلماء. وقال الزمخشري في أساس البلاغة: ومن المجاز خدج الرجل فهو خادج إذا نقص عضو منه، وأخدجه الله فهو مخدج، وكان ذو الثدية مخدج اليد، وأخدج صلاته نقص بعض أركانها، وصلاتي مخدجة

- ثلاثاً- غير تمام. فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام. قال: اقرأ بها في نفسك، ـــــــــــــــــــــــــــــ وخادجة وخداج وصفاً بالمصدر-انتهى. وقال الخطابي في معالم السنن (ج1: ص203) : فهي خداج معناه ناقصة نقص فساد وبطلان، تقول العرب: أخدجت الناقة إذا ألقت ولدها وهو دم لم يستبن خلقه فهي مخدج، والخداج اسم مبني منه-انتهى. وقال البخاري في جزء القراءة: قال أبوعبيد: أخدجت الناقة إذا أسقطت، والسقط ميت لا ينتفع به-انتهى. وقال الجزري: الخداج النقصان، يقال: خدجت الناقة إذا ألقت ولدها قبل أوانه وإن كان تام الخلق، وأخدجته إذا ولدته ناقص الخلق، وإن كان لتمام الحمل-انتهى. وقال جماعة من أهل اللغة: خدجب (كنصر وضرب) وأخدجت إذا ألقت ولدها قبل أوانه لغير تمام أيام الحمل وإن كان تام الخلق. قلت: والمراد من إلقاء الناقة ولدها لغير تمام الحمل وإن تم خلقه إسقاطها، والسقط ميت لا ينتفع به كما عرفت، فظهر من هذا كله أن المراد من قوله: "خداج" نقصان الذات أعني نقصان الفساد والبطلان، ويدل عليه ما رواه البيهقي في كتاب القراءة عن أبي هريرة مرفوعاً: لا يجزىء صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب، قلت: فإن كنت خلف الإمام؟ قال: فأخذ بيدي وقال: اقرأ في نفسك يا فارسي!. قال البيهقي: رواه ابن خزيمة عن محمد بن يحيى محتجاً به على أن قوله في سائر الروايات: "فهي خداج" المراد به النقصان الذي لا تجزئ معه-انتهى. قال ابن عبد البر في الاستذكار: في حديث أبي هريرة هذا من الفقة إيجاب القراءة بالفاتحة في كل صلاة، وأن الصلاة إذا لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج، والخداج النقصان والفساد، من ذلك قولهم أخدجت الناقة إذا ولدت قبل تمام وقتها وقبل تمام الخلقة، وذلك نتاج فاسد. وقال الأخفش: خدجت الناقة إذا ألقت ولدها لغير تمام، وأخدجت إذا قذفت به قبل وقت الولادة وإن كان تام الخلق، وقد زعم من لم يوجب قراءة الفاتحة في الصلاة أن قوله: "خداج" يدل على جواز الصلاة؛ لأنه النقصان، والصلاة الناقصة جائزة، وهذا تحكم فاسد، والنظر يوجب في النقصان أن لا تجوز معه الصلاة؛ لأنها صلاة لم تتم، ومن خرج من صلاته قبل أن يتمها فعليه إعادتها تامة كما أمر، ومن ادعى أنها تجوز مع إقرار بنقصها فعليه الدليل ولا سبيل له إليه من وجه يلزم-انتهى. (ثلاثاً) أي قالها ثلاثاً. (غير تمام) بيان خداج أو بدل منه، وقيل تأكيد. قال الزرقاني: فهو حجة قوية على وجوب قراءتها في كل الصلاة _انتهى. قلت: قوله غير تمام يدل على تعين الفاتحة في الصلاة، وأنها لا يجزئ غيرها، ولا يقوم مقامها قراءة غيرها من القرآن لأن لفظ التمام يستعمل في الإجزاء، ويطلق بحسب الوضع على بعض ما لا تتم الحقيقة إلا به، ففيه دليل على كون الفاتحة من أجزاء الصلاة وأركانها. (فقيل لأبي هريرة) القائل هو أبوالسائب عبد الله بن السائب الأنصاري الراوي للحديث عن أبي هريرة، ففي رواية قال أي أبوالسائب: قلت: يأبا هريرة! (إنا نكون وراء الإمام) أي فهل نقرأ أم لا؟. (اقرأ بها في نفسك) أي سراً غير جهر، قاله القاري. وقال الباجي: أي بتحريك اللسان بالتكلم وإن لم يسمع نفسه. رواه سحنون عن ابن القاسم، قال: ولو أسمع نفسه يسيراً لكان أحب

فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله تعالى: قسمت الصلاة ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى –انتهى. وقال البيهقي في كتاب القراءة (ص17) : المراد بقوله: "اقرأ بها في نفسك" أن يتلفظ بها سراً دون الجهر بها، ولا يجوز حمله على ذكرها بقلبه دون التلفظ بها لإجماع أهل اللسان على أن ذلك لا يسمى قراءة، ولإجماع أهل العلم على أن ذكرها بقلبه دون التلفظ بها ليس بشرط ولا مسنون، فلا يجوز حمل الخبر على ما لا يقول به أحد، ولا يساعده لسان العرب- انتهى. وقال النووي: معناه اقرأ سراً بحيث يسمع نفسك، وأما ما حمله بعض المالكية وغيرهم أن المراد تدبر ذلك وتذكره فلا يقبل؛ لأن القراءة لا تطلق إلا على حركة اللسان بحيث يسمع نفسه، ولهذا اتفقوا على أن الجنب لو تدبر القرآن بقلبه من غير حركة لسانه لا يكون قارئاً مرتكباً لقراءة الجنب المحرمة-انتهى. وقال الشيخ عبد الحق الدهلوى في أشعة اللمعات: اقرأ بها في نفسك بخواني فاتحة را بس أمام نيز، أما آهسته جنانجه بشنوائي خودرا-انتهى. قلت: حقيقة القراءة في النفس هي القراءة سراً من غير جهر، قال تعالى: {اذكر ربك في نفسك} [7: 205] . قال السويطي: أي سراً. قال الجمل: أي أسمع نفسك. وقال في الهداية: إلا أن يقرأ الخطيب قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه} [33: 56] الآية، فيصلي السامع في نفسه-انتهى. قال في الكفاية: قوله: "فيصلي السامع في نفسه" أي فيصلي بلسانه خفيا-انتهى. واعلم أنه قال بعض الحنفية: أن المراد بالقراءة في النفس: أن يقرأ على وجهه وعلى حياله، لا معاملة له مع غيره، ولا يقصد إسماعه، ويكون أمير نفسه، يقرأ لنفسه يعني يقرأ حال كونه منفرداً وفذاً لا مأموماً. وتعقب بأن حقيقة القراءة في النفس إنما هي الإسرار بالقراءة لا غير، وهو الذي فهمه مالك كما يظهر من تبويبة في المؤطا على هذا الحديث، وأما ما ذكره هذا البعض فهو معنى لنفسه لا في نفسه، ولذلك لم يخطر ما قاله هذا البعض ببال أحد ممن تقدم قبله من شراح الحديث وأصحاب المذاهب مع تداول الحديث وشهرته فيما بينهم، قال النووي: قول أبي هريرة هذا يؤيد وجوب الفاتحة على المأموم-انتهى وقال شيخنا في أبكار المنن (ص139) : وفي رواية أبي عوانة: "فقلت لأبي هريرة: فإني أسمع قراءة القرآن. فغمزني بيده فقال: يا فارسي أو ابن الفارسي! اقرأ بها في نفسك. وفي رواية للبخاري في جزء القراءة قلت: يا أبا هريرة! كيف أصنع إذا كنت مع الإمام وهو يجهر بالقراءة؟ قال ويلك يا فارسي! اقرأ بها في نفسك. وكذلك في رواية للبيهقي في جزء القراءة؛ فظهر بهذه الروايات أن أبا هريرة كان يفتي بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بقراءة الفاتحة خلف الإمام في جميع الصلوات سرية كانت أو جهرية، وفي إفتاء بهذا دلالة واضحة على أن حديثه: "من صلى صلاة لم يقرأ بأم القرآن فهي خداج" باق على عمومة، شامل للإمام والمأموم والمنفرد، لأن راوي الحديث أعرف بالمراد منه من غيره-انتهى.. (فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول) هذا استدلال من أبي هريرة على ما أفتى به من القراءة للمأموم، وعدول إلى الحديث الآتي لبيان دليل آخر على وجوب الفاتحة. (قال الله تعالى: قسمت) بصيغة المتكلم. (الصلاة) بالنصب على المفعولية، قال العلماء: المراد بالصلاة هنا الفاتحة، سميت بذلك؛ لأنها لا تصح إلا بها كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الحج عرفة"، ففيه دليل على وجوبها

بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: ((الحمد لله رب العالمين)) قال الله تعالى: حمدني عبدي. وإذا قال: ((الرحمن الرحيم)) قال تعالى: أثنى علي عبدي. وإذا قال: ((مالك يوم الدين)) قال: مجدني عبدي. ـــــــــــــــــــــــــــــ بعينها في الصلاة، والمراد قسمتها من جهة المعنى؛ لأن نصفها الأول تحميد لله تعالى وتمجيده، وثناء عليه، وتفويض إليه، والنصف الثاني سؤال وطلب وتضرع وافتقار، قاله النووي. وقال السندي: وجه الاستدلال أي على افتراض قراءة الفاتحة هو أن قسمة الفاتحة جعلت قسمة للصلاة، واعتبرت الصلاة مقسومة باعتبارها، ولا يظهر ذلك إلا عند لزوم الفاتحة فيها-انتهى. وقال الخطابي في المعالم (ج1: ص203) : المراد بالصلاة القراءة، يدل على ذلك قوله عند التفسير له والتفصيل للمراد منه إذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، يقول الله: حمدني عبدي، إلى آخر السورة، وقد تسمى القراءة صلاة لوقوعها في الصلاة وكونها جزءاً من أجزائها، كقوله تعالى: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها} [17: 110] قيل: معناه القراءة. وقال: {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً} [78: 17] أراد صلاة الفجر فسمى الصلاة مرة قرآناً والقرآن مرة صلاة، لانتظام أحدهما الآخر، يدل على صحة ما قلناه قوله: "بيني وبين عبدي نصفين" والصلاة خالصة لله لا شرك فيها لأحد، فعقل أن المراد به القراءة، وحقيقة هذه القسمة منصرفة إلى المعنى، لا إلى متلو اللفظ، وذلك أن السورة من جهة المعنى نصفها ثناء ونصفها مسألة ودعاء، وقسم الثناء ينتهي إلى قوله تعالى: {إياك نعبد} وهو تمام الشطر الأول من السورة، وباقي الآية وهو قوله: {وإياك نستعين} من قسم الدعاء والمسألة، ولذلك قال: وهذه الآية بيني وبين عبدي. ولو كان المراد به قسم الألفاظ والحروف لكان نصف الآخر يزيد على الأول زيادة بينه فيرتفع معنى التعديل والتنصيف، وإنما هو قسمة المعاني كما ذكرته لك-انتهى. وقيل: التنصيف ينصرف إلى آيات السورة؛ لأنها سبع آيات، ثلاث ثناء وثلاث سؤال، والآية المتوسطة نصفها ثناء ونصفها دعاء. (ولعبدي ما سأل) أي بعينه إن كان وقوعه معلقاً على السؤال، وإلا فمثله من رفع درجة ودفع مضرة ونحوهما. وقيل المعنى: لعبدي ما سأل من أحد النصفين، فهو وعد من الله تعالى بإعطاء النصف الذي للعبد، ويحتمل أن يكون هذا وعداً لما وراء النصف الذي للعبد، يعني آذن لعبدي أن يسأل ما شاء غير النصف الذي له. (حمدني عبدي) الحمد هو الثناء على الجميل الاختياري نعمة كان أو غيرها. (أثنى على عبدي) الثناء هو ذكر الخير باللسان على جهة التعظيم. (مالك يوم الدين) أي الحساب. وقيل: الجزاء، وخص بالذكر لأن الله تعالى هو المنفرد بالملك ذلك اليوم، ويجزاء العباد وحسابهم، ولا دعوى لأحد ذلك اليوم حقيقة ولا مجازا. وأما في الدنيا فلبعض العباد ملك مجازي، ويدعى بعضهم دعوى باطلة وكل هذا ينقطع في ذلك اليوم. (مجدني) أي عظمني، والتمجيد نسبة إلى المجد وهو العظمة، أي ذكرني بالعظمة والجلال. قال النووي: قوله: "حمدني عبدي" وأثنى على ومجدني" إنما قاله؛ لأن التحميد الثناء بجميل الفعال، والتمجيد الثناء بصفات الجلال، ويقال:

وإذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين} قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل. فإذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل)) ـــــــــــــــــــــــــــــ "أثنى عليه" في ذلك كله، ولهذا جاء جواباً للرحمن الرحيم لاشتمال اللفظين على الصفات الذاتية والفعلية-انتهى. قيل: الرحمة رحمتان: رحمة ذاتية مطلقة امتنانية، وهي التي وسعت كل شيء لا سبب لها ولا موجب، وليست بمقابلة شيء، والأخرى هي الفائضة عن الرحمة الذاتية، مقيدة بشروط موجبه لها من أعمال وأحوال وغيرهما، ومتعلق طمع إبليس هو الأول. (إياك نعبد) أي نخصك للعبادة. وقدم المعمول للاختصاص والحصر. (وإياك نستعين) أي نخصك بالاستعانة على العبادة وغيرها. (هذا بيني وبين عبدي) قال القرطبي: إنما قال الله تعالى هذا لأن في ذلك تذلل العبد لله تعالى وطلبه الاستعانة منه، وذلك يتضمن تعظيم الله وقدرته على ما طلب منه. وقال الباجي: معناه أن بعض الآية تعظيم للباري، وبعضها استعانة على أمر دينه ودنياه من العبد به. (ولعبدي ما سأل) من العون وغيره. وقيل: كرره تأكيداً، والمراد هو ما ذكره أولاً. (فإذا قال) العبد. (اهدنا الصراط المستقيم) قيل: هو بيان للمعونة المطلوبة، وقيل: إفراد لما هو أعظم مقصودا، أي ثبتناً على دين الإسلام أو طريق متابعة الحبيب - عليه الصلاة والسلام - (صراط الذين أنعمت عليهم) من النبي ين والصديقين والشهداء والصالحين. (غير المغضوب عليهم) أي اليهود. (ولا الضالين) أي غير النصارى. (هذا لعبدي) أي مختص بالعبد؛ لأنه دعاء وسؤال يعود نفعه إلى العبد. (ولعبدي ما سأل) أي غير هذا، والمعنى: هذا متحقق وثابت لعبدي، وغيره مما يسأله موعود إجابته. والحديث قد استدل به على أن البسملة ليست من الفاتحة؛ لأن الفاتحة سبع آيات بالإجماع فثلاث في أولها ثناء، أولها: {الحمدلله} وثلاث دعاء، أولها: {اهدنا الصراط المستقيم} والرابعة متوسطة، وهي: {إياك نعبد وإياك نستعين} ؛ ولأنه لم يذكر البسملة في ما عددها ولو كانت منها لذكرها. ولأنه بدأ القراءة بالحمد لله رب العالمين، ولو كانت البسملة منها لابتدأ بها؛ لأن هذا محل بيان واستقصاء لآيات السورة، والحاجة إلى قراءة البسملة أمس. وأجيب: بأن التنصيف عائد إلى ما يختص بالفاتحة من الآيات الكاملة، وبأن معناه: فإذا انتهى العبد في قراءته إلى: {الحمد لله رب العالمين} فحينئذٍ تكون القسمة، وبأنه جاء في بعض الروايات عنه ذكر التسمية كما أخرجه الدارقطني عن أبي هريرة مرفوعاً، وهذه الرواية وإن كان فيها ضعف ولكنها مفسرة لحديث مسلم أنه أراد السورة لا الآية. قلت: رواية الدارقطني هذه ضعيفة جداً، بل زيادة البسملة فيها باطلة قطعاً، فإن مدارها على عبد الله بن زياد بن لمعان، وهو متروك الحديث، متهم بالكذب، مجمع على ضعفه. قال مالك وابن معين: كان كذاباً. وقال أبوداود: متروك الحديث كان من الكذابين. وقد ذكر الدارقطني هذه الرواية في علله، وأطال فيها الكلام، ولخصه الزيلعي في

رواه مسلم. 830- (3) وعن أنس ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر، رضي الله عنهما، كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ نصب الراية (ج1: ص340) فارجع إليه. (رواه مسلم) وأخرجه أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وأخرجه ابن ماجه مختصراً. 830- قوله: (كانوا يفتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين) بضم الدال على الحكاية، واختلف في المراد بذلك فقيل: المعنى كانوا يبتدؤن الصلاة بقراءة الفاتحة قبل السورة، وهذا قول من أثبت البسملة في أول الفاتحة. قال الشافعي في الأم بعد رواية الحديث: يعني يبدؤن بقراءة أم القرآن قبل ما يقرأ بعدها، والله تعالى أعلم، لا يعني أنهم يتركون: "بسم الله الرحمن الرحيم". وإلى هذا المعنى أشار النسائي حيث عقد على هذا الحديث: باب البداءة بفاتحة الكتاب قبل السورة. وتعقب: بأنها إنما تسمى الحمد فقط. وأجيب: بمنع الحصر ومستنده ثبوت تسميتها بهذه الجملة وهي: "الحمدلله رب العالمين" في صحيح البخاري. أخرجه في فضائل القرآن من حديث أبي سعيد بن المعلى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن ... فذكر الحديث، وفيه قال: "الحمد لله رب العالمين" هي السبع المثاني، وقيل: المعنى كانوا يفتتحون بهذا اللفظ تمسكاً بظاهر الحديث، وهذا قول من نفى قراءة البسملة لكن لا يلزم من قوله: "كانوا يفتتحون بالحمد" أنهم لم يقرؤا: "بسم الله الرحمن الرحيم"سرا. وقد أطلق أبوهريرة السكوت على القراءة سراً. واعلم أنهم اختلفوا في قراءة البسملة في الصلاة بعد دعاء الافتتاح، فعن الشافعي: تجب وجوب الفاتحة، وعن مالك: يكره، وعن أبي حنيفة: تستحب، وهو المشهور عن أحمد. ثم اختلفوا، فعن الشافعي يسن الجهر، وعن أبي حنيفة لا يسن، وعن إسحق بن راهوية مخير بينهما، وإليه ذهب ابن حزم، وهو المرجح عندنا. وسبب هذا الاختلاف ما روي من الأحاديث المختلفة في هذا وحديث الباب قد استدل بظاهره من نفي التسمية أصلاً سراً وجهراً، وقد أسلفنا ما في هذا الاستدلال من الخدشة، وهي أنه لا يلزم منه نفي قراءة البسملة سراً؛ لأنه يشمل نفي الجهر أيضاً فافهم. وأيضاً قد كثرت الروايات عن أنس في هذا واضطربت نفياً وإثباتاً في الجهر بالتسمية، أو الإسرار، أو القراءة، أو نفيها. وفي بعضها: أن أنساً أخبر سائلة بأنه نسي ذلك، ولا شك أن روايات الإثبات أرجح وأقوى فهي المعتمد. وقد بسط العلماء الكلام في بيان الاضطراب ونفيه في حديث أنس إن شئت الوقوف عليه فارجع إلى نصب الراية، والفتح، وشرح المؤطا للزرقاني، وتنوي الحوالك، وتدريب الراوي للسيوطي. وقد أعله بعضهم بهذا الاضطراب كابن عبد البر حيث قال: اختلفت ألفاظها اختلافاً كثيراً مضطرباً، ثم ذكر الاختلاف وقال بعد بسطه: وهذا اضطراب لا تقوم معه حجة لأحد من الفقهاء، وحاول بعضهم الجمع، وسلك بعضهم مسلك الترجيح. قال الحافظ: والذي يمكن أن يجمع به مختلف ما نقل عنه

أنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يجهر بها، فحيث جاء عن أنس، أنه كان لا يقرأها، مراده نفي الجهر، وحيث جاء عنه إثبات القراءة فمراده السر، وقد ورد نفي الجهر عنه صريحاً فهو المعتمد. وقول أنس في رواية مسلم: لا يذكرون: "بسم الله الرحمن الرحيم" في أول قراءة ولا في آخرها. محمول على نفي الجهر أيضاً؛ لأنه الذي يمكن نفيه، واعتماد من نفي مطلقاً بقول: "كانوا يفتتحون القراءة بالحمد" لا يدل على ذلك؛ لأنه ثبت أنه كان يفتتح بالتوجه، وسبحانك اللهم، وباعد بيني وبين خطاياي، وبأنه كان يستعيذ، وغير ذلك من الأخبار الدالة على أنه قدم على قراءة الفاتحة شيئاً بعد التكبير، فيحمل قوله: "يفتتحون" أى الجهر، لتأتلف الأخبار-انتهى. وقال من سلك مسلك الترجيح: أن رواية الباب أصح الروايات عن أنس، قال الدارقطني: هو المحفوظ عن قتادة وغيره عن أنس، وقد اتفق البخاري ومسلم على إخراج هذه الرواية لسلامتها من الاضطراب. قال الزيلعي: وهذا اللفظ هو الذي صححه الخطيب وضعف ما سواه لرواية الحافظ له عن قتادة، ولمتابعة غير قتادة له عن أنس فيه، وجعله اللفظ المحكم عن أنس، وجعل غير متشابهاً، وحمله على الافتتاح بالسورة لا بالآية-انتهى. وأما ما روى مسلم عنه بلفظ: "صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان، فلم أسمع أحداً منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم". وفي أخرى له: كانوا يفتتحون بالحمد لله رب العالمين، لا يذكرون: "بسم الله الرحمن الرحيم" في أول قراءة ولا في آخرها. فقد اضطرب أكثرهم فيه، ولذلك امتنع البخاري من إخراجه وهو من مفاريد مسلم. وأجاب بعض الشافعية عن روايتي مسلم بأن كلاً منهما رواية للفظ الأول بالمعنى الذي عبر عنه الراوي بما ذكر بحسب فهمه ولو بلغ الخبر بلفظه كما في البخاري لأصاب، ويؤيده ما قال العراقي في ألفيته: وعلة المتن كنفي البسملة ... ... إذ ظن راوٍ نفيه فنقله قال السخاوي في فتح المغيث (ص95) : قوله: "فنقله" مصرحاً بما ظنه فقال: لا يذكرون: "بسم الله الرحمن الرحيم" في أول قراءة ولا في آخرها. وفي لفظ: "فلم يكونوا يفتتحون ببسم الله"، وصار بمقتضى ذلك حديثاً مرفوعاً. والراوي لذلك مخطئ في ظنه-انتهى. تنبيه: اعلم أنهم اختلفوا في أن: "بسم الله الرحمن الرحيم" آية من الفاتحة فقط، أو آية من كل سورة من سور القرآن سوى براءة، أو هي جزء من آية، أو هي آية مستقلة نزلت مع كل سورة سوى براءة لافتتاحها وللفصل بينها وبين غيرها، أو ليست آية أصلاً لا من الفاتحة ولا من كل سورة، قيل: إن من رأى أنها آية من الفاتحة أوجب قراءتها بوجوب قراءة الفاتحة عنده في الصلاة، ومن رأى أنها آية من أول لكل سورة وجب عنده أن يقرأها مع السورة. وقيل مسألة الجهر بالبسملة في الصلاة ليست مرتبة على مسألة إثبات البسملة من الفاتحة. قال اليعمري: إن جماعة ممن يرى الجهر بها لا يعتقدونها قرآناً، بل هي من السنن عندهم كالتعوذ والتأمين، وجماعة ممن يرى الإسرار بها يعتقدونها قرآناً. ولهذا قال النووي: إن مسألة الجهر ليست مرتبة على مسألة إثبات البسملة، وهذه المسألة من أهم مسائل الخلاف بين القراء

والمحدثين والفقهاء، وألف فيها الكثيرون كتبا خاصة، وأفردوها بتصانيف مستقلة، فمن ذلك كتاب: "الإنصاف فيما بين العلماء من الاختلاف" لابن عبد البر المالكي، وهو جزء في. (42) صفحة، وقد طبع في مصر، وكتاب لعبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي، ذكره النووي في المجموع، وقال: إنه مجلد كبير، ولخص أهم ما فيه، وألف فيها أيضاً ابن خزيمة وابن حبان والدارقطني والبيهقي والخطيب، وقد جمع الزيلعي في نصب الراية أكثر ما ورد فيها من الآثار والأقاويل في مقدار يصلح كتاباً مستقلاً (ج1: ص323-363) من طبعة مصر، وكذلك النووي في المجموع، كتب فيها مقدارا وافياً. وكذلك الشوكاني في شرح المنتقي، بسط الكلام فيها. (ج2: ص89-101) والذي تحصل لنا من الأقوال في البسملة أربعة: أحدها أنها ليست من القرآن أصلاً إلا في سورة النمل، نقل هذا عن مالك والأوزاعي، وحكاه الطحاوي عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، وهو رواية عن أحمد وهو قول لبعض أصحابه، واختاره ابن قدامة في المغني. والثاني أنها آية من كل سورة سوى براءة أو بعض آياته، وهو المشهور عن الشافعي وأصحابه، وهو رواية عن أحمد. والثالث أنها آية في أول الفاتحة، وليست قرآناً في أوائل باقي السور، وهو قول أحمد وإسحق وأبي عبيد وأهل الكوفة، وأهل مكة، وأهل العراق، وهو أيضاً رواية عن الشافعي. والرابع أنها آية مستقلة من القرآن في كل موضع كتبت فيه في المصحف وليست من الفاتحة ولا من غيرها، وإنما أنزلت لافتتاح القراءة بها، وللفصل بين كل سورتين سوى ما بين الأنفال وبراءة ذهب إليه أبوبكر الرازي الجصاص، وهو المختار عند الحنفية. قال محمد بن الحسن: ما بين دفتي المصحف قرآن، وهو قول ابن المبارك، ورواية عن أحمد وداود، وقال الزيلعي في نصب الراية: وهذا قول المحققين من أهل العلم، ونسبة هذا القول إلى الحنفية استنباط فقط كما يظهر من أحكام القرآن. (ج1: ص8) لأبي بكر الجصاص. وقال شمس الأئمة السرخسي في المبسوط. (ج1: ص16) : وعن معلى قال: قلت لمحمد يعني ابن الحسن: التسمية آية من القرآن أم لا؟ قال: ما بين الدفتين كله قرآن. قلت: فلم لم تجهر؟ فلم يجبنى، فهذا عن محمد بيان أنها أنزلت للفصل بين السور، لا من أوائل السور، ولهذا كتبت بخط على حدة، وهو اختيار أبي بكر الرازي، حتى قال محمد: يكره للحائض والجنب قراءة التسمية على وجه قراءة القرآن؛ لأن من ضرورة كونها قرآناً حرمة قراءتها على الحائض والجنب، وليس من ضرورة كونها قرآنا الجهر بها كالفاتحة في الأخريين-انتهى. وقد استدل كل فريق لقوله بأحاديث، منها الصحيح المقبول، ومنها الضعيف المردود، إن شئت الوقوف عليها فارجع إلى نصب الراية للزيلعي، ونيل الأوطار للشوكاني، والسنن للدارقطني والراجح عندنا أنها آية من القرآن في كل موضع كتب فيه، والدليل على ذلك الإجماع على أن ما بين الدفتين كلام الله تعالى، والوفاق على إثباتها في المصاحف مع المبالغة في تجريد القرآن عما ليس منه حتى لم يكتب: "آمين". قال النووي في شرح مسلم. (ج1: ص172) : اعتمد أصحابنا ومن قال بأنها آية من الفاتحة أنها كتبت في المصحف بخط

رواه مسلم. 831- (4) وعن أبي هريرة، قال ((قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أمن الإمام فأمنوا، ـــــــــــــــــــــــــــــ المصحف وكان هذا باتفاق الصحابة وإجماعهم على أن لا يثبتوا فيه بخط القرآن غير القرآن، وأجمع بعدهم المسلمون كلهم في كل الإعصار إلى يومنا وأجمعوا على أنها ليست في أول براءة، وأنها لا تكتب فيها. وهذا يؤكد ما قلناه-انتهى. وقد أوضح هذا الدليل مع ذكر المذاهب العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي. (ج2: ص21، 22) فارجع إليه. وقد رجح هو كونها آية من كل سورة كتب في أولها أي من جميع سور القرآن سوى براءة. قال: لا يجوز لقارئ أن يقرأ أية سورة من القرآن سوى براءة من غير أن يبدأها بالتسمية التي هي آية منها في أولها، سواء قراءها ابتداء أم وصلها بما قبلها. وهذا الذي اختاره الشافعي رضي الله عنه-انتهى. (رواه مسلم) فيه أن حديث أنس هذا أخرجه البخاري في باب ما يقول بعد التكبير بهذا اللفظ بلا تفاوت حرف، فالأولى للمصنف أن يقول في آخره: "متفق عليه واللفظ للبخاري". وحديث أنس هذا أخرجه أيضاً مالك، والشافعي، وأحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه وغيرهم. 831- قوله: (إذا أمن الإمام) أي قال آمين. فيه مشروعية التأمين للإمام، والمشهور عن مالك وهي رواية عن أبي حنيفة: أنه لا يؤمّن، وهي رواية ابن القاسم عن مالك، وهي المعتمد عند المالكية، وفي رواية عنه أنه لا يؤمن في الجهرية ويؤمن في السرية، وأحاديث الباب ترد عليهم جميعاً. (فأمنوا) أي فقولوا آمين. والحديث قد استدل به الإمام البخاري والنسائي وابن ماجه وغيرهم على أن الإمام يجهر بالتأمين. وجه الاستدلال أنه لو لم يكن تأمين الإمام مسموعاً للمأموم لم يعلم به، وقد علق تأمينه بتأمينه. وأجيب: بأن موضعه معلوم فلا يستلزم الجهر بة. وفيه نظر لاحتمال أنه يخل به فلا يستلزم علم المأموم به. وقد روى روح بن عبادة عن مالك في هذا الحديث عن ابن شهاب: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قال: ((ولا الضالين)) جهر بآمين. أخرجه السراج، ولابن حبان في هذا الحديث قال ابن شهاب: كان إذا فرغ من قراءة أم القرآن رفع صوته وقال: آمين. قاله الحافظ. وقال الخطابي في المعالم. (ج1: ص223) : فيه دليل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يجهر بآمين، ولولا جهره لم يكن لمن يتحرى متابعته في التأمين على سبيل المداركة طريق إلى معرفة، فدل أنه كان يجهر به جهرا يسمعه من وراءه، وقد روى وائل بن حجر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قرأ: ((ولا الضالين)) قال آمين ورفع بها صوته –انتهى. وقال السندي في حاشية النسائي وابن ماجه: قوله: "إذا أمن القارئ" أخذ منه المصنف الجهر بآمين، إذ لو أسر الإمام بآمين لما علم القوم بتأمين الإمام، فلا يحسن الأمر إياهم بالتأمين عند تأمينه، وهذا استنباط دقيق يرجحه ما جاء من التصريح بالجهر، وهذا هو الظاهر المتبادر، نعم قد يقال: يكفي في الأمر معرفتهم لتأمين الإمام بالسكوت عن القراءة، لكن تلك معرفة ضعيفة، بل كثيراً ما يسكت الإمام عن القراءة ثم يقول بآمين، بل الفضل بين القراءة والتأمين هو

فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه. وفي رواية، قال: ((إذا قال الإمام {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} فقولوا: آمين. ـــــــــــــــــــــــــــــ اللائق فيتقدم تأمين المقتدي على تأمين الإمام إذا اعتمد على هذه الأمارة-انتهى. وقال شيخنا في أبكار المنن (ص170) : إذا أسر الإمام التأمين لا يعلم المأموم تأمينه، فكيف يوقع المأموم تأمينه مع تأمين الإمام؟ وكيف يتوافق تأمينهما معاً؟ وليس من اللازم حينئذٍ أن يقع تأمينه مع تأمينه، بل يمكن أن يقع معه أو قبله أو بعده، وأما إذا جهر الإمام بالتأمين فيعلم المأموم تأمينه، فحينئذٍ يوقع تأمينه مع تأمينه، فيوافق تأمينهما معاً قطعاً-انتهى. واستدل بقوله: "فأمنوا" على تأخير تأمين المأموم عن تأمين الإمام؛ لأنه رتب عليه بالفاء، لكن المراد عند الجمهور المقارنة لما سيأتي. والمعنى: أمنوا مقارنين له. وعلله إمام الحرمين بأن التأمين لقراءة الإمام لا لتأمينه، فلذلك لا يتأخر عنه. وظاهر سياق الأمر أن المأموم إنما يؤمن إذا أمن الإمام لا إذا ترك. ونص الشافعي في الأم على أن المأموم يؤمن، ولو تركه الإمام سهواً أو عمداً، وهذا هو الحق للرواية التالية. ثم إن هذا الأمر عند الجمهور للندب، وحكى ابن بزيزة عن بعض أهل العلم وجوبه على المأموم عملاً بظاهر الأمر، قال: وأوجبه الظاهرية على كل مصل، ثم في مطلق أمر المأموم بالتأمين أنه يؤمن ولو كان مشتغلاً بقراءة الفاتحة. (فإنه من وافق) المراد بالموافقة الموافقة في القول والزمان، يدل عليه الرواية الآتية: "من وافق قوله قول الملائكة" خلافاً لمن قال: المراد الموافقة في الإخلاص والخشوع، كابن حبان وغيره. (تأمينه تأمين الملائكة) قيل: المراد بالملائكة الحفظة، وقيل: الذين يتعاقبون منهم، إذا قلنا إنهم غير الحفظة. وقيل: من يشهد تلك الصلاة من الملائكة ممن في الأرض أو في السماء. وقيل: الأولى حمله على الأعم؛ لأن اللام للاستغراق فيقولها الحاضرون ومن فوقهم إلى الملأ الأعلى. (غفر له ما تقدم من ذنبه) ظاهره غفران جميع الذنوب الماضية، وهو محمول عند العلماء على الصغائر، وقيل: إن المكفر ليس التأمين الذي هو فعل المؤمن، بل وفاق الملائكة، وليس ذلك إلى صنعه، بل فضل من الله بمجرد وفاق، فيعم الكبائر والصغائر، لكن خص منها حقوق الناس. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً مالك وأحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم. (وفي رواية) أي متفق عليها. (قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -. (إذا قال الإمام: غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا: آمين) استدل به المالكية على أن الإمام لا يؤمن؛ لأن القسمة تنافي الشركة، وفيه أن هذه الرواية لا تدل على أن الإمام لا يؤمن، بل هي ساكتة عنه نفياً وإثباتاً، والرواية المتقدمة نص في معناه، وزاد في رواية أحمد والنسائي وابن حبان: أن الإمام يقول آمين، وهو نص لا يحتمل التأويل. ثم إن ظاهر الرواية الأولى من الحديث أن المؤتم يوقع التأمين عند تأمين الإمام، وظاهر الرواية منه أنه يوقعه عند قول الإمام: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} [1: 7] وجمع الجمهور بين الروايتين بأن المراد بقوله: "إذا أمن" أي أراد التأمين ليقع تأمين الإمام والمأموم

معاً، فإنه يستحب فيه المقارنة، يدل على هذا ما رواه أحمد والنسائي والسراج بلفظ: "إذا قال الإمام: غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين، فإن الملائكة تقول: آمين، وإن الإمام يقول: آمين، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه". وقيل: الأول لمن قرب عن الإمام، والثاني لمن تباعد عنه؛ لأن جهر الإمام بالتأمين أخفض من جهره بالقراءة. وقيل: يؤخذ من الروايتين تخيير المأموم في قولها مع الإمام أو بعده، قاله الطبري. وقيل: لا حاجة إلى الجمع بين الروايتين؛ لأن الجمع والتوفيق فرع التعارض والتخالف، ولا تخالف بين الروايتين، فإن المراد بقوله: "إذا قال الإمام: غير المغضوب عليهم ولا الضالين" أي وقال: آمين فقولوا آمين، أي مع تأمين الإمام، يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: فإن الملائكة تقول: آمين، وإن الإمام يقول آمين، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه. قال الحافظ: وهو دال على أن المراد الموافقة في القول والزمان- انتهى. وهذا هو المراد بقوله: "إذا أمن الإمام فأمنوا، أي فقولوا آمين مقارنين بتأمينه. قال الخطابي في المعالم. (ج1: ص224) : معنى قوله: "إذا قال الإمام ولا الضالين، فقولوا آمين" أي مع الإمام، حتى يقع تأمينكم وتأمينه معاً، فأما قوله: إذا أمن الإمام فأمنوا. فإنه لا يخالفه ولا يدل على أنهم يؤخرونه عن وقت تأمينه، وإنما هو كقول القائل: إذا رحل الأمير فارحلوا، يريد إذا أخذ الأمير في الرحيل فتهيئوا للإرتحال، ليكون رحيلكم مع رحيله، وبيان هذا في الحديث الآخر أن الإمام يقول آمين والملائكة تقول: آمين، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه، فأحب أن يجتمع التأمينان في وقت واحد رجاء المغفرة. قال: وقد احتج بقوله: "إذا قال الإمام: غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فقولوا آمين" من ذهب إلى أنه لا يجهر بآمين، وقال ألا ترى أنه جعل وقت فراغ الإمام من قوله: "ولا الضالين" وقتاً لتأمين القوم فلو كان الإمام يقوله جهراً لا ستغنى بسماع قوله عن التحين له مراعاة وقته. قال: وهذا قد كان يجوز أن يستدل به لو لم يكن ذلك مذكوراً في حديث وائل بن حجر الذي تقدم ذكره، وإذا كان كذلك لم يكن فيما استدلوا به طائل، وقد يكون معناه: الأمر به والحض عليه إذا نسيه الإمام، يقول لا تغفلوه إذا أغفله الإمام ولا تتركوا إن نسيه، وأمنوا لأنفسكم لتحرزوا به الأجر- انتهى. وقال السندي: الأقرب أن أحد اللفظين من تصرفات الرواة وحينئذٍ فرواية: "إذا أمن" أشهر وأصح، فهي أشبه أن تكون هي الأصل، والله أعلم- انتهى. وقوله: "آمين" بالمد والتخفيف في جميع الروايات، وعن جميع القراء، وحكى الواحدي عن حمزة والكسائي الإمالة، وفيها لغات أخرى شاذة. وهي من أسماء الأفعال، وتفتح في الوصل؛ لأنها مبنية بالاتفاق، مثل كيف، ومعناه: اللهم استجب. عند الجمهور، وقيل: غير ذلك مما يرجع جميعه إلى هذا المعنى، مثل: ليكن كذلك، وأقبل، ولا تخيب رجاءنا، ولا يقدر على هذا غيرك. وقيل: هو اسم من أسماء الله تعالى. تنبيه: اعلم أنه استدل البخاري بقوله: "إذا قال الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا: آمين" على الجهر بالتأمين للمأمومين، حيث ترجم عليه: "باب جهر المأموم

فإنه من وافق قوله قول الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه)) . هذا لفظ البخاري، ولمسلم نحوه. وفي أخرى للبخاري، قال: ((إذا أمن القاري فأمنوا، فإن الملائكة تؤمن، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالتأمين" ووجه الأخذ منه على ما قال الزين بن المنير: إن في الحديث الأمر بقول آمين والقول إذا وقع به الخطاب مطلقاً حمل على الجهر، ومتى أريد به الإسرار وحديث النفس قيد بذلك. وقال ابن الرشيد: تؤخذ مناسبة الحديث للترجمة من جهات: منها أنه قال: "إذا قال الإمام فقولوا" فقابل القول بالقول، والإمام إنما قال ذلك جهراً، فكان الظاهر الاتفاق في الصفة. ومنها أنه قال: "فقولوا" ولم يقيده بجهر ولا غيره، وهو مطلق في سياق الإثبات، وقد عمل به في الجهر بدليل ما تقدم، يعني في مسألة الإمام، والمطلق إذا عمل به صورة لم يكن حجة في غيرها باتفاق. ومنها أنه تقدم أن المأموم مأمور بالإقتداء بالإمام، وقد تقدم أن الإمام يجهر فلزم جهره بجهره- انتهى. وتعقب بأنه يستلزم أن يجهر المأموم بالقراءة لأن الإمام جهر بها، لكن يمكن أن ينفصل عنه بأن الجهر بالقراءة خلف الإمام قد نهي عنه فبقى التأمين داخلاً تحت عموم الأمر بإتباع الإمام، ويتقوى ذلك بما تقدم عن عطاء: أن من خلف ابن الزبير كانوا يؤمنون جهراً، وروى البيهقي من وجه آخر عن عطاء، قال: أدركت مائتين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا المسجد إذا قال الإمام: (. (ولا الضالين)) سمعت لهم رجة بآمين، كذا في الفتح. (هذا لفظ للبخاري) ، وأخرجه أيضاً بهذا اللفظ مالك وأبوداود والنسائي. (ولمسلم نحوه) بمعناه. (وفي أخرى للبخاري) في باب التأمين من كتاب الدعوات. (قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -. (إذا أمن القارئ) قال الحافظ: المراد بالقارئ هنا الإمام إذا قرأ في الصلاة، ويحتمل أن يكون المراد بالقارئ أعم من ذلك- انتهى. قلت: الظاهر أن المراد به هو الإمام إذا قرأ في الصلاة؛ لأن الحديث واحد اختلفت ألفاظه من تصرف الرواة. قيل: الحديث يدل على أن الإمام هو القارئ دون المأموم. وأن المأموم إنما ينتظر فراغه من الفاتحة حتى يقول آمين. وتعقب: بأن الأصح الأشهر رواية: "إذا أمن الإمام، والرواية الأخرى من تصرف الراوي، فالأولى هي العمدة، وبأن إطلاق القارئ على الإمام إنما هو لأنه يجهر بالقراءة بخلاف المقتدي. لا لأن القراءة مختصة بالإمام، وهذا لا يقتضي في القراءة السرية عن المأموم، والمعنى: إذا أمن الإمام بعد الفراغ عن قراءة الفاتحة فأمنوا، وهذا هو معنى قوله: "إذا قال الإمام: (. (غير المغضوب عليهم ولا الضالين)) فقولوا آمين"، ولم يقل أحد: إن هذا يدل على نفي القراءة عن المأموم وحصرها في الإمام، ويمكن أن تحمل هذه الرواية الأخرى على معنى: أن القارئ أي الإمام إذا مر بآية مشتملة على الدعاء بعد الفاتحة وأمن فقولوا آمين، فأطلق لفظ القارئ من حيث أنه ينفرد بقراءة ما فوق الفاتحة دون المقتدي. ورواية البخاري هذه أخرجها أيضاً النسائي وابن ماجه، وفي رواية لأبي داود وابن ماجه عن أبي هريرة، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

832- (5) وعن أبي موسى الأشعري، قال: ((قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا صليتم فأقيموا صفوفكم، ثم ليؤمكم أحدكم، فإذا كبر فكبروا، وإذا قال: غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا: آمين؛ يحبكم الله. فإذا كبر وركع، فكبروا واركعوا، فإن الإمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فتلك بتلك)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا قال: (. (غير المغضوب عليهم ولا الضالين)) قال آمين. حتى يسمع من يليه من الصف الأول. وزاد ابن ماجه: فيرتج بها المسجد. وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه. 832- قوله: (إذا صليتم) أي أردتم الصلاة. (فأقيموا صفوفكم) أي عدلوها، وسووها، وتراصوا فيها بحيث لا يكون فيها اعوجاج ولا فرج. فالمراد بإقامة الصفوف تسويتها واعتدال القائمين فيها على خط مستقيم وسمت واحد، والتراص فيها، وتتميمها الأول فالأول، وسد الخلل الذي في الصف، وعدم الفرج. قال العيني: وهي أي تسوية الصف من سنة الصلاة عند أبي حنيفة والشافعي ومالك، وزعم ابن حزم أنه فرض، فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة، وإقامة الصلاة فرض، وما كان من الفرض فهو فرض. (ثم ليؤمكم أحدكم) فيه الأمر بالجماعة في المكتوبات، ولا خلاف في ذلك، ولا ينافي هذا ما صح عنه - صلى الله عليه وسلم -: يؤم القوم أقرأهم، الخ.؛ لأنه لبيان الأفضل، وذلك لبيان حصول أصل الجماعة، أو محمول على استواء الجميع في السن والفضيلة. (فإذا كبر فكبروا) فيه أمر المأموم بأن يكون تكبيرة عقب تكبير الإمام فلا يكبر قبل الإمام ولا معه بل بعده؛ لأن الفاء للتعقيب. (وإذا قال: غير المغضوب عليهم ولا الضالين) أي وقال: آمين. (فقولوا: آمين) أي مع تأمينه ليتوافق التأمينان معاً. واستدل بهذا الحديث بعض الحنفية على ترك الفاتحة خلف الإمام؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرهم بقراءتها والمقام مقام التعليم، وقال بعضهم: في قوله: "إذا قال: غير المغضوب عليهم" الخ. إشارة إلى السكوت والاستماع. قلت: قد أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بقراءة الفاتحة غير مرة فترك ههنا لظهور أمرها وشهرة شأنها، واعتماداً على ما أكد الأمر فيها فلم يكن حاجة إلى أن يذكرها كل مرة، كيف ولم يذكر ههنا دعاء الاستفتاح، والتعوذ، ووضع اليدين، وغير ذلك من السنن وبعض الواجبات، والمقام مقام التعليم، ومع ذلك اتفقوا على مشروعيتها لكونها ثابتة من أحاديث أخرى، فليكن هكذا أمر الفاتحة خلف الإمام، ولا عبرة بالإشارة والمفهوم في مقابلة النص الصريح والمنطوق. (يحبكم الله) بالجزم جواب الأمر، أي يستجب لكم، وهذا حث عظيم على التأمين فيتأكد الاهتمام به. (فإذا كبر وركع، فكبروا واركعوا، فإن الإمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم) معناه: اجعلوا تكبيركم للركوع وركوعكم بعد تكبيره وركوعه، وكذلك رفعكم من الركوع يكون بعد رفعه. (فتلك بتلك) أي فتلك اللحظة التي تقدمكم إمامكم مجبورة بتلك اللحظة التي تأخرتم عنه. قال النووي: معناه أي تلك اللحظة التي سبقكم الإمام بها في تقدمه إلى الركوع ينجبر لكم بتأخركم في الركوع بعد رفعه لحظة،

قال: ((وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، يسمع الله لكم)) رواه مسلم. 833- (6) وفي رواية له عن أبي هريرة وقتادة: ـــــــــــــــــــــــــــــ فتلك اللحظة بتلك اللحظة، وصار قدر ركوعكم كقدر ركوعه، وكذلك في السجود. وقال الخطابي في المعالم. (ج1: ص230) : فيه وجهان: أحدهما أن يكون ذلك مردوداً إلى قوله: "وإذا قرأ الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا: آمين، يحبكم الله" يريد أن كلمة آمين يستجاب بها الدعاء الذي تضمنه السورة أو الآية، كأنه قال: فتلك الدعوة مضمنة بتلك الكلمة أو معلقة بها، أو ما أشبه ذلك من الكلام. والوجه الآخر أن يكون ذلك معطوفاً على ما يليه من الكلام: "وإذا كبر وركع فكبروا واركعوا" يريد أن صلاتكم متعلقة بصلاة إمامكم فاتبعوه، وائتموا به، ولا تختلفوا عليه، فتلك إنما تصح وتثبت بتلك. (وإذا قال) أي الإمام. (سمع الله لمن حمده) أي استجاب الله دعاء من حمده. (يسمع الله لكم) بكسر العين، أي يستجيب لكم ويقبله، وكان مجزوماً لجواب الأمر فحرك بالكسر. وفيه دلالة على استحباب الجهر من الإمام بالتسميع ليسمعوه فيقولون. واستدل به من يقول: إن الإمام يقول: سمع الله لمن حمده فقط، والمأموم: اللهم ربنا لك الحمد فقط؛ لأن القسمة بين الذكرين تقطع الشركة. ويجاب: بأن أمر المؤتم بالحمد عند تسميع الإمام لا ينافي فعله له، كما أنه لا ينافي قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قال الإمام ولا الضالين، فقولوا: آمين" قراءة المؤتم للفاتحة. وكذلك أمر المؤتم بالتحميد لا ينافي مشروعية للإمام، كما لا ينافي أمر المؤتم بالتأمين، تأمين الإمام. وقد استفيد التحميد للإمام والتسميع للمؤتم من أدلة أخرى، قاله الشوكاني. وقال شيخنا في أبكار المنن (ص220) : ورد هذا الاستدلال بأن غرضه - صلى الله عليه وسلم - من هذا القول ليس للقسمة بين الإمام والمقتدي. بل ذكر وقت تحميد المقتدي أنه عند قول الإمام: "سمع الله لمن حمده" وهو ساكت عن تحميد الإمام إثباتاً ونفياً- انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي. 833- قوله: (وفي رواية له) أي لمسلم، وكذا لأبي داود، وابن ماجه أيضاً. (عن أبي هريرة وقتادة) أي وعن قتادة، فيكون أثرا موقوفاً على قتادة لا حديثاً مرفوعاً، وإليه أشار النووي بقوله: لاسيما لم يروها مسندة في صحيحه، فكأن المصنف وافق النووي في جعل هذه الزيادة غير مسندة. وفيه نظر: فإن هذه الزيادة ليست موقوفة على قتادة من قوله، بل هي مرفوعة متصلة رواها مسلم مسنده في صحيحه من حديث أبي موسى الأشعري من طريق جرير، عن سليمان التيمي، عن قتادة، عن يونس بن جبير أبي غلاب، عن حطان بن عبد الله الرقاشي، عن أبي موسى الأشعري، وهذا ظاهر غير خفي لمن يتأمل في سياق الحديث عند مسلم. والظاهر عندي: أن معنى قول المصنف: وقتادة، أي وعن قتادة عن يونس بن جبير، عن حطان بن عبد الله، عن أبي موسى، فيكون إشارة إلى أن هذه الزيادة رواها مسلم من حديث أبي هريرة، ومن حديث أبي موسى أيضاً لكن من طريق جرير، عن سليمان التيمي، عن قتادة، عن يونس بن جبير، الخ. تنبيه:

((وإذا قرأ فأنصتوا)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ ظاهر عبارة المصنف يقتضي أن هذه الزيادة أخرجها مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة، وليس كذلك، بل يفهم من كلام مسلم أنه لم يخرج حديث أبي هريرة هذا أصلاً، فإن في كتابه بعد إيراد حديث أبي موسى وذكر هذه الزيادة من رواية جرير عن سليمان التيمي عن قتادة: "قال أبوبكر بن أخت أبي النضر: فحديث أبي هريرة يعني: وإذا قرأ فأنصتوا؟ فقال مسلم: هو عندي صحيح، فقال: لِم لم تضعه ههنا؟ فقال: ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ههنا، إنما وضعت ههنا ما اجتمعوا عليه" انتهى. وحديث أبي هريرة هذا قد ذكره المصنف في الفصل الثاني، ويأتي الكلام عليه هناك. (وإذا قرأ فأنصتوا) أي اسكتوا للاستماع، وهذا لا يكون إلا حالة الجهر، قاله السندي. وقد احتج بذلك القائلون عن المؤتم لا يقرأ خلف الإمام في الصلاة الجهرية، وهم إسحاق بن راهويه وأحمد ومالك والحنفية، لكن الحنفية قالوا: لا يقرأ خلف الإمام لا في سرية ولا جهرية. واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} [7: 204] قال ابن الهمام في فتح القدير: حاصل الاستدلال بالآية أن المطلوب أمران: الاستماع والسكوت، فيعمل بكل منهما، والأول يخص الجهرية والثاني لا، فيجري على إطلاقه، فيجب السكوت عند القراءة مطلقاً- انتهى. وبقوله: إذا قرأ فأنصتوا، في حديث أبي موسى، وفي حديث أبي هريرة الآتي في الفصل الثاني، قال العيني: هذا حجة صريحة في أن المقتدي لا يجب عليه أن يقرأ خلف الإمام أصلاً على الشافعي في جميع الصلوات، وعلى مالك في الظهر والعصر- انتهى. قلت: الاستدلال بالآية وبقوله: "إذا قرأ فأنصتوا" على منع القراءة خلف الإمام في الصلوات الجهرية أو مطلقاً غير صحيح. أما الآية فلأن صحة الاستدلال بها موقوفة على أن يكون الخطاب فيها مع المسلمين وهو ممنوع، بل الظاهر أن الخطاب فيها مع الكفار، قال الفخر الرازي في تفسيره: لا شك أن قوله: {فاستمعوا له وأنصتوا} أمر، وظاهر الأمر للوجوب، فمقتضاه أن يكون الاستماع والسكوت واجباً، وللناس فيه أقوال. (إلى أن قال) : وفي الآية قول خامس: وهو أنه خطاب مع الكفار في ابتداء التبليغ وليس خطاباً مع المسلمين، وهذا قول حسن مناسب- انتهى. ثم ذكر الرازي تقرير هذا القول، من شاء الوقوف عليه فليرجع إلى تفسيره. وما قيل: أنه أجمع الناس على أن هذه الآية نزلت في الصلاة، فهو ادعاء محض، لم يقم عليه دليل صحيح. ويرده: أن في سبب نزولها أقوالاً وروايات مختلفة عن الصحابة ومن بعدهم: منها أنها نزلت في السكوت عند الخطبة. ويرده أيضاً: أن الصحابة قد اختلفوا في القراءة خلف الإمام، وقد قال بها أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين ومن بعدهم كما صرح به الترمذي. ويرده أيضاً: قول ابن المبارك: أنا أقرأ خلف الإمام، والناس يقرأون إلا قوم من الكوفيين. ويرده أيضاً أن أحمد اختار القراءة خلف الإمام، وأن لا يترك الرجل فاتحة الكتاب وإن كان خلف الإمام، كما ذكره الترمذي. وأما ما قيل: أن الخطاب في هذه الآية وإن كان مع الكفار لكن قد تقرر في مقره

أن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، فيجري لفظ الآية على عمومه، ويشمل حكمه المورد وغيره، فتدل هذه الآية بعمومها على وجوب الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن مطلقاً ففيه: أنه لا شك في أن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، لكن قد تقرر أيضاً في مقره أن اللفظ لو يحمل على عمومه يلزم التعارض والتناقض، ولو يحمل على خصوص السبب يندفع التعارض، فحينئذٍ يحمل على خصوص السبب. قال ابن الهمام في فتح القدير: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ليس من البر الصيام في السفر، محمول على أنهم استضروا به، بدليل ما ورد في صحيح مسلم في لفظ: إن الناس قد شق عليهم الصوم، والعبرة وإن كان لعموم اللفظ لا لخصوص السبب لكن يحمل عليه دفعاً للمعارضة بين الأحاديث، الخ. فإذا عرفت هذا فاعلم أنه لو يحمل قوله: {وإذا قرئ القرآن} على عمومه لزم التعارض والتناقض بينه وبين قوله تعالى: {فاقرؤا ما تيسر من القرآن} [73: 20] وأحاديث القراءة خلف الإمام، ولو يحمل على خصوص السبب يندفع التعارض، فحينئذٍ يحمل على خصوص السبب. ولو تنزلنا واعتبرنا عموم لفظها بل سلمنا أن فيها الخطاب مع المسلمين فعلى هذا التقدير أيضاً الاستدلال بها على منع القراءة خلف الإمام في الجهرية أو مطلقاً ليس بصحيح لوجوه كثيرة: منها أن هذه الآية ساقطة عن الاستدلال عند الحنفية كما صرحوا به في كتب الأصول، ففي نور الأنوار (ص191) : وحكمها بين الآيتين المصير إلى السنة؛ لأن الآيتين إذا تعارضتا تساقطتا فلا بد للعمل من المصير إلى ما هو بعده وهو السنة، ولا يمكن المصير إلى الآية الثالثة؛ لأنه يفضي إلى الترجيح بكثرة الأدلة وذلك لا يجوز، ومثاله قوله تعالى: {فاقرؤا ما تيسر من القرآن} مع قوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} فإن الأول بعمومه يوجب القراءة على المقتدي، والثاني بخصوصه ينفيه، وقد وردا في الصلاة جميعاً فتساقطا، فيصار إلى حديث بعده، وهو قوله - عليه السلام -: من كان له إمام فقرأه الإمام له قراءة- انتهى. وقال مسعود بن عمر سعد الدين التفتازاني- الذي جعله طائفة حنفياً كابن نجيم وعلي القاري، وجعله بعضهم شافعياً كصاحب كشف الظنون والكفوي والسيوطي- في التلويح حاشية التوضيح شرح التنقيح، في باب المعارضة والترجيح: مثال المصير إلى السنة عند تعارض الآيتين قوله تعالى: {فاقرؤا ما تيسر من القرآن} وقوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} تعارضنا فصرنا إلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: من كان له إمام فقراءه الإمام له قراءة- انتهى. ومنها أن الآية إنما أمرت باستماع القرآن والإنصات له، وهذا لا يقتضي وجوب سكوت المقتدي مطلقاً بأن لا يقرأ في نفسه أيضاً، فإن الإنصات هو ترك الجهر، والعرب يسمى تارك الجهر منصتاً وإن كان يقرأ في نفسه وسرا إذا لم يسمع أحد قراءته، وقد حقق ذلك البيهقي في كتاب القراءة، وعلى هذا فالدليل غير مثبت للمرام، والتقريب غير تام، وقد يقرر هذا الوجه بأن قوله: {وإذا قرئ القرآن} الخ، إنما ينفي القراءة خلف الإمام جهرا ويرفع الصوت، فإنها تشغل عن استماع القرآن، وأما القراءة خلفه في النفس وبالسر فلا ينفيها، فإنها لا تشغل عن الاستماع فنحن نقرأ الفاتحة خلف الإمام عملاً بأحاديث القراءة خلف

الإمام في النفس وسراً، ونستمع القرآن عملاً بقوله: {وإذا قرئ القرآن} والإشغال بأحدهما لا يفوت الآخر، ألا ترى أن الفقهاء الحنفية يقولون: إن استماع الخطبة يوم الجمعة واجب لقوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن} ومع هذا يقولون إذا قرأ الخطيب: {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً} [33: 56] فيصلي السامع في النفس وسراً. ومنها أن كتب المذاهب الثلاثة الشافعية والمالكية والحنابلة قد صرحت بجواز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد عند الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة كما في المحصول، والمختصر، وشرحه للعضد، وشرح الأسنوي على المنهاج للقاضي البيضاوي، والمستصفى، وروضة الناظر، وإرشاد الفحول، وغيرها، فلو سلمنا أن قوله: {وإذا قرئ القرآن} عام فحديث عبادة أخص منه، فيخص به عموم الآية، وتحمل على ما عدا الفاتحة، أو على غير المقتدي. قال الرازي في تفسيره: السؤال الثالث وهو المعتمد أن تقول: الفقهاء أجمعوا على أنه يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، فهب أن عموم قوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} يوجب سكوت المأموم عند قراءة الإمام إلا أن قوله - عليه السلام -: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب. وقوله: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب. أخص من ذلك العموم، وثبت أن تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد لازم فوجب تخصيص هذه الآية بهذا الخبر، وهذا السؤال حسن انتهى. وفي تفسير النيسابوري: وقد سلم كثير من الفقهاء عموم اللفظ. إلا أنهم جوزوا تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، وذلك ههنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب- انتهى. ومنها أن الآية لا تدل إلا على وجوب الاستماع والإنصات أي السكوت له، وهذا مختص بالجهرية لا يتعدى إلى غيرها، فإن الاستماع والسكوت له لا يكون في السرية، فلو سلم أن هذه الآية تدل على منع القراءة خلف الإمام فإنما تدل على المنع في الجهرية دون السرية فيكون المدعى عاماً والدليل خاصاً. ومنها أن الآية لا تدل إلا على وجوب الإنصات حال قراءة الإمام لاستماعه، لا على السكوت مطلقاً؛ لأن المأمور في الآية الاستماع والإنصات، والاستماع لا يمكن وجوده إلا حال القراءة، والإنصات ليس عبارة عن السكوت مطلقاً بل عن سكوت مستمع. قال الرازي في تفسيره: الإنصات سكوت مع استماع، ومتى انفك أحدهما عن الآخر لا يقال له إنصات. قال تعالى: {فاستمعوا له وأنصتوا} . وقال العيني في شرح البخاري: الإنصات هو السكوت مع الإصغاء. وقال محمد بن أبي بكر الرازي في جواهر القرآن: "أنصتوا" اسكتوا سكوت مستمعين. يقال: نصت وأنصت وأنصت له، كله بمعنى واحد، أي سكت مستمعاً. وقال الجزري في النهاية: قد تكرر ذكر الإنصات في الحديث، يقال أنصت ينصت إنصاتاً. إذا سكت سكوت مستمع. وقال الفتني في مجمع البحار: باب الإنصات للعلماء، أي السكوت والاستماع لأجل ما يقولون- انتهى. ومثله كثير في كتب اللغة، وغريب القرآن، والحديث، وشروح الحديث، فلا وجود للإنصات أيضاً إلا حال القراءة، فالقول بأن الاستماع في الجهرية والإنصات بمعنى السكوت في السرية باطل،

فيقرأ المأموم الفاتحة في سكتات الإمام في الجهرية، وينصت عند القراءة، ويكون عاملاً بالقرآن والسنة جميعاً. قال الإمام البخاري في جزء القراءة: قيل له احتجاجك بقول الله تعالى: {فاستمعوا له وأنصتوا} أرأيت إذا لم يجهر الإمام يقرأ خلفه؟ فإن قال: لا. بطل دعواه؛ لأن الله تعالى قال: (. (فاستمعوا له وأنصتوا} وإنما يستمع لما يجهر، مع أنا نستعمل قول الله: {فاستمعوا له} نقول: يقرأ خلف الإمام عند السكتات- انتهى. وقال الشيخ عبد الحي اللكنوي في إمام الكلام (ص107) : الإنصاف الذي يقبله من لا يميل إلى الاعتساف أن الآية المذكورة التي استدل بها أصحابنا على مذهبهم لا تدل على عدم جواز القراءة في السرية، ولا على عدم جواز القراءة في حال الجهرية عند السكتة، وقال: الاستدلال بها على وجوب الإنصات مطلقاً سرية كانت أو جهرية في حال السكتة وفي حال القراءة غير تام إلا بتأويلات ركيكة، لا يقبلها ذو الفهم التام- انتهى. وههنا وجوه أخرى تدل كلها على أن استدلال الحنفية بها على مطلوبهم المذكور ليس بصحيح، ولا يثبت بها مدعاهم. وقد ذكرها شيخنا في كتابه: "تحقيق الكلام في وجوب القراءة خلف الإمام". وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا قرأ فأنصتوا، فقد أجمع أكثر الحفاظ على أنه وهم من الراوي، وأنه ليس بصحيح، منهم البخاري وأبوداود وأبوحاتم وابن معين والحاكم والدارقطني وابن خزيمة ومحمد بن يحيى الذهلي، والحافظ أبوعلى النيسابوري والحافظ على بن عمرو البيهقي، وصححه أحمد ومسلم، ولا شك أن عدد المضعفين أكثر من عدد من صححه بأضعاف، فيقدم تضعيفهم على تصحيح مسلم ومن وافقه، وقد حقق وقرر شيخنا في أبكار المنن (ص150-153) وتحقيق الكلام. (ج2: ص81-94) كون هذه اللفظة غير صحيحة، وأشبع الكلام في ذلك فارجع إلى هذين الكتابين. ولو سلم أن هذه اللفظة في حديث أبي موسى وأبي هريرة صحيحة محفوظة فالاستدلال بها على منع القراءة خلف الإمام ليس بصحيح، كما أن الاستدلال على هذا المطلوب بقوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن} ليس بصحيح كما عرفت، وعلى عدم صحة الاستدلال بها على المنع وجوه أخرى مذكورة في: "تحقيق الكلام". منها أن قوله وإذا قرأ فأنصتوا محمول على ما عدا الفاتحة جمعاً بين الأحاديث. قال الحافظ في الفتح: واستدل من أسقطها عنه في الجهرية كالمالكية بحديث: وإذا قرأ فأنصتوا، ولا دلالة فيه لإمكان الجمع بين الأمرين فينصت فيما عدا الفاتحة، أو ينصت إذا قرأ الإمام ويقرأ إذا سكت. وقال الإمام البخاري في جزء القراءة: ولو صح لكان يحتمل سوى الفاتحة، وأن قرأ فيما سكت الإمام، ويؤيد هذا أن أبا هريرة كان يفتي بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقراءة فاتحة الكتاب خلف الإمام في جميع الصلوات جهرية كانت أو سرية، وهو راوي حديث: وإذا قرأ فأنصتوا، أيضاً. وارجع إلى المحلي. (ج3: ص241) لابن حزم فقد أوضح ذلك الجواب فيه. واستدل أيضاً ـــــــــــــــــــــــــــــ 1- هو كتاب مبسوط في اللغة الأردية، مفرد في هذه المسألة، عديم النظير، قد تم في جزئين كبيرين: الجزء الأول في ذكر وجوب خلف الإمام من الأحاديث وآثار الصحابة والتابعين، والجزء الثاني في ذكر مستدلات من ذهب إلى عدم الوجوب، أو المنع والكراهة في الجهرية، أو مطلقاً مع الجواب عن كل دليل بعدة وجوه، فعليك أن ترجع إليه.

الحنفية بحديث جابر: من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة. أخرجه الطحاوي والدارقطني وغيرهما. والجواب عنه أن هذا الحديث بجميع طرقه ضعيف كما بينه شيخنا في أبكار المنن وتحقيق الكلام. قال الحافظ في الفتح: واستدل من أسقطها عن المأموم مطلقاً كالحنفية بحديث: من صلى خلف الإمام فقراءة الإمام له قراءة، لكنه ضعيف عند الحفاظ، وقد استوعب طرقه، وعلله الدارقطني وغيره- انتهى. وقال في التلخيص: حديث: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة" مشهور من حديث جابر، وله طرق عن جماعة من الصحابة وكلها معلولة- انتهى. وقال ابن كثير في تفسيره بعد ما ذكره عن مسند أحمد بن حنبل: في إسناد ضعف، ورواه مالك، عن وهب بن كيسان، عن جابر من كلامه، وقد روي هذا الحديث من طرق لا يصح شيء منها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى. وقال البخاري في جزء القراءة: هذا الخبر لم يثبت عند أهل العلم من أهل الحجاز وأهل العراق وغيرهم لإرساله وانقطاعه- انتهى. ولو سلم أن هذا الحديث صحيح فقد أجيب عنه بوجوه كثيرة ذكرها شيخنا في: "تحقيق الكلام" من شاء الوقوف عليها رجع إليه. فمنها أن هذا الحديث معارض بقوله تعالى: {فاقرؤا ما تيسر من القرآن} ، فإنه بعمومه نص صريح في أن المقتدى لا بد له من قراءة حقيقية خلف الإمام، وهذا الحديث يدل على منع القراءة الحقيقية خلف الإمام على قول أكثرهم، أو يدل على أن المقتدي لا حاجة له أن يقرأ خلف الإمام قراءة حقيقية، بل قراءة إمامه تكفيه، فلا يجوز تركه بخبر الواحد، وأما قول العيني: جعل المقتدي قارئا بقراءة الإمام، فلا يلزم الترك، فمبني على عدم التدبر، فإنه ليس المراد بقوله: من كان له إمام، الخ. إلا أن قراءة الإمام تكفي المقتدى، ولا حاجة له إلى القراءة الحقيقية، فلو يقبل هذا الحديث ويعمل به يلزم الترك بلا شبه. ومنها ما قال البخاري في جزء القراءة: فلو ثبت الخبران كلاهما لكان هذا مستثنى من الأول لقوله: لا يقرأن إلا بأم الكتاب. وقوله: من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة، جملة، وقوله: "إلا بأم القرآن" مستثنى من الجملة كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، ثم قال في أحاديث أخر: إلا المقبرة، وما استثناه من الأرض، والمستثنى خارج من الجملة، وكذلك فاتحة الكتاب خارج من قوله: من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة، مع انقطاعه- انتهى. ومنها أن هذا الحديث وارد فيما عدا الفاتحة، قال الشيخ عبد الحي اللكنوى في إمام الكلام (ص150) : قد يقال: إن مورد هذا الحديث هو قراءة رجل خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - {سبح اسم ربك الأعلى} [87: 1] في الظهر أو العصر كما مر من طرق عن جابر، فهو شاهد لكونه وارداً فيما عدا الفاتحة- انتهى. والعبرة وإن كانت لعموم اللفظ لا لخصوص المورد لكن قد يحمل الحديث على خصوص مورده إذا حصل بذلك الجمع بين الأحاديث المتعارضة دفعاً للتعارض، فحديث جابر هذا يحمل على خصوص مورده أي ما عدا الفاتحة؛ لأنه يحصل بذلك الجمع بين الأحاديث ويندفع التعارض. وقال الزيلعي في نصب الراية: وحمل البيهقي هذا الأحاديث على ما عدا الفاتحة، واستدل بحديث عبادة أن

النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الفجر ثم قال: لعلكم تقرأون خلف إمامكم، قلنا: نعم. قال: فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب. وأخرجه أبوداود بإسناد رجاله ثقات، وبهذا يجمع بين الأدلة المثبتة للقراءة والنافية- انتهى. ومنها ما قال الشيخ عبد الحي اللكنوي في إمام الكلام (ص50) : إن هذا الحديث يعني حديث من كان له إمام، الخ. ليس بنص على ترك الفاتحة بل يحتملها ويحتمل قراءة ما عداها، وتلك الروايات يعني روايات عبادة وغيره في القراءة خلف الإمام تدل على وجوب قراءة الفاتحة أو استحسانها نصاً، فينبغي تقديمها عليه قطعاً-انتهى. وقال فيه أيضاً: حديث عبادة نص في قراءة الفاتحة خلف الإمام، وأحاديث النهي والترك لا تدل على تركها نصاً بل ظاهراً، وتقديم النص على الظاهر عند تعارضهما منصوص في كتب الأعلام- انتهى. وقال الحازمي في كتاب الاعتبار: الوجه الثالث والثلاثون أن يكون الحكم الذي تضمنه أحد الحديثين منطوقاً به، وما تضمنه الحديث الآخر يكون محتملاً، يعني فيقدم الأول على الثاني. ومنها: أن هذا الحديث منسوخ عند الحنفية فلا يصح الاستدلال به على منع القراءة خلف الإمام، وتقرير النسخ أن جابراً راوي هذا الحديث كان يقرأ خلف الإمام كما روي ابن ماجه بسند صحيح عنه، وكذلك روى هذا الحديث أبوهريرة، وأنس، وأبوسعيد، وابن عباس، وعلي، وعمران بن حصين - رضي الله عنهم، وكان كل من هؤلاء يقرأ الفاتحة خلف الإمام ويفتي بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقراءتها، بعضهم في جميع الصلوات، وبعضهم في السرية فقط. وقد تقرر عند الحنفية أن عمل الصحابي وفتواه على خلاف حديثه يدل على نسخه، فهذا الحديث عند الحنفية منسوخ، وإن شئت الاطلاع على الأجوبة الأخرى فعليك أن تطالع تحقيق الكلام. تنبيه: قال شيخنا في شرح الترمذي: أعلم أن الحنفية قد استدلوا على منع القراءة خلف الإمام ببعض آثار الصحابة - رضي الله تعالى عنهم -، كأثر زيد بن ثابت، قال: لا قراءة مع الإمام في شيء. رواه مسلم، وأخرج الطحاوي عن زيد، وجابر، وابن عمر، أنهم قالوا: لا يقرأ خلف الإمام في شيء من الصلوات. قلت: احتجاجهم بهذه الآثار ليس بشيء، فإن الأئمة الحنفية كالشيخ ابن الهمام وغيره قد صرحوا بأن قول الصحابي حجة ما لم ينفه شيء من السنة، وقد عرفت أن الأحاديث المرفوعة الصحيحة الصريحة دالة على وجوب القراءة خلف الإمام، فهي تنفي هذه الآثار فكيف يصح الاحتجاج بها. قال صاحب إمام الكلام: صرح ابن الهمام وغيره أن قول الصحابي حجة ما لم ينفح شيء من السنة، ومن المعلوم أن الأحاديث المرفوعة دالة على إجازة قراءة الفاتحة خلف الإمام، فكيف يؤخذ بالآثار وتترك السنة- انتهى. وأيضاً قد صرحوا بأن حجية آثار الصحابة إنما تكون مفيدة إذا لم يكن الأمر مختلفاً فيه بينهم كما في التوضيح، ونور الأنوار، والأمر فيما نحن فيه ليس كذلك، بل فيه إختلاف الصحابة، فكيف يصح احتجاجهم بهذه الآثار، فلا بد أن تحمل على قراءة السورة التي بعد الفاتحة، أو على الجهر بالقراءة مع الإمام؛ لئلا تخالف الأحاديث المرفوعة الصحيحة. قال النووي في شرح مسلم: والثاني أنه أي قول زيد بن ثابت محمول على قراءة السورة

834- (7) وعن أبي قتادة، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الظهر في الأوليين بأم الكتاب وسورتين، وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب، ـــــــــــــــــــــــــــــ التي بعد الفاتحة في الصلاة الجهرية، فإن المأموم لا يشرع له قراءتها، وهذا التأويل متعين ليحمل قوله على موافقة الأحاديث الصحيحة-انتهى. وقال البيهقي في كتاب القراءة: وهو أي قول زيد محمول عندنا الجهر بالقراءة مع الإمام، وما من أحد من الصحابة وغيرهم من التابعين قال في هذه المسألة قولاً يحتج به من لم ير القراءة خلف الإمام إلا وهو يحتمل أن يكون المراد به ترك الجهر بالقراءة-انتهى. 834- قوله: (في الأوليين) بيائين وضم الهمزة، تثنية الأولى وكذا الأخريين. (بأم الكتاب) أي في كل ركعة منهما. (وسورتين) أي في كل ركعة سورة، ويدل على ذلك ما ثبت من حديث أبي قتادة في رواية للبخاري بلفظ: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة سورة. واستدل به على أن قراءة سورة أفضل من قراءة قدرها من طويلة، وكأنه مأخوذ من قوله: كان يفعل؛ لأنها تدل على الدوام أو الغالب. (وفي الركعتن الأخريين بأم الكتاب) ظاهره أنه لا يزيد على أم الكتاب في الأخريين، ويدل حديث أبي سعيد الآتي على أنه كان يقرأ في الأخريين من الظهر غيرها معها، ويزيده دلالة على ذلك ما وقع في رواية لمسلم من هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفي الأخريين قدر خمس عشرة آية، أو قال نصف ذلك. قال الأمير اليماني: ولعل حديث أبي قتادة أرجح من حديث أبي سعيد من حيث الرواية؛ لأنه اتفق عليه الشيخان، ومن حيث الدراية؛ لأنه إخبار مجزوم به، وخبر أبي سعيد انفرد به مسلم، ولأنه خبر عن حزر وتقدير وتظنن. ويحتمل أن يجمع بينهما بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصنع هذا تارة فيقرأ في الأخريين غير الفاتحة معها، ويقتصر فيهما أحياناً فتكون الزيادة عليها فيهما سنة تفعل أحياناً وتترك أحياناً-انتهى. قلت: الجمع بينهما عندي أولى من الترجيح، فالظاهر أنه يجوز الزيادة على الفاتحة في الأخريين من غير كراهة، ويؤيده ما رواه مالك في المؤطا عن أبي عبد الله الصنابحي: أنه سمع أبى بكر يقرأ في الثالثة في المغرب: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا} [3: 8] الآية. وحمل الباجي وابن قدامة فعل أبي بكر هذا على أنه كان على معنى الدعاء لا على معنى أنه قرن قراءته على حسب ما تقرن بها السورة. وفيه: أن هذا الحمل يحتاج إلى دليل، وهو مفقود فلا يصغى إليه، ويؤيد أيضاً ما تقدم من كون الزيادة على الفاتحة في غير الأوليين جائزة من غير كراهة بل سنة ما رواه مالك أيضاً عن نافع: أن عبد الله بن عمر كان يقرأ في الأربع جميعاً، في كل ركعة بأم القرآن وسورة من القرآن. والظاهر أن الصلاة كانت فريضة لما في رواية محمد في هذا الأثر في الأربع جميعاً من الظهر والعصر. قال النووي: استحسن الشافعي قراءة السورة مع الفاتحة في الأخريين في الجديد دون القديم، والقديم هنا أصح، وهو مذهب مالك. قلت: وهو قول

ويسمعنا الآية أحيانا، ويطول في الركعة الأولى ما لا يطيل في الركعة الثانية، ـــــــــــــــــــــــــــــ أحمد. وعند الحنفية فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن ضم السورة يوجب سجدة السهو. والثاني: أنه لا يوجب لكن يكره. والثالث: أنه لا يسن ولا يكره. وهو قول فخر الإسلام، وحقق الشامي أنه لو زاد على الفاتحة يكون خلاف الأفضل. (ويسمعنا الآية) من الإسماع أي يقرأ بحيث تسمع الآية من جملة ما يقرأ. وللنسائي من حديث البراء: كنا نصلي خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر فنسمع منه الآية بعد الآية من سورة لقمان والذاريات. ولابن خزيمة من حديث أنس نحوه، لكن قال: بسبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية. وهذه الأحاديث دليل على أنه لا يجب الإسرار في السرية، وأن الجهر بالشيء اليسير من الآيات في الصلاة السرية جائز مغتفر لا يوجب سهواً يقتضي السجود. واختلف الحنفية في وجوب سجدة السهو إذا جهر في السرية، فقيل: تجب ولو بكلمة، وقيل بآياته تامة، وقيل بأكثر من الآية، وأحاديث الباب ترد هذه الأقوال كلها سواء. قلنا: كان يفعل ذلك عمداً لبيان الجواز كما هو الظاهر من لفظ الإسماع، أو بغير قصد للاستغراق في التدبر، أو ليعلمهم أنه يقرأ، أو يقرأ سورة كذا ليتأسوا به. واعلم أن الجهر في مواضع الجهر والإسرار في مواضع الإسرار في الجهرية، والإسرار في السرية سنة عند الشافعي وأحمد، فإن فعل خلاف ذلك، أي جهر فيما يسر فيه، أو أسر فيما يجهر فيه كره ذلك، وأجزأه، وتمت صلاته، ولا سجود سهو فيه. وهو قول الظاهرية، وهو الحق. والدليل على ذلك أن الجهر فيما يجهر فيه، والإسرار فيما يسر فيه إنما هما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليسا أمراً منه، وأفعاله- عليه السلام - على الإتساء، لا على الوجوب، وإنما كره خلاف ذلك لأن الجمهور من فعله- عليه السلام -كان الجهر في الجهرية، والإسرار في السرية، ولا سجود سهو في ذلك، لحديث أبي قتادة، وحديث البراء وأنس، وما أبيح تعمد فعله أو تركه فلا سهو فيه؛ لأنه فعل ما هو مباح له، ولم يقم دليل على وجوب الجهر في الجهرية، والإسرار في السرية، لا من كتاب ولا من سنة، وقد اعترف بذلك بعض العلماء الحنفية حيث قال: هو سنة عند الجمهور، وواجب عندنا. ولا دليل له عندي-انتهى. وحكم المنفرد كحكم الإمام، فيسن له أيضاً الجهر عند الشافعي، وظاهر كلام أحمد أنه يخير، وكذلك من فاته بعض الصلاة فقام ليقضيه قال أحمد: إنما الجهر للجماعة. (أحياناً) أي في أحيان جمع حين، وهو يدل على تكرر ذلك منه - صلى الله عليه وسلم -. وفيه دليل على جواز أن يخبر الإنسان بالظن، وإلا فمعرفة القراءة بالسورة في السرية لا طريق فيه إلى القين، وإسماع الآية أحياناً لا يدل على قراءة كل السورة، وإنما يفيد يقين ذلك لو كان في الجهرية، وكأنه أخذ من سماع بعضها مع قيام القرينة على قراءة باقيها، ولو كانوا يعلمون قراءة السورتين بخبر عنه - صلى الله عليه وسلم - عقب الصلاة دائماً أو غالباً لذكروه. (ويطول) بالتشديد من التطويل. (في الركعة الأولى) أي يجعل السورة فيها أطول من التي في الثانية؛ لأن النشاط في الأولى يكون أكثر فناسب التخفيف في الثانية حذراً من الملل، وأيضاً ليدركها الناس كما صرح به راوي الحديث عند أبي داود، وابن خزيمة: فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى. (ما لا يطيل في الركعة الثانية)

وهكذا في العصر، وهكذا في الصبح)) . متفق عليه. 835- (8) وعن أبي سعيد الخدري، قال: ((كنا نحزر ـــــــــــــــــــــــــــــ كلمة ما يحتمل أن تكون نكرة موصوفة، أي تطويلاً لا يطلبه في الثانية، وأن تكون مصدرية أي غير إطالته في الثانية، فتكون هي مع ما في حيزها صفة لمصدر محذوف. (وهكذا) يقرأ في الأوليين بأم الكتاب وسورتين، وفي الأخريين بها فقط، ويطول في الأولى، ويسمع الآية أحياناً. (في العصر) أي في صلاة العصر. (وهكذا) أي يطيل في الركعة الأولى في صلاة الصبح، فالتشبيه في تطويل المقروء في الأولى فقط، بخلاف التشبيه في العصر، فإنه أعم منه. والحديث يدل على استحباب تطويل الركعة الأولى بالنسبة إلى الثانية، وهذا هو مذهب أحمد، ومحمد بن الحسن في جميع الصلوات، وبه قال بعض الشافعية لهذا الحديث المصرح به في الظهر والعصر والفجر، وقياس غيرها عليها. وعند أبي حنيفة، وأبي يوسف يسوى بين الركعتين إلا في الفجر، فإنه يطول الأولى على الثانية، وبه قال بعض الشافعية، ويدل عليه حديث أبي سعيد الآتي: كان يقرأ في الظهر في الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية. وفي رواية لابن ماجه: إن الذين حزروا ذلك كانوا ثلاثين من الصحابة. وأجيب لهما عن حديث أبي قتادة بأن تطويل الأولى كان بدعاء الاستفتاح والتعوذ لا في القراءة. وادعى ابن حبان أن الأولى إنما طالت على الثانية بالزيادة في الترتيل فيها مع استواء المقروء فيهما. وقد روى مسلم من حديث حفصة: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها. قلت: والراجح عندي هو ما ذهب إليه أحمد ومحمد من أنه يستحب تطويل الركعة الأولى على الثانية في الصلوات كلها، وأن تطويل الأولى في الظهر والعصر كان في القراءة لا بدعاء الاستفتاح والتعوذ، أو بالزيادة في الترتيل؛ لأن المذكور في الحديث هو القراءة لا غير، فالظاهر أن التطويل والتقصير راجعان إلى ما ذكر فيه وهو القراءة. ولما روى أبوداود عن عبد الله بن أبي أوفي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم في الركعة الأولى من صلاة الظهر حتى لا يسمع وقع قدم. وتقديم حديث أبي قتادة على حديث أبي سعيد أولى؛ لأنه أصح، ويتضمن زيادة، وهي ضبط التفريق بين الركعتين. أو يجمع بينهما بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يطول الأولى تارة ويسوى بين الركعتين أخرى. وقال الحافظ في الفتح: وقال البيهقي في الجمع بين الأحاديث: يطول في الأولى إن كان ينتظر أحداً، وإلا فليسو بين الأوليين. وروى عبد الرزاق نحوه عن ابن جريج عن عطاء قال: إني أحب أن يطول الإمام الأولى من كل صلاة حتى يكثر الناس، فإذا صليت لنفسي فإني أحرص على أن أجعل الأوليين سواء. وذهب بعض الأئمة إلى استحباب تطويل الأولى من الصبح دائماً، وأما غيرها فإن كان يترجى كثرة المأمومين ويبادر هو أول الوقت فينتظر، وإلا فلا، وذكر في حكمة اختصاص الصبح بذلك أنها تكون عقب النوم والراحة، وفي ذلك الوقت يواطئ السمع واللسان القلب لفراغه، وعدم تمكن الاشتغال بأمور المعاش وغيرها منه. والعلم عند الله. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي وابن ماجه. 835- قوله: (كنا نحزر) بفتح النون وسكون الحاء المهملة وضم الزاي بعدها راء، من الحزر، أي نخرص

قيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الظهر والعصر، فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر قراءة الم تنزيل السجدة، وفي رواية: في كل ركعة قدر ثلاثين آية. وحزرنا قيامه في الأخريين قدر النصف من ذلك، وحزرنا في الركعتين الأوليين من العصر على قدر قيامه في الأخريين من الظهر، وفي الأخريين من العصر على النصف من ذلك)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ ونقدر. وفي قوله: "كنا نحزر" ما يدل على أن المقدرين بذلك جماعة، وقد أخرج ابن ماجه أن الخارصين ثلاثون رجلاً من الصحابة. (قيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الظهر والعصر) أي مقدار طول قيامه في الصلاتين. (الم تنزيل) بالرفع على الحكاية، قال القاري: ويجوز جره على البدل، ونصبه بتقدير: "أعني". (السجدة) قال النووي: يجوز جر: "السجدة" على البدل، ونصبها بأعني. ورفعها على خبر مبتدأ محذوف، ولا يخفى أن هذه الوجوه الثلاثة كلها مبنية على رفع: "تنزيل" حكاية، وأما على إعرابه فيتعين جر: "السجدة" على الإضافة قاله القاري. (وفي رواية في كل ركعة قدر ثلاثين آية) . أول هذه الرواية عند مسلم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية. فيحمل الرواية المطلقة المتقدمة على هذه المقيدة بقوله: "في كل ركعة". (قيامه في الأخريين) أي من الظهر. (قدر النصف من ذلك) فيه دلالة على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ غير الفاتحة معها في الأخريين من الظهر، ويزيده دلالة على ذلك قوله: (وحزرنا) كذا في جميع النسخ من غير زيادة لفظ: "قيامه" وفي مسلم: وحزرنا قيامه. (في الركعتين الأوليين من العصر على قدر قيامه في الأخريين من الظهر) ومعلوم أنه كان يقرأ في الأوليين من العصر سورة غير الفاتحة. (وفي الأخريين من العصر على النصف من ذلك) أي من الأوليين منه. وفي رواية لمسلم: وفي الأخريين. (أى من الظهر) قدر قراءة خمس عشرة آية، أو قال: نصف ذلك، وفي العصر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر قراءة خمس عشرة آية، وفي الأخريين قدر نصف ذلك. وفيه دليل على أنه لا يقرأ في الأخريين من العصر إلا الفاتحة، وأنه يقرأ في الأخريين من الظهر غيرها معها. وقد تقدم الكلام في هذا. وحديث أبي سعيد هذا يدل على تخفيف الأخريين من الظهر والعصر من الأوليين منهما. ويدل أيضاً على استحباب التخفيف في صلاة العصر وجعلها على النصف من صلاة الظهر، والحكمة في إطالة الظهر أنها في وقت غفلة بالنوم في القائلة فطولت ليدركها المتأخر، والعصر ليست كذلك، بل تفعل في وقت تعب أهل الأعمال فخففت. وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يطول في صلاة الظهر تطويلاً زائداً على هذا المقدار كما في حديث أبي سعيد عند مسلم، والنسائي: أن صلاة الظهر كانت تقام فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته، ثم يتوضأ، ثم يأتي ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الركعة الأولى مما يطولها. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود وأخرجه ابن ماجه بسند ضعيف بألفاظ أخرى.

836- (9) وعن جابر بن سمرة، قال. ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الظهر: بـ {الليل إذا يغشى} وفي رواية بـ {سبح اسم ربك الأعلى} وفي العصر نحو ذلك، وفي الصبح أطول من ذلك)) رواه مسلم. 837- (10) وعن جبير بن مطعم، قال. ((سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب بـ {الطور} ـــــــــــــــــــــــــــــ 836- قوله: (كان يقرأ في الظهر: بـ {الليل إذا يغشى} وفي رواية بـ {سبح اسم ربك الأعلى} وفي العصر نحو ذلك) أي يقرأ قريباً مما ذكر من السورتين. (وفي الصبح أطول من ذلك) أي من جميع ما ذكر؛ لأنها تفعل في وقت الغفلة بالنوم في آخر الليل، فيكون في التطويل انتظار للمتأخر، وإعانة له على إدراكها. وقوله: "كان يقرأ في الظهر" يفيد الاستمرار وعموم الأزمان كما تقرر في الأصول من أن لفظ: "كان" يفيد ذلك، فينبغي أن يحمل قوله: "كان يقرأ في الظهر" الخ. على الغالب من حاله - صلى الله عليه وسلم -، أو تحمل: "كان" على أنها لمجرد وقوع الفعل؛ لأنها قد تستعمل لذلك كما قال ابن دقيق العيد؛ لأنه قد ثبت: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الظهر والعصر بـ {السماء والطارق} و {السماء ذات البروج} ونحوهما من السور، أخرجه أبوداود، والترمذي، وصححه من حديث جابر بن سمرة، وتقدم: أنه قرأ في الظهر سورة لقمان، والذاريات، وأنه كان يقرأ في الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية. وفي رواية قدر: "الم تنزيل السجدة". وفي الباب أحاديث كثيرة مختلفة. قال الحافظ: وجمع بينهما بوقوع ذلك في أحوال متغايرة إما لبيان الجواز، أو لغير ذلك من الأسباب. واستدل ابن العربي باختلافها على عدم مشروعية سورة معينة في صلاة معينة، وهو واضح فيما اختلف، لا فيما لم يختلف، كتنزيل وهل أتى، في صبح الجمعة – انتهى. (رواه مسلم) ، وأخرجه أيضاً أحمد، وأخرجه أبوداود بلفظ: كان إذا دحضت الشمس صلى الظهر وقرأ بنحو من {والليل إذا يغشى} والعصر كذلك، والصلوات كذلك إلا الصبح، فإنه كان يطيلها. 837- قوله: (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) كان سماعه لذلك قبل إسلامه لما جاء في فداء أسارى بدر، واستبدل به على صحة أداء ما تحمله الراوي في حال الكفر، وكذا الفسق إذا أداه في حال العدالة. (يقرأ في المغرب بـ {الطور} ) أي بسورة الطور. وفيه دليل على أن المغرب لا يختص بقصار المفصل، وقد ورد أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ في المغرب بسورة. (الأعراف) وأنه قرأ فيها بحم، والدخان، وأنه قرأ فيها بالمرسلات، وأنه قرأ فيها بـ {سبح اسم ربك الأعلى} وأنه قرأ فيها بـ {التين والزيتون} وأنه قرأ فيها بـ {الكافرون} و ((الإخلاص)) . وقال رافع بن خديج: كنا نصلي المغرب مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فينصرف أحدنا وإنه يبصر مواقع نبله. قال الحافظ: طريق الجمع بين هذه الأحاديث أنه - صلى الله عليه وسلم - كان أحياناً يطيل القراءة في المغرب إما لبيان الجواز، وإما لعلمه بعدم المشقة على المأمومين. وليس في حديث جبير بن مطعم دليل على أن ذلك تكرر منه. وأما حديث زيد بن ثابت يعني الذي رواه البخاري وغيره عن مروان بن الحكم قال: قال لي

زيد بن ثابت: ما لك تقرأ في المغرب بقصار المفصل وقد سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بطولى الطوليين؟. ففيه إشعار بذلك لكونه أنكر على مروان المواظبة على القراءة بقصار المفصل، ولو كان مروان يعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - واظب على ذلك لاحتج به على زيد، لكن لم يرو زيد منه فيما يظهر المواظبة على القراءة بالطوال، وإنما أراد منه أن يتعاهد ذلك كما رآه من النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي حديث أم الفضل. (يعني ما أخرجه البخاري عن ابن عباس: أن أم الفضل سمعته وهو يقرأ {والمرسلات عرفاً} فقالت: يا بني! لقد ذكرتني بقراءتك هذه السورة إنها لآخر سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بها في المغرب. زاد في رواية: "ثم ما صلى لنا بعد حتى قبضه الله عزوجل" إشعار بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الصحة بأطول من المرسلات لكونه كان في حال شدة مرضه وهو مظنة التخفيف. وقال ابن خزيمة: هذا من الاختلاف المباح، فجائز للمصلي أن يقرأ في المغرب وفي الصلوات كلها بما أحب، إلا أنه إذا كان إماماً استحب له أن يخفف في القراءة كما تقدم-انتهى. واعلم أنه ذهب الجمهور إلى استحباب قراءة قصار المفصل في المغرب، حتى ذكر الترمذي عن مالك أنه كره أن يقرأ في المغرب بالسور الطوال نحو الطور والمرسلات. وقال الشافعي: لا أكره ذلك، بل أستحب أن يقرأ بهذه السور في الصلاة للمغرب، وكذا نقله البغوي في شرح السنة عن الشافعي. والمعروف عند الشافعية أنه لا كراهة في ذلك، ولا استحباب. وأما مالك فاعتمد العمل بالمدينة بل وبغيرها. قال ابن دقيق العيد: استمر العمل من الناس على التطويل في الصبح، والقصر في المغرب، والصحيح عندنا أن ما صح في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مما لم يكثر مواظبته عليه فهو جائز من غير كراهة، وما صحت المواظبة عليه فهو في درجة الرحجان في الاستحباب- انتهى. واستدل للجمهور بحديث رافع بن خديج الذي تقدم في باب تعجيل الصلاة: أنهم كانوا ينتضلون بعد صلاة المغرب، فإنه يدل على تخفيف القراءة فيها؛ لكن ليس فيه التنصيص على القراءة بشئ من قصار المفصل. وبحديث ابن عمر قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب {قل يأيها الكافرون} و {قل هو الله أحد} ، أخرجه ابن ماجه. قال الحافظ: ومثله لابن حبان عن جابر بن سمرة. فأما حديث ابن عمر فظاهر إسناده الصحة إلا أنه معلول، قال الدارقطني: أخطأ فيه بعض رواته. وأما حديث جابر ابن سمرة ففيه سعيد بن سماك، وهو متروك، والمحفوظ أنه قرأ بهما في الركعتين بعد المغرب. وبحديث سليمان بن يسار عن أبي هريرة الآتي في الفصل الثاني، فإنه يشعر بالمواظبة على قراءة قصار المفصل في المغرب، لكن في الاستدلال به نظر. وبما روى الطحاوي وغيره عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى: أن اقرأ في المغرب بقصار المفصل. وبما روى مالك عن الصنابحي: أنه صلى المغرب خلف أبي بكر فقرأ في الركعتين الأوليين بأم القرآن، وسورة سورة من قصار المفصل، وبما روى أبوداود عن أبي عثمان النهدى أنه صلى خلف ابن مسعود المغرب فقرأ بـ {قل هوالله أحد} . وبما روى أبوداود أيضاً عن عروة: أنه كان يقرأ في المغرب بالعاديات، ونحوها من السور. وقد ظهر بما ذكرنا أنه ليس فيما ذهب إليه

الجمهور حديث مرفوع صحيح صريح نص فيه على القراءة في المغرب بشيء من قصار المفصل، قال الحافظ: لم أرَ حديثاً مرفوعاً فيه التنصيص على القراءة فيها بشيء من قصار المفصل، إلا حديثاً في ابن ماجه عن ابن عمر نص فيه (الكافرون) و (الاخلاص) ، ومثله لابن حبان عن جابر بن سمرة- انتهى. وقد تقدم ما فيهما من الكلام عن الحافظ. وأجاب الجمهور عن الأحاديث التي تدل على تطويل القراءة في المغرب بوجوه: أحدها: أن هذا كان شيئاً فترك، قاله محمد في مؤطاه. وقال أبوداود بعد ذكر أثر عروة المتقدم. هذا يدل على أن ذاك- أى حديث زيد- منسوخ. وفيه: أن النسخ لا يثبت بالادعاء والاحتمال، بل لا بد لمن يدعى أن تطويل القراءة في المغرب كان أولاً ثم ترك، أن يأتي بالحديث الناسخ الصحيح الصريح، ولا يثبت النسخ بمجرد قول محمد ولا غيره كائناً من كان، ولم يبين أبوداود وجه الدلالة على النسخ. وكأنه لما رأى عروة راوي الخبر عمل بخلافه، حمله على أنه اطلع على ناسخه، ولا يخفى بُعد هذا الحمل، وكيف يصح دعوى النسخ وأم الفضل تقول: إن آخر صلاة صلاها بهم قرأ بـ (المرسلات) . وقال صاحب التعليق الممجد: هذا الجواب مخدوش؛ لأن مبناه على احتمال النسخ، والنسخ لا يثبت بالاحتمال، ولأن كونه متروكاً إنما يثبت لو ثبت تأخر قراءة القصار على قراءة الطوال من حيث التاريخ، وهو ليس بثابت، ولأن حديث أم الفضل صريح في أن آخر ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو سور المرسلات في المغرب، فحينئذٍ إن سلك مسلك النسخ يثبت نسخ قراءة القصار لا العكس. وثانيها: أنه لعله كان يقرأ بعض السورة ثم يركع، ذكره أيضاً محمد في مؤطاه. وفيه: أن إثبات التفريق في جمع ما ورد في قراءة الطوال مشكل، وأيضاً قد ورد في رواية البخاري وغيره ما يدل على أن جبير بن مطعم سمع {الطور} بتمامه قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المغرب، فلا يفيد حينئذٍ ليت ولعل. وأيضاً قد ورد: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ بسورة (الأعراف) في المغرب، فرقها في ركعتين، كما سيأتي، ومن المعلوم أن نصف {الأعراف} لا يبلغ مبلغ القصار، فلا يفيد التفريق لإثبات القصار، كذا في التعليق الممجد. وقال الحافظ: ادعى الطحاوي أنه لا دلالة في شيء من الأحاديث على تطويل القراءة، لاحتمال أن يكون المراد أنه قرأ بعض السورة، ثم استدل لذلك بما رواه من طريق هشيم عن الزهري في حديث جبير بلفظ: سمعته يقرأ {إن عذاب ربك لواقع} [52: 7] قال: فأخبر أن الذي سمعه من هذه السورة هي هذه الآية خاصة –انتهى. وليس في السياق ما يقتضي قوله: "خاصة" مع كون رواية هشيم عن الزهري بخصوصها مضعفة، ورواية البخاري في التفسير بلفظ: "سمعته يقرأ في المغرب بـ {الطور} فلما بلغ هذه الآية: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} [52: 35] الآيات إلى قوله: {المصيطرون} [52: 37] كاد قلبي يطير" تبطل هذه الدعوى. وفي رواية ابن حبان والطبراني: سمعته يقرأ {والطور وكتاب مسطور} [52: 1، 2)) ومثله لابن سعد، وزاد في أخرى: فاستمعت قراءته حتى خرجت من المسجد. ثم ادعى الطحاوي أن الاحتمال المذكور يأتي في حديث زيد بن ثابت، وفيه نظر؛

متفق عليه. 838- (11) وعن أم الفضل بنت الحارث، قالت: ((سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب: بـ {المرسلات عرفاً} متفق عليه. 839- (12) وعن جابر، قال: ((كان معاذ بن جبل يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يأتي فيؤم قومه، فصلى ليلة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء ثم أتى قومه ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنه لو كان قرأ بشيء منها يكون قدر سورة من قصار المفصل لما كان لإنكار زيد معنى، وقد روي أن زيداً قال لمروان: إنك لتخفف القراءة في الركعتين من المغرب، فوالله لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ فيها بسورة الأعراف في الركعتين جميعاً. أخرجه ابن خزيمة-انتهى كلام الحافظ باختصار وتغيير يسير. وثالثها: أن هذا بحسب اختلاف الأحوال قرأ بالطوال لتعليم الجواز. وفيه: أنه لو كانت قراءته - صلى الله عليه وسلم - السور الطوال في المغرب لبيان الجواز لما كان ما فعله مروان من المواظبة على قصار المفصل إلا محض السنة، ولم يحسن من زيد بن ثابت إنكار ما سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يفعل غيره إلا لبيان الجواز، ولو كان الأمر كذلك لما سكت مروان عن الاحتجاج بمواظبته - صلى الله عليه وسلم - على ذلك في مقام الإنكار عليه، وأيضاً بيان الجواز لا يحتاج له إلى تكرير الفعل، وقد عرفت أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ السور الطويلة في المغرب مرات متعددة، فالظاهر أن القراءة في المغرب بطوال المفصل وقصاره وسائر السور سنة، لكن ينبغي أن يكثر من قراءة قصار المفصل، وأما الاقتصار على نوع من ذلك فهو إن انضم إليه اعتقاد أنه السنة دون غيره، مخالف لهديه - صلى الله عليه وسلم -، والله اعلم. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً مالك، وأحمد، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه. 838- قوله: (يقرأ في المغرب بـ {المرسلات عرفاً} ) أي سورة {والمرسلات} وفي الجلالين: {والمرسلات} [77: 1] . أي الرياح متتابعة كعرف الفرس يتلو بعضه بعضاً، ونصب"عرفاً" على الحال-انتهى. والعرف- بضم العين المهملة- شعر عنق الفرس. قال سليمان الجمل: أقسم تعالى بصفات خمسة، موصوفها محذوف، فجعله بعضهم"الرياح" في الكل، وبعضهم: "الملائكة" في الكل، وبعضهم غاير-انتهى. والحديث يرد على من قال: التطويل في صلاة المغرب منسوخ. كما تقدم. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً مالك، والشافعي، وأحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه. 839- قوله: (يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -) زاد مسلم في رواية: "عشاء الآخرة" فكان العشاء هي التي كان يواظب فيها على الصلاة مرتين. (ثم يأتي) أي مسجد الحي. (فيؤم قومه) وفي رواية مسلم المذكورة: فيصلي بهم تلك الصلاة. وللبخاري في الأدب: "فيصلي بهم الصلاة" أي المذكورة. وفي هذا رد على من زعم أن المراد أن الصلاة التي كان يصليها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - غير الصلاة التي كان يصليها بقومه. (فصلى) أي معاذ (ليلة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء) أي الآخرة. (ثم أتى قومه)

فأمهم، فافتح بسورة البقرة، فانحرف رجل فسلم ثم صلى وحده وانصرف، فقالوا له: أنافقت يا فلان؟ قال: لا والله، ولآتينّ رسول الله فلأخبرنه، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! إنا أصحاب النوازح، نعمل بالنهار، وإنما معاذاً صلى معك العشاء، ثم أتى قومه، فافتتح بسورة البقرة، فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على معاذ، فقال: يا معاذ! أفتان أنت؟ اقرأ {والشمس وضحاها} ، ـــــــــــــــــــــــــــــ أي بني سلمة، بكسر اللام. (فأمهم) أي في العشاء. (فافتح بسورة البقرة) أي بعد الفاتحة. وفي رواية للبخاري: فصلى العشاء، فقرأ بالبقرة. قال الحافظ: كذا في معظم الروايات، ووقع في رواية لأبي عوانة والطحاوي من طريق محارب: صلى بأصحابه المغرب، فإن حمل على تعدد القصة، أو على أن المراد بالمغرب العشاء مجازاً وإلا فما في الصحيح أصح-انتهى. (فانحرف رجل) أي مال عن الصف فخرج منه، أو انحراف من صلاته عن القبلة. والرجل هو حزم بن أبي بن كعب، كما في رواية أبي داود الطيالسي في مسنده. وقيل: سليم، كما في رواية لأحمد. وجمع بعضهم بين هذا الاختلاف بأنهما واقعتان، لكن وقوع هذه القضية مرتين بعيد كما لا يخفى، إلا أن يقال يحتمل أنه وقع من معاذ مرتين، ثم رفع الواقعتان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة. ووقع في رواية لمسلم: فانطلق رجل منا. وهذا يدل على أنه كان من بني سلمة، ويقوي رواية من سماه سليماً. (فسلم) أي قطع صلاته. قال النووي: قوله: "سلم" دليل على أنه قطع الصلاة من أصلها، ثم أستأنفها، فيدل على جواز قطع الصلاة وإبطالها لعذر. (ثم صلى وحده) أي استأنف الصلاة منفرداً؛ لأنه لم يعلم أنه لو فارق بالنية وانفرد وأتم بلا استئناف لجاز فيه ذلك، ذكره ابن الملك. (وانصرف) أي خرج من المسجد. (فقالوا) أي أصحاب معاذ. (أنافقت يا فلان؟) أي أفعلت ما يفعله المنافق من الميل والانحراف عن الجماعة، والتخفيف في الصلاة؟ قالوه تشديداً له، قاله الطيبي. (قال: لا والله، ولآتين) هو إما معطوف على الجواب، أي والله لا أنافق، ولآتين، وإما إنشاء قسم آخر والمقسم به مقدر. (إنا أصحاب نواضح) جمع ناضحة أنثى ناضح، وهو- بالنون والضاد المعجمة والحاء المهملة- ما استعمل من الإبل في سقى النخل والزرع. (نعمل بالنهار) أي نكد فيه بعمل الزراعة لأجل أمر المعاش. (فافتح بسورة البقرة) يحتمل أنه أراد معاذ أن يقرأ بعضها ويركع، فتوهم المقتدي أنه أراد إتمامها فقطع صلاته، فعاتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إبهامه ذلك، فإنه سبب للتنفير، قاله القاري. (فقال: يا معاذ!) خطاب عتاب. (أفتان) أي منفر عن الدين، وصاد عنه، وموقع للناس في الفتنة. قال الحافظ: معنى الفتنة ههنا أن التطويل يكون سبباً لخروجهم من الصلاة، وللنكرة للصلاة في الجماعة. وقال الداودي: يحتمل أن يريد بقوله: "فتان" أي معذب؛ لأنه عذبهم بالتطويل. ومنه قوله تعالى: {إن الذين فتنوا المؤمنين} [85: 10] قيل: معناه عذبوهم. (اقرأ والشمس وضحاها) الخ. أي

{والضحى} و {والليل إذا يغشى} و {سبح اسم ربك الأعلى} ـــــــــــــــــــــــــــــ إقرأ هذه السورة وأمثالها. وفي الحديث استحباب تخفيف الصلاة مراعاة لحال المأمومين، وفيه جواز خروج المأموم من الصلاة بعذر، وغير ذلك من الفوائد. واستدل بهذا الحديث للشافعي، وأحمد، وإسحاق على صحة إقتداء المفترض خلف المتنفل؛ لأن الظاهر منه أن معاذاً كان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فريضة، إذ بعيد من فقاهة معاذ - وهو أفقه الصحابة - أن يدرك الفرض خلف أفضل الأئمة في مسجده الذي هو أفضل المساجد بعد المسجد الحرام فيتركه، ويضيع حظه منه، ويقنع من ذلك بالنفل. قال الخطابي: لا يجوز على معاذ مع فقهه أن يترك فضيلة الصلاة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى فعل نفسه-انتهى. قلت: وقد جاء في الحديث رواية كأنها صريحة في كون معاذ كان ينوي بالأولى الفرض، وبالثانية النفل، ذكرها الدارقطني وغيره بلفظ: هي له تطوع ولهم فريضة. قال الحافظ: ويدل عليه ما رواه عبد الرزاق، والشافعي والطحاوي، والدارقطني وغيرهم من طريق ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن جابر في حديث الباب زاد: هي له تطوع، ولهم فريضة. وهو حديث صحيح، وقد صرح ابن جريج في رواية عبد الرزاق بسماعه فيه، فانتفت تهمة تدليسه، فقول ابن الجوزي: "أنه لا يصح" مردود. وتعليل الطحاوي بأن ابن عيينة ساقه عن عمرو أتم من سياق ابن جريج ولم يذكر هذه الزيادة، ليس بقادح في صحته؛ لأن ابن جريج أسن وأجل من ابن عيينة، وأقدم أخذاً عن عمرو منه، ولو لم يكن كذلك فهي زيادة من ثقة حافظ، ليست منافية لرواية من هو أحفظ منه، ولا أكثر عدداً، فلا معنى للتوقف في الحكم بصحتها. وأما رد الطحاوي لها باحتمال أن تكون مدرجة. (أى من قول ابن جريج أو من قول عمرو بن دينار) فجوابه: أن الأصل عدم الإدراج حتى يثبت التفصيل، فمهما كان مضموماً إلى الحديث فهو منه، ولا سيما إذا روى من وجهين، والأمر هنا كذلك، فإن الشافعي أخرجها من وجه آخر عن جابر متابعاً لعمرو بن دينار عنه. وقول الطحاوي: "هو ظن من جابر". (أى على تسليم كونها من قول جابر) مردود: لأن جابراً كان ممن يصلي مع معاذ، فهو محمول على أنه سمع ذلك منه، ولا يظن بجابر أنه يخير عن شخص بأمر غير مشاهد إلا بأن يكون ذلك الشخص أطلعه عليه. وأما قول الطحاوي: لا حجة فيها؛ لأنها لم تكن بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا تقريره، فجوابه: أنهم لا يختلفون في أن رأي الصحابي إذا لم يخالفه غيره حجة، والواقع هنا كذلك، فإن الذين كان يصلي بهم معاذ كلهم صحابة، وفيهم ثلاثون عقبياً، وأربعون بدرياً، قاله ابن حزم، قال: ولا يحفظ عن غيرهم من الصحابة امتناع ذلك، بل قال معهم بالجواز عمر، وابن عمر، وأبوالدرداء، وأنس وغيرهم. وأما قول الطحاوي: لو سلمنا جميع ذلك لم يكن فيه حجة لاحتمال أن ذلك كان في الوقت الذي كانت الفريضة فيه تصلى مرتين، أي فيكون منسوخاً بما روى عن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تصلى فريضة في يوم مرتين. فجوابه: أنه يتضمن إثبات النسخ بالاحتمال وهو لا يسوغ. وأما حديث ابن عمر ففي الاستدلال به نظر، لاحتمال أن يكون النهي عن أن يصلوها مرتين على أنها فريضة في كل مرة، وبذلك جزم البيهقي جمعاً

بين الحديثين، بل لو قال قائل: هذا النهي منسوخ بحديث معاذ لم يكن بعيداً. وأما تقوية بعضهم بكون حديث معاذ منسوخاً بأن صلاة الخوف وقعت مراراً على صفة فيها مخالفة بالأفعال المنافية في حال الأمن، فلو جازت صلاة المفترض خلف المتنفل لصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بهم مرتين على وجه لا تقع فيه منافاة، فلما لم يفعل ذلك دل على المنع. فجوابه: أنه ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم صلاة الخوف مرتين كما أخرجه أبوداود عن أبي بكرة صريحاً، وصرح فيه أنه سلم على الركعتين الأوليين، ولمسلم عن جابر نحوه، لكن ليس في روايته تصريح بالسلام على الركعتين، وأما صلاته بهم على نوع من المخالفة فلبيان الجواز. وأما قول بعضهم: كان فعل معاذ للضرورة لقلة القراءة ذلك الوقت. فهو ضعيف كما قال ابن دقيق العيد؛ لأن القدر المجزئ من القراءة في الصلاة كان حافظوه كثيراً، وما زاد لا يكون سبباً لارتكاب أمر ممنوع منه شرعاً في الصلاة-انتهى. وأما ما رواه أحمد، والطحاوي، وابن عبد البر، عن معاذ بن رفاعة، عن سليم رجل من بني سلمة: أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يارسول الله - صلى الله عليه وسلم -! إن معاذ بن جبل يأتينا-الحديث. وفي آخره:: "يا معاذ! لا تكن فتاناً، إما أن تصلي معي، وإما أن تخفف على قومك". واستدل به الطحاوي على أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى معاذاً عن ذلك، وادعى أن قوله: "إما أن تصلي معي، وإما أن تخفف على قومك" معناه: إما أن تصلي معي، ولا تصلي بقومك وإما أن تخفف بقومك، أي ولا تصلي معي. ففيه: أن في صحة هذه الرواية كلاماً، قال ابن حزم في المحلى (ج4: ص230) : هذا خبر لا يصح؛ لأنه منقطع؛ لأن معاذ بن رفاعة لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا أدرك هذا الذي شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمعاذ؛ لأن هذا الشاكي – أي سليماً صاحب القصة – قتل يوم أحد. ثم في صحة ما ذكره الطحاوي في معنى قوله: "إما أن تصلي معي، وإما أن تخفف على قومك" كلام أيضاً. قال الحافظ في الفتح: وأما دعوى الطحاوي أن معناه: إما أن تصلي معي ولا تصل بقومك، وإما أن تخفف بقومك ولا تصل معي، ففيه نظر؛ لأن لمخالفه أن يقول: بل التقدير: "إما أن تصلي معي فقط إذا لم تخفف، وإما أن تخفف بقومك فتصلي معي". وهو أولى من تقديره لما فيه من مقابلة التخفيف بترك التخفيف؛ لأن هو المسؤل عنه المتنازع فيه-انتهى. قلت: ورواية عبد الرزاق والشافعي وغيرهما بزيادة: "هي له تطوع ولهم فريضة" تؤيد المعنى الذي بيّنه الحافظ، وتوهن المعنى الذي بينه الطحاوي. واستدل الحنفية على عدم جواز اقتداء المفترض بالمتنفل بما روي مرفوعاً: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه. قالوا: لا اختلاف أشد من الاختلاف في النيات في صلاة فرضين، أو تنفل الإمام وافتراض المقتدي. وأجيب: بأن الاختلاف المنهي عنه مقصور على الاختلاف في الأفعال الظاهرة؛ لأن الاختلاف في النيات لا يظهر به مخالفة الإمام عند الناس، ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بين في هذا الحديث نفسه المواضع التي يلزم الائتمام بالإمام فيها، ويحرم الاختلاف عليه فيها، وهي قوله - عليه السلام -: فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى قاعداً فصلوا قعودا. فههنا أمر- عليه السلام -بالائتمام

متفق عليه. 840- (13) وعن البراء، قال: ((سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في العشاء: {والتين والزيتون} وما سمعت أحداً أحسن صوتا منه)) متفق عليه. 841- (14) وعن جابر بن سمرة، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الفجر: بـ {ق والقرآن المجيد} ونحوها، ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه، وعدم الاختلاف عليه لا في النية. وأيضاً: لو عمم هذا الاختلاف المنهي عنه للزم عدم جواز اقتداء المتنفل بالمفترض لوجود الاختلاف في النيات، فظهر أن الحديث ليس بمحمول على العموم عندهم أيضاً. ولو سلمنا: أنه يعم كل الاختلاف لكان حديث معاذ أو نحوه مخصصاً له. واستدلوا أيضاً بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الإمام ضامن" بمعنى يضمنها صحة وفساداً، والمفترض أقوى حالاً من المتنفل فلا يتضمنه ما هو دونه. وفيه: أن معنى الضمان هنا هو الحفظ والرعاية في الأفعال الظاهرة لا التكفل في الصحة والفساد، والمعنى أن الإمام يحفظ ويراعي الصلاة وعدد الركعات وغير ذلك من الأفعال الظاهرة على القوم، والله أعلم. (متفق عليه) واللفظ لمسلم، وأخرجه البخاري مطولاً في غير موضع بألفاظ مختلفة، وأخرجه أيضاً أحمد، وأبوداود، والنسائي وغيرهم. 840- قوله: (سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في العشاء) أي في الركعة الأولى من صلاة العشاء، كما في رواية النسائي {والتين والزيتون} وقرأ في الثانية {إنا أنزلناه} وهما من قصار أوساط المفصل، وإنما قرأ في العشاء بقصار الأوساط لكونه مسافراً، ففي رواية للبخاري: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في سفره، فقرأ في العشاء في إحدى الركعتين بـ {التين والزيتون} . والسفر يطلب فيه التخفيف، وقصة معاذ كانت في الحضر، فلذلك أمر فيها بقراءة أوساط المفصل، وهذا يدل على أن القراءة في صلاة السفر ليست كالقراءة في صلاة الحضر. والمفصل: من (الحجرات) إلى آخر القرآن على القول الراجح، وطواله: من سورة (الحجرات) إلى (البروج) . وأوساطه: من (البروج) إلى سورة (لم يكن) . وقصاره: من سورة (لم يكن) إلى آخر القرآن. وسمى مفصلاً لكثرة الفصل بين سورة بالبسملة. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه. 841- قوله: (كان يقرأ في الفجر بـ {ق والقرآن المجيد} ونحوها) بالجر، وهو ظاهر، وقيل بالنصب عطفاً على محل الجار والمجرور، وقوله: "كان يقرأ" الخ. ينبغي أن يحمل على الغالب من حاله - صلى الله عليه وسلم -، أو تحمل: "كان" على أنها لمجرد وقوع الفصل لا للاستمرار والدوام؛ لأنه قد ثبت أنه قرأ في الفجر {إذا الشمس كورت} وثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بمكة الصبح فاستفتح سورة (المؤمنين) كما سيأتي. وأنه قرأ بـ {الطور} . ذكره البخاري تعليقاً من حديث أم سلمة، وأنه كان يقرأ في ركعتي الفجر أو إحداهما ما بين الستين إلى المائة. أخرجه الشيخان من حديث أبي برزة، وأنه قرأ (الروم)

وكانت صلاته بعد تخفيفاً)) رواه مسلم. 842- (15) وعن عمرو بن حريث ((أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الفجر {والليل إذا عسعس} رواه مسلم 843- (16) وعن عبد الله بن السائب، قال: ((صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبح ـــــــــــــــــــــــــــــ أخرجه النسائي. وأنه قرأ (المعوذتين) أخرجه النسائي أيضاً، وأنه قرأ {إنا فتحنا لك فتحا مبيناً} [48: 1] ، أخرجه عبد الرزاق عن أبي بردة، وأنه قرأ (الواقعة) أخرجه عبد الرزاق أيضاً، وأنه قرأ بـ (يونس وهود) أخرجه ابن شيبة في مسنده، وأنه قرأ {إذا زلزلت} أخرجه أبوداود، وأنه قرأ (الم تنزيل السجدة) و {هل أتى على الإنسان} كما سيأتي. والجمع بين هذه الروايات أنه وقع ذلك منه - صلى الله عليه وسلم - باختلاف الحالات والأوقات والأشغال عدماً ووجودا. ً (وكانت صلاته بعد) أي بعد صلاة الفجر. (تخفيفاً) يعني أن قراءته في بقية الصلوات الخمس كانت أخف من قراءته في صلاة الفجر. وقيل: أي بعد ذلك الزمان، فإنه- عليه السلام -كان يطول أو الهجرة لقلة أصحابه، ثم لما كثر الناس وشق عليهم التطويل لكونهم أهل أعمال من تجارة وزراعة خفف رفقاً بهم، قاله القاري. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد. 842- قوله: (وعن عمرو بن حريث) مصغراً، ابن عمرو بن عثمان بن عبد الله بن عمر مخزوم القرشي أبوسعيد المخزومي الكوفي، صحابي صغير. له ثمانية عشر حديثاً، انفرد له مسلم بحديثين. قال ابن عبد البر: رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسمع منه، ومسح برأسه، ودعا له بالبركة. قيل قبض النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثنتي عشرة سنة. نزل الكوفة وابتنى بها داراً، وسكنها، وولده بها. وكان قد ولى إمارة الكوفة لزياد، ولابنه عبيد الله بن زياد، مات بها سنة (85) . روى عنه ابنه جعفر وغيره. (يقرأ في الفجر: {والليل إذا عسعس} ) أي يقرأ بالسورة التي فيها {والليل إذا عسعس} [81: 17] لا أنه اقتصر على هذه الآية واكتفى بها. ذكر في شرح السنة أن الشافعي قال: يعني به {إذا الشمس كورت} بناء على أن قراءة السورة بتمامها وإن قصرت أفضل من بعضها وإن طال، قاله الطيبي. فالمعنى: قرأ سورة هذه الآية فيها، والغالب من قراءته- عليه السلام -السورة التامة، بل قال بعضهم: لم ينقل عنه- عليه السلام - قراءته السورة في الفرائض إلا كاملة، ولم ينقل عنه التفريق إلا في المغرب، قرأ فيها (الأعراف) في ركعتين. وسيأتي مزيد الكلام في شرح حديث عبد الله بن السائب. ومعنى: "عسعس" أدبر. وقيل: أقبل ظلامه. وقيل: هو من الأضداد. ويقال: إذا أقبل وإذا أدبر. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي وابن ماجه. 843- قوله: (وعن عبد الله بن السائب) بن أبي السائب صيفي بن عائذ بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المكي، له ولأبيه صحبة، وكان أبوه شريك النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان ابنه عبد الله قارئ أهل مكة، أخذ عنه أهل مكة القراءة، قرأ عليه

بمكة. فاستفتح سورة المؤمنين، حتى جاء ذكر موسى وهارون – أو ذكر عيسى – أخذت النبي - صلى الله عليه وسلم - سعلة فركع)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ مجاهد وغيره. مات بمكة سنة بضع وستين قبل قتل عبد الله بن الزبير، وهو عبد الله بن السائب قائد ابن عباس، أفرده صاحب الكمال بالذكر وهو هو، وله سبعة أحاديث، انفرد له مسلم بحديث، روى عنه عطاء وغيره. (بمكة) أي في فتحها كما في رواية النسائي. (فاستفتح سورة المؤمنين) أراد به {قد أفلح المؤمنون} . (حتى جاء ذكر موسى) بالرفع، قال القاري: وفي نسخة بالنصب، أي حتى وصله النبي - صلى الله عليه وسلم -. (وهارون) أي قوله تعالى: {ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون} [23: 45] . (أو عيسى) أي {وجعلنا ابن مريم وأمه آية} [23: 50] . و: "أو" للشك من محمد بن عباد بن جعفر الراوي. (سعلة) بفتح السين، ويجوز الضم، أي سعال، وهي حركة تدفع بها الطبيعة أذى عن الرئة والأعضاء التي تتصل بها. قال الطيبي: السعلة فعلة من السعال، وإنما أخذته من البكاء يعني عند تدبر تلك القصص بكى حتى غلب عليه السعال ولم يتمكن من إتمام السورة. وفي رواية ابن ماجه: فلما أتى على ذكر عيسى أصابته شرقة. قال السندي: أي شرق بدمعه يعني للقراءة. وقيل: شرق بريقه. وفي القاموس: شرق بريقه كفرح غص-انتهى. واستدل بالحديث على أن السعال لا يبطل الصلاة، وهو واضح فيما إذا غلبه، ويؤخذ منه أن قطع القراءة لعارض السعال ونحوه أولى من التمادي في القراءة مع السعال أو التنحنح، ولو استلزم تخفيف القراءة فيما استحب فيه تطويلها. واستدل به على جواز قراءة بعض السورة في الفريضة. وفيه: أن الاقتصار على بعض السورة ههنا للضرورة، فالاستدلال به على الاقتصار بلا ضرورة لا يتم، فالأولى الاستدلال بقراءته - صلى الله عليه وسلم - بسورة الأعراف في المغرب حيث فرقها في ركعتين، فإنه لم يذكر ضرورة، ففيه القراءة بالأول وبالأخير، وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن أبي بكر الصديق: أنه أم الصحابة في صلاة الصبح بسورة البقرة فقرأها في الركعتين. وهذا إجماع منهم. وروى محمد بن عبد السلام الخشني من طريق الحسن البصري قال: غزونا خراسان ومعنا ثلاث مائة من الصحابة، فكان الرجل منهم يصلي بنا فيقرأ آيات من السورة ثم يركع. أخرجه ابن حزم محتجاً به. وروى الدارقطني بإسناد قوي عن ابن عباس: أنه قرأ الفاتحة وآية من البقرة في كل ركعة، كذا في الفتح. قال شمس الدين أبوالفرج ابن قدامة في الشرح الكبير على متن المقنع (ج1: ص618) : المشهور عن أحمد أنه لا يكره قراءة أواخر السورة وأوساطها في الصلاة، نقلها عنه جماعة لقول الله تعالى {فاقرؤوا ما تيسر منه} [73: 20] ؛ ولأن أبا سعيد قال: أمرنا أن نقرأ فاتحة الكتاب وما تيسر. رواه أبوداود، وروى الخلال بإسناده: أن ابن مسعود كان يقرأ في الآخر من صلاة الصبح آخر (آل عمران) وآخر (الفرقان) وقال أبوبرزة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بالستين إلى المائة. ففيه دليل على أنه لم يكن يقتصر على قراءة سورة. ولأن آخرها أحد طرفي السورة فلم يكره كأولها. وعن أحمد: أنه يكره في الفرض. نقلها عنه المروذي وقال: سورة أعجب إلى، وقال المروذي: وكان

رواه مسلم. 844- (17) وعن أبي هريرة، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الفجر يوم الجمعة بـ {الم تنزيل} في الركعة الأولى، وفي الثانية {هل أتى على الإنسان} . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأبي عبد الله قرابة يصلي به فكان يقرأ في الثانية من الفجر بآخر السورة، فلما أكثر قال أبوعبد الله: تقدم أنت فصل، فقلت: هذا يصلي بكم منذ كم؟ قال: دعنا منه يجيء بآخر السور، وكرهه. قال شيخنا: ولعل أحمد إنما أحب إتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما نقل عنه، وكره المداومة على خلاف ذلك، فإن المنقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قراءة السورة، أو بعض السورة من أولها، ونقل عنه رواية ثالثة أنه يكره قراءة أوسط السورة دون آخرها لما روينا في آخر السور عن عبد الله بن مسعود، ولم ينقل مثل ذلك في وسطها. قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: الرجل يقرأ آخر السورة في الركعة، فقال: أليس قد روي في هذا رخصة عن عبد الرحمن بن يزيد وغيره؟ قال: فأما قراءة أوائل السور فلا خلاف في أنه غير مكروه، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ من سورة المؤمنين إلى ذكر موسى وهارون، ثم أخذته سعلة فركع، وقرأ سورة الأعراف في المغرب فرقها مرتين. رواه النسائي- انتهى. قلت: لا شك أنه يجوز القراءة في لفريضة من أوائل السورة وأواخرها وأوساطها؛ لأن الكل كتاب الله، لكن الأولى والأفضل قراءة السورة كاملة، فإنه الغالب من فعله - صلى الله عليه وسلم -. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً النسائي، وابن ماجه. وذكره البخاري في صحيحه معلقاً بقوله: ويذكر عن عبد الله بن السائب، للاختلاف في سنده مع كونه مما تقوم به الحجة. 844- قوله: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الفجر) أي في صلاة الفجر. (يوم الجمعة) لعل السر في قراءة هاتين السورتين في صلاة فجر يوم الجمعة أنهما تضمنتا ما كان وما يكون في يومها، فإنهما اشتملتا على خلق آدم، وعلى ذكر المبدأ والمعاد، وحشر العباد، وأحوال يوم القيامة، وكل ذلك كان، وسيقع يوم القيامة، ففي قراءتها تذكير للعباد ليعتبروا بذكر ما كان ويستعدوا لما يكون. (بـ {الم تنزيل} ) بضم اللام على الحكاية، وزاد في رواية: "السجدة" بالنصب عطف بيان. {هل أتى على الإنسان} أي بكمالها ويسجد فيها كما في المعجم الصغير للطبراني من حديث علي: أنه - صلى الله عليه وسلم - سجد في صلاة الصبح في: "تنزيل السجدة". لكن في إسناده ضعف. قال الحافظ: في الحديث دليل على استحباب قراءة هاتين السورتين في هذه الصلاة من هذا اليوم لما تشعر الصيغة به من مواظبته - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، أو إكثاره منه، بل ورد من حديث ابن مسعود التصريح بمداومته - صلى الله عليه وسلم - على ذلك. أخرجه الطبراني، ولفظه: يديم ذلك. وأصله في ابن ماجه بدون هذه الزيادة، ورجاله ثقات، لكن صوب أبوحاتم إرساله- انتهى. قال ابن حجر: تصويب أبي حاتم إرساله لا ينافي الاحتجاج به، فإن المرسل يعمل به في مثل ذلك إجماعاً، على أن له شاهداً أخرجه الطبراني أيضاً في الكبير عن ابن عباس بلفظ:

متفق عليه. 845- (18) وعن عبيد الله بن أبي رافع، قال: ((استخلف مروان أباهريرة على المدينة، وخرج إلى مكة، فصلى لنا أبوهريرة الجمعة، فقرأ سورة الجمعة في السجدة الأولى، وفي الآخرة {إذا جاءك المنافقون} فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بهما يوم الجمعة)) رواه مسلم. 846- (19) وعن النعمان بن بشير، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في العيدين، وفي الجمعة: بـ {سبح اسم ربك الأعلى} و {هل أتاك حديث الغاشية} . ـــــــــــــــــــــــــــــ كل جمعة- انتهى. وبالجملة فالزيادة المذكورة نص في ذلك، فدل على السنية. وبه أخذ الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وقال به أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين، كما نقله ابن المنذر وغيره. وقال صاحب المحيط من الحنفية: يستحب قراءة هاتين السورتين في صبح يوم الجمعة بشرط أن يقرأ غير ذلك أحياناً لئلا يظن الجاهل أنه لا يجزئ غيره. وقريب منه قول الطحاوي فإنه خص الكراهة بمن يراه حتماً لا يجزئ غيره، أو يرى القراءة بغيره مكروهة. وأما صاحب الهداية منهم فذكر أن علة الكراهة هجران الباقي وإيهام التفضيل. قلت: كل ما ذكره الحنفية والمالكية في تعليل الكراهة مردود لكونه في مقابلة النص، والحق أن قراءة هاتين السورتين في صبح يوم الجمعة والمداومة عليهما مع اعتقاد جواز غيرهما سنة، ولله در السندي فقد باح بالحق حيث قال: على كل تقدير المداومة عليهما خير من المداومة على تركهما. (متفق عليه) واللفظ لمسلم، وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي، وابن ماجه، وفي الباب عن ابن عباس أخرجه أحمد، ومسلم، والترمذي، وأبوداود، والنسائي. وابن مسعود أخرجه ابن ماجه، والطبراني. وسعد بن أبي وقاص أخرجه ابن ماجه. وعلي أخرجه الطبراني في الصغير والأوسط. 845- قوله: (وعن عبيد الله بن أبي رافع) المدني مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - روى عن أبيه وأمه سلمى، وعن علي، وكان كاتبه، وأبي هريرة. وهو ثقة، من الطبقة الوسطى من التابعين. (استخلف مروان أباهريرة على المدينة) أي جعله خليفته ونائبه عليها. (وخرج) أي مروان. (الجمعة) أي صلاتها. (في السجدة الأولى) أي الركعة الأولى. (إذا جاءك المنافقون) أي سورتها، أو إلى آخرها. (فقال) أي أبوهريرة. (يقرأ بهما) أي تينك السورتين. (يوم الجمعة) أي في صلاة الجمعة. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد، والترمذي، وأبوداود، وابن ماجه. 846- قوله: (بـ {سبح اسم ربك} ) أي في الركعة الأولى. (و {هل أتاك حديث الغاشية} ) أي في الركعة الثانية. وروى مالك، وأحمد، ومسلم، وغيرهم عن النعمان بن بشير: وسأله الضحاك ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ يوم الجمعة على

قال: وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد قرأ بهما في الصلاتين. رواه مسلم. 847- (20) وعن عبيد الله: ـــــــــــــــــــــــــــــ أثر سورة الجمعة؟ قال كان يقرأ: {هل أتاك حديث الغاشية} فتحصل من أحاديث الباب أن السنة أن يقرأ الإمام في صلاة الجمعة في الركعة الأولى بالجمعة، وفي الثانية بالمنافقين، أو في الأولى بـ {سبح اسم ربك الأعلى} وفي الثانية بـ {هل أتاك حديث الغاشية} . قال السندي: الاختلاف محمول على جواز الكل واستنانه، وأنه فعل تارة هذا وتارة ذاك، فلا تعارض في أحاديث الباب- انتهى. وإنما خص هذه السور بالجمعة لما في سورة الجمعة من الحث على حضورها، والسعي إليها، وفي سورة المنافقين من توبيخ أهل النفاق وحثهم على التوبة، فإن المنافقين يكثر اجتماعهم في صلاتها، وفي سورة الأعلى والغاشية من التذكير بأحوال الآخرة والوعد والوعيد ما يناسب قراءتها في تلك الصلاة الجامعة. (قال) أي النعمان. (قرأ بهما) أي بالسورتين. (في الصلاتين) قال النووي: فيه استحباب القراءة في العيدين والجمعة بـ {سبح اسم ربك الأعلى} و {هل أتاك حديث الغاشية} . وفي الحديث الآخر- يعني حديث أبي واقد الآتي- القراءة في العيد بقاف واقتربت، وكلاهما صحيح، فكان - صلى الله عليه وسلم - في وقت يقرأ في الجمعة (الجمعة) و (المنافقين) . وفي وقت (سبح) و (هل أتاك) . وفي وقت يقرأ في العيد (قاف) و (اقتربت) وفي وقت. (سبح) و (هل أتاك) - انتهى. وقال أبوحنيفة وأصحابه: يقرأ الإمام في الجمعة والعيدين بعد الفاتحة أي سورة شاء، ولو قرأ هذه السور في أغلب الأحوال تبركاً بالإقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحسن، ولكن لا يواظب على قراءتها، بل يقرأ غيرها في بعض الأوقات كيلا يؤدي إلى هجر الباقي، ولا يظنه العامة حتماً، كذا في البدائع وغيره من كتب الحنفية. وهذا يدل على أن قراءة هذه السور في الجمعة والعيدين ليست بسنة عند الحنفية، خلافاً لما ذهب إليه الجمهور. وقول الجمهور هو الحق والصواب؛ لأنه تواترت الروايات بذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال ابن رشد وابن عبد البر ولم يصح عنه غير ذلك فلا شك في كونها سنة. وتعليل الحنفية بأن المواظبة على قراءتها تؤدي إلى هجران الباقي، وظن العامة واعتقادهم قراءتها فيها حتماً، باطل؛ لأنه لو صح هذا التعليل لزم أن لا يكون قراءة قصار المفصل في المغرب سنة؛ لإفضاء المواظبة عليها إلى هجران بقية القرآن، واعتقاد العامة قراءة القصار فيها حتماً. وأيضاً على فرض حصول هذه المفسدة الأخيرة على ما زعموا تدفع بالتنبيه والتعليم كما هي عادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا بالترك والهجران. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي. 847- قوله: (وعن عبيد الله) هو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي المدني الإمام التابعي الأعمى، أحد فقهاء المدينة السبعة، ثقة، فقيه، ثبت، مأمون، شاعر مجيد، جامع للعلم. قال ابن عبد البر: كان أحد الفقهاء

أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثي: ((ما كان يقرأ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأضحى والفطر؟ فقال: يقرأ فيهما بـ {ق والقرآن المجيد} و {اقتربت الساعة} رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ العشرة ثم السبعة الذين يدور عليهم الفتوى، وكان عالماً فاضلاً مقدماً في الفقه، تقياً، شاعراً محسناً، لم يكن بعد الصحابة إلى يومنا فيما علمت فقيه أشهر منه، ولا شاعر أفقه منه. مات سنة (94) وقيل: (98) وقيل: (99) . (أن عمر بن الخطاب) هذه الرواية منقطعة، فإن عبيد الله لم يدرك عمر - رضي الله عنه -، لكن الحديث صحيح متصل بلا شك، فإنه وقع في رواية أخرى لمسلم عن عبيد الله عن أبي واقد، قال: سألني عمر بن الخطاب. فإنه أدرك أباواقد بلا شك، وسمع منه بلا خلاف. (سأل أباواقد الليثى) صحابي قديم الإسلام، مختلف في اسمه؛ فقيل: الحارث بن مالك، وقيل: ابن عوف، وقيل: عوف بن الحارث. عداده في أهل المدينة، وجاور بمكة سنة، ومات بها سنة (68) وهو ابن (85) سنة. له سبعة وعشرون حديثاً، اتفقا على حديث، وانفرد مسلم بآخر. وسأله عمر رضي الله عنه اختباراً له هل حفظ ذلك أم لا؟ أو لزيادة التوثيق، ويحتمل أنه نسي. وأما الاحتمال أنه ما علم بذلك أصلاً، فيأباه قرب عمر منه - صلى الله عليه وسلم -. قال القاضي وغيرهم: يحتمل أن عمر شك في ذلك فاشتبه عليه، أو أراد إعلام الناس بذلك، أو نازعه غيره ممن سمعه يقرأ في ذلك بـ (سبح) و (هل أتاك) فأراد عمر الاستشهاد عليه بما سمعه أيضاً أبوواقد، أو نحو ذلك. قال العراقي: ويحتمل أن عمر كان غائباً في بعض الأعياد عن شهوده، وأن ذلك الذي شهده أبوواقد كان في عيد واحد أو أكثر. قال: ولا عجب أن يخفى على الصاحب الملازم بعض ما وقع من مصحوبة كما في قصة الاستئذان ثلاثاً، وقول عمر: خفي علي هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ألهاني الصفق بالأسواق- انتهى. (ما كان يقرأ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأضحى والفطر؟) أي شيء كان يقرأ في ركعتيهما. (فقال) أي أبوواقد. (يقرأ أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (فيهما بـ {ق والقرآن المجيد} ) في الركعة الأولى. (و {اقتربت الساعة} ) في الركعة الثانية. فيه دليل للشافعي وموافقيه أنه تسن القراءة بهما في العيدين. والحكمة في قراءتهما لما اشتملتا عليه من الإخبار بالبعث، والإخبار عن القرون الماضية، وإهلاك المكذبين، وتشبيه بروز الناس للعيد ببروزهم لبعث، وخروجهم من الأجداث كأنهم جراد منتشر، وأما سورة (سبح) و (هل أتاك) فقيل: إن ذلك لما في سورة (سبح) من الحث على الصلاة، وزكاة الفطر على ما قال سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز في تفسير قوله تعالى: {قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى} فاختصت الفضيلة بها كاختصاص الجمعة بسورتها. وأما: "الغاشية" فللموالاة بين (سبح) وبينا كما بين (الجمعة) و (المنافقين) والله أعلم. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً مالك، والشافعي، وأحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه.

848- (21) وعن أبي هريرة، قال: ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ في ركعتي الفجر: {قل يا أيها الكافرون} و {قل هو الله أحد} رواه مسلم. 849- (22) وعن ابن عباس، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في ركعتي الفجر: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا} والتي في آل عمران {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء ـــــــــــــــــــــــــــــ 848- قوله: (قرأ في ركعتي الفجر) أي في سنة الفجر وهي المشهورة. بهذا الاسم {قل يا أيها الكافرون} و {قل هو الله أحد} أي كل سورة بعد الفاتحة إلا أنه تركها الراوي لظهورها، وهذا شائع كثير في الأحاديث المرفوعة القولية والفعلية ذكر فيها السور دون الفاتحة لظهورها وشهرتها، وهذا يدل على تأكد وجوب الفاتحة. وفي الحديث دليل على استحباب قراءة سورتي (الإخلاص) في ركعتي الفجر. ويدل عليه أيضاً ما رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، وابن أبي شيبة، وابن عدي، والطحاوي عن ابن عمر، قال: رمقت النبي - صلى الله عليه وسلم - شهراً فكان يقرأ في الركعتين قبل الفجر بـ {قل يأيها الكافرون} و {قل هو الله أحد} ورواه الطبراني في الكبير، وأبويعلى الموصلي بلفظ آخر. وللترمذي عن ابن مسعود، أنه قال: ما أحصى ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في الركعتين- الحديث. وسيأتي. ولابن ماجه، والدارمي، وابن أبي شيبة عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي ركعتين قبل الفجر، وكان يقول: نعم السورتان هما يقرأ بهما في ركعتي الفجر {قل هو الله أحد} و {قل يا أيها الكافرون} . وأخرج البزار والطحاوي، عن أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في ركعتي الفجر بـ {قل يا أيها الكافرون} و {قل هو الله أحد} وأخرج ابن حبان في صحيحه، والطحاوي عن جابر في قراءة سورتي. (الإخلاص) حديثاً تقريرياً، ذكره الحافظ في الفتح. وهذه الأحاديث دليل صريح لمذهب الجمهور أنه يستحب أن يقرأ فيهما بعد الفاتحة سورة، ويستحب أن تكون هاتان السورتان أو الآيات المذكورة في حديث ابن عباس، وحديث أبي هريرة الآتيين كلها سنة، فالمصلي مخير إن شاء قرأ مع فاتحة الكتاب في كل ركعة ما في هذه الأحاديث، وإن شاء قرأ ما في حديث ابن عباس وحديث أبي هريرة الآتيين. وقال مالك وجمهور أصحابه: لا يقرأ فيهما غير الفاتحة. وقال بعض السلف: لا يقرأ فيهما شيئاً، وكلاهما خلاف هذه الأحاديث التي لا معارض لها. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أبوداود، والنسائي، وابن ماجه. 849- قوله: (قولوا آمنا بالله وما أنزل علينا) أي يقرأ في الأولى منهما الآية التي في البقرة وتمامها {وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون} [2: 136] . (والتي في آل عمران) في الركعة الثانية {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء

{الفصل الثاني}

بيننا وبينكم} . رواه مسلم. {الفصل الثاني} 850- (23) عن ابن عباس، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفتتح صلاته بـ {بسم الله الرحمن الرحيم} . رواه الترمذي، وقال: هذا حديث ليس إسناده بذاك. ـــــــــــــــــــــــــــــ أي مستوية. (بيننا وبينكم) أي لا يختلف فيها القرآن، والتوراة، والإنجيل: وقيل: إنما خاطبهم بهذا باعتبار مزعومهم ودعواهم، فإن النصارى أيضاً يدعون التوحيد مع شركهم الجلي، وكذلك اليهود، وكذلك أكثر المشركين لا يؤمنون بالله إلا وهم مشركون، ولكن هؤلاء كلهم يدعون التوحيد بأفواههم وألسنتهم، فدعاهم في هذه الآية إلى التوحيد الصحيح الخالص بعد اشتراكهم فيه بحسب الصورة، وبقية الآية {ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} [3: 64] . وفي حديث أبي هريرة عند أبي داود: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في ركعتي الفجر: {قل آمنا بالله وما أنزل علينا} [3: 84] في الركعة الأولى، وفي الركعة الأخرى بهذه الآية: {ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين} [3: 53] ، أو {إنا أرسلنك بالحق بشيراً ونذيراً ولا تسئل عن أصحاب الجحيم} [2: 119] شك الدراوردي أي عبد العزيز بن محمد. والحديث دليل على جواز قراءة بعض السورة بل أوسطها لكن في النافلة. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أبوداود، والنسائي. 850- قوله: (يفتتح صلاته بـ {بسم الله الرحمن الرحيم} ) ظاهره يدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يجهر بالبسملة، ولذلك بوب الترمذي عليه: "باب من رأى الجهر بـ {بسم الله الرحمن الرحيم} لكن الحديث ضعيف كما سيأتي. (رواه الترمذي) وأخرجه أيضاً الحاكم، والدارقطني وابن عدي. (ليس إسناده بذاك) أي بذاك القوى. قال الطيبي: المشار إليه: "بذاك" ما في ذهن من يعتني بعلم الحديث، ويعتد بالإسناد القوي- انتهى. قلت: في سنده إسماعيل بن حماد بن أبي سليمان عن أبي خالد، وإسماعيل بن حماد هذا وثقه ابن معين. وقال أبوحاتم: شيخ يكتب حديثه. وقال العقيلي: ضعيف، حديثه غير محفوظ، ويحكيه عن مجهول. وقال البزار: إسماعيل لم يكن بالقوي. وقال الأزدي: يتكلمون فيه. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الحافظ في التقريب: صدوق. وأبوخالد هو الوالبي، واسمه هرمز، وقيل: هرم، كوفي. قال ابن عدي: هو مجهول، والحديث غير محفوظ، وقال أبوزرعة: لا أعرف أباخالد، وقال العقيلي: مجهول، وقال الذهبي: أبوخالد عن ابن عباس لا يعرف. وقال أبوحاتم: صالح الحديث. وقال الحافظ في التقريب: مقبول من كبار التابعين، وفد على عمر. وقيل: حديثه عنه مرسل، فيكون من أوساط التابعين. وقال أبوداود: هو حديث ضعيف. وللحديث طريق أخرى عن ابن عباس، رواها الحاكم بلفظ: كان يجهر في الصلاة بـ {بسم الله الرحمن الرحيم} .

851- (24) وعن وائل بن حجر، قال: ((سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} فقال: آمين، مد بها صوته)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ وصححها الحاكم هذه الطريق، وخطأه الحافظ في ذلك؛ لأن في إسنادها عبد الله بن عمرو بن حسان، وقد نسبه ابن المديني إلى الوضع للحديث. وقد رواه الدارقطني وإسحاق بن راهوية في مسنده، عن يحيى بن آدم، عن شريك. ولم يذكر ابن عباس في إسناده بل أرسله، وهو الصواب من هذا الوجه، قاله الحافظ في التلخيص (ص88) ، وقال أبوعمر: الصحيح في هذا الحديث أنه روى عن ابن عباس من فعله، لا مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. 851- قوله: (وعن وائل بن حجر) بتقديم الحاء المهملة المضمومة على الجيم الساكنة، صحابي جليل، كان من ملوك اليمن من بقية أولاد الملوك بحضر موت، قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزله، وأصعده معه على المنبر، وأقطعه القطائع، وكتب له عهداً، وقال: هذا وائل بن حجر سيد الأقيال، جاءكم حباً لله ولرسوله. ثم سكن الكوفة، ومات في خلافة معاوية، وتقدم ترجمته بأبسط من هذا. (فقال: آمين) فيه دليل على أن الإمام يقول آمين، خلافاً لما رواه ابن القاسم عن مالك: أن الإمام لا يقول آمين، وإنما يقول ذلك من خلفه، وهو قول المصريين من أصحاب مالك، وقال جمهور أهل العلم: يقولها الإمام كما يقولها المنفرد والمأموم، وهو قول مالك في رواية المدنيين، وقول الجمهور هو الحق. (مد بها صوته) أي رفع بكلمة آمين صوته وجهر، ورواه أبوداود بإسناد صحيح بلفظ: فجهر بآمين. ورواه أيضاً بإسناد صحيح بلفظ: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قرأ {ولا الضالين} [7:1] . قال: آمين، ورفع بها صوته. فظهر أن المراد من قوله: "ومد بها صوته" جهر بها ورفع صوته بها، فإن الروايات يفسر بعضها بعضاً، ولهذا قال الترمذي عقب رواية الحديث بلفظ: "مد بها صوته"، وبه يقول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، والتابعين، ومن بعدهم، يرون أن يرفع الرجل صوته بالتأمين ولا يخفيها. وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي في اللمعات: قوله: "مد بها صوته" أي بكلمة آمين، يحتمل الجهر بها، ويحتمل مد الألف على اللغة الفصيحة. والظاهر هو الأول بقرينة الروايات الأخر، ففي بعضها: يرفع بها صوته. هذا صريح في معنى الجهر- انتهى. قلت: حمل هذا اللفظ على رفع الصوت والجهر متعين للروايات الأخر لهذا الحديث، ولأن لفظ المد مع الصوت لا يطلق إلا على رفع الصوت والجهر كما لا يخفى على من تتبع مظان استعمال هذا اللفظ وموارده. فالحديث حجة قوية لمن قال باستنان الجهر بالتأمين ورفع الصوت به. وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق، وهو القول الأرجح القوي المعول عليه، لأنه لم يثبت في الإسرار بالتأمين وترك الجهر به شيء، لا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من الصحابة كما ستعرف. وقد ورد في الجهر به أحاديث كثيرة أكثرها صحيحة، فمنها: حديث وائل هذا. ومنها: حديث أبي هريرة السابق: "إذا أمن الإمام فأمنوا" وقد تقدم تقريره.

وقال ابن القيم في إعلام الموقعين: قال الربيع: سئل الشافعي عن الإمام هل يرفع صوته بآمين؟ قال: نعم، ويرفع بها من خلفه أصواتهم. فقلت: ما الحجة؟ قال: أنا مالك، وذكر حديث أبي هريرة المتفق على صحته، ثم قال: ففي قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أمن الإمام فأمنوا" دلالة على أنه أمر الإمام أن يجهر بآمين، لأن من خلفه لا يعرفون وقت تأمينه إلا أن يسمع تأمينه، ثم بيّنه ابن شهاب فقال: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "آمين"، فقلت للشافعي: فإنا نكره للإمام أن يرفع صوته بآمين، فقال: هذا خلاف ما روى صاحبنا وصاحبكم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو لم يكن عندنا وعندهم علم إلا هذا الحديث الذي ذكرناه عن مالك فينبغي أن يستدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجهر بآمين، وأنه أمر الإمام أن يجهر بها، فكيف ولم يزل أهل العلم عليه، وروى وائل بن حجر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: آمين، يرفع بها صوته، ويحكي مده إياها- انتهى. ومنها: حديث آخر لأبي هريرة أخرجه الدارقطني (ص127) والحاكم (ج1:ص223) عنه، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من قراءة أم القرآن رفع صوته وقال آمين. قال الحافظ في التلخيص بعد ذكر هذا الحديث: قال الدارقطني: إسناده حسن. والحاكم: صحيح على شرطهما. والبيهقي: حسن صحيح- انتهى. وقال ابن القيم في إعلام الموقعين: رواه الحاكم بإسناد صحيح- انتهى. قلت: في سنده إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الزبيدي، قال أبوحاتم: شيخ لا بأس به، ولكنهم يحسدونه، سمعت ابن معين أثنى عليه خيراً، وقال النسائي ليس بثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. وأخرجه أبوداود وابن ماجه من طريق بشر بن رافع، عن أبي عبد الله بن عم أبي هريرة، عن أبي هريرة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا تلا: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال: آمين، حتى يسمع من يليه من الصف الأول. ولفظ ابن ماجه: إذا قال: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال: آمين، حتى يسمعها أهل الصف الأول فيرتج بها المسجد. وبشر بن رافع وثقه ابن معين، وابن عدي كما في الخلاصة للخزرجى، وضعفه غير واحد، وأبوعبد الله بن عم أبي هريرة مقبول كما في التقريب. قال النيموي في رسالته الحبل المتين (ص17) : حديث أبي داود هذا حسن لغيره، وأخرجه الحميدى من طريق سفيان، عن سعيد المقبري، وقد صرح النيموي في تلك الرسالة (ص16) بصحة هذا الطريق حيث قال بعد ذكره: هذا حديث مرفوع، صحيح الإسناد- انتهى. ولأبي هريرة حديث ثالث في الجهر بالتأمين أخرجه النسائي وغيره عن نعيم المجمر، قال: صليت وراء أبي هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ بأم القرآن حتى إذا بلغ {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} فقال: آمين، فقال الناس آمين- الحديث. وفي آخره: وإذا سلم قال: والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وإسناده صحيح، ويثبت من هذا الحديث الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجهر بالتأمين، ويثبت منه أيضاً أن الصحابة والتابعين كانوا يجهرون بالتأمين خلف أبي هريرة. ومنها: حديث أم الحصين أخرجه إسحاق بن راهوية في مسنده: أنها صلت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما قال:

{ولا الضالين} قال: آمين، فسمعته وهي في صف النساء، ذكره الحافظ في الدراية، والزيلعي في نصب الراية (ج1:ص371) وسكتا عنه. وذكره العيني في شرح البخاري عن كتاب المعرفة للبيهقي. وسكت هو أيضاً عليه، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2:ص114) وقال بعد ذكره: رواه الطبراني في الكبير. وفيه إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف- انتهى. قلت: إسماعيل بن مسلم المكي اثنان: أحدهما إسماعيل بن مسلم المكي أبوإسحاق، كان من البصرة، ثم سكن مكة، وهو ضعيف الحديث. والثاني إسماعيل بن مسلم المخزومي مولاهم المكي، وهو صدوق. والظاهر أن في سند حديث ابن راهوية والطبراني إسماعيل بن مسلم المخزومي، يدل على ذلك سكوت الزيلعي، والحافظ، والعيني عن الكلام على هذا الحديث. ومنها: حديث علي أخرجه الحاكم بلفظ: قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: آمين، إذا قرأ {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} . وأخرج أيضاً عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قرأ {ولا الضالين} رفع صوته بآمين. وأخرج ابن ماجه من حديث علي، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قال: {ولا الضالين} قال: آمين. قال السندي: والسماع يدل على الجهر. وفي سنده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلي ضعفه الجمهور. وقال أبوحاتم: محله الصدق، وباقي رجاله ثقات. وقال أبوحاتم: هو خطأ من ابن أبي ليلي. واعلم أنه قد ثبت إجماع الصحابة على الجهر بالتأمين على طريق الحنفية فقد أخرج عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: قلت له: أكان ابن الزبير يؤمن على أثر أم القرآن؟ قال: نعم ويؤمن من وراءه حتى أن للمسجد للجة. وروى البيهقي من وجه آخر عن عطاء، قال أدركت مائتين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا المسجد إذا قال الإمام: {ولا الضالين} سمعت لهم رجة بآمين- انتهى. فلما ثبت أن ابن الزبير كان يؤمن بالجهر، وكذلك يؤمن بالجهر كل من يصلي وراءه من الصحابة حتى يكون للمسجد للجة، ولم ينكر عليهم أحد، ثبت إجماع الصحابة على الجهر بالتأمين على طريق الحنفية، فإنهم قالوا: إن ابن الزبير أفتى في زنجي وقع في بئر زمزم بنزح ماءها، وذلك بمحضر من الصحابة، ولم ينكر عليه أحد فكان إجماعاً، فكذلك يقال: إن ابن الزبير أمن بالجهر في المسجد بمحضر من الصحابة، ولم ينكر عليه أحد، بل وافقوه، فكانوا يجهرون معه بآمين حتى يكون للمسجد للجة، فكان إجماعاً منهم على الجهر بالتأمين. قلت: ويدل على إجماع الصحابة على ذلك حديث نعيم المجمر المتقدم أيضاً، فإنه يدل على جهر الصحابة والتابعين بآمين خلف أبي هريرة، ولم يثبت عن أحد من الصحابة خلاف ما ثبت عن هؤلاء الصحابة، وكذا لم يثبت عن أحد منهم الإنكار على من جهر به. واعلم أيضاً أن الحنفية استدلوا على ما ذهبوا إليه من الإسرار بالتأمين بحديث وائل بن حجر: أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى فلما بلغ {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال: آمين، وأخفى بها صوته. أخرجه أحمد، وأبوداود الطيالسي، وأبويعلي في مسانيدهم، والطبراني في معجمة والدارقطني في سننه، والحاكم في المستدرك، كلهم من طريق شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن حجر أبي العنبس، عن علقمة بن وائل،

عن أبيه. وأخرجه الحاكم في أوائل التفسير (ج2: ص232) ولفظه: ويخفض بها صوته. والجواب: أن حديث وائل هذا لا يصلح للاستدلال، فإن الشعبة قد تفرد بهذا اللفظ، وهو مضطرب من جهة المتن ومن جهة الإسناد أيضاً، لأن شعبة لم يضبط إسناده ولا متنه، بل اضطرب فيهما، أما اضطرابه في الإسناد فظاهر لمن تأمل في طرقه، وأما اضطرابه في المتن فقال مرة: رافعاً صوته، كما في رواية البيهقي في سننه، وقال مرة: أخفى بها صوته، وقال مرة خفض بها صوته، كما تقدم. وهذه الألفاظ متباينة المفاهيم، متخالفة المعاني. ولو سلم أن حديث شعبة سالم عن الاضطراب في الإسناد والمتن فلفظ "أخفى بها صوته" أو "خفض بها صوته" فيه شاذ، فإنه قد تفرد بهذا اللفظ شعبة، عن سلمة بن كهيل، ولم يتابعه عليه أحد لا ثقة ولا ضعيف، ومع ذلك قد خالف فيه ثلاثة ثقات وضعيفاً من أصحاب سلمة بن كهيل، أما الثقات فالأول منهم سفيان الثوري، وهو أحفظ من شعبة، فإنه رواه عن سلمة بن كهيل بلفظ: "رفع بها صوته"، وقد تقدم التنبيه عليه. والثاني علي بن صالح، فإنه رواه عن سلمة بن كهيل بلفظ: فجهر بآمين، وروايته في سنن أبي داود، وعلي ابن صالح هذا ثقة. والثالث العلاء بن الصالح، قال الترمذي في جامعه: روى العلاء بن صالح الأسدي عن سلمة بن كهيل نحو رواية سفيان، والعلاء بن صالح ثقة. قال الخزرجي في الخلاصة: وثقه ابن معين. وأما الضعيف فمحمد بن سلمة بن كهيل. قال الدارقطني بعد رواية حديث شعبة: هكذا قال شعبة: وأخفى بها صوته. ويقال: إنه وهم، لأن سفيان الثوري، ومحمد بن سلمة، وغيرهما رووه عن سلمة بن كهيل فقالوا: ورفع بها صوته- انتهى. وقال الشيخ عبد الحي اللكنوي في "عمدة الرعاية" اتفق الحافظ – وإليهم المرجع في تنقيد الأسانيد – على أن في سنده (أى في سند حديث شعبة) خدشة وخطأ من شعبة- أحد رواته – والصحيح "فجهر بها" انتهى. وقال بحر العلوم اللكنوي: وأما الإسرار بالتأمين فهو مذهبنا، ولم يرو فيه إلا ما روى الحاكم، عن علقمة بن وائل، عن أبيه، أنه صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا بلغ {ولا الضالين} قال: آمين، وأخفى بها صوته، وهو ضعيف. وقد بيّن في "فتح القدير" وجه ضعفه-انتهى. وقال البيهقي قد أجمع الحافظ: البخاري وغيره على أن شعبة أخطأ في هذا الحديث، فقد روى من أوجه "فجهر بها" انتهى. واستدلوا أيضاً بما تقدم من حديث سمرة بن جندب: أنه حفظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سكتتين: سكتة إذا كبر، وسكتة إذا فرغ من قراءة (غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قالوا: الأظهر أن السكتة الثانية كانت للتأمين سراً والجواب: أن السكتة الثانية لم تكن للتأمين سراً، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجهر صوته بالتأمين، ولم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - الإسرار بالتأمين أصلاً، فكيف يقال: إنها كانت للتأمين سراً؟ بل السكتة الثانية كانت لأن يتراد إليه نفسه، كما صرح به قتادة في بعض رواياته. واستدلوا أيضاً بقوله عليه السلام: لا تبادروا الإمام، إذا كبر فكبروا، وإذا قال: {ولا الضالين} فقولوا: آمين. أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. قالوا: يستفاد منه أن الإمام لا يجهر بآمين،

لأن تأمين الإمام لو كان مشروعاً بالجهر لما علق النبي - صلى الله عليه وسلم - تأمينهم بقوله: {ولا الضالين} قالوا: ويؤيد ما قلنا من أنه يستفاد منه أن الإمام لا يجهر بآمين ما رواه أحمد، والدارمي، والنسائي من حديث أبي هريرة مرفوعاً: إذا قال الإمام: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} فقولوا: آمين، فإن الملائكة تقول: آمين، وإن الإمام يقول: آمين- الحديث: فإن قوله: "وإن الإمام يقول، آمين" يدل على أن الإمام يقولها سراً، وإلا لا يبقى لهذا القول فائدة. والجواب: أنه علق النبي - صلى الله عليه وسلم - تأمينهم بتأمين الإمام كما تقدم من حديث أبي هريرة بلفظ: إذا أمن الإمام فأمنوا، وهو أصح الروايات وأشهرها في حديث أبي هريرة، فهو الأصل. والمعنى: إذا قال الإمام آمين، فقولوا: آمين، وهذا هو المراد بقوله: إذا قال: ولا الضالين فقولوا: آمين. فإن المراد به إذا قال: ولا الضالين، وقال: آمين، فقولوا: آمين مع تأمينه، لأن الروايات يفسر بعضها بعضاً. ومعية الإمام في التأمين على سبيل اليقين لا تكون إلا إذا جهر بالتأمين كما تقدم. وأما قوله: إن الإمام يقول آمين، فهو بيان للواقع لا لإعلامهم بأن الإمام يقول: آمين، حتى يدل على الإسرار، بل كانوا يسمعونها منه حين يجهر بها كما ورد في الروايات السابقة الصحيحة، ومقصوده - صلى الله عليه وسلم - عنه ترغيبهم في موافقة الإمام في التأمين في الزمان، أي كما أن الإمام يقول: آمين، فقولوا أنتم أيضاً لتوافقوه فيها. واستدلوا أيضاً بأثر عمر، وعلي، روى الطحاوي وابن جرير عن أبي وائل، قال: كان عمر وعلي لا يجهران ببسم الله الرحمن الرحيم، ولا بالتعوذ، ولا بآمين. والجواب: أن هذا الأثر ضعيف جداً، فإن في سنده سعيد بن المرزبان البقال، وقد تركه الفلاس، وقال ابن معين: لا يكتب حديثه. وقال البخاري: منكر الحديث. ونقل ابن القطان أن البخاري قال: كل من قلت فيه: منكر الحديث، فلا تحل الرواية عنه. كذا في الميزان للذهبي. واستدلوا أيضاً بقول إبراهيم النخعي: خمس يخفيهن الإمام: سبحانك اللهم وبحمدك، والتعوذ، وبسم الله الرحمن الرحيم، وآمين، واللهم ربنا لك الحمد. رواه عبد الرزاق. والجواب: أن قول إبراهيم النخعي هذا مخالف للأحاديث الصحيحة فلا عبرة به. قال الشيخ عبد الحي اللكنوي في السعاية: أما أثر النخعي ونحوه فلا يوازي الروايات المرفوعة-انتهى. وأجاب الحنفية عن أحاديث الجهر بوجوه: منها: الكلام فيها سنداً ومعنى كما صنعه النيموي في "آثار السنن". وقد رد عليه شيخنا في "أبكار المنن" رداً حسناً وأجاب عن كل ما أورد النيموي على هذه الأحاديث بما لا مزيد عليه، فعليك أن ترجع إليه. ومنها: أن آمين دعاء، والأصل في الدعاء الإخفاء لقوله تعالى: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية} [7: 55] ، فعند التعارض يرجح الإخفاء بذلك. وفيه: أنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الإسرار بالتأمين أصلاً كما تقدم، فدعوى التعارض باطلة. ثم لا نسلم أن "آمين" دعاء بل نقول: إنها كالطابع والخاتم للدعاء كما في حديث أبي زهير النميري عند أبي داود: أن "آمين" مثل الطابع على الصحيفة، ثم ذكر قوله - صلى الله عليه وسلم -: إن ختم بآمين فقد أوجب. ولو سلم أن "آمين" دعاء فنقول: إنها ليست بدعاء مستقل بالأصالة بل

رواه الترمذي وأبوداود والدارمي وابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ هي من توابع الدعاء، ولذلك لا يدعى بآمين وحدها، بل يدعى بدعاء أولاً ثم تقال هي عقيبه، فالظاهر أن يكون الجهر بها والإخفاء بها تابعاً لأصل الدعاء، إن جهرا فجهراً، وإن سرا فسراً. ولو سلم أن "آمين" دعاء بالأصالة فنقول: إن الجهر بالتأمين مخصوص منه لأحاديث الجهر بالتأمين، كما خص منه قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} [1: 7] فإنه دعاء، ويقرأ في الصلاة الجهرية، وكذلك كثير من الأدعية قد ثبت الجهر بها بالاتفاق، فهذا الاعتذار من الحنفية مما لا يلتفت إليه. ومنها: أن الجهر كان أحياناً للتعليم كما جهر عمر بن الخطاب بالثناء عند الافتتاح كذلك كان الجهر بالتأمين تعليماً. وفيه: أن القول بأن جهره - صلى الله عليه وسلم - بالتأمين كان للتعليم باطل، فإنه ادعاء محض لا دليل عليه، ويدل على بطلانه أن الصحابة كانوا يجهرون خلف الإمام حتى كان للمسجد رجة، فلو كان جهره - صلى الله عليه وسلم - بالتأمين للتعليم لم يجهروا بالتأمين خلف إمامهم، وأيضاً لو كان جهره به للتعليم كان أحياناً لا على الدوام. وقد روى أبوداود وغيره بلفظ: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قرأ {ولا الضالين} قال "آمين" ورفع بها صوته. فهذا يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يداوم على الجهر. ومنها: أن الجهر بآمين كان في ابتداء الأمر ثم ترك. وفيه: أن هذا أيضاً ادعاء محض فلا يلتفت إليه. ومما يدل على بطلانه أن الجهر روي من حديث وائل بن حجر وهو إنما أسلم في أواخر الأمر كما ذكره الحافظ في الفتح وغيره. قال الشيخ عبد الحي اللكنوي في السعاية: وجدنا بعد التأمل والإمعان أن القول بالجهر بآمين هو الأصح لكونه مطابقاً لما روي عن سيد بني عدنان، ورواية الخفض عنه - صلى الله عليه وسلم - ضعيفة لا توازي روايات الجهر، ولو صحت وجب أن تحمل على عدم القرع العنيف. وأي ضرورة داعية إلى حمل روايات الجهر على بعض الأحيان، أو الجهر للتعليم مع عدم ورود شيء من ذلك في رواية. والقول بأنه كان في ابتداء الأمر أضعف، لأن الحاكم قد صححه من رواية وائل بن حجر، وهو إنما أسلم في أواخر الأمر كما ذكره ابن حجر في فتح الباري-انتهى. وقد ظهر بهذا كله أن القول برفع الصوت بالتأمين والجهر به هو الراجح القوي، وقد اعترف بذلك الشيخ عبد الحي حيث قال في التعليق الممجد: الإنصاف أن الجهر قوي من حيث الدليل-انتهى. (رواه الترمذي) وحسنه. (وأبوداود) وسكت عليه، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره. (والدارمي وابن ماجه) وأخرجه أيضاً الدارقطني وابن حبان كلهم من طريق سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن حجر بن عنبس، عن وائل بن حجر. قال الحافظ في التلخيص: سنده صحيح، وصححه الدارقطني-انتهى. وقد اعترف غير واحد من العلماء الحنفية بأن حديث وائل هذا صحيح كالشيخ عبد الحق الدهلوي في ترجمة المشكاة، والشيخ أبي الطيب السندي، والشيخ سراج أحمد السرهندي في شرحيهما للترمذي، وقد تقدم أن شعبة روى هذا الحديث فقال فيه: وأخفى بها صوته. وفي رواية: خفض بها صوته. وقد أسلفنا أنه اتفق الحفاظ على غلطه فيها، وأن الصواب المعروف: مد ورفع بها صوته. وارجع لتفصيل الكلام وبسطه إلى تحفة

852- (25) وعن أبي زهير النميري، قال: ((خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة، فأتينا على رجل قد ألح في المسألة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أوجب إن ختم. فقال رجل من القوم: بأي شيء يختم؟ قال: بآمين) رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأحوذي (ج1: ص209-212) وأبكار المنن (ص185-193) . 852- قوله: (عن أبي زهير النميري) بالتصغير فيهما، قيل: هو أبوزهير الأنماري الذي يقال له أبوالأزهر، والراجح أنه غير، وهو صحابي سكن الشام. قال المنذري: قيل: اسمه فلان بن شرجيل. وقال أبوحاتم الرازي: إنه غير معروف بكنيته فكيف يعرف اسمه. وذكر له أبوعمر النمري هذا الحديث وقال: ليس إسناد حديثه بالقائم، يقال: اسمه فلان بن شرحبيل. (فأتينا) أي مررنا. (قد ألح في المسألة) أي بالغ في السؤال والدعاء من الله. (أوجب) أي الجنة لنفسه، أو الإجابة لدعاءه، يقال "أوجب الرجل" إذا فعل فعلاً قد وجبت له به الجنة أو النار، أو المغفرة لذنبه، أو الإجابة لدعاءه. وقد تقرر في موضعه أنه لا يجب على الله شيء فذلك إنما هو لمحض الفضل والوعد الذي لا يخلف كما أخبر تعالى به، كذا في المرقاة. (إن ختم) أي المسألة. (قال: بآمين) وتمام الحديث: فإنه إن ختم بآمين فقد أوجب. فانصرف الرجل الذي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتى الرجل فقال: اختم يا فلان بآمين وأبشر. وفي الحديث دلالة على أن من دعا يستحب له أن يقول بعده دعاءه "آمين". وفيه أن ختم الدعاء بآمين موجب لإجابة الدعاء، سواء كان المؤمن الداعي نفسه أو غيره. وقد أخرج الحاكم عن حبيب بن مسلمة الفهري: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يجتمع ملأ فيدعو بعضهم ويؤمن بعضهم إلا أجابهم الله تعالى. وأخرج ابن عدي عن أبي هريرة مرفوعاً: إذا دعا أحدكم فليؤمن على دعاء نفسه. ومناسبة الحديث للباب من حيث أن فاتحة الكتاب تشتمل على الدعاء، فمن قرأها إماماً أو مأموماً أو منفرداً داخل الصلاة أو خارجها يؤمن عقبها ويختمها بآمين. (رواه أبوداود) من طريق الفريابي، عن صبيح بن محرز، عن أبي مصبح المقرئي، قال: كنا نجلس إلى أبي زهير النميري - وكان من الصحابة - فيتحدث أحسن الحديث، فإذا دعا الرجل منا بدعاء قال: اختمه بآمين، فإن آمين مثل الطابع على الصحيفة. قال أبوزهير: أخبركم عن ذلك: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الخ. والحديث سكت عنه أبوداود، وأخرجه ابن مندة. وقال: هذا حديث غريب، تفرد به الفريابي عن صبيح، كذا في الإصابة (ج4: ص78) وقال ابن عبد البر في الاستيعاب (ج2: ص652) : أبوزهير الأنماري- وقيل: النميري – حديثه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدعاء، وفيه: إذا دعا أحدكم فليختم بآمين فإن آمين في الدعاء مثل الطابع على الصحيفة، وليس إسناد حديثه بالقائم-انتهى. وذكر المنذري كلام ابن عبد البر وسكت عليه، والظاهر أن هذا الحديث لا ينحط عن درجة الحسن، فإن محمد بن يوسف الفريابي ثقة فاضل، وصبيح بن محرز مقبول، ذكره ابن حبان في الثقات، وأبومصبح المقرئي أيضاً ثقة.

853- (26) وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى المغرب بسورة الأعراف فرقها في ركعتين) رواه النسائي. 854- (27) وعن عقبة بن عامر، قال: ((كنت أقود لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناقته في السفر، فقال لي: يا عقبة! ألا أعلمك خير سورتين قرئتا؟ فعلمني {قل أعوذ برب الفلق} و {قل أعوذ برب الناس} قال: فلم يرني سررت بهما جداً، فلما نزل لصلاة الصبح صلى بهما صلاة الصبح للناس ـــــــــــــــــــــــــــــ 853- قوله: (صلى المغرب بسورة "الأعراف" فرقها) من التفريق. (في ركعتين) فيه دليل على جواز أن يقسم المصلي سورة بين ركعتين في الفريضة من غير كراهة. قال الزرقاني: وكره مالك أن يقسم المصلى سورة بين ركعتين في الفريضة، لأنه لم يبلغه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله. ذكره ابن عبد البر. أو بلغه وحمله على بيان الجواز-انتهى. قلت: الظاهر هو ما قاله ابن عبد البر، وقد أخرج أحمد، والطبراني عن أبي أيوب أو عن زيد بن ثابت: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ في المغرب بالأعراف في الركعتين. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2: ص118) : رجال أحمد رجال الصحيح، وأخرج الطبراني في الكبير عن أبي أيوب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في المغرب سورة (الأنفال) قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. وفي هذه الأحاديث رد على مالك في كراهة قراءة السور الطوال في المغرب. (رواه النسائي) بسند حسن. قال الشوكاني: وقد أخرج نحوه ابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي أيوب. وأخرج نحوه ابن خزيمة عن زيد بن ثابت. ويشهد لصحته ما أخرجه البخاري وأبوداود والترمذي من حديث زيد بن ثابت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ في المغرب بطولي الطوليين. زاد أبوداود: قلت ما طولي الطوليين؟ قال: الأعراف. 854- قوله: (كنت أقود لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناقته) أي أجرها من قدامها لصعوبة تلك الطريق، أو صعوبة رأسها، أو شدة الظلام. (ألا أعلمك خير سورتين قرئتا) أي في باب التعوذ مع سهولة حفظهما. قال الطيبي: أي إذا تقصيت القرآن المجيد إلى آخره سورتين سورتين ما وجدت في باب الاستعاذة خيراً منهما – انتهى. (فلم يرني) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -. (سررت) على بناء المفعول، أي جعلت مسروراً. (بهما) أي بهاتين السورتين (جداً) أي سروراً كثيراً، لعله لكونهما قصيرتين، وأراد أن يعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - سورة طويلة. وقيل: لأنه ما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - قط أنه اعتنى بهما وصلى بهما في صلاة. وقال السندي: أي ما حصل لي السرور الكامل، كأن القلب كان مشغولاً بما كان في الوقت من الظلمة وغيرها، فما ظهر في القلب السرور على أكمل وجه بذلك كما هو حال الحزين-انتهى. ونصب "جداً" على المصدر. (صلى بهما صلاة الصبح للناس) أي أم الناس بهاتين السورتين في صلاة الفجر لكونه مسافراً، والسفر يطلب فيه التخفيف، وليبين بذلك

فلما فرغ، التفت إلي، فقال: يا عقبة! كيف رأيت؟)) رواه أحمد وأبوداود والنسائي. 855- (28) وعن جابر بن سمرة قال: كان النبي يقرأ في صلاة المغرب ليلة الجمعة: {قل يا أيها الكافرون} ، و {قل هو الله أحد} )) ، رواه في شرح السنة. ـــــــــــــــــــــــــــــ أنهما عظيمتان تقومان مقام سورتين عظيمتين كما هو المعتاد في صلاة الفجر. (كيف رأيت؟) أى علمت ووجدت عظمة هاتين السورتين المشتملتين على التعوذ من الشرور كلها حيث أقيمتا مقام الطويلتين، يعني لو لم تكونا عظيمتي القدر لما قرأتهما في الصلاة، ولم تسدا مسد الطول. قال التوربشتي: أشار - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "خير سورتين" إلى الخيرية في الحالة التي كان عقبة عليها، وذلك أنه كان في سفر، وقد أظلم عليه الليل، ورآه مفتقراً إلى تعلم ما يدفع به شر الليل، وشر ما أظلم عليه الليل، فعين السورتين لما فيهما من وجازة اللفظ، والاشتمال على المعنى الجامع مع سهولة حفظهما، ولم يفهم عقبة المعنى الذي أراده النبي - صلى الله عليه وسلم - من التخصيص فظن أن الخيرية إنما تقع على مقدار طول السورة وقصرها، ولذلك قال: فلم يرني سررت بهما جداً، وإنما صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بهما ليعرفه أن قراءتهما في الحال المتصف عليها أمثل من قراءة غيرهما. وتبين له أنهما يسدان مسد الطويلتين-انتهى. (رواه أحمد) (ج4: ص149، 150، 153) . (وأبوداود، والنسائي) من حديث القاسم مولى معاوية عن عقبة، والسياق لأبي داود وقد سكت عنه هو، ورواه أيضاً الحاكم (ج1: ص567) وصححه ووافقه الذهبي. وقال المنذري: القاسم هو أبوعبد الرحمن القاسم بن عبد الرحمن القرشي الأموي مولاهم الشامي. وثقه يحيى بن معين وعدة، وتكلم فيه غير واحد – انتهى. قلت: أصل الحديث أي في فضل هاتين السورتين قد روي عن عقبة بن عامر من طرق بعضها في صحيح مسلم، وزاد ابن حبان فيه من وجه آخر عن عقبة بن عامر: فإن استطعت أن لا تفوتك قراءتهما في صلاة فافعل، ورواية مسلم تقوي هذا الحديث وتشهد لصحته، ويؤيده أيضاً ما رواه أحمد من طريق أبي العلاء بن الشخير عن رجل من الصحابة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرأه المعوذتين، وقال له: إذا أنت صليت فاقرأ بهما. وإسناده صحيح، ولسعيد بن منصور من حديث معاذ بن جبل: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الصبح فقرأ فيهما بالمعوذتين. 855- قوله: (يقرأ في صلاة المغرب) أي في فرضه. {قل يا أيها الكافرون} في الركعة الأولى. {وقل هو الله أحد} في الركعة الثانية. (رواه) البغوي صاحب المصابيح. (في شرح السنة) أي بإسناده، وأخرجه أيضاً ابن حبان، وفي سنده سعيد بن سماك، وهو متروك. وقال الشيخ الألباني: رواه ابن حبان في الثقات (ج2: ص104) والبيهقي (ج2: ص391) من طريق سعيد بن سماك بن حرب عن أبيه، قال: لا أعلمه إلا عن جابر بن سمرة، فذكره، وقال ابن حبان: والمحفوظ عن سماك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكره، يعني أن الصواب فيه مرسل، ليس فيه ذكر جابر، والذي ذكره إنما هو سعيد هذا، وهو وإن أورده ابن حبان في الثقات، فقد قال فيه ابن أبي حاتم. (2/1/32) عن أبيه: متروك الحديث، واعتمده الحافظ في الفتح،

856- (29) ورواه ابن ماجه عن ابن عمر إلا أنه لم يذكر "ليلة الجمعة". 857- (30) وعن عبد الله بن مسعود، قال: ((ما أحصي ما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الركعتين بعد المغرب، وفي الركعتين قبل صلاة الفجر بـ {قل يا أيها الكافرون} و {قل هو الله أحد} رواه الترمذي. 858- (31) ورواه ابن ماجه عن أبي هريرة إلا أنه لم يذكر "بعد المغرب". 859- (32) وعن سليمان بن يسار، عن أبي هريرة، قال: ((ما صليت وراء أحد أشبه صلاة ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال: والمحفوظ أنه قرأ بهما في الركعتين بعد المغرب. قلت: أخرجه أبوداود وغيره من حديث ابن عمر بسند صحيح وحسنه الترمذي-انتهى. 856- قوله: (ورواه ابن ماجه عن ابن عمر) قال الحافظ: إن ظاهر إسناده الصحة إلا أنه معلول. قال الدارقطني: أخطأ بعض رواته فيه، والمحفوظ أنه قرأ بهما في الركعتين بعد المغرب. 857- قوله: (ما أحصي) من الإحصاء وما نافية، أي ما أطيق أن أعد. (ما سمعت) ما موصولة، وقيل مصدرية، أي سماعي. (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ) أي لا أقدر أن أعد المرات التي كان يقرأ هما فيها، أو مدة سمعت فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ، وهو كناية عن الكثرة. قال الطيبي: حال عن العائد إلى ما "وكان الأصل: ما سمعت قراءته" فأزيل المفعول به عن مقره، وجعل حالاً كما في قوله تعالى: {ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي} [3: 193} أي نداء المنادي-انتهى. (بـ {قل يا أيها الكافرون} و {قل هو الله أحد} ) فيه استحباب قراءة هاتين السورتين في الركعتين بعد المغرب، وفي الركعتين قبل الفجر. (رواه الترمذي) وفي سنده عبد الملك بن الوليد بن معدان، وقد تفرد بروايته، وهو ضعيف ضعفه أبوحاتم. وقال البخاري: فيه نظر. وقال النسائي ليس بالقوي. وقال الحافظ في التقريب: ضعيف-، فحديث ابن مسعود هذا ضعيف. 858- قوله: (ورواه ابن ماجه عن أبي هريرة إلا أنه) أي ابن ماجه أو أباهريرة. (لم يذكر بعد المغرب) أي لم يذكر في الركعتين بعد المغرب. وفيه: أن حديث أبي هريرة في قراءة سورتي الإخلاص في ركعتي الفجر رواه مسلم، وأبوداود، والنسائي أيضاً كما تقدم، فعزوه إلى ابن ماجه فقط ليس بجيد. وأيضاً الظاهر من عبارة المصنف أن ابن ماجه لم يرو حديث ابن مسعود هذا، وفيه أيضاً نظر، لأن ابن ماجه قد روى هذا الحديث عن ابن مسعود في باب ما يقرأ في الركعتين بعد المغرب، وفيه أيضاً عبد الملك بن الوليد المذكور، لكنه ليس في روايته في الركعتين قبل صلاة الفجر. 859- قوله: (عن سليمان بن يسار) مولى ميمونة أم المؤمنين كان فقيهاً، فاضلاً، ثقة، عابداً، ورعاً، حجة، وهو أحد الفقهاء المدينة السبعة من كبار التابعين. مات قبل المائة. وقيل: بعدها. وتقدم ترجمته في تطهير النجاسات.

برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فلان. قال سليمان: صليت خلفه فكان يطيل الركعتين الأوليين من الظهر، ويخفف الأخريين، ويخفف العصر، ويقرأ في المغرب بقصار المفصل، ويقرأ في العشاء بوسط المفصل، ويقرأ في الصبح بطول المفصل)) رواه النسائي وروى ابن ماجه إلى "ويخفف العصر". 860- (33) وعن عبادة بن الصامت، قال: ((كنا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الفجر، فقرأ، فثقلت عليه القراءة. فلما فرغ قال: لعلكم تقرءون خلف إمامكم. ـــــــــــــــــــــــــــــ (من فلان) زاد أحمد في روايته "لإمام كان بالمدينة" وفي شرح السنة للبغوي "إن فلانا" يريد به أميراً كان على المدينة، قيل اسمه عمرو بن سلمة، وليس هو عمر بن عبد العزيز كما قيل، لأن ولادة عمر بن عبد العزيز كانت بعد وفاة أبي هريرة، والحديث مصرح بأن أبا هريرة صلى خلف فلان. (قال سليمان صليت خلفه) أي خلف ذلك الفلان، وهذا لفظ أحمد، ولفظ النسائي من رواية: فصلينا وراء ذلك الإنسان. (ويخفف العصر) أي بالنسبة إلى الظهر. (في المغرب) أي في الأوليين منه، وكذا في العشاء. (بوسط المفصل) بفتح الواو والسين المهملة، والمفصل عبارة عن السبع الأخير من القرآن، أوله سورة (الحجرات) . سمى مفصلاً لأن سوره قصار، كل سورة كفصل من الكلام. (بطول المفصل) بضم الطاء المهملة وفتح الواو جمع الطولي، كالكبر في الكبرى. وقيل: بضم الطاء وسكون الواو، مصدر بمعنى الوصف. وفي بعض النسخ بطوال المفصل – بكسر الطاء جمع الطويلة – والحديث قد استدل به على استحباب قراءة قصار المفصل في المغرب لما عرفت من إشعار لفظ "كان" بالمداومة. قيل: في الاستدلال به على ذلك نظر، لأن قوله "أشبه صلاة" يحتمل أن يكون في معظم الصلاة لا في جميع أجزاءها، ويمكن أن يقال في جوابه: إن الخبر ظاهر في المشابهة في جميع الأجزاء فيحمل على عمومه حتى يثبت ما يخصصه. وقد تقدم الكلام في القراءة في صلاة المغرب مفصلاً، وأن القول الراجح هو أن القراءة فيها بطوال المفصل وقصاره سنة، والاقتصار على نوع من ذلك إن انضم إليه اعتقاد أنه السنة دون غيره مخالف لهديه - صلى الله عليه وسلم -. (رواه النسائي) قال الحافظ في الفتح: وصححه ابن خزيمة وغيره، وقال في بلوغ المرام: إسناده صحيح-انتهى. والحديث أخرجه أيضاً أحمد. 860- قوله: (فقرأ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -. (فثقلت عليه القراءة) أي شق عليه التلفظ والجهر بالقراءة، ويحتمل أن يراد به أنها التبست عليه القراء بدليل ما في رواية لأبي داود من حديث عبادة بلفظ: فالتبست عليه القراءة. قال المظهر: عسرت القراءة على النبي - صلى الله عليه وسلم - لكثرة أصوات المأمومين بالقراءة. والسنة أن يقرأ المأموم سراً بحيث يسمع كل واحد نفسه. (فلما فرغ) أي من الصلاة. (لعلكم تقرءون خلف إمامكم) قيل: هو سؤال فيه معنى الاستفهام للتقرير لا لطلب

قلنا: نعم، يا رسول الله! قال: لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ التصديق، ويؤيده رواية الترمذي بلفظ: إن أراكم تقرؤن وراء إمامكم. وإنما قال: خلف إمامكم، وحق الظاهر "خلفي" ليؤذن بأن تلك الفعلة غير مناسبة لمن يقتدي بالإمام. (قلنا: نعم) زاد أبوداود في روايته "هذا" قال الخطابي في المعالم (ج1: ص205) "الهذ" سرد القراءة ومداركتها في سرعة واستعجال. وقيل: أراد بالهذ الجهر بالقراءة، وكانوا يلبسون عليه قراءته بالجهر، وقد روي ذلك في حديث عبادة من غير هذا الطريق-انتهى. (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب) قال الخطابي: قوله "لا تفعلوا" يحتمل أن يكون المراد به الهذ من القراءة، وهو الجهر بها. ويحتمل أن يكون أراد بالنهي ما زاد من القراءة على فاتحة الكتاب-انتهى. قلت: على الاحتمال الأول يكون الحديث بظاهره دليلاً على الإذن بقراء الفاتحة جهراً لأنه استثنى من النهي عن الجهر خلفه، لكن أخرج البخاري في جزء القراءة، وابن حبان، والبيهقي في كتاب القراءة، وأبويعلى، والطبراني في الأوسط من حديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بأصحابه، فلما قضى صلاته أقبل عليهم بوجهه، فقال: أتقرؤن في صلاتكم والإمام يقرأ؟ فسكتوا، فقالها ثلاث مرات، فقال قائل- أو قائلون- إنا لنفعل. قال فلا تفعلوا، وليقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه. هذا لفظ البخاري. (فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها) قال الخطابي في المعالم (ج1: ص205) : هذا الحديث نص بأن قراءة فاتحة الكتاب واجبة على من صلى خلف الإمام، سواء جهر الإمام بالقراءة أو خافت بها. وإسناده جيد لا طعن فيه. قلت: الأمر كما قال الخطابي، لا شك في أن هذا الحديث نص صريح في أن قراءة فاتحة الكتاب واجبة على المأموم في جميع الصلوات سرية كانت أو جهرية، لأن الاستثناء من النفي عند الجمهور إثبات، فيكون ظاهر الحديث مفيداً لإباحة القراءة بالفاتحة خلف الإمام، لا الوجوب، لكنه ههنا يحمل على إفادة الوجوب، لا الإباحة، والإذن، والرخصة فقط، ولقوله: - صلى الله عليه وسلم - "فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها"، فقوله هذا دليل واضح وحجة صريحة لحمل الاستثناء السابق على إفادته الوجوب، قال الشيخ عبد الحي اللكنوي في السعاية: قد ثبت بحديث عبادة وهو حديث صحيح قوي السند: أمره - صلى الله عليه وسلم - بقراءة الفاتحة للمقتدي-انتهى. وقال الطحاوي في شرح معاني الآثار: أما حديث عبادة فقد بين الأمر، وأخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر المأمومين بالقراءة خلفه بفاتحة الكتاب. قلت: وقد ورد الأمر بقراءة الفاتحة خلف الإمام صريحاً في حديث أنس، وقد تقدم لفظه. وفي حديث عبادة عند الطبراني في الكبير ولفظه: من صلى خلف الإمام فليقرأ بفاتحة الكتاب، كذا في كنز العمال (ج4: ص96) ووقع هذا الحديث في مجمع الزوائد (ج2: ص111) . (طبعة مصر القاهرة) بلفظ: من قرأ خلف الإمام. بدل "من صلى" الخ. والظاهر أنه خطأ من النساخ، فقد ذكره السيوطي في الجامع الصغير بلفظ "من صلى" كما في الكنز. قال الهيثمي: رجاله موثقون. وقال العلقمي في شرحه: بجانبه علامة الحسن. وفي حديث أبي هريرة عند البيهقي في كتاب القراءة بعد ذكر

رواه أبوداود، والترمذي. وللنسائي معناه، وفي رواية لأبي داود، قال: ((وأنا أقول: ما لي ينازعني القرآن؟ فلا تقرؤوا بشيء من القرآن إذا جهرت إلا بأم القرآن)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ مثل هذه القصة: اقرؤوا بفاتحة الكتاب. فهذه الروايات صريحة في الأمر بقراءة الفاتحة للمقتدي. وقد أجاب الحنفية عن حديث عبادة هذا بوجوه كلها مخدوشة مردودة، ذكر هذه الوجوه الشيخ اللكنوي في "إمام الكلام" وحاشيته "غيث الغمام" مع بيان ما فيها من الخدشات. وقد رد على هذه الوجوه شيخنا أيضاً رداً حسناً في "أبكار المنن" وفي "تحقيق الكلام" وللعلامة المحدث الفقيه الشيخ عبد الله الأمر تسري كتاب نفيس في هذه المسئلة سماه "الكتاب المستطاب في جواب فصل الخطاب" قد رد فيه على ما جمعه الشيخ محمد أنور من تقريراته المنتشرة في هذه المسألة، فعليك أن تراجعه أيضاً لتقف على تشغيبات الحنفية ومراوغاتهم الجدلة، ودسائسهم الخبيثة الواهية، وتمويهاتهم الباطلة المزخرفة. (رواه أبوداود) وسكت عنه. (والترمذي) وحسنه. ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره. وقال الحافظ في التلخيص بعد ذكر هذا الحديث: أخرجه أحمد والبخاري في جزء القراءة. وصححه أبوداود، والترمذي، والدارقطني، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي من طريق ابن إسحاق: حدثني مكحول، عن محمود بن الربيع، عن عبادة. وتابعه زيد بن واقد وغيره عن مكحول. وقال في الدراية: أخرجه أبوداود بإسناد رجاله ثقات. وقال في نتائج الأفكار لتخريج أحاديث الأذكار: هذا حديث حسن. وقال القاري: قال ميرك نقلاً عن ابن الملقن: حديث عبادة بن الصامت رواه أبوداود والترمذي، والدارقطني، وابن حبان، والبيهقي، والحاكم. وقال الترمذي: حسن. وقال الدارقطني: إسناده حسن رجاله ثقات. وقال الخطابي: إسناده جيد لا مطعن فيه. وقال الحاكم: إسناده مستقيم. وقال البيهقي صحيح- انتهى. (وفي رواية لأبي داود: قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (وأنا أقول) أي في نفسي. (ما لي ينازعني) أي يعالجني ولا يتيسر (القرآن) بالرفع، أي لا يتأتى لي، فكأني أجاذبه فيعصى ويثقل علي، قاله الطيبي. وبالنصب، أي ينازعني من ورائي فيه بقراءتهم على التغالب، يعني تشوش قراءتهم على قراءتي. (فلا تقرؤوا بشيء من القرآن إذا جهرت إلا بأم القرآن) أي سراً. قال المنذري: وأخرجه النسائي. قلت: وإلى هذه الرواية أشار المصنف بقوله: وللنسائي معناه. ولحديث عبادة هذا شواهد: منها حديث أنس وقد ذكرنا لفظه ومن خرجه من الأئمة. ومنها: حديث محمد بن عائشة عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لعلكم تقرؤن والإمام يقرأ. قالوا: إنا لنفعل، قال: لا، إلا أن يقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب. أخرجه أحمد، والبخاري في جزء القراءة، والبيهقي. وفي رواية البخاري: إلا أن يقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه. ونحوه في رواية البيهقي. قال الحافظ في التلخيص: إسناده حسن. وقال البيهقي في معرفة السنن بعد روايته: هذا إسناد صحيح. وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم ثقة، فترك ذكر أسمائهم في الإسناد لا يضر إذا لم يعارضه ما هو أصح منه. وقال في كتاب القراءة: هذا حديث صحيح، احتج به محمد بن إسحاق بن خزيمة في جملة ما احتج به في هذا الباب. ومنها: حديث عمرو

861- (34) وعن أبي هريرة، ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة، فقال: هل قرأ معي أحد منكم آنفاً؟ فقال رجل: نعم، يا رسول الله! قال: إني أقول: ما لي أنازع القرآن؟ قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما جهر فيه بالقراءة من الصلوات ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتقرؤون خلفي؟ قالو: نعم يا رسول الله! إنا لنهذه هذا. قال: فلا تفعلوا إلا بأم القرآن، أخرجه البخاري في جزء القراءة. والبيهقي في كتاب القراءة. وإسناده حسن، رجاله ثقات. ومنها: حديث أبي قتادة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - أتقرؤون خلفي؟ قلنا، نعم قال فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب. أخرجه البيهقي في كتاب القراءة. ومنها: حديث عبادة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب خلف الإمام. أخرجه أيضاً البيهقي في كتاب القراءة، وقال: إسناده صحيح، والزيادة التي فيه صحيحة مشهورة من أوجه كثيرة، كذا في كنز العمال (ج4: ص208) . 861- قوله: (انصرف) أي فرغ. (من صلاة جهر فيها بالقراءة) وعند ابن عبد البر: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح، وفي رواية لأبي داود: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة نظن أنها الصبح. (هل قرأ معي أحدكم آنفاً؟) بمد أوله وكسر النون. يعني الآن، وأراد به قريباً. والمد هو المشهور، وقد يقصر، والاستفهام للتقرير لا لطلب التصديق، لأن قراءة من قرأ خلفه كانت بالجهر فكانت مسموعة له - صلى الله عليه وسلم -. والدليل عليه ما رواه البيهقي في جزء القراءة (ص13) قال: حدثنا محمود: ثنا البخاري قال: ثنا أبوالوليد قال: ثنا الليث، عن الزهري، عن ابن أكيمة، عن أبي هريرة، قال: صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة تجهر فيها، فلما قضى الصلاة قال: من قرأ معي؟ قال رجل: أنا. قال: إني أقول: ما لي أنازع القرآن؟ فهذه الرواية صريحة في أن السؤال ليس عن نفس القراءة وأصلها، لأنها كانت بالجهر لا بالسر، بل عن تعيين القاري، فلا بد أن يحمل قوله ههنا: "هل قرأ أحد منكم" على ذلك أي يجعل محط السؤال قوله " أحد منكم". (فقال رجل: نعم) وفي رواية "فقال رجل نعم أنا"، وهذا أيضاً يدل على أن السؤال كان عن تعيين القاري لا عن نفس القراءة. (إني أقول) في نفسي. (ما لي أنازع القرآن) بفتح الزاي بالبناء لما لم يسم فاعله، ونصب القرآن على أنه مفعول ثان بتقدير "في القرآن"، أي أجاذب في قراءته كأني أجذبه إلى من غيري، وغيري يجذبه إليه منى. والظاهر أنه أخبرهم بهذا المعنى نهياً لهم عن ذلك، وإنكاراً لفعلهم. والظاهر أيضاً بل المتعين أن الرجل جهر بالقراءة خلفه، فهو بمعنى التثريب واللوم له على ذلك، فيكون المنع مخصوصاً بالجهر خلفه. قال الخطابي في المعالم (ج1: ص206) : معناه أداخل في القراءة، وأغالب عليها. وقال الجزري في النهاية: أي أجاذب في قراءته، كأنهم جهروا بالقراءة خلفه فشغلوه فالتبست عليه القراءة. وأصل النزع الجذب، ومنه نزع الميت بروحه. (قال) أي الزهري. (فانتهى الناس عن القراءة) أي تركوها. (فيما جهر) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (فيه بالقراءة من الصلوات) بيان لما

حين سمعوا ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الموصولة. قال القاري مفهومه: أنهم كانوا يسرون بالقراءة فيما كان يخفى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو مذهب الأكثر، وعليه الإمام محمد من أئمتنا. (حين سمعوا ذلك) أي ما ذكر من التثريب واللوم. زاد البخاري والبيهقي في جزء القراءة لهما: وقرؤوا في أنفسهم سراً فيما لا يجهر فيه الإمام. واعلم أن قوله: فانتهى الناس، الخ. ليس من رواية أبي هريرة في الحديث بل هو مدرج من قول الزهري، وقد بين ذلك أبوداود في سننه، قال: ورواه عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري. وانتهى حديثه إلى قوله" ما لي أنازع القرآن". ورواه الأوزاعي عن الزهري، قال فيه: قال الزهري: فاتعظ المسلمون بذلك، فلم يكونوا يقرؤون معه فيمه يجهر به. قال أبوداود: وسمعت محمد بن يحيى بن فارس قال: قوله: "فانتهي الناس" من كلام الزهري. وقال البيهقي في معرفة السنن: قوله "فانتهي الناس عن القراءة" من قول الزهري. قاله محمد بن يحيى الذهلي صاحب الزهريات، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وأبوداود، استدلوا على ذلك برواية الأوزاعي حين ميزه من الحديث، وجعله من قول الزهري. وكيف يصح ذلك عن أبي هريرة وأبوهريرة يأمر بالقراءة خلف الإمام فيما جهر به وفيما خافت-انتهى. وقال في جزء القراءة: رواية ابن عيينة عن معمر دالة على كونه من قول الزهري. وكذلك انتهاء الليث بن سعد وهو من الحفاظ الأثبات الفقهاء مع ابن جريج برواية الحديث من الزهري إلى قوله "مالي أنازع القرآن" دليل على أن ما بعده ليس في الحديث، وأنه من قول الزهري، ففصل كلام الزهري من الحديث بفصل ظاهر. وقال الحافظ في التلخيص: قوله "فانتهى الناس" إلى آخره، مدرج في الخبر من كلام الزهري، بيّنه الخطيب، واتفق عليه البخاري في التاريخ، وأبوداود ويعقوب بن سفيان والذهلي والخطابي، وغيرهم-انتهى. وانظر السنن الكبرى للبيهقي (ج2: ص157-159) وإذا ثبت أن قوله "فانتهى الناس"الخ. من كلام الزهري التابعي فلا يصح الاستدلال به لأن قول التابعي ليس بحجة بالاتفاق. علا أنه إن كان المراد بقوله: فانتهى الناس، الخ. أن جميع الصحابة تركوا القراءة خلفه في الصلوات الجهرية فهو كذب محض، لأن الصحابة اختلفوا في ذلك، وقد ذهب أكثرهم إلى قراءة الفاتحة خلف الإمام في جميع الصلوات الجهرية والسرية وجوباً أو ندباً، وإن كان المراد فانتهى الناس أي الذين حضروا هذه الصلاة معه - صلى الله عليه وسلم - لا جميع الصحابة، فهو أيضاً ليس بصحيح، لأن أباهريرة قد شهد هذه الصلاة والقصة، وهو لم يترك قراءة الفاتحة خلف الإمام، بل كان يفتى بها في جميع الصلوات سرية كانت أو جهرية. ولو سلم أن قول الزهري هذا صحيح، وأن قول التابعي حجة، فلا يثبت به ما ذهب إليه الحنفية من كراهة قراءة الفاتحة خلف الإمام في جميع الصلوات، ومنعها مطلقاً، بل قول الزهري هذا يبطل دعواهم، لأنه يدل على أنهم كانوا يقرؤن سراً فيما لا يجهر فيه الإمام كما تقدم. وأما ما قيل: من أن قوله "فانتهي الناس"الخ. ليس مما قاله الزهري من عند نفسه لأنه لم يشهد هذه القصة، والظاهر بل المتعين أن هذا قول بعض الصحابة الذين حضروا هذه الصلاة وسمعوا قوله - صلى الله عليه وسلم -: مالي أنازع القرآن، وقد علم هذا الصحابي ترك قراءتهم خلفه في الجهرية بإطلاعهم إياه على ذلك فلا محالة من أن يقال أنه سمع الزهري هذا الكلام من هذا الصحابي، ومن المعلوم أن مثل هذا الكلام من الصحابي يكون في حكم المرفوع، فيكون قول الزهري هذا أيضاً مرفوعاً حكماً غاية ما فيه أنه مرسل

لأنه لم يذكر الصحابي الذي سمعه منه هذا القول ولا حرج. ففيه: أنه لا نسلم أن الزهري سمع هذا القول ممن شهد هذه القصة قطعاً، فإنه يحتمل أن يكون سمع ذلك من تابعي، ولا يدري أن التابعي الذي سمعه منه ثقة أو ضعيف، مقبول أو مردود. وأيضاً قد تقدم أن هذا القول كذب لاختلاف الصحابة في ذلك. ولو صرفنا النظر عن جميع ذلك فلا شك أنه مرسل، ومرسل الزهري كالريح ليس بشيء. قال الذهبي في التذكرة (ج1:ص98) : قال قدامة السرجسي: قال يحيى بن سعيد: مرسل الزهري شر من مرسل غيره، لأنه حافظ، وكلما قدر أن يسمي سمى، وإنما يترك من لا يستجيز أن يسمى. وقال ابن أبي حاتم في "كتاب المراسيل" (ص2) : حدثنا أحمد بن سنان قال: كان يحيى بن سعيد القطان لا يرى إرسال الزهري وقتادة شيئاً، ويقول هو بمنزلة الريح. وقال السيوطي في التدريب (ص70) : مراسيل الزهري قال ابن معين ويحيى بن سعيد القطان: ليس بشئ. وكذا قال الشافعي، قال: لأنا نجده يروي عن سليمان بن الأرقم. وروى البيهقي عن يحيى بن سعيد قال: مرسل الزهري شر من مرسل غيره، لأنه حافظ كلما قدر أن يسمي سمى، وإنما يترك من لا يستحب أن يسميه-انتهى. واستدلال المالكية بقوله - صلى الله عليه وسلم - "مالي أنازع القرآن" على منع القراءة خلف الإمام إذا جهر الإمام بالقراءة. وفي الاستدلال به على هذا المطلوب نظر ظاهر، لأنه لا يدل على منع القراءة خلف الإمام المتنازع فيها، وهي القراءة في النفس وبالسر بحيث لا يفضي إلى المنازعة بقراءة الإمام، نعم يدل على منع القراءة بالجهر خلفه، وهي ممنوعة بالاتفاق. قال القرطبي: والمعنى في حديث. (أى حديث أبي هريرة هذا) : لا تجهروا إذا جهرت، فإن ذلك تجاذب وتخالج، اقرؤوا في أنفسكم. بينه حديث عبادة. وأفتى الفاروق برأي أبي هريرة الراوي الحديثين، فلو فهم المعنى جملة من قوله لما أفتى بخلافه-انتهى. وقال ابن عبد البر في التمهيد: لا تكون المنازعة إلا فيما جهر فيه المأموم وراء الإمام. ويدل على ذلك قول أبي هريرة: اقرأ بها في نفسك يا فارسي. وقال الشيخ عبد الحي اللكنوي في غيث الغمام (ص30) : غاية ما فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: مالي أنازع القرآن. فهو إن دل على النهي، فإنما يدل على نهي القراءة المفضية إلى المنازعة في الجهرية-انتهى. وقال الشوكاني في النيل: استدل به القائلون بأنه لا يقرأ المؤتم خلف الإمام في الجهرية، وهو خارج عن محل النزاع لأن محل النزاع هو القراءة خلف الإمام سراً، والمنازعة إنما تكون مع جهر المؤتم لا مع إسراره. وقد حاول بعض الحنفية الاستدلال بقوله "مالي أنازع القرآن" على ترك القراءة خلف الإمام بالسر وفي السرية، قائلاً بأن المنازعة مع الإمام في القراءة تتحقق مع قراءة المأموم بالسر وفي الصلاة السرية أيضاً، لأن معنى المنازعة: هو أن يشارك المأموم الإمام في القراءة ويشتغل بالقراءة حال قراءة الإمام ولا يترك الإمام أن ينفرد بالقراءة. وفيه: أن الاستدلال به على ذلك باطل لأنه لو كان معنى المنازعة ما بيّنه هذا البعض لما كان يقرأ الصحابة خلف الإمام سراً في الصلوات السرية كما يدل عليه قول الزهري وهو في حكم المرفوع عند الحنفية. وقد تقدمت رواية البيهقي والبخاري بلفظ: فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر فيه الإمام، وقرؤوا في أنفسهم سراً فيما لا يجهر فيه الإمام. ويبطله أيضاً فيه حديث عبادة عند أبي داود والدارقطني بلفظ: وأنا أقول: مالي أنازع القرآن فلا يقرأنّ أحد منكم شيئاً من القرآن إذا جهرت

رواه مالك وأحمد وأبوداود والترمذي والنسائي. وروى ابن ماجه نحوه. 862،863- (35،36) وعن ابن عمر والبياضي قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن المصلي يناجي ربه، ـــــــــــــــــــــــــــــ بالقراءة إلا بأم القرآن؛ لأنه لو كان معنى المنازعة ما ذكره هذا المستدل لما أمرهم - صلى الله عليه وسلم - بقراءة الفاتحة خلف الإمام بالسر بعد ما أنكر عليهم المنازعة بقوله: مالي أنازع القرآن. ويبطله أيضاً أن أباهريرة، وعبادة، وعمر رضي الله عنهم كانوا يفتون بقراءة الفاتحة خلف الإمام في جميع الصلوات، وهم ممن رووا حديث المنازعة، فظهر بذلك أن معنى المنازعة ليس كما ذكره هذا البعض. قال الشيخ اللكنوي في غيث الغمام: ومن الناس من توهم أن معنى المنازعة هو أن يقرأ المؤتم حال قراءة الإمام، وهو متحقق في السرية أيضاً مطلقاً، وهو مبني على الغفلة عن كتب اللغة وشروح الحديث للأئمة- انتهى. ولو سلم أن حديث أبي هريرة هذا يدل على ترك القراءة خلف الإمام بالسر أيضاً، فهو محمول على ما عدا الفاتحة، جمعاً بين الأحاديث، ويدل عليه حديث عبادة بن الصامت: لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها. ويدل عليه أيضاً فتوى أبي هريرة: اقرأ بها في نفسك يا فارسي. وانظر كتاب القراءة (ص99) للبيهقي، وكتاب الاعتبار للحازمي (ص101) . وعن الاستدلال بهذا الحديث على ترك القراءة خلف الإمام في الجهرية أو مطلقاً أجوبة أخرى ذكرها الشيخ في "تحقيق الكلام" فارجع إليه. (رواه مالك وأحمد وأبوداود والترمذي) وحسنه. ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره، وصححه أبوحاتم الرازي وابن حبان وابن القيم. (والنسائي) وأخرجه أيضاً الشافعي والبيهقي والطحاوي وابن حبان. (وروى ابن ماجه نحوه) أي معناه. 862، 863- قوله: (عن ابن عمر، والبياضى) الواو عاطفة، والبياضى- بفتح الباء الموحدة والياء المنقوطة بالاثنتين من تحت، والضاد المعجمة- منسوب إلى بياضة بن عامر بن زريق، بطن من الأنصار، اسمه فروة- بفتح الفاء وسكون الراء- ابن عمرو- بفتح العين- ابن ودقة- بفتح الواو وسكون الدال- ابن عبيد بن عامر بن بياضة، شهد العقبة وبدراً وما بعدها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين عبد الله بن مخرمة العامري، وكان يبعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - لخرص النخل، وكان ممن قاد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرسين في سبيل الله، وكان يتصدق في كل عام من نخلة بألف وسق، وكان من أصحاب علي يوم الجمل. (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن المصلي) وسبب هذا القول أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان معتكفاً في العشر الأواخر من رمضان في قبة على بابها حصير، والناس يصلون عصباً عصباً، فأخرج منها رأسه ذات ليلة، وقد علت أصواتهم بالقراءة بالجهر، فقال: إن المصلي إذا صلى. (يناجي ربه) أي يحادثه ويكالمه، وهو كناية عن كمال قربه المعنوي. وقيل: هي عبارة عن إحضار القلب والخشوع في الصلاة. وقيل: هي إخلاص القلب، وتفريغ السر بذكره. وقيل مناجاة العبد: أداء الأفعال والأقوال المطلوبة في الصلاة، ومناجاة الرب لعبده: إقباله عليه بالرحمة

فلينظر ما يناجيه به، ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن)) رواه أحمد. 864- (37) وعن أبي هريرة قال: ((قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا) . ـــــــــــــــــــــــــــــ والرضوان. والمقصود التنبيه على الخشوع في الصلاة. (فلينظر) أي فليتفكر وليتأمل. (ما يناجيه به) ما استفهامية والضمير المنصوب في "يناجيه" راجع إلى الرب، وفي "به" إلى "ما" و"ما" مفعول "فلينظر". قال القاري: وفي نسخة "ما يناجي بن" ما استفهامية أو موصولة. أي ما يناجي الرب تعالى من الذكر، والقرآن، والحضور، والخشوع، والخضوع- انتهى. والمقصود التنبيه على تحصيل الخشوع بمواطاة القلب اللسان، والإقبال إلى الله بشرا شره، وذلك إنما يحصل إذا لم ينازعه صاحبه بالقراءة، ولم يجهر بعضهم على بعض بالقرآن، لأن المنازعة وجهر بعض على بعض بالقراءة مفوت للخشوع، ومن ثم عقبه بقوله: (ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن) فإن ذلك يؤذي ويمنع من الإقبال على الصلاة، والنهي يتناول من هو داخل الصلاة وخارجها. قال الطيبي: عدى بعلى لإرادة معنى الغلبة، أي لا يغلب ولا يشوش بعضكم على بعض جاهراً بالقراءة- انتهى. (رواه أحمد) أما حديث ابن عمر فأخرجه (ج2: ص36، 67، 129) وسنده صحيح، وأخرجه أيضاً البزار والطبراني في الكبير. قال الهيثمي: وفيه محمد بن أبي ليلى، وفيه كلام. وأما حديث البياضي فأخرجه (ج4: ص344) وأخرجه أيضاً مالك في المؤطا عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن أبي حازم التمار، عن البياضي. ومن طريق مالك أخرجه أحمد، قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح- انتهى. فلو عزاه المؤلف إلى الموطأ كان أولى. وللحديث شاهد من حديث أبي سعيد عند النسائي. قال ابن عبد البر: حديث البياضي وأبي سعيد صحيحان ثابتان- انتهى. وفي الباب عن على عند أحمد وأبي يعلى، وعن أبي هريرة، وعائشة عند الطبراني في الأوسط، ذكرهما الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2: ص265، 266) . 864- قوله: (إنما جعل) ببناء المجهول، وكلمة "إنما" للحصر للمبالغة والاهتمام. (الإمام) أي إماماً، فالمفعول الثاني لقوله "جعل" محذوف، والتقدير "إنما جعل الإمام إماماً"، والمفعول الأول قام مقام الفاعل، أو "جعل" بمعنى "نصب" و"اتخذ" فلا حاجة إلى التقدير. (ليؤتم به) أي ليقتدي به. والمعنى: أن الإئتمام يقتضي متابعة المأموم لإمامه، فلا يجوز له المقارنة والمسابقة والمخالفة إلا ما دل الدليل الشرعي عليه، كصلاة القاعد خلف القائم ونحوها، وقد ورد النهي عن الاختلاف بخصوصه بقوله: لا تختلفوا عليه. (فإذا كبر) أي للإحرام أو مطلقاً، فيشمل تكبير النقل. (فكبروا) زاد في رواية "ولا تكبروا حتى يكبر"، أي حتى يفرغ منه. وقيل: حتى يأخذ في التكبير. (وإذا قرأ فأنصتوا) احتج به القائلون أن المؤتم لا يقرأ خلف الإمام في الصلاة الجهرية. قلت: الاستدلال بذلك على هذا المطلوب موقوف على

أن تكون هذه اللفظة ثابتة محفوظة صحيحة، وقد اختلفوا في ذلك فصححها مسلم، ومال إليه المنذري، وصححها ابن حزم أيضاً. وضعفها البخاري وأبوداود وأبو حاتم وابن معين وابن خزيمة والحاكم والدارقطني. واجتماع هؤلاء الحفاظ النقاد على تضعيفها مقدم على تصحيح مسلم. قال البيهقي في المعرفة: قد أجمع الحفاظ على خطأ هذه اللفظة في الحديث: أبوداود وأبوحاتم وابن معين والحاكم والدارقطني، وقالوا: إنها ليست بمحفوظة- انتهى. وروى في كتاب القراءة بإسناده عن ابن أبي حاتم، قال: سمعت أبي، وذكر حديث أبي خالد الأحمر عن ابن عجلان. (يعني حديث أبي هريرة هذا) فقال أبي: ليست هذه الكلمة محفوظة، هي من تخاليط ابن عجلان-انتهى. قلت: محمد ابن عجلان هذا مدلس، وروي هذا الحديث عن زيد بن أسلم معنعناً، فلا يجوز الحكم بصحته حتى يثبت سماعه من زيد بن أسلم لهذا الحديث. وأيضاً ابن عجلان ليس بحافظ، بل هو سيء الحفظ، وقد تفرد بهذه الزيادة، ولم يتابعه عليها أحد من الثقات، وقد روي حديث أبي هريرة هذا بالأسانيد الصحيحة الكثيرة، ليس في واحد منها هذه الزيادة. أما كونه مدلساً فقد صرح به برهان الدين الحلبي في"التبيين لأسماء المدلسين". وقال الحافظ في"طبقات المدلسين": محمد بن عجلان المدني تابعي صغير مشهور، من شيوخ مالك، وصفه ابن حبان بالتدليس. وأما كونه سيء الحفظ فقال الحافظ في مقدمة الفتح: فيه مقال من قبل حفظه. وقال الذهبي في الكاشف: وثقة أحمد، وابن معين، وقال غيرهما سيء الحفظ. وقال في الميزان: وقد تكلم المتأخرون من أئمتنا في سوء حفظه-انتهى. ولعل الشيخين لم يحتجا به لأجل ذلك. قال الذهبي في التذكرة: لم يحتج الشيخان بحديث محمد-انتهى. وأما كونه متفرداً بهذه الزيادة في هذا الحديث فهو ظاهر لمن تتبع طرق الحديث. قال البيهقي في كتاب القراءة (ص91) : قال ابن خزيمة: قال محمد بن يحيى الذهلي: خبر الليث أصح متناً من رواية أبي خالد يعني عن ابن عجلان، ليس في هذه القصة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "وإذا قرأ فأنصتوا" بمحفوظ، لأن الأخبار متواترة عن أبي هريرة بالأسانيد الصحيحة الثابتة المتصلة بهذه القصة، ليس في شيء منها: وإذا قرأ فأنصتوا. إلا خبر أبي خالد ومن لا يعتد أهل الحديث بروايته. ثم رواها ابن خزيمة من حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. ومن حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة. ومن حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه، عن أبي هريرة. وليس في شيء منها هذه الزيادة، وهي في الصحيح من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، ومن حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة. ومن حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة. ومن حديث همام بن منبه وأبي علقمة الهاشمي، وأبي يونس مولى أبي هريرة كلهم، عن أبي هريرة، ليس في شيء من هذه الروايات: وإذا قرأ فأنصتوا-انتهى. فإن قلت: قال ابن التركماني في الجوهر النقي (ص153) : قد تابعه عليها خارجة بن مصعب ويحيى ابن العلاء كما ذكره البيهقي فيما بعد-انتهى. وكذلك قال العيني في شرح البخاري (ج6: ص15) قلت: لا اعتداد بمتابعتها.

رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الحافظ في التقريب في ترجمة خارجة بن مصعب: متروك وكان يدلس عن الكذابين، ويقال: إن ابن معين كذبه-انتهى. وقال الذهبي في الميزان في ترجمة يحيى بن العلاء: قال الدارقطني: متروك، وقال أحمد بن حنبل: كذاب يضع الحديث. وقال الخزرجي في الخلاصة في ترجمته: كذبه وكيع وأحمد-انتهى. وقال البيهقي في كتاب القراءة: وقد رواه يحيى بن العلاء الرازي، عن زيد بن أسلم. ويحيى بن العلاء متروك، جرحه يحيى بن معين وغيره من أهل العلم بالحديث. وروي بإسناد ضعيف عن عمرو بن هارون، عن خارجة بن مصعب، عن زيد بن أسلم. ولا يفرح بمتابعة هؤلاء في خلاف أهل الثقة والحفظ –انتهى. تنبيه: ذكر العيني في شرح البخاري والبناية شرح الهداية: أن ابن خزيمة أيضاً صحح حديث ابن عجلان، يعني زيادة "وإذا قرأ فأنصتوا"، وقد نقله عنه الشيخ اللكنوي في "إمام الكلام"، والنيموي في "آثار السنن" وغيرهما من العلماء الحنفية في تصانيفهم، وهذا خطأ فاحش ووهم قبيح، فإن ابن خزيمة لم يصحح هذه الزيادة أبداً بل هو ممن ضعفها جداً. قال البيهقي في كتاب القراءة (ص91) : قال أبوبكر محمد بن إسحاق بن خزيمة: هذا خبر، ذكر قوله: "وإذا قرأ فأنصتوا" فيه وهم. وقد روى الليث بن سعد – وهو عالم أهل مصر وفقيههم، أحد علماء زمانه، غير مدافع، صاحب حفظ وإتقان وكتاب صحيح – هذا الخبر عن ابن عجلان، فذكر الرواية التي ذكرها البخاري، وليس في شيء منها "وإذا قرأ فأنصتوا". قال ابن خزيمة: قال محمد بن يحيى الذهلي: خير الليث أصح متناً من رواية أبي خالد، يعني ابن عجلان، ليس في هذه القصة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "إذا قرأ فأنصتوا" بمحفوظ، الخ. وقد ذكر ابن خزيمة فصلاً مستقلاً لإثبات أن هذه الزيادة غير محفوظة، كما قال البيهقي في كتاب القراءة (ص95) فارجع إليه. ولو سلم أن زيادة "وإذا قرأ فأنصتوا" في حديث أبي هريرة صحيحة ثابتة محفوظة، فقد ذكرنا عنها أجوبة في شرح حديث أبي موسى الأشعري فتذكر. (رواه أبوداود) وقال: هذه الزيادة "وإذا قرأ فأنصتوا" ليست بمحفوظة. الوهم عندنا من أبي خالد، وتقدم أن أباحاتم قال: هي من تخاليط ابن عجلان، يعني أن الوهم عنده من ابن عجلان، ولم يبين بعض الحفاظ الذين صرحوا بكونها غير محفوظة، أن الوهم ممن هو؟ فإن قلت: إختلافهما في نسبة الوهم، وسكوت بعضهم عن تعيين الواهم يؤدي إلى طرح القولين، والرجوع إلى صحة هذه الزيادة، قلت: إن الحفاظ النقاد إذا حكموا على حديث بأنه غير محفوظ، واختلفوا في نسبة الوهم فبعض نسبوه إلى أحد، وبعضهم إلى آخر، فهذا الاختلاف لا يؤدي إلى طرح القولين، ولم يقل به أحد، كيف؟ وقد تقرر في موضعه أن المحدثين المعللين القائمين بمعرفة فن المعلول الذي هو من أغمض أنواع علوم الحديث وأدقها إذا اتفقوا على حديث أنه معلول فدعواهم مقبولة، وإن اختلفوا في توجيه التعليل، بل وإن أخطأ بعضهم في توجيه، فإنه قد يقصر عبارة المعلل عن إقامة الحجة على دعواه، كالصيرفي في نقد الدينار والدرهم، وهذا الجواب على تقدير تسليم كون أبي خالد وابن عجلان ثقتين، حافظين، لكن قد تقدم أن ابن عجلان مدلس، وقد روى هذا الحديث عن زيد بن أسلم معنعناً، ومع كونه

والنسائي وابن ماجه. 865- (38) وعن عبد الله بن أبي أوفى، قال: ((جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئاً، فعلمني ما يجزئني. قال: قل: سبحان الله، والحمدلله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال: يارسول الله! هذا لله، فماذا لي؟ قال، قل: اللهم ارحمني، وعافني، واهدني، وارزقني. فقال هكذا بيديه وقبضهما. ـــــــــــــــــــــــــــــ مدلساً ليس بحافظ، بل هو سيئ الحفظ. وقد تفرد بهذه الزيادة، ولم يتابعه عليها أحد من الثقات. وأما أبوخالد الأحمر سليمان بن حيان الأزدي فهو أيضاً سيء الحفظ. قال الحافظ في مقدمة الفتح: قال ابن معين: أبوخالد صدوق، ليس بحجة. وقال ابن عدي: وإنما أتى من سوء حفظه فيغلط، ويخطئ. وقال أبوبكر البزار: اتفق أهل العلم بالنقل أنه لم يكن حافظاً. وقال الحافظ في التقريب: صدوق يخطئ. (والنسائي وابن ماجه) وأخرجه أيضاً أحمد. 865- قوله: (وعن عبد الله بن أبي أوفى) هو عبد الله بن أبي أوفى، علقمة بن خالد بن الحارث الأسلمي أبوإبراهيم، أو أبومحمد أو أبومعاوية، صحابي ابن صحابي، شهد عبد الله بيعة الرضوان، وخيبر، وما بعد ذلك من المشاهد، ولم يزل بالمدينة حتى قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم تحول إلى الكوفة، وهو آخر من بقي بالكوفة من الصحابة، مات سنة. (87) بالكوفة، وكان قد كف بصره، روى خمسة وتسعين حديثاً، اتفقا على عشرة، وانفرد البخاري بخمسة ومسلم بواحد، روى عنه جماعة. (أن آخذ من القرآن شيئاً) أي أتعلم وأحفظ من القرآن شيئاً أقرأه في الصلاة، أو آخذ شيئاً من القرآن ورداً. (ما يجزئني) أي يكفيني عن القراء في الصلاة، أو عن ورد القرآن. (قال) وفي بعض النسخ "فقال" وكذا وقع في أبي داود. (قل سبحان الله) الخ. فإن هذه الكلمات أحب الكلام إلى الله وأفضل الذكر بعد كلام الله. (هذا لله) أي ما ذكر من الكلمات ذكر لله، مختص له، أذكره به. (فماذا لي؟) وفي أبي داود: فما لي؟ أي علمني شيئاً يكون لي فيه دعاء واستغفار أذكره لي عند بي. (اللهم ارحمني) أي بترك المعصي أبداً، أو بغفرانها وعفوها. (وعافني) من آفات الدارين. (واهدني) أي ثبتني على دين الإسلام، أو دلني على متابعة الأحكام. (وارزقني) أي رزقاً حلالاً طيباً، كافياً مغنياً عن الأنام، أو التوفيق والقبول وحسن الاختتام. (فقال) أى فعل الرجل. (هكذا) قال الطيبي: أي أشار إشارة مثل هذه الإشارة المحسوسة. (بيديه) تفسير وبيان. (وقبضهما) قال القاري: وفي نسخة "فقضبهما، فقيل" أي عد تلك الكلمات بأنامله وقبض كل أنملة بعدد كل كلمة. وقال ابن حجر: ثم بين الراوي المراد بالإشارة بهما فقال: وقبضهما أي إشارة إلى أنه يحفظ ما أمر به كما يحفظ الشيء النفيس بقبض اليد عليه. وظاهر السياق أن المشير هو المأمور، أي حفظت ما قلت لي

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما هذا فقد ملأ يديه من الخير. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقبضت عليه، فلا أضعيه. ويؤيده قول الراوي. (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما هذا) أي الرجل. (فقد ملأ يديه من الخير) . قال ابن حجر: كناية عن أخذه مجامع الخير بامتثاله لما أمر به. قلت: وقع في رواية لأحمد (ج4: ص353) : ثم أدبر وهو ممسك كفيه، بدل قوله: فقال هكذا بيديه وقبضهما. ورواية أحمد هذه ظاهرة في أن الإشارة باليدين كانت من هذا الرجل لا من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فالمأمور هو المشير. واعلم: أنهم اختلفوا في تعيين محمل الحديث، فقال الطيبي: الظاهر أنه أراد أنى لا أستطيع أن أحفظ شيئاً من القرآن واتخذه ورداً لي فعلمني ما أجعله ورداً لي، فأقوم به آناء الليل وأطراف النهار، فلما علمه ما فيه تعظيم لله تعالى طلب ما يحتاج إليه من الرحمة والعافية والهداية والرزق. ويؤيد ما ذكرنا من أن مطلوبه ما يجعله ورداً له لا يفارقه أبداً، قبضه بيديه. أي أنى لا أفارقه ما دمت حياً. وتوهم بعضهم من إيراد هذا الحديث في هذا الباب أن هذه القصة في الصلاة، فقال: لا يجوز ذلك في جميع الأزمنة؛ لأن من قدر على تعلم هذه الكلمات يقدر على تعلم فاتحة الكتاب لا محالة، بل تأويله أني لا أستطيع أن أتعلم شيئاً من القرآن في هذه الساعة وقد دخل علي وقت الصلاة فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قل سبحان الله، الخ. فمن دخل عليه وقت صلاة مفروضة ولم يعلم الفاتحة، وعلم شيئاً من القرآن، لزمه أن يقرأ بقدر الفاتحة عدد آيات وحروف، فإن لم يعلم شيئاً منه يقول هذه الكلمات، فإذا فرغ من تلك الصلاة لزمه أن يتعلم. وفيه: بُعد، لأن عجز العربي المتكلم بمثل هذا الكلام عن تعلم ما تصح به صلاته من القرآن مستبعد جداً، وأنى كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرخص في الاكتفاء بالتسبيح على الإطلاق من غير أن يبين ماله وما عليه-انتهى. ونقل ميرك عن زيد بن العرب أنه قال: وكل هذا خلاف الظاهر، بل قوله "فعلمني ما يجزئني" مع إيراد المحدثين لهذا الحديث في هذا الباب يدل أيضاً على أن المراد القدر المجزئ في الصلاة وإلا لكان إيراده في باب التسبيح أليق، وما ذكره من الاستبعاد فغير بعيد، لأنه كما أن من العرب من هو في غاية الفصاحة والبلاغة فمنهم من هو في غاية الجلافة والبلادة-انتهى. قلت: الظاهر أن الحديث وارد في الصلاة لما مر من حديث رفاعة للترمذي في باب صفة الصلاة. قال: إذا قمت إلى الصلاة فتوضأ كما أمرك الله به، ثم تشهد، فإن كان معك قرآن فاقرأ، وإلا فاحمد الله، وكبره، وهلله، ثم اركع. فإنه يدل على أن من لم يحفظ القرآن يجزئه الحمد والتكبير والتهليل، وهو مع حديث الباب دليل على أن هذه الأذكار قائمة مقام الفاتحة وغيرها لمن لا يستطيع أن لا يتعلم القرآن، وليس فيه ما يقتضي التكرار، فظاهره أنها تكفي مرة. وقد ذهب البعض إلى أنه يقولها ثلاث مرات. قال الخطابي في المعالم (ج1: ص207) : الأصل أن الصلاة لا تجزئ إلا بقراءة فاتحة الكتاب، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب"، ومعقول أن وجوب قراءة فاتحة الكتاب إنما هو على من أحسنها دون من لا يحسنها، فإذا كان المصلي لا يحسنها، وكان يحسن شيئاً من القرآن غيرها، كان عليه أن يقرأ منه قدر سبع آيات، لأن أولى الذكر بعد فاتحة الكتاب ما كان مثلاً

رواه أبوداود. وانتهت رواية النسائي عند قوله: إلا بالله. 866- (39) وعن ابن عباس - رضي الله عنه - ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قرأ {سبح اسم ربك الأعلى} قال: سبحان ربي الأعلى. ـــــــــــــــــــــــــــــ لها من القرآن، فإن كان رجل ليس في وسعه أن يتعلم شيئاً من القرآن؛ لعجز في طبعه أو سوء حفظه أو عجمة لسان، أو آفة تعرض له، كان أولى الذكر بعد القرآن ما علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير. وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: أفضل الذكر بعد كلام الله عزوجل سبحان الله، والحمدلله، ولا إله إلا الله، والله أكبر-انتهى. (رواه أبوداود) وسكت عليه، وأخرجه أيضاً أحمد وابن الجارود وصححه ابن حبان، والحاكم والدارقطني. ومدار الحديث على إبراهيم بن عبد الرحمن بن إسماعيل السكسكي أبي إسماعيل الكوفي مولى صخير. قال الحافظ في التلخيص (ص89) : هو من رجال البخاري، لكن عيب عليه إخراج حديثه، وضعفه النسائي. وقال ابن القطان: ضعفه قوم لم يأتوا بحجة. وذكره النووي في الخلاصة في فصل الضعيف. وقال في شرح المهذب: رواه أبوداود والنسائي بإسناد ضعيف، وكان سببه كلامهم في إبراهيم. وقال ابن عدي: لم أجد له حديثاً منكر المتن-انتهى. ولم ينفرد به بل رواه الطبراني وابن حبان في صحيحه أيضاً من طريق طلحة بن مصرف عن ابن أبي أوفى، ولكن في سنده الفضل بن موفق ضعفه أبوحاتم-انتهى كلام الحافظ. قلت: إبراهيم السكسكي هذا ضعفه أحمد، وقال ابن القطان: كان شعبة يضعفه، كان يقول لا يحسن يتكلم. وقال النسائي: ليس بالقوي، يكتب حديثه. وقال ابن عدي: لم أجد له حديثاً منكر المتن، وهو إلى الصدق أقرب منه إلى غيره، ويكتب حديثه كما قال النسائي، وذكره العقيلي في الضعفاء وابن حبان في الثقات. وهذا يدل على أنه صدوق ثقة عند البخاري وابن القطان وابن عدي وابن حبان، وليس ممن لا يحتج بأحاديثهم، وهو الراجح، والله أعلم. 866- قوله: (كان إذا قرأ: سبح اسم ربك الأعلى) في الصلاة أو غيرها، فريضة كانت الصلاة أو نافلة. ففيه دليل على أن للقارئ في الصلاة أو غيرها إذا مر بآياته فيها تسبيح أن يسبح. وإليه ذهب الشافعي، وهو الحق، لأن قوله "كان إذا قرأ" عام يشمل الصلاة وغيرها، ويؤيده ما روي عن علي بن أبي طالب: قرأ {سبح اسم ربك الأعلى} [87: 1] فقال: سبحان ربي الأعلى. وهو في الصلاة. فقيل له: أتزيد في القرآن، فقال: لا، إنما أمرنا بشيء فقلته. وروى البيهقي عنه أنه قرأ في الصبح بـ {سبح اسم ربك الأعلى} فقال: سبحان ربي الأعلى-الحديث. وعن أبي موسى الأشعري: أنه قرأ في الجمعة {سبح اسم ربك الأعلى} فقال: سبحان ربي الأعلى. وعن سعيد بن جبير، قال سمعت ابن عمر يقرأ {سبح اسم ربك الأعلى} فقال: سبحان ربي الأعلى. وعن عمر مثله. وعن ابن الزبير أنه قرأ

رواه أحمد، وأبوداود. 867- (40) وعن أبي هريرة، قال: ((قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قرأ منكم بـ {التين والزيتون} فانتهى إلى {أليس الله بأحكم الحاكمين} فليقل: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين. ـــــــــــــــــــــــــــــ {سبح اسم ربك الأعلى} فقال: سبحان ربي الأعلى، وهو في الصلاة. وحديث ابن عمر رواه الحاكم أيضاً (ج2: ص521) : صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. ولا دليل لمن حمل حديث ابن عباس هذا على خارج الصلاة أو خصه بصلاة النافلة، بل يرد قوله ما تقدم من آثار الصحابة. ثم إنه قيل: يستحب أيضاً للسامع أن يقول سبحان ربي الأعلى إذا سمع من القارئ {سبح اسم ربك الأعلى} ؛ لأنه دليل في الحديث على اختصاص هذا القول بالقارئ أو بالإمام، ولم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا القول لكونه إماماً أو قارئاً، بل لأن مقتضي هذه الآية أن يقول كل من قرأها أو سمعها في جوابها: سبحان ربي الأعلى، امتثالاً للأمر. قال المناوي في شرح الجامع الصغير: أخذ من ذلك أن للقارئ أو السامع كلما مر بآية تنزيه أن ينزه الله، أو تحميد أن يحمده، أو تكبير أن يكبره، وقس عليه. (رواه أحمد وأبوداود) من طريق وكيع عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وأخرجه أيضاً الحاكم (ج1: ص264) والطبراني وابن مردويه والبيهقي، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وقال العزيزي: هو حديث صحيح. وقال أبوداود: خولف وكيع في هذا الحديث. رواه أبووكيع. (يعني الجراح بن مليح وائد وكيع المذكور) وشعبة عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفا-انتهى. وأخرجه عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير عنه: أنه كان إذا قرأ {سبح اسم ربك الأعلى} قال: سبحان ربي الأعلى. وفي لفظ لعبد بن حميد عنه، قال: إذا قرأت {سبح اسم ربك الأعلى} فقل سبحان ربي الأعلى. قيل: الموقوف له حكم المرفوع لأنه لا مسرح للاجتهاد فيه. والرفع زيادة ثقة فتقبل. 867- قوله: (من قرأ) أي في الصلاة أو خارجها. (بـ {التين والزيتون} ) أي بهذه السورة. (فانتهى إلى "أليس الله بأحكم الحاكمين") أي أقضى القاضين يحكم بينك وبين أهل التكذيب بك يا محمد!. (فليقل: بلى) أي نعم. قال المناوي: لأنه قول بمنزلة السؤال فيحتاج إلى الجواب. ومن حق الخطاب أن لا يترك المخاطب جوابه فيكون السامع كهيئة الغافل، أو كمن لا يسمح إلا دعاء ونداء من الناعق به، صم بكم عمي فهم لا يعقلون، فهذه هيئة سيئة. ومن ثم ندبوا لمن مر بآية رحمة أن يسأل الله الرحمة، أو عذاب أن يتعوذ من النار، أو يذكر الجنة بأن يرغب إلى الله فيها، أو النار أن يستعيذ به منها-انتهى. (وأنا على ذلك) أي كونك أحكم الحاكمين. (من الشاهدين) أي أنتظم في سلك من له مشافهة في الشهادتين من أنبياء الله وأوليائه. قال ابن حجر: وهذا أبلغ من أنا شاهد. ومن ثم قالوا في {وكانت من

ومن قرأ {لا أقسم بيوم القيامة} فانتهى إلى {أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى} فليقل: بلى. ومن قرأ {والمرسلات} فبلغ {فبأي حديث بعده يؤمنون} فليقل: آمنا بالله)) رواه أبوداود، والترمذي إلى قوله: ((وأنا على ذلك من الشاهدين)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ القانتين} [66: 12] وفي {إنه في الآخرة لمن الصالحين} [2: 130] أبلغ من "وكانت قانتة" ومن "أنه في الآخرة صالح" لأن من دخل في عداد الكامل وساهم معهم الفضائل ليس كمن انفرد عنهم. (أليس ذلك) أي الذي جعل خلق الإنسان من نطفة تمنى في الرحم. (فليقل: بلى) قال القاري: وفي رواية "بلى إنه على كل شيء قدير"-انتهى. وأخرج ابن النجار في تاريخه عن أبي أمامة: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عند قراءته لهذه الآية: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين. (فبأي حديث بعده) أي بعد القرآن، لأنه آية مبصرة، ومعجزة باهرة، فحين لم يؤمنوا به فبأي كتاب بعده يؤمنون؟. (فليقل: آمنا بالله) أي به وبكلامه. ولعموم هذا لم يقل: آمنا بالقرآن. وقال الطيبي: أي قل: أخالف أعداء الله المعاندين-انتهى. والحديث يدل على أن من يقرأ هذه الآيات يستحب له أن يقول تلك الكلمات سواء كان في الصلاة أو خارجها. وأما قولها للسامع المقتدي أو غير المقتدي فلم أقف على حديث مرفوع صريح يدل على ذلك، لكن قد تقدم أن هذه الآيات بمنزلة السؤال فتحتاج إلى الجواب، ومن حق الخطاب أن لا يترك المخاطب جوابه فيستحب الجواب عند تلاوة هذه الآيات للقارئ والسامع كليهما إماماً أو مأموماً أو منفرداً. قال ابن عباس: من قرأ {سبح اسم ربك الأعلى} إماماً كان أو غيره فليقل: سبحان ربي الأعلى، ومن قرأ {لا أقسم بيوم القيامة} [75: 1] إلى آخرها، فليقل: سبحانك اللهم بلى، إماماً كان أو غيره، ذكره الخطيب. قال الحفناوي: قوله "إماماً كان أو غيره" يقتضي أن هذه الكلمة وهي "بلى" لا تبطل الصلاة، وهو كذلك، لأنها ذكر تقديس وتنزيه لله تعالى، كذا في فتح البيان (ج1: ص130) . (رواه أبوداود) من طريق ابن عيينة عن إسماعيل بن أمية، قال: سمعت أعرابياً يقول: سمعت أباهريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قرأ، الخ. وأخرجه أيضاً أحمد (ج2: ص249) وابن المنذر وابن مردوية، والبيهقي. وفي إسناده رجل مجهول، فالحديث ضعيف. (والترمذي) أي ورواه الترمذي. وفي نسخة "وللترمذي" وهو الظاهر، قال الترمذي بعد ما أخرجه مختصراً: إنما يروي بهذا الإسناد، عن هذا الأعرابي، عن أبي هريرة، ولا يسمى-انتهى. قال في فتح الودود: وهذا الأعرابي لا يعرف. وفي الإسناد جهالة. وقال الحافظ في المبهمات من التقريب: إسماعيل بن أمية عن أعرابي عن أبي هريرة لا يعرف. وسماه كما في المستدرك (ج2: ص590) يزيد بن عياض أحد المتروكين أبا اليسع، وهو معدود فيمن لا يعرف. وقال الذهبي في الميزان (ج3: ص388) والحافظ في اللسان (ج6: ص454) : أبواليسع لا يدرى من هو، والسند بذلك مضطرب-انتهى. والعجب من الذهبي أنه وافق الحاكم في التلخيص في تصحيح الحديث فقال: صحيح.

{الفصل الثالث}

868- (41) وعن جابر، قال: ((خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه، فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها، فسكتوا. فقال: لقد قرأتها على الجن ليلة الجن، فكانوا أحسن مردوداً منكم، كنت كلما أتيت على قوله {فبأي آلاء ربكما تكذبون} قالوا: لا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد) رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب. {الفصل الثالث} 869- (42) عن معاذ بن عبد الله الجهني، قال: ((إن رجلاً من جهنية أخبره ـــــــــــــــــــــــــــــ 868- قوله: (فسكتوا) أي الصحابة مستمعين. (ليلة الجن) أي ليلة اجتماعهم به. (فكانوا) أي الجن. (أحسن مردوداً) أي أحسن رداً وجواباً لما تضمنه الاستفهام التقريري المتكرر فيها بأي. (منكم) أيها الصحابة. قال الطيبي: المردود بمعنى الرد كالمخلوق والمعقول، نزل سكوتهم وإنصاتهم للاستماع منزلة حسن الرد، فجاء بأفعل التفضيل. ويوضحه كلام ابن الملك حيث قال: نزل سكوتهم من حيث اعترافهم بأن في الجن والإنس من هو مكذب بآلاء الله، وكذلك في الجن من يعترف بذلك أيضاً، لكن نفيهم التكذيب عن أنفسهم باللفظ أيضاً أدل على الإجابة، وقبول ما جاء به الرسول من سكوت الصحابة أجمعين، ذكره القاري. (كنت) أي تلك الليلة. (على قوله) أي على قراءة قوله تعالى: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) الخطاب للإنس والجن، أي بأي نعمة مما أنعم الله به عليكم تكذبون وتجحدون نعمه بترك شكره، وتكذيب رسله، وعصيان أمره. (لا بشيء) متعلق بنكذب الآتي. (ربنا) بالنصب على حذف حرف النداء. (نكذب) أي لا نكذب بشيء منها. (فلك الحمد) أي على نعمك الظاهرة والباطنة، ومن أتمها نعمة الإيمان والقرآن. (رواه الترمذي) وأخرجه أيضاً البزار وابن المنذر والحاكم وصححه، والبيهقي. (وقال: هذا حديث غريب) لا نعرفه إلا من حديث الوليد بني مسلم عن زهير بن محمد ثم حكى عن الإمام أحمد أنه كان لا يعرفه، وينكر رواية أهل الشام عن زهير بن محمد هذا. قلت: حديث جابر هذا رواه الوليد بن مسلم، وهو من أهل الشام عن زهير بن محمد، ففي الحديث ضعف لكن له شاهد من حديث ابن عمر، أخرجه ابن جرير والخطيب في تاريخه، والبزار والدارقطني في الأفراد وغيرهم، وصحح السيوطي إسناده، كما في فتح البيان (ج9: ص167) قيل: أورد المصنف حديث ابن عباس وأبي هريرة لاحتمالها داخل الصلاة وخارجها، وذكر حديث جابر هذا تبعاً لهما واطراداً في حكمهما. 869- قوله: (عن معاذ بن عبد الله الجهني) بضم الجيم وفتح الهاء، المدني تابعي صدوق، ربما وهم، قاله الحافظ. ووثقه ابن معين وأبوداود. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الدارقطني ليس بذلك. (أخبره) الضمير المستتر راجع إلى

أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ في الصبح {إذا زلزلت} في الركعتين كلتيهما، فلا أدري أنسي أم قرأ ذلك عمداً)) رواه أبوداود. 870- (43) وعن عروة، قال: ((إن أبا بكر الصديق، رضي الله عنه، صلى الصبح، فقرأ فيهما بسورة البقرة في الركعتين كلتيهما)) ـــــــــــــــــــــــــــــ الرجل، والبارز إلى "معاذ" ولا يضر الجهل به لأنه صحابي، والصحابة كلهم عدول. (أنه) أي الرجل. (في الركعتين كلتيهما) تأكيد لدفع توهم التبعيض، أي قرأ في كل من ركعتيها {إذا زلزلت} [99: 1] لكمالها. (أنسي؟) بهمزة الاستفهام، أي أنه قرأ في الأولى {إذا زلزلت} (أم قرأ ذلك عمداً) تردد الصحابي في أن إعادة النبي - صلى الله عليه وسلم - للسورة هل كان نسياناً لكون المعتاد من قراءته أن يقرأ في الركعة الثانية غير ما قرأ به في الأولى، فلا يكون مشروعاً لأمته، أو فعله عمداً لبيان الجواز، فتكون الإعادة مترددة بين المشروعية وعدمها، وإذا دار الأمر بين أن يكون مشروعاً وغير مشروع فحمل فعله - صلى الله عليه وسلم - على المشروعية أولى. لأن الأصل في أفعاله التشريع، والنسيان خلاف الأصل. ونظيره ما ذكره الأصوليون فيما إذا تردد فعله - صلى الله عليه وسلم - بين أن يكون جبلياً أو لبيان الشرع، والأكثر على التأسي به. كذا في النيل. وقال ابن حجر: الظاهر أنه فعل عمداً ليبين به حصول أصل السنة بتكرير السورة الواحدة من قصار المفصل في الركعتين. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري. قال الشوكاني: ليس في إسناده مطعن، بل رجاله رجال الصحيح. 870- قوله: (وعن عروة) أي ابن الزبير التابعي المشهور. (فقرأ فيهما) أي في ركعتي الصبح. وفي نسخة "فيها" كما في الموطأ، وهو الظاهر. أي في صلاة الصبح، والمراد بعد فاتحة الكتاب، واستغنى عن ذكرها لشهرتها بين الناس ولعلم الناس بذلك. (بسورة البقرة في الركعتين كلتيهما) يعني على توزيع السورة وتقسيمها. وفي حديث أنس، قال: صلى بنا أبوبكر صلاة الفجر، فافتح سورة البقرة، فقرأ بها في ركعتين، فلما سلم قام إليه عمر، فقال: ما كدت تفرغ حتى تطلع الشمس. قال: لو طلعت لألفتنا غير غافلين. وهذا إجماع منهم. وفيه رد على من قال باستحباب الإسفار، وأفضلية تأخير صلاة الفجر إلى الإسفار، وتائيد لما ذكرنا في معنى "أسفروا بالفجر" نقلاً عن الطحاوي وابن القيم من أن المراد به الإسفار دواماً لا ابتداء فيدخل فيها مغلساً، ويطول القراءة، فيخرج منها مسفراً جداً. قال الحافظ: روى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن أبي بكر الصديق أنه أم الصحابة في صلاة الصبح بسورة البقرة فقرأها في الركعتين، وهذا إجماع منهم-انتهى. وفيه دليل على جواز قسم السورة الواحدة بين الركعتين في الفريضة من غير كراهة.

رواه مالك. 871- (44) وعن الفرافصة بن عمير الحنفي، قال: ((ما أخذت سورة يوسف إلا من قراءة عثمان ابن عفان إياها في الصبح، من كثرة ما كان يرددها)) رواه مالك. 872- (45) وعن عامر بن ربيعة، قال: ((صلينا وراء عمر بن الخطاب الصبح، ـــــــــــــــــــــــــــــ (رواه مالك) وهو منقطع؛ لأن عروة ولد في أوائل خلافة عثمان، لكنه ورد برواية أنس أخرجه الخلال كما في المغني والبيهقي (ج2: ص389) وعبد الرزاق بسند صحيح. 871- قوله: (عن الفرافصة) بضم الفاء الأولى، فراء، فألف، ففاء ثانية مكسورة، فصاد مهملة، على ما ضبطه الزرقاني. وفي المغني لمحمد طاهر الفتني: هو عند المحدثين بفتح الفاء الأولى. وقال الطيبي: الفاء الأولى مفتوحة عند المحدثين، وأهل اللغة لا يعرفون إلا الضم. (بن عمير) بضم العين المهملة مصغراً. (الحنفي) نسبة إلى قبيلة بن حنيفة، من الطبقة الأولى من تابعي أهل المدينة في الدرجة العالية. وثقه العجلي وابن حبان. وهو غير الفرافصة بن الأحوص بن عمرو بن ثعلبة الكلبي. (ما أخذت) أي ما حفظت وتعلمت. (إلا من قراءة عثمان بن عفان) لا ينصرف، وقد ينصرف، قاله القاري. (إياها) أي تلك السورة كلها. (في الصبح) أي في صلاته. (من كثرة ما كان يرددها) أي يكررها في صلوات الصبح. ومن تعليل لأخذت. وفيه أن المواظبة في أكثر الأحوال على سورة واحدة لا محذور فيها. ويحتمل أن ذلك لما بشره - صلى الله عليه وسلم - بالجنة على بلوى تصيبه، كما ورد: إيذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه. وسورة يوسف فيها ذكر البلوى على يوسف - عليه السلام -، فكان فيها مناسبة به. قيل: المداومة على قراءة سورة يوسف مورثة لسعادة الشهادة وهي مجربة، والله أعلم. (رواه مالك) عن يحيى بن سعيد، وربيعة بن أبي عبد الرحمن الرأي، عن القاسم بن محمد، عن الفرافصة بن عمير، وأخرجه أيضاً الشافعي والبيهقي. 872- قوله: (عن عامر بن ربيعة) كذا في نسخ المشكاة الموجودة عندنا بلفظ "عامر بن ربيعة"، وكذا ذكره ابن الدبيع في تيسير الوصول (ج2: ص224) عن مالك. وهكذا أورده محمد بن سليمان المغربي في جمع الفوائد عن رزين، أي بلفظ عامر بن ربيعة، ووقع في نسخ الموطأ الحاضرة عندنا: عبد الله بن عامر بن ربيعة، وبه جزم الزرقاني حيث قال في شرحه للموطأ: وثقه العجلي، وأبوه أي عامر بن ربيعة صحابي شهير، وكذا وقع في رواية البيهقي من طريق مالك، وكذا ذكره ابن التركماني في الجوهر النقي عنه. وهكذا في رواية الطحاوي عن مالك. قيل: هذا هو الصواب. وأما ما وقع في نسخ المشكاة وتيسير الوصول فهو غلط، وليس هو من خطأ النساخ بل من المصنفين بأنفسهما؛ لأنهما ـــــــــــــــــــــــــــــ 1- هو عبد الرحمن بن علي بن محمد بن يوسف الشيباني، الزبيدي الشافعي، المعروف بابن الدبيع – بكسر الدال المهملة، وسكون الياء المثناة من تحت، وفتح الموحدة، وفي آخره مهملة – ومعناه بلغة النوبة الأبيض، لقب جده على بن يوسف، وضبطه قطب الدين الحنفي في كتابه "البرق اليماني في الفتح العثماني" بفتح الدال المهملة، وبالياء المثناة التحتية الساكنة، فالباء الموحدة المفتوحة آخره عين.

وقرأ فيهما بسورة يوسف وسورة الحج قراءة بطيئة، قيل له: ـــــــــــــــــــــــــــــ اقتصرا على ذكر ترجمة عامر بن ربيعة في أسماء رجال المشكاة، وجامع الأصول، ولم يذكرا ترجمة ولده عبد الله بن عامر، ولم ينتبه لذلك الخطأ القاري، بل تبعهما حيث قال: عامر بن ربيعة يكنى أباعبد الله العنزي، هاجر الهجرتين، وشهد بدراً والمشاهد كلها، وكان أسلم قديماً. وقيل: كلتا النسختين صحيحتان، وأن هذا الأثر رواه عبد الله بن عامر وأبوه كلاهما إلا أن هشاماً (شيخ مالك) أخذه عن عبد الله بن عامر بن ربيعة بلا واسطة أبيه عروة، ورواه عن عامر بن ربيعة (والد عبد الله) بواسطة أبيه، قلت: وعدم ذكر الواسطة بين هشام وعبد الله هو الصواب عند مسلم والبيهقي؛ لأن أصحاب هشام: أبا أسامة ووكيعاً وحاتماً لم يقولوا فيه لفظ "عن أبيه" وقالوا: عن هشام، قال: أخبرني عبد الله بن عامر، ووهم مالك فقال: عن هشام عن أبيه، فزاد لفظ "عن أبيه" ذكره ابن التركماني في "الجوهر النقي" نقلاً عن الاستذكار، ومعرفة السنن. وعلى هذا فالصحيح هو ما وقع في نسخ الموطأ، ورواية البيهقي والطحاوي من قوله: عبد الله بن عامر بن ربيعة، لا ما وقع في نسخ المشكاة، وتيسير الوصول من قوله: عامر بن ربيعة؛ لأن رواية هشام بلفظ الإخبار لا يمكن أن يكون عن عامر بن ربيعة؛ لأن عامراً أكثر ما قيل في وفاته سنة. (37) ومولد هشام سنة مقتل الحسين أي سنة. (61) والله أعلم. ثم رأيت جامع الأصول للجزري قد وقع فيه (ج6: ص228) عامر بن ربيعة، كما وقع في تيسير الأصول. وعبد الله هذا هو عبد الله بن عامر بن ربيعة الأصغر، ولد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقيل في سنة ست من الهجرة، وتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن أربع أو خمس سنين. وثقه أبوزرعة. وقال العجلي: مدني تابعي ثقة من كبار التابعين. وقال أبوحاتم: رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دخل على أمه وهو صغير. وقال ابن حبان في الصحابة أتاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيتهم وهو غلام، وروايته عن الصحابة. مات سنة بضع وثمانين. وليس هو عبد الله بن عامر بن ربيعة الأكبر، الصحابي الذي استشهد بالطائف مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما أبوهما عامر، فهو عامر بن ربيعة بن كعب بن مالك العنزي- بسكون النون – حليف بني عدي، ثم الخطاب والد عمر. كان أحد السابقين الأولين. أسلم قبل عمر، وهاجر الهجرتين، وشهد بدراً والمشاهد كلها. وكان صاحب لواء عمر لما قدم الجابية. واستخلفه عثمان على المدينة لما حج، وقام عامر يصلي من الليل وذلك حين نشب الناس في الطعن على عثمان، فصلى من الليل ثم نام، فأتي في منامه، فقيل له قم فسل الله أن يعيذك من الفتنة التي أعاذ منها صالح عباده، فقام فصلى، ثم اشتكى، فما خرج بعد إلا بجنازته، رواه مالك في الموطأ. واختلف سنة وفاته، فقيل: مات سنة. (32) وقيل: (33) وقيل: 34) وقيل: (36) وقيل: (37) ، وقال في التقريب مات ليالي قتل عثمان. له اثنان وعشرون حديثاً، اتفقا على حديثين. (فقرأ فيهما) أي في ركعتيه، وفي نسخة "فيها" كما في الموطأ. أى في صلاته. (بسورة يوسف) أي كلها في الركعة الأولى. (وسورة الحج) كلها في الثانية. (قراءة بطيئة) بالهمزة ويشدد، أي قراءة مجودة مرتلة مبيّنة بدون الإسراع. (قيل له) أي لعامر أو لعبد الله ابن عامر، على ما في نسخ الموطأ. وفي الموطأ "فقلت" وهو قول هشام على رواية الجماعة. أى قال هشام: فقلت:

إذا لقد كان يقوم حين يطلع الفجر. قال: أجل)) . رواه مالك. 873- (46) وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: ((ما من المفصل سورة صغيرة ولا كبيرة إلا قد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤم بها الناس في الصلاة المكتوبة)) رواه مالك. 874- (47) وعن عبد الله بن عتبة بن مسعود، قال: ((قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـــــــــــــــــــــــــــــ لعبد الله بن عامر، أو قول أبيه عروة على رواية مالك، أي قال عروة: قلت لعامر بن ربيعة. (إذا لقد كان يقوم) أي يبتدئ بصلاة الفجر. (حين يطلع الفجر) بضم اللام، أي أول ما يظهر الصبح. قال الطيبي "إذا" جواب وجزاء، يعني إذا كان الأمر على ما ذكرت إذا والله لقام في الصلاة أول الوقت حين الغلس. (قال: أجل) أي نعم، يقوم إذ ذاك، قيل: إن تطويل الخلفاء الراشدين كما يدل عليه الآثار المتقدمة كان لعلمهم برضا من خلفهم، وبحرصهم على التطويل، وأما اليوم فالتخفيف أولى هو واجب لقوله - صلى الله عليه وسلم -: من أم الناس فليخفف. وسيأتي تفصيل الكلام فيه. (رواه مالك) عن هشام ابن عروة عن أبيه: أنه سمع عبد الله بن عامر بن ربيعة يقول: صلينا، الخ. وكذا أخرجه الطحاوي والبيهقي. قال في الاستذكار: زعم مسلم بن الحجاج أن مالكاً وهم فيه؛ لأن أصحاب هشام لم يقولوا فيه لفظ "عن أبيه" وإنما قالوا: عن هشام قال: أخبرني عبد الله بن عامر. وذكر البيهقي في المعرفة أنه بدون ذكر "أبيه" هو الصواب – انتهى. وذكر ابن حزم في المحلي (ج4: ص104) عن سفيانين كلاهما، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن حسين بن سبرة: أن عمر بن الخطاب قرأ في الفجر يوسف ثم قرأ في الثانية. (والنجم) فسجد، ثم قام فقرأ {إذا زلزلت)) . وأخرجه عبد الرزاق عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير، قال: كان عمر يقرأ في الفجر بيوسف، الخ. 873- قوله: (يؤم بها الناس في الصلاة المكتوبة) أي المفروضة على الأعيان، وهي الخمس. وقد تقدم وجه الجمع بين الروايات المختلفة في القراءة أنها باختلاف الأحوال والأوقات. (رواه مالك) لم أجده في الموطأ مع الفحص الشديد ويمكن أن يكون في غير رواية المصمودي، والظاهر أن المصنف قلد في ذلك الجزري، فقد نسبه في جامع الأصول إلى الموطأ. والحديث أخرجه أبوداود في باب من رأى التخفيف في القرآن في المغرب، وسكت عنه هو والمنذري، وفي إسناده محمد بن إسحاق، ورواه عمرو بن شعيب بالعنعنة وكذلك رواه البيهقي (ج2: ص388) وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2: ص114) من حديث ابن عمر أنه قال: ما من سورة من المفصل الصغيرة ولا كبيرة إلا وقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأها كلها في الصلاة. رواه الطبراني من رواية إسماعيل بن عياش عن الحجازيين، وهي ضعيفة – انتهى. 874- قوله: (وعن عبد الله بن عتبة) بضم العين وسكون الفوقية بعدها موحدة. (بن مسعود) الهذلي، ابن أخي عبد الله بن مسعود، مدني الأصل، سكن الكوفة، أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - ورآه، وهو من كبار التابعين. وثقه العجلي

(13) باب الركوع

في صلاة المغرب بـ"حم الدخان")) رواه النسائي مرسلاً. (13) باب الركوع {الفصل الأول} 875- (1) عن أنس، قال: ((قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أقيموا الركوع والسجود، فوالله إني لأراكم من بعدي) . ـــــــــــــــــــــــــــــ وجماعة. قال ابن سعيد: كان ثقة رفيعاً، كثير الحديث والفتيا، فقيهاً. مات في ولاية بشر في العراق سنة (74) ، وقيل: (73) . قال ابن عبد البر: ذكره العقيلي في الصحابة فغلط، إنما هو تابعي من كبار التابعين بالكوفة، هو والد عبيد الله بن عبد الله بن عتبة الفقيه المدني الشاعر، شيخ ابن شهاب. استعمله عمر بن الخطاب على السوق. قال: وولد في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأتى به فمسحه بيده ودعا له. (بـ"حم الدخان") أي كلها في الركعتين. قال القاري: وفي أصل السيد جمال الدين ضبط بكسر ميم. (حم) وجر "الدخان" ووجه الأول تحريكه بالكسر لالتقاء الساكنين، ووجه الثاني أنه مضاف إليه، أو بدل؛ أو بيان. وفي نسخة بفتح الميم؛ لأن الفتحة أخف الحركات. وفي أخرى بنصب "الدخان" بتقدير أعني. (رواه النسائي مرسلاً) ؛ لأن الراوي تابعي وحذف الصحابي، كلنه اعتضد بما تقدم من قراءة السور الطويلة كالأعراف والطور والمرسلات في المغرب. (باب الركوع) هو ركن بالكتاب والسنة وإجماع الأمة. وهو لغة: الانحناء، وقد يراد به الخضوع. قيل: هو من خصائص هذه الأمة لقول بعض المفسرين في قوله تعالى: {واركعوا مع الراكعين} [2: 43] إنما قال لهم ذلك؛ لأن صلاة اليهود والنصارى لا ركوع فيها. والراكعون محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته، ومعنى قوله تعالى: {واركعي مع الراكعين} [3: 43] صلي مع المصلين. قيل: حكمة تكرير السجود دونه، أنه وسيلة ومقدمة للسجود الذي هو الخضوع الأعظم، لما فيه من مباشرة أشرف ما في الإنسان لمواطئ الأقدام والنعال، فناسب تكريره؛ لأنه لمتكفل بالمقصود حيث ورد: أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. وقيل غير ذلك. والأظهر أنه تعبد محض. 875- قوله: (أقيموا الركوع والسجود) أي أكملوها، من أقام العود، إذا قومه. وفي رواية "أتموا" بدل "أقيموا". (لأراكم) بفتح اللام المؤكدة والهمزة، أي أبصركم. (من بعدي) أي من خلفي إذا ركعتم وسجدتم. قال الحافظ في الفتح: الصواب أنه محمول على ظاهره، وأن هذا الإبصار إدراك حقيقي خاص به - صلى الله عليه وسلم - انخرقت له العادة. وعلى

متفق عليه. 876- (2) وعن البراء، قال: ((كان ركوع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسجوده، وبين السجدتين، وإذا رفع من الركوع، وما خلا القيام والقعود، قريباً من السواء)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا عمل البخاري، فأخرج هذا الحديث في علامات النبوة، وكذا نقل عن الإمام أحمد وغيره، ثم ذلك الإدراك يجوز أن يكون برؤية عينه، انخرقت له العادة فيه أيضاً فكان يرى بها من غير مقابلة؛ لأن الحق عند أهل السنة أن الرؤية لا يشترط لها عقلاً عضو مخصوص ولا مقابلة ولا قرب، وإنما تلك أمور عادية يجوز حصول الإدراك مع عدمها عقلاً، ولذلك حكموا بجواز رؤية الله تعالى في الدار الآخرة، خلافاً لأهل البدع لوقوفهم مع العادة. وقيل كانت له عين خلف ظهره يرى بها من ورائه دائماً. وقيل: كان بين كفيه عينان مثل سم الخياط يبصر بهما لا يحجبهما ثوب ولا غير-انتهى. وظاهر الحديث أن ذلك يختص بحالة الصلاة، ويحتمل أن يكون ذلك واقعاً في جميع أحواله. وقد نقل ذلك عن مجاهد. وحكى بقي بن مخلد أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يبصر في الظلمة كما يبصر في الضوء. وسبب هذه المقالة كما تدل عليه الروايات أنهم قصروا في الصلاة وأساءوها بتفويت الخشوع، ونقصان الركوع والسجود، وعدم إحسان الصلاة، ففي الحديث الحث على الخشوع في الصلاة، والمحافظة على إتمام أركانها وأبعاضها، وأنه ينبغي للإمام أن ينبه الناس على ما يتعلق بأحوال الصلاة، ولا سيما إن رأى منهم ما يخالف الأولى. وقد سئل عن الحكمة في تحذيرهم من النقص في الصلاة برؤيته أياهم دون تحذيرهم برؤية الله تعالى لهم، وهو مقام الإحسان المبين في سؤال جبريل كما تقدم في كتاب الإيمان: اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. فأجيب: بأن في التعليل برؤيته - صلى الله عليه وسلم - لهم تنبيهاً على رؤية الله تعالى لهم؛ فإنهم إذا أحسنوا الصلاة لكون النبي - صلى الله عليه وسلم - يراهم، أيقظهم ذلك إلى مراقبة الله تعالى، مع ما تضمنه الحديث من المعجزة له - صلى الله عليه وسلم - بذلك، ولكونه يبعث شهيداً عليهم يوم القيامة، فإذا علموا أنه يراهم يحفظوا في عبادتهم، ليشهد لهم بحسن عبادتهم. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً النسائي. 876- قوله: (كان ركوع النبي - صلى الله عليه وسلم -) اسم كان. (وسجوده) عطف عليه. (وبين السجدتين) أي وجلوسه بينهما. (وإذا رفع) أي اعتدل، وفي رواية: وإذا رفع رأسه. (من الركوع) أي قيامه وقت رفع رأسه من الركوع؛ لأن "إذا" إذا انسلخت عن معنى الاستقبال تكون للوقت المجرد. وقال الطيبي: قوله "وبين السجدتين" و"إذا رفع" معطوفان على اسم كان، أي ركوع النبي - صلى الله عليه وسلم -، على تقدير المضاف، أي زمان ركوعه وسجوده، وبين السجدتين، ووقت رفع رأسه من الركوع. (ما خلا) بمعنى إلا. (القيام القعود) بالنصب فيهما لا غير. (قريباً) خبر كان. (من السواء) بفتح السين والمد. أي كان قريباً من المساواة والمماثلة، ولاستثناء ههنا من المعنى فإن مفهوم ذلك: كانت أفعال صلاته

متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ كلها قريبة من السواء، ما خلا القيام الذي هو للقراءة، والقعود الذي هو للتشهد، فإنه كان يطولهما. وفيه إشعار بأن فيها تفاوتاً لكنه لم يعينه، وهو دال على الطمأنينة في الاعتدال وبين السجدتين، لما علم من عاداته من تطويل الركوع والسجود. قال ابن دقيق العيد: هذا الحديث يدل على أن الاعتدال ركن طويل، وحديث أنس يعني الذي بعده أصرح في الدلالة على ذلك، بل هو نص فيه، فلا ينبغي العدول عنه لدليل ضعيف ذكر في أنه ركن قصير، وهو ما قيل: إنه لم يسن فيه تكرار التسبيحات على الاسترسال، كما سنة القراءة في القيام، والتسبيحات في الركوع والسجود مطلقاً. ووجه ضعفه: أنه قياس في مقابلة النص وهو فاسد، وأيضاً فالذكر المشروع في الاعتدال أطول من الذكر المشروع في الركوع، فتكرير "سبحان ربي العظيم" ثلاثا يجيء قدر قوله: اللهم ربنا لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. وقد شرع في الاعتدال ذكر أطول كما أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن أبي أوفي، وأبي سعيد الخدري، وابن عباس بعد قوله: حمداً كثيراً طيباً "ملأ السموات وملأ الأرض، وملأ ما شئت من شيء بعد" زاد في حديث ابن أبي أوفي: اللهم طهرني بالثلج، الخ، وزاد في حديث الآخرين: أهل الثناء والمجد، الخ. كذا في الفتح. وفي رواية لمسلم: رمقت الصلاة مع محمد - صلى الله عليه وسلم -، فوجدت قيامه، فركعته، فاعتداله بعد ركوعه، فسجدت، فجلسته بين السجدتين، فسجدته، فجلسته ما بين التسليم والانصراف، قريباً من السواء. وهذه الرواية تدل على عدم خروج حالة القيام والقعود عن بقية حالات أركان الصلاة خلافاً لرواية الباب، فقيل في وجه الجمع: إن رواية مسلم هذه محمولة على بعض الأحوال والأوقات، فكان فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك مختلفا فتارة يستوي الجميع، وفي أكثر الأحوال يستوي ما عدا القيام والقعود. وقيل: ليس المراد بقوله قريباً من السواء أنه كان يركع بقدر قيامه، وكذا السجود والاعتدال، بل المراد أن صلاته كانت قريباً معتدلة، فكان إذا أطال القراءة أطال بقية الأركان، وإذا أخفها أخف بقية الأركان، فقد ثبت أنه قرأ في الصبح بـ (الصافات) وثبت في السنن عن أنس: أنهم حزروا في السجود قدر عشر تسبيحات، فيحمل على أنه إذا قرأ بدون (الصافات) اقتصر على دون العشر، وأقله كما ورد في السنن أيضاً ثلاث تسبيحات. ولا يخفى ما في هذا الجمع من التكلف، ويزيفه بل يرده حديث عوف بن مالك الآتي في الفصل الثالث بلفظ: فلما ركع مكث قدر سورة البقرة، الخ. وحديث حذيفة في مسلم: أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ في ركعة بـ. (البقرة) أو غيرها، ثم ركع نحو مما قرأ، ثم قام بعد أن قال"ربنا ولك الحمد" قياماً طويلاً قريباً مما ركع. فالراجح في الجمع هو الوجه الأول، وهو أن تحمل رواية مسلم المتقدمة على بعض الأحيان والحالات، والله أعلم. (متفق عليه) أي على أصل الحديث وإلا فقوله "ما خلا القيام والقعود" من أفراد البخاري. والحديث أخرجه أيضاً الترمذي وأبوداود والنسائي.

877- (3) وعن أنس، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قال: سمع الله لمن حمده، قام حتى نقول: قد أوهم، ـــــــــــــــــــــــــــــ 877- قوله: (حتى نقول) بالنصب على أن "حتى" بمعنى "إلى" و"أن" مضمرة، أي إلى أن نقول. و"حتى" إنما ينصب بعدها المضارع إذا كان مستقبلاً، وهذا قد وقع ومضى. والجواب أنه على حكاية الحال. وقيل بالرفع على أن يكون التقدير: قام. (أي أطال القيام) فقلنا، فإطالة القيام سبب القول، وكلا الفعلين ماض، فلم تعمل فيه حتى. وقيل: الرفع على أن الفعل بعدها حال مقارن لما قبلها، والحال لا ينصب بعد حتى ولا غيرها؛ لأن الناصب مخلص للاستقبال فتنافيا. و"حتى" المرفوع بعدها الفعل ابتدائية لا جارة؛ لأنها إنما تدخل على مفرد أو مؤول به. قال التوربشتي: نصب "نقول" بـ"حتى" وهو الأكثر. ومنهم من لا يعمل "حتى" إذا حسن "فعل" موضع "يفعل" كما يحسن في هذا الحديث: حتى قلنا قد أوهم. وأكثر الرواة على ما علمنا على النصب، وكان تركه من حيث المعنى أتم وأبلغ- انتهى. واعلم أن "حتى" إذا وقع بعدها فعل فإما أن يكون حالاً أو مستقبلاً أو ماضياً، فإن وقع حالاً رفع، نحو: مرض زيد حتى لا يرجونه، أي في الحال. وإن كان مستقبلاً نصب نحو: سرت حتى أدخل البلد وأنت لم تدخلها. وإن كان ماضياً فتحكيه، ثم حكايتك له إما أن تكون بحسب كونه حالاً بأن يقدر أنه حال فترفعه على حكاية هذا الحال، وإما أن تكون بحسب كونه مستقبلاً فتنصبه على حكاية الحال المستقبلة، فالرفع والنصب على حكاية الحال بمعنيين مختلفين، قال ابن هشام: لا ينتصب الفعل بعد "حتى" إلا إذا كان مستقبلاً، ثم إن كان استقباله بالنظر إلى زمن التكلم فالنصب واجب نحو: {لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى} [20: 91] . وإن كان بالنسبة إلى ما قبلها خاصة فالوجهان نحو: {وزلزلوا حتى يقول الرسول} [2: 214] الآية. فإن قولهم "إنما هو مستقبل" بالنظر إلى الزلزال، لا بالنظر إلى زمن قص ذلك علينا. وكذلك لا يرتفع الفعل بعد حتى إلا إذا كان حالاً، ثم إن كانت حاليته بالنسبة إلى زمن التكلم فالرفع واجب كقولك: سرت حتى أدخلها، إذا قلت ذلك وأنت في حالة الدخول. وإن كانت حاليته ليست حقيقية بل كانت محكية رفع، وجاز نصبه إذا لم تقدر الحكاية نحو: {وزلزلوا حتى يقول الرسول} قراءة نافع بالرفع بتقدير: حتى حالتهم حينئذٍ أن الرسول والذين آمنوا معه يقولون كذا وكذا. واعلم أنه لا يرتفع الفعل بعد "حتى" إلا بثلاثة شروط: أحدها أن يكون حالاً أو مؤولاً بالحال كما مثلنا. والثاني أن يكون مسبباً عما قبلها. والثالث أن يكون فضله- انتهى. ومعنى الحديث: يطيل القيام، أو إطالة حتى نظن، إذا القول قد جاء بمعناه. (قد أوهم) بفتح الهمزة والهاء، فعل ماض مبني للفاعل. قال الجزري: "أوهم في صلاته" أي أسقط منها شيئاً. يقال أوهمت الشيء إذا تركته، وأوهمت في الكلام والكتاب، إذا أسقطت منه شيئاً. ووهم ـ يعني بكسر الهاء ـ يوهم وهما ـ بالتحريك ـ إذا غلط. يعني كان يلبث في حال الاستواء من الركوع زمانا نظن أنه أسقط الركعة التي ركعها، وعاد إلى ما كان عليه من القيام. قال ابن الملك: ويقال: أوهمته، إذا أوقعته في الغلط. وعلى هذا يكون أوهم على صيغة المجهول، أي

ثم يسجد ويقعد بين السجدتين حتى نقول: قد أوهم)) . رواه مسلم. 878- (4) وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول ـــــــــــــــــــــــــــــ أوقع عليه الغلط ووقف سهواً – انتهى. قيل: ويحتمل أن يكون معناه: نسى وجوب الهوى إلى السجود، أو نسى أنه في صلاة، أو ظن أنه وقت القنوت حيث كان معتدلاً، أو وقت التشهد حيث كان جالسا. ويؤيد التفسير بالنسيان التصريح به في الرواية الأخرى كما سنذكرها. (يقعد بين السجدتين) أي يطيل القعود بينهما. (حتى نقول: قد أوهم) أي نظن أنه أسقط السجدة الثانية. والحديث نص صريح في تطويل الاعتدال والجلوس بين السجدتين. وقد ترك الشافعية والحنفية هذه السنة الثابتة بالأحاديث الصحيحة من عالم، وفقيه، وإمام، ومنفرد، وصغير، وكبير، والأعظم من ذلك أنهم إذا رأوا من يطيل الاعتدال من الركوع والجلوس بين السجدتين شغبوا عليه، وجهلوه، وسفهوه، وتركوا الاقتداء به. قال بعض الحنفية معتذرا عن أمثال هذا الحديث: إن فيها مبالغة الراوي. قلت: قال شيخنا رداً عليه: كلا، ثم كلا، فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا لا يبالغون من عند أنفسهم في وصف صلاته، وحكاية أفعاله في الصلاة وغيرها، ولا يقصرون بل يحكون على حسب ما يرون، فحمله على مبالغة الراوي باطل مردود عليه. وحمل بعضهم حديث أنس على ابتداء الأمر حين كان يطول صلاته، قال: ثم أمر بالتخفيف بعده. وهذا ادعاء محض لا دليل على كون ما في هذا الحديث حكاية لابتداء الأمر فلا يلتفت إليه. وقال بعضهم: كانت هذه الإطالة في صلاة النافلة. وهذا الحمل أيضاً يحتاج إلى دليل، ولا دليل على ذلك، بل يرده إطلاق ما روي عن ثابت، قال: كان أنس ينعت لنا صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان يصلي، فإذا رفع رأسه من الركوع قام حتى نقول: قد نسي، أخرجه البخاري. وقال بعضهم: لم يذكر هذه الصفة إلا أنس من بين الصحابة الذين رووا صفة صلاته. وفيه: أنه لم يتفرد بذلك أنس، بل وافقه البراء وحذيفة كما تقدم. ولو سلم أنه لم يذكر هذه الصفة غير أنس، لا يضر من قال بمشروعيتها، فكم من صفة من صفات الصلاة تفرد بذكرها بعض الصحابة وقد أخذها الأئمة وعملوا بها وعدوها من سنن الصلاة. وقال بعضهم: فعله في الفرائض أحياناً لبيان الجواز، ولفظه "كان" للرابطة، لا لبيان المواظبة. قلت: لا مانع من حملها على التكرار، فالظاهر أن حاله - صلى الله عليه وسلم - كان مختلفا، فتارة كان يطيل، وتارة كان يخفف. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أبوداود، وأخرج الشيخان عن ثابت، عن أنس، قال: إني لا آلو أن أصلي بكم كما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بنا. قال ثابت: فكان أنس يصنع شيئاً لا أراكم تصنعوه، وكان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائماً حتى يقول القائل: قد نسى، وإذا رفع رأسه من السجدة مكث حتى يقول القائل: قد نسي. 878- قوله: (يكثر) من الإكثار. (أن يقول) قد ورد في رواية البخاري في التفسير بيان ابتداء هذا الفعل.

في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي. يتأول القرآن. متفق عليه. 879- (5) وعنها، ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في ركوعه وسجوده: سبوح، قدوس، رب الملائكة والروح)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأنه واظب عليه - صلى الله عليه وسلم -، ولفظها: ما صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة بعد أن نزلت عليه {إذا جاء نصر الله والفتح} إلا يقول فيها: سبحانك- الحديث. قيل: اختار النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة لهذا القول مع أنه لم يقيد بحال من الأحوال؛ لأن حالها أفضل من غيرها، فاختار أفضل الأحوال لأداء هذا الواجب، ليكون أكمل وأبلغ في الامتثال. قال الحافظ: وليس في الحديث أنه لم يكن يقول ذلك خارج الصلاة أيضاً، بل في بعض طرقه عند مسلم ما يشعر بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يواظب على ذلك داخل الصلاة وخارجها. (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك) تقدم الكلام فيه. (يتأول القرآن) أي يعمل بما أمر به فيه. وقد تبين من الرواية المذكورة أن المراد بالقرآن بعضه، وهو السورة المذكورة، والذكر المذكور، وقوله "يتأول" حال من فاعل "يقول" أي يكثر قول ذلك حال كونه متأولاً للقرآن، أي مبنياً ما هو المراد من قوله: {فسبح بحمد ربك واستغفره} [110: 3] آتياً بمقتضاه. وأصل الأول الرجوع والانصراف، والمآل ما يرجع إليه الأمر. وقال القرطبي، معناه: يمتثل ما آل إليه معنى القرآن في قوله تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح} [110: 1] الخ. والحديث يؤخذ منه إباحة الدعاء في الركوع، وإباحة التسبيح في السجود، ولا يعارضه قوله الآتي - صلى الله عليه وسلم -: "أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا فيه من الدعاء"؛ لأنه لا مفهوم له، فلا يمتنع الدعاء في الركوع كما لا يمتنع التعظيم في السجود؛ لأن تعظيم الرب فيه لا ينافي الدعاء كما أن الدعاء في السجود لا ينافي التعظيم. قال ابن دقيق العيد: ويمكن أن يحمل حديث الباب على الجواز، وذلك على الأولوية، ويحتمل أن يكون أمر في السجود بتكثير الدعاء لإشارة قوله فاجتهدوا، والذي وقع في الركوع من قوله: اللهم اغفر لي، ليس كثيراً، فلا يعارض ما أمر به في السجود- انتهى. وأراد بنفي الكثرة عدم الزيادة على قوله: اللهم اغفر لي، في الركوع الواحد، فهو قليل بالنسبة إلى السجود المأمور فيه بالاجتهاد في الدعاء المشعر بتكثير الدعاء. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه. 879- قوله: (سبوح قدوس) بضم أولهما وفتحهما، والضم أكثر استعمالاً وأفصح. قال ثعلب: كل اسم على "فعول" فهو مفتوح الأول إلا السبوح والقدوس، فإن الضم فيهما أكثر، وهما من صفات الله تعالى، والمراد المسبح والمقدس، فعول لمبالغة المفعول، فكأنه يقول مسبح مقدس. ومعنى "سبوح" المبرأ من النقائص والشريك، وكل ما لا يليق بالإلهية، و"قدوس" المطهر من كل ما لا يليق بالخالق، ولعل التكرير للتأكيد، أو أحدهما لتنزيه الذات، والآخر لتنزيه الصفات. وهما خبران مبتدءهما محذوف تقديره: ركوعي وسجودي لمن هو سبوح قدوس، أي منزه عن أوصاف المخلوقات، أو أنت سبوح أو هو سبوح. (رب الملائكة والروح) هو من عطف الخاص على العام؛ لأن

رواه مسلم. 880- (6) وعن ابن عباس، قال: ((قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا إني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم)) ـــــــــــــــــــــــــــــ الروح من الملائكة، وهو ملك عظيم يكون إذا وقف كجميع الملائكة. وقيل المراد به "جبريل" لقوله تعالى: {يوم يقوم الروح والملائكة صفاً} [78: 38] ، وقوله تعالى: {نزل به الروح الأمين} [26: 193] وقوله تعالى: {تنزل الملائكة والروح فيها} [97: 4] وغير ذلك، خص بالذكر تفضيلا. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي. 880- قوله: (ألا) كلمة تنبيه. (إني نهيت) بضم النون وكسر الهاء على بناء المجهول. (أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً) أي عن قراءة القرآن في هاتين الحالتين. والنهي له - صلى الله عليه وسلم - نهي لأمته كما يشعر بذلك قوله في الحديث "فأما الركوع" الخ. قال الطيبي: أمره إياهم بالتعظيم للرب في الركوع، وبالدعاء في السجود، يدل على أن النهي عن القراءة ليس مخصوصاً به عليه السلام، بل الأمة داخلون معه فيه. قلت: ويشعر به أيضاً ما في صحيح مسلم وغيره أن علياً قال: نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً. وهذا النهي يدل على تحريم قراءة القرآن في الركوع والسجود؛ لأن الأصل في النهي التحريم. وفي بطلان الصلاة بالقراءة حال الركوع والسجود خلاف. وحكمة النهي أن الركوع والسجود حالان دالان على غاية الذل والخضوع، ويناسبهما الدعاء والتسبيح، فنهي عن القراءة فيهما تعظيماً للقرآن الكريم؛ لأن كلام الله لكونه في غاية العظمة والجلالة لا يناسب قراءته في حالة الذلة والاستكانة، والله اعلم. (فأما الركوع) كأنه قيل: فماذا نقول فيهما؟ فقال: فأما الركوع. (فعظموا فيه الرب) أي سبحوه، ونزهوه، ومجدوه، وقد بين - صلى الله عليه وسلم - كيفية هذا التعظيم، واللفظ الذي يقع به هذا التعظيم في حديثي عائشة قبل هذا، وفي أحاديث عقبة بن عامر، وابن مسعود، وحذيفة، وعوف بن مالك الآتية في هذا الباب، وفي حديث أبي هريرة، وعائشة في باب السجود وفضله. (وأما السجود فاجتهدوا) أي بالغوا. (في الدعاء) قال السندي: قوله: "فعظموا فيه الرب" أي اللائق به في تعظيم الرب، فهو أولى من الدعاء، وإن كان الدعاء جائزاً أيضاً، فلا ينافي أنه كان يقول في ركوعه: اللهم اغفرلي، وقوله فاجتهدوا في الدعاء، أي أنه محل لاجتهاد الدعاء، وأن الاجتهاد فيه جائز بلا ترك أولوية، وكذلك التسبيح فإنه محل له أيضاً- انتهى. والحديث دليل على مشروعية الدعاء حال السجود بأي دعاء كان من طلب خير الدنيا والآخرة، والاستعاذة من شرهما. وقد بين بعض الأدعية ما أفاده حديث عائشة السابق. (فقمن) هو بفتح القاف وفتح الميم وكسرها، لغتان مشهورتان، فمن فتح فهو عنده مصدره لا يؤنث، ولا يثنى، ولا يجمع، ومن كسر فهو وصف يؤنث ويثنى ويجمع، وفيه لغة ثالثة "قمين" – بزيادة الياء وفتح القاف وكسر الميم – وهو مثل القمن – بكسر الميم – في كونه وصفاً، ومعناه: جدير وحقيق. (أن يستجاب لكم) ؛

رواه مسلم. 881- (7) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا ولك الحمد، ـــــــــــــــــــــــــــــ لأن السجود أقرب ما يكون العبد فيه إلى ربه، فيكون الدعاء في تلك الحالة أقرب إلى الإجابة. وفي الحديث الحث على الدعاء في السجود، وأنه محل الإجابة، وقد ورد الأمر بالإكثار من الدعاء فيه في حديث أبي هريرة الآتي في باب السجود وفضله. قال الحافظ: الأمر بإكثار الدعاء في السجود يشمل الحث على تكثير الطلب لكل حاجة، كما جاء في حديث أنس: ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله، أخرجه الترمذي. ويشمل التكرار للسؤال الواحد، والاستجابة تشمل استجابة الداعي بإعطاء سؤله واستجابة المثنى بتعظيم ثوابه-انتهى. وظاهر الحديث وجوب تسبيح الركوع، ووجوب الدعاء في السجود للأمر بهما. وقد ذهب إلى ذلك أحمد بن حنبل، وطائفة من المحدثين. وقال الجمهور: إنه مستحب لحديث المسيء صلاته، فإنه لم يعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، ولو كان واجباً لأمره به. وفيه نظر لا يخفى على المتأمل. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي. 881- قوله: (إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد) قال القسطلاني: وللأصيلي "ولك الحمد" بالواو-انتهى. قال ابن القيم: لم يرد الجمع بين لفظ "اللهم" وبين "الواو" في حديث صحيح. قال الشوكاني: قد ثبت الجمع بينهما في صحيح البخاري من حديث أنس بلفظ: وإذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا ولك الحمد. وقد تطابقت على هذا اللفظ النسخ الصحيحة من صحيح البخاري-انتهى. واستدل بهذا الحديث وما في معناه لمالك وأبي حنيفة على أن الإمام يكتفي بالتسميع ولا يقول "ربنا لك الحمد"، وأن المأموم يكتفي بالتحميد ولا يقول "سمع الله لمن حمده" لكون ذلك لم يذكر في هذه الرواية، وأنه - عليه السلام - قسم التسميع والتحميد، فجعل التسميع الذي هو طلب التحميد للإمام، والتحميد الذي هو طلب الإجابة للمأموم، والتقسيم ينافي الشركة. ورد هذا الاستدلال بأنه ليس المقصود منه التقسيم، بل ذكر وقت تحميد المقتدي أنه عند قول الإمام "سمع الله لمن حمده"، وهو ساكت عن تحميد الإمام إثباتاً نفياً. قال الحافظ في الفتح: وفي الاستدلال به على ذلك نظر؛ لأنه ليس فيه ما يدل على النفي، بل فيه أن قول المأموم "ربنا لك الحمد" يكون عقب قول الإمام "سمع الله لمن حمده"، والواقع في التصوير ذلك؛ لأن الإمام يقوله في حال انتقاله، والمأموم يقول التحميد في حال اعتداله، فقوله يقع عقب قول الإمام كما في الخبر، وهذا الموضع يقرب من مسألة التأمين كما تقدم من أنه لا يلزم من قوله: إذا قال الإمام {ولا الضالين} فقولوا: آمين. أن الإمام لا يؤمن بعد قوله {ولا الضالين)) . وليس فيه أن الإمام يؤمن، كما أنه ليس في هذا أنه يقول "ربنا لك الحمد"، لكنها مستفادان من أدلة أخرى صحيحة صريحة-انتهى. وقال الشيخ عبد الحي اللكنوي في السعاية

(ص186) : فإن قلت آخذاً من فتح التقدير: السكوت في معرض البيان بيان، فلو كان التحميد أيضاً مشروعاً للإمام لبينه، فلما سكت عنه علم أنه ليس مشروعاً له. قلت: هذا إنما يستقيم لو كان الموضع موضع بيان أذكار الإمام والمؤتم، وهو ممنوع، فإن الظاهر من التعليق أنه موضع بيان وقت ذكر المقتدي أنه حين قول الإمام: سمع الله لمن حمده، فلا ينافيه مشروعية الذكر الآخر بعده للإمام، على أن اعتبار السكوت في موضع البيان إنما هو إذا لم يوجد حكم المتنازع فيه من موضع آخر، وأما إذا وجد حكمه صريحاً موافقاً أو مخالفاً فلا اعتبار له، كما صرحوا به في مواضع، وههنا قد وجدت مشروعية التحميد بدليل آخر، وهو ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة، والبخاري من حديث ابن عمر، ومسلم من حديث عبد الله بن أبي أوفى، ومن حديث علي بن أبي طالب أنهم قالوا في وصف صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان حين يرفع رأسه من الركوع يقول: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد. فهذا صريح في مشروعية التحميد للإمام. فإن قلت: آخذاً من فتح القدير: إن أحاديث الجمع فعلية، وحديث القسمة قولي، والقول النبوي مقدم على فعله كما هو مقرر في مقره. قلت: هذا إذا كان القول دالاً صراحة على خلاف الفعل، وههنا ليس كذلك. وأي ضرورة دعت إلى حمل الحديث السابق على القسمة حتى ينافي حديث الفعل. فإن قلت: لعل زيادة التحميد كانت في النوافل. قلت: هذا مقام لا يكفي فيه ليت ولعل. والحمل بمجرد الاحتمال مستبعد جداً مع كون غالب أحوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإمامة. وبالجملة فالاكتفاء بالتسميع وإن كان مشى عليه أرباب المتون لكونه قول أبي حنيفة، لكن الدليل يساعد الجمع، فهو الأحق بالاختيار خصوصاً إذا وجد اختياره من جماعة من المتأخرين. وذهب إليه الصاحبان، وروي مثله عن الإمام-انتهى كلام الشيخ اللكنوي. قلت: ذهب أحمد، والشافعي، وأبويوسف، ومحمد، والجمهور إلى أن الإمام يقول: ربنا لك الحمد، بعد التسميع كالمنفرد، واختاره الفضلي، والطحاوي، والشرنبلاني، وصاحب المنية، وعامة المتأخرين من الحنفية، وهو الأصح الموافق لما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يأتي بالتحميد بعد قوله: سمع الله لمن حمده. قال الحافظ في الفتح: الأحاديث الصحيحة تشهد له. وأما المنفرد فحكى الطحاوي، وابن عبد البر الإجماع على أنه يجمع بينهما، وجعله الطحاوي حجة لكون الإمام يجمع بينهما؛ للاتفاق على إتحاد حكم الإمام والمنفرد، لكن أشار صاحب الهداية إلى خلافه عندهم في المنفرد. وأما المأموم فقال الشافعي، وإسحاق، وعطاء، وابن سيرين، وغيرهم: هو كالإمام والمنفرد، يجمع بينهما، وذهب أحمد، ومالك، وأبوحنيفة، وصاحباه إلى أنه لا يأتي بالتسميع. واستدل الشافعي ومن وافقه بما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة" وفيه "ثم يقول: سمع الله لمن حمده، حين يرفع صلبه من الركعة. ثم يقول وهو قائم: ربنا لك الحمد" بانضمام قوله - صلى الله عليه وسلم - "صلوا كما رأيتموني أصلي". وبما رواه الدارقطني عن أبي هريرة، قال: كنا إذا صلينا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: سمع الله لمن حمده،

فإنه من وافق قوله قول الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه. 882- (8) وعن عبد الله بن أبي أوفى، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رفع ظهره من الركوع قال: سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد)) ـــــــــــــــــــــــــــــ قال من وراءه: سمع الله لمن حمده. لكن صرح الدارقطني بأن المحفوظ لفظ: إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فليقل من وراءه: ربنا ولك الحمد. وبما رواه الدارقطني أيضاً عن بريدة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا بريدة! إذا رفعت رأسك من الركوع فقل: سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد. وظاهره عدم الفرق بين كونه إماماً، أو منفرداً، أو مأموماً. ولكن سنده ضعيف. وليس في جمع المأموم بين التسميع والتحميد حديث صحيح صريح. قال الحافظ: زاد الشافعي: أن المأموم يجمعهما أيضاً، لكن لم يصح في ذلك شيء. (فإنه) أي الشأن. (من وافق قوله) وهو قوله: ربنا لك الحمد، بعد قول الإمام: سمع الله لمن حمده،. (قول الملائكة) أي في الزمان. (غفر له ما تقدم من ذنبه) أي من الصغائر. قال الخطابي: في هذا دلالة على أن الملائكة يقولون مع المصلي هذا القول، ويستغفرون ويحضرون بالدعاء والذكر. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً مالك، والترمذي، وأبوداود، والنسائي. 882- قوله: (إذا رفع ظهره) أي حيث شرع في رفعه. (من الركوع قال: سمع الله لمن حمده) أي وإذا انتهى إلى الاعتدال قال قبل أن يميل إلى السجود. (اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات) بكسر الميم وبنصب الهمزة بعد اللام، وهو الأكثر والأشهر على أنه صفة مصدر محذوف. وقيل على أنه حال، أي مالئاً. وقيل على نزع الخافض، أي بملء السموات، وبرفع الهمزة على أنه صفة الحمد، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف، والملء اسم ما يأخذه الإناء إذا امتلأ، وهو مجاز عن الكثرة، قال المظهر: هذا تمثيل وتقريب، إذا الكلام لا يقدر بالمكائيل ولا تسعه الأوعية، وإنما المراد منه تكثير العدد حتى لو قدر أن تلك الكلمات تكون أجساماً تملأ الأماكن لبلغت من كثرتها ما تملأ السموات والأرضين. وقيل: المراد بذلك تعظيم القدر كما يقال: هذه الكلمة تملأ طباق الأرض. وقيل: المراد بذلك أجرها وثوابها. (وملء ما شئت من شيء بعد) أي بعد ذلك، أو غير ما ذكر كالعرش والكرسي ونحوهما مما في مقدور الله تعالى. قال التوربشتي: هذا أي "ملء ما شئت" يشير إلى الاعتراف بالعجز عن أداء حق الحمد بعد استفراغ الجهد، فإنه حمده ملء السموات والأرض، وهذا نهاية إقدام السابقين، ثم ارتفع وترقى فأحال الأمر فيه على المشيئة، إذ ليس وراء ذلك للحمد منتهي، ولهذه الرتبة التي لم يبلغها أحد من خلق الله استحق - عليه الصلاة والسلام - أن يسمى أحمد-انتهى. وفي هذا الحديث وحديثي أبي سعيد ورفاعة الآتيين دليل على مشروعية تطويل الاعتدال من الركوع، والذكر

رواه مسلم. 883- (9) وعن أبي سعيد الخدري، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رفع رأسه من الركوع قال: اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد: اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد)) ـــــــــــــــــــــــــــــ المذكور في هذه الأحاديث، ولا دليل لمن حملها على النافلة. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أبوداود، وابن ماجه. 883- قوله: (اللهم) لم أجد هذا اللفظ في مسلم في رواية أبي سعيد، ووجدتها في رواية ابن عباس. (أهل الثناء والمجد) بالنصب على الاختصاص أو المدح، أو بتقدير: يا أهل الثناء، أو بالرفع بتقدير: أنت أهل الثناء. والثناء: الوصف الجميل، والمدح. والمجد: العظمة، ونهاية الشرف. (أحق ما قال العبد) بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وما موصولة، أو موصوفة، أو مصدرية، و"ال" للجنس، أو للعهد، والمعهود النبي - صلى الله عليه وسلم -، أي أنت أحق بما قال العبد لك من المدح من غيرك، أو يكون التقدير: هذا الكلام، أي ما سبق من قوله: ربنا لك الحمد، الخ. أحق ما قاله العبد، أو أحق قول العبد. قال الأمير اليماني: وإنما لم يجعل "لا مانع لما أعطيت" خبراً و"أحق" مبتدأ؛ لأنه محذوف في بعض الروايات، فجعلناه جملة استئنافية إذا حذف تم الكلام من دون ذكره-انتهى. وقيل: الأظهر والأولى أن يجعل "أحق" مبتدأ وخبره "لا مانع لما أعطيت"، و"كلنا لك عبد" اعتراض بين المبتدأ والخبر، ومثل هذا الاعتراض كثير في القرآن وأشعار العرب، وإنما يعترض ما يعترض من هذا الباب للاهتمام به، وارتباطه بالكلام السابق، وتقديره هنا: أحق قول العبد: لا مانع لما أعطيت، وكلنا لك عبد، فينبغي لنا أن نقوله. وإنما كان أحق ما قاله العبد، لما فيه من التفويض إلى الله تعالى والإذعان له، والاعتراف بوحدانيته، والتصريح بأنه لا حول ولا قوة إلا به، وأن الخير والشر منه، والحث على الزهادة في الدنيا، والإقبال على الأعمال الصالحة. (لا مانع) من أحد. (لما أعطيت) أي لعبد شيئاً من العطاء. (ولا معطي) من أحد. (لما منعت) أي للشيء الذي منعته من الأشياء، أو من الإعطاء أحد، وهو مقتبس من قوله تعالى: {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده} [35: 2] . (ولا ينفع ذا الجد) المشهور فيه فتح الجيم، ومعناه الحظ والغنى والعظمة والسلطان، منك بمعنى عند، والمعنى: لا ينفع ذا الحظ في الدنيا بالمال والولد والعظمة والسلطان والغنى منك، أي عندك حظه وغناه، وإنما ينفعه وينجيه العمل الصالح. وقيل: المعنى: لا يسلمه من عذابك غناه، أي لا يمنع عظمة الرجل وغناه عذابك إن شئت عذابه. وقيل:

رواه مسلم. 884- (10) وعن رفاعة بن رافع، قال: ((كنا نصلي وراء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما رفع رأسه من الركعة، قال: سمع الله لمن حمده. فقال رجل وراءه: ربنا ولك الحمد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. فلما انصرف قال: من المتكلم آنفاً؟ قال: أنا. ـــــــــــــــــــــــــــــ "من" بمعنى بدل، أي لا ينفع ذا الحظ والإقبال بذلك- أي بدل طاعتك وتوفيقك- حفظه وإقباله. وروى الجد- بالكسر للجيم-، أي لا ينفع ذا الاجتهاد منك جده واجتهاده، وعمله، وإنما ينفعه رحمتك، وفضلك، والقبول منك بعمله. وقد ضعفت رواية الكسر. والحديث دليل على مشروعية هذا الذكر في هذا الركن لكل مصل. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أبوداود، والنسائي، وأخرج مسلم، والنسائي نحوه عن ابن عباس أيضاً. 884- قوله: (كنا نصلي وراء النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي في يوم من الأيام. وظاهر السياق يدل على أنه كان في صلاة الجماعة، ومن المعلوم أن المعتاد في الصلاة جماعة هو الفرض لا النفل. ونقل الحافظ في الفتح أن في رواية بشر بن عمران الزهراني، عن رفاعة بن يحيى: أن تلك الصلاة كانت المغرب، وهي صريحة في الرد على من زعم أنه التطوع. (فلما رفع رأسه) أي فلما شرع في رفع رأسه. (من الركعة) أي الركوع. (قال: سمع الله لمن حمده) وأتمه في الاعتدال. (فقال رجل) هو رفاعة بن رافع راوي الخبر، قاله ابن بشكوال، وبه جزم الحافظ. واستدل على ذلك بما رواه الترمذي وغيره عن قتيبة عن رفاعة بن يحيى الزرقي عن عم أبيه معاذ بن رفاعة، قال: صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - فعطست، فقلت: الحمد لله- الحديث. قيل: هذا التفسير فيه نظر لاختلاف سياق السبب والقصة. وأجب: بأنه لا تعارض بينهما لاحتمال أنه وقع عطاسه عند رفع رأس النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يذكر نفسه في حديث الباب، بل كنى عنها لقصد إخفاء عمله وطريق التجريد. ويجوز أن يكون بعض الرواة نسي اسمه وذكره بلفظ "الرجل"، وأما ما عدا ذلك من الاختلاف فلا يتضمن إلا زيادة لعل الراوي اختصرها، فلا يضر ذلك. (وراءه) أي وراء النبي - صلى الله عليه وسلم -. (ولك الحمد) أي لك النعمة، ولك الحمد. (حمداً) منصوب بفعل مضمر دل عليه قوله: لك الحمد. (طيباً) أي خالصا عن الرياء والسمعة. (مباركاً فيه) أي كثير الخير. وأما قوله في رواية رفاعة بن يحيى عند الترمذي "مباركاً عليه" فالظاهر أنه تأكيد للأول. وقيل: الأول بمعنى الزيادة، والثاني بمعنى البقاء، وزاد أيضاً في الرواية المذكورة "كما يحب ربنا ويرضى"، وفيه من حسن التفويض إلى الله تعالى ما هو الغاية في القصد. (فلما انصرف) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - من صلاته. (من المتكلم؟) زاد في رواية رفاعة بن يحيى: في الصلاة، فلم يتكلم أحد، ثم قالها الثانية: من المتكلم في الصلاة؟ فلم يتكلم أحد، ثم قالها الثالثة: من المتكلم في الصلاة؟ فقال رفاعة بن رافع: أنا يا رسول الله! قال: كيف قلت؟ فذكره، فقال: والذي نفسي بيده- الحديث. (قال: أنا) أي قال الرجل: أنا المتكلم

قال: رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدونها أيهم يكتبها أول)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ بذلك، أرجو الخير. فإن قلت: لم أخر رفاعة إجابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى كرر سؤاله ثلاثا؟ مع وجوب إجابته عليه؛ بل وعلى غيره ممن سمع، فإنه - عليه الصلاة والسلام - عم السؤال حيث قال: من المتكلم؟ أجيب: بأنه لما يعين واحدا بعينه لم تتعين المبادرة بالجواب من المتكلم، ولا من واحد بعينه، وكأنهم انتظروا بعضهم ليجيب، وحملهم على ذلك خشية أن يبدو في حقه شيء، ظناً منهم أنه أخطأ فيما فعل، ورجوا أن يقع العفو عنه، ويدل له ما في رواية سفيان، عن عبد الجبار، عن رفاعة بن يحيى عند ابن قانع: قال رفاعة: فوددت أني خرجت من مالي، وأني لم أشهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك الصلاة، وكأنه - صلى الله عليه وسلم - لما رأى سكوتهم فهم ذلك، فعرفهم أنه لم يقل بأساً، ويدل لذلك حديث مالك بن ربيعة عند أبي داود: قال: من القائل الكلمة؟ فإنه لم يقل بأساً، فقال: أنا قلتها، لم أرد بها إلا خيرا. والحكمة في سؤاله - صلى الله عليه وسلم - له عمن قال، أن يتعلم السامعون كلامه فيقولوا مثله. (بضعة) بكسر الباء وتاء التأنيث، وهي من الثلاث إلى تسع. (يبتدرونها) أي يسارعون في كتابة هذه الكلمات. (أيهم) بالرفع على أنه مبتدأ، وخبره هو قوله "يكتبها" قاله الطيبي وغيره. و"أي" استفهامية، وتعلقت هذه الجملة الاستفهامية بمحذوف دل عليه "يبتدرونها" والتقدير: يبتدرونها ليعلموا أيهم يكتبها أول. ويجوز في "أيهم" النصب بأن يقدر المحذوف أي فينظرون أيهم. (يكتبها) أي هذه الكلمات، وأي موصولة عند سيبويه، والتقدير: يبتدرون الذي هو يكتبها أول. وأنكر جماعة من البصريين ذلك. (أول) مبني على الضم؛ لأنه ظرف قطع عن الإضافة لفظاً لا معنى، أي أولهم، والمعنى: أن كل واحد منهم يسرع ليكتب هذه الكلمات قبل الآخر ويصعد بها إلى حضرة الله تعالى لعظم قدرها. ويروى "أول" بالفتح، ويكون حالاً وهو غير منصرف. وقال ابن الملك: أول بالنصب هو الأوجه، أي أول مرة. قال في المفاتيح: نصبه على الحال أو الظرف. وفي رواية رفاعة بن يحيى عند الترمذي: أيهم يصعد بها، ولا تعارض بين الروايتين؛ لأنه يحمل على أنهم يكتبونها ثم يصعدون بها. وأورد المصنف هذا الحديث في باب الركوع ليستدل به على مشروعية الذكر المذكور فيه الاعتدال من الركوع، وعلى جواز تطويل الاعتدال، ورفع الصوت به ما لم يشوش على من معه. لكن لا يتم هذا الاستدلال إلا إذا قيل: إن القصة المذكورة فيه غير قصة العطاس المذكورة في رواية رفاعة بن يحيى عند الترمذي. وأما إذا قيل باتحاد القصة والواقعة كما جزم به الحافظ وابن بشكوال، يكون الذكر المذكور ذكر العطاس الذي اتفق وقوعه عند رفع الرأس من الركوع، لا ذكر الاعتدال، ويكون الحديث دليلاً على أن العاطس في الصلاة يحمد الله بغير كراهة، وأن المتلبس بالصلاة لا يتعين عليه تشميت العاطس. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً أبوداود، والنسائي. والعجب أن الحاكم روى حديث رفاعة بن رافع هذا في مستدركه على الصحيحين، وهو في البخاري، ورجال الحاكم رجاله، إلا أن في المستدرك من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن مالك، وفي البخاري، عن القعنبي، عن مالك، وقيل: إنه يكفي هذه المغايرة بينهما للاستدراك.

{الفصل الثاني}

{الفصل الثاني} 885- (11) عن أبي مسعود الأنصاري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود)) رواه أبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ـــــــــــــــــــــــــــــ 885- قوله: (عن أبي مسعود الأنصاري) قال ابن سعد في الطبقات (ج6: ص9) في ترجمته: شهد ليلة العقبة وهو صغير، ولم يشهد بدراً، وشهد أحداً. وفي التهذيب: قال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب: لم يشهد بدراً، وهو قول ابن إسحاق، ونقل بعضهم أنه علل نسبة البدري بأنه نزل ماء ببدر، فنسب إليه، ثم رد الحافظ ذلك في التهذيب والإصابة بأنه ثبت في أحاديث صحاح أنه شهد بدراً، وأن هذه الأقوال لا ترد الأحاديث الصحيحة، ولذلك عده البخاري ومسلم وأبوعبيدة والحاكم أبوأحمد فيمن شهد بدراً، وانظر فتح الباري، كذا في تعليق الترمذي للشيخ أحمد محمد شاكر. (لا تجزئ) من أجزأ بهمزة في آخره، أي لا تجوز، ولا تصح، ولا تكفي (صلاة الجل) وفي حكمه المرأة. (حتى يقيم) أي يعدل ويسوي. (ظهره في الركوع والسجود) هذا لفظ أبي داود، ولفظ البقية "لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود"، قال في المجمع: أي لا يجوز صلاة من لا يسوي ظهره في الركوع والسجود، والمراد الطمأنينة- انتهى. والحديث دليل على فرضية الطمأنينة في الركوع والسجود، فإنه نص صريح في أن من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود لا تجوز صلاته، وهو المراد بفرضية الطمأنينة في الركوع والسجود، وإليه ذهب مالك، والشافعي، وأحمد والجمهور، وهو مذهب أبي يوسف، وهو الحق لحديث الباب، ولحديث المسيء في صلاته، وقد تقدم. ولحديث حذيفة وأبي قتادة في الفصل الثالث. ولحديث أنس المتقدم بلفظ: أقيموا الركوع والسجود. ولحديث علي بن شيبان مرفوعاً: "يا معشر المسلمين! لا صلاة لمن لا يقيم صلبه في الركوع والسجود" أخرجه أحمد وابن ماجه، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما. قال في الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله ثقات. قال السندي في حاشية النسائي، وابن ماجه: المقصود - أي من حديث الباب- الطمأنينة في الركوع والسجود، ولذلك قال الجمهور بافتراض الطمأنينة، والمشهور من مذهب أبي حنيفة ومحمد عدم الافتراض، لكن نص الطحاوي في آثاره أن مذهب أبي حنيفة وصاحبيه افتراض الطمأنينة في الركوع والسجود، وهو أقرب للأحاديث- انتهى. وقد أسلفنا الكلام فيه مفصلاً في شرح حديث المسيء في أول صفة الصلاة فتذكر. (رواه أبوداود) وسكت عنه. (والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي) وأخرجه أيضاً أحمد. (وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح) وقال الشوكاني: إسناده صحيح، ونقل المنذري كلام الترمذي وأقره.

886- (12) وعن عقبة بن عامر، قال: ((لما نزلت {فسبح باسم ربك العظيم} قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اجعلوها في ركوعكم. فلما نزلت {سبح اسم ربك الأعلى} قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اجعلوها في سجودكم)) رواه أبوداود وابن ماجه والدارمي. ـــــــــــــــــــــــــــــ 886- قوله: (اجعلوها) أي مضمونها ومحصولها. (في ركوعكم) يعني قولوا: سبحان ربي العظيم. (اجعلوها في سجودكم) أي قولوا: سبحان ربي الأعلى، كما يدل عليه حديث ابن مسعود، وحديث حذيفة بعد هذا، ففيهما بيان كيفية هذا الجعل. والحكمة في تخصيص الركوع بالعظيم، والسجود بالأعلى، أن السجود لما كان فيه غاية التواضع لما فيه من وضع الجبهة التي هي أشرف الأعضاء على مواطئ الأقدام، كان أفضل وأبلغ في التواضع من الركوع، فحسن تخصيصه بما فيه صيغة أفعل التفضيل وهو الأعلى، بخلاف التعظيم، جعلاً للأبلغ مع الأبلغ، والمطلق مع المطلق، وأيضاً قد صح: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد"، فربما يتوهم قرب المسافة فندب "سجان ربي الأعلى" دفعاً لذلك التوهم، وأيضاً في السجود غاية انحطاط من العبد فيناسبه أن يصف فيه ربه بالعلو. والحديث يصلح متمسكاً للقائلين بوجوب تسبيح الركوع والسجود، وقد تقدم جواب الجمهور عنه. قال الطيبي: الاسم ههنا صلة بدليل أنه - عليه السلام - كان يقول في سجوده: سبحان ربي الأعلى، فحذف الاسم، وهذا على قول من زعم أن الاسم غير المسمى، وقيل: الاسم يجوز أن يكون غير صلة، والمعنى تنزيه اسمه عن أن يبتذل، وأن لا يذكر على وجه التعظيم، قال الرازي: كما يجب تنزيه ذاته عن النقائص، يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها عن الرفث وسوء الأدب. وقال السندي في حاشية ابن ماجه: قوله: "اجعلوها في ركوعكم"، أي اجعلوا التسبيح المستفاد منها، وجاء بيان ذلك التسبيح "سبحان ربي العظيم"، وهذا يفيد أن لفظ الاسم في قوله: {فسبح باسم ربك العظيم} [56: 74] مقحم، وكذا قوله "اجعلوها في سجودكم". وقد يقال: بيان الآية بهذا التسبيح مبني على أن مفعول "سبح" محذوف أي سبحه، وقوله "باسم ربك" حال، أي حال كونه متلبساً باسمه، و"العظيم" هو بيان الاسم، وهذا أقرب إلى تطبيق الآية بالبيان فليفهم، إلا أنه لا يوافق آية السجود- انتهى. (رواه أبوداود، وابن ماجه، والدارمي) وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، وقال: صحيح. قال الذهبي: في إسناده أياس بن عامر، وليس بالمعروف، وفي تهذيب التهذيب (ج1: ص389) : ومن خط الذهبي في تلخيص المستدرك: ليس بالقوي- انتهى. قلت: أياس هذا قال العجلي: لا بأس به، وذكره ابن حبان في الثقات، وصحح له ابن خزيمة. وقال الحافظ في التقريب: صدوق. وسكت على حديثه هذا أبوداود، والمنذري، وقال النووي: إسناده حسن.

887- (13) وعن عون بن عبد الله، عن ابن مسعود، قال: ((قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا ركع أحدكم فقال في ركوعه: سبحان ربي العظيم، ثلاث مرات، فقد تم ركوعه، وذلك أدناه. وإذا سجد فقال في سجوده: سبحان ربي الأعلى، ثلاث مرات، فقد تم سجوده، وذلك أدناه)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 887- قوله: (وعن عون بن عبد الله) أي ابن عتبة بن مسعود، ثقة، سمع جماعة من الصحابة، وكان كثير الإرسال. وعبد الله بن مسعود عم أبيه. (سبحان ربي العظيم) بفتح ياء "ربي" ويسكن. (فقد تم ركوعه) أي كمل. (وذلك) أي المذكور من الذكر. (أدناه) في الموضعين، أي أدنى التمام، وهذا المعنى هو المتبادر من هذا السوق، قال ابن الملك: أي أدنى الكمال في العدد وأكمله سبع مرات. قال: فالأوسط خمس مرات. وقال الماوردي: إن الكمال إحدى عشرة، أو تسع، وأوسطه خمس، ولو سبح مرة حصل التسبيح- انتهى. وقيل: إن الكمال عشر تسبيحات، ويدل عليه حديث ابن جبير عن أنس في الفصل الثالث بلفظ: "فحرزنا ركوعه عشر تسبيحات، وسجوده عشر تسبيحات". وقال ابن المبارك، وإسحاق بن راهويه: يستحب خمس تسبيحات للإمام. وقال الشوكاني: لا دليل على تقييد الكمال بعدد معلوم، بل ينبغي الاستكثار من التسبيح على مقدار تطويل الصلاة من غير تقييد بعدد- انتهى. وسيأتي مزيد الكلام في شرح حديث ابن جبير في الفصل الثالث. وحديث ابن مسعود هذا قد استدل به على استحباب أن لا ينقص الرجل في الركوع والسجود من ثلاث تسبيحات، ويدل عليه أيضاً حديث حذيفة: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول إذا ركع "سبحان ربي العظيم" ثلاث مرات، وإذا سجد "سبحان ربي الأعلى" ثلاث مرات. أخرجه ابن ماجه، وفي سنده ابن لهيعة. وحديث أبي بكرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسبح في ركوعه "سبحان ربي العظيم" ثلاثاً، وفي سجوده "سبحان ربي الأعلى" ثلاثاً. رواه البزار، والطبراني في الكبير. وقال البزار: لا نعلمه يروى عن أبي بكرة إلا بهذا الإسناد، وعبد الرحمن بن أبي بكرة صالح الحديث. وحديث جبير بن مطعم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في ركوعه "سبحان ربي العظيم" ثلاثاً، وفي سجوده "سبحان ربي الأعلى" ثلاثاً. رواه البزار، والطبراني في الكبير. قال البزار: لا يروى عن جبير إلا بهذا الإسناد، وعبد العزيز بن عبيد الله صالح، ليس بالقوي. وحديث أبي مالك الأشعري: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى، فلما ركع قال: "سبحان الله وبحمده" ثلاث مرات، ثم رفع رأسه. رواه الطبراني في الكبير. وفيه شهر بن حوشب، وفيه بعض كلام، وقد وثقه غير واحد. وحديث عبد الله بن مسعود، قال: إن من السنة أن يقول الرجل في ركوعه "سبحان ربي العظيم" ثلاثاً، وفي سجوده "سبحان ربي الأعلى" ثلاثاً. رواه البزار. وفيه السري بن إسماعيل، وهو ضعيف عند أهل الحديث، ذكر هذه الأحاديث الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2: ص128) . وهذه الأحاديث وإن كان كل واحد منها لا يخلو عن كلام، إلا أن بعضها يشد بعضاً، وبمجموعها تصلح للاحتجاج بها على

رواه الترمذي وأبوداود وابن ماجه. وقال الترمذي: ليس إسناده بمتصل؛ لأن عوناً لم يلق ابن مسعود. 888- (14) وعن حذيفة، ((أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم، وفي سجوده: سبحان ربي الأعلى. وما أتى على آية رحمة إلا وقف وسأل، وما أتى على آية عذاب إلا وقف وتعوذ)) رواه الترمذي وأبوداود والدارمي. وروى النسائي وابن ماجه إلى قوله "الأعلى" وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك المطلوب. (رواه الترمذي، وأبوداود، وابن ماجه) وأخرجه أيضاً الشافعي. (وقال الترمذي: ليس إسناده بمتصل؛ لأن عوناً لم يلق ابن مسعود) وقال أبوداود: هذا مرسل، أي منقطع، عون لم يدرك عبد الله، وذكره البخاري في تاريخه الكبير، وقال: مرسل. والحديث مع انقطاعه، وعدم اتصال سنده، فيه إسحاق بن يزيد الهذلي راويه عن عون، وهو مجهول، كما صرح به في التقريب. وقال الشوكاني: قال ابن سيد الناس: لا نعلمه وثق، ولا عرف إلا برواية ابن أبي ذئب عنه خاصة، فلم ترتفع عنه الجهالة العينية ولا الحالية. 888- قوله: (أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم -) وفي رواية مسلم: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة، فافتتح (البقرة) فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتح (النساء) فقرأها، ثم افتتح (آل عمران) فقرأها، يقرأ مترسلاً، الخ. فظهر بهذه الرواية أن هذه الصلاة التي صلى بها حذيفة معه - صلى الله عليه وسلم - كانت صلاة الليل. (إلا وقف وسأل) أي الرحمة. (إلا وقف وتعوذ) أي بالله من العذاب. قال القاري: حمله أصحابنا والمالكية على أن صلاته كانت نافلة، لعدم تجويزهم التعوذ والسؤال أثناء القراءة في صلاة الفرض، ويمكن حمله على الجواز؛ لأنه يصح معه الصلاة إجماعاً، ويدل عليه ندرة وقوعه- انتهى. قلت: رواية مسلم المتقدمة صريحة في أن ذلك كان في صلاة الليل، ولم نقف على نص يدل صريحاً على وقوع ذلك في صلاة الفريضة. (رواه الترمذي، وأبوداود، والدارمي) أي الحديث بكماله. وأخرجه أيضاً أحمد، وأبوداود الطيالسي، ومسلم في صحيحه. (وروى النسائي، وابن ماجه إلى قوله: الأعلى) فيه أنه أخرجه النسائي بنحوه مطولاً أيضاً. قال الجزري: حديث حذيفة هذا رواه مسلم، والترمذي والنسائي، وابن ماجه نحوه. وإيراد محي السنة له في الحسان يدل على أنه ليس في واحد من الصحيحين لاسيما وقد قال: صحيح كعادته في تصحيح ما لم يكن في واحد منهما، فكان ينبغي أن يقدمه في الصحاح؛ لأنه في صحيح مسلم، كذا نقله ميرك ولم أجده في جامع الأصول. ويمكن على بُعد أنه حمل حديث حذيفة عند مسلم وحديثه عند الترمذي، وأبي داود، وابن ماجه على قضيتين مختلفتين: الأولى في صلاة الليل، والثانية في الفريضة، أي جعلهما حديثين مختلفتين لا حديثاً واحداً، وعلى هذا فلا اعتراض عليه في إيراده لحديث حذيفة الثاني في الحسان لكونه قد ذكره في محله، والله أعلم.

{الفصل الثالث}

{الفصل الثالث} 889- (15) عن عوف بن مالك، قال: ((قمت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما ركع مكث قدر سورة (البقرة) ويقول في ركوعه: سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة)) رواه النسائي. 890- (16) وعن ابن جبير، قال: ((سمعت أنس بن مالك يقول: ما صليت وراء أحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشبه صلاة بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـــــــــــــــــــــــــــــ 889- قوله: (قمت) أي مصلياً. (مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي ليلة. (فلما ركع مكث) بضم الكاف وفتحها، أي لبث في ركوعه. قال في القاموس: المكث- مثلثاً، ويحرك- اللبث، والفعل كنصر وكرم. (قدر سورة البقرة) وفي رواية أبي داود: قمت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة؛ فقام فقرأ سورة البقرة، لا يمر بآية رحمة إلا وقف فسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف فتعوذ، قال: ثم ركع بقدر قيامه. وكذا في رواية للنسائي. (سبحان ذي الجبروت والملكوت) هما مبالغة الجبر، وهو القهر، والغلبة. والملك، وهو التصرف، أي صاحب القهر والتصرف البالغ كل منهما غايته. (والكبرياء) من الكبر- بكسر الكاف- وهو العظمة، فيكون على هذا عطفها عليه في الحديث عطف تفسير، وقيل: الكبرياء عبارة عن كمال الذات وكمال الوجود قولان، ولا يوصف بها إلا الله تعالى. وقيل: الكبرياء عبارة عن كمال الذات، والعظمة عن كمال الصفات. وقيل: الكبرياء الترفع والتنزه عن كل نقص، والعظمة تجاوز القدر عن الإحاطة. ويدل على الفرق بينهما الحديث القدسي في الصحيح: ((الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني فيهما قصمته)) . أي كسرته وأهلكته. (والعظمة) زاد أبوداود في روايته: ثم سجد بقدر قيامه، ثم قال في سجوده مثل ذلك، الخ. ورواية النسائي: ثم سجد بقدر ركوعه، يقول في سجوده، الخ. والحديث يدل على مشروعية هذا الذكر في الركوع والسجود، وتطويلهما بقدر القيام للقراءة، وكان فعله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك مختلفاً، فتارة يمكث فيهما بقدر قيامه للقراءة؛ فيستوي القيام والركوع والسجود، وفي أكثر الأحيان يكون القيام أطول من الركوع والسجود. وقيل: كان إذا طول القيام طول الذكر فيهما. وكان إذا خفف القيام خفف الذكر فيهما، والله أعلم. (رواه النسائي) أخرج النسائي هذا الحديث مختصراً ومطولاً، وأخرجه أيضاً أحمد، وأبوداود، لكن مطولاً فقط. وسكت عنه أبوداود، والمنذري، وقال الشوكاني: رجال إسناده ثقات. 890- قوله: (وعن ابن جبير) هو سعيد بن جبير- بضم الجيم وفتح الموحدة وسكون الياء- ابن هشام الأزدي الوالبي مولاهم، أبومحمد، ويقال: أبوعبد الله الكوفي أحد الأعلام، كان فقيهاً، عابداً، فاضلاً، ورعاً، إماماً، حجة

من هذا الفتى- يعني عمر بن عبد العزيز- قال: قال: فحزرنا ركوعه عشر تسبيحات، وسجوده عشر تسبيحات)) رواه أبوداود، والنسائي. ـــــــــــــــــــــــــــــ على المسلمين. قال الحافظ: هو ثقة، ثبت، فقيه، من أوساط التابعين، قتل بين يدي الحجاج في شعبان سنة خمس وتسعين بواسط، ولم يكمل الخمسين، ثم مات الحجاج بعده في رمضان من السنة المذكورة، ولم يسلط بعده على قتل أحد لدعاء سعيد بعد ما قال الحجاج له: اختر يا سعيد! اختر أي قتلة أقتلك؟ قال: اختر لنفسك يا حجاج! والله لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة، إلى آخر ما جرى الكلام بينهما. حتى قال سعيد بعد أن كب على وجهه للذبح وشهد بالشهادتين: اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي. وقد بسط قصة قتله ابن خلكان فارجع إليه. (من هذا الفتى يعني عمر ابن عبد العزيز) أي ابن مروان بن الحكم بن العاص الأموي أمير المؤمنين، أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب. ولي امرأة المدينة للوليد، وكان مع سليمان كالوزير، وولى الخلافة بعده، فعد مع الخلفاء الراشدين. مات في رجب سنة إحدى ومائة، وله أربعون سنة. ومدة خلافته سنتان ونصف، كذا في التقريب. قال ابن حجر: وعمر بن عبد العزيز أدرك أنساً، وأخذ عنه؛ لأنه ولد سنة إحدى وستين، وأنس توفي سنة إحدى وتسعين. (قال) أي ابن جبير (قال) أي أنس (فحزرنا) بحاء مهملة ثم زاي معجمة مفتوحتين، ثم راء مهملة، أي قدرنا وخمنا. (ركوعه) وفي أبي داود والنسائي"في ركوعه" أي بزيادة "في" قبل "ركوعه" يعني ركوع عمر. (عشر تسبيحات) المراد بالتسبيح هنا هو التسبيح المعروف، أي سبحان ربي العظيم، وسبحان ربي الأعلى. قيل: فيه حجة لمن قال: إن كمال التسبيح عشر تسبيحات فلا يزيد الإمام على هذا القدر، ولا ينقص من ثلاث تسبيحات، كما تقدم. قال الشوكاني: والأصح أن المنفرد يزيد في التسبيح ما أراد، وكلما زاد كان أولى. والأحاديث الصحيحة في تطويله - صلى الله عليه وسلم - ناطقة بهذا. وكذلك إذا كان المؤتمون لا يتأذون بالتطويل-انتهى. قلت: الأولى للإمام بل المتعين أن يخفف في التسبيح في تمام، أي لا يطول في الركوع والسجود ما شاء، وإن كان المؤتمون لا يتآذون بالتطويل؛ لأمره - صلى الله عليه وسلم - بالتخفيف مطلقاً، ولأنه لا يدري ما يطرأ عليهم. قال ابن عبد البر: ينبغي لكل إمام أن يخفف لأمره - صلى الله عليه وسلم -، وإن علم قوة من خلفه؛ فإنه لا يدري ما يحدث عليهم من حادث، وشغل وعارض وحاجة وحدث، وغيره-انتهى. (رواه أبوداود، والنسائي) وأخرجه أيضاً أحمد. قال الشوكاني: الحديث رجال إسناده كلهم ثقات إلا عبد الله بن إبراهيم بن عمر بن كيسان أبويزيد الصنعاني، قال أبوحاتم: صالح الحديث. وقال النسائي: ليس به بأس، وليس له عند أبي داود، والنسائي إلا هذا الحديث- انتهى. قلت: وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الحافظ في التقريب: صدوق، وسكت على حديثه أبوداود، والمنذري. قلت: وفي سنده أيضاً وهب بن ماوس وهو مستور كما في التقريب وذكره ابن حبان في الثقات.

891- (17) وعن شقيق، قال: ((إن حذيفة رأى رجلاً لا يتم ركوعه ولا سجوده، فلما قضى صلاته دعاه، فقال له حذيفة: ما صليت. قال: وأحسبه قال: ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله محمداً - صلى الله عليه وسلم -)) . رواه البخاري. 892- (18) وعن أبي قتادة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أسوأ الناس سرقة ـــــــــــــــــــــــــــــ 891- قوله: (عن شقيق) أي ابن سلمة التابعي أبي وائل الكوفي مخضرم، روى عن الخلفاء، وحذيفة وغيرهم، اتفقوا على توثيقه وجلالته، وقد تقدم ترجمته أبسط من هذا. (رأى رجلاً) لم يعرف اسمه لكن عند ابن خزيمة، وابن حبان أنه كندي (لا يتم ركوعه ولا سجوده) جملة وقعت صفة لرجلاً، وفي رواية عبد الرزاق: فجعل ينقر ولا يتم ركوعه. (فلما قضى) أي أدى الرجل (صلاته) الناقصة الركوع والسجود (دعاه) لم أجد هذا اللفظ في البخاري. (فقال) وفي البخاري: فلما قضى صلاته قال (له) أي للرجل (ما صليت) أي صلاة صحيحة، وما نافية. وقال القسطلاني: نفي للحقيقة كقوله - صلى الله عليه وسلم - للمسيء صلاته: فإنك لم تصل. وقال أيضاً: نفي عنه الصلاة؛ لأن الكل ينتفي بانتفاء الجزء، فانتفاء تمام الركوع والسجود يلزم منه انتفاء الركوع والسجود المستلزم؛ لانتفاء الصلاة (قال) أي شقيق (وأحسبه) أي أظن حذيفة. (قال) للرجل (ولو مت) أي على هذه الحالة وميم "مت" مضمومة، ويجوز كسرها على لغة من يقول: مات يمات، كخاف يخاف. والأصل موت ـ بكسر العين ـ كخوف، فجاء مضارعه على يفعل ـ بفتح العين ـ فعلى هذه الحالة يلزم أن يقال في الماضي المسند إلى التاء مت، بكسر الميم (مت على غير الفطرة) أي الطريقة، أو السنة أو الملة (التي فطر الله) أي خلق عليها (محمداً - صلى الله عليه وسلم -) الحديث دليل على افتراض الطمأنينة في الركوع والسجود، وعلى أن الإخلال بها مبطل لصلاة، وعلى تكفير تارك الصلاة؛ لأن ظاهره أن حذيفة نفى الإسلام عمن أخل ببعض أركانها فيكون نفيه عمن أخل بها كلها أولى، وهذا بناء على أن المراد بالفطرة الدين، وقد أطلق الكفر على من لم يصل، كما رواه مسلم، وهو إما على حقيقته عند قوم، وإما على المبالغة في الزجر عند آخرين. وقال الخطابي: الفطرة الملة والدين، أراد بهذا الكلام توبيخه على سوء فعله ليرتدع في المستقبل من صلاته عن مثل فعله، ولم يرد به أن تركه لذلك مخرج له من دين الإسلام. وقد تكون الفطرة بمعنى السنة كما جاء: خمس من الفطرة: السواك - الحديث. قال الحافظ: ويرجحه وروي من وجه آخر عند البخاري بلفظ "سنة محمد - صلى الله عليه وسلم - ". وهذه الزيادة تدل على أن حديث حذيفة المذكور مرفوع،؛ لأن قول الصحابي: "سنة محمد - صلى الله عليه وسلم - " يفيد ذلك، وقد مال إليه قوم، وخالفه آخرون، والأول هو الراجح. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي. 892- قوله: (أسوأ الناس) أي أقبحهم وأشرهم (سرقة) بكسر الراء وتفتح أيضاً على ما في القاموس، وهو

الذي يسرق من صلاته. قالوا: يا رسول الله! وكيف يسرق من صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها)) . رواه أحمد. 893- (19) وعن النعمان بن مرة، ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما ترون في الشارب ـــــــــــــــــــــــــــــ مصدر منصوب على التمييز، قال الراغب: السرقة: أخذ ما ليس له أخذه في خفاء، وصار ذلك في الشرع لتناول الشيء من موضع مخصوص وقدر مخصوص. (الذي يسرق من صلاته) خبر أسوأ (وكيف يسرق من صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها) زاد في المسند (ج5: ص310) : أو قال لا يقيم صلبه في الركوع والسجود. قال الطيبي: جعل جنس السرقة نوعين متعارفاً وغير متعارف، وهو ما ينقص من هذا الركن الطمأنينة، ثم جعل غير المتعارف أسوأ من المتعارف، وإنما كان أسوأ؛ لأن السارق إذا أخذ مال الغير ربما ينتفع به في الدنيا، ويستحل من صاحبه، أو تقطع يده فيتخلص من العقاب في الآخرة، بخلاف هذا السارق، فإنه سرق حق نفسه من الثواب، وأبدل منه العقاب في العقبى، وليس في يده سوى الضرر والتعقب-انتهى. والحديث يدل على افتراض الطمأنينة في الركوع والسجود؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - جعل ترك إقامة الصلب في الركوع والسجود، وعدم إتمامهما أقبح أنواع السرق، وجعل الفاعل لذلك أسوأ من تلبس بهذه الوظيفية الخسيسة التي لا أوضع ولا أخبث منها، تنفيراً عن ذلك، وتنبيهاً على تحريمه، وقد صرح - صلى الله عليه وسلم - بعدم إجزاء صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، ونفي حقيقة الصلاة عمن لم يتم ركوعه وسجوده كما تقدم، والأحاديث في هذا الباب كثيرة، كلها ترد على من لم يقل بافتراض الطمأنينة فيهما. (رواه أحمد) (ج5: ص310) وأخرجه أيضاً الدارمي وابن خزيمة والحاكم، وقال صحيح الإسناد. والطبراني في الكبير والأوسط. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2: ص120) : رجاله رجال الصحيح، وأخرج نحوه أحمد والبزار وأبويعلى عن أبي سعيد الخدري، والطبراني في الكبير والأوسط، وابن حبان في صحيحه، والحاكم، وصححه عن أبي هريرة، والطبراني في الثلاثة بإسناد جيد عن عبد الله بن مغفل. 893- قوله: (عن النعمان بن مرة) الأنصاري الزرقي المدني ثقة من كبار التابعين، ووهم من عده في الصحابة. قال العسكري: لا صحبة له، وذكره البخاري ومسلم في التابعين. وقال أبوحاتم، حديثه مرسل. قال ابن عبد البر: ليس للنعمان عند مالك غير هذا الحديث. (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال ابن عبد البر: هكذا الرواية عن مالك مرسلاً، والحديث يتصل ويستند من وجوه صحاح من حديث أبي سعيد وأبي هريرة-انتهى. (ما ترون) بفتح التاء، أي تعتقدون وفي نسخة بضمها، أي تظنون، وهذا اختبار منه - صلى الله عليه وسلم - بمسائل العلم على حسب ما يختبر به العالم أصحابه، ويحتمل أنه أراد به تقريب التعليم عليهم فقرر معهم حكم قضايا يسهل عليهم ما أراد تعليمهم إياه؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما قصد أن يعلمهم أن الإخلال بإتمام الركوع والسجود كبيرة، وهي أسوأ حالاً مما تقرر عندهم أنه فاحشة، قاله الباجي. (في الشارب) أي للخمر.

والزاني، والسارق وذلك قبل أن تنزل فيهم الحدود- قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هن فواحش وفيهن عقوبة، وأسوأ السرقة الذي يسرق من صلاته. قالوا: وكيف يسرق من صلاته يا رسول الله؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها)) رواه مالك وأحمد. وروى الدارمي نحوه. ـــــــــــــــــــــــــــــ (وذلك) أي قال النعمان: وذلك السؤال. (قبل أن تنزل) بصيغة المجهول. (فيهم الحدود) أي آياتها. والمراد غير الشارب؛ لأنه لم ينزل فيه شيء، قاله أبوعبد الملك. (قالوا) أي الصحابة. (الله ورسوله أعلم) هذا كمال تأدب منهم حيث ردوا العلم إلى الله عزوجل ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. (قال) - صلى الله عليه وسلم -. (هن) أي تلك المعاصي. (فواحش) جمع فاحشة، وهي ما فحش أي اشتد وكبر قبحه من الذنوب، والمعنى أنها ذنوب كبائر. (وفيهن عقوبة) تطلق على ما يعاقب به المعتدي، ولا تختص بجنس ولا قدر، أي فيهن عقوبة أخروية، أو ستنزل، والتنوين للتعظيم. (وأسوأ السرقة) قال ابن عبد البر: رواية الموطأ بكسر الراء، والمعنى: أسوأ السرقة سرقة من يسرق صلاته، وقد جاء في القرآن {ولكن البر من آمن بالله} [2: 177] ، أي ولكن البر بر من آمن بالله، ومن روى بفتح الراء فالسرقة جمع سارق كالكفرة والفسقة – انتهى. وعلى هذا قوله: (الذي يسرق من صلاته) خبر بلا تأويل، وأما على الرواية الأولى فيحتاج إلى حذف المضاف كما بينه ابن عبد البر. قال الطيبي: قوله: "أسوأ السرقة" مبتدأ، و"الذي يسرق" خبره على حذف مضاف، أي سرقة الذي يسرق، ويجوز أن يكون السرقة - بفتح الراء- جمع سارق كفاجر وفجرة، ويؤيده حديث أبي قتادة: أسوأ الناس سرقة- انتهى. (وكيف يسرق) أحد (صلاته) وفي بعض النسخ "صلاته" بالنصب. (لا يتم ركوعها ولا سجودها) خصهما بالذكر؛ لأن الإخلال يقع فيهما غالباً. وسماه سرقة باعتبار أنه خيانة فيما أؤتمن به. قال الباجي: ويحتمل أن يقال: إنه يسرقها من الحفظة المؤكلين بحفظه-انتهى. . (رواه مالك) عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن النعمان بن مرة مرسلاً. قال ابن عبد البر: لم يختلف رواة مالك في إرسال هذا الحديث عن النعمان، وقال الحافظ في الإصابة (ج3: ص590) في القسم الرابع من حرف النون: ليس للنعمان عند مالك غير هذا الحديث. واختلف فيه على مالك وغيره، وللمتن شاهد من حديث الحسن عن عمران بن حصين أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وآخر من حديث أبي سعيد الخدري، أخرجه أبوداود الطيالسي في مسنده، وآخر عن أبي هريرة بمعناه. وروى النعمان هذا الحديث عن علي وجرير وأنس-انتهى. (وأحمد) كذا في النسخ الحاضرة عندنا، ويظهر من كلام القاري: أنه لم تتفق النسخ الموجودة عنده على ذكر لفظ "أحمد"، بل لم يجده إلا في نسخة صحيحة عنده. والظاهر أن ذكره خطأ من الناسخ، والقرينة على هذا أنه لم يعز هذا الحديث الحافظ في الإصابة، والمنذري في الترغيب إلى أحمد، ولا ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد. وهذا يدل على أنه ليس من زوائد مسند أحمد لكونه مروياً في الموطأ، والله أعلم،. (وروى الدارمي نحوه) أي معناه دون لفظه. والظاهر أن هذا وهم من المصنف؛ لأنه لم يرو

(14) باب السجود وفضله

(14) باب السجود وفضله {الفصل الأول} 894- (1) عن ابن عباس، قال: ((قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة، واليدين، ـــــــــــــــــــــــــــــ الدارمي هذا الحديث عن النعمان بن مرة لا باللفظ المذكور ولا بمعناه، نعم رواه من حديث أبي قتادة في باب "الذي لا يتم الركوع والسجود"، وأخرجه أيضاً أحمد (ج5: ص310) . (باب السجود) أي كيفيته (وفضله) أي ما ورد في فضيلته؛ لأنه بانفراد عبادة بخلاف الركوع. والسجود في الأصل: تذلل مع تطامن وانحناء، وفي الشرع: عبارة عن وضع الوجه على الأرض على وجه مخصوص. وقيل: عبارة عن وضع الجبهة على الأرض على قصد العبادة. 894- قوله: (أمرت) بضم الهمزة على صيغة المجهول، والآمر هو الله جل جلاله. وفي رواية للبخاري: أمرنا –بضم الهمزة ونون الجمع- أي أنا وأمتي، وهو دال على أن الخطاب لعموم الأمة لا للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة، واللفظ يقتضي الوجوب، قيل: وفيه نظر؛ لأنه ليس فيه صيغة "أفعل". قال الشوكاني: هذا النظر ساقط؛ لأن لفظ "أمر" أدل على المطلوب من صيغة "افعل" كما تقرر في الأصول، وعرف ابن عباس هذا بإخبار - صلى الله عليه وسلم - له أو لغيره (سبعة أعظم) جمع عظم، وفي رواية: سبعة أعضاء. قال ابن دقيق العيد: سمي كل من هذه الأعضاء عظما وإن اشتمل على عظام باعتبار الجملة، ويحتمل أن يكون ذلك من باب تسمية الجملة باسم بعضها (على الجبهة) بدل بإعادة الجار. والجبهة: مستوى ما بين الحاجبين إلى الناصية. وقيل: هي ما بين الجبينين، وهما قرنا الرأس وجانباه، وقدمها لكونها أشرف الأعضاء المذكورة، أو أشهرها في تحصيل هذا الركن. قيل: والأنف تبع للجبهة، وقد وقع في رواية لمسلم والنسائي: أمرت أن أسجد على سبع، ولا أكفت الشعر ولا الثياب: الجبهة والأنف، الخ. قال السندي: قوله: "الجبهة والأنف" لكونهما من أجزاء الوجه فعدهما بمنزلة عدتا واحدة من السبعة، وإلا يلزم الزيادة على السبعة – انتهى. وفي رواية للشيخين: على الجبهة وأشار بيده على أنفه. قال السندي: أي إلى الأنف وما يتصل به من الجبهة ليوافق الأحاديث السابقة-انتهى. وفي رواية للنسائي في آخرها: قال ابن طاووس: ووضع يده على جبهته وأمرها على أنفه، وقال: هذا واحد. وهذه رواية مفسرة. قال القرطبي: هذا يدل على أن الجبهة الأصل في السجود، والأنف تبع (واليدين) أي الكفين، فقد وقع في رواية لمسلم بلفظ: "الكفين" وقال ابن حجر: أي بطونهما لخبر البيهقي: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا

والركبتين، وأطراف القدمين، ـــــــــــــــــــــــــــــ سجد ضم أصابعه وجعل يديه حذو منكبيه، ويرفع مرفقيه، ويعتمد على راحتيه. قيل: ويندب ضم أصابع اليدين؛ لأنها لو انفرجت انحرفت رؤوس بعضها عن القبلة. (وأطراف القدمين) بأن يجعل قدميه قائمتين على بطون أصابعهما وعقباه مرتفعان فيستقبل بظهور قدميه القبلة. والحديث يدل على وجوب السجود على هذه الأعضاء السبعة جميعاً؛ لأن الأمر للوجوب، وإليه ذهب طاووس، وإسحاق، وأحمد، وزفر، والشافعي في أحد قولية. وقال مالك، وأبوحنيفة، والشافعي في القول الآخر: أنه لا يجب السجود على غير الوجه. والراجح عندي ما ذهب إليه الأولون، وهو الأصح الذي رجحه الشافعي لحديث الباب، ولحديث العباس بن عبد المطلب: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب- الحديث. رواه الجماعة إلا البخاري. ولحديث البراء الآتي: إذا سجدت فضع كفيك، الخ. ولحديث ابن عمر رفعه: أن اليدين يسجدان كما يسجد الوجه، فإذا وضع أحدكم وجهه فليضع يديه، وإذا رفعه فليرفعهما. رواه أحمد وأبوداود والنسائي. واحتج من قال: إن الواجب الجبهة دون غيرها بحديث المسيء صلاته حيث قال فيه: "ويمكن جبهته"، فكان قرينة على حمل الأمر ههنا على غير الوجوب. وأجيب عنه: بأن هذا لا يتم إلا بعد معرفة تقدم هذا على حديث المسيء صلاته ليكون قرينة على حمل الأمر على الندب، وأما لو فرض تأخره لكان في هذا زيادة شرع، ويمكن أن تتأخر شرعيته، ومع جهل التاريخ يرجح العمل بالموجب لزيادة الاحتياط. وقال ابن دقيق العيد: هذا غايته أن تكون دلالته. (أي دلالة حديث المسيء صلاته) دلالة مفهوم لقب أو غاية، والمنطوق الدال على وجوب السجود على هذه الأعضاء مقدم عليه، وليس هذا من باب تخصيص العموم بالمفهوم. قال: وأضعف من هذا استدلالهم بحديث: "سجد وجهي"، قالوا: فأضاف السجود إلى الوجه، فإنه لا يلزم من إضافة السجود إلى الوجه انحصار السجود فيه. وقال ابن قدامة: سجود الوجه لا ينفي سجود ما عداه. قال ابن دقيق العيد: وأضعف من هذا الاستدلال على عدم الوجوب بأن مسمى السجود يحصل بوضع الجبهة، فإن هذا الحديث يدل على إثبات زيادة على المسمى فلا تترك. وأضعف من هذا المعارضة بقياس شبهي ليس بقوي مثل أن يقال: أعضاء لا يجب كشفها فلا يجب وضعها كغيرها من الأعضاء سوى الجبهة. قال ابن قدامة: سقوط الكشف لا يمنع وجوب السجود، فإنا نقول كذلك في الجبهة على رواية، وعلى الرواية الأخرى فإن الجبهة هي الأصل وهي مكشوفة عادة بخلاف غيرها- انتهى. قال ابن دقيق العيد: وظاهر الحديث أنه لا يجب كشف شيء من هذه الأعضاء؛ لأن مسمى السجود يحصل بوضعها دون كشفها، ولم يختلف في أن كشف الركبتين غير واجب لما يحذر فيه من كشف العورة، وأما عدم وجوب كشف القدمين فلدليل لطيف، وهو أن الشارع وقت المسح على الخف بمدة تقع فيها الصلاة بالخف، فلو وجب كشف القدمين لوجب نزع الخف المقتضي لنقض الطهارة فتبطل الصلاة- انتهى. ويمكن أن يخص ذلك بلابس الخف لأجل الرخصة، وأما كشف اليدين والجبهة، فقيل: يجب،

وقيل: لا يجب، والأحاديث من الجانبين غير ناهضة كما قال البيهقي، والأولى أن يكشف المصلي اليدين والجبهة، ويباشر بهما ليخرج من الخلاف، ويأخذ بالعزيمة. ثم إنه يجب أن يجمع الجبهة والأنف في السجود عند أحمد في رواية، وابن حبيب من المالكية، وسعيد بن جبير، وإسحاق، وأبي خيثمة، وهو قول للشافعي فلا يجوز عندهم الاقتصار على أحدهما. وقال أحمد في رواية أخرى، ومالك، والشافعي، وعطاء، وطاووس، وابن سيرين، وصاحبا أبي حنيفة: أبويوسف ومحمد: لا يجب السجود على الأنف بل يجوز الاقتصار على الجبهة، ولا يجزىء الاقتصار على الأنف. وقال أبوحنيفة: يجوز الاقتصار على الأنف وحدها. والحق ما ذهب إليه الأولون من وجوب السجود على مجموع الجبهة والأنف لما تقدم من حديث ابن عباس عند مسلم والنسائي، فإن فيه ذكر الجبهة والأنف معاً. ولما تقدم أيضاً من رواية ابن عباس بلفظ: أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: الجبهة، وأشار بيده على أنفه. فإن إشارته إلى أنفه تدل على أنه أراده. ولما روى عن ابن عباس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من لم يلزق أنفه مع جبهته بالأرض إذا سجد لم تجز صلاته. رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط" ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2: ص126) وقال: رجاله موثقون وإن كان في بعضهم اختلاف من أجل التشيع-انتهى. ولما روى أحمد من حديث وائل قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسجد على الأرض واضعاً جبهته وأنفه في سجوده. ولما روى عن أبي حميد أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سجد أمكن أنفه وجبهته من الأرض. أخرجه الترمذي، وأبوداود، وابن خزيمة في صحيحه، وصححه الترمذي. ولما روى عكرمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا صلاة لمن لا يصيب أنفه من الأرض ما يصيب الجبهة. رواه الأثرم والإمام أحمد، ورواه أبوبكر بن عبد العزيز، والدارقطني في الأفراد متصلاً عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والصحيح أنه مرسل، قاله ابن قدامة في المغني (ج1: ص560) وقال ابن حجر: هو مرسل، ورفعه لا يثبت-انتهى. قال القاري: والمرسل حجة عندنا. وهو في حكم المرفوع؛ لأنه لا يقال مثل هذا بالرأي. ولما روى إسماعيل بن عبد الله المعروف بسمويه في فوائده عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: إذا سجد أحدكم فليضع أنفه على الأرض، فإنكم قد أمرتم بذلك. ولما روى عن أبي سعيد في حديث طويل، قال: حتى رأيت أثر الطين والماء على جبهة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأرنبته تصديق رؤياه. قال الخطابي: فيه دليل على وجوب السجود عليهما، ولولا ذلك لصبانهما عن لوث الطين. واستدل للجمهور بحديث ابن عباس الذي أورده المؤلف، فإنه لم يذكر الأنف فيه. وفيه: أنه قد ذكرها في رواية مسلم والنسائي، فتحمل رواية الباب على الاختصار. وبحديث جابر، قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد بأعلى جبهته على قصاص الشعر. رواه تمام في فوائده وغيره، وإذا سجد بأعلى الجبهة لم يسجد على الأنف، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد بلفظ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسجد على جبهته مع قصاص الشعر. قال: رواه أبويعلى والطبراني في الأوسط إلا أنه قال: على جبهته على قصاص الشعر. وفيه أبوبكر

ولا نكفت الثياب والشعر)) ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن عبد الله بن أبي مريم، وهو ضعيف لاختلاطه. واستدل لأبي حنيفة بما في رواية للشيخين: أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: الجبهة، وأشار بيده على أنفه، فإنه سمى الجبهة وأشارة إلى الأنف، والتسمية إذا تعارضت بالإشارة فالعبرة عند الحنفية بالإشارة، فإنها أبلغ في التعيين، وحينئذٍ لما كانت الإشارة إلى الأنف دلت على أن الاقتصار عليه كافٍ. وتعقب بأن قوله "على الأنف" تعبير من الراوي لا تحاد جهة الأنف والجبهة، فكيف تعين كونها إلى الأنف؟ لم لا يجوز أن يكون أشار إلى الجبهة؟ ولما كانت جهته جهة الأنف عبر عنه الراوي بما ترى. وقال ابن دقيق العيد: الحق أن الإشارة لا تعارض التصريح بالجبهة؛ لأنها قد لا تعين المشار إليه فإنها إنما تتعلق بالجهة، فإذا تقارب ما في الجهة أمكن أن لا يعين المشار إليه يقيناً، وأما اللفظ فإنه معين لما وضع له فتقديمه أولى-انتهى. وقد رأيت أن لفظ الحديث إنما عين الجبهة فلا يجزئ الأنف وحدها، وإلا لزم تقديم الأضعف دلالة وهو الإشارة على الأقوى وهي العبارة. واستدل أيضاً لأبي حنيفة بالرواية التي جمع فيها ذكر الجبهة والأنف معاً، ووجه الاستدلال أنه جعلهما كعضو واحد، فإنه لو كان كل واحد منهما عضواً مستقلاً للزم أن تكون الأعضاء ثمانية، وإذا كان كعضو واحد لزم منه أن يكتفي بالسجود على الأنف وحدها؛ لأن كل واحد منهما بعض العضو، والعضو الواحد يجزيه السجود على بعضه. وأنت خبير بأن المشي على الحقيقة هو المتحتم. والمناقشة بالمجاز بدون موجب للمصير إليه غير ضائرة، ولا شك أن الجبهة والأنف حقيقة في المجموع، ولا خلاف أن السجود على مجموع الجبهة والأنف مستحب. قال في الشرح الكبير (ج1: ص561) بعد ذكر قول أبي حنيفة: هذا قول يخالف الحديث الصحيح والإجماع الذي قبله. قال ابن المنذر: لا أعلم أحداً سبق إلى هذا القول-انتهى. وكذا قال ابن قدامة في المغني. واعلم أن ابن الهمام اختار أن وضع السبعة واجب، والمشهور في كتب الحنفية وجوب وضع الجبهة وإحدى الرجلين فقط، لكن ذكر ابن عابدين في وضع القدمين ثلاث روايات: فرضية وضعهما، وفرضية وضع إحدهما، وعدم الفرضية أي سنية الوضع، ثم ذكر بعد بسط الروايات في المذهب: الحاصل أن المشهور في كتب المذهب اعتماد الفرضية، والأرجح من حيث الدليل والقواعد عدم الفرضية. (ولا نكفت) بفتح النون وسكون الكاف وكسر الفاء، آخره مثناة فوقية، روي بالنصب عطفاً على المنصوب السابق وهو "يسجد" أي أمرت أن لا نكفت، ويجوز رفعه على أن الجملة مستأنفة. من كفت الشئ إليه، ضمه وجمعه. ومنه قوله تعالى: {ألم نجعل الأرض كفاتاً} [77: 25] أي كافتة، اسم لم يكفت أي يضم ويجمع. وفي رواية لمسلم: ولا أكف، من الكف بلفظ الواحد، وهو أنسب لقوله: أمرت أن أسجد. (الثياب والشعر) وفي بعض النسخ: ولا الشعر، بزيادة "لا" للتأكيد، والمراد شعر الرأس، والمعنى: أمرت أن نرسل الثياب والشعر، ولا نضمهما إلى أنفسنا وقاية لهما من التراب، بل نتركهما حتى يقعا على الأرض لنسجد بجميع الأعضاء والثياب. وكفتهما: أن يعقص الشعر ويعقده خلف القفا، أو يضمه تحت

متفق عليه. 895- (2) وعن أنس، قال: ((قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب) ـــــــــــــــــــــــــــــ عمامته، أو يشده بشيء، وأن يشمر ثوبه، أو يشد وسطه، أو يغرز عذبته. قيل: النهي ههنا محمول على التنزيه. والحكمة فيه أن الشعر والثوب يسجدان معه، وفي رفعهما نقص الأجر الذي يترتب على سجود الثياب والشعر. وقيل: إنه إذا رفع شعره أو ثوبه عن مباشرة الأرض أشبه المتكبرين، وجاء في حكمة النهي عن ضم الشعر أن غرزة الشعر يقعد فيها الشيطان حالة الصلاة، كما في سنن أبي داود بإسناد جيد أن أبا رافع رأى الحسن بن علي يصلي قد غرز ضفيرته في قفاه فحلها، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ذلك مقعد الشيطان. وظاهر الحديث يقتضي أن النهي في حال الصلاة، وإليه مال الداوودي، ورده القاضي عياض بأنه خلاف ما عليه الجمهور، فإنهم كرهوا ذلك للمصلي سواء فعله في الصلاة أو قبل أن يدخلها. قال النووي: وهو المختار الصحيح، وهو الظاهر المنقول عن الصحابة وغيرهم-انتهى. قال الحافظ: واتفقوا على أنه لا يفسد الصلاة، لكن حكى ابن المنذر عن الحسن وجوب الإعادة. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد، وللحديث ألفاظ عند الشيخين، وأحمد، وأصحاب السنن، وفي الباب عن العباس بن عبد المطلب، وأبي هريرة، وابن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، وغيرهم. 895-قوله: (اعتدلوا في السجود) يعني توسطوا بين الافتراض والقبض بوضع الكفين على الأرض، ورفع المرفقين عنها وعن الجنبين، والبطن عن الفخذ رفعاً بليغاً بحيث تظهر بواطن آباطكم إذا لم تكن مستورة، إذ هو أشبه بالتواضع، وأبلغ في تمكين الجبهة والأنف من الأرض، وأبعد من الكسالة. قال ابن دقيق العيد: لعل المراد بالاعتدال هنا وضع هيئة السجود على وفق الأمر؛ لأن الاعتدال الحسي المطلوب في الركوع لا يتأتى هنا، فإنه هناك استواء الظهر والعنق، والمطلوب هنا ارتفاع الأسافل على الأعالي. قال: وقد ذكر الحكم هنا مقروناً بعلته، فإن التشبه بالأشياء الخسيسة مما يناسب تركه في الصلاة-انتهى. والهيئة المنهي عنها أيضاً مشعرة بالتهاون بالصلاة وقلة الاعتناء بها، والإقبال عليها. قيل: وهذا في حق الرجل لا المرأة، فإنها تخالفة في ذلك، لما أخرجه أبوداود في مراسيله عن يزيد بن أبي حبيب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر على امرأتين تصليان فقال: إذا سجدتما فضما بعض اللحم إلى الأرض، فإن المرأة في ذلك ليست كالرجل. قال البيهقي: وهذا المرسل أحسن من موصولين فيه، يعني من حديثين موصولين ذكرهما البيهقي في سننه، وضعفهما؛ لأن في كل منهما متروكاً. وارجع للتفصيل إلى فتاوى (ص148) شيخ مشائخنا خاتمة الحفاظ الشيخ حسين بن محسن الأنصاري. (ولا يبسط) بضم السين من نصر، وهي نهي، وقيل نفي. (أحدكم ذراعيه) أي لا يجعل ذراعيه على الأرض كالبساط والفراش. (انبساط الكلب) بالنصب، أي مثل انبساط الكلب، وهو وضع الكفين مع المرفقين على الأرض، والانبساط

متفق عليه. 896- (3) وعن البراء بن عازب، قال: ((قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا سجدت فضع كفيك، وارفع مرفقيك) رواه مسلم. 897- (4) وعن ميمونة، قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد جافى بين يديه، حتى لو أن بهمة ـــــــــــــــــــــــــــــ مصدر فعل محذوف تقديره: ولا يبسط ذراعيه فينبسط انبساط الكلب، ومثله قوله تعالى: {والله أنبتكم من الأرض نباتاً} [71: 17] ، وقوله تعالى: {وأبنتها نباتاً حسناً} [3: 37] ، أي أنبتكم فنبتم نباتاً، وأنبتها فنبتت نباتاً حسناً. وروى أحمد، والترمذي، وابن خزيمة عن جابر مرفوعاً: إذا سجد أحدكم فليعتدل، ولا يفترش ذراعيه افتراش الكلب، وهو بمعنى حديث الباب. قال ابن العربي في شرح الترمذي (ج2: ص75، 76) : أراد به كون السجود عدلاً باستواء الاعتماد على الرجلين والركبتين واليدين والوجه، ولا يأخذ عضو من الاعتدال أكثر من الآخر، وبهذا يكون ممتثلاً لقوله: أمرت بالسجود على سبعة أعظم. وإذا فرش ذراعيه فرش الكلب كان الاعتماد عليهما دون الوجه، فيسقط فرض الوجه- انتهى. قال ابن حجر: فيكره ذلك لقبح الهيئة المنافية للخشوع إلا لمن أطال السجود حتى شق عليه اعتماد كفيه، فله وضع ساعديه على ركبتيه لخبر: اشتكى أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مشقة السجود عليهم إذا تفرجوا. (أى باعدوا اليدين عن الجنبين ورفعوا البطن عن الفخذين في السجود) فقال: استعينوا بالركب. أخرجه الترمذي، وأبوداود من حديث أبي هريرة موصولاً. وروي مرسلاً، قال البخاري والترمذي: إرساله أصح من وصله. قيل: هذا الإعلال غير قادح؛ لأنه أسنده الليث عن ابن عجلان، وهو زيادة ثقة، وتفرده غير ضائر، فتقبل زيادته. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود، والنسائي وابن ماجه. 896- قوله: (فضع أي على الأرض. (كفيك) أي مضمومتي الأصابع، مكشوفتين حذاء المنكبين أو حيال الأذنين، معتمداً عليهما، ولا يجب كشفهما لما روي عن عبد الله بن عبد الرحمن، قال: جاءنا النبي - صلى الله عليه وسلم - فصلى بنا في مسجد بني الأشهل، فرأيته واضعاً يديه في ثوبه إذا سجد. رواه أحمد وابن ماجه، وقال: على ثوبه. ففيه دليل على جواز ترك كشف اليدين، لكن الأولى والمستحب كشفهما ليخرج من الخلاف ويأخذ بالعزيمة. (وارفع) من الأرض، ومن جنيك. (مرفقيك) بكسر الميم وفتح الفاء ويعكس. والحديث دليل على وجوب هذه الهيئة للأمر بها، وحمله العلماء على الاستحباب. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد. 897- قوله: (جافى) أي أبعد وفرق. (بين يديه) أي وما يحاذيهما، وفي رواية النسائي وابن ماجه: جافى يديه، أي نحاهما عما يليهما من الجنب. (بهمة) بفتح فسكون الموحدة، من أولاد الغنم. يقال للذكر والأنثى، والتاء للوحدة،

أرادت أن تمر تحت يديه مرت. هذا لفظ أبي داود، كما صرح في شرح السنة بإسناده. ولمسلم بمعناه: قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد لو شأت بهمة أن تمر بين يديه لمرت. 898- (5) وعن عبد الله بن مالك ابن بحينة، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد فرج بين يديه حتى يبدوا بياض إبطيه)) ـــــــــــــــــــــــــــــ والبهم بلا تاء يطلق على الجمع. قال في القاموس: البهمة أولاد الضان والمعز، وقال أبوعبيد وغيره من أهل اللغة: البهمة واحدة البهم، وهي أولاد الغنم من الذكور والإناث، وجمع البهمة بهام ـ بكسر الباء ـ وقال الجوهري: البهمة من أولاد الضان خاصة، ويطلق على الذكر والأنثى، قال: والسخال أولاد المعز. (تحت يديه) وفي رواية ابن ماجة: بين يديه. (مرت) جواب "لو". (هذا) أي هذا اللفظ. (كما صرح) أي البغوي. (ولمسلم) أي لفظ هذا الحديث لمسلم. (بمعناه) أي بمعنى لفظ أبي داود وهو (قالت) أي ميمونة. (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد) الخ. فالاعتراض على صاحب المصابيح واقع في الجملة حيث ذكر لفظ أبي داود في الصحاح. 898- قوله: (عن عبد الله بن مالك) بالتنوين. (ابن بحينة) بضم الباء الموحدة وفتح الحاء المهملة بعدها ياء ساكنة، ثم نون مفتوحة وتاء تأنيث، اسم امرأة مالك بن القشب الأزدي. و"ابن بحينة" صفة "عبد الله"؛ لأن "بحينة" أم عبد الله، و"مالكاً" أبوه، ولهذا لا يحذف التنوين لفظاً، والألف كتابة، كما يحذفان في العلم الموصوف بابن. قال النووي: الصواب أن ينون "مالك" ويكتب "ابن" بالألف؛ لأن "ابن بحينة" ليس صفة لمالك بل صفة لعبد الله؛ لأن اسم أبيه" مالك" واسم أمه"بحينة" امرأة مالك. قال الحافظ: عبد الله بن مالك بن القشب ـ بكسر القاف وسكون المعجمة بعدها موحدة ـ الأزدي أبومحمد، حليف بن المطلب المعروف"بابن بحينة" وهي أمه. قال محمد بن سعد: أبوه مالك بن قشب، حالف المطلب بن عبد مناف فتزوج بحينة بنت الحارث بن عبد المطلب، فولدت له عبد الله، فأسلم قديماً، وكان ناسكاً فاضلاً، يصوم الدهر، ومات ببطن ريم على ثلاثين ميلاً من المدينة في عمل مروان بن الحكم، وكان ينزل به، وكان ولاية مروان على المدينة من سنة. (54) إلى سنة. (58) . (فرج) بفتح الفاء وتشديد الراء آخره جيم، أي وسع، وفرق، وباعد (بين يديه) أي بينهما وبين ما يليهما من الجنب، وإلا لا يستقيم قوله "حتى يبدو" فليس المتعدد الذي يضاف إليه "بين" لفظ "يديه" بل هو أحد طرفي المتعدد، والطرف الثاني محذوف، وهذا معنى قول الحافظ في شرح صحيح البخاري، أي نحى كل يد عن الجنب الذي يليها (حتى يبدو) أي (يظهر إبطيه) بسكون الباء وتكسر، قال القرطبي: الحكمة في استحباب هذه الهيئة في السجود أنه يخف بها اعتماده على وجهه، ولا يتأثر أنفه ولا جبهته، ولا يتأذى بملاقاة الأرض. وقال غيره: هو أشبه بالتواضع، وأبلغ في تمكين الجبهة والأنف من الأرض مع مغايرته لهيئة الكسلان. وقال ابن المنير: الحكمة

متفق عليه. 899- (6) وعن أبي هريرة، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في سجوده: اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقة وجله، ـــــــــــــــــــــــــــــ في ذلك أن يظهر كل عضو بنفسه، ويتميز حتى يكون الإنسان الواحد في سجوده كأنه عدد، ومقتضى هذا أن يستقبل كل عضو بنفسه، ولا يعتمد بعض الأعضاء على بعض في سجوده، وهذا ضد ما ورد في الصفوف من التصاق بعضهم ببعض؛ لأن المقصود هناك إظهار اتحاد المسلمين، حتى كأنهم جسد واحد، وأخرج الطبراني وغيره من حديث ابن عمر بإسناد صحيح: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تفترش افتراش السبع، وادعم على راحتيك، وابد ضبعيك، فإذا فعلت ذلك سجد كل عضو منك. وظاهر هذا مع حديث ابن بحينة، وما تقدم من حديث ميمونة، والبراء، وأنس وما في معناه من الأحاديث الدالة على التفريج والتخوية، والنهي عن افتراش السبع، يقتضي وجوب التفريج في السجود، ولكن حمل العلماء هذه الأحاديث على الاستحباب. قلت: الظاهر أن التفريج في السجود واجب عند عدم المشقة فيه، وأما عند وجود المشقة فيه فيجوز ترك التفريج والاستعانة بالركب، أي وضع المرفقين على الركبتين، يدل على ذلك ما قدمنا من حديث أبي هريرة: اشتكى أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مشقة السجود عليهم إذا تفرجوا، فقال: استعينوا بالركب. واستدل بقوله: "حتى يرى بياض إبطيه" على أنه لم يكن - صلى الله عليه وسلم - لابساً لقميص. وتعقب باحتمال أن يكون القميص واسع الأكمام، وقيل: قد يبدو منه أطراف إبطيه مع كونه لابساً للقميص؛ لأنها كانت قمصان أهل ذلك العصر غير طويلة، فيمكن أن يرى الإبط من كمها. واستدل به أيضاً على أنه لم يكن على إبطيه شعر، وفيه نظر؛ لأنه يمكن أن المراد يرى أطراف إبطيه لا باطنهما حيث الشعر، فإنه لا يرى إلا بتكلف. وأيضاً لا يلزم من ذكر الراوي رؤية بياض إبطيه أن لا يكون له شعر، فإنه إذا نتف بقي المكان أبيض، وإن بقى فيه آثار الشعر، ولذلك ورد في حديث حسنه الترمذي: كنت أنظر إلى عفرتي إبطيه إذا سجد، والعفرة بياض ليس بالناصع كلون عفرة الأرض، أي وجهها، وهو يدل على أن آثار الشعر هو الذي جعل المحل أعفر، إذ لو خلا عنه جملة لم يكن أعفر. وإن صح ما قيل: إن من خصائصه أنه ليس على إبطيه شعر، فلا إشكال، لكن قال العراقي في تقريب الأسانيد: إن ذلك لم يثبت، بل لم يرد في كتاب معتمد، والخصائص لا تثبت بالاحتمال، نعم إن الذي نعتقد فيه - عليه السلام - أنه لم يكن لإبطيه رائحة كريهة، بل كان نظيفاً طيب الرائحة. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً النسائي. 899- قوله: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في سجوده) أي أحياناً مع التسبيح أو بدونه. (كله) للتأكيد، وما بعده تفصيل لأنواعه، أو بيانه، ويمكن نصبه بتقدير "أعني". (دقه) بكسر الدال، أي دقيقة وصغيرة. (وجله) بكسر الجيم وقد تضم، أي جليلة وكبيرة. قيل: إنما قدم "الدق" على "الجل"؛ لأن السائل يتصاعد في مسألته، أي يترقى، ولأن الكبائر تنشأ غالباً من الإصرار على الصغائر، وعدم المبالاة بها، فكأنها وسائل إلى الكبائر، ومن حق الوسيلة أن تقدم إثباتاً ورفعاً.

وأوله وآخره، وعلانيته وسره)) . رواه مسلم. 900- (7) وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: ((فقدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة من الفراش، فالتمسته، فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد، وهما منصوبتان، وهو يقول: اللهم أني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، ـــــــــــــــــــــــــــــ (وأوله وآخره) المقصود الإحاطة. (وعلانيته) بفتح العين وكسر النون وخفة الياء، مصدر "علن" أي ظاهره. (وسره) أي عند غيره تعالى، وإلا فهما سواء عنده تعالى، فإنه يعلم السر وأخفى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أبوداود. 900- قوله: (من الفراش) متعلق بفقدت، والمعنى: استيقظت فلم أجده على الفراش. (فالتمسته) وفي رواية للنسائي: فجعلت أطلبه بيدي. (فوقعت يدي) بالإفراد. (على بطن قدميه) بالتثنية، وفي صحيح مسلم "قدمه" بالإفراد، وفي رواية للنسائي، وفي الترمذي: على قدميه، وفي ابن ماجه "على بطن قدميه" كما في الكتاب. واستدل به على أن مس المرأة لا ينقض الوضوء، وأجاب من ذهب إلى كونه ناقضاً بأن الملموس لا يفسد وضوئه، وحمل من اختار انتقاض وضوء الملموس على أنه كان بين اللامس والملموس حائل فلا يضر، وظاهر الحديث يوافق من قال بعدم انتقاض الوضوء مطلقاً، وهو الراجح، وقد أسلفنا الكلام فيه مفصلاً. (وهو في المسجد) بفتح الجيم، أي في السجود، فهو مصدر ميمي، أو في الموضع الذي كان يصلي فيه في حجرته. وفي نسخة بكسر الجيم، وهو يحتمل مسجد البيت بمعنى معبده، والمسجد النبوي، قاله القاري. وفي رواية أبي داود: فلمست المسجد فإذا هو ساجد، وهذه الرواية تدل على أن المراد مسجد البيت أي الموضع الذي كان يصلي فيه في حجرته. (وهما) أي قدماه. (منصوبتان) أي قائمتان ثابتتان، وفيه أن السنة نصب القدمين في السجود. (أعوذ برضاك من سخطك) أي متوسلاً برضاك أن تسخط وتغضب. وقيل: أي من فعل يوجب سخطك على أو على أمتي. (وبمعافاتك) أي بعفوك، وأتى بالمغالبة للمبالغة أي بعفوك الكثير. (من عقوبتك) إذ هي أثر من آثار السخط، وإنما استعاذ بصفات الرحمة لسبقها وظهورها من صفات الغضب، (وأعوذ بك منك) ، أي بذاتك من آثار صفاتك. وقيل: أعوذ بصفات جمالك من صفات جلالك، فهذا إجمال بعد شيء من التفصيل، وتعوذ بتوسل جميع صفات الجمال عن صفات الجلال، وإلا فالتعوذ من الذات مع قطع النظر عن شيء من الصفات لا يظهر. وقيل: هذا من باب مشاهدة الحق والغيبة عن الخلق، وهذا محض المعرفة الذي لا يحيطه العباد. (لا أحصي ثناء عليك) قال الطيبي: الأصل في الإحصاء العد بالحصى، أي لا أطيق أن أثني عليك كما تستحقه، وقيل: أي لا أستطيع فرداً من ثناءك على شيء من نعمائك. وهذا بيان لكمال عجز البشر عن أداء حقوق الرب تعالى. وقال السيوطي: أي لا أطيقه، أي لا أنتهي إلى غايته، ولا أحيط بمعرفته، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث الشفاعة: فأحمده بمحامد لا أقدر عليها الآن.

أنت كما أثنيت على نفسك)) رواه مسلم. 901- (8) وعن أبي هريرة، قال: ((قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أقرب ما يكون العبد من ربه ـــــــــــــــــــــــــــــ وروي عن مالك، أنه قال: لا أحصى نعمتك، وإحسانك، والثناء بها عليك، وإن اجتهدت في ذلك، والأول أولى لما ذكرناه، ولقوله في الحديث: أنت كما أثنيت على نفسك. ومعنى ذلك اعتراف بالعجز عندما ظهر له من صفات جلاله تعالى، وكماله، وصمديته، وقدوسيته، وعظمته، وكبريائه، وجبروته، مالا ينتهي إلى عده، ولا يوصل إلى حده، ولا يحمله عقل، ولا يحيط به فكر، وعند الانتهاء إلى هذا المقام انتهت معرفة الأنام. وقال الجزري في النهاية: بدأ في هذا الحديث بالرضا، وفي رواية بدأ بالمعافاة ثم بالرضا، وإنما ابتدأ بالمعافاة من العقوبة؛ لأنها من صفات الأفعال كالإحياء والإماتة، والرضا والسخط من صفات الذات، وصفات الأفعال أدنى مرتبة من صفات الذات، فبدأ بالأدنى مترقياً إلى الأعلى، ثم لما ازداد يقيناً وارتقاء ترك الصفات وقصر نظره على الذات، فقال: "وأعوذ بك منك". ثم لما ازداد قربا استحيى معه من الاستعاذة على بساط القرب، فالتجأ إلى الثناء فقال: لا أحصي ثناء عليك، ثم علم أن ذلك قصور، فقال: أنت كما أثنيت على نفسك، وأما على الرواية الأولى فإنما قدم الاستعاذة بالرضا من السخط؛ لأن المعافاة من العقوبة تحصل بحصول الرضا، وإنما ذكرها لأن دلالة الأول عليها دلالة تضمن، فأراد أن يدل عليها دلالة مطابقة، فكنى عنها أولاً، ثم صرح بها ثانياً، ولأن الراضي قد يعاقب للمصلحة أو لاستيفاء حق الغير- انتهى. . (أنت كما أثنيت على نفسك) أي أنت الذي أثنيت على ذلك ثناء يليق بك، فمن يقدر على أداء حق ثنائك؟ فالكاف زائدة، والخطاب في عائد الموصول بملاحظة المعنى نحو: أنا الذي سمتني أمي حيدرة. ويحتمل أن الكاف بمعنى "على" والعائد إلى الموصول محذوف، أي أنت ثابت دائم على الأوصاف الجليلة التي أثنيت بها على نفسك. والجملة على الوجهين في موضع التعليل، وفيه إطلاق لفظ النفس على ذاته تعالى بلا مشاكلة. وقيل: "أنت" تأكيد المجرور في "عليك" فهو من استعارة المرفوع المتصل موضع المجرور المنفصل، إذ لا منفصل في المجرور، و"ما" في "كما" مصدرية، والكاف بمعنى مثل صفة ثناء، ويحتمل أن يكون ما على هذا التقدير موصولة أو موصوفة، والتقدير: مثل ثناء أثنيته، أو مثل الثناء الذي أثنيته، على أن العائد المقدر ضمير المصدر، ونصبه على كونه مفعولاً مطلقاً، وإضافة المثل إلى المعرفة لا يضر في كونه صفة نكرة؛ لأنه متوغل في الإبهام فلا يتعرف بالإضافة. وقيل: أصله ثناءك المستحق كثنائك على نفسك، فحذف المضاف من المبتدأ فصار الضمير المرفوع مجروراً. قال الخطابي: معنى الحديث الاستغفار من التقصير من بلوغ الواجب من حق عبادته والثناء عليه. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً الترمذي في الدعوات، وأبوداود، والنسائي في الصلاة، وابن ماجه في الدعاء. 901- قوله: (أقرب ما يكون العبد من ربه) الظاهر أن "ما" مصدرية و"كان" تامة والجار متعلق بأقرب،

وهو ساجد فأكثروا الدعاء) رواه مسلم. 902- (9) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قرأ ابن آدم السجدة، ـــــــــــــــــــــــــــــ وليست من تفضيلية، والمعنى شاهد كذلك، فلا يرد أن اسم التفضيل لا يستعمل إلا بأحد أمور ثلاثة لا بأمرين كالإضافة ومن، فكيف استعمل ههنا بأمرين؟ فافهم. وخبر "أقرب" محذوف أي "حاصل له" وجملة "وهو ساجد" حال من ضمير "حاصل" أو من ضمير "له". والمعنى: أقرب أكوان العبد من ربه تبارك وتعالى حاصل له حين كونه ساجداً. ولا يرد على الأول أن الحال لابد أن يرتبط بصاحبه، ولا ارتباط ههنا؛ لأن ضمير "هو ساجد" للعبد لا لأقرب؛ لأنا نقول: يكفي في الارتباط وجود الواو من غير حاجة إلى الضمير، مثل: جاء زيد والشمس طالعة. وقال الطيبي: التركيب من الإسناد المجازي، أسند القرب إلى الوقت، وهو للعبد مبالغة، فإن قلت: أين المفضل عليه، ومتعلق أفعل في الحديث؟ قلت: محذوف، وتقديره: إن للعبد حالتين في العبادة: حال كونه ساجداً لله تعالى، وحال كونه متلبساً بغير السجود، فهو في حالة السجود أقرب إلى ربه من نفسه في غير تلك الحالة- انتهى. قيل وجه الأقربية أن العبد في السجود داع؛ لأنه أمر به، والله تعالى قريب من السائلين بقوله تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب} [2: 186] ؛ ولأن السجود غاية في الذل، والانكسار، وتعفير الوجه، وهذه الحالة أحب أحوال العبد كما رواه الطبراني في الكبير بإسناد حسن عن ابن مسعود، ولأن السجود أول عبادة أمر الله تعالى بها بعد خلق آدم، فالمتقرب بها أقرب، ولأن فيه مخالفة لإبليس في أول ذنب عصى الله به. وقيل: لأن العبد بقدر ما يبعد عن نفسه يقرب من ربه، والسجود غاية التواضع، وترك التكبر، وكسر النفس؛ لأنها لا تأمر الرجل بالمذلة، ولا ترضى بها، ولا بالتواضع، بل بخلاف ذلك، فإذا سجد فقد خالف نفسه، وباعد عنها، فإذا باعد عنها قرب من ربه. قال القرطبي: هذا أقرب بالرتبة، والمكانة، والكرامة، لا بالمسافة والمساحة؛ لأنه تعالى منزه عن المكان والزمان. (فأكثروا الدعاء) أي في السجود؛ لأنه حالة قرب، وحالة قرب مقبول دعاءها؛ لأن السيد يحب عبده الذي يطيعه، ويتواضع له، ويقبل منه ما يقوله، وما يسأله. وقال ابن الملك: وهذا لأن حالة السجود تدل على غاية تذلل، واعتراف عبودية نفسه وربوبية ربه، فكان مظنه الإجابة، فأمرهم بإكثار الدعاء في السجود. والحديث يدل على مشروعية الاستكثار من السجود، ومن الدعاء فيه، ولا دليل فيه لمن قال: إن السجود أفضل من القيام؛ لأنه لا يلزم من كون العبد أقرب إلى ربه حال سجوده أفضليته على القيام؛ لأن ذلك إنما هو باعتبار إجابة الدعاء. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد، وأبوداود، والنسائي. 902- قوله: (إذا قرأ ابن آدم) ذكر تلميحاً لقصة أبيه آدم مع الشيطان التي هي سبب العداوة بينهما. (السجدة)

فسجد اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويلتي! أمر ابن آدم بالسجود، فسجد، فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت، فلي النار)) رواه مسلم. 903- (10) وعن ربيعة بن كعب، قال: ((كنت أبيت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة. قال: أو غير ذلك؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ أي آيتها. (فسجد) أي سجود التلاوة. (اعتزل) أي تباعد عنه. (الشيطان) قيل: المراد به إبليس فقط. (يبكي، يقول) قال الطيبي: هما حالان من فاعل "اعتزل" مترادفتان، أي باكياً وقائلاً، أو متداخلتان، أي باكياً قائلاً. (يا ويلتى) قال ابن الملك: أصله "يا ويلي" فقلبت ياء المتكلم تاء، وزيدت بعدها ألف للندبة. والويل الحزن والهلاك، كأنه يقول: يا حزني! ويا هلاكي! احضر، فهذا وقتك وأوانك. قال الطيبي: نداء الويل للتحسر على ما فاته من الكرامة، وحصول اللعن والخيبة للحسد على ما حصل لابن آدم بيانه. (أمر ابن آدم بالسجود فسجد) امتثالاً لأمر ربه. (فله الجنة) أي على الطاعة. (فأبيت) أي امتنعت تكبراً. (فلي النار) قال المناوي: نار جهنم خالداً فيها لعصيانه واستكباره. والحديث دليل على فضل السجود. واستدل به من قال بوجوب سجدة التلاوة. وأجيب عنه: بأن الذم والوعد متعلق بترك السجود إباء وإنكاراً واستكباراً كما يدل عليه لفظ "أبيت" صراحة فلا يخالف الحديث من يقول بسنتيه. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد، وابن ماجه. 903- قوله: (وعن ربيعة بن كعب) بن مالك الأسلمي، يكنى أبا فراس المدني، صحابي من أهل الصفة، ويقال: كان خادماً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، صحبه قديماً، وكان يلزمه سفراً وحضراً، ومنهم من فرق بين ربيعة وأبي فراس الأسلمي، وصوب الحاكم أي وأحمد وابن عبد البر تبعاً للبخاري التفريق بينهما. مات ربيعة سنة. (63) بعد الحرة، وليس له في الأدب المفرد للبخاري، وصحيح مسلم، وسنن الأربعة غير هذا الحديث. (كنت أبيت) من البيتوتة أي أكون في الليل. (مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) ولعل هذا وقع له في سفر. وقال ابن حجر: أي إما في السفر أو الحضر، والمراد بالمعية القرب منه بحيث يسمع نداءه إذا ناداه لقضاء حاجته. (فأتيته) وفي بعض النسخ "فآتيه" موافقاً لما في صحيح مسلم. (بوضوئه) بفتح الواو أي ماء وضوءه وطهارته. (وحاجته) أي سائر ما يحتاج إليه من نحو سواك وغيره. (فقال لي: سل) أي اطلب مني حاجة. قال ابن حجر: أتحفك به في مقابلة خدمتك لي؛ لأن هذا هو شأن الكرام، ولا أكرم منه - صلى الله عليه وسلم -. وفيه جواز قول الرجل لأتباعه ومن يتولى خدمته: سلوني حوائجكم. (أسألك مرافقتك) أي كوني رفيقاً لك. (في الجنة) بأن أكون قريباً منك متمتعاً بنظرك. (أو غير ذلك) يحتمل فتح الواو، أي أتسأل ذلك وغيره أم تسأله وحده؟ وسكونها، أي تسأل ذلك أم غيره؟ وقال بعضهم: يروى بسكون الواو وبفتحها، وعلى التقدير فغير إما مرفوع أو منصوب،

قلت: هو ذاك. قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود)) رواه مسلم 904- (11) وعن معدان بن طلحة، قال: لقيت ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: أخبرني بعمل أعمله يدخلني الله به الجنة، فسكت، ثم سألته، فسكت، ـــــــــــــــــــــــــــــ والتقدير على الأول: فمسؤولك هذا أو غير ذلك؟ وعلى الثاني: أتسأل هذا وغير ذلك أنسب بحالك. وأما في صورة نصب "غير" فالمعنى على تقدير سكون الواو. تسأل ذلك أو غير ذلك؟ وقيل المعنى: سل غير ذلك. وعلى تقدير فتحها: أتسأل هذا وهو شاق وتترك ما هو أهون منه؟ (هو ذاك) أي مسئولي ذلك لا غير. (فأعني على نفسك) أي على تحصيل حاجة نفسك التي هي المرافقة. (بكثرة السجود) في الدنيا حتى ترافقني في العقبى، والمراد تعظيم تلك الحاجة وأنها تحتاج إلى معاونة منك، ومجرد السؤال مني لا يكفي فيها، أو المعنى: فوافقني بكثرة السجود قاهراً بها على نفسك. وقيل: أعني على قهر نفسك بكثرة السجود، كأنه أشار إلى أن ما ذكرت لا يحصل إلا بقهر نفسك التي هي أعدى عدوك، فلا بد لي من قهر نفسك بصرفها عن الشهوات، ولابد لك أن تعاونني فيه، ففيه تلويح إلى أن نفسه بمثابة العدو المناوئ، فاستعان بالسائل إلى قهر النفس، وكسر شهواتها بالمجاهدة والمواظبة على الصلاة، والاستعانة بكثرة السجود حسماً للطمع الفارغ عن العمل، والاتكال على مجرد التمني. وقيل المعنى: كن لي عوناً في أصلاًح نفسك، وجعلها طاهرة مستحقة لما تطلب، فإني أطلب إصلاح نفسك من الله تعالى، وأطلب منك أيضاً إصلاحها بكثرة السجود لله، فإن السجود كاسر للنفس ومذل لها، وأي نفس انكسرت وذلت استحقت الرحمة، وهذا كقول الطبيب للمريض: أعالجك بما يشفيك، ولكن أعني بالاحتماء وامتثال أمري. وفي الحديث دليل على أن السجود من أعظم القرب التي تكون بسببها ارتفاع الدرجات عند الله تعالى إلى حد لا يناله إلا المقربون، وأن مرافقة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنة لا تحصل إلا بقرب من الله تعالى بكثرة السجود، والمراد به السجود في الصلاة. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد، وأبوداود، والنسائي. قال المنذري: وأخرج الترمذي وابن ماجه طرفاً منه. 904- قوله: (معدان) بفتح الميم وسكون العين المهملة. (بن طلحة) ويقال: ابن أبي طلحة اليعمري- بفتح الياء التحتية، وسكون العين المهملة، وفتح الميم- شامي ثقة من كبار التابعين. رجح الترمذي أن اسمه معدان بن أبي طلحة، وكذلك سماه ابن سعد في الطبقات (ج7: ص154) ورجح يحيى بن معين "معدان بن طلحة" فقد قال: أهل الشام يقولون: ابن طلحة، وقتادة وهؤلاء يقولون: ابن أبي طلحة، وأهل الشام أثبت فيه. (أعمله) بالرفع على صفة العمل وكذلك. (يدخلني الله به الجنة) قال الطيبي: ويجوز أن يكون "أعمله" جوابا للأمر، و"يدخلني" بدلا منه، وذلك لأن معدان لما كان معتقدا لكون الإخبار سبباً لعمله صح ذلك. (فسكت) أي ثوبان، ولعل سكوته لامتحان حال القائل في

{الفصل الثاني}

ثم سألته الثالثة، فقال: سألت عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ((عليك بكثرة السجود لله، فإنك لا تسجد لله سجدة، إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة)) قال معدان: ثم لقيت أبا الدرداء، فسألته، فقال لي مثل ما قال لي ثوبان. رواه مسلم. {الفصل الثاني} 905- (12) عن وائل بن حجر، قال: ((رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه)) ـــــــــــــــــــــــــــــ الجد، والسؤال، والطلب. (فقال: عليك بكثرة السجود) الخ. فيه دليل على أن كثرة السجود مرغب فيها، والمراد به السجود في الصلاة. وسبب الحث عليه ما تقدم في حديث أبي هريرة: أن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. وهو موافق لقوله تعالى: {واسجد واقترب} [96: 19] ، فإن في كل سجدة يسجدها العبد رفع درجة، فلا يزال العبد يترقى في المداومة على السجود درجة فدرجة حتى يفوز بالقدح من القرب إلى الله تعالى. ولا دليل فيه كالحديث الذي قبله لمن يقول: إن السجود أفضل من القيام؛ لأن صيغة "أفعل" الدالة على التفضيل إنما وردت في فضل طول القيام كما سبق، ولا يلزم من فضل السجود الذي دل عليه حديث ربيعة وثوبان أفضليته على طول القيام. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه. 905- قوله: (إذا سجد) أي أراد السجود. (وضع ركبتيه قبل يديه) استدل به لمن قال باستحباب وضع الركبتين قبل اليدين عند الانحطاط للسجود، وهم الشافعي وأبوحنيفة، وأحمد في مشهور مذهبه، وسفيان الثوري وإسحاق، لكن الحديث ضعيف كما ستعرف، وذهب مالك، وابن حزم، وأحمد في رواية إلى استحباب وضع اليدين قبل الركبتين، وروى الحازمي عن الأوزاعي قال: أدركت الناس يضعون أيديهم قبل ركبهم. قال ابن أبي داود: وهو قول أصحاب الحديث، واستدل لهم بحديث أبي هريرة التالي، وهو حديث صحيح أو حسن لذاته كما سنحققه. (وإذا نهض) أي وإذا أراد النهوض وهو القيام. (رفع يديه قبل ركبتيه) فيه دليل لمن قال برفع اليدين قبل الركبتين عند القيام من الركعة أي ركعة كانت، وهو أحمد وأبوحنيفة، واستدل لهما أيضاً بما رواه أبوداود عن ابن عمر، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعتمد الرجل على يديه إذا نهض في الصلاة، لكن رواية أبي داود هذه شاذة، والصحيح ما رواه أبوداود عن أحمد بلفظ: نهى أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمد. وقال مالك والشافعي: السنة أن يعتمد على يديه في النهوض؛ لأن مالك بن الحويرث قال في صفة صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه لما رفع رأسه من السجدة الثانية استوى قاعداً، ثم اعتمد

رواه أبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي. 906- (13) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، ـــــــــــــــــــــــــــــ على الأرض. رواه النسائي. وفي رواية البخاري: جلس واعتمد على الأرض، ثم قام. وعند الشافعي: واعتمد بيديه على الأرض، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لمالك وأصحابه: صلوا كما رأيتموني أصلي. ولما روى عبد الرزاق عن ابن عمر: أنه كان يقوم إذا رفع رأسه من السجدة معتمداً على يديه قبل أن يرفعهما. ولأن ذلك أعون للمصلي كما لا يخفى. فالراجح عندنا أن يرفع الرجل ركبتيه قبل يديه ويقوم معتمداً بيديه على الأرض ولا يعتمد على ركبتيه. (رواه أبوداود) الخ وأخرجه أيضاً الدارقطني، والحاكم، وابن خزيمة، وابن حبان، وابن السكن في صحاحهم من طريق شريك، عن عاصم ابن كليب، عن أبيه، عن وائل. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. قلت: في كون هذا الحديث حسناً نظر، فإنه قد تفرد به شريك عن عاصم كما صرح به البخاري، والترمذي، وابن أبي داود، والدارقطني، والبيهقي، وشريك هو ابن عبد الله النخعي الكوفي، صدوق، يخطىء كثيراً، تغير حفظه منذ ولى القضاء بالكوفة. قال الدارقطني في سننه: لم يحدث به عن عاصم بن كليب غير شريك، وشريك ليس بالقوي فيما يتفرد به- انتهى. ولحديث وائل هذا طريقان آخران عند أبي داود: أحدهما من جهة همام، عن محمد بن جحادة، عن عبد الجبار بن وائل، عن أبيه. والثاني من جهة همام، عن شقيق أبي الليث، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال النيموي بعد ذكر هذه الطرق: فالحديث لا ينحط عن درجة الحسن لكثرة طرقه. قلت: قد ظهر بما ذكرنا أن لحديث وائل بن حجر هذا ثلاث طرق: الأولى طريق شريك، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل، وقد عرفت أنها ضعيفة لشريك القاضي، فإنه متفرد به، وهو ليس بالقوي فيما يتفرد به كما صرح به الدارقطني. والثانية طريق همام، عن محمد بن جحادة، عن عبد الجبار بن وائل، عن أبيه، وهي أيضاً ضعيفة؛ لأنها منقطعة فإن عبد الجبار لم يسمع من أبيه. والثالثة طريق همام، عن شقيق، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهي أيضاً ضعيفة لإرسالها، ولأن فيها شقيقاً أبا الليث، وهو مجهول كما صرح به الحافظ في التقريب، والذهبي في الميزان، والطحاوي في شرح الآثار، فهذه الطرق الثلاث كلها ضعيفة، ثم هي مختلفة في الوصل والإرسال، والمحفوظة منها على ما قال الحازمي في "كتاب الاعتبار" هي طريق همام المرسلة التي فيها الشقيق المجهول، ففي ارتقاء حديث وائل إلى درجة الحسن كلام، ولو سلم أن حديث وائل بن حجر حسن، فحديث أبي هريرة الآتي أثبت وأقوى منه كما ستعرف. 906- قوله: (فلا يبرك) بضم الراء من باب نصر، نهي، وقيل: نفي. (كما يبرك البعير) أي لا يضع ركبتيه قبل يديه كما يبرك البعير، شبه ذلك ببروك البعير مع أنه يضع يديه قبل رجليه؛ لأن ركبة الإنسان في الرجل، وركبة الدواب في

وليضع يديه قبل ركبتيه)) . رواه أبوداود والنسائي والدارمي. ـــــــــــــــــــــــــــــ اليد، وإذا وضع ركبتيه أولاً فقد شابه الإبل في البروك. (وليضع) بسكون اللام وتكسر. (يديه قبل ركبتيه) قال التوربشتي الحنفي: كيف نهى عن بروك البعير ثم أمر بوضع اليدين قبل الركبتين والبعير يضع اليدين قبل الرجلين؟ والجواب أن الركبة من الإنسان الرجلين، ومن ذوات الأربع في اليدين، كذا في المرقاة. والحديث نص في استحباب وضع اليدين قبل الركبتين، وهو قول مالك، وهو قول أصحاب الحديث. وقال الأوزاعي: أدركت الناس يضعون أيديهم قبل ركبهم، وهي رواية عن أحمد، ويدل أيضاً على هذا القول ما أخرجه ابن خزيمة، وصححه، والدارقطني، والحاكم من حديث ابن عمر بلفظ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سجد يضع يديه قبل ركبتيه، وقال: على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وأخرجه أيضاً البيهقي، والطحاوي، وغيرهما من طريق عبد العزيز الدراوردي، عن عبيد الله بن عمرو، عن نافع بهذا، وزاد في آخره: ويقول كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك. قال الحافظ: قال مالك هذه الصفة أحسن في خشوع الصلاة. وبه قال الأوزاعي، قال: وعن مالك، وأحمد رواية بالتخيير-انتهى. وظاهر الحديث الوجوب بقوله: " لا يبرك" وهو نهي، وللأمر بقوله: "وليضع"، قيل: ولم يقل أحد بوجوبه فتعين أنه مندوب، وقد أجاب الحنفية، والشافعية، والحنابلة عن حديث أبي هريرة بوجوه كلها مخدوشة، يأتي ذكر بعضها مع بيان ما فيه من الخدشة. (رواه أبوداود، والنسائي والدارمي) وأخرجه أيضاً أحمد، والترمذي، والطحاوي، والبيهقي، والدارقطني بعضهم من طريق عبد الله بن نافع، عن محمد بن عبد الله بن الحسن، عن أبي الزناد، عن الأعرج عن أبي هريرة. وبعضهم من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن محمد بن عبد الله بن الحسن عن أبي الزناد، الخ. وبعضهم من الطريقين كليهما. وهذا حديث صحيح أو حسن لذاته، رجاله كلهم ثقات. أما عبد الله بن نافع فقد وثقه ابن معين، والنسائي والعجلي، وذكره ابن حبان في الثقات. وأما عبد العزيز ابن محمد الدراوردي فهو أحد مشاهير المحدثين، وثقه ابن معين، وابن المديني، وقال النسائي ليس به بأس، وروى له البخاري حديثين، قرنه فيهما بعبد العزيز بن حازم، وغيره، واحتج به مسلم، وأصحاب السنن. وأما محمد بن عبد الله بن الحسن فهو الملقب بالنفس الزكية، وهو ثقة، وأما أبوالزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة فهو أصح الأسانيد، قاله البخاري كما في الخلاصة. والحديث سكت عنه أبوداود، فهو عنده صالح للاحتجاج. وقال الحازمي في كتاب "الاعتبار" بعد روايته: وهو على شرط أبي داود، والنسائي، والترمذي، أخرجوه في كتبهم. وقال القاري في المرقاة: قال ابن حجر: إسناده جيد. وقال ابن سيد الناس: أحاديث وضع اليدين قبل الركبتين أرجح، وقال: ينبغي أن يكون حديث أبي هريرة داخلاً في الحسن على رسم الترمذي لسلامة رواته عن الجرح. وقال ابن التركماني في الجوهر النقي: وحديث أبي هريرة المذكور أولاً يعني "وليضع يديه ثم ركبتيه" دلالته قولية، وقد تأيد بحديث ابن عمر، فيمكن

قال أبوسليمان الخطابي: حديث وائل بن حجر أثبت من هذا، ـــــــــــــــــــــــــــــ ترجيحه على حديث وائل؛ لأن دلالته فعلية على ما هو الأرجح عند الأصوليين-انتهى. وقال الحافظ في بلوغ المرام: وهو أقوى من حديث وائل بن حجر، فإن للأول شاهداً من حديث ابن عمر، صححه ابن خزيمة، وذكره البخاري معلقاً- انتهى. ورجح ابن العربي في عارضة الأحوذى حديث أبي هريرة على حديث وائل من وجه آخر، فقال: الهيئة التي رأى مالك (وهي الهيئة المروية في حديث أبي هريرة) منقولة في صلاة أهل المدينة، فترجحت بذلك على غيره. (قال أبوسليمان) أي في معالم السنن (ج1: ص208) واسمه حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب البستي- بضم الباء الموحدة- نسبة إلى مدينة"بست" من بلاد "كابل" بين "هرات" و"غزنة". ولد في رجب سنة (319) وتوفي في ربيع الأول سنة (388) كان محدثاً، فقيهاً، أديباً، شاعراً، لغوياً، حجة، صدوقاً، زاهداً، ورعاً، صاحب كتاب" غريب الحديث" و"أعلام السنن" في شرح صحيح البخاري، و"معالم السنن" في شرح سنن أبي داود وغير ذلك. والمشهور فيما بين الناس أنه كان شافعياً. والظاهر أنه كان من أهل الحديث ولم يكن مقلداً للشافعي ولا لغيره من الأئمة، يدل على اختياراته ومخالفته للأئمة كلامه في كثير من المواضع، من جملة ذلك قوله في معالم السنن (ج1: ص252) خلافاً لشافعي "سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى، وحديث أبي عمير صحيح، فالمصير إليه واجب،" وفي (ج1: ص313) "وقول الجماعة أولى لموافقته الحديث"، وهذا في خلاف الشافعي، وكم له مثلها. (الخطابي) بفتح الخاء المعجمة، وتشديد الطاء المهملة وبعد الألف باء موحدة، هذه نسبة إلى جده الخطاب المذكور، وقيل: إنه من ذرية زيد بن الخطاب بن نفيل العدوي فنسب إليه. قال السبكي في طبقات الشافعية (ج2: ص318) : ولم يثبت ذلك، قال: وكان إماماً في الفقه والحديث واللغة (حديث وائل بن حجر أثبت من هذا) أي فهو أولى بالعمل من حديث أبي هريرة. وفيه نظر، فإن حديث وائل ضعيف كما عرفت، ولو سلم أنه حسن كما قال الترمذي، فلا يكون هو حسناً لذاته بل لغيره لطرقه الضعاف. وأما حديث أبي هريرة فهو صحيح أو حسن لذاته، ومع هذا فله شاهد من حديث ابن عمر، صححه ابن خزيمة، وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وقد تقدم قول ابن سيد الناس، وابن التركماني وابن العربي، والحافظ في ترجيح حديث أبي هريرة على حديث وائل بن حجر، فالقول الراجح أن حديث أبي هريرة أثبت وأقوى من حديث وائل. فإن قيل: إن كان لحديث أبي هريرة شاهد فلحديث وائل ثلاثة شواهد، أحدها: ما رواه ابن أبي شيبة والطحاوي في شرح الآثار من طريق عبد الله بن سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: إذا سجد أحدكم فليبدأ بركبتيه قبل يديه، ولا يبرك كبروك الفحل. وثانيها: ما رواه الدارقطني والحاكم والبيهقي وابن حزم عن عاصم الأحول، عن أنس، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انحط بالتكبير فسبقت ركبتاه يديه. قال الحاكم: هو على شرطهما، ولا أعلم له علة.

وقيل: هذا منسوخ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وثالثها: ما رواه ابن خزيمة في صحيحه عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، قال: كنا نضع اليدين قبل الركبتين فأمرنا أن نضع الركبتين قبل اليدين. أجيب بأن هذه الأحاديث كلها ضعيفة جداً، لا تصلح أن تكون شاهدة لحديث وائل. أما حديث أبي هريرة فلأن مداره على عبد الله بن سعيد المقبري وهو متروك، قال ابن معين: ليس بشيء. وقال الفلاس: منكر الحديث، متروك. وقال يحيى بن سعيد: استبان كذبه في مجلس. وقال الدارقطني: متروك ذاهب. وقال أحمد مرة: ليس بذلك، ومرة قال: متروك. وقال فيه البخاري: تركوه، كذا في الميزان. وأما حديث أنس فلأن في سنده العلاء بن إسماعيل، وقد تفرد به، وهو مجهول، قاله البيهقي. وقد أخطأ الحاكم في تصحيحه، ونقل الحافظ في لسان الميزان عن أبي حاتم أنه أنكر هذا الحديث. وحكي عن الدارقطني أنه أخرجه، وقال: إن العلاء تفرد به وهو مجهول، ثم قال الحافظ: وخالفه عمر بن حفص بن غياث وهو من أثبت الناس في أبيه، فرواه عن أبيه، عن أعمش، عن إبراهيم، عن علقمة وغيره، عن عمر موقوفاً عليه، وهذا هو المحفوظ. وأما حديث سعد بن أبي وقاص فلأن في سنده إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيل، وهو يرويه عن أبيه وقد تفرد به، وهما ضعيفان، إبراهيم بن إسماعيل اتهمه أبوزرعة، وأبوه إسماعيل متروك. وقال الحازمي: في سنده مقال، وأن المحفوظ عن مصعب، عن أبيه حديث نسخ التطبيق-انتهى. وقد ظهر بهذا التفصيل أن هذه الأحاديث ضعيفة جداً، فلا تصلح أن تكون شاهدة لحديث وائل فإنها لضعفها وسقوطها صارت كأن لم تكن. (وقيل: هذا) وفي معالم السنن: وزعم بعض العلماء أن هذا أي حديث أبي هريرة. (منسوخ) أي بما رواه ابن خزيمة، عن مصعب بن سعد، عن أبيه. وقد ذكرنا لفظه. وفيه: أن دعوى النسخ بحديث سعد بن أبي وقاص باطلة، فإن هذا الحديث ضعيف كما عرفت، وقد عكس ابن حزم في المحلي (ج4: ص130) فجعل حديث أبي هريرة ناسخاً لما خالفه. وقيل: إن حديث أبي هريرة ضعيف معلول أعله البخاري بأن محمد بن عبد الله بن الحسن لا يتابع عليه، وأنه لا يدري أسمع محمد من أبي الزناد أم لا. وفيه: أن قوله "لا يتابع عليه" ليس مضر؛ لأن محمد بن عبد الله ثقة، ولحديثه هذا شاهد من حديث ابن عمر، وصححه ابن خزيمة، والحاكم، ووافقه الذهبي، قال ابن التركماني في الجوهر النقي: محمد بن عبد الله وثقه النسائي، وقول البخاري "لا يتابع على حديثه" ليس بصريح في الجرح، فلا يعارض توثيق النسائي-انتهى. وأما قوله "لا يدري أسمع" الخ. ففيه أنها أيضاً ليست بعلة، وشرط البخاري معروف، خالفه فيه جمهور المحدثين، ومحمد بن عبد الله ليس بمدلس، وسماعه من أبي الزناد ممكن، فإن أبا الزناد مات سنة ثلاثين ومائة بالمدينة، ومحمد مدني أيضاً غلب على المدينة، ثم قتل في سنة خمس وأربعين ومائة وعمره ثلاث وخمسون سنة. قاله الزبير بن بكار. وقال ابن سعد وغير واحد: قتل وهو ابن خمس وأربعين، وقد أدرك أبا الزناد طويلاً، فيحمل عنعنته على السماع عند جمهور المحدثين. وقيل: إن حديث أبي هريرة مضطرب، فإنه قال بعضهم: إذا سجد أحدكم

907- (14) وعن ابن عباس، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول بين السجدتين: اللهم اغفرلي، وارحمني، واهدني، وعافني، وارزقني)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ فليبدأ بركبتيه قبل يديه. أخرجه بهذا اللفظ ابن أبي شيبة والطحاوي كما تقدم، وهذه الرواية تخالف الرواية التي رواها أبوداود، والنسائي وغيرهما بحيث لا يمكن الجمع بينهما، والاضطراب مورث للضعف. وفيه: أن رواية ابن أبي شيبة، والطحاوي هذه ضعيفة جداً كما عرفت، فلا اضطراب في حديث أبي هريرة، فإن من شرط الاضطراب استواء وجوه الاختلاف، ولا تعل الرواية الصحيحة بالرواية الضعيفة الواهية كما تقرر في موضعه. وقيل: إن في حديث أبي هريرة قلباً من الراوي حيث قال: "وليضع يديه قبل ركبتيه"، وكان أصله وليضع ركبتيه قبل يديه، ويدل عليه أول الحديث، وهو قوله: "فلا يبرك كما يبرك البعير"، فإن المعروف من البروك البعير هو تقديم اليدين على الرجلين، ذكره ابن القيم في زاد المعاد، وقال: ولما علم أصحاب هذا القول ذلك قالوا: ركبتا البعير في يديه لا في رجليه، فهو إذا برك وضع ركبتيه أولاً، فهذا هو المنهى عنه. قال: وهو فاسد من وجوه: حاصلها أن البعير إذا برك يضع يديه، ورجلاه قائمتان، وهذا هو المنهي عنه، وأن القول بأن ركبتي البعير في يديه لا يعرفه أهل اللغة. وأنه لو كان الأمر كما قالوا لقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فليبرك كما يبرك البعير؛ لأن أول ما يمس الأرض من البعير يداه. وفيه: أن في قوله: "في حديث أبي هريرة قلب من الراوي" نظراً، إذ لو فتح هذا الباب لم يبق اعتماد على رواية راو مع كونها صحيحة، قاله القاري، وأما قوله: "كون ركبتي البعير في يديه لا يعرفه أهل اللغة" ففيه: أنه مبني على عدم اطلاعه؛ لأنه منصوص عليه في لسان العرب (ج1: ص417) وقال صاحب القاموس: "الركبة ـ بالضم ـ موصل ما بين أسافل أطراف الفخذ وأعالي الساق، أو مرفق الذراع من كل شيء، ووقع في حديث هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - قول سراقة: ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين. رواه البخاري في صحيحه، فهذا نص صريح وبرهان قاطع على أن ركبتي البعير في يديه، وأما قوله: إنه لو كان كما قالوا لقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فليبرك كما يبرك البعير" الخ. ففيه: أنه لما ثبت أن ركبتي البعير تكونان في يديه ومعلوم أن ركبتي الإنسان تكونان في رجليه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في آخر هذا الحديث: "وليضع يديه قبل ركبتيه"، فكيف يقول في أوله: فليبرك كما يبرك البعير؟ أي فليضع ركبتيه قبل يديه، ذكره شيخنا في شرح الترمذي (ج1: ص230) وفي أبكار المنن (ص223) . 907- قوله: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول بين السجدتين) أي في الفريضة والنافلة. (اللهم اغفرلي) أي ذنوبي، أو تقصيري في طاعتي. (وارحمني) أي من عندك لا بعملي، أو ارحمني بقبول عبادتي. (واهدني) لصالح الأعمال، أو ثبتني على دين الحق. (وعافني) من البلاء في الدارين، أو من الأمراض الظاهرة والباطنة. (وارزقني) رزقا حسناً أو توفيقاً في

رواه أبوداود والترمذي. 908- (15) وعن حذيفة، ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول بين السجدتين: رب اغفرلي)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الطاعة، أو درجة عالية في الآخرة. والحديث دليل على مشروعية الدعاء بهذه الكلمات في القعود بين السجدتين، وهو يعم الفرائض والنوافل. قال الترمذي بعد رواية الحديث: وهكذا روي عن علي، وبه يقول الشافعي، وأحمد، وإسحاق، يرون هذا جائزاً في المكتوبة والتطوع- انتهى. وحمله الحنفية على التطوع خاصة لما قيده ابن ماجه في روايته بصلاة الليل. وفيه: أن التقييد بصلاة الليل لا يدل على أن هذا الدعاء مخصوص بصلاة التطوع كما في دعاء الاستفتاح الذي اختاره الحنفية للفرض مع أن الترمذي وأباداود قد رويا عن أبي سعيد الخدري: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام من الليل كبر، ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك- الحديث. فعمم الحنفية هذا الدعاء للفرائض والنوافل مع كونه مقيداً بصلاة الليل في الحديث المذكور. (رواه أبوداود، والترمذي) إلا أنه قال فيه "واجبرني" مكان "عافني". قيل: هو من "جبرت الوهن والكسر" إذا صلحته و"جبرت المصيبة" إذا فعلت مع صاحبها ما ينساها به. وقال الجزري: واجبرني أي أغنني، من "جبر الله مصيبته"، أي رد عليه ما ذهب عنه، أو عوضه عنه. وأصله من " جبر الكسر". والحديث أخرجه أيضاً ابن ماجه، وزاد "وارفعني" ولم يقل "اهدني" ولا "عافني" وأخرجه الحاكم في المستدرك بإسنادين: الأول بلفظ أبي داود، والثاني جمع فيه هذه الألفاظ كلها إلا أنه لم يقل "وعافني". وهذا الاختلاف محمول على أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظه الآخر، والحديث سكت عنه أبوداود، وصححه الحاكم في الموضعين، ووافقه الذهبي. ونقل الحافظ في بلوغ المرام تصحيح الحاكم، وأقره، ولم ينكر عليه، قلت: في سنده أبوالعلاء كامل بن العلاء السعدي، يروي عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، وكامل هذا وثقة يحيى بن معين، وقال ابن عدي: لم أر للمتقدمين فيه كلاماً، وفي بعض رواياته أشياء أنكرتها، ومع هذا أرجو أنه لا بأس به. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال مرة: ليس به بأس. وقال الحافظ في التقريب: صدوق يخطىء، وحبيب بن أبي ثابت ثقة فقيه جليل، لكنه كثير الإرسال والتدليس، وقد روى عند الجميع بالعنعنة، قال في الزوائد: رجاله ثقات، إلا أن حبيب بن أبي ثابت كان يدلس، وقد عنعنة، وأصله في أبي داود، والترمذي- انتهى. 908- قوله: (كان يقول بين السجدتين: رب اغفرلي) أي مكرراً. قال ابن قدامة في المغني: المستحب عند أبي عبد الله أي أحمد، أن يقول بين السجدتين: رب اغفرلي، رب اغفرلي، يكرر ذلك مراراً، والواجب منه مرة، وأدنى الكمال ثلاث، الخ. والحديث يدل على مشروعية طلب المغفرة في الاعتدال بين السجدتين، ولا يختص ذلك بالتطوع كما قيل، بل يعم الفريضة والتطوع، ويحمل هذا الحديث مع حديث ابن عباس السابق على اختلافات الأوقات،

{الفصل الثالث}

رواه النسائي والدارمي. {الفصل الثالث} 909- (16) عن عبد الرحمن بن شبل، قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نقرة الغراب، وافتراش لسبع، وأن يوطن الرجل المكان في المسجد كما يوطن البعير)) . رواه أبوداود والنسائي والدارمي. ـــــــــــــــــــــــــــــ فكان - صلى الله عليه وسلم - يقول في بعض الأحيان ما رواه ابن عباس، وفي بعض الأحيان ما رواه حذيفة. (رواه النسائي) في حديث أطول منه، وأخرجه أيضاً ابن ماجه، ولفظه: كان يقول بين السجدتين: "رب اغفرلي". وهو حديث صحيح، وأصله في مسلم. 909- قوله: (عن عبد الرحمن بن شبل) بكسر الشين المعجمة، وسكون الموحدة، ابن عمرو بن زيد الأنصاري الأوسي، أحد النقباء، المدني، وأحد علماء الصحابة، نزل حمص، له أربعة عشر حديثاً. مات في إمارة معاوية بن أبي سفيان. (عن نقرة الغراب) بفتح النون، أي عن ترك الطمأنينة، وتخفيف السجود بحيث لا يمكث فيه إلا قدر وضع الغراب منقاره فيما يريد الأكل منه. قال الخطابي في المعالم: هي أن لا يتمكن الرجل من السجود فيضع جبهته على الأرض حتى يطمئن ساجداً، فإنما هو أن يمس بجبهته أو بأنفه الأرض كنقرة الطائر ثم يرفعه. (وافتراش السبع) بفتح السين المهملة، وضم الباء الموحدة، والافتراش افتعال من الفرش، أي نهى أن يبسط ذراعيه في السجود، ولا يرفعهما عن الأرض كما يبسط السبع والكلب والذئب ذراعيه. (وأن يوطن) بتشديد الطاء، ويجوز التخفيف، يقال أوطن الأرض ووطنها، واستوطنها، إذا اتخذها وطناً. (الرجل المكان في المسجد كما يوطن البعير) أي أن يتخذ لنفسه من المسجد مكاناً معيناً لا يصلي إلا فيه، كالبعير لا يبرك من عطنه إلا في مبرك قديم. وفي النهاية للجزري: قيل معناه: أن يألف الرجل مكاناً معلوماً من المسجد مخصوصاً به، لا يصلي إلا فيه كالبعير لا يأوي من عطنه إلا إلى مبرك دمث قد أوطنه واتخذه مناخاً، لا يبرك إلا فيه. وقيل معناه: أن يبرك على ركبتيه قيل يديه إذا أراد السجود مثل بروك البعير- انتهى. قلت: وهذا أي المعنى الثاني لا يوافق لفظ الحديث فلا يصح أن يكون مراداً. قال ابن حجر: وحكمة النهي أن ذلك يؤدي إلى الشهرة، والرياء، والسمعة، والتقيد بالعادات، والحظوظ، والشهوات، وكل هذه آفات أي آفات فتعين البعد عما أدى إليها ما أمكن. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو المنذري. (والنسائي والدارمي) وأخرجه أيضاً ابن ماجه، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما. والنهي عن نقرة كنقرة الديك، أخرجه أيضاً أحمد بإسناد حسن، وأبويعلي، والطبراني في الأوسط عن أبي هريرة.

910- (17) وعن علي، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا علي! إني أحب لك ما أحب لنفسي، وأكره لك ما أكره لنفسي، لا تقع بين السجدتين)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 910- قوله: (يا علي! إني أحب لك ما أحب لنفسي، وأكره لك ما أكره لنفسي) المقصود إظهار المحبة لوقوع النصيحة، وإلا فهو مع كل مؤمن كذلك. (لا تقع) بضم التاء من الإقعاء. (بين السجدتين) زاد ابن ماجه في رواية له: إقعاء الكلب. وفي حديث أنس عند ابن ماجه مرفوعاً: إذا رفعت رأسك من السجود فلا تقع كما يقعى الكلب- الحديث. وفي حديث أبي هريرة عند أحمد: قال نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثلاث: عن نقرة كنقرة الديك، وإقعاء كإقعاء الكلب، وقد فسر هذا الإقعاء المنهى عنه بنصب الساقين: ووضع الأليتين واليدين على الأرض. وروى مسلم وغيره عن ابن عباس، قال: الإقعاء بين السجدتين هي سنة نبيكم. وعن طاووس، قال: رأيت العبادلة يقعون. قال الحافظ: وأسانيدها صحيحة. وفسر هذا الإقعاء بأن ينصب القدمين، ويجلس عليهما فلا منافاة. قال البيهقي: الإقعاء ضربان: أحدهما أن يضع أليتيه على عقبيه، ويكون ركبتاه في الأرض، وهذا هو الذي رواه ابن عباس، وفعلته العبادلة ونص الشافعي في "البويطي" على استحبابه بين السجدتين، لكن الصحيح أن الافتراش أفضل منه، لكثرة الرواة له، ولأن أعون للمصلي، وأحسن في هيئة الصلاة. والثاني أن يضع أليتيه ويديه على الأرض وينصب ساقيه، وهذا هو الذي وردت الأحاديث بكراهته. وتبع البيهقي على هذا الجمع ابن الصلاح والنووي، وأنكر على من ادعى فيهما النسخ، وقالا: كيف ثبت النسخ مع عدم تعذر الجمع، وعدم العلم بالتاريخ؟ كذا في التلخيص (ص99) . قال الشوكاني: وهذا الجمع لا بد منه، وأحاديث النهي والمعارض لها يرشد لما فيها من التصريح بإقعاء الكلب، ولما في أحاديث العبادلة من التصريح بالإقعاء على القدمين وعلى أطراف الأصابع، وقد روي عن ابن عباس أيضاً أنه قال: من السنة أن تمس عقبيك أليتيك، وهو مفسر للمراد، فالقول بالنسخ غفلة عن ذلك، وعما صرح به الحفاظ من جهل تاريخ هذه الأحاديث، وعن المنع من المصير إلى النسخ مع إمكان الجمع، وقد روي عن جماعة من السلف من الصحابة وغيرهم فعله كما قال النووي. ونص الشافعي في "البويطي" و"الإملاء" على استحبابه- انتهى كلام الشوكاني. قلت: الذي قاله البيهقي، وابن الصلاح، والنووي، ثم الشوكاني، هو الحق والصواب، ويؤيده كتب اللغة. قال ابن دريد في الجمهرة (ج3: ص263) : الإقعاء مصدر "أقعى إقعاء" وهو أن يقعد على عقبيه، وينصب صدور قدميه، ونهى عن الإقعاء في الصلاة وهو أن يقعد على صدور قدميه، ويلقى يديه على الأرض. وفي لسان العرب: أقعى الكلب إذا جلس على إسته مفترشاً رجليه، وناصباً يديه، وقد جاء في الحديث النهي عن الإقعاء في الصلاة، وفي رواية: نهى أن يقعى الرجل في الصلاة، وهو أن يضع أليتيه على عقبيه بين السجدتين. وهذا تفسير الفقهاء. قال الأزهري كما روي عن العبادلة.

رواه الترمذي. 911- (18) وعن طلق بن علي الحنفي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا ينظر الله عز وجل إلى صلاة عبد لا يقيم فيها صلبه بين خشوعها وسجودها)) . رواه أحمد. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأما أهل اللغة فالإقعاء عندهم أن يلصق الرجل أليتيه بالأرض، وينصب ساقيه وفخذيه ويضع يديه على الأرض كما يقعى الكلب، وهذا هو صحيح، وهو أشبه بكلام العرب، وليس الإقعاء في السباع إلا كما قلناه- انتهى. والزمخشري حين فسر الحديث في النهي في كتابي "الفائق" و"الأساس" إنما فسر الإقعاء بما فسره به أهل اللغة فقط، واختار الجمع المذكور بعض الأئمة الحنفية أيضاً كابن الهمام وغيره. وأما عامة الحنفية فكرهوا الإقعاء مطلقاً، لكن قالوا: كراهة إقعاء الكلب تحريمية، وكراهة الثاني تنزيهه، وحملوا حديث ابن عباس على العذر، أو بيان الجواز. وفيه: أنه لو كان الإقعاء بالمعنى الثاني مكروهاً لم يقل ابن عباس: هي سنة نبيكم، ولم يفعله العبادلة وغيرهم من الصحابة. (رواه الترمذي) وأخرجه أيضاً ابن ماجه من طريق الحارث بن عبد الله الأعور، وهو ضعيف جداً، رماه الشعبي، وأبوإسحاق، وغيرهما بالكذب، ووثقه ابن معين ولم يتابعه أحد على ذلك بل الجمهور اتفقوا على تضعيفه، وكان عالماً بالفقه، والحساب، والفرائض. وفي الباب عن أنس عند ابن ماجه، وقد ذكرنا لفظه، وفيه العلاء أبومحمد، قال فيه البخاري وغيره: منكر الحديث، وقال ابن المديني: كان يضع الحديث. وعن سمرة، وأبي هريرة عند أحمد، وعن جابر بن سمرة، وأنس عند البيهقي. قال النووي: أسانيدها كلها ضعيفة. 911- قوله: (الحنفي) بفتح النون نسبة إلى بني حنيفة قبيلة. (لا يقيم فيها صلبه) أي في القومة، بيانها. (بين خشوعها) أي ركوعها. (وسجودها) وإنما سمى الركوع خشوعاً، وهو هيئة الخاشع، تنبيهاً على أن القصد الأولى من تلك الهيئة الخشوع والانقياد، قاله الطيبي. قلت: وذكر الهيثمي هذا الحديث في مجمع الزوائد نقلاً عن أحمد، والطبراني بلفظ: لا ينظر الله عزوجل إلى صلاة عبد لا يقيم صلبه فيما بين ركوعها وسجودها. والحديث يدل على وجوب الطمأنينة في الاعتدال من الركوع، وإليه ذهب الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وهو الحق. (رواه أحمد) وأخرجه أيضاً الطبراني في الكبير. قال الهيثمي والمنذري: رجاله ثقات، وفي الباب عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا ينظر الله إلى صلاة رجل لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده. أخرجه أحمد بإسناد جيد، قاله المنذري. وقال الهيثمي: رواه أحمد من رواية عبد الله بن زيد الحنفي، عن أبي هريرة، ولم أجد من ترجمه- انتهى. قال الحافظ في تعجيل المنفعة: وهم الهيثمي في تسمية عبد الله بن زيد، وإنه عبد الله بن بدر، وهو معروف موثق، ولكنه قال: إن عبد الله بن بدر لا يروي عن أبي هريرة إلا بواسطة.

912- (19) وعن نافع، أن ابن عمر كان يقول: ((من وضع جبهته بالأرض فليضع كفيه على الذي وضع عليه جبهته، ثم إذا رفع فليرفعهما، فإن اليدين تسجدان ـــــــــــــــــــــــــــــ 912- قوله: (من وضع جبهته) أي في السجود. (فليضع كفيه) أيضاً. (على الذي وضع) بصيغة الماضي، وفي الموطأ "يضع" بلفظ المضارع. (عليه جبهته) أي على المكان الذي وضع جبهته عليه. قيل: يعني بقربه. (ثم إذا رفع) أي جبهته. (فليرفعهما) أي الكفين أيضاً. (فإن اليدين) أي الكفين. (تسجدان) تعليل لوضع الكفين على الأرض كما وضع الجبهة عليها. وقيل: تعليل لوضع الكفين والرفع كليهما، وإشارة إلى أن سجدة الوجه كما أنه لا بد لها من رفع الرأس كذلك سجدة الكفين لا بد لهما من رفعهما. واختلف فيمن لم يرفع يديه عن الأرض بين السجدتين، ففي قول للمالكية: يبطل صلاته، قال الزرقاني: لأن رفعهما فرض، إذ لا يعتدل من لم يرفعهما. وقال في شرح الكبير: والمعتمد صحة صلاة من لم يرفع يديه عن الأرض حال الجلوس بين السجدتين حيث اعتدل- انتهى. وفي قول ابن عمر هذا إشارة إلى حديث العباس: إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب: وجهه، وكفاه، وركبتاه، وقدماه. أخرجه الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه، وغيرهم. وإلى حديث ابن عباس: أمرت أن أسجد على سبعة أعظم. وفيه أيضاً إشارة إلى أنه يستحب أن يستقبل بأصابعه القبلة. واعلم أنه اختلف في تعيين المقصود من قول ابن عمر هذا، فقيل: أراد بيان وجوب وضع اليدين على الأرض للسجود، وقد تقدم أن القول الراجح هو وجوب وضع الأعضاء السبعة جميعاً، وفيها اليدان فيجب وضعهما. وقيل: أراد بيان موضع اليدين في السجود، وأنهما تكونان قريباً من الوجه، وإلى هذا المعنى أشار محمد في موطئه حيث قال بعد ذكر هذا الأثر: وبهذا نأخذ، ينبغي للرجل إذا وضع جبهته ساجداً أن يضع كفيه بحذاء منكبيه- انتهى. والمسألة مختلفة فيها، فكل من ذهب إلى أن الرفع في افتتاح الصلاة إلى المنكبين، جعل وضع اليدين في السجود حيال المنكبين، ويؤيده ما روى البخاري وغيره عن أبي حميد الساعدي، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وضع اليدين حذو المنكبين. ومن ذهب في الرفع في الافتتاح إلى حيال الأذنين جعل وضعهما في السجود حيال الأذنين، وهكذا روي في مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من فعله. قال ابن الهمام: لو قال قائل: إن السنة أن يفعل أيهما تيسر جمعاً للمرويات، بناء على أنه - عليه السلام - كان يفعل هذا أحياناً، وهذا أحياناً، إلا أن بين الكفين أفضل؛ لأن فيه تلخيص المفاجأة المسنونة ما ليس في الآخر، كان حسنا. وقيل: أراد بيان كشف اليدين وإبرازهما في السجود، وإليه مال الزرقاني كما يظهر من شرحه، ويؤيد هذا القول ما رواه مالك قبل هذا عن نافع: أن عبد الله بن عمر كان إذا سجد وضع كفيه على الذي يضع عليه وجهه. قال نافع: ولقد رأيته في يوم شديد البرد، وأنه ليخرج كفيه من تحت برنس له حتى يضعهما على الحصباء، ويؤيده أيضاً ما رواه ابن أبي شيبة عن أبي هند، قال: قال ابن عمر: إذا سجد أحدكم فليباشر بكفيه الأرض، وهذه

(15) باب التشهد

كما يسجد الوجه)) . رواه مالك. (15) باب التشهد {الفصل الأول} 913- (1) عن ابن عمر، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قعد في التشهد، وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى، وعقد ـــــــــــــــــــــــــــــ المسألة أيضاً مختلفة فيها كما تقدم. قال ابن رشد في البداية: واختلفوا أيضاً هل من شرط السجود أن تكون يد الساجد بارزة وموضوعة على الذي يوضع عليه الوجه، أم ليس ذلك من شرطه؟ فقال مالك: ذلك من شرط السجود، أحسبه شرط تمامه. وقالت جماعة: ليس ذلك من شرط السجود- انتهى. قلت: أقرب الأقوال في بيان الغرض من قول ابن عمر هذا هو القول الأول، ثم الثالث، وأبعدها الثاني، والله أعلم. (كما يسجد الوجه) أي الجبهة والأنف. (رواه مالك) عن نافع، عن ابن عمر موقوفاً عليه من قوله. ورواه أحمد (ج2: ص6) وأبوداود، والنسائي والحاكم، وصححه من طريق ابن علية، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال: إن اليدين تسجدان كما يسجد الوجه، فإذا وضع أحدكم وجهه فليضع يديه، وإذا رفعه فليرفعهما. (باب التشهد) قال القاضي: سمي الذكر المخصوص تشهداً لاشتماله على كلمتي الشهادة، تغليباً لها على بقية أذكاره لشرفها. 913- قوله: (إذا قعد في التشهد) أي لأجله، وهو أعم من الأول والثاني. (وضع يده اليسرى) أي بطن كفها باسطا لأصابعها مستقبلاً بها القبلة كما يأتي. (على ركبته اليسرى) أي على قربها فوق فخذه اليسرى جمعاً بين الأحاديث. (ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى) وضع اليدين على الركبتين في التشهد مجمع على استحبابه، ولعل حكمة وضعهما على الركبتين المحافظة من العبث والمراعاة للأدب. (وعقد) أي اليمنى. وهذا بظاهره يدل على أن العقد من أول القعود كما هو مذهب الشافعية لا عند الإشارة، أي رفع المسبحة عند قوله: لا إله إلا الله، كما هو مختار الحنفية. قال القاري في تزيين العبارة: المعتمد عندنا لا يقعد إلا عند الإشارة، لاختلاف ألفاظ الحديث، وبما اخترنا يحصل الجمع بين الأدلة، فإن بعضها يدل على أن العقد من أول القعود، وبعضها يشير إلى أنه لا عقد أصلاً مع الاتفاق على تحقيق الإشارة- انتهى. قلت: لا اختلاف بين ألفاظ الحديث أصلاً، فإن الروايات التي فيها ذكر القبض أو العقد كلها ظاهرة في أن القبض من ابتداء الجلوس لا عند الإشارة، وأما الاقتصار في بعض الروايات على مجرد الوضع والإشارة

ثلاثة وخمسين، ـــــــــــــــــــــــــــــ بدون ذكر القبض فليس فيها أدنى إشارة إلى عدم القبض، فإنها مطلقة تحمل على الروايات التي فيها التنصيص بذكر القبض، حمل المطلق على المقيد. وأما قول ابن الهمام: إن وضع الكف مع قبض الأصابع لا يتحقق حقيقة، فالمراد وضع الكف ثم قبض الأصابع بعد ذلك للإشارة، ففيه أن ذلك إنما يتم لو كان المراد بوضع الكف اليمنى بسطها، ولا دليل على ذلك، بل في قوله: "ويده اليسرى على ركبته باسطها عليها" إشعار ظاهر بقبض اليمنى من أول القعود، وإشارة بينة إلى أنه لم يبسط اليمنى مطلقاً، بل كان وضعها مع عقد الأصابع وقبضها. والحاصل أن الروايات بظاهرها تدل على المعية لا البعدية. ولو سلم أن القبض كان عند الإشارة فلا يضرنا ذلك بل يوافقنا؛ لأن ظاهر الأحاديث يدل على أن الإشارة من ابتداء الجلوس، ولم أر حديثاً صحيحاً يدل عل كون الإشارة عند قوله "لا إله إلا الله" خاصة. وأما ما ورد في بعض الروايات عند أحمد، والبيهقي من قول الصحابي في بيان فعله - صلى الله عليه وسلم - "ولكنه التوحيد" أو "إنما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع ذلك يوحد بها ربه عزوجل" أو "يشير بها إلى التوحيد" فليس فيه دليل على كون الإشارة أي رفع المسبحة عند قوله: لا إله إلا الله، بل فيه بيان حكمة الإشارة، يعني أنها للتوحيد، فإذا ثبت أن الإشارة من أول القعود وقد قالوا: إن القبض كان للإشارة ثبت أن القبض كان من ابتداء القعود وأوله، لا عند قوله: لا إله إلا الله. (ثلاثة وخمسين) وهو أن يعقد الخنصر والبنصر والوسطى، ويرسل المسبحة، ويضم الإبهام إلى أصل المسبحة مرسلة. قال الحافظ في التلخيص بعد ذكر هذا الحديث: وصورتها أن يجعل الإبهام معترضة تحت المسبحة- انتهى. وهذه هي إحدى الهيئات الواردة في وضع اليد اليمنى على الركبة اليمنى حال التشهد. والثانية: أن يقبض الأصابع كلها على الراحة، ويشير بالمسبحة، ففي رواية لمسلم من حديث ابن عمر مرفوعاً: كان إذا جلس في الصلاة وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى، وقبض أصابعه كلها، وأشار بإصبعه التي تلي الإبهام. والثالثة: أن يعقد الحنصر والبنصر، ويرسل المسبحة ويحلق الإبهام والوسطى كما هو منصوص في حديث وائل ابن حجر الآتي. والرابعة: أن يضع اليد اليمنى على الفخذ اليمنى ويشير بالسبابة، ويضع إبهامه على إصبعه الوسطى كما في حديث ابن زبير الآتي، ولا منافاة بين هذه الأحاديث لجواز وقوع الكل في الأوقات المتعددة، فيكون الكل جائزاً. قال الرافعي: الأخبار وردت بها جميعاً، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع مرة هكذا، ومرة هكذا. وقال الأمير اليماني: الظاهر أنه مخير بين هذه الهيئات- انتهى. والمختار الأحسن عند الحنفية والحنابلة هو التحليق. وقال البيهقي بعد رواية حديث وائل: ونحن نجيزه ونختار ما روينا في حديث ابن عمر، ثم ما روينا في حديث ابن الزبير لثبوت خبرهما، وقوة سندهما- انتهى. وقد رام بعضهم الجمع بين حديث ابن الزبير، ورواية العقد ثلاثة وخمسين، بأن يكون المراد بقوله: "على إصبعه الوسطى" أي وضعها قريباً من أسفل الوسطى، وحينئذٍ يكون بمعنى العقد ثلاثة وخمسين، وتكون الهيئات ثلاثة لا أربعة، وهذا هو الظاهر. وأما ما ورد في الرواية الآتية من حديث ابن عمر، وبعض روايات ابن الزبير من ذكر وضع

وأشار بالسبابة. وفي رواية: ((كان إذا جلس في الصلاة، وضع يديه على ركبتيه، ورفع إصبعه اليمنى التي تلي الإبهام، يدعوا بها، ويده اليسرى على ركبته، باسطها عليها)) . رواه مسلم. 914- (2) وعن عبد الله بن الزبير، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـــــــــــــــــــــــــــــ اليدين على الركبتين، والإشارة بالمسبحة بدون ذكر القبض، فليس ذلك دليلاً على هيئة أخرى غير ما تقدم، فإنها مطلقة فتحمل بعض الروايات التي وردت مقيدة بذكر القبض، والله أعلم. (وأشار بالسبابة) قال الطيبي: أي رفعها عند قول "إلا الله" ليطابق القول الفعل على التوحيد. وقال القاري: وعندنا يرفعها عند "لا إله" ويضعها عند "إلا الله" لمناسبة الرفع للنفي، وملائمة الوضع للإثبات، ومطابقة بين القول والفعل حقيقة. وقال الأمير اليماني: موضع الإشارة عند قوله "لا إله إلا الله" لما رواه البيهقي من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ وينوي بالإشارة التوحيد، والإخلاص فيه، فيكون جامعاً في التوحيد بين الفعل، والقول، والاعتقاد. قلت: حاصل ما رواه البيهقي وغيره في ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يشير بالمسبحة إلى التوحيد، أو يريد بها التوحيد، أو يوحد بها ربه عز وجل، وليس فيه كما ترى تصريح بالإشارة عند قوله "لا إله إلا الله" خاصة. ولا نفي الإشارة قبل ذلك من ابتداء الجلوس. ومقصود الصحابي منه إنما هو بيان حكمة الإشارة ونكتتها، لا بيان محل الإشارة ووقتها. وظاهر الأحاديث الواردة في هذه المسئلة يدل على الإشارة من ابتداء الجلوس، فالراجح عندنا أن يعقد من أول القعود مشيراً بالمسبحة، مستمراً على ذلك إلى أن يسلم، والله أعلم. قال العلماء: خصت السبابة بالإشارة لاتصالها بنياط القلب، فتحريكها سبب لحضوره. (وفي رواية: كان إذا جلس في الصلاة) أي للتشهد كما بينته الرواية الأولى. (وضع يديه على ركبتيه) لكن مع اختلاف الهيئة كما علم من الروايات السابقة والآتية. (ورفع إصبعه) ظاهره أن رفع الإصبع، أي الإشارة بها كان في ابتداء الجلوس. (اليمنى التي تلي الإبهام) وهي المسبحة. (يدعو بها) وفي مسلم "فدعا بها" أي أشار بها. قال الطيبي: إما أن يضمن "يدعو" معنى "يشير" أي يشير بها داعياً إلى وحدانية الله بالإلهية، وإما أن يكون حالاً، أي يدعو مشيراً بها. قال ابن حجر: يدعو بها، أي يتشهد بها، وإنما سمى التشهد دعاء لاشتماله عليه، إذ من جملته "السلام عليك أيها النبي" إلى "الصالحين"، وهذا كله دعاء، وإنما عبر عنه بلفظ الإخبار لمزيد التوكيد. (ويده اليسرى) قال القاري: بالنصب في النسخ المصححة، وفي نسخة بالرفع، وهو الظاهر. (باسطها) بالنصب على الحال ويجوز الرفع. (عليها) أي حال كونه باسطاً يده على الركبة من غير رفع إصبع، وفيه إشعار بكون اليمنى مقبوضة. (رواه مسلم) الرواية الثانية أخرجها أيضاً أحمد والترمذي والنسائي. 914- قوله: (وعن عبد الله بن الزبير) بن العوام القرشي الأسدي يكنى أبابكر المكي ثم المدني، وهو أول مولود في الإسلام للمهاجرين بالمدينة، هاجرت به أمه أسماء بنت أبي بكر إلى المدينة وهي حامل، فولد بعد الهجرة في السنة الأولى

إذا قعد يدعوا وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى على فخذه اليسرى، وأشار بإصبعه السبابة، ووضع إبهامه على إصبعه الوسطى، ويلقم كفه اليسرى ركبته)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأذن أبوبكر في أذنه، ولدته أمه بقباء، وأتت به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضعته في حجره، فدعا بتمرة فمضغها، ثم تفل في فيه وحنكه، فكان أول شيء دخل في جوفه ريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم دعا له وبرك عليه، وكان كثير الصيام والصلاة شهيما ذا أنفة، شديد البأس فصيحا لسنا، قابلا للحق، وصولا للرحم، اجتمع له ما لم يجتمع لغيره. أبوه الزبير حواري رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمه أسماء بنت الصديق، وجده لأمه الصديق، وجدته صفية عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخالته عائشة زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثمان سنين وحضر وقعة اليرموك. وشهد خطبة عمر بالجابية وبويع له بالخلافة عقيب موت يزيد بن معاوية سنة. (64) وغلب على الحجاز والعراقيين واليمن ومصر، وأكثر الشام. وكانت ولايته تسع سنين. وقتله حجاج بن يوسف بمكة، وصلبه يوم الثلاثاء لسبع عشرة خلت من جمادي الأخرى سنة. (73) وحج بالناس ثماني حجج. ومات النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن تسع سنين. ومناقبه وأخباره كثيرة جداً، وخلافته صحيحة خرج عليه مروان بعد أن بويع له بالآفاق كلها إلا بعض قرى الشام. فغلب مروان على دمشق، ثم غزا مصر فملكها. ومات بعد ذلك، فغزا بعد مدة عبد الملك بن مروان العراق، فقتل مصعب بن الزبير ثم أغزى الحجاج مكة فقتل عبد الله. وقد كان عبد الله أولاً امتنع من بيعة يزيد بن معاوية، وسمى نفسه عائذ البيت، وامتنع بالكعبة، فأغزى يزيد جيشا عظيما فعلوا بالمدينة في وقعة الحرة ما اشتهر، ثم ساروا من المدينة إلى مكة، فحاصروا ابن الزبير، ورموا البيت بالمنجنيق، وأحرقوه، فجاءهم نعى يزيد بن معاوية وهم على ذلك، فرجعوا إلى الشام، فلما غزى الحجاج مكة كما فعل أسلافه، ورمى البيت بالمنجنيق، وارتكب أمرا عظيما، وظهرت حينئذٍ شجاعة ابن الزبير فحمى المسجد وحده، وهو في عشر الثمانين بعد أن خذله عامة أصحابه حتى قتل صابرا، محتسبا، مقبلا، غير مدبر، رضي الله عنه. له ثلاثة وثلاثون حديثا، اتفقا على حديث، وانفرد البخاري بستة، وانفرد مسلم بحديثين. روى عنه خلق كثير. (إذا قعد يدعو) أي يتشهد. قال الطيبي: سمى التشهد دعاء لاشتماله عليه، فإن قوله: سلام عليك، وسلام علينا، دعاء. (وأشار بإصبعه السبابة) أي من ابتداء القعود للتشهد. (ووضع إبهامه) أي من أول جلوسه للتشهد. (على إصبعه الوسطى) تقدم الكلام عليه. (ويلقم) من الإلقام أي أحياناً. (كفه اليسرى ركبته) أي اليسرى، أي يعطف أصابعها على الركبة. يقال: ألقمت الطعام، إذا أدخلته في فيك. أي يدخل ركبته في راحة فه اليسرى حتى صارت ركبته كاللقمة في كفه. قال ابن حجر: ولا ينافي هذا ما مر من أن السنة وضع بطن كفيه على فخذيه قريباً من ركبتيه، بحيث تسامتها رؤس الأصابع؛ لأن ذاك بيان لكمال السنة. وهذا بيان لأصل السنة- انتهى. وقال النووي: قد أجمع العلماء على استحباب وضع اليد اليسرى عند الركبة، أو على الركبة.

رواه مسلم. 915- (3) وعن عبد الله بن مسعود، قال: ((كنا إذا صلينا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قلنا: السلام على الله قبل عباده، السلام على جبريل، السلام على ميكائيل، السلام على فلان. فلما انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم -، أقبل علينا بوجهه، قال: لا تقولوا: السلام على الله، فإن الله هو السلام، فإذا جلس أحدكم في الصلاة، فليقل: ـــــــــــــــــــــــــــــ وبعضهم يقول بعطف أصابعها على الركبة، وهو معنى قوله: ويلقم كفه اليسرى ركبته- انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً الدارقطني. 915- قوله: (قلنا) أي في قعود التشهد قبل مشروعيته. (السلام على الله قبل عباده) في المجمع: أي قلنا هذا اللفظ قبل "السلام على عباده"- انتهى. فجعل الظرف متعلقاً بالقول، والظاهر أنه من جملة المقول، وكأنهم رأوا "السلام" من قبيل الحمد والشكر فجوزوا ثبوته لله تعالى أيضاً. (السلام على فلان) وفي رواية "السلام على فلان وفلان" مكرراً. زاد في رواية ابن ماجه "يعنون الملائكة"، وللسراج: فنعد من الملائكة ما شاء الله. والأظهر أنه عليه السلام لم يسمعه إلا حين أنكره عليهم. وقوله "كنا" ليس من قبيل المرفوع حتى يكون منسوخاً بقوله "إن الله هو السلام"؛ لأن النسخ إنما يكون فيما يصح معناه، وليس تكرر ذلك منهم مظنة سماعة له منهم؛ لأنه في التشهد، والتشهد سر. (فلما انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي فرغ من صلاته. (أقبل علينا بوجهه) يعني لا بمجرد الكلام، وقيل: إنه تأكيد، والجملة بدل من "انصرف" وجواب "لما" قوله. (قال: لا تقولوا: السلام على الله، فإن الله هو السلام) أي هو مالك السلامة ومعطيها، فلا يحتاج إلى أن يدعى له بالسلامة، كيف وهو المرجوع إليه بالمسائل والمدعو على الحالات، أو أنه تعالى هو السالم عن الآفات التي لأجلها يطلب السلام عليه، ولا يطلب السلام إلا على من يمكن له عروض الآفات، فلا يناسب السلام عليه تعالى. (فليقل) فيه دليل على وجوب قراءة التشهد في القعدة الأولى والثانية، وإليه ذهب أحمد وإسحاق، لكن عدا الحنابلة التشهد الأول واجباً، والثاني ركناً، وقريب منه مذهب الشافعية، فإنهم جعلوا الأول من الأبعاض والسنن التي تنجبر بالسجود، وجعلوا الآخر من الأركان. وعند الحنفية التشهد الثاني واجب، وأما الأول فقيل: واجب، وهو ظاهر الرواية، وقيل: سنة. وأما مالك فقال: بسنية التشهد مطلقاً كما قال الزرقاني. ويدل على الوجوب أيضاً قول ابن مسعود عند النسائي والدارقطني والبيهقي بإسناد صحيح: كنا نقول في الصلاة قبل أن يفرض علينا التشهد. فإن ظاهره أن التشهد في محله فرض ولذلك بوب النسائي عليه بلفظ "باب إيجاد التشهد". وقيل: يحتمل أن المراد قبل أن يشرع التشهد، واستدل على الوجوب أيضاً بما في رواية لأحمد: وأمره أن يعلمه الناس. وبما روي عن عمر، أنه قال: لا تجزيء صلاة إلا بتشهد.

التحيات لله، والصلوات، والطيبات، السلام عليك أيها النبي ـــــــــــــــــــــــــــــ أخرجه سعيد بن منصور في سننه، والبخاري في تاريخه. (التحيات) جميع تحية، ومعناها: السلام، وقيل: البقاء. وقيل: العظمة. وقيل: السلامة من الآفات والنقص. وقيل: الملك. وقال المحب الطبري: يحتمل أن يكون لفظ التحية مشتركاً بين هذه المعاني وكونها بمعنى السلام أنسب هنا. وقال الخطابي والبغوي: لم يكن في تحياتهم شيء يصلح للثناء على الله، فلهذا أبهمت ألفاظها، واستعمل منها معنى التعظيم، فقال، قولوا: التحيات لله، أي أنواع التعظيم له. وقال ابن قتيبة: لم يكن يحيى إلا الملك خاصة، وكان لكل ملك تحية تخصه، فلهذا جمعت، فكأن المعنى: التحيات التي كانوا يسلمون بها على الملوك كلها مستحقة لله. (والصلوات) قيل: الخمس، أو ما هو أعم من ذلك من الفرائض والنوافل في كل شريعة. وقيل: المراد العبادات كلها. وقيل: الدعوات. وقيل: المراد الرحمة. وقيل، التحيات: العبادات القولية، والصلوات: العبادات الفعلية، والطيبات: الصدقات المالية. (والطيبات) أي ما طاب من الكلام وحسن أن يثنى به على الله دون ما لا يليق بصفاته مما كان الملوك يحيون به. وقيل الطيبات ذكر الله. وقيل: الأقوال الصالحة كالدعاء والثناء. وقيل: الأعمال الصالحة، وهو أعم من القول والفعل. قال ابن دقيق العيد: إذا حمل التحية على السلام فيكون التقدير: التحيات التي تعظم بها الملوك مثلاً مستحقة لله. وإذا حمل على البقاء فلا شك في اختصاص الله به. وكذلك الملك الحقيقي والعظمة التامة، وإذا حملت الصلاة على العهد أو الجنس كان التقدير: إنها لله واجبة لا يقصد بها غيره. وإذا حملت على الرحمة فيكون معنى قوله "لله" أنه المتفضل بها؛ لأن الرحمة التامة لله يؤتيها من يشاء، وإذا حملت على الدعاء فظاهر. وأما الطيبات فقد فسرت بالأقوال، ولعل تفسيرها بما هو أعم أولى فتشمل الأقوال، والأفعال، والأوصاف، وطيب الأوصاف كونها بصيغة الكمال، وخلوصها عن شوائب النقص-انتهى. قال البيضاوي: يحتمل أن يكون الصلوات، والطيبات معطوفتين على "التحيات"، ويحتمل أن يكون "الصلوات" مبتدأ وخبرها محذوف، و"الطيبات" معطوفة عليها. والواو الأولى لعطف الجملة على الجملة التي قبلها، والثانية لعطف المفرد على الجملة. وقال العيني: كل واحد من "الصلوات والطيبات" مبتدأ حذف خبره، أي الصلوات لله، والطيبات لله، فالجملتان معطوفتان على الأولى وهي "التحيات لله". (السلام) التعريف إما للعهد التقديري، أي ذاك السلام الذي وجه إلى الرسل والأنبياء عليك، أو للجنس، والمعنى أن حقيقة السلام الذي يعرفه كل واحد، ويجوز أن يكون للعهد الخارجي إشارة إلى قوله: {وسلام على عباده الذين اصطفى} وقيل: معنى "السلام عليك" الدعاء، أي سلمت من المكارة، وقيل معناه اسم السلام عليك، كأنه برك عليه باسم الله عزوجل. (عليك) أمرهم أن يفردوه بالسلام عليه لشرفه، ومزيد حقه عليهم، ثم أمرهم أن يخصصوا أنفسهم أولاً؛ لأن الاهتمام بها أهم، ثم أمرهم بتعميم السلام على الصالحين، إعلاماً منه بأن الدعاء للمؤمنين ينبغي أن يكون شاملاً لهم. (أيها النبي) قيل: الحكمة في العدول عن الوصف بالرسالة مع أن الوصف بها أعم في حق البشر وأشرف أن يجمع له الوصفين،

لكونه وصفه بالرسالة في آخر التشهد وإن كان الرسول البشري يستلزم النبوة، لكن التصريح بهما أبلغ. والحكمة في تقديم الوصف بالنبوة أنها كذلك وجدت في الخارج لنزول قوله: {اقرأ باسم ربك} [96: 1] قبل قوله {يا أيها المدثر قم فأنذر} [74: 1، 2] . واعلم أن الأحاديث المرفوعة كلها متفقة على قوله في التشهد "السلام عليك أيها النبي" أي على لفظ الخطاب وحرف النداء، نعم ترك بعض الصحابة كابن مسعود وغيره الخطاب بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم -، ففرقوا بين حياته - عليه السلام - ووفاته، وقالوا "السلام على النبي" كما عند البخاري في الإستيذان، وأبي عوانة في صحيحه، والسراج والجوزقي وأبي نعيم الأصبهاني والبيهقي وعبد الرزاق، لكن جمهور الصحابة والتابعين وغيرهم من المحدثين والفقهاء مطبقون على التشهد المرفوع المروى بصيغة الخطاب والنداء، أي على عدم المغايرة بين زمانه - صلى الله عليه وسلم - وما بعده، وعلى هذا فلا بد من بيان توجيه الخطاب؛ لأنه يرد عليه أنه كيف شرع هذا اللفظ وهو خطاب بشر مع كونه منهياً عنه في الصلاة؟ والجواب أن ذلك من خصائصه - عليه السلام -، فإن قيل: ما الحكمة في العدول عن الغيبة إلى الخطاب مع أن لفظ الغيبة هو الذي يقتضيه السياق؟ كأن يقول "السلام على النبي" فينتقل من تحية الله إلى تحية النبي، ثم إلى تحية النفس، ثم إلى تحية الصالحين. أجاب الطيبي مما محصله: نحن نتبع لفظ الرسول بعينه الذي كان علمه الصحابة. وقال ابن الملك: روى أنه - صلى الله عليه وسلم - لما عرج به أثنى على الله تعالى بهذه الكلمات، فقال الله تعالى: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فقال عليه السلام: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فقال جبريل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله-انتهى. قال القاري: وبه يظهر وجه الخطاب، وأنه على حكاية معراجه – عليه السلام – في آخر الصلاة التي هي معراج المؤمنين – انتهى. وقال في "مسك الختام" في شرح " بلوغ المرام" بالفارسية ما معربه: ووجه الخطاب إبقاء هذا الكلام على ما كان في الأصل، فإن ليلة المعراج قد خاطب الله تعالى رسوله بالسلام، فأبقاه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت تعليم الأمة على ذلك الأصل، ليكون ذك مذكراً لتلك الحال-انتهى. وتمام بيان القصة مع شرح ألفاظ التشهد في الإمداد كذا في رد المختار. وهذا المروي لم أقف على سنده، فإن كان ثابتاً فنعم التوجيه هذا، لكن يقصد على هذا التوجيه بألفاظ التشهد معانيها مرادة له على وجه الإنشاء كأنه يحيى الله تعالى ويسلم على نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وعلى نفسه، وأولياءه، ولا يقصد مجرد الإخبار والحكاية عما وقع في المعراج عنه - صلى الله عليه وسلم -. وقد ظهر بما ذكرنا عدم صحة استدلال القبوريين بصورة النداء والخطاب في التشهد على حضوره - صلى الله عليه وسلم - في كل موضع، وعلى جواز ندائه في غير التشهد، وهذا لأن كون النداء فيه نداء حقيقياً ممنوع، فإنه ليس فيه طلب شئ، بل هو نداء مجازي يطلب به استحضار المنادي في القلب فيخاطب المشهود بالقلب. قال الإمام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم: وقوله: يا محمد! يا نبي الله! هذا وأمثاله نداء يطلب به استحضار المنادى في القلب فيخاطب المشهود بالقلب كما يقول المصلي: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته،

ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عبد الله الصالحين – فانه إذا قال ذلك أصاب كل عبد صالح ـــــــــــــــــــــــــــــ والإنسان يفعل مثل هذا كثيراً يخاطب من يتصوره في نفسه وإن لم يكن في الخارج من يسمع الخطاب-انتهى. وعلى هذا فليس هذا النداء مما يدعيه هؤلاء القبوريون. وقال بعض شيوخ مشائخنا ما حاصله: أن تشهده - صلى الله عليه وسلم - كان مثل ما علم الأمة، فكان - عليه السلام - يقول في التشهد "السلام عليك أيها النبي" كما أمر به الأمة، كما هو مصرح في حديث عبد الله بن الزبير عند الطحاوي، والبزار، والطبراني، وفي حديث ابن مسعود عند أحمد والطبراني. قال الزرقاني في شرح المواهب نقلاً عن النووي بعد ذكر ألفاظ التشهد ما نصه: وفي هذا فائدة حسنة، وهي أن تشهده - عليه السلام - بلفظ تشهدنا- انتهى. ومن المعلوم أن التشهد المروي في الأحاديث عام للحاضرين من الصحابة، وللغائبين والموجودين في زمنه - صلى الله عليه وسلم -، ولمن جاء بعده، إذا الخطاب في قوله: "إذا صلى أحدكم" وقوله: "ولكن قولوا" يشمل الحاضرين والغائبين، والموجودين، والمعدومين الكائنين إلى يوم القيامة مثل سائر الخطابات الواردة في الوضوء، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، وغير ذلك، وليس هناك حديث يدل على أن للغائبين والمعدومين تشهداً آخر غير هذا التشهد، وأيضاً علمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - التشهد هكذا بلفظ الخطاب والنداء بدون التفريق بين الحاضرين منهم والغائبين عنه مع أن الصحابة كانوا يغيبون عنه - صلى الله عليه وسلم - في الغزوات، والسرايا، وغير ذلك من الأسفار، ولا يغايرون بين الحضور عنده والغيبة عنه، ولم يثبت ما تقدم من حكاية المعراج، فهذا كله يدل على أن ذلك مما لم نؤت علمه فينبغي لنا أن لا نبحث فيه، ونكل أمره إلى الله، قال الله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} [17: 36] ، وإذا يكون هذا الخطاب معدولاً عن العقل والقياس، فيكون مقصوراً على مورده، فلا يقتضى هذا الخطاب جواز خطابه - صلى الله عليه وسلم - ونداءه في غير تشهد الصلاة- انتهى. (ورحمة الله) أي إحسانه. (وبركاته) جمع بركة، أي زيادة من كل خير. (السلام) أي الذي وجه إلى الأمم السالفة من الصلحاء. (علينا) أي محشر الحاضرين، يريد به نفسه، والحاضرين من الإمام، والمأمومين، والملائكة، والجن، وفيه استحباب البداءة بالنفس في الدعاء، وفي الترمذي مصححاً عن أبيّ كعب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر أحداً فدعا له بدأ بنفسه، وأصله في صحيح مسلم. (وعلى عباد الله الصالحين) الأشهر في تفسير الصالح أنه القائم بما يجب عليه من حقوق الله، وحقوق عباده، وتتفاوت درجاته. قال الحكيم الترمذي: من أراد أن يحظى بهذا السلام الذي يسلمه الخلق في الصلاة فليكن عبداً صالحاً، وإلا حرم هذا الفضل العظيم. (فإنه) أي الشأن أو المصلي. (إذا قال ذلك) أي قوله "وعلى عباد الله الصالحين" وهو كلام معترض بين قوله "الصالحين" وبين قوله "أشهد" إلى آخره. وإنما قدمت للاهتمام بها لكونه أنكر عليهم عد الملائكة واحداً واحداً، ولا يمكن استيعابهم لهم مع ذلك فعلمهم لفظاً يشمل الجميع مع غير الملائكة من النبيين، والمرسلين، والصديقين، وغيرهم بغير مشقة، وهذا من جوامع الكلم التي أوتيها - صلى الله عليه وسلم -، وقد ورد في بعض طرقه سياق التشهد متوالياً، وتأخير الكلام المذكور بعد، وهو من تصرف الرواة. (أصاب) فاعله ضمير ذلك. (كل عبد صالح) قيد به؛ لأن التسليم لا يصلح للمفسد.

في السماء والأرض - أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه، فيدعوه)) . متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ (أشهد أن لا إله إلا الله) زاد ابن أبي شيبة "وحده لا شريك له" وسنده ضعيف، لكن ثبتت هذه الزيادة في حديث أبي موسى عند مسلم، وفي حديث عائشة الموقوف في الموطأ. (ثم ليتخير) أي ليختر. (من الدعاء أعجبه إليه) أي أحب الدعاء وأرضاه من الدين، والدنيا، والآخرة. (فيدعوه) أي فيقرأ الدعاء الأعجب. وقيل التقدير: فيدعوا به. كما في رواية أبي داود، فهو من باب الحذف والإيصال. وقيل التقدير: فيدعوا الله به. فحذف المفعول الثاني للعلم به. وفيه دليل على مشروعية الدعاء في الصلاة قبل السلام من أمور الدنيا والآخرة ما لم يكن إثماً؛ لأن ظاهر قوله "ليتخير من الدعاء أعجبه إليه" شامل لكل دعاء مأثور وغيره مما يتعلق بالآخرة كقوله "اللهم أدخلني الجنة". أو الدنيا مما يشبه كلام الناس كقوله "اللهم ارزقني زوجة جميلة، ودراهم جزيلة". وبذلك أخذ الشافعية، والمالكية ما لم يكن إثماً. وقصر الحنفية على ما يناسب المأثور فقط مما لا يشبه كلام الناس محتجين بقوله - عليه السلام -: "إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس". واحتج الأولون بظاهر حديث ابن مسعود، بقوله عليه السلام: سلوا الله حوائجكم حتى الشسع لنعالكم، والملح لقدوركم. واستثنى بعض الشافعية من مصالح الدنيا ما فيه سوء أدب كقوله: "اللهم أعطني امرأة جميلة" ثم يذكر أوصاف أعضائها. وقال ابن المنير: الدعاء بأمور الدنيا في الصلاة حظر، وذلك أنه قد تلتبس عليه الدنيا الجائزة بالمحظورة، فيدعوا بالمحظورة فيكون عاصياً متكلماً في الصلاة، فتبطل صلاته وهو لا يشعر، ألا ترى أن العامة يلتبس عليها الحق بالباطل، فلو حكم حاكم على عامي بحق فظنه باطلاً، فدعا على الحاكم باطلا بطلت صلاته، وتمييز الحظوظ الجائزة من المحرمة عسير جداً، فالصواب أن لا يدعوا بدنياه إلا على تثبت من الجواز- انتهى. ثم ظاهر اللفظ يدل على وجوب الدعاء قبل السلام بعد التشهد؛ لأن التخيير في آحاد الشيء لا يدل على عدم وجوبه كما قال ابن رشد، وهو المتقرر في الأصول، وقد ذهب إلى الوجوب أهل الظاهر، وروي عن أبي هريرة، وادعى بعض العلماء الإجماع على عدم الوجوب. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم. واعلم أن حديث التشهد قد رواه أربعة وعشرون صحابياً، ذكر الحافظ في التلخيص (ص 102، 103) أسماءهم مع تخريج أحاديثهم، وبيان اختلاف ألفاظهم، واقتصر المصنف على إيراد أحاديث ثلاثة منهم: ابن مسعود، وابن عباس، وجابر. والروايات في ألفاظ التشهد مختلفة جداً، ولذلك اختلف الأئمة في اختيار بعضها دون بعض، وترجيح بعضها على بعض مع القول بجواز كل ما ثبت وصح، فاختار مالك تشهد عمر الموقوف عليه، ولفظه نحو حديث ابن عباس التالي إلا أنه قال "الزاكيات" بدل "المباركات"، وإنما رجح مالك تشهد عمر؛ لأنه علمه الناس على المنبر، ولم ينازعه أحد، فكان إجماعاً،

ودل على تفضيله. وفيه: أن عدم إنكار الصحابة على عمر إنما يدل على جواز تشهده وإجزائه، لا على كونه أفضل التشهدات لاختيار أكثر الصحابة غير تشهده كما تدل عليه الروايات، ولم يكونوا ينكرون على أحد في الأمور المباحة، على أن تشهد عمر موقوف عليه. قال الدارقطني: لم يختلفوا في أنه موقوف عليه. وقال ابن عبد البر: ليس عند مالك في التشهد شيء مرفوع وإن كان غيره قد رفع ذلك، ومعلوم أنه لا يقال بالرأي. ولما علم مالك أن التشهد لم يكن إلا توقيفاً اختار تشهد عمر؛ لأنه كان يعلمه الناس، وهو على المنبر من غير نكير. قال: وتسليم الصحابة لعمر ذلك مع اختلاف رواياتهم دليل الإباحة والتوسعة. وقال ابن قدامة في المغني: أما حديث عمر فلم يروه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، إنما هو من قوله، وأكثر أهل العلم من الصحابة على خلافه، فكيف يكون إجماعاً على أنه ليس الخلاف في إجزائه في الصلاة، إنما الخلاف في الأولى والأحسن، والأحسن تشهد النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي علمه أصحابه. وأخذوا به- انتهى. ولو سلم أن سكوت الصحابة وعدم إنكارهم على عمر دليل على إجماعهم فقد وقع إجماعهم على تشهد ابن مسعود قبل ذلك، فروى ابن أبي شيبة في مصنفه بسنده عن ابن عمر: أن أبابكر كان يعلمهم التشهد على المنبر كما يعلم الصبيان في المكتب: التحيات لله، والصلوات، والطيبات. فذكر مثل حديث ابن مسعود. قال الحافظ: ورواه أبوبكر بن مردويه في كتاب التشهد له من رواية أبي بكر مرفوعاً، وإسناده حسن. واختار الشافعي تشهد ابن عباس الآتي، وقال هو أفضل التشهد. واختار أحمد، وأبوحنفية، وجمهور الفقهاء، وأهل الحديث تشهد ابن مسعود، قال الترمذي: وعليه العمل عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم من التابعين، وهو قول الثوري، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق-انتهى. وقال الحافظ: وذهب جماعة من محدثي الشافعية كابن المنذر إلى اختيار تشهد ابن مسعود-انتهى. وذكروا لترجيحه وجوهاً كثيرة، منها: أن الأئمة الستة اتفقوا على تخريج حديثه لفظاً ومعنى، وذلك نادر، وأعلى درجات الصحة عند المحدثين ما اتفق عليه الشيخان فكيف إذا اتفق عليه الستة لفظاً ومعنى. ومنها: أنه أجمع العلماء على أن حديثه أصح ما روي في التشهد. قال الترمذي: هو أصح حديث روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد. وقال البزار لما سئل عن أصح حديث في التشهد قال: هو عندي حديث ابن مسعود، وروي من نيف وعشرين طريقاً، ثم سرد أكثرها وقال: لا أعلم في التشهد أثبت منه، ولا أصح أسانيد، ولا أشهر رجالاً، ولا أشد تظافراً بكثرة الأسانيد والطرق، ذكره الحافظ في التلخيص، وقال بعد ذكره في الفتح: ولا اختلاف بين أهل الحديث في ذلك، وممن جزم بذلك البغوي في شرح السنة، وقال محمد بن يحيى الذهلي: حديث ابن مسعود أصح ما روي في التشهد. وقال بريدة بن الحصيب: ما سمعت في التشهد أحسن من حديث ابن مسعود، رواه الطبراني، وقال النووي: أشدها صحة باتفاق المحدثين حديث ابن مسعود، ثم حديث ابن عباس. ومنها: أن الرواة عن ابن مسعود من الثقات لم يختلفوا في ألفاظه بخلاف غيره، قال مسلم: إنما اجتمع

916- (4) وعن عبد الله بن عباس، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن، ـــــــــــــــــــــــــــــ الناس على تشهد ابن مسعود؛ لأن أصحابه لا يخالف بعضهم بعضاً، وغيره قد اختلف أصحابه، ذكره الحافظ في الفتح. ومنها: أنه تلقاه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلقيناً؛ فروى الطحاوي من طريق الأسود بن يزيد عنه، قال: أخذت من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولقننيه كلمة كلمة. ومنها: أن فيه تأكيد التعليم ما ليس في غيره؛ ففي البخاري في الاستئذان: علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التشهد وكفى بين كفيه، كما يعلمني السورة من القرآن. وفي أبي داود بسنده إلى القاسم قال: أخذ علقمة بيدي فحدثني أن عبد الله بن مسعود أخذ بيده، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيده، فعلمه التشهد في الصلاة. ومثل هذا لا يوجد في غيره. ومنها: أن أبا بكر علمه الناس على المنبر كما تقدم. ومنها: أن رواته لم يختلفوا في حرف منه بل نقلوه مرفوعاً على صفة واحدة بخلاف غيره. ومنها: أنه ورد بصيغة الأمر مثل قوله "فليقل" وقوله "قولوا" ونحو ذلك، وأقله الندب والاستحباب بخلاف غيره، فإنه مجرد حكاية. ومنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علم ابن مسعود التشهد وأمره أن يعلمه الناس، أخرجه أحمد. قال الحافظ بعد ذكره: ولم ينقل ذلك لغيره، ففيه دليل على مزيته. ومنها: أنه اتفق على روايته جماعة من الصحابة مثل أبي بكر، ومعاوية، وسلمان، وغيرهم. قال ابن قدامة في المغني (ج1: ص578) : وقد رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - معه ابن عمر، وجابر، وأبو موسى، وعائشة. وقال أيضاً (ج1: ص579) : وقد اتفق على روايته جماعة من الصحابة فيكون أولى. ومنها: أنه أخذ به جمهور الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم من الفقهاء، وأهل الحديث بخلاف تشهد غيره. ومنها: ما ذكره في المغني: قال عبد الرحمن بن الأسود: عن أبيه، قال: حدثنا عبد الله بن مسعود: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه التشهد في الصلاة، قال: وكنا نتحفظه عن عبد الله كما نتحفظ حروف القرآن: الواو، والألف. (أخرجه البزار، ورجاله رجال الصحيح) قال ابن قدامة: وهذا يدل على ضبطه، فكان أولى. ومنها: ما قال الحافظ في الفتح: ورجح أيضاً بثبوت الواو في الصلوات والطيبات، وهي تقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، فيكون كل جملة ثناء مستقلاً، بخلاف ما إذا حذفت، فإنها تكون صفة لما قبلها، وتعدد الثناء في الأول صريح فيكون أولى، ولو قيل: إن الواو مقدرة في الثاني- انتهى. وقد ذكروا لترجيح تشهد ابن مسعود وجوهاً أخرى وفيما ذكرناه كفاية لمن له بصيرة، فلا يشك في أن حديث ابن مسعود أرجح من جميع الأحاديث المروية في التشهد فالأخذ به أولى وأحسن، والله اعلم. 916- قوله: (يعلمنا التشهد) سمى باسم جزءه الأشرف كما هو القاعدة عند البلغاء في تسمية الكل باسم البعض. (كما يعلمنا السورة من القرآن) أي بكمال الاهتمام لتوقف الصلاة عليه إجزاء، ففيه دلالة ظاهرة على اهتمامه

فكان يقول: التحيات المباركات، الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله)) . رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ وإشارة إلى وجوبه. (التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله) المباركات جمع مباركة، وهي كثيرة الخير، وقيل: النامية، قال النووي: تقديره "والمباركات، والصلوات، والطيبات" كما في حديث ابن مسعود وغيره، لكن حذفت الواو اختصاراً، وهو جائز معروف في اللغة- انتهى. قلت: حذف واو العاطف ولو كان جائزاً لكن التقدير خلاف الظاهر؛ لأن المعنى صحيح بدون تقديرها، فيكون جملة واحدة في الثناء، ولو سلم حذف الواو ههنا فتعدد الثناء صريح في تشهد ابن مسعود لذكر الواو فيه فيكون أولى من هذا. (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا) كذا رواه مسلم وأبوداود وابن ماجه، وأحمد في رواية له بتعريف السلام في الموضعين. ورواه الترمذي والنسائي والشافعي وأحمد في طريق أخرى بتنكير السلام فيهما. قال النووي: يجوز فيهما حذف اللام وإثباتها، والإثبات أفضل، وهو الموجود في روايات الصحيحين. قال الحافظ: لم يقع في شيء من طرق حديث ابن مسعود بحذف اللام، وإنما اختلف ذلك في حديث ابن عباس، وهو من أفراد مسلم- انتهى. (وأشهد أن محمداً رسول الله) انفرد ابن عباس بهذا اللفظ، إذ في سائر التشهدات الواردة عن عمر، وابن مسعود، وجابر، وأبي موسى، وعبد الله بن الزبير كلها بلفظ "وأشهد أن محمداً عبده ورسوله". وأما قول الرافعي المنقول أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في تشهده "وأشهد أني رسول الله" فمردود بأنه لا أصل له، قاله القاري. قلت: روى النسائي وابن ماجه حديث ابن عباس هذا بلفظ: وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. هذا، وقد تقدم أن الشافعي اختار تشهد ابن عباس. قال الحافظ في الفتح: قال الشافعي بعد أن أخرج حديث ابن عباس: رويت أحاديث في التشهد مختلفة، وكان أحب إلىّ؛ لأنه أكملها. وقال في موضع آخر، وقد سئل عن اختياره تشهد ابن عباس: لما رأيته واسعاً، وسمعته عن ابن عباس صحيحا، كان عندي أجمع وأكثر لفظاً من غيره، وأخذت به غير معنف لمن يأخذ بغيره مما صح، ورجحه بعضهم لكونه مناسباً للفظ القرآن في قوله تعالى: {تحية من عند الله مباركة طيبة} [24: 61] ، وأما من رجحه بكون ابن عباس من أحداث الصحابة فيكون أضبط لما روى، أو بأنه أفقه من رواه، أو يكون إسناد حديثه حجازياً، وإسناد ابن مسعود كوفياً، وهو مما يرجح به، فلا طائل فيه لمن أنصف-انتهى. (رواه مسلم) قال المجد بن تيمية في المنتقى بعد ذكر الحديث بلفظ المصنف: رواه مسلم، وأبوداود بهذا اللفظ، ورواه الترمذي وصححه كذلك، لكنه ذكر السلام منكراً، ورواه ابن ماجه كمسلم، لكنه قال: وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. ورواه الشافعي وأحمد بتنكير السلام، وقالا فيه "وأن محمداً" ولم يذكرا "أشهد" والباقي كمسلم. ورواه أحمد من طريق آخر كذلك لكن بتعريف السلام، ورواه النسائي كمسلم، لكنه نكر السلام، وقال: وأشهد أن محمداً عبده ورسوله- انتهى. والحديث

{الفصل الثاني}

ولم أجد في "الصحيحين" ولا في الجمع بين الصحيحين "سلام عليك" و"سلام علينا" بغير ألف ولام، ولكن رواه صاحب "الجامع" عن الترمذي. {الفصل الثاني} 917- (5) عن وائل بن حجر، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ثم جلس فافترش رجله اليسرى، ووضع يده اليسرى على فخذه اليسرى، ـــــــــــــــــــــــــــــ أخرجه أيضاً الدارقطني في إحدى روايتيه بتعريف السلام فيهما. وأخرجه ابن حبان في صحيحه بتعريف السلام الأول وتنكير الثاني. وأخرجه الطبراني بتنكير الأول وتعريف الثاني. (ولا في الجمع) أي للحميدي. (بين الصحيحين) وكأنه لم يقل بينهما؛ لأنه علم، والعلم لا يتغير. ("سلام عليك" و"سلام علينا" بغير ألف ولام) قيل: أصل "سلام عليك" سلمت سلاماً عليك، ثم حذفت الفعل وأقيم المصدر مقامه، وعدل عن النصب إلى الرفع على الابتداء لإفادة الثبوت والدوام، ثم زيدت "ال" للعهد الذهني، وقد تقدم توجيهه. (ولكن رواه) ابن الأثير (صاحب الجامع) أي للأصول الست. (عن الترمذي) وقد تقدم أن النسائي أيضاً رواه منكراً، وكذا الشافعي وأحمد والدارقطني في إحدى روايتيهما. ومقصود المصنف أن ذكر البغوي حديث ابن عباس بتنكير السلام في الموضعين في الصحاح مخالف لما في صحيح مسلم، ثم لا يخفى ما في قول المصنف "رواه صاحب الجامع" من التسامح، فإن الصحيح أن يقول: ذكره أو أورده صاحب الجامع؛ لأن ابن الأثير ليس من الرواة. 917- قوله: (عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي مرفوعاً في كيفية جلسته للتشهد، والأظهر أن يقول المصنف: عن وائل بن حجر أنه قال في صفة صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ثم جلس، الخ. (قال) أي وائل بن حجر. (ثم جلس) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا عطف على ما ترك ذكره في الكتاب من صدر الحديث، وهو أن وائل بن حجر قال، قلت: لأنظرن إلى صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف يصلي، قال: فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستقبل القبلة، فكبر، فرفع يديه حتى حاذتا بأذنيه، ثم أخذ شماله بيمينه، فلما أراد أن يركع رفعهما مثل ذلك، قال: ثم جلس. (فافترش رجله اليسرى) أي وجلس على باطنها، ونصب اليمنى، ففي رواية الطحاوي، وسعيد بن منصور: فرش قدمه اليسرى على الأرض، وجلس عليها. واستدل به الحنفية على تفضيل الافتراش في التشهدين، وأجيب بأن هذا الحديث محمول على التشهد الأول لحديث أبي حميد المتقدم في صفة الصلاة، ولما رواه النسائي في "باب موضع اليدين عند الجلوس للتشهد الأول " عن وائل بن حجر، قال أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرأيته يرفع يديه إذا افتتح الصلاة- الحديث. وفيه "وإذا جلس في الركعتين أضجع اليسرى، ونصب اليمنى" الخ. (ووضع يده اليسرى على فخذه اليسرى) أي ممدودة غير مقبوضة. وفي رواية للنسائي: وضع كفه اليسرى

وحد مرفقه اليمنى على فخذه اليمنى، وقبض ثنتين، وحلق حلقة، ثم رفع إصبعه، فرأيته يحركها يدعو بها)) . رواه أبوداود والدارمي. ـــــــــــــــــــــــــــــ على فخذه وركبته اليسرى. (وحد مرفقة) بصيغة الماضي مشددة الدال، عطف على الأفعال السابقة و"على" بمعنى "عن"، أي رفع مرفقه عن فخذه، وجعل عظم مرفقه كأنه رأس وتد، أو "على" بمعناه و"الحد" المنع والفصل بين الشيئين، ومنه سمي المناهي حدود الله. والمعنى: فصل بين مرفقه وجنبه، ومنع أن يلتصقا في حال استعلائهما على الفخذ. وجوز أن يكون "حد" اسماً مرفوعاً مضافاً إلى المرفق على الابتداء، خبره "على فخذه" والجملة حال، أو اسما منصوباً عطفاً على مفعول "وضع" أي وضع يده اليسرى على فخذه اليسرى ووضع حد مرفقه اليمنى، على فخذه اليمنى، وهذا الوجه هو الموافق لما في رواية للنسائي من قوله: وجعل حد مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى، أي جعل غاية المرفق وطرفه مستعلياً على الفخذ مرتفعاً عنه. قال الشوكاني: والمراد كما قال في شرح المصابيح: أن يجعل عظم مرفقه كأنه رأس وتد. قال ابن رسلان: يرتفع طرف مرفقه من جهة العضد عن فخذه، حتى يكون مرتفعاً عنه، كما يرتفع الوتد عن الأرض، ويضع طرفه الذي من جهة الكف على طرف فخذه الأيمن. وجوز بعضهم أنه ماض من التوحيد، أي جعل مرفقه منفرداً عن فخذه، أي رفعه، وهذا أبعد الوجوه. (وقبض ثنيتين) أي الخنصر والبنصر من أصابع يده اليمنى. (وحلق) بتشديد اللام. (حلقه) بسكون اللام وتفتح، أي جعل الإبهام والوسطى كالحلقة. (ثم رفع إصبعه) أي المسبحة كما تقدم. (فرأيته) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -. (يحركها) فيه أن تحريك المسبحة سنة، وقد أخذ به قوم. وذهب الجمهور إلى عدم التحريك لحديث ابن الزبير التالي، ولخلو غالب الروايات عن التحريك، قالوا: والمراد بالتحريك في حديث وائل هو حركة الإشارة لا حركة أخرى بعد الرفع للإشارة. قال البيهقي: يحتمل أن يكون مراده بالتحريك الإشارة بها لا تكرير تحريكها حتى لا يعارض حديث ابن الزبير. قال الشوكاني: ومما يرشد إلى ما ذكره البيهقي رواية أبي داود لحديث وائل، فإنها بلفظ: وأشار بالسبابة- انتهى. قلت: وإليه يظهر ميل النسائي حيث ترجم على رواية عبد الله بن الزبير التي فيها: أشار بالسبابة لا يجاوز بصره إشارته، بلفظ "موضع البصر عند الإشارة وتحريك السبابة" فكأنه أشار بصنيعه إلى أن المراد بتحريك السبابة حركة الإشارة، لا تكرير تحريكها؛ لأنه لم يذكر في هذا الباب رواية التحريك، بل اكتفى بذكر رواية الإشارة. وجمع بعضهم بين الروايتين بحملهما على أوقات مختلفة، فقال: كان يحركها تارة ولا يحركها أخرى. وقال بعضهم: حديث وائل أصح وأقوى من حديث ابن الزبير، وأيضاً حديث وائل مثبت وذاك ناف والمثبت مقدم على النافي فلا يجوز أن يعارض به حديث وائل. (يدعو بها) أي يشير بها، أي يرفعهما في دعائه، أي تشهده، سمي التشهد دعاء لاشتماله عليه. (رواه أبوداود) إلخ. وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة، والبيهقي. والحديث سكت عنه أبوداود، والمنذري. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

918- (6) وعن عبد الله بن الزبير. قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يشير بإصبعه إذا دعا، ولا يحركها)) رواه أبوداود والنسائي. وزاد أبوداود: ولا يجاوز بصره إشارته. 919- (7) وعن أبي هريرة، قال: ((إن رجلا كان يدعو بإصبعيه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أحد أحد)) رواه الترمذي والنسائي، والبيهقي في "الدعوات الكبير". 920- (8) وعن ابن عمر، قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمد على يده)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 918- قوله: (إذا دعا) أي تشهد، واستدل به على استمرار الرفع إلى آخر التشهد. وقد قدمنا أن الراجح أن يديم الرفع والإشارة إلى أن ينصرف من الصلاة بالسلام، وقد صرح شيخ مشائخنا السيد نذير حسين المحدث الدهلوي في بعض فتاواه بأن المصلي يستمر على الرفع إلى آخر الدعاء بعد التشهد، وقد نقل صاحب "غاية المقصود" فتواه بتمامها. (ولا يحركها) تقدم الكلام فيه آنفاً. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري. (والنسائي) وأخرجه أيضاً أحمد، وابن حبان في صحيحه. وقال النووي: إسناده صحيح. (ولا يجاوز بصره) بضم الراء. (إشارته) بالنصب على المفعولية، أي بل كان يتبع بصره إشارته؛ لأنه الأدب الموافق للخضوع. والمعنى لا ينظر إلى السماء حين الإشارة إلى التوحيد، بل ينظر إلى إصبعه، ولا يجاوز بصره عنها. وهذه الزيادة أخرجها النسائي أيضاً. 919- قوله: (إن رجلاً) قيل هو سعد بن أبي وقاص كما في رواية أبي داود والنسائي من حديث أبي صالح عن سعد قال: مر علي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنا أدعوا بإصبعي، فقال: أحد أحد، وأشار بالسبابة. (كان يدعو) أي يشير. (بإصبعيه) الظاهر أنهما المسبحتان. (أحد أحد) كرر للتأكيد في التوحيد. أي أشر بإصبع واحدة؛ لأن الذي تدعوه واحد، وهو الله تعالى، وأصله وحد أمر مخاطب من التوحيد، وهو القول بأن الله تعالى واحد، قلبت الواو همزة. وإيراد المصنف هذا الحديث في التشهد يدل على أنه حمله على الإشارة في جلسة التشهد، وعليه حمله النسائي أيضاً حيث أورد حديث أبي هريرة هذا، وحديث سعد في التشهد، وترجم عليهما "باب النهي عن الإشارة بإصبعين، وبأي إصبع يشير؟ " وأخرجه الترمذي في الدعوات كالبيهقي، وصنيعهما يدل على أنهما حملاه على الدعاء، لا على الإشارة في التشهد، بل عداه أدباً من جملة آداب الدعاء، وهو الذي فهمه أبوداود حيث أخرج حديث سعد في الدعاء. ولا شك أن الحديث يحتمل كلا المعنيين، لكن الاحتمال الثاني الذي ذهب إليه الترمذي وأبوداود والبيهقي أي حمله على أدب الدعاء أظهر. (رواه الترمذي) أي في الدعوات وحسنه. (والنسائي) في الصلاة. ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. 920- قوله: (وهو معتمد) أي متكيء. (على يده) قال القاري: وفي نسخة "على يديه" وقال ابن رسلان في شرح

رواه أحمد وأبوداود. وفي رواية له: ((نهى أن يعتمد الرجل على يديه إذا نهض في الصلاة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ السنن: الرواية الصحيحة "يديه" يعني بل يضعهما على ركبتيه وفخذيه، فالمراد بقوله: أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمد على يده، هو أن يضع يده في التشهد على الأرض، ويتكيء عليها. وقيل: هو أن يجلس الرجل في الصلاة، ويرسل اليدين إلى الأرض من فخذيه، والأول أقرب إلى اللفظ، ووجه الكراهة أن ذلك من شأن المتكبرين، وبه يزول استواء الجلوس، وظاهر النهي التحريم، وقد تقدم شيء من الكلام فيه في شرح قول ابن عمر قبل باب التشهد. (رواه أحمد) (ج2: ص147) . (أبوداود) وسكت عنه. (وفي رواية له) أي لأبي داود. (نهى أن يعتمد) أي يتكىء. (الرجل على يديه إذا نهض) أي قام. (في الصلاة) بل ينهض على صدور قدميه من غير اعتماد على الأرض، واحتج بهذه الرواية الحنفية ومن وافقهم على أن المصلي لا يعتمد على يديه عند قيامه، ويعتمد على ظهور القدمين، لكن هذه الرواية شاذة، والرواية الصحيحة هي الأولى، وذلك لأن حديث ابن عمر هذا في النهي عن الاعتماد على اليد في الصلاة. رواه أبوداود عن أربعة من شيوخه: الإمام أحمد بن حنبل، وأحمد بن محمد بن شبوية، ومحمد بن رافع، ومحمد ب عبد الملك الغزال، واللفظ الأول لفظ أحمد بن حنبل، والرواية الثانية لابن عبد الملك، ولفظ ابن شبوية: نهى أن يعتمد الرجل على يده في الصلاة، ولفظ ابن رافع: "نهى أن يصلي الرجل وهو معتمد على يده"، ووضعه في باب الرفع من السجود ظناً منه أن الحديث في النهي عن الاعتماد في الرفع من السجود. والفرق بين هذه الروايات أن رواية ابن شبوية وابن رافع مطلقة، يعني أنها تدل على النهي عن الاعتماد على اليد في الصلاة مطلقاً، سواء كان في الجلوس أو النهوض، وإن كان ذكر ابن رافع حديثه في "باب الرفع من السجود" يدل على أنه حمله على حالة النهوض من السجود، لكن لفظ الحديث عام، والظاهر أن المراد منه أن يضع يديه على ركبتيه بعد الرفع من السجدة، وأما رواية أحمد بن حنبل فهي مقيدة بحالة الجلوس، فإنها تدل على أن النهي عن الاعتماد على اليد في حالة الجلوس، يعني إذا جلس في الصلاة سواء كان في التشهدين أو بين السجدتين، أو في جلسة الاستراحة، فلا يعتمد على يديه، وكذا رواية ابن عبد الملك أيضاً مقيدة لكن بحالة النهوض، وهي تدل على أن النهي عن الاعتماد على اليد في حالة النهوض من السجود، فقد تعارض القيدان، والحديث واحد، ورواية ابن عبد الملك شاذة لمخالفته من هو أوثق منه، وهو الإمام أحمد بن حنبل، فإنه إمام ثقة، مشهور العدالة، ومحمد بن عبد الملك- وهو ابن زنجويه البغدادي أبوبكر الغزال- وإن وثقة النسائي لكنه دون أحمد بن حنبل بمراتب، وقد ذكر الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمة عبد الملك عن ابن أبي حاتم أنه قال: وهو صدوق، وقال مسلمة: ثقة، كثير الخطأ- انتهى. فلا شك أن أحمد بن حنبل أقوى وأوثق من ابن عبد الملك، فتقدم روايته لكونها أرجح على رواية ابن عبد الملك. ويرجح رواية الإمام أحمد أيضاً ما في البخاري من حديث مالك بن الحويرث بلفظ: واعتمد على الأرض، وعند الشافعي: واعتمد بيديه على الأرض، والله أعلم. ثم رأيت الشيخ أحمد محمد شاكر قد بسط الكلام في شرح هذا

921- (9) وعن عبد الله بن مسعود، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في الركعتين الأوليين كأنه على الرضف حتى يقوم)) رواه الترمذي وأبوداود والنسائي. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث في شرحه للمسند (ج9: ص157- 162) ورجح لفظ رواية الإمام أحمد، وقد أجاد وأصاب، فعليك أن تراجعه. 921- قوله: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في الركعتين الأوليين) أي فيما بعدهما وهو التشهد الأول من صلاة ذات أربع أو ثلاث، وهذا لفظ أبي داود، ولفظ الترمذي: كان إذا جلس في الركعتين الأوليين. ولفظ النسائي: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في الركعتين. قال السندي: المراد في جلوس الركعتين في غير الثنائية، يدل عليه قوله: حتى يقوم. (كأنه) جالس. (على الرضف) بفتح الراء وسكون الضاد المعجمة بعدها فاء، الحجارة التي حميت بالشمس أو النار، واحدتها رضفة، وهذا كناية عن تخفيف الجلوس. قال المظهر: أراد به تخفيف التشهد الأول وسرعة القيام في الثلاثية والرباعية، يعني لا يلبث في التشهد الأول كثيراً بل يخففه ويقوم مسرعاً كمن هو قاعد على حجر حار، فيكون مكتفيا بالتشهد دون الصلاة والدعاء. (حتى يقوم) وفي رواية النسائي: قلت: حتى يقوم؟ قال: ذاك يريد. قال السندي: "حتى" للتعليل بقرينة الجواب بقوله: ذاك يريد، ولا يناسب هذا الجواب كون "حتى" للغاية فليتأمل- انتهى. قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم، يختارون أن لا يطيل الرجل القعود في الركعتين الأوليين، ولا يزيد على التشهد شيئاً في الركعتين الأوليين، وقالوا: إن زاد على التشهد فعليه سجدتا السهو، هكذا روى عن الشعبي وغيره- انتهى. وهو الذي اختاره أبوحنيفة، وقال الشافعي: لا بأس أن يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، قلت: الظاهر أن لا يزيد على التشهد، لكن لو زاد لا يجب عليه سجدتا السهو؛ لأنه لم يقم دليل شرعي على وجوب سجدة السهو على من زاد على التشهد في القعدة الأولى. (رواه الترمذي وأبوداود والنسائي) وأخرجه أيضاً أحمد والشافعي والحاكم من طريق أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه. قال الترمذي: هذا حديث حسن، إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه- انتهى. فالحديث منقطع، وإنما حسنه الترمذي مع انقطاعه لشواهده. قال الحافظ في التلخيص (ص101) بعد عزو الحديث إلى الشافعي وأحمد والأربعة، والحاكم: هو منقطع؛ لأن أباعبيدة لم يسمع من أبيه. قال شعبة عن عمرو بن مرة: سألت أباعبيدة هل تذكر من عبد الله شيئا؟ قال: لا. رواه مسلم وغيره. وروى ابن أبي شيبة من طريق تميم بن سلمة: كان أبوبكر إذا جلس في الركعتين كأنه على الرضف. إسناده صحيح. وعن ابن عمر نحوه، ثم قال: وروى أحمد وابن خزيمة من حديث ابن مسعود: علمه التشهد، فكان يقول إذا جلس في وسط الصلاة، وفي آخرها على وركه اليسرى "التحيات" إلى قوله "عبده ورسوله" قال: ثم إن كان في وسط الصلاة نهض حين يفرغ من تشهده، وإن كان في آخرها دعا بعد تشهده بما شاء الله أن يدعو ثم يسلم- انتهى. فهذه الروايات شواهد لحديث الباب حديث ابن مسعود.

{الفصل الثالث}

{الفصل الثالث} 922- (10) عن جابر، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن: بسم الله، وبالله، التحيات لله الصلوات الطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أسأل الله الجنة، وأعوذ بالله من النار)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 922- قوله: (بسم الله، وبالله) قد تفرد بهذه الزيادة أيمن بن نابل الراوي للحديث عن أبي الزبير، عن جابر، وقد رواه الليث وعمرو بن الحارث وغيرهما عن أبي الزبير بدون هذا، وقال حمزة الكناني: لا أعلم أحداً قال في التشهد "بسم الله، وبالله" إلا أيمن- انتهى. قلت: ووقع التسمية في حديث عمر عند عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وغيرهما، وصححه الحاكم مع كونه موقوفاً، وعورض برواية مالك عن الزهري، فإنها ليست فيها هذه الزيادة، نعم ثبتت في الموطأ عن ابن عمر موقوفاً، قال البيهقي: الرواية الموصولة المشهورة عن الزهري، عن عبد الرحمن القاري، عن عمر ليس فيها ذكر التسمية، وأما الرواية التي فيها عن ابن عمر، فهي وإن كانت صحيحة، فيحتمل أن تكون زيادة من جهة ابن عمر، فقد روينا عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث التشهد ليس فيه ذكر التسمية- انتهى. وورد التسمية أيضاً في حديث ابن الزبير عند الطبراني في الكبير والأوسط من طريق ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد عن أبي الورد، عن عبد الله بن الزبير، قال الطبراني: تفرد به ابن لهيعة، وهو ضعيف ولا سيما وقد خالف، كذا في التلخيص. وقال في الفتح: وفي الجملة لم تصح هذه الزيادة، وقد ترجم البيهقي عليها "من استحب أو أباح التسمية قبل التحية" وهو وجه لبعض الشافعية، وضعف. ويدل على عدم اعتبارها أنه ثبت في حديث أبي موسى المرفوع في التشهد وغيره: فإذا قعد أحدكم فليكن أول قوله: التحيات لله- الحديث. كذا رواه عبد الرزاق عن معمر، عن قتادة بسنده. وأخرج مسلم من طريق عبد الرزاق هذه، وقد أنكر ابن مسعود وابن عباس وغيرهما على من زادها. أخرجه البيهقي وغيره_ انتهى. وقال السخاوي في المقاصد لحسنة: زيادة التسمية في التشهد ليس بصحيح، وقال أبومحمد البغوي، والشيخ في المهذب: ذكر التسمية في التشهد غير صحيح. وقال ابن قدامة في المغني (ج1: ص580) : سمع ابن عباس رجلا يقول "بسم الله" فانتهره، وبه قال مالك وأهل المدينة وابن المنذر والشافعي وهو الصحيح؛ لأن الصحيح من التشهدات ليس فيه تسمية فيقتصر عليها، ولم تصح التسمية عند أصحاب الحديث، ولا غيرها مما وقع الخلاف فيه، وإن فعله جاز؛ لأنه ذكر- انتهى. وقال الباجي: ليس من سنة التشهد عند مالك البسملة في أول التشهد؛ لأنا قد بينا أن السنة هو تشهد عمر، وليس فيه

رواه النسائي. 923- (11) وعن نافع، قال: كان عبد الله بن عمر إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه، وأشار بإصبعه وأتبعها بصره، ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لهي أشد على الشيطان من الحديد، يعني السبابة)) ـــــــــــــــــــــــــــــ كذلك- انتهى. (رواه النسائي) وأخرجه أيضاً ابن ماجه، والترمذي في العلل، والحاكم من طريق أيمن بن نابل، عن أبي الزبير عن جابر، قال الحافظ في التلخيص: رجاله ثقات، إلا أن أيمن بن نابل أخطأ في إسناده، وخالفه الليث، وهو من أوثق الناس في أبي الزبير فقال: عن أبي الزبير، عن طاووس، وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال حمزة الكناني: قوله "عن جابر" خطأ ولا أعلم أحداً قال في التشهد "بسم الله وبالله" إلا أيمن. وقال الدارقطني: ليس بالقوي خالف الناس. وقال يعقوب بن شيبة: فيه ضعف. وقال الترمذي: سألت البخاري عنه فقال: خطأ. وقال الترمذي: وهو غير محفوظ. وقال النسائي: لا أعلم أحداً تابع أيمن بن نابل على هذه الرواية، وأيمن عندنا لا بأس به، لكن الحديث خطأ. وقال البيهقي هو ضعيف، وأورد الحاكم في المستدرك حديثاً ظاهره أن أيمن توبع عن أبي الزبير، فقال: حدثنا أبوعلي الحافظ: ثنا عبد الله بن قحطبة: ثنا محمد بن عبد الأعلى: ثنا معتمر: ثنا أبي، عن أبي الزبير به. قال الحاكم: سمعت أبا علي يوثق ابن قحطبة إلا أنه أخطأ فيه؛ لأن المعمر لم يسمعه من أبيه، إنما سمعه من أيمن-انتهى. كذا في التلخيص. وقال في الفتح: تفرد به أيمن بن نافل، وحكم الحافظ: البخاري وغيره على أنه أخطأ في إسناده، وأن الصواب رواية أبي الزبير عن طاؤس. وغيره عن ابن عباس. وفي الجملة لم تصح هذه للزيادة إلى آخر ما نقلنا من كلامه. وقال السيوطي في شرح سنن النسائي: قال الحاكم: أيمن ثقة تخرج حديثه في صحيح البخاري، ولم يخرج هذا الحديث، إذا ليس له متابع عن أبي الزبير من وجه يصح. وقال الدارقطني في علله: قد تابع أيمن الثوري وابن جريج، عن أبي الزبير-انتهى. قلت: لم يذكر السيوطي سند هذه المتابعة حتى ينظر فيه هل يصلح للمتابعة أم لا؟ فما لم يعلم سندها لا يحكم باعتبارها وكونها مصححة لحديث أيمن. 923- قوله: (وعن نافع) مولى ابن عمر. (إذا جلس في الصلاة) أي للتشهد. (وضع يديه على ركبتيه) بقبض اليمنى وبسط اليسرى. (وأشار بإصبعه) أي مسبحة اليمنى. (وأتبعها) أي الإشارة أو الإصبع. (بصره) حين الإشارة. (لهي) أي الإشارة إلى الوحدانية. (أشد على الشيطان من الحديد) المعنى: أن هذه الإشارة أشد على الشيطان من السيف والسهم، لما فيه من التوحيد، فيقطع طمع الشيطان من وقوع المصلي في الإشراك والكفر. (يعني) هذا كلام الراوي أي يريد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالضمير في "لهي". (السبابة) أي الإشارة بها، فعالة من السب،

(16) باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وفضلها

رواه أحمد. 924- (12) وعن ابن مسعود، كان يقول: من السنة إخفاء التشهد. روا أبوداود والترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب. (16) باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وفضلها ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو الشتم، وسبه أيضاً قطعه، والحمل على المعنى الثاني أنسب لذكر الحديد، كأنه بالإشارة بها يقطع طمع الشيطان من إضلاله، قاله الطيبي. (رواه أحمد) (ج2: ص119) ونسبه الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2: ص140) إلى البزار أيضاً، وقال: فيه كثير بن زيد، وثقه بن حبان، وضعفه غيره- انتهى. وروى البيهقي في السنن الكبرى عن ابن عمر مرفوعاً: تحريك الإصبع في الصلاة مذعرة للشيطان. قال ابن حجر وغيره: سنده ضعيف. 924- قوله: (من السنة) قال الطيبي: إذا قال الصحابي "من السنة كذا، أو السنة كذا" فهو في الحكم كقوله، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. هذا مذهب الجمهور من المحدثين والفقهاء، وجعله بعضهم موقوفاً، وليس بشيء-انتهى. (إخفاء التشهد) كذا في جميع النسخ بلفظ المصدر، وفي جامع الترمذي وسنن أبي داود "أن يخفى التشهد" وهو يحتمل أن يكون مبنياً للفاعل، ولما لم يسم فاعله، وفي رواية الحاكم "تخفى" فيكون مبنياً للفاعل فقط. والحديث دليل على أن السنة في التشهد أن يقرأ سراً. قال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم. (رواه أبوداود والترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب) وسكت عنه أبوداود، وأخرجه الحاكم (ج1: ص267) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وأقره الذهبي. والحديث في سنده عند الثلاثة يونس بن بكير بن واصل الشيباني الكوفي. قال الحافظ: صدوق يخطىء. وقال الخزرجي: قال ابن معين: ثقة، وضعفه النسائي. وقال أبوداود: ليس بحجة، يأخذ كلام ابن إسحاق فيوصله أي بالأحاديث، روى له مسلم متابعة، وفيه أيضاً محمد بن إسحاق، وهو مدلس، وقد رواه معنعناً لكنهما لم ينفردا بهذا الحديث، فقد رواه أيضاً الحاكم في المستدرك (ج1: ص230) من طريق عبد الواحد بن زياد، عن الحسن بن عبيد الله، عن عبد الرحمن بن الأسود بإسناده، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وأقره الذهبي. وعلى هذا فالحديث لا ينحط عن درجة الحسن. (باب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي باب حكم الصلاة وصفتها ومحلها. (وفضلها) أي ثوابها. قال المجد الفيروز آبادي: الصلاة: الدعاء والرحمة والاستغفار وحسن الثناء من الله عزوجل على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وعبادة فيها ركوع وسجود، اسم يوضع موضع المصدر، صلى صلاة لا تصليه، دعا- انتهى. وقال الحافظ في الفتح بعد ذكر أقوال القوم في معنى الصلاة: وأولى الأقوال ما تقدم عن أبي العالية أن معنى صلاة الله على نبيه، ثناءه عليه. وتعظيمه. وصلاة الملائكة وغيرهم عليه، طلب

ذلك من الله تعالى. والمراد طلب الزيادة لا طلب أصل الصلاة، وقيل: صلاة الله على خلقه تكون خاصة، وتكون عامة. فصلاته على أنبيائه هي ما تقدم من الثناء والتعظيم، وصلاته على غيرهم الرحمة، فهي التي وسعت كل شيء. قال: وقال الحليمي: معنى الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - تعظيمه، فمعنى قولنا: اللهم صل على محمد: عظم محمداً، والمراد تعظيمه في الدنيا بإعلاء ذكره، وإظهار دينه، وإبقاء شريعته، وفي الآخرة بإجزال مثوبته، وتشفيعه في أمته، وإبداء فضيلته بالمقام المحمود. وعلى هذا فالمراد بقوله: "صلوا عليه" ادعوا ربكم بالصلاة عليه- انتهى. ولا يعكر عليه عطف "آله وأزواجه، وذريته" عليه، فإنه لا يمتنع أن يدعى لهم بالتعظيم، إذ تعظيم كل أحد بحسب ما يليق به. وما تقدم عن أبي العالية أظهر، فإنه يحصل به استعمال لفظ الصلاة بالنسبة إلى الله، وإلى ملائكته، وإلى المؤمنين المأمورين بذلك بمعنى واحد- انتهى كلام الحافظ مختصراً. واعلم أنهم اختلفوا في أن الأمر في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً} [33: 56] هل هو للندب أو للوجوب؟ ثم هل الصلاة عليه فرض عين أو فرض كفاية؟ ثم هل تتكرر كلما سمع ذكره أم لا؟ وإذا تكرر هل تتداخل في المجلس أم لا؟ فذهب ابن جرير الطبري إلى أن الصلاة عليه من المستحبات. وقيل: إنها تجب في العمر مرة في صلاة أو في غيرها، وهي مثل كلمة التوحيد، قاله أبوبكر الرازي من الحنفية، وابن حزم، وغيرهما، فهي عندهم فرض بالجملة، ولا تتعين في الصلاة، ولا في وقت من الأوقات، ومن صلى عليه مرة واحدة في عمره فقد سقط فرض ذلك عنه، وبقي مندوباً إليه في سائر عمره مقدار ما يمكنه، وبهذا عرف أن الصلاة عليه في التشهد الأخير من الصلاة سنة مستحبة عندهم، وإليه ذهب أبوحنفية ومالك والثوري. وقيل: تجب في القعود آخر الصلاة بين قول التشهد وسلام التحلل، قاله الشافعي وأحمد ومن تبعهما، فهي عندهم من فرائض الصلاة وأركانها. والفرض منها عندهم متعين في الصلاة. وقيل: تجب في الصلاة من غير تعيين المحل، نقل ذلك عن أبي جعفر الباقر. وقيل: يجب الإكثار منها من غير تقييد بعدد، قاله أبوبكر بن بكير من المالكية. وقيل: كلما ذكر، قاله الطحاوي، وجماعة من الحنفية، والحليمي، وجماعة من الشافعية. وقال ابن العربي من المالكية: إنه الأحوط، وكذا قال الزمخشري. وقال في الدر المختار: اختلف الطحاوي والكرخي في وجوبها على السامع والذاكر كلما ذكر، والمختار عند الطحاوي تكرار الوجوب كلما ذكر، ولو اتحد المجلس في الأصح، لا لأن الأمر يقتضى التكرار، بل؛ لأنه تعلق وجوبها بسبب متكرر، وهو الذكر فيتكرر بذكره، وتصير ديناً بالترك فتقضي؛ لأنها حق عبدكالتشميت، بخلاف ذكر الله تعالى. والمذهب استحباب التكرار، وعليه الفتوى، والمعتمد قول الطحاوي، كذا ذكره الباقاني تبعاً لما صححه الحلبى وغيره، ورجحه في البحر بأحاديث الوعيد كرغم، وإبعاد، وشقاء، وبخل، وجفاء- انتهى. وقيل: تجب في مجلس مرة، ولو تكرر ذكره مراراً، حكاه الزمخشري. وقيل: في كل دعاء، حكاه أيضاً. هذا إجمال الكلام في معنى الصلاة على

{الفصل الأول}

{الفصل الأول} 925- (1) عن عبد الرحمن بن أبي ليلي، قال: لقيني كعب بن عجرة، ـــــــــــــــــــــــــــــ النبي - صلى الله عليه وسلم - وحكمها. ويؤخذ مما أوردنا من بيان الآراء في حكمها بيان محلها وحكمها في الصلاة خاصة. ومن المواطن التي اختلف في وجوب الصلاة عليه فيها: التشهد الأول، وخطبة الجمعة، وغيرها من الخطب، وصلاة الجنازة. ومما يتأكد ووردت فيه أخبار خاصة أكثرها بأسانيد جيدة: عقب إجابة المؤذن وأول الدعاء ووسطه وآخره، وفي أوله آكد، وفي آخر القنوت وفي أثناء تكبيرات العيد وعند دخول المسجد والخروج منه. وعند الاجتماع والتفرق وعند السفر والقدوم، وعند القيام لصلاة الليل وعند ختم القرآن وعند الهمّ والكرب وعند التوبة من الذنب وعند قراءة الحديث العلم والذكر وعند نسيان الشيء، وورد ذلك أيضاً في أحاديث ضعيفة، وعند استلام الحجر وعند طنين الأذن وعند التلبية وعقب الوضوء وعند الذبح والعطاس، وورد المنع منها عندهما أيضاً، وورد الأمر بالإكثار منها يوم الجمعة في حديث صحيح، كذا في الفتح. وأما صفتها، فقال ابن قدامة في المغني (ج1: ص585) : الأولى أن يأتي بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصفة التي ذكر الخرقي؛ لأن ذلك حديث كعب بن عجزة، وهو أصح حديث روي فيها. وعلى أي صفة أتى بالصلاة عليه مما ورد في الأخبار أي الصحيحة جاز، كقولنا في التشهد، وظاهره أنه إذا أخل بلفظ ساقط في بعض الأخبار جاز؛ لأنه لو كان واجباً لما أغفله النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال القاضي أبويعلي: ظاهر كلام أحمد أن الصلاة واجبة على النبي - صلى الله عليه وسلم - حسب لقوله في خبر أبي زرعة: الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر، من تركها أعاد الصلاة، ولم يذكر الصلاة على آله، وهذا مذهب الشافعي، ولهم في وجوب الصلاة على آله وجهان. وقال بعض أصحابنا: تجب الصلاة على الوجه الذي في خبر كعب؛ لأنه أمر به، والأمر يقتضي الوجوب، والأول أولى، والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أمرهم بهذا حين سألوه تعليمهم، ولم يبتدءهم-انتهى. وسيأتي مزيد الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى. وقد أطال الكلام في مسألة الصلاة عليه فأجاد، وأحسن العلامة الخفاجي في "نسيم الرياض" شرح "شفاء القاضي عياض"، والإمام ابن القيم في "جلاء الأفهام"، والسخاوي في "القول البديع في الصلاة على الشفيع" والقسطلاني في "المواهب اللدنية" من أحب رجع إلى هذه الكتب. 925-قوله: (عن عبد الرحمن بن أبي ليلي) الأنصاري المدني ثم الكوفي، ثقة من كبار التابعين، اختلف في سماعه من عمر، مات بوقعة الجماجم سنة ست وثمانين. وقيل: إنه غرق بدجيل. ووالده أبوليلي الأنصاري صحابي، اسمه بلال، أو بليل- بالتصغير- ويقال: داود، وقيل: يسار- بالتحتانية- وقيل: أوس. شهد أحداً وما بعدها، وعاش إلى خلافة علي. (لقيني كعب) وعند الطبري: إن ذلك كان وهو يطوف بالبيت الحرام. (بن عجرة) بضم العين

فقال: ألا أهدى لك هدية سمعتها من النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقلت: بلى، فأهدها لي. فقال: سألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلنا: يارسول الله! كيف الصلاة عليكم ـــــــــــــــــــــــــــــ المهملة وسكون الجيم، بعدها راء مفتوحة فهاء تانيث، البلوى حليف الأنصار، أبومحمد المدني، صحابي مشهور، نزل الكوفة قال الواقدي: استأخر إسلامه، ثم أسلم وشهد المشاهد، وهو الذي نزلت فيه بالحديبية الرخصة في حلق رأس المحرم والفدية. روى سبعة وأربعين حديثاً، اتفقا على حديثين، وانفرد مسلم بمثلهما، روى عنه جماعة. مات بالمدينة سنة إحدى، وقيل: ثنتين، وقيل: ثلاث وخمسين. قال بعضهم: وهو ابن خمس، وقيل: سبع وسبعين سنة. (فقال) لي. (ألا) الهمزة للاستفهام. (أهدى) بضم الهمزة. (هدية) بتشديد الياء، وهي اسم مصدر، والمصدر إهداء؛ لأنه من "أهدى" والهدية ما يتقرب به إلى المهدى إليه توددا وإكراما. وزاد فيه بعضهم "من غير قصد نفع عوض دنيوي، بل لقصد ثواب الآخرة" وأكثر ما يستعمل في الأجسام لا سيما والهدية فيها نقل من مكان إلى آخر، وقد يستعمل في المعاني كالعلوم والأدعية مجازاً لما يشتركان فيه من قصد المواددة والتواصل في إيصال ذلك إليه. (فأهدها) بقطع الهمزة. (فقال: سألنا) بسكون اللام. والفاء للتفسير، إذ التقدير: أردنا السؤال. (فقلنا) أراد بإيراد صيغة الجمع نفسه وغيره من الصحابة ممن كان حاضراً. قال في الفتح: وقد وقفت من تعيين من باشر السؤال على جماعة، وهم كعب بن عجرة عند الطبراني، وبشير بن سعد والد النعمان في حديث أبي مسعود عند مالك، ومسلم، وزيد بن خارجة الأنصاري عند النسائي، وطلحة بن عبيد الله عند الطبري، وأبو هريرة عند الشافعي، وعبد الرحمن بن بشير عند إسماعيل القاضي في كتاب الصلاة، فإن ثبت أن السائل كان متعدداً فواضح، وإن ثبت أنه كان واحدا فالحكمة بالتعبير بصيغة الجمع الإشارة إلى أن السؤال لا يختص به بل يريد نفسه، ومن يوافقه على ذلك، ولا يقال هو من باب التعبير عن البعض بالكل، بل حمله على ظاهره هو المعتمد لما ذكر. وعند البيهقي والخلعي عن كعب بن عجرة، قال: لما نزلت: {إن الله وملائكته يصلون على النبي} [33: 56] الآية، قلنا: يا رسول الله! قد علمنا- الحديث. (كيف الصلاة؟) أي كيف لفظ الصلاة في الصلاة بعد التشهد؟ قال القاضي: يحتمل أن يكون سؤالهم عن كيفية الصلاة في غير الصلاة، ويحتمل أن يكون في الصلاة. قال: وهو الأظهر. قال النووي: وهذا اختيار مسلم، ولهذا ذكر هذا الحديث في هذا الموضع أي بعد أحاديث التشهد. (عليكم) فيه تغليب، ويدل عليه الحديث الآتي: كيف نصلي عليك؟ قاله القاري. وقال الحافظ: أما إتيانه بصيغة الجمع في قوله "عليكم" فقد بين مراده بقوله "أهل البيت"؛ لأنه لو اقتصر عليها لاحتمل أن يريد بها التعظيم، وبها تحصل مطابقة الجواب للسؤال حيث قال "على محمد وعلى آل محمد"، وبهذا يستغنى عن قول من قال: في الجواب زيادة على السؤال؛ لأن السؤال وقع عن كيفية الصلاة عليه، فوقع الجواب عن ذلك بزيادة

أهل البيت؟ فإن الله قد علمنا كيف نسلم عليك. ـــــــــــــــــــــــــــــ كيفية الصلاة على آله- انتهى. وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي: المقصود السؤال عن كيفية الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم -، وذكر أهل البيت تبعاً واستطراداً. وقيل: أهل البيت كناية عن ذاته - صلى الله عليه وسلم -، والأهل بمعنى الآل، وقد يقال: آل فلان، ويراد به نفسه وذاته فقط. كما قيل في آل داود ونحوه. وفي قوله "أهل البيت" تلميح إلى قوله تعالى: {رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت} [11: 73] والقرينة على إرادة هذا المعنى قوله الآتي: فإن الله قد علمنا، الخ. (أهل البيت) بالنصب على المدح والاختصاص، أو على أنه منادى مضاف، ويجوز جره لكونه عطف بيان لضمير المخاطب. (فإن الله قد علمنا كيف نسلم عليك) يعني في التشهد، وهو قول المصلي "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته". والمعنى: علمنا الله كيفية السلام عليك على لسانك، وبواسطة بيانك، وفي رواية للبخاري: قد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ وفي أخرى: أما السلام عليك فقد عرفناه، فكيف الصلاة عليك؟ أي إن الله تعالى أمرنا بالصلاة والسلام عليك بقوله: {صلوا عليه وسلموا تسليما} [33: 56] ، وقد عرفنا كيفية السلام عليك بما علمتنا في التحيات من أن نقول: السلام عليك أيها النبي، الخ. فعلمنا كيف اللفظ الذي به نصلي عليك كما علمتنا السلام؟ فالمراد بعدم علمهم الصلاة عدم معرفة تأديتها بلفظ لائق به - عليه الصلاة والسلام -، ولذا وقع بلفظ "كيف" التي يسأل بها عن الصفة. قال القرطبي: هذا سؤال من أشكلت عليه كيفية ما فهم أصله، وذلك أنهم عرفوا المراد بالصلاة فسألوا عن الصفة التي تليق بها ليستعملوها-انتهى. والحامل لهم على ذلك أن السلام لما تقدم بلفظ مخصوص وهو "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" فهموا منه أن الصلاة أيضاً تقع بلفظ مخصوص، وعدلوا عن القياس لإمكان الوقوف على النص، ولاسيما في ألفاظ الأذكار، فإنها تجيء خارجة عن القياس غالبا، فوقع الأمر كما فهموا، فإنه لم يقل لهم: قولوا الصلاة عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، ولا قولوا: الصلاة والسلام عليك، الخ. بل علمهم صيغة أخرى. وفي حديث أبي مسعود البدري عند أحمد في مسنده، وابن خزيمة في صحيحه، والدارقطني في سننه، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، والبيهقي في سننه: أنهم قالوا، يارسول الله! أما السلام فقد عرفناه، فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا؟ وفي رواية: كيف نصلي في صلاتنا؟ قال الدارقطني: إسناده حسن متصل- وقال البيهقي: إسناده حسن، صحيح، وصححه الحاكم أيضاً. واستدل به جماعة من الشافعية كابن خزيمة، والبيهقي على إيجاب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل صلاة في القعود آخر الصلاة بين التشهد والسلام. وتعقب بأنه لا دلالة فيه على ذلك، بل إنما يفيد إيجاب الإتيان بهذه الألفاظ على من صلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد. وعلى تقدير أن يدل على إيجاب أصل الصلاة فلا يدل على هذا المحل المخصوص، ولكن قرب البيهقي ذلك بأن الآية لما نزلت وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد علمهم كيفية السلام عليه في التشهد، والتشهد داخل الصلاة، فسألوا عن كيفية الصلاة، فعلمهم، فدل على أن المراد بذلك

قال: قولوا: اللهم صل على محمد ـــــــــــــــــــــــــــــ إيقاع الصلاة عليه في التشهد بعد الفراغ من التشهد الذي تقدم تعليمه لهم، وأما احتمال أن يكون ذلك خارج الصلاة فهو بعيد كما قال عياض وغيره. (قولوا) قال القسطلاني: الأمر ههنا للوجوب اتفاقاً، نعم اختلف هل يتعدد أم لا؟ فقيل: في العمر مرة واحدة، وقيل: في كل تشهد يعقبه سلام، قاله الشافعي. وقال الشوكاني في النيل: قوله في الحديث "قولوا" استدل بذلك على وجوب الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - بعد التشهد، وإلى ذلك ذهب عمر، وابنه، وابن مسعود، وجابر بن زيد، والشعبي، ومحمد بن كعب القرظي، وأبوجعفر الباقر، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وابن المواز. واختار القاضي أبوبكر ابن العربي، وذهب الجمهور إلى عدم الوجوب، منهم مالك، وأبوحنيفة، وأصحابه، والثوري، والأوزاعي، وآخرون. قال: ويمكن الاعتذار عنه بأن الأمر المذكور تعليم كيفية، وهو لا يفيد الوجوب، فإنه لا يشك من له ذوق أن من قال لغيره: إذا أعطيتك درهماً فكيف أعطيك أياه أسراً أم جهراً؟ فقال له: أعطيته سراً، كان ذلك أمرا بالكيفية التي هي السرية، لا أمرا بالإعطاء. وتبادر هذا المعنى لغة وشرعاً وعرفاً لا يدفع، وقد تكرر في السنة وكثر، فمنه: إذا قام أحدكم الليل فليفتتح الصلاة بركعتين خفيفتين-الحديث. وقد أطال الكلام على دلائل القائلين بوجوب الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - في القعود آخر الصلاة، والاعتذار عنها. ومال إلى عدم وجوبها في الصلاة. والأحوط عندي هو وجوبها لما تقدم من تقرير البيهقي في الاحتجاج لذلك، ولما سيأتي. وقد ألزم العراقي من قال من الحنفية بوجوب الصلاة عليه كلما ذكر، كالطحاوي، ونقله السروجي في شرح الهداية عن أصحاب المحيط، والعقد، والتحفة، والمغيث، من كتبهم أن يقولوا بوجوبها في التشهد، لتقدم ذكره في آخر التشهد، لكن لهم أن يلتزموا ذلك، لكن لا يجعلونه شرطاً في صحة الصلاة. (اللهم) هذه كلمة كثر إستعمالها في الدعاء، وهو بمعنى ياالله، والميم عوض عن حرف النداء، ولا يدخلها حرف النداء إلا في نادر، كقول الراجز: إني إذا مات حادث ألما ... ... أقول: يا اللهم يا اللهما واختص هذا الاسم بقطع الهمزة عند النداء ووجوب تفخيم لامه، وبدخول حرف النداء عليه مع التعريف، وبالباء في القسم، وذهب الفراء من تبعه من الكوفيين إلى أن أصله ياالله! وحذف حرف النداء تخفيفاً، والميم مأخوذة من جملة محذوفة مثل أمنا بخير، وقيل: بل زائدة كما "زرقم" للشديد الزرقة، وزيدت في الاسم العظيم تفخيماً، وقيل: غير ذلك (صلى على محمد) قال الجزري في النهاية معناه: عظمه في الدنيا بإلا ذكره، وإظهار دعوته، وإبقاء شريعته، وفي الآخرة بتشفيعه في أمته، وتضعيف أجره ومثوبته. وقيل، المعنى: لما أمر الله سبحانه بالصلاة عليه ولم نبلغ قدر الواجب من ذلك أحلناه على الله، وقلنا: اللهم صل أنت على محمد؛ لأنك أعلم بما يليق به. وهذا الدعاء قد اختلف هل يجوز إطلاقه على غير النبي - صلى الله عليه وسلم - أم لا؟ والصحيح أنه خاص به فلا يقال لغيره. وقال الخطابي: الصلاة التي بمعنى التكريم

وعلى آل محمد، ـــــــــــــــــــــــــــــ والتعظيم لا تقال لغيره، والتي بمعنى الدعاء والتبرك تقال لغيره، ومنه الحديث: اللهم صلى على آل أبي أوفى، أي ترحم وبرك. وقيل فيه: إن هذا خاص له لكنه هو آثر به غيره، وأما سواه فلا يجوز له أن يخص به أحداً-انتهى كلام الجزري. وأرجح للتفصيل إلى الفتح، والعمدة، وزاد المعاد، والقول البديع، قال الحليمي: المقصود بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - التقرب إلى الله بامتثال أمره، وكذا حق النبي - صلى الله عليه وسلم - علينا، وتبعه ابن عبد السلام فقال: ليست صلاتنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - شفاعته له، فإن مثلنا لا يشفع لمثله، ولكن الله لما أمرنا بمكافأة من أحسن إلينا فإن عجزنا عنها كافأناه بالدعاء فأرشدنا الله لما علم عجزنا عن مكافأة نبينا إلى الصلاة عليه. وقال ابن العربي: فائدة الصلاة عليه ترجع إلى الذي يصلي عليه لدلالة ذلك على نصوع العقيدة، وخلوص النية، وإظهار المحبة، والمداومة على الطاعة، والاحترام للواسطة الكريمة - صلى الله عليه وسلم -. واختلف في زيادة لفظ السيادة قبل محمد فجعله ابن عبد السلام من باب سلوك الأدب، ومال الشوكاني في النيل إلى أوليته. وقال الأسنوي: قد اشتهر زيادة "سيدنا" قبل "محمد" عند أكثر المصلين وفي كون ذلك أفضل نظر-انتهى. قلت: أما في الصلاة فالظاهر هو تركه وعدم زيادته امتثالاً للأمر، واتباعاً لللفظ المأثور، وأما في غير الصلاة فلا بأس بزيادته. قال السيوطي في الدر المنثور: أخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد وابن ماجه وابن مردوية عن ابن مسعود، قال: إذا صليتم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فأحسنوا الصلاة، قالوا: فعلمنا. قال: قولوا: اللهم اجعل صلواتك، ورحمتك، وبركاتك على سيد المرسلين، وإمام المتقين-الحديث. قال السخاوي: إن كثيراً من الناس يقولون: اللهم صل على سيدنا محمد، وأتى في ذلك بحثاً: أما في الصلاة فالظاهر أنه لا يقال اتباعاً لللفظ المأثور، وأما في غير الصلاة فقد أنكر - صلى الله عليه وسلم - على مخاطبة بذلك كما في الحديث المشهور، وإنكاره يحتمل تواضعا، أو كراهة منه أن يحمد مشافهة، أو لأن ذلك كان في تحية الجاهلية، أو لمبالغتهم في المدح، وقد صح قوله - صلى الله عليه وسلم -: أنا سيد ولد آدم، وقوله للحسن: إن ابني هذا سيد، وقوله لسعد: قوموا إلى سيدكم. وورد قول سهل بن حنيف للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا سيدي، في حديث عند النسائي، وقول ابن مسعود: اللهم صل على سيد المرسلين. وفي كل هذا دلالة واضحة على جواز ذلك، والمانع يحتاج إلى دليل سوى ما تقدم؛ لأنه لا ينهض دليلاً مع الاحتمالات المتقدمة-انتهى. (وعلى آل محمد) قد اختلف في المراد بالآل في هذا الحديث، فقيل: الراجح أنهم من حرمت عليهم الزكاة، فإنه بذلك فسرهم زيد بن أرقم، والصحابي أعرف بمراده - صلى الله عليه وسلم -، فتفسيره قرينة على تعين المراد من اللفظ المشترك، وقد فسرهم بآل علي، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل العباس. وقيل: المراد بآل محمد، أزواجه وذريته؛ لأن أكثر طرق هذا الحديث جاء بلفظ "وآل محمد"، وجاء في حديث أبي حميد التالي موضعه "وأزواجه وذريته" فدل على أن المراد بالآل الأزواج والذرية. وتعقب بأنه ثبت الجمع بين الثلاثة كما في حديث أبي هريرة الآتي في الفصل الثالث، فيحمل على أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ غيره، فالمراد بالآل في التشهد

كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، ـــــــــــــــــــــــــــــ الأزواج، ومن حرمت عليهم الصدقة. وتدخل فيهم الذرية، فبذلك يجمع بين الأحاديث. وقد أطلق على أزواجه - صلى الله عليه وسلم - آل محمد كما في حديث عائشة: ماشبع آل محمد من خبز مأدوم ثلاثاً، وفي حديث أبي هريرة: اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً، وكأن الأزواج أفردوا بالذكر تنويهاً بهم وكذا الذرية. وقيل: المراد بالآل جميع أمة الإجابة. قال ابن العربي: مال إلى ذلك مالك. وقال النووي في شرح مسلم: هو أظهر الأقوال، قال: وهو اختيار الأزهري وغيره من المحققين-انتهى. وقيده القاضي حسين، والراغب، بالأتقياء منهم. وعليه يحمل كلام من أطلق، ويؤيده قوله تعالى: {إن أولياءه إلا المتقون} [8: 34] . وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أوليائي منكم المتقون"، وإلى حمله على أمة الإجابة ذهب نشوان الحميري إمام اللغة، ومن شعره في ذلك: ... آل النبي هم أتباع ملته من الأعاجم والسودان والعرب ... لو لم يكن آله إلا قرابته صلى المصلي على الطاغي أبي لهب ويدل على ذلك أيضاً قول عبد المطلب من أبيات: ... وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك والمراد بآل الصليب أتباعه. ومن الأدلة على ذلك قول الله تعالى: {أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} [40: 46] ؛ لأن المراد بآله أتباعه، وقد احتج لهذا القول بحديث أنس رفعه: آل محمد كل تقي. أخرجه الطبراني، ولكن سنده واه جداً. وأخرج البيهقي عن جابر نحوه من قوله بسند ضعيف، ويؤيد ذلك معنى الآل لغة. قال في القاموس: الآل أهل الرجل وأتباعه، وأولياؤه، ولا يستعمل إلا فيما فيه شرف غالباً، فلا يقال آل الإسكاف، كما يقال أهله- انتهى. وفي تفسيره أقوال أخرى كلها مرجوحة ضعيفة، فلا حاجة إلى ذكرها، ولولا ضعف حديث أنس وكون سنده واهياً جداً لتعين تفسير آل محمد في التشهد بأتقياء أمته، ثم لعل وجه إظهار محمد في قوله "وآل محمد" مع تقدم ذكره هو أن استحقاق الآل بالإتباع لمحمد، فالتنصيص على اسمه آكد في الدلالة على استحقاقهم، والله تعالى أعلم. (كما صليت على إبراهيم) ذكر في وجه تخصيصه من بين الأنبياء وجوه، أظهرها كونه جد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد أمرنا بمتابعته في أصول الدين أو في التوحيد المطلق والانقياد المحقق، قاله القاري. (وعلى آل إبراهيم) هم ذريته من إسماعيل وإسحاق كما جزم به جماعة من الشراح، وإن ثبت أن إبراهيم كان له أولاد من غير سارة وهاجرة، فهم داخلون لا محالة. ثم إن المراد المسلمون منهم بل المتقون فيدخل فيهم الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون دون من عداهم. وفيه ما تقدم في آل محمد، قاله الحافظ. وقال الباجي: "وآل إبراهيم" أتباعه، وهذا يحتمل أن يريد به أتباعه من ذريته، ويحتمل أن يريد أتباعه من كل اتبعه، أي من غير تخصيص بذريته، قال: والأظهر عندي أن الآل الأتباع والعشيرة. واستشكل هذا التشبيه؛ لأن المقرر كون

المشبه دون المشبه به، والواقع ههنا عكسه؛ لأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - وحده أفضل من إبراهيم وآله. وأجيب عن لك بأجوبة، منها: أن التشبيه إنما هو لأصل الصلاة بأصل الصلاة لا للقدر بالقدر، فهو كقوله تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح} [4: 163] وقوله: {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم} [2: 183] وهو كقول القائل: "أحسن إلى ولدك كما أحسنت إلى فلان"، ويريد بذلك أصل الإحسان لا قدره. ومنه قوله تعالى: {وأحسن كما أحسن الله إليك} [28: 77] ورجح هذا الجواب القرطبي في المفهم. ومنها: أن الكاف للتعليل كما في قوله تعالى: {كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم} [2: 151] وفي قوله: {واذكروه كما هداكم} [2: 198] . ومنها: أن قوله: اللهم صل على محمد، مقطوع عن التشبيه فيكون التشبيه متعلقاً بقوله: "وعلى آل محمد". يعني أنه تم الكلام بقوله" اللهم صل على محمد" ثم استأنف"وعلى آل محمد" أي وصل على آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، والمسؤل له مثل إبراهيم وآله، هم آل محمد - صلى الله عليه وسلم - لا لنفسه. وفيه أن هذا الجواب وإن نقله أبوحامد عن نص الشافعي، لكنه خلاف الظامر. وتعقب أيضاً بأن غير الأنبياء لا يمكن أن يساووا الأنبياء، فكيف تطلب لهم صلاة مثل صلاة التي وقعت لإبراهيم والأنبياء من آله؟ ويمكن الجواب عن ذلك بأن المطلوب الثواب الحاصل لهم لا جميع الصفات التي كانت سبباً للثواب. ومنها: أن المسؤول مقابلة الجملة بالجملة، ويدخل في "آل إبراهيم" خلائق لا يحصون من الأنبياء، ولا يدخل في "آل محمد" نبي، وطلب إلحاق هذه الجملة التي فيها نبي واحد بتلك الجملة التي فيها خلائق من الأنبياء. ومنها: أن التشبيه لمحمد وآل محمد من صلاة كل فرد فرد فيحصل من مجموع صلاة المصلين من أول التعليم إلى آخر الزمان أضعاف ما كان لآل إبراهيم. وعبر ابن العربي عن هذا بقوله: المراد دوام ذلك واستمراره. ومنها: دفع المقدمة المذكورة أولاً وهي أن المشبه به يكون أرفع من المشبه، وأن ذلك ليس بمطرد، بل قد يكون التشبيه بالمثل بل وبالدون كما في قوله تعالى: {مثل نوره كمشكاة} [24: 35] . وأين يقع نور المشكاة من نوره تعالى؟ ولكن لما كان المراد من المشبه به أن يكون شيئاً ظاهراً واضحاً للسامع حسن تشبيه النور بالمشكاة، وكذا ههنا لما كان تعظيم إبراهيم وآل إبراهيم بالصلاة عليهم مشهوراً واضحاً عند جميع الطوائف حسن أن يطلب لمحمد وآل محمد بالصلاة عليهم مثل ما حصل لإبراهيم وآل إبراهيم، ويؤيد ذلك ختم الطلب المذكور بقوله "في العالمين"، أي كما أظهرت الصلاة على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، ولذا لم يقع قوله "في العالمين" إلا في ذكر آل إبراهيم، دون ذكر آل محمد على ما وقع في الحديث الذي ورد فيه، وهو حديث أبي مسعود عند مالك ومسلم وغيرهما. وعبر الطيبي عن ذلك بقوله: ليس التشبيه المذكور من باب إلحاق الناقص بالكامل، بل من باب إلحاق ما لم يشتهر بما اشتهر. ومنها: ما قال السندي: أما تشبيه صلاته - صلى الله عليه وسلم - بصلاة إبراهيم فلعله بالنظر إلى ما يفيده واو العطف من الجمع والمشاركة، وعموم الصلاة المطلوبة له ولأهل بيته - صلى الله عليه وسلم -، أي شارك أهل بيته معه في الصلاة، واجعل الصلاة عليه عامة له ولأهل بيته كما صليت على إبراهيم كذلك، فكأنه - صلى الله عليه وسلم - لما رأى أن

إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، ـــــــــــــــــــــــــــــ الصلاة عليه من الله تعالى ثابتة على الدوام كما هو مفاد صيغة المضارع المفيد للاستمرار التجددي في قوله: {إن الله وملائكته يصلون على النبي} [33: 56] فدعاء المؤمنين بمجرد الصلاة عليه قليل الجدوى، بين لهم أن يدعوا له بعموم صلاته له ولأهل بيته ليكون دعاءهم مستجلباً لفائدة جديدة، وهذا هو الموافق لما ذكره علماء المعاني في القيود أن محط الفائدة في الكلام هو القيد الزائد، وكأنه لهذا خص إبراهيم؛ لأنه كان معلوماً بعموم الصلاة له ولأهل بيته على لسان الملائكة، ولذا ختم بقوله: "إنك حميد مجيد"، كما ختمت الملائكة صلاتهم على أهل بيت إبراهيم بذلك. ومنها: ما قال بعض المحققين: وجه الشبه هو كون كل من الصلاتين أفضل وأولى وأتم من صلاة من قبله، أي كما صليت على إبراهيم صلاة هي أتم، وأفضل من صلاة من قبله، كذلك صل على محمد صلاة هي أفضل وأتم من صلاة من قبله. قال السندي بعد ذكره: ويمكن أن تجعل وجه الشبه مجموع الأمرين من العموم والأفضلية. (إنك حميد) فعيل من الحمد بمعنى محمود وأبلغ منه، وهو من حصل له من صفات الحمد أكملها. وقيل: هو بمعنى الحامد أي إنك حامد من يستحق أن يحمد من عبادك، وقيل: هو بمعنى المستحق لجميع المحامد لما في الصيغة من المبالغة. (مجيد) مبالغة ماجد من المجد وهو الشرف، والمجيد صفة من كمل في الشرف، وهذا تذييل الكلام السابق وتقرير له سبيل العموم، أي إنك حميد، فاعل ما تستوجب به الحمد من النعم المتكاثرة والآلاء المتعاقبة المتوالية، مجيد، كريم الإحسان إلى جميع عبادك الصالحين، ومن محامدك وإحسانك أن توجه صلواتك، وبركاتك، وترحمك على حبيبك نبي الرحمة وآله، أو إنك حامد من يستحق أن يحمد، ومحمد من أحق عبادك بحمدك، وقبول دعاء من يدعوا له ولآله. (اللهم بارك على محمد) أي أثبت له وأدم له ما أعطيته من الشرف والكرامة، وزده من الكمالات ما يليق بك وبه. قال الحافظ: المراد بالبركة هنا الزيادة من الخير والكرامة. وقيل: المراد التطهير من الذنوب والتزكية. وقيل: المراد إثبات ذلك واستمراره من قوله: بركت الإبل أي ثبتت على الأرض، وبه سميت بركة ماء- بكسر أوله وسكون الثانية- لإقامة الماء فيها. والحاصل أن المطلوب أن يُعطوا من الخير أوفاه وأن يثبت ذلك ويستمر دائماً-انتهى. قال القاري: وهذا زيادة على أصل السؤال ووقع تتميماً للكمال. واستدل بهذا الحديث على تعين هذا اللفظ الذي علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه في امتثال الأمر، سواء قلنا بالوجوب مطلقاً أو مقيداً بالصلاة، وأما تعينه في الصلاة فعن أحمد في رواية، والأصح عند أتباعه لا تجب. واختلف في الأفضل فعن أحمد أكمل ما ورد وعنه يتخير، وأما الشافعية فقالوا: يكفي أن يقول: اللهم صل على محمد، واختلفوا هل يكفي الإتيان بما يدل على ذلك كأن يقوله بلفظ الخبر فيقول: "صلى الله على محمد" مثلاً؟ والأصح إجزاءه، وذلك أن الدعاء بلفظ الخبر آكد فيكون جائزاً بطريق الأولى. ومن منع وقف عند التعبد، وهو الذي رجحه ابن العربي، بل كلامه يدل على أن الثواب الوارد لمن صلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما يحصل لمن صلى عليه بالكيفية المذكورة. قال الحافظ في الفتح: واتفق

كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. ـــــــــــــــــــــــــــــ أصحابنا على أنه لا يجزئ أن يقتصر على الخبر كأن يقول: الصلاة على محمد، إذ ليس فيه إسناد الصلاة إلى الله تعالى، واختلفوا في تعين لفظ محمد، لكن جوزوا الاكتفاء بالوصف دون الاسم، كالنبي، ورسول الله؛ لأن لفظ "محمد" وقع التعبد به، فلا يجزئ عنه إلا ما كان أعلى منه. وذهب الجمهور إلى الاجتراء بكل لفظ أدى المراد بالصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم -، وعمدتهم في ذلك أن الوجوب ثبت بنص القرآن بقوله تعالى: {صلوا عليه وسلموا تسليماً} [33: 56] . فلما سأل الصحابة عن الكيفية وعلمها لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، واختلف النقل لتلك الألفاظ اقتصر على ما اتفقت عليه الروايات، وترك ما زاد على ذلك كما في التشهد، إذ لو كان المتروك واجباً لما سكت عنه. وقد استشكل ذلك ابن الفركاح في الاقليد فقال: جعلهم هذا هو الأقل، يحتاج إلى دليل على الاكتفاء بمسمى الصلاة، فإن الأحاديث الصحيحة ليس فيها الاقتصار والأحاديث التي فيها الأمر بمطلق الصلاة ليس فيها ما يشير إلى ما يجب من ذلك في الصلاة، وأقل ما وقع في الروايات: اللهم صل على محمد كما صليت على إبراهيم، ومن ثم حكى الفوراني عن صاحب الفروع في إبحاب ذكر إبراهيم وجهين، واحتج لمن لم يوجبه بأنه ورد بدون ذكره في حديث زيد بن خارجة عند النسائي بسند قوي، ولفظه: "صلوا عليّ، وقولوا: اللهم صل على محمد وآل محمد"، وفيه نظر؛ لأنه من اختصار بعض الرواة، فإن النسائي أخرجه من هذا الوجه بتمامه، وكذا الطحاوي. واختلف في إبحاب الصلاة على الآل، ففي تعيينها أيضاً عند الشافعية والحنابلة روايتان، والمشهور عندهم لا، وهو قول الجمهور، وادعى كثير منهم فيه الإجماع. ونقل البيهقي في الشعب عن أبي إسحاق المروزي، وهو من كبار الشافعية، قال: أنا اعتقد وجوبها. قال البيهقي: وفي الأحاديث الثابتة دلالة على صحة ما قال-انتهى كلام الحافظ. وقال الأمير اليماني في شرح حديث أبي مسعود البدري عند مالك وأحمد ومسلم وغيرهم: الحديث يقتضى أيضاً وجوب الصلاة على الآل، ولا عذر لمن قال بوجوب الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - مستدلاً بهذا الحديث من القول بوجوبها على الآل، إذ المأمور به واحد، ودعوى النووي وغيره الإجماع على أن الصلاة على الآل مندوبة غير مسلمة، بل نقول: الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - لا تتم، ولا يكون العبد ممتثلاً بها، حتى يأتي بهذا اللفظ النبوي الذي فيه ذكر الآل؛ لأنه قال السائل: كيف نصلي عليك؟ فأجابه بالكيفية أنها الصلاة عليه وعلى آله، فمن لم يأت بالآل فما صلى بالكيفية التي أمر بها، فلا يكون ممتثلاً للأمر، فلا يكون مصلياً عليه - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك بقية الحديث من قوله: كما صليت، إلى آخره يجب، إذ هو من الكيفية المأمور بها، ومن فرق بين ألفاظ هذه الكيفية بإيجاب بعضها وندب بعضها فلا دليل له على ذلك- انتهى. وقال الشوكاني في تحفة الذاكرين بعد ذكر حديث أبي مسعود البدري: فيه تقييد الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة فيفيد ذلك أن هذه الألفاظ المروية مختصة بالصلاة، وأما خارج الصلاة فيحصل الامتثال بما يفيده قوله سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً} [33: 56] ، فإذا قال القائل "اللهم صل وسلم على محمد" فقد امتثل الأمر القرآني، وقد جاءت أحاديث في تعليمه - صلى الله عليه وسلم - لصفة الصلاة عليه

متفق عليه. إلا أن مسلماً لم يذكر: على إبراهيم، في الموضعين. 926- (2) وعن أبي حميد الساعدي، قال: ((قالوا: يا رسول الله! ـــــــــــــــــــــــــــــ فيجزئ المصلي أن يأتي بواحد منها إذا كان صحيحاً كما قلناه في التشهد والتوجه، ولكنه ينبغي أن يأتي بما هو أعلى صحة وأقوى سندا كحديث كعب، وأبي مسعود، ومثل ذلك حديث أبي حميد الساعدي يعني الذي يأتي، ومثل ذلك حديث أبي سعيد الخدري عند البخاري والنسائي وابن ماجه-انتهى. قال الحافظ: واستدل بالحديث على أن إفراد الصلاة عن التسليم لا يكره، وكذا العكس؛ لأن تعليم التسليم تقدم قبل تعليم الصلاة كما تقدم، فأفرد التسليم مدة في التشهد قبل الصلاة عليه، وقد صرح النووي بالكراهة، واستدل بورود الأمر بهما معاً في الآية، وفيه نظر نعم يكره أن يفرد الصلاة، ولا يسلم أصلاً. وأما لو صلى في وقت، وسلم في وقت آخر فإنه يكون ممتثلاً-انتهى. قال القاري في شرح الشفاء: الواو تفيد الجمعية لا المعية كما عليه الأصولية، فلا دلالة في الآية على كراهية إفراد الصلاة عن السلام، وعكسه كما ذهب إليه النووي وأتباعه من الشافعية، وقد أوضحت ذلك في رسالة مستقلة-انتهى. (متفق عليه) ولفظه للبخاري في ترجمة إبراهيم - عليه السلام - في كتاب الأنبياء. والحديث أخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم. (إلا أن مسلماً لم يذكر "على إبراهيم" في الموضعين) أي في قوله " كما باركت" أي واقتصر فيهما على قوله "على آل إبراهيم" وقد ظهر من سياق البخاري المذكور أن ذكر محمد وإبراهيم، وذكر آل محمد وآل إبراهيم ثابت في أصل الخبر فيحمل على أن بعض الرواة حفظ مالم يحفظ الآخر. قال الحافظ: لما اختلفت ألفاظ الحديث في الإتيان بهما معاً وفي إفراد أحدهما كان أولى المحامل أن يحمل على أنه - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك كله، ويكون بعض الرواة حفظ مالم يحفظ الآخر، وأما التعدد فبعيد؛ لأن غالب الطرق تصرح بأنه وقع جواباً عن قولهم كيف نصلي عليك؟ ويحتمل أن يكون بعض من اقتصر على "آل إبراهيم" بدون ذكر إبراهيم، رواه بالمعنى، بناء على دخول إبراهيم في قوله "آل إبراهيم". تنبيه: ادعى ابن القيم أن أكثر الأحاديث بل كلها مصرحة بذكر "محمد وآل محمد وبذكر "آل إبراهيم" فقط أو بذكر "إبراهيم" فقط. قال: ولم يجيء في حديث صحيح بلفظ "إبراهيم وآل إبراهيم" معاً. وإنما أخرجه البيهقي من طريق يحيى بن السباق، عن رجل من بني الحارث، عن ابن مسعود، ويحيى مجهول، وشيخه مبهم، فهو سند ضعيف، وأخرجه ابن ماجه من وجه آخر قوي، لكنه موقوف على ابن مسعود، وأخرجه النسائي، والدارقطني من حديث طلحة، قال الحافظ بعد ذكر كلام ابن القيم هذا: وغفل أي ابن القيم عما وقع في صحيح البخاري كما تقدم في أحاديث الأنبياء في ترجمة إبراهيم - عليه السلام -، وكذا وقع في حديث أبي مسعود البدري، أخرجه الطبري، إلى آخر ما بسط الكلام في ذكر الطرق لأحاديث من ذكر اللفظين معاً. 926-قوله: (قالوا) أي الصحابة، ووقع عند السراج والطبراني في حديث كعب بن عجرة: أن أصحاب رسول الله

كيف نصلي عليك؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قولوا: اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى الله عليه وسلم - قالوا. (كيف نصلي عليك؟) . أي كيف اللفظ اللائق بالصلاة عليك. (صل على محمد) صلاة تليق به. (وأزواجه) أمهات المؤمنين كما ورد التقييد بذلك في حديث أبي هريرة الآتي. (وذريته) أي نسله أولاد بنته فاطمة رضي الله عنها. قال الباجي: أما الأزواج فهن معروفات. وأما الذرية فمن كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولادة من ولده، وولده ممن تبع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأطاعه- انتهى. وقال الحافظ: الذرية- بضم المعجمة وحكى كسرها- هي النسل، وقد يختص بالنساء والأطفال، وقد يطلق على الأصل، وهي من ذرأ- بالهمزة- أي خلق الإنسان، إلا أن الهمزة سهلت لكثرة الاستعمال. وقيل: بل هي من الذر، أي خلقوا أمثال الذر، وعليه فليس مهموز الأصل- انتهى. قال السخاوي: فالذرية الأولاد وأولادهم، وهل يدخل أولاد البنات. فمذهب الشافعي ومالك، وهو رواية عن أحمد أنهم يدخلون لإجماع المسلمين على دخول أولاد فاطمة في ذرية النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحكى ابن الحاجب الاتفاق على دخول ولد البنات. قال: لأن عيسى من ذرية إبراهيم - عليهما السلام -، وسامحه الشراح في نقل الاتفاق. ومذهب أبي حنيفة ورواية أخرى عن أحمد أنهم لا يدخلون، واستثنوا أولاد فاطمة - رضي الله عنها - لشرف هذا الأصل العظيم-انتهى. والحديث قد استدل على أن المراد بآل محمد أزواجه وذريته كما تقدم البحث فيه في الكلام على آل محمد. واستدل به على أن الصلاة على الآل لا تجب لسقوطها في هذا الحديث وهو ضعيف؛ لأنه لا يخلو أن يكون المراد بالآل غير أزواجه وذريته، أو أزواجه وذريته، وعلى تقدير كل منهما لا ينهض الاستدلال على عدم الوجوب، أما على الأول فلثبوت الأمر بذلك في غير هذا الحديث، وليس في هذا الحديث المنع منه، بل أخرج عبد الرزاق من طريق ابن طاووس، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن رجل من الصحابة الحديث المذكور بلفظ: صل على محمد، وأهل بيته، وأزواجه، وذريته. وأما على الثاني فواضح. واستدل به البيهقي على أن الأزواج من أهل البيت، وأيده بقوله تعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت} [33: 33] . كذا في الفتح. (على آل إبراهيم) بذكر لفظ الآل في الموضعين. وبحذف "على إبراهيم" فيهما، وقد تقدم أن ذكر إبراهيم ثابت في أصل الخبر، وإنما حفظ بعض الرواة ما لم يحفظ الآخر، ويحتمل أن يكون بعض من اقتصر على إبراهيم بدون ذكر إبراهيم رواه بالمعنى بناء على دخول إبراهيم في قوله "آل إبراهيم"؛ لأنه قد يطلق "آل فلان" على نفسه وعليه، وعلى من يضاف إليه جميعاً، كقوله - صلى الله عليه وسلم - للحسن بن علي: إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة، وكقوله تعالى: {أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} [40: 46] . ومعلوم أن فرعون داخل معهم. قال النووي في شرح المهذب: ينبغي أن يجمع ما في الأحاديث الصحيحة فيقول: اللهم صل على محمد النبي الأمي، وعلى آل محمد، وأزواجه، وذريته، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. قال العراقي: بقي عليه مما في الأحاديث الصحيحة ألفاظ أخر، وهي خمسة يجمعها قولك: اللهم

وبارك على محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد)) . متفق عليه. 927- (3) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى علي واحدة، صلى الله عليه عشراً)) ـــــــــــــــــــــــــــــ صل على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي، وعلى آل محمد، وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته، وأهل بيته كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد النبي الأمي، وعلى آل محمد، وأزواجه، وذريته، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد- انتهى. قال الشوكاني في النيل: وهذه الزيادات التي ذكرها العراقي ثابتة في أحاديث الباب التي ذكرها ابن تيمية في المنتقى، وذكرناها، وقد وردت زيادات غير هذه في أحاديث أخر عن علي، وابن مسعود، وغيرهما ولكن فيها مقال-انتهى. وقال الحافظ: قد تعقب الأسنوي ما قال النووي فقال: لم يستوعب ما ثبت في الأحاديث مع اختلاف كلامه، وقال الأزرعي: لم يسبق إلى ما قال، والذي يظهر أن الأفضل لمن تشهد أن يأتي بأكمل الروايات، ويقول: كل ما ثبت هذا مرة، وهذا مرة، وأما التلفيق فإنه يستلزم إحداث صفة في التشهد لم ترد مجموعة في حديث واحد-انتهى. وكأنه أخذ من كلام ابن القيم فإنه قال: إن هذه الكيفية لم ترد مجموعة في طريق من الطرق. والأولى أن يستعمل كل لفظ ثبت على حدة، فبذلك يحصل الإتيان بجميع ما ورد، بخلاف ما إذا قال الجميع دفعة واحدة، فإن الغالب على الظن أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقله كذلك، قال: وقد نص الشافعي على أن الاختلاف في ألفاظ التشهد ونحوه كالاختلاف في القراءات، ولم يقل أحد من الأئمة باستحباب التلاوة بجميع الألفاظ المختلفة في الحرف الواحد من القرآن، وإن كان بعضهم أجاز ذلك عند التعليم للتمرين. قال الحافظ: والذي يظهر أن اللفظ إن كان بمعنى اللفظ الآخر سواء كما في "أزواجه، وأمهات المؤمنين" فالأولى الاقتصار في كل مرة على أحدهما، وإن كان اللفظ يستقل بزيادة معنى ليس في اللفظ الآخر ألبتة فالأولى الإتيان به، ويحمل على أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر، وإن كان يزيد على الآخر في المعنى شيئاً فلا بأس بالإتيان به احتياطاً. وقالت طائفة منهم الطبري: إن ذلك من الاختلاف المباح، فأي لفظ ذكره المرء أجزأ، والأفضل أن يستعمل أكمله وأبلغه. واستدل على ذلك بالاختلاف النقل عن الصحابة، فذكر ما نقل عن علي وهو حديث طويل موقوف أخرجه الطبري، وسعيد بن منصور، والطبراني، وابن فارس، وعن ابن مسعود أخرجه ابن ماجه، والطبري-انتهى كلام الحافظ مختصراً. (متفق عليه) واللفظ للبخاري في ترجمة إبراهيم من كتاب الأنبياء، وفي الدعوات، وأخرجه أيضاً أحمد، ومالك، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه. 927-قوله: (من صلى علي واحدة) أي صلاة واحدة (صلى الله عليه عشراً) أي عشر صلوات، وكلما زاد زاده بتلك النسبة. قال الشوكاني: المراد بالصلاة من الله الرحمة لعباده، وأنه يرحمهم رحمة بعد رحمة حتى تبلغ رحمته ذلك العدد، وقيل: المراد بصلاته عليهم إقباله عليهم بعطفه، وإخراجهم من ظلمة إلى رفعة ونور كما قال سبحانه: {هو

{الفصل الثاني}

رواه مسلم. {الفصل الثاني} 928- (4) عن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى علي صلاة واحدة، صلى الله عليه عشر صلوات، وحطت عنه عشر خطيئات، ورفعت له عشر درجات. ـــــــــــــــــــــــــــــ الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور} [33: 43] انتهى. وقال عياض، معناه: رحمه وضاعف أجره، كقوله تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} [6: 160] . قال القاري: والظاهر أن هذا أقل المضاعفة. قال عياض: ويجوز أن تكون الصلاة على وجهها، وظاهرها كلاماً يسمعه الملائكة تشريفاً للمصلي وتكريماً له، كما جاء: وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم-انتهى. وقد يستشكل بأنه كيف يجوز أن يكون الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - واحدة وعلى المصلي عشرا؟ وأجيب بأن الواحدة صفة فعل المصلي، وجزاءها عشر صلوات من الله عليه على ما قال تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} [6: 160] . ولا يفهم منه أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - من الله تكون واحدة، فإن فضل الله واسع، ولو سلمنا أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - من الله تكون واحدة، فلعل هذه الصلاة الواحدة من الله تساوي في الشرف مائة ألف صلاة، أو تزيد في الشرف والكرامة بمائة ألف مرة، كما أن الجوهرة الواحدة الثمينة النفيسة تساوي في الثمن مائة ألف فلس، والله أعلم. والجمع بين هذا الحديث وبين ما يأتي من حديث عبد الله بن عمرو، قال: من صلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - واحدة صلى الله عليه وملائكته سبعين صلاة، بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعلم بهذا الثواب شيئاً فشيئاً، فكلما علم بشيء قاله، فعلم - صلى الله عليه وسلم - بأن ثواب من صلى عليه هو ما في الحديث الأول، وما ورد في معناه، فأخبر به، ثم علم بأن ثوابه هو ما جاء في الحديث الثاني فأخبر به. قال ابن العربي في عارضة الأحوذى (ج2: ص273) : الذي أعتقده - والله أعلم - أن قوله: من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشراً، ليست لمن قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هي لمن صلى عليه كما علم بما نصصناه عنه، والله أعلم-انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن حبان في صحيحه، وفي بعض ألفاظ الترمذي: من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً، وكتب له بها عشر حسنات. لكن رواية الترمذي هذه لم أجدها، وقد أشار إليها المنذري في الترغيب وذكر أنها رواية عند الترمذي، فكأنه لم يجدها في كتاب آخر. 928-قوله. (وحطت عنه عشر خطيئات) أي غفرت، وسترت، ووضعت، ولعله اختير لفظ "حطت" لمقابلة قوله: (ورفعت له عشر درجات) في الدنيا بتوفيق الطاعات، وفي القيامة بتثقيل الحسنات، وفي الجنة بزيادة الكرامات. قال الطيبي: الصلاة من العبد طلب التعظيم والتبجيل لجناب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والصلاة من الله تعالى أي

رواه النسائي. 929- (5) وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة)) . رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ في الجزاء إن كانت بمعنى الغفران فيكون من باب المشاكلة من حيث اللفظ، وإن كانت بمعنى التعظيم فيكون من الموافقة لفظاً ومعنى، وهذا هو الوجه لئلا يتكرر معنى الغفران، أي مع الحط. ومعنى الأعداد المخصوصة محمول على المزيد والفضل في المعنى المطلوب، كذا في المرقاة. قال ابن العربي: إن قيل قد قال الله تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} [6: 160] فما فائدة هذا الحديث؟ قلنا: أعظم فائدة، وذلك أن القرآن اقتضى أن من جاء بحسنة تضاعف عشرة، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - حسنة، فمقتضى القرآن أن يعطي عشر درجات في الجنة، فأخبر أن الله تعالى يصلي على من صلى على رسوله عشراً، وذكر الله العبد أعظم من الحسنة مضاعفة، قال: ويحقق ذلك أن الله تعالى لم يجعل جزاء ذكره إلا ذكره وكذلك جعل جزاء ذكر نبيه ذكره لمن ذكره. قال العراقي: ولم يقتصر على ذلك حتى زاده كتابة عشر حسنات، وحط عنه عشر سيئات، ورفعه عشر درجات كما ورد في الأحاديث. (رواه النسائي) وأخرجه أيضاً أحمد، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه (ج1: ص550) وقال صحيح الإسناد. وأقره الذهبي، وله شواهد من حديث سعيد بن عمر الأنصاري عند أبي نعيم في الحلية، ومن حديث أبي بردة بن نيار، وأبي طلحة، كلاهما عند النسائي، ورواتهما ثقات، ومن حديث البراء بن عازب عند ابن أبي عاصم في كتاب الصلاة عن مولى للبراء لم يسمه عنه. 929- قوله: (أولى الناس بي يوم القيامة) أي أقربهم مني في القيامة، وأحراهم باللحوق بي، وأحقهم بالفوز بشفاعتي. قال الطيبي: يعني أخص أمتي، وأقربهم مني، وأحقهم بشفاعتي، من الولى بمعنى القرب، وضمن معنى الاختصاص فعدى بالباء. (أكثرهم على صلاة) أي في الدنيا، وذلك؛ لأن الاستكثار من الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - يورث المحبة وهي تورث الاتحاد، وقال المناوي: لأن كثرة الصلاة عليه تدل على صدق المحبة وكمال الوصلة، فتكون منازلهم في الآخرة منه بحسب تفاوتهم في ذلك-انتهى. قال ابن حبان في صحيحه عقب هذا الحديث: فيه بيان أن أولاهم به - صلى الله عليه وسلم - في القيامة أصحاب الحديث، إذ ليس من هذه الأمة قوم أكثر صلاة عليه منهم. وقال الخطيب البغدادي: قال لنا أبونعيم: هذه منقبة شريفة يختص بها رواة الآثار ونقلتها؛ لأنه لا يعرف لعصابة من العلماء من الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر مما يعرف لهذه العصابة نسخاً وذكراً، يعني كتابة وقولاً. (رواه الترمذي) وقال هذا حديث حسن غريب، وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه كلاهما من رواية موسى بن يعقوب الزمعي عن عبد الله بن كيسان الزهري، وموسى هذا وثقة ابن معين وابن القطان، وقال الآجري عن أبي داود: هو صالح، وقال ابن عدي: لا بأس به عندي ولا برواياته.

930- (6) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام)) رواه النسائي، والدارمي. 931- (7) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من أحد يسلم علي ـــــــــــــــــــــــــــــ وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن المديني: ضعيف، منكر الحديث. وقال النسائي: ليس بالقوي، كذا في تهذيب التهذيب (ج1: ص378) ، والميزان (ج3: ص221) وقال الحافظ في التقريب: صدوق، سيء الحفظ-انتهى. وأما عبد الله بن كيسان فقال عنه ابن القطان: لا يعرف حاله، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الحافظ: هو مقبول، وللحديث شاهد من حديث أبي أمامة بلفظ: صلاة أمتي تعرض علي في كل جمعة، فمن كان أكثرهم علي صلاة كان أقربهم مني منزلة، أخرجه البيهقي. قال الحافظ في الفتح: لا بأس بسنده. 930- قوله: (إن لله ملائكة) أي جماعة، منهم. (سياحين) صفة الملائكة، بالسين المهملة من السياحة وهي السير، يقال: ساح في الأرض يسيح سياحة إذا ذهب فيها، وأصله من السيح وهو الماء الجاري المنبسط على الأرض، في القاموس: ساح الماء، جرى على وجه الأرض، والسياح- بالتشديد- كالعلام مبالغة منها. (يبلغوني) من الإبلاغ أو التبليغ، قال القاري: وروي بتخفيف النون على حذف إحدى النونين. وقيل بتشديدها على الإدغام. (من أمتي السلام) أي يبلغوني سلام من سلم علي منهم قليلاً أو كثيراً وإن بعد قطره، أي فيرد عليه بسماعه منهم، وفيه حث على الصلاة والسلام عليه، وتعظيم له - صلى الله عليه وسلم -، وإجلال لمنزلته، حيث سخر الملائكة الكرام لهذا الشأن الفخم. قال الشوكاني: في الحديث الترغيب العظيم للاستكثار من الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم -، فإنه إذا كانت صلاة واحدة من صلاة من صلى عليه تبلغه كان ذلك منشطاً له أعظم تنشيط، والاقتصار في الحديث على السلام لا ينافي إبلاغ الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم -، فحكمهما واحد كما يدل عليه حديث الحسن بن علي، وحديث أنس كلاهما عند الطبراني، وسنذكر لفظهما. (رواه النسائي والدارمي) وأخرجه أيضاً أحمد، وابن حبان في صحيحه، والحاكم (ج2: ص421) وقال صحيح، وأقره الذهبي. وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. وأخرج الطبراني في الكبير بإسناد حسن من حديث الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: حيثما كنتم فصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني، وأخرج الطبراني في الأوسط بإسناد لا بأس به من حديث أنس - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من صلى علي بلغتني صلاته، وصليت عليه، وكتب له سوى ذلك عشر حسنات. 931- قوله: (ما من أحد يسلم علي) ظاهره الإطلاق الشامل لكل مكان وزمان، فيكون فيه دليل على حصول فضيلة رد السلام لكل مسلم قريباً كان أو بعيداً، وعلى أنه - صلى الله عليه وسلم - يرد السلام على من يسلم عليه من جميع الآفاق من جميع أمته على بُعد شقته، لكن فهم عامة العلماء منه أن المراد السلام عليه عند قبره، فيدل على تخصيص رد السلام بالقريب من

القبر. قال الحفني: قوله ما من أحد أي مؤمن يسلم، الخ. ظاهره ولو بعيداً عن القبر، لكن خصه بعض الأئمة بالقريب منه، أما البعيد فيبلغه الملك-انتهى. وقال الحافظ العلامة محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي الحنبلي في "الصارم المنكي في الرد على التقي السبكي" (ص172) : قوله: "ما من أحد يسلم" يحتمل أن يكون المراد به عند قبره كما فهمه جماعة من الأئمة، ويحتمل أن يكون معناه على العموم، وأنه لا فرق في ذلك بين القريب والبعيد، وهذا هو ظاهر الحديث، وهو الموافق للأحاديث المشهورة التي فيها "فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم، وإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم" يشير بذلك - صلى الله عليه وسلم - إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبُعدكم منه، فلا حاجة بكم إلى اتخاذه عيداً. والأحاديث عنه بأن صلاتنا وسلامنا تبلغه، وتعرض عليه، كثيرة-انتهى. وقال الشوكاني: ليس في الحديث ما يدل علىاعتبار كون المسلّم عليه على قبره، بل ظاهره أعم من ذلك-انتهى. قلت: إن كان المراد بالسلام في قوله: ما من أحد يسلم، الخ. ما هو بمنزلة سلام التحية الموجب للرد الذي هو حق المسلم، ولا يختص بالمؤمن، فإن الصحيح أن المراد في الحديث السلام عليه عند قبره كما فهمه كثير من العلماء؛ لأن سلام التحية على الميت يكون عند القبر لكن السلام المشروع عند القبر الذي هو سلام تحية ليس من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا روي أن الميت يرد السلام مطلقاً. فقد أخرج ابن عبد البر في الاستذكار والتمهيد عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه، ورد عليه السلام، صححه أبومحمد عبد الحق، قال: وهذا نص في أنه يعرفه بعينه، ويرد عليه السلام، وروى ابن أي الدنيا في كتاب القبور بسنده عن زيد بن أسلم، عن أبي هريرة، قال: إذا مر الرجل بقبر يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام، وعرفه، وإذا مر بقبر لا يعرفه فسلم عليه رد عليه. وعلى هذا فالحديث يكون مختصاً بالحاضر عند قبره. وأما الغائب فلا يحصل له ذلك. وإن كان المراد بالسلام في الحديث ما أمر الله به في القرآن، أعني الذي يسلم على صاحبه كما يصلي على من صلى عليه، والذي يختص بالمؤمن ولا يوجب الرد ولا يستدعيه، بل هو بمنزلة دعاء المؤمن للمؤمنين والاستغفار لهم، وله فيه الأجر والثواب من الله ليس على المدعو لهم مثل ذلك الدعاء، خلافاً لسلام التحية، فحمله على العموم هو الظاهر بل هو المتعين؛ لأنه ليس في الحديث ما يدل على اعتبار كون المسلم عليه حاضراً عند قبره، ولأن السلام مأمور به في القرآن مع الصلاة عليه بقوله: {صلوا عليه وسلموا تسليماً} [33: 56] مشروع له في جميع الأمكنة، لا يختص بمكان دون مكان، ولا مزية للسلام عليه عند قبره، كما لا مزية للصلاة عليه عند قبره، بل قد نهى عن تخصيص قبره بهذا كما روى: لا تتخذوا قبري عيداً، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم. والراجح عندي أن المراد بالسلام في الحديث سلام دعاء لا سلام تحية، فيتعين حمل الحديث على العموم، ولا يكون في ذلك فرق بين القريب والبعيد، كما قال في "الصارم المنكي": ولا يكون الحديث مختصاً بالزائر للقبر، الحاضر

عنده، بل يحصل ذلك لكل مسلم قريباً كان أو بعيداً، وحينئذٍ تحصل فضيلة رد النبي - صلى الله عليه وسلم - السلام على المسلّم من غير زيارة وحضور عند قبره. قال القاري في شرح الشفاء: ظاهر حديث أبي هريرة الإطلاق الشامل لكل مكان وزمان، ومن خص الرد بوقت الزيارة فعليه البيان-انتهى. وسيأتي من حديث أبي هريرة ما يدل على أن سلام الغائب عن قبره يبلغه ويعرض عليه، وأما الحاضر عند القبر، الزائر له إن كانت الزيارة المعهودة ممكنة مقدورة فهل يكون كذلك أو يسمعه - صلى الله عليه وسلم - بغير واسطة؟ فقال القاري: الزائر إذا صلى وسلم عند قبره سمعه سماعاً حقيقياً بخلاف من يصلي ويسلم عليه من بعيد، فإن ذلك لا يبلغه إلا بواسطة لما جاء عنه بسند جيد: من صلى علي عند قبري سمعته، ومن صلى علي من بعيداً علمته-انتهى. قلت: أخرج هذا الحديث أبوبكر بن أبي شيبة، والبيهقي، والعقيلي من طريق العلاء بن عمرو الحنفي، عن محمد بن مروان السدي، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من صلى عليّ عند قبري سمعته، ومن صلى علي نائياً عن قبري بلغته. قال العقيلي: لا أصل له من حديث الأعمش، وليس بمحفوظ-انتهى. قلت: قد تكلم ابن حبان، والأزدي في العلاء بن عمرو، فقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به بحال، وقال الأزدي: لا يكتب عنه بحال. ومحمد بن مروان السدي متروك الحديث، متهم بالكذب، ورواه الطبراني من طريق العلاء أيضاً، ولفظه: من صلى علي من قريب سمعته، ومن صلى علي من بعيد أبلغته. وقد رواه أبوالشيخ في كتاب الثواب بلفظ الطبراني من رواية أبي معاوية عن الأعمش، قال في الصارم: وهو خطأ فاحش، وإنما هو محمد بن مروان السدي، وهو متروك الحديث، متهم بالكذب. وقال ابن القيم في جلاء الأفهام: هذا الحديث غريب جداً، وقد ظهر بهذا أن قول القاري "بسند جيد" ليس بجيد، وكذا ما قال الحافظ في الفتح في رواية أبي الشيخ "أنه أخرجها بسند جيد" لا يخلو عن نظر وإشكال. وهذا، وقد ورد ما يدل على عدم السماع عند القبر، وهو ما روى البيهقي في الشعب بسند فيه محمد بن موسى الكديمي البصري، ومحمد بن مروان السدي، والكديمي متهم بالكذب، ووضع الحديث، والسدي متهم بالكذب، متروك الحديث عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعاً: ما من عبد يسلم علي عند قبري إلا وكّل الله به ملكاً يبلغني. وفي رواية: من صلى علي عند قبري وكل الله به ملكا يبلغني، الخ. واعلم أن الذي استحبوا سلام التحية في المسجد خارج الحجرة - وهم أحمد وأبوداود، وابن حبيب والبيهقي، وغيرهم - قد ذهبوا إلى أن المراد بالسلام في الحديث السلام عند قبره، وأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يرد على كل مسلّم عليه في صلاته في شرق الأرض وغربها، واحتجوا لما اختاروه بهذا الحديث، واعتمدوا عليه في مسألة الزيارة، لكن في الاستدلال به على استحباب سلام التحية في المسجد خارج الحجرة نظر. قال محمد بن عبد الهادي المقدسي في "الصارم المنكي" (ص105) : إن كان المراد السلام عليه عند قبره كما فهمه عامة العلماء فهل يدخل فيه من سلّم من خارج الحجرة، هذا مما

تنازع فيه الناس، وقد نوزعوا في دلالته، فمن الناس من يقول: هذا إنما يتناول من سلم عليه عند قبره كما كانوا يدخلون الحجرة على زمن عائشة فيسلمون على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان يرد عليهم، فأولئك سلموا عليه عند قبره، وكان يرد عليهم، وهذا قد جاء عموماً في حق المؤمنين: ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام، قالوا: فأما من كان في المسجد فهؤلاء لم يسلموا عليه عند قبره، بل سلامهم عليه كالسلام عليه في الصلاة، وكالسلام عليه إذا دخل المسجد وخرج، هذا هو السلام الذي أمر الله به في حقه بقوله: {صلوا عليه وسلموا تسليماً} [33: 56] . وهذا السلام قد ورد أنه من سلم مرة سلم الله عليه عشراً، كما أنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشراً. وقال في (ص107) : وسلام الزائر للقبر على الميت المؤمن من باب سلام التحية. ولهذا روي أن الميت يرد السلام مطلقاً، فالصلاة والسلام عليه - صلى الله عليه وسلم - في مسجده، وسائر المساجد، وسائر البقاع مشروع بالكتاب والسنة والإجماع. وأما السلام عند قبره من داخل الحجرة فهذا كان مشروعاً لما كان ممكنناً بدخول من يدخل على عائشة. وأما تخصيص هذا السلام والصلاة بالمكان القريب من الحجرة فهذا محل النزاع، وللعلماء في ذلك ثلاثة أقوال: منهم من ذكر استحباب السلام والصلاة عليه إذا دخل المسجد، ثم بعد أن يصلي في المسجد استحب أيضاً أن يأتي إلى القبر، ويصلي ويسلم، كما ذكر ذلك طائفة من أصحاب مالك، والشافعي، وأحمد. ومنهم من لم يذكر إلا الثاني فقط، وكثير من السلف لم يذكروا إلا النوع الأول فقط، فأما النوع الأول فهو المشروع لأهل البلد، وللغرباء في هذا المسجد، وغير هذا المسجد. وأما النوع الثاني فهو الذي فرق من استحبه بين أهل البلاد والغرباء، سواء فعله مع الأول أو مجرداً عنه، كما ذكر ذلك ابن حبيب وغيره. وقال في (ص126) : وإنما كان نزاعهم في الوقوف للدعاء له، والسلام عليه عند الحجرة. فبعضهم رأى هذا من السلام الداخل في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام، واستحبه لذلك. وبعضهم لم يستحبه إما لعدم دخوله، وإما لأن السلام المأمور به في القرآن مع الصلاة وهو السلام الذي لا يوجب الرد أفضل من السلام الموجب للرد، فإن هذا مما دل عليه الكتاب والسنة، واتفق عليه السلف، فإن السلام المأمور به في القرآن كالصلاة المأمور بها في القرآن كلاهما لا يوجب عليه الرد، بل الله يصلي على من يصلي عليه، ويسلم على من يسلم عليه، ولأن السلام الذي يوجب الرد هو حق للمسلم، ولهذا يرد السلام على من سلم وإن كان كافراً، وكان اليهود إذا سلموا يقول: عليكم، وأمر أمته بذلك. قال: ولا يجوز أن الكفار إذا سلموا عليه سلام التحية فإن الله يسلم عليهم عشراً، بل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجيبهم على ذلك فيوفيهم، كما لو كان لهم دَين فقضاه، وأما ما يختص بالمؤمنين فإذا صلوا عليه صلى الله على من صلى عليه عشراً، وإذا سلم عليه سلم الله عيه عشراً، وهذا الصلاة والسلام عليه هو المشروع في كل مكان بالكتاب، والسنة، والإجماع، بل هو مأمور به من الله

سبحانه وتعالى، لا فرق في هذا بين الغرباء وأهل المدينة عند القبر. وأما السلام عليه عند القبر فقد عرف أن الصحابة، والتابعين المقيمين بالمدينة لم يكونوا يفعلونه إذا دخلوا المسجد، وخرجوا منه، ولو كان هذا كالسلام عليه لو كان حياً لكانوا يفعلونه كلما دخلوا المسجد وخرجوا منه، كما لو دخلوا المسجد في حياته وهو فيه، فإنه مشروع لهم كلما رأوه أن يسلموا عليه، فهو لما كان حياً كان أحدهم إذا أتى يسلم، وإذا قام يسلم، ومثل هذا لا يشرع عند القبر باتفاق المسلمين، وهو معلوم بالاضطرار من عادة الصحابة، ولو كان سلام التحية خارج الحجرة لكان مستحباً لكل أحد، ولهذا كان أكثر السلف لا يفرقون بين الغرباء وأهل المدينة، ولا بين حال السفر وغيره، فإن استحباب هذا لهؤلاء وكراهته لهؤلاء حكم شرعي يفتقر إلى دليل شرعي، ولا يمكن أحداً أن ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه شرع لأهل المدينة الإتيان عند الوداع للقبر. وشرع لهم ولغيرهم ذلك عند القدوم من سفر، وشرع للغرباء تكرير ذلك كلما دخلوا المسجد وخرجوا منه، ولم يشرع ذلك لأهل المدينة. فمثل هذه الشريعة ليس منقولاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن خلفائه، ولا هو معروف من عمل الصحابة، وإنما نقل عن ابن عمر السلام عند القدوم من السفر، وليس هذا من عمل الخلفاء وأكابر الصحابة، فقد روى عبد الرزاق عن معمر: ذكرت ذلك أي عمل ابن عمر لعبيد الله بن عمر فقال: ما نعلم أحداً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك إلا ابن عمر، هكذا قال عبيد الله بن عمر العمري الكبير، وهو أعلم آل عمر في زمانه، وأحفظهم، وأثبتهم. قال الشيخ أي ابن تيمية: كما كان ابن عمر يتحرى الصلاة، والنزول والمرور حيث حل ونزل وغير ذلك في السفر، وجمهور الصحابة لم يكونوا يصنعون ذلك، بل أبوه عمر كان ينهى عن مثل ذلك كما روى سعيد بن منصور في سننه. وقال في (ص129) : ومما اتفق عليه الصحابة، ابن عمر وغيره من أنه لا يستحب لأهل المدينة الوقوف عند القبر للسلام إذا دخلوا المسجد وخرجوا، بل يكره ذلك، يبين ضعف حجة من احتج بقوله: "ما من رجل يسلم إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام"، فإن هذا لو دل على استحباب السلام من المسجد لما اتفق الصحابة على ترك ذلك، ولم يفرق بين القادم من السفر وغيره، فلما اتفقوا على ترك ذلك مع تيسره علم أنه غير مستحب، بل لو كان جائزاً لفعله بعضهم، فدل على أنه كان من المنهي عنه كما دلت عليه سائر الأحاديث، وعلى هذا فالجواب عن الحديث: إما بتضعيفه على قول من يضعفه، وإما بأن ذلك يوجب فضيلة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا فضيلة المسلم بالرد عليه. إذا كان هذا من باب المكافأة والجزاء حتى أنه يشرع للبر والفاجر التحية، بخلاف ما يقصد به الدعاء المجرد، وهو السلام المأمور به. وإما بأن يقال هذا مما هو في من سلم عليه من قريب، والقريب أن يكون في بيته، فإنه إن لم يحد بذلك لم يبق له حد محدود من جهة الشرع، ثم بسط الوجه الثاني، ثم ذكر في (ص131) كلام ابن تيمية في الرد على حجة من فرق بين الصادر من المدينة والوارد عليها، والوارد على مسجده من الغرباء، والصادر عنه. ثم قال في

(ص136) : والمقصود أن الصحابة كانوا في زمن الخلفاء الراشدين يدخلون المسجد ويصلون فيه الصلوات الخمس، ويصلون على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويسلمون عليه عند دخول المسجد وبعد دخوله، ولم يكونوا يذهبون ويقفون إلى جانب الحجرة ويسلمون عليه هناك، وكان على عهد الخلفاء الراشدين والصحابة حجرته خارجة عن المسجد، ولم يكن بينهم وبينه إلا الجدار. ثم إنه إنما أدخلت الحجرة في المسجد في خلافة الوليد بن عبد الملك بعد موت عامة الصحابة الذي كانوا بالمدينة، والوليد تولى سنة ست وثمانين، وتوفي سنة ست وتسعين. فكان بناء المسجد وإدخال الحجرة فيه فيما بين ذلك، وكان الذي تولى ذلك عمر بن عبد العزيز نائب الوليد على المدينة فسد باب الحجرة، وبنوا حائطاً آخر عليها غير الحائط القديم، فصار المسلم عليه من وراء الجدار أبعد من المسلم عليه لما كان جداًرا واحداً. قال هؤلاء: لو كان سلام التحية الذي يرده على صاحبه مشروعاً في المسجد لكان له حد، ذراع أو ذراعان، أو ثلاثة، فلا يعرف الفرق بين المكان الذي استحب فيه هذا. ولمكان الذي لا يستحب فيه. فإن قيل: من سلم عليه عند الحائط الغربي رد عليه. قيل: وكذلك من كان خارج المسجد، وإلا فما الفرق؟ وحينئذٍ يلزم أن يرد على جميع أهل الأرض، وعلى كل مصل في صلاة كما ظنه بعض الغالطين، ومعلوم بطلان ذلك. وإن قيل: يختص بقدر بين المسلم وبين الحجرة. قيل: فما حد ذلك؟ ولهم قولان: منهم من يستحب القرب من الحجرة كما استحب ذلك مالك وغيره، ولكن يقال: فما حد ذلك القرب؟ وإذا جعل له حد فهل يكون من خرج عن الحد فعل المستحب؟ وآخرون من المتأخرين يستحبون التباعد عن الحجرة كما ذكر ذلك من ذكره من أصحاب أبي حنيفة والشافعي فهل هو بذراع أو باع أو أكثر؟ وقدره من قدره من أصحاب أبي حنيفة بأربعة أذرع فإنهم قالوا: يكون حين يسلم عليه مستقبل القبلة، ويجعل الحجرة عن يساره، ولا يدنوا أكثر من ذلك، وهذا والله أعلم، قاله المتقدمون؛ لأن المقصود به السلام المأمور به في القرآن، كالصلاة عليه ليس المقصود به سلام التحية الذي يرد جوابه المسلم عليه، فإن هذا لا يشرع فيه هذا البعد، ولا يستقبل به القبلة، ولا يسمع إذا كان بالصوت المعتاد. وبالجملة فمن قال: إنه يسلم سلام التحية الذي يقصد به الرد فلا بد من تحديد مكان ذلك، فإن قال إلى أن يسمع ويرد السلام، فإن حد في ذلك ذراعاً، أو ذراعين أو عشرة أذرع، أو قال: إن ذلك في المسجد كله أو خارج المسجد فلا بد له من دليل، والأحاديث الثابتة عنه فيها أن الملائكة يبلغونه صلاة من صلى عليه، وسلام من سلم عليه، ليس في شيء منها أنه يسمع بنفسه ذلك، فمن زعم أنه يسمع ويرد من خارج الحجرة من مكان دون مكان فلا بد له من حد. ومعلوم أنه ليس في ذلك حد شرعي، وما أحد يحد في ذلك حداً إلا عورض بمن يزيده أو ينقصه ولا فرق، وأيضاً فذلك يختلف باختلاف ارتفاع الأصوات، وانخفاضها والسنة للمسلم في السلام عليه خفض الصوت، ورفع الصوت في مسجده منهي عنه بالسلام والصلاة وغير ذلك بخلاف المسلّم من الحجرة، فإنه فرق ظاهر بينه وبين المسلّم عليه من المسجد، ثم السنة لمن دخل مسجده أن يخفض صوته، فالمسلّم عليه إن رفع الصوت

أساء الأدب برفع الصوت في المسجد، وإن لم يرفع لم يصل الصوت إلى داخل الحجرة، وهذا بخلاف السلام الذي أمر الله به ورسوله الذي يسلم الله على صاحبه كما يصلي على من صلى عليه، فإن هذا مشروع في كل مكان لا يختص بالقبر. وبالجملة فهذا الموضع فيه نزاع قديم بين العلماء، وعلى كل تقدير فلم يكن عند أحد من العلماء الذين استحبوا سلام التحية في المسجد حديث في استحباب زيارة قبره يحتجون به، فعلم أن هذه الأحاديث. (يعني التي يوردها المبتدعون من القبوريين وغيرهم للاحتجاج لاستحباب السفر لمجرد زيارة قبره من غير قصد الصلاة في مسجد - صلى الله عليه وسلم -، وقد بين ما فيها من الكلام في "الصارم المنكي" مفصلاً) ليست مما يعرفه أهل العلم، ولهذا لما تتبعت وجدت رواتها إما كذاب، أو ضعيف سيء الحفظ، ونحو ذلك. وهذا الحديث الذي فيه "ما من مسلم يسلّم إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام" قد احتج به أحمد وغيره من العلماء، فلو قدر أن هذا مخالف لما هو أصح منه، وجب تقديم ذلك عليه، ولكن السلام على الميت ورده السلام على من سلم عليه قد جاء في غير هذا الحديث، ولو أريد إثبات سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل هذا الحديث لكان هذا مختلفاً فيه للنزاع في إسناده وفي دلالته متنه. وقال في (ص145) بعد ذكر الأحاديث التي فيها تبليغ صلاة أمته وسلامهم عليه: فهذه الأحاديث المعروفة عند أهل العلم التي جاءت من وجوه حسان فصدق بعضها بعضاً، وهي متفقة على أن من صلى عليه وسلم من أمته فإن ذلك يبلغه ويعرض عليه، وليس في شيء منها أنه يسمع صوت المصلي عليه والمسلّم بنفسه، إنما فيها أن ذلك يعرض عليه ويبلغه - صلى الله عليه وسلم - تسليماً، ومعلوم أنه أراد بذلك الصلاة والسلام الذي أمر الله به سواء صلى عليه وسلم في مسجده، أو مدينته، أو مكان آخر، فعلم أن ما أمر الله به من ذلك فإنه يبلغه، وأما من سلم عليه عند قبره فإنه يرد عليه، وذلك كالسلام على سائر المؤمنين ليس هو من خصائصه، ولا هو السلام المأمور به الذي يسلم الله على صاحبه عشراً، كما يصلي على من صلى عليه عشراً، فإن هذا هو الذي أمر الله به في القرآن، وهو لا يختص بمكان دون مكان، وقد تقدم حديث أبي هريرة أنه يرد السلام على من سلم عليه، والمراد عند قبره، لكن النزاع في معنى كونه عند القبر هل المراد في بيته كما يراد مثل ذلك في سائر ما أخبر به من سماع الموتى إنما هو لمن كان عند قبورهم قريباً منها، أو يراد به من كان في الحجرة كما قاله طائفة من السلف والخلف، وهل يستحب ذلك عند الحجرة لمن قدم من سفر أو لمن أراده من أهل المدينة أو لا يستحب بحال؟ وليس الاعتماد في سماعه ما يبلغه من صلاة أمته وسلامهم إلا على هذه الأحاديث الثابتة، فأما ذاك الحديث. (يعني ما روي عن أبي هريرة بلفظ: من صلى علي عند قبري سمعته، ومن صلى علي نائيا بلغته) وإن كان معناه صحيحاً، فإسناده لا يحتج به، وإنما يثبت معناه بأحاديث أخر، فإنه لا يعرف إلا من حديث محمد بن مروان السدي الصغير عن الأعمش، وهو عندهم موضوع على الأعمش، وهو لو كان صحيحاً فإنما فيه أنه يبلغ صلاة من صلى نائياً، ليس فيه أنه يسمع ذلك، فإن هذا لم يقله أحد من أهل العلم، ولا يعرف في شيء من الحديث، إنما يقوله بعض الجهال،

إلا رد الله عليّ روحي، حتى أرد عليه السلام. ـــــــــــــــــــــــــــــ يقولون: إنه يوم الجمعة وليلة الجمعة يسمع بأذنيه صلاة من صلى عليه، فالقول بأنه يسمع ذلك من نفس المصلي باطل، وإنما في الأحاديث المعروفة أنه يبلغ ذلك ويعرض عليه، وكذلك تبلغه إياه الملائكة، وقول القائل: إنه يسمع الصلاة من بعيد، ممتنع فإنه إن أراد وصول صوت المصلي إليه فهذه مكابرة، وإن أراد أنه هو بحيث يسمع أصوات الخلائق من البعد فليس هذا إلا لله رب العالمين الذي يسمع أصوات العباد كلهم-انتهى. وقال العلامة الشيخ محمد بشير السهسواني في "صيانة الإنسان" (ص21-24) : إن زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - المعهودة في زماننا هل يرفع فيها الصوت ويجهر له بالقول أم لا؟ والأول منهي عنه لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} [49: 2] . وقال: في هذا الشق يلزم ثلاث محذورات، الأول: رفع الصوت في المسجد. والثاني: رفع الصوت في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والثالث: رفع الصوت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: والشق الثاني أيضاً باطل، فإن السلام المشروع عند القبر سلام تحية لا سلام دعاء، وسلام التحية لا بد فيه من أن يفعل بحيث يسمعه المسلّم عليه حتى يرده على المسلّم. قال في المواهب وشرحه للزرقاني: ويكثر من الصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحضرته الشريفة حيث يسمعه ويرد عليه، بأن يقف بمكان قريب منه، ويرفع صوته إلى حد لو كان حياً مخاطباً لسمعه عادة-انتهى. وقال الزرقاني: والظاهر أن المراد بالعندية قرب القبر بحيث يصدق عليه عرفاً أنه عنده، وبالبُعد ما عداه وإن كان بالمسجد-انتهى. ولما سدت حجرة عائشة التي هي مدفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبنيت على القبر حيطان مرتفعة مستديرة حوله، ثم بنى عليه جدران من ركني القبر الشمالين، تعذر الوصول إلى قرب القبر، فالزائرون اليوم إنما يسلمون من مسافة لو سلم على حي من تلك المسافة لما سمعه فكيف يسمعه النبي - صلى الله عليه وسلم - ويرده عليه ولو سلم حياته - صلى الله عليه وسلم - في القبر؟ فإن قيل: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الممات يمكن أن يزداد قوة سمعه فيسمع من تلك المسافة. فيقال: أي دليل على هذا من كتاب وسنة. ومجرد الإمكان العقلي لا يغني عن شيء، علا أنه هل لذلك تحديد أم لا؟ على الثاني يستوي المسلم من بعيد والمسلم عند القبر، وهذا باطل عند من يقول بقربة الزيارة، فإنهم فضلوا السلام عند القبر على السلام من بعيد كالسبكي، وابن حجر المكي. وعلى الأول فلا بد من بيانه بدليل شرعي وأنى له ذلك؟. (إلا رد الله على روحي حتى أرد عليه السلام) هذا مشكل على من ذهب إلى أن الأنبياء بعد ما قبضوا ردت إليهم أرواحهم، فهم أحياء عند ربهم كالشهداء، ووجه الإشكال فيه أن عود الروح إلى الجسد يقتضي انفصالها عنه، وهو الموت، وهو لا يلتئم مع كونه حياً دائماً، بل رد روحه يلزمه تعدد حياته ووفاته في أقل من ساعة، إذ الكون لا يخلو من أن يسلم عليه بل قد يتعدد في آن واحد كثيراً، وقد أجابوا عنه بأجوبة، أحدها: أن المراد بقوله: "رد الله على روحي"، أن رد روحه كانت سابقة عقب دفنه، لا أنها تعاد ثم تنزع. قال السيوطي في تأليفه الذي أفرده للجواب عن هذا الإشكال سماه "انتباه الأذكياء بحياة

الأنبياء" ما نصه: أن قوله " رد الله روحي" جملة حالية، وقاعدة العربية أن جملة الحال إذا صدرت بفعل ماض قدرت فيه "قد" كقوله تعالى: {أو جاءوكم حصرت صدورهم} [4: 90] أي قد حصرت، وكذا ههنا يقدر "قد" والجملة ماضية سابقة على السلام الواقع من كل أحد، و"حتى" ليست للتعليل بل لمجرد العطف بمعنى الواو، فصار تقدير الحديث: ما من أحد يسلم علي إلا قد رد الله علي روحي قبل ذل: وأرد عليه، وإنما جاء الإشكال من أن جملة "رد الله علي روحي" بمعنى حال أو استقبال، وظن أن "حتى" تعليلية ولا يصح ذلك كله، وبهذا الذي قدرناه ارتفع الإشكال من أصله، ويؤيده من حيث المعنى أن الرد لو أخذ بمعنى حال أو استقبال للزم تكرره عند تكرار المسلمين، وتكرر الرد يستلزم تكرر المفارقة، وتكرر المفارقة يلزم منه محذورات، منها: تألم الجسد الشريف بتكرار خروج روحه وعوده، أو نوع ما من مخالفة تكرير إن لم يتألم، ومنها: مخالف سائر الناس من الشهداء وغيرهم، إذ لم يثبت لأحدهم أنه يتكرر له مفارقة روحه وعوده بالبرزخ، وهو - صلى الله عليه وسلم - أولى بالاستمرار الذي هو أعلى رتبة، ومنها: مخالفة القرآن إذ دل أنه ليس إلا موتتان وحياتتان، وهذا التكرار يستلزم موتات كثيرة وهو باطل. ومنها: مخالفة الأحاديث المتواترة الدالة على حياة الأنبياء. وما خالف القرآن والسنة المتواترة وجب تأويله-انتهى. وهذا الجواب هو أحسن الأجوبة وأقواها عند السيوطي كما صرح به في رسالته، وقد تلقى هذا الجواب عن البيهقي وسيأتي ما فيه من الكلام. الثاني: أنه يستغرق في أمور الملأ الأعلى، فإذا سلم عليه رجع إليه فهمه ليجيب من سلم عليه، قال السيوطي: لفظ الرد قد لا يدل على المفارقة، بل كنى به عن مطلق الصيرورة، وحسنه هنا مراعاة المناسبة اللفظية بينه وبين قوله: حتى أرد عليه السلام، فجاء لفظ الرد في صدر الحديث لمناسبة ذكره بآخره، وليس المراد بردها عودها بعد مفارقة بدنها، وإنما النبي - صلى الله عليه وسلم - بالبرزخ مشغول بأحوال الملكوت، مستغرق في مشاهدته تعالى كما هو في الدنيا بحالة الوحي، فعبر عن أفاقته من تلك الحالة برد الروح. وقال البيهقي: ويحتمل أن يكون رداً معنوياً، وأن تكون روحه الشريفة مشتغلة بشهود الحضرة الإلهية، والملأ الأعلى عن هذا العالم، فإذا سلم عليه أقبلت روحه الشريفة على هذا العالم لتدرك سلام من يسلم عليه ويرد عليه-انتهى. وقد نظر في هذين الجوابين الحافظ أبوعبد الله بن محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي في "الصارم المنكي (ص 179، 203) فقال: في كل منهما نظر، أما الأول فمضمونه رد روحه - صلى الله عليه وسلم - بعد موته إلى جسده، واستمرارها فيه قبل سلام من يسلم عليه، وليس هذا المعنى مذكور في الحديث، ولا هو ظاهره، بل هو مخالف لظاهره، فإن قوله "إلا رد الله علي روحي" بعد قوله "ما من أحد يسلم على "يقتضي رد الروح بعد السلام، ولا يقتضي استمرارها في الجسد، وليعلم أن رد الروح بعد السلام للبدن وعودها إلى الجسد بعد الموت لا يقتضي استمرارها فيه، ولا يستلزم حياة أخرى قبل يوم النشور نظير الحياة المعهودة، بل إعادة الروح إلى الجسد في البرزخ إعادة برزخية لا تزيل عن الميت اسم الموت، وقد ثبت في حديث البراء بن عازب

الطويل المشهور في عذاب القبر ونعيمه، وفي بيان الميت وحاله، أن روحه تعاد إلى جسده مع العلم بأنها غير مستمرة فيه وأن هذه الإعادة ليست مستلزمة لإثبات حياة مزيلة لاسم الموت، بل هي نوع حياة برزخية، والحياة جنس تحته أنواع، وكذلك الموت، فإثبات بعض أنواع الموت لا ينافي الحياة كما في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان إذا استيقظ من النوم قال: الحمد لله الذي أحياناً بعد ما أماتنا وإليه النشور، وتعلق الروح بالبدن واتصالها به يتنوع أنواعاً، أحدها: تعلقها به في هذا العالم يقظة ومناماً. الثاني: تعلقها به في البرزخ، والأموات متفاوتون في ذلك، فالذي للرسل والأنبياء أكمل مما للشهداء، ولهذا لا تبلى أجسادهم، والذي للشهداء أكمل مما لغيرهم من المؤمنين الذين ليسوا بشهداء. والثالث: تعلقها به يوم البعث الآخر، ورد الروح إلى البدن في البرزخ لا يستلزم الحياة المعهودة، ومن زعم استلزمه لها لزمه ارتكاب أمور باطلة مخالفة للحس، والشرع، والعقل، وهذا المعنى المذكور في حديث أبي هريرة من رده - صلى الله عليه وسلم - السلام على من يسلم عليه قد ورد نحوه في الرجل يمر بقبر أخيه، فذكر ما رواه ابن عبد البر من حديث ابن عباس مرفوعاً: ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه. حتى يرد عليه السلام، ثم قال: ولم يقل أحد إن هذا الرد يقتضي استمرار الروح في الجسد، ولا قال إنه يستلزم حياة نظير الحياة المعهودة، ثم ذكر آثاراً عن أبي هريرة، وعائشة بمعناه، وقال: قد روي في هذا الباب آثار كثيرة، وفي الجملة رد الروح على الميت في البرزخ، ورد السلام على من يسلم عليه لا يستلزم الحياة التي يظنها بعض الغالطين، وإن كانت نوع حياة برزخية، وقول من زعم أنها نظير الحياة المعهودة، مخالف للمنقول والمعقول، ويلزم منه مفارقته الروح للرفيق الأعلى، وحصولها تحت التراب قرناً بعد قرن والبدن حي مدرك سميع بصير تحت أطباق التراب والحجارة، ولوازم هذا الباطلة مما لا يخفى على العقلاء وبهذا يعلم بطلان تأويل قوله "إلا رد الله على روحي" بأن معناه: إلا وقد رد الله علي روحي، وأن ذلك مستمر وأحياه الله قبل يوم النشور، وأقره تحت التراب واللبن، فيا ليت شعري هل فارقت روحه الكريمة الرفيق الأعلى واتخذت بييت تحت الأرض مع البدن أم في الحال الواحد هي في المكانين؟ قال: وأما الجواب الثاني: وهو أن هذا رد معنوي، ففيه نوع من الحق، لكن صاحبه قصر فيه غاية التقصير، وهو إنما يصح ويجيء على قول أهل السنة من الفقهاء والمحدثين وغيرهم أن الروح ذات قائمة بنفسها لها صفات تقوم بها، وأنها تقارن البدن، وتصعد وتنزل، وتقبض، وتنعم، وتعذب، وتدخل، وتخرج، وتذهب، وتجيء، وتسأل، وتحاسب، ويقبضها الملك، ويعرج بها إلى السماء، ويشيعها ملائكة السموات إن كانت طيبة، وإن كانت خبيثة طرحت طرحاً، وأنه تحس، وتدرك، وتأكل، وتشرب في البرزخ من الجنة، كما دلت عليه السنة الصحيحة في أرواح الشهداء خصوصاً، والمؤمنين عموماً، ومع هذا فلها شأن آخر غير شأن البدن، فإنها تكون في الملأ الأعلى فوق السموات، وقد تعلقت بالبدن تعلقاً يقتضي رد السلام

على من سلم، وهي في مستقرها في عليين مع الرفيق الأعلى، وقد مر النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء على موسى قائماً يصلي في قبره، ثم رآه في السماء السادسة، ولا ريب أن موسى لم يرفع من قبره تلك الليلة لا هو ولا غيره من الأنبياء الذين رآهم في السموات، بل لم تزل تلك منازلهم من السموات، وإنما رآهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء في منازلهم التي كانوا فيها من حين رفعهم الله سبحانه إليها، ولم تكن صلاة موسى بقبره بموجبه مفارقة روحه للسماء السادسة، وحلولها في القبر بل هي مستقرها، ولها تعلق بالبدن قوي، حتى حمله على الصلاة، وإذا كان النائم تقوى نفسه وفعلها في حال النوم حتى تحرك البدن، وتقيمه وتوثر فيه فما ظن بأرواح الأنبياء، وقد ثبت في الصحيح: أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر، تأكل من ثمار الجنة، وتشرب من أنهارها، وتسرح فيها حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش، وهذا شأنها حتى يبعثها الله سبحانه إلى أجسادها، ومع هذا فإذا زارهم المسلم وسلم عليهم عرفوا به وردوا عليه السلام، بل ونسمة المؤمن كذلك مع كونها طائراً تعلق في شجر الجنة ترد على صاحبها، وتشعر به إذا سلم عليه المسلم، وقد قال أبوالدرداء: إذا نام العبد عرج بروحه حتى يؤتى بها إلى العرش، فإن كان طاهراً أذن لها بالسجود. ذكره ابن مندة في كتاب الروح. قال: فهذه روح النائم متعلقة ببدنه، وهي في السماء تحت العرش، وترد إلى البدن في أكثر وقت، فروح النائم مستقرها البدن، تصعد حتى تبلغ السماء، وترى ما هنالك، ولم تفارق البدن فراقاً كلياً، وعكسه أرواح الأنبياء، والصديقين والشهداء، مستقرها في عليين، وترد إلى البدن أحياناً، ولم تفارق مستقرها، ومن لم ينشرح صدره لفهم هذا والتصديق به فلا يبادر إلى رده وإنكاره بغير علم، فإن للأرواح شأناً آخر غير شأن الأبدان، ولا يلتفت إلى كثافة طبع الجهمى، وغلظ قلبه، ورقة إيمانه، ومبادرته إلى تكذيب ما لم يحط بعلمه-انتهى. الجواب الثالث: أن المراد بالروح الملك المؤكل بإبلاغه السلام. الرابع: أن المراد بالروح هنا النطق من إطلاق اللازم وإرادته الملزوم، أي فهو - صلى الله عليه وسلم - في البرزخ مشغول بالمشاهدة كما كان في الدنيا، إلا أنه تعالى أعطاه قوة في الدنيا على تبليغ الأحكام: والاشتغال بالخلق ظاهراً مع شغل باطنه بشهود مولاه، وفي البرزخ لا شغل له بالخلق أصلاً بل بالشهود، فلا ينطق بالكلام إلا إذا سلم عليه شخص، فيرد عليه إكراماً له، فنطقه - صلى الله عليه وسلم - موجود بالقوة؛ فلما لم يوجد بالفعل لشغله بحضرة القدس صار كالممنوع من النطق، فلذا قال "رد الله علي روحي " أي نطقي. قال الخفاجي: استعارة رد الروح للنطق بعيدة وغير معروفة، وكون المراد بالروح "الملك" تأباه الإضافة لضمير، إلا أنه ملك موكل كان ملازماً له فاختص به، على أنه أقرب الأجوبة، وقد ورد إطلاق الروح على الملك في القرآن. الخامس: أن الأنبياء والشهداء أحياء، وحياة الأنبياء أقوى، وإذا لم يسلط عليهم الأرض فهم كالنائمين، والنائم لا يسمع ولا ينطق حتى ينتبه كما قال تعالى: {والتي لم تمت في منامها} [39: 42] الآية، فالمراد بالرد الإرسال الذي في الآية، وحينئذٍ فمعناه أنه إذا سمع الصلاة والسلام بواسطة أو بدونها تيقظ ورد، لا أن روحه

رواه أبوداود والبيهقي في "الدعوات الكبير". ـــــــــــــــــــــــــــــ قبض قبض الممات، ثم ينفخ وتعاد كموت الدنيا وحياتها؛ لأن روحه مجردة نورانية، وهذا لمن زاره. ومن بعُد عنه تبلغه الملائكة سلامه، ذكره الخفاجي. وقد استشكل هذا الحديث من جهة أخرى. وهو أنه يستلزم استغراق الزمان كله في ذلك لاتصال الصلاة والسلام عليه في أقطار الأرض ممن لا يحصى كثرة. وأجيب بأن أمور لا تدرك بالعقل، وأحوال البرزخ أشبه بأحوال الآخرة. قلت: هذا الجواب هو الجواب الحق الصحيح عن كل إشكال يرد على هذا الحديث، فنؤمن بظاهر الحديث، ونصدق به؟ ونكل علمه إلى الله ورسوله، ولا نقيس أمر البرزخ على ما نشاهده في الدنيا فإن هذا من قياس الغائب على الشاهد. وهو غاية الجهل والغباوة والظلم والضلال. (رواه أبوداود) في آخر الحج. (والبيهقي في الدعوات الكبير) وأخرجه أيضاً أحمد في مسنده كلهم من طريق أبي صخر حميد بن زياد. عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هريرة. وقد سكت عنه أبوداود، وقال المنذري: أبوصخر حميد بن زياد قد أخرج له مسلم في صحيحه، وقد أنكر عليه شيء من حديثه، وضعفه يحيى بن معين مرة، ووثقه أخرى-انتهى. قلت: وضعفه النسائي أيضاً، لكن الظاهر توثيقه؛ لأنه وثقه أحمد، أبوحاتم والدارقطني وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن عدى بعد أن روى عنه ثلاثة أحاديث: وهو عندي صالح الحديث، وإنما أنكر عليه هذان الحديثان: المؤمن يألف. وفي القدرية، وسائر حديثه أرجو أن يكون مستقيماً. وبهذا ظهر تعيين ما أنكر على حميد بن صخر، وليس منه هذا الحديث. ومقتضى هذا أن لا ينحط هذا الحديث عن درجة الحسن، وقد صرح الحافظ في الفتح بأن رواته ثقات. وقال النووي في الأذكار: إسناده صحيح. وكذا قال في الرياض. وقال الإمام تقي الدين ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم: هذا الحديث على شرط مسلم. قال المقدسي في الصارم (ص169) : وفي ذلك نظر، فإن ابن قسيط وإن كان مسلم قد روى في صحيحه من رواية أبي صخر عنه لكنه لم يخرج من روايته عن أبي هريرة شيئاً. فلو كان قد أخرج في الأصول حديثاً من رواية أبي صخر، عن ابن قسيط، عن أبي هريرة أمكن أن يقال في هذا الحديث أنه على شرطه. واعلم أن كثيراً ما يروي أصحاب الصحيح حديث الرجل عن شيخ معين لخصوصيته به، ومعرفته بحديثه. وضبطه له، ولا يخرجون حديثه عن غيره لكونه غير مشهور بالرواية عنه، ولا معروف بضبط حديثه، أو لغير ذلك. فيجيء من لا تحقيق عنده فيرى ذلك المخرج له في الصحيح قد روى حديثاً عمن خرج له في الصحيح من غير طريق ذلك الرجل، فيقول: هذا على شرط الشيخين، أو على شرط البخاري، أو على شرط مسلم؛ لأنهما احتجا بذلك الرجل في الجملة، وهذا فيه نوع تساهل. فإن صاحبي الصحيح لم يحتجا به إلا في شيخ معين لا في غيره فلا يكون على شرطهما، ثم ذكر لذلك نظائر من الصحيحين ثم قال: وهكذا عادة مسلم غالباً، إذا روى لرجل قد تكلم فيه، ونسب إلى ضعف لسوء حفظه، وقلة ضبطه، إنما يروي له في الشواهد والمتابعات، ولا يخرج له شيئاً انفرد به، ولم يتابع عليه، فعلم أن هذا الحديث الذي تفرد به أبوصخر،

932- (8) وعنه، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)) ـــــــــــــــــــــــــــــ عن ابن قسيط عن أبي هريرة، لا ينبغي أن يقال: هو على شرط مسلم، وإنما هو حديث إسناده مقارب، وهو صالح أن يكون متابعاً لغيره، وعاضداً له - انتهى. 932- قوله: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً) أي كالقبور في خلوها عن الصلاة والذكر والعبادة، بل اشغلوها بذلك. قيل: المراد منه كراهة الصلاة في المقابر، والمعنى: أعطوا البيوت حظها من الصلاة والعبادة. ولا تجعلوها كالمقابر حيث لا يعبد ولا يصلي فيها، فأحال على المقابر لكونها معهودة معروفة بهذه الصفة حساً وشرعاً. وقيل: المراد الحث على الصلاة والعبادة في البيت، فإن الموتى لا يصلون في بيوتهم، وكأنه قال: لا تكونوا كالموتى الذين لا يصلون في بيوتهم وهي القبور، أو لا تتركوا الصلاة في بيوتكم حتى تصيروا كالموتى، وتصير هي كالقبور، فشبه المكان الخالي عن العبادة بالقبر، والغافل عنها بالميت، ثم أطلق القبر على المقبرة، ولا يبعد أن يكون المراد منه المعنيين كليهما، أعني النهي عن العبادة في المقابر، والندب إلى العبادة في البيوت. (ولا تجعلوا قبري عيداً) العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد عائد إما يعود السنة، أو يعود الأسبوع أو الشهر، ونحو ذلك. وقال ابن القيم: العيد ما يعتاد مجيئة وقصده من زمان ومكان، مأخوذ من المعاودة والاعتياد، فإذا كان اسماً للمكان فهو المكان الذي يقصد فيه الاجتماع والانتياب للعبادة عنده ولغير العبادة، كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر، جعلها الله تعالى عيداً للحنفاء ومثابة للناس، كما جعل أيام العيد منها عيداً، وكان للمشركين أعياد زمانية ومكانية، فلما جاء الله بالإسلام أبطلها، وعوض الحنفاء منها عيد الفطر وعيد النحر، كما عوضهم عن أعياد المشركين المكانية بكعبة ومنى ومزدلفة وسائر المشاعر-انتهى. قيل: المراد بالعيد ههنا أحد الأعياد. أي لا تجعلوا زيارة قبري عيداً، والمعنى: لا تجتمعوا للزيارة اجتماعكم للعيد، فإنه يوم لهو وسرور وزينة وحال الزيارة مخالفة لتلك الحالة. قال المناوي: معناه النهي عن الاجتماع لزيارته. اجتماعهم للعيد إما لدفع المشقة، أو كراهة أن يتجاوزا حد التعظيم. وقيل: العيد ما يعاد إليه، أي لا تجعلوا قبري عيداً تعودون إليه متى أردتم أن تصلوا علي، فظاهره النهي عن المعاودة، والمراد المنع عما يوجبه، وهو ظنهم بأن دعاء الغائب لا يصل إليه. ويؤيده قوله: (صلوا عليّ، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم) أي لا تتكلفوا المعاودة إلىّ، فقد استغنيتم بالصلاة عليّ. قال المناوي: ويؤخذ منه أن اجتماع العامة في بعض أضرحة الأولياء في يوم أو شهر مخصوص من السنة، ويقولون هذا يوم مولد الشيخ، ويأكلون ويشربون، وربما يرقصون فيه، منهي عنه شرعاً، وعلى ولي الشرع ردعهم على ذلك، وإنكاره عليهم، وإبطاله. وقال الإمام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم": معنى الحديث: أي لا تعطلوا البيوت

رواه النسائي. ـــــــــــــــــــــــــــــ من الصلاة فيها والدعاء والقراءة، فتكون بمنزلة القبور، فأمر بتحرى العبادة في البيوت، ونهى عن تحريها عند القبور، عكس ما يفعله المشركون من النصارى ومن تشبه بهم من هذه الأمة، ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - أعقب النهي عن اتخاذها عيداً بقوله: "وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم"، وفي الحديث: "فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم"، يشير بذلك - صلى الله عليه وسلم - إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبعدكم منه، فلا حاجة بكم إلى اتخاذه عيداً. قال: وهذا أفضل التابعين من أهل بيته علي بن الحسين رضي الله عنهما نهى ذلك الرجل أن يتحرى الدعاء عند قبره - صلى الله عليه وسلم -. واستدل بالحديث (كما سيأتي) وهو راوي الحديث الذي سمعه من أبيه الحسين، عن جده علي، وأعلم بمعناه من غيره، فبين أن قصده للدعاء ونحوه اتخاذ له عيداً. وكذلك ابن عمه حسن بن حسن شيخ أهل بيته كره أن يقصد الرجل القبر للسلام عليه ونحوه عند غير دخول المسجد. ورأى أن ذلك من اتخاذه عيداً، فانظر هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة وأهل البيت - رضي الله عنهم - الذين لهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرب النسب الدار، لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم فكانوا أضبط-انتهى. والحديث قد استدل به على منع السفر لزيارة قبره - صلى الله عليه وسلم -، لأن المقصود من زيارة قبره هو الصلاة والسلام عليه والدعاء له - صلى الله عليه وسلم -، وهذا يحصل من بُعد كما يحصل من قرب. ولأن من سافر إليه وحضر مع ناس آخرين فقد اتخذه عيداً، وهو منهي عنه بنص الحديث، فثبت المنع من شد الرحل لأجل ذلك بإشارة النص، كما ثبت النهي عن جعله عيداً بدلالة النص، وهاتان الدلالتان معمول بهما عند علماء الأصول، ووجه هذه الدلالة على المراد قوله "تبلغني حيث كنتم"، فإنه يشير إلى البُعد، والبعيد عنه - صلى الله عليه وسلم - لا يحصل له القرب إلا باختيار السفر إليه، ففيه النهي عن السفر للزيارة. قال الإمام ابن تيمية: في الحديث دليل على منع شد الرحل إلى قبره - صلى الله عليه وسلم -، وإلى قبر غيره من القبور والمشاهد، لأن ذلك من اتخاذها عيداً -انتهى. وهذه المسألة أي السفر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والأولياء والصلحاء هي التي أفتى فيها ابن تيمية، وذكر اختلاف العلماء فيها، فمن مبيح لذلك كالغزالي، وأبي محمد المقدسي، ومن مانع لذلك كابن بطة، وابن عقيل، وأبي محمد الجويني، والقاضي عياض، وهو قول الجمهور، نص عليه مالك، ولم يخالفه أحد من الأئمة، وهو الصواب لحديث النهي عن شد الرحل إلا إلى ثلاثة مساجد، كما في الصحيحين، كذا في "فتح المجيد شرح كتاب التوحيد". وارجع للتفصيل في هذه المسألة إلى "اقتضاء الصراط المستقيم" لابن تيمية، و"جلاء الأفهام" لابن القيم، و"الصارم المنكي" لمحمد بن عبد الهادي المقدسي، و"أحسن الأقوال في شرح حديث لا تشد الرحال"، و"الرد على منتهى المقال" للعلامة القاضي بشير الدين القنوجي. (رواه النسائي) هذا من أوهام المصنف، فإن حديث أبي هريرة هذا لم يروه النسائي، اللهم إلا أن يكون المراد روايته في السنن الكبرى. والحديث رواه أبوداود في باب زيارة القبور في آخر المناسك، وقد تفرد بروايته من بين أصحاب الكتب الستة كما يظهر من "ذخائر المواريث" و"الصارم المنكي". وأخرجه أيضا أحمد، وقد سكت عنه

933- (9) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((رغم ـــــــــــــــــــــــــــــ أبوداود، وصححه النووي في الأذكار، وقال الإمام ابن تيمية: هذا إسناد حسن، فإن رواته كلهم ثقات مشاهير. لكن عبد الله بن نافع الصائغ المدني صاحب مالك فيه لين لا يقدح في حديثه. قال يحيى بن معين: هو ثقة. وحسبك بابن معين موثقاً. وقال أبوزرعة: لا بأس به. وقال أبوحاتم الرازي: ليس بالحافظ هو لين تعرف من حفظه وتنكر، فإن هذه العبارات منهم تنزل حديثه إلى مرتبة الحسن، إذ لا خلاف في عدالته وفقهه، وأن الغالب عليه الضبط، لكن قد يغلط أحياناً، ثم هذا الحديث مما يعرف من حفظه ليس مما ينكر، لأنه سنة مدنية هو محتاج إليها في فقهه، ومثل هذا يضبط الفقيه. وللحديث شواهد من غير طريقه، منها: ما روى عن علي بن الحسن أنه رأى رجلاً يجئ إلى فرجة كانت عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيدخل فيها فيدعو فنهاه، وقال: ألا أحدثكم سمعته من أبي، عن جدي، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم. ومنها: ما روي عن الحسن بن علي بن أبي طالب. قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صلوا في بيوتكم، ولا تتخذوها قبوراً، ولا تتخذوا بيتي عيداً، وصلوا عليّ وسلموا، فإن صلاتكم وسلامكم يبلغني أينما كنتم. روى هذين الحديثين من طريق أبي يعلى الموصلى، الحافظ الضياء المقدسي فيما اختاره من الأحاديث الجياد الزائدة على الصحيحين، وهو أعلى مرتبة من تصحيح الحاكم، وهو قريب من تصحيح الترمذي وأبي حاتم البستي، ونحوهما، فإن الغلط في هذا قليل، ليس هو مثل صحيح للحاكم، فإن فيها أحاديث كثيرة، يظهر أنها كذب موضوعة، فلهذا انحطت درجته عن درجة غيره. وقال سعيد بن منصور في سننه: حدثنا عبد العزيز بن محمد: أخبرني سهل بن سهيل قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر، فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى. فقال: هلم إلى العشاء، فقلت: لا أريده، فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقال: إذا دخلت المسجد فسلم، ثم قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تتخذوا قبري عيداً، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، وصلوا عليّ، فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم، لعن الله اليهود النصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء. وقال سعيد بن منصور أيضا بسنده: عن أبي سعيد مولى المهرى، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا عليّ، فإن صلاتكم تبلغني. قال ابن تيمية: فهذان المرسلان: مرسل أبي سعيد مولى المهري أحد ثقات التابعين، ومرسل الحسن بن الحسن، من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث. لا سيما وقد احتج به من أرسله، وذلك يقتضي ثبوته عنده، هذا لو لم يرو من وجوه مسندة غير هذين. فكيف وقد تقدم مسنداً-انتهى. 933- قوله: (رغم) بكسر الغين وتفتح، أي لصق بالرغام، وهو تراب مختلط برمل كناية عن الذل والهلاك والخزي، رغِم يرغَم ورَغَم يَرغَم رَغْماً ورِغماً ورُغْماً، وأرغم الله أنفه، أي ألصقه بالرغام وهو التراب، هذا

أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة)) رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ هو الأصل، ثم استعمل في الذل والعجز عن الانتصاف والانقياد على كره-انتهى. وهذا إخبار أو ادعاء. (أنف رجل) ذكر الرجل وصف طردي فإن المرأة مثل الرجل في ذلك. (ذكرت عنده) بالبناء للمفعول. (فلم يصل علي) قال الطيبي: الفاء استبعادية، وقيل: إنها للتعقيب فتقيد به ذم التراخي عن الصلاة عليه عند ذكره - صلى الله عليه وسلم -. قال الشوكاني في تحفة الذاكرين (ص25) : في الحديث دليل على وجوب الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - عند ذكره؛ لأنه لا يدعو بالذل والهوان على من ترك ذلك إلا وهو واجب عليه-انتهى. (ثم انسلخ) أي انقضى. قال ابن حجر: وجه الإتيان بثم هنا أن بين ابتداء رمضان وانقضائه مهلة طويلة بخلاف سماع ذكره عليه السلام والصلاة عليه، فإنها تطلب عقب السماع من غير مهلة، وكذا بر الوالدين فإنه يتأكد عقب إحتياجهما المكنى عنه بالكبر. وقال الطيبي: "ثم" هذه استبعادية كما في قولك لصاحبك: بئس ما فعلت، وجدت مثل هذه الفرصة ثم لم تنتهزها. وكذلك الفاء في قوله "فلم يصل علي" و"فلم يدخلاه الجنة" ونظير وقوع الفاء موقع "ثم" الاستبعادية قوله تعالى. {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها} [57:18] في سورة الكهف، و {ثم أعرض عنها} [22:32] في السجدة. وقد تقرر أن قوله "رغم أنف فلان" كناية عن غاية الذل والهوان، وأن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - عبارة عن تعظيمه وتبجيله، فمن عظم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عظمه الله ورفع قدره في الدارين، ومن لم يعظمه أذله الله وأهانه، فالمعنى بعيد من العاقل بل من المؤمن المعتقد أن يتمكن من إجراء كلمات معدودة على لسانه، فيفوز بعشر صلوات من الله عزوجل، ويرفع عشر درجات له، ويحط عشر خطيئات عنه، ثم لم يغنمه حتى يفوت عنه، فحقيق بأن يحقره الله تعالى. ويضرب عليه الذلة والمسكنة، وكذا شهر رمضان، شهر الله المعظم الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فمن وجد فيه فرصة تعظيمه بأن قام فيه إيماناً واحتساباً عظمه الله، ومن لم يعظمه يحقره الله، وتعظيم الوالدين مستلزم لتعظيم الله تعالى، ولذلك قرن الله الإحسان إليهما، وبرهما بتوحيده وعبادته في قوله: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً} [23:17] ، فمستبعد ممن منح ووفق للإحسان إليهما لا سيما في حال كبرهما، وأنهما عنده في بيته كلحم على وضم، ولا كافل لهما سواه إن لم يغتنم هذه الفرصة، فجدير بأن يهان ويحقر شأنه-انتهى. (قبل أن يغفر له) قال الطيبي: الظاهر "ولم يغفر له" وإنما عدل تنبيهاً على أن تراخي الغفران من تقصيره، وكان حقه أن يغفر له قبل انسلاخه. (فلم يدخلاه) أي أو لم يدخله. (الجنة) لما كان دخول الجنة من الله تعالى بواسطة برهما والإحسان إليهما، أسند إليهما إسناداً مجازياً كما في قولك "أنبتت الربيع البقل" مبالغة، قاله الطيبي. (رواه الترمذي) في الدعوات وقال: حديث حسن غريب من هذا الوجه،

934- (10) وعن أبي طلحة، ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء ذات يوم والبشر في وجهه، فقال: إنه جاءني جبرئيل، فقال: إن ربك يقول: أما يرضيك يا محمد! أن لا يصلي عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه عشراً، ولا يسلم عليك أحد من أمتك إلا سلمت عليه عشراً؟) رواه النسائي والدارمي. 935- (11) وعن أبي بن كعب، قال: يا رسول الله! ـــــــــــــــــــــــــــــ وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه، والبزار في مسنده، والحاكم في مستدركه، وقال: صحيح، وقد أورده الهيثمي في مجمع الزوائد. (ج10:ص164-167) من حديث ابن مسعود، وعمار بن ياسر، وابن عباس، وعبد الله بن الحارث، وجابر بن سمرة، وأنس، وكعب بن عجرة، ومالك بن الحويرث، وأبي هريرة رضي الله عنهم. وأخرج مسلم في الأدب من صحيحه الجزء الثالث فقط من غير طريق الترمذي. 935- قوله: (وعن أبي طلحة) هو زيد بن سهل الأنصاري الصحابي المشهور، وقد تقدم ترجمته. (جاء ذات يوم) أي ساعة من النهار. (والبشر) بكسر الباء اسم من الاستبشار، أي الطلاقة وآثار الفرح والسرور. (في وجهه) أي لائح في بشرته. (فقال) أي بعد سؤال الصحابة كما في رواية للنسائي: فقلنا: إنا لنرى البشر في وجهك، فقال إنه، الخ. وعند الدارمي: جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما وهو يرى البشر في وجهه، فقيل: يا رسول الله: إنا لنرى في وجهك بشرا لم نكن نراه، قال: الخ. (إنه) أي الشأن. (جاني جبرئيل، فقال: إن ربك يقول: أما يرضيك يا محمد!) قال الطيبي: هذا بعض ما أعطى من الرضا في قوله: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} [5:93] ، وهذه البشارة في الحقيقة راجعة إلى الأمة، ومن ثم تمكن البشر في أسارير وجهه صلوات الله وسلامه عليه حيث جعل وجهه ظرفاً ومكاناً للبشر والطلاقة. (أن لا يصلي عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه عشراً) أن مصدرية والمعنى: أما يرضيك عدم صلاة أحد إلا مقرونة بعشر صلوات مني. (ولا يسلم) الخ. فيه دليل على أن السلام عليه كالصلاة، وأن الله سبحانه يسلم على من سلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما يصلي على من صلى على رسوله عشراً. (رواه النسائي) في الصلاة. (والدارمي) في الرقاق، وزاد الدارمي: قال يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -: فلت بلى. وأخرجه أيضاً أحمد في مسنده. (ج4:ص29، 30) وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه. (ج2:ص420) وابن أبي شيبة في مصنفه، وفي سنده عندهم سليمان الهاشمي مولى الحسن ابن علي وهو مجهول كما في التقريب، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال النسائي: سليمان هذا ليس بالمشهور، والحديث صححه الحاكم ووافقه الذهبي وله طريق آخر عن أبي طلحة عند أحمد وغيره، وشاهد من حديث أنس عند الحاكم فالحديث صحيح. 935- قوله: (قال: قلت: يارسول الله!) أول الحديث عند الترمذي هكذا: قال (أى أبي بن كعب) كان

إني أكثر الصلاة عليك. فكم أجعل لك من صلاتي؟ فقال: ما شئت. قلت: الربع؟ قال: ما شئت. فإن زدت فهو خير لك. قلت: النصف؟ قال: ما شئت، فإن زدت فهو خير لك. قلت: فالثلثين؟ قال: ما شئت، فإن زدت فهو خير لك، قلت: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: إذا تكفي همك، ويكفر لك ذنبك)) ـــــــــــــــــــــــــــــ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال: يا أيها الناس! أذكروا الله، أذكروا الله، جاءت الراجفة، تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه. قال أبي: فقلت يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! (إني أكثر الصلاة) أي الدعاء، فالمراد بالصلاة هنا الدعاء، ومن جملته الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس المراد الصلوات ذات الأذكار والأركان. (فكم أجعل لك من صلاتي؟) أي بدل دعائي الذي أدعو به لنفسي، قاله القاري. وقال المنذري في الترغيب، معناه: أكثر الدعاء فكم أجعل لك من دعائي صلاة عليك؟. (ما شئت) أي اجعل مقدار مشيئتك. (الربع) بضم الباء وتسكن، أي اجعل ربع أوقات دعائي لنفسي مصروفاً للصلاة عليك. (أجعل لك صلاتي كلها) أي أصرف بصلاتي عليك جميع الزمن الذي كنت أدعو فيه لنفسي. (إذا) بالألف منوناً. (تكفي) مخاطب مبني للمفعول. (همك) مصدر بمعنى المفعول، وهو منصوب على أنه مفعول ثان لتكفي، فإنه يتعدى إلى مفعولين، والمفعول الأول المرفوع بما لم يسم فاعله، وهو أنت، والهم ما يقصده الإنسان من أمر الدنيا والآخرة، يعني إذا صرفت جميع أزمان دعائك في الصلاة على كفيت ما يهمك من أمور دنياك وآخرتك، أي أعطيت مرام الدنيا والآخرة، فاشتغال الرجل بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - يكفي في قضاء حوائجه ومهماته. (ويكفر) بنصب الفاء من التكفير. (ذنبك) بضم الباء الموحدة. ولفظ الترمذي "ويغفر ذنبك". وفي هاتين الخصلتين أي كفاية الهم ومغفرة الذنب جماع خير الدنيا والآخرة، فإن من كفاه الله همه سلم من محن الدنيا وعوارضها، لأن كل محنة لا بد لها من تأثير الهم وإن كانت يسيرة، ومن غفر الله ذنبه سلم من محن الآخرة؛ لأنه لا يوبق العبد فيها إلا بذنوبه. قال التوربشتي: معنى الحديث: كم أجعل لك من دعائي الذي أدعو به لنفسي؟ ولم يزل يفاوضه ليوقفه على حد من ذلك، ولم ير النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحد له ذلك لئلا تلتبس الفضيلة بالفريضة أولا، ثم لا يغلق عليه باب المزيد ثانياً، فلم يزل يجعل الأمر إليه داعيا لقرينة الترغيب والحث على المزيد، حتى قال: أجعل صلاتي كلها لك، أي أصلي عليك بدل ما أدعو به لنفسي، فقال: إذا تكفي همك، أي ما أهمك من أمر دينك ودنياك، وذلك لأن الصلاة عليه مشتملة على ذكر الله تعالى وتعظيم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والاشتغال بأداء حقه عن أداء مقاصد نفسه، وإيثاره بالدعاء على نفسه ما أعظمه، من خلال جليلة الأخطار، وأعمال كريمة الآثار. قال الطيبي: وقد تقرر أن العبد إذا صلى مرة على النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الله عزوجل عشرة، وأنه إذا صلى وفق الموافقة لله تعالى دخل في زمرة الملائكة المقربين في قوله تعالى: {إن الله وملائكته يصلون على النبي}

رواه الترمذي. 936- (12) وعن فضالة بن عبيد، قال: ((بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعد إذ دخل رجل فصلى، فقال: اللهم اغفرلي وارحمني. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عجلت أيها المصلي! إذا صليت فقعدت، فاحمد الله بما هو أهله، وصل علي، ثم ادعه. قال: ثم صلى رجل آخر بعد ذلك، فحمد الله، وصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: أيها المصلي! ادع تجب. ـــــــــــــــــــــــــــــ [33: 56] . فأنى يوازي هذا دعائه لنفسه؟ - انتهى. (رواه الترمذي) . أي في الزهد وقال: حديث حسن، وأخرجه أيضاً أحمد، والحاكم. (ج2: ص421) وصححه، وفي رواية لأحمد عنه، قال: قال رجل: يا رسول الله! أرأيت إن جعلت صلاتي كلها عليك؟ قال: إذاً يكفيك الله تبارك وتعالى ما أهمك من دنياك وآخرتك. قال المنذري: إسناد هذه الرواية جيدة، وأخرج الطبراني بإسناد حسن، عن محمد بن يحي بن حبان، عن أبيه، عن جده: أن رجلاً قال: يا رسول الله! أجعل ثلث صلاتي عليك؟ قال: نعم إن شئت. قال الثلثين؟ قال: نعم إن شئت. قال: فصلاتي كلها؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا يكفيك الله ما همك من أمر دنياك وآخرتك. 936- قوله: (فضالة) بفتح الفاء بزنة سحابة. (بن عبيد) بالتصغير تقدم ترجمته. (فصلى، فقال) أي في آخر صلاته، وفي رواية النسائي: سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يدعو في الصلاة، وفي بعض النسخ في صلاته. (اللهم اغفرلي وارحمني) وعند النسائي: لم يحمد الله ولم يصل على النبي - صلى الله عليه وسلم -. (عجلت) بكسر الجيم ويجوز الفتح والتشديد، قاله الأبهري، أي حين تركت الترغيب في الدعاء وعرضت السؤال قبل الوسيلة، أي الحمد لله والصلاة على النبي. وفيه إشارة إلى أن حق السائل أن يتقرب إلى المسؤل منه قبل طلب الحاجة بما يوجب له الزلفى عنده، ويتوسل بشفيع له بين يديه ليكون أطمع في الإسعاف، وأرجى بالإجابة، فمن عرض السؤال قبل تقديم الوسيلة فقد استعجل، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - مؤدباً لأمته. (إذا صليت) بالخطاب الخاص المراد بع العام، يدل على ذلك رواية النسائي، ثم علمهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (فقعدت) قال الطيبي: إما عطف على مقدر، أي إذا صليت وفرغت فقعدت للدعاء فاحمد الله، وإما عطف على المذكور، أي إذا كنت مصلياً فقعدت للتشهد فاحمد الله، أي اثن عليه بقولك "التحيات" انتهى. قال القاري: ويؤيد الأول إطلاق قوله: (فاحمد الله بما هو أهله) من كل ثناء جميل. قلت: ويؤيد كونه قبل الفراغ من الصلاة رواية النسائي المذكورة بلفظ: "يدعو في الصلاة". والروايات بعضها يفسر بعضاً. (ثم ادعه) بهاء الضمير، وقيل: بهاء السكت. (قال) أي فضالة ابن عبيد الراوي للحديث. (فحمد الله وصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي ولم يدع. (تجب) على بناء المجهول مجزوما على جواب

رواه الترمذي وروى أبوداود والنسائي نحوه. 937- (13) وعن عبد الله بن مسعود، قال: ((كنت أصلي والنبي صلى الله عليه وسلم، ـــــــــــــــــــــــــــــ الأمر دلهما عليه السلام على الكمال، وزاد النسائي في روايته "وسل تعط". وروى أبوداود عن فضالة بن عبيد، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يدعو في صلاته لم يمجد الله، ولم يصل على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عجل هذا، ثم دعاه فقال له أو لغيره: إذا صلى أحدكم فليبدأ بتمجيد ربه والثناء عليه، ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يدعو بما شاء. وأخرجه أيضاً أحمد (ج6: ص18) والترمذي وصححه، وابن خزيمة، والحاكم، والبيهقي. قال العلامة الأمير اليماني السبل: الحديث دليل على وجوب ما ذكر من التحميد، والثناء، والصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم -، والدعاء بما شاء، وهو موافق في المعنى لحديث ابن مسعود وغيره؛ لأن أحاديث التشهد تتضمن ما ذكر من الحمد والثناء، وهي مبنية لما أجمله هذا. ويأتي الكلام في الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم -، وهذا إذا ثبت أن هذا الدعاء الذي سمعه النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك الرجل كان في قعدة التشهد، وإلا فليس في هذا الحديث دليل على أنه كان ذلك حال قعدة التشهد، إلا أن ذكر المصنف. (أي الحافظ ابن حجر) له هنا يدل على أنه كان في قعود التشهد، وكأنه عرف من سياقه- انتهى. قلت: وكذا يدل على ذلك صنيع البغوي في المصابيح كما لا يخفى. والحديث قد استدل به القائلون بوجوب الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة، قال الأمير اليماني: قد ثبت وجوب الدعاء في آخر التشهد كما عرفت من الأمر به، والصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - قبل الدعاء واجبة لما عرفت من حديث فضالة، وبهذا يتم إيجاب الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - بعد التشهد قبل الدعاء الدال على وجوبه-انتهى. قال الحافظ: قد طعن ابن عبد البر في الاستدلال بحديث فضالة للوجوب فقال: لو كان كذلك لأمر المصلي بالإعادة كما أمر المسيء صلاته، وكذا أشار إليه ابن حزم. وأجيب باحتمال أن يكون الوجوب عند فراغه، ويكفي التمسك بالأمر في دعوى الوجوب-انتهى. (رواه الترمذي) في الدعوات من طريق رشدين بن سعد، عن أبي هانيء الخولاني، عن أبي الجنبي، عن فضالة، وقال: حديث حسن، وقد رواه حيوة بن شريح عن أبي هانيء الخولاني-انتهى. قلت: أخرج من طريق حيوة أحمد، وأبوداود، والترمذي أيضاً، وقد ذكرنا لفظه، ورواية الترمذي التي ذكرها المصنف، عزاها الهيثمي للطبراني، وقال: فيه رشدين بن سعد، وحديثه في الرقاق مقبول، وبقية رجاله ثقات- انتهى. وأخرجها أيضاً النسائي في باب التمجيد والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة لكن من طريق ابن وهب عن أبي هانيء. (وروى أبوداود) قد تقدم لفظه. (والنسائي ونحوه) أي بمعناه. ذكر النسائي مع أبي داود لا يخلو عن نظر؛ لأن المتبادر منه أن رواية النسائي مثل رواية أبي داود، والأمر ليس كذلك، فكان الأولى أن يقول: رواه الترمذي، والنسائي، واللفظ للترمذي، وروى أبوداود، والترمذي أيضاً نحوه، والله أعلم. 937- قوله: (كنت أصلي) أي الصلاة ذات الأركان بدليل قوله الآتي: فلما جلست. (والنبي - صلى الله عليه وسلم -) أي حاضر

{الفصل الثالث}

وأبو بكر، وعمر معه، فلما جلست بدأت بالثناء على الله تعالى، ثم الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم دعوت لنفسي. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: سل تعطه، سل تعطه)) . رواه الترمذي. {الفصل الثالث} 938- (14) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى، ـــــــــــــــــــــــــــــ أو جالس ونحوه. (وأبوبكر وعمر معه) جملة أخرى معطوفة على الجملة الأولى وهي حال من فاعل "أصلي". (سل تعطه) الهاء إما للسكت كقوله "حسابيه"، وإما ضمير للمسؤول عنه لدلالة "سل" عليه. وفي الحديث مشروعية تقديم الحمد والصلاة قبل الدعاء في قعود التشهد ليكون وسيلة للإجابة، وهو يوافق ما روي عن ابن مسعود، قال: يتشهد الرجل، ثم يصلي على النبي، ثم يدعو لنفسه، أخرجه الحاكم بسند قوي، قال الحافظ في الفتح بعد ذكره: هذا أقوى شيء يحتج به للشافعي، فإن ابن مسعود ذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمهم التشهد في الصلاة، وأنه قال: ثم ليتخير من الدعاء ما شاء، فلما ثبت عن ابن مسعود الأمر بالصلاة عليه قبل الدعاء دل على أنه اطلع على زيادة ذلك بين التشهد والدعاء، واندفعت حجة من تمسك بحديث ابن مسعود. (في التشهد) في دفع ما ذهب إليه الشافعي مثل ما ذكر عياض، قال: وهذا تشهد ابن مسعود الذي علمه له النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس فيه ذكر الصلاة عليه، وكذا قول الخطابي: إن في آخر حديث ابن مسعود: "إذا قلت هذا فقد قضيت صلاتك"، لكن رد عليه بأن هذه الزيادة مدرجة، وعلى تقدير ثبوتها فتحمل على أن مشروعية الصلاة عليه وردت بعد تعليم التشهد-انتهى. (رواه الترمذي) في أواخر الصلاة من طريق محمود بن غيلان، عن يحي بن آدم، عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم بن بهدلة، عن زر، عن ابن مسعود. وقال: حديث حسن صحيح، قلت: وأخرج أحمد في مسنده (ج1: ص25، 26، 38) من رواية عمر حديثاً طويلاً، وفيه: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يزال يسمر عند أبي بكر الليلة كذاك في الأمر من أمر المسلمين، وأنه سمر عنده ذات ليلة وأنا معه، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخرجنا معه، فإذا رجل قائم يصلي في المسجد، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستمع قراءته، فلما كدنا أن نعرفه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من سره أن يقرأ القرآن رطباً كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد. قال: ثم جلس الرجل يدعو، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول له: سل تعطه، سل تعطه- الحديث. وأخرجه ابن ماجه في فضل ابن مسعود في أواخر السنة عن الحسن بن علي الخلال، عن يحيى بن آدم، عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم، عن زر، عن ابن مسعود ما يتعلق بأمر القراءة فقط. 938- قوله: (من سره) أي أعجبه. (أن يكتال) بفتح الياء أي يأخذ الأجر والثواب، فحذف ذلك للعلم به. وقيل بضم الياء، أي يعطي الثواب. (بالمكيال) بكسر الميم، وهو ما يكال به. (الأوفى) عبارة عن نيل الثواب الوافي على نحو قوله تعالى. {ثم يجزاه الجزاء الأوفى} [53: 41] . وفيه دليل على أن هذه الصلاة أعظم أجراً من غيرها، وأوفر

إذا صلى علينا أهل البيت، فليقل: اللهم صل على محمد النبي الأمي، وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته، ـــــــــــــــــــــــــــــ ثواباً. وفيه الترغيب العظيم إلى أن تكون الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - على تلك الصفة، وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر. وقيل: لو حلف أحد أن يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل الصلاة فطريق البر أن يأتي بالصفة المذكورة في حديث كعب بن عجرة، أو أبي حميد، أو أبي سعيد الخدري عند البخاري؛ لأن تعليمه - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه الكيفية بعد سؤالهم عنها يدل على أنها أفضل كيفيات الصلاة عليه؛ لأنه لا يختار لنفسه إلا الأشرف الأفضل، والذي يرشد إليه الدليل أن البر يحصل بما في حديث أبي هريرة هذا لقوله: من سر أن يكال بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا-الحديث. (إذا صلى علينا أهل البيت) الأشهر فيه النصب على الاختصاص، ويجوز إبداله من ضمير "علينا" وقيل: هو عطف بيان منه فيكون مجروراً في هاتين الصورتين. (فليقل) قال الطيبي: قوله "إذا صلى" شرط، جزائه "فليقل" ويجوز أن يكون "إذا" ظرفاً والعامل "فليقل" على مذهب من قال: إن ما بعد الفاء الجزائية يعمل فيما قبلها كما في قوله تعالى: {لإيلاف قريش} [106: 1] ، فإنه معمول لقوله: {فليعبدوا} . (النبي) بالإدغام، ويجوز فيه الهمزة، وهو فعيل بمعنى الفاعل أو المفعول من النبأ بمعنى الخبر، أو من النبوة بمعنى الرفعة، واللام هنا للعهد، واختير النبوة على الرسالة لعموم أحواله، أو للمبالغة، فإنه إذا كان يستحق الصلاة بصفة النبوة فبالأولى أن يستحق بصفة الرسالة. (الأمي) منسوب إلى الأم وهو الذي لا يكتب ولا يقرأ المكتوب، كأنه على أصل ولادة أمه بالنسبة إلى الكتابة وقراءة الخط. قال أبوالسعود: نسبة إلى الأم كأنه باقٍ على حالته التي ولد عليها لا يقرأ الخط ولا يكتب، وقد جمع مع ذلك العلوم الباهرة. قال تعالى: {وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون} [29: 48] . وقيل: نسبة إلى الأمة وهي أمة العرب، وذلك لأن العرب لا تحسب ولا تكتب، ومنه الحديث: إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب. وقيل: نسبة إلى أم القرى، وهي مكة، والأول أولى، وكونه أمياً من أكبر معجزاته وأعظمها. قال السيد الغبريني المقري شارح البردة: إن كونه أمياً معجزة له كما قرروه، حتى لا يرتاب أحد في كلام الله، يرد عليه أنه لو تم قيل عليه: لم خلق أفصح الناس ولم يخلق غير فصيح؟ حتى يعلم أن ما يتلوه من الكلام المعجز ببلاغته ليس كلامه. قال الشهاب في الريحانة: قوله هذا ليس بشيء؛ لأن الأمية سابقة في أكثر فصحاء العرب، وهم في غناء عن الكتابة، وأما عدم الفصاحة فلكنة وعيب عظيم، منزه عنه، عال مقامه، وطاهر فطرته وجوهر جلبته-انتهى. وهل صدر عنه ذلك في كتابة صلح الحديبية كما هو ظاهر الحديث المشهور أو أنه لم يكتب؟ وإنما أسند إليه مجازاً، وقيل: إنه صدر عنه ذلك على سبيل المعجزة، وتفصيله في فتح الباري. (وأزواجه) أي نساءه الطاهرات. (أمهات المؤمنين) أي من جهة التعظيم والتكريم. (وذريته) أي أولاده وأحفاده، قال في المجمع: الذرية اسم

وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد)) . رواه أبوداود. 939- (15) وعن علي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((البخيل الذي من ذكرت عنده فلم يصل علي)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ يجمع نسل الإنسان من ذكر وأنثى، وأصله الهمز فخفف وتجمع على ذريات وذراري مشدداً، وقيل أصلها من الذر بمعنى التفرق؛ لأن الله ذرهم في الأرض. (وأهل بيته) قال الطيبي: من عطف العام على الخاص على طريقة قوله تعالى: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم} [15: 87] انتهى. والحديث قد استدل به القائلون بأن الزوجات من الآل، والقائلون بأن الذرية من الآل، وهو أدل على ذلك من حديث أبي حميد المتقدم لذكر الآل فيه مجملاً ومبنياً، قاله الشوكاني. (رواه أبوداود) عن موسى بن إسماعيل، عن حبان بن يسار الكلابي، عن أبي مطرف عبيد الله بن طلحة بن كريز، عن محمد بن علي الهاشمي. (أبي جعفر الباقر) عن المجمر، عن أبي هريرة. والحديث سكت عنه أبوداود، والمنذري. وقال الشوكاني: وقد اختلف فيه أبي جعفر، وأخرجه النسائي في مسند علي من طريق عمرو بن عاصم، عن حبان بن يسار الكلابي، عن عبد الرحمن بن طلحة الخزاعي، عن أبي جعفر، عن محمد بن الحنفية، عن أبيه علي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ حديث أبي هريرة، وقد اختلف فيه على أبي جعفر، وعلى حبان بن يسار-انتهى. قلت: حبان بن يسار الكلابي، قال أبوحاتم عنه ليس بالقوي ولا بالمتروك. وقال ابن عدي: حديثه فيه ما فيه لأجل الاختلاط الذي ذكر عنه. وذكره البخاري في التاريخ وأعل حديثه، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبوداود: لا بأس به. وقال الحافظ: صدوق اختلط. 939- قوله: (البخيل) أي الكامل في البخل كما يفيده تعريف المبتدأ. قال الشوكاني: تعريف المسند إليه يقتضي الحصر، فينبغي حمله على الكامل في البخل؛ لأنه بخل بما لا نقص عليه فيه ولا مؤنة، مع كون الأجر عظيماً، والجزاء موفوراً. قال الفاكهاني: وهذا أقبح بخل وشح لم يبق بعده إلا الشح بكلمة الشهادة. (الذي من) قال الطيبي: الموصول الثاني مقحم بين الموصول الأول وصلته تأكيداً، كما في قراءة زيد بن علي: {الذي خلقكم والذين من قبلكم} [2: 21] أي بفتح الميم- انتهى. (ذكرت) بصيغة المجهول. (عنده) أي ذكر اسمى بمسمى منه. (فلم يصل علي) ؛ لأنه بخل على نفسه حيث حرمها صلاة الله عليه عشراً إذا هو صلى واحدة، قاله المناوي. وقال القاري: فمن لم يصل عليه فقد بخل ومنع نفسه من أن يكتال بالمكيال الأوفى، فلا يكون أحد أبخل منه، كما يدل عليه رواية "البخيل كل البخيل"- انتهى. والحديث دليل على وجوب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - كلما ذكر، وهو مذهب طائفة من العلماء، منهم الطحاوي والحليمي، ويدل عليه أيضاً ما تقدم من حديث أبي هريرة بلفظ: رغم أنف رجل ذكرت عنده، الخ. وما روى من حديث كعب بن عجرة عند الحاكم

رواه الترمذي. 940- (16) ورواه أحمد عن الحسين بن علي. ـــــــــــــــــــــــــــــ بلفظ: بعد من ذكرت عنده فلم يصل علي. ومن حديث جابر عند الطبراني مرفوعاً بلفظ: شقى عبدذكرت عنده فلم يصل علي. ومن مرسل قتادة عند عبد الرزاق: من الجفاء أن أذكر عند رجل فلا يصلي علي. ومن حديث عمار بن ياسر عند الطبراني بلفظ: من ذكرت عنده فلم يصل علي فأبعده الله. وله شواهد من حديث مالك بن الحويرث، وابن عباس، وعبد الله بن الحارث عند الطبراني أيضاً. قال الحافظ في الفتح: قد تمسك بهذه الأحاديث من أوجب الصلاة عليه كلما ذكر؛ لأن الدعاء بالرغم والإبعاد والشقاء، والوصف بالبخل والجفاء يقتضي الوعيد، والوعيد من علامات الوجوب، وأجاب عنها من لم يوجب ذلك بأنها خرجت مخرج المبالغة في تأكيد ذلك وطلبه، وفي حق من اعتاد ترك الصلاة عليه ديدناً-انتهى. قلت: ظاهر الأحاديث هو الوجوب كلما ذكر، وأما حملها على المبالغة وعلى من اتخذ ترك الصلاة عليه عادة فهو تأويل بعيد يأباه ظاهر الأحاديث الواردة في ذلك، وقد استدل أيضاً بهذه الأحاديث من قال بوجوب الصلاة عليه بعد التشهد الأخير؛ لأنها تدل على وجوب الصلاة عليه عند ذكره، وقد ذكر هو في التشهد، وهذا من أحسن ما يستدل به على هذا المطلوب. (رواه الترمذي) أي في الدعوات من طريق سليمان بن بلال عن عمارة بن غزية عن عبد الله بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن حسين بن علي بن أبي طالب عن علي بن أبي طالب. قلت: اختلف نسخ الترمذي في تعيين الصحابي ففي بعضها الحديث من مسند علي بن أبي طالب، وهكذا وقع في طبعات الهند، وكذا يظهر من كلام المنذري في الترغيب حيث ذكر الحديث من رواية الحسين بن علي بن أبي طالب وعزاه للنسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم، ثم قال: والترمذي، وزاد في سنده علي بن أبي طالب، وقال" حديث حسن صحيح غريب" وكذلك عزاه إليه من حديثه النابلسي في الذخائر (ج3: ص14) ، والجزري في جامع الأصول (ج5: ص155) . وفي بعض النسخ للترمذي هو من مسند الحسين بن علي بن أبي طالب كما وقع عند غيره ممن أخرجه، ومنهم من جعل ذلك من اختلاف الرواة فقد قال ابن كثير في تفسيره بعد ذكر الحديث من المسند برواية الحسين بن علي: ورواه الترمذي من حديث سليمان بن بلال، ثم قال: هذا حديث حسن غريب صحيح، ومن الرواة من جعله من مسند الحسين بن علي، ومنهم من جعله من مسند علي نفسه-انتهى. قال الشيخ الألباني: وقد اختلف على عبد الله بن علي بن حسين في إسناده كما أخرجه إسماعيل القاضي مبسوطاً لكن الحديث صحيح فإن له شاهداً من حديث أبي ذر، وآخر عن الحسن البصري مرسلاً بسند صحيح عنه، أخرجها القاضي، وثالث من حديث أنس عزاه الفيروز آبادي للنسائي، وقال: وهذا حديث صحيح-انتهى. 940- قوله: (ورواه أحمد) (ج1: ص201) . (وعن الحسين بن علي) بن أبي طالب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذا رواه

وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. 941- (17) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى علي عند قبري سمعته، ومن صلى علي نائياً أبلغته)) ـــــــــــــــــــــــــــــ النسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم (ج1: ص549) وصححه ووافقه الذهبي، وابن السني في عمل اليوم والليلة والطبراني في الكبير وإسماعيل القاضي في فضل الصلاة (ص14) قال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث: أخرجه الترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم، وإسماعيل القاضي، وأطنب في تخريج طرقه، وبيان الاختلاف فيه من حديث علي ومن حديث ابنه الحسين، ولا يقصر عن درجة الحسن-انتهى. والحسين بن علي هو الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي أبوعبد الله المدني سبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وريحانته من الدنيا، وأحد سيدي شباب أهل الجنة، ولد لخمس ليال خلون من شهر شعبان سنة أربع، وكانت فاطمة علقت به بعد أن ولدت الحسن بخمسين ليلة، وقد حفظ الحسين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وروى عنه، وأخرج له أصحاب السنن أحاديث يسيرة، ومناقبه كثيرة، استشهد بكربلاء يوم الجمعة، يوم عاشوراء سنة. (61) وله ست وخمسون سنة. وقد بسط الحافظ في تهذيب التهذيب (ج2: ص348- 353) وفي الإصابة (ج1: ص333: 334) قصة قتله، ثم قال: قد صنف جماعة من القدماء في مقتل الحسين تصانيف فيها الغث والسمين، والصحيح والسقيم، وفي هذه القصة التي سقتها غنى-انتهى. 940- قوله: (من صلى علي عند قبري) أي في بيتي قريباً من قبري، هذا هو الظاهر لكنه غير ممكن اليوم، لكون بيت عائشة الذي هو مدفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد سد، وبنيت على القبر حيطان مرتفعة مستديرة حوله. لا يمكن لأجلها الدخول في الحجرة، والوصول إلى قرب القبر. وقيل: المراد في حجرتي مطلقاً، وهذا أيضاً غير مقدور. وقيل: المراد أعم من ذلك، أي ولو كان المصلي في المسجد خارج الحجرة، ولا يخفى ما فيه من الخدشات، وقد تقدمت الإشارة إليها في كلام الحافظ المقدسي، والعلامة السهسواني. (سمعته) أي سمعاً حقيقياً بلا واسطة. (ومن صلى علي نائياً) أي بعيداً عن قبري من نأي فلانا وعن فلان ينأى نأياً: بعد عنه. (أبلغته) بضم الهمزة على بناء المفعول من الإبلاغ، وفي بعض النسخ بلغته أي بصيغة المجهول مشدداً من التبليغ. قال المناوي: أي أخبرت به على لسان بعض الملائكة؛ لأن لروحه تعلقاً بمقره الشريف، وحرام على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، فحاله كحال النائم-انتهى. والضمير المنصوب راجع إلى مصدر "صلى" كقوله تعالى: {اعدلوا هو أقرب للتقوى} [5: 8] ، والحديث يدل على الفرق بين صلاة الحاضر عند قبره، وصلاة الغائب عنه، فيسمع صلاة المصلي عند قبره بنفسه، ويبلغ صلاة من صلى نائياً عنه، وقد استدل به على أن للصلاة عند قبره مزية وفضيلة على الصلاة من بعيد عنه، واحتج بذلك على استحباب زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم -،

رواه البيهقي في شعب الإيمان. ـــــــــــــــــــــــــــــ وعلى ندب السفر لمجرد قصد الزيارة، لكن الحديث ضعيف جداً لا يجوز الاحتجاج به أصلاً لما عرفت ولما ستعرف. ولأن لفظ هذا الحديث مختلف، فاللفظ المذكور يدل على إثبات السماع عند القبر، وقد روي عن أبي هريرة نفسه ما يدل على عدم السماع عند القبر، فقد روى البيهقي في شعب الإيمان: أخبرنا أبوعبد الله الحافظ: حدثنا أبوعبد الله الصفار إملاء حدثنا محمد بن موسى البصري: حدثنا عبد الملك بن قريب: حدثنا محمد بن مروان- وهو يتيم لبني السدي- عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من عبد يسلم علي عند قبري إلا وكل الله به ملكاً يبلغني وكفى أمر آخرته ودنياه، وكنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة". وقال أبوالحسين بن سمعون: حدثنا عثمان بن أحمد بن يزيد: حدثنا محمد ابن موسى: حدثنا عبد الملك بن قريب الأصمعي: حدثني محمد بن مروان السدي، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من صلى علي عند قبري وكل الله به ملكاً يبلغني، وكفى أمر دنياه وآخرته، وكنت له يوم القيامة شهيداً أو شفيعاً". وليس أحد من اللفظين أي اللفظ الدال على السماع عند القبر، واللفظ الآخر الدال على عدم السماع عند القبر أولى وأرجح من الآخر، فإن مدار الروايتين كلتيهما على محمد بن مروان السدي، وهو متروك الحديث، متهم بالكذب، فتساقطت الروايتان جميعاً. ولأن حديث أبي هريرة هذا قد عارضه أحاديث كثيرة حسنة، مروية في السنن، والمسانيد، والمعاجم، كحديث أبي هريرة عند أبي داود، وحديث الحسين بن علي بن أبي طالب، وحديث علي بن أبي طالب عند الضياء المقدسي ونحو ذلك، فإنها متفقة على أن من صلى عليه من أمته فإن ذلك يبلغه ويعرض عليه، سواء كان المصلي حاضرا عند قبره قريباً منه، أو غائباً بعيداً، وليس في شيء منها أنه يسمع صوت المصلي عليه بنفسه، إنما فيها أنه يعرض عليه ويبلغه من غير فرق بين القريب والبعيد. ولأنه ينافيه ما تقدم من النهي عن اتخاذ قبره عيداً، والأمر بالصلاة عليه حيث ما كان المصلي، ولأنه يخالفه حديث النهي عن شد الرحل إلا إلى ثلاثة مساجد؛ لأن تحصيل مزية الصلاة عليه عند قبره لا يتيسر لمن كان على مسافة بعيدة منه إلا بالسفر إليه. وقد نهى عن شد الرحل إلى بقعة غير المساجد الثلاثة. (رواه البيهقي في شعب الإيمان) وأخرجه أيضاً أبوبكر بن أبي شيبة، والعقيلي، والطبراني كلهم من رواية العلاء بن عمرو الحنفي، عن أبي عبد الرحمن، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال البيهقي: أبوعبد الرحمن هذا هو محمد بن مروان السدي فيما أرى، وفيه نظر-انتهى. قلت: هذا الحديث واه جداً لا يحتج به، فإن العلاء بن عمرو ضعيف، لا يجوز الاحتجاج به، وأبوعبد الرحمن محمد بن مروان السدي الصغير متروك الحديث، متهم بالكذب، وأخرجه أبوالشيخ في كتاب الثواب من رواية أبي معاوية عن الأعمش، وهو خطأ فاحش، وإنما هو محمد بن مروان السدي، وقد تفرد به. قال الحافظ محمد بن عبد الهادي المقدسي في الصارم المنكي: إسناده لا يحتج به فإنه لا يعرف إلا من حديث محمد بن مروان السدي الصغير عن الأعمش كما ظنه البيهقي، وما ظنه في هذا هو متفق عليه عند أهل

942- (18) وعن عبد الله بن عمرو، قال: ((من صلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - واحدة، صلى الله عليه وملائكته سبعين صلاة)) رواه أحمد. ـــــــــــــــــــــــــــــ المعرفة، وهو عندهم موضوع على الأعمش. وقال في (ص190) : هذا الحديث موضوع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يحدث به أبوهريرة، ولا أبوصالح، ولا الأعمش، ومحمد بن مروان السدي متهم بالكذب والوضع، ورواه عنه العلاء بن عمرو الحنفي، ورواه عن العلاء جماعة. قال أحمد بن إبراهيم بن ملحان: حدثنا العلاء بن عمرو: حدثنا محمد بن مروان، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من صلى علي عند قبري سمعته، ومن صلى علي نائياً من قبري أبلغته". رواه العقيلي عن شيخ له، عن العلاء بن عمرو، وقال: لا أصل من حديث الأعمش، وليس بمحفوظ. ورواه الطبراني من رواية العلاء أيضاً، ولفظه: "من صلى علي من قريب سمعته، ومن صلى علي من بعيد أبلغته". وقد تكلم أبوحاتم بن حبان، وأبوالفتح الأزدي في العلاء بن عمرو، فقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به بحال، وقال الأزدي: لا يكتب عنه بحال، وقد روى بعضهم هذا الحديث من رواية أبي معاوية عن الأعمش، وهو خطأ فاحش، وإنما هو محمد بن مروان تفرد به، وهو متروك الحديث، متهم بالكذب. ثم ذكر كلام أئمة الجرح فيه مفصلاً. وبالجملة حديث أبي هريرة هذا ضعيف غاية الضعف، واهٍ، ساقط، بل لو ادعى أحد كونه موضوعاً لا يكون فيه شيء من المبالغة، والعجب من المصنف أنه أورد هذا الحديث من غير أن يذكر ما فيه من الكلام الموجب لسقوطه عن الاحتجاج والاستشهاد والاعتبار. 942- قوله: (واحدة) أي صلاة واحدة (صلى الله عليه وملائكته سبعين صلاة) قد تقدم الجمع بين هذا وبين ما تقدم من حديث أبي هريرة مرفوعاً: من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشراً. وقيل: إن حديث أبي هريرة من باب الحسنات بعشر أمثالها. وهذا الحديث من قبيل مضاعفة الثواب، فيجوز من فضل الله تعالى أن يضاعف أكثر من ذلك إلى سبع مائة كما ورد في تضعيف أجر بعض الحسنات، وزيد هنا صلاة الملائكة وهم تابعون لأمر الله تعالى، فإذا صلى الله تعالى صلى كل شيء من مخلوقاته. وقال القاري: لعل هذا مخصوص بيوم الجمعة، إذ ورد أن الأعمال في يوم الجمعة بسبعين ضعف. (رواه أحمد) (ج2: ص172، 187) بإسناد حسن، قاله المنذري في الترغيب، وكذا حسنه الهيثمي في مجمع الزوائد (ج1: ص160) وفيه ابن لهيعة، وقد تقدم الكلام فيه، وتمام الحديث: فليقل عبد من ذلك أو ليكثر، والحديث وإن كان من كلام عبد الله بن عمرو لكنه في حكم المرفوع إذ لا مجال للاجتهاد في بيان ثواب الأعمال، ومقداره، وكيفيته، قال السخاوي في القول البديع بعد ذكر الحديث: رواه أحمد وابن زنجوية في ترغيبه بإسناد حسن، وحكمه الرفع إذ لا مجال للاجتهاد فيه.

943- (19) وعن رويفع، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((من صلى على محمد، وقال: اللهم أنزله المقعد المقرب عندك يوم القيامة. وجبت له شفاعتي)) . رواه أحمد. 944- (20) وعن عبد الرحمن بن عوف، قال: (خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى دخل نخلاً، فسجد، فأطال السجود حتى خشيت أن يكون الله تعالى قد توفاه. قال: فجئت أنظر، فرفع رأسه، فقال: ما لك؟ فذكرت له ذلك. ـــــــــــــــــــــــــــــ 943- قوله: (عن رويفع) بالتصغير، وهو ابن ثابت بن السكن الأنصاري المدني تقدم ترجمته. (من صلى على محمد، وقال) أي بعد الصلاة عليه، ففي الحديث الجمع بين الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - وسؤاله أن ينزله المقعد المقرب عنده يوم القيامة، فمن وقع منه ذلك استحق الشفاعة المحمدية وكانت واجبة له. (المقعد المقرب عندك) وصف المقعد بالمقرب باعتبار أن كل من كان فيه فهو مقرب عند الله فهو من قبيل وصف المكان بوصف المتمكن فيه، فعلى هذا "المقرب" اسم مفعول، ويجوز أن يكون اسم مكان، أي مقعد هو مكان التقريب، والقرب عنده، ثم قيل: هو المقام المحمود لقوله: (يوم القيامة) وقيل: المراد به الوسيلة التي هي أعلى درجة في الجنة، لا تكون إلا له - صلى الله عليه وسلم -، وعلى هذا، المراد بيوم القيامة الدار الآخرة. (وجبت) أي ثبتت، ووقعت، وتحتمت بمقتضى وعدالله الصادق. (له شفاعتي) أي نوع من أنواع شفاعاته - صلى الله عليه وسلم - الخاصة ببعض أمته من رفع درجته أو نحوها. (رواه أحمد) (ج1:ص108) وإسماعيل القاضي في فضل الصلاة (ص21) وفي سنده ابن لهيعة، وعزاه المنذري في الترغيب، والهيثمي في مجمع الزوائد (ج10:ص163) للبزار، والطبراني في الكبير، والأوسط. قال المنذري: وبعض أسانيدهم حسنة، وقال الهيثمي: وأسانيدهم حسنة. 944- قوله: (حتى دخل نخلاً) أي بستان نخل، وفي رواية لأحمد (ج1:ص191) : فتوجه نحو صدقته، فدخل، فأسقبل القبلة، فخر ساجداً، وفي رواية لأبي يعلى: خرجت على أثره فوجدته قد دخل حائطاً من الأسواف – وهو بالفاء موضع بالمدينة – فتوضأ، ثم صلى ركعتين، فسجد سجدة، فأطال السجود. (فسجد) أي سجدة كما في رواية أبي يعلى. (قد توفاه) أي قبض نفسه فيها: ففي رواية أحمد المتقدمة: فأطال السجود حتى ظننت أن الله عزوجل قبض نفسه فيها. (قال) أي عبد الرحمن. (فجئت أنظر) هل هو حي أو ميت، وفي رواية أحمد فدنوت منه. (فرفع رأسه) أي من السجدة. (فقال) أي - صلى الله عليه وسلم -. (مالك؟) أي أى شيء عرض لك حتى ظهر أمارة الحزن والفزع عليك؟ وفي الرواية المذكورة من هذا؟ فقلت: عبد الرحمن. قال: ما شأنك. (فذكرت له ذلك) أي الخوف المرادف للخشية التي مستفادة من خشيت، وفي الرواية المتقدمة: قلت يا رسول الله! سجدت سجدة خشيت أن يكون الله عزوجل قد قبض نفسك فيها.

قال: فقال: إن جبرئيل عليه السلام قال لي: ألا أبشرك أن الله عزوجل يقول لك: من صلى عليك صليت عليه، ومن سلم عليك سلمت عليه) رواه أحمد. 945- (21) وعن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال: ((إن الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يعد منه شيء حتى تصل على نبيك)) ـــــــــــــــــــــــــــــ (ألا أبشرك أن الله عزوجل) بفتح "أن" وقيل: بكسرها؛ لأن في البشارة معنى القول. (من صلى عليك) أي صلاة (صليت عليه، ومن سلم عليك) . أى سلاماً. (سلمت عليه) زاد في الرواية المتقدمة: فسجدت لله شكراً، وقد تقدم ذكر الأحاديث المفسرة المصرحة بأن الله تعالى يصلي على من صلى على رسوله - صلى الله عليه وسلم - مرة واحدة عشرة صلوات. (رواه أحمد) (ج1:ص191) قال الهيثمي: ورجاله ثقات، وأخرجه أيضاً الحاكم، وقال: صحيح الإسناد. ورواه أيضاً إسماعيل القاضي (ص5، 6) والبيهقي (ج2:ص370) وابن أبي الدنيا، وأبويعلى، ولفظه: قال كان لا يفارق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منا خمسة أو أربعة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ينوبه من حوائجه بالليل والنهار، قال فجئته وقد خرج، فأتبعته، فدخل حائطاً من حيطان الأسواف، فصلى فسجد، فأطال السجود، فبكيت، وقلت: قبض الله روحه، قال فرفع رأسه فدعاني، فقال: مالك؟ فقلت: يارسول الله! أطلت السجود، قلت: قبض الله روح رسوله لا أراه أبداً. قال: سجدت شكراً لربي فيما أبلاني في أمتي، من صلى على صلاة من أمتي كتب الله له عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، لفظ أبي يعلى. وقال ابن أبي الدنيا: من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشراً. وفي إسنادهما موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف. ورواه أيضاً إسماعيل القاضي بنحو أبي يعلى، وفيه أيضاً موسى بن عبيدة الربذي. 945- قوله: (لا يصعد) بفتح الياء. (منه) أي من الدعاء جنسه. (حتى تصلي على نبيك) قال الطيبي: يحتمل أن يكون من كلام عمر رضي الله عنه فيكون موقوفاً، وأن يكون ناقلا كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحينئذٍ فيه تجريد، جرد - صلى الله عليه وسلم - من نفسه نبيا وهو هو، وعلى التقديرين للخطاب عام، لا يختص بمخاطب دون مخاطب، والأنسب أن يقال: النبي مشتق من النبوة بمعنى الرفعة، أي لا يرفع الدعاء إلى الله تعالى حتى يستصحب الرافع معه، يعني أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - هي الوسيلة إلى الإجابة-انتهى. والحديث يقوي قول من ذهب إلى وجوب الصلاة في قعود التشهد الأخير. قال ابن العربي: ومثل هذا يقال من قبل الرأى فيكون له حكم الرفع-انتهى. قال الحافظ: وورد له شاهد مرفوع في جزء الحسن بن عرفة أخرج العمري في عمل يوم وليلة عن ابن عمر بسند جيد، قال: لا تكون صلاة إلا بقراءة، وتشهد، وصلاة علي. وأخرج البيهقي في الخلافيات بسند قوي عن الشعبي، وهو من كبار التابعين. قال: من لم يصل على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد فليعد صلاته. وأخرج الطبري بسند صحيح عن مطرف بن عبد الله بن الشخير وهو من كبار التابعين، قال: كنا نعلم

(17) باب الدعاء في التشهد

رواه الترمذي. (17) باب الدعاء في التشهد {الفصل الأول} 946- (1) عن عائشة، رضي الله عنها، قالت. ((كان رسول الله يدعو في الصلاة، يقول: اللهم إني أعوذبك من عذاب القبر، ـــــــــــــــــــــــــــــ التشهد، فإذا قال: وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، يحمد ربه ويثني عليه، ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يسأل حاجته-انتهى. وقد تقدم ما روى عن ابن مسعود، قال: يتشهد الرجل، ثم يصلي على النبي ثم يدعو لنفسه، أخرجه الحاكم بسند قوي، وهو أقوى شيء يحتج به للشافعي في وجوب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في قعود التشهد الأخير. (رواه الترمذي) في الصلاة من طريق أبي قرة الأسدي. عن سعيد بن المسيب، عن عمر مرفوعاً، لكن للوقف في مثل هذا حكم الرفع؛ لأن ذلك مما لا مجال للاجتهاد فيه. قال ابن العربي في العارضة (ج2:ص273، 274) : مثل هذا إذ قاله عمر لا يكون إلا توقيفاً؛ لأنه لا يدرك بنظر، ويعضده ما خرج مسلم: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليّ، فإنه من صلى علي صلاة، صلى الله بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة-الحديث. قلت: لكن رواية عمر هذه ضعيفة؛ لأن أبا قرة الأسدي مجهول كما صرح به الحافظ في التقريب، والذهبي في الميزان، وأخرج الطبراني في الأوسط عن علي بن أبي طالب قال: كل دعاء محجوب حتى يصلى على محمد - صلى الله عليه وسلم - وآل محمد. قال المنذري: إنه موقوف، ورواته ثقات، ورفعه بعضهم، والموقوف أصح-انتهى. وقال الهيثمي: رجاله ثقات، وأخرجه البيهقي في الشعب من حديثه، وأخرجه الديلمي في مسند الفردوس من حديث أنس بلفظ: كل دعاء محجوب حتى يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي إسناده محمد بن عبد العزيز الدينوري، قال الذهبي في الضعفاء: منكر الحديث، ويشهد لذلك كله ما تقدم من حديث فضالة بن عبيد مرفوعاً، وفي الحصن الحصين (ص247) : قال الشيخ أبوسليمان الداراني: إذا سألت الله حاجة فابدأه بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم ادع بما شئت، ثم اختم بالصلاة عليه، فإن الله سبحانه بكرمه يقبل الصلاتين، وهو أكرم من أن يدع ما بينهما-انتهى. (باب الدعاء في التشهد) أي في آخره أو عقبه بعد الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي كيفية الانصراف عن الصلاة. 946- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو في الصلاة) أي في آخرها بعد التشهد قبل السلام للحديث الآتي عقب هذا. ففيه تعيين محل هذه الاستعاذة بعد التشهد الأخير، وهو مقيد، وحديث عائشة هذا مطلق فيحمل عليه. (يقول) بدل أو بيان. (اللهم إني أعوذبك من عذاب القبر) هو ضرب من لم يوفق للجواب بمقامع من حديد وغيره من العذاب، كشدة

وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات، ـــــــــــــــــــــــــــــ الضغطة ووحشة الوحدة، والمراد بالقبر البرزخ، والتعبير به للغالب، أو كل ما استقر فيه أجزاءه فهو قبره. وفيه إثبات لعذاب القبر، ورد على المنكرين لذلك من المعتزلة. والأحاديث في الباب متواترة كما تقدم. (وأعوذ بك من فتنة المسيح) قال أهل اللغة: الفتنة الامتحان والاختبار. قال عياض: واستعمالها في العرف لكشف ما يكره، وقد تطلق على القتل، والإحراق، والنميمة، وغير ذلك. والمسيح - بفتح الميم وكسر السين المخففة آخره هاء مهملة – وفيه ضبط آخر، وهذا المشهور الأصح، يطلق على الدجال، وعلى عيسى بن مريم عليه السلام، لكن إذا أريد الدجال قيد به، واختلف في تلقيب الدجال بذلك، فقيل: لأن إحدى عينيه ممسوحة، فعيل بمعنى مفعول، أي عينيه ذاهبة. وقيل:؛ لأن أحد شقى وجهه خلق ممسوحاً لا عين فيه ولا حاجب. وقيل: فعيل بمعنى فاعل من المساحة؛ لأنه يمسح الأرض إذا خرج، أي يقطعها بتردده فيها في أيام معدودة إلا مكة والمدينة، فإن الله تعالى حماهما منه بفضله، وآخر الأمر يقتله المسيح عيسى بن مريم في محاصرة القدس. وأما عيسى، فقيل: سمى بذلك؛ لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن. وقيل: لأن زكريا مسحه. وقيل:؛ لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برئ. وقيل:؛ لأنه كان سياح يمسح الأرض أي يقطعها بسياحته وكثرة سيره في الأرض. وقيل:؛ لأن رجله كانت لا أخمص لها. وقيل: للبسه المسوح. وقيل: أصله "ما شيخا" بالعبرانية، وهو المبارك، فعرب المسيح. وقيل: المسيح الصديق. وذكر المجد الشيرازي صاحب القاموس أنه جمع في وجه تسمية عيسى بذلك خمسين قولاً، أوردها في شرح مشارق الأنوار. (الدجال) أي الخداع الكذاب، فعال من الدجل، وهو الخدع، والكذب، والتغطية، والمراد به هنا الكذاب المعهود الذي سيظهر في آخر الزمان، وفي معناه كل مفسد مضل. والمراد بفتنة المسيح الدجال هي ما يظهر على يده من الأمور الخارقة للعادة التي يضل بها من ضعف إيمانه كما اشتملت على ذلك الأحاديث المشتملة على ذكره، وذكر خروجه وما يظهر للناس من تلك الأمور. (وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات) المحيا بالقصر مفعل من الحياة كالممات من الموت، والمراد الحياة والموت، ويحتمل أن يريد زمان ذلك ويريد بذلك محنة الدنيا وما بعدها، ويحتمل أن يريد بذلك حالة الاخضار وحالة المسألة في القبر، وكأنه استعاذ من فتنة هذين المقامين، وسأل التثبيت فيهما، قاله القرطبي. وقال ابن دقيق العيد: فتنة المحيا ما يعرض للإنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا، والشهوات، والجهالات، وأعظمها-والعياذ بالله – أمر الخاتمة عند الموت، وفتنة الممات يجوز أن يراد بها الفتنة عند الموت، أضيفت إليه لقربها منه، ويكون المراد بفتنة المحيا على هذا ما قيل ذلك ويجوز أن يراد بها فتنة القبر، وقد صح يعني حديث أسماء عند البخاري "إنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريباً من فتنة الدجال". ولا يكون مع هذا الوجه متكرراً مع قوله "عذاب القبر"؛ لأن العذاب مرتب عن الفتنة، والسبب غير المسبب. وقال الطيبي: "فتنة المحيا" الابتلاء مع زوال الصبر والرضاء، والوقوع في الآفات، والإصرار على السيئات،

اللهم إني أعوذ بك من المأثم ومن المغرم. فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم! فقال: إن الرجل إذا غرم، حدث فكذب، ووعد فأخلف)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ وترك متابعة طريق الهدى، و"فتنة الممات" سؤال منكر ونكير مع الحيرة والخوف، وعذاب القبر وما فيه من الأهوال والشدائد، وهذا من العام بعد الخاص؛ لأن عذاب القبر داخل تحت فتنة الممات، وفتنة الدجال داخلة تحت فتنة المحيا. (من المأثم) أي مما يأثم به الإنسان، أو مما فيه إثم، أو مما يوجب الإثم، أو الإثم نفسه، مصدر وضع موضع الاسم. (ومن المغرم) قال الجزري: هو مصدر وضع موضع الاسم، يريد به مغرم الذنوب والمعاصي. وقيل: المغرم كالغرم وهو الدين، ويريد به ما استدين فيما يكرهه الله أو فيما يجوز ثم عجز عن أدائه، فأما دين احتاج إليه وهو قادر على أداءه فلا يستعاذ منه-انتهى. وقال الحافظ: المغرم الدين، يقال: غرم-بكسر الراء- أي أدان. قيل: والمراد به ما يستدان فيما لايجوز، أو فيما يجوز ثم يعجز عن أدائه. ويحتمل أن يراد به ما هو أعم من ذلك، وقد استعاذ - صلى الله عليه وسلم - من قلبة الدين-انتهى. وقال السندي: الظاهر أن المراد ما يفضي إلى المعصية بسبب ما. (فقال له قائل) في رواية للنسائي أن السائل عن ذلك عائشة، ولفظها: قلت: يارسول الله! ما أكثر ما تستعيذ، الخ.. (ما أكثر) بفتح الراء فعل التعجب. (ما تستعيذ) في محل النصب وما مصدرية، أي استعاذتك، كأن هذا القائل رأى أن الدين إنما يتعلق بضيق الحال ومثله لا يحترز عنه أصحاب الكمال. (إن الرجل) المراد به الجنس، وغالب حاله. (إذا غرم) بكسر الراء أي لزمه دين، والمراد استدان واتخذ ذلك دأبه وعادته كما يدل عليه السياق. (حدّث) بتشديد الدال أي أخبر عن ماضي الأحوال لتمهيد عذر في التقصير. (فكذب) ؛ لأنه إذا تقاضاه رب الدين ولم يحضره ما يؤدي به دينه يكذب ليتخلص من يده ويقول: لي مال غائب إذا حضر أودي دينك. (ووعد) أي في المستقبل بأن يقول: أعطيك غداً أو في المدة الفلانية، (فأخلف) في وعده، وبما تقرر علم أن "غرم" شرط و"حدث" جزاء، و"كذب" عطف على الجزاء مرتب عليه، و"وعد" عطف على "حدث" لا على"غرم" و"أخلف" مرتب عليه. وحاصل الجواب: أن الدين يؤدي إلى خلل بالدن فلذلك وقعت العناية بالمسألة وقد استشكل دعاءه - صلى الله عليه وسلم - بما ذكر مع أنه معصوم مغفور له ما تقدم وما تأخر. وأجيب بأجوبة، أحدها: أنه قصد التعليم لأمته. ثانيها: أن المراد السؤال منه لأمته فيكون المعنى هنا: أعوذ بك لأمتي. ثالثها: سلوك طريق التواضع، وإظهار العبودية، وإلزام خوف الله، وإعظامه، والافتقار إليه، وامتثال أمره في الرغبة إليه، ولا يمتنع تكرار الطلب مع تحقق الإجابة؛ لأن ذلك يحصل الحسنات، ويرفع الدرجات. وفيه تحريض لأمته على ملازمة ذلك؛ لأنه إذا كان مع تحقق المغفرة لا يترك التضرع، فمن لم يتحقق ذلك أحرى بالملازمة. وأما الاستعاذة من فتنة الدجال مع تحققه أنه لا يدركه فلا إشكال فيه على الوجهين الأولين. وقيل: على الثالث يحتمل أن يكون ذلك قبل تحقق عدم إدراكه، ويدل عليه

متفق عليه. 947- (2) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر، فليتعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر المسيح الدجال)) رواه مسلم. 948- (3) وعن ابن عباس، رضي الله عنهما ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن، يقول: قولوا: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله في الحديث الآخر عند مسلم: إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه-الحديث. والله أعلم، كذا في الفتح. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي. 947- قوله: (إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر) أي آخر الصلاة ولو كان أولا. وفيه تقييد لحديث عائشة السابق، وبيان أن الاستعاذة المأمور بها بعد التشهد الأخير، ويدل التعقيب بالفاء وقوله "إذا فرغ" أنها تكون قبل الدعاء المخير فيه بما شاء. وفيه رد على ابن حزم فيما ذهب إليه من وجوبها في التشهد الأول. قال النووي: فيه التصريح باستحبابه في التشهد الأخير والإشارة إلى أنه لا يستحب في الأول. وهكذا الحكم؛ لأن الأول مبني على التخفيف. (فليتعوذ بالله) ظاهره وجوب الاستعاذة مما ذكر، وقد ذهب إليه ابن حزم، وروى عن طاووس، وحمله الجمهور على الندب، وادعى بعضهم الإجماع على الندب، وهو لا يتم مع مخالفة من تقدم. (من أربع) ينبغي أن يزاد على هذه الأربع التعوذ من المأثم والمغرم المذكورين في حديث عائشة. (من عذاب جهنم) قدم فإنه أشد وأبقى، بدل بإعادة الجار. (ومن شر المسيح الدجال) قيل أخره هنا؛ لأنه إنما يقع آخر الزمان قرب الساعة. قال القاري، قيل: له شر وخير، فخيره أن يزداد المؤمن إيماناً، ويقرأ ما هو مكتوب بين عينيه من أنه كافر، فيزيد إيقاناً. وشره أن لا يقرأ الكافر ولا يعلمه. (رواه مسلم) في الصلاة، وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه. 948- قوله: (كان يعلمهم) أي أصحابه أو أهل بيته. (هذا الدعاء) أي الذي يأتي. (يقول: قولوا) ذهب طاووس إلى وجوبه، وأمر ابنه بإعادة الصلاة حين لم يدع بهذا الدعاء فيها، وإليه ذهب ابن حزم، والجمهور على أنه مستحب، (اللهم إني أعوذبك من عذاب جهنم) فيه إشارة إلى أنه لا مخلص من عذابها إلا بالالتجاء إلى بارئها. (وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال) أي على تقدير لقيه. (وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات) هذا تعميم بعد تخصيص، وكرر "أعوذ" في كل

رواه مسلم. 949- (4) وعن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، قال ((قلت: يارسول الله! علمني دعاء أدعو به في صلاتي. قال: اللهم إني ـــــــــــــــــــــــــــــ واحدة إظهار لعظم موقعها، وأنها حقيقة بإعادة مستقلة. (رواه مسلم) في الصلاة، وأخرجه أيضاً مالك، وأبوداود في أواخر الصلاة، والترمذي في الدعوات، والنسائي في الاستعاذة. 949- قوله: (وعن أبي بكر الصديق) هو عبد الله بن عثمان أبي قحافة-بضم القاف- ابن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة التيمي أبوبكر الصديق الأكبر، خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه في الغار، وإنما سمي عتيقاً؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: من أراد أن ينظر إلى عتيق من النار فلينظر إلى أبي بكر، وهو أول الرجال إسلاما. وقال ميمون بن مهران: لقد آمن أبوبكر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - زمان بحيراء الراهب، واختلف بينه وبين خديجة حتى تزوجها. وذلك قبل أن يولد علي، وكان مولد أبي بكر بمكة بعد الفيل بسنتين وأربعة أشهر إلا أياماً، وشهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - المشاهد كلها، ولم يفارقه في الجاهلية، ولا في الإسلام، وكان أفضل الصحابة، ولأبويه، وولده، وولده ولده صحبة، ولم يجتمع هذا لأحد من الصحابة. كان أبيض، أشقر، لطيفاً، نحيفاً، مسترق الوركين، خفيف العارضين. قال عمر: أبوبكر خيرنا وسيدنا، وأحبنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومناقبه وفضائله كثيرة جداً مدونة في كتب العلماء. مات بالمدينة ليلة الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الأخرى سنة ثلاث عشرة من الهجرة بين المغرب والعشاء، وله ثلاث وستون سنة، وأوصى أن تغسله زوجته أسماء بنت عميس، فغسلته، وصلى عليه عمر، ودفن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت خلافته سنتين وأربعة أشهر. روى مائة واثنين وأربعين حديثاً، اتفقا على ستة، وانفرد البخاري بأحد عشر، ومسلم بحديث، ولم يرو عنه من الحديث إلا هذا القدر القليل لقلة مدته بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وترجمته في تاريخ الشام في مجلد ونصف. (أدعو به في صلاتي) أي عقب التشهد الأخير والصلاة عليك والاستعاذة، وإليه جنح البخاري في صحيحه حيث قال "باب الدعاء قبل السلام"، ثم ذكر حديث أبي بكر هذا. قال ابن دقيق العيد في الكلام على هذا الحديث: هذا يقتضى الأمر بهذا الدعاء في الصلاة من غير تعيين محله، ولعل الأولى أن يكون في أحد موطنين إما السجود وإما بعد التشهد؛ لأنهما أمر فيهما بالدعاء، ولعله يترجح كونه فيما بعد التشهد بظهور العناية بتعليم دعاء مخصوص في هذا المحل. ونازعه الفاكهاني، فقال: الأولى الجمع بينهما في المحلين المذكورين أي السجود والتشهد. وقال النووي: استدلال البخاري صحيح؛ لأن قوله "في صلاتي" يعم جميعها، ومن مظانه هذا الموطن. وقال العيني: ظاهر الحديث عموم جميع الصلاة. ولكن المراد بعد التشهد الأخير قبل السلام؛ لأن لكل مقام من الصلاة ذكراً مخصوصاً فتعين أن يكون مقامه بعد الفراغ من الكل وهو آخر الصلاة، وبيانه أن للصلاة قياماً،

ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ وركوعاً، وسجوداً، وقعوداً، فالقيام محل قراءة القرآن، والركوع والسجود لهما دعاءان مخصوصان، والقعود محل التشهد، فلم يبق للدعاء إلا بعد التشهد قبل السلام. (ظلمت نفسي) أي بملابسة ما يوجب العقوبة، أو ينقص الحظ والأجر. (ظلمًا كثيراً) يروى بالمثلثة وبالموحدة فيخير الداعي بين اللفظين، ولا يجمع بينهما؛ لأنه لم يرو إلا أحدهما. وقيل: يأتي مرة بالمثلثة، ومرة بالموحدة، فإذا أتى بالدعاء مرتين فقد نطق بما نطق به النبي - صلى الله عليه وسلم - بيقين. قال الحافظ: في الحديث أن الإنسان لا يعري عن تقصير، ولو كان صديقا. قال السندي: بل فيه أن الإنسان كثير التقصير وإن كان صديقاً؛ لأن النعم عليه غير متناهية، وقوته لا تطيق بأداء أقل قليل من شكرها، بل شكره من جملة النعم أيضاً فيحتاج إلى شكر هو أيضاً كذلك، فما بقي له إلا العجز والاعتراف بالتقصير الكثير، كيف وقد جاء في جملة أدعيته - صلى الله عليه وسلم - "ظلمت نفسي" انتهى. (ولا يغفر الذنوب إلا أنت) فيه إقرار بوحدانية الباري تعالى، واستجلاب لمغفرته بهذا الإقرار كما قال تعالى: علم أن له رباً يغفر الذنب. ويأخذ بالذنب، وقد وقع في هذا الحديث امتثال لما أثنى الله تعالى عليه في قوله: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله} [3: 135] ، فأثنى على المستغفرين، وفي ضمن ثناءه بالاستغفار لوح بالأمر به كما قيل: إن كل شيء أثنى الله على فاعله فهو آمر به، وكل شيء ذم فاعله فهو ناه عنه. وقوله "لا يغفر الذنوب إلا أنت" كقوله تعالى: {ومن يغفر الذنوب إلا الله} . (مغفرة) نكرها للتعظيم أي مغفرة عظيمة، وزادها تعظيماً بوصفها بقوله: (من عندك) ؛ لأن ما يكون من عنده لا تحيط بوصفه عبارة. وقيل، معناه: من محض فضلك من غير سابقة استحقاق مني، أو مغفرة لائقة بعظيم كرمك. قال الطيبي: دل التنكير على أنه غفران لا يكتنه كنهه، ثم وصف بقوله "من عندك" مبالغة في ذلك التعظيم؛ لأن ما يكون من عند الله ومن لديه لا يحيط به وصف واصف كقوله تعالى: {وعلمناه من لدنا علماً} [18: 65] . وقال ابن دقيق العيد: يحتمل وجهين: أحدهما الإشارة إلى التوحيد المذكور، كأنه قال: لا يفعل هذا إلا أنت فافعله لي أنت. والثاني- وهو أحسن- أنه إشارة إلى طلب مغفرة متفضل بها، لا يقتضيها سبب من العبد من عمل حسن ولا غيره، فهي رحمة من عنده بهذا التفسير ليس للعبد فيها سبب، وهذا تبرؤ من الأسباب، والإدلال بالأعمال والاعتقاد في كونها موجبة للثواب وجوباً عقلياً، وبهذا الثاني جزم ابن الجوزي فقال: المعنى هب لي المغفرة تفضلاً وإن لم أكن لها أهلاً بعملي. (إنك أنت الغفور الرحيم) هما صفتان ذكرتا ختما للكلام على جهة المقابلة لما قبله، فالغفور مقابل لقوله "اغفرلي" والرحيم مقابل لقوله "ارحمني" وهي مقابلة مرتبة. وفي هذا الحديث من الفوائد: التوسل إلى الله تعالى بأسمائه عند طلب الحاجات، واستدفاع المكروهات، وأنه يأتي من صفاته في كل مقام ما يناسبه كالغفور الرحيم عند طلب المغفرة والرحمة، ونحو. {وارزقنا وأنت خير الرازقين} [5: 114] عند طلب الرزق، والقرآن والأدعية النبوية مملوة بذلك. وفيه أيضاً استحباب طلب التعليم من العالم

متفق عليه. 950- (5) وعن عامر بن سعد، عن أبيه، قال: ((كنت أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلم عن يمينه وعن يساره حتى أرى بياض خده)) ـــــــــــــــــــــــــــــ سيما في الدعوات المطلوب فيها جوامع الكلم. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه. 950- قوله: (عن عامر بن سعد) بن أبي وقاص الزهري القرشي، ثقة من أوساط التابعين، مات سنة أربع ومائة. (عن أبيه) سعد بن أبي وقاص تقدم ترجمته. (كنت أرى) بفتح الهمزة. (يسلم عن يمينه) قال الطيبي أي مجاوزاً نظره عن يمينه كما يسلم أحد على من في يمينه. (وعن يساره) فيه مشروعية أن يكون التسليم إلى جهة اليمين ثم إلى جهة اليسار. (حتى أرى بياض خده) قال الأبهري: أي وجنته الخالية عن الشعر، وكان مشرباً بالحمرة- انتهى. والمعنى حتى أرى بياض خده الأيمن في الأولى، والأيسر في الثانية، وفيه دليل على مبالغة في الالتفات إلى جهة اليمين، وإلى جهة اليسار. واعلم أن السلام للتحلل عن الصلاة فرض لا يقوم غيره مقامه، وبهذا قال مالك، والشافعي، وأحمد. وقال أبوحنيفة: لا يتعين السلام للخروج من الصلاة بل إذا خرج بما ينافي الصلاة من عمل، أو حدث؛ أو غير ذلك جاز. قال العيني: اختلف العلماء في هذا؛ فقال مالك والشافعي وأحمد وأصحابهم: إذا انصرف المصلي بغير لفظ التسليم فصلاته باطلة؛ وذهب أبوحنيفة وأبويوسف ومحمد إلى أن التسليم ليس بفرض حتى لو تركه لم تبطل صلاته- انتهى. قلت: السلام عند الحنفية واجب يجب إعادة الصلاة بتركه كما صرح به بعض الحنفية، وهذا مبني على ما أصلوه من التفريق بين الواجب والفرض، قال في البدائع: أما الخروج عن الصلاة بلفظ السلام فواجب عندنا على ما هو القاعدة عند الحنفية أن خبر الواحد يعني قوله "تحليلها التسليم" يفيد الوجوب-انتهى. والحق ما ذهب إليه الجمهور من تعيين السلام للخروج عن الصلاة، وأنه لا يقوم غيره مقامه وأنه يبطل صلاة من تركه. والدليل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وتحليلها التسليم" فإن الإضافة تقتضي الحصر فكأنه قال: جميع تحليلها التسليم أي انحصر تحليلها في التسليم لا تحليل لها غيره. ولأنه أحد طرفي الصلاة فكان فيه نطقاً واجباً. ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم من صلاته، ويديم ذلك، ويواظب عليه ولا يخل به، وقد قال: صلوا كما رأيتموني أصلي. ولأنه قد تواتر العمل عليه من لدن صاحب الشريعة - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا، وتلقاه الكافة عن الكافة طبقة عن طبقة، فهو ثابت متواتراً عملاً، وطبقة عن طبقة، وهذا كالقعدة الأخيرة عند الحنفية، فإنها فرض عندهم تبطل الصلاة بتركها، ولا دليل على فرضيتها إلا أخبار الآحاد أو تواتر العمل. وأما ما قيل: من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعلم السلام المسيء في صلاته، ولو وجب لأمره به؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. ففيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعلمه كل الواجبات، بدليل أنه لم يعلمه التشهد والقعود وغيرهما، ويحتمل أنه اقتصر على تعليمه ما رآه أساء فيه. وأما ما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر خمساً

فلما سلم أخبر بصنيعه، فثنى رجله، فسجد سجدتين، أخرجه الجماعة عن ابن مسعود بطريق متعددة، وألفاظ مختلفة. قال الطحاوي: في هذا الحديث أنه أدخل في الصلاة ركعة من غيرها قبل التسليم، ولم ير ذلك مفسداً للصلاة، فدل ذلك على أن السلام ليس من أصلها، ولو كان واجباً كوجوب السجدة في الصلاة لكان حكمه أيضاً كذلك ولكنه بخلافه فهو سنة. ففيه أنه ليس فيه إلا تأخير السلام لا تركه رأساً، وهذا لا يدل على كون السلام من غير أصل الصلاة مع أن ذلك كان في حالة النسيان، وعلى ظن عدم الزيادة والإدخال، والكلام هنا فيمن ترك السلام عمداً، وخرج من الصلاة بغير السلام مما ينافي الصلاة. وأما ما روى عن عبد الله بن عمر مرفوعاً: إذا أحدث الرجل وقد جلس في آخر صلاته قبل أن يسلم فقد جازت صلاته. أخرجه أبوداود والترمذي، وسيأتي في "باب مالا يجوز من العمل في الصلاة وما يباح منه". ففيه أنه حديث ضعيف مضطرب، قد تفرد به عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، وضعفه أكثر الحفاظ. قال الترمذي بعد إخراجه: ليس إسناده بذاك القوي، وقد اضطربوا في إسناده- انتهى. وفيه أيضاً أنه مخالف للحديث الصحيح "وتحليلها التسليم" فلا يقوى على معارضته بل يؤخذ بالأصح، قال الخطابي في المعالم (ج1:ص175) : هذا الحديث ضعيف، وقد تكلم الناس في بعض نقلته، وقد عارضته الأحاديث التي فيها إيجاب التشهد والتسليم- انتهى. وأما ما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيد عبد الله بن مسعود فعلمه التشهد في الصلاة، ثم قال: إذا قلت هذا أو قضيت هذا فقد قضيت صلاتك، إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد. أخرجه أحمد وأبوداود والدارقطني. ففيه أن قوله: إذا قلت هذا، الخ. مدرج من قول ابن مسعود، قال الدارقطني: الصحيح أن قوله "إذا قضيت هذا فقد قضيت صلاتك" من كلام ابن مسعود، فصله شبابه عن زهير بن معاوية، وجعله من كلام ابن مسعود، وقوله أشبه بالصواب ممن أدرجه، وقد اتفق من روى تشهد ابن مسعود على حذفه، كذا في المنتقى. قال الشوكاني: أما حديث ابن مسعود فقال البيهقي في الخلافيات: إنه كالشاذ من قول عبد الله، وإنما جعله كالشاذ؛ لأن أكثر أصحاب الحسن بن الحر لم يذكروا هذه الزيادة، لا من قول ابن مسعود مفصولة من الحديث، ولا مدرجة في آخره، وإنما رواه بهذه الزيادة عبد الرحمن بن ثابت عن الحسن، فجعلها من قول ابن مسعود وزهير بن معاوية عن الحسن، فأدرجها في آخر الحديث في قول أكثر الرواة عنه، ورواها شبابه بن سوار عنه مفصولة كما ذكر الدارقطني. وقد روى البيهقي من طريق أبي الأحوص عن ابن مسعود ما يخالف هذه الرواية بلفظ: مفتاح الصلاة التكبير وانقضاءها التسليم، إذا سلم الإمام فقم إن شئت. قال: وهذا الأثر صحيح عن ابن مسعود. وقال ابن حزم: قد صح عن ابن مسعود إيجاب السلام فرضاً، وذكر رواية أبي الأحوص هذه عنه. قال البيهقي: إن تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - التشهد لابن مسعود كان قبل فرض التسليم ثم فرض بعد ذلك، وقد صرح بأن تلك الزيادة المذكورة في الحديث مدرجة جماعة من الحفاظ، منهم الحاكم والبيهقي والخطيب، وقال البيهقي في المعرفة: ذهب الحفاظ إلى أن هذا وهم من زهير

ابن معاوية. وقال النووي في الخلاصة: اتفق الحفاظ على أنها مدرجة- انتهى. وقد رواه عن الحسن بن الحر حسين الجعفي، ومحمد بن عجلان. ومحمد بن أبان، فاتفقوا على ترك هذه الزيادة في آخر الحديث مع اتفاق كل من روى التشهد عن علقمة وغيره عن ابن مسعود على ذلك- انتهى كلام الشوكاني. وقد تأول القاضي أبوبكر بن العربي في شرح الترمذي (ج2:ص199) حديث ابن مسعود هذا بأنه إنما يعني به "فقد قضيت صلاتك فاخرج منها كما دخلتها بإحرام"- انتهى. وهو تأويل حسن جيد ظاهر من السياق. وقال ابن حجر: معنى "قضيت" قاربت أو قضيت معظمها، وهذا على تقدير تسليم أنه من الحديث وقد عرفت مما قدمنا أن الحق هو كونه مدرجاً في آخر الحديث من كلام ابن مسعود، وقد عارضه ما صح عن ابن مسعود عند البيهقي، وابن حزم من إيجاب السلام فرضاً، والله أعلم. ثم إن حديث سعد هذا يدل على مشروعية التسليمتين على اليمين واليسار، واختلف فيه أيضاً فالتسليمتان معاً فرض في المشهور عن أحمد لكن صحح في المغني والشرح الكبير (ج1:ص594) أن الفرض تسليمة واحدة، والثانية سنة. ونقل ابن المنذر والنووي إجماع العلماء على ذلك، وأما عند الحنفية فالأولى واجبة، والثانية سنة، وقيل: كلتاهما واجبتان عندهم على ما صرح به الشامي، وصاحب البرهان، والكبيري، وعليه يدل كلام صاحب البدائع. وأما عند الشافعي فالأولى فرض، والثانية مستحبة. قال في الأم (ج1: ص106) بعد رواية أحاديث التسليمتين ما نصه: وبهذه الأحاديث كلها نأخذ فنأمر كل مصل أن يسلم تسليمتين، إماماً كان أو مأموماً أو منفرداً، ونأمر المصلي خلف الإمام إذا لم يسلم الإمام تسليمتين أن يسلم هو تسليمتين ويقول في كل واحدة منهما: السلام عليكم ورحمة الله. (ثم قال) : وإن اقتصر رجل على تسليمة فلا إعادة عليه، وأقل ما يكفيه من تسليمه أن يقول: السلام عليكم، فإن نقص من هذا حرفاً عاد فسلم- انتهى. وأما عند مالك فغير المأموم وهو الإمام والمنفرد يسلم واحداً قبالة وجهه، ويتيامن قليلاً، والمأموم يسلم ثلاثاً أي عن يمينه أولا ثم يرد على إمامه، وإن كان على يساره أحد يرد عليه. وقد ظهر بهذا كله أن الاختلاف ههنا في شيئين: الأول في عدد الواجب، فالجمهور على أن الواجب واحد والثاني سنة، خلافاً للمشهور عن أحمد والحنفية في قول. والثاني في عدد السنة، فعند الجمهور المسنون تسليمتان لكل مصل إماماً كان أو مأموماً أو منفرداً. وقال أنس وعائشة وسلمة بن الأكوع من الصحابة والحسن، وابن سيرين، وعمر بن عبد العزيز من التابعين، والشافعي في قول: إن المشروع تسليمة واحدة لكل مصل. وقال مالك: يسلم غير المأموم سلاماً واحداً قبالة وجهه، والمأموم ثلاثاً إن كان على يساره أحد. واستدل على ذلك بما روى في موطئه عن ابن عمر من فعله أنه كان يسلم عن يمينه، ثم يرد على الإمام، فإن سلم عليه أحد عن يساره رد عليه أيضاً. وأخرجه أيضاً البيهقي في سننه، وهذا من متفردات ابن عمر، لم يوافقه عليه أحد من الصحابة. والحق أن المشروع تسليمتان فقط لكل مصل، والواحدة منهما ركن لا تجزئ الصلاة إلا بها، والتسليمة الثانية سنة يدل على ذلك

رواه مسلم. 951- (6) وعن سمرة بن جندب، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأحاديث الواردة في المسئلة، وفيه جمع الأخبار، وأقوال الصحابة في أن يكون المشروع والمسنون تسليمتين، والواجب واحدة، وقد دل على صحة هذا الإجماع الذي حكاه ابن المنذر والنووي فلا يعدل عنه. قال ابن العربي في العارضة: التسليمة الواحدة إن كان حديثها عن عائشة معلولة لكن نقلها بصفة الصلاة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متواتر فهي مقدمة على رواية الآحاد: فسلموا واحدة التحليل من الصلاة كما أحرمتم بتكبيره واحدة، وسلموا أخرى تردون بها على الإمام، والذي على يساركم، واحذروا عن تسليمة ثالثة، فإنها بدعة- انتهى. ويأتي بقية الكلام في شرح حديث عائشة في الفصل الثالث. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي وابن ماجه والبزار والدارقطني وابن حبان، وفي الباب أحاديث كثيرة فيها ذكر التسليمتين ذكرها الشوكاني في النيل (ج1:ص193) والحافظ في التلخيص (ص104) والزيلعي في نصب الراية، قال الأمير اليماني في السبل: حديث التسليمتين رواه خمسة عشر من الصحابة بأحاديث مختلفة، ففيها صحيح، وحسن، وضعيف، ومتروك. 951- قوله: (إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه) معناه إذا فرغ من الصلاة استقبل المأمومين لضرورة أنه لا يتحول عن القبلة قبل فراغ الصلاة والتسليم، وفي الباب عن زيد بن خالد الجهني، قال: صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالحديبية على أثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف. (أي من صلاته) أقبل على الناس- الحديث. وعن أنس، قال: أخر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة ذات ليلة إلى شطر الليل، ثم خرج علينا، فلما صلى أقبل علينا بوجهه- الحديث. أخرجهما البخاري. وعن يزيد بن الأسود، قال: حججنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع، قال: فصلى بنا صلاة الصبح، ثم انحرف جالساً فاستقبل الناس بوجهه- الحديث. أخرجه أحمد. وفي هذه الأحاديث دليل على مشروعية استقبال المؤتمين بعد الفراغ من الصلاة، والمواظبة على ذلك لما يشعر به لفظ "كان". قيل: والحكمة في استقبال المؤتمين أن يعلمهم ما يحتاجون إليه، وعلى هذا يختص بمن كان في مثل حاله - صلى الله عليه وسلم - من الصلاحية للتعليم والموعظة. وقيل: الحكمة فيه أن يعرف الداخل انقضاء الصلاة إذ لو استمر الأمام على حاله لأوهم أنه في التشهد مثلاً. وقال الزين بن المنير: استدبار الإمام المأمومين إنما هو لحق الإمامة، فإذا انقضت الصلاة زال السبب، فاستقبالهم حينئذٍ يرفع الخيلاء والترفع على المأمومين- انتهى. هذا وحديث البراء الآتي بعد حديثين يدل بظاهره على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل على من في جهة اليمين لا على المؤتمين جميعاً، وسيأتي وجه الجمع هناك. (رواه البخاري) في عشرة مواضع مطولاً ومقطعاً في الصلاة

952- (7) وعن أنس، قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه)) رواه مسلم. 953- (8) وعن عبد الله بن مسعود، قال: ((لا يجعل أحدكم للشيطان شيئاً من صلاته، يرى أن حقاً أن لا ينصرف إلا عن يمينه، لقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيراً ينصرف عن يساره)) ـــــــــــــــــــــــــــــ والجنازة والبيوع والجهاد وبدء الخلق وصلاة الليل، والأدب، وأحاديث الأنبياء، والتفسير، والتعبير، وأخرجه أيضاً مسلم والترمذي والنسائي كلهم في الرؤيا. 952- قوله: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينصرف عن يمينه) وفي رواية لمسلم: أكثر ما رأيت رسول الله ينصرف عن يمينه. وكذا في رواية النسائي، وهذه الرواية تدل على أن أكثر انصرافه - صلى الله عليه وسلم - كان عن اليمين بخلاف الرواية التي ذكرها المصنف فإنها يمكن أن تحمل على أنه كان يفعل ذلك أحياناً. وسيأتي الكلام عليه في شرح حديث ابن مسعود التالي. (رواه مسلم) وأخرجه النسائي. 953- قوله: (لا يجعل أحدكم للشيطان شيئاً من صلاته) هذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم: لا يجعلن أحدكم للشيطان من نفسه جزءا، وفي رواية أبي داود نصيبا. (يرى) بفتح أوله، أي يعتقد، ويجوز الضم، أي يظن، وهو استئناف كأن قائلاً يقول: كيف يجعل أحدنا حظاً للشيطان من صلاته؟ قال: يرى. (أن حقاً) أي واجباً. وفي رواية النسائي: أن حتماً. (عليه أن لا ينصرف) أي يعتقد أنه حق عليه أن لا ينصرف إذا فرغ من الصلاة. (إلا عن يمينه) أي جانب يمينه، فمن اعتقد ذلك فقد تابع الشيطان في اعتقاده حقية ما ليس بحق عليه، فذهب كمال صلاته. قال ابن المنير: فيه أن المندوبات قد تنقلب المكروهات إذا رفعت عن رتبتها؛ لأن التيامن مستحب في كل شيء، أي من أمور العبادة، لكن لما خشي ابن مسعود أن يعتقدوا وجوبه أشار إلى كراهته، قال الطيبي: في الحديث أن من أصر على أمر مندوب وجعله عزماً ولم يعمل بالرخصة فقد أصاب منه الشيطان من الإضلال فكيف من أصر على بدعة أو منكر؟ ذكره القاري. قال السندي: قوله "أن حقاً عليه أن لا ينصرف" أورد عليه أن حقاً نكرة، وقوله "أن لا ينصرف" بمنزلة المعرفة، وتنكير الاسم مع تعريف الخبر لا يجوز. وأجيب بأنه من باب القلب، أي يرى أن عدم الانصراف حق عليه. قلت: وهذا الجواب يهدم أساس القاعدة إذ يتأتى مثله في كل مبتدأ نكرة مع تعريف الخبر، فما بقي لقولهم بعدم الجواز فائدة، ثم القلب لا يقبل بلا نكتة، فلا بد لمن يجوز ذلك من بيان نكتة في القلب ههنا. وقيل: بل النكرة المخصصة كالمعرفة، قلت: ذلك في صحة الابتداء بها، ولا يلزم منه أن يكون الابتداء بها صحيحا مع تعريف الخبر، وقد صرحوا بامتناعه، ويمكن أن يجعل اسم "أن" قوله "أن لا ينصرف" وخبره الجار والمجرور وهو "عليه" ويجعل "حقاً" حالاً من ضمير "عليه" أن يرى أن عليه الانصراف عن يمينه حال كونه حقاً لازماً- انتهى كلام السندي. (لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيراً ينصرف عن يساره)

متفق عليه. 954- (9) وعن البراء، قال: ((كنا إذا صلينا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحببنا أن نكون عن يمينه، ـــــــــــــــــــــــــــــ ولعل ذلك؛ لأن حاجته - صلى الله عليه وسلم - غالباً الذهاب إلى البيت، وبيته إلى اليسار، فلذلك كثر ذهابه إلى اليسار، ووقع في رواية مسلم: أكثر ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينصرف عن شماله، فأما رواية البخاري فلا تعارض حديث أنس الذي ذكره المصنف عن مسلم كما لا يخفى على من له أدنى تأمل. وأما رواية مسلم التي ذكرناها الآن فهي معارضة في الظاهر لحديث أنس عند مسلم بلفظ: أكثر ما رأيت رسول الله ينصرف عن يمينه؛ لأنه عبر في كل منهما بصيغة أفعل. ووجه الجمع بينهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكثر هذا مدة وهذا مدة، فأخبر كل واحد بما اعتقد أنه الأكثر فيما يعلمه، فدل على جواز الأمرين، ولا كراهة في واحد منهما. وقد صح الأمران عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأما تخطئة ابن مسعود فإنما هي لاعتقاد أحدهما واجباً بعينه، وهذا خطأ بلا ريب، واللائق أن ينصرف إلى جهة حاجته، سواء كانت عن يمينه أو عن شماله، كما روى ابن أبي شيبة عن علي أنه قال: إذا قضيت الصلاة وأنت تريد حاجة، فكانت حاجتك عن يمينك أو عن يسارك، فخذ نحو حاجتك- انتهى. فإن استوى الجهتان في الحاجة وعدمها فاليمين أفضل بلا وجوب لعموم الأحاديث المصرحة بفضل التيامن. ويمكن أن يجمع بينهما بوجه آخر، وهو أن يحمل حديث ابن مسعود على حالة الصلاة في المسجد؛ لأن حجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت من جهة يساره في حال أداء الصلاة، ويحمل حديث أنس على ما سوى ذلك كحال السفر، ثم إذا تعارض اعتقاد ابن مسعود وأنس رجح ابن مسعود لأنه أعلم، وأسن، وأجل، وأكثر ملازمة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأقرب إلى موقفه في الصلاة من أنس، وبأن في إسناد حديث أنس من تكلم فيه وهو السدي، وبأنه متفق عليه بخلاف حديث أنس الأمرين، وبأن رواية ابن مسعود توافق ظاهر الحال؛ لأن حجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت على جهة يساره، كذا في الفتح. والحديث رواه أبوداود، وزاد في آخره: قال عمارة. (يعني ابن عمير) : أتيت المدينة بعد، فرأيت منازل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن يساره، ورواه أحمد (ج1:ص459) من طريق عبد الرحمن بن الأسود ابن يزيد النخعي، عن أبيه، قال: سمعت رجلاً يسأل عبد الله بن مسعود عن انصراف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صلاته: عن يمينه كان ينصرف أو عن يساره؟ قال: فقال عبد الله بن مسعود: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينصرف حيث أراد، كان أكثر انصراف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صلاته على شقه الأيسر إلى حجرته. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه. 954- قوله: (أحببنا أن نكون عن يمينه) لكون يمين الصف أفضل، هذا هو الذي فهمه النسائي فقد ترجم على حديث البراء هذا "باب المكان الذي يستحب من الصف"، وكذا ابن ماجه حيث عقد عليه "باب فضل ميمنة الصف".

يقبل علينا بوجهه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وبوب عليه النووي في شرحه لمسلم "باب استحباب يمين الإمام". وقيل في بيان السبب لكونه - صلى الله عليه وسلم - (يقبل علينا) أي على أهل اليمين. (بوجهه) أي عند السلام أولاً قبل أن يقبل على من يساره، أي فنحب أن يقع بصره - صلى الله عليه وسلم - علينا عند التسليم أولاً. وعلى هذين الوجهين لا دليل في الحديث على أنه كان يلتفت بعد الانصراف من الصلاة إلى أهل اليمين ويستقبلهم في حالة الجلوس بعد انحرافه عن جهة القبلة، فلا منافاة بينه وبين ما تقدم من حديث سمرة بن جندب الدال على استقبال جميع المؤتمين. قال القاضي: يحتمل أن يكون التيامن عند التسليم وهو الأظهر؛ لأن عادته - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرف أن يستقبل جميعهم بوجهه- انتهى. وقيل: معنى الحديث يقبل علينا بوجهه أي يستقبل في حالة الجلوس بعد الانصراف من الصلاة والانحراف عن جهة القبلة أهل الميمنة لا جميع المؤتمين، فلذلك نحب أن نكون عن يمينه، وعلى هذا المعنى يعارض هذا حديث سمرة المتقدم. واختلفوا في وجه الجمع بينهما، وبيان محمل الحديثين، ومحمل أحاديث الانصراف عن اليمين وعن اليسار. فمنهم من أوّل حديث سمرة إلى حديث البراء، وجعل حديث البراء مفسراً الحديث سمرة، وقال: المراد بقوله "أقبل علينا" في حديث سمرة أي على بعضنا وهم أهل اليمين، أو أن سمرة كان يصلي في الميمنة فقال ذلك باعتبار من يصلي في جهة اليمين. ومنهم من جمع بين الحديثين بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان تارة يستقبل جميع المؤتمين، وتارة يستقبل أهل اليمين، قالوا فالإمام مخير إن شاء استقبل القوم بوجهه، وإن شاء انحرف يمنه ويسرة أي يجعل يمينه إليهم ويساره إلى القبلة، أو عكسه. قال الشوكاني: يمكن الجمع بين الحديثين بأنه كان تارة يستقبل جميع المؤتمين، وتارة يستقبل أهل الميمنة، أو يجعل حديث البراء مفسراً لحديث سمرة، فيكون المراد أقبل علينا أي على بعضنا، أو أنه كان يصلي في الميمنة، فقال ذلك باعتبار من يصلي في جهة اليمين- انتهى. ومنهم من فصل وقال: إنه كان من عادته - صلى الله عليه وسلم - أنه إذا أسلم تحول عن القبلة، وانحرف يميناً أو شمالاً، ولم يمكث مستقبل القبلة، بل يسرع الانتقال إلى المأمومين، فإن كان هناك حاجة وضرورة إلى خطاب الناس جلس مستقبلاً لجميع المؤتمين، وخاطبهم وكلمهم، كما في حديث سمرة، وزيد بن خالد الجهني، وأنس، ومن وافقهم، وإن لم يكن هناك شيء يتعلق بخطاب القوم فتارة جلس منحرفاً يمنه بأن يجعل يمينه إلى القوم ويساره إلى القبلة، كما يدل عليه حديث البراء على المعنى الثالث. وتارة جلس منحرفاً يسره بأن جعل يساره إلى القوم ويمينه إلى القبلة، وتارة لا يجلس بل يذهب إلى جهة حاجته سواء كانت عن يمينه أو عن شماله، والأحاديث التي فيها ذكر الانصراف عن اليمين والشمال مطلقاً كحديثي ابن مسعود وأنس الذين ذكرهما المصنف، وكحديث هلب عند الترمذي، وأبي داود، وابن ماجه بلفظ: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤمنا فينصرف عن جانبيه جميعاً على يمينه وشماله. وكحديث عبد الله بن عمرو عند ابن ماجه بلفظ: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينفتل عن يمينه وعن يساره في الصلاة" تتناول جميع هذه الصور. ومنهم من حمل أحاديث الانصراف المطلقة على الذهاب إلى البيت، والانصراف إلى موضع الحاجة، وقال: إن الإمام إن كان لا يريد الجلوس بعد السلام بل يريد الذهاب إلى بيته سلم

قال: فسمعته يقول: رب قني عذابك يوم تبعث - أوتجمع- عبادك)) رواه مسلم. 955- (10) وعن أم سلمة، قالت: ((إن النساء في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كن إذا سلمن من المكتوبة قمن، وثبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن صلى من الرجال ما شاء الله، ـــــــــــــــــــــــــــــ وانصرف إلى موضع حاجته يمنه أو يسره، وذهب إلى بيته، وإن كان يريد المكث والقعود في مصلاه فالسنة أن يستقبل جميع المؤتمين، فسنة الجلوس هي استقبال جميع المؤتمين، لا استقبال أهل اليمين أو أهل اليسار فقط، فجلوس الإمام منحرفاً يمنة أي استقبال أهل اليمين، أو يسرة أي استقبال أهل اليسار وإن كان مباحاً لكنه ليس من السنة في شيء، فمن كان يريد السنة فلينصرف بعد السلام إلى بيته وموضع حاجته إن لم يرد المكث والجلوس، وهذا هو محمل روايات الانصراف المطلقة، أو يجلس مستقبلاً لجميع المؤتمين. قلت: هذا القول الأخير هو الراجح عندي، وقد جنح إليه البخاري حيث عقد على أحاديث سمرة، وزيد بن خالد، وأنس "باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم"، فجزم بأن سنة الجلوس هو استقبال القوم جميعاً، ثم ترجم بعد بابين "باب الانفتال والانصراف عن اليمين والشمال"، وذكر فيه أثر أنس بأنه كان ينفتل عن يمينه ويساره، ثم ذكر حديث ابن مسعود. قال القسطلاني في شرحه "باب الانفتال" أي لاستقبال المأمومين "والانصراف" أي لحاجته إلى اليمين والشمال، وكأنه أخذ ذلك من كلام الزين بن المنير حيث قال: جمع البخاري في الترجمة بين الانفتال والانصراف، للإشارة إلى أنه لا فرق في الحكم بين الماكث في مصلاه إذا انفتل لاستقبال المأمومين وبين المتوجه لحاجته إذا انصرف إليها-انتهى. (قال) أي البراء. (فسمعته يقول) أي بعد التسليم. قال ابن الملك: ويحتمل أنه سمعه في الصلاة. (رب) بحذف ياء المتكلم. (قني) أمر من وقي يقي وقاية. (عذابك) أي احفظني منه بفضلك وكرمك وهو تعليم لأمته أو تواضع مع ربه. (يوم تبعث أو تجمع عبادك) شك من الراوي. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً النسائي وأبوداود وابن ماجه وأبوعوانة في مسنده الصحيح. 955- قوله: (قمن) أي خرجن إلى بيوتهن. (وثبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي قعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكانه بعد قيامهن ليتبعه الرجال في ذلك حتى تنصرف النساء إلى البيوت، فلا يقع اجتماع الطائفتين في الطريق، ويحصل الأمن من الفتنة باختلاط الرجال بالنساء في الطريق. (ومن صلى) عطف على "رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي وثبت من صلى معه. (ما شاء الله) أي زماناً شاء الله أن يلبثوا فيه. وزاد في بعض الروايات: قالت فنرى- والله أعلم- أن ذلك كان لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن الرجال. والحديث فيه أنه يستحب للإمام مراعاة أحوال المأمومين، والاحتياط في اجتناب ما قد يفضي إلى المحذور. وفيه اجتناب مواقع التهم وكراهة مخالطة الرجال للنساء في الطرقات فضلاً عن البيوت، ومقتضى التعليل المذكور أن المأمومين إذا كانوا رجالاً فقط أن لا يستحب هذا المكث، وعليه حمل ابن قدامة حديث عائشة الآتي:

{الفصل الثاني}

فإذا قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام الرجال)) . رواه البخاري. وسنذكر حديث جابر بن سمرة في باب الضحك إن شاء الله تعالى. {الفصل الثاني} 956- (11) عن معاذ بن جبل، قال: ((أخذ بيدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني لأحبك يا معاذ! فقلت: وأنا أحبك يا رسول الله! قال: فلا تدع أن تقول دبر كل صلاة: ـــــــــــــــــــــــــــــ أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام. وسيأتي الكلام في ذلك. وفي الحديث أنه لا بأس بحضور النساء الجماعة في المسجد. (رواه البخاري) باللفظ المذكور في "باب خروج النساء إلى المساجد بالليل والغلس". وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه بألفاظ متقاربة. قوله: (وسنذكر حديث جابر بن سمرة) يعني الذي ذكره صاحب المصابيح هنا بلفظ: كان يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح حتى يطلع الشمس، وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية. (أي يتحدثون بما جرى قبل الإسلام) فيضحكون ويبتسم. (في باب الضحك) قال القاري: لا يخفى أن إبقاءه في هذا الباب أولى من تغيير المصنف المفتقر إلى الاعتذار المتضمن للاعتراض، فإن الحديث الطويل إذا كان مشتملاً على أمور مختلفة يصلح لكل باب إيراده فيه لمناسبة أمر ما، ولهذا أورد البخاري حديثاً واحداً في أبواب كثيرة في كتابه، مع أن أول هذا الحديث أولى بهذا المقام-انتهى. قلت: صنيع المصنف أي تغييره وإيراده حديث جابر بن سمرة في باب الضحك أولى من صنيع البغوي، فإنه لا تعلق له بالدعاء في التشهد صراحة بخلاف الضحك، فإنه مذكور فيه صريحاً فهو أنسب وأولى بباب الضحك. 956- قوله: (إني لأحبك يا معاذ) فيه مزيد تشريف منه - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ رضي الله عنه، وترغيب له فيما يريد أن يلقى عليه من الذكر. (قال فلا تدع) نهى عن ودعه إلا أنه هجر ماضيه في الأكثر استغناء عنه بترك، وقد ورد قليلاً، وقرئ: {ما ودعك ربك} [93: 3] أي إذا كنت تحبني، أو إذا كان بيني وبينك محاببة، أو إذا أردت ثبات هذه المحبة فلا تترك، والنهي أصله التحريم، فيدل على وجوب الدعاء بهذه الكلمات، وقيل: إنه نهي إرشاد. (أن تقول في دبر كل صلاة) أي في آخرها قبل الخروج منها؛ لأن دبر الحيوان منه. وقيل: أي عقبها وخلفها؛ لأن دبر الصلاة بعدها قال في القاموس: الدبر- بضمتين- نقيض القبل ومن كل شيء عقبه. وإيراد المصنف هذا الحديث في الباب المشتمل على الدعاء في التشهد يدل على أنه أراد المعنى الأول، ويؤيده رواية أحمد بلفظ: "إني أوصيك بكلمات تقولهن في كل

رب أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)) . رواه أحمد وأبو داود والنسائي، إلا أن أباداود لم يذكر: قال معاذ: وأنا أحبك. 957- (12) وعن عبد الله بن مسعود، قال: ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله، حتى يرى بياض خده الأيمن، وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله، ـــــــــــــــــــــــــــــ صلاة"، ورواية النسائي بلفظ: "فلا تدع ن تقول في كل صلاة"، لكن يشكل عليه إيراده لأدعية وأذكار مقيدة بذلك في باب الذكر بعد الصلاة كحديث المغيرة، وحديث أبي هريرة، وحديث كعب بن عجرة، ونحو ذلك. (رب أعني على ذكرك) قال الطيبي: هو قريب من معنى حديث ربيعة بن كعب في باب السجود حين سأل مرافقته - صلى الله عليه وسلم -، فقال "أعني على نفسك بكثرة السجود"، حيث على المحبة به بملازمة الذكر، والمرافقة بكثرة السجود، فقوله: "أعني على ذكرك" المطلوب منه شرح الصدر، وتيسير الأمر، وإطلاق اللسان، وإليه يلمح قول الكليم عليه الصلاة والسلام: {رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني، يفقهوا قولي} [20: 25- 27] إلى قوله: {كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً} [20: 33، 34] ، وقوله: (وشكرك) المطلوب منه توالي النعم المستجلبة لتوالي الشكر، وإنما طلب المعاونة عليه؛ لأنه عسر جداً، ولذلك قال تعالى: {وقليل من عبادي الشكور} [34: 13] . وقوله: (وحسن عبادتك) المطلوب منه التجرد عما يشغله عن الله، ويلهيه عن ذكر الله وعن عبادته ليتفرغ لمناجاة الله كما أشار إليه سيد المرسلين صلوات الله عليه: "وقرة عيني في الصلاة" وأخبر عن هذا المقام بقوله: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه"-انتهى. ووجه تخصيص الوصية بهذه الكلمات أنها مشتملة على جميع خير الدنيا والآخرة. (رواه أحمد) (ج5: ص244، 245، 247) . (وأبوداود والنسائي) وسكت عنه أبوداود والمنذري. وقال الحافظ في بلوغ المرام: سنده قوي. وقال النووي: إسناده صحيح، ذكره ميرك. والحديث أخرجه أيضاً ابن حبان وابن خزيمة في صحيحيهما والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين. قال الشوكاني: وهذا الحديث مسلسل بالمحبة كما ذكرته في إتحاف الأكابر بإسناد الدفاتر. 957- قوله: (كان يسلم عن يمينه) أي مجاوزاً نظره عن يمينه كما يسلم على من في يمينه. (السلام عليكم ورحمة الله) إما حال مؤكده، أي يسلم قائلاً: "السلام عليكم" أو جملة استئنافية على تقدير "ماذا كان يقول". (حتى يرى بياض خده الأيمن) بضم الياء المثناة من تحت من قوله: "يرى" مبنياً للمجهول، و"بياض" بالرفع على النيابة و"الأيمن" بالجر على أنه صفة لخده. (وعن يساره) فيه مشروعية تسليمتين للخروج عن الصلاة، وأن يكون التسليم أولاً إلى جهة اليمين ثم إلى جهة اليسار. (السلام عليكم ورحمة الله) قال الحافظ في التلخيص (ص104) : وقع في صحيح ابن حبان من حديث ابن مسعود زيادة: "وبركاته"، وهي عند ابن ماجه أيضاً، وهي عند أبي داود أيضاً في حديث وائل بن حجر فيتعجب من ابن الصلاح

حتى يرى بياض خده الأيسر)) . رواه أبوداود والنسائي والترمذي، ولم يذكر الترمذي: حتى يرى بياض خده. 958- (13) ورواه ابن ماجه، عن عمار بن ياسر. 959- (14) وعن عبد الله بن مسعود، قال: ((كان أكثر انصراف النبي - صلى الله عليه وسلم - من صلاته إلى شقه الأيسر إلى حجرته)) ـــــــــــــــــــــــــــــ حيث يقول: إن هذه الزيادة ليست في شيء من كتب الحديث-انتهى. قلت: حديث وائل بن حجر بزيادة "وبركاته" قد سكت عنه أبوداود. وقال الحافظ في بلوغ المرام بعد ذكره: "رواه أبوداود بإسناد صحيح" ولكن ليس فيه زيادة "وبركاته" إلا في اليمين فقط. وأما رواية ابن ماجه لحديث ابن مسعود بزيادة "وبركاته" فليست موجودة في نسخ السنن التي بأيدينا من طبعات الهند ومصر، فكلها خالية عن هذه الزيادة. ونقل الأمير اليماني عن الحافظ: أن ابن رسلان قال في شرح السنن: لم أجدها في ابن ماجه. وهذا يؤيد النسخ الموجودة الحاضرة عندنا إلا أنه قال الأمير اليماني: راجعنا سنن ابن ماجه من نسخة صحيحة مقروءة فوجدنا فيه ما لفظه: باب التسليم حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير: حدثنا عمر بن عبيد، عن ابن إسحاق، عن الأحوص، عن عبد الله: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم عن يمينه وعن شماله حتى يرى بياض خده: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته-انتهى بلفظه. وهذا يؤيد ما ذكره الحافظ في التلخيص من رواية ابن ماجه لهذه الزيادة في حديث ابن مسعود، وهذا كله يدل على اختلاف نسخ ابن ماجه في ذكر هذه الزيادة، وكيف ما كان الأمر لا عذر عن القول بها بعد صحة إسناد حديث وائل، وثبوتها عند ابن حبان، إذ هي زيادة عدل غير منافية، وعدم ذكرها في رواية غيره ليست رواية لعدمها، ولما ذكر النووي أن زيادة "وبركاته" فردة، ساق الحافظ في "تلقيح الأفكار تخريج الأذكار" طرقاً كثيرة لهذه الزيادة، وقال بعد أن ساق تلك الطرق: فهذه عدة طرق تثبت بها "وبركاته"، بخلاف ما يوهمه كلام الشيخ أنها رواية فردة-انتهى. (رواه أبوداود والنسائي والترمذي) وصححه وأخرجه أيضاً أحمد وابن ماجه والدارقطني وابن حبان، وله ألفاظ، وأصله في صحيح مسلم. قال العقيلي: الأسانيد صحاح ثابتة في حديث ابن مسعود في تسليمتين، ولا يصح في تسليمة واحدة شيء. (ولم يذكر الترمذي حتى يرى بياض خده) أي في الوجهين. 958- قوله: (ورواه ابن ماجه عن عمار بن ياسر) أي لا عن ابن مسعود، وهذا من أوهام المصنف، فإن ابن ماجه رواه عن ابن مسعود وعمار كلتيهما، وحديث عمار أخرجه أيضاً الدارقطني، قال السندي: إسناده حسن. 959- قوله: (كان أكثر انصراف النبي - صلى الله عليه وسلم - من صلاته إلى شقه الأيسر إلى حجرته) قال الطيبي: كان باب

رواه في شرح السنة. 960- (15) وعن عطاء الخراساني، عن المغيرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يصلي الإمام في الموضع الذي صلى فيه حتى يتحول)) ـــــــــــــــــــــــــــــ حجرته مفتوحاً إلى المسجد عن يسار المحراب، فهو ينصرف إلى جانب يساره ويدخل حجرته. (رواه) أي البغوي. (في شرح السنة) قال ميرك نقلاً عن التصحيح: حديث ابن مسعود هذا ليس من الكتب، ورواه صاحب المصابيح في شرح السنة، ولكن يؤيده ما قدمنا من حديث ابن مسعود عند مسلم بلفظ: أكثر ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينصرف عن شماله. زاد أبوداود في روايته: قال عمارة. (أي ابن عمير راوي الحديث عن الأسود عن عبد الله) : أتيت المدينة بعد. (أي بعد سماع الحديث من الأسود) فرأيت منازل النبي - صلى الله عليه وسلم -. (أي بيوته) عن يساره. (أي عن يسار النبي - صلى الله عليه وسلم - في حال أداء الصلاة، فقد بين عمارة وجه انصرافه إلى جانب اليسار، بأن حاجته كانت إلى جهة اليسار. 960- قوله: (عن عطاء الخراساني) هو عطاء بن أبي مسلم أبوأيوب أو أبوعثمان نزيل الشام، واسم أبيه ميسرة. وقيل: عبد الله، صدوق يهم كثيراً، ويرسل، ويدلس، قال الطبراني: لم يسمع من الصحابة إلا من أنس، فهو من صغار التابعين. مات سنة خمس وثلاثين ومائة، لم يصح أن البخاري أخرج له، كذا في التقريب، وقد وثقه ابن معين، وأبوحاتم والدارقطني، وقال النسائي: ليس به بأس، روى عنه مالك وغيره. (عن المغيرة) بن شعبة. (لا يصلي) نفي بمعنى النهي. (الإمام) ليس التقييد بالإمام لتخصيصه بذلك بل يعم المأموم والمنفرد، والدليل على ذلك ما رواه أحمد وأبوداود وابن ماجه عن أبي هريرة رفعه: أيعجز أحدكم أن يتقدم أو يتأخر، أو عن يمينه أو عن شماله في الصلاة يعني في السبحة. فسوق هذا الحديث يقتضي العموم، كيف والخطاب مع المقتدين، وكان - صلى الله عليه وسلم - هو الإمام يومئذٍ. (في الموضع الذي صلى) أي الفرض. (فيه حتى يتحول) أي ينتقل إلى موضع، وهذا جاء للتأكيد، فإن قوله: "لا يصلي في موضع صلى فيه" أفاد ما أفاده. وعند ابن ماجه: لا يصلي الإمام في مقامه الذي صلى فيه المكتوبة حتى يتنحى عنه. وروى ابن أبي شيبة بإسناد حسن عن علي، قال: من السنة: أن لا يتطوع الإمام حتى يتحول من مكانه. قيل: نهى عن ذلك لئلا يتوهم أنه بعد في المكتوبة، يعني أنه كره ذلك خشية التباس النافلة بالفريضة كما يشير إليه حديث معاوية عند مسلم، وسنذكر لفظه، وقيل: العلة في ذلك أن يشهد له الموضعان بالطاعة، ولذلك يستحب تكثير محال العبادة، فإن مواضع السجود تشهد له كما في قوله تعالى: {يومئذ تحدث أخبارها} [99: 4] أي تخبر بما عمل عليها، وهذه العلة تقتضى أن ينتقل إلى الفرض من موضع نفله، وأن ينتقل لكل صلاة يفتحها من أفراد النوافل، فإن لم ينتقل فينبغي أن يفصل بالكلام لما روى مسلم عن السائب: أنه صلى مع معاوية الجمعة، فتنفل بعدها في مقامه، فقال له معاوية: إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة حتى تتكلم أو

{الفصل الثالث}

رواه أبوداود، وقال: عطاء الخراساني لم يدرك المغيرة. 961- (16) وعن أنس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حضهم على الصلاة، ونهاهم أن ينصرفوا قبل انصرافه من الصلاة)) رواه أبوداود. {الفصل الثالث} 962- (17) عن شداد بن أوس، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في صلاته: ـــــــــــــــــــــــــــــ تخرج، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرنا بذلك أن لا نوصل صلاة بصلاة حتى نتكلم أو نخرج. (رواه أبوداود) . وأخرجه أيضاً ابن ماجه. (وقال) أي أبوداود. (عطاء الخراساني) مبتدأ، خبره قوله: (لم يدرك المغيرة) بن شعبة أي فسنده منقطع. قال المنذري: وما قاله أبوداود ظاهر، فإن عطاء الخراساني ولد في السنة التي مات فيها المغيرة بن شعبة، وهي سنة خمسين من الهجرة على المشهور، أو يكون ولد قبل وفاته بسنة على القول الآخر-انتهى. وقال البخاري في صحيحه: قال لنا آدم حدثنا شعبة، عن أيوب، عن نافع، قال: كان ابن عمر يصلي في مكان الذي صلى فيه الفريضة، وفعله القاسم ويذكر عن أبي هريرة رفعه: لا يتطوع الإمام في مكانه، ولم يصح-انتهى. قال الحافظ: ذكر البخاري حديث أبي هريرة بالمعنى، ولفظه عند أبي داود: أيعجز أحدكم؟ ... فذكر مثل ما ذكرنا. قال: وقوله: "لم يصح" هو كلام البخاري، وذلك لضعف إسناده واضطرابه، تفرد به ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف، واختلف عليه فيه، وقد ذكر البخاري الاختلاف فيه في تاريخه، وقال: ولم يثبت هذا الحديث –انتهى. قلت: قد ثبت التنحي في حديث معاوية عند مسلم بقوله "أو نخرج" وفي حديث على عند ابن أبي شيبة بقوله: من السنة أن لا يتطوع الإمام حتى يتحول من مكانه. وهذا يكفي لإثبات استحباب التطوع في غير موضع المكتوبة. 961- قوله: (حضهم) أي حثهم. (على الصلاة) أي على ملازمة صلاة الجماعة أو مطلق الصلاة والإكثار منها. (ونهاهم أن ينصرفوا قبل انصرافه من الصلاة) قال الطيبي: علة نهيه عليه الصلاة والسلام أصحابه عن انصرافهم قبله أن تذهب النساء اللاتي يصلين خلفه، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يثبت في مكانه حتى ينصرف النساء، ثم يقوم، ويقوم الرجال، قال ميرك: ويحتمل أن المراد من الانصراف هو الخروج من الصلاة قبل خروجه بالسلام-انتهى. قلت: ويؤيد ما ذكره الطيبي في بيان العلة حديث أم سلمة آخر أحاديث الفصل الأول، فهو المتعين والمعتمد. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري، ورواه أحمد (ج3:ص240) من غير طريق أبي داود بأتم منه، وكذا رواه أبوعوانة في صحيحه (ج2:ص251) بتمامه. 962-قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في صلاته) أي بعد التشهد، قاله القاري. وقال ابن حجر: أي في

اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، وأسألك قلباً سليماً، ولساناً صادقاً، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذبك من شر ما تعلم. وأستغفرك لما تعلم)) رواه النسائي. وروى أحمد نحوه. ـــــــــــــــــــــــــــــ آخرها. وقال الشوكاني: هذا الدعاء ورد مطلقاً في الصلاة غير مقيد بمكان مخصوص-انتهى. قلت: وعند أحمد في رواية: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا كلمات ندعو بهن في صلاتنا، أو قال: في دبر صلاتنا. (اللهم إني أسألك الثبات في الأمر) أي الدوام على جميع أمور الدين ولزوم الاستقامة عليها. قال الشوكاني: سؤال الثبات في الأمر من جوامع الكلم النبوية؛ لأن من ثبته الله في أموره عصم عن الوقوع في الموبقات ولم يصدر منه أمر خلاف ما يرضاه الله. (والعزيمة على الرشد) العظيمة عقد القلب على إمضاء الأمر، يقال "عزم الأمر وعليه" عقد ضميره على فعله، وعزم الرجل، جد في الأمر، و"الرشد" بضم الراء المهملة وإسكان الشين المعجمة-بمعنى الصلاح، والفلاح، والصواب، والاستقامة على طريق الحق. قيل: المراد لزوم الرشد ودوامها وفي رواية الترمذي: أسألك عزيمة الرشد، يعنيي الجد في أمر الرشد بحيث ينجز كل ما هو رشد من أموره. (وأسألك شكر نعمتك) أي التوفيق لشكر إنعامك. (وحسن عبادتك) أي إيقاعها على الوجه الحسن المرضى. (وأسألك قلباً سليماً) أي من العقائد الفاسدة، والميل إلى الشهوات العاجلة ولذاتها ويبلغ ذلك الأعمال الصالحات، إذ من علامة سلامة القلب تأثيرها إلى الجوارح، كما أن صحة البدن عبارة عن حصول ما ينبغي من استقامة المزاج، والتركيب، والاتصال، ومرضه عبارة عن زوال أحدهما. وقيل: المراد سليماً من الغل، والغش، والحقد، والإحن وسائر الصفات الرديئة، والأحوال الدنية. (ولساناً صادقاً) أي محفوظاً من الكذب ونسبة الصدق إلى اللسان مجاز بأن لا يبرز عنه إلا الحق المطابق في الواقع. (وأسألك من خير ما تعلم) قال الطيبي: "ما" موصولة أو موصوفة، والعائد محذوف، ومن يجوز أن تكون زائدة على مذهب من يزيدها في الإثبات، أو بيانية والمبين محذوف، أي أسألك شيئاً هو خير ما تعلم، أو تبعيضية سأله إظهاراً لهضم النفس، وأنه لا يستحق إلا يسيرا من الخير. (وأستغفرك لما تعلم) أي لأجل ما تعلمه من الذنوب، والتقصيرات. وفي الترمذي "مما تعلم" أي مني من تفريط، وزاد الترمذي: إنك أنت علام الغيوب. قال الشوكاني: قوله "من خير ما تعلم" هو سؤال لخير الأمور على الإطلاق؛ لأن علمه تعالى محيط بجميع الأشياء، وكذلك التعوذ من شرما يعلم، والاستغفار لما يعلم، فكأنه قال: أسألك من خير كل شيء، وأعوذ بك من شر كل شيء، وأستغفرك لكل ذنب. (رواه النسائي) من طريق سعيد بن أياس الجريري، عن أبي العلاء يزيد بن عبد الله بن الشخير، عن شداد بن أوس. قال الشوكاني في النيل: رجال إسناده ثقات. (وروى أحمد نحوه) (ج4:ص125) أي من طريق الجريري، عن أبي العلاء بن الشخير، عن الحنظلي، عن شداد بن

963- (18) وعن جابر، قال. ((كان رسول الله يقول في صلاته بعد التشهد: أحسن الكلام كلام الله، وأحسن الهدى هدي محمد)) ـــــــــــــــــــــــــــــ أوس، ومن هذا الطريق رواه الترمذي في الدعوات، وفي طريقهما رجل حنظلي وهو مجهول، وقد أورده الحافظ في "فصل من أبهم ولكن ذكر نسبه" من "التعجيل" (ص535) لهذه الرواية ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، وزيادة الرجل الحنظلي بين أبي العلاء وبين شداد بن أوس يدل على أن في سند النسائي انقطاعاً، وقد رواه أيضاً أحمد من طريق الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن شداد بن أوس، والحاكم من طريق عكرمة بن عمار، عن شداد أبي عمار، عن شداد بن أوس. وهذا الطريقان كما ترى ليس فيهما انقطاع، ولا رجل مجهول، ولذلك قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، وأقره الذهبي. قال الشوكاني في تحفة الذاكرين: وصححه أيضاً ابن حبان: فلا وجه لما قاله العراقي: أنه منقطع وضعيف، بعد تصحيح هذين الإمامين له-انتهى. 963- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول) أي أحياناً. (أحسن الهدي هدى محمد) الهدي- بفتح فسكون- السيرة والطريقة والهيئة، والحديث ظاهر في معناه، وأن الذكر المذكور فيه مشروع في الصلاة بعد التشهد قبل السلام وهو الذي فهمه النسائي حيث أورد الحديث في باب "نوع آخر من الذكر بعد التشهد"، وتبعه الجزري في "جامع الأصول"، لكن أبدي الشيخ الألباني احتمال أن المراد به الذكر الوارد في خطبة الحاجة المعروفة بعد الشهادتين، حيث قال في تعليقه: قوله: "في صلاته" أي دعائه وثنائه على الله، وقوله "بعد التشهد" أي في خطبته، قال: ويبدو لي أنه أي هذا الحديث مختصر من حديث جابر الذي رواه مسلم بهذا الإسناد الذي في النسائي: عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه، ويقول: "أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد" الحديث. ورواية له بلفظ: كان يخطب الناس يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ثم يقول: " من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وخير الحديث كتاب الله" الحديث. فقوله "يحمد الله" الخ. إشارة إلى خطبة الحاجة المعروفة "إن الحمد لله نحمده ونستعينه ... من يهده الله فلا مضل له ... وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله" فهذا هو التشهد الذي عناه الراوي في حديث جابر هذا، وذلك من الاختصار المخل. والله أعلم- انتهى. واعلم أنه قد ورد في الدعاء بعد التشهد ألفاظ وأدعية غير ما ذكر كما لا يخفى على من له إطلاع على أحاديث الباب، وللرجل أن يدعوا بأي لفظ شاء من مأثور وغيره مما أحب من مطالب الدنيا والآخرة، ولا حرج عليه بما شاء دعا ما لم يكن إثم أو قطيعة رحم، ولا يدعوا بدنياه إلا على تثبت من الجواز، هذا هو الصحيح إن شاء الله لظاهر الأحاديث، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ثم ليتخير من الدعاء. وقال: ثم يدعوا لنفسه بما بدأ له. وقال: ثم يدعو بعد بما شاء.

رواه النسائي. 964- (19) وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلم في الصلاة تسليمة تلقاء وجهه، ثم يميل إلى الشق الأيمن شيئاً)) رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ وإليه ذهب مالك، والشافعي، قالا: يجوز أن يدعوا بكل شيء من أمور الدين والدنيا مما يشبه كلام الناس ما لم يكن إثماً، ولا يبطل صلاته بشيء من ذلك. واحتج لهما بحديث: سلوا الله حوائجكم حتى الشسع لنعالكم، والملح لقدوركم. وقال أحمد وأبوحنيفة: لا يدعوا إلا بالأدعية المأثورة، أو الموافقة للقرآن العظيم، أو التي شابهت الألفاظ المأثورة. قال ابن قدامة: والخبر محمول على أنه يتخير من الدعاء المأثورة وما أشبه- انتهى. قلت: لا دليل على هذا التقييد لا من كتاب الله، ولا من سنة رسوله، ولا من قول صحابي فلا يلتفت إليه. (رواه النسائي) ورجاله ثقات. 946- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلم في الصلاة تسليمة تلقاء وجهه) أي يبتدئ بها وهو مستقبل القبلة، قاله ابن حجر. وقال القاري: أي يبدأ بالتسليم محاذاة وجهه ثم يميل إلى الشق الأيمن شيئاً أي يسيراً. والحديث فيه دليل على مشروعية التسليمة الواحدة في الصلاة، وقد تقدم ذكر من ذهب إلى ذلك. والحديث ضعيف كما ستعرف. والحق ما ذهب إليه الجمهور من أن المشروع والمسنون تسليمتان لكثرة الأحاديث الواردة بالتسليمتين، وصحة بعضها، وحسن بعضها، واشتمالها على الزيادة، وكونها مثبتة، بخلاف الأحاديث الواردة بالتسليمة الواحدة، فإنها مع قلتها ضعيفة لا تنتهض للاحتجاج، ولو سلم انتهاضها لم تصلح لمعارضة أحاديث التسليمتين لما عرفت من اشتمالها على الزيادة، مع أنه يحتمل أن يكون المقصود من أحاديث التسليمة الواحدة بيان أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجهر بالتسليمة الواحدة ورفع بها صوته ويسمعهم التسليمة الواحدة، لا أنه يقتصر على التسليمة الواحدة. فمعنى هذه الأحاديث يرجع إلى أنه يسمعهم التسليمة الواحدة يدل على ذلك ما وقع في رواية لأحمد في قصة صلاة الليل: ثم يسلم تسليمة واحدة "السلام عليكم" يرفع بها صوته حتى يوقظنا. وما وقع في حديث ابن عمر عند أحمد: قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفصل بين الشفع والوتر بتسليمة يسمعناها. وقيل: إن التسليمة الواحدة كانت منه - صلى الله عليه وسلم - في بعض الأحيان في صلاة الليل، والصحابة الذين رووا عنه التسليمتين إنما يحكون التسليم الذي رأوه في صلاته في المسجد وفي الجماعة، قيل: يمكن أنه اقتصر النبي - صلى الله عليه وسلم - على التسليمة الواحدة في بعض الأحيان في صلاته بالجماعة في المسجد لبيان الجواز، فيجوز أنه فعل الأمرين ليبين الجائز والمسنون. وقيل: في حديث عائشة الذي ذكره المصنف: أنه ليس المقصود منه بيان عدد التسليم بل بيان كيفية التسليم بأنه كان يبتدئ به محاذاة وجهه، ثم يميل إلى الشق الأيمن شيئاً يسيراً، وترك بيان كيفية التسليم الثاني اكتفاء بالأول. (رواه الترمذي) وأخرجه أيضاً الدارقطني والحاكم، والبيهقي كلهم من طريق عمرو بن أبي سلمة التنيسي، عن زهير بن محمد عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة.

965- (20) وعن سمرة، قال: ((أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نرد على الإمام، ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. قلت: عمرو بن أبي سلمة التنيسي شامي، ورواية أهل الشام عن زهير بن محمد ضعيفة. قال الحافظ في مقدمة الفتح: أما رواية عمرو بن أبي سلمة التنيسي يعني عن زهير بن محمد، فبواطيل- انتهى. وقال في التهذيب: قال أحمد: روى أي عمرو أبي بن سلمة التنيسي عن زهير أحاديث بواطيل، كأنه سمعها من صدقة بن عبد الله فغلط، فقلبها عن زهير، وساق الساجي منها حديثه عن زهير، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلم تسليمة- انتهى. وقال صاحب التنقيح: وزهير بن محمد وإن كان من رجال الصحيحين لكن له مناكير، وهذا الحديث منها. قال أبوحاتم: هو حديث منكر. والحديث أصله الوقف على عائشة هكذا رواه الحفاظ-انتهى. وكذا رجح الوقف الدارقطني والترمذي والبزار. وقال ابن عبد البر: لا يصح مرفوعاً. وقال النووي في الخلاصة: هو حديث ضعيف، ولا يقبل تصحيح الحاكم له. قيل: انفراد زهير برفع هذا الحديث حين وقفه غيره على عائشة لا يكون علة له، والرفع زيادة من ثقة فتقبل، ومع ذلك فإنه لم ينفرد برفعه، فقد رواه ابن ماجه: حدثنا هشام بن عمار: حدثنا عبد الملك بن محمد الصنعاني: حدثنا زهير بن محمد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه. وعبد الملك بن محمد الصنعاني لين الحديث. قاله الحافظ في التقريب. وقال أبوحاتم: يكتب حديثه. وقال أبوأيوب: هو ثقة من أصحاب الأوزاعي. ومثل هذا يصلح للمتابعة. قلت: عبد الملك بن محمد الصنعاني من صنعاء دمشق شامي، ورواية الشاميين عن زهير بن محمد ضعيفة كما عرفت. وقال الحافظ في التلخيص (ص104) : روى ابن حبان في صحيحه، وأبوالعباس السراج في مسنده عن عائشة من وجه آخر شيء من هذا. أخرجاه من طريق زرارة بن أوفي، عن سعد بن هشام، عن عائشة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أوتر أوتر بتسع ركعات لم يقعد إلا في الثامنة، فيحمد الله ويذكره، ثم يدعو، ثم ينهض، ولا يسلم، ثم يصلي التاسعة فيجلس، ويذكر الله ويدعو، ثم يسلم تسليمة، ثم يصلي ركعتين وهو جالس-الحديث. وإسناده على شرط مسلم، ولم يستدركه الحاكم مع أنه أخرج حديث زهير بن محمد، عن هشام- انتهى. وفي الباب عن سهل بن سعد، وسلمة بن الأكواع كلاهما عند ابن ماجه. وفي إسناده الأول عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد، وقد قال البخاري: إنه منكر الحديث. وقال النسائي: متروك، وفي إسناد الثاني يحيى بن راشد البصري، قال ابن معين: ليس بشئ. وقال النسائي: ضعيف. وفي الباب أحاديث أخرى كلها ضعيفة، ذكرها الزيلعي في نصب الراية مع بيان ضعفها. 965- قوله: (أن نرد على الإمام) أي ننوي الرد على الإمام بالتسليمة الثانية من على يمينه، وبالأولى من على يساره، وبهما من على محاذاته كما هو مذهب الحنفية، قاله القاري. وقال الشوكاني: قال أصحاب الشافعي: إن كان المأموم عن يمين الإمام فينوي الرد عليه بالثانية، وإن كان عن يساره فينوي الرد عليه بالأولى، وإن حاذاه فبما شاء، وهو في

(18) باب الذكر بعد الصلاة

ونتحاب، وأن يسلم بعضنا على بعض)) رواه أبوداود. (18) باب الذكر بعد الصلاة {الفصل الأول} 966- (1) عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: ((كنت أعرف انقضاء صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتكبير ـــــــــــــــــــــــــــــ الأولى أحب. ولفظ ابن ماجه: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نسلم على أئمتنا. (ونتحاب) كذا في النسخ الموجودة عندنا، ولفظ أبي داود "وأن نتحاب" أي بزيادة "أن" و"نتحاب"-بتشديد الباء الموحدة- من التحابب وهو التوادد، وتحابوا أحب كل واحد منهم صاحبه. قال القاري: أي وأن نتحاب مع المصلين وسائر المؤمنين بأن يفعل كل منا من الأخلاق الحسنة والأفعال الصالحة، والأقوال الصادقة، والنصائح الخالصة ما يؤدي إلى المحبة والمودة. (وأن يسلم بعضنا على بعض) ظاهره شامل للصلاة وغيرها لكنه قيده البزار بالصلاة، ولفظه: وأن نسلم على أئمتنا، وأن يسلم بعضنا على بعض في الصلاة، أي ينوي المصلي من عن يمينه وشماله من البشر، وكذا من الملك، فإنه أحق بالتسليم المشعر بالتعظيم. وقال الشوكاني: ويدخل في ذلك سلام الإمام على المأمومين، والمأمومين على الإمام، وسلام المقتدين بعضهم على بعض-انتهى. قال الطيبي: هذا عطف الخاص على العام؛ لأن التحابب أشمل معنى من التسليم ليؤذن بأنه فتح باب المحبة ومقدمتها. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً ابن ماجه، والبزار مختصراً، وزاد البزار: في الصلاة. وأخرجه الحاكم بلفظ أبي داود (ج1:ص270) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، وسعيد بن بشير. (أى الأزدي الشامي راوي الحديث عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة) إمام أهل الشام في عصره، إلا أن الشيخين لم يخرجاه بما وصفه أبومسهر من سوء حفظه، ومثله لا ينزل بهذا القدر-انتهى. وقال الحافظ: إسناده حسن، وسكت عنه أبوداود، ولكنه من رواية الحسن عن سمرة. وقد تقدم الكلام في سماع الحسن منه، وقد أخرج أبوداود من وجه آخر عن سمرة: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان في وسط الصلاة أو حين انقضائها: فابدوا قبل السلام، فقولوا: التحيات الطيبات الصلوات والملك لله، ثم سلموا على اليمين، ثم سلموا على قاربكم، وعلى أنفسكم. لكنه ضعيف لما في من المجاهيل. (باب الذكر بعد الصلاة) أي بعد الفراغ من الصلاة المكتوبة. والمراد بالذكر أعم من الدعاء وغيره. 966- قوله: (كنت أعرف انقضاء صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي انتهاءها. (بالتكبير) متعلق بأعرف، ووقع في رواية لمسلم بصيغة الحصر ولفظه: "ماكنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بالتكبير"، واختلفوا في بيان المراد

بالتكبير، فقيل: المراد به قوله "الله أكبر" مرة أو ثلاثاً بعد السلام فكان - صلى الله عليه وسلم - يقول "الله أكبر" مرة أو مكرراً إذا فرغ من الصلاة، والمعنى: كنت أعرف بسماع "الله أكبر" انصرافه وفراغه من الصلاة. وقيل: المراد التكبير الذي ورد مع التسبيح والتحميد عشراً أو أكثر فيحتمل أنه كان بدءه بالتكبير قبل التسبيح والتحميد لما ورد: لا يضرك بأيهن بدأت. وقيل: المراد التكبيرات التي في الصلاة عند كل خفض ورفع، والمعنى كنت أعرف انقضاء كل هيئة من الصلاة إلى أخرى بتكبيره أسمعها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: المراد كنت أعرف انقضاء الصلاة بانقضاء التكبيرات، وهذان التأويلان يخالفان الباب، ويخالفان أيضاً رواية الشيخين لحديث ابن عباس هذا ومن وجه آخر بلفظ: إن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن عباس: كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته. قال العيني: أي كنت أعلم انصرافهم بسماع الذكر-انتهى. وهذه الرواية تؤيد بل تعين القول الأول فهو المعتمد، لكن قوله "التكبير" أخص من هذه الرواية؛ لأنه الذكر أعم من التكبير، فيحتمل أنهم كانوا يرفعون الصوت بالتكبير والذكر كليهما، فيكون الحديث دليلاً على استحباب رفع الصوت بقول "الله اكبر" مرة أو مكرراً، وبأذكار أخرى عقب المكتوبة، ويحتمل أن يكون قوله "التكبير" مفسراً لهذه الرواية، فكأن المراد أن رفع الصوت بالذكر أي بالتكبير، وكأنهم كانوا يبدؤن بالتكبير مرة أو مكرراً قبل الأذكار الأخرى. ويحتمل أن يكون المراد بالتكبير مطلق الذكر بعد الصلاة. وظاهر الحديث أن ابن عباس لم يكن يحضر الجماعة؛ لأنه كان صغيراً ممن لا يواظب على ذلك، ولا يلزم به، فكان يعرف انقضاء الصلاة بما ذكر، ويحتمل أن يكون حاضراً في أواخر الصفوف، فكان لا يعرف انقضاءها بالتسليم، وإنما كان يعرفه بالتكبير، قال ابن دقيق العيد: ويؤخذ منه أنه لم يكن هناك مبلغ جهير الصوت يسمع من بعد-انتهى. قال النووي: هذا الحديث دليل لما قاله بعض السلف: أنه يستحب رفع الصوت بالتكبير والذكر عقب المكتوبة، وممن يستحبه من المتأخرين ابن حزم الظاهري، ونقل ابن بطال وآخرون أن أصحاب المذاهب المتبوعة وغيرهم متفقون على عدم استحباب رفع الصوت بالتكبير والذكر، وحمله الشافعي على أنه جهر وقتاً يسيراً حتى يعلمهم صفة الذكر، لا أنهم جهروا به دائماً. قال: فاختار للإمام والمأموم أن يذكر الله بعد الفراغ من الصلاة، ويخفيان ذلك إلا أن يكون إماماً يريد أن يتعلم منه، فيجهر حتى يعلم أنه قد تعلم منه ثم يسر، وحمل الحديث على هذا-انتهى. قلت: ما ذهب إليه بعض السلف، وابن حزم من المتأخرين من استحباب رفع الصوت بالتكبير والذكر أثر كل صلاة مكتوبة هو القول الراجح عندي، وإن لم يقل به الأئمة الأربعة ومقلدوهم؛ لأن حديث ابن عباس باللفظين نص في ذلك، ويدل على ذلك أيضاً حديث عبد الله بن الزبير الآتي، والحق يدور مع الدليل لا مع الادعاء أو الرجال، نعم لا يبالغ في رفع الصوت، ولا يجهر جهرا مفرطا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: اربعوا على أنفسكم،

متفق عليه. 967- (2) وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت. ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً-الحديث. ولا دليل لمن حمل حديث ابن عباس على أن الجهر كان أحياناً أو وقتاً يسيراً لأجل تعليم المأمومين صفة الذكر والتكبير كما لا دليل لمن حمل حديث الجهر بالتسمية في الصلاة، وحديث الجهر بالتأمين، على أنه كان أحياناً للتعليم، ولا يثبت شيء بالادعاء والتحكم، والراوي وهو ابن عباس لم يقيد رفع الصوت بوقت دون وقت، بل أطلقه وعممه، وفيه أيضاً لفظه "كان" وهي تشعر بالمواظبة، فدل ذلك على أن أكثر عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه قد كان على رفع الصوت بالتكبير، فالحق أن رفع الصوت بذلك أثر كل صلاة مكتوبة حسن كما صرح به ابن حزم في المحلى (ج4:ص260) . (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي. 967- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلم) أى من الصلاة المكتوبة. (لم يقعد) أي في بعض الأحيان فإنه قد ثبت قعوده - صلى الله عليه وسلم - بعد السلام أزيد من هذا المقدار. وقيل: المراد لم يقعد مستقبل القبلة إلا مقدار قوله ذلك، ثم يلتفت يمنة أويسرة، أو يستقبل المؤتمين. قال السندي: الظاهر أن المراد لم يقعد على هيئة إلا هذا المقدار ثم ينصرف عن جهة القبلة، وإلا فقد جاء أنه كان يقعد بعد صلاة الفجر إلى أن تطلع الشمس وغير ذلك، فلا دلالة في هذا الحديث على أن المصلي لا يشتغل بالأوراد الواردة بعد الصلاة بل يشتغل بالسنن الرواتب ثم يأتي بالأوراد كما قال بعض العلماء –انتهى. وقيل: المراد لم يقعد بين الفرض والسنة إلا هذا المقدار. قال الطيبي: إنما ذلك في صلاة بعدها راتبة، وأما التي لا راتبة بعدها كصلاة الصبح فلا-انتهى. (اللهم أنت السلام) هو من أسماء الله تعالى، أي أنت السليم من المعائب والآفات، ومن كل نقص، وقال الأمير اليماني: المراد ذو السلامة من كل نقص وآفة، مصدر وصف به للمبالغة. (ومنك السلام) هذا بمعنى السلامة، أي أنت الذي تعطي السلامة وتمنعها، أو منك نطلب السلامة من شرور الدنيا والآخرة، أو منك يرجى السلام ويستوهب ويستفاد، أو السلامة من المعائب والآفات مطلوبة منك، أو حاصلة من عندك، فالسالم من سلمته، قال الشيخ الجزري: وأما ما يزاد بعد قوله "ومنك السلام" من نحو "وإليك يرجع السلام فحينا ربنا بالسلام" وأدخلنا دار السلام، فلا أصل له، بل مختلق من بعض القصاص. (تباركت) تفاعلت من البركة وهي الكثرة والنماء، ومعناه تعاظمت إذ كثرت صفات جلالك وكمالك. (يا ذالجلال) أي ذا العظمة. (والإكرام) أي الإحسان. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه.

968- (3) وعن ثوبان، رضي الله عنه، قال. ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً، وقال: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام)) رواه مسلم. 969- (4) وعن المغيرة بن شعبة، ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد)) ـــــــــــــــــــــــــــــ 968- قوله: (إذا انصرف من صلاته) أي سلم منها. قال النووي: المراد بالانصراف السلام. (استغفر ثلاثاً) قال مسلم في صحيحه بعد رواية هذا الحديث: قال الوليد، فقلت للأوزاعي: كيف الاستغفار؟ قال: يقول: أستغفر الله، أستغفر الله –انتهى. وقيل: أقله أستغفر الله، والأكمل زيادة العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، والاستغفار إشارة إلى أن العبد لا يقوم بحق عبادة مولاه لما يعرض له من الوسواس والخواطر، فشرع له الاستغفار تداركا لذلك، وقال السندي: استغفر - صلى الله عليه وسلم - تحقيراً لعمله وتعظيماً لجناب ربه. وكذلك ينبغي أن يكون حال العابد، فينبغي أن يلاحظ عظمة جلال به وحقارة نفسه وعمله لديه، فيزداد تضرعاً واستغفاراً كلما يزداد عملا، وقد مدح الله عباده فقال. {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون} [51: 17، 18] . وقال ابن سيد الناس: هو وفاء بحق المعبودية، وقيام بوظيفة الشكر كما قال: أفلا أكون عبداً شكوراً. وليبين للمؤمنين سننه فعلا كما بينها قولاً في الدعاء والضراعة ليقتدي به. (وقال) أي بعد الاستغفار. (أنت السلام) أي المختص بالتنزه عن النقائص والعيوب لا غيرك. (ومنك السلام) أي منك السلامة، منها لمن أردت له ذلك لا من غيرك. (يا ذا الجلال والإكرام) بزيادة "يا" في جميع نسخ المشكاة الحاضرة عندنا، وفي صحيح مسلم "ذا الجلال والإكرام" بحذف "يا". وهذا من عظائم صفاته تعالى لا يستعمل في غير الله تعالى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه. 969- قوله: (كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة) أي عقب كل صلاة فريضة. (لا إله إلا الله وحده) أي منفرداً في ذاته. (لا شريك له) أي في أفعاله، وصفاته، وعبادته، وقال ابن حجر: تأكيد بعد تأكيد لمزيد الاعتناء بمقام التوحيد. (له الملك) أي لا لغيره. (وله الحمد) في الأولى والآخرة. قال الحافظ في الفتح: زاد الطبراني من طريق أخرى، عن المغيرة "يحيى ويميت" وهو حي لا يموت، بيده الخير، إلى "قدير". ورواته موثقون. (اللهم لا مانع لما أعطيت) أي من قضيت له بقضاء من رزق أو غيره لا يمنعه أحد عنه. (ولا معطي لما منعت) أي من قضيت له بحرمان لا معطي له. (ولا ينفع ذا الجد منك الجد) بفتح الجيم وهو الحفظ، والغنى، والعظمة، والسلطان، وأبو الأب والأم، و"من " في قوله "منك" بمعنى البدل، قال الشاعر:

متفق عليه. 970- (5) وعن عبد الله بن الزبير، قال. ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلم من صلاته يقول بصوته الأعلى: لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، ـــــــــــــــــــــــــــــ فليت لنا من ماء زمزم شربه ... ... مبردة باتت على الظمآن يريد ليت لنا بدل ماء زمزم. وقيل: "منك" بمعنى عندك؛ وقيل: هو صفة الجد أي الكائن منك. وقيل: المضاف فيه مقدر أي من عذابك، وسطوتك، وقضائك، والمعنى: لا ينفع صاحب الغنى والحظ في الدنيا بالمال والولد والعظمة والسلطان عندك، أو من عذابك، أو بدل لطفك غناه وحظه، أي لا ينجيه حظه منك، وإنما ينفعه وينجه فضلك ورحمتك، أو لا ينفع ذا نسب نسبه، وإنما ينفعه العمل الصالح. وروي "الجد" بكسر الجيم، والمعنى: لا ينفع صاحب الجد والاجتهاد في العلم والعمل مجرد اجتهاده في ذلك ما لم يقارنه القبول، وذلك لا يكون إلا بفضل الله ورحمته. والحديث دليل على استحباب هذا الذكر عقب الصلوات لما أشتمل عليه من ألفاظ التوحيد، ونسبة الأمر كله إليه، والمنع والإعطاء، وتمام القدرة، وظاهره أن يقول ذلك مرة، وفي رواية للنسائي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول هذا التهليل وحده أولاً ثلاث مرات. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي. 970- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلم من صلاته يقول بصوته الأعلى) حديث عبد الله بن الزبير هذا أخرجه مسلم من طرق، ولكن ليس في طريق منها قوله "بصوته الأعلى". وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي ولم تقع هذه اللفظة عندهم أيضاً، ولفظ مسلم في طريق الحجاج بن أبي عثمان، عن أبي الزبير، عن عبد الله بن الزبير: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول إذا سلم في دبر الصلاة أو الصلوات "لا إله إلا الله وحده" الخ. وفي طريق موسى بن عقبة عن أبي الزبير أنه سمع عبد الله بن الزبير، وهو يقول في أثر الصلاة إذا سلم ... وكان يذكر ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأما السياق الذي ذكره المصنف تبعاً للبغوي فهو للشافعي في كتاب الأم (ج1:ص110) قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد، قال: حدثني موسى بن عقبة، عن أبي الزبير، أنه سمع عبد الله بن الزبير يقول: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلم من صلاته يقول بصوته الأعلى: لا إله إلا الله وحده لا شريك له" الخ. إلا أنه ليس عنده كلمة "لا إله إلا الله" بين قوله " لا حول ولا قوة إلا بالله"، وقوله "ولا نعبد إلا إياه"، وقوله "إذا سلم" فيه أنه ينبغي أن يكون هذا الذكر تالياً للسلام مقدما على غيره لتقييد القول به بوقت التسليم، ولا يعارض ذلك ما تقدم من حديث عائشة وثوبان، فإنه يحمل على أوقات مختلفة فيقول بعد السلام تارة ما وقع في حديث عائشة وثوبان، وتارة ما وقع في حديث ابن الزبير والمغيرة، وعلى هذا فالسنة أن يأتي بهذه الأذكار على سبيل البدل لا الجمع. وقيل: يجوز الجمع بينها؛ لأنه يحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع بينها

لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله، مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون)) رواه مسلم. 971- (6) وعن سعد، أنه كان يعلم بنيه هؤلاء الكلمات، ويقول. ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتعوذ بهن دبر الصلاة: اللهم إني أعوذبك من الجبن، وأعوذ بك من البخل، ـــــــــــــــــــــــــــــ وروى كل واحد ما سمعه منه - صلى الله عليه وسلم -، ولا يخفى بعده. والحديث يدل على مشروعية هذا الذكر بعد الصلاة مرة لعدم ما يدل على التكرار. (لا حول) أي لا تحول عن معصية الله. (ولا قوة) على طاعة الله. (إلا بالله) أي بعصمته وإعانته. (ولا نعبد إلا إياه) إذ لا يستحق العبادة سواه. (له النعمة) أي جنسها. قال تعالى. {وما بكم من نعمة فمن الله} [16: 53] . أو له نعمة التوفيق. (وله الفضل) بالقبول أو التفضل على عبادة. (وله الثناء الحسن) على ذاته وصفاته وأفعاله ونعمه وعلى كل حال. (مخلصين له الدين) أي للطاعة. (ولو كره الكافرون) أي كوننا مخلصين دين الله، وكوننا عابدين وموحدين الله. قال الطيبي: قوله "مخلصين" حال عامله محذوف وهو الدال على مفعول "كره"، أي نقول "لا إله إلا الله" حال كوننا مخلصين ولو كره الكافرون قولنا. و"الدين" مفعول به لمخلصين، و"له" ظرف قدم على المفعول به للاهتمام به. قال ابن حجر: وفيه تكلف، والأولى جعله حالاً من فاعل "نعبد" المذكور-انتهى. (رواه مسلم) أي أصل الحديث، وإلا فقوله "بصوته الأعلى" ليس عند مسلم بل هو للشافعي كما عرفت، وكان على البغوي أن يذكر ههنا سياق مسلم لا سياق الشافعي لما اشترط أنه يورد في الصحاح ما أخرجه الشيخان أو أحدهما، وكان على المصنف أن ينبه على تسامح البغوي في ذلك. وفي سنده عند الشافعي إبراهيم بن محمد شيخ الشافعي، وهو إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي أبوإسحاق المدني ضعيف متروك عند جمهور المحدثين، وكان الشافعي حسن الرأي فيه، وارجع إلى التهذيب (ج1: ص158- 161) والحديث أخرجه أيضاً أحمد (ج4: ص4، 5) وأبوداود والنسائي. 971-قوله: (وعن سعد) أي ابن أبي وقاص. (أنه كان يعلم بنيه) أي أولاده، وفيه تغليب، وقد ذكر ابن سعد في الطبقات أولاد سعد، فذكر من الذكور أربعة عشر نفساً، والإناث سبع عشرة، وروى عنه الحديث منهم خمسة عامر، ومحمد، ومصعب، وعائشة، وعمر. (هؤلاء الكلمات) أي الآتية كما يعلم المعلم الغلمان الكتابة. (دبر الصلاة) أي عقب الصلاة المكتوبة. فالمراد بالصلاة عند الإطلاق المكتوبة. (اللهم إني أعوذ بك) أي ألتجىء إليك. (من الجبن) بضم الجيم وسكون الباء، وتضم، هو المهابة للأشياء، والتأخر عن فعلها، والمتعوذ منه هو التأخر عن الإقدام بالنفس إلى الجهاد الواجب، والتأخر عن الصدع بالحق، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ونحو ذلك. (وأعوذ بك من البخل) بضم الباء الموحدة، وإسكان الخاء المعجمة، وبفتحهما، وبضمهما، وبفتح الباء وإسكان الخاء ضد الكرم أي من عدم

وأعوذ بك من أرذل العمر وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وعذاب القبر)) . رواه البخاري. 972- (7) وعن أبي هريرة، قال: ((إن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: قد ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى، والنعيم المقيم. فقال: وما ذاك؟ قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ـــــــــــــــــــــــــــــ النفع إلى الغير بالمال، أو العلم، أو غيرهما، ولو بالنصيحة. قال الطيبي: الجود إما بالنفس وهو الشجاعة، ويقابله الجبن، وإما بالمال وهو السخاوة، ويقابله البخل، ولا تجتمع الشجاعة والسخاوة إلا في نفس كاملة، ولا ينعدمان إلا من متناه في النقص. (وأعوذ بك من أرذل العمر) بضم الميم وسكونها لغتان، أي رديئة، وهو ما ينتقص فيه القوى الظاهرة والباطنة، فيصير كالطفل في سخف العقل، وقلة الفهم، وضعف القوة، وفي رواية البخاري: وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر. قال العيني: أي عن الرد، وكلمة "أن" مصدرية، و"أرذل العمر" هو الخرف، يعني يعود كهيئة الأولى في أو أن الطفولية، ضعيف البنية، سخيف العقل، قليل الفهم، ويقال أرذل العمر أردأه، وهو حالة الهرم والضعف عن أداء الفرائض، وعن خدمة نفسه فيما يتنظف فيه، فيكون كلاً على أهله، ثقيلا بينهم يتمنون موته، فإن لم يكن له أهل فالمصيبة أعظم. (وأعوذ بك من فتنة الدنيا) بأن تتزين للسالك، وتغره، وتنسيه الآخرة، ويأخذ منها زيادة على قدر الحاجة، وقال الأمير اليماني: فتنة الدنيا هي الافتتان بشهواتها، وزخارفها حتى تلهيه عن القيام بالواجبات التي خلق لها العبد. (وعذاب القبر) أي من موجبات عذابه، وإنما خص - صلى الله عليه وسلم - هذه المذكورات بالتعوذ منها؛ لأنها من أعظم الأسباب المؤدية إلى أنواع الشرور والمعاصي، وترك العبادات الظاهرة والباطنة، وأما طول العمر مع سلامة القوي والحواس فسعادة عظيمة للمؤمن المطيع. (رواه البخاري) في الجهاد، وفي الدعوات، وأخرجه أيضاً الترمذي في الدعوات، والنسائي في الاستعاذة. 972- قوله: (إن فقراء المهاجرين) فيهم أبوذر كما عند أبي داود. (قد ذهب أهل الدثور) بضم الدال المهملة والمثلثة، جمع دثر-بفتح الدال وسكون المثلثة- أي أهل الأموال، والدثر يجيء بمعنى المال الكثير وبمعنى الكثير من كل شيء. (بالدرجات العلى) بضم العين جمع العلياء، وهي تأنيث الأعلى، والباء للتعدية، وقال الطيبي: للمصاحبة، يعني ذهب أهل الأموال بالدرجات العلى، واستصحبوها معهم في الدنيا والآخرة، ومضوا بها ولم يتركوا لنا شيئاً منها، فما حالنا؟ يا رسول الله! والدرجات يحتمل أن يكون حسية، والمراد الدرجات العالية في الجنة، أو معنوية، والمراد علو القدر عند الله تعالى. (والنعيم المقيم) أي وبالعيش الدائم المستحق بالصدقة. قال الطيبي: فيه تعريض بالنعيم العاجل، فإنه على وشك الزوال. (فقال: وما ذاك؟) أي ما سبب سؤالكم هذا؟ أو ما سبب فوزهم وحيازهم دونكم؟. (ويصومون كما نصوم) زاد في حديث أبي الدرداء عند النسائي في عمل اليوم والليلة "ويذكرون كما نذكر" وللبزار من

ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أفلا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم، إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: تسبحون، وتكبرون، وتحمدون ـــــــــــــــــــــــــــــ حديث ابن عمر: وصدقوا تصديقنا وآمنوا إيماننا. (ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق) ؛ لأنهما يتعلقان بالمال ولا مال لنا، فلهم علينا بزيادة العبادات المالية. وفي رواية للبخاري: ولهم فضل أموال يحجون بها، ويعتمرون ويجاهدون، ويتصدقون. (أفلا أعلمكم) قدمت الهمزة للصدارة، والتقدير: ألا أسليكم فلا أعلمكم. (تدركون به) أي بذلك الشيء. (من سبقكم) أي من أهل الأموال الذين امتازوا بالصدقة والاعتاق عليكم، والجملة في موضع نصب، مفعول "تدركون". والمراد بالسبق السبق رتبة أي من حيث كثرة الأعمال بسبب المال، ورجحه الشيخ تقي الدين على السبق زماناً، وعلى هذا ينبغي حمل البعدية في قوله: (وتسبقون به من بعدكم) على البعدية رتبة أيضاً، أي تسبقون به أمثالكم الذين لا يقولون هذه الأذكار، فتكون البعدية معنوية، أي بحسب الرتبة لا حسية. (ولا يكون أحد) أي من الأغنياء؛ لأن الكلام فيهم. (أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم) قيل: الاستثناء متعلق بهذه الجملة الأخيرة فقط، وقيل: يصح جعله متعلقاً بالجمل الثلاث كلها، على معنى يحصل لكم الأحوال الثلاث بالنظر إلى الطوائف إلا من عمل من الطوائف الثلاث مثله. قال الطيبي: فإن قلت: ما معنى الأفضلية في قوله "لا يكون أحد أفضل منكم" مع قوله "إلا من صنع مثل ما صنعتم"، فإن الأفضلية تقتضى الزيادة، والمثلية تقتضي المساواة، قلت: هو من باب قوله: وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس يعني إن قدر المثلية تقتضي الأفضلية فتحصل الأفضلية، وقد علم أنها لا تقتضيها فإذا لا يكون أحد أفضل منكم، هذا على مذهب التميمي. ويحتمل أن يكون المعنى: ليس أحد أفضل منكم إلا هؤلاء فإنهم يساوونكم، وأن يكون المعنى بأحد الأغنياء أي ليس أحد من الأغنياء أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم-انتهى. واستشكل تساوي فضل هذا الذكر بفضل التقرب بالمال مع شدة المشقة فيه. وأجيب بأنه لا يلزم أن يكون الثواب على قدر المشقة في كل حال، فإن ثواب كلمة الشهادتين مع سهولتها أكثر من العبادات الشاقة. (قالوا بلى) أي علمنا ذلك. (قال: تسبحون، وتكبرون، وتحمدون) أخبار بمعنى الأوامر، أو من قبيل "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه". وقد وقع في هذه الرواية تقديم التكبير على التحميد خاصة، وفيه أيضاً قول أبي صالح: يقول: الله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ومثله لأبي داود من حديث أم الحكم، وله من حديث أبي هريرة: تكبر، وتحمد، وتسبح، وكذا في حديث ابن عمر، ووقع في أكثر الأحاديث تسبحون، وتحمدون، وتكبرون، وهذا الاختلاف يدل على أن لا ترتيب فيها ويستأنس لذلك بقوله في حديث: الباقيات الصالحات لا يضرك

دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين مرة. قال أبوصالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ذلك ـــــــــــــــــــــــــــــ بأيهن بدأت، لكن الترتيب الذي وقع في أكثر الأحاديث أولى. قال الحافظ: الأولى البداءة بالتسبيح؛ لأنه يتضمن نفي النقائص عن الباري سبحانه وتعالى، ثم التحميد؛ لأنه يتضمن إثبات الكمال له، إذ لا يلزم من نفي النقائص إثبات الكمال، ثم التكبير إذ لا يلزم من نفي النقائص وإثبات الكمال نفي أن يكون هناك كبير آخر، ثم يختم بالتهليل الدال على انفراده سبحانه وتعالى بجميع ذلك. (دبر كل صلاة) وفي رواية للبخاري "خلف كل صلاة". ومقتضى الحديث أن الذكر المذكور يقال عند الفراغ من الصلاة، فلو تأخر ذلك عن الفراغ فإن كان يسيراً بحيث لا يعد معرضا أو كان ناسياً أو متشاغلاً بما ورد أيضاً، وكآية الكرسي فلا يضر، وظاهر قوله "كل صلاة" يشمل الفرض والنفل، لكن حمله أكثر العلماء على الفرض، وقد وقع في حديث كعب بن عجرة الآتي التقييد بالمكتوبة، وكأنهم حملوا المطلقات عليها، وعلى هذا يكون التشاغل بعد المكتوبة بالراتبة بعدها فاصلاً بين المكتوبة والذكر، والله أعلم. (ثلاثاً وثلاثين مرة) يحتمل أن يكون المجموع للجميع، فإذا وزع لكل واحد من الثلاثة إحدى عشرة، وهو الذي فهمه سهيل بن صالح كما رواه مسلم، لكن لم يتابع سهيل على ذلك، والأظهر أن المراد أن المجموع لكل فرد فرد، والأفعال الثلاثة تنازعت في الظرف، وهو "دبر" وفي "ثلاثاً وثلاثين" وهو مفعول مطلق، والتقدير: تسبحون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وتكبرون كذلك. وتحمدون كذلك ثم ظاهر هذه الرواية أن يقول ذلك مجموعاً، ورجحه بعضهم للإتيان فيه بواو العطف، والمختار أن الإفراد أولى لتميزه باحتياجه إلى العدد، وله كل حركة لذلك سواء كان بأصابعه أو بغيرها ثواب لا يحصل لصاحب الجمع منه إلا الثلاث. (قال أبوصالح) وهو راوي الحديث عن أبي هريرة، وهو ذكوان- بفتح المعجمة وسكون الكاف- أبوصالح السمان الزيات المدني مولى جويرية بنت الأحمس الغطفاني، شهد الدار زمن عثمان، ثقة ثبت، من أوساط التابعين، كان يجلب الزيت إلى الكوفة، مات سنة. (101) . (فرجع فقراء المهاجرين) الخ. قول أبي صالح هذا مدرج في حديث أبي هريرة، قال الحافظ في الفتح: هذه الزيادة مرسلة، وقد روى الحديث البزار من حديث ابن عمر، وفيه "فرجع الفقراء" فذكره موصولاً لكن إسناده ضعيف، وروى جعفر الفريابي من رواية حرام بن حكيم عن أبي ذر، وقال: فيه، قال أبوذر: يا رسول الله! إنهم قد قالوا مثل ما نقول، فقال: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. ونقل الخطيب أن حرام بن حكيم يرسل الرواية عن أبي ذر، فعلى هذا لم يصح بهذه الزيادة إسناد إلا أن هذين الطريقين يقوي بهما مرسل أبي صالح-انتهى.. (سمع إخواننا أهل الأموال) بدل، وفائدة البدل إشعار بأن ذلك غبطة لا حسد. (بما فعلنا) ضمن سمع معنى الإخبار فعدى بالباء. (ففعلوا مثله) أي مثل ما فعلنا، وإطلاق الفعل على القول شائع سائغ. (ذلك) أي الزائد من الثواب الذي

فضل الله يؤتيه من يشاء)) . متفق عليه. وليس قول أبي صالح إلى آخره إلا عند مسلم. وفي رواية للبخاري: تسبحون في دبر كل صلاة عشراً، وتحمدون عشراً، وتكبرون عشراً، بدل "ثلاثاً وثلاثين". ـــــــــــــــــــــــــــــ حصل لهم على الجود بأموالهم منضماً إلى فعلهم ما فعله الفقراء. (فضل الله يؤتيه من يشاء) قال الطيبي: إشارة إلى أن الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر، نعم لا يخلوا الغني عن أنواع من الخطر، والفقير الصابر آمن-انتهى. قلت: المسألة ذات خلاف مشهور بين السلف والخلف من الطوائف، بسطه الغزالي في إحياء العلوم، والحافظ في الفتح في كتاب الأطعمة، وأما ما ورد من أن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم، وهو خمسمائة سنة من أيام الدنيا، ففيه أن دخول الفقراء قبل الأغنياء لا ينافي فضل الأغنياء، وعلو درجاتهم، وكثرة ثواب أعمالهم؛ لأن ذلك من جهة كون حساب الفقراء يسيراً، سهلاً سريع الانقضاء، والله أعلم. والحديث يدل على فضل الذكر عقب الصلاة، واستدل به البخاري على فضل الدعاء عقيب الصلاة؛ لأنه في معناها، فإن الذاكر يحصل له ما يحصل للداعي إذا شغله الذكر عن الطلب كما في حديث ابن عمر: من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، أخرجه الطبراني بسند لين، وحديث أبي سعيد بلفظ: من شغله القرآن وذكري عن مسألتي-الحديث، أخرجه الترمذي وحسنه. ولأنها أوقات فاضلة ترجى فيها إجابة الدعاء. (متفق عليه) واللفظ المذكور لمسلم، والمراد أنه اتفق الشيخان على أصل هذا الحديث، وإلا فقوله: يتصدقون ولا نتصدق ويعتقون ولا نعتق، من أفراد مسلم. والحديث أخرجه أيضاً النسائي في اليوم والليلة. (وليس قول أبي صالح إلى آخره إلا عند مسلم) . الأحسن أن يقول المصنف بعد قوله "وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين" متفق عليه، وزاد مسلم: قال أبوصالح، الخ. (وفي رواية للبخاري) أي في الدعوات. (تسبحون في دبر كل صلاة عشراً، وتحمدون عشراً، وتكبرون عشراً، بدل ثلاثاً) نصب على الحكاية. (وثلاثين) قال الحافظ في الفتح: وقع في رواية ورقاء عن سمي عند المصنف في الدعوات في هذا الحديث "تسبحون عشراً، وتحمدون عشراً، وتكبرون عشراً". ولم أقف في شيء من طريق حديث أبي هريرة على من تابع ورقاء على ذلك، لا عن سمي، ولا عن غيره، ويحتمل أن يكون تأول ما تأول سهيل من التوزيع ثم ألقى الكسر، ويعكر عليه أن السياق صريح في كونه كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: وأظن سبب الوهم أنه وقع في رواية ابن عجلان "تسبحون، وتكبرون، وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين مرة" فحمله بعضهم على أن العدد المذكور مقسوم على الأذكار الثلاثة، فروى الحديث بلفظ إحدى عشرة، وألغى بعضهم الكسر فقال "عشراً" والله أعلم. قال: وقد وجدت لرواية العشر شواهد: منها عن علي عند أحمد، وعن سعد بن أبي وقاص عند النسائي، وعن عبد الله بن عمرو عنده، وعند أبي داود والترمذي، وعن أم سلمة عند البزار، وعن أم مالك الأنصارية عند الطبراني، وجمع البغوي في شرح السنة بين هذا الاختلاف باحتمال أن يكون صدر ذلك في أوقات متعددة، أولها عشراً عشراً، ثم

973- (8) وعن كعب بن عجرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((معقبات لا يخيب قائلهن- أو فاعلهن- دبر كل صلاة مكتوبة: ثلاث وثلاثون تسبيحة، وثلاث وثلاثون تحميدة، وأربع وثلاثون تكبيرة)) .رواه مسلم. 974- (9) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله ـــــــــــــــــــــــــــــ إحدى عشرة، إحدى عشرة، ثم ثلاثاً وثلاثين، ثلاثاً وثلاثين، ويحتمل أن يكون ذلك على سبيل التخيير، أو يفترق بافتراق الأحوال. 973- قوله: (معقبات) بضم الميم وفتح المهملة وكسر القاف المشددة، أي كلمات معقبات، وهو مبتدأ خبره ثلاث وثلاثون، أو قوله: لا يخيب، الخ. قال الجزري: سميت معقبات؛ لأنها عادت مرة بعد أخرى، أو لأنها تقال عقيب الصلاة، والمعقب من كل شيء ما جاء عقيب ما قبله. (لا يخيب) من الخيبة، أي لا يحرم من أجرهن أي كيفما كان ولو عن غفلة، هذا هو ظاهر هذا اللفظ، والله تعالى أعلم. وقد ذكر بعضهم أنه لا أجر في الأذكار إذا كانت عن غفلة سوى القراءة. (قائلهن، أو فاعلهن) أو للشك من الراوي. (دبر كل صلاة) ظرف القول. (ثلاث وثلاثون تسبيحة) قال الطيبي: قوله: معقبات إما صفة مبتدأ أقيمت أي في الابتدائية مقام الموصوف، أي كلمات معقبات، و"لا يخيب" خبره، و"دبر" ظرف، ويجوز أن يكون خبراً بعد خبر، وأن يكون متعلقًا بقائلهن، وإما مبتدأ و"لا يخيب" صفته، و"دبر" صفة أخرى و"ثلاث وثلاثون" خبر، ويحتمل أن يكون "ثلاث وثلاثون" خبر مبتدأ محذوف، أي هن أو هي ثلاث وثلاثون إلى غير ذلك من الاحتمالات. (رواه مسلم وأخرجه أيضاً الترمذي في الدعوات، وحسنه، وذكر الاختلاف في رفعه ووقفه، وأخرجه النسائي في الصلاة. قال النووي في شرح مسلم: ذكر الدارقطني هذا الحديث في استدراكاته على مسلم، وقال: الصواب أنه موقوف على كعب؛ لأن من رفعه لا يقاومون من وقفه في الحفظ، وهذا الذي قاله الدارقطني مردود؛ لأن مسلماً رواه من طرق كلها مرفوعة، وذكره الدارقطني أيضاً من طرق أخرى مرفوعة، وإنما روي موقوفاً من جهة منصور وشعبة، وقد اختلفوا عليهما أيضاً في رفعه ووقفه، وبين الدارقطني ذلك، وقد قدمنا أن الحديث الذي روي موقوفاً ومرفوعاً يحكم بأنه مرفوع على المذهب الصحيح الذي عليه الأصوليون والفقهاء والمحققون من المحدثين، منهم البخاري، وآخرون، حتى لو كان الواقفون أكثر من الرافعين حكم بالرفع، كيف، والأمر هنا بالعكس؟ ودليله أن هذه زيادة ثقة، فوجب قبولها، ولا ترد لنسيان أو تقصير حصل ممن وقفه-انتهى. 974- قوله: (من سبح الله) أي قال: سبحان الله. (في دبر كل صلاة) أي فريضة. (وحمد الله) بكسر الميم

ثلاثاً وثلاثين، وكبر الله ثلاثاً وثلاثين فتلك تسعة وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ المخففة، أي قال: الحمد لله. (وكبر الله) أي قال: الله أكبر. (ثلاثاً وثلاثين) أي في دبر كل صلاة، وحذفه في هذا وما قبله للعلم به من الأول. (فتلك) أي التسبيحات والتحميدات والتكبيرات. (تسعة وتسعون) علم العدد بعد التفصيل، ويسمى فذلكة ليحاط به من جهتين فيتأكد العلم، إذ علمان خير من علم فهو نظير قوله تعالى: {تلك عشرة كاملة} [2: 196] . بعد ذكر ثلاثة وسبعة، وليترتب عليه قوله: (وقال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: ذلك القائل، يعني ذكر. (تمام المائة) بالنصب على المفعولية، وقيل: مرفوع على أنه مبتدأ خبره. (لا إله إلا الله) قال القاري: تفصيل الكلام في هذا المقام أن لفظ "تمام" إما منصوب على أنه مفعول به لقال؛ لأنه في المعنى جملة، إذ ما بعده عطف بيان، أو بدل، أو خبر محذوف، فصح كونه مقول القول، والمراد من "تمام المائة" ما تتم به المائة، ويجوز أن يكون نصبه بالظرفية أي في وقت تمام المائة، أي عند إرادة تمامها، والعامل فيه لفظ قال. قال ابن الملك: فلفظه "قال" للرسول - صلى الله عليه وسلم - بدل من سبح، وقال زين العرب، والأبهري: فيه ضمير يعود إلى من سبح، أو مرفوع على أنه مبتدأ وخبره لا إله إلا الله، الخ. فيكون تمام مع خبره حالاً من ضمير سبح، والعائد محذوف، أي حال كونه تمام مائة عليها أو عليه، فلفظه "قال" على هذا تكون للراوي، وضميره عائد إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن الملك: والأول أولى، وعليهما الجزاء إنما يترتب على الشرط إذا وقع تمام المائة التهليل المذكور-انتهى. وكون التهليل المذكور تمام المائة يخالف ما ورد في عدة من الروايات أنه يكبر أربعاً وثلاثين، فإنه يدل على كون تمام المائة التكبير. قال النووي: يجمع بين الروايتين بأن يكبر أربعاً وثلاثين، ويقول معها "لا إله إلا الله وحده" إلى آخره. وقال غيره: بل يجمع بأن يختم مرة بزيادة تكبيرة، ومرة بلا إله إلا الله، على وفق ما وردت به الأحاديث. (وحده) جوز الكوفية كون الحال معرفة، والبصرية أولوها بالنكرة، وقالوا معناه منفرداً أي في ذاته. (لا شريك له) أي في أفعاله وصفاته نقلاً وعقلاً. (له الملك) أي أصناف المخلوقات له خاصة لا لغيره. (وله الحمد) المصدرية الشاملة لمعنى الفاعلية والمفعولية، فهو الحامد والمحمود. (غفرت خطاياه) هذا جزاء الشرط وهو "من سبح الله". والمراد بالخطايا الذنوب الصغائر. قال القاري: ويحتمل الكبائر. (وإن كانت) أي في الكثرة. (مثل زبد البحر) وهو ما يعلو على وجهه عند هيجانه وتموجه. وأعلم أنه قد ورد في كل من تلك الكلمات الثلاث روايات مختلفة. قال ابن حجر المكي: ورد التسبيح ثلاثاً وثلاثين، وخمساً وعشرين، وإحدى عشرة، وعشرة، وثلاثاً، ومرة واحدة. وسبعين، ومائة، وورد التحميد ثلاثاً وثلاثين، وخمساً وعشرين، وإحدى عشرة، وعشرة، ومائة، وورد التهليل عشرة، وخمساً وعشرين، ومائة. قال الحافظ الزين العراقي: وكل ذلك حسن، وما زاد فهو أحب إلى الله تعالى. وتقدم عن البغوي أنه جمع بأنه

{الفصل الثاني}

رواه مسلم. {الفصل الثاني} 975- (10) عن أبي أمامة، قال: ((قيل يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الدعاء أسمع؟ قال: جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات)) . رواه الترمذي. 976- (11) وعن عقبة بن عامر، قال: ((أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقرأ بالمعوذات في دبر كل صلاة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ يحتمل صدور ذلك في أوقات متعددة، وأن يكون على سبيل التخيير، أو يفترق بافتراق الأحوال-انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً النسائي، والبيهقي في الدعوات كلهم من طريق عطاء بن يزيد، عن أبي هريرة، قاله السيوطي. وأخرجه مالك في الموطأ من هذا الطريق موقوفاً على أبي هريرة. 975- قوله: (أي الدعاء أسمع) أي أوفق إلى السماع، أو أقرب إلى الإجابة، فإن السمع قد يجيء بمعنى الإجابة، يقال: سمع الأمير قوله، أي إجابة وأعطى سؤاله. (جوف الليل) روى بالرفع وهو الأكثر على أنه خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ خبره محذوف على حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه مرفوعاً، أي دعاء جوف الليل أسمع، وروي بنصب "جوف" عل الظرفية أي في جوفه. (الآخر) صفة جوف فيتبعه في الإعراب. قيل: والجوف الآخر من الليل هو وسط النصف الآخر من الليل- بسكون السين لا بالتحريك- (دبر الصلوات المكتوبات) عطف على "جوف" تابع له في الأعراب. والحديث فيه تصريح بأن جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات من أوقات الإجابة، وسيأتي هذا الحديث في باب التحريض على قيام الليل. (رواه الترمذي) أي في الدعوات من طريق ابن جريح، عن عبد الرحمن بن سابط، عن أبي أمامة، وقال: حديث حسن- انتهى. قلت: رجاله ثقات، إلا أن ابن جريح مدلس، وقد رواه عن عبد الرحمن بالعنعنة، وأيضاً في سماع عبد الرحمن بن سابط عن أبي أمامة كلام، قال الحافظ في الإصابة (ج3: ص148) في القسم الرابع من حرف العين: أما هو أي عبد الرحمن بن سابط فتابعي، كثير الإرسال، ويقال: لا يصح له سماع من صحابي، أرسل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيراً، وعن معاذ وعباس بن أبي ربيعة، وسعد بن أبي وقاص، والعباس بن عبد المطلب، وأبي ثعلبة، فيقال: إنه لم يدرك أحداً منهم. قال الدوري: سئل ابن معين هل سمع من سعد؟ فقال: لا. قيل: من أبي أمامة؟ قال: لا. قيل: من جابر؟ قال: لا. قلت: وقد أدرك هذين –انتهى. 976- قوله: (أن أقرأ بالمعوذات) بكسر الواو المشددة وتفتح. (في دبر كل صلاة) أي فريضة. والحديث في

رواه أحمد وأبو داود والنسائي والبيهقي في "الدعوات الكبير". 977- (12) وعن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس، أحب إليّ من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل. ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله ـــــــــــــــــــــــــــــ مسند أحمد (ج4: ص155، 204) وفي سنن أبي داود والنسائي والمستدرك للحاكم (ج1: ص253) والدعوات الكبير للبيهقي بلفظ المعوذات، وفي فضائل القرآن من جامع الترمذي وصحيح ابن حبان كما في الحصن بلفظ المعوذتين، فعلى الأول إما أن نذهب إلى أن أقل الجمع اثنان، وإما أن يدخل سورة الإخلاص وحدها، أو مع الكافرين في المعوذتين، إما تغليباً، أو؛ لأن كلتيهما براءة من الشرك، والتجاء إلى الله تعالى، ففيهما التبرئ عن الشرك، والتعوذ به منه. وقيل المراد بالمعوذات الآيات المتضمنة للاستعاذة لفظاً أو معنى، فيدخل فيها سورة الإخلاص، وسورة الكافرون أيضاً، فإن فيهما معنى التعوذ، وقيل: المراد الكلمات المعوذة. (رواه أحمد) (ج4: ص155، 201) . (وأبو داود) وسكت عنه هو والمنذري. (والنسائي) الخ. وأخرجه أيضاً الترمذي في فضائل القرآن، وقال: حسن غريب. وابن حبان في صحيحه والحاكم (ج1: ص253) وقال صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي. 977- قوله: (لأن أقعد) بفتح الهمزة أي لقعودي، واللام للابتداء، وقيل: للقسم. (مع قوم يذكرون الله) لم يقل ذاكراً معهم لإفادة أن ذلك لا يتوقف على ما إذا ذكر معهم، بل الاستماع يقوم مقام الذكر، فما بالك بما إذا ذكر معهم؛ لأنهم القوم لا يشقى جليسهم، والذكر يعم الدعاء، وتلاوة القرآن، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويلحق به ما في معناه، كدرس العلوم الشرعية. (من صلاة الغداة) أي الصبح. (من أن أعتق) بضم الهمزة وكسر التاء. (أربعة) أنفس. (من ولد إسماعيل) خص بني إسماعيل لشرفهم على غيرهم من العرب، والعرب أفضل الأمم، ولقربهم منه عليه الصلاة والسلام، لكونه - صلى الله عليه وسلم - من أولاد إسماعيل. وفي الحديث أوضح دليل لما ذهب إليه الشافعي من أنه يجوز ضرب الرق على العرب، إذ لو امتنع رقهم لم يقل - صلى الله عليه وسلم - أن هذا أحب إليه من عتقهم. وتأويل الحنفية هذا الحديث بأن إطلاق الأرقاء والعتق عليهم على الفرض والتقدير، وبأنه يمكن أن يسبى بالاشتباه، وأن المراد بالعتق إنقاذهم من الشدائد والمهالك، بعيد خلاف الظاهر، فلا يلتفت إليه. قال التوربشتي: معرفة وجه التخصيص في الرقاب على الأربعة يقيناً لا يوجد تلقينه إلا من قبل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وعلينا التسليم، عرفنا ذلك أو لم نعرف، ويحتمل أن يكون ذلك؛ لانقسام العمل الموعود عليه على أربعة أقسام: ذكر الله تعالى، والقعود له، والاجتماع عليه، وحبس النفس من حين يصلي إلى أن تطلع الشمس. وقال ابن الملك: الأربعة هي القعود أي لذكر الله، وكونه مع قوم يذكرون الله، وكون ذلك من الغدوة أو العصر، واستمراره إلى الطلوع أو الغروب، وقيل: خص الأربعة؛ لأن فيه ذكر القعود، والذكر، والاستمرار إلى طلوع الشمس

من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس، أحب إليّ من أن أعتق أربعة)) . رواه أبوداود. 978- (13) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى الفجر في جماعة، ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، كانت له كأجر حجة وعمرة. قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تامة، تامة، تامة)) . رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ وصلاة ركعتين أو أربع كما في رواية. (من صلاة العصر) أي من بعد صلاة العصر. (من أن أعتق أربعة) أي من ولد إسماعيل، فإن الحديث رواه أبويعلى أيضاً، وزاد في الموضعين " أربعة من ولد إسماعيل، دية كل رجل منهم اثنا عشر ألفاً". والحديث دليل على أن الذكر أفضل من العتق والصدقة. (رواه أبوداود) في العلم وسكت عنه. وقال المنذري: في إسناده موسى بن خلف العمي البصري، وقد استشهد به البخاري، وأثنى عليه غير واحد من المتقدمين، وتكلم فيه ابن حبان البستي-انتهى. وقال الحافظ العراقي: إسناده حسن. والحديث أخرجه أبويعلى أيضاً. وقال في الموضعين: أحب إليّ من أعتق أربعة من ولد إسماعيل دية كل واحد منهم اثنا عشر ألفاً. قال الهيثمي بعد ذكره: وفيه محتسب أبوعائذ، وثقة ابن حبان، وضعفه غيره، وبقية رجاله ثقات-انتهى. 978- قوله: (ثم قعد يذكر الله) أي استمر في مكانه ومسجده الذي صلى فيه مشتغلاً بالذكر. (ثم صلى ركعتين) قال الطيبي: أي ثم صلى بعد أن ترتفع الشمس قدر رمح حتى يخرج وقت الكراهة، وهذه الصلاة تسمى صلاة الإشراق، وهي أول الضحى-انتهى. قلت: وقع في حديث معاذ عند أبي داود: حتى يسبح ركعتي الضحى، وكذا وقع في حديث أبي أمامة، وعتبة بن عبد عند الطبراني. (كانت) أي المثوبة. (قال) أي أنس قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (تامة تامة تامة) صفة لحجة وعمرة، كررها ثلاثاً للتأكيد، وقيل: أعاد القول لئلا يتوهم أن التأكيد بالتمام، وتكراره من قول أنس، قال الطيبي: هذا التشبيه من باب إلحاق الناقص بالكامل ترغيباً للعامل، أو شبه استيفاء أجر المصلي تاماً بالنسبة إليه باستيفاء أجر الحاج تاماً بالنسبة إليه. وأما وصف الحج والعمرة بالتمام فإشارة إلى المبالغة-انتهى. (رواه الترمذي) وحسنه، وفي سنده أبوظلال هلال بن أبي هلال، ويقال: هلال بن أبي مالك. واختلف أيضاً في اسم أبيه القسملى البصري الأعمى، ضعفه أكثرهم، وجعله البخاري مقارب الحديث فيما رواه الترمذي عنه، وقال الذهبي في الميزان، والحافظ في تهذيب التهذيب: قال البخاري: عنده مناكير. وقال الذهبي في الكنى: واهٍ بمرة. وقال الحافظ في التقريب: ضعيف مشهور بكنيته-انتهى. وإنما حسن الترمذي حديثه لشواهده، منها: حديث أبي أمامة عند الطبراني، قال المنذري في الترغيب، والهيثمي في مجمع الزوائد (ج10: ص104) : إسناده جيد، ومنها: حديث أبي أمامة، وعتبة بن عبد عند الطبراني أيضاً. قال المنذري: وبعض رواته مختلف فيه. قال: وللحديث شواهد كثيرة-انتهى. وقال الهيثمي بعد

{الفصل الثالث}

{الفصل الثالث} 979- (14) عن الأزرق بن قيس، قال صلى بنا إمام لنا يكنى أبا رمثة، قال: ((صليت هذه الصلاة، ومثل هذه الصلاة مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: وكان أبوبكر وعمر يقومان في الصف المقدم عن يمينه، وكان رجل قد شهد التكبيرة الأولى من الصلاة فصلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم سلم عن يمينه وعن يساره، حتى رأينا بياض خديه، ـــــــــــــــــــــــــــــ ذكره: رواه الطبراني، وفيه الأحوص بن حكيم وثقه العجلي وغيره، وضعفه جماعة، وبقية رجاله ثقات، وفي بعضهم خلاف لا يضر-انتهى. وفي الباب أحاديث عديدة ذكرها المنذري في الترغيب، والهيثمي في مجمع الزوائد (ج1: ص104) . 979- قوله: (عن الأزرق) بفتح الهمزة وتقديم الزاي المعجمة على الراء المهملة آخره قاف. (بن قيس) الحارثي البصري، ثقة من أوساط التابعين، مات بعد العشرين والمائة. (يكنى) بالتخفيف ويشدد. (أبا رمثة) بكسر أوله وسكون الميم، بعدها مثلثة البلوي التيمي من تيم الرباب، ويقال: التميمي. ويقال: هما اثنان، قيل: اسمه رفاعة بن يثربي، ويقال: عكسه. ويقال: يثربي بن عوف. ويقال: عمارة بن يثربي، وقيل: حيان بن وهيب. وقيل: حبيب بن حبان. وقيل: جندب. وقيل: خشخاش. صحابي له أحاديث، قال ابن سعد: مات بإفريقية. قال في الإصابة (ج4: ص70) : روى عنه إياد بن لقيط، وثابت بن منقذ. روى له أصحاب السنن الثلاثة، وصحح حديثه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم. (قال) أي أبورمثة. وفي أبي داود "فقال" أي بزيادة الفاء (صليت هذه الصلاة) قال القاري: الإشارة هنا ليست للخارج؛ لأن عين المشار إليه الواقع في الخارج لم يصله معه عليه السلام، وإنما الذي صلاه معه نظيره، فتعينت الإشارة للحقيقة الذهنية الموجودة في ضمن هذه الخارجية وغيرها، ولذا قال: (أو مثل هذه الصلاة) على الشك. (قال) أي أبورمثة. (وكان أبوبكر، وعمر يقومان في الصف المقدم عن يمينه) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ليلني منكم أولو الأحلام والنهى. وقوله: "إن الله وملائكة يصلون على ميامن الصفوف". وفيه إفادة الحث على أنه يسن تحري الصف الأول، ثم تحري يمين الإمام؛ لأنه أفضل. (قد شهد التكبيرة الأولى) أي تكبيرة التحريمة، فإنها الأولى حقيقة. (من الصلاة) احتراز من التكبير المعتاد بعد الصلاة، ووجه ذكر التكبيرة الأولى أي تكبير التحريمة التنبيه على أن مدركها إنما قام عقب صلاته لصلاة السنة، لا لكونه مسبوقاً بقي عليه شيء يقوم لإكماله. (ثم سلم عن يمينه وعن يساره) أي سلم مجاوزاً نظره عن يمينه وعن يساره، كما يسلم أحد على من في يمينه ويساره. (حتى رأينا) متعلق بالمقدر المذكور. (بياض خديه) أي من طرفي وجهه أي خده

ثم انفتل كانفتال أبي رمثة- يعني نفسه- فقام الرجل الذي أدرك معه التكبيرة الأولى من الصلاة يشفع، فوثب عمر، فأخذ بمنكبيه، فهزه، ثم قال: اجلس، فإنه لن يهلك أهل الكتاب إلا أنه لم يكن بين صلاتهم فصل. فرفع النبي - صلى الله عليه وسلم - بصره، فقال: أصاب الله بك يا ابن الخطاب)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأيمن في الأولى، والأيسر في الثانية. (ثم انفتل) أي انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم -. (كانفتال أبي رمثة) أي كانفتالي جرد عن نفسه أبا رمثة، ووضعه موضع ضميره مزيداً للبيان، واستحضاراً لتلك الحال في مشاهدة السامع، كما قاله الطيبي. ولذا قال الراوي. (يعني) أي يريد أبورمثة بقوله: أبي رمثة. (نفسه) أي ذاته لا غيره. (يشفع) بالتخفيف ويشدد، قال الطيبي: الشفع ضم الشيء إلى مثله يعني قام الرجل يشفع الصلاة بصلاة أخرى. (فوثب عمر) أي قام بسرعة، وفي أبي داود " فوثب إليه عمر". (بمنكبيه) بالتثنية. (فهزّه) بالتشديد أي فحركة بعنف. (فإنه) أي الشأن. (لن يهلك) كذا في جميع النسخ للمشكاة، وفي سنن أبي داود "لم يهلك". والظاهر أن ما في المشكاة خطأ من المصنف أو من الناسخ وهو بضم الياء. (أهل الكتاب) بالنصب ويجوز فتح الياء ورفع أهل. (إلا أنه) أي الشأن، وفي بعض النسخ لأبي داود "إلا أنهم". (لم يكن بين صلاتهم) أي بين صلواتهم إذ "بين" لا يدخل إلا على متعدد. (فصل) الفصل بين الفريضة والسنة قد يكون بالتنحي والتحول أي التقدم أو التأخر، وقد يكون بالزمان سواء اشتغل فيه بالذكر أو كان ساكتاً عنه، والظاهر أن المراد بالفصل ههنا الفصل بالزمان لا الفصل بالتقدم أو التأخر؛ لأنه قال عمر للرجل الذي قام يشفع بعد السلام: اجلس، ولم يقل تقدم أو تأخر. وإيراد المصنف هذا الحديث في هذا الباب يدل على أنه فهم من عدم الفصل فيه ترك الذكر بعد الصلاة، يعني فينبغي للمصلي أن يشتغل بعد السلام بالذكر الوارد ثم يصلي الراتبة، ففيه دليل على عدم وصل التطوع بالفريضة. قال الطيبي: يحتمل أن يراد بعدم الفصل ترك الذكر بعد السلام، والتقدير: لن يهلكهم شيء إلا عدم الفصل، واستعمل "لن" في الماضي معنى ليدل على استمرار هلاكهم في جميع الأزمنة، قال الجوهري: هلكه يهلكه وهلك بنفسه هلاكاً-انتهى. وفي القاموس: هلك كضرب ومنع وعلم هلكاً- بالضم- ومهلكة وتهلكة- مثلثي اللام- مات، وأهلكه واستهلكه وهلكه يهلكه لازم ومتعدٍ-انتهى. وعلى تقدير كونه لازماً في الحديث فالتقدير: ما هلكوا إلا لعدم كون الفصل بين صلاتهم. وقال ابن حجر: أي ما هلك أهل الكتاب بشيء فعلوه عقب صلاتهم فإنهم هلكوا بأشياء كثيرة غير هذا، فتعين رعاية خصوص ما قدرت، خلافاً لمن قدر عاماً بسائر أحواله-انتهى. قال القاري: يريد به ابن حجر الاعتراض على الطيبي، والظاهر أن هذا الهلاك مختص بمصليهم بخلاف سائر أسباب الهلاك، أو الحصر ادعائي للمبالغة والله أعلم- انتهى. (فرفع النبي - صلى الله عليه وسلم - بصره) أي إليهما. (أصاب الله بك) قيل: الباء زائدة، وقيل: الباء للتعدية والمفعول محذوف، أي أصاب الله بك الرشد. وقال الطيبي: من باب القلب أي أصيبت الرشد فيما فعلت بتوفيق الله وتسديده، ونظيره: "عرضت الناقة على الحوض"، أي عرضت الحوض على الناقة، وهو باب واسع في البلاغة. وقال ابن حجر: الهمزة للتعدية، والباء

رواه أبوداود. 980- (15) وعن زيد بن ثابت، قال: ((أمرنا أن نسبح في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، ونحمد ثلاثاً وثلاثين، ونكبر أربعاً وثلاثين، فأتى رجل في المنام من الأنصار، فقيل له: أمركم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تسبحوا في دبر كل صلاة كذا وكذا؟ قال الأنصاري في منامه: نعم. قال: فاجعلوها خمساً وعشرين، خمساً وعشرين، واجعلوا فيها التهليل. فلما أصبح غدا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فافعلوا)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ زائدة للتأكيد، والتقدير: أصابك الله الحق، أي جعلك الله مصيباً له في سائر أقوالك وأفعالك. (رواه أبوداود) وسكت عنه، وقال المنذري: في إسناده أشعث بن شعبة، والمنهال بن خليفة، وفيهما مقال-انتهى. ويشهد له ما روى أحمد وأبويعلى، عن عبد الله بن رباح، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى العصر، فقام رجل يصلي، فرآه عمر، فقال له: اجلس، فإنما هلك أهل الكتاب أنه لم يكن لصلاتهم فصل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أحسن ابن الخطاب. ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2: ص234) وقال: رجال أحمد رجال صحيح. 980- قوله: (أمرنا) بصيغة المجهول أي أمر ندب. (في دبر كل صلاة) أي عقب كل فريضة، ورواية النسائي بلفظ: قال. (أي زيد بن ثابت) : أمروا أن يسبحوا دبر كل صلاة، الخ. (ونحمد ثلاثاً وثلاثين) أي في دبر كل صلاة. (ونكبر أربعاً وثلاثين) أي تكملة للمائة. (فأتى) بضم الهمزة مبنياً للمفعول. (رجل في المنام من الأنصار) أي فأتاه ملك في منامه. قال الطيبي: لعل هذا الآتي من قبيل الإلهام بنحو ما كان يأتي لتعليم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام، ولذا قرره بقوله يعني الآتي "فافعلوا" وهذه الصورة أجمع لاشتمالها على التهليل أيضاً، والعدد العدد-انتهى. وفيه أن الإلهام يغاير المنام كما لا يخفى. (فقيل له) أي فقال الآتي في المنام للرجل الأنصاري النائم. (أمركم) بتقدير الاستفهام. (كذا وكذا) أي من العدد، والإبهام من المصنف؛ لأن العدد المذكور قبل موجود ههنا عند الثلاثة. (قال) أي الآتي: إذا كنتم تأتون بمائة ولا بد. (فاجعلوها) أي الأذكار الثلاثة. (واجعلوا فيها) أي في الأذكار. (التهليل) أي لا إله إلا الله خمساً وعشرين أيضاً؛ لأنه أفضل الأذكار وفي حديث ابن عمر: وهللوا خمساً وعشرين، فيكون مجموع هذه الأذكار مائة أيضاً، قال الطيبي: الفاء للتسبب مقررة من وجه ومغيرة من وجه، أي إذا كانت التسبيحات هذه، والعدد مائة فقرروا العدد، وأدخلوا فيها التهليل-انتهى. والظاهر أن يكون التهليل قبل التكبير مراعاة للترتيب المشهور الوارد في سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ويؤيده لفظه "فيها". (فلما أصبح) أي الأنصاري. (غدا على النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي ذهب إليه في الغدو أي أول النهار. (فأخبره) بما رأى في المنام. (فافعلوا) لعل المراد فاعملوا به أيضاً. وقال ابن حجر: إن رأيتم ذلك ولا بد، فافعلوا، ومر أن ذلك

رواه أحمد والنسائي والدارمي. 981- (16) وعن علي، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أعواد هذا المنبر يقول: ((من قرأ آية ـــــــــــــــــــــــــــــ أعني الخمس والعشرين من الأنواع الأربعة سنة، والحجة على ذلك هي قوله عليه السلام "فافعلوا" لا مجرد ذلك المنام؛ لأنه لا عبرة بخواطر من ليس بمعصوم لا في اليقظة ولا في النوم، كذا في المرقاة. قلت: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فافعلوا" تقرير لرؤيا الأنصاري لكونها صالحة صحيحة، والرؤيا الصالحة من الله فصار هذا بتقريره - صلى الله عليه وسلم - أحد طرق هذا الذكر، وإن لم يقرره - صلى الله عليه وسلم - لم يكن حجة، ورواية النسائي بلفظ "اجعلوها كذلك" قال السندي: هذا يقتضى أنه الأولى لكن العمل على الأول لشهرة أحاديثه، والله أعلم. وليس هذا من العمل برؤيا غير الأنبياء بل هو من العمل بقوله - صلى الله عليه وسلم -، فيمكن أنه علم بحقيقة الرؤيا بوحي أو إلهام، أو بأي وجه كان-انتهى. (رواه أحمد) (ج5: ص184، 190) . (والنسائي) قال ميرك: واللفظ له. قلت: اللفظ الذي ذكره المصنف هو لأحمد (ج5: ص184) وليس للنسائي ولا للدارمي، وبين ألفاظ هؤلاء الأئمة الثلاثة اختلاف يسير، كما لا يخفى على من جعل ألفاظ الثلاثة نصب عينه. (والدارمي) وأخرجه أيضاً ابن خزيمة، وابن حبان في صحيحيهما، والحاكم في المستدرك (ج1: ص253) وصححه ووافقه الذهبي، وأخرج النسائي، وجعفر الفريابي عن ابن عمر بنحو حديث زيد بن ثابت. قال الحافظ في الفتح بعد ذكر لفظيهما: واستنبط من هذا أن مراعاة العدد المخصوص في الأذكار معتبرة، وإلا لكان يمكن أن يقال لهم أضيفوا لها التهليل ثلاثاً وثلاثين، وقد كان بعض العلماء يقول: إن الأعداد الواردة- كالذكر عقب الصلوات- إذا رتب عليها ثواب مخصوص فزاد الآتي بها على العدد المذكور، لا يحصل له ذلك الثواب المخصوص، لاحتمال أن يكون لتلك الأعداد حكمة وخاصية تفوت بمجاوزة ذلك العدد. قال: شيخنا الحافظ أبوالفضل العراقي في شرح الترمذي: وفيه نظر؛ لأنه أتى بالمقدار الذي رتب الثواب على الإتيان به فحصل له الثواب بذلك، فإذا زاد عليه من جنسه كيف تكون الزيادة مزيلة لذلك الثواب بعد حصوله-انتهى. وبمكن أن يفترق الحال فيه بالنية، فإن نوى عند الانتهاء إليه امتثال الأمر الوارد، ثم أتى بالزيادة فالأمر كما قال شيخنا لا محالة، وإن زاد بغير نية بأن يكون الثواب رتب على عشرة مثلاً فرتبة هو على مائة فيتجه القول الماضي. وقد بالغ القرافي في القواعد، فقال: من البدع المكروهة الزيادة في المندوبات المحدودة شرعاً؛ لأن شأن العظماء إذا حددوا شيئاً أن يوقف عنده، ويعد الخارج عنه مسيئاً للأدب-انتهى. وقد مثله بعض العلماء بالدواء يكون فيه مثلاً أوقية سكر فلو زيد فيه أوقية أخرى لتخلف الانتفاع به، فلو اقتصر على الأوقية في الدواء ثم استعمل من السكر بعد ذلك ما شاء لم يتخلف الانتفاع، ويؤيد ذلك أن الأذكار المتغايرة إذا ورد لكل منها عدد مخصوص مع طلب الإتيان بجميعها متوالية لم تحسن الزيادة على العدد المخصوص. لما في ذلك من قطع الموالاة، لاحتمال أن يكون للموالاة في ذلك حكمة خاصة تفوت بفواتها- انتهى كلام الحافظ. 981- قوله: (وعن علي) بن أبي طالب. (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) حال كونه. (على أعواد هذا المنبر) ذكر هذا

الكرسي في دبر كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت، ومن قرأها حين يأخذ مضجعه آمنه الله على داره ودار جاره، وأهل دويرات حوله)) . رواه البيهقي في شعب الإيمان، وقال: إسناده ضعيف. ـــــــــــــــــــــــــــــ للدلالة به على مزيد البيان والاستحضار لتلك الواقعة. (دبر كل صلاة) أي مكتوبة كما في رواية أبي أمامة عند الطبراني، والنسائي، وابن حبان. (لم يمنعه من دخول الجنة) أي مانع. (إلا الموت) الحديث بظاهره مشكل؛ لأن الموت ليس بمانع من دخول الجنة، بل هو موصل إلى دخولها فكان الظاهر أن يقول: لم يمنعه من دخول الجنة إلا الحياة، فإن استمرار الحياة وبقاء الإنسان في هذا العالم هو الذي يمنعه من دخولها، فما دام الرجل حياً لا يدخل الجنة. وأجيب عنه بأن المضاف فيه محذوف، أي لا يمنعه من دخولها إلا عدم موته، حذف لدلالة المعنى عليه، واختصت آية الكرسي بذلك لما اشتملت عليه من أصول الأسماء والصفات الإلهية، والوحدانية، والحيوة، والقيومية، والعلم، والملك، والقدرة، والإرادة. وقيل: المعنى لم يمنعه من دخول الجنة معجلاً إلا حصول الموت وكونه شرطاً لدخولها، ولو لم يكن الموت شرطاً لدخولها لدخل الجنة معجلاً وبالفعل، ويقرب منه ما قال التفتازاني من أن معنى الحديث: أنه لم يبق من شرائط دخول الجنة إلا الموت، فكأن الموت يمنع، ويقول لا بد من حضوري أولا ليدخل الجنة. وقيل: المراد من الموت في الحديث كون العبد في البرزخ قبل البعث فإذا بعث يوم القيامة يدخل الجنة من غير توقف. وقيل: المقصود أنه لا يمنع من دخول الجنة شيء من الأشياء البته، فإن الموت ليس بمانع من دخول الجنة بل قد يكون موجباً لدخولها، فهو من قبيل: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب وهذا ليس بعيب فلا عيب فيهم أصلاً، فيكون من باب تأكد المدح بما يشبه الذم. وقال الطيبي: أي الموت حاجز بينه وبين دخول الجنة، فإذا تحقق وانقضى حصل دخوله، ومنه قوله عليه السلام: الموت قبل لقاء الله-انتهى. (مضجعة) أي مكانه للنوم. (آمنه الله) أي جعله آمناً أي أمن خوفه من كل مكروه. (على داره) أي على ما في داره. (ودار جاره) أي مالاً ونفساً، وغيرهما. (وأهل دويرات) جمع دويرة تصغير دار. (حوله) بالنصب ظرف. قال ابن حجر: أي وإن لم يلاصق داره، فأريد بالجار هنا حقيقته وهو الملاصق، وإن كان عرفاً يشمله وغيره إلى أربعين دارا من كل جهة من الجهات الأربع. قال الطيبي: عبر عن عدم الخوف بالأمن وعداه بعلى، أي لم يخوفه على أهل داره وهو أهله، ودويرات حوله أن يصيبهم مكروه أو سوء كقوله تعالى. {ما لك لا تأمنا على يوسف} [12: 11] . قال صاحب الكشاف: لم تخافنا عليه ونحن نريد له الخير؟ -انتهى. والحديث يدل على فضيلة آية الكرسي، واستحباب قراءتها دبر كل صلاة مكتوبة، وعند النوم. (رواه البيهقي) . (وقال إسناده ضعيف) قلت: هو ضعيف جداً فإن فيه ضعيفاً وآخر كذاباً، ولذلك أورده ابن الجوزي في الموضوعات من

982- (17) وعن عبد الرحمن بن غنم، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((من قال قبل أن ينصرف ويثني رجليه ـــــــــــــــــــــــــــــ رواية الحاكم، وعنه رواه البيهقي، ثم قال ابن الجوزي: حبة ضعيف، ونهشل كذاب-انتهى. نعم للشطر الأول من الحديث شاهد قوي، رواه النسائي وابن حبان والطبراني من حديث أبي أمامة بلفظ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت. قال الحافظ في بلوغ المرام: رواه النسائي، وصححه ابن حبان، وزاد فيه الطبراني. {قل هو الله أحد} [1:112] انتهى. وقال المنذري في الترغيب: رواه النسائي والطبراني بأسانيد أحدها صحيح. وقال شيخنا أبوالحسن: هو على شرط البخاري، وابن حبان في كتاب الصلاة وصححه، وزاد الطبراني في بعض طرقه "وقل هو الله أحد"، وإسناده بهذه الزيادة جيد أيضاً –انتهى. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10:ص102) : رواه الطبراني في الكبير والأوسط بأسانيد أحدها جيد-انتهى. قال الشوكاني في تحفة الذاكرين (ص117) : وقد أخرج هذا الحديث الدمياطي من حديث أبي أمامة، وعلي، وعبد الله بن عمرو، والمغيرة، وجابر وأنس رضي الله عنهم، وقال: وإذا انضمت هذه الأحاديث بعضها إلى بعض أحدثت قوة-انتهى. قلت: اختلاف طرق الحديث وتعدد مخارجه يدل على أن للحديث أصلاً صحيحاً، ويؤيده ما روي عن الحسن بن علي مرفوعاً بلفظ: من قرأ آية الكرسي في دبر الصلاة المكتوبة كان في ذمة الله إلى الصلاة الأخرى، قال المنذري والهيثمي: رواه الطبراني بإسناد حسن. 982- قوله: (وعن عبد الرحمن بن غنم) بفتح الغين المعجمة وسكون النون. أشعري، مختلف في صحبته، وذكره العجلي في كبار ثقات التابعين، وهذا هو الحق. قال ابن عبد البر: عبد الرحمن بن غنم الأشعري جاهلي، كان مسلماً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يره، ولازم معاذ بن جبل منذ بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن إلى أن مات معاذ، وكان من أفقه أهل الشام. وهو الذي فقّه عامة التابعين بالشام، وكانت له جلالة، وقد روى عن قدماء الصحابة مثل عمر بن الخطاب، ومعاذ بن جبل. مات سنة. (78) وذكره الحافظ في الإصابة (ج3:ص97، 98) في القسم الثالث من حرف العين؛ وقال: تابعي شهير، له إدراك وهاجر في زمن عمر، واختص هذا القسم للمخضرمين الذين أدركوا زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يروه، سواء أسلموا في حياته أم لا: قال: وهؤلاء ليسوا أصحابه باتفاق أهل العلم بالحديث، وإن كان بعضهم قد ذكر بعضهم في كتب معرفة الصحابة فقد أفصحوا بأنهم لم يذكروهم إلا لمقاربتهم لتلك الطبقة، لا أنهم من أهلها، وممن أفصح بذلك ابن عبد البر، وقبله أبوحفص ابن شاهين، وأحاديث هؤلاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلة بالاتفاق بين أهل العلم بالحديث، وقد صرح ابن عبد البر نفسه بذلك في التمهيد وغيره من كتبه. (قبل أن ينصرف) أي من مكان صلاة. (ويثني) بفتح الياء أي وقبل أن يثني. (رجليه) بالتثنية أي يعطفهما ويغيرهما عن هيئة التشهد، وفي المسند (ج4:ص227) "رجله" بالإفراد، وكذا في مجمع الزوائد (ج1:ص107) .

من صلاة المغرب والصبح: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، بيده الخير، يحيى ويميت، وهو على كل شيء قدير، عشر مرات، كتب له بكل واحدة عشر حسنات، ومحيت عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، وكانت له حرزاً من كل مكروه، وحرزاً من الشيطان الرجيم، ولم يحل لذنب أن يدركه إلا الشرك، وكان من أفضل الناس عملاً، إلا رجلاً يفضله، يقول أفضل مما قال) . ـــــــــــــــــــــــــــــ (من صلاة المغرب والصبح) تنازع فيه الفعلان، وفي حديث عبد الرحمن بن غنم عن أبي ذر عند الترمذي: من قال في دبر صلاة الفجر وهو ثان رجليه قبل أن يتكلم. قال الجزري: أي عاطف رجليه في التشهد قبل أن ينهض. وقوله: "من قال قبل أن يثنى رجليه" هذا ضد الأول في الأول ومثله في المعنى؛ لأنه أراد قبل أن يصرف رجله عن حالته التي هو عليها في التشهد. (كتب له بكل واحدة) أي من المرات أو من الكلمات. (ومحيت عنه عشر سيئات) والمحو أبلغ من الغفران. (ورفع له عشر درجات) يجوز في مثل هذا تذكير الفعل وتأنيثه، ولذا ذكر الفعل فيها وفي القرينة الأولى، أما التأنيث فلاكتساب لفظ عشر التأنيث من الإضافة، وأما التذكير فبظاهر اللفظ. (وكانت) أي الكلمات. (له) أي للقائل وليس هذا اللفظ في المسند. (حرزاً) حفظاً. (من كل مكروه) من الآفات. (وحرزاً من الشيطان الرجيم) تخصيص بعد تعميم لكمال الاعتناء به، وفي حديث أبي ذر: وكان. (أى القائل) يومه ذلك كله في حرز من كل مكروه، وحرس من الشيطان. (ولم يحل) بكسر الحاء المهملة وتشديد اللام، وفي حديث أبي ذر: لم ينبغ أي لم يجز. (لذنب أن يدركه) أي يهلكه ويبطل عمله، زاد في حديث أبي ذر: في ذلك اليوم. (إلا الشرك) أي إن وقع منه، وهو بالرفع، قال الطيبي: فيه استعارة ما أحسن موقعها فإن الداعي إذا دعا بكلمة التوحيد فقد أدخل نفسه حرماً آمناً فلا يستقيم للذنب أن يحل ويهتك حرمة الله، فإذا خرج عن حرم التوحيد أدركه الشرك لا محالة، والمعنى لا ينبغي لذنب أي ذنب كان أن يدرك الداعي ويحيط به من جوانبه، ويستأصله سوى الشرك كما قال تعالى. {بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته} [81:2] يعني استولت عليه، وشملت جملة أحواله حتى صار كالمحاط بها، لا يخلو عنها شيء من جوانبه، وهذا إنما يصح في شأن المشرك؛ لأن غيره إن لم يكن له سوى تصديق قلبه وإقرار لسانه فلم يحط به –انتهى. وقيل: المعنى لم يؤاخذ بذنبه إلا بذميمة الشرك. قال الله تعالى. {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [116:4] . (إلا رجلاً يفضله) فيه دليل على أن الزيادة على العدد المذكور لا تكون مزيلة لذلك الثواب، بل تكون سبباً لزيادة الأجر. (يقول) بدل أو بيان لقوله "يفضله" وقوله: (أفضل مما قال) يحتمل أنه يدعو به أكثر، وأنه يأتي بدعاء أو قراءة أكثر منه، قاله الطيبي.

رواه أحمد. 983- (18) وروى الترمذي نحوه عن أبي ذر إلى قوله: "إلا الشرك" ولم يذكر "صلاة المغرب" ولا "بيده الخير"، وقال: هذا حديث حسن، صحيح، غريب. 984- (19) وعن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه،. ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث قبل نجد فغنموا غنائم كثيرة، وأسرعوا الرجعة. فقال: فقال رجل منا: لم يخرج ما رأينا بعثاً أسرع رجعة ولا أفضل غنيمة من هذا البعث. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ـــــــــــــــــــــــــــــ (رواه أحمد) (ج4:ص227) . قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10:ص108) : رجاله رجال الصحيح غير شهر ابن حوشب، وحديثه حسن-انتهى. قلت: رواية أحمد هذه مرسلة؛ لأن عبد الرحمن بن غنم تابعي على القول الصحيح، أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يروه، ولم يسمع منه، والظاهر أنه أخذ هذا الحديث من أبي ذر كما يدل عليه رواية الترمذي. 983- قوله: (وروى الترمذي نحوه) أي في الدعوات من طريق شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم. (عن أبي ذر) الخ. وحديث أبي ذر هذا أخرجه أيضاً النسائي، والطبراني في الأوسط. وفي الباب عن جماعة من الصحابة، ذكر أحاديثهم الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10:ص107، 108) تنبيه: ظاهر أحاديث الباب أن هذه الفضائل لكل ذاكر، وذكر القاضي عن بعض العلماء أن الفضل الوارد في مثل هذه الأعمال الصالحة والأذكار إنما هو لأهل الفضل في الدين، والطهارة من الجرائم العظام، وليس من أصر على شهواته، وانتهك دين الله وحرماته بلا حق بالأفاضل المطهرين من ذلك، ويشهد له قوله تعالى. {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات} الآية [21:45] ، ونحو ذلك نقل الزرقاني عن ابن بطال، ولا يتوهم من هذا أن ذلك يذهب ضائعاً بلا فائدة، بل المراد أن من كان هذا شأنه لا يحصل له ما وعد على هذه الأذكار من الأجر والثواب ولا يلتحق بأهل الفضل والكمال في الدين بإدمان الذكر مع الإصرار على الشهوات والمعاصي، وإن كان ذلك لا يخلو عن فائدة ونفع. 984- قوله: (بعث بعثاً) أي أرسل جماعة، قال الطيبي: البعث بمعنى السرية من باب تسمية المفعول بالمصدر. (قبل نجد) بكسر القاف وفتح الموحدة، أي إلى جهته، قال في النهاية: والنجد ما ارتفع من الأرض، وهو اسم خاص لما دون الحجاز مما يلي العراق-انتهى. وقد يراد به العراق نفسها كما في حديث: هناك الزلازل والفتن وبها يطلع قرن الشيطان. (وأسرعوا الرجعة) أي الرجوع إلى المدينة. (فقال رجل منا) بطريق الغبطة على وجه التعجب، وقيل: تحسراً على ما فاته من المال. (لم يخرج) صفة رجل. (ولا أفضل) أي أكثر أو أنفس. (فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي مزهداً لهم في الدنيا، مرغباً

ألا أدلكم على قوم أفضل غنيمة وأفضل رجعة؟ قوماً شهدوا صلاة الصبح، ثم جلسوا يذكرون الله حتى طلعت الشمس، فأولئك أسرع رجعة، وأفضل غنيمة)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب، وحماد بن أبي حميد الراوي هو ضعيف في الحديث. ـــــــــــــــــــــــــــــ لهم في العقبى، منها على أن الذكر أفضل من كثير من العبادات الشاقة الصعبة، وأن ثواب الآخرة أفضل مما فاتهم من المال. (ألا أدلكم على قوم أفضل غنيمة) أي لبقاء هذه ودوامها، وفناء تلك وسرعة انقضاءها. (وأفضل رجعة) كذا في أكثر نسخ المشكاة ووقع في بعضها "أسرع رجعة" وكذلك وقع في جامع الترمذي، وهكذا نقله المنذري في الترغيب (ج2:ص39) والجزري في جامع الأصول (ج5:ص343) ونسبا الحديث للترمذي، والظاهر أن ما وقع في أكثر نسخ المشكاة خطأ من النساخ، والله أعلم. (قوماً) أي أعنى أو أذكر قوماً على المدح، وفي بعض النسخ "قوم" وكذا وقع في جامع الترمذي أي هم قوم. (شهدوا صلاة الصبح) أي حضروا جماعتها. (فأولئك أسرع رجعة) أي إلى أهلهم ومعايشهم؛ لانتهاء عملهم الموعود عليه بذلك الثواب العظيم بعد مضي نحو ساعة زمانية، وأهل الجهاد لا ينتهي عملهم غالباً إلا بعد أيام كثيرة. (رواه الترمذي) أي في الدعوات من جامعه. قال المنذري في الترغيب بعد ذكر هذا الحديث وعزوه للترمذي: ورواه البزار وأبويعلى وابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة بنحوه، وذكر البزار فيه أن القائل "ما رأينا" هو أبوبكر رضي الله عنه، وقال في آخره. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا بكر! ألا أدلك على ما هو أسرع إياباً وأفضل مغنماً؟ من صلى الغداة في جماعة، ثم ذكر الله حتى تطلع الشمس. وقال: ورجال إسناد أبي يعلى رجال الصحيح. (وحماد بن أبي حميد) هو محمد ابن أبي حميد المدني أبوإبراهيم الأنصاري، فلقبه حماد، واسمه محمد، وكنيته أبوإبراهيم. (الراوي) بسكون الياء. (هو ضعيف في الحديث) أي ضعيف عند أهل الحديث، أو ضعيف في حديثه. وقال البخاري فيه: أنه منكر الحديث، وكذا قال أبوحاتم وابن معين والساجي، وقال الدوري عن ابن معين: ضعيف ليس حديثه بشيء، وقال الجوزجاني: واهي الحديث ضعيف. وقال أبوزرعة: ضعيف الحديث.

(19) باب مالا يجوز من العمل في الصلاة وما يباح منه

(19) باب مالا يجوز من العمل في الصلاة وما يباح منه {الفصل الأول} 985- (1) عن معاوية بن الحكم، قال. ((بينا أنا أصلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم فقلت: واثكل أُمياه! ـــــــــــــــــــــــــــــ (باب مالا يجوز من العمل في الصلاة) يعم المحرمات والمكروهات والمفسدرات وغيرها. (وما يباح منه) أي من العمل فيها. 985- قوله: (عن معاوية بن الحكم) بفتحتين، السلمي، صحابي، قال ابن عبد البر: كان ينزل المدينة ويسكن في بنى سليم له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث واحد في الكهانة والطيرة والخط وتشميت العاطس وعتق الجارية. أحسن الناس له سياقة يحيى بن أبي كثير عن هلال بن أبي ميمونة عن عطاء عنه، ومنهم من يقطعه فيجعله أحاديث. قال الحافظ: وله حديث آخر من طريق ابنه كثير بن معاوية عنه-انتهى. يعني بذلك ما أخرجه البغوي والطبراني وابن السكن وابن مندة من طريق كثير بن معاوية بن الحكم السلمي عن أبيه قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزى أخي علي بن الحكم فرساً له خندقاً-الحديث. وقد ذكره الحافظ في ترجمة علي بن الحكم في القسم الأول من حرف العين من الإصابة (ج2:ص506-507) وقال الخزرجي في الخلاصة: له ثلاثة عشر حديثاً، انفرد له مسلم بحديث. (إذا عطس) بفتح الطاء من نصر وضرب. (فقلت) أي وأنا في الصلاة. (يرحمك الله) ظاهره أنه في جواب قوله الحمدلله. (فرماني القوم بأبصارهم) أي نظروا إليّ حديداً انكاراً وزجراً وتشديداً كما يرمي بالسهم. قال الطيبي: المعنى أشاروا إلى بأعينهم من غير كلام ونظروا إلى نظر زجر كيلا أتكلم في الصلاة. (واثكل أمياه) "وا" حرف للندبة، و"ثكل" بضم المثلثة وإسكان الكاف وبفتحهما جميعاً، لغتان كالبخل والبخل حكاهما الجوهري وغيره، وهو فقدان المرأة ولدها وحزنها عليه لفقده، و"أمياه" بكسر الميم أصله أمي، والثكل مضاف إلى أم المضاف إلى يا المتكلم زيدت عليه ألف الندبة لمد الصوت وأردفت بهاء السكت، نحو وا أمير المؤمنيناه، يستعمله العرب عند التعجب من أمر واستبعاده.

ما شأنكم تنظرون إلى؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت، فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شمتني قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، ـــــــــــــــــــــــــــــ والمعنى: وافقدها لي فاني هلكت، وفي بعض الروايات: وأثكل أماه أي من غير زيادة الياء. (ما شأنكم) أي ما حالكم وأمركم. (تنظرون إلى) نظر الغضب. (فجعلوا) أي شرعوا. (يضربون بأيديهم على أفخاذهم) أى زيادة في الإنكار علي، وهذا محمول على أنه كان قبل أن يشرع التسبيح لمن نابه شيء في صلاته للرجال والتصفيق للنساء، وفيه دليل على أن الفعل في الصلاة لا تبطل به الصلاة. (يصمتونني) بتشديد الميم من التصميت أي يسكتونني يعني يأمرونني بالصمت والسكوت ويشيرونني إليه. (لكني سكت) لا بد من تقدير جواب لما ومستدرك لكن ليستقيم المعنى، فالتقدير: فلما رأيتهم يصمتونني غضبت وتغيرت ولكن سكت ولم أعمل بمقتضى الغضب، قاله الطيبي: وقيل: المعنى لما عرفت أنهم يأمرونني بالصمت عجبت لجهلي بقبح ما ارتكبت ومبالغتهم في الإنكار على وأردت أن أخاصمهم لكن سكت امتثالاً؛ لأنهم أعلم مني، ولم أعمل بمقتضى غضبي ولم أسأل عن السبب. (فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أى فرغ من الصلاة، وجوابه قوله قال إن هذه الصلاة، وقوله: فيأبى وأمي إلى قوله: قال معترضة بين لما وجوابه، والفاء فيه كما في قوله تعالى. {ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه، وجعلناه هدى لبنى إسرائيل} [32: 23] ، فإنه عطف وجعلناه على أتينا وأوقعها معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه، كذا قاله الطيبي: وتبعه ابن حجر، وقال: واعترض بينهما بما فيه غاية الإلتئام والمناسبة لهما. وقال ميرك: الأولى أن يقال جواب قوله "فلما صلى" محذوف، وهو ما دل عليه جملة. (فبأبى هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه) أي أشتغل بتعليمي بالرفق وحسن الكلام، تم كلامه. وضمير "هو" يعود إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي هو مفدى بهما، وفي رواية: فلما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاني بأبي وأمي هو ما ضربني الخ. (فوالله ما كهرني) أي ما انتهرني وزجرني، أو ما استقبلني بوجه عبوس. قال الطيبي: الكهر والقهر والنهر أخوات. وقال الجزري: يقال كهره إذا زبره واستقبله بوجه عبوس. (ولا ضربني ولا شتمني) أي لا أغلط لي في القول. قال القاري: أراد نفي أنواع الزجر والعنف واثبات كمال الإحسان واللطف. (قال) جواب لما، على ما قاله الطيبي، واستئناف مبين لحسن التعليم، على مختار غيره. (إن هذه الصلاة) إشارة إلى جنس الصلاة فيشمل الفرائض وغيرها. (لا يصلح) وفي رواية لا يحل. (فيها شيء من كلام الناس) أي ما يجري في مخاطباتهم ومحاوراتهم. قال الشوكاني: الظاهر أن المراد بكلام الناس ههنا التكليم للغير، وهو الخطاب للناس بشهادة السبب وقال القاضي: أضاف الكلام إلى الناس ليخرج منه الدعاء والتسبيح والذكر فإنه لا يراد بها خطاب الناس

إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن، أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قلت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إني حديث عهد بجاهلية وقد جاءنا الله بالإسلام ـــــــــــــــــــــــــــــ وأفهامهم، واستدل بإطلاق الحديث على تحريم الكلام في الصلاة مطلقاً، أي سواء كان لحاجة أو غيرها، وسواء كان لمصلحة الصلاة أو غيرها وسواء كان عمداً أو نسياناً أو جهلاً وسواء كان قليلاً أو كثيراً، وإليه ذهبت الحنفية، قالوا: لا فرق بين كلام العامد والناسي والجاهل، والحق ما ذهب إليه مالك من الفرق بين كلام العامد لغير مصلحة الصلاة وبين كلام العامد لمصلحة الصلاة وكلام الناسي والجاهل فيحرم الأول ويفسد الصلاة به، وهذا هو محمل قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، وأما كلام العامد لمصلحة الصلاة وكلام الناسي والجاهل فلا يفسد الصلاة به لحديث ذي اليدين المشهور، ولحديث معاوية هذا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمره بإعادة الصلاة لكن علمه تحريم الكلام فيما يستقبل، فيكون حديث ذي اليدين وحديث معاوية هذا وما في معناهما مخصصين لعموم قوله: لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، وبناء العام على الخاص متعين، وسيأتي بسط الكلام في هذه المسألة في شرح حديث ذي اليدين إن شاء الله، وفي الحديث النهي عن تشميت العاطس في الصلاة، وأنه من كلام الناس الذي يحرم في الصلاة وتفسد به إذا أتى به عالماً عامداً، وأن من فعله جاهلاً لم تبطل صلاته حيث لم يأمره بالإعادة، وأما الحمد للعاطس في الصلاة فيجوز؛ لأنه ليس من كلام الناس. (إنما هي) أي الصلاة، وفي رواية: إنما هو، أي ما يحل فيها من الكلام. (التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) قال النووي: معناه هذا ونحوه، فإن التشهد والدعاء والتسليم من الصلاة، وغير ذلك من الأذكار مشروع فيها، فمعناه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ومخاطباتهم، وإنما هي التسبيح وما في معناه من الذكر والدعاء وأشباههما مما ورد به الشرع. وفيه دلالة لمذهب الشافعي والجمهور أن تكبيرة الاحرام فرض من فروض الصلاة وجزء منها. وقد تمسك بالحديث الحنفية والحنابلة على منع الدعاء في الصلاة بما لم يشبه المأثور من القرآن والسنة من ملاذ الدنيا وحوائجها الجائزة المباحة، قالوا: لأن ذلك من كلام الناس. وفيه أن المراد بكلام الناس في الحديث مخاطبتهم بتوجيه الكلام إليهم، لا مخاطبة الله تعالى بالدعاء المأذون به في الأحاديث الصحيحة بدليل سبب الحديث، وإن سلمنا أنه يدخل في عمومه ما ذكروا خلافاً للظاهر المتبادر كان لنا أن نقول إن الأحاديث الصحيحة بالأدعية المعينة والمطلقة وبتخيير الدعاء قد خصصت هذا العموم، وقد كان تحريم الكلام بمكة، وأكثر الأدعية وكذا الأمر بتخيير الدعاء كان في المدينة. (أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) للشك من الراوي، أي عين هذا الكلام قال أو مثله. (إني حديث عهد) أي جديدة. (بجاهلية) متعلق بعهد، وما قبل ورود الشرع يسمى جاهلية لكثرة جهالاتهم وفحشها، يعني انتقلت عن الكفر إلى الإسلام ولم أعرف بعد أحكام الدين. (وقد جاءنا الله بالإسلام) هذا لا يتعلق بما قبله، بل شروع في ابتداء سؤال منه عليه السلام، كما يدل عليه رواية النسائي وبعض

وإن منا رجالاً يأتون الكهان، قال: فلا تأتهم، قلت: ومنا رجال يتطيرون، قال: ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدنهم. ـــــــــــــــــــــــــــــ روايات أحمد (ج5:ص448) . (وإن منا رجالاً يأتون الكهان) بضم الكاف جمع كاهن، وهو من يتعاطى الأخبار عن الكوائن في المستقبل، ويدعي معرفة الأسرار، ومن الكهنة من يزعم أن له تابعاً من الجن يلقي عليه الأخبار، ومنهم من يدعي إدراك الغيب بفهم أعطيه، ومنهم من يدعي معرفة الأمور بمقدمات وأسباب يستدل بها على مواقعها من كلام من يسأله أو فعله أو حاله، وهذا القسم يسمى عرافاً، كمن يدعي معرفة المسروق ومكان السرقة والضالة ونحوهما، والمنجم من ينظر في النجوم أي الكواكب ويحسب سيرها ومواقيتها ليعلم بها أحوال العالم، ومنهم من يسمي المنجم كاهناً. وقوله: (فلا تأتهم) يشمل النهي عن إتيان هؤلاء كلهم والرجوع إليهم وتصديقهم فيما يدعونه. قال العلماء: وإنما نهى عن إتيان الكهان؛ لأنهم يتكلمون في مغيبات قد يصادف بعضها الإصابة، فيخاف الفتنة على الإنسان بسبب بذلك، ولأنهم يلبسون على الناس كثيراً من الشرائع، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بالنهي عن إتيان الكهان وتصديقهم فيما يقولون. (ومنا رجال يتطيرون) التطير أخذ الفأل الشؤم، من الطيرة بكسر الطاء وفتح الياء وقد تسكن. قال في القاموس: الطيرة والطيرة الطورة ما يتشاءم به من الفأل الردئ-انتهى. وأصله أنهم كانوا يأتون الطير أو الظبي فينفرونه، فإن أخذ ذات اليمين مضوا إلى ما قصدوا وعدوه حسناً، وإن أخذ ذات الشمال انتهوا عن ذلك وتشاءموا به، وكذا إن عرض في طريقهم، فإن مر عن يمينهم إلى الشمال تشاءموا، وإن مر من الشمال إلى اليمين مضوا، والتفاؤل يجيء للتطير وغيره، وأكثر ما يستعمل في الفأل الحسن، وهو غير ممنوع جداً. قال الجزري في النهاية: الطيرة هي التشاءم بالشيء، وهي مصدر تطير طيرة، كما تقول تخير خيرة، ولم يجئ من المصادر غيرهما، وأصل التطير التفاؤل بالطير، واستعمل لكل ما يتفاءل ويتشأم به، وقد كانوا في الجاهلية يتطيرون بالصيد كالطير والظبي فيتيمنون بالسوانح ويتشأمون بالبوارح، والبوارح على ما في القاموس من الصيد ما مر من ميامنك إلى مياسرك، والسوانح ضدها. وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم، ويمنع السير إلى مطالبهم، فنفاه الشرع وأبطله ونهاهم عنه. (قال: ذاك) أي التطير. (شيء يجدونه في صدورهم) أي ليس له أصل يستند إليه، ولا له برهان يعتمد عليه، ولا هو في كتاب نازل من لديه. وقيل: معناه أنه معفو؛ لأنه يوجد في النفس بلا اختيار، نعم المشي على وقفه منهي عنه، لذلك قال. (فلا يصدنهم) أي لا يمنعهم عما هم فيه، ولا يخفى أن التفريع على هذا المعنى يكون بعيداً، قاله السندي. قلت: المعنى الثاني هو الذي ذكره عامة العلماء. قال النووي: قال العلماء معناه أن الطيرة شيء تجدونه في نفوسكم ضرورة، ولا عتب عليكم في ذلك؛ لأنه غير مكتسب لكم فلا تكليف به، ولكن لا تمتنعوا بسببه من التصرف في أموركم، فهو الذي تقدرون عليه وهو مكتسب لكم فيقع به التكليف. فنهاهم - صلى الله عليه وسلم - عن العمل بالطيرة ولامتناع من تصرفاتهم

قال قلت: ومنا رجال يخطون، قال: كان نبي من الأنبياء يخط، فمن وافق خطه فذاك)) رواه مسلم. قوله: لكني سكت، هكذا وجدت في صحيح مسلم وكتاب الحميدي، ـــــــــــــــــــــــــــــ بسببها. وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة في النهي عن التطير والطيرة، وهي محمولة على العمل بها لا على ما يوجد في النفس من غير عمل على مقتضاه- انتهى. وقال القاري: يعني هذا وهم ينشأ من نفوسهم ليس له تأثير في اجتلاب نفع وضر، وإنما هو شيء يسوله الشيطان ويزينه حتى يعملوا بقضيته ليجرهم بذلك إلى اعتقاد مؤثر غير الله تعالى، وهو كفر صراح، فلا يمنعهم التطير من مقاصدهم؛ لأنه لا يضرهم ولا ينفعهم ما يتوهمونه. وقال الطيبي: أي لا يمنعهم عما يتوجهون إليه من المقاصد أو من سواء السبيل ما يجدون في صدورهم من الوهم، فالنهي وارد على ما يتوهمونه ظاهراً، وهم منهيون في الحقيقة عن مزاولة ما يوقعهم من الوهم في الصد. (ومنا رجال يخطون) يشير إلى علم الرمل والخط عند العرب، فيما فسره ابن الأعرابي، أن يأتي الرجل العراف وبين يديه غلام، فيأمره بأن يخط في الرمل خطوطاً كثيرة وهو يقول: ابني عيان أسرعا البيان، ثم يأمره أن يمحو منها اثنين اثنين، ثم ينظر إلى أخر ما يبقى من تلك الخطوط، فإن كان الباقي منها زوجاً فهو دليل الفلج والظفر، وإن كان فردا فهو دليل الخيبة والبأس، وقد طول الكلام في ذلك في لسان العرب. (كان نبي من الأنبياء يخط) قيل: هو إدريس أو دانيال عليهما الصلاة والسلام. (فمن وافق) ضمير الفاعل راجع إلى "من"، أي فمن وافق فيما يخطه. (خطه) بالنصب على الأصح المشهور، وروي مرفوعاً، فيكون المفعول محذوفاً أي من وافق خطه، خطه أي خط ذلك النبي في الصورة والحالة. (فذاك) أي هو المصيب، وهو كالتعليق بالمحال. قال النووي: اختلف العلماء في معناه، فالصحيح أن معناه من وافق خطه فهو مباح له، ولكن لا طريق لنا إلى العلم اليقيني بالموافقة فلا يباح، والمقصود أنه حرام؛ لأنه لا يباح إلا بيقين بالموافقة، وليس لنا يقين بها. وإنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فمن وافق خطه فذاك، ولم يقل حرام بغير تعليق على الموافقة، لئلا يتوهم متوهم إن هذا النهي يدخل فيه ذاك النبي الذي كان يخط، فحافظ النبي - صلى الله عليه وسلم - على حرمة ذاك النبي، مع بيان الحكم في حقنا، فالمعنى أن ذلك النبي لا منع في حقه، وكذا لو علمتم موافقته، ولكن لا علم لكم بها. وقال الخطابي في المعالم (ج1ص222) : يشبه أن يكون أراد به الزجر عنه وترك التعاطي له، إذ كانوا لا يصادفون معنى خط ذلك النبي؛ لأن خطه كان علماً، أي معجزة لنبوته وقد تقطعت نبوته فذهبت معالمها-انتهى. وقال ابن حجر: قال المحرمون لعلم الرمل - وهم أكثر العلماء - لا يستدل بهذا الحديث على إباحته؛ لأنه علق الأذن فيه على موافقة خط ذلك النبي، وموافقته غير معلومة، إذ لا تعلم إلا من تواتر ونص منه عليها الصلاة السلام أو من أصحابه أن الأشكال التي لأهل علم الرمل كانت كذلك، ولم يوجد ذلك، فاتضح تحريمه. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد (ج5 ص447- 448) وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج2 ص249) . (قوله: لكني سكت، هكذا وجدت في صحيح مسلم وكتاب الحميدي) أي الجمع بين الصحيحين.

وصحح في جامع الأصول بلفظه كذا فوق لكني. 986- (2) وعن عبد الله بن مسعود، قال: ((كنا نسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي ـــــــــــــــــــــــــــــ (وصحح في جامع الأصول) لابن الأثير الجزري. (بلفظه كذا) أي بكتابة لفظه كذا. (فوق لكني) قال القاري: أي كذا في الرواية لفظ لكني مسطور، دفعاً لوهم أنه ليس في الحديث بمذكور، والحاصل أن لكني ثابت في الأصول، لكنه ساقط في المصابيح-انتهى. قلت: غرض المصنف من هذا الكلام أن لفظه لكني في قوله: لكني سكت، صحيحة رواية ومعنى، ثابتة في الأصول، لا ينبغي الشك في صحتها وثبوتها، ولفظه كذا علامة للتصحيح، فإنهم كما يكتبون لفظ صح على كلام صح رواية ومعنى، وهو عرضة للشك أو الخلاف، هكذا يكتبون لفظه كذا فوق اللفظ الذي هو محل الشك أو الخلاف ومظنة لعدم الصحة، ويعنون به أن هذا اللفظ صحيح ثابت في الأصول، فلفظه كذا تصحيح لمثل هذا اللفظ، كما أن قولهم "صح" علامة ورمز للتصحيح، وسبب كون لفظه لكني، في قوله: لكني سكت، عرضة للشك في صحته أن في ذكرها ههنا إشكالاً، كما لا يخفى، وأيضاً لم تقع هذه اللفظة في بعض روايات أحمد، ولفظها: فلما رأيتهم يصمتونني سكت حتى صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعاني. 986- قوله: (كنا نسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة فيرد علينا) أي السلام بالقول واللفظ حين كان الكلام مباحاً في الصلاة. وفي رواية لأبي داود: كنا نسلم في الصلاة ونأمر بحاجتنا. (فلما رجعنا من عند النجاشي) بفتح النون وتكسر وتخفيف الجيم وبالشين المعجمة وتخفيف الياء وتشدد كياء النسب، في القاموس: النجاشي بتشديد الجيم، وتخفيفها أفصح وبكسر النون وقيل: هو أفصح، وقال الجزري: الياء مشددة، وقيل: الصواب تخفيفها، وأفاد ابن التين أنه بسكون الياء، يعني أنها أصلية لا ياء النسبة، وحكى غيره تشديد الياء أيضاً، وحكى ابن دحية كسر نونه، وهو لقب لملك الحبشة، كقيصر لملك الروم، وكسرى لملك فارس، وفرعون لملك مصر. واسمه أصحمة، أسلم في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومات سنة تسع من الهجرة عند الأكثر، وصلى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - هو وأصحابه بالمدينة اعلم أن جماعة من الصحابة كانت هاجرت من مكة إلى أرض الحبشة، حين كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة، فراراً بدينهم من الفتنة، ثم بلغهم أن المشركين أسلموا فرجعوا إلى مكة فوجدوا الأمر بخلاف ذلك، واشتد الأذى عليهم فخرجوا إليها أيضاً، فكانوا في المرة الثانية أضعاف الأولى، وكان ابن مسعود مع الفرقتين، ولما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة وبلغهم مهاجرته إليها رجعوا من الحبشة إلى المدينة، حين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتجهز لغزوة بدر. واختلف في مراد قول ابن مسعود: فلما رجعنا هل أراد الرجوع الأول أي إلى مكة من الهجرة الأولى، أو الرجوع الثاني أي إلى المدينة من الهجرة الثانية، فمال إلى كل منها فرقة، والراجح أن ابن مسعود أراد رجوعه الثاني. وقد ورد

سلمنا عليه فلم يرد علينا، فقلنا: يا رسول الله، كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا، فقال: إن في الصلاة لشغلاً)) ـــــــــــــــــــــــــــــ أنه قدم المدينة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يتجهز لبدر. وفي مستدرك الحاكم عن ابن مسعود قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى النجاشي ثمانين رجلاً، فذكر الحديث بطوله، وفي آخره: فتعجل عبد الله بن مسعود فشهد بدراً، وفي السير لابن إسحاق: أن المسلمين بالحبشة لما بلغهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هاجر إلى المدينة رجع منهم إلى مكة ثلاثة وثلاثون رجلاً، فمات منهم رجلان بمكة، وحبس منهم سبعة، وتوجه إلى المدينة أربعة وعشرون رجلاً، فشهدوا بدراً، فعلى هذا كان ابن مسعود من هؤلاء، فظهر أن اجتماعه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد رجوعه كان بالمدينة قبل بدر، وعلى هذا لا يكون في حديث ابن مسعود دلالة على أن نسخ الكلام في الصلاة كان بمكة قبل الهجرة، بل هو يتفق مع حديث زيد بن أرقم على أن النهي عن الكلام في الصلاة كان بالمدينة بعد الهجرة بمدة يسيرة، ولفظه قال: كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل منا صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة، حتى نزلت: {وقوموا لله قانتين} [2: 238] فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام، أخرجه أحمد والشيخان والترمذي وأبوداود والنسائي، وللترمذي: كنا نتكلم خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة، وحديث زيد هذا ظاهر في أن نسخ الكلام في الصلاة وقع بهذه الآية، فيقتضى أن النسخ وقع بالمدينة؛ لأن الآية مدنية بالاتفاق، وصحبة زيد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت بالمدينة فإنه ممن لم يدخل مكة قط، مع أنه يروي أنه وجد زمان جواز الكلام في الصلاة ونسخه كليهما، فدل على أن الكلام كان جائزا بالمدينة أيضاً إلى زمن أدركه زيد بن أرقم ثم أنه نسخ، كما رواه هو، فلو كان نسخ الكلام بمكة لم يكن لزيد بن أرقم أن يدرك جوازه ويرويه ويروي نسخه أيضاً. ويقوي ذلك ما زاد في رواية كلثوم الخزاعي عن ابن مسعود عند النسائي: أن الله أحدث في الصلاة أن لا تكلموا إلا بذكر الله وما ينبغي لكم فقوموا لله قانتين، فأمرنا بالسكوت، فإن هذه الرواية ظاهرة في أن كلاً من ابن مسعود وزيد بن أرقم حكى أن الناسخ قوله تعالى: {وقوموا لله قانتين} وقال: من مال إلى أن المراد بقوله فلما رجعنا الرجوع الأول: إن تحريم الكلام كان بمكة، وحمل حديث زيد بن أرقم على أنه وقومه لم يبلغهم النسخ، وقال لا مانع أن يتقدم الحكم ثم تنزل الآية بوفقه. وفيه أن قول زيد بن أرقم يكلم الرجل منا صاحبه وأن ذلك كان خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يرد هذا التأويل؛ لأن تكليم بعضهم بعضاً في الصلاة لا يخفى عليه - صلى الله عليه وسلم - لما قد صح عنه أنه كان يراهم في الصلاة من خلفه. (سلمنا عليه) أي وهو في الصلاة. (فلم يرد) بفتح الدال ويجوز ضمها وكسرها. (علينا) أي السلام باللفظ فيها، فقد روى ابن أبي شيبة من مرسل ابن سيرين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رد على ابن مسعود في هذه القصة السلام بالإشارة. (فقلنا) أي بعد الصلاة. (إن في الصلاة لشغلاً) بضم الشين وسكون الغين وبضمهما، قال الشوكاني: ههنا صفة محذوفة، والتقدير: لشغلاً كافياً عن غيره من الكلام. أو مانعاً من الكلام، وقال الطيبي: التنكير فيه للتنويع، أي بقراءة القرآن والذكر والدعاء لا الكلام، أو للتعظيم أي شغلاً وأي شغل؛ لأنها مناجاة مع الله تعالى، تستدعي

متفق عليه. 987- (3) وعن معيقيب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرجل يسوى التراب حيث يسجد ـــــــــــــــــــــــــــــ الاستغراق بخدمته فلا تصلح للاشتغال بالغير، وقال النووي: معناه أن وظيفة المصلي الاشتغال بصلاته وتدبر ما يقوله، فلا ينبغي أن يعرج على غيرها من رد السلام ونحوه. وزاد في الرواية الآتية في الفصل الثاني: إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث أن لا تتكلموا في الصلاة. والحديث استدل به على كراهة ابتداء السلام على المصلي، لكونه ربما شغل بذلك فكره واستدعى منه الرد، وهو ممنوع منه، وبذلك قال جابر وعطاء والشعبي ومالك في رواية ابن وهب. وقال في المدونة: لا يكره، وبه قال أحمد والجمهور. ثم اختلف هؤلاء فرخصت طائفة للمصلي في رد السلام قولاً ونطقاً، وهم سعيد بن المسيب والحسن البصري وقتادة وأبوهريرة، والحديث حجة عليهم لنفي الرد فيه صراحة، وقال أكثر الفقهاء لا يرد السلام لفظاً، قالوا يرد إذا فرغ من الصلاة باللفظ أو هو فيها بالإشارة. قال في شرح السنة: أكثر الفقهاء على أنه لا يرد بلسانه، ولو رد بطلت صلاته، ويشير بيده أو إصبعه-انتهى. وقال الخطابي: رد السلام في الصلاة قولاً ونطقاً محظور، ورده بعد الخروج من الصلاة سنة، والإشارة حسنة. وقال الشوكاني: مذهب الشافعي والجمهور أن المستحب أن يرد السلام في الصلاة بالإشارة، واستدلوا بحديث ابن عمر وصهيب في الفصل الثاني، وبما روي في معناه. وقال أبوحنيفة: لا يرد في الصلاة مطلقاً لا باللفظ ولا بالإشارة، واستدل له بحديث ابن مسعود هذا. وفيه أنه قد تقدم أن المراد بنفي الرد فيه نفي الرد بالكلام واللفظ، لما روى ابن أبي شيبة من مرسل ابن سيرين أنه صلى الله عليه وسلم رد على ابن مسعود في هذه القصة السلام بالإشارة، ولو لم ترد هذه الرواية لكان الواجب هو، ذلك جمعاً بينه وبين الأحاديث الصحيحة التي تدل على جواز رد السلام بالإشارة، وسنذكرها إن شاء الله تعالى. (متفق عليه) واللفظ لمسلم وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج2 ص248) . 987- قوله: (وعن معيقيب) بضم الميم وفتح المهملة وسكون المثناة التحتية وكسر القاف بعدها مثناة تحتية ساكنة ثم موحدة، هو ابن أبي فاطمة الدوسي حليف بني عبد الشمس، شهد بدراً وكان أسلم قديماً بمكة وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية وأقام بها حتى قدم النبي - صلى الله عليه وسلم -، بالمدينة، وكان على خاتم النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستعمله أبوبكر وعمر على بيت المال. قال ابن عبد البر: كان قد نزل به داء الجذام فعولج منه بأمر عمر بن الخطاب بالحنظل فتوقف، وتوفي في خلافة عثمان، وقيل: بل في خلافة علي سنة أربعين. له أحاديث اتفقا على هذا الحديث وانفرد مسلم بآخر. (عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرجل) ولفظ الشيخين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الرجل أي في شأن الرجل حال كونه. (يسوى التراب) أي في الصلاة. (حيث) أي في المكان الذي. (يسجد) فيه، والحديث أخرجه الترمذي بلفظ سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مسح

قال: إن كنت فاعلاً فواحدة)) متفق عليه. 988- (4) وعن أبي هريرة: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخصر في الصلاة)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحصى في الصلاة، قال الحافظ: التقييد بالحصى وبالتراب خرج للغالب لكونه كان الموجود في فرش المساجد إذ ذاك، فلا يدل تعليق الحكم به على نفيه عن غيره مما يصلى عليه من الرمل والقذى وغير ذلك. وكذا ذكر الرجل للغالب وإلا فالحكم جار في جميع المكلفين. (قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (إن كنت فاعلاً) أي لذلك ولا بد. (فواحدة) بالنصب بتقدير فامسح مسحة واحدة أو افعل فعلة واحدة أو فليكن واحدة، أو بالرفع مبتدأ وحذف خبره أي فمرة واحدة تكفيك، أو خبر مبتدأ محذوف أي المشروع فعلة واحدة، أو فالجائز واحدة أي لئلا يلزم العمل الكثير المبطل، أو عدم المحافظة على الخشوع، أو لئلا يجعل بينه وبين الرحمة التي تواجه حائلاً، وأبيح له المرة لئلا يتأذى به في سجوده. وروى ابن أبي شيبة عن أبي صالح السمان قال: إذا سجدت فلا تمسح الحصى فإن كل حصاة تحب أن يسجد عليها. فهذا تعليل آخر غير ما تقدم. وفي الحديث كراهة مسح الحصى والتراب في الصلاة مع الإذن بمسحة واحدة عند الحاجة. وحكى النووي اتفاق العلماء على كراهة مسح الحصى وغيره في الصلاة، وفيه نظر؛ فقد حكى الخطابي في المعالم وابن العربي في شرح الترمذي عن مالك: أنه لم ير به بأساً وكان يفعله، فكأنه لم يبلغه الخبر، وأفرط بعض أهل الظاهر فقال: أنه حرام إذا زاد على واحدة لظاهر النهي، ولم يفرق بين ما إذا توالى أولا مع أنه لم يقل بوجوب الخشوع، كذا في الفتح. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج2 ص284) . 988- قوله: (نهى عن الخصر) بفتح الخاء المعجمة وسكون الصاد المهملة من الخاصرة. (في الصلاة) قال التوربشتي: فسر الخصر بوضع اليد على الخاصرة وهو صنع اليهود، والخصر لم يفسر على هذا الوجه في شيء من كتب اللغة، ولم أطلع عليه إلى الآن، والحديث على هذا الوجه أخرجه البخاري، ولعل بعض الرواة ظن أن الخصر يرد بمعنى الاختصار، وهو وضع اليد على الخاصرة، وفي رواية أخرى له: نهى أن يصلي الرجل مختصراً، وكذا رواه مسلم والدارمي والترمذي والنسائي، وفي رواية لأبي داود: نهى عن الاختصار في الصلاة، فتبين أن المعتبر هو الاختصار لا الخصر، قال الطيبي: رده هذه الرواية على مثل هذه الأئمة المحدثين بقوله: لم يفسر الخصر بهذا الوجه في شيء من كتب اللغة، لا وجه له؛ لأن ارتكاب المجاز والكناية لم يتوقف على السماع بل على العلاقة المعتبرة، وبيانه: أن الخصر وسط الإنسان والنهي لما ورد عليه علم أن النهي عن أمر يتعلق به، ولما اتفقت الروايات على أن المراد وضع اليد على الخاصرة وجب حمله عليه وهو من الكناية، فإن نفي الذات أقوى من نفي الصفة ابتداء-انتهى. قلت: وقع في رواية للبخاري: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي الرجل متخصراً،

989- (5) وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الالتفات في الصلاة، ـــــــــــــــــــــــــــــ أي من التخصر، قال الحافظ: وفي رواية الكشمهيني مخصراً بتشديد الصاد، وللنسائي مختصراً بزيادة المثناة، قال النووي: اختلف العلماء في معنى الاختصار، فالصحيح الذي عليه المحققون والأكثرون من أهل اللغة والغريب والمحدثين: 1- أن المختصر هو الذي يصلي ويده على خاصرته، وقال الهروي: قيل: 2- هو أن يأخذ بيده عصا يتوكأ عليها، وقيل: 3- أن يختصر سورة فيقرأ من آخرها آية أو آيتين، وقيل: 4- هو أن يحذف الطمأنينة فلا يمد قيامها وركوعها وسجودها وحدودها، وقيل: 5- الاختصار أن يحذف الآية التي فيها السجدة إذا مر بها في قراءته حتى لا يسجد في الصلاة لتلاوتها، وهذه الأقوال الثلاثة الأخيرة وإن كان أخذها ممكنا من الاختصار لكن رواية التخصر والخصر تأباها، قال النووي: والصحيح الأول، وقال العراقي: والقول الأول هو الصحيح الذي عليه المحققون والأكثرون من أهل اللغة والحديث والفقه، والحديث يدل على تحريم الاختصار في الصلاة، وقد ذهب إلى ذلك أهل الظاهر، وذهب ابن عمر وابن عباس وعائشة ومالك والشافعي وأبوحنيفة والأوزاعي وآخرون إلى أنه مكروه، والظاهر ما قاله أهل الظاهر لعدم قيام قرينة تصرف النهي عن التحريم الذي هو معناه الحق كما هو الحق. واختلف في حكمة النهي عن ذلك، فقيل: لأن إبليس أهبط متخصراً، قاله حميد بن هلال في رواية ابن أبي شيبة عنه، وقال الترمذي: يروى أن إبليس إذا مشى يمشي مختصراً، وقيل: لأن اليهود تكثر من فعله فنهى عنه كراهة للتشبه بهم، أخرجه البخاري في ذكر بني إسرائيل عن عائشة، وقيل: إنه راحة أهل النار، كما سيأتي في الفصل الثالث، وقيل: إنه فعل المختالين والمتكبرين، وقيل: لأنه شكل من أشكال أهل المصائب يضعون أيديهم على الخواصر إذا قاموا في المآتم، وقيل: لأنها صفة الراجز حين ينشد، قال الحافظ بعد سرد هذه الأقوال والعزو إلى قائليها: وقول عائشة أعلى ما ورد في ذلك، ولا منافاة بين الجمع. (متفق عليه) . قال ميرك: الأولى أن يقال رواه البخاري فإن الحديث من أفراده عن مسلم، قلت: لما كانت رواية مسلم موافقة لرواية البخاري معنى كما تقدم صح إسناد الحديث إليهما، فالمراد بقوله "متفق عليه" أي على أصل الحديث ومعناه لا على اللفظ المذكور، والحديث أخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي والحاكم والبيهقي (ج2 ص287) . 989- قوله: (سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الالتفات في الصلاة) أي بالرأس يميناً وشمالاً من غير حاجة، والالتفات في الصلاة على ثلاثة أنحاء، الأول: الالتفات بطرف الوجه يميناً وشمالاً بلا حاجة من غير أن يتحول صدره عن القبلة، وهذا مكروه عند الجمهور، حرام عند الظاهرية، والثاني: الالتفات بطرف

فقال: هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد)) متفق عليه. 990- (6) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لينتهين أقوام عن رفعهم أبصارهم عند الدعاء في الصلاة إلى السماء ـــــــــــــــــــــــــــــ العين، وهذا لا بأس به، وإن كان خلاف الأولى، والثالث: الالتفات بحيث أن يتحول صدره عن القبلة، وهذا مبطل الصلاة بالاتفاق، والمراد في الحديث هو الأول. (فقال) - صلى الله عليه وسلم - (هو) أي الالتفات. (اختلاس) افتعال من الخلس، وهو السلب أي استلاب وأخذ بسرعة، وقيل: شيء يختلس به. (يختلسه الشيطان) قال القسطلاني: بإبراز الضمير المنصوب، وهو رواية الكشمهيني، وللأكثر يختلس الشيطان- انتهى. (من صلاة العبد) أي يحمله الشيطان على هذا الفعل لأجل نقصان صلاة العبد، أو يسلبه الشيطان من كمال صلاة العبد، وضمير يختلسه منصوب على المصدر، قال الطيبي: المعنى من التفت يميناً وشمالاً ذهب عنه الخشوع المطلوب بقوله تعالى. {الذين هم في صلاتهم خاشعون} [23: 2] فاستعير لذهاب الخشوع اختلاس الشيطان تصويراً لقبح تلك الغفلة، أو أن المصلي حينئذٍ مستغرق في مناجاة ربه، وأنه تعالى مقبل عليه، والشيطان كالراصد ينتظر فوات تلك الحالة عنه، فإذا التفت المصلي اغتنم الفرصة فيختلسها منه- انتهى. والحديث يدل على كراهة الالتفات في الصلاة، وهو إجماع، لكن الجمهور على أنها كراهة تنزيه، مالا يبلغ إلى حد استدبار القبلة بالصدر. وقال المتولي: يحرم إلا للضرورة، وهو قول أهل الظاهر، وسبب الكراهة والتنفير عنه ما فيه من نقص الخشوع أو ترك استقبال القبلة ببعض البدن. (متفق عليه) فيه نظر، فإن الحديث لم يروه مسلم، وقد ذكر الحاكم في المستدرك (ج1 ص237) أيضاً أن الشيخين اتفقا على إخراجه، وكذا نسبه الجزري إليهما في جامع الأصول (ج6 ص325) . وهو سهو منهم جميعاً، فإن مسلما لم يروه، فلم أجده فيه، وكذلك نص العيني والحافظ في الفتح على انه من أفراد البخاري، ويدل عليه أيضاً أن المجد ابن تيمية في المنتقى والمنذري في الترغيب وتلخيص السنن نسباه إلى البخاري فقط، والحديث أخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن خزيمة والبيهقي وغيرهم. 990- قوله: (لينتهين) اللام جواب قسم محذوف، وقيل للتأكيد، وهو خبر بمعنى أمر. (عن رفعهم أبصارهم عند الدعاء في الصلاة إلى السماء) قال القاري: أي خصوصاً وقت الدعاء، وإلا فرفع الأبصار مطلقاً في الصلاة مكروه. قلت: التقييد بقوله عند الدعاء في الصلاة يقتضي اختصاص الكراهة بالدعاء الواقع في الصلاة، لكن أخرجه البخاري وأبوداود والنسائي وابن ماجه من حديث أنس بغير تقييد، ولفظه: ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة، فاشتد قوله في ذلك حتى قال: لينتهن عن ذلك أو ليخطفن أبصارهم، وأخرجه بغير

أو لتخطفن أبصارهم)) رواه مسلم. 991- (7) وعن أبي قتادة، قال: ((رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤم الناس وأمامة بنت أبي العاص ـــــــــــــــــــــــــــــ تقييد أيضاً ابن ماجه وابن حبان والطبراني من حديث ابن عمر، ولفظه: لا ترفعوا أبصاركم إلى السماء أن تلتمع يعني في الصلاة، وأخرجه أيضاً بغير تقييد مسلم والنسائي وابن ماجه من حديث جابر بن سمرة، والطبراني من حديث أبي سعيد الخدري وكعب بن مالك، وأخرج ابن أبي شيبة من رواية هشام بن حسان عن محمد بن سيرين: كانوا يلتفتون في صلاتهم حتى نزلت: {قد أفلح المؤمنون. الذين هم في صلاتهم خاشعون} [23: 1، 2] فاقبلوا على صلاتهم، ونظروا أمامهم، وكانوا يستحبون أن لا يجاوز بصر أحدهم موضع سجوده، وصله الحاكم بذكر أبي هريرة فيه، ورفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال في آخره: فطأطأ رأسه. وإطلاق هذه الأحاديث يقضي بأنه لا فرق بين أن يكون عند الدعاء أو عند غيره إذا كان في الصلاة، والعلة في ذلك أنه إذا رفع بصره إلى السماء خرج عن سمت القبلة وأعرض عنها وخرج عن هيئة الصلاة. (أو لتخطفن) بضم الفوقية وفتح الفاء على البناء للمفعول، أي لتسلبن بسرعة. (أبصارهم) إن لم ينتهوا عن ذلك، أي أن أحد الأمرين واقع لا محالة، إما الانتهاء منهم أو خطف أبصارهم من الله تعالى عقوبة على فعلهم، قال الطيبي: كلمة "أو "ههنا للتخيير تهديداً، أي ليكونن أحد الأمرين، كما في قوله تعالى: {تقاتلونهم أو يسلمون} أي يكون أحد الأمرين، أما المقاتلة أو الإسلام لا ثالث لهما، وكما في قوله تعالى: {لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا} [7: 88] أي ليكونن أحد الأمرين، أما إخراجكم وإما عودكم في الكفر، والمعنى ليكونن منكم الانتهاء عن الرفع أو خطف الأبصار من الله تعالى- انتهى. وفيه وعيد عظيم وتهديد شديد، وهو يدل على أن رفع البصر إلى السماء حال الصلاة حرام؛ لأن العقوبة بالعمى لا تكون إلا عن محرم، والمشهور عند الشافعية أنه مكروه، وبالغ ابن حزم فقال: تبطل الصلاة به، واختلف في رفع البصر إلى السماء حال الدعاء خارج الصلاة، فكرهه القاضي شريح وآخرون، وجوزه الأكثرون؛ لأن السماء قبلة الدعاء، كما أن الكعبة قبلة الصلاة. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي والبيهقي (ج2 ص282) 991- قوله: (يؤم الناس) الجملة حال؛ لأن رأيت بمعنى النظر لا العلم، قاله الطيبي. (وأُمامة) بضم الهمزة وتخفيف الميمين: وهي ابنة زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كانت صغيرة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتزوجها علي بعد موت فاطمة بوصية منها. وقيل: كان أبوها أبوالعاص قد أوصى بها إلى الزبير بن العوام، فزوجها من علي، فلما قتل علي، وانقضت عدتها تزوجها المغيرة بن نوفل بن الحارث، زوجها منه الحسن بن علي، وماتت عند المغيرة. (بنت أبي العاص) بن الربيع بن عبد العزى بن عبدشمس بن عبدمناف بن قصي. اختلف في اسم أبي العاص اسمه لقيط، وقيل: مقسم، وقيل: القاسم، وقيل: مهشم، وقيل: هشيم، وقيل: ياسر، وهو مشهور بكنيته، وهو

على عاتقه، فإذا ركع وضعها، وإذا رفع من السجود أعادها)) ـــــــــــــــــــــــــــــ ختن النبي - صلى الله عليه وسلم -، زوج ابنته زينب أكبر بناته، رضي الله عنهن. وأمه هالة بنت خويلد بن أسد أخت خديجة لأبيها وأمها، أسلم قبل الفتح، وهاجر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن كان أسر يوم بدر كافراً، ورد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنته زينب بالنكاح الأول، وماتت معه، وأثنى عليه في مصاهرته. وكانت وفاته في خلافة أبي بكر الصديق في ذي الحجة سنة اثني عشرة من الهجرة، وقد بسط قصة أسره يوم بدر وإسلامه ابن عبد البر والحافظ نقلاً عن ابن إسحاق. (على عاتقه) بكسر التاء وهو ما بين المنكبين إلى أصل العنق. وفي رواية لأحمد على رقبته. (فإذا ركع وضعها) هكذا في صحيح مسلم والنسائي وأحمد وابن حبان، ورواية البخاري: فإذا سجد وضعها. ولأبي داود: حتى إذا أراد أن يركع أخذها فوضعها ثم ركع وسجد، حتى إذا فرغ من سجوده وقام أخذها فردها في مكانها، وهذا صريح في أن فعل الحمل والوضع كان منه - صلى الله عليه وسلم -، لا أنها كانت تنزل وتركب بنفسها. وهذا يرد تأويل الخطابي، حيث قال: يشبه أن تكون الصبية قد ألفته، فإذا سجد تعلقت بأطرافه والتزمته، فينهض من سجوده فتبقى محمولة كذلك إلى أن يركع فيرسلها. (وإذا رفع) أي رأسه. (من السجود أعادها) ولأحمد: فإذا قام حملها فوضعها على رقبته. والحديث فيه دليل لصحة صلاة من حمل آدميا أو حيواناً طاهراً، وأن ثياب الصبيان وأجسادهم طاهرة حتى يتحقق نجاستها، وأن الفعل القليل لا يبطل الصلاة، وأن الأفعال إذا تعددت ولم تتوال بل تفرقت لا تبطل الصلاة. وفيه تواضع مع الصبيان وسائر الضعفة، ورحمتهم وملاطفتهم. وفيه دليل على جواز إدخال الصبيان في المساجد، وعلى أنه يجوز حمل الصبي والصبية في الصلاة من غير فوق بين الفريضة والنافلة والمنفرد والمؤتم والإمام؛ لأن قوله: يؤم الناس صريح، أو كالصريح في أنه كان في الفريضة. وأصرح من هذا ما أخرجه أبوداود بلفظ: بينما نحن ننتظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الظهر أو العصر، وقد دعاه بلال إلى الصلاة، إذ خرج علينا، وأمامة على عاتقه، فقام في مصلاه، فقمنا خلفه فكبر فكبرنا وهي في مكانها. وإذا جاز ذلك في حال الإمامة في صلاة الفريضة جاز في غيرها بالأولى. وإليه ذهب الشافعي وأحمد. قال في الشرح الكبير (ج1 ص672) : وإن كان، أي العمل الذي من غير جنس الصلاة، متفرقاً لم تبطل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حمل أمامة في الصلاة، إذا قام حملها، وإذا سجد وضعها، وهذا لو اجتمع كان كثيراً، وإن كان يسيراً لم يبطلها-انتهى. وذهب مالك إلى عدم جواز الحمل مطلقاً، وأجاب عن الحديث بأنه كان في النافلة، وهو مردود، لما تقدم من رواية أبي داود. ويرده أيضاً رواية مسلم؛ لأن إمامته بالناس في النافلة ليست بمعهودة. وأجاب أيضاً بأن ذلك كان للضرورة حيث لم يجد من يكفيه أمرها، وقال بعض أصحابه: لأنه لو تركها لبكت وشغلت سره أكثر من شغله بحملها. وقال الباجي: إن وجد من يكفيه أمرها جاز في النافلة دون الفريضة، وإن لم يجد جاز فيهما. وهذا أيضاً مردود؛ لأنه دعوى مجردة لا دليل

عليها ولا ضرورة إليها. وأجاب أيضاً بأنه منسوخ، قال ابن عبد البر: لعله نسخ بتحريم العمل في الصلاة. وتعقب بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، وبأن هذه القصة كانت بعد قوله - صلى الله عليه وسلم -: إن في الصلاة لشغلاً؛ لأن ذلك قبل الهجرة أو بعدها بمدة يسيرة، وهذه القصة كانت بعد الهجرة قطعاً بمدة مديدة. وأجاب بعض المالكية بأن ذلك كان من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - لكونه معصوماً من أن تبول وهو حاملها. ورد بأن الأصل عدم الاختصاص، وبأنه لا يلزم من ثبوت الاختصاص في أمر ثبوته في غيره بغير دليل، ولا مدخل للقياس في مثل ذلك. وقال أبوحنيفة: بجوازه عند الضرورة، وبكراهته عند عدم الحاجة. وحمل الحديث على حال الضرورة كما حمل عليها مالك. وأول بعض الحنفية بأنه عليه السلام كان يشير بها بالنزول عند الركوع وبتعلقها بنفسها عند القيام، فلم يكن منه - صلى الله عليه وسلم - إلا الإشارة، فعبر الراوي عن تعلقها بنفسها وعن إشارته بالنزول والتعلق بأنه صلى وهو حامل لها وإذا ركع وضعها وإذا قام حملها، فهذا توسع من الراوي لا غير. وهذا تأويل بعيد غاية البعد، يرده ظاهر ألفاظ الحديث وطرقه وهو في الحقيقة تحريف للحديث لا توجيه له فلا يلتفت إليه. وقال الخطابي في المعالم (ج1 ص217) : بعد تأويل الحديث بنحو ذلك، وإذا كان علم الخميصة يشغله عن صلاته حتى يستبدل بها الأنبجانية فكيف لا يشتغل عنها بما هذا صفته من الأمر-انتهى. وتعقبه النووي فقال: وأما قضية الخميصة فلأنها تشغل القلب بلا فائدة، وحمل إمامة لا نسلم أنه يشغل القلب، وإن شغله فيترتب عليه فوائد، وبيان قواعد مما ذكرنا وغيره، فاحتمل ذلك الشغل لهذه الفوائد بخلاف الخميصة. فالصواب الذي لا معدل عنه أن الحديث كان لبيان الجواز، والتنبيه على هذه الفوائد، فهو جائز لنا، وشرع مستمر للمسلمين إلى يوم الدين-انتهى. قلت: هذا هو الصواب الذي لا يجوز العدول عنه، أن الحديث محمول على بيان الشرع والجواز. وإليه ذهب بعض الحنفية. قال في رد المحتار (ج1ص 612) : قد أطال المحقق ابن أمير حاج في الحلية في هذا المحل ثم قال: إن كونه للتشريع بالفعل هو الصواب الذي لا يعدل عنه، كما ذكره النووي فإنه ذكر بعضهم: أن البيان بالفعل أقوى من القول، ففعله ذلك لبيان الجواز، وأن الآدمي طاهر، وما في جوفه من النجاسة معفو عنه لكونه في معدنه، ثم ذكر بقية كلام النووي، وسنذكر تمامه. قال الحافظ: حمل أكثر أهل العلم هذا الحديث على أنه عمل غير متوال لوجود الطمأنينة في أركان الصلاة. وقال النووي بعد أن ذكر التأويلات المتقدمة ما لفظه: وكل هذه الدعاوي باطلة مردودة، فإنه لا دليل عليها ولا ضرورة إليها، بل الحديث صحيح صريح في جواز ذلك، وليس فيه ما يخالف قواعد الشرع؛ لأن الآدمي طاهر وما في جوفه من النجاسة معفو عنه لكونه في معدنه، وثياب الأطفال وأجسامهم على الطهارة، ودلائل الشرع متظاهرة على هذا،

متفق عليه. 992- (8) وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا تثاءب أحدكم في الصلاة فليكظم ـــــــــــــــــــــــــــــ أفعال في الصلاة لا تبطلها إذا قلت أو تفرقت، وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا بياناً للجواز-انتهى. وقال الفاكهاني: وكان السر في حمله أمامة في الصلاة دفعاً لما كانت العرب تألفه من كراهة البنات وحملهن، فخالفهم في ذلك حتى في الصلاة للمبالغة في ردعهم، والبيان بالفعل قد يكون أقوى من القول. (متفق عليه) واللفظ لمسلم، والحديث أخرجه أيضاً مالك وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج2ص262) . 992- قوله: (إذا تثاءب أحدكم) بالهمزة، وقيل: بالواو، ونسب إلى الغلط. قال الحافظ في الفتح: قال شيخنا في شرح الترمذي: وقع في رواية المحبوبي عن الترمذي- أي لحديث أبي هريرة- بالواو، وفي رواية السبخي بالهمز، ووقع عند البخاري وأبي داود بالهمز، وكذا في حديث أبي سعيد- أي الذي نحن بصدد شرحه - عند أبي داود. وأما عند مسلم فبالواو. قال: وكذا هو في أكثر نسخ مسلم، وفي بعضها بالهمز، وقد أنكر الجوهري كونه بالواو. قال: تقول تثاءبت على وزن تفاعلت، ولا تقل تثاوبت. قال: والتثاؤب أيضاً مهموز، وقد يقلبون الهمز المضمومة واواً، والاسم الثؤباء بضم، ثم همز، على وزن الخيلاء. وجزم ابن دريد وثابت بن قاسم في الدلائل: بأن الذي بغير واو بوزن تيممت، فقال ثابت: لا يقال تثاءب بالمد مخففاً، بل يقال تثأب بالتشديد. وقال ابن دريد: أصله من ثئب فهو مثؤب، إذا استرخى وكسل. وقال غير واحد: إنهما لغتان، وبالمد والهمز أشهر-انتهى. والتثاؤب التنفس الذي ينفتح منه الفم لدفع البخارات المحتقنة في عضلات القلب، وينشأ من امتلاء المعدة وثقل البدن واسترخائه وكدورة الحواس، فيورث الغفلة وسوء الفهم والكسل والنوم الداعي إلى إعطاء النفس شهواتها، ولذا كرهه الله وأحبه الشيطان، كما في الحديث الصحيح. قال القاري: أي فتح فاه لكسل أو فترة أو امتلاء أو غلبة نوم، وكل ذلك غير مرضي؛ لأنه يكون سبباً للكسل عن الطاعة والحضور فيها. (في الصلاة) هكذا قيده بحالة الصلاة، وكذا أخرجه الترمذي في الصلاة من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة بلفظ: التثاؤب في الصلاة من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع. قال العراقي في شرح الترمذي: أكثر روايات الصحيحين فيها إطلاق التثاؤب، ووقع في الرواية الأخرى تقييده بحالة الصلاة، فيحتمل أن يحمل المطلق على المقيد، وللشيطان غرض قوي في التشويش على المصلي في صلاته، ويحتمل أن تكون كراهته في الصلاة أشد، ولا يلزم من ذلك أن لا يكره في غير حالة الصلاة، ويؤيد كراهته مطلقاً كونه من الشيطان، وبذلك صرح النووي. وقال ابن العربي: ينبغي كظم التثاؤب في كل حالة، وإنما خص الصلاة؛ لأنها أولى الأحوال بدفعه لما فيه من الخروج من اعتدال الهيئة واعوجاج الخلقة. (فليكظم) بفتح ياء

ما استطاع، فإن الشيطان يدخل)) رواه مسلم. 993- (9) وفي رواية البخاري عن أبي هريرة، قال: ((إذا تثاءب أحدكم في الصلاة فليكظم ما استطاع ولا يقل: ها، فإنما ذلكم من الشيطان ـــــــــــــــــــــــــــــ المضارعة وكسر الظاء، أي ليحبس التثاؤب وليدفعه وليمسكه بضم الشفتين وتطبيق السن، وإن لم يقدر فبوضع اليد على الفم. (ما استطاع) أي ما أمكنه. وفي رواية لأبي داود: فليمسك على فيه. وفي حديث أبي هريرة عند البخاري: فليرده ما استطاع. قال الحافظ: أي يأخذ في أسباب رده، وليس المراد به أنه يملك دفعه؛ لأن الذي وقع لا يرد حقيقة. وقيل: معنى إذا تثاءب إذا أراد أن يتثاءب. وجوز الكرماني: أن يكون الماضي فيه بمعنى المضارع- انتهى. وفي رواية الترمذي: فليضع يده على فيه. وهذا يتناول ما إذا انفتح بالتثاؤب فيغطي بالكف ونحوه، وما إذا كان منطبقاً حفظاً له عن الانفتاح بسبب ذلك، وفي معنى وضع اليد على الفم وضع الثوب ونحوه ما يحصل ذلك المقصود، ويستثنى ذلك من النهي عن وضع المصلي يده على فمه. ومما يؤمر به المتثاءب في الصلاة أن يمسك عن القراءة حتى يذهب عنه، لئلا يتغير نظم قراءته. وأسند ابن أبي شيبة نحو ذلك عن مجاهد وعكرمة والتابعين المشهورين. (فإن الشيطان يدخل) أي فيه. قال الحافظ: يحتمل أن يراد به الدخول حقيقة، وهو وإن كان يجري من الإنسان مجرى الدم لكنه لا يتمكن منه ما دام ذاكر الله تعالى، والمتثاءب في تلك الحالة غير ذاكر، فيتمكن الشيطان من الدخول فيه حقيقة، ويحتمل أن يكون أطلق الدخول وأراد التمكن منه؛ لأن من شأن من دخل في شيء أن يكون متمكناً منه. (رواه مسلم) في كتاب الزهد في أواخر صحيحه، وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود في الأدب، والبيهقي. 993- قوله: (وفي رواية البخاري) بالإضافة. (إذا تثاءب أحدكم) أي أحس بالتثاؤب. (فليكظم ما استطاع) أي بالضم أو الوضع. (ولا يقل: ها) بل يدفعه بالفعل. و"ها" مقصورة من غير همز حكاية صوت المتثاءب، والمعنى لا يصوت عند التثاؤب، كما يفعله بعض من لا يضبط حاله في التثاؤب. (فإنما ذلكم) أي التثاؤب وقيل: قولكم: "ها". (من الشيطان) أي من حمله عليه. قال ابن بطال: إضافة التثاؤب إلى الشيطان بمعنى إضافة الرضا والإرادة، أي إن الشيطان يحب أن يرى الإنسان متثائباً؛ لأنها حالة تتغير فيها صورته فيضحك منه، لا أن المراد أن الشيطان فعل التثاؤب. وقال ابن العربي: قد بينا أن كل فعل مكروه نسبه الشرع إلى الشيطان؛ لأنه واسطته، وأن كل فعل حسن نسبه الشرع إلى الملك؛ لأنه واسطته. قال: والتثاؤب من الامتلاء، وينشأ عنه التكاسل، وذلك بواسطة الشيطان. وقال النووي: أضيف التثاؤب إلى الشيطان؛ لأنه يدعوا إلى الشهوات، إذ يكون عن ثقل البدن

يضحك منه)) . 994- (10) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن عفريتاً من الجن تفلّت ـــــــــــــــــــــــــــــ واسترخاءه وامتلاءه. والمراد التحذير من السبب الذي يتولد منه ذلك، وهو التوسع في المآكل. (يضحك) أي الشيطان، حقيقة أو كناية عن فرحه وسروره بكونه أغواه بتعاطي سبب التثاؤب، وهو كثرة الأكل فطاوعه واغتوى، والأصل الأول، إذ لا ضرورة تدعوا إلى العدول عن الحقيقة. (منه) أي من ذلك القول. قال الطيبي: أي يرضى بتلك الفعلة، والضمير في "منه" راجع إلى المشار إليه بذا "وكم" بيان لخطاب الجماعة، وليس بضمير. وقال ابن حجر: يضحك حال-انتهى. ويمكن أن يكون استئناف بيان. تنبيه: لم أجد حديث أبي هريرة عند البخاري باللفظ الذي ذكره المصنف، نعم روى أبوداود عن أبي هريرة بلفظ: إذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع، ولا يقل: هاه هاه، فإنما ذلكم من الشيطان، يضحك منه. ولفظه عند البخاري في رواية: وأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان فليرده ما استطاع، فإذا قال: "ها" ضحك منه الشيطان، وفي أخرى: فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع، فإن أحدكم إذا قال: ها ضحك الشيطان، وفي أخرى: فإن أحدكم إذا تثاءب ضحك منه الشيطان. والظاهر أن المصنف أخذ الطرف الأول من حديث أبي سعيد عند مسلم، أي قوله: إذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع، وأخذ الطرف الآخر من حديث أبي داود، أي قوله: ولا يقل هاه، فإنما ذلكم الشيطان، يضحك منه. فجعل مجموعهما حديثاً واحداً من رواية أبي هريرة وعزاه للبخاري، ولا يخفى ما في هذا الصنيع. ثم رأيت جامع الأصول (ج7: ص398) للجزري وقد وقع فيه مثل ما في المشكاة، فلعل المصنف تبعه في ذلك. والله أعلم. 94- قوله: (إن عفريتاً) بكسر العين وسكون الفاء وكسر الراء، أي جنياً خبيثاً منكراً مبالغاً في المردودة، مع دهاء وخبث. فعليت من العفر بكسر فسكون، وهو الخبث، قاله القاري. (من الجن) بيان له. قال ابن عبد البر: الجن على مراتب، فالأصل جني، فإن خالط الإنس، قيل: عامر، ومن تعرض منهم للصبيان قيل: أرواح، ومن زاد في الخبث قيل: شيطان، فإن زاد على ذلك قيل: مارد، فأن زاد على ذلك قيل: عفريت. وقال الراغب: العفريت من الجن هو العارم الخبيث، وإذا بولغ فيه قيل: عفريت نفريت. وقال ابن قتيبة: العفريت الموثق الخلق. وقال الزجاج: العفريت النافذ في الأمر المبالغ فيه من خبث ودهاء. (تفلت) أي عليّ، كما في رواية. وهو بفتحات وتشديد اللام، أي تعرض لي فلتة، أي بغتة في سرعة. وقال القزاز: يعني توثب، وقيل: تخلص فجأة. قال ابن حجر: أي من أسر سليمان عليه الصلاة والسلام الذي حرق الله له به عادة الأنبياء والملوك، حتى مكنه مما أراد بهم. وفي رواية: عرض لي فشد علي. فإن قلت: قد ثبت أن الشيطان يفر من ظل عمر، وأنه يسلك في غير فجه، ففراره من النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى، فكيف شد عليه الصلاة والسلام وأراد قطع صلاته؟

البارحة ليقطع صلاتي، فأمكنني الله منه، فأخذته فأردت أن أربطه على سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم، ـــــــــــــــــــــــــــــ أجيب بأنه ليس المراد حقيقة الفرار، بل بيان قوة عمر وصلابته على قهر الشيطان، وقد وقع التصريح بأنه - صلى الله عليه وسلم - قهره وطرده، كما سيأتي. (البارحة) هي أقرب ليلة مضت، وفي المنتهى: كل زائل بارح، ومنه سميت البارحة لأدنى ليلة زالت عنك. وانتصابها على الظرفية، والمعنى تعرض في صلاتي الليلة الماضية. (ليقطع علي) بتشديد الياء (صلاتي) أي يبطلها ويفسدها، إما بمروره بين يديه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم بقطع الصلاة من مرور الكلب الأسود، فقيل: ما بال الأحمر من الأبيض من الأسود؟ فقال: الكلب الأسود شيطان، والجن يتصورون بصورته، أو بإلجائه إلى العمل الكثير، بأن يصدر من العفريت أفعال يحتاج إلى دفعها بأفعال كثيرة منافية للصلاة فيقطعها بتلك الأفعال. وقيل: المراد بالقطع قطع وصلة المناجاة بمروره بين يديه. وقيل: المراد قطع الخشوع وكمال الصلاة. (فأمكنني الله منه) أي أعطاني مكنة منه وقدرة عليه. (فأردت أن أربطه) بكسر الباء أي أشده. (على سارية) أي أسطوانة. (من سواري المسجد) الظاهر أنه المسجد النبوي. وفيه دليل على إباحة ربط الأسير في المسجد، وقد بوب البخاري على هذا الحديث "باب الأسير أو الغريم يربط في المسجد". ومن هذا قال المهلب: إن في الحديث جواز ربط من خشي هروبه بحق عليه، أو دين والتوثق منه في المسجد، أو غيره. والمراد بالربط في الصلاة: أن يربطه بوجه كان شغلاً يسيراً فلا تفسد به الصلاة. وقال السندي: لا يلزم منه أن أخذه وربطه غير مفسد، لجواز أن يكون مفسداً، ويحمل له ذلك لضرورة أو بلا ضرورة، نعم يلزم أن تكون إرادته غير مفسدة، فليفهم-انتهى. (حتى تنظروا) وفي رواية حتى تصبحوا فتنظروا. (إليه) أي إلى الشيطان في حالة المذلة نظرة عبرة. (كلكم) أي صغاركم وكباركم. وهو بالرفع توكيد للضمير المرفوع. فيه دليل على جواز رؤية الجن. قال الخطابي: في الحديث دليل على أن رؤية الجن للبشر غير مستحيلة، والجن أجسام لطيفة، والجسم وإن لطف فدركه غير ممتنع أصلاً. وأما قوله تعالى: {إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم} [7: 27] ، فإن ذلك حكم الأعم الأغلب من أحوال بني آدم، امتحنهم الله بذلك وابتلاهم ليفزعوا إليه ويستعيذوا به من شرهم ويطلبون الأمان من غائلتهم. ولا ينكر أن يكون حكم الخاص والنادر من المصطفين من عباده بخلاف ذلك. وقال الكرماني: لا حاجة إلى هذا التأويل، إذ ليس في الآية ما ينفي رؤيتنا إياهم مطلقاً، إذا المستفاد منها أن رؤيته إيانا مقيدة من هذه الحيثية، فلا نراهم في زمان رؤيتهم لنا قط، ويجوز رؤيتنا لهم في غير ذلك الوقت-انتهى. وفهم أكثر العلماء منها العموم، حتى قال الشافعي: من زعم أنه يرى الجن أي

فذكرت دعوة أخي سليمان: {رب هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي} ، فرددته خاسئاً)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ على صورهم التي خلقوا عليها أبطلنا شهادته، واستدل بهذه الآية. وفيه دليل على أن الجن ليسوا باقين على عنصرهم الناري وإلا لأحرق إذا مس شيء من أعضاء ابن آدم، كما تحرق الآدمي النار الحقيقية بمجرد اللمس، فدل على أن تلك النارية انغمرت في سائر العناصر حتى صار إلى البرد، ويؤيد ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - عند النسائي من حديث عائشة: حتى وجدت برد لسانه على يدي. وفي رواية: برد لعابه. وقال ابن بطال: رؤيته - صلى الله عليه وسلم - للعفريت هو مما خص به، كما خص برؤية الملائكة، وقد أخبر أن جبريل له ستمائة جناح، ورأى النبي - صلى الله عليه وسلم - الشيطان في هذه الليلة وأقدره الله عليه، ولكن ألقى في روعه ما وهب سليمان فلم ينفذ ما قوي عليه من حبسه، رغبة عما أراد سليمان الانفراد به، وحرصاً على إجابة الله تعالى دعوته، وأما غير النبي - صلى الله عليه وسلم - من الناس فلا يمكن منه، ولا يرى أحد الشيطان على صورته غيره - صلى الله عليه وسلم -، لقوله تعالى: {إنه يراكم} الآية [7: 27] ، لكنه يراه سائر الناس إذا تشكل في غير شكله، كما تشكل الذي طعنه الأنصاري حين وجده في بيته على صورة حية فقتله، فمات الرجل به، رواه مالك في الموطأ. وفيما ادعى ابن بطال من الفرق بينه - صلى الله عليه وسلم - وبين الناس في رؤية الشيطان على صورته الأصلية، عندي نظر، فإن هذه دعوى مجردة، فإن لم يصح لها مستند فهي مردودة. (فذكرت دعوة أخي) في النبوة. (سليمان) أي التي استجابها الله تعالى له. وهي قوله الآتي طلباً؛ لأن يميز بخصوصه لا يشاركه فيها غيره، كما وقع لغيره من الأنبياء، أو غيره على ملكه ونفوذ حكمه في الجن والإنس والهواء أن يناله غير نبي. (رب هب لي ملكاً) وقع في رواية البخاري: في باب الأسير أو الغريم يربط في المسجد: رب اغفرلي وهب لي ملكاً، أي كما في التلاوة. قال الحافظ في الفتح: كذا في رواية أبي ذر، وفي بقية الروايات هنا: رب هب لي. قال الكرماني: لعله ذكره على طريق الاقتباس من القرآن لا على قصد التلاوة. قال الحافظ: ووقع عند مسلم، كما في رواية أبي ذر على نسق التلاوة، فالظاهر أنه تغير من بعض الرواة. (لا ينبغي لأحد من بعدي) من البشر مثله. (فرددته) أي دفعت العفريت حال كونه. (خاسئاً) أي مبعداً مطروداً صاغراً ذليلاً، كأنه - صلى الله عليه وسلم - نظر إلى أن من أعظم ذلك الملك وأخصه التصرف في الشياطين والتمكين منهم، فيتوهم بربط الشياطين عدم خصوص ذلك الملك بسليمان، وعدم استجابة دعائه، لما فيه من المشاركة معه في جملة ما هو من أخص أمور ذلك الملك، فترك الربط خشية ذلك التوهم الباطل، ولم يرد أن ربط الشياطين يوجب المشاركة معه في تمام ملكه، ويفضي إلى عدم خصوص ذلك الملك بسليمان، فإن التمكن من شيطان واحد، بل من ألف شيطان، لا يقدح في الخصوص قطعاً، فإن الخصوص كان بالنسبة إلى تمام الملك، كما لا يخفى. وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي في اللمعات: من جملة ملك سليمان تسخير الريح والجن والشياطين، وهو مخصوص بسليمان عليه السلام، فيلزم عدم إجابة دعائه لو ربط

متفق عليه. 995- (11) وعن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من نابه شيء في صلاته فليسبح، فإنما التصفيق ـــــــــــــــــــــــــــــ العفريت، فتركه ليبقى دعاءه محفوظاً في حقه، ونبينا - صلى الله عليه وسلم - كان له القدرة على ذلك على الوجه الأتم والأكمل، ولكن التصرف في الجن في الظاهر كان مخصوصاً بسليمان، فلم يظهره - صلى الله عليه وسلم - لأجل ذلك. وقيل: يمكن أن يكون عموم دعاء سليمان عليه السلام مخصوصاً بغير سيد الأنبياء - صلى الله عليه وسلم -، بدليل إقداره على أخذه ليفعل فيه ما يشاء، ومع ذلك تركه على ظاهره رعاية لجانب سليمان. والله أعلم. ويحتمل أن تكون خصوصية سليمان استخدام الجن في جميع ما يريده، لا في هذا القدر فقط. قال ابن الملك: إن قلت يفهم من هذا الحديث أنه عليه السلام تذكر دعوة سليمان بعد أخذه، ومن الحديث الآتي في آخر الباب أنه تذكر قبله فيتنافيان. قلت: لا منافاة؛ لأن الحديثين صدرا في وقتين. قال القاري: أو يكون الأخذ للربط، فإنه المنافي للدعوة، فلا منافاة، وإن قلنا بوحدة القضية. وفي أخذه - صلى الله عليه وسلم - العفريت ثم رده إياه دليل على جواز العمل القليل في الصلاة، وأنه لا تبطل به الصلاة. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصلاة في موضعين، وفي صفة إبليس، وفي أحاديث الأنبياء، وفي تفسير "ص"، وأخرجه مسلم في الصلاة، وأخرجه النسائي في التفسير من سننه الكبرى، واللفظ المذكور للبخاري في أحاديث الأنبياء. 995- قوله: (من نابه) أي من الرجال. قال الطيبي: النوب رجوع الشيء مرة بعد أخرى، ونابته نائبة أي حادثة من شأنها أن تنوب دائماً، ثم كثرت حتى استعمل في كل إصابة تصيب الإنسان، أي من أصابه. (شيء) أي عارض. (في صلاته) وفي بعض النسخ: في الصلاة، أي من عرض له ونزل به أمر في الصلاة، كتنبيه إمام على سهو، وإذن لمستأذن في الدخول، وإنذار أعمى أن يقع في بئر ونحوها. (فليسبح) أي فليقل سبحان الله، كما في رواية للبخاري زاد في رواية: فإنه إذا سبح التفت إليه. (فإنما التصفيق) بالقاف، وفي رواية مسلم وأبي داود وغيرهما: التصفيح بالحاء المهملة. قال العراقي: المشهور أن معناهما واحد. قال سهل بن سعد راوي الحديث: التصفيح هو التصفيق. وكذا قال عقبة وأبوعلي القالي والخطابي والجوهري وغيرهم. وادعى ابن حزم نفي الخلاف في ذلك، وتعقب بما حكاه عياض في الإكمال. والقرطبي في المفهم: أنه بالحاء الضرب بظاهر إحدى اليدين على الأخرى، وبالقاف بباطنها على باطن الأخرى. وقيل: بالحاء الضرب بإصبعين للإنذار والتنبيه. وبالقاف بجميعها للهو واللعب. وروى أبوداود في سننه عن عيسى بن أيوب: أن التصفيح الضرب بإصبعين من اليمين على باطن

{الفصل الثاني}

للنساء)) . وفي رواية، قال: ((التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء)) متفق عليه. {الفصل الثاني} 996- (12) عن عبد الله بن مسعود، قال: ((كنا نسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة ـــــــــــــــــــــــــــــ الكف اليسرى. (للنساء) أي مشروع للنساء؛ لأن صوتهن عورة. قاله ابن الملك. وقال ابن حجر: أي لا للرجال، فإنه بعد أن غلب في النساء صار لا يليق بشهامة الرجال. (وفي رواية) أي للبخاري. (قال) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (التسبيح) بأن يقول من نابه شيء في صلاته سبحان الله، لا يكون إلا. (للرجال والتصفيق) بالصاد والقاف لا يكون إلا. (للنساء) إذا نابهن شيء في صلاتهن، وهذا مذهب الجمهور والشافعي وأحمد وأبي حنيفة، وللأمر به في رواية البخاري في الأحكام بلفظ: إذا رابكم شيء فليسبح الرجال ولتصفح النساء. ولأبي داود: إذا نابكم شيء في الصلاة فليسبح الرجال وليصفح النساء، خلافاً لمالك حيث قال: المشروع في حق الرجال والنساء جميعاً التسبيح دون التصفيق، وأما قوله: والتصفيق للنساء، أي من شأنهن في غير الصلاة، وهو على جهة الذم له، ولا ينبغي فعله في الصلاة لرجل ولا إمرأة، أي لأنه من دأب النساء الناقصات ولهوهن خارج الصلاة. ورواية البخاري وأبي داود ترد هذا التأويل وتبطله، إذ هي نص فيما قاله الجمهور. قال القرطبي: القول بمشروعية التصفيق للنساء هو الصحيح خبراً ونظراً؛ لأنها مأمورة بخفض صوتها مطلقاً لما يخشى من الإفتان، ومن ثم منعت من الأذان مطلقاً، ومن الإقامة للرجال، ومنع الرجال من التصفيق؛ لأنه من شأن النساء. وقال ابن عبد البر بعد ذكر لفظ أبي داود: هذا قاطع في موضع الخلاف برفع الإشكال؛ لأنه فرق بين حكم الرجال والنساء-انتهى. وفي الحديث أنواع من الفقه: منها: أن الالتفات في الصلاة لا يبطلها ما لم يتحول المصلي عن القبلة بجميع بدنه. ومنها: أن التصفيق سنة النساء في الصلاة، والتسبيح سنة الرجال. ومنها: أن المأموم من الرجال إذا سبح ومن النساء إذا صفق يريد بذلك تنبيه الإمام وإعلامه لم يكن ذلك مفسداً للصلاة. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي، وهو حديث طويل، هذا طرف منه، والرواية الثانية من أفراد البخاري، ورواها ابن ماجه والبيهقي أيضاً وفي الباب عن أبي هريرة أخرجه أحمد والشيخان والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه. 996- قوله: (كنا نسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة) وفي رواية لأحمد (ج1: ص435) : كنا نتكلم في الصلاة ويسلم بعضنا على بعض ويؤمن أحدنا بالحاجة. واعلم أن لفظ الحديث بالسياق الذي ذكره المصنف تبعاً للبغوي لم أجده في سنن أبي داود، والحديث أخرجه أحمد والنسائي وليس عندهما أيضاً هذا السياق، كما لا يخفى على المتتبع. وسياق أبي داود هكذا: كنا نسلم في الصلاة ونأمر بحاجتنا، فقدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي فسلمت عليه فلم يرد علي السلام، فأخذني ما قدم وما حدث، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

قبل أن نأتي أرض الحبشة فيرد علينا، فلما رجعنا من أرض الحبشة أتيته فوجدته يصلي فسلمت عليه فلم يرد علي حتى إذا قضى صلاته، قال: إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإن مما أحدث أن لا تتكلموا في الصلاة، فرد علي السلام، وقال: إنما الصلاة لقراءة القرآن وذكر الله، فإذا كنت فيها فليكن ذلك شأنك)) رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ الصلاة قال: إن الله عزوجل يحدث من أمره ما يشاء، وإن الله تعالى قد أحدث من أمره أن لا تكلموا في الصلاة، فرد علي السلام-انتهى. (قبل أن نأتي أرض الحبشة) أي نهاجر إليها من مكة. (فيرد علينا) أي السلام نطقاً وقولاً. (فلما رجعنا من أرض الحبشة) أي إلى المدينة على ما هو الراجح. (فسلمت عليه) استصحاباً لما كان من حل الكلام في الصلاة. (فلم يرد علي) أي السلام باللفظ. (حتى إذا قضى الصلاة) أي أداها وكملها. (إن الله يحدث) أي يظهر. (من أمره) أي شأنه أو أوامره. (وإن مما أحدث) أي جدد من الأحكام، بأن نسخ حل الكلام في الصلاة بقوله ناهياً عنه. (أن لا تتكلموا في الصلاة) ويحتمل كون الأحداث في تلك الصلاة أو قبلها، كذا قال القاري. (فرد علي) بتشديد الياء. (السلام) أي باللفظ بعد فراغه من الصلاة وفي الحديث دليل على أنه لا يجوز لمن سلم عليه في الصلاة أن يرد السلام فيها نطقاً وقولاً، وعلى أنه يستحب له أن يرد باللفظ بعد الفراغ من الصلاة، ولا دليل فيه على منع الرد في الصلاة بالإشارة، بل مرسل ابن سيرين عند ابن أبي شيبة يدل صريحاً على أنه - صلى الله عليه وسلم - رد السلام على ابن مسعود في هذه القصة بالإشارة كما تقدم. (إنما الصلاة) أي موضوعة. (لقراءة القرآن وذكر الله) أي الشامل للدعاء. قال القاري: وفي بعض النسخ بفتح اللام ورفع القراءة والذكر. وفي نسخة: إنما الصلاة قراءة القرآن وذكر الله. (فإذا كنت فيها) أي في الصلاة. (فليكن ذلك) إشارة إلى ما ذكر من القراءة وذكر الله وهو اسم فليكن، وخبره: (شأنك) بالنصب أي حالك المهم، لا غير ذلك من التكلم وغيره. قال الطيبي: الشأن الحال والأمر والخطب، والجمع شئون، ولا يقال إلا في ما يعظم من الأحوال والأمور. (رواه أبوداود) فيه نظر؛ لأن هذه الألفاظ ليست في أبي داود كما قدمنا. وفيه أيضاً ما قال ميرك: أن أبا داود لم يخرج قوله: إنما الصلاة لقراءة القرآن الخ من حديث عبد الله بن مسعود، بل أخرجه من حديث معاوية بن الحكم السلمي في حديث طويل، والذي أوقع صاحب المشكاة في هذا الخبط إيراد صاحب المصابيح بعد قول عبد الله بن مسعود: فرد علي السلام وقال: إنما الصلاة الخ فظن صاحب المشكاة أنه من تتمه حديث ابن مسعود عطفاً على قوله "فرد" وليس كذلك، ومقصود صاحب المصابيح إيراد حديث آخر كعادته، والله تعالى أعلم –انتهى.

997- (13) وعن ابن عمر، قال: ((قلت لبلال: كيف كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرد عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو في الصلاة؟ قال: كان يشير بيده)) ـــــــــــــــــــــــــــــ قلت: الظاهر أن أصل الوهم من البغوي، يدل على ذلك تصرفه في ألفاظ الحديث، حيث ذكر للحديث سياقاً لا يوجد في أبي داود وفي غيره، كمسند أحمد وسنن النسائي والبيهقي، ويدل على ذلك أيضاً أنه لم يذكر اسم الصحابي كعادته قبل قوله: وقال إنما الصلاة الخ، فصنيعه هذا قرينة واضحة على أنه لم يقصد بقوله: إنما الصلاة الخ إيراد حديث آخر. والله أعلم. والحديث سكت عنه أبوداود والمنذري وأخرجه أيضاً أحمد (ج1: ص377، 415، 435) والنسائي وابن حبان في صحيحه والبيهقي (ج2: ص248) . 997- قوله: (كيف كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرد عليهم) أي على الصحابة. (حين كانوا يسلمون عليه) قال القاري: ظاهره أنه أراد قبل نسخ الكلام، ويحتمل أن يكون بعده، ويبعد- انتهى. وفيه: أن الظاهر أن ذلك كان بعد نسخ الكلام، كما قال الشيخ عبدلحق الدهلوي في أشعة اللمعات، بل هو المتعين عندي لما سيأتي. (كان يشير بيده) وفي حديث صهيب الآتي قال: لا أعلمه إلا أنه قال إشارة بإصبعه، ولا اختلاف بينهما، فيجوز أن يكون إشارة مرة بإصبعه، ومرة بجميع يده، ويحتمل أن يكون المراد باليد الإصبع حملاً للمطلق على المقيد. والحديث فيه دليل على جواز رد السلام في الصلاة بالإشارة، وهو مذهب الجمهور، واختلفت الحنفية، فمنهم من كرهه ومنهم الطحاوي، ومنهم من قال: لا بأس به. قلت: ما ذهب إليه الجمهور هو الحق، يدل عليه الأحاديث الصحيحة الصريحة: 1- منها حديث بلال هذا. 2- ومنها حديث صهيب: مررت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي فسلمت عليه، فرد علي إشارة، وقال: لا أعلم أنه قال إشارة بإصبعه، أخرجه الترمذي وحسنه، وأبوداود والنسائي والبيهقي. 3- ومنها حديث ابن عمر قال: دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - مسجد قباء ليصلي فيه، فدخل عليه رجال يسلمون عليه، فسألت صهيباً وكان معه، كيف كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصنع إذا سلم عليه؟ قال: كان يشير بيده أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه والدارمي والحاكم والبيهقي. 4- ومنها حديث عمار بن ياسر: أنه سلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة وهو يصلي، فرد عليه، أخرجه النسائي وبوب عليه "باب رد السلام بالإشارة في الصلاة". 5- ومنها حديث ابن جابر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثني لحاجة ثم أدركته وهو يسير، قال قتيبة: يصلي فسلمت عليه، فأشار إلي، أخرجه مسلم والنسائي والبيهقي. 6- ومنها حديث أبي سعيد: أن رجلاً سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فرد عليه إشارة، وقال: كنا نرد السلام في الصلاة فنهينا عن ذلك، أخرجه الطحاوي والبزار، وفي الباب عن جماعة من الصحابة، ذكر أحاديثهم الشوكاني في النيل. واستدل من منع رد السلام بالإشارة في الصلاة بحديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (التسبيح للرجال، يعني في الصلاة، والتصفيق للنساء، من أشار في

صلاته إشارة تفهم عنه فليعد لها، يعني الصلاة، أخرجه أبوداود. والجواب عنه: إن هذا الحديث ضعيف، لا يصلح للاحتجاج، فإن في سنده محمد بن إسحاق وهو مدلس، ورواه عن يعقوب بن عتبة بالعنعنة. وقال أبوداود بعد روايته هذا الحديث: وهم. وقال الزيلعي في نصب الراية: قال إسحاق بن إبراهيم بن هانيء: سئل أحمد عن حديث: من أشار إشارة يفهم عنه فليعد الصلاة، فقال: لا يثبت، إسناده ليس بشيء-انتهى. وعلى فرض صلوحه للاحتجاج يجب أن تحمل الإشارة المذكورة فيه على الإشارة لغير رد السلام والحاجة، جمعاً بينه وبين الأحاديث الصحيحة التي فيها ذكر الإشارة لرد السلام، أو حاجة تعرض. واستدلوا أيضاً بأن الرد بالإشارة منسوخ؛ لأنه كلام معنى وقد نسخ الكلام في الصلاة. والجواب عنه: أنا لا نسلم أن رد السلام بالإشارة كلام معنى. قال الطحاوي في شرح الآثار (ص262) بعد ذكر حديث أبي هريرة الذي مر آنفاً: ذهب قوم إلى أن الإشارة التي تفهم إذا كانت من الرجل في الصلاة قطعت عليه صلاته، وحكموا لها بحكم الكلام، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث، وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا تقطع الإشارة في الصلاة، ثم ذكر ما احتج به هؤلاء من حديث ابن عمر وصهيب وأبي سعيد، ثم قال: ففي هذه الآثار ما قد دل أن الإشارة لا تقطع الصلاة، وقد جاءت مجيئاً متواتراً غير مجيء الحديث الذي خالفها، فهي أولى منه، وليست الإشارة في النظر من الكلام في شيء؛ لأن الإشارة إنما هي حركة عضو، وقد رأينا حركة سائر الأعضاء غير اليد في الصلاة لا تقطع الصلاة، فكذلك حركة اليد-انتهى كلام الطحاوي ملخصاً. ولو سلمنا أن رد السلام بالإشارة كلام معنى فلا نسلم كون الكلام في الصلاة منسوخاً مطلقاً، سواء كان حقيقة أو معنى، بل نقول إنما المنسوخ في الصلاة هو الكلام حقيقة دون الكلام معنى، ألا ترى أن الإشارات المفهمة قد ثبتت عنه - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة بعد نسخ الكلام فيها. وأجاب الحنفية عن أحاديث الجمهور أي أحاديث رد السلام بالإشارة: بأن تلك الإشارة لم تكن رداً للسلام، وإنما كانت نهياً عن السلام والكلام. قاله الطحاوي وغيره. وهذا مردود يرده حديث ابن عمر المذكور في الكتاب، وحديث صهيب عند الترمذي وغيره بلفظ: مررت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي فسلمت عليه، فرد علي إشارة، وحديث ابن عمر عند النسائي وابن ماجه والحاكم بلفظ: دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - مسجد قباء ليصلي فيه، فدخل عليه رجال يسلمون عليه، فسألت صهيباً وكان معه كيف كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصنع إذا سلم عليه، قال: كان يشير بيده، وحديث أبي سعيد عند الطحاوي والبزار بلفظ: أن رجلاً سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فرد عليه إشارة الخ، وحديث عمار عند النسائي بلفظ: أنه سلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي فرد عليه. فإن هذه الأحاديث الصحيحة نصوص صريحة في أن إشارته - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة عند السلام عليه كانت رداً للسلام على من سلم عليه، لا نهياً عنه. قال ابن العربي في شرح الترمذي (ج2: ص162) : قد تكون الإشارة في الصلاة لرد السلام، وقد تكون لأمر ينزل بالصلاة، وقد تكون في

رواه الترمذي. 998- (14) وفي رواية النسائي نحوه، وعوض بلال صهيب. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحاجة تعرض للمصلي، فإن كانت لرد السلام ففيها الآثار الصحيحة، كفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في قباء وغيره، وقد كنت في مجلس الطرطوشي، وتذاكرنا المسألة، وقلنا الحديث، واحتججنا به، وعامي في آخر الحلقة، فقام وقال: ولعله كان يرد عليهم نهياً لئلا يشغلوه، فعجبنا من فقهه، ثم رأيت بعد ذلك أن فهم الراوي؛ لأنه كان رد السلام قطعي في الباب على حسب ما بيناه في أصول الفقه-انتهى. وقال الشيخ عبد الحي اللكنوي في التعليق الممجد (ص122) : وحملوا أي الحنفية الأحاديث على أن إشارته - صلى الله عليه وسلم - كان للنهي عن السلام لا لرده، وهو حمل يحتاج إلى دليل مع مخالفته لظاهر بعض الأخبار-انتهى. وأجابوا أيضاً بأن هذه الأحاديث منسوخة. قال النيموي: حديث ابن عمر أي المذكور في الكتاب قد يدل على أن رد السلام بالإشارة كان في الابتداء، ولذلك ما رآه ابن عمر وسأل عنه بلالاُ وصهيباُ. وقد رد شيخنا هذا الجواب في أبكار المنن (ص260) ، فقال: جواب النيموي هذا مردود عليه بوجهين: الأول: أن ابن عمر كان يجوز رد السلام بالإشارة في الصلاة، ثم ذكر الشيخ أثر ابن عمر الآتي في آخر الفصل الثالث عن موطأ محمد، قال: والثاني: أنه لو كان رد السلام بالإشارة في الصلاة في الابتداء قبل نسخ الكلام لرد السلام بالكلام، لا بالإشارة. قال الزيلعي في نصب الراية بعد ذكر هذه الأحاديث: قد يجاب عنها بأنه كان قبل نسخ الكلام في الصلاة، ويؤيده حديث ابن مسعود: كنا نسلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة، فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا، ولم يقل "فأشار إلينا"، وكذا حديث جابر: إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا إني كنت أصلي، فلو كان الرد بالإشارة جائزاً لفعله. وأجيب عن هذا بأن أحاديث الإشارة لو لم تكن بعد نسخه لرد باللفظ، إذ الرد باللفظ واجب إلا لمانع كالصلاة، فلما رد بالإشارة علم أنه ممنوع من الكلام، وأما حديث ابن مسعود وجابر فالمراد بنفي الرد فيه: الرد بالكلام بدليل لفظ ابن حبان في حديث ابن مسعود: وقد أحدث أن لا تكلموا في الصلاة- انتهى كلام الزيلعي. وقال الحافظ في الدراية (ص108) : وأجاب بعضهم باحتمال أن يكون ذلك قبل نسخ الكلام في الصلاة، ورد بأنه لو كان كذلك لرد باللفظ لوجوب الرد، فلما عدل عن الكلام دل على أنه كان بعد نسخ الكلام-انتهى. (رواه الترمذي) وقال حديث حسن صحيح. وقال الشوكاني: رجاله رجال الصحيح. والحديث أخرجه أيضاً أحمد وابن حبان والبيهقي وأبوداود، وسكت عنه هو والمنذري. 998- وفي. (رواية النسائي نحوه) أي نحو حديث الترمذي. (وعوض بلال صهيب) مبتدأ وخبر، وفي بعض النسخ بنصب "عوض" على الظرفية، ولا مانع من أن ابن عمر سأل كلاً منهما وأجابه بذلك. وقد ذكر

999- (15) وعن رفاعة بن رافع، قال: ((صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعطست، فقلت: الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه مباركاً عليه كما يحب ربنا ويرضى، فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانصرف فقال: من المتكلم في الصلاة؟ فلم يتكلم أحد، ثم قالها الثانية، فلم يتكلم أحد، ـــــــــــــــــــــــــــــ الترمذي أن الحديثين جميعاً صحيحان، قال: احتمل أن يكون سمع منها جميعاً، وحديث ابن عمر عن صهيب أخرجه أيضاً أحمد وابن ماجه والدارمي وابن حبان والبيهقي والحاكم في المستدرك، وقال: على شرطهما. وصهيب هذا هو صهيب بن سنان أبويحيى النمري المعروف بالرومي؛ لأنه أخذ لسان الروم إذ سبوه وهو صغير، وأصله من العرب من النمر بن قاسط، كانت منازلهم بأرض الموصل في قرية على شط الفرات مما يلي الجزيرة والموصل، فأغارت الروم على تلك الناحية فسبت صهيباً وهو غلام صغير، فنشأ بالروم فصار الكن، فابتاعته منهم كلب، ثم قدمت به مكة، فاشتراه عبد الله بن جدعان التميمي فأعتقه فأقام معه بمكة إلى أن هلك ابن جدعان وبعث النبي - صلى الله عليه وسلم -. ويقال: إنه لما كبر في الروم وعقل هرب منهم، وقدم مكة فحالف عبد الله بن جدعان وأقام معه حتى هلك، وأسلم قديماً بمكة، يقال: إنه أسلم هو وعمار بن ياسر في يوم واحد، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدار الأرقم معه بضعة وثلاثون رجلاً، وكان من المستضعفين معذبين في الله بمكة، ثم هاجر إلى المدينة مع علي في النصف من ربيع الأول، فأدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - بقباء، وشهد بدراً والمشاهد بعدها. قال أنس: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: صهيب سابق الروم وقيل: فيه نزلت: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله} [2: 207] وإليه أوصى عمر أن يصلي بالناس حتى يجتمع أهل الشورى على رجل، وفضائله كثيرة، وله أحاديث انفرد البخاري بحديث، ومسلم بثلاثة، مات بالمدينة سنة (38) في شوال في خلافة علي، وقيل: سنة (39) وهو ابن 73 سنة، وقيل ابن 90 سنة. ودفن بالبقيع. 999- قوله: (صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال الحافظ في الفتح: وأخرجه الطبراني، وبين أن الصلاة المذكورة المغرب، وسنده لا بأس به-انتهى. وهذه الزيادة ترد على من قال أنه في التطوع، على أن المعتاد في الصلاة جماعة هو الفرض لا النفل. (فعطست) بفتح الطاء وتكسر. (طيباً) أي خالصاً عن الرياء والسمعة. (مباركاً فيه مباركاً عليه) قال ابن الملك: كلاهما واحد، ولعل المراد أنواع البركة، وهي الزيادة عليه. وقال الطيبي: الضميران في "فيه" و"عليه" للحمد، ففي الأول البركة بمعنى الزائد من نفس الحمد أي المستلزم لزيادة ثوابه، وفي الثاني من الخارج لتعديتها بـ"ـعلى" للدلالة على معنى الإفاضة أي على الحمد، ثم على قائله من حضرة الحق. (كما يحب ربنا ويرضى) أي حمداً موصوفاً بما ذكر، وبأنه مماثل للحمد الذي يحبه الله ويرضاه. وفيه من حسن التفويض إلى الله تعالى ما هو الغاية في القصد. (انصرف) أي سلم، وانصرف عن جهة القبلة. (فلم يتكلم أحد) أي بالجواب، وهذا مسبب عن قوله: "من المتكلم في الصلاة" فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - سألهم سؤال مستفهم، فوهموا أنه سؤال

ثم قالها الثالثة، فقال رفاعة: أنا يارسول الله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفسي بيده لقد ابتدرها بضعة وثلاثون ملكاً، أيهم يصعد بها)) رواه الترمذي وأبوداود والنسائي. 1000- (16) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((التثاؤب في الصلاة من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع)) ـــــــــــــــــــــــــــــ منكر، ظناً منهم أن هذا القول غير جائز في الصلاة، كان ذلك سبباً لعدم الإجابة هيبة وإجلالاً، فلما زال التوهم في المرة الثانية أجاب بقوله "أنا". (فقال رفاعة) فيه تجريد، وأصله فقلت. (أنا) أي المتكلم. (لقد ابتدرها) أي استبق إليها. (أيهم يصعد بها) أي يسبق بعضهم بعضاً؛ لأن يصعد بها، قاله ابن الملك. وقال الطيبي: الجملة سدت مسد مفعولي ينظرون المحذوف على التعليق. والحديث فيه دليل على أن العاطس في الصلاة يحمد الله بغير كراهة، ويؤيد ذلك عموم الأحاديث الواردة بمشروعيته، فإنها لم تفرق بين الصلاة وغيرها، وعلى جواز إحداث ذكر في الصلاة غير مأثور إذا كان غير مخالف للمأثور، وعلى جواز رفع الصوت بالذكر المذكور ما لم يشوش على من معه. (رواه الترمذي وأبوداود والنسائي) وأخرجه أيضاً البيهقي (ج2: ص95) وحسنه الترمذي، وسكت عنه أبوداود، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره، وأصل الحديث في صحيح البخاري، لكن ليس فيه ذكر العطاس، ولا زيادة "كما يحب ربنا ويرضى". ولم يعين فيه الرجل القائل بل أبهمه، وزاد فيه أن ذلك عند رفع الرأس من الركوع. وقد أورده المصنف في باب الركوع، وتقدم هناك شرحه، ويجمع بين الروايتين بأن الرجل المبهم في رواية البخاري هو رفاعة كما في حديث الباب، ولا مانع أن يكني عن نفسه إما لقصد إخفاء عمله، أو لنحو ذلك، ويجمع بأن عطاسه وقع عند رفع رأسه من الركوع، لكن إيراد المصنف رواية البخاري في باب الركوع، ورواية الترمذي هذه في باب ما لا يجوز من العمل في الصلاة وما يباح منه، يدل على أنه لم يذهب إلى اتحاد الواقعة في الروايتين، بل جعلهما قصتين، خلافاً لما جزم به الحافظ وابن بشكوال. 1000- قوله: (التثاؤب) بالهمز، وقيل: بالواو. (في الصلاة من الشيطان) أضافه إلى الشيطان؛ لأنه يحبه ويتوسل به إلى ما يرضاه من قطع الصلاة والمنع من العبادة. قال ابن حجر: التقييد بالصلاة ليس للتخصيص بل؛ لأن القبح فيها أكثر؛ لأن معنى كونه من الشيطان أن أسبابه من الامتلاء والثقل وقسوة القلب هي التي من الشيطان، وهذا يوجب كونه منه في الصلاة وخارجها. ومن ثم قال النووي وغيره: يكره التثاؤب بالأذكار في الصلاة وخارجها- انتهى. (فإذا تثاءب) أي شرع في التثاءب أو أراد أن يتثاءب أو يأخذ في أسبابه. (فليكظم) أي ليدفعه وليحبسه. (ما استطاع) أي ما أمكنه بضم الشفتين، وتطبيق السن، أو بوضع الثوب، أو اليد على الفم.

رواه الترمذي. وفي أخرى له ولابن ماجه: ((فليضع يده على فيه)) . 1001- (17) عن كعب بن عجرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه، ثم خرج عامداً إلى المسجد، فلا يشبكن بين أصابعه، فإنه في الصلاة)) ـــــــــــــــــــــــــــــ (رواه الترمذي) في الصلاة، وقال: حديث حسن صحيح، وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه، نقله ميرك، وأخرجه مسلم بدون ذكر الصلاة. (وفي أخرى له) أي في رواية أخرى للترمذي أي في الأدب، وقد حسنها الترمذي. (ولابن ماجه) في سنده عبد الله بن سعيد المقبري. قال في الزوائد: اتفقوا على ضعفه. (فليضع يده على فيه) أي بدل "فليكظم ما استطاع". ولفظ ابن ماجه: إذا تثاءب أحدكم فليضع يده على فيه- أي إذا لم يدفعه بضم شفتيه-ولا يعوى، فإن الشيطان يضحك منه. وقوله: "لا يعوى" بالعين المهملة أي لا يصبح شبه التثاؤب الذي يسترسل معه بعواء الكلب تنفيراً عنه واستقباحاً له، فإن الكلب يرفع رأسه ويفتح فاه ويعوي، والمتثاءب إذا أفرط في التثاءب شابهه. ومن ههنا تظهر النكتة في كونه يضحك منه؛ لأنه صيره ملعبة له بتشويه خلقه في تلك الحالة. 1001- قوله: (فأحسن وضوءه) بمراعاة السنن وحضور القلب وتصحيح النية. (ثم خرج) أي من بيته. (عامداً إلى المسجد) أي قاصداً إليه. (فلا يشبكن بين أصابعه) أي لا يدخل بعضها في بعض من التشبيك، وهو إدخال الأصابع بعضها في بعض. (فإنه في الصلاة) أي حكماً. والحديث يدل على كراهة التشبيك من وقت الخروج إلى المسجد للصلاة. وفيه أنه يكتب لقاصد الصلاة أجر المصلي من حين يخرج من بيته إلى أن يعود إليه، ويدل على ذلك أيضاً ما روي عن أبي هريرة مرفوعاً: من توضأ ثم خرج يريد الصلاة فهو في صلاة حتى يرجع إلى بيته، فلا تقولوا هكذا يعني يشبك بين أصابعه. أخرجه الدارمي والحاكم من طريق إسماعيل بن أمية عن سعيد عن أبي هريرة. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وما روي عن أبي سعيد مرفوعاً: إذا كان أحدكم في المسجد، فلا يشبكن فإن التشبيك من الشيطان، وأن أحدكم لا يزال في الصلاة مادام في المسجد حتى يخرج منه. أخرجه أحمد (ج3: ص43) وابن أبي شيبة. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2: ص25) بعد عزوه إلى أحمد: إسناده حسن. وعزاه الحافظ في الفتح لابن أبي شيبة فقط، وقال بعد ذكر لفظه: في إسناده ضعيف ومجهول –انتهى. واختلف في حكمة النهي عن التشبيك في المسجد، كما في حديث أبي سعيد وفي غيره، كما في حديث كعب بن عجرة وأبي هريرة. فقيل: لما فيه من العبث. وقيل: لأنه ينافي الخشوع. وقيل: لأنه من الشطان، كما تقدم في رواية أحمد وابن أبي شيبة. وقيل: لأن التشبيك ربما يجلب النوم وهو من مظان الحديث. وقيل: لما في ذلك من الإيماء إلى تشبيك الأحوال والأمور على المراء وملابسة الخصومات والخوض فيها.

رواه أحمد والترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ وحين ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفتن قال: واختلفوا فصاروا هكذا، وشبك بين أصابعه. وقيل: لأن صورة التشبيك تشبه صورة الاختلاف، كما نبه عليه في حديث ابن عمر عند البخاري، فكره ذلك لمن هو في حكم الصلاة حتى لا يقع في المنهي عنه، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - للمصلين: ولا تختلفوا فتخلف قلوبكم. قال العراقي: وفي معنى التشبيك بين الأصابع تفقيعها. فيكره أيضاً في الصلاة ولقاصد الصلاة. وروى أحمد والدارقطني والطبراني من حديث أنس بن معاذ مرفوعاً: إن الضاحك في الصلاة والملتفت والمفقع أصابعه بمنزلة واحدة. وفي إسناده ابن لهيعة وزبان بن فائد ورشدين بن سعد وسهل بن معاذ، وكلهم ضعفاء. ويؤيده ما روى ابن ماجه من حديث علي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تفقع أصابعك في الصلاة. وفي سنده الحارث الأعور. والتفقيع هو غمز الأصابع حتى يسمع لها صوت، فإن قلت: أحاديث النهي عن التشبيك معارضة لحديث أبي موسى مرفوعاً: أن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، ولحديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين: ووضع يده اليمنى على اليسرى ثم شبك بين أصابعه. أخرجهما الشيخان. ولحديث ابن عمر قال: شبك النبي - صلى الله عليه وسلم - أصابعه. أخرجه البخاري وترجم على هذه الأحاديث باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره. قلت: أحاديث النهي عن التشبيك لا تصلح لمعارضة أحاديث الجواز المروية في الصحيحين؛ لانتفاء شرط المعارضة والمقاومة، وهو المساواة في الصحة والقوة. وقيل: التحقيق أنه ليس بين هذه الأحاديث تعارض إذ المنهي عنه فعله على وجه العبث، وهو منهي عنه في الصلاة ومقدماتها ولواحقها من الجلوس في المسجد والمشي إليه. والذي في حديث أبي موسى وابن عمر إنما هو لمقصود التمثيل وتصوير المعنى في النفس بصورة الحس، وأما تشبيكه في قصة ذي اليدين فكان لاشتباه الحال عليه في السهو الذي وقع منه. ولذلك وقف كأنه غضبان. وقيل: يجمع بينها بأن النهي مقيد بما إذا كان في الصلاة أو قاصداً لها إذ منتظر الصلاة في حكم المصلي. والأحاديث الدالة على الجواز خالية عن ذلك. أما حديث أبي موسى وابن عمر فظاهران. وأما حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين، فلأن تشبيكه إنما وقع بعد انقضاء الصلاة في ظنه، فهو في حكم المنصرف من الصلاة. والرواية التي فيها النهي عن ذلك مادام في المسجد ضعيفة، كما تقدم عن الحافظ. إن في إسناده ضعيفاً ومجهولاً، فهي غير معارضة لحديث أبي هريرة. وقيل: يجمع بينها بأن فعله - صلى الله عليه وسلم - يفيد عدم التحريم ولا يمنع الكراهة أي لغيره، لكونه فعله نادراً أي لبيان الجواز أو المعنى كما في حديث أبي موسى وابن عمر. (رواه أحمد) (ج4: ص241- 242) .. (والترمذي) ولم يحكم عليه بشيء من الصحة والحسن والضعف، واشتغل عنه بذكر الاختلاف في سنده.

وأبوداود والنسائي والدارمي. 1002- (18) وعن أبي ذر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يزال الله عزوجل مقبلاً على العبد، وهو في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت ـــــــــــــــــــــــــــــ (وأبوداود) وسكت عنه. (والنسائي) كذا في النسخ الموجودة عندنا من طبعات الهند ومصر بذكر النسائي، والظاهر أنه خطأ، فإن الحديث لم أجده في سنن النسائي اللهم إلا أن يكون في الكبرى. ويدل على ذلك أيضاً عدم وجوده في نسخة القاري التي اعتمدها في شرحه، فإنه قال بعد ذكر قول المصنف رواه أحمد والترمذي وأبوداود ما لفظه، وفي نسخة والنسائي أيضاً. (والدارمي) الحديث في إسناده عند الترمذي رجل غير مسمى، وهو الراوي له عن كعب بن عجرة، وقد كنى أحمد في رواية وأبوداود والدارمي والبيهقي هذا الرجل المبهم، فرووه من طريق سعد بن إسحاق، قال: حدثني أبوثمامة الحناط -بالحاء المهملة والنون- عن كعب، وقد ذكره ابن حبان في الثقات. وأخرجه أيضاً أحمد والدارمي في رواية من حديث المقبري عن كعب، وأخرجه ابن ماجه من حديث أبي سعيد المقبري عن كعب، ولم يذكر الثلاثة في رواياتهم الرجل، وأخرجه أيضاً أحمد من طريق سعيد المقبري عن رجل من بني سالم عن أبيه عن جده عن كعب بن عجرة، ومن طريق سعيد المقبري عن بعض بني كعب بن عجرة عن كعب، ومن طريق سعيد بن أبي سعيد عن كعب بن عجرة. وبسط البيهقي الاختلاف فيه على سعيد، وأخرجه ابن حبان والبيهقي أيضاً من حديث الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلي عن كعب بن عجرة، ولأجل هذا الاختلاف ضعف بعضهم حديث كعب بن عجرة هذا. قال ابن بطال: قد وردت في النهي عن التشبيك مراسيل ومسنده من طرق غير ثابتة. قال الحافظ في الفتح وكأنه يشير إلى حديث كعب بن عجرة، فذكر لفظه، ثم قال: أخرجه أبوداود وصححه ابن خزيمة وابن حبان، وفي إسناده اختلاف، ضعفه بعضهم بسببه-انتهى. قلت: الظاهر أن الحديث من طريق سعد بن إسحاق عن أبي ثمامة الحناط القماح عن كعب عند أحمد وأبي داود والدارمي والبيهقي، ومن طريق الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلي عن كعب عند ابن حبان والبيهقي، لا ينحط عن درجة الحسن. وقد أيده ما تقدم من حديث أبي سعيد عند أحمد بإسناد حسن، ومن حديث أبي هريرة عند الدارمي والحاكم. والله أعلم. 1002- قوله: (لا يزال الله عزوجل مقبلاً على العبد) بالإحسان والغفران والعفو لا يقطع عنه ذلك. قال القاري: أي ناظراً إليه بالرحمة وإعطاء المثوبة، والمعنى: لم ينقطع أثر الرحمة عنه. (مالم يلتفت) أي مالم يتعمد الالتفات إلى مالا يتعلق بالصلاة. وقال الحافظ: المراد بالالتفات مالم يستدبر القبلة بصدره أو عنقه كله. وسبب كراهة الالتفات يحتمل أن يكون لنقص الخشوع أو لترك استقبال القبلة ببعض البدن- انتهى. (فإذا التفت)

انصرف عنه)) رواه أحمد وأبوداود والنسائي والدارمي. 1003- (19) وعن أنس، ((أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا أنس اجعل بصرك حيث تسجد)) ـــــــــــــــــــــــــــــ وفي رواية النسائي "فإذا صرف وجهه" أي بالالتفات إلى مالا يتعلق بالصلاة. (انصرف عنه) أي أعرض عنه بقطع الرحمة المسببة عن الإقبال على الصلاة. وقال ابن مالك: المراد منه قلة الثواب. (رواه أحمد) في (ج5 ص172) (وأبوداود) وسكت عنه. (والنسائي والدارمي) وأخرجه أيضاً ابن خزيمة في صحيحه والبيهقي (ج2 ص281) ، والحاكم (ج1 ص236) ، وصححه كلهم من طريق الزهري عن أبي الأحوص عن أبي ذر. قال المنذري في الترغيب: وأبوالأحوص هذا لا يعرف اسمه ولم يرو عنه غير الزهري، وقد صحح له الترمذي وابن حبان وغيرهما- انتهى. وقال ابن عبد البر: هو مولى بني غفار، إمام مسجد بني ليث. قال ابن معين: أبوالأحوص الذي حدث عنه الزهري ليس بشيء، وذكره ابن حبان في الثقات، وليس لقول ابن معين هذا أصل إلا كونه انفرد الزهري بالرواية عنه. قال ابن عبد البر: قد تناقض ابن معين في هذا، فإنه سئل عن ابن أكيمة، وقيل له: إنه لم يرو عنه غير ابن شهاب، فقال: يكفيه قول ابن شهاب، حدثني ابن أكيمة، فيلزمه مثل هذا في أبي الأحوص؛ لأنه قال في حديث الباب سمعت أباالأحوص. وقال أبوأحمد الكرابيسي: ليس بالمتين عندهم. وذكره ابن حبان في الثقات، كذا في تهذيب التهذيب (ج12 ص5) وقال في التقريب: أبوالأحوص مولى بني ليث أو غفار مقبول من أوساط التابعين لم يرو عنه غير الزهري- انتهى. وقال النووي في الخلاصة: هو فيه جهالة لكن الحديث لم يضعفه أبوداود فهو حسن عنده- انتهى. 1003- قوله: (اجعل بصرك حيث تسجد) الحديث بظاهره يدل على استحباب النظر إلى موضع السجود في سائر الصلاة، وعليه عمل الشافعية، كما يدل عليه كلام البيضاوي في تفسير قوله تعالى: {الذين هم في صلاتهم خاشعون} [2:23] ، وهو مذهب أحمد كما في المغني (ج1 ص664) ، والشافعي، كما قاله ابن حجر وغيره. لكن قال الطيبي: يستحب للمصلي أن ينظر في القيام إلى موضع سجوده، وفي الركوع إلى ظهر قدميه، وفي السجود إلى أنفه، وفي التشهد إلى حجره- انتهى. وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه مع زيادة أن ينظر في السلام إلى منكبيه كما في النهاية شرح الهداية. قلت: وذهب مالك إلى أن يكون نظر المصلي إلى جهة القبلة. وإليه يظهر ميل البخاري حيث قال في صحيحه: باب رفع البصر إلى الإمام في الصلاة، وذكر فيه أحاديث تدل على ذلك. قال الحافظ في الفتح: قال الزين بن المنير: نظر المأموم إلى الإمام من مقاصد الائتمام، فإذا تمكن من مراقبته بغير التفات كان ذلك من إصلاح صلاته. وقال ابن بطال: فيه حجة لمالك في أن نظر المصلي يكون إلى جهة القبلة. وقال الشافعي والكوفيون: يستحب له أن ينظر إلى موضع سجوده؛ لأنه أقرب إلى الخشوع.

رواه. . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال العيني في شرح البخاري (ج5 ص306) : قد اختلف العلماء في رفع البصر إلى أي موضع في صلاته، فقال أصحابنا والشافعي وأبوثور إلى موضع سجوده، وروي ذلك عن إبراهيم وابن سيرين، وفي التوضيح: واستثنى بعض أصحابنا إذا كان مشاهداً للكعبة، فإنه ينظر إليها. وقال القاضي حسين: ينظر إلى موضع سجوده في حال قيامه، وإلى قدميه في ركوعه، وإلى أنفه في سجوده، وإلى حجره في تشهده؛ لأن امتداد النظر يلهي، فإذا قصر كان أولى. وقال مالك: ينظر أمامه، وليس عليه أن ينظر إلى موضع سجوده وهو قائم. قال: وأحاديث الباب تشهد له؛ لأنهم لو لم ينظروا إليه عليه الصلاة والسلام ما رأوا تأخره حين عرضت عليه جهنم، ولا رأوا اضطراب لحيته، ولا استدلوا بذلك على قراءته ولا نقلوا ذلك، ولا رأوا تناوله فيما تناوله في قبلته حين مثلت له الجنة. ومثل هذا الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم -: إنما جعل الإمام ليؤتم به؛ لأن الائتمام لا يكون إلا بمراعاة حركاته في خفضه ورفعه – انتهى. وقال الحافظ بعد ذكر ما تقدم من كلام ابن المنير وابن بطال: وورد في ذلك أي في النظر إلى موضع السجود حديث أخرجه سعيد بن منصور من مرسل محمد بن سيرين، ورجاله ثقات، وأخرجه البيهقي موصولاً، وقال: المرسل هو المحفوظ. قال الحافظ: ويمكن أن يفرق بين الإمام والمأموم، فيستحب للإمام النظر إلى موضع السجود، وكذا للمأموم إلا حيث يحتاج إلى مراقبة إمامه، وأما المنفرد فحكمه حكم الإمام. والله أعلم. قلت: كلام الحافظ هذا حسن جيد، ولم أجد حديثاً مرفوعاً أو موقوفاً يدل على التفصيل الذي ذكره الطيبي والقاضي حسين وصاحب النهاية، ويؤيد ما ذهب إليه الشافعي وأحمد ما رواه البيهقي عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يا أنس اجعل بصرك حيث تسجد. وهو حديث الباب، وسيأتي الكلام فيه. وفي رواية: يا أنس ضع بصرك في الصلاة عند موضع سجودك، قال هذا شديد، قال ففي المكتوبة إذا، وما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم عن محمد بن سيرين، قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة، فلما نزلت هذه الآية: {قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون} خفضوا أبصارهم إلى موضع سجودهم. قال محمد بن سيرين: وكانوا يقولون لا يجاوز بصره مصلاه، فإن كان قد اعتاد النظر فليغمض، كذا في تفسير ابن كثير، وما روي عن أم سلمة بنت أبي أمية زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنها قالت: كان الناس في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام المصلي يصلي لم يعد بصر أحدهم موضع قدميه، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان الناس إذا قام أحدهم يصلي لم يعد بصر أحدهم موضع جبينه، فتوفي أبوبكر وكان عمر فكان الناس إذا قام أحدهم يصلي لم يعد بصر أحدهم موضع القبلة، ثم توفي عمر وكان عثمان، فكانت الفتنة، فالتفتت الناس يميناً وشمالاً. قال المنذري في الترغيب: رواه ابن ماجه أي في الجنائز بإسناد حسن، إلا أن موسى بن عبد الله بن أبي أمية المخزومي لم يخرج له من أصحاب الكتب الستة غير ابن ماجه، ولا يحضرني فيه جرح ولا تعديل- انتهى. (رواه) . . . .ههنا بياض بالأصل، وألحق به- أي في الحاشية-

1004- (20) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا بني إياك والالتفات في الصلاة، فإن الالتفات في الصلاة هلكة، فإن كان لابد ففي التطوع لا في الفريضة)) رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ البيهقي في سننه الكبير من طريق الحسن عن أنس، وفي نسخة صحيحة يرفعه. قيل إنه من ملحقات الجزري. قال ابن حجر: وله طرق تقتضي حسنه، كذا في المرقاة. قلت: حديث أنس هذا أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (ج2 ص284) من طريق الربيع بن بدر عن عنطوانة عن الحسن عن أنس، قال البيهقي رواه جماعة عن الربيع بن بدر عن عنطوانة، والربيع بن بدر ضعيف- انتهى. وقال الحافظ في اللسان (ج4 ص385) : عنطوانة عن الحسن عن أنس مرفوعاً: يا أنس ضع بصرك حيث تسجد. لا يدرى من ذا. انفرد به عنه عليلة بن بدر- انتهى. وذكره العقيلي فقال: مجهول بصري، روى عنه الربيع بن بدر، وهو متروك ثم ساق حديثه المذكور. والربيع هو عليلة بالتصغير- انتهى. 1004- قوله: (يا بني إياك والالتفات في الصلاة) أي بتحويل الوجه. (فإن الالتفات في الصلاة) أظهر في موضع الضمير لمزيد الأيضاح والبيان في مقام التحذير. (هلكة) بفتحتين أي هلاك؛ لأنه طاعة الشيطان، وهو سبب الهلاك. قال الطيبي: الهلكة الهلاك وهو استحالة الشيء وفساده، لقوله تعالى: {ويهلك الحرث والنسل} [205:2] والصلاة بالالتفات تستحيل من الكمال إلى الاختلاس المذكور في الحديث الخامس من الفصل الأول. وقال الشوكاني: سمي الالتفات هلكة باعتبار كونه سبباً لنقصان الثوب الحاصل بالصلاة، أو لكونه نوعاً من تسويل الشيطان واختلاسه، فمن استكثر منه كان من المتبعين للشيطان، واتباع الشيطان هلكة، أو لأنه إعراض عن التوجه إلى الله، والإعراض عنه عزوجل هلكة. (فإن كان لابد) أي من الالتفات. (ففي التطوع لا في الفريضة) ؛ لأن مبنى التطوع على المساهلة، ألا ترى أنه يجوز قاعداً مع القدرة على القيام، وفيه الإذن بالالتفات للحاجة في التطوع، والمنع من ذلك في صلاة الفرض. (روا الترمذي) وقال: حديث حسن. ونقل ميرك أنه قال: حسن صحيح. وذكر الزيلعي الحديث في نصب الراية (ج2 ص89) عن الترمذي وقال: قال: حديث حسن صحيح. ونقل المجد بن تيمية الحديث في المنتقى وقال: رواه الترمذي وصححه. وقال المنذري في الترغيب بعد ذكره: رواه الترمذي من رواية علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن أنس، وقال حديث حسن، وفي بعض النسخ صحيح. قال المنذري: وعلي بن زيد بن جدعان يأتي الكلام عليه، ورواية سعيد عن أنس غير مشهورة- انتهى. وقال في الفصل الذي ذكر فيه الرواة المختلف فيهم: علي بن زيد بن جدعان، قال البخاري وأبو حاتم: لا يحتج به، وضعفه ابن عيينة وأحمد وغيرهما، وروى عن يحيى ليس بشيء، وروى عنه ليس بذاك القوي، وقال أحمد العجلي: كان يتشيع وليس بالقوي، وقال الدارقطني: لا يزال عندي فيه لين، وقال الترمذي: صدوق،

1005- (21) وعن عباس رضي الله عنهما، قال: ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يلحظ في الصلاة يميناً وشمالاً، ولا يلوي عنقه خلف ظهره)) . رواه الترمذي والنسائي. ـــــــــــــــــــــــــــــ وصحح له حديثاً في السلام، وحسن له غير ما حديث- انتهى. 1005- قوله: (كان يلحظ) بفتح الحاء المهملة وبالظاء أي ينظر بمؤخر عينيه من اللحظ، وهو النظر بطرف العين الذي يلي الصدغ، وفي رواية النسائي: كان يلتفت (في الصلاة) قيل: النافلة، ويحتمل الفرض أيضاً. والحاصل أن إلتفاته كان متضمناً لمصلحة بلا ريب مع دوام حضور القلب وتوجهه إلى الله تعالى على وجه الكمال، قاله السندي. (يميناً وشمالاً) أي تارة إلى جهة اليمين وأخرى إلى جهة الشمال. (ولا يلوى) أي لا يصرف ولا يميل (عنقه خلف ظهره) أي إلى جهته. وقال الطيبي: اللي فتل الحبل، يقال لويته الوية ليا، ولوى رأسه وبرأسه أماله. ولعل هذا الالتفات كان منه في التطوع، فإنه أسهل لما في الحديث السابق. وقال ابن الملك: قيل إلتفاته عليه الصلاة والسلام مرة أو مراراً قليلة لبيان أنه غير مبطل أو كان لشئ ضروري، فان كان أحد يلوى عنقه خلف ظهره أي ويحول صدره عن القبلة فهو مبطل للصلاة كذا في المرقاة قلت: الالتفات المذكور في حديث ابن عباس هذا هو أن يلحظ بعينيه يميناً وشمالاً لمراقبة أحوال المتقدمين، أو لمصلحة أخرى، وهو مباح عند الجميع في الفرض، وإن كان خلاف الأولى، وهو غير الإلتفات المذكور في حديث أنس السابق والحديث الخامس من الفصل الأول، فان المراد من الالتفات فيهما هو أن يلتفت بطرف الرأس والوجه من غير أن يحول صدره عن القبلة، وهو مكروه عند الجميع بلا حاجة بل حرام عند الظاهرية. (رواه الترمذي والنسائي) وأخرجه أيضاً أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك (ج1:ص236-256) وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وأخرجه أيضاً الدارقطني في سننه (ص195) والحازمي في كتاب الاعتبار (ص64) قال الترمذي حديث غريب يعني أنه تفرد بروايته متصلاً الفضل بن موسى عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند. ونقل القاري في المرقاة عن ميرك أنه نقل عن الترمذي حسن غريب، ونقل عن النووي أنه صحح إسناده. وقال الترمذي في جامعه: وقد خالف وكيع الفضل بن موسى في روايته، ثم أخرجه عن وكيع عن عبد الله بن سعيد عن بعض أصحاب عكرمة "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يلحظ في الصلاة" فذكر نحوه. وقال في علله الكبير: ولا أعلم أحداً روى هذا الحديث عن عبد الله بن سعيد مسنداً مثل ما رواه الفضل بن موسى-انتهى. وقال الدارقطني بعد روايته: تفرد به الفضل بن موسى عن عبد الله بن سعيد به متصلاً وغيره يرسله، وكذا قال الحازمي في كتاب الاعتبار، وأراد الترمذي والدارقطني والحازمي بذلك تعليل الرواية المتصلة. وليست هذه علة، بل إسناد الحديث صحيح أو حسن، والرواية المتصلة زيادة من ثقة، فهي مقبولة.

1006- (22) وعن عدي بن ثابت عن أبيه عن جده رفعه، قال: ((العطاس والنعاس والتثاؤب في الصلاة، والحيض والقيء والرعاف من الشيطان)) رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ والفضل بن موسى ثقة ثبت. قال ابن القطان في كتابه: هذا حديث صحيح، وإن كان غريباً، لا يعرف إلا من هذه الطريق. قال عبد الله بن سعيد وثور بن زيد ثقتان، وعكرمة احتج به البخاري. فالحديث صحيح-انتهى. والحديث أخرجه البزار في مسنده عن مندل بن علي العنزي عن الشيباني عن عكرمة عن ابن عباس: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى يلاحظ أصحابه في الصلاة يميناً وشمالاً، ولا يلتفت". ورواه ابن عدي في الكامل، وأعله بمندل وضعفه عن النسائي والسعدي وابن معين، ولينه هو، وقال: إنه ممن يكتب حديثه-انتهى. وفي الباب عن علي بن شيبان، قال: خرجنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبايعناه، وصلينا خلفه، فلمح بمؤخر عينيه رجلاً لم يقم صلبه في الركوع والسجود، فقال إنه لا صلاة لمن يقم يقم صلبه، أخرجه ابن ماجه وابن حبان. 1006- قوله: (رفعه) أي رفع جد عدي الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولولا هذا القيد لأوهم قوله: (العطاس) أن يكون من قول الصحابي، فيكون موقوفاً، قاله الطيبي، (والنعاس) هو النوم الخفيف أو مقدمة النوم، وهو سنة، (والتثاؤب في الصلاة) قال الطيبي: إنما فصل بين الثلاثة الأول والأخيرة بقوله: في الصلاة؛ لأن الثلاثة الأول مما لا يبطل الصلاة بخلاف الأخير. (والحيض والقيء والرعاف) بضم الراء، دم الأنف. (من الشيطان) قال القاضي: أضاف هذه الأشياء إلى الشيطان؛ لأنه يحبها ويتوسل بها إلى ما يبتغيه من قطع الصلاة، والمنع عن العبادة، ولأنها تغلب في غالب الأمر من شره الطعام الذي هو من أعمال الشيطان. وزاد التوربشتي ومن ابتغاء الشيطان الحيلولة بين العبد وبين ما ندب إليه من الحضور بين يدي الله، والاستغراق في لذة المناجاة، ذكره الطيبي. وقال ابن حجر: المراد من العطاس كثرته، فلا ينافيه الخبر: "إن الله يحب العطاس"؛ لأن محله في العطاس المعتدل، وهو الذي لا يبلغ الثلاث التوالي، بدليل أنه يسن تشميته حينئذٍ بـ"عافاك الله وشفاك" الدال على أن ذلك مرض-انتهى. قال القاري: والظاهر الجمع بين الحديثين بأن يحمل محبة الله تعالى العطاس مطلقاً على خارج الصلاة، وكراهته مطلقاً في داخل الصلاة؛ لأنه في الصلاة لا يخلو عن اشتغال بال به، وهذا الجمع كان متعيناً لو كان الحديثان مطلقين فكيف مع التقييد بها في هذا الحديث. وقال العراقي في شرح الترمذي: لا يعارض هذا حديث أبي هريرة: إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب، لكونه مقيداً بحال الصلاة، فقد يتسبب الشيطان في حصول العطاس للمصلي ليشغله عن صلاته، ذكره الحافظ في الفتح. (رواه الترمذي) أي في الأدب، وقال حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث شريك عن أبي اليقظان عن عدي-انتهى. وشريك هذا هو ابن عبد الله النخعي القاضي، وهو صدوق يخطيء كثيراً، تغير حفظه منذ ولى القضاء بالكوفة. وأبواليقظان اسمه عثمان بن عمير الكوفي، الأعمى، ضعيف، واختلط، وكان يدلس، ويغلو في التشيع. وقال الحافظ في الفتح بعد ذكر

1007- (23) وعن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: ((أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي، ولجوفه أزيز كأزيز المرجل، يعني يبكي. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث: وسنده ضعيف، وله شاهد عن ابن مسعود في الطبراني، لكن لم يذكر النعاس، وهو موقوف، وسنده ضعيف أيضاً-انتهى. والحديث أخرجه ابن ماجه من طريق شريك عن أبي اليقظان عن عدي بن ثابت عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ: قال البزاق والمخاط والحيض والنعاس في الصلاة من الشيطان. قال في الزوائد: أبواليقظان أجمعوا على ضعفه. 1007- قوله: (وعن مطرف) بضم أوله وفتح ثانيه وتشديد الراء المكسورة. (بن عبد الله بن الشخير) بكسر الشين المعجمة وتشديد الخاء المعجمة المكسورة بعدها تحتانية ثم راء الحرشي العامري البصري، ثقة عابد فاضل من كبار التابعين، مات سنة 95هـ، وقد ذكر ابن سعد وغيره له مناقب كثيرة. (عن أبيه) عبد الله بن الشخير بن عوف بن كعب بن وقدان بن الحريش الحرشي العامري الصحابي ذكره ابن سعد في مسلمة الفتح. وقال ابن مندة: وفد في وفد بني عامر، له أحاديث انفرد له مسلم بحديث. (وهو يصلي) أي والحال أنه يصلي، فالجملة حالية، وكذلك جملة قوله: (ولجوفه أزيز) أي والحال أن لجوفه أزيزاً بزائين معجمتين ككريم، وهو صوت القدر إذا غلت. والمراد حنين من الخوف والخشية، وهو صوت البكاء. وقال الجزري: هو أن يحيش جوفه ويغلي من البكاء. (كأزيز المرجل) بكسر الميم وسكون الراء وفتح الجيم، الإناء الذي يغلي فيه الماء سواء كان من حديد أو صفر أو حجارة أو خزف، والميم زائدة. قيل له ذلك؛ لأنه إذا نصب كأنه أقيم على أرجل. وقال القاري: المرجل القدر إذا غلى. قال الطيبي: أزيز المرجل صوت غليانه، ومنه الأز، وهو الإزعاج. وقيل: للمرجل القدر من حديد أو حجر أو خزف؛ لأنه إذا نصب كأنه أقيم على الرجل. (يعني يبكي) أي يريد الراوي بالعبارة المذكورة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يبكي بحيشان جوفه وغليانه. وقال الطيبي: فيه دليل على أن البكاء لا يبطل الصلاة. قال ابن حجر: وفيه نظر؛ لأن الصوت إنما سمع للجوف أو الصدر، لا اللسان، والمختلف في إبطاله إنما هو البكاء المشتمل على الحرف. وقال البيجوري في شرح الشمائل: يؤخذ من الحديث أنه إذا لم يكن الصوت مشتملاً على حرفين أو حرف مفهم لم يضر في الصلاة-انتهى. قلت: الحديث بظاهره وبإطلاقه دليل بين على أن البكاء غير مبطل للصلاة، سواء ظهر منه حرفان أم لا إذا كان من خشية الله تعالى، وهو الذي فهمه الترمذي وأبوداود والنسائي والمجد ابن تيمية، كما يظهر من تبويبهم على هذا الحديث، وليس في الحديث أدنى إشارة إلى القيد الذي ذكره ابن حجر والبيجوري تبعاً لمذهبهما. قال الشوكاني: في الحديث دليل على أن البكاء لا يبطل الصلاة، سواء ظهر منه حرفان أم لا. وقد قيل: إن كان البكاء من خشية الله لم يبطل، وهذا الحديث يدل عليه، ويدل عليه أيضاً ما رواه ابن حبان

وفي رواية قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي وفي صدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء)) رواه أحمد، وروى النسائي الرواية الأولى، وأبوداود الثانية. 1008- (24) وعن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أقام أحدكم إلى الصلاة فلا يمسح الحصى ـــــــــــــــــــــــــــــ بسنده إلى علي بن أبي طالب، قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد بن الأسود، ولقد رأيتنا وما فينا قائم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح، وبوب عليه ذكر الإباحة للمرأ أن يبكي من خشية الله، ويدل عليه أيضاً ما أخرجه البيهقي وسعيد بن منصور وابن المنذر أن عمر صلى صلاة الصبح وقرأ سورة يوسف حتى بلغ إلى قوله: {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} [86:12] فسمع نشيجه. والنشيج على وزن فعيل أشد البكاء كما في المحكم، ويدل عليه أيضاً ما روي عن ابن عمر عند البخاري وعن عائشة عند البخاري ومسلم في تصميمه - صلى الله عليه وسلم - على استخلاف أبي بكر في الصلاة بعد أن أخبر أنه إذا قرأ غلبه البكاء، ويدل عليه أيضاً مدح الباكين بقوله تعالى: {إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً} [19: 85] وبقوله: {ويخرون للأذقان يبكون} [17: 109] ، فإنه يشمل المصلي وغيره. واختلف العلماء في البكاء والأنين والتأوه فعن الشعبي والنخعي يفسد الصلاة، وعن المالكية والحنابلة والحنفية: إن كان لذكر النار والجنة والخوف لم يفسد، وإن كان لغير الخوف كالمصيبة والوجع أفسد. وفي مذهب الشافعي ثلاثة أوجه: أصحها إن ظهر منه حرفان أو حرف مفهم أفسد وإلا فلا، ثانيها: وحكى عن نصه في الإملاء أنه لا يفسد مطلقاً؛ لأنه ليس من جنس الكلام، ولا يكاد يبين منه حرف محقق فأشبه الصوت الغفل، ثالثها: عن القفال إن كان فمه مطبقاً لم يفسد وإلا أفسد إن ظهر منه حرفان، وبه قطع المتولي. قال الحافظ: والوجه الثاني أقوى دليل. (وفي رواية) أخرى. (كأزيز الرحى) يعنى الطاحون. قال الخطابي: أزيز الرحى صوتها وحرحرتها. (من البكاء) بالمد أي من أجله. قال ابن حجر: هو بالقصر خروج الدمع مع الحزن، وبالمد خروجه مع رفع الصوت. (رواه أحمد) (ج4: ص25- 26) أي أصل الحديث عند أحمد مع قطع النظر عن خصوص اللفظ، وإلا فليس عنده الرواية الثانية. والحديث أخرجه أيضاً الترمذي في الشمائل، قال الحافظ في الفتح: وإسناده قوي، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، ووهم من زعم أن مسلماً أخرجه-انتهى.. (وروى النسائي الرواية الأولى الخ) ، وأخرج البيهقي الروايتين (ج2: ص251) . 1008- قوله: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة) أي إذا دخل فيها، إذ قبل التحريم لا يمنع. (فلا يمسح الحصى) أي فلا يعرض عن الصلاة لأدنى شيء، أي لما فيه من قطع التوجه للصلاة، فتفوته الرحمة المسببة عن الإقبال على الصلاة، وهذا إذا لم يكن لإصلاح محل السجود، وإلا فيجوز مرة بقدر الضرورة، كما تقدم. والحصى

فإن الرحمة توجهه)) رواه أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه. 1009- (25) وعن أم سلمة، قالت: ((رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - غلاماً لنا، يقال له: أفلح، إذا سجد نفخ، فقال: يا أفلح ترب وجهك)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ بفتحتين واحدتها حصاة، وهي الحجارة الصغيرة، والتقييد بالحصى خرج مخرج الغالب، لكونه كان الغالب على فرش مساجدهم، ولا فرق بينه وبين التراب والرمل على قول الجمهور. ويدل على ذلك قوله في حديث معيقيب المتقدم في الرجل يسوي التراب. (فإن الرحمة تواجهه) أي تنزل عليه وتقبل إليه. وهي علة للنهي، يعني فلا يليق لعاقل تلقي شكر تلك النعمة الخطيرة بهذه الفعلة الحقيرة، قاله الطيبي. وقال الشوكاني: هذا التعليل يدل على أن الحكمة في النهي عن المسح أن لا يشغل خاطره بشيء يلهيه عن الرحمة المواجهة له، فيفوته حظه منها. وقد روي أن حكمة ذلك أن لا يغطي شيئاً من الحصى يمسحه، فيفوته السجود عليه، كما تقدم في رواية ابن أبي شيبة عن أبي صالح السمان. قال ابن العربي: معناه الإقبال على الرحمة، وترك الاشتغال عنها بالحصباء وسواه إلا أن يكون لحاجة كتعديل موضع السجود أو إزالة شيء مضر، وقد كان مالك يفعله، وغيره يكرهه-انتهى. (رواه أحمد) (ج5: ص150- 163- 179) . (والترمذي) وحسنه. (وأبوداود) وسكت عنه هو والمنذري. (والنسائي وابن ماجه) وأخرجه البيهقي أيضاً (ج2: ص284) كلهم من طريق الزهري عن أبي الأحوص عن أبي ذر. وقد تقدم الكلام في أبي الأحوص. وفي الباب أحاديث عديدة ذكرها الشوكاني في النيل. 1009- قوله: (وعن أم سلمة) أم المؤمنين. (يقال له: أفلح) وقيل: اسمه رباح، كما في رواية لأحمد (ج6: ص323) والترمذي، وقيل: يسار، كما في رواية أخرى لأحمد (ج6: ص301) . (إذا سجد) أي إذا أراد أن يسجد. (نفخ) أي في الأرض ليزول عنها التراب فيسجد. (ترب وجهك) أي في سجودك من التتريب، أي أوصل وجهك إلى التراب، وألقه به وضعه عليه، ولا تبعده عن موضع وجهك بالنفخ، فإنه أقرب إلى التواضع والتذليل والخضوع، فإن علوق التراب بالوجه الذي هو أفضل الأعضاء غاية التواضع. والحديث قد استدل به من اختار مباشرة المصلي للأرض من غير وقاية، روي ذلك عن ابن مسعود وعروة بن الزبير وإبراهيم النخعي خلافاً للجمهور، قال العراقي: والجواب عنه: أنه لم يأمره أن يصلي على التراب، وإنما أراد به تمكين الجبهة من الأرض، وكأنه رآه يصلي ولا يمكن جبهته من الأرض، فأمره بذلك. لا أنه رآه يصلي على شيء يستره من الأرض، فأمره بنزعه-انتهى. واستدل بالحديث أيضاً على كراهة النفخ في الصلاة. وقد اختلف العلماء فيه: فروي عن مالك كراهة النفخ في الصلاة ولا يقطعها كما يقطعها الكلام، وهو قول أحمد وإسحاق على ما ذكر الترمذي. وإليه ذهب أبويوسف وأشهب على ما قال ابن بطال. وفي المدونة:

رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ النفخ بمنزلة الكلام يقطع الصلاة. وعن أبي حنيفة ومحمد: إن كان يسمع فهو بمنزلة الكلام يبطل الصلاة، وإلا فلا، واستدل لهما بحديث أم سلمة وفيه أنه حديث ضعيف الإسناد. قال الحافظ في الفتح: ولو صح لم يكن فيه حجة على إبطال الصلاة بالنفخ؛ لأنه لم يأمره بإعادة الصلاة، وإنما استفاد من قوله: "ترب وجهك" استحباب السجود على الأرض، فهو نحو النهي عن مسح الحصى. قال: وفي الباب- أي في كراهة النفخ في الصلاة- عن أبي هريرة في الأوسط للطبراني، وعن زيد بن ثابت عند البيهقي، وعن أنس وبريدة عند البزار، وأسانيد الجميع ضعيفة جداً-انتهى. وقد ذكر الشوكاني في النيل: هذه الأحاديث مع بيان ما فيها من الضعف. واستدل لهما أيضاً بأحاديث النهي عن الكلام في الصلاة بأن النفخ كلام يدل على ذلك ما رواه سعيد بن منصور في سننه عن ابن عباس قال: النفخ في الصلاة كلام وروى البيهقي بإسناد صحيح إلى ابن عباس أنه كان يخشى أن يكون النفخ كلاماً. وأجيب بمنع كون النفخ كلاماً؛ لأن الكلام يتركب من الحروف المعتمدة على المخارج ولا اعتماد في النفخ، وأيضاً الكلام المنهي عنه في الصلاة هو المكالمة، ولو سلم صدق اسم الكلام على النفخ كما قال ابن عباس لكان فعله - صلى الله عليه وسلم - لذلك في الصلاة مخصصاً لعموم النهي عن الكلام، كذا في النيل. والمصحح عند الشافعية والحنابلة أنه إن ظهر من النفخ حرفان بطلت الصلاة وإلا فلا. والراجح المعتمد عندنا هو عدم بطلان الصلاة بالنفخ مطلقاً، أي سواء ظهر منه حرفان أم لا، مسموعاً كان أو غير مسموع، لما رواه أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي عن عبد الله بن عمرو "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفخ في صلاة الكسوف"، وقد ذكره البخاري تعليقاً. وأخرج أحمد هذا المعنى من حديث المغيرة بن شعبة. ولفظ أبي داود: ثم نفخ في آخر سجوده فقال: أف أف. وفيه رد صريح على ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة والحنفية؛ لأنه كان مسموعاً، وقد صرح فيه بظهور الحرفين وفي الحديث أيضاً: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: وعرضت على النار، فجعلت أنفخ خشية أن يغشاكم حرها، والنفخ لهذا الغرض لا يقع إلا بالقصد إليه، فانتفى قول من حمله على الغلبة. وأجاب الخطابي بأن "أف" لا تكون كلاماً حتى يشدد الفاء، قال: والنافخ في نفخه لا يخرج الفاء صادقة من خرجها. وتعقبه ابن الصلاح بأنه لا يستقيم على قول الشافعية أن الحرفين كلام مبطل، أفهما أولم يفهما، وأشار البيهقي إلى أن ذلك من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورد بأن الخصائص لا تثبت إلا بدليل، كذا في الفتح. قال ابن بطال: والقول الأول أي عدم قطع النفخ للصلاة أولى، وليس في النفخ من النطق بالهمزة والفاء أكثر مما في البصاق من النطق بالتاء والفاء، قال: وقد اتفقوا على جواز البصاق في الصلاة، فدل على جواز النفخ فيها، إذ لا فرق بينهما، ولذلك ذكره البخاري معه في الترجمة –انتهى. وقد روي الرخصة في النفخ في الصلاة عن قدامة بن عبد الله الصحابي، أخرجه البيهقي. (رواه الترمذي) وأخرجه أيضاً أحمد (ج6: ص323) والبيهقي (ج2: ص252) كلهم من طريق ميمون أبي حمزة الأعور

1010- (26) وعن ابن عمر رضي الله عنهما: الاختصار في الصلاة راحة أهل النار. رواه في شرح السنة. 1011- (27) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اقتلوا الأسودين في الصلاة، ـــــــــــــــــــــــــــــ القصاب الكوفي الراعي عن أبي صالح عن أم سلمة. قال الترمذي: إسناده ليس بذاك، وميمون أبوحمزة قد ضعفه بعض أهل العلم-انتهى. قلت: ميمون أبوحمزة هذا ضعيف، لم يوثقه حد ولا قواه، بل ضعفه جميعهم أو أكثرهم، كما يظهر من تهذيب التهذيب والميزان. فالحديث ضعيف، لكن أخرجه أحمد من غير طريق أبي حمزة أيضاً، فقد رواه (ج6:ص 301) عن طلق بن غنام بن طلق عن سعيد بن عثمان الوراق عن أبي صالح عن أم سلمة، ورواه ابن حبان أيضاً في صحيحه من غير طريق أبي حمزة. قال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمة أبي صالح: ذكره ابن حبان في الثقات، وأخرج حديثه "هذا" في صحيحه من رواية غير أبي حمزة ميمون عنه-انتهى. ويؤيده أيضاً حديث حذيفة مرفوعاً: ما من حالة يكون العبد فيها أحب إلى الله من أن يراه ساجداً، يعفر وجهه في التراب. رواه الطبراني. 1010- قوله: (الاختصار) أي وضع اليد على الخاصرة، وهي جنب الإنسان فوق رأس الورك. (في الصلاة راحة أهل النار) قال القاضي: أي يتعب أهل النار من طول قيامهم أي في الموقف فيستريحون بالاختصار، وقيل: إنه من فعل اليهود والنصارى في صلاتهم، وهم المرادون بأهل النار أي مآلاً وعاقبة؛ لأن أهل النار لا راحة لهم لقوله تعالى: {لا يفتّر عنهم} [43: 75] . (رواه في شرح السنة) قال ميرك: أي بغير سند، فقال: وفي بعض الأحاديث: الاختصار راحة أهل النار-انتهى. قلت: فقول المصنف رواه في شرح السنة خطأ فإنه إنما يقال في مثل هذا ذكره، ولا يقال رواه. وقد صح النهي عن الاختصار في الصلاة، كما تقدم في الفصل الأول مع بيان حكمة النهي عنه مفصلاً. والحديث أخرجه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما من حديث أبي هريرة مرفوعاً، كما في الترغيب للمنذري. وقال الشوكاني في النيل: روى ذلك ابن أبي شيبة عن مجاهد، ورواه أيضاً عن عائشة، وروى البيهقي (ج2: ص287) عن أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الاختصار في الصلاة راحة أهل النار. قال العراقي: وظاهر إسناده الصحة، ورواه أيضاً الطبراني-انتهى. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2: ص85) بعد ذكره من رواية أبي هريرة: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عبد الله بن الأزور، ضعفه الأزدي، وذكر له الحديث وضعفه به-انتهى. ولم أقف على من أخرجه من حديث ابن عمر. 1011- قوله: (اقتلوا الأسودين في الصلاة) أي ولو في الصلاة، ففي حديث ابن عباس عند الحاكم والطبراني بإسناد ضعيف مرفوعاً: اقتلوا الحية والعقرب، وإن كنتم في صلاتكم والأمر للندب وقيل: للرخصة

الحية والعقرب)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ والإباحة، وصرفه عن الوجوب ما رواه أبويعلى والطبراني في الأوسط عن عائشة، قالت: دخل علي بن أبي طالب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي، فقام إلى جنبه فصلى بصلاته، فجاءت عقرب حتى انتهت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم تركته، فذهبت نحو علي، فضربها بنعله حتى قتلها، فلم ير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتلها بأساً. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2: ص84) : رجال أبي يعلى رجال الصحيح غير معاوية بن يحيى الصدفي، وأحاديثه عن الزهري مستقيمة، كما قال البخاري، وهذا منها، وضعفه الجمهور. وفي طريق الطبراني: عبد الله بن صالح كاتب الليث. قال عبد الملك بن شعيب بن الليث ثقة مأمون، وضعفه الأئمة أحمد وغيره-انتهى. (الحية والعقرب) بيان للأسودين. وتسمية العقرب والحية بالأسودين إما لتغليب الحية على العقرب؛ لأنه لا يسمى بالأسود في الأصل إلا الحية، أو لأن عقرب المدينة يميل إلى السواد. وقيل: بل لأن بعض العقارب يكون أسود، و"ال" فيهما للجنس، فيشمل كل منهما الذكر والأنثى، ويلحق بهما كل ضرار مباح القتل كالزنابير والشبثان ونحوهما، وأما القمل فقال القاضي: الأولى التغافل عنه، فإن قتلها فلا بأس؛ لأن أنساً كان يقتل القمل والبراغيث في الصلاة، وكان الحسن يقتل القمل، وقال الأوزاعي: تركه أحب إليّ، وكان عمر يقتل القمل في الصلاة، رواه سعيد، كذا في المغني (ج1: ص667) . قال الشوكاني: والحديث يدل على جواز قتل الحية والعقرب في الصلاة من غير كراهة. وإلى ذلك ذهب جمهور العلماء، كما قال العراقي. وحكى الترمذي عن جماعة كراهة ذلك، منهم إبراهيم النخعي. وقال الخطابي في المعالم (ج1:ص218) : رخص عامة أهل العلم في قتل الأسودين إلا إبراهيم النخعي، والسنة أولى ما اتبع-انتهى. قال العراقي: وأما من قتلها في الصلاة، أو هم بقتلها فعلي بن أبي طالب وابن عمر روى ابن أبي شيبة عنه بإسناد صحيح أنه رأى ريشة وهو يصلي فحسب أنها عقرب، فضربها بنعله، ورواه البيهقي أيضاً وقال: فضربها برجله، وقال: حسبت أنها عقرب. واعلم أن الأمر بقتل الحية والعقرب في الصلاة مطلق غير مقيد بضربة أو ضربتين، فيجوز قتلهما في الصلاة، وإن احتاج فيه إلى المشي الكثير والمعالجة الكثيرة لإطلاق الحديث. قال ابن الهمام: الحديث بإطلاقه يشمل ما إذا احتاج إلى عمل كثير-انتهى. ولا تفسد الصلاة بذلك؛ لأنه رخصة كالمشي والعمل في سبق الحديث عند الحنفية. وفي شرح المنية قالوا: أي بعض المشائخ هذا إذا لم يحتج إلى المشي الكثير كثلاث خطوات متواليات، ولا إلى المعالجة الكثيرة كثلاث ضربات متواليات، فأما إذا احتاج فمشى وعالج تفسد صلاته كما لو قاتل؛ لأنه عمل كثير، ذكره السروجي في المبسوط. ثم قال: والأظهر أنه لا تفصيل فيه؛ لأنه رخصة كالمشي في سبق الحدث، ويؤيد إطلاق الحديث، والأصح هو الفساد، إلا أنه يباح له إفسادها لقتلهما كما يباح لإغاثة ملهوف أو تخليص أحد من الهلاك كسقوط من سطح أو حرق أو غرق، ذكره القاري في المرقاة. والحق عندنا هو عدم التفصيل، فقتلهما لا يفسد الصلاة مطلقاً لإطلاق الحديث. ذكر شيخ الإسلام السرخسي: أن الأظهر أن لا تفسد صلاته؛ لأن هذا عمل رخص فيه للمصلي، فأشبه المشي بعد الحدث والاستقاء من البئر

رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وللنسائي معناه. 1012- (28) وعن عائشة، قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي تطوعا والباب عليه مغلق، فجئت فاستفتحت، فمشى ففتح لي، ثم رجع إلى مصلاه، وذكرت: أن الباب كان في القبلة)) ـــــــــــــــــــــــــــــ والوضوء-انتهى. وقال الشوكاني: واستدل المانعون من ذلك إذا بلغ إلى حد الفعل الكثير، والكارهون له بحديث: إن في الصلاة لشغلاً، وبحديث: أسكنوا في الصلاة عند أبي داود. ويجاب عن ذلك بأن حديث الباب خاص، فلا يعارضه ما ذكروه، وهكذا يقال في كل فعل كثير ورد الإذن به، كحديث حمله - صلى الله عليه وسلم - لأمامة، وحديث خلعه للنعل، وحديث صلاته - صلى الله عليه وسلم - على المنبر ونزوله للسجود ورجوعه بعد ذلك، وحديث أمره - صلى الله عليه وسلم - بدرء المار، وإن أفضى إلى المقاتلة، وحديث مشيه لفتح الباب. (الآتي بعد هذا الحديث) وكل ما كان كذلك ينبغي أن يكون مخصصاً لعموم أدلة المنع-انتهى. (رواه أحمد) في (ج2: ص333- 348) . (وأبوداود والترمذي) وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه والبيهقي (ج2:ص 266) والحاكم في المستدرك (ج1: ص256) ، وقال: حديث صحيح ولم يخرجاه. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وسكت عنه أبوداود. ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره. وفي الباب عن عائشة وابن عباس، كما تقدم، وعن أبي رافع عند ابن ماجه، بإسناد ضعيف، وعن رجل من بني عدي بن كعب عند أبي داود في مراسيله بإسناد منقطع. 1012- قوله: (والباب عليه مغلق) فيه أن المستحب لمن صلى في مكان بابه إلى القبلة أن يغلق الباب عليه ليكون سترة للمار بين يديه، وليكون أستر. وفيه إخفاء صلاة التطوع عن الآدميين. (فجئت فاستفتحت) أي طلبت فتح الباب، والظاهر أنها ظنت أنه ليس في الصلاة، وإلا لم تطلبه منه كما هو اللائق بأدبها وعلمها. (ثم رجع إلى مصلاه) أي على عقبيه. (وذكرت) أي عائشة. (أن الباب كان في القبلة) أي فلم يتحول - صلى الله عليه وسلم - عنها عند مجيئه إليه، ويكون رجوعه إلى مصلاه على عقبيه إلى خلف. قال الأشرف: هذا قطع وهم من يتوهم أن هذا الفعل يستلزم ترك استقبال القبلة، ولعل تلك الخطوات لم تكن متوالية؛ لأن الأفعال الكثيرة إذا تفاصلت ولم تكن على الولاء لم تبطل الصلاة، قال المظهر: ويشبه أن تكون تلك المشية لم تزد على خطوتين. قال القاري: الإشكال باق؛ لأن الخطوتين مع الفتح والرجوع عمل كثير، فالأولى أن يقال تلك الفعلات لم تكن متواليات –انتهى. قال شيخنا في شرح الترمذي: هذا كله من التقييد بالمذهب. والظاهر أن أمثال هذه الأفعال في صلاة التطوع عند الحاجة لا تبطل الصلاة، وإن كانت متوالية. قال ابن الملك: مشيه عليه الصلاة والسلام وفتحه الباب ثم رجوعه إلى مصلاه يدل على أن الأفعال الكثيرة إذا تتوالى لا تبطل الصلاة. وإليه ذهب بعضهم-انتهى.

رواه أحمد وأبو داود والترمذي وروى النسائي نحوه. 1013- (29) وعن طلق بن علي، ـــــــــــــــــــــــــــــ قلت: وهذا هو الراجح المعول عليه عندي لظاهر الحديث، لكن في صلاة التطوع عند الحاجة لا مطلقاً. (رواه أحمد وأبو داود والترمذي) وأخرجه أيضاً البيهقي (ج2: ص265) . وقال الترمذي: حديث حسن غريب. وسكت عنه أبوداود. ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره. (وروى النسائي ونحوه) ولفظه: قالت استفتحت الباب، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي تطوعا، والباب على القبلة، فمشى عن يمينه أو عن يساره ففتح الباب، ثم رجع إلى مصلاه. 1013- قوله: (وعن طلق) بفتح الطاء وسكون اللام. (بن علي) كذا وقع في جميع النسخ الموجودة الحاضرة عندنا. ووقع في المصابيح عن علي بن طلق، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج8:ص108) وهذا هو الصواب؛ لأنه موافق لما وقع في جامع الترمذي وسنن أبي داود والنسائي والدارمي والدارقطني وابن حبان والبيهقي (ج2:ص255) ؛ ولأن هذا الحديث من مسند علي بن طلق كما يظهر من الاستيعاب والإصابة وتهذيب التهذيب، لا من مسند طلق بن علي، فإن له أحاديث أخرى غير ذلك، فما وقع ههنا لا شك عندي في كونه سهواً من صاحب المشكاة أو توهم هو وقوع القلب في روايات من ذكرنا من أصحاب الكتب. (كما رأى بعض الناس على ما قال البرقي، كما في تلقيح الفهوم (ص114، لابن الجوزي) ، فخالف صاحب المصابيح، وصحح على ما توهم، وأياما كان فالصحيح ههنا هو علي بن طلق لا طلق بن علي، وقد تقدم هذا الحديث في باب ما يوجب الوضوء بزيادة ونقصان من رواية الترمذي وأبي داود، وذكر المصنف هناك اسم الصحابي علي بن طلق على ما هو الصواب. قال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج7: ص341) علي بن طلق بن المنذر بن قيس بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن عبد العزى بن سحيم، نسبه خليفة بن خياط الحنفي اليمامي، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوضوء من الريح وغير ذلك-انتهى. وقال في الإصابة (ج2:ص510) بعد ذكر نسبه كما في التهذيب. قال ابن حبان: له صحبة. وقال ابن عبد البر: أظنه والد طلق بن علي، وبذلك جزم العسكري. وروى حديث أبوداود والترمذي والنسائي، وهو "إذا فسا أحدكم فليتوضأ، ولا تأتوا النساء في أدبارهن" ونقل الترمذي عن البخاري قال: لا أعرف لعلي بن طلق غير هذا الحديث-انتهى. وقد قوي الحافظ ظن ابن عبد البر في تهذيب التهذيب حيث قال: وهو ظن قوي؛ لأن النسب الذي ذكره خليفة هنا هو النسب المتقدم في ترجمة طلق بن علي من غير مخالفة، وجزم به العسكري-انتهى. تنبيهان: الأول: ذكر بعض الرواة في روايته لهذا الحديث اسم الصحابي طلق بن علي، كعبدلرزاق عن معمر عن عاصم الأحول عن عيسى بن حطان، وأبي نعيم عن عبد الملك بن مسلم عن عيسى بن حطان، وسمى شعبة عن عاصم الأحول عند أحمد طلق

ابن يزيد أو يزيد بن طلق على الشك. وكلاهما خطأ عندي، والصحيح هو علي بن طلق. قال ابن كثير في تفسيره بعد ذكر رواية شعبة عن عاصم الأحول: ورواه عبد الرزاق عن معمر عن عاصم الأحول عن عيسى بن حطان عن مسلم بن سلام عن طلق بن علي. والأشبه أنه علي بن طلق، كما تقدم-انتهى. وقد ذكر الحديث قبل ذلك من رواية علي بن طلق، وعزاه لأحمد والترمذي، وسنذكره. وإنما قال الأشبه أي بالصواب؛ لأن أبا معاوية عند أحمد والترمذي، وسفيان في رواية عبد الرزاق عنه عند أحمد على ما ذكر ابن كثير، وعبد الواحد بن زياد عند الدارمي، وجرير بن عبد الحميد عند أبي داود، والدارقطني وابن حبان والبيهقي قد اتفقوا في روايتهم عن عاصم الأحول على تسمية الصحابي بعلي بن طلق. وكذا سماه به وكيع عند الترمذي وإبراهيم كلاهما عن عبد الملك بن مسلم، كما في أسد الغابة (ج3:ص64) . والثاني: وقع هذا الحديث في مسند أحمد في مسند علي بن أبي طالب رضي الله عنه (ج1:ص86) ، فظن الهيثمي في مجمع الزوائد (ج1:ص243) و (ج4:ص299) أن هذا الحديث عند أحمد من مسند علي بن أبي طالب، لا من مسند علي بن طلق حيث بدأه بقوله: وعن علي يعني ابن أبي طالب، فذكر لفظه، ثم قال: رواه أحمد من حديث علي بن أبي طالب، ورجاله ثقات، ورواه أصحاب السنن من حديث علي بن طلق-انتهى. وكذا وقع في هذا الظن علي المتقي في كنز العمال حيث ذكر هذا الحديث في (ج5: ص116) في مسند علي بعد ذكر مسانيد أبي بكر وعمر وعثمان، وعزاه لأحمد والعدني، قال: ورجاله ثقات، ثم ذكره في (ج5:ص117) عن علي بن طلق وعزاه لابن جرير فقط. ويظهر من صنيع مجد الدين ابن تيمية الأكبر في المنتقى أن الحديث عنده في المسند عن علي بن أبي طالب وعلي بن طلق كليهما، حيث أورد في باب النهي عن إتيان المرأة في دبرها، ما يدل على النهي عن ذلك عن علي بن أبي طالب وعلي بن طلق وكليهما. وهذا ظاهر في أنه جعلهما حديثين منفصلين. ويظهر من كلام الأمير اليماني أن الحديث عنده مروي عن الصحابيين المذكورين، وعن طلق بن علي أيضاً، حيث قال في سبل السلام (ج3:ص136) : روى هذا الحديث. (أي حديث أبي هريرة المخرج في أبي داود والنسائي في منع إتيان النساء في أدبارهن) بلفظه من طرق كثيرة عن جماعة من الصحابة، منهم علي بن أبي طالب وعمر وخزيمة وعلي بن طلق وطلق بن علي وابن مسعود الخ. والظاهر عندي: أن الحديث من مسند علي بن طلق فقط. وأنه وقع السهو ممن رتب المسند وهذبه، حيث ذكر هذا الحديث في مسند علي بن أبي طالب، لما رأى في طريق وكيع عن عبد الملك لفظ علي من غير نسب أي من غير نص على أنه ابن طلق أو ابن أبي طالب، فظن أنه ابن أبي طالب. قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (ج2: ص81) : قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا سفيان عن عاصم عن عيسى بن حطان عن مسلم بن سلام عن علي بن طلق، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يؤتى النساء في أدبارهن، فإن الله لا يستحي من الحق. وأخرجه أحمد أيضاً عن أبي معاوية،

وأبوعيسى الترمذي من طريق أبي معاوية أيضاً عن عاصم الأحول به، وفيه زيادة، وقال: هو حديث حسن. ومن الناس من يورد هذا الحديث في مسند علي بن أبي طالب، كما وقع في مسند الإمام أحمد بن حنبل. والصحيح أنه علي بن طلق-انتهى. وقال الحافظ في التلخيص (ص106) بعد ذكر الحديث ما لفظه: هكذا نسبه أي الرافعي، فقال: علي بن أبي طالب، وهو غلط، والصواب: علي بن طلق، وهو اليماني، كذا رواه من طريقة أحمد وأصحاب السنن والدارقطني وابن حبان-انتهى. وقال الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على مسند الإمام أحمد (ج2:ص64- 66) بعد ذكر كلام ابن كثير السابق. هكذا وافق الحافظ ابن كثير رأي الترمذي في أن علياً في هذا الإسناد هو ابن طلق؛ لأنه ذكر فيه من غير نسب، فلم ينص على أنه هذا أو ذاك وأنا أرجح أن رأى الترمذي ومن تبعه خطأ؛ لأنه من المستبعد جداً أن يخفى مثل هذا على الإمام أحمد وابنه عبد الله، ولأن علي بن طلق اشتبه أمره على البخاري فظن أنه شخص آخر غير طلق بن علي اليماني، فلم يعرف له غير هذا الحديث الواحد، وظن ابن عبد البر أن علي بن طلق هو والد طلق بن علي. وقوى حافظ في التهذيب هذا الظن لاتفاق نسبهما، ولو كان هذا صحيحاً لكان علي بن طلق صحابياً قديماً معمراً حتى يدركه مسلم بن سلام، بل حتى يدركه عيسى ابن حطان الرقاشي، فيما يزعم الحافظ في التهذيب (ج2:ص207) : أنه روى عنه على خلاف فيه. بل أنا ظن أن الحديث حديث علي بن أبي طالب، كما ذكره الإمام أحمد في مسنده. (أي علي بن أبي طالب) ، رواه عنه مسلم بن سلام، ورواه عن مسلم ابنه عبد الملك على الصواب، ثم رواه عن مسلم أيضاً عيسى بن حطان فأخطأ، فقال عنه "عن علي بن طلق"، قال: وأما رواية الإمام أحمد حديث "علي بن طلق" التي أشار الحافظ ابن كثير إلى أنه رواها بإسنادين فلم أجدها في المسند، بل لم أجد لعلي بن طلق فيه مسنداً خاصاً بما حصرت مسانيده في فهارسي، ولا فيما أتممت تحقيقة من هذا الديوان الأعظم، وهو أكثر من خمسة عشر ألف حديث، فلعله سيأتي في باقي الكتاب في أثناء مسند صحابي آخر، والله اعلم-انتهى. قلت: قد ظهر من هذا كله أن عيسى بن حطان ذكر علياً في روايته عن مسلم بن سلام منسوباً، فنص على أنه ابن طلق، وهذه الرواية عند أحمد على ما ذكر ابن كثير والترمذي وأبي داود والدارمي وابن حبان والدارقطني وابن الأثير الجزري في أسد الغابة (ج3:ص64) ، ورواه عبد الملك بن مسلم بن سلام عن أبيه مسلم، فذكره من غير نسب فلم ينص على أنه هذا أو ذاك، وتلك الرواية المقيدة قرينة واضحة على أن علياً في رواية عبد الملك هو ابن طلق، لا ابن أبي طالب. ومجرد ذكر الإمام أحمد أو ابنه أو غيرهما ممن رتب المسند وهذبه هذه الرواية المطلقة، أي رواية عبد الملك بن مسلم عن أبيه عن علي من غير نسب في مسند علي بن أبي طالب لا يدل على أن علياً هذا هو ابن أبي طالب؛ لأن هذا ليس مجرد الرأي والفهم، وهو ليس بحجة على غير صاحبه. وليس فيه أيضاً دليل على وقوع الخطأ من عيسى بن حطان في ذكر

قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا فسا أحدكم في الصلاة فلينصرف فليتوضأ، وليعد الصلاة، ـــــــــــــــــــــــــــــ النسب، فنسبه الخطأ إلى عيسى تحكم محض عندي. وأي بعد في خفاء مثل هذا على الإمام أحمد وابنه فقد خفي ما هو دون ذلك على من هو أكبر وأعظم في هذا الشأن منهما، والله اعلم. (إذا فسا أحدكم) أي خرج من دبره ريح بلا صوت، سواء تعمد خروجه أو لم يتعمده، فعل ماض من فسا يفسوا فسوا وفساء. قال في المصباح: الفساء بالضم والهمزة والمد ريح يخرج بغير صوت يسمع. قال الطيبي: أي أحدث بخروج ريح من مسلكه المعتاد. (فلينصرف) أي عن صلاته. (فليتوضأ وليعد الصلاة) فيه دليل على أن الحدث ناقض للوضوء، وأنه تبطل به الصلاة ويجب عليه إعادتها، ولا يجوز البناء عليها، سواء كان الحدث عمداً أو سبقه من غير قصد لإطلاق الحديث، وبناء على أن الأمر بإعادة الصلاة للوجوب كما أن الأمر بالوضوء للوجوب اتفاقاً، وبه أخذ الشافعي في الجديد، فقال: إذا سبقه الحدث وهو في الصلاة من غير اختياره بطلت صلاته، كما تبطل في صورة خروج الحدث باختياره وقصده. وهذا هو الراجح عندي. وفرق الشافعي في القديم، وأحمد في رواية، ومالك وأبوحنيفة بين العمد والسبق من غير اختيار، فقالوا: يعيد الصلاة في الأول، ويبني في الثاني بالشروط المذكورة في الفروع، ولو استأنف فيه أيضاً لكان أفضل للبعد عن شبهة الخلاف، فعندهم الأمر بالإعادة في الحديث إذا كان الحدث عمداً، محمول على الوجوب، وأما إذا سبقه الحدث ولم يتعمده فمحمول على الاستحباب واختيار الأفضل. واستدل لهم على ذلك بما رواه ابن ماجه والدارقطني عن عائشة مرفوعاً: من أصابه قيء أو قلس أو مذي، فلينصرف فليتوضأ ثم ليبين على صلاته وهو لا يتكلم في ذلك. فجمع هؤلاء بين الحديثين بحمل حديث علي بن طلق على تعمد الحدث في الصلاة، وحديث عائشة هذا على سبق الحدث من غير تعمد، وفيه أن حديث عائشة ضعيف لا يقاوم حديث الباب، فقد أعله غير واحد من الأئمة بأنه من رواية إسماعيل بن عياش عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عائشة، وابن جريج حجازي، ورواية إسماعيل بن عياش عن الحجازيين ضعيفة. وقد خالفه الحفاظ من أصحاب ابن جريج، فرووه عن ابن جريج عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً. وصحح هذه الطريقة المرسلة الذهلي والدارقطني في العلل وأبوحاتم، وقال رواية إسماعيل خطأ. وقال ابن معين حديث ضعيف. وقال أحمد الصواب عن ابن جريج عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أي مرسلاً. والمرسل على القول الأصح ليس بحجة، فيترجح عليه حديث علي بن طلق، وأيضاً قد صححه ابن حبان وحسنه الترمذي، ولم يضعفه أحد غير ابن القطان، كما سيأتي، وأما حديث عائشة فلم يصححه أحد غير الزيلعي الحنفي بل ضعفه جمهور الأئمة الشافعي وأحمد وأبوحاتم وأبوزرعة والدارقطني وابن عدي والحازمي والبيهقي وابن معين والذهلي، كما في نصب الراية والتلخيص والدراية. وأما ما أجاب به الزيلعي في تخريجه، وابن التركماني في الجواهر النقي عن تضعيف هؤلاء الأئمة، فلا يخفى سخافته على من له أدنى بصيرة ودراية، فلا حاجة إلى ذكره ثم الرد عليه. وقد أشبع ابن حزم في المحلى (ج4: ص153- 156) الكلام في الرد على من قال بجواز

رواه أبوداود، وروى الترمذي مع زيادة ونقصان. ـــــــــــــــــــــــــــــ البناء، فارجع إليه إن شئت. (رواه أبوداود) في موضعين، في باب من يحدث في الصلاة، من كتاب الطهارة. وفي باب إذا أحدث في صلاته يستقبل، من كتاب الصلاة، لكن من حديث علي بن طلق لا من حديث طلق بن علي، وكذا رواه الترمذي وغيره من حديث علي بن طلق كما تقدم. (وروى الترمذي) أي نحوه في كتاب الرضاع لكن (مع زيادة ونقصان) وقد ذكر المصنف في باب ما يوجب الوضوء، وتقدم هناك شرحه، فارجع إليه. والحديث حسنه الترمذي وصححه ابن حبان كما في التلخيص، وبلوغ المرام. وسكت عنه أبوداود، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره. وقال الترمذي: سمعت محمداً يقول: لا أعرف لعلي بن طلق عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير هذا الحديث الواحد، ولا أعرف هذا الحديث من حديث طلق بن علي السحيمي. وكأنه رأى أن هذا رجل آخر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى. وقد نقل الحافظ عبارة الترمذي هذه في تهذيب التهذيب، وفيه: ولا أعرف هذا من حديث علي بن طلق السحيمي-انتهى. وهذا خطأ عندي، وهو ظاهر لمن تأمل فيما قدمنا من الكلام في ترجمة علي بن طلق، ويدل أيضاً على صحة ما وقع في نسخ الترمذي الحاضرة عندنا، ما نقل الحافظ في التلخيص (ص106) والمنذري في تلخيص السنن والشوكاني في النيل والقاري في المرقاة (ج1: ص277) عن ميرك عن جامع الترمذي بلفظ: لا أعرف هذا الحديث من حديث طلق بن علي السحيمي مثل ما وقع في نسخ الترمذي الموجودة عندنا، والحديث ضعفه ابن القطان بأن مسلم بن سلام الحنفي أبا عبد الملك الراوي عن علي بن طلق مجهول الحال. وأجيب عنه بأن ابن حبان وثقة، كما في الخلاصة. وقال الحافظ في التقريب: مقبول، ومن عرف حجة على من جهل وقال النيموي: زيادة قوله في الحديث "فليعد صلاته" ليست بمحفوظة؛ لأنه تفرد بها جرير بن عبد الحميد، كما صرح به ابن حبان في صحيحه، وجرير هذا قال أحمد بن حنبل فيه: لم يكن بالذكي في الحديث اختلط عليه حديث أشعث وعاصم الأحول حتى قدم عليه بهز فعرفه-انتهى. وهذا الحديث من طريق جرير بن عبد الحميد عن عاصم الأحول. وقال البيهقي في سننه في ثلاثين حديثاً لجرير: قد نسب في آخر عمره إلى سوء حفظه. قلت: قال الحافظ في الفتح: جرير بن عبد الحميد بن قرط الضبي الرازي، وكان منشأه بالكوفة، قال اللالكائي: أجمعوا على ثقته، وكذا قال الخليلي. وقال أبوخيثمة: لم يكن يدلس، وروى الشاذكوني عنه ما يدل على التدليس، لكن الشاذكوني فيه مقال. وقال ابن سعد: كان ثقة يرحل إليه. وقال أحمد وابن معين: هو أثبت من شريك، ووثقه العجلي والنسائي وأبوحاتم وقال: يحتج بحديثه. وقال أحمد بن حنبل: لم يكن بالذكي. وقال البيهقي: نسب في آخر عمره إلى سوء الحفظ، ولم أر ذلك لغيره بل احتج به الجماعة-انتهى. ما في مقدمة الفتح. فظهر أن جرير بن عبد الحميد الضبي مجمع على ثقته، ولم يعتمد على قول البيهقي: "نسب في آخر عمره إلى سوء الحفظ"، وكذلك لم يعتمد على قول

1014- (30) وعن عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت: ((قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا أحدث أحدكم في صلاته فليأخذ بأنفه ثم لينصرف)) رواه أبوداود. 1015- (31) وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أحدث أحدكم ـــــــــــــــــــــــــــــ أحمد "لم يكن بالذكي"، بل احتج به الجماعة ولم يثبت أنه في رواية الزيادة المذكورة خالف الثقات أو أوثق منه، فكيف يكون ما زاده غير محفوظ؟ ولهذا الحديث شاهد ضعيف من حديث ابن عباس مرفوعاً أخرجه الدارقطني والطبراني، ذكره الحافظ في الدراية (ص102) والزيلعي في نصب الراية (ج1: ص62) وفي إسناده سليمان بن أرقم، وهو ضعيف كذا في أبكار المنن (ص262) . 1014- قوله: (إذا أحدث أحدكم في صلاته فليأخذ بأنفه) ندباً، وفي رواية ابن ماجه "فليمسك على أنفه" والحديث فيه ندب لستر ما لا يحسن إظهاره بما لا يكون فيه كذب. وقد روى البخاري في الأدب المفرد والبيهقي في الشعب والطبراني في الكبير عن عمران بن حصين موقوفاً: أن في المعاريض لمندوحة عن الكذب. قال البيهقي: وقد روى عنه مرفوعاً، والموقوف هو الصحيح. قال الخطابي في المعالم (ج1: ص248) : إنما أمره أن يأخذ بأنفه ليوهم القوم أن به رعافاً. وفي هذا باب من الأخذ بالأدب في ستر العورة، وإخفاء القبيح من الأمر والتورية بما هو أحسن منه، وليس يدخل هذا في باب الرياء والكذب، وإنما هو من باب التجمل، واستعمال الحياء، وطلب السلامة من الناس-انتهى. وقال التوربشتي: أمره بأخذ الأنف ليخيل أنه مرعوف، وهذا ليس من قبيل الكذب، بل من المعاريض بالفعل، ورخص له فيها وهدى إليها لئلا يسول له الشيطان المضي أي في الصلاة استحياء من الناس. وفيه أيضاً تنبيه على إخفاء في تلك الحالة-انتهى. (ثم لينصرف) بكسر اللام وسكونها. (رواه أبوداود) في أبواب الجمعة من طريق ابن جريج عن هشام بن عروة عن عروة عن عائشة، وأخرجه ابن ماجه من طريق عمر بن علي المقدمي عن هشام ومن طريق عمر بن قيس عن هشام. قال في الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله ثقات. والطريق الثانية ضعيفة لاتفاقهم على ضعف عمر بن قيس. والحديث أخرجه أيضاً ابن حبان والدارقطني (ص57) والحاكم (ج1: ص184) وقال صحيح على شرطهما، ووافقه الذهبي والبيهقي (ج2:ص254) . 1015- قوله: (إذا أحدث أحدكم) كذا في جميع النسخ الحاضرة عندنا، وكذا وقع في المصابيح. والذي في الترمذي هو "إذا أحدث يعني الرجل"، وضمير "يعني" يرجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا تفسير الضمير المستتر في "أحدث" من بعض الرواة. قال القاري: أي عمداً عند أبي حنيفة، ومطلقاً عند صاحبيه، بناء على أن الخروج من الصلاة بصنعه فرض عنده خلافاً لهما-انتهى. قال الشيخ: ليس في الحديث تقييد بالعمد، فالظاهر ما قال

وقد جلس في آخر صلاته قبل أن يسلم فقد جازت صلاته)) ، رواه الترمذي، وقال هذا حديث إسناده ليس بالقوي وقد اضطربوا في إسناده. ـــــــــــــــــــــــــــــ صاحبا أبي حنيفة-انتهى. (وقد جلس في آخر صلاته) قال القاري: أي قدر التشهد-انتهى. قلت: ليس في الحديث بيان مقدار الجلوس. وأما ما روي في ذلك مما يدل على بيان قدر الجلوس، كحديث ابن مسعود عند أحمد وأبي داود وغيرهما، وكحديث عطاء عند أبي نعيم، وكحديث علي عند البيهقي والدارقطني، فكله ضعيف لا يصلح للاحتجاج. أما حديث ابن مسعود فقد تقدم الكلام عليه. وأما حديث عطاء فهو مرسل، ومرسلات عطاء أضعف المراسيل، فإنه كان يأخذ عن كل أحد كما في التدريب وغيره. وأما حديث علي فهو موقوف. (فقد جازت صلاته) أي تمت وأجزأت. واستدل به لأبي حنيفة وأصحابه على أن المصلي إذا أحدث في آخر صلاته بعد ما جلس قد التشهد فقد جازت صلاته خلافاً للأئمة الثلاثة، فإن الصلاة: تبطل عندهم بذلك، لكون التسليم فرضاً عندهم وفي الاستدلال بهذا الحديث لما ذهب إليه أبوحنيفة نظر ظاهر؛ لأنه ضعيف، لا يصلح للاحتجاج، كما ستقف عليه. قال الخطابي في المعالم (ج1:ص175) : هذا الحديث ضعيف، وقد تكلم الناس في بعض نقلته، وقد عارضته الأحاديث التي فيها إيجاب التسليم والتشهد، ولا أعلم أحداً من الفقهاء قال بظاهره؛ لأن أصحاب الرأي لا يرون أن صلاته قد تمت بنفس القعود حتى يكون ذلك بقدر التشهد، على ما رووا عن ابن مسعود، ثم لم يقودوا قولهم في ذلك؛ لأنهم قالوا: إذا طلعت عليه الشمس، أو كان متيمماً فرأى الماء وقد قعد مقدار التشهد قبل أن يسلم فسدت صلاته، وقالوا فيمن قهقه بعد الجلوس قدر التشهد: إن ذلك لا يفسد صلاته ويتوضأ، ومن مذهبهم أن القهقهة لا تنقض الوضوء إلا أن تكون في صلاة. والأمر في اختلاف هذه الأقاويل ومخالفتها الحديث بين –انتهى. وقد ذكر ابن حزم في المحلى (ج4:ص276، 277) مسائل نحو ما ذكر الخطابي، تناقض فيها أقوال أهل الرأي. والبحث نفيس جدا فارجع إليه، قال القاري: ووجه مناسبة هذا الحديث للباب: أنه وجد منه حدث في الصلاة، ولم يبطلها مع أن من شأنه إبطالها. (رواه الترمذي) وأخرجه أيضاً أبوداود والدارقطني والبيهقي (ج2:ص176) وأبوداود الطيالسي. (وقال) أي الترمذي: (هذا حديث، إسناده ليس بالقوى، وقد اضطربوا في إسناده) لم يبين الترمذي اضطراب إسناده، ولكنه ذكر في آخر الباب كلامهم في عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي، الذي عليه مدار أسانيد هذا الحديث، وتضعيف بعض أهل العلم له، قال الحافظ في التقريب في ترجمته: ضعيف في حفظه. والظاهر أن هذا الحديث مما أخطأ فيه حفظه. وهو أيضاً مخالف للحديث الصحيح: "وتحليلها التسليم". وقد تقدم، فلا يقوى حديث عبد الله بن عمر وهذا لمعارضته. قال الزيلعي في نصب الراية (ج2:ص62-63) بعد ذكر كلام الترمذي المتقدم: وأخرجه الدارقطني ثم البيهقي في سننهما.

{الفصل الثالث}

{الفصل الثالث} 1016- (32) عن أبي هريرة: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى الصلاة، فلما كبر انصرف ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الدارقطني: وعبد الرحمن بن زياد لا يحتج به. وقال البيهقي: وهذا الحديث إنما يعرف بعبد الرحمن الإفريقي، وقد ضعفه يحيى بن معين ويحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل وعبد الرحمن بن مهدي، قال: وإن صح قائماً كان قبل أن يفرض التسليم، ثم روى بإسناده عن عطاء بن أبي رباح، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قعد آخر صلاته أقبل على الناس بوجهه. وذلك قبل أن ينزل التسليم-انتهى. وقال القاري بعد ذكر كلام الترمذي المذكور: قال ابن الصلاح: المضطرب هو الذي يروى على أوجه مختلفة متفاوتة والاضطراب قد يقع في السند أو المتن أو من راو أو من رواة. والمضطرب ضعيف لإشعاره بأنه لم يضبط، ذكره الطيبي. قال القاري: لهذا الحديث طرق ذكرها الطحاوي. وتعدد الطرق يبلغ الحديث الضعيف إلى حد الحسن-انتهى كلام القاري. وفيه أن تعدد طرق الحديث إنما يبلغه إلى حد الحسن إذا كانت تلك الطرق متباينة، ولم يكن مدار كلها على ضعيف لا يحتج به. وطرق هذا الحديث التي ذكرها الطحاوي ليست متباينة، بل مدار كلها على عبد الرحمن بن زياد الإفريقي. 1016- قوله: (خرج إلى الصلاة) أي قاصداً إليها. (فلما كبر) أي تكبيرة الإحرام. (انصرف) أي إلى حجرته. وفيه دليل على أنه - صلى الله عليه وسلم - انصرف بعد ما دخل في الصلاة وكبر للإحرام. ويدل عليه أيضاً رواية ابن ماجه والدارقطني والبيهقي (ج2:ص397) لحديث أبي هريرة هذا من طريق أسامة بن زيد عن عبد الله بن يزيد عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبي هريرة. قال الحافظ بعد عزوه لابن ماجه: في إسناده نظر. وقال في الزوائد: إسناده ضعيف لضعف أسامة بن زياد-انتهى. قلت: لم يتعين لي أنه أسامة بن زيد أسلم العدوي أو أسامة بن زيد الليثي المدني. والأول ضعيف من قبل حفظه، والثاني صدوق يهم، كما في التقريب. ويدل عليه أيضاً ما رواه الدارقطني والبيهقي (ج2:ص399) من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس بلفظ: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاته فكبر وكبرنا معه، ثم أشار إلى القوم. قال الحافظ: واختلف في إرساله ووصله-انتهى. ورواه الطبراني في الأوسط بنحوه. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2:ص69) : رجاله رجال الصحيح. وما رواه أحمد وأبوداود وابن حبان والبيهقي (ج2:ص397) من حديث الحسن عن أبي بكرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل في صلاة الفجر، فأومأ بيده أن مكانكم. قال الحافظ: صححه ابن حبان والبيهقي واختلف في وصله وإرساله. وما رواه الدارقطني عن بكر بن عبد الله المزني: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل في صلاة فكبر وكبر من خلفه فانصرف، مرسل. وما رواه أحمد والبزار والطبراني في الأوسط عن علي بن أبي طالب، قال: بينما نحن

وأومى إليهم أن كما كنتم ـــــــــــــــــــــــــــــ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نصلي، إذا انصرف ونحن قيام الخ. وفيه ابن لهيعة، وما رواه مالك في الموطأ عن عطاء بن يسار مرسلاً: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كبر في صلاة من الصلوات ثم أشار إليهم بيده أن امكثوا، فذهب ثم رجع وعلى جلده أثر الماء. وما رواه أبوداود عن محمد بن سيرين والربيع بن محمد مرسلاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبر. وقد روى الشيخان عن أبي هريرة ما يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - انصرف قبل أن يدخل في الصلاة. ففي رواية للبخاري: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج وقد أقيمت الصلاة وعدلت الصفوف حتى إذا قام في مصلاه انتظرنا أن يكبر انصرف قال: على مكانكم. وفي رواية لمسلم: فأتى رسول الله حتى إذا قام في مصلاه قبل أن يكبر ذكر فانصرف وقال لنا: مكانكم، فرواية الصحيحين معارضة لما تقدم من أحاديث أنس وأبي بكرة وأبي هريرة وعلي، ومراسيل بكر وعطاء ومحمد بن سيرين والربيع بن محمد، ويمكن أن يجمع بينهما بأن يقال: إن معنى قوله "كبر" في حديث الباب وما يوافقه، أراد أن يكبر للإحرام، ومعنى دخل في الصلاة، أنه قام في مقامه للصلاة وتهيأ للإحرام بها، ويحتمل أنهما قصتان ذكر في الأولى قبل التكبير والتحرم بالصلاة، وهي رواية الصحيحين، وفي الثانية لم يذكر إلا بعد أن أحرم، كما في حديث أبي بكرة وما وافقه. قال الحافظ: في الفتح بعد ذكر رواية مسلم وحديث أبي بكرة وأثر عطاء: ويمكن الجمع بينهما يحمل قوله "كبر" على أراد أن يكبر، أو بأنهما واقعتان. أبداه عياض والقرطبي احتمالاً. وقال النووي: إنه الأظهر، وجزم به ابن حبان كعادته، فإن ثبت وإلا فما في الصحيح أصح-انتهى. واعلم أنه استدل بحديث أبي بكرة وما وافقه لمالك والشافعي وأحمد من وافقهم على أنه لا إعادة على من صلى خلف من نسي غسل الجنابة وصلى ثم تذكر، إنما الإعادة على الإمام فقط خلافاً لأبي حنيفة، فإنه قال: يجب الإعادة على المأمومين أيضاً. وفيه أنه لا يتم استدلال الأئمة الثلاثة إلا إذا قيل بتعدد القصة، ومع ذلك إذا ثبت أن القوم أيضاً كبروا ودخلوا في الصلاة، لكن لم يذكر ذلك إلا في حديث أنس عند الدارقطني والطبراني، وقد تقدم أنه اختلف في إرساله ووصله، فرواه معاذ بن معاذ عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس مسنداً، ورواه عبد الوهاب الخفاف عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن بكر بن عبد الله المزني مرسلاً، أخرجهما الدارقطني. وأما إذا قيل بوحدة الواقعة في روايات الصحيحين وغيرهما، أو بأن القوم لم يدخلوا في الصلاة ولم يكبروا على القول بتعدد القصة، فلا يكون حديث أبي بكرة وما وافقه دليلاً على ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة. والظاهر عندي: توجد القضية ويحمل قوله: "كبر ودخل" على المجاز أي أراد أن يكبر للإحرام وتهيأ للدخول في الصلاة، وأن القوم لم يدخلوا في الصلاة، كما أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يدخل فيها، فإن كان كذلك، وإلا فما في الصحيح أصح. (وأومى إليهم) بالياء. وفي بعض النسخ بالهمزة. قال القاري: ويبدل الهمزة، فيكتب بالياء أي أشار. (أن) وفي رواية الدارقطني أي. (كما كنتم) وفي بعض النسخ: كما أنتم، أي على ما أنتم عليه من حال

ثم خرج فاغتسل، ثم جاء ورأسه يقطر فصلى بهم، فلما صلى قال: إني كنت جنباً، فنسيت أن أغتسل)) رواه أحمد. 1017- (33) وروى مالك عن عطاء بن يسار مرسلاً. ـــــــــــــــــــــــــــــ الاجتماع، وعدم التفرق. قال الطيبي: أي كونوا كما كنتم. و"أن" مفسرة لما في الإيماء من معنى القول. ويجوز أن تكون مصدرية، والجارة محذوفة أي أشار إليهم بالكون على حالهم-انتهى. (ثم خرج) أي من المسجد. (ورأسه يقطر) بضم الطاء أي شعر رأسه يقطر ماء بسبب الاغتسال يعني لم ينشف إما للعجلة، وإما؛ لأنه أفضل. (فصلى بهم) وفي رواية مسلم المتقدمة: فكبر وصلى بنا. وفي رواية للبخاري: فكبر فصلينا معه. (فلما صلى) أي فرغ من صلاته. (قال) مشيراً إلى السبب فيما وقع له. (إني كنت جنباً، فنسيت) بفتح النون وكسر السين المخففة، كذا في النسخ. ولعل الأولى ضم النون وتشديد السين، قاله القاري. (إن اغتسل) أي الاغتسال. وفي الحديث فوائد: منها: جواز النسيان على الأنبياء في أمر العبادة لأجل التشريع، ومنها: طهارة الماء المستعمل، ومنها: جواز الفصل بين الإقامة والصلاة؛ لأن قوله فصلى ظاهر في أن الإقامة لم تعد ولم تجدد، والظاهر أنه مقيد بالضرورة، وبأمن خروج الوقت. وعن مالك إذا بعدت الإقامة من الإحرام تعاد. وينبغي أن يحمل على ما إذا لم يكن عذر، ومنها: أنه لا حياء في أمر الدين، وسبيل من غلب أن يأتي بعذر موهم كأن يمسك بأنفه ليواهم أنه رعف، كما تقدم، ومنها: أنه لا يجب على من احتلم في المسجد فأراد الخروج منه أن يتيمم، ومنها: جواز الكلام بين الصلاة والإقامة. ومنها: جواز تأخير الجنب الغسل عن وقت الحدث. ومنها: خروج الإمام بعد الإقامة للغسل. (رواه أحمد) يعني موصولاً، وله عنده طرق وألفاظ، وأخرجه أيضاً ابن ماجه والدارقطني والبيهقي (ج2:ص398) . 1017- (وروى مالك) في الموطأ، وكذا البيهقي عن إسماعيل بن أبي حكيم. (عن عطاء بن يسار) مولى ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - (مرسلاً) وقد تقدم لفظه. قال ابن عبد البر: هذا مرسل، وقد روى متصلاً مسنداً من حديث أبي هريرة وأبي بكرة-انتهى. قال ميرك: لم يظهر وجه مناسبة هذا الحديث لباب ما لا يجوز من العمل في الصلاة وما يباح منه، فتأمل. قال القاري: ولعل المصنف وهم أن قوله "فلما كبر" على ظاهره، فيكون دليلاً على عدم البناء مطابقا لمذهبه-انتهى. قلت: وذلك لأن حكم الحدث السابق واللاحق عند الشافعية والمالكية واحد، يعني إذا صلى الإمام ناسياً محدثاً أو جنباً ثم تذكر يفسد صلاته، ولا يجوز البناء عليها. وكذلك إذا أحدث في أثناء الصلاة. فلما حمل قوله "كبر" على ظاهره، دل الحديث على بطلان الصلاة. وعدم جواز البناء، ووجوب الإعادة. ولذلك بوب مالك على حديث عطاء إعادة الجنب الصلاة وغسله.

1018- (34) وعن جابر، قال: ((كنت أصلي الظهر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخذ قبضة من الحصى لتبرد في كفى، أضعها لجبهتي، أسجد عليها لشدة الحر)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا صلى ولم يذكر. وهذا كما ترى حمله مالك على قصة الجنابة المذكورة في رواية أبي هريرة وعلي وأنس وأبي بكرة، وأما تلميذه محمد فحمله على سبق الحدث في الصلاة، كما هو ظاهر من تبويبه، واستنبط منه أن من سبقه الحدث في الصلاة فلا بأس أن ينصرف فيتوضأ ثم يبني على ما قد صلى، وفيه أن هذا الحمل والاستنباط إنما يصح إذا كان قصة حديث عطاء بن يسار غير ما وقع في أحاديث أبي هريرة وأنس وأبي بكرة وعلي ومرسل ابن سيرين، وهو خلاف الأصل. وأيضاً يؤدي ذلك إلى القول بتكرر القضية ثلاث مرات: الأولى ما في رواية الصحيحين. والثانية ما في رواية عطاء المرسلة، والثالثة ما في أحاديث علي وأبي هريرة وأبي بكرة وأنس ومرسل ابن سيرين. وهذا كما ترى بعيد جداً، ولذلك أورد الشيخ عبد الحي اللكنوي في التعليق الممجد (ص121) على هذا الاستنباط بخمسة وجوه، وقال في آخرها: وبالجملة إذا جمعت طرق حديث الباب، ونظر إلى ألفاظ رواياته، وحمل بعضها على بعض، علم قطعاً أنه لا يصلح لاستنباط ما استنبطه محمد. وبه يظهر أنه لا يصح إدخال هذا الحديث في باب الحدث في الصلاة؛ لأنه لم يكن هناك حدث في الصلاة-انتهى. 1018- قوله: (فأخذ) أي فأخذت. فجاء المضارع لحكاية الحال الماضية، قاله الطيبي. وتبعه ابن حجر. وهذا مبني منهما على أنه عطف على "كنت". والظاهر أنه عطف على "أصلي" قاله القاري. (قبضة) بفتح القاف وضمها ومعنى الفتح المرة من القبض، ثم أطلق على المقبوض كضرب الأمير، وهو معنى القبضة بضم القاف. قال الجوهري: القبضة هي ما قبضت عليه من شيء، قال وربما جاء بالفتح-انتهى. وقال في القاموس: القبضة وضمه أكثر ما قبضت عليه من شيء. (من الحصى) صفة لقبضة مبنية. (لتبرد) بضم الراء من باب نصر. (لجبهتي) أي لموضعها. (أسجد عليها) أي على الحصى الباردة. قال ابن حجر: بدل من أضعها التي هو نعت لقبضة، أو حال منها لتخصيصها-انتهى. قال القاري: والأخير هو الأظهر لوجود الفصل بالعلة المذكورة بينهما. (لشدة الحر) علة للأخذ. قال الخطابي في المعالم (ج1: ص127) : فيه من الفقه تعجيل صلاة الظهر، وفيه أنه لا يجوز السجود إلا على الجبهة، ولو جاز السجود على ثوب هو لابسه أو الاقتصار من السجود على الأرنبة دون الجبهة لم يكن يحتاج إلى هذا الصنيع، وفيه أن العمل اليسير لا يقطع الصلاة-انتهى. قلت: في الاستدلال به على تعجيل صلاة الظهر نظر؛ لأن شدة الحر قد توجد مع الإبراد، وقد تبقى الحرارة في الحصى، وتستمر بعد الإبراد، فيحتاج إلى تبريده، أو السجود على الثوب، ويكون فائدة الإبراد وجود ظل يمشي فيه إلى المسجد أو يصلي فيه في المسجد. وأما قوله: لو جاز السجود على ثوب هو لابسه ففيه أيضاً نظر، لاحتمال أن يكون جابر لم يكن في ثوبه فضل يمكنه أن يسجد عليه. نعم لو ثبت أنه كان في ثوبه الذي هو لابسه فضل ولم يسجد عليه لتم

رواه أبوداود، وروى النسائي نحوه. 1019- (35) وعن أبي الدرداء، قال: ((قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي فسمعناه يقول: أعوذ بالله منك، ثم قال: ألعنك بلعنة الله ثلاثاً، وبسط يده كأنه يتناول شيئاً، فلما فرغ من الصلاة، قلنا: يا رسول الله! قد سمعنا وتقول في الصلاة شيئاً لم نسمعك تقوله قبل ذلك، ـــــــــــــــــــــــــــــ ما قال الخطابي. وقد روى البخاري عن أنس: كنا نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيضع أحدنا طرف الثوب من شدة الحر في مكان السجود. وفي رواية: سجدنا على ثيابنا اتقاء الحر. ورواه مسلم أيضاً ولفظه في رواية: فإذا لم يستطيع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه. فهذه الروايات تدل على جواز السجود على الثوب المتصل بالمصلي، وعلى جواز استعمال الثياب، وكذا غيرها في الحيلولة بين المصلي وبين الأرض لاتقاء حرها، وكذا بردها، ومراعاة الخشوع فيها؛ لأن الظاهر أن صنيعهم ذلك كان لإزالة التشويش العارض من حرارة الأرض وحر الحصباء. (رواه أبوداود) أي بهذا اللفظ، وسكت عليه هو والمنذري. (وروى النسائي نحوه) أي بمعناه في باب تبريد الحصى للسجود عليه. ولفظه: قال كنا نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر، فأخذ قبضة من حصى في كفي أبرده، ثم أحوله في كفي الآخر، فإذا سجدت وضعته لجبهتي. والحديث أخرجه البيهقي أيضاً (ج2:ص105) . 1019- قوله: (فسمعناه يقول أعوذ بالله منك) إظهار الغاية الخوف والافتقار إلى الله تعالى والاحتياج إلى دوام فضله وعصمته. (ثم قال: ألعنك بلعنة الله) أي إياك، والمعنى أسأل الله أن يلعنك بلعنته المخصوصة لك التي لا توازيها لعنة، أو أبعدك عني بإبعاد الله لك. فالباء للتعدية، أو للآلة، أو للسبية. (ثلاثاً) قيد لهما لما سيأتي. وفيه أن المخاطبة في الصلاة إذا كانت بمعنى الطلب من الله لا تعد كلاماً فلا يقطع الصلاة. قال القاضي: هذا دليل لجواز الدعاء لغيره، وعلى غيره بصيغة المخاطبة، خلافاً لابن شعبان من أصحاب مالك في قوله: إن الصلاة تبطل بذاك. قال النووي: وكذا قال أصحابنا، فيتأول هذا الحديث، أو يحمل على أنه كان قبل تحريم الكلام في الصلاة، أو غير ذلك-انتهى. وقيل: عموم عدم جواز الخطاب للغير مخصوص بإبليس عند تعرضه للمصلي بالوسوسة؛ لأنه لمصلحة الصلاة، ومحتاج إليه. وأما غير الشيطان فليس مثله في ذلك؛ لأنه لا يحتاج لخطابه. وقيل: هذا من خصوصياته عليه الصلاة والسلام، قلت: الخصائص لا تثبت إلا بدليل، والظاهر ما قدمنا أن المخاطبة في الصلاة إذا كانت بمعنى الطلب من الله والدعاء، لا تعد كلاما، فلا يقطع الصلاة. (وبسط يده) أي مدها. (يتناول شيئاً) أي يأخذه من بعيد. (تقول في الصلاة شيئاً) من التعوذ، واللعن

ورأيناك بسطت يدك. قال: إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي، فقلت: أعوذ بالله منك، ثلاث مرات، ثم قلت: ألعنك بلعنة الله التامة، فلم يستأخر ثلاث مرات، ثم أردت أن أخذه، والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقاً يلعب به ولدان أهل المدينة)) رواه مسلم. 1020- (36) وعن نافع، قال: ((إن عبد الله بن عمر مر على رجل وهو يصلي، فسلم عليه، فرد الرجل كلاما، فرجع إليه عبد الله بن عمر، فقال له: إذا سلم على أحدكم وهو يصلي، فلا يتكلم ـــــــــــــــــــــــــــــ بالخطاب. (بسطت يدك) كأنك تتناول شيئاً (جاء بشهاب) بكسر الشين المعجمة، شعلة من نار ساطعة. (ألعنك بلعنة الله) قال القاضي: يحتمل تسميتها تامة، أي لا نقص فيها، ويحتمل الواجبة له المستحقة عليه، أو الموجبة عليه العذاب سرمداً. (ثلاث مرات) الظاهر أنه ظرف لـ"قلت" ويمكن أن يكون ظرفاً لقوله: "لم يستأخر" أي فلم يتأخر في ثلاث مرات من التعوذ واللعنات. (ثم أردت أن آخذه) كذا في النسخ الحاضرة عندنا بصيغة المتكلم، وزيادة "أن" قبلها. وكذا وقع في سنن النسائي، ووقع في بعض النسخ بغير "أن" مطابقاً لما في صحيح مسلم. وهو يحتمل أن يكون على صيغة المصدر، أو على صيغة المتكلم. (لولا دعوة أخينا) أي معشر الأنبياء. (سليمان) بدل، أو عطف بيان لـ"أخينا" ويمكن أن يكون منصوباً بتقدير "أعنى". (لأصبح) أي لأخذته وربطته. فدخل في الصباح. (موثقاً) حال، أو لصار موثقاً، أي مربوطاً بسارية من سواري المسجد، كما تقدم. والمراد: لولا توهم عدم استجابة هذه الدعوة لأخذته، لا أنه بالأخذ يلزم عدم استجابتها، إذ لا يبطل اختصاص تمام الملك لسليمان بهذا القدر. وقد مضى الكلام فيه مفصلاً، فتذكر. وفيه دليل على أن إبليس من الجن. والظاهر أن القضية متعددة. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً النسائي والبيهقي (ج2: ص264) . 1020- قوله: (عن نافع) مولى ابن عمر. (مر علي رجل) أي الرجل. (يصلي فسلم) بفتح السين على بناء الفاعل، والضمير لابن عمر. (عليه) أي على الرجل المصلي. (فرد الرجل) المصلي السلام على ابن عمر. (كلاماً) أي نطقاً وقولاً. وقال القاري: أي رداً ذا كلام. والمعنى رد كلام لا رد إشارة. (إذا سلم) بضم السين على صيغة المجهول. (على أحدكم وهو يصلي) فيه دلالة على أنه لا يكره السلام على المصلي. وإليه ذهب أحمد كما في المغني، ومالك في رواية لحديث: إن الأنصار كانوا يدخلون ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي، ويسلمون، فيرد عليهم إشارة بيده. (فلا يتكلم) أي برد السلام؛ لأنه مفسد للصلاة. والظاهر أن ابن عمر أمره بإعادة الصلاة. لكن لم ينقل إلينا. وفيه إشارة إلى أن السلام ابتداء ورداً كلام؛ لأن فيه خطاباً ومواجهة بالغير، والكلام في الصلاة

(20) باب السهو

وليشير بيده)) رواه مالك. (20) باب السهو {الفصل الأول} 1021- (1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أحدكم إذا قام يصلي. ـــــــــــــــــــــــــــــ منهي عنه. وقد دل عليه حديث ابن مسعود المتقدم في الفصل الأول والثاني. (وليشير بيده) أي لرد السلام لما قدمنا من الأحاديث المرفوعة الصحيحة الصريحة في رد السلام إشارة. وفيه أن ابن عمر كان ممن يجوز رد السلام بالإشارة في الصلاة. وأما ما قيل: إن المراد بالإشارة باليد الإشارة للمنع والنهي عن السلام، أو الإيماء إلى الاعتذار بأنه في الصلاة كما يشار للمار من غير قصد رد السلام، فهو مردود على قائله، فإنه ادعاء محض، واحتمال مجرد، ليس عليه أثاره من دليل، فلا يلتفت إليه. (رواه مالك) في موطئه عن نافع، وأخرجه البيهقي (ج2:ص259) من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع. 20- (باب السهو) أي باب بيان حكم السهو الواقع في الصلاة. وفي المصابيح: باب سجود السهو. وهو لغة: الغفلة عن الشيء، وذهاب القلب إلى غيره. قال في المحكم: السهو هو نسيان الشيء والغفلة عنه. وقضيته أن السهو والنسيان مترادفان. وقيل: بينهما فرق دقيق. وهو أن السهو أن ينعدم له شعور، والنسيان له فيه شعور. وفي المنطوق بين الفروق أن النسيان زوال الشيء عن الحافظة والمدركة، والسهو زواله عن الحافظة فقط. وقال الراغب: النسيان ترك الإنسان ضبط ما استودع إما عن غفلة، وإما عن ضعف قلبه، وإما عن قصد حتى ينحذف عن القلب ذكره. وقال الجزري في النهاية: السهو في الشيء تركه من غير علم، والسهو عن الشيء تركه مع علم، وهذا فرق حسن دقيق. وبه يظهر الفرق بين السهو الذي وقع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير مرة، وبين السهو عن الصلاة الذي ذمه الله تعالى بقوله: {الذين هم عن صلاتهم ساهون} [107: 5] واختلف في حكم سجود السهو: قال الشافعية: مسنون كله، وعن المالكية: السجود للنقص واجب دون الزيادة. وعن الحنابلة: التفصيل بين الواجبات غير الأركان، فيجب لتركها سهواً وبين السنن القولية فلا يجب، وكذا يجب إذا سها بزيادة فعل أو قول يبطلها عمده. وعن الحنفية واجب كله. وحجتهم قوله في حديث أبي هريرة الآتي "فليسجد سجدتين"، وقوله في حديثي ابن مسعود وأبي سعيد الآيتين "ثم ليسجد سجدتين". والأمر للوجوب، وقد ثبت من فعله - صلى الله عليه وسلم -، وأفعاله في الصلاة محمولة على البيان، وبيان الواجب واجب، ولا سيما مع قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، كذا في الفتح. 1021- قوله: (إن أحدكم إذا قام يصلي) فرضاً أو نفلاً، فإن قلت: قوله في الرواية الماضية، في باب

جاءه الشيطان فلبس عليه حتى لا يدري كم صلى؟ فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس)) ـــــــــــــــــــــــــــــ فضل الأذان وإجابة المؤذن "إذا نودي بالصلاة" قرينة في أن المراد الفريضة، وكذا قوله "إذا ثوب"، أجيب بأن ذلك لا يمنع تناول النافلة؛ لأن الإتيان بها حينئذٍ مطلوب لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "بين كل أذانين صلاة". (جاءه الشيطان) الظاهر أن "ال" فيه للعهد الذهني. وهو شيطان الصلاة الذي يسمى خنزب، كما رواه مسلم من حديث عثمان بن أبي العاص. (فلبس عليه) من الثلاثي، أي خلط عليه أمر صلاته وشوش خاطره. مصدره اللبس واللبس. وهو اختلاط الأمر، يقال لبس عليه الأمر يلبسه فالتبس، إذا خلطه عليه، وجعله مشتبهاً بغيره، خافياً حتى لا يعرف جهته. وقد يشدد للمبالغة، فيقال: لبس تلبيساً، وأما اللباس فمن باب سمع. قال الجزري: لبست الأمر بالفتح ألبسه، إذا خلطت بعضه ببعض. ومنه قوله تعالى: {وللبسنا عليهم ما يلبسون} [6: 9] . وربما شدد للتكثير-انتهى. وقال النووي: هو بالتخفيف أي خلط عليه صلاته، وشبهها عليه، وشككه فيها. (حتى لا يدري كم صلى) أي ركعة أو ركعتين أو غيرهما. والمعنى حتى ينسى قدر ما صلى لاشتغال قلبه. (فإذا وجد ذلك) أي التردد، وعدم العلم. وقيل: السهو. (أحدكم) في صلاته. (فليسجد سجدتين) ترغيماً للشيطان حيث لبس عليه صلاته. وليس شيء أثقل على الشيطان من السجود لما لحقه ما لحقه من الامتناع عن السجود. وفيه دلالة على أنه لا زيادة على سجدتين وإن سها بأمور متعددة. (وهو جالس) زاد ابن إسحاق وابن أخي الزهري كلاهما عن الزهري في هذا الحديث عند أبي داود لفظ "قبل أن يسلم". وكذا وقعت هذه الزيادة عند ابن ماجه من رواياته ابن إسحاق عن الزهري، وسلمة بن صفوان بن سلمة كلاهما عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، لكن أعلها أبوداود وغيره بأن الحفاظ من أصحاب الزهري، ابن عيينة ومعمراً والليث ومالكاً لم يقولوا "قبل أن يسلم". وإنما ذكره ابن إسحاق وابن أخي الزهري، وليسا بحجة على من لم يذكروه، قاله الزرقاني. وقال الحافظ في الفتح: لم يقع في رواية الزهري تعيين محل السجود. وقد روى الدارقطني من طريق عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعاً إذا سها أحدكم فلم يدر أزاد أو نقص، فليسجد سجدتين وهو جالس ثم يسلم. إسناده قوي ولأبي داود من طريق ابن أخي الزهري عن عمه نحوه بلفظ "وهو جالس قبل التسليم". وله من طريق ابن إسحاق قال حدثني الزهري بإسناده، وقال فيه "فليسجد سجدتين قبل أن يسلم ثم يسلم". قال العلائي: سنده الزيادة في هذا الحديث بمجموع هذه الطرق، لا تنزل عن درجة الحسن المحتج به-انتهى. وهذا كما ترى لم يلتفت الحافظ والعلائي إلى ما أشار إليه أبوداود من إعلال هذه الزيادة، بل جعلاها حجة، وهذا هو الصواب عندي؛ لأنها زيادة ثقة غير معارضة لرواية الثقات، أو لرواية من هو أوثق منه فتقبل، ولا سيما قد

تأيدت بالأحاديث الصحيحة الواردة في سجود السهو للشك، فإنها قاضية بأن سجود السهو لهذا السبب يكون قبل السلام، كحديث أبي سعيد التالي، وحديث عبد الرحمن بن عوف عند أحمد والترمذي وابن ماجه والبيهقي مرفوعاً: إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدرأ واحدة صلى أم اثنتين فليجعلها واحدة، وإذا لم يدر ثنتين صلى أم ثلاثاً فليجعلهما ثنتين، وإذا لم يدر ثلاثاً صلى أم أربعاً فليجعلها ثلاثاً، ثم يسجد إذا فرغ من صلاته وهو جالس قبل أن يسلم سجدتين. نعم قد ورد ما يعارض ذلك، كحديث ابن مسعود الآتي، وحديث عبد الله بن جعفر عند أحمد وأبي داود والنسائي والبيهقي مرفوعاً بلفظ: "من شك في صلاته فليسجد سجدتين بعد ما يسلم"، فيحمل الأمر في ذلك على التوسع، وإن الكل جائز، والله أعلم. وأما الأفضل في محل السجود فسيأتي بيانه في شرح حديث ابن مسعود الآتي عند ذكر اختلاف الأئمة. واعلم أن الأحاديث الواردة في السهو على خمسة أنحاء بالنظر إلى ما يجبر به الساهي صلاته وما يصنعه من الإتمام وعدمه. فبعضها يدل على أن المصلي إذا شك في صلاته فلم يدر زاد أو نقص، فليس عليه إلا سجدتان، كحديث أبي هريرة، وحديث أبي سعيد عند الترمذي وأبي داود، وحديث عبد الله بن جعفر. وبعضها يدل على أنه يعيد الصلاة، كحديث عبادة بن الصامت: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن رجل سها في صلاته فلم يدر كم صلى، فقال: ليعد صلاته، وليسجد سجدتين قاعداً. أخرجه الطبراني في الكبير من رواية إسحاق بن يحيى بن عبادة بن الصامت عن جده عبادة بن الصامت. قال الهيثمي والعراقي: لم يسمع إسحاق عن جده عبادة، وكحديث ميمونة بنت سعد أنها قالت: أفتنا يا رسول الله! في رجل سها في صلاته فلا يدري كم صلى قال ينصرف، ثم يقوم في صلاته حتى يعلم كم صلى، فإنما ذلك الوسواس يعرض، فيسهيه عن صلاته. أخرجه الطبراني في الكبير. وفي إسناده عثمان بن عبد الرحمن الطرائفي الجزري، مختلف فيه. وهو كبقية في الشاميين، يروي عن المجاهيل. وفي إسناده أيضاً عبد الحميد بن يزيد، وهو مجهول، كما قال العراقي. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2:ص151) : في إسناده مجاهيل. وبعضها يدل على أنه يبنى على ما استيقن، كحديث أبي سعيد التالي. وفي بعضها أنه يبنى على الأقل، كحديث عبد الرحمن بن عوف عند أحمد والترمذي وغيرهما. وقد ذكرنا لفظه. وبعضها يدل على أنه يتحرى الأقرب إلى الصواب، ويبنى عليه، كحديث ابن مسعود الآتي وغيره من الآثار المروية في ذلك عن ابن عمر وابن مسعود وأبي سعيد. واختلف الأئمة في العمل بهذه الأحاديث، فذهب الحسن البصري وطائفة من السلف إلى أن من دخل عليه الشك فلم يدر زاد أم نقص سجد سجدتين، ليس عليه غير ذلك. واستدل هؤلاء بظاهر حديث أبي هريرة، وحديث أبي سعيد، وحديث عبد الله بن جعفر، وأسقطوا وأهملوا أحاديث التحري والبناء على اليقين وغير ذلك. وهذا أضعف الأقوال، وخالف في ذلك الجمهور الأئمة الأربعة وغيرهم، قالوا: حديث أبي هريرة وما وافقه مجمل، والأحاديث المفسرة قاضية عليه، فلابد من

اعتبارها. قال أبوعبد الملك: حديث أبي هريرة يحمل على كل ساهٍ وإن حكمه السجود، ويرجع في بيان حكم المصلي فيما يشك فيه، وفي موضع سجوده من صلاته إلى سائر الأحاديث المفسرة، قال الشوكاني: ليس في حديثي أبي هريرة وعبد الله بن جعفر أكثر من أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بسجدتين عند السهو في الصلاة. وليس بيان ما يصنعه من وقع له ذلك. والأحاديث الآخرة قد اشتملت على زيادة، وهي بيان ما هي الواجب عليه عند ذلك من غير السجود، فالمصير إليها واجب-انتهى. وحاصله أن حديث أبي هريرة سبق لبيان حكم ما يجير به الساهي صلاته. والمقصود من أحاديث البناء وغيره، بيان ما يصنعه من الإتمام وعدمه، فلا بد من أخذها والعمل بها. وقيل: حديث أبي هريرة محمول على من طرأ عليه الشك، وقد فرغ قبل أن يسلم. فإنه لا يلتفت إلى ذلك الشك، ويسجد للسهو، كمن طرأ عليه بعد أن سلم، فلو طرأ عليه قبل ذلك بنى على اليقين كما في حديث أبي سعيد. وعلى هذا فقوله فيه "وهو جالس" يتعلق بقوله "إذا شك" لا بقوله "سجد". وقال ابن عبد البر: حديث أبي هريرة هذا محمول عند مالك على المستنكح الذي لا يكاد ينفك عنه، ويكثر عليه السهو، ويغلب علىظنه أنه قد أتم، لكن الشيطان يوسوس له، فيجزيه أن يسجد للسهو دون أن يأتي بركعة؛ لأنه لا يأمن أن ينويه مثل ذلك فيما يأتي به. وأما من غلب على ظنه أنه لم يكمل صلاته، فيبنى على يقينه، فإن اعتراه ذلك أيضاً فيما يبني لهى عنه أيضاً، كما قاله ابن القاسم وغيره، وقال ابن رشد في البداية: فأما مالك بن أنس حمل حديث أبي سعيد الخدري – يعني الذي يأتي – على الذي لم يستنكحه الشك، وحمل حديث أبي هريرة على الذي يغلب عليه الشك، ويستنكحه. وتأول حديث ابن مسعود على أن المراد بالتحري هنالك هو الرجوع إلى اليقين، فثبت على مذهبه الأحاديث كلها-انتهى. وحمل الشافعي حديث أبي هريرة هذا على أحاديث البناء على اليقين، وقال: إن الشاك يبني على اليقين أي المتيقن، وهو الأقل في جميع الصور كلها. والبناء على اليقين هو أن يشك في الواحدة والثنتين، أو الثنتين والثلاث، أو الثلاث والأربع. فإذا كان كذلك فعليه أن يبني على اليقين، وهو الأقل، وليتم صلاته ثم يسجد سجدتي السهو على ما في حديث أبي سعيد. وحمل التحري في حديث ابن مسعود على الأخذ باليقين، كما حمله مالك عليه. قال الشافعي ومن وافقه: والتحري هو القصد. ومنه قوله تعالى. {فأولئك تحروا رشداً} [14:72] ، فمعنى الحديث فليقصد الصواب، فيعمل به. وقصد الصواب هو ما بينه في حديث أبي سعيد وغيره. قال الشوكاني: قال الشافعي وداود وابن حزم: التحري هو البناء على اليقين. وحكاه النووي عن الجمهور-انتهى. وقيل: التحري غير البناء على اليقين. قال أحمد: ترك الشك على وجهين: أحدهما إلى اليقين والآخر إلى التحري. فمن رجع إلى اليقين فهو أن يلقى الشك، ويسجد قبل السلام على حديث أبي سعيد. وإذا رجع إلى التحري، وهو أكبر الوهم سجد للسهو بعد السلام على حديث ابن مسعود، ذكره ابن عبد البر في التمهيد،

والخطابي في المعالم (ج1:ص239) . وقال ابن حبان: قد يتوهم من لم يحكم صناعة الأخبار، ولا تفقه في صحيح الآثار أن التحري في الصلاة، والبناء على اليقين واحد وليس كذلك؛ لأن التحري هو أن يشك المرأ في صلاته فلا يدري ما صلى فإذا كان ذلك فعليه أن يتحري الصواب وليبن على الأغلب عنده على خبر ابن مسعود، والبناء على اليقين هو أن يشك في الثنتين والثلاث، أو الثلاث والأربع. فإذا كان كذلك فعليه أن يبنى على اليقين، وهو الأقل، وليتم صلاته على خبر عبد الرحمن بن عوف وأبي سعيد-انتهى مختصراً. وبهذا كله ظهر أن مالكا والشافعي أوّلا أحاديث التحري والبناء على الأقل إلى أحاديث البناء على اليقين. وأما حديث أبي هريرة فحمله مالك على المستنكح، وحمله الشافعي على أحاديث البناء على اليقين، واتفقا جميعاً على إهمال حديثي عبادة بن الصامت وميمونة بنت سعد الدالين على إعادة الصلاة. وذلك لعدم صلوحهما للاحتجاج. وأما أحمد فله في ذلك ثلاث روايات، كما في المغني (ج1:ص671-673) : إحداها البناء على اليقين أي الأقل مطلقاً للإمام والمنفرد كليهما. والثانية البناء على اليقين للإمام والمفرد إذا لم يكن لهما ظن، ومتى كان لهما غالب ظن عملا عليه. قال ابن قدامة: فعلى هذا يحمل حديث أبي سعيد على من استوى عنده الأمران، فلم يكن له ظن. وحديث ابن مسعود على من له رأي وظن. يعمل بظنه، جمعاً بين الحديثين، وعملا بهما، فيكون أولى، ولأن الظن دليل في الشرع، فيجب اتباعه، والثالثة التفريق بين المنفرد، فيبني على اليقين مطلقاً، والإمام فيبنى على غالب ظنه إذا كان له ظن. وإن لم يكن له ظن بل استوى الأمران عنده بنى على اليقين أيضاً، اختار هذه الرواية الخرقي، وهو الظاهر في المذهب. وقال الشعبي والأوزاعي وجماعة من السلف: إذا لم يدر كم صلى لزمه أن يعيد الصلاة مرة بعد أخرى حتى يستيقن. وقال بعضهم: يعيد ثلاث مرات، فإذا شك في الرابعة فلا إعادة عليه. واستدل هؤلاء بحديثي عبادة وميمونة. وقد عرفت أنهما لا يصلحان للاحتجاج لضعفهما. وأما الحنفية فقالوا بالتفصيل، وحالوا الجمع بين الأحاديث الواردة في المسألة، قالوا إذا شك وهو مبتدأ بالشك، لا بمتلى فيه استأنف الصلاة، والمراد بقولهم مبتدأ بالشك على ما في البدائع: أنه لم يصر عادة له، لا أنه لم يسه في عمره قط. فحملوا حديثي عبادة وميمونة الدالين على الإعادة على من لم يصر الشك عادة له، قالوا: وإن كان يعرض له الشك كثيراً تحرى وبنى على أكبر رأيه وأكثر ظنه على حديث ابن مسعود، ولم يمض على اليقين، أي الأقل، وإن لم يكن له رأي بنى على اليقين على حديث أبي سعيد، قالوا حديث أبي سعيد لا يخالفنا؛ لأنه ورد في الشك وهو ما استوى طرفاه، ومن شك ولم يترجح له أحد الطرفين يبني على الأقل بالإجماع، بخلاف من غلب على ظنه أنه صلى أربعاً مثلاً، وفيه أن تفسير الشك بمستوى الطرفين إنما هو اصطلاح طارئ للأصوليين. وأما في اللغة: فالتردد بين وجود الشيء وعدمه كله يسمى شكاً، سواء المستوي والراجح والمرجوح. والحديث يحمل على اللغة ما لم يكن هناك حقيقة شرعية أو عرفية.

متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا يجوز حمله على ما يطرأ للمتأخرين من الاصطلاح، قاله النووي. وقال الشوكاني: والذي يلوح لي أنه لا معارضة بين أحاديث البناء على الأقل والبناء على اليقين وتحري الصواب. وذلك؛ لأن التحري في اللغة: هو طلب ما هو أحرى إلى الصواب. قد أمر به - صلى الله عليه وسلم - وأمر بالبناء على اليقين. والبناء على الأقل عند عروض الشك. فإن أمكن الخروج بالتحري عن تاثرة الشك لغة، ولا يكون إلا بالاستيقان بأنه قد فعل من الصلاة كذا ركعات، فلا شك أنه مقدم على البناء على الأقل؛ لأن الشارع قد شرط في جواز البناء على الأقل عدم الدراية، كما في حديث عبد الرحمن بن عوف. وهذا المتحري قد حصلت له الدراية. وأمر الشاك بالبناء على ما استيقن، كما في حديث أبي سعيد، ومن بلغ به تحريه إلى اليقين قد بنى على ما استيقن. وبهذا تعلم أنه لا معارضة بين الأحاديث المذكورة، وأن التحري المذكور مقدم على البناء على الأقل. وقد أوقع الناس ظن التعارض بين هذه الأحاديث في مضائق ليس عليها أثارة من علم، كالفرق بين المبتدأ والمبتلى والركن والركعة-انتهى قلت: هذا تحقيق جيد حقيق بالقبول. وأما ما ذهب إليه الحنفية من البناء على أكبر الرأي وأكثر الظن وأغلبه، فلم أجد فيه حديثاً صريحاً مرفوعاً صحيحاً أو حسناً. وأيضاً هو مبنى على أخذ الشك الواقع في حديث أبي سعيد وغيره في المعنى المصطلح وقد عرفت ما فيه. وأما استدلالهم على ذلك بلفظ التحري في حديث ابن مسعود الآتي ففيه ما تقدم آنفاً، وسيأتي مزيد الكلام في ذلك. ثم إن ظاهر قوله: إن أحدكم إذا قام يصلي، وقوله: إذا شك أحدكم في صلاته في حديثي أبي سعيد وابن مسعود، وقوله: من صلى صلاة في حديث عبد الرحمن بن عوف، يدل على ما ذهب إليه الجمهور من أن سجود السهو مشروع في صلاته النافلة، كما هو مشروع في صلاة الفريضة؛ لأن الجبران وإرغام الشيطان يحتاج إليه في النفل، كما يحتاج إليه في الفريضة. وذهب ابن سيرين وقتادة وعطاء إلى أن التطوع لا يسجد فيه. وهذا يبني على الخلاف في اسم الصلاة الذي هو حقيقة شرعية في الأفعال المخصوصة هل هو متواطئ فيكون مشتركاً معنوياً فيدخل تحته كل صلاة. أو هو مشترك لفظي بين صلاتي الفريضة والنافلة فذهب الفخر الرازي إلى الثاني، لما بين صلوتي الفرض والنفل من التباين في بعض الشروط كالقيام واستقبال القبلة وعدم اعتبار العدد المنوي وغير ذلك. قال العلائي: والذي يظهر أنه مشترك معنوي لوجود القدر الجامع بين كل ما يسمى صلاة، وهو التحريم والتحليل مع ما يشمل الكل من الشروط التي لا تنفك. قال الحافظ: وإلى كونه مشتركاً معنوياً ذهب جمهور أهل الأصول. قال ابن رسلان: وهو أولى لأن الاشتراك اللفظي على خلاف الأصل، والتواطؤ خير منه-انتهى. فمن قال إن لفظ الصلاة مشترك معنوي قال بمشروعية سجود السهو في صلاة التطوع. ومن قال بأنه مشترك لفظي فلا عموم له حينئذٍ إلا على قول الشافعي: أن المشترك يعم جميع مسمياته. وقد ترجم البخاري على حديث أبي هريرة هذا: باب السهو في الفرض والتطوع، وذكر عن ابن عباس أنه سجد سجدتين بعد وتره. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد ومالك والترمذي وأبوداود والنسائي وابن

1022- (2) وعن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر كم صلى ثلاثاً أو أربعاً فليطرح الشك، وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، ـــــــــــــــــــــــــــــ ماجه والبيهقي. وأعلم أن المذكور في هذا الحديث وغيره من حديث أبي سعيد وابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف، هو حكم الشك في الصلاة. والفرق بين السهو والشك أن السهو يكون فيه أحد الطرفين مجزوماً بخلاف الشك. ولما كان الشك في الصلاة كالسهو والنسيان في مشروعية السجود ذكر المصنف هذه الأحاديث في باب السهو. والله أعلم. 1022- قوله: (إذا شك أحدكم في صلاته) ليس المراد بالشك التردد مع التساوى، بل مطلق التردد في النفس وعدم اليقين على ما في اللغة، فيشمل الشك المصطلح عند الأصوليين والوهم والظن وغالب الظن. قال الحموي في حواشي الأشباه والنظائر: الشك لغة: مطلق التردد. وفي اصطلاح الأصول: استواء طرفي الشيء، وهو الوقوف بحيث لا يميل القلب إلى أحدهما، فان ترجح أحدهما ولم يطرح الآخر فهو ظن، فإن طرحه فهو غالب الظن، وهو بمنزلة اليقين. وأما عند الفقهاء: فهو كاللغة لا فرق بين المساوي والراجح. وقال في فتح القدير نقلاً عن الحموي: اعلم أن مراد الفقهاء بالشك في الماء والحدث والنجاسة والصلاة والطلاق وغيرها، هو التردد بين وجود الشيء وعدمه، سواء كان الطرفان سواء أو أحدهما راجحاً. فهذا معناه في اصطلاح الفقهاء. وأما أصحاب الأصول فإنهم فرقوا بين ذلك، فقالوا التردد إن كان على السواء فهو الشك، فإن كان أحدهما راجحاً فالراجح ظن والمرجوح وهم-انتهى. وعند الحنفية: المراد به التردد من غير رحجان. قال السندي: حمله علماؤنا على ما إذا لم يغلب ظنه على شيء، وإلا فعند غلبة الظن لم يبق شك، فمعنى "إذا شك أحدكم" أي إذا بقى شاكاً ولم يترجح عنده أحد الطرفين بالتحري وغيرهم، حملوا الشك على مطلق التردد في النفس وعدم اليقين-انتهى.. (فلم يدر كم صلى ثلاثاً) تمييز رافع لإبهام العدد في "كم". (أو أربعا) أي مثلاً. (فليطرح الشك) أي المشكوك فيه، وهو الأكثر أي ليطرح الزائد الذي هو محل الشك، ولا يأخذ به في البناء يعنى الركعة الرابعة يدل عليه قوله: (وليبن) بسكون اللام وكسره. (على ما استيقن) أي علم يقينا، وهو ثلاث ركعات وفي رواية أبي داود والنسائي وابن ماجه: وليبن على اليقين أي المتيقن به، وهو الأقل فلا يقال إنه لا يقين مع الشك؛ لأن المراد باليقين ههنا المتيقن، فالثلاث هو المتيقن، والشك والتردد إنما هو في الزيادة، فيبنى على المتيقن لا على الزائد الذي يشك فيه. (ثم يسجد سجدتين) قال القاري: بالجزم. وفي نسخة: بالرفع في الأزهار يجوز فيه الجزم عطفاً على "ليبن"، والرفع خبر لو بمعنى الأمر إشارة إلى المغايرة

فإن كان صلى خمساً شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتماماً لأربع كانتا ترغيماً للشيطان)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ في الحكم وجوباً أو ندباً-انتهى. وهذا الحديث كما ترى مفصل للإجمال الوارد في حديث أبي هريرة المتقدم، وحديث عبد الله بن جعفر، وحديث أبي سعيد عند الترمذي وأبي داود. فعليه التعويل، ويجب إرجاع الإجمال إليه. وفيه رد على من فصل في الشك من كونه أول ما سهى أو ثانياً؛ لأن الحديث مطلق وهو أوفق بالناس، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل رحمة ورأفة لهم. واحتج به للجمهور مالك والشافعي ومن تبعهما فيما ذهبوا إليه من وجوب طرح الشك والبناء على المتيقن أي الأقل، وعدم أجزاء التحرى، كما تقدم الإشارة إليه. (قبل أن يسلم) فيه دليل لمن قال إن السجود للسهو قبل السلام. وسيأتي الكلام فيه. (فإن كان صلى خمساً) أي في رباعية وهو تعليل للأمر بالسجود، أي فإن كان ما صلاه في الواقع أربعاُ فصار خمساُ بإضافة إليه ركعة أخرى. (شفعن) بتخفيف الفاء وتشديدها. (له صلاته) قال الطيبي: الضمير في "شفعن" للركعات الخمس وفي "له" للمصلي يعني شفعت الركعات الخمس صلاة أحدكم بالسجدتين، يدل عليه قوله الآتي: شفعها بهاتين السجدتين أي شفع المصلى الركعات الخمس بالسجدتين. وقال ابن حجر: أي الركعة الخامسة والسجدتان، لرواية أبي داود: كانت الركعة نافلة والسجدتان، أي وصارت صلاته شفعاً باقياً على حاله-انتهى. وفي رواية النسائي: شفعتا أي بصيغة التثنية. والمعنى ردت السجدتان صلاته إلى الشفع. قال السندي: أن السجدتان صارتا له كالركعة السادسة، فصارت الصلاة بهما ست ركعات، فصارت شفعاً-انتهى. وكان المطلوب من الرباعية الشفع وإن زادت على الأربع. (وإن كان صلى إتماماً لأربع) قيل: نصبه على أنه مفعول له، يعني إن كان صلى ما يشك فيه لإتمام أربع. وقيل: إنه حال أي إن صلى ما شك فيه حال كونه متمماً للأربع، فيكون قد أدى ما عليه من غير زيادة ولا نقصان. (كانتا ترغيماً للشيطان) أي وإن صارت صلاته بتلك الركعة أربعاً كانتا أي السجدتان ترغيماً أي سبباً لاغاظة الشيطان وإذلاله وإهانته له حيث تكلف في التلبيس، فجعل الله تعالى له طريق جبر بسجدتين فأضل سعيه حيث جعل وسوسته سبباً للتقرب بسجدة استحق هو بتركها الطرد. قال النووي: المعنى أن الشيطان لبس عليه صلاته وتعرض لإفسادها ونقصانها، فجعل الله للمصلي طريقاً إلى جبر صلاته، وتدارك ما لبسه عليه، وإرغام الشيطان ورده خاسئاً مبعداً عن مراده، وكملت صلاة ابن آدم لما امتثل أمر الله الذي عصى به إبليس من امتناعه من السجود-انتهى. قال القاضي: القياس أن لا يسجد، إذ الأصل أنه لم يزد شيئاً لكن صلاته لا تخلوا عن أحد خللين، إما أداء الزيادة، وإما أداء الرابعة على التردد، فيسجد جبراً للخلل، والتردد لما كان من تسويل الشيطان وتلبيسه سمى جبره ترغيماً له. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم والبيهقي (ج2:ص331) .

1023- (3) ورواه مالك عن عطاء مرسلاً. وفي روايته، شفعها بهاتين السجدتين. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1023- قوله: (ورواه مالك عن عطاء مرسلاً) وأخرجه أبوداود والبيهقي أيضاً مرسلاً عن عطاء. قال الزرقاني في شرح الموطأ: هكذا مرسلاً عند جميع الرواة. (أي رواة الموطأ) وتابع مالكاً على إرساله الثوري وحفص بن ميسرة ومحمد بن جعفر وداود بن قيس في رواية. ووصله الوليد بن مسلم ويحيى بن راشد المازني كلاهما عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء عن أبي سعيد الخدري. وقد وصله مسلم من طريق سليمان بن بلال وداود بن قيس كلاهما عن زيد بن أسلم عن عطاء عن أبي سعيد. وله طرق عند أبي داود والنسائي وابن ماجه عن زيد موصولاً، ولذا قال أبوعمر بن عبد البر: هذا الحديث وإن كان الصحيح فيه عن مالك الإرسال فإنه متصل من وجوه ثابتة من حديث من تقبل زيادته؛ لأنهم حفاظ فلا يضره تقصير من قصر في وصله إلا أن الصحيح أنه من مسند أبي سعيد الخدري. وما أخرجه النسائي من طريق عبد العزيز الدراوردي عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس. قال ابن حبان: وهم عبد العزيز في قوله ابن عباس، وإنما هو عن أبي سعيد. وقال الأثرم لأحمد بن حنبل. أتذهب إلى حديث أبي سعيد،؟ قال: نعم. قلت: إنهم يختلفون في إسناده، قال: إنما قصر به مالك وقد أسنده عدة منهم ابن عجلان وعبد العزيز بن أبي سلمة - انتهى. وقال الخطابي في المعالم (ج1: ص240) : قد ضعف حديث أبي سعيد الخدري قوم زعموا أن مالكاً أرسله عن عطاء بن يسار ولم يذكر فيه أباسعيد الخدري. وهذا مما لا يقدح في صحته، ومعلوم عن مالك أنه يرسل الأحاديث وهي عنده مسندة، وذلك معروف من عادته، وقد رواه أبوداود من طريق ابن عجلان عن زيد بن أسلم، وذكر أن هشام بن سعد أسنده فبلغ به أباسعيد، وقد أسنده أيضاً سليمان بن بلال - انتهى. قلت: رواية هشام بن سعد أخرجها البيهقي في السنن الكبرى وفي معرفة السنن. وأما رواية الدراوردي عن زيد عن عطاء عن ابن عباس، فلم أجدها في الصغرى من سنن النسائي. فلعلها في الكبرى، نعم ذكرها الخطابي في المعالم (ج1: ص240) قال: قال الشيخ: ورواه ابن عباس أيضاً حدثونا به عن محمد بن إسماعيل الصائغ قال: حدثنا ابن قعنب حدثنا عبد العزيز بن محمد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا شك أحدكم، الحديث. قال الحافظ في التلخيص. (ص112) وروي عن ابن عباس وهو وهم. وقال ابن المنذر: حديث أبي سعيد أصح حديث في الباب - انتهى. (وفي روايته) أي رواية مالك المرسلة بدل "شفعن له صلاته". (شفعها) أي صيرها شفعاً. (بهاتين السجدتين) اللتين سجدهما للسهو، أي لما بنى على اليقين وصلى ركعة أخرى، فإن صارت صلاته خمساً شفعها أي جعل الخمس شفعاً بهاتين السجدتين؛ لأنها تصير ستاً بهما حيث أتى بمعظم أركان الركعة وهو السجود، فكأنه أتى بالركعة السادسة. وقال ابن رسلان: يعني لو لم يسجد للسهو لكانت الخامسة، لا يناسب أصل المشروعية، فلما سجد سجدتي السهو ارتفعت الوترية، وجاءت الشفعية المناسبة الأصل - انتهى.

1024- (4) وعن عبد الله بن مسعود: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر خمساً، فقيل له: أزيد في الصلاة؟ فقال: وما ذاك؟ قالوا: صليت خمساً، فسجد سجدتين بعد ما سلم)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1024- قوله: (صلى الظهر خمساً) أي خمس ركعات. (فقيل له) أي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن سلم. (أزيد في الصلاة) بهمزة الإستفهام للإستخبار. (فقال وما ذاك) أي وما سؤالكم عن الزيادة في الصلاة. وفي رواية لمسلم: فلما انفتل توشوش القوم بينهم فقال: ما شأنكم، قالوا: يا رسول الله! هل زيد في الصلاة، قال: لا وقد تبين بهذه الرواية أن سؤالهم لذلك كان بعد استفساره لهم عن مشاورتهم. وهو دال على عظيم أدبهم معه - صلى الله عليه وسلم -. (فسجد سجدتين) أي للسهو. (بعد ما سلم) كلمة "ما" مصدرية أي بعد سلام الصلاة. وفي رواية للشيخين: فثنى رجليه واستقبل القبلة، وسجد سجدتين ثم سلم، أي من سجدتي السهو. وقد روى أحمد ومسلم وابن خزيمة وغيرهم هذا الحديث مختصراً أيضاً بلفظ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد سجدتي السهو بعد السلام والكلام. قال ابن خزيمة: إن كان المراد بالكلام قوله: وما ذاك، في جواب قولهم: "أزيد في الصلاة"، فهذا نظير ما وقع في قصة ذي اليدين. وسيأتي البحث فيه فيها. وإن كان المراد به قوله: إنما أنا بشر أنسى كما تنسون. فقد اختلفت الرواة في الموضع الذي قالها فيه: ففي رواية منصور: أن ذلك كان بعد سلامه من سجدتي السهو. وفي رواية غيره أن ذلك كان قبل. ورواية منصور أرجح - انتهى. واحتج به من قال إن سجود السهو كله بعد السلام، وهم الحنفية، وتعقب بأنه لم يعلم بزيادة الركعة إلا بعد السلام حين سألوه هل زيد في الصلاة. وقد اتفق العلماء في هذه الصورة على أن سجود السهو بعد السلام لتعذره قبله لعدم علمه بالسهو. وأجاب بعضهم مما وقع في هذا الحديث من الزيادة الآتية القولية. وأجيب بأنه معارض بحديث أبي سعيد المتقدم. فالظاهر أن ذلك كان منه - صلى الله عليه وسلم - لبيان الجواز، والتوسع في الأمرين. كما تقدم، وقد رجح البيهقي: التخيير في سجود السهو قبل السلام أو بعده. ونقل الماوردي وغيره: الإجماع على الجواز. وإنما الخلاف في الأفضل. وكذا قال النووي، واستدل بالحديث على أن من صلى خمساً ساهياً ولم يجلس في الرابعة أن صلاته لا تفسد، خلافاً للكوفيين. وقولهم: يحمل هذا على أنه قعد في الرابعة يحتاج إلى دليل، بل السياق يرشد إلى خلافه. وعلى أن الزيادة في الصلاة على سبيل السهو لا تبطلها، وعلى أن من لم يعلم بسهوه إلا بعد السلام يسجد للسهو، وعلى أن الكلام العمد فيما يصلح به الصلاة لا يفسدها، وعلى أن من تحول عن القبلة ساهياً لا إعادة عليه. كذا في الفتح. قلت: ذهب الجمهور مالك والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهوية وغيرهم إلى أنه إذا صلى الرجل الظهر خمساً فصلاته جائزة، وسجد سجدتي السهو. وإن لم يجلس في الرابعة. والحديث حجة لهم. ومسلك الحنفية في ذلك على ما في الهداية وحواشيه: أن من سها عن القعدة الأخيرة

حتى قام إلى الخامسة رجع إلى القعدة ما لم يسجد؛ لأن فيه إصلاح صلاته، وأمكنه ذلك؛ لأن ما دون الركعة بمحل الرفض، وألغى الخامسة، وسجد للسهو لتأخير الفرض، وهي القعدة، وإن قيد الخامسة بسجدة بطل فرضه؛ لأنه تحقق شروعه في النافلة قبل إكمال الفرض، فإن القعدة الأخيرة فرض عندهم، وبترك الفرض تبطل الصلاة، وتحولت صلاته نفلاً عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وبطلت عند محمد، فيضم إليها ركعة، ولو لم يضم لا شيء عليه، ولو قعد في الرابعة، ثم قام، ولم يسلم عاد إلى القعدة ما لم يسجد للخامسة وسلم، وإن قيد الخامسة بالسجدة، ثم تذكر ضم إليها ركعة أخرى، وتم فرضه؛ لأن الباقي إصابة لفظ السلام، وهي غير فرض عندهم، وإنما يضم إليها أخرى لتصير الركعتان نفلاً؛ لأن الركعة الواحدة لا تجزيه عندهم لحديث النهي عن البتيراء. وحملوا حديث ابن مسعود هذا على أنه جلس على الرابعة. وفيه: أنه محتاج إلى دليل، بل سياق الحديث يرشد إلى خلافه، قال ابن قدامة في المغني (ج1: ص68) : الظاهر أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يجلس عقيب الرابعة؛ لأنه لم ينقل، ولأنه قام إلى الخامسة معتقداً أنه قام عن ثالثه، ولم تبطل صلاته بهذا، ولم يضف إلى الخامسة أخرى. وحديث أبي سعيد أيضاً حجة عليهم، فإنه جعل الزائدة نافلة من غير أن يفصل بينها وبين التي قبلها بجلوس، وجعل السجدتين يشفعانها، ولم يضم إليها ركعة أخرى. وهذا كله خلاف لما قالوه. فقد خالفوا الخبرين جميعاً. وقولنا يوافق الخبرين جميعاً - انتهى. وقال السندي: حمله علماؤنا الحنفية على أنه جلس على الرابعة، إذ ترك هذا الجلوس عندهم مفسد. ولا يخفى أن الجلوس على رأس الرابعة إما على ظن أنها رابعة أو على ظن أنها ثانية، وكل من الأمرين يفضي إلى اعتبار الواقعة منه أكثر من سهو واحد. وإثبات ذلك بلا دليل مشكل. والأصل عدمه. فالظاهر أنه ما جلس أصلاً. وذلك؛ لأنه إن ظن أنها رابعة فالقيام إلى الخامسة يحتاج إلى أنه نسي ذلك، وظهر له أنها ثالثة مثلاً، واعتقد أنه خطأ في جلوسه. وعند ذلك ينبغي أن يسجد للسهو فتركه لسجود السهو. أولا يحتاج إلى القول أنه نسي ذلك الاعتقاد أيضاً، ثم قوله: وما ذاك بعد إن قيل له، يقتضي أنه نسي بحيث ما تنبه له بتذكيرهم أيضاً. وهذا لا يخلو عن بُعد. وإن قلنا أنه ظن أنها ثانية سهواً ونسياناً فذاك النسيان مع بعده يقتضي أن لا يجلس على رأس الخامسة، بل يجلس على رأس السادسة، فالجلوس على رأس الخامسة يحتاج إلى اعتبار سهو آخر - انتهى. تنبيه: قال العيني في شرح البخاري (ج7: ص307) مستدلاً على وقوع الجلوس منه - صلى الله عليه وسلم - عقيب الرابعة: إن المذكور في الحديث "صلى الظهر خمساً" والظهر اسم للصلاة المعهودة في وقتها بجميع أركانها. وفيه: أن إطلاق لفظ الظهر لا يدل على أنه جلس في الرابعة بل قوله: خمساً يرشد إلى خلاف ذلك، وإنما هذا كقول الراوي في قصة ذي اليدين: "صلى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر، وفي رواية: العصر فسلم مع أنه - صلى الله عليه وسلم - قد ترك الركعتين الأخيرتين نسياناً". وقال بعضهم حديث ابن مسعود واقعة حال، لا عموم لها، فلا

وفي رواية: قال: ((إنما أنا بشر مثلكم، ـــــــــــــــــــــــــــــ يشكل على الحنفية إلا بعد إثبات أنه عليه الصلاة والسلام لم يجلس على الرابعة وهو لم يثبت بعد، بل هو محتمل، ولا يحتاج الحنفية إلى إثبات القعدة، كما هو ظاهر؛ لأنهم قالوا إن القعدة فرض فلا يترك إلا بنص يخالفه لا بمحتمل. وفيه: أنه لم يقم دليل يثبت به كون القعدة الأخيرة فرضاً بالمعنى المصطلح عندهم. ولا بد لمن يدعي قعوده - صلى الله عليه وسلم - على الرابعة أن يأتي بدليل يدل صراحة على ذلك. ولا يكفي الاحتمال في مثل هذا. والحديث ليس بظاهر في ثبوت القعود، بل هو ظاهر في نفيه، كما يرشد السياق إليه. بل ذكر الشيخ محمد أنور الحنفي تصريح نفي الجلوس عقب الرابعة عن معجم الطبراني حيث قال: وفي المعجم للطبراني نفي القعدة على الرابعة صراحة، فأشكل الأمر علينا، ولا بد له من جواب - انتهى. (فيض الباري ج2: ص339) قال جامعه: ولم أسمع منه-يعني من شيخه محمد نور- جوابه، ولا اتفق لي السؤال عنه. والله تعالى يدري ما كان جوابه عنده. ولا ريب أن الأمر أمر - انتهى. قلت: لا شك أن الحديث مشكل جداً على الحنفية ولم أر لهم جواباً عنه إلا ادعاء القعود على الرابعة من غير دليل مع كونه مخالفاً لما في الطبراني من نفي القعدة صراحة على ما قال صاحب فيض الباري. ولو صرفنا النظر عن ذلك، وسلمنا أنه قعد في الرابعة أشكل عليهم أيضاً؛ لأنه لم يضم السادسة، بل اكتفى بسجدتي السهو. وضم الركعة السادسة مؤكد، بل واجب عندهم. وأما قول العيني: لا يضرنا ذلك؛ لأنا لا نلزمه بضم الركعة السادسة على طريق الوجوب حتى قال صاحب الهداية: ولو لم يضم لا شيء عليه؛ لأنه مظنون. وقال صاحب البدائع: والأولى أن يضيف إليها ركعة أخرى ليصيرا نفلاً إلا في العصر. ففيه: أن هذا مخالف لقولهم: لا بد من أن يضم سادسة؛ لأن الركعة الواحدة لا تجزيه لنهيه عليه السلام عن البتيراء، فإنه ظاهر في وجوب ضم السادسة في هذه الصورة- واعلم أن حديث النهي عن البتيراء أخرجه ابن عبد البر في التمهيد بسنده من رواية أبي سعيد الخدري بلفظ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن البتيراء أن يصلي الرجل واحدة يوتر بها، ذكره عبد الحق في أحكامه، وقال الغالب على حديث عثمان بن محمد بن ربيعة - أحد رواة هذا الحديث - الوهم. وقال ابن القطان في كتابه الوهم والإيهام بعد ذكره من جهة ابن عبد البر: الحديث شاذ، لا يعرج عليه ما لم يعرف عدالة راويه. وعثمان بن محمد بن ربيعة الغالب على حديثه الوهم - انتهى. وقال ابن حزم: لم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهي عن البتيراء - انتهى. وهو أيضاً معارض بما ثبت. وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الإيتار بركعته قولاً وفعلاً. (وفي رواية قال) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد سلامه من سجدتي السهو. (إنما أنا بشر مثلكم) أي في جميع الأمور البشرية إلا أنه يوحى إليّ. قال الشوكاني: هذا حصر له في البشرية باعتبار من أنكر ثبوت ذلك. ونازع فيه عناداً وجحوداً، وأما باعتبار غير ذلك مما هو فيه فلا ينحصر في وصف البشرية، إذ له صفات أخر ككونه جسماً حياً متحركاً، فيها

أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني، وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب، فليتم عليه، ثم يسلم ثم يسجد سجدتين)) ـــــــــــــــــــــــــــــ رسولاً، بشيراً ونذيراً، سراجاً منيراً وغير ذلك. (أنسى كما تنسوني) زاد النسائي "وأذكر كما تذكرون". وفيه دليل على جواز السهو والنسيان عليه - صلى الله عليه وسلم - فيما طريقه التشريع. وقد نقل عياض الإجماع على عدم جواز دخول السهو في الأقوال التبليغية، وخص الخلاف بالأفعال، لكنهم تعقبوه. نعم اتفق من جوز ذلك على أنه لا يقر عليه بل يقع له بيان ذلك إما متصلاً بالفعل أو بعد، كما في حديث ذي اليدين من قوله: لم أنس ولم تقصر، ثم تبين أنه نسي. وفائدة جواز السهو في مثل ذلك بيان الحكم الشرعي، إذا وقع مثله لغيره. (فإذا نسيت فذكروني) فكان حقهم أن يذكروه بالإشارة ونحوها عند إرادة قيامه إلى الخامسة. (فليتحر الصواب) قال الطيبي: التحري القصد والاجتهاد في الطلب. والعزم على تحصيل الشيء بالفعل. والضمير البارز في (فليتم عليه) راجع إلى ما دل عليه "فليتحر"، والمعنى فاليتم على ذلك ما بقي من صلاته بأن يضم إليه ركعة. ولمسلم في رواية: فأيكم شك في صلاته فلينظر أحرى ذلك إلى الصواب. وله أيضاً: فليتحر أقرب ذلك إلى الصواب. وفي لفظ له: فليتحر الذي يرى أنه الصواب. واستدل به من قال بالعمل بغالب الظن، وتقديمه على البناء على اليقين أي الأقل وهم الحنفية. قال القاري: معناه "فليطلب بغلبة ظنه واجتهاده الصواب. وقال السندي: أي فليطلب ما يغلب على ظنه ليخرج به عن الشك، فإن وجد فليبن عليه، وإلا فليبن على الأقل لحديث أبي سعيد السابق - انتهى. قال الحافظ: وهو أي كون التحري بمعنى الأخذ بغالب الظن ظاهر الروايات التي عند مسلم - انتهى. وحمله الجمهور على اليقين. قال الخطابي في المعالم (ج1: ص239) ومعنى التحري في حديث ابن مسعود عند أصحاب الشافعي هو البناء على اليقين على ما جاء تفسيره في حديث أبي سعيد الخدري. وحقيقة التحري هو طلب أحرى الأمرين وأولاهما بالصواب. وأحراهما ما جاء في حديث أبي سعيد من البناء على اليقين لما كان فيه من كمال الصلاة والاحتياط لها ومما يدل على أن التحري قد يكون بمعنى اليقين قوله تعالى. {فمن أسلم فأولئك تحروا رشداً} [72: 14] انتهى. وقال الشافعي: فليتحر الصواب معناه فليتحر الذي يظن أنه نقصه فيتمه، فيكون التحري أن يعيد ما شك فيه، ويبني على ما استيقن، وهو كلام عربي مطابق لحديث أبي سعيد إلا أن الألفاظ تختلف لسعة الكلام في الأمر الذي معناه واحد - انتهى. وقدمنا طرفاً من الخلاف في كون التحري والبناء على اليقين شيئاً واحداً أم لا. (ثم ليسلم ثم يسجد) بالجزم. وقيل: بالرفع. وثم لمجرد التعقيب، وفيه دليل لمن قال أن سجود السهو بعد السلام. وقد اختلف أهل العلم في ذلك على عشرة أقوال: الأول: أن سجود السهو كله بعد السلام. وبه قال جماعة من الصحابة والتابعين وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه عملاً يحدث ابن مسعود، وحديث ذي اليدين التالي، وحديث عمران بن حصين في الفصل الثالث، وحديث عبد الله بن جعفر

المتقدم، وحديث ثوبان عند أبي داود وابن ماجه مرفوعاً: لكل سهو سجدتان بعد ما يسلم. قال الحافظ: في سنده اختلاف، وقال العراقي: حديث مضطرب. الثاني: أنه كله قبل السلام. وبه قال الشافعي أخذاً بحديث أبي سعيد الخدري، وحديث عبد الرحمن بن عوف، وقد ذكرنا لفظه، وحديث عبد الله بن بحينة الآتي. الثالث: التفرقة بين الزيادة والنقصان فيسجد للزيادة بعد السلام أخذاً بحديث ذي اليدين وللنقص قبله أخذاً بحديث ابن بحينة. قيل: وهذا مذهب مالك. وفيه أن هذا الفرق غير صحيح؛ لأن قصة ذي اليدين وقع السجود فيها بعد السلام، وهي عن نقصان، وأيضاً من جمع عليه السهوان: أحدهما في الزيادة، والثاني، في النقصان، فلا يكون مساغ له. وما قالوا يسجد قبل السلام تغلباً لجانب النقص لا دليل عليه. الرابع: أنه يستعمل كل حديث، كما ورد ففي السلام من اثنتين بعد السلام لحديث ذي اليدين، وكذا إذا سلم من ثلاث لحديث عمران، وفي التحري بعد السلام لحديث ابن مسعود، وفي القيام من ثنتين قبل السلام لحديث ابن بحينة، وفي الشك يبني على اليقين، ويسجد قبل السلام لحديث أبي سعيد، وما عدا هذه المواضع يسجد كله قبل السلام. وإلى ذلك ذهب أحمد بن حنبل. الخامس: أنه يستعمل كل حديث، كما ورد، وما لم يرد فيه شيء مما كان نقصاً سجد له قبل السلام، وفي الزيادة بعد السلام. وبه قال إسحاق بن راهوية. وقد تبين بهذا بأن الشافعي وأبا حنيفة سلكا مسلك الترجيح، ومالكاً وأحمد وإسحاق سلكوا مسلك الجمع. السادس: أن الباني على الأقل عند شكه يسجد قبل السلام على حديث أبي سعيد، والمتحري في الصلاة عند شكه يسجد بعد السلام على حديث ابن مسعود. وإلى ذلك ذهب أبوحاتم ابن حبان. السابع: أنه يتخير الساهي بين السجود قبل السلام وبعده، سواء كان لزيادة أو نقص، حكاه ابن أبي شيبة في المصنف عن علي، وحكاه الرافعي قولاً للشافعي. قال الحافظ: ورجح البيهقي طريقة التخيير في سجود السهو قبل السلام أو بعده. ودليلهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صح عنه السجود قبل السلام وبعده فكان الكل سنة. الثامن: أن كله بعد السلام إلا في موضعين، فإن الساهي فيهما مخير، أحدهما من قام من ركعتين، ولم يجلس، ولم يتشهد. والثاني أن لا يدري أصلى ركعة أم ثلاثاً أم أربعاً فيبني على الأقل، ويخير في السجود. وإلى ذلك ذهب أهل الظاهر، وبه قال ابن حزم: التاسع: أنه لا يشرع سجود السهو إلا في المواضع التي سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها فقط. وهو مذهب داود الظاهري. العاشر: ما اختاره الشوكاني في النيل حيث قال: وأحسن ما يقال في المقام أنه يعمل على ما يقتضيه أقواله وأفعاله - صلى الله عليه وسلم - من السجود قبل السلام وبعده، فما كان من أسباب السجود، مقيداً بقبل السلام سجد له قبله، وما كان مقيداً بعد السلام سجد له بعده، وما لم يرد تقييده

متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ بأحدهما كان مخيراً بين السجود قبل السلام وبعده من غير فرق بين الزيادة والنقص - انتهى. وهذا الخلاف إنما هو في الاختيار والأفضل، لا في الجواز وعدمه، قال عياض وجماعة من أصحاب الشافعي: ولا خلاف بين هؤلاء المختلفين وغيرهم من العلماء أنه لو سجد قبل السلام أو بعده للزيادة، أو للنقص أنه يجزئه، ولا تفسد صلاته وإنما اختلافهم في الأفضل. وفي الهداية: هذا الخلاف في الأولوية، وكذا قال الماوردي في الحاوي، وابن عبد البر وغيرهم، قاله العيني. وقال النووي: جميع العلماء قائلون بجواز التقديم وجواز التأخير، ونزاعهم في الأفضل - انتهى. والراجح عندي القول السابع أعني التخيير من غير تفصيل وترجيح، والله أعلم. تنبيه: المشهور في كتب شروح الحديث من مذهب أبي حنيفة أن سجود السهو كله بعد السلام، كما تقدم. وهذا صريح في أنه سلك مسلك الترجيح، وترك أحاديث السجود قبل السلام، لكن قال بعض الحنفية: إن فيما قاله الحنفية جمعاً بين روايات فعله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنهم قالوا إنه يسلم بعد التشهد عن يمينه فيسجد سجدتي السهو، فيتشهد ويصلي ثم يسلم. وهكذا ورد في بعض الروايات المفصلة في فعله - صلى الله عليه وسلم -، فهذا أوجه ما يجمع به اختلاف الحديث. فالروايات التي ورد فيها سجوده - صلى الله عليه وسلم - قبل السلام فالمراد فيها من السلام سلام لانصراف عن الصلاة، وهو التسليم الثاني في قولنا، وما ورد فيه السجود بعد السلام فالمراد فيه سلام الفصل بين الصلاة والسجدتين، قال: وفيه العمل بكل من روايات القول والفعل، فهذا الجمع لشموله لجميع الروايات أولى - انتهى. قلت: هذا الجمع ليس بوجيه فضلاً عن أن يكون أولى بل هو بعيد جداً يرده ظاهر سياق الأحاديث الواردة في المسألة؛ لأن المراد من السلام المذكور في هذه الأحاديث هو التسليمتان؛ لأنه هو المعهود لا السلام الواحد. فالأحاديث التي ذكر فيها سجود السهو بعد السلام المراد من السلام فيها تسليمتا التحليل بعد التشهد وبعد الصلاة على النبي والأدعية المأثورة. وما ورد فيه السجود قبل السلام فالمراد منه أنه تشهد وصلى ثم سجد للسهو، ثم سلم السلام المعهود وهو التسليمتان. وهذا كله مخالف لما ذكره هذا البعض من تفصيل مذهب الحنفية. ففي قولهم هذا طرح لجميع الروايات الواردة في الباب، لا إعمالها، ولم يرد هذا التفصيل في حديث مرفوع صحيح أو ضعيف فهو مردود على قائله. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً البيهقي، وأخرج الرواية الأولى أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه أيضاً، والرواية الثانية أخرجها أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه. قال ابن حجر: صريح كلام المصنف أن قوله: "بعد ما سلم" رواه الشيخان، وليس كذلك إذ لم يروه مسلم، وإنما رواه البخاري. والمصنف كأصله يقع له ذلك كثيراً لكن عذره أنه يريد اتفاق الشيخين على أصل إخراجه وإن لم يتساويا في كل ألفاظه، فاستحضر ذلك فإنه ينفعك في مواضع كثيرة من هذا الكتاب - انتهى.

1025- (5) وعن ابن سيرين، عن أبي هريرة، قال: ((صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1025- قوله: (وعن ابن سيرين) بكسر السين والراء، قال القاري: إنه مضبوط في جميع النسخ المصححة والأصول الحاضرة بالفتح. (أي بفتح النون على أنه غير منصرف) ويوجه منع صرفه على رأي أبي على الفارسي في اعتبار مطلق الزائدين كحمدون وعليون على ما ذكره الجعبري - انتهى. وسيرين هو مولى أنس بن مالك من سبي عين التمر، أدرك الجاهلية، وسبي في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، كاتبه أنس على عشرين ألف درهم، فأداها وعتق، والمراد بابن سيرين محمد أبوبكر الأنصاري مولاهم البصري ثقة ثبت عابد كبير القدر من كبار التابعين، أخو أنس ومعبد ويحيى وحفصة وكريمة أولاد سيرين أبي عمرة. وإذا أطلق ابن سيرين فهو محمد هذا. وهؤلاء الستة كلهم تابعيون. قال ابن سعد: كان محمد ثقة مأموناً عالياً فقيهاً رفيعاً إماماً كثير العلم. وقال أبوعوانة: رأيت ابن سيرين في السوق، فما رآه أحد إلا ذكر الله. وروي: أنه اشترى بيتاً فأشرف فيه على ثمانين ألف دينار، فعرض في قلبه شيء، فتركه. قال الحافظ: كان لا يرى الرواية بالمعنى. ولد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان، ومات لتسع مضين من شوال سنة 110هـ، وله سبع وسبعون سنة. (عن أبي هريرة قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي أمّنا، يدخل فيه حرف التعدية فيفيد معنى قولنا: أمنا فجعلنا من المؤتمين بصلاته. وفي رواية لمسلم وغيره: صلى لنا. واللام فيه قائم مقام الباء. ويصح أن يراد صلى من أجلنا لما يعود إليهم من فائدة الجماعة، ويصيب إليهم من البركة بسبب الإقتداء. واللفظان ظاهران، بل صريحان في أن أبا هريرة حضر قصة السهو. وحمله الطحاوي على المجاز فقال: إن المراد به صلى بالمسلمين. متمسكاً بما قاله الزهري أن القصة لذي الشمالين المستشهد ببدر قبل إسلام أبي هريرة بأكثر من خمس سنين، فإن مقتضاه أن تكون القصة وقعت قبل بدر لكن اتفق أئمة الحديث، كما نقله ابن عبد البر وغيره على أن الزهري وهم في ذلك، فالصواب أن القصة لذي اليدين وهو غير ذي الشمالين. نص على ذلك الشافعي في اختلاف الحديث وأبوعبد الله الحاكم والبيهقي وغيرهم. وقال النووي في الخلاصة: إنه قول الحافظ وسائر العلماء إلا الزهري، واتفقوا على تغليطه، وذو الشمالين هو الذي قتل ببدر وهو خزاعي، واسمه عمير بن عبد عمرو بن نضلة. وأما ذو اليدين فتأخر بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بمدة؛ لأنه حدث بهذا الحديث بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما أخرجه الطبراني وغيره وهو سلمي، واسمه الخرباق. وقد جوز بعض الأئمة أن القصة وقعت لكل من ذي الشمالين وذي اليدين، وأن أبا هريرة روى الحديثين فأرسل أحدهما، وهو قصة ذي الشمالين، وشاهد الآخر، وهي قصة ذي اليدين. وهذا محتمل من طريق الجمع. وقيل: يحمل على أن ذا الشمالين كان يقال له أيضاً ذواليدين وبالعكس. فكان ذلك سبباً للاشتباه. قلت: قد وقع في رواية لمسلم عن أبي هريرة قال: بينما أنا أصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي صريحة في أن أبا هريرة كان حاضراً في الصلاة، وهي تبطل تأويل الطحاوي. قال الحافظ: ويدفع المجاز الذي ارتكبه الطحاوي، ما رواه مسلم وأحمد وغيرهما من طريق يحيى بن أبي كثير عن

إحدى صلاتي العشي، ـــــــــــــــــــــــــــــ أبي سلمة في هذا الحديث عن أبي هريرة بلفظ: بينما أنا أصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهى. وقال الشيخ عبد الحي اللكنوي في التعليق الممجد. (ص104) : قال بعضهم: إن أبا هريرة لم يحضر القصة، وإنما رواه مرسلاً بدليل أن ذا الشمالين قتل يوم بدر، وهو صاحب القصة، وردوه بأن رواية مسلم وغيره صريحة في حضور أبي هريرة تلك القصة، والمقتول ببدر هو ذو الشمالين، وصاحب القصة هو ذو اليدين، وهو غيره - انتهى. وقال البيهقي في المعرفة: إن هذا ترك الظاهر على أنه رواه يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: بينما أنا أصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فلم يجز في هذا القول معناه صلى بالمسلمين - انتهى. قلت: رواية أحمد ومسلم والبيهقي بلفظ: بينما أنا أصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... نص صريح في حضور أبي هريرة قصة ذي اليدين، وليس عند من ادعى عدم حضوره عن هذه الرواية الصحيحة الصريحة جواب شاف. وقد اعترف به صاحب البحر الرائق من الحنفية، وقد اعترف به صاحب العرف الشذي أيضاً حيث قال: ولكن الطحاوي لم يجب عما في طريق مسلم عن أبي هريرة. بينما أنا أصلي الخ. وقال صاحب البحر: لم أجد جواباً شافياً عن هذه. وقال ابن عابدين ما قال، وتعجب من عدم جواب البحر. أقول: إن ابن عابدين غفل عما في مسلم، فإن الرواية ههنا: أنا أصلي ... رواها مسلم، وأما أنا فلم أجد جواباً شافياً أيضاً - انتهى. ثم إنه لما عجز الحنفية عن جواب هذه الرواية اعترف بعضهم بعدم وجدان الجواب الشافي وسعى بعضهم لإثبات الوهم فيها من الراوي، فقال النيموي ومن تبعه أخذاً عن العيني قوله: بينما أنا أصلي: ليس بمحفوظ، ولعل بعض رواة الحديث فهم من قول أبي هريرة "صلى بنا" أنه كان حاضراً فروى هذا الحديث بالمعنى على ما زعمه. وقد أخرجه مسلم من خمس طرق، فلفظه في طريقين: صلى بنا. وفي طريق: صلى لنا. وفي طريق: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى ركعتين. وفي طريق: بينما أنا أصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. تفرد به يحيى بن أبي كثير وخالفه غير واحد من أصحاب أبي سلمة وأبي هريرة، فكيف يقبل أن أبا هريرة قال في هذا الخبر: بينما أنا أصلي - انتهى. قال شيخنا في شرح الترمذي مجيباً عن كلام النيموي هذا ما لفظه: قلت يحيى بن أبي كثير ثقة ثبت متقن. قال الحافظ في مقدمة الفتح: أحد الأئمة الثقات الأثبات. قال شعبه: حديثه أحسن من حديث الزهري. وقال في تهذيب التهذيب: وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه يحيى من أثبت الناس. إنما يعد مع الزهري ويحيى بن سعيد، وإذا خالفه الزهري، فالقول قول يحيى - انتهى. فكيف لا يقبل ما تفرد به مثل هذا الثقة الثبت الذي هو من أثبت الناس، وإذا خالفه الزهري فالقول قوله، فقول النيموي قوله: بينما أنا أصلي. غير محفوظ مردود عليه. والحاصل أن رواية مسلم وأحمد بلفظ: بينما أنا أصلي. صحيحة محفوظة وهي نص صريح في شهود أبي هريرة قصة ذي اليدين، وليس لمن أنكر ذلك جواب شاف عن هذه الرواية -انتهى كلام الشيخ. (إحدى صلاتي العشي) بفتح العين وكسر الشين المعجمة وتشديد الياء. قال الأزهري: العشي عند العرب ما بين زوال

قال ابن سيرين: قد سماها أبوهريرة، ولكن نسيت- أنا قال: فصلى بنا ركعتين، ثم سلم، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد، ـــــــــــــــــــــــــــــ الشمس وغروبها. ويبين ذلك ما وقع في رواية لمسلم إحدى صلاتي العشي إما الظهر وإما العصر. وفي رواية للبخاري: صلى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر أو العصر. وفي رواية له أيضاً بلفظ: الظهر بغير شك. ولمسلم من طريق أبي سلمة المذكورة: صلاة الظهر. وله من طريق أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد عن أبي هريرة: صلاة العصر من غير شك. قال الحافظ: الظاهر أن الاختلاف فيه من الرواة. وأبعد من قال (كالنووي وأبي حاتم بن حبان) يحمل على أن القصة وقعت مرتين. (مرة في صلاة الظهر ومرة في صلاة العصر) بل روى النسائي من طريق ابن عون عن ابن سيرين أن الشك فيه من أبي هريرة، ولفظه: صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتي العشي. قال أبوهريرة: ولكني نسيت. فالظاهر أن أباهريرة رواه كثيراً على الشك، وكان ربما غلب على ظنه أنها الظهر فجزم بها، وتارة غلب على ظنه أنها العصر، فجزم بها، وطرأ الشك في تعيينها أيضاً على ابن سيرين. وكان السبب في ذلك الاهتمام بما في القصة من الأحكام الشرعية، ولم تختلف الرواة في حديث عمران في قصة الخرباق. (الآتية في الفصل الثالث) أنها العصر. فإن قلنا: أنهما قصة واحدة، فيترجح رواية من عين العصر في حديث أبي هريرة - انتهى. وقال القاري: الأظهر أن القضية متحدة والصلاة هي العصر. فإنها مجزومة في جميع الروايات، وإنما التردد في غيرها، فيترك الشك، ويعمل بالمتيقن - انتهى. (قال ابن سيرين) محمد. (قد سماها أبوهريرة) أي تلك الصلاة بالخصوص. (ولكن نسيت أنا) أي هي الظهر أم العصر. وفي رواية للبخاري: قال محمد وأكثر ظني أنه العصر. قال القسطلاني: هذا شك آخر من ابن سيرين، وذلك أن أبا هريرة حدثه بها معينة، كما عينها لغيره، ويدل على أنه عينها له قول البخاري في بعض طرقه. قال ابن سيرين: قد سماها أبوهريرة ولكني نسيت. قال الحافظ: وإنما رجح كونها العصر عند ابن سيرين؛ لأن في حديث عمران الجزم بأنه العصر، كما تقدمت الإشارة إليه قبل. (قال) أي أبوهريرة. (فصلى بنا ركعتين ثم سلم فقام) أي من ذلك الموضع وأتى. (إلى خشبة معروضة) أي موضوعة بالعرض أو مطروحة. (في) ناحية (المسجد) وفي رواية للبخاري في مقدم المسجد. وفي رواية لمسلم: ثم أتى جذعاً في قبلة المسجد، يعني من جذوع النخل التي كان المسجد مسقوفاً عليها. قال الحافظ: ولا تنافي بين هذه الروايات؛ لأنها تحمل على أن الجذع قبل اتخاذ المنبر كان ممتداً بالعرض، وكأنه الجذع الذي كان - صلى الله عليه وسلم - يستند إليه قبل اتخاذ المنبر، وبذلك جزم بعض الشراح - انتهى. قلت: ليس في شيء من روايات الحديث وطرقه ما يدل على أن المراد به الجذع الذي كان يستند إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الخطبة قبل اتخاذ المنبر، ولا حجة لمن يدعي أنه كان يرى من ذلك الجذع شيء بعد دفنه، وإليه استند النبي - صلى الله عليه وسلم - واتكأ عليه في هذه القصة ولا على أن

فاتكأ عليها كأنه غضبان، ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبك بين أصابعه، ووضع خده الأيمن على ظهر كفه اليسرى، وخرجت سرعان القوم من أبواب المسجد، فقالوا: قصرت الصلاة، وفي القوم أبوبكر وعمر، رضي الله عنهما، فهاباه أن يكلماه، ـــــــــــــــــــــــــــــ الجذع دفن في قبلة المسجد ولا على أن عمل المنبر كان قبل بدر. (كأنه غضبان) قال القاري: لعل وجه الغضب تأثير التردد والشك في فعله أو كان غضبان، فوقع له الشك لأجل غضبه. (على اليسرى) أي على يده اليسرى. (وشبك بين أصابعه) أي أدخل بعضها في بعض من فوق الكف. (وخرجت سرعان القوم) وفي بعض النسخ الناس بدل القوم. ولفظ البخاري ههنا خرجت السرعان أي بالألف واللام وبدون الإضافة. نعم في رواية أخرى له ولمسلم: خرج سرعان الناس، وهو بفتح السين والراء المهملتين وضم النون فاعل خرجت. ومنهم من سكن الراء، والمراد بهم أوائل الناس خروجاً من المسجد. والمستعجلون منهم، وهم أهل الحاجات غالباً، قال الجزري: السرعان بفتح السين والراء: أوائل الناس الذي يتسارعون إلى الشيء ويقبلون عليه بسرعة، ويجوز تسكين الراء، قال عياض: وضبطه الأصيلي في البخاري بضم السين وإسكان الراء، ويكون جمع سريع كقفيز وقفزان وكثيب وكثبان وهو المسرع الخروج، ومن قال سرعان بكسر السين فهو خطأ؛ لأنه إنما هو في سرعان الذي هو اسم فعل أي سرع. (فقالوا قصرت الصلاة) كذا في جميع النسخ بدون همزة الاستفهام، وكذا وقع في رواية للبخاري، لكن وقع في رواية البخاري هذه، فقالوا: أقصرت أي بذكر همزة الاستفهام، قال الحافظ: فتحمل تلك على هذه، وفيه دليل على ورعهم إذ لم يجزموا بوقوع شيء بغير علم. وهابوا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسألوه وإنما استفهموه؛ لأن الزمان زمان النسخ - انتهى. وقصرت بفتح القاف وضم الصاد على البناء للفاعل أي صارت قصيرة. وروي بضم القاف وكسر الصاد على البناء للمفعول، أي أن الله قصرها. قال النووي: كلاهما صحيح ولكن الأول أشهر وأصح. وقال ابن رسلان: الفعل لازم ومتعد فاللازم مضموم الصاد؛ لأنه من الأمور الخلقية كحسن وقبح، والمتعدي بفتح الصاد منه قصر الصلاة وقصرها بالتخفيف والتشديد وأقصرها على السواء، حكاهن الأزهري. (وفي القوم) أي المصلين. (فهاباه) من الهيبة وهو الخوف والإجلال، أي فخاف أبوبكر وعمر النبي - صلى الله عليه وسلم - تعظيماً وتبجيلاً وإجلالاً له. (أن يكلماه) بما وقع له أنه سهواً وعمداً، وبأنه سلم من ركعتين، فإن يكلماه بدل اشتمال من ضمير "هاباه" لبيان أن المقصود هيبة تكليمه، لا نحو نظره واتباعه. يروى "فهابا" بدون الضمير المنصوب، وأن مصدرية. والتقدير من التكليم. قال الطيبي: أي فخشيا أن يكلما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نقصان الصلاة. والمعنى أنهما غلب عليهما احترامه وتعظيمه عن الاعتراض عليه. وأما ذو اليدين فغلب عليه حرصه على تعلم العلم. وقيل: خشيا أن

وفي القوم رجل في يديه طول، يقال له: ذو اليدين، ـــــــــــــــــــــــــــــ يكلماه لما ظهر عليه من أثر الغضب. (وفي القوم رجل) هو الخرباق السلمي، وكان (في يديه طول) أي كانت يداه أطول من يدي القوم، وهو محمول على الحقيقة. ويحتمل أن يكون كناية عن طولهما بالعمل أو بالبذل، قاله القرطبي. وجزم ابن قتيبة بأنه كان يعمل بيديه جميعاً. (يقال له ذو اليدين) وفي رواية: يدعوه النبي - صلى الله عليه وسلم - ذا اليدين. وهذا لقبه، واسمه الخرباق، من بني سليم، وبقي بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال السهيلي في الروض الأنف: مات ذو اليدين السلمي في خلافة معاوية. وقال أبوعوانه في صحيحه: ذو اليدين عاش بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومات بذي خشب على عهد عمر. ويدل عليه ما رواه الحسن بن سفيان والطبراني وغيرهما من طريق شعيب بن مطير عن أبيه أنه لقي ذا اليدين بذي خشب، فحدثه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم إحدى صلاتي العشي، وهي العصر، فصلى ركعتين، وخرج سرعان الناس، فذكر الحديث. وروى ابن أبي شيبة من طريق عمرو بن مهاجر أن محمد بن سويد أفطر قبل الناس بيوم، فأنكر عليه عمر بن عبد العزيز، فقال شهد عندي فلان أنه رأى الهلال، فقال عمر أو ذو اليدين هو. ذكره الحافظ في الإصابة (ج1: ص489) قلت: حديث ذي اليدين هذا رواه أيضاً عبد الله بن أحمد: في زيادات المسند (ج4: ص77) ، والبيهقي (ج2: ص366) من طريق معدي بن سليمان، وكان ثقة، كما في مجمع الزوائد (ج2: ص150) ، قال أتيت مطيراً لأسأله عن حديث ذي اليدين، فأتيته فسألته، فإذا هو شيخ كبير، لا ينفذ الحديث من الكبر. فقال ابنه شعيب: بلى، يا أبت! حدثني أنك لقيت ذا اليدين بذي خشب، فحدثك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم إحدى صلاتي العشي، وهي العصر، ركعتين ثم سلم، فذكر الحديث. وفي رواية: حدثني شعيب بن مطير، ومطير حاضر، يصدق مقالته، قال كيف كنت أخبرتك؟ قال يا أبتاه أخبرتني أنك لقيت ذا اليدين بذي خشب الحديث. قال الهيثمي: رواهما عبد الله بن أحمد مما زاده في المسند. وفيه معدي بن سليمان. قال أبوحاتم شيخ، وضعفه النسائي - انتهى. قلت: معدي هذا من رجال الترمذي وابن ماجه. قال الشاذكوني: كان من أفضل الناس، وكان يعد من الأبدال، وقد صحح الترمذي حديثه، كذا في تهذيب التهذيب (ج10 ص229) ، وأما تضعيف النسائي وقول ابن حبان فيه: لا يجوز أن يحتج به فالظاهر أنه في روايته عن ابن عجلان خاصة. ففي تهذيب التهذيب قال أبوزرعة: واهي الحديث يحدث عن ابن عجلان بمناكير - انتهى. على أن النسائي وابن حبان من المتشددين، كما قال النيموى. وأما مطير فهو بالتصغير ابن سليم شيخ من أهل وادي القرى من رجال أبي داود، ذكره ابن حبان في الثقات. وقال البخاري: لم يثبت حديثه. والظاهر أنه أراد حديثه الذي رواه عن ذي الزوائد، وهو صحابي آخر أخرج أبوداود حديثه في كتاب الخراج. وذو اليدين هو غير ذي الشمالين المستشهد ببدر، واسمه عمير بن عبد عمرو بن نضلة خزاعي حليف بني زهرة، قال الحافظ في الفتح: قد اتفق معظم أهل الحديث من المصنفين وغيرهم على أن ذا لشمالين غير ذي اليدين. ونص

على ذلك الشافعي في اختلاف الحديث - انتهى. وقال بعد ورقة: وقد تقدم أن الصواب التفرقة بين ذي اليدين وذي الشمالين. وذهب الأكثر إلى أن ذي اليدين الخرباق بكسر المعجمة وسكون الراء بعدها موحدة، وآخره قاف، اعتماداً على ما وقع في حديث عمران بن حصين. (الآتي في الفصل الثالث) عند مسلم: وهذا صنيع من يوحد حديث أبي هريرة بحديث عمران. وهو الراجح في نظري، وإن كان ابن خزيمة ومن تبعه جنحوا إلى التعدد - انتهى. وقال ابن رسلان في شرح سنن أبي داود: وللناس خلاف فيما يتعلق بذي اليدين في موضعين: الأول: أن ذا اليدين وذا الشمالين واحد أو اثنان، ولا خلاف بين أهل السير أن ذا الشمالين قتل ببدر، فالجمهور على أن ذا اليدين غيره لروايات أبي هريرة في شهوده القصة. قال العلائي: هذا هو الصحيح الراجح. وقال أبوبكر بن الأثرم: الذي قتل ببدر إنما هو ذو الشمالين ابن عبد عمرو حليف لبنى زهرة. واختار القاضي عياض في الإكمال بأنهما واقعتان: أحدهما كانت قبل بدر، والمتكلم فيها ذو الشمالين، ولم يشهدها أبوهريرة بل أرسل روايتها. والثانية كانت بعد إسلامه، وحضرها أبوهريرة، والمتكلم ذواليدين. والثاني: أن ذا اليدين هو الخرباق المتكلم في حديث عمران أو غيره، فالذي اختاره عياض وابن الأثير والنووي في غير موضع أنهما واحد. وأما ابن حبان فجعلهما اثنين، فقال في معجم الصحابة: الخرباق صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث سها، وهو غير ذي اليدين. وتوقف ابن عبد البر والقرطبي، فقالا يحتمل أن يكون الخرباق ذا اليدين، وأن يكون غيره. وقال ابن الجوزي: في اسم ذي اليدين قولان: أحدهما عمير بن عبد عمرو بن نضلة السلمي، ذكره الأكثرون. والثاني خرباق، ذكره أبوبكر الخطيب، قال وقد قيل: إنه ذوالشمالين، وليس بصحيح. قال العلائي: وعمير بن عبد عمرو بن نضلة هو ذوالشمالين لا ذو اليدين. وابن الجوزي وهم في هذه التسمية - انتهى. قلت: وادعى الحنفية أن ذا اليدين وذا الشمالين رجل واحد اسمه عمير بن عبد عمرو بن نضلة، ويقال له الخرباق أيضاً، وهو سلمي وخزاعي، واختاروا ذلك؛ لأنه ينفعهم في مسألة الكلام في الصلاة سهواً أو نسياناً أو عمداً لإصلاح الصلاة، وسنذكرها. واستدلوا على ذلك بما وقع عند النسائي من رواية الزهري عن أبي سلمة وأبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة عن أبي هريرة، ومن رواية عمران بن أبي أنس عن أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ: ذي الشمالين مكان ذي اليدين. قال الصيني في شرح البخاري (ج4: ص264) وابن التركماني في الجوهر النقي بعد ذكر الروايتين، صرح فيهما بأن ذا الشمالين هو ذو اليدين، وقالا أيضاً فثبت أن ذا اليدين وذا الشمالين واحد، وهذا أولى من جعله رجلين؛ لأنه خلاف الأصل في هذا الموضع - انتهى. قلت: في كون رواية الزهري وعمران بن أبي أنس بلفظ: ذي الشمالين محفوظة نظر؛ لأنه وقع في عامة روايات أبي هريرة

قال: يا رسول الله! أنسيت أم قصرت ـــــــــــــــــــــــــــــ الصحيحة لفظ: ذي اليدين دون ذي الشمالين. وكذلك وقع في حديث عمران بن حصين عند أحمد ومسلم وغيرهما، وحديث ابن عمر عند أبي داود لفظ: ذي اليدين، وقد ثبت شهود أبي هريرة قصة ذي اليدين، وشهدها عمران بن حصين أيضاً، كما صرح به الحافظ في الفتح. وعمران بن حصين أسلم عام خيبر، كما نص عليه الحافظ في التقريب. وروى معاوية بن حديج عند أحمد وأبي داود، وغيرهما قصة أخرى في السهو، ووقع فيها الكلام ثم البناء، وكان إسلامه قبل موت النبي - صلى الله عليه وسلم - بشهرين، كما صرح به البيهقي والنووي والحافظ. وهذا كله يدل دلالة واضحة على أن من روى في حديث أبي هريرة ذا الشمالين فقد وهم. ولذلك قال الحاكم على ما نقل عنه البيهقي (ج2: ص367) : كل من قال ذلك فقد أخطأ - انتهى. فعلى هذا لا فائدة في ذكر متابعة عمران بن أبي أنس للزهري على ذكر ذي الشمالين. ويمكن أن يقال: إن ذا اليدين كان يقال له أيضاً ذو الشمالين، ويؤيده أنه وقع في رواية الزهري وعمران بن أبي أنس أولاً لفظ ذي الشمالين، ثم وقع فيها لفظ ذي اليدين. وعلى هذا فالمراد بذي الشمالين في روايتهما هو ذو اليدين لا ذو الشمالين الذي قتل ببدر. واستدل الحنفية أيضاً بأقوال بعض أهل العلم كابن سعد في الطبقات وغيره في غيرها مما يدل أن ذا اليدين وذا الشمالين واحد. وفيه: أنها معارضة بما تقدم عن الحافظ أنه اتفق معظم أهل الحديث من المصنفين وغيرهم على أن ذا الشمالين غير ذي اليدين، وقد ثبت شهود أبي هريرة قصة ذي اليدين، فهذا يرد قول من قال: أن ذا اليدين وذا الشمالين واحد. قال ابن عبد البر: ذو اليدين غير ذي الشمالين المقتول ببدر بدليل حضور أبي هريرة ومن ذكرنا قصة ذي اليدين، وأن المتكلم رجل من بني سليم، كما ذكر مسلم في صحيحه. وفي رواية عمران بن حصين اسمه الخرباق ذكره مسلم، فذو اليدين الذي شهد السهو في الصلاة سلمي، وذو الشمالين المقتول ببدر خزاعي، يخالفه في الاسم والنسب. وقد يمكن أن يكون رجلان وثلاثة يقال لكل واحد منهم ذو اليدين وذو الشمالين، لكن المقتول ببدر غير المذكور في حديث السهو. هذا قول أهل الحذق والفهم من أهل الحديث والفقه، ثم روى هذا بإسناده عن مسدد. قال ابن عبد البر: وقد اضطرب الزهري في حديث ذي اليدين اضطراباً أوجب عند أهل العلم بالنقل تركه من روايته خاصة، ثم ذكر طرقه، وبين اضطرابها في المتن والإسناد، وذكر أن مسلم بن الحجاج غلط الزهري في حديثه. قال ابن عبد البر: لا أعلم أحداً من أهل العلم بالحديث المصنفين فيه عول على حديث الزهري في قصة ذي اليدين، وكلهم تركوه لاضطرابه، وأنه لم يتم له إسناداً ولا متناً وإن كان إماماً عظيماً في هذا الشأن، فالغلط لا يسلم منه بشر، والكمال لله تعالى، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقول الزهري أن ذا اليدين قتل يوم بدر متروك لتحقق غلط فيه - انتهى كلامه ملخصاً مختصراً. (أنسيت) بالخطاب. (أم قصرت) بالفتح ثم الضم أو الضم ثم الكسر كالسابقة.

الصلاة؟ قال لم أنس، ولم تقصر. فقال: أكما يقول ذو اليدين؟ فقالوا: نعم. فتقدم فصلى ما ترك، ثم سلم، ـــــــــــــــــــــــــــــ (الصلاة) بالضم على الوجهين، وحصر في الأمرين؛ لأن السبب إما من الله، وهو القصر أو من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو النسيان. (فقال) - صلى الله عليه وسلم -: (لم أنس) أي في ظني أي لا في نفس الأمر، فخرج هذا الكلام على حسب الظن، ويعتبر الظن قيداً في الكلام، ترك ذكره بناء على أن الغالب في بيان أمثال هذه الأشياء أن يجري فيها الكلام بالنظر إلى الظن، فكأنه قال ما نسيت ولا قصرت في ظني، وهذا الكلام صادق لا غبار عليه، ولا يتوهم فيه شائبة كذب، وليس مبنى الجواب على كون الصدق المطابقة للظن، بل على أنه مطابقة الواقع، فافهم. (ولم تقصر) أي الصلاة وهو بفتح التاء وضم الصاد على بناء الفاعل، أو ضم التاء وفتح الصاد على بناء المفعول. وهذا صريح في نفي النسيان، ونفي القصر. وفيه تفسير للمراد بقوله في الرواية الآتية: كل ذلك لم يكن، وتأيد لما قاله أصحاب المعاني أن لفظ "كل" إذا تقدم وعقبها النفي كان نفياً لكل فرد لا للمجموع، بخلاف ما إذا تأخرت كأن يقول لم يكن كل ذلك، فإنه يفيد بمفهومه ثبوت الفعل لبعض الأفراد. (بخلاف الأول فإنه، يقتضى السلب عن كل فرد) ولهذا أجاب ذو اليدين بقوله قد كان بعض ذلك، وأجابه في بعض الروايات التي وقع فيها نفي النسيان، ونفي القصر صريحاً بقوله: "بلى قد نسيت"؛ لأنه لما نفي الأمرين، وكان مقرراً عند الصحابي أن السهو غير جائز عليه في الأمور البلاغية جزم بوقوع النسيان لا بالقصر، وهو حجة لمن قال: إن السهو جائز على الأنبياء فيما طريقه التشريع، وقد تقدم الكلام في ذلك. (فقال) - صلى الله عليه وسلم - بعد تردده بقول ذي اليدين. (أكما يقول ذو اليدين) أي أتقولون كقوله، أو أكان كما يقول، أو الأمر كما يقول. وفي رواية بعد قوله: لم أنس ولم تقصر: فقال بل نسيت يا رسول الله، فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على القوم فقال: أصدق ذو اليدين، فلما جزم بالنسيان استثبت عليه السلام فقال أوقع مني أني تركت نصف الصلاة، كما يقول؟ وعدل عن قال لتصوير صورة للحال الماضية حتى يستحضر ويتأمل. (فقالوا: نعم) الأمر كما يقول. وفي رواية لمسلم: قالوا صدق، لم تصل إلا ركعتين. قال ابن حجر: فحينئذٍ تيقن عليه السلام أنه ترك ركعتين، إما لتذكره أو لكونهم عدد التواتر أو لإخبار الله له بالحال، كما في رواية أبي داود، ولم يسجد سجدتي السهو حتى يقنه الله ذلك، أي ألقى الله تعالى اليقين بوقوع النسيان في قلبه. (فتقدم) أي مشى إلى محل صلاته. ففي رواية لأبي داود: فرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مقامه. (فصلى ما ترك) أي الذي تركه، وهو الركعتان. ففي رواية: فصلى ركعتين أخراوين. (ثم سلم) قال العلائي: جميع رواياته وطرقه لم يختلف فيه شيء منها أن السجود بعد السلام، كذا في شرح ابن رسلان لسنن أبي داود وهذا يهدم قاعدة المالكية ومن وافقهم أنه إذا كان السهو بالنقصان يسجد قبل

ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر، فربما سألوه، ثم سلم)) . فيقول: نبئت أن عمران بن حصين قال: ((ثم سلم)) . متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ السلام. (ثم كبر) أي بعد السلام للسجود. واختلف في سجود السهو بعد السلام هل يشترط له تكبيرة إحرام أو يكتفي بتكبير السجود؟ فالجمهور على الاكتفاء، وهو ظاهر غالب الأحاديث. وحكى القرطبي: أن قول مالك لم يختلف في وجوب السلام بعد سجدتي السهو، قال وما يتحلل منه بسلام لا بد له من تكبيرة إحرام كسائر الصلاة لكن لا تبطل بتركها. ويؤيده ما رواه أبوداود من طريق حماد بن زيد عن هشام بن حسان عن ابن سيرين في هذا الحديث قال: فكبر ثم كبر وسجد للسهو. قال أبوداود: لم يقل فكبر ثم كبر إلا حماد بن زيد، فأشار إلى شذوذ هذه الرواية. (وسجد) أي للسهو. (مثل سجوده) الذي للصلاة. والمثل الشبه. قال الراغب: المثل عبارة عن المشابهة لغيره في معنى من المعاني أي معنى كان، وهو أعم الألفاظ الموضوعة للمشابهة، وذلك لأن الند يقال لما يشارك في الجوهر فقط، والشبه فيما يشاركه في الكيفية فقط، والمساوي فيما يشاركه في الكمية فقط، والمثل عام في جميع ذلك، ولذا قال تعالى:. {ليس كمثله شيء} [42: 11] . وأما نحو هذا فيقضي المشابهة مع التقريب - انتهى. (أو أطول) منه. (ثم رفع رأسه وكبر) أي للرفع من السجود. (ثم كبر) أي للسجود الثاني. (وسجد) أي ثانياً. (مثل سجوده) الأول أو مثل سجوده للصلاة والأول أقرب لفظاً، والثاني معنى. (ثم رفع رأسه) من السجدة الثانية. (فربما سألوه) أي سألوا ابن سيرين هل في الحديث. (ثم سلم) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد سجدتي السهو. فالضمير المنصوب لابن سيرين والمسئول عنه قوله: ثم سلم. (فيقول) أي ابن سيرين في جواب سؤالهم. (نبئت) بضم النون أي أخبرت. (أن عمران بن حصين قال: ثم سلم) هذا يدل على أنه لم يسمع ذلك من عمران، وقد بين أشعث في روايته عن ابن سيرين الواسطة بينه وبين عمران، فقال قال ابن سيرين: حدثني خالد الحذاء عن أبي قلابة عن عمه أبي المهلب عن عمران بن حصين، أخرجه أبوداود، والترمذي والنسائي والبيهقي فظهر أن ابن سيرين أبهم ثلاثة، وروايته عن خالد من رواية الأكابر عن الأصاغر، كذا في الفتح. وقول ابن سيرين هذا، وهو راوي حديث ذي اليدين يدل، على أنه كان يرى التوحيد بين حديث أبي هريرة هذا، وحديث عمران بن حصين، وهو الذي رجحه الحافظ في الفتح، كما تقدم. ووقع عند البخاري من طريق حماد عن سلمة بن علقمة قال: قلت لمحمد في سجدتي السهو تشهد؟ فقال: ليس في حديث أبي هريرة. وقد يفهم منه أنه ورد في حديث غيره، وهو كذلك. فقد رواه الترمذي وغيره من حديث عمران بن حصين، وسيأتي الكلام في ذلك في الفصل الثاني. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد ومالك والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي

ولفظه للبخاري، وفي أخرى لهما: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدل: "لم أنس، ولم تقصر": "كل ذلك لم يكن"، فقال: قد كان بعض ذلك يا رسول الله! ـــــــــــــــــــــــــــــ وغيرهم. قال ابن حجر: أي اتفقا على المقصود منه، فلا ينافيه خلو حديث مسلم عن ذكر وضع اليد على اليد، والتشبيك. قال الحافظ في التلخيص. (ص112) لهذا الحديث طرق كثيرة وألفاظ، وقد جمع جميع طرقه الحافظ صلاح الدين العلائي، وتكلم عليه كلاماً شافياً - انتهى. (ولفظه للبخاري) في باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره. (وفي أخرى) أي في رواية أخرى. (لهما) أي للشيخين. وفيه نظر؛ لأن هذه الرواية من إفراد مسلم، وليست للبخاري. (كل ذلك) أي كل من النسيان والقصر. (لم يكن) أي في ظني، أي لم يكن لا ذلك ولا ذا في ظني، بل ظني أني أكملت الصلاة أربعاً، فهو في معنى لا شيء منهما بكائن على شمول النفي وعمومه لثلاثة وجوه: أحدها الرواية المتقدمة لم أنس ولم تقصر. والثاني القاعدة المتقدمة عن علماء المعاني. والثالث أنه قال ذو اليدين في جوابه - صلى الله عليه وسلم - قد كان بعض ذلك. ومعلوم أن الثبوت للبعض أنما ينافي النفي عن كل فرد لا النفي عن المجموع. وقوله: قد كان بعض ذلك، موجبة جزئية ونقيضها السالبة الكلية، ولولا أن ذا اليدين فهم السلب الكلي لما ذكر في مقابلته الإيجاب الجزئي. (فقال) أي ذو اليدين. (قد كان بعض ذلك) يعني قصرت الصلاة، ولكن لا أدري قصرتها سهواً أو أمر الله تعالى بقصرها، قاله القاري. واعلم أن حديث ذي اليدين هذا فيه فوائد كثيرة وقواعد مهمة: منها جواز النسيان في الأفعال والعبادات على الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وأنهم لا يقرون عليه. ومنها أن الواحد إذا ادعى شيئاً جرى بحضرة جمع كثير لا يخفى عليهم سئلوا، ولا يعمل بقوله من غير سؤال. ومنها إثبات سجود السهو، وأنه سجدتان، وأنه يكبر لكل واحد منهما، وأنهما على هيئة سجود الصلاة، وأنه يسلم من سجود السهو. ومنها جواز البناء على الصلاة لمن أتى بالمنافي سهواً وإن طال زمن الفصل. ومنها أن الباني لا يحتاج إلى تكبيرة الإحرام، وأن السلام ونية الخروج من الصلاة سهواً لا يقطع الصلاة. ومنها أنه يرجع الإمام لقول المأمومين إذا شك. ومنها جواز التقليب الذي سبيله التعريف دون التهجين. ومنها أن سجود السهو لا يتكرر بتكرر السهو، ولو اختلف الجنس؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - سلم وتكلم ومشى ناسياً ولم يسجد إلا سجدتين. وروى ابن أبي شيبة عن النخعي والشعبي: أن لكل سهو سجدتين، وورد على وفقه حديث ثوبان عند أحمد وأبي داود والبيهقي (ج2: ص337) . وحمل على أن معناه من سها بأي سهو كان شرع له السجود، أي لا يختص بالمواضع التي سها فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا بالأنواع التي سها بها. فالحديث سيق للعموم لكل ساه لا لتعدد السجود عند تعدد مقتضيه. وروى البيهقي (ج2: ص346) من حديث عائشة سجدتا السهو تجزءان من كل زيادة ونقصان. ومنها أن من ظن أنه فعل شيئاً فقال فعلته أو قال: ما فعلته، وفي ظنه

أنه لم يفعل، ثم تبين خلاف ما ظن لم يأثم؛ لأنه عليه السلام قال كل ذلك لم يكن وقد كان السهو. ومنها أن العمل الكثير والخطوات إذا كانت في الصلاة سهواً أو مع ظن التمام لا تفسد بها الصلاة، فإن في رواية: أنه - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى منزله. وفي أخرى: يجر رداءه مغضباً. وفي أخرى: أنه مشى إلى الجذع، واستند إليه، وخرج السرعان. وفي أخرى: دخل الحجرة ثم خرج ورجع الناس وبني على صلاته. قال النووي: الحكم ببطلانها بما ذكر من الأفعال في حديث ذي اليدين مشكل، وتأويل الحديث صعب على من أبطلها - انتهى. ومنها أن من تحول عن القبلة سهواً لم تكن عليه الإعادة. ومنها أن الكلام سهواً، أو على ظن تمام الصلاة، لا يقطع الصلاة، خلافاً للحنفية. قالوا: إن قصة ذي اليدين كانت قبل نسخ الكلام في الصلاة. وفيه أن هذا مبني على قول الزهري: إنها قبل بدر. وقد قدمنا أنه إما وهم في ذلك أو تعددت القصة لذي الشمالين المقتول ببدر، ولذي اليدين الذي تأخرت وفاته بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد ثبت شهود أبي هريرة للقصة، كما تقدم، وشهدها عمران بن حصين، وإسلامه متأخر أيضاً. وروى معاوية بن حديج قصة أخرى في السهو، أي في صلاة المغرب، ووقع فيها الكلام ثم البناء، أخرجها أبوداود وابن خزيمة وغيرهما، وكان إسلامه قبل موت النبي - صلى الله عليه وسلم - بشهرين. قال السندي: من يقول بإبطال الكلام للصلاة مطلقاً يحمل الحديث على أنه قبل نسخ إباحة الكلام في الصلاة، لكن يشكل عليه أن النسخ كان قبل بدر، وهذه الواقعة قد حضرها أبوهريرة وكان إسلامه أيام خيبر. وقال صاحب البحر من علمائنا الحنفية: ولم أر لهذا إلا يراد جواباً شافياً - انتهى. وأما ما روى الطحاوي عن ابن عمر أنه ذكر له حديث ذي اليدين، فقال: كان إسلام أبي هريرة بعد ما قتل ذو اليدين. ففيه: أن هذه الرواية ضعيفة منكرة مخالفة لروايات الصحيحين، تفرد بها عبد الله بن عمر بن حفص العمري، وهو ضعيف، كما في التقريب. وقال الذهبي: صدوق في حفظه شيء. وأما ما قيل: أن عمر كان حاضراً في حادثة ذي اليدين، وقد حدث به مثل تلك الحادثة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاته، وفعل فيها بخلاف ما عمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم ذي اليدين، مع أنه كان حاضراً في قصته. وهذا يدل على أن قصة ذي اليدين كانت حين الكلام مباحاً في الصلاة، أخرج الطحاوي في معاني الآثار بإسناده عن عطاء قال: صلى عمر بن الخطاب بأصحابه فسلم في الركعتين، ثم انصرف، فقيل له في ذلك، فقال: إني جهزت عيراً من العراق بأحمالها وأحقابها حتى وردت المدينة، فصلى بهم أربع ركعات. ففيه أن رواية الطحاوي هذه مرسلة، ومع ذلك ضعيفة جداً؛ لأن مرسل عطاء أضعف المراسيل. قال أحمد: ليس في المرسل أضعف من مرسل الحسن وعطاء، يأخذان عن كل أحد - انتهى. فمرسل عطاء هذا لا يصلح للاستدلال، على أن قصة ذي اليدين كانت حين كان الكلام مباحاً. على أنه يحتمل أن عمر كان إذ ذاك قد ذهل عن قصة

1026- (6) وعن عبد الله بن بحينة، أن النبي صلى الله عليه وسلم، صلى بهم الظهر، ـــــــــــــــــــــــــــــ ذي اليدين، كما كان قد ذهل عن قصة التيمم، ولم يتذكر بتذكير عمار مع أنه حضر معه تلك القصة. وأيضاً يحتمل أن عمر كان يرى أن من حدث به هذه الحادثة فله أن يستأنف الصلاة، وله أن يبني ولم ير ما فعله - صلى الله عليه وسلم - واجباً، فإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال. وقد بسط شيخنا الكلام في هذا الباب في أبكار المنن (ص247- 257) فعليك أن تطالعه. وأما ما توهم بعضهم أن حديث ذي اليدين مخالف لقول زيد بن أرقم: نهينا عن الكلام، فيحمل قصة ذي اليدين على أنها كانت قبل النهي والنسخ. ففيه أنه لا معارضة بينهما؛ لأن قول زيد بن أرقم عام يشمل كل نوع من الكلام، وحديث ذي اليدين خاص، كما لا يخفى ولا معارضة بين العام والخاص. قال ابن بطال: يحتمل أن يكون قول زيد بن أرقم ونهينا عن الكلام أي إلا إذا وقع سهواً وعمداً لمصلحة الصلاة فلا يعارض قصة ذي اليدين - انتهى. ومنها أن تعمد الكلام لمصلحة الصلاة لا يبطلها، وهو المشهور من مذهب مالك والأوزاعي أن التكلم عمداً على جهة إصلاح الصلاة وبيانها لا يفسدها، وهو رواية عن أحمد. وأجاب من لم يقل بذلك بأن كلامهم كان جواباً للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وجوابه لا يقطع الصلاة. وتعقب بأنه لا يلزم من وجوب الإجابة عدم قطع الصلاة. وأجيب بأنه ثبت مخاطبته في التشهد، وهو حي بقولهم: السلام عليك أيها النبي، ولم تفسد الصلاة. والظاهر أن ذلك من خصائصه. ويحتمل أن يقال ما دام النبي - صلى الله عليه وسلم - يراجع المصلي فجائز له جوابه حتى تنقضي المراجعة، فلا يختص الجواز بالجواب لقول ذي اليدين: بلى قد نسيت، ولم تبطل صلاته. قلت الخصوصية لا تثبت بالادعاء والاحتمال، وأيضاً ما الجواب عن قول سرعان الناس: قصرت الصلاة، فاته لم يكن خطاباً للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولا جواباً له. والحق أن الحديث مشكل على المالكية أيضاً، والجواب عما ذكر في رواياته وطرقه من الأفعال والأقوال صعب على أصحاب المذاهب الأربعة، كما لا يخفى على من له وقوف على مذاهبهم، ولا عذر عندنا عن العمل بما ورد في الحديث لمن يتفق له مثل ذلك. وما أحسن كلام صاحب المنار حيث قال بعد الرد على من ادعى نسخه ما نصه: وأنا أقول أرجو الله للعبد إذا لقي الله عاملاً بذلك أن يثبته في الجواب بقوله صح لي ذلك عن رسولك، ولم أجد ما يمنعه، وأن ينجو بذلك ويثاب على العمل به، وأخاف على المتكلفين وعلى المجبرين على الخروج من الصلاة للاستئناف، فإنه ليس بأحوط، كما ترى؛ لأن الخروج بغير دليل ممنوع وإبطال للعمل - انتهى. 1026- قوله: (وعن عبد الله بن بحينة) هو عبد الله بن مالك بن القشب الأسدي أو الأزدي من أزد شنوءة، وأما بحينة فهي أمه، فاسم أبيه مالك، واسم أمه بحينة - مصغراً - بنت الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف. قيل: فينبغي كتابة ابن بحينة بالألف لئلا يلتبس بالأب، وإذا نسب إليهما، وكتب عبد الله بن مالك بن بحينة

فقام في الركعتين الأوليين لم يجلس، فقام الناس معه، حتى إذا قضى الصلاة. وانتظر الناس تسليمه، كبر وهو جالس، فسجد سجدتين قبل أن يسلم، ثم سلم)) ـــــــــــــــــــــــــــــ ينبغي أن يكتب ألف ابن وينوّن مالك ليندفع الوهم، ويعرف أن ابن بحينة نعت لعبد الله لا لمالك. وينبغي أن يحفظ هذا الأصل، فيحتاج إليه في أسماء كثيرة مثل محمد بن علي ابن الحنفية، وإسماعيل بن إبراهيم ابن علية وغير ذلك. وعبد الله هذا صحابي مشهور. أسلم قديماً، كان ناسكاً فاضلاً صائم الدهر، وأمه بحينة أيضاً صحابية أسلمت وبايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأطعمها من خيبر ثلاثين وسقاً، قال في الإصابة: كان عبد الله ينزل ببطن ريم على ثلاثين ميلاً من المدينة، ومات به في إمارة مروان الأخيرة على المدينة، وأرخه ابن زبير سنة ست وخمسين. (فقام في الركعتين الأوليين) بالمثناتين التحتيتين يعني أنه قام إلى الركعة الثالثة حال كونه. (لم يجلس) أي عقب الركعتين للتشهد. ووقع في رواية ابن عساكر: ولم يجلس بزيادة الواو. وفي صحيح مسلم فلم يجلس بالفاء، وكذا في رواية للبخاري. وزاد في رواية ابن خزيمة: فسبحوا به، فمضى حتى فرغ من صلاته. وفي حديث معاوية عند النسائي والبيهقي وعقبة بن عامر عند الحاكم والبيهقي جميعاً نحو هذه القصة بهذه الزيادة. وفيه دليل على أن تارك الجلوس الأول إذا قام لا يرجع له. (فقام الناس معه) إلى الثالثة اتباعاً لفعله - صلى الله عليه وسلم -. وفيه دليل على وجوب متابعة الإمام حيث تركوا القعود الأول وتشهده. (حتى إذا قضى الصلاة) أي فرغ منها، وقد استدل به لمن زعم أن السلام ليس من الصلاة حتى لو أحدث بعد أن جلس، وقبل أن يسلم تمت صلوته. وهو قول بعض الصحابة والتابعين، وبه قال أبوحنيفة، كما تقدم. وتعقب بأن السلام لما كان لتحليل من الصلاة كان المصلي إذا انتهى إليه إليه كمن فرغ من صلاته. ويدل على ذلك قوله في رواية ابن ماجه من طريق جماعة من الثقات عن يحيى بن سعيد عن الأعرج: حتى إذا فرغ من الصلاة إلا أن يسلم، فدل على أن بعض الرواة حذف الاستثناء لوضوحه. والزيادة من الحافظ مقبولة، كذا في الفتح. وقيل: معناه قارب الفراغ من الصلاة. وقال الباجي: ويحتمل أن يراد بالصلاة الدعاء والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيكون لفظ: "قضى" على حقيقته - انتهى. (كبر وهو جالس) جملة حالية. (فسجد سجدتين) أي للسهو بعد التشهد. (قبل أن يسلم) وفي رواية: كبر قبل التسليم فسجد سجدتين، وهو جالس، أي أنشأ السجود جالساً. فهي جملة حالية. وفي أخرى لهما: يكبر في كل سجدة. وعند أحمد: فكبر فسجد، ثم كبر فسجد ثم سلم، قال الحافظ في الفتح: وفي رواية الأوزاعي فكبر ثم سجد، ثم كبر فرفع رأسه، ثم كبر فسجد، ثم كبر فرفع رأسه ثم سلم. أخرجه ابن ماجه. واستدل به على مشروعية التكبير في سجدتي السهو والجهر به، كما في غيرهما من سجود الصلاة وأن بينهما جلسة فاصلة. (ثم سلم) بعد ذلك للانصراف من الصلاة. واستدل به على أن سجود السهو قبل السلام. ولا حجة فيه في كون جميعه كذلك، نعم يرد على من زعم أن جميعه بعد السلام كالحنفية، وتقدم ذكر مستندهم،

{الفصل الثاني}

متفق عليه. {الفصل الثاني} 1027- (7) عن عمران بن حصين: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم فسها، فسجد سجدتين، ثم تشهد، ثم سلم)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ وما هو الأرجح في ذلك. وزاد في رواية للبخاري: وسجدهما الناس معه مكان ما نسي من الجلوس. وكأنه عرف الصحابي ذلك من قرينة الحال. وفي هذه الزيادة فوائد: منها أن السجود خاص بالسهو، فلو تعمد ترك شيء مما يجبر بسجود السهو لا يسجد. وهو قول الجمهور، ورجحه الغزالي، وناس من الشافعية. ومنها أن المأموم يسجد مع الإمام إذا سها الإمام، وإن لم يسه المأموم. ونقل ابن حزم فيه الإجماع. وأما إذا سها المأموم دون إمامه فلا سجود عليه في قول عامة أهل العلم، كما في المغني (ج1: ص699) . ومنها أن السجود إنما هو لأجل ترك الجلوس لا لترك التشهد، حتى لو أنه جلس مقدار التشهد، ولم يتشهد لا يسجد. وجزم أصحاب الشافعي وغيرهم أنه يسجد لترك التشهد وإن أتى بالجلوس. والحديث فيه دليل على أن الجلوس الأول والتشهد فيه ليس بفرض؛ لأنه لو كان فرضاً لبطلت الصلاة بتركه، ولم يجبر بالسجود. ولم يكن بد من الإتيان به، كسائر الفروض، فجبرانه بالسجود عند تركه دل على عدم فرضيته، ولما احتاج إلى الجبران ظهر أنه مهم، وليس كالسنة التي لا يجب بتركها شيء، فإذا هو فوق السنة ودون الفرض، وهو المراد بالواجب عند من يقول به. والله اعلم. (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب من لم ير التشهد الأول واجباً. والحديث أخرجه أيضاً أحمد ومالك والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي. 1027- قوله: (عن عمران بن حصين) بضم الحاء المهملة، ابن عبيد بن خلف الخزاعي أبونجيد، أسلم عام خيبر، وصحب وغزا عدة غزوات، وكان صاحب راية خزاعة يوم الفتح. قال ابن عبد البر: كان من فضلاء الصحابة وفقهائهم، يقول عنه أهل البصرة إنه كان يرى الحفظة، وكانت تكلمه حتى اكتوى، أي قبل وفاته بسنتين، وكان قد اعتزل الفتنة، فلم يقاتل فيها، وقال أبونعيم: كان مجاب الدعوة. وتقدم شيء من ترجمته في باب الإيمان بالقدر. (فسجد سجدتين) أي بعد ما سلم، كما يشهد له حديثه الآتي. (ثم تشهد) المراد به التشهد المعهود في الصلاة. (ثم سلم) فيه دليل على مشروعية التشهد بعد سجدتي السهو. واختلف العلماء فيه: فقال أنس والحسن وعطاء: ليس فيهما تشهد ولا تسليم. وقال ابن سيرين وابن المنذر: فيهما تسليم بغير تشهد. قال ابن المنذر التسليم فيهما ثابت من غير وجه، وفي ثبوت التشهد نظر. وروى عن عطاء: إن شاء تشهد وسلم، وإن شاء لم يفعل. وروى ابن أبي شيبة عن ابن سيرين أنه قال: أحب إليّ أن يتشهد فيهما. وحكى ابن عبد البر

رواه الترمذي، وقال هذا حديث حسن غريب. ـــــــــــــــــــــــــــــ عن يزيد بن قسيط أنه يتشهد بعدهما ولا يسلم. ورواه أيضاً عن النخعي وغيره. وذهب الشافعي وأحمد إلى أنه إذا كان سجود السهو قبل السلام سلم عقبه، ولا يعيد التشهد، يعني أنه أجزأه التشهد الأول، ولم يحتج إلى إعادته بعد سجود السهو، واختلف فيه القول عن مالك. وأما إذا سجدهما بعد السلام فذهب الأئمة الأربعة إلى أنه يتشهد ثم يسلم، كما يظهر من كتب الفروع. والراجح عندنا: أنه مخير في التشهد إن شاء تشهد بعدهما وإن شاء لم يتشهد. وأما التسليم فلا بد منه، والله اعلم. (رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن غريب) وأخرجه أيضاً أبوداود وابن حبان والحاكم (ج1: ص323) والبيهقي (ج2: ص355) وأخرجه النسائي بدون ذكر التشهد كلهم من رواية أشعث عن ابن سيرين عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين. وقد سكت عنه أبوداود، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره. وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين. قال الحافظ في الفتح بعد نقل تحسين الترمذي وتصحيح الحاكم: وضعفه البيهقي وابن عبد البر وغيرهما. ووهموا رواية أشعث لمخالفة غيره من الحفاظ عن ابن سيرين، فإن المحفوظ عن ابن سيرين في حديث عمران ليس فيه ذكر التشهد. وروى السراج من طريق سلمة بن علقمة أيضاً في هذه القصة. (أي في قصة ذي اليدين المتقدمة) قلت: لابن سيرين فالتشهد؟ قال لم أسمع في التشهد شيئاً. وقد تقدم من طريق ابن عون عن ابن سيرين، قال: نبئت أن عمران بن حصين قال: ثم سلم. وكذا المحفوظ عن خالد الحذاء بهذا الإسناد في حديث عمران. (يعني الذي يأتي في الفصل الثالث) ليس فيه ذكر التشهد كما أخرجه مسلم، فصارت زيادة أشعث شاذة. ولهذا قال ابن المنذر: لا أحسب التشهد في سجود السهو يثبت، لكن قد ورد في التشهد في سجود السهو عن ابن مسعود عند أبي داود والنسائي، وعن المغيرة عند البيهقي. وفي إسنادهما ضعف. فقد يقال: إن الأحاديث الثلاثة في التشهد باجتماعها ترتقي إلى درجة الحسن. قال العلائي: وليس ذلك ببعيد. وقد صح ذلك عن ابن مسعود من قوله، أخرجه ابن أبي شيبة - انتهى. قلت: حديث ابن مسعود عند أبي داود والنسائي والبيهقي (ج2: ص356وص336) من طريق خصيف عن أبي عبيدة عن أبيه عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً بلفظ: إذا كنت في صلاة، فشككت في ثلاث أو أربع، وأكبر ظنك على أربع، تشهدت ثم سجدت سجدتين، وأنت جالس قبل أن تسلم. ثم تشهدت أيضاً، ثم تسلم. قال البيهقي في المعرفة: حديث مختلف في رفعه. وخصيف غير قوي. وأبوعبيدة عن أبيه مرسل، أي منقطع؛ لأن أبا عبيدة لم يسمع عن أبيه عبد الله بن مسعود. ولفظ المغيرة عند البيهقي (ج2: ص355) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تشهد بعد أن رفع رأسه من سجدتي السهو. قال البيهقي: تفرد به محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلي عن الشعبي. ولا حجة فيما تفرد به لسوء حفظه وكثرة خطئه في الروايات - انتهى.

1028- (8) وعن المغيرة بن شعبة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قام الإمام في الركعتين، فإن ذكر قبل أن يستوي قائماً فليجلس، وإن استوى قائماً فلا يجلس، ويسجد سجدتي السهو)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1028- قوله: (إذا قام الإمام) أي شرع في القيام وفي معناه المنفرد. (في الركعتين) أي بعدهما من الثلاثية أو الرباعية قبل أن يقعد ويتشهد. (فإن ذكر) أي تذكر أن عليه بقية من الصلاة. (قبل أن يستوي قائماً) سواء يكون إلى القيام أقرب أو إلى القعود. قال القاري: وهو ظاهر الرواية، واختاره ابن الهمام، ويؤيده الحديث - انتهى. ومقابله ما في الهداية إن كان إلى القعود أقرب عاد، ولو إلى القيام فلا - انتهى. قلت: أخرج هذا الحديث أحمد وابن ماجه والدارقطني والبيهقي بألفاظ متقاربة. وليس فيها ما يدل على هذا التفصيل. فالصحيح هو الأول. وهو المختار عند الحنفية. (فليجلس) أي ليأتي بالتشهد الأول: زاد في رواية الدارقطني: ولا سهو عليه. وقد تمسك بها من قال إن سجود السهو إأنما هو لفوات التشهد الأول لا لفعل القيام. وإلى ذلك ذهب النخعي والأسود وعلقمة والشافعي في أحد قوليه. وذهب أحمد إلى أنه يجب السجود للسهو لفعل القيام؛ لما روي عن أنس أنه تحرك للقيام من الركعتين الأخريين من العصر على جهة السهو فسبحوا، فقعد ثم سجد للسهو. أخرجه البيهقي والدارقطني موقوفاً عليه إلا أن في بعض طرقه أنه قال: هذه السنة. قال الحافظ: ورجاله ثقات. وقد رجح حديث المغيرة لكونه مرفوعاً، ولأنه يؤيده حديث ابن عمر مرفوعاً: لا سهو إلا في قيام عن جلوس، أو جلوس عن قيام. أخرجه الدارقطني والحاكم والبيهقي (ج2: ص345) وفيه ضعف. وقال ابن حجر: وظاهر الحديث أن قوله الآتي: ويسجد سجدتي السهو خاص بالقسم الثاني، فلا يسجد هنا للسهو. وإن كان إلى القيام أقرب، وهو الأصح عند جمهور أصحابنا، وصححه النووي في عدة من كتبه - انتهى. قلت: واختلف فيه فقهاء الحنفية أيضاً، والأصح هو عدم وجوب السجود؛ لأن فعله لم يعد قياماً، فكان قعوداً، كذا في شرح المنية. (وإن استوى قائماً) ولفظ أحمد وابن ماجه: وإن استتم قائماً. (فلا يجلس) لتلبسه بفرض، فلا يقطعه. (ويسجد) بالرفع. (سجدتي السهو) لتركه واجباً، وهو القعدة الأولى. وفي الحديث أنه لا يجوز العود إلى القعود، والتشهد بعد الانتصاب الكامل؛ لأنه قد تلبس بالفرض، فلا يقطعه لأجل ما ليس بفرض، ثم إذا رجع بعد استوائه قائماً هل تفسد صلاته؟ مختلف عند الأئمة. قال الحافظ في الفتح: فمن سها عن التشهد الأول حتى قام إلى الركعة ثم ذكر لا يرجع، فقد سبحوا به - صلى الله عليه وسلم -، فلم يرجع. فلو تعمد المصلي الرجوع بعد تلبسه بالركن بطلت صلاته عند الشافعي خلافاً للجمهور - انتهى. واختلف فيه الحنفية. والراجح عندهم عدم الفساد، كما في الدر المختار. وقال الشوكاني: فإن عاد عالماً بالتحريم بطلت صلاته لظاهر النهي، ولأنه زاد قعوداً، وهذا إذا تعمد العود، فإن عاد

{الفصل الثالث}

رواه أبوداود وابن ماجه. {الفصل الثالث} 1029- (9) عن عمران بن حصين: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى العصر وسلم في ثلاث ركعات، ثم دخل منزله. فقام إليه رجل يقال له الخرباق، ـــــــــــــــــــــــــــــ ناسياً لم تبطل صلاته - انتهى. (رواه أبوداود وابن ماجه) وأخرجه أيضاً أحمد (ج4: ص253، 254) والدارقطني والبيهقي (ج2: ص343) ومداره في جميع طرقه على جابر الجعفي، وهو ضعيف جداً. وقد قال أبوداود: ليس في كتابي عن جابر الجعفي إلا هذا الحديث. وقال المنذري: في إسناده جابر الجعفي، ولا يحتج به- انتهى. وأخرج أحمد (ج4: ص247- 253) والترمذي وصححه وأبوداود والبيهقي (ج2: ص338) عن زياد بن علاقة، قال: صلى بنا المغيرة بن شعبة، فلما صلى ركعتين قام. ولم يجلس، فسبح به من خلفه، فأشار إليهم أن قوموا، فلما فرغ من صلاته سلم ثم سجد سجدتين وسلم. ثم قال: هكذا صنع بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخرجه البيهقي (ج2: ص344) أيضاً من طريق عامر عن المغيرة. 1029- قوله: (صلى العصر) وفي رواية الطحاوي: صلى بهم الظهر. وفي رواية لأحمد والبيهقي: صلى الظهر أو العصر بالشك. قلت: الجزم قاض على الشك. ثم رواية العصر أرجح لتوافق أكثر الروايات عليها، ولأنها مخرجة في صحيح مسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه ومسند أحمد. (وسلم في ثلاث ركعات) وفي رواية معتمر عن خالد الحذاء عند أحمد (ج4: ص431) : صلى ثلاث ركعات فسلم. وفي رواية شعبة عن خالد عند أحمد أيضاً: صلى ثلاث ركعات ثم سلم. ولفظ الكتاب أصح وأرجح لتوافق أكثر الرواة عن خالد الحذاء عليه. وهم: إسماعيل بن علية عند مسلم وأحمد، وعبد الوهاب الثقفي عند مسلم أيضاً وابن ماجه والبيهقي، ويزيد بن زريع عند أبي داود والنسائي والبيهقي. ومسلمة بن محمد عند أبي داود. (ثم دخل منزله) وفي رواية فدخل الحجرة. فيه أن ترك استقبال القبلة والمشي الكثير سهواً لا يبطل الصلاة. (فقام إليه) أي في أثناء دخول منزله. (رجل يقال له الخرباق) بكسر الخاء المعجمة، وسكون الراء بعدها موحدة، وفي آخره قاف، اسمه. قال ابن حجر: أسلم في أواخر زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعاش حتى روى عنه متأخروا التابعين، وهو ذو اليدين السابق، كما قاله المحققون، وغير ذي الشمالين خلافاً لمن وهم فيه، كالزهري والطيبي هنا - انتهى. قلت: ما ذكره ابن حجر من أن الخرباق اسم ذي اليدين السابق هو صنيع من يوحد حديث أبي هريرة بحديث عمران، وإلى توحيد الحديثين ذهب الأكثر، وهو الذي رجحه الحافظ، وعده من الحنفية السندي الأظهر، وصاحب فيض الباري الأصوب، وقواه النيموي في تعليق

وكان في يديه طول، فقال: يا رسول الله! فذكر له صنيعه، فخرج غضبان يجر رداءه، حتى انتهى إلى الناس، فقال: أصدق هذا؟ قالوا: نعم. فصلى ركعة، ثم سلم، ثم سجد سجدتين، ثم سلم)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ آثار السنن، وهو الظاهر عندي أيضاً، لكن الخرباق ذا اليدين السلمي هذا غير ذي الشمالين عمير بن عبد عمرو ابن نضلة الخزاعي المستشهد ببدر، لا كما زعمه الحنفية أنهما رجل واحد. (وكان في يديه طول) أي بالنسبة إلى سائر الناس، ولذا كان يقال له ذو اليدين. وفي رواية لمسلم: فقام رجل بسيط اليدين. (فذكر له صنيعه) أي من تسليمه في ثلاث ركعات، وأن ذلك هل هو لنسيان أو لقصر الصلاة. (فخرج) أي من منزله. (غضبان) لأمر. (يجر رداءه) أي مستعجلاً يعني لكثرة اشتغاله بشأن الصلاة خرج يجر رداءه، ولم يتمهل ليلبسه. (ثم سلم) أي للتحلل من الصلاة. (ثم سجد سجدتين) أي للسهو بعد السلام. (ثم سلم) لسجود السهو. هذا، وقد تقدم أنه ذهب الأكثر إلى أن حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين، وحديث عمران هذا قضية واحدة. وجنح ابن خزيمة ومن تبعه كالنووي وأبي حاتم بن حبان إلى التعدد. قال الحافظ في الفتح: والحامل لهم على ذلك الاختلاف الواقع في السياقين. ففي حديث أبي هريرة إن السلام وقع من اثنتين، وأنه - صلى الله عليه وسلم - قام إلى خشبة في المسجد. وفي حديث عمران أنه سلم من ثلاث ركعات وأنه دخل منزله لما فرغ من الصلاة. فأما الأول فقد حكى العلائي أن بعض شيوخه حمله على أن المراد به أنه سلم في ابتداء الركعة الثالثة. (يعني في إرادة ابتداء الثالثة) واستبعده، ولكن طريق الجمع يكتفي فيها بأدنى مناسبة، وليس بأبعد من دعوى تعدد القصة، فإنه يلزم منه كون ذي اليدين في كل مرة استفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، واستفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة عن صحة قوله. وأما الثاني فلعل الراوي لما رآه تقدم من مكانه إلى جهة الخشبة ظن أنه دخل منزله لكون الخشبة كانت في جهة منزله. فإن كان كذلك، وإلا فرواية أبي هريرة أرجح لموافقة ابن عمر له على سياقه، كما أخرجه الشافعي وأبوداود وابن ماجه وابن خزيمة، ولموافقة ذي اليدين نفسه له على سياقه كما أخرجه أبوبكر الأثرم وعبد الله بن أحمد في زيادات المسند، وأبوبكر بن أبي حثمة وغيرهم. وقد تقدم ما يدل على أن محمد بن سيرين راوي الحديث عن أبي هريرة كان يرى التوحيد بينهما، وذلك أنه قال في آخر حديث أبي هريرة: نبئت أن عمران بن حصين قال: "ثم سلم" - انتهى كلام الحافظ. وقال السندي: في حاشية النسائي كلام المصنف يشير إلى أن الواقعة متحدة، وهو أظهر. وعلى هذا كونه سلم من ركعتين أو ثلاث، وكذا كونه دخل البيت أو قعد في ناحية المسجد وغير ذلك مما اشتبه على الرواة لطول الزمان. ويحتمل تعدد الواقعة. وقال في حاشية ابن ماجه: الظاهر أن اختلاف الرواية ليس محمله اختلاف الواقعة، بل محمله نسيان بعض الرواة بعض الكيفيات بمضي الأزمنة، وهم ما كانوا يكتبون الوقائع، بل كانوا يحفظونها بالقلب. وهذا غير مستبعد عند من تتبع الأحاديث. قلت: وذهب بعض العلماء إلى ترجيح حديث أبي هريرة على حديث عمران

رواه مسلم. 1030- (10) وعن عبد الرحمن بن عوف، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من صلى صلاة يشك في النقصان، فليصل حتى يشك في الزيادة)) . رواه أحمد. ـــــــــــــــــــــــــــــ كما رأيت في كلام الحافظ. ولعل الإمام البخاري جنح إليه كما يفهم من صنيعه، حيث أخرج حديث أبي هريرة في صحيحه، وأعرض عن حديث عمران بن حصين. والله اعلم. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد (ج4: ص427- 431- 441) وأبوداود والنسائي وابن ماجه والطحاوي والبيهقي. وفي الباب عن ابن عباس عند البزار والطبراني في الكبير. وفي سنده إسماعيل بن أبان الغنوي العامري، وهو متروك. وله حديث آخر عندهما أيضاً مختصر من الأول. وفي سنده جابر الجعفي وثقه شعبة والثوري وضعفه الناس، كذا في مجمع الزوائد (ج2: ص152) . 1030- قوله: (من صلى صلاة يشك في النقصان) يعني أنه يشك في الرباعية مثلاً بأنه صلى ثلاثاً أو أربعاً. (فليصل) أي فليبن على الأقل المتيقن، فيجعلها في الصورة المذكورة ثلاثاً ويصلي ركعة أخرى. (حتى يشك في الزيادة) أي يشك في أنه صلى أربعاً أو خمساً لاحتمال أن يكون قد صلى في الواقع أربعاً، وتكون التي زادها ركعة خامسة. فمن بني على الثلاث وصلى ركعة أخرى فهو يشك الآن أنها رابعة أو خامسة، وهذا هو المراد بالشك في الزيادة. والحاصل أن جعل الشك في جانب الزيادة أولى من جعله في جانب النقصان. (رواه أحمد) في (ج1: ص195) عن محمد بن يزيد عن إسماعيل بن مسلم المكي عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس أنه كان يذاكر عمر شأن الصلاة، فانتهى إليهم عبد الرحمن بن عوف، فقال: ألا أحدثكم بحديث سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالوا: بلى، قال: فأشهد إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من صلى. الحديث. وإسماعيل بن مسلم المكي ضعيف. وهذه الرواية من زيادات أبي بكر أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك القطيعي، راوي المسند عن عبد الله بن أحمد. قال القطيعي: قال أبوعبد الرحمن، يعني عبد الله بن أحمد. وجدت هذا الحديث في كتاب أبي بخط يده ثنا محمد بن يزيد الخ. وأخرجه أيضاً إسحاق بن راهوية والهيثم بن كليب في مسنديهما، والبيهقي في سننه (ج2: ص333- 346) بلفظ: إذا كان أحدكم في شك من النقصان في صلاته فليصل حتى يكون في شك من الزيادة، وفي إسنادهم أيضاً إسماعيل بن مسلم المكي. وهذا حديث مختصر من حديث طويل أخرجه أحمد (ج1: ص190) والترمذي وصححه. وأبوداود وابن ماجه والبيهقي (ج2: ص332) من حديث كريب عن عبد الله بن عباس عن عبد الرحمن بن عوف. وقد ذكرنا لفظه في شرح حديث أبي هريرة أول أحاديث الفصل الأول

(21) باب سجود القرآن

(21) باب سجود القرآن ـــــــــــــــــــــــــــــ من هذا الباب. قال الحافظ في التلخيص (ص113) بعد عزوه للترمذي وابن ماجه: هو حديث معلول، فإنه من رواية ابن إسحاق عن مكحول عن كريب. وقد رواه أحمد في مسنده (ج1: ص193) ، وكذا البيهقي (ج2: ص332) عن ابن علية عن ابن إسحاق عن مكحول مرسلاً. قال ابن إسحاق فلقيت حسين بن عبد الله، فقال لي هل أسنده لك؟ قلت: لا، فقال: لكنه حدثني أن كريباً حدثه به، وحسين ضعيف جداً. ورواه إسحاق ابن راهوية والهيثم بن كليب في مسنديهما من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس مختصراً فذكر لفظه، قال: وفي إسنادهما إسماعيل بن مسلم المكي، وهو ضعيف، وتابعه بحر بن كنيز السقاء فيما ذكر الدارقطني في العلل. وذكر الاختلاف فيه أيضاً على ابن إسحاق في الوصل والإرسال - انتهى. (باب سجود القرآن) أي سجدة التلاوة، وهي سنة مؤكدة عند الشافعية والحنابلة، وسنة أو فضيلة قولان مشهوران للمالكية، وواجبة عند أبي حنيفة. قال ابن قدامة في المغني (ج1: ص656) : سجود التلاوة سنة مؤكدة، وليس بواجب عند إمامنا (أحمد) ومالك والأوزاعي والشافعي، وهو مذهب عمر وابنه عبد الله، وأوجبه أبوحنيفة وأصحابه - انتهى. واستدل أبوحنيفة على الوجوب بما روى مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة مرفوعاً: إذا قرأ ابن آدم السجدة اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويله! أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار، قالوا الأصل أن الحكيم إذا ذكر من غير الحكيم كلاماً، ولم يعقبه بالإنكار دل ذلك على أنه صواب، فكان في الحديث دليل على كون ابن آدم مأمور بالسجود. ومطلق الأمر للوجوب، مع أن آي سجدة تفيده أيضاً؛ لأنها ثلاثة أقسام: 1- قسم فيه الأمر الصريح به كقوله: {فاسجدوا لله واعبدوا} [53: 62] . {واسجد واقترب} [96: 19] . 2- وقسم تضمن حكاية استنكاف الكفرة حيث أمروا به، وهو قوله: {فمالهم لا يؤمنون وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون} [84: 20، 21] وقوله: {وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفوراً} [25: 60] 3- وقسم فيه حكاية فعل الأنبياء السجود، والثناء على الذين يخرون سجداُ عند سماع كلامه، وكل من الامتثال ومخالفة الكفرة والاقتداء واجب إلا أن يدل دليل على عدم لزومه، لكن دلالتها ظنية، فكان الثابت الوجوب لا الفرض، كذا في البرهان، وفتح القدير وغيرهما. وأجيب بأن كون الأمر في الآيتين، وفي قول إبليس للوجوب ممنوع، بل هو محمول على الندب. والدليل على ذلك حديث زيد بن ثابت الآتي قال: قرأت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {والنجم} ، فلم يسجد. والظاهر أن ترك السجدة حينئذٍ كان لبيان الجواز كما جزم به الشافعي في اختلاف الحديث؛ لأنه لو كان واجباً لأمره بالسجود ولو بعد ذلك. ويدل عليه أيضاً ما رواه أبوداود وابن خزيمة

والحاكم من الحديث أبي سعيد الخدري أنه قال: قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو على المنبر "ص" فلما بلغ السجدة نزل، فسجد وسجد الناس معه، فلما كان يوم آخر قرأها، فلما بلغ السجدة تشزن الناس للسجود، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما هي توبة نبي، ولكني رأيتكم تشزنتم للسجود، فنزل فسجد وسجدوا. وقد سكت عنه أبوداود والمنذري. قال بعض الحنفية: إن ذلك إنما كان حين لا يرى السجدة عزمة في سورة "ص"، بل كانت رخصة إذ ذاك، فلما عزم الأمر تحتم بالسجود - انتهى. وفيه أن هذا يحتاج إلى دليل ولا يثبت بالادعاء شيء فهو مردود على قائله، وأيضاً لو كان كذلك لما قال ابن عباس بعده - صلى الله عليه وسلم -: ص ليس من عزائم السجود، ولما سكت الصحابة الحاضرون في خطبة عمر عن قوله: ومن لم يسجد فلا إثم عليه، ولا نكروا على منعهم من السجدة. ويدل على كون الأمر للندب أيضاً ما قاله ابن رشد: اتبع مالك والشافعي في مفهوم الأوامر الصحابة، إذ كانوا هم أقعد بفهم الأوامر الشرعية، وذلك كما ثبت عن عمر بن الخطاب بمحضر الصحابة، فلم ينقل عن أحد منهم خلافه، وهم أفهم بمغزى الشرع. قلت: يشير بذلك إلى ما رواه البخاري والبيهقي والأثرم عن عمر: أنه قرأ يوم الجمعة على المنبر بسورة النحل حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها، حتى إذا جاءت السجدة قال: يا أيها الناس إنما نمر بالسجود، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه، ولم يسجد عمر. وزاد نافع عن ابن عمر: إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء. وفي رواية الأثرم: فقال على رسلكم، إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء، فقرأها ولم يسجد، ومنعهم أن يسجدوا. وهذا حديث مرفوع خلافاً لظاهره الذي أشبه على العيني وأمثاله؛ لأن عمر حكى أن الله لم يفرض السجود علينا الخ. ويقول ذلك بحضرة كبار الصحابة، وهو لا يريد من هذا اللفظ أن هذا رأيه واستنباطه، كما هو بين بديهي. قال الكرماني: قوله من لم يسجد فلا إثم عليه، دليل صريح في عدم الوجوب، ولم ينكر عليه أحد، فكان إجماعاً سكوتياً على ذلك، وهو حجة عند الحنفية، وكذا قوله، لم يفرض: دليل آخر، ثم عدم سجوده ومنعه الناس من السجدة دليل ثالث، وقوله إلا أن نشاء دليل رابع؛ لأنه يدل على أن المرأ مخير في السجود، والتخيير ينافي الوجوب. قال صاحب التوضيح: ترك عمر مع من حضر السجود ومنعه لهم دليل على عدم الوجوب. ولا إنكار ولا مخالف، ولا يجوز أن يكون عند بعضهم أنه واجب ويسكت عن الإنكار على غيره في قوله ومن لم يسجد فلا إثم عليه. وقال الحافظ: استدل بقوله إلا أن نشاء، على أن المرأ مخير في السجود، فيكون ليس بواجب - انتهى. وأجاب بعض الحنفية عن مخالفة الإجماع السكوتي بأنه ضعيف؛ لأن إنكار المختلف فيه غير لازم، سيما إن كان قائله إماماً، وفيه أنه لم يرد عمر بقوله: إن الله لم يفرض السجود علينا، أن هذا رأيه واجتهاده واستنباطه. وأيضاً لم يثبت عن أحد الصحابة أنه كان يرى سجدة التلاوة واجبة، حتى يكون ذلك مسألة اجتهادية مختلفاً فيها بينهم، ولو سلم

فلا يجوز أن يكون عند بعضهم واجباً، ويسكت عن الإنكار على غيره في قوله: ومن لم يسجد فلا إثم عليه، وكانوا ينكرون في ترك المستحبات فضلاً عن الواجبات، ولم ينقل عن أحد من الصحابة خلاف قول عمر وفعله. وأجابوا عن قوله لم يفرض، على قاعدتهم في التفرقة بين الفرض والواجب بأن نفي الفرض لا يستلزم نفي الوجوب. وتعقب بأنه اصطلاح لهم حادث. وما كان الصحابة يفرقون بينهما. ويغني عن هذا قول عمر: ومن لم يسجد فلا إثم عليه. قال بعضهم يمكن أن يقال: إن النفي في قوله من لم يسجد فلا إثم عليه، راجع إلى القيد والمعنى أن السجدة ليست واجبة بعينها، فمن لم يسجد فلا إثم عليه؛ لأن الركوع أيضاً ينوب عنها، وحينئذٍ معنى قوله: إن الله لم يفرض السجود إلا أن نشاء، أي لم يفرض علينا السجود بخصوصه، بل يكفي عنه الركوع أيضاً إلا أن نشاء السجدة فنأتي بها. ولا يخفى ما فيه من التكلف والتعسف، على أنه لم ينقل أن عمر ومن معه ركعوا في هذه الواقعة لتلاوة آية السجدة نيابة عن السجدة. وفيه أيضاً أن سجدة التلاوة سجود مشروع، فلا ينوب عنه الركوع كسجود الصلاة. وأما قوله تعالى. {وخر راكعاً وأناب} [24: 38] فالمراد به السجود؛ لأنه قال: "خر" ولا يقال للراكع "خر"، وإنما روي عن داود عليه السلام السجود لا الركوع إلا أنه عبر عنه بالركوع، وقال بعضهم أراد عمر بقوله: فلا إثم عليه، أنه ليس على الفور، فلا إثم بتأخيره عن وقت السماع، فلا يدل ذلك على عدم الوجوب. وفيه أن هذا باطل مردود على قائله؛ لأنه لا دليل على هذا التأويل ويدل على بطلانه أيضاً قوله: لم يسجد عمر، ومنعهم أن يسجدوا، وما قيل: إنه يحتمل أنه لم يسجد في ذلك الوقت لعارض مثل انتقاض الوضوء، أو يكون ذلك منه إشارة إلى أنه ليس على الفور. ففيه أن هذا أيضاً يحتاج إلى دليل ولا يكفي فيه الاحتمال. والظاهر بل المتعين أن عمر لم يسجد أصلاً لبيان أن سجدة التلاوة ليست بواجبة؛ لأنه لم يكن هناك عذر أو مصلحة في تأخيرها عن وقت التلاوة. قال صاحب العرف الشذي: وأما قول أن تأخير السجدة؛ لأن الأداء لا يجب على الفور فبعيد؛ لأنه لا عذر ولا نكتة لترك السجدة الآن بخلاف ما مر من واقعة النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى. وأجابوا عن قوله إلا أن نشاء بأن المعنى إلا أن نشاء قراءتها فيجب. ولا يخفى بعده بل يرده تصريح عمر بقوله: ومن لم يسجد فلا إثم عليه، فإن انتفاء الإثم عمن يترك الفعل مختاراً يدل على عدم وجوبه. والحق أن الاستدلال بحديث عمر على عدم وجوب السجدة، وعلى كون الأوامر للندب استدلال صحيح بين لا خفاء فيه. وليس عند الحنفية جواب شاف عنه. وقد أنصف صاحب فيض الباري. حيث قال قصة عمر هذه أقوى ما يمكن أن يحتج به على سنية السجود، فإنه تلا سورة النحل يوم الجمعة، فسجد لها مرة ثم لم يسجد لها في الجمعة التالية، ثم قال: إنما نمر بالسجود. فمن سجد فقد أصاب ومن لم يسجد فلا إثم عليه. وذلك بمحضر الصحابة ولم أر عنه جواباً شافياً بعد - انتهى. وأجيب عن الآية التي تدل على ذم الكفرة بتركهم السجدة بأن الذم فيها

إنما يتعلق بترك السجود إباء وإنكاراً واستكباراً واستنكافاً، كما يدل عليه قوله تعالى. {وإذا قيل لهم أسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفوراً} [25: 60] . وكما قال إبليس: أمرت بالسجود فأبيت، فمعنى قوله: {وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون} [84: 21] أي إباء واستكباراً ونفوراً عن الطاعة. قال ابن قدامة في المغني: فأما الآية فإنه ذمهم لترك السجود غير معتقدين فضله ومشروعيته - انتهى. فمن ترك سجدة التلاوة معتقداً مشروعيته وفضله لكونه ليس بلازم عنده لا استكباراً واستنكافاً عنه لا يقال إنه لم يخالف الكفرة، فلا يتعلق به الذم الذي تعلق بهم. وقال صاحب فيض الباري: وللشافعية أن يقولوا إن الوعيد معقول على ترك المستحب إذا قارن تركه ترك الواجبات أيضاً. ألا ترى أنه ينكر على المعصية من طالح ما لا ينكر على تلك المعصية إذا كانت من صالح، فتلك المعصية وإن تذكر في السياق لكن تراعي عند الوعيد أفعاله الأخر أيضاً وحينئذٍ يمكن أن يكون الوعيد على تركهم سجود التلاوة في الذكر فقط. ويكون محطه تركهم السجود الصلوية أيضاً، والحاصل أن الوعيد وإن كان على ترك سجود التلاوة لكنه نظراً إلى تركهم السجود الصلوية أيضاً انتهى كلامه بلفظه. وقد تبين بفعله - صلى الله عليه وسلم - وحديث أبي سعيد وحديث عمر المذكورين، وقول ابن عباس: "ص" ليس من عزائم السجود، أن سجود التلاوة غير واجب، وفيه دلالة واضحة على أن اقتداء الأنبياء في ذلك ليس على سبيل الوجوب واللزوم. ومن الأدلة على أن سجود التلاوة ليس بواجب ما أشار إليه الطحاوي من أن الآيات التي في سجود التلاوة: منها ما هو بصيغة الخبر. ومنها ما هو بصيغة الأمر. وقد وقع الخلاف في التي بصيغة الأمر هل هي فيها سجود أو لا. وهي ثانية الحج، وخاتمة النجم، واقرأ. فلو كان سجود التلاوة واجباً لكان ما ورد بصيغة الأمر أولى أن يتفق على السجود فيه ما ورد بصيغة الخبر- انتهى. واختلفوا في مواضع السجود، وفي أنه هل يشترط فيه ما يشترط في الصلاة من الطهارة وستر العورة واستقبال القبلة وغيرها. أما الأول، فسيأتي الكلام فيه في شرح حديث عمرو بن العاص في الفصل الثاني: وأما الثاني فذهب الجمهور إلى أنه يشترط فيه ما يشترط في الصلاة. وقال جماعة: لا يشترط، منهم ابن عمر والشعبي وأبوعبد الرحمن السلمي. قال البخاري في صحيحه: كان ابن عمر يسجد على غير وضوء. وفي مسند ابن أبي شيبة كان ابن عمر ينزل عن راحلته فيهريق الماء: ثم يركب، فيقرأ السجدة فيسجد وما يتوضأ، ووافقه الشعبي على ذلك، وأخرج عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه كان يقرأ السجدة ثم يسجد وهو على غير وضوء إلى غير القبلة، وهو يمشي يومئ إيماء. وروى البيهقي (ج2 ص325) عن ابن عمر أنه لا يسجد الرجل إلا وهو طاهر، وجمع بين قوله وفعله بأنه أراد بقوله طاهر الطهارة الكبرى، أو الثاني على حالة الاختيار، والأول على الضرورة، أو الثاني على الأولوية، والأول على الجواز والإباحة. وروى عثمان بن عفان في الحائض تسمع السجدة تومئ برأسها، وبه قال سعيد بن المسيب، قال:

{الفصل الأول}

{الفصل الأول} 1031- (1) عن ابن عباس، قال: ((سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنجم، وسجد معه المسلمون، والمشركون، والجن، ـــــــــــــــــــــــــــــ ويقول اللهم: لك سجدت. ذكره ابن قدامة. قال الأمير اليماني الأصل أنه لا يشترط الطهارة إلا بدليل. وأدلة وجوب الطهارة وردت للصلاة والسجدة فيها، فلا تشمل السجدة الفردة- انتهى. وقال الشوكاني ما ملخصه: ليس في أحاديث سجود التلاوة ما يدل على اعتبار أن يكون الساجد متوضئاً، وهكذا ليس في الأحاديث ما يدل على اعتبار طهارة الثياب والمكان. وأما ستر العورة واستقبال القبلة مع الإمكان، فقيل إنه معتبر اتفاقاً- انتهى. وقال ابن حزم في المحلى (ج1 ص80) : السجود في القرآن ليس ركعة، أو ركعتين، فليس صلاة، وإذا كان ليس صلاة فهو جائز بلا وضوء، وللجنب والحائض وإلى غير القبلة كسائر الذكر. ولا فرق إذ لا يلزم الوضوء إلا للصلاة، ولم يأت بإيجابه لغير الصلاة قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا قياس، فإن قيل: السجود من الصلاة وبعض الصلاة صلاة. قلنا: والتكبير بعض الصلاة. والجلوس والقيام والسلام بعض الصلاة، فهل يلتزمون أن لا يفعل أحد شيئاً من هذه الأقوال والأفعال إلا وهو على وضوء؟ لا يقولونه ولا يقوله أحد- انتهى. قلت: عدم الاشتراط هو الأرجح والأقوى عندي، لكن الأحوط في العمل هو ما روي عن ابن عمر أنه لا يسجد الرجل إلا وهو طاهر. 1031- قوله: (عن ابن عباس قال: سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنجم) أي بسورتها. زاد الطبراني في الأوسط: بمكة. فأفاد أن قصة ابن مسعود الآتية في الفصل الثالث. وقصة ابن عباس هذه متحدة، وإنما سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه السجدة امتثالاً لأمر الله سبحانه بالسجود، وشكراً للنعم العظيمة المعدودة في أول السورة من أنه لا ينطق عن الهوى، وقربه من الله تعالى، وأراءته إياه من آياته الكبرى. وفيه دليل على مشروعية السجدة في المفصل، خلافاً لمالك في ظاهر الرواية عنه. (وسجد معه المسلمون) متابعة له - صلى الله عليه وسلم - في امتثال الأمر وإتيان الشكر. (والمشركون) أي الذين كانوا عنده. قال النووي: إنه محمول على من كان حاضراً قراءته. وفيه مشروعية السجود لمن حضر عند القاري للآية التي فيها السجدة. وإنما سجد المشركون لاستماع أسماء آلهتهم من اللات والعزى ومنات. أو لما ظهر من سطوة سلطان العز والجبروت وسطوع الأنوار والكبرياء من توحيد الله عزوجل، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى لم يبق لهم شك ولا اختيار ولا أثر جحود واستكبار إلا من أشقى القوم وأطغاهم وأعتاهم، وهو الذي أخذ كفاً من الحصى أو تراب فرفعه إلى جبهته وقال: يكفيني هذا. وسيأتي مزيد الكلام فيه. (والجن) كان ابن عباس استند في ذلك إلى أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - إما مشافهة له وإما بواسطة؛ لأنه لم يحضر القصة لصغره. وأيضاً

والإنس)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ فهو من الأمور التي لا يطلع الإنسان عليها إلا بتوقيف، وتجويز أنه كشف له عن ذلك بعيد؛ لأنه لم يحضرها قطعاً، قاله الحافظ. وقال شيخه العراقي: الظاهر أن الحديث من مراسيل ابن عباس عن الصحابة، وإنه لم يشهد تلك القصة، خصوصاً إن كانت قبل فرض الصلاة، ومراسيل الصحابة مقبولة على الصحيح. والظاهر أن ابن عباس سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - يحدث به. (والإنس) إجمال بعد تفصيل نحو قوله تعالى: {تلك عشرة كاملة} [2: 196] قاله الكرماني. وزاد صاحب اللامع الصبيح: أو تفصيل بعد إجمال؛ لأن كلاً من المسلمين والمشركين شامل للإنس والجن. قال الكرماني: سجد المشركون مع المسلمين؛ لأنها أول سجدة نزلت، فأرادوا معارضة المسلمين بالسجود لمعبودهم، أو وقع ذلك منهم بلا قصد، أو خافوا في ذلك المجلس من مخالفتهم- انتهى. وفي هذا الأخير نظر؛ لأن المسلمين حينئذٍ هم الذين كانوا خائفين من المشركين لا العكس، وقد ذكر المفسرون في هذه القصة. في تفسير قوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته} الآية [22: 52] . أنه جرى على لسانه - صلى الله عليه وسلم - من قبل الشيطان الكلمات المشهورة، وهي: تلك الغرانيق (1) العلى. وإن شفاعتهن لترتجى، فلذلك سجد المشركون معه حيث زعموا أنه لا اختلاف بعد ذلك بيننا وبينه؛ لأنه يثني على آلهتنا، لكن لا أصل لهذه القصة عند المحدثين، بل الحق أن هذه الكلمات ما جرت على لسانه عليه السلام، والقصة موضوعة كما قال الذهبي وغيره من المحدثين. وكيف يظن مثل هذا بأكرم الرسل خير المخلوقات أنه تسلط عليه الشيطان. حاشا جنابه عن نسبة أمثال هذه الواهيات، ثم حاشا هذا، وقد قال تعالى في حق عامة الصلحاء: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} [15: 42] . فأفاد نفيه بكل الوجوه، فما ظنك بسيد البشر والشفيع المشفع في المحشر، بل الحق أن المشركين إنما سجدوا لغلبة جلاله وجبروته عليه السلام، وسماع المواعظ البليغة في القرآن، فاضطروا إلى السجود ولم يبق اختيارهم في أيديهم. وكيف يستبعد ذلك، وقد قال الله تعالى: {كلما أضاء لهم مشوا فيه} [2: 20] وقال: {وجحدوا واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً} [27: 14] . كذا في شرح تراجم أبواب صحيح البخاري للشاه ولي الله الدهلوي. قلت: جميع ما يذكر من الروايات في قصة الغرانيق إما مرسلة أو منقطعة لا تقوم الحجة بشيء منها، كما قال البزار والبيهقي وابن خزيمة وابن كثير وغيرهم. فالحق أن هذه القصة مكذوبة باطلة لا يصح فيها شيء من جهة النقل، لأنه لم يروها أحد من أهل الصحة، ولا أسندها ثقة بسند صحيح أو سليم متصل، وإنما رواها المفسرون والمؤرخون والمولعون بكل غريب الملفقون من الصحف كل صحيح وسقيم. وقد دل على عدم ثبوت لهذه القصة اضطراب رواتها، وانقطاع سندها، واختلاف ألفاظها. والذي جاء في الصحيح من حديث ابن مسعود عند الشيخين، وحديث ابن

_ (1) الغرانيق - بفتح الغين المعجمة - طيور الماء، شبهت الأصنام المعتقدون فيها أنه تشفع لهم بالطيور تعلو في السماء وترفع.

عباس هذا لم يذكر فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر تلك الألفاظ ولا قرأها. والذي ذكره المفسرون عن ابن عباس في هذه القصة فقد رواه عنه الكلبي، وهو ضعيف جداً، بل متروك لا يعتمد عليه. وكذا أخرجه النحاس بسند آخر، فيه الواقدي. ولا يصح من جهة العقل أيضاً؛ لأن مدح إله غير الله تعالى كفر، ولا يصح نسبة ذلك إلى لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن جوّز على الرسول تعظيم الأوثان فقد كفر؛ لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان، ولو جوز ذلك لارتفع الأمان عن شرعه، وجوزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك، أي مما ألقاه الشيطان على لسانه. ويبطل قوله: {بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} [5: 67] ، فإنه لا فرق عند العقل بين النقصان من الوحي وبين الزيادة فيه، هذا وقد حاول الحافظ في الفتح: أن يدعي أن للقصة أصلاً حيث قال بعد ذكر طرق عديدة لها أن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دل ذلك على أن لها أصلاً، قال وقد ذكرت أن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح، وهي مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل وكذا من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض، قال وإذا تقرر ذلك تعين تأويل ما وقع فيها مما يستنكر، وهو قوله ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى. وإن شفاعتهن لترتجى، فإن ذلك لا يجوز حمله على ظاهره؛ لأنه يستحيل عليه - صلى الله عليه وسلم - أن يزيد في القرآن عمداً ما ليس منه، وكذا سهواً إذا كان مغايراً لما جاءته من التوحيد لمكان عصمته، ثم ذكر تأويلات للعلماء، ورد على كل واحد منها إلا تأويلاً واحداً، فأقره وجعله أحسن الوجوه، وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يرتل القرآن، فارتصده الشيطان في سكتة من السكتات، ونطق بتلك الكلمات محاكياً نغمته، بحيث سمعه من دنا إليه، فظنها من قوله وأشاعها. قلت. في هذا التأويل أيضاً نظر، فإن جواز ذلك أيضاً يخل بالوثوق بالقرآن، ويرفع الاعتماد على قوله عليه السلام والأمان من شرعه؛ لاحتمال أن يكون ذلك مما نطق به الشيطان في سكتة من سكتاته عليه السلام، محاكياً نغمته وصوته بحيث سمعه من دنا إليه، فظنه من قوله وأشاعه. وأما قوله: إن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها الخ. ففيه أن هذا ليس قاعدة كلية. قال الزيلعي في نصب الراية (ج ص) : وكم من حديث كثرت رواته وتعددت طرقه، وهو حديث ضعيف، كحديث الطير، وحديث الحاجم والمحجوم، وحديث: من كنت مولاه فعليّ مولاه، بل قد لا يزيد الحديث كثرة الطرق إلا ضعفاً- انتهى كلام الزيلعي. واختلفوا في تفسير قوله تعالى في سورة الحج: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم آياته والله عليم حكيم. ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد} ، ومن أحسن ما قيل فيه: هو أن الله تعالى ما أرسل رسولاً ولا نبياً من الأنبياء إلى أمة من الأمم إلا وذلك الرسول يتمنى الإيمان لأمته، ويحبه لهم ـــــــــــــــــــــــــــــ

رواه البخاري. 1032- (2) وعن أبي هريرة، قال: ((سجدنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في: {إذا السماء انشقت} و. {اقرأ باسم ربك} ـــــــــــــــــــــــــــــ ويرغب فيه ويحرص عليه غاية الحرص، ويعالجهم أشد المعالجة في ذلك. ومن جملتهم نبينا - صلى الله عليه وسلم - الذي خاطبه الله تعالى بقوله: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً} [18: 6] وبقوله: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} [12: 103] ، وبقوله: {أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} [10: 99] ، ثم الأمة تختلف كما قال تعالى: {ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر} [2: 253] ، فمن كفر فقد ألقى إليه الشيطان الوساوس القادحة في الرسالة والنبوة الموجبة لكفره، وكذا المؤمن أيضاً لا يخلو عن وساوس؛ لأنها لازمة للإيمان بالغيب في الغالب، وإن كانت تختلف في الناس بالقلة والكثرة، وبحسب التعلقات. إذا تقرر هذا فمعنى تمنى أنه يتمنى الإيمان لأمته ويحب لهم الخير والرشد والصلاح والنجاح، فهذه هي أمنية كل رسول ونبي، وإلقاء الشيطان فيها يكون بما يلقيه في قلوب أمة الدعوة من الوساوس الموجبة لكفر بعضهم، ثم يرحمهم الله فينسخ ذلك من قلوب المؤمنين، ويحكم فيها الآيات الدالة على الوحدانية والرسالة، ويبقى ذلك في قلوب المنافقين والكافرين، فيفتتنوا به، فخرج من هذا أن الوساوس تلقى أولاً في قلوب الفريقين معاً، غير أنها لا تستمر في قلوب المؤمنين ولا تبقى بل تزول وتنمحى بخلاف المنافقين والكافرين، فإنها تدوم وترسخ في قلوبهم. والله أعلم. وقد بسط العلامة الآلوسي الكلام في تفسير هذه الآية في روح المعاني (ج17 ص172-186) وأجاد فعليك أن تراجعه. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي والبيهقي (ج2 ص314) . 1032- قوله: (سجدنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في {إذا السماء انشقت} ، و {إقرا باسم ربك} ) هما من المفصل فهو دليل صريح في ثبوت السجود في المفصل مثل الحديث السابق. وشرح الموطأ للزرقاني قال بالسجود في المفصل الخلفاء الأربعة والأئمة الثلاثة وجماعة. ورواه ابن وهب عن مالك وروى عنه ابن القاسم. والجمهور أن لا سجود فيها؛ لأن أبا سلمة قال لأبي هريرة لقد سجدت في سورة ما رأيت الناس يسجدون فيها، فدل هذا على أن الناس تركوه وجرى العمل بتركه. ورده ابن عبد البر. بأن أي عمل يدعى مع مخالفة المصطفى والخلفاء الراشدين بعده وسيأتي مزيد الكلام في ذلك. وروى البخاري وغيره عن أبي رافع قال: صليت مع أبي هريرة العتمة، فقرأ. {إذا السماء انشقت} [84: 1] فسجد فقلت ما هذه؟ قال سجدت فيها خلف أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -، فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه. ورواه ابن خزيمة بلفظ: صليت خلف أبي القاسم فسجد بها، وكذلك أخرجه الجوزقي واستدل به ـــــــــــــــــــــــــــــ (1) وفي نسخة "رسول الله "

رواه مسلم. 1033- (3) وعن ابن عمر، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ "السجدة" ونحن عنده فيسجد، ونسجد معه، فنزدحم حتى ما يجد أحدنا لجبهته موضعاً يسجد عليه)) ـــــــــــــــــــــــــــــ البخاري على قراءة السجدة في الصلاة المفروضة الجهرية. وإليه ذهب الشافعي، ولم يفرق بين الفريضة والنافلة والسرية والجهرية، وهو الحق لحديث أبي هريرة السابق، ولما روى أحمد وأبوداود والطحاوي والبيهقي والحاكم عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد في صلاة الظهر ثم قام فركع فرأينا أنه قرأ تنزيل السجدة. وروي عن عمر أنه صلى الصبح فقرأ "والنجم" فسجد فيها. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن الزبير أنه صلى الظهر أو العصر فقال له رجل: صليت خمساً، فقال: إني قرأت بسورة فيها سجدة. وهذا كله حجة على من كره ذلك في الصلاة المفروضة مطلقاً، وهو منقول عن مالك، وعنه كراهته في السرية دون الجهرية، وهو قول بعض الحنفية والحنابلة أيضاً لما أن فيه إيهاماً وتخليطاً على المأموم إن سجد. قال ابن قدامة في المغني: واتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى - انتهى. وأما القول بأن المنع لعارض وهو شيوع الجهل فلا يشكل عليه بما ورد في الأحاديث من قراءة آية السجدة في الصلاة المفروضة الجهرية والسرية، ففيه أن الواجب حينئذٍ تعليم الناس السنة، ورفع جهلهم بالعمل بالسنة الثابتة لا تركها لجهلهم. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي. 1033- قوله: (يقرأ السجدة) أي آية سجدة متصلة بما قبلها أو بما بعدها أو منفردة لبيان الجواز. وقيل: التقدير يقرأ سورة السجدة، أي سورة فيها آية السجدة. ويؤيده ما في رواية للبخاري: يقرأ علينا السورة التي فيها السجدة. زاد في رواية لأبي داود في غير الصلاة. واحتج به بعضهم على أنه لا يسجد في الفرض. وهذا تمسك بالمفهوم، وهو لا يصلح للاحتجاج به؛ لأن القائل بذلك ذكر صفة الواقعة التي وقع فيها السجود المذكور. وذلك لا ينافي ما ثبت من سجوده - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة، كما تقدم. (ونحن عنده) جملة حالية. (فيسجد) - صلى الله عليه وسلم -. (ونسجد) نحن. (معه فنزدحم) لضيق المكان، وكثرة الساجدين. وقال القاري: أي نجتمع حيث ضاق المكان بنا. (حتى ما يجد) بالرفع: وقيل: بالنصب. (أحدنا) أي بعضنا، وليس المراد كل واحد، ولا واحد معين، بل البعض غير المعين. (لجبهته موضعاً يسجد عليه) أي معهم لضيق الموضع، وشدة الزحام. واختلاط الناس. وقوله: يسجد عليه في محل النصب؛ لأنه وقع صفة لموضعاً المنصوب على المفعولية "ليجد". وقد اختلف فيمن لم يجد مكاناً يسجد عليه، فقال عمر يسجد على ظهر أخيه أخرجه البيهقي بسند صحيح. وبه قال الكوفيون وأحمد وإسحاق. وقال عطاء والزهري: يؤخر حتى يرفعوا. وبه قال مالك والجمهور. وهذا الخلاف في سجود الفريضة. قال

الحافظ: وإذا كان هذا في سجود الفريضة فيجري مثله في سجود التلاوة. ولم يذكر ابن عمر في هذا الحديث ما كانوا يصنعون حينئذٍ، ولذلك وقع الخلاف المذكور. ووقع في الطبراني من طريق مصعب بن ثابت عن نافع في هذا الحديث أن ذلك كان بمكة لما قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - "النجم"، وزاد فيه: "حتى سجد الرجل على ظهر الرجل. قال الحافظ: الذي يظهر أن هذا الكلام وقع من ابن عمر على سبيل المبالغة في أنه لم يبق أحد إلا سجد، قال وسياق حديث الباب مشعر بأن ذلك وقع مراراً، فيحتمل أن تكون رواية الطبراني بينت مبدأ ذلك. ويؤيده ما رواه الطبراني أيضاً من رواية المسور بن مخرمة عن أبيه، قال: أظهر أهل مكة الإسلام، يعني في أول الأمر حتى إن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ السجدة فيسجد، وما يستطيع بعضهم أن يسجد من الزحام، حتى قدم رؤساء مكة، وكانوا في الطائف، فرجعوهم عن الإسلام. والحديث يدل على مشروعية السجود لمن سمع الآية التي يشرع فيها السجود إذا سجد القاريء لها. واستدل به البخاري على السجود لسجود القاريء حيث بوب عليه باب من سجد لسجود القاريء، وقال ابن مسعود لتميم بن حذلم وهو غلام فقرأ عليه سجدة، فقال: اسجد، فإنك إمامنا فيها. قال الحافظ: في الترجمة. إشارة إلى أن القاريء إذا لم يسجد لم يسجد السامع. ويتأيد بما أخرجه ابن أبي شيبة مرفوعاً من رواية ابن عجلان عن زيد بن أسلم أن غلاماً قرأ عند النبي - صلى الله عليه وسلم - السجدة، فانتظر الغلام النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسجد، فلما لم يسجد قال يا رسول الله! أليس في هذه السجدة سجود؟ قال: بلى. ولكنك كنت إمامنا فيها، ولو سجدت لسجدنا، رجاله ثقات إلا أنه مرسل. وقد روي عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار مرسلاً مرفوعاً نحوه أخرجه الشافعي والبيهقي (ج2: ص324) وقال القسطلاني: معنى قوله: أنت إمامنا أي متبوعناً لتعلق السجدة بنا من جهتك، وليس معناه إن لم تسجد لم نسجد؛ لأن السجدة كما تتعلق بالقاري تتعلق بالسامع غير القاصد السماع والمستمع القاصد، لكنها في المستمع والسامع عند سجود القاريء، آكد منها عند عدم سجوده لما قيل: إن سجودهما يتوقف على سجوده، وإذا سجدا معه فلا يرتبطان به، ولا ينويان الاقتداء به، ولهما الرفع من السجود قبله - انتهى. وقال ابن قدامة: إذ لم يسجد التالي لم يسجد المستمع. (عند الحنابلة، وبه قالت المالكية) وقال الشافعي: يسجد - انتهى. وبه قالت الحنفية. والظاهر عندي ما ذهب إليه الحنابلة والمالكية من أنه إذا لم يسجد القاري لم يسجد السامع لحديث زيد بن أسلم وعطاء، ولأثر ابن مسعود. واختلفوا أيضاً في اشتراط قصد السماع قال ابن قدامة في المغني: يسن سجود للتالي والمستمع لا نعلم في هذا خلافاً. وقد دلت عليه الأحاديث، فأما السامع غير القاصد فلا يستحب له. روى ذلك عن عثمان وابن عباس وعمران، وبه قال مالك. وقال أصحاب الرأي عليه السجود، وروى نحو ذلك عن ابن عمر والنخعي وسعيد بن جبير ونافع وإسحاق؛ لأنه سامع للسجدة، فكان

متفق عليه. 1034- (4) وعن زيد بن ثابت، قال: ((قرأت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و"النجم" فلم يسجد فيها)) ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه السجدة كالمستمع. وقال الشافعي: لا أؤكد عليه السجود، وإن سجد فحسن. ولنا ما روى عن عثمان أنه قال: إنما السجدة على من استمع. وقال ابن مسعود وعمران: ما جلسنا لها، وقال سلمان: ما غدونا لها. ونحوه عن ابن عباس، ولا مخالف لهم في عصرهم، إلا قول ابن عمر: إنما السجدة على من سمعها، فيحتمل أنه أراد من سمع عن قصد جمعاً بين أقوالهم - انتهى. واختلفوا أيضاً في اشتراط ذكورة التالي، وكونه مكلفاً لسجود السامع. فذهب الشافعية والحنفية إلى عدم اشتراط ذلك لعموم ما ورد من السجود على السامع، وقالت الحنابلة والمالكية: يشترط لسجود المستمع أن يكون التالي ممن يصلح أن يكون إماماً يصح أن يقتدى به. واستدلوا بما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم - لتالٍ عنده لم يسجد: كنت أمامنا. وأجاب عنه في البرهان بأن المراد منه كنت حقيقا أن تسجد قبلنا لا حقيقة الإمامة. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أبوداود والبيهقي. 1034- قوله: (قرأت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والنجم) أي سورتها إلى آخرها. (فلم يسجد فيها) لبيان الجواز؛ لأنه لو كان واجباً لأمره بالسجود. واستدل بالحديث من لا يرى السجود في المفصل كمالك، أو أن النجم بخصوصها لا سجود فيها كأبي ثور، وحمل ما جاء في سجود النجم على النسخ لكونه كان بمكة، ولأنه لو كان باقياً من غير نسخ ما عدل أهل المدينة عن العمل به. وأجيب بأن ترك السجود فيها في هذه الحالة لا يدل على تركه مطلقاً لاحتمال أن يكون السبب في الترك إذ ذاك إما لكونه كان بلا وضوء، أو لكون الوقت وقت كراهة فأخره، فظن زيد أنه ترك مطلقاً، أو لكون القارئ إماماً للسامع، فترك السجود إتباعاً لزيد؛ لأنه القارئ فهو إمام، وترك زيد لأجل صغره، أو لعل معنى كلام زيد أنه لم يسجد في الحال، أي على الفور بل أخره، ذكره العيني وغيره من الحنفية، أو ترك حينئذٍ لبيان الجواز. قال الحافظ: وهذا أرجح الاحتمالات، وبه جزم الشافعي؛ لأنه لو كان واجباً لأمره بالسجود ولو بعد ذلك. وقد تقدم حديث ابن عباس وحديث أبي هريرة، وهما صريحان في السجود في المفصل: وكذا حديث ابن مسعود الآتي. وروى البزار والدارقطني عن أبي هريرة أنه قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد في سورة النجم وسجدنا معه. قال الحافظ في الفتح: رجاله ثقات. وروى ابن مردويه في تفسيره بإسناد حسنه الحافظ عن أبي هريرة أنه سجد في خاتمة النجم، فسئل عن ذلك، فقال: إنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد فيها. وقد تقدم أن أبا هريرة إنما أسلم بالمدينة سنة سبع من الهجرة. قال الحافظ: وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن الأسود بن يزيد عن عمر أنه سجد في "إذ السماء انشقت"، ومن طريق نافع عن ابن عمر: إنه

متفق عليه. 1035- (5) وعن ابن عباس، قال: ((سجدة "ص" ليس من عزائم السجود، وقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يسجد فيها. وفي رواية: قال مجاهد: قلت لابن عباس: أأسجد في "ص" فقرأ: {ومن ذريته داود وسليمان} حتى أتى. {فبهداهم اقتده} ـــــــــــــــــــــــــــــ سجد فيها. وروى الطبراني بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن أبزى عن عمر: إنه قرأ النجم في الصلاة فسجد فيها، ثم قام فقرأ "إذا زلزلت". وفي هذا رد على من زعم أن عمل أهل المدينة استمر على ترك السجود في المفصل مطلقاً، أو في الصلاة خاصة. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي والبيهقي. 1035- قوله: (سجدة ص) بسكون أو فتح أو كسر، بتنوين وبدونه. وقد تكتب ثلاثة أحرف باعتبار اسمها، ذكره ابن حجر. قال القاري: والأول أولى لما عليه الجمهور من القراء. (ليس) تذكيره؛ لأنها بمعنى السجود. وقال ابن حجر: أي ليس فعلها. (من عزائم السجود) أي ليست مما ورد في السجود فيها أمر ولا تحريض ولا تحضيض ولا حث، وإنما ورد بصيغة الإخبار عن داود عليه السلام بأنه فعلها، وسجد نبينا - صلى الله عليه وسلم - فيها اقتداء به لقوله تعالى. {فبهداهم اقتده} [6: 90] . وفيه دلالة على أن المسنونات قد يكون بعضها آكد من بعض. قال الحافظ: المراد بالعزائم ما وردت العزيمة على فعله كصيغة الأمر مثلاً، بناء على أن بعض المندوبات آكد من بعض عند من لا يقول بالوجوب. وقد روى ابن المنذر وغيره عن علي بإسناد حسن أن العزائم "حم" و"النجم" وإقرأ" و"الم تنزيل". وكذا ثبت عن ابن عباس في الثلاثة الأخر. وقيل: "الإعراف" و"سبحان" و"حم" و"الم" أخرجه ابن أبي شيبة - انتهى. (وقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يسجد فيها) أي في سجدة "ص" في الصلاة وغيرها. وفي البخاري في تفسير "ص" من طريق مجاهد، وكذا لابن خزيمة أنه سأل عن ابن عباس: من أين سجدت في "ص"، ولفظ ابن خزيمة من أين أخذت سجدة "ص" فقال من قوله تعالى. {ومن ذريته داود وسليمان إلى قوله فبهداهم اقتده} ، ففي هذا أنه استنبط مشروعية السجود فيها من الآية. وفي رواية الباب أنه أخذه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا تعارض بينهما لاحتمال أن يكون استفادة من الطريقين. قال الشوكاني: وإنما لم تكن السجدة في "ص" من العزائم؛ لأنها وردت بلفظ الركوع، فلولا التوقيف ما ظهر أن فيها سجدة. (وفي رواية) أي للبخاري في أحاديث الأنبياء. (فقرأ ومن ذريته) أي من ذرية نوح. {حتى أتي} أي وصل قوله تعالى أو حتى أتى على قوله تعالى. {أولئك الذين هدى الله} . (فبهداهم اقتده) بها السكت

فقال نبيكم - صلى الله عليه وسلم - ممن أمر أن يقتدى بهم)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ للجمهور، وبها الضمير للشامي قصرا ومدا، أي افعل كما فعلوا من تبليغ الرسالة، وتحمل الأذى في سبيلي، قاله ابن الملك. والظاهر أن معناه اقتد بسيرهم السنية وأخلاقهم البيهية، كذا في المرقاة. (فقال) أي ابن عباس للإستدلال على إتيان السجدة، ولإستنباط وجه سجود النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها، من الآية. (نبيكم - صلى الله عليه وسلم -) مبتدأ، خبره. (ممن أمر أن يقتدى) بصيغة المعلوم. (بهم) أي بهؤلاء الأنبياء. ومن جملتهم داود، وهو قد سجد لله تعالى، فأنت أولى بالإقتداء بهم، أو به عليه السلام، فإنه اقتدى بداود، وسجد فيها. وهذا بإطلاقه أيضاً يشمل الصلاة وغيرها. قال الطيبي: الجواب من أسلوب الحكيم، أي إذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مأموراً بالإقتداء بهم فأنت أولى، وإنما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإقتداء بهم ليستكمل بجميع فضائلهم الجميلة، وخصائلهم الحميدة، وهي نعمة ليس وراءها نعمة، فيجب عليه الشكر لذلك. قال الرازي: الآية دالة على فضل نبينا - صلى الله عليه وسلم - على الأنبياء؛ لأنه تعالى أمره بالإقتداء بهداهم، ولا بد من امتثاله بذلك، فوجب أن يجتمع فيه جميع خصائلهم وخلائقهم المتفرقة - انتهى هذا. وروي النسائي عن ابن عباس مرفوعاً "سجدها داود توبة، ونسجدها شكراً، وقد ذكره المصنف في الفصل الثالث. واستدل الشافعي: بقوله: شكراً على أنه لا يسجد فيها في الصلاة، لأن سجود الشاكر، لا يشرع داخل الصلاة. قال العيني: لا خلاف بين الحنفية والشافعية، في أن "ص" فيها سجدة تفعل، وهو أيضاً مذهب سفيان وابن المبارك وأحمد وإسحاق. غير أن الخلاف في كونها من العزائم، أم لا، فعند الشافعي، ليست من العزائم. وإنما هي سجدة شكر. تستحب في غير الصلاة، وتحرم فيها في الصحيح. وهذا هو المنصوص عنده، وبه قطع جمهور الشافعية. وعند أبي حنيفة وأصحابه، هي من العزائم. وهو قول مالك أيضاً. وعن أحمد كالمذهبين، والمشهور منهما، كقول الشافعي - انتهى. قلت: سجدة "ص" سجدها داود توبة، ونحن نسجدها شكراً، لما أنعم الله على داود من قبول التوبة. ومع ذلك فهي سجدة تلاوة أيضاً. لأن سجدة التلاوة ليس سبب مشروعيتها إلا التلاوة. وسبب مشروعية هذه السجدة، تلاوة هذه الآية، التي فيها الأخبار عن هذه النعم على داود. وإطماعنا في قيل مثله. فالحق عندي، أن يسجد في "ص" إتباعاً للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة، وخارج الصلاة، لإطلاق الأحاديث، ويرى أن هذه السجدة، ليست من عزائم السجود. كما قال ابن عباس. ولا منافاة بين فعله - صلى الله عليه وسلم - وبين قول ابن عباس. لأن ابن عباس لم ينف السجود في "ص" بل نفي كونه عزيمة، وفعله - صلى الله عليه وسلم - لا يدل على كونه من عزائم السجود. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والبيهقي وفي الباب عن أبي سعيد عند أبي داود والحاكم وابن خزيمة وأبي هريرة عند الدارقطني والطبراني في الأوسط.

{الفصل الثاني}

{الفصل الثاني} 1036- (6) عن عمرو بن العاص، قال: ((اقرأني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمس عشرة سجدة في القرآن، منها ثلاث في المفصل، وفي سورة "الحج" سجدتين)) ـــــــــــــــــــــــــــــ 1036- قوله (عن عمرو بن العاص قال اقرأني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) كذا في بعض النسخ بلفظ: اقرآني، وهكذا وقع في جامع الأصول (ج6: ص361) وفي بعض نسخ المشكوة، اقرأه أي عمراً. وفي المصابيح، عن عمرو بن العاص، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اقرأه. وكذا وقع في سنن أبي داود وابن ماجه والبيهقي (ج2: ص316) . (خمس عشرة سجدة) قال الطيبي: أي حمله أن يجمع في قراءته خمس عشرة سجدة. (في القرآن) قال الجزري في النهاية: إذا قرأ الرجل القرآن، أو الحديث على الشيخ يقول اقرأني فلان، أي حملني أن أقرا عليه- انتهى. وفيه دليل على أن مواضع السجود، خمسة عشرة موضعاً. وإليه ذهب أحمد والليث وإسحاق وابن وهب من المالكية، وابن المنذر من الشافعية، وطائفة من أهل العلم. قال الطيبي: اختلفوا في عدة سجدات القرآن، فقال: أحمد خمس عشرة آخذاً، بظاهر حديث عمرو بن العاص، فادخل سجدة"ص" فيها. وقال الشافعي أربع عشرة سجدة، منها ثنتان في الحج، وثلاث في المفصل، وليست سجدة "ص" منهن، بل هي سجدة شكر. وقال أبوحنيفة: أربع عشرة، فأسقط الثانية من الحج، واثبت سجدة "ص". وقال مالك: إحدى عشرة، فأسقط سجدة "ص". وسجدات المفصل- انتهى. قال الشيخ في شرح الترمذي بعد نقل كلام الطيبي: الظاهر هو ما ذهب إليه الإمام أحمد وهو مذهب الشافعي، أيضاً على ما حكاه الترمذي، وهو رواية عن مالك، ومذهب الليث وغيره، كما تقدم. واعلم أن أول مواضع السجود، خاتمة الأعراف. وثانيهما، عند قوله في الرعد: "بالغدو والآصال". وثالثها، عند قوله في النحل: "ويفعلون ما يؤمرون". ورابعها، عند قوله في بني إسرائيل: "ويزيدهم خشوعا". وخامسها، عند قوله في مريم: "خروا سجداً وبكياً". وسادسها عند قوله في الحج: "إن الله يفعل ما يشاء". وسابعها عند قوله في الفرقان: "وزادهم نفورا". وثامنها عند قوله في النحل: "رب العرش العظيم". وتاسعها عند قوله في الم تنزيل: "وهم لا يستكبرون". وعاشرها عند قوله في ص: "وخر راكعاً وأناب". وعند الحنفية، يسجد عقيب قوله "وحسن مآب". الحادي عشر عند قوله في حم السجدة: "إن كنتم إياه تعبدون". وقال أبوحنيفة والشافعي والجمهور عند قوله: "وهم لا يسأمون". والثاني عشر، والثالث عشر، والرابع عشر، سجدات المفصل. والخامس عشر السجدة الثانية من الحج. كذا في النيل. (منها ثلاث في المفصل) وهي "النجم" و"انشقت" و"إقرأ"، وقد علم محالها. (وفي سورة الحج سجدتين) أي (1) وفي نسخة "إقراء"

رواه أبوداود وابن ماجه. 1037- (7) وعن عقبة بن عامر، قال: ((قلت. يا رسول الله! فضلت سورة "الحج" بأن فيها سجدتين؟ قال نعم، ومن لم يسجدها فلا يقرأ هما)) ـــــــــــــــــــــــــــــ أي وذكر في الحج، أو اقرأه في الحج، سجدتين. أي عقب ما يشاء، وتفلحون. قال السندي: ومن لا يقول بالثانية يحملها على السجدة الصلاتية لقرانها بالركوع، ويعتذر عن هذا الحديث، بأن في إسناده ابن منين وهو مجهول، كما قاله ابن القطان، لكن قد جاء أحاديث متعددة في الباب، فيؤيد بعضها بعضاً، بحيث يصير الكل حجة - انتهى. قلت الظاهر: أن هذا الحديث حسن، كما ستعرف. وأما حمل السجدة الثانية على سجدة الصلاتية، فسيأتي جوابه مع بسط الكلام في المسألة. (رواه أبوداود وابن ماجه) وأخرجه أيضاً الدارقطني والحاكم والبيهقي، كلهم من طريق الحارث بن سعيد العتقي عن عبد الله بن منين عن عمرو بن العاص، وقد سكت عنه أبوداود والمنذري. وقال الحافظ في التلخيص: حسنه المنذري والنووي، وضعفه عبد الحق وابن القطان - انتهى. قال عبد الحق في أحكامه، وعبد الله ابن منين لا يحتج به، قال ابن القطان: وذلك لجهالته، فإنه لا يعرف. روى عنه غير الحارث بن سعيد، وهو رجل لا يعرف له حال، فالحديث من أجله لا يصح. كذا في نصب الراية (ج2: ص180) قلت: عبد الله بن منين بنون مصغراً، وثقه يعقوب بن سفيان، كما في تهذيب التهذيب والتقريب. والحارث بن سعيد العتقي، قال الحافظ في التقريب: إنه مقبول. فالظاهر أن الحديث لا ينحط عن درجة الحسن. 1037- قوله: (فضلت) بتقدير همزة الاستفهام. ففي المسند "أفضلت" وهو بضم الفاء من التفضيل. (ومن لم يسجدهما) أي السجدتين. (فلا يقرأهما) أي آيتي السجدة. قال العلامة الشيخ أحمد شاكر، في تعليقه على الترمذي (ج2: ص471) : ذهب بعض العلماء إلى أن المراد بالحديث ظاهر اللفظ، وأن من أتى على آية السجدة، ولم يرد السجود ترك الآية. وعن ذلك استدل به بعضهم على وجوب سجود التلاوة. وأجاب بعض القائلين بأنها سنة، بأن ترك تلاوتها لئلا يتضرر القارئ بترك سنة السجود. وهذا كله عندي غير جيد. بل هو خطأ؛ لأن هذا الكلام من كلام العرب، لا يراد به ظاهره، إنما هو تقريغ وزجر كقوله - صلى الله عليه وسلم -:"إذا لم تستح فاصنع ما شئت" وأمثال ذلك، مما يعرف من قفة كلام العرب ومناحيهم. وإنما يريد - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث، أن يحض القاري على السجود في الآيتين. فكما أنه لا ينبغي له أن يترك قراءتهما، لا ينبغي له إذا قرأ هما أن يدع السجود فيهما - انتهى. والحديث نص كالحديث السابق أن في سورة الحج سجدتين، وإليه ذهب أحمد والشافعي وإسحاق وأبوثور وابن المنذر، وهو قول عمر وعلي وعبد الله بن عمرو أبي موسى وأبي الدرداء وعمار وأبي عبد الرحمن السلمي

رواه أبوداود والترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأبي العالية وزر. وقال ابن عباس: فضلت سورة الحج بسجدتين، قال ابن قدامة بعد ذكر هؤلاء الصحابة والتابعين: لم نعرف لهم مخالفاً في عصرهم، فيكون إجماعاً. وقال أبوإسحاق: أدركت الناس منذ سبعين سنة، يسجدون في الحج سجدتين. وقال ابن عمر: لو كنت تاركاً إحداهما لتركت الأولى. وذلك لأن الأولى إخبار، والثانية أمر. واتباع الأمر أولى - انتهى. وروى البيهقي في المعرفة، وأبوداود في المراسيل عن خالد بن معدان قال: "فضلت سورة الحج بسجدتين". وفي هذا كله رد صريح على أبي حنيفة وغيره، ممكن أنكر السجدة الأخيرة من سورة الحج، محتجاً بأن آخر الحج السجود فيها، سجود الصلاة لاقترانه بالركوع بخلاف الأولى. فإن السجود فيها مجرد عن ذكر الركوع. ولهذا لم يكن قوله تعالى: {يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين} [43:3] من مواضع السجدات بالاتفاق. قال ابن الهمام: والسجدة الثانية في الحج، للصلاة عندنا، لأنها مقرونة بالأمر بالركوع. والمعهود في مثله من القرآن كونه من أوامر، ما هو ركن الصلاة بالاستقراء نحو {اسجدي واركعي مع الراكعين} انتهى. قلت: لا عبرة بمثل هذا الاستقراء، والرأي الفاسد بعد ما ثبت السجدة الأخيرة من سورة الحج بالأحاديث وآثار الصحابة. فالحق أن في سورة الحج سجدتين، كما ذهب إليه الشافعي وأحمد. قال الإمام ابن القيم في إعلام الموقعين (ج2: ص8) : فأما الرأي فيدخل على فساده وجوه. منها، أنه مردود بالنص. ومنها أن اقتران الركوع بالسجود في هذا الموضع لا يخرجه عن كونه موضع سجدة. كما أن اقترانه بالعبادة التي هي أعم من الركوع، لا يخرجه عن كونه سجدة، وقد صح سجوده في النجم، وقد قرن السجود فيها بالعبادة، كما قرنه بالعبادة في سورة الحج، والركوع لم يزده إلا تاكيداً. ومنها أن أكثر السجدات المذكورة في القرآن متناولة لسجود الصلاة، ثم بينها، ثم قال: فإرادة سجود الصلاة بآية السجدة لا تمنع كونها سجدة، بل تؤكدها وتقويها. ثم ذكر ما يوضح ذلك. ثم قال: وهذا السجود شرعه الله ورسوله عبودية عند تلاوة هذه الآيات وإستماعها، وقربة إليه، وخضوعاً لعظمته، وتذللاً بين يديه. واقتران الركوع ببعض آياته مما يؤكد ذلك ويقويه، لا يضعفه ويوهيه وأما قوله تعالى. {يا مريم اقنتي لربك} الخ، فإنما لم يكن موضع سجدة؛ لأنه خبر خاص عن قول الملائكة، لامرأة بعينها أن تديم العبادة لربها بالقنوت، وتصلي له بالركوع والسجود، فهو خير عن قول الملائكة لها ذلك، وإعلام من الله تعالى لنا، أن الملائكة قالت ذلك لمريم. فسياق ذلك غير سياق آيات السجدات - انتهى. (رواه أبوداود والترمذي) وأخرجه أيضاً ابن عبد الحكم في فتوح مصر (ص289) وأحمد في المسند (ج4: ص151-155) والدارقطني (ص157) ، والحاكم (ج1: ص221- ج2: ص290) والبيهقي (ج2: ص317) كلهم من طريق ابن لهيعة، عن مشرع بن هاعان عن عقبة بن عامر. وقد ذكر الحاكم، أنه تفرد به ابن لهيعة. وأكده الحاكم، بأن الرواية صحت فيه من قول عمر وابنه وابن مسعود وابن عباس وأبي الدرداء وأبي موسى وعمار. ثم

وقال: هذا حديث ليس إسناده بالقوى. وفي المصابيح: "فلا يقرأها" كما في شرح السنة. 1038- (8) وعن ابن عمر: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد في صلاة الظهر، ثم قام فركع، فرأوا أنه قرأ "تنزيل" السجدة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ ساقها موقوفة عنهم. وأكده البيهقي، بما رواه في المعرفة من طريق خالد بن معدان مرسلاً. (وقال) أي الترمذي" (هذا حديث ليس إسناده بالقوي) أي للكلام الذي يذكر في ابن لهيعة وابن هاعان. والظاهر أن الحديث حسن، وإسناده قوي. قال ابن القيم: حديث ابن لهيعة يحتج منه، بما رواه عنه عبادلة كعبد الله بن وهب وعبد الله بن المبارك وعبد الله بن يزيد المقرئ. قال أبوزرعة: كان ابن المبارك وابن وهب، يتبعان أصوله وقال عمرو بن علي: من كتب عنه قبل احتراق كتبه، مثل ابن المبارك وابن المقرئ، أصح ممن كتب بعد احتراقها. قال ابن وهب: كان ابن لهيعة صادقاً. وقد انتقى النسائي هذا الحديث من جملة حديثه، وأخرجه واعتمده، وقال ما أخرجت من حديث ابن لهيعة قط إلا حديثاً واحداً، يعني هذا الحديث، ثم ذكره - انتهى كلام ابن القيم مختصراً. وهذا الحديث، مما رواه عبد الله بن وهب وعبد الله بن يزيد المقرئ مع الآخرين، عن ابن لهيعة، فهو مما يحتج به من أحاديثه. وأما مشرح بن هاعان، فقال الحافظ في التقريب: إنه مقبول. وقال الذهبي في الميزان: صدوق لينه ابن حبان. وقال عثمان بن سعيد عن ابن معين: ثقة. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به. فالظاهر أن الحديث لا ينزل عن درجة الحسن. وقد اعتضد بحديث عمرو بن العاص المتقدم، وبرواية خالد بن معدان المرسلة، وبآثار الصحابة. وقال ميرك: كما في المرقاة الحديث صحيح. (وفي المصابيح فلا يقرأها كما في شرح السنة) أي بإعادة الضمير إلى السورة. والمعنى أنه لا يقرأها بكمالها، وقيل: الضمير لآية السجدة. قال ميرك: نقلاً عن التصحيح، كذا وقع في أكثر نسخ المصابيح، فلا يقرأها بغير ميم، وهو غلط. والذي ثبت في أصول روايتنا، فلا يقرأهما بالتثنية - انتهى. وقال التوربشتي: كذا وجدناها في نسخ المصابيح، وهو غلط. والصواب فلا يقرأهما بإعادة الضمير إلى السجدتين، وكذا وجدنا في كتابي أبي داود والترمذي وغيرهما من كتب أهل الحديث. قلت: الأمر كما قال ميرك والتوربشتي. 1038- قوله: (سجد) أي سجدة التلاوة (في صلاة الظهر) وفي رواية أحمد، في الركعة الأولى من صلاة الظهر. (ثم قام فركع) قال ابن الملك: يعني لما قام من السجود إلى القيام ركع، ولم يقرأ شيئاً من باقي السورة، وإن كانت القرأة جائزة. قال القاري: بل القراءة أفضل، ولعلها كانت الصلاة تطول، أو تركها لبيان الجواز، مع أنه لا نص في عدم قراءته عليه السلام آخر السورة، ثم أنه لم يكتف بالركوع، وإن كان جائز أيضاً، كما هو مذهبنا اختيار للعمل بالأفضل - انتهى. قلت: لا بد للقول بالاكتفاء بالركوع عن السجود من دليل من كتاب أو سنة، ولا يكفي في مثل هذا القياس. (فرأوا) أي علموا. (أنه قرأ تنزيل السجدة) بنصب تنزيل على المفعولية،

رواه أبوداود. 1039- (9) وعنه: ((أنه كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ علينا القرآن، فإذا مر بالسجدة، كبر وسجد وسجدنا معه)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ وبرفعه على الحكاية. والسجدة مجرورة. ويجوز نصبها بتقدير أعني، ورفعها بتقدير هو. والمعنى سمعوا بعض قراءته، لأنه كان قد يرفع صوته ببعض ما يقرأ به في الصلوات السرية، ليعلموا سنية قراءة تلك السورة. والحديث يدل على مشروعية سجود التلاوة في الصلاة السرية. وقد تقدم الكلام في ذلك. (رواه أبوداود) من طريق معتمر ويزيد بن هارون وهشيم عن سليمان التيمي عن أمية عن أبي مجلز عن ابن عمر. قال أبوداود: قال محمد بن عيسى يعني شيخه: لم يذكر أمية أحد إلا معتمر. وسكت عنه المنذري، والحديث أخرجه أيضاً أحمد (ج2: ص83) والطحاوي والحاكم (ج1: ص221) لكن بإسقاط أمية بين سليمان وأبي مجلز. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، ورواه البيهقي (ج2: ص322) على الوجهين. قال الحافظ في التلخيص (ص114) بعد أن نسب الحديث لأبي داود والحاكم: وفيه أمية شيخ لسليمان التيمي، رواه له عن أبي مجلز، وهو لا يعرف، قاله أبوداود في رواية الرملي عنه. وفي رواية الطحاوي عن سليمان عن أبي مجلز، قال: ولم أسمعه منه، لكنه عند الحاكم بإسقاطه. ودلت رواية الطحاوي على أنه مدلس - انتهى. وقال الذهبي في الميزان (ج1: ص128) : أمية عن أبي مجلز لاحق لا يدرى من ذا. وعنه سليمان التيمي، والصواب إسقاطه من بينهما - انتهى. وفي تهذيب التهذيب (ج1: ص373) أمية عن أبي مجلز عن ابن عمر في الصلاة، قاله معتمر بن سليمان عن أبيه. ورواية غير واحد عن سليمان التيمي عن أبي مجلز، قال الحافظ بعد ذكر قول أبي داود المتقدم في رواية الرملي: ويحتمل أن هذا تصحيف من أحد الرواة، كان عن المعتمر عن أبيه، فظنه عن أمية، ثم كرر وذكر أبيه، والله أعلم. لكن وقع عند أحمد عن يزيد بن هارون عن سليمان عن أبي مجلز به ثم قال: قال سليمان: ولم أسمعه من أبي مجلز. وحكى الدارقطني: أن بعضهم رواه عن المعتمر. فقال عن أبيه، عن أبي أمية، وزيفه، ثم جوز إن كان محفوظاً أن يكون المراد به عبد الكريم بن أبي المخارق، فإنه يكنى أبا أمية، وهو بصري، والله أعلم - انتهى. قلت: قد تحصل من هذا كله أن أمية هذا مجهول، وأن معتمر بن سليمان تفرد بذكره، والصواب أن يكون سليمان عن أبي مجلز بإسقاط أمية بينهما، كما روى غير واحد من أصحاب سليمان. وكذا وقع عند أحمد والطحاوي والحاكم، وعند أبي داود والبيهقي أيضاً في رواية غير المعتمر. وأن سليمان لم يسمع هذا الحديث من أبي مجلز، كما صرح به في رواية أحمد والطحاوي والبيهقي. وأنه دلس في رواية الحاكم. وعلى هذا فالسند منقطع. وفي تصحيح الحاكم لهذا الحديث عندي كلام، والله أعلم. 1039- قوله: (فإذا مر بالسجدة كبر وسجد وسجدنا معه) فيه أن المستمع للقرآن إذا قرئ بحضرته

السجدة، سجد مع القاري. وفيه أنه يشرع التكبير، لسجود التلاوة. وإليه ذهب الشافعي وأحمد وأصحاب الرأي، سواء كان في الصلاة أو غيرها. وبه قال مالك: إذا سجد في الصلاة، واختلف عنه في غير الصلاة، وكان الثوري يعجبه هذا الحديث. قال أبوداود: يعجبه لأنه كبر. أي لأن فيه ذكر التكبير. ولم يرد ذكر التكبير لسجود التلاوة إلا في هذا الحديث. وهل هو تكبير الافتتاح أو النقل؟ قال الأمير اليماني: الأول أقرب، ولكنه يجتزئ بها عن تكبيرة النقل لعدم ذكر تكبيرة أخرى. وقيل: يكبر له. وعدم الذكر ليس دليلاً. وقال في الشرح الكبير (ج1: ص793) : لا يشرع في ابتداء السجود أكثر من تكبيرة. وقال الشافعي: إذا سجد خارج الصلاة كبر تكبيرتين للافتتاح والسجود، كما لو صلى ركعتين. ولنا حديث ابن عمر، وظاهره أنه كبر واحدة، ولأن معرفة ذلك من الشرع، ولم يرد به، ولأنه سجود منفرد، فلم يشرع فيه تكبيران كسجود السهو، وقياسهم يبطل بسجود السهو. وقياس هذا على سجود السهو أولى من قياسه على الركعتين لشبه به، ولأن الإحرام بركعتين يتخلل بينه وبين السجود أفعال كثيرة، فلذلك لم يكتف بتكبيرة الإحرام، عن تكبيرة السجود بخلاف هذا - انتهى. ويشرع أيضاً التكبير لرفع الرأس من سجود التلاوة عند الشافعي وأحمد وأصحاب الرأي في الصلاة وغيرها. ولا دليل على ذلك إلا اعتباره بسجدة الصلاة، وبسجود السهو بعد السلام. واختلفوا في رفع اليدين مع تكبير السجود، فعند الحنفية لا يرفع سواء كان في الصلاة أو غيرها. وقال الشافعي وأحمد: يرفع يديه في تكبيرة الابتداء إن سجد خارج الصلاة؛ لأنه تكبيرة الإحرام، وإن كان في الصلاة فكذلك، نص عليه أحمد لما روى وائل بن حجر: أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يكبر إذا خفض، ويرفع يديه في التكبير. قال أحمد: هذا يدخل في هذا كله. ورواية أخرى عنه لا يرفع يديه في الصلاة، اختاره القاضي. قال في الشرح الكبير: وهو قياس المذهب لقول ابن عمر: وكان لا يفعل ذلك في السجود، متفق عليه. ويتعين تقديمه على حديث وائل بن حجر؛ لأنه أخص منه، ولذلك قدم عليه في سجود الصلاة كذلك ههنا - انتهى. واختلفوا أيضاً في التشهد والتسليم بعد سجود التلاوة والقيام قبله. فذهبت الحنفية إلى أنه لا تشهد فيه، ولا تسليم. واختلفوا في القيام، فقيل: يستحب أن يقوم فيسجد، روي ذلك عن عائشة، ولأن الخرور الذي مدح به أولئك فيه أكمل. وقيل: لا يستحب القيام. كذا في المرقاة. والمشهور عن أحمد أن التسليم واجب. وروي عنه أنه لا تسليم فيه، قال أحمد: أما التسليم فلا أدري ما هو؟ لأنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه سلام. واختلف قول الشافعي فيه. وأما التشهد فنص أحمد على أنه لا يفتقر إليه، لأنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أحد من أصحابه. واختار أبوالخطاب أنه يفتقر إلى التشهد قياساً على الصلاة كذا في الشرح الكبير. والحق عندنا أنه لا يشرع الرفع مع تكبير السجود، سواء كان في الصلاة أو في غيرها، وكذا

رواه أبوداود. 1040- (10) وعنه أنه قال: ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ عام الفتح سجدة، فسجد الناس كلهم، منهم الراكب والساجد على الأرض، حتى إن الراكب ليسجد على يده)) رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يشرع فيه التشهد والتسليم والقيام؛ لأن معرفة ذلك من الشارع. ولم ينقل فيه شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يجزئ القياس فيه. (رواه أبوداود) وأخرجه البيهقي (ج2: ص325) من طريقه، وسنده لين، لأنه من رواية عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري. وقد تكلم فيه غير واحد. وقال الذهبي: صدوق في حفظه شيء. وأخرج له مسلم مقروناً بأخيه عبيد الله بن عمر. والحديث أخرجه الحاكم أيضاً، لكن من رواية أخيه عبيد الله المصغر، وهو ثقة، ولهذا قال: حديث صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي. قال الحافظ: وأصله في الصحيحين من حديث ابن عمر بلفظ آخر. 1040- قوله: (قرأ عام الفتح) أي فتح مكة. (سجدة) أي آية سجدة، بانضمام ما قبلها أو بعدها، أو منفرداً لبيان الجواز. (والساجد) أي ومنهم الساجد. (على الأرض) متعلق بالساجد، ولما كان الراكب لا يسجد على الأرض جعل غير الساجد عليها قسيماً له. ففيه إيماء إلى أن الراكب لا يلزمه النزول للسجود على الأرض. (حتى إن الراكب) بكسر إن وتفتح. (ليسجد على يده) أي الموضوعة على السرج أو غيره، ليجد الحجم حالة السجدة، قال القاري: والحديث نص في جواز سجود الراكب على يده، في سجود التلاوة. وهو يدل على جواز سجود التلاوة، لمن كان راكباً من دون نزول، لأن التطوعات على الراحلة جائزة. وهذا منها. قال ابن قدامة في المغني (ج1: ص658) : إذا كان على الراحلة في السفر، جاز أن يومئ بالسجود، حيث كان وجهه كصلاة النافلة، فعل ذلك علي وسعيد بن زيد وابن عمر وابن الزبير والنخعي وعطاء. وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي. وقد روى أبوداود عن ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ عام الفتح، الحديث. ولأنها لا تزيد على صلاة التطوع، وهي تفعل على الراحلة، وإن كان ماشياً سجد على الأرض. وبه قال أبوالعالية وأصحاب الرأي، لما ذكرنا من الحديث والقياس. وقال الأسود بن يزيد وعطاء ومجاهد: يومئ، وفعله علقمة وأبوعبد الرحمن السلمي - انتهى. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً الحاكم والبيهقي، كلهم من طريق مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير عن نافع عن ابن عمر. وقد سكت عنه أبوداود. وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، فإنهما لم يخرجا عن مصعب بن ثابت، ولم يذكراه بجرح، وأقره الذهبي. وقال المنذري: في إسناده مصعب بن ثابت، وقد ضعفه غير واحد من الأئمة - انتهى. قلت: ضعفه أحمد وابن معين. وقال النسائي والدارقطني: ليس بالقوي. وقال أبوحاتم: صدوق كثير الغلط ليس بالقوي. وقال الحافظ في التقريب: لين الحديث، وكان عابداً.

1041- (11) وعن ابن عباس. ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة)) رواه أبوداود. 1043- (12) وعن عائشة، قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في سجود القرآن بالليل: "سجد وجهي للذي خلقه، وشق سمعه وبصره بحوله وقوته")) ـــــــــــــــــــــــــــــ 1041- قوله: (لم يسجد في شيء، من المفصل منذ تحول إلى المدينة) قد احتج به لمالك في ترك السجود في المفصل، وتعقب بأنه حديث ضعيف، لا يصلح للإحتجاج. كما ستعرف. وإن صح لم يلزم منه حجة، لأن الأحاديث المقدمة مثبتة، وهي مقدمة على النفي، ولا سيما مع إجماع العلماء، على أن إسلام أبي هريرة، كان سنة سبع من الهجرة، وهو يقول في حديثه السابق: سجدنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في {إذا السماء انشقت} و {إقرأ باسم ربك} . (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً ابن السكن في صحيحه، والبيهقي (ج2: ص33) وفي إسناده أبوقدامة الحارث بن عبيد الايادي البصري، عن مطر الوراق. وأبوقدامة قال أحمد بن حنبل: مضطرب الحديث. وقال ابن معين: ضعيف. وقال النسائي: ليس بذاك القوي. وقال أبوحاتم: ليس بالقوي. يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن حبان: كان ممن كثر وهمه، حتى خرج من جملة من يحتج بهم إذا انفردوا. وقال الساجي: صدوق عنده مناكير، واستشهد به البخاري متابعة في موضعين. ومطر الوراق كان سيء الحفظ، حتى كان يشبه في سوء الحفظ بمحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وقد عيب على مسلم إخراج حديثه، وقال المنذري: في إسناده أبوقدامة، لا يحتج بحديثه، وقد صح أن أبا هريرة سجد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في السنة السابعة من الهجرة - انتهى. وقال ابن عبد البر: هذا حديث منكر. وأبوقدامة ليس بشيء. وأبوهريرة لم يصحب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بالمدينة، وقد رآه يسجد في "الانشقاق" و"العلق" – انتهى. وقال النووي: حديث ضعيف، لا يصح الاحتجاج به. وقال عبد الحق في أحكامه: إسناده ليس بالقوي، ويروى مرسلاً. والصحيح حديث أبي هريرة. (يعني الذي تقدم آنفاً) ، وإسلامه متأخر. 1042- قوله: (في سجود القرآن) أي في سجود التلاوة. (بالليل) حكاية للواقع لا للتقييد به. (سجد وجهي) بفتح الياء وسكونها. (الذي خلقه وشق سمعه وبصرة) تخصيص بعد تعميم، أي فتحهما وأعطاؤهما الإدراك وأثبت لهما الإمداد بعد الإيجاد. (بحوله) أي بصرفه الآفات عنهما. (وقوته) أي قدرته بالثبات، والإعانة عليهما. والحديث أخرجه الحاكم والبيهقي، وصححه ابن السكن، وقال في آخره: "ثلاثا"، وزاد الحاكم

رواه أبوداود والترمذي والنسائي. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. 1043- (13) وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: ((جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله! رأيتني الليلة، وأنا نائم كأني أصلي خلف الشجرة، فسجدت، فسجدت الشجرة لسجودي، فسمعتها تقول: اللهم اكتب لي بها عندك أجراً، وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود. ـــــــــــــــــــــــــــــ "فتبارك الله أحسن الخالقين" وزاد البيهقي "وصوره" بعد قوله: خلقه. ولمسلم نحوه من حديث علي في سجود الصلاة، وللنسائي أيضاً نحوه من حديث جابر في سجود الصلاة أيضاً. وفيه وفي الحديث الآتي دليل على مشروعية الذكر في سجود التلاوة بما اشتملا عليه، ويقول ذلك فيه، في الصلاة فريضة كانت أو نافلة وفي غير الصلاة. ولا حجة لمن حمله على خارج الصلاة، أو على النافلة. (رواه أبوداود والترمذي والنسائي) وأخرجه أيضاً الدارقطني والحاكم (ج1 ص220) ، والبيهقي (ج2 ص225) ، وابن السكن، وسكت عنه أبوداود، وقال الحاكم: على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. (وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح) نقل المنذري كلام الترمذي هذا وأقره. 1043- قوله: (جاء رجل) هو أبوسعيد الخدري، كما جاء مصرحاً به، من روايته، عند أبي يعلى والطبراني في الأوسط، ذكرها الهيثمي، في مجمع الزوائد (ج2 ص284-285) ، وقال: وفيه اليمان بن نصر، قال الذهبي: مجهول. (رأيتني ليلة) أي أبصرت ذاتي البارحة. (وأنا نائم) حال فاعل أو مفعول. وفي رواية البيهقي: رأيت البارحة فيما يرى النائم. (فسجدت) أي سجدة تلاوة في سورة "ص" كما في رواية البيهقي. (فسمعتها) أي الشجرة. (اكتب لي) أي أثبت لأجلي. (بها) أي بسبب هذه السجدة أو بمقابلتها. والضمير للسجدة المفهومة من سجدت. (عندك) ظرف لأكتب. (وضع) أي أحطط، كما في رواية ابن ماجه. وفي حديث أبي سعيد المذكور حط، ووقع في بعض نسخ المشكاة: حط، بدل وضع، وهو غلط، فإن الرواية بلفظ: ضع. وكذا وقع في المصابيح. (وزراً) أي ذنباً. (واجعلها لي عندك ذخراً) أي كنزاً. قيل: ذخراً بمعنى أجراً، وكرر لأن مقام الدعاء يناسب الإطناب. وقيل: الأول طلب كتابة الأجر، وهذا طلب بقائه سالماً من محبط ومبطل. قال القاري: هذا هو الأظهر. (كما تقبلتها من عبدك داود) فيه إيماء إلى أن سجدة "ص" للتلاوة. قال السيوطي في قوت المغتذي على جامع الترمذي: قال القاضي أبوبكر بن العربي: عسير علي في هذا الحديث أن يقول أحد ذلك، فإن فيه طلب قبول مثل ذلك القبول،

قال ابن عباس: فقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - سجدة ثم سجد، فسمعته وهو يقول: مثل ما أخبره الرجل، عن قول الشجرة)) رواه الترمذي، وابن ماجه، إلا أنه لم يذكر: (وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود) . وقال الترمذي: هذا حديث غريب. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأين ذلك اللسان، وأين تلك النية. قلت: ليس المراد المماثلة من كل وجه، بل في مطلق القبول، وقد ورد في دعاء الأضحية "وتقبل مني كما تقبلت من إبراهيم خليلك، ومحمد نبيك" وأين المقام من المقام، ما أريد بهذا إلا مطلق القبول. وفيه إيماء إلى الإيمان بهؤلاء الأنبياء. وإذا ورد الحديث بشيء اتبع، ولا إشكال- انتهى. قال السندي: ولا يخفى، أن اعتبار التشبيه في مطلق القبول، يجعل الكلام قليل الجدوى. ولو قيل: وتقبلها مني قبولاً، مثل ما تقبلتها من عبدك داود، في أن كلاً منهما فرد من أفراد مطلق القبول، لم يكن في التشبيه كثير فائدة، ولم يكن إلا تطويل بلا طائل. والأقرب أن يعتبر التشبيه في الكمال، ويعتبر الكمال في قبول، كل بحسب مرتبته- انتهى. (فقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - سجدة) أي آية سجدة سورة "ص"، كما في حديث أبي سعيد الخدري. قال ابن حجر: يحتمل أنه قصدها ليبين مشروعية ما سمعه أبوسعيد بالفعل، الذي هو أبلغ من القول، وأن يكون قراءته وقعت اتفاقاً، فبين مشروعية ذلك فيها. (رواه الترمذي وابن ماجه) وأخرجه أيضاً ابن حبان وابن خزيمة في صحيحهما، والحاكم (ج1 ص219-220) والبيهقي (ج2 ص320) . (وقال الترمذي: هذا حديث غريب) وفي نسخة الشيخ محمد عابد السندي: هذا حديث حسن غريب، كما ذكره الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي. وفي سنده محمد بن يزيد بن خنيس عن الحسن بن محمد بن عبيد الله بن أبي يزيد. ومحمد بن يزيد هذا مقبول، قاله الحافظ في التقريب. وقال أبوحاتم: كان شيخاً صالحاً كتبنا عنه بمكة. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان من خيار الناس، ربما أخطا، يجب أن يعتبر بحديثه إذا بين السماع في خبره- انتهى. قلت: روى محمد بن يزيد هذا الحديث، عن الحسن بن محمد بلفظ التحديث عند الترمذي والحاكم. وأما الحسن بن محمد، فقال العقيلي لا يتابع على حديثه، وليس بمشهور النقل. وحكى الذهبي عمن لم يسمعه: أن فيه جهالة، ولم يرو عنه غير ابن خنيس. وذكره ابن حبان في الثقات، وأخرج هو وابن خزيمة حديثه في صحيحهما. وقال الخليلي لما ذكر حديثه: هذا حديث غريب صحيح من حديث ابن جريج، قصد أحمد بن حنبل محمد بن يزيد بن خنيس وسأل عنه، وتفرد به الحسن بن محمد المكي، وهو ثقة، نقل ذلك الحافظ في تهذيب التهذيب (ج2 ص319) . وقال الحاكم بعد إخراجه: هذا حديث صحيح، رواته مكيون، لم يذكر واحد منهم يخرج، وهو من شرط الصحيح، ولم يخرجاه. وقال الذهبي: صحيح ما في رواته مجروح- انتهى. وقد ظهر بهذا كله أن هذا الحديث لا ينحط عن درجة الحسن. وهو يدل على صحة ما في مخطوطة الشيخ محمد عابد السندي من قول الترمذي: هذا حديث حسن غريب.

{الفصل الثالث}

{الفصل الثالث} 1044- (14) عن ابن مسعود: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ "والنجم" فسجد فيها، وسجد من كان معه، غير أن شيخاً من قريش أخذ كفاً من حصى- أو تراب- فرفعه إلى جبهته، وقال: يكفيني هذا. قال عبد الله: فلقد رأيته بعد قتل كافراً)) متفق عليه. وزاد البخاري في روايته: وهو أمية بن خلف. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1044- قوله: (قرأ والنجم) أي سورة النجم إلى آخرها بمكة. (فسجد فيها) أي في آخرها، أو لما فرغ من قراءتها. (وسجد من كان معه) أي من كان حاضراً، قراءته من المسلمين والمشركين والجن والإنس، كما تقدم عن ابن عباس، حتى شاع أن أهل مكة أسلموا. (غير أن شيخاً من قريش) هو أمية بن خلف، كما يأتي. (أخذ كفاً من حصى) أي حجارة صغار. (أو تراب) شك ممن الراوي. (فرفعه) أي كفه. (إلى جبهته) وفي رواية للبخاري: فسجد عليه. (يكفيني) فإن المقصود من السجود، التواضع والانقياد والمذلة بين يدي الله، ووضع أشرف الأعضاء في أخس الأشياء، وهذا لما في رأسه من توهم الكبرياء والاستنكاف. (قال عبد الله) أي ابن مسعود. (فلقد رأيته) أي الشيخ المذكور. (بعد) أي بعد هذه القضية. (قتل كافراً) أي ببدر. والحديث فيه مشروعية السجود لمن حضر عند القاري للآية التي فيها السجدة: واستدل به على جواز السجود بلا وضوء، لأنه يبعد في العادة أن يكون جميع من حضر من المسلمين كانوا عند قراءته الآية على وضوء، لأنهم لم يتأهبوا لذلك، وإذا كان كذلك فمن بادر منهم إلى السجود بلا وضوء، وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، دل ذلك على عدم وجوب الوضوء لسجود التلاوة. ويؤيده ما تقدم في رواية ابن عباس من التسوية، في السجود بين المسلمين والمشركين، وفيهم من لا يصح منه الوضوء، فيلزم أن يصح السجود ممن كان بوضوء، وممن لم يكن بوضوء. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أبوداود والبيهقي. (وزاد البخاري وفي رواية) أي في تفسير سورة النجم. (وهو أمية بن خلف) أخو أبي بن خلف بن وهب. وقيل: الشيخ المذكور هو الوليد بن المغيرة، كما وقع في سيرة ابن إسحاق. وفيه نظر، لأنه لم يقتل. وقيل: هو عتبة بن ربيعة، كما في تفسير سنيد. وقيل: إنه أبوأحيحة سعيد بن العاص، رواه الطبري. وقيل: أبولهب، ذكره أبوحبان في تفسيره من غير مستند. وقيل: المطلب بن أبي وداعة، رواه النسائي والبيهقي (ج2 ص314) وفي مصنف ابن أبي شيبة عن أبي هريرة، سجدوا في النجم، إلا رجلين من قريش، أرادا بذلك الشهرة. قال القسطلاني والمنذري: الأول أصح، وهو الذي ذكره البخاري. وقال الحافظ

(22) باب أوقات النهي

1045- (15) وعن ابن عباس، قال: ((إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد في "ص" وقال: سجدها داود توبة، ونسجدها شكراً)) رواه النسائي. (22) باب أوقات النهي ـــــــــــــــــــــــــــــ في الفتح: ومهما ثبت من ذلك فلعل ابن مسعود لم يره، أو خص واحداً بذكره لاختصاصه بأخذ الكف من التراب دون غيره. 1045- قوله: (سجد في ص) أي في سورة "ص" مكان سجدتها وهو {أناب} وقيل: {حسن مآب} [38: 40] (توبة) أي لأجل التوبة. (ونسجدها شكراً) منا على قبول توبته، وتوفيق الله تعالى إياه عليها، فحين يجري في القرآن، ذكر من الله تعالى لتلك التوبة، نشكره تعالى على تلك النعمة. وكون السجدة للشكر. لا يلزم منه أن لا يكون سجدة تلاوة. لأن سجدة التلاوة، لا شك أنها تتعلق بقراءة آية السجدة أو سماعها، وتقع السجدة عند ثبوتهما. وهذا هو معنى سجدة التلاوة، سواء يكون السبب فيها أمراً بإيقاعها أو شكراً أو غير ذلك. والحاصل: أن غاية ما في هذا الحديث، أنه بين السبب في حق داود والسبب في حقنا. وكونها للشكر في حقنا، لا ينافي كونها سجدة التلاوة. فالحق أنه يسجد فيها في الصلاة وغير الصلاة، خلافاً للشافعي. وقد تقدم شيء من الكلام في ذلك. (رواه النسائي) من طريق حجاج بن محمد عن عمر بن ذر عن أبي سعيد بن جبير عن ابن عباس. قال الحافظ في الدراية: رواته ثقات. وقال ابن كثير: رجاله على شرط البخاري- انتهى. وأخرجه أيضاً الشافعي في الأم والدارقطني والبيهقي (ج2 ص319) ، وصححه ابن السكن، وقال البيهقي روي مرسلاً وموصولاً، والمرسل هو المحفوظ، والموصول ليس بقوي. (باب أوقات النهي) مصدر بمعنى المنهي، أي باب الأوقات المنهي عن الصلاة فيها. ومحصل ما ورد من الأخبار في تعيين الأوقات، التي نهى عن الصلاة فيها، أنها خمسة: 1- عند طلوع الشمس، 2- وعند غروبها، 3- وبعد الصلاة الصبح، 4- وبعد صلاة العصر، 5- وعند الاستواء. وترجح بالتحقيق إلى ثلاثة: 1- وقت استواء الشمس، 2- ومن بعد صلاة الصبح إلى أن ترتفع الشمس، فيدخل فيه الصلاة عند طلوع الشمس، 3- ومن بعد صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس، ويدخل فيه الصلاة عند غروب الشمس. واختلف العلماء من أوقات النهي في موضعين: أحدهما في عددها، والثاني في الصلوات التي يتعلق النهي عن فعلها فيها. وسبب الخلاف في الأول، أحد شيئين: إما معارضة أثر لأثر، وإما معارضة الأثر للعمل، عند من راعاه، أعني عمل أهل المدينة، وهو مالك بن أنس. وأما سبب الخلاف في الثاني فهو اختلافهم في الجمع، بين العمومات الواردة في ذلك، وأي يخص بأي. كما سنذكر ذلك مجملاً. وقد بسطه ابن الرشد في بداية المجتهد (ج1 ص79)

أحسن بسط، وإن كان فيه نوع من القصور في بيان مسالك الأئمة، وسبب اختلافهم، مع عدم ذكر مذهب الحنابلة رأساً، كما لا يخفى على من له إطلاع على كتب الفروع. قال القاضي البيضاوي: اختلفوا في جواز الصلاة بعد الصبح والعصر، وعند الطلوع والغروب، وعند الاستواء. فذهب داود إلى الجواز مطلقاً. وقد روي عن جمع من الصحابة، فلعلهم لم يسمعوا نهيه عليه السلام، أو حملوه على التنزيه دون التحريم. قلت: المحكي عن داود أنه ادعى كون أحاديث النهي منسوخة، وبذلك جزم ابن حزم، قال: وخالفهم الأكثرون، فقال الشافعي: لا يجوز فيها فعل صلاة لا سبب لها من النوافل. وأما الذي له سبب أي متقدم كالمنذورة والجنازة وتحية المسجد وسجود التلاوة والشكر وصلاة العيد والكسوف وقضاء الفائتة، فرضاً كانت أو نفلاً. فجائز لحديث كريب عن أم سلمة الآتي، واستثني أيضاً مكة واستواء الجمعة لحديثي جبير بن مطعم وأبي هريرة الآتيين في الفصل الثاني. وقال أبوحنيفة: يحرم فعل كل صلاة في الأوقات الثلاثة، سوى عصر يومه، ويحرم المنذورة والنافلة بعد صلاة الصبح. والعصر دون المكتوبة الفائتة وسجدة التلاوة وصلاة الجنازة. وقال مالك: يحرم وقت طلوع والغروب، وبعد صلاة الصبح وبعد العصر، النوافل مطلقاً ذات سبب كانت أو غير ذات سبب دون الفرائض، إلا صلاة الجنازة وسجدة التلاوة بعد صلاة الصبح قبل الإسفار، وبعد صلاة العصر قبل الاصفرار، واستثنى وقت الاستواء فالأوقات المنهي عنها عنده أربعة الطلوع والغروب، وبعد صلاة الصبح، وبعد العصر. وقال أحمد: الأوقات المنهي عنها خمسة. (كما هي عند الشافعي وأبي حنيفة) ، قال يحرم فيها النوافل دون الفرائض والصلاة المنذورة وتحية المسجد حال خطبة الجمعة وركعتي الطواف، فرضاً كان الطواف أو نفلاً - انتهى بزيادة وأيضاًح. والراجح عندي أن الأوقات المنهي عنها خمسة، كما ذهب إليه الشافعي وأحمد وأبوحنيفة، ويستثنى منها استواء الجمعة ومكة، كما قال به الشافعي: قال الشوكاني في الدرر البهية: أوقات الكراهة في غير مكة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس، وعند الزوال غير يوم الجمعة، وبعد العصر حتى تغرب- انتهى. وأما الصلوات التي يتعلق النهي عنها فيها، فسيأتي بيان ما هو الراجح في ذلك. تنبيه: قال بعض العلماء المراد بحصر الكراهة في الأوقات الخمسة انما هو بالنسبة إلى الأوقات الأصلية وإلا فقد ذكروا أنه يكره التنفل وقت إقامة الصلاة ووقت صعود الإمام لخطبة الجمعة، وفي حالة الصلاة المكتوبة، جماعة لمن لم يصلها، وعند المالكية كراهة التنفل بعد الجمعة حتى ينصرف الناس. وعند الحنفية كراهة التنفل قبل صلاة المغرب، وسيأتي ثبوت الأمر به. (في باب السنن) ، ذكره الحافظ في الفتح.

{الفصل الأول}

{الفصل الأول} 1046- (1) عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يتحرى أحدكم فيصلي عند طلوع الشمس ولا عند غروبها)) وفي رواية، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1046- قوله: (لا يتحرى) بثبوت حرف العلة المقتضية لخبرية الفعل، وكونه سابقة حرف نفي، لكنه بمعنى النهي. وقال في شرح التقريب (ج2 ص182) لا يتحرى بإثبات الألف في الصحيحين والموطأ والوجه حذفها لتكون علامة للجزم لكن الإثبات إشباع، فهو كقوله تعالى: {إنه من يتقي ويصبر} ، فيمن قرأ بإثبات الياء. (فيصلي) بالنصب جواباً للنهي المتضمن لئلا يتحرى كالمضارع المقرون بالفاء في قوله: ما تأتينا فتحدثنا، فالمراد النهي عن التحري والصلاة كليهما. ويجوز الرفع من جهة النحو، أي لا يتحرى أحدكم الصلاة في وقت كذا، فهو يصلي فيه. وقال الطيبي: لا يتحرى هو نفي بمعنى النهي. و"يصلي" هو منصوب بأنه جوابه. ويجوز أن يتعلق بالفعل المنهي أيضاً، فالفعل المنهي معلل في الأول والفعل المعلل منهى في الثاني. والمعنى على الثاني لا يتحرى أحدكم فعلاً ليكون سبباً لوقوع الصلاة في زمان الكراهة، وعلى الأول كأنه قيل لا يتحرى، فقيل: لم ينهانا عنه، فأجيب عنه خيفة أن يصلي أن الكراهة. وقال ابن خروف: يجوز في "فيصلي" ثلاثة أوجه: الجزم على العطف، أي لا يتحر ولا يصل، والرفع على القطع. أي لا يتحرى، فهو يصلي، والنصب على جواب النهي. والمعنى لا يتحرى مصلياً- انتهى. قال التوربشتي: يقال فلان يتحرى الأمر أي يتوخاه ويقصده، ومنه قوله تعالى: {فأولئك تحروا رشداً} ، أي توخوا وعمدوا، ويتحرى فلان الأمر إذا طلب ما هو الأحرى. والحديث يحتمل الوجهين، أي لا يقصد الوقت الذي تطلع فيه الشمس، أو تغرب فيصلي فيه، أو لا يصلي في هذا الوقت ظناً منه أنه قد عمل بالأحرى. والأول أبلغ وأوجه في المعنى المراد - انتهى. (عند طلوع الشمس ولا عند غروبها) قال الحافظ: اختلف في المراد بالحديث، فمنهم من جعله تفسيراً للحديث السابق. (أي لحديث عمر: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس، وبعد العصر حتى تغرب) ومبيناً للمراد به، فقال: لا تكره الصلاة بعد الصبح ولا بعد العصر إلا لمن قصد بصلاته طلوع الشمس وغروبها. وإلى ذلك جنح بعض أهل الظاهر، وقواه ابن المنذر، واحتج له بما رواه مسلم من طريق طاووس عن عائشة قالت: وهم ابن عمر، إنما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتحرى طلوع الشمس وغروبها. ويدل على ذلك أيضاً قول ابن عمر أصلي، كما رأيت أصحابي يصلون، لا أنهى أحداً يصلي بليل أو نهار ما شاء غير أن لا تحروا طلوع الشمس ولا غروبها. وربما قوى ذلك بعضهم بحديث: من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فليضف إليها الأخرى، فأمر بالصلاة حينئذٍ، فدل على أن الكراهة مختصة بمن قصد الصلاة في ذلك الوقت لا من وقع له ذلك اتفاقاً، ومنهم من جعله نهياً مستقلاً، وكره الصلاة في تلك الأوقات،

قال: إذا طلع حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى تبرز. وإذا غاب حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى تغيب، ولا تحينوا بصلوتكم طلوع الشمس ولا غروبها، فإنها تطلع بين قرني الشيطان)) متفق عليه. 1047- (2) وعن عقبة بن عامر، قال: ((ثلاث ساعات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا أن نصلي فيهن، أو نقبر فيهن ـــــــــــــــــــــــــــــ سواء قصد لها أو لم يقصد. وهو قول الأكثر، قال البيهقي: إنما قالت عائشة ذلك؛ لأنها رأت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بعد العصر، فحملت نهيه على من قصد ذلك، لا على الإطلاق. وقد أجيب عن هذا بأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما صلى حينئذٍ قضاء. وأما النهي فهو ثابت من طريق جماعة من الصحابة غير عمر رضي الله عنه، فلا اختصاص له بالوهم- انتهى. (إذا طلع) أي ظهر. (حاجب الشمس) أي طرفها الأعلى من قرصها سمي به؛ لأنه أول ما يبدو منها، فيصير كحاجب الإنسان. (فدعوا) أي اتركوا. وفي رواية: فأخروا. (الصلاة) يحمل ذلك في الموضعين على ما عدا الفريضة المقضية أو المؤداة في هذين الوقتين؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - من نام عن الصلاة أو سها عنها فوقتها حين يذكرها- الحديث. وقوله: من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس. ويستثنى منه أيضاً مكة لما سيأتي. (حتى) أي إلى أن (تبرز) أي تخرج وتظهر كلها، والمراد ترتفع، كما وقع في رواية للبخاري. قال النووي: المراد ببروز الشمس وكذا بطلوعها في الروايات الأخر هو ارتفاعها وإشراقها وإضاءتها، لا مجرد ظهور قرصها للجمع بين الروايات. (حتى تغيب) أي تغرب بالكلية. (ولا تحينوا) بحذف إحدى التائين من تحين بمعنى حين الشيء إذا جعل له حيناً، أي لا تجعلوا ذلك حيناً للصلاة بصلاتكم فيه، والمعنى لا تنتظروا بصلاتكم حين طلوع الشمس، ولا حين غروبها. (فإنها تطلع) بضم اللام. (بين قرني الشيطان) أي جانبي رأسه؛ لأنه ينتصب قائماً في محاذاة مطلع الشمس حتى إذا طلعت كان طلوعها بين قرنيه، أي جانبي رأسه، فتقع السجدة له إذا عبدت عبدة الشمس للشمس، فنهى عن الصلاة في ذلك الوقت لئلا يتشبه بهم في العبادة. قال الحافظ: فيه إشارة إلى علة النهي. وزاد في حديث عمرو بن عبسة الآتي وحينئذٍ: يسجد لها الكفار، فالنهي حينئذٍ لترك مشابهة الكفار، وقد اعتبر الشرع ذلك في أشياء كثيرة. وفي هذا تعقب على البغوي حيث قال: إن النهي عن ذلك لا يدرك معناه، وجعله من قبيل التعبد الذي يجب الإيمان به. (متفق عليه) فيه أن قوله: لا تحينوا الخ من إفراد البخاري، وليس عند مسلم، والرواية الأولى أخرجها أيضاً مالك وأخرج النسائي والبيهقي (ج2 ص453) الروايتين بنحو ما وقع في مسلم. 1047- قوله: (ثلاث ساعات) أي أوقات. (كان ينهانا أن نصلي فيهن) هو بإطلاقه يشمل صلاة الجنازة؛ لأنها صلاة. (أو نقبر فيهن) قال القرطبي: روي بأو وبالواو، وهي الأظهر. ويكون مراد النهي الصلاة على

موتانا حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة، ـــــــــــــــــــــــــــــ الجنازة والدفن؛ لأنه أنما يكون أثر الصلاة عليها. وأما رواية أو ففيها إشكال إلا إذا قلنا إن أو بمعنى الواو، كما قاله الكوفي. كذا في زهر الربي. وقوله: نقبر من قبر الميت من باب نصر، وضرب لغة أي ندفن. وفيه دليل على أن دفن الموتى في الأوقات الثلاثة منهي عنه من غير فرق بين العابد وغيره. وإليه ذهب أحمد. وهو الحق لظاهر الحديث. قال السندي ظاهر الحديث كراهة الدفن في هذه الأوقات، وهو قول أحمد وغيره. ومن لا يقول به يؤول الحديث بأن المراد صلاة الجنازة على الميت بطريق الكناية للملازمة بين الدفن والصلاة. ولا يخفى أنه تأويل بعيد لا ينساق الذهن إليه من لفظ الحديث، يقال: قبره إذا دفنه، ولا يقال قبره إذا صلى عليه، قال والأقرب أن الحديث يميل إلى قول أحمد وغيره: إن الدفن مكروه في هذه الأوقات- انتهى. وقال البيهقي: نهيه عن القبر في هذه الساعات لا يتناول الصلاة على الجنازة، وهو عند كثير من أهل العلم محمول على كراهية الدفن في تلك الساعات- انتهى. قلت حمله أبوداود على الدفن الحقيقي حيث بوب عليه في الجنائز: باب الدفن عند طلوع الشمس وغروبها. وإليه يظهر ميل النسائي حيث عقد عليه في أثناء أبواب الدفن: باب الساعات التي نهى عن إقبار الموتى فيها، وحمله ابن ماجه على الصلاة والدفن كليهما، فقد بوب عليه في الجنائز: باب الأوقات التي لا يصلي فيها على الميت ولا يدفن. وحمله الترمذي على الصلاة، ولذلك بوب عليه: باب كراهية الصلاة على الجنازة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وأيده بما نقل عن ابن المبارك، قال: معنى هذا الحديث أو أن نقبر فيهن موتانا يعني الصلاة على الجنازة- انتهى. وقد ضعف النووي هذا التأويل وزيفه، كالسندي، هذا وقد علمت مما قدمنا إن صلاة الجنازة مكروهة في هذه الأوقات عند مالك وأحمد وأبي حنيفة. واستدل هؤلاء بحديث عقبة هذا وغيره من الأحاديث المطلقة الدالة على كراهة الصلاة في هذه الساعات خلافاً للشافعي. والقول الأول هو الظاهر. قال الخطابي: قول الجماعة أولى لموافقه الحديث. (حين تطلع) بيان للساعات. (بازغة) أي طالعة ظاهرة لا يخفى طلوعها، حال مؤكدة. (حتى ترتفع) أي قدر رمح، كما في حديث عمرو بن عبسة عند أبي داود والنسائي. (وحين يقوم قائم الظهيرة) هي شدة الحر. وقيل: حد انتصاف النهار، أي يقف ويستقر الظل الذي يقف عادة حسب ما يبدو، فإن الظل عند الظهيرة لا يظهر له سويعة حركة حتى يظهر بمرأى العين أنه واقف، وهو سائر حقيقة. قال في المجمع: إذا بلغ الشمس وسط السماء أبطأت حركتها إلى أن تزول، فيحسب الناظر المتأمل أنها وقفت، وهي سائرة. ولا شك إن الظل تابع لها. والحاصل: أن المراد وعند الاستواء. وقيل: المراد بقائم الظهيرة الشخص القائم في الظهيرة، فإن الناس في السفر يقفون في هذا الوقت لشدة الحر ليستريحوا. وقال النووي: الظهيرة حال استواء الشمس، ومعناه حين لا يبقى للقائم في الظهيرة ظل في المشرق ولا في المغرب. وقال ابن حجر: الظهيرة هي نصف النهار وقائمها، أما الظل وقيامه وقوفه من قامت به دابته وقفت، والمراد بوقوفه بطأ حركته

حتى تميل الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الناشيء عن بطئ حركة الشمس حينئذٍ باعتبار ما يظهر للناظر ببادي الرأي، وإلا فهي سائرة على حالها، وأما القائم فيها؛ لأنه حينئذٍ لا يميل له ظل إلى جهة الشرق، ولا إلى جهة المغرب. وذلك كله كناية عن وقت استواء الشمس في وسط السماء. (حتى تميل الشمس) أي من المشرق إلى المغرب، وتزول عن وسط السماء إلى الجانب الغربي. وميلها هذا هو الزوال. قال ابن حجر: ووقت الاستواء المذكور, وإن كان وقتا ضيقاً لا يسع صلاة إلا أنه يسع التحريمة، فيحرم تعمد التحريم فيه. (وحين تضيف) بتشديد الياء بعد الضاد المفتوحة وضم الفاء صيغة المضارع. أصله تتضيف بالتائين، حذفت إحداهما، أي تميل. وقيل: هو بسكون الياء بعد الضاد المكسورة، من ضافت تضيف إذا مالت. في القاموس ضاف مال كتضيف وضيف واضفته، أملته وضيفته- انتهى. وقال التوربشتي: أصل الضيف الميل، يقال: ضفت إلى كذا، ملت إليه وسمي الضيف ضيفا لميله إلى الذي نزل عليه. (للغروب) وتشرع فيه. (حتى تغرب) قال الأمير اليماني: النهي عن هذه الأوقات الثلاثة عام بلفظه لفرض الصلاة ونفلها، والنهي للتحريم، كما عرفت من أنه أصله. وكذا يحرم قبر الموتى فيها، ولكن فرض الصلاة أخرجه حديث: من نام عن صلاته الحديث، وفيه فوقتها حين يذكرها ففي أي وقت ذكرها أو استيقظ من نومه أتى بها، وكذا من أدرك ركعة قبل غروب الشمس وقبل طلوعها لا يحرم عليه، فيخص النهي بالنوافل دون الفرائض. وقيل: بل يعمها بدليل أنه - صلى الله عليه وسلم - لما نام في الوادي عن صلاة الفجر ثم استيقظ لم يأت بالصلاة في ذلك الوقت، بل أخرها إلى أن خرج وقت المكروه. وأجيب عنه أولاً بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يستيقظ هو وأصحابه إلا حين أصابهم حر الشمس كما ثبت في الحديث، ولا يوقظهم حرها إلا وقد ارتفعت وزال وقت الكراهة، وثانياً: بأنه قد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وجه تأخير أدائها عند الاستيقاظ بأنهم في واد حضر فيه الشيطان، فخرج - صلى الله عليه وسلم - عنه وصلى في غيره. وهذا التعليل يشعر بأنه ليس التأخير لأجل وقت الكراهة، لو سلم أنهم استيقظوا، ولم يكن قد خرج الوقت. فتحصل من الأحاديث أنها تحرم النوافل في الأوقات الخمسة، وأنه يجوز أن تقضى النوافل بعد صلاة الفجر وصلاة العصر. أما صلاة العصر فلما سيأتي من صلاته - صلى الله عليه وسلم - قاضياً لنافلة الظهر بعد العصر إن لم نقل أنه خاص به. وأما صلاة الفجر فلتقريره لمن صلى نافلة الفجر بعد صلاته، وإنها يتصلى الفرائض في أي الأوقات الخمسة لنائم وناس ومؤخر عمداً وإن كان آثماً بالتأخير والصلاة أداء في الكل مالم يخرج وقت العامل فهي قضاء في حقه- انتهى. وقال الشوكاني في السيل الجرار نحو كلام الأمير اليماني مع زيادة البسط. (رواه مسلم) في الصلاة وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود في الجنائز والنسائي والبيهقي في الصلاة وفي الجنائز وابن ماجه في الجنائز.

1048- (3) وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس)) متفق عليه. 1049- (4) وعن عمرو بن عبسة، قال: ((قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، فقدمت المدينة، فدخلت عليه، فقلت: أخبرني عن الصلاة. فقال: صل صلاة الصبح، ثم أقصر عن الصلاة حين تطلع الشمس، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1048- قوله: (لا صلاة) أي صحيحة أو حاصلة. وقيل: النفي بمعنى النهي. والتقدير لا تصلوا. وقال ابن دقيق العيد: صيغة النفي إذا دخلت في ألفاظ الشارع على فعل كان الأولى حملها على نفى الفعل الشرعي لا الحسي؛ لأنا لو حملناه على نفي الفعل الحسي لاحتججنا في تصحيحه إلى إضمار، والأصل عدمه، وإذا حملناه على الشرعي لم نحتج إلى إضمار. فهذا وجه الأولوية وعلى هذا فهو نفي بمعنى النهي. والتقدير لا تصلوا كما ورد التصريح به في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند الطبراني، وحديث على عند أبي داود والنسائي. (بعد الصبح) أي بعد صلاته؛ لأنه لا جائز أن يكون الحكم فيه معلقاً بالوقت، إذ لابد من أداء الصبح. فتعين التقدير المذكور. وأيضاً قد ورد التصريح بذلك في رواية مسلم، ولفظها: لا صلاة بعد صلاة الفجر (حتى ترتفع الشمس) قدر رمح في رأى العين. (ولا صلاة بعد العصر) أي بعد صلاته، كما في رواية مسلم (حتى تغيب الشمس) أي بالكلية. والحديث يدل على تحريم النفل في هذين الوقتين؛ لأن الأصل في النهي التحريم. وحمل الشافعية الحديث على غير ذات سبب، قالوا: تجوز ذات السبب في هذين الوقتين. وحمله الحنفية على العموم. واستثنوا منه الفريضة الفائتة وصلاة الجنازة وسجدة التلاوة كما تقدم. واعترض عليه ابن الهمام بأن النهي في هذين الوقتين أيضاً مطلق كما في الأوقات الثلاثة المذكورة في حديث عقبة. وتخصيص النص بالرأي لا يجوز ابتداء. (متفق عليه) واللفظ للبخاري وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي وابن ماجه والبيهقي. وفي الباب عن جماعة من الصحابة، ذكرهم الحافظ في التلخيص والشوكاني في النيل. 1049- قوله: (عن عمرو بن عبسة) بعين مهملة وموحدة وسين مهملة مفتوحات، ابن عامر بن خالد السلمي، له في صحيح مسلم هذا الحديث، وقد ذكر في أوله قصة إسلامه. (قدم - صلى الله عليه وسلم - المدينة، فقدمت المدينة) أي على قصد اللحوق به - صلى الله عليه وسلم -. وفيه وضع الظاهر موضع الضمير، وإنما صار كذلك لاختصار الحديث. وهذا ظاهر عند من يرى سياقه عند مسلم. (أخبرني عن الصلاة) أي عن وقتها الجائزة فيه بدليل الجواب (صل صلاة الصبح) أي سننه وفرضه. (ثم أقصر عن الصلاة) من الإقصار أي انته عن الصلاة، وكف عنها. (حين تطلع الشمس)

حتى ترتفع، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان. وحينئذٍ يسجد لها الكفار. ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح، ـــــــــــــــــــــــــــــ وفي بعض نسخ مسلم "حتى: بدل حين. (حتى ترتفع) فيه أن النهي عن الصلاة بعد الصبح لا يزول بنفس الطلوع، بل لابد من الارتفاع فالمراد بالطلوع والبروز المذكورين في بعض الأحاديث الطلوع المخصوص، وهو الارتفاع لا مجرد الظهور، وقد ورد مفسراً في رواية أبي داود والنسائي بارتفاعها "قيس رمح". (بين قرني شيطان) بلا ألف ولام. وهكذا هو في أصول مسلم، كما صرح به النووي. وكذا وقع في رواية أحمد وأبي داود والنسائي والبيهقي. قيل: تنكيره للتحقير. وفي المصابيح بين قرني الشيطان بالألف واللام. وكذا وقع في بعض نسخ المشكاة، وفي ابن ماجه. واختلف في المعنى المراد بقرني الشيطان على أقوال، ذكرها الخطابي في المعالم (ج1 ص130) ، أقواها: أن المراد به ناحيتا الرأس، وأنه على ظاهره. ومعناه أنه يدني رأسه إلى الشمس في هذه الأوقات ليكون الساجدون لها من الكفار كالساجدين لها في الصورة. (يسجد لها الكفار) أي الذين يعبدونها. (ثم) أي بعد ارتفاع الشمس قدر رمح (صل) أي ما شئت كما في رواية أبي داود. وفي ابن ماجه: ثم صل ما بدا لك. وقال القارئ: أي صلاة الإشراق فإنها مبدأ الضحى، أو صلاة الضحى فإنها منتهية إلى قرب الإستواء، أو صل ما شئت- انتهى. (فإن الصلاة) أي بعد ارتفاع الشمس، أو أن الصلاة المشروعة (مشهودة محضورة) قال النووي: أي تحضرها الملائكة، فهي أقرب إلى القبول، وحصول الرحمة. وقال القاري: أي يحضرها الملائكة ليكتبوا أجرها، ويشهدوا بها لمن صلاها. ويؤيده أن في رواية أبي داود مشهودة مكتوبة. وقال الطيبي: أي يحضرها أهل الطاعة من سكان السماء والأرض. وعلى معنيين فمحضورة تفسير مشهودة وتأكيد لها. ويمكن أن يحمل مشهودة على المعنى الأول، ومحضورة على الثاني، أو الأولى بمعنى الشهادة، والثانية بمعنى الحضور للتبرك، والتأسيس أولى من التأكيد- انتهى كلام القاري. (حتى يستقل الظل بالرمح) أي حتى يرتفع الظل مع الرمح أو في الرمح، ولم يبق على الأرض منه شيء من الاستقلال بمعنى الارتفاع. قال ابن الملك: يعني لم يبق ظل الرمح، وهذا بمكة والمدينة وحواليهما في أطول يوم في السنة، فإنه لا يبقى عند الزوال ظل على وجه الأرض، بل يرتفع عنها، ثم إذا مالت الشمس من جانب المشرق إلى جانب المغرب، وهو أول وقت الظهر يقع الظل على الأرض. وقيل: من القلة، يقال: استقله إذا رأه قليلاً، أي حتى يقل الظل الكائن بالرمح أدنى غاية القلة، وهو المسمى بظل الزوال. قال القاري: وروي: حتى يستقل الرمح بالظل، أي يرفع الرمح ظله. فالباء للتعدية. وعلى الروايتين هو مجاز عن عدم بقاء ظل الرمح على الأرض. وذلك يكون في وقت

ثم أقصر عن الصلاة، فإن حينئذٍ تسجر جهنم. فإذا أقبل الفيء، ـــــــــــــــــــــــــــــ الإستواء. وتخصيص الرمح بالذكر؛ لأن العرب كانوا إذا أرادوا معرفة الوقت ركزوا رماحهم في الأرض، ثم نظروا إلى ظلها. وقال النووي: قوله: حتى يستقل الظل بالرمح أي يقوم مقابلة في جهة الشمال، ليس مائلاً إلى المغرب ولا إلى المشرق، وهو حالة الإستواء. وقال التوربشتي كذا في نسخ المصابيح، وفيه تحريف، وصوابه حتى يستقل الرمح بالظل، ووافقه صاحب النهاية حيث قال: حتى يبلغ ظل الرمح المغروز في الأرض أو في غاية القلة والنقص. فقوله: يستقل من القلة، لا من الإقلال والاستقلال الذي بمعنى الارتفاع والاستبداد. قال الطيبي: كيف ترد نسخ المصابيح مع موافقتها بعض نسخ مسلم وكتاب الحميدي، على أن لها محامل: منها أن معناه أن يرتفع الظل معه ولا يقع منه شيء على الأرض، من قولهم استقلت السماء ارتفعت. ومنها أن يقدر المضاف، أي يعلم قلة الظل بواسطة ظل الرمح. ومنها أن يكون من باب عرضت الناقة على الحوض، وطينت بالفدن السياعا. قال صاحب المفتاح: لا يشجع على القلب الإكمال البلاغة مع ما فيه من المبالغة من أن الرمح صار بمنزله الظل في القلة، والظل بمنزلة الرمح - انتهى. قلت: وقع في رواية لأحمد: حتى يستقل الرمح بالظل، وفي أخرى: حتى يقوم الظل قيام الرمح، وفي رواية أبي داود: حتى يعدل الرمح ظله. ولفظ النسائي حتى تعتدل الشمس اعتدال الرمح بنصف النهار. وفي رواية لأحمد، وهي عند ابن ماجه أيضاً: حتى يقوم العمود على ظله. قال السندي: العمود خشبة يقوم عليها البيت. والمراد حتى يبلغ الظل في القلة بحيث لا يظهر إلا تحت العمود قائم عليه، والمراد وقت الاستواء. (فإن حينئذٍ) أي حين يستقل الظل بالرمح. (تسجر جهنم) بالتشديد والتخفيف مجهولاً، أي يوقد عليها إيقاداً بليغاً، من سجرّ التنور بالتخفيف والتشديد، ملأه وقوداً وأحماه. قال ابن الملك: أي تملأ نيران جهنم وتوقد، ولعل تسجيرها حينئذٍ لمقارنة الشيطان الشمس وتهيئة عباد الشمس أن يسجدوا لها. وقال الخطابي في المعالم (ج1: ص276) : ذكر تسجير جهنم، وكون الشمس بين قرني الشيطان، وما أشبه ذلك من الأشياء التي تذكر على سبيل التعليل لتحريم شيء، أو لنهي عن شيء أمور لا تدرك معانيها من طريق الحس والعيان، وإنما يجب علينا الإيمان بها والتصديق بمخبوآتها، والانتهاء إلى أحكامها التي علقت بها - انتهى. قال ابن حجر: واسم "إن" أن المصدرية المقدرة على حد قوله تعالى: {ومن آياته يريكم البرق} [30: 24] أو ضمير الشأن. وما قيل إنه لا يحذف؛ لأن القصد به التعظيم، وهو يفوت بحذفه، مردود بأن سبب دلالته على التعظيم إبهامه، وحذفه أدل على الإبهام. ومن ثم حذف في قوله تعالى: {من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم} [9: 117] . (فإذا أقبل الفيء) أي ظهر إلى جهة المشرق. والفيء مختص بما بعد الزوال. وأما الظل فيقع على ما قبل الزوال وما بعده، قاله النووي. وقال القاري: أي رجع بعد ذهابه من وجه الأرض، فهذا وقت الظهر. والفيء ما نسخ الشمس,

فصل، فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر، ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس، فإنها تغرب بين قرني شيطان، وحينئذٍ يسجد لها الكفار. قال: قلت: يا نبي الله! فالوضوء حدثني عنه. قال: ما منكم رجل يقرب وضوءه فيمضمض ويستنشق فيستنثر، إلا خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله، إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين، إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه ـــــــــــــــــــــــــــــ وذلك بالعشي. والظل ما نسخته الشمس وذلك بالغدوة. (فصل) أي صلاة تريدها. (حتى تصلي العصر) أي فرضه قال النووي: فيه دليل على أن النهي لا يدخل بدخول وقت العصر، ولا بصلاة غير المصلي، وإنما يكره لكل إنسان بعد صلاته العصر، حتى لو أخرها عن أول الوقت لم يكره التنفل قبلها. (حتى تغرب الشمس) أي بالكلية. (وحينئذٍ يسجد لها الكفار) أي فلا يشابه أهل النار في عبادتهم فضلاً عن غيرها. (فالوضوء) بالرفع. وقيل: بالنصب. (حدثني عنه) أي أخبرني عن فضله. (يقرب) بالتشديد على بناء الفاعل أو المفعول. (وضوءه) بفتح الواو، أي الماء الذي يتوضأ به. (فيمضمض) أي بعد غسل اليدين والتسمية والنية. (ويستنشق) أي يدخل الماء في الأنف. (فيستنثر) أي يخرج ما في الخيشوم من الأوساخ. (إلا خرت) استثناء مفرغ. قال الطيبي: قوله: إلا خرت خبر ما، والمستثنى منه مقدر، أي ما منكم رجل متصف بهذه الأوصاف، كائن على حال من الأحوال إلا على هذه الحالة. وعلى هذا المعنى ينزل سائر الاستثناءات وإن لم يصرح بالنفي فيها لكونها في سياق النفي بواسطة ثم العاطفة، أي سقطت. (خطايا وجهه) من الصغائر قال النووي: هكذا ضبطناه خرت بالخاء المعجمة. وكذا نقله القاضي عن جميع الرواة إلا ابن أبي جعفر، فرواه جرت بالجيم - انتهى. أي جرت مع ماء الوضوء وذهبت ذنوب وجهه. (وفيه) أي خطايا فمه من جهة الكلام والطعام. (وخياشيمه) أي أنفه جمع خيشوم، وهو باطن الأنف من جهة رائحة طيب محرم على جهة القصد. والظاهر أن عطف "فيه" وما بعده على ما قبله تفسيري لقوله: (ثم إذا غسل وجهه) أي كله أو باقيه. (كما أمره الله) أن يبدأ بغسله. (إلا خرت خطايا وجهه) من ذنوب عينيه. (من أطراف لحيته) أي موضعها. (ثم يغسل يديه إلى المرفقين) أي منضمتين إليهما، أو إلى بمعنى مع. (من أنامله) هي رؤس أصابعه. (ثم يمسح رأسه) ظاهره الاستيعاب. (إلا خرت خطايا رأسه) ومنها

من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين، إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء. فإن هو قام فصلى فحمد الله وأثنى عليه ومجده بالذي هو له أهل، وفرغ قلبه لله، إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه)) . رواه مسلم. 1050- (5) وعن كريب: أن ابن عباس، ـــــــــــــــــــــــــــــ خطايا الأذنين، فيكون قوله: (من أطراف شعره) بفتح العين وسكونها نظراً إلى الأصل أو التغليب. (فإن) شرطية. (هو) أي الرجل ورافعه فعل مضمر يفسره. (قام) ولحذفه برز ضميره المستكن فيه، أي فإن قام بعد فراغ الوضوء. (وأثنى عليه) أي ذكر الله ذكراً كثيراً وقيل فائدته الإعلام بأن لفظ الحمد غير متعين. (ومجده) أي عظمه بالقلب واللسان، فهو تعميم بعد تعميم، أو بعد تخصيص. وجعله ابن حجر لمزيد التأكيد والإطناب. (بالذي) أي بالتحميد الذي. (هو له أهل) أي مما يليق بعظمته وجلاله وكماله. وقدم الجار لإفادة الاختصاص والاهتمام قال ابن الملك: ضمير "هو" عائد إلى الموصول، وضمير "له" إلى الله. (وفرغ قلبه) من التفريغ، أي جعله حاضراً لله وغائبا عما سواه، أي في صلاته وحالة مناجاته. (لله) أي لا لغيره. (إلا انصرف من خطيئته) قيل: "هو" في قوله فإن هو فاعل محذوف وعائد إلى الرجل المذكور وتقديره: إن قام الرجل المذكور ففعل كذا، وكذا فليس إلا انصرف من خطيئته. وقيل: الأولى أن تكون إن فيه نافية. وقال ابن حجر: وجواب "إن" فلا ينصرف خارجاً من شيء من الأشياء إلا انصرف خارجاً من خطيئته أي صغائره، فيصير متطهرا منها. وقال الطيبي: فإن هو قام، إن شرطية، والضمير المرفوع بعدها فاعل فعل محذوف يفسره ما بعده، وجواب الشرط محذوف، وهو المستثنى منه، أي لا ينصرف في شيء من الأشياء إلا من خطيئته. وجاز تقدير النفي لما مر من أن الكلام في سياق النفي. وهذا على مذهب الزمخشري. وأما مذهب ابن الحاجب فيجوز في الإثبات نحو قرأت إلا يوم الجمعة. (كهيئتة) أي كصفته. (يوم ولدته أمه) بفتح ميم يوم. وفي نسخة: كهيئة يوم بالإضافة مع تنوين يوم وفتحه على البناء قاله القاري. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد (ج4: ص112) والبيهقي. ولأبي داود وأحمد أيضاً نحوه. وأخرجه النسائي وابن ماجه مختصراً بمعنى ما روى أبوداود. 1050- قوله: (وعن كريب) بضم الكاف مصغراً، هو ابن أبي مسلم الهاشمي مولاهم المدني، أبورشدين مولى ابن عباس ثقة من أوساط التابعين، مات بالمدينة سنة ثمان وتسعين في آخر خلافة سليمان بن عبد الملك. (أن ابن عباس) يعني عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه المراد عند الإطلاق.

لمسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن الأزهر، أرسلوه على عائشة، فقالوا: اقرأ عليها السلام، وسلها عن الركعتين بعد العصر. قال: فدخلت على عائشة، فبلغتها ما أرسلوني. فقالت: سل أم سلمة، فخرجت إليهم، فردوني إلى أم سلمة، فقالت أم سلمة: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهى عنها، ثم رأيته يصليهما، ثم دخل، ـــــــــــــــــــــــــــــ (والمسور) بكسر الميم. (بن مخرمة) بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الراء، ابن نوفل الزهري الصحابي. قال في التقريب: له ولأبيه صحبة. وأمه الشفاء بنت عوف أخت عبد الرحمن بن عوف، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الأربعة وغيرهم، وكان ممن يلزم عمر بن الخطاب، وكان من أهل الفضل والدين، ولد بمكة بعد الهجرة بسنتين، وقدم به المدينة في ذي الحجة بعد الفتح سنة ثمان، وهو غلام أيفع ابن ست سنين، ومات سنة أربع وستين أصابه حجر من حجارة المنجنيق، وهو يصلي في الحجر في حصار ابن الزبير الأول من الجيش الذي أرسله يزيد بن معاوية، فمكث خمسة أيام، ومات يوم أتى نعى يزيد بن معاوية، وهو ابن ثلاث وستين. (وعبد الرحمن بن الأزهر) على وزن أفعل ابن عوف القرشي الزهري الصحابي، يكنى أبا جبير ابن عم عبد الرحمن بن عوف، شهد حنيناً مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن سعد: هو نحو ابن عباس في السن، وبقي إلى فتنة ابن الزبير. وقال ابن مندة: مات قبل الحرة. (أرسلوه) أي كريباً. (إلى عائشة) أم المؤمنين. (اقرأ عليها السلام) أي منا جميعاً في القاموس: قرأ عليه السلام أبلغه كأقرأه. أو لا يقال أقرأه إلا إذا كان السلام مكتوباً. (وسلها) أصله اسألها. (عن الركعتين) أي صلاة الركعتين. زاد في رواية: وقل لهما إنا أخبرنا أنك تصليهما، وقد بلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنهما. (قال) أي كريب. (فبلغتها ما أرسلوني) أي بتبليغه من السلام والكلام إليها. (سل أم سلمة) هي أم المؤمنين هند بنت أبي أمية. فيه أنه يستحب للعالم إذا طلب منه تحقيق أمر مهم، ويعلم إن غيره أعلم به أو أعرف بأصله أن يرشد إليه إذا أمكنه، وفيه الاعتراف لأهل الفضل بمزيتهم. (فخرجت إليهم) أي فأخبرتهم بقولها: فيه إشارة إلى أدب الرسول في حاجة وأنه لا يستقل فيها بتصرف لم يؤذن له فيه. ولهذا لم يستقل كريب بالذهاب إلى أم سلمة؛ لأنهم لم يرسلوه إليها. (فردوني إلى أم سلمة) أي بمثل ما أرسلوني به إلى عائشة فجئت إليها فسألتها. (ينهى عنهما) أي عن الركعتين بعد العصر، تعني في ضمن نهيه عن الصلاة بعد صلاة العصر بقوله: لا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس، أو سمعت النهي بالخصوص عنهما، ويؤيد الأول ما في رواية للبخاري، وفي بعض نسخ مسلم "عنها" بضمير المفرد، فإنها تدل على أن الحديث عند أم سلمة هو الحديث العام فقط. (ثم رأيته يصليهما ثم دخل) وفي رواية للبخاري: ثم رأيته يصليهما حين صلى العصر ثم دخل علي، قال الحافظ: أي فصلاهما

فأرسلت إليه الجارية، فقلت: قولي له: تقول أم سلمة: يا رسول الله! سمعتك تنهى عن هاتين الركعتين، وأراك تصليهما؟ قال: يا ابنة أبي أمية! سألت عن الركعتين بعد العصر، وإنه أتاني ناس من عبد القيس، فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر، فهما هاتان)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ حينئذٍ بعد الدخول. وفي رواية مسلم: ثم رأيته يصليهما أما حين صلاهما فإنه صلى العصر، ثم دخل عندي فصلاهما. (فأرسلت إليه الجارية) قال الحافظ: لم أقف على اسمها. ويحتمل أن تكون بنتها زينب، لكن في رواية البخاري في المغازي: فأرسلت إليه الخادم. وفيه قبول خبر الواحد رجلاً أو امرأة مع القدرة على اليقين بالسماع من لفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لاكتفاء أم سلمة بأخبار الجارية. (تقول أم سلمة) كنت عن نفسها، ولم تقل هند باسمها؛ لأنها معروفة بكنيتها. ولا بأس للإنسان أن يذكر نفسه بالكنية إذا لم يعرف إلا بها أو اشتهر بها بحيث لا يعرف غالباً إلا بها، وكنيت بابنها سلمة من أبي سلمة وكان صحابياً. (تنهى عن هاتين الركعتين) هكذا بذكر الركعتين في بعض النسخ. وكذا في المصابيح ومسلم وللبخاري في المغازي. ووقع في بعض نسخ المشكاة والبخاري في الصلاة عن هاتين فقط، أي بحذف الركعتين. (وأراك تصليهما) أي فما السر فيهما. فيه أنه ينبغي للتابع إذا رأى من المتبوع شيئاً يخالف المعروف من طريقته، والمعتاد من حاله أن يسأله بلطف عنه، فإن كان ناسياً رجع عنه، وإن كان عامداً، وله معنى مخصص عرفه التابع واستفاده، وإن كان مخصوصاً بحال يعلمها، ولم يتجاوزها. وفيه المبادرة إلى معرفة الحكم المشكل فراراً من الوسوسة؛ لأنه بالسوال يسلم من إرسال الظن السيء بتعارض الأفعال أو الأقوال وعدم الارتباط بطريق واحد. (قال) أي للجارية بأن تقول لها في جوابها أو مخاطباً لها. (يا ابنة أبي أمية) هو والد أم سلمة. واسمه سهيل أو حذيفة بن المغيرة المخزومي. ويلقب زاد الراكب؛ لأنه كان أحد الأجواد، فكان إذا سافر لا يترك أحداً يرافقه، ومعه زاد، بل يكفي رفقته من الزاد. (وإنه أتاني ناس من عبد القيس) بالإسلام من قومهم. (فشغلوني عن الركعتين) اللتين. (بعد الظهر) فيه أنه إذا تعارضت المصالح والمهمات بديء بأهمها. ولهذا بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بحديث القوم في الإسلام، وترك سنة الظهر حتى فات وقتها؛ لأن الاشتغال بإرشادهم وهدايتهم إلى الإسلام أهم. (فهما هاتان) أي الركعتان اللتان صليتهما بعد العصر هما هاتان الركعتان اللتان كنت أصليهما بعد الظهر فشغلت عنهما، فصليتهما الآن، وقد كان من عادته عليه الصلاة والسلام أنه إذا فعل شيئاً من الطاعات لم يقطعه فيما بعد. فقد ثبت في مسلم عن أبي سلمة أنه سأل عائشة عنهما فقالت: كان يصليهما قبل العصر، فشغل عنهما أو نسيهما، فصلاهما بعد العصر، ثم أثبتهما، وكان إذا صلى صلاة أثبتها، أي داوم عليها. ومن طريق عروة عنها: ما ترك ركعتين بعد العصر عندي قط. وفيه دليل على

متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ جواز قضاء سنة الظهر بعد صلاة العصر. فإن قيل: هذا من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - يدل عليه ما أخرجه أبوداود والبيهقي من طريقه عن عائشة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بعد العصر، وينهى عنها، ويواصل، وينهى عن الوصال"، وما أخرجه أحمد (ج6: ص315) والطحاوي وابن حبان عن أم سلمة أنها قالت: فقلت: يا رسول الله! أنقضيهما إذا فاتتا؟ فقال لا. قلنا: الأصل الإقتداء به - صلى الله عليه وسلم -، وعدم الاختصاص، حتى يقوم دليل صحيح صريح في الاختصاص به. وأما حديث عائشة ففي سنده محمد بن إسحاق، وهو مدلس، ورواه عن محمد بن عمرو بالعنعنة، على أن الظاهر أن عائشة كانت ترى مواظبة النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهما من خصوصياته، لا أصل قضاء الصلاة في ذلك الوقت. وأما حديث أم سلمة ففي الاستدلال به على التخصيص به نظر أيضاً. قال البيهقي: الذي اختص به - صلى الله عليه وسلم - المداومة على ذلك، لا أصل القضاء وأما ما روي عن ذكوان عن أم سلمة في هذه القصة أنها قالت: فقلت: يا رسول الله! أنقضيهما إذا فاتتا؟ فقال لا. فهي رواية ضعيفة لا تقوم بها حجة - انتهى. وقال الحافظ في الفتح: أخرجها الطحاوي، واحتج بها أن ذلك كان من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -، وفيه ما فيه - انتهى. قلت: قد أفاض الكلام في تنقيد رواية ذكوان عن أم سلمة هذه العلامة العظيم آبادي في أعلام أهل العصر (ص54- 56) وحقق كونها ضعيفة، وأطال الكلام في هذه المسألة فأجاد، فعليك أن تراجعه. وقال الحافظ: ليس في رواية الإثبات معارضة للأحاديث الواردة في النهي؛ لأن رواية الإثبات لها سبب، فألحق بها ما له سبب، وبقي ما عدا ذلك على عمومه، والنهي فيه محمول على ما لا سبب له. وأما من يرى عموم النهي، ولا يخصه بما له سبب فيحمل الفعل على الخصوصية. ولا يخفى رجحان الأول - انتهى. وقال الشوكاني: واعلم أن الأحاديث القاضية بكراهة الصلاة بعد صلاة العصر والفجر عامة، فما كان أخص منها مطلقاً كحديث يزيد بن الأسود (الآتي في باب من صلى صلاة مرتين) وحديث ابن عباس (عند الدارقطني في استثناء الطواف والصلاة عند البيت عن النهي) ، وحديث علي (عند أبي داود، بلفظ لا تصلوا بعد الصبح، ولا بعد العصر إلا أن تكون الشمس مرتفعة) . وقضاء سنة الظهر بعد العصر، وسنة الفجر بعده فلا شك أنها مخصصة لهذا العموم، وما كان بينه وبين أحاديث النهي عموم وخصوص من وجه كأحاديث تحية المسجد وأحاديث قضاء الفوائت والصلاة على الجنازة لقوله: - صلى الله عليه وسلم - يا علي! ثلاث لا تؤخرها: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت-الحديث. وقد تقدم. وصلاة الكسوف لقوله - صلى الله عليه وسلم -: فإذا رأيتموها فافزعوا إلى الصلاة والركعتين عقب التطهر وصلاة الاستخارة وغير ذلك، فلا شك أنها أعم من أحاديث الباب وأخص منها من وجه، وليس أحد العمومين أولى من الآخر يجعله خاصاً لما في ذلك من التحكم والوقف هو المتعين حتى يقع الترجيح بأمر خارج - انتهى. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والبيهقي.

{الفصل الثاني}

{الفصل الثاني} 1051- (6) عن محمد بن إبراهيم، عن قيس بن عمرو، قال: ((رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يصلي بعد صلاة الصبح ركعتين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صلاة الصبح ركعتين. فقال الرجل: إني لم أكن صليت الركعتين اللتين قبلهما، فصليتهما الآن، فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1051- قوله: (عن محمد بن إبراهيم) بن الحارث بن خالد التيمي المدني، ثقة من صغار التابعين، مات سنة عشرين ومائة. (عن قيس بن عمرو) بن سهل بن ثعلبة الأنصاري الصحابي المدني جد يحيى بن سعيد التابعي المشهور وأخوته، ويقال: قيس بن قهد بفتح القاف وسكون الهاء، قاله مصعب الزبيري، وخطأه ابن أبي خيثمة في ذلك وقال: هما اثنان، يعني أن قيس بن عمرو غير قيس بن قهد. وذهب ابن حبان إلى أنهما واحد، وأن قهداً لقب عمرو وكأنه أخذ من قول البخاري: قيس بن عمرو جد يحيى بن سعيد له صحبة، قال: وقال بعضهم قيس بن قهد، وأرجع إلى تهذيب التهذيب (ج8: ص401) والإصابة (ج3: ص255- 256) . (رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً) هو قيس بن عمرو، كما صرح به في رواية أحمد والترمذي والدارقطني وابن حبان والحاكم. (يصلي بعد صلاة الصبح) أي بعد فرض الصبح. (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صلاة الصبح) بالنصب. (ركعتين) أي اجعل أوصل صلاة الصبح ركعتين. وقال الطيبي: ركعتين منصوب بفعل مضمر تقديره: أتصلي بعد صلاة الصبح ركعتين، وليس بعدها صلاة؟ وتبعه ابن حجر فقال: أي أتصلي صلاة الصبح وتصلي بعدها ركعتين، وقد علمت أنه لا صلاة بعدها؟ فالاستفهام المقدر للإنكار، أي هذه صلاة الصبح صليتها، فكيف تصلي بعدها؟ انتهى. قلت: ولفظ أبي داود في النسخ الموجودة كلها: "صلاة الصبح ركعتان"، وكذا رواه البيهقي من طريق أبي داود، ومعناه ظاهر. (إني لم أكن صليت الركعتين اللتين قبلهما) بضمير التثنية، أي قبل ركعتي الصبح. ووقع في بعض النسخ قبلها أي قبل صلاة الصبح، والأول هو الأولى لكونه مطابقاً لما في داود. (فصليتهما الآن) اعتذر الرجل بأنه قد أتى بالفرض وترك السنة؛ لأنه جاء والنبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي صلاة الصبح، ولم يكن ركع ركعتي الفجر، فدخل معه في الصلاة، فأتى بهما حينئذٍ. (فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال السندي في حاشية ابن ماجه: هذا يدل على الإذن في الركعتين بعد صلاة الفجر لمن فاتهما قبل ذلك. وقال ابن الملك: سكوته يدل على قضاء سنة الصبح بعد فرضه لمن لم يصلها قبله. وبه قال الشافعي - انتهى. وكذا قال الشيخ حسين بن محمود الزيداني في المفاتيح حاشية المصابيح، والشيخ علي بن صلاح الدين في منهل الينابيع شرح المصابيح، والعلامة الزيني في شرح المصابيح. قلت: وزاد في رواية لأحمد

رواه أبوداود. وروى الترمذي نحوه، وقال: إسناد هذا الحديث ليس بمتصل؛ لأن محمد بن إبراهيم لم يسمع من قيس بن عمرو. ـــــــــــــــــــــــــــــ (ج5: ص447) ومضى ولم يقل شيئاً، ورواه ابن حبان بلفظ: فلم ينكر عليه. ورواه ابن حزم في المحلي (ج3: ص112-113) بلفظ: فلم يقل له شيئاً. ورواه ابن أبي شيبة بلفظ: فلم يأمره ولم ينهه. ورواه الترمذي بلفظ: فلا أذن. ومعناه إذا كان كذلك فلا بأس عليك أن تصليهما حينئذٍ، يدل على ذلك الروايات المتقدمة، فإن الروايات يفسر بعضها بعضاً، وبذلك فسرة الحنفية. قال أبوالطيب السندي في شرح الترمذي في شرح قوله: فلا إذن أي فلا بأس عليك حينئذٍ ولا شيء عليك ولا لوم عليك. وقال الشيخ سراج أحمد السرهندي في شرح الترمذي في ترجمة هذا اللفظ: "بس نه اين وقت منع ميكنم ترا اركذا دن سنت"- انتهى. وتعريبه: فلا أمنعك الآن عن أداء السنة. قال الخطابي في المعالم (ج1: ص275) : في الحديث بيان أن لمن فاتته الركعتان قبل الفريضة أن يصليهما بعدها قبل طلوع الشمس، وأن النهي عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس إنما هو فيما يتطوع به الإنسان إنشاء وابتداء، دون ما كان له تعلق بسبب. وقد اختلف الناس في وقت قضاء ركعتي الفجر، فروي عن ابن عمر أنه قال يقضيهما بعد صلاة الصبح، وبه قال عطاء وطاووس وابن جريج. وقالت طائفة يقضيها إذا طلعت الشمس، وبه قال القاسم بن محمد وهو مذهب الأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية. وقال أصحاب الرأي: إن أحب قضاهما إذا ارتفعت الشمس، فإن لم يفعل فلا شيء عليه؛ لأنه تطوع. وقال مالك: يقضيها ضحى إلى وقت زوال الشمس ولا يقضيهما بعد الزوال - انتهى. قلت: الصحيح من مذهب الشافعي أنهما يفعلان بعد الصبح ويكونان أداء، قاله العراقي. ومذهب الحنفية في ذلك أنه يستحسن قضاء سنة الفجر إذا فاتت مع الفرض، وأما إذا فاتت وحدها لا تقضى عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: تقضى إذا ارتفعت الشمس كذا في البدائع وغيره. والراجح عندنا هو قول الشافعي: أنها تقضى وإن فاتت وحدها، ويجوز قضاءها بعد صلاة الصبح قبل طلوع الشمس، لحديث الباب وهو حديث صحيح ثابت متصل السند، وله شواهد ومتابعات كما ستقف على ذلك. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً أحمد (ج5: ص447) وابن ماجه والدارقطني (ص148) وابن أبي شيبة والحاكم (ج1: ص275) والبيهقي (ج2: ص483) كلهم من طريق عبد الله بن نمير عن سعد بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن قيس بن عمرو، إلا أنه قال الحاكم: في روايته قيس بن قهد، وكذا قال الشافعي، ومن طريقه البيهقي في روايته عن سفيان عن سعد بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن قيس بن قهد. (وروى الترمذي) أي من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن سعد بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن قيس جد سعد. (نحوه) بالنصب. (وقال: إسناد هذا الحديث ليس بمتصل؛ لأن محمد بن إبراهيم لم يسمع من قيس بن عمرو) وقال أيضاً:

وإنما يروى هذا الحديث مرسلاً. قال: وروى بعضهم هذا الحديث عن سعد بن سعيد عن محمد بن إبراهيم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج قرأى قيساً، وهذا أصح من حديث عبد العزيز عن سعد بن سعيد - انتهى. وكذا أعله أبوداود بالإرسال، وادعى بعضهم لذلك أن هذا الحديث ضعيف لا يصلح للاستدلال لعلة الإرسال والانقطاع. قال النووي في تهذيب الأسماء واللغات في ترجمة قيس بن قهد: ذكروا حديثه في الركعتين بعد الصبح، وهو حديث ضعيف، اتفقوا على ضعف حديثه المذكور. ورواه أبوداود والترمذي وغيرهما وضعفوه - انتهى. ملخصاً مختصراً. قلت: للحديث طريق آخر متصل، رواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والدارقطني (ص148) والحاكم (ج1: ص274-275) والبيهقي (ج2: ص483) ، كلهم من طريق الربيع بن سليمان عن أسد بن موسى عن الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد عن أبيه عن جده قيس، وهذا إسناد صحيح جداً، رجاله كلهم ثقات. قال الحاكم بعد روايته: قيس بن قهد الأنصاري صحابي، والطريق إليه صحيح على شرطهما، ووافقه الذهبي على تصحيحه. وقال الشوكاني في النيل: قول الترمذي: إنه مرسل ومنقطع ليس بجيد، فقد جاء متصلاً من رواية يحيى بن سعيد عن أبيه عن جده قيس، رواه ابن خزيمة في صحيحه، وابن حبان من طريقه وطريق غيره، والبيهقي في سننه عن يحيى بن سعيد عن أبيه عن جده قيس المذكور، وقد قيل: إن سعيد بن قيس لم يسمع من أبيه. (كما في تهذيب التهذيب) فيصح ما قاله الترمذي من الانقطاع. وأجيب عن ذلك بأنه لم يعرف القائل بذلك - انتهى. فان قلت: قال الحافظ في الإصابة (ج3: ص256) : وأخرجه ابن مندة من طريق أسد بن موسى عن الليث عن يحيى عن أبيه عن جده، وقال: غريب تفرد به أسد موصولاً. وقال غيره عن الليث عن يحيى أن حديثه مرسل - انتهى. قلت: هذا التعليل لا يضعف به الإسناد؛ لأن أسد بن موسى ثقة، خلافاً لمن تكلم فيه بغير حجة، فتفرده لا يقدح في صحة الحديث. قال النووي في مقدمة شرح مسلم: إذا رواه بعض الثقات الضابطين متصلاً وبعضهم مرسلاً أو بعضهم موقوفاً وبعضهم مرفوعاً، أو وصله هو أو رفعه في وقت، وأرسله أو وقفه في وقت، فالصحيح الذي قاله المحققون من المحدثين وقاله الفقهاء وأصحاب الأصول وصححه الخطيب البغدادي أن الحكم لمن وصله أو رفعه، سواء كان المخالف له مثله أو أكثر أو أحفظ؛ لأنه زيادة ثقة، وهي مقبولة - انتهى. هذا، وقد ظهر بما ذكرنا أن المراد بقول الترمذي أنه مرسل منقطع هو الإرسال والانقطاع في السند المخصوص الذي ساقه بذلك السند لا مطلقاً، وإلا فقد جاء متصلاً بسند صحيح كما عرفت، ولا وجه لتضعيف الإسناد المتصل الصحيح بالمنقطع والمرسل، على أن للحديث شواهد. منها ما رواه الطبراني في الكبير من طريق أيوب بن سويد عن ابن جريج عن عطاء أن قيس بن سهل حدثه أنه دخل المسجد والنبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي، ولم يكن صلى الركعتين

وفي "شرح السنة" ونسخ "المصابيح" عن قيس بن قهد نحوه. 1052- (7) وعن جبير بن مطعم، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يا بني عبدمناف! ـــــــــــــــــــــــــــــ فصلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الحديث. وفيه أيوب بن سويد الرملي، قال ابن حبان: رديء الحفظ. وقال النسائي: ليس بثقة. ومنها ما رواه ابن عبد البر في كتاب التمهيد بسنده عن سهل بن سعد قال: دخلت المسجد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة، ولم أكن صليت الركعتين-الحديث. وفيه عمر بن قيس المعروف بسندل، قال ابن عبد البر: وهو ضعيف لا يحتج بمثله. ومنها ما رواه ابن حزم في المحلى (ج3: ص112- 113) عن الحسن بن ذكوان عن عطاء بن أبي رباح عن رجل من الأنصار قال رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يصلي بعد الغداة-الحديث. قال العراقي: إسناده حسن. ومنها ما رواه الطبراني في الكبير عن ثابت بن قيس بن شماس قال أتيت المسجد والنبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة-الحديث. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2: ص228) : فيه راويان لم يسميا، وبقية بن الوليد عن الجراح بن منهال بالعنعنة، والجراح منكر الحديث، قاله البخاري - انتهى. ومنها ما رواه ابن أبي شيبة عن هشيم عن عبد الملك عن عطاء أن رجلاً صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح- الحديث. وهذه الروايات كلها تؤيد حديث قيس بن عمرو، فلا شبهة في صحته ولا التفات إلى تعليل من أعله. هذا، وأرجع لمزيد التفصيل إلى أعلام أهل العصر (ص59-62) فإنه قد أفاض القول في هذا وأجاد. (وفي شرح السنة ونسخ المصابيح عن قيس بن قهد) بالقاف المفتوحة والهاء الساكنة والدال المهملة. قال النووي في تهذيب الأسماء واللغات (ق1/2/63) : قيس بن قهد بفتح القاف وإسكان الهاء، الصحابي. ورواه أكثر المحدثين قيس بن عمرو، ولم يذكر أبوداود وآخرون من أهل السنن فيه إلا قيس بن عمرو، وذكر الترمذي الروايتين، ابن قهد وابن عمرو، وقال: الصحيح ابن عمرو. وهذا هو الصحيح عند جميع حفاظ الحديث. وذكروا حديثه في الركعتين بعد الصبح، قالوا: وهو جد يحيى بن سعيد الأنصاري: قال أحمد بن حنبل. ويحيى بن معين: والأكثرون قيس بن عمرو، وهو جد يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري- انتهى ملخصاً. وقال الطيبي: أشار المؤلف إلى الاختلاف، وأن الصحيح هو الأول، وهو قيس بن عمرو الأنصاري النجاري وهو الصحابي. وقيل: هو قيس بن قهد من بني النجار. أيضاً- انتهى. (نحوه) بالنصب أي روى نحوه، وفي بعض النسخ نحوه بالرفع على أنه مبتدأ. 1052- قوله: (جبير) بجيم مضمومة فموحدة مفتوحة وسكون ياء. (بن مطعم) بضم الميم وسكون الطاء وكسر العين المهملة. (يا بني عبد مناف) بفتح الميم. قال الطيبي: إنما خصهم بالخطاب دون سائر بطون قريش لعلمه بأن ولاية الأمر والخلافة سيؤول إليهم مع أنهم كانوا رؤساء مكة وساداتهم وفيهم كانت السدانة

لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت، وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار)) ـــــــــــــــــــــــــــــ والحجابة والسقاية والرفادة- انتهى. قلت: يؤيد ذلك ما في رواية للدارقطني بلفظ: يا بني عبدمناف! إن وليتم من هذا الأمر شيئاً فلا تمنعن، وفي أخرى له يا بني عبد مناف يا بني هاشم إن وليتم هذا الأمر يوماً فلا تمنعن. وما في رواية ابن حبان في صحيحه: يا بني عبد المطلب! إن كان لكم من الأمر شيء فلا أعرفن أحد منكم يمنع من يصلي عند البيت أية ساعة شاء من ليل أو نهار. (لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت) يعني بيت الله. (وصلى) أي صلاة الطواف أو مطلقاً. قال البيهقي: يحتمل أن يكون المراد بهذه الصلاة صلاة الطواف خاصة، وهو الأشبه بالآثار، ويحتمل جميع الصلوات- انتهى. وقال الزيلعي: قال الشيخ في الإمام: وقد ورد ما يشعر بأن هذا الاستثناء بمكة إنما هو في ركعتي الطواف فأخرج ابن عدي. (والبيهقي من طريقه ج2 ص62) من طريق سعيد بن أبي راشد عن عطاء عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس، وزاد في آخره: من طاف فليصل أي حين طاف. قال ابن عدي: وسعيد هذا يحدث عن عطاء وغيره بما لا يتابع عليه، وكذا قال البخاري- انتهى. وقال الأمير اليماني في السبل: وليس هذا (أي الاستثناء) خاصاً بركعتي الطواف، بل يعم كل نافلة، لرواية ابن حبان في صحيحه: يا بني عبد المطلب إن كان لكم من الأمر شيء فلا أعرفن أحداً منكم يمنع من يصلي عند البيت أية ساعة شاء من ليل أو نهار- انتهى. قلت: الظاهر أن في رواية ابن حبان هذه اختصاراً من الراوي، وأنه ترك ذكر الطواف، والراجح أن الاستثناء مختص بصلاة الطواف ولا يعم الصلوات. وقال الخطابي في المعالم (ج2 ص195) : وذهب بعضهم إلى تخصيص ركعتي الطواف من بين الصلوات، وقال إذا كان الطواف بالبيت غير محظور في شيء من الأوقات، وكان من سنة الطواف أن تصلى الركعتان بعده، فقد عقل أن النوع من الصلاة غير منهي عنه- انتهى. (أية ساعة شاء من ليل أو نهار) قال المظهر: فيه دليل على أن صلاة التطوع في أوقات الكراهة غير مكروهة بمكة لشرفها؛ لينال الناس من فصلها في جميع الأوقات، وبه قال الشافعي، وعند أبي حنيفة حكمها حكم سائر البلاد في الكراهة، ذكره الطيبي. قال الأمير اليماني في السبل: الحديث دال على أنه لا يكره الطواف بالبيت، ولا الصلاة فيه، في أية ساعة من ساعات الليل والنهار، وقد عارض ما سلف يعني أحاديث النهي عن الصلاة في الأوقات الخمسة فالجمهور. (أي مالك وأبوحنيفة ومن وافقهما) عملوا بأحاديث النهي ترجيحاً لجانب الكراهة، ولأن أحاديث النهي ثابتة في الصحيحين وغيرهما، وهي أرجح من غيرها، وذهب الشافعي وغيره إلى العمل بهذا الحديث، قالوا: لأن أحاديث النهي قد دخلها التخصيص بالفائتة والمنوم عنها والنافلة التي تقضى، فضعفوا جانب عمومها فتخصص أيضاً بهذا الحديث ولا تكره النافلة بمكة في أي من الساعات- انتهى. وقال ابن عبد البر: في حديث جبير ما يقوي القول بالجواز مع قول جمهور العلماء من المسلمين به، وذلك أن ابن عباس وابن عمر وابن الزبير والحسن

رواه الترمذي وأبوداود، والنسائي. ـــــــــــــــــــــــــــــ والحسين وطاؤساً ومجاهداً والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير كانوا يطوفون بعد العصر وبعضهم بعد الصبح أيضاً، ويصلون بأثر فراغهم من طوافهم ركعتين في ذلك الوقت. وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبوثور وداود بن على- انتهى. قلت: وإليه ذهب الطحاوي من الأئمة الحنفية حيث قال في شرح معاني الآثار بعد البحث والكلام في هذا المسألة ما لفظه: وإليه نذهب، يعني إلى الجواز، وهو قول سفيان، وهو خلاف قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى- انتهى. وقال الشيخ عبد الحي اللكنوي في التعليق الممجد (ص209) ما لفظه: ولعل المصنف المحيط بأبحاث الطرفين يعلم أن هذا يعني جواز ركعتي الطواف بعد العصر وبعد الصبح قبل الطلوع والغروب هو الأرجح الأصح. قال: وعليه كان عملي بمكة، قال: ولما طفت طواف الوداع حضرت المقام مقام إبراهيم لصلاة ركعتي الطواف فمنعني المطوفون من الحنفية، فقلت لهم: الأرجح الجواز في هذا الوقت، وهو مختار الطحاوي من أصحابنا، وهو كافٍ لنا، فقالوا لم نكن مطلعين على ذلك، وقد استفدنا منك ذلك- انتهى. (رواه الترمذي) في كتاب الحج في باب الصلاة بعد العصر وبعد الصبح في الطواف لمن يطوف. (وأبوداود) في المناسك في باب الطواف بعد العصر. (والنسائي) في المواقيت في إباحة الصلاة في الساعات كلها بمكة، وأخرجه أيضاً الشافعي وأحمد (ج4 ص80) وابن ماجه في الصلاة في باب الرخصة في الصلاة بمكة في كل وقت، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما، والدارقطني (ص162) والطحاوي (ص395) والحاكم (ج1 ص448) والبيهقي (ج2 ص461) والدارمي (ص) كلهم من طريق سفيان بن عيينة عن أبي الزبير عن عبد الله بن باباه عن جبير بن مطعم. قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وسكت عنه أبوداود، ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. قال الطيبي: قال المؤلف: ما ذكر في المصابيح بعد يا بني عبدمناف من قوله: من ولى منكم من أمر الناس شيئاً لم أجده في الترمذي ولا في أبي داود والنسائي- انتهى. وفي الباب عن ابن عباس أخرجه الدارقطني (ص162) والطحاوي (ص396) من طريق أبي الوليد العدني عن رجاء أبي سعيد عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعاً: يا بني عبد المطلب أو يا بني عبدمناف لا تمنعوا أحداً يطوف بالبيت ويصلي فإنه لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس إلا عند هذا البيت يطوفون ويصلون. قال صاحب التنقيح: وأبوالوليد العدني لم أر له ذكراً في الكنى لأبي أحمد الحاكم، وأما رجاء بن الحارث أبوسعيد المكي فضعفه ابن معين- انتهى. وقال الحافظ في التلخيص: ورواه الطبراني من رواية عطاء عن ابن عباس، ورواه أبونعيم في تاريخ أصبهان، والخطيب في التلخيص من طريق ثمامة بن عبيدة عن أبي الزبير عن على بن عبد الله عباس عن أبيه، وهو حديث معلول- انتهى. وعن أبي ذر وسيأتي، وعن جابر أخرجه الدارقطني (ص163) ، قال الحافظ: هو معلول فإن المحفوظ عن أبي الزبير عن عبد الله بن باباه

1053- (8) وعن أبي هريرة: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة)) رواه الشافعي. 1054- (9) وعن أبي الخليل: عن أبي قتادة، ـــــــــــــــــــــــــــــ عن جبير بن مطعم لا عن جابر. وعن أبي هريرة أخرجه ابن عدي، وقد تقدم لفظه مع الكلام فيه. وعن ابن عمر أخرجه الطبراني في الأوسط من رواية عبد الكريم عن مجاهد. قال الهيثمي: فإن كان هو الجزري فهو ثقة وإن كان ابن أبي المخارق فهو ضعيف- انتهى. 1053- قوله: (نهى عن الصلاة نصف النهار) قال الطيبي: ظرف للصلاة على تأويل أن يصلي. (حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة) مستثنى من النهي، وعليه يحمل حديثا عقبة وعمرو بن عبسة المتقدمان وحديث عبد الله الصنابحي الآتي، ويقال: إن الاستثناء في هذه الأحاديث مقدر، وفيه دليل على أن صلاة النفل نصف النهار يوم الجمعة غير منهي عنها، وبه قال الشافعي وأبويوسف من الأئمة الحنفية لحديث أبي هريرة هذا، وهو وإن كان ضعيفاً لكن له شواهد إذا ضمت قوى الخبر، ويجوز به تخصيص أحاديث النهي وتقييدها به، ويأتي مزيد الكلام فيه في شرح حديث أبي قتادة الآتي. (رواه الشافعي) عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي عن اسحاق بن عبد الله بن أبي فروة عن سعيد المقبري عن أبي هريرة، ومن طريق الشافعي أخرجه البيهقي (ج2 ص464) قال الحافظ في التلخيص: إسحاق وإبراهيم ضعيفان. ورواه البيهقي من طريق أبي خالد الأحمر عن عبد الله شيخ من أهل المدينة عن سعيد به. ورواه الأثرم بسند فيه الواقدي وهو متروك، ورواه البيهقي بسند آخر فيه عطاء بن عجلان وهو متروك أيضاً- انتهى. وفي الباب عن واثلة رواه الطبراني، قال الحافظ: بسند واهٍ. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد _ج2 ص228) بعد عزوه إلى الطبراني في الكبير: وفيه بشير بن عون، قال ابن حبان: يروي مائة حديث كلها موضوعة- انتهى. وعن أبي سعيد رواه البيهقي، وفيه أيضاً عطاء بن عجلان وعن أبي قتادة وسيأتي. 1054- قوله: (وعن أبي الخليل) اسمه صالح بن أبي مريم الضبعي مولاهم البصري، من رواة الستة، وثقة ابن معين وأبوداود والنسائي، وذكره ابن حبان في الثقات، وأغرب ابن عبد البر فقال في التمهيد: لا يحتج به. قال في تهذيب التهذيب (ج4 ص402) بعد ذكر جماعة من التابعين: روى عنهم وأرسل عن أبي قتادة وأبي سعيد وسفينة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (عن أبي قتادة) بن ربعي الأنصاري الخزرجي السلمي، فارس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، شهد أحداً وما بعدها ولم يصح شهوده بدراً، ومات سنة أربع وخمسين، قيل سنة ثمان

قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - كره الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة، وقال: إن جهنم تسجر إلا يوم الجمعة)) رواه أبوداود، وقال: أبوالخليل لم يلق أبا قتادة. ـــــــــــــــــــــــــــــ وثلاثين. والأول أصح وأشهر، كذا في التقريب. وقال في تهذيب التهذيب (ج12 ص204و205) قال الواقدي: توفي بالكوفة سنة أربع وخمسين وهو ابن سبعين سنة، ولم أر بين علمائنا اختلافاً في ذلك. قال وروى أهل الكوفة أنه مات بالكوفة وعلي بها وصلى عليه. حكى خليفة أن ذلك كان سنة ثمان وثلاثين، وهو شاذ، ولأكثر على أنه مات سنة أربع وخمسين، قال الحافظ: ومما يؤيد ذلك أن أن البخاري ذكره في الأوسط في فصل من مات بعد الخمسين إلى الستين. ثم روى بإسناده إلى مروان بن الحكم قال: كان والياً على المدينة من قبل معاوية، أرسل إلى أبي قتادة ليريه مواقف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فانطلق معه فأراه. وقال البيهقي: أجمع أهل التاريخ على أن أبا قتادة بقي إلى بعد الخمسين. وقال في الاصابة (ج4 ص159) : ويدل على تأخره أيضاً ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن محمد بن عقيل أن معاوية لما قدم المدينة تلقاه الناس، فقال لأبي قتادة تلقاني الناس كلهم غيركم يا معشر الأنصار- انتهى. (قال كان النبي - صلى الله عليه وسلم - كره الصلاة) في أبي داود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كره الصلاة، وفي جامع الأصول (ج6 ص182) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكره الصلاة. (نصف النهار حتى تزول الشمس) قال السيد جمال الدين: قوله حتى تزول الشمس كذا في أصل سماعنا، وليس في أبي داود ولا في المصابيح. (إلا يوم الجمعة) مستثنى من الكراهة يدل كالحديث السابق على أن الصلاة النافلة نصف النهار يوم الجمعة قبل الزوال غير مكروهة، وبه قال الشافعي، وهي رواية عن الأوزاعي وأهل الشام. قال الحافظ في الفتح: قد استثنى الشافعي ومن وافقه من ذلك يوم الجمعة، وحجتهم أنه - صلى الله عليه وسلم - ندب الناس إلى التكبير يوم الجمعة ورغب في الصلاة إلى خروج الإمام وجعل الغاية خروج الإمام وهو لا يخرج إلا بعد الزوال فدل على عدم الكراهة، وجاء فيه حديث عن أبي قتادة مرفوعاً يعني حديث الباب، وفي إسناده انقطاع، وقد ذكر له البيهقي شواهد ضعيفة إذا ضمت قوي الخبر- انتهى. واستدل به لأحمد على جواز صلاة الجمعة قبل الزوال، خلافاً للأئمة الثلاثة، ويأتي الكلام فيه في محله إن شاء الله. (إن جهنم تسجر) مشدداً ومخففاً أي توقد. (إلا يوم الجمعة) أي فإنها لا تسجر فلا تكره النافلة يوم الجمعة وقت الاستواء قبل الزوال. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً الأثرم والبيهقي (ج2 ص464) (ج3 ص193) قال أبوداود: هو مرسل أي منقطع، أبوالخليل لم يسمع من أبي قتادة. وفيه أيضاً ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف، إلا أنه اعتضد بمجيئه من طريق أخرى موصولاً كما تقدم، وأيضاً أيده فعل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنهم كانوا يصلون نصف النهار يوم الجمعة، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - حث على التكبير ثم رغب في الصلاة إلى خروج الإمام من غير تخصيص ولا استثناء. قال الحافظ في التلخيص: قال صاحب الإمام وقوى الشافعي

{الفصل الثالث}

{الفصل الثالث} 1055- (10) عن عبد الله الصنابحي قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الشمس تطلع ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك بما رواه عن ثعلبة بن أبي مالك عن عامة أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يصلون نصف النهار يوم الجمعة- انتهى. قال الإمام ابن القيم في زاد المعاد (ج1 ص103) في خصائص يوم الجمعة الحادي عشر: أنه لا يكره فعل الصلاة. فيه وقت الزوال عند الشافعي ومن وافقه، وهو اختيار شيخنا ابن تيمية، وحديث أبي قتادة هذا قال أبوداود: هو مرسل؛ لأن أبا الخليل لم يسمع من أبي قتادة، والمرسل إذا اتصل به عمل وعضده قياس أو قول صحابي أو كان مرسله معروفاً باختيار الشيوخ ورغبته عن الرواية عن الضعفاء والمتروكين ونحو ذلك مما يقتضي قوته عمل به- انتهى مختصراً. وقال البيهقي بعد ذكر رواية أبي قتادة هذا مرسل، أبوالخليل لم يسمع من أبي قتادة، ورواية أبي هريرة وأبي سعيد في إسنادهما من لا يحتج به، ولكنها إذا انضمت إلى رواية أبي قتادة أخذت بعض القوة، وروينا الرخصة في ذلك عن طاووس ومكحول- انتهى. وتقدم كلام الحافظ أن في إسناد حديث أبي قتادة، انقطاعاً، وقد ذكر له البيهقي شواهد ضعيفة، إذا ضمت قوي الخبر. 1055- قوله: (عن عبد الله الصنابحي) بضم الصاد المهملة وفتح النون وكسر الموحدة فحاء مهملة، نسبة إلى صنابح بطن من مراد، قال ابن عبد البر: هكذا قال جمهور الرواة عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن الصنابحي أي بلا أداة الكنية. وقال مطرف وإسحاق بن الطباع وغيرهما عن مالك بهذا عن أبي عبد الله الصنابحي بزيادة أداة الكنية، وهو الصواب. وهو عبد الرحمن بن عسيلة، وهو تابعي كبير ثقة ليست له صحبة قال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج6 ص91) : لكن المشهور عن مالك عبد الله أي بغير أداة الكنية. وقال في الإصابة (ج2 ص384) : رواية مطرف وإسحاق بن الطباع عن مالك بزيادة أداة الكنية شاذة، وعلى هذا فالمحفوظ في رواية مالك هو عبد الله بغير أداة الكنية، ونقل الترمذي عن البخاري أن مالكاً وهم في قوله: عن عبد الله الصنابحي، وإنما هو أبوعبد الله، وهو عبالرحمن بن عسيلة، ولم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال يعقوب بن شيبة: هؤلاء الصنابحيون الذين يروى عنهم في العدد ستة، وإنما هما اثنان فقط. الصنابحي الأحمسي وهو الصنابح. (بن الأعسر) الأحمسي، هذان واحد من قال فيه الصنابحي فقد أخطأ، وهو الذي يروي عنه الكوفيون. والثاني عبد الرحمن بن عسيلة كنيته أبوعبد الله، لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - بل أرسل عنه، وروى عن أبي بكر وغيره. فمن قال عن عبد الرحمن الصنابحي فقد أصاب اسمه. ومن قال عن أبي عبد الله الصنابحي فقد أصاب كنيته، وهو رجل واحد، ومن قال عن أبي عبد الرحمن فقد أخطأ، قلب اسمه فجعله كنيته، ومن قال عن عبد الله الصنابحي فقد اخطأ، قلب كنيته فجعلها اسمه، هذا قول على بن المديني ومن تابعه. قال يعقوب: وهو

ومعها قرن الشيطان، ـــــــــــــــــــــــــــــ الصواب عندي، وظاهر أن عبد الله الصنابحي وهم عند البخاري ويعقوب بن شيبة وعلى بن المديني وابن عبد البر ومن تبعهم ولا وجود له عندهم، بل هو أبوعبد الله عبد الرحمن بن عسيلة التابعي، والرواية مرسلة. وفيه نظر؛ لأن مالكاً لم ينفرد بذلك بل تابعه حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله الصنابحي سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الشمس تطلع الخ، وكذا زهير بن محمد عند أحمد (ج4 ص349) وابن مندة. قال ابن مندة وكذا تابعه محمد بن جعفر بن أبي كثير وخارجه بن مصعب الأربعة عن زيد بن أسلم بهذا. وأخرجه الدارقطني في غرائب مالك من طريق إسماعيل بن أبي الحارث، وابن مندة من طريق إسماعيل الصائغ كلاهما عن مالك وزهير بن محمد عن زيد بن أسلم بهذا مصرحاً فيه بالسماع، وكذا أخرجه أحمد (ج4 ص349) عن روح بن عبادة عن مالك وزهير عن زيد به مصرحاً بالسماع، وروى زهير بن محمد وأبوغسان محمد بن مطرف عن زيد بن أسلم عن عطاء عن عبد الله الصنابحي عن عبادة حديثاً آخر في الوتر، أخرجه أبوداود. فورود عبد الله الصنابحي في حديث الوتر من رواية زهير وأبي غسان عن زيد بن أسلم شيخ مالك بمثل روايته، ومتابعة الأربعة أي حفص بن ميسرة وزهير ومحمد بن جعفر وخارجه لمالك وتصريح اثنين أي حفص بن ميسرة وزهير ابن محمد منهم بالسماع يدفع الجزم بوهم مالك فيه. وقال يحيى بن معين: عبد الله الصنابحي الذي روى عنه المدنيون يشبه أن يكون له صحبة. وقال ابن السكن: يقال له صحبة معدود في المدنيين، روى عنه عطاء بن يسار وأبوعبد الله الصنابحي مشهور روى عن أبي بكر ليست له صحبة، هذا ملخص ما ذكره الحافظ في الاصابة (ج2 ص384، 385) و (ج3 ص96) وفي تهذيب التهذيب (ص91) و (ج6 ص229) . وقد ظهر بما ذكرنا أن عبد الله الصنابحي مختلف في صحبته بل في وجوده، وأن الراجح وجود عبد الله الصنابحي الصحابي، وإليه ذهب الترمذي والحاكم، وإليه مال ابن معين وابن السكن كما عرفت، والذهبي في التجريد (ج1 ص342) حيث قال: عبد الله الصنابحي روى عنه عطاء بن يسار كذا سماه فلعله غير عبد الرحمن خرج له أبويعلى- انتهى. وابن ألأثير في رجال جامع الأصول، وكذا المصنف في الإكمال حيث ذكر عبد الله الصنابحي في فصل الصحابة وقال: الصنابحي الصحابي، قد أخرج حديثه مالك في الموطأ والنسائي في سننه- انتهى. وذكر المنذري في الترغيب قول الحاكم: عبد الله الصنابحي صحابي مشهور، وسكت عليه. وعلى هذا فلا وهم في السند، والحديث صحيح موصول لا مرسل، كما زعم ابن عبد البر ومن وافقه، وقد تقدم شيء من الكلام في هذا في كتاب الطهارة. (ومعها قرن الشيطان) جملة حالية أي اقترانه أو أن الشيطان يدنوا منها بحيث يكون طلوعها بين قرني الشيطان أي جانبي رأسه، وغرض اللعين أن يقع سجود من يسجد للشمس له فينبغي لمن يعبد ربه تعالى أن

فإذا ارتفعت فارقها، ثم إذا استوت قارنها، فإذا زالت فارقها، فإذا دنت للغروب قارنها، فإذا غربت فارقها. ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يصلي في هذه الساعات احتراز من التشبه بعبده الشيطان. (فإذا ارتفعت فارقها) بالقاف قبل الهاء. (ثم إذا استوت قارنها) بنون تليها الهاء، وهذا زائد على ما مر من أنه في الطلوع والغروب، وهي علة أخرى للنهي عن الصلاة عند استواء الشمس، فقد تقدم في حديث عمرو بن عبسة تعليل النهي بتسجير جهنم إذ ذاك، ولا منافاة بينهما، كما لا يخفى. قال الحافظ في الفتح تحت باب من لم يكره الصلاة إلا بعد العصر والفجر بعد بيان الأوقات الأربعة ما لفظه: وبقى خامس وهو الصلاة وقت استواء الشمس، وكأنه لم يصح عند المؤلف أي البخاري على شرطه فترجم على نفيه وفيه أربعة أحاديث، حديث عقبة بن عامر، وحديث عمرو بن عبسة، كلاهما عند مسلم. (وقد تقدما) وحديث أبي هريرة وهو عند ابن ماجه والبيهقي، ولفظه: حتى تستوي الشمس على رأسك كالرمح فإذا زالت فصل. وحديث الصنابحي، وهو حديث مرسل مع قوة رجاله، وفي الباب أحاديث أخرى ضعيفة، وبقضية هذه الزيادة قال عمر بن الخطاب، فنهى عن الصلاة نصف النهار. وعن ابن مسعود قال: كنا ننهى عن ذلك. وعن أبي سعيد المقبري قال: أدركت الناس وهم يتقون ذلك. وهو مذهب الأئمة الثلاثة والجمهور، وخالف مالك فقال: ما أدركت أهل الفضل إلا وهم يجتهدون ويصلون نصف النهار. قال ابن عبد البر: وقد روى مالك حديث الصنابحي، فأما أنه لم يصح عنده، وأما أنه رده بالعمل الذي ذكره- انتهى. قال الزرقاني: والثاني أولى أو متعين، فإن الحديث صحيح بلا شك، ورواته ثقات مشاهير، وعلى تقدير أنه مرسل فقد اعتضد بأحاديث كثيرة- انتهى. وقال الباجي: أما عند الزوال فالظاهر من مذهب مالك وغيره من الفقهاء إباحة الصلاة في ذلك الوقت، وفي المبسوط عن ابن وهب سئل مالك عن الصلاة نصف النهار فقال: أدركت الناس وهم يصلون يوم الجمعة نصف النهار. وجاء في بعض الحديث نهي عن ذلك فأنا لا أنهى عنه للذي أدركت الناس عليه ولا أحبه للنهي عنه، فعلى هذا القول بعض الكراهة وجه القول الأول ما استدل به من صلاتهم يوم الجمعة والناس بين مصل وناظر إلى مصل وغير منكر، ومحمل النهي في الحديث يحتمل أن يراد به الأمر بإبراد الظهر، ويحتمل أن يتوجه النهي إلى تحرى تلك الأوقات بالنافلة، ويحتمل أن يكون النهي منسوخاً، هذا إن حملناه على النهي عن النافلة، وإن حملناه على الفريضة فله وجه صحيح، وذلك أنه لا خلاف في منع تأخير الصبح إلى أن تطلع، وفي منع تقديم الظهر قبل الزوال حين الاستواء، وفي صلاة المغرب حين الغروب حتى تغرب، ويحتمل أن يراد بذلك تحري تلك ألأوقات بالفريضة- انتهى. قلت: هذه التأويلات كلها بعيدة بل باطلة تردها الأحاديث الواردة في النهي فإنها نص في معناها. (فإذا دنت للغروب) بأن اصفرت وقربت من سقوط طرفها

ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في تلك الساعات)) . رواه مالك، وأحمد، والنسائي. 1056- (11) وعن أبي بصرة الغفاري، قال: ((صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمخمص صلاة العصر، فقال: إن هذه الصلاة عرضت على من كان قبلكم فضيعوها، فمن حافظ عليها كان له أجره مرتين، ـــــــــــــــــــــــــــــ بالأرض. (ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) نهى التحريم. (عن الصلاة) الفريضة أو النافلة على ما تقدم من اختلاف الأئمة. (في تلك الساعات) الثلاث كلها. (رواه مالك) في أواخر الصلاة عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله الصنابحي. (وأحمد) (ج4 ص349) عن روح عن مالك وزهير عن زيد. (والنسائي) عن قتيبة عن مالك عن زيد، وأخرجه أيضاً الشافعي عن مالك والبيهقي (ج2 ص454) من طريق الشافعي وابن قعنب وابن بكير عن مالك والدارقطني في غرائب مالك من طريق إسماعيل بن أبي الحارث وابن مندة من طريق إسماعيل الصائغ كلاهما عن مالك وزهير بن محمد عن زيد عن عطاء عن عبد الله الصنابحي بلا أداة الكنية عند الجميع، وأخرجه أحمد في (ج4 ص348) وابن ماجه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن زيد عن عطاء عن أبي عبد الله الصنابحي بزيادة أداة الكنية، والمحفوظ هو الأول كما تقدم. 1056- قوله: (عن أبي بصرة) بفتح الموحدة وسكون الصاد المهملة. (الغفاري) بكسر الغين المعجمة نسبة إلى غفار، اختلف في اسمه فقيل حميل: بفتح الحاء المهملة، قاله الدراوردي في روايته. وذكر ابن المديني عن بعض الغفاريين أنه تصحيف، وذكر البخاري أنه وهم، وقيل: حميل بالضم وعليه الأكثر وصححه ابن المديني وابن حبان وابن عبد البر وابن ماكولا. ونقل الاتفاق عليه وغيرهم. وقيل: جميل بالجيم، قاله مالك في حديث أبي هريرة حين خرج إلى الطور، وذكر البخاري وابن حبان أنه وهم. وقيل: زيد حكاه الباوردي ابن بصرة ابن أبي بصرة بن وقاص بن حبيب بن غفار. قال مصعب الزبيري: الحميل وبصرة وجده أبي بصرة صحبة. قال ابن يونس شهد حميل فتح مصر واختط بها ومات بها ودفن في مقبرتها، كذا في تهذيب التهذيب (ج3 ص56) والإصابة (ج4 ص21) و (ج1 ص162) . (بالمخمص) بميم مضمومة وخاء معجمة مفتوحة ثم ميم مفتوحة مشددة، وقيل: بميم مفتوحة وخاء ساكنة وميم مكسورة بعدها وفي آخره صاد مهملة، اسم موضع. (فقال) أي بعد فراغه منها. (أن هذه) أي صلاة العصر. (على من كان قبلكم) أي من اليهود والنصارى، قاله القاري. (فضيعوها) أي ما قاموا بحقها وما حافظوا على مراعاتها. وفي رواية لأحمد: فتوانوا فيها وتركوها. (فمن حافظ عليها كان له أجره مرتين) إحداهما للمحافظة عليها خلافاً لمن قبلهم، وثانيتهما أجر عمله كسائر الصلوات، قاله

ولا صلاة بعدها حتى تطلع الشاهد)) والشاهد: النجم. رواه مسلم. 1057- (12) وعن معاوية، قال: ((إنكم لتصلون صلاة، لقد صحبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما رأيناه يصليهما، ولقد نهي عنهما. يعني الركعتين بعد العصر)) رواه البخاري. 1058- (13) وعن أبي ذر، قال- وقد صعد على درجة ـــــــــــــــــــــــــــــ الطيبي. (ولا صلاة بعدها) أي بعد صلاة العصر. (حتى يطلع الشاهد) كناية عن غروب الشمس؛ لأن بغروبها يظهر الشاهد. (والشاهد النجم) سمي شاهداً لأنه يشهد بالليل ويحضر، ومنه قيل لصلاة المغرب صلاة الشاهد. ويجوز أن يحمل على الاستعارة، شبه النجم عند طلوعه على وجود الليل بالشاهد الذي يثبت به الدعاوي، قاله الطيبي. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد (ج6 ص397) والنسائي والبيهقي. 1057- قوله: (إنكم لتصلون) بفتح اللام للتأكيد. (فما رأيناه يصليهما) أي الركعتين، وللحموي يصليها أي الصلاة. (ولقد نهى عنهما) بضمير التثنية، ولأبي ذر عنها بالضمير المفرد، أي عن الصلاة. قال الحافظ: وقع الخلاف بين الرواة في قوله: ولقد نهى عنها أو عنهما، كما وقع في قوله: يصليهما أو يصليها. قلت: وقع في رواية البيهقي يصليها وعنها بالضمير المفرد، وهي تدل على أنه ليس عند معاوية حديث مستقل في النهي عن خصوص هاتين الركعتين، بل هو الحديث العام فقط، فذكر النهي عنهما تمسكاً بالعموم، وأما رواية عنهما أي بتثنية الضمير فيحتمل أن يكون عنده حديث خاص في النهي عن الركعتين، ويحتمل أن يكون هو الحديث العام فقط، ثم أدخلهما هو في عمومه، وذكر النهي عنهما تمسكاً بالعموم، وهذا هو ظاهر لرواية عنها، فإنها نص في أنه ليس عنده إلا الحديث العام. قال الحافظ: وكلام معاوية مشعر بأن من خاطبهم كانوا يصلون بعد العصر ركعتين على سبيل التطوع الراتب لها كما يصلى بعد الظهر، وما نفاه من رؤية صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - لهما قد أثبته غيره، والمثبت مقدم على النافي، وسيأتي قول عائشة: كان لا يصليهما في المسجد، لكن ليس في رواية الإثبات معارضة للأحاديث الواردة في النهي؛ لأن رواية الإثبات لها سبب. (كما تقدم) فألحق بها ماله سبب وبقي ما عدا ذلك على عمومه، والنهي فيه محمول على ما لا سبب له، وأما من يرى عموم النهي ولا يخصه بما له سبب فيحمل إنكار معاوية على من يتطوع، ويحمل الفعل على الخصوصية، ولا يخفى رجحان الأول- انتهى. (يعني) أي يريد معاوية بهما. (الركعتين بعد العصر) أي بعد صلاة العصر. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً أحمد (ج4 ص99، 100) والبيهقي. 1058- قوله: (قال) أي أبوذر. (وقد صعد) حال من ضمير قال، أي طلع أبوذر. (على درجة

الكعبة-: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا جندب، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس إلا بمكة، إلا بمكة، إلا بمكة)) رواه أحمد، ورزين. ـــــــــــــــــــــــــــــ الكعبة) قال القاري: الدرجة بفتحتين هي الآن خشب يلصق بباب الكعبة ليرقى فيه إليها من يريد دخولها، فإذا قفلت حول لمحل آخر قريب من الطواف بجنب زمزم، فيحتمل أن يكون في ذلك الزمان كذلك، ويحتمل أن يكون بكيفية أخرى، ولا يبعد أن يكون المراد بالدرجة عتبة الكعبة، ويؤيد هذا رواية البيهقي بلفظ: قام فأخذ بحلقة باب الكعبة. (من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا جندب) بضم الدال وبفتح. قال الطيبي: اتحاد الشرط والجزاء للإشعار بشهرة صدق لهجته، والشرطية الثانية تستدعى مقدراً، أي ومن لم يعرفني فليعلم إني جندب. (لا صلاة بعد الصبح) أي بعد فرض الصبح. (ولا صلاة بعد العصر) أي فرضه. (إلا بمكة إلا بمكة إلا بمكة) ثلاث مرات للتأكيد. (رواه أحمد ورزين) بن معاوية العبدري، أخرجه أحمد (ج5: ص165) عن يزيد عن عبد الله بن المؤمل عن قيس بن سعد عن مجاهد عن أبي ذر، وأخرجه الشافعي والدارقطني والبيهقي كلاهما من طريقه عن عبد الله بن المؤمل عن حميد مولى عفراء عن قيس بن سعد عن مجاهد، فزادوا حميداً في سندهم، وأخرجه ابن عدي في الكامل وابن خزيمة في صحيحه والبيهقي من حديث سعيد بن سالم عن عبد الله بن المؤمل عن حميد عن مجاهد عن أبي ذر فلم يذكروا فيه قيساً، وأخرجه ابن عدي والبيهقي من طريقه من حديث اليسع بن طلحة القرشي: سمعت مجاهداً يقول بلغنا أن أبا ذر فذكره. قال البيهقي واليسع بن طلحة ضعفوه، وعبد الله أيضاً ضعيف، والحديث منقطع، مجاهد لم يدرك أباذر. ويقال إن عبد الله تفرد به، ولكن تابعه إبراهيم بن طهمان في ذلك عن حميد، وأقام إسناده، ثم ساقه بسنده إلى خلاد بن يحيى، قال حدثنا إبراهيم بن طهمان ثنا حميد مولى عفراء عن قيس بن سعد عن مجاهد، قال: جاءنا أبوذر فأخذ بحلقة الباب-الحديث. قال البيهقي: وحميد الأعرج ليس بالقوى. قال أبوحاتم الرازي: لم يسمع مجاهد من أبي ذر، وكذا أطلق ذلك ابن عبد البر والبيهقي والمنذري وغير واحد. قال البيهقي: قوله في رواية ابن طهمان جاءنا أبوذر أي جاء بلدنا. قال الزيلعي: قال الشيخ في الإمام حديث أبي ذر هذا معلول بأربعة أشياء: أحدها انقطاع ما بين مجاهد وأبي ذر. والثاني اختلاف في إسناده. والثالث ضعف ابن المؤمل. ضعفه ابن معين والنسائي. وقال أحمد أحاديثه مناكير. والرابع ضعف حميد مولى عفراء - انتهى مختصراً. لكن قال ابن عبد البر في التمهيد: وهذا حديث وإن لم يكن بالقوي لضعف حميد مولى عفراء ولأن مجاهدا لم يسمع من أبي ذر. ففي حديث جبير بن مطعم. (المتقدم) ما يقويه مع قول جمهور العلماء من المسلمين به - انتهى. قلت: الظاهر أن حميد هذا هو حميد بن قيس الأعرج المكي أبوصفوان

(23) باب الجماعة وفضلها

(23) باب الجماعة وفضلها ـــــــــــــــــــــــــــــ القارئ الأسدي مولاهم، وقيل: مولى عفراء، من رجال الجماعة، وثقه الترمذي والبخاري وأحمد في رواية أبي طالب عنه وابن معين وأبوزرعة وأبوداود ويعقوب بن سفيان والعجلي وابن خراش. وقال أبوحاتم والنسائي وابن عدي: ليس به بأس: وقال أحمد في رواية ابنه عبد الله: ليس بالقوى، فتعليل الحديث بضعف حميد ليس مما يلتفت إليه. وههنا حميد آخر، وهو حميد الأعرج الكوفي القاص الملائي، واختلف في اسم أبيه، فقيل: حميد بن عطاء وقيل. . . . . . . ابن علي، وقيل: ابن عبد الله، وقيل: ابن عبيد، وهو من رجال الترمذي ضعيف بالاتفاق. (باب الجماعة) أي أحكامها وآدابها. (وفضلها) أي زيادة ثوابها. اعلم أنهم اختلفوا في بدأ مشروعية صلاة الجماعة، فجزم ابن حجر المكي في تحفة المحتاج في شرح المنهاج للنووي أنه شرعت بالمدينة، وفي روضة المحتاجين للشيخ رضوان العدل أصل مشروعيتها بمكة بدليل صلاة جبريل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أيضاً بخديجة وبعلي، لكنها لم تظهر ولم يواظب عليها إلا بالمدينة، ولذا قيل إنها شرعت بالمدينة، وكانت الصحابة بمكة يصلون في بيوتهم لتسلط المشركين عليهم وقهرهم - انتهى. واختلفوا أيضاً في حكمها من الندب والوجوب، فقال الحافظ في الفتح: ذهب إلى القول بأنه فرض عين عطاء والأوزاعي وأحمد وجماعة من محدثي الشافعية كأبي ثور وابن خزيمة وابن المنذر، وبالغ داود ومن تبعه فجعلها شرطاً لصحة الصلاة. (وروى مثل ذلك عن أحمد والمشهور عنه أنها واجبة غير شرط) وظاهر نص الشافعي أنها فرض كفاية، وعليه جمهور المتقدمين من أصحابه، وقال به كثير من الحنفية والمالكية، والمشهور عند الباقين أنه سنة مؤكدة - انتهى. وفي شرح الهداية: عامة مشائخنا أنها واجبة، وفي المفيد: الجماعة واجبة وتسميتها سنة لوجوبها بالسنة، وقيل: فرض كفاية، وهو اختيار الطحاوي والكرخي وغيرهما - انتهى. واختار البخاري وجوبها وجوب عين حيث بوب علي حديث أبي هريرة ثاني أحاديث الباب بقوله: باب وجوب صلاة الجماعة، وذكر فيه قول الحسن أن منعته أمه عن العشاء في الجماعة شفقة لم يطعها، وقد عرف من عادته أنه يستعمل الآثار في التراجم لتوضيحها وتكميلها وتعيين أحد الاحتمالات في حديث الباب، فأثر الحسن هذا يشعر بكونه يريد أن صلاة الجماعة واجبة وجوب عين. وأقرب الأقوال عندي أن صلاة الجماعة سنة مؤكدة قريبة من الواجب، وبهذا تجتمع الأحاديث المشعرة بالوجوب، والأحاديث المقتضية لعدم الوجوب. هذا، وقد ذكر الشاه ولي الله الدهلوي في حجته (ج2: ص19) كلاماً جيداً في حكمة تشريع الجمعة والجماعات، فارجع إليه.

{الفصل الأول}

{الفصل الأول} 1059- (1) عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين ـــــــــــــــــــــــــــــ 1059- قوله: (صلاة الجماعة) الإضافة لأدنى ملابسة أي صلاة أحدكم مع الجماعة، أو بحذف المضاف أي صلاة آحاد الجماعة، وإلا فليس المطلوب تفضيل صلاة الجماعة كلها على صلاة الواحد، بل تفضيل صلاة الواحد على صلاته باعتبار الحالين؛ لأنه لا فائدة في كون صلاة الجماعة كلها فاضلة هذا الفضل. (تفضل) بفتح التاء والسكون الفاء وضم الضاد المعجمة، أي تزيد في الأجر والثواب (صلاة الفذ) بفتح الفاء وتشديد الذال المعجمة، أي الفرد بمعنى المنفرد، وفي رواية لمسلم: صلاة الرجل في الجماعة تزيد على صلاته وحده. (بسبع وعشرين) ، قال الترمذي: عامة من روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قالوا: خمس وعشرين إلا ابن عمر، فإنه قال بسبع وعشرين، قال الحافظ: لم يختلف عليه في ذلك إلا ما وقع عند عبد الرزاق عن عبد الله العمري عن نافع فقال فيه خمس وعشرين، لكن العمري ضعيف، ووقع عند أبي عوانة في مستخرجه من طريق أبي أسامة عن عبيد الله بن عمر عن نافع فإنه قال بخمس وعشرين، وهي شاذة مخالفة لرواية الحفاظ من أصحاب عبيد الله وأصحاب نافع، وإن كان راويها ثقة، وأما ما وقع عند مسلم من رواية الضحاك بن عثمان عن نافع بلفظ: بضع وعشرين. فليست مغايرة لرواية الحفاظ، لصدق البضع على السبع، وأما غير ابن عمر فصح عن أبي سعيد وأبي هريرة كما في هذا الباب. (أى باب فضل الجماعة عند البخاري بلفظ خمس وعشرين) وعن ابن مسعود عند أحمد وابن خزيمة وعن أبي بن كعب عند ابن ماجه والحاكم وعن عائشة وأنس عند السراج، وورد أيضاً من طرق ضعيفة عن معاذ وصهيب وعبد الله بن زيد وزيد بن ثابت، وكلها عند الطبراني، واتفق الجميع على خمس وعشرين، سوى رواية أبي فقال: ربع أو خمس على الشك، أو سوى رواية أبي هريرة عند أحمد قال فيها: سبع وعشرون، وفي إسنادها شريك القاضي، وفي حفظه ضعف، وفي رواية لأبي عوانة بضعا وعشرين، وليست مغائرة أيضاً لصدق البضع على الخمس، فرجعت الروايات كلها إلى الخمس والسبع، إذ لا أثر للشك - انتهى. واختلف في توجيه هذا الاختلاف، فمنهم من حاول الترجيح فقيل: رواية الخمس أرجح لكثرة رواتها، وإليه مال الترمذي كما يشير إليه كلامه المتقدم، وقيل: رواية السبع؛ لأن فيها زيادة من عدل حافظ، ومنهم ما مال إلى الجمع بين هذين العددين، وذلك بوجوه: منها: أن ذكر القليل لا ينفي الكثير، ومفهوم العدد غير مراد، فرواية الخمس داخلة تحت رواية السبع. ومنها: أنه - صلى الله عليه وسلم - لعله أخبر بالخمس أولاً ثم أعلمه الله بزيادة الفضل، فالزائد متأخر عن

درجة)) ـــــــــــــــــــــــــــــ الناقص؛ لأن الله تعالى يزيد عباده من فضله ولا ينقصهم من الموعود شيئاً. ومنها: الفرق بقرب المسجد وبُعده. ومنها: الفرق بحال المصلى كأن يكون أعلم أو أخشع. ومنها: الفرق بالمنتظر للصلاة وغيره. ومنها: الفرق بإدراك كلها أو بعضها. ومنها: الفرق بكثرة الجماعة وقلتهم. ومنها: أن السبع مختصة بالفجر والعشاء، وقيل: بالفجر والعصر لاجتماع الملائكة، والخمس بما عدا ذلك. ومنها: أن السبع مختصة بالجهرية، والخمس بالسرية، ورجحه الحافظ في الفتح، ورجح الشوكاني الأول. واعلم أن التخصيص بهذا العدد من أسرار النبوة التي تقصر العقول عن إدراكها. قال التوربشتي: أما وجه قصر الفضيلة على خمس وعشرين تارة، وعلى سبع وعشرين أخرى، فمرجعه إلى العلوم النبوية التي لا يدركها العقلاء إجمالاً فضلاً عن التفصيل، ولعل الفائدة فيما كشف به حضرة النبوة هي اجتماع المسلمين على إظهار شعار الإسلام - انتهى. وقد تعرض جماعة منهم الكرماني والبلقيني للكلام على وجه الحكمة في هذا العدد الخاص، وذكروا مناسبات وتعليلات، وهي أقوال تخمينية ليس عليها نص، وقد طول الكلام في ذلك الحافظ في الفتح، من أحب الوقوف على ذلك رجع إليه. (درجة) هو مميز العدد المذكور، وفي الروايات كلها التعبير بقوله درجة، أو حذف المميز إلا طرق حديث أبي هريرة، ففي بعضها ضعاً، وفي بعضها جزء، وفي بعضها درجة، وفي بعضها صلاة، ووقع هذا الأخير في بعض طرق حديث أنس، والظاهر أن ذلك من تصرف الرواة ويحتمل أن يكون ذلك من التفنن في العبارة. قال ابن سيد الناس: هل هذه الدرجات والأجزاء بمعنى الصلوات، فيكون صلاة الجماعة بمثابة خمس وعشرين أو سبع وعشرين صلاة؟ أو يقال إن لفظ الدرجة والجزء لا يلزم منهما أن يكون بمقدار الصلاة، الظاهر الأول، ففي حديث لأبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: صلاة الجماعة تعدل خمساً وعشرين صلاة من صلاة الفذ، رواه السرج. وفي لفظ له: صلاة مع الإمام أفضل من خمس وعشرين صلاة يصليها وحده، إسنادهما صحيح، وفي حديث ابن مسعود بخمس وعشرين صلاة - انتهى. قلت: حديث أبي هريرة أخرجه أيضاً مسلم بكلا اللفظين، وحديث ابن مسعود أخرجه أحمد بإسناد رجاله ثقات. قال الحافظ: معنى الدرجة أو الجزء حصول مقدار صلاة المنفرد بالعدد المذكور للجمع، وقد أشار ابن دقيق العيد إلى أن بعضهم زعم خلاف ذلك، قال: والأول أظهر؛ لأنه قد ورد مبيناً في بعض الروايات - انتهى. وكأنه يشير إلى ما ذكرنا من الروايات. ثم ظاهر قوله: تفضل، وكذا قوله: تزيد في رواية لمسلم، وكذا قوله: تضعف في حديث أبي هريرة عند البخاري أن صلاة الجماعة تساوي صلاة المنفرد وتزيد عليها العدد المذكور، فيكون لمصلي الجماعة ثواب ست أو ثمان وعشرين من صلاة الفذ. قال الباجي: يقتضي هذا أن صلاة المأموم تعدل ثمانية وعشرين درجة من صلاة الفذ؛ لأنه تزيد سبعاً وعشرين درجة - انتهى. وهل هذا التضعيف يختص بالتجمع في المسجد أو لا يختص به؟ الظاهر الأول، قال الحافظ: وهو الراجح في نظري.

متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ والحديث حث على الجماعة، وفيه دليل على عدم وجوبها وأنها ليست شرطاً لصحة الصلاة. قال الباجي: والاستدلال منه بمعنيين: الأول بلفظ: تفضل، فلو لم تكن صلاة الفذ مجزئة لما وصفت بأنها تفضل؛ لأنه لا تفاضل بين صلاة الجماعة وبين ما ليس بصلاة. والثاني بالدرجات، فلو لم تكن لصلاة الفذ درجة لما جاز أن يقال إن صلاة الجماعة تزيد عليها سبعاً وعشرين درجة- انتهى. ويدل عليه أيضاً ما ورد في رواية لمسلم من حديث ابن عمر بلفظ: صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ، لاقتضاء صيغة أفعل الاشتراك في أصل الفضل، فإن ذلك يقتضي وجود فضيلة في صلاة المنفرد، وما لا يصح لا فضيلة فيه. وقال الشوكاني: والمشترك ههنا لابد أن يكون هو الإجزاء والصحة، وإلا فلا صلاة فضلاً عن الفضل. وقال السندي: استدلوا بهذا الحديث وأمثاله على عدم وجوب الجماعة؛ لأن تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفذ بتلك الدرجات فرع صحة صلاة الفذ، وهذا ليس بشيء؛ لأن معنى وجوب الجماعة عند غالب من يقول به من العلماء هو أنها واجبة على المصلي حالة الصلاة يأتم المصلي بتركها بلا عذر، لا أنها من واجبات الصلاة، بمعنى أنها شرط في صحتها، تبطل الصلاة بانتفائها، فإنه ما قال بالمعنى الثاني إلا شرذمة قليلون- انتهى. وأجيب أيضاً بأن المراد من الحديث إنما هو الترغيب في الجماعة ببيان زيادة ثوابها على صلاة المنفرد لا غير، وأما الوجوب فله دليل آخر، والحاصل أن الحديث إنما سيق لبيان فضل الجماعة والترغيب فيها، لا لبيان السنية أو الوجوب، وإنما ذكر صلاة الفذ وقابل بها ليظهر فضل صلاة الجماعة، فهو لتعقل صورة الحساب فقط كما في حديث الزكاة عند أبي داود: في كل أربعين درهماً درهم، فإنه لم يرد به بيان النصاب ليجب درهم على من كان عنده أربعون درهماً، إنما أراد به بيان الحساب بأن الخمسة في المأتين كالدرهم في الأربعين. هكذا حديث ابن عمر هذا وما شابهه إنما سيق لبيان الحساب لا لصحة صلاة المنفرد بمعنى عدم نقصان فيها، فتأمل. وقال بعضهم: إن صيغة أفعل قد ترد لإثبات صفة الفضل في إحدى الجهتين، كقوله تعالى: {وأحسن مقيلاً} [25: 24] . وتعقب بأنه إنما يقال ذلك على قلة حيث ترد صيغة أفعل مطلقة غير مقيدة بعدد معين، فإذا قلنا هذا العدد أزيد من هذا بكذا فلابد من وجود أصل العدد. وقال بعضهم: يحمل الفذ في الحديث على المعذور أي المنفرد لعذر. وتعقب بأن قوله: صلاة الفذ، صيغة عموم، فيشمل من صلى منفردا بعذر وبغير عذر فحمله على المعذور يحتاج إلى دليل. وأيضاً ففضل الجماعة حاصل للمعذور؛ لأن الأحاديث قد دلت على أن أجره لا ينقص عما يفعله لولا العذر، فروى أبوموسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً. رواه أحمد والبخاري وأبوداود، وعن أبي هريرة مرفوعاً: من توضأ فأحسن الوضوء، ثم راح فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله مثل أجر من صلاها وحضرها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد ومالك والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي.

1060- (2) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بحطب، فيحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال. وفي رواية: لا يشهدون الصلاة، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1060- قوله: (والذي نفسي) أي ذاتي أو روحي. (بيده) هو قسم كان النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيراً ما يقسم به، والمعنى أن أمر نفوس العباد بيد الله، أو بتقديره وتدبيره أو في ملكه وتحت تصرفه، وفيه جواز القسم على الأمر الذي لا شك فيه، تنبيهاً على عظم شأنه. (لقد هممت) هو جواب القسم أكده باللام وقد، والهم العزم، وقيل دونه، والمعنى: لقد قصدت. وزاد مسلم في أوله أنه - صلى الله عليه وسلم - فقد ناساً في بعض الصلوات فقال: لقد هممت، فأفاد ذكر سبب الحديث. (أن آمر) بالمد وضم الميم، أي خدمي لما في رواية فتيتي. (بحطب) بفتحتين، ما أعد من الشجر وقوداً للنار. قال القاري: أي يجمع حطب عظيم. (فيحطب) بالفاء وضم المثناه التحتية مبنياً للمفعول منصوباً عطفاً على المنصوب المتقدم، وكذا الأفعال الواقعة بعده، أي فيجمع الحطب. قال الطيبي: يقال حطبت الحطب واحتطبته أي جمعته. قال المؤلف: فيحطب كذا وجدناه في صحيح البخاري والجمع للحميدى وجامع الأصول وشعب الإيمان. وفي المصابيح فيحتطب أي من الاحتطاب. قلت: وكذا وقع لأبي الوقت في رواية البخاري وللبيهقي (ج3 ص55) . وحطب واحتطب بمعنى واحد. (ثم آمر) بالمد وضم الميم. (بالصلاة) العشاء أو الفجر أو الجمعة أو مطلقاً، كلها روايات ولا تضاد لجواز تعدد الواقعة، قاله القسطلاني. قلت: عامة الروايات عن أبي هريرة على الإبهام، نعم يومئ آخر هذه الرواية أنها العشاء لقوله: لشهد العشاء. وفي رواية مسلم: لشهدها، يعني صلاة العشاء ولذلك فسرها القاري بالعشاء، قال: ويحتمل بقاءه على عمومه إن تعددت القصة. وقال النووي: جاء في رواية أن هذه الصلاة التي همّ بتحريقهم للتخلف عنها هي العشاء, وفي رواية أنها الجمعة، وفي رواية يتخلفون عن الصلاة مطلقاً، وكله صحيح، ولا منافاة بين ذلك أي لحمله على تعدد القضية. (فيؤذن) بفتح الذال المشددة. (لها) أي لأجلها. (ثم آمر رجلا فيؤم الناس) فيد دليل لجواز استخلاف الإمام وانصرافه لعذر. (ثم) أخالف إلى رجال أي آتيهم من خلفهم. وقال الجوهري: خالف إلى فلان أي أتاه إذا غاب عنه، أو المعنى أخالف المشتغلين بالصلاة قاصداً إلى بيوت الذين لم يخرجوا عنها إلى الصلاة فأحرقها عليهم، وقيل: معناه: أذهب إليهم، وقيل: المعنى أخالف الفعل الذي أظهرت من إقامة الصلاة فأتركه وأسير إليهم، أو أخالف ظنهم في أنى مشغول بالصلاة عن قصدي إليهم. والتقييد بالرجال يخرج النساء والصبيان، وهو منصوص في رواية لأحمد بلفظ: لولا ما في البيوت من النساء والذرية- الحديث. (وفي رواية) أي أخرى. (لا يشهدون الصلاة) أي لا يحضرون

فأحرق عليهم بيوتهم ـــــــــــــــــــــــــــــ الجماعة من غير عذر. قال المؤلف: وليس في الصحيح في هذه الرواية لا يشهدون الصلاة بل في رواية أخرى، نقله الطيبي. قلت: هذا اعتراض من صاحب المشكاة على البغوي حيث ذكر سياق الحديث في المصابيح بلفظ: ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة الخ، فإن الظاهر منه أن قوله: لا يشهدون الصلاة، موجود في الرواية التي ساق البغوي لفظها، مع أن هذا اللفظ ليس في هذه الرواية بل في رواية أخرى، فكان عليه أن ينبه على ذلك، ويقول بعد قوله إلى رجال. وفي رواية. لا يشهدون الصلاة، كما قال المؤلف. وهذا الاعتراض متجه عندي كما لا يخفى، وفي رواية لأي داود: ثم آتى قوماً يصلون في بيوتهم ليست بهم علة، فيكون الوعيد على ترك الجماعة بغير عذر لا على ترك الصلاة، وفيه دلالة على أن الأعذار تبيح التخلف عن الجماعة، ولو قلنا إنها فرض، وكذا الجمعة. (فأحرق) بتشديد الراء وفتح القاف وضمها كسابقه، وهو مشعر بالتكثير والمبالغة في التحريق. (عليهم) أي على المتخلفين عن الجماعة. (بيوتهم) بالنار عقوبة لهم، وفيه إشعار بأن العقوبة ليست قاصرة على المال، بل المراد تحريق المقصودين وبيوتهم، وفي رواية لمسلم: ثم تحرق بيوتاً على من فيها. والحديث قد استدل به لأحمد ومن وافقه على أن الجماعة واجبة وجوب عين، وهو من أوضح أدلة القائلين بالوجوب. قال الحافظ في الفتح: الحديث ظاهر في كون الجماعة فرض عين؛ لأنها لو كانت سنة لم يهدد تاركها بالتحريق، ولو كانت فرض كفاية لكانت قائمة بالرسول ومن معه. وأجاب الجمهور عنه بأجوبة: الأول أن نفس الحديث يدل على خلاف المدعى وهو عدم الوجوب، لكونه - صلى الله عليه وسلم - هم بالتوجه إلى المتخلفين، فلو كانت الجماعة فرض عين ما هم بتركها إذا توجه. وتعقب بأن الواجب يجوز تركه لما هو أوجب منه، وبأن تركها لحال التحريق لا يستلزم الترك مطلقاً؛ لإمكان أن يتداركها في جماعة آخرين قبل التحريق أو بعده. والثاني أن الخبر ورد مورد الزجر، وحقيقة غير مرادة، وإنما المراد المبالغة، ويرشد إلى ذلك وعيدهم بالعقوبة التي يعاقب بها الكفار، وقد انعقد الإجماع على منع عقوبة المسلمين بذلك. وأجيب بأن ذلك وقع قبل تحريم التعذيب بالنار، فحمل التحديد على حقيقته غير ممتنع، على أنه لو فرض أن هذا التواعد وقع بعد التحريم لكان مخصصاً له، فيجوز التحريق في عقوبة تارك الصلاة بالجماعة. والثالث كونه - صلى الله عليه وسلم - ترك تحريقهم بعد التهديد، فلو كان واجباً ما عفا عنهم. وتعقب بأنه لا يهمّ إلا بما يجوز له فعله لو فعله، والترك لا يدل على عدم الوجوب لاحتمال أن يكونوا انزجروا بذلك وتركوا التخلف الذي ذمهم بسببه، على أنه جاء في رواية لأحمد بيان سبب الترك، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: لولا ما في البيوت من النساء والذرية أقمت صلاة العشاء وأمرت فتياني يحرقون ما في البيوت بالنار، وسيأتي هذا الحديث. والرابع أن التهديد لقوم تركوا الصلاة رأساً لا مجرد الجماعة. وتعقب بما تقدم من رواية أبي داود بلفظ:

ثم آتي قوماً يصلون في بيوتهم ليست بهم علة، وبقوله: لا يشهدون الصلاة بمعنى لا يحضرون الجماعة، وفي رواية عند أحمد: لا يشهدون العشاء في الجميع أي في الجماعة، وفي حديث أسامة بن زيد عند ابن ماجه مرفوعاً: لينتهين رجال عن تركهم الجماعات أو لأحرقن بيوتهم. والخامس أن الحديث ورد في الحث على مخالفة فعل أهل النفاق والتحذير من التشبه بهم، لا لخصوص ترك الجماعة، فلا يتم الدليل، وهو قريب من الوجه الثاني. والسادس أن الحديث ورد في حق المنافقين خاصة، فليس التهدد على ترك الجماعة بخصوصه، فلا يتم الدليل. وتعقب باستبعاد الاعتناء بتأديب المنافقين على تركهم الجماعة، مع العلم بأنه لا صلاة لهم، وبأنه - صلى الله عليه وسلم - كان معرضاً عنهم وعن عقوبتهم مع علمه بطويتهم، وقال: لا يحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه. وتعقب هذا التعقب بأنه لا يتم إلا أن ادعى أن ترك معاقبة المنافقين كان واجباً عليه ولا دليل على ذلك، فإذا ثبت أنه كان مخيراً فليس في إعراضه عنهم ما يدل على وجوب ترك عقوبتهم. قال الحافظ: والذي يظهر لي أن الحديث ورد في المنافقين، لقوله في رواية من حديث أبي هريرة هذا عند الشيخين: ليس صلاة أثقل على المنافقين من العشاء والفجر- الحديث. لكن المراد به نفاق المعصية لا نفاق الكفر، يدل على ذلك ما في رواية أبي داود: ويصلون في بيوتهم ليست بهم علة، ففيه دليل على أن نفاقهم نفاق معصية لا كفر؛ لأن الكافر لا يصلي في بيته إنما يصلي في المسجد رياء وسمعة، فإذا خلا في بيته كان كما وصفه الله به من الكفر والاستهزاء، وأيضاً قوله في رواية أحمد: لولا ما في البيوت من النساء والذرية، يدل على أنهم لم يكونوا كفاراً؛ لأن تحريق بيت الكافر إذا تعين طريقاً إلى الغلبة عليه لم يمنع ذلك وجود النساء والذرية في بيته، وعلى تقدير أن يكون المراد بالنفاق في الحديث نفاق الكفر فلا يدل على عدم الوجوب؛ لأنه يتضمن أن ترك الجماعة من صفات المنافقين، وقد نهينا عن التشبه بهم، وسياق الحديث يدل على عدم الوجوب من جهة المبالغة في ذم من تخلف عنها. قال الطيبي: خروج المؤمن من هذا الوعيد ليس من جهة أنهم إذا سمعوا النداء جاز لهم التخلف عن الجماعة، بل من جهة أن التخلف ليس من شأنهم وعادتهم، وأنه مناف لأحوالهم؛ لأنه من صفات المنافقين، ولو دخلوا في هذا الوعيد ابتداء لم يكن بهذه المثابة. ويعضده ما روي عن ابن مسعود من قوله: لقد رأيتنا وما يتخلف عن الجماعة إلا منافق قد علم نفاقه، رواه مسلم- انتهى كلامه. لا يقال: فهذا يدل على ما ذهب إليه صاحب هذا الوجه. (السادس) لأنتفاء أن يكون المؤمن قد تخلف، وإنما ورد الوعيد في حق م تخلف؛ لأني أقول: بل هذا يقوي ما ظهر لي أولاً أن المراد بالنفاق نفاق المعصية لا نفاق الكفر، فعلى هذا الذي خرج هو المؤمن الكامل لا العاصي الذي يجوز إطلاق النفاق عليه مجازاً لما دل عليه مجموع الأحاديث- انتهى كلام الحافظ. والسابع أن فريضة الجماعة كانت في أول

والذي نفسي بيده، لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقاً سميناً، أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء)) ـــــــــــــــــــــــــــــ الإسلام لأجل سد باب التخلف عن الصلاة على المنافقين ثم نسخ، حكاه عياض. قال الحافظ: ويمكن أن يتقوى بثبوت نسخ الوعيد المذكور في حقهم، وهو التحريق بالنار، وكذا ثبوت نسخ ما يتضمنه التحريق من جواز العقوبة بالمال- انتهى. قال النووي: أجمع العلماء على منع العقوبة بالتحريق في غير المتخلف عن الصلاة والغال في الغنيمة، واختلف السلف فيهما، والجمهور على منع تحريق متاعهما- انتهى. هذا، وههنا وجوه أخرى للجواب عن هذا الحديث تركناها للاختصار، وأقرب الأجوبة عندي هو الوجه الثاني، يني أن الحديث خرج مخرج الزجر لا الحقيقة، وإنما المراد المبالغة بدليل أنه لم يفعله - صلى الله عليه وسلم -، ولا دليل على أنهم انزجروا وتركوا التخلف، وكان يمكن له - صلى الله عليه وسلم - أن يحرق ما في بيوتهم بعد إخراج النساء والذرية منها. (والذي نفسي بيده) أعاد القسم للمبالغة في التأكيد. (لو يعلم أحدهم) أي الذين لا يشهدون الصلاة. (أنه يجد) أي في المسجد. (عرقاً) بفتح العين المهملة وسكون الراء وبالقاف، العظم الذي عليه بقية لحم. قال الطيبي: العرق بالسكون العظم الذي أخذ منه اللحم أي معظمه وبقي عليه لحم رقيق، يقال: عرقت العظم إذا أخذت أكثر ما عليه من الحم نهشاً. وفي المحكم عن الأصمعي: العرق بسكون الراء قطعة لحم، قيل هو اللائق هنا، وقيل: الأول لأنه أشد مبالغة في إظهار الخساسة المقصودة. ولفظ الموطأ والنسائي عظماً قيل هو أنسب للوصف بقوله: (سميناً) قال ابن حجر قيد به؛ لأن العظم السمين فيه دسومة قد يرغب في مضغه لأجلها. (أو مرماتين) تثنية مرماة بكسر الميم وقد تفتح، ظلف الشاة أو ما بين ظلفيها من اللحم، قاله الخليل. وكذا قال البخاري فيما نقله المستملي في روايته في كتاب الأحكام عن الفربري. قال عياض: فالميم على هذا أصلية، وقال الأخفش: المرماة لعبة كانوا يلعبونها بنضال محددة يرمونها في كوم من تراب، فأيهم أثبتها في الكوم غلب، وهي المرماة والمدحاة، قيل: ويبعد أن تكون هذه مراداً لحديث لأجل التثنية. وحكى الحربي عن الأصمعي: أن المرماة سهم الهدف، وقال ويؤيده ما روى عن أبي رافع عن أبي هريرة بلفظ: لو أن أحدهم إذا شهد الصلاة معي كان له عظم من شاة سمينة أو سهمان لفعل. وقيل: المرماة سهم يتعلم عليه الرمي، وهو سهم دقيق مستو غير محدد، وهو أحقر السهام وأرذلها. قال الزين بن المنير: ويدل على ذلك التثنية فإنها مشعرة بتكرر الرمي، بخلاف السهام المحددة الحربية فإنها لا يتكرر رميها. وقال الزمخشري: تفسير المرماة بالسهم ليس بوجيه، ويدفعه ذكر العرق معه، ووجهه ابن الأثير بأنه لما ذكر العظم السمين وكان مما يؤكل أتبعه بالسهمين؛ لأنهما مما يتلهى به- انتهى. (حسنتين) بفتحتين أي جيدتين. قال الحافظ: إنما وصف العرق بالسمن والمرماة بالحسن ليكون ثم باعث نفساني على تحصيلهما. (لشهد العشاء) أي صلاتها، فالمضاف محذوف، والمعنى لو علم أنه لو حضر الصلاة يجد نفعاً دنيوياً وإن كان خسيساً

رواه البخاري. ولمسلم نحوه. 1061- (3) وعنه، قال: ((أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل أعمى، فقال: يا رسول الله! إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ـــــــــــــــــــــــــــــ حقيراً لحضرها لقصور همته على الدنيا، ولا يحضرها لما لها من مثوبات الآخرة ونعيمها، ففيه توبيخ وإشارة إلى ذم المتخلفين بوصفهم بالحرص على الشيء الحقير من مطعوم أو ملعوب به مع التفريط فيما يحصل به رفيع الدرجات ومنازل الكرامات. وفي الحديث من الفوائد تقديم التهديد والوعيد على العقوبة، وسره أن المفسدة إذا ارتفعت بالأهون من الزواجر اكتفى به عن الأعلى من العقوبة، فهو من باب الدفع بالأخف. وفيه جواز العقوبة بالمال، كذا استدل به كثير من القائلين بذلك من المالكية وغيرهم. وفيه جواز أخذ أهل الجرائم على غرة؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - هم بذلك في الوقت الذي عهد منه فيه الاشتغال بالصلاة الجماعة، فأراد أن يبغتهم في الوقت الذي يتحققون أنه لا يطرقهم فيه أحد، وفي السياق إشعار بأنه تقدم منه زجرهم عن التخلف بالقول حتى استحقوا التهديد بالفعل، وترجم عليه البخاري في كتاب الأشخاص وفي كتاب الأحكام: باب أخراج أهل المعاصي والريب من البيوت بعد المعرفة، يريد أن من طلب منهم بحق فاختفى أو امتنع في بيته لدداً ومطلاً أخرج منه بكل طريق يتوصل إليه بها، كما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - إخراج المتخلفين عن الصلاة بإلقاء النار عليهم في بيوتهم. وفيه الرخصة للإمام أو نائبة في ترك الجماعة لأجل إخراج من يستخفى في بيته ويتركها، ولا بعد أن يلحق بذلك الجمعة فقد ذكروا من الأعذار في التخلف عنها خوف فوات الغريم وأصحاب الجرائم في حق الإمام كالغرماء. واستدل به ابن العربي على جواز إعدام محل المعصية، كما هو مذهب مالك. قال العيني: وكذلك روي عن بعض أصحابنا، وادعى الجمهور النسخ. (رواه البخاري) في الصلاة وفي كتاب الأشخاص وكتاب الأحكام، وأخرجه أيضاً أحمد ومالك والنسائي والبيهقي. (ولمسلم نحوه) وكذا للترمذي وأبي داود وابن ماجه. 1061- قوله: (رجل أعمى) قال النووي وغيره: هو ابن أم مكتوم كما جاء مفسراً في سنن أبي داود وغيره، يعني بذلك رواية أبي داود والنسائي الآتية في الفصل الثالث. (ليس لي قائد) القائد هو الذي يمسك يد الأعمى ويأخذها ويذهب به حيث شاء ويجرة، من القود وهو ضد السوق فهو من أمام، وذاك من خلف، والمراد نفي القائد الملائم أي الموافق المساعد، لا نفي القائد مطلقاً، جمعاً بينه وبين ما وقع في الرواية الآتية عند أبي داود: ولى قائد لا يلائمني، إذا كان الأعمى المذكور في حديث أبي هريرة هذا هو ابن أم مكتوم، وقيل: هما واقعتان. (يقودني) أي يمسكني ويأتي معي. (إلى المسجد) لصلاة الجماعة وفي رواية النسائي إلى الصلاة. (أن

يرخص له فيصلي في بيته، فرخص له، فلما ولى دعاه، فقال: هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال نعم. قال: فأجب)) رواه مسلم. 1062- (4) وعن ابن عمر: ((أنه أذن بالصلاة في ليلة ذات برد وريح، ـــــــــــــــــــــــــــــ يرخص له) أي في ترك الجماعة في المسجد. (فيصلي في بيته) إما جماعة أو منفرداً. (فرخص له) أولا. (فلما ولى) أي رجع وأدبر (هل تسمع النداء بالصلاة) أي التأذين بها. (فأجب) أمر من الإجابة أي أجب النداء واتبعه بالفعل، يعني فأت الجماعة، قيل: الترخيص في أول الأمر اجتهاد منه - صلى الله عليه وسلم -، والأمر بالإجابة بوحي جديد من الله تعالى نزل في الحال، أو أنه تغير اجتهاده - صلى الله عليه وسلم - إذا قلنا بالصحيح، وقول الأكثرين أنه يجوز له الاجتهاد. وقيل: أطلق له الجواب أي رخص له أولاً مطلقاً ثم قيده بقيد عدم سماع النداء، ومفهومه أنه إذا لم يسمع النداء كان ذلك عذراً له، وإذا سمعه لم يكن له عذر من الحضور. وقيل الترخيص أولاً باعتبار العذر, والأمر بالإجابة للندب، فكأنه قال: الأفضل لك والأعظم لأجرك أن تجيب وتحضر فأجب، ويدل لكون الأمر للندب مع العذر حديث ابن عباس الآتي في الفصل الثاني، والحديث ظاهر في وجوب الجماعة وجوب عين، فيأثم المصلي بتركها. وأجاب الجمهور عن ذلك بأنه سأل هل له رخصة في أن يصلي في بيته وتحصل له فضيلة الجماعة بسبب عذره، فقيل لا. ويؤيد ها أن حضور الجماعة يسقط بالعذر بإجماع المسلمين، ومن جملة العذر العمى إذا لم يجد قائداً، كما في حديث عتبان بن مالك في الصحيحين أنه رخص له حيث شكا بصره أن يصلي في بيته. وتعقب بأن هذا التأويل ضعيف، لما تقدم أن المعذور لا ينقص أجره عما يفعله لولا العذر، كما يدل عليه حديث أبي موسى. وما ادعى أحد أن الجماعة فرض عين مع وجود العذر أيضاً، فتدبر. وحمل بعضهم حديث العمى على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم منه أنه يمشي بلا قائد لحذقه وذكائه كما هو مشاهد في بعض العميان يمشي بلا قائد، لاسيما إذا كان يعرف المكان قبل العمي أو بتكرر المشي إليه يستغنى عن القائد. وأجاب بعضهم بأن الدعوى وجوب الجماعة في المسجد عيناً سمع النداء أو لم يسمع، والحديث إنما يدل على وجوب الجماعة عيناً على من سمع النداء فقط لا مطلقاً، وهو أخص من الدعوى، فلا يتم التقريب. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً النسائي والبيهقي وغيرهما. 1062- قوله: (وعن ابن عمر أنه أذن) عبارة البخاري هنا عن نافع أن ابن عمر أذن، وفي باب الأذان للبخاري أيضاً قال: (أي نافع) أذن ابن عمر، وهذا صريح في أن أذن على صيغة المعروف. (في ليلة ذات برد) بسكون الراء. (وريح) وكان ابن عمر إذ ذاك مسافراً فأذن في ليلة باردة بضجنان كما في رواية للبخاري، وهو

ثم قال: ألا صلوا في الرحال، ثم قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلة ذات برد ومطر يقول: ـــــــــــــــــــــــــــــ بفتح الضاد المعجمة وسكون الجيم وبينونين بينهما ألف على وزن فعلان، غير منصرف. قال الزمخشري في الفائق: جبل بينه وبين مكة خمسة وعشرون ميلاً. (ثم قال) أي ابن عمر بعد فراغ الأذان. (ألا) بتخفيف اللام التنبيه (صلوا) بصيغة الأمر. (في الرحال) بكسر الراء بعدها حاء مهملة جمع رحل، وهو مسكن الرجل وما فيه من أثاثه، أي صلوا في منازلكم. (كان يأمر المؤذن إذا كانت) أي وقعت. (ليلة) بالرفع. (ذات برد) صفتها والمراد البرد الشديد. (ومطر) أي كثير، وفي رواية للبخاري: في الليلة الباردة أو المطيرة أي الماطرة. وفي صحيح أبي عوانة: ليلة باردة أو ذات مطر أو ذات ريح. وقوله أو ليس للشك، بل للتنويع، وفيه رد على من قال إن ابن عمر قاس الريح على المطر بجامع المشقة العامة؛ لأنه نص فيه على الريح، وفيه أيضاً أن كل واحد من البرد والمطر والريح عذر بانفراده في التأخر عن الجماعة، وبه قال الجمهور. ونقل ابن بطال فيه الإجماع، لكن المعروف عند الشافعية والمالكية والحنفية أن الريح عذر في الليل فقط، وأما المطر والبرد فقالوا إن كلا منهما عذر في الليل والنهار كليهما. وظاهر الحديث اختصاص الثلاثة بالليل، لكن في سنن أبي داود من طريق ابن إسحاق عن نافع في هذا الحديث: في الليلة والغداة القرة، وفيها بإسناد صحيح من حديث أبي المليح عن أبيه أنهم مطروا يوماً (أي يوم حنين) فرخص لهم، وكذا في حديث ابن عباس عند الشيخين أنه قال لمؤذنه في يوم مطير ... الحديث، قال الحافظ: ولم أر في شيء من الأحاديث الترخص بعذر الريح في النهار صريحاً لكن القياس يقتضى إلحاقه- انتهى. (يقول) أي بعد الفراغ من الأذان، ففي رواية للبخاري: كان يأمر مؤذناً يؤذن ثم يقول على أثره يعني أثر الأذان، فإنه صريح في أن قوله: ألا صلوا في الرحال. كان بعد فراغ الأذان. فإن قلت: في حديث ابن عباس عند الشيخين: فلما بلغ المؤذن حي على الصلاة فأمره أن ينادي الصلاة في الرحال. وقال: فعل هذا من هو خير منه، وهو يقتضي أن ذلك يقال بدلاً عن الحيعلتين، وظاهر الحديث أنه يقال بعد الفراغ من الأذان، فما الجمع بينهما. أجيب بأن الأمرين جائزان، لأمره - صلى الله عليه وسلم - بكل منهما لكن بعده أحسن لئلا ينخرم نظام الأذان، وقد ورد الجمع بينهما في حديث آخر أخرجه عبد الرزاق وغيره بإسناد صحيح، عن نعيم بن النحام قال: أذن مؤذن النبي - صلى الله عليه وسلم - للصبح في ليلة باردة، فتمنيت لو قال: ومن قعد فلا حرج، فلما قال: الصلاة خير من النوم قالها، ولا منافاة بين الجمع بينهما، سواء زيد في أثناء الأذان بعد الحيعلتين أو زيد بعد فراغه؛ لأنه يمكن أن يقال أن المراد من قوله: الصلاة في الرحال الرخصة لمن أراد أن يترخص، ومعنى حي على صلاة أي هلموا إليها الندب لمن أراد أن يستكمل الفضيلة ولو بحمل المشقة. وفي حديث جابر عند مسلم ما يؤيد

ألا صلوا في الرحال)) متفق عليه. 1063- (5) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك ولفظه: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر فمطرنا فقال ليصل من شاء منكم في رحله، وقد تبين بقوله: من شاء أن أمره عليه السلام بقوله: ألا صلوا في الرحال، ليس أمر عزيمة، حتى لا يشرع له الخروج إلى الجماعة، وإنما هو راجع إلى مشيتهم، فمن شاء صلى في رحله، ومن شاء خرج إلى الجماعة. (ألا صلوا) أمر إباحة كما تقدم آنفاً. (في الرحال) العذر، والصلاة في الرحال أعم من أن تكون جماعة أو منفردة، لكنها مظنة الانفراد، والمقصود الأصلي في الجماعة إيقاعها في المسجد، وزاد البخاري في رواية: في السفر، قال الحافظ: ظاهره اختصاص ذلك بالسفر، ورواية مالك عن نافع الآتية يعني رواية الباب مطلقة، وبها أخذ الجمهور، لكن قاعدة حمل المطلق على المقيد تقتضي أن يختص ذلك بالمسافر مطلقاً، ويلحق به من تلحقه بذلك مشقة في الحضر دون من لا تلحقه- انتهى. قلت: في سنن أبي داود من طريق محمد بن إسحاق عن نافع في هذا الحديث: في المدينة في الليلة المطيرة والغداة القرة، فصرح بأن ذلك في المدينة ليس في سفر، لكن ابن إسحاق رواه عن نافع بالعنعنة، وهو مدلس، وقد خالفه الثقات، فإنهم قالوا فيه: في السفر. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً مالك وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي، وفي الباب عن ابن عباس، وقد تقدم لفظه، وعن سمرة أخرجه أحمد وعن أبي المليح عن أبيه، وعن جابر وتقدم لفظهما، وعن عبد الرحمن بن سمرة أخرجه الحاكم وعبد الله بن أحمد، قال: وجدت في كتاب أبي بخط يده وأكبر علمي أنى قد سمعته منه ثنا على بن عبد الله الخ (ج5 ص62) وعن نعيم بن النحام، وعن عمرو بن أوس عن صحابي لم يسم أخرج حديثهما أحمد. 1063- قوله: (إذا وضع) بصيغة المجهول. (عشاء أحدكم) بفتح العين في الموضعين، طعام آخر النهار، ويفهم منه أن تقديم الطعام إذا وضع بين يدي الآكل، لا إذا وجده مطبوخاً أو مغروفاً في الأوعية، ويدل عليه أيضاً ما في حديث أنس عند البخاري: إذا قدم العشاء، ولمسلم: إذا قرب العشاء، وعلى هذا فلا يناط الحكم بما إذا حضر العشاء، ولكنه لم يقرب للأكل كما لو لم يقرب. (وأقيمت الصلاة) قيل: الألف واللام للعهد، والمراد بالصلاة المغرب، لقوله: فابدؤوا بالعشاء، ولقوله في حديث أنس عند البخاري: فابدوؤا به قبل أن تصلوا المغرب. وفي رواية ابن حبان والطبراني: إذا وضع العشاء وأحدكم صائم. وقيل: اللام لتعريف الماهية، والمراد حقيقة الصلاة. قال الفاكهاني: ينبغي حمله على العموم نظراً إلى العلة، وهي التشويش المفضي إلى ترك الخشوع، وذكر المغرب لا يقتضي الحصر فيها؛ لأن الجائع غير الصائم قد يكون أشوق إلى الأكل من الصائم- انتهى. قال الحافظ بعد ذكر

فابدؤوا بالعشاء ولا يعجل حتى يفرغ منه، وكان ابن عمر يوضع له الطعام، وتقام الصلاة، ـــــــــــــــــــــــــــــ هذين القولين: وحمله على العموم نظراً إلى العلة، إلحاقاً للجائع بالصائم وللغداء بالعشاء، لا بالنظر إلى اللفظ الوارد- انتهى. قلت: حديث عائشة الآتي يؤيد العموم. (فابدؤوا بالعشاء) أي بأكله، واختلفوا في هذا الأمر، فالجمهور على أنه للندب. وقيل: للوجوب، وبه قالت الظاهرية. واستدل الجمهور بفعله عليه السلام من كونه ألقى الكتف أثناء أكله منها حين دعي إلى الصلاة. أخرجه البخاري من حديث عمرو بن أمية؛ لأنه لو كان تقديم الأكل واجباً لما قام إلى الصلاة. وتعقب بأنه يحتمل أن يكون اتفق في تلك الحالة أنه قضى حاجته من الأكل فلا تتم الدلالة به، ثم اختلف الجمهور، فمنهم من قيده بمن إذا كان محتاجاً إلى الأكل شديد التوقان إليه، وهو المشهور عن الشافعية، وزاد الغزالي ما إذا خشي فساد المأكول. ومنهم من قيده بما إذا كان الطعام خفيفاً أو مما يؤتى عليه مرة واحدة كالسويق واللبن، وإلا يبدأ بالصلاة، نقله ابن المنذر عن مالك. ومنهم من لم يقيده، وهو قول الثوري وأحمد وإسحاق، وعليه يدل فعل ابن عمر الآتي. وأفرط ابن حزم وقال: تبطل الصلاة. والراجح عندي ما قاله أحمد ومن وافقه، فيستحب تقديم العشاء مطلقاً أي سواء كان محتاجاً إليه أم لا، وسواء كان خفيفاً أم لا، وسواء خشي فساد المأكول أم لا. واستدل بعض الشافعية والحنابلة بقوله: فابدؤوا، على تخصيص ذلك بمن لم يشرع في الأكل، وأما من شرع فيه ثم أقيمت الصلاة فلا يتمادى بل يقوم إلى الصلاة، لكن صنيع ابن عمر يبطل ذلك. قال النووي: وهو الصواب. وتعقب بأن صنيع ابن عمر اختيار له، وإلا فالنظر إلى المعنى يقتضي ما ذكروه؛ لأنه يكون قد أخذ من الطعام ما يدفع به شغل البال، ويؤيد ذلك حديث عمرو بن أمية الذي أشرنا إليه، نعم ينبغي أن يدار الحكم مع العلة وجوداً أو عدماً، ولا يتقيد بكل ولا بعض. (ولا يعجل) أي أحدكم إلى الصلاة. (حتى يفرغ منه) أي من أكل العشاء. قال الطيبي: أفرد قوله: "يعجل" نظراً إلى لفظ "أحد" وجمع قوله "فابدؤوا" نظراً إلى لفظ "كم". قال: والمعنى إذا وضع عشاء أحدكم فابدؤوا أنتم بالعشاء، ولا يعجل هو حتى يفرغ معكم منه- انتهى. وأجاب البرماوي بأن النكرة في الشرط تعم فيحتمل أن الجمع لأجل عموم أحد- انتهى. وقال القاري: الظاهر أن الخطاب بالجمع لإفادة عموم الحكم، وأنه غير مختص بأحد دون أحد، أو المراد به الموافقة معه، ثم أداء الصلاة جماعة، لينال الفضيلة. والحديث دليل على أن تقريب الطعام ووضعه بين يدي الآكل من أعذار ترك الجماعة. (وكان ابن عمر) هو موصول عطفاً على المرفوع السابق، مقولة نافع. (يوضع له الطعام) هو أعم من العشاء. (وتقام الصلاة) أي جماعة مغرباً أو غيرها، لكن رواه البيهقي والسراج بسندهما عن نافع بلفظ: وكان ابن عمر إذا حضر عشاءه. ورواه ابن حبان بسنده عن نافع أن ابن عمر كان يصلي المغرب إذا غابت الشمس، وكان أحياناً يلقاه وهو صائم، فيقدم له عشاءه وقد نودي للصلاة، ثم تقام وهو يسمع، فلا يترك عشاءه ولا يعجل

فلا يأتيها حتى يفرغ منه، وإنه ليسمع قراءة الإمام)) متفق عليه. 1064- (6) وعن عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت: ((سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا صلاة بحضرة الطعام، ولا ـــــــــــــــــــــــــــــ حتى يقضي عشاءه ثم يخرج فيصلي. (فلا يأتيها) أي الصلاة في المسجد. (حتى يفرغ منه) أي من أكله. وليس في صحيح البخاري لفظ "منه". (وأنه) الواو للحال. (ليسمع) بلام التأكيد. (قراءة الإمام) أي من قربه من المسجد. واستنبط من الحديث كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله لما فيه من ذهاب كمال الخشوع. قال النووي: ويلتحق به ما في معناه مما يشغل القلب، وهذا إذا كان في الوقت سعة، فإن ضاق صلى على حاله محافظة على حرمة الوقت، ولا يجوز التأخير. وحكى المتولي وجهاً أنه يبدأ بالأكل وإن خرج الوقت؛ لأن مقصود الصلاة الخشوع فلا يفوته - انتهى. وهذا إنما يجيء على قول من يوجب الخشوع، ثم فيه نظر؛ لأن المفسدتين إذا تعارضتا اختصر على أخفها، وخروج الوقت أشد من ترك الخشوع، بدليل صلاة الخوف وغير ذلك، وإذا صلى لمحافظة الوقت صحت مع الكراهة، وتستحب الإعادة عند الجمهور. واستدل به القرطبي على أن شهود صلاة الجماعة ليس بواجب؛ لأن ظاهره أنه يشتغل بالأكل وإن فاتته الصلاة بالجماعة. وفيه نظر؛ لأن بعض من ذهب إلى الوجوب كابن حبان جعل حضور الطعام عذراً في ترك الجماعة، فلا دليل فيه حينئذٍ على إسقاط الوجوب مطلقاً. وفيه دليل على تقديم فضيلة الخشوع في الصلاة على فضيلة أول الوقت، فإنهما لما تزاحما قدم الشارع الوسيلة إلى حضور القلب على أداء الصلاة في أول الوقت. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والترمذي وابن ماجه والبيهقي، وليس في حديث مسلم القسم الموقوف على ابن عمر من فعله، بل هو عند البخاري فقط، وأخرج نحوه الترمذي وأبوداود وابن ماجه، وفي الباب عن عائشة وأنس عند الشيخين وعن أم سلمة عند أحمد وأبي يعلي والطبراني وعن سلمة بن الأكوع وابن عباس وأنس عند الطبراني. 1064- قوله: (لا صلاة) أي كاملة، وقيل: هو نفي بمعنى نهي، ويؤيده رواية أبي داود: لا يصلي الرجل بحضرة الطعام. (بحضرة الطعام) وفي بعض النسخ "بحضرة طعام" كما في صحيح مسلم، أي بحضور طعام بين يدي من يريد أكله، وفيه دليل على أن حمل الصلاة في قوله: أقيمت الصلاة، في الحديث السابق على العموم أولى؛ لأن لفظ صلاة في هذا الحديث نكرة في سياق النفي، ولا شك أنها من صيغ العموم، ولأن لفظ الطعام مطلق غير مقيد بالعشاء، فالظاهر أن ذكر المغرب في حديث أنس من التنصيص على بعض أفراد العام وليس بتخصيص. (ولا) أي ولا

هو يدافعه الأخبثان)) رواه مسلم. 1065- (7) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة ـــــــــــــــــــــــــــــ صلاة كاملة حاصلة. (هو يدافعه) ضمير "هو" مبتدأ خبره "يدافعه" والجملة وقعت حالاً بلا واو، وفي بعض النسخ: ولا وهو يدافعه، بالواو، كما في صحيح مسلم. (الأخبثان) وفي رواية أحمد والبيهقي: ولا وهو يدافع الأخبثين أي البول والغائط، ويلحق بهما ما كان في معناهما مما يشغل القلب، ويذهب كمال الخشوع، كالريح والقيء. قال الطيبي: أي ولا صلاة حاصلة للمصلي في حال يدافعه الأخبثان عنها، فاسم "لا" الثانية وخبرها محذوفان، وقوله: هو يدافعه الأخبثان، حال، ويؤيده رواية ابن حبان بلفظ: لا يصلي أحدكم وهو يدافع الأخبثين، وقيل في رواية الكتاب حذف تقديره: ولا صلاة حين هو يدافعه الأخبثان فيها، والمدافعة إما على حقيقتها، يعني الرجل يدفع الأخبثين حتى يؤدي الصلاة، والأخبثان يدفعانه عن الصلاة، وإما بمعنى الدفع مبالغة، وهذا مع المدافعة، وأما إذا كان يجد في نفسه ثقل ذلك، وليس هناك مدافعة فلا نهي عن الصلاة معه ومع المدافعة فهي مكروهة، قيل: تنزيهاً لنقصان الخشوع، فلو خشي خروج الوقت إن قدم التبرز وإخراج الأخبثين قدم الصلاة، وهي صحيحة مكروهة، ويستحب إعادتها. ولا تجب عند الجمهور، كما قال النووي: وعن الظاهرية أنها باطلة. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والبيهقي. 1065- قوله: (إذا أقيمت الصلاة) المراد بإقامة الصلاة الإقامة التي يقولها المؤذن عند إرادة الصلاة، وهو المعنى المتعارف. قال العراقي: وهو المتبادر إلى الأذهان من هذا الحديث، والأحاديث التي نذكرها في شرح الحديث تعين ذلك المعنى كما سيأتي. ثم المراد بإقامة المؤذن هو شروعه في الإقامة ليتهيأ المأمومون لإدراك التحريم مع الإمام. ومما يدل على ذلك رواية ابن حبان بلفظ: إذا أخذ المؤذن في الإقامة، وحديث أبي موسى عند الطبراني في الكبير والأوسط أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يصلي ركعتي الغداة حين أخذ المؤذن يقيم، فغمز النبي - صلى الله عليه وسلم - منكبه وقال: إلا كان هذا قبل هذا. قال: العراقي: إسناده جيد. وقال الهيثمي: رجاله موثقون. ويدل عليه أيضاً حديث ابن عباس قال: كنت أصلي وأخذ المؤذن في الإقامة، فجذبني النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: أتصلي الصبح أربعاً. أخرجه أبوداود الطيالسي والبيهقي والبزار وأبويعلي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، والطبراني في الكبير قال الهيثمي: رجاله ثقات. (فلا صلاة) يحتمل أن يتوجه النفي إلى الصحة أو إلى الكمال، والظاهر توجيهه إلى الصحة؛ لأنها أقرب المجازين إلى الحقيقة، ويحتمل أن يكون النفي بمعنى النهي، مثل قوله تعالى: {فلا رفث ولا فسوق ولا جداًل في الحج} [2: 197] أي فلا تصلوا حينئذٍ،

إلا المكتوبة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويؤيده ما رواه البخاري في تاريخه والبزار وغيرهما عن أنس قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أقيمت الصلاة فرأى ناساً يصلون ركعتي الفجر فقال: صلاتان معاً؟ ونهى أن تصليا إذا أقيمت الصلاة، وهو من رواية شريك ابن عبد الله بن أبي نمر عنه، واختلف عليه في وصله وإرساله، والنهي المذكور للتحريم؛ لأنه أصل فيه. (إلا المكتوبة) أي تلك الصلاة المفروضة، فالألف واللام ليست لعموم المكتوبات وإنما هي راجعة إلى الصلاة التي أقيمت، وقد ورد التصريح بذلك في رواية لأحمد والطحاوي بلفظ: فلا صلاة إلا التي أقيمت، والمعنى: إذا شرع المؤذن في الإقامة للصلاة التي لم تؤدوها فلا تصلوا حينئذٍ إلا التي أقيمت لها، فالنهي متوجه إلى الاشتغال بصلاة غير تلك المكتوبة لمن عليه تلك المكتوبة، وأما الشروع خلف الإمام في النافلة لمن أدى المكتوبة قبل ذلك فلا يشمله النهي؛ لأن المأمور بهذا الحكم ليس إلا من عليه تلك المكتوبة، كما هو ظاهر السياق. والحديث فيه دليل على أن الاشتغال بالرواتب وغيرها وقت إقامة الصلاة أو بعد الإقامة والإمام في الصلاة التي أقيمت لها ممنوع، سواء كانت الراتبة سنة الصبح أو غيرها، وسواء كان في المسجد في زاوية منه أو إلى أسطوانة أو في الصف أو خلفه أو كان خارج المسجد في مكان عند بابه. قال الخطابي في المعالم (ج1: ص274) : في هذا بيان أنه ممنوع من ركعتي الفجر ومن غيرها من الصلوات إلا المكتوبة. وقال النووي في شرح مسلم (ج1: ص247) : فيه النهي الصريح عن افتتاح نافلة بعد إقامة الصلاة، سواء كانت راتبة كسنة الصبح والظهر والعصر، أو غيرها - انتهى. وقال الحافظ في الفتح (ج3: ص368) : فيه منع التنفل بعد الشروع في إقامة الصلاة، سواء كانت راتبة أم لا؛ لأن المراد بالمكتوبة: المفروضة. وزاد مسلم بن خالد عن عمرو بن دينار في هذا الحديث "قيل يا رسول الله، ولا ركعتي الفجر، قال ولا ركعتي الفجر" أخرجه ابن عدي في ترجمة يحي بن نصر ابن حاجب، وإسناده حسن - انتهى. قلت: وأخرجه أيضاً البيهقي (ج2: ص483) وأما ما يذكر من زيادة الاستثناء في آخر الحديث بلفظ: إلا ركعتي الفجر فلا أصل لها، كما صرح به البيهقي. وقال الشوكاني في النيل (ج2: ص330) : الحديث يدل على أنه لا يجوز الشروع في النافلة عند إقامة الصلاة. من غير فرق بين ركعتي الفجر وغيرهما - انتهى. قال النووي: والحكمة فيه أن يتفرغ للفريضة من أولها فيشرع فيها عقيب شروع الإمام، وإذا اشتغل بنافلة فاته الإحرام، وفاته بعض مكملات الفريضة، فالفريضة أولى بالمحافظة على إكمالها. واختلف العلماء فيمن لم يصل ركعتي الفجر، وقد أقيمت الصلاة: فذهب أهل الظاهر إلى أنه إذا سمع الإقامة لم يحل له الدخول في ركعتي الفجر ولا غيرهما من النوافل سواء كان في المسجد أو خارجه، فإن فعل فقد عصي. قال الشوكاني: وهو قول أهل الظاهر ونقله ابن حزم عن الشافعي وعن جمهور السلف. وحكى القرطبي في المفهم عن أبي هريرة

وأهل الظاهر أنها لا تنعقد صلاة تطوع في وقت إقامة الفريضة. قال الخطابي: روي عن عمر بن الخطاب أنه كان يضرب الرجل إذا رأه يصلي الركعتين والإمام في الصلاة. وقال المنذري في مختصر سنن أبي داود: قال أبوهريرة بظاهره، وروي عن عمر أنه كان يضرب على صلاة الركعتين بعد الإقامة، وذهب إليه بعض الظاهرية، ورأوا أنه يقطع صلاته إذا أقيمت عليه الصلاة، وكلهم يقولون: لا يبتدىء نافلة بعد الإقامة لنهيه - صلى الله عليه وسلم -. قال الشوكاني بعد ذكر ما ذهب إليه أهل الظاهر من عدم جواز الدخول في النافلة بعد سماع الإقامة سواء كان في المسجد أو خارجه هذا القول هو الظاهر. وقال شيخنا في شرح الترمذي: هو القول الراجح المعول عليه، وذهب الشافعي وأحمد إلى أن ذلك مكروه. قال الخطابي في المعالم (ج1: ص247) : روي الكراهية في ذلك عن ابن عمر وأبي هريرة، وكره ذلك سعيد بن جبير وابن سيرين وعروة بن الزبير وإبراهيم النخعي وعطاء، وإليه ذهب الشافعي وأحمد - انتهى. وقال ابن رشد في البداية: وقال الشافعي إذا أقيمت الصلاة فلا يركعهما أصلاً لا داخل المسجد ولا خارجه. وقال ابن قدامة في المغني: إذا أقيمت الصلاة فلا يشغل بالنافلة، سواء خاف فوت الركعة أو لم يخف، وبه قال الشافعي - انتهى. قلت: الظاهر أن الشافعي وأحمد وافقا أهل الظاهر في عدم الجواز، هذا وقد ظهر من أقوالهم المذكورة أنهم متفقون على حمل الحديث على عمومه، وأنه غير مقصور على المسجد. فعلة النهي ومناط الكراهة ومثار المنع عندهم هو أداء السنة حال إقامة الصلاة، والاشتغال بالنافلة عن الفريضة، وقد تقدم ذلك في كلام النووي. وهذا هو الحق عندي، فإن هذه العلة قد جاءت منصوصة في بعض الروايات كحديث أنس عند البزار وغيره قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أقيمت الصلاة، فرأى ناساً يصلون ركعتي الفجر، فقال صلاتان معاً؟ نهى أن تصليا إذا أقيمت الصلاة، وكحديث أبي موسى الأشعري عند الطبراني في الكبير: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يصلي ركعتي الغداة حين أخذ المؤذن يقيم، فغمز النبي - صلى الله عليه وسلم - منكبه، وقال: ألا كان هذا قبل هذا، وكحديث ابن عباس عند أبي داود الطيالسي وغيره قال: كنت أصلي وأخذ المؤذن في الإقامة، فجذبني النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أتصلي أربعا؟ ويدل عليه أيضاً تصديره بقوله: إذا أقيمت الصلاة، وقوله في رواية لأحمد: لا صلاة بعد الإقامة إلا المكتوبة، فهذه الروايات كلها نصوص صريحة في أن مناط النهي هو الاشتغال بالنافلة بعد الإقامة لا غير، وهي تدفع التأويلات الواهية الفاسدة الآتية التي تكلف لها الطحاوي وغيره من الحنفية، وذهب مالك إلى أنه إذا كان قد دخل المسجد ليصليهما فأقيمت الصلاة فليدخل مع الإمام في الصلاة ولا يركعهما في المسجد، وإن كان لم يدخل المسجد فإن لم يخف أن يفوته الإمام بركعة فليركعهما خارج المسجد، وإن خاف فوات الركعة الأولى فليدخل مع الإمام وقال أبوحنيفة: إن خشي فوت الركعتين معاً، وأنه

لا يدرك الإمام قبل رفعه من الركوع في الثانية دخل معه، وإلا فليركعهما يعني ركعتي الفجر خارج المسجد ثم يدخل مع الإمام، فوافق أبوحنيفة مالكاً في الفرق بين أن يدخل المسجد أو لا يدخله، وخالفه في الحد في ذلك، فقال: يركعهما خارج المسجد ما ظن أنه يدرك ركعة من الصبح مع الإمام، قال صاحب فيض الباري: هذا أي صلاتهما خارج المسجد بشرط إدراك ركعة هو المذهب. (أي مذهب أبي حنيفة) عندي، كما في الجامع الصغير والبدائع، واختاره صاحب الهداية، وصرحوا به في باب إدراك الفريضة، وصرح به علماء المذاهب الأخرى كالقسطلاني. (والخطابي) من الشافعية وابن رشد والباجي من المالكية، ولا رواية عنه في داخل المسجد - انتهى. قال ابن رشد: وإنما اختلف مالك وأبوحنيفة في القدر الذي يراعى من فوات صلاة الفريضة لاختلافهم في القدر الذي يفوت به فضل الجماعة، إذ فضل الجماعة عندهم أفضل من ركعتي الفجر، فمن رأى أنه يفوت بفوات ركعة قال يتشاغل بهما ما لم تفته ركعة من المفروضة، ومن رأى أنه يدرك الفضل بإدراك ركعة من الصلاة لقوله عليه الصلاة والسلام: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة، قال: يتشاغل بهما ما ظن أنه يدرك ركعة منهما، ومالك وإنما يحمل هذا على من فاتته الصلاة دون قصد منه - انتهى. وقد ظهر من مذهبهما أنهما قصرا حكم الحديث على المسجد ولم يحملاه على عمومه. وهذا يدل على أن مناط النهي عندهما هو كونه مصلياً في المسجد غير المكتوبة التي أقيمت لها؛ لأن فيه المخالفة على الإمام. قال في الهداية: التقييد بالأداء عند باب المسجد يدل على الكراهة في المسجد إذا كان الإمام في الصلاة. قال ابن الهمام:؛ لأنه يشبه المخالفة للجماعة والانتباذ عنهم، فينبغي أن لا يصلي في المسجد إذا لم يكن عند باب المسجد مكان؛ لأن ترك المكروه مقدم على فعل السنة - انتهى. وقال ابن رشد: من قصر ذلك على المسجد فالعلة عنده أنما هو أن تكون صلاتان معاً في موضع واحد لمكان الاختلاف على الإمام - انتهى. واختصاص الحكم بالمسجد هو الذي فهمه ابن عمر، فقد قال الحافظ في الفتح: قد فهم ابن عمر اختصاص المنع بمن يكون في المسجد لا خارجاً عنه فصح عنه أنه كان يحصب من ينتفل في المسجد بعد الشروع في الإقامة، وصح عنه أنه قصد المسجد فسمع الإقامة فصلى ركعتي الفجر في بيت حفصة ثم دخل المسجد فصلى مع الإمام. ويؤيده ما روى عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا صلاة لمن دخل المسجد والإمام قائم يصلي فلا ينفرد وحده بصلاة ولكن يدخل مع الإمام في الصلاة. رواه الطبراني في الكبير. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2: ص75) : وفيه يحيى بن عبد الله البابلتي وهو ضعيف - انتهى. قلت: يحيى البابلتي هذا ابن امرأة الأوزاعي، ضعفه أبوزرعة وغيره. وقال ابن أبي حاتم: يأتي عن الثقات بأشياء معضلة بهم فيها فهو ساقط الاحتجاج فيما انفرد به. وقال أبوحاتم: لا يعتد به. وقال ابن عدي له أحاديث صالحة تفرد ببعضها، وأثر الضعف على حديثه بين، وقد أكثر عن الأوزاعي ولم يسمع منه شيئاً. وقال

في التقريب في ترجمته: ضعيف، فحديث ابن عمر هذا ضعيف لا يصلح للاستدلال والتخصيص، والظاهر عندي أن الحديث موقوف من قول ابن عمر وفتياه، كما يدل عليه فعله، فوهم فيه يحيى البابلتي وجعله مرفوعاً من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أقيمت الصلاة الخ مطلق غير مقيد بالمسجد بل هو عام للمسجد وغيره، فيجب حمله على عمومه ولا يجوز قصره على المسجد؛ لأن تخصيص النص بالرأي غير جائز ابتداء، فلا يخص إلا بدليل من الكتاب والسنة الصحيحة، ولا يجوز تخصيصه بقول أحد كائناً من كان، والحجة هي السنة دون فهم الصحابي وفعله أو قوله، وعلة النهي أنما هو الاشتغال بالنافلة عن الفريضة عند الإقامة أو بعدها وقد جاء ذلك مصرحاً في بعض الروايات، كما تقدم، ولا دخل للمسجد في العلية وأما ما قال ابن رشد في ذكر وجه الاختلاف بين مالك وأبي حنيفة في القدر الذي يراعي من فوات الفضيلة من أن أبا حنيفة قيد بإدراك الركعة؛ لأن فضل الجماعة إنما يحصل عنده بإدراك ركعة ففيه أن إدراك الفضل لا يتوقف عندهم على إدراك الركعة بل يحصل ذلك بإدراك التشهد أيضاً. قال الشامي (ج1: ص671) : المداد هنا على إدراك فضل الجماعة، وقد اتفقوا على إدراكه بإدراك التشهد، فيأتي بالسنة اتفاقاً أي لو رجا إدراك التشهد، كما أوضحه في الشرنبلالية أيضاً، وأقره في شرح المنية وشرح نظم الكنز وحاشية الدرر لنوح آفندي وشرحها للشيخ إسماعيل ونحوه في القهستاني، وجزم به الشارح في المواقيت - انتهى. قال صاحب الفيض: ثم وسع محمد (رح) في إدراك ركعة، وأجاز بهما عند إدراك القعدة أيضاً. ثم مشائخنا وسعوا بهما في المسجد أيضاً. (وحكاه النووي في شرح مسلم عن أبي حنيفة وأصحابه) ، وأظن أن أول من وسع بهما في المسجد هو الطحاوي فذهب إلى جوازهما في ناحية المسجد بشرط الفصل بينهما وبين المكتوبة حتى لا يعد واصلاً بينهما وبين المكتوبة، وهو مثار النهي عنده. ولعلك علمت أن القيدين الذين كان صاحب المذهب ذكرهما ارتفع أحدهما بتوسيع محمد، والآخر بتوسيع الطحاوي. أما أنا فأعمل بمذهب الإمام أبي حنيفة، وقد أفتى به الناس - انتهى. قلت: مناط النهي وعلته عند الطحاوي هو اختلاط الفرض والنفل، ومخالطة الصف، وعدم الفصل بين النافلة والفريضة في المكان، فقد قال في تأويل حديث أبي هريرة أنه قد يجوز أن يكون أراد بهذا النهي عن أن يصلى غيرها في موطنها الذي فيه، فيكون مصليها قد وصلها بتطوع فيكون النهي من أجل ذلك لا من أجل أن يصلى في آخر المسجد، ثم يتنحى الذي يصليها من ذلك المكان، فيخالط الصفوف ويدخل في الفريضة - انتهى. واستدل لذلك بما رواه هو وأحمد (ج5: ص345) عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن عبد الله بن مالك بن بحينة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بعبد الله بن مالك بن بحينة وهو منتصب يصلي ثمة بين يدي نداء الصبح فقال: لا تجعلوا هذه الصلاة كصلاة قبل الظهر وبعدها، واجعلوا بينهما

فصلاً. قال الطحاوي: فبيّن هذا الحديث أن الذي كرهه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لابن بحينة هو وصله إياها بالفريضة في مكان واحد لم يفصل بينهما بشيء، وليس لأنه كره له أن يصليهما في المسجد إذا كان فرغ منها تقدم إلى لصفوف فصلى الفريضة مع الناس - انتهى. قلت: تأويل الطحاوي هذا ضعيف جداً بل باطل والاستدلال له بحديث محمد بن عبد الرحمن أبطل، فإنه لو كان المراد بالفصل فيه الفصل بالمكان أي بالتقدم أو التأخر للزم أن يكون ذلك الفصل مطلوباً في الظهر، ويجوز أداء سنة الظهر متصلاً بالفرض مخالطاً للصف من غير فصل بالتقدم، ولا يقول به أحد على أنه لا دليل على ما ذكر في حد الفصل بالمكان بأن يصلي في مؤخر المسجد ثم يمشي إلى أول المسجد ومقدمه ويخالط الصف فيدخل في الفريضة، فإن الفصل بين النفل والفرض بالمكان قد يحصل بالتقدم بخطوة بل بالكلام أيضاً، فلو صلى أحد ركعتي الفجر قريباً من الصف أو مخالطاً له ودخل في الفريضة بعد أن مشى خطوة فقد صدق عليه أنه جعل الفصل بين النفل والفرض بالمكان، فيلزم أن يكون هذا جائزاً عند من يقول بالفصل بالمكان. والحاصل أن جعل الصلاة في مؤخر المسجد ثم مشيه إلى مقدم المسجد والصف حدا للفصل بالمكان لا أثارة عليه من علم، وكذا لا دليل على كون علة النهي اختلاط الصلاتين ومخالطة الصفوف بل علة النهي هو أداء السنة حال إقامة الصلاة كما تقدم، وإذا عرفت هذا فاعلم أن المراد بالفصل في حديث محمد بن عبد الرحمن هو الفصل بالزمان لا غير، والمعنى: اجعلوا بين سنة الفجر وفرضه فصلاً أي بالزمان بأن تصلوها قبل الإقامة لا عندها ليحصل الفصل بين السنة والفرض، وهذا الفصل مطلوب في جميع المكتوبات، وإنما خص الفجر بالذكر؛ لأن هذه القصة وقعت عند الفجر، فإن ابن بحينة صلى ركعتي الفجر، حال إقامة الصلاة فأمره بالفصل ليجتنب فيما بعد عن التنفل حال الإقامة وبعدها، وهذا مشترك بين الفجر وغيره من المكتوبات، وليؤدي بعض المستحبات التابعة لسنة الفجر، كالاضطجاع على الشق الأيمن، فكأنه أمره بالفصل ليمكن له الاضطجاع بعد سنة الفجر قبل الإقامة، فإن حال الإقامة لا يمكنه الإتيان بهذا المستحب؛ لأن بعد إتمام السنة يدخل في الفريضة ولا يشتغل بأداء المستحب، وهذا مختص بصلاة الفجر. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا تجعلوا هذه الصلاة كصلاة قبل الظهر وبعدها أي فإن سنة الظهر قد تؤدي في المسجد بخلاف سنة الفجر، أو فإنها لا يشرع الاضطجاع بعدها بخلاف ركعتي الفجر، ولا يحصل هذا إلا إذا فصل بين ركعتي الفجر وفرضه بالزمان، وبذلك تنتفي المشابهة بين سنة الظهر وسنة الفجر، أو فإنه يجوز أداء سنة الظهر بحيث يفرغ منها متصلاً بالإقامة لفرضه من غير فصل أي بدون تقدم بالزمان والدليل على أن المراد بالفصل الفصل بالزمان ما ورد في بعض الأحاديث من علة النهي منصوصاً، وهي أداء السنة وقت إقامة الصلاة أو بعدها كما تقدم من حديث أبي موسى الأشعري وابن عباس وأنس بن مالك. ويدل على ذلك أيضاً ما روى مسلم وأبوداود والنسائي

وابن ماجه، واللفظ لمسلم من حديث عاصم الأحول عن عبد الله بن سرجس قال: دخل رجل المسجد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الغداة فصلى ركعتين في جانب المسجد ثم دخل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما سلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يا فلان! بأي الصلاتين اعتددت أبصلاتك وحدك أم بصلاتك معنا؟ وأخرجه الطحاوي عنه بلفظ: أن رجلاً جاء ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الصبح، فركع ركعتين خلف الناس، ثم دخل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة- الحديث. قال البيهقي في المعرفة بعد روايته: ما لفظه رواه مسلم في الصحيح عن زهير بن حرب عن مروان بن معاوية، ورواه عبد الواحد بن زياد عن عاصم، وقال: يصلي ركعتين قبل أن يصل إلى الصف. وهذا يرد قول من زعم أنه إنما أنكره لإيصاله بالصفوف في حال اشتغاله بالركعتين، أو لأنه لم يجعل بين النفل والفرض فصلاً بتقدم أو تكلم؛ لأن هذا قد أخبر بأنه صلاهما في جانب المسجد قبل أن يصل إلى الصف، ثم دخل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى. وقال الخطابي في المعالم (ج1 ص274) : في هذا دليل على أنه إذا صادف الإمام في الفريضة لم يشتغل بركعتي الفجر وتركهما إلى أن يقضيهما بعد الصلاة. وقوله: أيتهما صلاتك. (في رواية أبي داود) مسألة إنكار يريد بذلك تبكيته على فعله وفيه دلالة على أنه يجوز له أن يفعل ذلك وإن كان الوقت يتسع للفراغ منهما قبل خروج الإمام من صلاته؛ لأن قوله: أو التي صليت معنا يدل على أنه قد أدرك الصلاة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد فراغه من الركعتين- انتهى. وقال النووي في شرح مسلم (ج1 ص247) : فيه دليل على أنه لا يصلي بعد الإقامة نافلة وإن كان يدرك الصلاة مع الإمام، ورد على من قال: إن علم أنه يدرك الركعة الأولى والثانية يصلي النافلة، وقال ابن عبد البر كل هذا إنكار منه لذلك الفعل، فلا يجوز لأحد أن يصلي في المسجد شيئاً من النوافل إذا قامت المكتوبة، كذا في شرح الموطأ للزرقاني، وأما ما قال الطحاوي تحت ما رواه من حديث ابن سرجس أنه قد يجوز أن يكون قوله: كان خلف الناس أي كان خلف صفوفهم لا فصل بينه وبينهم فكان شبيه المخالط، وهذا مكروه عندنا، وإنما يجب أن يصليهما في مؤخر المسجد، ثم يمشي من ذلك المكان إلى أول المسجد، فأما أن يصليهما مخالطاً لمن يصلي الفريضة فلا، فهو مردود عليه؛ لأن المراد من خلف الناس هو جانب المسجد، كما جاء مصرحاً في رواية مسلم: فصلى ركعتين في جانب المسجد، فإنه صريح في أنه صلى في جانب من جوانب المسجد وزاوية من زواياه، والروايات يفسر بعضها بعضاً، ومع ذلك نهاه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعلم أن أداء السنة حال إقامة الصلاة والاشتغال بالنافلة عن الفرض، سواء كان في مقدم المسجد أو مؤخره ممنوع. قال شيخ سلام الله الدهلوي في المحلى شرح الموطأ وهو من العلماء الحنفية من أولاد الشيخ عبد الحق الدهلوي صاحب اللمعات: ومن الحنفية من قال إنما أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن

الرجل صلاها في المسجد بلا حائل فشوش على المصلين، ويرده ما في مسلم عن ابن سرجس دخل رجل المسجد وهو - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الغداة فصلى ركعتين في جانب المسجد- الحديث. فإنه يدل على أن أداء الرجل كان في جانب لا مخالطاً للصف بلا حائل- انتهى ملخصاً. وقال الشيخ عبد الحي اللكنوي في التعليق الممجد (ص86) : وحمل الطحاوي هذه الأخبار. (أي أحاديث ابن سرجس وابن بحينة وغيرهما) على أنهم صلوا في الصفوف لا فصل بينهم وبين المصلين بالجماعة، فلذلك زجرهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكنه حمل من غير دليل معتد به، بل سياق بعض الروايات يخالفه، وقال فيه أيضاً ذكر الطحاوي أن معنى قوله: فلا صلاة إلا المكتوبة النهي عن أداء التطوع في موضع الفرض، فإنه يلزم حينئذٍ الوصل، وبسط الكلام فيه، لكن لا يخفى على الماهر أن الظاهر الأخبار المرفوعة هو المنع- انتهى. فإن قلت قال ابن الملك والعيني وغيرهما من الحنفية: إن قوله عليه السلام: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ليس على عمومه، بل خصت منه سنة الفجر لقوله عليه السلام: لا تدعوهما وإن طردتكم الخيل، أخرجه أبوداود، فيكره أداء السنن عند الإقامة إلا سنة الفجر فيجوز أداؤها، ويجمع بين الفضيلتين، يعني فضيلة ركعتي الفجر وفضيلة الجماعة. قلت: لا يجوز تخصيصها من عموم قوله: إذا أقيمت الصلاة الخ؛ لأنه ورد النهي الصريح في أداء سنة الفجر عند الإقامة من غير احتمال ولا تأويل كحديث عبد الله بن سرجس وأبي موسى الأشعري وابن عباس وأنس بن مالك، وقد ذكرنا ألفاظهم، وكحديث عبد الله مالك بن بحينة قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل وقد أقيمت الصلاة يصلي ركعتين، فلما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لاث به الناس فقال: أالصبح أربعا؟ أالصبح أربعا؟ أخرجه البخاري ونسلم وابن ماجه والدارمي والطحاوي. ولفظ مسلم في رواية: أتصلي الصبح أربعا؟ قال النووي: هو استفهام إنكار ومعناه أنه لا يشرع بعد الإقامة للصبح إلا الفريضة، فإذا صلى ركعتين نافلة بعد الإقامة ثم صلى معهم الفريضة صار في معنى من صلى الصبح أربعاً؛ لأنه صلى بعد الإقامة أربعاً. وقال العيني: والمراد أن الصلاة الواجبة إذا أقيم لها لم يصل في زمانها غيرها من الصلاة فإنه إذا صلى ركعتين مثلاً بعد الإقامة نافلة لها ثم صلى معهم الفريضة صار في معنى من صلى الصبح أربعاً؛ لأنه صلى بعد الإقامة أربعاً- انتهى. فأحاديث هؤلاء الصحابة كما ترى صريحة في أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ركعتي الفجر عند الإقامة، فلا يصح تخصيصهما من عموم حديث أبي هريرة، ومن يخصصهما بعد هذا النهي الصريح فهو معاند للسنة ومتعصب مفرط، وأما الجمع بين الفضيلتين يعني فضيلة ركعتي الفجر وفضيلة الجماعة فهو ممكن بأن يدخل في الجماعة وبعد الفراغ من الفجر يؤدي الركعتين، فإن تلك الساعة وقت لها في حقه. وأما ما يذكر عن ابن مسعود أنه صلى ركعتي الفجر إلى أسطوانة من المسجد ثم دخل في الصلاة، وعن أبي الدرداء أنه كان يصلي الركعتين في ناحية المسجد ثم يدخل

رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ مع القوم في الصلاة، وعن ابن عباس أنه صلى ركعتين في المسجد ثم دخل مع الإمام، وعن مسروق وأبي عثمان النهدي والحسن البصري مثل ذلك. ففيه ما قال العلامة العظيم آبادي في أعلام أهل العصر: إن في طبقة الصحابة إن كان ابن مسعود وأبوالدرداء يريان جواز فعلمها فعمر بن الخطاب وعبد الله بن عمر وأبوهريرة وأبوموسى الأشعري وحذيفة لا يرون ذلك، أما عمر فيضرب الناس لأجلها، وابنه عبد الله يحصب على من يصلي، وأبوهريرة ينكر على ذلك، وأبوموسى وحذيفة دخلا في الصف ولم يركعا كما ركع ابن مسعود. وأما ابن عباس فقد تعارض بين روايته وفعله، والحجة في روايته دون فعله. وأما في طبقة التابعين ومن بعدهم من الأئمة فإن كان مسروق والحسن ومجاهد ومكحول وحماد بن أبي سليمان وأبوحنيفة النعمان يرون ذلك. فسعيد ابن جبير وابن سيرين وعروة بن الزبير وإبراهيم النخعي وعطاء والشافعي وأحمد وابن المبارك وإسحاق وجمهور المحدثين لا يرون ذلك. ولنعم ما قال ابن عبد البر: والحجة عند التنازع السنة، فمن أدلى بها فقد أفلح. وترك التنفل عند إقامة الصلاة وتداركها بعد قضاء الفرض أقرب إلى إتباع السنة. فأسعد الناس بامتثال هذا الأمر من لم يتشاغل عنه بغيره. وأما ما أخرجه ابن ماجه من حديث أبي إسحاق عن الحارث عن على قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي ركعتين عند الإقامة، فهو حديث ضعيف جداً لا تقوم بمثله الحجة، فيه الحارث الأعور وهو ضعيف، بل قد رمى بالكذب. واختلف فيمن شرع في النافلة قبل الإقامة هل يقطع الصلاة أم يتمها. قال المنذري: ذهب بعض الظاهرية إلى أنه يقطع صلاته إذا أقيمت عليه الصلاة. وقال الحافظ في الفتح: واستدل بعموم قوله: "فلا صلاة إلا المكتوبة" لمن قال يقطع النافلة إذا أقيمت الفريضة، وبه قال أبوحامد وغيره من الشافعية، وخص آخرون النهي بمن ينشأ النافلة عملاً بعموم قوله تعالى: {لا تبطلوا أعمالكم} [47: 33] . وقال العراقي: قال الشيخ أبوحامد من الشافعية: إن الأفضل خروجه من النافلة إذا أداه إتمامها إلى فوت فضيلة التحريم. وهذا واضح- انتهى. قلت: الراجح عندي أن يقطع صلاته عند الإقامة. إن بقيت عليه ركعة، فإن أقل الصلاة ركعة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لا صلاة بعد الإقامة إلا المكتوبة، فلا يجوز له أن يصلي ركعة بعد الإقامة. وأما إذا أقيمت الصلاة وهو في السجدة أو في التشهد فلا بأس لو لم يقطعها وأتمها؛ لأنه لا يصدق عليه أنه صلى صلاة أي ركعة بعد الإقامة. وأما قوله تعالى: {لا تبطلوا أعمالكم} فقد سبق في توجيهه ما لا يخدش هذا الاستدلال، فتذكر. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والدارمي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والطحاوي والبيهقي كلهم من رواية عمرو بن دينار عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة. واختلف على عمرو بن دينار في رفعه ووقفه. وقيل: إن ذلك هو السبب في كون البخاري لم يخرجه، والمرفوع أصح؛ لأن الرفع زيادة ثقة، ولا يقدح عدم إخراج البخاري في صحيحه في رفعه وصحته، كما لا يخفى على المنصف غير

1066- (8) وعن ابن عمر، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا استأذنت إمرأة أحدكم إلى المسجد فلا يمنعها)) ـــــــــــــــــــــــــــــ المتعسف قال الطحاوي: أصل الحديث عن أبي هريرة أي من قوله لا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، هكذا رواه الحفاظ عن عمرو بن دينار حدثنا أبوبكرة ثنا أبوعمر الضرير أنا حماد بن سلمة وحماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة بذلك ولم يرفعه، فصار أصل هذا الحديث عن أبي هريرة لا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قلت كلام الطحاوي هذا مبني على فرط تعصبه، جعل المرفوع موقوفاً حمية لمذهبه. والحديث رواه جمع من الحفاظ مثل ورقاء بن عمر وزكريا بن إسحاق وابن جريج وأيوب وزياد بن سعد وإسماعيل بن مسلم ومحمد بن جحادة وإسماعيل بن إبراهيم بن مجمع، كلهم عن عمرو بن دينار مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورواه بعض الحفاظ كحماد بن زيد وسفيان بن عيينة وحماد بن سلمة عن عمرو بن دينار موقوفاً على أبي هريرة، لكن ذكر البيهقي في المعرفة بعد روايته من طريق سعيد بن منصور عن سفيان موقوفاً إلا أنه (أي سعيد بن منصور) قال في آخره قلت لسفيان مرفوعاً؟ قال نعم. وأما حماد بن سلمة فاختلف عليه: فروى مسلم بن إبراهيم عند أبي داود والدارمي، وموسى بن إسماعيل عند البيهقي عن حماد بن سلمة مرفوعاً، وروى أبوعمر الضرير عنه عند الطحاوي موقوفاً. فقد ظهر من هذا أن أكثر الرواة رفعوه، ومن المعلوم أن الرفع مقدم على الوقف، وإن كان عدد الرافعين أقل، فكيف إذا كان أكثر، فالحديث لا يشك من له أدنى عقل وخبرة في أن أصله من النبي - صلى الله عليه وسلم - لا عن أبي هريرة، ولذا اتفق الحفاظ كالترمذي والبيهقي والنووي وغيرهم على أن الحديث المرفوع أصح. وأما ما وقع في صحيح مسلم من أنه قال حماد بن زيد (الراوي عن أيوب عن عمرو بن دينار مرفوعاً) : ثم لقيت عمراً فحدثني به ولم يرفعه، فلا يقدح في صحة الحديث ورفعه؛ لأن غاية ما فيه أنه يدل على أن عمرو بن دينار كان لا يرفعه تارة ووقفه مرة أو مرتين، لا يخرج الحديث من أن يكون مرفوعاً في الأصل؛ لأن أكثر الرواة رفعوه، والرفع مقدم، وإن كان عدد الرفع أقل فكيف إذا كان أكثر. 1066- قوله: (إذا استأذنت إمرأة أحدكم) أي زوجها في الذهاب. (إلى المسجد) أو ما في معناه كشهود العيد وعيادة المريض. (فلا يمنعها) بالجزم والرفع. وفي بعض النسخ: فلا يمنعنّها بالنون الثقيلة المؤكدة. وفي الصحيحين: فلا يمنعها بغير النون كما في الكتاب، وهو عام يشمل الليل والنهار، فما وقع في بعض طرق حديث ابن عمر عند الشيخين قوله: بالليل من ذكر فرد من أفراد العام فلا يخصص على الأصح في الأصول كحديث: دباغها طهورها في شاة ميمونة مع حديث: أيما إهاب دبغ فقد طهر. وقيل: خص الليل بالذكر لما فيه من الستر بالظلمة. وقيل: التقييد بالليل من مفهوم الموافقة؛ لأنه إذا أذن لهن بالليل مع أنه مظنة الريبة فالإذن بالنهار بطريق الأولى. ثم مقتضى هذا النهي أن منع المرأة من الخروج إلى المسجد إما مطلقاً في الأزمان كما في هذه الرواية

أو مقيداً بالليل كما في بعض الروايات من حديث ابن عمر يكون محرماً على الزوج. وقال النووي: النهي محمول على كراهة التنزيه. قال البيهقي: وبه قال كافة العلماء. ومقتضى الحديث أن جواز الخروج يحتاج إلى إذن الزوج. وقال السندي: الحديث مقيد بما علم من الأحاديث الأخر من عدم استعمال طيب وزينة، فينبغي أن لا يأذن لها إلا إذا خرجت على الوجه الجائز، وينبغي للمرأة أن لا تخرج بذلك الوجه للصلاة في المسجد إلا على قلة لما علم أن صلاتها في البيت أفضل، نعم إذا أرادت الخروج بذلك الوجه فينبغي أن لا يمنعها الزوج. وقول الفقهاء بالمنع مبني على النظر في حال الزمان، لكن المقصود يحصل بما ذكرنا من التقييد المعلوم من الأحاديث، فلا حاجة إلى القول بالمنع- انتهى. وقال النووي: الحديث ظاهر في أنها لا تمنع المسجد لكن بشروط ذكرها العلماء مأخوذة من الأحاديث وهي أن لا تكون متطيبة ولا متزينة ولا ذات خلاخل يسمع صوتها ولا ثياب فاخرة ولا مختلطة بالرجال ولا شابة ونحوها ممن يفتتن بها. وأن لا يكون في الطريق ما يخاف به مفسدة ونحوها- انتهى. وقال ابن دقيق العيد: هذا الحديث عام في النساء، إلا أن الفقهاء خصوه بشروط وحالات: منها أن لا تتطيب، قال ويلحق بالطيب ما في معناه، فإن الطيب إنما منع لما فيه من تحريك داعية الرجال وشهوتهم، وربما يكون سبباً لتحريك شهوة المرأة أيضاً، فما أوجب هذا المعنى التحق به كحسن الملبس ولبس الحلي الذي يظهر أثره في الزينة، وكذا الاختلاط بالرجال. قال الحافظ: وفرّق كثير من الفقهاء المالكية وغيرهم بين الشابة وغيرها. وفيه نظر إلا أن أخذ الخوف عليها من جهتها؛ لأنها إذا عريت مما ذكر وكانت مستترة حصل الأمن عليها، ولاسيما إذا كان ذلك بالليل. وقد ورد في بعض الأحاديث ما يدل على أن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد. ووجه كون صلاتها في الإخفاء أفضل تحقق الأمن فيه من الفتنة- ويتأكد ذلك بعد وجود ما أحدث النساء من التبرج والزينة، ومن ثم قالت عائشة ما قالت. (يشير بذلك إلى ما رواه الشيخان عن عمرة عن عائشة قالت: لو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى من النساء ما أحدثن لمنعهن من المسجد كما منعت نساء بني إسرائيل ... الحديث) . وتمسك بعضهم بقول عائشة في منع النساء مطلقاً. وفيه نظر إذ لا يترتب على ذلك تغير الحكم؛ لأنها علقته على شرط لم يوجد بناء على ظن ظنته فقالت: لو رأى لمنع، فيقال عليه لم يرد ولم يمنع، فاستمر الحكم حتى أن عائشة لم تصرح بالمنع وإن كان كلامها يشعر بأنها ترى المنع وأيضاً فقد علم الله سبحانه تعالى ما سيحدثن فما أوحى إلى نبيه بمنعهن. ولو كان ما أحدثن يستلزم منعهن من المساجد لكان منعهن من غيرها كالأسواق أولى. وأيضاً فالأحداث إنما وقع من بعض النساء لا من جميعهن، فإن تعين المنع فليكن لمن أحدثت. والأولى أن ينظر إلى ما يخشى منه الفساد فيجتنب لإسارته - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك بمنع التطيب

متفق عليه. 1067- (9) وعن زينب إمرأة عبد الله بن مسعود، قالت: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيباً)) ـــــــــــــــــــــــــــــ والزينة، وكذلك التقييد بالليل- انتهى كلام الحافظ مختصراً. قلت: حمل الحنفية الأحاديث الدالة على جواز خروج النساء إلى المساجد للجماعة على العجائز الغير المشتهاة، وقيدوها بالليل أي بصلاة الفجر والمغرب والعشاء، وأفتى المتأخرون منهم بمنع العجائز أيضاً كالشواب، وقالوا: خروج النساء للجماعة في زماننا مكروه لفساده، واحتجوا لذلك بأثر عائشة المذكور. وفيه أنه لا دليل على حمل أحاديث الباب على العجائز، بل يرده ويبطله عموم هذه الأحاديث وإطلاقها، وتعامل الصحابة بعده - صلى الله عليه وسلم -. والقول بكراهة الخروج ومنعه مطلقاً أبطل وأبطل، وليس في أثر عائشة حجة لجواز منعهن المساجد كما سلف في كلام الحافظ أخذاً من المحلى لابن حزم. قال الشيخ أحمد محمد شاكر: الشريعة استقرت بموته - صلى الله عليه وسلم -، وليس لأحد أن يحدث بعده حكما يخالف ما ورد عنه أو علة استحسنها. وكما قال الشافعي في الرسالة: ومن وجب عليه إتباع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن خلافها، ولم يقم مقام أن ينسخ شيئاً منه- انتهى. والله سبحانه أنزل على عبده محمد - صلى الله عليه وسلم - شريعة كاملة بينة، وهو سبحانه يعلم ما يكون فلو شاء أن يمنع النساء المساجد لما قالت عائشة لأوحى بذلك إلى رسوله، ولكنه أذن بخروجهن إلى المساجد، وحرم منعهن شهود الجماعة، ونهاهن عن التبرج وإظهار زينتهن، وكلا الأمرين واجب إتباعه لا يعارض أحدهما الآخر وعلى الناس الطاعة. (متفق عليه) للحديث عند الشيخين وغيرهما طرق وألفاظ، واللفظ المذكور "أحدها" لكن ليس في البخاري في الطريق الذي ذكر المصنف لفظه التقييد بالمسجد، وأخرجه باللفظ المذكور أحمد والنسائي والبيهقي أيضاً. 1067- قوله: (وعن زينب إمرأة عبد الله بن مسعود) هي زينب بنت معاوية. وقيل: بنت أبي معاوية. وقيل: بنت عبد الله بن معاوية بن عتاب بن الأسود الثقفية زوج ابن مسعود، صحابية، روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن زوجها عبد الله بن مسعود وعن عمر بن الخطاب، لها أحاديث اتفقا على حديث، وانفرد البخاري بحديث بحديث ومسلم بآخر، وروى عنها ابنها أبوعبيدة بن عبد الله بن مسعود وابن أخيها ولم يسم وعمرو بن الحارث بن ضرار وغيرهم. (إذا شهدت إحداكن المسجد) أي إذا أرادت شهود المسجد وحضوره. (فلا يمس) بالفتح بغير النون. (طيباً) بكسر الطاء أي لما فيه من تحريك داعية الرجال وشهوتهم، ولذلك ورد في حديث أبي هريرة عند أحمد وأبي داود: وليخرجن تفلات، وهو بفتح التاء وكسر الفاء أي غير متطيبات، ويقال: إمرأة تفلة إذا كانت متغيرة الريح، ولحديث زينب هذا طرق وألفاظ عند أحمد ومسلم والنسائي. وقد بسط السيوطي طرقه في تنوير الحوالك ولفظه

{الفصل الثاني}

رواه مسلم. 1068- (10) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أيما إمرأة أصابت بخوراً، فلا تشهد معنا العشاء الآخرة)) رواه مسلم. {الفصل الثاني} 1069- (11) عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تمنعوا نسائكم المساجد، وبيوتهن خير لهن)) ـــــــــــــــــــــــــــــ في رواية لمسلم: إذا شهدت إحداكن العشاء فلا تطيب تلك الليلة. قال النووي: معناه إذا أرادت شهودها، وأما من شهدتها ثم عادت إلى بيتها فلا تمنع من التطيب بعد ذلك- انتهى. ولعل التخصيص بالعشاء؛ لأن الخوف عليهن في الليل أكثر، ووقوع الفتنة فيه أقرب، أو لأن عادتهن استعمال الطيب في الليل لأزواجهن، والله تعالى أعلم. وفي الحديث دليل على أن الخروج من النساء إلى المساجد إنما يجوز إذا لم يصحب ذلك ما فيه فتنة كما تقدم. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد (ج6 ص363) والنسائي في الزينة والبيهقي في الصلاة (ج3 ص133) وأخرجه مالك بلاغاً عن بسر بن سعيد مرسلاً. 1068- قوله: (أيما إمرأة أصابت بخوراً) بفتح الباء الموحدة وخفة الخاء المعجمة أخذ دخان المحروق. وقيل: هو ما يبتخر به ويتعطر كالسحور والفطور، والمراد هنا الرائحة الطيبة التي فاحت بإحراق البخور، ويلحق بالبخور ما في معناه من محركات الشهوة، وما كان ي تحريك الشهوة فوق البخور فهو داخل بالأولى. (فلا تشهد) بسكون الدال أي لا تحضر. (معنا العشاء الآخرة) ؛ لأنها وقت الظلمة، والعطر يهيج الشهوة فلا تأمن المرأة حينئذٍ من كمال الفتنة، فالتخصيص بالعشاء الآخرة لمزيد التأكيد، وقد تقدم أن مس الطيب يمنع المرأة من حضور المسجد مطلقاً. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أبوداود في الترجل والنسائي في الزينة والبيهقي في الصلاة كلهم من طريق عبد الله بن محمد أبي فروة عن يزيد بن خصيفة عن بسر بن سعيد عن أبي هريرة، قال النسائي: لا أعلم أحداً تابع يزيد بن خصيفة عن بسر بن سعيد على قوله عن أبي هريرة، وقد خالفه يعقوب بن عبد الله بن الأشج، رواه عن زينب الثقفية، ثم ساق حديث بسر عن زينب الثقفية من طرق - انتهى. وقد ذكر المنذري كلام النسائي هذا في مختصر السنن وأقرّه. 1069- قوله: (وبيوتهن خير لهن) أي صلاتهن في بيوتهن خير لهن من صلاتهن في المساجد لو علمن

رواه أبوداود. 1070- (12) وعن ابن مسعود قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها)) . رواه أبوداود. 1071- (13) وعن أبي هريرة قال: إني سمعت حبي أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تقبل صلاة إمرأة تطيبت للمسجد ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك لكنهن لم يعلمن فيسألن الخروج إلى الجماعة يعتقدن أن أجرهن في المساجد أكثر، وجه كون صلاتهن في البيوت أفضل تحقيق الأمن من الفتنة. (رواه أبوداود) في الصلاة وسكت عنه هو والمنذري وأصله في الصحيحين بدون قوله: "وبيوتهن خير لهن"، وهذه الزيادة أخرجها ابن خزيمة والحاكم (ج1 ص209) وصححه والبيهقي (ج3 ص131) وللطبراني بإسناد نحوها. 1070- قوله: (صلاة المرأة في بيتها) أي الداخلاني لكمال سترها. (أفضل من صلاتها في حجرتها) أي صحن الدار. قال ابن الملك: أراد بالحجرة ما تكون أبواب البيوت إليها وهي أدنى حالاً من البيت. (وصلاتها في مخدعها) بضم الميم وتفتح وتكسر مع فتح الدال في الكل وهو البيت الصغير الذي يكون داخل البيت الكبير، يحفظ فيه الأمتعة النفيسة من الخدع، وهو إخفاء الشيء أي خزانتها. (أفضل من صلاتها في بيتها) ؛ لأن مبنى أمرها على التستر، وحاصل الأحاديث الواردة في خروج النساء إلى المساجد أن الإذن للنساء من الرجال إلى المساجد إذا لم يكن في خروجهن ما يدعوا إلى الفتنة من طيب أو حلي أو أي زينة، واجب على الرجال أو مندوب على اختلاف القولين، وأنه لا يجب مع يدعوا إلى ذلك، ولا يجوز ويحرم عليهن الخروج لقوله: فلا تشهدن وصلاتهن على كل حال في بيوتهن أفضل من صلاتهن في المساجد لحديث ابن مسعود هذا، ولما روى أحمد والطبراني والبيهقي من حديث أم حميد الساعدية: أنها جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله! إني أحب الصلاة معك فقال - صلى الله عليه وسلم -: قد علمت وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير لك من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير لك من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير لك من صلاتك في مسجد الجماعة، قال الحافظ: إسناده حسن. وقال الهيثمي يعد غزوة لأحمد: رجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن سويد الأنصاري، وثقة ابن حبان، وأخرج أحمد وأبويعلى عن أم سلمة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: خير مساجد النساء قعر بيوتهن، وفي إسناده ابن لهيعة. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري، وأخرجه أيضاً ابن خزيمة في صحيحه والحاكم (ج1 ص209) والبيهقي (ج3 ص131) . 1071- قوله: (سمعت حبي) بكسر الحاء المهملة أي محبوبي. (تطيبت للمسجد) أي للخروج إلى المسجد

حتى تغتسل غسلها من الجنابة)) رواه أبوداود، وروى أحمد والنسائي نحوه. 1072- (14) وعن أبي موسى، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كل عين زانية، ـــــــــــــــــــــــــــــ وفي المصابيح: لهذا المسجد كما في أبي داود. وقال ابن الملك: إشارة إلى جنس المسجد لا إلى مسجد مخصوص. (حتى تغتسل) وفي المصابيح: حتى ترجع فتغتسل وكذا وقع في أبي داود. (غسلها) أي مثل غسلها. (من الجنابة) بأن تبالغ في الغسل من الطيب كما تبالغ في غسل الجنابة حتى يزول عنها الطيب بالكلية، ثم تخرج إن شاءت، وقال القاري: بأن تعم جميع بدنها بالماء إن كانت طيبت جميع بدنها ليزول عنها الطيب، وأما إذا أصاب موضعاً مخصوصاً فتغسل ذلك الموضع. قلت: الحديث ساكت عن هذا التفصيل. قال ابن الملك: وهذا مبالغة في الزجر؛ لأن ذلك يهيج الرغبات وتفتح باب الفتن. وقيل: شبه خروجها من بيتها متطيبة مهيجة لشهوات الرجال التي هي رائد الزنا بالزنا، وحكم عليها بما يحكم على الزاني من الاغتسال من الجنابة مبالغة وتشديداً. (رواه أبوداود) في الترجل من طريق الثوري عن عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري عن عبيد مولى أبي رهم عن أبي هريرة، وقد سكت عنه أبوداود، لكن إسناده ضعيف لضعف عاصم بن عبيد الله، ولكنه لم ينفرد برواية هذا الحديث، كما ستعرف فمعناه صحيح لثبوته من وجه آخر، فقد أخرجه ابن خزيمة في صحيحه والبيهقي من طريق موسى بن يسار عن أبي هريرة، ورواه أحمد خمس مرات في أربعة: منها عاصم بن عبيد الله، والخامسة من طريق ليث بن أبي سليم عن عبد الكريم عن مولى أبي رهم، وأخرجه النسائي من طريق صفوان بن سليم عن رجل ثقة عن أبي هريرة، وقد بوب له ابن خزيمة: باب إيجاب الغسل على المطيبة للخروج إلى المسجد ونفي قبول صلاتها إن صليت قبل أن تغتسل إن صح الخبر، ولفظه عن موسى بن يسار قال: مرت بأبي هريرة امرأة وريحها تعصف فقال لها: أين تريدين يا أمة الجبار؟ قالت: إلى المسجد، قال: وتطيبت؟ قالت: نعم قال: فارجعي فاغتسلي، فإني سمعت رسول الله يقول: لا يقبل الله من امرأة صلاة خرجت إلى المسجد وريحها تعصف حتى ترجع وتغتسل. قال المنذري في الترغيب بعد عزوة لابن خزيمة: إسناده متصل ورواته ثقات، وعمرو بن هاشم البيروتي ثقة، وفيه كلام لا يضر، ورواه أبوداود وابن ماجه من طريق عاصم بن عبيد الله العمري، وقد مشاه بعضهم ولا يحتج به، وإنما أمرت بالغسل لذهاب رائحتها - انتهى. (وروى أحمد والنسائي) وكذا البيهقي الطيالسي. (نحوه) ولفظ النسائي: إذا خرجت المرأة إلى المسجد فلتغتسل من الطيب كما تغتسل من الجنابة، أخرجه في كتاب الزينة من طريق صفوان بن سليم عن رجل ثقة عن أبي هريرة به. 1072- قوله: (كل عين زانية) أي كل عين نظرت إلى أجنبية عن شهوة فهي زانية؛ لأن زناها

وإن المرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس، فهي كذا وكذا يعني زانية)) . رواه الترمذي، ولأبي داود والنسائي نحوه. 1073- (15) وعن أبيّ بن كعب قال: ((صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً الصبح، فلما سلم قال: أشاهد فلان؟ قالوا: لا. قال: أشاهد فلان؟ قالوا: لا. قال: إن هاتين الصلاتين أثقل الصلوات على المنافقين، ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموها ـــــــــــــــــــــــــــــ النظر، أو لأنه من مقدمات الزنا. (إذا استعطرت) أي استعملت العطر. (فمرت بالمجلس) أي مجلس الرجال وهو أعم من المسجد (فهي كذا وكذا) كناية عن كونها زانية. (يعني زانية) بالنصب على أنه مفعول يعني وقيل: بالرفع يعني هي زانية؛ لأنها قد هيجت شهوة الرجال بعطرها وحملتهم على النظر إليها، ومن نظر إليها فقد زنى بعينه، فإذا هي سبب زناه بالعين فتكون آثمة بإثم الزنا. (رواه الترمذي) في الاستيذان وقال: حديث حسن صحيح. ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره. (ولأبي داود والنسائي نحوه) أخرجه أبوداود في الترجل والنسائي في الزينة. قال المنذري في الترغيب بعد عزوه لأبي داود والترمذي: ورواه النسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما ولفظهم: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية، وكل عين زانية، ورواه الحاكم أيضاً وقال: صحيح الإسناد. 1073- قوله: (صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي أمّنا فالباء للتعدية. (الصبح) أي صلاته. (أشاهد) بهمزة الاستفهام أي أحاضر صلاتنا هذه. (أشاهد فلان) أي آخر. (إن هاتين الصلاتين) أي العشاء والصبح، والإشارة إليهما لحضور الصبح، واتصال العشاء بها مما تقدم. وقال القاري: أي صلاة الصبح ومقابلتها باعتبار الأول والآخر، يعني الصبح والعشاء. وقال ابن حجر: وأشار إلى العشاء لحضورها بالقوة؛ لأن الصبح مذكرة بها نظراً إلى أن هذه مبتدأ النوم وتلك منتهاه. (أثقل الصلوات على المنافقين) فيه أن الصلاة كلها عليهم ثقيلة ومنه قوله تعالى: {إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى} [4: 142] ، ولكن الأثقل عليهم صلاة العشاء؛ لأنها في وقت الراحة والسكون وصلاة الفجر؛ لأنها في وقت لذة النوم، وليس لهم داع ديني ولا تصديق بأجرهما حتى يبعثهم على اتيانهما، ويخف عليهم الإتيان بهما، ولأنهما في ظلمة الليل وداعي الرياء الذي لأجله يصلون منتف؛ لعدم مشاهدة من يراؤونه من الناس إلا القليل، فانتفى الباعث الديني منهما كما انتفى في غيرهما، ثم انتفى الباعث الدنيوي الذي في غيرهما، ولذا قال ناظراً إلى انتفاء الباعث الديني عندهم: ولو يعلمون ما فيهما، كما في رواية أحمد والنسائي والبيهقي. (ولو تعلمون) أنتم أيها المؤمنون. (ما فيهما) من الأجر والثواب الزائد؛ لأن الأجر على قدر المشقة. (لأتيتموها) أي إلى

ولو حبوا على الركب، وإن الصف الأول على مثل صف الملائكة، ولو علمتم ما فضيلته لابتدرتموه، وإن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، ـــــــــــــــــــــــــــــ المسجد لأجلهما. وهذا لفظ أبي داود، ورواية أحمد والنسائي والبيهقي: ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما، أي بلفظ الغيبة. قيل: عدل عن الغيبة في رواية أبي داود تغليباً. (ولو حبوا على الركب) بضم الراء وفتح الكاف جمع الركبة، والحبو بفتح الحاء المهملة وسكون الموحدة هو أن يمشي على يديه وركبتيه أو أسته، وحبا البعير إذا برك ثم زحف من الأعياء، وحبا الصبي إذا زحف على أتسه، أي تزحفون إذا منعكم مانع من المشي كما يزحف الصغير، ولابن أبي شيبة من حديث أبي الدرداء. ولو حبواً على المرافق والركب. وفي حديث أبي أمامة عند الطبراني: ولو حبواً على يديه ورجليه، وفيه حث بليغ على الإتيان إليهما، وأن المؤمن إذا علم ما فيهما أتى إليهما على أي حال، فإنه ما حال بين المنافق وبين هذا الإتيان إلا عدم تصديقه بما فيهما. قال الطيبي: حبواً خبر كان المحذوف أي: ولو كان الإتيان حبوا ويجوز أن يكون التقدير أتيتموها حبواً أي حابين تسمية بالمصدر مبالغة. (وإن الصف الأول على مثل صف الملائكة) أي على أجر أو فضل هو مثل أجر صف الملائكة أو فضله، وظاهره أن الملائكة أكثر أجراً وفضلاً من بني آدم. وقال الطيبي: شبه الصف الأول في قربهم من الإمام بصف الملائكة من الله تعالى، والجار والمجرور خبر "إن" والمتعلق كائن أو مقاس. (ولو علمتم) هذا لفظ أبي داود، ولفظ أحمد والنسائي والبيهقي: ولو تعلمون (ما فضيلة) أي الصف الأول. (لابتدرتموه) أي سبق كل منكم على آخر لتحصيله. قال الطيبي: وفي قوله: "ولو تعلمون" مبالغة من حيث عدل من الماضي إلى المضارع إشعاراً بالاستمرار. (وأن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده) أي أكثر أجراً وأبلغ في تطهير المصلي وتكفير ذنوبه من صلاته منفرداً، لما في الإجتماع من الرحمة والسكينة دون الإنفراد. قال الطيبي: الزكاة بمعنى النمو فيكون المعنى أن الصلاة مع الجماعة أكثر ثواباً، أو بمعنى الطهارة فيكون المعنى أن المصلي مع الجماعة أمن من رجس الشيطان وتسويله، وفيه أن الرجل مع الرجل جماعة كما رواه ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي أنه قال: الرجل مع الرجل جماعة، لهما التضعيف خمساً وعشرين - انتهى. وقد بوب عليه النسائي باب الجماعة إذا كانوا اثنين والبيهقي (ج3: ص67) بلفظ: باب الاثنين فما فوقهما جماعة. قال الأمير اليماني: فيه دلالة على أن أقل صلاة الجماعة إمام ومأموم، ويوافقه حديث أبي موسى الآتي في الفصل الثالث بلفظ: اثنان فما فوقهما جماعة. (وصلاته) بالنصب أو بالرفع. (مع الرجلين أزكى) أي أفضل. (من صلاة مع الرجل) أي الواحد. (وما كثر فهو أحب إلى الله) قال ابن الملك: "ما" هذه موصولة والضمير عائد إليها، وهي عبارة عن الصلاة، أي الصلاة التي كثر المصلون فيها فهو أحب، وتذكير "هو" باعتبار لفظ

وما كثر فهو أحب إلى الله)) رواه أبوداود، والنسائي. 1074- (16) وعن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((ما من ثلاثة في قرية ولا بد ولا تقام فيهم الصلاة، إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة، ـــــــــــــــــــــــــــــ ما–انتهى. ولفظ النسائي: وما كانوا أكثر فهو أحب إلى الله. قال السندي: أي قدر كانوا أكثر فذلك القدر أحب مما دونه. وفي رواية لأحمد: وما كان أكثر فهو أحب إلى الله، وذكره المنذري في الترغيب بلفظ: كذا كثر فهو أحب إلى الله، وفيه أن ما كثر جمعه فهو أفضل مما قل جمعه، وأن الجماعات تتفاوت في الفضل وإن كونها تعدل سبعاً وعشرين صلاة يحصل لمطلق الجماعة، وأحاديث التضاعف إلى هذا المقدار لا ينفي الزيادة في الفضل. لما كان أكثر لاسيما مع وجود النص المصرح بذلك، كما في هذا الحديث، ففيه رد على من ذهب إلى القول بتساوى الجماعات في الفضل سواء كثرت الجماعة أو قلت واستدل بقوله "أزكى" على عدم وجوب الجماعة؛ لأنه صيغة أفعل تدل على الاشتراك في أصل الزكاء، والمشترك ههنا لا بد أن يكون هو الإجزاء والصحة، وإلا فلا صلاة فضلاً عن الزكاء؛ لأن ما لا يصح لا زكاء فيه وقد تقدم الكلام في ذلك مبسوطاً. (رواه أبوداود) وسكت عنه. (والنسائي) وأخرجه أيضاً أحمد (ج5: ص140) وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم (ج1: ص247) والبيهقي (ج3: ص61-68 و102) قال المنذري في الترغيب وقد جزم يحيى بن معين والذهلي بصحة هذا الحديث. وقال الشوكاني: صححه ابن السكن والعقيلي والحاكم وأشار ابن المديني على صحته. وقال الحافظ: وله شاهد قوي في الطبراني من حديث قباث بن أشيم ولفظه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صلاة الرجلين يؤم أحدهما صاحبه أزكى عند الله من صلاة أربعة تترى، وصلاة أربعة يؤم أحدهم أزكى عند الله من صلاة ثمانية تترى، وصلاة ثمانية يؤمهم أحدهم أزكى عند الله من صلاة مائة تترى. قال المنذري في الترغيب: رواه البزار والطبراني بإسناد لا بأس به. وقال الهيثمي بعد عزوه إلى البزار والطبراني في الكبير: ورجال الطبراني موثقون - انتهى. وأخرجه أيضاً البخاري في تاريخه والبيهقي (ج3: ص61) . 1074- قوله: (ما من ثلاثة) أي رجال، وتقييده بالثلاثة المفيد ما فوقهم بالأولى نظراً إلى أقل أهل القرية غالباً، ولأنه أقل الجمع، وأنه أكمل صور الجماعة وإن كان يتصور باثنين، قاله القاري. (في قرية ولا بدو) بفتح الباء وسكون الدال أي بادية. قال في القاموس: البدو والبادية والباداة والبداوة خلاف الحضر. (لا تقام فيهم الصلاة) أي الجماعة. (إلا قد استحوذ عليهم الشيطان) أي غلبهم واستولى عليهم وحولهم إليه فأنساهم ذكر الله، وهذه كلمة مما جاء على أصله بلا إعلال خارجة عن أخواتها كاستقال واستقام. (فعليك بالجماعة)

فإنما يأكل الذئب القاصية)) رواه أحمد، وأبوداود، والنسائي. 1075- (17) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من سمع المنادي فلم يمنعه من اتباعه عذر. قالوا: وما العذر؟ قال: خوف ـــــــــــــــــــــــــــــ أي الزمها فإن الشيطان بعيد عن الجماعة ويستولى على من فارقها. قال الطيبي: قوله فعليك من الخطاب العام تفخيماً للأمر، والفاء مسببة عن قوله "قد استحوذ" والفاء في قوله: (فإنما) مسببة عن الجميع يعني إذا عرفت هذه الحالة فأعرف مثاله في الشاهد. (يأكل الذئب القاصية) أي الشاة المنفردة عن القطيع البعيدة عنه لبعدها عن راعيها، فإن عين الراعي تحمي الغنم المجتمعة. قيل: المراد أن الشيطان يتسلط على من يخرج عن عقيدة أهل السنة والجماعة. وقيل: عن طاعة الإمام المجتمع على أمره وإطاعته والأوفق بالحديث أن المنفرد ما ذكره السائب بن حبيش أحد رواة هذا الحديث عند النسائي والبيهقي بقوله: يعني بالجماعة الجماعة في الصلاة، أي يتسلط على من يعتاد الصلاة بالانفراد ولا يصلي مع الجماعة، وهو الذي فهمه أبوداود والنسائي حيث بوبا عليه: باب التشديد في ترك الجماعة، وبوب عليه البيهقي: باب فرض الجماعة في غير الجمعة على الكفاية. والحديث استدل به على وجوب الجماعة؛ لأن استحواذ الشيطان وهو غلبته إنما يكون بما يكون معصية كترك الواجب دون السنة. قال القاري: ظاهر الحديث يدل على أن الجماعة فرض عين أو واجب على مختار مذهبنا، ولا يدل على أنها فرض كفاية وإنما قيد بالثلاثة؛ لأنها أقل كمال الجماعة في غير الجمعة - انتهى. (رواه أحمد وأبوداود) وسكت عليه هو والمنذري. (والنسائي) وأخرجه أيضاً ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، والحاكم (ج1: ص246) وصححه، والبيهقي (ج3: ص54) وقال النووي: إسناده صحيح قال المنذري في الترغيب، وزاد رزين في جامعه: وإن ذئب الإنسان الشيطان إذا خلا به أكله. 1075- قوله: (من سمع المنادي) أي نداء المؤذن للصلاة المكتوبة. (فلم يمنعه) أي السامع- قال ابن الملك: فيه حذف اعتماداً على المعنى أي فلم يتبعه ولم يمنعه. (من اتباعه) أي اتباع المنادي بحضور المسجد للجماعة. قال ابن حجر: أي من إتيانه إلى الجماعة التي دعي إليها، والتقييد بسماع النداء بالجماعة التي يسمع مؤذنها جرى على الغالب؛ لأن الإنسان إنما يذهب إلى الجماعة التي يسمع مؤذنها، وإلا فلو ذهب لجماعة لم يسمع مؤذنها فقد أتى بالفرض، ولو لم يسمع المؤذن ولا عذر له لم يسقط عنه الفرض، إذ عدم سماعه المؤذن ليس من الأعذار، والحاصل أن المراد من لزمه حضور الجماعة ولم يمنعه من المجيء إليها. (عذر) أي نوع من الأعذار. (قالوا) أي الصحابة للنبي - صلى الله عليه وسلم -. (قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -. (خوف) أي هو خشية على نفسه أو عرضه أو ماله-.

أو مرض، لم تقبل منه الصلاة التي صلى)) رواه أبوداود، والدارقطني. 1076- (18) وعن عبد الله بن أرقم، ـــــــــــــــــــــــــــــ وقيل: خوف ظلمه، وقد سبق أن من الأعذار المطر والبرد والريح وحضور الطعام ومدافعته الأخبثين. (لم تقبل منه) أي من السامع القاعد في بيته من غير عذر. قال الطيبي: من سمع مبتدأ ولم تقبل خبره، يعني وقع السؤال والجواب معترضين بين الشرط والجزاء. (الصلاة التي صلى) كذا في سنن أبي داود وسنن الدارقطني، وفي نسخ المصابيح "صلاها" قال في شرح السنة: اتفقوا على أن لا رخصة في ترك الجماعة لأحد إلا من عذر لهذا الحديث والحديث الذي سبق، ولقوله عليه السلام لإبن أم مكتوم: فأجب، قال الحسن: إن منعته أمه عن العشاء الآخرة في الجماعة شفقة عليه لم يطعها. وقال الأوزاعي: لا طاعة للوالد في ترك الجمعة والجماعات سمع النداء أو لم يسمع، قال النووي: في حديث الكهان والعراف معنى عدم قبول الصلاة أن لا ثواب له فيها وإن كانت مجزئة في سقوط الفرض عنه كالصلاة في الدار المغصوبة تسقط الفرض ولا ثواب فيها. (رواه أبوداود والدارقطني) وأخرجه أيضاً الحاكم (ج1: ص245، 246) والبيهقي (ج3: ص75) كلهم من طريق أبي جناب الكلبي عن مغراء العبدي عن عدي بن ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وأبوجناب بجيم ونون خفيفتين يحيى بن أبي حية الكلبي، ضعيف ومدلس وقد عنعن. قال الحافظ: وقد رواه قاسم بن أصبغ في مسنده موقوفاً ومرفوعاً من حديث شعبة عن عدي بن ثابت به، ولم يقل في المرفوع: إلا من عذر - انتهى. ورواه بقي بن مخلد وابن ماجه وابن حبان من طريق هشيم بن بشير عن شعبة والدارقطني (ص161) والحاكم (ج1: ص245) ومن طريقه البيهقي (ج3: ص57) ومن طريق قراد أبي نوح عبد الرحمن بن غزوان وهشيم بن بشير عن شعبة مرفوعاً، وزادوا في رواياتهم: إلا من عذر، وقد ذكره المصنف في الفصل الثالث. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، وقد أوقفه غندر وأكثر أصحاب شعبة، وهشيم وقراد أبونوح ثقتان، فإذا وصلاه فالقول فيه قولهما، ثم ذكر لهما متابعتين وهما سيعد بن عامر وداود بن الحاكم عن شعبة، ثم أخرج رواية مغراء العبدي متابعة لشعبة، ثم أخرج له شواهد منها عن أبي موسى الأشعري مرفوعاً بلفظ: من سمع النداء فارغاً صحيحاً فلم يجب فلا صلاة له، ورواه البزار مرفوعاً وموقوفاً، وصحح البيهقي وقفه، وقال بعد رواية حديث ابن عباس من طريق قراد أبي نوح عن شعبة مرفوعاً، وكذلك رواه هشيم بن بشير عن شعبة، ورواه الجماعة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفاً على ابن عباس، ورواه مغراء العبدي عن عدي بن ثابت مرفوعاً، وروي عن أبي موسى الأشعري مسنداً وموقوفاً، والموقوف أصح - انتهى. 1076- قوله: (عن عبد الله بن أرقم) بن عبد يغوث بن وهب بن عبدمناف بن زهرة القرشي الزهري صحابي معروف، أسلم يوم الفتح، وكتب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ثم لأبي بكر وعمر، وكان على بيت المال أيام عمر ثم عثمان،

قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا أقيمت الصلاة ووجد أحدكم الخلاء فليبدأ بالخلاء)) رواه الترمذي، وروى مالك ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم استعفى عثمان فأعفاه، وكان جده عبد يغوث خال النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت آمنة بنت وهب أمه - صلى الله عليه وسلم - عمة أبيه الأرقم، قال السائب بن يزيد وعبد الله بن عتبة: ما رأيت أخشى لله من عبد الله بن أرقم. وقال عبد الله بن الزبير: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استكتب عبد الله بن الأرقم، وكان يجيب عنه الملوك، وبلغ من أمانته عنده أنه كان يأمره أن يكتب إلى بعض الملوك فيكتب ويختم ولا يقرأه لأمانته عنده. قال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج5: ص146) : روى له الأربعة حديثاً واحداً في البداءة بالخلاء لمن أراد الصلاة، ويقال ليس له مسند غيره، قال ذلك البزار في مسنده. وقال الخزرجي في الخلاصة: له أحاديث وعندهم، أي عند الأربعة فرد حديث. وقال المنذري في مختصر السنن: روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثاً واحداً، ليس له في هذه الكتب سوى هذا الحديث. توفي في خلافة عثمان، وكذا ذكره البخاري في التاريخ الصغير، ووقع في ثقات ابن حبان: أنه توفي في شهر ربيع الأول سنة أربع وستين، وهو وهم فاحش. (ووجد أحدكم الخلاء) أي وجد أحدكم احتياجه إلى البزار. (فليبدأ بالخلاء) أي فليبدأ بما احتاج إليه من قضاء الحاجة فيفرغ نفسه ثم يرجع فيصلي؛ لأنه إذا صلى قبل ذلك تشوش خشوعه واختل حضور قلبه، فيجوز له ترك الجماعة لهذا العذر، ولفظ الشافعي: ووجد أحدكم الغائط فليبدأ بالغائط. ولفظ مالك: إذا أراد أحدكم الغائط فليبدأ به قبل الصلاة. ولفظ أبي داود: إذا أراد أحدكم أن يذهب الخلاء وقامت الصلاة فليبدأ بالخلاء. والحديث فيه دليل على أنه لا يقوم إلى الصلاة وهو يجد شيئاً من الغائط والبول. قال في الشرح الكبير (ص) : يكره أن يصلي وهو حاقن سواء خاف فوت الجماعة أو لا، لا نعلم فيه خلافاً وهو قول مالك والشافعي وأصحاب الرأى، لرواية عائشة عند مسلم. (يعني التي تقدمت في الفصل الأول) ولأن ذلك يشغله عن خشوع الصلاة فإن خالف وفعل صحت صلاته. (أي إن أكملها ولم يترك شيئاً من فرائضها) وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وقال ابن أبي موسى: إن من به من مدافعة الأخبثين ما يزعجه ويشغله عن الصلاة أعاد في الظاهر من قوله. وقال مالك: أحب إلى أن يعيد إذا شغله ذلك لظاهر الخبر. ولنا أنه أن صلى بحضرة الطعام وقلبه مشغول بشيء من الدنيا صحت صلاته كذا ههنا، وخبر عائشة أريد به الكراهة، بدليل ما لو صلى بحضرة الطعام. قال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه لو صلى بحضرة الطعام فأكمل صلاته أن صلاته تجزئة، فكذلك إذا صلى حاقناً - انتهى. واختلفوا في تعليل هذا الحكم فقيل؛ لأنه يشغل القلب ولا يوفي الصلاة حقها من الخشوع. وقيل: العلة فيه انتقال الحدث، وانتقال الحدث سبب لخروجه، فلا يكون أقل من مس الذكر. وقيل:؛ لأنه حامل للنجاسة؛ لأنها متدافعة للخروج، فإذا أمسكها قصداً فهو كالحامل لها، والظاهر هو الأول. (رواه الترمذي) وقال حديث حسن صحيح.

وأبوداود والنسائي نحوه. 1077- (19) وعن ثوبان، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاث لا يحل لأحد أن يفعلهن: لا يؤمن رجل قوماً فيخص ـــــــــــــــــــــــــــــ (وروى مالك وأبوداود الخ) وأخرجه أيضاً أحمد (ج3: ص483، ج4: ص35) والشافعي والدارمي والبيقهي (ج3: ص72) وابن خزيمة وابن حبان والحاكم (ج1: ص168) وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وفيه قصة كما سيأتي كلهم من طريق هشام عن عروة عن عبد الله بن أرقم، ورواه بعضهم عن هشام عن عروة عن رجل عن عبد الله، ورجح البخاري فيما حكاه الترمذي في العلل المفرد رواية من زاد فيه عن رجل، ومال الترمذي إلى ترجيح الرواية الأولى أي رواية من قال عن عروة عن عبد الله، حيث قال بعد رواية الحديث من طريق أبي معاوية عن هشام عن عروة عن ابن أرقم هذا حديث حسن صحيح، هكذا روى مالك ويحيى بن سعيد القطان وغير واحد من الحفاظ عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن أرقم، وروى وهيب وغيره عن هشام عن أبيه عن رجل عن عبد الله بن أرقم - انتهى. وحكي نحوه أبوداود أيضاً قال بعد روايته من طريق زهير عن هشام عن أبيه عن ابن أرقم: روى وهيب بن خالد وشعيب بن إسحاق وأبوضمرة هذا الحديث عن هشام ابن عروة عن أبيه عن رجل حدثه عن عبد الله بن أرقم، والأكثر الذي رووه عن هشام قالوا كما قال زهير - انتهى. وقال الزرقاني في شرح الموطأ (ج1: ص288) قال ابن عبد البر: لم يختلف على مالك في هذا الإسناد. (أي في روايته عن هشام عن عروة عن ابن أرقم) وتابعه زهير بن معاوية وسفيان بن عيينة وحفص بن غياث ومحمد بن إسحاق وشجاع بن الوليد وحماد بن زيد ووكيع وأبومعاوية والمفضل بن فضالة ومحمد بن كنانة كلهم رووه عن هشام، كما رواه مالك. ورواه وهيب بن خالد وأنس بن عياض وشعيب بن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه عن رجل حدثه عن عبد الله بن الأرقم، فأدخلوا بين عروة وبين عبد الله بن الأرقم رجلاً، ورواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن أيوب بن موسى عن هشام بن عروة عن أبيه قال: خرجنا في حج أو عمرة مع عبد الله بن الأرقم الزهري، فأقام الصلاة ثم قال: صلوا وذهب لحاجته، فلما رجع قال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا أقيمت الصلاة وأراد أحدكم الغائط فليبدأ بالغائط، فهذا الإسناد يشهد بأن رواية مالك ومن تابعه متصلة لتصريحه بأن عروة سمعه من عبد الله بن الأرقم، وابن جريج وأيوب ثقتان حافظان - انتهى. 1077- قوله: (ثلاث) أي ثلاث خصال بالإضافة ثم حذف المضاف إليه ولهذا جاز الإبتداء بالنكرة. (لا يحل أن يفعلهن) المصدر المنسبك من "أن" والفعل فاعل "يحل" أي لا يجوز فعلهن. (لا يؤمن) بنون التأكيد في جميع النسخ وهكذا في جامع الأصول (ج6: ص387) ووقع في المصابيح: "لا يؤم" بغير النون كما في أبي داود. وقوله: "لا يؤم" بالرفع نفي بمعنى النهي، ويجوز أيضاً فتح الميم على الجزم بالنهي. (فيخص) بالنصب

نفسه بالدعاء دونهم، فإن فعل ذلك فقد خانهم. ـــــــــــــــــــــــــــــ للجواب. وقال المناوي: منصوب بأن المقدرة لوروده بعد النفي على حد: {لا يقضي عليهم فيموتوا} . قيل: ويجوز الرفع عطفاً على لا يؤم. (نفسه) مفعول ليخص. (بالدعاء دونهم) أي دون مشاركتهم في دعائه. (فإن فعل ذلك فقد خانهم) وفي المصابيح: فإن فعل فقد خانهم أي بدون لفظ ذلك، وكذا في أبي داود وجامع الأصول. قال الطيبي: نسب الخيانة إلى الإمام؛ لأن شرعية الجماعة ليفيض كل من الإمام والمأموم الخير على صاحبه ببركة قربه من الله تعالى، فمن خص نفسه فقد خان صاحبه. قال القاري: وإنما خص الإمام بالخيانة فإنه صاحب الدعاء، وإلا فقد تكون الخيانة من جانب المأموم، وفيه دليل على كراهة أن يخص الإمام نفسه بالدعاء في الصلاة ولا يشارك المأمومين فيه، فإن قلت: قد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو في صلاته وهو إمام بلفظ الأفراد، كما في دعاء الافتتاح والركوع والسجود والتشهد وغير ذلك. قلت: ذكروا في دفع هذا الاختلاف وجوهاً: منها ان حديث ثوبان هذا موضوع. قال ابن خزيمة في صحيحه وقد ذكر حديث: اللهم باعد بيني وبين خطاياى-الحديث. قال في هذا دليل على رد الحديث الموضوع: لا يؤم عبد قوماً فيخص نفسه بدعوة دونهم، فإن فعل فقد خانهم، حكى ذلك عنه ابن القيم في زاد المعاد. وفيه أن الحكم على هذا الحديث بأنه موضوع ليس بصحيح، بل هو حسن كما سيأتي. ومنها أنه مختص بالقنوت ونحوه. قال ابن القيم سمعت شيخ الاسلام ابن تيمية يقول: هذا الحديث عندي في الدعاء الذي يدعو به الإمام لنفسه وللمأمومين ويشتركون فيه كدعاء القنوت ونحوه - انتهى. وقال العزيزي: هذا في دعاء القنوت خاصة بخلاف دعاء الافتتاح والركوع والسجود والجلوس بين السجدتين والتشهد - انتهى. ولذلك استحب الشافعية والحنابلة للإمام أن يقول في دعاء القنوت المروي عن الحسن بن علي: اللهم اهدنا فيمن هديت، بضمير الجمع مع أن المشهور في حديثه: اللهم اهدني بإفراد الضمير، إلا في روية للبيهقي في قنوت الصبح، فإن فيها اللهم اهدنا بضمير الجمع. ومنها أن معناه تخصيص نفسه بالدعاء في الصلاة والسكوت عن المقتدين. ومنها أن المراد نفيه عنهم كارحمني محمداً ولا ترحم معنا أحداً، ولا شك أن هذا ممنوع. ومنها أن المراد بالتخصيص المنهي عنه هو أن ينوي الإمام بالأدعية الواردة بلفظ الإفراد نفسه خاصة ولا ينوي بها العموم والشمول لنفسه وللمقتدين. قال شيخنا في شرح الترمذي: قول الشافعية وغيرهم أنه يستحب للإمام أن يقول: اللهم اهدنا بجمع الضمير فيه أنه خلاف المأثور، والمأثور إنما هو بإفراد الضمير، فالظاهر أن يقول الإمام بإفراد الضمير أي في دعاء القنوت وغيره كما ثبت لكن لا ينوي به خاصة نفسه، بل ينوي به العموم والشمول لنفسه ولمن خلفه من المقتدين - انتهى. قد ورد دعاء القنوت بضمير الجمع من حديث ابن عباس عند البيهقي في السنن الكبرى (ج2: ص210)

ولا ينظر في قعر بيت قبل أن يستأذن، فإن فعل ذلك فقد خانهم. ولا يصل وهو حقن حتى يتخفف)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ فقد روى من طريق الوليد بن مسلم عن ابن جريج عن ابن هرمز عن يزيد بن أبي مريم عن عبد الله بن عباس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا دعاء ندعو به في القنوت من صلاة الصبح: اللهم اهدنا فيمن هديت الخ، لكن الأكثر الأشهر هو إفراد الضمير في هذا الدعاء، وفي صحة حديث ابن عباس عندي نظر. (ولا ينظر) بالرفع ويجوز الجزم. (في قعر بيت) بفتح القاف وسكون العين أي داخل مكان مستور للغير. (قبل أن يستأذن) بالبناء للفاعل أي أهله فيؤذن. قال ابن الملك: احترازاً أن يقع نظره على العورة. (فإن فعل) أي فإن نظر فيه قبل الاستيذان من جحر أو غيره. (فقد خانهم) قال الطيبي: شرعية الاستيذان لئلا يهجم قاصد على عورات البيت، فالنظر في قعر البيت خيانة. قلت: وفي المصابيح وأبي داود وجامع الأصول "فقد دخل" بدل قوله "فقد خانهم" أي فقد ارتكب إثم من دخل البيت بغير استئذان. قال ابن العربي: الإطلاع على الناس حرام بالإجماع فمن نظر داره فهو بمنزلة من دخل داره. (ولا يصل) بكسر اللام المشددة وحذف حرف العلة للجزم. وفي بعض النسخ ولا يصلي أي بإثبات الياء، وكذا وقع في المصابيح وأبي داود وجامع الأصول. (وهو حقن) بفتح الحاء المهملة وكسر القاف، أي وهو يؤذيه الغائط أو البول، والجملة حال. قال الجزري: الحاقن والحقن بحذف الألف بمعنى، والحاقن هو الذي حبس بوله مع شدته، والحاقب هو الحابس للغائط، والمراد هنا بالحاقن ما يعم حبس الغائط، وهو من باب الاكتفاء. (حتى يتخفف) بمثناه تحتية مفتوحة ففوقية أي يخفف نفسه بخروج الفضلة ويزيل ما يؤذيه من ذلك. قلت: فإن فعل ذلك فقد خان نفسه. قال الطيبي: الصلاة مناجاة وتقرب إلى الله سبحانه واشتغال عن الغير، والحاقن كأنه يخون نفسه في حقها، ولعل توسيط الاستيذان بين حالتي الصلاة للجمع بين مراعاة حق الله تعالى وحق العباد، وخص الاستيذان أي من حقوق العباد؛ لأن من راعى هذه الدقيقة فهو بمراعاة ما فوقها أحرى- انتهى. والحديث قد استدل به من ذهب إلى فساد صلاة من صلى وهو حاقن وإن أكمل صلاته ولم يترك فرضاً من فرائضها خلافاً للجمهور. قال ابن رشد: والسبب في اختلافهم، اختلافهم في النهي هل يدل فساد المنهى عنه أم ليس يدل على فساده وإنما يدل على تأثيم من فعله فقط إذا كان أصل الفعل الذي تعلق النهي به واجباً أو جائزاً، وقد تمسك القائلون بفساد صلاته بحديث رواه الشاميون منهم من يجعله عن ثوبان، ومنهم من يجعله عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يحل لمؤمن أن يصلي وهو حاقن جداً. قال أبوعمر ابن عبد البر: وهو ضعيف السند لا حجة فيه- انتهى. قلت: حديث ثوبان هذا ليس بضعيف بل صحيح أو حسن كما ستعرف، فهو حجة بلا شك، لكن في الاستدلال به على فساد صلاة الحاقن نظر، وأما كراهة صلاة الحاقن وكونه آثما فلا خفاء فيه.

رواه أبوداود، وللترمذي نحوه. 1078- (20) وعن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تؤخروا الصلاة لطعام ولا لغيره)) ـــــــــــــــــــــــــــــ (رواه أبوداود وللترمذي نحوه) وأخرجه أيضاً أحمد (ج5 ص280) وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص180) وحديث ابن ماجه مختصر كلهم من طريق يزيد بن شريح الحضرمي عن أبي حي المؤذن عن ثوبان، وقد سكت عليه أبوداود. وقال الترمذي: حديث حسن. واختلف فيه على يزيد بن شريح فرواه حبيب بن صالح عن يزيد عن أبي حي عن ثوبان. أخرجه أحمد والترمذي وأبوداود وابن ماجه والبيهقي، وروى ثور بن يزيد الكلاعي عن يزيد عن أبي حي عن أبي هريرة، أخرجه أبوداود والبيهقي، وروى معاوية بن صالح عن السفر بن نسير عن يزيد عن أبي أمامة. أخرجه أحمد (ج5 ص250، 260، 261) وفي رواية الأخيرة زيادة نصها، فقال شيخ لما حدثه يزيد أنا سمعت أبا أمامة يحدث بهذا الحديث. أخرجه أيضاً الطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد (ج2 ص79، 89 ج8 ص43) ورواه ابن ماجه والبيهقي مختصراً. ومدار الحديث في طرقه كلها على يزيد بن شريح كما ترى، وهو ثقة فقيل يحتمل أن يكون سمعه من الطرق الثلاث وحفظه وقيل: بل اضطراب حفظه فيها ونسي فيكون الحديث ضعيفاً بطرقه الثلاث للاضطراب في السند. وقيل: طريق ثوبان أرجح. قال الترمذي بعد ذكر طريق أبي أمامة وأبي هريرة تعليقاً: وكان حديث يزيد بن شريح عن أبي حي الموذن عن ثوبان في هذا أجود إسناداً وأشهر- انتهى. ونقل المنذري كلام الترمذي هذا وأقره. وقيل: رواية السفر بن نسير عنه عن أبي أمامة أرجح لما جاء عند أحمد (ج5 ص261) من المتابعة من شيخ مبهم يحكي أنه سمعه من أبي أمامة كما تقدم، وفيه أن السفر بن نسير ضعيف كما صرح به الحافظ في التقريب، والهيثمي في مجمع الزوائد، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الدارقطني: لا يعتبر به، والمتابع له عند أحمد مبهم، ففي كون رواية السفر أرجح من رواية حبيب بن صالح وثور بن يزيد نظر قوي، وسكوت أبي داود عن حديثي ثوبان وأبي هريرة بعد روايتهما يدل على أن هذين الطريقتين محفوظان صالحان للاحتجاج عنده، وإليه قلبي، وفي كون حديث ثوبان أجود سنداً من حديث أبي هريرة كلام عندي، فإن ثور بن يزيد أوثق وأثبت من حبيب بن صالح. والله أعلم. 1078- قوله: (لا تؤخروا الصلاة) أي عن وقتها. (لطعام ولا لغيره) كالحقن، قال التوربشتي: المعنى لا تؤخروها عن وقتها، وإنما حملناه على ذلك دون التأخير على الاطلاق لقوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة- الحديث. فجعل له تأخير الصلاة مع بقاء الوقت. وعلى هذا فلا اختلاف بين الحديثين. قال الطيبي: ويمكن أن يكون المعنى لا تؤخروا الصلاة لغرض الطعام لكن إذا حضر الطعام أخروها للطعام قدمت للاشتغال

{الفصل الثالث}

رواه في شرح السنة. {الفصل الثالث} 1079- (21) عن عبد الله بن مسعود، قال: ((لقد رأيتنا ـــــــــــــــــــــــــــــ بها عن الغير تبجيلاً لها، وأخرت تفريغاً للقلب عن الغير تعظيما لها. قال القاري: حاصله أن الصلاة مقدمة على جميع الأمور بالذات وغاية الأمور يتقدم عليها لتحصيل كمالها إذا وسع الوقت، وأما عند ضيق الزمان فيجب تقديمها، فيكون في تقديم الأمور وتأخيرها تقديم لأمر الصلاة تبجيلاً لها. قال الطيبي: والوجه أن النهي في الحقيقة وارد على إحضار الطعام قبل أداء الصلاة، أي لا تتعرضوا لما أن حضرت الصلاة تؤخروها لجله من إحضار الطعام والاشتغال بغيرها- انتهى. وقال الخطابي في المعالم (ج4 ص242، 241) وجه الجمع بين الحديثين أن حديث ابن عمر إنما جاء فيمن كانت نفسه تنازعه شهوة الطعام وكان شديد التوقان إليه، فإذا كان كذلك وحضر الطعام وكان في نفس الوقت فضل بدأ بالطعام لتسكن شهوة نفسه فلا يمنعه عن توفية الصلاة حقها، وكان الأمر يخف عندهم في الطعام وتقرب مدة الفراغ منه، إذ كانوا لا يستكثرون منه ولا ينصبون الموائد ولا يتناولون الألوان، وإنما هو مذقة من لبن أو شربة من سويق أو كف من تمر أو نحو ذلك، ومثل هذا لا يؤخر الصلاة عن زمانها ولا يخرجها عن وقتها. وأما حديث جابر فهو فيما كان بخلاف ذلك من حال المصلي وصفة الطعام ووقت الصلاة، وإذا كان الطعام لم يوضع وكان الإنسان متماسكاً في نفسه وحضرت الصلاة وجب أن يبدأ بها ويؤخر الطعام. وهذا وجه بناء أحد الحديثين على الآخر- انتهى. (رواه) أي البغوي. (في شرح السنة) وأخرجه أيضاً أبوداود في الأطعمة، وسكت عنه. وقال المنذري: في إسناده محمد بن ميمون أبوالنضر الكوفي الزعفراني المفلوج. قال أبوحاتم الرازي: لا بأس به. وقال ابن معين ثقة. وقال الدارقطني: ليس به بأس. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال أبوزرعة الرازي: كوفي لين. وقال ابن حبان: منكر الحديث جداً لا يجوز الاحتجاج به إذا وافق الثقات فكيف إذا انفرد بأوابده- انتهى. قلت: ووثقه أبوداود، وقال النسائي: منكر الحديث. وقال الحاكم أبوأحمد: حديثه ليس بالقائم له عند أبي داود هذا الحديث الواحد. وقال الحافظ في التقريب: صدوق له أوهام. فالظاهر أن حديثه هذا ليس مما لا يعتبر به. وأخرجه البيهقي (ج3 ص74) كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يؤخر الصلاة لطعام، ولا لغيره. وفيه أيضاً محمد بن ميمون. 1079- قوله: (لقد رأيتنا) أي معاشر الصحابة أو جماعة المسلمين. قال في اللمعات: الرؤية ههنا بمعنى العلم، ولذا اتحد ضمير الفاعل والمفعول وإن كانا مختلفين بالإفراد والجمع وما يتخلف ساد مسد المفعول الثاني،

وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه، أو مريض. إن كان المريض ليمشي بين رجلين حتى يأتي الصلاة. وقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمنا سنن الهدى، وإن من سنن الهدى الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه. وفي رواية قال: من سره أن يلقى الله غداً مسلماً، فليحافظ على هذه الصلوات الخمس، حيث ينادي بهن فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكن صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ـــــــــــــــــــــــــــــ والضمير الراجع إلى المفعول الأول محذوف- انتهى. وقال في أشعة اللمعات: كفت ابن مسعود هر آئينه بتحقيق دانستم خودرا وصحابه ديكر راكه حكم ميكرديم باين كه بس نمى ماند از نماز باجماعت مكر منافقي كه بتحقيق معلوم بود وظاهر بود نفاق وى. وقال الطيبي: قد تقرر أن إتحاد الفاعل والمفعول إنما يسوغ في أفعال القلوب وأنها من داخل المبتدأ والخبر، والمفعول الثاني الذي هو بمنزلة الخبر محذوف ههنا، وسد قوله: (وما يتخلف عن الصلاة) أي بالجماعة من غير عذر وهو حال مسده وتبعه ابن حجر، لكن في كون إتحاد الفاعل والمفعول ههنا بحث، إذ المراد بالفاعل المتكلم وحده وبالمفعول هو وغيره، قاله القاري. (إلا منافق قد علم نفاقه) فيه حجة لمن خص التواعد بالتحريق بالنار المتقدم في حديث أبي هريرة بالمنافقين المبطنين للكفر المظهرين للإسلام، وتقدم هناك أن الحافظ حمله على المنافقين نفاق المعصية لا نفاق الكفر. قال الشمني: ليس المراد بالنفاق ههنا من يبطن الكفر ويظهر الإسلام وإلا لكانت الجماعة فريضة؛ لأن من يبطن الكفر كافر ولكان آخر الكلام مناقضاً لأوله، وفيه أن مراده أن النفاق سبب التخلف لا عكسه وأن الجماعة واجبة على الصحيح لا فريضة للدليل الظني وأن المناقضة غير ظاهر، قاله القاري. (إن كان) إن مخففة من الثقيلة. (المريض ليمشي بين رجلين) أي يتوكأ عليهما لشدة ما به من قوة المرض وضعف البدن. (وقال) أي ابن مسعود. (علمنا سنن الهدى) روى بضم السين وفتحها حكاهما القاضي وهما بمعنى متقارب أي طرائق الهدى والصواب، ولم يرد السنة المتعارفة بين الفقهاء. (وإن من سنن الهدى الصلاة) أي بالجماعة كما هو صريح السياق. (في المسجد الذي يؤذن فيه) لإمام معين أو غير معين. (مسلماً) أي كاملا. (حيث ينادي بهن) أي في المساجد مع الجماعات. (وإنهن) أي الصلوات الخمس بالجماعة. (ولو أنكم صليتم في بيوتكم) يعني ولو جماعة. (كما يصلي هذا المتخلف) قال الطيبي: تحقير للمتخلف وتبعيد عن مظان الزلفى، كما أن اسم الإشارة في قوله الآتي هذه المساجد ملوح على تعظيمها وبعد مرتبتها في الرفعة. (ولو تركتكم سنة نبيكم لضللتم) قال الطيبي: يدل على أن المراد بالسنة العزيمة. قال ابن الهمام:

وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد، إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ورفعه بها درجة، وحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف)) رواه مسلم. 1080- (22) وعن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لولا ما في البيوت من النساء والذرية، أقمت صلاة العشاء، ـــــــــــــــــــــــــــــ وتسميتها سنة على ما في حديث ابن مسعود لا حجة فيه للقائلين بالنسبة إذ لا تنافى الوجوب في خصوص ذلك الإطلاق؛ لأن سنن الهدى أعم من الواجب لغة كصلاة العيد- انتهى. وقد يقال لهذا الواجب سنة لكونه ثبت بالسنة أي الحديث، وقوله: "لضللتم" يعطي الوجوب ظاهرا. وفي رواية أبي داود "لكفرتم" وهو على التغليظ أو على الترك تهاوناً وقلة مبالاة وعدم اعتقادها حقاً، أو لفعلتم فعل الكفرة. وقال الخطابي: معناه أنه يؤديكم إلى الكفر بأن تتركوا عرى الإسلام شيئاً فشيئاً حتى تخرجوا من الملة- انتهى. (فيحسن الطهور) بضم الطاء أي يأتي بواجباًته ومكملاته. (ثم يعمد) بكسر الميم أي يقصد ويتوجه. (من هذه المساجد) أي مساجد المسلمين. (بكل خطوة) بفتح الخاء أو ضمها. (وحط) أي وضع ومحا. (وما يتخلف عنها) أي عن صلاة الجماعة في المسجد. (معلوم النفاق) وفي رواية أبي داود: بين النفاق أي ظاهره. (ولقد كان الرجل) أي المريض. (ويؤتى به) إلى الصلاة. (يهادي بين الرجلين) على بناء المفعول أي يؤخذ من جانبيه فيمشي به إلى المسجد من ضعفه وتمايله. وقال النووي: أي يمسكه رجلان من جانبيه بعضدية يعتمد عليها. (حتى يقام في الصف) قال النووي: في هذا كله تأكيد أمر الجماعة وتحمل المشقة في حضورها، وأنه إذا أمكن المريض ونحوه التوصل إليها استحب له حضورها - انتهى. قال الشوكاني: والأثر استدل به على وجوب صلاة الجماعة. وفيه أنه قول صحابي ليس فيه إلا حكاية المواظبة على الجماعة وعدم التخلف عنها ولا يستدل بمثل ذلك على الوجوب - انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي مختصراً ومطولاً. 1080- قوله: (لولا ما في البيوت من النساء والذرية) أي الصغار. وفي معناهما أصحاب الأعذار. قال الطيبي: من بيان لما عدل من "من" إلى "ما"، إما لإرادة الوصفية وبيان أن النساء والذرية بمنزلة ما لا يعقل، وأنه مما لا يلزمه حضور الجماعة، وإما لأن البيوت محتوية على الأمتعة والأثاث، فخصتا بالذكر للاعتناء بشأنهما، وما تستعمل عاماً في ما يعقل وما لا يعقل. (أقمت صلاة العشاء) أي أمرت باقامة صلاة العشاء الآخرة للجماعة،

وأمرت فتياني يحرقون ما في البيوت بالنار)) روا أحمد. 1081- (23) وعنه، قال: ((أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا كنتم في المسجد فنودي بالصلاة فلا يخرج أحدكم حتى يصلي)) ـــــــــــــــــــــــــــــ وتخصيصها لكثرة تخلف المتخلفين فيها. (وأمرت فتياني) بكسر الفاء جمع فتى أي غلماني وخدمي. وقيل: أي أقوياء أصحابي. (يحرقون) بالتشديد ويخفف. (ما في البيوت) فيه تغليب غير ذوي العقول أو تنزيلهم منزلتهم فإنهم لو كانوا من ذوي العقول لما تخلفوا. (بالنار) فيه تأكيد ووعيد وتهديد. وفيه بيان سبب ترك ما هّم به - صلى الله عليه وسلم - من تحريق المتخلفين وبيوتهم. (رواه أحمد) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2: ص42) : في إسناده أبومعشر وهو ضعيف. قلت: أبومعشر هذا اسمه نجيح بن عبد الرحمن السندي المدني مولى بني هاشم مشهور بكنيته من رواة الأربعة. قال في التقريب: ضعيف أسن واختلط، مات سنة سبعين ومائة - انتهى. وضعفه أيضاً ابن معين ويحيى بن سعيد القطان وأبوداود والنسائي وابن المديني والدارقطني وابن سعد. وقال البخاري وغيره: منكر الحديث. وقال الترمذي: قد تكلم بعض أهل العلم من قبل حفظه. قال محمد: لا أروي عنه شيئاً. وقد روى عنه الناس. قلت: ومع ضعفه يكتب حديثه في الرقاق والتفسير والتاريخ والقصص. قال الأثرم عن أحمد: حديث عندي مضطرب لا يقيم الإسناد ولكن أكتب حديثه أعتبر به. وقال أبوحاتم: كان أحمد يرضاه ويقول كان بصيراً بالمغازي قال: وقد كنت أهاب حديثه حتى رأيت أحمد يحدث عن رجل عنه فتوسعت بعد فيه. قيل له: فهو ثقة؟ قال: صالح لين الحديث محله الصدق. قيل: أعدل الأقوال فيه أنه صدوق في الحديث، وأن ضعفه من قبل حفظه، وقد تأيد حديثه هذا بما تقدم من حديث أبي هريرة في الفصل الأول. 1081- قوله: (أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال الطيبي: المأمور به محذوف وقوله: (إذا كنتم الخ) مقول للقول، وهو حال بيان للمحذوف، والمعنى أمرنا أن لا نخرج من المسجد إذا كنا فيه وسمعنا الأذان حتى نصلي قائلاً إذا كنتم الخ. وقال ابن حجر: أي أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا نخرج من المسجد بعد سماع أذانه. لكن ليس بصيغة أمر بل بما يدل عليه، وهو قوله إذا كنتم الخ. والحديث يدل على أنه لا يجوز الخروج من المسجد بعد ما أذن فيه، لكنه مخصوص بمن ليس له ضرورة، يدل عليه حديث أبي هريرة عند البخاري وغيره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج وقد أقيمت الصلاة وعدلنا الصفوف حتى إذا قام في مصلاه انتظرنا أن يكبر انصرف قال على مكانكم فمكثنا على هيئتنا حتى خرج إلينا ينظف رأسه ماء وقد اغتسل، ففيه دليل على أن النهي عن الخروج عن المسجد بعد الأذان مخصوص بمن ليس له ضرورة، فيلتحق بالجنب المحدث والراعف والحاقن

رواه أحمد. 1082- (24) وعن أبي الشعثاء، قال: ((خرج رجل من المسجد بعد ما أذن فيه. فقال أبوهريرة: أما هذا فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم -)) ـــــــــــــــــــــــــــــ ونحوهم، وكذا من كان إماما لمسجد آخر ومن في معناه. قال ابن رسلان في شرح السنن: الخروج مكروه عند عامة أهل العلم إذا كان لغير عذر من طهارة أو نحوها وإلا جاز بلا كراهة - انتهى. قلت: ويدل على جواز الخروج لحاجة حديث عثمان الآتي، وحديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عند الطبراني في الأوسط قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يسمع النداء في مسجدي هذا ثم يخرج منه إلا لحاجة ثم لا يرجع إليه إلا منافق. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. وقال المنذري: رواته محتج بهم في الصحيح. (رواه أحمد) من طريق شريك عن أشعث بن أبي الشعثاء عن أبيه عن أبي هريرة وزاد في أوله من طريق المسعودي وشريك قال: (أي أبوالشعثاء) خرج رجل بعد ما أذن المؤذن فقال: (أي أبوهريرة) أما هذا فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: (أي أبوهريرة) أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخ. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح: وقال المنذري: إسناده صحيح. ورواه مسلم وأبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجه دون قوله: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخ - انتهى. يعني به الحديث الذي ذكره المصنف بعد هذا. 1082- قوله: (عن أبي الشعثاء) اسمه سليم بن أسود بن حنظلة المحاربي الكوفي، ثقة باتفاق من كبار أوساط التابعين، مات في زمن الحجاج، وأرخه ابن قانع سنة ثلاث وثمانين. (أما هذا فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم -) كأنه علم أن خروجه ليس لضرورة تبيح له الخروج كحاجة الوضوء مثلاً. قال الطيبي: أما للتفصيل يقتضي شيئين فصاعداً، والمعنى أما من ثبت في المسجد وأقام الصلاة فيه فقد أطاع أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم -، وأما هذا فقد عصى - انتهى. وفيه دليل على تحريم الخروج من المسجد بعد الأذان وهو محمول على من خرج بغير ضرورة كما تقدم. قال القرطبي: هذا محمول على أنه حديث مرفوع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدليل نسبته إليه وكأنه سمع ما يقتضي تحريم الخروج من المسجد بعد الأذان، فأطلق لفظ المعصية عليه - انتهى. قلت: حديث مسلم هذا أخرجه أحمد من طريق المسعودي وشريك كلاهما عن أشعث عن أبي الشعثاء بنحوه، وزاد في آخره ما نصه قال: وفي حديث شريك ثم قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كنتم في المسجد فنودي بالصلاة فلا يخرج أحدكم حتى يصلي. وهو الحديث السابق ففي هذه الرواية التصريح برفع الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذا ورد التصريح برفعه عند الطبراني من طريق

رواه مسلم. 1083- (25) وعن عثمان بن عفان، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أدركه الأذان في المسجد. ثم خرج لم يخرج لحاجة، وهو لا يريد الرجعة، فهو منافق)) رواه ابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ سعيد بن المسيب عن أبي هريرة كما تقدم. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي. وأعلم أن قول الصحابي: من فعل كذا فقد عصى الرسول مما أختلف في أنه مرفوع أو موقوف. والصحيح الراجح، أنه مرفوع. قال المنذري في مختصر السنن ذكر بعضهم أن هذا يعني حديث أبي هريرة موقوف، وذكر أبوعمر النمري (ابن عبد البر) : أنه مسند عندهم. وقال: لا يختلفون في هذا وذاك أنهما مسندان مرفوعان يعني هذا، وقول أبي هريرة من لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله - انتهى. وقال الحافظ في شرح النخبة: ومن ذلك أي من قبيل المرفوغ الحكمي أن يحكم الصحابي على فعل من الأفعال بأنه طاعة لله ولرسوله أو معصيته كقول عمار: ومن صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم. قال السيوطي في التدريب (ص64) بعد ذكره. وجزم بذلك أيضاً الرزكشي في مختصره نقلاً عن ابن عبد البر: وأما البلقيني فقال الأقرب أن هذا ليس بمرفوع لجواز إحالة الإثم على ما ظهر من القواعد، وسبقه إلى ذلك أبوالقاسم الجوهري، نقله عنه ابن عبد البر ورده عليه - انتهى. 1083- قوله: (ولم يخرج) أي والحال أنه لم يخرج. (لحاجة وهو) أي والحال أنه (لا يريد الرجعة) بفتح الراء وسكون الجيم أي الرجوع. (فهو منافق) جواب أو خبر "من" أي عاص، أو فهو في ترك الجماعة كالمنافق أو فاعل فعل المنافق، إذا المؤمن صدقاً ليس من شأنه ذلك. (رواه ابن ماجه) وفيه عبد الجبار بن عمر الأيلي الأموي عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، وهما ضعيفان متروكان، لكن له شاهد قوي من حديث أبي هريرة عند الطبراني في الأوسط، وقد ذكرنا لفظه، ويشهد له أيضاً ما روى أبوداود في مراسيله والبيهقي (ج3: ص56) عن سعيد بن المسيب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا يخرج أحد من المسجد بعد النداء إلا منافق إلا لعذر أخرجته حاجة وهو يريد الرجوع. ومراسيل سعيد بن المسيب قال أحمد: صحاح لا نرى أصح من مرسلاته. وقال الشافعي: إرسال ابن المسيب عندنا حسن، وحديث عثمان هذا أخرجه أيضاً ابن منجر والزيدوني في أحكامه وابن سيد الناس في شرح الترمذي قاله الشوكاني.

1084- (26) وعن ابن عباس، رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((من سمع النداء فلم يجبه، فلا صلاة له إلا من عذر)) رواه الدارقطني. 1085- (27) وعن عبد الله بن أم مكتوم، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1084- قوله: (من سمع النداء) أي وعليه ما نودي لها من الصلاة وإلا فلو صلاها قبل لم يلزم المجيء. (فلم يجبه) أي النداء بالفعل يعني فلم يحضر المسجد. وفي رواية ابن ماجه "فلم يأته"، أي محل النداء لأداء تلك الصلاة التي نودي لها. (فلا صلاة له) أي فليس له تلك الصلاة لو صلاها في غير محل النداء، وإنما أتى بنفي الجنس للدلالة على عموم الحكم لكل صلاة ترك فيها إجابة الأذان، وإلا فليس المراد أنه بطلت صلاته كلها بترك الإجابة مرة. وظاهر الحديث أن الجماعة في المسجد الذي سمع نداءه فرض لصحة الصلاة حتى لو تركها بطلت صلاته، وهو خلاف ما عليه الجمهور، فلا بد لهم من حمل الحديث على نقصان تلك الصلاة أي فلا صلاة له كاملة فنزل نفي الكمال منزلة نفي الذات مبالغة، أو المراد فلا صلاة مقبولة. (إلا من عذر) قال القاري: استثناء من عدم الإجابة. (رواه الدارقطني) وأخرجه أيضاً بقي بن مخلد وابن ماجه وابن حبان والحاكم والبيهقي كلهم من طريق هشيم عن شعبة عن عدي بن ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. قال الحاكم: صحيح على شرطهما. وقال الحافظ في بلوغ المرام: إسناده على شرط مسلم، لكن رجح بعضهم وقفه. وقال في التلخيص (ص123) : إسناده صحيح لكن قال الحاكم: وقفه غندر وأكثر أصحاب شعبة، ثم أخرج له شواهد، منها عن أبي موسى الأشعري وهو من طريق أبي بكر بن عياش عن أبي حصين عن أبي بردة عن أبيه بلفظ: من سمع النداء فارغاً صحيحاً فلم يجب فلا صلاة له. ورواه البزار من طريق قيس بن الربيع عن أبي حصين أيضاً، ورواه من طريق سماك عن أبي بردة عن أبيه موقوفاً. وقال البيهقي: الموقوف أصح - انتهى. ونقل الهيثمي في مجمع الزوائد حديث أبي موسى عن الطبراني في الكبير بلفظ: من سمع النداء فلم يجب من غير ضرر ولا عذر فلا صلاة له. قال: وفيه قيس بن الربيع وثقة شعبة وسفيان الثوري، وضعفه جماعة - انتهى. وقد ظهر بهذا أن إسناد حديث ابن عباس هذا أمثل مما تقدم من روايته في الفصل الثاني. 1085- قوله: (عن عبد الله بن أم مكتوم) القرشي العامري الأعمى الصحابي المشهور، مؤذن النبي - صلى الله عليه وسلم -، المعروف بابن أم مكتوم. اختلف في اسمه، فقيل: عمرو. وقيل: عبد الله. وقيل: الحصين، والأول أكثر وأشهر وهو عمرو بن زائدة. ويقال: عمرو بن قيس بن زائدة بن الأصم. واسم أمه أم مكتوم عاتكة بنت عبد الله ابن عكثة وهو ابن خال خديجة أم المؤمنين فإن أم خديجة أخت قيس بن زائدة واسمها فاطمة، أسلم قديماً

قال: ((يارسول الله! إن المدينة كثيرة الهوام والسباع، وأنا ضرير البصر، فهل تجد لي من رخصة؟ قال: هل تسمع: حي على الصلاة، حي على الفلاح؟ قال: نعم. قال: فحي هلا. ولم يرخص)) . رواه أبوداود والنسائي. ـــــــــــــــــــــــــــــ وهاجر قبل مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - على المدينة ثلاث عشرة مرة يصلي بالناس، وشهد القادسية وقتل بها شهيداً وكان معه اللواء يومئذٍ وهو الأعمى المذكور في {عبس وتولى} [80: 1] . وقيل: رجع من القادسية إلى المدينة فمات بها، ولم يسمع له بذكر بعد عمر بن الخطاب له عند أبي داود والنسائي وابن ماجه هذا الحديث الواحد. (كثيرة الهوام) أي المؤذيات من العقارب والحيات جمع هامة، وهي كل ذات سم يقتل، وما يسم ولا يقتل فسامه كالعقرب والزنبور، وقد تقع الهامة على ما يدب من الحيوان وإن لم يقتل ومنه أيؤذيك هو أم رأسك أراد القمل كذا في المجمع. (والسباع) كالذئاب أو الكلاب. (وأنا ضرير البصر) أي أعمى. (فهل تجد لي من رخصة) أي في ترك الجماعة. (هل تسمع حي على الصلاة حي على الفلاح) يعني هل تسمع الأذان وإنما خص اللفظان لما فيهما من معنى الطلب والترغيب. (فحي هلا) بالتنوين وجاء بالألف بلا تنوين وسكون اللام وهما كلمتان جعلتا كلمة واحدة، فحي بمعنى أقبل وهلا بمعنى أسرع، وجمع بينهما للمبالغة. قال في شرح المفصل: هو اسم من أسماء الأفعال مركب من حي وهل، وهما صوتان، معناهما الحث والاستعجال، وجمع بينهما وسمي بهما للمبالغة. وكان الوجه أن لا ينصرف كحضر موت وبعلبك، إلا أنه وقع موقع فعل الأمر فبني كصومه، وفيه لغات، وتارة يستعمل "حي" وحده نحو حي على الصلاة، وتارة "هلا" وحدها، واستعمال حي وحده أكثر من الاستعمال هلا وحدها- انتهى. وقال الطيبي: هي كلمة حث واستعجال وضعت موضع أجب. قال ابن حجر: وآثرها لأن أحسن الجواب ما كان مشتقاً من السؤال ومنتزعاً منه. (ولم يرخص) له بالبناء للفاعل. وقيل: للمفعول. والحديث قد استدل به على أن حضور الجماعة واجب عيناً، ولو كان ندبا لكان أولى من يسمعه التخلف عنها أهل الضرر والضعف ومن كان في مثل حال ابن أم مكتوم، واحتج أيضاً من ذهب إلى ذلك بأن الله عزوجل أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي جماعة في صلاة الخوف ولم يعذر في تركها، فعقل أنها في حال الأمن أوجب وتأول من قال بكونها فرضاً على الكفاية أو سنة بوجوه. تقدم ذكرها في شرح حديث أبي هريرة قال: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل أعمى الخ المتقدم في الفصل الأول. (رواه أبوداود والنسائي) أخرجه أبوداود من طريق أبي رزين الأسدي وعبد الرحمن بن أبي ليلى كلاهما عن ابن أم مكتوم. وبين ألفاظهما اختلاف. وأخرجه النسائي من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى فقط وابن ماجه من طريق أبي رزين، ولفظ الكتاب هو من رواية ابن أبي ليلى عند النسائي لكن ليس عنده، وكذا عند أبي داود قوله: وأنا ضرير البصر فهل تجد لي من رخصة، نعم يوجد نحو هذا اللفظ في رواية أبي رزين عند أبي داود وابن ماجه. والمصنف ركب الحديث

1086- (28) وعن أم الدرداء، قالت: ((دخل علي أبوالدرداء وهو مغضب، فقلت: ما أغضبك؟ قال: والله ما أعرف من أمر أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - شيئاً إلا أنهم يصلون جميعاً)) ـــــــــــــــــــــــــــــ من الروايتين، وهذا ليس بحسن. والحديث أخرجه أيضاً أحمد (ج3 ص423) والبيهقي (ج3 ص58) وابن حبان والطبراني. زاد ابن حبان وأحمد في رواية: فأتها ولو حبواً. قال المنذري: قد اختلف على ابن أبي ليلى في هذا الحديث، فرواه بعضهم عنه مرسلاً- انتهى. وفي الباب عن أبي أمامة عند الطبراني في الكبير وعن جابر عند أحمد وأبي يعلى والطبراني في الأوسط وابن حبان وعن البراء بن عازب عند الطبراني في الأوسط. 1086- قوله: (وعن أم الدرداء) زوج أبي الدرداء اسمها هجيمة بنت حي الأوصابية الدمشقية، وهي الصغرى النابعية، ثقة فقهية من رواة الكتب الستة. وأما أم الدرداء الكبرى الصحابية فاسمها خيرة بنت أبي حدرد، ولا رواية لها في هذه الكتب. ماتت قبل أبي الدرداء بالشام في خلافة عثمان. قال علي بن المديني: كان لأبي الدرداء امرأتان كلتاهما يقال لهما أم الدرداء، إحداهما رأت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي خيرة بنت أبي حدرد، والثانية تزوجها بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي هجمية الوصابية، ماتت سنة إحدى وثمانين. قال الحافظ في الفتح: أم الدرداء وهي الصغرى التابعية لا الكبرى الصحابية؛ لأن الكبرى ماتت في حياة أبي الدرداء، وعاشت الصغرى بعده زماناً طويلاً. وقد جزم أبوحاتم بأن سالم بن أبي الجعد (المصرح بسماع هذا الحديث منها) لم يدرك أبا الدرداء، فعلى هذا لم يدرك أم الدرداء الكبرى، وفسرها الكرماني هنا بصفات الكبرى، وهو خطأ لقول سالم سمعت أم الدرداء. (دخل على) بتشديد الياء. (وهو مغضب) بفتح الضاد المعجمة. (ما أغضبك) ما استفهامية. (ما أعرف من أمر أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - شيئاً) أبقوه من الشريعة. (إلا أنهم يصلون) أي الصلاة أو الصلوات، فالمفعول محذوف (جميعاً) أي حال كونهم مجتمعين، يعني أغضبتني الأمور المنكرة المحدثة في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لأني والله ما أعرف من أمرهم الباقي على الجادة شيئاً إلا أنهم يصلون جميعاً، فيكون الجواب محذوفاً، والمذكور دليل الجواب، قاله القاري. ومراد أبي الدرداء أن أعمال الذين يصلون بالجماعة قد وقع في جميعها النقص والتغيير ما خلا صلاتهم بالجماعة، ولم يقع فيها شيء من ذلك، وكان ذلك صدر من أبي الدرداء في أواخر عمره، وكان ذلك في أواخر خلافة عثمان، فيا ليت شعري إذا كان ذلك العصر الفاضل بالصفة المذكورة عند أبي الدرداء، فكيف بمن جاء بعدهم من الطبقات إلى هذا الزمان. وقوله من أمر أمة محمد كذا وقع في نسخ المشكاة. والذي في البخاري عند أكثر رواته: ما أعرف من محمد - صلى الله عليه وسلم - شيئاً، وعليه شرح ابن بطال ومن تبعه فقال يريد من شريعة محمد شيئاً لم يتغير عما كان عليه إلا الصلاة في جماعة، فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه. ووقع عند أبي ذر وكريمة: ما أعرف من أمة محمد، وعند أبي الوقت: من أمر محمد بفتح الهمزة وسكون الميم بعدها راء، واحد الأمور، وكذا ساقه الحميدى في جمعة. (وكذا ذكره

رواه البخاري. 1087- (29) وعن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة، قال: إن عمر بن الخطاب فقد سليمان بن أبي حثمة في صلاة الصبح، وإن عمر غدا إلى السوق، ومسكن سليمان بين المسجد والسوق، فمر على الشفاء أم سليمان. فقال لها: ـــــــــــــــــــــــــــــ الجزري في جامع الأصول (ج6 ص371) ، وكذا هو مسند أحمد، ومستخرجي الإسماعيلي وأبي نعيم، وعندهم لا أعرف فيهم أي في أهل البلد الذي كان فيه، وكان لفظ فيهم لما حذف من رواية البخاري صحف بعض النقلة أمر بأمة ليعود الضمير في أنهم إلى الأمة، كذا في الفتح. وفي الحديث جواز الغضب عند تغيير شيء من أمور الدين، وإنكار المنكر بإظهار الغضب إذا لم يستطع أكثر منه. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً أحمد (ج6 ص443) قال ميرك: لم أجده في البخاري باللفظ الذي أورده المصنف- انتهى. وفيه أن القسطلاني قال: وللحموي من أمر أمة محمد. والله أعلم. 1087- قوله: (وعن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة) بفتح الحاء المهملة وسكون المثلثة، واسم أبي حثمة عبد الله بن حذيفة العدوي المدني، روى عن أبيه سليمان وجدته الشفاء وغيرهما، وعنه الزهري وغيره، ثقة عارف بالنصب من الطبقة الوسطى من التابعين، وهم الذين جل روايتهم عن كبار التابعين. (فقد سليمان أبي حثمة) أي ما وجد أباه سليمان بن أبي حثمة بن غانم بن عامر بن عبد الله القرشي العدوي. قال ابن حبان: له صحبة. وقال ابن عبد البر: رحل مع أمه إلى المدينة، وكان من فضلاء المسلمين وصالحيهم، واستعمله عمر على السوق وجمع الناس عليه في قيام رمضان، وذكره ابن سعد فيمن رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يحفظ عنه، وذكر أباه في مسلمة الفتح، وقال في الطبقة الأولى من تابعي أهل المدينة، ولد على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن مندة: ذكر في الصحابة ولا يصح. (في صلاة الصبح) أي يوماً من الأيام. (وإن عمر غدا) أي ذهب. (ومسكن سليمان) مبتدأ خبره. (بين المسجد والسوق) والجملة حالية معترضة. وفي الموطأ: بين السوق والمسجد النبوي. (فمر) أي عمر. (على الشفاء) بكسر الشين المعجمة وبالفاء المخففة ممدوداً. وقيل: مقصوراً، بنت عبد الله بن عبدشمس القرشية العدوية. (أم سليمان) بن أبي حثمة بدل أو عطف بيان. قال أحمد بن صالح المصري: اسمها ليلى، وغلب عليها الشفاء، أسلمت قبل الهجرة بمكة وبايعت، وهي من المهاجرات الأول، كانت من عقلاء النساء وفضلائهن، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزورها ويقيل عندها، وقال لها علمي حفصة رقية النملة كما علمتها الكتابة، واقطعها دارها عند الحكاكين بالمدينة، (1) النملة بفتح النون وسكون الميم، بثرة تخرج في الجسد بالتهاب واحتراق، وبرم مكانها يسيراً، ويدب إلى موضع أخر كالنملة.

لم أر سليمان في الصبح، فقالت: إنه بات يصلي فغلبته عيناه. فقال عمر:؛ لأن أشهد صلاة الصبح في جماعة أحب إلى من أن أقوم ليلة. رواه مالك. 1088- (30) وعن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اثنان فما فوقهما جماعة)) ـــــــــــــــــــــــــــــ فنزلتها مع ابنها سليمان، وكان عمر يقدمها في الرأي ويرعاها ويفضلها وربما ولاها شيئاً من أمر السوق. (لم أر) ولدك. (سليمان في الصبح) أي في صلاته بالجماعة في المسجد. فيه تفقد الإمام رعيته، وفيه أيضاً إشارة إلى مواظبة سليمان على صلاة الصبح معه. (إنه بات) أي سهر (يصلي) في الليل. (فغلبته عيناه) أي بالنوم آخر الليل. قال الطيبي: الأصل غلب عليه النوم، فأسند إلى مكان النوم مجازاً. قال الباجي: الظاهر أنه نام فلم يستيقظ وقت الصلاة. ويحتمل أن يكون معنى غلبتهما له عن بلغ منه النوم مبلغاً لا يمكنه الصلاة معه، فنام عن صلاة الجماعة- انتهى. (لأن أشهد) أي أحضر. (أحب إلى أن أقوم) أي أصلي. (ليلة) أن من قيام الليلة وأحيائها بالنوافل لما في ذلك من الفضل الكبير حتى أن صلاة الجماعة واجبة عيناً عند أحمد، وكفاية عند كثير من الحنفية والشافعية، فهي آكد من النوافل. (رواه مالك) عن ابن شهاب الزهري عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حنثمة أن عمر بن الخطاب فقد ... الخ. قال الزرقاني في شرح الموطأ: وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سليمان بن أبي حثمة عن أمه الشفاء، قالت: دخل علي عمر، وعندي رجلان نائمان، تعني زوجها أباحثمة وابنها سليمان، فقال أما صليا الصبح؟ قلت لم يزالا يصليان حتى أصبحا فصليا الصبح وناما فقال؛ لأن أشهد الصبح في جماعة أحب إلى من قيام ليلة. قال أبوعمر: خالف معمر مالكاً في إسناده، والقول مالك - انتهى. يعني لأنه قال عن الزهري عن أبي بكر بن سليمان أن عمر الخ. ومعمراً قال عن الزهري عن سليمان عن أمه، فهي مخالفة ظاهرة، وسياق متنه فيه خلف أيضاً إلا أن يقال إن كان محفوظاً احتمل أن هذه مرة أخرى مع أبيه، فهما قصتان فلا خلف - انتهى كلام الزرقاني. 1088- قوله: (اثنان) أي مع الإمام. وقيل: سوى الإمام، والأول هو الظاهر، بل هو المتعين (جماعة) أي لهما فضل الجماعة إذا صليا مجتمعين أو ينبغي لهما الصلاة بالاجتماع لا بالانفراد. قال الطيبي: اثنان مبتدأ صفة لموصوف محذوف. ويجوز أن يتخصص بالعطف على قول: فإن الفاء للتعقيب، والمعنى اثنان وما يزيد عليهما على التعاقب واحداً بعد واحد يعد جماعة، نحو قولك الأمثل فالأمثل - انتهى. وقال في اللمعات: اثنان مبتدأ وجماعة خبره، ولا حاجة إلى تكلف جعله صفة لموصوف محذوف بناء على قاعدة وجوب تخصيص المبتدأ على ما هو المشهور لما اختاره الرضى من أن المدار على الفائدة - انتهى. وفيه دليل على أن أقل الجماعة إمام

رواه ابن ماجه. 1089- (31) وعن بلال بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد إذا أستأذنكم. ـــــــــــــــــــــــــــــ ومأموم أعم من أن يكون المأموم رجلاًً أو صبياً أو امرأة. والحديث ضعيف، لكنه يؤيده حديث مالك ابن الحويرث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما ثم ليؤمكما أكبركما، أخرجه البخاري، وترجم عليه بلفظ حديث أبي موسى هذا حيث قال: باب اثنان فما فوقهما جماعة. قال الدماميني: لما كان لفظ حديث الترجمة ضعيفا، لا جرم أن البخاري اكتفى عنه بحديث مالك بن الحويرث، ونبه في الترجمة عليه - انتهى. قال الحافظ: الترجمة مأخوذة بالاستنباط من لازم الأمر بالإقامة؛ لأنه لو استوت صلاتهما معاً مع صلاتهما منفردين لاكتفى بأمرهما بالصلاة كان يقول أذنا وأقيما وصليا. وقيل: وجه المطابقة أنه - صلى الله عليه وسلم - أنما أمرهما بإمامة أحدهما الذي هو أكبرهما لتحصل لهما فضيلة الجماعة، فصار الاثنان ههنا كأنهما جماعة بهذا الاعتبار. وتوجيحه: أن الإمامة في الشرع تطلب لنيل فضل الجماعة، فطلبها من الاثنين يدل على نيلهما فضل الجامعة وهذا معنى الاثنان جماعة، وكونهما جماعة يستلزم كون الأكثر جماعة بالأولى. (رواه ابن ماجه) وأخرجه أيضاً ابن عدي والبيهقي (ج3: ص69) وفي سنده الربيع بن بدر بن عمرو بن جراد التميمي السعدي روى عن أبيه عن جده عمرو بن جراد، والربيع متروك، وأبوه بدر، وجده عمرو مجهولان. والحديث روي من طرق أخرى. كلها ضعيفة، كما صرح به الحافظ في الفتح، والهيثمي في مجمع الزوائد (ج2: ص45) . وهي ما روى في معجم البغوي، وطبقات ابن سعد من حديث الحكم بن عمير، وفي إفراد الدارقطني من حديث عبد الله بن عمرو، وفي البيهقي من حديث أنس وفي الأوسط للطبراني من حديث أبي أمامة وعند أحمد من حديث أبي أمامة أيضاً أنه - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يصلي وحده، فقال ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه، فقام رجل فصلى معه، فقال هذان جماعة. والقصة المذكورة دون قوله "هذان جماعة" أخرجها أبوداود والترمذي من وجه آخر صحيح. 1089- قوله: (عن بلال بن عبد الله بن عمر) بن الخطاب القرشي العدوي. قال أبوزرعة: مدني ثقه، وقال حمزة الكناني: لا أعلم له غير هذا الحديث الواحد من أوساط التابعين. (لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد) أي ثوابهن الحاصل لهن بحضورهن للصلاة ونحوها في المساجد. (إذا استأذنكم) بتشديد النون. قال النووي: قوله - صلى الله عليه وسلم - لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد إذا استأذنوكم، هكذا وقع في أكثر الأصول أستأذنوكم. وفي بعضها أستأذنكم. (أى بتشديد النون) . وهذا ظاهر، والأول صحيح أيضاً، وعوملن معاملة

فقال بلال: والله لنمنعهن. فقال له عبد الله: أقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وتقول أنت: لنمنعهن. وفي رواية سالم عن أبيه، قال: فأقبل عليه عبد الله فسبه سبّاً ما سمعت سبه مثله قط، وقال: أخبرك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقول: والله لنمنعهن)) رواه مسلم. 1090- (32) وعن مجاهد، عن عبد الله بن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يمنعهن رجل أهله أن يأتوا المساجد. فقال ابن لعبد الله بن عمر: فإنا نمنعهن. فقال عبد الله: أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقول هذا، ـــــــــــــــــــــــــــــ الذكور لطلبهن الخروج إلى مجلس الذكور. (فقال بلال) فيه تجريد أو التفات، إذ أصله فقلت. (والله لنمنعهن) قال ذلك لما رأى من فساد بعض النساء في ذلك الوقت وحملته على ذلك الغيرة. (فقال له عبد الله) والد بلال. (أقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي فتعارض هذا النص برأيك. (وتقول أنت لنمنعهن) قال الطيبي: يعني أنا آتيك بالنص القاطع، وأنت تتلقاه بالرأى، والرواية الأخيرة أبلغ لسبه إياه سباً بليغاً، وهذا دليل قوى لا مزيد عليه في الباب. (وفي رواية سالم) هو سالم بن عبد الله بن عمر الخطاب القرشي العدوي أبوعمر، أو أبوعبد الله المدني، أحد الفقهاء السبعة، وكان ثبتاً عابداً فاضلاً، كان يشبه بأبيه في الهدى والسمت من كبار الطبقة الوسطى من التابعين، مات في آخر سنة ست ومائة في ذى القعدة أو ذى الحجة على الصحيح. (عن أبيه) عبد الله بن عمر. (قال) أي سالم. (فأقبل) أي أبوه. (عليه) أي على بلال. (فسبه سباً ما سمعت سبه مثله قط) وفي مسلم: فسبه سبا سيئا ما سمعته سبه مثله قط. وفسر في رواية الطبراني هذا السبب باللعن ثلاث مرات. (أخبرك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي بعدم منعهن. (رواه مسلم) الرواية الأولى أخرجها أحمد (ج2: ص90) بمثلها والطبراني بنحوها. وفيه فقلت أما أنا فسأمنع أهلي، فمن شاء فليسرح أهله. ورواية سالم عن أبيه أخرجها أحمد في مسنده مختصراً. 1090- قوله: (لا يمنعهن رجل أهله) أي نساءه. (إن يأتوا المساجد) قال الطيبي: ذكر ضمير النساء تعظيما لهن حيث قصدن السلوك مسلك الرجال الركع السجود على نحو قوله تعالى: {وكانت من القانتين} [66: 12] وقول الشاعر: وإن شئت حرمت النساء سواكم. (فقال ابن لعبد الله بن عمر) هو بلال. كما تقدم في رواية مسلم أو واقد كما جاء في مسلم أيضاً فقال ابن له يقال له واقد. قال المنذري: وابن عبد الله بن عمر هذا هو بلال بن عبد الله بن عمر جاء مبنياً في صحيح مسلم وغيره. وقيل: هو ابنه واقد بن عبد الله بن عمر ذكره مسلم في صحيحه أيضاً - انتهى. ورجح الحافظ في الفتح أنه بلال: قال الراجح من هذا أن صاحب القصة بلال لورود ذلك من روايته نفسه،

قال: فما كلمه عبد الله حتى مات)) رواه أحمد. ـــــــــــــــــــــــــــــ ومن رواية أخيه سالم، ولم يختلف عليهما في ذلك، قال: فإن كانت رواية عمرو بن دينار عن مجاهد. (عند مسلم) محفوظة في تسميته واقدا فيحتمل أن يكون كل من بلال وواقد وقع منه ذلك إما في مجلس أو في مجلسين، وأجاب ابن عمر كلاً منهما بجواب يليق به ويقويه اختلاف النقلة في جواب ابن عمر، ثم بسط ذلك الاختلاف. (قال) أي مجاهد. (فما كلمه عبد الله حتى مات) قال الحافظ: أخذ من إنكار عبد الله على ولده تأديب المعترض على السنن برأيه، وعلى العالم بهواه، وتأديب الرجل ولده وإن كان كبيراً إذا تكلم بما لا ينبغي له، وجواز التأديب بالهجران، فقد وقع في رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد عند أحمد فما كلمه عبد الله حتى مات. وهذا وإن كان محفوظاً يحتمل أن يكون أحدهما مات عقب هذه القصة بيسير - انتهى. قال الطيبي: عجبت ممن يتسمى بالسنى إذا سمع من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وله رأى رجح رأيه عليها، وأى فرق بينه وبين المبتدأ، أما سمع لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به، وها هو ابن عمر من أكابر الصحابة وفقهائها كيف غضب لله ورسوله، وهجر فلذة كبده لتلك الهنة عبرة لأولى الأبصار. (رواه أحمد) (ج3: ص36) وإسناد صحيح، وأخرج نحوه في (ج3: ص49) . بعون الله وحسن توفيقه تم الجزء الثالث من مشكاة المصابيح مع شرحه مرعاة المفاتيح، ويليه الجزء الرابع إن شاء الله تعالى، وأوله: "باب تسويه الصف".

(24) باب تسوية الصف

بسم الله الرحمن الرحيم (24) باب تسوية الصف ـــــــــــــــــــــــــــــ (باب تسوية الصف) أي في الصلاة. وفي بعض النسخ الصفوف، والمراد بالأول الجنس قال تعالى: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص} [4:61] ، وقال تعالى: {إنا لنحن الصافون} [165:37] وأمرنا أن نصف في الصلاة كما تصف الملائكة عند ربها. ومعنى تسوية الصف هو اعتدال القائمين به على سمت واحد وخط مستقيم، وسد الخلل الذي في الصف بإلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم. قال ابن عبد البر في الاستذكار: الآثار في تسوية الصف متواترة من طرق شتى في أمره - صلى الله عليه وسلم - بتسوية الصفوف وعمل الخلفاء الراشدين بعده، وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء - انتهى. واختلفوا في حكمها من الوجوب والندب. قال العيني: هي من سنة الصلاة عند أبي حنيفة والشافعي ومالك، وزعم ابن حزم أنه فرض. وقيل: إنه مندوب. وذهب البخاري إلى الوجوب، حيث ترجم في صحيحه بقوله: باب إثم من لم يتم الصفوف. قال العيني: ظاهر ترجمة البخاري يدل على أنه يرى وجوب التسوية، والصواب هذا الورود الوعيد الشديد في ذلك، وقال في موضع آخر: الصواب أن تسوية الصفوف واجبة بمقتضى الأمر، ولكنها ليست من واجبات الصلاة، بحيث أنه إذا تركها فسدت صلاته أو نقصتها، غاية ما في الباب إذا تركها يأثم. قلت: الحق عندي أن إقامة الصف وتعديله وتسويته من واجبات صلاة الجماعة، بحيث إذا تركها نقصتها، ويأثم تاركها لورود الأمر بالتسوية، والأصل

{الفصل الأول}

{الفصل الأول} 1091- (1) عن النعمان بن بشير قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسوي صفوفنا حتى كأنما يسوي بها القداح، حتى رأى أنا قد عقلنا عنه، ثم خرج يوماً، فقام حتى كاد أن يكبر، فرأى رجلاً بادياً ـــــــــــــــــــــــــــــ في الأمر الوجوب، ولورود الوعيد الشديد في تركه، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة"، وفي رواية: "من تمام الصلاة"، ولقوله: "إن إقامة الصف من حسن الصلاة"، والمراد بحسنها تمامها، ولشدة اهتمامه - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه بعده بذلك، ولإنكار أنس على تركه حيث قال: ما أنكرت شيئاً إلا أنكم لا تقيمون الصفوف، أخرجه البخاري. والإنكار يستلزم المنكر، والمباح لا يسمى منكراً، ولأن عمر وبلالاً كانا يضربان أقدامهم لإقامة الصف، وضربهما أقدامهم يدل على أنهم تركوا واجباً من واجبات الصلاة. وأما إنه هل تفسد صلاة من ترك التسوية أم لا؟ فالظاهر أنه تصح ولا تفسد لعدم ورود نص صريح في ذلك. قال الحافظ في الفتح: ومع القول بأن التسوية واجبة، فصلاة من خالف ولم يسو صحيحة لاختلاف الجهتين. ويؤيد ذلك أن أنساً مع إنكاره عليهم يأمرهم بإعادة الصلاة. وأفرط ابن حزم فجزم بالبطلان - انتهى. 1091- قوله: (يسوي صفوفنا) أي بيده أو بأمره. (كأنما يسوي بها) أي بالصفوف. (القداح) بكسر القاف جمع قدح بكسر قاف فسكون دال، وهو خشب السهم حين ينحت ويبرى. قال الخطابي في المعالم (ج1:ص184) : القدح خشب السهم إذا برئ وأصلح قبل أن يركب فيه النصل والريش - انتهى. وقيل: هو السهم مطلقاً، يعني يبالغ في تسوية الصفوف حتى تصير كأنما يقوم بها السهام لشدة استوائها واعتدالها، قاله النووي. وقال الطيبي: ضرب المثل به للمتساويين أبلغ الاستواء في المعنى المراد منه؛ لأن القدح لا يصلح لما يراد منه إلا بعد الانتهاء في الاستواء، وإنما جمع مع الغنية عنه بالمفرد لمكان الصفوف أي يسوي كل صف على حدة، كما يسوي الصانع كل قدح على حدته. وروعي في قوله: يسوي بها القداح نكتة؛ لأن الظاهر كأنما يسويها بالقداح، والباء للآلة كما في كتبت بالقلم، فعكس، وجعل الصفوف هي التي يسوي بها القداح مبالغة في الاستواء - انتهى. وفي رواية لأحمد (ج4:ص272) كان يسوي بنا في الصفوف حتى كأنما يحاذى بنا القداح، وفي أخرى له (ج4 ص271) : يقيم الصفوف كما تقام الرماح أو القداح. وفي أخرى له (ج4:ص277) ولابن ماجه: يسوي الصف حتى يجعله مثل الرمح أو القدح. (حتى رأى) أي علم. (إنا قد عقلنا) أي فهمنا التسوية. (عنه) قال الطيبي: أي لم يبرح يسوي صفوفنا حتى استوينا استواء أراده منا وتعقلنا عن فعله. (ثم خرج يوماً) أي إلى المسجد. (فقام) أي في مقام الإمامة. (حتى كاد أن يكبر) تكبيرة الإحرام. (بادياً) أي ظاهراً خارجاً.

صدره من الصف، فقال: عبادالله! لتسون صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ (صدره من الصف) أي من صدور أهل الصف. وفي رواية أبي داود: حتى إذا ظن أن قد أخذنا ذلك عنه وفقهنا أقبل ذات يوم بوجهه إذا رجل منتبد بصدره، وفي رواية لأحمد: فلما أراد أن يكبر رأى رجلاً شاخصاً صدره. وفي أخرى له، ولابن ماجه: فرأى صدر رجل ناتئاً يعني مرتفعاً بالتقدم على صدور أصحابه. (عباد الله) بالنصب على حذف حرف النداء، قال ابن حجر: لم ينهه بخصوصه جرياً على عادته الكريمة مبالغة في الستر. (لتسون) بضم التاء المثناة وفتح السين وضم الواو المشددة وتشديد النون المؤكدة. قال القسطلاني: ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: "لتسوون" بواوين والنون للجمع. قال القاضي: هذه اللام هي التي يتلقى بها القسم، والقسم ههنا مقدر، ولهذا أكده بالنون المشددة. (أو ليخالفن الله) بالرفع على الفاعلية، وفتح اللام الأولى المؤكدة وكسر الثانية وفتح الفاء، أي ليوقعن الله المخالفة. (بين وجوهكم) إن لم تسووا صفوفكم أي بتحويلها عن مواضعها إلى أدبارها وجعلها مواضع الأققية، أو بتغيير صورها ومسخها على صورة بعض الحيوانات كالحمار مثلاً، فهو محمول على الحقيقة. ويؤيد حمله على ظاهره حديث أبي أمامة: لتسون الصفوف أو لتطمسن الوجوه، أخرجه أحمد، وفي إسناده ضعف. وفيه وقوع الوعيد من جنس الجناية، وهي المخالفة. قال الحافظ: وعلى هذا فهو أي التسوية واجب، والتفريط فيه حرام. وقيل: هو مجاز ومعناه يوقع بينكم العداوة والبغضاء واختلاف القلوب، كما تقول تغير وجه فلان علي، أي ظهر لي من وجهه كراهة لي؛ لأن مخالفتهم في الصفوف مخالفة في ظواهرهم، واختلاف الظواهر سبب لاختلاف البواطن. ويؤيده ما في رواية لأبي داود: أو ليخالفن الله بين قلوبكم، وحديث أبي مسعود الآتي: لا تختلفوا فتختلف قلوبكم، أي هواها وإرادتها. وقيل: المراد بالوجوه الذوات. قال ابن العربي في العارضة (ج2:ص25) : بين وجوهكم، يعني مقاصدكم، فإن استواء القلوب يستدعي استواء الجوارح واعتدالها، فإذا اختلفت الصفوف دل على اختلاف القلوب، فلا تزال الصفوف تضطرب وتهمل، حتى ييتلي الله باختلاف المقاصد، وقد فعل، ونسأل الله حسن الخاتمة. وقال القرطبي: معناه تفترقون فيأخذ كل واحد وجهاً غير الذي يأخذه صاحبه؛ لأن تقدم الشخص على غيره مظنة الكبر المفسد للقلب الداعي إلى القطعية. والحاصل أن المراد بالوجه إما ذات الشخص، فالمخالفة بحسب المقاصد، وإما العضو المخصوص، فالمخالفة إما بحسب الصورة الإنسانية، وإما بحسب الصفة، وإما يجعل القدام وراء. والحديث فيه غاية التهديد والتوبيخ. قال الطيبي: إن مثل هذا التركيب متضمن للأمر توبيخاً، أي والله ليكونن أحد الأمرين إما تسويتكم صفوفكم أو أن يخالف الله بين وجوهكم. وفيه دليل على وجوب تسوية الصف وتعديله. وقيل: إن هذا الوعيد من باب التغليظ والتشديد تأكيداً وتحريضاً على فعلها، أي فلا يدل على الوجوب. قال العيني بعد ذكره: كذا قاله الكرماني، وليس بسديد؛ لأن الأمر المقرون بالوعيد يدل على الوجوب. (رواه مسلم) وأخرجه

1092- (2) وعن أنس، قال: ((أقيمت الصلاة، فأقبل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوجهه، فقال: أقيموا صفوفكم وتراصوا، فإني أراكم من وراء ظهري)) رواه البخاري. وفي المتفق عليه قال: ((أتموا الصفوف، فإني أراكم من وراء ظهري)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3:ص100) و (ج2: 21) كلهم من طريق سماك عن النعمان بن بشير. وأخرج البخاري ومسلم والبيهقي من طريق سالم بن أبي الجعد عن النعمان بن بشير الفصل الأخير منه، ولأحمد وأبي داود في رواية. والبيهقي قال: فرأيت الرجل يلزق كعبه بكعب صاحبه، وركبته بركتبه، ومنكبه بمنكبه. 1092- قوله: (أقيمت الصلاة) أىأقام المؤذن للصلاة. (فأقبل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوجهه) أي التفت إلينا بعد إقامة المؤذن. (أقيموا صفوفكم) أي عدلوها وسووها، يقال: أقام العود إذا عدله وسواه. (وتراصوا) بضم الصاد المهملة المشددة. وأصله تراصصوا، أي تضاموا وتلاصقوا حتى تتصل مناكبكم وأقدامكم في الصف، ولا يكون بينكم خلل وفرج، من رص البناء ألصق بعضه ببعض. ومنه قوله تعالى {كأنهم بنيان مرصوص} [4:61] . وفيه جواز الكلام بين الاقامة والدخول في الصلاة، وفيه أن تسوية الصف واجبة. (فإني أراكم من وراء ظهري) أي من خلف ظهري. والفاء فيه للسببية، أشار به إلى سبب الأمر بذلك، أي إنما أمرت بذلك؛ لأني تحققت منكم خلافه. وقد تقدم القول في المراد بهذه الرؤية في باب الركوع، وأن المختار حملها على الحقيقة خلافاً لمن زعم أن المراد بها خلق علم ضروري له بذلك، ونحو ذلك قال الزين بن المنير: لا حاجة إلى تأويلها؛ لأنه في معنى تعطيل لفظ الشارع من غير ضرورة. وقال القرطبي: حملها علىظاهرها أولى؛ لأن فيه زيادة في كرامة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه مراعاة الإمام لرعيته والشفقة عليهم وتحذيرهم من المخالفة. (رواه البخاري) أي بهذا اللفظ في باب إقبال الإمام على الناس عند تسوية الصفوف. وأخرج مسلم بنحوه، وأخرجه البيهقي (ج2:ص21) بلفظ البخاري. (وفي المتفق عليه) ظاهر هذا أن الشيخين اتفقا على إخراج الحديث بهذا اللفظ. وفيه نظر؛ لأن قوله: "أتموا الصفوف" من إفراد مسلم، وقوله: "فإني أراكم من وراء ظهري" من إفراد البخاري، وسياق الحديث عند مسلم: "أتموا الصفوف فإني أراكم خلف ظهري". والظاهر أن المصنف أخذ قوله أتموا الصفوف من رواية مسلم، وقوله: فإني أراكم من وراء ظهري، من رواية البخاري، فجعل مجموعهما حديثاً متفقاً عليه. ولا يخفى ما فيه. ولعله تبع في ذلك الجزري، حيث نسب هذه الرواية الثانية في جامع الأصول (ج6:ص393) إلى البخاري ومسلم. (أتموا) أي أيها الحاضرون لأداء الصلاة معي. (الصفوف) أي الأول فالأول. (فإني أراكم) رؤية حقيقية. (من وراء ظهري) أي من خلفه كما أراكم من بين يدي. قيل: الفرق بين قوله: إني أراكم من

وراء ظهري بذكر "من" وبين قوله: إني أراكم خلف ظهري أي بدون "من" أنه إذا وجد من يكون فيه إشعار بأن مبدأ الرؤية ومنشأها من خلف بأن يخلق الله حاسة باصرة فيه، وإذا عدم يحتمل أن يكون منشأها هذه العين المعهودة، وأن تكون غيرها مخلوقة في الخلف والوراء، ولا يلزم رؤيتنا تلك الحاسة، إذ الرؤية إنما هي بخلق الله تعالى وإرادته. والحديث أخرجه أيضاً النسائي. وزاد البخاري في رواية: وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه. قال الحافظ: صرح سعيد بن منصور في روايته أن هذه الزيادة في آخر الحديث من قول أنس، وأخرحه الإسماعيلي من رواية معمر عن حميد بلفظ: قال أنس: فلقد رأيت أحدنا إلى آخره. وأفاد هذا التصريح أن الفعل المذكور كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وبهذا يتم الاحتجاج به على بيان المراد بإقامة الصف وتسويته، وزاد معمر في روايته ولو فعلت ذلك بأحدهم اليوم لنفر كأنه بغل شموس - انتهى كلام الحافظ. قلت: قوله - صلى الله عليه وسلم -: تراصوا، وقوله: رصوا صفوفكم، وقوله: سدوا الخلل، ولا تذروا فرجات للشيطان، وقول النعمان بن بشير: فرأيت الرجل يلزق كعبه بكعب صاحبه الخ، وقول أنس: وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه الخ، كل ذلك يدل دلالة واضحة على أن المراد باقامة الصف وتسويته أنما هو اعتدال القائمين على سمت واحد وسد الخلل والفرج في الصف بإلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم، وعلى أن الصحابة في زمنه - صلى الله عليه وسلم - كانوا يفعلون ذلك، وأن العمل برص الصف والزاق القدم بالقدم وسد الخلل كان في الصدر الأول من الصحابة وتبعهم، ثم تهاون الناس به. قال شيخنا في إبكار المنن بعد ذكر قولي النعمان وأنس: فظهر أن إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف سنة، قد عمل بها الصحابة خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو المراد بإقامة الصف وتسوية على ما قال الحافظ - انتهى. وجزى الله أهل الحديث أحسن ما يجزى به الصالحون، فانهم أحيوا هذه السنة التي تهاون الناس بها لاسيما المقلدون لأبي حنيفة، فإنهم لا يلزقون المنكب بالمنكب في الصلاة فضلاً عن إلزاق القدم بالقدم والكعب بالكعب، بل يتركون في البين فرجة قد شبر أو أزيد، بل ربما يتركون فصلاً يسع ثالثاً وإذا قام أحد من أصحاب الحديث في الصلاة مع حنفي وحاول لإلصاق قدمه بقدمه اتباعا للسنة نحى الحنفي قدمه حتى يضم قدميه ولا يبقى فرجة بينهما وأشمأز ونظر إلى صاحبه المحمدي شزرا، بل ربما نفر كالحمار الوحشي، ويعد صنيع أهل الحديث الذي هو اتباع للسنة وإحياءها من الجهل والجفاء والفظاظة والغلظة، فإنالله وإنا إليه راجعون، وعالمهم وعاميهم في ترك هذه السنة والاستنفار عنها سواء. قال صاحب فيض الباري (ج2:ص236) : المراد بالزاق المنكب بالمنكب عند الفقهاء الأربعة أن لا يترك في البين فرجة تسع فيها ثالثاً، قال ولم أجد عند السلف فرقاً بين حال الجماعة والانفراد في حق الفصل بين قدمي الرجل بأنهم كانوا يفصلون بين قدميهم في حال الجماعة أزيد من حال الانفراد. وهذه المسألة أوجدها غير المقلدين فقط، وليس عندهم إلا لفظ الإلزاق، وليت شعرى ماذا يفهمون من قولهم الباء- للالتصاق، ثم يمثلونه مررت بزيد، فهل كان مروره به متصلاً بعضه ببعض أم كيف معناه، ثم إن الأمر

لا ينفصل قط إلا بالتعامل، وفي مسائل التعامل لايؤخذ بالألفاظ، قال: لما لم نجد الصحابة والتابعين يفرقون في قيامهم بين الجماعة والانفراد علمنا أنه لم يرد بقوله: إلزاق المنكب إلا التراص وترك الفرجة، ثم فكر في نفسك ولا تعجب أنه هل يمكن إلزاق المنكب مع إلزاق القدم إلا بعد ممارسة شاقة، ولا يمكن بعده أيضاً فهو إذن من مخترعاتهم لا أثر له في السلف - انتهى. قلت: حمل الإلزاق هنا على المجاز يحتاج إلى قرينة، وتفسيره بأن لا يترك في البين فرجة تسع فيها ثالثاً لا أثارة عليه من دليل لا من منقول ولا من معقول، ولا يوجد ههنا أدنى قرينة وأضعف أثر يدل على هذا المعنى البتة، فهو إذاً من مخترعات هذا المقلد الذي جعل السنة بدعة، والبدعة أي ترك الإلزاق بإبقاع الفرجة وعدم التضام سنة، ثم لم يكتف بذلك بل تجاسر فنسب ما اخترعه إلى الفقهاء الأربعة. ثم أقول ما الدليل من السنة أو عمل الصحابي على تحديد الفصل بين قدمي المصلي بأن يكون قدر أربع أصابع أو قدر شبر في حال الانفراد والجماعة كلتيهما. والحق أن الشارع لم يعين قدر التفريج بين قدمي المصلي راحة له وشفقة عليه؛ لأنه يختلف ذلك باختلاف حال المصلى في الهزال والسمن والقوة والضعف. فالظاهر أنه يفصل بين قدميه في الجماعة قدر ما يسهل له سد الفرج والخلل، وإلزاق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه من غير تكلف ومشقة. ثم إنه ليس عندنا لفظ الإلزاق فقط بل هنا لفظ التراص وسد الخلل والنهى عن ترك الفرجة للشيطان، وكل واحد من ذلك يؤكد حمل الإلزاق على معناه الحقيقي، وماذا كان لوكان هنا لفظ الإلزاق فقط. وقد اعترف هو في آخر كلامه أن المراد به التراص وترك الفرجة، وهذا هو الذي نقوله. ولا يحصل التراص والتوقي عن الفرجة إلا بأن يلصق الرجل منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه حقيقة، وليت شعري ماذا يقول هو في مثال الإلصاق الحقيقي وهو قولهم به داء، ثم ماذا يقول في قوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا ألزق الختان بالختان فقد وجب الغسل. والسنة الصحيحة المحكمة حجة وقاضية على التعامل، لا أن التعامل قاض على السنة، لا فرق عندنا في ذلك بين عمل أهل المدينة وبين علمهم وعمل غيرهم من البلاد الإسلامية، مع أن عمل المسلمين في الزمن النبوي وعمل الخلفاء وسائر الصحابة والتابعين بعده - صلى الله عليه وسلم - كان على التراص والتضام وعدم إبقاء الفرجة مطلقاً، ولا يعتد بعمل الناس بعد الصدر الأول، ولا يكون أدنى مشقة في إلزاق المنكب بالمنكب مع إلزاق القدم بالقدم، فنحن نفعل ذلك في الجماعة عملاً بالحديث واتباعاً للسنة من غير ممارسة وكلفة، ومن غير أن نفرج بين القدمين أزيد مما نفرج في حال الانفراد، لكن لا يسهل ذلك إلا على من يجب السنة وصاحبها، ويترك التحيل لترك العمل بها وأما المقلد الذي.... عمت بصيرته، فيشق عليه كل سنة إلا ما كان موافقاً لهواءه، هدى الله تعالى هؤلاء المقلدين ووفقهم للعمل بالسنن النبوية الصحيحة الثابتة، وترك التأويل والتحريف.

1093- (3) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((سووا صفوفكم، فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة)) متفق عليه. إلا أن عند مسلم: ((من تمام الصلاة)) . 1094- (4) وعن أبي مسعود الأنصاري، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح مناكبنا ـــــــــــــــــــــــــــــ 1093- قوله: (سووا صفوفكم) فيه دليل على وجوب تسوية الصف. (فان تسوية الصفوف) وفي رواية الصف بالإفراد، والمراد به الجنس. (من إقامة الصلاة) أي المأمور بها الممدوح فاعلها في الآيات الكثيرة. وقال القاري: أي من جملة إقامة الصلاة في قوله تعالى {الذين يقيمون الصلاة} وهي تعديل أركانها وحفظها من أن يقع زيغ في فرائضها وسننها وآدابها. وقال العيني: التقدير من كمال إقامة الصلاة، فإن تسوية الصفوف ليست من إقامة الصلاة؛ لأن الصلاة تقام بغيرها، ولا يخفى ما فيه. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد وأبودواد وابن ماجه. (إلا أن عند مسلم من تمام الصلاة) وكذا أخرج بهذا اللفظ أبوداود وابن ماجه والإسماعيلي والبيهقي وغيرهم. وروي عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن من تمام الصلاة إقامة الصف" أخرجه أحمد وأبويعلى والطبراني في الكبير والأوسط. قال العيني: أي من كمال تمام الصلاة أو من حسن تمام الصلاة. قلت: هذا خلاف الظاهر. والحديث معناه مستقيم من غير تقدير لفظ الكمال أو الحسن. وقد استدل ابن حزم بقوله من إقامة الصلاة على أن تعديل الصفوف والتراص فيها فرض. قال في المحلي (ج4:ص55) : تسوية الصف إذا كان من إقامة الصلاة فهو فرض؛ لأن إقامة الصلاة فرض، وما كان من الفرض فهو فرض. قال الحافظ: ولا يخفى ما فيه، ولا سيما قد بينا أن الرواة لم يتفقوا على هذه العبارة، يعني أنه رواها بعضهم بلفظ "من تمام الصلاة". واستدل ابن حزم بالعبارتين. قال العيني والحافظ: واستدل ابن بطال بما في البخاري من حديث أبي هريرة بلفظ "فإن اقامة الصف من حسن الصلاة" على أن التسوية سنة، قال: لأن حسن الشئ زيادة على تمامه، واورد عليه رواية من تمام الصلاة. وأجاب ابن دقيق العيد فقال: قد يؤخذ من قوله: تمام الصلاة الاستحباب؛ لأن تمام الشيء في العرف أمرخارج عن حقيقة التي لا يتحقق إلا بها، وإن كان يطلق بحسب الوضع على ما لا تتم الحقيقة إلا به. قال الحافظ: ورد بأن لفظ الشارع لا يحمل إلا على ما دل عليه الوضع في اللسان العربي، وإنما يحمل على العرف إذا ثبت أنه عرف الشارع لا العرف الحادث. وقال العيني: وفيه أي في جواب ابن دقيق العيد نظر؛ لأن ألفاظ الشرع لا تستعمل بحسب العرف. 1094- قوله: (يمسح منا كبنا) وفي رواية للنسائي: يمسح عواتقنا. والمناكب جمع منكب، وهو ما بين الكتف والعنق. وقيل: مجتمع الرأس الكتف والعضد، والعواتق جمع عاتق، وهو ما بين المنكب والعنق،

في الصلاة، ويقول: ((استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، ليلني منكم ـــــــــــــــــــــــــــــ أي يمسحها ليعلم به تسوية الصف. وقال القاري: أي يضع يده على أعطافنا حتى لا نتقدم ولا نتأخر. وقال النووي: أي يسوي مناكبنا في الصفوف ويعدلنا فيها (في الصلاة) أي في حال إرادة الصلاة بالجماعة (ويقول) أي حال تسوية المناكب على ما هو الظاهر (ولا تختلفوا) أي بالتقدم والتأخر في الصفوف، كما يدل عليه روايات الحديث (فتختلف) بالنصب على أنه جواب للنهي. (قلوبكم) أي أهويتها وإرادتها أي اختلاف الصفوف سبب لاختلاف القلوب يجعل الله كذلك. وقيل: لأن اختلاف الصفوف اختلاف الظواهر، واختلاف الظواهر سبب لاختلاف البواطن. وفيه أن القلب تابع للأعضاء، فإذا اختلفت اختلف، وإذا اختلف فسد ففسدت الأعضاء؛ لأنه رئيسها المتبوع وملكها المطاع والأعضاء كلها تبع له، فإذا صلح المتبوع صلح التبع، وإذا استقام الملك استقامت الرعية. ويبين ذلك الحديث المشهور: ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد، وإذا فسدت فسد الجسد، ألا وهي القلب. قيل: إن بين القلب والأعضاء تعلقاً عجيباً وتأثيراً غريباً بحيث أنه يسري مخالفة كل إلى آخر وإن كان القلب مدار الأمر إليه. (ليلني منكم) بكسر لامين وخفة نون بلا ياء قبلها. وفي المصابيح ليليني. قال شارح: الرواية باثبات الياء، وهو شاذ لأنه من الولي بمعنى القرب، واللام للأمر، فيجب حذف الياء للجزم، قيل: لعله سهو من الكاتب، أو كتب بالياء؛ لأنه الأصل ثم قرئ كذا. أقول الأولى أن يقال إنه من إشباع الكسرة كما قيل في لم تهجو ولم تدعى، أو تنبيه على الأصل كقراءة ابن كثير {إنه من يتقي ويصبر} ، أو أنه لغة في أن سكونه نقديري، كذا في المرقاة. وقال النووي في شرح مسلم: ليلني هو بكسر اللامين وتخفيف النون من غير ياء قبل النون. ويجوز إثبات الياء مع تشديد النون على التوكيد. قال الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي (ج1 ص440) بعد ذكر كلام النووي: وهكذا طبع في صحيح مسلم في طبعة بولاق (ج1 ص128) ، وفي طبعة الآستانة (ج2 ص30) في حديثي أبي مسعود وابن مسعود (الآتي) ، وكتب بها مشها في حديث أبي مسعود أن في نسخة ليليني، وضبط بتشديد النون وفتح الياء قبلها، ولكن في نسخة مخطوطة عندي من صحيح مسلم يغلب عليها الصحة بإثبات الياء فيهما من غير ضبط، وكتب بهامشها في الموضعين أن في نسخة ليلني بحذف الياء، قال: وأظن أن حذفها من تصرف الناسخين، وكذلك ضبط الكلمة على إثبات الياء بفتحها وتشديد النون ذهاباً منهم إلى الجادة في قواعد النحو بجزم الفعل المعتل بحذف حرف العلة. وقد رأيت كثيراً من الناسخين والعلماء يجيزون لأنفسهم تغيير ما خالف القواعد المعروفة ظناً منهم أنه خطأ، والدليل على ظن التصرف منهم أنه قال الطيبي على ما نقل عنه الشارح المبار كفوري في شرح الترمذي: أن من حق هذا اللفظان يحذف منه الياء؛ لأنه على صيغة الأمر، وقد وجدنا بإثبات الياء وسكونها في سائر

أولوا الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) قال أبومسعود: فأنتم اليوم أشد اختلافاً. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ كتب الحديث، والظاهر أنه غلط - انتهى. وليس هذا غلطاً كما زعم الطيبي، بل إثبات حرف العلة في مثل هذا ورد في الحديث كثيراً، وله شواهد من الشعر، وقد بحث فيه العلامة ابن مالك في كتاب شواهد التوضيح (ص11-15) بحثاً طويلاً، وذكر من شواهد في البخاري قول عائشة: إن أبا بكر رجل أسيف، وأنه متى يقوم مقامك لا يسمع الناس، وحديث: من أكل من هذه الشجرة فلا يغشانا، وحديث: مروا أبا بكر فلصلى بالناس. ووجه ذلك بأوجه متعددة أحسنها عندي الوجه الثالث أن يكون أجزى المعتل مجرى الصحيح فأثبت الألف، يعني أو الواو أو الياء واكتفى بتقدير حذف الضمة التي كان ثبوتها منوياً في الرفع - انتهى (أولو الأحلام) أي ذو العقول الراجحة، واحدها حلم بالكسر، وهو الأناة والتثبيت في الأمور والسكون والوقار وضبط النفس عند هيجان الغضب، ويفسر بالعقل؛ لأن هذه الأمور من مقتضيات العقل. والعقل الراجح يتسبب لها. وقيل: أولو الأحلام البالغون، والحلم بضم الحاء البلوغ، وأصله ما يراه النائم (والنهى) بضم نون وفتح هاء وألف، جمع نهية بالضم بمعنى العقل؛ لأنه ينهى صاحبه عن القبائح. وقال أبوعلي الفارسي: يجوز أن يكون النهى مصدراً كالهدى، وأن يكون جمعاً كالظلم. قال ابن سيد الناس الأحلام والنهى بمعنى واحد، وهي العقول. وقيل: المراد بأولو الأحلام البالغون، وبأولى النهى العقلاء، فعلى الأول يكون العطف فيه من باب قوله: وألفى قوله كذباً وميناً. وهو أن تغاير اللفظ قائم مقام تغاير المعنى، وهوكثير في كلام، وعلى الثاني يكون لكل لفظ معنى مستقل - انتهى. قال الخطابي في المعالم (ج1 ص184-185) : وإنما أمر - صلى الله عليه وسلم - أن يليه ذو والأحلام والنهى ليعقلوا عنه صلاته، ولكي يخلفوه في الإمامة إن حدث به حدث في صلاته، وليرجع إلى قولهم إن أصابه سهو أو عرض في صلاته عارض في نحو ذلك من الأمور. (ثم الذين يلونهم) أي الذين يقربونهم في هذا الوصف، وقال القاري: كالمراهقين أو الذين يقربون الأولين في النهى والحلم (ثم الذين يلونهم) كالصبيان المميزين أو الذين أنزل مرتبة من المتقدمين حلماً وعقلاً. والمعنى هلم جرا- فالتقدير ثم الذين يلونهم كالنساء فإن نوع الذكر أشرف على الإطلاق. والمقصود بيان ترتيب الصفوف في القيام. قال النووي: في هذا الحديث تقديم الأفضل فالأفضل إلى الإمام؛ لأنه أولى بالاكرام، ولأنه ربما احتاج الإمام إلى استخلاف فيكون هو أولى، ولأنه يتفطن لننبيه الإمام على السهو لما يتفطن له غيره، وليضبطوا صفة الصلاة ويحفظوها وينقلوها ويعلموها الناس، وليقتدي بأفعالهم من ورائهم - انتهى. (قال أبومسعود) أي المذكور (فأنتم اليوم أشد اخنلافاً) أي في كلمة حتى فشت فيكم الفتن وذلك لعدم تسويتكم الصفوف كذا فسره الطيبي (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص97) .

1095- (5) وعن عبد الله بن مسعود، قال: ((قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثلاثاً، وإياكم وهيشات الأسواق)) . رواه مسلم. 1096- (6) وعن أبي سعيد الخدري، قال: ((رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه تأخراً، فقال لهم: تقدموا وأتموا بي وليأتم بكم من بعدكم، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1095- قوله: (ليلني منكم وأولو الأحلام والنهى) أي ليدن مني ذوو العقول الراجحة لشرفهم ومزيد تفطينهم وتيقظهم وضبطهم لصلاته. قال الطيبي أخذاً عن التوربشتى: أمر بتقديم العقلاء ذوي الأخطار والعرفان ليحفظوا صلاته ويضبطوا الأحكام والسنن، فيبلغوا من بعدهم. وفي ذلك مع الإنصاح عن جلالة شأنهم حث لهم على تلك الفضيلة وإرشاد لمن قصر حالهم عن المساهمة معهم في المنزلة إلى تحري ما يزاحمهم فيها. وقد روى ابن ماجه والبيهقي عن أنس بإسناد رجاله ثقات قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب أن يليه المهاجرون والأنصار ليأخذوا عنه (ثم الذين يلونهم ثلاثاً) أي كرر"ثم" وما بعدها ثلاثاً (وإياكم وهيشات الأسواق) بفتح الهاء وإسكان الياء وبالشين المعجمة، جمع هيشة بالفتح، أي اختلاطها والمنازعة والخصومات وارتفاع الأصوات واللغط والفتن التي فيها، قاله النووي. وقال الخطابي في المعالم: أصله من الهوش، وهو الاختلاط يقال: تهاوش القوم إذا اختلطوا ودخل بعضهم في بعض وبينهم تهاوش، أي اختلاط واختلاف - انتهى. وقال الطيبي: هي ما يكون من الجلبة وارتفاع الأصوات، نهاهم عنها؛ لأن الصلاة حضور بين يدي الحضرة الإلهية، فينبغي أن يكونوا على السكوت وآداب العبودية. وقيل: هي الاختلاط، أي لا تختلطوا اختلاط أهل الأسواق، فلا يتميز أصحاب الأحلام والعقول عن غيرهم، ولا يتميز الصبيان من البالغين ولا الذكور من الإناث. ويجوز أن يكون المعنى: قوا أنفسكم من الاشتغال بأمور الأسواق فإنه يمنعكم أن تلونى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والبيهقي (ج3 ص97) . 1096- قوله: (رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه تأخراً) أي في صفوف الصلاة كأنهم تأخروا عن القرب والدنو منه - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: المراد التأخر في أخذ العلم (وأتموا بي) أي اصنعوا كما أصنع (وليأتم) بسكون اللام، وتكسر (بكم من بعدكم) أي من خلفكم من الصفوف. والخطاب لأهل الصف الأول، أي اقتدوا بأفعالي، وليقتد بكم من بعدكم مستدلين بأفعالكم على أفعالي، أو المراد من بعدكم من أتباع الصحابة، والخطاب للصحابة مطلقاً، أي تعلموا مني أحكام الشريعة، وليتعلم منكم التابعون بعدكم وكذلك أتباعهم إلى انقراض الدنيا. "وبعد" على الأول مستعار للمكان، وعلى الثاني للزمان، كما هو الأصل. قال الطيبي: أراد التأخر في صفوف الصلاة أو التأخر

لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله)) رواه مسلم. 1097- (7) وعن جابر بن سمرة قال: ((خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرآنا حلقاً، ـــــــــــــــــــــــــــــ عن أخذ العلم، فعلى الأول معناه ليقف الألباء والعلماء في الصف الأول، وليقف من دونهم في الصف الثاني، فإن الصف الثاني مقتدون بالصف الأول ظاهراً لا حكماً. ففيه جواز اعتماد المأموم في متابعة الامام الذي يراه ولا يسمعه على مبلغ عنه أوصف قدامه يراه متابعاً للإمام، وعلى الثاني المعنى وليتعلم كلكم مني أحكام الشريعة، وليتعلم التابعون منكم، وكذلك من يلونهم قرناً بعد قرن - انتهى. واستدل الشعبي بقوله: وليأتم بكم من بعدكم، لما ذهب إليه أن كل صف منهم إمام لمن وراءهم مع كونهم مأمومين، وأن الجماعة يتحملون عن بعضهم بعض ما يتحمله الإمام خلافاً للجمهور. قال الشعبي: فيمن أحرم قبل أن يرفع الصف الذي يليه رؤوسهم من الركعة إنه أدركها ولو كان الإمام رفع قبل ذلك؛ لأن بعضهم لبعض أئمة، أخرجه ابن شيبة. قيل: وإليه مال البخاري حيث قال: باب الرجل يأتم بالإمام. ويأتم الناس بالمأموم. قال ابن بطال: هذا موافق لقول مسروق والشعبي إن الصفوف يؤم بعضها بعضاً خلافاً للجمهور. وقال العيني: ظاهر هذه الترجمة أن البخاري يميل إلى مذهب الشعبي في ذلك، قال: ومما يؤكد أن ميله إلى قول الشعبي أنه صدر هذا الباب بالحديث المعلق يعني حديث أبي سعيد هذا حيث قال: ويذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ائتموبي وليأتم بكم من بعدكم، قال العيني: فإنه صريح في أن القوم يأتمون بالإمام في الصف الأول، ومن بعدهم يأتمون بهم. وقال الحافظ: ظاهره يدل لمذهب الشعبي، وأجاب النووي: أن معناه يقتدي بكم من خلفكم مستدلين على أفعالي بأفعالكم - انتهى. قلت: لم يفصح البخاري باختياره في هذه المسألة. والظاهر أنه اتبع في وضع الترجمة لفظ الحديث، ولم يرد التنبيه على مسئلة تسلسل الاقتداء. والحديث ليس بعض فيما قاله الشعبي ون وافقه، كما هو ظاهر من تفسير الجمهور للحديث. والراجح عندي هو قول الجمهور والله أعلم. (ولا يزال قوم يتأخرون) أي عن الصفوف المتقدمة. وقيل: عن الخيرات أو عن العلم (حتى يؤخرهم الله) أي في دخول الجنة. وقال النووي: أي عن رحمته أو عظيم فضله ورفيع المنزلة وعن العلم ونحو ذلك. وفيه الحث على الكون في الصف الأول والتنفير عن التأخر والبعد عنه. وقد ورد في فضيلة الصلاة في الصف الأول أحاديث متعددة عن جماعة من الصحابة. وسيأتي ذكر بعضها (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص103) . 1097 وغيره - قوله: (فرآنا حلقاً) بكسر الحاء وفتحها لغتان، جمع حلقة بإسكان اللام. وحكى الجوهري فتحها في لغة ضعيفة. قال الجرزي: الحلقة بسكون اللام حلقة الباب وحلقة القوم وجمعها حلق بفتح الحاء واللام على غير قياس، قاله الجوهري، قال: وقال الأصمعي: الجمع حلق، مثل بدرة وبدر وقصعة وقصع، قال:

فقال: ما لي أراكم عزين؟ ثم خرج علينا فقال: ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ فقلنا: يا رسول الله، وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصفوف الأولى، ويتراصون في الصف)) رواه مسلم. 1098 (8) - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خير صفوفالرجال أولها، وشرها ـــــــــــــــــــــــــــــ وحكى يونس عن أبي عمرو حلقة في الواحد بالتحريك، والجمع حلق، وقال ثعلب: كلهم يجيزه على ضعفه. وقال الشيباني: ليس في الكلام حلقة بالتحريك إلا في جمع حالق، وهو الذي يحلق الشعر. والذي رويناه في كتاب مسلم حلقاً مضبوطاً بكسر الحاء، والله أعلم - انتهى. قال الطيبي: أي جلوساً حلقة حلقة كل صف منا قد تحلق - انتهى. (ما لي أراكم عزين) بكسر العين المهملة وتخفيف الزاي جمع عزة أي جماعات متفرقين حلقة حلقة نصب على الحال، قال الجزري: عزين جمع عزة وهي الحلقة من الناس، والأصل عزوة وهذا من الجموع النادرة الخارجة عن بابها. قال الطيبي: قوله: ما لي أراكم؟ إنكار على رؤيته إياهم على تلك الصفة، ولم يقل: ما لكم؛ لأن ما لي أراكم أبلغ كقوله: {ما لي أرى الهدهد} [27: 20] . والمقصود الانكار عليهم كائنين على تلك الحالة، يعني لا ينبغي لكم أن تفرقوا ولا تكونوا مجتمعين مع توصيتي إياكم بذلك. (ثم خرج علينا) أي مرة أخرى بعد هذا (ألا تصفون) بفتح التاء المثناة من فوق وضم الصاد أي في الصلاة (كما تصف الملائكة عند ربها) أي عند قيامها لطاعة ربها. قال القاري. وقيل: أي في محل قربه ومكان قبوله (يتمون الصفوف الأولى) كذا في جميع النسخ بضم الهمزة وسكون الواو تأنيث الأول، وكذا في المصابيح. ووقع في مسلم: الأول بضم الهمزة وفتح الواو جمع الأولى، وكذا في النسائي وابن ماجه. وعند أبي داود: الصفوف المقدمة، يعني يتمون الصف الأول، ولا يشرعون في الثاني حتى يتم الأول، ولا في الثالث حتى يتم الثاني، ولا في الرابع حتى يتم الثالث، وهكذا إلى آخرها. (ويترابصون في الصف) أي يتلاصقون ويتضامون حتى لا يكون بينهم شيء من الخلل والفرجة. وفي الحديث النهي عن التقرق والأمر بالاجتماع. وفيه: الاقتداء بأفعال الملائكة في صلاتهم وتعبداتهم. وفيه: الأمر باتمام الصفوف الأول والتراص في الصفوف. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص101) . 1098- قوله: (خيرصفوف الرجال) أي أكثرها أجراً وثواباً وفضلاً. (أولها) فيه التصريح بأفضلية الصف الأول للرجال، وإنه خيرها لما فيه من إحراز فضيلة التقدم المأمور به ولقربهم من الإمام ومشاهدتهم لأحواله واستماعهم لقراءته وبعدهم من النساء (وشرها) أي أقلها ثواباً وفضلاً وأبعدها من مطلوب الشرع

آخرها وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ (آخرها) لما فيه من ترك الفضيلة الحاصلة بالتقدم إلى الصف الأول ولقربهم من النساء وبعدهم من الإمام (وخير صفوف النساء آخرها) لبعدهن من مخالطة الرجال، ورؤيتهم وتعلق القلب بهم عند رؤية حركاتهم وسماع كلامهم ونحو ذلك بخلاف الوقوف في الصف الأول من صفوفهن، فإنه مظنة المخالطة وتعلق القلب بهم المتسبب عن رؤيتهم وسماع كلامهم، ولهذا كان شرها. ثم هذا التفصيل في صفوف الرجال على إطلاقه، وفي صفوف النساء عند الاختلاط بالرجال. قال النووي: أما صفوف الرجال فهي على عمومها فخيرها أولها أبداً وشرها آخرها أبداً. أما صفوف النساء فالمراد بالحديث صفوف النساء اللواتي يصلين مع الرجال. وأما إذا صلين متميزات لا مع الرجال فهن كالرجال خير صفوفهن أولها وشرها آخرها- انتهى. وقيل: يمكن حمله على إطلاقه لمراعاة الستر فتأمل. وفي الحديث: إن صلاة النساء صفوفاً جائزة من غير فرق بين كونهن مع الرجال أو منفردات وحدهن واعلم أنه اختلف في أن الصف الأول في المسجد هل هو ما يلي الإمام مطلقاً أي الذي هو أقرب إلى القبلة، أو هو أول صف تام يلي الامام لا ما تخلله شيء كمقصورة، أو المراد به من سبق إلى الصلاة ولو صلى آخر الصفوف. قال النووي: الصف الأول الممدوح الذي وردت الأحاديث بفضله هو الصف الذي يلي الإمام، سواء جاء صاحبه متقدماً أو متأخراً، وسواء تخلله مقصورة ونحوها أم لا، هذا هو الصحيح الذي يقتضيه ظواهر الأحاديث، وصرح به المحققون. وقال طائفة من العلماء: الصف الأول هو المتصل من طرف المسجد إلى طرفه لا يتخلله مقصورة ونحوها، فإن تخلل الذي يلي الإمام شيء فليس بأول، بل الأول مالا يتخلله شيء وإن تأخر. وقيل الصف الأول عبارة عن مجيىء الإنسان إلى المسجد ولا وإن صلى في صف متأخر. وهذان القولان غلط صريح- انتهى. قال الحافظ: وكان صاحب الفول الثاني لحظ أن المطلق ينصرف إلى الفرد الكامل وما فيه خلل فهو ناقص. وصاحب القول الثالث لحظ المعنى في تفضيل الصف الأول دون مراعاة لفظه- انتهى. قال العلماء في الحض على الصف الأول المسارعة إلى خلاص الذمة، والسبق لدخول المسجد، والقرب من الإمام، واستماع قراءته، والتعلم منه، والفتح عليه، والتبليغ عنه، والسلامة من اختراق المارة بين يديه، وسلامة البال من رؤية من يكون قدامه، وسلامة موضع سجوده من أذيال المصلين- انتهى. (رواه مسلم) قال القاري: كان يمكن للمصنف أن يجمل ويقول روى الأحاديث الخمسة مسلم كما هو دأبه، ولعل عادته فيما إذا كان للأحاديث سند واحد باتفاق رجاله وخلافها في خلافة- انتهى. والحديث أخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص98) وروي عن جماعة من الصحابة، منهم أبوسعيد وابن عباس وأنس وعمر بن الخطاب وأبوأمامة، وذكرهم الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص93) .

{الفصل الثاني}

{الفصل الثاني} 1099- (9) عن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((رصوا صفوفكم، وقاربوا بينها، وحاذروا بالأعناق، فوالذي نفسي بيده، إني لأرى الشيطان يدخل من خلل الصف كأنها الحذف)) . رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1099- قوله (رصوا) بضم الراء والصاد المهملتين (صفوفكم) أي في صلاة الجماعة بانضمام بعضكم إلى بعض على السواء من الرص. وهو ضم البعض إلى البعض مثل لبنات الجدار، أي كونوا في الصف كأنه بنيان مرصوص، قال القاري: أي سووا صفوفكم وضموا بعضكم إلى بعض حتى لا يكون بينكم فرجة. (وقاربوا بينها) أي بين الصفوف بحيث لا يسع بين صفين صف آخر فيصير تقارب أشباحكم سيما لتعاضد أرواحكم، قاله القاري. (وحاذوا بالأعناق) قيل: الظاهر أن الباء زائدة، والمعنى اجعلوا بعض الأعناق في محاذاة بعض أي مقابلته. وقيل: المراد بمحاذاة الأعناق المحاذاة بالمناكب. ففي حديث أبي أمامة الآتي: حاذوا بين مناكبكم. وفي حديث ابن عمر: حاذوا بين المناكب. والمعنى اجعلوا الأعناق والمناكب بعضها حذاء بعض، أي موازياً ومسامتاً ومقابلاً له. وقال القاضي: أي بأن لا يترفع بعضكم على بعض بأن يقف في مكان أرفع من مكان الآخر. قال الطيبي: ولا عبرة بالأعناق أنفسها، إذ ليس على الطويل أن يجعل عنقه محاذياً لعنق القصير (يدخل من خلل الصف) بفتح الخاء واللام أي فرجته. قال المنذري في الترغيب: الخلل بفتح الخاء المعجمة واللام أيضاً ما يكون بين الاثنين من الاتساع عند عدم التراص –انتهى. وعن ابن مسعود قال: سووا صفوفكم فإن الشيطان يتخللها كالحذف. رواه الطبراني في الكبير موقوفاً. (كأنها الحذف) بحاء مهملة وذال معجمة مفتوحتين واحدتها حذفة مثل قصب وقصبة، وهي الغنم السود الصغار الحجازية. وقيل: صغار جرد ليس لها آذان ولا أذناب، يجاء بها من اليمن، أي كأنها الشيطان، وأنث باعتبار الخبر. وقيل: إنما أنث؛ لأن اللام في الخبر للجنس فيكون في المعنى جمعاً. وفي شرح الطيبي: قال المظهر الضمير في"كأنها" راجع إلى مقدر أي جعل نفسه شاة أو ماعز كأنها الحذف. وقيل: يجوز التذكير باعتبار الشيطان، ويجوز تأنيثه باعتبار الحذف لوقوعه بينهما فلا حاجة إلى مقدر، كذا في المرقاة. قلت: ورواية النسائي بلفظ: إني لأرى الشياطين تدخل من خلل الصف كأنها الحذف. ولا إشكال فيها (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري. وقال النووي: إسناده على شرط مسلم، نقله ميرك، والحديث أخرجه أيضاً النسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والبيهقي (ج3 ص100) .

1100- (10) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أتموا الصف المقدم، ثم الذي يليه، فما كان من نقص فليكن في الصف المؤخر)) رواه أبوداود. 1101- (11) وعن البراء بن عازب، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الله وملائكته يصلون على الذين يلون الصفوف الأولى، وما من خطوة أحب إلى الله من خطوة يمشيها يصل بها صفاً)) رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1100- قوله: (أتموا الصف المقدم) ولفظ النسائي: الصف الأول (ثم الذي يليه) أي ثم أتموا الصف الذي يلي الصف الأول، وهكذا. (فما كان) أي وجد. (فليكن) أي النقص (في الصف المؤخر) دل الحديث على جعل النقص في الصف الأخير، لكن لم يظهر منه موقف الصف الناقص، فظاهر حديث أبي هريرة: وسطوا الامام، أن يقف أهل الصف الناقص خلف الإمام عن يمينه وشماله. (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري، وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي والبيهقي (ج3 ص102) . 1101- قوله: (يصلون على الذين يلون) أي يقومون. قال ابن مالك: أو يباشرون ويتولون يعني يصلون في الصفوف الأول. والمراد من الصلاة من الله إنزال الرحمة ومن الملائكة الدعاء بالتوفيق وغيره. (الصفوف الأولى) كذا في جميع النسخ بضم الهمزة وسكون الواو تأنيث أول، وكذا في المصابيح، ووقع في أبي داود: الأول أي بضم الهمزة وفتح الواو جمع أولى، وهكذا في جامع الأصول (ج6 ص397) أي فالأفضل الأول فالأول. وذكر المنذري: هذا الحديث في ترغيبه بلفظ: إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف الأول. وعند أبي داود في حديث آخر عن البراء: إن الله وملائكته يصلون على الصفوف الأول. وفي رواية النسائي: الصفوف المتقدمة. قال السندي: أي على الصف المقدم في كل مسجد، أو في كل جماعة، فالجمع باعتبار تعدد المساجد أو تعدد الجماعات، أو المراد الصفوف المتقدمة على الصف الأخير، فالصلاة من الله تعالى تشمل كل صف على حسب تقدمه إلا الأخير فلاحظ له منها لفوات التقدم. (وما من خطوة) قال العيني: بفتح الخاء وهي المرة الواحدة. وقال القرطبي: بضم الخاء وهي واحدة الخطا وهي ما بين القدمين من البعد، والتي بالفتح مصدر- انتهى. "ومن" زائدة و"خطوة" اسم"ما"وقوله: (أحب إلى الله) بالنصب خبره. قال القاري: والأصح رفعه وهو اسمه ومن خطوة خبره (من خطوة) متعلق بأحب (يمشيها) بالغيبة صفة خطوة أي يمشيها الرجل، وكذا (يصل بها صفا) وفي حديث ابن عمر عند الطبراني: مامن خطوة أعظم أجراً من خطوة مشاها رجل إلى فرجة في الصف فسدها. قال الهيثمي: في إسناده ليث بن حماد، ضعفه الدارقطني (رواه أبوداود) في حديث ذكره في باب

1102- (12) وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف)) رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ الصلاة تقام ولم يأت الإمام ينتظرونه قعوداً. وفي سنده رجل مجهول، فإنه رواه من طريق كهمس عن شيخ من أهل الكوفة عن عبد الرحمن بن عوسجة عن البراء بن عازب. وأخرج أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة والبيهقي عن البراء حديثاً، فيه نحو هذه الرواية لكن بدون ذكر الخطوة، وهو حديث صحيح رجاله ثقات. وفي الباب عن أبي أمامة وسيأتي. وعن النعمان بن بشير عند أحمد والبزار. قال الهيثمي: رجاله ثقات. وعن جابر عند البزار، وفيه عبد الله بن محمد بن عقبل، وفيه كلام، وقد وثقه جماعة. وعن العرباض بن سارية عند أحمد والنسائي وابن ماجه والبيهقي، وعن عبد الرحمن بن عوف عند ابن ماجه، وعن أبي هريرة عند البزار، وفيه أيوب بن عتبة، ضعف من قبل حفظه. 1102- قوله: (على ميامن الصفوف) جمع ميمنة، وفيه دليل على شرف يمين الصفوف واستحباب الكون في يمين الصف الأول وما بعده من الصفوف، وأما ما رواه ابن ماجه عن ابن عمر قال: قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن ميسرة المسجد تعطلت، فقال: مَن عَمَّر ميسرة المسجد كتب له كفلان من الأجر. وما رواه الطبراني في الكبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَن عمّر جانب المسجد الأيسر لقلة أهله فله أجران. ففي اسناده بهما مقال، فإن في سند حديث ابن عمر ليث بن سليم، وهو ضعيف. وفي سند حديث ابن عباس بقية بن وليد، وهو مدلس، وقد عنعنه، وإن ثبتا فلا يعارضان حديث عائشة وما وافقه؛ لأن ما ورد لمعنى عارض يزول بزواله. قال السندي في حاشية ابن ماجه تحت حديث ابن عمر فيه أن اليمين وإن كان هو الأصل، لكن اليسار إذا خلا فتعميره أولى من اليمين، وعلى هذا فلا بد من النظر إلى الطرفين، فإن كانت زيادة فلتكن في اليمين (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً ابن ماجه والبيهقي (ج3 ص103) كلهم من رواية معاوية بن هشام عن سفيان عن أسامة بن زيد عن عثمان بن عروة عن عروة عن عائشة، وقد سكت عنه أبوداود. وقال المنذري في الترغيب، والحافظ في الفتح: إسناده حسن. وقال الشوكاني: رجاله رجال الصحيح على ما في معاوية بن هشام من المقال - انتهى. وقال البيهقي: تفرد به معاوية بن هشام ولا أراه محفوظاً، والمحفوظ بهذا الإسناد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف، وكذلك رواه الجماعة. قلت: معاوية بن هشام هذا وثقه أبوداود، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الساجي: صدوق يهم، وقال أبوحاتم، وابن سعد: صدوق. وقال في التقريب، صدوق له أو هام، ويؤيده حديث البراء عند مسلم وغيره قال: كنا إذا صلينا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - أحببنا أن نكون عن يمينه، يقبل علينا بوجهه، وعن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن استطعت أن تكون خلف الإمام وإلا فعن يمينه. أخرجه البيهقي (ج3 ص104) ونسبه الهيثمي إلى الطبراني في

1103- (13) وعن النعمان بن بشير، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسوي صفوفنا إذا قمنا إلى الصلاة، فإذا استوينا كبر)) رواه أبوداود. 1104- (14) وعن أنس، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عن يمينه: اعتدلوا، سووا صفوفكم. وعن يساره اعتدلوا، سووا صفوفكم)) رواه أبوداود. 1105- (15) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خياركم ألينكم مناكب في الصلاة)) ـــــــــــــــــــــــــــــ الأوسط وقال فيه من لم أجد له ذكراً. وعن ابن عباس قال: عليكم بالصف الأول وعليكم بالميمنة منه، وإياكم والصف بين السوارى. رواه الطبراني في الأوسط والكبير، وفيه إسماعيل بن مسلم المكي وهوضعيف. 1103- قوله: (يسوي صفوفنا) ولفظ أبي داود: يسوي يعني صفوفنا أي باليد أو بالأشارة أو بالقول (إذا قمنا إلى الصلاة) وفي أبي داود: للصلاة. وكذا في جامع الأصول (ج6 ص392) . ووقع عند البيهقي إلى الصلاة (فإذا استوينا كبر) أي للإحرام. وفيه دليل على أن السنة للإمام أن يسوي الصفوف ثم يكبر، وأخذ بعضهم من قوله: إذا قمنا أن التسوية كانت بعد الإقامة، وأصرح منه في الدلالة على هذا قوله فقام حتى كاد أن يكبر الخ في حديث النعمان، وقوله أقيمت الصلاة فأقبل علينا بوجهه الخ، في حديث أنس وقد تقدما في الفصل الأول (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً البيهقي (ج2 ص21) وسكت عنه أبوداود. وقال المنذري: هو طرف من الحديث المتقدم يعني حديث النعمان أول أحاديث هذا الباب. 1104- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عن يمينه) أي منصرفاً بوجهه عن جهة يمينه متوجهاً إلى يمين الصف. ولفظ أبي داود: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام إلى الصلاة أخذه. (أى العود المذكور في رواية المتقدمة) بيمينه ثم التفت فقال، وكذا ذكره الجزري في جامع الأصول (ج6 ص394) وهكذا وقع عند البيهقي. (اعتدلوا) أي في القيام يعني استووا (سووا صفوفكم) بعدم تخلية الفرجة، أو الثاني تفسير للأول أو تأكيد له (رواه أبوداود) ومن طريقه البيهقي (ج2 ص22) وسكت عنه أبوداود والمنذري. 1105- قوله: (ألينكم مناكب) نصب على التمييز، أي أسرعكم انقياداً لمن يأخذ بمناكبكم الخارجة عن الصف يقدمها أو يؤخرها حتى يستوي الصف. قال المظهر: معناه إذا كان في الصف وأمره آخر بالاستواء أو يضع يده على منكبه ينقاد ولا يتكبر. وقال الخطابي في المعالم (ج1 ص184) : معنى لين المنكب لزوم السكينة في الصلاة والطمأنينة فيها، لا يلتفت ولا يحاك بمنكبه منكب صاحبه، فالمعنى أكثركم سكينة وطمأنينة، قال: وقد يكون فيه وجه

{الفصل الثالث}

رواه أبوداود. {الفصل الثالث} 1106- (16) عن أنس، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: استووا، استووا، استووا، فوالذي نفسي بيده، إني لأراكم من خلفي كما أراكم من بين يدي)) رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ آخر، وهو أن لا يمتنع على من يريد الدخول بين الصفوف ليسد الخلل أو لضيق المكان بل يمكنه من ذلك ولا يدفعه بمنكبه لتتراص الصفوف وتتكاثف الجموع- انتهى. قال ميرك: والوجه الأول أليق بالباب، ويؤيده حديث أبي أمامة في الفصل الثالث: ولينوا في أيدي إخوانكم. قلت: والوجه الثالث أيضاً أنسب بالباب. (رواه أبوداود) ومن طريقه البيهقي (ج3 ص101) وسكت عنه أبوداود والمنذري. وفي سنده جعفر بن يحيى بن ثوبان عن عمه عمارة بن ثوبان. وجعفر هذا قال ابن المديني مجهول. وقال ابن القطان الفاسي: مجهول الحال، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الحافظ في التقريب: مقبول. وعمه عمارة بن ثوبان. قال الذهبي في ترجمته: ما روى عنه الا ابن أخيه جعفر بن يحيى لكنه قد وثق وقال في ترجمته جعفر أن عمه يعني عمارة لين. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمته عمارة: ذكره ابن حبان في الثقات. وقال عبد الحق: ليس بالقوى فرد ذلك عليه ابن القطان وقال: إنما هو مجهول الحال. وقال في التقريب: عمارة بن ثوبان حجازي مستور، قلت: قول الذهبي لكنه قد وثق، وقوله لين، وقول عبد الحق ليس بالقوى، وذكر ابن حبان اياه في الثقاته يدل على أنه ليس بمجهول الحال عندهم، ومن عرف حجة على من لم يعرف. قال ميرك: وكان الأخصر أن يقول المصنف: روى جميع الأحاديث المذكورة في هذا الفصل أبوداود. 1106- قوله (استووا) أي في صفوف الصلاة بأن تقوموا على سمت واحد، وتتراصوا حتى لا يكون بينك فرجات. (استووا استووا) كرر ثلاث مرات للتأكيد، ويمكن أن يكون الأمر الأول وقع إجمالاً، والثاني لأهل اليمين، والثالث لأهل اليسار. (إني لأراكم من خلفي) رؤية حقيقة (رواه أبوداود) هذا وهم من المصنف، فإن هذا الحديث ليس عند أبي داود بل هو عند النسائي بوب عليه: كم مرة يقول: استووا. رواه من طريق بهز بن أسد عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس، وقد عزاه العيني في شرح البخاري (ج5 ص254) للنسائي فقط وكذا الجزري في جامع الأصول (ج6 ص394) .

1107- (17) وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول. قالوا يا رسول الله! وعلى الثاني؟ قال: إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول. قالوا: يا رسول الله! وعلى الثاني؟ قال: وعلى الثاني. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سووا صفوفكم، وحاذوا بين مناكبكم، ولينوا في أيدي إخوانكم، وسدوا الخلل، فإن الشيطان بدخل فيما بينكم بمنزلة الحذف، يعنى أولاد الضان الصغار)) . رواه أحمد. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1107- قوله: (إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول) أي يرحم الله على أهل الصف الأول ويدعو الملائكة لهم بالتوفيق وغيره. (وعلى الثاني) المراد به غير الأول أو الثاني حقيقة لكونه يماثل الصف الأول فافهم. والظاهر هو الثاني، فإن قلت قوله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول خبر فما معنى قولهم: وعلى الثاني؟ قلنا: هو في معنى طلب كون الثاني كذلك، وسؤاله - صلى الله عليه وسلم - من الله عزوجل أن يصلي عليهم أيضاً؛ لأنهم قد سبقوا من غير تقصير منهم، قاله في اللمعات. وقال القاري: قوله: يصلون على الصف الأول يحتمل أن يكون اخباراً ودعاء، ويؤيد الثاني قولهم يا رسول الله وعلى الثاني أي قل: وعلى الثاني ويسمى هذا العطف عطف تلقين والتماس كما حقق في قوله عليه السلام: اللهم ارحم الملحقين-الحديث. (قالوا يا رسول الله وعلى الثاني قال وعلى الثاني) التكرار يفيد التأكيد وحصول الكمال للأول وتثليث الرحمة على الصف الأول، ويؤيد ما روى أحمد والنسائي وابن ماجه والبيهقي عن العرباض بن سارية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يستغفر للصف المقدم ثلاثاً وللثاني مرة. (وحاذوا بين مناكبكم) أي اجعلوا بعضها حذاء بعض بحيث يكون منكب كل واحد من المصلين موازياً لمنكب الآخر ومسامتاً له، فتكون المناكب والأقدام على سمت واحد (ولينوا) بكسر اللام أمر من لان يلين (في أيدي إخوانكم) أي إذا أمر أحدكم من يسوي الصفوف بالإشارة بيده أن يستوي في الصف أو وضع يده على منكبه فليستوا، وكذا إذا أراد أن يدخل في الصف فليوسع. (وسدوا) بضم السين المهملة (الخلل) أي الفرجة من الصفوف، ولا يكون ذلك إلا بإلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم حقيقة. (فإن الشيطان يدخل فيما بينكم) ليشوش عليكم في صلاتكم بالإغواء والاشتغال (بمنزلة الحذف) بفتحتين أي في صورتها. قال الجزري: الحذف الغنم الصغار الحجازية واحدها حذفة، وقيل: هي غنم صغار ليس لها أذناب، يجاء بها من جرش، سميت حذفا لأنها محذوفة من مقدار الكبار (يعني أولاد الضان الصغار) تفسير من الراوي (رواه أحمد) (ج5 ص262) قال

1108- (18) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل، ولينوا بأيدي إخوانكم، ولا تذروا ـــــــــــــــــــــــــــــ المنذري في الترغيب باسناده لا بأس به. وقال الهيثمي: رجاله موثقون. وأخرجه أيضاً الطبراني في الكبير. 1108 – قوله: (أقيموا الصفوف) أى اعتدلوها وسووها (ولينوا بأيدي إخوانكم) أى كونوا لينين هينين منقادين إذا أخذوا بها ليقدموكم أو يؤخروكم حتى يستوي الصف؛ لتنالوا فضل المعاونة على البر والتقوى، ويصح أن يكون المراد لينوا بيد من يجركم من الصف أي وافقوه وتأخروا معه لتزيلوا عنه وعمة الانفراد التى تبطل الصلاة بها، فقد ذهب أكثر أصحاب الشافعي إلى أن من لم يجد فرجة ولا سعة في الصف يجذب إلى نفسه واحداً ويستحب للمجذوب أن يساعده، ولا فرق بين الداخل في أثناء الصلاة والحاضر في ابتدائها في ذلك، وكرهه الأوزاعي ومالك وأحمد وإسحاق؛ لأنه لو جذب إلى نفسه واحداً لفوات عليه فضيلة الصف الأول، ولوقع الخلل في الصف، واستدل الأولون بما رواه أبويعلى والطبراني في الأوسط والبيهقي (ج3 ص105) من حديث وابصة بن معبد: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: لرجل صلى خلف الصف أيها المصلي وحده هلا دخلت في الصف أو جررت رجلاً من الصف، أعد صلاتك. وفيه السرى بن إسماعيل، وهو ضعيف، قاله الهيثمي. وقال الحافظ: إنه متروك، وله طريق أخرى في تاريخ أصبهان، وفيها قيس بن ربيع، وفيه ضعف. وأخرج الطبراني عن ابن عباس. قال الحافظ: بإسناد واهٍ قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا انتهى أحدكم إلى الصف وقد تم فليجذب إليه رجلاً يقيمه إلى جنبه. قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط وقال: لا يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بهذا الإسناد. وفيه بشر بن إبراهيم، وهو ضعيف جداً، ولأبي داود في المراسيل من رواية مقاتل بن حيان مرفوعاً: أن جاء رجل فلم يجد خللاً أو أحدا فليختلج إليه رجلاً من الصف فليقم معه فما أعظم أجراً المختلج. قال الشوكاني في السيل الجرار: أما مشروعية انجذاب من في الصف المفسد لمن لحق ولم يجد من ينضم إليه فلم يثبت ما يدل على ذلك بخصوصه، ولا يصح الاستدلال بما أخرجه أبوداود في المراسيل بلفظ: إذا انتهى أحدكم إلى الصف وقد تم فليجذب إليه رجلاً يقيمه إلى جنبه؛ لأنه مع كونه مرسلاً، في اسناده مقاتل بن حيان، وفيه مقاتل ولم يثبت له لقاء أحد من الصحابة، فثم انقطاع بينه وبين الصحابي فهو مرسل معضل، ولا يصح الاستدلال أيضاً بما أخرجه الطبراني عن ابن عباس، وبما أخرجه الطبراني في الأوسط والبيهقي عن وابصة بن معبد، فذكرهما مع الكلام فيهما بنحو ما تقدم، ثم قال ولكن في انجذاب معاونة على البر والتقوى فيكون مندوباً من هذه الحيثية- انتهى. (ولاتذروا) أي لا تتركوا، ولا يستعمل من هذه المادة بمعنى الترك سوى المضارع والأمر والنهي، فتقول: ذره ولا تذره ويذره أي دعه واتركه ولا تدعه ولا تتركه ويدعه ويتركه، فإذا أريد الماضي، قيل: ترك. أو المصدر

فرجات الشيطان، ومن وصل صفاً وصله الله، ومن قطعه قطعه الله)) رواه أبوداود، وروى النسائي منه قوله: ((ومن وصل صفاً إلى أخره)) . 1109- (19) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((توسطوا الإمام وسدوا الخلل)) رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ قيل: الترك، أو اسم الفاعل قيل: التارك. (فرجات الشيطان) بالإضافة في جميع النسخ، وكذا في جامع الأصول (ج6 ص395) ولفظ أبي داود: فرجات للشيطان، أي بتنوين فرجات ودخول لام الجر على الشيطان، وكذا وقع عند البيهقي من رواية أبي داود والفرجات بضم الفاء والراء جمع فرجة، وهي المكان الخالي بين الاثنين، والمعنى لا تبقوا خللاً في الصف لدخول الشيطان فيه، فإنه إذا بقية فرجة في الصف يدخلها الشيطان كأنها الحذف كما تقدم. (ومن وصل صفاً) بأن كان فرجة فسدها أو نقصان فأتمه. (وصله الله) أي برحمة. (ومن قطعه) بأن قعد بين الصف بلا صلاة أو منع الداخل من الدخول في الفرجات مثلاً. وقال القاري: أي بالغيبة أو بعدم سد الخلل أو بوضع شيء مانع. (قطعه الله) أي من رحمته، وفيه تهديد شديد ووعيد بليغ. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري وأخرجه أيضاً أحمد (ج2 ص98) والبيهقي (ج3 ص101) . (وروى النسائي) وابن خزيمة كذلك كما في الترغيب للمنذري وكذلك الحاكم (ج1 ص213) وصححه هو وابن خزيمة. (منه) أي من حديث. (قوله) - صلى الله عليه وسلم - مفعول روى. (من وصل صفاً إلى آخره) بيان المقول، أي لاصدر الحديث، وروي في صلة الصفوف وسد الفرج أحاديث عن جماعة من الصحابة منهم عائشة وأبوجحيفة وعبد الله بن زيد وابن عباس وأبوهريرة، ذكرهم الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص91، 90) . 1109- قوله: (توسطوا الإمام) كذا في جميع النسخ توسطوا أي من التوسط. وكذا وقع في جامع الأصول (ج6 ص395) والبيهقي (ج3 ص104) ولفظ أبي داود: وسطوا أي بفتح الواو وتشديد السين المكسورة من التوسيط، وكذا نقله المجد بن تيمية في المنتقى، أي اجعلوه مقابلاً لوسط الصف الذي تصفون خلفه يعني قفوا خلفه بحيث يكون الامام حذاء وسط الصف ويكون عن يمينه من المصلين ومن يساره سواء. قال الطيبي: أي اجعلوا أمامكم متوسطاً بأن تقفوا في الصفوف خلفه وعن يمينه وشماله- انتهى. وفي القاموس: وسطهم جلس وسطهم كتوسطهم وسطه توسيطاً جعله في الوسط، فالظاهر أن يكون التقدير توسطوا بالإمام فيكون من باب الحذف والايصال. (رواه أبودواد) وكذا البيهقي (ج3 ص104) وسكت عنه أبوداود والمنذري وفي سنده يحيى بن بشير بن خلاد عن أمه واسمها أمة الواحد بنت يامين بن عبد الرحمن بن

1110- (20) وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يزال قوم يتأخرون عن الصف الأول، حتى يؤخرهم الله في النار)) رواه أبوداود. 1111- (21) وعن وابصة بن معبد، قال: ((رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يصلي خلف الصف وحده، فأمره أن يعيد الصلاة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ يامين، سماها بقي بن مخلد في مسنده ولم يسمها. أبوداود في روايته: ويحيى مستور، وأمه مجهولة. 1110- قوله: (يتأخرون عن الصف الأول) أي لا يهتمون لإدراك فضل الصف الأول، ولا يبالون به. (حتى يؤخرهم الله) أي يجعلهم الله آخر الأمر. (في النار) أو لا يخرجهم من النار في الأولين، أو يؤخرهم عن الداخلين في الجنة أولاً بإدخالهم النار أولاً وحبسهم فيها، ويمكن أن يكون المعنى يوقعهم في أسفل النار. وقال الطيبي: أي حتى يؤخرهم عن الخيرات ويدخلهم في النار. (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري. وأخرجه أيضاً ابن خزيمة في صحيحه وابن حبان إلا أنهما قالا: حتى يخلفهم الله في النار، وأخرجه البيهقي (ج3 ص103) من طريق أبي داود بلفظه. 1111- قوله: (عن وابصة) بكسر الموحدة فصاد مهملة. (بن معبد) بفتح الميم واسكان العين المهملة ابن عتبة بن الحارث بن مالك الأسدي أسد خزيمة، وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة تسع ثم رجع إلى بلاد قومه ثم نزل إلى الجزيرة، صحابي. قال البرقى: جاء عنه خمسة أحاديث، وعمّر إلى قرب سنة تسعين، وتوفي بالرقة، وقبره عند منارة مسجد جامع الرقة. (يصلي خلف الصف وحده) أي منفرداً عن الصف. (فأمره أن يعيد الصلاة) فيه دليل على أن الصلاة خلف الصف وحده لا تصح. وأن من صلى خلف الصف وحده فعليه أن يعيد الصلاة. وإليه ذهب إبراهيم النخعي والحسن بن صالح وأحمد وإسحاق وأكثر أهل الظاهر وابن المنذر والحكم، وبه قال قوم من أهل الكوفة، منهم حماد بن أبي سليمان وعبد الرحمن بن أبي ليلي ووكيع. قال ابن حزم: وبه يقول الأوازاعي والحسن بن حي، وأحد قولي سفيان الثوري. ونقل عبد الله بن أحمد في المسند (ج4 ص228) بعد حديث وابصة قال: وكان أبي يقول بهذا الحديث- انتهى. وإليه ذهب الدارمي أيضاً فقال في سننه بعد حديث وابصة قال أبومحمد: أقول بهذا. وقال الجواز فلأنه يتعلق بالأركان وقد وجدت، وأما الإساءة فلوجود النهي عن ذلك، والقول الأول هو الحق يدل عليه حديث وابصة وهوحديث صحيح كما ستعرف، ويدل عليه أيضاً حديث علي بن شيبان قال: رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يصلي خلف الصف، فوقف حتى انصرف الرجل فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

استقبل صلاتك، فإنه لا صلاة لرجل فرد خلف الصف. أخرجه أحمد (ج4 ص23) وابن ماجه وابن حزم في المحلى (ج4 ص53) والبيهقي (ج3 ص105) . ونسبه الزيلعي في نصب الراية (ج1 ص244) لابن حبان في صحيحه، والبزار في مسنده، وهو حديث صحيح. قال البوصيري في زوائد ابن ماجه: إسناده صحيح، ورجاله ثقات. وروى الأثرم عن أحمد أنه قال: حديث حسن. وقال ابن سيد الناس: رواته ثقات معروفون، وهو من رواية ملازم بن عمرو عن عبد الله بن بدر عن عبد الرحمن بن علي بن شيبان عن أبيه. قال ابن حزم في المحلى: ملازم ثقة. وثقه أبوبكر بن أبي شيبة وابن نمير وغيرهما، وعبد الله بن بدر ثقة مشهور، وعبد الرحمن ما نعلم أحداً عابه بأكثر من أنه لم يرو عنه إلا عبد الله بن بدر. وهذا ليس جرحة- انتهى. وقد روى عنه أيضاً ابنه يزيد ووعلة ابن عبد الرحمن، وذكره ابن حبان في الثقات وأخرج له في صحيحه. وقال العجلي: تابعي ثقة، ووثقة أيضاً أبوالعرب التميمي، كذا في تهذيب التهذيب (ج6 ص234) . ويؤيد حديث علي بن شيبان ما أخرجه ابن حبان عن طلق بن علي مرفوعاً: لا صلاة لمنفرد خلف الصف، ذكره الحافظ في بلوغ المرام. ويؤيده أيضاً حديث ابن عباس قال: رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد الصلاة. أخرجه البزار والطبراني في الكبير والأوسط. قال الهيثمي: (ج2 ص96) : وفيه النضر أبوعمر أجمعوا على ضعفه. ويؤيده أيضاً ما أخرجه الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة بمعنى حديث ابن عباس، وهو أيضاً حديث ضعيف. قال الهيثمي: فيه عبد الله بن محمد بن القاسم، وهو ضعيف وأجاب القائلون بالجواز بأن حديث وابصة معلول للاضطبراب في سنده كما نقل الزيلعي في نصب الراية (ج1 ص244) عن البيهقي في المعرفة والبزار في مسنده. قال البيهقي: وإنما لم يخرجاه صاحبا الصحيح لما وقع في إسناده من اختلاف. وقال ابن عبد البر: أنه مضطرب الإسناد، ولا يثبته جماعة من أهل الحديث، وروي عن الشافعي أنه كان يضعف حديث وابصة، ويقول: لو ثبت لقلت به وأجيب عنه بأن البيهقي وهو من أصحابه قد أجاب عنه فقال: الخبر المذكور ثابت، وبأن ابن سيد الناس قال في شرح الترمذي: ليس الاضطراب الذي الذي وقع فيه مما يضره، وبين ذلك وأطال وأطاب، ذكره الشوكاني وأجابوا أيضاً بأن الأمر بالإعادة في حديث وابصة وما وافقه للاستحباب، والنفي في حديث علي وما وافقه محمول على نفي الكمال. قال الطيبي: إنما أمره باعادة الصلاة تغليظاً وتشديداً، يؤيده حديث أبي بكرة في آخر الفصل الأول من باب الموقف. وقال ابن الهمام: حمل أئمتنا الأول أي حديث وابصة على الندب، والثاني أي حديث علي بن شيبان على نفي الكمال ليوافقا خبر البخاري عن أبي بكرة، إذ ظاهره عدم لزوم الإعادة لعدم أمره بها، وأيضاً فهو عليه السلام تركه حتى فرغ ولو كانت باطلة لما أقره على المضي فيها، وأجيب عنه بأن حمل

رواه أحمد، والترمذي، وأبوداود. وقال الترمذي: هذا حديث حسن. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأمر بالإعادة على الاستحباب، وحمل النفي على نفي الكمال خلاف الظاهر، والأصل فإن الأصل في الأمر الوجوب، وفي نفي الجنس نفي الحقيقة والذات إن أمكن وإلا فيحمل على أقرب المجازين إلى الحقيقة، وهو نفي الصحة كما تحقق في موضعه. وأما الاستدلال على ذلك بحديث أبي بكرة ففيه أن عدم أمره - صلى الله عليه وسلم - بالإعادة في هذه الصورة الجزئية لا يدل على أن أمره بالإعادة في حديث وابصة ليس للإيجاب، وأن النفى في حديث علي بن شيبان ليس لنفي الحقيقة أو الصحة، فإنه لا يقال لمن فعل مثل ما فعل أبوبكرة أنه صلى خلف الصف. قال ابن سيد الناس: ولا يعد حكم الشروع في الركوع خلف الصف حكم الصلاة كلها خلفه، فهذا أحمد ابن حنبل يرى أن صلاة المنفرد خلف الصف باطلة، ويرى أن الركوع دون الصف جائزة- انتهى. وقال الحافظ في الفتح: جمع أحمد وغيره بين الحديثين، بأن حديث أبي بكرة مخصص لعموم حديث وابصة، فمن ابتدأ الصلاة منفرداً خلف الصف ثم دخل في الصف قبل القيام من الركوع لم تجب عليه الإعادة، كما في حديث أبي بكرة، وإلا فيجب على عموم حديث وابصة وعلي بن شيبان- انتهى. وفي مسائل الامام أحمد لأبي داود (ص35) قال: سمعت أحمد سئل عن رجل ركع دون الصف ثم مشى حتى دخل الصف وقد رفع الإمام قبل أن ينتهي إلى الصف قال: تجزئه ركعة وإن صلى خلف الصف وحده أعاد الصلاة. وقيل يحمل عدم الأمر بالإعادة على من فعل ذلك لعذر وهو خشية الفوات لو انضم إلى الصف وأحاديث الإعادة على من فعل ذلك لغير عذر. وقيل من لم يعلم ما ابتداء الركوع على تلك الحال من النهي فلا إعادة عليه كما في حديث أبي بكرة؛ لأن النهي عن ذلك لم يكن تقدم فكان أبوبكرة معذوراً لجهله، ومن علم النهي وفعل بعض الصلاة أو كلها خلف الصلاة لزمته الإعادة، يعني أنه يحمل أمره بالإعادة لمن صلى خلف الصف بأنه كان عالماً بالنهي. قال ابن حزم في المحلى (ج4 ص58) : فإن قيل: فهلا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر بالإعادة كما أمر الذي أساء الصلاة والذي صلى خلف الصف وحده؟ قلنا: نحن على يقين نقطع به أن الركوع دون الصف إنما حرم حين نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذ ذلك كذلك فلا إعادة على من فعل ذلك قبل النهي، ولو كان ذلك محرماً قبل النهي لما أغفل عليه السلام أمره بالإعادة كما فعل مع غيره- انتهى. (رواه أحمد) (ج4 ص227و 228) . (والترمذي وأبوداود) وأخرجه أيضاً ابن ماجه وأبوداود الطيالسي والدارمي وابن الجارود والبيهقي (ج3 ص104- 105) وابن حبان والدارقطني والحاكم والطحاوي وابن حزم في المحلى. (وقال الترمذي: هذا حديث حسن) وسكت عنه أبوداود. ونقل المنذري كلام الترمذي هذا وأقره. وقال الحافظ في الفتح: صححه أحمد وابن خزيمة وغيرهما. وقال ابن حجر المكي: صححه ابن حبان والحاكم. قلت: وأعله بعضهم بما وقع من اختلاف في

(25) باب الموقف

(25) باب الموقف {الفصل الأول} 1112- (1) عن عبد الله بن عباس، قال: ((بت في بيت خالتي ميمونة، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي، فقمت عن يساره، فأخذ بيدي من وراء ظهره فعدلني كذلك من وراء ظهره إلى الشق الأيمن)) ـــــــــــــــــــــــــــــ سنده كما تقدم عن ابن عبد البر أنه قال: حديث مضطرب الإسناد، وقد تقدم قول ابن سيد الناس: أن الاختلاف الذي وقع في سنده ليس مما يضره، وقد بين ذلك في شرح الترمذي له كما قال الشوكاني، وقد بينه أيضاً الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي (ج2 ص451) وأطال الكلام فيه وحققه بما لا مزيد عليه، فعليك أن تراجعه، ولولا خوف الإطناب لذكرنا كلامه. (باب الموقف) أي موقف الإمام والمأموم. 1112- قوله (بت) أي رقدت أو كنت ليلا. (في بيت خالتي ميمونة) بنت الحارث أم المؤمنين. (يصلي) أي من الليل، والمراد به التهجد. (فقمت) أي وقفت. (عن يساره) بفتح الياء وكسرها. ولفظ مسلم: ثم قمت إلى شقه الأيسر. (فأخذ بيدي) بسكون الياء بالإفراد. (من وراء ظهره) أي وهو في الصلاة. (فعدلني) بالتخفيف. وقيل: بالتشديد أي أمالني وصرفنى. ولفظ مسلم: يعدلني أي بصيغة مضارع. (كذلك) أي آخذاً بيدي. (من وراء ظهره) بيان لذلك. (إلى الشق الأيمن) متعلق بعدلني. قال الطيبي: الكاف صفة مصدر محذوف أي عدلني عدولاً مثل ذلك، والمشار إليه هي الحالة المشبهة بها التي صورها ابن عباس بيده عند التحدث– انتهى. وقد اختلف في كيفية التحويل روايات الصحيح، ففي بعضها: أخذ برأسه فجعله عن يمينه، وفي بعضها: فوضع يده اليمنى على رأسي فأخذ بأذني اليمنى ففتلها، وفي بعضها: فأخذ برأسي من ورائي، وفي بعضها: بيدي أو عضدي. قال العيني: والرواية الثانية جامعة لهذه الروايات وقال أيضاً: ووجه الجمع بين قوله: فأخذ بيدي، وبين قوله: فأخذ برأسي. كون القضية متعددة، وإلا فوجهه أخذ أولاً برأسه ثم بيده أو العكس - انتهى. قلت: الغالب على الظن عدم تعدد قصة مبيت ابن عباس. فالجمع بين مختلف الروايات فيها أولى. وقيل: رواية أخذ الرأس أرجح لاتفاق الأكثر عليها، وفي الحديث دليل على أن موقف المأموم الواحد عن يمين الإمام، إذ لو كان اليسار موقفاً له لما عدله وحوله في الصلاة، وإلى هذا ذهب الجماهير، وخالف النخعي فقال: إذا كان الإمام وواحد قام الواحد خلف الامام، فإن ركع الإمام قبل أن يجيء أحد قام عن يمينه، أخرجه سعيد بن منصور. قال الحافظ: ووجهه بعضهم بأن الإمامة

مظنة الاجتماع فاعتبرت في موقف الإمام حتى يظهر خلاف ذلك، وهو حسن، لكنه مخالف للنص، وهوقياس فاسد- انتهى. وروي عن سعيد بن المسيب أن موقف الواحد مع الإمام عن يساره، ولم يتابع على ذلك لمخالفته للأدلة، وقد اختلف في صلاة من وقف عن اليسار، فقيل: تصح لكنه مسيء، وهو قول الجمهور. وتمسكوا بعدم بطلان صلاة ابن عباس لوقوفه عن اليسار لتقريره - صلى الله عليه وسلم - على أول صلاته وعدم أمره بالإعادة. وقيل: تبطل، وإليه ذهب أحمد قال: وتقريره - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس لا يدل على صحة صلاة من وقف من أول الصلاة إلى آخرها عن اليسار عالما، وغاية ما فيه تقرير من جهل الموقف والجهل عذر، وقد بوب البخاري على حديث ابن عباس: باب إذا قام الرجل عن يسار الإمام وحوله الإمام خلفه إلى يمينه تمت صلاته. قال الحافظ: أي صلاة المأموم ولا يضر وقوفه عن يسار الإمام أولاً مع كونه في غير موقفه؛ لأنه معذور بعدم العلم بذلك الحكم - انتهى. وأيضاً يجوز أن يكون ابن عباس ما كان قد أحرم بالصلاة. ثم قوله: فعدلني إلى الشق الأيمن يحتمل المساواة، ويحتمل التقدم والتأخر قليلاً، وفي رواية: فقمت عن يساره فجعلني عن يمينه، وقد بوب عليها البخاري: باب يقوم عن يمين الإمام بحذاءه سواء إذا كانا اثنين. قال الحافظ: قوله بحذاءه أخرج به من كان خلفه أو مائلاً عنه أو بجنبه لكن على بُعد منه، وقوله سواء أي لا يتقدم ولا يتأخر، وفي انتزاع هذا من هذه الرواية بُعد، وكأن المصنف أشار بذلك إلى ما تقدم في بعض طرقه وهو في الطهارة: فقمت إلى جنبه، وظاهره المساواة. وفي رواية للبخاري أيضاً: فأقامني عن يمينه. قال العيني: يستفاد منها أن موقف المأموم إذا كان بحذاء الإمام على يمينه مساوياً له، وهو قول عمر وابنه وأنس وابن عباس والثوري وإبراهيم ومكحول والشعبي وعروة وأبي حنيفة ومالك والأوزاعي وإسحاق، وعن محمد بن الحسن: يضع أصابع رجليه عند عقب الإمام. وقال الشافعي: يستحب أن يتأخر عن مساواة الإمام قليلاً. قال الشوكاني: وليس عليه فيما أعلم دليل، وروى عبد الرزاق عن ابن جريج قال: قلت لعطاء الرجل يصلي مع الرجل أين يكون منه؟ قال إلى الشق الأيمن قلت: أيحاذي به حتى يصف معه لا يفوت أحدهما الآخر. قال: نعم، قلت: أتحب أن يساويه حتى لا يكون بينهما فرجة؟ قال: نعم. وفي الموطأ عن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال: دخلت على عمر بن الخطاب بالهاجرة فوجدته يسبح فقمت وراءه فقربني حتى جعلني حذاءه عن يمينه، والحديث له فوائد كثيرة: منها: أن الاثنين جماعة، وقد بوب عليه ابن ماجه: باب الاثنان جماعة. ومنها: انعقاد الجماعة باثنين: أحدهما صبي، ففي لفظ: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا يومئذٍ ابن عشر سنين، وقمت إلى جنبه عن يساره فأقامني عن يمينه، قال: وأنا يومئذ ابن عشر سنين. أخرجه أحمد، وقد بوب عليه ابن تيمية في المنتقى: باب انعقاد الجماعة باثنين أحدهما صبي. وقال العيني: في الحديث جواز ائتمام صبي ببالغ، وعليه ترجم البيهقي في سننه. قال الشوكاني: ليس على قول من منع من انعقاد من معه صبي فقط دليل، ولم

متفق عليه. 1113- (2) وعن جابر، قال: ((قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصلي، فجئت حتى قمت عن يساره، فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه، ثم جاء جبار بن صخر، ـــــــــــــــــــــــــــــ يستدل لهم إلا بحديث رفع القلم، ورفع القلم لا يدل على عدم صحة صلاته، وانعقاد الجماعة به، ولو سلم لكان مخصصاً بحديث ابن عباس ونحوه، وقد ذهب أبوحنيفة وأصحابه إلى أن الجماعة لا تنعقد بصبي، وذهب الشافعي إلى الصحة من غير فرق بين الفرض والنفل، وذهب مالك وأبوحنيفة في رواية عنه إلى الصحة في النافلة. ومنها: جواز الائتمام بمن لم ينو الإمامة، وقد بوب البخاري لذلك. وفي المسألة خلاف، ومذهب الحنفية أن نية الإمامة في حق الرجال ليست بشرط؛ لأنه لا يلزمه باقتداء المأموم حكم، وفي حق النساء شرط لاحتمال فساد صلاته بمحاذاتها إياه. والأصح عند الشافعية أنه لا يشترط مطلقاً، واستدل لذلك ابن المنذر بحديث أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم في رمضان قال: فجئت فقمت إلى جنبه وجاء آخر فقام إلى جنبي حتى كنا رهطاً فلما أحس النبي - صلى الله عليه وسلم - بنا تجوز في صلاته- الحديث. وهو ظاهر في أنه لم ينو الإمامة ابتداء وائتموهم به ابتداء وأقرهم، وهو حديث صحيح. أخرجه مسلم، وعلقه البخاري في كتاب الصيام: وذهب أحمد إلى الفرق بين النافلة والفريضة، فشرط أن ينوى في الفريضة دون النافلة، وفيه نظر لحديث أبي سعيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يصلي وحده فقال: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه. أخرجه أبوداود. وقد حسنه الترمذي وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، والراجح عندنا هو عدم الفرق بين الفريضة والنافلة، وعدم الاشتراط في حق الرجال والنساء جميعاً؛ لانتفاء ما يدل على الفرق والتفصيل، والله أعلم. ومنها: جواز الإمامة في النافلة وصحة الجماعة فيها، ومنها التعليم في الصلاة إذا كان من أمرها. ومنها أن النافلة كالفريضة في تحريم الكلام؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يتكلم. ومنها: ما قيل إن تقدم المأموم على إمامه مبطل. قال الحافظ: ذكر البيهقي أنه يستفاد من الحديث امتناع تقديم المأموم على الإمام لما في رواية مسلم: فقمت عن يساره فأدارني من خلفه حتى جعلني عن يمينه، وفيه نظر، قال العيني: لأنه يجوز أن تكون ادارته من خلفه لئلا يمر بين يديه فإنه مكروه. ومنها أن العمل اليسير في الصلاة لا يفسدها، وقد بوب لذلك البخاري حيث قال: باب إذا قام الرجل عن يسار الإمام فحوله الإمام إلى يمينه لم تفسد صلاتهما أي بالعمل الواقع منها، لكونه خفيفاً يسيراً وهو من مصلحة الصلاة أيضاً. (متفق عليه) واللفظ لمسلم. وقد تقدم التنبيه على ما وقع من الاختلاف بين لفظ مسلم وبين اللفظ الذي ذكره المصنف تبعاً للبغوي، والحديث أخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم. 1113- قوله: (وعن جابر) أي ابن عبد الله. (فأخذ بيدي) قال ابن الملك: أي أخذني بيده اليمنى من وراء ظهره حتى أقامني. (عن يمينه) فيه أن موقف المأموم الواحد عن يمين الإمام. (ثم جاء جبار بن صخر) بن

فقام عن يسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخذ بيدينا جميعاً، فدفعنا حتى أقامنا خلفه)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ أمية بن خنساء بن سنان السلمى الأنصاري شهد بدراً، وهو ابن اثنتين وثلاثين سنة، ثم شهد أحداً، وما بعدها من المشاهد وكان أحد السبعين ليلة العقبة، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين المقداد بن الأسود، يكنى أبا عبد الله توفي بالمدينة سنة ثلاثين. قال ابن إسحاق: كان خارصاً بعد عبد الله بن رواحة. (فأخذ بيدينا) بالتثنية. وفي مسلم: بأيدينا أي بلفظ الجمع. (فدفعنا) أي أخرنا. قال الطيبي: لعله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيمينه شمال أحدهما، وبشماله يمين الآخر فدفعهما. (حتى أقامنا خلفه) فيه أن الإمام إذا كان معه عن يمينه مأموم، ثم جاء مأموم آخر، ووقف عن يساره، فله أن يدفعهما خلفه إذا كان لوقوفهما خلفه مكان، أو يتقدمهما. يدل عليه حديث سمرة الآتي في الفصل الثاني. وفيه أن موقف الرجلين مع الإمام في الصلاة خلفه. قال النووي: في الحديث فوائد: منها: جواز العمل اليسير في الصلاة، وأنه يكره إن كان لحاجة، فإن لم يكن لحاجة كره. ومنها: أن المأموم الواحد يقف على يمين الإمام، وإن وقف على يساره حوله الامام. ومنها: أن المأمومين يكونان صفاً وراء الإمام كما لو كانوا ثلاثة أو أكثر. وهذا مذهب العلماء كافة إلا ابن مسعود وصاحبيه يعني الأسود وعلقمة، فإنهم قالوا: يقف الاثنان عن جانبيه قال: وأجمعوا إذا كانوا ثلاثة أنهم يقفون وراءه- انتهى. قلت: روى مسلم في صحيحه عن علقمة والأسود أنهما دخلا على عبد الله فقال أصلي من خلفكم؟ قالا: نعم فقام بينهما وجعل أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله ثم ركعنا فوضعنا أيدينا على ركبنا، فضرب أيدينا ثم طبق بين يديه ثم جعلهما بين فخذيه، فلما صلى قال هكذا فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وروى أحمد عن الأسود قال: دخلت أنا وعمي علقمة على ابن مسعود بالهاجرة قال: قأقام الظهر ليصلي فقمنا خلفه فأخذ بيدي ويد عمي ثم جعل أحدها عن يمينه والآخر عن يسار، فصففنا صفاً واحداً ثم قال: هكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع إذا كانوا ثلاثة، وأجاب عنه ابن سيرين بأن ذلك كان لضيق المكان أو لعذر آخر لا على أنه من السنة. رواه الطحاوي وقال الحازمي: أنه منسوخ؛ لأنه إنما تعلم ابن مسعود هذه الصلاة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة إذ فيها التطبيق وأحكام أخرى، هي الآن متروكة وهذه من جملتها، ولما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة تركه بدليل حديث جابر، فإنه شهد المشاهد التى بعد بدر- انتهى. قال ابن الهمام: وغاية ما فيه خفاء الناسخ على عبد الله وليس ذلك ببعيد، إذا لم يكن دأبه عليه السلام إلا إمامة الجمع الكثير دون الاثنين إلا في الندرة كهذه القصة وحديث اليتيم وهو داخل في بيت امرأة. (يعنى حديث أنس الآتي) فلم يطلع عبد الله على خلاف ما علمه- انتهى. وقال ابن سيد الناس: وليس ذلك أي وقوف الاثنين خلف الإمام شرطاً عند أحد منهم، ولكن الخلاف في الأولى والأحسن. (رواه مسلم) في آخر صحيحه في أثناء الحديث الطويل. وأخرجه البيهقي (ج3 ص95) مختصراً وأبوداود مطولاً، وهذا الذي ذكر المصنف بعضاً منه، وروى أحمد عن جابر قال: قام النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي المغرب فجئت فقمت

1114- (3) وعن أنس، قال: ((صليت أنا ويتيم في بيتنا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأم سليم خلفنا)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن يساره فنهاني فجعلني عن يمينه، ثم جاء صاحب لي فصفنا خلفه- الحديث. 1114- قوله: (صليت أنا ويتيم) بالرفع عطفاً على الضمير المرفوع. قال صاحب العمدة: اليتيم هو ضميرة جد حسين بن عبد الله بن ضميرة. قال ابن الحذاء: كذا سماه عبد الملك بن أبي حبيب، ولم يذكره غيره، وأظنه سمعه من حسين بن عبد الله أو من غيره من أهل المدينة. قال ضميرة: هو ابن أبي ضميرة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. واختلف في اسم أبي ضميرة، فقيل: روح، وقيل غير ذلك- انتهى. وقال النووي: اسم اليتيم ضميرة بن سعد الحميري. وقال المنذري: اليتيم وهو ابن أبي ضميرة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، له ولأبيه صحبة، وعدادهما في أهل المدينة (في بيتنا) متعلق بصليت. (وأم سليم خلفنا) وفي البخاري: وأمي أم سليم خلفنا. قال العيني: وأمي عطف على اليتيم، وأم سليم عطف بيان، وكانت مشتهرة بهذه الكنية، واسمها سهلة. وقيل: رميلة أو رميثة أو الرميصاء أو الغميصاء، زوجة أبي طلحة، وكانت فاضلة دينة- انتهى. قلت: أم سليم هي بنت ملحان بكسر الميم وإسكان اللام، واسمه مالك بن خالد بن زيد بن حرام من بنى النجار، وكانت أم سليم تحت مالك بن النضر، فولدت له أنساً في الجاهلية، وأسلمت مع السابقين من الأنصار، فغضب مالك وخرج إلى الشام، ومات بها فتزوجها بعده أبوطلحة زيد بن سهل الأنصاري، فولدت له عبد الله وأبا عمير، واسم والدة أم سليم مليكة بالتصغير بنت مالك بن عدي بن زيد مناة بن عدي، فهي جدة أنس لأمه. وفي الحديث دليل على صحة الجماعة في النفل في البيوت، وعلى صحة الصلاة للتعليم والتبرك كما تدل عليه القصة، وعلى أن مقام الاثنين خلف الإمام، وعلى أن أمامة المرأة للرجال غير جائزة؛ لأنها لما زحمت عن مساواتهم في مقام الصف كانت من أن تتقدمهم أبعد، وعلى وجوب ترتيب مواقف المأمومين، وأن الأفضل يتقدم على من دونه في الفضل، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ليلينى منكم أولوا الأحلام والنهى، وعلى صحة صلاة الصبي المميز، وإن الصبي يعتد بوقوفه ويسد الجناح، وهو الظاهر من لفظ اليتيم إذ لا يتم بعد الاحتلام، ويؤيده جذبه - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس من جهة اليسار إلى جهة اليمين، وصلاته معه وهو صبي، وعلى أن الصبي الواحد يقوم مع الرجل صفاً، فإن اليتيم لم يقف منفرداً بل صف مع أنس، وعلى أن المرأة لا تصف مع الرجال، وعلى أنها تقوم صفاً وحدها إذا لم يكن معها امرأة غيرها، فعدم امرأة تنضم إليها عذر في ذلك، فإن انضمت المرأة مع الرجل أجزأت صلاتها؛ لأنه ليس في الحديث إلا تقريرها على التأخر، وأنه موقفها، وليس فيه دلالة على فساد صلاتها لو صلت في غيره، وذهب أبوحنيفة إلى أنه تفسد صلاة الرجل دون المرأة، ولا دليل على ذلك. قال الحافظ: في الحديث أن المرأة لا تصف مع الرجال، وأصله ما يخشى من الافتتان بها، فلو خالفت أجزأت صلاتها عند الجمهور، وعند الحنفية: تفسد صلاة الرجل دون المرأة، وهو عجيب، وفي توجيهه تعسف، حيث قال قائلهم: دليله قول ابن مسعود أخروهن من حيث

رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ أخرهن الله، والأمر للوجوب وحيث ظرف مكان، ولا مكان يجب تأخيرهن فيه إلا مكان الصلاة، فإذا حاذت الرجل فسدت صلاة الرجل؛ لأنه ترك ما أمر به من تأخيرها، وحكاية هذا تغني عن تكلف جوابه، والله المستعان. فقد ثبت النهى عن الصلاة في الثوب المغصوب، وأمر لابسه أن ينزعه، فلو خالف فصلى فيه ولم ينزعه أثم وأجزأته صلاته، فلم يقال في الرجل الذي حاذته المرأة ذلك وأوضح منه لو كان لباب المسجد صفة مملوكة فصلى فيها شخص بغير إذنه مع اقتداره على أن ينتقل عنها إلى أرض المسجد بخطوة واحدة صحت صلاته وأثم، وكذلك الرجل مع المرأة التي حاذته، ولا سيما إن جاءت بعد أن دخل في الصلاة فصلت بجنبه- انتهى كلام الحافظ. وقال الشوكاني في السيل الجرار: إذا لم تقف المرأة في موقفها الذي عينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها، وهو وقوفها في صف النساء أو وقوفها وحدها بعد الرجال فقد صارت بذلك عاصية، وأما فساد صلاتها بذلك، فلا دليل يدل عليه، وهكذا لا دليل يدل على فساد صلاة الرجال؛ لأن غاية الأمر دخول الأجنبية معهم ونظرهم إليها، وذلك لا يوجب فساد الصلاة، بل يكون من وقف بجنبها مختاراً لذلك، أو نظر إليها عاصياً، وصلاته صحيحة، وأما من لم يقف بجنبها ولا نظر إليها فليس بعاص فضلاً عن كون صلاته تفسد بمجرد دخولها معهم في الصلاة ومشاركتها لهم في الائتمام بإمامهم. والحاصل أن التسرع إلى إثبات مثل هذه الأحكام الشرعية بمجرد الرأي الخالي عن الدليل ليس من دأب أهل الأنصاف ولا من صنيع المتورعين - انتهى. واستدل الزيلعي والخطابي وابن بطال بالحديث على صحة صلاة المنفرد خلف الصف، قال الزيلعي: أحكام الرجال والنساء في ذلك سواء. وقال ابن بطال: لما ثبت ذلك للمرأة كان للرجال أولى، ورد هذا الاستدلال بأنه إنما ساغ ذلك للمرأة لامتناع أن تصف مع الرجال بخلاف الرجل، فان له أن يصف معهم وأن يزاحمهم وأن يجذب رجلاً من حاشية الصف فيقوم معه فافترقا. قال ابن خزيمة: لا يصح الاستدلال به؛ لأن المرأة خلف الصف وحده منهي عنها باتفاق ممن يقول تجزئه أو لا تجزئه، وصلاة المرأة وحدها إذا لم يكن هناك امرأة أخرى مأمور بها، فكيف يقاس مأمور على منهي - انتهى. (رواه مسلم) . الصواب أن يقول متفق عليه، واللفظ للبخاري كما قال الحافظ في بلوغ المرام، أو يقول رواه البخاري كما قال المجد بن تيمية في المنتقى، فإن هذه الرواية أخرجها البخاري في كتاب الصلاة في باب المرأة وحدها تكون صفاً من طريق سفيان بن عيينة عن إسحاق عن أنس، فالعجب من المصنف أنه عزا الحديث إلى مسلم فقط مع أن مسلماً لم يروه بهذا اللفظ. والظاهر أن المصنف تبع في ذلك الجزري حيث عزاه في جامع الأصول (ج6:ص391) لمسلم والنسائي فقط. قال الحافظ في الفتح: هذا الحديث طرف من حديث اختصره سفيان، وطوله مالك كما تقدم في باب الصلاة على الحصير - انتهى. قلت: الحديث المطول أخرجه أحمد ومالك والبخاري ومسلم والترمذي وأبوداود والنسائي ـــــــــــــــــــــــــــــ

1115- (4) وعنه، ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى به وبأمه أو خالته، قال: فأقامني عن يمينه، وأقام المرأة خلفنا)) ـــــــــــــــــــــــــــــ والظاهر أنه قضية؛ لأن المراد بالعجوز في قوله: والعجوز من وراءنا في الحديث المطول هي مليكة جدة أنس التي دعته لطعام صنعته لا أم سليم. 1115- قوله: (صلى به) أي بأنس. (وبأمه) أي أم سليم. (أو خالته) شك من الراوي، واسم خالته أم حرام بنت ملحان. (قال) أي أنس. (فأقامني) أي أمرني بالقيام. (عن يمينه، وأقام المرأة خلفنا) في الحديث دليل على أنه إذا حضر مع إمام الجماعة رجل وامرأة كان موقع الرجل عن يمينه وموقف المرأة خلفهما. وإنها لا تصف مع الرجال. واعلم أنه اختلفت الروايات في صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيت أنس، ففي بعضها أن مليكة جدة أنس دعته لطعام صنعته، فأكل منه ثم قال: قوموا فلأصلي بكم. قال أنس: فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حصير، وصففت أنا واليتيم وراءه، والعجوز من وراءنا، أخرجه أحمد (ج3:ص 131، 149) ومالك وأصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه. وفي بعضها أنه دخل على أم سليم فأتته بتمر وسمن، وكان صائماً، فقال أعيدوا تمركم في وعائه، وسمنكم في سقائه، ثم قام إلى ناحية البيت فصلى ركعتين، وصلينا معه-الحديث. أخرجه أحمد من طريق حميد عن أنس في (ج3:ص108، و188) وعند أبي داود من طريق ثابت عن أنس أنه دخل على أم حرام فأتوه بسمن وتمر، فقال: ردوا هذا في وعائه، وهذا في سقائه، فاني صائم، ثم قام فصلى بنا ركعتين تطوعاً، فقامت أم سليم وأم حرام خلفنا، قال ثابت: ولا أعلمه إلا قال: أقامني عن يمينه، وفي بعضها: أنه صلى في بيت أم حرام، فأقام أنساً عن يمينه، وأم حرام خلفهما، وهو عند أحمد (ج3:ص204) من طريق ثابت عن أنس. وفي بعضها أنه صلى، ومعه أنس وأم سليم فجعل أنساً عن يمينه وأم سليم خلفهما، وهو عند أحمد أيضاً (ج3:ص217) من طريق ثابت. وروى أحمد (ج3:ص194-195) والنسائي من طريق شعبة عن عبد الله بن المختار عن موسى بن أنس عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل أنساً عن يمينه، وأمه وخالته خلفهما. وروى أحمد (ج3:ص160و193-194 و217 و239 و242) ومسلم وأبوداود والنسائي هذا المعنى أيضاً من حديث ثابت عن أنس، وفي بعضها أنه صلى بأنس وبإمراة من أهله فجعله عن يمينه، والمرأة خلفهما وهو عند أحمد (ج3:ص258 و261) وأبي داود والنسائي وابن ماجه، وفي بعضها ما يدل على أنه كان يزورهم، فربما تحضره الصلاة، وهو عند أحمد (ج3:ص212) ومسلم، وهو يدل على أنه كان في بعض أحيانه يصلي الفريضة عندهم. وفي بعضها ورد التصريح بأنه صلى بهم تطوعاً، كما في رواية لأحمد (ج3:ص160) وأبي داود. وقد ظن بعضهم هذا الاختلاف موجباً للاضطراب. والحق أنه لا اضطراب ههنا؛ لأن صلاته - صلى الله عليه وسلم - في بيت أنس وأمه وخالته وجدته، ليست حادثة واحدة، بل هي حوادث متعددة مختلفة، كما يدل عليه

رواه مسلم. 1116- (5) وعن أبي بكرة، ((أنه انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو راكع، فركع قبل أن يصل إلى الصف، ثم مشى إلى الصف فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: زادك الله حرصاً، ولا تعد)) ـــــــــــــــــــــــــــــ اختلاف سياق هذه الروايات، فلا تعارض بينها. كذا حققه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي. (رواه مسلم) من طريق شعبة عن عبد الله بن المختار عن موسى بن أنس. وأخرجه أيضاً أحمد (ج3:ص258 وص261) وأبوداود والنسائي وابن ماجه من هذا الطريق، لكنهم أبهموا المرأة. فلفظ أحمد وأبي داود: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم أنساً وامرأة منهم. ولفظ النسائي: صلى بي وبمرأة من أهلي. ولفظ ابن ماجه: صلى بامرأة من أهله وبي. 1116- قوله: (أنه انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو راكع) أي والحال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - راكع. وفي رواية النسائي: أنه دخل المسجد والنبي - صلى الله عليه وسلم - راكع. وعند الطبراني. أنه دخل المسجد، وقد أقيمت الصلاة، فانطلق يسعى، وللطحاوي: جئت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - راكع وقد حفزني النفس، فركعت دون الصف. (فركع) أي كبر قائماً وركع. (قبل أن يصل إلى الصف) ليدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - في الركوع. (ثم مشى إلى الصف) ليس هذا عند البخاري، وإنما هو عند أحمد (ج5 ص45) وأبي داود، ولفظهما: فركع دون الصف ثم مشى إلى الصف. (فذكر) على البناء للمفعول، وقيل: معلوم. (ذلك) أي الذي فعله أبوبكرة من السعي والركوع دون الصف، والمشي إلى الصف راكعاً. وفي رواية للطبراني: فلما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أيكم دخل الصف وهو راكع؟ ولأبي داود: فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاته قال: أيكم الذي ركع دون الصف ثم مشى إلى الصف؟ فقال أبوبكرة أنا. وفي رواية أخرى للطبراني فقال: من الساعي؟ وله أيضاً فقال: أيكم صاحب هذا النفس، قال: خشيت أن تفوتني الركعة معك، وله أيضاً في رواية في آخر الحديث: صل ما أدركت واقض ما سبقك. (زادك الله حرصاً) أي على طلب الخير. (ولا تعد) أي أن منشأ هذا الفعل، هو الحرص على العبادة وإدراك فضل الإمام، والحرص على الخير مطلوب محبوب، لكن لا تعد إلى مثل هذا الفعل لأجله؛ لأن الحرص لا يستعمل على وجه يخالف الشرع، وإنما المحمود أن يأتي به على وفق الشرع. وقوله: لا تعد بفتح أوله وضم العين من العود. قال الحافظ في التلخيص (ص110) : اختلف في معنى قوله: ولا تعد: فقيل: نهاه عن العود إلى الإحرام وخارج الصف، وأنكر هذا ابن حبان، وقال: أراد لا تعد في إبطاء المجيء إلى الصلاة، يعني أنه نهاه عن التأخر عن الصلاة حتى تفوته الركعة مع الامام. وقال ابن القطان الفاسي تبعاً للمهلب بن أبي صفرة معناه: لا تعد إلى

دخولك في الصف، وأنت راكع فإنها كمشية البهائم. ويؤيده رواية حماد بن سلمة في مصنفه عن الأعلم عن الحسن عن ابي بكرة: أنه دخل المسجد، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي وقد ركع، فركع ثم دخل الصف وهو راكع فلما انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أيكم دخل في الصف وهو راكعن فقال له أبوبكرة: أنا، فقال: زادك الله حرصاً ولا تعد، وقال غيره: بل معناه لا تعد إلى إتيان الصلاة مسرعاً، واحتج بما رواه ابن السكن في صحيحه بلفظ: أقيمت الصلاة فانطلقت أسعى حتى دخلت في الصف، فلما قضى الصلاة قال: من الساعي آنفاً، قال أبوبكرة أنا، فقال زادك الله حرصًا ولا تعد- انتهى. وقال في الفتح قوله: "لا تعد" ضبطناه في جميع الروايات بفتح أوله وضم العين من العود، أي لا تعد إلى ما صنعت من السعي الشديد، ثم من الركوع دون الصف، ثم من المشي إلى الصف. وقد ورد ما يقتضي ذلك صريحاً في طرق حديثه، كما تقدمت، وحكى بعض شراح المصابيح أنه روي بضم أوله وكسر العين من الإعادة، ويؤيد الروايات المشهورة ما ورد من الزيادة في آخر الحديث عند الطبراني: صل ما أدركت واقض ما سبقك. وروى الطحاوي: بإسناد حسن عن أبي هريرة مرفوعاً: إذا أتى احدكم الصلاة فلا يركع دون الصف حتى يأخذ مكانه من الصف- انتهى. وقال: الجزري لا تعد بفتح التاء وضم العين وإسكان الدال من العود، أي لا تعد ثانياً إلى مثل ذلك الفعل، وهو المشي إلى الصف في الصلاة. ويحتمل أن يكون نهاه عن اقتدائه منفرداً. ويحتمل أن يكون عن ركوعه قبل الوصول إلى الصف، والظاهر أنه نهى عن ذلك كله. وقد أبعد من قال: ولا تعد بضم التاء وكسر العين من الإعادة أي لا تعد الصلاة التي صليتها، وأبعد منه من قال إنه بإسكان العين وضم الدال من العَدو أي لا تسرع، وكلاهما لم يأت به رواية، وإنما يحملهم على ذلك في أمثاله من تحريفهم ألفاظ النبوة وتغييرها كونهم لم يحفظوها أو ما وصلت إليهم بالرواية، فيذكرون ما يحتمله الخط لعدم معرفتهم باللفظ المروي- انتهى. واخنلف في الركوع دون الصف، فذهب مالك والليث إلى أن الداخل إذا خاف فوت الركعة بأن يرفع الإمام رأسه من الركوع إن تمادى حتى يصل إلى الصف أن له أن يركع دون الصف، ثم يدب راكعاً إذا كان قريباً، وحد القرب أن يصل إلى الصف قبل سجود الامام. وقيل: يدب قدر ما بين الفرجتين. وقيل: ثلاثة صفوف. وكره ذلك الشافعي. وفرق أبوحنيفة بين الجماعة والواحد، فكرهه للواحد، وأجازه للجماعة. وما ذهب إليه مالك روي عن زيد بن ثابت وابن مسعود وعبد الله بن الزبير وأبي أمامة وعطاء. وروى الطبراني في الأوسط من حديث ابن وهب عن ابن جريج عن عطاء سمع ابن الزبير على المنبر يقول: إذا دخل أحدكم المسجد، والناس ركوع فليركع حين يدخل، ثم يدب راكعاً حتى يدخل في الصف، فإن ذلك السنة، قال: قد رأيته يصنع ذلك. قال ابن جريج: وقد رأيت عطاء يصنع ذلك، قال الطبراني: تفرد به ابن وهب، ولم يروه عنه غير حرملة، ولا يروى عن ابن الزبير إلا بهذا الإسناد- انتهى. قلت: قد رواه البيهقي (ج3 ص16) من

طريق سعيد بن الحكم بن أبي مريم عن ابن وهب. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص96) بعد غزوة للطبراني: رجاله رجال الصحيح. قلت: القول الراجح المعتمد المعول عليه هو المنع لحديث أبي بكرة، ولما روى الطحاوي من حديث أبي هريرة مرفوعاً بإسناد حسن: إذا جاء أحدكم الصلاة فلا يركع دون الصف حتى يأخذ مكانه من الصف، وإليه ذهب أبوهريرة، كما أخرج عنه ابن عبد البر وابن أبي شيبة، وبه قال الحسن وإبراهيم. واستدل بحديث أبي بكرة على أن من أدرك الإمام راكعاً دخل معه، واعتد بتلك الركعة وإن لم يدرك شيئاً من القيام والقراءة؛ لأن أبابكرة ركع خلف الصف مخافة أن تفوته الركعة، فدعا له بزيادة الحرص، ولم يأمره بإعادة تلك الركعة، وهذا مذهب الجمهور. وذهب أبوهريرة وأهل الظاهر وابن خزيمة وأبوبكر الضبعي والبخاري إلى أنه لا تجزئه تلك الركعة إذا فاته القيام وقراءة فاتحة الكتاب وإن أدرك الركوع مع الإمام. وقد حكى هذا المذهب الحافظ في الفتح عن جماعة من الشافعية، وقواه الشيخ تقي الدين السبكي وغيره من محدثي الشافعية، ورجحه المقبلي، قال: وقد بحثت هذه المسألة وأحطتها في جميع بحثي فقهاً وحديثاً، فلم أحصل منها غير ما ذكرت، يعني من عدم الاعتداد بادراك الركوع فقط، وهو القول الراجح عندي، فلا يكون مدرك الركوع مدركاً للركعة لما فاته من القيام وقراءة فاتحة الكتاب، وهما من فروض الصلاة وأركانها، ولحديث: ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا. قال الحافظ: قد استدل به على أن من أدرك الإمام راكعاً لم يحتسب له تلك الركعة للأمر بإتمامه ما فاته؛ لأنه فاته القيام والقراءة فيه- انتهى. وأما حديث أبي بكرة فليس فيه ما يدل على ما ذهب الجمهور إليه؛ لأنه كما لم يأمر بالإعادة فلم ينقل إلينا أنه اعتد بها، والدعاء بالحرص لا يستلزم الاعتداد بها؛ لأن الكون مع الإمام مأمور به سواء كان الشيء الذي يدركه المؤتم معتمداً به أم لا، كما في حديث: إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدوها شيئاً. رواه أبوداود وغيره، على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نهى أبا بكرة عن العود إلى مثل ذلك، والاستدلال بشيء قد نهي عنه لا يصح، كذا ذكره الشوكاني في النيل. قلت: زيادة الطبراني في آخر حديث أبي بكرة بلفظ: صل ما أدركت واقض ما سبقك تدل على عدم اعتداد تلك الركعة، ويدل عليه أيضاً ما رواه ابن أبي شيبة في المصنف عن معاذ بن جبل، قال: لا أجده على حال إلا كنت عليها، وقضيت ما سبقني، فوجده قد سبقه، يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -، ببعض الصلاة أو قال: ببعض ركعة، فوافقه فيما هو فيه، وأتى بركعة بعد السلام، فقال - صلى الله عليه وسلم -: إن معاذاً قد سن لكم، فهكذا فاصنعوا. وقال شيخنا في شرح الترمذي بعد ترجيح قول أهل الظاهر ومن وافقهم: أما حديث أبي بكرة فواقعه عين، يعني أنه يجري فيه من الاحتمالات ما لا يجري في الأدلة القولية التي هي نص في فرضية القيام، وقراءة فاتحة الكتاب، والأمر بإتمامه ما فاته. ورجح الشوكاني في فتاواه التي سماه ولده أحمد بن محمد بن علي الشوكاني

{الفصل الثاني}

رواه البخاري. {الفصل الثاني} 1117- (6) عن سمرة بن جندب، قال: ((أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كنا ثلاثة أن يتقدمنا أحدنا) رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ بالفتح الرباني، القول باعتداد تلك الركعة خلاف ما حققه في شرح المنتقى، حيث جعل تلك الحالة التي وقعت للمؤتم وهي إدراك إمامه راكعاً مخصصة من عموم أدلة إيجاب قراءة فاتحة الكتاب في كل ركعة على كل مصل. واستدل لذلك بما روى ابن خزيمة والدارقطني (132) والبيهقي (ج2 ص89) عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدركها قبل أن يقيم الإمام صلبه. وإليه ذهب بعض أهل الحديث في عصرنا. والجواب عنه أولاً أن في سنده يحيى بن حميد، وهو مجهول الحال غير معتمد في الحديث كما قال البخاري في جزء القراءة، وضعفه الدارقطني، وذكره العقيلي في الضعفاء وقد تفرد بقوله: قبل أن يقيم الإمام صلبه. قال العقيلي: وقد رواه مالك وغيره من الحفاظ أصحاب الزهري، ولم يذكروا الزيادة الأخيرة، ولعلها كلام الزهري. وقال ابن أبي عدي بعد أن أورد الحديث: تفرد بهذه الزيادة، ولا أعرف له غيره. كذا في اللسان (ج6 ص250) ، وفيه أيضاً قرة بن عبد الرحمن، وهو متكلم فيه، وثانياً بعد تسليم صحة الزيادة المذكورة أنه قد عرف في موضعه أن مسمى الركعة جميع أركانها وأذكارها حقيقة شرعية وعرفية، وهما مقدمتان على اللغوية، كما تقرر في الأصول. وأما التقييد بقوله: قبل أن يقيم الإمام صلبه فلدفع توهم أن من دخل مع الإمام، ثم قرأ فاتحة الكتاب، وركع الإمام قبل فراغه منها غير مدرك. وارجع لمزيد التفصيل إلى دليل الطالب على أرجح المطالب (ص339- 345) للعلامة القنوجي، فإنه قد بسط الكلام في ذلك أشد البسط. (رواه البخاري) فيه نظر؛ لأن قوله: ثم مشى إلى الصف ليس في البخاري. والحديث أخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن حبان والبيهقي (ج3 ص106) . 1117- قوله: (أن يتقدمنا أحدنا) اختلفت نسخ الترمذي في هذا الحرف: ففي بعضها كما وقع ههنا، وكذلك نقله الجزري في جامع الأصول (ج6 ص392) وفي بعضها أن يتقدم أحدنا، وهذه توافق ما نقله المجد ابن تيمية في المنتقى، وفي بعضها أن يتقدمنا إمامنا، وفي بعضها أن يتقدم منا أحدنا. قال الطيبي: قوله: أن يتقدمنا معمول لقوله: أمرنا على حذف الباء، أي بأن يتقدمنا أحدنا. وإذا كنا ظرف يتقدمنا، وجاز تقديمه على أن المصدرية للاتساع في الظروف- انتهى. والمعنى أمرنا بأن يكون أحدنا إماماً. وفيه دليل على أن موقف الاثنين مع الإمام في الصلاة خلفه. (رواه الترمذي) من حديث إسماعيل بن مسلم المكي عن الحسن عن سمرة.

1118- (7) وعن عمار، أنه أم الناس بالمدائن، وقام على دكان يصلي والناس أسفل منه، فتقدم حذيفة فأخذ على يديه، ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الترمذي: حديث غريب، وقد تكلم بعض الناس في إسماعيل بن مسلم من قبل حفظه- انتهى. قلت: ونقل الشوكاني في النيل عن الأطراف لابن عساكر أنه نقل عن الترمذي أنه قال فيه: حسن غريب، قال وذكر ابن العربي أنه ضعفه، وليس فيما وقفنا عليه من نسخ الترمذي إلا أنه قال: إنه حديث غريب. ولعل المراد بقول ابن العربي أنه ضعفه، أي أشار إلى تضعيفه بقوله: وقد تكلم الناس في إسماعيل بن مسلم من قبل حفظه بعد أن ساق الحديث من طريقه، وإسماعيل هذا تابعي روى عن أبي طفيل عامر بن واثلة كان فقيهاً مفتياً ضعيفاً في الحديث من قبل حفظه، يهم في الحديث، ويخطىء ويكثر الغلط، ضعفه الجوزجانى وأبوزرعة وأبوحاتم وابن حبان وأبوعلى الحافظ. وقال يحيى بن سعيد القطان: لم يزل مخلطاً، كان يحدثنا بالحديث الواحد على ثلاثة ضروب. وقال ابن عيينة: كان يخطئ، أسأله عن الحديث، فما كان يدري شيئاً. وقال أبوحاتم: ضعيف الحديث مختلط. وقال أبوطالب عن أحمد: منكر الحديث. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: يسند عن الحسن عن سمرة أحاديث مناكير، وقال الفلاس: كان ضعيفاً في الحديث يهم فيه، وكان صدوقاً يكثر الغلط. وذكره العقيلي والدولابي والساجي وابن الجارود وغيرهم في الضعفاء. وقال ابن سعد في الطبقات (ج7 ص34) : أخبرنا محمد بن عبد الله الأنصاري، قال: كان له رأي وفتوى وبصر وحفظ للحديث وغيره، وكان الناس عليه، وعلى عثمان البتي، وكان مجلس إسماعيل ويونس بن عبيد واحداً، فكنت أجىء فأجلس إليهما، فأكتب على إسماعيل، وأدع يونس لنباهة إسماعيل عند الناس لما كان شهر به من الفتوى- انتهى. وقال الحافظ في التقريب: كان فقيهاً ضعيف الحديث- انتهى. وحديث سمرة هذا لم أجده في غير سنن الترمذي، ولم أجد أحداً نسبه إلى غيره، وقد تكلم الناس في سماع الحسن عن سمرة، لكنه مؤيد بما تقدم من حديثي جابر وأنس في الفصل الأول. 1118- قوله: (عن عمار أنه أم الناس) أي صلى بالناس إماماً. (بالمدائن) بالهمز مدينة قديمة على دجلة وكانت دار مملكة الأكاسرة على سبعة فراسخ من بغداد. ولفظ أبي داود عن عدي بن ثابت: حدثني رجل أنه كان مع عمار بن ياسر بالمدائن، فأقيمت الصلاة، فتقدم عمار. (وقام على دكان) أي مكان مرتفع وحده بضم الدال المهملة وتشديد الكاف واحد دكاكين، وهي الحوانيت فارسي معرب، والنون مختلف فيها: فمنهم من يجعلها أصيلة، ومنهم من يجعلها زائدة. فالدكان هي الدكة بفتح الدال، وهو المكان المرتفع المبني للجلوس عليه. (يصلي) بالناس. (والناس) أي المقتدون به. (أسفل منه) أي في مكان أسفل منه. (فتقدم حذيفة) أي من الصف. (فأخذ على يديه) أي أخذ حذيفة على يدي عمار وأمسكهما، فجذب عماراً من خلفه لينزل إلى أسفل ويستوي

فأتبعه عمار حتى أنزله حذيفة، فلما فرغ عمار من صلاته، قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا أم الرجل القوم فلا يقيم في مقام ارفع من مقامهم، أو نحو ذلك؟ فقال عمار: لذلك اتبعتك حين أخذت على يدي. ـــــــــــــــــــــــــــــ مع المقتدين. (فأتبعه) بالتشديد. (عمار) أي طاوع عمار حذيفة. (حتى أنزله) أي عماراً من الدكان. (إذا أم الرجل القوم) أي صار إماماً لهم يصلي بهم. (أو نحو ذلك) عطف على مفعول يقول. وأو للشك من الراوي، أي قال هذا اللفظ أو نحوه. (فقال عمار) أي في جواب حذيفة. وفي أبي داود قال عمار، أي بدون الفاء. (لذلك) أي لأجل هذا الحديث. قال القاري: أي لأجل سماعي هذا المنهي منه أولاً، وتذكرى بفعلك ثانياً. (اتبعتك) أي في النزول. (حين أخذت على يدى) بالتثنية. والحديث دليل على كراهة أن يرتفع الإمام في المكان على المأموم الذي يقتدي به، سواء كان المكان قدر قامة الرجل أو دونها أو فوقها، لكن في سنده رجل مهمول، كما يتقدم. ويؤيد منع ارتفاع الإمام مطلقاً ما روى أبوداود والحاكم والبيهقي عن همام أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان، فأخذ أبومسعود بقيمصه فجبذه، فلما فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك؟ قال: بلى قد ذكرت حين مددتني. وقد سكت عنه أبوداود والمنذري. وقال النووي رواه أبوداود باسناده صحيح. وقال الحافظ في التلخيص (ص128) : وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم. وفي رواية للحاكم التصريح برفعه. وفيه أن حذيفة هو الإمام، وأبومسعود هو الذي أخذ بقيمصه فجذبه. ولا تخالف لأنهما قضيتان، ولا بعد أن حذيفة وقع له ذلك مع أبي مسعود قبل واقعته مع عمار. ويؤيد المنع أيضاً ما روى الدارقطني والحاكم عن أبي مسعود، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقوم الإمام فوق شيء، والناس خلفه، يعني أسفل منه. ذكره الحافظ في التلخيص وسكت عنه. وسكت عنه الحاكم والذهبي أيضاً، وسيأتي هذا الحديث في آخر باب المشي مع الجنازة والصلاة عليها، قال الشوكاني في النيل: ظاهر النهي في حديث أبي مسعود أن ذلك محرم لولا ما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من الارتفاع على المنبر، قال: والحاصل من الأدلة منع ارتفاع الإمام على المؤتمين من غير فرق بين المسجد وغيره، وبين القامة ودونها وفوقها؛ لقول أبي مسعود كانوا ينهون عن ذلك، وقول أبي مسعود أيضاً: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث. وأما صلاته - صلى الله عليه وسلم - على المنبر فقيل: إنما فعل ذلك لغرض التعليم كما يدل عليه قوله الآتي: ولتعلموا صلاتى، وغاية ما فيه جواز وقوف الإمام على محل أرفع من المأمومين إذا أراد تعليمهم. قال ابن دقيق العيد: فيه أي في حديث سهل بن سعد الآتي دليل على جواز صلاة الإمام على أرفع مما عليه المأموم لقصد التعليم. فأما من غير هذا القصد فقد قيل: بكراهته، قال ومن أراد أن يجيز هذا الارتفاع من غير قصد التعليم فاللفظ لا يتناوله. والقياس لا يستقيم؛ لانفراد الأصل بوصف معتبر يقتضي المناسبة اعتباره- انتهى. على

رواه أبوداود. 1119- (8) وعن سهل بن سعد الساعدي، أنه سئل: من أي شيء المنبر؟ فقال: هو من أثل الغابة، عمله ـــــــــــــــــــــــــــــ أنه قد تقرر في الأصول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نهى عن شيء نهياً يشمله بطريق الظهور، ثم فعل ما يخالفه كان الفعل مخصصاً له من العموم دون غيره، حيث لم يقم دليل على التأسي به في ذلك الفعل، فلا تكون صلاته - صلى الله عليه وسلم - معارضة للنهي عن الارتفاع باعتبار الأمة، وهذا على فرض تأخر صلاته على المنبر عن النهي من الارتفاع، وعلى فرض تقدمها أو التباس المتقدم من المتأخر فيه الخلاف المعروف في الأصول في التخصيص بالمتقدم والملتبس- انتهى. كلام الشوكاني في النيل. وقال في السيل الجرار: في هذين الحديثين دليل على منع الإمام من الارتفاع عن المؤتم، ولكن هذا النهي يحمل على التنزيه لحديث صلاته - صلى الله عليه وسلم - على المنبر، ومن قال: إنه - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك للتعليم كما وقع في آخر الحديث فلا يفيده ذلك؛ لأنه لا يجوز له في حال التعليم إلا ما هو جائز في غيره، ولا يصح القول باختصاص ذلك بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد جمعنا في هذا البحث رسالة مستقلة جواباً عن سؤال بعض الأعلام، فمن أحب تحقيق المقام فليرجع إليها- انتهى. قلت: وذهب إلى الجواز مطلقاً من غير كراهة ابن حزم، كما صرح به في المحلى (ج4 ص84) مستدلاً بحديث سهل قال: وهو قول الشافعي وأبي سليمان، وبمثل قولنا يقول أحمد بن حنبل والليث بن سعد والبخاري وغيرهما- انتهى. والراجح عندي هو المنع. وأما حديث سهل فإنما فعل ذلك للتعليم، أي لغرض أن لا يخفي على أحد صلاته، وهذا لا يثبت منه الجواز مطلقاً، والله أعلم. واختلفوا في قدر الارتفاع الممنوع. فقيل: قدر القامة. وقيل: قدر الذراع. وقيل: ما يقع به الامتياز، وهو الأوجه. ذكره الكمال وغيره. وكذا في الدر المختار. (رواه أبوداود) ومن طريقه أخرج البيهقي (ج3 ص109) وسكت عنه أبوداود، وقد تقدم أن في سنده رجلاً مجهولا، لكنه مؤيد بحديثي أبي مسعود. 1119- قوله: (عن سهل) بسكون الهاء. (بن سعد) بسكون العين الساعدي. (أنه سئل) رواه البخاري من طريق أبي حازم سلمة بن دينار، قال: سألوا سهل بن سعد. (من أي شيء المنبر) النبوي المدني. فاللام فيه للعهد، إذ السؤال عن منبره - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية: أن رجالاً أتوا سهل بن سعد الساعدي، وقد امتروا في المنبر ثم عوده فسألوه عن ذلك. (هو من أثل الغابة) وفي رواية، من طرفاء الغابة. والأثل بفتح الهمزة وسكون المثلة هو الطرفاء. وقيل: شجر يشبه الطرفاء بسكون الراء والمد إلا إنه أعظم منه. قال القسطلاني: الأثل شجر كالطرفاء لا شوك له، وخشبة جيد، يعمل منه القصاع والأواني، وورقه أشنان يغسل به القصارون؛ والغابة بالمعجمة والموحدة موضع معروف قرب المدينة من العوالي من جهة الشام، وأصلها كل شجر ملتف. (عمله) أي المنبر.

فلان مولى فلانة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقام عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين عمل ووضع، فاستقبل القبلة وكبر وقام الناس خلفه، فقرأ وركع، وركع الناس خلفه، ثم رفع رأسه، ثم رجع القهقري، فسجد على الأرض، ثم عاد إلى المنبر، ثم قرأ، ثم ركع، ثم رفع رأسه، ثم رجع القهقري، حتى سجد بالأرض)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ (فلان) بضم الفاء بالتنوين. واختلف في اسمه: فقيل: ميمون، وقيل: باقوم الرومي، وقيل: باقول، وقيل: صباح، وقيل: قبيصة المخزومي، وقيل: كلاب، وقيل: ميناء، وقيل: تميم الداري. قال الحافظ: وأشبه الأقوال بالصواب وأقربها قول من قال: هو ميمون لكون الإسناد من طريق سهل بن سعد أيضاً. وأما الأقوال الأخر فلا اعتداد بها لوهائها. ويبعد جداً أن يجمع بينهما بأن النجار كانت له أسماء متعددة، وأما احتمال كون الجميع اشتركوا في عمله فيمنع منه قوله في كثير من الروايات لم يكن بالمدينة إلا نجار واحد، إلا أن كل يحمل على أن المراد بالواحد الماهر في صناعته، والبقية أعوانه فيمكن. (مولى فلانة) بعدم الصرف للثأنيث والعلمية. قال الحافظ: لا يعرف اسمها لكنها أنصارية، وقيل: اسمها عائشة، قاله البرماوى كالكرمانى. ورواه الطبراني في الأوسط من حديث جابر بلفظ: وأمرت عائشة فصنعت له منبره، لكن إسناده ضعيف. ولو صح لما دل على أن عائشة هى المرادة في حديث سهل هذا إلا بتعسف. وكان منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث درجات، واستمر على ذلك مدة الخلفاء الراشدين، ثم زاده مروان في خلافة معاوية ست درجات من أسفله، فهي من جملة ما أحدث في المساجد من البدع المكروهة. (لرسول الله) أي لأجله. (وقام عليه) أي على المنبر. قال الحافظ: كانت صلاته على الدرجة العليا من المنبر. (حين عمل ووضع) بالبناء للمفعول فيهما أي حين صنع ووضع في مكانه المعروف بالمسجد. (وكبر) أي للتحريمة. (وقام الناس خلفه) اقتداء به. (ثم رجع القهقري) بالقصر منصوب على أنه مفعول مطلق بمعنى الرجوع إلى خلف، أي رجع الرجوع الذي يعرف بذلك، وإنما فعل بذلك لئلا يولى ظهره القبلة. (فسجد على الأرض) إلى جنب الدرجة السفلى من المنبر. (حتى سجد بالأرض) قال القسطلاني: لاحظ في قوله: على الأرض معنى الاستعلاء، وفي قوله: بالأرض معنى الإلصاق- انتهى. قيل: قوله عمله الخ زيادة في الجواب، كأنه قيل: المهم أن يعرف هذه المسألة الغريبة، وإنما ذكر حكاية صنع الصانع تنبيهاً على أنه عارف بتلك المسألة وما يتصل بها من الأحوال والفوائد. والحديث قد استدل به البخاري على جواز الصلاة على المنبر والخشب. قال الحافظ: وفيه جواز اختلاف موقف الإمام والمأموم في العلو والسفل، وقد صرح بذلك البخاري في حكايته عن شيخه علي بن المديني عن أحمد بن حنبل، ولابن دقيق العيد في ذلك بحث كما تقدم، وفيه دليل على جواز العمل اليسير في الصلاة، لكن

هذا لفظ البخاري، وفي المتفق عليه نحوه، وقال في آخره: فلما فرغ أقبل على الناس، فقال: ((أيها الناس! إنما صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتى)) . 1120- (9) وعن عائشة، قالت: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرته، ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه إشكال على من حدد الكثير من العمل بثلاث خطوات، فإن منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ثلاث درجات، والصلاة كانت على العليا، ومن ضرورة ذلك أن يقع ما أوقعه من الفعل على الأرض بعد ثلاث خطوات فأكثر وأقله ثلاث. والذي يعتذر به عن هذا أن يدعى عدم التوالى بين الخطوات، فإن التوالى شرط في الإبطال، أو ينازع في كون قيام هذه الصلاة فوق الدرجة العليا، ذكره ابن دقيق العيد. (هذا لفظ البخاري) في باب الصلاة في السطوح والمنبر والخشب. وأشار المصنف بهذا إلى أن هذا الحديث من الفصل الأول، وإنما أورده هنا تأسياً بالمصابيح، حيث ذكره في الحسان ليبين أنه مقيد لما قبله، يعني أن ارتفاع الإمام عن المأموم مكروه إلا لغرض التعليم. (وفي المتفق عليه نحوه) أخرجه البخاري في باب الخطبة على المنبر من كتاب الجمعة، وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي والبيهقي. (وقال) أي الراوى (في آخره) أي في آخر الحديث: المتفق عليه. (فلما فرغ) أي من الصلاة. (أقبل على الناس) بوجهه الشريف. (فقال) مبيناً لأصحابه حكمة ذلك. (إنما صنعت هذا) أي ما ذكر من الصلاة على المكان المرتفع. (لتأتموا بي) أي لتقتدوا بي في الصلاة أولاً. (ولتعلموا) بكسر اللام وفتح المثناة الفوقية والعين وتشديد اللام، أي لتتعلموا، فخذفت إحدى التائين تخفيفاً (صلاتى) أي كيفيتها ثانياً. وقد عرف منه أن الحكمة في صلاته في أعلى المنبر ليراه من قد يخفى عليه رؤيته إذا صلى على الأرض. وفيه جواز قصد تعليم المأمومين أفعال الصلاة بالفعل. 1120- قوله: (صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي التراويح، قاله القاري. (في حجرته) اختلف في تفسيره الحجرة، فالأكثر على أن المراد بها المكان الذي اتخذه حجرة في المسجد من الحصير للاعتكاف في رمضان. وقيل: المراد حجرته بيته، فقد روى البخاري من حديث عبدة عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عمرة عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل في حجرته. وجدار الحجرة قصير، فرأى الناس شخص النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقام أناس يصلون بصلاته-الحديث. قال الحافظ: قوله: في حجرته ظاهره أن المراد حجرة بيته. ويدل عليه ذكر جدار الحجرة. وأوضح منه رواية حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد عند أبي نعيم بلفظ: كان يصلي في حجرة من حجر أزواجه. ويحتمل أن المراد الحجرة التي كان احتجرها في المسجد بالحصير، كما في الرواية التي بعد هذه، يعني ما رواه البخاري وغيره من حديث أبي سلمة عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان له حصير يبسطه بالنهار ويحتجره بالليل،

والناس يأتمون به من وراء الحجرة)) ـــــــــــــــــــــــــــــ فثاب إليه أناس فصفوا، قال الحافظ: غرض البخاري من إيراده بيان أن الحجرة المذكورة في الرواية التي قبل هذه كانت حصيراً. وقال العيني: لعل مراده منه بيان أن الحجرة المذكورة في الحديث المذكور قبل هذا كانت حصيراً، والأحاديث يفسر بعضها بعضاً، وكل موضع حجر عليه فهو حجرة- انتهى. وفي حديث زيد بن ثابت الذي رواه البخاري بعد رواية عائشة السابقة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتخذ حجرة من حصير في رمضان فصلى فيها ليالي، فصلى بصلاته ناس من أصحابه، فلما علم بهم جعل يقعد- الحديث. ولأحمد وأبي داود ومحمد بن نصر عن أبي سلمة عن عائشة أنها هي التي نصبت له الحصير على باب بيتها. قال الحافظ: فأما أن يحمل على التعدد أو على المجاز في الجدار وفي نسبته الحجرة إليها. وقال العيني بعد ذكر حديث زيد بن ثابت: وجاء في رواية: احتجر بخصفة أو حصير في المسجد. وفي رواية: صلى في حجرتي، روته عمرة عن عائشة، وفي رواية: فأمرني فضربت له حصيراً يصلي عليه. ولعل هذه كانت في أحوال- انتهى. قلت: الراجح عندي هو الحمل على التعدد. (والناس يأتمون به) أي يقتدون به. (من وراء الحجرة) أي خلفها وفيه دليل على أن الحائل بين الإمام والمؤتمين غير مانع من صحة الصلاة؛ لأن مقتضاه أنهم كانوا يقتدون به، وهو داخل الحجرة، وهم خارجها، وقد بوب له أبوداود: باب الرجل يأتم بالامام، وبينهما جدار، وبوب البخاري على روايتي عمرة وأبي سلمة عن عائشة، وحديث زيد بن ثابت: باب إذا كان بين الإمام وبين القوم حائط أو سترة، وذكر فيه قول الحسن: لا بأس أن تصلي وبينك وبينه نهر، وقول أبي مجلز (لاحق بن حميد التابعي المشهور) : يأتم بالإمام وإن كان بينهما طريق أو جدار إذا سمع تكبير الامام. قال العيني: جواب إذا محذوف تقديره لا يضره ذلك، والمسألة فيها خلاف، لكن ما في الباب يدل على أن ذلك جائز، وهو مذهب المالكية أيضاً، وهو المنقول عن أنس وأبي هريرة وابن سيرين وسالم. وكان عروة يصلي بصلاة الإمام، وهو في دار بينها وبين المسجد طريق وقال مالك: لا بأس أن يصلي وبينه وبين الإمام نهر صغير أو طريق، وكذلك السفن المتقاربة، يكون الإمام في إحداها تجزيهم الصلاة معه. وكره ذلك طائفة، وروي عن عمر بن الخطاب إذا كان بينه وبين الإمام طريق أو حائط أو نهر فليس هو معه. وكره الشعبي وإبراهيم أن يكون بينهما طريق. وقال أبوحنيفة لا يجزيه إلا أن تكون الصفوف متصلة قي الطريق، وبه قال الليث والأوزاعي والأشهب- انتهى. قلت: مذهب الحنيفة أنه إنما يجوز ذلك بثلاثة شروط: الأول: أن لا يلتبس على المأموم حال الإمام، والثاني: أن لا يختلف المكان بينهما، والمسجد في حكم مكان واحد، والثالث: وهو تتمة الثاني أن لا يمنع التبعية في المكان. وأجابوا عن الأحاديث المذكورة بأنه لم يوجد فيها ما يخالف هذه الشروط؛ لأن المسجد كله مكان واحد. وفي المكان الواحد عند حيلولة الجدار يكفي علم انتقالات الإمام فقط ولو بمجرد صوته، وهو المفتى به، ولا يحتاج إلى المنافذ أو غيرها، واعتبروا في الصحراء تباعد قدر ثلاث صفوف إذ لم تتصل الصفوف، فإن كان بينهما طريق

{الفصل الثالث}

رواه أبوداود. {الفصل الثالث} 1121- (10) عن أبي مالك الأشعري، قال: ((ألا أحدثكم بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: أقام الصلاة، وصف الرجال، وصف خلفهم الغلمان، ثم صلى بهم، فذكر صلاته، ثم قال: هكذا صلاة ـ قال عبد الأعلى: ـــــــــــــــــــــــــــــ أو نهر تجرى فيه السفينة منعوا مطلقاً، وعدوه كأنه مكان مختلف، واستدلوا لذلك بأثر عمر الذي ذكره العيني بلا سند. وقال ابن حجر: ليس في الحديث دليل لما قاله عطاء وغيره أن الشرط في صحة القدوة بشخص علمه بانتقالاته لا غير، أما أولا فلأنه لو اكتفى بذلك لبطل السعي المأمور به والدعاء إلى الجماعة، وكان كل أحد يصلي في بيته وسوقه بصلاة الإمام في المسجد وهو خلاف الكتاب والسنة، فاشترط اتحاد موقف الإمام والمأموم على ما فصل في الفروع؛ لأنه من مقاصد الاقتداء اجتماع جمع في مكان واحد عرفاً، كما عهد عليه الجماعات في العصور الخالية، ومبنى العبادات على رعاية الاتباع. وأما ثانيا فلأن المراد بالحجرة كما قالوه المحل الذي اتخذه عليه السلام في المسجد من حصير حين أراد الاعتكاف. ويؤيده الخبر الصحيح أنه عليه السلام اتخذ حجرة من حصير صلى ليالي فيها- انتهى. (رواه أبوداود) في أواخر أبواب الجمعة من طريق يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة، وهو حديث صحيح سكت عنه أبوداود والمنذري، وقد أخرجه البخاري أيضاً بنحوه، كما تقدم. 1121- قوله: (ألا أحدثكم) يحتمل أن تكون ألا للتنبيه، وهو الظاهر. ويحتمل أن تكون الهمزة للاستفهام ولا للنفي. (قال) أي أبومالك. (أقام) وفي أبي داود: فأقام، وكذا في جامع الأصول (ج6 ص391) أي أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإقامة الصلاة أو أقامها بنفسه. (وصف الرجال) وفي أبوداود: فصف الرجال، وكذلك نقله الجزري في جامع الأصول، أي صفهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صفاً مقدماً، يقال صففت القوم فاصطفوا. (وصف خلفهم) أي خلف الرجال. (الغلمان) الصبيان والولدان، زاد أحمد في روايته: وصف النساء خلف الولدان. (ثم صلى بهم) أي بالرجال والغلمان. (فذكر) أى وصف الراوي أي أبومالك (صلاته) أي كيفية صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهذا قول أبوداود. اختصر الحديث. وأخرجه أحمد في مسنده مطولاً (ج5 ص341، 342، 343، 344) . (ثم قال) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عطف على محذوف، أي قال أبومالك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيت وكيت، ثم قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هكذا صلاة أمتي. (هكذا) أي مثل ما صليت لكم (صلاة قال عبد الأعلى) أي الراوي

لا أحسبه إلا قال - أمتي)) . رواه أبوداود. 1122- (11) وعن قيس بن عباد، قال: ((بينا أنا في المسجد، في الصف المقدم، فجبذني رجل من خلفي جبذة، فنحانى، وقام مقامي، فوالله ما عقلت صلاتي. ـــــــــــــــــــــــــــــ عن قرة عن خالد عن بديل بن مسيرة عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك. وعبد الأعلى هذا هو عبد الأعلى بن عبد الأعلى البصري السامي بالمهملة من بني سامة بن لوي، أبومحمد، وكان يغضب إذا قيل له أبوهمام، ثقة. (لا أحبسه) أي شيخي قرة. (إلا قال أمتي) أي هكذا صلاة أمتي. والمعنى أنه ينبغي لهم أن يصلوا هكذا. وفي رواية البيهقي: ثم قال: هكذا صلاة، قال عبد الأعلى: لا أحبسه إلا قال: صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولأحمد من طريق عبد الحميد بن بهرام الفزاري عن شهر بن حوشب: فلما قضى. (أى أبومالك) صلاته أقبل إلى قومه بوجهه فقال: احفظوا تكبيري، وتعلموا ركوعي وسجودي، فإنها صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي كان يصلي لنا. والحديث يدل على ترتيب صفوف الرجال والصبيان والنساء، بأن تكون صفوف الرجال مقدمة، ثم صفوف الصبيان، ثم صفوف النساء. قال السبكى: هذا إذا كان الغلمان اثنين فصاعداً، فإن كان صبي واحد دخل مع الرجال ولا ينفرد خلف الصف. ويدل على ذلك حديث أنس المتقدم في الفصل الأول، فإن اليتيم لم يقف منفرداً بل صف مع أنس. وقال أحمد بن حنبل: يكره أن يقوم الصبي مع الناس في المسجد خلف الإمام إلا من قد احتلم وأنبت وبلغ خمس عشرة سنة. وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه كان إذا رأى صبياً في الصف أخرجه، وكذلك عن أبي وائل وزر بن حبيش. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري وأخرجه أحمد والبيهقي (ج3 ص97) وفي سنده عندهم جميعاً شهر بن حوشب، وفيه مقال. 1122- قوله: (عن قيس بن عباد) بضم العين المهملة وتخفيف الباء الموحدة الضبعي أبي عبد الله البصري، ثقة من كبار التابعين، مخضرم، مات بعد الثمانين، ووهم من عده في الصحابة، كذا في التقريب، قدم المدينة في خلافة عمر، وروى عنه وعن علي وأبي ابن كعب وغيرهم، كان من كبار الصالحين، وثقة ابن سعد والعجلي والنسائي وابن خراش، وذكره ابن مخنف عن شيوخه فيمن قتله الحجاج ممن خرج مع ابن الأشعث، وذكره ابن حبان في الثقات من التابعين. (بينا أنا في المسجد) النبوي. (في الصف المقدم، فجبذني) قال الطيبي: مقلوب جذبني، أي جرني. (فنحاني) بتشديد الحاء المهملة، أي بعدني وأخرني عن الصف المقدم. (وقام مقامي) أي مكاني. (فو الله ما عقلت صلاتي) أي ما دريت كيف أصلي وكم صليت لما فعل بي ما فعل، ولما حصل عندي بسبب تأخري عن المكان الفاضل مع سبقي إليه واستحقاقي له، فانتفاع العقل مسبب عما قبله، والقسم معترض.

فلما انصرف. إذا هو أبي بن كعب. فقال: يا فتى! لا يسوءك الله، إن هذا عهد من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلينا أن نلبه، ثم استقبل القبلة فقال: هلك أهل العقد ورب الكعبة، ثلاثاً، ثم قال: والله ما عليهم آسى، ولكن آسى على من أضلوا. قلت: يا أبا يعقوب! ما تعني بأهل العقد؟ قال: الأمراء)) . رواه النسائي. ـــــــــــــــــــــــــــــ (فلما انصرف) أي ذلك الرجل الذي جبذني. (إذا هو أبي بن كعب) من أكابر الصحابة (فقال) أي لي إذ فهم مني التغير بسبب ما فعله معي تطيباً لخاطري. (لا يسؤك الله) قال الطيبي: كان ظاهر لا يسؤك ما فعلت بك. ولما كان ذلك من أمر الله وأمر رسوله أسنده إلى الله مزيداً للتسلية- انتهى. والظاهر: أن معناه لا يحزنك الله بي وبسبب فعلي، من ساء الأمر فلاناً، أي أحزنه. ثم ذكر جملة مستأنفة مبينة لعلة ما فعل اعتذار إليه. (إن هذا) أي ما فعلت. (عهد من النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي وصية أو أمر منه يريد قوله: ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى. وفيه أن قيسًا لم يكن منهم، ولذلك نحاه. (إلينا أن نلبه) أي ومن يقوم مقامه من الأئمة. (ثم اسقبل) أي أبيّ. (هلك أهل العقد) بضم العين وفتح القاف يعني الأمراء، أي لأن عليهم رعاية أمور المسلمين دنياهم وأخراهم حتى رعاية صفوفهم في الصلاة، ورعاية الموقف فيها. قال الجزري في النهاية يعني أصحاب الولايات على الأمصار من عقد الألوية للأمراء، وروى العقدة يريد البيعة المعقودة للولاة. (ثلاثاً) أي قال مقوله ثلاثاً. (ما عليهم آسى) بمد الهمزة آخره ألف، أي ما أحزن من الأسى مفتوحاً ومقصوراً، وهو الحزن. (ولكن آسى على من أضلوا) قال الطيبي: أي لا أحزن على هؤلاء الجورة، بل أحزن على أتباعهم الذين أضلوهم. لعله قال ذلك تعريضًا بأمراء عهده. (قلت) هذا مقولة محمد بن عمر بن علي المقدمي شيخ النسائي. (يا با يعقوب) وفي بعض النسخ: يا أبا يعقوب بكتابة الهمزة موافقاً لما في النسائي. وهو كنية يوسف بن يعقوب السدوسي مولاهم السلعي البصري الضبعي، وثقه أحمد. وقال أبوحاتم: صدوق صالح الحديث. وذكره ابن حبان في الثقات، مات سنة إحدى ومائتين. (قال الأمراء) بالنصب على تقدير أعنى، وبالرفع بتقدير "هم". قال ابن حجر: أي الأمراء على الناس لا سيما أهل الأمصار، سموا بذلك لجريان العادة بعقد الألوية لهم عند التولية، وفعل أبيّ هذا مؤيد بما روي عن أنس، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب أن يليه المهاجرون والأنصار ليأخذوا عنه، أخرجه أحمد وابن ماجه، وبما روي عن سمرة مرفوعاً: ليقم الأعراب خلف المهاجرين والأنصار ليقتدوا بهم في الصلاة، أخرجه الطبراني في الكبير من حديث الحسن عن سمرة. قال البيهقي: وفيه سعيد بن بشير، وقد اختلف في الاحتجاج به، وبما روي عن ابن عباس مرفوعاً: لا يتقدم في الصف الأول أعرابي ولا عجمي ولا غلام لم يحتلم، وفي إسناده ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف. وفي هذه الأحاديث مشروعية تقدم أهل العلم والفضل ليأخذوا عن الإمام ويأخذ عنهم غيرهم؛ لأنهم أمس بضبط صفة الصلاة وحفظها ونقلها وتبليغها وتنبيه الإمام إذا احتيج إليه، والاستخلاف إذا احتيج إليه. (رواه النسائي) .

(26) باب الإمامة

(26) باب الإمامة {الفصل الأول} 1123- (1) عن أبي مسعود، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله تعالى، فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء، ـــــــــــــــــــــــــــــ وأخرجه أيضاً أحمد (ج5 ص140) وابن خزيمة في صحيحه. ولفظ أحمد: قال قيس بن عباد: أتيت المدينة للقى أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن فيهم رجل ألقاه أحب إلى من أبيّ، فأقيمت الصلاة فخرج عمر بن الخطاب مع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقمت في الصف الأول، فجاء رجل فنظر في وجوه القوم فعرفهم غيري، فنحاني وقام في مكاني، فما عقلت صلاتي، فلما صلى قال: يا بني لا يسؤك الله، فإني لم آتك الذي أتيتك بجهالة، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لنا: كونوا في الصف الذي يليني، وإني نظرت في وجوه القوم فعرفتهم غيرك، ثم حدث فما رأيت الرجال متحت أعناقها إلى شيء متوجهاً إليه، قال فسمعته يقول: هلك أهل العقدة ورب الكعبة، إلا لا عليهم آسى، ولكن آسى على من يهلكون من المسلمين، وإذا هو أبيّ. (باب الإمامة) أي أحكام الإمامة في الصلاة وصفة الأئمة، وهي مصدر أم القوم في صلاتهم. 1123- قوله: (يؤم القوم) صيغة خبر بمعنى الأمر، أي ليؤمهم. (أقرأهم لكتاب الله) اختلف في المراد منه: فقيل: أفقههم في القرآن وأعلمهم بمعانيه وأحكامه. وقيل: المراد أحسنهم وأجودهم قراءة للقرآن وإن كان أقلهم حفظاً. وقيل: هو على ظاهره، فالمراد به أكثرهم حفظاً للقرآن، ويدل على ذلك ما رواه الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح عن عمرو بن سلمة: انطلقت مع أبي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسلام قومه، فكان فيما أوصانا: ليؤمكم أكثركم قرآنا، فكنت أكثرهم قرآناً، فقدموني. وأخرجه أيضاً البخاري، وسيأتي في الفصل الثالث. قال القاري: بعد ذكر قول ابن الملك، أي أحسنهم قراءة لكتاب الله، والأظهر أن معناه أكثرهم قراءة بمعنى أحفظهم للقرآن، كما ورد أكثرهم قرآناً- انتهى. قلت: هذا هو الراجح عندي لحديث عمرو بن سلمة، والروايات يفسر بعضها بعضاً. (فإن كانوا) أي القوم. (في القراءة) أي في العلم بها أو في حسنها أو مقدارها على اختلاف الأقوال (سواء) أي مستوين. قال الشوكاني: أي استووا في القدر المعتبر من القراءة إما في حسنها أو في كثرتها وقلتها. وفي رواية: لمسلم فإن كانت قراءتهم سواء. (فأعلمهم بالسنة) قال الطيبي: أراد بها الأحاديث. وقال السندي: حملوها على أحكام الصلاة. (فإن كانوا) أي بعد استوائهم في القراءة. (في السنة) أي بالعلم بها.

قأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سناً، ـــــــــــــــــــــــــــــ (سواء فأقدمهم هجرة) أي انتقالاً من مكة إلى المدينة قبل الفتح، فمن هاجر أولاً فشرفه أكثر ممن هاجر بعده، قال تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح} الآية [57: 10] ، قاله القاري. وقيل: هذا شامل لمن تقدم هجرة سواء ما كان في زمنه - صلى الله عليه وسلم - أو بعده كمن يهاجر من دار الكفار ... إلى دار الإسلام. وأما حديث لا هجرة بعد الفتح فالمراد من مكة إلى المدينة؛ لأنهما جميعاً صارا دار اسلام. قال الشوكاني: الهجرة المقدم بها في الإمامة لا تختص بالهجرة في عصره - صلى الله عليه وسلم - بل هي لا تنقطع إلى يوم القيامة، كما وردت بذلك الأحاديث، وقال به الجمهور. وأما حديث: لا هجرة بعد الفتح فالمراد بعد الهجرة من مكة إلى المدينة أو لا هجرة بعد الفتح. فضلها كفضل الهجرة قبل الفتح. وهذا لا بد منه للجمع بين الأحاديث. (فإن كانوا) أي بعد استوائهم فيما سبق من القراءة والسنة. (في الهجرة سواء فأقدمهم سناً) وفي رواية أكبرهم سناً، أي يقدم في الإمامة من كبر سنه في الإسلام؛ لأن ذلك فضيلة يرجح بها. قلت: ويؤيده ما في رواية لمسلم: فأقدمهم سلماً، أي إسلاماً، يعني أن من تقدم اسلامه يقدم على من تأخر إسلامه. والحديث دليل لمن قال يقدم الأقرأ في الإمامة على الأعلم. وإليه ذهب أحمد وأبويوسف وإسحاق. وقال مالك والشافعي وأبوحنبفة: الأعلم مقدم على الأقرأ، قال العيني: اختلف العلماء فيمن هو أولى بالإمامة: فقالت طائفة: الأفقه، وبه قال أبوحنيفة ومالك والجمهور، وقال أبويوسف وأحمد واسحاق: الأقرأ، وهو قول ابن سيرين وبعض الشافعية، قال العيني: وقال أصحابنا: أولى الناس بالإمامة أعلمهم بالسنة أي بالفقه والأحكام الشرعية إذا كان يحسن من القراءة ما تجوز به الصلاة، وهو قول الجمهور، وإليه ذهب عطاء والأوزاعي ومالك والشافعي. وقال السيد محمد مرتضى الزبيدي الحنفي في شرح الأحياء: قال أصحابنا يقدم الأعلم ثم الأقرأ، وهوقول أبي حنيفة ومحمد، واختاره صاحب الهداية وغيره من أصحاب المتون وعليه أكثر المشائخ. وقال أبويوسف: يقدم الأقرأ ثم الأعلم واختاره جمع من المشائخ، ومن الشافعية ابن المنذر، كما نقله النووى في المجموع- انتهى. واستدل الشافعي ومن وافقه بأن الذي يحتاج إليه من القراءة مضبوط، والذي يحتاج إليه من الفقه غير مضبوط، وقد تعرض في الصلاة أمور لا يقدر على مراعاتها إلا كامل الفقه، فيقدم الأفقه على الأقرأ. قال البغوي: لأن الفقيه يعلم ما يجب من القراءة في الصلاة؛ لأنه محصور، وما يقع فيها من الحوادث غير محصور، وقد يعرض للمصلي ما يفسد صلاته، وهو لا يعلم إذا لم يكن فقيهاً. وقال صاحب الهداية: القراءة يفتقر إليها لركن واحد، والعلم لسائر الأركان، أي فلأعلم أولى بالإمامة من الأقرأ. قلت: هذا كله تعليل في مقابلة النص، فلا يلتفت إليه، بل يرد على قائله كائناً من كان. واستدل لهم أيضاً بقوله - صلى الله عليه وسلم -: مروا أبا بكر أن يصلي بالناس، وسيأتي في باب المأموم من المتابعة

فإن تقديمه - صلى الله عليه وسلم - في مرض موته أبا بكر في الصلاة على غيره مع قوله: أقرؤكم أبيّ يدل على أنه يقدم الأعلم على الأقرأ لكون أبا بكر أعلمهم. قال ابن الهمام: أحسن ما يستدل به لمختار الجمهور حديث: مروا أبا بكر فليصل، وكان ثم من هو أقرأ منه لا أعلم. دليل الأول قوله عليه السلام: أقرؤكم أبيّ، ودليل الثاني قول أبي سعيد: كان أبوبكر أعلمنا، وهذا آخر الأمر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيكون المعول عليه. وقال العيني: حديث أبي مسعود كان في أول الأمر، وحديث أبي بكر في آخر الأمر، وقد تفقهوا في القرآن، وكان أبوبكر أعلمهم وأفقههم في كل أمر- انتهى. قلت: قصة إمامة أبي بكر في مرض موته - صلى الله عليه وسلم - واقعة عين غير قابلة للعموم بخلاف حديث أبي مسعود، فإنه تقرير قاعدة كلية تفيد التعميم، فلا يصح الاستدلال بقصة أبي بكر على تقديم الأعلم على الأقرأ يجعلها ناسخة لحديث أبي مسعود، قال صاحب البذل: قصة الإشارة إلى الاستخلاف ربما تكون مخصصة على أنها واقعة حال لا عموم لها، ومن ثم اختار جمع من المشائخ قول أبي يوسف- انتهى. وأجاب صاحب الهداية وغيره عن حديث أبي مسعود بأنه خرج على ما كان عليه حال الصحابة من أن أقرأهم كان أعلمهم"؛ لأنهم كانوا في ذلك الوقت يتلقونه بأحكامه، فقدم في الحديث، ولا كذلك في زماننا، فقدمنا الأعلم. قال الشافعي: المخاطب بذلك الذين كانوا في عصره، كان أقرأهم أفقههم، فإنهم كانوا يسلمون كباراً، ويتفقهون قبل أن يقرأوا، فلا يوجد قارىء منهم إلا وهو فقيه، وقد يوجد الفقيه، وليس بقارىء. ورد هذا الجواب بأنه لو كان المراد بالأقرأ في قوله: يؤم القوم أقرأهم هو الأعلم لكان يلزم تكرار الأعلم في الحديث، ويكون التقدير يؤم القوم أعلمهم، فإن تساووا فأعلمهم. وقال الأمير اليماني: ولا يخفى أنه يبعد هذا الجواب قوله: فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإنه دليل على تقديم الأقرأ مطلقاً. والأقرأ على ما فسروه به هو الأعلم بالسنة، فلو أريد به ذلك لكان القسمان قسماً واحداً. وقال الزبيدي: وأما تأويل المخالف للنص أي لحديث أبي مسعود بأن الأقرأ في ذلك الزمان كان الأفقه، فقد رد هذا التأويل قوله عليه السلام: فأعلمهم بالسنة، ولكن قد يجاب عنه بأن المراد بالأقرأ في الخبر الأفقه في القرآن فقد استووا في فقهه، فإذا زاد أحدهم بفقه السنة فهو أحق، فلا دلالة في الخبر على تقديم الأقرأ مطلقاً، بل على تقديم تقديم الأقرأ الأفقه في القرآن على من دونه، ولا نزاع فيه. قال العيني: المراد من قوله: يؤم القوم أقرأهم أي أعلمهم، يعني أعلمهم بكتاب الله دون السنة، ومن قوله: أعلمهم بالسنة أعلمهم بأحكام الكتاب والسنة جميعاً، فكان الأعلم الثاني غير الأعلم الأول- انتهى. قلت: قد سلف منا أن الراجح في المراد من قوله: أقرأهم هو الأكثر حفظا للقرآن وإن حمله على الأفقه في القرآن والأعلم بأحكامه ومعانيه خلاف الظاهر فلا يلتفت إليه. وأما حمل الحديث على الصحابة خاصة فهو ادعاء محض على أنه يلزم من هذا الجواب أن من نص النبي - صلى الله عليه وسلم - على أنه أقرأ من أبي بكر كان أفقه من أبي بكر، فيفسد الاحتجاج بأن تقديم أبي بكر كان لأنه الأفقه.

ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ـــــــــــــــــــــــــــــ قال السندي: الحديث يفيد تقدم الأقرأ وغالب الفقهاء على تقديم الأعلم، ولهم عن هذا الحديث جوابان: النسخ بإمامة أبي بكر مع أن أقرأهم أبىّ، وكان أبوبكر أعلمهم، كما قال أبوسعيد، ودعوى أن الحكم مخصوص بالصحابة، وكان أقرأهم أعلمهم لكونهم يأخذون القآن بالمعاني، وبين الجوابين تناقض لا يخفى، ولفظ الحديث يفيد عموم الحكم- انتهى. وقد ظهر بهذا التفصيل أن القول الراجح المعول عليه هو تقديم الأقرأ على الأعلم وهذا، إنما هو حيث يكون الأقرأ عارفاً بما يتعين معرفته من أحوال الصلاة، فأما إذا كان جاهلاً بذلك فلا يقدم اتفاقا. قال الزبيدي: والذي ذهب إليه أبويوسف من تقديم الأقرأ على الأعلم رواية عن أبي حنيفة، ودليله قوي من حيث النص، فإنه فرق بين الفقيه والقاري، وأعطى الإمامة للقاري ما لم يتساويا في القراءة فإن تساويا لم يكن أحدهما بأولى من الآخر فوجب تقديم الأعلم بالسنة وهو الأفقه- انتهى. (ولا يؤمن الرجل الرجل) برفع الأول ونصب الثاني. (في سلطانه) أي في محل سلطانه، وهو موضع يملكه الرجل أو له فيه تسلط بالتصرف كصاحب المجلس وإمام المسجد، فإنه أحق من غيره، وإن كان أفقه، لئلا يؤدي ذلك إلى التباغض والخلاف الذي شرع الاجتماع لرفعه. قال الطيبي: أي لا يؤم الرجل الرجل في مظهره سلطنته ومحل ولايته أو فيما يملكه أو في محل يكون في حكمه. ويعضد هذا التأويل الرواية الأخرى في أهله. وتحريره أن الجماعة شرعت لاجتماع المؤمنين على الطاعة وتألفهم وتوادهم، فإذا أم الرجل الرجل في سلطانه أفضى ذلك إلى توهين أمر السلطنة وخلع ربقة الطاعة، وكذلك إذا أمّه في أهله أدى ذلك إلى التباغض والتقاطع وظهور الخلاف الذي شرع لرفعه الاجتماع، فلا يتقدم الرجل على ذي السلطنة لاسيما في الأعياد والجمعات، وعلى إمام الحي ورب البيت إلا بالإذن- انتهى. وقال النووي: معناه أن صاحب البيت والمجلس وإمام المسجد أحق من غيره. قال ابن رسلان: لأنه موضع سلطنته- انتهى. قال الشوكاني: والظاهر أن المراد به السلطان الذي إليه ولاية أمور الناس، لا صاحب البيت ونحوه. ويدل على ذلك ما في رواية أبي داود بلفظ: ولا يؤم الرجل في بيته ولا في سلطانه. وظاهره أن السلطان مقدم على غيره وإن كان أكثر منه قرآناً وفقهاً وورعاً وفضلاً، فيكون كالمخصص لما قبله، يعني أن أول الحديث محمول على من عدا الإمام الأعظم ومن يجري مجراه، وقد ورد في صاحب البيت حديث بخصوصه بأنه الأحق، فقد أخرج الطبراني من حديث أبي مسعود قال من السنة أن يتقدم صاحب البيت. قال الحافظ: رجاله ثقات. وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. وأخرج البزار والطبراني في الأوسط والكبير من حديث عبد الله بن حنطلة مرفوعا: الرجل أحق أن يؤم في بيته. قال الهيثمي: فيه إسحاق بن يحيى بن طلحة، ضعفه أحمد وابن معين والبخاري، ووثقه يعقوب بن شيبة وابن حبان. قال أصحاب الشافعي: ويتقدم السلطان أو نائبه على صاحب البيت وإمام المسجد وغيرهما؛ لأن ولايته وسلطنته عامة، قالوا: ويستحب لصاحب البيت أن يأذن لمن هو أفضل

ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه)) . رواه مسلم. وفي رواية له: ((ولا يؤمن الرجل الرجل في أهله)) . 1124- (2) وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، ـــــــــــــــــــــــــــــ منه. (ولا يقعد) بالجزم. وقيل: بالرفع أي الرجل. (في بيته) أي بيت الرجل الآخر. (على تكرمته) بفتح التاء وكسر الراء، مصدر كرم تكريماً، أطلق مجازاً على ما يعد للرجل إكراماً له في منزله من فراش وسجادة ونحوهما. قال في النهاية: هو الموضع الخاص لجلوس الرجل من فراش أو سرير مما يعد لإكرامه، وهي تفعله من الكرامة. (إلا بإذنه) قال ابن الملك: متعلق بجميع ما تقدم: قلت: ورد ذلك في بعض روايات الحديث نصاً، فقد قال المجد بن تيمية في المنتقى: ورواه سعيد بن منصور، لكن قال فيه: لا يؤم الرجل الرجل في سلطانه إلا بإذنه، ولا يقعد على تكرمته في بيته إلا بإذنه- انتهى. فالإذن في الكل، وبه قال أحمد والجمهور، وهو الحق. وقيل: يتعلق قوله: إلا بإذنه بقوله: لا يقعد فقط، وبه قال إسحاق. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً، أحمد (ج4 ص118، 121وج5 ص272) والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وأبوداود الطيالسي وابن الجارود والبيهقي (ج3 ص90، 119، 125) . (وفي رواية له: ولا يؤمن الرجل الرجل في أهله) وفي بعض النسخ من صحيح مسلم: ولا تؤمن الرجل في أهله، أي بصيغة الخطاب. ويؤيده ما بعده ولا في سلطانه ولا تجلس على تكرمته في بيته إلا بإذن لك أو بإذنه. فائدة: قال الشاه ولي الله الدهلوي في حجة الله البالغة: سبب تقديم الأقرأ أنه - صلى الله عليه وسلم - حد للعلم حداً معلوماً، كما بينا، وكان أول ما هناك كتاب الله؛ لأنه أصل العلم، وأيضاً فإنه من شعائر الله، فوجب أن يقدم صاحبه. وينوه بشأنه ليكون ذلك داعياً إلى التنافس فيه، وليس كما يظن أن السبب احتياج المصلى إلى القراءة فقط، ولكن الأصل حملهم على المنافسة فيها، وإنما تدرك الفضائل بالنافسة، وسبب خصوص الصلاة باعتبار المنافسة احتياجها إلى القراءة، فليتدبر، ثم من بعدها معرفة السنة؛ لأنها تلو الكتاب، وبها قيام الملة، وهي ميراث النبي - صلى الله عليه وسلم - في قومه، ثم بعده اعتبرت الهجرة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام عظم أمر الهجرة ورغب فيها ونوه بشأنها، وهذا من تمام الترغيب والتنوية، ثم زيادة السن إذ السنة الفاشية في الملل جميعها توقير الكبير، ولأنه أكثر تجربة وأعظم حلماً، وإنما نهى عن التقدم على ذي سلطان في سلطانه؛ لأنه يشق عليه ويقدح في سلطانه فشرع ذلك إبقاء عليه- انتهى. 1124- قوله: (إذا كانوا) أي القوم. (ثلاثة) أي واثنين، كما أفاده الخبر السابق أن الجماعة تحصل بهما، قاله القاري. وقال الشوكاني: مفهوم العدد هنا غير معتبر لما في حديث مالك بن الحويرث: إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما. أخرجه أحمد وغيره من أصحاب الكتب الستة، وقد تقدم. (فليؤم أحدهم) إشارة

وأحقهم بالإمامة أقرأهم)) . رواه مسلم. وذكر حديث مالك ابن الحويرث في باب بعد باب فضل الأذان. ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى جواز إمامة المفضول. (وأحقهم بالإمامة أقرأهم) أي أكثرهم. حفظاً للقرآن، فإن إمامته أفضل. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي والبيهقي (ج3 ص89، 119) . وفي الباب عن أنس عند أحمد (ج3 ص163) بلفظ: يؤم القوم أقرؤهم للقرآن. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، وعن أبي هريرة عند البزار بنحوه. قال الهيثمي: في سنده الحسن بن علي النوفلي الهاشمي، وهوضعيف، وقد حسنه البزار، وعن ابن عمر عند الطبراني بلفظ: من أم قوماً وفيهم من هو أقرأ لكتاب الله منه، لم يزل في سفال إلى يوم القيامة. قال الهيثمي: فيه الهيثم بن عقاب. قال الأزدى: لا يعرف. وذكره ابن حبان في الثقات. (وذكر) بصيغة المجهول. (حديث مالك بن الحويرث) أي في المشكاة، وكذا في المصابيح. والحديث هو قوله قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صلوا كما رأيتموني أصلي. وإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، ثم ليؤمكم أكبركم يعني سناً، وذلك لاستوائهم في وجوه التقديم من القراءة والعلم، ففي رواية لآبي داود: وكنا يومئذٍ متقاربين في العلم. (في باب بعد باب فضل الأذان) أي فراجعه هناك. والمقصود أن حديث مالك بن الحويرث هذا ذكره البغوي أولاً في باب بعد باب فضل الأذان، وذكره صاحب المشكاة أيضاً هناك تبعا للبغوي لكون صدره في الآذان، ثم ذكره هاهنا في آخر الفصل الأول؛ لكون عجز الحديث متعلقاً بباب الإمامة، ولما كان في ذكره هنا تكرار حذفه صاحب المشكاة، وأحال على الباب المذكور. وقال القاري: حديث مالك بن الحويرث فيه تفضيل الإمامة، فهو بباب الإمامة أولى، فلا معنى لتغيير التصنيف مع وجود الوجه الأدنى فضلاً عن الأعلى، ثم يحتاج إلى الاعتذار المشير إلى الاعتراض، لا يقال صدر الحديث في الأذان؛ لأن تقديمه لتقدمه في الوجود ومنه تقدم بلال على النبي - صلى الله عليه وسلم - في دخول الجنة تقدم الخادم على المخدوم. ففيه إيماء إلى فضيلة الإمامة، وكذلك الحديث الآتي قريباً فالحاصل أن حديث مالك ابن الحويرث كان في المصابيح هنا في آخر الفصل الأول، ونقله صاحب المشكاة فذكره في باب بعد باب فضل الآذان- انتهى. قلت: وقد وهم القاري في فهم غرض صاحب المشكاة كما لا يخفى، ولو راجع المصابيح لم يقع في هذا الوهم، وقد وهم أيضاً في تعيين الحديث حيث قال: والحديث هو: قال أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا وابن عم لي، فقال إذا سافرتما فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما مع أنه غير مذكور في المصابيح في باب الإمامة. واعلم أن هذا كله مبني على أن الحديث المذكور هنا في المصابيح بغير تسمية الصحابي لمالك بن الحويرث كما قال المصنف. وعندي فيه كلام؛ لأن الحديث الذي أورده البغوي هنا هو بلفظ: إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآناً. وحديث مالك بن الحويرث الذي ذكرناه إنما هو بلفظ: وليؤمكم أكبركم. وهذا هو الذي ذكره البغوي في

{الفصل الثاني}

{الفصل الثاني} 1125- (3) عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليؤذن لكم خياركم وليؤمكم قراؤكم)) . رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ المصابيح والمصنف في المشكاة في باب هو بعد باب فضل الآذان. ولا يخفى ما بين اللفظين من الفرق البين. والظاهر أن الحديث المذكور في المصابيح هنا، أي في باب الإمامة بلفظ: ليؤمكم أكثركم قرآناً، إنما هو لعمرو بن سلمة الجرمي، رواه البخاري في حديث طويل في غزوة الفتح في باب بعد باب مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة. وذكره البغوي ههنا لإثبات جواز إمامة الصبي المميز. وقد ذكره المصنف في الفصل الثالث مطولاً، كما سيأتي. 1125- قوله: (ليؤذن لكم) أمر استحباب. (خياركم) أي الذين يحتاطون في أمر الأوقات، وفي أمر الحرم والعورات، فإنهم يشرفون علىالمنارات العالية، قاله السندي. وقال القاري: أي من هو أكثر صلاحاً ليحفظ نظره عن العورات، ويبالغ في محافظة الأوقات. قال الجوهري: الخيار خلاف الأشرار، والخيار الاسم من الاختيار، وإنما كانوا خياراً لما ورد أنهم أمناء؛ لأن أمر الصائم من الإفطار والأكل والشرب والمباشرة منوط إليهم، وكذا أمر المصلي لحفظ أوقات الصلاة يتعلق بهم، فهم بهذا الاعتبار مختارون، ذكره الطيبي. (وليؤمكم) بسكون اللام وتكسر. (قراؤكم) بضم القاف وتشديد الراء، جمع قاري. كذا وقع في جميع النسخ، وهكذا في المصابيح وسنن أبي داود وابن ماجه. ونقله الجزري في جامع الأصول (ج6 ص377) عن أبي داود بلفظ: وليؤمكم أقرؤكم، وكذلك رواه البيهقي (ج1 ص426) . وفيه دليل على تقديم الأقرأ في الإمامة على الأفقه. قال السندي: ظاهر الحديث أن الأقرأ أحق بالإمامة من الأعلم. وقال القاري: وكلما يكون أقرأ فهو أفضل إذا كان عالماً بمسائل الصلاة، فإن أفضل الأذكار وأطولها وأصعبها في الصلاة إنما هو القراءة. وفيه تعظيم لكلام الله، وتقديم قارئه، وإشارة إلى علو مرتبته في الدارين كما كان - صلى الله عليه وسلم - يأمر بتقديم الأقرأ.. في الدفن- انتهى. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً ابن ماجه والبيهقي، وسكت عنه أبوداود. وقال المنذري: في سنده الحسين بن عيسى الحنفي الكوفي، وقد تكلم فيه أبوحاتم وأبوزرعة الرازيان، وقد ذكر الدارقطني أن حسين بن عيسى تفرد بهذا الحديث عن الحكم بن أبان- انتهى. قلت: الحسين بن عيسى قال البخاري: مجهول، وحديثه منكر. وقال أبوزرعة: منكر الحديث. وقال أبوحاتم: ليس بالقوي، روى عن الحكم بن أبان أحاديث منكرة. وقال الآجري عن أبي داود: بلغني أنه ضعيف. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الحافظ في التقريب: ضعيف.

1126 – (4) وعن أبي عطية العقيلي، قال: كان مالك بن الحويرث يأتينا إلى مصلانا يتحدث، فحضرت الصلاة يوماً، قال أبي عطية: فقلنا له: تقدم فصله. قال لنا: قدموا رجلاً منكم يصلي بكم، وسأحدثكم لم لا أصلي بكم؟ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من زار قوماً فلا يؤمهم، وليؤمهم رجل منهم)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1126- قوله: (عن أبي عطية) بفتح العين وكسر الطاء وتشديد التحتية. (العقيلي) بضم العين المهملة، أي مولاهم، فهي نسبة الولاء كما يدل عليه بعض روايات هذا الحديث. ففي رواية لأحمد (ج3 ص437وج5 ص53) عن بديل بن ميسرة العقيلي قال: حدثني أبوعطية مولى منا، وكذا عند أبي داود. وللنسائي وأحمد في رواية (ج5 ص53) مولى لنا. قال الذهبي في الميزان: أبوعطية عن مالك بن الحويرث، لا يدرى من هو؟، وقال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج12.ص170) : أبوعطية مولى بني عقيل، روى عن مالك بن الحويرث حديث: من زار قوماً الخ، وعنه بديل بن ميسرة، قال أبوحاتم: لا يعرف ولا يسمى. وقال ابن المديني: لا يعرفونه. وقال أبوالحسن القطان: مجهول. وصحح ابن خزيمة حديثه. وقال في التقريب: مقبول. (يأتينا إلى مصلانا) أي مسجدنا في البصرة. (يتحدث) وفي بعض النسخ: نتحدث، أي بالنون في أوله بصيغة المتكلم. (تقدم) أي للإمامة. (فصله) الهاء للسكتة. (يصلي بكم) أي يؤمكم في الصلاة. (وسأحدثكم لم لا أصلي بكم) أي مع أني أحق بالإمامة منكم، وذلك لكونه صحابياً عالماً. (من زار قوما فلا يؤمهم، وليؤمهم رجل منهم) فإنه أحق من الزائر. وامتنع مالك من الإمامة مع وجود الإذن منهم عملاً بظاهر الحديث، ثم أن حدثهم بعد الصلاة. فالسين للاستقبال، وإلا فلمجرد التأكيد. والحديث دليل على أن المزور أحق بالإمامة من الزوائر وإن كان أقرأ أو أعلم من المزور. قال الترمذي بعد رواية الحديث: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم، وقالوا: صاحب المنزل أحق بالإمامة من الزائر. وقال بعض أهل العلم: إذا أذن له فلا بأس أن يصلي به. وقال إسحاق بحديث مالك بن الحويرث: وشدد في أن لا يصلي أحد لصاحب المنزل وإن أذن له صاحب المنزل، قال وكذلك في المسجد لا يصلي بهم في المسجد إذا زارهم، يقول: ليصل بهم رجل منهم –انتهى. كلام الترمذي. وقد حكى المجد بن تيمية في المنتقى بعد ذكر الحديث عن أكثر أهل العلم أنه لا بأس بإمامة الزائر بإذن رب المكان، واستدل بقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي مسعود. (يعني المتقدم) إلا بإذنه، قال ويعضده عموم ما روي ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ثلاثة على كثبان المسك يوم القيامة عبد أدى حق الله وحق مواليه، ورجل أم قوماً، وهم به راضون) - الحديث. رواه الترمذي، وعن أبي هريرة عن

رواه أبوداود والترمذي، والنسائي إلا أنه اقتصر على لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -. 1127 – (5) وعن أنس، قال: ((استخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن أم مكتوم يؤم الناس، ـــــــــــــــــــــــــــــ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يؤم قوماً إلا بإذنهم) –الحديث. رواه أبوداود- انتهى. قلت: الراجح عندنا هو قول من قال أن المزور إذا أذن للزائر فلا بأس أن يصلي به. ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث مالك بن الحويرث: من زار قوماً فلا يؤمهم، أي إلا أن يأذنوا له. يدل عليه حديث أبي مسعود عند سعيد بن منصور، وقد تقدم. ويعضد ما ذكرنا من التقييد بالإذن عموم قوله في حديث ابن عمر: وهم به راضون، وقوله في حديث أبي هريرة: إلا بإذنهم، كما قال ابن تيمية، فإنه يقتضي جواز إمامة الزائر عند رضى المأزور وإذنه، وقيل: حديث مالك بن الحويرث محمول على من عدا الإمام الأعظم فإذا حضر الإمام الأعظم أو من يجري مجراه بمكان مملوك لا يتقدم عليه مالك الدار، ولكن ينبغي للمالك أن يأذن له لجمع بين الحقين حق الإمام في التقدم وحق المالك في منع التصرف بغير إذنه، (رواه أبوداود) وسكت عنه. (والترمذي) وقال: حديث حسن. وفي بعض نسخ الترمذي: حديث حسن صحيح. ويؤيد الأول ما نقله المنذري والشوكاني عن الترمذي من التحسين فقط، ويفهم ذلك من قول الحافظ في التهذيب في ترجمة أبي عطية أن ابن خزيمة صحح حديثه، فلو كان التصحيح عنده في نسخة الترمذي لأشار إليه، وإنما حسن الترمذي هذا الحديث، مع أن في سنده أبا عطية، وهو مجهول، كما قال الذهبي وأبوحاتم وابن المديني وأبوالحسن القطان؛ لأن له شواهد، والترمذي قد يحسن الحديث الضعيف لشواهده. وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي بعد قول أبي حاتم وغيره: ولكن تصحيح ابن خزيمة حديثه، وتحسين الترمذي أو تصحيحه إياه يجعله من المستورين المقبولي الرواية، ولحديثه شواهد. يشير إلى ما تقدم من حديث أبي مسعود عند أبي داود بلفظ: ولا يؤم الرجل في بيته، ومن حديث أبي مسعود عند الطبراني، وحديث عبد الله بن حنطلة عند البزار والطبراني، وقد ذكرنا لفظهما في شرح حديث أبي مسعود. (والنسائي) وأخرجه أيضاً أحمد (ج3 ص436- 437وج5 ص53) والبيهقي (ج3 ص126) . (إلا أنه) أي النسائي. (اقتصر على لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي قوله، وهو: إذا زار أحدكم قوماً فلا يصلين بهم، ولم يذكر صدر الحديث. واللفظ المذكور في الكتاب لأبي داود إلا قوله: يتحدث فحضرت الصلاة يوماً، فإنه للترمذي، ولفظ أبي داود: إلى مصلانا هذا فأقيمت الصلاة. 1127 – قوله: (استخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن أم مكتوم) أي أقامه مقام نفسه في مسجد المدينة حين خرج إلى الغزو. (يؤم الناس) قال القاري: هو بيان للاستخلاف. وقال ابن حجر: أي استخلافاً عاماً على المدينة مرتين ما روي، وخاصاً بكونه يؤم الناس. وقال الأمير اليماني: المراد استخلافه في الصلاة وغيرها، وقد

وهو أعمى)) . رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ أخرجه الطبراني بلفظ: في الصلاة وغيرها، وإسناده حسن. وقد عدت مرات الاستخلاف له، فبلغت ثلاث عشرة مرات، ذكره في الخلاصة. (وهو أعمى) قال الشيخ عبد الحق الدهلوي في أشعة اللمعات: فيه دليل على جواز إمامة الأعمى من غير كراهة في ذلك. وقال ابن حجر: فيه جواز إمامة الأعمى. ولا نزاع فيه، وإنما النزاع في أنه أولى من البصير أو عكسه. قال الشوكاني: قد صرح أبوإسحاق المروزي والغزالى بأن إمامة الأعمى أفضل من إمامة البصير؛ لأنه أكثر خشوع من البصير لما في البصير من شغل القلب بالمبصرات. ورجح البعض أن إمامة البصير أولى؛ لأنه أشد توقياً للنجاسة. والذي فهمه الماوردي من نص الشافعي أن إمامة الأعمى والبصير سواء في عدم الكراهية؛ لأن في كل منهما فضيلة غير أن إمامة البصير أفضل؛ لأن أكثر من جعله النبي - صلى الله عليه وسلم - إماماً البصراء. وأما استنابته - صلى الله عليه وسلم - لابن أم مكتوم في غزواته فلأنه كان لا يتخلف عن الغزو من المؤمنين إلا معذور. فلعله لم يكن في البصراء المتخلفين من يقوم مقامه، أو لم يتفرغ لذلك أو استخلفه لبيان الجواز. وأما إمامة عتبان بن مالك لقومه، أي مع كونه ضرير البصر فلعله أيضاً لم يكن في قومه من هو في مثل حاله من البصراء – انتهى كلام الشوكاني. وقال في البدائع بعد التصريح بجواز إمامة الأعمى ما لفظه: والأعمى يوجهه غيره إلى القبلة، فيصير في أمر القبلة مقتدياً بغيره، وربما يميل في خلال الصلاة عن القبلة، ولأنه لا يمكنه التوقي عن النجاسة، فكان البصير أولى إلا إذا كان في الفضل لا يوازيه في مسجده غيره، فحينئذٍ يكون أولى، ولذا استخلف النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن أم مكتوم- انتهى. وقال ابن الملك: كراهة إمامة الأعمى إنما هي إذا كان القوم سليم أعلم منه أو مساو له علماً- انتهى: قال التوربشتي: استخلف ابن أم مكتوم على الإمامة حين خرج إلى تبوك مع أن علياً رضي الله عنه فيها لئلا يشغله شاغل عن القيام بحفظ من يستخلفه من الأهل حذراً أن ينالهم عدو بمكروه. وقال ابن حجر. يمكن أن يوجه بأنه لو استخلفه في ذلك أيضاً لوجد الطاعن في خلافة الصديق سبيلاً وإن ضعف. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً أحمد والبيهقي (ج3 ص88) وسكت عنه أبوداود والمنذري، وأخرجه ابن حبان في صحيحه، وأبويعلى والطبراني في الأوسط عن عائشة. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص65) بعد عزوه إلى أبي يعلى والطبراني: ورجال أبي يعلى رجال الصحيح. وأخرجه أيضاً البزار والطبراني في الأوسط عن ابن عباس. قال الهيثمي: وفيه عفير بن معدان، وهو ضعيف، وأخرجه أيضاً الطبراني في الكبير من حديث عبد الله بن بحينة. قال الهيثمي: وفيه الواقدي، وهو ضعيف. وفي الباب عن عبد الله بن عمير إمام بن خطمة أنه كان إماماً لبني ختمة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو أعمى. قال الشوكاني: أخرجه الحسن بن سفيان في مسنده وابن أبي خثيمة. وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح.

1128- (6) وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاثة لا تجاوز صلاتهم أذانهم: العبد الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمام قوم وهم له كارهون)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1128- قوله: (ثلاثة) أي أشخاص. (لا تجاوز صلاتهم آذانهم) جمع الأذن الجارحة، أي لا ترتفع إلى السماء، كما في حديث ابن عباس الآتي، وهو كناية عن عدم القبول، كما هو مصرح به في الحديث الذي بعده، وفي حديث ابن عباس عند ابن حبان. قال التوربشتي: أي لا ترفع إلى الله تعالى رفع العمل الصالح، بل أدنى شيء من الرفع. وخص الآذان بالذكر لما يقع فيها من التلاوة والدعاء، ولا تصل إلى الله تعالى قبولاً وإجابة. وهذا مثل قوله عليه السلام في المارقة: يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، عبر عن عدم القبول بعدم مجاوزة الآذان- انتهى. وقال في اللمعات: خص الآذان بالذكر لقربها؛ لأنها يقع فيها صوت التلاوة، وإن غاية حظهم منها سماع ذكرها. (العبد الآبق) أي أولهم أو منهم أو أحدهم. (حتى يرجع) أي من إباقة إلى سيده. وفي معناه الجارية الآبقة. وفي صحيح مسلم، وسنن أبي داود والنسائي من حديث جرير بن عبد الله البجلي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة. وهذا يؤيد ما تقدم من أن المراد بعدم المجاوزة عدم قبول الصلاة و (إمرأة باتت وزوجها عليها ساخط) من السخط وهو بالضم وكعنق وجبل ومقعد ضد الرضا، وقد سخط كفرح، وتسخط وأسخطه أغضبه، قال القاري: هذا إذا كان السخط لسوء خلقها أو سوء أدبها أو قلة طاعتها. أما إن كان سخط زوجها من غير جرم فلا إثم عليها. قال الشوكاني في الحديث: إن اغضاب المرأة لزوجها حتى يبيت ساخطاً عليها من الكبائر. وهذا إذا كان غضبها عليها بحق. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا دعا الرجل إمرأته إلى فراشه فلم تأته فبات غضباناً عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح. وسيأتي في عشرة النساء. (وإمام قوم وهم له كارهون) أي لأمر مذموم في الشرع، وإن كرهوا لخلاف ذلك فلا كراهة. قال ابن الملك: أي كارهون لبدعته أو فسقه أو جهله. أما إذا كان بينه وبينهم كراهة أو عداوة بسبب أمر دنيوى فلا يكون له هذا الحكم، والحديث يدل على كراهة أن يكون الرجل إماماً لقوم يكرهونه. قال الشوكاني: وقد ذهب قوم إلى التحريم، وإلى الكراهة آخرون. ويدل على التحريم نفى قبول الصلاة، وإنها لا تجاوز أذنه، ولعن الفاعل لذلك، كما في حديث أنس عند الترمذي: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة: رجل أم قوماً وهم له كارهون- الحديث، قال: وقد قيد ذلك جماعة عن أهل العلم بالكراهة الدينية لسبب شرعي. وأما الكراهة لغير الدين فلا عبرة بها، وقيدوه أيضاً بأن يكون الكارهون أكثر المأمومين، ولا اعتبار بكراهة الواحد والاثنين وثلاثة إذا كان المؤتمون جمعاً كثيراً إلا إذا كانوا اثنين أو ثلاثة، فإن كراهتهم أو كراهة أكثرهم معتبرة، قال: والاعتبار بكراهة أهل الدين دون كراهته غيرهم، حتى قال الغزالي في الإحياء: لو كان الأقل من أهل الدين يكرهونه فالنظر إليهم،

رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب. 1129- (7) وعن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاثة لا تقبل منهم صلاتهم: من تقدم ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: وحمل الشافعي الحديث على إمام غير الوالي؛ لأن الغالب كراهة ولاة الأمر، قال: وظاهر الحديث عدم الفرق- انتهى. (رواه الترمذي) هذا الحديث مما انفرد به الترمذي، كما قال الشوكاني. (وقال: هذا حديث غريب) كذا في جميع النسخ. والذي في الترمذي حديث حسن غريب. وهو الذي ذكره المنذري في الترغيب والشوكاني في النيل. والحديث قد ضعفه البيهقي (ج3 ص128) . قال النووي في الخلاصة: والأرجح هنا قول الترمذي- انتهى. وفي سنده أبوغالب الراسبي البصري، ضعفه النسائي وابن سعد. وقال أبوحاتم: ليس بالقوي. ووثقه موسى بن هارون الحمال والدارقطني. وقال ابن معين: صالح الحديث. وقال ابن عدي: لم أر في أحاديثه منكراً، وأرجوا أنه لا بأس به. وحسن الترمذي بعض أحاديثه، وصحح بعضها. كذا في تهذيب التهذيب- وقال في التقريب: صدوق يخطئ- انتهى. فالظاهر أن حديثه لا ينحط عن درجة الحسن، والله أعلم. وفي الباب أحاديث عن جماعة من الصحابة. ذكرها الشوكاني في النيل مع الكلام عليها. 1129- قوله: (وعن ابن عمر) كذا في جميع النسخ الحاضرة الموجودة عندنا. والمراد به عبد الله بن عمر بن الخطاب. والذي في سنن أبي داود، وابن ماجه عبد الله بن عمرو، أي ابن العاص. وكذا ذكره المجد بن تيمية في المنتقى نقلاً عن أبي داود وابن ماجه. وكذا وقع في معالم السنن (ج1 ص169) شرح سنن أبي داود للخطابي، والسنن الكبرى للبيهقي (ج3 ص128) وهذا هو الصواب، فإن الحديث من رواية عمران بن عبد المعافري التابعي، وهو يرويه عن عبد الله بن عمرو بن العاص لا ابن عمر. قال الذهبي في الميزان (ج2 ص288) في ترجمة عمران المذكور: ضعفه يحيى بن معين، يحدث عنه الافريقي عن عبد الله بن عمرو: ثلاثة لا يقبل منهم صلاة- الحديث. وقال الحافظ في التهذيب (ج8 ص134) : روى عن عبد الله بن عمرو وعنه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الافريقي. وكذا قال الخزرجي في الخلاصة (ص296) . والحديث ذكره النابلسي في ذخائر المواريث في مسند عبد الله بن عمرو بن العاص، وكذا نسبه إليه السيوطي في الجامع الصغير، والعزيزي في السراج المنير. ووقع في تيسير الوصول (ج2 ص268) وجامع الأصول (ج6 ص379) وعن ابن عمرو بن العاص. فالظاهر أن ما وقع في نسخ المشكاة من تصرف النساخ والله أعلم. (لا تقبل منهم صلاتهم) وفي أبي داود: لا يقبل الله منهم صلاة، ولفظ ابن ماجه: لا تقبل منهم صلاة، قالوا القبول أخص من الإجزاء، أي فلا يلزم من عدمه عدم الإجزاء، وهو كونه سبباً لسقوط التكليف، والقبول كونه سبباً للثواب. والحاصل أن المراد بنفي القبول نفى الثواب لا نفى الصحة والإجزاء. (من تقدم) خبر

قوما وهم له كارهون، ورجل أتى الصلاة دباراً- والدبار: أن يأتيها بعد أن تفوته- ورجل اعتبد محررة)) رواه أبوداود، وابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ مبتدأ محذوف أي أحدهم. (قوماً) للإمامة. (وهم له كارهون) في شرح السنة. قيل: المراد به إمام ظالم. وأما من أقام السنة فاللوم على من كرهه. وقال الخطابي في المعالم (ج1 ص170) : يشبه أن يكون هذا الوعيد في الرجل ليس من أهل الإمامة، فيقتحم فيها ويتغلب عليها حتى يكره الناس إمامته. فأما إن كان مستحقاً للإمامة فاللوم على من كرهه دونه- انتهى. (ورجل) أي وثانيهم رجل. (أتى الصلاة) أي حضرها. (دباراً) بكسر الدال. وانتصابه على المصدر، أي إتيان دبار، يعني صلاها حين أدبار وقتها بحيث لا يسع الوقت جميعها، وكان ذلك عادة له قال في الفائق: قبال الشيء ودباره أوله وآخره، يقال: فلان لا يدري قبال الأمر من دباره، أي ما أوله من آخره، وفي الغربيين عن ابن الأعرابي: الدبار جمع دَبَر ودُبُر وهو آخر أوقات الشيء، أي يأتي الصلاة بعد ما يفوت الوقت. قال ابن حجر: بأن لا يدركها كاملاً فيه. وقال الجزري: دبار جمع دَبَر أو دُبُر، وهو آخر أوقات الشيء. وقيل: أراد بعد ما يفوت الوقت، وقد ذكر في الحديث. (والدبار أن يأتيها) أي الصلاة من غير عذر. (بعد أن تفوته) أي الصلاة جماعة أو أداء، قال الخطابي: هو أن يكون قد اتخذه عادة حتى يكون حضوره الصلاة بعد فراغ الناس وانصرافهم عنها- انتهى. وهذا التفسير ظاهر أنه من الراوي. (ورجل اعتبد) أي ثالثهم رجل اتخذ عبداً. (محررة) أي نسمة أو رقبة أو نفساً محررة. قال الطيبي: يقال أعبدته واعتبدته إذا اتخذته عبداً وهو حر، وذلك بأن يأخذ حراً، فيدعيه عبدا ويتملكه أو يعتق عبده ثم يستخدمه كرهاً أو يكتم عتقه استدامة لخدمته ومنافعه. قال ابن الملك: تأنيث محررة بالحمل على النسمة لتناول العبيد والإماء. وقيل: خص المحررة لضعفها وعجزها بخلاف المحرر لقوته بدفعه. وقال في المفاتيح شرح المصابيح: في بعض النسخ أي للمصابيح محررة بالضمير المجرور. قلت: وكذا وقع في بعض نسخ أبي داود، كما صرح به في عون المعبود، وكذا ذكره المجد بن تيمية في المنتقى. وفي الترغيب للمنذري وسنن ابن ماجه: اعتبد محرراً. قال الشوكاني: أي اتخذ معتقه عبداً بعد إعتاقه. قال الخطابي: اعتباد المحرر يكون من وجهين: أحدهما أن يعتقه ثم يكتم عتقه أو ينكره، وهو شر الأمرين. والوجه الآخر أن يستخدمه كرهاً بعد العتق، أي بالقهر والغلبة. (رواه أبوداود وابن ماجه) وكذا البيهقي كلهم من رواية الإفريقي عن عمران بن عبد بغير إضافة المعافري، والافريقي قد تقدم الكلام فيه. وأما عمران فقال ابن معين: ضعيف. وقال ابن القطان: لا يعرف حاله. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال العجلي: مصري تابعي ثقة. وذكره يعقوب بن سفيان في ثقات المصريين كذا في التهذيب (ج8 ص34) . وقال في التقريب: ضعيف.

1130- (8) وعن سلامة بنت الحر، قالت: ((قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن من أشراط الساعة أن يتدافع أهل المسجد لا يجدون إماماً يصلي بهم)) رواه أحمد، وأبوداود، وابن ماجه. 1131- (9) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الجهاد واجب عليكم مع كل أمير، برًا كان أو فاجرًا، وإن عمل الكبائر. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1130- قوله: (وعن سلامة) بفتح سين مهملة وخفة لام وهاء. (بنت الحر) بضم الحاء المهملة بعدها راء مهملة مشددة، أخت خرشة بن الحر الفزاري، صحابية، لها هذا الحديث فقط. (إن من أشراط الساعة) ، أي من علاماتها الصغرى الدالة على قربها. واحدها شرط بالتحريك. (أن يتدافع أهل المسجد) أي في الإمامة فيدرأ كل من أهل المسجد الإمامة عن نفسه إلى غيره، ويقول لست أهلاً لها لما ترك تعلم ما تصح به الإمامة، ولجهلهم بما يجوز ولا يجوز. (لا يجدون إماماً) أي قابلاً الإمامة. (يصلي بهم) على وجه الصحة بأداء أركانها. وواجباتها وسننها ومندوباتها. وقيلك المعنى يدفع كل من أهل المسجد الإمامة عن غيره إلى نفسه، فيحصل بذلك النزاع، فيؤدي ذلك إلى عدم الامام. (رواه أحمد) (ج6 ص381) . (وأبوداود) ومن طريقه رواه البيهقي (ج3 ص29) . (وابن ماجه) واللفظ لأحمد وأبي داود. ولفظ ابن ماجه وأحمد في رواية: يأتي على الناس زمان يقومون ساعة لا يجدون إماما يصلي بهم. والحديث سكت عنه أبوداود والمنذري. وفي سنده عندهم جميعاً طلحة أم غراب. قال في التقريب: لا يعرف حالها. وذكرها ابن حبان في الثقات، روت عن عقيلة الفزارية عن سلامة بنت الحر. قال الحافظ في التقريب، والذهبي في الميزان: عقيلة الفزارية جدة علي بن غراب، لا يعرف حالها. 1131- قوله: (الجهاد واجب عليكم) أي فرض عين في حال وفرض كفاية في أخرى. (مع كل أمير) أي مسلم سلطان أو ولي أمره. (براً) بفتح الباء. (كان أو فاجراً) فإن الله قد يؤيد الدين بالرجل الفاجر، وإثمه على نفسه. ويؤيده ما روي عن أنس مرفوعاً: الجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل، أخرجه أبوداود في حديث، وسكت عنه هو والمنذري. قال ابن حجر في حديث أبي هريرة: جواز كون الأمير فاسقاً جائراً، وإنه لا ينعزل بالفسق والجور، وأنه تجب طاعته ما لم يأمر بمعصيته. وخروج جماعة من السلف على الجورة كان قبل استقرار الإجماع على حرمة الخروج على الجائر- انتهى. (وإن عمل الكبائر) كذا في جميع النسخ الموجودة، وكذا وقع في المصابيح، وليست هذه الزيادة في سنن أبي داود، ولم يذكرها أيضاً المجد بن تيمية في المنتقى، والزيلعي في نصب الراية (ج2 ص27) ولم تقع أيضاً في

والصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم، براً كان أو فاجراً، وإن عمل الكبائر. ـــــــــــــــــــــــــــــ رواه البيهقي. (والصلاة) أي بالجماعة. (واجبة عليكم) قال القاري: أي بالجماعة، كما تقدم من القول المختار، وهو فرض عملي لا اعتقادي لثبوته بالسنة، وهي آحاد. وقال ابن حجر: أي على الكفاية لا الأعيان - انتهى. وهي غاية من البعد عن شعار الإسلام، وطريق السلف العظام؛ لأنه يؤدي إلى أنه لو صلى شخص واحد مع الإمام في مصر لسقط عن الباقين. وقال الطيبي: القرينة الأولى تدل على وجوب الجهاد على المسلمين، وعلى جواز كون الفاسق أميراً، والثانية على وجوب الصلاة بالجماعة عليهم. وجواز أن يكون الفاجر إماماً، هذا ظاهر الحديث. ومن قال الجماعة ليست بواجبة على الأعيان تأوله بأنه فرض على الكفاية كالجهاد، وعليه دليل إثبات ما ادعاه. (خلف كل مسلم) إذا كان إماماً. (براً كان أو فاجراً وإن عمل الكبائر) قال ابن الملك: أي جاز اقتداءكم خلفه لورود الجواب بمعنى الجواز لاشتراكهما في جانب الإتيان بهما. وهذا يدل على جواز الصلاة خلف الفاسق، وكذا المبتدع إذا لم يكن ما يقوله كفراً. قال القاري في أمره بالصلاة خلف الفاجر مع أن الصلاة خلف الفاسق والمبتدع مكروهة عندنا دليل على وجوب الجماعة - انتهى. قلت: اختلف في امامة الفاسق والمبتدع: فذهب مالك إلى اشتراط عدالة من يصلى خلفه، وقال لا تصح إمامة الفاسق. وذهبت الشافعية والحنفية إلى صحة إمامته. قال العيني: أما الصلاة خلف الخوارج وأهل البدع فاختلف العلماء فيه: فأجازت طائفة منهم ابن عمر إذ صلى خلف الحجاج، وكذلك ابن أبي ليلى وسعيد بن جبير. وقال النخعي كانوا يصلون وراء الأمراء ما كانوا. وروى أشهب عن مالك: لا أحب الصلاة خلف الإباضية والواصلية، ولا السكنى معهم في البلد. وقال ابن القاسم: أرى الإعادة في الوقت على من صلى خلف أهل البدع. وقال أصبغ يعيد أبدا. وقال الثوري في القدري لا تقدموه. وقال أحمد بن حنبل: لا يصلي خلف أحد من أهل الأهواء إذا كان داعياً إلى هواه، ومن صلى خلف الجهمية والرافضية والقدرية يعيد. وقال أصحابنا: تكره الصلاة خلف صاحب هوى وبدعة، ولا تجوز خلف الرافضي والجهمي والقدري؛ لأنهم يعتقدون أن الله لا يعلم الشيء قبل حدوثه وهو كفر، والمشبهة، ومن يقول يخلق القرآن. وكان أبوحنيفة لا يرى الصلاة خلف المبتدع، ومثله عن أبي يوسف. وأما الفاسق بجوارحه كالزاني وشارب الخمر فزعم ابن الحبيب أن من صلى خلف من شرب الخمر يعيد أيداً إلا أن يكون واليا. وفي رواية: يصح. وفي المحيط: لو صلى خلف فاسق أو مبتدع يكون محرز الثواب صلاة الجماعة، ولا ينال ثواب من صلى خلف المتقي. وفي المبسوط: يكره الإقتداء بصاحب البدعة - انتهى. والحق عندي أنه لا يشترط عدالة إمام الصلاة لصحة الجماعة وصحة صلاة المقتدين، ولكن لا يجوز تقديم الفاسق، وكذا المبتدع ببدعة غير مكفرة للإمامة؛ لأن في تقديمه تعظيمه، وقد وجب إهانته شرعاً، ولأن الفاسق لا يهتم بأمر دينه، ولأن

الإمامة من باب الامانة، والفاسق خائن، ولأن مبنى الإمامة على الفضيلة، ولأن الناس لا يرغبون في الصلاة خلف الفاسق والمبتدع، فتؤدي إمامتهما إلى تنفير الجماعة وتقليلها، وذلك مكروه، ولقوله عليه السلام: اجعلوا أئمتكم خياركم، فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم. أخرجه الدارقطني (ص197) والبيهقي (ج3:ص90) من حديث ابن عمر، قال البيهقي: إسناده ضعيف - انتهى. قلت: في سنده حسين بن نصر المؤدب. قال ابن القطان: لا يعرف. وفيه أيضاً سلام بن سليمان المدائني. قال الشوكاني: ضعيف، ولقوله عليه السلام: إن سركم أن تقبل صلاتكم فليؤمكم خياركم-الحديث، أخرجه الحاكم من حديث مرثد الغنوي في كتاب الفضائل (ج4:ص222) وسكت عنه، وأخرجه أيضاً الطبراني والدارقطني (ص197) ، الا أن الطبراني قال: فليؤمكم علماؤكم. وفيه عبد الله بن موسى. قال الدارقطني: ضعيف. وفيه أيضاً القاسم بن أبي شيبة، وقد ضعفه ابن معين، ولما روى أبوداود وسكت عنه هو والمنذري عن السائب بن خلاد: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجل أم قوما فبصق في القبلة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر إليه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين فرغ: لا يصلي لكم فأراد بعد ذلك أن يصلي بهم فمنعوه وأخبروه بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: نعم. قال الراوي: حسبت أنه قال له: إنك آذيت الله ورسوله، ولما روي عن علي رضي الله عنه مرفوعاً: لا يؤمنكم ذو جرأة في دينه. ذكره الشوكاني في النيل بلا سند. وقال العلامة القنوجي في دليل الطالب (ص339) هو مرسل، ولقوله عليه السلام: لا يؤم فاجر مؤمناً إلا أن يقهره بسلطان يخاف سيفه أو سوطه. أخرجه ابن ماجه من حديث جابر في صلاة الجمعة. وفي سنده عبد الله بن محمد العدوي التميمي، وهو تألف. قال البخاري وأبوحاتم والدارقطني: منكر الحديث. وقال الدارقطني أيضاً: متروك. وقال وكيع: يضع الحديث. وقال ابن حبان لا يجوز الاحتجاج بخبره. وقال ابن عبد البر: جماعة أهل العلم بالحديث يقولون: إن هذا الحديث من وضع عبد الله بن محمد العدوي، وهو عندهم موسوم بالكذب. كذا في تهذيب التهذيب (ج6:ص21) هذا ولا يجوز للفاسق المبتدع التقدم للإمامة لما سبق من حديثي أبي أمامة وعبد الله بن عمرو بن العاص وما وافقهما من الأحاديث الدالة على تحريم إمامة الرجل وهو له كارهون. ولو تقدم الفاسق والمبتدع للإمامة وجب على القوم أن يمنعوهما عن الإمامة، وإن عجزوا عن المنع والعزل جازت الصلاة خلفهما مع الكراهة، أىجاز الاقتداء بهما للضرورة، وهي خوف الفتنة في منعهما وعزلهما عن الإمامة، وفي ترك الصلاة بالجماعة، وتصح الجماعة، ويكون المصلي محرزاً الثواب الجماعة. لكن لاينال مثل ما ينال خلف تقي، وبالجملة لا تفسد صلاة من صلى خلف الفاسق والمبتدع لعدم ما يدل على اشتراط عدالة الإمام في حق صحة صلاة المقتدي، وجواز الاقتداء، ولأن جواز الصلاة متعلق بأداء الأركان، وهما قادران عليهما، ولأن عدم قبول صلاتهما لا يستلزم عدم جواز الاقتداء بهما، ولا عدم

قبول صلاة المؤتمين بهما فضلاً عن فساد صلاتهم، لأن الذم والوعيد أنما هو متوجه إلى من كره القوم وإمامته لا إلى المؤتمين، كما لايخفى، ولأن من صحت صلاته لنفسه صحت لغيره، أي صحت إمامته وجاز الائتمام به، ولقوله عليه السلام: لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه، ولحديث أبي هريرة هذا أو غيره مما سيأتي الإشارة إليها، وهي أحاديث كثيرة دالة على صحة الصلاة خلف كل بر وفاجر أي فاسق إلا أنها ضعيفة، كما ستعرف، ولما روى البخاري في تاريخه والبيهقي (ج3:ص122) عن عبد الكريم البكاء قال: أدركت عشرة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم يصلي خلف أئمة الجور. قال الشوكاني: عبد الكريم هذا لايحتج بروايته، وقد استوفى الكلام عليه في الميزان، ولكنه قد ثبت إجماع أهل العصر الأول من بقية الصحابة ومن معهم من التابعين إجماعاً فعلياً، ولا يبعد أن يكون قولياً على الصلاة خلف الجائزين؛ لأن الأمراء في تلك الأعصار كانوا أئمة الصلوات الخمس، فكان الناس لا يؤمهم إلا أمراؤهم في كل بلدة فيها أمير، وكانت الدولة إذ ذاك لبني أمية وحالهم وحال أمراءهم لا يخفى، وقد أخرج البخاري عن ابن عمر أنه كان يصلي خلف الحجاج، وأخرج مسلم وأهل السنن أن أبا سعيد الخدري صلى خلف مروان صلاة العيد في قصة تقديمه الخطبة على الصلاة، ولأنه قد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - أخبر بأنه يكون على الأمة أمراء يميتون الصلاة ويصلونها لغير وقتها، فقالوا: يارسول الله فما تأمرنا؟ فقال: صلوا الصلاة لوقتها، واجعلوا صلاتكم مع القوم نافلة. ولا شك أن من أمات الصلاة وفعلها في غير وقتها غير عدل. وقد أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة خلفه نافلة، ولا فرق بينها وبين الفريضة في ذلك. قال الأمير اليماني بعد ذكر هذا الحديث: فقد أذن بالصلاة خلفهم، وجعلها نافلة؛ لأنهم أخرجوها عن وقتها. وظاهره أنهم لو صلوها في وقتها لكان مأموراً بصلاتها خلفهم فريضة، ولما روي عن علي أنه أتاه قوم برجل فقالوا: إن هذا يؤمنا ونحن له كارهون. فقال له علي رضي الله عنه: إنك لخروط أي مقهور في الأمور أو متعسف في فعلك، أتؤم قوماً وهم لك كارهون. ففيه أنه وإن زجره عن الإمامة لكن لم ينه القوم عن الاقتداء به، ولا أمرهم باعادة الصلاة. والحاصل: أنه يحرم على الفاسق، وفي حكمة المبتدع، التقدم للامامة، ولا يجوز للقوم أن يقدموه ولو قدموه مع قدرتهم على المنع والعزل أثموا، وصحت الجماعة خلفه مع الكراهة التحريمية، ولا تفسد الصلاة لعدم ما يدل على بطلان صلاة المؤتمين به. ولو عجزوا عن المنع والعزل، وأمكنهم الصلاة خلف غيره بالتحول إلى مسجد آخر فهو أفضل، وإلا فالاقتداء به أولى من الانفراد، وصحت صلاتهم خلفه، لكن لا تخلو عن الكراهة، يعني يكونون محزرين لثواب صلاة الجماعة، لكن لا ينالون مثل ما ينال من صلى خلف تقي. وبما قلنا يحصل الجمع بين الأدلة المتعارضة الواردة في هذه المسألة. وإن شئت مزيد التفصيل فارجع إلى

والصلاة واجبة على كل مسلم براً أو فاجراً، وإن عمل الكبائر)) . رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ دليل الطالب (ص 335- 339) . (والصلاة) أي صلاة الجنازة. (واجبة) أي فرض كفاية عليكم أن تصلوا. (على كل مسلم) أي ميت ظاهر الإسلام. (براً كان أو فاجراً) فيه دليل على أنه يصلي على كل من مات مسلماً ولو كان فاسقاً. وإليه ذهب مالك والشافعي وأبوحنيفة وجمهور العلماء. قال النووي: قال القاضي: مذهب العلماء كافة الصلاة على كل مسلم ومحدود ومرجوم وقاتل نفسه وولد الزنا- انتهى. وتعقب بأن الزهري يقول: لا يصلى على المرجوم، وقتادة يقول: لا يصلى على ولد الزنا، وقال عمر بن عبد العزيز والأوزاعي: لا يصلى على الفاسق، ووافقهما أبوحنيفة في الباغي والمحارب، ووافقهما الشافعي في قول له في قاطع الطريق. والحق أن من قال كلمة الشهادة فله ما للمسلمين، ومنه صلاة الجنازة، ولأن عموم شرعية صلاة الجنازة لا يخص منه أحد من أهل كلمة الشهادة إلا بدليل، نعم يستحب للامام، وكذا لأهل العلم والصلحاء والأتقياء خاصة أن يتركوا الصلاة على الفاسق، سيما تارك الصلاة والمديون والغال وقاتل نفسه زجراً للناس. يدل على ذلك امتناعه - صلى الله عليه وسلم - من الصلاة على الغال والمديون، وأمرهم بالصلاة عليهما بقوله: صلوا على صاحبكم. ويدل عليه أيضاً حديث الذي قتل نفسه بمشاقص، فقال - صلى الله عليه وسلم -: أما أنا فلا أصلي عليه، ولم ينههم عن الصلاة عليه. (وإن عمل الكبائر) قال ابن مالك: هذا يدل على أن من أتى الكبائر لا يخرج عن الإسلام، وأنها لا تحبط الأعمال الصالحة، يعني خلافاً للمبتدعة فيهما. (رواه أبوداود) أي من طريق مكحول عن أبي هريرة في باب الغزو، مع أئمة الجور من كتاب الجهاد، وأخرجه أيضاً في باب إمامة البر والفاجر من كتاب الصلاة مختصراً بإسناده في الجهاد على ما في بعض النسخ. ومن طريق أبي داود أخرجه البيهقي في المعرفة والسنن الكبرى (ج3 ص121) ، وأخرجه أيضاً الدارقطني (ص158) قال الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص27) : ضعفه أبوداود بأن مكحولاً لم يسمع من أبي هريرة. وقال الدارقطني: مكحول لم يسمع من أبي هريرة، ومن دونه ثقات. وقال البيهقي: إسناده صحيح إلا أن فيه انقطاعاً بين مكحول وأبي هريرة. قال ابن الهمام بعد ذكر كلام الدارقطني: وحاصله أنه من مسمى الإرسال عند الفقهاء، وهو مقبول عندنا، وقد روي هذا المعنى من عدة طرق للدارقطني وأبي نعيم والعقيلي، كلها مضعفة من قبل بعض الرواة. وبذلك يرتقي إلى درجة الحسن عند المحققين، وهو الصواب- انتهى. وقال ابن حجر: الحديث وإن كان مرسلاً لكنه اعتضد بفعل السلف. قلت: في كلام ابن الهمام نظر لا يخفى على من له وقوف على طريق الحديث، وكلام الأئمة فيه. والحديث أخرجه الدارقطني أيضاً من حديث الحارث عن علي، ومن حديث علقمة والأسود عن عبد الله، ومن حديث مكحول أيضاً عن واثلة، ومن حديث أبي الدرداء من طرق كلها، كما قال الحافظ واهية جداً. قال العقيلي: ليس في هذا المتن إسناده يثبت. ونقل

{الفصل الثالث}

{الفصل الثالث} 1132- (10) عن عمرو بن سلمة قال: ((كنا بماء ممر الناس، يمر بنا الركبان نسألهم: ما للناس، ما للناس؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن الجوزي عن أحمد أنه سئل عنه، فقال ما سمعنا به. وقال الدارقطني: ليس فيها شيء يثبت. قال الحافظ: وللبيهقي في هذا الباب أحاديث كلها ضعيفة غاية الضعف. وأصح ما قيل حديث مكحول عن أبي هريرة على إرساله، يعني انقطاعه. وقال أبوأحمد الحاكم: هذا حديث منكر. وقد أطال الزيلعي الكلام في هذا الحديث في نصب الراية (ج2 ص26- 28) . 1132- قوله: (عن عمرو بن سلمة) بكسر اللام. قال الفتني في المغني: سلمة كله بفتح اللام إلا عمرو بن سلمة الجرمي إمام قومه، وبني سلمة القبيلة من الأنصار فبكسرها- انتهى. قال الحافظ في الفتح: عمرو بن سلمة مختلف في صحبته، ففي هذا الحديث أن أباه وفد. وفيه إشعار بأنه لم يفد معه. وأخرج ابن مندة من طريق حماد بن سلمة عن أيوب ما يدل على أنه وفد أيضاً، وكذلك أخرجه الطبراني، وقال في تهذيب التهذيب: وفد أبوه على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان عمرو يصلي بقومه في عهده وهو صغير لم يصح له سماع، ولا رواية. وروي من وجه غريب أنه أيضاً وفد مع أبيه روى عن أبيه، وعنه أبوقلابة الجرمي وغيره. قلت: روى ابن مندة في كتاب الصحابة حديثه من طريق صحيحة، وهي رواية الحجاج بن المنهال عن حماد بن سلمة عن أيوب عن عمرو بن سلمة قال: كنت في الوفد الذين وفدوا على الرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهذا تصريح بوفادته. وقد روى أبونعيم في الصحابة أيضاً من طرق ما يقتضي ذلك. وقال ابن حبان: له صحبة. وقال في التقريب: صحابي صغير نزل البصرة. وقال ابن عبد البر في الاستيعاب (ج2 ص446) أدرك زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان يؤم قومه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه كان أقرؤهم للقرآن. وقد قيل: إنه قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أبيه، ولم يختلف في قدوم أبيه. وقال ابن حزم في المحلى (ج2 ص218) : قد وجدنا لعمرو بن سلمة هذا صحبة ووفادة على النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أبيه -انتهى. وأبوه سلمة بفتح السين وكسر اللام ابن قيس. وقيل: نفيع الجرمي بفتح الجيم وسكون الراء صحابي، ما له في البخاري سوى هذا الحديث، وكذا ابنه. (كنا بماء) أي ساكنين بمحل ماء. قال الطيبي: بماء خبر كان وقوله: (ممر الناس) أي عليه، صفة لماء أو بدل منه، أي نازلين بمكان فيه ماء يمر الناس عليه. قال الحافظ: يجوز في ممر الحركات الثلاث – انتهى. (يمر بنا) استئناف أو حال من ضمير الاستقرار في الخبر. (الركبان) بضم الراء جمع الراكب للبعير خاصة، ثم اتسع فيه فأطلق على من ركب دابة. (نسألهم) أي نقول لهم. (ما للناس ما للناس) بالتكرار مرتين أي أيّ شيء حدث للناس كناية عن ظهور دين الإسلام، والتكرار لغاية التعجب. وقال الطيبي: سؤاله هذا يدل على

ما هذا الرجل؟ فيقولون: يزعم أن الله أرسله أوحي إليه، أوحي إليه كذا. فكنت أحفظ ذلك الكلام، فكأنما يغري في صدري، وكانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح فيقولون: أتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم، ـــــــــــــــــــــــــــــ حدوث أمر غريب، ولذا كرروه وقالوا: (ما هذا الرجل) كناية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يدل على سماعهم منه نبأ عجيباً، فيكون سؤالهم عن وصفه بالنبوة، ولذلك وصفوه بالنبوة، كذا قاله الطيبي، أي هذا الرجل الذي نسمع منه نبأ عجيباً أي ما وصفه. وقال الحافظ: أي يسألون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن حال العرب معه. (فيقولون) أي الركبان. (يزعم) أي الرجل يعني يقول. (أوحي إليه كذا) هكذا في جميع النسخ الموجودة عندنا، وكذا في جامع الأصول (ج6 ص376) . والذي في البخاري أوحى الله. (بلفظ الجلالة بدل إليه) ، كذا أي آية كذا أو سورة كذا. قال الطيبي: كناية عن القرآن. ووقع لغير أبي ذر أو أوحى الله كذا، أي بزيادة لفظ "أو" وهو للشك من الراوي، يريد به حكاية ما كانوا يخبرونهم به ما سمعوه من القرآن. وفي المستخرج لأبي نعيم فيقولون: نبي يزعم أن الله أرسله وأن الله أوحى إليه كذا وكذا. (فكنت أحفظ ذلك الكلام) أي الذي ينقلونه عنه، ولأبي داود: وكنت غلاماً حافظاً، فحفظت من ذلك قرآناً كثيراً. (فكأنما يغري في صدري) بضم التحتية وفتح الغين المعجمة وتشديد الراء المهملة على بناء المجهول من التغرية، وهو الإلصاق بالغراء وهو الصمغ، أي كأنما يلصق في صدري، ونسبها الحافظ في الفتح للإسماعيلي، قال: ورجحها عياض. قال القاري: ما وقع في أصل نسخ المشكاة الحاضرة فهي رواية الإسماعيلي، وكذا حققه المحقق الشيخ ابن حجر في شرح صحيح البخاري. وقيل: بسكون الغين وفتح الراء من الإغراء. وقيل: بفتح التحتية وسكون الغين وفتح الراء على بناء المعلوم من غيري بالكسر يغري بالفتح، أي يلصق بالغراء، والغراء بالمد والقصر ما يلصق به الأشياء، ويتخذ من أطراف الجلود والسمك، وفي الصحاح: إذا فتحت الغين قصرت، وإذا كسرت مددت. وفي رواية الكشمهيني: يقر بضم الياء وفتح القاف وتشديد الراء من القرار. وفي رواية عنه يقرى بزيادة ألف مقصورة، أي يجمع من قريت الماء في الحوض، أي جمعته، والبعير يقرى العلف في شدقه، أي يجمعه. وفي رواية الأكثرين: يقرأ مجهولاً بسكون القاف آخره همزة مضمومة من القراءة، أي يجمع من قرأ بمعنى جمع، يقال للمرأة ما قرأت بسلى قط، أي لم تجمع في بطنها ولداً. وقال الشاعر: هجان اللون لم يقرأ جنيناً. (وكانت العرب) أي ما عدا قومه عليه السلام. والمراد أكثرهم. (تلوم) بفتح التاء واللام والواو المشددة. وأصله بتائين فحذفت إحداهما تخفيفاً، أي تنتظر وتتربص. (الفتح) أي فتح مكة يعنى النصرة والظفر على قومه. (فيقولون) تفسير لقوله "تلوم". أنث الضمير أولاً باعتبار الجماعة، وجمع ثانياً باعتبار المعنى. (وقومه) أي قريشاً، وهو منصوب على المعية. (ظهر عليهم) أي

فهو نبي صادق. فلما كانت وقعة الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبي قومي بإسلامهم، فلما قدم، قال: جئتكم والله من عند النبي حقاً، فقال: صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلاة كذا في حين كذا. فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآناً. فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآناً مني، لما كنت أتلقى من الركبان. فقدموني بين أيديهم، وأنا ابن ست أو سبع سنين، وكانت عليّ بردة كنت إذا سجدت تقلصت عني، فقالت امرأة من الحي: ـــــــــــــــــــــــــــــ غلب على قومه. (فهو نبي صادق) إذ لا يتصور غلبته عليهم كذلك إلا بمحض المعجزة الخارقة للعادة القاضية بأنه لا يظهر عليهم لضعفه وقوتهم. (فلما كانت وقعة الفتح) في رمضان سنة ثمان من الهجرة. (بادر) أي سارع وسابق. (بدر أبي قومي) أي غلبهم وسبقهم. قال الطيبي: قوله "بدر" من باب المبالغة، أي بادر أبي القوم فبدرهم أي غلبهم في البدار بالكسر أي المبادرة. وقال العيني: قوله: بادر أي أسرع، وكذا قوله: بدر، يقال بدرت إلى شيء وبادرت، أي أسرعت. (فلما قدم) أي أبي من عند النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الحافظ في الفتح، والعيني في العمدة: هذا يشعر بأنه ما وفد مع أبيه، ولكن لا يمنع أن يكون وفد بعد ذلك. (قال) أي لهم (جئتكم والله من عند النبي حقاً) قال الطيبي: هذا حال من الضمير العائد إلى الموصول، أعنى الألف واللام في النبي - صلى الله عليه وسلم - على تأويل الذي نبي حقاً- انتهى. أو حال كونه محقاً، قاله ابن حجر، أو حق هذا القول حقاً، قاله القاري. (فقال) .. أي النبي - صلى الله عليه وسلم - قولاً من جملته. (فإذا حضرت الصلاة) أي وقتها. (فليؤذن أحدكم) أي خياركم خير لكم. فلا ينافي ما تقدم من حديث ابن عباس: ليؤذن لكم خياركم؛ لأن هذا لبيان لأفضل، وذلك لبيان الأجزاء، قاله القاري. (فليؤمكم) كذا في جميع النسخ الحاضرة أي بالفاء. والذي في البخاري وليؤمكم أي بالواو، وكذا أي بالواو نقله المجد بن تيمية في المنتقى، والزيلعي في نصب الراية، والجزري في جامع الأصول (ج6 ص387) . فالظاهر أن ما وقع في المشكاة خطأ من النساخ. (أكثركم قرآناً) ولأبي داود: قالوا يا رسول الله! من يؤمنا؟ قال أكثركم جمعاً للقرآن. (فنظروا) أي في الحي. (فلم يكن أحد أكثر) بنصبه قال القاري: وفي نسخه بالرفع، أي فلم يوجد أحد أكثر. (لما كنت أتلقى) أي القرآن من التلقي، وهو التلقن والأخذ. (فقدموني بين أيديهم) أي للإمامة. (وأنا ابن ست أو سبع سنين) وللنسائي: وأنا ابن ثمان سنين. ولأبي داود: وأنا ابن سبع سنين أو ثمان سنين. (وكانت عليّ بردة) شمله مخططة. وقيل: كساء أسود مربع فيه صفر تابسه الأعراب. وفي رواية لأبي داود: وعليّ بردة لى صغير صفراء. وفي أخرى: كنت أؤمهم في بردة موصلة فيها فتق. (تقلصت عني) بقاف ولام مشددة وصاد مهملة، أي انجمعت

ألا تغطون عنا أست قارئكم؟ فاشتروا، فقطعوا لي قميصاً، فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ وانضمت وارتفعت عني لقصرها وصغرها وضيقها وفتقها حتى يظهر شيء من عورتي. وفي رواية أبي داود: تكشفت عني. وفي أخرى: خرجت أستى. (ألا) بتخفيف اللام فالهمزة للإنكار. (عنا) أي عن قبلنا أو عن جهتا. (أست قارئكم) بهمزة وصل أي دبره وعجزه، ولأبي داود: فقالت امرأة من النساء واروا عنا عورة قارئكم. قال في لسان العرب: الستة والأست معروفة، وهومن المحذوف المجتبلة له ألف الواصل الجوهري والأست العجز، وقد يراد به حلقة الدبر، وأصله سته على فعل بالتحريك يدل على ذلك أن جمعه أستاه مثل جمل وأجمال. (فاشتروا) مفعوله محذوف أي ثوباً. ولأبي داود: فاشتروا لي قميصاً عمانياً بضم العين مخففاً نسبه إلى عمان من البحرين. (فرحي) أي مثل فرحي. (بذلك القميص) إما لأجل حصول التستر وعدم تكلف الضبط وخوف الكشف، وإما فرح به كما هو عادة الصغار بالثواب الجديد. وزاد أبوداود في رواية له: قال عمرو بن سلمة فما شهدت مجمعاً من جرم إلا كنت إمامهم. والحديث فيه دليل على أن الأحق بالإمامة الأقرأ. وأن المراد بالأقرأ في حديث أبي مسعود وأبي مسعود وأبي سعيد السابقين الأكثر جمعاً للقرآن لا الأحسن قراءة والأكثر علماً وفقهاً. وفي تقديم عمرو بن سلمة وهو ابن سبع سنين، أو ثمان سنين، دليل على جواز إمامة الصبي المميز للمكلفين في النافلة والفريضة. وقد اختلف الناس فيه: فممن أجاز ذلك الحسن البصري وإسحاق بن راهوية والبخاري، والشافعي وله في الجمعة قولان: قال في الأم: لا تجوز. وقال في الإملاء: تجوز، وكرهه عطاء والشعبي ومالك والأوزاعي والثوري وأحمد، وإليه ذهب أصحاب الرأي. قال في المرقاة: في الحديث دليل على جواز إمامة الصبي. وبه قال الشافعي، وعنه في الجمعة قولان: وقال مالك وأحمد لا يجوز إمامة الصبي، وكذا قال أبوحنيفة: واختلف أصحابه في النفل، فجوزه مشائخ بلخ، وعليه العمل عندهم وبمصر والشام، ومنعه غيرهم وعليه العمل بما وراء النهر- انتهى. وقال الحافظ في الفتح: وعن أبي حنيفة وأحمد روايتان، والمشهور عنهما الاجزاء في النوافل دون الفرائض، واستدل من منع إمامة الصبي بأنه متنفل لعدم وجوب الصلاة عليه، ولا يجوز اقتداء المفترض به، أي بالمتنفل؛ لأن صلاة الإمام متضمنة لصلاة المقتدي صحة وفساداً، لقوله عليه السلام: الإمام ضامن. ولا شك أن الشيء يتضمن ما هو دونه لا ما هو فوقه، فلم يجز اقتداء البالغ بالصبي، وأجيب بأن انتفاع وجوب الصلاة على الصبي لا يستلزم عدم صحة إمامته، لما تقدم من صحة صلاة المفترض خلف المتنفل في باب القراءة. وسيأتي أيضاً. وأما قوله عليه السلام: "الإمام ضامن" فقد سبق بيان معناه ووجه عدم صحة الاستدلال به على مدعاهم في باب فضل الأذان، واستدلوا أيضاً بما روى عن ابن مسعود قال: لا يؤم الغلام حتى تجب عليه الحدود، وعن ابن عباس قال: لا يؤم الغلام حتى يحتلم. أخرجهما الأثرم في سننه، وأثر ابن عباس أخرجه عبد الرزاق عنه

مرفوعاً. قال الحافظ في الفتح: اسناده ضعيف وأجيب عنه بأنه من قول الصحابي وللاجتهاد فيه مسرح، فلا يكون حجة سيما وقد ورد ما يدل على خلافه، وهو حديث عمرو بن سلمة الجرمي الذي نحن بصدد شرحه، واحتج ابن حزم على عدم الصحة بأنه - صلى الله عليه وسلم - أمرهم أن يؤمهم أقرأهم. قال: فعلى هذا إنما يؤم من يتوجه إليه الأمر، والصبي ليس بمأمور؛ لأن القلم رفع عنه، فلا يؤم كذا قال، ولا يخفى فساده؛ لأنا نقول: المأمور من يتوجه إليه الأمر من البالغين بأنهم يقدمون من اتصف بكونه أكثر قرآناً فبطل ما احتج به، كذا في الفتح قال الحنيفة: ومن وافقهم حديث عمرو هذا لاحجة فيه على صحة إمامة الصبي؛ لأنه لم يرد أن ذلك كان عن أمره - صلى الله عليه وسلم - ولا عن علمه وتقريره وإنما قدموه باجتهادهم، ورد بأن دليل الجواز وقوع ذلك في زمن الوحي ولا يقرر فيه على فعل ما لا يجوز، سيما في الصلاة التي هي أعظم أركان الإسلام، وقد نبه - صلى الله عليه وسلم - بالوحي على القذى الذي كان في نعله، فلو كان إمامة الصبي لا تصح لنزل الوحي بذلك. وقد استدل أبوسعيد وجابر بأنهم كانوا يعزلون والقرآن ينزل، والوفد الذين قدموا عمراً كانوا جماعة من الصحابة. قال ابن حزم في المحلى (ج4 ص218) بعد رواية الحديث: فهذا فعل عمرو بن سلمة، وطائفة من الصحابة معه لا يعرف لهم من الصحابة مخالف فأين الحنفيون والمالكيون المشنعون بخلاف الصحابة، إذا وافق تقليدهم وهم أترك الناس له لا سيما من قال منهم أن ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع. وقد وجدنا لعمرو هذا صحبة ووفادة على النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أبيه- انتهى. وقال الحافظ في الفتح: لم ينصف من قال: إنهم فعلوا ذلك باجتهادهم ولم يطلع النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك؛ لأنها شهادة نفي، ولأن زمن الوحي لا يقع التقرير فيه على ما لا يجوز، كما استدل أبوسعيد وجابر لجواز العزل، لكونهم فعلوه عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان منهيا عنه لنهي عنه في القرآن - انتهى. وأجابوا أيضاً بما ذكر الخطابي في المعالم (ج1 ص169) : عن أحمد بن حنبل أنه كان يضعف أمر عمرو بن سلمة، وأنه قال: مرة دعه ليس بشيء بين، وبأنه لم يخرج البخاري حديث عمرو هذا في باب إمامة العبد والمولى وولد البغي والأعرابي والغلام الذي لم يحتلم، ولم يستدل به على إمامة غير البالغ، بل احتج لذلك بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: يؤمهم أقرأهم لكتاب الله. والظاهر أنه فعل ذلك؛ لأنه رأى حديث عمرو غير بين في الدلالة على ذلك فتوقف فيه كما توقف أحمد، فقد نقل أيضاً عنه أنه قال: "لا أدري ما هذا" فلعله لم يتحقق بلوغ أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورد بأن عمرو بن سلمة، هذا صحابي. وقد روى ما يدل على أنه وفد النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم، وحديثه هذا صحيح، وظاهر في الدلالة على إمامة الصبي، كما تقدم وجه الاستدلال به، فلا معنى لتضعيف أمره والتوقف في الاستدلال به على جواز إمامة غير البالغ للمكلف. وأجابوا أيضاً بأن عمرو بن سلمة كان عند إمامته لقومه بالغاً، ثم اختلفوا فقال قائل وهو

رواه البخاري. 1133- (11) وعن ابن عمر، قال: ((لما قدم المهاجرون الألون المدينة، كان يؤمهم ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن القيم، كما صرح في البدائع (ج4 ص91) : أن رواية: "أنه كان له سبع سنين" فيه رجل مجهول، فهو غير صحيح. وقال بعضهم: إن العمر المذكور في الحديث هو لتلقينه القرآن من الركبان لا لإمامته. وقد وقع التقصير من الراوي في التعبير حيث جعله عمر إمامته. قال في فيض الباري (ج2 ص 218) : والجواب عندي إن في القصة تقديماً وتأخيراً، فما ذكره من عمره، هو عمر تعلمه القرآن دون عمر إمامته، كما يعلم من مراجعة كتب الرجال. وقال في (ج4 ص113) قوله: "فقدموني بين أيديهم وأنا ابن ست سنين أو سبع سنين" فيه تصور إذ عمره المذكور عند تحقيق كان لأخذ القرآن لا لإمامته. وهكذا بيعته أيضاً كان بعد ما بلغ الحلم. وقد قصر الراوي في التعبير- انتهى بلفظه. ورد بأنه لا دليل على أن عمرو بن سلمة كان قد بلغ الحلم عند إمامته لقومه، بل تبطله الروايات المصرحة بكونه غير بالغ عند تقديم قومه له لإمامة الصلاة، فلا يلتفت إلى قولهم، لكونه دعوى مجردة عن البرهان. وأما قول ابن القيم بأن الرواية المذكورة غير صحيحة، فهو صادر عن الغفلة؛ لأنها مخرجة في صحيح البخاري. وأما ما قال صاحب الفيض: إن القصة وقع فيها تقديم وتأخير وأن العمر المذكور في الحديث كان لأخذه القرآن لا لإمامته. ففيه أنه ادعاء محض. ونسبه الوهم والقصور إلى الراوي من غير حجة وبينة، وقد راجعنا كتب الرجال فلم نجد فيها شيئاً يدل على ما ادعاه، ولا يمكن لمن يدعي ذلك أن يأتي عليه بنقل قوي أو ضعيف أبدا. وأما القدح في الحديث بأن فيه كشف العورة في الصلاة، وهو لا يجوز. ففيه أنه يحتمل أن يكون ذلك قبل علمهم بالحكم، فلا يعترض بذلك على من استدل بقصة عمرو هذه على جواز إمامة غير البالغ فتأمل. (رواه البخاري) في غزوة الفتح. وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي والبيهقي. 1133- قوله: (لما قدم) أي من مكة. (المهاجرون الأولون) أي الذين سبقوا بالهجرة إلى المدينة، وقدموا أولاً قبل قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - (المدينة) بالنصب على الظرفية، لقوله "قدم" كذا في جميع النسخ للمشكاة. وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج6 ص 378) ونسبه إلى البخاري وأبي داود. والذي في البخاري في إمامة العبد من كتاب الصلاة العصبة موضعاً بقباء. وفي رواية أبي داود: لما قدم المهاجرون الأولون نزلوا العصبة. قال الحافظ: أي المكان المسمى بذلك، وهو بإسكان الصاد المهملة بعدها موحدة. واختلف في أوله فقيل: بالفتح. وقيل: بالضم. ثم رأيت في النهاية: ضبطه بعضهم بفتح العين والصاد المهملتين. قال أبوعبيد البكرى: لم يضبطه الأصيلي في روايته، والمعروف المعصب بوزن محمد بالتشديد وهوموضع بقباء. (كان يؤمهم) أي المهاجرين،

سالم مولى أبي حذيفة، وفيهم عمر، وأبوسلمة بن عبد الأسد. ـــــــــــــــــــــــــــــ ومن أسلموا من أهل المدينة. (سالم) بالرفع اسم كان. (مولى أبي حذيفة) هو ابن عتبة بن ربيعة بن عبدشمس ابن عبد مناف القرشي، كان من فضلاء الصحابة من المهاجرين الأولين، صلى القبلتين وهاجر الهجرتين جميعاً، وكان إسلامه قبل دخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم للدعاء فيها إلى الإسلام، هاجر مع امرأته سهلة بنت سهل بن عمرو إلى أرض الحبشة، ثم قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة، فأقام بها حتى هاجراإلى المدينة. وشهد بدراً وأحداً والخندق والحديبية والمشاهد كلها، وقتل يوم اليمامة شهيدا، وهو ابن ثلاث أو أربع وخمس سنة. يقال: اسمه مهشم. وقيل: هشيم. وقيل: هاشم. وكان سالم المذكور مولى زوج أبي حذيفة الأنصارية، فأعتقه وكانت إمامته بهم قبل أن يعتق، وإنما قيل له مولى أبي حذيفة؛ لأنه لما أعتقته مولاته زوج أبي حذيفة تولى أبا حذيفة ولازمه وتبناه أبوحذيفة، فلما نهوا عن ذلك قيل له مولاه، واستشهد سالم باليمامة في خلافة أبي بكر. قال الذهبي: سالم مولى أبي حذيفة من كبار البدريين، مشهور كبير القدر. يقال له سالم بن معقل، وكان من أهل فارس من اصطخر. وقيل: إنه من العجم من سبي كرمان، وكان يعد في قريش لتبني أبي حذيفة له، ويعد في العجم لأصله، ويعد في المهاجرين لهجرته، ويعد في الأنصار لأن معتقته أنصارية، ويعد من القراء؛ لأنه كان أقرأهم أي أكثرهم قرآناً. وقال ابن عبد البر: كان من فضلاء الموالى ومن خيار الصحابة وكبارهم. وههنا في البخاري زيادة لم يذكرها المصنف وهو قوله: "وكان أكثرهم قرآناً"، وفيه إشارة إلى سبب تقديمهم له مع كونهم أشرف منه. وفي رواية للطبراني، كما في مجمع الزوائد (ج2 ص64) ؛ لأنه كان أكثرهم قرآناً. (وفيهم) أي وفي الذين كان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة. (عمر) بن الخطاب. (وأبوسلمة بن عبد الأسد) هو عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي زوج أم سلمة قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أخا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخا حمزة من الرضاعة أرضعته ثويبة مولاة أبي لهب أرضعت حمزة، ثم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم أبا سلمة. وأمه برة بنت عبد المطلب بن هاشم عمة النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان ممن هاجر بإمرأته أم سلمة إلى أرض الحبشة، ثم شهد بدراً بعد أن هاجر الهجرتين، وجرح يوم أحد جرحاً اندمل، ثم انتقض، فمات منه، وذلك لثلاث مضين من جمادي الآخرة سنة ثلاث من الهجرة، واستخلفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المدينة حين خرج إلى غزوة ذي العشيرة، وكانت في السنة الثانية من الهجرة وهو ممن غلبت عليه كنيته، وتزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعده زوجته أم سلمة. وهذه الجملة أىقوله: " وفيهم عمرو أبوسلمة" ليست للبخاري، بل هي لأبي داود. والحديث رواه البخاري في باب استقضاء الموالى واستعمالهم من كتاب الأحكام بلفظ: قال ابن عمر كان سالم مولى أبي حذيفة يؤم المهاجرين الأولين وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسجد قباء، فيهم أبوبكر وعمر وأبوسلمة وزيد. (أي ابن حارثة) وعامر بن ربيعة. (أي العنزي مولى عمر) . وقد استشكل ذكر أبي بكر الصديق فيهم إذ في الحديث أن ذلك كان قبل مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم -

رواه البخاري. 1134- (12) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاثة لا ترفع لهم صلاتهم فوق رؤسهم شبراً: رجل أم قوماً وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وأخوان ـــــــــــــــــــــــــــــ وأبوبكر كان رفيقه وصاحبه في الهجرة. ووجهه البيهقي بأنه يحتمل أن يكون سالم استمر يؤمهم بعد أن تحول النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، ونزل بدار أبي أيوب قبل بناء مسجده بها، فيحتمل أن يقال فكان أبوبكر يصلي خلفه إذا جاء إلى قباء، واستدل بإمامة سالم بهؤلاء الجماعة على جواز إمامة العبد، ولذلك أورده المصنف في باب الإمامة تبعاً للبخاري والمجد بن تيمية. ووجه الدلالة منه إجماع كبار الصحابة القرشيين على تقدم سالم عليهم. ويدل عليه أيضاً ما روى الشافعي في مسنده وعبد الرزاق عن ابن أبي ملكية أنه كان يأتي عائشة هو وأبوه وعبيد بن عمير والمسور بن مخرمة وناس كثير فيؤمهم أبوعمر ومولى عائشة، وهو يومئذٍ غلام لم يعتق. وروى البيهقي عن هشام بن عروة عن أبيه أن أبا عمر وذكوان كان عبداً لعائشة فأعتقه وكان يقوم بها شهر رمضان يؤمها وهو عبد. قال الحافظ: وإلى صحة إمامة العبد ذهب الجمهور، وخالف مالك فقال: لا يؤم الأحرار إلا إن كان قارئاً وهم لا يقرؤن فيؤمهم إلا في الجمعة؛ لأنها لا تجب عليه، وخالفه أشهب واحتج بأنها تجزئه إذا حضرها. وقال العيني: قال أصحابنا تكره إمامة العبد لإشتغاله بخدمة مولاه، وأجازها أبوذر وحذيفة وابن مسعود، ومن التابعين ابن سيرين والحسن وشريح والنخعي والشعبي والحكم، ومن الفقهاء الثوري وأبوحنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق. وقال مالك: تصح إمامته في غير الجمعة. وفي رواية: لا يؤم إلا إذا كان قارئاً، ومن خلفه من الأحرار لا يقرؤن ولا يؤم في جمعة ولا عيد. وفي المبسوط: إن إمامته جائزة وغيره أحب ولو اجتمع عبد فقيه وحر غير فقيه، فثلاثة أوجه: أصحها أنهما سواء، ويترجح قول من قال: العبد الفقيه أولى، لما أن سالماً كان يؤم المهاجرين الأولين في مسجد قباء فيهم عمر وغيره؛ لأنه كان أكثرهم قرآناً- انتهى كلام العيني باختصار يسير. وقال القاري في إمامة سالم مع وجود عمر دلالة قوية على مذهب من يقدم الأقرأ على الأفقه. (رواه البخاري) فيه نظر؛ لأن اللفظ المذكور ليس للبخاري، وقد ذكرنا سياقه الذي في كتاب الأحكام ولفظه: في أبواب الإمامة لما قدم المهاجرون الأولون العصبة موضعاً بقباء قبل مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة وكان أكثرهم قرآناً. والحديث أخرجه أبوداود والبيهقي أيضاً. 1134- قوله: (لا ترفع لهم صلاتهم فوق رؤسهم شبراً) أي قدر شبر، وهوكناية عن عدم القبول كما تقدم. (وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط) لعدم إطاعتها إياه فيما أراد منها، ولهذا قال "باتت"؛ لأن ذلك في العادة يكون في الليل إلا فلا يختص الحكم بالليل، قاله السندي. (وأخوان) بفتحتين أي نسباً أو ديناً بأن يكونا

(27) باب ما على الإمام

متصارمان)) . رواه ابن ماجه. (27) باب ما على الإمام {الفصل الأول} 1135- (1) عن أنس، قال: ((ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم صلاة من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ـــــــــــــــــــــــــــــ مسلمين. (متصارمين) أي متقاطعان أي فوق ثلاث أو في الباطل. والحاصل أن المراد هو التقاطع الغير الجائز ديناً وعد الأخوين ثالثاً باعتبار أن المراد بالثلاثة الأنواع الثلاثة لا النفر الثلاثة، فليتأمل، قال الطيبي: متصارمان من الصرم، وهو القطع. وإخوان أعم من أن يكونا من جهة النسب أو الدين، لما ورد: لا يحل لمسلم أن يصارم مسلماً فوق ثلاث أي يهجره ويقطع مكالمته- انتهى. (رواه ابن ماجه) قال العراقي: وإسناده حسن. وقال في الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله ثقات. وقال ميرك: إسناده حسن. قال النووي. ورواه ابن حبان في صحيحه- انتهىكلام ميرك. (باب ما على الإمام) أي هذا باب في بيان الحقوق التي للمؤتمين على الإمام، وأهمها التخفيف في الصلاة رعاية لحالهم من المرض والسقم والحاجة وعدم التطويل الذي ينفرهم عن حضور الجماعة. وقال القاري: ما على الإمام أي من مراعاة المأمومين بالتخفيف في الصلاة، قال في اللمعات: ينبغي أن يعلم أنه ليس المراد بالتخفيف وترك التطويل أن يترك سنة القراءة والتسبيحات ويتهاون في أدائها، بل أن يقتصر على قدر الكفاية في ذلك، مثل أن يقتصر على قراءة المفصل بأقسامها على ما عين منها في الصلاة، ويكتفي على ثلاث مرات من التسبيح بأدائها، كما ينبغي مع رعاية القومة والجلسة، وأكثر ما يراد بتخفيف الصلاة الوارد في الأحاديث تخفيف القراءة- انتهى. وسيأتي مزيد بيان لذلك في شرح أحاديث الباب، وما هو الراجح في معنى التخفيف المأمور المطلوب في حق الإمام. 1135- قوله: (ما صليت وراء إمام قط) أي مع طول عمره، فإنه آخر من مات بالبصرة من الصحابة سنة إحدى وتسعين، وله من العمر مائة وثلاث سنين. (أخف) صفة لإمام (صلاة) بالنصب على التمييز. (ولا أتم) عطف على سابقه، يعني صلاته - صلى الله عليه وسلم - كانت خفيفة غير طويلة، ومع خفتها كانت تكون تامة كاملة. فقد روى مسلم من حديث أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان من أخف الناس صلاة في تمام، ولهما عن أنس أيضاً: كان يوجز في الصلاة ويتم: وقيل. يمكن أن يكون المعنى أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يطيل الصلاة حين يرى رغبة الصحابة في التطويل ونشاطهم لذلك ويخفف أخرى عند وجود عذر أو داع يدعوا إلى التخفيف وترك الطويل والظاهر هو

المعنى الأول. قيل: خفة الصلاة عبارة عن عدم تطويل قراءتها فوق ما ورد، وعين في الأحاديث وعن تخفيف القعود وتمامها عبارة عن الإتيان بجميع الأركان والواجبات والسنن وعن إتمام الركوع والسجود، فقد روى النسائي من حديث زيد بن أسلم عن أنس قال: ما صليت وراء إمام أشبه صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إمامكم هذا. (يعني عمر بن عبد العزيز) قال زيد: وكان عمر بن عبد العزيز يتم الركوع والسجود ويخفف القيام والقعود. وروى أبوداود والنسائي من حديث أنس أيضاً قال: ما صليت وراء أحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشبه صلاة برسول الله من هذا الفتى، يعني عمر بن عبد العزيز، فحزرنا في ركوعه عشر تسبيحات، وفي سجوده عشر تسبيحات. فقد علم من هذين الحديثين أن المراد بخفة الصلاة تخفيف القيام والقعود، وبتمامها اتمام الركوع والسجود، وعلم أيضاً أن من سبح في الركوع والسجود عشر تسبيحات لا يكون فعله مخالفاً لما وصف به أنس صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خفتها مع التمام. وقيل: التخفيف أمر نسبي، فرب طويل يكون قصيراً بالنسبة إلى أطول منه، والقصير يكون طويلاً بالنسبة إلى أقصر منه، فكانت صلاته - صلى الله عليه وسلم - خفيفة، ومع خفتها تكون تامة ولا اشكال فيه. وقيل: المراد أن تطويله - صلى الله عليه وسلم - يرى بالنسبة إلى صلاة الآخرين في غاية الخفة، يعني لو كان غيره - صلى الله عليه وسلم - يقرأ مثل هذه القراءة يرى طويلاً ويورث الملالة بخلافها عنه - صلى الله عليه وسلم -، فإنه كان يورث ذوقاً ونشاطاً ولذة وحضور بالاستماع عنه - صلى الله عليه وسلم - من جهة حسن الصوت وجودة الأداء وبروز الأنوار وظهور الأسرار. وأيضاً كان في قراءته - صلى الله عليه وسلم - سرعة وطي لسان وزمان يتم في أدنى ساعة كثيراً منها مع كونها مجودة مرتلة مبينة. وقال ابن القيم في كتاب الصلاة بعد ذكر حديث الباب وحديث أنس عند البخاري بلفظ: "كان يوجز الصلاة ويكملها" ما لفظه: فوصف أي أنس صلاته - صلى الله عليه وسلم - بالإيجاز والتمام، والإيجاز هو الذي كان يفعله لا الايجاز الذي يظنه من لم يقف على مقدار صلاته، فان الإيجاز أمر نسبي اضافي راجع إلى السنة لا إلى شهوة الإمام ومن خلفه، فلما كان يقرأ في الفجر بالستين إلى المائة. (أي آية) كان هذا الايجاز بالنسبة إلى ست مائة إلى ألف ولما قرأ في المغرب بالأعراف كان هذا الايجاز بالنسبة إلى البقرة، ويدل على هذا أن أنساً نفسه قال في الحديث الذي رواه أبوداود والنسائي: ما صليت وراء أحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشبه صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا الفتى، يعني عمر بن عبد العزيز، فحرزنا في ركوعه عشر تسبيحات الخ. وأنس أيضاً هو القائل في الحديث المتفق عليه: إني لا آلو أن أصلي بكم كما كان رسول الله يصلي بنا. قال ثابت كان أنس يصنع شيئاً لا أراكم تصنعونه كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائماً حتى يقول القائل: قد نسي، وإذا رفع رأسه من السجدة مكث حتى يقول القائل: قد نسي، وأنس هو القائل هذا، وهو القائل: "ما صليت وراء إمام أخف صلاة ولا أتم من صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - "، وحديثه لا يكذب

وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف مخافة أن تفتن أمه)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ بعضه بعضا- انتهى. (وإن كان) إن هذه هي المخففة من المثقلة، واسمها ضمير الشأن، وكان خبرها أي أنه كان (ليسمع بكاء الصبي) فيه جواز ادخال الصبيان المساجد وإن كان الأولى تنزيه المساجد عمن لا يؤمن حدثه فيها؛ لحديث "جنبوا مساجدنا صبيانكم" الخ. أخرجه ابن ماجه بسند ضعيف جداً. وقال الحافظ: فيه أي في الاستدلال بحديث الباب على جواز إدخال الصبيان المساجد نظر، لاحتمال أن يكون الصبي كان مخلفاً في بيت بقرب من المسجد بحيث يسمع بكاءه. (فيخفف) بين مسلم في رواية ثابت عن أنس محل التخفيف ولفظه: "فيقرأ بالسورة القصيرة". وبين أبي شيبة من طريق عبد الرحمن بن سابط مقدارها ولفظه: أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ في الركعة الأولى بسورة طويلة فسمع بكاء صبي فقرأ بالثانية بثلاث آيات، وهذا مرسل، كذا في الفتح. وذكر العيني حديث ابن سابط بلفظ "قرأ في الركعة الأولى بسورة نحو ستين آية فسمع بكاء الصبي" الخ. (مخافة أن تفتن أمه) بضم المثناة الفوقية مبنياً للمفعول من الثلاثي ومن الأفعال والتفعيل أي تلتهى عن صلاتها لاشغال قلبها ببكائه، زاد عبد الرزاق من مرسل عطاء أو تتركه فضيع. وقوله: "مخافة بفتح الميم منصوب على التعليل مضاف إلى أن المصدرية، أي خوفاً من افتتان أمه. وفي نسخة أبي ذر من البخاري "أن يفتن" بفتح المثناة التحتية وكسر ثالثه مبنياً للفاعل، وأمه بالنصب على المفعولية. وذكره الجزري في جامع الأصول (ج6 ص374) بلفظ "مخافة أن تفتن أمه" أي من الافتنان، وفي الحديث دلالة على كمال شفقة النبي - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه ومراعاة أحوال الكبير مهم والصغير، وعلى مشروعية إيثار تخفيف الصلاة للأمر يحدث. قال السندي: وربما يؤخذ منه أن الإمام يجوز له مراعاة من دخل المسجد بالتطويل ليدرك الركعة كما له أن يخفف لأجلهم ولا يسمى مثله رياء بل هو إعانة على الخير وتخليص عن الشر- انتهى. وقال الخطابي في المعالم (ج1 ص102) : فيه دليل على أن الإمام وهو راكع إذا أحس برجل يريد الصلاة معه كان له أن ينتظره راكعاً ليدرك فضيلة الركعة في الجماعة؛ لأنه إذا كان له أن يحذف من طول الصلاة لحاجة الإنسان في بعض أمور الدنيا كان له أن يريد فيها لعبادة الله، بل هو أحق بذلك وأولى. وتعقبه القرطبي بأن في التطويل ههنا زيادة عمل في الصلاة غير مطلوب بخلاف التخفيف والحذف فإنه مطلوب- انتهى. قال ابن بطال: وممن أجاز ذلك الشعبي والحسن وعبد الرحمن بن أبي ليلى. وقال آخرون: ينظر ما لم يشق على أصحابه، وهو قول أحمد وإسحاق وأبي ثور. وقال مالك: لا ينتظر؛ لأنه يضر من خلفه، وهو قول الأوزاعي وأبي حنيفة والشافعي، ذكره العيني. وقال الحافظ في هذه المسألة خلاف عند الشافعية وتفصيل. وأطلق النووي عن المذهب استحباب ذلك. وفي التجريد للمحاملى: نقل كراهيته عن الجديد، وبه قال الأوزاعي ومالك وأبوحنيفة وأبويوسف. وقال محمد بن الحسن: أخشى أن يكون شركاً- انتهى. قلت: القول بكراهة ذلك لحمله على الرياء وتوهم الشرك فيه غفلة عظيمة من قائله، وتنطع في الدين، وتعمق في الشريعة لا يصح لأهل الورع

متفق عليه. 1136- (2) وعن أبي قتادة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه)) . رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ والتقوى. فالدين يسر، والله تعالى ما كلفنا فوق وسعنا، ونية الإحسان إلى المسلم نية جميلة حسنة يثاب عليها صاحبها لكونها لله تعالى ولا شك أن في مراعاة الإمام من دخل المسجد بالتطويل ليدرك الركعة من غير أن يشق على أصحابه إعانة له على طاعة مع نية التقرب إلى الله تعالى بتطويل الركن، وليس فيه شائبة الرياء والشرك، كيف وقد روى أحمد وأبوداود عن عبد الله بن أبي أوفي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم في الركعة الأولى من صلاة الظهر حتى لا يسمع وقع قدم. وقد سكت عنه أبوداود والمنذري، وفيه رجل مجهول، وروى هو أيضاً وابن خزيمة وابن حبان عن أبي قتادة أنه قال: (أى في بيان حكمة تويل الركعة الأولى) فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى، فأعدل الأقوال عندنا هو ما ذهب إليه أحمد وإسحاق وأبوثور. والله تعالى أعلم. (متفق عليه) فيه نظر؛ لأن مسلماً أخرج القطعة الأولى فقط أي إلى قوله: "ولا أتم الصلاة من النبي - صلى الله عليه وسلم - " وأما القطعة الثانية فهي من أفراد البخاري. أخرجه الإسماعيلي مطولاً بتمامه. وروى أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه والبيهقي من طريق آخر عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد اطالتها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتى مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه"، لفظ البخاري. 1136- قوله: (وأنا أريد إطالتها) جملة حالية. (فأسمع بكاء الصبي) قال العيني: البكاء إذا مددت أردت به الصوت الذي يكون معه، وإذا قصرت أردت خروج الدمع. وههنا ممدود لا محالة لقرينة فأسمع، إذ السماع لا يكون إلا في الصوت. (فأتجوز) أي فأخفف. (في صلاتي) قال الطيبي: أي أخفف كأنه تجاوز ما قصده أي ما قصد فعله لولا بكاء الصبي، قال: ومعنى التجوز أنه قطع قراءة السورة، وأسرع في أفعاله- انتهى. والأظهر أنه شرع في سورة قصيرة بعد ما أراد أن يقرأ سورة طويلة، كما تقدم من حديث أنس عند مسلم. (مما أعلم) "ما" مصدرية أو موصولة، والعائد محذوف. ومن تعليليه للاختصار، أي من أجل ما أعلم. (من شدة وجد أمه) بفتح الواو وسون الجيم، أي حزنها من وجد له يجد ويجد وجداً أي حزن. وقال ابن سيدة في المحكم: وجد يجد وجداً بالسكون والتحريك حزن- انتهى. ومن بيانية لما. (من بكاءه) تعليلية للوجد. قال الحافظ: وكان ذكر الإمام هنا خرج مخرج الغالب، وإلا فمن كان في معناه يلتحق بها. وفي الحديث دلالة على حضور النساء إلى المساجد مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. (رواه البخاري) أي عن أبي قتادة، وفيه

1137- (3) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا صلى أحدكم للناس فليخفف، فإن فيهم السقيم والضعيف والكبير. ـــــــــــــــــــــــــــــ نظر؛ لأن السياق الذي ذكره المصنف إنما هو لحديث أنس كما أسلفنا لا لأبي قتادة، وحديث أبي قتادة أخرجه البخاري في موضعين، رواه أولاً في باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي بلفظ: إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطول فيها فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتى كراهية أن أشق على أمه، ثم رواه في باب خروج النساء إلى المساجد قبيل كتاب الجمعة بلفظ: إني لأقوم إلى الصلاة وأنا أريد أن أطول فيها، والباقي مثله. وقد ظهر بهذا أن المصنف أخطأ في بيان مخرج الحديث، أي في ذكر الصحابي الذي روى الحديث بسياق الكتاب، فكان عليه أن يقول وعنه. (أى عن أنس) مكان وعن أبي قتادة وحديث أبي قتادة، أخرجه أيضاً أبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي. 1137- قوله: (إذا صلى أحدكم للناس) أي إماماً لهم فرضاً أو نفلاً أو اللام بمعنى الباء. وفي رواية لمسلم: إذا أمأحدكم الناس. (فليخفف) التخفيف من الأمور الإضافية، فقد يكون الشيء خفيا بالنسبة إلى عادة قوم طويلاً بالنسبة لعادة آخرين، فينبغي أن يقتدي بأضعف قومه بشرط أن لا يبلغ الإخلال في الفرئض والواجبات والسنن، فلا بد من التخفيف مع الكمال. قال الحافظ: أولى ما أخذ حد التخفيف من الحديث الذي أخرجه أبوداود والنسائي عن عثمان بن أبي العاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: أنت إمام قومك، واقتد أضعفهم، إسناده حسن، وأصله في مسلم- انتهى. وقد تقدم هذا الحديث في باب فضل الآذان. (فإن فيهم السقيم) أي المريض. (والضعيف) أي ضعيف الخلقة. (والكبير) أي في السن. زاد مسلم في رواية: والصغير. وزاد الطبراني من حديث عثمان بن أبي العاص: والحامل والمرضع، وله من حديث عدي بن حاتم: والعابر السبيل. وقوله في حديثي أبي مسعود وعثمان بن أبي العاص الآيتين: ذا الحاجة يشمل الأوصاف المذكورة، وقد وقع أيضاً هذا في رواية لمسلم من حديث أبي هريرة وقوله: فإن فيهم الخ تعليل للأمر المذكور. فمقتضاه أنه متى لم يكن فيهم من يتصف بصفة من المذكورات أو كانوا محصورين راضين بالتطويل في مكان لا يدخله غيرهم لم يضر التطويل؛ لانتفاء العلة. لكن قال ابن عبد البر: إن العلة الموجبة للتخفيف عندي مأمونة؛ لأن الإمام وإن علم قوة من خلفه فإنه لا يدري ما يحدث بهم من حادث شغل، وعارض من حاجة، وآفة من حدث بول أو غيره. وقال اليعمري: الأحكام إنما تناط بالغالب لا بالصورة النادرة، فينبغي للأئمة التخفيف مطلقاً، قال وهذا كما شرع القصر في صلاة المسافر، وعلل بالمشقة، وهو مع ذلك يشرع، ولو لم يشق عملاً بالغالب؛ لأنه

وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ماشاء)) . متفق عليه. 1138- (4) وعمن قيس بن أبي حازم، قال: أخبرني أبومسعود أن رجلاً قال: ((والله يا رسول الله! ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يدري ما يطرأ عليه وهنا كذلك. (فليطول ما شاء) أى في القراءة والركوع والسجود والاعتدال والجلوس بين السجدتين والتشهد. وفي رواية لمسلم: فليصل كيف شاء أي مخففاً أومطولاً، يعني أنه لا حجر عليه إن شاء طول وإن شاء طول وإن شاء خفف، ولكن لا ينبغي التطويل إلى أن يخرج الوقت أو يدخل في حد الكراهة. وفي مسند السراج: وإذا صلى وحده فليطول إن شاء. والحديث يدل على مشروعية التخفيف للأئمة، وترك التطويل للعلل المذكورة من الضعف والسقم والكبر والحاجة، ويلحق بها ما كان في معناها. واختلفوا في أن الأمر المذكور للوجوب أو الندب. قال القسطلاني: وقد ذهب جماعة كابن حزم وابن عبد البر وابن بطال إلى الوجوب تمسكاً بظاهر الأمر في قوله: فليخفف، وعبارة ابن عبد البر في هذا الحديث أوضح الدلائل على أن أئمة الجماعة يلزمهم التخفيف لأمره عليه الصلاة والسلام إياهم بذلك، ولا يجوز لهم التطويل؛ لأن في الأمر بالتخفيف نهياً عن التطويل. والمراد بالتخفيف أن يكون بحيث لا يخل بسننها ومقاصدها- انتهى. وقال الشوكاني في النيل: قال ابن عبد البر: التخفيف لكل إمام أمر مجمع عليه مندوب عند العلماء إليه إلا أن ذلك إنما هو أقل الكمال، وأما الحذف والنقصان فلا لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عن نقر الغراب، ورأى رجلاً يصلي فلم يتم ركوعه، فقال له: إرجع فصل فإنك لم تصل، وقال: لا ينظر الله إلى من لا يقيم صلبه في ركوعه وسجوده، ثم قال: لا أعلم خلافاً بين أهل العلم في استحباب التخفيف لكل من أم قوماً على ما شرطنا من الإتمام، وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه قال: لا تبغضوا الله إلى عبادة يطول أحدكم في صلاته حتى يشق على من خلفه- انتهى. (متفق عليه) واللفظ البخاري، وأخرجه أيضاً أحمد ومالك والترمذي وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج3 ص115- 117) . 1138- قوله: (وعن قيس بن أبي حازم) بالمهملة والزاى. قال في التقريب: قيس بن أبي حازم البجلي أبوعبد الله الكوفي، ثقة من كبار التابعين مخضرم، ويقال له رؤية. وهو الذي يقال: إنه اجتمع له أن يروي عن العشرة، مات بعد التسعين أو قبلها، وقد جاوز المائة وتغير. وقال في التهذيب: أدرك الجاهلية، ورحل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليباعه فقبض، وهو في الطريق، وأبوه له صحبة، ويقال: إن لقيس رؤية ولم يثبت. وقد أوضح القول في ذلك في الإصابة (ج3 ص271- 272) فارجع إليه. (أخبرني أبومسعود) عقبة بن عمرو الأنصاري البدري. (أن رجلاً) قال الحافظ: لم أقف على اسمه، ووهم من زعم أنه حزم بن أبيّ بن كعب؛

إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطبل بنا. فما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في موعظة أشد غضباً منه يومئذٍ، ثم قال: إن منكم منفرين، فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز، ـــــــــــــــــــــــــــــ لأن قصته كانت مع معاذ. (كما روى أبوداود في باب تخفيف الصلاة) لا مع أبيّ بن كعب. (إني لأتاخر عن الصلاة العداة) أي لا أحضر صلاة الصبح مع الجماعة. وفي رواية للبخاري: عن صلاة الفجر. وإنما خصها بالذكر؛ لأنها تطول فيها القراءة غالباً، ولأن الانصراف منها وقت التوجه لمن له حرفة إليها. (من أجل فلان) يعني إمام مسجد حية أو قبيلته. (مما يطيل بنا) أي من أجل إطالته بنا فما مصدرية، ومن الأولى تعليلية للتأخر والثانية بدل منها. وقال الطيبي: ابتدائية متعلقة بأتأخر، والثانية مع في حيزها بدل منها. والمراد من الإطالة أي في القراءة. وهذه قصة أخرى غير قصة معاذ المتقدمة في باب القراءة في الصلاة. قال الحافظ: أما قصة معاذ فمغايرة لحديث الباب، يعني حديث أبي مسعود هذا؛ لأن قصة معاذ كانت في العشاء وكان الإمام فيها معاذاً، وكانت في مسجد بنى سلمة وهذه كانت في الصبح وكانت في مسجد قبا، ووهم من قرأ الإمام المبهم هنا بمعاذ، بل المراد به أبيّ بن كعب، كما أخرجه أبويعلى بإسناده حسن من رواية عيسى بن جارية عن جابر قال: كان أبي بن كعب يصلي بأهل قبا، فاستفتح سورة طويلة فدخل معه غلام من الأنصار في الصلاة، فلما سمعه استفتحها انفتل من صلاته، فغضب أبيّ، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يشكو الغلام، وأتى الغلام يشكو أبيًّا، فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعرف الغضب في وجهه، ثم قال إن منكم منفرين، فإذا صليتم فأوجزوا، فإن خلفكم الضعيف والكبير والمريض وذا الحاجة. (أشد) بالنصب على الحال من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (غضباً) منصوب على التمييز. (منه) أي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو في صلة أشد. (يومئذٍ) أي يوم أخبر بذلك أي كان اليوم أشد غضباً منه في الأيام الأخر، والمفضل والمفضل عليه وإن كانا واحداً، وهو الرسول؛ لأن الضمير راجع إليه لكن باعتبارين، فهو مفضل باعتبار يومئذٍ، ومفضل عليه باعتبار سائر الأيام. وسبب شدة غضبه - صلى الله عليه وسلم -، إما لمخالفة الموعظة لإحتمال تقدم الإعلام بذلك بقصة معاذ، أو للتقصير في تعلم ما ينبغي تعلمه أو لإرادة الاهتمام بما يليقه على أصحابه ليكونوا من سماعه على بال لئلا يعود من فعل ذلك إلى مثله. (إن منكم) أي بعضكم. (منفرين) بصيغة الجمع من التنفير، أي للناس من الصلاة بالجماعة لتطويلكم المورث للملالة والتضجر. ولم يخاطب المطول على التعيين، بل عمم خوف الخجل عليه لطفاً به وشفقة على جمل عادته الكريمة. (فأيكم) أي أىُّ واحد منكم. (ما صلى بالناس) أي متلبساً بهم إماماً لهم. وكلمة "ما" زائدة، و"صلى" فعل شرط، وزيادة "ما" مع أي الشرطية كثيرة، وفائدتها التوكيد لمعنى الإبهام، وزيادة التعميم، وقيل: "ما" موصوفة منصوبة المحل على المفعول المطلق، أي أيكم أي صلاة صلى. (فليتجوز) جواب الشرط، أي فليخفف في صلاته بهم، يقال: تجوز في صلاته

فإن فيهم الضعيف، والكبير، وذا الحاجة)) . متفق عليه. 1139- (5) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يصلون لكم فإن أصابوا ـــــــــــــــــــــــــــــ أي خفف. وفي رواية: فمن صلى بالناس فليخفف. وفي أخرى: فمن أم الناس فليتجوز. (فإن فيهم الضعيف والكبير) أي في السن. وفي رواية للبخاري: فإن فيهم المريض والضعيف. وكأن المراد بالضعيف هنا المريض، وفي رواية المذكورة من يكون ضعيفاً في خلقته كالنحيف والمسن، وكل في مريض ضعيف من غير عكس. والحديث يدل على جواز التأخر عن صلاة الجماعة إذا علم من عادة الإمام التطويل الكثير، وعلى جواز الغضب لما ينكر من أمور الدين، وعلى تخفيف الصلاة مراعاة لحال المأمومين. وفيه وعيد على من يسعى في تخلف الغير عن الجماعة. (متفق عليه) أخرجه البخاري في العلم والصلاة والأدب والأحكام، ومسلم في الصلاة، واللفظ المذكور للبخاري في باب تخفيف الإمام في القيام، وإتمام الركوع والسجود. والحديث أخرجه أيضاً النسائي في العلم من سننه الكبرى وابن ماجه في الصلاة والبيهقي (ج3 ص115) . 1139- قوله: (يصلون) أي الأئمة. (لكم) أي لأجلكم. فللام فيه للتعليل. (فإن أصابوا) في الأركان والشرائط والسنن، قاله الكرمانى. وقال العيني: يعني فإن أتموا، يدل عليه حديث عقبة بن عامر الذي أخرجه الحاكم على شرط البخاري عنه مرفوعاً بلفظ: من أم الناس فأتم. وفي نسخة: فأصاب فالصلاة له ولهم، ومن انتقص من ذلك شيئاً فعليه ولا عليهم. وأعله الطحاوي بانقطاع ما بين عبد الرحمن بن حرملة وأبي علي الهمداني الراوى عن عقبة- انتهى كلام العينى. قلت: حديث عقبة هذا قال الحاكم في المستدرك (ج1 ص210) بعد روايته: حديث صحيح على شرط البخاري، ووافقه الذهبي، وقد أخرجه أيضاً أحمد وأبوداود وغيرهما، قال المنذري في الترغيب: عن أبي على المصري. (الهمداني) قال: سافرنا مع عقبة بن عامر فحضرتنا الصلاة فأردنا أن يتقدمنا، فقال إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من أم قوماً فإن أتم فله التمام، ولهم التمام، وإن لم يتم فلهم التمام، وعليه الإثم. رواه أحمد واللفظ له وأبوداود وابن ماجه والحاكم وصححه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما، ولفظهما: من أم الناس فأصاب الوقت وأتم الصلاة فله ولهم، ومن انتقص من ذلك شيئاً فعليه ولا عليهم. قال المنذري: هو عندهم من رواية عبد الرحمن بن حرملة الأسلمي عن أبي علي المصري. وعبد الرحمن قال أبوحاتم: لا يحتج به، وضعفه يحيى القطان. ولينه البخاري. ووثقة ابن معين، وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن عدي: لم أر له حديثاً منكراً، انتهى كلام المنذري، قلت: ووثقه أيضاً محمد بن عمرو وابن نمير، وقال الساجي: صدوق يهم في الحديث. وذكره ابن حبان في الثقات. وروى له مسلم حديثاً واحداً في متابعة القنوت. وذكر الحافظ في الفتح حديث عقبة هذا نقلاً عن أحمد وأبي داود، وسكت عنه وهذا كله

فلكم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ يدل على أن هذا الحديث عند الذهبي والمنذري والحافظ صحيح أو حسن قابل للاحتجاج، وأنهم لم يروا قول الطحاوي: لا يعرف لعبد الرحمن بن حرملة سماع من أبي علي الهمداني قابلاً للالتفات، وكيف يلتفت إلى قوله، وقد رواه عبد الرحمن بن حرملة بلفظ الإخبار عند البيهقي (ج3 ص127) حيث قال: أخبرني أبوعلي الهمداني. (فلكم) أي ثواب صلاتكم. قال الحافظ: زاد أحمد. (وكذا البيهقي) ولهم أي ثواب صلاتهم، وهو يغني عن تكلف توجيه حذفها، يشير إلى ما قال المظهر إنما اقتصر على لكم، إذ يفهم من تجاوز ثواب الإصابة إلى غيرهم ثبوته لهم، وقال القاري: أي لكم ولهم على التغليب؛ لأنه مفهوم بالأولى. وقيل: إن الحديث سيق في خطأ الإمام في إصابته وقت الصلاة. والمعنى فإن أصابوا أي الوقت، قاله ابن بطال والطحاوي واستدلا لذلك بما روى النسائي وغيره عن ابن مسعود بسند حسن مرفوعاً: ستدركون أقواماً يصلون الصلاة لغير وقتها فإن أدركتموهم فصلوا في بيوتكم للوقت الذي تعرفون، ثم صلوا معهم، واجعلوها سبحة. والظاهر أن المراد به ما هو أعم من ترك إصابة الوقت، ففي رواية لأحمد (ج4 ص145) من حديث عقبة بن عامر المذكور: من أم الناس فأصاب الوقت وأتم الصلاة فله ولهم، ومن انتقص من ذلك شيئاً فعليه ولا عليهم، وفي رواية له أيضاً (ج4 ص147) : فإن صلوا الصلاة لوقتها فأتموا الركوع والسجود فهي لكم ولهم، وإن لم يصلوا الصلاة لوقتها ولم يتموا ركوعها ولا سجودها فهي لكم وعليهم. والرواية الأولى أخرجها البيهقي أيضاً. (وإن اخطأوا) أي ارتكبوا الخطيئة في صلاتهم ككونهم محدثين مثلاً. قال الحافظ: ولم يرد به الخطأ المقابل للعمد؛ لأنه لا إثم فيه. (فلكم) أي ثوابها. (وعليهم) أي عقابها فخطأ الإمام في بعض غير مؤثر في صحة صلاة المأموم إذا أصاب، فلو ظهر بعد الصلاة أن الإمام جنب أو محدث أو في بدنه نجاسة فلا تجب إعادة الصلاة على المؤتم به. قال البغوي في شرح السنة: فيه دليل على أنه إذا صلى بقوم محدثاً إنه تصح صلاة المأمومين خلفه، وعليه الإعادة. ويدل عليه أيضاً ما ذكر المجد بن تيمية في المنتقى أنه صح عن عمر أنه صلى بالناس وهو جنب ولم يعلم فأعاد ولم يعيدوا، وكذلك عثمان وروي عن علي من قوله- انتهى. وإليه وذهب الشافعي، فإن المؤتم عنده تبع للإمام في مجرد الموافقة لا في الصحة والفساد، وبه قال مالك وأحمد. وظاهر قوله "أخطأوا" يدل على ما هو أعم مما ذكر البغوي، كالخطأ في الأركان كما قال القاري فإن أصابوا أي أتوا بجميع ما عليهم من الأركان والشرائط، وإن اخطأوا بأن أخلوا ببعض ذلك عمداً أو سهواً- انتهى. فيكون فيه دليل على صحة الائتمام بمن يخل بشيء من الصلاة ركناً كان أوغيره إذا أتم المأموم، وهو وجه للشافعية بشرط أن يكون الإمام هو الخليفة أو نائبه. وحمله الطحاوى وغيره من الحنفية على الخطأ في إصابة الوقت، كما تقدم؛ لأن المؤتم عندهم تبع للإمام مطلقاً، يعني في الصحة والفساد فيجب عندهم الإعادة على الإمام والمؤتمين جميعاً لو ظهر أنه صلى محدثاً أو جنباً، واستدلوا لذلك بقوله

{الفصل الثالث}

رواه البخاري. وهذا الباب خال عن الفصل الثاني. {الفصل الثالث} 1140- (6) عن عثمان بن أبي العاص، قال: ((آخر ما عهد إليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أممت قوماً فأخف بهم الصلاة)) . رواه مسلم. وفي رواية له: أن سول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال له: ((أم قومك، قال: قلت: يا رسول الله! إني لأجد في نفسي شيئاً، قال: ادنه، فأجلسني بين يديه، ثم وضع كفه في صدري ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه السلام الإمام ضامن، وقد تقدم الكلام على معناه في باب فضل الأذان. والراجح عندي هو ما ذهب إليه الشافعي ومن وافقه من الأئمة قال المهلب: في الحديث جواز الصلاة خلف البر والفاجر إذا خيف منه، يعني إذا كان صاحب شوكة. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً أحمد والبيهقي (ج3 ص127) وابن حبان في صحيحه، ولفظه: سيأتي أو سيكون أقوام يصلون الصلاة، فإن أتموا فلكم وإن انتقصوا فعليهم ولكم. (وهذا الباب خال) أي في المصابيح. (عن الفصل الثاني) أي عن الحسان وهو دفع لوهم الإسقاط ورفع لورود الاعتراض على قوله الفصل الثالث من غير الثاني. 1140- قوله: (آخر ما عهد) بكسر الهاء أي أوصى. (إليّ) وأمرني به. (إذا أممت) بالتخفيف. (فأخف) بفتح الفاء المشددة، ويجوز كسرها أمر من الإخفاف. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد (ج4 ص218) وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص116) . (وفي رواية له) أي لمسلم. (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) بفتح أن. (قال له) أي لعثمان. (أم قومك) أمر على وزن مد. (إني أجد في نفسي شيئاً) قال الطيبي: أي أرى في نفسي ما لا أستطيع على شرائط الإمامة وإيفاء حقها لما في صدري من الوساوس، وقلة تحملى القرآن والفقه، فيكون وضع اليد على ظهره وصدره لإزالة ما يمنعه منها، وإثبات ما يقويه على احتمال ما يصلح لها من القرآن والفقه. وقال النووي: قيل: يحتمل أنه أراد الخوف من حصول شيء من الكبر والإعجاب له يتقدمه على الناس، فأذهبه الله تعالى ببركة كف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعائه، يحتمل أنه أراد الوسوسة في الصلاة، فإنه كان موسوساً، ولا يصلح للإمامة الموسوس. فقد ذكر مسلم في الصحيح عن عثمان هذا قال: قلت: يا رسول الله! إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتى يلبسها عليّ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ذاك شيطان. يقال له خنزب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله، واتفل عن يسارك ثلاثا، ففعلت ذلك فأذهبه الله تعالى- انتهى. وقد تقدم هذا الحديث في باب الوسوسة. (أدنه) الدنو، وهو بهاء السكت لبيان ضم النون. (فأجلسني) من الإجلاس. وفي بعض النسخ من صحيح مسلم: فجلسني أي

(28) باب ما على المأموم من المتابعة وحكم المسبوق

بين ثدي، ثم قال: تحول، فوضعها في ظهري بين كتفي، ثم قال: أمّ قومك فمن أم قوماً فليخفف، فإن فيهم الكبير، وإن فيهم المريض، وإن فيهم ذا الحاجة. فإذا صلى أحدكم وحده فليصل كيف شاء)) . 1141- (7) وعن ابن عمر، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا بالتخفيف، ويؤمنا بالصافات)) . رواه النسائي. (28) باب ما على المأموم من المتابعة وحكم المسبوق {الفصل الأول} 1142- (1) عن البراء بن عازب، قال: ((كنا نصلي خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا قال: سمع الله لمن حمده، لم يحن ـــــــــــــــــــــــــــــ بتشديد اللام. (بين ثديي) بتشديد الياء على التثنية، وكذا قوله: كتفي. (تحول) أي انقلب. (فوضعها) أي كتفه. (فإن فيهم الكبير) في السن. (وإن فيهم الضعيف) كالصبيان والنسوان أو ضعيفي الأبدان وإن لم يكن مريضاً أو كبيراً. (وإن فيهم ذا الحاجة) أي المستعجلة. وفي تكرير "إن" إشارة إلى صلاحية كل للعلة. وهذه الرواية أخرجها أحمد (ج4 ص216، 218) وابن ماجه بنحوها من غير ذكر قصة وضع اليد على الصدر والظهر، وأخرجها البيهقي (ج3 ص118) مع القصة، وأخرجها أبوداود والنسائي وأحمد أيضاً (ج4 ص217) بلفظ قال: قلت يا رسول الله! اجعلني إمام قومي، فقال أنت إمامهم. واقتد بأضعفهم. 1141- قوله: (يأمرنا بالتخفيف) أي بتخفيف الصلاة إذا كنا إماماً. والمراد التخفيف في القراءة على ما ذكر وعين منها في الأحاديث. (ويؤمنا بالصافات) لرغبة المقتدين به سماع قراءته، وقوتهم على التطويل بحيث يكون هذا بالنظر إليهم تخفيفاً، فرجع الأمر إلى أنه ينبغي له أن يراعي حالهم، قاله السندي. وقال الطيبي: قبل بينهما أي بين أمره بالتخفيف وبين إمامته لهم بالصافات تناف، وأجيب: بأنه إنما يلزم إذا لم يكن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضيلة يختص بها، وهو أن يقرأ الآيات الكثيرة في الأزمنة اليسيرة- انتهى. وقيل: يحمل على أنه فعل ذلك أحياناً لبيان الجواز، وإليه إأشار النسائي حيث بوب على هذا الحديث: باب الرخصة للإمام في التطويل بعد: باب ما على الإمام من التخفيف. (رواه النسائي) وكذا البيهقي (ج3 ص118) . (باب ما على المأموم من المتابعة) للإمام. (وحكم المسبوق) بالجر عطف على ما. 1142- قوله: (لم يحن) بفتح التحتانية وسكون المهملة وضم النون وكسرها، يقال حنا يحنو وحنى

أحد منا ظهره حتى يضع النبي - صلى الله عليه وسلم - جبهته على الأرض)) . متفق عليه. 1143- (2) وعن أنس، قال: ((صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فلما قضى صلاته أقبل علينا بوجهه، فقال: أيها الناس! إني أمامكم فلا تسبقوني بالركوع، ولا بالسجود، ولا بالقيام، ولا بالإنصراف، ـــــــــــــــــــــــــــــ يحني معاً من بابي دعا ورمى، أي لم يقوس من حنيت العود وحنوته، أي عطفته وثنيته. (أحد منا ظهره) أي لم يثنه من القومة قاصداً للسجود. (حتى يضع النبي - صلى الله عليه وسلم - جبهته على الأرض) وفي رواية للبخاري: حتى يقع النبي - صلى الله عليه وسلم - ساجداً ثم نقع سجوداً بعده، أي بحيث يتأخر ابتداء فعلهم عن ابتداء فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويتقدم ابتداء فعلهم قبل فراغه من السجود، إذ أنه لا يجوز التقدم على الإمام، ولا التخلف عنه. ولا دلالة فيه على أن المأموم لا يشرع في الركن حتى يتمه الإمام خلافاً لابن الجوزي. ووقع في حديث عمرو بن حريث عند مسلم: وكان لا يحني رجل منا ظهره حتى يستتم ساجداً، ولأبي يعلى من حديث أنس: حتى يتمكن النبي - صلى الله عليه وسلم - من السجود. قال العيني: معنى هذا كله ظاهر في أن المأموم يشرع في الركن بعد شروع الإمام فيه وقبل الفراغه منه. وقال الحافظ بعد ذكر هذين الحديثين: وهذا أوضح في انتفاء المقارنة- انتهى. قال ابن دقيق العيد: حديث البراء يدل على تأخر الصحابة في الإقتداء عن فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يتلبس بالركن الذي ينتقل إليه لا حين يشرع في الهوي إليه. ولفظ الحديث الآخر يدل على ذلك أعني قوله: فإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا فإنه يقتضي تقدم ما يسمى ركوعاً وسجوداً- انتهى. قلت: أحاديث البراء وعمرو بن حريث وأنس وما في معناها كلها دليل على أنه يجب على المأموم متابعة الإمام في أفعاله، وأن السنة أن يتخلف المأموم في الانتقالات عن الإمام، أي لا يقارن الإمام في الهوي إلى الركن، بل يتأخر عن الشروع في الهوي حتى يشرع الإمام في الركن الذي انتقل إليه، وإليه ذهب الشافعي، وهو الحق. وحمل الحنفية هذه الأحاديث على أنه أمرهم بذلك حين بدن، فخشي أن يتقدموا عليه. وفيه أن هذا الحمل محتاج إلى دليل. والحديث فيه دليل على جواز النظر إلى الإمام لأجل اتباعه في انتقالاته في الأركان. (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب السجود على سبعة أعظم. والحديث أخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج2 ص92) . 1143- قوله: (فلما قضى صلاته) أي أداها وفرغ منها. (إني إمامكم) يعني وسمي الإمام إماماً ليؤتم به ويقتدي به على وجه المتابعة. (فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالإنصراف) أي لتسليم. وحاصله أن المتابعة واجبة في الأحوال المذكورة. واستدل به بعضهم على جواز المقارنة. ورد بأنه دل منطوقه على منع المسابقة وبمفهومه على طلب المتابعة. وأما المقارنة فمسكوت. قال النووي: المراد بالإنصراف السلام- انتهى.

فإني أراكم أمامي ومن خلفي)) . رواه مسلم. 1144- (3) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تبادروا الإمام: إذا كبر فكبروا، وإذا قال: ولا الضآلين، فقولوا: آمين، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم لك الحمد)) . متفق عليه، ـــــــــــــــــــــــــــــ ويحتمل أن يكون المراد النهي عن الانصراف من مكان الصلاة قبل الإمام لفائدة أن يدرك المؤتم الدعاء أو لاحتمال أن يكون الإمام قد حصل له في صلاته سهو، فيذكر وهو في المسجد ويعود له، كما في قصة ذي اليدين، أو لكي تنصرف النساء إلى بيوتهن قبل الرجال، كما قيل في بيان علة النهي في حديث أنس المتقدم في باب الدعاء في التشهد بلفظ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حضهم على الصلاة، ونهاهم أن ينصرفوا قبل انصرافه من الصلاة. قال الطيبي في شرح حديث الباب: يحتمل أن يراد بالانصراف الفراغ من الصلاة، وأن يراد الخروج من المسجد. قال القاري: الاحتمال الثاني في غاية السقوط لعدم المناسبة بالسابق واللاحق، وأيضاً لم يعرف النهي عن الخروج من المسجد قبل خروجه عليه السلام- انتهى. قلت: الاحتمال الثاني يؤيده حديث أنس الذي ذكرناه آنفاً، ويؤيده أيضاً حديث أم سلمة السابق في باب الدعاء في التشهد بلفظ: أن النساء في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كن إذا سلمن من المكتوبة قمن، وثبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن صلى من الرجال ما شاء الله. فإذا قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام الرجال. (أمامي) بفتح الهمزة أي قدامي أي خارج الصلاة. (ومن خلفي) أي داخلها بالمشاهدة على طريق خرق العادة. والمعنى كما أراكم من أمامي أراكم من خلفي. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والبيهقي (ج2 ص91- 92) . 1144- قوله: (لا تبادروا الإمام) أي لا تسبقوه بالتكبير والركوع والسجود والرفع منهما والقيام والسلام. (إذا كبر فكبروا) أي للإحرام أو مطلقاً فيشمل تكبير النقل. زاد أبوداود: ولا تكبروا حتى يكبر. (وإذا قال: ولا الضآلين) أي فقال آمين. (فقولوا آمين) أي مقارناً لتأمين الإمام لما تقدم أنه ليسن مقارنة تأمينه لتأمين إمامه. (وإذا ركع) أي أخذ في الركوع. (فاركعوا) زاد أبوداود: ولا تركعوا حتى يركع. (أى حتى يأخذ في الركوع لا حتى يفرغ منه، كما يتبادر من اللفظ) وإذا سجد. (أى أخذ في السجود) فاسجدوا ولا تسجدوا حتى يسجد. قال الحافظ: هي زيادة حسنة تنفى احتمال إرادة المقارنة من قوله: إذا كبر فكبروا. وقال العيني والحافظ أيضاً: رواية أبي داود هذه صريحة في انتفاء التقدم والمقارنة. (وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا لك الحمد) استدل به من قال: إن وظيفة الإمام التسميع، ووظيفة المأموم التحميد؛ لأن ظاهره التوزيع والتقسيم وهو ينافي الشركة، وقد تقدم الكلام عليه في باب الركوع. (متفق عليه) أي على أصل الحديث. وإلا فاللفظ المذكور لمسلم

إلا أن البخاري لم يذكر: وإذا قال: ولا الضآلين. 1145- (4) وعن أنس: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركب فرساً، فصرع عنه، فجحش شقة الأيمن، فصلى صلاة من الصلوات ـــــــــــــــــــــــــــــ دون البخاري. وللحديث طرق وألفاظ عند البخاري ومسلم: منها ما أخرجه البخاري في باب إقامة الصف من تمام الصلاة بلفظ: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، فإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون. وأقيموا الصف في الصلاة، فإن إقامة الصف من حسن الصلاة، وهو عند مسلم أيضاً إلا أنه لم يذكر قوله: وأقيموا الصف الخ، وزاد: فإذا كبر فكبروا. واستدل بقوله: ولا تختلفوا عليه، لأبي حنيفة وموافقيه على منع صلاة المفترض خلف المتنفل؛ لأن اختلاف النيات داخل تحت هذا القول لعمومه إطلاقه. وأجيب عنه بأنه محمول على الاختلاف في الأفعال الظاهرة فقط دون الباطنة، وهى ما لا يطلع المأموم عليه كالنية؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قد بين وجوه الاختلاف وفصلها بقوله: فإذا كبر فكبروا الخ. ويلحق ما لم يذكر قياساً عليه، ومنها ما أخرجه البخاري أيضاً في باب إيجاب التكبير بلفظ: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون. والحديث أخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج2 ص92) . (إلا أن البخاري لم يذكر: وإذا قال ولا الضآلين) يعني مع قوله: فقولوا آمين. وفيه أنه ليس في طريق من طرقه عند البخاري قوله: لا تبادروا الإمام كما عرفت فهذا اللفظ أيضاً من إفراد مسلم. 1145- قوله: (ركب فرساً) أي بالمدينة، كما في حديث جابر عند أبي داود. (فصرع عنه) بضم الصاد وكسر الراء المهملة أي أسقط عن الفرس. قال في القاموس: الصرع ويكسر الطرح على الأرض كالمصرع، وقد صرعه كمنعه. (فجحش) بجيم مضمومة ثم حاء مهملة مكسورة أي خدش، وهو قشر جلد العضو. وقيل: الجحش فوق الخدش. (شقة) بكسر الشين المعجمة أي جانبه (الأيمن) وفي رواية عبد الرزاق: ساقه الأيمن، وليست مصحفة كما زعم بعضهم لما يوافقها رواية البخاري في باب الصلاة في السطوح، والخشب بلفظ: فجحشت ساقه أو كتفه، فيقال: رواية الساق مفسرة لمحل الخدش من الشق الأيمن؛ لأن الخدش لم يستوعبه، ولا ينافي ذلك ما وقع في حديث جابر عند أبي داود: فصرعه على جزم النخلة، فانفكت قدمه، لاحتمال وقوع الأمرين، قال الحافظ: وأفاد ابن حبان أن هذه القصة كانت في ذي الحجة سنة خمس من الهجرة. (فصلى) أي في مشربة لعائشة كما في حديث جابر (صلاة من الصلوات) أي المكتوبات. قال القاري: وهو ظاهر العبارة. وقيل: من

وهو قاعد، فصلينا وراءه قعودا، فلما انصرف قال: إنما جعل الإمام ليؤتم به، ـــــــــــــــــــــــــــــ النوافل. وفي رواية: فحضرت الصلاة. قال القرطبي: اللام للعهد ظاهراً، والمراد الفرض؛ لأنها التي عرف من عادتهم أنهم يجتمعون لها بخلاف النافلة. وحكى عياض عن ابن القاسم أنها كانت نفلاً. وتعقب بأن في رواية جابر عند أبي داود الجزم بأنها فرض. قال الحافظ: لكن لم أقف على تعيينها إلا أن في حديث أنس: فصلى بنا يومئذ فكأنها نهارية الظهر أو العصر. (وهو قاعد) جملة حالية. قال عياض: يحتمل أن يكون أصابه من السقطة رض في الأعضاء منعه من القيام. ورد هذا بأنه ليس كذلك، وإنما كانت قدمه - صلى الله عليه وسلم - انفكت، كما ذكرنا من حديث جابر، وكذا وقع في رواية أنس عند أحمد والإسماعيلي. (فصلينا وراءه قعوداً) كذا في هذه الرواية: إنهم صلوا خلفه قاعدين، وهي رواية مالك عن الزهري عن أنس. وظاهرها يخالف ما روى البخاري وغيره من حديث عائشة بلفظ: فصلى جالساً وصلى وراءه قوم قياماً، فأشار إليهم أن أجلسوا. والجمع بينهما أن في رواية أنس هذه اختصاراً، وكأنه اقتصر على ما آل إليه الحال بعد أمره لهم بالجلوس. ووقع في رواية حميد عن أنس عند البخاري في باب الصلاة في السطوح بلفظ: فصلى بهم جالساً وهم قيام: فلما سلم قال: إنما جعل الإمام الخ. وفيهم أيضاً اختصار؛ لأنه لم يذكر قوله: لهم اجلسوا. والجمع بينهما أنهم ابتدؤا الصلاة قياماً، فأوما إليهم بأن يقعدوا فقعدوا، فنقل كل من الزهري وحميد أحد الأمرين وجمعتهما عائشة، وكذا جمعهما جابرعند مسلم. وجمع القرطبي بين الحديثين باحتمال أن يكون بعضهم قعد من أول الحال، وهو الذي حكاه أنس، وبعضهم قام حتى أشار إليه بالجلوس، وهذا الذي حكته عائشة. وتعقب باستبعاد قعود بعضهم بغير إذنه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه يستلزم النسخ بالاجتهاد؛ لأن فرض القادر في الأصل القيام. وجمع آخرون بينهما باحتمال تعدد الواقعة. وفيه بُعد؛ لأن حديث أنس إن كانت القصة فيه سابقه لزم منه ما ذكرنا من النسخ بالاجتهاد، وإن كانت متأخرة لم يحتج إلى إعادة قول: إنما جعل الإمام ليؤتم به الخ؛ لأنهم قد امتثلوا أمره السابق وصلوا قعوداً لكونه قاعداً، كذا في الفتح. (فلما انصرف) أي من الصلاة. (إنما جعل) بصيغة المجهول. (الإمام) يحتمل أن يكون جعل بمعنى سمي فيتعدى إلى مفعولين أحدهما الإمام القائم مقام الفاعل، والثاني محذوف أي إنما جعل الإمام إماماً، ويحتمل أن يكون بمعنى صار، أي إنما صير الإمام إماماً. وقيل: جعل بمعنى نصب واتخذ فلا حاجة إلى التقدير، وكلمة "إنما" تفيد جعل الإمام مقصوراً على الإنصاف بكونه مؤتماً به لا يتجاوز المؤتم إلى مخالفته. (ليؤتم به) أي ليقتدي به بالوجه المشروع. وقوله: فإذا صلى قائماً الخ بيان لذلك والائتمام الاقتداء والاتباع، أي جعل الإمام إماماً ليقتدي به ويتبع، ومن شأن التابع أن لا يسبق متبوعه ولا يساويه ولا يتقدم عليه في موقفه بل يراقب أحواله، ويأتي على أثرها بنحو فعله، ومقتضى ذلك أن لا يخالفه في شيء من الأحوال التي فصلها الحديث

فإذا صلى قائماً فصلوا قياماً، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا لك الحمد، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا في غيرها قياساً، ولكن ذلك مخصوص بالأفعال الظاهرة ولا يشمل الباطنة، وهي ما لا يطلع عليه المأموم كالنية لما سيأتي. وبالجملة الإئتمام يقتضي متابعة المأموم لإمامه في أحوال الصلاة، فتنتفى المقارنة والمسابقة والمخالفة. قال النووي: متابعة الإمام واجبة في الأفعال الظاهرة. وقد نبه عليها في الحديث فذكر الركوع وغيره بخلاف النية، فإنها لم تذكر، وقد خرجت بدليل آخر، وكأنه يعني قصة معاذ المقدمة في باب القراءة وستأتي أيضاً في باب من صلى صلاة مرتين. ويمكن أن يستدل بهذا الحديث على عدم دخولها؛ لأنه يقتضي الحصر في الاقتداء به في أفعاله لا في جميع أحواله كما لو كان محدثاً أو حامل نجاسة، فإن الصلاة خلفه تصح لمن لم يعلم حاله على الصحيح عند العلماء. ثم مع وجوب المتابعة ليس شيء منها شرطاً في صحة القدوة إلا تكبيرة الإحرام. واخنلف في السلام، والمشهور عند المالكية اشتراطه مع الإحرام والقيام من التشهد الأول، وخالف الحنفية فقالوا: تكفي المقارنة، قالوا لأن معنى الإئتمام الامتثال ومن فعل مثل فعل إمامه عد ممتثلاً سواء أوقعه معه أو بعده، وسيأتي حديث أبي هريرة الدال على تحريم التقدم على الإمام في الأركان. (فإذا صلى قائماً فصلوا قياماً) مصدر أي ذوي قيام أو جمع أي قائمين ونصبه على الحالية. (وإذا ركع فاركعوا) وفي رواية للبخاري: فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا فالتكبير هنا مقدر مراد. (وإذا رفع) أي رأسه. (فارفعوا) وفي رواية للبخاري: إذا رفع فارفعوا وإذا سجد فاسجدوا. وهو يتناول الرفع من الركوع والرفع من السجود وجميع السجدات. (ربنا لك الحمد) كذا في جميع النسخ: "لك الحمد" بغير الواو. ووقع في البخاري بإثباتها. قال الحافظ: كذا لجميع الرواة في حديث أنس بإثبات الواو إلا في رواية الليث عن الزهري في باب إيجاب التكبير، فللكشمهينى بحذف الواو، ورجح إثبات الواو بأن فيها معنى زائداً لكونها عاطفة على محذوف، وقد تقدم الكلام في معناه. (فإذا صلى) أي الإمام (جالساً) أي بعذر. (فصلوا جلوساً) جمع جالس وهو حال بمعنى جالسين. (أجمعون) بالرفع على أنه تأكيد لضمير الفاعل في قوله "صلوا" أو للضمير المستكن في الحال وهو جلوساً. قال الحافظ: كذا في جميع الطرق في الصحيحين بالواو. وقال القسطلاني: ولأبي ذر وأبي الوقت: أجمعين بالنصب على الحال أي من ضمير الفاعل في قوله "صلوا" أو من ضمير"جلوساً"، أي صلوا جالسين مجتمعين، وليس منصوباً على أنه تأكيد لجلوساً؛ لأنه نكرة فلا يؤكد. وقيل: هو منصوب على التأكيد، لكن تأكيد لضمير منصوب مقدر كأنه قال: أعينكم أجمعين. ولا يخفى ما فيه من البعد. والحديث فيه فوائد: منها: وجوب متابعة الإمام، فيكبر للإحرام بعد فراغ الإمام منه، فإن شرع فيه قبل فراغه لم تنعقد؛ لأن الإمام لا يدخل في

الصلاة إلا بالفراغ من التكبير، فالاقتداء به في أثناءه اقتداء بمن ليس في صلاة بخلاف الركوع والسجود ونحوهما، فيركع بعد شروع الإمام في الركوع، فإن قارنه أو سبقه أساء ولا تبطل، وكذافي السجود، ويسلم بعد سلامه، فإن سلم قبله بطلت إلا أن ينوي المفارقة أو معه فلا تبطل؛ لأنه تحلل فلا حاجة فيه للمتابعة بخلاف السبق، فإنه مناف للاقتداءن قاله القسطلاني. ومنها: مشروعية ركوب الخيل والتدرب على أخلاقها والتأسي لمن يحصل له سقوط، ونحوه بما اتفق للنبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الواقعة، وبه الأسوة الحسنة. ومنها: أنه يجوز عليه - صلى الله عليه وسلم - ما يجوز على البشر من الأسقام ونحوها من غير نقص في مقداره بذلك بل ليزداد قدره رفعة ومنصبه جلالة. ومنها: استحباب العيادة عند حصول الخدشة ونحوها. ومنها: جواز الصلاة جالساً عند العجز. ومنها: أنه يجب متابعة الإمام في القعود. وأنه يقعد المأموم مع قدرته على القيام، واختلف الأئمة فيه: فذهب إلى ظاهر الحديث إسحاق والأوزاعي وداود وبقية أهل الظاهر، قالوا: يجب القعود خلف الإمام القاعد ولو كان القوم أصحاء. قال ابن حزم في المحلى (ج3 ص69) : وبهذا نأخذ إلا فيمن يصلي إلى جنب الإمام يذكر الناس ويعلمهم تكبير الإمام، فأنه مخير بين أن يصلي قاعداً وبين أن يصلي قائماً، وذهب أحمد إلى التفصيل، فقال: إذا ابتدأ إمام الحي الراتب الصلاة قاعداً لمرض يرجي برءه فحينئذ يصلون وراءه جلوساً ندباً ولو كانوا قادرين على القيام وتصح الصلاة خلفه قياماً، فالحديث عنده محمول على القعود الأصلي الغير الطارىء، ومقيد بإمام الحي الراتب المرجو زوال مرضه، والأمر بالجلوس فيه للندب، قال: وإذا ابتدأ الإمام الراتب قائماً لزم المأمومين أن يصلوا خلفه قياماً سواء طرأ ما يقتضي صلاة إمامهم قاعدا أم لا، كما في الأحاديث التي في مرض موته، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرهم بالقعود؛ لأنه ابتدأ إمامهم، وهو أبوبكر، صلاته قائماً ثم أمهم - صلى الله عليه وسلم - في بقية الصلاة قاعداً بخلاف صلاته - صلى الله عليه وسلم - بهم في مرضه الأول المذكور في حديث أنس، فإنه ابتدأ صلاته قاعداً فأمرهم بالقعود. وذهب الشافعي وأبوحنيفة وأبويوسف إلى أنه لا يجوز للقادر على القيام أن يصلي خلف القاعد إلا قائماً، وهو رواية عن مالك فيما رواه الوليد بن مسلم عنه، قالوا: الأمر بالقعود خلف الإمام القاعد للعذر منسوخ، وناسخه صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالناس في مرض موته قاعداً وهم قيام، وأبوبكر قائم. هكذا قرره الشافعي، ونقله البخاري عن شيخه الحميدي، وهو تلميذ الشافعي، وسيأتي الجواب عن ادعاء النسخ. وذهب مالك في الرواية المشهورة عنه إلى أنه لا يجوز صلاة القادر على القيام خلف القاعد لا قائماً ولا قاعداً، وبه قال محمد فيما حكاه الطحاوي عنه قالت المالكية، إمامة الجالس المعذور بمثله وبالقائم خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يصح التقدم بين يديه في الصلاة ولا لعذر ولا لغيره، ورد بصلاته - صلى الله عليه وسلم - خلف عبد الرحمن بن عوف وخلف أبي بكر ثم لو سلم أنه لا يجوز أن يؤمه أحد لم يدل ذلك على منع إمامة القاعد، وقد أم قاعداً جماعة من الصحابة بعده - صلى الله عليه وسلم -، منهم أسيد بن حضير

قال الحميدي: قوله: إذا صلى جالساً فصلوا جلوساً، هو في مرضه القديم، ثم صلى بعد ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ـــــــــــــــــــــــــــــ وجابر وقيس بن قهد وأنس بن مالك، والأسانيد عنهم بذلك صحيحة. أخرجها عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وغيرهم، بل ادعى ابن حبان وابن حزم إجماع الصحابة على صحة إمامة القاعد. وقال أبوبكر ابن العربي: لا جواب لأصحابنا عن حديث مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - يخلص عند السبك، واتباع السنة أولى، والتخصيص لا يثبت بالاحتمال. قال: إلا إني سمعت بعض الأشياخ يقول: الحال أحد وجوه التخصيص، وحال النبي - صلى الله عليه وسلم - والتبرك به وعدم العوض عنه يقتضي الصلاة معه على أي حال كان عليها وليس ذلك لغيره، وأيضاً فنقص صلاة القاعد عن القائم لا يتصور في حقه، فلا نقص في صلاته عن القائم، والجواب عن الأول رده بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: صلوا كما رأيتموني أصلي، وعن الثاني بأن النقص إنما هو في حق القادر في النافلة، وأما المعذور في الفريضة فلا نقص في صلاته عن القائم. وقال ابن دقيق العيد: وقد عرف أن الأصل عدم التخصيص حتى يدل عليه دليل- انتهى. على أنه يقدح في التخصيص ما تقدم من إمامة جماعة من الصحابة قاعدين بعده - صلى الله عليه وسلم -.......... واستدل بعضهم على دعوى التخصيص بما روى الدارقطني (ص153) والبيهقي (ج3 ص80) عن الشعبي مرفوعاً: لا يؤمن أحد بعدي جالساً، وأجيب عن ذلك بأن الحديث باطل؛ لأنه من رواية جابر الجعفى عن الشعبي مرسلاً وجابر متروك، وروي أيضاً من الرواية مجالد عن الشعبي ومجالد ضعفه الجمهور، وحكى عياض عن بعض مشائخهم: أن إمامة القاعد منسوخة جملة بحديث الشعبي المذكور، وتعقب بأن ذلك يحتاج لو صح إلى تاريخ وهو لا يصح كما قدمنا. (قال الحميدي) بضم الحاء المهملة وفتح الميم هو شيخ البخاري وتلميذ الشافعي، واسمه عبد الله بن الزبير بن عيسى أبي عبيد الله بن الزبير بن عبيد الله بن حميد القرشي الأسدي المكي أبوبكر، ثقة فقيه حافظ، أجل أصحاب ابن عيينة. قال الحاكم: كان البخاري إذا وجد الحديث عند الحميدي لا يعدوه إلى غيره من الثقة به. وفي الزهرة: روى عنه البخاري خمسة وسبعين حديثاً، وهو من أفراد البخاري، مات بمكة سنة تسع عشرة ومائتين. وقيل: بعدها وليس هو الحميدي الذي جمع بين الصحيحين. (هو في مرضه القديم) يعني مرضه الذي كان بسبب سقوطه عن الفرس. وقال القاري: أي حين- آلى من نسائه- انتهى. وفيه أن قصة الإيلاء كانت سنة تسع على ما هو المشهور، وواقعه سقوطه عن الفرس المذكورة في حديث أنس وعائشة وجابر كانت سنة خمس على ما أفاد ابن حبان وجزم به العيني والقسطلاني وصاحب تأريخ الخميس. (ثم صلى بعد ذلك) أي في مرض موته. (النبي - صلى الله عليه وسلم -) حال

جالساً والناس خلفه قيام لم يأمرهم بالقعود، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. ـــــــــــــــــــــــــــــ كونه (جالساً والناس خلفه قيام لم يأمرهم بالقعود، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -) يعني أن الذي يجب به العمل هو ما استقر عليه آخر الأمر من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولما كان آخر الأمرين منه - صلى الله عليه وسلم - صلاته قاعداً والناس وراءه قيام دل على أن ما كان قبله من ذلك مرفوع الحكم ومنسوخ، هذا هو الجواب المشهور عن حديث أنس وما في معناه ممن اختار وجوب القيام خلف الإمام القاعد، وإليه يظهر ميل البخاري حيث ذكر قول شيخه الحميدي هذا بعد إخراج الحديث ولم يتعقبه. وقال في كتاب المرضى بعد إخراج حديث عائشة في قصة السقوط عن الفرس: قال الحميدي: هذا الحديث منسوخ. قال أبوعبد الله. (هو البخاري نفسه) ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - آخر ما صلى صلى قاعداً والناس خلفه قيام – انتهى. قلت: في هذا الجواب نظر من وجوه: منها: أن حديث أنس وما في معناه قانون كلي وتشريع عام للأمة، وما صدر منه - صلى الله عليه وسلم - في مرض موته واقعة جزئية غير منكشفة الحال، وحكاية حال محتملة لمحامل فلا يدري أنه كان لنسخ الأمر بالقعود خلف الإمام القاعد أو كان لبيان أن الأمر المذكور ليس للوجوب بل للندب، أو كان ذلك لأن إمامهم كان قد ابتدأ الصلاة قائماً فأقرهم على القيام إظهاراً للفرق بين القعود الأصلي والقعود الطارىء، وبين المرض المرجو الزوال وغير المرجو الزوال، وادعاء النسخ بمثل هذه الواقعة الجزئية لا يخلو عن خفاء بل هو مشكل. قال صاحب فيض الباري: القول بالنسخ لا يعلق بالقلب؛ لأن الحديث مشتمل على أجزاء كثيرة من تشريع عام وضابطة كلية على نحو بيان سنة وسرد معاملة بين الإمام والمأموم، فالقول بنسخ جزء من الأجزاء من البين، وإبقاء المجموع على ما كان ثم بواقعه جزئية تحتمل محامل مما يفضي إلى الاضطبراب ولا يشفي، ولعمرى أنا لو لم نعلم هذه المسألة لما انتقل ذهن أحدنا إلى أن صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك قاعداً كانت لبيان النسخ وإنما حملناها عليه حفظا للمذهب فقط، وإلا فالجمع بين الحديثين يحصل على مذهب أحمد ولا يحتاج إلى النسخ ألا ترى أن ساداتنا (الحنفية) لما تركوا مسئلة جواز الاستقبال والاستدبار لم يبالوا بوقائع تنقل في هذا وقالوا: إنها وقائع غير منكشفة الحال، وحديث أبي أيوب تشريع عام فلا أدري أنه ما الفرق بين هذين، فذهبوا إلى النسخ ههنا دون هناك- انتهى. ومنها: أن القول بالنسخ مبني على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان الإمام وأن أبا بكر كان مأموماً في تلك الصلاة، وقد وقع في ذلك خلاف. قال السندي في حاشية ابن ماجه: قوله: كان أبوبكر يأتم بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. (أى في قصة مرض موته) ظاهره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إماماً، وقد جاء خلافه أيضاً. وبسبب التعارض في روايات هذا الحديث سقط استدلال من استدل به على نسخ حديث: وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً، وقال في حاشية النسائي بعد ذكر الروايات المختلفة في ذلك ما لفظه: وهذا يفيد الاضطراب في هذه لواقعة، فعلى هذا فالحكم بنسخ ذلك الحكم الثابت بهذه الواقعة المضطربة، لا يخلو عن خفاء. وأجيب بأن هذا الاختلاف ليس بقادح؛ لأن روايات إمامة النبي - صلى الله عليه وسلم - أصح وأرجح، لكونها مخرجة في الصحيحين،

فتقدم على روايات إمامة أبي بكر. ويظهر من صنيع الشيخين أن الراجح عندهما هو إمامة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنهما لم يدخلا في صحيحها من طرق حديث عائشة إلا ما فيه إمامة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع ثقة رواة الخلاف، وكذا لم يذكرا في صحيحهما حديث أنس المصرح بإمامة أبي بكر، وهو عند أحمد والترمذي والنسائي وأبي داود الطيالسي والطحاوى. وهذا على تقدير اتحاد الواقعة. وأما على ما جزم به ابن حبان وابن حزم والبيهقي والضياء المقدسي وغيرهم من تعدد الواقعة، وأنه - صلى الله عليه وسلم - كان إماماً مرة ومأموماً أخرى فلا تعارض أصلاً. ومنها: أن هذا مبني على أن الصحابة صلوا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - قياماً، ولم يثبت ذلك صريحاً بطريق صحيح متصل. وأما ما ذكر الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص42) من كتاب المعرفة للبيهقي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا بكر أن يصلي بالناس في مرضه الذي مات فيه إلى أن قال: فكان عليه السلام بين يدي أبي بكر يصلي قاعداً، وأبوبكر يصلي بصلاته قائماً، والناس يصلون بصلاة أبي بكر، والناس قيام خلف أبي بكر. ففيه أنه لم يذكر إسناده فما لم يعرف حال سنده، وأنه صالح للاحتجاج لا يكون حجة على المخالف. وأما ما قال الحافظ في الفتح نقلاً عن الشافعي: إنه أي قيام المأمومين في رواية إبراهيم النخعي عن الأسود عن عائشة وإنه وجد مصرحاً به في مصنف عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء، فذكر الحديث، وفيه فصلى الناس وراءه قياماً. ففيه أن رواية عائشة معلقة ورواية عطاء مرسلة. وقد قال أحمد: ليس في المرسلات أضعف من مرسلات الحسن وعطاء، فإنهما كانا يأخذان عن كل أحد. وقال ابن المديني: كان عطاء يأخذ عن كل ضرب. وقد نازع أيضاً ابن حزم وابن حبان في ثبوت كون الصحابة صلوا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو قاعد قياماً غير أبي بكر، واستدل ابن حبان على ذلك بما رواه من طريق أبي الزبير عن جابر قال: اشتكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبوبكر يسمع الناس تكبيره، قال فالتفت إلينا فرأنا قياماً، فأشار إلينا فقعدنا، فلما سلم قال إن كدتم لتفعلون فعل فارس والروم فلا تفعلوا- الحديث. وهو حديث صحيح أخرجه مسلم والنسائي والطحاوى وابن ماجه. قال ابن حبان: وإسماع أبي بكر التكبير لم يكن إلا في مرض موته؛ لأن صلاته في مرضه الأول كانت في مشربة عائشة، ومعه نفر من أصحابه لا يحتاجون إلى من يسمعهم تكبيره، بخلاف صلاته في مرض موته، فإنها كانت في المسجد يجمع كثير من الصحابة فاحتاج أبوبكر أن يسمعهم التكبير- انتهى. وأجاب عنه الحافظ بحمله على حديث أنس على صلاته في مشربة عائشة في مرضه الأول، قال: وإسماع التكبير في هذا لم يتابع أبا الزبير عليه أحد. وعلى تقدير أنه حفظه فلا مانع أن يسمعهم أبوبكر التكبير في تلك الحالة؛ لأنه يحمل على أن صلاته - صلى الله عليه وسلم - كان خفياً من الوجع، وكان من عادته أن يجهر بالتكبير، فكان أبوبكر يجهر عنه بالتكبير لذلك. نعم وقع في مرسل عطاء المذكور متصلاً به بعد قوله: وصلى الناس وراءه قياماً، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:

لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما صليتم إلا قعوداً، فصلوا صلاة إمامكم ما كان، إن صلى قائماً فصلوا قياماً، وإن صلى قاعداً فصلوا قعوداً. وهذه الزيادة تقوي ما قال ابن حبان: إن هذه القصة كانت في مرض موت النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى. ثم رأيت السندي قد ذكر في حاشية البخاري (ج1 ص88) وجه النظر الثالث، وقرره أحسن تقرير، وبسط الكلام فيه فأجاد حيث قال: لا دلالة فيه أي في حديث عائشة الذي في مرض موته على أن الصحابة كانوا قياماً نعم قد ثبت أن أبا بكر كان قائماً، ولعله قام لضرورة الإسماع، لا يقال: قد جاء في بعض الروايات أنهم كانوا قائمين؛ لأن مدار النسخ حينئذٍ على تلك الروايات لا على ما ذكره صاحب الصحيح أو أصحاب الصحاح، فحينئذٍ ينظر في تلك الروايات هل يقوى شيء منها قوة حديث إذا صلى جالساً فصلوا جلوساً، وما ذكروا إلا يساوي هذا الحديث، بل ولا يدانيه، فلا يتجه الحكم بنسخ هذا الحديث بتلك الروايات. وما قيل: إنهم ابتدؤو الصلاة مع أبي بكر قياماً فلا نزاع فمن ادعى أنهم قعدوا بعد ذلك فعليه البيان ففيه أن المحتاج إلى البيان من يدعى النسخ وأما من يمنعه فيكفيه الاحتمال؛ لأن الأصل عدم النسخ، ولا يثبت بجرد الإحتمال. فقوله فمن ادعى أنهم قعدوا بعد ذلك فعليه البيان خارج عن قواعد البحث، على أنا نقول قعود الصحابة هو الأصل الظاهر عملاً بالحكم السابق المعلوم عندهم، وبقاءهم على القيام لا يتصور إلا بعد علمهم بنسخ ذلك الحكم المعلوم، ولا دليل عليه. فالواجب أنهم قعدوا، فمن ادعى خلافه فعليه البيان. وأما القول بأنهم ثبتوا على القيام اتفاقاً وإن كان المعلوم عندهم أن الحكم هو القعود إلا أنه وافق النسخ، وعلم ذلك بتقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - إياهم على القيام، فمن باب فرض المستحيل عادة، وكذا القول بأنه لم يكن في الحاضرين أحد يعرف الحكم السابق مع أن الحكم السابق كان مشهوراً فيما بينهم، وكانوا يعملون به، وكذا القول بأنهم لعلهم عرفوا النسخ قبل هذه القضية ببيانه - صلى الله عليه وسلم - لهم النسخ، فلذلك ثبتوا القيام، إذ يستبعد جداً أن يكون هناك ناسخ لذلك يعرفه أولئك الحاضرون ثم يخفى بحيث لا يرويه أحد – انتهى كلام السندي. ومنها: أنه إنما يصار إلى النسخ إذا تعذر الجمع، وههنا الجمع ليس بمعتذر، بل هو ممكن، كما نقل عن أحمد أنه جمع بين الحديثين بتنزيلهما على حالتين، وهو واضح مما ذكرنا من مذهبه. وجمع بعضهم بأن الأمر بالجلوس كان للندب وتقريره قيامهم خلفه كان لبيان الجواز. قال الحافظ بعد ذكر رواية عطاء المرسلة المتقدمة: ويستفاد منها نسخ الأمر بوجوب صلاة المأمومين قعوداً إذا صلى إمامهم قاعدا؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرهم في هذه المرة الأخيرة بالإعادة، لكن إذا نسخ الوجوب يبقى الجواز، والجواز لا ينافي الاستحباب، فيحمل أمره الأخير بأن يصلوا قعوداً على الاستحباب؛ لأن الوجوب قد رفع بتقريره لهم وترك أمرهم بالإعادة، هذا مقتضى الجمع بين الأدلة- انتهى. ومنها: أنه وقع الأمر بالجلوس خلف الإمام القاعد في صلاة مرض موته

عليه السلام أيضاً كما تقدم في رواية عطاء، فالاستدلال بصلاة مرض موته على نسخ الأمر بالجلوس خلف القاعد لا يخلو عن إشكال: ومنها: أن الحديث يدل على أن الجلوس عند جلوس الإمام من جملة الائتمام بالإمام، ولا شك أن الاقتداء بالإمام حكم ثابت على الدوام غير منسوخ، وأيضاً حديث جابر يدل على أن علة عدم جواز القيام عند قعود الإمام هي أن القيام يصير تعظيماً لغير الله فيما شرع تعظيماً لله وحده لا شريك له، ولا شك في أن هذه العلة دوامها يقتضى دوام الحكم، فيلزم أن يدوم عدم شرعية القيام خلف الإمام القاعد لوجوب دوام المعلول عند دوام العلة، فالقول بنسخ هذا الحكم لا يخلو عن بُعد، قاله السندي في حاشية ابن ماجه، وذكر نحوه أيضاً في حاشية الصحيحين. ومنها: أن الأصل عدم النسخ، لا سيما وهو في هذه الحالة يستلزم النسخ مرتين؛ لأن الأصل في حكم القادر على القيام أن لا يصلي قاعداً وقد نسخ إلى القعود في حق من صلى إمامه قاعداً، فدعوى نسخ القعود بعد ذلك تقتضى وقوع النسخ مرتين. وهو بعيد، وأبعد منه ما تقدم من نقل عياض، فإنه يقتضي وقوع النسخ ثلاث مرات. هذا، وقد أجاب أيضاً من اختار وجوب القيام خلف القاعد، وكذا من منع صحة إمامة القاعد بأن المراد بالأمر في قوله: "وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً" أن يتقدى به في جلوسه في التشهد وبين السجدتين؛ لأنه ذكر ذلك عقب ذكر الركوع والرفع منه والسجود، قالوا: فيحمل على أنه لما جلس للتشهد قاموا تعظيماً له فأمرهم بالجلوس وقد نبه على ذلك بقوله في حديث جابر: إن كدتم أن تفعلوا فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا، فيكون معنى قوله "إذا صلى جالساً فصلوا جلوساً" أنه إذا كان في حالة الجلوس فاجلسوا ولا تخالفوه بالقيام، وإذا صلى قائما فصلوا قياماً أي إذا كان في حالة القيام فقوموا ولا تخالفوه بالقعود، وكذلك في قوله " فإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا". وتعقبه ابن دقيق العيد وغيره بالاستبعاد وبأن سياق طرق الحديث يأباه، وبأنه لو كان المراد الأمر بالجلوس في الركن لقال "وإذا جلس فاجلسوا" ليناسب قوله "وإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا"، فلما عدل عن ذلك إلى قوله "وإذا صلى جالساً" ظهر أن المراد بذلك في جميع الصلاة، ويؤيد ذلك قول أنس: "فصلينا وراءه قعودا"، وإذا عرفت هذا فاعلم أن أولى الأقوال وأرجحها عندي، هو أن يجمع بين القصتين بأن الأمر بالجلوس كان للندب، وتقريره - صلى الله عليه وسلم - قيام الصحابة خلفه لو ثبت كان لبيان الجواز، فمن أم قاعداً لعذر تخير من صلى خلفه بين القيام والقعود، والقعود أولى بالثبوت الأمر الائتمام والاتباع وكثرة الأحاديث الواردة في ذلك، ويؤيد هذا الجمع أنه استمر عليه عمل الصحابة في حياته وبعده، وقد ذكر الحافظ في الفتح (ج3 ص382) قيس بن قهد وأسيد بن حضير وجابر بن عبد الله أنهم صلوا قعوداً والناس خلفهم جلوس، وذكر عن أبي هريرة "أنه أفتى بذلك وذكر من أخرج هذه

هذا لفظ البخاري. واتفق مسلم إلى أجمعون. وزاد في رواية: فلا تختلفوا عليه، وإذا سجد فاسجدوا. 1146- (5) وعن عائشة، رضي الله عنها قالت: ((لما ثقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، جاء بلال يؤذنه بالصلاة ـــــــــــــــــــــــــــــ الآثار وصحح أسانيدها. وذكر ابن حزم في المحلى (ج3 ص70) ذلك أيضاً وأخرج الدارقطني في (ص52) عن أسيد بن حضير وفي (ص162) عن جابر: أنهما صليا جالسين والمأمون أيضاً جلوساً، وادعى ابن حبان: الإجماع على العمل. وكأنه أراد السكوتى؛ لأنه حكاه عن أربعة من الصحابة الذين تقدم ذكرهم. وقال: لا يحفظ عن أحد من الصحابة وغيرهم القول بخلافه، لا من طريق صحيح ولا ضعيف، وكذا قال ابن حزم: أنه لا يحفظ عن أحد من الصحابة خلاف ذلك. وأما ما قال الشافعي: أن ما حكي عن هؤلاء الصحاية: أنهم أموا جالسين ومن خلفهم جلوس. محمول على أنه لم يبلغهم النسخ، ففيه أن كل ما زعموه للنسخ هو حديث عائشة الآتي، ولا يدل على شيء مما أرادوا كما تقدم. وأيضاً أن هؤلاء الصحابة لم يتفردوا بذلك، بل وافقهم على ذلك من صلى خلفهم جالسين من الصحابة والتابعين، وبعيد كل البُعد أن لا يبلغ النسخ أحداً منهم. (هذا لفظ البخاري) في باب إنما جعل الإمام ليؤتم به. (واتفق مسلم) أي معه في أصل الحديث. (إلى أجمعون. وزاد) أي مسلم. (في رواية فلا تختلفوا عليه) فيه نظر؛ لأن هذا اللفظ ليس في حديث أنس لا في البخاري، ولا في مسلم، نعم هو في حديث أبي هريرة عند الشيخين، فأخرجه البخاري بهذا اللفظ في باب إقامة الصف من تمام الصلاة، ومسلم في باب إئتمام المأموم بالإمام. ومحل هذا اللفظ بعد قوله: إنما جعل الإمام ليؤتم به" متصلاً به واستدل به على عدم جواز صلاة المفترض خلف المتنفل، لما فيها من الاختلاف بين الإمام والمأموم نية، وهو ضعيف؛ لأن المراد عدم الاختلاف في الأفعال، بدليل التفسير بقوله " فإذا ركع الخ". كيف ولو كان شاملاً للاختلاف نية لما كانت صلاة المتنفل خلف المفترض جائزة مع أنه جائز بالاتفاق. (وإذا سجد فاسجدوا) فيه أن هذه الزيادة عند البخاري أيضاً في حديث أنس وليست من أفراد مسلم كما توهم المصنف، واختلفت الروايات في ذكر محلها، وحديث أنس هذا أخرجه أيضاً أحمد ومالك والشافعي في الرسالة وفي الأم وفي اختلاف الحديث، والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم. 1146- قوله: (لما ثقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي في مرضه الذي توفي فيه بفتح الثاء وضم القاف يقال ثقل الشيء يثقل ثقلاً، مثال صغر يصغر صغراً فهو ثقيل ضد خف، والمعنى ههنا اشتد به مرضه وتناهى ضعفه وركد أعضاءه عن خفة الحركات، ويفسره قولها بعده في رواية: واشتد به وجعه. (يؤذنه) بضم الياء وسكون الهمزة من الإيذان، أي يعلمه ويخبره ويجوز إبدال الهمزة واواً. (بالصلاة) أي بحضور وقتها والمراد صلاة العشاء

فقال: مروا أبا بكر أن يصلي بالناس فصلى أبوبكر تلك الأيام. ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجد في نفسه خفة، فقام يهادى بين رجلين، ورجلاه تخطان في الأرض، حتى دخل المسجد، فلما سمع أبوبكر حسه ذهب يتأخر، فأومأ إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا يتأخر، فجاء حتى جلس عن يسار أبي بكر، ـــــــــــــــــــــــــــــ الآخرة كما سيأتي. (مروا أبا بكر أن يصلي بالناس) استدل به أهل السنة على خلافة أبي بكر رضي الله عنه، ووجهه أن الإمامة في الصلاة التي هي الإمامة الصغرى كانت من وظائف الإمامة الكبرى، فنصبه - صلى الله عليه وسلم - إياه إماماً في الصلاة في تلك الحالة من أقوى إمارات تفويض الإمامة الكبرى إليه، وهذا مثل أن يجلس سلطان زماننا أحد أولاده عند الوفاة على سرير السلطنة، فهل يشك أحد في أنه فوض السلطنة إليه، فهذه دلالة قوية لمن شرح الله تعالى صدره، وليس من باب قياس الإمامة الكبرى على الإمامة الصغرى مع ظهور الفرق، كما زعمه الشيعة. وقولهم: إن الدلالة لو كانت ظاهرة قوية لما حصل الخلاف بينهم في أول الأمر باطل ضرورة أن الوقت حيرة ودهشة، وكم من ظاهر يخفى في مثله. (ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجد في نفسه خفة) أي قوة في بعض تلك الأيام. والظاهر أن ذلك كان عند صلاة الظهر يوم الخميس قبل أن يقبض بخمسة أيام. (فقام يهادى) بضم أوله وفتح الدال على بناء المفعول من المفاعلة. (بين رجلين) أي يمشي بينهما معتمداً عليهما متمايلاً في مشيه من شدة ضعفه وإحدى يديه على عاتق أحدهما والأخرى على عاتق الآخر. يقال: جاء فلان يهادى بين اثنين إذا كان يمشي بينهما معتمداً عليهما من ضعفه متمايلاً إليهما في مشيه من شدة الضعف. والرجلان: العباس بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب، كما في الحديث الآتي في الفصل الثالث. وفي رواية ابن حبان: وجد من نفسه خفة فخرج بين بريرة ونوبة. ويجمع كما قال النووي: بأنه خرج من البيت إلى المسجد بين هذين، ومن ثم إلى مقام الصلاة بين العباس وعلي. وقال أبوحاتم: خرج بين الجاريتين إلى الباب ومن الباب أخذه العباس وعلي حتى دخلا به المسجد. وقيل: يحمل على التعدد، ويدل عليه ما في رواية الدارقطني: أنه خرج بين أسامة بن زيد والفضل بن عباس. وأما ما في مسلم أنه خرج بين الفضل بن عباس وعلي، فذلك في حال مجيئه من بيت ميمونة إلى بيت عائشة. (ورجلاه تخطان) بضم الخاء. (في الأرض) أي تعملان فيها خطاً، إذ لا يقدر أن يرفعهما عنها من الضعف. قال النووي: أي لا يستطيع أن يرفعهما ويضعفهما ويعتمد عليهما. (فلما سمع أبوبكر حسه) بكسر الحاء وتشديد السين المهملتين أي نفسه المرك بحس السمع، قاله السندي. وقيل: أي حركته أوصوته الخفي. (ذهب) أي أراد وقصد أو طفق أو شرع. (يتأخر) عن موضعه ليقوم عليه السلام مقامه. (فأومأ) بهمزة في آخره أي أشار. وفي بعض النسخ: فأومأ بالألف وهوخطأ. (أن لا يتأخر) أي بعدم تأخره. (فجاء) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (حتى جلس عن يسار أبي بكر) هذا هو مقام الإمام، وفيه تعيين لما أبهم في الرواية الآتية من مكان جلوسه - صلى الله عليه وسلم -، وفيه دلالة على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إماماً لا مأموما لجعله أبا بكر عن يمينه، وقال العيني: إنما لم يجلس

فكان أبوبكر يصلي قائماً، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي قاعداً، يقتدى أبوبكر بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والناس يقتدون بصلاة أبوبكر)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن يمينه؛ لأن اليسار كان من جهة حجرته فكان أخف عليه (يقتدي أبوبكر بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) فيه رد على من زعم أنه - صلى الله عليه وسلم - كان مقتدياً بأبي بكر. (والناس يقتدون بصلاة أبوبكر) أي من حيث أنه كان يسمع الناس تكبيره - صلى الله عليه وسلم -. قال القسطلاني: أي يستدلون بصلاته على صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال القاري: أي يصنعون مثل ما يصنع؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان قاعداً وأبوبكر كان بجنبه قائماً لا أن أبا بكر كان إمام القوم والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان إمامه إذا الاقتداء بالمأموم لا يجوز بل الإمام كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبوبكر والناس يقتدون به. واعلم أنه قد وقع الاختلاف في حديث عائشة هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إماماً أو مأموماً؟ فوقع عند الشيخين، وكذا عند أحمد في مسنده ومالك في باب صلاة الإمام وهو جالس، والنسائي في باب الائتمام بمن يأتم بالإمام، وفي باب الائتمام بالإمام يصلي قاعداً، وابن الجارود في المنتقى في باب تخفيف الصلاة بالناس، والبزار كما قال الحافظ في الفتح وابن حبان كما قال الزيلعي وابن ماجه في باب صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه ما يفيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إماماً وأبوبكر مأموماً، ووقع عند ابن حبان كما قال الزيلعي، وعند ابن حزم في المحلى (ج3 ص67) وابن الجارود في المنتقى (ص166) وأحمد في مسنده (ج6 ص159) والبيهقي في سننه (ج3 ص82) وابن المنذر وابن خزيمة كما قال الحافظ، والترمذي في باب بعد باب إذا صلى الإمام قاعداً فصلوا قعوداً ما يفيد أن أبا بكر كان هو الإمام. وروى ابن خزيمة عن محمد بن بشار عن أبي داود الطيالسي عن شعبة عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت: من الناس من يقول كان أبوبكر المقدم بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصف، ومنهم من يقول كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو المقدم، وظاهر هذه الرواية أن عائشة لم تشاهد الهيئة المذكورة. قال الحافظ: ولكن تظافرت الروايات عنها بالجزم بما يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان هو الإمام في تلك الصلاة، منها رواية موسى بن أبي عائشة وهى التي تأتي في الفصل الثالث، ثم قال بعد أن ذكر الاختلاف فيها: فمن العلماء من سلك الترجيح فقدم الرواية التي فيها أن أبا بكر كان مأموماً للجزم بها، ولأن أبا معاوية (الذي روى الحديث بلفظ يقتدي أبوبكر بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس يقتدون بصلاة أبي بكر) أحفظ في حديث الأعمش من غيره. ومنهم من سلك عكس ذلك ورجح أنه كان إماماً. ومنهم من سلك الجمع. (كابن حبان والبيهقي وابن حزم) فحمل القصة على التعدد. (يعني أنه كان إماماً مرة ومأموماً أخرى) ويؤيده اختلاف النقل عن الصحابة غير عائشة، فحديث ابن عباس فيه. أن أبا بكر كان مأموماً كما سيأتي في رواية موسى بن أبي عائشة، وكذا في رواية أرقم بن شرحبيل عن ابن عباس

عند ابن ماجه وحديث أنس فيه: أن أبا بكر كان إماماً. أخرجه الترمذي والنسائي- انتهى كلام الحافظ. قلت: حديث أرقم عن ابن عباس أخرجه أيضاً أحمد (ج1 ص231و 255و 256) والطحاوى في شرح الآثار (ج1 ص235) وفي مشكله (ج2 ص27) وابن سعد في طبقاته (ج2 ص130) والبيهقي في سننه (ج3 ص81) . ومدار هذا الحديث عند الجميع على أبي إسحاق السبيعي عن أرقم بن شرحبيل، وأبوإسحاق مدلس واختلط بآخره. وقد رواه بالعنعنة. وقد قال البخاري لا يذكر سماعاً من أرقم بن شرحبيل- انتهى. وحديث أنس قد صححه الترمذي، وأخرجه أيضاً أحمد (ج3 ص159، 233، وص243) . والراجح عندي أن القصة واحدة، وأن الاختلاف في إمامة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر في صلاة واحدة. وإن هذا الاختلاف من تصرف الرواة فقط، وهو ظاهر من سياق الأحاديث الواردة في الباب وطرقها، ومن صنيع الشيخين حيث لم يخرجا في صحيحيهما من طرق حديث عائشة إلا ما فيه إمامة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع ثقة رواة الخلاف، ولم يخرجا حديث أنس أصلاً. قال الحافظ: قد صرح الشافعي بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يصل بالناس في مرض موته في المسجد إلا مرة واحدة، وهي هذه التي صلى فيها قاعداً، وكان أبوبكر فيها أولاً إماماً ثم صار مأموماً يسمع الناس التكبير- انتهى. وقال ابن عبد البر: الآثار الصحاح على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان الإمام- انتهى. وفي هذه القصة من الفوائد غير ما مضى تقديم أبي بكر وترجيحه على جميع الصحابة، والأدب مع الكبير لهم أبي بكر بالتأخر عن الصف وإكرام الفاضل؛ لأنه أراد أن يتأخر حتى يستوي، فلم يتركه النبي - صلى الله عليه وسلم - يتزحزح عن مقامه وفيه أن الإيماء يقوم مقام النطق واقتصار النبي - صلى الله عليه وسلم - على الإشارة يحتمل أن يكون لضعف صوته، ويحتمل أن يكون للإعلام بأن مخاطبة من يكون في الصلاة بالإيماء أولى من النطق. وفيه تأكيد أمر الجماعة والأخذ فيها بالأشد وإن كان المرض يرخص في تركها، ويحتمل أن يكون فعل ذلك لبيان جواز الأخذ بالأشد وإن كانت الرخصة أولى. وقال الطبري: إنما فعل ذلك لئلا يعذر أحد من الأئمة بعده في نفسه بأدنى عذر فيتخلف عن الإمامة، ويحتمل أن يكون قصد إفهام الناس أن تقديمه لأبي بكر كان لأهليته لذلك حتى أنه صلى خلفه. واستدل به على جواز استخلاف الإمام لغير ضرورة لصنيع أبي بكر. وعلى جواز مخالفة موقف المأموم للضرورة، كمن قصد أن يبلغ عنه، ويلتحق به من زحم عن الصف، وعلى جواز ائتمام بعض المأمومين ببعض، وهو قول الشعبي واختيار الطبري، وأومأ إليه البخاري كما تقدم. وتعقب بأن أبا بكر إنما كان مبلغاً كما سيأتي الآن، وعلى هذا فمعنى الإقتداء اقتداءهم بصوته، ويؤيده أنه - صلى الله عليه وسلم - كان جالساً وكان أبوبكر قائماً، فكان بعض أفعاله يخفى على بعض المأمومين، فمن ثم كان أبوبكر كالإمام في حقهم، وتأويله بأن المراد أن أبا بكر كان يراعي في الصلاة حاله - صلى الله عليه وسلم - في القيام والركوع والسجود، فكأنه كان مقتدياً به، كما ورد في

متفق عليه. وفي رواية لهما: يسمع أبوبكر الناس التكبير. 1147- (6) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما يخشى ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث واقتد بأضعفهم بعيداً جداً، يرده قوله الآتي: يسمع أبوبكر الناس التكبير. واستدل به الطبري على أن للامام أن يقطع الاقتداء به ويقتدى هو بغيره من غير أن يقطع الصلاة، بناء على أن أبا بكر كان دخل في الصلاة ثم قطع القدوة وائتم برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. واستدل به على صحة إمامة القاعد المعذور بمثله وبالقائم أيضاً خلافاً للمالكية. وقد تقدم الكلام فيه مفصلاً. (متفق عليه) الحديث أخرجه البخاري في عدة مواضع بألفاظ وطرق مطولاً ومختصراً، والسياق المذكور مختصر من حديث طويل أورده البخاري في باب الرجل يأتم بالإمام ويأتم الناس بالمأموم. وفيه فلما دخل (أبوبكر) في الصلاة وجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفسه خفة، بدل قوله: فصلى أبوبكر تلك الأيام، ثم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجد في نفسه خفة، وأيضاً ليس في قوله: أن لا يتأخر. والمراد بقوله: فلما دخل في الصلاة وجد الخ، أي فلما دخل في أن يصلي بالناس أي في منصب الإمامة، وتقرر إماماً لهم واستمر على ذلك أياماً وجد النبي - صلى الله عليه وسلم - في نفسه خفة في بعض تلك الأيام، أو لما دخل في الصلاة في بعض تلك الأيام وجد - صلى الله عليه وسلم - في نفسه خفة، وليس المراد أنه حين دخل أبوبكر في تلك الصلاة التي جرى في شأنها الكلام وجد - صلى الله عليه وسلم - في أثنائها خفة، فلا تنافي هذه الرواية الرواية الآتية في الفصل الثالث. (وفي رواية لهما يسمع أبوبكر الناس التكبير) أي تكبير النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني كان أبوبكر مكبراً لا إماماً، وهذه اللفظة مفسرة للمراد بقوله: يقتدى أبوبكر بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس يقتدون بصلاة أبي بكر. وبقوله في رواية: كان أبوبكر يصلي بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - والناس يصلون بصلاة أبي بكر. وفيه دليل على أنه يجوز رفع الصوت بالتكبير لإسماع المأمومين فيتبعونه، وأنه يجوز للمقتدي اتباع صوت المكبر وصحة صلاة المسمع والسامع، وهذا مذهب الجمهور، وفيه خلاف للمالكية وتفاصيل لا دليل عليها. والحديث أخرجه البيهقي أيضاً (ج3 ص81- 93) . 1147- قوله: (أما يخشى) كلمة "ما" نافية والهمزة للاستفهام للإنكار. والمقصود الإنكار على ترك الخشية والحث عليها ليرتدع فاعل ذلك الفعل بسبب الخشية من شنيع عاقبته عن ذلك الفعل. والحاصل أن فاعل هذا الفعل في محل المسخ، ويستحق ذلك فحقه أن يخشى هذه العقوبة وليس له أن لا يخشى، وهذا إنما يدل على أن فاعل هذا الفعل يستحق هذا العقاب، ولا يدل على أن من يفعل ذلك يلحق به هذا العقاب قطعاً، وكونه لا يلحق به كما ترى فضلاً من الله تعالى لا يدل على خلافه، فكم من شيء يستحقه العبد ويعفو عنه الرب تعالى وقد قال: {ويعفو

الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن كثير} . (الذي يرفع رأسه) أي من الركوع والسجود فالحديث نص عام في الركوع والسجود، وأما تخصيص السجدة بالذكر في رواية أبي داود بلفظ: الذي يرفع رأسه والإمام ساجد فمن باب الإكتفاء، وهو ذكر أحد الشيئين المشتركين في الحكم إذا كان للمذكور مزية فاكتفى فيها بذكر حكم السجدة عن ذكر حكم الركوع لكون العلة واحدة وهي السبق على الإمام، كما في قوله تعالى {سرابيل تقيكم الحر} [16: 81] أي البرد أيضاً، ولم يعكس الأمر؛ لأن السجود أعظم من الركوع في إظهار التواضع والتذلل، والعبد أقرب ما يكون إلى الرب وهو ساجد. وأما التقدم على الإمام في الخفض للركوع والسجود، فقد ورد الزجر عنه في حديث أخرجه البزار والطبراني عن أبي هريرة مرفوعاً: الذي يخفض ويرفع قبل الإمام إنما ناصيته بيد شيطان. قال الهيثمي في مجمع الزوايد (ج2 ص78) : إسناده حسن، وأخرجه مالك وعبد الرزاق عنه موقوفاً. قال الحافظ: وهو المحفوظ. (قبل الإمام) أي قبل رفع رأسه. (أن يحول الله) أي من أن يبدل ويغير. (رأسه رأس حمار) وفي رواية مسلم: صورته في صورة حمار. وفي أخرى له: أن يجعل الله وجهه وجه حمار. قال الحافظ: الظاهر أنه من تصرف الرواة. قال عياض: هذه الروايات متفقة؛ لأن الوجه في الرأس ومعظم الصورة فيه. قلت: لفظ الصورة يطلق على الوجه أيضاً. وأما الرأس فرواتها أكثر وهى أشمل فهي المعتمدة، وخص وقوع الوعيد عليها؛ لأن بها وقعت الجنابة وهي أشمل- انتهى. وقيل: الظاهر أن الاختلاف حصل من تعدد الواقعة، ويؤيده رواية ابن حبان بلفظ: أن يحول الله رأسه رأس كلب. واختلف في معنى هذا الوعيد: فقيل: يحتمل أن يرجع ذلك إلى أمر معنوي مجازي كالبلادة الموصوف بها الحمار، والمعنى يجعله بليداً كالحمار، فيكون مسخاً معنوياً مجازياً. قال الطيبي: لعل المأموم لما لم يعمل بما أمر به من الاقتداء بالإمام ومتابعته، ولم يفهم أن معنى الإمام والمأموم ما هو شبه بالحمار في البلادة كقوله تعالى {مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً} [62: 5] انتهى. ويرجح هذا المجاز أن التحويل الظاهري لم يقع مع كثرة الفاعلين لذلك. وقيل: هو محمول على ظاهره، وإن المراد تغيير الصورة الظاهرة، إذ لا مانع من وقوع المسخ الحقيقي في هذه الأمة، كما يشهد له حديث أبي مالك الأشعري المروي في المغازي من صحيح البخاري؛ لأن فيه ذكر الخسف، وفي آخره: ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة. ويقوي حمله على ظاهره رواية ابن حبان بلفظ: أن يحول الله رأسه رأس كلب. فهذا يبعد المجاز؛ لأنتفاء المناسبة التي ذكروها من بلادة الحمار، ومما يبعده أيضاً يراد الوعيد بالأمر المستقبل وباللفظ الدال على تغيير الهيئة الحاصلة، ولو أريد تشبيهه بالحمار لأجل البلادة لقال: فرأسه رأس حمار، وذلك لأن الصفة المذكورة وهي البلادة حاصلة في فاعل ذلك عند فعله المذكور، فلا يحسن أن يقال له يخشى إذا فعلت ذلك أن تصير بليداً، مع أن فعله المذكور إنما نشأ عن البلادة. وأما ما ما قيل في ترجيح المجاز من أن التحويل الظاهري لم يقع مع

{الفصل الثاني}

متفق عليه. {الفصل الثاني} 1148، 1149- (7) عن علي، ومعاذ بن جبل، رضي الله عنهما، قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أتى أحدكم الصلاة والإمام على حال فليصنع كما يصنع الإمام)) . رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب. ـــــــــــــــــــــــــــــ كثرة الفاعلين لذلك، ففيه أنه ليس في الحديث ما يدل على أن ذلك يقع ولا بد، وإنما يدل على كون فاعله متعرضاً لذلك وكون فعله ممكناً؛ لأن يقع عند ذلك الوعيد، ولا يلزم من التعرض للشيء وقوع ذلك الشيء، وقد أوضحنا ذلك في شرح أول الحديث. وظاهر الحديث يقتضي تحريم الرفع قبل الإمام، لكونه توعد عليه بالمسخ وهو أشد العقوبات، وبذلك جزم النووي في شرح المهذب، ومع القول بالتحريم، فالجمهور على أن فاعله يأثم وتجزئ صلاته. وعن ابن عمر تبطل، وبه قال أحمد في رواية، وأهل الظاهر بناء على أن النهي يقتضي الفساد، والوعيد بالمسخ في معناه. وقد ورد التصريح بالنهي في حديث أنس ثاني أحاديث هذا الباب عن السبق بالركوع والسجود والقيام والقعود. وفي المغنى عن أحمد أنه قال في رسالته: ليس لمن سبق الإمام صلاة لهذا الحديث، قال: ولو كانت له صلاة لرجي له الثواب ولم يخش عليه العقاب، وفي الحديث كمال شفقته - صلى الله عليه وسلم - بأمته وبيانه لهم الأحكام وما يترتب عليها من الثواب والعقاب، واستدل به على جواز المقارنة، ولا دلالة فيه؛ لأنه دل بمنطوقه على منع المسابقة وبمفهومه على طلب المتابعة، وأما المقارنة فمسكوت عنها. (متفق عليه) واللفظ لمسلم. وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج2 ص93) . 1148، 1149- قوله: (والإمام على حال) أي من قيام أو ركوع أو سجود أو قعود. (فليصنع كما يصنع الإمام) أي ليكبر تكبيرة الإحرام، ويوافق الإمام فيما هو من القيام أو الركوع أو غير ذلك، ولا يخالفه بأداء ما سبق من الصلاة بل يدخل معه في الفعل الذي يؤديه، فيتبعه في القيام والقعود والركوع والسجود، ولا ينتظر رجوع الإمام إلى القيام، كما يفعله العوام. والحديث يدل على أنه يجب على من لحق بالإمام أن يدخل معه في أي جزء من أجزاء الصلاة أدركه من غير فرق بين الركوع والسجود والقعود، لظاهر قوله: والإمام على حال. قال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم. (رواه الترمذي) في أواخر الصلاة من طريق الحجاج بن أرطاة عن أبي إسحاق السبيعي عن هبيرة بن يريم عن علي، وعن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل. (وقال: هذا حديث غريب) لا نعلم أحداً أسنده إلا ما روي من هذا الوجه. قال النووي إسناده

1150- (8) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا جئتم إلى الصلاة، ونحن سجود، فاسجدوا ولا تعدوه شيئاً، ومن أدرك ركعة فقد أدرك الصلاة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ ضعيف. وقال الحافظ في التلخيص (ص117) فيه ضعف وانقطاع. وقال في بلوغ المرام: رواه الترمذي بإسناد ضعيف، وهذا لأن الحجاج بن أرطاة وأباإسحاق السبيعي مدلسان، ولم يصرحا بالسماع هناد بن أبي ليلى قالوا: لم يسمع من معاذ، لكن له شاهد من حديثه أيضاً عند أبي داود والبيهقي (ج3 ص93) يقول: فيه ابن أبي ليلى حدثنا أصحابنا، ثم ذكر الحديث، وفيه فقال معاذ: لا أراه على حال إلا كنت عليها، قال فقال: إن معاذاً قد سن لكم سنة كذلك فافعلوا وهذا متصل؛ لأن المراد بأصحابه الصحابة، كما صرح بذلك في رواية ابن أبي شيبة حدثنا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، ويشهد له أيضاً ما رواه ابن أبي شيبة عن رجل من الأنصار مرفوعاً من وجدني راكعاً أو قائما أو ساجداً، فليكن معي على حالى التي أنا عليها. وما أخرجه سعيد بن منصور عن أناس من أهل المدينة مثل لفظ ابن أبي شيبة. 1150- قوله: (ونحن سجود) جمع ساجد والجملة حالية أي والحال إني ومن معي من المقتدين في حالة السجود. (فاسجدوا) أي وافقوه في السجود، وفيه مشروعية السجود مع الإمام لمن أدركه ساجدا. (ولا تعدوه) بضم العين وتشديد الدال أي لا تحسبوا ذلك السجود. وفي أبي داود: لا تعدوها أي بضمير التأنيث، وكذا ذكره المجد ابن تيمية في المنتقى والجزري في جامع الأصول (ج6 ص406) . والمعنى: لا تعدوا تلك السجدة. (شيئاً) أي معتداً به باعتبار حكم الدنيا من ادراك الركعة؛ لأن مع إدراك السجدة تفوت الركعة ولا يحصل بها إلا ثواب الآخرة. (ومن أدرك ركعة) وفي أبي داود: الركعة أي بالتعريف. (فقد أدرك الصلاة) قيل: المراد بالركعة هنا الركوع، وبالصلاة الركعة. والمعنى من أدرك ركوعاً مع الإمام فقد أدرك الركعة، أي صحت له تلك الركعة، وحصل له فضيلتها فيكون الحديث دليلاً لما ذهب إليه الجمهور من أن مدرك الإمام راكعاً مدرك لتلك الركعة، وتعقب بأن الركعة حقيقة لجميعها، وإطلاقها على الركوع وما بعده مجاز لا يصار إليه إلا لقرينة، كما وقع عند مسلم من حديث البراء بلفظ: فوجدت قيامه فركعته فاعتداله فسجدته، فإن وقوع الركعة في مقابلة القيام والاعتدال والسجود قرينة تدل على أن المراد بها الركوع، وههنا ليست قرينة تصرف عن حقيقة الركعة، فالاستدلال به على أن مدرك الركوع مع الإمام مدرك لتلك الركعة لا يخلو عن خفاء. وقيل: المعنى من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة مع الإمام، يعني يحصل له الثواب الجماعة، ويؤيده حديث أبي هريرة بلفظ: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الفضل. وفي رواية: فقد أدرك الصلاة وفضلها. قال الطيبي: هذا الحكم في الجمعة، ولا يحصل له ثواب الجماعة إن أدرك بعضاً من الصلاة قبل السلام. ومذهب مالك أنه

رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يحصل فضيلة الجماعة إلا بإدراك ركعة تامة سواء في الجمعة وغيرها. وقيل: المعنى من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة، أي حكم صلاة الجماعة من سهو الإمام ولزوم الإتمام وغير ذلك، ويؤيده ما ورد بلفظ: من أدرك ركعة مع الإمام فقد أدرك الصلاة. قلت: ظاهر سياق حديث الكتاب يدل على أن المراد بالركعة الركوع، والقرينة على ذلك قوله: إذا جئتم ونحن سجود فاسجدوا، فذكر السجود أولاً ثم ذكر الركعة، يدل على أن المراد بالركعة هنا الركوع، وأيضاً في قوله: ولا تعدوها شيئاً بيان حكم إدراك السجدة مع الإمام، وأنه لا يعتد به، ويكون مدركه مدركاً للركعة وأما حملها على بيان إدراك فضل صلاة الجماعة أو حكمها فبعيد؛ لأنه لا يبقى حينئذٍ مناسبة بين الجملتين، وأيضاً حصول ثواب الجماعة لا يتوقف على إدراك الركعة، بل يحصل ذلك بإدراك جزء من الصلاة جمعة كانت أو غيرها. وأما رواية: فقد أدرك الفضل أو فقد أدرك الصلاة وفضلها فهو حديث آخر لأبي هريرة، ليس فيه الجملة الأولى مع أنها رواية ضعيفة، وعلى هذا فلا خفاء في دلالة حديث الكتاب على كون مدرك الركوع مدركاً للركعة، لا سيما على مذهب من يعتبر مفهوم المخالفة، فان الجملة الأولى بمفهومها يدل على أن من أدرك الإمام راكعاً يعتد بتلك الركعة، لكن الحديث ضعيف كما ستعرف. ويلزم من يقول أن الصحابي إذا روى حديثاً وعمل بخلافه أن العبرة بما عمل أن لا يقول بكون مدرك الركوع مدركاً للركعة؛ لأن أبا هريرة أفتى بخلاف ما روى، فقد أخرج البخاري في جزء القراءة (ص39) عنه قال: لا يجزيك إلا أن تدرك الإمام قائما قبل أن يركع. وفي لفظ له (ص64) قال: إذا أدركت القوم ركوعاً لم تعتد بتلك الركعة. والحق عندي إن من أدرك الإمام راكعاً ودخل معه في الركوع لم تحسب له تلك الركعة، وقد تقدم الكلام فيه مفصلاً. (رواه أبوداود) وكذا الحاكم (ج1:ص273، 274) والبيهقي (ج2:ص89) وسكت عنه أبوداود، والمنذري. وفيه يحيى بن أبي سليمان المدني. قال البخاري في جزء القراءة: يحيى هذا منكر الحديث لم يتبين سماعه من زيد بن أبي العتاب ولا من سعيد بن أبي سعيد المقبري، ولا تقوم به الحجة. وقال البيهقي في المعرفة رواية الحديث من طريق يحيى: تفرد به يحيى بن أبي سليمان هذا وليس بالقوى. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج11:ص228) : قال البخاري إنه منكر الحديث. وقال أبوحاتم: مضطرب الحديث ليس بالقوي يكتب حديثه، وذكره ابن حبان في الثقات. وأخرج إبن خزيمة حديثه في صحيحه وقال: في القلب شيء من هذا الإسناد. قال: لا أعرف يحيى بن سليمان بعدالة ولا جرح، وإنما أخرجت خبره لأنه لم يختلف فيه العلماء. وقال الحاكم في المستدرك: هو من ثقات المصريين. وقال في موضع آخر منه: يحيى مدني سكن مصر لم يذكر

1151- (9) وعن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى لله أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى، كتب له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق) رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ بجرح - انتهى. وهذا يدل على أن يحيى هذا لم يعرفه ابن خزيمة والحاكم بعدالة ولا جرح، وهذا هو شأن المستور ورواية المستور لا تكون حجة على القول الصحيح، ولا يعتد بذكر ابن حبان له في ثقاته لما عرف من اصطلاحه، مع أنه قد ضعفه أمير المؤمنين في الحديث محمد بن إسماعيل البخاري. وقال أبوحاتم: مضطرب الحديث ليس بالقوى. ومن المعلوم أن من عرف حجة على من لم يعرف. 1151- قوله: (من صلى لله) أي خالصاً. (أربعين يوماً) أي ليلة. (في جماعة) متعلق بصلى. (يدرك) حال. (التكبيرة الأولى) أي التكبيرة التحريمة مع الإمام. (براءة من النار) أي خلاص ونجاة. منها يقال برئ من الدين والعيب خلص، ولا يكون الخلاص منها إلا بمغفرة الصغائر والكبائر جميعاً. (وبراءة من النفاق) قال الطيبي: أي يؤمنه في الدنيا أن يعمل عمل المنافق ويؤفقه لعمل أهل الإخلاص، وفي الآخرة يؤمنه مما يعذب به المنافق أو يشهد له أنه غير منافق، فإن المنافقين إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى، وحال هذا بخلافهم. والحديث يدل على فضل إدراك التكبيرة الأولى مع الإمام. قال ابن حجر: إدراك التكبيرة الأولى سنة مؤكدة، وكان السلف إذا فاتتهم عزوا أنفسهم ثلاثة أيام، وإذا فاتتهم الجماعة عزوا أنفسهم سبعة أيام، ذكره القاري. (رواه الترمذي) وقال: قد روى هذا الحديث عن أنس موقوفاً ولا أعلم أحداً رفعه إلا ما روى سلم بن قتيبة عن طعمة بن عمرو (عن حبيب بن أبي ثابت عن أنس) . وإنما يروى هذا عن حبيب بن أبي حبيب البجلي عن أنس قوله: وكأنه يريد بذلك تضعيف الرفع ولم يبين وجهه، مع أن سلم بن قتيبة وطعمة وبقية رواته كلهم ثقات، على أن هذا مما لا يقال مثله من قبل الرأي والاجتهاد، فالموقوف في حكم المرفوع، مع أنه في فضائل الأعمال. ومن المعلوم أنه يعمل فيها بالضعيف بالشروط المذكورة في أصول الحديث. وقال الحافظ في التلخيص بعد ذكر هذا الحديث: رواه الترمذي من حديث أنس وضعفه، ورواه البزار واستغربه - انتهى. وقد وردت في فضل إدراك التكبيرة الأولى مع الإمام أحاديث أخرى تؤيد حديث أنس، منها: حديث عمر، أخرجه ابن ماجه وسعيد بن منصور، وفيه ضعف وانقطاع. ومنها: حديث عبد الله بن أبي أوفي، أخرجه أبونعيم في الحلية، وفيه الحسن بن عمارة وهو ضعيف. ومنها: حديث أبي كاهل، أخرجه الطبراني في الكبير والعقيلي في الضعفاء والحاكم أبوأحمد في الكنى. قال العقيلي: إسناده مجهول. ومنها: حديث أبي هريرة، أخرجه البزار والعقيلي، وفيه الحسن بن السكن. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2: ص103) : ضعفه أحمد، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال في التخليص: لم يكن الفلاس يرضاه. ومنها: حديث أبي الدرداء أخرجه البزار وابن أبي شيبة، وفيه رجل مجهول. ذكر هذه الأحاديث الحافظ في التلخيص (ص121) مع الكلام عليها.

1152- (10) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من توضأ فأحسن الوضوءه، ثم راح فوجد الناس قد صلوا، أعطاه الله مثل أجر من صلاها وحضرها، لا ينقص من أجورهم شيئاً)) رواه أبوداود، والنسائي. 1153- (11) وعن أبي سعيد الخدري، قال: ((جاء رجل وقد صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ 1152- قوله: (ثم راح) أي ثم ذهب إلى المسجد أي وقت كان، فالمراد بالرواح مطلق الذهاب، ويؤيده أن في رواية النسائي: ثم خرج عامداً إلى الصلاة. (قد صلوا) أي فرغوا من صلاتهم في الجماعة. (أعطاه) أي الرجل الذي جاء بعد انقطاع صلاة الجماعة. (مثل أجر من صلاها) أي الصلاة في الجماعة. (وحضرها) أي حضر صلاة الجماعة. (لا ينقص ذلك) أي أعطاه الله إياه مثل أجرهم. (من أجورهم) وفي أبي داود: من أجرهم، أي بالإفراد، وكتب على هامش عون المعبود: أجورهم، بعلامة النسخة، يعني أجر المصليين بالجماعة. (شئياً) من الأجر أو النقص بل لهم أجورهم كاملاً؛ لأداءهم الصلاة بالجماعة، وله مثل أجر أحدهم لسعيه في تحصيل صلاة الجماعة وإن فاتته. قال السندي: ظاهر الحديث أن إدراك فضل الجماعة يتوقف على أن يسعى لها بوجهه ولا يقصر في ذلك سواء أدركها أم لا، فمن أدرك جزءاً منها ولو في التشهد، فهو مدرك بالأولى، وليس الأجر والفضل مما يعرف بالاجتهاد، فلا عبرة بقول من يخالف قوله الحديث في هذا الباب أصلاً. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري. (والنسائي) وأخرجه أيضاً الحاكم. وقال: صحيح على شرط مسلم. والبيهقي (ج3:ص69) وفي الباب عن سعيد المسيب عن رجل من الأنصار يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث، وفيه: فإن أتى المسجد فصلى في جماعة غفر له، فإن أتى المسجد وقد صلوا بعضاً وبقي بعض صلى ما أدرك وأتم ما بقي كان كذلك، فان أتى المسجد وقد صلوا فأتم الصلاة كان كذلك. أخرجه أبوداود والبيهقي من طريقه وسكت عليه أبوداود والمنذري. 1153- قوله: (جاء رجل) أي المسجد، ففي رواية لأحمد (ج3:ص45) والبيهقي (ج3:ص69) أن رجلاً دخل المسجد (وقد صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي بأصحابه الظهر، كما في مسند أحمد (ج3:ص85) وزاد فيه: قال فدخل رجل من أصحابه فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما حبسك يا فلان عن الصلاة؟ فذكر شيئاً اعتل به، قال فقام يصلي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الخ. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجاله رجال الصحيح. (فقال) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (ألا رجل يتصدق على هذا) أي يتفضل عليه ويحسن إليه. (فيصلي معه) ليحصل له بذلك أجر الجماعة، فيكون

فقام رجل فصلى معه)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ كأنه تصدق عليه. قال المظهر: سماه صدقة؛ لأنه يتصدق عليه بثواب ست وعشرين درجة، إذ لو صلى منفرداً لم يحصل له إلا ثواب صلاة واحدة. قال الطيبي: قوله "فيصلي" منصوب لوقوعه جواب قوله "ألا رجل" كقولك ألا تنزل بنا فتصيب خيراً. وقيل: الهمزة للاستفهام ولا بمعنى ليس، فعلى هذا "فيصلي" مرفوع عطفاً على الخبر، وهذا أولى - انتهى. وقال ابن حجر: بالنصب جواب الاستفهام، ويصح الرفع عطفا على "يتصدق" الوقع خبراً للا التي بمعنى ليس، والمعنى أليس رجل ممن فرغوا من صلاتهم بالجماعة فيتصدق بثواب الجماعة على هذا الرجل الذي فاتته الصلاة مع الإمام فيصلي معه، فيحصل بذلك له ثواب الجماعة، فإنه إذا فعل ذلك فكأنه تصدق عليه. (فقام رجل) أي ممن صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أبوبكر الصديق. وفي رواية للبيهقي (ج3:ص70) أن الذي قام فصلى معه أبوبكر رضي الله عنه. (فصلى معه) أي مقتدياً به. والحديث يدل على مشروعية الدخول مع من دخل في الصلاة منفرداً وإن كان الداخل معه قد صلى في جماعة، وقد استدل الترمذي بهذا الحديث على جواز أن يصلي القوم جماعة في مسجد قد صلى فيه، قال: وهو قول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم من التابعين، وبه يقول أحمد وإسحاق. وقال آخرون من أهل العلم يصلون فرادى، وبه يقول سفيان ومالك وابن المبارك والشافعي –انتهى. قلت: من ذهب من الأئمة إلى اشتراط الجماعة لصحة الصلاة أو إلى وجوب الجماعة عيناً من غير أن يجعلها شرطاً أجاز تكرار الجماعة مطلقاً، وكل من ذهب إلى عدم وجوبها عيناً أو إلى سنيتها كرهها، كما ستعرف وإلى الجواز ذهب ابن مسعود. فقد روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن سلمة بن كهيل: أن ابن مسعود دخل المسجد وقد صلوا فجمع بعلقمة ومسروق والأسود، وإسناده صحيح، وهو قول أنس بن مالك. قال البخاري في صحيحه: وجاء أنس بن مالك إلى مسجد قد صلي فيه فأذن وأقام وصلى جماعة - انتهى. قال الحافظ: وصله أبويعلى في مسنده، وابن أبي شيبة والبيهقي –انتهى مختصراً ملخصاً. قال ابن حزم في المحلى (ج4:ص238) : هذا ممالا يعرف فيه لأنس مخالف من الصحابة. وقال العيني في شرح البخاري: وهو قول عطاء والحسن في رواية، وإليه ذهب أحمد وإسحاق وأشهب عملاً بظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم -: صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ ... الحديث- انتهى. ومذهب الحنفية في ذلك ما ذكر الشامي في حاشية الدر المختار نقلاً عن الخزائن ويكره. (أى تحريماً) تكرار الجماعة في مسجد محلة. (يعني المسجد الذي له إمام وجماعة معلومون) بأذان وإقامة إلا إذا صلى بهما فيه أو لا غير أهله، أو أهله لكن بمخافتة الأذان ولو كرر أهله بدونهما أو كان مسجد طريق جاز، كما في مسجد ليس له إمام ومؤذن –انتهى. واستدلوا لذلك بما رواه الطبراني في الكبير والأوسط عن أبي بكرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقبل من نواحي المدينة يريد الصلاة فوجد الناس قد صلوا، فمال إلى منزله فجمع أهله فصلى بهم. ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2:ص45) وقال: رجاله ثقات. قال الحنفية: لو كانت

الجماعة الثانية جائزة لما اختار الصلاة في بيته على الجماعة في المسجد. قالوا: وفي إطلاق الإذن تقليل الجماعة معنى، فإنهم لا يجتمعون إذا علموا أنها لا تفوتهم. قلت: في الاستدلال بحديث أبي بكرة على كراهة تكرار الجماعة تنزيهاً أو تحريماً نظر؛ لأنه ليس بنص في أنه - صلى الله عليه وسلم - جمع أهله فصلى بهم في منزله، بل يحتمل أن يكون صلى بهم في المسجد. وكان ميله إلى منزله لجمع أهله لا للصلاة فيه، وحينئذٍ يكون هذا الحديث دليلاً لاستحباب الجماعة في مسجد محلة له إمام ومؤذن وأهل معلومون قد صلى فيه مرة، ولا يكون دليلاً لكراهتها، فما لم يدفع هذا الاحتمال كيف يصح الاستدلال. ولو سلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بأهله في منزله لا يثبت منه كراهة تكرار الجماعة في المسجد، بل غاية ما يثبت منه أنه لو جاء رجل في مسجد قد صلى فيه فيجوز له أن لا يصلي فيه بل يخرج منه، فيميل إلى منزله فيصلي به بأهله. وأما أنه لا يجوز له أن يصلي في ذلك المسجد بالجماعة أو يكره له ذلك فلا دلالة الحديث عليه البتة، كما لا يدل الحديث على كراهة أن يصلي فيه منفرداً، على أنه لو ثبت من هذا الحديث كراهة تكرار الجماعة، لأجل أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يصل في المسجد لثبت منه كراهة الصلاة فرادى أيضاً في مسجد قد صلى فيه؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يصلى في المسجد لا منفرداً ولا بالجماعة. وأما قولهم: لو كانت الجماعة الثانية جائزة لما اختار الصلاة في منزله على الجماعة في المسجد، ففيه أنه يلزم من هذا التقرير كراهة الصلاة فرادى أيضاً في المسجد قد صلى فيه مرة بالجماعة، فإنه يقال لو كانت الصلاة فرادى جائزة في مسجد قد صلى فيه بالجماعة لما اختار الصلاة في بيته على الصلاة في مسجده الذي هو أفضل المساجد بعد مسجد الحرام، وهذا كله على تقدير أن يكون هذا الحديث صحيحاً قابلاً للاحتجاج، ومن دونه خرط القتاد. وأما قول الهيثمي: "رجاله ثقات" فلا يدل على صحته؛ لأنه لا يلزم من كون رجال الحديث ثقات أن يكون صحيحاً، كما هو مقرر في موضعه مع أن في سنده معاوية بن يحيى أبا مطيع الاطرابلسي، وهو من رجال الميزان متكلم فيه، وثقة أبوزرعة وأبوعلي النيسابوري وهشام بن عمار. وقال: دحيم وابن معين وأبوداود والنسائي: ليس به بأس. وقال أبوحاتم: صدوق مستقيم الحديث. وقال البغوي والدارقطني: ضعيف. وذكره الدارقطني في المتروكين، وقال: هو أكثر مناكير من معاوية بن يحيى الصدفي. وقال ابن عدي: في بعض رواياته ما لا يتابع عليه، كذا في تهذيب التهذيب (ج10 ص221) وقال في التقريب: صدوق له أوهام. وأجاب الحنفية عن حديث أبي سعيد الذي نحن في شرحه بأنه ليس بحجة علينا؛ لأن المختلف فيه ما إذا كان الإمام والمقتدي مفترضين، وفي هذا الحديث كان المقتدي متنفلاً، قال الشيخ في شرح الترمذي متعقباً على هذا الجواب ما نصه: إذا ثبت من هذا الحديث حصول ثواب الجماعة بمفترض ومتنفل فحصول ثوابها بمفترضين بالأولى، ومن ادعى الفرق فعليه البيان، على أنه لم يثبت عدم جواز تكرار الجماعة أصلاً

لا بمفترضين ولا بمفترض ومتنفل، فالقول بجواز تكرارها بمفترض ومتنقل وعدم جواز تكرارها بمفترضين مما لا يصغى إليه، كيف وقد تقدم أن أنساً جاء في نحو عشرين من فتيانه إلى المسجد قد صلى فيه فصلى بهم جماعة، وظاهر أنه هو وفتيانه كلهم كانوا مفترضين، وكذلك جاء ابن مسعود إلى مسجد قد صلى فيه فجمع بعلقمة ومسروق والأسود، وظاهر أنه هو وهؤلاء الثلاثة كلهم كانوا مفترضين - انتهى. ومذهب الشافعية ما ذكره الشافعي في الأم (ج1:137، 136) وإذا كان للمسجد إمام راتب ففاتت رجلاً أو رجالاً فيه الصلاة صلوا فرادى ولا أحب أن يصلوا فيه جماعة، فان فعلوا أجزأتهم الجماعة فيه، وإنما كرهت ذلك لهم؛ لأنه ليس مما فعل السلف قبلنا، بل قد عابه بعضهم. قال الشافعي: وأحسب كراهية من كره ذلك منهم إنما كان لتفرق الكلمة وأن يرغب الرجل عن الصلاة خلف إمام جماعة فيختلف هو، ومن أراد عن المسجد في وقت الصلاة فإذا قضيت دخلوا فجمعوا، فيكون في هذا اختلاف وتفرق كلمة وفيهما المكروه، وإنما أكره هذا في كل مسجد له إمام ومؤذن، فأما مسجد بني على ظهر الطريق أو ناحية لا يؤذن فيه مؤذن راتب ولا يكون له إمام معلوم ويصلي فيه السمارة ويستظلون فلا أكره ذلك فيه؛ لأنه ليس فيه المعنى الذي وصفت من تفرق الكلمة، وإن يرغب رجال عن إمامة رجل فيتخذون إماماً غيره وإن صلى جماعة في مسجد له إمام ثم صلى فيه آخرون في جماعة بعدهم كرهت ذلك لهم لما وصفت وأجزأتهم صلاتهم - انتهى. قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي (ج1:ص431) بعد تصويب قول الشافعي وتحسينه: وهذا المعنى الذي ذهب إليه الشافعي لا يعارض حديث الباب، يعني حديث أبي سعيد الذي نحن في شرحه، فان الرجل الذي فاتته الجماعة لعذر ثم تصدق عليه أخوه من نفس الجماعة بالصلاة معه، وقد سبقه بالصلاة فيها هذا الرجل، يشعر في داخلة نفسه كأنه متحد مع الجماعة قلباً وروحاً وكأنه لم تفته الصلاة. وأما الناس الذي يجمعون وحدهم بعد صلاة جماعة المسلمين فإنما يشعرون أنهم فريق آخر خرجوا وحدهم وصلوا وحدهم إلى آخر ما قال. ومذهب المالكية ما في المدونة (ج1:ص89) قلت: فلو كان رجل هو إمام مسجد قوم ومؤذنهم أذن وأقام فلم يأته أحد فصلى وحده ثم أتى أهل المسجد الذين كانوا يصلون فيه، قال فليصلوا أفذاذاً ولا يجمعوا؛ لأن إمامهم قد أذن وصلى، قال: وهو قول مالك. قلت: أرأيت إن أتى هذا الرجل الذي أذن في هذا المسجد وصلى وحده أتى مسجداً فأقيمت الصلاة أيعيد أم لا في جماعة في قول مالك؟ قال: لا أحفظ من مالك فيه شيئاً، ولكن لا يعيد؛ لأن مالكاً قد جعله وحده جماعة - انتهى. وقال ابن العربي في شرح الترمذي (ج2:ص21) : هذا معنى محفوظ في الشريعة عن زيغ المبتدعة لئلا يتخلف عن الجماعة ثم يأتي فيصلي بإمام آخر، فتذهب حكمة الجماعة وسننها، لكن ينبغي إذا أذن الإمام في ذلك أن يجوز، كما في حديث أبي سعيد، وهو قول بعض علماءنا - انتهى. ولعلك عرفت بما ذكرنا من مذاهب العلماء وما استدلوا به عليها أنه لا دليل على كراهة تكرار

{الفصل الثالث}

رواه الترمذي، وأبوداود. {الفصل الثالث} 1154- (12) عن عبيد الله بن عبد الله، قال: ((دخلت على عائشة، فقلت: ألا تحدثين عن مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: بلى، ثقل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أصلى الناس؟ فقلنا: لا يارسول الله - صلى الله عليه وسلم -! وهم ينتظرونك قال: ضعوا لي ماء في المخضب، ـــــــــــــــــــــــــــــ الجماعة، وعدم جواز الجماعة الثانية في مسجد له إمام راتب قد صلى فيه أهله لا من كتاب ولا من سنة صحيحة ثابتة ولا إجماع إلا من رأي معارض لحديث أبي سعيد ومخالف لعمل ابن مسعود وأنس بن مالك رضي الله عنهما، لا يعرف فيه لهما مخالف من الصحابة، فأرجح الأقوال عندنا هو أنه يجوز ويباح لمن أتى مسجداً قد صلي فيه بإمام راتب وهو لم يكن صلاها، وقد فاتته الجماعة لعذر أن يصلي بالجماعة، والله أعلم. (رواه الترمذي) وحسنه. (وأبوداود) وسكت عنه هو، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره، واللفظ المذكور للترمذي إلا قوله: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه، فإن هذا اللفظ لأبي داود، ولفظ الترمذي: أيكم يتجر على هذا. والحديث أخرجه أيضاً أحمد (ج3:ص5و45، 64، 85) والدارمي والحاكم (ج1:ص209) وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وابن حزم في المحلي (ج4:ص238) والبيهقي (ج3:ص69وج2:ص303) وابن حبان وابن الجارود في المنتقي (ص168) وابن خزيمة. وفي الباب عن أبي أمامة وسلمان وعصمة بن مالك الخطمي وأنس، ذكر أحاديثهم الزيلعي في نصب الراية (ج2:ص57، 58) والهيثمي في مجمع الزوائد (ج2:ص45، 46) . هذا، وكان الأنسب إيراد الأحاديث الثلاثة في باب فضيلة الجماعة. 1154- قوله: (عن عبيد الله بن عبد الله) أي ابن عتبة بن مسعود، أحد الفقهاء السبعة من كبار التابعين. (فقلت) لها. (ألا) بتخفيف اللام للعرض والاستفتاح. (تحدثيني عن مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي مرضه الذي توفى فيه. (قالت بلى) أي نعم أحدثك. (ثقل النبي - صلى الله عليه وسلم -) بضم القاف، اشتد مرضه فحضرت الصلاة. (فقال) صلى الله عليه وسلم. (أصلي الناس) الهمزة فيه للاستفهام والاستخبار. (فقلنا: لا) أي ما صلوا. (وهم ينتظرونك) أي خروجك أو أمرك. قال الطيبي: حال من المقدر أي لم يصلوا والحال أنهم ينتظرونك. (قال) وفي بعض النسخ: "فقال". (ضعوا) أمر من الوضع. (لي) أي لأجلي. (ماء في المخضب) بكسر ميم وسكون خاء وفتح ضاد معجمتين ثم الموحدة هو أجانة تغسل فيها الثياب، ويقال لها المركن، وكان هذا المخضب (1) وفي نسخة "فقال"

قالت: ففعلنا، فاغتسل، فذهب لينوء، فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله! قال ضعوا لي ماء في المخضب، قالت: فقعد فاغتسل، ثم ذهب لينوء، فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله! قال: ضعوا لي ماء في المخضب، فقعد فاغتسل، ثم ذهب لينوء، فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله! والناس عكوف في المسجد. ـــــــــــــــــــــــــــــ من نحاس، كما في رواية ابن خزيمة. (قالت) أي عائشة. (ففعلنا) ما أمر به. (فاغتسل) وللمتسملى: ففعلنا فقعد فاغتسل قال الحافظ: الماء الذي اغتسل به كان من سبع قرب، يشير إلى رواية البخاري في باب الغسل والوضوء في المخضب بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال بعد ما دخل بيته واشتد وجعه: هريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن لعلى أعهد إلى الناس، وأجلس في مخضب لحفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم طفقنا نصب عليه تلك، قيل: والحمة في ذلك أن المريض إذا صب عليه الماء البارد ثابت إليه قوته، لكن في مرض يقتضي ذلك والنبي - صلى الله عليه وسلم - علم بذلك، فلذلك طلب الماء ولذلك بعد استعمال الماء قام وخرج إلى الناس فصلى بهم وخطبهم، وأما تعيين العدد بالسبعة فقيل: يحتمل أن يكون ذلك من جهة التبرك بهذا العدد؛ لأن له دخولاً في كثير من أمور الشريعة وأصل الخلقة، والحكمة في عدم حل الأوكية، لكونه أبلغ في طهارة الماء وصفائه لعدم مخالطة الأيدي. قال الحافظ وفي رواية للطبراني من آبار شتى، والظاهر أن ذلك للتداوي لقوله في رواية أخرى في الصحيح: لعلي أستريح فأعهد أي أوصى. (فذهب) أي شرع. (لينوء) بنون مضمومة ثم همزة أي لينهض بجهد ومشقة. وقال الكرماني: وينوء كيقوم لفظاً ومعنى. (فأغمي عليه) بالبناء للمفعول أي لشدة ما حصل له من تناهي الضعف وفتور الأعضاء عن تمام الحركة. قال في المجمع: أغمي على المريض إذا غشي عليه كأنه ستر عقله - انتهى. وفيه أن الإغماء جائز على الأنبياء؛ لأنه مرض من الأمراض بخلاف الجنون فلم يجز عليهم؛ لأنه نقص وقد كملهم الله تعالى بالكمال التام. قال العيني: العقل في الإغماء يكون مغلوباً، وفي الجنون يكون مسلوباً، والحكمة في جواز المرض عليهم ومصائب الدنيا تكثير أجورهم وتسلية الناس بأحوالهم وأمورهم، لئلا يفتتن الناس بهم ويعبدونهم لما يظهر على أيديهم من المعجزات والآيات البينات. (هم ينتظرونك) جملة اسمية وقعت حالاً بلا واو، وهو جائز وقد وقع في القرآن نحو قوله {قلنا اهبطو بعضكم لبعض عدو} [36:2] وكذلك هم ينتظرونك الثاني. (فأغمي عليه ثم أفاق) وقع الاغماء والإفاقة ثلاث مرات. قال الأسنوي في المهمات: نقل القاضي حسين أن الاغماء لا يجوز على الأنبياء الا ساعة أو ساعتين، فأما الشهر أو الشهرين فلا يجوز كالجنون. (والناس عكوف)

ينتظرون النبي - صلى الله عليه وسلم - لصلاة العشاء الآخرة، فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بكر: بأن يصلي بالناس، فأتاه الرسول، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرك أن تصلي بالناس، فقال أبوبكر – وكان رجلاً رقيقاً – يا عمر! صل بالناس، فقال له عمر: أنت أحق بذلك، فصلى أبوبكر تلك الأيام، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجد في نفسه خفة، وخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر، وأبوبكر يصلي بالناس، ـــــــــــــــــــــــــــــ بضم العين جمع العاكف، أي مجتمعون مقيمون، وأصل العكف اللبث والحبس واللزوم، ومنه الاعتكاف؛ لأنه لبث في المسجد ولزومه وحبس النفس فيه. (ينتظرون النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي خروجه. (لصلاة العشاء الآخرة) قال الحافظ: كذا للأكثر بلام التعليل. وفي رواية المستملي والسرخسي: الصلاة العشاء الآخرة. وتوجيهه أن الراوي كأنه فسر الصلاة المسؤل عنها في قوله - صلى الله عليه وسلم -، أي الصلاة المسؤل عنها هي العشاء الآخرة. (فأتاه الرسول) أي رسول النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بلال المؤذن؛ لأنه هو الذي أعلم بحضور الصلاة كما تقدم فأجيب بذلك. (فقال أبوبكر) أي لعمر بن الخطاب. (وكان رجلاً) جملة معترضة مقول عائشة. (رقيقا) أي رقيق القلب كثير الحزن والبكاء، لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن. (يا عمر صل بالناس) قال النووي: تأوله بعضهم على أنه قاله تواضعاً وليس كذلك بل للعذر المذكور وهو كونه رقيق القلب كثير البكاء، فخشي أن لا يسمع الناس من البكاء. قال الحافظ: ويحتمل أن يكون رضي الله عنه فهم من الإمامة الصغرى الإمامة العظمى، وعلم ما في تحملها من الخطر، وعلم قوة عمر على ذلك فاختاره، ويؤيده أنه عند البيعة أشار عليهم أن يبايعوه أو يبايعوا أباعبيدة بن الجراح. والظاهر أنه لم يطلع على المراجعة التي وقعت بينه - صلى الله عليه وسلم - وبين عائشة، وفهم من الأمر له بذلك تفويض الأمر له في ذلك، سواء باشر بنفسه أو استخلف - انتهى. وقال السندي: كأن أبا بكر رضي الله عنه رأى أن أمره بذلك كان تكريماً منه له، والمقصود أداء الصلاة بإمام لا تعيين أنه الإمام، ولم يدر ما جرى بينه - صلى الله عليه وسلم - وبين بعض أزواجه في ذلك، وإلا لما كان له تفويض الإمامة إلى عمر. (فقال له عمر أنت أحق بذلك) مني أي لفضيلتك أو لأمر الرسول إياك خاصة. (فصلى أبوبكر تلك الأيام) أي التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها مريضاً. (وجد في نفسه خفة) أي من المرض، وقوة على الخروج إلى الجماعة. (أحدهما العباس) والآخر علي، كما سيأتي. (لصلاة الظهر) هو صريح في أن الصلاة المذكورة كانت الظهر، وزعم بعضهم أنها الصبح، مستدلاً بقوله في رواية ابن عباس عند ابن ماجه والبيهقي (ج3:ص81) : وأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القراءة من حيث بلغ أبوبكر، لكن في الاستدلال به على ذلك نظر. لاحتمال أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم سمع لما قرب من أبي بكر الآية التي كان انتهى إليها خاصة، وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يسمع الآية أحياناً في الصلاة السرية على أن حديث ابن عباس هذا في سنده أبوإسحاق السبيعي كان قد

فلما رآه أبوبكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن لا يتأخر، قال: أجلساني إلى جنبه، فأجلساه إلى جنب أبي بكر، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قاعد. وقال عبيد الله: فدخلت على عبد الله بن عباس، فقلت له: ألا أعرض عليك ما حدثني عائشة عن مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: هات، فعرضت عليه حديثها، فما أنكر منه شيئاً، غير أنه قال: أسمّت لك الرجل الذي كان مع العباس؟ قلت: لا. قال: هو علي)) ـــــــــــــــــــــــــــــ اختلط بآخر عمره، وكان مدلساً، وقد رواه بالعنعنة. وقد قال البخاري: لا نذكر لأبي إسحاق سماعاً عن أرقم ابن شرجيل. (فلما رأه أبوبكر ذهب ليتأخر) أي أراد أن يتأخر وشرع فيه. (فأومأ) بالألف وفي بعض النسخ بالهمزة أي أشار. (قال) أي للرجلين. (فأجلساه إلى جنب أبي بكر والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قاعد) كذا وقع في جميع النسخ الموجودة عندنا. ولفظ البخاري: فأجلساه إلى جنب أبي بكر، قال: فجعل أبوبكر يصلي، وهو يأتم بصلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والناس بصلاة أبي بكر والنبي - صلى الله عليه وسلم - قاعد. ولفظ مسلم: فأجلساه إلى جنيب أبي بكر فكان يصلي أبوبكر وهو قائم بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - والناس يصلون بصلاة أبي بكر والنبي - صلى الله عليه وسلم - قاعد. وذكر الجزري في جامع الأصول (ج11:ص372) لفظ مسلم. والظاهر أنه وقع في نسخ المشكاة ههنا سقط من النساخ حتى صار الكلام مهملا. والعجب من القاري أنه لم يتنبه لذلك ومر عليه كأنه رأى معناه واضحاً ليس فيه اختلال ولا إهمال. واستدل بهذا الحديث على أن استخلاف الإمام الراتب إذا اشتكى أولى من صلاته بهم قاعدا؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - استخلف أبابكر ولم يصل بهم قاعداً غير مرة واحدة. وفيه دليل على صحة إمامة القاعد المعذور للقائم خلافاً لمالك. وفي الحديث فوائد أخرى غير ما تقدم منها: فضيلة أبي بكر الصديق وترجيحه على جميع الصحابة وتفضيله، وتنبيه على أنه أحق بخلافة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غيره. ومنها: فضيلة عمر بعد أبي بكر؛ لأن أبابكر لم يعدل إلى غيره. ومنها: أن المفضول إذا عرض عليه الفاضل مرتبة لا يقبلها بل يدعها للفاضل إذا لم يمنع مانع. ومنها: الثناء في الوجه لمن أمن عليه الإعجاب والفتنة، لقوله: أنت أحق بذلك. ومنها: أن الإمام إذا عرض له عذر عن حضور الجماعة وأراد أن يستخلف أحداً فلا يستخلف إلا أفضلهم. (وقال عبيد الله) ابن عبد الله بن عتبة. (ألا أعرض) الهمزة للاستفهام ولا للنفي وليس حرف التنبيه ولا حرف التحضيض، بل هو استفهام للعرض. (عن مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي وعن صلاته في تلك الحالة وإنما اقتصر على الأول؛ لأنه المقصود بالسؤال. (قال هات) بكسر التاء مفرد هاتوا بمعنى أحضر. (فعرضت عليه) أي على ابن عباس. (حديثها) هذا. (فما أنكر منه) أي من حديثها. (شيئاً) مصدر أي ما أنكر شيئاً من الانكار فهو مفعول مطلق. وقيل: مفعول به أي ما انكر شيئاً من الأشياء. (قال هو علي) أي ابن أبي طالب قيل: لم تسمه عائشة؛

متفق عليه. 1155- (13) وعن أبي هريرة، أنه كان يقول: ((من أدرك الركعة فقد أدرك السجدة، ومن فاتته قراءة أم القرآن فقد فاته خير كثير)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنه كان في قلبها منه ما يحصل في قلوب البشر. مما يكون سبباً في الإعراض عن ذكر اسمه، ففي رواية للإسماعيلي: ولكن عائشة لا تطيب نفساً له بخير، ولابن إسحاق في المغازي، ولكنها لا تقدر على أن تذكره بخير. قال الحافظ: وفي هذا رد على من تنطع فقال: لا يجوز أن يظن ذلك بعائشة ورد على من زعم أنها أبهمت الثاني، لكونه لم يتعين في جميع المسافة إذ كان تارة يتوكأ على الفضل وتارة على أسامة وتارة على علي. وفي جميع ذلك الرجل الآخر هو العباس، واختص بذلك إكراماً له، وهذا توهم ممن قاله، والواقع خلافه؛ لأن ابن عباس في جميع الروايات الصحيحة جازم بأن المبهم علي فهو المعتمد، ودعوى وجود العباس في كل مرة والذي يتبدل غيره مردودة بدليل رواية ابن حبان التي قدمت الإشارة إليها وغيرها صريح في أن العباس لم يكن في مرة ولا مرتين - انتهى كلام الحافظ. فتفكر. (متفق عليه) أخرجه البخاري في باب: إنما جعل الإمام ليؤتم به، وأخرجه أيضاً النسائي في باب الإئتمام بالإمام يصلي قاعداً والبيهقي (ج1:ص31 وج3:ص80) . 1155- قوله: (أنه كان يقول) الضمير راجع إلى أبي هريرة. ولفظ المؤطا مالك: أنه بلغه أن أباهريرة كان يقول. (من أدرك الركعة) قيل: المراد بالركعة الركوع، ومعنى إدراك الركوع أن يركع المأموم قبل أن يرفع الإمام رأسه من الركوع يعني من أدرك الإمام راكعاً فكبر وركع قبل رفع الإمام رأسه فقد أدرك الركوع وإذا أدرك الركوع. (فقد أدرك السجدة) بالأولى يعني يعتبر بهذه السجدة إذا أدرك الركوع. وقيل: المراد بالسجدة الركعة، والمعنى من أدرك الركوع فقد أدرك الركعة أي صحت له تلك الركعة. وقيل: لفظ الركعة محمول على معناه الحقيقي، والمراد بالسجدة الصلاة والمعنى من أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة أي فضيله جماعتها بكمالها. (ومن فاتته قراءة أم القرآن) أي فاتحة الكتاب. (فقد فاته خير كثير) قال الباجي في المنتقي (ج1:ص21) معناه من أدرك الركعة فقد أدرك الاعتداد بالسجدة، وليست فضيلة من أدرك الركعة بدون قراءة كفضيلة من أدرك القراءة من أولها إلى آخرها. وقال الطيبي: أي من أدرك الركوع وفاته قراءة أم الكتاب وإن أدرك الركعة فقد فاته ثواب كثير - انتهى. وهذا بظاهره يدل على أن أباهريرة ذهب إلى أن مدرك الركوع مدرك للركعة، لكن هذا الأثر مما رواه مالك بلاغاً، وقد قال بعضهم: يسمى مثل هذا معضلاً ولم نقف على من رواه مسنداً، ولا يكفي لثبوته وصحته ما نقله القاري عن سفيان إذا قال مالك: بلغني فهو إسناد قوي، ولو سلم فهو معارض لما رواه البخاري في جزء القراءة (ص35) بسنده عن أبي هريرة لا يجزيك إلا أن

رواه مالك. 1156- (14) وعنه، أنه قال: ((الذي يرفع رأسه ويخفضه قبل الإمام، فإنما ناصيته بيد الشيطان)) رواه مالك. ـــــــــــــــــــــــــــــ تدرك الإمام قائما قبل أن يركع. وفي رواية (ص64) إذا أدركت القوم ركوعاً لم تعتد بتلك الركعة، قال ابن عبد البر بعد ذكره: في إسناد نظر، ولم يبين وجه النظر، والحق أن إسناد الروايتين صحيح أو حسن، رواته مقبولون موثقون، فإن الأول رواه عن عبيد بن يعيش عن يونس عن محمد بن إسحاق قال: أخبرني الأعرض عن أبي هريرة. والثاني عن معقل بن مالك عن أبي عوانة عن محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن الأعرج عنه، وهذا أقوى وأرجح مما رواه مالك بلاغاً، فيقدم ذلك على هذا. (رواه مالك) أي بلاغا عن أبي هريرة، ورواه البيهقي (ج2:ص90) من طريق مالك. 1156- قوله: (وعنه) أي عن أبي هريرة. (أنه قال) موقوف. وقد روي مرفوعاً، ورجح الحافظ وقفه كما سيأتي. (الذي يرفع رأسه) أي من الركوع والسجود. (ويخفضه) أي الرأس فيهما. (قبل الإمام) أي قبل رفعه وخفضه. (فإنما ناصيته) أي شعر مقدم رأسه. قال في المجمع: هي الشعر المسترسل في مقدم الرأس، وقد يكنى بها عن جميع الذات. وقال في القاموس: الناصية قصاص الشعر. (بيد الشيطان) حقيقة أو مجازاً، يعني يقلبه على خلاف رضى الحق، فهو في تصريف الشيطان، وقبول أمره. والمعنى أن المبادرة بالرفع والخفض قبل الإمام من فعل الشيطان بالمبادر. قال الباجي: معناه الوعيد لمن فعل ذلك، وإخبار أن ذلك من فعل الشيطان، وأن فعله هذا انقياد من كانت ناصيته بيده - انتهى. قال صاحب القبس: ليس للتقدم قبل الإمام سبب إلا طلب الاستعجال، ودواؤه أنه يستحضر أنه لا يسلم قبل الإمام فلا يستعجل في هذه الأفعال، ذكره الحافظ في الفتح. (رواه مالك) عن محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص عن مليح بن عبد الله بن السعدي عن أبي هريرة من قوله قال ابن عبد البر: رواه مالك موقوفاً، ورواه الدراوردي عن محمد بن عمرو عن مليح عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال الحافظ في الفتح أخرجه البزار من رواية مليح بن عبد الله السعدي عن أبي هريرة مرفوعاً، وأخرجه عبد الرزاق من هذا الوجه موقوفاً. وهو المحفوظ - انتهى. قلت: والحديث المرفوع عزاه الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2:ص78) للبزار، والطبراني وقال: وإسناده حسن - انتهى. ومليح بن عبد الله السعدي لم أجد ترجمته في كتب الرجال الموجودة عندي، إلا أنه ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من تابعي أهل المدينة، فقال: مليح بن عبد الله السعدي روى عن أبي هريرة وروى عنه محمد بن عمرو بن علقمة الليثي - انتهى.

(29) باب من صلى صلاة مرتين

(29) باب من صلى صلاة مرتين {الفصل الأول} 1157- (1) عن جابر، قال: ((كان معاذ بن جبل يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يأتي قومه فيصلي بهم)) . متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ (باب من صلى) أي فيمن صلى. (صلاة مرتين) أي حقيقة أو صورة وله صور، والمقصود منها ههنا بالنظر إلى أحاديث الباب هو أن يصلي فريضة منفرداً في منزله أو في المسجد بالجماعة مأموماً ثم يذهب إلى مسجد الجماعة فيصلي بهم إماماً أو معهم مأموماً. 1157- قوله. (كان معاذ بن جبل يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي العشاء الآخرة، كما في رواية لمسلم فكان العشاء هي التي كان يواظب فيها على الصلاة مرتين. (ثم يأتي قومه) أي مسجد قومه بني سلمة. (فيصلي بهم) أي الصلاة المذكورة، ففي رواية مسلم المتقدمة: فيصلي بهم تلك الصلاة، أي التي صلاها مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وللبخاري في الأدب: فيصلي بهم الصلاة أي المذكورة. وفي هذا رد على من زعم أن الصلاة التي كان يصليها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - غير الصلاة التي كان يصليها بقومه، واستدل به لما ذهب إليه الشافعي وأحمد من صحة إقتداء المفترض خلف المتنفل، بناء على أن معاذاً كان ينوي بالأولى بالفرض وبالثانية النفل. وأجاب بعض الحنفية بأنه لا حجة فيه لجواز أن يكون كان معاذ يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - نافلة، ثم يأتي قومه فيصلي بهم فريضة، ورد هذا الجواب بأن الظاهر من هذا الحديث أن معاذاً كان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فريضة، إذ بعيد من فقاهة معاذ وهو أفقه الصحابة أن يدرك الفرض خلف أفضل الأئمة في مسجده الذي هو أفضل المساجد بعد المسجد الحرم، فيتركه ويضيع حظه منه ويقنع من ذلك بالنفل. قال السندي في حاشية النسائي: دلالة هذا الحديث على جواز إقتداء المفترض واضحة، والجواب عنه مشكل جداً، وأجابوا بما لا يتم، وقد بسطت الكلام فيه في حاشية ابن الهمام-انتهى. قلت: والرواية الآتية نص صريح في صحة اقتداء المفترض خلف المتنفل، وهي صحيحة، كما ستعرف، والحديث يدل على جواز إعادة الصلاة بالجماعة إماماً أو مأموماً لمن صلى جماعة في مسجد، واختلف فيه. قال ابن رشيد: أكثر الفقهاء على أنه لا يعيد، منهم مالك وأبوحنيفة. وقال بعضهم: يعيد، ومن قال بهذا أحمد وداود وأهل الظاهر-انتهى. قلت: وبه قال الشافعي، وهو الحق لحديث جابر هذا، وسيأتي مزيد الكلام في ذلك في شرح الأحاديث المذكورة في الباب. (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب إذا صلى ثم أم قوماً ويمثله أخرجه مسلم إلا أن فيه ثم يأتي مسجد قومه.

1158- (2) وعنه، قال: ((كان معاذ يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم العشاء، وهي له نافلة ـــــــــــــــــــــــــــــ وللحديث طرق وألفاظ مطولة ومختصرة، منها ما تقدم في باب القراءة في الصلاة. وأخرجه أيضاً الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي وغيرهم. 1158- قوله. (ثم يرجع إلى قومه) أي بني سلمة. (فيصلي بهم العشاء) أي التي كان يصليها مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي رواية الحميدي عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار: ثم يرجع إلى بني سلمة فيصليها بهم. وفي رواية الشافعي عن ابن عيينة: ثم يرجع فيصليها بقومه في بني سلمة، ولأحمد: ثم يرجع فيؤمنا. (وهي) أي صلاته بقومه. (له) أي لمعاذ. (نافلة) أي تطوع، ولقومه فريضة، ففي رواية للدارقطني. (ص102) : ثم ينصرف إلى قومه فيصلي بهم، هي له تطوع، ولهم فريضة، وهذه الزيادة المصرحة أن صلاة معاذ بقومه كانت له تطوعاً، دليل واضح على صحة إقتداء المفترض خلف المتنفل خلافاً للمالكية والحنفية. وأجاب بعض الحنفية بأن هذه الزيادة فيها كلام، لأنه تفرد بها ابن جريج عن عمرو بن دينار. قال أحمد: أخشى أن لا تكون محفوظة. وقال ابن الجوزي: هذه الزيادة لا تصح. وقال الطحاوي: إن ابن عيينة قد روى هذا الحديث عن عمرو بن دينار كما رواه ابن جريج، وجاء به تاماً، وساقه أحسن من سياق ابن جريج غير أنه لم يقل فيه هذا الذي قاله ابن جريج: هي له تطوع ولهم فريضة-انتهى. قلت: الزيادة المذكورة صحيحة ثابتة محفوظة، فإنها زيادة من ثقة حافظ، ليست منافية لرواية من هو أحفظ منه أو أكثر عدداً. وأما قول ابن الجوزي والطحاوي فقد رده الحافظ أحسن رد، حيث قال: ويدل عليه. (أى أن معاذ كان ينوي بالأولى الفرض وبالثانية النفل) ما رواه عبد الرزاق والشافعي والطحاوى والدارقطني وغيرهم من طريق ابن جريج عن عمرو بن دينار عن جابر في حديث الباب، زاد هي له تطوع، ولهم فريضة. وهو حديث صحيح، وقد صرح ابن جريج في رواية عبد الرزاق بسماعه فيه، فانتفت تهمة تدليسه. فقول ابن الجوزي: لا يصح، مردود. وتعليل الطحاوي بأن ابن عيينة ساقه عن عمرو أتم من سياق ابن جريج، ولم يذكر هذه الزيادة، ليس بقادح، لأن ابن جريج أسن وأجل من ابن عيينة وأقدم أخذاً عن عمرو منه، ولو لم يكن كذلك فهي زيادة من ثقة حافظ ليست منافية لرواية من هو أحفظ منه ولا أكثر عدداً، فلا معنى للتوقف في الحكم بصحتها- انتهى. ودعوى شذوذ هذه الزيادة، كما تفوه بها بعضهم، باطلة جداً، لأنه لا بد لكون الرواية شاذة من أن تكون منافية لرواية من هو أوثق من راويها أو أكثر عدداً منه، والأمر ههنا ليس كذلك، كما هو ظاهر جلي. وأجاب الطحاوي عن هذه الزيادة بوجوه: أحدها أن هذه الزيادة ليست من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا من كلام معاذ، وهذا ظاهر جداً، فيحتمل أن تكون من قول ابن جريج

. . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو من قول عمرو بن دينار، فعلى هذا تكون مدرجة، فلا تقبل. ومع هذا لا تدل على حقيقة فعل معاذ أنه كذلك أم لا. وأجاب الحافظ عنه بأن الأصل عدم الإدراج حتى يثبت التفصيل. فمهما كان مضموماً إلى الحديث فهو منه. ومجرد الاحتمال لا يثبت به الإدراج. فرد هذه الزيادة بمجرد احتمال أن تكون مدرجة، باطل جداً. وثانيها أنه يحتمل أن تكون هذه الزيادة من قول جابر، فعلى هذا لا تكون مدرجة، لكن لا تدل على حقيقة فعل معاذ أنه كذلك أم لا، لأنه لم يحك ذلك عن معاذ، بل هو ظن من جابر. وقد يجوز أن يكون في الحقيقة بخلاف ذلك. وأجاب الحافظ عنه بأن قول الطحاوي: هو ظن من جابر، مردود، لأن جابراً كان ممن يصلي مع معاذ، فهو محمول على أنه سمع ذلك منه، ولا يظن بجابر أنه يخبر عن شخص بأمر غير مشاهد إلا بأن يكون ذلك الشخص أطلعه عليه. وثالثها أنه لو ثبت أن هذه الزيادة نقلها جابر عن معاذ وسمعها منه لم يكن في ذلك دليل على أنه كان بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو أخبره به لأقره أو غيره، فعلى هذا لا تكون فيها حجة. وأجاب الحافظ عنه بأنهم لا يختلفون في أن رأي الصحابي إذا لم يخالفه غيره حجة، والواقع هنا كذلك، فإن الذين كان يصلي بهم معاذ كلهم صحابة، وفيهم ثلاثون عقبياً وأربعون بدرياً، قاله ابن حزم، قال: ولا يحفظ عن غيرهم من الصحابة امتناع ذلك، بل قال معهم بالجواز عمر وابن عمر وأبوالدرداء وأنس وغيرهم- انتهى. قلت: ويمكن أن يجاب بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم بذلك، وأمر معاذ به. ففي رواية لأحمد أنه قال لمعاذ: لا تكن فتاناً، إما أن تصلي معي. وإما أن تخفف على قومك، يعني إما تصلي معي إذا لم تخفف. وإما أن تخفف بقومك فتصلي معي. ورابعها أنه لو سلم أن ذلك كان من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإذنه لم يكن فيه حجة، لاحتمال أن ذلك كان في الوقت الذي كانت الفريضة فيه تصلى مرتين، فإن ذلك قد كان يفعل في أول الإسلام حتى نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما سيأتي في حديث سليمان عن ابن عمر في آخر الفصل الثالث، يعني فيكون فعل معاذ منسوخاً بما روي من النهي. وتعقب ذلك بأنه يتضمن إثبات النسخ بالاحتمال، وهو لا يسوغ. وأما حديث ابن عمر ففي الاستدلال به على تقدير صحته نظر، لاحتمال أن يكون النهي عن أن يصلوا مرتين على أنهما فريضة. وبذلك جزم البيهقي جمعاً بين الحديثين، بل لو قال قائل: هذا النهي منسوخ بحديث معاذ لم يكن بعيداً. ولا يقال إن القصة قديمة، لأن صاحبها استشهد بأحد. لأنا نقول كانت أحد في أواخر الثالثة، فلا مانع من أن يكون النهي في الأولى، والإذن في الثالثة مثلاً، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - للرجلين الذين لم يصليا معه: إذا صليتما في حالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا معهم فإنها لكما نافلة، وكان ذلك في حجة الوداع في أواخر حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -. ويدل على الجواز أيضاً أمره - صلى الله عليه وسلم - لمن أدرك الأئمة الذين يأتون بعده،

(الفصل الثاني)

رواه........ ((الفصل الثاني)) 1159_ (3) عن يزيد بن الأسود، قال: ((شهدت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حجته، فصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف، فلما قضى صلاته وانحرف فإذا هو برجلين في آخر القوم لم يصليا معه، ـــــــــــــــــــــــــــــ ويؤخرون الصلاة عن ميقاتها، أن صلوها في بيوتكم في الوقت، ثم اجعلوها معهم نافلة. (رواه) بيّض له المصنف ليبين روايه ومخرجه، وكان ينبغي تأخيره للفصل الثاني، لأنه ليس في الصحيحين، ولا في أحدهما، ولا في واحد من الكتب الستة، وإنما رواه البيهقي. (ج3 ص86) وغيره. وقد تقدم في كلام الحافظ أنه رواه عبد الرزاق والشافعي والطحاوي والدارقطني وغيرهم. وكأن المصنف ذكره في الفصل الأول تبعاً لما في المصابيح، وكان على البغوي أن يؤخره للحسان. قال الطيبي: لم يبين المؤلف روايه من أصحاب السنن، يشير إلى أنه ما وجده في الصحيحين. قال التوربشتي: هذا الحديث أثبت في المصابيح من طريقين: أما الأول فقد رواه الشيخان. وأما الثاني فبالزيادة التي فيه، وهي قوله: نافلة له فلم نجده في أحد الكتابين، فإما أن يكون المؤلف أورده بياناً للحديث الأول، فخفي قصده لإهمال التمييز بينهما أو هو سهو منه، وإما أن يكون مزيداً من خائض افتحم الفضول إلى مهامه لم يعرف طرقها- انتهى. والحديث مع هذه الزيادة صححه البيهقي وغيره. وقال الشافعي في مسنده: هذه زيادة صحيحة. وتقدم قول الحافظ أنه حديث صحيح. 1159- قوله. (عن يزيد بن الأسود) هو أبو جابر يزيد بن الأسود ويقال: ابن أبي الأسود السوائي بضم المهملة وتخفيف الواو والمد، العامري، ويقال الخزاعي، حليف قريش، صحابي، نزل الطائف، ووهم من ذكره في الكوفيين. له هذا الحديث فقط، وروى عنه ابنه جابر بن يزيد الأسود. (شهدت) أي حضرت. (مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حجته) أي حجة الوداع. (صلاة الصبح) فيه رد على من زعم من الحنفية بأن هذه القصة كانت في صلاة الظهر. وأما ما وقع في مسند أبي حنيفة بلفظ: أن رجلين صليا الظهر في بيوتهما- الحديث. فلا يعتد به، أو هي قصة أخرى. (في مسجد الخيف) بفتح الخاء المعجمة وإسكان الياء، وهو مسجد مشهور بمنى. قال الطيبي: الخيف ما انحدر من غليظ الجبل. وارتفع عن المسيل، يعني هذا وجه تسميته به. (فلما قضى صلاته) أي أداها وسلم منها. (وانحرف) وفي بعض نسخ الترمذي: "انحرف" بدون الواو، وهكذا نقله الجزرى في جامع الأصول. (ج6ص419) ووقع عند البيهقي. (ج2 ص301) : وانحرف بزيادة الواو أي انصرف عنها، والظاهر أن المعنى انحرف عن القبلة. (فإذا هو) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -. (برجلين في آخر القوم) كذا في جميع النسخ، أي بالمد في أوله

قال: عليّ بهما، فجيء بهما ترعد فرائصهما، فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ فقالا: يا رسول الله! إنا كنا قد صلينا في رحالنا، قال: فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ وكسر الخاء. والذي في الترمذي: أخرى القوم، أي بضم الهمزة تأنيث آخر بكسر الخاء، ونقله الجزري كذلك. وأخرى القوم من كان في آخرهم، كما في القاموس. (عليّ) بتشديد الياء، اسم فعل. (بهما) أي ائتوني بهما واحضروهما عندي. (ترعد) بالبناء للمجهول أي تحرك وترجف وتضطرب من الخوف من أُرعد الرجل إذا أخذته الرعدة، وهي الفزع والاضطراب. (فرائصهما) بالصاد المهملة جمع فريصة، وهي اللحمة التي بين الجنب والكتف، تهتز وترجف عند الفزع، أي تتحرك وتضطرب. ووجه ارتعاد فرائصهما ما أعطي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العظمة والمهابة مع كثرة تواضعه. (فقال) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ما منعكما أن تصليا) هذه الصلاة. (معنا) معشر المسلمين. (في رحالنا) أي منازلنا، جمع رحل بفتح الراء وسكون المهملة. (فلا تفعلا) أي ما فعلتما من ترك الصلاة مع الإمام بل (إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة) لفظ أبي داود: إذا صلى أحدكم في رحله، ثم أدرك الإمام ولم يصل فليصل معه. ولفظ ابن حبان: إذا صليتما في رحالكما ثم أدركتما الصلاة فصليا. قال الشوكاني: ظاهر التقييد بقوله: ثم أتيتما مسجد جماعة، إن هذا الحكم مختص بالجماعات التي تقام في المساجد لا التي تقام في غيرها، فيحمل المطلق من ألفاظ حديث الباب كلفظ أبي داود وابن حبان المتقدمين على المقيد بمسجد الجماعة. (فصليا معهم) أي مع أهل المسجد. (فإنها) أي الصلاة الثانية، وهي التي صلياها مع أهل المسجد بعد صلاتهما الفريضة. (لكما نافلة) والفريضة هي الأولى، سواء صليت جماعة أو فرادى لإطلاق الخبر. قال الشوكاني: فيه تصريح بأن الثانية في الصلاة المعادة نافلة. وظاهره عدم الفرق بين أن تكون الأولى جماعة أو فرادى، لأن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال. قال الخطابي في المعالم. (ج1 ص164) : في الحديث من الفقه أن من صلى في رحله، ثم صادف جماعة يصلون كان عليه أن يصلي معهم أي صلاة كانت من الصلوات الخمس، وهو مذهب الشافعي وأحمد وإسحاق. وكان مالك يكره أن يعيد صلاة المغرب وكان أبوحنيفة لا يرى أن يعيد صلاة العصر والمغرب والفجر- انتهى. قال ابن رشد: من استثنى من ذلك صلاة المغرب فقط فإنه خصص العموم بالقياس الشبه وهو مالك، وذلك أنه زعم أن صلاة المغرب وتر، فلو أعيدت لأشبهت صلاة الشفع، لأنها بمجموع ذلك تكون ست ركعات، فكأنها تنتقل من جنسها إلى جنس صلاة أخرى. وهذا القياس فيه ضعف، لأن السلام قد فصل بين الأوتار- انتهى. وعلل الحنفية استثناء

رواه الترمذي، وأبوداود، والنسائي. ـــــــــــــــــــــــــــــ العصر والفجر والمغرب بأن الصلاة الأولى فرض، والثانية نفل، قالوا: فيراعى فيه ما يراعى في التنفل، كالمنع من التطوع بعد فرض العصر والصبح، وعدم مشروعية التطوع وتراً. قال الخطابي: وظاهر الحديث حجة على الجماعة من منع عن شيء من الصلوات كلها، ألا تراه يقول: إذا صلى أحدكم في رحله، ثم أدرك الإمام ولم يصل فليصل معه، ولم يستثن صلاة دون صلاة، فأما نهيه عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب فقد تأولوه على وجهين: أحدهما أن ذلك على معنى إنشاء الصلاة ابتداء من غير سبب. فأما إذا كان لها سبب مثل أن يصادف قوماً يصلون جماعة فإنه يعيدها معهم ليحرز الفضيلة. والوجه الآخر أنه منسوخ، وذلك أن حديث يزيد بن الأسود متأخر، لأن في قصته أنه شهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع، ثم ذكر الحديث. وفي قوله: فإنها نافلة دليل على أن صلاة التطوع جائزة بعد الفجر قبل طلوع الشمس إذا كان لها سبب- انتهى. وقال السندي في حاشية النسائي: قوله: فصليا معهم، هذا تصريح في عموم الحكم أوقات الكراهة أيضاً، ومانع عن تخصيص الحكم بغير أوقات الكراهة، لاتفاقهم على أنه لا يصح استثناء المورد من العموم، والمورد صلاة الفجر. قال: ولا يمكن أن يتوهم نسخ هذا الحكم لكون ذلك في حجة الوداع. قلت: الحديث نص في رد ما قاله أبوحنيفة للتصريح بأن ذلك كان في صلاة الصبح، فيكون هذا مخصصاً لعموم الأحاديث القاضية بكراهة الصلاة بعد صلاة الصبح. ومن جوز التخصيص بالقياس ألحق ما ساواه من أوقات الكراهة. وأما التنفل بالثلاث غير صلاة الوتر فالظاهر أنه يشرع في مثل هذه الصورة لإطلاق حديث يزيد هذا وما وافقه من أحاديث الباب. ولا يعارض هذا حديث ابن عمر الآتي بلفظ: لا تصلوا صلاة في يوم مرتين، لما سنذكره. (رواه الترمذي وأبوداود والنسائي) واللفظ المذكور للترمذي، وأخرجه أيضاً أحمد (ج4 ص160) والطيالسي وابن سعد في الطبقات وابن حبان والدارقطني والحاكم (ج1 ص245) والبيهقي (ج2 ص300- 301) ، وصححه ابن السكن والترمذي، وسكت عنه أبوداود ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره، وقد أخرجوه كلهم من طريق يعلى بن عطاء عن جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه، قال الشافعي في القديم: إسناده مجهول. قال البيهقي: لأن يزيد بن الأسود ليس له راو غير ابنه، ولا لابنه جابر راو غير يعلى. قال الحافظ في التلخيص (ص122) : يعلى من رجال مسلم، وجابر وثقة النسائي وغيره، وقد وجدنا لجابر بن يزيد راوياً غير يعلى، أخرجه ابن مندة في المعرفة من طريق شيبة عن إبراهيم بن أبي أمامة عن عبد الملك بن عمير عن جابر.

(الفصل الثالث)

((الفصل الثالث)) 1160- (4) عن بسر بن محجن، عن أبيه، ((أنه كان في مجلس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأذن بالصلاة، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـــــــــــــــــــــــــــــ 1160- قوله. (عن بسر) بضم الموحدة وسكون المهملة، كذا قال مالك في روايته عن زيد بن أسلم. وأما الثوري فقال: عن زيد بن أسلم عن بشر بكسر الموحدة وبالمعجمة. قال أبونعيم: والصواب ما قال مالك. وقال ابن عبد البر: الأكثر على ما قال مالك. ونقل الدارقطني أن الثورى رجع عن ذلك. وقال ابن عبد البر: إن عبد الله بن جعفر والد علي بن المديني رواه عن زيد بن أسلم، فقال بشر بن محجن بالمعجمة. وقال الطحاوي: سمعت إبراهيم البرلسي يقول: سمعت أحمد بن صالح بجامع مصر يقول: سمعت جماعه من ولده ومن رهطه فما اختلف اثنان أنه بشر، كما قال الثوري يعني بالمعجمة. وقال ابن حبان في الثقات: من قال بشر فقد وهم، روى عنه زيد بن أسلم حديثاً واحداً. قيل صحابي، والصواب أنه تابعي. ذكره الحافظ في الإصابة في القسم الرابع من حرف الباء، وهو فيمن ذكر في الصحابة على سبيل الوهم والغلط بشرط أن يكون الوهم فيه بيناً، فقال: بسر بالضم وإسكان المهملة تابعي مشهور، جزم بذلك البخاري والجمهور. ذكره البغوي وغيره في الصحابة لرواية سقط فيها لفظ عن أبيه، وسنذكرها وقال ابن الأثير في أسد الغابة: لا تصح صحبته، تصح صحبة أبيه محجن. وقال في التقريب: بسر بن محجن. وقيل: بكسر أوله والمعجمة، صدوق من الرابعة أي من الطبقة التي تلي الطبقة الوسطى من التابعين، جل روايتهم عن كبار التابعين. (بن محجن) بكسر الميم وسكون مهملة وفتح جيم آخره نون. (عن أبيه) أي محجن بن أبي محجن الديلى، صحابي قليل الحديث. قال ابن عبد البر: معدود في أهل المدينة. قال الذهبي في تلخيصه للمستدرك (ج1 ص244) : محجن تفرد عنه ابنه - انتهى. ووهم من قال فيه: محجن بن الأدرع، كما في المنتقى لابن تيمية، فإنه صحابي آخر. (أنه) أي أباه. (كان في المجلس) أي داخل المسجد. (فأذن) بصيغة المفعول. (بالصلاة) قيل أي بالصلاة الظهر، لما أخرج البغوي وغيره من طريق ابن إسحاق عن عمران بن أبي أنس عن حنظلة بن علي عن بسر بن محجن، قال صليت الظهر في منزلي، ثم خرجت بإبل لى لأضربها، فمررت برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يصلي الظهر في مسجده- الحديث. ذكره الحافظ في الإصابة. وقال قد سقط من الإسناد قوله: عن أبيه، وأخرجه الطحاوي من طريق سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم بلفظ: صليت في بيتي الظهر والعصر- الحديث. وذكر ابن الأثير الجزري في أسد الغابة حديث بسر هذا بلفظ: صلاة الظهر. وروى أحمد عن رجل من بني الديل، قال خرجت بأباعر لي، لأصدرها إلى الراعي، فمررت برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يصلي بالناس الظهر، فمضيت، فلم أصل

فصلى، ورجع، ومحجن في مجلسه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما منعك أن تصلي مع الناس؟ ألست برجل مسلم؟ فقال: بلى، يا رسول الله! ولكني كنت قد صليت في أهلي، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا جئت المسجد، وكنت قد صليت، فأقيمت الصلاة، فصل مع الناس وإن كنت قد صليت)) . رواه مالك، والنسائي. ـــــــــــــــــــــــــــــ معه- الحديث. (فصلى) أي بعد الإقاومة. (ورجع) وفي الموطأ، وكذا عند النسائي: ثم رجع أي بعد الفراغ من الصلاة (ومحجن في مجلسه) أي مكانه الأول لم يتحرك منه. (ما منعك أن تصلي مع الناس) أي جماعة المسلمين الذين صلوا معي. (ألست برجل مسلم) قال الباجي: يحتمل الاستفهام، ويحتمل التوبيخ، وهو الأظهر. ولا يقتضي أن من لم يصل مع الناس ليس بمسلم، إذ هذا لا يقوله أحد- انتهى. (فقال بلى يا رسول الله) أنا مسلم حقاً. (ولكني كنت قد صليت) وفي الموطأ: ولكني قد صليت أي بدون لفظ: كنت (في أهلي) يعني ما تركت الصلاة، وإنما اكتفيت بصلاتي في أهلي. ولعله سمع قبل ذلك قوله: لا تصلوا صلاة في يوم مرتين. (إذا جئت المسجد وكنت قد صليت فأقيمت الصلاة فصل مع الناس) ولفظ الموطأ والنسائي: إذا جئت فصل مع الناس. ولفظ الكتاب لم أجده إلا في جامع الأصول. وقد نسبه إلى الموطأ والنسائي. وزاد أحمد في رواية له: واجعلها نافلة. (وأن) وصلية أي ولو. (كنت قد صليت) أي في أهلك. قال الطيبي: تكرير تقرير لقوله: وكنت قد صليت، وتحسين للكلام، كما في قوله تعالى. {ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة، ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم} [16: 119] فقوله: لغفور رحيم، خبر لقوله: إن ربك للذين عملوا السوء، وقوله: إن ربك من بعدها تكرير للتقرير والتحسين –انتهى. والحديث بعمومه وإطلاقه يدل على مشروعية الصلاة مع الإمام إذا وجده يصلي أو سيصلي أي صلاة كانت من الصلوات الخمس لمن كان قد صلى جماعه أو فرادى، والأولى هي الفريضة. والأخرى نافلة، كما صرح به في رواية لأحمد، (رواه مالك) عن زيد بن أسلم عن بسر عن أبيه محجن، والنسائي من طريق مالك، وأخرجه أيضاً أحمد (ج4 ص34) من طريق الثوري، ومالك عن زيد بن أسلم. ونسبه الحافظ في الإصابة للبخاري في الأدب المفرد، وابن خزيمة، ونسبه أيضاً في التلخيص لابن حبان والحاكم. وأخرجه أيضاً الطحاوي والدارقطني والدارمي والبيهقي (ج2 ص300) ، وهو في المستدرك (ج1 ص244) . من طريق مالك ومن طريق الشافعي عن عبد العزيز بن محمد عن زيد بن أسلم، ثم قال الحاكم: هذا حديث صحيح، ومالك بن أنس الحكم في حديث المدنيين، وقد احتج به في الموطأ، وهو من النوع الذي قدمت ذكره أن الصحابي إذا لم يكن له راويان لم يخرجاه- انتهى.

1161- (5) وعن رجل من أسد بن خزيمة، أنه سأل أبا أيوب الأنصاري قال: ((يصلي أحدنا في منزله الصلاة، ثم يأتي المسجد، وتقام الصلاة، فأصلى معهم، فأجد في نفسي شيئاً من ذلك. فقال أبوأيوب: سألنا عن ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: فذلك له سهم جمع)) . رواه مالك، وأبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1161- قوله. (عن رجل من أسد) كذا في جميع النسخ. وكذلك نقله الجزري في جامع الأصول (ج6 ص420) . وهكذا وقع في رواية للبيهقي وفي الموطأ وأبي داود: من بني أسد. وهذا الرجل مجهول لم يسم ولم يدر. (أنه سأل أبا أيوب الأنصاري) النجاري الخزرجي البدري من كبار الصحابة. (قال) أي الرجل السائل، وهذا بيان للسؤال. (يصلي أحدنا في منزله الصلاة) أي المكتوبة. (وتقام) وفي بعض النسخ: فتقام. (فأصلي معهم) أي مرة أخرى بعد ما صليت في منزلي. قال الطيبي: فيه التفات من الغيبة إلى الحكاية على سبيل التجريد؛ لأن الأصل أن يقال أصلي في منزلي بدل قوله: يصلي أحدنا- انتهى. قال القاري: والأظهر كان الأصل أن يقال فيصلي معهم فالتفت، وكذا قوله. (فأجد في نفسي) ولفظ الموطأ: فقال إني أصلي في بيتي، ثم آتي المسجد فأجد الإمام يصلي، أفأصلى معه؟. (شيئاً) أي شبهة. (من ذلك) أي من إعادة الصلاة. (سألنا عن ذلك) قال الطيبي: المشار إليه بذلك هو المشار إليه بذلك الأول والثالث أي الآتي، وهو ما كان يفعله الرجل من إعادة الصلاة بالجماعة بعد ما صلاها منفرداً- انتهى. (قال) وفي بعض النسخ: فقال موافقاً لما في أبي داود وجامع الأصول. (فذلك) الظاهر أن المشار إليه هنا هو الرجل خلاف ما ذكره الطيبي أي فذلك الرجل الذي أعاد الصلاة بالجماعة. (له سهم جمع) أي نصيب من ثواب الجماعة. وقال الخطابي في المعالم (ج1 ص165) : يريد أنه سهم من الخير، جمع له فيه حظان. وفيه وجه آخر. قال الأخفش: سهم جمع، يريد سهم الجيش. وسهم الجيش هو السهم من الغنيمة، قال: والجمع ههنا هو الجيش، واستدل بقوله تعالى. {يوم التقى الجمعان} [3: 155، 166] ، وبقوله: {سيهزم الجمع} [54: 45] ، وبقوله: {فلما تراء الجمعان} [26: 61] . وقال ابن عبد البر: له أجر الغازي في سبيل لله. وقال الباجي: يحتمل عندي أن ثوابه مثل ثواب الجماعة، ويحتمل مثل سهم من بيّت بالمزدلفة في الحج؛ لأن جمع اسم المزدلفة، ويحتمل أن له سهم الجمع بين الصلاتين صلاة الفذ والجماعة، فيكون فيه الإخبار بأنه لا يضيع له أجر الصلاتين- انتهى. قال الطيبي: قوله: فأجد في نفسي، أي أجد في نفسي من فعل ذلك حزازة، هل ذلك لي أو علي؟ فقيل له سهم الجمع أي ذلك لك لا عليك، ويجوز أن يكون المعنى إني أجد من فعل ذلك روحاً أو راحة، فقيل ذلك الروح نصيبك من صلاة الجماعة، والأول أوجه- انتهى. (رواه مالك وأبوداود) الحديث عند مالك موقوف، وعند أبي داود مرفوع. وكلام المصنف هذا يدل على أنه مرفوع عندهما جميعاً، فكان ينبغي

1162- (6) وعن يزيد بن عامر، قال: ((جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة، فجلست ولم أدخل معهم في الصلاة، فلما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رآني جالساً، فقال: ألم تسلم يا يزيد؟ قلت: بلى، يا رسول الله! قد أسلمت. قال: وما منعك أن تدخل مع الناس في صلاتهم؟ قال: إني كنت فقد صليت في منزلي، أحسب أن قد صليتم. فقال: إذا جئت الصلاة فوجدت الناس، فصل معهم وإن كنت قد صليت، ـــــــــــــــــــــــــــــ له أن يقول رواه مالك موقوفا، وأبوداود مرفوعاً أو يقول رواه أبوداود، ورواه مالك موقوفاً، ورواه البيهقي (ج2 ص300) مرفوعاً من طريق أبي داود، وموقوفاً من طريق مالك. والحديث في سنده رجل مجهول، كما تقدم. 1162- قوله. (وعن يزيد بن عامر) بن الأسود العامري أبوحاجز السوائي. قال في التقريب: صحابي، له حديث، يعني هذا الحديث. وقال في الإصابة: قال أبوحاتم: له صحبة، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة. أخرجه أبوداود من طريق نوح بن صعصعة عنه. ثم أخرجه الطبراني من هذا الوجه، وكان شهد حنيناً مع المشركين، ثم أسلم (جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة) وفي أبي داود جئت والنبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة أي مع الجماعة. ولفظ المشكاة موافق لما في جامع الأصول (ج6 ص420) . (فجلست) أي في ناحية من المسجد منفرداً عن الصف. (ولم أدخل معهم) أي مع المصلين. (في الصلاة) يعني إذا كنت قد صليت. (فلما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي عن الصلاة وانحرف عن القبلة. (رآني جالساً) وفي أبي داود: قال فانصرف علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرأى يزيد جالساً، أي على غير هيئة الصلاة أو على حدة من الصف. ولفظ المشكاة يوافق لما في جامع الأصول. (ألم تسلم) الهمزة للاستفهام أي أما أسلمت؟ (قلت) وفي بعض النسخ: فقلت: وفي أبي داود: قال أي يزيد. (وما منعك) وفي أبي داود: فما منعك. (أن تدخل مع الناس في صلاتهم) فإنه من علامة الإسلام. (قال) أي يزيد. (إني كنت قد صليت في منزلي أحسب) حال من فاعل صليت. (إن قد صليتم) قال الطيبي: قوله أحسب الخ جملة حالية أي ظاناً فراغ صلاتكم- انتهى. قلت: وفي أبي داود وأنا أحسب أي والحال إني كنت قد أحسب أن قد فرغتم من الصلاة. وفيه اعتذار، أن الأول عن عدم الدخول في صلاة الجماعة، وهو بقوله: إني كنت قد صليت. والثاني عن الصلاة في المنزل، وهو بقوله: أحسب أن قد صليتم. (فقال) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا جئت الصلاة) وفي أبي داود إلى الصلاة أي إلى المسجد. وفي جامع الأصول: إذا جئت الصلاة، كما في المشكاة. (فوجدت الناس) أي يصلون. (فصل معهم وإن) وصلية. (كنت قد صليت) في منزلك، أي ليحصل لك ثواب الجماعة وزيادة النافلة.

تكن لك نافلة وهذه مكتوبة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ (تكن) أي الصلاة الثانية التي صليتها مع الناس. (نافلة) بالنصب أي زائدة على الفرض. (وهذه) أي الصلاة الأولى التي صليتها في منزلك، ويحتمل العكس، لكن حديث يزيد بن الأسود المتقدم، وحديث محجن عند أحمد (ج4 ص338) وحديث أبي ذر السياق في باب تعجيل الصلاة يرجع الاحتمال الأول. (مكتوبة) بالرفع. وقيل: بالنصب. واعلم أنه اختلف في الصلاة التي تصلى مرتين: هل الفريضة الأولى أو الثانية، فقال الشافعي في القديم: إن الفريضة الثانية إذا كانت الأولى فرادى، واستدل له بحديث يزيد بن عامر هذا، لأن ظاهره أن الصلاة الأولى تكون نافلة. والثانية التي يصليها مع الناس مكتوبة، ويقوي ذلك رواية الدارقطني بلفظ: وليجعل التي صلى في بيته نافلة، وذكرها الحافظ في التلخيص (ص122) والزيلعي في نصب الراية (ج2 ص150) . والمشهور في مذهب المالكية هو أن يعيدها في الجماعة بنية الفرض مع التفويض لله تعالى في قبول ما شاء من الصلاتين لفرضه. وقال في الشرح الكبير: وندب لمن لم يحصل فضل الجماعة أن يعيد صلاته ولو بوقت ضرورة لا بعده مفوضا أمره لله تعالى في قبول أيهما شاء لفرضه. قال الدسوقي: ما ذكره المصنف من كون المعيد ينوي التفويض. قال الفاكهاني: هو المشهور في المذهب. وقيل: ينوي الفرض. وقيل ينوي النفل. وقيل: ينوي إكمال الفريضة. وقال ابن عبد البر: أجمع مالك وأصحابه: أن من صلى وحده لا يؤم في تلك الصلاة. وهذا يدل على أن الأولى هي فريضة، ومقتضى قواعد المالكية أنها على وجه الاعتداد بها، وبحسب النظر الفقهي الدنيوى هي الصلاة الأولى، وأما بالاعتبار الأخروي فالأمر مفوض إلى الله تعالى، واستدلوا للتفويض بأثر ابن عمر الذي بعد هذا. وقال الشافعي في الجديد: إن الأولى هي الفريضة، وهو مذهب الحنفية، وهو الحق لحديث يزيد بن الأسود السابق، ولحديث محجن عند أحمد، ولحديث أبي ذر المتقدم في باب تعجيل الصلاة، ولحديث ابن مسعود عند مسلم، وأبي داود في معنى حديث أبي ذر، وغير ذلك من الأحاديث التي ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص44) . وأما حديث يزيد بن عامر الذي استدل به لقول الشافعي في القديم فهو ضعيف، ضعفه النووي، لأن في سنده نوح بن صعصعة، وهو مستور، كما قال الحافظ في التقريب. وقال الدارقطني: حاله مجهولة كما في تهذيب التهذيب. وقال البيهقي: إن حديث يزيد بن الأسود أثبت منه وأولى، مع أن اللفظ المذكور في الكتاب ليس بصريح فيما ذهب إليه الشافعي. وأما الرواية بلفظ: وليجعل التي صلى في بيته نافلة، فهي ضعيفة شاذة، كما صرح به الدارقطني على ما نقله الحافظ عنه في التلخيص (ص122) . وقال الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص150) : قال الدارقطني والبيهقي إنها رواية ضعيفة شاذة مردودة لمخالفتها الثقات. قال الشوكاني: وعلى فرض صلاحية حديث يزيد بن عامر للاحتجاج به، كما هو مقتضى سكوت أبي داود والمنذري، فالجمع بينه وبين حديث الباب ممكن بحمل حديث يزيد بن الأسود على من صلى الصلاة الأولى في جماعة، وحمل حديث يزيد بن عامر على من صلى منفرداً، كما هو الظاهر

رواه أبوداود. 1163- (7) وعن ابن عمر، رضي الله عنهما، ((أن رجلاً سأله فقال: إني أصلي في بيتي، ثم أدرك الصلاة في المسجد مع الإمام، أفأصلى معه؟ قال له: نعم. قال الرجل: أيتهما أجعل صلاتي؟ قال ابن عمر: وذلك إليك؟ إنما ذلك إلى الله عزوجل، يجعل أيتهما شاء)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ من سياق الحديثين. وأما أثر ابن عمر الآتي فسيأتي الجواب عنه. (رواه أبوداود) ومن طريقه البيهقي (ج2 ص302) . وسكت عنه أبوداود والمنذري. وقد عرفت أن في سنده نوح بن صعصعة، وهو مستور. وقال الدارقطني: حاله مجهولة. 1163- قوله. (إني أصلي في بيتي) أي بالإنفراد أو بالجماعة. (في المسجد) ليس هذا اللفظ في نسخ الموطأ الموجودة وإن كان مراداً ههنا. وزاد الجزري لفظ: في المسجد. والمصنف تبعه في ذكر سياق الحديث. (أفأصلي معه) أي أزيد في صلاتي فأصلي معه، قال الطيبي. أو الفاء للتعقيب وتقديم الهمزة للصدارة. (قال له نعم) وفي الموطأ: فقال عبد الله بن عمر نعم. (أيتهما) قال القاري: بالنصب في أكثر النسخ. وفي نسخة السيد: بالرفع. والأول أظهر أي أية الصلاتين. (أجعل صلاتي) أي أعدهما عن فرضي. (قال) وفي الموطأ فقال له. (وذلك إليك) قال الطيبي: إخبار في معنى الاستفهام بدليل قوله. (إنما ذلك إلى الله) قلت: وقع في الموطأ أو ذلك إليك أي بهمزة الاستفهام، وكذا نقله الجزري عن الموطأ، ووقع عند البيهقي، وذلك كما في المشكاة. (يجعل) الفرض. (أيتهما شاء) يعني الله يعلم التي يتقبلها عن الفريضة إذا صليتهما بنية الفرض، وهذا هو المشهور في مذهب مالك أعني الإعادة بنية الفرض مع التفويض إلى الله في قبول شاء من الصلاتين لفرضه، كما تقدم. وقال ابن حبيب: معناه أن الله يعلم التي يتقبلها، فأما على وجه الاعتداد بها فهي الأولى، ومقتضى هذا أن يصلي الصلاتين بنية الفرض. وقال ابن الماجشون وغيره: أراد به القبول فإن الله تعالى قد يقبل الفريضة دون النافلة وبالعكس. وقال القاري: لأن المدار على القبول، وهو مخفي على العباد، وإن كان جمهور الفقهاء يجعلون الأولى فريضة، وأيضاً يمكن أن يقع في الأولى فساد فيحسب الله تعالى نافلته بدلاً عن فريضته، فالاعتبار الأخروي غير النظر الفقهي الدنيوي- انتهى. وعلى هذا فلا منافاة بينه وبين قول من قال الفريضة هي الأولى، كما روي عن ابن عمر نفسه أنه سئل عن الرجل يصلي الظهر في بيته ثم يأتي المسجد والناس يصلون فيصلي معهم، فأيتهما صلاته؟ قال: الأولى منهما صلاته. ذكره القاري في شرح مسند أبي حنيفة، وكذا حكاه عنه ابن عبد البر وقال: في وجه الجمع بين قوليهما أنه يحتمل أن يكون شك في رواية مالك، ثم إن له أن صلاته هي

1146- (8) وعن سليمان مولى ميمونة، قال: أتينا ابن عمر على البلاط، وهم يصلون فقلت: ألا نصلي معهم؟ قال: قد صليت، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا تصلوا صلاة في يوم مرتين)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأولى فرجع من شكه إلى يقين علمه، ومحال أن يرجع إلى الشك- انتهى. قلت: الأحاديث المرفوعة الصحيحة صريحة في أن صلاته هي الأولى، وأنه يجعل الثانية نافلة والأولى فريضة، فهي مقدمة على أثر ابن عمر هذا. (رواه مالك) عن نافع أن رجلاً سأل عبد الله بن عمر فقال الخ. ورواه البيهقي من طريق مالك. 1164- قوله. (عن سليمان) يسار الهلالي المدني. (أتينا ابن عمر) وفي أبي داود: أتيت ابن عمر، والسياق المذكور هنا موافق لما ذكره الجزري (ج6 ص423، 424) . (على البلاط) بفتح الباء ضرب من الحجارة يفرش به الأرض. وفي المصباح البلاط كل شيء فرشت به الدار من حجر وغيره. وفي القاموس: البلاط كسحاب الأرض المستوية الملساء والحجارة التي تفرش في الدار وكل أرض فرشت بها أو بالآجر، وهو موضع المدينة. وقال في النيل: هو موضع مفروش بالبلاط بين المسجد والسوق بالمدينة. وقال الحافظ في مقدمة الفتح: هو موضع قريب من مسجد المدينة، اتخذه عمر لمن يتحدث. (وهم) أي أهله. (يصلون) أي على البلاط لا في المسجد، وابن عمر قد صلى قبلهم في المسجد بالجماعة، وهو الذي فهمه النسائي يدل عليه ترجمته على هذا الحديث بلفظ: سقوط الصلاة عمن صلى مع الإمام في المسجد جماعة. (قال: قد صليت) لم يدخل في صلاتهم لأنه صلى جماعة، كما فهمه النسائي. وقال النووي: إنما لم يعدها ابن عمر لأنه كان صلاها في جماعة- انتهى. وقيل: كان الوقت صبحاً أو مغرباً، فقد روي عنه أنه كان يقول من صلى المغرب أو الصبح ثم أدركهما مع الإمام فلا يعد لهما. وقد ذكره المصنف بعد هذا الحديث، ورواه عبد الرزاق بلفظ: إن كنت قد صليت في أهلك ثم أدركت الصلاة في المسجد مع الإمام فصل معه، غير الصبح والمغرب فإنهما لا تصليان مرتين. (وإني سمعت) وفي أبي داود والنسائي: إني سمعت أي بدون الواو. (لا تصلوا صلاة) أي واحدة. (في يوم) أي في وقت واحد. (مرتين) . هذا لفظ أحمد وأبي داود. ولفظ النسائي: لا تعاد الصلاة في يوم مرتين. قال الشوكاني: قد تمسك بهذا الحديث القائلون أن من صلى في جماعة ثم أدرك جماعة لا يصلي معهم، كيف كانت، لأن الإعادة لتحصيل فضيلة الجماعة وقد حصلت له، وهو مروى عن الصيدلاني والغزالى وصاحب المرشد، والحديث يخالف الأحاديث السابقة والذي مر من الأثر من ابن عمر نفسه من افتاء به رجلاً سأله، واختلف في وجه الجمع فقيل: يحمل هذا الحديث على من صلى بالجماعة، والأحاديث الأخر على من صلى منفرداً. قال البيهقي (ج2 ص303) :

رواه أحمد، وأبوداود، والنسائي. 1165- (9) وعن نافع، قال: إن عبد الله بن عمر كان يقول: ((من صلى المغرب أو الصبح، ثم أدركهما مع الإمام، فلا يعد لهما)) . رواه مالك. ـــــــــــــــــــــــــــــ إن صح هذا الحديث يحمل على ما إذا صلاها مع الإمام أي في جماعة، وإلى هذا التوجيه أشار النسائي في ترجمته المتقدمة، وبوب عليه أبوداود بلفظ: إذا صلى جماعة ثم أدرك جماعة هل يعيد الصلاة؟ وقيل: المراد بحديث ابن عمر هذا النهي عن أن يصليهما على وجه الفرض. قال في الاستذكار: اتفق أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه على أن معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا تصلوا صلاة في يوم مرتين أن ذلك أن يصلي الرجل صلاة مكتوبة عليه ثم يقوم بعد الفراغ منها فيعيدها على جهة الفرض أيضاً. وأما من صلى الثانية مع الجماعة على أنها نافلة إقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في أمره بذلك فليس ذلك من إعادة الصلاة في يوم مرتين، لأن الأولى فريضة والثانية نافلة، فلا إعادة حينئذٍ- انتهى. وقيل: هو محمول على ما إذا لم تكن عن سبب. قال الخطابي في المعالم (ج1 ص166) : هذه صلاة الإيثار والاختيار دون ما كان لها سبب، كالرجل يدرك الجماعة وهم يصلون فيصلي معهم ليدرك فضيلة الجماعة توفيقاً بين الإخبار ورفعاً للاختلاف بينها- انتهى. (رواه أحمد وأبوداود والنسائي) وأخرجه أيضاً الطحاوي وابن حزم في المحلى، وصححه والدارقطني والبيهقي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما. قال النووي: إسناده صحيح. وفي سنده عمرو بن شعيب روى عن سليمان بن يسار مولى ميمونة قال في تهذيب التهذيب (ج8 ص49) : قال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين: إذا حدث عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب أو سليمان بن بسار أو عروة فهو ثقة عن هؤلاء. وقال ابن حبان: عمرو بن شعيب في نفسه ثقة يحتج يخبره إذا روى عن غير أبيه. 1165- قوله: (وعن نافع) أي مولى ابن عمر. (قال) أي نافع. (فلا يعد) بفتح الياء وضم العين من العود. (لهما) أي للصبح والمغرب، لأن الصلاة الثانية تكون نافلة والتنفل بعد صلاة الصبح منهي عنه، ولأن النافلة لا تكون وتراً، وبه قال النخعي والأوزاعي ولم يذكر ابن عمر النهي عن الصلاة بعد العصر، لأنه كان يحمله على أنه بعد الإصفرار، ومن جوز الإعادة مع كون الوقت وقت كراهة. قال: أحاديث الإعادة مخصصة لعموم أحاديث النهي كما تقدم. (رواه مالك) وأخرجه أيضاً عبد الرزاق ولفظه: إن كنت قد صليت في أهلك ثم أدركت الصلاة في المسجد مع الإمام فصل معه غير الصبح والمغرب، فإنهما لا يصليان مرتين. وأما ما ذكره القاري في المرقاة من أن الدارقطني أخرج عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا صليت في أهلك ثم أدركت فصلها إلا الفجر والمغرب، ففيه إني لم أجد هذا الحديث في سنن الدارقطني لا مرفوعاً ولا موقوفاً. والظاهر أنه وهم من القاري.

(30) باب السنن وفضائلها

(30) باب السنن وفضائلها ـــــــــــــــــــــــــــــ (باب السنن) أي المؤكدة والمستحبة. (وفضائلها) قال في اللمعات: أراد بالسنن الصلاة التي تؤدى مع الفرائض في اليوم والليلة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يواظب عليهما مؤكدة أو غير مؤكدة، وسمى القسم الأول الرواتب مأخوذ من الرتوب وهو الدوام والثبوت، يقال: رتب رتوبا ثبت ولم يتحرك، ومنه الترتيب، ويمكن أن يجعل الرواتب أعم من المؤكد، وقد جعل صاحب سفر السعادة (يعني مجد الدين الفيروز آبادي صاحب القاموس) سنة العصر من الرواتب- انتهى. واختلف الفقهاء في مشروعية الرواتب القبلية والبعدية للفرائض وتحديدها، فذهب الجمهور، ومنهم الأئمة الثلاثة الشافعي وأحمد وأبوحنيفة إلى مشروعيتها، وأنها مؤقته تستحب المواظبة عليها. وذهب مالك في المشهور عنه إلى أنه لا توقيت في ذلك ولا تحديد حماية للفرائض، لكن لا يمنع من تطوع بما شاء إذا أمن من ذلك. وذهب العراقيون من أصحابه إلى موافقة الجمهور، ففي المدونة: قلت: هل كان مالك يوقت قبل الظهر للنافلة ركعات معلومات أو بعد الظهر أو قبل العصر أو بعد المغرب فيما بين المغرب والعشاء أو بعد العشاء؟ قال: لا وإنما يوقت في هذا أهل العراق- انتهى. وفي الشرح الكبير: لهم ندب نفل في كل وقت يحل فيه، وتأكد الندب بعد صلاة المغرب كبعد ظهر وقبلها كقبل عصر بلا حد يتوقف عليه، بحيث لو نقص عنه أو زاد فات أصل الندب، بل يأتي بركعتين وبأربع وست، وإن كان الأكمل ما ورد من أربع قبل الظهر وأربع بعدها وأربع قبل العصر وست بعد المغرب- انتهى. وفيه أيضاً وهي أي صلاة الفجر يعني سنة رغيبة أي رتبتها دون السنة وفوق النافلة تفتقر لنية تخصها وتميزها عن مطلق النافلة، بخلاف غيرها من النوافل المطلقة فيكفي فيه نية الصلاة، وكذا النوافل التابعة للفرائض بخلاف الفرائض والسنن والرغيبة وليس عندنا رغيبة إلا الفجر – انتهى. قال ابن دقيق العيد في شرح العمدة (ج1 ص170) : في تقديم السنن على الفرائض وتأخيرها عنها معنى لطيف مناسب، أما في تقديم فلأن الإنسان يشتغل بأمور الدنيا وأسبابها، فتتكيف النفس في ذلك بحالة بعيدة عن حضور القلب في العبادة والخشوع فيها الذي هو روحها، فإذا قدمت السنن على الفريضة تأنست النفس بالعبادة وتكيفت بحالة تقرب من الخشوع، فيدخل في الفرائض على حاله حسنة لم يكن يحصل له لو لم تقدم السنة فإن النفس مجبولة على التكيف بما هي فيه، لا سيما إذا كثر أو طال وورود الحالة المنافية لما قبلها قد تمحو أثر الحالة السابقة أو تضعفه. وأما السنن المتأخرة فلما ورد أن النوافل جابرة لنقصان الفرائض، فإذا وقع الفرض مناسب أن يكون بعده ما يجبر خللاً فيه إن وقع- انتهى. قلت: يشير بقوله ما ورد إلى ما أخرجه أحمد وأبوداود وابن ماجه والحاكم من حديث تمتم الداري مرفوعاً: أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته، فإن كان أتمها كتبت له تامة وإن لم يكن أتمها قال الله لملائكته: أنظروا هل تجدون لعبدي من تطوع فتكملون بها فريضته ثم الزكاة كذلك تؤخذ الأعمال على حسب ذلك- انتهى. وأخرجه الترمذي وأبوداود أيضاً من حديث أبي هريرة {الفصل الأول} 1166- (1) عن أم حبيبة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى في يوم وليلة ـــــــــــــــــــــــــــــ

قال النووي: تصح النوافل وتقبل، وإن كانت الفريضة ناقصة لهذا الحديث وخبر لا تقبل نافلة المصلى حتى يؤدي الفريضة ضعيف، ولو صح حمل الراتبة البعدية لتوقفها على صحة الفرض- انتهى. قيل: والسنن في حقه - صلى الله عليه وسلم - لزيادة الدرجات. قال القاري: السنة والنفل والتطوع والمندوب والمستحب والمرغب فيه ألفاظ مترادفة معناها واحد، وهو ما رجح الشارع فعله على تركه وجاز تركه وإن كان بعض المسنون آكد من بعض- انتهى. وقال الشامي في حاشيته على الدر المختار (ج1 ص95) : المشروعات على أربعة أقسام: فرض، وواجب، وسنة، ونفل، فما كان فعله أولى من تركه مع منع الترك إن ثبت بدليل قطعي ففرض، أو بظني فواجب، وبلا منع الترك إن كان مما واظب عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو الخلفاء الراشدون من بعده فسنة، وإلا فمندوب ونفل. والسنة نوعان: سنة الهدى، وتركها يوجب إساءة وكراهية. وسنة الزوائد، وتركها لا يوجب ذلك. سميت بذلك لأنها ليست من مكملات الدين وشعائره بخلاف سنة الهدى، وهي السنن المؤكدة القريبة من الواجب التي يضلل تاركها، لأن تركها استخفاف بالدين. وبخلاف النفل فإنه كما قالوا ما شرع لنا زيادة على الفرض والواجب والسنة بنوعيها، ولذا جعلوه قسما رابعاً وجعلوا منه المندوب والمستحب وهو ما ورد به دليل ندب يخصه، فالنفل ما ورد به دليل ندب عموماً أو خصوصاً ولم يواظب عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولذا كان دون سنة الزوائد. وقد يطلق النفل على ما يشمل السنن الرواتب، ومنه قولهم باب الوتر والنوافل، ومنه تسمية الحج نافلة، لأن النفل الزيادة وهو زائد على الفرض مع أنه من شعائر الدين العامة- انتهى مختصراً. 1166- قوله. (عن أم حبيبة) هي أخت معاوية بن أبي سفيان زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم - اسمها رملة بفتح راء وسكون ميم وبلام بنت أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية الأموية، أم المؤمنين مشهورة بكنيتها. وقيل: اسمها هند، والمشهور رملة. قال ابن عبد البر: وهو الصحيح عند جمهور أهل العلم بالنسب والسير والحديث والخبر، وكذلك قال الزبير أسلمت قديماً، وأمها صفية بنت أبي العاص بن أمية، وهاجرت إلى الحبشة مع زوجها عبيد الله بن جحش الأسدي أسد خزيمة، وتنصر هو هناك، ومات، فتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي هناك سنة ست. وقيل: سنة سبع، توفيت سنة اثنتين أو أربع. وقيل: تسع وأربعين. وقيل: وخمسين. (من صلى في يوم وليلة) أي في كل يوم وليلة فهو من عموم النكرة في الإثبات مثل علمت نفس ونحوه، لأن المقصود المواظبة كما يدل عليه قوله الآتي: يصلي لله كل يوم، وكما يدل عليه حديث عائشة عند الترمذي والنسائي وابن ماجه بلفظ: من ثابر أي واظب ولازم وداوم، وفيه أن الأجر المذكور منوط بالمواظبة على هذه النوافل لا بأن يصلي يوماً دون يوم.

ثنتى وعشر ركعة، بني له بيت في الجنة: أربعاً قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر)) . رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ (ثنتى عشرة) بسكون النون. (ركعة) بسكون الكاف. أي تطوعاً غير فريضة كما في الرواية الآتية (بني له) أي بهذه الركعات. (بيت في الجنة) مشتمل على أنواع النعمة. (أربعاً) بدل تفصيل. (قبل الظهر) فيه دلالة على أن السنة الراتبة المؤكدة قبل الظهر أربع ركعات، وإليه ذهبت الحنفية. وقال الشافعي وأحمد: الراتبة قبل الظهر ركعتان، واستدل لهما بحديث ابن عمر الآتي، وسيأتي البسط فيه وبيان القول الراجح. ثم إن قوله أربعا المتبادر منه أنها بسلام واحد، ويحتمل كونها بسلامين والأقرب أن إطلاقها يشمل القسمين، قاله السندي. (وركعتين بعدها) فيه أن السنه بعد الظهر ركعتان، ويدل عليه أيضاً حديث ابن عمر بعد ذلك، وحديث علي قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي قبل الظهر أربعا وبعدها ركعتين. أخرجه الترمذي وحسنه، وحديث كريب المتقدم في باب أوقات النهي، وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: أتاني ناس من عبد القيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر، ويؤيده حديث عائشة عند الترمذي وابن ماجه مرفوعاً بلفظ: من ثابر على ثنتى عشرة ركعة من السنة بنى الله له بيتاً في الجنة، أربع ركعات قبل الظهر وركعتين بعدها الخ. وحديث أبي هريرة عند ابن عدي في الكامل، وفيه محمد بن سليمان الأصبهانى، وهو ضعيف، ولا يعارض ذلك مايأتي من حديث أم حبيبة أول أحاديث الفصل الثاني، لأنه يحمل على أن الأمر فيه للتوسع، ويقال ركعتان من الأربع مؤكدة وركعتان مستحبة، وهذا لأنه لم يصح عنه - صلى الله عليه وسلم - في فعل الأربع بعد الظهر شيء غير هذا الحديث الواحد القولى، وقد تكلم فيه بعضهم كما ستعرف. وقيل: الأربع أفضل وآكد. (وكعتين بعد المغرب) الخ قال القاري: كل هذه السنن مؤكدة وآخرها آكدها حتى قيل بوجوبها. قال ابن حجر: وهو صريح في رد قول الحسن البصري، وبعض الحنفية بوجوب ركعتى الفجر. وفي رد قول الحسن البصري أيضاً بوجوب الركعتين بعد المغرب- انتهى. قلت: اختلف في ترتيب سنن الرواتب، فقيل: أفضلها سنة الفجر ثم المغرب ثم سنة الظهر والعشاء سواء في الفضيلة وهذا عند الحنابلة. وقالت: الشافعية: أفضلها بعد الوتر ركعتا الفجر ثم سائر الرواتب ثم التراويح، ثم اختلفوا بعد ذلك هل القبلية أفضل أو البعدية؟ ولهم فيه قولان: أحدهما: أن البعدية أفضل، لأن القبلية كالمقدمة. وتلك تابعة والتابع يشرف بشرف متبوعة. والثاني: أنهما سواء واختلفت أقوال الحنفية في ترتيب الرواتب. فقال في البحر عن القنية اختلف في آكد السنن بعد سنة الفجر، فقيل: كلها سواء والأصح أن الأربع قبل الظهر آكد. وقال في الدر المختار: آكدها سنة الفجر اتفاقاً ثم الأربع قبل الظهر في الأصح ثم الكل سواء، وهكذا صححه في العناية والنهاية واستحسنه في فتح القدير. وقد تقدم أن سنة الفجر رغيبة عند المالكية والباقي تطوعات ونوافل. والراجح عندي أن آكد السنن الوتر ثم ركعتا الفجر ثم التي قبل الظهر ثم الكل سواء. والله تعالى أعلم. (رواه الترمذي) وقال:

وفي رواية لمسلم أنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما من عبد مسلم يصلي لله كل يوم ثنتى وعشرة ركعة تطوعاً غير فريضة، إلا بنى الله له بيت في الجنة- أو إلا بني له بيت في الجنة)) 1167- (2) وعن ابن عمر، قال: ((صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين قبل الظهر، ـــــــــــــــــــــــــــــ حديث حسن صحيح، فيه اعتراض على محي السنة صاحب المصابيح حيث ذكره في الصحاح وترك الصحيح الآتي، مع أن هذا اللفظ ليس بتمامه في الصحيحين ولا في أحدهما إنما هو لفظ الترمذي، فكان حق البغوي أن يذكر حديث مسلم الآتي في الصحاح، وحديث الترمذي في الحسان؛ ليكون لإجمال مسلم كالبيان والحديث المذكور، رواه النسائي مفصلاً كالترمذي. ولكن قال وركعتين قبل العصر ولم يذكر ركعتين بعد العشاء، وكذلك فسره ابن حبان في صحيحه رواه عن ابن خزيمة بسنده، وكذلك رواه الحاكم في المستدرك (ج1 ص311) وقال: صحيح على شرط مسلم والبيهقي (ج2 ص272، 273) ، وجمع الحاكم في لفظ بين الروايتين فقال فيه: ركعتين قبل العصر وركعتين بعد العشاء، وكذلك عند الطبراني في معجمه، كذا في نصب الراية (ج2 ص138) . قلت: وكذا وقع إثبات ركعتين قبل العصر وركعتين بعد العشاء في حديث أبي هريرة عند ابن ماجه وابن عدي في الكامل لكن في سنده محمد بن سليمان الأصبهاني، وهو ضعيف. (وفي رواية لمسلم أنها) أي أم حبيبة (يصلي لله كل يوم) أي وليلة. (تطوعاً) وهو ما ليس بفريضة، والمراد هنا السنة، قاله ابن الملك. (غير فريضة) قال الطيبي: تأكيد للتطوع فإن التطوع التبرع من نفسه بفعل من الطاعة، وهي قسمان راتبة وهى التي داوم عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وغير راتبة وهذا من القسم الأول، والرتوب الدوام- انتهى. (إلا بنى الله له بيتا في الجنة) الخ، وهذا الحديث أخرجه أيضاً أحمد وأبوداود وابن ماجه والحاكم (ج1 ص312) وأبوداود الطيالسي والبيهقي (ج2 ص472) . 1167- قوله: (صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال السندي: الظاهر أنه المراد به المعية في مجرد المكان والزمان لا المشاركة والإقتداء في الصلاة، إذ المشاركة في النوافل الرواتب ما كانت معروفة، ويحتمل على بعد أنه اتفق المشاركة أيضاً. وقال القاري: أراد به معية المشاركة لا معية الجماعة، ونظيره قوله تعالى حاكياً: {وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين} [27: 44] وقال الحافظ: المراد بقوله مع التبعية أي أنهما اشتركا في كون كل منهما صلى صلاة لا التجميع، فلا حجة فيه لمن قال يجمع في رواتب الفرائض، وسيأتي من رواية أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: حفظت من النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر ركعات فذكرها- انتهى. وقال العيني: المراد من المعية هذه مجرد المتابعة في العدد، وهو أن ابن عمر صلى ركعتين وحده كما صلى - صلى الله عليه وسلم - ركعتين، لا أنه اقتدى به عليه الصلاة والسلام فيهما. (ركعتين قبل الظهر) هذا متمسك الشافعي في أن السنة قبل الظهر ركعتان، وهو قول الأكثرين من أصحابه، وعد جمع من الشافعية الأربع قبل الظهر من الرواتب، كما هو مذهب الحنفية. وقد روى البخاري في صحيحه عن عائشة: كان

لا يدع أربعاً قبل الظهر وركعتين قبل الغداة. واختلف في وجه الجمع بين الحديثين، فقيل: يحتمل أن ابن عمر قد نسي ركعتين من الأربع. ورد بأن هذا الاحتمال بعيد وقيل: هو محمول على أنه كان إذا صلى في بيته صلى أربعاً وإذا صلى في المسجد اقتصر على ركعتين. قال ابن القيم في زاد المعاد (ج1 ص80) : وهذا أظهر، قلت: ويقوي ذلك ما سيأتي في حديث عبد الله بن شقيق عن عائشة كان يصلي في بيته قبل الظهر أربعاً، ثم يخرج فيصلي بالناس، وقيل: يحمل على حالين، فكان تارة يصلي سنتين، وتارة يصلي أربعاً، فحكى كل من ابن عمر وعائشة ما شاهده. وقيل: يحتمل أن يكون يصلي إذا كان في بيته ركعتين ثم يخرج إلى المسجد فيصلي ركعتين، فرأى ابن عمر مافي المسجد دون ما بيته وأطلعت عائشة على الأمرين. وقيل: كان يصلي في بيته أربعا فرأته عائشة، وكان يصلي ركعتين إذا آتي المسجد تحيته فظن ابن عمر أنها سنة الظهر ولم يعلم بالأربع التي صلاها في البيت، وهذا أيضاً بعيد مثل الأول. وقيل: يمكن أن يكون مطلعاً على الأربع، لكنه ظنها صلاة فيء الزوال لا سنة الظهر. قال ابن القيم في زاد المعاد (ج1 ص80، 81) : وقد يقال: إن هذه الأربع لم تكن سنة الظهر، بل هي صلاة مستقلة كان يصليها بعد الزوال، كما (سيأتي) في حديث عبد الله بن السائب. (وفي حديث أبي أيوب) قال فهذه هي الأربع التي أرادت عائشة أنه كان لا يدعهن. وأما سنة الظهر فالركعتان اللتان قال عبد الله بن عمر، قال فتكون هذه الأربع التي قبل الظهر وردا مستقلاً سببه انتصاف النهار وزوال الشمس. قال القسطلاني لحديث ثوبان عند البزار: إنه - صلى الله عليه وسلم - كان يستحب أن يصلي بعد نصف النهار، وقال: إنها ساعة تفتح فيه أبواب السماء، وينظر الله إلى خلقه بالرحمة. قلت: وأولى الوجوه عندي هو الوجه الثالث، أعني أن يحمل ذلك لى اختلاف الأحوال، ويقال كان يصلي تارة أربعا وتارة ركعتين، فحكى كل من ابن عمر وعائشة ما رأى، ورجحه الحافظ أيضاً، لكن المختار فعل الأكثر الأكمل. قال ابن جرير الطبري: الأربع كانت في كثير من أحواله، والركعتان في قليلها. قلت: هذا هو الظاهر لكثرة الأحاديث في ذلك: منها حديث أم حبيبة السابق. ومنها حديث عبد الله بن شقيق عن عائشة، وسيأتي. ومنها حديث عائشة أيضاً عند الترمذي وابن ماجه، وقد ذكرنا لفظه. ومنها حديث عائشة أيضاً في السنن: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا لم يصل أربعا قبل الظهر صلاهن بعدها. ومنها حديث علي عند الترمذي، وحسنه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي قبل الظهر أربعاً وبعد ها ركعتين. قال الترمذي بعد روايته: والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم، يختارون أن يصلي الرجل قبل الظهر أربع ركعات، وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك وإسحاق. قال القسطلاني: قيل في وجه عند الشافعي: إن الأربع قبل الظهر راتبه عملاً بحديث عائشة. قلت: ويؤيده تأكد استحباب الأربع حديث أم حبيبة الآتي، وحديث

وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته ـــــــــــــــــــــــــــــ البراء بن عازب عند الطبراني في الأوسط، وسعيد بن منصور في سننه مرفوعاً بلفظ: من صلى قبل الظهر أربع ركعات كان كمن تهجد بهن من ليلته الحديث. (وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب في بيته) الظاهر أن قوله: في بيته قيد للأخيرة ويؤيد ذلك قوله. (وركعتين بعد العشاء في بيته) وهذا لفظ البخاري في رواية. وفي لفظ له: فأما المغرب والعشاء ففي بيته. قال الحافظ: استدل به على أن فعل النوافل الليلة في البيوت أفضل من المسجد بخلاف رواتب النهار، وحكي ذلك عن مالك والثوري. وفي الاستدلال به لذلك نظر. والظاهر أن ذلك لم يقع عن عمد، وإنما كان - صلى الله عليه وسلم - يتشاغل بالناس في النهار غالباً، وبالليل يكون في بيته غالباً. وأغرب ابن أبي ليلى، فقال لا تجزئ سنة المغرب في المسجد، حكاه عبد الله بن أحمد عنه عقب روايته لحديث محمود بن لبيد رفعه: أن الركعتين بعد المغرب من صلاة البيوت، وقال: إنه حكى ذلك لأبيه عن أبي ليلى، فاستحسنه- انتهى. قلت: الظاهر أن فعل الركعتين بعد المغرب في البيت أفضل وأن ذلك وقع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عمد، يدل عليه حديث محمود بن لبيد عند أحمد بلفظ: اركعوا هاتين الركعتين في البيوت، وحديث كعب بن عجزة الآتى، واختلفوا في أن تطوع في المسجد أفضل أو في البيت. قال ابن عبد البر: قد اختلف الآثار وعلماء السلف في صلاة النافلة في المسجد، فكرهها قوم لهذا الحديث. والذي عليه العلماء أنه لا بأس بالتطوع في المسجد لمن شاء إلا إنهم مجعمون على أن صلاة النافلة في البيوت أفضل لقوله - صلى الله عليه وسلم -: صلاة الرجل في بيته أفضل من صلاته في مسجدى إلا المكتوبة- انتهى. وفرق المالكية بين الرواتب والنفل المطلق، وبين الغرباء وأهل المدينة ففي الشرح الكبير لهم وندب إيقاع نفل بمسجد المدينة بمصلاه - صلى الله عليه وسلم -. قال الدسوقي: إن قلت هذا يخالف ما تقرر أن صلاة النافلة في البيوت أفضل من فعلها في المسجد قلت: يحمل كلام المصنف على الرواتب فإن فعلها في المساجد أولى كالفرائض بخلاف النفل المطلق، فإن فعلها في البيوت أفضل ما لم يكن في البيت ما يشغل عنها، أو يحمل كلامه على من صلاته بمسجده عليه السلام أفضل من صلاته في البيت كالغرباء، فإن صلاتهم النافلة بمسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل من صلاتهم لها في البيوت، سواء كانت النافلة من الرواتب أو كانت نفلاً مطلقاً بخلاف أهل المدينة، فإن صلاتهم النفل المطلق في بيوتهم أفضل من فعله في المسجد- انتهى. وأما عند الحنفية والحنابلة فالأفضل أداء التطوع في البيت مطلقاً، ولا كراهة في المسجد. أما كون البيوت أفضل في حق التطوع مطلقاً فللأحاديث التي وردت عن جماعة من الصحابة في الترغيب في صلاة النافلة في البيت. ذكرها المنذري في الترغيب (ج1 ص133) ؛ ولأن هديه - صلى الله عليه وسلم - كان فعل عامة السنن والتطوع الذي لا سبب له في البيت وأما إنه لو فعلها في المسجد أجزأت من غير كراهة فلما يأتي من حديث ابن عباس في الفصل الثالث قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطيل القراءة في الركعتين بعد المغرب حتى يتفرق أهل المسجد. ولما روى مسلم من حديث أبي هريرة: إذا صليتم بعد الجمعة فصلوا أربعاً، زاد في

قال: وحدثني حفصة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان يصلي ركعتين خفيفتين، حين يطلع الفجر)) متفق عليه. 1168- (3) وعنه قال كان النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف، فيصلي ـــــــــــــــــــــــــــــ رواية فإن عجل بك شيء فصل ركعتين في المسجد وركعتين إذا رجعت، ولما يأتي من حديث أنس في الفصل الثالث قال: كنا بالمدينة فإذا أذن المؤذن لصلاة المغرب ابتدروا السوارى- الحديث، ولما روى الطبراني في الكبير من حديث ابن عمر مرفوعاً: من صلى العشاء الآخرة في جماعة، وصلى أربع ركعات قبل أن يخرج من المسجد كان كعدل ليلة القدر، ولأن تقييد ابن عمر سنة المغرب والعشاء والفجر بكونها في البيت، يدل على أن ما عداها كان يفعله في المسجد أي في بعض الأحيان، ولما روي عن حذيفة قال أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فصليت معه المغرب، فصلى إلى العشاء، رواه النسائي، قال المنذري: بإسناد جيد، وغير ذلك من الأحاديث، هذا. وقال ابن الملك: قيل: في زماننا إظهار السنة الراتبة أولى ليعلمها الناس. قال القاري: أي ليعلموا عملها أو لئلا ينسبوه إلى البدعة. ولا شك أن متابعة السنة أولى مع عدم الالتفات إلى غير المولى- انتهى. قلت: لا شك أن متابعة السنة أولى، لكن من المعلوم أنه قد يترك بعض المختارات من أجل خوف أن يقع الناس في أشد من ترك ذلك المختار. فالأولى عندي اليوم أداء الرواتب في المسجد لا سيما للخواص من العلماء والمشائخ، فإن الناس تبع لهم فيما يفعلون ويذرون فيتركون أولا فعلها في المسجد في اتباعهم، ثم يتركونها رأساً لوقوع التواني في الأمور الدينية والغفلة عنها سيما التطوعات والنوافل، ولأنه لا يؤمن أن يتهمهم بعض الناس بترك الرواتب وإهمالهما، وقد شاهدنا ذلك في أمر التراويح حيث أنه لما سمع بعض الجهال أن صلاة الليل في البيت في آخر الليل أفضل من أوله في المسجد، ورأوا بعض العلماء أنهم لا يصلونها في أول الليل ترك هؤلاء أيضاً للتراويح في المسجد بالجماعة في أول الليل قائلين إنا نقوم في آخر الليل لكنهم يتركونها رأساً فلا يصلونها لا في أول الليل ولا في آخره. (قال) أي ابن عمر. (وحدثني حفصة) أي أخته بنت عمر زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم -. (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي ركعتين خفيفتين حين يطلع الفجر) وفي البخاري: بعد ما يطلع الفجر، وزاد وكانت ساعة لا أدخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها وفي لفظ له: وركعتين قبل صلاة الفجر، وكانت ساعة لا أدخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها، حدثني حفصة أنه كان إذا أذن المؤذن، وطلع الفجر صلى ركعتين قال الحافظ: وهذا يدل على أنه إنما أخذ عن حفصة وقت إيقاع الركعتين قبل الصبح لا أصل مشروعيتها انتهى. (متفق عليه) واللفظ للبخاري: وأخرجه أيضاً مالك والترمذي والبيهقي (ج2 ص471- 477) وغيرهم. 1168 – قوله: (كان لا يصلي) أي شيئاً. (بعد الجمعة حتى ينصرف) أي حتى يرجع إلى بيته. (فيصلي)

ركعتين في بيته)) . متفق عليه. 1169- (4) وعن عبد الله بن شقيق، قال: سئلت عائشة، عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عن تطوعه، فقالت: كان يصلي في بيتى قبل الظهر أربعاً، ثم يخرج فيصلي بالناس ثم يدخل فيصلي ركعتين. وكان يصلي بالناس المغرب، ثم يدخل فيصلي ركعتين. ثم يصلي بالناس العشاء. ويدخل في بيتي فيصلي ركعتين. وكان يصلي من الليل تسع ركعات فيهن ـــــــــــــــــــــــــــــ بالرفع. قال الطيبي: عطف من حيث الجملة لا من حيث التشريك على ينصرف، أي لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف، فإذا انصرف يصلي ركعتين. ولا يستقيم أن يكون منصوبا عطفاً عليه لما يلزم منه أن يصلي بعد الركعتين الصلاة. وهذا معنى قول ابن حجر: إذ يصير التقدير لا يصلي حتى يصلي، وليس مراداً لفساده. (ركعتين) يريد بهما سنة لجمعة. وفيه دليل على أن السنة بعد الجمعة ركعتان. وبه استدل من قال به. وسيأتي الكلام على ذلك مفصلاً في شرح حديث أبي هريرة الآتي في آخر الفصل. (في بيته) عملاً بالأفضل. وقال القسطلاني: لأنهما لو صلاهما في المسجد ربما يتوهم أنهما اللتان حذفتا، وصلاة النفل في الخلوة أفضل. وقال الحافظ: الحكمة في ذلك أنه كان يبادر إلى الجمعة ثم ينصرف إلى القائلة بخلاف الظهر، فإنه كان يبرد بها، وكان يقيل قبلها. (متفق عليه) واللفظ لمسلم، وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج2 ص477) . 1169- قوله. (وعن عبد الله بن شقيق) من ثقات التابعين. (عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي ليلاً ونهاراً ما عدا الفرائض، ولذا قال: (عن تطوعه) قال الطيبي: بدل عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كذا في صحيح مسلم. وهذه العبارة، يعني بلفظ عن أولى مما في المصابيح، وهو قوله من التطوع- انتهى. قلت: وقع عند أبي داود "من التطوع" كما في المصابيح. قال القاري: فتكون "من" بيانية، والأولوية باعتبار الأصحية. (كان يصلي في بيتى قبل الظهر أربعاً) فيه دليل على أن المؤكدة قبلها أربع، وهو وجه عند الشافعي. (ثم يخرج) أي إلى المسجد. (فيصلي بالناس) أي الفريضة. (ثم يدخل) أي بيتي. (فيصلي ركعتين) ولعل وجه ترك العصر لأنها بصدد بيان السنن المؤكدة. (وكان يصلي بالناس المغرب، ثم يدخل) الخ الحديث دليل على استحباب أداء السنة في البيت. (وكان) أي أحياناً. (يصلي من الليل) أي بعض أوقاته. (تسع ركعات) قال ابن حجر: أي تارة، وإحدى عشرة تارة، وأنقص تارة- انتهى. وجاء أنه كان يصلي ثلاث عشر ركعة. كما سيأتي في باب صلاة الليل. (فيهن)

الوتر. وكان يصلي ليلاً طويلاً قائماً، وليلاً طويلاً قاعداً، وكان إذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم. وكان إذا قرأ قاعداً ركع وسجد وهو قاعد. وكان إذا طلع الفجر ـــــــــــــــــــــــــــــ أي في جملتهن. (الوتر) وجاء بيان ذلك فيما روى مسلم وغيره عن سعيد بن هشام أنه قال لعائشة: أنبئينى عن وتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: كنا نعد له سواكه وطهوره، فيبعثه الله متى شاء أن يبعثه من الليل، فيتسوك ويتوضأ، ويصلي تسع ركعات، لا يجلس فيها إلا في الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم ينهض ولا يسلم، ثم يقوم فيصلي التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم يسلم تسليماً يسمعنا، ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد. فتلك إحدى عشر ركعة يا بني. فلما أسن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخذه اللحم أوتر بسبع، وصنع في الركعتين مثل صنيعة الأول. فتلك تسع يا بني الخ. (وكان يصلي ليلاً طويلاً) أي زماناً طويلاً من الليل. (قائماً وليلاً طويلاً قاعداً) قال في لمفتاتيح: يعني يصلي صلاة كثيرة من القيام والقعود أو يصلى ركعات مطولة في بعض الليالي من القيام، وفي بعضها من القعود. (وكان إذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم) أي لا يقعد قبل الركوع، قاله ابن حجر. وقال الطيبي: أي ينتفل من القيام إليهما. وكذا التقدير في الذي بعده، أي ينتفل إليهما من القعود. (وكان إذا قرأ قاعداً ركع وسجد وهو قاعد) أي لا يقوم للركوع، كذا في المفاتيح. وفيه دليل على أن المشروع لمن قرأ قائماً أن يركع ويسجد من قيام، ومن قرأ قاعداً أن يركع ويسجد من قعود. وفي رواية لمسلم: فإذا افتتح الصلاة قائماً ركع قائماً، وإذا افتتح الصلاة قاعداً ركع قاعداً. وروى الشيخان وغيرهما عن عائشة أنها لم تر النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي صلاة الليل قاعداً قط حتى أسن، وكان يقرأ قاعداً، حتى إذا أراد أن يركع قام فقرأ نحواً من ثلاثين أو أربعين آية ثم ركع ثم سجد ثم يفعل في الركعة الثانية مثل ذلك. وهذا يدل على جواز الركوع من قيام لمن قرأ قاعداً. فيحمل على أنه كان يفعل أحياناً هذا وأحياناً ذاك. وبهذا يحصل التوفيق بين الحديثين. قال العراقي: يحمل على أنه كان يفعل مرة كذا، فكان مرة يفتتح قاعداً ويتم قراءته قاعداً ويركع قاعداً، وكان مرة يفتتح قاعداً ويقرأ بعض قراءته قاعداً وبعضها قائماً ويركع قائماً، فإن لفظ "كان" لا يقتضي المداومة – انتهى. واعلم أن ههنا أربع صور: الأولى أن ينتفل من القيام إلى الركوع والسجود، والثانية أن ينتقل من القعود إليهما، وهاتان مذكورتان في حديث عبد الله بن شقيق عن عائشة. والثالثة أن يتنفل من القعود إلى القيام ويقرأ بعض القراءة قائماً، ثم يتنفل من القيام إلى الركوع والسجود. وهذه مذكورة في حديث عائشة الذي ذكرنا، والرابعة عكس الثالثة، وهي أن يتنفل من القيام إلى القعود فيقرأ بعض القراءة قاعداً، ثم ينتفل من القعود إلى الركوع والسجود، ولم ترو هذه الصورة وعلى هذا فكان - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الليل على ثلاث أحوال: قائماً في كلها، وقاعداً في كلها، وقاعداً في بعضها ثم قائماً. وأما أن يكون قائماً في بعضها ثم

صلى ركعتين)) . رواه مسلم، وزاد أبوداود، ((ثم يخرج فيصلي بالناس صلاة الفجر)) . 1170- (5) وعن عائشة، رضي الله عنها. قالت: ((لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - على شيء من النوافل أشد تعاهدا منه على ركعتى الفجر)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ قاعداً، وهي الصورة الرابعة فذهب الجمهور إلى جوازها. قال العينى: جواز الركعة الواحدة بعضها من قيام وبعضها من قعود هو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وعامة العلماء، وسواء في ذلك قام ثم قعد أو قعد ثم قام، ومنعه بعض السلف، وهو غلط. ولو نوى القيام ثم أراد أن يجلس جاز عند الجمهور، وجوزه من المالكية ابن قاسم، ومنعه أشهب- انتهى. وقال الشوكاني في النيل: حديث عائشة الثاني يدل على أنه يجوز فعل بعض الصلاة من قعود، وبعضها من قيام، وبعض الركعة من قعود، وبعضها من قيام. قال العراقي: وهو كذلك، سواء قام ثم قعد أو قعد ثم قام، هو قول جمهور العلماء كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق. وحكاه النووي عن عامة العلماء. وحكى عن بعض السلف منعه، قال هو غلط. وحكى القاضي عياض عن أبي يوسف ومحمد في آخرين كراهة القعود بعد القيام. ومنع أشهب من المالكية الجلوس بعد أن ينوي القيام. وجوزه ابن القاسم والجمهور- انتهى. (صلى ركعتين) أي خفيفتين، وقد تقدم بيان ما يقرأ فيهما في باب القراءة. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج2 ص471- 489) مختصراً ومطولاً. (وزاد أبوداود) أشار بهذا إلى الاعتراض على الشيخ محي السنة حيث أدرج هذه الجملة في حديث عائشة في الصحاح، مع أنها لم تكن في واحد من الصحيحين. (ثم يخرج) أي إلى المسجد. (فيصلي بالناس) إماماً لهم (صلاة الفجر) أي فرض الصبح. 1170- قوله. (لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - على شيء) أي على تحفظ شيء. (من النوافل) أي الزوائد على الفرائض من السنن. (أشد) قال ابن حجر: خبر لم يكن، أي أكثر. (تعاهداً) أي تفقداً وتحفظاً. وفي رواية أبي داود: أشد معاهدة، أي محافظة ومدوامة. وفي رواية لمسلم: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى شيء من الخير أسرع منه إلى الركعتين قبل الفجر. زاد ابن خزيمة في هذه الرواية: ولا إلى غنيمة. (منه) أي من تعاهده عليه السلام. (على ركعتي الفجر) قال الطيبي: قولها "على" متعلقة بقولها تعاهداً. ويجوز تقديم معمول التمييز. والظاهر أن خبر لم يكن "على شيء" أي لم يكن يتعاهد على شيء من النوافل، وأشد تعاهداً حال أو مفعول مطلق على تأويل أن يكون التعاهد متعاهداً كقوله: {أو أشد خشية} - انتهى. وفي الحديث دليل على عظم فضل ركعتى الفجر، وأن المحافظة عليهما أشد من المحافظة على غيرهما، وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يتركهما حضراً ولا سفراً، وعلى أنهما

متفق عليه. 1171- (6) وعنها، قالت. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها)) . رواه مسلم. 1172- (7) وعن عبد الله بن مغفل، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((صلوا قبل صلاة المغرب ركعتين، صلوا قبل صلاة المغرب ركعتين، ـــــــــــــــــــــــــــــ سنة ليستا واجبتين، وبه قول جمهور العلماء. وحكى ابن أبي شيبة عن الحسن البصري أنه ذهب إلى وجوبهما. وذكر المرغيناني عن أبي حنيفة: أنها واجبة. وفي جامع المحبوبي روى الحسن عن أبي حنيفة أنه قال: لو صلى سنة الفجر قاعداً بلا عذر لا يجوز. والصواب عدم الوجوب لقولها على شيء من النوافل؛ ولأنه - صلى الله عليه وسلم - ساقها مع سائر السنن في حديث المثابرة. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أبوداود وابن خزيمة والبيهقي (ج2 ص470) . 1171- قوله. (ركعتا الفجر) أي سنة الفجر هي المشهورة بهذا الاسم. (خير من الدنيا وما فيها) أي أثاثها ومتاعها، يعني أجرهما خير من أن يعطي تمام الدنيا في سبيل لله تعالى، أو هو على اعتقادهم أن في الدنيا خيراً، وإلا فذرة من الآخرة لا يساويها الدنيا وما فيها، قال الطيبي: إن حمل الدنيا على أعراضها وزهرتها فالخير إما مجرى على زعم من يرى فيها خيراً أو يكون من باب {أي الفريقين خير مقاماً} ، وإن حمل على الإنفاق في سبيل لله فتكون هاتان الركعتان أكثر ثواباً منها- انتهى. وقال في حجة الله البالغة: إنما كانتا خيراً منها، لأن الدنيا فانية، ونعيمها لا يخلو عن كدر النصب والتعب، وثوابهما باق غير كدر- انتهى. وقد استدل به على أن ركعتى الفجر أفضل من الوتر، وهو أحد قولي الشافعي، ووجه الدلالة أنه جعل ركعتى الفجر خيراً من الدنيا وما فيها، وجعل الوتر خيرا من حمر النعم، وحمر النعم جزء ما في الدنيا. وأصح القولين عن الشافعي أن الوتر أفضل. وقد استدل لذلك بما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعاً: أفضل الصلاة بعد الفريضة الصلاة في جوف الليل، وبالاختلاف في وجوبه كما سيأتي. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي والنسائي والبيهقي (ج2 ص470) . وفي رواية لمسلم: أنه قال في شأن الركعتين عند طلوع الفجر: لهما أحب إلى من الدنيا وما فيها جميعاً. 1172- قوله (صلوا قبل صلاة المغرب ركعتين، صلوا قبل صلاة المغرب ركعتين) كذا وقعت هذه الجملة مكررة في بعض النسخ المطبوعة بالهند، وكذا وقعت في المصابيح. وهو موافق لما في سنن أبي داود قال الحافظ: وأعادها الاسماعيلي ثلاث مرات- انتهى. ووقعت في بعض نسخ المشكاة الأخرى مرة فقط، كما في نسخة صاحب أشعة اللمعات شرح المشكاة بالفارسية. وفي النسخة التي على هامش المرقاة، وفي نسخة القاري التي

قال في الثالثة: لمن شاء كراهية أن يتخذها الناس سنة)) . متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ صحها على عدة نسخ معتمدة مقروءة مسموعة صحيحة بينها في أول شرحه، وأخذ من مجموعها أصلاً اعتمده في الشرح. واختلف النسخ أيضاً في ذكر قوله ركعتين فيوجد هذا اللفظ في طبعات الهند، وفي النسخة التي على هامش المرقاة، وكذا هو موجود في المصابيح، وهذا هو موافق لرواية أبي نعيم في المستخرج، ولرواية أبي داود أيضاً. ويظهر من كلام صاحب الأشعة والقاري في شرحيهما: أن هذا اللفظ لم يكن في النسخ الموجودة عندهما، حيث لم يذكرا ولم يأخذا ذلك في أصلي شرحهما. ففي أشعة اللمعات (ج1 ص535) . (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صلوا قبل صلاة المغرب) نماز بكزاريد بيش از نماز مغرب يعني دو ركعت اين راسه بار مكرر فرمود. وفي المرقاة (ج2 ص112) . (قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: صلوا قبل صلاة المغرب) أي ركعتين، كما في رواية صحيحة، وكرر ذلك ثلاثاً- انتهى. أي كما يدل عليه قول في الثالثة. فعلى ما في نسختى القاري وصاحب الأشعة لا اعتراض على صاحب المشكاة في عزو الحديث للبخاري. وأما على ما في طبعات الهند فيرد عليه أنه كيف نسب هذه الرواية إلى البخاري، مع أنه لم تقع هذه الجملة عنده مكررة، ولا وقع في روايته لفظ ركعتين. ويرد عليه أيضاً أنه جعل الحديث متفقاً عليه، مع أنه لم يخرجه مسلم أصلاً، نعم أخرج مسلم من حديث حديث عبد الله بن مغفل بلفظ: بين كل أذانين صلاة، قالها ثلاثاً، قال في الثالثة لمن شاء. وأخرجه البخاري أيضاً، وقد تقدم في باب فضل الآذان. والظاهر أن المصنف تبع في ذلك الجزري حيث صرح في جامع الأصول (ج7 ص24) بأنه أخرجه البخاري ومسلم. وقد أخطأ أيضاً صاحب المصابيح في ذكر هذه الرواية في الصحاح. والحديث فيه دليل على استحباب الركعتين بين الغروب وصلاة المغرب. وبه قال جماعة من الصحابة والتابعين، ومن المتأخرين أحمد وإسحاق وأصحاب الحديث. وهو الحق. والقول بأنه منسوخ مما لا التفات إليه لأنه لا دليل عليه. (قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -. (في) المرة. (الثالثة) أي عقبها. (لمن شاء) يعني أنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر في المرة الثالثة لفظ لمن شاء. قال الطيبي: أي ذلك الأمر لمن شاء- انتهى. وفيه إشارة إلى أن الأمر حقيقة في الوجوب، إلا إذا قامت قرينة تدل على التخيير بين الفعل والترك. فقوله: لمن شاء إشارة إليه، فكان هذا صارفاً عن الحمل على الوجوب. قال الطيبي: فيه دليل على أن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - محمول على الوجوب حتى يقوم دليل غيره. ويوضحه قول ابن حجر: سنة أي عزيمة لازمة متمسكين بقوله: صلوا، فإنه أمر والأمر للوجوب، فتعليقه بالمشيئة يدفع حمله على حقيقته، فيكون مندوباً- انتهى. (كراهية) منصوب على التعليل أي قال ذلك لأجل كراهية. (أن يتخذها الناس سنة) أي طريقة لازمة لا يجوز تركها، أو سنة راتبة يكره تركها. قال المحب الطبري: لم يرد نفي استحبابها، لأنه لا يمكن أن يأمر بما لا يستحب، بل هذا الحديث من أقوى الأدلة على استحبابها. ومعنى قوله: سنة أي شريعة وطريقة لازمة. وكان المراد انحطاط مرتبتها عن رواتب الفرائض، ومن ثم لم يذكرها أكثر الشافعية في الرواتب، وقد عدها بعضهم.

وتعقب بأنه لم يثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - واظب عليه. قال ابن القيم: الصواب في هاتين الركعتين أنهما مستحبتان مندوب إليهما، وليستا راتبة كسائر السنن الرواتب. قال القسطلاني: والذي صححه النووي أنها سنة للأمر بها في هذا الحديث. وقال مالك بعدم السنية. وقال النووي في المجموع: واستحبابهما قبل الشروع في الإقامة، فإن شرع فيها كره الشروع في غير المكتوبة لحديث: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة. وعن النخعي أنها بدعة، لأنه يؤدي إلى تأخير المغرب عن أول وقتها. وأجيب بأنه خيال فاسد منابذ للسنة، فلا يلتفت إليه، ومع هذا فزمنهما يسير لا تتأخر به الصلاة عن أول وقتها. قال ابن الهمام: وما ذكر من استلزام تأخير المغرب فقد قدمنا عن القنية استثناء القليل، والركعتان لا تزيد على القليل إذا تجوز فيهما- انتهى. قال الحافظ: ومجموع الأدلة يرشد إلى تخفيفهما، كما في ركعتى الفجر- انتهى. وذهب الحنفية إلى عدم استحبابهما، بل قال بعضهم بكراهتها، واستدلوا لنفي الاستحباب بأحاديث منها ما رواه أبوداود ومن طريقة البيهقي عن طاووس قال: سئل ابن عمر عن الركعتين قبل المغرب، فقال: ما رأيت أحدا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصليهما، ورخص في الركعتين بعد العصر- انتهى. سكت عنه أبوداود ثم المنذري. قال النووي في الخلاصة: إسناده حسن. وأجيب عنه بأن في سنده شعيباً يباع الطيالسة، وهو وإن كان ممن لا بأس به لكن الظاهر أن الحديث وهم منه، وقد تفرد بروايته عن طاووس، وكيف يصح هذا الحديث، وقد روي في الصحيحين وغيرهما عن أنس وعقبة بن عامر أن الصحابة كانوا يصلون بين الأذان المغرب وإقامته في عهده - صلى الله عليه وسلم - وبحضرته، كما سيأتي، وروي عن عبد الله بن مغفل الأمر بذلك، وأنه - صلى الله عليه وسلم - قد صلاهما، وروى عن جماعة من الصحابة أنهم كانوا يصلونهما بعد وفاته، منهم أنس وعبد الرحمن بن عوف وأبي بن كعب وأبوأيوب الأنصاري وأبوالدرداء وجابر بن عبد الله وأبوموسى وأبويرزة وغيرهم، وكذلك روي عن جماعة من التابعين أنهم كانوا يصلون قبل فرض المغرب بين الأذان والإقامة. وقال النووي في الخلاصة: وأجاب العلماء عنه بأنه نفي، فتقدم رواية المثبت، ولكونها أصح وأكثر رواة ولما معهم من علم ما لم يعلمه ابن عمر –انتهى. ذكر هذا الجواب الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص140) وأقره، ولم يتكلم عليه بشيء، وتكلم عليه ابن الهمام في فتح القدير بما لا يعبأ به، فإن حاصل كلامه معارضة حديث ابن عمر هذا بأحاديث الصحيحين المثبتة، ثم ترجيح حديث ابن عمر عليها يعمل أكابر الصحابة على وفقه كأبي بكر وعمر، ثم إنكار ترجح حديث أنس وغيره على حديث ابن عمر لكون الأول مثبتاً والثاني نافياً بناء على أن النفي ههنا كالإثبات. فإنه لو كان الحال على ما في رواية أنس لم يخف على ابن عمر. قلت: قد حقق وقرر في محله أن حديث غير الصحيحين لا يساوي ولا يعارض حديثهما، وأن حديثهما يقدم على حديث غيرهما عند المخالفة وهذا

مما تمالأ عليه كلمة المحدثين خلفاً وسلفاً والفقهاء المتقدمين والمتأخرين قاطبة إلا ابن الهمام ومن تبعه من تلامذته وغيرهم. فالشيخ ابن الهمام هو أول من خالف هذا الأصل، وخرق هذا الإجماع. وغرضه من ذلك كما قال الشيخ عبد الحق الدهلوى في مقدمة شرح سفر السعادة بعد ما مشى ممشاه ورضي بما ارتضاه، تأييد مصادمة الفقهاء الحنفية بالمحدثين ومعارضتهم إياهم، قال الشيخ الدهلوى مشيراً إلى الكلام ابن الهمام في مخالفة هذا الأصل. وهذا نافع مفيد في غرضنا من شرح هذا الكتاب يعني السفر، وهو تأييد المذهب الحنفي وهذا صريح في إقرارهم بأن تأييد مذهب الحنفية إنما يتأتى بصيرورة الصحيحين كغيرهما من الصحاح بإبطال الخصوصية منهما صحة وثقة، وأن محاولة هذه المخالفة إنما هو لكون هذا المذهب في الأغلب على خلاف ما في الصحيحين. هذا، وقد أشبع الكلام في الرد على ابن الهمام الشيخ محمد معين الحنفي أحد تلامذه الشاه ولي الله الدهلوى في دراساته، وخص الدراسة (ص277- 322) الحادية عشر لذلك، فعليك أن تطالعها، وإذا كان الأمر كذلك فلا يعارض حديث ابن عمر هذا ما روى الشيخان من الأحاديث المثبتة للصلاة قبل فرض المغرب بين الأذان والإقامة. وأما ترجيحه لحديث ابن عمر على توهم أن عمل أكابر الصحابة على وفقه ففيه أنه لم يثبت عن أحد منهم العمل على خلاف ما في الأحاديث المثبتة، بل يرد ما ادعاه ويبطله حديث أنس عند البخاري في باب الصلاة إلى الأسطوانة. قال: لقد رأيت كبار أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يبتدرون السوارى عند المغرب حتى يخرج النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الحافظ: وعند النسائي قام كبار أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأما قوله: لو كان الحال على ما في رواية أنس لم يخف على ابن عمر. ففيه أنه خفي ذلك على ابن عمر، لأنهم لم يكونوا يواظبون عليه كالرواتب. وهذا على تقدير أن يكون حديث ابن عمر صحيحاً ومعارضاً لحديث أنس وغيره من الصحابة. وأما على ما هو مقرر عند المحدثين والفقهاء من عدم مساواة حديث غير الصحيحين لحديثهما، وترجيح حديثهما على حديث غيرهما عند المخالفة فلا حاجة إلى هذا الجواب. ومنها: ما رواه الدارقطني ثم البيهقي في سننهما عن حيان بن عبيد الله العدوى ثنا عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن عند كل أذانين ركعتين ما خلا المغرب- انتهى. ورواه البزار في مسنده وقال: لا نعلم. رواه عن ابن بريدة الأحيان ابن عبيد الله، وهو رجل مشهور من أهل البصرة لا بأس به- انتهى. قلت: حيان بن عبيد الله وإن كان صدوقاً لكنه اختلط. قال البخاري: ذكر الصلت منه الاختلاط. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص331) : قيل اختلط، وذكره ابن عدي في الضعفاء فالحديث ضعيف. وأيضاً كان بريدة وابنه عبد الله يصليان قبل صلاة المغرب، فلو كان الاستثناء الذي زاده حبان محفوظاً لم يكن مخالفان خبر النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الحافظ في الفتح: رواية حيان شاذة لأنه وإن كان صدوقاً عند البزار وغيره، لكنه خالف الحافظ من أصحاب

عبد الله بن بريدة في إسناد الحديث ومتنه وقد وقع في بعض طرقه عند الإسماعيلي. وكان بريدة يصلي ركعتين قبل المغرب، فلو كان الاستثناء محفوظاً لم يخالف بريدة رواية- انتهى. وقال البيهقي في المعرفة: أخطأ فيه حبان بن عبيد الله في الإسناد والمتن جميعاً. أما السند فأخرجاه في الصحيحين عن سعيد الجريري وكهمس عن عبد الله بن بريدة عن عبد الله بن مغفل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: بين كل أذانين صلاة، قال في الثالثة: لمن شاء. وأما المتن فكيف يكون صحيحا. وفي رواية لمبارك عن كهمس في هذا الحديث قال وكان ابن بريدة يصلي قبل المغرب ركعتين. وفي رواية حسين المعلم عن عبد الله بن بريدة عن عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صلوا قبل المغرب ركعتين، وقال في الثالثة: لمن شاء خشبة أن يتخذها الناس سنة. رواه البخاري في صحيحه- انتهى. ومنها: ما رواه الطبراني في كتاب مسند الشاميين عن جابر قال: سألنا نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل رأيتن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي ركعتين قبل الغروب؟ فقلن: لا غير أن أم سلمة قالت: صلاهما عندي مرة فسألته ما هذه الصلاة، فقال: نسيت الركعتين قبل العصر الآن- انتهى. قلت: في سنده يحيى بن أبي الحجاج. قال ابن معين والنسائي: ليس بشيء. وقال أبوحاتم: ليس بالقوى. وذكره ابن في الثقات. وقال ابن عدي: لا أرى بحديثه بأسا. وقال الحافظ في التقريب: لين الحديث. وفي سنده أيضاً عيسى بن سنان القسملى، ضعفه أحمد والنسائي وأبوزرعة وابن معين، وذكره الساجي والعقيلي في الضعفاء. وقال أبوحاتم: ليس بقوي في الحديث، وقال العجلي: لا بأس به. وقال ابن خراش: صدوق، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الحافظ: لين الحديث. وعلى تقدير صحة هذا الحديث فجوابه هو ما ذكره الزيلعي نقلاً عن النووي من أنه نفي متقدم رواية المثبت الخ. منها: ما رواه محمد بن الحسن في كتاب الآثار أخبرنا أبوحنيفة ثنا حماد بن أبي سليمان أنه سأل إبراهيم النخعي عن الصلاة قبل المغرب قال: فنهاه عنها، وقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر لم يكونوا يصلونها- انتهى. قلت: هذا الحديث معضل فلا يصلح للاستدلال. قال الحافظ في الفتح: هو منقطع ولو ثبت لم يكن فيه دليل على النسخ ولا الكراهة، وسيأتي أن عقبة بن عامر سئل عن الركعتين قبل المغرب فقال: كنا نفعلهما على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، قيل له فما يمنعك الآن؟ قال الشغل، فلعل غيره أيضاً منعه الشغل. وقد روى محمد بن نصر وغيره من طرق قوية عن عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وأبي بن كعب وأبي الدرداء وأبي موسى وغيرهم أنهم كانوا يواظبون عليهما. وأما قول ابن العربي اختلف الصحابة ولم يفعلهما أحد بعدهم، فمردود بقول محمد بن نصر. وقد روينا عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم كانوا يصلون الركعتين قبل المغرب. ثم أخرج ذلك بأسانيد متعددة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى وعبد الله بن بريدة ويحيى بن عقيل والأعرج وعامر بن عبد الله بن الزبير وعراك بن

1173- (8) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((من كان منكم مصلياً بعد الجمعة، فليصل أربعاً)) . رواه مسلم. وفي أخرى له، قال: ((إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعاً)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ مالك. ومن طريق الحسن البصري أنه سئل عنهما فقال: حسنتين والله جميلتين لمن أراد بهما- انتهى. (متفق عليه) فيه نظر كما أوضحنا ذلك، والحديث أخرجه أبوداود وابن حبان والبيهقي (ج2 ص474) وزاد ابن حبان فيه: وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى قبل المغرب ركعتين. قال بعض الحنفية هذا الحديث أخرجه البخاري في الأذان أيضاً بلفظ عام: بين كل أذانين صلاة وأخرج ههنا بلفظ المغرب خاصة، وحصل إلى الجزم بأنها رواية المعنى لا رواية بالمعنى، فإن الراوي استنبط المسألة من الحديث بين كل أذانين صلاة، ثم أجرى عمومه في المغرب وترك الصلوات الأربع، ثم عبر عنها بقوله صلوا قبل المغرب، وما حاشى به، لأنه قد تعلمها من الحديث العام وفيه تلك. قلت: هذا القول بعيد عن الحق والصواب بل هو باطل جداً. لأنه تحكم محض وادعاء مجرد وتخرص بحت، ولا يكفي في مثل هذه الأمور فتوى القلب، لا سيما من مثل هذا المقلد، بل لا بد لذلك من دليل قوي أو قرينة ظاهرة، ولا شيء ههنا، ولم يذهب إلى ذلك قبله ذهن ذاهن، لأنه تقول على الراوي من غير برهان ولم يتفكر هذا البعض في هذا الحديث سنين حتى جزم بما جزم إلا لأنه كان مخالفاً لمذهبه. 1173- قوله. (من كان منكم مصلياً بعد الجمعة فليصل أربعا رواه مسلم) وأخرجه أيضاً الترمذي وأبوداود والبيهقي (ج3 ص240) . (وفي أخرى له) أي لمسلم. (إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعاً) وأخرجها أيضاً أحمد (ج2 ص249- 442- 499) وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي. وفي رواية لمسلم: إذا صليتم بعد الجمعة فصلوا أربعاً. والرواية الثانية تدل على الأمر بأربع ركعات. وظاهره الوجوب، إلا أنه أخرجه عنه الرواية الأولى، فإنها تدل على أنها ليست بواجبة. قال النووي: نبه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: إذا صلى أحدكم بعد الجمعة فليصل بعدها أربعاً، على الحث عليها، فأتى بصيغة الأمر، ونبه بقوله: من كان منكم مصلياً، على أنها سنة ليست بواجبة- انتهى. وحديث أبي هريرة هذا يدل على أن السنة بعد الجمعة أربع ركعات: وقد تقدم حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين، وهذا يدل على أن السنة بعدها ركعتان. قال النووي: في هذا الأحاديث استحباب سنة الجمعة بعدها، والحث عليها وأن أقلها ركعتان وأكملها أربع. قال وذكر الأربع لفضيلتها وفعل الركعتين في أوقات بياناًً؛ لأن أقلها ركعتان. وقال إسحاق بن راهوية: إن صلى في المسجد يوم الجمعة صلى أربعاً وإن صلى

في بيته صلى ركعتين. وكذا قال ابن تيمية وابن القيم، كما في زاد المعاد (ج1 ص124) . وكأنهم جمعوا بذلك بين الحديثين فإن حديث الأربع مطلق وليس مقيداً بكونها في البيت. وأما حديث الركعتين فهو مقيد بكونهما في البيت، فحملوا حديث الركعتين على ما إذا صلى في البيت وحديث الأربع على ما إذا صلى في المسجد. وفيه أنه لو كان الأمر كما قال هؤلاء لما صلى ابن عمر بعد الجمعة في المسجد ركعتين، فإنه هو الذي روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته. قال الترمذي بعد ذكر قول إسحاق بن راهوية ما نصه: وابن عمر هو الذي روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته، وابن عمر بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في المسجد بعد الجمعة ركعتين وصلى بعد الركعتين أربعاً، وحمل النسائي حديث ابن عمر على أنه للإمام حيث بوب عليه بلفظ: صلاة الإمام بعد الجمعة وحمل حديث أبي هريرة على أنه لمن يصلي في المسجد فقد بوب له: عدد الصلاة بعد الجمعة في المسجد. ومال الشوكاني إلى أن الأربع للأمة سواء كانت في المسجد أو في البيت لإطلاقه وعدم تقييده بالبيت. وأما الركعتان فللنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة، قال: وفعله لا ينافي مشروعية الأربع لعدم المعارضة بين قوله الخاص بالأمة وفعله الذي لم يقترن بدليل خاص يدل على التأسي به فيه، وذلك لأن تخصيصه للأمة بالأمر يكون مخصصاً لأدلة التأسي العامة- انتهى. واختلف العلماء في عدد الراتبة بعد الجمعة فأقلها عند الحنابلة ركعتان وأكثرها ستة، فنقل ابن قدامة في المغني عن أحمد أنه قال: إن شاء صلى بعد الجمعة ركعتين وإن شاء صلى أربعاً. وفي رواية عنه: وإن شاء ستاً. وأما عند الشافعية فالمؤكدة ركعتان والمستحب أربع ركعات. وحكى الترمذي عن الشافعي وأحمد أنهما قالا بحديث ابن عمر. قال العراقي: لم يرد الشافعي وأحمد بذلك إلا بيان أقل ما يستحب، وإلا فقد استحبا أكثر من ذلك. فنص الشافعي في الأم على أنه يصلي بعد الجمعة أربع ركعات، ذكره في باب صلاة الجمعة والعيدين. ثم ذكر العراقي ما تقدم من كلام أحمد نقلاً عن المغني. وأما المالكية فالمستحب عندهم ركعتان في البيت، لأنه لا رغيبة عندهم إلا للصبح. قال في المدونة: قال ابن القاسم قال مالك: بلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى الجمعة انصرف ولم يركع في المسجد، قال: وإذا دخل بيته ركع ركعتين، قال مالك: وينبغي للأئمة اليوم إذا سلموا من صلاة الجمعة أن يدخل الإمام منزله ويركع ركعتين ولا يركع في المسجد، قال: ومن خلف الإمام إذا سلموا أحب إلى أن ينصرفوا أيضاً ولا يركعوا في المسجد، قال: وإن ركعوا فذلك واسع- انتهى. وأما الحنفية فالمؤكد عندهم أربع لحديث أبي هريرة، وأما ما روي من فعله - صلى الله عليه وسلم - فليس فيه ما يدل على المواظبة. وقال أبويوسف يصلي ستاً جمعاً بين قوله - صلى الله عليه وسلم - وفعله، وروي ذلك عن علي وابن عمر وأبي موسى، وهو قول عطاء والثوري إلا أن أبا يوسف استحب أن يقدم الأربع قبل الركعتين كيلا يصير متطوعاً بعد صلاة الفرض يمثلها. قال الشيخ في شرح الترمذي: ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - ركعتان بعد الجمعة فعلاً وأربع قولاً. وأما الست فلم تثبت عنه - صلى الله عليه وسلم -

{الفصل الثاني}

{الفصل الثاني} 1174- (9) عن أم حبيبة، قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها، حرمه الله على النار)) . رواه أحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ بحديث صحيح صريح، نعم ثبتت عن ابن عمر من فعله، وروي عن علي أنه أمر بها. وأما حديث ابن عمر يعني الذي يأتي في آخر الفصل الثالث، فقال العراقي: إنما أراد رفع فعله بالمدينة فحسب، لأنه لم يصح أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى الجمعة بمكة- انتهى. والأولى بالعمل عندي أن يصلي الرجل بعد الجمعة أربعاً. (سواء كان في المسجد أو في بيته لإطلاق حديث أبي هريرة) ، لأنه قد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - قولاً وأمرنا به وحثنا عليه- انتهى. 1174- قوله: (من حافظ) أي داوم وواظب. (على أربع ركعات قبل الظهر) فيه دليل على أن السنة قبل الظهر أربع ركعات وقد تقدم الكلام عليه. (وأربع بعدها) قال القاري: ركعتان منها مؤكدة وركعتان مستحبة، فالأولى بتسليمتين بخلاف الأولى. (حرمه الله على النار) وفي رواية: لم تمسه النار. وفي أخرى: حرم الله لحمه على النار. قال الشوكاني: وقد اختلف في معنى ذلك هل المراد أنه لا يدخل النار أصلاً، أو أنه وإن قدر عليه دخولها لا تأكله، أو أنه يحرم على النار أن تستوعب أجزاءه وإن مست بعضه، كما في طرق الحديث عند النسائي بلفظ: فتمس وجهه النار أبداً، وهو موافق لقوله في الحديث الصحيح: وحرم على النار أن تأكل مواضع السجود فيكون قد أطلق الكل وأريد البعض مجازاً، والحمل على الحقيقة أولى، وإن الله تعالى يحرم جميعه على النار. وفضل الله أوسع، ورحمته أعم- انتهى. وقال السندي: ظاهره أنه لا يدخل النار أصلاً، وقيل: على وجه التأبيد، وحمله على ذلك بعيد، ويكفي في ذلك الإيمان وعلى هذا فلعل من داوم على هذه الفعل يوفقه الله تعالى للخيرات، ويغفر الذنوب كلها- انتهى. (رواه أحمد) الخ للحديث طرق: منها طريق حسان بن عطية عن عنسبة بن أبي سفيان عن أم حبيبة، وهى عند أحمد (ج2 ص325) والنسائي والبيهقي (ج2 ص473) . ومنها طريق محمد بن عبد الله الشعيثي عن أبيه عن عنسبة عن أم حبيبة وهي عند أحمد (ج6 ص426) والترمذي والنسائي وابن ماجه، وقد حسنه الترمذي من هذا الطريق. ومنها طريق القاسم بن عبد الرحمن عن عنسبة عن أم حبيبة، وهي عند الترمذي والنسائي. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، والقاسم بن عبد الرحمن ثقة شامي. ونقل المنذري في الترغيب كلام الترمذي هذا وأقره، وقال في مختصر السنن: وصححه الترمذي من حديث القاسم بن عبد الرحمن، والقاسم هذا اختلف فيه: فمنهم من يضعف روايته، ومنهم من يوثقه- انتهى. قلت: قال الحافظ في التقريب: إنه صدوق. ووثقه ابن معين والعجلي ويعقوب بن سفيان ويعقوب بن شيبة. وقال أبوحاتم: حديث الثقات عنه مستقيم، لا بأس به، وإنما ينكر عنه الضعفاء. وقال أبوإسحاق

1175- (10) وعن أبي أيوب الأنصاري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أربع قبل الظهر ليس فيهن تسليم، تفتح لهن أبواب السماء)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحربي: كان من ثقات المسلمين. وقال الجوزجاني: كان خياراً فاضلاً، أدرك أربعين رجلاً من المهاجرين والأنصار. وتكلم فيه أحمد. وقال الغلابي: منكر الحديث. وقال ابن حبان: يروي عن الصحابة المعضلات، كذا في تهذيب التهذيب. ومنها طريق سليمان بن موسى عن مكحول عن مولى لعنسبة بن أبي سفيان عن عنسبة عن أم حبيبة، وهي عند أحمد (ج6 ص326) . ومنها طريق سليمان بن موسى والنعمان بن المنذر عن مكحول عن عنسبة عن أم حبيبة. أما طريق سليمان فهي عند النسائي. وأما طريق النعمان فهي عند أبي داود والحاكم والبيهقي (ج2 ص472) ، ومن طريق مكحول عن عنسبة عن أم حبيبة أخرج ابن خزيمة في صحيحه، كما في الترغيب. قال البخاري ويحيى بن معين وأبوزرعة وأبوحاتم والنسائي وأبومسهر: إن مكحولاً لم يسمع من عنسبة. وخالفهم دحيم وهو أعرف بحديث الشاميين، فأثبت سماع مكحول من عنسبة، قاله الحافظ. ومنها طريق سليمان بن موسى عن محمد بن أبي سفيان عن أم حبيبة، وهي عند النسائي وابن خزيمة، كما في الترغيب. قال النسائي: هذا خطأ، والصواب حديث مروان من حديث سعيد بن عبد العزيز عن سليمان عن مكحول عن عنسبة. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج9 ص192) : وهو الصواب. وهكذا قال غير واحد عن مكحول- انتهى. قلت: الظاهر أن حديث أم حبيبة هذا حسن صحيح من طريق حسان ومحمد بن عبد الله الشعيثي والقاسم بن عبد الرحمن ومكحول كلهم عن عنسبة عن أم حبيبة. فهذه طرق أربع للحديث من بين حسان وصحاح. وأما الطريق الرابع فلعل مكحولاً سمع أولاً من مولى لعنسبة، ثم لقي عنسبة وسمع منه من غير واسطة، والله أعلم. 1175- قوله. (أربع) أي من الركعات يصليهن الإنسان. (قبل الظهر) أي قبل صلاته. (ليس فيهن) أي بين الركعتين الأوليين والركعتين الأخيرتين. (تسليم) أي فصل بسلام يعني تصلى بتسليمة واحدة. قال القاري: أي الأفضل فيها ذلك. وقد استدل بهذا من جعل صلاة النهار أربعاً أربعاً، ويمكن أن يقال المراد ليس فيهن تسليم واجب، فلا ينافي أن الأفضل مثنى مثنى ليلاً ونهارا لخبر أبي داود وغيره: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى. وبه قال الأئمة غير أبي حنيفة، فإنه قال الأفضل أربعاً أربعاً ليلاً ونهاراً، ووافقه صاحباه في النهار دون الليل. قال البيجوري في شرح الشمائل. قال القاري: وينبغي أن يكون الخلاف فيما لم يرد فيه تعيين تسليم أو تسليمتين. (تفتح لهن) أي لأجلهن. (أبواب السماء) كناية عن حسن القبول. وهذا لفظ أبي داود ورواه ابن ماجه بلفظ: كان يصلي قبل الظهر أربعاً إذا زالت الشمس، لا يفصل بينهن بتسليم، وقال: إن أبواب السماء تفتح إذا زالت الشمس- انتهى. وتسمى

رواه أبوداود، وابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ هذه سنة الزوال، وهي غير سنة الظهر. قال ابن القيم: هذه الأربع صلاة مستقلة كان يصليها بعد الزوال، وورد مستقل سببه انتصاف النهار وزوال الشمس. وسر هذا والله تعالى أعلم أن انتصاف النهار مقابل لانتصاف الليل، وأبواب السماء تفتح بعد زوال الشمس ويحصل النزول الإلهي بعد انتصاف الليل، فهما وقتا قرب ورحمة هذا يفتح فيه أبواب السماء، وهذا ينزل فيه الرب تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا- انتهى. وقيل: بل هي سنة الظهر القبلية، والحديث رواه الترمذي في الشمائل بلفظ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدمن أربع ركعات عند زوال الشمس، فقلت: يا رسول الله! إنك تدمن هذه الأربع ركعات عند زوال الشمس، فقال: إن أبواب السماء تفتح، فلا ترتج حتى يصلي الظهر، فأحب أن يصعد لي في تلك الساعة خير- الحديث. ورواه الطبراني في الكبير الأوسط بلفظ: لما نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رأيته يديم أربعاً قبل الظهر، وقال: إنه إذا زالت الشمس فتحت أبواب السماء، فلا يغلق منها باب حتى يصلى الظهر الخ. وروى البيهقي ونحوه. قال البيجوري: ويبعد الأول أي كون المراد سنة الزوال غير سنة الظهر التعبير بالإدمان المراد به المواظبة، إذ لم يثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - واظب على شيء من السنن بعد الزوال إلا على راتبة الظهر- انتهى. (رواه أبوداود وابن ماجه) وأخرجه أيضاً أحمد (ج5 ص416) والترمذي في الشمائل والطحاوي (ص196) والبيهقي في السنن (ج2 ص488) كلهم من طريق عبيدة عن إبراهيم عن سهم بن منجاب عن قرثع، وقال بعضهم عن قزعة عن قرثع عن أبي أيوب، وعبيدة هذا هو ابن متعب الضبي الكوفي الضرير. قال في التقريب: ضعيف، واختلط بآخرة، ونقل الزيلعي عن صاحب التنقيح: أنه قال: وروى ابن خزيمة هذا الحديث في مختصر المختصر وضعفه، فقال وعبيدة بن متعب ليس ممن يجوز الاحتجاج بخبره-انتهى. قلت: عبيدة هذا ضعفه أيضاً أبوداود وابن معين وأبوحاتم والنسائي وابن عدي. وذكره ابن المبارك فيمن يترك حديثه. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ترك الناس حديثه. وقال يحيى بن سعيد: كان عبيدة سيء الحفظ ضريراً متروك الحديث. وقال الساجي: صدوق سيء الحفظ يضعف عندهم. وقال يعقوب بن سفيان: حديثه لا يسوى شيئاً. وقال أبوداود عن شعبة: أخبرني عبيدة قبل أن يتغير كذا في تهذيب التهذيب. قلت: قد روى هذا الحديث أبوداود من طريق شعبة عن عبيدة، وأخرجه الطيالسي أيضاً عن شعبة عن عبيدة. كما في الميزان (ج2 ص175) وللحديث طريق أخرى عند أحمد (ج5 ص418) والبيهقي في السنن (ج2 ص489) وابن خزيمة، وهي طريق شريك عن الأعمش عن المسيب بن رافع عن علي بن الصلت عن أبي أيوب، وليس فيه: لا يسلم بينهن، وأخرجه محمد في موطئه عن بكير بن عامر البجلي عن إبراهيم والشعبي عن أبي أيوب. قال الزيلعي. وتكلم الدارقطني في علله، وذكر الاختلاف فيه، ثم قال: وقول أبي معاوية. (يعني عن عبيدة عن إبراهيم عن سهم عن قزعة عن قرثع عن أبي أيوب بذكر هل فيهن تسليم فاصل؟ قال: لا) أشبه بالصواب- انتهى. وحديث أبي معاوية عند الترمذي وأحمد (ج5 ص416)

1176- (11) وعن عبد الله بن السائب، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي أربعاً بعد أن تزول الشمس قبل الظهر، وقال: إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء، فأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح)) . رواه الترمذي. 1177- (12) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((رحم الله أمرأ صلى قبل العصر أربعا)) . رواه أحمد، والترمذي، وأبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ واعلم أنه أطلق المنذري عزو حديث أبي أيوب هذا إلى الترمذي في مختصره، وكان عليه أن يقيده بالشمائل. 1176- قوله. (عن عبد الله بن السائب) هو وأبوه صحابي. (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي أربعاً بعد أن تزول الشمس قبل الظهر) أي قبل فرضه وهل هي سنة الزوال أو سنة الظهر القبلية؟ فيه خلاف علم مما نقدم. قال العراقي: هي غير الأربع التي هي سنة الظهر قبلها، وتسمى هذه سنة الزوال. وقال القاري: تلك الركعات الأربع سنة الظهر التي قبله. كذا قاله بعض الشراح من علمائنا، وأراد به الرد على من زعم أنها غيرها وسماها سنة الزوال- انتهى. (وقال: إنها) أي قطعة الزمن التي بعد الزوال. وقال القاري: أي ما بعد الزوال. وأنثه باعتبار الخبر وهو. (ساعة تفتح) بالتأنيث وبالتخفيف، ويجوز التشديد. (فيها أبواب السماء) لصعود الطاعة ونزول الرحمة. (فأحب أن يصعد) بفتح الياء ويضم. (فيها) أي في تلك الساعة. (عمل صالح) أي إلى السماء. ويستشكل بأن الملائكة الحفظة لا يصعدون إلا بعد صلاة العصر. وبعد صلاة الصبح، ويبعد أن العمل يصعد قبل صعودهم، وقد يرد بالصعود القبول، قاله البيجوري. (رواه الترمذي) في جامعه وفي شمائله وبوب له في جامعة باب الصلاة عند الزوال، وأشار إلى حديث أبي أيوب المتقدم بقوله: وفي الباب عن أبي أيوب. قال الترمذي: حديث عبد الله بن السائب حديث حسن غريب. قلت: بل هو حديث صحيح متصل الإسناد رواته ثقات، وأخرجه أيضاً أحمد (ج3 ص411) . 1177- قوله: (رحم الله امرأ) أي شخصاً. قال العراقي: يحتمل أن يكون دعاء. وأن يكون خبراً (صلى قبل العصر أربعاً) أي أربع ركعات تطوع العصر وهي من المستحبات. قال النووي في شرح المذهب: إنها سنة، وإنما الخلاف في المؤكد منه، وقال في شرح مسلم: لا خلاف في استحبابها عند أصحابنا. وممن كان يصليها أربعاً من الصحابة علي. وقال إبراهيم النخعي: كانوا يصلون أربعاً قبل العصر، ولا يرونها من السنة. وممن كان لا يصلى قبل العصر شيئاً سعيد بن المسيب والحسن البصري وسعيد بن منصور وقيس بن أبي حازم وأبوالأحوص- انتهى. (رواه أحمد) (ج2 ص117) . (والترمذي) وحسنه. (وأبو داود) وسكت عنه، وأخرجه أيضاً الطيالسي

1178- (13) وعن علي قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي قبل العصر أربع ركعات، يفصل بينهن بالتسليم على الملائكة المقربين، ومن تبعهم من المسلمين والمؤمنين)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ والبيهقي (ج2 ص473) وابن حبان وصححه وكذا شيخه ابن خزيمة. وفيه محمد بن إبراهيم بن مسلم بن مهران بن المثنى، روى عن جده مسلم بن مهران عن ابن عمر. قال الحافظ في التلخيص: محمد بن مهران فيه مقال، لكن وثقه ابن حبان- انتهى. وقال ابن معين: ليس به بأس. وقال الدارقطني: بصري، روى عن جده ولا بأس بهما. وقال الحافظ في ترجمة مسلم بن مهران: قال أبوزرعة: ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. وفي الباب عن أم حبيبة عند أبي يعلى، وعن أم سلمة عند الطبراني في الكبير، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص عند الطبراني في الكبير الأوسط، وعن علي عند الطبراني في الأوسط، ذكر هذه الأحاديث الشوكاني في النيل، والهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص222) ، والمنذري في الترغيب. واعلم أن الحافظ في الفتح والزرقاني في شرح الموطأ تبعاً للحافظ قد نسبا حديث ابن عمر هذا إلى أبي هريرة. قال الحافظ: قد ورد في الصلاة قبل العصر حديث لأبي هريرة مرفوع لفظه: رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعاً. أخرجه أحمد وأبوداود والترمذي وصححه ابن حبان- انتهى. وهو وهم منهما، لأن الحديث من مسند ابن عمر لا أبي هريرة كما لا يخفى، نعم أخرج أبونعيم من حديث الحسن عن أبي هريرة مرفوعاً: من صلى قبل العصر أربع ركعات غفر الله عز وجل له مغفرة عزماً. والحسن لم يسمع من أبي هريرة. ذكره الشوكاني والعيني. 1178- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي قبل العصر أربع ركعات) فيه دليل على استحباب أربع ركعات قبل العصر كالحديث السابق، ولا منافاة بينه وبين ما يأتي بعد ذلك من حديث علي أيضاً أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي قبل العصر ركعتين، لأن المراد أنه - صلى الله عليه وسلم - أحياناً يصلي أربع ركعات وأحياناً ركعتين، فالرجل مخير بين أن يصلي أربعاً أو ركعتين، والأربع أفضل. (يفصل بينهن) أي بين الركعتين الأوليين والركعتين الأخيرتين. (بالتسليم) المراد به تسليم التشهد دون تسليم التحلل من الصلاة كما سيأتي. (على الملائكة المقربين) زاد الترمذي في رواية: والنبيين والمرسلين. (ومن تبعهم) أي النبي ين والمرسلين. (من المسلمين) بيان لمن أي المنقادين ظاهراً وباطناً. (والمؤمنين) المصدقين بقلوبهم المقرين بألسنتهم، فلا فرق بينهما إلا في مفهوم اللغة دون عرف الشريعة، قاله القاري. قال الترمذي: اختار إسحاق بن راهوية أن لا يفصل في الأربع قبل العصر، واحتج بهذا الحديث، وقال معنى قوله: يفصل بينهن بالتسليم يعني التشهد. وقال البغوي: المراد بالتسليم التشهد دون السلام. أي وسمي تسليماًَ على من ذكر لاشتماله عليه. قال الطيبي: ويؤيده حديث عبد الله بن مسعود: كنا إذا صلينا قلنا السلام على الله قبل عباده السلام على جبريل، وكان ذلك في التشهد- انتهى. وقيل: المراد به تسليم التحلل من الصلاة حمله على

رواه الترمذي. 1179- (14) وعنه، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي قبل العصر ركعتين)) . رواه أبوداود. 1180- (15) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى بعد المغرب ست ركعات لم يتكلم فيما بينهن ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا من اختار أن صلاة الليل والنهار مثنى مثنى. قال العراقي: حمل بعضهم هذا على أن المراد بالفصل بالتسليم الشهد، لأن فيه السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى عباد الله الصالحين، قاله إسحاق بن إبراهيم، فإنه كان يرى صلاة النهار أربعاً، قال وفيما أوله عليه بعد- انتهى كلام العراقي. قال الشيخ في شرح الترمذي: ولا بُعد عندي فيما أوّله عليه، بل هو الظاهر القريب بل هو المتعين إذ النبي ون والمرسلون لا يحضرون الصلاة حتى ينويهم المصلي بقوله: السلام عليكم فكيف يراد بالتسليم تسليم التحلل من الصلاة- انتهى. قلت: ولقائل أن يقول يكفي للخطاب بقوله السلام: عليكم شهود الأنبياء والمرسلين واستحضارهم في القلب وتصورهم في النفس وإن لم يكونوا حاضرين في الخارج، فلا مانع من أن يراد بالتسليم تسليم التحلل من الصلاة. (رواه الترمذي) أي من طريق أبي إسحاق السبيعي عن عاصم بن ضمرة عن علي في باب ما جاء في الأربع قبل العصر، وحسنه. ونسبه الحافظ في التلخيص لأحمد (ج1 ص85) والبزار والنسائي أيضاً، وهو مختصر من حديث طويل أخرجه الترمذي من الطريق المذكور في باب كيف كان يتطوع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهار، وذكر هناك أنه روي عن ابن مبارك أنه كان يضعف هذا الحديث، وإنما ضعفه عندنا - والله أعلم من أجل - عاصم بن ضمرة، وعاصم بن ضمرة من ثقة عند بعض أهل الحديث. وقال علي بن المديني قال يحيى بن سعيد القطان قال سفيان: كنا نعرف فضل حديث عاصم بن ضمرة على حديث الحارث-انتهى. قلت: عاصم هذا وثقة يحيى بن معين وابن المديني والعجلي وابن سعد. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال البزار: هو صالح الحديث. وقال أحمد: هو أعلى من الحارث الأعور، وهو عندي حجة. وضعفه ابن حبان وابن عدي والجوزجاني تبعاً لابن عدي، وقد رد الحافظ على الجوزجاني في تهذيب التهذيب (ج5 ص45- 46) فارجع إليه. 1179- قوله: (يصلي قبل العصر ركعتين) أي أحياناً فلا ينافي ما تقدم من الأربع. (رواه أبوداود) من طريق أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي وسكت عنه أبوداود. وقال المنذري: عاصم بن ضمرة وثقه يحيى بن معين وغيره وتكلم فيه غير واحد. 1180- قوله: (من صلى بعد المغرب) أي فرضه. (ست ركعات) مع الركعتين الراتبتين أو سواهما، قاله في اللمعات. وقال الطيبي: المفهوم إن الركعتين الراتبتين داخلتان في الست، وكذا في العشرين المذكورة في الحديث الآتي- انتهى. قال القاري: فيصلي المؤكدتين بتسليمة، وفي الباقي بالخيار. (لم يتكلم فيما بينهن)

بسوء، عدلن له بعبادة ثنتى عشرة سنة)) . رواه الترمذي. وقال هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عمر بن أبي خثعم، وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: هو منكر الحديث، وضعفه جداً. 1181- (16) وعن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى بعد المغرب عشرين ركعة بنى الله له بيتاً في الجنة)) رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ أي في أثناء أدائهن. وقال ابن حجر إذا سلم من ركعتين. (بسوء) أي بكلام سيء أو بكلام يوجب سوء. (عدلن) بصيغة المجهول. قال الطيبي: يقال عدلت فلاناً بفلان إذا سويت بينهما يعني ساوين من جهة الأجر. (له) أي للمصلي. (بعبادة ثنتى عشرة سنة) قال البيضاوي: فإن قلت كيف تعادل العبادة القليلة العبادات الكثيرة فإنه تضييع لما زاد عليها من الأفعال الصالحة. قلت: الفعلان إن اختلفا نوعاً فلا إشكال. وإن اتفقا فلعل القليل يكتسي بمقارنة ما يخصه من الأوقات والأحوال ما يرجحه على أمثاله، فلعل القليل في هذا الوقت، والحال يضاعف على الكثير في غيرهما. وقال الطيبي: هذا من باب الحث والتحريض، فيجوز أن يفضل ما لا يعرف فضله على ما يعرف وإن كان أفضل حثاً وتحريضاً، ونظيره قوله تعالى. {مما خطيئاتهم أغرقوا} [71: 25] خصت الخطيئات استعظاماً لها وتنفيراً من ارتكابها وجعلت علة للإغراق دون الكفر وأنه أغلظ وأصعب. قال التوربشتي: وقيل: يحتمل أن يراد ثواب القليل مضعفاً أكثر من ثواب الكثير غير مضعف. (رواه الترمذي) وأخرجه أيضاً ابن ماجه وابن خزيمة في صحيحه كلهم من حديث عمر بن أبي خثعم عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة. (لا نعرفه إلا من حديث عمر بن أبي خثعم) بفتح معجمة وسكون مثلثة وفتح مهملة. وعمر هو ابن عبد الله بن أبي خثعم نسب هنا إلى جده. (وسمعت محمد بن إسماعيل) أي البخاري. (يقول هو) أي عمر. (منكر الحديث) هذا من ألفاظ الجرح، وهو في المرتبة الثالثة من مراتب ألفاظ الجرح فيما ذكره العراقي، لكن قد قدمنا في شرح حديث أبي هريرة في الفصل الثالث من باب آداب الخلاء أن البخاري إنما يطلق هذا اللفظ على من لا تحل الرواية عنه على ما صرح به السيوطي في التدريب (ص127) . (وضعفه جداً) أي تضعيفاً قوياً. قال في تهذيب التهذيب: قال الترمذي عن البخاري: ضعيف الحديث ذاهب، ضعفه جداً. وقال البرذعي عن أبي زرعة واهي الحديث حدث عن يحيى بن أبي كثير ثلاثة أحاديث. (أحدها حديث أبي هريرة هذا) لو كانت في خمسمائة حديث لأفسدتها. وقال ابن عدي: منكر الحديث. وقال في الميزان: له حديثان منكران، فذكرهما، وأحدهما هذا الحديث، ثم قال وهاه أبوزرعة. وقال البخاري: منكر الحديث ذاهب- انتهى. 1181- قوله: (بنى الله له بيتاً في الجنة) أي عظماً مشتملاً على أنواع النعم. (رواه الترمذي) أي ذكره تعليقاً

1182- (7) وعنها، قالت: ((ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء قط فدخل علي، إلا صلى أربع ركعات أو ست ركعات)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ بصيغة التمريض فقال: وقد روى عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكره. وأخرجه ابن ماجه موصولاً من رواية يعقوب ابن الوليد المدائني عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة. قال المنذري في الترغيب: ويعقوب كذبه أحمد وغيره- انتهى. قلت: قال الحافظ في تهذيب التهذيب: قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: خرقنا حديثه منذ دهر، كان من الكذابين الكبار، وكان يضع الحديث. وقال الغلابي عن ابن معين: كذاب. وقال ابن حبان: يضع الحديث على الثقات، لا يحل كتب حديثه إلا على سبيل التعجب. وقال النسائي: ليس بشيء متروك الحديث، هذا وكان على المصنف أن يقول: علقه الترمذي أو ذكره تعليقاً، فإنه لا يقال في مثل هذا: رواه وإنما يقال ذكره، وقد عرفت مما قدمنا أن حديث أبي هريرة وحديث عائشة كليهما ضعيفان جداً، لكن قد ورد في فضل الصلاة بين المغرب والعشاء أحاديث أخرى: منها ما رواه الطبراني في معاجيمه الثلاثة عن عمار بن ياسر قال: رأيت حبيبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بعد المغرب ست ركعات، وقال من صلى بعد المغرب ست ركعات غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر. قال الطبراني: تفرد به صالح بن قطن البخاري. قال الهيثمي: ولم أجد من ترجمه. وقال المنذري: وصالح هذا لا يحضرني الآن فيه جرح ولا تعديل. ومنها ما رواه محمد بن نصر في قيام الليل عن ابن عمر مرفوعاً: من صلى ست ركعات بعد المغرب قبل أن يتكلم غفر له بها خمسين سنة. وفي إسناده محمد بن غزوان الدمشقي. قال أبوزرعة: منكر الحديث. وقال ابن حبان: لا يحل الاحتجاج به. ومنها ما رواه أحمد والترمذي وغيرهما عن حذيفة قال: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - المغرب، فلما قضى الصلاة قام يصلي، فلم يزل يصلي حتى صلى العشاء ثم خرج، قال الشوكاني بعد ذكر هذه الأحاديث وغيرهما مما ورد في الباب: الأحاديث المذكورة تدل على مشروعية الاستكثار من الصلاة ما بين المغرب والعشاء. والأحاديث وإن كان أكثرها ضعيفاً فهي منتهضة بمجموعها لاسيما في فضائل الأعمال- انتهى. 1182- قوله: (ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء) أي فرضه. (قط فدخل علي) أي في نوبتي. (إلا صلى أربع ركعات) أي ركعات مؤكدة بتسليمة وركعتان مستحبة، قاله القاري. (أو ست ركعات) يحتمل الشك والتنويع، فركعتان نافلة، قاله القاري. وقال الزرقاني في شرح المواهب: قالت عائشة: ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء قط فدخل بيتي إلا صلى أربع ركعات، أي تارة أو ست ركعات أي أخرى، فليست أو للشك. وفي مسلم قالت عائشة ثم يصلي بالناس العشاء ويدخل بيتي فيصلي ركعتين. وكذا في حديث ابن عمر عند الشيخين. ومفاد الأحاديث أنه كان يصلي بحسب ما تيسر ركعتين وأربعاً وستاً إذا دخل بيته بعد العشاء- انتهى. وأما

رواه أبوداود. 1183- (18) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إدبار النجوم الركعتان قبل الفجر، ـــــــــــــــــــــــــــــ ما روى محمد بن نصر من حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى العشاء الآخرة، ثم صلى أربع ركعات حتى لم يبق في المسجد غيري وغيره. وهذا يقتضى أن يكون صلى الأربع في المسجد لا في البيت، فأجيب عنه بأن في سنده المهال بن عمرو، وقد اختلف فيه. وعلى تقدير ثبوته فيكون قد وقع ذلك منه لبيان الجواز أو لضرورة له في المسجد اقتضت ذلك. وأما ما روى الطبراني في الكبير عن ابن عمر مرفوعاً: من صلى العشاء الآخرة في جماعة وصلى أربع ركعات قبل أن يخرج من المسجد كان كعدل ليلة القدر، ففيه أنه قال العراقي: لم يصح. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص231) : وفيه من ضعف الحديث. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً أحمد (ص6/58) والبيهقي (ج2 ص477) من طريق أبي داود، وسكت عنه أبوداود والمنذري. قال الشوكاني. . الحديث رجال إسناده ثقات. ومقاتل بن بشير العجلي. (يعني الراوي عن شريح بن هاني عن عائشة) قد وثقه ابن حبان، وقد أخرجه النسائي أيضاً في السنن الكبرى. وفي الباب عن ابن عباس عند البخاري وغيره، قال: بت في بيت خالتي ميمونة- الحديث، وفيه فصلي النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء، ثم جاء إلى منزله فصلى أربع ركعات، ثم نام الخ. والظاهر أن هذه الأربعة سنة العشاء البعدية لكونها وقعت قبل النوم، وعليه حمله محمد بن نصر في قيام الليل، وعن عائشة أنها سئلت عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جوف الليل فقالت: كان يصلي صلاة العشاء في جماعة، ثم يرجع إلى أهله فيركع أربع ركعات، ثم يأوي إلى فراشه- الحديث بطوله. وفي آخره حتى قبض على ذلك، أخرجه أبوداود من طريق زرارة بن أبي أوفي عن عائشة، وأخرجه أيضاً من رواية زرارة عن سعد بن هشام عن عائشة. قال المنذري: هذه الرواية هي المحفوظة. وعندي في سماع زرارة من عائشة نظر، فإن أبا حاتم الرازي قال: قد سمع زرارة من عمران بن حصين وأبي هريرة وابن عباس وهذا ما صح له، فظاهر هذا أن زرارة لم يسمع عنده من عائشة- انتهى. وعن عبد الله بن الزبير قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى العشاء ركع أربع ركعات، وأوتر بسجدة، ثم تام حتى يصلي بعدها صلاته من الليل. أخرجه أحمد (ج4 ص4) والبزار والطبراني في معجمه، ذكره الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص146) . وعن أنس وعن البراء بن عازب، وعن ابن عباس عند الطبراني، ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص230- 231) مع الكلام عليها. 1183- قوله: (إدبار النجوم) بكسر الهمزة ونصب الراء على الحكاية من قوله تعالى: {وسبح بحمد ربك حين تقوم ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم} [49: 52] ويجوز الرفع. وعلى الوجهين هو مبتدأ خبره: (الركعتان قبل الفجر) أي فرضه. والإدبار والدبور الذهاب، يعني عقب ذهاب النجوم. وقال ابن كثير: أي عند جنوحها

{الفصل الثالث}

وأدبار السجود الركعتان بعد المغرب)) . رواه الترمذي. {الفصل الثالث} 1184- (19) عن عمر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((أربع قبل الظهر، بعد الزوال، تحسب بمثلهن في صلاة السحر. ـــــــــــــــــــــــــــــ للغيبوبة وهو سنة الصبح. (وأدبار السجود) بفتح الهمزة وكسرها قراءتان متواترتان في قوله تعالى: {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب، ومن الليل فسبحه وأدبار السجود} [40: 50] قال الطيبي: صلاة أدبار السجود، وأدبار نصبه بسبح في التنزيل أوقعه مضافاً في الحديث على الحكاية- انتهى. والمراد بالسجود فريضة المغرب. (الركعتان بعد المغرب) أي فرضه وهي سنة المغرب البعدية. (رواه الترمذي) في تفسير سورة الطور، وأخرجه أيضاً الحاكم وصححه وابن مردويه وابن أبي حاتم كلهم من طريق رشدين بن كريب عن أبيه عن ابن عباس، ورشدين ضعفه ابن المديني وأبوزرعة وابن نمير وأبوحاتم والنسائي. وقال أحمد والبخاري: منكر الحديث. وقال ابن معين: ليس حديثه بشيء. وقال ابن عدي: أحاديثه مقلوبة، لم أر فيها حديثاً منكراً جداً، ومع ضعفه يكتب حديثه. وقال ابن كثير: رشيدين بن كريب ضعيف، ولعل الحديث من كلام ابن عباس موقوفاً عليه- انتهى. والحديث أخرجه مسدد في مسنده وابن المنذر وابن مردويه من حديث علي مرفوعاً. 1184- قوله: (أربع) أي من الركعات. (قبل الظهر بعد الزوال) صفة لأربع، وخبره قوله: (تحسب) بصيغة المجهول. (بمثلهن) أي الكائن. (في صلاة السحر) بفتح المهملتين. ولفظ الترمذي: بمثلهن من صلاة السحر، أي بمثل أربع ركعات كائنة من صلاة السحر، يعني تعدل في الفضل أربعاً مماثلة لهن من جملة صلاة السحر أي التهجد. وذكره المنذري في الترغيب نقلاً عن الترمذي بلفظ: بمثلهن في السحر. وقال الطيبي: أي توازي أربعاً في الفجر من السنة والفريضة لموافقه المصلي بعد الزوال سائر الكائنات في الخضوع والدخور لبارئها، فإن الشمس أعلى وأعظم منظوراً في الكائنات، عند زوالها يظهر هبوطها وانحطاطها وسائر ما يتفيؤ بها ظلاله عن اليمين والشمال- انتهى. وقيل: لا يظهر وجه العدول عن الظاهر، وهو حمل السحر على حقيقته، وتشبيه هذه الأربع بأربع من صلاة الصبح إلا باعتبار كون المشبة به مشهوداً بمزيد الفضل- انتهى. يعني قوله تعالى: {إن قرآن الفجر كان مشهوداً} [17: 78] وفيه إشارة إلى أن العدول إنما هو ليكون المشبه به أقوى، إذ ليس التهجد أفضل من سنة الظهر. قال القاري: والأظهر حمل السحر على حقيقته، وهو السدس الأخير من الليل. ويوجه كون المشبه به أقوى بأن العبادة فيه أشق وأتعب، والحمل على الحقيقة مهما أمكن فهو أولى وأحسن. قلت: لا شك أم الحمل على الحقيقة أولى. وعلى هذا فالمراد بصلاة السحر صلاة التهجد. ويؤيده ما روي عن الأسود ومرة

وما من شيء إلا وهو يسبح لله تلك الساعة، ثم قرأ: {يتفيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل سجداً لله وهم داخرون} . رواه الترمذي، والبيهقي في شعب الإيمان. 1185- (20) وعن عائشة، قالت: ((ما ترك رسول الله صلى الله وعليه وسلم ـــــــــــــــــــــــــــــ مسروق، قالوا قال عبد الله يعني ابن مسعود ليس شيء يعدل صلاة الليل من صلاة النهار إلا أربعاً قبل الظهر الخ، رواه الطبراني في الكبير. قال الهيثمي: وفيه بشير بن الوليد الكندي وثقة جماعة، وفيه كلام، وبقية رجاله رجال الصحيح- انتهى. وهذا في حكم المرفوع. ويستأنس بهذا أن المراد بصلاة السحر في حديث عمر: صلاة الليل. قال بعض المشائخ: السر في هذا أن هذين الوقتين زمان تتنزل الرحمة بعد الزوال، فإنه تفتح أبواب الرحمة والقبول بعد انتصاف النهار كما عرفت، وتنزل الرحمة الإلهية في الليل بعد انتصافه إلى وقت السحر، فلما تناسب الوقتان تناسبت الصلاة الواقعة فيهما، ويكون كل منهما عديل الآخر، ولما كان نزول الرحمة في آخر الليل أظهر وأشهر جعل الصلاة وقت الزوال عديلة وشبيهة به. (وما من شيء إلا وهو يسبح لله تلك الساعة) أي يسبحه تسبيحاً خاصاً تلك الساعة، فلا ينافي قوله تعالى: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} [17: 44] المقتضى لكونه كذلك في سائر الأوقات، والتسبيح في الآيتين بلسان القال والحال. (ثم قرأ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - أو عمر، قاله القاري. والظاهر هو الأول. (يتفيؤ) أي يميل. (ظلاله) أي ظلال كل شيء. (عن اليمين) أريد به الجنس. (والشمائل) جمع شمال، وفيه تفتن أي جانبيها أول النهار وآخره. (سجداً لله) حال أي خاضعين بما يراد منهم. (وهم) أي الظلال. (داخرون) أي صاغرون، نزلوا منزلة العقلاء. وقيل: المراد بقوله هم الخلق المعبر عنه بما منشيء، وفيه تغليب العقلاء. قال الطيبي: ومعنى الآية بتمامها. {أولم يروا} [16: 48] بالغيبة والخطاب. {إلى ما خلق الله من شيء} [16: 48] أي من الأجرام التي لها ظلال متفيئة عن أيمانها وشمائلها كيف تنقاد لله تعالى غير ممتنعة عليه فيما سخرها من التفيؤ، والأجرام في أنفسها داخرة أيضاً منقاد صاغرة. والشمس وإن كانت أعظم وأعلى منظوراً في هذا العالم. إلا أنها عند الزوال يظهر هبوطها وانحطاطها وأنها آيلة إلى الفناء والذهاب، فأشار عليه السلام إلى أن المصلي حينئذٍ موافق لسائر الكائنات في الخضوع لخالقها، فهو وقت خضوع وافتقار، فساوى وقت السحر الذي هو وقت تجلي الحق ومحل الاستغفار. (رواه الترمذي) في تفسير سورة النحل، وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث علي بن عاصم عن يحيى البكاء عن عبد الله بن عمر. وعلي بن عاصم هذا. قال الحافظ: صدوق يخطىء ويصر، ويحيى البكاء بتشديد الكاف ضعيف. 1185- قوله: (ما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي من الوقت الذي شغل فيه عن الركعتين بعد الظهر فصلاهما

ركعتين بعد العصر عندي قط)) . متفق عليه. وفي رواية للبخاري، قالت: ((والذي ذهب به ما تركهما حتى لقي الله)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ بعد العصر، ولم ترد أنه كان يصلي بعد ركعتين من أول ما فرضت الصلوات مثلاً إلى أخر عمره. وقال النووي: تعني بعد وفود قوم عبد القيس. (ركعتين عد العصر) أي بعد فرضه قضاء أولاً، ثم استمرار ثانياً. (عندي) " أي في بيتي. (قط) أي أبداً. (متفق عليه) واللفظ لمسلم، وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي والبيهقي. (وفي رواية للبخاري) ذكرها في باب ما يصلي بعد العصر من الفوائت ونحوها. (قالت) عائشة. (والذي) قسم. (ذهب به) أي توفاه تعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (ما تركهما) أي الركعتين بعد صلاة العصر. (حتى لقي الله) عزوجل، زاد البخاري في هذه الرواية: وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يصليهما في المسجد مخافة أن يثقل على أمته، وكان يحب ما يخفف عنهم. وفي رواية لمسلم: صلاتان ما تركهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتي قط سراً ولا علانية، ركعتين قبل الفجر وركعتين بعد العصر، وفي رواية للبخاري: ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتيني في يوم بعد العصر إلا صلى ركعتين. قيل: هاتان ركعتان ركعتا سنة الظهر البعدية، فاتتا منه - صلى الله عليه وسلم - بسبب وفد عبد القيس، فقضاهما بعد العصر، كما تقدم من حديث أم سلمة، ثم داوم عليهما. وروي: أنه أتاه مال فشغله عن الركعتين بعد الظهر فصلاهما بعد العصر. وقيل: هما سنة العصر القبلية، فقد روى مسلم عن أبي سلمة أنه سأل عائشة عن السجدتين اللتين كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصليهما بعد العصر، فقالت: كان يصليهما قبل العصر ثم أنه شغل عنهما أو نسيهما، فصلاهما بعد العصر ثم أثبتهما، وكان إذا صلى صلاة أثبتها، تعني دوامها ثم إن هذه الأحاديث يعارضها ما روى النسائي عن أم سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى في بيتها بعد العصر ركعتين مرة واحدة- الحديث. وفي رواية له عنها: لم أره يصليهما قبل ولا بعد، وما روى الترمذي عن ابن عباس قال: إنما صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الركعتين بعد العصر، لأنه أتاه مال فشغله عن الركعتين بعد الظهر، فصلاهما بعد العصر، ثم لم يعد لهما. قال الترمذي: حديث حسن فيحمل النفي على علم الراوي، فإنه لم يطلع على ذلك، والمثبت مقدم على النافي. قال الحافظ: يجمع بين الحديثين بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يصليهما إلا في بيته، فلذلك لم يره ابن عباس ولا أم سلمة. ويشير إلى ذلك قول عائشة: وكان لا يصليهما في المسجد مخافة أن تثقل على أمته- انتهى. وقال الشوكاني: قد جمع بين رواية النفي ورواية الإثبات بحمل النفي في المسجد، أي لم يفعلهما في المسجد، والإثبات على البيت. وقد تمسك بحديث عائشة من أجاز قضاء النفل بعد العصر. وأجاب المانعون بأنها من الخصائص. وأجيب بأن الذي اختص به - صلى الله عليه وسلم - المداومة على ذلك لا أصل القضاء. والجمع بين هذا وحديث النهي عن الصلاة بعد العصر، أن ذلك فيما لا سبب له، وهذا سببه قضاء فائتة الظهر كما أمر آنفا. وقد سبق الكلام في هذا مفصلاً في باب أوقات النهي.

1186- (21) وعن المختار بن فلفل، قال: سألت أنس بن مالك عن التطوع بعد العصر، فقال: كان عمر يضرب الأيدي على صلاة بعد العصر. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1186- قوله: (وعن المختار بن فلفل) بفائين مضمومتين ولامين، الأولى ساكنة، المخزومي مولى عمرو بن حريث. وثقه أحمد وابن معين وأبوحاتم والعجلي والنسائي ويعقوب بن سفيان. وقال أبوداود: ليس به بأس. وقال أبوبكر البزار: صالح الحديث، وقد احتمله حديثه. (كان عمر يضرب الأيدي) أي أيدي من عقد الصلاة وأحرم بالتكبير. (على صلاة) أي نافلة. (بعد العصر) أي يمنعهم من التطوع بعد فرض العصر، وضرب عمر الناس على الصلاة بعد العصر ثابت في عدة أحاديث: منها ما رواه البيهقي والإسماعيلي عن أيمن أنه دخل على عائشة، فسألها عن الركعتين بعد العصر، فقالت: والذي ذهب بنفسه، تعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما تركهما حتى لقي الله، فقال لها أيمن إن عمر كان ينهى عنهما ويضرب عليهما، فقالت: صدقت، ولكن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصليهما. ومنها ما رواه البخاري في باب إذا كلم وهو يصلي آخر أبواب الصلاة من حديث كريب: أن ابن عباس والمسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن أزهر أرسلوه إلى عائشة. فقالوا اقرأ عليها السلام منا جميعاً، وسلها عن الركعتين بعد صلاة العصر، وقل لها:إنا أخبرنا أنك تصليهما، وقد بلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنهما. وقال ابن عباس: قد كنت أضرب الناس مع عمر عليهما- الحديث. ومنها ما رواه مالك عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد أنه رأى عمر بن الخطاب يضرب المنكدر في الصلاة بعد العصر. ومنها ما روى ابن أبي شيبة عن عبد الله بن شقيق قال: رأيت عمر أبصر رجلاً يصلي بعد العصر، فضرب حتى سقط وراءه. وقد استدل بهذه الآثار من منع التنفل بعد العصر مطلقاً، لكن في الاستدلال بها على ذلك نظر، لأنه يحتمل أن عمر كان يرى أن النهي عن الصلاة بعد العصر إنما هو خشية إيقاع الصلاة عند الغروب الشمس لا مطلقاً. قال الحافظ: روى عبد الرزاق من حديث زيد بن خالد سبب ضرب عمر الناس على ذلك، فقال عن زيد بن خالد أن عمر رآه، وهو خليفة، ركع بعد العصر فضربه، فذكر الحديث، وفيه فقال عمر: يا زيد لولا أني أخشى أن يتخذهما الناس سلماً إلى الصلاة حتى الليل لم أضرب فيهما. ولعل عمر كان يري أن النهي عن الصلاة بعد العصر إنما هو خشية إيقاع الصلاة عند الغروب الشمس. وهذا يوافق قول ابن عمر: أصلي كما رأيت أصحابي يصلون لا أنهى أحداً يصلي بليل أو نهار وما شاء غير أن لا تحروا طلوع الشمس ولا غروبها. ويوافق ما نقلناه عن ابن المنذر وغيره من أنه لا تكره الصلاة بعد الصبح ولا بعد العصر إلا لمن قصد بصلاته طلوع الشمس وغروبها. وقد روى يحيى بن بكير عن الليث عن أبي الأسود عن عروة عن تميم الداري نحو رواية زيد بن خالد وجواب عمر له، وفيه: ولكني أخاف أن يأتي بعدكم قوم يصلون ما بين العصر إلى المغرب حتى يمروا بالساعة التي نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصلى

وكنا نصلي على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين بعد الغروب الشمس قبل صلاة المغرب، فقلت له: أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصليهما؟ قال: يرانا نصليهما فلم يأمرنا ولم ينهنا)) . رواه مسلم. 1187- (22) وعن أنس، قال: ((كنا بالمدينة، فإذا أذن المؤذن لصلاة المغرب، ابتدروا السواري، فركعوا ركعتين، حتى إن الرجل الغريب ليدخل المسجد، فيحسب أن الصلاة قد صليت من كثرة من يصليهما)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيها وهذا أيضاً يدل لما قلناه- انتهى كلام الحافظ. (فقلت) قول المختار بن فلفل الراوي (له) أي لأنس. (أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصليهما) كذا في جميع النسخ الموجودة، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7 ص23) ولفظ مسلم: صلاهما أي بصيغة الماضي، وكذا نقله المجد بن تيمية في المنتقى. ولفظ أبي داود: أراكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (قال) أنس. (كان يرانا نصليهما فلم يأمرنا ولم ينهنا) قال الطيبي: أي لم يأمر من لم يصل ولم ينه من صلى- انتهى. قلت: وتقريره - صلى الله عليه وسلم - لمن يراه يصلي في ذلك الوقت يدل على عدم كراهة الصلاة فيه ولاسيما والفاعل لعله لذلك عدد كثير من الصحابة، وقد ثبت أمره بذلك، لكن لا على سبيل الوجوب، بل على طريق الندب والاستحباب، كما تقدم في شرح حديث عبد الله بن مغفل في الفصل الأول. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أبوداود والبيهقي (ج2 ص475) . 1187- قوله: (ابتدروا) أي ناس من الصحابة. (السواري) بتخفيف الياء، جمع سارية، وهي الأسطوانة، أي تسارعوا، واستبقوا إلى الأسطوانات للاستتار بها ممن يمر بين أيديهم لكونهم يصلون فرادى. والمعنى وقف كل من سبق خلف الأسطوانة. (حتى إن الرجل الغريب) بكسر همزة إن، وجوز فتحها. والغريب الأجنبي البعيد عن وطنه. قال ابن حجر: حتى عاطفة لما بعدها على جملة ابتدروا. (فيحسب) بكسر السين وفتحها أي فيظن. (أن الصلاة) أي التي هي فرض المغرب. (قد صليت من كثرة من يصليهما) أي الركعتين. والحديث رواه البخاري في باب كم بين الأذان والإقامة من طريق عمرو بن عامر الأنصاري عن أنس. قال: كان المؤذن إذا أذن قام ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يبتدرون السواري حتى يخرج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهم كذلك يصلون ركعتين قبل المغرب، ورواه في باب الصلاة إلى الأسطوانة بلفظ قال: لقد رأيت كبار أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبتدرون السواري عند المغرب. قال القرطبي: ظاهر حديث أنس أن الركعتين بعد أذان المغرب وقبل صلاة المغرب كان أمراً قرر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه عليه، وعملوا به حتى كانوا يستبقون إليه. وهذا يدل على الاستحباب. وكان أصله قوله - صلى الله عليه وسلم -: بين كل أذانين صلاة. وأما كونه - صلى الله عليه وسلم - لم يصلهما فلا ينفي الاستحباب بل يدل على أنهما

رواه مسلم. 1188- (23) وعن مرثد بن عبد الله، قال: ((أتيت عقبة الجهني، فقلت: ألا أعجبك من أبي تميم يركع ركعتين قبل صلاة المغرب؟ فقال عقبة: إنا كنا نفعله على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قلت: فما يمنك الآن؟ قال: الشغل)) . رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ ليستا من الرواتب. وإلى استحبابهما ذهب أحمد وإسحاق وأصحاب الحديث، كذا في الفتح. قلت: قد ثبت فعله - صلى الله عليه وسلم - من حديث عبد الله بن مغفل عند ابن حبان في صحيحه، كما في نصب الراية (ج2 ص141) . وعلى هذا فلا شك في كون الركعتين بعد غروب الشمس وقبل صلاة المغرب مستحباً، لأنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلاً وأمراً وتقريراً. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً البخاري، وتقدم لفظه، وأحمد والنسائي والبيهقي (ج2 ص475) . 1188- قوله: (وعن مرثد) بميم مفتوحة وراء ساكنة بعدها مثلثة مفتوحة. (بن عبد الله) اليزني بفتح التحتية والزاي بعدها نون، نسبة إلى يزن، بطن من حمير أبي الخير، المصري، ثقة فقيه. قال في تهذيب التهذيب: كان لا يفارق عقبة بن عامر الجهني، وكان مفتي أهل مصر في زمانه. قال العجلي: مصري تابعي ثقه. وقال ابن سعد: كان ثقة وله فضل وعبادة. وقال ابن شاهين في الثقات: كان عند أهل مصر مثل علقمة عند أهل الكوفة، وكان رجل صدق. ووثقه يعقوب بن سفيان. (أتيت عقبة) بضم العين ابن عامر وإلى مصر. (الجهني) بضم الجيم نسبة إلى جهنية قبيلة. (ألا أعجبك) بضم الهمزة وسكون المهملة. وفي رواية بفتح العين وتشديد الجيم، أي ألا أوقعك في التعجب. (من أبي تميم) بفتح المثناة الفوقية، هو عبد الله بن مالك الجيشاني بفتح الجيم وسكون التحتانية بعدها معجمة المصري، مشهور بكنيته، أصله من اليمن تابعي كبير ثقة مخضرم، أسلم في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقرأ على معاذ بن جبل باليمن، ثم قدم في زمن عمر، فشهد فتح مصر وسكنها. قال ابن يونس: وقد عده جماعة في الصحابة لهذا الإدراك، مات سنة سبع وسبعين. (يركع) أي يصلي. (ركعتين) زاد أحمد والإسماعيلي حين يسمع أذان المغرب. (إنا) أي معشر الصحابة. (كنا نفعله على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي في زمانه وبحضرته، كما تقدم في حديث أنس. (فما يمنعك الآن) أي من صلاتهما. (قال الشغل) بضم الشين وسكون الغين وضمها وهو ضد الفراغ، والحديث دليل على مشروعية صلاة الركعتين قبل المغرب. وفيه رد على قول القاضي أبي بكر بن العربي: لم يفعلهما أحد بعد الصحابة، لأن أبا تميم تابعي، وقد فعلهما، قاله الحافظ. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً أحمد (ج4 ص155) والبيهقي (ج2 ص475) .

1189- (24) وعن كعب بن عجرة، قال: ((إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى مسجد بنى عبد الأشهل، فصلى فيه المغرب، فلما قضوا صلاتهم رآهم يسبحون بعدها، فقال: هذه صلاة البيوت)) . رواه أبو داود. وفي رواية الترمذي، والنسائي، ((قام الناس يتنفلون، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: عليكم بهذه الصلاة في البيوت)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1189- قوله: (أتى مسجد بني عبد الأشهل) هم من أنصار الأوس. وعبد الأشهل هو ابن جشم بن الحارث بن الخزرج الأصغر ابن عمرو بن مالك بن الأوس بن حارثة. (فصلى فيه المغرب) أي فرضه. (رآهم يسبحون) أي يصلون نافلة بدليل الرواية الآتية. (بعدها) أي بعد صلاة المغرب. (فقال) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (هذه) أي الصلاة بعد المغرب أو النافلة مطلقاً، والأول أقرب. ويلزم منه أن يكون للصلاة التي بعد المغرب زيادة اختصاص بالبيت فوق اختصاص مطلق النافلة به والله تعالى أعلم، قاله السندي: (صلاة البيوت) أي الأفضل أن يصلى بها في البيوت، لأنها أبعد من الرياء، وأقرب إلى الإخلاص لله تعالى. قال القاري: والظاهر أن هذا إنما هو لمن يريد الرجوع إلى بيته بخلاف المعتكف في المسجد، فإنه يصليها فيه، ولا كراهة بالاتفاق. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً الترمذي والنسائي كما صرح به المصنف فيما بعد، والبيهقي (ج2 ص189) وفي سنده إسحاق بن كعب بن عجرة. قال الذهبي في الميزان: إسحاق بن كعب تابعي مستور، تفرد بحديث سنة المغرب، وهو غريب جداً- انتهى. وقال الحافظ في التقريب: مجهول الحال، قتل يوم الحرة سنة 63. وذكره ابن حبان في الثقات. والحديث قد أعله الترمذي بما تقدم من حديث ابن عمر ثاني أحاديث الفصل الأول فقال: والصحيح ما روي عن ابن عمر قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الركعتين بعد المغرب في بيته، وفيه أن هذا تعليل غير جيد، لأن الحديث الفعلي المؤيد للقولي لا يكون علة له، مع أن له شاهداً بإسناده جيد حسن رواه أحمد في المسند (ج5 ص427) من حديث محمود بن لبيد أخي بنى عبد الأشهل، قال: أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى بنا المغرب في مسجدنا، فلما سلم قال: اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم للسبحة يعني بعد المغرب، ذكره الهيثمي، وقال رجاله ثقات، ورواه أحمد مرة أخرى في الصفحة بعدها، ثم قال ابنه عبد الله قلت لأبي: إن رجلاً قال من صلى ركعتين بعد المغرب في المسجد لم تجزه إلا أن يصليهما في بيته، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن هذه من صلوات البيوت، قال: من هذا؟ قلت: محمد بن عبد الرحمن. (ابن أبي ليلى) ، قال: ما أحسن ما قال، أو ما أحسن ما انتزع- انتهى. قلت: الأمر في حديث محمود بن لبيد هذا محمول على الندب جمعاً بينه وبين الأحاديث التي تدل على صلاته - صلى الله عليه وسلم - بعد المغرب في المسجد كحديث ابن عباس الآتي وغيره مما ذكرنا في شرح حديث ابن عمر. (عليكم بهذه الصلاة في بيوت) إرشاد لما هو الأفضل والأولى.

1190- (25) وعن ابن عباس، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطيل القراءة في الركعتين بعد المغرب، حتى يتفرق أهل المسجد)) . رواه أبوداود. 1191- (26) وعن مكحول يبلغ به، ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: من صلى بعد المغرب قبل أن يتكلم ركعتين)) ـ وفي رواية ـ. ((أربع ركعات)) ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1190- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطيل القراءة في الركعتين بعد المغرب) أي أحياناً لما تقدم في باب القراءة من حديث ابن مسعود أنه كان يقرأ فيهما الكافرون والإخلاص. (حتى يتفرق أهل المسجد) ظاهره أنه كان يصليهما في المسجد، فيحمل على أن فعلهما فيه لعذر منعه من دخول البيت. والأظهر أنه يحمل على بيان الجواز. قال محمد بن نصر: لعله أن يكون قد فعل هذا مرة. وقيل: يحمل على وقت الاعتكاف. وقيل: يحتمل أنه كان يفعلهما في البيت، وإن ابن عباس علم بذلك، لأن بيته - صلى الله عليه وسلم - كان متصلاً بالمسجد، ولم يكن بينهما إلا جدار، وكان في الجداًر باب إلى المسجد. (رواه أبوداود) وسكت نه، وأخرجه أيضاً محمد بن نصر في قيام الليل والبيهقي (ج2 ص190) وفي سنده يعقوب بن عبد الله الأشعري أبوالحسن القمي بضم القاف وتشديد الميم. قال النسائي: ليس به بأس. وقال أبوالقاسم الطبراني: كان ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الدارقطني: ليس بالقوي. مات سنة أربع وسبعين ومائة. كذا في تهذيب التهذيب. وقال في التقريب: صدوق يهم. خرج له البخاري تعليقاً في الطب. وروى الطبراني في الكبير عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بعد المغرب ركعتين يطيل فيهما القراءة حتى يتصدع أهل المسجد، ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص230) ، وقال: فيه يحيى بن عبد الحميد الحماني، وهو ضعيف. 1191- قوله: (وعن مكحول) الشامي الدمشقي أبي عبد الله التابعي المشهور. (يبلغ به) الباء للتعدية أي يبلغ بالحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويرفعه إليه. فالحديث مرسل، لأن مكحولاً تابعي، وأسقط من السند ذكر الواسطة بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وذكره محمد بن نصر في قيام الليل بلفظك عن مكحول أنه بلغه. (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال من صلى بعد المغرب) أي فرضه. (قبل أن يتكلم) أي بكلام الدنيا. (ركعتين) الظاهر أنهما سنة صلاة المغرب البعدية. (وفي رواية أربع ركعات) ركعتان منها سنتها البعدية، وركعتان من سنة وقت الغفلة، فقد روى الطبراني في الكبير عن الأسود بن يزيد، قال قال عبد الله بن مسعود: نعم ساعة الغفلة، يعني الصلاة فيما بين المغرب والعشاء. قال الهيثمي: فيه جابر الجعفي، وفيه كلام كثير، وعن عبد الرحمن بن يزيد قال: ساعة ما أتيت عبد الله بن مسعود فيها إلا وجدته يصلي ما بين المغرب والعشاء، فسألت عبد الله. (عن ذلك)

رفعت صلاته في عليين)) ، مرسلاً. 1192- (27) وعن حذيفة نحوه، وزاد: فكان يقول: ((عجلوا الركعتين بعد المغرب، فإنها ترفعان مع المكتوبة)) . رواهما رزين، ـــــــــــــــــــــــــــــ فقال: إنها ساعة غفلة. قال الهيثمي: وفيه ليث بن أبي سليم، وفيه كلام. وتسمية الصلاة بين العشائين صلاة الغفلة اصطلاح للشافعية سموها في كتبهم أخذاً من قول ابن مسعود. قال القاري: والأولى أن يسمى الصلاة ما بين المغرب والعشاء صلاة الأوابين، فقد روى محمد بن نصر عن محمد بن المنكدر مرسلاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من صلى ما بين المغرب والعشاء فإنها من صلاة الأوابين. وهذا لا يعارض ما روي من قوله - صلى الله عليه وسلم -: صلاة الأوابين حين ترمض الفصال، فإنه لا مانع أن يكون كل من الصلاتين صلاة الأوابين. (رفعت صلاته) أي نافلته أو مع فريضته. (في عليين) كناية عن غاية قبولها. وعظيم ثوابها. وعليون جمع علي اسم لمقام في السماء السابعة، تصعد إليه أعمال الصالحين وأرواحهم. والحديث يدل على استحباب تعجيل الركعتين الراتبتين بعد المغرب. ويدل عليه أيضاً حديث حذيفة الآتي، وهو الذي فهمه محمد بن نصر حيث بوب عليه: باب تعجيل الركعتين بعد المغرب. (مرسلاً) أي يبلغ به حال كون الحديث مرسلاً، لأن مكحولاً تابعي قال ابن حجر: والإرسال هنا لا يضر، لأن المرسل كالضعيف الذي لم يشتد ضعفه، يعمل بهما في فضائل الأعمال- انتهى. 1192- قوله: (وعن حذيفة) أي مروي عنه. (نحوه) أي نحو حديث مكحول بمعناه دون لفظه. (وزاد) أي حذيفة. (فكان يقول) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -: (عجلوا الركعتين بعد المغرب) أي بالمبادرة إليهما. وقيل: بالتخفيف فيهما. وقيل: لا منع من الجمع. والمراد بهما سنته بلا خلاف. (فإنهما ترفعان مع المكتوبة) فإن السنة تابعة للفرض ومكملة له وقت العرض. (رواهما رزين) نقل المنذري في الترغيب حديث مكحول وقال: ذكره رزين ولم أره في الأصول- انتهى. قلت: الحديثان أخرجهما محمد بن نصر في باب تعجيل الركعتين بعد المغرب من كتابه قيام الليل، قال: حدثنا إسحاق أخبرنا بقية حدثني زيد العمى عن أبي العالية عن حذيفة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: عجلوا الركعتين بعد المغرب، فإنهما ترفعان مع المكتوبة، قال محمد بن نصر: هذا حديث ليس بثابت، وقد روي عن حذيفة من طريق آخر خلاف هذا عن حذيفة، قال: كانوا يحبون تأخير الركعتين بعد المغرب حتى كان بعض الناس تفاجئهم الصلاة ولم يصلوهما، فعجلهما الناس، وهذا أيضاً ليس بثابت، قال: وحدثنا محمد بن يحيى أخبرنا أبوصالح حدثني الليث حدثني يحيى بن عبد الله بن سالم بن عبد الله بن عمر عن عمر بن عبد العزيز عن مكحول أنه حدثه أنه بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من صلى بعد المغرب ركعتين قبل أن يتكلم كتبت صلاته في عليين- انتهى. وروى الديلمي في مسند الفردوس عن ابن عباس مرفوعاً: من صلى أربع

وروى البيهقي الزيادة عنه نحوها في شعب الإيمان. 1193- (28) وعن عمر بن عطاء قال: ((إن نافع بن جبير أرسله إلى السائب يسأله عن شيء رآه منه معاوية في الصلاة. فقال: نعم، صليت معه الجمعة في المقصورة، فلما سلم الإمام قمت في مقامي، فصليت، فلما دخل أرسل إليّ، ـــــــــــــــــــــــــــــ ركعات بعد المغرب قبل أن يتكلم رفعت له في عليين، وكان كمن أدرك ليلة القدر في المسجد الأقصى، وهي خير من قيام نصف الليلة. قال العراقي: وفي إسناده جهالة ونكارة، وهو أيضاً من رواية عبد الله بن أبي سعيد، فإن كان الذي يروي الحسن ويروي عنه يزيد بن هارون فقد جهله أبوحاتم، وذكره ابن حبان في الثقات، وإن كان أبا سعيد المقبري فهو ضعيف، قاله الشوكاني. (وروى البيهقي الزيادة) أي المذكورة. (عنه) أي حذيفة. (نحوها) بدل أي روى نحو زيادة رزين عنه. (في شعب الإيمان) فتتقوى بذلك رواية رزين، قاله ابن حجر. قلت: وقد تقدم أنه روى الحديثين محمد بن نصر، وقال: حديث حذيفة غير ثابت، وسكت عن مرسل مكحول. 1193- قوله: (وعن عمر) بضم العين. (بن عطاء) بن أبي الخوار بضم المعجمة وتخفيف الواو المكي مولى بنى عامر تابعي ثقة. ووقع في النسخ الحاضرة عندنا عمرو أي بفتح أوله، وهو غلط. (أن نافع بن جبير) بضم الجيم مصغراً ابن مطعم النوفلي المدني أبومحمد، ويقال أبوعبد الله ثقة فاضل من الطبقة الوسطى من التابعين، مات سنة تسع وتسعين. (أرسله) أي عمر بن عطاء. (إلى السائب) بن يزيد ابن أخت نمر الصحابي رضي الله عنه. (يسأله) أي يسأل عمر بن عطاء السائب. (عن أي شيء رآه) أي ذلك الشيء. (منه) أي من السائب. (فقال) أي السائب. (نعم) قال الطيبي: "نعم" حرف إيجاب وتقرير لما سأله نافع من قوله: هل رآى منك معاوية شيئاً في الصلاة فأنكر عليك، والمذكور معناه (صليت معه) أي مع معاوية. (الجمعة في المقصورة) أي في مقصورة المسجد. قال القاري: موضع معين في الجامع مقصور للسلاطين. قال النووي: فيه دليل على جواز اتخاذها في المسجد إذا رآها ولي الأمر مصلحة، قالوا: وأول من عملها معاوية بن أبي سفيان حين ضربه الخارجي. قال القاضي: واختلفوا في المقصورة، فأجازها كثيرون من السلف وصلوا فيها، منهم الحسن والقاسم بن محمد وسالم وغيرهم، وكرهها ابن عمرو الشعبي وإسحاق وأحمد، وكان ابن عمر إذا حضرت الصلاة، وهو في المقصورة خرج منها إلى المسجد. قال القاضي: وقيل إنما يصح فيها الجمعة إذا كانت مباحة لكل أحد، فإن كانت مخصوصة ببعض الناس ممنوعة عن غيرهم لم تصح فيها الجمعة لخروجها عن الحكم الجامع. (فلما سلم الإمام) أي خرج عن صلاة الجمعة بالسلام. (قمت في مقامي) أي الذي صليت فيه الجمعة. (فصليت) فيه سنة الجمعة. (فلما دخل) أي معاوية بيته. (أرسل إلي) رجلاً

فقال: لا تعد لما فعلت، إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة حتى تكلم أو تخرج، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا بذلك أن لا نوصل بصلاة حتى نتكلم أو نخرج)) . رواه مسلم. 1194- (29) وعن عطاء، قال: ((كان ابن عمر إذا صلى الجمعة بمكة تقدم فصلى ركعتين، ثم يتقدم فيصلي أربعاً. وإذا كان في المدينة صلى الجمعة، ثم رجع إلى بيته فصلى ركعتين، ولم يصل في المسجد. فقيل له، فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ يدعوني فحضرته (فقال لا تعد) من العود. (لما فعلت) من إتيان السنة في مكان فعل الجمعة بلا فصل، أي لا تفعل ذلك مرة أخرى بل. (إذا صليت الجمعة) وفرغت منها. ذكر الجمعة على سبيل المثال، وإلا فالحكم غيرها من الصلاة كذلك كما تقدم. (فلا تصلها) بفتح فكسر وسكون اللام من الوصل أي لا توصلها. (بصلاة) أخرى نافلة أو قضاء. (حتى تكلم) بحذف إحدى التائين أي تتكلم. (أو تخرج) أي من المقام الذي صليت فيه الجمعة. قال القاري: تخرج أي حقيقة أو حكماً بأن تتأخر عن ذلك المكان. (أمرنا بذلك) أي بما تقدم وبيانه. (أن لا نوصل بصلاة) كذا في جميع النسخ الحاضرة. ووقع في صحيح مسلم: أن لا نوصل صلاة بصلاة. وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7 ص30) عن مسلم. وفي أبي داود: أن لا توصل صلاة بصلاة. (حتى نتكلم أو نخرج) فيه دليل على أن النافلة الراتبة وغيرها يستحب أن يتحول لها عن موضع الفريضة إلى موضع آخر، وأفضله التحول إلى بيته، وإلا فموضع آخر من المسجد أو غيره ليكثر مواضع سجوده، ولتنفصل صورة النافلة عن صورة الفريضة. وقوله: "حتى نتكلم" دليل على أن الفصل بينهما يحصل بالكلام أيضاً، ولكن بالانتقال أفضل لما ذكر، قاله النووي. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أبوداود والبيهقي (ج2 ص191، ج3ص240) . 1194- قوله: (عن عطاء) أي ابن أبي رباح. (كان ابن عمر إذا صلى الجمعة بمكة تقدم) أي من مكان صلى فيه، فيكون هذا التقدم بمنزلة الخروج المذكور في حديث معاوية المتقدم. (ثم يتقدم) أي من المكان الذي صلى فيه ركعتي السنة. (فيصلي أربعاً) كذا في جميع النسخ الحاضرة، ثم يتقدم فيصلي، أي بلفظ المضارع، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7 ص29) . وفي سنن أبي داود: ثم تقدم فصلى أي بلفظ الماضي. وفعل ابن عمر هذا يؤيد قول أبي يوسف: أن سنة الجمعة ست، لكنه يقول إن تقديم الأربع أولى. (فصلى ركعتين) أي في بيته. (ولم يصل في المسجد) هذا تصريح بما علم ضمنا. (فقيل له) أي سئل عن سبب ذلك. (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله) يعني وأنا أفعله تبعاً له. وظاهر هذا يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يفرق بين الحرمين، فإذا كان بمكة صلى في المسجد بعد الجمعة ست ركعات، وإذا كان بالمدينة رجع بعد الجمعة إلى بيته ثم صلى فيه ركعتين،

(31) باب صلاة الليل

رواه أبوداود. وفي روية الترمذي، قال: رأيت ابن عمر صلى بعد الجمعة ركعتين، ثم صلى بعد ذلك أربعاً. (31) باب صلاة الليل {الفصل الأول} 1195- (1) عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر ـــــــــــــــــــــــــــــ ولم يصل في المسجد، لكن قال العراقي: ليس في ذلك، أي في حديث ابن عمر هذا علم ولا ظن أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل بمكة ذلك، وإنما أراد ابن عمر رفع فعله بالمدينة فحسب، لأنه لم يصح أنه صلى الجمعة بمكة، قال: والذي صح من فعله هو صلاة ركعتين في بيته بعد الجمعة. قلت: لا شك أن الست لم تثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - بحديث صحيح صريح، نعم ثبتت عن ابن عمر من فعله، وروي عن علي أنه أمر بها. قال الشوكاني: اختلف هل الأفضل فعل سنة الجمعة في البيت أو في المسجد؟ فذهب إلى الأول الشافعي ومالك وأحمد وغيرهم، واستدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: أفضل صلاة المرء في بيته إلا مكتوبة. وأما صلاة ابن عمر في مسجد مكة فقيل لعله كان يريد التأخر في مسجد مكة للطواف بالبيت، فيكره أن يفوته بمضيه إلى منزله لصلاة سنة الجمعة، أو أنه يشق عليه الذهاب إلى منزله ثم الرجوع إلى المسجد للطواف، أو أنه كان يرى النوافل تضاعف بمسجد مكة دون بقية مكة، أو كان له أمر متعلق به- انتهى. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً البيهقي (ج3 ص240- 241) وسكت عنه أبوداود والمنذري. وقال العراقي: إسناده صحيح. (وفي رواية الترمذي) المختصرة. (قال) أي عطاء بن أبي رباح. (ثم صلى بعد ذلك) أي بعدما ذكر من الركعتين. (أربع) أي صلى ست ركعات. وأخرج أبوداود هذه الرواية المختصرة بلفظ: أي عطاء رأى ابن عمر يصلي بعد الجمعة فينماز عن مصلاه الذي صلى فيه الجمعة قليلاً غير كثير قال: فيركع ركعتين، قال: ثم يمشي أنفس من ذلك فيركع أربع ركعات. قلت: لعطاء كم رأيت ابن عمر يصنع ذلك؟ قال مراراً- انتهى. وأخرجه أيضاً الطحاوي، هذا ولم يذكر البغوي ولا المصنف حديثاً ولا أثرا في التطوع والسنة قيل الجمعة. وسيأتي الكلام عليه في شرح حديث سلمان وأبي هريرة من باب التنظيف والتبكير من أبواب الجمعة. (باب صلاة الليل) قال القاري: أي في قيام الليل من التهجد وغيره- انتهى. واعلم أن صلاة الليل وقيام الليل وصلاة التهجد عبارة عن شيء واحد، واسم لصلاة يبتدأ وقتها من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، فلا فرق بين الألفاظ الثلاثة شرعاً. وقيل: صلاة التهجد مختصة بما يكون في آخر الليل بعد النوم. والظاهر هو الأول قال ابن الفارس: المتهجد المصلي ليلاً. وقال كراع: التهجد صلاة الليل خاصة. 1195- قوله: (يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر) هذا بظاهره يشمل ما إذا كان بعد

إحدى عشرة ركعة، يسلم من ركعتين، ويوتر بواحدة، فيسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه، فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر، وتبين له الفجر، ـــــــــــــــــــــــــــــ نوم أم لا. (إحدى عشرة ركعة) أي في غالب أحواله. وقال السندي في حاشية ابن ماجه: قوله إحدى عشرة ركعة وقد جاء ثلاث عشرة ركعة. فيحمل على أن هذا كان أحياناً، أو لعله مبني على عد الركعتين الخفيفتين اللتين يبدأ بهما صلاة الليل من صلاة الليل أحياناً، وتركه أخرى. وعلى كل تقدير فهذه الهيئة لصلاة الليل لا بد من حملها على أنها كانت أحياناً، وإلا فقد جاءت هيئات أخرى في قيام الليل-انتهى. (يسلم من كل ركعتين) فيه أن الأفضل في صلاة الليل أن يسلم من كل ثنتين، ويدل عليه أيضاً قوله: صلاة الليل مثنى مثنى. (ويوتر بواحدة) فيه أن أقل الوتر ركعة وأن الركعة الفردة صلاة صحيحة، وهو مذهب الأئمة الثلاثة، وهو الحق. وقال أبوحنيفة: لا يصح الإيتار بواحدة ولا تكون الركعة الواحدة صلاة قط. قال النووي: والأحاديث الصحيحة ترد عليه. قال الحافظ: حمل الطحاوي هذا ومثله على أن الركعة مضمومة إلى الركعتين قبلها، ولم يتمسك في دعوى ذلك إلا بالنهي عن البتيراء، مع احتمال أن يكون المراد بالبتيراء أن يوتر بواحدة فردة ليس قبلها شيء، وهو أعم من أن يكون مع الوصل أو الفصل- انتهى. قلت: حديث النهي عن البتيراء أخرجه ابن عبد البر في التمهيد، وفيه عثمان بن محمد بن ربيعة، وهو متكلم فيه. قال ابن القطان: الغالب على حديثه الوهم، مع أن قول عائشة: يسلم من كل ركعتين، ظاهر في الفصل فإنه يدخل في الركعتان اللتان قبل الأخيرة، فهو كالنص في موضع النزاع. (فيسجد سجدة من ذلك) الفاء لتفصيل المجمل يعني فيسجد كل واحدة من سجدات تلك الركعات طويلة. (قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية) وفي رواية للبخاري: كان يصلي إحدى عشرة ركعة كانت تلك صلاته تعني بالليل، فيسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ الخ. وهي ظاهرة في أن المراد بيان طول سجود ركعات صلاة الليل، لا قدر سجدة منفردة بعد الوتر، كما فهم النسائي وغيره. وفي رواية أخرى للبخاري: يسجد السجدة من ذلك أي بغير الفاء. قال القسطلاني: الألف واللام لتعريف الجنس. فيشمل سجود لإحدى عشرة، والتاء فيه لا تنافي ذلك. والتقدير يسجد سجدات تلك الركعات طويلة قدر ما، أي بقدر ما، ويصح جعله صفا لمصدر محذوف، أي سجودا قدر ما، أو يمكث مكثا قدر ما. (قبل أن يرفع رأسه) من السجدة أي قبل إتمام السجود، وكان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، كما تقدم في باب الركوع من حديث عائشة، وعنها كان - صلى الله عليه وسلم - يقول في صلاة الليل في سجوده: سبحانك لا إله إلا أنت. رواه أحمد في مسنده بإسناد رجاله ثقات. والحديث فيه دليل على استحباب تطويل السجود في قيام الليل، وقد بوب عليه البخاري باب طول السجود في قيام الليل. (فإذا سكت) بالتاء الفوقية. (المؤذن) أي فرغ. (من صلاة الفجر) أي من أذانها. (وتبين له الفجر) أي ظهر وانتشر. قال الطيبي: يدل على أن التبين لم يكن

قام فركع ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة، فيخرج. متفق عليه. 1196- (2) وعنها، قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى ركعتى الفجر، فإن كنت مستيقظة حدثني ـــــــــــــــــــــــــــــ في الأذان، وإلا لما كان لذكر التبين فائدة. (قام فركع ركعتين) هما سنة الفجر. (خفيفتين) يقرأ فيهما الكافرون والإخلاص ونحوهما. (ثم اضطجع) أي في بيته للاستراحة عن تعب قيام الليل ليصلي فرضه على نشاط، أو ليفصل بين الفرض والنفل بالضجعة. واستدل به على استحباب الاضطجاع بعد ركعتي الفجر في البيت دون المسجد. قال الحافظ: ذهب بعض السلف إلى استحبابها أي الضجعة في البيت دون المسجد، وهو محكي عن ابن عمر، وقواه بعض شيوخنا بأنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فعله في المسجد، وصح عن ابن عمر أنه كان يحصب من يفعله في المسجد. أخرجه ابن أبي شيبة- انتهى. قال شيخنا في شرح الترمذي: حديث أبي هريرة يعني الذي يأتي في آخر الفصل الثاني بلفظ: إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على يمينه مطلق، فبإطلاقه يثبت استحباب الاضطجاع في البيت وفي المسجد، فحيث يصلي سنة الفجر يضطجع هناك، إن صلى في البيت فيضطجع في البيت، وإن صلى في المسجد ففي المسجد، وإنما لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فعله في المسجد، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي سنة الفجر في البيت فكان يضطجع في البيت- انتهى. (على شقه) أي جنبه (الأيمن) جرياً على عادته الشريفة في حبه التيامن في شأنه كله أو للتشريع، لأن النوم على الأيسر يستلزم استغراق النوم في غيره عليه السلام بخلافه هو، لأن عينه تنام ولا ينام قلبه، فعلى الأيمن أسرع للإنتباه بالنسبة لنا، وهو نوم الصالحين. قال القسطلاني: لا يقال حكمته أن لا يستغرق في النوم، لأن القلب في اليسار، ففي النوم عليه راحة له فيستغرق فيه، لأنا نقول: صح أنه عليه الصلاة والسلام كان تنام عينه ولا ينام قلبه، نعم يجوز أن يكون فعله لإرشاد أمته وتعليمهم. (حتى يأتي المؤذن للإقامة) أي يستأذنه فيها لأنها منوطة بنظر الإمام. (فيخرج) أي للصلاة. (متفق عليه) واللفظ لمسلم إلا قوله: فيسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه، فإن البخاري إنفرد به، وإلا قوله: يسلم من كل ركعتين، فإن لفظ مسلم يسلم بين كل ركعتين، وإلا قوله: فيخرج فإنه ليس في صحيح مسلم بل ولا في البخاري أيضاً، وبهذا تعلم أن السياق الذي ذكره المصنف تبعاً للبغوي ليس للبخاري ولا لمسلم، ثم رأيت المرقاة قال فيه متفق عليه أي بمجموع الحديث وإن لم يكن بهذا السياق في حديث واحد، كذا نقله ميرك عن التصحيح والحديث أخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج2 ص7، 32) . 1196- قوله: (إذا صلى ركعتي الفجر) أي سنته. (فإن كنت مستيقظة حدثني) قال الطيبي: الشرط مع الجزاء جزاء الشرط الأول، ويجوز أن يكون جزاء الشرط الأول محذوفاً، والفاء تفصيلية، والمعنى إذا

وإلا اضطجع)) . رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ صلاهما أتاني، فإن كنت مستيقظة حدثني ولا تضاد بين هذا وبين ما في سنن أبي داود من طريق مالك عن سالم بن أبي النضر عن أبي سلمة عن عائشة أن كلامه عليه الصلاة والسلام لها كان بعد فراغه من صلاة الليل، وقبل أن يصلي ركعتي الفجر، لاحتمال أن يكون كلامه لها كان قبل ركعتي الفجر وبعدهما. (وإلا) أي وإن لم أكن مستيقظة. (اضطجع) للراحة من تعب القيام أو ليفصل بين الفرض والنفل بالحديث أو الاضطجاع. وظاهره أنه كان يضطجع إذا لم يحدثها، وإذا حدثها لم يضطجع، وإلى هذا جنح البخاري، كما سيأتي. وكذا جنح إليه ابن خزيمة حيث ترجم له الرخصة في ترك الاضطجاع بعد ركعتي الفجر. واستدل به بعضهم على عدم استحباب الضجعة بعد ركعتي الفجر. وأجيب بأنه لا يلزم من كونه ربما تركها عدم الاستحباب، بل يدل تركه لها أحياناً على عدم الوجوب، وأن الأمر بها في حديث أبي هريرة المذكور محمول على الندب والإرشاد، وقد بوب البخاري على حديث عائشة هذا الباب: من تحدث بعد ركعتي الفجر ولم يضطجع. قال الحافظ: أشار بهذه الترجمة إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يداوم عليها. وبذلك احتج الأئمة على عدم الوجوب، وحملوا الأمر الوارد بذلك في حديث أبي هريرة على الاستحباب. وفائدة ذلك الراحة والنشاط لصلاة الصبح. وعلى هذا فلا يستحب ذلك إلا للمتهجد. وبه جزم ابن العربي. وقيل: إن فائدتها الفصل بين ركعتي الفجر وصلاة الصبح. وعلى هذا فلا اختصاص- انتهى. ويدل على عدم الاختصاص حديث أبي هريرة، فإنه مطلق يشمل المتهجد وغيره. فالحق أن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر مشروع ومستحب مطلقاً. وسيأتي مزيد بحث فيه في شرح حديث أبي هريرة. قال النووي: وفيه أي في تحديثه - صلى الله عليه وسلم - لعائشة بعد ركعتي الفجر دليل على إباحة الكلام بعد سنة الفجر وهو مذهبنا ومذهب مالك والجمهور. وقال القاضي: وكره الكوفيون. وروى عن ابن مسعود وبعض السلف: إنه وقت الاستغفار، والصواب الإباحة لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكونه وقت استحباب الاستغفار لا يمنع من الكلام- انتهى. وقال القسطلاني: وفيه أنه لا بأس بالكلام المباح بعد ركعتي الفجر. قال ابن العربي: ليس في السكوت في ذلك الوقت فضل مأثور، إنما ذلك بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس-انتهى. قلت: أثر ابن مسعود رواه الطبراني في الكبير عن عطاء عنه، وكذا روي عن أبي عبيدة عنه، هو منقطع، لأن عطاء وأبا عبيدة لم يسمعا من ابن مسعود، وإن صح فيحمل على أن القوم المتحدثين الذين أنكر عليهم ابن مسعود لعلهم كانوا يتكلمون بما لا يجدي نفعاً، فنهاهم عن ذلك. والسكوت عن مثل هذا ليس بمختص بهذا الوقت، وإن لم يحتمل على هذا فالتحديث بالكلام المباح ثابت من الشارع. وكلام الصحابي لا يوازن كلام الشارع. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والبيهقي (ج3 ص45) والبخاري ولفظه عن عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى. وفي رواية: كان يصلي ركعتين، فإن كنت مستيقظة حدثني وإلا اضطجع حتى يؤذن بالصلاة- انتهى. فكان ينبغي للمصنف أن يقول: متفق عليه، واللفظ لمسلم.

1197- (3) وعنها قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1197- قوله: (إذا صلى ركعتي الفجر) أي سنته. (اضطجع) أي حتى يأتيه المؤذن فإذا أتي خرج إلى الصلاة. (على شقه الأيمن) لأنه كان يحب التيامن في شأنه كله أو تشريع لنا، لأن القلب في جهة اليسار، فلو اضطجع عليه لاستغراق نوماً لكونه أبلغ في الراحة بخلاف اليمين فيكون معلقاً فلا يستغرق. وهذا بخلافه - صلى الله عليه وسلم -: لأن عينه تنام ولا ينام قلبه. وفيه كالحديثين المتقدمين دليل على استحباب الاضطجاع بعد ركعتي الفجر. وقد ورد فيه أحاديث أخرى: قال ابن حجر: ومن هذه الأحاديث أخذ الشافعي أنه يندب لكل أحد المتهجد وغيره أن يفصل بين سنة الصبح وفرضه بضجعة على شقه الأيمن، ولا يترك الاضطجاع ما أمكنه، بل في حديث صحيح على شرطهما أنه عليه السلام أمر بذلك وأن المشي إلى المسجد لا يجزىء عنه- انتهى. ويشير بذلك إلى ما روى أبوداود عن أبي هريرة مرفوعاً: إذا صلى أحدكم الركعتين قبل الصبح فليضطجع على يمينه، فقال له مروان بن الحكم: أما يجزي أحدنا ممشاه إلى المسجد حتى يضطجع على يمينه؟ قال: لا- انتهى. ولذلك استحب البغوي في شرح السنة الاضطجاع بخصوصه، واختاره في شرح المهذب. قال الحافظ: وأما إنكار ابن مسعود الاضطجاع، وقول إبراهيم النخعي: هي ضجعة الشيطان، كما أخرجه ابن أبي شيبة، فهو محمول على أنه لم يبلغهما الأمر بفعله. وكلام ابن مسعود يدل على أنه إنما أنكر تحتمه، فإنه قال في آخر كلامه إذا سلم فقد فصل. وكذا ما حكي عن ابن عمر أنه بدعة، فإنه شذ بذلك حتى روى عنه أنه أمر بحصيب من اضطجع. وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن أنه كان لا يعجبه الاضطجاع. وأرجح الأقوال مشروعيته للفصل لكنه بعينه- انتهى. وقال السندي: قد جاء الأمر بهذا الاضطجاع فهو أحسن وأولى. وما ورد من إنكاره عن بعض الفقهاء لا وجه له أصلاً، ولعلهم ما بلغهم الحديث، وإلا فما وجه إنكارهم- انتهى. (متفق عليه) لم أجد هذا الحديث بهذا السياق في صحيح مسلم. وقد أخرجه أيضاً أحمد وابن ماجه والبيهقي. واعلم أنه اختلفت أحاديث عائشة في ذكر محل الاضطجاع ففي أحاديثها الثلاثة المتقدمة أن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر. وروى مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة الاضطجاع قبلهما. وكذا في حديث ابن عباس الآتي الاضطجاع بعد صلاة الليل، وقبل ركعتي الفجر. وقد أشار القاضي عياض وغيره إلى أن رواية الاضطجاع بعدهما مرجوحة، فتقدم رواية الاضطجاع قبلهما. قال الشوكاني: لا نسلم أرجحية رواية الاضطجاع بعد صلاة الليل، وقبل ركعتي الفجر على رواية الاضطجاع بعدهما، بل رواية الاضطجاع بعدهما أرجح. والحديث من رواية عروة عن عائشة. ورواه عن عروة محمد بن عبد الرحمن يتيم عروة والزهري، ففي رواية محمد بن عبد الرحمن إثبات الاضطجاع بعد ركعتي الفجر، وهي في صحيح البخاري، ولم تختلف الرواية عنه في ذلك، واختلف الرواة عن الزهري، فقال مالك في أكثر الروايات عنه: إنه كان إذا فرغ من صلاة

1198- (4) وعنها، قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، منها الوتر، وركعتا الفجر)) . رواه مسلم. 1199- (5) وعن مسروق، قال: ـــــــــــــــــــــــــــــ الليل اضطجع على شقه الأيمن- الحديث، ولم يذكر الاضطجاع بعد ركعتي الفجر. وقال معمر ويونس وعمرو بن الحارث والأوزاعي وابن أبي ذئب وشعيب بن أبي حمزة عن الزهري عن عروة عن عائشة: كان إذا طلع الفجر صلى ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع على شقه الأيمن. وهذه الرواية اتفق عليها الشيخان، فرواها البخاري من رواية معمر، ومسلم من رواية يونس بن يزيد وعمرو بن الحارث. قال البيهقي (ج3 ص44) عقب ذكرهما: والعدد أولى بالحفظ من الواحد، قال وقد يحتمل أن يكونا محفوظين، فنقل مالك أحدهما ونقل الباقون الآخر، قال وقد اختلف فيه أيضاً على ابن عباس، قال: وقد يحتمل مثل ما احتمل في رواية مالك. وقال النووي: إن حديث عائشة وحديث ابن عباس لا يخالفان حديث أبي هريرة، فإنه لا يلزم من الاضطجاع قبلهما أن لا يضطجع بعدهما، ولعله - صلى الله عليه وسلم - ترك الاضطجاع بعدهما في بعض الأوقات بيانا للجواز، ويحتمل أن يكون المراد بالاضطجاع قبلهما نومه - صلى الله عليه وسلم - بين صلاة الليل وصلاة الفجر، كما ذكره الحافظ- انتهى كلام الشوكاني. 1198- قوله: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل) أي في الليل. (ثلاث عشرة) بالبناء على الفتح وسكون شين عشرة، كما أجازه الفراء. (ركعة) يسلم من كل ركعتين، كما تقدم. (منها) أي من ثلاث عشرة. (الوتر) أي ركعة. (وركعتا الفجر) أي سنته وهذا لفظ البخاري من طريق حنظلة عن القاسم بن محمد عن عائشة. وفي رواية مسلم من هذا الوجه: كانت صلاته من الليل عشر ركعات، ويوتر بسجدة، ويركع ركعتي الفجر، فتلك ثلاث عشرة. وهذا كان غالب عادته - صلى الله عليه وسلم -، فقد روى البخاري من رواية أبي سلمة عنها ما يدل على أن ذلك كان أكثر ما يصليه في الليل. ولفظه: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة- الحديث قال ابن الملك: وإنما ألحق الوتر ركعتي الفجر بالتهجد، لأن الظاهر أنه عليه السلام كان يصلي الوتر آخر الليل ويبقى مستيقظاً إلى الفجر، ويصلي الركعتين أي سنة الفجر متصلاً بتهجده ووتره. (رواه مسلم) قلت: بل متفق عليه، واللفظ للبخاري. ففي قوله: رواه مسلم، نظر ظاهر. وأخرجه أيضاً البيهقي (ج3 ص6، 7) . 1199- قوله: (عن مسروق) هو ابن الأجدع بن مالك الهمداني الوداعي أبوعائشة الكوفي، ثقة فقيه عابد مخضرم من كبار التابعين. قال الشعبي: ما رأيت أطلب للعلم منه، وكان أعلم بالفتوى من شريح، وكان شريح يستشيره، وكان مسروق لا يحتاج إلى شريح. وقال علي بن المديني: ما أقدم على مسروق من أصحاب عبد الله أحداً، صلى خلف أبي بكر، ولقي عمر وعلياً، ولم يرو عن عثمان شيئاً، مات بالكوفة سنة

سألت عائشة عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالليل، فقالت: سبع، وتسع، وإحدى عشرة ركعة، سوى ركعتي الفجر)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثلاث وستين، وله ثلاث وستون سنة. قال السمعاني: سمي مسروقاً، لأنه سرق إنسان في صغره. ثم وجد، وغير عمر اسم أبيه إلى عبد الرحمن. فأثبت في الديوان مسروق بن عبد الرحمن مكان أجدع. وقال في تهذيب التهذيب (ج10 ص110) : قال مجالد عن الشعبي عن مسروق قال لي عمر: ما اسمك؟ قلت: مسروق بن الأجدع قال: الأجدع شيطان أنت مسروق بن عبد الرحمن- انتهى. (سألت عائشة عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي عن عدد صلاته. (فقالت) تارة. (سبع و) تارة. (تسع و) أخرى. (إحدى عشرة) أي كل مع الوتر. ووقع ذلك منه في أوقات مختلفة بحسب اتساع الوقت وضيقه أو عذر من مرض أو غيره أو كبر سنه. وفي النسائي عنها: أنه كان يصلي من الليل تسعاً، فلما أسن صلى سبعاً. قال الحافظ: أما ما أجابت به عائشة مسروقاً فمرادها أن ذلك وقع منه في أوقات مختلفة، فتارة كان يصلي سبعاً وتارة تسعاً وتارة إحدى عشرة. وأما حديث القاسم عنها فمحمول على أن ذلك كان غالب حاله- انتهى. (ركعة) كذا وقع في جميع النسخ، وكذا وقع في جامع الأصول (ج6 ص63) تمييز لإحدى عشرة. وفي البخاري: إحدى عشرة أي بدون لفظ ركعة. (سوى ركعتي الفجر) فالمجموع ثلاث عشرة ركعة. وأما ما رواه الزهري عن عروة عنها عند البخاري في باب ما يقرأ في ركعتي الفجر بلفظ: كان يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة، ثم يصلي إذا سمع النداء للصبح ركعتين خفيفتين الخ. وظاهره يخالف ما ذكر، فأجيب باحتمال أن يكون أضافت إلى صلاة الليل سنة العشاء لكونه كان يصليها في بيته، أو ما كان يفتتح به صلاة الليل، كما سيأتي. قال الحافظ: وهذا أرجح في نظري، لأن رواية أبي سلمة التي دلت على الحصر في إحدى عشرة جاء في صفتها عند البخاري وغيره: يصلي أربعاً ثم يصلي أربعاً ثم يصلي ثلاثاً، فدل على أنها لم تعرض للركعتين الخفيفتين، وتعرضت لهما في رواية الزهري، والزيادة من الحافظ مقبولة، وسيأتي في باب الوتر حديث عبد الله بن أبي قيس عن عائشة بلفظ: كان يوتر بأربع وثلاث، وست وثلاث، وثمان وثلاث، وعشر وثلاث، ولم يكن يوتر بأنقص من سبع ولا بأكثر من ثلاث عشرة. قال الحافظ: وهذا أصح ما وقفت عليه من ذلك، وبه يجتمع بين ما اختلف عن عائشة من ذلك، والله أعلم. قال القرطبي: أشكلت روايات عائشة على كثير من أهل العلم حتى نسب بعضهم حديثها إلى الاضطراب، وهذا إنما يتم لو كان الراوي عنها واحداً أو أخبرت عن وقت واحد. والصواب أن كل شيء ذكرته من ذلك محمول على أوقات متعددة وأحوال مختلفة بحسب النشاط وبيان الجواز- انتهى. وقال النووي: نقلاً عن القاضي عياض بعد ذكر رواياتها المختلفة في ذلك يحتمل أن إخبارها بإحدى عشرة هو الأغلب،

رواه البخاري. 1200- (6) وعن عائشة، قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل ليصلي افتتح صلاته بركعتين خفيفتين)) . رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ وباقي رواياتها إخبار عنها بما كان يقع نادراً في بعض الأوقات، فأكثر خمس عشرة بركعتي الفجر، وأقله سبع، وذلك بحسب ما كان يحصل من اتساع الوقت أو ضيقه بطول قرأة أو لنوم أو عذر مرض وغيره، أو في بعض الأوقات عند كبر السن كما قالت: فلما أسن صلى سبع ركعات، أو تارة تعد الركعتين الخفيفتين في أول قيام الليل وتعد ركعتي الفجر تارة وتحذفهما تارة، أو تعد أحدهما، وقد تكون عدت راتبة العشاء مع ذلك تارة، وحذفتها تارة. قال القاضي: ولا خلاف أنه ليس لذلك حد لا يزاد عليه ولا ينقص منه، وأن صلاة الليل من الطاعات التي كلما زاد فيها زاد الأجر، وإنما الخلاف في فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما اختاره لنفسه- انتهى. وقال الباجي بعد ذكر رواية عائشة أنه كان يصلي ثلاث عشرة ركعة غير ركعتي الفجر، وروايتها أنه كان لا يزيد على إحدى عشرة ركعة ما لفظه: ورواية عائشة في ذلك تحتمل وجهين: أحدهما أنه كان - صلى الله عليه وسلم - تختلف صلاته بالليل، لأنه لا حد صلاة الليل، فمرة كانت تخبر بما شاهدت منه في وقت ما، ومرة تخبر بما شاهدت منه - صلى الله عليه وسلم - في غيره، وإنما قالت: إنه - صلى الله عليه وسلم - لا يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة، تريد صلاته المعتادة الغالبة وإن كان ربما يزيد في بعض الأوقات على ذلك، فقصدت في تلك الرواية الإخبار عن غالب صلاته - صلى الله عليه وسلم -، وذكرت في هذه الرواية أكثر ما كان تنتهي إليه صلاته - صلى الله عليه وسلم - في الأغلب. والوجه الثاني أن تكون رضي الله عنها تقصد في بعض الأوقات الإخبار عن جميع صلاته في ليلة، وتقصد في وقت ثان إلى ذكر نوع من صلاته في الليل. وجميع صلاته النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل في رواية عائشة خمس عشرة مع الركعتين الخفيفتين وركعتي الفجر، فعائشة كانت تخبر بالأمر على وجوه شتى، ولعله أن يكون ذلك على قدر أسباب السؤال- انتهى. (رواه البخاري) في باب كيف كان صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - من أبواب التهجد. 1200- قوله: (إذا قام من الليل ليصلي) أي التهجد. (افتتح صلاته بركعتين خفيفتين) قال الطيبي: ليحصل بهما نشاط الصلاة ويعتاد بهما، ثم يزيد عليهما بعد ذلك- انتهى. وفي حديث أبي هريرة الآتي الأمر بذلك. وهذا دليل على استحباب افتتاح صلاة الليل بركعتين خفيفتين لينشط بهما لما بعدهما. والظاهر أن الركعتين من جملة التهجد، وقد تقدم أن هاتين الركعتين هما اللتان إذا ضمتهما عائشة قالت في حكايتها لصلاته - صلى الله عليه وسلم - بالليل: إنها ثلاث عشرة، وإذا لم تضمهما قالت إحدى عشرة. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والبيهقي (ج3ص5، 6) .

1201- (7) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قام أحدكم من الليل، فليفتتح الصلاة بركعتين خفيفتين)) . رواه مسلم. 1202- (8) وعن ابن عباس، قال: ((بت عند خالتي ميمونة ليلة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - عندها، فتحدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أهله ساعة، ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر أو بعضه قعد، فنظر إلى السماء فقرأ: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ـــــــــــــــــــــــــــــ 1201- قوله: (فليفتتح) من الافتتاح أي فليبدأ. وفي بعض النسخ: فليفتح أي من الفتح. والأول هو الصواب، لأنه موافق لما في المصابيح وصحيح مسلم، وكذا نقله المجد ابن تيمية في المنتقى، والجزري في جامع الأصول (ج7 ص72) وكذا وقع عند البيهقي (ج3 ص6) . (الصلاة) كذا وقع في جميع النسخ، وهكذا نقله الجزري. وفي المصابيح وصحيح مسلم والمنتقى صلاته أي بالإضافة إلى الضمير. (بركعتين خفيفتين) زاد أبوداود في رواية: ثم ليطول بعد ما شاء. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والبيهقي (ج3 ص6) . 1202- قوله: (بت) بكسر الباء وتشديد التاء على صيغة المتكلم من البيتوتة. (عند خالتي ميمونة) بنت الحارث أم المؤمنين زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -. (والنبي - صلى الله عليه وسلم - عندها) أي في نوبتها. (فتحدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أهله ساعة) فيه جواز الكلام المباح مصلحة بعد العشاء، وإذا جاز في المباح ففي المستحب كالموعظة والعلم من طريق الأولى. (ثم رقد) أي نام. وفي رواية: فاضطجعت في عرض الوسادة أي المخدة أو الفراش، واضطجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهله في طولها. (فلما كان) أي بقي فكان تامة. (ثلث الليل الآخر) بالرفع على أنه صفة ثلاث أي جميعه. (أو بعضه) أي بعض الثلث أي أقل منه. (قعد) أي فمسح النوم عن وجهه بيده. وفي رواية: فنام حتى انتصف الليل أو قريباً منه، فاستيقظ وهذه الرواية، كما ترى، مخالفة لرواية الكتاب. قال الحافظ: يجمع بينهما بأن الاستيقاظ وقع مرتين: ففي الأولى نظر إلى السماء، ثم تلا الآيات، ثم عاد لمضجعه فنام. وفي الثانية أعاد ذلك ثم توضأ وصلى، وقد بين ذلك محمد بن الوليد عن كريب عن ابن عباس عند محمد بن نصر. وفي رواية في الصحيحين: فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الليل، فأتى حاجته ثم غسل وجهه ويديه، ثم نام ثم قام فأتى قربة- الحديث. وفي رواية لمسلم: ثم قام قومه أخرى. (فنظر إلى السماء) يتفكر في عجائب الملكوت. (فقرأ إن في خلق السماوات والأرض) أي في خلقتهما من ارتفاع السماوات واتساعها وانخفاض الأرض وكثافتها واتضاعها، أو في الخلق الكائن فيهما من الكواكب المختلفة وغيرها في السماوات والبحار والجبال والقفار والأشجار والأنهار والزروع

لآيات لأولي الألباب} . حتى ختم السورة، ثم قام إلى القربة فأطلق شناقها، ثم صب في الجفنة، ثم توضأ وضوء حسناً بين الوضوئين، لم يكثر وقد أبلغ، فقام فصلى، فقمت وتوضأت، ـــــــــــــــــــــــــــــ والثمار والحيوان والمعادن وغيرها من العجائب في الأرض. (واختلاف الليل والنهار) أي في تعاقبهما، أو طولاً وقصراً أو ظلمة ونوراً وحراً وبرداً (لآيات لأولى الألباب) أي دلالات واضحات على وجود الصانع ووحدته وعلمه وكمال قدرته لذوي العقول الخالصة الصافية، الذين يفتحون بصائرهم للنظر والاستدلال والاعتبار، لا ينظرون إليها نظر البهائم، غافلين عما فيها من عجائب مخلوقاته وغرائب مبدعاته، وقد ورد ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها. رواه ابن مردويه وابن حبان في صحيحه. (حتى ختم السورة) فإن فيها لطائف عظيمة وعوارف جسيمة لمن تأمل في مبانيها وظهر له بعض معانيها. قال الباجي: يحتمل أن يفعل ذلك ليبتدئ يقظته بذكر الله كما ختمها بذكره عند نومه، ويحتمل أنه فعل ذلك ليتذكر ما ندب إليه من العبادة، وما وعد على ذلك من الثواب، فإن هذه الآية جامعة لكثير من ذلك، فيكون ذلك تنشيطاً له على العبادة- انتهى. (ثم قام) أي قصد. (إلى القربة) بكسر القاف وسكون الراء وفي رواية: إلى شن معلق بفتح الشين المعجمة وتشديد النون، وهي القربة الخلقة الصغيرة من أدم. (فأطلق) أي حل. (شناقها) بكسر المعجمة وتخفيف النون ثم قاف، خيطها الذي يشد به فمها أو السير الذي تعلق به القربة. قال في الفتح: هو رباط القربة يشد عنقها فشبه بما يشنق به. وقيل: هو ما تعلق به، ورجح أبوعبيد الأول. (ثم صب) أي أراق الماء منها. (في الجفنة) بفتح الجيم وسكون الفاء ثم نون، القصعة الكبيرة. واستعمال "ثم" للترتيب والتراخي في الذكر أو للإشارة إلى أن أفعاله - صلى الله عليه وسلم - كانت واقعة بالتؤدة والوقار من غير استعجال. (ثم توضأ) أي من الجفنة. (وضوء حسناً بين الوضوئين) أي من غير إسراف ولا تقتير. وقيل: أي توضأ مرتين مرتين. (لم يكثر) أي صب الماء. قال القاري: هو بيان للوضوء الحسن، وهو إيماء إلى عدم الإفراط. (وقد أبلغ) أي أوصل الماء إلى ما يجب إيصاله إليه إشارة إلى عدم التفريط. وقال الحافظ: قد فسر قوله: وضوء بين وضوئين بقوله: لم يكثر وقد أبلغ، وهو يحتمل أن يكون قلل من الماء مع التثليث، أو اقتصر على دون الثلث في الغسل. وفي رواية لمسلم: فأسبغ الوضوء ولم يمس من الماء إلا قليلاً. والحاصل أنه أتى بمندوبات الوضوء مع التخفيف الماء. وبذلك يجمع بين ما وقع في رواية: فأسبغ الوضوء، وبين قوله في رواية: فتوضأ وضوءاً خفيفاً. (فقام فصلى) أي فشرع في الصلاة. (فقمت) أي من مضجعي وقصدت إلى القربة. (وتوضأت) أي نحو مما توضأ، كما في رواية للبخاري. وفي رواية: فقمت فصنعت مثل ما صنع، وهو محمول على الأغلب. ولا يلزم من إطلاق المثلية المساواة من كل جهة، فيحمل

فقمت عن يساره، فأخذ بأذني فأدارني عن يمينه، فتتامت صلاته ثلاث عشرة ركعة، ثم اضطجع فنام حتى نفخ، وكان إذا نام نفخ، ـــــــــــــــــــــــــــــ على الوضوء فقط، ويحتمل أنه صنع جميع ما ذكر من النظر والقول والوضوء والسواك وغير ذلك. (فقمت) أي للصلاة في إقتدائه. (عن يساره) لعدم العلم. (فأخذ بأذني) بالضم وبضمتين. وفي رواية: فوضع يده اليمنى على رأسي، وأخذ بأذني يفتلها. قال ابن حجر: وضعها أولاً ليتمكن من مسك الأذن، أو لأنها لم تقع إلا عليه، أو لينزل بركتها به ليعي جميع أفعاله عليه السلام في ذلك المجلس وغيره، قال: وفتلها إما لينبهه على مخالفة السنة أو ليزداد تيقظه لحفظ تلك الأفعال، أو ليزيل ما عنده من النعاس، لرواية مسلم: فجعلت إذا أغفيت أخذ بشحمة أذني. وفي هذا رد على من زعم أن أخذ الأذن إنما كان في حالة إدارته له من اليسار إلى اليمين متمسكاً بقوله: فأخذ بأذني فأدارني عن يمينه، وهو لفظ البخاري في الدعوات، لكن لا يلزم من إدارته على هذه الصفة أن لا يعود إلى مسك أذنه لتأنيسه وإيقاظه. فالحق أنه أخذ بأذنه أولاً لإدارته من اليسار إلى اليمين، ثم أخذ بها أيضاً لتأنيسه لكون ذلك في ظلمة الليل أو لإيقاظه أو لإظهار محبته، لأن حاله كانت تقتضي ذلك لصغر سنه. (فأدارني عن يمينه) قال ابن الملك: "عن" هنا بمعنى الجانب أي أدارني عن جانب يساره إلى جانب يمينه. (فتتامت) بمثناتين وتشديد الميم. قال الطيبي: أي صارت تامة تفاعل من تم، وهو لا يجيء إلا لازماً- انتهى. أي تكاملت، وهي رواية شعبة عن كريب عند مسلم (صلاته ثلاث عشرة ركعة) أي مع ركعة الوتر، يسلم من كل ركعتين، ففي رواية للشيخين: ثم صلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين، ثم أوتر، ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن، فقام فصلى ركعتين، ثم خرج فصلى الصبح. قال الحافظ: ظاهره أنه فصل بين كل ركعتين. ووقع التصريح بذلك في رواية طلحة بن نافع عند ابن خزيمة حيث قال فيها: يسلم من كل ركعتين. ولمسلم من رواية علي بن عبد الله بن عباس التصريح بالفصل أيضاً، وأنه استاك بين كل ركعتين إلى غير ذلك، كما سيأتي. ومقتضى التصريح بذكر الركعتين ست مرات، وقوله بعد ذلك ثم أوتر أنه صلى في هذه الليلة ثلاث عشرة ركعة مع الوتر، كما وقع التصريح بذلك في رواية الكتاب. وظاهره أنه أوتر بركعة واحدة مفصولة، لأنه إذا صلى ركعتين ركعتين ست مرات مع الفصل بين كل ركعتين صارت الجملة اثنتى عشرة ركعة غير ركعة الوتر، وكانت جميع صلاته - صلى الله عليه وسلم - ثلاث عشرة ركعة، فلم يبق الوتر إلا ركعة واحدة. وأما رواية مسلم الآتية بلفظ: ثم أوتر بثلاث ففي كونها محفوظة الكلام. ولعل ذلك من حبيب بن أبي ثابت الراوي عن علي بن عبد الله بن عباس، فإن فيه مقالاً، وقد اختلف عليه في إسناده ومتنه اختلافاً. (ثم اضطجع فنام حتى نفخ) أي تنفس بصوت حتى يسمع منه صوت النفخ بالفم كما يسمع من النائم. (وكان إذا نام نفخ) وفي رواية مسلم: ثم نام حتى نفخ، وكنا

فآذنه بلال بالصلاة، فصلى، ولم يتوضأ. ـــــــــــــــــــــــــــــ نعرفه إذا نام بنفخه (فآذنه) بالمد أي أعلمه. (بالصلاة) أي بصلاة الصبح. (فصلى) أي ركعتي الفجر ثم خرج إلى المسجد فصلى الصبح بالجماعة. (ولم يتوضأ) قيل: إنما لم يتوضأ وقد نام حتى نفخ، لأن النوم لا ينقض الطهر بنفسه، بل لأنه مظنة خروج الخارج. ولما كان قلبه عليه السلام يقظان لا ينام، ولم يكن نومه مظنة في حقه فلا يؤثر. ولعله أحس بتيقيظ قلبه بقاء طهوره. وهذا من خصائصه عليه السلام. قال الطيبي: فيقظة قلبه تمنعه من الحدث، وما منع النوم إلا ليعي الوحي إذا أوحي إليه في منامه، فالوضوء الأول إما لنقض آخر أو لتجديد وتنشيط. واعلم أن قوله: فتتامت صلاته ثلاث عشرة ركعة الخ يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى تلك الليلة ثلاث عشرة ركعة غير ركعتي الفجر، وهي رواية الثوري عن سلمة بن كهيل عن كريب عن ابن عباس عند البخاري في الدعوات، وأخرجها أيضاً مسلم. وقد اختلف على كريب أصحابه في بيان العدد، لكن اتفق أكثرهم على أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى تلك الليلة ثلاث عشرة ركعة وركعتي الفجر. وفي رواية شريك بن أبي النمر عنه عند البخاري في التفسير: فصلى إحدى عشرة ركعة، ثم أذن بلال فصلى ركعتين. ونحوه في رواية الضحاك بن عثمان عن مخرمة عن كريب عند مسلم، فخالف شريك الأكثر، وروايتهم مقدمة على روايته لما معهم من الزيادة، ولكونهم أحفظ منه. وحمل بعضهم الزيادة على سنة العشاء، ولا يخفي بُعده لاسيما مع رواية الكتاب هذا. وقد ورد عن ابن عباس في حكاية صلاته - صلى الله عليه وسلم - بالليل الذي بات فيه عنده أحاديث كثيرة بروايات مختلفة رواها عنه علي بن عبد الله بن عباس وعطاء وأبوجمرة وسعيد بن جبير ويحيى بن الجزاز وغيرهم. قال الحافظ بعد ذكر الاختلاف في رواية كريب، وفي رواية سعيد بن جبير ما لفظه: وأكثر الرواة عنه لم يذكروا عدداً، ومن ذكر العدد منهم لم يزد على ثلاث عشرة، ولم ينقص عن إحدى عشرة، إلا أن في رواية علي بن عبد الله بن عباس عند مسلم ما يخالفه، فإن فيه فصلى ركعتين أطال فيهما، ثم انصرف فنام حتى نفخ، ففعل ذلك ثلاث مرات بست ركعات، كل ذلك يستاك ويتوضأ ويقرأ هؤلاء الآيات، يعني آخر آل عمران ثم أوتر بثلاث، فأذن المؤذن فخرج إلى الصلاة- انتهى. فزاد على الرواية تكرار الوضوء وما معه ونقص عنه ركعتين أو أربعاً. ولم يذكر ركعتي الفجر أيضاً، وأظن ذلك من الراوي عنه حبيب بن أبي ثابت، فإن فيه مقالاً، وقد اختلف عليه فيه في إسناده ومتنه اختلافاً، ويحتمل أنه لم يذكر الأربع الأول. وأما سنة الفجر فقد ثبت ذكرها في طريق أخرى عن على بن عبد الله بن عباس عند أبي داود. والحاصل أن قصة مبيت ابن عباس يغلب على الظن عدم تعددها، فلهذا ينبغي الاعتناء بالجمع بين مختلف الروايات، ولا شك أن الأخذ بما اتفق عليه الأكثر والأحفظ أولى مما خالفهم فيه من هو دونهم، ولاسيما إن زاد أو نقص. والمحقق من عدد صلاته تلك الليلة إحدى عشرة. وأما رواية ثلاث عشرة فيحتمل أن يكون منها ست العشاء- انتهى. ويعكر على هذا الجمع رواية الثوري

وكان في دعائه: اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً، وفوقي نوراً، وتحتي نوراً، وأمامي نوراً، وخلفي نوراً، ـــــــــــــــــــــــــــــ عن سلمة عن كريب، وقد ذكرنا سياقها. وأما لحمل قوله صلى ركعتين ثم ركعتين أي قبل أن ينام، ويكون منها سنة العشاء، وقوله ثم ركعتين الخ أي بعد أن قام، فبعيد يأباه ظاهر السياق. وجمع الكرماني بين ما اختلف من روايات قصة ابن عباس هذه باحتمال أن يكون بعض رواته ذكر القدر الذي اقتدى ابن عباس به وفصله عما لم يقتد به فيه، وبعضهم ذكر الجميع مجملاً- انتهى. (وكان في دعائه) أي في جملة دعائه تلك الليلة. قال الحافظ: فيه إشارة إلى أن الدعائه حينئذٍ كان كثيراً أو كان هذا من جملته، وقد ذكر في ثاني حديثي الباب. (أي باب الدعاء إذا انتبه من الليل من كتاب الدعوات من صحيح البخاري) قوله: اللهم أنت نور السماوات والأرض الخ. (يعني المذكور في حديث ابن عباس الآتي في باب ما يقول إذا قام من الليل) . واختلف الرواة في تعيين محل هذا الدعاء أي قوله: اللهم اجعل في قلبي نوراً الخ، فوقع في رواية شعبة عن سلمة عن كريب عند مسلم ثم خرج إلى الصلاة فصلى، فجعل يقول في صلاته أو في سجوده اللهم الخ، ووقع عند مسلم أيضاً في رواية حبيب بن أبي ثابت عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه أنه قال هذا الدعاء، وهو ذاهب إلى صلاة الصبح ولفظه: فأذن المؤذن فخرج إلى الصلاة، وهو يقول اللهم اجعل الخ. ويمكن أن يجمع بأنه قال هذا الدعاء حين خروجه إلى صلاة الصبح، ثم قاله في صلاته أيضاً. وروى الترمذي هذا الدعاء في الدعوات من طريق داود بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده، وفي روايته زيادة طويلة في هذا الدعاء، وفيها أنه - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك حين فرغ من صلاته. ووقع عند البخاري في الأدب المفرد من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يصلي فقضى صلاته، يثني على الله بما هو أهله، ثم يكون آخر كلامه اللهم اجعل في قلبي نوراً- الحديث. قال الحافظ: ويجمع بأنه كان يقول ذلك عند القرب من فراغه- انتهى. أو يقال: إنه كان يقول ذلك الدعاء بعد الفراغ من الصلاة أيضاً. (اللهم اجعل في قلبي نوراً) قيل: هو ما يتبين به الشيء ويظهر. قال الكرماني: التنوين للتعظيم أي نوراً عظيماً، وقدم القلب، لأنه المضغة التي إذا صلحت صلح سائر البدن، وإذا فسدت فسد سائر البدن، ولأن القلب إذا نور فاض نوره على البدن جميعاً، ومن لازم تنوير هذه الأعضاء حلول الهداية، لأن النور يقشع ظلمات الذنوب، ويرفع سدفات الآثام. (وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً) أي في جانبي أو في جارحتي. (وفوقي نوراً، وتحتي نوراً، وأمامي) أي قدامي. (نوراً) يسعى بين يدي. (وخلفي نوراً) أي ليتبعني أتباعي ويقتدي بي أشياعي. والمعنى اجعل النور يحفى من جميع الجهات الست. قيل: أراد بالنور بيان الحق وضياءه كأنه قال: اللهم استعمل هذه الأعضاء

واجعل لي نوراً ـ وزاد بعضهم ـ: وفي لساني نوراً. ـ وذكر ـ: وعصبي ولحمي ودمي وشعري وبشري)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ مني في الحق، واجعل تصرفي وتقلبي فيها على سبيل الصواب حتى لا يزيغ شيء منها عنه. وقال القسطلاني: قد سأل - صلى الله عليه وسلم - النور في أعضائه وجهاته ليزاد في أفعاله وتصرفاته ومنقلباته نوراً على نور، فهو دعاء بدوام ذلك، فإنه كان حاصلا له لا محالة، أو هو إرشاد وتعليم لأمته. وقال القرطبي: هذه الأنوار التي دعا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمكن حملها على ظاهرها، فيكون سأل الله تعالى أن يجعل له في كل عضو من أعضاءه نوراً يستضيء به يوم القيامة في تلك الظلم هو ومن تبعه أو من شاء الله منهم، قال: والأولى أن يقال هي مستعارة للعلم والهداية، كما قال تعالى: {فهو على نور من ربه} [39: 23] ، وقوله تعالى: {وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس} [6: 122] ثم قال والتحقيق في معناه أن النور مظهر ما نسب إليه وهو يختلف بحسبه، فنور السمع مظهر للمسموعات، ونور البصر كاشف للمبصرات، ونور القلب كاشف عن المعلومات، ونور الجوارح ما يبدو عليها من أعمال الطاعات. وقال الطيبي: معنى طلب النور للأعضاء عضواً عضواً أن يتحلى كل عضو بأنوار المعرفة والطاعات، ويتعرى عما عداهما، فإن الشياطين تحيط بالجهات الست بالوسواس والشبهات، ولا مخلص من ذلك إلا بالأنوار السادة لتلك الجهات، قال: وكل هذه الأمور راجعة إلى الهداية والبيان وضياء الحق. وإلى ذلك يرشد قوله تعالى: {الله نور السماوات والأرض} إلى قوله تعالى: {نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء} [24: 35]- انتهى مخلصا. (واجعل لي نورا) عطف عام على خاص أي اجعل لي نوراً عظيماً جامعاً للأنوار كلها يعني التي ذكرها ههنا والتي لم يذكرها. وقال الطيبي: أجمل به ما فصله، فذلكة لذلك وتأكيداً له. ولمسلم في رواية غندر عن شعبة عن سلمة عن كريب: واجعل لي نوراً، أو قال واجعلني نوراً، وفي رواية النضر عن شعبة: واجعلني نوراً، ولم يشك وهذا أبلغ من الكل. ولمسلم في رواية الكتاب بعد قوله: وخلفي نوراً وعظم لي نوراً بتشديد الظاء المعجمة، ولم يذكر قوله واجعل لي نوراً. وفي رواية سعيد بن مسروق وعقيل بن خالد عن سلمة عن كريب عند مسلم أيضاً: وأعظم لي نوراً أي من الأعظام. (وزاد بعضهم) أي بعض الرواة، وهو عقيل بن خالد عن سلمة عن كريب، وحبيب بن أبي ثابت عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس. (وفي لساني نوراً) أي بعد قوله في قلبي نوراً، وهذه الزيادة عند مسلم فقط. (وذكر) أي بعض ولد العباس، كما يظهر من سياق رواية الشيخين، فعند البخاري بعد قوله: واجعل لي نوراً قال كريب: وسبع. (أي من الكلمات أو الأنوار) في التابوت. (أي في صحيفة في تابوت عند ولد العباس) ، فلقيت رجلاً من ولد العباس. (قال القسطلاني: هو علي بن عبد الله بن عباس) ، فحدثني بهن فذكر عصبي الخ. (وعصبي) بفتح المهملتين بعدهما موحدة أطناب المفاصل. (وشعري) بفتح العين وسكونها. (وبشري) بفتح الموحدة والمعجمة،

متفق عليه. وفي رواية لهماـ: واجعل في نفسي نوراً، وأعظم لي نوراً. وفي أخرى لمسلم: اللهم أعطني نوراً)) . 1203- (9) وعنه، أنه رقد عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستيقظ، فتسوك، وتوضأ وهو يقول: {إن في خلق السماوات والأرض} . حتى ختم السورة، ثم قام فصلى ركعتين ـــــــــــــــــــــــــــــ ظاهر جلده. (متفق عليه) فيه أن لفظ الحديث بهذا السياق ليس لهما ولا لأحدهما، بل هو مجموع من مجموع ما فيهما، لأن حديث ابن عباس في حكايته لصلاته - صلى الله عليه وسلم - في الليلة التي بات فيها عند خالته ميمونة رواه البخاري في ثمانية عشر بابا من صحيحه، ومسلم في باب صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعائه بالليل، وفي الطهارة بألفاظ مختلفة مختصراً ومطولاً، وليس السياق المذكور ههنا أحدها وبالجملة لم يتفق الشيخان على السياق المذكور بعينه وبخصوصه، ففي قوله متفق عليه نظر. (وفي رواية لهما) أي للشيخين وفيه نظر كما ستعرف. (واجعل في نفسي نوراً، وأعظم لي نورا) بفتح الهمزة من باب الإفعال. وهذه الرواية من إفراد مسلم، وليست عند البخاري، رواها مسلم من طريق عقيل بن خالد عن سلمة عن كريب قال: ودعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلتئذ تسع عشرة كلمة، قال سلمة حدثنيها كريب، فحفظت منها ثنتي عشرة كلمة ونسيت ما بقي، فذكر ما تقدم إلى قوله: واجعل لي نوراً، وزاد: في لساني نوراً بعد قوله في قلبي، وقال في آخره: واجعل لي في نفسي نوراً، وأعظم لي نوراً. (وفي أخرى لمسلم اللهم أعطني نوراً) وهي رواية حبيب بن أبي ثابت عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن عبد الله بن عباس. وفي رواية الترمذي التي أشهرت إليها قال ابن عباس: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ليلة حين فرغ من صلاته: اللهم إني أسألك رحمة من عندك، فساق الدعاء بطوله، وفيه اللهم اجعل لي في قلبي ونوراً في قبري، ثم ذكر الجهات الست والسمع والبصر ثم الشعر والبشر ثم اللحم والدم والعظام، ثم قال في آخره اللهم أعظم لي نوراً، وأعطني نوراً واجعل لي نوراً، ونقله الحافظ والقسطلاني بلفظ: واجعلني نورا. قال الترمذي: غريب وقد روى شعبة وسفيان عن سلمة عن كريب بعض هذا الحديث، ولم يذكره بطوله- انتهى. وعند ابن أبي عاصم في كتاب الدعاء من طريق عبد الحميد بن عبد الرحمن عن كريب في آخر الحديث، وهب لي نوراً على نور. ويجمع من اختلاف الروايات، كما قال ابن العربي، خمس وعشرون خصلة هذا، وفي حديث ابن عباس فوائد وأحكام كثيرة، ذكرها النووي والحافظ والعيني وغيرهم. والحديث أخرجه أيضاً أحمد والنسائي والبيهقي. 1203- قوله: (وعنه) أي ابن عباس. (أنه رقد عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال الطيبي: هذا معنى ما قاله ابن عباس لا حكاية لفظه. والتقدير أنه قال رقدت في بيت خالتي ميمونة، ورقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (وهو يقول) أي يقرأ، وهو يخالف الرواية السابقة بظاهره حيث قال فقرأ ثم توضأ إلا أن يحمل على تعدد القراءة أو الواقعة،

أطال فيهما القيام والركوع، والسجود، ثم انصرف فنام حتى نفخ، ثم فعل ذلك ثلاث مرات ست ركعات، كل ذلك يستاك ويتوضأ ويقرأ هؤلاء الآيات، ثم أوتر بثلاث)) . رواه مسلم. 1204- (10) وعن زيد بن خالد الجهني أنه قال: ((لأرمقن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـــــــــــــــــــــــــــــ أو تحمل "ثم" ثمة على أنها لمجرد العطف أو للتراخي الرتبي، قاله القاري. وقد تقدم في كلام الحافظ التنبيه على ما في هذه الرواية من الزيادة والاختلاف على الروايات الأخرى. (أطال فيهما القيام والركوع والسجود) أي بالنسبة إلى العادة. (ثم انصرف) أي عن الصلاة. (ثم) أي أعلم أنه. (فعل ذلك) أي المذكور من قوله فتسوك إلى قوله حتى نفخ. (ثلاث مرات ست ركعات) قال الطيبي: يدل من ثلاث مرات أي فعل ذلك في ست ركعات- انتهى. وقيل: منصوب بإضمار أعني أو بيان لثلاث وكذلك. (كل ذلك) بالنصب بيان له أيضاً، أي كل مرة من المرات، ويجوز أن يكون مفعول. (يستاك) وقال الطيبي: كل ذلك يتعلق بيستاك، أي في كل ذلك يستاك ويتوضأ ويقرأ ويصلي. "وثم" في قوله "ثم فعل ذلك" لتراخي الإخبار تقديراً وتأكيداً لا لمجرد العطف لئلا يلزم منه أنه فعل ذلك أربع مرات. (ثم أوتر بثلاث) وبعده فأذن المؤذن فخرج إلى الصلاة، وهو يقول: اللهم اجعل في قلبي نوراً الخ. قال النووي: هذه الرواية، وهي رواية حبيب بن أبي ثابت عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن ابن عباس، مخالفة لباقي الروايات في تخليل النوم بين الركعات، وفي عدد الركعات، فإنه لم يذكر في باقي الروايات تخلل النوم، وذكر الركعات ثلاث عشرة. قال القاضي: هذه الرواية مما استدركه الدارقطني على مسلم لاضطرابها واختلاف الرواة، قال الدارقطني: وروى عنه على سبعة أوجه. وخالف فيه الجمهور. قال النووي: ولا يقدح هذا في مسلم، فإنه لم يذكر هذه الرواية متأصلة مستقلة بل متابعة، والمتابعات يحتمل فيها ما لا يحتمل في الأصول. قال القاضي: ويحتمل أنه لم يعد في هذه الصلاة الركعتين الأوليين الخفيفتين اللتين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستفتح صلاة الليل بهما، ولهذا قال: صلى ركعتين فأطال فيهما، فدل على أنهما بعد الخفيفتين، فتكون الخفيفتان ثم الطويلتان ثم الست المذكورات ثم ثلاث بعدها، كما ذكر، فصارت الجملة ثلاث عشرة، كما في باقي الروايات. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي. 1204- قوله: (عن زيد بن خالد الجهني) بضم الجيم وفتح الهاء، نسبه إلى جهينة، المدني الصحابي الشهير. (أنه) أي زيد بن خالد. (لأرمقن) بضم الجيم وفتح القاف ونون التوكيد الثقيلة من باب نصر، أي لأنظرن وأراقين وأحافظن من الرمق بفتح وسكون أو بفتحتين، وهو النظر إلى الشيء على وجه المراقبة والمحافظة. وأكد باللام والنون مبالغة في طلب تحصيل معرفة ذلك وضبطه (صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي صلاته النافلة من الليل.

الليلة، فصلى ركعتين خفيفتين، ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين، وهما دون اللتين قبلهما، ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الطيبي: عدل عن الماضي إلى المضارع فلم يقل رمقت استحضاراً لتلك الحالة الماضية؛ ليقررها في ذهن السامع أبلغ تقرير. (الليلة) أي في هذه الليلة حتى أرى كم يصلي. وقال ابن حجر: والظاهر أنه قال ذلك لأصحابة نهاراً ثم رمقه، وحينئذٍ فالمضارع على حاله. قال القاري: ولا يستقيم ذلك إلا على تقديرات كثيرة، كما لا يخفى، قال ويمكن أن يكون هذا القول من زيد قبل العلم والعمل. وقيل: إن ذلك حين سمعه - صلى الله عليه وسلم - قام يصلي لا قبل ذلك، لأنه من التجسس المنهي عنه. وأما ترقبه للصلاة فمحمود- انتهى. زاد في رواية الموطأ وأبي داود وابن ماجه والشمائل للترمذي، قال أي زيد: فتوسدت عتبته أو فسطاطه، والعتبة محركة أسكفة الباب، أي جعلت عتبة بابه كالوسادة بوضع الرأس عليها. والفسطاط مثلثة الفاء بيت من شعر. والمراد من توسد الفسطاط توسد عتبة الفسطاط، فهو على تقدير مضاف، وهذا شك من الراوي عن زيد أنه قال: توسد عتبة بيته أو عتبة فسطاطه. قيل: والظاهر الثاني، لأنه - صلى الله عليه وسلم - في الحضر يكون عند نسائه، فلا يمكن أن يتوسد زيد عتبة بيته ليرمقه بخلاف السفر، فإنه خال عن الأزواج المطهرات، فيمكنه أن يتوسد عتبة فسطاطه. قال القاري في جمع الوسائل: فالترديد إنما هو في العبارة، وإلا فالمقصود عن عتبته أيضاً عتبة فسطاطه في الحقيقة لا شك فيه- انتهى. والمراد بعتبة الفسطاط بابه، أي محل دخوله يعني أرقد عند باب خيمته. (فصلى) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (ركعتين خفيفتين) أي ابتداء، وإنما خفف فيهما، لأنهما عقب كسل من أثر النوم وليدخل في صلاة التهجد بنشاط. (ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين) التكرار للتأكيد، وليس المراد بكل طويلتين ركعتين. كذا في المفاتيح. قال الطيبي: كرر ثلاث مرات إرادة لغاية الطول، ثم تنزل شيئاً فشيئاً- انتهى. وإنما بولغ في تطويلهما، لأن النشاط في أول الصلاة يكون أقوى، والخشوع يكون أتم، ومن ثم سن تطويل الركعة الأولى على الثانية من الفريضة. قال الباجي: ومعنى ذلك أن آخر الصلاة مبني على التخفيف عما تقدم، ولذا شرع هذا المعنى في الفرائض. (ثم صلى ركعتين وهما) أي الركعتان. (دون اللتين قبلهما) أي في الطول، وإنما كانتا دون الركعتين اللتين قبلهما، لأنه إذا استوفى الغاية في النشاط والخشوع أخذ في النقص شيئاً فشيئاً، فيخفف من التطويل على سبيل التدريج. (ثم) ثانياً (صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما) في الطول. (ثم) ثالثاً (صلى ركعتين، وهما دون التين قبلهما ثم) رابعاً (صلى ركعتين، وهما دون) الركعتين. (اللتين قبلهما) قال الطيبي: أربع مرات، فعلى هذا لا تدخل الركعتان الخفيفتان تحت ما أجمله بقوله: فذلك ثلاث عشرة ركعة، أو يكون الوتر ركعة

ثم أوتر، فذلك ثلاث عشرة ركعة)) ، رواه مسلم. قوله: ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما أربع مرات، هكذا في صحيح مسلم، وأفراده من كتاب الحميدي، وموطأ مالك، وسنن أبي داود، وجامع الأصول. 1205- (11) وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((لما بدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وثقل ـــــــــــــــــــــــــــــ واحدة ولعل ناسخ المصابيح لما رأى المجمل جعل الخفيفتين من جملة المفصل فكتب قوله: ثم صلى ركعتين، وهما دون اللتين قبلهما ثلاث مرات. ومن ذهب إلى أن الوتر ثلاث ركعات حمل قوله: ثم أوتر على ثلاث ركعات، فعليه أن يخرج الركعتين الخفيفتين من البين. (ثم أوتر) أي بواحدة على أن الركعتين الخفيفتين داخلتان في المجمل. (فذلك) أي المجموع مع الوتر. (ثلاث عشرة ركعة) فيه أن صلاته - صلى الله عليه وسلم - في الليل ثلاث عشرة ركعة بدون ركعتي الفجر. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد ومالك وأبوداود والترمذي في الشمائل وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص8) قال المصنف: (قوله) أي قول زيد. (ثم صلى ركعتين، وهما اللتين قبلهما أربع مرات) بالنصب، أي وقع هذا القول أربع. (هكذا) أي أربع مرات. (في صحيح مسلم) أي متنه. (وأفراده) بفتح الهمزة أي أفراد مسلم. (من كتاب الحميدي) الجامع بين الصحيحين. والأحاديث فيه على ثلاثة أنواع: الأول ما اتفق عليه الشيخان. والثاني ما انفرد به البخاري ويعبر عنه بأفراد البخاري. والثالث ما انفرد به مسلم، وهو المراد بأفراد مسلم. والحاصل أن الجملة المذكورة وقعت في متن صحيح مسلم أربع مرات، وكذا وقعت في أفراد مسلم من كتاب الجمع بين الصحيحين للحميدي. (وموطأ مالك) أي في موطئه. (وسنن أبي داود) السجستاني. (وجامع الأصول) الستة لابن الأثير الجزري (ج7 ص53) ، وكذا وقع في سنن ابن ماجه والشمائل للترمذي والسنن الكبرى للبيهقي أربع مرات. ومقصود المصنف من هذا الكلام الاعتراض على البغوي حيث ذكره في المصابيح ثلاث مرات. وقد يقال في توجيه ما في المصابيح إن قوله: طويلتين ثلاث مرات محمول على ست ركعات بحذف حرف العطف، والركعتان الخفيفتان خارجتان، والوتر ركعة. والأظهر أن التكرير للمبالغة في الطول. 1205- قوله: (لما بدن) بتشديد الدال من التبدين، وهو الكبر والضعف أي مسه الكبر وأسن. (وثقل) بضم القاف أي عن الحركة وضعف عنها لدخوله في السن، ويروى بدن بضم الدال المخففة أي كثر لحمه وثقل أي ضعف لكبر سنه وكثرة لحمه، وذلك قبل موته بسنة. قال التوربشتي: اختلف الرواة في قوله بدن: فمنهم من يرويه مخففاً بضم الدال، من قولهم بدن يبدن بدانة وبدن. بفتح الدال يبدن بدنا، وهو السمن والاكتناز.

كان أكثر صلاته جالساً)) . متفق عليه. 1206- (12) وعن عبد الله بن مسعود، قال: ((لقد عرفت النظائر التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ـــــــــــــــــــــــــــــ ومنهم من يرويه بفتح الدال وتشديدها من التبدين وهو السن والكبر، وهذه الرواية هي التي يرتضيها أهل العلم بالرواية، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوصف بالسمن فيما يوصف به، نقله الأبهري. وقال عياض: قال أبوعبيد في تفسير هذا الحديث: بدن الرجل بفتح الدال المشددة تبديناً إذا أسن، قال ومن رواه بدن بضم الدال المخففة فليس له معنى هنا، لأن معناه كثر لحمه، وهو خلاف صفته - صلى الله عليه وسلم -. قال عياض: روايتنا في مسلم عن جمهورهم بدن بالضم، وعن العذري بالتشديد، قال وأراه إصلاحاً، قال ولا ينكر اللفظان في حقه - صلى الله عليه وسلم - فقد قالت عائشة في صحيح مسلم: فلما أسن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخذه اللحم أوتر بسبع. وفي حديث آخر ولحم، وفي آخر أسن وكثر لحمه. وقول ابن أبي هالة في وصفه: بادن متماسك. قال النووي: والذي ضبطناه ووقع في أكثر أصول بلادنا بالتشديد- انتهى. قلت: روى البخاري في تفسير سورة الفتح من حديث عائشة قالت: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أحب أن أكون عبدا شكوراً. فلما كثر لحمه صلى جالساً، فإذا أراد أن يركع قام فقرأ ثم ركع- انتهى. قال الحافظ: أنكر الداودي قوله: فلما كثر لحمه، وقال: المحفوظ فلما بدن أي كبر، فكان الراوي تأويله على كثرة اللحم- انتهى. وقال ابن الجوزي أحسب بعض الرواة لما رأى بدن ظنه أي كثر لحمه وليس كذلك، وإنما هو بدن تبديناً، أي أسن- انتهى. وهو خلاف الظاهر. وفي حديث مسلم عن عائشة قالت: لما بدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وثقل كان أكثر صلاته جالساً، لكن يمكن تأويل قوله: ثقل أي ثقل عليه حمل لحمه، وإن كان قليلاً لدخوله في السن- انتهى مختصراً. وقيل: رواية كثر لحمه محمولة على استرخاء لحم بدنه كما يقتضيه كبر سنه. (كان أكثر صلاته) أي النافلة (جالساً) وفي رواية أبي سلمة عن عائشة: لم يمت حتى كان كثير من صلاته جالساً. وفي حديث حفصة: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في سبحته جالساً حتى إذا كان قبل موته بعام وكان يصلي في سبحته جالساً، أخرجهما مسلم. والحديث يدل على جواز التنفل قاعداً مع القدرة على القيام. قال النووي: وهو إجماع العلماء. قال ابن حجر: ومن خصائصه عليه السلام أن ثواب تطوعه جالساً كهو قائماً، سواء جلوسه يكون بعذر أو بغير عذر. (متفق عليه) واللفظ لمسلم، ولم يقل البخاري: أكثر. 1206- قوله: (لقد عرفت النظائر) جمع نظيرة، وهي المثل والشبه أي السور المتشابهة والمتقاربة في الطول والقصر. قال الحافظ في الفتح: أي السور المتماثلة في المعاني كالموعظة أو الحكم أو القصص، لا المتماثلة في عدد الآي لما سيظهر عند تعيينها. قال المحب الطبري: كنت أظن أن المراد أنها متساوية في العد حتى اعتبرتها

يقرن بينهن، فذكر عشرين سورة من أول المفصل، على تأليف ابن مسعود ـــــــــــــــــــــــــــــ فلم أجد فيها شيئاً متساوياً. (يقرن) بضم الراء ويجوز كسرها أي يجمع. (بينهن) أي بين سورتين منهن في ركعة. (فذكر) أي ابن مسعود. (عشرين سورة من أول المفصل) وهي الرحمن والنجم في ركعة، واقتربت والحاقة في ركعة، والطور والذاريات في ركعة، وإذا وقعت ونون في ركعة، وسأل سائل والنازعات في ركعة، وويل للمطففين وعبس في ركعة، والمدثر والمزمل في ركعة، وهل آتي ولا أقسم بيوم القيامة في ركعة، وعم يتسآءلون والمرسلاًت في ركعة، والدخان وإذا الشمس كورت في ركعة. رواه أبوداود، وقال هذا تأليف ابن مسعود أي ترتيب السور المذكورة في الحديث، وهو الترتيب الذي ألف عليه ابن مسعود السور في مصحفه. (على تأليف) مصحف (ابن مسعود) أي جمعه وترتيبه. قال الحافظ: فيد دلالة على أن تأليف ابن مسعود على غير تأليف العثماني، وكان أوله الفاتحة ثم البقرة ثم النساء ثم آل عمران، ولم يكن على ترتيب النزول. ويقال: إن مصحف على كان ترتيب النزول، أوله إقرأ ثم المدثر ثم ن والقلم ثم المزمل ثم تبت ثم التكوير ثم سبح وهكذا إلى آخر المكي ثم المدني، والله أعلم. وأما ترتيب المصحف على ما هو عليه الآن فقال القاضي أبوبكر الباقلاني: يحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي أمر بترتيبه هكذا، ويحتمل أن يكون من اجتهاد الصحابة، ثم رجح الأول بما روى البخاري عن أبي هريرة أنه كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعارض به جبريل في كل سنة، فالذي يظهر أنه عارضه به هكذا على هذا الترتيب، وبه جزم ابن الأنباري. ومما يدل على أن ترتيب المصحف كان توقيفاً ما أخرجه أحمد وأبوداود وغيرهما عن أوس بن حذيفة الثقفي، قال: كنت في الوفد الذين أسلموا من ثقيف، فذكر الحديث، وفيه فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: طرأ على حزبي من القرآن فأردت أن لا أخرج حتى أقضيه، قال: فسألنا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قلنا كيف تحزبون القرآن؟ قلنا نحزبه ثلاث سور وخمس سور وسبع سور وتسع سور وإحدى عشرة، وحزب المفصل من ق حتى تختم. قال الحافظ: فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو في المصحف الآن كان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. ويستفاد من هذا الحديث حديث أوس أن الراجح في المفصل أنه من أول سورة ق إلى آخر القرآن، لكنه مبني على أن الفاتحة لم تعد في الثلاث الأول، فإنه يلزم من عدها أن يكون أول المفصل من الحجرات، وبه جزم جماعة من الأئمة- انتهى. وقيل: ترتيب جميع السور توقيفي إلا ترتيب براءة والأنفال، فهو من اجتهاد عثمان، كما يدل عليه حديث ابن عباس عند أحمد وأصحاب السنن، وصححه ابن حبان والحاكم، وقد ذكره المصنف في الباب الذي قبل كتاب الدعوات، وسيأتي الكلام في ذلك هناك. قال الجزري: اختلف في ترتيب السور هل هو توقيفي من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو إجماع من الصحابة، أو بعضه توقيف وبعضه إجماع من الصحابة؟ وأجمعوا على أنه لم ينزل مرتباً هكذا، وعلى أنه لا يقرأ إلا هكذا، كما هو مرتب اليوم، وإنما يصح للصغار أن يقرؤا من أسفل لضرورة التعليم، ولو قرأ في الصلاة غير مرتب، فهو غير أولى. وقيل: يكره، ولو قرأ في

سورتين في ركعة آخرهن حم الدخان، وعم يتساءلون)) . متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ أول ركعة سورة الناس، فماذا يقرأ في الثانية؟ قال أبوحنيفة: يعيدها. وقال الشافعي: يبدأ من أول البقرة أي إلى المفلحون. وهو رواية عن أبي حنيفة، وهو الأظهر، لأن الإفادة أولى من الإعادة. (سورتين) أي كل سورتين من العشرين. (في ركعة آخرهن) أي آخر العشرين مبتدأ، يعني آخر الثنتين من العشرين. (حم الدخان) يحتمل الحركات الثلاث في "حم" والفتح أشهر، وكذلك في الدخان، والجر أشهر. (وعم يتساءلون) هذا يخالف ظاهره ما تقدم من رواية أبي داود، إلا أن يقال: التقدير أخرهن أي آخر العشرين "حم الدخان" ونظيرتها إذا الشمس كورت، وعم يتساءلون، ونظيرتها والمرسلات، قاله القاري. وقال الحافظ: قوله أخرهن حم الدخان، وعم يتساءلون مشكل، لأن حم الدخان آخرهن في جميع الروايات. وأما عمّ، فهي في رواية ابن خزيمة السابعة عشرة. وفي رواية أبي داود: الثامنة عشرة، فكان فيه تجوزاً، لأن عمّ وقعت في الركعتين الأخيرتين في الجملة- انتهى. ووقع في رواية البخاري في باب الجمع بين السورتين في ركعة من أبواب الصلاة، فذكر عشرين سورة من المفصل، واستشكل عد الدخان من المفصل، لأنها ليست منه. وأجيب بأن ذكرها معهن فيه تجوز، ولذلك فصلها من المفصل في رواية البخاري في باب الترتيل في القراءة ولفظها: وإني لأحفظ القرناء التي كان يقرأ بهن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمان عشرة سورة من المفصل وسورتين من آل حم، لكن يرد رواية البخاري هذه أن الروايات لم تختلف أنه ليس في العشرين من الحواميم غير الدخان. قال الحافظ: فتحمل على التغليب أو فيها حذف كأنه قال: وسورتين إحداهما من آل حم- انتهى. ولذكر ابن مسعود هذا الحديث سبب وهو أن رجلاً وهو نهيك بن سنان جاء إلى ابن مسعود فقال: قرأت المفصل الليلة في ركعة فقال: (أي ابن مسعود) هذَّا كَهذِّ الشعر لقد عرفت النظائر الخ. قال الحافظ: وفي الحديث من الفوائد كراهة الإفراط في سرعة التلاوة، لأنه ينافي المطلوب من التدبر والتفكر في معاني القرآن، ولا خلاف في جواز السرد بدون تدبر لكن القراءة بالتدبر أعظم أجرا وفيه جواز تطويل الركعة الأخيرة على ما قبلها، وفيه الجمع بين السورتين في ركعة، ويستدل بع على الجمع بين السور، لأنه إذا جمع بين السورتين ساغ الجمع بين الثلاث فصاعداً. وقد روى أبوداود، وصححه ابن خزيمة من طريق عبد الله بن شقيق قال سألت عائشة: أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين السور؟ قالت نعم من المفصل. ولا يخالف هذا ما سيأتي في التهجد أنه جمع بين البقرة وغيرها من الطوال لأنه يحمل على النادر. وقال عياض في حديث ابن مسعود: هذا يدل على أن هذا القدر كان قدر قراءته غالبا. وأما تطويله فإنما كان في التدبر والترتيل. وما ورد غير ذلك من قراءة البقرة وغيرها في ركعة، فكان نادراً. قال الحافظ: لكن ليس في حديث ابن مسعود ما يدل على المواظبة، بل فيه أنه كان يقرن بين هذه السور المعينان إذا قرأ من المفصل، وفيه موافقة لقول عائشة وابن عباس إن صلاته بالليل كانت عشر ركعات غير الوتر. (متفق عليه)

{الفصل الثاني}

{الفصل الثاني} 1207- (13) عن حذيفة: ((أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل، وكان يقول: الله أكبر، ثلاثاً، ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة، ثم استفتح فقرأ البقرة، ثم ركع، فكان ركوعه نحواً من قيامه، فكان يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم، ثم رفع رأسه من الركوع، ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه أن هذه الألفاظ لم يتفقا عليها، بل الحديث في الصحيحين بألفاظ مختلفة، ولفظ الكتاب بهذا السياق ليس لهما ولا لأحدهما، بل هو مجموع من مجموع ما فيهما. والحديث أخرجه أيضاً الترمذي وأبوداود والنسائي وابن خزيمة والبيهقي (ج2 ص9) . 1207- قوله: (يصلي من الليل) أي التهجد. (وكان) وفي بعض النسخ "فكان" موافقاً لما في سنن أبي داود. قال الطيبي: الفاء للتفصيل. (يقول: الله أكبر ثلاثاً) ليس في رواية النسائي ثلاثاً. (ذو الملكوت) بفتحتين أي صاحب الملك والعزة ظاهراً وباطناً، والصيغة للمبالغة في الملك. (والجبروت) بفتحتين أيضاً مبالغة في الجبر بمعنى القهر والغلبة. (والكبرياء والعظمة) قيل: الكبرياء الترفع عن جميع الخلق مع انقيادهم له التنزه عن كل نقص، والعظمة تجاوز القدر عن الإحاطة به. وقيل: الكبرياء عبارة عن كمال الذات. والعظمة عبارة عن جمال الصفات، ولا بوصف بهذين الوصفين إلا الله تعالى. (ثم استفتح) أي قرأ الثناء فإنه يسمى دعاء الاستفتاح أو استفتح بالقراءة أي بدأ بها من غير الإتيان بالثناء لبيان الجواز، أو بعد الثناء جمعاً بين الروايات، وحملاً على أكمل الحالات، قاله القاري. وقال ابن حجر: أي يقوله في صلاته في محل دعاء للافتتاح ثم استفتح القراءة- انتهى. قلت: يؤيد ما قاله ابن حجر رواية أحمد والترمذي في شمائله عن حذيفة أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الليل قال: فلما دخل في الصلاة قال: الله أكبر ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة، قال: ثم قرأ البقرة الخ، فقوله لما دخل أي بتكبيرة الإحرام وقوله الله أكبر الخ ظاهر أنه قال: ذلك بعد تكبيرة الإحرام بدليل زيادة الكلمات المذكورة، فيكون هذا صيغة من صيغ دعاء الافتتاح الواردة. (فقرأ) في الركعة الأولى. (البقرة) أي بكمالها بعد الفاتحة وإن لم يذكرها اعتماداً على ما هو معلوم من أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يخل صلاة عن الفاتحة. (فكان ركوعه) أي طوله. (نحواً من قيامه) أي قريباً منه فيكون قد طول الركوع قريباً من هذا القيام الطويل يدل عليه رواية النسائي في صلاته التهجد، فلما ركع مكث قدر سورة البقرة ويقول في ركوعه: سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، وكان مقرواً فيها أيضاً سورة البقرة. (فكان يقول) حكاية للحال الماضية استحضاراً. قاله ابن حجر: وفي سنن أبي داود "وكان يقول". (في ركوعه سبحان ربي العظيم) بفتح الياء، وتسكن، والمراد أنه كان يكرر هذه الكلمة ما دام

فكان قيامه نحواً من ركوعه، يقول: لربي الحمد، ثم سجد، فكان سجوده نحواً من قيامه، فكان يقول في سجوده: سبحان ربي الأعلى. ثم يرفع رأسه من السجود، وكان يقعد فيما بين السجدتين نحواً من سجوده، وكان يقول: رب اغفر لي رب اغفر لي. فصلى أربع ركعات قرأ فيهن البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة أو الأنعام)) ، شك شعبة رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ راكعاً (فكان قيامه) بعد الركوع أي اعتداله. (نحواً من ركوعه) أي قريباً منه، وفيه دليل على أن الاعتدال ركن طويل خلافاً للشافعية فإنه ركن قصير عندهم. واختار النووي أنه طويل أخذاً بهذا الحديث وأمثاله. (يقول) أي بعد سمع الله لمن حمده (لربي الحمد) أي كان يكرر ذلك مادام في الاعتدال. (فكان سجوده نحواً من قيامه) من الركوع للاعتدال. قال ابن حجر: أي من اعتداله. (فكان يقول في سجوده سبحان ربي الأعلى) أي كان يكرر ذلك مادام ساجداً. (ثم رفع رأسه من السجود) أي السجود الأول إلى الجلوس بين السجدتين. (وكان يقعد فيما بين السجدتين نحواً من سجوده) أي سجوده الأول. وفي مسند أحمد والشمائل فكان فيما بين السجدتين نحواً من السجود، وفيه دليل على أن الجلوس بين السجدتين ركن طويل خلافاً للشافعية. (وكان يقول) أي في جلوسه بين السجدتين. (رب اغفر لي رب اغفر لي) أي وهكذا، فالمرتان المراد منهما التكرار مراراً كثيرة لا خصوص المرتين على حد قوله تعالى: {ثم ارجع البصر كرتين} [67: 4] ، فكان يكرر هذه الكلمة مادام جالساً، ولم يذكر السجود الثاني ولا تطويله ولا ما قاله فيه لعلمه بالمقايسة على السجود الأول. (قرأ) وفي أبي داود "فقرأ". (فيهن) أي في الركعات الأربع. (البقرة) في الركعة الأولى. (وآل عمران) في الثانية. (والنساء) في الثالثة. (والمائدة أو الأنعام) بالشك أي في الرابعة. (شك شعبة) راوي الحديث المذكور في السند، أي في السورة التي قرأها في الرابعة هل هي المائدة أو الأنعام؟ قال القاري: والأظهر الأول مراعاة للترتيب المقرر، مع أن الصحيح أن الترتيب في جميع السور توقيفي، وهو ما عليه الآن مصاحف الزمان، كما ذكره السيوطي في الإتقان في علوم القرآن- انتهى. والحديث يدل على مشروعية طلب المغفرة في الاعتدال بين السجدتين، وعلى استحباب تطويل صلاة النافلة والقراءة فيها بالسور الطويلة وتطويل أركانها جميعاً. وفيه رد على من ذهب إلى كراهة تطويل الاعتدال من الركوع والجلسة بين السجدتين. قال النووي: والجواب عن هذا الحديث صعب، ذكره الشوكاني في النيل. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً أحمد (ج5 ص398) والنسائي والترمذي في الشمائل، كلهم من طريق أبي حمزة مولى الأنصار عن رجل من بني عبس عن حذيفة. قال الترمذي: أبوحمزة اسمه طلحة بن زيد. وقال النسائي: هو طلحة بن يزيد، وهذا الرجل المبهم يشبه أن يكون صلة بني زفر. قال

1208- (14) وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ المنذري: طلحة بن يزيد أبوحمزة الأنصاري مولاهم الكوفي، احتج به البخاري في صحيحه، وصلة بن زفر العبسي احتج به البخاري ومسلم- انتهى. والحديث أصله في صحيح مسلم. 1208- قوله: (من قام بعشر آيات) أي أخذها بقوة وعزم من غير فتور ولا توانٍ، من قولهم قام بالأمر، فهو كناية عن حفظها والدوام على قراءتها والتفكر في معانيها والعمل بمقتضاها، وإليه الإشارة بقوله: لم يكتب من الغافلين، ولا شك أن قراءة القرآن في كل وقت لها مزايا وفضائل، وأعلاها أن يكون في الصلاة لاسيما في الليل قال تعالى: {إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلاً} [73: 6] ومن ثم أورد محي السنة الحديث في باب صلاة الليل، قاله الطيبي. وحاصله أن الحديث مطلق غير مقيد لا بصلاة ولا بليل، فينبغي أن يحمل على أدنى مراتبه، ويدل عليه قوله لم يكتب من الغافلين، وإنما ذكره البغوي في محل الأكمل. وقال ابن حجر: أي يقرأها في ركعتين أو أكثر، وظاهر السياق أن المراد غير الفاتحة- انتهى. قلت: تفسير قام يصلي أي بالقراءة في الصلاة بالليل في هذا المقام هو الظاهر بل هو المتعين، لما روى ابن خزيمة في صحيحه والحاكم (ج1 ص309) عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: من صلى في ليلة بمائة آية لم يكتب من الغافلين، ومن صلى في ليلة بمائتى آية فإنه يكتب من القانتين المخلصين. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وأخرجه أيضاً البزار، لكن في سنده يوسف بن خالد السمتي، وهو ضعيف، قاله الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص267) . (لم يكتب من الغافلين) أي لم يثبت اسمه في صحيفة الغافلين. وقيل: أي خرج من زمرة الغفلة من العامة ودخل في زمرة {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} . (ومن قام بمائة آية كتب من القانتين) القنوت يرد بمعنان: كالطاعة والقيام والخشوع والعبادة والسكوت والصلاة، فيصرف في كل واحد من هذه المعاني إلى ما يحتمله لفظ الحديث الوارد فيه، والمراد هنا القيام أو الطاعة أي كتب عند الله من الثابتين على طاعته أو من القائمين بالليل. وقال الطيبي: أي من الذين قاموا بأمر الله ولزموا طاعته وخضعوا له. (ومن قام بألف آية) قال المنذري من الملك إلى آخر القرآن ألف آية. (كتب من المقنطرين) بكسر الطاء أي من المكثرين من الأجر والثواب، مأخوذ من القنطار، وهو المال الكثير. قال الطيبي: أي من الذين بلغوا في حيازة المثوبات مبلغ المنقطرين في حيازة الأموال. قال أبوعبيد: لا تجد العرب تعرف وزن القنطار، وما نقل عن العرب المقدار المعول عليه. قيل: أربعة آلاف دينار، فإذا قالوا: قناطير مقنطرة فهي اثنا عشرة ألف دينار.

رواه أبوداود. 1209- (15) وعن أبي هريرة، قال: ((كانت قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل يرفع طوراً ويخفض طوراً)) . رواه أبوداود. 1210- (16) وعن ابن عباس، قال: ((كانت قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - على قدر ما يسمعه من في الحجرة ـــــــــــــــــــــــــــــ وقيل: القنطار ملأ جلد ثور ذهباً. وقيل: هو جملة كثيرة مجهولة من المال- انتهى. قلت: روى ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة مرفوعاً: القنطار اثنا عشر ألف أوقية، الأوقية خير مما بين السماء والأرض، ذكره المنذري. وروى الطبراني في الكبير بسند ضعيف عن أبي أمامة في أثناء حديث: ومن قرأ ألف آية أصبح، وله قنطار ألف ومائتا أوقية، الأوقية خير مما بين السماء والأرض، أو قال: خير مما طلعت عليه الشمس. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما إلا أن في رواية ابن حبان: ومن قام بمائتى آية كتب من المقنطرين، أخرجوه من طريق أبي سوية عن ابن حجيرة عن عبد الله بن عمرو، وقد سكت عنه أبوداود والمنذري في تلخيص السنن. ونقل في الترغيب عن ابن خزيمة أنه قال: إن صح الخبر، فإني لا أعرف أبا سوية بعدالة ولا جرح- انتهى. قلت: أبوسوية هذا اسمه عبيد بن سوية. وقيل: عبيد بن حميد. وقيل: كنيته أبوسويد بدال مصغراً. قال في التقريب: والصواب أبوسوية صدوق. وقال في تهذيب التهذيب: قال ابن ماكولا: أنه كان فاضلاً. وقال ابن حبان: ثقة مصري. وقال ابن يونس: كان رجلاً صالحاً- انتهى. وفي الباب عن فضالة بن عبيد وتميم الداري وأبي هريرة وأبي أمامة وعبادة بن الصامت وأبي الدرداء وأبي سعيد، ذكر أحاديثهم الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص267، 268) مع الكلام فيها. 1209- قوله: (كانت قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل) في الأزهار يعني في الصلاة، ويحتمل في غيرها أيضاً، والخبر محذوف وهو مختلفة. (يرفع) أي صوته رفعاً متوسطاً. (طوراً) أي مرة أو حالة إن كان خالياً. (ويخفض) بكسر الفاء المعجمة من ضرب أخرى، إن كان هناك نائم أو بحسب حاله المناسب لكل منهما. وقال الطيبي: يرفع خبر كان والعائد محذوف، أي يرفع عليه السلام فيها طوراً صوته، والحديث يدل على أن الجهر والأسرار جائزان في قراءة صلاة الليل. (رواه أبوداود) وكذا في البيهقي (ج3 ص12، 13) وسكت عليه أبوداود والمنذري. 1210- قوله: (كانت قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي رفع صوت قراءته في الصلاة بالليل. (على قدر ما يسمعه) أي مقدار قراءة يسمعها. وقال ابن حجر: أي صوت أو رفع يسمعه. (من في الحجرة) أي في صحن

وهو في البيت. رواه أبوداود. 1211- (17) وعن أبي قتادة، قال: ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج ليلة فإذا هو بأبي بكر يصلي يخفض من صوته، ومر بعمر وهو يصلي رافعاً صوته، قال: فلما اجتمعا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يا أبا بكر! مررت بك وأنت تصلي تخفض صوتك. قال: قد أسمعت من ناجيت يا رسول الله! وقال لعمر: مررت بك وأنت تصلي رافعا صوتك. فقال: يا رسول الله! أوقظ الوسنان ـــــــــــــــــــــــــــــ البيت، وهي الأرض المحجورة أي الممنوعة بحائط محوط عليها. (وهو في البيت) أي والحال أنه - صلى الله عليه وسلم - في بيته، ويحتمل أن يقال المراد بالبيت هو الحجرة نفسها، أي يسمع من في الحجرة، وهو فيها. وقيل: الحجرة أخص من البيت، يعني أنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يرفع صوته كثيراً، ولا يسر بحيث لا يسمعه أحد، بل كانت قراءته بين الجهر والإسرار، فكان إذا قرأ في بيته سمع قراءته من في الحجرة من أهله، ولا يتجاوز صوته إلى ما وراء الحجرة، وهذا إذا كان يصلي ليلاً، وأما في المسجد، فكان يرفع صوته فيها كثيراً، وفي قيام الليل لمحمد بن نصر المروزي: سئل ابن عباس عن جهر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقراءة بالليل، فقال: كان يقرأ في حجرته قراءة لو أراد أن يحفظها حافظ فعل. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً الترمذي في الشمائل بلفظ: كان قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - ربما يسمعه من في الحجرة، وهو في البيت. والحديث سكت عنه أبوداود. وقال المنذري: وفي سنده ابن أبي الزناد، واسمه عبد الرحمن بن عبد الله ابن ذكوان، وفيه مقال، وقد استشهد به البخاري في مواضع- انتهى. قلت: ضعفه ابن معين وعلي بن المديني والنسائي وغيرهم، ووثقه الترمذي والعجلي، وصح الترمذي عدة من أحاديثه. وقال في اللباس: ثقة حافظ. وقال ابن عدي: هو ممن يكتب حديثه. وقال ابن المديني والساجي وعمرو بن علي: ما حدث به بالمدينة فهو مقارب، وما حدث به العراق فهو مضطرب، وقال الحافظ في التقريب: صدوق تغير لما قدم بغداد، وكان فقيهاً. وللبيهقي (ج3 ص11) من طريق آخر بلفظ: كان يقرأ في بعض حجره، فيسمع قراءته من كان خارجاً. 1211- قوله: (فإذا هو بأبي بكر) قال الطيبي: أي مار بأبي بكر. (يصلي) حال عنه. (يخفض) حال عن ضمير يصلي. (من صوته) "من" زائدة أو تبعيضية أو بعض صوته. (قال) أي أبوقتادة. (فلما إجتمعا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -. (وأنت تصلي) وفي رواية الترمذي: وأنت تقرأ وهي جملة حالية. (تخفض صوتك) بدل أو حال. وفي بعض النسخ أبي داود: تخفض من صوتك. (قال) أبوبكر. (قد أسمعت من ناجيت) جواب متضمن لعلة الخفض، أي أنا أناجي ربي وهو يسمع لا يحتاج إلى رفع الصوت. (أوقظ) أي أنبه. (الوسنان) أي النائم الذي ليس بمستغرق في نومه، من وسن يوسن وسناً وسنة أخذه ثقل النوم

وأطرد الشيطان. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا بكر! ارفع من صوتك شيئاً، وقال لعمر: اخفض من صوتك شيئاً)) . رواه أبوداود، وروى الترمذي ونحوه. 1212- (18) وعن أبي ذر، قال: ((قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أصبح بآية، والآية: {إن تعذبهم فإنهم عبادك. وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو اشتد نعاسه. (وأطرد) أي أبعد. (الشيطان) ووسوسته بالغفلة عن ذكر الله (يا أبا بكر ارفع من صوتك شيئاً) أي قليلاً لينتفع بك سامع ويتعظ مهتد. (وقال لعمر: اخفض من صوتك شيئاً) أي قليلاً لئلا يتشوش بك نحو مصل أو نائم معذور. قال الطيبي: نظيره قوله تعالى: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً} [17: 110] كأنه قال للصديق أنزل من مناجاتك ربك شيأ قليلاً واجعل للخلق من قراءتك نصيباً، وقال للفاروق ارتفع من الخلق هوناً، واجعل لنفسك من مناجاة ربك نصيباً، وفيه هداية للأمر الوسط الذي هو خير الأمور وتصرف بتغيير ما هما وذلك من دأب المرشدين. (رواه أبوداود) مسنداً ومرسلاً، وكذا البيهقي (ج3 ص11) . (روى الترمذي نحوه) أي بمعناه. وقال: حديث غريب. وإنما أسنده يحيى بن إسحاق عن حماد بن سلمة وأكثر الناس إنما رووا هذا الحديث عن ثابت عن عبد الله بن رباح مرسلاً- انتهى. قال العلامة أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي (ج2 ص330) هذا التعليل لا يؤثر في صحة الحديث، فإن يحيى بن إسحق ثقة صدوق، كما قال أحمد. وقال ابن سعد: كان ثقة حافظاً لحديثه، ووصل الحديث زيادة يجب قبولها، والحديث قد سكت عنه أبوداود. وقال المنذري بعد نقل كلام الترمذي: يحيى بن إسحاق هذا هو البجلي السيلحيني، وقد احتج به مسلم في صحيحه- انتهى. وفي الباب عن علي عند أحمد برجال ثقات، وعن عمار بن ياسر عند الطبراني في الكبير، وفي سنده أيوب بن جابر، وثقه أحمد وعمرو بن علي، وضعفه ابن المديني وابن معين، وعن أبي هريرة عند أبي داود، وقد سكت عنه هو والمنذري. 1212- قوله: (قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي في صلاته ليلاً. (بآية) متعلق "بقام" أي أخذ يقرأها من لدن قيامه ويتفكر في معانيها مرة بعد أخرى، قاله الطيبي. وفي رواية لأحمد (ج5 ص149) قال: قال صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها. وفي فضائل القرآن لأبي عبيد: قام مصطفى - صلى الله عليه وسلم - ليلة فقرأ آية واحدة الليل كله حتى أصبح بها يقوم وبها يركع، والمعنى أنه - صلى الله عليه وسلم - قد استمر يكررها ليلته كلها في ركعات تهجده، فلم يقرأ فيها بغيرها. (والآية) أي المعهودة. (إن تعذبهم فإنهم عبادك) أي لا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعل في ملكه. (وإن تغفر لهم) أي مع كفرهم. (فإنك أنت العزيز الحكيم) أي القوي القادر على الثواب والعقاب لا

رواه النسائي وابن ماجه. 1213- (19) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على يمينه)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ تثيب ولا تعاقب إلا عن حكمة. وقيل: المعنى أن تعذبهم أي من أقام على الكفر منهم، فإنهم عبادك أي تصنع بهم ما شئت وتحكم فيهم بما تريد، لا اعتراض عليك وإن تغفر لهم أي لمن آمن منهم، فإنك أنت العزيز أي القادر على ذلك الحكيم في أفعاله، وإنما كررها - صلى الله عليه وسلم - حتى أصبح لما اعتراه عند قراءتها من هول ما ابتدئت به ومن حلاوة ما اختتمت به، والآية من قول عيسى عليه السلام في حق قومه، وكأنه عرض - صلى الله عليه وسلم - حال أمته على الله سبحانه وتعالى واستغفر لهم، يدل على ذلك ما زاد أحمد في روايته: فلما أصبح قلت: يا رسول الله ما زلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت تركع بها، وتسجد بها قال: إني سألت ربي عز وجل الشفاعة لأمتي فأعطانيها، وهي نائلة إن شاء الله لمن لا يشرك بالله شيئاً- انتهى. والحديث يدل على جواز تكرار الآية في الصلاة، ولعل ذلك كان قبل النهي عن القراءة في الركوع والسجود، أو أنه كان يقرأ بها في الركوع والسجود بنية الدعاء لا بنية القراءة والتلاوة، والله أعلم. (رواه النسائي) أي في سننه الكبرى. (وابن ماجه) قال في الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله ثقات، ثم قال: رواه النسائي في الكبرى وأحمد في المسند (ج5 ص149، 156) وابن خزيمة في صحيحه، والحاكم- انتهى. وهو في المستدرك (ج1ص241) ووافقه الذهبي على تصحيحه، ورواه بقصة مطولة المروزي في قيام الليل (ص59) وذكره السيوطي في الدر المنثور مطولاً بألفاظ مختلفة (ج2 ص249، 250) ونسبه أيضاً لابن أبي شيبة وابن مردويه والبيهقي، وهو في السنن الكبرى من طريقين (ج3 ص13، 14) . وفي الباب عن عائشة قالت: قام النبي - صلى الله عليه وسلم - بآية من القرآن ليلة. أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب. 1213- قوله: (إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر) يعني سنة الفجر، كما يشهد له حديث عائشة أول الفصل الأول. (فليضطجع) أي ندباً واستحباباً لما تقدم في شرح عائشة في الفصل الأول. (على يمينه) ولفظ الترمذي: على شقه الأيمن أي جنبه الأيمن، وهذا نص صريح في مشروعية الاضطجاع بعد سنة الفجر لكل أحد المتهجد وغيره، والمصلي ركعتي الفجر في المسجد وفي البيت، لأن الحديث مطلق، ولا دليل على تقييده بالمتهجد وبالمصلي في البيت. وللعلماء في هذا الاضطجاع أقوال: أحدها أنه سنة، وإليه ذهب الشافعي وأصحابه. وقال النووي في شرح مسلم: والصحيح أو الصواب أن الاضطجاع بعد سنة الفجر سنة. الثاني أنه مستحب، وروي ذلك عن جماعة من الصحابة، وهم أبوموسى الأشعري ورافع بن خديج وأنس بن مالك وأبوهريرة، ذكرهم

ابن القيم في زاد المعاد والعراقي والعيني. وممن قال به من التابعين: محمد بن سيرين وسعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير وأبوبكر بن عبد الرحمن وخارجة بن زيد بن ثابت وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وسليمان بن يسار، كان هؤلاء الصحابة والتابعون يضطجعون على أيمانهم بيت ركعتي الفجر وصلاة الصبح، ويأمرون بذلك. الثالث أنه واجب مفترض لا بد من الإتيان وهو قول أبي محمد علي بن حزم الظاهري فقال في المحلى (ج3 ص196) : كل من ركعتي الفجر لم تجزه صلاة الصبح إلا بأن يضطجع على شقه الأيمن بين سلامه من ركعتي الفجر وبين تكبيرة لصلاة الصبح، وسواء عندنا ترك الضجعة عمداً أو نسياناً، وسواء صلاها في وقتها أو صلاها قاضيا لها من نسيان أو عمد نومه، فإنه لم يصل ركعتي الفجر لم يلزمه أن يضطجع، فإن عجز عن الضجعة على اليمين لخوف أو مرض أو غير ذلك أشار إلى ذلك حسب طاقته، واستدل لذلك بحديث أبي هريرة، قال: وقد أوضحنا أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كله على فرض حتى يأتي نص آخر أو إجماع متيقن على أنه ندب فنقف عنده، وإذا تنازع الصحابة فالرد إلى كلام الله تعالى وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - انتهى. قلت: هذا إفراط من ابن حزم في هذه المسألة وغلو جداً، وقول لم يسبقه إليه أحد ولا ينصره فيه أي دليل، فقد عرفت في شرح حديث عائشة ثاني أحاديث الفصل الأول أن الأمر الوارد في حديث أبي هريرة هذا محمول على الاستحباب، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يداوم على الاضطجاع، فلا يكون واجباً فضلاً عن أن يكون شرطاً لصحة صلاة الصبح، ولو سلمنا أن الأمر فيه للوجوب. فمن أن يخلص له أن الوجوب معناه الشرطية، وأن من لم يضطجع لم تجزئه صلاة الصبح، وما كل واجب شرط. الرابع أن هذا الاضطجاع بدعة ومكروه، وممن قال به من الصحابة: ابن مسعود وابن عمر على اختلاف عنه، وقد تقدم الجواب عن ذلك في شرح حديث عائشة ثالث أحاديث الفصل الأول. الخامس أنه خلاف الأولى، روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن الحسن أنه كان لا يعجبه الاضطجاع بعد ركعتي الفجر. السادس أنه ليس مقصوداً لذاته، وإنما المقصود الفصل بين ركعتي الفجر وبين الفريضة، إما باضطجاع أو حدث أو بالتحول من ذلك المكان إلى غيره أو غير ذلك. والاضطجاع غير متعين في ذلك، وهو محكي عن الشافعي، لكن قال البغوي والنووي والحافظ: المختار الاضطجاع بخصوصه لظاهر حديث أبي هريرة. السابع التفرقة بين من يقوم بالليل، فيستحب له ذلك للاستراحة وبين غيره، فلا يشرع له، واختاره ابن العربي وقال: لا يضطجع بعد ركعتي الفجر لانتظار الصلاة إلا أن يكون قام الليل فيضطجع استجماماً لصلاة الصبح فلا بأس، ويشهد لهذا ما رواه الطبراني وعبد الرزاق عن عائشة: أنها كانت تقول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يضطجع لسنة، ولكنه كان يدأب ليلة فيستريح، وهذا لا تقوم به حجة. أما أولاً فلأن في إسناده رواياً لم يسم، كما قال الحافظ. وأما ثانياً فلأن ذلك منها ظن وتخمين وليس بحجة، وقد روت أنه كان يفعله، والحجة في فعله، وقد ثبت أمره به، فتأكدت بذلك مشروعية الثامن

التفرقة بين البيت فيستحب فيه وبين المسجد فلا يستحب فيه، ذهب إليه بعض السلف، وهو محكي عن ابن عمر وقد تقدم الجواب عنه. والراجح عندي هو القول الثاني يعني أن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر مشروع على طريق الاستحباب لكل أحد أي المتهجد وغيره من المصلي سنة الفجر في المسجد وفي البيت، والله أعلم. وقد أجاب من لم ير مشروعية الاضطجاع عن حديث أبي هريرة هذا بأجوبة: أحدها أنه من رواية عبد الواحد بن زياد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، وقد تكلم فيه بسبب ذلك يحيى بن سعيد القطان وأبوداود الطيالسي. قال يحيى بن سعيد: ما رأيته يطلب حديثاً بالبصرة ولا بالكوفة قط، وكنت أجلس على بابه يوم الجمعة بعد الصلاة إذا كره بحديث الأعمش لا يعرف منه حرفاً. وقال الفلاس: سمعت أبا داود يقول: عمد عبد الواحد إلى أحاديث كان يرسلها الأعمش فوصلها، يقول: حدثنا الأعمش حدثنا مجاهد في كذا وكذا، وهذا روايته عن الأعمش: وقال عثمان بن سعيد الدارمي عن يحيى بن معين: أن عبد الواحد ليس بشيء. والجواب عن هذا الجواب أن عبد الواحد بن زياد قد احتج به الأئمة الستة، ووثقه أحمد بن حنبل وأبوزرعة وأبوداود وابن القطان وابن سعد وأبوحاتم والنسائي والعجلي والدارقطني وابن حبان. وقد روى عن ابن معين ما يعارض قوله السابق فيه من طريق من روي عنه التضعيف له، وهو عثمان بن سعيد المتقدم، فروي عنه أنه قال ثقة. وقال العراقي: وما روي عنه من أنه ليس بثقة، فلعله اشتبه على ناقله بعبد الواحد بن زيد، وكلاهما بصري. وقال الحافظ في مقدمة الفتح: قال ابن معين: أثبت أصحاب الأعمش شعبة وسفيان ثم أبومعاوية ثم عبد الواحد بن زياد، وعبد الواحد ثقة وأبوعوانه أحب إليّ منه، ووثقه أبوزرعة وأبوحاتم وابن سعد والنسائي وأبوداود والعجلي والدارقطني، حتى قال ابن عبد البر لا خلاف بينهم أنه ثقة ثبت- انتهى. وأما قول يحيى بن سعيد: ما رأيته يطلب حديثاً الخ، فقال الحافظ: هذا غير قادح، لأنه صاحب كتاب، وقد احتج به الجماعة. وأما قول الفلاس ففيه أن هذا الحديث من روايته عن الأعمش عن أبي صالح لا عن مجاهد. الثاني أن الأعمش مدلس، وقد رواه عن أبي صالح بالعنعنة، والجواب عنه أن عنعنة الأعمش عن أبي صالح محمولة على الاتصال. قال الذهبي في الميزان: هو أي الأعمش يدلس، وربما دلس عن ضعيف ولا يدري به، فمتى قال: نا فلان، فلا كلام، ومتى قال: عن، تطرق إليه احتمال التدليس، إلا في شيوخ له أكثر عنهم كإبراهيم وأبي وائل وأبي صالح السمان، فإنه روايته عن هذا الصنف محمولة على الاتصال- انتهى. الثالث أن رواية أبي صالح عن أبي هريرة معلولة لم يسمعه أبوصالح عن أبي هريرة، وبين الأعمش وأبي صالح كلام، نسب هذا القول إلى ابن العربي. وقال الأثرم: قلت لأحمد حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: رواه بعضهم مرسلاً. والجواب عنه أن عبد الواحد قد رواه موصولاً، وهو ثقة ثبت قد

{الفصل الثالث}

رواه الترمذي وأبوداود. {الفصل الثالث} 1214- (20) عن مسروق، قال: ((سألت عائشة: أي العمل كان أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: الدائم. ـــــــــــــــــــــــــــــ احتج به الأئمة الستة، وهو من أثبت أصحاب الأعمش، فتقبل وصله، لأنها زيادة ثقة، ولا يضره إرسال من أرسله. وأما دعوى عدم سماع أبي صالح من أبي هريرة، فمردودة، لأنه ادعاء محض، ويرده أيضاً تصحيح الترمذي لهذا الحديث، وهو من أئمة الشأن. وسكوت أبي داود ثم المنذري، وقول النووي: أسانيده صحيحة. الرابع أنه اختلف في حديث أبي هريرة هذا هل من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من فعله؟ فقد روى الترمذي وأبوداود وغيرهما من أمره. وروى ابن ماجه من فعله. وقد قال البيهقي: أن كونه من فعله أولى أن يكون محفوظاً. وقال ابن تيمية: حديث أبي هريرة ليس بصحيح، وإنما الصحيح عنه الفعل لا الأمر بها، والأمر تفرد به عبد الواحد ابن زياد وغلط فيه- انتهى. والجواب عنه أن وروده من فعله - صلى الله عليه وسلم - لا ينافي كونه وروده من قوله، فيكون عند أبي هريرة حديثان حديث الأمر به، وحديث ثبوته من فعله، على أن الكل يفيد ثبوت أصل الشرعية، فيرد القول بكراهته ونفي مشروعيته. الخامس أن ابن عمر لما سمع أبا هريرة يروي حديث الأمر به قال: أكثر أبوهريرة على نفسه. والجواب عنه أن ابن عمر سئل هل تنكر شيئاً مما يقول أبوهريرة؟ قال: لا، وأن أبا هريرة قال: فما ذنبي إن كنت حفظت ونسوا، وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا له بالحفظ هذا. وقد أفاض القول في هذا المبحث العلامة العظيم آبادي في أعلام أهل العصر بأحكام ركعتي الفجر (ص14- 20) فارجع إليه. (رواه الترمذي) وصححه. (وأبوداود) وسكت عليه هو والمنذري. وقال النووي في شرح مسلم والشيخ زكريا الأنصاري في فتح العلام: إسناده على شرط الشيخين، وقال النووي في رياض الصالحين (426) : أسانيده صحيحه. وقال الشوكاني: رجاله رجال الصحيح. وقد أفرط ابن تيمية في الرد على ابن حزم حتى زعم أن حديث أبي هريرة هذا باطل، وليس بصحيح لتفرد عبد الواحد بن زياد به، وفي حفظه مقال. قال الحافظ بعد ذكره: والحق أنه تقوم به حجة- انتهى. قلت: قول ابن تيمية هذا غلو منه وبعيد عن الصواب. والحق أن الحديث صحيح سنداً ومتناً، وعبد الواحد ثقة ثبت فلا يضر تفرده به، والله أعلم. والحديث أخرجه أيضاً أحمد وابن حزم في المحلي، وابن حبان، والبيهقي. 1214- قوله: (أي العمل) بالرفع. وفي رواية النسائي أي الأعمال. (كان أحب) بالنصب. (قالت: الدائم) بالرفع، لأنه خبر مبتدأ محذوف، أي هو الدائم. وقيل: بالنصب. قال الطيبي: أي العمل الذي يدوم عليه صاحبه ويستقر عليه عامله، ومن ثم أدخل حرف التراخي في قوله تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا} [41: 30)

قلت: فأي حين كان يقوم من الليل؟ قالت: كان يقوم إذا سمع الصارخ)) . متفق عليه. 1215- (21) وعن أنس، قال: ((ما كنا نشاء أن نرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الليل مصلياً إلا رأيناه، ولا نشاء أن نراه نائماً إلا رأيناه)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ والمراد بالدوام الملازمة العرفية لا شمول الأزمنة، لأنه متعذر (فأي حين) بالنصب. وقيل: بالرفع. (كان يقوم) أي فيه. (من الليل) أي من أحيانه وأوقاته، ولم أجد هذا اللفظ أي قوله: من الليل في الصحيحين. وفي بعض النسخ للبخاري "في" أي حين كان يقوم. (قالت كان يقوم) أي فيصلي، ففي رواية: كان إذا سمع الصارخ قام فصلى. (إذا سمع الصارخ) أي الديك. قال النووي: هو المراد هنا باتفاق العلماء، وسمي بذلك لكثرة صياخه. وفي سيرة الحافظ العراقي المنظومة: أنه كان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ديك أبيض. قال: كان عند النبي الديك أبيض له. كذا المحب الطبري نقله. قال الحافظ في الفتح: وقع في مسند في الطيالسي في هذا الحديث. الصارخ الديك، والصرخة الصحيحة الشديدة، وجرت العادة بأن الديك يصيح عند نصف الليل غالباً، قاله محمد بن ناصر. قال ابن التين: وهو موافق لقول ابن عباس نصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل. وقال ابن بطال: الصارخ يصرخ عند ثلث الليل الأخير. والمراد بالدوام قيامه كل ليلة في ذلك الوقت لا الدوام المطلق- انتهى. قلت: لعل صراخ الديك في الليل يختلف باختلاف البلاد، وفي بلادنا يصيح في الثلث الأخير، بل في السدس الأخير. وروى أحمد وأبوداود وابن ماجه عن زيد بن خالد الجهني مرفوعاً: لا تسبوا الديك فإنه يوقظ للصلاة، وإسناده جيد. وفي لفظ: فإنه يدعوا إلى الصلاة، وليس المراد أن يقول بصراخه حقيقة الصلاة، بل العادة جرت أنه يصرخ صرخات متتابعة عند طلوع الفجر، وعند الزوال فطرة فطره الله عليها، فيذكر الناس بصراخة الصلاة، قاله القسطلاني. وفي الحديث الحث على المداومة على العمل وإن قل. وفيه الاقتصاد في العبادة وترك التعمق فيها؛ لأن ذلك أنشط والقلب به أشد انشراحاً. (متفق عليه) واللفظ للبخاري في الرقاق، إلا قوله "من الليل" فلم أجده عنده ولا عند مسلم. والظاهر أن المصنف نسب هذا اللفظ إلى الشيخين تبعاً للجزري. والحديث أخرجه أيضاً أبوداود والنسائي والبيهقي (ج3 ص3، 17) . 1215- قوله: (ما كنا) ما نافية. (نشاء أن نرى) أي نبصر. (في الليل) أي في وقت من أجزاء الليل. (مصلياً) حال من المفعول. (إلا رأيناه) أي مصلياً. (ولا نشاء أن نراه نائماً) أي في الليل. (إلا رأيناه) أي نائماً. قال الطيبي: المعنى ما كنا أردنا أمرا منهما إلا وجدنا عليه يعني أن أمره كان قصداً لا إفراطاً ولا تفريطاً- انتهى. يعني ينام بالليل ويقوم، ولا يقوم الليل كله ولا ينام فيه كله هذا، ويحتمل أن يكون المراد أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يقوم

رواه النسائي. 1216- (22) وعن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، قال: ((إن رجلاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قلت وأنا في سفر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والله لأرقبن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصلاة حتى أرى فعله، فلما صلى صلاة العشاء، وهي العتمة، اضطجع هوياً من الليل، ثم استيقظ فنظر في الأفق، فقال: ـــــــــــــــــــــــــــــ تارة وينام أخرى، يفعل ذلك المرات في الليل، فمنهم من يتفق رؤيته مصلياً، ومنهم من يتفق رؤيته نائماً، قالوا كان صلاته نصف الليل ونومه نصفه، كذا في اللمعات. وقال السندي في حاشية النسائي: أي أن صلاته ونومه ما كان مخصوصين بوقت دون وقت، بل كانا مختلفين في الأوقات، وكل وقت صلى فيه أحياناً نام فيه أحياناً-انتهى. يعني أنه ما كان يعين بعض الليل للصلاة وبعضه للنوم، بل وقت صلاته في بعض الليالي وقت نومه في بعض آخر وعكسه، فكان لا يرتب لتهجده وقتاً معيناً بل بحسب ما تيسر له من القيام. قال الحافظ: يعني أنس أن حاله في التطوع بالقيام كان يختلف، فكان تارة يقوم من أول الليل وتارة في وسطه وتارة من آخره، فكان من أراد أن يراه في وقت من أوقات الليل قائماً فراقبه المرة بعد المرة، فلا بد أن يصادفه قام على وفق ما أراد أن يراه، هذا معنى الخبر وليس المراد أنه كان يستوعب الليل قياماً- انتهى. ولا يشكل عليه قول عائشة كان إذا صلى صلاة دوام عليها. وقولها: كان عمله ديمة، لأن اختلاف وقت التهجد تارة في أول الليل وأخرى في آخره لا ينافي مداومة العمل، كما أن صلاة الفرض تارة تكون في أول الوقت وتارة في آخره مع صدق المدوامة عليه، ولا يشكل عليه أيضاً قول عائشة: إذا سمع الصارخ قام فصلى، فإن عائشة تخبر عما لها عليه إطلاع، وذلك أن صلاة الليل كانت تقع منه غالباً في البيت، فخبر أنس محمول على ما وراء ذلك. (رواه النسائي) وأخرجه البخاري مطولاً وسيأتي في باب القصد في العمل والبيهقي (ج3 ص17) . 1216- قوله: (عن حميد) بضم الحاء المهملة مصغراً. (بن عبد الرحمن بن عوف) الزهري المدني، ثقة من كبار التابعين، توفي سنة 95 وهو ابن 73 سنة. وقيل: مات سنة 105. (أن رجلاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -) الظاهر أنه هو زيد بن خالد الجهني المتقدم فلا تضر جهالته، لأن الصحابة كلهم عدول. (قال) أي رجل. (قلت) في نفسي أو لبعض أصحابي. (وأنا في سفر) من غزوة أو عمرة أو حجة. (لأرقبن) أي لأنظرن وأحفظن. (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي وقت قيامه في الليل. (للصلاة) أي لأجلها. (حتى أرى فعله) وأقتدي به. قال الطيبي: أي لأرقبن وقت صلاته في الليل فأنظر ماذا يفعل فيه، فاللام في الصلاة، كما في قوله: {قدمت لحياتي} . (اضطجع) أي رقد. (هوياً) بفتح الهاء وتشديد الياء التحتانية أي زماناً طويلاً. (فنظر في الأفق) أي نواحي السماء. (فقال) أي قرأ

{ربنا ما خلقت هذا باطلاً} حتى بلغ إلى: {إنك لا تخلف الميعاد} ثم أهوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى فراشه، فاستل منه سواكاً، ثم أفرغ في قدح من إداوة عنده ماء، فاستن، ثم قام، فصلى، حتى قلت: قد صلى قدر ما نام ثم اضطجع حتى قلت قد نام قدر ما صلى، ثم استيقظ، ففعل كما فعل أول مرة، وقال مثل ما قال، ففعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات قبل الفجر)) . رواه النسائي. 1217- (23) وعن يعلى بن مملك، أنه سأل أم سلمة ـــــــــــــــــــــــــــــ (ربنا ما خلقت هذا) أي مرئينا من السماء والأرض. (باطلاً) أي خلقاً عبثاً بل خلقته بالحق والحكمة. والظاهر أنه عليه السلام قرأ ما قبله من قوله تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض} [3: 190] إلى آخر السورة، كما تقدم. وإنما سمع الراوي هذا المقدار. (حتى بلغ إلى أنك لا تخلف الميعاد) أي البعث بعد الموت، كما صح عن ابن عباس أن الميعاد البعث بعد الموت، وعدم إخلاف الميعاد بإثابة المطيع وعقاب العاصي، وقيل: أي وعدك للعباد في يوم المعاد، ويحتمل أنه عليه السلام وقف على هذا المقدار وتلك الليلة، ويحتمل أن السامع لم يسمع ما بعده، فيوافق ما سبق عن ابن عباس أنه قرأ إلى آخر السورة. (ثم أهوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي مد يده أو قصد بيده أو مال. (إلى فراشه) بكسر الفاء. (فاستل منه) أي استخرج من تحت فراشه. (سواكاً) قال الطيبي: أي انتزاع السواك من الفراش برفق وتأن وتدريج. (ثم أفرغ) أي صب. (في قدح) بفتحتين. (من إداوة) أي مطهرة كائنة. (عنده) والاداوة بكسر الهمزة إناء صغير من جلد. (ماء) مفعول صب. قال ابن حجر: أي ماء بل السواك منه، كما هو السنة- انتهى. ويحتمل أنه صب الماء فيه تهيئة للوضوء. (فاستن) بتشديد النون أي استعمل السواك في الأسنان، وهو افتعال من الأسنان، لأنه يمره عليها. (ثم قام فصلى) أي بوضوء مجدد أو بوضوء السابق. (حتى قلت) أي في ظني. (قد نام) أي رقد أو استراح. (ثم استيقظ) أي استنبه من النوم أو رفع جنبه عن الأرض أي فقام. (ففعل كما فعل أول مرة) أي من الاستياك والصلاة. (وقال مثل ما قال) من قراءة الآيات. والواو لمطلق الجمع. (ففعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي ما ذكر من القول والفعل أو من النوم واليقظة. (قبل الفجر) أي قبل طلوعه. (رواه النسائي) برجال ثقات إلا أن في رواية يونس بن يزيد الأيلي عن الزهري وهماً قليلاً. وهذا الحديث من رواية يونس عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف. 1217- قوله: (عن يعلى) بفتح الياء وسكون العين المهملة وفتح اللام. (بن مملك) بفتح الميم الأولى وسكون الثانية وفتح اللام بعدها كاف بوزن جعفر، ذكره ابن حبان في الثقات. وقال في التقريب: مقبول

زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - وصلاته؟ فقالت: وما لكم وصلاته؟ كان يصلي ثم ينام قدر ما صلى، ثم يصلي قدر ما نام، ثم ينام قدر ما صلى حتى يصبح، ثم نعتت قراءته، فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفاً حرفاً)) . رواه أبوداود، والترمذي، والنسائي. ـــــــــــــــــــــــــــــ (زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -) بدل أو عطف بيان. (عن قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي عن صفتها من الترتيل والمد والوقف وغير ذلك. (وصلاته) أي في الليل. (وما لكم وصلاته) بالنصب، فإن الواو بمعنى مع أي ما تصنعون بصلاته، والحال أنكم لا طاقة لكم أن تصلوا مثلها، ففيه نوع استغراب. وقال الطيبي: "وما لكم" عطف على مقدر، أي مالكم وقراءته وما لكم وصلاته، والواو في قوله "وصلاته" بمعنى مع، أي ما تصنعون مع قراءته وصلاته، ذكرتها تحسراً وتلهفاً على ما تذكرت من أحوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا أنها أنكرت السؤال على السائل- انتهى. قال القاري: أو معناه أي شيء يحصل لكم مع وصف قراءته وصلاته، وأنتم لا تستطيعون أن تفعلوا مثله، ففيه نوع تعجب، ونظيره قول عائشة: وأيكم يطيق ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطيق. ووقع في رواية أحمد (ج6 ص294) : ما لكم ولصلاته ولقراءته، أي بحذف الواو في الأول وزيادة اللام الجارة في الصلاة. (كان يصلي ثم ينام قدر ما صلى ثم يصلي قدر ما نام ثم ينام قدر ما صلى حتى يصبح) أي كان يستمر حاله هذا من القيام والنيام إلى أن يصبح. وفي رواية للنسائي: قالت أي أم سلمة: كان يصلي العتمة ثم يسبح ثم يصلي بعدها ما شاء الله من الليل ثم ينصرف فيرقد مثل ما صلى ثم يستيقظ من نومه ذلك فيصلي مثل ما نام وصلاته تلك الآخرة تكون إلى الصبح. (ثم نعتت قراءته) أي وصفت قراءته - صلى الله عليه وسلم -. (فإذا هي) أي أم سلمة. (تنعت قراءة مفسرة) بفتح السين المشددة أو كسرها من الفسر وهو البيان أي مبينة. (حرفاً حرفاً) أي كان يقرأ بحيث يمكن عد حروف ما يقرأ، والمراد أن قراءته كانت مرتلة ومجودة ومميزة غير مخالطة، ونعتها لقراءته - صلى الله عليه وسلم - يحتمل وجهين: أحدهما أنها قالت كانت قراءته كذا وكذا. وثانيهما أنها قرأت قراءة مرتلة ومبينة، وقالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ مثل هذه القراءة، وحرفاً حرفاً حال أي حال كونها مفصولة الحروف. قال أبوالبقاء: نصبهما على الحال أي مرتلة نحو أدخلتهم رجلاً رجلاً أي مفردين. . . . . (رواه أبوداود) في أواخر الصلاة. (والترمذي) في أواخر فضائل القرآن. وقال: حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث الليث بن سعد عن ابن أبي ملكية عن أم سلمة- انتهى. والليث بن سعد ثقة ثبت فقيه إمام مشهور، أخرج عنه الجماعة فلا يضر تفرد به، وقد سكت عنه أبوداود، ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره. (والنسائي) وأخرجه أيضاً أحمد (ج6 ص294، 300) والبيهقي (ج3 ص13) .

(32) باب ما يقول إذا قام من الليل

(32) باب ما يقول إذا قام من الليل {الفصل الأول} 1218- (1) عن ابن عباس قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يتهجد قال: اللهم لك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ـــــــــــــــــــــــــــــ (باب ما يقول إذا قام من الليل) من الأدعية والأذكار. 1218- قوله: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يتهجد) أي يصلي صلاة الليل، وهو حال من فاعل "قام" وأصل التهجد ترك الهجود، وهو النوم. وقال ابن فارس: المتهجد المصلي ليلاً، ذكره القسطلاني. وقال الحافظ: تفسير التهجد بالسهر معروف في اللغة، وهو من الأضداد يقال: تهجد إذا سهر وتهجد إذا نام، حكاه الجوهري وغيره، ومنهم من فرق بينهما فقال: هجدت نمت وتهجدت سهرت، حكاه أبوعبيدة وصاحب العين، فعلى هذا أصل الهجود النوم، ومعنى تهجدت طرحت عني النوم. وقال الطبري: التهجد السهر بعد نومة ثم ساقه عن جماعة من السلف. وقال ابن فارس: المتهجد المصلي ليلاً، وقال فرا: التهجد صلاة الليل خاصة- انتهى. وقال الفخر الرازي في تفسيره: قال الأزهري المعروف في كلام العرب أن الهاجد هو النائم، ثم أن في الشرع يقال لمن قام من النوم إلى الصلاة أنه متهجد، فوجب أن يحمل على أنه سمى متهجداً لا لقاءه الهجود عن نفسه، كما قيل للعابد متحنث لا لقاءه الحنث عن نفسه وهو الإثم، ويقال: فلان رجل متحرج ومتأثم ومتحوب أي يلقي الحرج والإثم والحوب عن نفسه- انتهى. (قال) في موضع نصب خبر "كان" و"إذا" المجرد الظرفية، أي كان عليه السلام عند قيامه من الليل متهجداً يقول. وقال الطيبي: الظاهر أن "قال" جواب "إذا". والشرطية خبر كان- انتهى. وفي رواية مالك ومسلم وغيرهما من أصحاب السنن كان يقول: إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل. قال الحافظ: ظاهر السياق أنه كان يقوله أول ما يقوم إلى الصلاة، وترجم عليه ابن خزيمة الدليل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول هذا التحميد بعد أن يكبر، ثم ساقه من طريق قيس بن سعد عن طاووس عن ابن عباس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام للتهجد قال بعد ما يكبر اللهم لك الحمد- انتهى. قلت: ولأبي داود من هذا الطريق أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في التهجد يقول بعد ما يقول الله أكبر. (اللهم لك الحمد) تقديم الخبر للدلالة على التخصيص. (أنت قيم السماوات والأرض) أي القائم بأمره وتدبيره السماوات والأرض وغيرها. وفي رواية: قيام وفي أخرى قيوم، وهي من أبنية المبالغة، وهي من صفات الله تعالى، ومعناه واحد. وقيل: القيم معناه القائم بأمور الخلق ومدبر العالم في جميع أحواله والقيام القائم بنفسه بتدبير خلقه المقيم لغيره، والقيوم من أسماء الله

ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت الحق، ووعدك الحق، ـــــــــــــــــــــــــــــ تعالى المعدودة، وهو القائم بنفسه مطلقاً لا بغيره وهو مع ذلك يقوم به كل موجود، حتى لا يتصور وجود شيء ولا دوام وجوده إلا به، وأصل هذه الألفاظ من الواو قيوم وقيوام وقيووم بوزن فيعل فيعال فيعول، وكأنه قيل: لم خصصتني بالحمد؟ فقال لأنك أنت الذي تقوم بحفظ المخلوقات وتراعيها وتؤتي كل شيء ما به قوامه وما به ينتفع إلى غير ذلك. وتكرير الحمد المخصص للاهتمام بشأنه وليناط به كل مرة معنى آخر. (ومن) غلب فيه العقلاء. (فيهن) أي في السماوات والأرض. (أنت نور السماوات والأرض) أي منورها وخالق نورهما، يعني أن كل شيء استنار منهما وأضاء فبقدرتك وجودك والأجرام النيرة بدائع فطرتك والعقول والحواس خلقك وعطيتك. قيل: وسمي بالنور لما اختص به من إشراق الجمال وسبحات العظمة والجلال التي تضمحل الأنوار دونها، ولما هيأ للعالم من النور ليهتدوا به عالم الخلق، فهذا الاسم على هذا المعنى لا استحقاق لغيره فيه، بل هو المستحق له المدعو به. وقيل: المعنى منزه في السماوات والأرض من كل عيب ومبرأ من كل ريبة، يقال: فلان منور أي مبرأ من العيب. وقيل: هو اسم مدح، يقال: فلان نور البلد أي مزينه. قال في الملمعات: وعند أهل التحقيق هو محمول على ظاهره، والنور عندهم الظاهر بنفسه المظهر لغيره. (أنت ملك السماوات والأرض) بكسر اللام أي المتصرف فيهما تصرفاً كلياً ملكياً وملكياً ظاهرياً وباطنياً، لا نزاع في ملكه ولا شريك له في ملكه. وفي رواية: أنت رب السماوات والأرض. (ومن فيهن) عبر بمن تغليباً للعقلاء لشرفهم وإلا فهو رب كل شيء وملكيه. (أنت الحق) أي المتحقق الوجود الثابت بلا شك فيه. قال القرطبي: هذا الوصف له سبحانه وتعالى بالحقيقة خاص به، لا ينبغي لغيره إذ وجوده بذاته لم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم، ومن عداه ممن عداه يقال فيه ذلك فهو بخلافه. وقيل: يحتمل أن يكون معناه أنت الحق بالنسبة إلى من يدعى فيه أنه إله أو بمعنى أن من سماك إلهاً فقد قال الحق. (ووعدك الحق) أي صادق لا يمكن التخلف فيه، والظاهر أن تعريف الخبر فيه، وفي قوله أنت الحق ليس للقصر، وإنما هو لإفادة أن الحكم به ظاهر مسلم لا منازع فيه، كما قال علماء المعاني في قوله: ووالدك العبد، وذلك لأن مرجع هذا الكلام إلى أنه تعالى موجود صادق الوعد، وهذا أمر يقوله المؤمن والكافر. قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} [31: 25] ولم يعرف في ذلك منازع يعتد به، وكأنه لهذا عدل إلى التنكير في البقية حيث وجد المنازع فيها بقي أن المناسب لذلك أن يقال وقولك الحق، كما في رواية مسلم:، فكان التنكير في رواية البخاري للمشاكلة، قاله السندي. وقال الطيبي: عرف الخبر فيهما ونكر في البواقي، لأنه لا منكر خلفاً وسلفاً أن الله هو الثابت الدائم الباقي، وما سواه في معرض الزوال. قال لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل. وكذا وعده مختص بالإنجاز دون وعد غيره، إما قصداً وإما عجزاً، تعالى الله عنهما، والتنكير في البواقي للتفخيم- انتهى.

ولقاءك حق، وقولك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبي ون حق ومحمد حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال القاري: فإن قلت لم عرف الحق في الأوليين ونكر في البواقي؟ قلت: المعرف بلام الجنس، والنكرة المسافة بينهما قريبة، بل صرحوا بأن مؤداهما واحد لا فرق بينهما، إلا بأن في المعرفة إشارة إلى أن الماهية التي دخل عليها اللام معلومة للسامع، وفي النكرة لا إشارة إليها وإن لم تكن إلا معلومة. وفي صحيح مسلم: قولك الحق بالتعريف أيضاً. وقال الخطابي: عرفهما للحصر، وذكر ما قاله الطيبي- انتهى. (ولقاءك حق) أي المصير إلى الآخرة. وقيل: رؤيتك في الدار الآخرة حيث لا مانع. وقيل: لقاء جزائك لأهل السعادة والشقاوة، وهو وما ذكر بعده داخل تحت الوعد. لكن الوعد مصدر، وما ذكر بعده هو الموعود به، ويحتمل أن يكون من الخاص بعد العام كما أن ذكر القول بعد الوعد من العام بعد الخاص، وقد يراد باللقاء الموت لكونه وسيلة إلى اللقاء، وأبطله النووي. (وقولك حق) أي مدلوله ثابت. وقد تقدم أن في رواية مسلم: وقولك الحق بالتعريف. (والجنة حق والنار حق) أي كل منهما موجود. (ومحمد حق) خص محمداً - صلى الله عليه وسلم - من بين النبي ين بالذكر تعظيماً له، وعطفه عليهم إيذاناً بالتغاير، وأنه فائق عليهم عليهم بأوصاف مختصة به، فإن تغاير الوصف ينزل منزلة تغاير الذات، ثم حكم عليه استقلالاً بأنه حق وجوده عن ذاته كأنه غيره وأوجب عليه الإيمان به وتصديقه مبالغة في إثبات نبوته كما في التشهد. وقال السندي: قوله: محمد حق التأخير للتواضع وهو أنسب بمقام الدعاء، وذكره على الإفراد لذلك وليتوسل بكونه نبياً حقاً إلى إجابة الدعاء. وقيل: هو من عطف الخاص على العام تعظيماً له ومقام الدعاء يأبى ذلك- انتهى. (والساعة حق) أي يوم القيامة. وأصل الساعة الجزء القليل من اليوم أو الليلة ثم استعير للوقت الذي تقام فيه القيامة، يريد أنها ساعة حقيقة يحدث فيها أمر عظيم. وإطلاق اسم الحق على ما ذكر من الأمور معناه أنه لا بد من كونها، وأنها مما يجب أن يصدق بها. وتكرار لفظ حق للمبالغة في التأكيد. (لك أسلمت) أي انقدت وخضعت. (وبك آمنت) أي صدقت. (وعليك توكلت) أي فوضت الأمر إليك تاركاً للنظر في الأسباب العادية. (وإليك أنبت) أي رجعت إليك مقبلاً بقلبي إليك. قيل: التوبة والإنابة كلاهما بمعنى الرجوع، ومقام الإنابة أعلى وأرفع. (وبك خاصمت) أي بما أعطيتني من البراهين وبما لقنتني من الحجج خاصمت من خاصمني من أعدائك بتأئيدك ونصرتك قاتلت. (وإليك حاكمت) أي رفعت أمري إليك. والمحاكمة رفع الأمر إلى القاضي. قال الحافظ: أي كل من جحد الحق حاكمته إليك وجعلتك الحكم بيني وبينه لا غير مما كانت تحاكم إليه الجاهلية وغيرهم من كاهن ونحوه، فلا أرضى إلا يحكمك ولا أعتمد غيره. وقدم مجموع صلات هذه الأفعال عليها إشعاراً بالتخصيص وإفادة للحصر. وقال السندي: الظاهر أن تقديم الجار للقصر بالنظر إلى سائر ما عبد من دون الله تعالى. (فاغفر لي) قال

ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت، ولا إله غيرك)) . متفق عليه. 1219- (2) عن عائشة، قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل افتتح صلاته فقال: اللهم رب جبريل ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك مع كونه مغفوراً له إما على سبيل التواضع والهضم لنفسه إجلالاً وتعظيماً لربه، أو على سبيل التعليم لأمته لتقتدي به (ما قدمت) أي قبل هذا الوقت. (وما أخرت) أي وما سأفعل أو ما فعلت وما تركت. (وما أسررت وما أعلنت) أي أخفيت وأظهرت أو ما حدثت به نفسي وما تحرك به لساني. (وما أنت أعلم به مني) هذا من ذكر العام بعد الخاص. (أنت المقدم وأنت المؤخر) قال المهلب: أشار بذلك إلى نفسه، لأنه المقدم في البعث في الآخرة والمؤخر في البعث في الدنيا. وقال عياض: قيل: معناه المنزل للأشياء منازلها يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء، وجعل عباده بعضهم فوق بعض درجات. وقيل: هو بمعنى الأول والآخر، إذ كل متقدم على متقدم فهو قبله، وكل مؤخر على متأخره فهو بعده، ويكون المقدم والمؤخر بمعنى الهادي والمضل قدم من يشاء لطاعته لكرامته، وأخر من شاء بقضائه لشقاوته- انتهى. قال الكرماني: هذا الحديث من جوامع الكلم، لأن لفظ القيم إشارة إلى أن وجود الجواهر وقوامها منه، وبالنور إلى أن الأعراض أيضاً منه، وبالملك إلى أن حاكم عليها إيجاداً وإعداماً، يفعل ما يشاء كل ذلك من نعم الله تعالى على عباده، فلهذا قرن كلاً منها بالحمد وخصص الحمد به، ثم قوله: أنت الحق إشارة إلى أنه المبدئ للفعل والقول ونحوه إلى المعاش والساعة، ونحوها إشارة إلى المعاد، وفيه الإشارة إلى النبوة وإلى الجزاء ثواباً وعقاباً، ووجوب الإسلام والإيمان والتوكل والإنابة والتضرع إلى الله تعالى والخضوع له- انتهى. وفيه زيادة معرفة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعظمة ربه وعظيم قدرته ومواظبته في الليل على الذكر والدعاء والاعتراف له بحقوقه والإقرار بصدق وعده ووعيده وغير ذلك. وفيه استحباب تقديم الثناء على المسألة عند كل مطلوب إقتداء به - صلى الله عليه وسلم -. (لا إله إلا أنت ولا إله غيرك) قال القاري: وفي نسخة "أو" بدل الواو. قال ميرك: كذا في البخاري بلفظ: "أو" -انتهى. (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب التهجد بالليل إلا قوله: "وما أنت أعلم به مني"، فإنه أخرج الحديث بهذه الزيادة في التوحيد، وزاد في الدعوات: أنت إلهي لا إله غيرك. والحديث أخرجه أيضاً مالك في الصلاة، والترمذي في الدعوات، وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي في الصلاة. 1219- قوله: (افتتح صلاته) أي التهجد. (اللهم رب جبريل) منصوب على أنه منادى بتقدير حرف النداء، أو بدل من"اللهم" لا وصف له، لأن لحوق الميم المشددة مانع من التوصيف عند سيبويه، نعم جوز

وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)) . رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الزجاج التوصيف أيضاً. قال القاري: قيل لا يجوز نصب "رب" على الصفة، لأن الميم المشددة بمنزلة الأصوات، فلا يوصف بما اتصل به، فالتقدير: يا رب جبريل. قال الزجاج: هذا قول سيبوية. وعندي: أنه صفة فكما لا تمتنع الصفة مع ياء لا تمتنع مع الميم. قال أبوعلي: قول سيبوية عندي أصح، لأنه ليس في الأسماء الموصوفة شيء على حد اللهم، ولذلك خالف سائر الأسماء، ودخل في حيز ما لا يوصف، نحو حيهل فإنها صارا بمنزلة صوت مضموم إلى اسم، فلم يوصف، ذكر الطيبي (جبريل) بالهمزة، وكذا وقع في جامع الترمذي والنسائي وابن ماجه بالهمز. قال ابن ماجه: قال عبد الرحمن بن عمر. (يعني شيخه) أحفظوه جبريل مهموزة، فإنه كذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى. وفي بعض نسخ المشكاة: جبريل أي بغير الهمزة، وكذا وقع في نسخ مسلم وأبي داود، وفي المصابيح والسنن البيهقي وجامع الأصول. (وميكائيل وإسرافيل) تخصيص هؤلاء الثلاثة بالإضافة مع أنه تعالى رب كل شيء لتشريفهم وتفضيلهم على غيرهم، والمقام مقام وصفه تعالى بالملك والبقاء والإيجاد. وهذه الصفات لا تعلق بعزرائيل فلم يتعرض له بالذكر مع كونه أحد الملائكة العظام. قال النووي: قال العلماء خصهم بالذكر وإن كان الله تعالى رب كل مخلوقات، كما تقرر في القرآن والسنة من نظائره من الإضافة إلى كل عظيم المرتبة وكبير الشأن دون ما يستحقر ويستصغر، فيقال له تعالى: {رب السماوات ورب الأرض، رب العرش الكريم، ورب الملائكة، والروح، رب المشرقين، ورب المغربين، رب الناس، ملك الناس، إله الناس، رب العالمين} . فكل ذلك وشبهة وصف له سبحانه بدلائل العظمة وعظيم القدرة والملك ولم يستعمل ذلك فيما يحتقر ويستصغر فلا يقال رب الحشرات وخالق القردة والخنازير. وشبه ذلك على الأفراد وإنما يقال خالق المخلوقات، وخالق كل شيء. وحينئذٍ تدخل هذه في العموم- انتهى. (فاطر السماوات والأرض) أي مبدعهما ومخترعهما. (عالم الغيب والشهادة) أي بما غاب وظهر عند غيره. . (أنت تحكم بين عبادك) يوم القيامة بالتمييز بين المحق والمبطل بالثواب والعقاب. (فيما كانوا فيه يختلفون) أي من أمر الدين. (اهدني) أي زدني هدى أو ثبتني، فليس المطلوب تحصيل الحاصل. (لما اختلف) على بناء المفعول. (فيه) أي للذي اختلف فيه عند مجيء الأنبياء، وهو الطريق المستقيم الذي دعوا إليه، فاختلفوا فيه. (من الحق) بيان لما". (بإذنك) أي بتوفيقك وتيسيرك. (إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) جملة استئنافية متضمنة للتعليل. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً الترمذي في الدعوات وأبوداود والنسائي وابن ماجه في الصلاة وابن حبان والبيهقي (ج3 ص5) .

1220- (3) وعن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من تعار من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: رب اغفر لي، أو قال: ثم دعا، أستجيب له، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1220- قوله: (من تعار) بفتح المثناة الفوقية والعين لمهملة وبعد الألف راء مشددة، أي انتبه واستيقظ من النوم. (من الليل) أي في الليل. قال التوربشتي: أن تعار يتعار يستعمل في انتباه معه صوت يقال: تعار الرجل إذا هب من نومه مع صوت، وأرى استعمال هذا اللفظ في هذا الموضع دون الهبوب والانتباه والاستيقاظ وما في معناه لزيادة معنى، وهو أنه أراد أن يخبر بأن من هب من نومه ذاكراً لله تعالى مع الهبوب فيسأل الله خيراً أعطاه، فأوجز في اللفظ وأعرض في المعنى وأتى من جوامع الكلم التي أوتيها تعار ليدل على المعنيين وأراه مثل قوله تعالى: {يخرون للأذقان سجداً} [17: 107] فإن معنى خر سقط سقوطاً يسمع منه خرير، ففي استعمال الخرور في هذا الموضع تنبيه على اجتماع الأمرين السقوط وحصول الصوت منهم بالتسبيح، وكذلك في قوله تعار تنبيه على الجمع بين الانتباه والذكر، وإنما يوجد ذلك عند من تعود الذكر فاستأنس به وغلب عليه حتى صار حديث نفسه في نومه ويقظته- انتهى. وقال ابن التين: ظاهر الحديث أن معنى تعار استيقظ، لأنه قال من تعار فقال فعطف القول على التعار- انتهى. قال الحافظ: يحتمل أن يكون الفاء تفسيرية لما صوت به المستيقظ، لأنه قد يصوت بغير ذكر، فخص الفضل المذكور لمن صوت بما ذكر من ذكر الله تعالى وهذا هو السر في اختيار تعار دون استيقظ وانتبه. (له الملك وله الحمد) زاد أبونعيم في الحلية: يحيى ويميت. (وسبحان الله والحمد لله) كذا وقع بتقديم التسبيح على الحمد في جميع النسخ موافقاً لما في المصابيح، وكذا وقع عند الترمذي وأبي داود وابن ماجه، ووقع في البخاري بتقديم الحمد على التسبيح، وكذا نقله الجزري (ج5 ص 79) قال الحافظ: لم تختلف الروايات في البخاري على تقديم الحمد على التسبيح، لكن عند الإسماعيلي بالعكس، والظاهر أنه من تصرف الرواة، لأن الواو لا تستلزم الترتيب- انتهى. (ولا حول قوة إلا بالله) زاد النسائي وابن ماجه وابن السني: العلي العظيم. (ثم قال رب اغفر لي) قال القاري: وفي نسخة اللهم اغفر لي. قلت: وهكذا وقع في جامع الأصول. (أو قال ثم دعا) في البخاري ثم قال اللهم اغفر لي أو دعا. قال الحافظ: "أو" للشك، ويحتمل أن تكون للتنويع، ويؤيد الأول ما عند الإسماعيلي بلفظ: ثم قال رب اغفر لي غفر له أو قال فدعا. استجيب له شك الوليد. (راوي الحديث) واقتصر النسائي على الشق الأول. (أستجيب له) قال ابن الملك

{الفصل الثاني}

فإن توضأ وصلى قبلت صلاته)) . رواه البخاري. {الفصل الثاني} 1221- (4) عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استيقظ من الليل قال: لا إله إلا أنت، سبحانك اللهم وبحمدك، أستغفرك لذنبي، وأسألك رحمتك، اللهم زدني علما، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك ـــــــــــــــــــــــــــــ المراد بها الاستجابة اليقينية، لأن الاحتمالية ثابتة في غير هذا الدعاء. وقال بعض أهل العلم: استجابة الدعاء في هذا الموطن، وكذا مقبولية الصلاة فيه أرجى منهما في غيره. (فإن توضأ وصلى) قال الطيبي: الفاء للعطف على دعا أو على قوله: قال لا إله إلا الله. والأول أظهر. وقال القاري: الظاهر هو الثاني. (قبلت صلاته) قال ابن الملك: وهذه المقبولية اليقينية على الصلاة المتعقبة على الدعوة الحقيقية كما قبلها. قال ابن بطال: وعد الله على لسان نبيه أن من استيقظ من نومه لهجاً لسانه بتوحيد ربه والإذعان له بالملك والاعتراف بنعمة يحمده عليها وينزهه عما لا يليق به بتسبيحه والخضوع له بالتكبير والتسليم له بالعجز عن القدرة إلا بعونه أنه إذا دعاه أجابه وإذا صلى قبلت صلاته، فينبغي لمن بلغه هذا الحديث يغتنم العمل ويخلص نيته لربه سبحانه وتعالى. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً الترمذي في الدعوات وأبوداود في الأدب والنسائي في اليوم والليلة وابن ماجه في الدعاء والبيهقي (ج3 ص5) . 1221- قوله: (إذا استيقظ من الليل) أي انتبه من نومه. (وبحمدك) لم أجد هذا اللفظ في نسخ أبي داود، ولا في المصابيح، نعم نقله الجزري في جامع الأصول (ج5 ص78) والظاهر أن المصنف ذكره تبعاً للجزري، والله أعلم. (أستغفرك ذنبي) أراد تعليم أمته أو تعظيم ربه وجلالته، أو سمي ترك الأفضل لضرورة بيان الجواز أو غير ذلك ذنباً على مقتضى كمال طاعته. (اللهم زدني علما) التنكير للتفخيم. (ولا تزغ قلبي) أي لا تجعل قلبي مائلاً عن الحق إلى الباطل، من أزاغ أي أمال عن الحق إلى الباطل وزاغ عن الطريق عدل عنه. قال الطيبي: أي لا تبلني ببلاء يزيغ فيه قلبي. (بعد إذا هديتني) أي أرشدتني إلى الحق وأقمتني عليه بل ثبتني عليه، "وبعد" منصوب بلا تزغ على الظرف، و"إذ" في محل بإضافة بعد إليه خارج عن الظرفية، أي بعد وقت هدايتك إيانا. وقيل: إنها بمعنى أن. (وهب لي من لدنك) متعلق بهب، ولدن ظرف، وهي لأول غاية زمان أو مكان أو غيرهما من الذوات نحو من لدن زيد، فليست مرادفة لعند، بل قد تكون بمعناها، وأكثر ما تضاف إلى المفردات، وقد تضاف إلى أن وصلتها لأنها في تأويل المفرد، وقد تضاف إلى الجملة الاسمية أو الفعلية "ومن"

رحمة إنك أنت الوهاب)) . رواه أبوداود. 1222- (5) وعن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من مسلم يبيت على ذكر طاهراً فيتعار من الليل، فيسأل الله خيراً إلا أعطاه الله إياه)) . رواه أحمد وأبوداود. 1223- (6) وعن شريق الهوزني، قال: ((دخلت على عائشة فسألتها: بما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفتتح إذا هب من الليل؟ فقالت: سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك، كان إذا هب من الليل كبر عشراً، وحمد الله ـــــــــــــــــــــــــــــ لابتداء الغاية أي أعطني رحمة كائنة من عندك فضلاً وكرماً منك. (رحمة) التنكير والتعظيم أي رحمة عظيمة واسعة تزلفني إليك وأفوز بها عندك، أو توفيقاً للثبات على الإيمان والحق. (إنك أنت الوهاب) أي لكل مسؤل تعليل للسؤال أو لإعطاء المسؤل. قال ابن الملك: وهذا تعليم للأمة ليعلموا أن لا يجوز لهم الأمن من مكر الله وزال نعمته. (رواه أبوداود) في الأدب. وأخرجه أيضاً النسائي وابن حبان والحاكم وصححه، وابن مردويه وابن السني في عمل اليوم والليلة. 1222- قوله: (يبيت) أي يرقد في الليل. (على ذكر) من الأذكار المستحبة عند النوم، أو مطلق الأذكار حال كونه. (طاهراً) أي متوضئاً (فيتعار) بتشديد الراء أي يستيقظ من النوم. (فيسأل الله خيراً) كذا في جميع النسخ، وكذا في المصابيح. ولفظ أحمد: فيسأل الله خيراً من أمر الدنيا والآخرة. وفي رواية له: خيراً من خير الدنيا والآخرة. وفي أخرى له أيضاً: ولأبي داود: خيراً من الدنيا والآخرة، ولابن ماجه: فسأل الله شيئاً من أمر الدنيا أو من أمر الآخرة. (رواه أحمد) (ج5 ص235، 241، 244) . (وأبو داود) في الأدب وسكت عليه هو والمنذري. وأخرجه أيضاً النسائي في اليوم والليلة وابن ماجه في الدعاء، وفي الباب عن ابن عمر وابن عباس وأبي أمامة، ذكر أحاديثهم المنذري في باب الترغيب في أن ينام الإنسان طاهراً. 1223- قوله: (وعن شريق) بفتح الشين المعجمة وكسر الراء المهملة بعدها قاف. (الهوزني) بفتح الهاء والزاي نسبة إلى هوزن بن عوف حي من اليمن، وشريق هذا تابعي حمصي. قال في التقريب: مقبول. وذكره ابن حبان في الثقات. (بم كان) أي بأي شيء كان. (يفتتح) أي يبتدأ من الأذكار. (إذا هب) أي استيقظ. (من الليل) قال الطيبي: أي من نوم الليل والإضافة بمعنى في. (فقالت سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك) كأنها رضي الله عنها حمدت السائل على سؤاله. (كبر عشراً) أي قال الله أكبر عشر مرات. (وحمد الله عشراً) أي

{الفصل الثالث}

عشراً، وقال: سبحان الله وبحمده عشراً، وقال: سبحان الملك القدوس عشراً، واستغفر الله عشراً، وهلل الله عشراً، ثم قال: اللهم إني أعوذ بك من ضيق الدنيا وضيق يوم القيامة عشراً، ثم يفتتح الصلاة)) . رواه أبوداود. {الفصل الثالث} 1224- (7) عن أبي سعيد، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذا قام من الليل كبر، ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك، ثم يقول: الله أكبر كبيراً، ثم يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الحمد لله (عشراً) أي عشر مرات (سبحان الملك القدوس) أي المنزه عن كل عيب وآفة. (واستغفر الله عشراً) اعترافاً بالتقصير وتعليماً للأمة. (وهلل الله) أي قال لا إله إلا الله. (من ضيق الدنيا) أي مكارهها التي يضيق الصدر ويزيغ القلب. وقال القاري: أي شدائدها، لأن من به مشقة من مرض أو دين أو ظلم صارت الأرض عليه بعينه ضيقة. (وضيق يوم القيامة) أي شدائد أحوالها وسكرات أهوالها. (عشراً) فصار المجموع سبعين المعبر عنه بالكثرة. (ثم يفتتح الصلاة) أي صلاة التهجد. (رواه أبوداود) في الأدب، وسكت عنه. وقال المنذري: وأخرجه النسائي، وفي سنده بقية بن الوليد، وفيه مقال- انتهى. قلت: بقية هذا صدوق كثير التدليس، لكن قد صرح بالتحديث في روايته عند ابن السني (ص244) وروى أبوداود والنسائي وابن ماجه كلهم في الصلاة عن عاصم بن حميد قال: سألت عائشة بأي شيء كان يفتتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قيام الليل فقالت: لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك، كان إذا قام كبر عشراً وحمد الله عشراً وسبح عشراً وهلل عشراً واستغفر عشراً وقال اللهم اغفر لي واهدني وارزقني وعافني ويتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة. 1224- قوله: (عن أبي سعيد) أي الخدري. (إذا قام من الليل) أي لصلاة التهجد. (كبر) للتحريمة. (ثم يقول) قال الطيبي: قوله كبر ثم يقول في المواضع الثلاث بالمضارع عطفاً على الماضي للدلالة على استحضار تلك المقالات في ذهن السامع، وثم لتراخي الإخبار، ويجوز أن يكون لتراخي الأقوال في ساعات الليل. (سبحانك اللهم وبحمدك) أي أنزهك تنزيهاً مقروناً بحمدك. (وتبارك اسمك) أي تكاثر خير فضلاً عن مسماه. (وتعالى جدك) أي ارتفع عظمتك فوق كل عظمة تتصور أو تعالى غناك عن أن يحتاج لأحد. (ثم يقول الله أكبر) بالسكون ويضم، قاله القاري. (كبيراً) حال مؤكدة. وقيل: منصوب على القطع من اسم الله. وقيل: بإضمار

من همزه ونفخه ونفثه)) . رواه الترمذي، وأبوداود، والنسائي، وزاد أبوداود بعد قوله: غيرك: ثم يقول لا إله إلا الله ثلاثاً: وفي آخر الحديث. ثم يقرأ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أكبر. وقيل: صفة لمحذوف أي تكبيراً كبيراً. (من همزه) بدل اشتمال أي من نخزه يعني وسوسته وإغواءه، وفسر أيضاً بالجنون. (ونفخه) أي كبره وعجبه. (ونفثه) أي سحره وشعره، وكل من الثلاثة بفتح فسكون، وقد تقدم الكلام في معانيها بالبسط في باب ما يقرأ بعد التكبير. (رواه الترمذي وأبوداود والنسائي) قال ابن حجر والحاكم وابن حبان في صحيحه- انتهى. وأخرجه أيضاً أحمد (ج3 ص50) والبيهقي (ج2 ص34) مطولاً وابن ماجه مختصراً. (وزاد أبوداود بعد قوله ثم يقول لا إله إلا الله ثلاثاً) أي ثلاث مرات، وزاد أيضاً لفظ ثلاثاً بعد قول الله أكبر كبيراً. (وفي آخر الحديث) أي بعد الاستعاذة. (ثم يقرأ) أي يشرع في قراءة الفاتحة. والحديث أخرجوه كلهم من طريق جعفر بن سليمان الضبعي عن علي بن علي الرفاعي عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد، وقد تكلم فيه أبوداود والترمذي وصرح أحمد بعدم صحته. أما أبوداود فقال هذا الحديث يقولون (أي المحدثون) هو عن علي بن علي عن الحسن مرسلاً، الوهم من جعفر. (يعني وهم جعفر بن سليمان، فرواه موصولاً عن علي بن علي عن أبي المتوكل عن أبي سعيد، وإنما هو عن علي عن الحسن البصري مرسل) وأما الترمذي فقال: حديث أبي سعيد أشهر حديث في هذا الباب، وقال: وقد تكلم في إسناد حديث أبي سعيد كان يحيى بن سعيد يتكلم في علي بن علي. وقال أحمد: لا يصح هذا الحديث- انتهى: قلت: الظاهر أن هذا الحديث صحيح لا حجة لمن تكلم فيه، وجعفر بن سليمان المذكور ثقة، وثقة ابن معين وابن المديني وابن سعد. وقال أحمد: لا بأس به. وقال أبوأحمد: حسن الحديث معروف بالتشيع، وهو عندي ممن يجب أن يقبل حديثه. وقال ابن شاهين في المختلف فيهم: إنما تكلم فيه لعلة المذهب، وما رأيت من طعن في حديثه إلا ابن عمار بقوله: جعفر بن سليمان ضعيف. وقال البزار: لم نسمع أحدا يطعن عليه في الحديث ولا في خطأ فيه، إنما ذكرت عنه شيعيته. وأما حديثه فمستقيم. وقال ابن حبان: كان من الثقات في الروايات، غير أنه كان ينتحل الميل إلى أهل البيت ولم يكن بداعية إلى مذهبه، وليس بين أهل الحديث من أئمتنا خلاف أن الصدوق المتقن إذا كانت فيه بدعة ولم يكن يدعو إليها الاحتجاج بخبره جائز- انتهى. وأما علي بن علي الرفاعي اليشكري فهن أيضاً ثقة، وثقه وكيع وابن معين وأبوزرعة وابن عمار. وقال أحمد وأبوبكر البزار والنسائي: ليس به بأس. وقال شعبة اذهبوا بنا إلى سيدنا وابن سيدنا علي بن علي الرفاعي. وقال الآجري: أثني عليه أبوداود. وقال الفضل بن دكين وعفان: كان يشبه النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما أحمد بن حنبل فقال: لا يصح هذا الحديث، كما تقدم، ولم يبين وجه عدم صحته.

(33) باب التحريض على قيام الليل

1225- (8) وعن ربيعة بن كعب الأسلمي، قال: ((كنت أبيت عند حجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فكنت أسمعه إذا قام من الليل يقول: سبحان رب العالمين الهوي، ثم يقول: سبحان الله وبحمده الهوي)) . رواه النسائي. وللترمذي نحوه، وقال: حديث حسن صحيح. (33) باب التحريض على قيام الليل {الفصل الأول} 1226- (1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يعقد الشيطان ـــــــــــــــــــــــــــــ 1225- قوله: (عن ربيعة بن كعب) بن مالك. (الأسلمي) صحابي من أهل الصفة، خدم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فروى أحمد (ج4 ص59) عن نعيم بن مجمر عن ربيعة قال: كنت أخدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقوم له في حوائجه نهاري أجمع حتى يصلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء الآخرة فأجلس ببابه إذا دخل بيته أقول: لعلها أن تحدث لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاجة الخ. (كنت أبيت) وفي رواية لأحمد: كنت أنام. (عند حجرة النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي عند باب الحجرة فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -. (فكنت أسمعه) بصيغة المتكلم والضمير المنصوب للنبي - صلى الله عليه وسلم -. (إذا قام من الليل) يصلي. (يقول سبحان رب العالمين الهوي) بفتح الهاء وكسر الواو ونصب الياء المشددة. قال في النهاية: الحين الطويل من الزمان. وقيل: هو مختص بالليل، فإن قلت مالفرق بين قوله هويا منكراً في حديث حميد بن عبد الرحمن في الفصل الثالث من باب صلاة الليل وبين الهوي ههنا معرفا؟ قلت: التعريف لاستغراق الحين الطويل بالذكر بحيث لا يفتر عنه في بعضه، والتنكير لا يفيده نصاً، كما تقول قام زيد اليوم أي كله أو يوماً أي بعضه، ومنه قوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً} [17: 1] أي بعضاً من الليل، قاله الطيبي: (ثم يقول سبحان الله وبحمده الهوي) وفي رواية لأحمد: فكنت أسمعه إذا قام من الليل يصلي الحمد لله رب العالمين الهوي، قال: ثم يقول سبحان الله العظيم وبحمده الهوي. وفي رواية له أيضاً: كنت أبيت عند باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطيه وضوءه فأسمعه بعد هوي الليل يقول سمع الله لمن حمده، وأسمعه بعد الهوي من الليل يقول الحمد لله رب العالمين. (رواه النسائي) أي بهذا اللفظ في باب ذكر ما يستفتح به القيام من كتاب قيام الليل. (وللترمذي نحوه) أي بمعناه أخرجه في باب الدعاء إذا انتبه من الليل من أبواب الدعوات، وأخرجه أيضاً أحمد (ج4 ص57، 58) وابن ماجه في باب ما يدعو به إذا انتبه من الليل من أبواب الدعاء والبيهقي (ج2 ص486) . (باب التحريض) أي الترغيب والتحثيث. (على قيام الليل) أي صلاة التهجد. 1226- قوله: (يعقد) بكسر القاف أي يشد ويربط. (الشيطان) المراد به الجنس، ويكون فاعل ذلك

على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة: عليك طويل فارقد، ـــــــــــــــــــــــــــــ القرين أو غيره من أعوان الشيطان، ويحتمل أن يراد به رأس الشياطين وهو إبليس، وتجوز نسبة ذلك إليه، لكونه الآمر لأعوانه بذلك الداعي إليه (على فاقية رأس أحدكم) أي مؤخره، وقفاه وقافية كل شيء آخره، ومنه قافية الشعر، لأنه آخره. وظاهر قوله "أحدكم" التعميم في المخاطبين، ومن في معناهم، ويمكن أن يخص منه من ورد في حقه أنه يحفظ من الشيطان كالأنبياء ومن يتناوله قوله: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} ، وكمن قرأ آية الكرسي عند نومه لطرد الشيطان، فقد ثبت أنه يحفظ من الشيطان حتى يصبح. (إذا هو نام) أي حين نام. قال الحافظ: كذا للأكثر، وللحموي والمستملي: إذا هو نائم بوزن فاعل، والأول أصوب، وهو الذي في الموطأ- انتهى. وقيل: بل الظاهر أن رواية المستملي أصوب، لأنها جملة اسمية والخبر فيها اسم. (ثلاث عقد) كلام إضافي منصوب، لأنه مفعول، والعقد بضم العين وفتح القاف جمع عقدة بسكون القاف، والتقييد بالثلاث. إما للتأكيد أو لأنه يريد أن يقطعه عن ثلاثة أشياء الذكر والوضوء والصلاة، فكأنه منع من كل واحدة منها بعقدة عقدها على مؤخر رأسه، وكان تخصيص القفا بذلك، ولكونه محل الواهمة ومحل تصرفها، وهو أطوع القوى للشيطان وأسرع إجابة لدعوته. (على كل عقدة) متعلق بيضرب، وللمستلي: على مكان عقدة، والكشمهيني: عند يلقي مكان كل عقدة. وقوله: يضرب أي بيده على العقدة تأكيداً وأحكاماً لها قائلاً: عليك ليل طويل. وقيل: معناه يلقي الشيطان في نفس النائم هذا القول ويسوله واقعاً ومستولياً على كل عقدة يعقدها من ضرب الشبكة على الطائر ألقاها عليه. وقيل ومعناه يحجب الحس عن النائم حتى لا يستيقظ، ومنه قوله تعالى: {وضربنا على آذانهم} [18: 11] أي حجبنا الحس أن يلج في آذانهم فينتبهوا، وفي حديث أبي سعيد: ما ينام أحد إلا ضرب على سماخه بجرير معقود. أخرجه المخلص في فوائده. والسماخ بكسر السين المهملة وآخره معجمة، ويقال بالصاد المهملة بدل السين. (عليك ليل طويل فارقد) أي يضرب على كل عقدة قائلاً عليك ليل طويل الخ. فالجملة مفعول للقول المحذوف، وارتفاع ليل بالابتداء وعليك خبره مقدماً، أي باق عليك ليل طويل، ويجوز أن يكون ارتفاع ليل بفعل محذوف، أي بقي عليك ليل طويل، وعلى هذا كان الفاء في قوله "فارقد" رابطة شرط مقدر، أي وإذا كان كذلك فارقد ولا تعجل بالقيام ففي الوقت متسع. وقيل: قوله عليك اغراء أي عليك بالنوم أمامك ليل طويل، فالكلام جملتان، والثانية مستأنفة كالتعليل للجملة الأولى. وفي رواية مسلم: عليك ليلاً طويلاً. قال عياض رواية الأكثرين عن مسلم بالنصب على الإغراء. قال القرطبي: الرفع أولى من جهة المعنى، لأنه الأمكن في الغرور من حيث أنه يخبره عن طويل الليل ثم يأمره بالرقاد بقوله "فارقد". وإذا نصب على الإغراء لم يكن فيه إلا الأمر بملازمة طول الرقاد، وحينئذٍ يكون قوله "فارقد" ضائعاً، ومقصود الشيطان بذلك تسويفه بالقيام والإلباس عليه. وقد اختلف في هذا العقد: فقيل هو على الحقيقة، وأنه كما يعقد الساحر من يسحره، وأكثر من يفعله النساء تأخذ إحداهن

فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة، ـــــــــــــــــــــــــــــ الخيط فتعقد منه عقدة، وتتكلم عليها بالكلمات السحرية، فيتأثر المسحور عند ذلك، ومنه قوله تعالى. {ومن شر النفاثات في العقد} [4:113] وعلى هذا فالمعقود شيء عند قافية الرأس لا قافية نفسها، وهل العقد في شعر الرأس أو في غيره؟ الأقرب الثاني إذ ليس لكل أحد شعر، ويؤيده رواية ابن ماجه بلفظ: يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم بالليل بحبل فيه ثلاث عقد، ولأحمد: إذا نام أحدكم عقد على رأسه بجرير، ولابن خزيمة وابن حبان من حديث جابر: ما من ذكر ولا أنثى إلا على رأسه جرير معقود حين يرقد-الحديث. والجرير بفتح الجيم هو الحبل وقيل: هو على المجاز كأنه شبه فعل الشيطان بالنائم من منعه من الذكر والصلاة بفعل الساحر بالمسحور بجامع المنع من التصرف، فلما كان الساحر يمنع بعقده ذلك تصرف من يحاول عقده كان هذا مثله من الشيطان للنائم الذي لا يقوم من نومه إلى ما يحب من ذكر الله والصلاة، وقيل: المراد به عقد القلب وتصميمه على الشيء كأنه يوسوس له، بأنه بقي من الليل قطعة طويلة فيتأخر عن القيام، وانحلال العقد كناية عن علمه بكذبه فيما وسوس به. وقيل: العقد كناية عن تثبيط الشيطان وتعويقه للنائم من قيام الليل بالقول المذكور، ومنه عقدت فلانًا عن امرأته أي منعته عنها، أو عن تثقيله عليه النوم وإطالته، كأنه قد سد عليه سداً وعقد عليه عقداً. قال البيضاوي: عقد الشيطان على قافيته استعارة عن تسويل الشيطان وتحبيبه النوم إليه والدعة والاستراحة، يعني أن الشيطان يحبب إليه النوم ويزين له الدعة والاستراحة، ويسول كلما انتبه أنه لم يستوف حظه من النوم، فيوثقه عن القيام إلى العبادة ويبطئه بتلك التسويلات عن النهوض إليها. (فإن استيقظ) أي من نوم الغفلة. (فذكر الله) بأي ذكر كان، لكن المأثور أفضل. قال الحافظ: لا يتعين للذكر شيء مخصوص لا يجزئ غيره بل كل ما صدق عليه ذكر الله أجزأ ويدخل فيه تلاوة القرآن وقراءة الحديث النبوي والاشتغال بالعلم الشرعي، وأولى ما يذكر به ما تقدم في الباب الذي قبله من حديث عبادة بن الصامت. (انحلت) أي انفتحت. (عقدة) واحدة من الثلاث. (فان توضأ) خص الوضوء بالذكر، لأنه الغالب، وإلا فالجنب لا تنحل عقدته إلا بالاغتسال والتيمم، يقوم مقام الوضوء والغسل، ويجزئ عنهما لمن ساغ له ذلك، ولا شك أن في معاناة الوضوء عوناً كبيراً على طرد النوم لا يظهر مثله في التيمم. (انحلت عقدة) أخرى ثانية. (فإن صلى) أي النافلة ولو ركعتين. قال العراقي في شرح الترمذي: السر في استفتاح الصلاة بركعتين خفيفتين المبادرة إلى حل عقد الشيطان، وبناه على أن الحل لا يتم إلا بتمام الصلاة. قال الحافظ: وهو واضح، وقد وقع عند ابن خزيمة عن أبي هريرة في آخر الحديث: فحلوا عقد الشيطان ولو بركعتين. وفعله - صلى الله عليه وسلم - مع كونه محفوظاً ومنزهاً عن عقد الشيطان تعليماً للأمة وإرشاداً لهم إلى ما يحفظهم من الشيطان. (انحلت عقدة) كذا في جميع النسخ الموجودة عندنا بلفظ الإفراد، وكذا وقع في المصابيح. قال الحافظ في الفتح قوله: انحلت عقده بلفظ الجمع بغير اختلاف في البخاري، ووقع لبعض رواة الموطأ بالإفراد-انتهى. قال

فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس، كسلان)) ـــــــــــــــــــــــــــــ القاري: فينبغي أن يكون في المشكاة بلفظ الجمع لقوله في آخره: متفق عليه، لكن في جميع النسخ الحاضرة بلفظ الإفراد، ذكره ميرك-انتهى. قلت: وقع في نسخ البخاري الموجودة الحاضرة عندنا من طبعات الهند ومصر: انحلت عقدة أي بالإفراد. وقال القسطلاني قوله: عقده ضبطها في اليونينية بلفظ الجمع والإفراد، كما ترى. قال ابن قرقول في مطالعة كعياض في مشارقه: لا خلاف في الأولى، والثانية أنه بالإفراد، واختلف في الثالثة فقط فوقع في الموطأ لابن وضاح على الجمع، وكذا ضبطناه في البخاري، وكلاهما يعني الجمع والإفراد صحيح والجمع أوجه. لاسيما وقد جاء في رواية مسلم في الأولى عقدة، وفي الثانية عقدتان، وفي الثالثة العقد-انتهى. قال الحافظ: ويؤيد الإفراد رواية أحمد بلفظ: فإن ذكر الله انحلت عقدة واحدة، وإن قام فتوضأ أطلقت الثانية، فإن صلى أطلقت الثالثة، وكأنه محمول على الغالب، وهو من ينام مضطجعاً فيحتاج إلى الوضوء إذا انتبه، فيكون لكل فعل عقدة يحلها، ويؤيد الأول أي الجمع ما في بدء الخلق عند البخاري بلفظ: عقده كلها. ولمسلم: انحلت العقد. وظاهر رواية الجمع أن العقد تنحل كلها بالصلاة خاصة، وهو كذلك في حق من لم يحتج إلى الطهارة كمن نام متمكناً غير متكئ مثلاً، ثم انتبه فصلى من قبل أن يذكر أو يتطهر، فإن الصلاة يجزئه في حل العقد كلها، لأنها تستلزم الطهارة وتتضمن الذكر، وعلى هذا فيكون معنى قوله: فإذا صلى انحلت عقده كلها، إن كان المراد به من لا يحتاج إلى الوضوء، فظاهر على ما قررناه، وإن كان من يحتاج إليه، فالمعنى انحلت بكل عقده أو انحلت عقده كلها بانحلال الأخيرة التي بها يتم انحلال العقد-انتهى. (فأصبح) أي دخل في الصباح أو صار. (نشيطاً) أي لسروره بما وفقه الله له من الطاعة، وبما وعده من الثواب، وما زال عنه من عقد الشيطان. (طيب النفس) لما بارك الله له في نفسه من هذا التصرف الحسن، كذا قيل. قال الحافظ: والظاهر أن في صلاة الليل سراً في طيب النفس وإن لم يستحضر المصلي شيئاً مما ذكر. (وإلا) أي وإن لم يفعل كذلك بل ترك الذكر والوضوء والصلاة. (أصبح خبيث النفس) أي محزون القلب كثير الهم. قيل: هذا الحديث يعارض قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا يقولن أحدكم خبثت نفسي. قال ابن عبد البر: وليس كذلك، لأن النهي إنما ورد عن إضافة المرء ذلك إلى نفسه كراهة لتلك الكلمة، وهذا الحديث وقع ذما لفعله، ولكل من الحديثين وجه. وقال الباجي: ليس بين الحديثين اختلاف؛ لأنه نهى عن إضافة ذلك إلى النفس؛ لكون الخبث بمعنى فساد الدين، ووصف بعض الأفعال بذلك تحذيراً منها وتنفيراً. قال الحافظ: تقرير الأشكال أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن إضافة ذلك إلى النفس فكل ما نهى المؤمن أن يضيفه إلى نفسه نهى أن يضيفه إلى أخيه المؤمن وقد وصف - صلى الله عليه وسلم - هذا المرء بهذه الصفة، فيلزم جواز وصفنا له بذلك لمحل التأسي، ويحصل الانفصال فيما يظهر بأن النهي محمول على ما إذا لم يكن هناك حامل على الوصف بذلك كالتنفير والتحذير-انتهى. (كسلان) لبقاء أثر تثبيط الشيطان ولشؤم تفريطه وظفر الشيطان

متفق عليه. 1227- (2) وعن المغيرة، قال: ((قام النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى تورمت قدماه، فقيل له: لم تصنع هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً)) ـــــــــــــــــــــــــــــ به بتفويته الحظ الأوفر من قيام الليل، فلا يكاد يخف عليه صلاة ولا غيرها من القربات والطاعات. وكسلان غير منصرف للوصف، وزيادة اللألف والنون مذكر كسلى، ومقتضى قوله وإلا أصبح أنه إن لم يجمع الأمور الثلاثة دخل تحت من يصبح خبيثاً كسلان وإن آتي ببعضها، لكن يختلف ذلك بالقوة والخفة، فمن ذكر الله مثلاً كان في ذلك أخف ممن لم يذكر أصلاً. وهذا الذم مختص بمن لم يقم إلى الصلاة وضيعها، أما من كانت له عادة فغلبته عينه، فقد ثبت أن الله يكتب له أجر صلاته ونومه عليه صدقة، ذكره ابن عبد البر. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد ومالك وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج2:ص51 وج3:ص15) وغيرهم. 1227- قوله: (قام النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي في صلاة الليل. وقال ابن حجر: أي صلى ليلاً طويلاً. وقيل: التقدير قام بصلاة الليل على وجه الإطالة والإدامة. (حتى تورمت) بتشديد الراء أي انتفخت من طول القيام. (قدماه) مرفوع، لأنه فاعل تورمت. وفي رواية البخاري: كان يصلي حتى ترم أو تنتفخ قدماه. وفي أخرى له: إن كان ليقوم ليصلي حتى ترم قدماه أو ساقاه. وفي حديث عائشة عند البخاري: كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه. وفي حديث أبي هريرة عند النسائي: حتى تزلع، يعني تشقق قدماه. ولا إختلاف بين هذه الروايات فإنه إذا حصل الورم أو الانتفاخ حصل الزلع والتشقق. (فقيل له) لم يبين القائل من هو. وفي حديث عائشة فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخ. (لم تصنع هذا) لم أجد هذه الجملة في رواية المغيرة عند أحد ممن خرج حديثه، نعم هي في حديث عائشة، كما تقدم. وفي رواية لمسلم من حديث المغيرة: أتكلف هذا، والمعنى أتلزم نفسك بهذه الكلفة والمشقة. وفي حديث أبي هريرة عند البزار: أتفعل هذا وقد جاءك من الله أن غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. قيل: الاستفهام للتعجب. (وقد غفر لك) بصيغة المجهول. وفي البخاري: قد غفر الله لك. (ما تقدم من ذنبك وما تأخر) أي جميع ما فرط منك مما يصح أن تعاتب عليه. قيل: هو محمول على ترك الأولى، وسمي ذنباً لعظم قدره - صلى الله عليه وسلم -، كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين. قيل: المراد لو وقع منك ذنب لكان مغفوراً، ولا يلزم من فرض ذلك وقوعه، والله أعلم. (أفلا أكون عبداً شكوراً) تقديره أأترك عبادة ربي لما غفر لي، فلا أكون شاكراً على نعمة المغفرة وغيرها مما لا تعد ولا تحصى من خير الدارين، والعبادة لا تحصر في مغفرة الذنوب، بل إنما وجبت شكراً لنعم المولى تعالى. قال الطيبي: الفاء مسبب عن محذوف أي أأترك قيامي وتهجدي

متفق عليه. 1228- (3) وعن ابن مسعود، قال: ((ذكر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل، فقيل له: ما زال نائماً حتى أصبح، ما قام إلى الصلاة، ـــــــــــــــــــــــــــــ لما غفر لي، فلا أكون عبداً شكوراً، يعني أن غفران الله إياي سبب، لأن أقوم وأتهجد شكراً له، فكيف أتركه أي كيف لا أشكره وقد أنعم علي، وخصني بخير الدارين، فإن الشكور من أبنية المبالغة يقتضي بنعمة خطيرة، وتخصيص العبد بالذكر مشعر بغاية الإكرام والقرب من الله تعالى، ومن ثم وصفه به في مقام الإسراء، ولأن العبودية تقتضي صحة النسبة وليست إلا بالعبادة، والعبادة عين الشكر. وقال القرطبي: ظن من سأله عن سبب تحمله المشقة في العبادة، أنه إنما يعبد الله خوفاً من الذنوب وطلباً للمغفرة وإيصال النعمة لمن لا يستحق عليه فيها شيئاً فيتعين كثرة الشكر على ذلك، والشكر الاعتراف بالنعمة والقيام بالخدمة، فمن كثر ذلك منه سمي شكوراً، ومن ثم قال سبحانه وتعالى. {وقليل من عبادي الشكور} [13:34] قال ابن بطال في هذا الحديث أخذ الإنسان على نفسه بالشدة في العبادة وإن أضر ذلك ببدنه، لأنه - صلى الله عليه وسلم - إذا فعل ذلك مع علمه بما سبق له فكيف بمن لم يعلم بذلك فضلاً عمن لم يأمن أنه استحق النار-انتهى. قال الحافظ: ومحل ذلك إذا لم يفض إلى الملال، لأن حال النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت أكمل الأحوال، فكان لا يمل من عبادة ربه وإن أضر ذلك ببدنه، بل صح أنه قال: وجعلت قرة عيني في الصلاة، كما أخرجه النسائي من حديث أنس، فأما غيره - صلى الله عليه وسلم - فإذا خشي الملل لا ينبغي له أن يكره نفسه وعليه، يحمل قوله - صلى الله عليه وسلم -: خذوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا. وفي الحديث مشروعية الصلاة للشكر، وفيه أن الشكر يكون بالعمل كما يكون باللسان، كما قال الله تعالى. {اعملوا آل داود شكراً} [13:34] . (متفق عليه) واللفظ للبخاري في تفسير سورة الفتح إلا قوله "لم تصنع هذا" فإنه ليس عند البخاري بل ولا عند غيره من مخرجي هذا الحديث. وأخرجه مسلم في أواخر الكتاب في باب إكثار الأعمال والإجتهاد في العبادة والترمذي والنسائي وابن ماجه في الصلاة. 1228- قوله: (ذكر) بضم الذال على بناء المفعول. (رجل) قال الحافظ: لم أقف على اسمه، لكن أخرج سعيد بن منصور عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي عن ابن مسعود ما يؤخذ منه أنه هو ولفظه بعد سياق الحديث بنحوه: وأيم الله لقد بال في أذن صاحبكم ليلة يعني نفسه. (فقيل) أي قال رجل من الحاضرين. (له) ليس هذا اللفظ في الصحيحين ولا في المصابيح ولا في جامع الأصول (ج7:ص46) . (مازال) أي الرجل المذكور. (نائماً حتى أصبح) وفي رواية للبخاري: ذكر رجل نام ليلة حتى أصبح. (ما قام إلى الصلاة) اللام للجنس، ويحتمل

قال: ذلك رجل بال الشيطان في أذنه، أو قال: في أذنيه)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ العهد، ويراد به صلاة الليل أو المكتوبة أي العشاء أو الصبح. ويدل لكون المراد المكتوبة قول سفيان فيما أخرجه ابن حبان في صحيحه: هذا عندنا نام عن الفريضة، وظاهر صنيع مسلم والنسائي وابن ماجه يدل على كون المراد صلاة الليل. قال الطيبي: يحتمل أن يكون أصبح تامة، وما قام في محل النصب حالاً من الفاعل، أي أصبح وحاله أنه غير قائم إلى الصلاة، ويحتمل أن تكون ناقصة وما قام خبرها، ويحتمل أن تكون ما قام جملة مستأنفة مبنية للجملة الأولى أو مؤكدة مقررة لها. (قال) صلى الله عليه وآله وسلم. (ذلك رجل) وفي الصحيحين: ذاك رجل. وكذا نقله الجزري. (بال الشيطان في أذنه) بالإفراد للجنس، وهو بضم الهمزة والذال وسكونها. (أو قال في أذنيه) بالتثنية للمبالغة وأو للشك من الراوي، وهي رواية جرير عن منصور عن أبي وائل عن ابن مسعود. وفي رواية أبي الأحوص عن منصور، عند البخاري: بال في أذنه أي بالإفراد فقط، واختلف في بول الشيطان، فقيل: هو على حقيقته. قال القرطبي وغيره: لا مانع من ذلك إذ لا إحالة فيه، لأنه ثبت أن الشيطان يأكل ويشرب ويضرط وينكح، فلا مانع من أن يبول. وقد يتأول بتأويلات مناسبة: منها أنه تمثيل شبه تثاقل نومه وإغفاله عن الصلاة وعدم سماعه صوت المؤذن وعدم انتباهه بصياح الديك ونحوه، بحال من وقع البول في أذنه فثقل سمعه وأفسد حسه والبول ضار مفسد، قاله الخطابي: قال الحافظ: والعرب تكنى عن الفساد بالبول. قال الراجز: بال سهيل في الفضيخ ففسد. وكنى بذلك عن طلوعه، لأنه وقت إفساد الفضيخ فعبر عنه بالبول. ومنها أن المراد أن الشيطان ملأ سمعه بالأباطيل وبأحاديث اللغو، فأحدث ذلك في أذنه وقرا عن استماعه دعوة الحق، قاله التوربشتي. ومنها أنه كناية عن استهانة الشيطان والاستخفاف والازدراء به، يعني أن الشيطان استولى عليه واستخف به حتى اتخذه كالكنيف المعد للبول، إذ من عادة المستخف بالشيء غاية الاستخفاف أن يبول عليه. ومنها أنه كناية عن سد الشيطان أذن الذي ينام عن الصلاة حتى لا يسمع الذكر. ومنها أنه استعارة عن تحكمه فيه وجعله مسخراً ومطيعاً ومنقاداً للشيطان، يقبل ما يأمره من ترك الصلاة وغيرها. قال الطيبي: خص الأذن بالذكر والعين أنسب بالنوم إشارة إلى ثقل النوم، فإن المسامع هي موارد الإنتباه بالأصوات ونداء حي على الصلاة. قال الله تعالى. {فضربنا على آذانهم في الكهف} [11:18] أي أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبههم فيها الأصوات، وخص البول من الأخبثين، لأنه مع خباثته أسهل مدخلاً في تجاويف الخروق وأوسع نفوذاً في العروق، فيورث الكسل في جميع الأعضاء. (متفق عليه) أخرجه البخاري في التهجد من طريق أبي الأحوص. وفي صفة إبليس من بدأ الخلق من طريق جرير. وأخرجه مسلم من طريق جرير فقط، والسياق المذكور إلى قوله: ما قام إلى الصلاة لأبي الأحوص وما بعده من رواية جرير. والحديث أخرجه أيضاً النسائي وابن ماجه وابن حبان والبيهقي (ج3:ص15) .

1229- (4) وعن أم سلمة، قالت: ((استيقظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة فزعاً، يقول: سبحان الله! ماذا أنزل الليلة من الخزائن؟ ! وماذا أنزل من الفتن؟! من يوقظ صواحب الحجرات – يريد أزواجه – لكي يصلين؟ رب كاسية في الدنيا ـــــــــــــــــــــــــــــ 1229- قوله: (عن أم سلمة) أم المؤمنين. (استيقظ) أي تيقظ فالسين ليست هنا للطلب، أي انتبه من النوم. (ليلة) أي من لياليها. (فزعاً) بكسر الزاى حال أي خائفاً مضطرباً مما شاهده. (يقول) حال أيضاً. (سبحان الله) وفي رواية: فقال سبحان الله. وفي أخرى: استيقظ من الليل وهو يقول: لا إله إلا الله. وقوله: سبحان الله بالنصب على المصدرية بفعل لازم الحذف، قاله تعجباً واستعظاماً، والعرب قد تستعمله في مقام التعجب والتعظيم. وقوله: (ماذا أنزل الليلة) كالتقرير والبيان، لأن ما استفهامية متضمنة لمعنى التعجب والتعظيم. وأنزل بضم الهمزة وكسر الزاي، والليلة بالنصب على الظرفية. وهذه رواية أبي ذر عن الكشمهيني. وفي رواية غيره: ماذا أنزل الله بإظهار الفاعل. (من الخزائن وماذا أنزل من الفتن) عبر عن الرحمة بالخزائن كقوله تعالى. {خزائن رحمة ربك} [9:38] وقوله: {خزائن رحمة ربي} [100:17] وعبر عن العذاب بالفتن، لأنها أسباب مؤدية إلى العذاب، وجمعهما لسعتهما وكثرتهما، واستعمل المجاز في الإنزال، والمراد إعلام الملائكة بالأمر المقدور، وكأنه - صلى الله عليه وسلم - رأى في المنام أنه سيقع بعده فتن. وتفتح لهم الخزائن، أو أوحى الله تعالى إليه ذلك قبل النوم، فعبر عنه بالإنزال، وهو من المعجزات، فقد فتحت خزائن فارس والروم وغيرهما كما أخبر عليه السلام، ووقعت الفتن بعده كما هو المشهور. (من يوقظ) أي من ينتدب فيوقظ. قال ابن الملك: استفهام أي هل أحد يوقظ؟ قال الحافظ: أراد بقوله: من يوقظ بعض خدمه، كما قال يوم الخندق: من يأتيني بخبر القوم؟ وأراد أصحابه، لكن هناك عرف الذي انتدب، وهنا لم يذكر (صواحب الحجرات) كلام إضافي مفعول لقوله: يوقظ. وصواحب جمع صاحبة. والحجرات بضم الحاء المهملة وفتح الجيم. قال القسطلاني: والذي في اليونينية بضم الجيم أيضاً جمع حجرة، وهي منازل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -. (يريد أزواجه) أي يعني - صلى الله عليه وسلم - بصواحب الحجرات أزواجه الطاهرات. (لكي يصلين) ويستعذن مما أراه الله من الفتن النازلة كي يوافقن المرجو فيه الإجابة. وفي رواية: حتى يصلين، وإنما خصهن بالإيقاظ، لأنهن الحاضرات حينئذٍ، أومن باب: إبدأ بنفسك ثم بمن تعول. وهذا يدل على أن المراد بالايقاظ: الإيقاظ لصلاة الليل، لا لمجرد الإخبار بما أنزل، لأنه لو كان لمجرد الإخبار لكان يمكن تأخيره إلى النهار، لأنه لا يفوت. وبهذا ظهرت مطابقة الحديث للباب، وأن فيه التحريض على صلاة الليل. ويؤخذ منه أنها ليست بواجبة، لأنه ترك إلزامهن بذلك، وقد ترجم البخاري لهذا الحديث: باب تحريض النبي - صلى الله عليه وسلم - على قيام الليل من غير إيجاب. (رب كاسية) وفي رواية: "فرب " زيادة فاء في أوله. وفي رواية "يا رب كاسية"

عارية في الآخرة)) . رواه البخاري. 1230- (5) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ينزل ربنا ـــــــــــــــــــــــــــــ بزيادة حرف النداء في أوله، أي يا قوم أو يا سامعين، فالمنادى فيه محذوف. وفي رواية: "كم من كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة، وهي تدل على أن "رب" ههنا للتكثير، لأن معنى كم الخبرية التكثير بلا خلاف، ولأنه ليس مراده أن ذلك قليل، بل المتصف بذلك من النساء كثير. (عارية) بتخفيف الياء. قال الحافظ: وهي مجرورة في أكثر الروايات على النعت. قال السهيلي: إنه الأحسن عند سيبوية، لأن رب عنده حرف جر يلزم صدر الكلام، قال: ويجوز الرفع على إضمار مبتدأ، والجملة في موضع النعت أي هي عارية، والفعل الذي تتعلق به رب محذوف، أي رب كاسية هي عارية عرفتها-انتهى. واختار الكسائي أن تكون رب اسماً مبتدأ، والمرفوع خبرها. واختلف في المراد بقوله: كاسية وعارية على أوجه: أحدها رب امرأة أو نسمة أو نفس كاسية في الدنيا بالثياب لوجود الغنى، عارية في الآخرة من الثواب لعدم العمل في الدنيا. ثانيها: كاسية بالثياب، لكنها رقيقة لا تمنع إدراك البشرة، شفافة لا تستر العورة، عارية في الآخرة جزاء على ذلك، أي معاقبة في الآخرة بفضيحة التعري، ففيه نهي عن لبس ما يشف من الثياب. ثالثها: كاسية من نعم الله، عارية من الشكر الذي تظهر ثمرته في الآخرة بالثواب. رابعها: كاسية جسدها، لكنها تشد به خمارها من ورائها، فيبدو صدرها، فتصير عارية، فتعاقب في الآخرة. خامسها: كاسية من خلعة التزوج بالرجل الصالح، عارية في الآخرة من العمل، فلا ينفعها صلاح زوجها، كما قال تعالى: {فلا أنساب بينهم} [23: 101] . قال الطيبي: قوله: "رب كاسية" كالبيان لموجب استيقاظ الأزواج للصلاة، أي لا ينبغي لهن أن يتغافلن عن العبادة، ويعتمدن على كونهن أهالي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كاسيات خلعة نسبة أزواجه، متشرفات في الدنيا بها، فهي عاريات في الآخرة، إذ لا أنساب فيها، وهذا وإن ورد في أمهات المؤمنين، لكن الحكم عام لهن ولغيرهن، فإن العبرة بعموم اللفظ، لا لخصوص السبب والمورد. قال ابن بطال: في هذا الحديث أن المفتوح في الخزائن تنشأ عنه فتنة المال، بأن يتنافس فيه فيقع القتال بسببه، وأن يبخل به فيمنع الحق أو يبطر صاحبه فيسرف، فأراد - صلى الله عليه وسلم - تحذير أزواجه من ذلك كله وكذا غيرهن ممن بلغه ذلك. وفي الحديث الندب إلى الدعاء والتضرع عند نزول الفتنة، ولا سيما في الليل لرجاء وقت الإجابة، فتكشف أو يسلم الداعي أو من دعا له. وفيه جواز قول سبحان الله عند التعجب وندبية ذكر الله بعد الاستيقاظ، وإيقاظ الرجل أهله بالليل للعبادة لا سيما عند آية تحدث. (رواه البخاري) في موضع بألفاظ متقاربة، واللفظ المذكور له في الفتن. وأخرجه أيضاً أحمد (ج6:ص297) ومالك في كتاب الجامع من الموطأ مرسلاً، والترمذي في الفتن. 1230- قوله: (ينزل ربنا) أي نزولاً يليق بجنابة المقدس. والحاصل أن التفويض والتسليم أسلم،

والقدر الذي قصد إفهامه معلوم، وهو أن الثلث الأخير وقت استجابة وعموم رحمة ووفور مغفرة، فينبغي لطالب الخير أن يدركه ولا يفوته، فعلى الإنسان أن يقتصر على هذا القدر، ولا يتجاوز عنه، إذ لا يتعلق بأزيد منه غرض، قاله السندي. واعلم أنه اختلف في ضبط قوله "ينزل"، فقيل: بضم الياء من الإنزال. قال أبوبكر بن فورك: ضبط لنا بعض أهل النقل هذا الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بضم الياء من ينزل يعني من الإنزال، وذكر أنه ضبط عمن سمع منه من الثقات الضابطين. وكذا قال القرطبي: قد قيده بعض الناس بذلك، فيكون معدياً إلى مفعول محذوف، أي ينزل الله ملكاً، قال: ويقويه ما رواه النسائي من حديث الأغر عن أبي سعيد وأبي هريرة بلفظ: أن الله يمهل حتى يمضي شطر الليل ثم يأمر منادياً يقول: هل من داع فيستجاب له-الحديث. وصححه عبد الحق. وفي حديث عثمان بن أبي العاص عند أحمد: ينادي مناد هل من داع يستجاب له-الحديث. وعلى هذا فلا إشكال في الحديث. وأما على ما هو المشهور في ضبطه، وهو فتح الياء من النزول، فالحديث مشكل، لأن النزول انتقال الجسم من فوق إلى تحت، والله تعالى منزه عن ذلك. ويؤيد هذا الضبط رواية مسلم بلفظ: يتنزل ربنا بزيادة تاء بعد ياء المضارعة، وعلى هذا فالحديث من المتشابهات. والعلماء فيه على قسمين: الأول المفوضة أجروه على ما ورد مؤمنين به على طريق الإجمال، منزهين الله تعالى عن الكيفية والتشبيه، وهم جمهور السلف، ونقله البيهقي وغيره عن الأئمة الأربعة والسفيانين والحمادين والأوزاعي والليث وابن المبارك والزهري ومكحول وغيرهم. والثاني: المؤلة فأولوه بتأويلين: أحدهما أن معنى ينزل ربنا ينزل أمره لبعض ملائكته، أو ينزل ملكه بأمره، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. والثاني: أنه استعارة، ومعناه الإقبال على الداعي بالإجابة واللطف والرحمة وقبول المعذرة، كما هو ديدن الملوك الكرماء والسادة الرحماء إذا نزلوا بقرب قوم محتاجين ملهوفين فقراء مستضعفين. قال البيضاوي: لما ثبت بالقواطع أنه سبحانه منزه عن الجسمية والتحيز امتنع عليه النزول على معنى الانتقال من موضع أعلى إلى ما هو أخفض منه، فالمراد: وفور رحمته أي ينتقل من مقتضي صفات الجلال التي تقتضي الأزفة من الأرذال وقهر الأعداء والانتقام من العصاة إلى مقتضى صفات الإكرام التي تقتضي الرأفة والرحمة والعفو-انتهى. هذا، وقد أفرط بعضهم في التأويل حتىكاد أن يخرج إلى نوع من التحريف، وحمله بعضهم على ظاهره وحقيقته، وهم المشبهة تعالى الله عن قولهم، وأنكر بعضهم صحة الأحاديث الواردة في ذلك جملة، وهم الخوارج والمعتزلة، وهو مكابرة. والعجب أنهم أوّلوا ما في القرآن من نحو ذلك، وأنكروا ما في الحديث إما جهلاً وإما عنادا. قلت: الحق عندنا هو قول جمهور السف، فنؤمن بما ورد في الكتاب والسنة الصحيحة على طريق الإجمال، وننزه الله سبحانه وتعالى عن الكيف والشبه بخلقه، ونذهب إلى ما وسع سلفنا الصالح من السكوت عن التأويل، ونقول ما قال البيهقي: وأسلمها الإيمان بلا كيف

تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، ـــــــــــــــــــــــــــــ والسكوت عن المراد، إلا أن يرد ذلك عن الصادق فيصار إليه، نقله الحافظ في الفتح، وقال: من الدليل على ذلك اتفاقهم على أن التأويل المعين غير واجب، فحينئذٍ التفويض أسلم هذا، وقد أطال الكلام في مسألة النزول وأشباهها من أحاديث الصفات الأئمة المتقدمون كشيخ الإسلام والمسلمين الإمام ابن تيمية وتلميذيه الإمام ابن القيم والحافظ الذهبي وغيرهم، فعليك أن ترجع إلى ما ألفوا في ذلك من الكتب. (تبارك وتعالى) جملتان معترضتان بين الفعل وظرفه وهو قوله: (كل ليلة) أي في وقت خاص. (إلى السماء الدنيا) وفي حديث أبي الخطاب: رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن الله يهبط من السماء العليا إلى السماء الدنيا – الحديث. أخرجه عبد الله بن أحمد في كتاب السنة بإسناده. (حين يبقى ثلث) بضم لام وسكونه. (الليل) بالجر. (الآخر) بكسر الخاء المعجمة وضم الراء المهملة صفة ثلث، وتخصيصه بالليل وبالثلث الأخير منه، لأنه وقت التهجد وغفلة الناس عمن يتعرض لنفحات رحمة الله تعالى، وعند ذلك تكون النية خالصة، والرغبة إلى الله وافرة. وذلك مظنة القبول والإجابة، ولكن اختلف الروايات في تعيين الوقت على ستة أقوال: الأولى هي التي ههنا، وهي حين يبقى ثلث الليل الآخر، قال الترمذي: هذا أصح الروايات في ذلك. وقال العراقي: أصحها ما صححه الترمذي. وقال الحافظ: ويقوي ذلك أن الروايات المخالفة له اختلف فيها على رواتها. والثانية: حين يمضي الثلث الأول، وهي عند الترمذي ومسلم. والثالثة: حين يبقى نصف الليل الآخر. وفي لفظ: إذا كان شطر الليل. وفي آخر: إذا مضى شطر الليل. الرابعة: ينزل الله تعالى شطر الليل أو ثلث الليل الآخر على الشك أو التنويع. الخامسة: إذا مضى نصف الليل أو ثلث الليل أي الأول. وفي لفظ: إذا ذهب ثلث الليل أو نصفه. والسادسة: الإطلاق ولا تعارض بين رواية من عين الوقت ومن لم يعين، كما هو ظاهر جلي، فالروايات المطلقة تحمل على المقيدة. وأما من عين الوقت، واختلفت ظواهر رواياتهم، فقد صار بعض العلماء إلى الترجيح كالترمذي على ما تقدم، إلا أنه عبر بالأصح، فلا يقتضي تضعيف غير تلك الرواية. وأما القاضي عياض فعبر في الترجيح بالصحيح، فاقتضى ضعف الرواية الأخرى، ورده النووي بأن مسلماً رواها في صحيحه بإسناد لا يطعن فيه عن صحابيين، فكيف يضعفها؟ وإذا أمكن الجمع ولو على وجه فلا يصار إلى التضعيف. قال النووي: ويحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلم بأحد الأمرين في وقت فأخبر به، ثم أعلم بالآخر في وقت فأعلم به، وسمع أبوهريرة الخبرين جميعاً فنقلهما، وسمع أبوسعيد الخدري خبر الثلث الأول فقط فأخبر به-انتهى. وقال الحافظ: أما الرواية التي بأو، فإن كانت أو للشك فالمجزوم به مقدم على المشكوك فيه، وإن كانت للتردد بين حالين فيجمع بين الروايات بأن ذلك يقع بحسب اختلاف الأحوال، لكون أوقات الليل تختلف في الزمان، وفي الآفاق باختلاف تقدم دخول الليل عند قوم، وتأخره عند قوم. وقال بعضهم: يحتمل أن يكون النزول يقع في الثلث الأول، والقول يقع في النصف وفي الثلث الثاني. وقيل: يحتمل على أن ذلك يقع في

يقول من يدعوني فأستجب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ جميع الأوقات التي وردت بها الأخبار، ويحمل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلم بأحد الأمور في وقت فأخبر به، ثم أعلم به في وقت آخر فأخبر به، فنقل الصحابة ذلك عنه-انتهى كلام الحافظ. وقال القاري: لا تنافي بين الروايات، لأنه يحتمل أن يكون النزول في بعض الليالي هكذا وفي بعضها هكذا، كذا قاله ابن حبان. وقال ابن حجر: ويحتمل أن يتكرر النزول عند الثلث الأول والنصف والثلث الأخير، واختص بزيادة الفضل لحثه على الاستغفار بالأسحار، ولإتفاق الصحيحين على روايته-انتهى. (من يدعوني فاستجب له) بالنصب على جواب الاستفهام، وبالرفع على تقدير مبتدأ، أي فأنا أستجيب له، وكذلك حكم فأعطيه فأغفر له. وقال الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي (ج2:ص308) : ضبطت هي وما بعدها في النسخة اليونينية من البخاري (ج2:ص53) بالنصب فقط، ولكن قال الحافظ في الفتح: بالنصب على جواب الاستفهام، وبالرفع على الاستئناف. وكذا قوله: فأعطيه وأغفرله. وقد قرئ بهما في قوله تعالى. {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له} [245:2] الآية وليست السين في قوله تعالى: فأستجيب للطلب بل أستجيب بمعنى أجيب. (من يسألني فأعطيه) بفتح الياء وضم الهاء وبسكون الياء وكسر الهاء. (من يستغفرني فأغفر له) قيل: الثلاثة المذكورة، وهي الدعاء والسؤال والاستغفار، بمعنى واحد وإن اختلف اللفظ، يعني أن المقصود واحد، واختلاف العبارات لتحقيق القضية وتأكيدها. وقيل: الفرق بين الثلاثة أن المطلوب إما لدفع المضار أو جلب المسار، والثاني إما ديني وإما دنيوي، ففي الاستغفار إشارة إلى الأول، وفي السؤال إشارة إلى الثاني، وفي الدعاء إشارة إلى الثالث. وزاد في رواية عند النسائي: هل من تائب فأتوبه عليه؟ وزاد في رواية عنده أيضاً: من ذا الذي يسترزقني فأرزقه؟، من ذا الذي يستكشف الضر فأكشفه عنه. وزاد في رواية: ألا سقيم يستشفي فيشفى؟ ومعانيها داخلة في ما تقدم. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد ومالك والترمذي في الصلاة، وفي الدعوات، وأبوداود في الصلاة، والنسائي في النعوت، وفي اليوم والليلة، وابن ماجه في الصلاة، والبيهقي (ج3:ص2) . وفي الباب عن علي بن أبي طالب وأبي سعيد ورفاعة الجهني وجبير بن مطعم وابن مسعود وأبي الدرداء وعثمان بن أبي العاص وجابر بن عبد الله وعبادة بن الصامت وعقبة بن عامر وعمرو بن عبسة وأبي الخطاب وأبي بكر الصديق وأنس بن مالك وأبي موسى الأشعري ومعاذ بن جبل وأبي ثعلبة الخشني وعائشة وابن عباس ونواس بن سمعان وأم سلمة وجد عبد الحميد بن سلمة، سرد أسماءهم العيني في شرح البخاري (ج7:ص197، 198) مع تخريج أحاديثهم، وإنما أشرت إلى كثرة الروايات في ذلك، لأن بعض الناس يستنكفون عن مثل هذا، وينكرون صحة الأحاديث الواردة في هذا الباب؛ لقلة فهمهم وكثرة جهلهم أو لعنادهم، كما تقدم عن الخوارج والمعتزلة، وذكر ابن حبان في كتاب السنة عن أبي زرعة قال: هذه الأحاديث المتواترة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الله ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا. قد رواه عدة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،

وفي رواية لمسلم: ((ثم يبسط يديه ويقول: من يقرض غير عدوم ولا ظلوم؟ حتى ينفجر الفجر)) . 1231- (6) وعن جابر قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن في الليل لساعة ـــــــــــــــــــــــــــــ وهي عندنا صحاح قوية، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ينزل ولم يقل كيف ينزل، فلا نقول كيف ينزل، نقول كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وروى البيهقي في كتاب الأسماء والصفات عن أبي محمد أحمد بن عبد الله المزني يقول: حديث النزول قد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وجوه صحيحة، وورد في التنزيل ما يصدقه، وهو قوله. {وجاء ربك والملك صفاً صفاً} [22:90] انتهى. وذكر البيهقي عنه مثل هذا في السنن الكبرى (ج3:ص3) أيضاً. (وفي رواية لمسلم: ثم يبسط يديه) قال النووي: هو إشارة إلى نشر رحمته، وكثرة عطائه، وإجابته، وإسباغ نعمته. (ويقول) أي بذاته، أو على لسان ملك من خواص ملائكته. (من يقرض) بضم الياء من الإقراض. والمراد بالقرض عمل الطاعة، سواء فيه الصدقة والصلاة والصوم والذكر وغيرها من الطاعات، وسماه قرضاً ملاطفة للعباد، وتحريضاً لهم على المبادرة إلى الطاعة، فإن القرض إنما يكون ممن يعرفه المقترض، وبينه وبينه موانسة ومحبة، فحين يتعرض للقرض يبادر المطلوب منه بإجابته لفرحه بتأهيله للاقتراض منه، وإدلاله عليه، وذكره له. والمعنى من يعطي العبادة البدنية والمالية على سبيل القرض وأخذ العوض. (غير عدوم) أي رباً غنياً غير فقير عاجز عن العطاء. (ولا ظلوم) بعدم وفاء دينه أو بنقصه أو بتأخير أدائه عن وقته. وإنما خص نفي هاتين الصفتين، لأنهما المانعان غالباً عن الإقراض، فوصف الله تعالى ذاته بنفي هذا المانع. وحاصل المعنى من يعمل خيراً في الدنيا يجد جزاءه كاملاً في العقبى، فشبه هذا المعنى بالإقراض. وفيه تحريض على عمل الطاعة، وإشارة إلى جزيل الثواب عليها. (حتى ينفجر الفجر) أي ينشق أو يطلع ويظهر الصبح وهي غاية للبسط والقول، أي لا يزال يقول ذلك حتى يضيء الفجر. وفيه دليل على امتداد وقت الرحمة واللطف التام إلى إضاءة الفجر. وزاد في رواية للدارقطني في آخر الحديث: ولذلك كانوا يفضلون صلاة آخر الليل على أوله، وله من رواية ابن سمعان عن الزهري ما يشير إلى أن قائل ذلك هو الزهري. وبهذه الزيادة تظهر وتتضح مناسبة ذكر الحديث في باب التحريض على قيام الليل. وفي الحديث من الفوائد تفضيل صلاة آخر الليل على أوله، وتفضيل تأخير الوتر، لكن ذلك في حق من طمع أن ينتبه، وأن آخر الليل أفضل للدعاء والاستغفار. ويشهد له قوله تعالى، وإن الدعاء في ذلك الوقت مجاب. ولا يعترض على ذلك بتخلفه عن بعض الداعين، لأن سبب التخلف وقوع الخلل في شرط من شروط الدعاء، كالاحتراز في المطعم والمشرب والملبس، أو لاستعجال الداعي أو بأن يكون الدعاء باثم أو قطعية رحم أو تحصل الإجابة، ويتأخر وجود المطلوب لمصلحة العبد أو لأمر يريده الله تعالى. 1231- قوله: (إن في الليل لساعة) بلام التأكيد، أي مبهمة كساعة الجمعة، وليلة القدر، وأبهمت

لا يوافقها رجل مسلم، يسأل الله فيها خيراً من أمر الدنيا والآخرة، إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة)) رواه مسلم 1232- (7) وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه، ـــــــــــــــــــــــــــــ لأجل أن يجتهد الشخص جميع الليل، ولا يقتصر على العبادة في وقت دون وقت، وسيأتي مزيد الكلام فيه. (لا يوافقها رجل مسلم) وكذا امرأة مسلمة. وهذه الجملة صفة لساعة أي ساعة من شأنها أن يترقب لها ويغتنم الفرصة لإدراكها؛ لأنها من نفحات رب رؤوف رحيم، وهي كالبرق الخاطف، فمن وافقها أي تعرض لها واستغرق أوقاته مترقباً للمعاتها فوافقها قضى وطره. (يسأل الله) أي فيها، والجملة صفة ثانية أو حال. (خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه) أي حقيقة أو حكماً. (وذلك) أي المذكور من ساعة الإجابة. (كل ليلة) بالنصب على الظرفية، وهو خبر ذلك أي ثابت في كل ليلة، يعني وجود تلك الساعة، لا يتقيد بليلة مخصوصة، أي لا يختص ببعض الليالي دون بعض، فينبغي تحري تلك الساعة ما أمكن كل ليلة. قال النووي: فيه إثبات ساعة الإجابة في كل ليلة، ويتضمن الحث على الدعاء في جميع ساعات الليل رجاء مصادفتها-انتهى. وقال العزيزي: قال الشيخ: ظاهر الرواية التعميم في كل الليل، لكن من المعلوم أن الجوف أفضله، فعلى كل حال ساعة أول النصف الثاني والتي بعدها أفضل، نعم من لم يقم فيها فالأخيرة لرواية الحاكم: أنه لا يزال ينادي إلا إلا إلا، وفي أخرى: هل من تائب هل من مستغفر الخ. حتى يطلع الفجر-انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد. 1232- قوله: (أحب الصلاة) أي أكثر ما يكون محبوباً من جهة شرف الوقت وزيادة المشقة على النفس. (إلى الله) أي من النوافل. (صلاة داود) عليه السلام. (وأحب الصيام) أي أكثر ما يكون محبوباً. (إلى الله صيام داود) وفي رواية: وأحب الصوم إلى الله صوم داود. واستعمال أحب بمعنى محبوب قليل؛ لأن الأكثر في أفعل التفضيل أن يكون بمعنى الفاعل. ونسبة المحبة فيهما إلى الله تعالى على معنى إرادة الخير لفاعلهما. (كان) استئناف مبين للجملتين السابقتين. وفي بعض النسخ: وكان بزيادة الواو. (ينام) أي داود. (نصف الليل) أي نصفه الأول، والظاهر أن المراد كان ينام من الوقت الذي يعتاد فيه النوم إلى نصف الليل، أو المراد بالليل ما سوى الوقت الذي لا يعتاد فيه النوم من أول. والقول بأنه ينام من أول الغروب لا يخلو عن بُعد. (ويقوم) أي بعد ذلك، ففي رواية لمسلم: كان يرقد شطر الليل ثم يقوم ثلث الليل بعد شطره. (ثلثه) أي في الوقت الذي ينادي فيه الرب تعالى

وينام سدسه، ويصوم يوماً، ويفطر يوماً)) ـــــــــــــــــــــــــــــ هل من سائل هل من مستغفر؟. (وينام سدسه) بضم الدال ويسكن أي سدسه الأخير، ثم يقوم عند الصبح، وكان ينام السدس الأخير ليستريح من نصب القيام في بقية الليل، وإنما صارت هذه الطريقة أحب إلى الله تعالى؛ لأنه أخذ بالرفق التي يخشى منها السآمة التي هي سبب ترك العبادة، والله تعالى يحب أن يديم فضله ويوالى إحسانه، قاله الكرماني. وإنما كان ذلك أرفق؛ لأن النوم بعد القيام يريح البدن ويذهب ضرر السهر وذبول الجسم، بخلاف السهر إلى الصباح. وفيه من المصلحة أيضاً استقبال صلاة الصبح، وأذكار النهار بنشاط وإقبال، ولأنه أقرب إلى عدم الرياء؛ لأن من نام السدس الأخير أصبح ظاهر اللون سليم القوى، فهو أقرب إلى أن يخفى عمله الماضي على من يراه، أشار إليه ابن دقيق العيد. قال في اللمعات: قيل: الحديث يشكل بأنه لم يكن عمل نبينا - صلى الله عليه وسلم - دائماً على هذا الوجه، فالجواب أن صيغة التفضيل إما بمعنى أصل الفعل أو الأحبية إضافية محمولة على بعض الوجوه، لكونه أقرب إلى الاعتدال وحفظ صحته، ولما قيل في نوم السدس الأخير من دفع الكلفة والملال- انتهى. وقال القاري: ولعله - صلى الله عليه وسلم - ما التزم هذا النوم، ليكون قيامه جامعاً سائر الأنبياء، وليهون على أمته في القيام بوظيفة الإحياء. (ويصوم) أي داود. (يوماً ويفطر يوماً) قال ابن المنير: كان داود عليه السلام يقسم ليله ونهاره لحق ربه وحق نفسه، فأما الليل فاستقام له ذلك في كل ليلة، وأما النهار فلما تعذر عليه أن يجزئه بالصيام؛ لأنه لا يتبعض، جعل عوضاً من ذلك أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، فيتنزل ذلك منزلة التجزئه في شخص اليوم، قيل: وهو أشد الصيام على النفس، فإنه لا يعتاد الصوم ولا الإفطار، فيصعب عليه كل منهما. وظاهر قوله: أحب الصيام يقتضي ثبوت الأفضلية مطلقاً، ووقع في بعض الروايات أفضل الصيام صيام داود، ومقتضاه أن تكون الزيادة عليه كصوم يومين وإفطار يوم، وكصيام الدهر بلا صيام أيام الكراهة مفضولة، وإنما كان ذلك أعدل الصيام وأحبه إلى الله؛ لأن فاعله يؤدي حق نفسه وأهله وزائر أيام فطره، بخلاف من يصوم الدهر أي يتابع الصوم ويسرده، فإنه قد يفوت بعض الحقوق وقد لا يشق باعتياده، فلا يحصل المقصود من قمع النفس، نظير ما قاله الأطباء: من أن المرض إذا تعود عليه البدن لم يحتج إلى دواء، ولم يلتزم النبي - صلى الله عليه وسلم - الوصف المذكور في صيامه لما قيل: إن فعله كان مختلفاً يتضمن مصالح راجعة إلى أمته أقوياءهم وضعفاءهم، وكان يفعل العبادات بحسب ما يظهر له من الحكمة في أوقات الطاعات دون الحالات المألوفات والعادات. وقد روى البخاري وغيره عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليدع العمل بالشيء، وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم، زاد في رواية قالت: وكان يحب ما خف على الناس. قال الشوكاني: الحديث يدل على أن صوم يوم وإفطار يوم أحب إلى الله من غيره، وإن كان أكثر منه، وما كان أحب إلى الله عزوجل فهو أفضل، والاشتغال به أولى، وفي رواية لمسلم: أن عبد الله بن عمرو قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إني أطيق أفضل من ذلك فقال - صلى الله عليه وسلم -:

متفق عليه. 1233- (8) وعن عائشة، قالت: ((كان - تعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينام أول الليل، ويحيي آخره، ثم إن كانت له حاجة إلى أهله قضى حاجته ثم نام، فإن كان عند النداء الأول جنباً، وثب فأفاض عليه الماء، ـــــــــــــــــــــــــــــ لا أفضل من ذلك. ويدل على أفضليته قيام ثلث الليل بعد نوم نصفه، وتعقيب قيام ذلك الثلث بنوم السدس الآخر. (متفق عليه) أخرجه البخاري في قيام الليل، وفي كتاب الأنبياء، ومسلم في الصيام، وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود في الصوم، والنسائي فيه وفي الصلاة، وابن ماجه في الصوم، والبيهقي. (ج3 ص3) وأخرج الترمذي فضل الصوم فقط. 1233- قوله: (تعني) تفسير لضمير كان. قال ابن الملك: أي تريد عائشة بذلك. (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) بالنصب وهو مفعول تعني في الظاهر، واسم كان في المعنى. (ينام أول الليل) أي إلى تمام نصفه الأول ومعلوم أنه كان لا ينام إلا بعد فعل العشاء"؛ لأنه يكره النوم قبلها. (ويحيي أخره) أي بالصلاة. قال السندي: من الإحياء، وإحياء الليل تعميره بالعبادة، وجعله من الحياة على تشبيه النوم بالموت، وضده بالحياة لا يخلو عن سوء أدب- انتهى. وهذا لفظ مسلم. ولفظ البخاري: كان ينام أوله ويقوم آخره فيصلي. (أي في السدس الرابع والخامس) ، ثم يرجع إلى فراشه. (أي لينام السدس السادس ليقوم لصلاة الصبح بنشاط) . (ثم) أي بعد صلاته وفراغه من ورده. (إن كانت له حاجة إلى أهله) المراد مباشرة زوجته. (قضى حاجته) أي فعلها. وفي رواية النسائي: فإذا كان له حاجة ألمّ بأهله أي قرب من زوجته، وهو كناية عن الجماع. وكلمة ثم بابها، كما تقدمت الإشارة إليه، فيؤخذ منه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقدم التهجد ثم يقضي بعد إحياء الليل حاجته من نساءه، فإن الجدير به أداء العبادة قبل قضاء الشهوة. وقيل: يمكن أن ثم ههنا لتراخي الإخبار أخبرت أولاً أن عادته - صلى الله عليه وسلم - كانت مستمرة بنوم أول الليل وإحياء أخره. ثم أن اتفق له احتياج إلى أهله يقضي حاجته، ثم ينام في كلتا الحالتين. قال ابن حجر: وتأخير الوطأ إلى آخر الليل أولى؛ لأن أول الليل قد يكون ممتلئاً، والجماع على الامتلاء مضر بالإجماع. (ثم ينام) أي السدس الأخير ليستريح. (فإن كان عند النداء الأول) تعني الأذان المتعارف عند تبيين الصبح. (جنباً وثب) بواو ومثلثة وموحدة مفتوحات أي قام بنهجه وشدة وسرعة. (فأفاض عليه الماء) أي أسال على جميع بدنه الماء يعني اغتسل. هكذا في جميع النسخ للمشكاة، وكذا في المصابيح أي فإن عند النداء الأول جنباً وثب فأفاض عليه الماء. ولفظ مسلم: فإذا كانت عند النداء الأول قالت وثب ولا والله ما قالت:

(الفصل الثاني)

وإن لم يكن جنباً توضأ للصلاة، ثم صلى ركعتين)) . متفق عليه. ((الفصل الثاني)) 1234- (9) عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وهو قربة لكم إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ قام فأفاض عليه الماء، ولا والله ما قالت اغتسل وأنا أعلم ما تريد، ولفظ البخاري: فإذا أذن المؤذن وثب، فإن كانت به حاجة. (أي أثر حاجة أو المراد بالحاجة هي الجنابة لكونها أثراً لها، أو المراد حاجة الاغتسال بقرينة الجزاء) اغتسل، وإلا توضأ وخرج. وهذا يدل على أن بعض الرواة ذكره بالمعنى، وحافظ بعضهم على اللفظ. ولفظ النسائي: فإذا سمع الأذان وثب، فإن كان جنباً أفاض عليه من الماء وإلا توضأ، ثم خرج إلى الصلاة أي بعد أن صلى ركعتي الفجر. (وإن لم يكن جنباً توضأ للصلاة) وفي مسلم: توضأ وضوء الرجل للصلاة أي إما للتجديد؛ لأن نومه - صلى الله عليه وسلم - لا ينقض الوضوء، أو لحصول ناقض آخر غير النوم. (ثم صلى ركعتين) وفي مسلم: ثم صلى الركعتين، أي سنة الصبح في بيته، ثم خرج إلى المسجد لصلاة الصبح. ويؤخذ من الحديث أنه ينبغي الاهتمام بالعبادة، وعدم التكاسل بالنوم والإقبال عليها بالنشاط. (متفق عليه) ولفظه لمسلم. وأخرجه أيضاً النسائي والترمذي في الشمائل، وأخرجه أيضاً النسائي وابن ماجه مختصراً بلفظ: كان ينام أول الليل ويحيي آخره. 1234- قوله: (عليكم بقيام الليل) أي التهجد فيه. (فإنه دأب الصالحين قبلكم) بسكون الهمزة ويحرك أي عادتهم. قال الطيبي: الدأب العادة والشأن، وقد يحرك، وأصله من دأب في العمل إذا جد وتعب، أي هي عادة قديمة واظب عليها الأنبياء والأولياء السابقون. (وهو) أي مع كونه إقتداء بسيرة الصالحين. (قربة لكم إلى ربكم) أي مما تتقربون به إلى الله تعالى. (ومكفرة) بفتح الميم وسكون القاف مصدر ميمي بمعنى اسم فاعل من الكفر وهو الستر. (للسيئات) أي خصلة ساترة ماحية لذنوبكم، والحسنات كلها تكفير للسيئات، كما قال تعالى:. {إن الحسنات يذهبن السيئات} [11: 114] ، وقيام الليل يزيد عليها لكونه (منهاة) بفتح الميم وسكون النون مصدر ميمي أيضاً بمعنى اسم فاعل من النهي. (عن الإثم) كذا في جميع النسخ، وكذا في المصابيح، وهكذا عند البيهقي، وكذا نقله الجزري (ج10 ص266) . ولفظ الترمذي في حديث أبي أمامة: للإثم أي بلام الجر بدل عن، نعم وقع في رواية بلال عند الترمذي: عن الإثم. والمعنى ناهية عن ارتكاب ما يوجب الإثم. قال تعالى:. {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [29: 45] وقال الجزري في النهاية: منهاة عن الإثم أي حالة من شأنها أن تنهى الإثم أو هي مكان مختص بذلك، وهي مفعلة من النهي،

رواه الترمذي. 1235- (10) وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاثة يضحك الله إليهم: ـــــــــــــــــــــــــــــ والميم زائدة. زاد في رواية بلال عند الترمذي والبيهقي، وفي رواية سلمان الفارسي عند الطبراني في الكبير: ومطردة للداء عن الجسد أي طارد ومبعد للداء عن البدن، أو حالة من شأنها إبعاد الداء، أو مكان مختص به، ومعنى الحديث أن قيام الليل قربة تقربكم إلى ربكم، وخصلة تكفر سيئاتكم، وتنهاكم عن المحرمات، وتطرد الداء عن أجسادكم. (رواه الترمذي) في الدعوات، وأخرجه أيضاً ابن أبي الدنيا في كتاب التهجد، وابن خزيمة في صحيحه، والحاكم وابن عدي في الكامل، والطبراني في الكبير الأوسط والبيهقي في السنن (ج2 ص502) كلهم من رواية عبد الله بن صالح كاتب الليث. قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري. قال الشوكاني: عبد الله بن صالح كاتب الليث مختلف فيه- انتهى. وقال الهيثمي في مجمع الزائد (ج2 ص251) : قال عبد الملك بن شعيب بن الليث: ثقة مأمون، وضعفه جماعة من الأئمة. وقال في التقريب في ترجمته: صدوق كثير الغلط ثبت في كتابه، وكانت فيه غفلة- انتهى. وفي الباب عن بلال عند الترمذي وغيره بإسناد ضعيف، وعن سلمان الفارسي عند الطبراني وغيره. وفيه عبد الرحمن بن سليمان بن أبي الجون، وثقة دحيم وابن حبان وابن عدي، وضعفه أبوداود وأبوحاتم. 1235- قوله: (ثلاثة) أي ثلاث رجال، قاله الطيبي: والأولى أشخاص، ويراد بها الأنواع ليلائم القوم، ولذا قال ابن حجر: أصناف. وقيل: ثلاثة نفر. (يضحك الله) قيل الضحك من الله الرضا والإرادة الخير. وقيل: بسط الرحمة بالإقبال وبالإحسان، أو بمعنى يأمر الملائكة بالضحك ويأذن لهم فيه، كما يقال السلطان قتله، إذا أمر بقتله. قال ابن حبان في صحيحه: هو من نسبة الفعل إلى الآمر. وهو في كلام العرب كثير. وقيل: إن الضحك وأمثاله مما هو من قبيل الانفعال إذا نسب إلى الله يراد به غايته. وقيل: بل المراد إيجاد الانفعال في الغير، فالمراد ههنا الإضحاك. ومذهب أهل التحقيق أنه صفة سميعة يلزم إثباتها مع نفي التشبيه وكمال التنزيه، كما أشار إلى ذلك مالك، وقد سئل عن الاستواء فقال: الاستواء معلوم، والكيف غير معلوم، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. (إليهم) قبل عدي الضحك بإلى لتضمينه معنى الإقبال. وقال الطيبي: الضحك مستعار للرضى، وفي إلى معنى الدنو كأنه قيل إن الله يرضى عنهم ويدنو إليهم برحمته ورأفته، ويجوز أن يضمن الضحك معنى النظر، ويعدي بإلى. فالمعنى أنه تعالى ينظر إليهم ضاحكاً أي راضياً عنهم مستعطفاً عليهم؛ لأن الملك إذا نظر إلى رعيته بعين الرضى لا يدع شيئاً من الأنعام إلا فعله، وفي عكسه قوله تعالى: {ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة} [3: 77]- انتهى. قلت: قد تقدم أن مذهب أهل التحقيق إثبات الضحك لله

الرجل إذا قام بالليل يصلي، والقوم إذا صفوا في الصلاة، والقوم إذا صفوا في قتال العدو)) . رواه في شرح السنة. 1236- وعن عمرو بن عبسة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل ـــــــــــــــــــــــــــــ تعالى من غير تأويل ولا تكييف ولا تشبيه، وهو الحق عندنا، فالتفويض والتسليم أسلم وأصوب (الرجل) خص ذكره نظر الغالب الأحوال. (إذا قام بالليل يصلي) نفلاً وهو التهجد، ولعله لم يقل القوم إذا قاموا مع أنه المطابق لما بعده من المتعاطفين لئلا يوهم قيد الجماعة والاجتماع. قال الطيبي: إذا المجرد الظرفية، وهو بدل عن الرجل كقوله تعالى: {واذكر في الكتاب مريم إذا انتبذت} [19: 16] أي ثلاثة رجال يضحك الله منهم وقت قيام الرجل بالليل. وفي إبدال الظرف مبالغة، كما في قوله: أخطب ما يكون الأمير قائماً- انتهى. (والقوم إذا صفوا) يحتمل البناء للفاعل وللمفعول. (للصلاة) وسووا صفوفهم على سمت واحد، وتراصوا كما أمروا به. (والقوم) المسلمون (إذا صفوا في قتال العدو) أي لقتال الكفار بقصد إعلاء كلمة الله تعالى. (رواه) أي البغوي. (في شرح السنة) ونسبه السيوطي في الجامع الصغير إلى أحمد وأبي يعلى، وأخرجه ابن ماجه في باب ما أنكرت الجهمية من كتاب السنة بلفظ: إن الله ليضحك على الثلاثة: للصف في الصلاة. وللرجل يصلي في جوف الليل. وللرجل يقاتل أراه خلف الكتيبة. وفي سنده عبد الله بن إسماعيل عن مجالد بن سعيد، وعبد الله بن إسماعيل هذا قال فيه أبوحاتم والذهبي في الكاشف: مجهول، ومجالد قال في التقريب في ترجمته: ليس بالقوى، وقد تغير في آخر عمره- انتهى. وأخرج له مسلم في صحيحه، لكن مقروناً بغيره، وأخرجه البزار بغير هذين السياقين، وفيه محمد بن أبي ليلى، وفيه كلام كثير لسوء حفظه لا لكذبه. 1236- قوله: (عن عمرو بن عبسة) بفتح العين المهملة والباء الموحدة. (أقرب ما يكون الرب من العبد) أي الإنسان حراً كان أو رقيقاً. (في جوف الليل) خبر أقرب أي أقربيته تعالى من عباده كائنة في الليل. قال الطيبي: إما حال من الرب أي قائلاً في جوف الليل من يدعوني فاستجيب له؟ - الحديث، سدت مسد الخبر، أو من العبد أي قائماً في جوف الليل داعياً مستغفراً، ويحتمل أن يكون خبر الأقرب، ومعناه سبق في باب السجود مستقصى. فإن قلت المذكور ههنا أقرب ما يكون الرب من العبد، وهناك أقرب ما يكون العبد من ربه، فما الفرق؟ أجيب بأنه قد علم مما سبق في حديث أبي هريرة من قوله. ينزل ربنا الخ أي رحمته سابقة، فقرب رحمة الله من المحسنين سابق على إحسانهم، فإذا سجدوا قربوا من ربهم بإحسانهم، كما قال تعالى: {واسجد واقترب} [96: 19]

الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة، فكن)) . رواه الترمذي. وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب إسناداً. ـــــــــــــــــــــــــــــ وفيه أن لطف الله وتوفيقه سابق على عمل العبد وسبب له، ولولاه لم يصدر من العبد خير قط- انتهى. وقال ميرك: فإن قلت ما الفرق بين هذا القول، وقوله: فيما تقدم في باب السجود: أقرب ما يكون العبد من ربه، وهو ساجد؟ قلت: المراد ههنا بيان وقت كون الرب أقرب من العبد، وهو جوف الليل، والمراد هناك بيان أقربية أحوال العبد من الرب، وهو حال السجود، تأمل- انتهى. يعني فإنه دقيق بالتأمل حقيق وتوضيحه أن هذا وقت تجل خاص بوقت، لا يتوقف على فعل من العبد لوجوده لا عن سبب، ثم كل من أدركه أدرك ثمرته، ومن لا فلا، غايته أنه مع العبادة أتم منفعة ونتيجة. وأما القرب الناشئ من السجود فمتوقف على فعل العبد وخاص به، فناسب كل محل ما ذكر فيه، كذا في المرقاة. (الآخر) صفة لجوف الليل على أنه ينصف الليل، ويجعل لكل نصف جوفاً، والقرب يحصل في جوف النصف الثاني، فابتداؤه يكون من الثلث الأخير، وهو وقت القيام للتهجد، قاله الطيبي. وقال القاري: ولا يبعد أن يكون ابتداءه من أول النصف الأخير. (فإن استطعت) أي قدرت ووفقت. (أن تكون ممن يذكر الله) في ضمن صلاة أو غيرها. (في تلك الساعة) إشارة إلى لطفها. (فكن) أي اجتهد أن تكون من جملتهم. وهذا أبلغ مما لو قيل: إن استطعت أن تكون ذاكراً فكن؛ لأن الأولى فيها صفة عموم شامل للأنبياء والأولياء، فيكون داخلاً في جملتهم ولأحقابهم، بخلاف الثانية. قال الطيبي: في قوله: فإن استطعت إشارة إلى تعظيم شأن الأمر وتفخيمه، وفوز من يستعد به، ومن ثمة قال أن تكون ممن يذكر الله، أي تنخرط في زمرة الذاكرين الله، ويكون لك مساهمة فيهم، وهو أبلغ من أن يقال: إن استطعت أن تكون ذاكراً- انتهى. (رواه الترمذي) في الدعوات. (وقال هذا حديث صحيح حسن غريب إسناداً) تمييز عن غريب سنداً لا متناً. واعلم أن المراد بالحديث الغريب من حيث الإسناد فقط حديث يعرف متنه عن جماعة من الصحابة، وانفرد واحد برايته عن الصحابي آخر. قال السيوطي في التدريب (ص192) : وينقسم الغريب أيضاً إلى غريب متناً وإسناداً، كما لو انفرد بمتنه راوٍ واحد وإلى غريب إسناداً لا متناً كحديث معروف روى متنه جماعة من الصحابة انفرد واحد بروايته عن صحابي آخر، وفيه يقول الترمذي غريب من هذا الوجه- انتهى. وقال الزرقاني في شرح البيقونية (ص92) : ثم الحديث قد يغرب متناً وإسناداً كحديث انفرد بروايته واحد، وقد يغرب إسناداً فقط كأن يكون معروفاً برواية جماعة من الصحابة فينفرد به راوٍ من حديث صحابي آخر، فهو من جهته غريب مع أن متنه غير غريب. قال ابن الصلاح: ومن ذلك غرائب الشيوخ في أسانيد المتون الصحيحة، قال: وهذا الذي يقول الترمذي في غريب من هذا الوجه، قال ولا أرى

1237- (12) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى، وأيقظ امرأته فصلت، فإن أبت نضح في وجهها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت، وأيقظت زوجها ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا النوع، يعني غريب الإسناد فقط، ينعكس، فلا يوجد أبدأ ما هو غريب متناً وليس غريباً إسناداً إلا إذا اشتهر الحديث الفرد عمن انفرد به، فرواه عنه عدد كثير، فإنه يصير غريباً مشهوراً وغريباً متناً لا إسناداً، لكن بالنظر إلى أحد طرفي الإسناد، فإن إسناده غريب في طرفه الأول، مشهور في طرفه الآخر، كحديث: إنما الأعمال بالنيات، فإن الشهرة إنما طرأت له من عند يحيى بن سعيد، وما ذكره من أن غريب الإسناد لا ينعكس هو بالنظر إلى الوجود كما قال، وإلا فالقسمة العقلية تقتضي العكس، ومن ثم قال ابن سيد الناس، فيما شرحه من الترمذي الغريب أقسام: غريب سنداً ومتناً، أو متناً لا سنداً، أو سنداً لا متناً، وغريب بعض السند، وغريب بعض المتن، فالأول واضح، والثاني هو الذي أطلقه، ولم يذكر له مثالاً لعدم وجوده، ثم ذكر الزرقاني أمثلة الأقسام الثلاثة الباقية، ولا تنافي بين الغرابة والصحة، كما بين في علم الأصول. قال الزرقاني: الغرابة تجامع الصحة والضعف، فالغريب الصحيح كأفراد الصحيح وهي كثيرة، والغريب الذي ليس بصحيح هو الغالب على الغريب- انتهى مختصراً. وحديث عمرو بن عبسة هذا أخرجه ابن خزيمة في صحيحة والحاكم والبيهقي، وله حديث آخر مطول أخرجه أحمد (ج4 ص114) وفيه: فقلت هل من ساعة أقرب إلى الله تعالى؟ قال جوف الليل الآخر- الحديث. 1237- قوله: (رحم الله رجلاً) خبر عن استحقاقه الرحمة واستجابة لها، أو دعاء له ومدح له بحسن ما فعل. وقال العلقمي: هو ماض بمعنى الطلب. (قام من الليل) أي بعضه. (فصلى) أي التهجد. (وأيقظ امرأته) وفي حديث أبي سعيد وأبي هريرة الآتي: إذا أيقظ الرجل أهله، وهو أعم لشموله الولد والأقارب. (فصلت) ما كتب الله لها ولو ركعتين. (فإن أبت) أن تستيقظ. وقيل: أي امتنعت عن القيام لغلبة النوم، وكثرة الكسل. (نضح) وفي رواية ابن ماجه: رش. (في وجهها الماء) ليزول عنها النوم. والمراد التلطف معها، والسعي في قيامها لطاعة ربها مهما أمكن. قال تعالى: {وتعانوا على البر والتقوى} [5:2] . وفيه أن أصاب خيراً ينبغي له أن يتحرى إصابة الغير، وأن يحب له ما يحب لنفسه، فيأخذ بالأقرب فالأقرب. وقوله: "رحم الله" تنبيه للأمة بمنزلة رش الماء على الوجه لاستيقاظ النائم، وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - لما نال بالتهجد ما نال من الكرامة والمقام المحمود أراد أن يحصل لأمته نصيب وافر، فحثهم على ذلك بألطف وجه. قيل: خص الوجه بالنصح؛ لأنه أفضل الأعضاء وأشرفها، وبه يذهب النوم والنعاس أكثر من بقية الأعضاء، وهو أول الأعضاء المفروضة غسلاً، وفيه العينان وهما آلة النوم. (رحم الله امرأة قامت من الليل) أي وقفت بالسبق. (فصلت) صلاة التهجد. (وأيقظت زوجها)

فصلى، فإن أبى نضحت في وجهه الماء)) . رواه أبوداود، والنسائي. 1238- (13) وعن أبي أمامة، قال: ((قيل: يا رسول الله! أيّ الدعاء أسمع؟ قال: جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات)) . رواه الترمذي. 1239- (14) وعن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن في الجنة غرفاً ـــــــــــــــــــــــــــــ الواو لمطلق الجمع. وفي الترتيب الذكري إشارة لا تخفى، قاله القاري. (فصلى) أي بسببها. (فإن أبى) أن يقوم لغلبة النوم. (نضحت) أي رشت. (في وجهه الماء) ليزول عنه النوم وينتبه. وفي الحديث الدعاء بالرحمة للحي كما يدعى بها للميت، وفيه فضيلة صلاة الليل وفضيلة مشروعية إيقاظ النائم للتنفل كما يشرع للفرض، وهو من المعاونة على البر والتقوى. وفيه بيان حسن المعاشرة وكمال الملاطفة والموافقة. وفيه إشارة إلى أن الرجل أحق بأن يكون مسابقاً بالقيام وإيقاظ امرأته، وإلى أن فضل الله لا يختص بأحد، فقد يكون المرأة سابقة على الرجل. (رواه أبوداود والنسائي) وأخرجه أيضاً أحمد وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والبيهقي (ج2 ص501) والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم، وسكت عنه أبوداود، وكذا المنذري في الترغيب، وصحح النووي سنده في رياض الصالحين (ص442) . وقال المنذري في مختصر السنن: في سنده محمد بن عجلان، وقد ثقة أحمد وابن معين وأبوحاتم الرازي، واستشهد به البخاري، وأخرج له مسلم في المتابعة، وتكلم فيه بعضهم- انتهى. وفي الباب عن أبي مالك الأشعري، رواه الطبراني في الكبير، وفيه محمد بن إسماعيل بن عياش، وهو ضعيف، قاله الهيثمي. 1238- قوله: (أيّ الدعاء أسمع) أي أقرب إلى أن يسمعه الله أي يقبله. قال الطيبي: أي أرجى للإجابة؛ لأن المسموع على الحقيقة ما يقترن بالقبول ولا بد من مقدر، إما في السؤال أي، أي أوقات الدعاء أقرب إلى الإجابة؟ وإما في الجواب أي دعاءه في جوف الليل. (قال جوف الليل) بالرفع على تقدير حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، أي دعاء جوف الليل. وروي بالنصب على الظرفية أي الدعاء في جوف الليل. (الآخر) صفة للجوف، فيتبعه في الإعراب. قال الخطابي: المراد ثلث الليل الآخر، وهو الخامس من أسداس الليل. (ودبر الصلوات المكتوبات) برفع دبر ونصبه. (رواه الترمذي) في الدعوات. وقد تقدم الحديث مع شرحه في الفصل الثاني من باب الذكر بعد الصلاة، أعاده هنا؛ لأنه من أدلة استحباب الدعاء في ضمن الصلاة وغيرها في ثلث الليل الآخر، ومن أدلة أنه وقت الإجابة. 1239- قوله: (إن في الجنة غرفاً) بضم الغين المعجمة وفتح الراء المهملة، جمع غرفة بالضم، وهي العلية،

يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام، وتابع الصيام، وصلي بالليل والناس نيام)) . رواه البيهقي في شعب الإيمان. 1240- (15) وروى الترمذي عن علي نحوه، وفي روايته: ((لمن أطاب الكلام. ـــــــــــــــــــــــــــــ أي البيت فوق البيت أي علالي في غاية من اللطافة ونهاية من الصفاء والنظافة. (يرى) بالبناء للمفعول. (ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها) لكونها شفافة لا تحجب ما وراءها. (أعدها الله) أي هيأها. (لمن ألان) أي أطاب كما في رواية. (الكلام) أي بمداراة الناس، واستعطافهم. قال الطيبي: جعل جزاء من تلطف في الكلام الغرفة، كما في قوله تعالى: {أولئك يجزون الغرفة} [25: 75] بعد قوله: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً} [25: 63] . وفيه تلويح على أن لين الكلام من صفات عباد الله الصالحين الذين خضعوا لبارئهم، وعاملوا الخلق بالرفق في القول والفعل، وكذا جعلت جزاء من أطعم، كما في قوله: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا} [25: 67] ، وكذا جعلت جزاء من صلى بالليل، كما في قوله: {والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً} [25: 64] . ولم يذكر في التنزيل الصيام استغناء بقوله بما صبروا؛ لأن الصيام صبر كله. (وأطعم الطعام) للعيال والفقراء والأضياف ونحو ذلك، قاله المناوي. وقيل: يكفي في إطعام الطعام أهله ومن يمونه، وهذا إذا قصد الاحتساب. وقيل: المراد بالطعام الزائد على ما يحتاجه لنفسه وعياله. (وتابع الصيام) أي أكثر منه بعد الفريضة بحيث تابع بعضها بعضاً، ولا يقطعها رأساً، قاله ابن الملك. وقيل: يكفي في متابعة الصوم مثل حال أبي هريرة وابن عمر وغيرهما من صوم ثلاثة أيام من كل شهر أوله، ومثلها من أوسطه وآخره، والاثنين، والخميس، ويوم عرفة وعاشوراء وعشر ذي الحجة. وفي رواية: أدام الصيام. والمراد به الكثرة، لا المواصلة، ولا صوم الدهر. (وصلى بالليل) أي تهجد لله تعالى. (والناس) أي غالبهم. (نيام) بكسر النون. جمع نائم أي لا يتهجدون. وإن لم يكونوا نائمين. والأوصاف الثلاثة أي لين الكلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل إشارة إلى استجماع صفة الجود والتواضع والعبادة المتعدية واللازمة. (رواه البيهقي في شعب الإيمان) وأخرجه أيضاً أحمد وابن حبان في صحيحة، والطبراني في الكبير. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص254) بعد عزوه إلى الطبراني: رجاله ثقات. 1240- (وروى الترمذي عن علي) أي ابن أبي طالب. (نحوه) في باب قول المعروف من أبواب البر والصلة، وفي باب صفة غرف الجنة من أبواب صفة الجنة. ولفظه: إن في الجنة غرفاً، ترى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها، فقام أعرابي فقال: لمن هي يا رسول الله؟ فقال: لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام،

{الفصل الثالث}

{الفصل الثالث} 1241- (16) عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا عبد الله! لا تكن مثل فلان، كان يقوم من الليل فترك قيام الليل)) . متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأدام الصيام، وصلى بالليل، والناس نيام. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن إسحاق- انتهى. وعبد الرحمن بن إسحاق هذا. قال الحافظ في التقريب في ترجمته: ضعيف، ولكن له شاهد قوي من حديث عبد الله بن عمرو عند أحمد والطبراني في الكبير والحاكم. قال المنذري. والهيثمي: إسناده حسن. وقال الحاكم: صحيح على شرطهما. 1241- قوله: (لا تكن مثل فلان) أي في هذه الخصلة التي أذكرها لك وهي أنه (كان يقوم من الليل) أي فيه كإذا نودي للصلاة من يوم الجمعة أي في يوم الجمعة. وقال الحافظ: أي بعض الليل وسقط لفظ "من" من رواية الأكثر، وهي مرادة- انتهى. وقال العيني: ليس في رواية الأكثرين لفظ من موجوداً، بل اللفظ كان يقوم الليل أي في الليل، والمراد في جزء من أجزائه. وقال القسطلاني: يقوم الليل أي بعضه- انتهى. ونقله الجزري في جامع الأصول (ج7 ص46) بذكر لفظ "من". ووقع عند البيهقي بحذفه. (فترك قيام الليل) أي لا عن عذر، بل دعة ورفاهية، فلم يكن من الموفين بعهدهم إذا عاهدوا. قال ابن العربي: في هذا الحديث دليل على أن قيام الليل ليس بواجب، إذ لو واجباً لم يكتف لتاركه بهذا القدر، بل كان يذمه أبلغ الذم. وفيه استحباب الدوام على ما اعتاده المرء من الخير من غير تفريط. وفيه الإشارة إلى كراهة قطع العبادة وإن لم تكن واجبة. وقيل: معنى قوله "كان يقوم الليل" أي غالبه أو كله "فترك قيام الليل" أصلاً حين ثقل عليه، أي فلا تزد أنت في القيام أيضاً فإنه يؤدي إلى ترك رأساً. قال السندي: يريد أن الإكثار في قيام الليل قد يؤدي إلى تركه رأساً، كما فعل فعلان، فلا تفعل أنت ذاك، بل خذ فيه التوسط والقصد أي؛ لأن التشديد في العبادة قد يؤدي إلى تركها وهو مذموم. وقال في اللمعات: فيه تنبيه على منعه من كثرة قيام الليل والإفراط فيه، بحيث يورث الملالة والسآمة- انتهى. وقوله: مثل فلان قال الحافظ: لم أقف على تسميته في شيء من الطرق، وكان إبهام هذا لقصد الستر عليه كالذي تقدم قريباً في الذي نام حتى أصبح. قال ابن حبان: فيه جواز ذكر الشخص بما فيه من عيب إذا قصد بذلك التحذير من صنيعة. (متفق عليه) أخرجه البخاري في قيام الليل، ومسلم في الصوم. وأخرجه أيضاً النسائي وابن ماجه كلاهما في الصلاة والبيهقي (ج3 ص14) .

1242- (17) وعن عثمان بن أبي العاص، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((كان لداود عليه السلام من الليل ساعة يوقظ فيها أهله يقول: يا آل داود: قوموا فصلوا، فإن هذه ساعة يستجيب الله عز وجل فيها الدعاء إلا لساحر أو عشار)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1242- قوله (كان لداود) نبي الله. (عليه السلام من الليل ساعة) بالرفع اسم كان و"من" بيانية متقدمة، قاله القاري، ويفسر هذه الساعة المبهمة ما تقدم في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: كان أي داود ينام نصف الليل ويقوم ثلثه- الحديث. فوقت إيقاظه لأهله هو وقت قيامه وهو وقت الإجابة، كما سبق. (يوقظ فيها أهله) لقوله تعالى: {اعملوا آل داود شكراً وقليل من عبادي الشكور} [34: 13] أي القائم بالليل. ويناسبه قوله تعالى: {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون} [51: 17] . (يقول) وفي المسند فيقول بزيادة الفاء. (فصلوا) أي من الليل ولو قليلاً. (فإن هذه ساعة يستجيب الله فيها الدعاء) أي يقبله، والصلاة نفسها دعاء؛ لأن الثناء والقيام في خدمة المولى تعرض للعطاء، أو لاشتمالها على الدعاء المحفوف بالذكر والثناء. (إلا لساحر) أي لمخالفته الخالق. (أو عشار) بفتح العين المهملة وتشديد الشين المعجمة أي آخذ العشور من أموال الناس على عادة أهل الجاهلية، وذلك لكونه ترك فرض الله، وهو ربع العشر ولمضرته الخلق، يقال: عشرت المال عشراً وعشوراً فإن عاشر من باب قتل وعشرته، فإن معشر وعشار إذا أخذت عشرة، وعشرت القوم عشراً عشوراً، من باب قتل وعشرتهم إذا أخذت عشر أموالهم، وأما من يعشر الناس على ما فرض الله فحسن جميل محتسب ما لم يتعد فيأثم بالتعدي والظلم، وقد عشر جماعة من الصحابة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وللخلفاء بعده، وسمي هذا عاشرا للإضافة ما يأخذه إلى العشر كربع العشر ونصفه، وهو يأخذ العشر جميعه فيما سقته الماء والعيون وعشر أموال أهل الذمة في التجارات. وقيل: المراد بالعشار في الحديث المكاس والماكس، وهو الذي يأخذ من التجار إذا مروا به مكساً باسم العشر، والمكس الضربية أي دراهم كانت تؤخذ من بائعي السلع في أسواق الجاهلية. وقيل: هو ما يأخذه أعوان الدولة عن أشياء معينة عند بيعها أو عند إدخالها في البلاد والمدن. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليس على المسلمين عشورا، أي ليس عليهم غير الزكاة من الضرائب والمكس ونحوهما. وقال القاري: قوله: أو عشار أي آخذ العشر، وهو المكاس وإن أقل من العشر؛ لأن ذلك باعتبار غالب أحوال المكاسين، وذلك لمضرته الخلق، وأو للتنويع لا للشك- انتهى. وبالجملة ليس المراد بالعشار المذكور في الحديث العاشر أي الساعي الذي يأخذ الصدقة من المسلمين على ما فرض الله من ربع العشر أو نصفه أو العشر جميعه، ولا من يأخذ العشر أو نصفه أو نحوه من أهل الذمة إذا مروا بأموال التجارة. وقيل: المكس النقصان والماكس من العمال من ينقص من حقوق المساكين

رواه أحمد. 1243- (18) وعن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((أفضل الصلاة بعد المفروضة صلاة في جوف الليل)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا يعطيها بتمامها، قاله البيهقي. قال الطيبي: استثنى من جميع خلق الله تعالى الساحر والعشار تشديداً عليهم وتغليظاً وأنهم كالآئسين من رحمة الله تعالى العامة للخلائق كلها، وتنبيهاً على استجابة دعاء الخلق كائناً من كان سواهما-انتهى. يعني فإنهم وإن قاموا ودعوا لم يستجب لهم لغلظ معصيتهم وصعوبة توبتهم، أو المعنى أنهم ما يوفقون لهذا الخير لما ابتلوا به من الشر الكثير، فالاستثناء على الأول متصل، وعلى الثاني منفصل. قاله القاري. (رواه أحمد) (ج4:ص22) من طريق علي بن زيد وهو ابن جدعان عن الحسن. (البصري) قال مر عثمان بن أبي العاص على كلاب بن أمية، وهو جالس على مجلس العاشر بالبصرة، فقال: ما يجلسك ههنا؟ قال: استعملني هذا على هذا، يعني زياداً، فقال عثمان: ألا أحدثك حديثاً سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: بلى، فقال عثمان: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: كان لداود نبي الله-الحديث. وفي آخره: فركب كلاب بن أمية سفينته فأتى زياداً فاستضعفاه فأعفاه-انتهى. والحسن البصري كان يرسل كثيراً ويدلس، ولم يصرح ههنا بسماعه عن عثمان بن أبي العاص، بل المفهوم من كلام الحافظ أنه لم يسمع منه شيئاً حيث قال في تهذيب التهذيب (ج2:ص223، 224) : روى الحسن عن أبي بن كعب وسعد بن عبادة وعمر بن الخطاب ولم يدركهم، وعن ثوبان وعمار بن ياسر وأبي هريرة وعثمان بن أبي العاص ومعقل بن سنان ولم يسمع منهم-انتهى. 1243- قوله: (أفضل الصلاة بعد المفروضة صلاة في جوف الليل) أي سدسه الرابع والخامس. وهذه الأفضلية باعتبار الزمان، فالصلاة في البيت أفضل باعتبار المكان. وفي الحديث دليل لما اتفق عليه العلماء أن النفل المطلق في الليل أفضل منه في النهار، وذلك؛ لأن الخشوع فيه أوفر، وفيه حجة لأبي إسحاق المروزي ومن وافقه من الشافعية: أن صلاة الليل أفضل من السنن الرواتب. وقال أكثر العلماء: الرواتب أفضل؛ لأنها تشبه الفرائض. قال النووي: والأول أقوى وأوفق لنص هذا الحديث. قال الطيبي: ولعمري أن صلاة التهجد لو لم يكن فيها فضل سوى قوله تعالى: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} [17: 79] وقوله تعالى: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} إلى قوله تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} [32: 16- 17] وغيرهما من الآيات لكفاه مزية-انتهى. قال ميرك: وقد يجاب عن هذا الحديث بأن معناه من أفضل الصلاة وهو خلاف سياق الحديث-انتهى. وقيل: يحمل الحديث على أن المراد بقوله "بعد المفروضة" أي بعد الفرائض وما يتبعها من السنن، وقد يقال التهجد أفضل من حيث زيادة مشقته على النفس، وبُعده عن الرياء

رواه أحمد. 1244- (19) وعنه، قال: ((جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن فلاناً يصلي بالليل، فإذا أصبح سرق، فقال: إنه سينهاه ما تقول)) . رواه أحمد، والبيهقي في شعب الإيمان. 1245، 1246- (20، 21) وعن أبي سعيد، وأبي هريرة، قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أيقظ الرجل أهله من الليل، ـــــــــــــــــــــــــــــ والرواتب أفضل من حيث الآكدية في المتابعة للمفروضة فلا منافاة. (رواه أحمد) أصل هذا الحديث عند مسلم. والترمذي وأبي داود والنسائي وابن خزيمة في صحيحه بألفاظ متقاربة، وسيأتي في الفصل الأول من باب صيام التطوع. 1244- قوله: (جاء رجل) لم أقف على تسميته. (فقال: إن فلاناً) أي رجلاً معينا، ولم يدر من هو. (فإذا أصبح) أي قارب الصبح. (سرق) أو المراد سرق بالنهار. ولو بالتطفيف ونحوه، وهو بفتح الراء من باب ضرب. (فقال إنه) أي الشأن. (سينهاه) من النهي. (ما تقول) قال الطيبي: هو فافعل سينهاه يعني أن قولك يدل على أنه محافظ على الصلوات، فإن من لا يدع الصلاة بالليل لا يدعها بالنهار، فمثل تلك الصلاة سينهي عن الفحشاء والمنكر فيتوب عن السرقة. ومعنى السين التأكيد في الإثبات أي بالنسبة إلى عدمها، كما أن لن للتأكيد في النفي أي بالنسبة إلى لا. وقال ابن حجر: فمثل هذه الصلاة لا محالة تنهاه فيتوب عن السرقة قريباً، فالسين على أصلها من التنفيس، إذ لا بد مزاولة الصلاة زمناً حتى يجد منها حالة في قلبه تمنعه من الإثم- انتهى. وفي بعض النسخ: ستنهاه أي بالمثناة الفوقية، فالفاعل إما ضمير فيه عائد إلى الصلاة أي هي تنهاه عما تقول، أو ما في قوله ما تقول؛ لأنها عبارة عن الصلاة. ووقع في بعض النسخ "ما يقول" أي بالغيبة أي الرجل الأول، والصحيح ما تقول بالخطاب، قاله القاري: وفي الحديث إيماء إلى قوله تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [29: 45] أي أن مواظبتها تحمل على ترك ذلك. (رواه أحمد الخ) وأخرجه أيضاً البزار. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص258) بعد عزوه لأحمد والبزار: ورجاله رجال الصحيح. وأخرج البزار أيضاً مثله عن جابر. قال الهيثمي: ورجاله ثقات- انتهى. قلت: قد وقع الاختلاف في سند هذا الحديث فرواه غير واحد، ومنهم وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، ورواه قيس عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر. وقال جرير بن عبد الحميد، وزياد بن عبد الله عن الأعمش عن أبي صالح عن جابر، نقله ابن كثير في تفسيره (ج7 ص296) عن البزار. 1245، 1246- قوله: (إذا أيقظ الرجل أهله) أي امرأته. وقيل: نساءه وأولاده وأقاربه. (من الليل)

فصليا أو صلى ركعتين جميعاً، كتبا في الذاكرين والذاكرات)) . رواه أبوداود، وابن ماجه. 1247- (22) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أشراف أمتي حملة القرآن، وأصحاب الليل)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ أي في بعض أجزاء الليل. (فصليا) أي الرجل والمرأة، أو الرجل وأهله. (أو صلى) أي كل واحد منهما. وأو للشك من الراوي بين الإفراد والتثنية. (ركعتين جميعاً) تأكيد لضمير صليا "أو صلى" لما تقرر أن المراد كل واحد منهما. وفي رواية لأبي داود: من استيقظ من الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين جميعاً. (من غير شك) . ولفظ ابن ماجه: إذا استيقظ الرجل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين. قال السندي: قوله إذا استيقظ الرجل أي مثلاً، وكذا العكس فلا مفهوم لاسم الرجل، كما يدل عليه حديث أبي هريرة (السابق في الفصل الثاني) والمقصود إذا استيقظ أحدهما وأيقظ الآخر، والله أعلم، بل الظاهر أنه لا مفهوم للشرط أيضاً. والمقصود أنهما إذا صليا من الليل ولو ركعتين كتبا الخ. وإنما خرج هذا الشرط مخرج العادة. وفيه تنبيه على أن شأن الرجل أن يستيقظ أولاً ويأمر امرأته بالخير. وفيه أنه يجوز الإيقاظ للنوافل، كما يجوز للفرائض، ولا يخفى تقييده بما إذا علم من حال النائم أنه يفرح بذلك أو لم يثقل عليه ذلك. (كتبا) أي الصنفان من الرجال والنساء. (في الذاكرين والذاكرات) أي كتب الرجل في الذاكرين الله كثيراً والمرأة في الذاكرات كذلك، أي ومن كتب كذلك فله أجر عظيم، كما في قوله تعالى: {والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيماً} [33: 35] ففي الحديث إشارة إلى تفسير القرآن. (رواه أبوداود وابن ماجه) وأخرجه أيضاً النسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم وألفاظهم متقاربة. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، كذا في الترغيب. وأخرجه أيضاً البيهقي (ج2 ص501) وقال النووي في رياض الصالحين رواه أبوداود بإسناد صحيح. والحديث ذكر أبوداود والبيهقي. الاختلاف في رفعه ووقفه. وقال المنذري في مختصر السنن: رواه النسائي، وابن ماجه مسنداً أي مرفوعاً، وهذا يشير إلى أنه لم ير هذا الاختلاف شيئاً، وهذا؛ لأن الرفع زيادة الثقة فتقبل. 1247- قوله: (أشراف أمتي) جمع شريف. (حملة القرآن) جمع حامل أي حفظته، المداومون على تلاوته، العاملون بأحكامه فإنهم الحملة الحقيقة. (وأصحاب الليل) أي الملازمون لإحياء الليل بصلاة أو ذكر أو نحو ذلك. وإنما قلنا الملازمون؛ لأن صاحب الشيء، وابن الشيء الملازم له، كقولهم ابن السبيل أي الملازم له. قال الطيبي: المراد بقوله حملة القرآن من حفظه وعمل بمقتضاه وإلا كان في زمرة من قيل في حقهم: {كمثل الحمار يحمل أسفاراً} ، وإضافة الأصحاب إلى الليل تنبيه على كثرة الصلاة فيه، كما يقال: ابن السبيل لمن يواظب على السلوك فيه- انتهى أي وكما يقال: ابن الوقت لمن يحافظ أوقاته ويراعي ساعاته ليرتب طاعاته. والحديث من أدلة فضل أهل صلاة

رواه البيهقي في شعب الإيمان. 1248- (23) وعن ابن عمر، أن أباه عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ((كان يصلي من الليل ما شاء الله، حتى إذا كان من آخر الليل أيقظ أهله للصلاة، يقول لهم: الصلاة، ثم يتلو هذه الآية: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقاً نحن نرزقك ـــــــــــــــــــــــــــــ الليل وفضل أهل القرآن. (رواه البيهقي) وأخرجه أيضاً ابن أبي الدنيا. والطبراني في الكبير. والحديث سنده ضعيف؛ لأن المنذري صدره في الترغيب بلفظة: روي وأهمل الكلام في آخره. وهذه علامة الإسناد الضعيف، كما صرح بذلك في بدء الكتاب. 1248- قوله: (وعن ابن عمر أن أباه عمر بن الخطاب) كذا في جميع النسخ للمشكاة، وكذا وقع في جامع الأصول (ج7 ص45) . والظاهر أنه وهم من الجزري، وتبعه المصنف في ذلك، فإن الحديث في جميع نسخ الموطأ من رواية زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب، وكذا حكاه السيوطي في الدر المنثور عن موطأ مالك. وهكذا أخرجه محمد في موطئه عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه، وكذا ذكر السيوطي في الدر المنثور عن البيهقي، وكذا روى ابن أبي حاتم بسنده عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب. (كان يصلي من الليل) وفي موطأ محمد: كان يصلي كل ليلة. (ما شاء الله) أي من عدد الركعات، أو من استيفاء الأوقات. وفي الموطأ محمد: ما شاء الله أن يصلي. (حتى إذا كان من آخر الليل) عند السحر. (أيقظ أهله للصلاة) أي لإدراك شيء من صلاة التهجد. وقيل: يحتمل أن يكون إيقاظه لصلاة الفجر، والأول أظهر بل هو المتعين يعني أنه لم يكلف أهله منه ما كان هو يفعله بل يوقظهم في آخر الوقت ليصلوا تخفيفاً لهم. (يقول لهم) أي عند الاستيقاظ. (الصلاة) كذا وقعت في جميع النسخ مرة. وفي الموطأ وقعت مكررة، وهي منصوبة بتقدير أقيموا أو صلوا. ويجوز الرفع بمعنى حضرت الصلاة، قاله القاري. (ثم يتلو هذه الآية) التي في آخر سورة طه. (وأمر أهلك بالصلاة) وهي بعمومها تشمل صلاة الليل، والمعنى استنقذهم من عذاب الله بأمر إقامة الصلاة. (واصطبر عليها) أي اصبر أنت على محافظتها، كما قال تعالى: {قوا أنفسكم وأهليكم ناراً} [66: 6] وقيل: المعنى اصبر عليها فعلاً فإن الوعظ بلسان الفعل أبلغ منه بلسان القول. وقال القاري: أي بالغ في الصبر على تحمل مشقاتها ومشاق أمر أهلك بها، فاقبل أنت معهم على عبادة الله تعالى ولا تهتم بأمر الرزق، وفرغ قلبك لأمر الآخرة؛ لأنا لعظمتنا وقدرتنا على رزق العباد. (لا نسألك) أي لا نكلفك. (رزقا) أي تحصيل رزق لنفسك ولا لغيرك بل نسألك العبادة. (نحن نرزقك) كما نرزق غيرك. قال ابن كثير: يعني إذا أقمت الصلاة أتاك الرزق من حيث لا تحتسب، كما

(34) باب القصد في العمل

والعاقبة للتقوى} . رواه مالك. (34) باب القصد في العمل ـــــــــــــــــــــــــــــ قال تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب} [65: 2، 3] وقال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق} [51: 56، 57] الآية. وقد أخرج أحمد والبيهقي وغيرهما عن ثابت قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصابت أهله خصاصة نادى أهله: يا أهلاه صلوا صلوا. قال ثابت وكانت الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة. (والعاقبة) أي المحمودة أو حسن العاقبة في الدنيا والآخرة وهي الجنة. (للتقوى) أي لأهل التقوى على حذف المضاف، روى ابن النجار وابن عساكر وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت هذه الآية كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجيء إلى باب على صلاة الغداة ثمانية أشهر يقول: الصلاة رحمكم الله، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً. قال الباجي: يحتمل أن عمر رضي الله عنه يوقظهم امتثالاً لأمر الباري تعالى، فيتلو هذه الآية عند امتثالها ليتأكد قصده لذلك. ويحتمل أن يقرأ ذلك على سبيل الاعتذار من إيقاظهم- انتهى. (رواه مالك) في موطئه عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب الخ، لا عن ابن عمر عن عمر، كما وقع في المشكاة وجامع الأصول. (باب القصد) بفتح القاف وسكون الصاد المهملة، هو سلوك الطريق المعتدلة والتوسط بين الإفراط والتفريط: والمراد باب استحباب ذلك، وأصل القصد الاستقامة في الطريق، كقوله تعالى: {وعلى الله قصد السبيل} [16: 9] {ومنها جائر} أي على الله بيان الطريق المستقيم، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف. والمعنى على الله بيان السبيل القصد وهو الإسلام، والقصد مصدر يوصف به فهو بمعنى قاصد، يقال سبيل قصد وقاصد أي مستقيم كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه، ثم استعير للتوسط في الأمور. ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: القصد القصد. رواه البخاري في حديث طويل، والمعنى ألزموا الطريق الوسط المعتدل. ومنه قوله في حديث جابر عند ابن ماجه: أيها الناس عليكم القصد عليكم القصد، أي من الأمور في القول والفعل والتوسط بين طريق الإفراط والتفريط. ومنه قوله في حديث جابر عند مسلم: كانت خطبته قصداً، أي لا طويلة ولا قصيرة. ومنه قوله: عليكم هدياً قاصداً الخ. أخرجه أحمد والحاكم من حديث بريدة، والمعنى طريقاً معتدلاً. ومنه قوله: ما عال من اقتصد. أخرجه أحمد عن ابن مسعود أي ما افتقر من لا يسرف في الإنفاق ولا يقتر. (في العمل) أي الصالح. وقال القاري: أي عمل النوافل.

{الفصل الأول}

{الفصل الأول} 1249- (1) عن أنس، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفطر من الشهر حتى يظن أن لا يصوم منه شيئاً، ويصوم حتى يظن أن لا يفطر منه شيئاً، وكان لا تشاء أن تراه من الليل مصلياً إلا رأيته، ولا نائماً إلا رأيته)) . رواه البخاري. 1250- (2) وعن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أحب الأعمال إلى الله أدومها ـــــــــــــــــــــــــــــ 1249- قوله: (يفطر من الشهر) أي أياماً كثيرة. وقيل: أي يكثر الفطر في الشهر. (حتى نظن) بنون الجمع التي للمتكلم وبالياء التحتانية على البناء للمجهول، ويجوز بالمثناة الفوقية التي للمخاطب مبنياً للفاعل، قال الحافظ: ويؤيده قوله بعد ذلك: إلا رأيته، فإنه روى بالضم والفتح معاً. (أن لا يصوم) بفتح الهمزة، ويجوز في يصوم النصب على كون أن مصدرية، والرفع على كونها مخففة من الثقيلة، فيوافق ما في رواية أنه. (منه) أي من الشهر. (شيئاً) يعني يكثر الفطر في الشهر حتى نظن أنه لا يريد أن يصوم منه شيئاً ثم يصوم باقية. (ويصوم) أي ويكثر الصوم في الشهر. (حتى نظن) بالوجوه الثلاثة. (أن لا يفطر) بالإعرابين. (منه) أي من الشهر. (شيئاً) أي ثم يفطر باقية. (وكان) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي الشمائل: كنت. (لا تشاء) قال المظهر: لا بمعنى ليس، أو بمعنى لم، أي لست تشاء، أو لم تكن تشاء، أو لا زمان تشاء، أو لا من زمان تشاء. (أن تراه) أي رؤيته فيه. (من الليل مصلياً إلا رأيته) أي مصلياً (ولا) تشاء أن تراه من الليل. (نائماً إلا رأيته) أي نائماً. قال الطيبي: هذا التركيب من باب الاستثناء على البدل، وتقديره على الإثبات أن يقال: إن تشاء رؤيته متهجداً رأيته متهجداً، وإن تشاء رؤيته نائماً رأيته نائماً، أي كان أمره قصداً لا إسراف فيه ولا تقصير، ينام في وقت النوم وهو أول الليل، ويتهجد في وقته وهو آخره. وعلى هذا حكاية الصوم ويشهد له حديث ثلاثة رهط على ما روى أنس قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً. وقال الآخر: أصوم النهار أبداً ولا أفطر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما أنا فأصلي وأنام وأصوم وافطر، فمن رغب عن سنتي فليس مني- انتهى. وفي رواية للبخاري: قال حميد: سألت أنساً عن صيام النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما كنت أحب أن أراه من الشهر صائماً إلا رأيته ولا مفطراً إلا رأيته ولا من الليل قائماً إلا رأيته ولا نائماً إلا رأيته– الحديث. يعني أنه كان يصوم ويفطر ولا يصوم الشهر كله، وكذا كان يصلي وينام ولا يصلي الليل كله، فكان عمله التوسط بين الإفراط والتفريط، وهذا هو المراد من القصد في العمل. (رواه البخاري) في قيام الليل، وفي الصوم. وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي والترمذي في الشمائل والبيهقي (ج3 ص17) . 1250- قوله: (أحب الأعمال إلى الله أدومها) خرج هذا جواب سؤال، ففي رواية للشيخين قالت،

وإن قل)) . متفق عليه. 1251- (3) وعنها، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خذوا من الأعمال ـــــــــــــــــــــــــــــ أي عائشة: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: أدومه. قال ابن العربي: معنى المحبة من الله تعلق الإرادة بالثواب أي أكثر الأعمال ثواباً أدومها. (وإن قل) أي ولو قل العمل، والحاصل أن العمل القليل مع المداومة والمواظبة خير من العمل الكثير مع ترك المراعاة والمحافظة؛ لأن العمل القليل يصل إلى الأكثر من الكثير الذي يفعل مرة أو مرتين ثم يترك ويترك العزم على العمل الصالح مما يثاب عليه، وأيضاً أن العمل الذي يداوم عليه هو المشروع، وأن ما توغل فيه بعنف ثم قطع فإنه غير مشروع، قاله الباجي. قال النووي: في الحديث الحث على المداومة على العمل، وإن قليلة الدائم خير من كثير ينقطع، وإنما كان كذلك؛ لأن بدوام القليل تدوم الطاعة والذكر والمراقبة والنية والإخلاص والإقبال على الخالق سبحانه وتعالى، بخلاف الكثير المنقطع، ويثمر القليل الدائم بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافاً كثيرة. وقال ابن الجوزي: إنما أحب الدائم لمعنيين: أحدهما: أن التارك للعمل بعد الدخول فيه كالمعرض بعد الوصل، وهو متعرض للذم، ولذا ورد الوعيد في حق من حفظ آية ثم نسيها وإن كان قبل حفظها لا يتعين عليه. والثاني: أن مداوم الخير ملازم للخدمة، وليس من لازم الباب في كل يوم وقتاً ما كمن لازم يوماً كاملا ثم انقطع- انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في باب القصد والمداومة على العمل من كتاب الرقاق. ومسلم في الصلاة. وأخرجه أيضاً مالك والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج2 ص485) بألفاظ متقاربة. قال في الأزهار: هذا الحديث من إفراد مسلم. قال الأبهري: لعل المصنف جعله متفقاً عليه، لما روى البخاري عن مسروق قال: سألت عائشة أي الأعمال أحب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؟: قالت: الدائم- انتهى. فتكون رواية البخاري نحو رواية مسلم في المعنى، ويكون الحديث متفق عليه بتفاوت يسير في اللفظ، والمصنف قد لا يلتفت إليه. قلت الحديث بهذا السياق موجود في البخاري، فقد روي من طريق أبي سلمة عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: سددوا وقاربوا- الحديث، وفيه: أن أحب الأعمال أدومها إلى الله وإن قل. وفي رواية: قالت: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: أدومه وإن قل. وقال أكلفوا من الأعمال ما تطيقون. 1251- قوله: (خذوا من الأعمال) أي من أعمال البر صلاة وغيرها، وحمله الباجي وغيره على الصلاة خاصة؛ لأن الحديث ورد فيها. لما روى مسلم عن عائشة أن الحولاء بنت تُوَيْت مرت بها وعندها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: هذه الحولاء بنت تويت زعموا أنها لا تنام الليل. وفي رواية: لا تنام تصلي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تنام الليل خذوا من العمل الخ. وحمله على جميع العبادات أولى؛ لأن العبرة لعموم اللفظ. وقال عياض: يحتمل أن يكون هذا خاصا بصلاة الليل، ويحتمل أن

ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا)) ـــــــــــــــــــــــــــــ يكون عاماً في الأعمال الشرعية. قال الحافظ: سبب وروده خاص بالصلاة، ولكن اللفظ عام، وهو المعتبر وعدل عن خطاب النساء إلى الرجال تعميماً للحكم، فغلب الذكور على الإناث في الذكر. (ما تطيقون) أي الذي تطيقون المداومة عليه، وحذف العائد للعلم به. قال الحافظ: أي اشتغلوا من الأعمال بما تستطيعون المداومة عليه، فمنطوقة يقتضي الأمر بالاقتصار على ما يطاق من العبادة، ومفهومه يقتضي النهي عن تكلف ما لا يطاق. (فإن الله لا يمل حتى تملوا) بفتح الميم فيها. قال البيضاوي: الملال فتور يعرض للنفس من كثرة مزاولة شيء، فيوجب الكلال في الفعل والإعراض عنه، وأمثال ذلك على الحقيقة إنما تصدق في حق من يعتريه التغير والإنكسار، فأما من تنزه عن ذلك فيستحيل تصور هذا المعنى في حقه، فإذا أسند إليه أوّل بما هو منتهاه وغايته كإسناد الحياء وغيره إلى الله تعالى، فالمعنى والله أعلم، اعملوا حسب وسعكم وطاقتكم فإن الله لا يعرض عنكم إعراض الملول عن الشيء، ولا ينقص ثواب أعمالكم ما بقي لكم نشاط، فإذا فترتم فاقعدوا فإنكم إذا مللتم عن العبادة وأتيتم بها على وجه كلال وفتور، كان معاملة الله معكم حينئذٍ معاملة ملول عنكم. وقال التوربشتي: إسناد الملال إلى الله تعالى على طريقة المشاكلة والإزدواج، وهو أن تكون إحدى اللفظتين موافقة للأخرى وإن خالفتها معنى، والعرب تفعل ذلك إذا جعلو ما جواباً وجزاء لها، وإن كانت مخالفة في المعنى، فمعنى الحديث لا يقطع ثواب عملكم حتى تتركوا العمل ملالاً وسأمة من كثرته وثقله فعبر عن ترك الإثابة وقطع الجزاء بالملال؛ لأنه بحذائه وجواب له فهو لفظ خرج على مثال لفظ كقول الله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} [42: 40] ومنه قول عمرو بن أبي كلثوم التغلبي: ألا لا يجهلن أحد علينا- فنجهل فوق جهل الجاهلينا. ومن المستبعد أن يفتخر ذو عقل بجهل، وإنما فنجازية لجهله ونعاقبه على سوء صنيعة. والحاصل أنه أطلق لفظ الملال على الله على جهة المقابلة اللفظية مجازاً. قال القرطبي: وجه مجازه أنه تعالى لما كان يقطع ثوابه عمن يقطع العمل ملالاً عبر عن ذلك بالملال من باب تسمية الشيء باسم سببة. وقال الهروي: معناه لا يقطع عنكم فضله حتى تملوا سؤاله، فتزهدوا في الرغبة إليه. وقيل: معناه لا يتناهى حقه عليكم في الطاعة حتى يتناهى جهدكم، وهذا كله بناء على أن حتى على بابها في انتهاء الغاية وما يترتب عليها من المفهوم. وجنح بعضهم إلى تأويلها، فقيل: معناه لا يمل الله إذا مللتم أو لا يمل أبداً وإن مللتم، وهو مستعمل في كلام العرب، ومنه قولهم في البليغ لا ينقطع حتى تنقطع خصومه، أي لا ينقطع بعد انقطاع خصومه، بل يكون على ما كان عليه قبل ذلك، فإنه لو انقطع حين ينقطعون لم يكن له عليهم مزية. وقيل: إن "حتى" بمعنى الواو فيكون التقدير لا يمل وأنتم تملون، فنفي عنه الملل وأثبته لهم. وقيل: حتى بمعنى حين لا يمل حين تملون. قال الحافظ: كونه على طريق المشاكلة والإزدواج أولى وأجرى على القواعد، وأنه من باب المقابلة اللفظية، ويؤيده ما وقع في بعض طرق حديث عائشة: فإن الله لا يمل من

متفق عليه. 1252- (4) وعن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليصل أحدكم نشاطه، وإذا فتر فليقعد)) . متفق عليه. 1253- (5) وعن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا نعس أحدكم ـــــــــــــــــــــــــــــ الثواب حتى تملوا من العمل، لكن في سنده موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف. وأخذ بظاهر الحديث جماعة من الأئمة فقالوا: يكره قيام جميع الليل، وبه قال مالك مرة ثم رجع عنه، وقال: لا بأس به ما لم يضر بالصلاة الصبح، فإن كان يأتي وهو ناعس فلا يفعل، وإن كان إنما يدركه كسل وفتور فلا بأس به. وكذا قال الشافعي: لا أكرهه إلا لمن خشي أن يضر بصلاة الصبح، قاله الزرقاني. (متفق عليه) واللفظ لمسلم. وآخره أيضاً مالك وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص17) . 1252- قوله: (ليصل) بكسر اللام. (نشاطه) بفتح النون أي قدر نشاطه أو مدة نشاطه وزمان انبساطه، فنصبه على الظرفية، أو صلاته التي ينشط لها. (فإذا فتر) بفتح التاء المثناة فوق، أي ضعف وكسل في أثناء القيام. (فليقعد) أي ويتم صلاته قاعداً، أو إذا فتر بعد فراغ بعض التسليمات فليقعد لإيقاع ما بقي من نوافله قاعداً، أو إذا فتر بعد انقضاء البعض فليترك بقية النوافل جملة إلى أن يحدث له نشاط، أو إذا فتر بعد الدخول فيها فليقطعها، خلافاً للمالكية حيث منعوا من قطع النافلة بعد التلبس بها، ذكره القسطلاني. والحديث طرف من حديث طويل. أخرجه الشيخان وغيرهما، ذكر في أوله سبب هذا القول وهو أنه قال أنس: دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - المسجد، فإذا حبل ممدود بين ساريتين أي من سواري المسجد فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا هذا حبل لزينب أي ابنة جحش أم المؤمنين، فإذا فترت تعلقت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لأحلوه أحدكم الخ. قال الحافظ: والحديث فيه الحث على الاقتصاد في العبادة والنهي عن التعمق فيها والأمر بالإقبال عليها بنشاط، وفيه إزالة المنكر باليد واللسان، وجواز تنفل النساء في المسجد، واستدل به على كراهة التعلق في الحبل في الصلاة- انتهى. (متفق عليه) وأخرجه أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص18) . 1253- قوله: (إذا نعس) بفتح العين من بابي فتح ونصر. (أحدكم) أي أخذته فترة في حواسه، فقارب النوم والنعاس بضم العين فترة في الحواس أو مقاربة النوم أو الوسن، وأول النوم وهي ريح لطيفة تأتي من قبل الدماغ تغطي العين ولا تصل إلى القلب، فإذا وصلته كان نوماً، وفي العين والمحكم النعاس النوم. وقيل: مقاربته. قال الحافظ: المشهور التفرقة بينهم، اوإن من قرت حواسه بحيث يسمع كلام جليسه ولا يفهم معناه، فهو ناعس، وإن زاد على

وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك فهو نائم. ومن علامات النوم الرؤيا طالت أو قصرت. (وهو يصلي) جملة اسمية في موضع الحال. وفي رواية أبي داود: وهو في الصلاة. قيل المراد في صلاة الليل؛ لأنها محل النوم غالباً، وهذا عند مالك وجماعة. وقال النووي: الجمهور على عمومها الفرض والنفل ليلاً أو نهاراً لكن لا يخرج فريضة عن وقتها. (فليرقد) بضم القاف من باب نصر أي فلينم احتياطاً؛ لأنه علل بأمر محتمل، كما سيأتي، والأمر للندب، قاله الزرقاني. وفي حديث أنس عند البخاري: فلينم. وعند محمد بن نصر في قيام الليل: فلينصرف فليرقد. وفي حديث أبي هريرة عند أبي داود وغيره: إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه، فلم يدر ما يقول فليضطجع. وفي رواية عائشة عند النسائي: فلينصرف أي بعد أن يتم صلاته مع تخفيف، لا أنه يقطع الصلاة بمجرد النعاس، خلافاً للمهلب حيث حمله على ظاهره، فقال إنما أمر بقطع الصلاة لغلبة النوم، فدل على أنه إذا كان نعاس أقل من ذلك عفي عنه- انتهى. وقد تقدم أن هذا الحديث حمله مالك وطائفة على نفل الليل خلافاً للجمهور. قال المهلب: إنما هذا في صلاة الليل؛ لأن الفريضة ليست في أوقات النوم، ولا فيها من التطويل ما يوجب ذلك- انتهى. قال الحافظ: قد قدمنا أن الحديث جاء على سبب، لكن العبرة بعموم اللفظ، فيعمل به أيضاً في الفرائض ما أمن بقاء الوقت- انتهى. قلت: أشار الحافظ بقوله قدمنا أنه جاء على سبب إلى ما روى محمد بن نصر في قيام الليل (ص77) عن عائشة قالت: مرت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحولاء بنت تويت فقيل له: يا رسول الله إنها تصلي بالليل صلاة كثيرة، فإذا غلبها النوم ارتبطت بحبل فتعلقت به، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بل تصلي ما قويت على الصلاة فإذا نعست فلتنم. (حتى يذهب عنه النوم) أي ثقله فالنعاس سبب للأمر بالنوم. (فإن أحدكم) علة للرقاد وترك الصلاة. (إذا صلى وهو ناعس) جملة حالية يريد أنه إذا صلى في حال غلبة النوم. (لا يدري) أي ما يفعل فحذف المفعول للعلم به واستأنف بياناً قوله (لعله يستغفر) بالرفع يريد أن يدعو ويستغفر لنفسه. (فيسب نفسه) أي يدعو عليها، وقد صرح به النسائي في روايته: والمعنى يريد ويقصد أن يستغفر له فيسب نفسه، أي يدعو عليها من حيث لا يدري، مثلاً يريد أن يقول اللهم اغفر لي فيقول اللهم اعفر لي، والعفر هو التراب فيكون دعاء عليه بالذل والهوان، وهو تمثيل وإلا فلا يشترط التصحيف. وقوله: فيسب بالنصب جواباً للعل، والرفع عطفاً على يستغفر، وجعل ابن أبي جمرة علة النهي خشية أن يوافق ساعة للإجابة. قال القسطلاني: والترجي في لعل عائد إلى المصلي لا إلى المتكلم به، أي لا يدري أمستغفر أم ساب مترجياً للاستغفار، وهو في الواقع بضد ذلك، وغاير بين لفظي النعاس في الأول نعس بلفظ الماضي، وهنا بلفظ اسم الفاعل تنبيهاً على أنه لا يكفي تجدد أدنى نعاس وتقضيه في الحال، بل لا بد من ثبوته

متفق عليه. 1254- (6) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد ـــــــــــــــــــــــــــــ بحيث يفضي إلى عدم درايته بما يقول وعدم علمه بما يقرأ- انتهى. وقال الطيبي: الفاء في "فيسب" للسببية كاللام في قوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً} [28: 8] . قال المالكي: يجوز في "فيسب" الرفع باعتبار عطف الفعل على الفعل، والنصب باعتبار جعل فيسب جواباً للعل، فإنها مثل ليت في اقتضائها جواباً منصوباً، ونظيره قوله تعالى: {لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى} [80: 4] نصبه عاصم ورفعه الباقون- انتهى كلامه. قال الطيبي: النصب أولى لما مر، ولأن المعنى لعله يطلب من الله لذنبه الغفران ليصير مزكي فيتكلم بما يجلب الذنب فيزيد العصيان، فكأنه سب نفسه- انتهى. والحديث يدل على أن النعاس لا ينقض الوضوء، إذ لو كان ناقضاً الوضوء لما منع الشارع عن الصلاة بخشية أن يدعو على نفسه، بل وجب أن يذكر الشارع أنه لا تصح صلاته مع النعاس، أو نحوه؛ لانتقاض وضوءه، وفيه الحث على الإقبال على الصلاة بخشوع وفراغ قلب ونشاط، وفيه أمر الناعس بالنوم أو نحوه مما يذهب عنه النعاس، وفيه اجتناب المكروهات في الطاعات، وجواز الدعاء في الصلاة من غير تقييد بشيء معين. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص16) . 1254- قوله: (إن الدين) وفي رواية النسائي: إن هذا الدين أي دين الإسلام. (يسر) بضم الياء التحتية وسكون السين أي مبني على اليسر والسهولة، فلا تشددوا على أنفسكم على دأب الرهبانية، وقيل: يسر مصدر وضع موضع المفعول مبالغة، ذكره الطيبي. وقال القسطلاني: أي ذو يسر، وذلك لأن الإلتئام بين الموضوع والمحمول شرط، وفي مثل هذا لا يكون إلا بالتأويل، أو هو اليسر نفسه، كقول بعضهم في النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه عين الرحمة مستدلاً بقوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [21: 107] كأنه لكثرة الرحمة المودعة فيه صار نفسها، والتأكيد بأن فيه رد على منكر يسر هذا الدين، فإما أن يكون المخاطب به منكراً أو على تقدير تنزيله منزلته أو على تقدير المنكرين غير المخاطبين، أو لكون القصة مما يهتم بها. قال تعالى: {ما جعل عليكم في الدين من حرج} [22: 78] . وقال: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [2: 185] . وسماه يسراً بالنسبة إلى ذاته أو بالنسبة إلى سائر الأديان؛ لأن الله تعالى رفع عن هذه الأمة الإصر الذي كان على من قبلهم. ومن أوضح الأمثلة له أن توبتهم كانت بقتل أنفسهم وتوبة هذه الأمة بالإقلاع والعزم والندم. (ولن يشاد الدين أحد) بضم الياء وتشديد الدال للمغالبة من الشدة، وهو منصوب بلن. والدين منصوب على المفعولية، وأصله لا يقاوم

إلا غلبة، فسددوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الدين ولا يقابله أحد بالشدة ولا يجزى بين الدين وبينه معاملة بأن يشدد كل منهما على صاحبه (إلا غلبة) الدين ويعجزه عن العمل، والمعنى لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز. وانقطع عن عمله كله أو بعضه فيغلب. والمقصود أنه لا يفرط أحد فيه ولا يخرج عن حد الاعتدال. قال ابن المنير: في هذا الحديث علم من أعلام النبوة، فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع أي منفرد ومتعمق في الدين ينقطع، وليس المراد منه منع طلب الأكمل في العبادة، فإنه من الأمور المحمودة بل منع الإفراط المؤدي إلى الملال أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته، كمن بات يصلي طول الليل كله ويغالب النوم إلى أن غلبته عيناه في آخر الليل فنام عن صلاة الصبح في الجماعة، أو إلى أن خرج الوقت المختار، أو إلى أن طلعت الشمس، فخرج وقت الفريضة. وفي حديث محجن بن الأدرع عند أحمد: لن تنالوا هذا الأمر بالمبالغة وخير دينكم اليسرة. وقد يستفاد من هذا الإشارة إلى الأخذ بالرخصة الشرعية، فإن الأخذ بالعزيمة في موضع الرخصة تنطع، كمن يترك التيم عند العجز عن استعمال الماء فيفضي به استعماله إلى حصول الضرر. (فسددوا) بالمهملة من السداد، وهو القصد والتوسط في العمل، أي ألزموا السداد أي الصواب من غير إفراط ولا تفريط. (وقاربوا) في العبادة وهو بالموحدة أي إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل فاعملوا بما يقرب منه. قال الطيبي: الفاء جواب شرط محذوف يعني إذا بينت لكم ما في المشادة من الوهن فسددوا أي أطلبوا السداد، وهو القصد المستقيم الذي لا ميل فيه وقاربوا تأكيد للتسديد من حيث المعنى. يقال: قارب فلان في أموره إذا اقتصد. (وأبشروا) بقطع الهمزة من الإبشار. وفي لغة: بضم الشين من البشرى بمعنى الإبشار أي أبشروا بالثواب الجزيل على العمل الدائم وإن قل. والمراد تبشير من عجز عن العمل بالأكمل بأن العجز إذا لم يكن من صنيعة لا يستلزم نقص أجره، وأبهم المبشر به تعظيماً له وتفخيماً. (واستعينوا) على المداومة العبادة من بين الأوقات. (بالغدوة) بفتح أوله وضمه وسكون الثانية سير أول النهار إلى الزوال، أو ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس. وقال الطيبي: الغدوة بالضم ما بين صلاة الغدوة إلى طلوع الشمس، وبالفتح المرة من الغدو وهو سير أول النهار، نقيض الرواح. (والروحة) بالفتح اسم للوقت من زوال الشمس إلى الليل. وقيل: السير بعد الزوال. (وشيء) أي واستعينوا بشيء ولو قليل، وفي تنكير شيء الدال على القلة إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يترك القيام بالليل ولو يسيراً، فإن الإكثار فيه يتعب الجسد ويضر بالمزاج. (من الدلجة) بضم أوله وفتحه وإسكان اللام، سير آخر الليل. وقيل: سير الليل كله، ولهذا عبر فيه بالتبعيض، ولأن عمل الليل أشق من عمل النهار. وهذه الأوقات الثلاثة أطيب أوقات المسافر. والمعنى استيعنوا على مدوامة العبادة بإيقاعها في الأوقات المنشطة، وفيه تشبه للسفر إلى الله تعالى بالسفر الحسي،

رواه البخاري. 1255- (7) وعن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من نام عن حزبه أو عن شيء منه، فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كتب له كأنما قرأه من الليل)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومعلوم أن المسافر إذا استمر على السير انقطع وعجز وإذا أخذ الأوقات المنشطة نال المقصد بالمداومة. قال القسطلاني: في هذا استعارة الغدوة والروحة وشيء من الدلجة لأوقات النشاط وفراغ القلب للطاعة، فإن هذه الأوقات أطيب أوقات المسافر، فكأنه - صلى الله عليه وسلم - خاطب مسافرا إلى مقصده، فنبهه على أوقات نشاطه فإن المسافر إذا سافر الليل والنهار جميعاً عجز وانقطع، وإذا تحرى السير في هذه الأوقات المنشطة أمكنته المداومة من غير مشقة، وحسن هذه الاستعارة إن الدنيا في الحقيقة دار نقله إلى الآخرة، وأن هذه الأوقات بخصوصها أروح ما يكون فيها البدن للعبادة. (رواه البخاري) في كتاب الإيمان. وأخرجه أيضاً النسائي فيه وأحمد وابن حبان والبيهقي (ج3 ص18) كلهم من طريق عمر بن علي المقدمي عن معن بن محمد الغفاري عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة وعمر بن علي، هذا بصري ثقة لكنه مدلس شديد التدليس، وصفه بذلك ابن سعد وغيره. وهذا الحديث من أفراد البخاري عن مسلم، وصححه وإن كان من رواية مدلس بالعنعنة لتصريحة فيه بالسماع من طريق أخرى، فقد رواه ابن حبان في صحيحه من طريق أحمد بن المقدام أحد شيوخ البخاري عن عمر بن علي المذكور قال: سمعت معن بن محمد، فذكره، وهو من أفراد معن بن محمد، وهو ثقة قليل الحديث، لكن تابعه على شقه الثاني ابن أبي ذئب عن سعيد. أخرجه البخاري في كتاب الرقاق بمعناه، ولفظه: سددوا وقاربوا وزاد في آخره: والقصد القصد تبلغوا، ولم يذكر شقه الأول. ومن شواهد حديث عروة الفقيمي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن دين الله يسر. ومنها حديث بريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عليكم هدياً قاصداً، فإنه من يشاد الدين يغلبه. رواهما أحمد وإسناد كل منهما حسن، كذا في الفتح. 1255- قوله: (من نام عن حزبه) بكسر الحاء المهملة وسكون الزاي المعجمة وبالموحدة، هو ما يجعله الإنسان وظيفة له من صلاة أو قراءة أو غيرهما. وقال السيوطي: الحزب هو الجزء من القرآن يصلي به. وقال العراقي: هل المراد به صلاة الليل أو قراءة القرآن في صلاة أو غير صلاة، يحتمل كلا من الأمرين- انتهى. والمعنى من فاته ورده كله في الليل لغلبة النوم. والحمل على الليل بقرينة النوم ويشهد له آخر الحديث، وهو قوله: ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، ويؤيده قوله في رواية النسائي: من نام عن حزبه أو قال: عن جزءه من الليل. (أو عن شيء منه) أي من حزبه أي فاته بعض ورده. (كتب له) جواب الشرط. (كأنما قرأه من الليل) صفة

رواه مسلم. 1256- (8) وعن عمران بن حصين، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صل ـــــــــــــــــــــــــــــ مصدر محذوف أي أثبت أجره في صحيفة عمله إثباتاً مثل إثباته حين قرأه من الليل. وقوله: كتب له الخ. قال القرطبي: هذا تفضل من الله تعالى، وهذه الفضيلة إنما تحصل لمن غلبه نوم أو عذر منعه من القيام مع أن نيته القيام، وظاهره أن له أجره مكملاً مضاعفاً، وذلك لحسن نيته وصدق تلهفه وتأسفه، وهو قول بعض شيوخنا. وقال بعضهم: يحتمل أن يكون غير مضاعف إذا التي يصليها أكمل وأفضل، والظاهر هو الأول، قلت: بل هو المتعين وإلا فأصل الأجر يكتب بالنية. قال الشوكاني: الحديث يدل على مشروعية اتخاذ ورد في الليل، وعلى مشروعية قضاءه إذا قات لنوم أو عذر من الأعذار، وأن من فعله ما بين صلاة الفجر إلى صلاة الظهر كان كمن فعله في الليل. وقد ثبت من حديث عائشة عند مسلم والترمذي وغيرهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا منعه من قيام الليل نوم أو وضع صلى من النهار ثنتى عشرة ركعة، وفيه استحباب قضاء التهجد إذا فاته من الليل- انتهى. وفي الحديث إشارة إلى قوله تعالى: {وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً} [25: 62] قال الفاضي: أي ذوي خلفة يخلف كل منهما الآخر يقوم مقامه فيما ينبغي أن يعمل فيه من فاته ورده في أحدهما تداركه في الآخر- انتهى. وهو منقول عن كثير من السلف كابن عباس وقتادة والحسن وسلمان، كما ذكره السيوطي في الدر، فتخصيصه بما قبل الزوال مع شمول الآية النهار بالكمال إشارة إلى المبادرة بقضاء الفوت قبل إتيان الموت، أو لأن ما قارب الشيء يعطى حكمه رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه، وأخرجه مالك موقوفاً على عمر من قوله، والبيهقي مرفوعاً وموقوفاً (ج2 ص485) . والحديث مما استدركه الدارقطني على مسلم، وزعم أنه معلل بأن جماعة رووه هكذا مرفوعاً وجماعة رووه موقوفاً. قال النووي: وهذا التعليل فاسد. والحديث صحيح، وإسناده صحيح أيضاً، لما بينا أن الصحيح، بل الصواب الذي عليه الفقهاء والأصوليون ومحققوا المحدثين إذا روى الحديث مرفوعاً وموقوفاً أو موصولا ومرسلاً حكم بالرفع والوصل؛ لأنها زيادة ثقة. وسواء كان الرافع والواصل أكثر أو أقل في الحفظ والعدد. 1256- قوله: (وعن عمران بن حصين) مصغراً (صل) أي الفرض، والحديث خرج جواباً عن سؤال، كما يدل عليه أوله قال عمران بن حصين: كانت بي بواسير فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة فقال: صل قائماً. والبواسير جمع باسور، يقال بالموحدة وبالنون، والذي بالموحدة ورم في باطن المقعدة. وقيل: علة في المقعدة يسببها تمدد عروق المقعدة، ويحدث فيها نزف دم. وقيل: هو في عرف الأطباء نفاطات تحدث على نفس المقعدة ينزل منها كل وقت مادة، والذي بالنون قرحة فاسدة في البدن لا تقبل البرأ ما دام فيها ذلك الفساد.

قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم يستطع فعلى جنب)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ والمراد بقوله عن الصلاة أي عن صلاة المريض بدليل قوله: كانت بي بواسير. وفي رواية الترمذي: سألت عن صلاة المريض. (قائماً) هذا صريح في وجوب القيام في الفرض في حق المستطيع، إذ السؤال كان فيه دون النوافل، فراكب السفينة يجب له القيام إن استطاعه كما عليه الجمهور. ومن يجوز القعود له يجعل مظنة عدم الاستطاعة بمنزلة عدم الاستطاعة. (فإن لم تستطع) أي القيام. (فقاعداً) أي فصل حال كونك قاعداً، واستدل به من قال: لا ينتقل المريض إلى القعود إلا بعد عدم القدرة على القيام. وقد حكاه عياض عن الشافعي، وعن مالك وأحمد وإسحاق: لا يشترط العدم بل وجود المشقة، ويدل لذلك حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يصلي المريض قائماً، فإن نالته مشقة صلى جالساً، فإن نالته مشقة صلى نائماً يؤمئ برأسه. أخرجه الطبراني في الأوسط. وقال: لم يروه عن ابن جريج إلا حلس بن محمد الضبعي. قال الهيثمي: ولم أجد من ترجمه، وبقية رجاله ثقات- انتهى. قال الحافظ: والمعروف عند الشافعية أن المراد بنفي الاستطاعة وجود المشقة الشديدة بالقيام أو خوف زيادة المرض أو الهلاك، ولا يكتفي بأدنى مشقة، ومن المشقة الشديدة دوران الرأس في حق راكب السفينة، وخوف الغرق لو صلى قائماً فيها. قلت: ويدل لذلك حديث جعفر بن أبي طالب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يصلي في السفينة قائماً إلا أن يخشى الغرق. أخرجه البزار، وفيه رجل لم يسم، وبقية رجاله ثقات، وسنده متصل، قاله الهيثمي. قال الحافظ: ولم يبين كيفية القعود، فيؤخذ من إطلاق قوله: فقاعداً أنه يجوز أن يكون القعود على أي صفة شاء المصلي، وهو مقتضى كلام الشافعي في البويطي. وقد اختلف في الأفضل: فعن الأئمة الثلاثة: يصلي متربعاً واضعاً ليديه على ركبتيه. وقيل: يجلس مفترشاً، وهو موافق لقول الشافعي في مختصر المزني. وصححه الرافعي ومن تبعه. وقيل: متوركاً. في كل منها أحاديث- انتهى. (فإن لم تستطع) أي القعود للمشقة. (فعلى جنب) أي فصل على جنبك. قال المجد بن تيمية في المنتقى: وزاد النسائي فإن لم تستطع فمستلقياً، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها- انتهى. والمراد الجنب الأيمن متوجهاً إلى القبلة، ففي حديث علي عند الدارقطني مرفوعاً بإسناد ضعيف: يصلي المريض قائماً إن استطاع، فإن لم يستطع صلى قاعداً، فإن لم يستطع أن يسجد أومأ برأسه، وجعل سجوده أخفض من ركوعه، فإن لم يستطع أن يصلي قاعداً صلى على جنبه الأيمن مستقبل القبلة، فإن لم يستطع أن يصلي على جنبه الأيمن صلى مستقلياً رجلاه مما يلي القبلة، وهو حجة للجمهور في الانتقال من القعود إلى الصلاة على الجنب الأيمن قالوا: ويكون كتوجه الميت في القبر. وعن الحنفية وبعض الشافعية يستلقي على ظهره، ويجعل رجليه إلى القبلة، وحديثا عمران وعلى يردان عليهم؛ لأن الشارع قدم فيهما الصلاة على الجنب على الاستلقاء، وصرح بأن حالة الاستلقاء تكون عند العجز عن حالة الاضطجاع. قال ابن الهمام: لا ينتهض حديث عمران حجة على العموم، فإنه خطاب له، وكان مرضه البواسير وهو يمنع الاستلقاء، فلا يكون خطابه خطاباً للأمة- انتهى. قلت:

رواه البخاري. 1257- (9) وعنه، ((أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الرجل قاعداً، قال: إن صلى قائماً فهو أفضل، ومن صلى قاعداً فله نصف أجر القائم، ومن صلى نائماً فله نصف أجر القاعد)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ يرد عليه حديث على المذكور، فإنه خرج على وجه بيان الحكم لكل مريض من غير تخصيص برجل دون رجل ومرض دون مرض. واستدل بقوله: فإن لم تستطع فمستلقياً على أنه لا ينتقل المريض بعد عجزه عن الاستلقاء إلى حالة أخرى، كإشارة بالرأس ثم الإيماء بالطرف ثم إجراء القرآن والذكر على اللسان ثم على القلب؛ لكون جميع ذلك لم يذكر في الحديث، وهو قول الحنفية والمالكية وبعض الشافعية. وقال بعض الشافعية بالترتيب المذكور. لما كانت القدرة شرطاً في الفرض وسقط بالضرر، ففي النفل أولى، ففيه تنبيه على نوع مناسبة للباب. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً الترمذي وأبوداود وابن ماجه وغيرهم. 1257- قوله: (وعنه) أي عمران بن حصين وهذا حديث آخر لعمران غير الحديث المتقدم، لا أنهما روايتان في حديث واحد، كما توهم بعضهم، وهما حديثان صحيحان، وكل منها مشتمل على حكم غير الحكم الذي اشتمل عليه الآخر. (أنه سأل) أي عمران. (النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الرجل) حال كونه. (قاعداً) سؤال عمران عن الرجل خرج مخرج الغالب. فلا مفهوم له، بل الرجل والمرأة في ذلك سواء، والنساء شقائق الرجال. (قال) وفي البخاري: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -. (إن صلى) حال كونه. (قائماً فهو أفضل) قال الخطابي: إنما هو في التطوع دون الفرض؛ لأن الفرض لا جواز له قاعداً والمصلي يقدر على القيام، وإذا لم يكن له جواز لم يكن لشيء من الأجر ثبات- انتهى. وقال الحافظ: حكى ابن التين وغيره عن أبي عبيد وابن الماجشون وإسماعيل القاضي وابن شعبان والإسماعيلي والداودي وغيرهم: أنهم حملوا حديث عمران على المتنفل، وكذا نقله الترمذي عن الثوري، قال: وأما المعذور إذا صلى جالساً، فله مثل أجر القائم. وقد روي في بعض الحديث مثل قول سفيان الثوري يشير إلى ما أخرجه البخاري من حديث أبي موسى رفعه: إذا مرض العبد أو سافر كتب له صالح ما كان يعمل وهو صحيح مقيم، ولهذا الحديث شواهد كثيرة. (ومن صلى) أي نفلاً حال كونه. (قاعداً) أي بغير عذر. (فله نصف أجر القائم) قال النووي في الخلاصة: قال العلماء هذا صلاة في النافلة أي مع القدرة على القيام. وأما الفرض فلا يجوز القعود فيه مع القدرة على القيام بالإجماع، فإن عجز لم ينقص ثوابه- انتهى. (ومن صلى) حال كونه (نائماً) أي مضطجعا على هيئة النائم مع القدرة على القيام والقعود. (فله نصف أجر القاعد) يستثني من عمومه النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن صلاته قاعداً لا ينقص أجرها عن صلاته قائماً؛ لحديث عبد الله بن عمرو الآتي في الفصل

الثالث وقد عد الشافعية هذه المسألة من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -. والحديث يدل على أن يتطوع مضطجعاً على الجنب لغير عذر، أي مع القدرة على القيام والقعود. قال ابن حجر: فيه أبلغ حجة على من حرم الاضطجاع في صلاة النفل مع القدرة على القعود. وقال الطيبي: وهل يجوز أن يصلي التطوع نائماً مع القدرة على القيام أو القعود، فذهب بعض إلى أنه لا يجوز، وذهب قوم إلى جوازه، وأجره نصف القاعد، وهو قول الحسن، وهو الأصح والأولى لثبوته في السنة- انتهى. قلت: اختلف شراح الحديث في هذا الحديث هل هو محمول على التطوع أو على الفرض في حق غير القادر؟ فحمله الجمهور على المتطوع القادر كما تقدم، وحمله آخرون، ومنهم: الخطابي على المفترض الذي يمكنه أن يتحامل، فيقوم مع مشقة وزيادة ألم فجعل أجره على النصف من أجر القائم ترغيباً له في القيام لزيادة الأجر وإن كان يجوز قاعداً، وكذا في الاضطجاع. قال الخطابي في المعالم (ج1 ص225) : أما قوله صلاته نائماً على النصف من صلاته قاعداً فإني لا أعلم أني سمعته إلا في هذا الحديث، ولا أحفظ عن أحد من أهل العلم أنه رخص في صلاة التطوع نائماً، كما رخصوا فيها قاعداً، فإن صحت هذه اللفظة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم تكن من كلام بعض الرواة أدرجه في الحديث وقاسه على صلاة القاعد أو اعتبره بصلاة المريض نائماً إذا لم يقدر على القعود، فإن التطوع مضطجعاً للقادر على القعود جائز، كما يجوز أيضاً للمسافر إذا تطوع على راحلته، فأما من جهة القياس، فلا يجوز له أن يصلي مضطجعاً، كما يجوز له أن يصلي قاعداً؛ لأن القعود شكل من أشكال الصلاة، وليس الاضطجاع في شيء من أشكال الصلاة- انتهى. وقد لخص الحافظ في الفتح كلام الخطابي، ثم نقل عنه أنه قال: وقد رأيت الآن أن المراد بحديث عمران المريض المفترض الذي يمكنه أن يتحامل فيقوم مع مشقة، فجعل أجر القاعد على النصف من أجر القائم ترغيباً له في القيام مع جوازه قعوده- انتهى. قال الحافظ: وهو حمل متجه قال: فمن صلى فرضاً قاعداً وكان يشق عليه القيام أجزأه، وكان هو ومن صلى قائماً سواء. فلو تحامل هذا المعذور وتكلف القيام ولو شق عليه كان أفضل لمزيد أجر تكلف القيام، فلا يمتنع أن يكون أجره على ذلك نظير أجره على أصل الصلاة، فيصح أن أجر القاعد على النصف من أجر القائم. ومن صلى النفل قاعداً مع القدرة على القيام أجزأه، وكان أجره على النصف من أجر القائم بغير إشكال، قال: ولا يلزم من اقتصار العلماء في حمل الحديث على صلاة النافلة أن لا تراد الصورة التي ذكرها الخطابي. وقد ورد في الحديث ما يشهد لها، فعند أحمد من طريق ابن جريج عن ابن شهاب عن أنس قال: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وهي محمة فحم الناس، فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - المسجد والناس يصلون من قعود، فقال: صلاة القاعد نصف صلاة القائم، رجاله ثقات، وعند النسائي متابع له من وجه آخر، وهو وارد في المعذور، فيحمل على من تكلف القيام مع مشقته عليه، كما بحثه الخطابي- انتهى كلام الحافظ مختصراً. قال الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي (ج2 ص210) بعد نقل كلام الخطابي ما لفظه: وكل هذا تكلف وتمحل من الخطابي، بناء على زعمه أنه لم يرخص أحد من أهل العلم في

{الفصل الثاني}

رواه البخاري. {الفصل الثاني} 1258- (10) عن أبي أمامة، قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من أوى إلى فراشه طاهراً، وذكر الله حتى يدركه النعاس، لم يتقلب ساعة من الليل يسأل الله فيها خيراً من خير الدنيا والآخرة، إلا أعطاه إياه)) ـــــــــــــــــــــــــــــ صلاة التطوع نائماً، فحاول تأوّل الحديث ليخرجه عن معناه أو التشكيك في صحة اللفظ في النائم، والحديث حجة على أقوال العلماء، وليست أقوالهم حجة على الحديث، ومع ذلك فإن ما لم يعلمه الخطابي من أقوال العلماء في هذا علمه غيره، فقد نقل الشوكاني عن الحافظ العراقي قال: أما نفي الخطابي وابن بطال للخلاف في صحة التطوع مضطجعاً للقادر فمردود، فإن في مذهب الشافعية وجهين: الأصح منهما الصحة. وعند المالكية فيه ثلاثة أوجه: حكاها القاضي عياض في الإكمال. أحدها الجواز مطلقاً في الاضطرار، والاختيار للصحيح والمريض بظاهر الحديث، وهو الذي به صدر القاضي كلامه. وقد روى الترمذي بإسناده عن الحسن البصري جوازه، فكيف يدعي مع هذا الخلاف القديم والحديث الإتفاق-انتهى. قلت: الظاهر عندي هو قول الجمهور، فالحديث محمول على المتطوع القادر، والراجح أنه يجوز صلاة التطوع مضطجعاً مع القدرة على القيام أو القعود لظاهر الحديث، والله أعلم. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج2:ص308-491) . 1258- قوله: (من أوى) بالقصر ويمد. (إلى فراشه) أي أتاه لينام، في النهاية. أوى وآوى بمعنى واحد يقال: أويت إلى المنزل وآويت إليه وأويت غيري وآويته. وأنكر بعضهم المقصور المتعدي. وقال الأزهري: هي لغة فصيحة. وقال النووي: إذا أوى إلى فراشه فمقصور. وأما آوانا فممدود. هذا هو الصحيح المشهور الفصيح. وحكى القصر فيهما وحكي المد فيهما، كذا في المرقاة. (طاهراً) أي متوضئاً. (وذكر الله) بلسانه أي نوع من الأذكار. ولفظ الترمذي: يذكر الله، وهي جملة حالية. (حتى يدركه النعاس) بضم النون يعني حتى ينام. (لم يتقلب) من التقلب أي من جنب إلى جنب. وقال القاري: أي لم يتردد ذلك الرجل على فراشه، وفي عمل اليوم والليلة لم ينقلب أي من الانقلاب، قيل: المراد من الانقلاب هنا الاستيقاظ والانتباه من النوم. (ساعة) بالنصب أي في ساعة. (يسأل الله) حال من فاعل "يتقلب". (فيها) أي في تلك الساعة. (خيراً) الخير هنا ضد الشر. (من خير الدنيا والآخرة) المراد من الخير الثاني الجنس، والتنوين في الأول للتنكير. (إلا أعطاء إياه) . قال الطيبي:

ذكره النووي في كتاب الأذكار برواية ابن سني. 1259- (11) وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عجب ربنا من رجلين: رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين حبه وأهله إلى صلاته، فيقول ـــــــــــــــــــــــــــــ هو أيضاً حال من يسأل، وجاز لأن الكلام في سياق النفي، يعني لا يكون للسائل حال من الأحوال في أي زمان من الليل إلا كونه معطي إياه، أي ما طلب فلا يخيب. (ذكره النووي) وفي بعض النسخ: النووي، بالألف. (في كتاب الأذكار) (ص75) في باب ما يقوله إذا أراد النوم واضطجع على فراشه. (برواية ابن السني) هو الإمام الحافظ الثقة أبوبكر أحمد بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن أسباط الدينوري، مولى جعفر بن أبي طالب الهاشمي المعروف بابن السني، بضم السين المهملة. وتشديد النون المكسورة. قيل: نسبة إلى العمل بالنسبة، وهو صاحب كتاب عمل اليوم والليلة. وراوي سنن النسائي، سمع النسائي وأبا خليفة الجمعي وزكريا الساجي وغيرهم، وأكثر الترحال. روى عنه خلق كثير كان ديناً خيراً صدوقاً عاش بضعاً وثمانين سنة. قال القاضي: أبوزرعة روح بن محمد سبط ابن السني سمعت عمي علي بن أحمد بن محمد يقول: كان أبي يكتب الحديث، فوضع القلم في أنبوبة المحبرة ورفع يديه يدعوا الله تعالى فمات، وذلك في آخر سنة أربع وستين وثلاث مائة. وروى ابن السني هذا الحديث في آخر عمل اليوم والليلة في باب ما يقول: إذا أخذ مضجعة (ص229) من طريق شهر بن حوشب عن أبي أمامة، ومن هذا الطريق أخرجه الترمذي في الدعوات، وقال: حديث حسن. وقد روي هذا أيضاً عن شهر بن حوشب عن أبي ظبية عن عمرو بن عبسة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى. قال المنذري في كتابه عمل اليوم والليلة: صنف العلماء في عمل اليوم والليلة والدعوات كتباً كثيرة، ومن أحسنها للإمام أبي عبد الرحمن النسائي، وأحسن منه لصاحبه الحافظ أحمد بن محمد المعروف بابن السني الدينوري، المتوفى سنة أربع وستين وثلاثمائة، وهو أجمع الكتب في هذا الفن لكنها مطولة قال: فحذفت الأسانيد لضعف همم الطالبين-انتهى. وقد ورد في الباب أحاديث، ذكرها ابن السني والمنذري والهيثمي. 1259- قوله: (عجب ربنا) قيل: العجب روعة تعترى الإنسان عند استعظام الشيء، والعجب لله بمعنى مجرد الاستعظام. قال الطيبي: أي عظم ذلك عنده وكبر لديه. وقيل: عجب ربنا أي رضي وأثاب، والأول أوجه لقوله: أنظروا إلى عبدي على وجه المباهاة-انتهى. (من رجلين) قال القاري: أي رضي واستحسن فعلهما. (رجل) بالجر، بدل، وجوز الرفع، فالتقدير أحدهما أو منهما أو هما رجل. (ثار) أي قام على سرعة بهمة ونشاط ورغبة. (عن وطائه) بكسر الواو أي فراشه اللين. (ولحافه) بكسر اللام أي ثوبه الذي فوقه. قيل: اللحاف كل ما يلتحف به أي يتغطى واللباس الذي فوق ما سواه. (من بين حبه) بكسر الحاء المهملة أي محبوبه. (فيقول

{الفصل الثالث}

الله لملائكته: أنظروا إلى عبدي، ثار عن فراشه ووطائه من بين حبه وأهله إلى صلاته، رغبة فيما عندي، وشفقاً مما عندي، ورجل غزا في سبيل الله فانهزم مع أصحابه، فعلم ما عليه في الانهزام وما له في الرجوع، رجع حتى هريق دمه، فيقول الله لملائكته: أنظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي، وشفقاً مما عندي حتى هريق دمه) رواه في شرح السنة. {الفصل الثالث} 1260- (12) وعن عبد الله بن عمرو، قال: حدثت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((صلاة الرجل قاعداً نصف الصلاة. ـــــــــــــــــــــــــــــ الله لملائكته) أي مباهاة لعبده. (انظروا إلى عبدي) أي نظر الرحمة المترتب عليه الاستغفار له والشفاعة، والإضافة للتشريف، وأي تشريف أو تفكروا في قيامه من مقام الراحة. (رغبة) أي لا رياء وسمعة بل ميلاً (فيما عندي) من الجنة والثواب، أو من الرضاء واللقاء يوم المآب. (وشفقاً) أي حذراً وخوفاً. (مما عندي) من الجحيم وأنواع العذاب، أو من السخط والحجاب. (ورجل) بالوجهين. (غزا في سبيل الله) أي مخلصا لوجه الله. (فانهزم) أي غلب وهرب. (فعلم ما عليه) أي من الإثم أو من العذاب. (في الانهزام) إذا كان بغير عذر له في المقام. (وما له) أي وعلم ما له من الثواب والجزاء. (في الرجوع) أي في الإقبال على محاربة الكفار ولو كانوا أكثر منه في العدد وأقوى عنه في العدد. (فرجع) أي حسبة لله وجاهد. (حتى هريق) أي صب، والهاء يدل من الهمزة. (دمه) يعني قتل واستشهد. والحديث من أدلة استحباب قيام الليل وفضيلته. (رواه) صاحب المصابيح (في شرح السنة) أي بإسناده. وأخرجه أيضاً أحمد وأبويعلى والطبراني وابن حبان في صحيحه. قال العراقي: وإسناده جيد. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2:ص255) إسناده حسن، ونقل القاري عن الجزري أنه قال: رواه أحمد بإسناد صحيح، فيه عطاء بن السائب، وروى له الأربعة، والبخاري متابعة، ورواه الطبراني-انتهى. 1260- قوله: (حدثت) بصيغة المجهول أي حدثني ناس من الصحابة (صلاة الرجل قاعداً نصف الصلاة) أي قائماً، والمعنى صلاة القاعد لغير عذر فيها نصف ثواب صلاة القائم، فيتضمن صحة صلاة القاعد ونقصان أجرها. قال النووي: هذا الحديث محمول على صلاة النفل قاعداً مع القدرة على القيام، فهذا له نصف ثواب القائم. وأما إذا صلى النفل قاعداً لعجزه عن القيام فلا ينقص ثوابه بل يكون كثوابه قائماً. وأما الفرض فإن صلاته قاعداً مع القدرة على القيام لم يصح، فلا يكون فيه ثواب بل يأثم وإن صلى الفرض قاعداً لعجزه عن

قال: فأتيته فوجدته يصلي جالساً، فوضعت يدي على رأسه. فقال: ما لك يا عبد الله بن عمرو؟ قلت: حدثت يا رسول الله! أنك قلت: صلاة الرجل قاعداً على نصف الصلاة، وأنت تصلي قاعداً. قال: أجل، ولكني لست كأحد منكم)) رواه مسلم. 1261- (13) وعن سالم بن أبي الجعد، قال: قال رجل من خزاعة: ليتني صليت فاسترحت، ـــــــــــــــــــــــــــــ القيام أو مضطجعاً لعجزه عن القيام والقعود فثوابه كثوابه قائماً لا ينقص، فيتعين حمل الحديث في تنصيف الثواب على من صلى النفل قاعداً مع قدرته على القيام، هذا تفصيل مذهبنا، وبه قال الجمهور في تفسير هذا الحديث وحكاه عياض عن جماعة، منهم الثوري وابن الماجشون-انتهى مختصراً. (فوضعت يدي) الظاهر أنه فعل ذلك بعد فراغه صلى الله عليه وآله وسلم من الصلاة، إذا ما يظن به ذلك قبله. (على رأسه) أي ليتوجه إليه، وكأنه كان هناك مانع من أن يحضر بين يديه، ومثل هذا لا يسمى خلاف الأدب عند طائفة العرب لعدم تكلفهم وكمال تألفهم، قاله القاري. وقيل: هذا على عادة العرب فيما يعتنون به. وقيل: كان ذلك في عادتهم فيما يستغربونه ويتعجبون منه، كقول المستغرب للشيء المتعجب من وقوعه مع من استغرب منه. ونظيره أن بعض العرب كان ربما لمس لحيته الشريفة عند مفاوضته معه. وقيل: صدر ذلك عنه من غير قصد منه استغراباً وتعجباً. (فقال ما لك) أي ما شأنك وما عرض لك. (على نصف صلاة القائم) أي يقاس صلاة الرجل قاعداً على نصف صلاته قائماً في الثواب. (وأنت تصلي قاعداً) أي فكيف اخترت نقصان الأجر مع شدة حرصك على تكثيره!. (قال أجل) أي نعم قد قلت ذلك. (ولكني لست كأحد منكم) أي ذلك الذي ذكرت من أن صلاة الرجل قاعداً على نصف صلاته قائماً هو حكم غيري من الأمة فهو مختص بهم. وأما أنا فخارج عن هذا الحكم، ويقبل ربي مني صلاتي قاعداً مقدار صلاتي قائماً، فصلاتي النافلة قاعداً مع القدرة على القيام في تمام الأجر وكمال الثواب كصلاتي قائماً، أو ذلك من خصائصي لما اختص به من غاية التوجه والحضور والمعرفة والقرب، فلا تقيسوني على أحد ولا تقيسوا أحداً علي. قال النووي: هذا من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - فجعلت نافلته قاعداً مع القدرة على القيام كنافلته قائماً تشريفاً له، كما خص بأشياء معروفة وفي كتب أصحابنا وغيرهم وقد استقصيتها في أول كتاب تهذيب الأسماء واللغات. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي. 1261- قوله: (وعن سالم بن أبي الجعد) الغطفاني الأشجعي، مولاهم الكوفي، ثقة من أوساط التابعين، مات سنة سبع، أو ثمان وتسعين، وقيل: مائة أو بعد ذلك. (من خزاعة) بضم الخاء المعجمة وبالزاي، قبيلة، وهو صفة رجل. (ليتني صليت فاسترحت) أي بالاشتغال بالصلاة لكونها مناجاة مع الرب تعالى، أو بالفراغ

(35) باب الوتر

فكأنهم عابوا ذلك عليه، فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((أقم الصلاة يا بلال! أرحنا بها)) . رواه أبوداود. (35) باب الوتر ـــــــــــــــــــــــــــــ منها لاشتغال الذمة بها قبل الفراغ عنها. (فكأنهم) أي بعض الحاضرين. (عابوا ذلك عليه) ؛ لأن ظاهر كلامه يدل على أن الصلاة ثقيلة وشاقة عليه فيطلب الاستراحة بعد رفعها. قال في اللمعات: عابوا ذلك عليه لما تبادر إلى أفهامهم من طريان الكسل والثقل، كأنه قال يا ليتني صليت فاسترحت ونمت فإني لم أطق انتظارها، وقال الطيبي: أي عابوا تمنيه الاستراحة في الصلاة وهي شاقة على النفس وثقيلة عليها، ولعلهم نسوا قوله تعالى: {وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} [2: 45] . (فقال) أي الرجل الخزاعي. (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول أقم الصلاة يا بلال أرحنا بها) أي ليست أريد ما فهمتم حاشا ذلك، بل أردت ما أراده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله يا بلال أرحنا بها فسكتوا، واعلم أنه ذكر في معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: أرحنا بها يا بلال وجهان: أحدهما أن أذن بالصلاة حتى نستريح بأدائها من شغل القلب فيها. وثانيهما أنه كان اشتغاله - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة راحة له، فإنه كان يعد غيرها من الأعمال الدنيوية تعباً، فكان يستريح بالصلاة لما فيها من مناجاة الله تعالى، ولذا قال: وجعلت قرة عين لي في الصلاة. وما أقرب الراحة من قرة العين. وهذان المعنيان مذكوران في النهاية، والفرق بينهما أن الراحة في الأول بخلاص الذمة بالأداء عن تعب الاشتغال بالصلاة، وتعلق القلب بها. وفي الثاني الراحة بوجود الصلاة، ولذة المناجاة وشهود الحق الذي كان يحصل فيها، ولا شك أن الحمل على المعنى الثاني أنسب وأليق بمقامه - صلى الله عليه وسلم -. (رواه أبوداود) في كتاب الأدب، وسكت عليه هو والمنذري. (باب الوتر) أي صلاة الوتر، وبيان وقته، وعدد ركعاته، وقراءته، وقضاءه، وقنوته. وكونه واجباً أو سنة وغير ذلك مما يشتمل عليه أحاديث الباب من الأمور المتعلقة بالوتر، كمشروعية الركعتين بعده جالساً، وما يقال بعد الفراغ منه من التسبيح، والوتر بكسر الواو الفرد أو ما لم يتشفع من العدد وبفتحها الثأر، وفي لغة مترادفان. قال ابن التين: أخلف في الوتر في سبعة أشياء: في وجوبه، وعدده، واشتراط النية فيه، واختصاصه بقراءة، واشتراط شفع قبله، وفي آخره وقته، وصلاته في السفر على الدابة. قال الحافظ: وفي قضائه، والقنوت فيه، وفي محل القنوت منه، وفيما يقال فيه وفي فصله ووصله، وهل تسن ركعتان بعده، وفي صلاته من قعود، وفي أول وقته، وفي كونه أفضل صلاة التطوع أو الرواتب أفضل منه، أو خصوص ركعتي الفجر- انتهى. وقد ذكر المصنف من الأحاديث ما يجيء في شرحها بيان أكثر هذه الأشياء.

{الفصل الأول}

{الفصل الأول} 1262- (1) عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلاة الليل مثنى مثنى، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1262- قوله: (صلاة الليل) الحديث خرج جواباً لسؤال، ففي رواية للبخاري: أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب فقال: كيف صلاة الليل؟ فقال: مثنى مثنى. قال الحافظ: وقد تبين من الجواب أن السؤال وقع عن عددها أو عن الفصل الوصل. وفي رواية محمد بن نصر قال: قال رجل: يا رسول الله كيف تأمرنا أن نصلي من الليل. وقيل: جوابه بقوله "مثنى" يدل على أنه فهم من السائل طلب كيفية العدد لا مطلق الكيفية. قال الحافظ: فيه نظر، وأولى ما فسر به الحديث من الحديث. (مثنى) بلا تنوين؛ لأنه غير منصرف لتكرار العدل فيه، قاله صاحب الكشاف. وقال آخرون: ومنهم سيبوية: للعدل والوصف يفيد التكرار؛ لأنه بمعنى اثنتين اثنتين. وأما إعادة مثنى الثاني فللمبالغة في التأكيد، وإلا فالتكرار يكفي في إفادته مثنى الأول، وهو خبر لفظاً، لكن معناه الأمر والندب. والمقصود أنه ينبغي للمصلي أن يصليها ركعتين ركعتين. قال الحافظ: وقد فسره ابن عمر راوي الحديث فعند مسلم من طريق عقبة بن حريث قال: قلت: لابن عمر ما معنى مثنى مثنى. قال تسلم من كل ركعتين. وفيه رد على من زعم من الحنفية أن معنى مثنى أن يتشهد بين كل ركعتين؛ لأن راوي الحديث أعلم بالمراد به، وما فسره به هو المتبادر إلى الفهم؛ لأنه لا يقال في الرباعية مثلاً أنها مثنى – انتهى. قلت: ويؤيد حمله على الفصل بالسلام بين كل ركعتين حديث المطلب بن ربيعة مرفوعاً عند أحمد بلفظ: الصلاة مثنى مثنى وتشهد وتسلم في كل ركعتين الخ. ويؤيده أيضاً ما تقدم من حديث عائشة في باب صلاة الليل: كان يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين. ويؤيده أيضاً حديث ابن عباس عند ابن خزيمة في قصة مبيته في بيت خالته ميمونة حيث وقع فيه التصريح بالفصل، ولفظه: يسلم من كل ركعتين. وحديث أبي أيوب عند أحمد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام يصلي من الليل صلى أربع ركعات لا يتكلم ولا يأمر بشيء ويسلم بين كل ركعتين. وأما حديث عائشة عند البخاري وغيره يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسهن وطولهن، فليس فيه دليل على الوصل، وقد اعترف بذلك الشيخ محمد أنور حيث قال: لا دليل فيه للحنفية في مسألة أفضلية الأربع، فإن الإنصاف خير الأوصاف، وذلك لأن الأربع هذه لم تكن بسلام واحد، بل جمع الراوي بين الشفعين لتناسب بينهما نحو كونهما في سلسلة واحدة بدون جلسة في البين كالترويحة في التراويح، فإنها تكون بعد أربع ركعات، هكذا شرح به أبوعمر في التمهيد- انتهى. واستدل بالحديث على تعين الفصل بين كل ركعتين من صلاة الليل. قال ابن دقيق العيد في شرح العمدة (ج2 ص83) : أخذ به مالك في أنه لا يزاد في صلاة النفل على ركعتين، هو ظاهر هذا اللفظ في صلاة الليل، وقد

ورد حديث آخر صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، وإنما قلنا إنه ظاهر اللفظ؛ لأن المبتدأ محصور في الخبر، فيقتضي ذلك حصر صلاة الليل فيما هو مثنى، وذلك هو المقصود إذ هو ينافي الزيادة لما انحصرت صلاة الليل في المثنى- انتهى. وقال الأمير اليماني: قال مالك لا تجوز الزيادة على اثنين؛ لأن مفهوم الحديث الحصر؛ لأنه في قوة ما صلاة الليل إلا مثنى مثنى؛ لأن تعريف المبتدأ قد يفيد ذلك على الأغلب- انتهى. ويجوز الزيادة على الركعتين عند الشافعي وأحمد وأبي حنيفة، لما صح وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى النافلة أكثر من ركعتين، ومحمل الحديث عند الشافعي وأحمد على أنه لبيان الأفضل، لما صح من فعله - صلى الله عليه وسلم - يخالف ذلك، ويحتمل أن يكون للإرشاد إلى الأخف، إذ السلام بين كل ركعتين أخف على المصلي من الأربع فما فوقها لما فيه الراحة غالباً وقضاء ما يعرض من أمر مهم، ومحمله عند الحنفية الحصر في الإشفاع، يعني لا يجوز الجلوس على الأكثر أو الأقل من ركعتين. قال في الهداية: ومعنى ما رواه شفعاً لا وتراً، وقد تقدم الرد عليه في كلام الحافظ. واستدل به أيضاً على عدم النقصان عن ركعتين في النافلة ما عدا الوتر، واختلفوا فيه أيضاً فقال مالك وأبوحنيفة: التطوع بركعة واحدة باطل، إلا أنهما اختلفا في الوتر فقال مالك بالجواز، وأبوحنيفة بالمنع. وذهب الشافعي وأحمد إلى جواز التطوع بركعة فردة، واستدل بعض الشافعية للجواز بعموم قوله: الصلاة خير موضوع فمن شاء استكثر ومن شاء استقل، صححه ابن حبان وقد اختلف من رأى الزيادة على الركعتين في النافلة في الفصل والوصل أيهما أفضل، فذهب الشافعي وأحمد إلى أن الفصل في صلاة الليل والنهار أفضل، واستدل لهما بما رواه الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه من حديث ابن عمر مرفوعاً: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى. وتعقب بأن أكثر أئمة الحديث أعلوا زيادة قوله والنهار وضعفوها؛ لأنها من طريق علي الأزدي البارقي عن ابن عمر، وهو ضعيف عند ابن معين. روى محمد بن نصر في سؤالاته وابن عبد البر في التمهيد عن يحيى بن معين أنه قال صلاة النهار أربع لا تفصل بينهن، فقيل له إن ابن حنبل يقول: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، فقال: بأي حديث؟ فقيل له: بحديث الأذري عن ابن عمر، فقال: ومن على الأذري؟ حتى أقبل هذا منه وأدع يحيى بن سعيد الأنصاري عن نافع عن ابن عمر أنه كان يتطوع بالنهار أربعاً لا يفصل بينهن، لو كان حديث الأذري صحيحاً لم يخالفه ابن عمر يعني مع شدة إتباعه. وقال الترمذي: وروى الثقات عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يذكروا فيه صلاة النهار وحكم النسائي على راويها بأنه أخطأ فيها. وقال الدارقطني في العلل: إنها وهم. وقال الحافظ: روى ابن وهب بإسناد قوي عن ابن عمر قال: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى موقوف. أخرجه ابن عبد البر من طريقة فلعل الأذري اختلط عليه الموقوف بالمرفوع، فلا تكون هذه الزيادة صحيحة على طريقة من يشترط في الصحيح أن لا يكون شاذا- انتهى. قلت: قد صححها ابن خزيمة وابن حبان والحاكم في المستدرك وقال: رواتها ثقات. وقال الخطابي: إن سبيل الزيادة

فإذا خشي أحدكم الصبح، صلى ركعة واحدة، توتر له ما قد صلى)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ من الثقة أن تقبل. وقال البيهقي: هذا حديث صحيح، وقد صححه البخاري لما سئل عنه، ثم روى ذلك بسنده إليه قال: وقد روى عن محمد بن سيرين عن ابن عمر مرفوعاً بإسناد كلهم ثقات- انتهى كلام البيهقي، وله طرق وشواهد، وقد ذكر بعض ذلك الحافظ في التلخيص. وذهب أبوحنيفة إلى أن الأفضل فيهما أربع أربع ولم أر حديثاً صحيحاً صريحاً يدل على أفضلية ذلك في الليل والنهار. وذهب بعضهم إلى أن الأفضل في صلاة الليل مثنى مثنى، وأما في صلاة النهار فأربع أربع، وهو قول الثوري وابن المبارك وإسحاق وأبي يوسف ومحمد، واستدل لهم بمفهوم حديث ابن عمر: صلاة الليل مثنى مثنى، قالوا: إنه يدل بمفهومه على أن الأفضل في صلاة النهار أن تكون أربعاً وتعقب بأنه مفهوم لقب وليس بحجة على الراجح، وعلى تقدير الأخذ به فليس بمنحصر في أربع، وبأنه خرج جواباً للسؤال عن صلاة الليل فقيد الجواب بذلك مطابقة للسؤال، واستدلوا أيضاً بما تقدم من حديث أبي أيوب مرفوعاً: أربع قبل الظهر ليس فيهن تسليم، وقد أسلفنا الكلام فيه مع الجواب عن هذا الاستدلال، والأولى عندي أن تكون صلاة الليل مثنى مثنى، لكونه أجاب به السائل، ولكون أحاديث الفصل أثبت وأكثر طرقاً، وأما صلاة النهار فإن شاء صلى أربعاً بسلام واحد أو بسلامين لحديث على الأذري، ولحديث أبي أيوب وقد عرفت ما فيها من الكلام. (فإذا خشي أحدكم الصبح) أي فوت الوتر بطلوع الفجر وظهوره (صلى بركعة واحدة توتر) أي هذه الركعة الفردة. (له) أي لأحدكم. (ما قد صلى) أي تجعل تمام ما صلى وتراً، فإن تلك الواحدة كما أنها بذاتها وتر، كذلك يصير بها جميع صلاة الليل وتراً، قال ابن الملك: أي تجعل هذه الركعة الصلاة التي صلاها في الليل وتراً بعد أن كانت شفعاً، والحديث حجة للشافعي في قوله: الوتر ركعة واحدة، وتعقبه القاري بما نقله عن ابن الهمام أن نحو هذا كان قبل أن يستقر أمر الوتر، وفيه أنه لا دليل على أن هذا كان قبل استقرار أمر الوتر، ولا على أن الوتر محصور في ثلاث ركعات، فهو مردود على ابن الهمام. قال السندي: في حاشية النسائي قوله: فإذا خشيت الصبح فواحدة، ظاهر الحديث مع أحاديث آخر يفيد جواز الوتر بركعة واحدة، كما هو مذهب الجمهور، والقول بأنه كان ثم نسخ إثباته مشكل- انتهى. ووقع في رواية للبخاري: صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا أردت أن تنصرف فاركع ركعة توتر لك ما صليت. وفيه رد على من ادعى من الحنفية أن الوتر بواحدة مختص بمن خشي طلوع الفجر؛ لأنه علقه بإرادة الإنصراف، وهو أعم من أن يكون لخشية طلوع الفجر أو غير ذلك. واعلم أنه مذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد إلى صحة الإيتار بركعة واحدة، إلا أن مالكاً اشترط تقدم الشفع قبلها، فكان الوتر عنده ثلاث ركعات بتسليمتين وجوباً، فيفي المدونة قال مالك: لا ينبغي لأحد أن يوتر بواحدة ليس قبلاها شيء لا في حضر ولا سفر، لكن يصلي ركعتين ثم يسلم ثم يوتر بواحدة- انتهى. قال

الحافظ: واستدل بقوله: توتر له ما قد صلى على تعين الشفع قبل الوتر، وهو عن المالكية بناء على أن قوله: ما قد صلى أي من النفل، وحمله لا يشترط سبق الشفع على ما هو أعم من النفل والفرض، وقالوا: أن سبق الشفع شرط في الكمال لا في الصحة، ويؤيده حديث أبي أيوب مرفوعاً: الوتر حق فمن شاء أوتر بخمس ومن شاء بثلاث ومن شاء بواحدة. أخرجه أبوداود والنسائي، وصححه ابن حبان والحاكم، وصح عن جماعة من الصحابة أنهم أوتروا بواحدة من غير تقدم نفل قبلها، ففي كتاب محمد بن نصر وغيره بإسناد صحيح عن السائب بن يزيد أن عثمان قرأ القرآن ليلة في ركعة لم يصل غيرها، وسيأتي في الدعوات أي عند البخاري حديث عبد الله بن ثعلبة أن سعداً أوتر بركعة، وسيأتي في المناقب عن معاوية أنه أوتر بركعة، وأن ابن عباس استصوبه، وفي كل ذلك رد على ابن التين في قوله: إن الفقهاء لم يأخذوا بعمل معاوية في ذلك، وكأنه أراد فقهاءهم- انتهى كلام الحافظ. وقد ذكر محمد بن نصر في قيام الليل آثاراً كثيرة عن السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم في الوتر بركعة من أحب الوقوف عليها رجع إليه. قال الشوكاني في النيل نقلاً عن الحافظ العراقي: وممن كان يوتر بركعة من الصحابة الخلفاء الأربعة وسعد بن أبي وقاص ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وأبوموسى الأشعري وأبوالدرداء وحذيفة وابن مسعود وابن عمر وابن عباس ومعاوية وتميم الداري وأبوأيوب الأنصاري وأبوهريرة وفضالة بن عبيد وعبد الله بن الزبير ومعاذ بن الحارث القاري، وهو مختلف في صحبته. وقد روي عن عمر وعلي وأبيّ وابن مسعود الإيتار بثلاث متصلة، وممن أوتر بركعة سالم بن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عياش بن أبي ربيعة والحسن البصري ومحمد بن سيرين وعطاء بن أبي أرباح وعقبة بن عبد الغافر وسعيد بن جبير ونافع بن جبير بن مطعم وجابر بن زيد والزهري وربيعة بن أبي عبد الرحمن وغيرهم، ومن الأئمة مالك والشافعي والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبوثور وداود وابن حزم- انتهى. واستدل لهم فيما قالوا من جواز الإيتار بركعة واحدة فردة، بحديث ابن عمر هذا، وبحديثه الآتي بعد ذلك، وبحديث عائشة السابق في باب صلاة الليل يسلم من كل ركعتين ويوتر بواحدة، فإنه يدخل فيه الركعتان اللتان قبل الأخيرة، فهو كالنص في موضع النزاع، وبحديث أبي أيوب الآتي في الفصل الثاني، وبحديث ابن عباس عند مسلم: الوتر ركعة من آخر الليل، وبحديث القاسم بن محمد عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوتر بركعة. رواه الدارقطني وإسناده صحيح، وبما روى الطحاوي من طريق سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أنه كان يفصل بين شفعه ووتره بتسليمة، وأخبر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعله. قال الحافظ في الفتح: وإسناده قوي، ذ1كره في التلخيص (ص117) بلفظ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفصل بين الشفع والوتر، ثم قال رواه أحمد وابن حبان وابن السكن في صحيحهما، والطبراني من حديث إبراهيم الصائغ عن نافع عن ابن عمر به، وقواه أحمد. قال في الفتح: ولم يعتذر الطحاوي عنه إلا باحتمال أن يكون المراد بقوله بتسليمة أي التسليمة

التي في التشهد، ولا يخفى بُعد هذا التأويل- انتهى. وحديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوتر بركعة، رواه ابن حبان من طريق كريب، ذكره في التلخيص، وفي هذه الأحاديث رد على ابن الصلاح فيما قال: لا نعلم في روايات الوتر مع كثرتها أنه عليه السلام أوتر بواحدة فحسب، وذهب أبوحنيفة إلى أن الوتر ثلاث ركعات موصولة بتشهدين وتسليمة واحدة لا أقل منها ولا أكثر، فالوتر عنده كصلاة المغرب يجلس في الثانية ثم يقوم دون تسليم ويأتي بالثالثة ثم يجلس ويتشهد ويسلم. واستدل له بالأحاديث التي تدل على الإيتار بثلاث ركعات، كحديث عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يسلم في ركعتي الوتر. أخرجه النسائي والحاكم (ج1 ص304) والدارقطني والبيهقي (ج3 ص31) بإسناد حسن، وكحديث أبي بن كعب عند النسائي بلفظ: يوتر بسبح اسم ربك الأعلى، وقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد، لا يسلم إلا في آخرهن. وقد بين في عدة طرق أن السور الثلاث بثلاث ركعات، وكحديث ابن أبزى عند النسائي أيضاً نحوه. وفيه أن هذه الأحاديث ليس فيها ما يدل على الحصر في الإيتار بالثلاث، وأنه لا يجوز أقل منها ولا أكثر، وليس فيها تصريح الجلوس في الركعة الثانية، بل في رواية عائشة عند الحاكم (ج1 ص304) على ما نقله الحافظ في الفتح والتلخيص، والزرقاني في شرح المواهب اللدنية، والذهبي في تلخيص المستدرك، وقد صوب ذكرها النيموني في تعليق التعليق، وذكرها أيضاً البيهقي (ج3 ص31) نفي الجلوس في الثانية. ولفظها: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوتر بثلاث لا يقعد إلا في آخرهن، وكذا ينفيه حديث النهي عن التشبه بصلاة المغرب، ولم أجد حديثاً مرفوعاً صحيحاً صريحاً في إثبات الجلوس في الركعة الثانية عند الإيتار بثلاث. واستدل له أيضاً بحديث النهي عن البتيراء، وسيأتي الجواب عنه. قال الحافظ في الفتح: وحمل الطحاوي قول عائشة: يسلم من كل ركعتين ويوتر ركعتين ويوتر بواحدة ومثله على أن الركعة مضمومة إلى الركعتين قبلها ولم يتمسك في دعوى ذلك إلا بالنهي عن البتيراء. أخرجه ابن عبد البر في التمهيد عن عبد الله بن محمد يوسف نا أحمد بن محمد بن إسماعيل بن الفرج نا أبي نا الحسن بن سليمان قبطية نا عثمان بن محمد بن ربيعة بن أبي عبد الرحمن نا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن البتيراء أن يصلي الرجل واحدة يوتر بها. وأجيب عنه بوجوده: أحدها أنه حديث ضعيف، فإن في سنده عثمان ابن محمد. قال عبد الحق في أحكامه بعد ذكره من جهة ابن عبد البر: الغالب على حديث عثمان بن محمد بن ربيعة الوهم. وقال ابن قطان في كتاب الوهم والإيهام: هذا حديث شاذ لا يعرج عليه ما لم يعرف العدالة رواته، وعثمان بن محمد بن ربيعة الغالب على حديثه الوهم. والثاني أن معارض بما رواه ابن ماجه والطحاوي ومحمد بن نصر من طريق الأوزاعي عن المطلب بن عبد الله المخزومي أن رجلاً سأل ابن عمر عن الوتر، فأمره بثلاث يفصل بين شفعه ووتره

متفق عليه. 1263- (2) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الوتر ركعة من آخر الليل)) . رواه مسلم. 1264- (3) وعن عائشة، قالت ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر من ذلك بخمس، ـــــــــــــــــــــــــــــ بتسليمة، فقال الرجل: إني أخاف أن يقول الناس هي البتيراء، فقال ابن عمر: هذه سنة الله ورسوله، فهذا يدل على أن الوتر بركعة بعد ركعتين قد وجد من النبي - صلى الله عليه وسلم -. والثالث أنه معارض بحديث أبي أيوب الآتي بلفظ: من أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل. والرابع أن البتيراء فسره ابن عمر بعدم إتمام الركوع والسجود، هكذا أخرجه البيهقي في المعرفة بسنده عن محمد بن إسحاق عن زيد بن أبي حبيب عن أبي منصور مولى سعد بن أبي وقاص قال: سألت عبد الله بن عمر عن وتر الليل فقال: يا بني هل تعرف وتر النهار؟ قلت: نعم، هو المغرب، قال: صدقت، ووتر الليل بواحدة، بذلك أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا أبا عبد الرحمن، إن الناس يقولون هي البتيراء؟ قال: يا بني ليست تلك البتيراء، إنما البتيراء أن يصلي الرجل الركعة، يتم ركوعها وسجودها وقيامها، ثم يقوم في الأخرى ولا يتم لها ركوعاً ولا سجوداً ولا قياماً فتلك البتيراء- انتهى. وقال ابن حزم في المحلى (ج3 ص48) : ولم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهي عن البتيراء ولا في الحديث على سقوطه بيان ماهي البتيراء، وقد روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان بن عيينة عن الأعمش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: الثلاث بتيراء، يعني في الوتر، فعادت البتيراء على المحتج بالخبر الكاذب فيها- انتهى. وقال النووي في الخلاصة: حديث محمد بن كعب القرظي في النهي عن البتيراء ضعيف ومرسل- انتهى. والحق عندي أن الأمر في ذلك واسع، فيجوز الإيتار بركعة واحدة فردة، وبثلاث مفصولة وموصولة، لكن بقعدة واحدة، وبخمس وبسبع وبتسع، وكل ذلك ثابت بالأحاديث الصحيحة الثابتة، وارجع إلى المحلى (ج3 ص42- 48) . (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد ومالك والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص21، 22) وغيرهم. 1263- قوله: (الوتر ركعة) هذا نص في مشروعية الإيتار بركعة واحدة، وأن أقل الوتر ركعة. قال الطيبي: أي منشأة. (من آخر الليل) يعني آخر وقتها آخر الليل أو وقتها المختار بعض أجزاء آخر الليل. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج3 ص22) وأخرجه ابن ماجه بلفظ: ركعة قبل الصبح. 1264- قوله: (يصلي من الليل) أي بعضه، كما قاله الطيبي. (ثلاث عشرة ركعة) ثمان ركعات منها بأربع تسليمات. (يوتر من ذلك) أي من مجموع ثلاث عشرة أو من ذلك العدد المذكور. (بخمس) أي يصلي خمس ركعات

لا يجلس في شيء إلا في آخرها)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ بنية الوتر. (لا يجلس في شيء) أي للتشهد. (إلا في آخرها) أي لا يجلس في ركعة من الركعات الخمس إلا في آخرهن، وفيه دليل على مشروعية الإيتار بخمس ركعات بقعدة واحدة، وهذا أحد أنواع إيتاره - صلى الله عليه وسلم -، كما أن الإيتار بواحدة أحدها كما أفاده حديثها السابق في باب صلاة الليل، وعلى أن القعود على آخر كل ركعتين غير واجب، ففيه رد على من قال بتعيين الثلاث، وبوجوب القعود بعد كل من الركعتين. قال الترمذي: وقد رأى بعض أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم الوتر بخمس، وقالوا لا يجلس في شيء منهن إلا في آخرهن، وروى محمد بن نصر في قيام الليل عن إسماعيل بن زيد أن زيد بن ثابت كان يوتر بخمس ركعات لا ينصرف فيها. (أي لا يسلم) . وقال الشيخ سراج أحمد السر هندي في شرح الترمذي: وهو مذهب سفيان الثوري، وبعض الأئمة- انتهى. قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي: وهو الظاهر من كلام الشافعي ومذهبه، فقد حكى الربيع بن سليمان في (اختلاف مالك والشافعي) الملحق بكتاب الأم (ج7 ص189) أنه سأل الشافعي عن الوتر بواحدة ليس قبلها شيء فقال الشافعي/ نعم، والذي اختار أن أصلي عشر ركعات ثم أوتر بواحدة. ثم حكى الحجة عنه في ذلك، ثم قال قال الشافعي: وقد أخبرنا عبد المجيد عن ابن جريج عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر بخمس ركعات لا يجلس ولا يسلم إلا في الآخرة منهن. فقلت للشافعي: فما معنى هذا؟ قال: هذه نافلة يسع أن يوتر بواحدة وأكثر، ونختار ما وصفت من غير أن نضيق غيره، وانظر المجموع للنووي (ج4 ص12، 13) فقد رجح جواز هذا لدلالة الأحاديث الصحيحة عليه- انتهى. والحديث مشكل على الحنفية جداً، فإنهم قالوا بوجوب القعود والتشهد بعد كل من الركعتين في الفرض والنفل جميعاً، وأجابوا عنه بوجوه كلها مردودة باطلة، أحدها: أن المعنى لا يجلس في شيء للسلام بخلاف ما قبله من الركعات، ذكره القاري. وقد رده صاحب البذل حيث قال: وفيه نظر؛ لأن الحنفية قائلون بأن الوتر ثلاث لا يجوز الزيادة عليها، فإذا صلى خمس ركعات، فإن نوى الوتر في أول التحريمة لا يجوز ذلك؛ لأن الزيادة على الثلاث ممنوعة، وإن نوى النفل في أول التحريمة لا يؤدي الوتر بنية النفل، وإن قيل: إنها كانت في ابتداء الإسلام ثم استقر الأمر على أن الوتر ثلاث ركعات فينافيه ما سيأتي من حديث زرارة بن أوفي عند داود: فلم تزل تلك صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بدن، فنقص من التسع ثنتين، فجعلها إلى الست والسبع وركعتيه وهو قاعد حتى قبض على ذلك. وثانيها: أن المنفي جلسة الفراغ والاستراحة أي لا يجلس في شيء من الخمس جلسة الفراغ والاستراحة إلا في آخرها أي بعد الركعة الآخرة، يعني بعد الفراغ منها، وكانت الركعتان نافلتي الوضوء أو غيرها والثلاثة وتراً. وفيه أن تخصيص الجلوس المنفي بجلوس الاستراحة (1) وفي نسخة "الأخيرة"

متفق عليه. 1265- (4) وعن سعد بن هشام، ـــــــــــــــــــــــــــــ والفراغ يحتاج إلى دليل، وإذ لا دليل على ذلك فهو مردود على قائله، على أن قوله: إلا في آخرهن يدل على وجود الجلوس في آخر الركعات الخمس، بناء على أن "في" للظرفية، وهي تقتضي تحقق الجلوس داخل الصلاة لا خارجها، وعلى أن الأصل في الاستثناء الاتصال، وهذا ينافي كون المراد بالجلوس المنفي جلسة الفراغ. وثالثها: أن المعنى لم يكن يصلي من تلك الخمس جالساً إذ قد ورد أنه كان يصلي قائماً وقاعداً، وعلى هذا فالمنفي من الجلوس هو الجلوس مقام، والاستثناء في قوله: إلا في آخرهن منقطع، كما في الوجه الثاني والمعنى لا يصلي جالساً إلا بعد أن يفرغ من الخمس. وهذا أيضاً مردود لما تقدم آنفاً. ورابعها: أن المراد بقوله: آخرهن الركعتان الأخيرتان، فالثلاثة الأول من الخمس وتر والركعتان بعده هما اللتان كان يصليهما النبي - صلى الله عليه وسلم - جالساً بعد الوتر، والمعنى لم يكن يصلي شيئاً من تلك الخمس جالساً إلا الركعتين الأخيرتين منها، وعلى هذا فالاستثناء متصل. وفيه أن هذا يرده قوله: يوتر من ذلك بخمس؛ لأنه يدل على أن الركعات الخمس كلها ركعات الوتر، ويبطله أيضاً رواية الشافعي بلفظ: كان يوتر بخمس ركعات لا يجلس ولا يسلم إلا في الآخرة منها، ورواية أبي داود: يوتر منها بخمس لا يجلس في شيء من الخمس حتى يجلس في الآخرة فيسلم، وهذا ظاهر. وخامسها: أن المراد بآخرهن الركعة الأخيرة والمنفي بالجلوس الجلوس الخاص وهو الذي فيه تشهد بلا تسليم، فالمعنى لا يجلس بهذه المثابة إلا في ابتداء الركعة الأخيرة. وأما الجلوس بعد الركعتين فهو على المعروف المتبادر يعني مع التسليم. وهذا أيضاً مردود يرده رواية الشافعي وأبي داود، كما لا يخفي، وهذه الوجوه كلها تحريف للحديث الصحيح وإبطال لمؤاده، واستهزاء بالسنة الثابتة الظاهرة وتحيل لدفعها، وهي تدل على شدة تعصب أصحابها وغلوهم في تقليد غير المعصوم، بل على بغضهم للسنة، ذكرناها مع كونها أضاحيك ليعتبر بها أولوا الألباب والبصائر. (متفق عليه) فيه نظر؛ لأن قوله: يوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شيء إلا في آخرها، ليس عند البخاري، بل هو من أفراد مسلم، وكان المصنف قلد في ذلك الجزري وصاحب المنتقى والمنذري حيث نسبوا هذا السياق إلى الشيخين، والعجب من الحافظ أنه قال بعد ذكره في بلوغ المرام: متفق عليه مع أنه عزاه في التلخيص (ص116) لمسلم فقط، اللهم إلا أن يقال: إنهم أرادوا بذلك أن أصل الحديث متفق عليه لا السياق المذكور بتمامه، ولا يخفى ما فيه، والحديث أخرجه أيضاً الترمذي وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج3 ص27، 28) وغيرهم، وفي الإيتار بخمس أحاديث كثيرة، ذكرها الشوكاني في النيل. 1265- قوله: (وعن سعد) بسكون عين مهملة. (بن هشام) بن عامر الأنصاري المدني، ابن عم أنس

قال: انطلقت إلى عائشة، فقلت: يا أم المؤمنين! أنبئيني عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى. قالت: فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن. قلت: يا أم المؤمنين! أنبئيني عن وتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقالت: كنا نعد له سواكه وطهوره، فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه من الليل، فيتسوك، ويتوضأ، ويصلي تسع ركعات، لا يجلس فيها إلا في الثامنة، فيذكر الله، ويحمده، ويدعوه، ثم ينهض، ولا يسلم، فيصلي التاسعة، ثم يقعد، فيذكر الله، ويحمده، ويدعوه، ثم يسلم تسليماً يسمعنا، ـــــــــــــــــــــــــــــ ثقة من أوساط التابعين. قال في التقريب: استشهد بأرض الهند. وفي تهذيب التهذيب ذكر البخاري: أنه قتل بأرض مكران على أحسن أحواله. قال أبوبكر الحازمي: مكران بضم الميم، بلدة بالهند. وذكره ابن حبان في الثقات: وقال قتل بأرض مكران غازياً. (أنبئيني) وقال في رواية: حدثيني، يعني أخبريني. (عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) بضمتين، وقد يسكن الثاني أي أخلاقه وشمائله وعاداته. (فإن خلق نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان القرآن) أي كان متمسكاً بآدابه وأوامره ونواهيه ومحاسنه، ويوضحه أن جميع ما فصل في كتاب الله من مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب مما قصه عن نبي أو ولي أو حث عليه أو ندب إليه أو ذكر بالوصف الأتم والنعت الأكمل كان - صلى الله عليه وسلم - متحلياً به ومتولياً له ومتخلقاً به وبالغاً فيه من المراتب أقصاها، حتى جمع له من ذلك ما تفرق في سائر الخلائق، وكل ما نهى الله تعالى عنه فيه ونزه كان - صلى الله عليه وسلم - لا يحوم حوله، ويبين ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: بعثت لأتمم مكارم الأخلاق. قال النووي: معناه العمل بالقرآن والوقوف عند حدود والتأدب بآدابه والاعتبار بأمثاله وقصصه وتدبره وحسن تلاوته-انتهى. وفيه إشارة إلى قوله تعالى. {إنك لعلى خلق عظيم} [4:68] . (عن وتر رسول الله) أي عن وقته وكيفيته وعدد ركعاته. (كنا نعد) من الإعداد أي نهيئ. (له سواكه وطهوره) بالفتح أي ماء وضوئه، وفيه استحباب ذلك والتأهب بأسباب العبادة قبل وقتها والاعتناء بها. (فيبعثه الله) أي يوقظه. (ما شاء أن يبعثه) أي في الوقت المقدر الذي شاء بعثه فيه. وفي رواية: فيبعثه الله متى شاء أن يبعثه من الليل. (من الليل) أي من ساعات الليل وأوقاته، فمن تبعيضية، وقيل: بيانيه. (فيتسوك) أولاً. (ويتوضأ) فيه استحباب السواك عند القيام من النوم. (ويصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة) الخ. فيه مشروعية الإيتار بتسع ركعات متصلة لا يسلم إلا في آخرها، ويقعد في الثامنة ولا يسلم. (فيذكر الله) أي يقرأ التشهد. (ويحمده) أي يثني عليه. قال الطيبي: أي يتشهد، فالحمد إذاً لمطلق الثناء، إذ ليس في التحيات لفظ الحمد. (ويدعوه) أي الدعاء المتعارف. (ثم ينهض) أي يقوم. (ثم يسلم تسليماً يسمعنا) من الإسماع أي يرفع صوته بالتسليم بحيث نسمعه، وفيه دليل على

ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني! فلما أسن صلى الله عليه وآله وسلم وأخذ اللحم، أوتر بسبع، وصنع في الركعتين مثل صنيعه في الأولى، فتلك تسع يا بني! وكان نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها، ـــــــــــــــــــــــــــــ عدم وجوب الجلسة عند الركعتين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي ثمانياً متصلاً بلا تخلل جلسات بينها على الشفعات، وهذا مخالف للحنفية لما تقدم أنهم قالوا بوجوب الجلسة للتشهد عند كل ركعتين، وأجابوا بأن المراد بالجلسة المنفية الجلسة الخالية عن السلام، قالوا: فالوتر منها ثلاث ركعات ست قبله من النفل. قال العيني وهذا اقتصار منها على بيان جلوس الوتر وسلامه؛ لأن السائل إنما سأل عن حقيقة الوتر ولم يسأل عن غيره، فأجابت مبينة بما في الوتر من الجلوس على الثانية بدون سلام، والجلوس أيضاً على الثالثة بسلام، وسكتت عن جلوس الركعات التي قبلها وعن السلام فيها، كما أن السؤال لم يقع عنها فجوابها قد طابق سؤال السائل-انتهى. ولا يخفى ما فيه فإنه لا دليل على حمل الجلوس المنفي على الجلسة الخالية عن السلام. فالحديث ظاهر بل هو كالنص في نفي الجلوس قبل الثامنة، ونفي السلام قبل التاسعة مطلقاً، وأنها كانت كلها بجلستين وسلام واحد، وهذا أحد أنواع إيتاره صلى الله عليه وسلم. (ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد) فيه مشروعية ركعتين بعد الوتر عن جلوس، ويدل عليه أيضاً حديث أم سلمة وحديث أبي أمامة الآتيان في الفصل الثالث. وقد ذهب إليه بعض أهل العلم: وجعل الأمر في قوله الآتي: اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا. مختصاً بمن أوتر آخر الليل. وحمله النووي على أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لبيان جواز النفل بعد الوتر وجواز التنفل جالساً، يعني أن الأمر فيه أمر ندب لا إيجاب، فلا تعارض بينهما. وقال الشوكاني: لا يحتاج إلى الجمع بينهما باعتبار الأمة؛ لأن الأمر يجعل آخر صلاة الليل وتراً مختص بهم، وأن فعله - صلى الله عليه وسلم - لا يعارض القول الخاص بالأمة، لاختصاص فعله للركعتين بعد الوتر بذاته - صلى الله عليه وسلم -، وأما الجمع باعتباره - صلى الله عليه وسلم - فهو أن يقال: إنه كان يصلي الركعتين بعد الوتر تارة ويدعهما تارة-انتهى. والراجح عندي ما ذهب إليه النووي أن الأمر في قوله اجعلوا الخ. للندب لا للإيجاب. (فلما أسن) أي كبر. (وأخذ اللحم) وفي بعض نسخ مسلم: أخذه اللحم. قيل: أي السمن. وقال ابن الملك: أي ضعف قال ابن حجر: إنما كان في آخر حياته قبل موته بنحو سنة. (أوتر بسبع وصنع في الركعتين مثل صنعيه في الأولى) يعني صلاهما قاعداً، كما كان يصنع قبل أن يسن. وفي رواية: فلما أسن وأخذه اللحم أوتر بسبع ركعات لم يجلس إلا في السادسة والسابعة ولم يسلم إلا في السابعة. (فتلك تسع) فنقص ركعتين من التسع لأجل الضعف. (وكان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى صلاة) أي من النوافل. (أحب أن يداوم عليها) ؛ لأن أحب الأعمال عنده صلى الله عليه وسلم

وكان إذا غلبه نوم أو وجع عن قيام الليل، صلى من النهار ثنتى عشرة ركعة، ولا أعلم نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ القرآن كله في ليلة، ولا صلى ليلة إلى الصبح، ولا صام شهراً كاملاً غير رمضان)) رواه مسلم. 1266- (5) وعن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً)) ـــــــــــــــــــــــــــــ أدومها. (وكان إذا غلبه نوم أو وجع) أي منعه مرض أو ألم. (عن قيام الليل صلى بالنهار) أي في أوله ما بين طلوع الشمس إلى الزوال. (ثنتي عشرة ركعة) قيل: ثمان منها صلاة الليل وأربع صلاة الضحى، وفيه استحباب المحافظة على الأوراد وإنها إذا فاتت تقضى. (ولا صلى ليلة) تامة من أولها إلى آخرها. (إلى الصبح) قيل: هذا محمول على علمها، وإلا فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم أحيا ليلة كله صلى فيه حتى الفجر، فقد أخرج النسائي في باب إحياء الليل عن خباب بن الأرت أنه راقب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ليلة صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلها حتى كان مع الفجر-الحديث. (ولا صام شهراً كاملاً غير رمضان) لا ينافيه ما روى أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم شعبان كله؛ لأن المراد أنه كان يصوم أكثره. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3:ص30، ج2: ص500) . 1266- قوله: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل) أي تهجدكم فيه. (وتراً) أي اجعلوا صلاة الوتر في آخرها واستدل به على أنه لا صلاة بعد الوتر. وقد اختلف السلف في ذلك في موضعين: أحدهما في مشروعية ركعتين بعد الوتر جالساً، والثاني فيمن أوتر ثم أراد أن يتنفل في الليل، هل يكتفي بوتره الأول وليتنفل ما شاء، أو يشفع وتره بركعة ثم يتنفل ثم إذا فعل ذلك يحتاج إلى وتر آخر أولاً، فأما الأول فقد تقدم الكلام فيه. وأما الثاني فذهب الأكثر وهم الأئمة الأربعة، والثوري وابن المبارك وغيرهم إلى أنه يصلي شفعا ما أراد ولا ينقض وتره عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: لا وتران في ليلة، وهو حديث حسن. أخرجه أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان من حديث طلق بن علي، وجعل هؤلاء الأمر في حديث ابن عمر للندب، وذهب بعض أهل العلم إلى جواز نقض الوتر، وقالوا: يضيف إليها أخرى ويصلي ما بدأ له، ثم يوتر في آخر صلاته، والأول هو الراجح عندي. قال الترمذي: واختلف أهل العلم في الذي يوتر من أول الليل ثم يقوم من آخره، فرأى بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم نقض الوتر، وقالوا يضيف إليها ركعة ويصلي ما بدا له ثم يوتر في آخر صلاته؛ لأنه لا وتران في ليلة، وهو الذي ذهب إليه إسحاق، وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم: إذا أوتر من أول الليل ثم نام ثم قام من

رواه مسلم. 1267- (6) وعنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((بادروا الصبح بالوتر)) ـــــــــــــــــــــــــــــ آخره أنه يصلي ما بدا له ولا ينقض وتره، ويدع وتره على ما كان، وهو قول سفيان الثوري ومالك بن أنس وأحمد وابن المبارك، وهذا أصح؛ لأنه قد روي من غير وجه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد صلى بعد الوتر-انتهى. وقد بسط الشيخ الكلام في هذه المسألة في شرح الترمذي وقال: هذا أي عدم نقض الوتر هو المختار عندي، ولم أجد حديثاً مرفوعاً صحيحاً يدل على ثبوت نقض الوتر-انتهى. واستدل بهذا الحديث لأبي حنيفة على وجوب الوتر بأن اجعلوا صيغة الأمر، وأصل الأمر للوجوب وأجيب عنه من ثلاثة وجوه. الوجه الأول: أن أصل الأمر وإن كان للوجوب. لكنه إذا وجدت قرينة صارفة عن الوجوب يحمل على غير الوجوب، وقد صرح علماء الحنفية بأن صيغة "اجعلوا" في هذا الحديث ليست للوجوب. قال القاري: في المرقاة. اجعلوا أمر ندب، وكذا قال صاحب البذل (ج2:ص332) ولو سلم أن "اجعلوا" في هذا الحديث للوجوب فهو إنما يدل على وجوب جعل الوتر آخر صلاة الليل، أي إذا صليتم بالليل فعليكم أن تصلوا الوتر في آخر صلاة الليل لا في أولها ولا في وسطها، والحاصل أنه يدل على وجوب جعل آخر الصلاة بالليل وتراً، لا على وجوب نفس الوتر، والمطلوب هذا لا ذاك، فالاستدلال به على وجوب الوتر غير صحيح. الوجه الثاني: أن صلاة الليل ليست بواجبة، فكذا آخرها. قال الحافظ في الفتح: قد استدل به بعض من قال بوجوبه، وتعقب بأن صلاة الليل ليست واجبة، فكذا آخرها، وبأن الأصل عدم الوجوب حتى يقول دليله-انتهى. الوجه الثالث: أنه لو ثبت من هذا الحديث وجوب الوتر لقال به ابن عمر، وأفتى به من غير تأمل وتردد، لكنه لما استفتى عنه لم يزد في فتياه على أن يقول: أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأوتر المسلمون، كما سيأتي. (رواه مسلم) الحديث ليس من أفراد مسلم بل هو متفق عليه، فقد أخرجه البخاري في باب ليجعل آخر صلاته وتراً من أبواب الوتر. وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج3:ص34) . 1267- قوله: (بادروا الصبح بالوتر) أي عجلوا بأداء الوتر قبل طلوع الصبح. قال الطيبي: بادروا أي سارعوا كان الصبح مسافر يقدم إليك طالباً منك الوتر وأنت تستقبله مسرعاً بمطلوبه وإيصاله إلى بغيته. وفي حديث أبي سعيد عند مسلم وغيره: أوتروا قبل أن تصبحوا أي تدخلوا في الصبح، وهو دليل على أن الوتر قبل الصبح وأنه إذا طلع الفجر خرج وقت الوتر، وسيأتي الكلام فيه، وقد استدل بهذا الحديث على وجوب الوتر. قال القاري في شرحه: أي أسرعوا بأداء الوتر قبل الصبح، والأمر للوجوب عندنا-انتهى. وأجيب عنه بأنه إنما

رواه مسلم. 1268- (7) وعن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل، فإن صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك أفضل)) رواه مسلم. 1269- (8) وعن عائشة، قالت: ((من كل الليل أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أول الليل، وأوسطه وآخره، ـــــــــــــــــــــــــــــ يدل على وجوب الإيتار قبل طلوع الصبح لا على وجوب نفس الإيتار، والمطلوب هذا لا ذاك، فالاستدلال به على وجوب الوتر باطل. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً الترمذي وأبودواد ومحمد بن نصر والحاكم (ج1: ص301) والبيهقي (ج1: ص478) . 1268- قوله: (من خاف أن لا يقوم من آخر الليل) قال ابن الملك: "من" فيه للتبعيض أو بمعنى في. وفي رواية: من خشي منكم أن لا يستيقظ من آخر الليل. (فليوتر أوله) أن ليصل الوتر في أول الليل. (ومن طمع أن يقوم آخره) بالنصب على نزع الخافض، أي في آخره بأن يثق بالانتباه. وفي رواية: ومن وثق بقيام من آخر الليل. (فان صلاة آخر الليل مشهودة) أي محضورة تحضره ملائكة الرحمة. وقال الطيبي: أي يشهدها ملائكة الليل والنهار. (وذلك) أي الإيتار في آخر الليل. (أفضل) فثوابه أكمل. وفي رواية: فإن قراءة القرآن في آخر الليل محضورة وهي. (أي قراءة القرآن في آخر الليل) أفضل. وفي الحديث دلالة على أن تأخير الوتر أفضل، ولكن إن خاف أن لا يقوم قدمه لئلا يفوته فعلاً، وقد ذهب جماعة من السلف إلى هذا وإلى هذا وفعل كل بالحالين، ويحمل الأحاديث المطلقة التي فيها الوصية بالوتر قبل النوم والأمر به على من خاف النوم عنه. قال النووي: فيه دليل صريح على أن تأخير الوتر إلى آخر الليل أفضل لمن وثق بالاستيقاظ آخر الليل، وأن من لا يثق بذلك فالتقديم له أفضل، وهذا هو الصواب، ويحمل باقي الأحاديث المطلقة على هذا التفصيل الصحيح الصريح-انتهى. وقد استدل بهذا الحديث على وجوب الوتر. قال القاري: أمره بالإتيان عند خوف الفوت يدل على وجوبه-انتهى. وأجيب بأنه يحتمل أن يكون أمره بالإتيان عند خوف الفوت لمزيد تأكده لا لوجوبه، وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وابن ماجه والبيهقي (ج3:ص35) . 1269- قوله: (من كل الليل) قال الطيبي: "من" ابتدائية منصوبة بقوله: (أوتر) أي أوتر من كل أجزاء الليل. وقيل: "من" بمعنى في، أي في جميع أوقات الليل أوتر وقولها: (من أول الليل وأوسطه وآخره)

وانتهى وتره إلى السحر)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ يدل أو بيان، والمراد أجزاء كل من الثلاثة الأقسام المستغرقة لليل فساوت ما قبلها، ثم المراد بأول الليل بعد صلاة العشاء، كما سيأتي. (وانتهى وتره) زاد أبوداود والترمذي حين مات أي قبل وفاته - صلى الله عليه وسلم -. (إلى السحر) بفتح السين، وهو قبيل الصبح، وحكي الماوردي أنه السدس الأخير من الليل. وقيل: أوله الفجر الأول يعني اختار آخر العمر الوتر في آخر الليل، فهو أحب. قال النووي: معناه كان آخر أمره الإيتار في السحر، والمراد به آخر الليل كما قالت في الروايات الأخرى، ففيه استحباب الإيتار آخر الليل، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة عليه. قال: وفيه جواز الإيتار في جميع أوقات الليل بعد دخول وقته-انتهى. ويدل عليه أيضاً حديث جابر وحديث ابن عمر السابقان وحديث علي عند ابن ماجه بنحو حديث عائشة، وحديث أبي مسعود عند أحمد والطبراني بلفظ: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر من أول الليل وأوسطه وآخره. قال العراقي: إسناده صحيح. وقال الهيثمي: رجاله ثقات. وحديث عبد الله بن قيس عند أبي داود، وحديث أبي موسى وعقبة بن عمرو عند الطبراني في الكبير، وحديث أبي قتادة عند أبي داود، وحديث أبي هريرة عند البزار والطبراني، وحديث عقبة بن عامر عند الطبراني أيضاً، وهذه الأحاديث كلها بيان لوقت الوتر وأنه الليل كله لكن بعد مغيب الشفق من بعد صلاة العشاء إذ لم ينقل أنه - صلى الله عليه وسلم - أوتر في الوقت الذي قبل صلاة العشاء، وقد دل عليه صريحاً حديث خارجة بن حذافة الآتي حيث قال: الوتر جعله الله لكم فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر. قال الشوكاني: أحاديث الباب تدل على أن جميع الليل وقت الوتر إلا الوقت الذي قبل صلاة العشاء، ولم يخالف في ذلك أحد لا أهل الظاهر ولا غيرهم، إلا ما ذكر في وجه لأصحاب الشافعي أنه يصح قبل العشاء، وهو وجه ضعيف صرح بذلك العراقي وغيره، وقد حكي صاحب المفهم الإجماع على أنه لا يدخل وقت الوتر إلا بعد صلاة العشاء-انتهى. وقال الحافظ: أجمعوا على أن ابتداء وقت الوتر مغيب الشفق بعد صلاة العشاء، كذا نقله ابن المنذر لكن أطلق بعضهم (يعني أبا حنيفة فإن أول وقت الوتر عنده وقت العشاء إلا أنه لا يقدم عليه عند التذكر. وقال النووي: وفي وجه في مذهبنا أنه يدخل بدخول وقت العشاء) أنه يدخل بدخول العشاء قالوا ويظهر أثر الخلاث فيمن صلى العشاء، بأن أنه كان بغير طهارة ثم صلى الوتر متطهراً أوظن أنه صلى العشاء فصلى الوتر فإنه يجزئ على هذا القول دون الأول-انتهى. قلت: واختلفوا فيمن صلى العشاء قبل وقته في جمع التقديم هل يجوز له الوتر قبل مغيب الشفق أم لا؟ فقال الشافعية والحنابلية: يصح وتره، كما صرح به أصحاب فروعهم. وقالت المالكية: لا يصح بل يكون لغواً، كما صرح به في الشرح الكبير من فروع المالكية. وأما عند الحنفية فلا يصح العشاء بجمع التقديم فالوتر أولى أن لا يصح عندهم. وأما آخر وقت الوتر فهو إلى طلوع الفجر الثاني، وبعد طلوع الفجر يكون قضاء، وهو المشهور المرجح الصحيح عند الأئمة

1270- (9) وعن أبي هريرة، قال: ((أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام)) ـــــــــــــــــــــــــــــ الثلاثة الشافعي وأحمد وأبي حنيفة، وعند المالكية للوتر وقتان: وقت اختيار، وهو إلى طلوع الفجر، ووقت ضرورة، وهو إلى تمام صلاة الصبح. ويكره تأخيره لوقت الضرورة بلا عذر، ويندب قطع صلاة الصبح للوتر لفذ لا لمؤتم، وفي الإمام روايتان. قال الحافظ: وحكى ابن المنذر عن جماعة من السلف أن الذي يخرج بالفجر وقته الاختياري، ويبقى وقت الضرورة إلى قيام صلاة الصبح، وحكاه القرطبي عن مالك والشافعي وأحمد، وإنما قاله الشافعي في القديم-انتهى. والقوال الراجح عندي أن ابتداء وقته مغيب الشفق بعد صلاة العشاء إلا في جمع التقديم، فيصح قبل الشفق بعد العشاء، وينتهي لطلوع الفجر الثاني، وبعد طلوع الفجر يكون قضاء لا أداء كما يدل الأحاديث التي أشرنا إليها. (متفق عليه) واللفظ لمسلم، لكن عنده "قد أوتر" أي بزيادة قد قبل أوتر، وأيضاً عنده "فانتهى" بدل وانتهى. والحديث أخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3:ص35) . 1270- قوله: (أوصاني) أي عهد إليّ وأمرني أمرا مؤكداً. (خليلي) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والخليل الصديق الخالص الذي تخللت محبته القلب فصارت في خلاله أي في باطنه. واختلف هل الخلة أرفع من المحبة أو بالعكس، وقول أبي هريرة هذا لا يعارضه قوله - صلى الله عليه وسلم -: لو كنت متخذاً خليلاً غير بي لأتخذت أبابكر؛ لأن الممتنع هو أن يتخذ هو - صلى الله عليه وسلم - غيره تعالى خليلاً، ولا يمتنع إتخاذ الصحابي وغيره النبي - صلى الله عليه وسلم - خليلاً. (بثلاث) أي خصال زاد في رواية: لا أدعهن حتى أموت. ولفظ أبي داود: لا أدعهن في فر ولا حضر (صيام ثلاثة أيام) أي الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر. (من كل شهر) يعني أيام البيض هذا هو الظاهر. وقيل: يوماً من أوله، ويوماً من وسطه، ويوماً من آخره. وقيل: كل يوم أول كل عشر، وصيام بالجر يدل من ثلاث. (وركعتي الضحى) أي في كل يوم كما زاده أحمد وهما أقلها، ويجزئان عن الصدقة التي تصبح على مفاصل الإنسان في كل يوم، وهي ثلاثمائة وستون مفصلاً كما في حديث مسلم عن أبي ذر وقال فيه: ويجزئ عن ذلك ركعتا الضحى، وفيه استحباب الضحى، وأن أقلها ركعتان وعدم مواظبة النبي - صلى الله عليه وسلم - على فعلها لا ينافي استحبابها؛ لأن حاصل بدلالة القول وليس من شرط الحكم أن تتظافر عليه أدلة القول والفعل، لكن ما واظب النبي - صلى الله عليه وسلم - على فعله مرجح على ما لم يواظب عليه. (وأن أوتر قبل أن أنام) وفي رواية: ونوم على وتر، أي يكون النوم عقب الوتر لا قبله، لا أنه لا بد من نوم بعده، ولعله أوصاه بذلك؛ لأنه خاف عليه الفوت بالنوم، ففيه أن من خاف فوات الوتر

{الفصل الثاني}

متفق عليه. {الفصل الثاني} 1271- (10) عن غضيف بن الحارث، قال. ((قلت لعائشة: أرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل من الجنابة في أول الليل أم في آخره؟ قالت: ربما اغتسل في أول الليل، وربما اغتسل في آخره، قلت: الله أكبر! الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة، ـــــــــــــــــــــــــــــ فالأفضل له التقديم ومن لا فالتأخير في حقه أفضل. قال الحافظ: لا معارضة بين وصية أبي هريرة بالوتر قبل النوم وبين قول عائشة: وانتهى وتره إلى السحر؛ لأن الأول لإرادة الاحتياط والآخر لمن علم من نفسه قوة، كما ورد في حديث جابر عند مسلم-انتهى. قال القسطلاني: وقد روي أن أبا هريرة كان يختار درس الحديث بالليل على التهجد، فأمره بالضحى بدلاً عن قيام الليل، ولهذا عليه السلام أن لا ينام إلا على وتر، ولم يأمر بذلك أبا بكر ولا عمر ولا غيرهما من الصحابة، لكن قد وردت وصيته عليه الصلاة والسلام بالثلاث أيضاً لأبي الدرداء، كما عند مسلم ولأبي ذر، كما عند النسائي، فقيل: خصصهم بذلك لكونهم فقراء لا مال لهم، فوصاهم بما يليق بهم وهو الصوم والصلاة، وهما من أشرف العبادات البدنية. وقال الحافظ: والحكمة في الوصية على المحافظة على ذلك تمرين النفس على جنس الصلاة والصيام، ليدخل في الواجب منهما بانشراح، ولنجبر ما لعله يقع فيه من نقص، وليثاب ثواب صوم الدهر بانضمام ذلك لصوم رمضان، إذ الحسنة بعشر أمثالها. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي والبيهقي (ج3 ص36) وأخرجه الترمذي مختصراً بلفظ: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أوتر قبل أن أنام. 1271- قوله: (عن غضيف) بضم الغين وفتح ضاد معجمتين وياء ساكنة وآخره فاء. (بن الحارث) بن زنيم الثمالي، يكن أبا أسماء الحمصي تقدم ترجمته. قال المؤلف: أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد اختلف في صحبته وسمع أباذر وعمر وعائشة. (أرأيت) بكسر التاء أي أخبرني. (كان يغتسل) بتقدير حرف الاستفهام أي هل كان يغتسل. وقيل: معنى أرأيت على الاستفهام سواء كانت الرؤية بصرية أو علمية أي هل رأيت. (من الجنابة في أول الليل) أي على الفور بعد الفراغ من الجنابة أي دائماً. (أم في آخره) أي يغتسل في آخر الليل يعني يؤخر الغسل إلى آخر الليل. (قالت) أي عائشة كانت له حالات مختلفة. (وربما اغتسل في آخره) أي جامع أوله واغتسل آخره تيسيراً على الأمة ولبيان الجواز. (قلت الله أكبر) استعظاماً لشفقته على الأمة وتعجباً. (الحمد لله الذي جعل في الأمر) أي في أمر الشرع أو في هذا الأمر. (سعة) بفتح السين المهملة يعني جعل في الاغتسال سعة، بأن يغتسل متى شاء من الليل ولم يضيق عليه فيه بأن يغتسل على الفور، بل أباح لنا الأمرين وبين لنا نبيه - صلى الله عليه وسلم - ذلك بتقديم الغسل مرة وتأخيره أخرى. قال الطبي: دل على أن السعة من الله تعالى في التكاليف نعمة يجب تلقيها بالشكر، والله أكبر دل على أن تلك

قلت: كان يوتر أول الليل أم في آخره؟ قالت: ربما أوتر في أول الليل، وربما أوتر في آخره. قلت: الله أكبر! الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة، قلت: كان يجهر بالقراءة أم يخفت؟ قالت: ربما جهر به، وربما خفت. قلت: الله أكبر! الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة)) . رواه أبوداود. وروى ابن ماجه الفصل الأخير. 1272- (11) وعن عبد الله بن أبي قيس، قال: ((سألت عائشة: بكم كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر؟ قالت: كان يوتر بأربع وثلاث، وست وثلاث، وثمان ثلاث، وعشر وثلاث، ـــــــــــــــــــــــــــــ النعمة عظيمة خطيرة لما فيه من معنى التعجب (قلت كان يوتر) أي أكان يوتر؟ وفي أبي داود: قلت أرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر. (أول الليل) أي في أوله. (ربما أوتر) أي صلى الوتر. (في أول الليل) وهو القليل الأسهل. (وربما أوتر في آخره) وهو الكثير الأفضل بحسب ما رأى فيه مصلحة الوقت، وتقدم قولها أنه انتهى وتره إلى السحر. (قلت كان) أي أكان. (يجهر بالقراءة) أي في صلاة الليل. وفي أبي داود: قلت: أرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يجهر بالقرآن. (أم يخفت) أي يسر بها. (ربما جهر به، وربما خفت) أي في ليلتين أو في ليلة بحسب ما يناسب المقام والحال. وفيه دليل على أن المرء مخير في صلاة الليل، يجهر بالقراءة أو يسر. (رواه أبوداود) في باب الجنب يؤخر الغسل من كتاب الطهارة، وسكت عنه هو والمنذري. ورواه النسائي في الطهارة مقتصراً على الفصل الأول وكذا البيهقي (ج1 ص199) . (وروى ابن ماجه الفصل الأخير) أي الفقرة الأخيرة من فقرات الحديث، وهو قوله: قلت أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجهر بالقرآن؟ الخ. وأخرجه الترمذي وأبوداود والبيهقي أيضاً عن عبد الله بن أبي قيس عن عائشة مطولاً. 1272- قوله: (وعن عبد الله بن أبي قيس) ويقال ابن قيس، ويقال ابن موسى، والأول أصح، يكنى أبا الأسود النصري الحمصي مولى عطية بن عازب، ويقال ابن عفيف، روى عن مولاه وابن عمر وعائشة وغيرهم. قال في التقريب: ثقة مخضرم. وقال العجلي: تابعي ثقة. (بكم) أي ركعات. (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر) أي يصلي صلاة الليل مع الوتر. (كان يوتر بأربع) أي ركعات بتسليمة أو بتسليمتين. (وثلاث) أي بتسليمة، كما هو الظاهر، فيكون سبعاً، أربع منها صلاة الليل، وثلاث الوتر. (وست) أي وبست ركعات بتسليمتين أو بثلاث. (وثلاث) فيكون تسعاً، ست منها صلاة الليل، وثلاث الوتر. (وثمان وثلاث) فيكون إحدى عشرة ركعة. (وعشر وثلاث) فيكون ثلاث عشرة ركعة. واعلم أن عائشة أطلقت في هذه الرواية على جميع صلاته - صلى الله عليه وسلم -

ولم يكن يوتر بأنقص من سبع، ولا بأكثر من ثلاث عشرة)) ، رواه أبوداود. 1273- (12) وعن أبي أيوب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الوتر حق على كل مسلم، ـــــــــــــــــــــــــــــ في الليل التي كان فيها الوتر، وتراً. وقد أطلقه غيرها أيضاً. قال الترمذي بعد روايته حديث أم سلمة بلفظ: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوتر بثلاث عشرة، فلما كبر وضعف أوتر بسبع، ما لفظه: وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الوتر بثلاث عشرة وإحدى عشرة وتسع وسبع وخمس وثلاث وواحدة. قال إسحاق بن إبراهيم. (يعني ابن راهوية) : معنى ما روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر بثلاث عشرة، قال إنما معناه أنه كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة مع الوتر، فنسبت صلاة الليل إلى الوتر. (أي أطلق على صلاة الليل مع الوتر لفظ الوتر فمعنى يوتر بثلاث عشرة أي يصلي صلاة الليل مع الوتر ثلاث عشرة ركعة) وروي في ذلك حديثاً. (كأنه يشير إلى حديث عبد الله بن أبي قيس هذا) ، واحتج بما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أوتروا يا أهل القرآن، قال إنما عنى به قيام الليل يقول إنما قيام الليل، على أصحاب القرآن- انتهى. قلت: في إتيان عائشة بثلاث في كل عدد دلالة ظاهرة بأن الوتر في هذه الرواية في الحقيقة هو الثلاث، وما وقع قبله من مقدماته المسمى بصلاة التهجد. فالمراد بالوتر هنا صلاة الليل كلها. ويؤيده ما تقدم من حديث ابن عمر: اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً. (ولم يكن يوتر) أي يصلي صلاة الليل مع الوتر. (بأنقص من سبع، ولا بأكثر من ثلاث عشرة) أي غالباً، وإلا فقد ثبت أنه أوتر بخمس عشرة. وهذا الاختلاف بحسب ما كان يحصل من اتساع الوقت وضيقه وطول القراءة، كما جاء في حديث حذيفة وابن مسعود، أو من نوم، أو من مرض وغيرهما، أوفي بعض الأوقات عند كبر السن، كما قالت: فلما أسن صلى أربع ركعات. والحاصل أن ذلك محمول على أوقات متعددة وأحوال مختلفة بحسب النشاط وبيان الجواز، وبهذا يجمع بين ما اختلف الروايات عن عائشة. (رواه أبوداود) ومن طريقة البيهقي (ج3 ص28) ، وسكت عنه أبوداود والمنذري، وأخرجه أيضاً أحمد والطحاوي (ج1 ص168) وإسناده حسن. 1273- قوله: (الوتر حق) قال الطيبي: الحق يجيء بمعنى الثبوت والوجوب. فذهب أبوحنيفة إلى الثاني، والشافعي إلى الأول أي ثابت في الشرح والسنة. وفيه نوع تأكيد- انتهى. وقال السندي: قد يستدل به من يقول بوجوب الوتر بناء على أن الحق هو اللازم الثابت على الذمة. ويجيب من لا يرى الوجوب بأن معنى حق أنه مشروع ثابت-انتهى. وذكر المجد بن تيمية في المنتقى أن ابن منذر روى هذا الحديث بلفظ: الوتر حق، وليس بواجب. وهذا صريح في أن لفظ حق هنا بمعنى الثابت في الشرع لا الواجب، ولو سلم أنه بمعنى

فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ واجب، بل ولو ورد لفظ واجب صريحاً، لم يكن فيه حجة لمن يقول بوجوب الوتر؛ لأنه يكون مصروفاً إلى معنى المسنون المؤكد للأدلة الصريحة على الدالة على عدم الوجوب. والواجب قد يطلق على المسنون تأكيداً، كما سلف تأويل الجمهور في غسل الجمعة. واعلم أنه ذهب الجمهور إلى أن الوتر غير واجب، وخالف الإمام أباحنيفة صاحباه الإمام يوسف والإمام محمد، فذهبا أيضاً إلى ما ذهب إليه الجمهور، وقالا بعدم وجوب الوتر، ولم يوافق أباحنيفة إلا عدة من أهل العلم. قال الحافظ: قد بالغ الشيخ أبوحامد فادعى أن أباحنيفة قال بوجوب الوتر، ولم يوافقه صاحباه، مع أن ابن أبي شيبة أخرج عن سعيد بن المسيب وأبي عبيدة ابن عبد الله بن مسعود والضحاك ما يدل على وجوبه عندهم. وعنده عن مجاهد الوتر واجب، ولم يثبت. ونقله ابن العربي عن أصبغ من المالكية، ووافقه سحنون، وكأنه أخذه من قول مالك: من تركه اُدِّبَ، وكان جرحة في شهادته- انتهى. قلت: والقول الراجح المنصور هو ما قال به لجمهور. قال الشاه ولي الله الدهلوي في حجة الله البالغة (ج2 ص13) : والحق أن الوتر سنة، هو أوكد السنن، بينه علي وابن عمر وعبادة بن الصامت رضي الله عنهم. (فمن أحب أن يوتر بخمس فلفعل) بأن لا يجلس إلا في آخرهن كما تقدم من حديث عائشة. ويحتمل على بُعد أن يصلي ركعتين، ثم يصلي ثلاثاً، كما هو مذهب أبي حنيفة. (ومن أحب أن يوتر بثلاث) أي موصولة بتسليمة وبتشهد، فلا يجلس إلا في آخرها، هذا هو الظاهر. ويؤيده حديث عائشة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر بثلاث، لا يقعد إلا في آخرهن. أخرجه الحاكم والبيهقي. وقيل: مفصولة بتسليمتين، والكل واسع، والخلاف في الأفضل. (فليفعل) في دليل على الإيتار بثلاث موصولة. ولا يعارضه ما روي عن أبي هريرة مرفوعاً: لا توتروا بثلاث تشبهوا بالمغرب، ولكن أوتروا بخمس أو بسبع أو بتسع أو بإحدى عشرة أو أكثر من ذلك. أخرجه محمد بن نصر والبيهقي وغيرهما؛ لأنه يجمع بينهما بأن النهي عن الثلاث إذا كان يقعد للتشهد الأوسط؛ لأنه يشبه المغرب. وأما إذا لم يقعد إلا في آخرها فلا يشبه المغرب. قال الأمير اليماني في السبل (ج2 ص9) : وهو جمع حسن. وقال الحافظ في الفتح: وجه الجمع أن يحمل النهي على صلاة الثلاث بتشهدين، وقد فعله السلف، يعني الإيتار بثلاث بتشهد واحد، فروى محمد بن نصر من طريق الحسن أن عمر كان ينهض في الثانية من الوتر بالتكبير، ومن طريق المسور بن مخرمة أن عمر أوتر بثلاث، لم يسلم إلا في آخرهن، ومن طريق ابن طاووس عن أبيه أنه كان يوتر بثلاث، لا يقعد بينهن، ومن طريق قيس بن سعد عن عطاء وحماد بن زيد عن أيوب مثله. وروى محمد بن نصر عن ابن مسعود وأنس وأبي العالية أنهم أوتروا بثلاث (1) وفي نسخة " بعض" ـــــــــــــــــــــــــــــ

رواه أبوداود، والنسائي وابن ماجه. 1274- (13) وعن علي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله وتر ـــــــــــــــــــــــــــــ كالمغرب، وكأنهم لم يبلغهم النهي المذكور- انتهى كلام الحافظ. قلت: ويؤيد هذا الجمع ما قدمنا من حديث عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر بثلاث، لا يقعد إلا في آخرهن، وهو حديث حسن أو صحيح. وقال: بعض الحنفية في تأويل قوله: "لا توتروا بثلاث تشبهوا بالمغرب" الخ. إن معنى أنه لا يترك تطوعاً قبل الإيتار بثلاث، فرقاً بينه وبين المغرب، فكره إفراد الوتر حتى تكون معه شفع، فمحط النهي هو جعل الوتر ثلاثاً بحيث لم يتقدمهن شيء. فأما إذا قدم عليهن شفعاً فلا يكره لعدم المشابهة بينه وبين المغرب حينئذٍ؛ لأنه لا يندب الصلاة قبل الفرض المغرب. وفيه أن هذا التأويل سخيف جداً بل هو باطل؛ لأنه يلزم منه أن يكون التطوع قبل الإيتار بثلاث، وتقديم الشفع عليه واجباً، واللازم باطل، فالملزوم مثله، ولأن التطوع قبل فرض المغرب سنة ثابتة ندب إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - قولاً وفعلاً وتقريراً، كما ذكرنا مفصلاً، وحينئذٍ لا يرتفع المشابهة بينه والمغرب على هذا التأويل، فتفكر. ولبطلانه وجوه أخرى لا تخفى على المتأمل، وارجع إلى تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي (ج1 ص339، 340) . (ومن أحب أن يوتر بواحدة) ظاهره مقتصراً عليها. قال النووي: فيه دليل على أن أقل الوتر ركعة، وأن الركعة الواحدة صحيحة. وهو مذهبنا ومذهب الجمهور وقال أبوحنيفة: لا يصح الإيتار بواحدة، ولا تكون الركعة الواحدة صلاة، والأحاديث الصحيحة ترد عليه. (رواه أبوداود والنسائي وابن ماجه) وأخرجه أيضاً أحمد (ج5 ص418) وابن حبان والدارمي والطحاوي (ص172) والطيالسي (ص81) والدارقطني (ص171) والحاكم (ج1 ص303) والبيهقي (ج3 ص23، 24، 27) وسكت عنه أبوداود. وقال الحاكم: على شرطهما. وقال المنذري: وقد وقفه بعضهم ولم يرفعه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه أبوداود والنسائي وابن ماجه مرفوعاً من رواية بكر بن وائل عن الزهري، وتابعه على رفعه الإمام أبوعمرو الأوزاعي وسفيان بن حسين ومحمد بن أبي حفصة وغيرهم. ويحتمل أن يكون يرويه مرة فتياه ومرة من روايته- انتهى. وقال الحافظ في التلخيص (ص116) : وصحح أبوحاتم والذهلي والدارقطني في العلل، والبيهقي وغير واحد وقفه، وهو الصواب، وقال في بلوغ المرام: رجح النسائي وقفه. وقال الأمير اليماني: وله حكم الرفع، إذ لا مسرح للاجتهاد فيه أي في المقادير. وقال النووي: إسناده صحيح، ورجح ابن قطان الرفع، وقال: لا حفظ من لم يحفظه. 1274- قوله: (إن الله وتر) قال الجزري: الوتر الفرد وتكسر واؤه وتفتح، فالله واحد في ذاته لا يقبل الانقسام والتجزئة، واحد في صفاته فلا شبه له ولا مثل، واحد في أفعاله فلا شريك له ولا معين. ـــــــــــــــــــــــــــــ

يحب الوتر، فأوتروا يا أهل القرآن)) . رواه الترمذي، أبوداود، والنسائي. ـــــــــــــــــــــــــــــ (يحب الوتر) أي يثيب عليه ويقبله من عامله. قال القاضي: كل ما يناسب الشيء أدنى مناسبة كان أحب إليه مما لم يكن له تلك المناسبة. (فأوتروا) أمر بصلاة الوتر، وهو أن يصلي مثنى مثنى، ثم يصلي في آخرها ركعة مفردة أو يضيفها إلى ما قبلها من الركعات. كذا في النهاية. وقال الطيبي: يريد بالوتر في هذا الحديث قيام الليل، فإن الوتر يطلق عليه، كما يفهم من الأحاديث، فلذلك خص الخطاب بأهل القرآن- انتهى. قال ابن الملك: الفاء تؤذن بشرط مقدر، كأنه قال: إذا اهتديتم إلى أن الله يحب الوتر فأوتروا- انتهى. والأمر للندب. (يا أهل القرآن) يعني المؤمنين المصدقين به، أو المتولين بحفظه وتلاوته. وقال القاري: أي أيها المؤمنون به، فإن الأهلية عامة شاملة لمن آمن به سواء قرأ أو لم يقرأ وإن كان الأكمل منهم من قرأ وحفظ، وعلم وعمل ممن تولى قيام تلاوته ومراعاة حدود وأحكامه- انتهى. وقال الخطابي في المعالم (ج1 ص285) تخصيصه أهل القرآن بالأمر فيه يدل على أن الوتر غير واجب، ولو كان واجباً لكان عاماً، وأهل القرآن في عرف الناس هم القراء والحفاظ دون العوام. ويدل على ذلك أيضاً قوله للأعرابي: ليس لك ولأصحابك- انتهى. (رواه الترمذي وأبوداود والنسائي) وأخرجه أيضاً ابن ماجه كلهم من رواية عاصم بن ضمرة عن علي. وفي رواية الترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي عن علي رضي الله عنه قال: الوتر ليس بحتم، ولا كصلاتكم المكتوبة. وفي بعضها: ولكنه سنة سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال إن الله تعالى وتر الخ. وهذا ظاهر، بل نص في عدم وجوب الوتر، كما عليه الجمهور، ويدل عليه أيضاً ما روي عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعنى حديث علي زاد: فقال أعرابي: ما يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ليس لك ولأصحابك. أخرجه أبوداود وابن ماجه والبيهقي من طريق أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود. وأبوعبيدة لم يسمع من أبيه ابن مسعود. قال السندي: قوله: "ليس لك ولا لأصحابك" أي ممن ليس بأهل القرآن ظاهره الرفع لا الوقف. وهذا ينافي وجوب الوتر عموماً أو استنانه، إذا قلنا المراد بالوتر في هذا الحديث صلاة الليل، نعم ينبغي أن تكون صلاة الليل مخصوصة بأهل القرآن، فيمكن أن يكون التأكيد في حقهم، ويكون في حق الغير ندباً بلا تأكيد- انتهى. ويدل عليه أيضاً ما روي عن ابن عباس مرفوعاً: ثلاث على الفرائض، وهي لكم تطوع: النحر والوتر وركعتا الفجر. أخرجه أحمد والدارقطني والطبراني والبيهقي والحاكم، وقال البيهقي في روايته: ركعتا الضحى بدل ركعتي الفجر، وهو حديث ضعيف، كما بينه الحافظ في التلخيص. ويدل عليه أيضاً ما أخرجه الحاكم والبيهقي عن عبادة بن الصامت بلفظ: قال الوتر حسن جميل عمل به النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعده. وليس بواجب، ورواته ثقات، قاله البيهقي. ويدل أيضاً عليه ما روي عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوتر على بعيره. أخرجه الجماعة، فهو ظاهر في عدم الوجوب؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ

1275- (14) وعن خارجة بن حذفة قال: ((خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: إن الله أمدكم بصلاة ـــــــــــــــــــــــــــــ لأن الفريضة لا تصلى على الراحلة. وأجاب الحنفية عنه بأن هذا كان قبل وجوب الوتر. وفيه أن لم يقم دليل على وجوبه حتى يحمل على أنه كان ذلك قبل الوجوب. وقد روى عبد الرزاق عن ابن عمر أنه كان يوتر على راحلته، وربما نزل فأوتر بالأرض. ويدل أيضاً عليه ما علم من الدين بالضرورة أن الصلوات المفروضة في اليوم والليلة خمس، فلو كان الوتر واجباً لصار المفروض ست صلوات في كل يوم وليلة، ولا فرق بين الواجب والفرض في لزوم الأداء عملاً، مع أن حديث طلحة بن عبيد الله عند الشيخين يدل على أنه لا يلزم العبد صلاة في اليوم والليلة غير الصلوات الخمس إلا أن يتطوع، ففيه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خمس صلوات في اليوم والليلة. قال: هل عليّ غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع. وفي الباب أحاديث وآثار تدل على عدم وجوب الوتر، ذكرها محمد بن نصر في قيام الليل. وفي ما ذكرنا كفاية. 1275- قوله: (وعن خارجة بن حذافة) بحاء مهملة مضمومة وخفة ذال معجمة وفاء بعد الألف، ابن غانم القرشي العدوي. صحابي من مسلمة الفتح، وكان أحد فرسان قريش، يقال: كان يعدل بألف فارس، روي أن عمرو بن العاص استمد من عمر بثلاثة آلاف فارس، فأمده بخارجة بن حذافة هذا والزبير بن العوام والمقداد بن الأسود. سكن خارجة مصر واختلط بها، وكان قاضياً لعمرو بن العاص بمصر. وقيل: كان على شرطته وعداده في أهل مصر؛ لأنه شهد فتح مصر، ولم يزل فيها إلى أن قتل بها، قتله أحد الخوارج الثلاثة الذين كانوا انتدبوا لقتل علي ومعاوية وعمرو، فأراد الخارجي قتل عمرو فقتل خارجة هذا، وهو يظنه عمراً. وذلك أنه كان استخلفه عمرو على صلاة الصبح ذلك اليوم، فلما قتله أُخذ وأدخل على عمرو. فقال الخارجي: أردت عمراً وأراد الله خارجة، فذهبت مثلاً. وكان قتله سنة أربعين ليلة قتل علي بن أبي طالب. وليس له غير هذا الحديث الواحد. (إن الله أمدكم بصلاة) أي زادكم كما في بعض الروايات، قاله الطيبي. وقال محمد طاهر الفتني في مجمع البحار: هو من أمد الجيش. إذا ألحق به ما يقويه، أي فرض عليكم الفرائض ليوجركم بها ولم يكتف به، فشرع صلاة التهجد والوتر ليزيدكم إحساناً على إحسان- انتهى. وقال القاري: أي جعلها زيادة لكم في أعمالكم من مد الجيش وأمده أي زاده. قال الخطابي في المعالم (ج1 ص285) : قوله "أمدكم بصلاة" يدل على أنها غير لازمة لهم، ولو كانت واجبة لخرج الكلام فيه على صيغة الإلزام، فيقول ألزمكم. أو فرض عليكم، أو نحو ذلك من الكلام. وقد روي أيضاً في هذا الحديث: أن الله قد زادكم صلاة. ومعناه الزيادة في النوافل. وذلك أن نوافل الصلوات شفع لا وتر فيها، فقيل: أمدكم بصلاة وزادكم بصلاة لم تكونوا تصلونها قبل على تلك الهيئة

هي خير لكم من حمر النعم. الوتر جعله الله لكم فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر)) . رواه الترمذي، وأبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ والصورة، وهي الوتر- انتهى. (هي خير لكم من حمر النعم) بضم الحاء وسكون الميم، جمع أحمر. والنعم هنا الإبل، فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، وإنما قال ذلك ترغيباً للعرب فيها؛ لأن حمر النعم أعز أموال العرب عندهم، فكانت كناية عن أنها خير من الدنيا كلها؛ لأنها ذخيرة الآخرة التي هي خير وأبقى. وقيل: المراد إنها خير لكم من أن تتصدقوا بها، وهو اعتقادهم الخيرية فيها، وإلا فذرة من الآخرة خير من الدنيا وما فيها. (الوتر) بالجر بدل من صلاة بدل المعرفة من النكرة، وبالرفع خبر مبتدأ محذوف بتقدير هي الوتر. وجوز النصب بتقدير أعني (جعله الله لكم) أي وقت الوتر. (فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر) فيه دليل على أن أول وقت الوتر يدخل بالفراغ من صلاة العشاء، ويمتد إلى طلوع الفجر، كما قالت عائشة: وانتهى وتره إلى السحر. قال المجد بن تيمية في المنتقى: فيه دليل على أنه لا يعتد به قبل العشاء بحال. واستدل الحنفية بهذا الحديث على وجوب الوتر. وذلك بوجوه: الأول أنه أضاف الزيادة إلى الله تعالى، والسنن إنما تضاف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. والثاني: أن الزيادة إنما تتحقق في الواجبات؛ لأنها محصورة العدد، لا في النوافل؛ لأنها لا نهاية لها. والثالث: أن الزيادة على الشيء لا تتصور إلا إذا كان من جنس المزيد عليه. والرابع: أنه جعل له وقتاً معيناً، وهو من أمارات الوجوب. وقد رد عليهم ابن العربي في شرح الترمذي، حيث قال به احتج علماء أبي حنيفة، فقالوا: إن الزيادة لا تكون إلا من جنس المزيد عليه، وهذه دعوى، بل تكون الزيادة من غير جنس المزيد، كما لو ابتاع بدرهم، فلما قضاه زاده ثمناً أو ربحاً إحساناًَ، كزيادة النبي - صلى الله عليه وسلم - لجابر في ثمن الجمل، فإنها زيادة، وليست بواجبة. وليس في هذا الباب حديث صحيح يتعللون به- انتهى. وقال الحافظ الدارية: ليس في قوله: "زادكم" دلالة على وجوب الوتر؛ لأنه لا يلزم أن يكون المزاد من جنس المزيد، فقد روى محمد بن نصر المروزي في الصلاة من حديث أبي سعيد رفعه: أن الله زادكم صلاة إلى صلاتكم، هي خير لكم من حمر النعم، ألا وهي الركعتان قبل الفجر، وأخرجه البيهقي (ج2 ص469) ونقل عن ابن خزيمة أنه قال: لو أمكنني لرحلت في هذا الحديث- انتهى. قلت: حديث أبي سعيد هذا يرد على جميع وجوه استدلالهم المتقدمة، ويقطع جميع ما ذكره صاحب البدائع من وجوه الاستدلال، وهو حديث مشكل على الحنفية جداً. وقد ذكر ابن الهمام في فتح القدير على الهداية هذا الإشكال، ثم قال: فالأولى التمسك بما في أبي داود عن بريدة مرفوعاً: الوتر حق، فمن لم يوتر فليس مني الخ. قلت: يريد به ما سيأتي في الفصل الثالث من حديث بريدة بلفظ: الوتر حق، فمن لم يوتر فليس منا الخ. وسيأتي هناك الجواب عنه. (رواه الترمذي وأبوداود) وأخرجه أيضاً الطحاوي (ج1 ص250)

1276- (15) وعن زيد بن أسلم، قال: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من نام عن وتره فليصل إذا أصبح)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ والحاكم (ج1 ص306) وقال: حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه لتفرد التابعي عن الصحابي، ووافقه الذهبي، وأخرجه ابن سعد في الطبقات (ج4 ق1 ص139) والبيهقي (ج2 ص469و 478) والدارقطني (ص274) والطبراني وابن عدي في الكامل وابن عبد الحكم في فتوح مصر (ص259،260) كلهم من طريق عبد الله بن راشد الزوفي أبي الضحاك عن عبد الله بن أبي مرة عن خارجه بن حذافة. وعبد الله بن راشد. قال الحافظ في التقريب: مستور. وقال الذهبي في الميزان في ترجمته: روى عن عبد الله بن أبي مرة الزوفي عن خارجة بحديث الوتر، رواه عنه يزيد بن أبي حبيب، وخالد بن يزيد قيل: لا يعرف سماعه من ابن أبي مرة. قلت: ولا هو بالمعروف. وذكره ابن حبان في الثقات- انتهى. قال الحافظ في التهذيب: وقال أي ابن حبان يروى عن عبد الله بن أبي مرة أن كان سمع منه، ومن اعتمده فقد اعتمده فقد اعتمد إسناداً مشوشاً- انتهى. وأما عبد الله بن أبي مرة فقال الحافظ في التقريب: صدوق. أشار البخاري إلى أن روايته عن خارجة منقطعة. وقال في التهذيب: لا يعرف سماعه من ابن أبي مرة. قلت: نقل ابن عدي في الكامل عن البخاري أنه قال لا يعرف سماع بعض هؤلاء من بعض. وقال ابن حبان: إسناد منقطع ومتن باطل- انتهى. لكن الحديث له شواهد: منها حديث عمرو بن العاص وعقبة بن عامر، أخرجه ابن راهويه والطبراني في الكبير والأوسط. وفيه سويد بن عبد العزيز، وهو متروك، قاله الهيثمي (ج2 ص340) . ومنها حديث ابن عباس، أخرجه الدارقطني والطبراني، وفي سنده النضر أبوعمر الخزار، وهو ضعيف، ومنها حديث أبي بصرة أخرجه أحمد والحاكم والطبراني. وبعض أسانيده صحيح. ومنها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أخرجه الدارقطني. وفي سنده محمد بن عبيد الله العزرمي، وهو متروك، وأخرجه أيضاً أحمد. وفي سنده الحجاج ابن أرطاة، وهو غير ثقة. ومنها حديث ابن عمر أخرجه الدارقطني في غرائب مالك. وفيه حميد بن أبي الجون، وهو ضعيف. ومنها حديث أبي سعيد أخرجه الطبراني في مسند الشاميين. قال الحافظ في الدراية (ص112) : بإسناد حسن. 1276- قوله: (وعن زيد بن أسلم) من ثقات التابعين المشهورين، وهو مولى عمر. (من نام عن وتره) أي عن أدائه. (فليصل إذا أصبح) أي فليقض الوتر بعد الصبح متى اتفق، وكذا من نسي الوتر فليصله إذا ذكر. ففيه دليل على أن من نام عن وتره أو نسيه فحكمه حكم من نام عن الفريضة أو نسيها أنه يأتي بها عند الاستيقاظ أو الذكر. وهذا يدل على مشروعية قضاء الوتر. واختلف فيه العلماء: فذهب مالك إلى أن الوتر يصلي إلى تمام صلاة الصبح أداء، ولا قضاء له بعد ذلك، يعني أنه لا يقضي بعد صلاة الصبح. وذهب الشافعي وأحمد إلى سنية القضاء، وقالا: إنه يقضى أبداً ليلاً ونهاراً. وذهب أبوحنيفة وصاحباه إلى وجوب القضاء. واستشكل قول الصاحبين؛ لأن وجوب القضاء فرع لوجوب الأداء، وقد قالا بسنية الوتر لا بوجوبه. وأجيب بأنهما لما ثبت

رواه الترمذي مرسلاً. 1277 - (16) وعن عبد العزيز بن جريج، قال: سألنا عائشة: بأي شيء كان يوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ عندهما دليل السنية ذهبا إليه، ولما ثبت دليل وجوب القضاء قالا به اتباعاً للنص وإن خالف القياس. والراجح عندي ما ذهب إليه الشافعي وأحمد من أن الوتر يقضى أبداً ليلاً ونهاراً، لكن ندباً لا وجوباً، خلافاً لمالك، فإنه قال بعدم مشروعية القضاء، وخلافاً للأئمة الحنفية، فإنهم ذهبوا إلى وجوب القضاء. وذهب بعض العلماء إلى التفرقة بين أن يتركه نوماً أو نسياناً، وبين أن يتركه عمداً، فيقضيه في الأول إذا استيقظ أو إذا ذكر في أي وقت كان ليلاً أو نهاراً. قال الشوكاني: وهو ظاهر الحديث. واختاره ابن حزم، واستدل بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، قال: وهذا عموم يدخل فيه كل صلاة فرض أو نافلة، وهو في الفرض أمر فرض، وفي النفل أمر ندب، قال: ومن تعمد تركه حتى دخل الفجر فلا يقدر على قضائه أبداً، قال فلو نسيه أحببنا له أن يقضيه أبداً متى ذكره ولو بعد أعوام. وقد استدل بالأمر بقضاء الوتر على وجوبه. وحمله الجمهور على الندب. ويكون المعنى أن المندوب يقضى كالواجب لكن ندباً لا وجوباً، وقد جاء قضاء المندوب. (رواه الترمذي مرسلا) من طريق عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه زيد بن أسلم. وأخرجه أيضاً هو وابن ماجه ومحمد بن نصر موصولاً من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد، وسيأتي في الفصل الثالث. قال الترمذي: والمرسل أصح من الموصول أي؛ لأن عبد الرحمن ابن زيد ضعيف، وأخوه عبد الله ابن زيد أحسن حالاً منه وأمثل وأثبت، وثقه أحمد ومعن بن عيسى القزاز. وقال أبوحاتم ليس به بأس. وقال الحافظ: صدوق فيه لين، ولكن الحديث صحيح من طريق أخرى فقد رواه أبوداود في السنن والدارقطني (ص171) والحاكم (ج1 ص302) والبيهقي (ج2 ص480) كلهم من طريق أبي غسان محمد بن مطرف عن زيد بن أسلم عن عطاء عن أبي سعيد. قال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصححه أيضاً الحافظ العراقي. قال الشوكاني: وإسناد الطريق التي أخرجه منها أبوداود صحيح، كما قال العراقي. 1277- قوله: (وعن بد العزيز بن جريج) بضم الجيم الأولى وفتح الراء وسكون الياء، تابعي لين. قال العجلي: لم يسمع من عائشة، وأخطأ خصيف. (راوي هذا الحديث عنه) فصرح بسماعه، كذا في التقريب. وقال البخاري والعقيلي: لا يتابع في حديثه. وذكره ابن حبان في الثقات. (قال: سألنا عائشة) هذا لفظ الترمذي. وفي رواية أبي داود قال: سألت عائشة. (بأي شيء) أي من السور. (كان يوتر) أي يصلي الوتر وقال ابن حجر أي بأي

قالت: كان يقرأ في الأولى بـ {سبح اسم ربك الأعلى} وفي الثانية بـ {قل يأيها الكافرون} وفي الثالثة بـ {قل هو الله أحد} والمعوذتين)) رواه الترمذي، وأبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ شيء من القرآن يقرأ في وتره؟ (كان يقرأ في الأولى) أي من الثلاث بـ {سبح اسم ربك الأعلى} أي بعد الفاتحة. (وفي الثالثة) فيه إشارة إلى أن الثلاث بسلام واحد. قال الزيلعي في نصب الراية (ج2:ص119) : ظاهر الحديث أن الثالثة متصلة غير منفصلة، وإلا لقال: وفي ركعة الوتر أو الركعة المفردة أو نحو ذلك. ولكن يعكر عليه في لفظه للدارقطني (ص172) والطحاوي (ص168) والحاكم (ج2:ص305) والبيهقي (ج3:ص37) عن عائشة أيضاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الركعتين اللتين يوتر بعدهما بـ {سبح اسم ربك الأعلى} و {قل يا أيها الكافرون} ويقرأ في الوتر بـ {قل هو الله أحد} و {قل أعوذ برب الفلق} و {قل أعوذ برب الناس} انتهى. وقال الحافظ في الدراية بعد ذكر هذه الرواية: وهو يرد استدلال الطحاوي بأنه لو كان مفصولاً لقال: وركعة الوتر أو الركعة المفردة أو نحو ذلك-انتهى. وقال الحاكم في المستدرك بعد روايته. وسعيد بن عفير. (يعني الذي روى عن يحيى بن أيوب عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة) إمام أهل مصر بلا مدافعة، وقد أتى بالحديث مفسراً مصلحاً دالاً على أن الركعة التي هي الوتر ثانية غير الركعتين اللتين قبلهما-انتهى. أي فيحمل ما أجمله غيره كسعيد بن الحكم بن أبي مريم وغيره على هذا المفصل. (والمعوذتين) بكسر الواو، وتفتح. وفي الحديث دليل على مشروعية قراءة ثلاث سور الإخلاص والمعوذتين في الركعة الثالثة من الوتر، لكن اختار أكثر أهل العلم قراءة الإخلاص فقط.؛ لأن حديث عائشة فيه كلام، وحديث أبي بن كعب وابن عباس بإسقاط المعوذتين أصح. وقال ابن الجوزي: أنكر أحمد وابن معين زيادة المعوذتين. (رواه الترمذي وأبوداود) وأخرجه أيضاً أحمد وابن ماجه والبيهقي (ج3:ص38) ، وسكت عنه أبوداود وحسنه الترمذي، لكن قال شيخنا في شرح الترمذي: في كونه حسناً نظر، فإن عبد العزيز بن جريج لم يسمع من عائشة. (كما قال العجلي وابن حبان والدارقطني) وأيضاً فيه خصيف، وهو قد خلط بآخره، ولا يدرى أن محمد بن سلمة رواه عنه قبل الاختلاط أو بعده، والله أعلم، نعم يعتضد برواية عمرة عن عائشة التي أشار إليها الترمذي يعني التي تقدم لفظها في كلام الزيلعي. وقال العلامة أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي متعقباً على كلام الشيخ ما لفظه: وليس هذا بشيء. أما خصيف فإنه ثقة. تكلم بعضهم في حفظه، كما سبق، وعبد العزيز بن جريج قديم؛ لأن ابنه عبد الملك مات في أول عشر ذي الحجة سنة 150 عن 76 سنة فكأنه ولد سنة 74، بل قال بعضهم: إنه جاز المائة، فكأنه ولد حول سنة 50، وعائشة ماتت 58، فأبوه عبد العزيز أدرك عائشة يقيناً. ثم قد تأيد الحديث برواية عمرة عن عائشة التي أشار إليها الترمذي. وحديثها رواه الحاكم في المستدرك (ج1:ص305) من طريق سعيد بن عفير وسعيد بن أبي مريم عن يحيى بن أيوب عن عمرة، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. ويحيى بن

1278- (17) ورواه النسائي عن عبد الرحمن بن أبزى. 1279- (18) ورواه أحمد عن أبيّ بن كعب. 1280- (19) والدارمي عن ابن عباس، ـــــــــــــــــــــــــــــ أيوب الغافقي ثقه حافظ، ولا حجة لمن تكلم فيه، ورواه أيضاً ابن حبان والدارقطني والطحاوي فيما حكاه الحافظ في التلخيص-انتهى. قلت: ويؤيده أيضاً ما روى الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة بزيادة المعوذتين، وفيه المقدام بن داود، وهو ضعيف، وما روى ابن السكن من حديث عبد الله بن سرجس بإسناد غريب، كما في التلخيص. فالظاهر أن حديث عائشة حسن لشواهده. وأما من جهة سنده ففي كونه حسناً كلام لما تقدم أن فيه خصيفاً وهو سيء الحفظ، وقد خلط بآخره. والله أعلم. 1278- (ورواه النسائي) وكذا أحمد (ج3:ص407، 406) قال الحافظ في التلخيص (ص118) : وإسناده حسن. (عن عبد الرحمن بن أبزى) بفتح الهمزة وسكون الموحدة بعدها زاي مقصور، الخزاعي مولاهم، مختلف في صحبته، فذكره ابن حبان في ثقات التابعين. وقال البخاري: له صحبة. وذكره غير واحد في الصحابة. وقال أبوحاتم: أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - وصلى خلفه. وقال ابن عبد البر: استعمله علي رضي الله عنه على خراسان. وذكره ابن سعد فيمن مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهم أحداث الأسنان. وممن جزم بأن له صحبة: خليفة بن خياط والترمذي ويعقوب بن سفيان وأبوعروبة والدارقطني والبرقي وبقي بن مخلد وغيرهم، كذا في تهذيب التهذيب. وقال في التقريب: إنه صحابي صغير، وكان في عهد عمر رجلاً، وكان على خراسان لعلي-انتهى. قلت: ويدل على كونه صحابياً أنه روى ابن سعد والطحاوي وأبوداود وأحمد من حديثه أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية: خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -، فالراجح أنه صحابي. وقد اختلفوا هل هذا الحديث من روايته عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو من روايته عن أبيّ بن كعب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال الترمذي: روي عن عبد الرحمن بن أبزى عن أبي بن كعب، ويروي أيضاً عن عبد الرحمن بن أبزى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، هكذا روى بعضهم فلم يذكر عن أبي، وذكر بعضهم عن عبد الرحمن ابن أبزى عن أبي-انتهى. والظاهر أن له في القراءة في الوتر روايتين: إحداهما روايته عن أبي بن كعب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وثانيتهما روايته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير واسطة، وقد قال العراقي: كلاهما عند النسائي بإسناد صحيح، كما في النيل. 1279- (ورواه أحمد عن أبي بن كعب) وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي وابن ماجه والطحاوي وابن حبان والحاكم والبيهقي. وزاد النسائي في رواية: ولا يسلم إلا في آخرهن. 1280- (والدارمي عن ابن عباس) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه والطحاوي

ولم يذكرا: والمعوذتين. 1281- (20) وعن الحسن بن علي، قال: ((علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلمات أقولهن في قنوت الوتر: ـــــــــــــــــــــــــــــ والبيهقي (ج3:ص38) . (ولم يذكرا) أي أحمد والدارمي أو أبيّ بن كعب وابن عباس. (والمعوذتين) وتقدم حديث أبي وابن عباس بإسقاط المعوذتين أصح، ولذلك اختاره أكثر أهل العلم. 1281- قوله: (وعن الحسن بن علي) بن أبي طالب الهاشمي سبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وريحانته من الدنيا، وأحد سيدي شباب أهل الجنة أمير المؤمنين أبومحمد، ولد في النصف من رمضان سنة ثلاث من الهجرة، وهو أصح ما قيل في ولادته، ومات سنة 49، وهو ابن سبع وأربعين. وقيل: مات سنة 50. وقيل بعدها، ودفن بالبقيع، ويقال: إنه مات مسموماً، وقد صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - وحفظ عنه. قال الخرزجي: له ثلاثة عشر حديثاً. وقال البرقي: جاء عنه نحو من عشرة أحاديث، روى عنه ابنه الحسن وأبوهريرة وعائشة أم المؤمنين وجماعة كثيرة. ولما قتل أبوه علي بن أبي طالب بالكوفة بايعه الناس على الموت أكثر من أربعين ألفاً، ثم كره سفك الدماء، فسلم الأمر إلى معاوية بن أبي سفيان وانخلع، وبايعه في النصف من جمادى الأولى سنة 41، فكانت ولايته سبعة أشهر وأحد عشر يوماً، ويقال أربعة أشهر. ومناقبه وفضائله كثيرة جداً. (أقولهن) أي أدعو بهن. (في قنوت الوتر) وفي رواية: في الوتر. والقنوت يطلق على معان، والمراد به ههنا الدعاء في صلاة الوتر في محل مخصوص من القيام. قال السندي في حاشية النسائي: الظاهر أن المراد علمني أن أقولهن في الوتر بتقدير أن، أو باستعمال الفعل موضع المصدر مجازاً، ثم جعله بدلاً من كلمات، إذ يستبعد أنه علمه الكلمات مطلقاً، ثم هو من نفسه وضعهن في الوتر. ويحتمل أن قوله أقولهن صفة كلمات، كما هو الظاهر، لكن يؤخذ منه أنه علمه أن يقول تلك الكلمات في الوتر، لا أنه علمه نفس تلك الكلمات مطلقاً-انتهى. قلت: ويؤيد ذلك ما وقع في بعض روايات أحمد: وعلمه أن يقول في الوتر، وما في رواية للنسائي: علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء الكلمات في الوتر، وما في رواية ابن الجارود: علمه هذه الكلمات ليقول في قنوت الوتر. ثم ظاهر الحديث الإطلاق في جميع السنة، كما هو مذهب الحنفية والحنابلة وهو وجه للشافعية، والمشهور من مذهبهم تخصيص القنوت في الوتر بالنصف الأخير من رمضان، وهو رواية عن مالك والمشهور المعتمد عند المالكية نفي القنوت في الوتر جملة، وهي رواية ابن القاسم، قال في المدونة: لا يقنت في رمضان لا في أوله ولا في آخره ولا في غير رمضان ولا في الوتر أصلاً-انتهى. والراجح عندنا: هو أن القنوت في الوتر مستحب في جميع السنة؛ لأنه ذكر يشرع في الوتر فيشرع في جميع السنة كسائر الأذكار، ولإطلاق لفظ الوتر في هذا الحديث. وإليه ذهب ابن مسعود وغيره من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.

اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت)) ـــــــــــــــــــــــــــــ أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال السندي: ثم قد أطلق الوتر فيشمل الوتر طول السنة، فصار الحديث دليلاً قوياً لمن يقول بالقنوت في الوتر طول السنة-انتهى. (اللهم اهدني) أي ثبتني على الهداية، أو زدني من أسباب الهداية. (فيمن هديت) أي في جملة من هديتهم، أو هديته من الأنبياء والأولياء، كما قال سليمان: {وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين} . وقال ابن الملك: أي اجعلني ممن هديتهم إلى الصراط المستقيم. وقال الطيبي: أي اجعل لي نصيباً وافراً من الاهتداء معدوداً في زمره المهتدين من الأنبياء والأولياء وقيل: "في" فيه وفيما بعده بمعنى مع قال تعالى. {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم} [69:4] . (وعافني) أمر من المعافاة التي هي دفع السوء. (وتولني) أي تول أمري وأصلحه. (فيمن توليت) أمورهم ولا تكلني إلى نفسي. وقال المظهر: أمر مخاطب من تولى إذا أحب عبداً وقام بحفظه وحفظ أموره. (وبارك) أي أكثر الخير. (لي) أي لمنفعتي. (فيما أعطيت) أي فيما أعطيتني من العمر والمال والعلوم والأعمال. وقال الطيبي: أي أوقع البركة فيما أعطيتني من خير الدارين. (وقني) أي احفظني. (شر ما قضيت) أي شر ما قضيته أي قدرته لي، أو شر قضائك. قيل: سؤال الوقاية وطلب الحفظ عما قضاه الله وقدره للعبد مما يسوءه، إنما هو باعتبار ظاهر الأسباب والآلات التي يرتبط بها وقوع المقضيات، ويجري فيها المحو والإثبات فيما لا يزال. (فإنك) وفي رواية: إنك بغير فاء. (تقضي) أي تقدر أو تحكم بكل ما أردت. (ولا يقضى عليك) بصيغة المجهول، أي لا يقع حكم أحد عليك، فلا معقب لحكمك ولا يجب عليك شيء إلا ما أوجبته عليك بمقتضى وعدك. (إنه) أي الشأن. وفي بعض الروايات: وإنه بزيادة الواو. (لا يذل) بفتح فكسر، أي لا يصير ذليلاً. (من واليت) الموالاة ضد المعاداة. وهذا في مقابلة لا يعز من عاديت، كما جاء في بعض الروايات. قال ابن حجر: أي لا يذل من واليت من عبادك في الآخرة أو مطلقاً وإن ابتلي بما ابتلي به، وسلط عليه من أهانه وأذله باعتبار الظاهر؛ لأن ذلك غاية الرفعة والعزة عند الله وعند أوليائه، ولا عبرة إلا بهم. ومن ثم وقع للأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الامتحانات العجيبة ما هو مشهور. وزاد البيهقي، وكذا الطبراني من عدة طرق: ولا يعز من عاديت، أي لا يعز في الآخرة أو مطلقاً وإن أعطي من نعيم الدنيا وملكها ما أعطي، لكونه لم يمتثل أوامرك، ولم يجتنب نواهيك. (تباركت) أي تكاثر خيرك في الدارين. (ربنا) بالنصب أي يا ربنا. (وتعاليت) أي ارتفع عظمتك وظهر قهرك وقدرتك على من في الكونين. وقال ابن الملك: أي ارتفعت عن مشابهة كل شيء. وزاد النسائي في رواية: وصلى الله على النبي. قال النووي في شرح المهذب: إنها

رواه الترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي. ـــــــــــــــــــــــــــــ زيادة بسند صحيح أو حسن. وتعقبه الحافظ بأنه منقطع، فإن عبد الله بن علي، وهو ابن الحسين بن علي، لم يلحق الحسن بن علي- انتهى. ورواه ابن أبي عاصم وزاد: ونستغفرك ونتوب إليك. وقال القاري في شرح الحصن: وفي رواية ابن حبان زيادة: نستغفرك ونتوب إليك، وهو موجود في أصل الأصيل-انتهى. والظاهر أن هذه الزيادة قبل زيادة الصلاة على ما يفهم من الحصن. والحديث يدل على مشروعية القنوت بهذا الدعاء، وهو مختار الشافعية والحنابلة، واختار الحنفية القنوت في الوتر بسورة الخلع وسورة الحقد، أي اللهم إنا نستعينك، ونستغفرك، ونؤمن بك، ونخضع لك، ونخلع ونترك من يكفرك، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحقد، نرجو رحمتك ونخاف عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق. أخرجه أبوداود في المراسيل والبيهقي في السنن (ج2 ص210) عن خالد بن أبي عمران مرفوعاً مرسلاً، وأخرجه ابن أبي شيبة موقوفاً على ابن مسعود، وابن السني موقوفاً على ابن عمر، وأخرجه محمد بن نصر والطحاوي والبيهقي في السنن عن عمر بن الخطاب. قال الحنفية: هما سورتان من القرآن في مصحف أبيّ، كما ذكر السيوطي في الدر المنثور، وابن قدامة في المغني (ج2 ص153) قلت: الأولى عندي أن يدعو في الوتر بالقنوت المروي في حديث الحسن ابن علي؛ لأنه حديث صحيح أو حسن مرفوع متصل، ولو قرأ ما هو مختار الحنفية جاز من غير شك، ومن لا يحسن شيئاً من ذلك يدعو بما يحفظ من الدعاء المأثور، أو يستغفر من ذنوبه ويكرر ذلك. (رواه الترمذي) وحسنه، وقال: لا نعرف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في القنوت في الوتر شيئاً أحسن من هذا. (وأبوداود) الخ وأخرجه أيضاً أحمد (ج1 ص199 و200) وابن الجارود (ص142) ومحمد بن نصر المرزوي والحاكم في المستدرك (ج3 ص172) والبيهقي (ج2 ص209 و498) وإسحاق بن راهويه وأبوداود الطيالسي (ص163) وابن حبان وابن خزيمة والدارقطني وأبويعلى والطبراني في الكبير، وسعيد بن منصور في سننه. وقد أطال الكلام عليه الحافظ في التلخيص (ص94 و95) وأخرجه ابن حزم في المحلى (ج4 ص147) من طريق أبي داود، وضعفه حيث قال بعد روايته: وهذا الأثر وإن لم يكن مما يحتج بمثله فلم نجد فيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غيره، وقد قال أحمد: ضعيف الحديث أحب إلينا من الرأي- انتهى. ونقل الحافظ في تهذيب التهذيب (ج3 ص256) كلام ابن حزم هذا، ولم يتعقبه بشيء، وضعفه أيضاً ابن حبان، كما قال الشوكاني في النيل، وقال في تحفة الذاكرين (ص128) : قد ضعفه بعض الحفاظ، وصححه آخرون. وأقل أحوله إذا لم يكن صحيحاً أن يكون حسناً- انتهى. قلت: الحق أن هذا الحديث لا ينحط عن درجة الحسن، بل هو صحيح، ولا حجة لمن ضعفه، وقد رجح صحته علامة أحمد شاكر في تعليقه على المحلى (ج4 ص147، 148) . تنبيه حديث الحسن هذا رواه الحاكم

(ج3 ص172) والبيهقي (ج3 ص39) من طريق أبي بكر بن شيبة الحزامي عن ابن أبي فديك عن إسماعيل ابن إبراهيم بن عقبة عن عمه موسى بن عقبة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن الحسن بن علي، قال: علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وتري إذا رفعت رأسي ولم يبق إلا السجود، اللهم اهدني فيمن هديت إلى آخره. قال البيهقي: تفرد بهذا اللفظ أبوبكر بن شيبة الحزامي. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين إلا أن إسماعيل بن إبراهيم خالفه، محمد بن جعفر بن أبي كثير في إسناده، ثم أخرجه عن محمد بن جعفر بن أبي كثير عن موسى بن عقبة عن أبي إسحاق عن يزيد بن أبي مريم به بسند السنن ومتنه وسكت عنه. قال الحافظ في الدراية: هو. (أي طريق محمد بن جعفر) الصواب- انتهى. وقال في التلخيص (ص94) : ينبغي أن يتأمل قوله في هذا الطريق: إذا رفعت رأسي ولم يبق إلا السجود، فقد رأيت في الجزء الثاني من فوائد أبي بكر أحمد بن الحسين بن مهران الأصبهاني تخريج الحاكم له، قال: ثنا محمد بن يونس المقري، قال: ثنا الفضل بن محمد البيهقي، ثنا أبوبكر شيبة المدني الحزامي ثنا ابن أبي فديك عن إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة بسنده. ولفظه: علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقوال في الوتر قبل الركوع فذكره- انتهى. وهذا كله يدل على أن رواية الحاكم بلفظ: إذا رفعت رأسي ولم يبق إلا السجود، ليست بمحفوظة عند الحافظ والبيهقي، ولذلك لم يعتمد عليها البيهقي في محل قنوت الوتر بعد الركوع، بل اعتمد على قياس قنوت الوتر على قنوت الصبح. ومال الشوكاني إلى تقويتها حيث قال بعد ذكر كلام البيهقي: وقد روى عنه أي عن أبي بكر بن شيبة الحزامي البخاري في صحيحة. وذكره ابن حبان في الثقات، فلا يضر تفرده. وقواها أيضاً الشيخ أحمد محمد شاكر حيث قال في تعليقه على المحلى (ج4 ص148) بعد ذكر الاختلاف في السند على موسى بن عقبة: ويظهر أن موسى روى عن هؤلاء الثلاثة. (أي علي بن عبد الله عند النسائي وهشام بن عروة عند الحاكم وأبي إسحاق عند الحاكم وغيره) وابن أخيه إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة ثقة، روى له البخاري. وبهذه الطرق كلها ظهر أن الحديث صحيح- انتهى. وعندي في كون رواية الحاكم المذكورة محفوظة تأمل، ولا يطمئن قلبي بما ذكره الشوكاني والشيخ أحمد شاكر لتقويتها. وأبوبكر بن شيبة وإن روى عنه البخاري لكن لم يحتج به، كما صرح به الحافظ في مقدمة الفتح. واعلم أنه اختلف في أن القنوت في الوتر قبل الركوع أو بعده، فاختار الحنفية الأول، والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه الثاني، واستدل لهم بما روى محمد بن نصر عن أنس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقنت بعد الركعة وأبوبكر وعمر حتى كان عثمان، فقنت قبل الركعة ليدرك الناس. قال العراقي: إسناده جيد. وبما ذكرنا من حديث الحسن بن علي برواية الحاكم بلفظ: إذا رفعت رأسي ولم يبق إلا السجود، وقد عرفت حالها، واستدل لهم أيضاً بآثار بعض الصحابة، وبالقياس على قنوت صلاة الصبح بعد الركوع، واستدل الحنفية بما روى البخاري (ج1 ص136) من طريق عاصم الأحول

1282- (21) وعن أبي بن كعب، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذا سلم في الوتر قال: سبحان الملك القدوس)) . رواه أبوداود، ـــــــــــــــــــــــــــــ عن أنس أن القنوت قبل الركوع، ذكره الحافظ في التلخيص (ص94) ، وبما روى النسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص39، 40) عن أبي بن كعب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر، فيقنت قبل الركوع. لفظ ابن ماجه. وللنسائي: كان يوتر بثلاث يقرأ في الأولى {سبح اسم ربك الأعلى} ، وفي الثانية. {قل يآيها الكافرون} ، وفي الثالثة. {قل هو الله أحد} ويقنت قبل الركوع. وذكره أبوداود معلقاً مختصراً، وضعف ذكر القنوت فيه، وتبعه البيهقي حيث حكى كلامه ولم يتعقب عليه. وقد أجاب عنه ابن التركماني في الجوهر النقي، وحقق كون ذكر القنوت فيه محفوظاً. وهذا هو الصواب عندي. فحديث أبي بذكر القنوت صحيح أو حسن حجة. قال الشوكاني: وضعف أبوداود ذكر القنوت فيه أي في حديث أبي، ولكنه ثابت عند النسائي وابن ماجه من حديثه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقنت قبل الركوع. واستدل لهم أيضاً بما روى ابن أبي شيبة والدارقطني (ص175) والبيهقي (ج3 ص41) عن ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قنت في الوتر قبل الركوع. وفيه أبان بن عياش وهو متروك، قاله الدارقطني. وبما روى الخطيب في كتاب القنوت عن ابن مسعود أيضاً بنحوه. قال الحافظ في الدراية: حديث ضعيف، وبما روى أبونعيم في الحلية عن عطاء بن مسلم عن العلاء ابن المسيب عن حبيب بن أبي ثابت عن ابن عباس. قال: أوتر النبي - صلى الله عليه وسلم - بثلاث، فقنت فيها قبل الركوع. قال أبونعيم: غريب من حديث حبيب، والعلاء تفرد به عطاء بن مسلم. وقال البيهقي: تفرد به عطاء وهو ضعيف. وبما روى الطبراني في الأوسط عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر بثلاث ركعات، ويجعل القنوت قبل الركوع. قال الحافظ في الدراية (ص115) : إسناده ضعيف. وبما روى ابن أبي شيبة عن علقمة أن ابن مسعود وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يقنتون في الوتر قبل الركوع. قال الحافظ في الدراية (ص115) : إسناده حسن. قلت: يجوز القنوت في الوتر قبل الركوع وبعده. والأولى عندي أن يكون قبل الركوع لكثرة الأحاديث في ذلك، وبعضها جيد الإسناد، ولا حاجة إلى قياس قنوت الوتر على قنوت الصبح مع وجود الأحاديث المروية في الوتر من الطرق المصرحة بكون القنوت فيه قبل الركوع، وكيف يقاس الوتر على الصبح وليس بينهما معنى مؤثر يجمع به بينهما. وسيأتي شيء من الكلام فيه في باب القنوت. 1281- قوله: (إذا سلم في الوتر) أي في آخره. (قال سبحان الملك القدوس) أي البالغ أقصى النزاهة عن كل وصف، ليس فيه غاية الكمال المطلق. قال الطيبي: هو الطاهر المنزه عن العيوب والنقائص، وفعول بالضم من أبنية المبالغة. فيه مشروعية هذا التسبيح بعد الفراغ من الوتر. (رواه أبوداود) ومن طريقة البيهقي

والنسائي، وزاد: ثلاث مرات يطيل. 1283- (22) وفي رواية للنسائي، عن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، قال: ((كان يقوم إذا سلم: سبحان الملك القدوس ثلاثاً، ويرفع صوته بالثالثة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ (ج3 ص41، 42) . (والنسائي) واللفظ لأبي داود، وهو حديث مختصر. ولفظ النسائي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر بثلاث ركعات، كان يقرأ في الأولى بـ {سبح اسم ربك الأعلى} وفي الثانية بـ {قل يأيها الكافرون} وفي الثالثة بـ {قل هو الله أحد} ويقنت قبل الركوع، فإذا فرغ قال عند فراغه. سبحان الملك القوس ثلاث مرات، يطيل في آخرهن. والحديث أخرجه أيضاً أحمد وابن أبي شيبة والدارقطني، وإسناده صحيح. (وزاد) أي النسائي في روايته. (ثلاث مرات يطيل) أي في آخرهن. والمعنى يمد في المرة الثالثة صوته. وزاد الدارقطني (ص174) والبيهقي (ج3 ص40) في روايتهما: رب الملائكة والروح. 1283- قوله: (وفي رواية للنسائي عن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه) هذا خطأ، والصواب عن ابن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه، هكذا وقع في مسند أحمد والنسائي؛ لأن أبزى الخزاعي والد عبد الرحمن لم يرو عنه إلا حديث واحد، وهو غير هذا الحديث. قال ابن السكن: ذكره البخاري في الواحدان، وروى عنه حديث واحد، إسناده صالح فذكره. وقال ابن مندة وأبونعيم وابن الأثير: لا تصح لأبزى رؤية ولا رواية. وقال الذهبي في التجريد: أبزى والد عبد الرحمن خزاعي، لا يصح صحبة إلا من طريق ضعيفة. وابنه أي عبد الرحمن صحابي- انتهى. وابن عبد الرحمن بن أبزى هو سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى الخزاعي مولاهم الكوفي تابعي، وثقة النسائي وابن حبان. وقال أحمد: هو حسن الحديث، روى عن أبيه وابن عباس وواثلة. (قال كان) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -. (ويرفع صوته بالثالثة) أي في المرتبة الثالثة. وأخرجه أيضاً الطحاوي وأحمد (ج3 ص406، 407) وعبد بن حميد والبيهقي (ج3 ص41) وإسناده صحيح. قال العراقي: حديث أبي بن كعب وعبد الرحمن بن أبزى كلاهما عند النسائي بإسناد صحيح. والحديث فيه سنية الجهر بهذا الذكر في المرة الثالثة، هكذا في كل ما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - الجهر فيه، نعم الإسرار أفضل حيث لم ينقل عنه الجهر فيه. قال المظهر: هذا يدل على جواز الذكر برفع الصوت، بل على الاستحباب إذا اجتنب الرياء إظهار للجدين، وتعليماً للسامعين، وإيقاظاً لهم من رقدة الغفلة، وإيصالاً لبركة الذكر إلى مقدار ما يبلغ الصوت إليه من الحيوان والشجر والحجر والمدر، وطلبا لاقتداء الغير بالخير، وليشهد له كل رطب ويابس سمع صوته.

{الفصل الثالث}

1284- (23) وعن علي، قال: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في آخر وتره: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)) . رواه أبوداود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه. {الفصل الثالث} 1285- (24) عن ابن عباس، قيل له: هل لك في أمير المؤمنين معاوية ـــــــــــــــــــــــــــــ 1284- قوله: (كان يقول في آخر وتره) أي بعد السلام منه، كما في رواية: ففي الحديث بيان الذكر المشروع بعد الفراغ من صلاة الوتر. قال ميرك: وفي إحدى روايات النسائي كان يقول ذلك إذا فرغ من صلاته وتبوأ مضجعه، ذكره القاري قال ابن القيم في زاد المعاد (ج1 ص89) والشوكاني في تحفة الذاكرين (ص129) وهذا يرد ما قال السندي في حاشية النسائي: يحتمل أنه كان يقول في آخر القيام، فصار هو من القنوت، كما هو مقتضى كلام المصنف. (النسائي) ويحتمل أنه كان يقول في قعود التشهد- انتهى. وكأنه لم يقف على رواية النسائي التي ذكرها ميرك وابن القيم والشوكاني، ولعلها في السنن الكبرى. وقد تقدم في باب السجود من حديث عائشة أنه قال ذلك في السجود. قال ابن القيم: فلعله قاله في الصلاة وبعدها. (لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك) وفي رواية النسائي التي ذكرها ميرك وغيره: لا أحصي ثناء عليك وهو لو حرصت، ولكن أنت كما أثنيت على نفسك. وقد قدمنا شرح ألفاظ الحديث في باب السجود. (رواه أبوداود) في باب القنوت في الوتر من الصلاة. (والترمذي) في باب الدعاء الوتر من أبواب الدعوات وحسنه. (والنسائي) في باب الدعاء في الوتر من الصلاة. (وابن ماجه) في باب ما جاء في القنوت في الوتر. وأخرجه أيضاً أحمد والحاكم (ج1 ص306) وصححه، والبيهقي (ج3 ص42) والطبراني في الأوسط وابن أبي شيبة مقيداً بالوتر. قال الشوكاني: وأخرجه الدارمي وابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان، وليس فيه ذكر الوتر. 1285- قوله: (عن ابن عباس قيل له) وفي البخاري عن ابن أبي ملكية قيل لابن عباس الخ. ولا أدري ما وجه تغيير هذا السياق مع كون ابن أبي ملكية قد شهد القصة، وهو الراوي لها، والقائل هو كريب مولى ابن عباس. وقيل: علي بن عبد الله بن عباس. (هل لك) أي جواب أو إفتاء. (في أمير المؤمنين معاوية) أي في فعله. وقال الطيبي: يقال: هلك لك في كذا، وهل لك إلى كذا؟ أي هل ترغب فيه، وهل ترغب إليه؟ فالاستفهام في

ما أوتر إلا بواحدة؟ قال: أصاب إنه فقيه. وفي رواية: قال ابن أبي ملكية: أوتر معاوية بعد العشاء بركعة، وعنده مولى لابن عباس، فأتي ابن عباس فأخبره. فقال: دعه فإنه قد صحب النبي - صلى الله عليه وسلم -. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث بمعنى الإنكار، أي هل لك رغبة في معاوية وهو مرتكب هذا المنكر. ومن ثم أجاب دعه، فإنه قد صحب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا يفعل إلا ما رآه منه، وهو فقيه أصاب في اجتهاده- انتهى. وقال الشيخ عبد الحق: أي هل لك رغبة وميل ومحبة لمعاوية مع صدور أمر غير مشروع منه؟. (ما أوتر) وفي رواية: فإنه ما أوتر. (إلا بواحدة) أي اكتفى بركعة واحدة فردة بعد صلاة العشاء من غير أن يقدم عليها شفعاً. هذا هو الظاهر. قال الشيخ عبد الحق ظاهره أن هذا القائل لم يكن يعلم بمشروعية الإيتار بركعة واحدة. (قال) أي ابن عباس. (أصاب) أي فعل الحق وأتى بالصواب. (إنه فقيه) أي عالم بالشريعة مجتهد، فيمكن أن يكون الذي فعله قد استنبطه من موارد السنة. (وفي رواية قال ابن أبي ملكية) بضم الميم مصغراً، هو عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ملكية بن عبد الله بن جدعان. يقال: اسم أبي ملكية زهير التيمي القرشي، من مشاهير ثقات التابعين وعلماءهم. قال الحافظ: أدرك ثلاثين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثقة فقيه من أوساط التابعين. وقال ابن حبان في الثقات: رأى ثمانين من الصحابة روى عن العبادلة الأربعة وغيرهم، وكان قاضياً لابن الزبير على الطائف، مات سنة (117) ، وقيل: (118) . (أوتر معاوية بعد) صلاة. (العشاء بركعة) واحدة. (وعنده مولى لابن عباس) هو كريب روى ذلك محمد بن نصر المرزوي في كتاب الوتر له من طريق ابن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد عن كريب، وأخرج من طريق علي بن عبد الله بن عباس، قال: بت مع أبي عند معاوية، فرأيته أوتر بركعة، فذكرت ذلك لأبي. فقال يا بني هو أعلم. (فأتى) أي مولاه كريب. (فأخبره) بذلك. (فقال) ابن عباس. (دعه) وفي البخاري: فأتى ابن عباس فقال دعه أي ليس عنده لفظ فأخبره. قال الحافظ: قوله: "دعه" فيه حذف يدل عليه السياق، تقديره فأتى ابن عباس، فحكى له ذلك، فقال له: دعه أي أترك القول في معاوية والإنكار عليه. ونقله الجزري في جامع الأصول (ج7 ص35) عن البخاري بذكر لفظ: فأخبره، وكذا رواه البيهقي (ج3 ص27) . (فإنه) عارف بالفقه عالم بالشريعة؛ لأنه (قد صحب النبي - صلى الله عليه وسلم -) وتعلم منه، أي فلم يفعل شيئاً إلا بمستند. وقال الطيبي: أي فلا يفعل إلا ما رآه. وفي فعل معاوية واستصوب ابن عباس له دليل على مشروعية الإيتار بركعة واحدة، وأنه لا يحب تقدم نفل قبلها. وقد ورد فيه عدة أحاديث، كما سبق. وفعله أيضاً كثير من الصحابة: منهم سعد بن أبي وقاص، أخرجه البخاري في الدعوات، والبيهقي في المعرفة والطحاوي. ومنهم عثمان بن عفان، أخرجه الطحاوي والدارقطني ومحمد بن نصر المروزي، ومنهم عمر بن الخطاب، أخرجه البيهقي في المعرفة وفي السنن، ومنهم أبوالدرداء وفضالة بن عبيد ومعاذ بن جبل، أخرجه الطحاوي، ومنهم أبوأمامة، أخرجه الدارقطني. وفي كل ذلك رد على من لم يقل بمشروعية

رواه البخاري. 1286- (25) وعن بريدة، قال: قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((الوتر حق، فمن لم يوتر فليس منا الوتر حق، فمن لم يوتر فليس منا، الوتر حق، فمن لم يوتر فليس منا)) . رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ الإيتار بركعة، أو قال بوجوب تقدم الشفع عليها. قال الحافظ: ولا التفات إلى قول ابن التين: إن الوتر بركعة لم به الفقهاء؛ لأن الذي نفاه قول الأكثر، وثبت فيه عدة أحاديث، نعم الأفضل أن يتقدمها شفع، وأقله ركعتان. واختلف أيهما الأفضل، وصلهما بها أو فصلهما. وذهب الكوفيون إلى شرطية وصلهما، وأن الوتر بركعة لا تجزيء- انتهى. وقد تقدم الكلام في ذلك مفصلاً. (رواه البخاري) في ذكر معاوية من أبواب المناقب. 1286- قوله: (الوتر حق) أي ثابت في الشرع ومؤكد. (فمن لم يوتر فليس منا) أي ليس على سنتنا وطريقتنا. قال الطيبي: "من" فيه اتصالية، كما قوله تعالى: {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض} [9: 67] وقوله عليه السلام: فإني لست منك ولست مني. والمعنى فمن لم يوتر فليس بمتصل بنا وبهدينا وبطريقتنا، أي إنه ثابت في الشرع وسنة مؤكدة، والتكرير لمزيد تقرير حقيقته وإثباته- انتهى. واستدل به الحنفية على وجوب الوتر بناء على أن الحق هو الواجب الثابت على الذمة. ويؤيد ذلك كونه مقروناً بالوعيد على تاركه. وأجيب عنه بأن الحق بمعنى الثابت في الشرع كما تقدم في كلام الطيبي. ومعنى ليس منا، أي ليس من سنتنا وعلى طريقتنا، أو المراد من لم يوتر رغبة عن السنة فليس منا. فالحديث محمول على تأكيد السنية للوتر جمعاً بينه وبين الأحاديث الدالة على عدم الوجوب. وقال الحافظ في الفتح: يحتاج من احتج به على الوجوب إلى أن يثبت أن لفظ حق بمعنى واجب في عرف الشارع، وأن لفظ واجب بمعنى ما ثبت من طريق الآحاد- انتهى. (رواه أبوداود) قال الحافظ في الدراية وبلوغ المرام بسند لين، وسكت عنه أبوداود. وقال الحافظ في الفتح: في سنده أبوالمنيب، وفيه ضعف وقال المنذري: في إسناده عبيد الله بن عبد الله أبوالمنيب العتكي المروزي، وقد وثقه ابن معين. وقال أبوحاتم الرازي: صالح الحديث. وتكلم فيه البخاري والنسائي وغيرهما- انتهى. قلت: أراد بغيرهما ابن حبان والعقيلي، فإنهما أيضاً تكلما فيه. وأخرجه الحاكم (ج1 ص306) والبيهقي (ج2 ص470) ولم يكررا لفظه. قال الحاكم: حديث صحيح، وأبوالمنيب ثقة. وقال الذهبي في التلخيص: قلت: قال البخاري: عنده مناكير- انتهى. وقال الحاكم أبوأحمد ليس بالقوي عندهم. وقال البيهقي: لا يحتج به. وهذا كله يدل على أن فيه ضعفاً، ولذلك لين الحافظ سند حديثه، وقد أصاب. وللحديث شاهد ضعيف أحمد (ج3 ص443) من طريق خليل بن مرة عن معاوية بن قرة عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: من لم يوتر فليس منا، وهو منقطع؛ لأن معاوية بن قرة لم يسمع من أبي هريرة شيئاً ولا لقيه. قاله أحمد. والخليل بن مرة ضعفه يحيى والنسائي. وقال لبخاري: منكر الحديث.

1287- (26) وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من نام عن الوتر أو نسيه فليصل إذا ذكر وإذا استيقظ)) . رواه الترمذي، وأبوداود، وابن ماجه. 1288- (27) وعن مالك، بلغه ((أن رجلاً سأل ابن عمر عن الوتر: أواجب هو؟ فقال عبد الله: قد أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأوتر المسلمون، فجعل الرجل يردد عليه، وعبد الله يقول: أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأوتر المسلمون)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1287- قوله: (من نام عن الوتر) أي عن أدائه. (أو نسيه) فلم يصله. (فليصل) أي قضاء. (إذا ذكر) راجع إلى النسيان. (وإذا استيقظ) راجع إلى النوم، فالواو بمعنى أو، والترتيب مفوض إلى رأي السامع. وفيه دليل على مشروعية قضاء الوتر إذا فات. وأما ما روى ابن خزيمة في صحيحة، والحاكم (ج1 ص301، 302) والبيهقي (ج2 ص478) من طريق قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد مرفوعاً: من أدركه الصبح ولم يوتر فلا وتر له، فمحمول على التعمد أو على أنه لا يقع أداء جمعاً بين الحديثين، لا أنه لا يجوز له القضاء. وقد تقدم الكلام في ذلك مفصلاً. (رواه الترمذي وأبوداود وابن ماجه) واللفظ للترمذي. ولفظ ابن ماجه: فليصل إذا أصبح أو ذكره. وفي سندهما عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو ضعيف. وأخرجه أبوداود من طريق أخرى صحيحة بلفظ: من نام عن وتره أو نسيه فليصله إذا ذكره، ولم يقل: إذا أصبح. قال العراقي: سنده صحيح. وأخرجه أيضاً الحاكم وصححه الدارقطني والبيهقي كما سبق في تخريج حديث زيد بن أسلم. 1288- قوله: (وعن مالك) بن أنس، إمام دار الهجرة، صاحب المذهب المشهور. (بلغه) وفي الموطأ: أنه بلغه. وقد تقدم قول ابن عبد البر أن جميع ما في الموطأ من قول مالك: بلغني، ومن قوله: عن الثقة عندي مما لم يسنده كله مسند من غير طريق مالك إلا أربعة أحاديث، فذكرها، وهذا البلاغ ليس منها، فيكون مسنداً. وسيأتي ذكر من وصله وأسنده. (أواجب هو) أي أو هو سنة؟. (فقال عبد الله) بن عمر في جوابه. (قد أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأوتر المسلمون) قال القاري: اكتفى ابن عمر بالدليل عن المدلول، فكأنه قال: إنه واجب بدليل مواظبته عليه الصلاة والسلام وإجماع أهل الإسلام- انتهى. قلت: المواظبة إنما يكون دليلاً على الوجوب حيث لم يرو ما يصرفها إلى الندب، وههنا قد صح ما يدل على عدم وجوب الوتر. والظاهر أن ابن عمر نبه بهذا الجواب على أن الوتر سنة معمول بها وطريقة مسلوكة. ولو كان واجباً عنده لأفصح للرجل بوجوبه. (فجعل الرجل يردد عليه) أي يكرر السؤال، ويطلب الصريح. (وعبد الله) يردد عليه جوابه السابق. (ويقول) في كل مرة: (أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأوتر المسلمون) قال الباجي: يحتمل أن عبد الله بن عمر

رواه في الموطأ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قد علم أنه غير واجب، ولم ير الرجل لهذا المقدار من العلم، وكان يخبره بما هو يحتاج إليه من أنه - صلى الله عليه وسلم - أوتر، وأوتر المسلمون بعده، وطوى عنه ما لا يحتاج هو إليه. ويحتمل أن ابن عمر لم يتبين له حكم ما سأل عنه، فأجاب بما كان، وترك ما أشكل عليه- انتهى. وقال الطيبي: وتلخيص الجواب أن لا أقطع بالقول بوجوبه ولا بعدم وجوبه؛ لأني إذا نظرت إلى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم واظبوا عليه ذهبت إلى الوجوب، وإذا فتشت نصاً دالاً عليه نكصت عنه، أي رجعت وأحجمت. قلت: لا شك أنه لم يرو حديث صحيح صريح في وجوب الوتر، بل قد ثبت وصح ما يدل على استحبابه. وهو قرينة واضحة على أن الوتر سنة لا واجب، نعم هو سنة مؤكدة أوكد من سائر السنن، وعلى أن مواظبته - صلى الله عليه وسلم - والصحابة بعده على الوتر كالمواظبة على بعض السنن المؤكدة الأخر. (رواه) أي مالك. (في الموطأ) بالهمزة وقيل بالألف. وسبق الاعتراض على هذا التعبير، فتذكر. وهذا الحديث أخرجه أحمد موصولاً (ج2 ص29) قال: حدثنا معاذ حدثنا ابن عون عن مسلم مولى لعبد القيس- قال معاذ: كان شعبة يقول القرى- قال: قال رجل لابن عمر أرأيت الوتر أسنة هو؟ قال ما سنة أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأوتر المسلمون بعده. قال: لا أسنة هو؟ قال: مه، أتعقل أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأوتر المسلمون. قال الشيخ أحمد شاكر في شرح المسند (ج7 ص36) : إسناده صحيح، مسلم مولى عبد القيس هو مسلم بن مخراق القرى، وهو مولى بنى قرة حي من عبد القيس، كما ذكره البخاري في الكبير. تابعي ثقة، وثقه النسائي والعجلي وغيرهما. وهذا الحديث رواه مالك في الموطأ بنحوه بلاغاً غير متصل فذكره، ثم قال: والظاهر لي أن الحفاظ القدماء لم يجدوا وصل هذا البلاغ، فذكره ابن عبد البر في التقصي رقم (808) ولم يذكر شيئاً في وصله، وكذلك صنع السيوطي في شرح الموطأ، وكذلك الزرقاني في شرحه (ج1 232) وها هو ذا موصول في المسند. وقد ذكره الحافظ المروزي في كتاب الوتر (ص114) ولكنه ذكره معلقاً عن مسلم القرى كرواية المسند هنا، ولم يذكر إسناده إلى مسلم القرى- انتهى. وأخرجه أحمد في (ج2 ص58) مختصراً قال: حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن عمرو بن محمد عن نافع سأل رجل ابن عمر عن الوتر أواجب هو؟ فقال: أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون. قال الشارح: إسناده صحيح، سفيان هو الثوري عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب المدني نزيل عسقلان، ثقه، وثقه أحمد وابن معين والعجلي وأبوداود وغيرهم، قال: وهذا الحديث مختصراً لحديث الذي رواه مالك في الموطأ بلاغاً عن ابن عمر، ولم يذكر المتقدمون ممن كتبوا على الموطأ طريق وصله. وقد مضى نحوه موصولاً من طريق مسلم القرى عن ابن عمر، ولكن السؤال هناك "أسنة هو" وما هنا أواجب هو؟ وهذا اللفظ يوافق السؤال في رواية مالك، فقد وجدنا وصل هذا البلاغ من طريقتين صحيحين في المسند والحمد لله- انتهى.

1289- (28) وعن علي قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر بثلاث، يقرأ فيهن بتسع سور من المفصل، يقرأ في كل ركعة بثلاث سور آخرهن: {قل هو الله أحد} )) . رواه الترمذي. 1290- (29) وعن نافع، قال: كنت مع ابن عمر بمكة، والسماء مغيمة، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1289- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر بثلاث) أي بثلاث ركعات. (يقرأ فيهن بتسع سور المفصل) أي من قصارة، كما سيأتي. (آخرهن) أي آخر السور. (قل هو الله أحد) الحديث أخرجه أيضاً أحمد ولفظه: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر بتسع سور من المفصل يقرأ في الركعة الأولى: {ألهاكم التكاثر} و {إنا أنزلناه في ليلة القدر} و {إذا زلزلت الأرض} ، وفي الركعة الثانية: {والعصر} و {إذا جاء نصر الله والفتح} و {إنا أعطيناك الكوثر} ، وفي الركعة الثالثة: {قل ياأيها الكافرون} و {تبت يدا أبي لهب} و {قل هو اله أحد} - انتهى. والحديث يدل على مشروعية قراءة هذه السور في الوتر، لكنه حديث ضعيف، كما ستعرف. وروى محمد بن نصر عن سعيد بن جبير قال: لما أمر عمر بن الخطاب أبي بن كعب أن يقوم الناس في رمضان كان يوتر بهم فيقرأ في الركعة الأولى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} ، وفي الثانية بـ {قل يآيها الكافرون} ، وفي الثالثة بـ {قل هو الله أحد} قلت: والمختار عندي أن يقرأ في الوتر بـ {سبح اسم ربك الأعلى} و {قل يآيها الكافرون} و {قل هو الله أحد} لما صح ذلك عن أبي بن كعب، وابن عباس مرفوعاً، وهو الذي اختاره أكثر أهل العلم، كما سبق، ولو زاد المعوذتين في الثالثة أو قرأ بما ورد في حديث علي أو بما روي عن عمر من فعله أحياناً لم يكن فيه بأس. (رواه الترمذي) من طريق أبي بكر ابن عياش عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي، وأخرجه أحمد (ج1 ص89) ومحمد بن نصر من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق، وأخرجه أيضاً أحمد بن إبراهيم الدورقي في مسند علي له، كما في التلخيص (ص118) . 1290- قوله: (وعن نافع) مولى عبد الله بن عمر. (كنت مع ابن عمر) ذات ليلة (بمكة) وفي بعض نسخ الموطأ: بطريق مكة. (والسماء مغيمة) أي مغطاة بالغيم يعني محيط بها السحاب، كذا وقع في أكثر النسخ الموجودة عندنا بتقديم الياء على الميم الثانية من التغييم أو الإغامة، وكذا وقع في جامع الأصول (ج7 ص42) ، وهكذا وقع في الموطأ. قال الشيخ سلام الله في المحلى شرح الموطأ: على زنة المفعول أو الفاعل من التغييم أو بكسر الغين وسكون الياء من الإغامة. قال عياض: كذا ضبطناه في الموطأ عن شيوخنا، وكله صحيح- انتهى. وفي أصل القاري الذي أخذه في شرح المشكاة: مُغْمِيَة: بتقديم الميم الثانية على الياء، قال القاري: كذا في نسخ المصححة بضم الميم الأولى وكسر الثانية، وفي نسخة: مُغْيِّمَة: بكسر الياء المشددة، وقيل بفتحها. وفي نسخة بضم

فخشي الصبح، فأوتر بواحدة، ثم انكشف، فرأى أن عليه ليلاً، فشفع بواحدة، ثم صلى ركعتين ركعتين، فلما خشي الصبح أوتر بواحدة)) . رواه مالك. ـــــــــــــــــــــــــــــ الميم وكسر الياء مُغَيِّمَة وقيل بكسر الغين أي مُغِيمْةَ وفي نسخة مُغَمَّاةٌ مشددة ومخففة، وفي نسخة كمرضية، ومآل الكل إلى معنى واحد. قال الطيبي: أي مغطاة بالغيم. وقال الجزري في النهاية: يقال غامت السماء وأغامت وتغيمت كله بمعنى- انتهى. زاد في الصحاح والقاموس: وأغيمت وتغيمت تغيماً، وقال ابن حجر: يقال غيمت الشيء إذا غطيته وأغمي وغمي، وغمي بتشديد الميم وتخفيفها الكل بمعنى- انتهى. وفي التاج: التغييم والإغامة الدخول في الغيم، والإغماء تستر الشيء على الشخص ويعدى بعلى، والتغمية التغطية. قال شجاع: فعلى هذه الأقوال يجوز لغة مغيمة بكسر الياء والتشديد من التفعيل من الأجوف ومغمية من الناقص الثلاثي على وزن مرمية، ومغماة اسم مفعول من التغمية أو الإغماء- انتهى. ووقع في الموطأ للإمام محمد متغيمة من التغيم. (فخشي) عبد الله بن عمر. (الصبح) أي طلوع الفجر فيفوت وتره. (فأوتر بواحدة) أي بركعة فردة من غير أن يضمها إلى شفع قبلها. (ثم انكشف) وفي الموطأ ثم انكشف الغيم أي ارتفع السحاب. (فرأى أن عليه ليلاً) أي باق عليه الفجر لم يطلع بعد. (فشفع) وتره. (بواحدة) قال الباجي يحتمل أنه لم يسلم من الواحدة فشفعها بأخرى على رأي من قال: لا يحتاج في نية أول الصلاة إلى اعتبار عدد الركعات والاعتبار وتر وشفع، ويحتمل أنه سلم- انتهى. والثاني هو الظاهر بل هو المتعين؛ لأن ابن عمر قائل بنقض الوتر، فقد روى أحمد في مسنده عن ابن عمر أنه كان إذا سئل عن الوتر قال: أما أنا فلو أوترت قبل أن أنام ثم أردت أن أصلي بالليل شفعت بواحدة ما مضى من وتري ثم صليت مثنى، فإذا قضيت صلاتي أوترت بواحدة؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا أن نجعل آخر صلاة الليل الوتر. قلت: وما فعله ابن عمر من نقض الوتر هو من رأي منه واجتهاد، وليس عنده في هذه رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما روى ذلك محمد بن نصر عنه، ولا دليل على ذلك في الأمر يجعل الوتر آخر صلاة الليل، فإنه ليس للإيجاب بل هو للندب، كما تقدم. وارجع إلى كتاب الوتر لمحمد بن نصر (ص127، 128) . (ثم صلى) بعد ذلك. (ركعتين ركعتين) للتهجد. (فلما خشي الصبح) بعد ذلك (أوتر بواحدة) . روي مثله عن علي وعثمان وابن مسعود وأسامة وعروة ومكحول وعمرو بن ميمون، وهذه مسألة يعرفها أهل العلم بنقض الوتر، وخالف في ذلك جماعة منهم أبوبكر كان يوتر قبل أن ينام ثم أن قام صلى ولم يعد الوتر، وروي مثله عن أبي هريرة وعمار وعائشة وكانت تقول: أوتر أن في ليلة إنكاراً لذلك، وهو قول مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة والأوزاعي وأبي ثور وغيرهم، وقد تقدم شيء من الكلام في هذه المسألة في شرح حديث: اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً. (رواه مالك) لم أقف على من أخرجه من غيره.

1291- (30) وعن عائشة ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي جالساً، فيقرأ وهو جالس، فإذا بقي من قراءته قدر ما يكون ثلاثين أو أربعين آية، قام وقرأ وهو قائم، ثم ركع، ثم سجد، ثم يفعل في الركعة الثانية مثل ذلك)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1291- قوله: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان) أي في آخر حياته لما أسن وكبر، ففي رواية قالت: ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في شيء من صلاة الليل جالساً حتى إذا كبر قرأ جالساً، فإذا بقي عليه من السورة ثلاثون أو أربعون آية قام- الحديث. قال الحافظ: بينت حفصة أن ذلك كان قبل موته بعام. (يصلي) أي النوافل في الليل (جالساً) حال. (فيقرأ) فيها القرآن بقدر ما شاء. (فإذا بقي من قراءته) أي مما أراد من قراءته، وفيه إشارة إلى أن الذي كان يقرأه قبل أن يقوم أكثر؛ لأن البقية تطلق في الغالب على الأقل. (قدر ما يكون ثلاثين أو أربعين آية) اكتفى بهذا التمييز عن تمييز الأول، وأو قيل للشك من الراوي، وقيل للتنويع باعتبار اختلاف الأوقات. (قام وقرأ) هذه الآيات. (وهو قائم ثم ركع) فيه دليل على أن من لم يطق أن يقوم في جميع صلاته جاز له أن يقوم فيما أمكنه منه. قال الباجي: ولا خلاف نعلمه في جواز ذلك في النافلة، وفيه أيضاً دليل على أن الأفضل أن يقوم فيقرأ شيئاً ثم يركع ليكون موافقاً للسنة ولو لم يقرأ ولكنه استوى قائماً ثم ركع جاز. (ثم يفعل في الركعة الثانية مثل ذلك) المذكور من قراءته أولاً جالساً ثم قائماً، والحديث يدل على جواز الركوع من قيام لمن قرأ قاعداً. وقد روي عن عائشة أيضاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي ليلاً طويلاً قائماً وليلاً طويلاً قاعداً، وكان إذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم وإذا قرأ قاعداً ركع وسجد وهو قاعد. أخرجه الجماعة إلا البخاري، وهذا بظاهره يخالف حديثها الأول؛ لأنه يدل على أن المشروع لمن قرأ قائماً أن يركع ويسجد من قيام، ومن قرأ قاعداً أن يركع ويسجد من قعود. وفي بعض طرق هذا الحديث عند مسلم: فإذا افتتح الصلاة قائماً ركع قائماً وإذا افتتح الصلاة قاعداً ركع قاعداً وهذا يدل على أن من افتتح النافلة قاعداً يركع قاعداً أو قائماً يركع قائماً، ويجمع بين هذه الروايات بأنه كان يفعل كلاً من ذلك بحسب النشاط وعدمه. وقال العراقي: فيحمل على أنه كان يفعل مرة كذا، ومرة كذا، فكان مرة يفتتح قاعداً ويتم قراءته قاعداً ويركع قاعداً، وكان مرة يفتتح قاعداً ويقرأ بعض قراءته قاعداً وبعضها قائماً ويركع قائماً، فإن لفظ كان لا يقضي المداومة. قال الشوكاني والحديث يدل على أنه يجوز فعل بعض الصلاة من قعود، وبعضها من قيام وبعض الركعة من قعود، وبعضها من قيام. قال العراقي: وهو كذلك سواء قام ثم قعد أو قعد ثم قام، وهو قول جمهور العلماء كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق، وحكاه النووي عن عامة العلماء، وحكي عن بعض السلف منعه. قال: وهو غلط، وحكى القاضي عياض عن أبي يوسف

رواه مسلم. 1292- (31) وعن أم سلمة، ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بعد الوتر ركعتين)) . رواه الترمذي، وزاد ابن ماجه: خفيفتين وهو جالس. 1293- (32) وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر بواحدة، ثم يركع ركعتين يقرأ فيهما وهو جالس، فإذا أراد أن يركع. قام فركع)) . رواه ابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ومحمد في آخرين كراهة القعود بعد القيام، ومنع أشهب من المالكية الجلوس بعد أن ينوي القيام، وجوزه ابن القاسم والجمهور- انتهى. (رواه مسلم) بل أخرجه الجماعة، وله ألفاظ هذا أحدها، قال القاري: ولا يظهر وجه مناسبته للباب، اللهم إلا أن يقال: أن الحديث ساكت عن الركعة الثالثة، أو ذكر هذا الشفع؛ لأنه مقدمة الوتر، أو يحمل هذا الشفع على ما بعد الوتر، فكان حقه أن يذكره في آخر الباب- انتهى. 1292- قوله: (وعن أم سلمة) أم المؤمنين. (كان يصلي بعد الوتر ركعتين) أي جالساً كما سيأتي. (رواه الترمذي) وأخرجه أيضاً أحمد (ج6 ص298، 299) والدارقطني (ص177) ومحمد بن نصر والبيهقي (ج3 ص32) كلهم من حديث ميمون بن موسى المرئي عن الحسن عن أمه عن أم سلمة. (وزاد ابن ماجه خفيفتين وهو جالس) وزاده أيضاً الدارقطني ومحمد بن نصر، والحديث لم يحكم الترمذي عليه بشيء، وصححه الدارقطني في سننه، ثبت ذلك في رواية محمد بن عبد الملك بن بشران عنه، وليس في رواية أبي طاهر محمد بن أحمد بن عبد الرحيم عن الدارقطني تصحيح له، قاله العراقي. قلت: في سنده ميمون بن موسى المرئي، وهو صدوق، لكنه مدلس، وروى عن الحسن بالعنعنة. قال أحمد كان يدلس لا يقول: حدثنا الحسن ما رأى به بأساً. وقال الفلاس: صدوق لكنه يدلس، وقال النسائي وأبوأحمد الحاكم: ليس بالقوى. وقال أبوداود: ليس به بأس. وقال البيهقي: ميمون هذا بصري، ولا بأس به، إلا أنه كان يدلس، قاله أحمد بن حنبل وغيره، وروي عن زكريا بن حكيم عن الحسن، وخالفهما هشام، فرواه عن الحسن عن سعد بن هشام عن عائشة. قال البخاري: وهذا أصح. 1293- قوله: (يوتر بواحدة) أي بركعة واحدة فردة. (ثم يركع) أي يصلي (ركعتين هو جالس فإذا أراد أن يركع قام فركع) قال ابن حجر: لا ينافي ما قبله؛ لأنه كان تارة يصليهما في جلوس من غير قيام، وتارة يقوم عند إرادة الركوع- انتهى. (رواه ابن ماجه) وكذا البيهقي (ج3 ص32) كلاهما من طريق الأوزاعي

1294- (33) وعن ثوبان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن هذا السهر جهد وثقل، فإذا أوتر أحدكم فليركع ركعتين، فإن لم قام من الليل، وإلا كانتا له)) . رواه الدارمي. ـــــــــــــــــــــــــــــ عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عائشة، قال في الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله ثقات- انتهى. قلت: أصل الحديث عند مسلم من طريق هشام عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عائشة قالت: سألت عائشة عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: كان يصلي ثلاث عشرة ركعة، يصلي ثمان ركعات ثم يوتر، ثم يصلي ركعتين وهو جالس، فإذا أراد أن يركع قام فركع- الحديث. 1294- قوله: (إن هذا السهر) أي الذي تسهرونه في طاعة الله. والسهر بفتحتين عدم النوم، وروى الدارقطني والبيهقي (ج3 ص33) بلفظ: أن هذا السفر أي بالفاء بدل الهاء، وكذا ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص246) نقلاً عن معجم الطبراني، وكتب على هامش سنن الدارمي، طبعه الهند هذه العبارة، وعليها علامة النسخة، ويقال هذا السفر وأنا أقول السهر، والظاهر أنها مقولة الدارمي، ويؤيد لفظ السفر كون القصة وقعت في حالة السفر، ففي رواية الدارقطني والبيهقي والطبراني عن ثوبان، قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر فقال: إن السفر جهد وثقل الخ. (جهد) بالفتح وبالضم أيضاً المشقة. (وثقل) بكسر المثلثة وسكون القاف وفتحها أي شاق، وثقيل على النفوس البشرية بحكم العادة الطبيعة. (فإذا أوتر أحدكم) أي قبل النوم في أول الليل لعدم الوثوق بالاستيقاظ في آخر الليل. (فليركع) أي فليصل. (ركعتين) قال البيهقي: يحتمل أن يكون المراد به ركعتان بعد الوتر، ويحتمل أن يكون أراد، فإذا أراد أن يوتر فليركع ركعتين قبل الوتر. (فإن قام من الليل) وصلى فيه فيها أي أتى بالخصلة الحميدة ويكون نوراً على نور. (وإلا) أي وإن لم يقم أي من الليل لغلبة النوم له. (كانتا) أي الركعتان (له) أي كافيتين له من قيام الليل، والمعنى من قام بعد الركعتين وصلى التهجد. فهو الأفضل وإن لم يقم ولم يصل كانتا مجزئتين عن أصل ثواب التهجد في السفر؛ لأن الحديث كان في حالة السفر، كما تقدم. قال ابن حجر: هذا لا ينافي خبر: اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا، أما لأن أوتر هنا بمعنى أراد أي إذا أراد أن يوتر فليركع ركعتين فليوتر أي بواحدة أو بثلاث فيكون الركعتان قبل الوتر نافلة قائمة مقام التهجد، أو لأن الأمر بالركعتين هنا لبيان الجواز نظير ما مر من تأويل فعله - صلى الله عليه وسلم - لهما بعد الوتر بذلك، وهذا الأخير هو الذي فهمه الدارمي والدارقطني حيث أورداه في باب الركعتين بعد الوتر. وقال القاري: والأخير غير صحيح إذا لم يعرف ورود الأمر لبيان الجواز فيتعين التأويل الأول- انتهى. (رواه الدارمي) بسند جيد، وأخرجه أيضاً الطحاوي والدارقطني (ص177) والطبراني في الكبير الأوسط والبيهقي (ج3 ص33) . وفي سند الثلاثة عبد الله بن صالح أبوصالح كاتب الليث بن سعد، وفيه كلام.

(36) باب القنوت

1295- (34) وعن أبي أمامة: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصليهما بعد الوتر وهو جالس، يقرأ فيهما،. {إذا زلزلت} و {قل يآيها الكافرون} )) . رواه أحمد. (36) باب القنوت ـــــــــــــــــــــــــــــ 1295- قوله: (إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان) أي أحياناً. (يصليهما) أي الركعتين. (يقرأ فيهما) أي في الركعتين. {إذا زلزلت} في الأولى و {قل يآيها الكافرون} في الثانية. (رواه أحمد) (ج5 ص260) قال الهيثمي: رجاله ثقات، وأخرجه أيضاً الطحاوي والبيهقي (ج3 ص33) والطبراني في الكبير ومحمد بن نصر المروزي في كتاب الوتر، وروى الدارقطني والبيهقي نحوه من حديث أنس. (باب القنوت) القنوت ورد في معان كثيرة، ذكر ابن العربي في شرح الترمذي: أن له عشرة معان، وقد نظمها في البيتين: دعاء خشوع والعبادة طاعة ... ... إقامتها إقراره بالعبودية سكوت صلاة والقيام وطوله ... ... كذاك دوام الطاعة الرابح النية والمراد هنا الدعاء في الصلاة في محل مخصوص من القيام واعلم أن ههنا عدة مسائل خلافية: إحداها أنه يقنت في الوتر أم لا. والثانية أنه إذا قنت في الوتر يقنت قبل الركوع أو بعده. والثالثة أن القنوت في الوتر في جميع السنة أو في النصف الأخير من رمضان. والرابعة ألفاظ قنوت الوتر، وقد سبق الكلام في هذه المسائل، وتعيين ما هو الراجح في ذلك، وسيأتي شيء من الكلام في الثانية والثالثة. وأما مسألة التكبير عند إرادة القنوت في الوتر ورفع اليدين عند تكبير القنوت فيه كرفعهما عند التحريمة، كما يفعله الحنفية فلم يصح فيهما عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء، نعم ورد فيهما آثار عن بعض الصحابة، فقد ذكر محمد بن نصر المروزي في كتاب الوتر عن عمر وعلي وابن مسعود والبراء أنهم كبروا عند القنوت في الوتر قبل الركوع. قال شيخنا في شرح الترمذي: لم أقف على حديث مرفوع في التكبير للقنوت، ولم أقف على أسانيد هذه الآثار. وأما رفع اليدين في قنوت الوتر أي كرفعهما عند التحريمة، فلم أقف على حديث مرفوع فيه أيضاً، نعم جاء فيه عن ابن مسعود من فعله، فذكره نقلاً عن جزء رفع اليدين للبخاري، وعن كتاب الوتر للمروزي، وذكر أيضاً في ذلك آثاراً عن عمر وأبي هريرة وأبي قلابة ومكحول عن كتابة المروزي، ثم قال: وفي الاستدلال بها على رفع اليدين في قنوت الوتر كرفعهما عند التحريمة نظر، إذ ليس فيها ما يدل على هذا، بل الظاهر منها ثبوت رفع اليدين كرفعهما في الدعاء، فإن القنوت دعاء- انتهى. قلت: الأمر كما قال الشيخ فليس في هذه الآثار دلالة على مطلوبهم، بل هي ظاهرة في رفع اليدين في القنوت حال الدعاء، كما يرفع الدعي فيجوز أن ترفع اليدان حال الدعاء في قنوت الوتر عملاً بتلك الآثار كما

ترفعان في قنوت النازلة في غير الوتر لثبوته عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما سيأتي. قال شيخ مشائخنا الشيخ حسين بن محسن الأنصاري في مجموعة فتاواه (ص160) : قد ثبت الرفع من فعله - صلى الله عليه وسلم - في قنوت غير الوتر، فالوتر مثله لعدم الفارق بين القنوتين إذ هما دعاءان، ولهذا قال أبويوسف أنه يرفعهما في قنوت الوتر إلى صدره ويجعل بطونهما إلى السماء، واختاره الطحاوي والكرخي. قال الشامي: والظاهر أنه يبقيهما كذلك إلى تمام الدعاء على هذه الرواية- انتهى. قال: والحاصل أن رفع اليدين في قنوت الوتر. (كرفع الداعي) ثبت من فعل ابن مسعود وعمر وأنس وأبي هريرة، كما ذكره الحافظ في التلخيص، وكفى بهم أسوة وثبت من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في غير الوتر- انتهى. والمسألة الخامسة: هل يشرع القنوت في غير الوتر من غير سبب أو لا يشرع؟ فذهب جماعة، ومنهم أبوحنيفة وأحمد إلى عدم مشروعيته قالوا: لا يسن القنوت من غير سبب في صلاة الصبح، ولا في غيرها من الصلوات سوى الوتر، وذهب جماعة ومنهم مالك والشافعي إلى أنه يسن القنوت في صلاة الصبح في جميع الزمان، وهذا يدل على أنهم اتفقوا على ترك القنوت في أربع صلوات من غير سبب، وهي الظهر والعصر والمغرب والعشاء، واختلفوا في صلاة الصبح فقال مالك والشافعي باستمرار شرعيته في الصبح، وذهب أحمد وأبوحنيفة إلى عدم شرعيته وأنه مختص بالنوازل، واحتج المثبتون بما روى الدارقطني (ص118) وعبد الرزاق وأحمد (ج3 ص162) وأبونعيم والطحاوي (ج1 ص143) والبيهقي في المعرفة وفي السنن (ج2 ص201) والحاكم وصححه من حديث أنس قال: ما زال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا. وأجاب النافون بأنه لو صح لكان قاطعاً للنزاع، ولكنه من طريق أبي جعفر الرازي، وثقه غير واحد، ولينه جماعة. قال: فيه عبد الله بن أحمد، عن أبيه والنسائي والعجلي: ليس بالقوي. وقال ابن المديني: أنه يخلط. وقال أبوزرعة: يهم كثيراً. وقال ابن خراش والفلاس: صدوق سيء الحفظ. وقال ابن معين: ثقة لكنه يخطيء. وقال الدوري: ثقة ولكنه يغلط. وقال الساجي: صدوق ليس بمتقن. وقال ابن القيم: هو صاحب مناكير، لا يحتج بما انفرد به أحد من أهل الحديث البتة. وقال ابن حبان: كان ينفرد عن المشاهير بالمناكير. وقال ابن الجوزي في التحقيق، وفي العلل المتناهية: هذا حديث لا يصح، ثم ذكر الكلام في أبي جعفر الرازي. وقال صاحب التنقيح: وإن صح فهو محمول على أنه ما زال يقنت في النوازل أو على أنه ما زال يطول في الصلاة، فإن القنوت لفظ مشترك بين الطاعة والقيام والخشوع والسكوت وغير ذلك. وقال ابن القيم: ولو صح لم يكن فيه دليل على هذا القنوت المعين البتة، فإنه ليس فيه أن القنوت هذا الدعاء، فإن القنوت يطلق على القيام والسكوت ودوام العبادة والدعاء والتسبيح والخضوع، وحمل قول أنس على إطالة القيام بعد الركوع، وأجاب عن تخصيصه بالفجر بأنه وقع بحسب سؤال السائل، فإنه إنما سأل عن قنوت الفجر فأجابه

عما سأله عنه، وبأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يطيل صلاة الفجر دون سائر الصلوات، قال: ومعلوم أنه كان يدعو ربه ويثني عليه ويمجده في هذه الاعتدال، وهذا قنوت منه بلا ريب، فنحن لا نشك ولا نرتاب أنه لم يزل يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا، إلى آخر ما بسط الكلام فيه. قال الشوكاني: وهو على فرض صلاحية حديث أنس للاحتجاج وعدم اختلافه واضطرابه محمل حسن- انتهى. وأجابوا أيضاً بمعارضته بما روى الخطيب من طريق قيس بن الربيع عن عاصم بن سليمان قلنا؛ لأنس أن قوما يزعمون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يزل يقنت في الفجر فقال كذبوا إنما قنت شهراً واحداً يدعو على حي من أحياء المشركين، وقيس وإن كان ضعيفاً، لكنه لم يتهم بكذب، وروى ابن خزيمة في صحيحة، والخطيب في كتاب القنوت من طريق سعيد عن قتادة عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقنت إلا إذا دعا لقوم أو دعا على قوم. قال الحافظ في الدارية: سنده صحيح، وكذا قال صاحب التنقيح، فاختلفت الروايات عن أنس واضطربت فلا يقوم بمثل هذا حجة، واحتج هؤلاء على عدم مشروعية القنوت في غير الوتر من غير سبب بحديث أبي مالك الأشجعي في الفصل الثاني، وسيأتي الكلام فيه هناك. واحتجوا أيضاً بأحاديث مرفوعة صحيحة غير صريحة، أو صريحة غير صحيحة، وبآثار الصحابة، ذكرها النيموي في آثار السنن وغيره في غيره. والراجح عندي ما ذهب إليه أبوحنيفة وأحمد أنه لا يسن القنوت في غير الوتر من غير سبب لا في صلاة الصبح ولا في غيرها من الصلوات، وأنه مختص بالنوازل؛ لأنه لم يرد في ثبوته في غير الوتر من غير سبب حديث مرفوع صحيح خال عن الكلام، صريح في الدلالة على ما ذهب إليه مالك والشافعي، بل قد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على خلاف ما قالا به كما ستقف عليه. والمسألة السادسة: أنه إذا حدث سبب أي نزل بالمسلمين نازلة أي شدة وبليه مثل الوباء والقحط والعدو ونحو ذلك، فهل يشرع القنوت في غير الوتر أم لا؟ وإذا شرع فهل يختص بصلاة الفجر أو الجهرية أو يعم الصلوات الخمس؟ فذهب جمهور أهل الحديث والشافعي إلى أن ذلك مشروع ومطلوب في الصلوات الخمس، وذهب الحنابلة إلى تخصيصه بصلاة الفجر فقط، وهو مذهب الحنفية على القول المفتى به، وإلا فلهم في المسألة قولان، أحدهما أنه يختص بالصلوات الجهرية. قال في البناية شرح الهداية: وبه قال الأكثرون، والآخر أنه يختص بصلاة الفجر فقط. والراجح عندي هو ما ذهب إليه الشافعي وجمهور أهل الحديث؛ لأن الأحاديث الصحيحة صريحة في طلب القنوت في الصلوات الخمس، ولم يجئ حديث مرفوع صحيح أو ضعيف في تخصيصه بالجهرية أو الصبح فقط. قال الشوكاني: الحق ما ذهب إليه من قال: أن القنوت مختص بالنوازل، وأنه ينبغي عند نزول النازلة أن لا تخص به بصلاة دون صلاة. وقد ورد ما يدل على اختصاصه بالنازلة من حديث أنس عند ابن خزيمة في صحيحة، وقد تقدم، ومن حديث أبي هريرة عند ابن حبان بلفظ: كان لا يقنت إلا أن يدعو لقوم أو على

{الفصل الأول}

{الفصل الأول} 1296- (1) عن أبي هريرة، ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يدعو على أحد، أو يدعو لأحد، ـــــــــــــــــــــــــــــ قوم- انتهى. قال الحافظ في الدارية (ص117) وصاحب التنقيح: سند كل من حديث أنس عند ابن خزيمة، وحديث أبي هريرة عند ابن حبان صحيح. وقال ابن القيم ما معناه: الإنصاف الذي يرتضيه العالم المصنف أنه - صلى الله عليه وسلم - قنت وترك وكان تركه للقنوت أكثر من فعله فإنه إنما قنت عند النوازل للدعاء لقوم وللدعاء على آخرين ثم تركه لما قدم من دعا لهم، وخلصوا من الأسر، وأسلم من دعى عليهم، وجاؤوا تائبين، وكان قنوته لعارض، فلما زال ترك القنوت- انتهى. والمسألة السابعة: أنه إذا قنت في النازلة هل يقنت قبل الركوع أو بعده؟ فذهب الشافعي وأحمد إلى أنه بعد الركوع، واختلفت الحنفية فيه، قال في رد المحتار (ج1 ص628) : وهل القنوت هنا قبل الركوع أو بعده؟ لم أره، والذي يظهر لي أن المقتدي يتابع إمامه إلا إذا جهر فيؤمن، وأنه يقنت بعد الركوع لا قبله، بدليل أن ما استدل به الشافعي على قنوت الفجر، وفيه التصريح بالقنوت بعد الركوع حمله علماؤنا على القنوت للنازلة، ثم رأيت الشرنبلالي في مراقي الفلاح صرح بأنه بعده واستظهر الحموي أنه قبله، والأظهر ما قلنا- انتهى. وقال النيموي في تعليق التعليق (ج2 ص21) : والذي يظهر لي أنه يقنت للنازلة قبل الركوع أو بعده كلاهما جائز، لما روى عن غير واحد من الصحابة أنهم قنتوا في صلاة الصبح قبل الركوع، ثم ذكر حديث أنس الآتي في آخر الباب، وقال: ورواه ابن المنذر عن حميد عن أنس بلفظ: أن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قنتوا في صلاة الفجر قبل الركوع وبعضهم بعد الركوع- انتهى. قال: ولكن الأفضل أن يقنت بعد الركوع؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قنت في النازلة بعد ما رفع رأسه من الركوع- انتهى كلام النيموي. قلت: والمختار عندي أن القنوت في النازلة بعد الركوع؛ لأنه لم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - غير ذلك، لكن لو قنت قبل الركوع جاز لما جاء عن بعض الصحابة أنهم قنتوا في صلاة الفجر قبل الركوع. واعلم أنه لم يثبت في الدعاء في قنوت النازلة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن السلف والخلف دعاء مخصوص متعين كقنوت الوتر؛ لأنه من المعلوم أن الصحابة كانوا يقنتون في النوازل، وهذا يدل على أنهم ما كانوا يحافظون على قنوت راتب، ولذلك قال العلماء: أنه ينبغي الدعاء في ذلك بما يناسب الحال، كما صرح به فقهاء الشافعية والعلامة الأمير اليماني في شرح بلوغ المرام، فبأي دعاء وقع كفى وحصل به المقصود. 1296- قوله: (كان إذا أراد أن يدعو) أي في صلاته. (على أحد) أي لضرره. (أو يدعو لأحد) أي

قنت بعد الركوع، فربما قال إذا قال: سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد: اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، ـــــــــــــــــــــــــــــ لنفعه (قنت بعد الركوع) قال القاري: هو يحتمل التخصيص بالصبح، أو تعميم الصلوات، وهو الأظهر- انتهى. قلت: بل هو المتعين؛ لأنه لا دليل على التخصيص، بل يبطله حديث ابن عباس الآتي وغيره، والحديث يدل بمفهومه على أن القنوت في المكتوبة إنما يكون عند إرادة الدعاء على قوم أو لقوم، ويؤيده ما قدمنا من حديث أنس عند ابن خزيمة، وحديث أبي هريرة عند ابن حبان، وأخذ منه الشافعي، وجمهور أهل الحديث أنه يسن القنوت في أخيرة سائر المكتوبات النازلة أي الشدة التي تنزل بالمسلمين عامة كوباء وقحط وخوف وعدو، أو خاصة ببعضهم كأسر العالم أو الشجاع ممن تعدى نفعه، وفيه رد على ما قال الطحاوي في شرح الآثار (ص149) : فثبت بما ذكرنا أنه لا ينبغي القنوت في الفجر في حال الحرب وغيره قياساً ونظراً على ما ذكرنا من ذلك، ورد عليه أيضاً فيما قال: "إن القنوت في الصلوات كلها للنوازل لم يقل به إلا الشافعي"، "فربما قال" أي النبي - صلى الله عليه وسلم -. (اللهم أنج) بفتح الهمزة أمر من الإنجاء أي أخلص. (الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة) هذا مثال الدعاء لأحد كما أن قوله: اللهم اشدد وطأتك الخ مثال للدعاء على أحد، وكان هؤلاء الصحابة الذين دعا لهم بالإنجاء أسراء في أيدي الكفار بمكة. أما الوليد بن الوليد فهو أخو خالد بن الوليد المخزومي القرشي، شهد بدراً مشركاً فأسره عبد الله بن جحش فقدم في فداءه أخواه خالد وهشام وكان هشام أخا الوليد لأبيه وأمه فافتكاه بأربعة الآلف درهم، فلما اقتدى وذهبا به أسلم، فقيل له: هلا أسلمت قبل أن تفتدي وأنت مع المسلمين؟ قال: كرهت أن تظنوا بي إني جزعت من الإسار، فحبسوه بمكة فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو له في القنوت بالنجاة فيمن يدعو لهم من المستضعفين ثم أفلت من أسارهم، ولحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشهد معه عمرة القضية. وقال الحافظ في الفتح: كان ممن شهد بدراً مع المشركين وأسر وفدى نفسه، ثم أسلم فحبس بمكة، ثم تواعد هو وسلمة وعياش المذكورون معه، وهربوا من المشركين، فعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - بمخرجهم فدعا لهم حتى قدموا فترك الدعاء لهم. قال: ومات الوليد لما قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما سلمة فهو سلمة بن هشام بن المغيرة المخزومي القرشي كان من مهاجري الحبشة، وكان من خيار الصحابة وفضلائهم، وهو أخو أبي جهل بن هشام، وابن عم خالد بن الوليد، وكان قديم الإسلام حبس بمكة وعذب في الله عزوجل ومنع من الهجرة إلى المدينة ولم يشهد بدراً لذلك، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو له في القنوت، فأفلت ولحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يزل بالمدينة حتى توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها سنين كسني يوسف، يجهر بذلك. ـــــــــــــــــــــــــــــ فخرج إلى الشام مجاهداً حين بعث أبوبكر الجيوش إلى الشام، فقتل بمرج الصفر في المحرم سنة (14) ، وقيل: بأجنادين. وأما عياش بتشديد التحتية بعد العين المهملة المفتوحة وآخره معجمة، فهو ابن أبي ربيعة عمرو بن المغيرة المخزومي، وهو أخو أبي جهل لأمه أسلم قديماً قبل دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم، وهاجر الهجرتين، ثم خدعه أبوجهل، فإنه لما قدم عياش إلى المدينة قدم عليه أبوجهل والحارث ابنا هشام فذكرا له أن أمه حلفت أن لا تدخل رأسها دهناً ولا تستظل حتى تراه، فرجع معهما فأوثقاه وحبساه بمكة، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو له، ثم تخلص وفَرّ مع رفيقه المذكورين، وعاش على خلافة عمر، فمات سنة (15) وقيل: قبل ذلك. وزاد في رواية: اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، وهو تعميم بعد تخصيص. (اللهم اشدد وطأتك) بفتح الواو وسكون الطاء المهملة وهمزة مفتوحة، وأصلها الدوس بالقدم سمي بها الإهلاك؛ لأن من يطأ على شيء برجله فقد استقصى في إهلاكه، والمعنى خذهم أخذاً شديداً، ذكره السيوطي. قال السندي: الأقرب أن المراد ههنا العقوبة والبأس، كما يدل عليه آخر الكلام لا الإهلاك كما يدل عليه أوله. (على مضر) بميم مضمومة وفتح ضاد معجمة، وترك صرف بن نزار بن معد بن عدنان، وهو شعب عظيم، فيه قبائل كثيرة كقريش وهذيل وأسد وتميم ومزينة وغيرهم، والمراد كفار أولاد مضر. (واجعلها) الضمير للوطأة أو السنين أو للأيام وإن لم يجر لها ذكر لما يدل عليه المفعول الثاني وهو (سنين) جمع سنة، وهو القحط. (كسني يوسف) أي كسني أيام يوسف عليه السلام من القحط العام في سبعة أعوام، فالمراد بسني يوسف ما وقع في السنين السبع، كما وقع في قوله تعالى: {ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد} [12: 48] وقد بين ذلك في حديث ابن مسعود عند البخاري حيث قال: سبعاً كسبع يوسف، وأضيفت إليه لكونه الذي أنذر بها أو لكونه الذي قام بأمور الناس فيها، وشبه بها لتشديد القحط واستمراره زماناً. وإجراء سنين مجرى المذكر السالم في الإعرابي بالواو والياء وسقوط النون بالإضافة شائع. وقال القسطلاني: فيه شذوذان تغيير مفرده من الفتح إلى الكسر، وكونه جمعاً لغير عاقل، وحكمه أيضاً مخالف لجموع السلامة في جواز إعرابه كمسلمين، وبالحركات على النون وكونه منوناً وغير منون منصرفاً وغير منصرف- انتهى. (يجهر بذلك) أي بالدعاء المذكور. وفي حديث جواز الدعاء في قنوت غير الوتر لضعفة المسلمين بتلخيصهم من الأسر، ويقاس عليه جواز الدعاء لهم بالنجاة من كل ورطة يقعون فيها من غير فرق بين المستضعفين وغيرهم، وفيه جواز الدعاء على الكفار بالجدب والبلاء، وفيه مشروعية الجهر بالقنوت للنازلة، وفيه أن الدعاء لقوم بأسمائهم وأسماء آباءهم لا يقطع الصلاة، وأن الدعاء على الكفار والظلمة

وكان يقول في بعض صلاته: اللهم العن فلاناً وفلاناً، لأحياء من العرب، حتى أنزل الله {ليس لك من الأمر شيء} الآية. متفق عليه. 1297- (2) وعن عاصم الأحول، قال: سألت أنس بن مالك عن القنوت في الصلاة، كان قبل الركوع أو بعده؟ قال ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يفسدها (وكان يقول في بعض صلاته) زاد في رواية للبخاري: في صلاة الفجر، وهو بيان لقوله في بعض صلاته. قال الحافظ: فيه إشارة إلى أنه كان لا يداوم على ذلك. (اللهم العن فلاناً فلاناً لأحياء) أي لقبائل جمع حي بمعنى القبيلة. (من العرب) أي أبعدهم وأطردهم عن رحمتك، وهذا لا يستلزم الدعاء بالإماتة على الكفرة وسوء الخاتمة، وأراد بفلاناً وفلاناً القبائل نفسها لا إعلاما خاصة لما وقع تسميتهم في رواية يونس عن الزهري عند مسلم بلفظ: اللهم العن رعلا وذكوان وعصية، وكذا وقع تسميتهم بذلك في حديث ابن عباس الآتي، وسنذكره قصتهم في شرح حديث أنس. (حتى أنزل الله ليس لك من الأمر شيء) المعنى أن الله مالك أمرهم. فأما أن يهلكهم أو يهزمهم أو يتوب عليهم أن أسلموا أو يعذبهم أن أصروا على الكفر وماتوا عليه وليس لك من أمرهم شيء إنما أنت مبعوث؛ لأنذارهم ومجاهدتهم، فليس لك من الأمر إلا التفويض والرضى بما قضى. (الآية) بتثليثها وتمامها أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون واستشكل هذا بأن قصة رعل وذكوان كانت بعد أحد ونزول ليس لك من الأمر من شيء في قصة أحد، كما بينه في حديث أنس عند مسلم وأحمد والترمذي وغيرهم، وفي حديث ابن عمر عند البخاري وغيره فكيف يتأخر السبب عن النزول وأجاب في الفتح بأن قوله: حتى أنزل الله. منقطع من رواية الزهري عمن بلغه، كما بين ذلك مسلم في رواية يونس المذكورة فقال هنا قال يعني الزهري ثم أنه ترك ذلك لما نزلت، قال: وهذا البلاغ لا يصح وقصة رعل وذكوان أجنبية عن قصة أحد ويحتمل أن كان محفوظا أن يقال إن قصتهم كانت عقب ذلك وتأخر نزول الآية عن سببها قليلاً ثم نزلت في جميع ذلك. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي وغيرهما واللفظ المذكور للبخاري في تفسير آل عمران. 1297- قوله: (وعن عاصم الأحول) هو عاصم بن سليمان الأحول أبوعبد الرحمن البصري، ثقة تابعي، لم يتكلم فيه إلا قطان، وكأنه بسبب دخوله في الولاية، مات سنة. (140) وقيل. (141) وقيل. (142) وقيل. (143) قال ابن سعد: كان من أهل البصرة، وكان يتولى الولايات، فكان بالكوفة على الحسبة في المكائيل والأوزان، وكان قاضيا بالمدائن لأبي جعفر. (سألت أنس بن مالك عن القنوت في الصلاة) أي في صلاة الوتر هذا، هو الظاهر عندي. وقيل: المراد في الصلاة المكتوبة عند النازلة. (كان) أي محله. (قبل الركوع أو بعده قال)

{الفصل الثاني}

قبله، إنما قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الركوع شهراً، إنه كان بعث أناساً يقال لهم: القراء، سبعون رجلاً، فأصيبوا، فقنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الركوع شهراً يدعو عليهم)) . متفق عليه. {الفصل الثاني} 1298- (3) عن ابن عباس، قال: ((قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهراً متتابعاً في الظهر ـــــــــــــــــــــــــــــ أي أنس. (قبله) أي كان محل القنوت في الوتر قبل الركوع، والمتن وقع في اختصار من البغوي وسياقه عند البخاري قال أي عاصم: سألت أنس بن مالك عن القنوت فقال: كذب إنما قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخ. وقد وافق عاصماً على روايته هذه عبد العزيز بن صهيب عن أنس، كما وقع في المغازي للبخاري بلفظ: سأل رجل أنساً عن القنوت بعد الركوع أو عند الفراغ من القراءة، قال: لا بل عند الفراغ من القراءة. (إنما قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الركوع) أي في المكتوبة عند النازلة. (شهراً) فقط، وأما في غير المكتوبة أي في الوتر فقنت قبله، يعني فمن حكى أن القنوت دائماً بعد الركوع فقد أخطأ فإنه - صلى الله عليه وسلم - إنما قنت بعد الركوع شهراً فقط. (إنه) بالكسر استئناف مبين للتعليل للتحديد في الشهر. (كان بعث) أي أرسل. (أناس) أي جماعة من أهل الصفة. (يقال لهم القراء) لكثرة قراءتهم وحفظهم للقرآن وتعليمهم لغيرهم. (سبعون) أي هم سبعون (رجلاً) وكانوا من أوزاع الناس ينزلون الصفة يتفقهون العلم ويتعلمون القرآن، وكانوا ردءاً للمسلمين إذا نزلت بهم نازلة وكانوا حقاً عمار المسجد وليوث الملاحم، بعثهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل نجد من بني عامر ليدعوهم على الإسلام ويقرؤا عليهم القرآن، فلما نزلوا بئر معونة قصدهم عامر بن الطفيل في أحياء من بني سليم، وهو رعل وذكوان وعصية فقاتلوهم. (فأصيبوا) أي فقتلوا جميعاً. قيل: ولم ينج منهم إلا كعب بن زيد الأنصاري، فإنه تخلص وبه رمق وظنوا أنه مات، فعاش حتى استشهد يوم الخندق وأسر عمرو بن أمية الصغرى، وكان ذلك في السنة الرابعة من الهجرة أي في صفر على رأس أربعة أشهر من أحد، فحزن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حزناً شديداً، قال أنس: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجد على أحد ما وجد عليهم. (فقنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي في الصلوات الخمس. (بعد الركوع شهراً يدعو عليهم) أي على قاتليهم. والحديث يدل على مشروعية القنوت في النازلة، وعلى أن القنوت في النازلة بعد الركوع. وأن قنوته - صلى الله عليه وسلم - في المكتوبة لهذه النازلة كان محصوراً على الشهر بعد الركوع، وأنه لم يقنت بعد ذلك الشهر لعدم وقوع نازلة تستدعي القنوت بعده، وأنه لم يقنت في المكتوبة لغير النازلة قط لا قبل الركوع ولا بعده، كما دل عليه حديث أنس عند ابن خزيمة وحديث أبي هريرة عند ابن حبان، وقد تقدما. (متفق عليه) للحديث ألفاظ في الصحيحين وغيرهما، وأخرجه البخاري في مواضع مطولاً ومختصراً. 1298- قوله: (شهراً متتابعاً) أي موالياً أيامه يعني قنت في كل يوم منه لم يتركه في وقت. (في الظهر

والعصر والمغرب والعشاء وصلاة الصبح، إذا قال: سمع الله لمن حمده من الركعة الأخيرة، يدعو على أحياء من بنى سليم: على رعل وذكوان وعصية، ويؤمن من خلفه)) . رواه أبوداود. 1299- (4) وعن أنس، ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قنت شهراً ثم تركه)) . رواه أبوداود، والنسائي. 1300- (5) وعن أبي مالك الأشجعي، ـــــــــــــــــــــــــــــ (والعصر والمغرب والعشاء وصلاة الصبح) في أبي داود بعده في دبر كل صلاة، وفيه دليل على أن القنوت للنوازل لا يختص ببعض الصلوات، فهو يرد على من خصصه بالجهرية أو بصلاة الفجر عندها. (إذا قال سمع الله لمن حمده) أي وقال ربنا لك الحمد، كما ثبت ذلك في حديث ابن عمر عند البخاري وأحمد. وفيه أن القنوت للنازلة بعد الركوع. (من بني سليم) مصغر. (على رعل) بدل بإعادة الجار، وهو بكسر الراء وسكون المهملة، قبيلة من بني سليم. (وذكوان) بفتح الذال المعجمة، قبيلة من بني سليم أيضاً. (وعصية) كسمية تصغير عصا، قبيلة أيضاً من بني سليم فالأول هو رعل بن خالد بن عوف بن امرىء القيس بن بهثه بن سليم، والثاني هو ذكوان بن ثعلبة بن بهثة بن سليم. والثالث عصية بن خفاف بن امرىء القيس بن بهثة بن سليم، فالثلاثة قبائل من سليم. (ويؤمن من خلفه) أي يقول آمين من خلفه من المأمومين. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً أحمد والحاكم (ج1 ص225 -226) والبيهقي (ج2 ص200، 212) من طريق الحاكم وأبي داود. وزاد الحاكم: أرسل إليهم يدعوهم إلى الإسلام فقتلوهم. والحديث سكت عنه أبوداود، وصححه الحاكم، وذكره الحافظ في التلخيص من غير كلام فيه. وقال المنذري: في إسناده هلال بن خباب أبوالعلاء العبدي، وقد وثقه أحمد وابن معين وأبوحاتم الرازي. وقال أبوحاتم: وكان يقال تغير قبل موته من كبر السن. وقال العقيلي: في حديثه وهم تغير بآخرة. وقال ابن حبان: اختلط في آخر عمره فكان يحدث بالشيء على التوهم لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد- انتهى. وقال الحافظ: أنه صدوق تغير بأخرة. 1299- قوله: (قنت) أي في المكتوبة. (شهراً) أي بعد الركوع. (ثم تركه) أي القنوت في الفرض؛ لأنه قنت في نازلة. كما تقدم، فلما زالت وارتفعت تركه. وقال الشافعي ومن وافقه: معناه تركه في الصلوات الأربع ولم يتركه في الصبح أو ترك اللعن والدعاء على القبائل، ولا يخفى ما فيه. (رواه أبوداود والنسائي) وأخرجه أيضاً أحمد ومسلم ولفظه: قنت شهراً يدعو على أحياء العرب ثم تركه، وأخرج بهذا اللفظ أحمد والنسائي والبيهقي (ج2 ص201) أيضاً. 1300- قوله: (وعن أبي مالك الأشجعي) اسمه سعد بن طارق الكوفي من ثقات التابعين، روى عن

قال: قلت لأبي: يا آبت! إنك قد صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ههنا بالكوفة نحواً من خمس سنين، أكانوا يقنتون؟ قال: أي بني! محدث)) . رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ أبيه وأنس وعبد الله بن أبي أوفي وغيرهم، مات في حدود الأربعين ومائة، ووالده طارق بن أشيم بفتح الهمزة وسكون الشين المعجمة وفتح الياء التحتية على وزن أحمر ابن مسعود الكوفي، صحابي، قليل الحديث، لم يرو عنه إلا ابنه سعد أبومالك، وأحاديثه في مسند أحمد (ج3 ص472 وج6 ص394- 395) . (يا أبت) بكسر التاء. (وأبي بكر وعمر وعثمان) أي بالمدينة. (وعلي) أي وصليت خلف علي. (ههنا بالكوفة) هما ظرفان متعلقان بصليت خلف علي المحذوف. (نحوا) أي قريباً. (من خمس سنين) هذا أيضاً متعلق بصليت خلف علي المحذوف. (أكانوا يقنتون) بإثبات همزة الاستفهام. وفي نسخ المصابيح بإسقاطها. واختلفت نسخ الترمذي في ذلك، فبعضها بحذفها وبعضها بإثباتها. وفي رواية ابن ماجه: فكانوا يقنتون في الفجر، فالسؤال مقدر. (قال) أي أبي. (أي بني محدث) بفتح الدال أي القنوت في المكتوبة أو في الفجر بدعة، والمراد الدوام والاستمرار عليه لا القنوت مطلقاً جمعا بين الأحاديث، فهذا يدل على أن القنوت في المكتوبة كان مخصوصاً بأيام المهام والنوازل والوقائع. وقال البيهقي (ج2 ص213) : لم يحفظ طارق بن أشيم القنوت عمن صلى خلفه فرآه محدثاً وقد حفظه غيره، فالحكم لمن حفظ دون من لم يحفظه- انتهى. وقال غيره: ليس في هذا الحديث دليل على أنهم ما قنتوا قط، بل اتفق أن طارقا صلى خلف كل منهم وأخذ بما رأى. ومن المعلوم أنهم كانوا يقنتون في النوازل. وهذا الحديث يدل على أنهم ما كانوا يحافظون على قنوت راتب، كذا في نصب الراية (ج2 ص131) . وقال الطيبي: لا يلزم من نفي هذا الصحابي نفي القنوت؛ لأنه شهادة بالنفي، وقد شهد جماعة بالإثبات مثل الحسن وأبي هريرة وابن عباس- انتهى. يعني أن المثبت مقدم على المنفي. ومن حفظ حجة على من لم يحفظ. (رواه الترمذي) وقال: حديث حسن صحيح. وقال في التلخيص (ص93) : إسناده حسن. (والنسائي) ولفظه عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه قال: صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يقنت، وصليت خلف أبي بكر فلم يقنت، وصليت خلف عمر فلم يقنت، وصليت خلف عثمان فلم يقنت، وصليت خلف علي فلن يقنت، ثم قال يا بني إنها بدعة. (أي المداومة على القنوت بدعة، وتأنيث الضمير باعتبار الخبر) . (وابن ماجه) وأخرجه أيضاً أحمد (ج3 ص472 وج6 ص394) والبيهقي (ج2 ص213) والطحاوي (ج1 ص146) .

{الفصل الثالث}

{الفصل الثالث} 1301- (6) عن الحسن، أن عمر بن الخطاب جمع الناس على أبيّ بن كعب، فكان يصلي بهم عشرين ليلة، ولا يقنت بهم إلا في النصف الباقي، فإذا كانت العشر الأواخر يتخلف فصلى في بيته، فكانوا يقولون: أبق أبي. رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1301- قوله: (عن الحسن) أي البصري. (أن عمر بن الخطاب جمع الناس على أبيّ بن كعب) أي كان الناس قبل ذلك يصلون في المسجد في رمضان أوزعاً متفرقين، كما سيأتي في الفصل الثالث، من الباب الذي يلي هذا الفصل. فجمعهم عمر على أبيّ. (فكان) أي أبي. (يصلي بهم) أي صلاة التراويح. (عشرين ليلة) يعني من رمضان. (ولا يقنت بهم) أي في الوتر. (إلا في النصف الباقي) أي الأخير، وذكره الزيلعي عن أبي داود بلفظ الثاني، وهو الظاهر. (يتخلف) أي أبيّ عن المسجد. وفي بعض النسخ: تخلف بالماضي، موافقاً لما في أبي داود والبيهقي وجامع الأصول (ج6 ص262) . (فكانوا يقولون أبق) بفتح الباء من باب ضرب ونصر. (أبيّ) أي هرب عنا، يعني لم يدخل المسجد ليصلي بهم التراويح. قال الطيبي: في قولهم أبق إظهار كراهة تخلفه، فشبهوه بالعبد الآبق، كما في قوله تعالى: {إذا أبق إلى الفلك المشحون} [37: 140] سمي هرب يونس بغير إذن ربه إباقاً مجازاً، ولعل تخلف أبي كان تأسياً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث صلاها بالقوم ثم تخلف، كما سيأتي، والأولى أن يحمل تخلفه على عذر من الأعذار. قال ابن حجر: وكان عذره أنه كان يؤثر التخلي في هذا العشر الذي لا أفضل منه، ليعود عليه من الكمال في خلوته فيه ما لا يعود عليه في جلوته عندهم. والحديث استدل به للشافعية على تخصيص القنوت في الوتر بالنصف الأخير من رمضان، لكنه حديث ضعيف؛ لأنه منقطع، فإن الحسن لم يدرك عمر؛ لأنه ولد لسنتين بقيتا من خلافته، ويضعفه أيضاً أن الحسن كان يقنت في جميع السنة، كما ذكره محمد بن نصر المروزي في كتاب الوتر (ص32) ، ثم هو فعل الصحابي مع أن القنوت في حديث الباب يحتمل كونه طول القيام، فإنه يقال عليه تخصيصاً للنصف الأخير بزيادة الاجتهاد، ولم يرو حديث مرفوع صحيح أو حسن في تخصيص قنوت الوتر برمضان، وقد تقدم في باب الوتر ما يدل على مشروعيته في جميع السنة، فهو الراجح المعول عليه. (رواه أبوداود) ومن طريقة البيهقي (ج2 ص498) وهو منقطع، كما تقدم، وأخرجه أيضاً محمد بن نصر بمعناه، وأصل جمع عمر الناس على أبيّ في صحيح البخاري دون القنوت، كما سيأتي. وأخرج أيضاً أبوداود والبيهقي من طريقه عن هشام عن محمد بن سيرين عن بعض أصحابه أن أبيّ بن كعب أمهم يعني في رمضان وكان يقنت في النصف الأخير من رمضان، وفيه مجهول. وقال النووي في الخلاصة: الطريقان ضعيفان. قال أبوداود: وهذان الحديثان يدلان على ضعف

(37) باب قيام شهر رمضان

1302- (7) وسئل أنس بن مالك عن القنوت: فقال: ((قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الركوع)) . وفي رواية: ((قبل الركوع وبعده)) . رواه ابن ماجه. (37) باب قيام شهر رمضان ـــــــــــــــــــــــــــــ حديث أبي بن كعب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قنت في الوتر- انتهى. يشير إلى ما قدمنا من حديث أبي بن كعب نقلاً عن النسائي وابن ماجه في إثبات قنوت الوتر قبل الركوع. قلت: ولا دلالة في هذين الحديثين على ضعف حديث أبيّ؛ لأنهما ضعيفان، كما تقدم. 1302- قوله: (وسئل) بصيغة المجهول. (أنس بن مالك) والسائل هو محمد بن سيرين، كما ستعرف. (عن القنوت) أي عن محله في المكتوبة، أو في الصبح عند النازلة. (فقال: قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الركوع) أي شهراً فقط، يعني في المكتوبة، أو في الصبح حين دعاء على رعل وذكوان وعصية كما تقدم من حديث عاصم الأحول عن أنس. وأصل هذا الحديث عند الشيخين أخرجاه من طريق أيوب عن محمد بن سيرين قال: سئل أنس بن مالك: أقنت النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصبح؟ قال: نعم. فقيل: أو قنت قبل الركوع. (أو بعد الركوع) ؟ قال: بعد الركوع يسيراً. لفظ البخاري ولمسلم عن أيوب عن محمد قال: قلت؛ لأنس هل قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الصبح؟ قال نعم بعد الركوع يسيراً. (وفي رواية) هذا حديث آخر، أخرجه ابن ماجه من طريق حميد عن أنس قال: سئل عن القنوت في صلاة الصبح فقال: كنا نقنت قبل الركوع وبعده، والرواية الأولى أخرجها من طريق أيوب عن محمد. (ابن سيرين) قال: سألت أنس بن مالك عن قنوت فقال: قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الركوع، وبهذا ظهر أن الرواية الثانية موقوفة. (قبل الركوع وبعده) أي في الصبح وقت قنوت النازلة. ورواه ابن المنذر عن حميد عن أنس بلفظ: إن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قنتوا في صلاة الفجر قبل الركوع، وبعضهم بعد الركوع، وهذا كله يدل على اختلاف عمل الصحابة في محل القنوت المكتوبة فقنت بعضهم قبل الركوع وبعضهم بعده، وأما النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يثبت عنه القنوت في المكتوبة إلا عند النازلة، ولم يقنت في النازلة إلا بعد الركوع، هذا ما تحقق لي، والله أعلم. (رواه ابن ماجه) . الرواية الثانية صححها أبوموسى المديني، كما في التلخيص (ص94) . وقال في الزوائد: إسناده صحيح ورجاله ثقات. (باب قيام شهر رمضان) أي قيام لياليه وإحياءها بالعبادة من صلاة التراويح وتلاوة القرآن وغيرهما، وذكر النووي أن المراد بقيام رمضان صلاة التراويح. قال الحافظ: يعني أنه يحصل بها المطلوب من القيام، لا أن قيام رمضان لا يكون إلا بها. وقال الكرماني: اتفقوا على أن المراد بقيامه صلاة التراويح، وبه جزم النووي

{الفصل الأول}

{الفصل الأول} 1303- (1) وعن زيد بن ثابت، ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ حجرة في المسجد ـــــــــــــــــــــــــــــ وغيره، وذكر في الباب قيام ليلة النصف من شعبان تبعاً. والتراويح جمع ترويحة، وهي المرة الواحدة من الراحة، كتسليمة من السلام، سميت الصلاة في الجماعة في ليالي رمضان التراويح؛ لأنهم أول ما اجتمعوا عليها كانوا يستريحون بين كل تسليمتين، كذا في الفتح. وقال المجد في القاموس: ترويحة شهر رمضان سميت بها لاستراحة بعد كل أربع ركعات- انتهى. وروى البيهقي في السنن (ج2 ص497) عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي أربع ركعات في الليل ثم يتروح فأطال حتى رحمته فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. قال: أفلا أكون عبداً شكوراً. قال البيهقي: قوله ثم يتروح إن ثبت فهو أصل في تروح الإمام في صلاة التراويح، وفي سنده المغيرة بن زياد الموصلى. قال البيهقي: قد تفرد به، وهو ليس بالقوي صاحب مناكير. وقال أحمد: مضطرب الحديث منكر الحديث أحاديثه مناكير. وقال أبوحاتم وأبوزرعة: لا يحتج به. وقال النسائي والدارقطني: ليس بالقوي، ووثقه ابن معين والعجلي وابن عمار ويعقوب بن سفيان. وقال أبوداود: صالح. وقال الحافظ: صدوق له أوهام. واعلم أن التراويح وقيام رمضان وصلاة الليل وصلاة التهجد في رمضان عبارة عن شيء واحد واسم لصلاة واحدة، وليس التهجد في رمضان غير التراويح؛ لأنه لم يثبت من رواية صحيحة ولا ضعيفة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في ليالي رمضان صلاتين إحداهما التراويح، والأخرى التهجد، فالتهجد في غير رمضان هو التراويح في رمضان، كما يدل عليه حديث أبي ذر وغيره، وإليه ذهب صاحب فيض الباري من الحنفية حيث قال: المختار عندي أن التراويح وصلاة الليل واحد وإن اختلفت صفتاهما، كعدم المواظبة على التراويح، وأدائها بالجماعة، وأدائها في أول الليل تارة، وإيصالها إلى السحر أخرى بخلاف التهجد، فإنه كان في آخر الليل، ولم تكن فيه الجماعة، وجعل اختلاف الصفات دليلاً على اختلاف نوعيهما ليس بجيد عندي، بل كانت تلك صلاة واحدة، إذا تقدمت سميت باسم التراويح، وإذا تأخرت سميت باسم التهجد، ولا بدع في تسميتها باسمين عند تغاير الوصفين، فإنه لا حجر في التغاير الاسمي إذا اجتمعت عليه الأمة، وإنما يثبت تغاير النوعين إذا ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى التهجد مع إقامته بالتراويح-انتهى. قلت: لا شك في أن التراويح والتهجد صلاة واحدة، لكن تخصيص التهجد بكونه في آخر الليل، فيه عندي كلام، نعم أكثر صلاته - صلى الله عليه وسلم - بالليل كانت في آخره. 1303- قوله: (اتخذ) أي في رمضان. (حجرة) بالراء. قال الحافظ: كذا للأكثر بالراء، ولأبي ذر عن الكشمهيني: بالزاي أي شيئاً حاجزاً، يعني مانعاً بينه وبين الناس. (في المسجد) أي في مسجد المدينة

من حصير، فصلى فيها ليالي، حتى اجتمع عليه ناس، ثم فقدوا صوته ليلة، وظنوا أنه قد نام، فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج إليهم، فقال: ـــــــــــــــــــــــــــــ (من حصير) أي موضعاً من المسجد بحصيرة ليستره، يعني جعل الحصير كالحجرة ليصلي فيه التطوع، ولا يمر بين يديه مار ليتوفر خشوعه ويتفرغ قلبه، وفيه جواز مثل هذا إذا لم يكن فيه تضييق على المصلين ونحوهم ولم يتخذه دائماً؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحتجره بالليل يصلي فيه، ويبسطه بالنهار فيجلس عليه، كما في رواية عائشة عند الشيخين. (فصلى فيها) أي في تلك الحجرة. (ليالي) أي من رمضان. (حتى اجتمع) قال القاري: أي فكان يخرج عليه الصلاة والسلام منها، ويصلي بالجماعة في الفرائض والتراويح حتى اجتمع. (عليه ناس) أي وكثروا، وقول ابن حجر ههنا: فأتموا به موهم أن الإقتداء وقع به، وهو في داخل الحجرة، وهو محل بحث، ويحتاج إلى نقل صحيح- انتهى كلام القاري. قلت: ظاهر الحديث أنهم اقتدوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو في داخل الحجرة، ويؤيده رواية البخاري في الأدب بلفظ: فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي فيها قال: فتتبع إليه رجال. (أي طلبوا موضعه واجتمعوا عليه) وجاءوا يصلون بصلاته الخ. ويؤيده أيضاً حديث عائشة عند البخاري قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل في حجرته. (أي التي اتخذها من حصير) وجدار الحجرة قصيرة فرأى الناس شخص النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام أناس يصلون بصلاته- الحديث. وقيل: هذه قصة أخرى غير ما وقع في حديث زيد بن ثابت، والله أعلم. واستشكل صلاته - صلى الله عليه وسلم - في المسجد؛ لأنه يلزم منه أن يكون تاركاً للأفضل الذي أمر به الناس به حيث قال: فصلوا في بيوتكم الخ. وأجيب عنه بوجوه: منها أن هذه الصلاة مما استثني عنه؛ لأن الأفضل عند الجمهور في صلاة التراويح المسجد، كما سيأتي. ومنها أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذ ذاك معتكفاً، ومن المعلوم أن المعتكف لا يصلي إلا في المسجد. ومنها أنه إذا احتجر صار كأنه بيت بخصوصية. ومنها أن السبب في كون صلاة التطوع في البيت أفضل عدم شوبه بالرياء غالباً، والنبي - صلى الله عليه وسلم - منزه عن الرياء في بيته وفي غير بيته. (ثم فقدوا صوته) أي حسه. (ليلة) بأن دخل الحجرة بعد ما صلى بهم الفريضة ولم يخرج إليهم بعد ساعة للتراويح، قاله القاري، وفيه ما تقدم. (فجعل بعضهم يتنحنح) فيه دليل لما أعتيد في بعض النواحي من التنحنح إشارة إلى الاستئذان في دخوله، أو إلى الإعلام بوجود المتنحنح بالباب أو بطلبه خروج من قصده إليه. (ليخرج) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحجرة. (إليهم) لصلاة التراويح بعد أن دخل فيها، كما في الليالي الماضية، قاله القاري. (فقال) أي فخرج فقال، ففي رواية البخاري في الأدب: ثم جاءوا ليلة فحضروا وابطأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنهم، فلم يخرج إليهم فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب، فخرج إليهم مغضبا، وقوله: حصبوا الباب يدل بظاهره على أنه دخل بيتاً من بيوت أزواجه بعد ما صلى بهم الفريضة

ما زال بكم الذي رأيت من صنيعكم، حتى خشيت أن يكتب عليكم، ولو كتب عليكم ما قمتم به، فصلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلم يخرج منه إلى الحجرة التي كان احتجرها في المسجد بالحصير، فحصبوا باب بيته ليخرج منه إلى حجرة الحصير فيصلوا بصلاته من ورائها. (ما زال بكم) أي متلبساً كم. (الذي رأيت) بكم خبر زال قدم على الاسم، وهو الموصول بصلته، أي أبدا ثبت بكم الذي رأيت. (من صنيعكم) قال الحافظ: كذا للأكثر، وللكشمهيني بضم الصاد وسكون النون، أي من شدة حرصكم على إقامة صلاة التراويح بالجماعة، حتى رفعتم أصواتكم وحصب بعضكم الباب وتنحنح بعضكم. (حتى خشيت أن يكتب) أي يفرض (عليكم) أي لو واظبت على إقامتها بالجماعة لفرضت عليكم. (ولو كتب عليكم) ذلك (ما قمتم به) ولم تطيقوه بالجماعة كلكم بعجزكم. قال القاري: فيه دليل على أن التراويح سنة جماعة وانفراداً، والأفضل في عهدنا الجماعة لكسل الناس. وقد استشكلت هذه الخشية مع ما ثبت في حديث الإسراء من أن الله تعالى قال: هن خمس وهن خمسون لا يبدل القول لدي، فإذا أمن التبديل فكيف يقع الخوف من الزيادة؟ وقد أجيب عنه بأجوبة ذكرها الحافظ في الفتح عن الشراح، وتكلم في كل واحد منها، ثم قال: وقد فتح الباري بثلاثة أجوبة أخرى: أحدها يحتمل أن يكون المخوف افتراض قيام الليل بمعنى جعل التهجد في المسجد جماعة شرطاً في صحة التنفل بالليل، ويومئ إليه قوله في حديث زيد بن ثابت: حتى خشيت أن يكتب عليكم ولو كتب عليكم ما قمتم به فصلوا أيها الناس في بيوتكم، فمنعهم من التجميع في المسجد إشفاقاً عليهم من اشتراطه وأمن مع أذنه في المواظبة على ذلك في بيوتهم من افتراضه عليهم. ثانيها: يحتمل أن يكون المخوف افتراض قيام الليل على الكفاية لا على الأعيان، فلا يكون زائداً على الخمس، بل هو نظير ما ذهب إليه قوم في العيد ونحوها. ثالثها: يحتمل أن يكون المخوف افتراض قيام رمضان خاصة، فقد وقع في حديث الباب. (أي حديث عائشة) إن ذلك كان في رمضان، وفي رواية سفيان بن حسين عن الزهري عن عروة عن عائشة عند أحمد: خشيت أن يفرض عليكم قيام هذا الشهر، فعلى هذا يرتفع الإشكال؛ لأن قيام رمضان لا يتكرر كل يوم في السنة، فلا يكون ذلك قدرا زائداً على الخمس، وأقوى هذه الأجوبة الثلاثة في نظري الأول-انتهى كلام الحافظ. (فصلوا أيها الناس في بيوتكم) أي النوافل التي لم تشرع فيها الجماعة والتي لا تخص المسجد، والأمر للاستحباب. (فإن أفضل صلاة المرء) هذا عام لجميع النوافل والسنن إلا النوافل التي من شعار الإسلام كالعيد والكسوف والاستسقاء. قاله القاري. وقال بعض الأئمة الشافعية: هو محمول على ما لا يشرع فيه التجميع، وكذا ما لا يخص المسجد كركعتي التحية. (في بيته) خبر إن أي صلاته في بيته. (إلا الصلاة المكتوبة) أي المفروضة. قال النووي:

متفق عليه. 1304- (2) وعن أبي هريرة قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة فيقول: من قام رمضان إيماناً واحتساباً، ـــــــــــــــــــــــــــــ إنما حث على النافلة في البيت، لكونه أخفى وأبعد من الرياء، وليتبرك البيت بذلك فتنزل فيه الرحمة وينفر منه الشيطان. قلت: والحديث يدل على أن صلاة التراويح في البيت أفضل؛ لأنه ورد في صلاة رمضان في مسجده - صلى الله عليه وسلم -، فإذا كان صلاة رمضان في البيت أفضل منها في مسجده - صلى الله عليه وسلم - فكيف غيرها في مسجد آخر؟ وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن صلاة رمضان أي التراويح في المسجد أفضل، وهذا يخالف هذا الحديث؛ لأن مورده صلاة رمضان. وأجيب عنهم بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك لخشية الافتراض، فإذا زالت الخشية بوفاته - صلى الله عليه وسلم - ارتفعت العلة المانعة، وصار أداءها في المسجد أفضل، كما أداها - صلى الله عليه وسلم - في المسجد عدة ليال، ثم أجراها عمر بن الخطاب واستمر عليها عمل المسلمين إلى يومنا هذا؛ لأنه من الشعائر الظاهرة للإسلام فأشبه صلاة العيد، وأجاب السندي بأنه يقال: صار أفضل حين صار أداءها في المسجد من شعار الإسلام، والله تعالى أعلم. وفي الحديث ندب قيام رمضان جماعة؛ لأن الخشية المذكورة أمنت بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك جمعهم عمر بن الخطاب على أبيّ بن كعب، كما سيأتي. وفيه أن الكبير إذا فعل شيئاً خلاف ما اعتاده أتباعه ينبغي أن يذكر لهم عذره وحكمه والحكمة فيه. وفيه ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه من الشفقة على أمته والرأفة بهم. وفيه ترك بعض المصالح لخوف المفسدة وتقديم أهم المصلحتين. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصلاة والأدب والاعتصام، ومسلم في الصلاة، واللفظ للبخاري في الاعتصام. وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي والبيهقي (ج2 ص494) . 1304- قوله: (يرغب) أي الناس، وهو بضم الياء وفتح الراء وكسر الغين المعجمة المشددة من الترغيب. (في قيام رمضان) أي يحضهم على قيام لياليه، مصلياً أي صلاة التراويح، كما قاله النووي. (من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة) أي بعزم وقطع وبت، يعني بفريضة، وفيه التصريح بعدم وجوب القيام. قال النووي: معناه لا يأمرهم أمر إيجاب وتحتيم بل أمر ندب وترغيب، ثم فسره بقوله فيقول الخ. وهذه الصيغة تقتضي الندب والترغيب دون الإيجاب، واجتمعت الأمة على أن قيام رمضان ليس بواجب بل هو مندوب. (من قام رمضان) أي قام لياليه مصلياً يعني صلى التراويح، وقيل: المراد ما يحصل به مطلق القيام. (إيماناً أي تصديقاً بوعد الله عليه بالثواب. (واحتساباً) أي طلبه للأجر والثواب من غير رياء وسمعة،

غفر له ما تقدم من ذنبه، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر، وصدراً من خلافة عمر على ذلك)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ فنصبهما على المفعول له. وقيل: على الحال مصدران بمعنى الوصف أي مؤمناً بالله ومصدقا بأن هذا القيام حق وتقرب إليه معتقداً فضيلته ومحتسياً بما فعله عند الله أجراً، مريداً به وجه الله، لا يقصد رؤية الناس ولا غير ذلك مما يخالف الإخلاص. وقيل: منصوبان على التمييز، يقال: فلان يحتسب الإخبار أي يتطلبها، ويقال: احتسب بالشيء أي اعتد به. (غفر له ما تقدم من ذنبه) أي من الصغائر من حقوق الله. وقال الحافظ: ظاهره يتناول الصغائر والكبائر، وبه جزم ابن المنذر. وقال النووي: المعروف عند الفقهاء أنه يختص بالصغائر، وبه جزم إمام الحرمين، وعزاه عياض لأهل السنة. قال بعضهم: ويجوز أن يخفف من الكبائر إذا لم يصادف صغيرة- انتهى. وزاد أحمد وغيره وما تأخر. وقال الحافظ: وقد ورد في غفران ما تقدم وما تأخر من الذنوب عدة أحاديث جمعتها في كتاب مفرد، وقد استشكلت هذه الزيادة من حيث أن المغفرة تستدعي سبق شيء يغفر، والمتأخر من الذنوب لم يأت فكيف يغفر، والجواب عنه أنه كناية عن عدم الوقوع يعني يحفظهم الله في المستقبل عن الكبائر فلا تقع منهم كبيرة، وقيل: معناه أن ذنوبهم تقع مغفورة، وبهذا أجاب جماعة منهم الماوردي في الكلام على حديث صيام عرفة، وأنه يكفر سنتين سنة ماضية وسنة آتية. (فتوفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) كذا وقع مدرجاً في نفس الخبر عند مسلم والترمذي وأبي داود، وهو قول الزهري صرح به مالك في الموطأ والبخاري في صحيحة ومحمد بن نصر في قيام الليل من رواية مالك. قال الباجي: وهذا مرسل أرسله الزهري وأدرجه معمر في نفس الحديث. أخرجه مسلم والترمذي وأبوداود من طريق معمر عن ابن شهاب. (والأمر على ذلك) أي على ترك اهتمام الجماعة الواحدة في صلاة التراويح، يعني كانوا يصلون أوزاعاً متفرقين يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، ويصلي بعضهم في أول الليل، وبعضهم في آخره ويصلي بعضهم في بيته وبعضهم في المسجد، إما لكونهم معتكفين أو؛ لأنهم من أهل الصفة أو لغير ذلك. (ثم كان الأمر) أي أمر صلاة التراويح. (على ذلك) أي على وفق ما كان زمانه - صلى الله عليه وسلم - في خلافة أبي بكر أي في جميع زمانها. (وصدراً) بالنصب عطفاً على خبر كان. (من خلافة عمر) أي في أول خلافته، وصدر الشيء وجهه وأوله. (على ذلك) أي ما ذكر، ثم جمعهم عمر على قاري في المسجد واهتم بالجماعة الواحدة، قيل: المراد بصدر من خلافته السنة الأولى من خلافته؛ لأن بدء خلافته في أخرى الجمادين سنة ثلاث عشرة، واستقر أمر التراويح سنة أربع عشرة من الهجرة في السنة الثانية من خلافته، كما ذكره السيوطي وابن الأثير وابن سعد. قال الباجي: وإنما أمضاه أبوبكر على ما كان في زمنه - صلى الله عليه وسلم - وإن كان قد علم أن

رواه مسلم. 1305- (3) وعن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده، فليجعل لبيته نصيباً من صلاته، فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيراً)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشرائع لا تفرض بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - لأحد وجهين: إما لأنه شغل بأمر أهل الردة وغير ذلك من مهمات الأمور، ولم يتفرغ للنظر في جميع أمور المسلمين مع قصر مدة خلافته، أو لأنه رأى من قيام الناس في آخر الليل وقوتهم عليه ما كان أفضل عنده من جمعهم على إمام واحد في أول الليل، ثم رأى عمر أن يجمعهم على إمام واحد-انتهى مختصراً. والحديث يدل على فضيلة قيام رمضان وتأكد استحبابه، واستدل به أيضاً على استحباب صلاة التراويح؛ لأن القيام المذكور في الحديث المراد به صلاة التراويح، كما تقدم عن النووي والكرماني. قال النووي: واتفق العلماء على استحبابها، قال: واختلفوا في أن الأفضل صلاتها في بيته منفرداً أم في جماعة في المسجد، فقال الشافعي: وجمهور أصحابه وأبوحنيفة وأحمد وبعض المالكية وغيرهم: أن الأفضل صلاتها جماعة في المسجد، كما فعله عمر بن الخطاب والصحابة رضي الله عنهم، واستمر عمل المسلمين عليه؛ لأنه من الشعائر الظاهرة فأشبه صلاة العيد، وبالغ الطحاوي فقال: إن صلاة التراويح في الجماعة واجبة على الكفاية. وقال مالك وأبويوسف وبعض الشافعية وغيرهم: الأفضل فرادى في البيت لحديث زيد بن ثابت المتقدم بلفظ: صلوا في بيوتكم الخ. وقد تقدم الجواب عنه. وقال الحافظ: عند الشافعية في أصل المسألة ثلاثة أوجه، ثالثها: من كان يحفظ القرآن ولا يخاف من الكسل ولا تختل الجماعة في المسجد بتخلفه فصلاته في الجماعة والبيت سواء، فمن فقد بعض ذلك فصلاته في الجماعة أفضل- انتهى. قلت: وهذا هو الراجح عندي، والله تعالى أعلم. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد ومالك والبخاري والترمذي وأبوداود ومحمد بن نصر والبيهقي (ج2 ص492) . لكن ليس عند البخاري قوله: كان يرغب في قيام رمضان إلى قوله بعزيمة وأخرجه النسائي وابن ماجه مختصراً. 1305- قوله: (إذا قضى أحدكم الصلاة) أي أداها "وال" للعهد أي المكتوبة. (في مسجده) يعني أدى الفرض في محل الجماعة، ويحتمل أن المراد مطلق الصلاة التي يريد أن يصليها في المسجد. قال السندي: يحتمل أن المراد بالصلاة جميع ما يريد أن يصلي من الفرائض والنوافل، والمعنى إذا أراد أن يقضي ويؤدي تلك الصلاة. (فليجعل لبيته نصيباً من صلاته) أي فليصل شيئاً منها في البيت، "فمن" تبعيضية، ويحتمل أن المراد بها الفرائض، والمعنى إذا فرغ من الفرائض في المسجد فليجعل نصيباً منه في البيت يجعل سنته ومتعلقاته فيه، ومن سببية. (فإن الله تعالى جاعل) أي خالق أو مصير. (في بيته من صلاته) أي من أجلها. (خيراً) يعود على أهله

{الفصل الثاني}

رواه مسلم. {الفصل الثاني} 1306- (4) عن أبي ذر، قال: ((صمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يقم بنا شيئاً من الشهر حتى بقي سبع، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، فلما كانت السادسة لم يقم بنا، فلما كانت الخامسة قام بنا، حتى ذهب شطر الليل، ـــــــــــــــــــــــــــــ بتوفيقهم وهدايتهم ونزول البركة في أرزاقهم وأعمارهم. قال العلقمي: من سببية بمعنى من أجل، والخير الذي يجعل في البيت بسبب التنفل فيه هو عمارته بذكر الله تعالى وطاعته، وحضور الملائكة واستغفارهم ودعاؤهم، وما يحصل لأهله من الثواب والبركة، وتستثنى التراويح لما تقدم من فعله عليه السلام ولما تقرر عليه عمل الصحابة بعده، فيراد المصنف هذا الحديث في هذا الباب تبعاً للبغوي موهم، كما لا يخفى. (رواه مسلم) وكذا أحمد (ج3 ص316) والبيهقي (ج2 ص189) كلهم من طريق أبي معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر، وأخرجه ابن ماجه والبيهقي أيضاً من حديث أبي سعيد كلاهما من طريق سفيان عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن أبي سعيد الخدري. قال البوصيري في الزوائد: رجاله ثقات. وأخرجه أيضاً ابن خزيمة في صحيحة من حديث أبي سعيد، كما في الترغيب، وأخرجه الدارقطني في الإفراد عن أنس. 1306- قوله: (صمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي في رمضان، كما في رواية أبي داود والنسائي وابن ماجه والبيهقي. (فلم يقم بنا) أي في لياليه يعني لم يصل لنا التراويح. (شيئاً من الشهر) بل كان إذا صلى الفرض دخل حجرته. (حتى بقي سبع) أي من الشهر، كما في الترمذي والنسائي أي ومضى اثنان وعشرون. قال الطيبي: أي سبع ليال نظراً إلى المتيقن، وهو أن الشهر تسع وعشرون، فيكون القيام في قوله: (فقام بنا) ليلة الثالثة والعشرين، وهو مصرح في بعض روايات أحمد، وصرح أيضاً بذلك في حديث النعمان بن بشير عند النسائي. ولفظ ابن ماجه: فقام بنا ليلة السابعة. قال السندي: وهي الأولى من الباقية، ودأب العرب أنهم يحسبون الشهر من الآخر، وهذا القيام لم يعلم كيف كان، وفسره كثير من العلماء بالتراويح- انتهى. ورواه البيهقي بلفظ: فلم يقم بنا من الشهر شيئاً حتى كانت ليلة ثلاث وعشرين قام بنا حتى ذهب نحو من ثلث الليل. (حتى ذهب ثلث الليل) قال شيخنا: المراد بالقيام صلاة الليل، والمعنى صلى بنا بالجماعة صلاة الليل إلى ثلث الليل، وفيه ثبوت صلاة التراويح بالجماعة في المسجد أول الليل- انتهى كلام الشيخ. وهذا يدل على أن المراد عنده بقيام ليالي رمضان صلاة التراويح، كما ذهب إليه كثير من العلماء، وادعى الكرماني الاتفاق عليه. (فلما كانت السادسة) أي مما بقي وهي الليلة الربعة والعشرون. (فلما كانت الخامسة) وهي الليلة الخامسة والعشرون. (حتى ذهب شطر الليل) أي نصفه

فقلت: يا رسول الله! لو نفلتنا قيام هذه الليلة؟ فقال: إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف، حسب له قيام الليلة. فلما كانت الرابعة لم يقم بنا حتى بقي ثلث الليل، ـــــــــــــــــــــــــــــ (لو نفلتنا) بتشديد الفاء من التنفيل. (قيام هذه الليلة) وفي رواية الترمذي والنسائي وابن ماجه بقية ليلتنا هذه، أي لو أعطيتنا قيام بقية الليل وزدتنا إياه كان أحسن وأولى، ويحتمل أن كلمة "لو" للتمني فلا جواب لها. وقال القاري: أي لو جعلت الليل زيادة لنا على قيام الشطر. وفي النهاية: لو زدتنا من الصلاة النافلة، سميت بها النوافل؛ لأنها زائدة على الفرض. قال المظهر: تقديره لو زدت قيام الليل على نصفه لكان خيراً لنا. (إن الرجل) أي جنسه. (إذا صلى) أي الفرض. (مع الإمام) أي وتابعه. (حتى ينصرف) أي الإمام. (حسب) على البناء للمفعول أي عد واعتبر (له) وفي رواية النسائي: كتب الله له. (قيام ليلة) قال القاري: أي حصل له ثواب قيام ليلة تامة، يعني الأجر حاصل بالفرض، وزيادة النوافل مبنية على قدر النشاط؛ لأن الله لا يمل حتى تملوا. والظاهر أن المراد بالفرض العشاء والصبح لحديث ورد بذلك يعني عثمان المتقدم في باب فضائل الصلاة بلفظ: من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله. أخرجه مسلم وغيره. وقيل: المراد بالصلاة في قوله: إذا صلى مع الإمام صلاة التراويح، والمعنى: (إن الرجل إذا صلى) أي التراويح في أول الليل في رمضان. (مع الإمام حتى ينصرف) أي يفرغ الإمام من الصلاة ويرجع. (حسب له قيام ليلة) أي كاملة، وعلى هذا يكون دليلاً للجمهور على أن صلاة التراويح مع الإمام أفضل من الانفراد، وأجاب من خالفهم بأنه يجوز أن يكتب له بالقيام مع الإمام بعض الليل قيام كله، وأن يكون قيامه في بيته أفضل من ذلك، ولا منافاة بين الأمرين. وأما حديث عثمان الذي أشار إليه القاري، فيقال في معناه: أن من صلى فريضة العشاء والصبح مع الإمام أي بالجماعة يكون له ثواب ليلة كاملة ثواب صلاة الفرض، ويقال ههنا أنه إذا صلى التراويح مع الإمام حتى ينصرف يحصل له ثواب ليلة كاملة ثواب صلاة النفل. قيل: ويؤيد ذلك رواية الترمذي والنسائي وابن ماجه بلفظ: "من قام مع الإمام" بدل "إذا صلى مع الإمام"، فإن لفظ القيام ظاهر في معنى صلاة الليل أي التراويح، ويؤيده أيضاً أن أبا ذر سأله - صلى الله عليه وسلم - أن ينفل بقية الليلة، وهذا يقتضي أن يجيب بأنه لا يحتاج إلى قيام بقية الليلة؛ لأن ثواب الليلة التامة قد حصل بالقدر الذي قام بهم، ويؤيده أيضاً أن قوله: "حتى ينصرف" فإنه يشير إلى أن الانصراف قبل أن ينصرف الإمام من جميع صلاته ممكن، ومن المعلوم أن الانصراف في الفرض في أثناء الصلاة غير ممكن؛ لأنه لا يحصل إلا بعد ما ينصرف الإمام، بخلاف التراويح فإن الانصراف فيها قبل انصراف الإمام ممكن؛ لأنها شفعات متعددة فيمكن أن ينصرف الرجل قبل أن يفرغ الإمام من جميع صلاة التراويح. (فلما كانت الرابعة) أي من الباقية، وهي السادسة والعشرون. (لم يقم بنا حتى بقي ثلث الليل)

فلما كانت الثالثة، جمع أهله ونساءه والناس، فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح. قلت: وما الفلاح؟ قال: السحور. ثم لم يقم بنا بقية الشهر)) . رواه أبوداود، والترمذي، والنسائي. ـــــــــــــــــــــــــــــ كذا في جميع النسخ الموجودة، ولم يظهر لي معناه، ولفظ أبي داود ثم على قوله لم يقم أي ليس عنده "بنا حتى بقي ثلث الليل" ولفظ النسائي ثم لم يصل بنا ولم يقم بنا حتى بقي ثلث من الشهر. ولفظ الترمذي: ثم لم يصل بنا حتى بقي ثلث من الشهر، وذكره الجزري في جامع الأصول (ج7 ص82) بلفظ: ثم لم يقم بنا حتى بقي ثلث من الشهر. وذكره البغوي في المصابيح بلفظ: فلما كانت الرابعة لم يقم بنا حتى بقي ثلاث. والظاهر أن البغوي أخذ قوله "فلما كانت الرابعة لم يقم" من أبي داود، وأخذ قوله "بنا حتى بقي ثلاث" من الترمذي والنسائي وأسقط لفظ: من الشهر، فسياق البغوي مجموع ما في أبي داود والنسائي والترمذي. والمراد بقوله: ثلاث أي ثلاث من الشهر، كما هو مصرح عند الترمذي والنسائي. وأما ما وقع في المشكاة من قوله: ثلث الليل فهو خطأ بلا شبهة، والعجب أنه لم يتنبه لذلك أحد من الشراح. ولفظ ابن ماجه: ثم كانت الرابعة التي تليها فلم يقمها حتى كانت الثالثة التي تليها. (فلما كانت الثالثة) أي من الباقية وهي الليلة السابعة والعشرون (جمع أهله ونساءه) فيه استحباب ندب الأهل إلى فعل الطاعات وإن كانت غير واجبة، وفيه تأكد مشروعية القيام في الإفراد من ليالي العشر الآخرة من رمضان؛ لأنها مظنة الظفر بليلة القدر، واهتم - صلى الله عليه وسلم - في السابعة والعشرين بجمع أهله وغيرهم؛ لأنها أرجاها. (حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح) قال في القاموس: الفلاح الفوز والنجاة والبقاء في الخير والسحور. (قلت) قائله جبير بن نفير الراوي عن أبي ذر. (وما الفلاح قال) أي أبوذر. (السحور) أي المراد بالفلاح السحور، وهو بفتح السين ما يتسحر به من الطعام والشراب، أي ما يوكل وقت السحر، وهو بفتحتين آخر الليل قبيل الصبح، وبالضم المصدر والفعل نفسه. قال القاضي: الفلاح الفوز بالبغية، سمي السحور به؛ لأنه يعين على إتمام الصوم، وهو الفوز بما قصده ونواه والموجب للفلاح في الآخرة. وقال الخطابي: أصل الفلاح البقاء، وسمي السحور فلاحاً لكونه سبباً لبقاء الصوم ومعيناً عليه، ومن ذلك حي على الفلاح أي العمل الذي يخلدكم في الجنة، فهو من تسمية السبب باسم المسبب. وقيل: سمي به لأنه معين على إتمام الصوم المفضي إلى الفلاح، وهو الفوز بالزلفى والبقاء في العقبى. (ثم لم يقم بنا بقيه الشهر) أي في الثامنة والعشرين والتاسعة والعشرين، وحديث أبي ذر هذا يخالف ما روته عائشة من قيامه - صلى الله عليه وسلم - في ليالي رمضان بالجماعة في المسجد عند الشيخين وغيرهما، فإن ظاهره يدل على أن صلاته - صلى الله عليه وسلم - بالجماعة كانت في الليالي الموصولة، وفي حديث أبي ذر تصريح بأن صلاته كانت في الليالي المفصولة، أي في الأوتار فقط، فأما أن يحمل على تعدد القصة أو يقال بأنه ليس في حديث عائشة ذكر الوصل صريحاً، فيحمل على الفصل، كحديث أبي ذر. (رواه أبوداود) واللفظ له إلا قوله: بنا حتى بقي ثلث الليل. (والترمذي والنسائي)

وروى ابن ماجه نحوه، إلا أن الترمذي لم يذكر: ثم لم يقم بنا بقية الشهر. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأخرجه أيضاً أحمد (ج5 ص159و 163و 172و 180) والحاكم ومحمد بن نصر (ص89) والبيهقي (ج2 ص494) . والحديث صححه الترمذي والحاكم، وسكت عنه أبوداود ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره. (وروى ابن ماجه نحوه) أي بمعناه. (إلا أن الترمذي لم يذكر: ثم لم يقم بنا بقية الشهر) وكذا لم يذكره النسائي. تنبيه اعلم أنه لم يرو في حديث أبي ذر هذا بيان عدد الركعات التي صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تلك الليالي، لكن قد ورد بيانه في حديث جابر بن عبد الله قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان ثمان ركعات وأوتر- الحديث. أخرجه الطبراني في الصغير، وأبويعلى ومحمد بن نصر في قيام الليل، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما. قال الذهبي في الميزان (ج2 ص311) بعد ذكر هذا الحديث إسناده وسط- انتهى. وذكر الحافظ: هذا الحديث في الفتح في شرح عائشة الذي أشرنا إليه لبيان عدد الركعات التي صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان بالجماعة، فهو صحيح عنده أو حسن، لما ذكر في المقدمة أنه يسوق الباب وحديثه أولاً، ثم يذكر وجه المناسبة بينهما إن كانت خفية، ثم يستخرج ثانياً ما يتعلق به غرض صحيح في ذلك الحديث من الفوائد المتنية والإسنادية من تتمات وزيادات، وكشف غامض وتصريح مدلس بسماع ومتابعة سامع من شيخ اختلط قبل ذلك، كل ذلك من أمهات المسانيد والجوامع والمستخرجات والأجزاء والفوائد بشرط الصحة أو الحسن فيما يورده من ذلك، وذكره أيضاً في التلخيص لبيان عدد تلك الركعات، وسكت عنه ولم يتكلم فيه، وذكره أيضاً العيني في شرح البخاري لبيان عدد ركعاته - صلى الله عليه وسلم - في قيامه بالناس في ليالي رمضان نقلاً عن صحيحي ابن خزيمة وابن حبان، ولم يتكلم فيه. فإن قلت قال النيموني في آثار السنن بعد ذكر حديث جابر المذكور: في إسناده لين، وقال في تعليقه مداره على عيسى بن جارية، ثم ذكر جرح ابن معين وأبي داود والنسائي وتوثيق أبي زرعة وابن حبان، ثم قال قول الذهبي: إسناده وسط ليس بصواب، بل اسناده دون وسط – انتهى. قلت: قال الحافظ في شرح النخبة: الذهبي من أهل الاستقرار التام في نقد الرجال- انتهى. فلما حكم الذهبي بأن إسناده وسط بعد ذكر الجرح والتعديل في عيسى بن جارية، وهو من أهل الاستقرار التام في نقد الرجال، فحكمه بأن إسناده وسط هو الصواب. ويؤيده إخراج ابن خزيمة وابن حبان هذا الحديث في صحيحيهما، فلا يلتفت إلى قول النيموني، ويشهد لحديث جابر هذا حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سأل عائشة: كيف كان صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان؟ فقالت: ما كان يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي

ثلاثاً- الحديث. أخرجه الشيخان وغيرهما، فهذا الحديث نص في أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما صلى التراويح في رمضان ثمان ركعات فقط، ولم يصل بأكثر منها. قال في العرف الشذى (ص201) : هذه الرواية رواية الصحيحين، وفي الصحاح صلاة تراويحة عليه السلام ثمان ركعات. وفي السنن الكبرى وغيره بسند ضعيف من جانب أبي شيبة فإنه ضعيفة اتفاقاً: عشرون ركعة، وقال في (ص329، 330) : ثم أن حديث: يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، فيه تصريح أنه حال رمضان، فإن السائل سأل عن حال رمضان وغيره، كما عند الترمذي ومسلم، ولا مناص من تسليم أن تراويحه عليه السلام كانت ثمانية ركعات، ولم يثبت في رواية من الروايات أنه عليه السلام صلى التراويح والتهجد على حدة في رمضان، بل طول التراويح، وبين التراويح والتهجد في عهده عليه السلام لم يكن فرق في الركعات، بل في الوقت والصفة أي التراويح تكون بالجماعة في المسجد بخلاف التهجد، وأن الشروع في التراويح يكون في أول الليل، وفي التهجد في آخر الليل، ثم مأخوذ الأئمة الأربعة من عشرين ركعة هو عمل الفاروق الأعظم. وأما النبي - صلى الله عليه وسلم - فصح عنه ثمان ركعات، وأما عشرون ركعة، فهو عنه عليه السلام بسند ضعيف، وعلى ضعفه إتفاق- انتهى. فإن قلت قد ثبت في الصحيح من حديث عائشة: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل العشر الأواخر يجتهد مالا يجتهد في غيره، وفي الصحيح أيضاً من حديثها كان إذا دخل العشر أحيى الليل وأيقظ أخله وجد وشد ميزره، وهذا يدل على أنه كان يزيد في العشر الأواخر على عادته، وهو مخالف لحديث أبي سلمة عن عائشة المذكور. قلت: المراد بالاجتهاد تطويل الركعات لا الزيادة في العدد. قال العيني: إن الزيادة في العشر الأواخر يحمل على التطويل دون الزيادة في العدد- انتهى. وأما ما روى ابن أبي شيبة في مصنفه والطبراني في الكبير والأوسط والبيهقي (ج2 ص496) عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي في رمضان عشرين ركعة سوى الوتر، فهو ضعيف جداً لا يصلح للاستدلال ولا للاستشهاد ولا للاعتبار، فإن مداره على أبي شيبة إبراهيم بن عثمان، وهو متروك الحديث، كما في التقريب. قال الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص153) : هو معلول بأبي شيبة إبراهيم بن عثمان، وهو متفق على ضعفه، ولينه ابن عدي في الكامل، ثم إنه مخالف للحديث الصحيح عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سأل عائشة: كيف كانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان قالت: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة- الحديث. انتهى كلام الزيلعي. وقال ابن الهمام في فتح القدير بعد ذكر هذا الحديث: هو ضعيف بأبي شيبة إبراهيم بن عثمان متفق على ضعفه مع مخالفته للصحيح. وقال العيني في شرح البخاري (ج11 ص128) بعد ذكر هذا الحديث: وأبوشيبة هو إبراهيم بن عثمان العبسي الكوفي، قاضي واسط، جد أبي بكر أبي شيبة، كذبه

شعبة، وضعفه أحمد وابن معين والبخاري والنسائي وغيرهم، وأورد له ابن عدي هذا الحديث في الكامل في مناكيره- انتهى. وقال البيهقي (ج2 ص496) بعد روايته: تفرد به أبوشيبة إبراهيم بن عثمان العبسي الكوفي، وهو ضعيف- انتهى. وقال النيموني في تعليق آثار السنن (ج2 ص56) : وقد أخرجه عبد بن حميد الكشي في مسنده، والبغوي في معجمه، والبيهقي في سننه، كلهم من طريق أبي شيبة إبراهيم بن عثمان وهو ضعيف، ثم نقل كلام البيهقي المذكور، وجروح أئمة الجرح والتعديل عن التهذيب والميزان والتقريب. وقال الزرقاني في شرح الموطأ: حديث ابن عباس في عشرين ركعة حديث ضعيف. وهذا كله يدل على أن حديث ابن عباس هذا ضعيف جداً عند جميع العلماء الحنفية والشافعية والمالكية وغيرهم، ومع ذلك قد تفوّه بعض الحنفية في هذا العصر بأن رواية ابن عباس إذ هي مؤيدة بآثار الصحابة أولى من رواية جابر. (المتقدمة) وإن كان فيها بعض الضعف، فإن جمهور الصحابة متفقة على صلاة التراويح بعشرين ركعة- انتهى. قلت: قد تقدم أن حديث ابن عباس ضعيف جداً، قد أطبق الأئمة على ضعفه، ومع هذا فهو مخالف لحديث عائشة المتفق عليه بخلاف حديث جابر فإنه صحيح أو حسن، ولم يضعفه أحد ممن يعتمد عليه، وله شاهد صحيح، وهو حديث عائشة، فهو أولى بالقبول وأحق بالعمل. وأما دعوى تأيد حديث ابن عباس بعمل جمهور الصحابة فهي مردودة بما سيأتي من حديث السائب بن يزيد قال: أمر عمر أبيّ بن كعب وتميماً الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، وبما روى سعيد بن منصور في سننه عن السائب بن يزيد قال: كنا نقوم في زمن عمر بن الخطاب بإحدى عشرة ركعة. قال السيوطي: هذا الأثر إسناده في غاية الصحة، هذا وقد حاول بعضهم إثبات صحة حديث ابن عباس حيث قال في تعليقه على المشكاة: حديث ابن عباس في عشرين ركعة الذي ضعفه أئمة الحديث هو صحيح عندي، لما ذكر السيوطي في التدريب. قال بعضهم: يحكم للحديث بالصحة إذا تلقاه الناس بالقبول وإن لم يكن له إسناد صحيح، يعني فحديث ابن عباس هذا حقيق بأن يصحح، لما تلقاه الخلفاء الراشدون والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذي استقر عليه الأمر في سائر البلدان والأمصار- انتهى كلامه مخلصاً مختصراً. قلت: التصدي لإثبات صحة حديث ابن عباس المتفق على ضعفه بمثل هذا الكلام الواهي عصبية باردة، لا يفعل هذا إلا صاحب التقليد الأجوف والعصبية العمياء؛ لأن الصحيح الثابت عن عمر، هو جمعه الناس على إحدى عشرة ركعة لا عشرين، كما تقدم، وسيأتي أيضاً، ولو سلمنا أن طائفة من الصحابة والتابعين كانوا يصلون عشرين ركعة فليس ههنا أثر للتلقي الذي جعله بعض العلماء موجباً لقبول الخبر الغير الصحيح؛ لأنه لا دليل على أن حديث ابن عباس هذا قد بلغ هؤلاء الصحابة ولا على أنهم

1307- (5) عن عائشة، قالت: ((فقدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة، فإذا هو بالبقيع، فقال: أكنت تخافين أن يحيف الله عليك ورسول؟ قلت: يا رسول الله! إني ظننت إنك أتيت بعض نسائك، ـــــــــــــــــــــــــــــ تعرضوا للاحتجاج به واستشهدوا به عند العمل أو استأنسوا به، وما لم يثبت ذلك لا تصح دعوى وجود التلقي المصطلح الذي يكون فيه غني من الإسناد، على أنه قال السيوطي في التدريب (ص115) : مما يدل على صحة الحديث أيضاً كما ذكره أهل الأصول موافقة الإجماع له على الأصح لجواز أن يكون المستند غيره. وقيل يدل- انتهى. والحاصل أن الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قيام رمضان في الجماعة هو إحدى عشرة ركعة مع الوتر لا غير، فهي السنة لا العشرون، ولله در ابن الهمام حيث اعترف بضعف حديث ابن عباس ومخالفته لحديث عائشة الصحيح، ولم يتحمل لتصحيح حديث ابن عباس، وصرح بأن العشرين ليست سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -. قلت: ويدل أيضاً على كون التراويح ثمان ركعات ما روي عن جابر بن عبد الله قال: جاء أبيّ بن كعب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله! أنه كان منى الليلة شيء، يعني في رمضان قال: وما ذاك يا أبيّ؟ قال: نسوة في داري قلن إنا لا نقرأ القرآن فنصلي بصلاتك، قال: فصليت بهن ثمان ركعات وأوترت، فكانت سنة الرضا ولم يقل شيئاً. رواه أبويعلى والطبراني بنحوه في الأوسط. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص74) : إسناده حسن- انتهى. قلت: وأخرجه أيضاً محمد بن نصر المروزي في قيام الليل وعبد الله بن أحمد في المسند (ج5 ص115) ، وفي إسناده من لم يسم، وسيأتي مزيد الكلام في هذه المسألة. 1307- قوله: (فقدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي غاب عني. قال في النهاية: فقدت الشيء أفقده إذا غاب عنك. (ليلة) من ليالي تعني الليلة التي كان فيها عندي. (فإذا هو بالبقيع) أي فخرجت أطلبه فإذا هو واقف بالبقيع، والمراد بالبقيع بقيع الغرقد، وهو موضع بظاهر المدينة، فيه قبور أهلها، كان به شجر الغرقد، فذهب وبقي اسمه، كذا في النهاية. (أن يحيف) الحيف الظلم والجور، أي أظننت أن قد ظلمتك يجعل نوبتك لغيرك، وذلك مناف لمنصب الرسالة وذكر الله تعظيماً لرسوله ودلالة على أن فعل الرسول عادة لا يكون إلا بإذنه وأمره. وقال الطيبي: أو تزييناً للكلام وتحسيناً، أو حكاية لما وقع في الآية أم تخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله، وإشارة إلى التلازم بينهما كالإطاعة والمحبة. قال العيني: يعني ظننت أني ظلمتك بأن جعلت من نوبتك لغيرك، وذلك مناف لمن تصدي بمنصب الرسالة، وهذا معنى العدول عما هو مقتضى ظاهر العبارة، وهو ظننت أني أحيف عليك، فوضع رسوله موضع الضمير للاشعاء بأن لحيف ليس من شيم الرسل، وفيه أن القسم كان واجباً عليه، إذ لا يكون تركه جوراً إلا إذا كان واجباً. (قلت يا رسول الله إني ظننت أنك أتيت بعض نسائك) أي زوجاتك لبعض مهماتك فأردت تحقيقها، وحملني على

فقال: إن الله تعالى ينزل ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا، فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب)) . رواه الترمذي، وابن ماجه. وزاد رزين: ممن استحق النار. وقال الترمذي: سمعت محمداً ـ يعني ـ يضعف هذا الحديث. ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا الغيرة الحاصلة للنساء التي تخرجهن عن دائرة العقل وحائزة التدبر للعاقبة من المعاتبة أو المعاقبة. والحاصل إني ما ظننت أن يحيف الله ورسوله علي أو على غيري، بل ظننت أنك بأمر من الله أو باجتهاد منك خرجت من عندي لبعض نسائك؛ لأن عادتك أن تصلي النوافل في بيتك، كذا في المرقاة. ولفظ ابن ماجه قالت. (أي عائشة) : قد قلت. (أي في جوابه - صلى الله عليه وسلم -) وما بي ذلك. (أي الخوف والظن السوء بالله ورسوله) ولكني ظننت أنك أتيت بعض نسائك. قال السندي: أي لكني ظننت أنك فعلت ما أحل الله لك من الإتيان لبعض نسائك، تريد أنها ما جوزت ذلك ولا زعمته من جهة كونه حيفا وجورا، ولكونه جوزته من جهة أنه في ذاته إتيان بعض النساء، وهو حلال، والمقصود أنها ما لاحظت ذلك من جهة كونه ظلماً، ولكن لاحظت من جهة كونه حلالاً، فلذلك جوزته فانظر إلى كمال عقلها، فإنها قد زعمت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك جوراً، وقال: أتخافين من الله تعالى ورسوله؟ فإن قالت في الجواب نعم خفت ذلك يكون قبيحاً، وإن قالت ما خفته يكون كذباً فتفطن- انتهى. (فقال: إن الله تعالى ينزل) استئناف لبيان موجب خروجه من عندها، يعني خرجت للدعاء لأهل البقيع لما رأيت من كثرة الرحمة في هذه الليلة. (فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب) أي قبيلة بني كلب وخصمهم؛ لأنهم أكثر غنماً من سائر العرب نقل الأبهري عن الأزهار: أن المراد بغفران أكثر عدد الذنوب المغفورة لا عدد أصحابها، وهكذا رواه البيهقي- انتهى. وأما الحديث الآتي فيغفر لجميع خلقه فالمراد أصحابها، كذا في المرقاة. (رواه الترمذي) في الصيام. (وابن ماجه) في أواخر الصلاة كلاهما من رواية حجاج بن أرطاة عن يحيى بن أبي كثير عن عروة عن عائشة. قال الترمذي: لا نعرفه إلا من هذا الوجه، والحديث منقطع، كما ستعرف. (وزاد رزين ممن استحق النار) قال ابن حجر: أي من المؤمنين، كما صرح به قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [4: 48] . وقيد ذلك في روايات بينتها ثم بغير المشاحن وقاطع الرحم ومدمن الخمر ومسبل الإزار وعاق لوالديه. (وقال الترمذي: سمعت محمداً يعني البخاري) هو تفسير من المصنف. (يضعف) يعني البخاري. (هذا الحديث) ويقول يحيى بن أبي كثير: لم يسمع من عروة والحجاج لم يسمع من يحيى بن أبي كثير- انتهى. فالحديث منقطع في موضعين أحدهما ما بين الحجاج ويحيى، والآخر ما بين يحيى وعروة. والحديث المنقطع من أقسام (1) كذا في الأصل، ولعله وسمي ذلك جوراً.

{الفصل الثالث}

1308- (6) وعن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة)) . رواه أبوداود، والترمذي. {الفصل الثالث} 1309- (7) عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاري، ـــــــــــــــــــــــــــــ الضعيف، لكنه ورد في فضيلة ليلة النصف من شعبان أحاديث أخرى، وقد ذكر المصنف بعضها في الفصل الثالث، وسنذكر بقيتها هناك إن شاء الله تعالى. وهي بمجموعها حجة على من زعم أنه لم يثبت في فضيلتها شيء. قيل في وجه مناسبة هذا الحديث بالباب: الإيذان بأن ليلة النصف من شعبان لما ورد في إحيائها من الثواب ما لا يحصى كانت كالمقدمة لقيام رمضان، فاستدعى ذكره: ذكرها قال القاري، أو لأن الكلام لما كان في القيام والمراد الأعظم منه إدراك ليلة القدر فذكر ليلة البراءة طرد الباب. 1308- قوله: (صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا) ؛ لأنه أبعد من الرياء. والحديث يدل على استحباب فعل صلاة التطوع في البيوت. وأن فعلها فيها أفضل من فعلها في المساجد، ولو كانت المساجد فاضلة كالمسجد الحرام ومسجده - صلى الله عليه وسلم - ومسجد بيت المقدس، فلو صلى الرجل نافلة في مسجد المدينة كانت بألف صلاة على القول بدخول النوافل في عموم الحديث، وإذا صلاها في بيته كانت أفضل من ألف صلاة، وهكذا حكم المسجد الحرام ومسجد المقدس. وقد تقدم أنه استثنى من عموم حديث الباب ما تشرع فيه الجماعة من النوافل كالعيدين، والاستسقاء، والكسوف، والتراويح، وما يخص المسجد كصلاة القدوم من السفر، وتحية المسجد. (إلا المكتوبة) أي الصلوات المكتوبات، وهي الصلوات الخمس. وهذا في حق الرجال دون النساء، فيجب على الرجال أن يصلوا المكتوبات في المساجد بالجماعة. وأما النساء فصلاتهن في البيوت أفضل، مكتوبة كانت أو نافلة وإن أذن لهن في حضور المكتوبات في المساجد. (رواه أبوداود والترمذي) واللفظ لأبي داود، وقد سكت عنه هو، وحسنه الترمذي، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره. والحديث ذكره المجد في المنتقى في باب إخفاء التطوع بلفظ: أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة، وقال رواه الجماعة إلا ابن ماجه، لكن له معناه من رواية عبد الله بن سعد-انتهى. 1309- قوله: (عن عبد الرحمن بن عبدٍ) بالتنوين أي بغير إضافة. (القاري) بخفة راء وشدة ياء بلا همزة، نسبة إلى القارة بن الديش قبيلة مشهور، يقال إنه ولد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليس له منه سماع ولا رؤية، وقيل: أتي به إليه، وهو صغير. وذكره العجلي في ثقات التابعين. واختلف قول الواقدي فيه، قال تارة:

قال خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني لو جمعت هؤلاء على قاري واحد لكان أمثل، ثم عزم، فجمعهم على أبيّ بن كعب، ـــــــــــــــــــــــــــــ له صحبة، وتارة: تابعي. والمشهور أنه تابعي من أجلة تابعي المدينة، وكان عاملاً لعمر على بيت المال. مات سنة. (88) ، وهو ابن (78) سنة. (خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة) أي في رمضان كما في البخاري. (إلى المسجد) النبوي. (فإذا الناس) بعد صلاتهم العشاء جماعة واحدة. وكلمة "إذا" للمفاجأة. (أوزاع) بفتح الهمزة وسكون الواو بعدها زاي أي جماعات متفرقة، لا واحد له من لفظه. وقوله: (متفرقون) تأكيد لفظي. وقال الطيبي. كعطف البيان. (يصلي الرجل لنفسه) هذا وما بعده بيان لما أجمل أولاً بقوله: أوزاع. (ويصلي الرجل) الآخر. (فيصلي) أي مقتدياً (بصلاته الرهط) بسكون الهاء ويحرك، ما بين الثلاثة إلى العشرة. وقيل: إلى الأربعين والحاصل أن بعضهم كان يصلي منفرداً، وبعضهم يصلي جماعة. (فقال عمر: إني لو) قال ابن حجر: وفي نسخة: إني أرى لو قلت، وكذا وقع عند البخاري، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7:ص83) وفي الموطأ: إني لأراني لو (جمعت هؤلاء على قارئ واحد) يأتمون كلهم به، ويسمعون قراءته. (لكان أمثل) أي أفضل؛ لأنه أنشط لكثير من المصلين فيكون الثواب أكمل. يقال: هذا أمثل من كذا أي أفضل وأدنى إلى الخير، وأماثل الناس خيارهم. قال ابن التين وغيره: استنبط عمر ذلك من تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - من صلى معه في تلك الليالي وإن كان كره ذلك لهم، فإنما كرهه خشية أن يفرض عليهم، فلما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - حصل الأمن من ذلك، ورجح عند عمر ذلك لما في الاختلاف من افتراق الكلمة، ولأن الاجتماع على واحد أنشط لكثير من المصلين. وإلى قول عمر جنح الجمهور. (ثم عزم) أي على ذلك وصمم عليه عمر. (فجمعهم) أي الرجال منهم في سنة أربع عشرة. (على أبيّ بن كعب) أي جعله إماماً لهم يصلي بهم التراويح. وكأنه اختاره عملا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، وقال عمر: اقرؤنا أبي. وقيل: اختاره لما قد علم أن أبيّاً كان يصلي بالناس التراويح في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد أخرج أبوداود، ومن طريقه البيهقي عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا أناس في رمضان يصلون في ناحية المسجد، فقال: ما هؤلاء؟ فقيل هؤلاء الناس ليس معهم قرآن، وأبيّ بن كعب يصلي وهم يصلون بصلاته، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أصابوا، ونعم ما صنعوا، لكن قال الحافظ: فيه مسلم بن خالد، وهو ضعيف. والمحفوظ أن عمر هو الذي جمع الناس على أبيّ-انتهى. وأجيب عن هذا بأن مسلم بن خالد وإن ضعفه ابن المديني والبخاري وابن معين في رواية

قال: ثم خرجت معه ليلة أخرى، والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعمت البدعة هذه، ـــــــــــــــــــــــــــــ وأبوداود، فقد ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان من فقهاء الحجاز، ومنه تعلم الشافعي الفقة قبل أن يلقى مالكاً، وكان مسلم بن خالد يخطئ أحياناً. وقال ابن معين في رواية والدارقطني: ثقة، حكاه ابن القطان. وقال ابن عدي: حسن الحديث، وأرجو أنه لا بأس به. وقال الساجي: صدوق كثير الغلط. ولحديث أبي هريرة هذا شاهد مرسل عند البيهقي في المعرفة وفي السنن (ج2:ص495) من حديث ثعلبة بن أبي مالك القرظي. وكون عمر هو الذي جمع الناس على أبيّ لا ينافي كون أبيّ قد صلى بالناس في زمنه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن صلاة أبي بالناس في زمنه عليه السلام لم يكن من أمره ولا من اهتمامه. فالاجتماع على إمام واحد أي أبيّ، والاهتمام بجماعة واحدة إنما كان في زمان عمر، فهو الذي رفع التفرق والتوزع، وجمعهم على قاري واحد، واهتم بجماعة واحدة، ثم إنه لا ينافي هذا ما سيأتي من أن عمر جمعهم على تميم الداري، كما ستعرف. وروى سعيد بن منصور من طريق عروة أن عمر جمع الناس على أبيّ بن كعب، فكان يصلي بالرجال، وكان تميم الداري يصلي بالنساء. ورواه محمد بن نصر في قيام الليل من هذا الوجه، فقال: سليمان بن أبي حثمة بدل تميم الداري. قال الحافظ: ولعل ذلك كان في وقتين. (قال) أي عبد الرحمن. (ثم خرجت معه) أي مع عمر. (والناس يصلون) مقتدين. (بصلاة قارئهم) أي إمامهم المذكور، فالإضافة للعهد. وفيه دليل على أن عمر لم يكن يصلي معهم لشغله بأمور المسلمين، أو كان يصليها منفرداً في بيته، أو كان يرى أن الصلاة في آخر الليل أفضل. (نعمت البدعة) وفي البخاري: نعم البدعة بغير تاء. قال الحافظ: في بعض الروايات: نعمت البدعة بزيادة تاء. (هذه) أي الجماعة الكبرى، لا أصل التراويح، ولا نفس الجماعة، فإنهما ثابتان من فعله - صلى الله عليه وسلم -. قال الإمام تقي الدين ابن تيمية في منهاج السنة: قد ثبت أن الناس كانوا يصلون بالليل جماعة في رمضان على العهد النبوي، وثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى ليلتين أو ثلاثاً-انتهى. وفي وصفها بـ"نعمت" إشارة إلى أن أصلها سنة، وليست ببدعة شرعية حتى تكون ضلالة، بل بدعة لغوية، وهي حسنة، وقد تعتريها الأحكام الخمسة. والبدعة الشرعية ما ليس لها أصل في الشرع، فلا تكون إلا سيئة، وفيه تصريح من عمر بأنه أول من جمع الناس في التراويح على إمام واحد بالجماعة الكبرى، واهتم بذلك؛ لأن البدعة لغة ما فعله أحد ابتداء من غير أن يتقدمه غيره فالمراد بالبدعة في قوله هي البدعة اللغوية، وهي ههنا اجتماعهم على إمام واحد، والاهتمام لذلك، والمواظبة عليه، لا أصل التراويح، أو نفس الجماعة، فإنهما قد ثبتا من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعل الصحابة في عهده بحضرته. قال ابن تيمية: إنما سماها عمر بدعة؛ لأن ما فعل ابتداء بدعة لغة، وليس ذلك بدعة شرعية، فإن البدعة الشرعية التي هي ضلالة ما فعل بغير دليل شرعي، كاستحباب ما لم يحبه الله، وإيجاب ما لم يوجبه الله، وتحريم ما لم يحرمه الله. وبه يندفع ما يقال إن قول عمر: "نعمت البدعة" مخالف لحديث:

والتي تنامون عنها ـــــــــــــــــــــــــــــ كل بدعة ضلالة، بأن المراد بالبدعة في الكلية البدعة الشرعية، وتوصيف الحسن للبدعة اللغوية. وقال الشاطبي في الاعتصام: قد قام بصلاة التراويح في رمضان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، واجتمع الناس خلفه، فخرج أبوداود عن أبي ذر، قال: صمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رمضان فلم يقم بنا شيئاً من الشهر حتى بقي سبع-الحديث، لكنه - صلى الله عليه وسلم - لما خاف افتراضه على الأمة أمسك عن ذلك، ففي الصحيح عن عائشة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى ذات ليلة في المسجد، فصلى بصلاته ناس-الحديث. ففي هذا الحديث ما يدل على كونها سنة، فإن قيامه أولاً بهم دليل على صحة القيام في المسجد جماعة في رمضان، وامتناعه بعد ذلك من الخروج خشية الافتراض لا يدل على امتناعه مطلقاً؛ لأن زمانه كان وحي وتشريع، فيمكن أن يوحى إليه إذا عمل به الناس بالإلزام، فلما زالت علة التشريع بموت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجع الأمر إلى أصله، وقد ثبت الجواز فلا ناسخ له، وإنما لم يقم ذلك أبوبكر رضي الله عنه لأحد أمرين: إما لأنه رأى أن قيام الناس في آخر الليل، وما هم به عليه كان أفضل عنده من جمعهم على إمام أول الليل، وإما لضيق زمانه عن النظر في هذه الفروع، مع شغله بأهل الردة وغير ذلك مما هو أوكد من صلاة التراويح، فلما تمهد الإسلام في زمن عمر، ورأى الناس في المسجد أوزاعاً كما جاء في الخبر، قال: لو جمعت الناس على قاري واحد لكان أمثل، فلما تم له ذلك نبه على أن قيامهم في آخر الليل أفضل. ثم اتفق السلف على صحة ذلك وإقراره، والأمة لا تجتمع على ضلالة. وقد نص الأصوليون أن الإجماع لا يكون إلا عن دليل شرعي، فإن قيل: فقد سماها عمر بدعة، وحسنها بقوله "نعمت البدعة هذه"، وإذا ثبت بدعة مستحسنة في الشرع ثبت مطلق الاستحسان في البدع، فالجواب إنما سماها بدعة باعتبار ظاهر الحال من حيث تركها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واتفق أن لم تقع في زمان أبي بكر رضي الله عنه، لا أنها بدعة في المعنى، فمن سماها بدعة بهذا الاعتبار فلا مشاحة في الأسامي- انتهى كلام الشاطبي مختصراً. وقال ابن رجب في شرح الخمسين (ص191) : أما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية. فمن ذلك قول عمر رضي الله عنه لما جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد، وخرج ورآهم يصلون كذلك فقال: "نعمت البدعة هذه" وروى عنه (من طريق نوفل بن إياس الهذلي عند ابن سعد وجعفر الفريابي في السنن، كما في كنز العمال (ج4 ص284) أنه قال: إن كانت هذه بدعة فنعمت البدعة، وروي عن أبيّ بن كعب. (أخرجه ابن منيع في مسنده) قال له: إن هذا لم يكن، فقال عمر: قد علمت، ولكنه حسن، ومراده أن هذا الفعل لم يكن على هذا الوجه قبل هذا الوقت، ولكن له أصل في الشريعة يرجع إليها، فمنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحث على قيام رمضان ويرغب فيه، وكان في زمنه يقومون في المسجد جماعات متفرقة ووحدانا، وهو - صلى الله عليه وسلم - صلى بأصحابه في رمضان غير ليلة الخ. (والتي تنامون) بالفوقية أي الصلاة أو الساعة التي تنامون. (عنها) والمراد الصلاة في آخر

أفضل من التي تقومون – يريد آخر الليل – وكان الناس يقومون أوله. رواه البخاري. 1310- (8) وعن السائب بن يزيد، قال: أمر عمر أبيّ بن كعب، وتميماً الداري أن يقوما للناس في رمضان بإحدى عشرة ركعة، ـــــــــــــــــــــــــــــ الليل. وعند أبي شيبة عن عبد الرحمن بن عبد القاري، قال عمر في الساعة التي تنامون عنها. أعجب إلى من الساعة التي يقومون فيها. (أفضل من) الصلاة أو الساعة (التي يقومون) بها. (يريد) أي عمر بن الخطاب بهذا الكلام بيان الفضل في الصلاة. (آخر الليل) وهو قول عبد الرحمن، وكذلك قوله: (وكان الناس) أي أكثرهم. (يقومون) إذ ذاك. (أوله) وبالضرورة ينامون آخره. قال الحافظ: هذا تصريح من عمر بأن الصلاة في آخر الليل أفضل من أوله، لكن ليس فيه أن الصلاة في قيام الليل فرادى أفضل من التجميع. وقال الطيبي: هذا تنبيه منه، على أن صلاة التراويح في آخر الليل أفضل. قال القاري: وفي كلامه رضي الله عنه إيماء إلى عذره في التخلف عنهم. وفي هامش المسوي: يعني آخر الليل أفضل، لكن الصلاة في أول جماعة أفضل كما أن صلاة العشاء في أول جماعة أفضل، والوقت المفضول قد يختص العمل فيه بما يوجب أن يكون أفضل منه في غيره، كما أن الجمع بين الصلاتين بعرفة والمزدلفة أفضل من التفريق بسبب أوجب ذلك، وإن كان الأصل أن فعل الصلاة في وقتها أفضل، والإبراد بالظهر أفضل، لكن الصلاة يوم الجمعة عقيب الزوال أفضل. قاله ابن تيمية في المنهاج- انتهى. ولم يقع في هذه الرواية عدد الركعات التي كان يصلي بها أبيّ بن كعب. وقد اختلف في ذلك، والصحيح أنها كانت إحدى عشرة ركعة كما سيأتي. (رواه البخاري) في الصيام، وأخرجه أيضاً مالك والبيهقي (ج2 ص493) . 1310- قوله: (الداري) بتشديد الياء، نسبة إلى جده الأعلى الدار بن هانيء بن حبيب. (أن يقوما للناس) أي يؤماهم. قال الباجي: يصلي بهم أبيّ ما قدر ثم يخرج، فيصلي تميم. والصواب أن يقرأ الثاني من حيث انتهى الأول؛ لأن الثاني إنما هو بدل عن الأول ونائب عنه، وسنة قراءة القرآن على الترتيب- انتهى. وقال القاري: أي يكون هذا إماماً تارة، والآخر أخرى. وهو يحتمل أن تكون المناوبة في الركعات أو الليالي. (بإحدى عشرة ركعة) هذا نص في أن الذي جمع عليه الناس عمر في قيام رمضان، وأمرهم بإقامته هو إحدى عشرة ركعة مع الوتر، وأن الصحابة والتابعين على عهده كانوا يصلون التراويح إحدى عشرة ركعة موافقاً لما تقدم من حديث عائشة: ما كان يزيد في رمضان ولا في غير رمضان على إحدى عشرة ركعة، وموافقاً لما تقدم من حديث جابر: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان ثمان ركعات. فإن قلت: قال الحافظ في الفتح بعد ذكر أثر عمر هذا: ورواه عبد الرزاق من وجه آخر. (أي من طريق داود بن قيس) عن محمد بن يوسف، فقال إحدى وعشرين- انتهى.

وقال ابن عبد البر: روى غير مالك في هذا أحد وعشرون، وهو الصحيح، ولا أعلم أحداً قال فيه إحدى عشرة إلا مالكاً. ويحتمل أن يكون ذلك أولاً ثم خفف عنهم طول القيام، ونقلهم إلى أحد وعشرين إلا أن الأغلب عندي أن قوله: إحدى عشرة وهم- انتهى. قلت: قال شيخنا في شرح الترمذي: قول ابن عبد البر: إن الأغلب عندي أن قوله إحدى عشرة وهو باطل جداً. قال الزرقاني في شرح الموطأ بعد ذكر قول ابن عبد البر. هذا ما لفظه ولا وهم، وقوله: إن مالكاً انفرد به، ليس كما قال، فقد رواه سعيد بن منصور من وجه آخر عن محمد بن يوسف، فقال إحدى عشرة، كما قال مالك- انتهى كلام الزرقاني. وقال النيموني في تعليق آثار السنن (ج2 ص52) : ما قاله ابن عبد البر من وهم مالك فغلط جداً؛ لأن مالكاً قد تابعه عبد العزيز بن محمد عند سعيد بن منصور في سننه، ويحيى بن سعيد القطان عند أبي بكر بن أبي شيبة في مصنفه كلاهما عن محمد بن يوسف، وقالا إحدى عشرة ركعة، كما رواه مالك عن محمد بن يوسف. وأخرج محمد بن نصر المروزي في قيام الليل من طريق محمد بن إسحاق حدثني محمد بن يوسف عن جده السائب بن يزيد، قال: كنا نصلي في زمن عمر في رمضان ثلاث عشرة ركعة- انتهى. قال النيموني: هذا قريب مما رواه مالك عن محمد بن يوسف أي مع الركعتين بعد العشاء- انتهى كلام النيموني. قال الشيخ: فلما ثبت أن الإمام مالكاً لم ينفرد بقوله إحدى عشرة، بل تابعه عليه عبد العزيز بن محمد، وهو ثقة، ويحيى بن سعيد القطان إمام الجرح والتعديل، وهو ثقة متقن حافظ إمام على ما قال الحافظ في التقريب، ظهر لك حق الظهور أن قول ابن عبد البر: إن الأغلب أن قوله إحدى عشرة وهم، ليس بصحيح، بل لو تدبرت ظهر لك أن الأمر على خلاف ما قال ابن عبد البر أن الأغلب أن قول غير مالك في هذا الأثر: إحدى وعشرون، كما في رواية عبد الرزاق، وهم، فانه قد انفرد هو بإخراج هذا الأثر بهذا لفظ، ولم يخرجه به أحد غيره فيما أعلم. وعبد الرزاق وإن كان ثقة حافظاً لكنه قد عمى في آخر عمره فتغير، كما صرح به الحافظ في التقريب. وأما الإمام مالك فقال الحافظ في التقريب: إمام دار الهجرة رأس المتقنين وكبير المتثبتين، حتى قال البخاري: أصح الأسانيد كلها مالك عن نافع عن ابن عمر- انتهى. ومع هذا لم ينفرد هو بإخراج هذا الأثر بلفظ: إحدى عشرة، بل أخرجه أيضاً بهذا اللفظ سعيد بن منصور وابن أبي شيبة، كما عرفت. فالحاصل أن لفظ: إحدى عشرة في أثر عمر بن الخطاب المذكور صحيح ثابت محفوظ، ولفظ إحدى وعشرين في هذا الأثر غير محفوظ، والأغلب إنه وهم، والله تعالى أعلم- انتهى كلام الشيخ. فإن قلت: قال صاحب الأوجز: الظاهر عندي ما رجحه ابن عبد البر؛ لأن جل الروايات نص في أنها كانت عشرين ركعة، لكن الوهم عندي فيه عن محمد بن يوسف؛ لأن نسبة الوهم إلى الإمام أبعد من النسبة إليه. ويؤيده رواية سعيد بن منصور، وقد روى يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد أنهم كانوا يقومون في عهد عمر بن الخطاب بعشرين ركعة- انتهى.

فكان القاري يقرأ بالمئين، حتى كنا نعتمد على العصا من طول القيام، فما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر. رواه مالك. ـــــــــــــــــــــــــــــ قلت: كلام صاحب الأوجز باطل جداً؛ لأنه لم يثبت الأمر بعشرين عن عمر بسند صحيح خال عن الكلام، والآثار التي تذكر في ذلك لا يخلو واحد منها عن مقال، فإنها إما مراسيل منقطعة أو موصولة ضعيفة، كما حققه شيخنا في شرح الترمذي، فكيف تكون هي دليلاً على كون رواية إحدى عشرة الصحيحة وهماً؟ وأما نسبة الوهم إلى محمد بن يوسف فهي كنسبة الوهم إلى الإمام مالك مما لا يلفت إليه، لكونها مجرد ادعاء، وأما رواية يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد فهي عند البيهقي من وجهين، في أحدهما أبوعثمان عمرو بن عبد الله البصري، وفي الآخر أبوعبد الله الحسين بن فنجويه الدنيوري، ولم أقف على ترجمتها، ولم يعرف حالهما، وإنهما ثقتان قابلان للاحتجاج أم لا. (فكان) وفي الموطأ قال. (أي السائب) وكان (القاري) أي الإمام. (يقرأ) في كل ركعة. (بالمئين) بكسر الميم جمع مائة، أي السور التي تلي السبع الطول، سميت بذلك لزيادة كل منها على مائة آية. قال ابن حجر: أي بالسور التي يزيد كل منها على مائة آية. قال القاري: وفيه أنه لا دلالة على الزيادة، ولا على أنها سورة مستقلة، قال: والظاهر أن المراد بقوله بالمئين التقريب لا التحديد- انتهى. والظاهر عندي ما ذكره ابن حجر. (حتى كنا نعتمد على العصا) وفي بعض النسخ: على العصيّ، كما في الموطأ، وهكذا نقله الجزري أي بكسر العين والصاد المهملتين وتشديد الياء، جمع عصا، فالأولى للجنس، والثانية من مقابلة الجمع بالجمع. (من طول القيام) أي من أجل طول القيام؛ لأن الاعتماد في النافلة لطول القيام على حائط أو عصا جائز وإن قدر على القيام بخلاف الفرض، قاله الزرقاني والباجي. قلت: ويدل على جواز الاعتماد على العصا عند العذر حديث أم قيس بنت محصن عند أبي داود. (فما) وفي الموطأ: وما (كنا ننصرف) عن التراويح. (إلا في فروع الفجر) أي أوائله وأعاليه، وفرع كل شيء أعلاه، ذكره الطيبي. وفي رواية سعيد بن منصور: ننقلب عند بزوغ الفجر. قال في النهاية: البزوغ الطلوع، والمراد أوائل مقدماته، فلا ينافي ما سيأتي أنهم كانوا يتسحرون بعد انصرافهم. قال القاري: ولعل هذا التطويل كان في آخر الأمر، فلا ينافي ما تقدم من قوله: والتي تنامون عنها أفضل. (رواه مالك) عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد، وأخرجه أيضاً سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، والبيهقي في السنن (ج2 ص496) والمعرفة. واعلم أنهم اختلفوا في المختار من عدد الركعات التي يقوم بها الناس. قال العيني في شرح البخاري (ج11 ص126) : قد اختلف العلماء في العدد المستحب في قيام رمضان على أقوال كثيرة. فقيل: إحدى وأربعون. قال الترمذي: رأى بعضهم أن يصلي إحدى وأربعين ركعة مع الوتر، وهو قول أهل المدينة، والعمل على هذا عندهم بالمدينة. قال شيخنا. (يعني العراقي) : وهو أكثر

ما قيل فيه. قال العيني: ذكر ابن عبد البر في الاستذكار عن الأسود بن يزيد، كان يصلي أربعين ركعة، ويوتر بسبع، هكذا ذكره، ولم يقل إن الوتر من الأربعين. وقيل: ثمان وثلاثون، رواه محمد بن نصر من طريق ابن أيمن عن مالك، قال: يستحب أن يقوم الناس في رمضان بثمان وثلاثين ركعة، ثم يسلم الإمام والناس، ثم يوتر بهم بواحدة، قال وهذا العمل بالمدينة قبل الحرة منذ بضع ومائة سنة إلى اليوم. وقيل: ست وثلاثون، وهو الذي عليه عمل أهل المدينة. وروى ابن وهب، قال: سمعت عبد الله بن عمر يحدث عن نافع، قال: لم أدرك الناس إلا وهم يصلون، تسعاً وثلاثين ركعة، ويوترون منها بثلاث. وقيل: أربع وثلاثون على ما حكى عن زرارة بن أوفي أنه كذلك كان يصلي بهم في العشر الأخير. وقيل: ثمان وعشرون وهو المروي عن زرارة بن أوفي في العشرين الأولين من الشهر، وكان سعيد بن جبير يفعله في العشر الأخير. وقيل: أربع وعشرون، وهو مروي عن سعيد بن جبير. وقيل: عشرون، وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم، فإنه مروي عن عمر وعلي وغيرهما من الصحابة، وهو قول أصحابنا الحنفية. وقيل: إحدى عشرة ركعة، وهو اختيار مالك لنفسه. واختاره ابن العربي- انتهى كلام العيني. وقال السيوطي في رسالته المصابيح في صلاة التراويح: قال ابن الجوزي: من أصحابنا عن مالك أنه قال: الذي جمع عليه الناس عمر بن الخطاب أحب إليّ، وهي إحدى عشرة ركعة، وهي صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قيل له: إحدى عشرة ركعة بالوتر؟ قال نعم، وثلاث عشرة قريب، قال: ولا أدري من أين أحدث هذا الركوع الكثير- انتهى. قال شيخنا في شرح الترمذي: القول الراجح المختار الأقوى من حيث الدليل هو هذا القول الأخير الذي اختاره مالك لنفسه، أعني إحدى عشرة ركعة، وهو الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسند الصحيح، وبها أمر عمر بن الخطاب. وأما الأقوال الباقية فلم يثبت واحد منها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسند صحيح، ولا ثبت الأمر به عن أحد من الخلفاء الراشدين بسند صحيح خال عن كلام، ثم ذكر حديث عائشة المذكور: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، وحديث جابر قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان ثمان ركعات، وحديث جابر عن أبيّ في إمامته للنساء في داره بثمان ركعات، ثم ذكر أثر عمر الذي نحن بصدد شرحه. قلت: واستدل لمن ذهب إلى أن التراويح عشرون ركعة سوى الوتر بما تقدم من حديث ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي في رمضان عشرين ركعة سوى الوتر، وقد تقدم أنه حديث ضعيف جداً، غير صالح للاستدلال، وبما روى عبد الرزاق عن داود بن قيس عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أن عمر بن الخطاب جمع الناس في رمضان على أبيّ بن كعب وعلى تميم الداري على إحدى وعشرين ركعة، وقد تقدم أن قوله: "إحدى وعشرين في هذه الرواية" وهم، على

أنه مضر للحنفية من حيث أنه يستلزم أن يقولوا بكون التراويح ثماني عشرة ركعة، أو بكون الوتر ركعة واحدة فردة، فافهم، وبما روى البيهقي في المعرفة من طريق محمد بن جعفر عن يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد قال: "كنا نقوم في زمان عمر بن الخطاب بعشرين ركعة والوتر". وصحح إسناده السبكي في شرح المنهاج، والقاري في شرح الموطأ. وأجيب عنه بأن في سنده أبا عثمان البصري واسمه عمرو بن عبد الله. قال النيموني في تعليق آثار السنن: لم أقف على من ترجم له. وقال شيخنا في شرح الترمذي: لم أقف أنا أيضاً على ترجمته مع التفحص الكثير، فمن يدعي صحة هذا الأثر فعليه أن يثبت كونه ثقة قابلاً للاحتجاج، ومع هذا فهو معارض بما روى سعيد بن منصور في سننه قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد بن يوسف سمعت السائب بن يزيد يقول: كنا نقوم في زمان عمر بن الخطاب بإحدى عشرة ركعة. قال السيوطي في رسالته المصابيح: إسناده في غاية الصحة- انتهى. وأيضاً هو معارض بما روى أبوبكر بن أبي شيبة قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن محمد بن يوسف إن السائب أخبره إن عمر جمع الناس على أبيّ وتميم، فكانا يصليان إحدى عشرة ركعة، وإسناده صحيح. وأيضاً هو معارض بما روى محمد بن نصر في قيام الليل من طريق محمد بن إسحاق حدثني محمد بن يوسف عن جده السائب بن يزيد قال: كنا نصلى في زمن عمر ثلاث عشرة ركعة. وهو أيضاً معارض بما ذكره المصنف من رواية مالك عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أنه قال: أمر عمر أبيّ بن كعب وتميماً الداري إن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة. فأثر السائب بن يزيد الذي رواه البيهقي لا يصلح للاحتجاج، فان قلت: روى البيهقي هذا الأثر في السنن من طريق ابن أبي ذئب عن يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد بلفظ: كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب في شهر رمضان بعشرين ركعة، وصحح إسناده النووي وغيره. قلت: قال شيخنا: في إسناده أبوعبد الله بن فنجوية الدنيوري. (شيخ البيهقي) ولم أقف على ترجمته، فمن يدعي صحة هذا الأثر فعليه أن يثبت كونه ثقة قابلاً للاحتجاج. وأما قول النيموني هو من كبار المحدثين في زمانه لا يسأل عن مثله فمما لا يلتفت إليه، فإن مجرد كونه من كبار المحدثين لا يستلزم كونه ثقة. تنبيهان: الأول قال صاحب الأوجز: قال في الفتح الحماني: قال العلامة العيني: احتج أصحاب الشافعي وأحمد بما رواه البيهقي بإسناد صحيح عن السائب بن يزيد قال: كانوا يقومون على عهد عمر بعشرين ركعة وعلى عهد عثمان وعلي مثله، قلت: قال النيموني في تعليق آثار السنن: قوله: "وعلى عهد عثمان وعلي مثله" قول مدرج لا يوجد في تصانيف البيهقي- انتهى. الثاني: قد جمع البيهقي وغيره بين روايتي السائب المختلفتين المذكورتين بأنهم كانوا يقومون بإحدى عشرة ركعة، ثم كانوا يقومون بعشرين، ويوترون بثلاث. قال شيخنا: فيه أنه لقائل أن يقول بأنهم كانوا يقومون أولاً

بعشرين ركعة، ثم كانوا يقومون بإحدى عشرة ركعة، وهذا هو الظاهر؛ لأن هذا كان موافقاً لما هو الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذاك كان مخالفا له، فتفكر- انتهى. قال بعض الحنفية: ويمكن أن يجمع بينهما بوجه آخر وهو أن يقال: إن رواية إحدى عشرين باعتبار مجموع ما صلياه، وإحدى عشرة باعتبار كل واحد منهما، فكان يلي كل منهما عشراً عشراً، والواحد الوتر يصلي مرة هذا ومرة هذا، فيصح النسبة إليهما. وفيه أن هذا الجمع مضر للحنفية؛ لأنه يدل على أن عمر جمع الصحابة على الإيتار بركعة واحدة فردة، وهو مخالف لمذهب الحنفية إلا أن يقولوا بأن التراويح كانت ثماني عشرة ركعة، لكن ليس هذا مذهبهم، فتفكر. قلت: واستدل أيضاً للحنفية ومن وافقهم بما روى مالك، ومن طريقه البيهقي عن يزيد بن رومان أنه قال: كان الناس يقومون في رمضان عمر بن الخطاب في رمضان بثلاث وعشرين ركعة. وفيه أن هذا الأثر منقطع غير صالح للاستدلال؛ لأن يزيد بن رومان لم يدرك عمر بن الخطاب كما صرح به الزيلعي والعيني وغيرهما، وبما روى ابن أبي شيبة عن وكيع عن مالك عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب أمر رجلاً يصلي بهم عشرين ركعة. وفيه أن يحيى بن سعيد الأنصاري لم يدرك عمر، كما اعترف به النيموني. وقال ابن المديني: لا أعلمه سمع من صحابي غير أنس، فهذا الأثر منقطع لا يصلح للاحتجاج، ومع هذا فهو مخالف لما ثبت بسند صحيح عن عمر أنه أمر أبيّ بن كعب وتميماً الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، وأيضاً هو مخالف لما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديث الصحيح، وبما روى أيضاً ابن أبي شيبة عن عبد العزيز بن رفيع قال: كان أبيّ بن كعب يصلي بالناس في رمضان بالمدينة عشرين ركعة، ويوتر بثلاث. وفيه أن هذا أيضاً منقطع غير صالح للاستدلال؛ لأن عبد العزيز بن رفيع لم يدرك أبي بن كعب، كما صرح به النيموني، ومع هذا فهو مخالف لما تقدم أن عمر أمر أبياً وتميماً أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، وهذا أيضاً منقطع، فإن الأعمش لم يدرك ابن مسعود، وبما روى البيهقي في السنن (ج2 ص497) وابن أبي شيبة في المصنف عن أبي الحسناء أن علي بن أبي طالب أمر رجلاً أن يصلي بالناس خمس ترويحات عشرين ركعة. وفيه أن مدار هذا الأثر على أبي الحسناء، وهو مجهول، كما قال الحافظ في التقريب: وقال الذهبي في الميزان: لا يعرف. ورواه أيضاً البيهقي (ج2 ص496) من وجه آخر أي من طريق حماد بن شعيب عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي قال: دعا القراء في رمضان، فأمر منهم رجلاً يصلي بالناس عشرين ركعة، قال: وكان علي يوتر بهم. وفيه أن هذا الأثر أيضاً ضعيف غير صالح للاحتجاج بل ولا للاستشهاد ولا للاعتبار. قال النيموني في تعليق آثار السنن بعد ذكره: حماد بن شعيب ضعيف. قال الذهبي في

1311- (9) وعن الأعرج، قال: ما أدركنا الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان. ـــــــــــــــــــــــــــــ الميزان: ضعفه ابن معين وغيره. وقال يحيى مرة: لا يكتب حديثه. وقال البخاري: فيه نظر. وقال النسائي: ضعيف. وقال ابن عدي: أكثر حديثه مما لا يتابع عليه- انتهى كلام النيموني. واستدل لهم أيضاً بآثار أخرى ذكرها النيموني وغيره، لا يخلو واحد منها عن وهن. تنبيه: قد ادعى بعض الناس أنه وقع الإجماع على عشرين ركعة في عهد عمر، واستقر الأمر على ذلك في الأمصار. قال شيخنا: دعوى الإجماع على عشرين، واستقرار الأمر على ذلك في الأمصار باطلة جداً، كيف وقد عرفت في كلام العيني أن في هذا أقوالاً كثيرة، وأن الإمام مالكا قال وهذا العمل يعني القيام في رمضان بثمان وثلاثين ركعة، والإيتار بركعة بالمدينة قبل الحرة منذ بضع ومائة سنة إلى اليوم- انتهى. واختار هذا الإمام إمام دار الهجرة لنفسه إحدى عشرة ركعة، وكان الأسود بن يزيد النخعي الفقيه يصلي أربعين ركعة، ويوتر بسبع وتذكر باقي الأقوال التي ذكرها العيني، فأين الإجماع على عشرين ركعة، وأين الاستقرار على ذلك في الأمصار؟ - انتهى كلام الشيخ. هذا، ولشيخ مشائخنا العلامة التقي الورع الزاهد الحافظ الشيخ عبد الله الغازيفوري رسالة بسيطة في مسألة التراويح بالأردية طبعت مراراً، وهي نفيسة جداً عديم النظير في هذه المسألة، وقد ألف أيضاً بعض أفاضل علماءنا رسالة حافلة في تنقيد بعض رسائل الحنفية في هذه المسألة سماها تحقيق التراويح في جواب تنوير المصابيح، وهي أيضاً نفيسة، فعليك أن تطالعهما. 1311- قوله: (وعن الأعرج) هو عبد الرحمن بن هرمز أبوداود المدني مولى ربيعة بن الحارث من مشاهير التابعين وثقاتهم، روى عن أبي هريرة وغيره، واشتهر بالرواية عن أبي هريرة. قال الحافظ: ثقة ثبت عالم من أوساط التابعين، مات بالإسكندرية سنة (117) . (ما أدركنا) كذا في جميع النسخ الحاضرة، وهكذا نقله الجزري (7ص83) ، وفي الموطأ: ما أدركت الناس، وكذا وقع في رواية البيهقي من طريق مالك. (الناس) أي الصحابة والتابعين. (إلا وهم يلعنون الكفرة) بفتحات، جمع الكافر. (في رمضان) أي في قنوت الوتر. قد سبق أن الشافعية والمالكية ذهبوا إلى استحباب قنوت الصبح دائماً، وخالفهم الحنفية والحنابلة، فقالوا بعدم مشروعيته في الصبح إلا عند النازلة، وسبق أيضاً أن الشافعية ذهبوا إلى استحباب قنوت الوتر في النصف الآخر من رمضان فقط، أي لا في جميع السنة، وهي رواية عن مالك خلافاً للحنفية والحنابلة، فإنهم قالوا باستحباب قنوت الوتر في جميع السنة، والرواية الثانية عن مالك، وهي المشهورة المعتمدة عند المالكية، نفي القنوت في الوتر جملة، كما سيأتي، وتقدم أيضاً أن قنوت اللعن عند الحنفية والحنابلة مختص بالنازلة، سواء كانت في رمضان أو في غيره، والحديث بظاهرة موافق للشافعية. قال ابن حجر: لهذا الحديث استحسن أصحابنا للإمام أن يذكر في قنوت

قال: وكان القاري يقرأ سورة البقرة في ثماني ركعات، وإذا قام بها في ثنتي عشرة ركعة رأى الناس أنه قد خفف. رواه مالك. ـــــــــــــــــــــــــــــ الوتر اللهم اهدنا فيمن هديت الخ، واللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونستهديك الخ، واللهم العن كفرة أهل الكتاب والمشركين الذين يصدون عن سبيلك. قال الطيبي: لعل المراد أنهم لما لم يعظموا ما عظمه الله تعالى من الشهر، ولم يهتدوا بما أنزل فيه من الفرقان، استوجبوا بأن يدعى عليهم، ويطردوا عن رحمة الله الواسعة- انتهى. وقال بعض الحنفية: لا ذكر للوتر في هذه الرواية، فيصدق على الصبح أيضاً، قال: وقنوت اللعن المذكور فيها محمول على القنوت المخصوص الذي فيه لعن الكفرة المسمى بقنوت النوازل-انتهى. وحمله القاري على قنوت الوتر، وقال: لعل هذه الزيادة. (أي زيادة اللعن) مخصوصة بالنصف الأخير من رمضان. وبهذا يحصل الجمع بين الأحاديث، فلا ينافي ما صح عن عمر رضي الله عنه: السنة إذا انتصف رمضان أن يلعن الكفرة في آخر ركعة من الوتر بعد ما يقول القاري: سمع الله لمن حمده، ثم يقول اللهم العن الكفرة. وما رواه أبوداود أنه لما جمع الناس على أبيّ لم يقنت بهم إلا في النصف الثاني محمول على القنوت المخصوص الذي فيه لعن الكفرة على العموم- انتهى. قلت: أثر عمر في اللعن على الكفرة ذكره الحافظ في التلخيص (ص120) ، وقال إسناده حسن. وأما رواية أبي داود فقد تقدم أنها ضعيفة. وقال في المدونة بعد ذكر حديث الأعرج هذا: ليس عليه العمل، ولا أرى أن يعمل به ولا يقنت في رمضان في لا أوله ولا في آخره ولا في غير رمضان ولا في الوتر أصلاً انتهى. (قال) أي الأعرج. (في ثماني ركعات) بفتح الياء. قال القاري: وفي نسخة صحيحة بحذف الياء. قلت: وهكذا وقع في نسخ الموطأ، وفي جامع الأصول، وفي السنن للبيهقي أي بإسقاط الياء. قيل: وهذا كان بعد إن خففت الصلاة عن القراءة بالمئين في كل ركعة. (وإذا) وفي الموطأ: فإذا. (قام) القاري. (بها) أي بسورة البقرة. (في ثنتي) وفي الموطأ: في اثنتي. (عشرة ركعة) فيه دليل على أن جماعة من الصحابة ممن أدركهم الأعرج كانوا يصلون في ليالي رمضان أكثر من ثماني ركعات، ولا بأس بذلك، فإنه تطوع وليس فيه ضيق ولا حد ينتهي إليه؛ لأنها نافلة، فيجوز له أن يكثر الركوع والسجود، وكان طائفة من السلف يقومون بإحدى وأربعين ركعة، كما روى محمد بن نصر عن محمد بن سيرين أن معاذاً أبا حليمة القاري كان يصلي بالناس في رمضان إحدى وأربعين ركعة، وعن ابن أبي ذئب عن صالح مولى التوأمة قال: أدركت الناس قبل الحرة يقومون بإحدى وأربعين ركعة يوترون منها بخمس، لكن السنة النبوية الفعلية هي إحدى عشرة ركعة مع الوتر؛ لأنها هي الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا غير. (رأى الناس) بالرفع فاعل. (أنه قد خفف) أي الإمام في الإطالة. قيل: هذا يدل على أن تطويل القراءة في التراويح أفضل، وهو عندي على قدر نشاط القوم فيراعيهم في ذلك لئلا يملوا، فيتركوا التراويح بالجماعة أو جملة. (رواه مالك) عن داود بن الحصين أنه سمع

1312- (10) وعن عبد الله بن أبي بكر، قال: سمعت أبياً، يقول: كنا ننصرف في رمضان من القيام، فنستعجل الخدم بالطعام مخافة فوت السحور، وفي أخرى: مخافة الفجر. رواه مالك. 1313- (11) وعن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((هل تدرين ما هذه الليلة؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ الأعرج يقول: ما أدركت الناس الخ، وداود بن الصين ثقة إلا في عكرمة، ورمي برأي الخوارج، وأخرجه أيضاً البيهقي (ص497) من طريق مالك. 1312- قوله: (وعن عبد الله بن أبي بكر) أي ابن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري. (قال سمعت أبياً) بضم الهمزة وفتح الموحدة تشديد الياء منصوباً منوناً، كذا وقع في جميع النسخ للمشكاة. في الموطأ وقيام الليل للمروزي، وجامع الأصول، والبيهقي. سمعت أبيّ. أي بفتح الهمزة وكسر الباء وسكون التحتية، يعني والده أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وهذا هو الصحيح. وأما ما وقع في المشكاة فهو غلط؛ لأن عبد الله بن أبي بكر المذكور من صغار التابعين الذين رأوا الواحدة والاثنين من الصحابة، ولم يثبت لبعضهم السماع منهم، ومات هو سنة (135) ، وهو ابن (70) سنة، فيكون ولادته سنة (65) بعد وفاة أبيّ بن كعب بأكثر من ثلاثين سنة، فإن أبياً توفي سنة (32) في خلافة عثمان على ما قيل، والأكثر على أنه توفي سنة (22) في خلافة عمر. وأما والد عبد الله المذكور فهو أبوبكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري الخزرجي ثم النجاري بالنون والجيم المدني القاضي اسمه وكنيته واحد. وقيل إنه يكنى أبا محمد، ثقة عابد من صغار التابعين، مات سنة (120) ، وقيل غير ذلك. (كنا ننصرف في رمضان من القيام) أي من صلاة التراويح. قال القاري: سمي بذلك لأنهم كانوا يطيلون القيام فيها. (الخدم) بفتحتين جمع خادم. (بالطعام) أي بتهيئته وإحضاره لنتسحر به. (مخافة) بالنصب علة للاستعجال. (فوت السحور) بالضم والفتح. (وفي أخرى مخافة الفجر) أي طلوعه فيفوت السحور فمآل الروايتين واحد، لكن ليس في نسخ الموطأ الموجودة عندنا إلا رواية: مخافة الفجر، وهكذا عند البيهقي. وذكر الجزري الروايتين جميعاً، ولعل الرواية الأولى عند غير يحيى المصمودي، والله أعلم. قال الباجي: هذا لمن كان يستديم القيام إلى آخر الليل أو لمن كان يخص آخره بالقيام. فأما من قال فيهم عمر: والتي ينامون عنها خير فلم يكن هذا حالهم، وهذا يدل على اختلاف أحوال الناس في ذلك- انتهى، فبعضهم يقوم أول الليل، وبعضهم آخره، وبعضهم يستديم القيام إلى آخره. (رواه مالك) عن عبد الله بن أبي بكر أنه قال: سمعت أبي الخ، ورواه البيهقي (ج2 ص497) من طريق مالك. 1313- قوله: (هل تدرين ما) أي ما يقع. (في هذه الليلة) قال ابن حجر: نبه عليه السلام بهذا

يعني ليلة النصف من شعبان- قالت: ما فيها يا رسول الله؟ فقال: فيها أن يكتب كل مولود بني آدم في هذه السنة، وفيها أن يكتب كل هالك من بني آدم في هذه السنة، وفيها ترفع أعمالهم، وفيها تنزل أرزاقهم، ـــــــــــــــــــــــــــــ الاستفهام على عظم خطر هذه الليلة وما يقع فيها ليحمل ذلك الأمة بأبلغ وجه،وأكده على إحيائها بالعبادة والدعاء والفكر والذكر (يعني) يريد النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الليلة. (ليلة النصف من شعبان) وقائل يعني عائشة أو الراوي عنها. (قالت) نقل بالمعنى، وإلا فالظاهر قلت. (ما فيها) أي ما يقع فيها. (فيها أن يكتب) أي كتابة ثانية بعد الكتابة في اللوح المحفوظ. (كل مولود بني آدم) أي كل من يولد من بني آدم، وخصصهم تشريفاً لهم. (في هذه السنة) أي الآتية إلى مثل هذه الليلة. (كل هالك) أي ميت. (وفيها ترفع أعمالهم) قال الطيبي: أي تكتب الأعمال الصالحة التي ترفع في هذه السنة يوماً فيوماً، ولهذا سألت عائشة: ما من أحد الخ أي كما سيأتي، فيكون رفع الأعمال في كل يوم. وأما كتابتها فتكون في هذه الليلة، كذا قال. وفيه بُعد، فإن المذكور رفع الأعمال فيها لا كتابتها، ويمكن أن يكون المراد أن أعمال السنة التي ترفع وتكتب يوماً فيوماً ترفع أيضاً في هذه الليلة، وتعرض جملة واحدة للمقابلة، كما يفعل أهل الحساب لتكريم هذه الليلة. قال الطيبي: والاستفهام على سبيل التقرير، يعني إذا كانت الأعمال الصالحة الكائنة في تلك السنة تكتب قبل وجودها يلزم من ذلك أن أحداً لا يدخل الجنة إلا برحمة الله، فقرره النبي - صلى الله عليه وسلم - بما أجاب. قال ابن حجر: حذف في هذه السنة من هذا وما بعده للعلم به مما قبله. والمعنى ترفع أعمالهم إلى الملأ الأعلى. ولا ينافيه رفعها كل يوم أعمال الليل بعد صلاة الصبح. وأعمال النهار بعد صلاة العصر، وكل يوم اثنين وخميس؛ لأن الأول رفع عام لجميع ما يقع في السنة، والثاني رفع خاص لكل يوم وليلة، والثالث رفع لجميع ما يقع في الأسبوع، وكان حكمة تكرير هذا الرفع مزيد من تشريف الطائعين وتقبيح العاصين، كذا في المرقاة. وقال السندي: قد ثبت في الصحيحين: يرفع إلى الله تعالى عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل، فيتحمل أن أعمال العباد تعرض عليه كل يوم، ثم تعرض عليه أعمال الجمعة في كل اثنين وخميس، ثم تعرض عليه أعمال السنة في (ليلة النصف من) شعبان، فتعرض عرضاً بعد عرض، ولكل عرض حكمة يطلع عليها من يشاء من خلقه، أو يستأثر بها عنده، مع أنه تعالى لا يخفى عليه من أعمالهم خافية، ويحتمل أن المراد إنها تعرض كل يوم تفصيلاً، ثم في الجمعة إجمالاً أو بالعكس- انتهى. (وفيها تنزل) بالبناء الفاعل أو للمفعول مخففاً ومشدداً. (أرزاقهم) أي أسباب أرزاقهم أو تقديرها قال ابن حجر: يحتمل أن المراد تنزيل علم مقاديرها للمؤكلين بها أو أسبابها كالمطر بأن ينزل إلى سماء الدنيا أو من سماء الدنيا إلى السحاب الذي بينها وبين الأرض. وقيل: المراد بإنزال الأرزاق كتابتها. قال الطيبي: هذا كله مأخوذ من قوله تعالى: {فيها يفرق كل أمر حكيم} [44: 4]

فقالت يا رسول الله! ما من أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى؟ فقال: ما من أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى ثلاثاً. قلت: ولا أنت يا رسول الله؟! ـــــــــــــــــــــــــــــ من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم إلى السنة الأخرى القابلة- انتهى. قال ابن حجر: وهو مبني على أن المراد في الآية هذه الليلة، وهو وإن قال به جماعة من السلف إلا أن ظاهر القرآن بل صريحة يرده لإفادته في آية أنه نزل في رمضان، وفي أخرى أنه نزل ليلة القدر، ولا تخالف بينهما؛ لأن ليلة القدر من جملة رمضان، والمراد بهذا النزول نزوله من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في سماء الدنيا، ثم نزل عليه عليه الصلاة والسلام متفرقاً بحسب الحاجة والوقائع. وإذا ثبت أن هذا النزول ليلة القدر ثبت أن الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم في الآية هي ليلة القدر لا ليلة النصف من شعبان. ولا نزاع في أن ليلة نصف شعبان يقع فيها فرق، كما صرح به الحديث، وإنما النزاع في أنها المرادة من الآية. والصواب أنها ليست مرادة منها. وحينئذٍ يستفاد من الحديث والآية وقوع ذلك الفرق في كل من الليلتين إعلاماً بمزيد شرفهما- انتهى. قال القاري: ويحتمل أن يقع الفرق في إحداهما إجمالاً، وفي الأخرى تفصيلاً، أو تخص إحداهما بالأمور الدنيوية، والأخرى بالأمور الأخروية وغير ذلك من الاحتمالات العقلية- انتهى. قلت: ذهب الجمهور إلى أن المراد من ليلة مباركة في قوله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم} [44: 3] هي ليلة القدر لا ليلة نصف من شعبان. وقولهم هو الحق والصواب. قال الحافظ ابن كثير: من قال إنها ليلة من النصف من شعبان فقد أبعد، فإن نص القرآن أنها رمضان- انتهى. وقال العلامة الشوكاني في فتح القدير (ج4 ص554) : والحق ما ذهب إليه الجمهور من أن هذه الليلة المباركة هي ليلة القدر لا ليلة النصف من شعبان؛ لأن الله سبحانه أجملها ههنا وبينها في سورة البقرة بقوله: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} [2: 185] ، وبقوله في سورة القدر: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} فلم يبق بعد هذا لبيان الواضح ما يوجب الخلاف، ولا ما يقتضي الاشتباه- انتهى. (ما من أحد) من زائدة لتأكيد الاستغراق. (يدخل الجنة) أي أولاً وآخراً بدلالة الإطلاق. (إلا برحمة الله تعالى) لا يعارضه قوله تعالى: {وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون} [43: 72] ؛ لأن العمل سبب صوري، وسببه الحقيقي هو رحمة الله لا غير، على أنه من جملة الرحمة بالعبد، فلم يدخل إلا بمحض الرحمة على كل تقدير. وقيل: دخولها بالرحمة، وتفاوت الدرجات بتفاوت الطاعات، والخلود بالنيات. وقد بسط الحافظ الكلام في توجيه الآية المذكورة والجواب عنها في الفتح في شرح حديث أبي هريرة: لن ينجي أحداً منكم عمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله!؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته. (ثلاثاً) أي قال هذا القول ثلاث مرات للتأكيد. (قلت) هذا رجوع إلى الأصل في الكلام أن يكون باللفظ لا بالمعنى. (ولا أنت يا رسول الله) أي ما تدخل الجنة إلا برحمته تعالى مع كمال

فوضع يده على هامته فقال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله منه برحمته يقولها ثلاث مرات)) . رواه البيهقي في الدعوات الكبير. 1314- (12) وعن أبي موسى الأشعري، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إن الله تعلى ليطلع في ليلة لنصف من شعبان، فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن)) . رواه ابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ مرتبتك في العلم والعمل (فوضع يده على هامته) بتخفيف الميم أي رأسه. قال الطيبي: في وضع اليد على الرأس، والله أعلم، إشارة إلى افتقاره كل الافتقار إلى استنزال رحمة الله تعالى وشمول الستر من رأسه إلى قدمه. (ولا أنا) أي ولا أدخلها أنا في زمان من الأزمنة. (إلا أن يتغمدني الله) أي إلا وقت أن يسترني ويحيط بي من جميع جهاتي، مأخوذ من الغمد وهو غلاف السيف. (منه) أي من عنده وفضله وكرمه. (برحمته) لا بعلم وعمل مني، مع أنهما لا يتصوران من غير جهة عنايته. (يقولها) أي هذه الجمل وهي ولا أنا الخ. (ثلاث مرات) طبق الأول في التأكيد. (رواه البيهقي في الدعوات الكبير) لم أقف على سنده ولا على من أخرجه غيره، فالله أعلم، كيف حاله، نعم ورد في رفع الأعمال في شعبان ما رواه النسائي وصححه ابن خزيمة عن أسامة بن زيد قال: قلت: لم أرك تصوم في شهر من الشهور ما تصوم من شعبان. قال: ذاك شهر يغفل عنه الناس بين رجب ومضر، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، وأحب أن يرفع عملي، وأنا صائم. وفي كتابة الموت في شعبان ما روى أبويعلى عن عائشة بسند حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم شعبان كله قالت: قلت: يا رسول الله! أحب الشهور إليك أن تصومه شعبان؟ قال: إن الله يكتب فيه على كل نفس ميتة تلك السنة، فأحب أن يأتيني أجلي، وأنا صائم. وفي عدم دخول أحد الجنة بدون رحمة الله وحديث أبي هريرة الذي أشرنا إليه. 1314- قوله: (إن الله تعالى ليطلع) بتشديد الطاء، أي يتجلى على خلقه بمظهر الرحمة العامة والإكرام الواسع، قاله ابن حجر. وقال الطيبي: بمعنى ينزل وقد مر، وقيل: أي ينظر نظر الرحمة السابقة والمغفرة البالغة. (إلا لمشرك) أي كافر بأي نوع من الكفر، فإن الله لا يغفر أن يشرك به. (أو) للتنويع. (مشاحن) أي مباغض ومعاد لمسلم من غير سبب ديني من الشحناء. وهي العداوة والبغضاء. قال الأوزاعي: أراد به صاحب البدعة المفارق لجماعة الأمة. وقال الطيبي: لعل المراد ذم البغضة التي تقع بين المسلمين من قبل النفس الأمارة بالسوء لا للدين، فلا يأمن أحدهم أذى صاحبه من يده ولسانه؛ لأن ذلك يؤدي إلى القتل، وربما ينتهي إلى الكفر إذ كثيراً ما يحمل على استباحة دم العدو وماله، ومن ثم قرن المشاحن في الرواية الأخرى بقاتل النفس. (رواه ابن ماجه) في أواخر الصلاة من طريق الوليد عن ابن لهيعة عن الضحاك بن أيمن عن الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزب عن

أبي موسى الأشعري. قال في الزوائد: إسناد ضعيف لضعف عبد الله بن لهيعة، وتدليس الوليد بن مسلم-انتهى. قلت: ولجهالة الضحاك بن أيمن الكلبي، وللانقطاع في الإسناد. قال في تهذيب التهذيب (ج4:ص443) في ترجمة الضحاك بن أيمن بعد ذكر الطريق المذكور: وهو حديث مختلف في إسناده. قال الحافظ: قرأت بخط الذهبي: لا يدرى من هو. وقال السندي: ابن عرزب لم يلق أبا موسى، قاله المنذري، كذا بخطه روى ابن ماجه أيضاً نحوه من طريق النضر بن عبد الجبار ثنا ابن لهيعة عن الزبير بن سليم عن الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزب عن أبيه عن أبي موسى. والزبير بن سليم وعبد الرحمن بن عرزب مجهولان، فالحديث ضعيف بطريقيه، لكن له شواهد روي بعضها بإسناد حسن. فمنها حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وقد أشار إليه المصنف. ومنها حديث معاذ بن جبل رواه الطبراني في الأوسط وابن حبان في صحيحه والبيهقي. قال الزرقاني في شرح المواهب بعد عزوه إلى صحيح ابن حبان: فيه رد على قول ابن دحية: لم يصح في ليلة نصف شعبان شئ، إلا أن يريد نفي الصحة الاصطلاحية، فإن حديث معاذ هذا حسن لا صحيح-انتهى. وعزاه الهيثمي في مجمع الزوائد (ج8:ص65) إلى الطبراني في الكبير والأوسط، وقال رجالهما ثقات. ومنها حديث أبي بكر الصديق رواه البزار والبيهقي. قال المنذري: بإسناد لا بأس به. وقال الهيثمي: فيه عبد الملك بن عبد الملك، ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ولم يضعفه، وبقية رجاله ثقات. قلت: ذكر عبد الملك هذا الذهبي في الميزان (ج2:ص151) قال: عبد الملك بن عبد الملك عن مصعب بن أبي ذئب عن القاسم قال البخاري في حديثه: نظر، يريد حديث عمرو بن الحارث عن عبد الملك أنه حدثه عن المصعب بن أبي ذئب عن القاسم بن محمد عن أبيه أو عمه عن جده عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ينزل الله ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا-الحديث. وقيل: إن مصعباً جده. وقال ابن حبان وغيره: لا يتابع على حديثه. قال الحافظ في اللسان (ج4:ص67) : قال ابن عدي: هو معروف بهذا الحديث، ولا يروي عنه غير عمرو بن الحارث، وهو حديث منكر بهذا الإسناد. ومنها حديث أبي هريرة، رواه البزار. قال الهيثمي: وفيه هشام بن عبد الرحمن، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. ومنها حديث عوف بن مالك، رواه البزار أيضاً، وفيه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي وابن لهيعة. وقد تقدم الكلام فيهما، وبقية رجاله ثقات. ومنها حديث مكحول عن كثير بن مرة. (التابعي) ، رواه البيهقي، وقال: هذا مرسل جيد. ومنها حديث مكحول عن أبي ثعلبة رواه الطبراني والبيهقي. قال البيهقي: وهو أيضاً بين مكحول وأبي ثعلبة مرسل جيد، يعني لأنه لم يدرك مكحول أبا ثعلبة الخشني الصحابي، وعزاه الهيثمي إلى الطبراني، وقال فيه الأحوض بن حكيم، وهو ضعيف. ومنها حديث العلاء بن الحارث عن عائشة، رواه البيهقي أيضاً، وقال: هذا مرسل جيد. ويحتمل أن يكون العلا أخذه من مكحول كذا في الترغيب. وهذه الأحاديث كلها تدل على عظم خطر ليلة نصف شعبان وجلالة

1315- (13) ورواه أحمد، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وفي روايته: ـــــــــــــــــــــــــــــ شأنها وقدرها، وأنها ليست كالليالي الأخر، فلا ينبغي أن يغفل عنها، بل يستحب إحياءها بالعبادة والدعاء والذكر والفكر. ويدل على ندب إحيائها حديث على الآتي لكنه ضعيف جداً، كما ستعرف، وحديث معاذ بن جبل مرفوعاً: من أحياء الليالي الخمس وجبت له الجنة: ليلة التروية وليلة عرفة وليلة النحر وليلة الفطر وليلة النصف من شعبان، رواه الأصبهاني في ترغيبه، وهذا أيضاً ضعيف؛ لأن المنذري صدره بلفظة "روي" وأهمل الكلام عليه في آخره، وجعل هذا علامة للإسناد الضعيف. وأما إحياء هذه الليلة خاصة والاهتمام لذلك مع ترك بعض الصلوات الخمس أو جمعها، ومع عدم المبالاة بالواجبات الأخرى، كما هو حال عامة المسلمين في عصرنا هذا، فلا شك أنه أمر قبيح، كيف والاشتغال بالمندوب مع إهمال الفرائض ليس من الدين والرأي في شيء. وكذا الاهتمام بزيارة القبور فيها مع تركها جميع السنة ليس بشئ من السنة. فإن قلت: قد ورد في ذهابه - صلى الله عليه وسلم - إلى البقيع في هذه الليلة حديثان: أحدهما حديث عائشة السابق في الفصل الثاني. والثاني حديثها الذي ذكره المنذري في باب الترهيب من التهاجر نقلاً عن البيهقي. قلت: هذا الحديثان ضعيفان جداً. أما الأول فقد تقدم بيانه. وأما الثاني فقد صدره المنذري بلفظه "روي" وأهمل الكلام عليه في آخره، على أنه لا دليل فيهما على تخصيص زيارة القبور بهذه الليلة، بل كان ذهابه - صلى الله عليه وسلم - إلى البقيع على ما اعتاده في نوبة عائشة. كما يدل عليه ما روى مسلم عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلما كان ليلتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج من آخر الليل إلى البقيع، فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين-الحديث. فهذا ظاهر في أن ذهابه إلى البقيع في نوبة عائشة كان عادة له مستمرة، وقد صادف ذلك في بعض الأعوام ليلة نصف شعبان، فذهب إليه على عادته من غير أن يهتم لذلك. وأما تقسيم أنواع الأطعمة على الفقراء في هذه الليلة خاصة، فلم يرو فيه حديث مرفوع ولا موقوف لا صحيح ولا ضعيف. وأما اعتقاد حضور أرواح الأموات في هذه الليلة، وتنظيف البيوت، وتطيين جدرانها لتكريمها، وزيادة السرج والقناديل على الحاجة فيها فهي من البدع والضلالات بلا شك. قال القاري: أول حدوث الوقيد من البرمكة، وكانوا عبدة النار. فلما أسلموا أدخلوا في الإسلام ما يموهون أنه من سنن الدين، ومقصودهم عبادة النيران حيث ركعوا وسجدوا مع المسلمين إلى تلك النيران، ولم يأت في الشرع استحباب زيادة الوقيد على الحاجة في موضع، وقد أنكر الطرطوسي الاجتماع ليلة الختم في التراويح، ونصب المنابر وبين أنه بدعة منكرة. وأما صوم يوم ليلة نصف شعبان، فسيأتي الكلام فيه في شرح حديث علي الآتي. 1315- قوله: (ورواه أحمد) (ج2:ص176) . (عن عبد الله بن عمرو بن العاص) قال المنذري: بإسناد لين. قلت: في سنده ابن لهيعة. قال الهيثمي (ج8:ص65) : هو لين الحديث، وبقية رجاله وثقوا. (وفي روايته)

إلا اثنين: مشاحن وقاتل نفس. 1316- (14) وعن علي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كانت ليلة النصف من الشعبان، فقوموا ليلها، وصوموا يومها، فإن الله تعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى السماء الدنيا فيقول: ألا من مستغفر فأغفر له؟ ألا مسترزق فأرزقه؟ ألا مبتلى فأعافيه؟ ألا كذا ألا كذا؟ حتى يطلع الفجر)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ أي رواية أحمد. (إلا اثنين مشاحن) بالرفع أي هما مشاحن. (وقاتل نفس) أي تعمدا بغير حق. ويجوز جرهما على البدلية. 1316- قوله: (فقوموا ليلها) أي الليلة التي هي تلك الليلة، فالإضافة بيانية، وليست هي كالتي في قوله: "وصوموا يومها". وقال الطيبي: الظاهر أن يقال: فقوموا فيها، وإذا ذهب إلى وضع الظاهر موضع المضمر أن يقال ليلة النصف، فأنت الضمير اعتبار للنصف؛ لأنها عين تلك الليلة-انتهى. قال القاري: وقد يقال: لعل المراد أن يقع القيام في جميع ما يطلق عليه إسم الليل من أجزاء تلك الليلة، وهو أبلغ من القيام فيها، وحسنه أيضاً مقابلة قوله: (وصوموا يومها) أي في نهار تلك الليلة بكماله، ويعاضده قوله: (فإن الله تعالى ينزل فيها) أي في تلك الليلة. (لغروب الشمس) أي أول وقت غروبها. وقال السندي: أي في وقت غروبها أو مع غروبها متصلاً به. (ألا) للتنبيه والعرض. (من) زائدة لتأكيد الاستغراق، وحذفت مما بعده للإكتفاء، قال القاري. (مستغفر) يستغفر (فأغفر له) قال الطيبي: بالنصب على جواب العرض و"من" في مستغفر زائدة بشهادة قرينه، والتقدير ألا مستغفر فأغفر له. (ألا مسترزق) بالرفع. (فأرزقه) بالنصب. (ألا مبتلى) أي مستعف يطلب العافية، وهو مقدر لظهوره. (فأعافيه) . ولا يشكل وجود كثير من المبتلين يسألون العافية ولا يجابون لعدم استجماعهم لشروط الدعاء. (ألا كذا) من طالب عطاء فأعطيه. (ألا كذا) من طالب دفع بلاء فأدفعه. والحديث يدل على ندب صوم يوم ليلة النصف من شعبان، لكنه ضعيف جداً كما ستعرف، والإباحة والندب من الأحكام الخمسة الشرعية، ولا يعمل بالضعيف في الأحكام، كما تقرر في موضعه، وأما في الفضائل فيعمل به، لكن بشروط ثلاثة لا يوجد شيء منها ههنا، فإن هذا الحديث شديد الضعف، وليس هو بمندرج تحت أصل معمول به، ولا يعتقد الاحتياط أحد ممن يعمل به، بل يعتقد ثبوته، كما هو الظاهر من حال من يصوم ذلك اليوم. هذا، وقد استدل لذلك بالأحاديث التي فيها الندب إلى صيام أيام البيض. ولا يخفى بطلانه، فإن المطلوب هو استحباب صوم يوم واحد فقط أي الخامس عشر من شعبان خاصة، وأين هذا من الندب إلى صيام ثلاثة أيام أي البيض من كل شهر.

(38) باب صلاة الضحى

رواه ابن ماجه. (38) باب صلاة الضحى ـــــــــــــــــــــــــــــ وقد يستدل لذلك أيضاً بما روى الشيخان عن عمران بن حصين مرفوعاً في صيام سرر شعبان. وقد قيل في تفسير السرر: أنه وسط الشهر. وفيه أن الجمهور على أن المراد بالسرر هنا آخر الشهر، سميت بذلك لاستمرار القمر فيها، وهي ليلة ثمان وعشرين وتسع وعشرين وثلاثين. وبه فسر أبوعبيد، واختاره البخاري حيث بوب عليه: باب الصوم من آخر الشهر، وهذا لمن كانت له عادة بصيام آخر كل شهر، فإنه مستثنى من النهي عن تقدم رمضان بيوم أو يومين، ومأمور بأن لا يترك ما كان اعتاده من ذلك. ولو سلمنا أن المراد به وسط الشهر لا آخره لا يثبت المطلوب؛ لأن الحديث يدل حينئذٍ على ندب صيام أيام البيض؛ لأنها وسط الشهر. ويؤيده الأحاديث التي فيها الحض على صيام البيض. والحاصل أنه ليس في صوم يوم ليلة النصف من شعبان حديث مرفوع صحيح أو حسن أو ضعيف خفيف الضعف ولا أثر قوي أو ضعيف. (رواه ابن ماجه) في أواخر الصلاة، وسنده ضعيف جداً؛ لأن فيه أبا بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة القرشي العامري المدني، وقد ينسب إلى جده. قال في التقريب: رموه بالوضع. قلت: ضعفه ابن معين وابن المديني والجوزجاني والبخاري. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال البخاري وابن المديني مرة: منكر الحديث. وقال عبد الله وصالح ابنا أحمد عن عن أبيهما قال كان أبوبكر بن أبي سبرة يضع الحديث، ويكذب. وقال ابن عدي: هو في جملة من يضع الحديث. وقال ابن حبان والحاكم أبوعبد الله: يروي الموضوعات عن الثقات، زاد ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به. كذا في تهذيب التهذيب. (باب صلاة الضحي) قال العيني في شرح البخاري: الضحى بالضم فوق الضحوة، وهي ارتفاع الشمس أول النهار. والضحاء بالفتح والمد هو إذا علت الشمس إلى ربع السماء فما بعده-انتهى. وقال المجد في القاموس: الضحو والضحوة. (كلاهما بفتح المعجمة وسكون المهملة) والضحية كعشية ارتفاع النهار. والضحى فويقه. والضحاء بالمد إذا كرب انتصاف النهار-انتهى مختصراً. قال القاري: قيل: التقدير صلاة وقت الضحى، والظاهر أن إضافة الصلاة إلى الضحى بمعنى في كصلاة الليل وصلاة النهار، فلا حاجة إلى القول بحذف المضاف. وقيل: من باب إضافة المسبب إلى السبب كصلاة الظهر-انتهى. قيل: وقت الضحى عند مضي ربع اليوم إلى قبيل الزوال. وقيل: هذا وقته المتعارف. وأما وقته فوقت صلاة الإشراق. وقيل: الإشراق أو الضحى. قال ابن العربي: هي كانت صلاة الأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم. قال تعالى مخبراً عن دواد عليه السلام:

{إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق} [18:38] . وروى ابن أبي شيبة في المصنف، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس أنه سئل عن صلاة الضحى. فقال: إنها في كتاب الله، ولا يغوص عليها الأغواص، ثم قرأ. {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له بالغدو والآصال} [36:24] وروى أيضاً عنه قال: لم يزل في نفسي من صلاة الضحى حتى قرأت. {إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق} . واختلف العلماء في حكمها، وقد جمع ابن القيم في زاد المعاد (ج1:ص92-97) الأقوال، فبلغت ستة: الأول أنها مستحبة، واختلف في عددها فقيل: أقلها ركعتان، وأكثرها وأفضلها ثمان، وهو مذهب الحنابلة والمالكية والشافعية في القول المعتمد عندهم، وقيل: أكثرها ثنتا عشرة ركعة وأوسطها ثمان، وهو أفضلها لثبوته بفعله عليه السلام وقوله. وأما أكثرها فبقوله فقط، وهو مذهب الحنفية والشافعية أيضاً في قول. قال النووي في الروضة: أفضلها ثمان، وأكثرها ثنتا عشرة. قال الحافظ: فرق بين الأكثر والأفضل، ولا يتصور ذلك إلا فيمن صلى ثنتي عشر بتسليمة واحدة، فإنها تقع نفلا مطلقاً عند من يقول إن أكثر سنة الضحى ثمان ركعات فأما من فصل فإنه يكون صلى الضحى، وما زاد على الثمان يكون له نفلاً مطلقاً، فتكون صلاة اثنتي عشرة في حقه أفضل من ثمان لكونه أتى بالأفضل وزاد. وقيل: أفضلها أربع ركعات لكثرة الأحاديث الواردة في ذلك. وذهب قوم منهم أبوجعفر الطبري، وبه جزم الحليمي والروياني من الشافعية والباجي من المالكية أنه لا حد لأكثرها. الثاني لا تشرع إلا بسبب، واحتج له بأنه صلى الله عليه وسلم لم يفعلها إلا بسب، واتفق وقوعها وقت الضحى. وتعددت الأسباب فحديث أم هاني، الآتي في صلاته يوم الفتح كان بسبب الفتح، وإن سنة الفتح أن يصلي ثمان ركعات، ونقله الطبري من فعل خالد بن الوليد لما فتح الحيرة، وفي حديث عبد الله بن أبي أوفى أنه صلى الله عليه وسلم صلى الضحى حين بشر برأس أبي جهل، وهذه صلاة شكر كصلاة يوم الفتح، وصلاته في بيت عتبان إجابة لسؤاله أن يصلي في بيته مكاناً يتخذه مصلى، فاتفق أنه جاءه وقت الضحى فاختصره الراوي فقال: صلى في بيت الضحى، وحديث عائشة لم يكن يصلي الضحى إلا أن يجيء من مغيبه؛ لأنه كان ينهى عن الطروق ليلاً، فيقدم في أول النهار، فيبدأ بالمسجد، فيصلي وقت الضحى. الثالث لا تستحب أصلاً، وصح عن عبد الرحمن بن عوف أنه لم يصلها، وكذلك ابن مسعود. الرابع يستحب فعلها تارة وتركها تارة بحيث لا يواظب عليها، وهذه إحدى الروايتين عن أحمد، والحجة فيه حديث أبي سعيد الآتي في الفصل الثالث. وعن عكرمة كان ابن عباس يصليها عشراً ويدعها عشراً. وقال الثوري عن منصور: كانوا يكرهون أن يحافظوا عليها كالمكتوبة. الخامس: تستحب صلاتها، والمواظبة عليها في البيوت للأمن من خشية

أن ترى حتماً. السادس أنها بدعة، صح ذلك عن ابن عمر. قلت: ورجح ابن القيم القول الثاني، وبسط الكلام على الأحاديث المثبتة لها. والراجح عندنا هو القول الأول أعني أنها مستحبة، وإليه ذهبت الأئمة الأربعة وأتباعهم؛ لأن الأحاديث الواردة بإثباتها قد بلغت مبلغاً لا تقصر عن اقتضاء الاستحباب، وفيها الصحيح والحسن وما يقاربه، وقد جمع الحاكم الأحاديث في إثباتها في جزء مفرد عن نحو عشرين نفساً من الصحابة، وكذلك السيوطي صنف جزءا في الأحاديث الواردة في إثباتها، وروى فيه عن جماعة من الصحابة أنهم كانوا يصلونها. قال الزبيدي في شرح الإحياء: ورد فيها أحاديث كثيرة صحيحة مشهورة، حتى قال ابن جرير الطبري: إنها بلغت حد التواتر-انتهى. وقال البيجوري في شرح الشمائل: وبالجملة فقد قام الإجماع على استحبابها وفي شأنها أحاديث كثيرة. وأما احتجاج القائلين بأنها لا تشرع إلا لسبب بما سلف فيرده ويبطله الأحاديث التي ذكرها المصنف في هذا الباب، والعيني في شرح البخاري، والشوكاني في النيل، وابن عبد البر في الاستذكار والتمهيد، والزبيدي في شرح الإحياء، والهيثمي في مجمع الزوائد. وأما ما روي عن ابن عمر أنه قال في الضحى إنها بدعة، فقد قال النووي: إنه محمول على أن صلاتها في المسجد والتظاهر بها، كما كانوا يفعلونها بدعة، لا أن أصلها في البيوت مذموم. قيل: وهذا الاختلاف إنما هو في الصلاة التي تصلي عند مضي ربع اليوم إلى قبيل الزوال لا في التي تؤدي بعد خروج وقت الكراهة أول النهار وتسمى صلاة الإشراق. ثم إن صلاة الضحى وصلاة الإشراق واحدة أو ثنتان؟ فقيل: إنهما واحدة، وقتها من بعد خروج وقت الكراهة إلى قبيل الزوال. وقيل صلاة الضحى غير صلاة الإشراق، فهما صلاتان، يؤدي الإشراق في الضحوة الصغرى، وصلاة الضحى في الضحوة الكبرى، ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى صلاة الإشراق في الأحاديث التي رغب فيها في الجلوس في المسجد بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، فيصلي ركعتين. قال القاري في شرح حديث معاذ بن أنس الآتي: وهذه الصلاة تسمى صلاة الاشراق، وهي أول صلاة الضحى. قلت: ويدل عليه أيضاً الأحاديث التي في الترغيب في أربع ركعات من أول النهار، فإنها أوفق بصلاة الإشراق. ويدل عليه أيضاً حديث أبي ذر في الفصل الأول وما في معناه، فإن المناسب لأداء ما عليه من الحق أن يصليها أول النهار بعد خروج وقت الكراهة. قال القاري: التحقيق أن أول وقت الضحى إذا خرج وقت الكراهة، وآخره قبيل الزوال، وإن ما وقع في أوائله يسمى صلاة الاشراق أيضاً، وما وقع بعد ذلك إلى آخره يختص باسم صلاة الضحى-انتهى بتصرف يسير: وقال في شرح الإحياء: أما وقتها أي الضحى فقد روى على أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي الضحى ستاً في وقتين: الأول إذا أشرقت الشمس وارتفعت قيد رمح قام، فصلى ركعتين، وهذه الصلاة المسماة بصلاة الإشراق عند مشائخنا. والثاني إذا انبسطت الشمس وكانت في ربع السماء، صلى أربعاً. قال العراقي: أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث علي كان

{الفصل الأول}

{الفصل الأول} 1317- (1) عن أم هانئ، قالت: ((إن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل بيتها يوم فتح مكة، فاغتسل، وصلى ثماني ركعات لم أر صلاة قط أخف منها، غير أنه يتم الركوع والسجود. وقالت في رواية أخرى: وذلك ضحى)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ النبي صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس من مطلعها قيد رمح أو رمحين كقدر صلاة العصر من مغربها صلى ركعتين، ثم أمهل حتى إذا ارتفع الضحى صلى أربعاً. لفظ النسائي. وقال الترمذي: حسن –انتهى. قلت: هذا الحديث ظاهر بل نص في التفريق بين صلاتي الإشراق والضحى. والله أعلم. 1317- قوله: (عن أم هانئ) بهمزة بعد النون. (دخل بيتها يوم فتح مكة) في رمضان سنة ثمان من الهجرة. (فاغتسل) أي بيتها، كما هو ظاهر التعبير بالفاء المقتضية للترتيب والتعقيب، لكن في مسلم كالموطأ من طريق أبي مرة عنها أنها قالت: ذهبت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بأعلى مكة، فوجدته يغتسل. قال الحافظ: وجمع بينهما بأن ذلك تكرر منه. ويؤيده ما رواه ابن خزيمة من طريق مجاهد عن أم هانئ، وفيه أن أبا ذر ستره لما اغتسل. وفي رواية أبي مرة: أن فاطمة بنته هي التي سترته. ويحتمل أن يكون نزل في بيتها بأعلى مكة، وكانت هي في بيت آخر بمكة، فجاءت إليه فوجدته يغتسل فيصح القولان. وأما الستر فيحتمل أم يكون أحدهما ستره في ابتداء الغسل، والآخر في أثنائه- انتهى. (وصلى ثماني) بالياء التحتية المفتوحة، وللأصيلي وأبي ذر ثمان بإسقاط الياء. قاله القسطلاني. (ركعات) زاد كريب عن أم هانئ يسلم من كل ركعتين. أخرجه أبوداود وابن خزيمة، وفيه رد على من تمسك به صلاتها موصولة سواء صلى ثمان ركعات أو أقل. (فلم أر صلاة) أي ما رأيته صلى صلاة. (قط) أي أبداً. (أخف منها) يعني من صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية: فما رأيته صلى صلاة قط أخف منها أي من هذه الثمان. وفي رواية لمسلم: لا أدري أقيامه فيها أطول أم ركوعه أم سجوده كل ذلك متقارب. واستدل به على استحباب تخفيف صلاة الضحى. وفيه نظر لاحتمال أن يكون السبب فيه التفرغ لمهمات الفتح لكثرة شغله به، وقد ثبت من فعله - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى الضحى فطول فيها. أخرجه ابن أبي شيبة من حديث حذيفة. (غير أنه) عليه الصلاة والسلام. (يتم) أي كان يتم (الركوع والسجود) قالته دفعاً لتوهم من يفهم أنه نقص منهما حيث عبرت بأخف. وقال الطيبي: نصب غير على استثناء، وفيه إشعار بالاعتناء بشأن الطمأنينة في الركوع والسجود؛ لأنه عليه الصلاة والسلام خفف سائر الأركان من القيام والقراءة والتشهد، ولم يخفف من الطمأنينة في الركوع والسجود- انتهى. (وقالت) أي أم هانئ. (وذلك ضحى) أي

متفق عليه. 1318- (2) وعن معاذة، قالت: سألت عائشة: ((كم كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي صلاة الضحى؟ قالت: أربع ركعات ويزيد ما شاء الله)) ـــــــــــــــــــــــــــــ ما فعله - صلى الله عليه وسلم - صلاة ضحى أو ذلك الوقت وقت ضحى، ويؤيد الأول ما يأتي من رواية أبي داود وابن عبد البر وغيرهما. والحديث استنبط منه سنية صلاة الضحى خلافاً لمن قال ليس في حديث أم هانئ دلالة لذلك بل هو إخبار منها بوقت صلاته فقط وكانت سنة الفتح. قال السهيلي: هذه الصلاة تعرف عند العلماء بصلاة الفتح، وكان الأمراء يصلونها إذا فتحوا بلداً، صلاها خالد بن الوليد لما فتح الحيرة، وصلاها سعد بن أبي وقاس حين افتتح المدائن في إبوان كسرى، والأصل فيها صلاته صلى الله عليه وسلم يوم الفتح. وقيل: إنها كانت قضاء عما شغل عنه تلك الليلة من حزبه فيها. وأجيب بأن الصواب صحة الاستدلال به لقولها في حديث أبي داود وغيره صلى سبحة الضحى. والسبحة بالضم الصلاة ومسلم في الطهارة ثم صلى ثمان ركعات سبحة الضحى، وفي التمهيد لابن عبد البر قالت: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة فصلى ثمان ركعات، فقلت: ما هذه الصلاة، قالت: هذه صلاة الضحى، واستدل بحديث الباب على أن أفضلها ثمان ركعات وهي أكثر ما ورد من فعله صلى الله عليه وسلم، وقد ورد ذلك من قوله أيضاً وورد من فعله دون ذلك ركعتان وأربع وست، وورد الزيادة على الثمان من قوله فقط، ففي حديث أبي ذر مرفوعاً قال: إن صليت الضحى عشراً لم يكتب لك ذلك اليوم ذنب، وإن صليتها اثنتي عشرة ركعة بنى الله لك بيتاً في الجنة. رواه البيهقي، وقال: في إسناده نظر، وضعفه النووي في شرح المهذب، وفي ثنتي عشرة أحاديث أخرى يقوي بعضها بعضاً، وهي أكثر ما ورد في صلاة الضحى. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً مالك والترمذي وأبوداود والبيهقي (ج3:ص48) . 1318- قوله: (وعن معاذة) بضم الميم بنت عبد الله العدوية. (كم كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي كم ركعة، وهو مفعول مطلق لقوله: (يصلي صلاة الضحى) وفي ورواية ابن ماجه: أكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الضحى؟ قالت نعم. (قالت: أربع ركعات) روى الحاكم من طريق أبي الخير عن عقبة بن عامر قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نصلي الضحى بسور منها. {والشمس وضحاها} . {والضحى} ومناسبة ذلك ظاهرة جداً. (ويزيد) عطف على مقدر، وهو مقول للقول أي يصلي أربع ركعات ويزيد (ما شاء الله) قال المظهر: أي يزيد من غير حصر، ولكن لم ينقل أكثر من اثنتي عشرة ركعة. وقال الحافظ: قد ذهب قوم منهم أبوجعفر الطبري وبه جزم الحليمي والروياني من الشافعية إلى أنه لا حد لأكثرها، وروى من طريق إبراهيم النخعي قال: سأل رجل الأسود بن يزيد كم أصلي

رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الضحى قال: كم شئت، ثم ذكر الحافظ حديث عائشة هذا وقال: وهذا الإطلاق قد يحمل على التقييد، فيؤكد أن أكثرها اثنتا عشرة ركعة-انتهى. واعلم أنه قد جاء عن عائشة في صلاة الضحى أشياء مختلفة، فروي عنها أنه - صلى الله عليه وسلم - صلاها من غير تقييد، كما في حديث الباب، وروي عنها أنها سئلت هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الضحى؟ قالت: لا إلا أن يجيء من مغيبه. أخرجه مسلم وروى عنها قالت: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي سبحة الضحى قط، وإني لأسبحها. متفق عليه. ففي رواية الكتاب إثباتها مطلقاً، وفي الثالثة النفي مطلقاً، وفي الثانية الإثبات مقيداً، وقد اختلف العلماء في ذلك فذهب ابن عبد البر وجماعة إلى ترجيح الرواية الثالثة؛ لاتفاق الشيخين عليها فتقدم على ما انفرد به مسلم، وذهب بعضهم إلى ترجيح رواية الإثبات، وقالوا: إن عدم رؤيتها لذلك لا يستلزم عدم الوقوع، ويؤيد ذلك روايات من روى عنه من الصحابة الإثبات. وذهب بعضهم إلى الجمع، قال ابن حبان: قولها ما كان يصلي إلا أن يجيء من مغيبه مخصوص بالمسجد، وقولها: كان يصلي أربعاً ويزيد محمول على البيت، وقولها: ما رأيته يصلي سبحة الضحى المنفي فيه صفة مخصوصة. وجمع عياض بين هذا وبين الثاني أي قولها: كان يصلي أربعاً بأن المنفي في الثالث، أي في قولها ما رأيته يصلي الرؤية بنفسها، وفي الثاني إخبار الصلاة برواية غيرها، فأخبرت في الإنكار عن مشاهدتها، وفي الإثبات عن غيرها. وقال المنذري: يحتمل أنها أخبرت في الإنكار عن رؤيتها ومشاهدتها، وفي الآخر بغير المشاهدة، إما من خبره عليه السلام أو خبر غيره عنه. وجمع الباجي بأن النفي في قولها: ما رأيته يصلي مقيد بدون السبب، والإثبات في قولها كان يصلي أربعاً مقيد بالسبب، وهو المجيء من السفر وإن لم يذكر فيهما، كما في بينه قولها: لا إلا أن يجيء من مغيبه. وقيل في الجمع أيضاً: يحتمل أن يكون لفت صلاة الضحى المعهودة حينئذٍ من هيئة مخصوصة بعدد مخصوص في وقت مخصوص، وأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصليها إذا قدم من سفر لا بعدد مخصوص ولا بغيره، كما قالت: يصلي أربعاً ويزيد ما شاء الله. قال المنذري: وقد يكون. الإنكار إنما هو لصلاة الضحى المعهودة عند الناس على الذي اختاره جماعة من السلف من صلاتها ثمان ركعات وأنه كان يصليها أربعاً. ويزيد ما شاء فيصليها مرة أربعاً ومرة ستاً ومرة ثمانية، وأقلها ركعتان. وقيل: النفي محمول على صلاة الاشراق، فإنها ما رأته - صلى الله عليه وسلم - يصليها قط؛ لأنه كان يصليها في المسجد إذا خرج وقت الكراهة، وقولها: لا إلا أن يجيء من مغيبه، وقولها: كان يصلي أربعاً محمول على صلاة الضحى. والنفي المقيد بغير المجيء من مغيبه محمول على المسجد والإثبات مطلقاً على البيت، والله أعلم. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وابن ماجه والبيهقي (ج3:ص47) وأخرجه أبويعلى من طريق عمرة عن عائشة قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الضحى أربع ركعات لا يفصل بينهن بكلام.

1319- (3) وعن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحه صدقة، وكل تحميده صدقة، وكل تهليله صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهى عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى)) ـــــــــــــــــــــــــــــ 1319- قوله: (يصبح على كل سلامى) بضم السين المهملة وتخفيف اللام وفتح الميم. قال النووي: أصله عظام الأصابع وسائر الكف، ثم استعمل في جميع عظام البدن ومفاصله، ويدل على ذلك ما في صحيح مسلم من حديث عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: خلق الإنسان على ستين وثلثمائة مفصل على كل مفصل صدقة-انتهى. وفي النهاية: السلامى جمع سلامية، وهي الأنملة من الأنامل الأصابع. وقيل: واحده وجمعه سواء ويجمع على سلاميات، وهي التي بين كل مفصلين من أصابع الإنسان. (من أحدكم صدقة) قال الطيبي: اسم يصبح. أما صدقة أي كصبح الصدقة وأحبه على كل سلامي. وأما من أحدكم على تجويز زيادة من، والظرف خبره، وصدقة فاعل الطرف، أي يصبح أحدكم واجباً على كل مفصل منه صدقة. وأما ضمير الشأن والجملة الاسمية بعدها مفسرة له. قال عياض: يعني أن كل عظم من عظام ابن آدم وكل مفصل من مفاصله يصبح سليماً عن الآفات باقياً على الهيئة التي تتم بها منافعه فعليه صدقة شكراً لمن صوره ووقاه عما يغيره ويؤذيه. (فكل تسبيحه صدقة) قال الطيبي: الفاء تفصيلية ترك تعديد كل واحد من المفاصل للاستغناء يذكر تعديد ما ذكر من التسبيح وغيره-انتهى. أو لأن تعديد المفاصل يجر إلى الإطالة، وفي تركه إيماء إلى قوله تعالى. {وإن تعدو نعمة الله لا تحصوها} [34:14] . والمقصود ما به القيام بشكرها على أن جعل له ما يكون به متمكناً من الحركات والسكنات، وليس الصدقة بالمال فقط بل كل خير صدقة. (وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة) وكذا سائر الأذكار وباقي العبادات صدقات على نفس الذاكر. (وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة) ؛ لأن منفعتهما راجعة إليه وإلى غيره من المسلمين، وفي ترك ذكر الصدقة الحقيقية تسلية للفقراء والعاجزين عن الخيرات المالية. (ويجزئ) قال النووي: ضبطناه بالضم أي ضم الياء من الإجزاء، وبالفتح من جزى يجزي أي يكفي. (من ذلك) هي بمعنى عن أي يكفي عما ذكر مما وجب على السلامي من الصدقات. (ركعتان) لأن الصلاة عمل بجميع أعضاء البدن فيقوم كل عضو بشكره، ولاشتمال الصلاة على الصدقات المذكورة وغيرها، فإن فيها أمراً للنفس بالخير ونهياً لها عن ترك الشكر، وإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. (يركعهما من الضحى) أي من صلاة الضحى، أو في وقت الضحى. والحديث يدل على عظم فضل صلاة الضحى وكبر موقعها وتأكيد مشروعيتها، وأن ركعتيها تجزئان عن ثلثمائة وستين صدقة، وما كان كذلك فهو حقيق بالمواظبة والمداومة، ويدل أيضاً على مشروعية الاستكثار من التسبيح والتحميد والتهليل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسائر أنواع الطاعات والقربات؛ ليسقط بفعل ذلك ما على الإنسان من الصدقات اللازمة في كل يوم.

رواه مسلم. 1320- (4) وعن زيد بن أرقم أنه رأى قوماً يصلون من الضحى، فقال: ((لقد علموا أن الصلاة في غير هذه الساعة أفضل، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: صلاة الأوابين حين ترمض الفصال)) ـــــــــــــــــــــــــــــ (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والبيهقي (ج3:ص47) . 1320- قوله: (رأى قوماً يصلون) أي في مسجد قباء، كما في رواية البيهقي. (من الضحى) أي بعد طلوع الشمس وارتفاعها شيئاً يسيراً. وفي رواية للبيهقي: رأى نأساً جلوساً إلى قاص، فلما طلعت الشمس ابتدروا السواري يصلون. قال الطيبي: "من" زائدة أي يصلون صلاة الضحى، ويجوز أن تكون تبعيضية، وعليه ينطبق قوله: (لقد علموا أن الصلاة في غير هذه الساعة أفضل) أنكر عليهم إيقاع صلاتهم في بعض وقت الضحى أي أوله ولم يصبروا إلى الوقت المختار، أي كيف يصلون مع علمهم بأن الصلاة في غير هذا الوقت أفضل، ويجوز أن تكون ابتدائية أي صلاة مبتدأة من أول الوقت، ويكون المعنى إنكار إنشاء الصلاة في أول وقت الضحى. (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) بكسر الهمزة استئناف بيان، ويجوز فتحها للعله. (قال) وفي رواية: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أهل قباء، وهم يصلون فقال (صلاة الأوابين) بتشديد الواو جمع أواب، وهو الكثير الرجوع إلى الله تعالى بالتوبة عن الذنوب وبالإخلاص وفعل الخيرات، من آب إذا رجع. (حين ترمض) بفتح التاء الفوقية والميم من باب فرح أي تحترق من الرمضاء، وهو شدة حرارة الأرض من وقوع الشمس على الرمل وغيره، وذلك يكون عند ارتفاع الشمس وتأثيرها الحر. (الفصال) بكسر الفاء جمع الفصيل، ولد الناقة إذا فصل عن أمه، يعني تحترق أخفافها من شدة حر النهار. وقيل: لأن هذا الوقت زمان الإستراحة فإذا تركها ورجع إلى الله تعالى بالاشتغال بالصلاة استحق الثناء الجميل. قال ابن الملك: إنما أضاف الصلاة في ذلك الوقت إلى الأوابين لميل النفس فيه إلى الدعة والاستراحة، فالاشتغال فيه بالصلاة أوب من مراد النفس إلى مرضات الرب. وقال التوربشتي: إنما قال - صلى الله عليه وسلم - هذا القول حين دخل مسجد قباء، ووجد أهل قباء يصلون في ذلك الوقت وإنما مدحهم بصلاتهم في الوقت الموصوف؛ لأنه وقت تركن فيه النفوس إلى الاستراحة ويتهيأ فيه أسباب الخلوة وصرف العناية إلى العبادة، فيرد على قلوب الأوابين من الإنس بذكر الله وصفاء الوقت ولذاذة المناجاة ما يقطعهم عن كل مطلوب سواه-انتهى. والحديث يدل على أن المستحب فعل الضحى في ذلك الوقت، وقد توهم أن قول زيد بن أرقم أن الصلاة في غير هذه الساعة أفضل يدل على نفي صلاة الضحى، وليس الأمر كذلك بل مراده أن تأخير الضحى إلى ذلك الوقت أفضل. قلت: الأحاديث الواردة في الضحى تتضمن صلاتين: إحداهما ما يفعل بعد طلوع الشمس إذا خرج وقت

{الفصل الثاني}

رواه مسلم. {الفصل الثاني} 1321، 1322- (5، 6) عن أبي الدرداء، وأبي ذر قالا: ((قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الله تبارك وتعالى أنه قال: يا ابن آدم! اركع لي أربع ركعات من أول النهار، أكفك آخره)) رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ الكراهة، ويسمونها صلاة الاشراق وصلاة الضحوة الصغرى أيضاً والأخرى قبيل نصف النهار عند شدة الحر، وتسمى صلاة الضحوة الكبرى، وهذه هي المرادة في هذا الحديث، وجاء في الأحاديث اسم الضحى شاملاً لكل من الصلاتين. (رواه مسلم) في باب صلاة الليل. وأخرجه أيضاً أحمد والبيهقي (ج3 ص39) . وفي الباب عن أبي هريرة مرفوعاً قال: لا يحافظ على صلاة الضحى إلا أواب. قال: وهي صلاة الأوابين. أخرجه الحاكم (ج1 ص344) وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وأخرجه أيضاً الطبراني وابن خزيمة في صحيحه. 1321، 1322- قوله: (عن الله) أي ناقلاً أو قائلاً عن الله (تبارك) أي كثر خيره وبركته. (وتعالى) أي علا مجده وعظمته. وفي بعض نسخ الترمذي عن الله عزوجل. (أنه) بفتح الهمزة. (يا ابن آدم) وفي نسخ الترمذي الموجودة عندنا ابن آدم بدون حرف النداء. (اركع) أي صل (لي) أي خالصاً لوجهي. (أربع ركعات من أول النهار) قيل: المراد صلاة الضحى. وقيل: صلاة الإشراق. وقيل: سنة الصبح وفرضه؛ لأنه أول فرض النهار الشرعي. قلت: حمل الترمذي وأبوداود هذه الركعات على صلاة الضحى، ولذا أخرجا هذا الحديث في باب صلاة الضحى. قال العراقي: وهذا الاختلاف ينبني على أن النهار هل هو من طلوع الفجر أو من طلوع الشمس؟ والمشهور الذي يدل عليه كلام جمهور أهل اللغة وعلماء الشريعة أنه من طلوع الفجر، قال: وعلى تقدير أن يكون النهار من طلوع الفجر فلا مانع من أن يراد بهذه الأربع ركعات بعد طلوع الشمس؛ لأن ذلك الوقت ما خرج عن كونه أول النهار، وهذا هو الظاهر من الحديث وعمل الناس، فيكون المراد بهذه الأربع ركعات الضحى- انتهى. وقال القاري: النهار في عرف الشرع من طلوع الصبح إلى المغرب، غايته أنه يطلق على الضحوة وما قبلها أنه أول النهار، فمن تبعيضية في قوله من أول النهار. (أكفك) أي مهماتك. (آخره) أي إلى آخر النهار. قال الطيبي: أي أكفك شغلك وحوائجك وارفع عنك ما تكرهه بعد صلاتك إلى آخر النهار. والمعنى فرغ بالك بعبادتي في أول النهار أفرغ بالك في آخره بقضاء حوائجك. (رواه الترمذي) وقال: حديث حسن غريب. قال المنذري في تلخيص السنن: وفي إسناده إسماعيل بن عياش، وفيه مقال، ومن الأئمة من يصحح حديثه عن الشاميين، وهذا الحديث شامي الإسناد، يعني أن إسماعيل بن عياش روى هذا الحديث

1323- (7) ورواه أبوداود، والدارمي، عن نعيم بن همار الغطفاني، وأحمد عنهم. 1324- (8) وعن بريدة، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((في الإنسان ثلثمائة وستون مفصلاً، فعليه أن يتصدق عن كل مفصل منه بصدقة، ـــــــــــــــــــــــــــــ عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان، وهما حمصيان شاميان. وقال في الترغيب بعد نقل تحسين الترمذي: في إسناده إسماعيل بن عياش، ولكنه إسناده شامي. ورواه أحمد (ج6 ص440- 451) عن أبي الدرداء وحده ورواته كلهم ثقات. 1323- قوله: (ورواه أبوداود والدارمي) وكذا أحمد (ج5 ص286، 287) والبيهقي (ج3 ص48) . (عن نعيم) مصغراً، صحابي، له أحاديث. (بن همار) بفتح الهاء وتشديد الميم وبالراء المهملة. وقد اختلف في اسم والد نعيم هذا، فقيل: هكذا همار. وقيل: هبار بفتح الهاء وتشديد الباء الموحدة. وقيل: هدار بفتح الدال المهملة المشددة وآخره راء. وقيل: همام بميمين الأولى مشددة. وقيل: خمار بفتح الخاء المعجمة وشدة الميم وبالراء. وقيل: حمار بفتح الحاء المهملة وتشديد الميم وآخره راء. وقيل: حمار بكسر الحاء المهملة وخفة الميم. قال الحافظ في التقريب: ورجح الأكثر أن اسم أبيه همار. وقال في التهذيب: وصحح الترمذي وابن أبي داود وأبوالقاسم البغوي وأبوحاتم بن حبان وأبوالحسن الدارقطني وغيرهم: أن اسم أبيه همار. وقال الغلابي عن ابن معين: أهل الشام يقولون نعيم بن همار، وهم أعلم به، يعني لأنه غطفاني شامي. (الغطفاني) منسوب إلى قبيلة غطفان بحركتين. ذكر ابن أبي داود أن نعيم بن همار من غطفان جذام. قال المنذري: حديث نعيم بن همار قد اختلف الرواة فيه اختلافاً كثيراً، وقد جمعت طرقه في جزء مفرد- انتهى. (وأحمد عنهم) أي يروي أحمد عن الثلاثة المذكورين من الصحابة، وفيه نظر؛ لأني لم أجده في المسند من رواية أبي ذر، لا في مسند أبي الدرداء ولا في مسند أبي ذر، اللهم أن يكون ذكره في أثناء مسند صحابي آخر، لكن قول المنذري في الترغيب بعد نقل الحديث عن الترمذي من رواية أبي الدرداء وأبي ذر: "ورواه أحمد عن أبي الدرداء وحده" يؤكد أن قول المصنف "وأحمد عنهم" وهم. والصواب أن يقول: وأحمد عنهما أي عن أبي الدرداء ونعيم بن همار، وفي الباب عن غير واحد من الصحابة، ذكرهم الشوكاني والهيثمي وغيرهما. 1324- قوله: (مفصلاً) بفتح الميم وكسر الصاد، كمجلس أحد مفاصل الأعضاء. (فعليه) أي على الإنسان. (أن يتصدق عن كل مفصل منه بصدقة) و"على" هنا لتأكيد ندب التصدق، لا بمعنى الوجوب الشرعي، إذ لم يقل أحد بوجوب ركعتي الضحى وسائر الصدقات المذكورة، وإن كان الشكر على نعم الله تعالى إجمالاً

قالوا: ومن يطيق يا نبي الله؟ قال: النخاعة في المسجد تدفنها، والشيء تنحيه عن الطريق، فإن لم تجد، فركعتا الضحى تجزئك)) . رواه أبوداود. 1325- (9) وعن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصراً من ذهب في الجنة)) رواه الترمذي وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وتفصيلاً واجباً، قاله القاري: (ومن يطيق ذلك) أي أن يتصدق ثلاث مائة وستين صدقة، فكأنهم حملوا الصدقة على المتعارف من الخيرات المالية، أي لا يطيق كل أحد ذلك؛ لأن أكثر الناس فقراء. (قال) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (النخاعة) بضم النون. قيل: هي النخامة. وقيل: النخاعة هي الخارجة من أسفل الحلق الخارجة من الصدر، كمخرج الحاء. والنخامة هي الخارجة من مخرج الخاء النازلة من الدماغ. (في المسجد) أي النخاعة التي تكون في المسجد. (تدفنها) أي أيها المخاطب خطاباً عاماً، عدل عن صيغة الجمع لئلا يتوهم الاختصاص بالصحابة أي دفنها صدقة. (والشيء) بالرفع أي المؤذي للمار من شوك أو حجر أو غيرهما. (تنحيه) بالتشديد أي تبعده. (عن الطريق) أي تنحيه ذلك صدقة، وكذا كل معروف صدقة. وقال الطيبي: الظاهر أن يقال من يدفن النخاعة في المسجد، فعدل عنه إلى الخطاب العام اهتماماً بشأن هذه الخلال، وأن كل من شأنه أن يخاطب بخطاب ينبغي أن يهتم بها. (فإن لم تجد) أي شيئاً مما يطلق عليه اسم الصدقة عرفاً أو شرعاً يبلغ عدد الثلاث مائة والستين. (فركعتا الضحى) أي صلاته. (تجزئك) أي تكفيك عن جميعها، وأفرد الخبر باعتبار المعنى أي فصلاة الضحى تجزئك. قال المناوي: وخصت الضحى بذلك لتمحضها للشكر؛ لأنها لم تشرع جابرة لغيرها بخلاف الرواتب. (رواه أبوداود) في أواخر الأدب، وسكت عنه وقال المنذري: في إسناده علي بن الحسين بن واقد، وفيه مقال- انتهى. قلت: هو من رجال مقدمة صحيح مسلم، أخرج من طريقه كلام سفيان الثوري في عباد بن كثير، وليس هو من رجال صحيحه. قال أبوحاتم: ضعيف الحديث. وقال النسائي: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في الثقات، وكان إسحاق بن راهويه سيء الرأي فيه لعلة الإرجاء، كذا في التهذيب. وقال في التقريب: أنه صدوق يهم. وقال الذهبي: صدوق، فالظاهر أن حديثه حسن. والحديث أخرجه أيضاً أحمد وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما. قال المناوي: في شرح الجامع الصغير: إسناده حسن. 1325- قوله: (من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة) هذا أكثر ما ورد من قوله في عدد صلاة الضحى. قال العيني وغيره: لم يرد في عدد صلاة الضحى أكثر من ذلك. (رواه الترمذي وابن ماجه) واستغربه الترمذي،

{الفصل الثالث}

1326- (10) وعن معاذ بن أنس الجهني، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من قعد في مصلاه حين ينصرف من صلاة الصبح، حتى يسبح ركعتي الضحى، لا يقول إلا خيراً، غفر له خطاياه وإن كانت أكثر من زبد البحر)) . رواه أبوداود. {الفصل الثالث} 1327- (11) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من حافظ على شفعة الضحى، غفرت له ذنوبه ـــــــــــــــــــــــــــــ كما نقله المصنف، وذكره النووي في الأحاديث الضعيفة، قاله ميرك. وقال الحافظ في الفتح: قال النووي: في شرح المهذب: فيه. (أي في فضل صلاة الضحى ثنتي عشرة ركعة) حديث ضعيف، كأنه يشير إلى حديث أنس. (يعني الذي نحن بصدد شرحه) . لكن إذا ضم إليه حديث أبي ذر عند البزار، وحديث أبي الدرداء عند الطبراني. (وفي إسنادهما ضعف) قوى وصلح للاحتجاج به، وقال فيه أيضاً: أن حديث أنس ليس في إسناده من أطلق عليه الضعف، وبه يندفع تضعيف النووي له، ولكنه تابعها الحافظ في التلخيص (ص118) حيث قال بعد ذكر الحديث: وإسناده ضعيف. 1326- قوله: (الجهني) بضم الجيم وفتح الهاء، منسوب إلى قبيلة جهنية مصغراً. (من قعد) أي استمر (في مصلاه) من المسجد مشتغلاً بذكر الله. (حين ينصرف) أي يفرغ. (حتى يسبح) أي إلى أن يصلي. (ركعتي الضحى) أي بعد طلوع الشمس وارتفاعها. (لا يقول) أي فيما بينهما. (إلا خيراً) يعني يستمر على الذكر في ذلك الوقت ولا يتكلم بسوء. وقال القاري: هو ما يترتب عليه الثواب. واكتفى بالقول عن الفعل. (غفر له خطاياه) أي الصغائر، ويحتمل الكبائر، قاله القاري. (وإن كانت أكثر من زبد البحر) الزبد بفتحتين ما يعلو الماء ونحوه من الرغوة. والحديث من أدلة فضل صلاة الإشراق؛ لأنها أقرب النوافل بعد صلاة الصبح. وقد تقدم أن الضحى يطلق على صلاة الإشراق أيضاً. (رواه أبوداود) من طريق زبان بن فائد عن سهل بن معاذ، وقد سكت عنه أبوداود. وقال المنذري: سهل بن معاذ ضعيف، والراوي عنه زبان بن فائد ضعيف أيضاً. وقال العراقي: إسناده ضعيف. وأخرجه البيهقي من طريق أبي داود (ج3 ص49) . 1327- قوله: (من حافظ على شفعة الضحى) أي داوم عليها أو أداها على وجهها ولو مرة، والمراد بشفعة الضحى ركعتا الضحى. قال الجزري في النهاية: من الشفع الزوج، ويروى بالفتح والضم، كالغَرفة والغُرفة،

وإن كانت مثل زبد البحر)) . رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه. 1328- (12) وعن عائشة: ((أنها كانت تصلي الضحى ثماني ركعات، ثم تقول: لو نشر لي أبواي ما تركتها)) ـــــــــــــــــــــــــــــ وإنما سماها شفعة؛ لأنها أكثر من واحدة. قال القتيبي: الشفع الزوج، ولم أسمع به مؤنثاً إلا ههنا، وأحسبه ذهب بتأنيثه إلى الفعلة الواحدة أو إلى الصلاة- انتهى. وقال العراقي: المشهور في الرواية ضم الشين. (وإن كانت مثل زبد البحر) ما يعلو على وجهه عند هيجانه، مبالغة في الكثرة. قيل: إنما خص الكثرة بزبد البحر لاشتهاره بالكثرة عند المخاطبين. وقال ابن حجر: عبر هنا بمثل وفيما سبق بأكثر؛ لأن عمل ذلك أشق فكانت الزيادة به أحق. قال القاري: وفيه نظر؛ لأنه لا شبهة أن المواظبة المذكورة أقوى من مجرد القعود المسطور، اللهم إلا أن تكون المداومة فيه أيضاً معتبرة، أو يضم إليه أداء الصلاة الفريضة- انتهى. (رواه أحمد والترمذي وابن ماجه) من طريق نَهَّاس ابن قَهْم عن شداد أبي عمار عن أبي هريرة، ونهاس ضعيف، وشداد ثقة، وفي سماعه من أبي هريرة خلاف. قال صالح بن محمد: شداد أبوعمار صدوق، لم يسمع من أبي هريرة، ولا من عوف بن مالك، كذا في التهذيب. 1328- قوله: (كانت تصلي الضحى ثماني) بكسر النون وفتح الياء. (ركعات) قال الباجي: يحتمل أنها تفعل ذلك بخبر منقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كخبر أم هانئ، ولذا اقتصرت على هذا العدد، ويحتمل أن هذا القدر هو الذي كان يمكنها المداومة عليه، قال: وليست صلاة الضحى من الصلوات المحصورة بالعدد، فلا يزاد عليها ولا ينقص منها، ولكنها من الرغائب التي يفعل الإنسان منها ما أمكنه- انتهى. قال الزرقاني: هذا مختار الباجي، وإلا فالمذهب عندنا أن أكثرها ثمان؛ لأن ذلك أكثر ما ورد من فعله - صلى الله عليه وسلم - انتهى. وقال السيوطي: وهذا الذي قاله الباجي، هو الصواب المختار، فلم يرد في شيء من الأحاديث ما يدل على حصرها في عدد مخصوص. (ثم تقول) بياناً لشدة الاهتمام وحثاً على المحافظة والمداومة. (لو نشر لي) بضم النون وكسر الشين المعجمة أي أحي. (أبواي) أبوبكر وأم رومان. (ما تركتها) أي ما تركت هذه اللذة بتلك اللذة. قال الطيبي: هم من باب التعليق على المحال العادي، ولذلك خصته بقولها: لي أي لو فرض إحياءهما لي لم أتركها فكيف وأن ذلك محال عادة، أي لا أدع هذه اللذة بتلك اللذة. وقال ابن حجر: معناه لو خصصت بإحياء أبوي الذي لا ألذ منه لذات الدنيا. وقيل: لي أتركي لذة فعلها في مقابلة تلك اللذة ما تركت ذلك الإيثار اللذة الأخروية وإن دعا الطبع الجبلي إلى تقديم تلك اللذة الدنيوية، أو المعنى ما تركت هذه الصلاة اشتغالاً بالترحيب بهما والقيام بخدمتهما، فهو كناية عن نهاية المواظبة وغاية المحافظة بحيث لا يمنعها قاطع عنها- انتهى. قلت: وفي الموطأ: ما تركتهن أي بضمير الجمع يعني

رواه مالك. 1329- (13) وعن أبي سعيد، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الضحى حتى نقول: لا يدعها، ويدعها حتى نقول: لايصليها)) . رواه الترمذي. 1330- (14) وعن مورق العجلي قال: ((قلت لابن عمر: تصلى الضحى؟ قال: لا. قلت: فعمر؟ قال: لا. قلت: فأبو بكر؟ قال: لا. قلت: فالنبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: لا إخاله)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ هذه الركعات فإن لذتها أكثر من لذة إحيائهما. (رواه مالك) عن زيد بن أسلم عن عائشة أم المؤمنين. 1329- قوله: (حتى نقول) بالنون. (لا يدعها) أي لا يتركها أبداً. (ويدعها) أي أحياناً. (حتى نقول لا يصليها) وفي بعض نسخ الترمذي: لا يصلي بدون الضمير المنصوب وكان ذلك بحسب مقتضى الأوقات من العمل بالرخصة والعزيمة، كما يفعل في صوم النفل. والحديث من أدلة القائلين بأن صلاة الضحى يستحب فعلها تارة وتركها تارة، بحيث لا يواظب عليها بل يصلي أحياناً ويترك أحياناً، كما كان عادته - صلى الله عليه وسلم - من العمل بالرخصة والعزيمة، وسيأتي شيء من الكلام في ذلك في شرح الحديث الآتي. وأما ما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أن صلاة الضحى كانت واجبة عليه، فضعيف. قال الحافظ في الفتح: لم يثبت ذلك في خبر صحيح. (رواه الترمذي) وأخرجه أيضاً أحمد (ج3 ص21، 36) ونسبه الحافظ في الفتح للحاكم. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب- انتهى. وفي سنده عطية بن سعيد بن جنادة العوفي الكوفي، وهو صدوق، يخطىء كثيراً، وكان شيعياً مدلساً، قاله الحافظ. 1330- قوله: (وعن مورق) بضم الميم وفتح الواو وتشديد الراء المكسورة، ابن المشمرج بضم الميم وفتح الشين المعجمة وسكون الميم وفتح الراء وبكسرها وبالجيم، يكنى أبا المعتمر البصري، ثقة عابد، من كبار الطبقة الوسطى من التابعين، مات سنة (103) وقيل: (105) وقيل: (108) . (العجلي) بكسر العين المهملة وسكون الجيم نسبة إلى عجل قبيلة. (تصلى الضحى) بحذف أداة الاستفهام. وفي البخاري: أتصلي بإثباتها. (قال) ابن عمر. (لا) أصليها قال. (قلت) له. (فعمر) كان يصليها. (قال لا) أي لم يصليها. (قلت فأبو بكر) كان يصليها. (قال: لا) أي لم يصليها، والفاء للترقي من الأدنى إلى الأعلى. (قلت فالنبي - صلى الله عليه وسلم -) كان يصليها. (قال: لا إخاله) برفع اللام وكسر الهمزة في الأشهر الأفصح. وقد تفتح والخاء معجمة أي لا أظنه عليه الصلاة والسلام صلاها، وكان سبب توقف ابن عمر في ذلك أنه بلغه عن غيره أنه صلاها، ولم يثق بذلك عمن ذكره، نعم جاء عنه الجزم بكونها محدثة من رواية سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن مجاهد عنه، وروى البخاري في أول

(39) باب التطوع

رواه البخاري. (39) باب التطوع {الفصل الأول} 1331- (1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبلال عند صلاة الفجر: ((يا بلال! حدثني بأرجى عمل عملته ـــــــــــــــــــــــــــــ أبواب العمرة من وجه آخر عن مجاهد قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد، فإذا عبد الله بن عمر جالس إلى حجرة عائشة، وإذا ناس يصلون الضحى فسألناه عن صلاتهم، فقال: بدعة، وروى سعيد بن منصور أن ابن عمر كان لا يصلي الضحى إلا أن يأتي قباء، وهذا يحتمل أن يريد به صلاة تحية المسجد في وقت الضحى لا صلاة الضحى، ويحتمل أن يكون ينويهما معاً، كما قيل في ما روى عنه أنه قال: ما صليت الضحى منذ أسلمت إلا أن أطوف البيت، أي فأصلي في ذلك الوقت لا على نية صلاة الضحى بل على نية الطواف، ويحتمل أنه كان ينويهما معاً. وفي الجملة ليس في أحاديث ابن عمر هذه ما يدفع مشروعية صلاة الضحى؛ لأن نفيه محمول على عدم رؤيته، لا على عدم الوقوع في نفس الأمر، أو الذي نفاه صفة مخصوصة، كما تقدم نحوه في الكلام على حديث عائشة في الفصل الأول. قال عياض وغيره: إنما أنكر ابن عمر ملازمتها وإظهارها في المساجد وصلاتها جماعة، لا أنها مخالفة للسنة. وقيل: لم يبلغ ابن عمر فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمره بذلك. (رواه البخاري) الحديث من إفراد البخاري. قال الحافظ: وليس لمورق المذكور في البخاري عن ابن عمر سوى هذا الحديث- انتهى. وأخرجه أيضاً أحمد (ج2 ص23) . (باب التطوع) أي سائر أنواع التطوع من الصلوات الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من صلاة الوضوء وصلاة الاستخارة والتوبة والحاجة ومنها صلاة التسبيح، مأخوذ من الطوع والطاعة، وهو الانقياد، ويطلق التطوع على كل عبادة نافلة مما لم يفرض ولم يجب فعله على العبد، والمتطوع على كل متنفل بالخير أي الذي يأتي من الأعمال الصالحة زيادة على الفرائض والواجبات، وأكثر إطلاق التطوع في الصلاة على غير سنن الرواتب، وصيغة التفعل للمبالغة من حيث أن العبد يفعله من غير أن يكلفه الشارع بذلك، ويبالغ في الانقياد له بفعله. 1331- قوله: (لبلال) هو ابن رباح المؤذن. (عند صلاة الفجر) أي في الوقت الذي كان - صلى الله عليه وسلم - يقص فيه رؤياه ويعبر ما رآه غيره من أصحابه. قال الحافظ: في قوله عند صلاة الفجر إشارة إلى أن ذلك وقع المنام؛ لأن عادته - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقص ما رآه ويعبر ما رآه أصحابه بعد صلاة الفجر، كما وردت بذلك الأحاديث. (حدثني) أي أخبرني (بأرجى عمل عملته) بلفظ أفعل التفضيل المبني من المفعول، وهو سماعي مثل أشغل وأعذر،

في الإسلام، فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة. قال: ما عملت عملاً أرجى عندي أني لم أتطهر طهوراً في ساعة من ليل ولا نهار، ـــــــــــــــــــــــــــــ أي أكثر مشغولية ومعذورية، والعمل ليس براج للثواب، وإنما هو مرجو الثواب، وأضيف إلى العمل؛ لأنه السبب الداعي إليه، والمعنى أخبرني بما أنت أرجى من نفسك به من أعمالك. قال التوربشتي: سأله عن أوثق أعماله وأحقها بالرجاء عنده وأضاف الرجاء إلى العمل؛ لأنه هو السبب الداعي إلى الرجاء، والمعنى أنبئني عن أعمالك بنا أنت أشد رجاء فيه أي يكون رجاءك بثوابه أكثر. (في الإسلام) زاد مسلم في روايته منفعة عندك. (فإني سمعت) أي الليلة، كما في مسلم، وفيه إشارة إلى أن ذلك وقع في المنام، ويدل على ذلك أيضاً أن الجنة لا يدخلها أحد أي من غير الأنبياء إلا بعد الموت وإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخلها يقظة كما وقع له في المعراج إلا أن بلالاً لم يدخل. وقال التوربشتي: هذا شيء كوشف به - صلى الله عليه وسلم - من عالم الغيب في نومه أو يقظته. وقيل: هذا مبالغة في دخول الجنة، كأنه دخل في حال حياته، قلت: حديث بريدة الآتي في الفصل الثاني ظاهر في كونه رآه دخل الجنة، ويؤيد كونه وقع في المنام ما روى البخاري في أول مناقب عمر من حديث جابر مرفوعاً: رأيتني دخلت الجنة فسمعت خشفة، فقيل: هذا بلال ورأيت قصرا بفنائه جارية، فقيل: هذا لعمر- الحديث. وبعده من حديث أبي هريرة مرفوعاً: بينا أنا نائم رأيتني في الجنة فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب القصر، فقيل: هذا لعمر- الحديث. فعرف أن ذلك وقع في المنام ورؤيا الأنبياء وحي ولذلك جزم النبي - صلى الله عليه وسلم - له بذلك. (دف نعليك) بفتح الدال المهملة والفاء المشددة أي حسيسهما عند المشي فيهما. قال التوربشتي: أراد أخذ من دفيف الطائر إذا أراد النهوض قبل أن يستقل، وأصله ضربه بجناحيه، وفيه وهما جنباه فيسمع لهما حسيس. وقال الخليل: دف الطائر إذا حرك جناحيه، وهو قائم على رجليه. وقال الحميدي: الدف الحركة الخفيفة والسير اللين. والمراد هنا الصوت اللين الملائم الناشيء من السير، ووقع في رواية لمسلم خشف نعليك بفتح الخاء وسكون الشين المعجمتين وتخفيف الفاء. قال أبوعبيدة وغيره: الخشف الحركة الخفيفة. (بين يدي في الجنة) ظرف للسماع، وتقدم بلال بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام في الجنة على عادته في اليقظة لا يستدعي أفضليته على العشرة المبشرة بالجنة فضلاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل هو سبق خدمة، كما يسبق العبد سيده، وإنما أخبره عليه السلام بما رآه ليطيب قبله باستحقاقه الجنة ليداوم عليه ولإظهار رغبة السامعين. وفيه إشارة إلى بقاء بلال على ما هو عليه في حال حياته واستمراره على قرب منزلته وذلك منقبة عظيمة لبلال. (ما عملت عملاً أرجى عندي أني) بفتح الهمزة. و"من مقدرة قبلها صلة لأفعل التفضيل، وثبتت في رواية مسلم وللكشمهيني أن بنون خفيفة بدل أني. (لم أتطهر طهوراً) بضم الطاء زاد مسلم تاماً أي لم أتوضأ وضوءاً. (في ساعة من ليل ولا نهار) هذا لفظ مسلم، وفي رواية البخاري: في ساعة ليل أو نهار. قال

إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي)) . متفق عليه. 1332- (2) وعن جابر، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا الاستخارة في الأمور، ـــــــــــــــــــــــــــــ القسطلاني: بغير تنوين ساعة على الإضافة، كما في بعض الأصول المقابل على اليونينية، ورأيته بها كذلك، وفي بعضها ساعة بالتنوين، وجر ليل على البدل، وهو الذي ضبطه به الحافظ ابن حجر والعيني، ولم يتعرض لضبطه البرماوي، كالكرماني، ونكر ساعة لإفادة العموم، فيدل على جواز هذه الصلاة في الأوقات المكروهة، وتعقب بأن الأخذ بعموم هذا ليس بأولى من الأخذ بعموم النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة، وتعقبه ابن التين بأنه ليس فيه ما يقتضي الفورية فيحمل على تأخير الصلاة قليلاً ليخرج وقت الكراهة، وأنه كان يؤخر الطهور إلى آخر وقت الكراهة لتقع صلاته في غير وقت الكراهة، ورد بأنه في حديث بريدة عند الترمذي وابن خزيمة في نحو هذه القصة: ما أصابني حدث قط إلا توضأت عندها، ولأحمد من حديثه إلا توضأت وصليت ركعتين، فدل على أن يعقب الحدث بالوضوء والوضوء بالصلاة في أي وقت كان. (إلا صليت) زاد الإسماعيلي لربي. (بذلك الطهور) بضم الطاء. (ما كتب لي أن أصلي) أي ما قدر لي أعم من النوافل والفرائض، وكتب على صيغة المجهول. والجملة في موضع نصب، وأن أصلي في موضع رفع. قال ابن التين: إنما اعتقد بلال ذلك؛ لأنه علم من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الصلاة أفضل الأعمال، وأن عمل السر أفضل من عمل الجهر. قال الحافظ. والذي يظهر أن المراد بالأعمال التي سأله عن أرجاها الأعمال المتطوع بها وإلا فالمفروضة أفضل قطعاً- انتهى. والحكمة في فضل الصلاة على هذا الوجه من وجهين: أحدهما أن الصلاة عقب الطهور أقرب إلى اليقين منها إذا تباعدت؛ لكثرة عوارض الحدث من حيث لا يشعر المكلف. ثانيهما: ظهور أثر الطهور باستعماله في استباحة الصلاة وإظهار آثار الأسباب مؤكد لها ومحقق. وفي الحديث فضيلة الصلاة عقب الوضوء، وإنها سنة، وسؤال الشيخ عن عمل تلميذه ليحضه عليه ويرغبه فيه إن كان حسناً وإلا فينهاه. (متفق عليه) أخرجه البخاري في باب فضل الصلاة بعد الوضوء بالليل والنهار قبل أبواب التطوع، ومسلم في الفضائل واللفظ للبخاري إلا قوله: في ساعة من ليل ولا نهار فإنه لمسلم، ولفظ البخاري: في ساعة ليل أو نهار، وسيأتي في حديث الترمذي أنه ذكر أموراً متعددة غير ذلك، فأما أن يكون ذكر الكل فحفظ بعض الرواة هذا وبعضهم ذاك أو تكون الواقعة مكررة فذكر هذا في مرة وذاك في أخرى. 1332- قوله: (يعلمنا الاستخارة) أي صلاتها ودعاءها، وهو استفعال من الخير ضد الشر، أو من الخيرة بكسر أوله وفتح ثانية بوزن العنبة، اسم من قولك: خار الله له، أي أعطاه ما هو خير له، واستخارا لله، طلب منه الخيرة، والمراد طلب خير الأمرين من الفعل والترك لمن احتاج إلى أحدهما. (في الأمور) أي التي نريد

كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ـــــــــــــــــــــــــــــ الإقدام عليها مما يعتني بشأنها مثل السفر والنكاح والعمارة ونحوها لا كأكل والشرب المعتاد. ولأبي ذر والأصيلي زيادة: كلها أي جليلها وحقيرها، كثيرها وقليلها، فإن اللفظ يدل على العموم وأن المرء لا يحتقر أمرا لصغره وعدم الاهتمام به، فيترك الاستخارة فيه فرب أمر يستخف بأمره، فيكون في الإقدام عليه ضرر عظيم أو في تركه. قال ابن أبي جمرة: هو عام أريد به الخصوص، فإن الواجب والمستحب لايستخار في فعلهما، والحرام والمكروه لايستخار في تركهما، فانحصرا الأمر في المباح وفي المستحب إذا تعارض منه أمران أيهما يبدأ به ويقتصر عليه. وقال الحافظ: وتدخل الاستخارة فيما عدا ذلك في الواجب والمستحب المخير، وفيما كان زمنه موسعاً. (كما يعلمنا السورة من القرآن) أي يعتني بشأن تعليمنا الاستخارة لعظم نفعها وعمومه كما يعتني بتعليمنا السورة، ففيه دليل على الاهتمام بأمر الاستخارة، وأنه متأكد مرغب فيه. قال الطيبي: فيه إشارة إلى الاعتناء التام البالغ بهذا الدعاء وهذه الصلاة لجعلهما تلوين للفريضة والقرآن. (يقول) بيان لقوله: "يعلمنا الاستخارة". (إذا هم أحدكم بالأمر) أي أراده، كما في حديث ابن مسعود عند الطبراني والحاكم. والأمر يعم المباح، وما يكون عبادة إلا أن الاستخارة في العبادة بالنسبة إلى إيقاعها في وقت معين، وإلا فهي خير، ويستثنى ما يتعين إيقاعها في وقت معين، إذ لا يتصور فيه الترك. قال القسطلاني: أي قصد أمراً مما لا يعلم وجه الصواب فيه. أما ما هو معروف خيره كالعبادات وصنائع المعروف فلا، نعم قد يفعل ذلك لأجل وقتها المخصوص كالحج في هذه السنة لاحتمال عدو أو فتنة ونحوهما. (فليركع) أي ليصل في غير وقت الكراهة عند الأكثرين، وهو أمر ندب يدل عليه الأحاديث الدالة على عدم وجوب صلاة زائدة على الخمس من قوله: "هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع"، وغير ذلك. (ركعتين) بنية الاستخارة، وهما أقل ما يحصل به المقصود. وهل يجزيء في ذلك إذا صلى أربعاً بتسليمة؟ يتمل أن يقال يجزيء ذلك لحديث أبي أيوب الأنصاري المروي في صحيح ابن حبان وغيره: "ثم صل ما كتب الله لك"، فهو دال على أن الزيادة على الركعتين لا تضر. (من غير الفريضة) فيه دليل على أنه لا تحصل سنة صلاة الاستخارة بوقوع الدعاء بعد صلاة الفريضة لتقييد ذلك في النص بغير الفريضة. وأما السنن الراتبة وغيرها من النوافل المطلقة فقال العراقي: إن كان همه بالأمر قبل الشروع في الراتبة ونحوها، ثم صلى من غير نية الاستخارة، وبدا له بعد الصلاة الإتيان بدعاء الاستخارة، فالظاهر حصول ذلك- انتهى. والظاهر أنه لا يجزئ ذلك إلا إذا نوى تلك الصلاة بعينها، وصلاة الاستخارة معاً. وأفاد النووي أنه يقرأ في الركعتين: {الكافرون} و {الإخلاص} قال العراقي في شرح الترمذي: لم أقف على دليل ذلك، ولعله ألحقهما بركعتي الفجر والركعتين بعد المغرب، قال: ولهما مناسبة بالحال لما فيهما من الإخلاص والتوحيد، والمستخير محتاج لذلك، قال ومن المناسب أن يقرأ فيهما مثل قوله: {وربك يخلق ما يشاء

ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم إن هذا الأمر خير لي في ديني، ومعاشي، ـــــــــــــــــــــــــــــ ويختار} الآية [28: 68] ، وقوله: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة} الآية [33: 36] . (ثم ليقل) ندباً. وهذا ظاهر في تأخير الدعاء عن الصلاة، فلو دعا به في أثناء الصلاة احتمل الإجزاء، كما يشير إليه رواية أبي داود بلفظ: وليقل. (اللهم إني أستخيرك) أي أطلب منك بيان ما هو خير لي. (بعلمك) أي أسألك أن ترشدني إلى الخير فيما أريد بسبب أنك عالماً. (واستقدرك) أي أطلب منك أن تجعل لي قدرة عليه، أي تجعلني قادراً عليه إن كان فيه خير. ويحتمل أن يكون المعنى أطلب منك أن تقدره لي، والمراد بالتقدير التيسير. (بقدرتك) الباء فيه وفي قوله: "بعلمك" للتعليل، أي لأنك أعلم وأقدر، أو للاستعانة، كقوله: {بسم الله مجريها ومرساها} [11: 41] أي أطلب منك الخير والقدرة مستعيناً بعلمك وقدرتك، أو للاستعطاف كما في قوله: {رب بما أنعمت علي} [28: 17] أي بحق علمك وقدرتك الشاملين. (وأسألك من فضلك العظيم) أي أسألك ذلك لأجل فضلك العظيم لا لاستحقاقي لذلك ولا لوجوبه عليك، إذ كل عطائك فضل، ليس لأحد عليك حق في نعمة ولا في شيء، فكل ما تهب فهو زيادة مبتدأة من عندك لم يقابلها منا عوض فيما مضى ولا يقابلها فيما يستقبل. (فإنك تقدر) بالقدرة الكاملة على كل شيء ممكن تعلقت به إرادتك. (ولا أقدر) على شيء إلا بقدرتك وحولك وقوتك. (وتعلم) بالعلم المحيط بجميع الأشياء خيرها وشرها كليها وجزئيها ممكنها وغيرها. (ولا أعلم) شيئاً منها إلا بإعلامك. (وأنت علام الغيوب) بضم الغين أي أنت كثير العلم بجميع المغيبات؛ لأنك تعلم السر وأخفى فضلاً عن الأمور الحاضرة والأشياء الظاهرة في الدنيا والآخرة. قال الحافظ في قوله: "فإنك تقدر"الخ. إشارة إلى أن العلم والقدرة لله وحده، وليس للعبد من ذلك إلا ما قدر الله له، وكأنه قال أنت يا رب تقدر قبل أن تخلق في القدرة، وعندما تخلقها فتى، وبعد ما تخلقها. (اللهم أن كنت تعلم) الترديد راجع إلى عدم علم العبد بمتعلق علمه تعالى، إذ يستحيل أن يكون خيراً ولا يعلمه العليم الخبير، وهذا ظاهر. قال الكرماني: الشك في أن العلم متعلق بالخير أو الشر لا في أصل العلم. (إن هذا الأمر) زاد في رواية أبي داود. يسميه بعينه الذي يريد، وظاهرها أن ينطق به. ويحتمل أن يكتفي باستحضاره بقلبه عند الدعاء. وعلى الأول تكون التسمية في أثناء الدعاء عند ذكره بالكناية عنه في قوله: "إن هذا الأمر". (خير لي) أي أمر الذي أريده أصلح لي. (في ديني) أي فيما يتعلق بديني. (ومعاشي) أي حياتي. قال العيني: المعاش والمعيشة واحد يستعملان مصدراً

وعاقبة أمري ـ أو قال: في عاجل أمري وآجله ـ فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري ـ أو قال: في عاجل أمري وآجله ـ فاصرفه عني واصرفني عنه، ـــــــــــــــــــــــــــــ وأسماء، وفي المحكم: العيش الحياة عاش عيشا وعيشة ومعيشا ومعاشا، ثم قال المعيش والمعاش والعيشة ما يعاش به- انتهى. قال الحافظ: زاد أبوداود: ومعادي، وهو يؤيد أن المراد بالمعاش الحياة. ويحتمل أن يريد بالمعاش ما يعاش فيه، ولذلك وقع في حديث ابن مسعود، في بعض طرقه عند الطبراني في الأوسط: في ديني ودنياي، وفي حديث أبي أيوب عند الطبراني: في دنياي وآخرتي. زاد ابن حبان في روايته: وديني. وفي حديث أبي سعيد عند ابن حبان وأبي يعلي: في ديني ومعيشتي- انتهى. (وعاقبة أمري أو قال في عاجل أمري وآجله) قال الحافظ: هو شك من الراوي، واقتصر في حديث أبي سعيد على عاقبة أمري وكذا في حديث ابن مسعود. وهو يؤيد أحد الاحتمالين في أن العاجل والآجل مذكوران بدل الألفاظ الثلاثة، أو بدل الأخيرين فقط. وعلى هذا فقول الكرماني: لا يكون الداعي جازماً بما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا إن دعا ثلاث مرات: يقول: مرة في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، ومرة في عاجل أمري وآجله، ومرة في ديني وعاجل أمري وآجله. قلت. (قائله الحافظ) ولم يقع ذلك أي الشك في حديث أبي أيوب وأبي هريرة أصلاً- انتهى. وقال الطيبي: الظاهر أنه شك أي لا تخيير، كما توهم بعضهم في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في عاقبة أمري، أو قال عاجل أمري وآجله، وإليه ذهب القوم حيث قالوا: هي على أربعة أقسام: خير في دينه دون دنياه، وهو مقصود الأبدال، وخير في دنياه فقط، وهو حظ حقير، وخير في العاجل دون الآجل، وبالعكس، وهو أولى، والجمع. (بين الأربعة) أفضل. ويحتمل أن يكون الشك في أنه عليه السلام قال: في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال بدل الألفاظ الثلاثة في عاجل أمري وآجله، ولفظ في المعادة في قوله: "في عاجل أمري" ربما يؤكد هذا. وعاجل الأمر يشمل الديني، والدنيوي، والآجل يشملهما، والعاقبة كذا في المرقاة. (فاقدره لي) بضم الدال وكسرها، أي اجعله مقدوراً لي أي أدخله تحت قدرتي. وقيل: اقض لي به، أو أنجزه لي وهيّئه، أو قدره لي أي يسره، فهو مجاز عن التيسير، فلا ينافي كون التقدير أزلياً، ويكون قوله: (ويسره لي) عطفا تفسيريا. (ثم بارك لي فيه) أي أدمه وضاعفه. (وإن كنت تعلم أن هذا الأمر) أي المذكور أو المضمر، فاللام للعهد. (شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري) أي معادي. قال السندي: ينبغي أن يجعل الواو ههنا بمعنى أو بخلاف قوله: "خير لي في كذا وكذا"، فإن هناك على بابها؛ لأن المطلوب حين تيسره أن تكون خيراً من جميع الوجوه. وأما حين الصرف فيكفي أن يكون شراً من بعض الوجوه- انتهى. (فاصرفه عني واصرفني عنه)

واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني به، قال: ويسمى حاجته)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلا تعلق بالي بطلبه. وفي دعاء بعض العارفين: اللهم لا تتعب بدني في طلب ما لم تقدره لي، ولم يكتف بقوله اصرفه عني؛ لأنه قد يصرف الله عن المستخير ذلك الأمر، ولا يصرف قلبه عنه، بل يبقى متعلقاً متطلباً متشوقاً إلى حصوله، فلا يطيب له خاطره، فإذا صرف كل منهما عن الآخر كان ذلك أكمل، ولذا قال في آخره: (واقدر لي الخير) أي يسره علي واجعله مقدور الفعل. (حيث كان) أي الخير. وفي حديث أبي سعيد: أينما كان لا حول ولا قوة إلا بالله. (ثم أرضني به) بهمزة قطع أي اجعلني راضياً به؛ لأنه إذا قدر له الخير ولم يرض به، كان منكد العيش آثماً بعدم رضاه بما قدره الله له مع كونه خيراً له. وفي رواية: ثم رضني به بالتشديد من الترضية، وهو جعل الشيء راضياً. وأرضيت ورضيت بالتشديد بمعنى. (قال: ويسمى حاجته) أي في أثناء الدعاء عند ذكرها بالكناية عنها في أوله: "إن كنت تعلم أن هذا الأمر". قال الطيبي: "يسمي حاجته" إما حال من فاعل "يقل" أي فليقل هذا مسمياً حاجته، أو عطف على "ليقل" على التأويل؛ لأنه أي يسمي في معنى الأمر- انتهى. وفي الحديث دليل لأهل السنة أن الشر من تقدير الله على العبد؛ لأنه لو كان يقدر على اختراعه لقدر على صرفه ولم يحتج إلى طلب صرفه عنه. وفيه شفقة النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته وتعليمهم جميع ما ينفعهم في دينهم ودنياهم. وفيه أن العبد لا يكون قادراً إلا مع الفعل لا قبله والله هو خالق العلم بالشيء للعبد وهمه به واقتداره عليه، فإنه يجب على العبد رد الأمور كلها إلى الله، والتوكل عليه، والتفويض إليه، والتبرئ من الحول والقوة إليه، وأن يسأل ربه وفيه أموره كلها. وفيه استحباب صلاة الاستخارة والدعاء المأثور عقيبها، وليس في ذلك خلاف. واختلف فيماذا يفعل المستخير بعد الاستخارة. فقيل: يفعل ما بدا له ويختار أي جانب شاء من الفعل والترك وإن لم ينشرح صدره لشيء منهما، فإن فيما يفعله يكون خيره ونفعه، فلا يوفق إلا لجانب الخير، وهذا لأنه ليس في الحديث أن الله ينشئ في قلب المستخير بعد الاستخارة انشراحاً لجانب أو ميلاً إليه. كما أنه ليس فيه ذكر أن يرى المستخير رؤيا أو يسمع صوتاً من هاتف أو يلقى في روعه شيء، بل ربما لا يجد المستخير في نفسه انشراحاً بعد تكرار الاستخارة وهذا يقوي أن الأمر ليس موقوفاً على الانشراح. وفي الجملة المذكور في الحديث أنما هو أمر للعبد بالدعاء بأن يصرف الله عنه الشر ويقدر له الخير أينما كان، وهذا اختاره ابن عبد السلام حيث قال: يفعل المستخير ما اتفق، واستدل له بقوله في بعض طرق حديث ابن مسعود في آخره: ثم يعزم، وأول الحديث: إذا أراد أحدكم أمراً فليقل. وقال الشيخ كمال الدين الزملكاني: إذا صلى الإنسان ركعتي الاستخارة لأمر فليفعل بعدها ما بدا له سواء انشرحت نفسه له أم لا، فإن فيه الخير وإن لم تنشرح له نفسه. وليس في الحديث اشتراط انشراح النفس. كذا في طبقات الشافعية (ج5 ص258) . وقيل: ينبغي أن يفعل بعد الاستخارة ما ينشرح له حتى أنه يستحب له

رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ تكرار الصلاة والدعاء في الأمر الواحد إذا لم يظهر له وجه الصواب في الفعل أو الترك ما لم ينشرح صدره لما يفعل، واختاره النووي ومن وافقه، قال النووي في الأذكار (ص93) : يفعل بعد الاستخارة ما ينشرح به صدره، واستدل له بحديث أنس عند ابن السني (ص192) : إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات، ثم انظر إلى الذي يسبق إلى قلبك، فإن الخير فيه. قال الحافظ: وهذا لو ثبت لكان هو المعتمد، لكن سنده واهٍ جداً- انتهى. وبسط العيني والشوكاني الكلام في بيان وجه ضعف الحديث وسقوطه، قال الشوكاني بعد ذكر كلام النووي: فلا ينبغي أن يعتمد على انشراح كان له فيه هوى قبل الاستخارة، بل ينبغي للمستخير ترك اختياره رأساً، وإلا فلا يكون مستخيراً لله، بل يكون مستخيراً لهواه، وقد يكون غير صادق في طلب الخيرة وفي التبرئ من العلم والقدرة وإثباتهما لله، فإذا صدق في ذلك تبرأ من الحول والقوة ومن اختياره لنفسه- انتهى. قلت: والراجح عندي قول من ذهب إلى أنه يفعل المستخير بعد الاستخارة ما بدا له واتفق، فليس الأمر منوطاً عندي على الانشراح أو الرؤيا؛ لأنه ليس في الحديث اشتراط انشراح النفس، ولا ذكر النوم بعد الاستخارة، وإطلاع ما هو خير له في رؤياه، والله أعلم. وارجع إلى زاد المعاد (ج1 ص286) ، ومدارج السالكين (ج2 ص68) . (رواه البخاري) في أبواب التطوع من الصلاة، وفي الدعوات، وفي التوحيد، وهو من أفراد البخاري. وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وصححه وأبوداود في أواخر الصلاة، والنسائي في النكاح، وابن ماجه في الصلاة، والبيهقي (ج3 ص52) . والحديث مع كونه في صحيح البخاري وتصحيح الترمذي وابن حبان له، قد ضعفه أحمد بن حنبل، وقال: إن حديث عبد الرحمن بن أبي الموال يعني الذي أخرجه هؤلاء الجماعة من طريق منكر في الاستخارة، ليس يرويه غيره. وقال ابن عدي في الكامل: والذي أنكر عليه حديث الاستخارة، وقد رواه غير واحد من الصحابة كما رواه ابن أبي الموال- انتهى. قال العراقي: كان ابن عدي أراد بذلك أن لحديثه هذا شاهداً من حديث غير واحد من الصحابة، فخرج بذلك أن يكون فرداً مطلقاً، وقد وثقه جمهور أهل العلم- انتهى. وقد جاء من رواية ابن مسعود عند الطبراني والحاكم، وعن أبي أيوب عند الطبراني وابن حبان والحاكم، وعن أبي سعيد عند أبي يعلى وابن حبان، وعن أبي هريرة عند ابن حبان، وعن ابن عباس وابن عمر عند الطبراني، وليس في شيء من هذه الأحاديث ذكر الصلاة سوى حديث جابر إلا أن لفظ أبي أيوب: أكتم الخطبة، وتوضأ فأحسن الوضوء ثم صل ما كتب الله لك- الحديث. فالتقييد بركعتين وبقوله: من غير الفريضة خاص بحديث جابر. وارجع للكلام في هذه الأحاديث إلى مجمع الزوائد (ج2 ص280، 281) والفتح والعيني والنيل.

{الفصل الثاني}

{الفصل الثاني} 1333- (3) عن علي، قال: حدثني أبوبكر- وصدق أبوبكر- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما من رجل يذنب ذنباً، ثم يقوم فيتطهر، ثم يصلي، ثم يستغفر الله، إلا غفر الله له، ثم قرأ: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم} . رواه الترمذي، وابن ماجه، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1333- قوله: (وصدق أبوبكر) جملة معترضة بيّن بها علي رضي الله عنه جلالة أبي بكر رضي الله عنه، ومبالغة في الصدق حتى سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صديقاً. (قال) أي أبوبكر. (ما من رجل) أي أو امرأة. و"من" زائدة لزيادة إفادة الاستغراق. (يذنب ذنباً) أي أيّ ذنب كان صغيراً أو كبيراً. (ثم يقوم) قال الطيبي: "ثم" للتراخي في الرتبة. قال القاري: والأظهر أنه للتراخي الزماني، يعني ولو تأخر القيام بالتوبة عن مباشرة المعصية؛ لأن تعقيب ليس بشرط، فالإتيان بـ"ثم" للرجاء. والمعنى ثم يستيقظ من نوم الغفلة، كقوله تعالى: {أن تقوموا لله} [34: 46] . (فيتطهر) أي فيتوضأ، كما في رواية ابن السني. وفي رواية أبي داود: فيحسن الطهور. (ثم يصلي) أي ركعتين، كما في رواية ابن السني وابن حبان والبيهقي وأبي داود وابن ماجه. (ثم يستغفر الله) أي لذلك الذنب، كما في رواية ابن السني. والمراد بالاستغفار التوبة بالندامة والإقلاع والعزم على أن لا يعود إليه أبداً. وأن يتدارك الحقوق إن كانت هناك. و"ثم" في الموضعين لمجرد العطف التعقيبي. (ثم قرأ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - استشهاداً وإعتضاداً، أو قرأ أبوبكر تصديقاً وتوفيقاً. (والذين) مبتدأ خبره سيأتي ويحتمل وجهين آخرين. (إذا فعلوا فاحشة) أي ذنباً قبيحاً كالزنا. (أو ظلموا أنفسهم) أي بما دونه كالقبلة واللمس. قال الطيبي: أي أيّ ذنب كان مما يؤاخذون به- انتهى. فيكون تعميماً بعد تخصيص. (ذكروا الله) أي ذكروا عقابه، قاله الطيبي. وظاهر الحديث أن معناه صلوا، لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. فالمعنى ذكروا الله بنوع من أنواع الذكر، قاله القاري. (فاستغفروا) أي طلبوا المغفرة مع وجود التوبة والندامة. (لذنوبهم) اللام معدية أو تعليلية. وفي الترمذي إلى آخر الآية بعد قوله ذكروا الله وتمامها: {ومن يغفر الذنوب إلا الله، ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون. أولئك جزاءهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العالمين} [3: 135: 136] . والحديث يدل على استحباب الصلاة عند التوبة من الذنب، وتسمى صلاة الاستغفار وصلاة التوبة. (رواه الترمذي) في الصلاة، وفي تفسير سورة آل عمران من طريق قتيبة عن أبي عوانة عن عثمان بن المغيرة عن علي بن ربيعة عن أسماء بن الحكم

إلا أن ابن ماجه لم يذكر الآية. 1334- (4) وعن حذيفة، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر صلى)) . رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفزاري عن علي، وقال: حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث عثمان بن المغيرة، وروى شعبة وغير واحد فرفعوه مثل أبي عوانة، ورواه سفيان الثوري ومسعر فأوقفاه ولم يرفعاه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد روي عن مسعر هذا الحديث مرفوعاً أيضاً- انتهى. قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي: وفيه أي في كلام الترمذي نظر فإنه جزم بأن الثوري رواه موقوفاً وأن مسعراً رواه موقوفاً ومرفوعاً، ولكن الحديث رواه أيضاً أحمد في مسنده (ج1 ص2) . (وكذا ابن ماجه) عن وكيع عن مسعر وسفيان كلاهما عن عثمان بن المغيرة بهذا الإسناد مرفوعاً. ورواية شعبة التي أشار إليها رواها عنه أبوداود الطيالسي في مسنده، وهو أول حديث فيه،. (ورواها أيضاً ابن السني في عمل اليوم والليلة (ص117) . وهذا الحديث صحيح نسبه المنذري في الترغيب والسيوطي في الدر المنثور (ج2 ص77) لابن حبان والبيهقي، ونسبه السيوطي أيضاً لابن أبي شيبة وعبد بن حميد والدارقطني والبزار وغيرهم. وأطال الكلام عليه الحافظ ابن حجر في التهذيب في ترجمة أسماء بن الحكم، وقال: هذا الحديث جيد الإسناد، وذكر أن ابن حبان أخرجه في صحيحه- انتهى. ورواه أبوداود أيضاً في سننه من طريق مسدد عن أبي عوانة عن عثمان بنحو ما رواه الترمذي. وكان صاحب المشكاة لم يقف على موضع إيراده في سننه، فترك ذكره في التخريج. (إلا أن ابن ماجه) وضع الظاهر موضع الضمير، وإلا فالظاهر أن يقول إلا أنه. (لم يذكر الآية) وكذا لم يذكرها أحمد في روايته. وعند ابن السني (ص117) وتلا هذه الآية: {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً} [4: 110] . 1334- قوله: (إذا حزبه) بحاء مهملة وزاي فموحدة من باب نصر أي أصابه. (أمر) أي شديد. قال في النهاية: أي إذا نزل به أمر مهم أو أصابه غم. وفي بعض النسخ بالنون من الحزن أي أوقعه في الحزن (صلى) أي بادر إلى الصلاة امتثالاً لقوله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة} [2: 45] أي بالصبر على البلايا والالتجاء إلى الصلاة، وذلك؛ لأن الصلاة معينة على دفع النوائب. ومنه أخذ بعضهم ندب صلاة المصيبة، وهي ركعتان عقيبها. وكان ابن عباس يفعل ذلك، ويقول نفعل ما أمرنا الله به بقوله: {واستعينوا بالصبر والصلاة} فينبغي لمن نزل به غم أن يشتغل بالصلاة، فإنه تعالى يفرجه عنه ببركة الصلاة. قال القاري: وهذه الصلاة ينبغي أن تسمى بصلاة الحاجات؛ لأنها غير مقيدة بكيفية من الكيفيات، ولا مختصة بوقت من الأوقات. (رواه أبوداود) في باب وقت قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - من الليل، وسكت عنه أبوداود. وقال المنذري: وذكر بعضهم أنه روي مرسلاً- انتهى. وأخرجه أيضاً أحمد (ج5 ص388) وإسناده صحيح أو حسن.

1335- (5) وعن بريدة، قال: ((أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعا بلالاً، فقال: بما سبقتني إلى الجنة؟ ما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشتك أمامي. قال: يا رسول الله! ما أذنت قط إلا صليت ركعتين، وما أصابني حدث قط إلا توضأت عنده ورأيت أن لله عليّ ركعتين. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بهما)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1335- قوله: (أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي ذات يوم. (فدعا بلالاً) أي بعد صلاة الصبح كما مر. (بما) وفي المصابيح: بم بإسقاط الألف، وكذا وقع في الترمذي أي بأي شيء. (سبقتني إلى الجنة) قال التوربشتي نرى ذلك- والله أعلم- عبارة عن مسارعة بلال إلى العمل الموجب لتلك الفضيلة قبل ورود الأمر عليه، وقبل بلوغ الندب إليه، وذلك مثل قول القائل لعبده: تسبقني إلى العمل أي تعمل قبل ورود أمري عليك. ومن ذهب في معناه إلى ما يقتضيه ظاهر اللفظ فقد أحال فإن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - جل قدرة أن يسبقه أحد من الأنبياء إلى الجنة فضلاً عن بلال، وهو رجل من أمته، كذا قال. وقد قدمنا أن الواقعة واقعة منام، وأن حديث بريدة هذا ظاهر في كونه - صلى الله عليه وسلم - رأى بلالا دخل الجنة، وأن مشيه بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - كان من عادته في اليقظة، فاتفق مثله في المنام. ولا يلزم من ذلك دخول بلال الجنة قبل النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه في مقام التابع والخادم، وكأنه أشار - صلى الله عليه وسلم - إلى بقاء بلال على ما كان عليه في حال حياته واستمراره على قرب منزلته. (ما دخلت الجنة قط) يدل على دخوله - صلى الله عليه وسلم - إياها ورؤيته بلالاً كذلك مرات. (إلا سمعت خشخشتك) بمعجمتين مكررتين، وهي حركة لها صوت كصوت السلاح خشخش السلاح أو الحلي خشخشة أي سمع له صوت عند اصطكاكه. (أمامي) أي قدامي. (ما أذنت قط إلا صليت ركعتين) أي قبل الإقامة يعني بين الأذان والإقامة. (وما أصابني حدث) بفتحتين. هو لغة الشيء الحادث نقل إلى ناقضات الوضوء. (إلا توضأت عنده) أي بعد حدوث ذلك الحدث. وفي الترمذي: عندها أي عند إصابة الحدث. (ورأيت) عطف على "توضأت". قال ابن الملك: أي ظننت. وقال ابن حجر: أي اعتقدت. وقال القاري: الأظهر أن يكون من الرأي أي اخترت. (أن لله عليّ ركعتين) أي شكراً لله تعالى على إزالة الأذية وتوفيق الطهارة. قال الطيبي: كناية عن مواظبته عليهما. (بهما) أي بهما نلت ما نلت أو عليك بهما، قاله الطيبي. ثم الظاهر أن ضمير التثنية راجع إلى القريبين المذكورين، وهما دوام الطهارة وتمامها بأداء شكر الوضوء، فيوافق الحديث السابق أول الباب. ولا يبعد أن يرجع إلى الصلاة بين كل أذانين، والصلاة بعد كل طهارة، أو إلى الصلاة بين كل الأذانين ومجموع دوام الوضوء وشكره، قاله القاري. وفي الحديث استحباب إدامة الطهارة، ومناسبة المجازاة على ذلك بدخول الجنة؛ لأن من لازم دوام الطهارة أن يبيت المرء طاهراً، ومن بات طاهراً عرجت روحه، فسجدت

رواه الترمذي. 1336- (6) وعن عبد الله بن أبي أوفي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من كانت له حاجة إلى الله أو إلى أحد من بني آدم فليتوضأ فليحسن الوضوء ثم ليصل ركعتين، ثم ليثن على الله تعالى، وليصل على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم ليقل: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان رب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين، أسألك موجبات رحمتك، ـــــــــــــــــــــــــــــ تحت العرش، كما رواه البيهقي في الشعب من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، والعرش سقف الجنة. وظاهره أن هذا الثواب وقع بسبب ذلك العمل، ولا معارضة بينه وبين قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا يدخل أحدكم الجنة عمله؛ لأن أحد الأجوبة المشهورة بالجمع بينه وبين قوله تعالى: {ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} [16: 32] أن أصل الدخول إنما يقع برحمة الله، واقتسام الدرجات بحسب الأعمال، فيأتي مثله في هذا. وفيه أن الجنة موجودة الآن خلافاً لمن أنكر ذلك من المعتزلة. (رواه الترمذي) أي في مناقب عمر رضي الله عنه مطولاً، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. وذكره المصنف تبعاً للبغوي مقتصراً على ما يناسب الباب، وهو إثبات تطوع تحية الوضوء، وأخرجه أيضاً أحمد (ج5 ص354- 360) وابن خزيمة في صحيحه. 1336- قوله: (من كانت له حاجة) دينية أو دنيوية. (فليتوضأ) ظاهره أنه يجدد الوضوء إن كان على وضوء. ويحتمل أن المراد إن لم يكن له وضوء. (فليحسن الوضوء) باستعمال سننه وآدابه. وفي المستدرك: وليحسن وضوءه، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7 ص164) . (ثم ليصل ركعتين) وتسمى هذه الصلاة بصلاة الحاجة. (ثم ليثن) من الإثناء. (وليصل على النبي - صلى الله عليه وسلم -) الأصح الأفضل لفظ صلاة التشهد. (لا إله إلا الله الحليم) الذي لا يعجل بالعقوبة. (الكريم) الذي يعطي بغير استحقاق وبدون المنة. (رب العرش العظيم) اختلف في كون العظيم صفة للرب أو العرش، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: لا إله إلا الله رب العرش العظيم. نقل ابن التين عن الداودي أنه رواه برفع العظيم. على أنه نعت للرب، والذي ثبت في رواية الجمهور الجر على أنه نعت للعرش. وكذلك قراءة الجمهور في قوله تعالى: {رب العرش العظيم} [9: 129) و {رب العرش الكريم} [23: 116] بالجر. والمعنى المراد في المقام أنه منزه عن العجز. فإن القادر على العرش العظيم. لا يعجز عن إعطاء مسؤل عبده المتوجه إلى ربه الكريم. (والحمد لله) وفي الترمذي وابن ماجه والمستدرك بدون العاطف، وهكذا في جامع الأصول. (موجبات رحمتك) بكسر الجيم أي أسبابها يعني أفعالاً وخصالاً أو كلمات تتسبب لرحمتك وتقتضيها بوعدك، فإنه لا يجوز التخلف فيه، وإلا فالحق سبحانه لا يجب عليه شيء. وقال الطيبي: جمع موجبة، وهي الكلمة

وعزائم مغفرتك، والغنيمة من كل بر والسلامة من كل إثم، لا تدع لي ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا حاجة هي لك رضاً إلا قضيتها يا أرحم الراحمين)) . رواه الترمذي وابن ماجه وقال الترمذي: هذا حديث غريب. ـــــــــــــــــــــــــــــ الموجبة لقائلها الجنة. (وعزائم مغفرتك) أي موجباتها جمع عزيمة، قاله السيوطي. وقال الطيبي: أي أعمالاً وخصالاً تتعزم وتتأكد بها مغفرتك. (والغنيمة من كل بر) بكسر الباء أي طاعة وعبادة، فإنهما غنيمة مأخوذة بغلبة دواعي عسكر الروح على جند النفس، فإن الحرب قائم بينهما على الدوام ولهذا يسمى الجهاد الأكبر؛ لأن أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك، قاله القاري. (والسلامة من كل إثم) وعند الحاكم: والعصمة من كل ذنب والسلامة من كل إثم، وأسقط قوله "غنيمة من كل بر". قال العراقي: فيه جواز سؤال العصمة من كل الذنوب، وقد أنكر بعضهم جواز ذلك إذ العصمة إنما هي للأنبياء والملائكة، قال: والجواب أنها في حق الأنبياء والملائكة واجبة، وفي حق غيرهم جائزة، وسؤال الجائز جائز إلا أن الأدب سؤال الحفظ في حقنا لا العصمة، وقد يكون هذا هو المراد هنا- انتهى. (لا تدع) بفتح الدال وسكون العين أي لا تترك. (إلا غفرته) أي إلا موصوفاً بوصف الغفران، فالاستثناء فيه وفيما يليه مفرغ من أعم الأحوال. (ولا هماً) أي غماً. (فرجته) بالتشديد ويخفف أي أزلته وكشفته. (ولا حاجة هي لك رضاً) أي مرضية لك. والحديث يدل على مشروعية الصلاة عند الحاجة أيّ حاجة كانت بشرط أن تكون مباحة. (رواه الترمذي وابن ماجه) كلاهما من رواية فائد بن عبد الرحمن بن أبي الورقاء، وزاد ابن ماجه بعد قوله "قضيتها" ثم يسأل الله من أمر الدنيا والآخرة ما شاء، فإنه يقدر. وأخرجه الحاكم في المستدرك (ج1 ص320) باختصاره، ثم قال: إنما أخرجته شاهداً، وفائد مستقيم الحديث. وتعقبه الذهبي بأنه متروك، فالحديث ضعيف. قال الشوكاني في تحفة الذاكرين (ص138) : وأخرج ابن النجار في تاريخ بغداد عن غير فائد. قال ابن حجر (العسقلاني) في أمالية: والحديث له شاهد من حديث أنس، وسنده ضعيف. وأخرجه أيضاً الأصبهاني من حديث أنس فذكر لفظه، قال: وأخرجه الطبراني، وفي إسناده أبومعمر عباد بن عبد الصمد ضعيف جداً، وأخرج لهذا الحديث في مسند الفردوس طريقاً أخرى من حديث أنس، وفي إسناده أبوهاشم، واسمه عبد الرحمن، وهو ضعيف، وأخرجه أحمد بإسناد صحيح عن أبي الدرداء مختصراً قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول من توضأ فأسبغ الوضوء ثم صلى ركعتين يتمهما أعطاه الله عزوجل ما سأل معجلاً أو مؤخراً. قال الشوكاني: وذكرت ما قيل فيه أي في حديث ابن أبي أوفي الذي نحن بصدد شرحه بأطول من هذا في الفوائد المجموعة (ص16) ، استدركت على من قال: إنه موضوع. والحاصل أن جميع طرق أحاديث هذه الصلاة لا تخلو عن ضعف إلا حديث أبي الدرداء، وبعده حديث ابن أبي أوفي.

(40) باب صلاة التسبيح

(40) باب صلاة التسبيح 1337- (1) عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للعباس بن عبد المطلب: ((يا عباس! يا عماه! ألا أعطيك؟ ألا أمنحك؟ ألا أحبوك؟ ألا أفعل بك؟ عشر خصال إذا أنت فعلت ذلك، غفر الله لك ذنبك أوله وآخره، قديمه وحديثه، خطأه ـــــــــــــــــــــــــــــ (باب صلاة التسبيح) أي هذا بيانها وسميت بذلك لكثرة ما يقرأ فيها من التسبيحات. 1337- قوله: (يا عماه) بسكون الهاء إشارة إلى مزيد استحقاقه بالعطية الآتية، وهو منادى مضاف إلى ياء المتكلم قلبت ياءه الفاء، وألحقت بها هاء السكت كيا غلاماه. (ألا) الهمزة للاستفهام. (أعطيك) بضم همزة وكسر طاء من الإطاء أي عطية رفيعة. (ألا أمنحك) بفتح همزة ونون أي أعطيك منحة سنية، وأصل المنح أن يعطي الرجل الرجل شأة أو ناقة ليشرب لبنها ثم يردها إذا ذهب درها، هذا أصله ثم كثر استعماله حتى قيل في كل عطاء. (ألا أحبوك) بفتح همزة وسكون حاء مهملة وضم موحدة، من حباه كذا وبكذا إذا أعطاه والحباء العطية فهما تأكيد بعد تأكيد، وكذا أفعل بك فإنه بمعنى أعطيك أو أعلمك. (ألا أفعل بك) بالباء موافقاً لما في أبي داود ووقع عند ابن ماجه باللام. (عشر خصال) منصوب تنازعت فيه الأفعال قبله. وقيل: بالرفع على تقدير هي. والمراد بعشر خصال الأنواع العشرة للذنوب المعدودة بقوله: أوله وآخره إلى قوله: سره وعلانيته، أي فهو على حذف المضاف أي ألا أعطيك مكفر عشرة أنواع ذنوبك، أو المراد التسبيحات، فإنهما فيما سوى القيام عشر عشر، وعلى هذا يراد الصلاة المشتملة على التسبيحات العشر بالنظر إلى غالب الأركان. وأما جملة: (إذا أنت فعلت ذلك) الخ فهي في محل النصب على أنها نعت للمضاف المقدر على الأول، أو لنفس عشر خصال على الثاني، وعلى الثاني لا يكون إلا نعتاً مخصصاً باعتبار أن المكفر يحتمل أن يكون علمه مكفراً، فبين بالنعت أن يكون عمله مكفراً لا علمه. (غفر الله لك ذنبك) أي ذنوبك بقرينة قوله أوله الخ على وجه الأبدال أو على وجه التفسير. (أوله وآخره) بالنصب قال التوربشتي: أي مبدأه ومنتهاه. وذلك أن من الذنب ما لا يواقعه الإنسان دفعة واحدة، وإنما يتأتى منه شيئاً فشيئاً، ويحتمل أن يكون معناه ما تقدم من ذنبه وما تأخر. (وحديثه) أي جديده. (وخطأه) بفتحتين وهمزة. قيل: يشكل بأن الخطأ لا إثم فيه لقوله عليه الصلاة والسلام: إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه، فكيف يجعل من الذنب؟ وأجيب بأن المراد بالذنب ما فيه نقص وإن لم يكن فيه إثم. ويؤيده قوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [2: 286] ويحتمل أن يراد مغفرة ما يترتب على الخطأ من نحو الإتلاف من ثبوت بدلها في

وعمده، صغيره وكبيره، سره وعلانيته: أن تصلي أربع ركعات، تقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وسورة، فإذا فرغت من القراءة في أول ركعة وأنت قائم. قلت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، خمس عشرة مرة، ـــــــــــــــــــــــــــــ الذمة ومعنى المغفرة حينئذٍ إرضاء الخصوم وفك النفس عن مقامها الكريم، المشار إليه بقوله عليه الصلاة والسلام: نفس المؤمن مرهونة حتى يقضي عنه دينه، كذا في المرقاة (وعمده) بفتح أوله وسكون ثانيه ضد الخطأ (صغيره وكبيره) قيل: المراد بالكبير ما هو من أفراد الصغائر، فإن الصغائر متفاوتة بعضها أكبر من بعض، والكبائر لا تغفر إلا بالتوبة. (سره وعلانيته) بفتح الياء المخففة والضمير في هذه كلها عائد إلى قوله: "ذنبك" فإن قلت أوله وآخره يندرج تحته ما يليه، وكذا باقيه فما الحاجة إلى تعدد أنواع الذنوب؟ قلت ذكره قطعاً لوهم أن ذلك الأول والآخر ربما يكون عمداً أو خطأ. وعلى هذا في أقرانه وأيضاً في التنصيص على الأقسام حث للمخاطب على المحثوث عليه بأبلغ الوجوه، ذكره القاري نقلاً عن الأزهار. وسقط من المشكاة كالمصابيح هنا لفظ "عشر خصال وهو موجود في الأصول. (أن تصلي) خبر مبتدأ محذوف، والمقدر عائد إلى ذلك أي هو يعني المأمور به أن تصلي. وقيل: التقدير هي، وهي راجعة إلى الخصال العشر. وأما على ما في الأصول من وجود لفظ عشر خصال قبل قوله: أن تصلي" فيقال إن قوله: "عشر خصال" على الأول. (أي على حذف المضاف، وهو المكفر من قوله عشر خصال في الموضع الأول) بالرفع بتقدير مبتدأ أي هي أي أنواع الذنوب عشر خصال أو بالنصب على أنه بدل من مجموع أوله وآخره الخ، وعلى الثاني. (أي على كون المراد من الخصال العشر الصلاة المشتملة على التسبيحات العشر) مبتدأ وما بعده خبره، أو خبر مقدم وما بعده مبتدأ لئلا يلزم تنكير المبتدأ مع تعريف الخبر. (أربع ركعات) قيل: أي بتسليمة واحدة على ما هو الظاهر من الإطلاق ليلاً كان أو نهاراً. وقيل: يصلي في النهار بتسليمة، وفي الليل بتسليمتين. وقيل: يصلي مرة بتسليمة وأخرى بتسليمتين. واعلم أن الأولى أن يصلي صلاة التسبيح بعد زوال الشمس قبل صلاة الظهر لما روى أبوداود في سننه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً: إذ زال النهار فقم فصل أربع ركعات- الحديث. وقد سكت عنه أبوداود والمنذري. (وسورة) قيل يقرأ فيها تارة بـ {الزلزلة} و {العاديات} و {الفتح} و (الإخلاص) ، وتارة بـ {ألهاكم التكاثر} و {العصر} و {الكافرون} و (الإخلاص) وقيل: الأفضل أن يقرأ أربعاً من المسبحات. {الحديد} و {الحشر} و {الصف} و {التغابن} لمناسبة بينها وبين كل الصلاة، لكن لم أقف على ما يدل على شيء من ذلك من سنة ولا أثر. (في أول ركعة) أي قبل الركوع. (خمس عشرة مرة) فيه أن التسبيح بعد القراءة، وبه أخذ أكثر الأئمة. وأما ما كان يفعله عبد الله بن المبارك من جعله الخمس عشرة قبل

ثم تركع، فتقولها وأنت راكع عشراً، ثم ترفع رأسك من الركوع، فتقولها عشراً، ثم تهوي ساجداً، فتقولها وأنت ساجد عشراً، ثم ترفع رأسك من السجود فتقولها عشراً، ثم تسجد فتقولها عشراً، ثم ترفع رأسك فتقولها عشراً، فذلك خمس وسبعون في كل ركعة، تفعل ذلك في أربع ركعات، إن استطعت أن تصليها في كل يوم مرة فافعل، فإن لم تفعل، ففي كل جمة مرة، فإن لم تفعل ففي كل سنة مرة، فإن لم تفعل ففي عمرك مرة)) رواه أبوداود، وابن ماجه، والبيهقي في الدعوات الكبير. ـــــــــــــــــــــــــــــ القراءة وبعد القراءة عشراً، ولا يسبح في الاعتدال فهو مخالف لهذا الحديث. قال المنذري: إن جمهور الرواة على الصفة المذكورة في حديث ابن عباس وأبي رافع والعمل بها أولى، إذ لا يصح رفع غيرها-انتهى. قال الشيخ: الأمر كما قال المنذري. (ثم تركع فتقولها وأنت راكع عشراً) أي بعد تسبيح الركوع كذا في شرح السنة، وقد روى الترمذي عن ابن المبارك أنه قال: يبدأ في الركوع بسبحان ربي العظيم، وفي السجود بسبحان ربي الأعلى ثلاثاً، ثم يسبح التسبيحات. وقيل: له إن سها فيها أيسبح في سجدتي السهو عشراً عشراً؟ قال لا، إنما هي ثلاثمائة تسبيحة. (ثم ترفع رأسك من الركوع فتقولها عشراً) أي بعد التسميع والتحميد. (ثم تهوي) أي تنخفض وتنحط حال كونك. (ساجداً) أي مريداً للسجود من هوى بالفتح يهوي بالكسر الشيء إذا سقط من علو إلى سفل. (فتقولها وأنت ساجد عشراً) أي بعد تسبيح السجود. (ثم ترفع رأسك من السجود فتقولها عشراً) أي بعد رب اغفرلي ونحوه. (ثم تسجد) ثانيا. (ثم ترفع رأسك) أي من السجدة الثانية. (فتقولها عشراً) أي قبل أن تقوم على ما في حديث أبي رافع عند الترمذي وابن ماجه. ففيه ثبوت جلسة الاستراحة في صلاة التسبيح، وهو المختار عند الشافعية وأهل الحديث خلافاً للحنفية. (فذلك) أي مجموع ما ذكر من التسبيحات. (خمس وسبعون) أي مرة، كما في رواية البيهقي. (في كل ركعة) أي ثابتة فيها. (تفعل ذلك) أي ما ذكر في هذه الركعة. (في أربع ركعات) أي في مجموعها بلا مخالفة بين الأولى والثلاث فتصير ثلاثمائة تسبيحة. (إن استطعت) استئناف أي إن قدرت. (أن تصليها) أي هذه الصلاة. (فإن لم تفعل) أي في كل يوم لعدم القدرة أو مع وجودها لعائق. (ففي كل جمعة) أي في كل أسبوع. (مرة) وفي التعبير بها إشارة إلى أنها أفضل أيام الأسبوع. (ففي عمرك) بضم الميم وتسكن. (رواه أبوداود وابن ماجه والبيهقي في الدعوات الكبير) أي عن ابن عباس، وأخرجه أيضاً ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، والحاكم في المستدرك (ج1:ص318-320) والبيهقي في السنن الكبرى (ج3:ص51-52) ، والبخاري في جزء القراءة كلهم من طريق عكرمة عن ابن عباس، وإسناده حسن. وفي الباب عن جماعة من الصحابة: الفضل بن عباس، وأبيه العباس، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عمر، وعلي بن أبي طالب، وأخيه جعفر، وابنه عبد الله بن

جعفر، وأبي رافع، وأم سلمة، والأنصاري غير مسمى. وقد قيل: إنه جابر بن عبد الله. وقد ساق الحافظ في أمالي الأذكار تخريج أحاديث هؤلاء الصحابة جميعاً. ونقلها السيوطي في تعقباته على ابن الجوزي (ص16، 17) واللآتي المصنوعة (ج2:ص20-24) من أحب الوقوف عليها رجع إلى هذين الكتابين. واعلم أنه اختلف كلام العلماء في حديث صلاة التسبيح، فضعفه جماعة، منهم العقيلي وابن العربي والنووي في شرح المهذب، وابن تيمية وابن عبد الهادي والمزي والحافظ في التلخيص، وبالغ ابن الجوزي فأورده في الموضوعات، وقال: فيه موسى بن عبد العزيز مجهول. وصححه أو حسنه جماعة منهم أبوبكر الآجري وأبومحمد عبد الرحيم المصري والحافظ أبوالحسن المقدسي وأبوداود صاحب السنن ومسلم صاحب الصحيح والحافظ صلاح الدين العلائي والخطيب وابن الصلاح والسبكي وسراج الدين البلقيني وابن مندة والحاكم والمنذري وأبوموسى المديني والزركشي والنووي في تهذيب الأسماء واللغات، وأبوسعد السمعاني والحافظ في الخصال المكفرة، وفي أمالي الأذكار، وأبومنصور الديلمي والبيهقي والدارقطني وآخرون. والحق عندي أن حديث ابن عباس ليس بضعيف فضلاً عن أن يكون موضوعاً أو كذباً، بل هو حسن لا شك في ذلك عندي، فسنده لا ينحط عن درجة الحسن، بل لا يبعد أن يقال إنه صحيح لغيره لما ورد من شواهده، وبعضها لا بأس بإسناده، كما ستعرف. وقد أكثر الحفاظ من الرد على ابن الجوزي بذكره حديث ابن عباس في الموضوع. وأما ما قال الحافظ في التلخيص: "والحق أن طرقه كلها ضعيفة وإن كان حديث ابن عباس يقرب من شرط الحسن إلا أنه شاذ لشدة الفردية فيه وعدم المتابع والشاهد من وجه معتبر، ومخالفة هيئتها لهيئة باقي الصلوات. وموسى بن عبد العزيز وإن كان صادقاً صالحاً، فلا يحتمل منه هذا التفرد، فجوابه ظاهر من كلامه في الخصال المكفرة حيث قال: رجال إسناد حديث ابن عباس لا بأس بهم، عكرمة احتج به البخاري والحكم بن أبان صدوق، وموسى بن عبد العزيز قال ابن معين: لا أرى فيه بأساً. وقال النسائي نحو ذلك. وقال ابن المديني: فهذا الإسناد من شرط الحسن، فإن له شواهد تقويه، وقد أساء ابن الجوزي بذكره في الموضوعات. وقوله: إن موسى مجهول، لم يصب فيه؛ لأن من يوثقه ابن معين والنسائي فلا يضره أن يجهل حاله من جاء بعدهما. وشاهده ما رواه الدارقطني من حديث العباس والترمذي وابن ماجه من حديث أبي رافع. ورواه أبوداود من حديث ابن عمرو بإسناد لا بأس به. ورواه الحاكم من طريق ابن عمرو له طرق أخرى-انتهى. وقال في أمالي الأذكار بعد ذكر من روى حديث صلاة التسبيح من الصحابة: أما حديث ابن عباس فأخرجه أبوداود وابن ماجه والحسن بن علي المعمري في كتاب اليوم والليلة عن عبد الرحمن بن بشر بن الحكم عن موسى بن عبد العزيز عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس، وهذا إسناد حسن، وقال بعد بسط الكلام في سند حديث الأنصاري الذي لم يسم عند أبي داود: فسند الحديث

1338- (2) وروى الترمذي عن أبي رافع نحوه. 1339- (3) وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، ـــــــــــــــــــــــــــــ لا ينحط عن درجة الحسن، فكيف إذا ضم إلى رواية أبي الجوزاء عن عبد الله بن عمرو التي أخرجها أبوداود، وقد حسنها المنذري. ثم ذكر جماعة ممن صحح حديث ابن عباس أو حسنه، ومن شاء الإطلاع على تمام كلامه فليرجع إلى اللآلي المصنوعة. وأما مخالفة هيئة صلاة التسبيح لهيئة باقي الصلوات فلا يدل على ضعف الحديث وشذوذه بعد ما صح وثبت بطرق قوية، كذا أفاد شيخنا في شرح الترمذي. 1338- قوله: (وروى الترمذي) وكذا ابن ماجه والدارقطني. (عن أبي رافع نحوه) قال الترمذي: هذا حديث غريب من حديث أبي رافع. قال السيوطي في قوت المغتذي: بالغ ابن الجوزي، فأورد هذا الحديث في الموضوعات، وأعله بموسى بن عبيدة الربذي، وليس كما قال، فإن الحديث وإن كان ضعيفاً، لم ينته إلى درجة الوضع. وموسى ضعفوه، وقال فيه ابن سعد: ثقة وليس بحجة. وقال يعقوب بن شيبة: صدوق ضعيف الحديث جداً. وشيخه سعيد بن أبي سعيد له عند المصنف أي الترمذي إلا هذا الحديث، وقد ذكره ابن حبان في الثقات. وقال الذهبي في الميزان: ما روى عنه إلا موسى بن عبيدة-انتهى ما في قوت المغتذي. ونقل السيوطي في التعقبات عن الحافظ أنه قال: وقول ابن الجوزي: إن موسى بن عبيدة علة الحديث، مردود، فإنه ليس بكذاب مع ماله من الشواهد فذكرها. 1339- قوله: (إن أول ما يحاسب به العبد) بالرفع على نيابة الفاعل. (يوم القيامة من عمله صلاته) أي المفروضة. قال العراقي في شرح الترمذي: لا تعارض بينه وبين الحديث الصحيح إن أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء، فحديث الباب محمول على حق الله تعالى، وحديث الصحيح محمول على حقوق الآدميين فيما بينهم. فإن قيل: فأينما يقدم محاسبة العباد على حق الله تعالى، أو محاسبتهم على حقوقهم؟ فالجواب أن هذا أمر توقيفي، وظواهر الأحاديث دالة على أن الذي يقع أولاً المحاسبة على حقوق الله تعالى قبل حقوق العباد-انتهى. وقيل: حديث الباب من ترك العبادات، وحديث الصحيح من فعل السيئات. وقيل: المحاسبة غير القضاء، فيكون المحاسبة أولاً في الصلاة ويكون القضاء أولاً في الدماء. وقيل: حديث الباب مضطرب الإسناد، كما يظهر من كلام الحافظ في ترجمة أنس بن حكيم الضبي من التهذيب، فلا يقاوم حديث الصحيح. (فإن صلحت) بضم اللام وفتحها. قال ابن الملك: صلاحها بأدائها صحيحة-انتهى. أو بوقوعها مقبولة. (فقد أفلح وأنجح) الفلاح الفوز

وإن فسدت وقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضة شيء، قال الرب تبارك وتعالى: أنظروا هل لعبدي من تطوع؟ فيكمل بها ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك)) . وفي رواية: ـــــــــــــــــــــــــــــ والظفر والإنجاح بتقديم الجيم على الحاء، يقال: أنجح فلان إذا أصاب مطلوبه. قال القاري: "فقد أفلح" أي فاز بمقصوده، "وأنجح" أي ظفر بمطلوبه، فيكون فيه تأكيداً وفاز بمعنى خلص من العقاب، وأنجح أي حصل له الثواب. (وإن فسدت) بأن لم تود أو أديت غير صحيحة أو غير مقبولة. (فقد خاب) بحرمان المثوبة. (وخسر) بوقوع العقوبة. وقيل: معنى "خاب" ندم وخسر أي صار محروماً من الفوز والخلاص قبل العذاب. (فإن انتقص) بمعنى نقص اللازم. (من فريضته شيء) أي من الفرائض وفي بعض نسخ الترمذي: شيئاً وفعلاً نقص وانتقص بمعنى، ويستعملان لازمين ومتعديين. (انظروا) يا ملائكتي. (هل لعبدي من تطوع) أي في صحيفته سنة أو نافلة من صلاة على ما هو ظاهر من السياق قبل الفرض أو بعده أو مطلقاً. (فيكمل) بالتشديد ويخفف على بناء الفاعل أو المفعول وهو الأظهر، وبالنصب، ويرفع على الاستئناف. (بها) قال ابن الملك: أي بالتطوع، وتأنيث الضمير باعتبار النافلة. قال الطيبي: الظاهر نصب "فيكمل" على أنه من كلام الله تعالى جواباً للاستفهام. ويؤيده رواية أحمد: فكملوا بها فريضته، وإنما أنث ضمير التطوع في "بها" نظراً إلى الصلاة. (ما انتقص من الفريضة) ضمير "انتقص" راجع إلى الموصول على أنه لازم، أو إلى العبد، فيكون متعدياً أي ما نقصه العبد من الفريضة. وظاهر الحديث أن من فاتته الصلاة المفروضة، وصلى تطوعاً يحسب عنه التطوع موضع الفريضة. وقيل: بل ما نقص من خشوع الفريضة ورواتها يجبر بالتطوع. ورد بأن قوله: "ثم يكون سائر عمله على ذلك" لا يناسبه، إذ ليس في الزكاة إلا فرض أو فضل، فكما تكمل فرض الزكاة بفضلها كذلك في الصلاة، وفضل الله أوسع. قال العراقي في شرح الترمذي: يحتمل أن يراد به ما انتقصه من السنن والهيئات المشروعية فيها من الخشوع والأذكار والأدعية، وإنه يحصل له ثواب ذلك في الفريضة وإن لم يفعله فيها، وإنما فعله في التطوع. ويحتمل أن يراد به ما انتقص أيضاً من فروضها وشروطها. ويحتمل أن يراد ما ترك من الفرائض رأساً فلم يصله، فيعوض عنه من التطوع، والله تعالى يقبل من التطوعات الصحيحة عوضاً عن الصلوات المفروضة-انتهى. وقال ابن العربي: الأظهر عندي أنه يكمل بفضل التطوع ما نقص من فرض الصلاة وإعدادها؛ لقوله ثم الزكاة كذلك وسائر الأعمال، وليس في الزكاة إلا فرض أو فضل، فكما يكمل فرض الزكاة بفضلها كذلك الصلاة، وفضل الله أوسع، وكرمه أعم وأتم. (ثم يكون سائر عمله) من الصوم والزكاة وغيرهما. (على ذلك) أي إن انتقص فريضة من سائر الأعمال المفروضة تكمل بالتطوع. (وفي رواية) ظاهره أن الألفاظ الآتية في طريق من طرق حديث أبي هريرة، وليس كذلك، فإن هذه

ثم الزكاة مثل ذلك، ثم الزكاة مثل ذلك، ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك)) رواه أبوداود. 1340- (4) ورواه أحمد عن رجل. ـــــــــــــــــــــــــــــ الألفاظ إنما هي في حديث تميم الداري عند أبي داود (ثم الزكاة مثل ذلك) أي مثل ما في الصلاة. (ثم تؤخذ الأعمال) أي المفروضة، ففي حديث أبي هريرة عند ابن ماجه: ثم يفعل بسائر الأعمال المفروضة مثل ذلك. (على حسب ذلك) أي على حسب ذلك المثال المذكور في الصلاة من تكميل الفريضة بالتطوع. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً أحمد (ج2 ص290، 425) والترمذي وابن ماجه والحاكم (ج1 ص262) كلهم من حديث أبي هريرة. واللفظ المذكور للترمذي لا لأبي داود إلا قوله: "ثم الزكاة" الخ فإنه من حديث تميم الداري عند أبي داود. ففي قول المصنف: رواه أبوداود، تسامح ظاهر، إلا أن يقال إنه أراد أصل الحديث لا السياق المذكور بعينه. والحديث سكت عنه أبوداود والمنذري، وحسنه الترمذي وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وما ذكر من الاضطراب في سنده فيمكن أن يدفع بما قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي: لعل الحسن البصري سمعه من ناس متعددين: حريث بن قتيبة (عند الترمذي) وأنس بن حكيم (عند أحمد وأبي داود والحاكم) ورجل من بني سليط (عند أحمد (ج4 ص103) وأبي داود وابن ماجه والحاكم) أو يكون هذا الرجل المبهم أحدهما، وليس هذا اضطراباً فيه يوجب ضعفه، بل هي طرق يؤيد بعضها بعضاً. ورواه أحمد. (وابن ماجه أيضاً) بإسناد آخر (ج2 ص290) عن يزيد بن هارون عن سفيان بن حسين الواسطي عن علي بن زيد بن جدعان عن أنس بن حكيم الضبي قال: قال لي أبوهريرة، فذكر الحديث بتمامه، وقال: وهذا إسناد صحيح، وعلى زيد بن جدعان ثقة- انتهى. قلت: علي بن زيد هذا ضعفه الأكثرون، ولعله لسوء حفظه واختلاطه، قيل: وكان يتشيع. ووثقه يعقوب بن شيبة. وقال العجلي: كان يتشيع لا بأس به. وقال الساجي: كان من أهل الصدق. ويحتمل لرواية الجلة عنه، وليس يجري مجرى من أجمع على ثبته. وقال الترمذي: صدوق إلا أنه ربما رفع الشيء الذي يوقفه غيره، كذا في التهذيب، وحديث تميم الداري أخرجه أحمد (ج4 ص103) وأبوداود وابن ماجه والحاكم (ج1 ص262، 263) . 1340- قوله: (ورواه أحمد عن رجل) (ج4 ص103) قال: حدثنا الحسن بن موسى قال: حدثنا حماد بن سلمة عن الأزرق بن قيس عن يحيى بن يعمر عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أول ما يحاسب به العبد الخ. وأخرجه أيضاً الحاكم (ج1 ص263) من طريق الربيع بن يحيى عن حماد بن سلمة، وذكر الاختلاف فيه على حماد بن سلمة، وأشار إلى تقوية رواية حماد بن سلمة عن داود بن أبي هند عن زرارة بن أوفي عن تميم الداري.

1341- (5) وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أذن الله لعبد في شيء أفضل من الركعتين يصليهما، وإن البر ليذر على رأس العبد ما دام في صلاته، وما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه، يعني القرآن)) . رواه أحمد والترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1341- قوله: (ما أذن الله) أي ما استمع، في القاموس: أذن له وإليه كفرح استمع معجباً أو عام. والمراد هنا الإقبال من الله بالرأفة والرحمة على العبد. وذلك أن العبد إذا كان في الصلاة، وقد فرغ من الشواغل متوجهاً إلى مولاه، مناجياً بقلبه ولسانه، فالله سبحانه أيضاً يقبل عليه بلطفه وإحسانه إقبالاً لا يقبل في غيره من العبادات. ولعله ذكر الاستماع، وإن كانت الصلاة من جملة الأفعال لكونها مشتملة على الكلام من القرآن والتسبيحات والتكبيرات. (لعبد في شيء) أي في شيء من العبادات. (أفضل من الركعتين) في مسند الإمام أحمد والجامع للترمذي والجامع الصغير للسيوطي والترغيب للمنذري من ركعتين. (يصليهما) يعني أفضل العبادات الصلاة، كما ورد في الصحيح: الصلاة خير موضوع، أي خير من كل ما وضعه الله لعباده ليتقربوا إليه، قاله القاري. (وإن البر) بكسر الباء بمعنى الخير والإحسان. (ليذر) بالذال المعجمة والراء المشددة على بناء المجهول، أي ينثر ويفرق من قولهم: ذررت الحب والملح أي فرقته. (على رأس العبد) أي ينزل الرحمة والثواب هو أثر البر على المصلي. (ما دام في صلاته) أي مدة دوام كونه مصلياً. (وما تقرب العباد الله بمثل ما خرج منه) أي بأفضل من كلامه. قال في مجمع البحار: أي ما ظهر من الله ونزل على نبيه. (فضمير "منه" راجع إلى الله، و"خرج" بمعنى ظهر) . وقيل: ما خرج من العبد بوجود على لسانه محفوظاً في صدره، مكتوباً بيده. وقيل: ما ظهر من شرائعه وكلامه، أو خرج من كتابة المبين. (وهو اللوح المحفوظ) . و"ما" استفهامية للإنكار. ويجوز كونه نافية، وهو أقرب أي ما تقرب بشيء مثل- انتهى ما في المجمع. (يعني القرآن) هذا تفسير من بعض الرواة لقوله: "ما خرج منه" وهو أبوالنضر هاشم بن القاسم الليثي شيخ أحمد وشيخ شيخ الترمذي. قال شيخنا: وهذا تفسير أولى عندي، يعني ضمير "منه" يرجع إلى الله. والمراد بما خرج منه ما أنزل الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - وهو القرآن. قال الطيبي: أطلق المصنف هذا التفسير، ولم يقيده بما يفهم منه أن المفسر من هو. والحديث نقله المؤلف من كتاب الترمذي. وفي روايته قال أبوالنضر يعني القرآن. ومثل لا يتسامح فيه أهل الحديث، فإنه يوهم أن التفسير من فعل الصحابي، فيجعل متن الحديث- انتهى. قلت: أطلق صاحب المشكاة هذا التفسير تبعاً للبغوي في المصابيح. والحديث رواه أحمد، ولم يذكر في روايته ما يفهم منه أن المفسر من هو، ولعل المؤلف نقله من مسند الإمام أحمد، فهو معذور في الإطلاق وعدم بيان من فسره بذلك. (رواه أحمد) (ج5 ص268) عن أبي النضر هاشم بن القاسم عن بكر بن خنيس عن ليث بن أبي سليم عن زيد بن أرطاة عن أبي أمامة. (والترمذي) في فضائل القرآن عن أحمد بن منيع عن

(41) باب صلاة السفر

(41) باب صلاة السفر ـــــــــــــــــــــــــــــ أبي النضر هاشم بن القاسم، قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وبكر بن خنيس قد تكلم فيه ابن المبارك، وتركه في آخر أمره- انتهى. وقال الحافظ في التقريب في ترجمة بكر بن خنيس: إنه عابد صدوق له أغلاط أفرط فيه ابن حبان- انتهى. واختلف فيه قول ابن معين، فقال مرة: ليس بشيء، وقال مرة: ضعيف، وقال مرة: شيخ صالح لا بأس به. وقال أبوحاتم: صالح غزاء ليس بالقوى. وقال العجلي: كوفي ثقة. وضعفه غير واحد، كما في التهذيب. وليث بن أبي سليم صدوق اختلط أخيراً ولم يتميز حديثه فترك، قاله في التقريب. فالحديث لا يخلو عن ضعف. (باب صلاة السفر) قال في حجة الله (ج2 ص17) : لما كان من تمام التشريع أن يبين لهم الرخص عند الأعذار ليأتي المكلفون من الطاعة بما يستطيعون، ويكون قدر ذلك مفوضاً إلى الشارع ليراعي فيه التوسط لا إليهم فيفرطوا أو يفرطوا، اعتنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضبط الرخص والأعذار. ومن أصول الرخص أن ينظر إلى أصل الطاعة حسبما تأمر به حكمة البر، فيعض عليها بالنواجذ على كل حال، وينظر إلى حدود وضوابط شرعها الشارع ليتيسر لهم الأخذ بالبر، فيتصرف فيها إسقاطاً وإبداًلا حسبما تؤدي إليه الضرورة، فمن الأعذار السفر، وفيه من الحرج ما لا يحتاج إلى بيان، فشرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له رخصا: منها القصر، ومنها الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ومنها ترك السنن، ومنها الصلاة على الراحلة حيث توجهت به يومىء إيماء، وذلك في النوافل وسنة الفجر والوتر لا الفرائض- انتهى مختصراً. والسفر لغة: قطع المسافة، وليس كل قطع تتغير به الأحكام من جواز الإفطار وقصر الرباعية وغيرهما، فاختلف العلماء فيه شرعاً، كما ستعرف. قال ابن رشد في البداية (ج1 ص130) : السفر له تأثير في القصر باتفاق، فقد اتفق العلماء على جواز قصر الصلاة للمسافر إلا قول شاذ أن القصر لا يجوز إلا للخائف لقوله تعالى: {إن خفتم} الآية [4: 101] . واختلفوا من ذلك في خمسة مواضع: أحدها في حكم القصر. والثاني في المسافة التي يجب فيها القصر. والثالث في السفر الذي يجب فيه القصر. والرابع في الموضع الذي يبدأ منه المسافر بالتقصير. والخامس في مقدار الزمان الذي يجوز للمسافر فيه إذا قام في موضع أن يقصر الصلاة. فأما حكم القصر، فاختلفوا فيه على أقوال: فمنهم من رأى أن القصر هو فرض المسافر المتعين عليه. ومنهم من رأى أن القصر سنة. ومنهم من رأى أنه رخصة، والإتمام أفضل، بالقول الأول قال أبوحنيفة وأصحابه والكوفيون بأسرهم أعني أنه فرض متعين. وبالثاني أعنى سنة قال مالك في أشهر الروايات عنه. وبالثالث أعنى رخصة. قال الشافعي في أشهر الروايات عنه، وهو المنصور عند أصحابه- انتهى باختصار يسير. ويكون القصر أولى وأفضل. قال أحمد. قال ابن قدامة: المشهور عن أحمد أن المسافر على الاختيار إن

شاء صلى ركعتين، وإن شاء أتم، والقصر عنده أفضل وأعجب- انتهى. والراجح عندي: أن لا يتم المسافر الصلاة، بل يلازم القصر كما لازمه - صلى الله عليه وسلم -، فالقصر في السفر كالعزيمة عندي، لكن لو خالف ذلك وأتم الصلاة أجزأ، سواء قعد القعدة الأولى أو نسيها ولم يقعد، فلا تلزم الإعادة، فيكون الإتمام مجزئاً، والله أعلم. وأما المسافة التي إذا أراد المسافر الوصول إليها ساغ له القصر، ولا يسوغ له في أقل منها، فاختلف العلماء في مقدارها اختلافاً كثيراً، فحكى ابن المنذر وغيره فيها نحوا من عشرين قولاً. وأقل ما قيل في ذلك الميل كما رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن عمر، وإليه ذهب ابن حزم الظاهري. واحتج له بإطلاق السفر في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يخص الله ولا رسوله سفراً دون سفر، واحتج على ترك القصر فيما دون الميل بأنه - صلى الله عليه وسلم - قد خرج إلى الفضاء للغائط فلم يقصر. وذهب الظاهرية – كما قال النووي- إلى أن أقل مسافة القصر ثلاثة أميال، وكأنهم احتجوا في ذلك بما رواه مسلم وأبوداود من حديث أنس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو فراسخ قصر الصلاة. قال الحافظ: وهو أصح حديث ورد في بيان ذلك وأصرحه. وقد حمله من خالفه على أن المراد به المسافة التي يبتدأ منها القصر لا غاية السفر. (يعني أنه أراد به إذا سافر سفراً طويلاً قصر إذا بلغ ثلاثة أميال، كما قال في لفظه الآخر: إن النبي - صلى الله عليه وسلم -، صلى بالمدينة أربعاً وبذي الحليفة ركعتين) . ولا يخفى بعد هذا الحمل مع أن البيهقي ذكر في روايته من هذا الوجه أن يحيى بن يزيد راويه عن أنس قال: سألت أنساً عن قصر الصلاة، وكنت أخرج إلى الكوفة يعني من البصرة فأصلي ركعتين ركعتين حتى أرجع. فقال أنس، فذكر الحديث. فظهر أنه سأله عن جواز القصر في السفر لا عن الموضع الذي يبتدأ منه القصر، ثم إن الصحيح في ذلك أنه لا يتقيد بمسافة، بل بمجاوزة البلد الذي يخرج منها. ورده القرطبي بأنه مشكوك فيه فلا يحتج به، فإن كان المراد به أنه لا يحتج به في التحديد بثلاثة أميال فمسلّم، لكن لا يمتنع أن يحتج به في التحديد بثلاثة فراسخ، فإن الثلاثة أميال مندرجة فيها، فيؤخذ بالأكثر احتياطاً. وقد روى ابن أبي شيبة عن حاتم بن إسماعيل عن عبد الرحمن بن حرملة قال: قلت لسعيد بن المسيب: أأقصر الصلاة وأفطر في بريد من المدينة؟ قال: نعم- انتهى. وقيل: مذهب الظاهرية القصر في كل سفر قريباً كان أو بعيداً. وقال مالك والشافعي وأحمد وفقهاء أصحاب الحديث وغيرهم: إنه لا تقصر الصلاة إلا في مسيرة اليوم التام بالسير الوسط، وهي أربعة برد وهو ستة عشر فرسخاً أي ثمانية وأربعون ميلاً بالهاشمي؛ لأن البريد أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال. قال النووي: والميل ستة آلاف ذراع، والذراع أربعة وعشرون إصبعاً معترضة ومعتدلة، والإصبع ست شعيرات معترضة معتدلة.

قال الحافظ: وهذا الذي قاله هو الأشهر. ومنهم من عبر ذلك باثني عشر ألف قدم بقدم الإنسان. وقيل: هو أربعة آلاف ذراع. وقيل: بل ثلاثة آلاف ذراع. وقيل: وخمس مائة، صححه ابن عبد البر. وقيل غير ذلك، وقد عقد البخاري في صحيحة ترجمة أورد فيها ما يدل على أن اختياره أن أقل مسافة القصر يوم وليلة، كما هو مختار الأئمة الثلاثة، واختاره أيضاً الشاه ولي الله الدهلوي، وهو مروي عن ابن عباس وابن عمر. وقال أبوحنيفة أقل مسافة القصر مسيرة ثلاثة أيام ولياليها، ولا يشترط السفر كل يوم، بل إلى الزوال؛ لأنهم جعلوا النهار للسير والليل للاستراحة، ولا اعتبار بالفراسخ على أصل مذهبه، لكن المتأخرين قدروا ذلك بالفراسخ تسهيلاً، ففي البحر عن النهاية الفتوى على ثمانية عشر فرسخاً. وفي المجتبى فتوى أكثر أئمة خوارزم على خمسة عشر فرسخاً، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل عند القدماء منهم ثلاثة آلاف ذراع، وعند المتأخرين أربعة آلاف ذراع، والذراع عند الأولين اثنان وثلاثون إصبعاً، وعند الآخرين أربع وعشرون إصبعاً، والإصبع عند الكل ست شعيرات مضمومة البطون إلى الظهور، وكل شعيرة مقدار ست شعور من ذنب الفرس التركي. والراجح عندي ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة أنه لا يقصر الصلاة في أقل من ثمانية وأربعين ميلاً بالهاشمي. وذلك أربعة برد أي ستة عشر فرسخا، وهي مسيرة يوم وليلة بالسير الحثيث. وذهب أكثر علماء أهل الحديث في عصرنا إلى أن مسافة القصر ثلاثة فراسخ مستدلين لذلك بحديث أنس المتقدم في كلام الحافظ، ومال ابن قدامة إلى قول الظاهرية أنه يجوز القصر في كل سفر قصيراً كان أو طويلاً، حيث قال بعد الرد على أقوال الأئمة الأربعة: والحجة مع من أباح القصر لكل مسافر إلى أن ينعقد الإجماع على خلافه. وأما السفر الذي يجوز فيه القصر فاختلفوا فيه على ثلاثة أقوال: الأول أنه تقصر في كل سفر من غير تفصيل طاعة أو معصية. مباح أو قربة، مكروه أو مندوب، قاله أبوحنيفة وأصحابه اعتبار الإطلاق ظاهر لفظ السفر. والثاني لا يجوز إلا في سفر قربة اختاره أحمد في أحد قوليه. والثالث لا يجوز إلا في مباح، قاله مالك في المشهور من قوليه والشافعي قولاً واحداً، وهو المنصوص عن أحمد، كما في المغني، وكره مالك القصر لمن خرج متصيداً للهو. وأما من كان معاشه فيقصر، والراجح عندي هو القول الثاني أنه لا يقصر المسافر إلا أن يكون سفره في طاعة وقربة أو فيما أباح الله له، قال ابن قدامة: لأن الترخص شرع للإعانة على تحصيل المقصد المباح توصلاً إلى المصلحة، فلو شرع ههنا لشرع إعانة على المحرم تحصيلاً للمفسدة، والشرع منزه عن هذا، والنصوص وردت في حق الصحابة، وكانت أسفارهم مباحة، فلا يثبت الحكم فيمن سفره مخالف لسفرهم، ويتعين حمله على ذلك جمعاً بين النصين. وقياس المعصية على الطاعة بعيد لتضادهما. وأما الموضع الذي يبدأ منه المسافر بقصر الصلاة، فقال ابن قدامة:

{الفصل الأول}

{الفصل الأول} 1342- (1) عن أنس: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر بالمدينة أربعاً، وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين)) . متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ليس لمن نوى السفر القصر حتى يخرج من بيوت مصره أو قريته ويخلفها وراء ظهره، قال: وبه قال مالك والأوزاعي وأحمد والشافعي وأبوإسحاق وأبوثور. وعن عطاء أنه كان يبيح القصر في البلد لمن نوى السفر. وعن الحارث ابن أبي ربيعة أنه أراد سفراً، فصلى بالجماعة في منزله ركعتين وفيهم الأسود بن يزيد وغير واحد من أصحاب عبد الله، وعن عطاء أنه قال: إذا دخل وقت صلاة بعد خروجه من منزله قبل أن يفارق بيوت المصر يباح له القصر- انتهى مختصراً. وفي رواية عن مالك أنه قال: لا يقصر إذا كانت قرية جامعة حتى يكون منها بنحو ثلاثة أميال، وبقول الجمهور قال أبوحنيفة وأصحابه وهو الراجح؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقصر في سفره من أسفاره إلا بعد خروجه من المدينة، ولأن الرجل لا يكون ضارباً في الأرض حتى يخرج. وأما الزمان الذي يجوز للمسافر إذا أقام فيه في بلد أن يقصر فاختلفوا فيه جداً، إلا أن الأشهر منها أربعة أقوال: أحدها مذهب مالك والشافعي: أنه إذا أزمع المسافر على إقامته أربعة أيام أتم، والثاني مذهب أبي حنيفة والثوري أنه إذا أزمع على إقامته خمسة عشر يوماً أتم. والثالث مذهب أحمد وداود: أنه إذا أزمع على أكثر من أربعة أيام أتم. والرابع مذهب إسحاق بن راهويه: إنه إذا أزمع على أكثر من تسعة عشر يوماً أتم. فمدة القصر عند مالك والشافعي ثلاثة أيام غير يومي الدخول والخروج، وعند أبي حنيفة أربعة عشر يوماً، وعند أحمد أربعة أيام وعند إسحاق تسعة عشر يوماً. والراجح عندي: ما ذهب إليه أحمد والله تعالى أعلم. 1342- قوله: (صلى الظهر بالمدينة) أي في يوم الذي أراد فيه الخروج إلى مكة للحج أو العمرة. (أربعاً) أي أربع ركعات. (وصلى العصر بذي الحليفة) بضم المهملة وفتح اللام، تصغير حلفة. و"ذو حليفة" موضع على ثلاثة أميال من المدينة على الأصح، وهو ميقات أهل المدينة المشهور الآن ببئر علي. (ركعتين) قصراً؛ لأنه كان في السفر. والحديث دليل على أن من أراد السفر لا يقصر حتى يبرز من البلد؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقصر حتى خرج من المدينة. واستدل به على استباحة قصر الصلاة في السفر القصير؛ لأن بين المدينة وذي الحليفة ثلاثة أميال. وقيل: ستة أميال. وقيل: سبعة. وتعقب بأن ذا الحليفة لم تكن منتهى السفر وغايته، وإنما خرج إليها حيث كان قاصداً مكة فاتفق نزوله بها، وكانت أول صلاة حضرت بها العصر فقصرها، واستمر يقصر إلى أن رجع. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والبيهقي (ج3 ص145، 146) .

1343- (2) وعن حارثة بن وهب الخزاعي، قال: ((صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن أكثر ما كنا قط وآمنه بمنى، ركعتين)) ـــــــــــــــــــــــــــــ 1343- قوله: (وعن حارثة) بالحاء المهملة والمثلثة. (بن وهب) بفتح الواو وسكون الهاء. (الخزاعي) بضم الخاء المعجمة، نسبة إلى خزاعة، وحارثة هذا أخو عبيد الله بن عمر الخطاب لأمه، صحابي نزل الكوفة، وكان عمر زوج أمه أم كلثوم بنت جرول بن المسيب الخزاعية. (صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونحن أكثر من كنا) برفع "أكثر" على أنه خبر نحن، و"ما" مصدرية، ومعناه الجمع؛ لأن ما أضيف إليه أفعل التفضيل يكون جمعاً. (قط) بفتح القاف وتشديد الطاء مضمومة في أفصح اللغات، ظرف بمعنى الدهر والزمان، متعلق بـ"كنا". ويختص بالماضي المنفي في الغالب الشائع، وربما استعمل بدون المنفي، كما في هذا الحديث وله نظائر. (وآمنه) بالرفع عطف على "أكثر" وقط مقدر ههنا، والضمير فيه راجع إلى "ما كنا". والواو في "ونحن" للحال المعترضة بين "صلى" ومعموله وهو. (بمنى) بكسر الميم والألف، منصرفاً وفي بعض النسخ: بمنى بالياء غير منصرف، وهو يذكر ويؤنث، فإن قصد الموضع فمذكر، ويكتب بالألف وينصرف، وإن قصد البقعة فمؤنث، ولا ينصرف ويكتب بالياء، والمختار تذكيره، وسمي بذلك لكثرة ما يمنى فيه أي يراق من الدماء. (ركعتين) أي في حجة الوداع. والمعنى صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنى ركعتين، والحال أنا في ذلك الوقت أكثر أكواننا في سائر الأوقات عدداً، وأكثر أكواننا في سائر الأوقات أمناً. وإسناد الأمن إلى الأوقات مجاز، كذا قاله الطيبي. ويجوز أن تكون "ما" نافيه خبر المبتدأ الذي هو نحن و"أكثر" منصوباً على أنه خبر كان. ويجوز إعمال ما في ما قبلها إذا كانت بمعنى ليس، فكما يجوز تقديم خبر ليس عليه يجوز تقديم خبر ما في معناه عليه. والتقدير ونحن ما كنا قط أكثر منا في هذا الوقت ولا آمن منا فيه، وفي الحديث دليل على جواز القصر في السفر من غير خوف، ورد على من زعم أن القصر مختص بالخوف. وللحديث شاهد من حديث ابن عباس عند الترمذي وصححه، والنسائي بلفظ: خرج من المدينة إلى مكة لا يخاف إلا الله يصلي ركعتين، والذي قال إن القصر مختص بالخوف تمسك بقوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذي كفروا} [101:4] . ولم يأخذ الجمهور بهذا المفهوم. فقيل: لأن شرط مفهوم المخالفة أن لا يكون خرج مخرج الغالب، والشرط هنا خرج مخرج الغالب؛ لأن الغالب على المسلمين إذ ذاك الخوف في الأسفار. وقيل: هو من الأشياء التي شرع الحكم فيها بسبب، ثم زال السبب، وبقي الحكم كالرمل. وقيل: القصر مع الخوف ثابت بالكتاب، والقصر مع الأمن ثابت بالسنة، ومفهوم الشرط لا يقوى على معارضة ما تواتر عنه - صلى الله عليه وسلم - من القصر مع الأمن. قال

الخطابي في المعالم (ج2:ص211) : ليس في قوله: صلى بنا، دليل على أن المكي يقصر الصلاة بمنى؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان مسافراً بمنى، فصلى صلاة المسافر، ولعله لو سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صلاته لأمره بالإتمام، وقد يترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيان بعض المأمور في بعض المواطن اقتصاداً على ما تقدم من البيان السابق خصوصاً في مثل هذا الأمر الذي هو من العلم الظاهر العام، وكان عمر بن الخطاب يصلي بهم فيقتصر، فإذا سلم التفت إليهم، وقال أتموا يا أهل مكة، فإنا قوم سفر-انتهى. قلت: اتفق الأئمة على أن الحاج القادم مكة يقصر الصلاة بها وبمنى وسائر المشاهد؛ لأنه عندهم في سفر؛ لأن مكة ليست دار إقامة إلا لأهلها أو لمن أراد الإقامة بها، وكذلك منى وعرفات والمزدلفة. واختلفوا في صلاة المكي بمنى وغيرها من المشاهد، فقال مالك: يتم بمكة ويقصر بمنى، وكذلك أهل منى يتمون بمنى ويقصرون بمكة وعرفات، قال: وهذه المواضع مخصوصة بذلك؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قصر بعرفة لم يميز من وراءه، ولا قال لأهل مكة: أتموا، وهذا موضع بيان، وممن روى عنه أن المكي يقصر بمنى ابن عمر وسالم والقاسم وطاووس، وبه قال الأوزاعي وإسحاق، وقالوا: إن القصر سنة الموضع، وإنما يتم بمنى وعرفات من كان مقيماً فيها. وقال أكثر أهل العلم: منهم عطاء والزهري والثوري والكوفيون وأبوحنيفة وأصحابه والشافعي وأحمد وأبوثور: ولا يقصر الصلاة أهل مكة بمنى وعرفات؛ لانتفاء مسافة القصر. وحاصل مذهب مالك، كما يدل عليه كلامه في الموطأ، أن القصر عنده لأجل النسك بشرط السفر، لكن لا للسفر الشرعي، بل لمطلق السفر، ولذلك يتم عنده أهل مكة ومنى وعرفة والمزدلفة في أمكنتهم، ويقصرون في غيرها، وضابطه عنده أن أهل كل مكان يتمون به ويقصرون فيما سواه، خلافاً للأئمة الثلاثة، فإن القصر عندهم للسفر الشرعي، فلا يقصر في هذه الأمكنة إلا من كان مسافراً شرعياً. قال ابن المنير المالكي: السر في القصر في هذه المواضع المتقاربة إظهاراً لله تعالى تفضله على عباده، حيث اعتد لهم بالحركة القريبة اعتداده في السفر البعيد، فجعل الوافدين من عرفة إلى مكة كأنهم سافروا إليها ثلاثة أسفار سفر إلى مزدلفة، ولهذا يقصر أهل مكة بمنى، فهي على قربها من عرفة معدودة بثلاث مسافات، كل مسافة منها سفر طويل. وسر ذلك-والله أعلم- أنهم كلهم وفد، وإن القرب كالبعيد في إسباغ الفضل، ذكره القسطلاني. وقال الباجي: إن أهل مكة إذا حجوا اقتضى ذلك بلوغاً إلى عرفة، ورجوعاً إلى مكة، ولو كان منتهى سفرهم عرفة لما قصروا الصلاة، واحتسب في هذا السفر بالذهاب والمجيء؛ لأن من خرج من مكة إلى عرفة محرماً بالحج فلا بد له من الرجوع إلى مكة بحكم الإحرام الذي دخل فيه؛ لأنه لا يصح أن يتم عمله الذي دخل فيه إلا بالرجوع إلى مكة. وأما سائر الأسفار فإن نوى فيه المسير والمجيء فإنه لا يلزمه الرجوع، وله أن يقيم في منتهى سفره، أو يمضي منه إلى موضع سواه. فالواجب على أهل مكة إذا خرجوا للحج أن يصلوا ركعتين حتى ينصرفوا إلى مكة، وذلك يقتضي أن يصلوا

متفق عليه. 1344- (3) وعن يعلى بن أمية، قال. ((قلت لعمر بن الخطاب: إنما قال الله تعالى: {أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} فقد أمن الناس. قال عمر: ـــــــــــــــــــــــــــــ ركعتين في البداءة والعودة، ويصلون كذلك بعرفة والمزدلفة وغيرهما- انتهى بتغير يسير. وقال بعض المالكية: لو لم يجز لأهل مكة القصر بمنى لقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: أتموا، وليس بين مكة ومنى مسافة القصر، فدل على أنهم قصروا للنسك. وأجيب بأن الترمذي روى من حديث عمران بن حصين أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بمكة ركعتين، ويقول: يا أهل مكة! أتموا، فإنا قوم سفر، وكأنه ترك إعلامهم بذلك بمنى استغناء بما تقدم بمكة. قال الحافظ: وهذا ضعيف؛ لأن الحديث من رواية علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف، ولو صح فالقصة كانت في الفتح، وقصة منى في حجة الوداع، وكان لا بد من بيان ذلك لبُعد العهد-انتهى. قلت: روى البيهقي (ج3:ص135، 136) من طريق علي بن زيد بن جدعان عن أبي نضرة قال: سأل شاب عمران بن حصين عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر. فقال: إن هذا الفتى يسألني عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر، فاحفظوهن عني، ما سافرت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سفراً قط إلا صلى ركعتين حتى يرجع، وشهدت معه حنين والطائف فكان يصلي ركعتين، ثم حجت معه واعتمرت فصلى ركعتين، ثم قال: يا أهل مكة! أتموا الصلاة، فإنا قوم سفر-الحديث. وفيه نص على أنه - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك في الحج أيضاً، ورد على ما قيل: إن القصة لم تكن إلا في الفتح. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً الترمذي وأبودواد في الحج والنسائي في الصلاة والبيهقي (ج3:ص134، 135) . 1344- قوله: (قلت لعمر بن الخطاب: إنما قال الله تعالى: أن تقصروا) وفي صحيح مسلم: قلت لعمر بن الخطاب: {ليس عليكم جناح أن تقصروا} [101:4] أي وإذا ضربتم في الأرض أي سافرتم فليس عليكم جناح، أي وزر وحرج أن تقصروا بضم الصاد أي في أن تقصروا أي في القصر، وهو خلاف المد، يقال: قصرت الشيء أي جعلته قصيراً يحذف بعض أجزاءه فمتعلق القصر جملة الشيء لا بعضه، فإن البعض متعلق الحذف دون القصر. فحينئذٍ قوله: (من الصلاة) ينبغي أن يكون مفعولاً لتقصروا على زيادة من حسب ما رآه الأخفش. وأما على رأي غيره من عدم زيادتها في الإثبات. فتجعل تبعيضية، ويراد بالصلاة الجنس، ليكون المقصور بعضاً منها، وهو الرباعيات، قاله أبوالسعود. (إن خفتم أن يفتنكم) أي ينالكم بمكروه. (الذين كفروا، فقد أمن الناس) أي وذهب الخوف، فما بالهم يقصرون الصلاة، أو فما وجه القصر؟. (قال عمر) وفي صحيح

عجبت ما عجبت منه، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته)) ـــــــــــــــــــــــــــــ مسلم: فقال بزيادة الفاء وحذف الفاعل. (عجبت مما عجبت) أنت. (فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي عن ذلك كما في مسلم. (فقال: صدقة) أي قصر الصلاة في السفر صدقة. (تصدق الله) أي تفضل. (بها عليكم) أي توسعة ورحمة. قال السندي: أي شرع لكم ذلك رحمة عليكم، وإزالة للمشقة نظراً إلى ضعفكم وفقركم. وهذا المعنى يقتضي أن ما ذكر فيه من القيد فهو اتفاق، ذكره على مقتضى ذلك الوقت، وإلا فالحكم عام، والقيد لا مفهوم له. ولا يخفى ما في الحديث من الدلالة على اعتبار المفهوم في الأدلة الشرعية، وأنهم كانوا يفهمون ذلك، ويرون أنه الأصل، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قررهم على ذلك، لكن بيّن أنه قد لا يكون معتبراً أيضاً بسبب من الأسباب، فإن قلت: يمكن التعجب مع عدم اعتبار المفهوم أيضاً بناء على أن الأصل هو الإتمام لا القصر، وإنما القصر رخصة جاءت مقيدة للضرورة، فعند انتفاء القيد مقتضى الأدلة هو الأخذ بالأصل، قلت: هذا الأصل إنما يعمل به عند انتفاء الأدلة. وأما مع وجود فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بخلافه فلا عبرة به، ولا يتعجب من خلافه، فليتأمل- انتهى كلام السندي. (فاقبلوا صدقته) أي سواء حصل الخوف أم لا، وإنما قال في الآية. {إن خفتم} ؛ لأنه قد خرج مخرج الأغلب لكون أغلب أسفار النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لم تخل من خوف العدو لكثرة أهل الحرب إذ ذاك فحينئذٍ لا تدل الآية على عدم القصر إن لم يكن خوف؛ لأنه بيان للواقع إذ ذاك فلا مفهوم له. قال ابن القيم: قد أشكلت الآية على عمر وغيره، فسأل عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأجابه بالشفاء، وأن هذا صدقة من الله، وشرع شرعة للأمة، وكان هذا بيان أن حكم المفهوم غير مراد، وأن الجناح مرتفع في قصر الصلاة عن الآمن والخائف. وغايته أنه نوع تخصيص للمفهوم أو رفع له- انتهى. وقد احتج بالحديث لمن قال بأن القصر رخصة، والإتمام أفضل. قال الخطابي في المعالم (ج1 ص261) : في هذا حجة لمن ذهب إلى أن الإتمام هو الأصل، ألا ترى أنهما (أي يعلى بن أمية وعمر) قد تعجبا من القصر مع عدم شرط الخوف، فلو كان أصل صلاة المسافر ركعتين لم يتعجبا من ذلك، فدل على أن القصر إنما هو عن أصل كامل قد تقدمه، فحذف بعضه، وأبقى بعضه. وفي قوله: "صدقة تصدق الله بها عليكم" دليل على أنه رخصة رخص لهم فيها، والرخصة إنما تكون إباحة لا عزيمة- انتهى. وأجيب عن ذلك بأن الأمر بقبولها يقتضي وجوب القبول، وأنه لا محيص عنها، فإن أصل الأمر للوجوب، فلا يبقى له خيار الرد شرعاً، وجواز الإتمام رد لها لا قبول، على أن الصدقة من الله تعالى فيما لا يحتمل التمليك عبارة عن الإسقاط، فلا يحتمل اختيار القبول وعدمه. وأيضاً العبد فقير فإعراضه عن صدقة ربه يكون قبيحاً، ويكون من قبيل {أن رآه استغنى} . وفي رد صدقة أحد عليه من التأذى عادة ما لا يخفى فهذه من أمارات الوجوب، ويوافقه حديث: أنها تمام غير قصر. واحتج لهم أيضاً بقوله تعالى: {ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} [101:4]

فإن نفي الجناح لا يدل على العزيمة، بل على الرخصة، وعلى أن الأصل التمام، والقصر إنما يكون عن شيء أطول منه. وأجيب عنه بوجوه: منها أن الآية وردت في قصر صفة الصلاة بترك الركوع والسجود إلى الإيماء، وترك القيام إلى الركوب في الخوف. فالمراد بالقصر في الآية إدخال التخفيف في كيفية أداء الركعات في الخوف دون القصر في عدد الركعات في صلاة السفر. ومنها أن المراد بالقصر في الآية القصر في كمية الركعات وعددها، وبالصلاة صلاة الخوف لا صلاة المسافر. فالآية نزلت في قصر العدد في صلاة الخوف لا في صلاة السفر. ومنها أنه إنما أتى بهذه العبارة؛ لأن المسلمين لكمال ولعهم بالعبادة وتكثيرها وأدائها بالتمام كأنهم كانوا يتحرجون في القصر، وكانوا يعدونه جناحاً فقال: {ليس عليكم جناح أن تقصروا} ولا حرج، فإن الركعتين في حكم الأربعة كما قال الذين ذهبوا إلى وجوب السعي بين الصف والمروة في قوله تعالى: {فلا جناح عليه أن يطوف بهما} [158:2] وقال ابن القيم في الهدي (ج1 ص131) : وقد يقال: إن الآية اقتضت قصر يتناول قصر الأركان بالتخفيف، وقصر العدد بنقصان ركعتين. وقيد ذلك بأمرين: الضرب بالأرض، والخوف، فإذا وجد الأمران أبيح القصران، فيصلون صلاة الخوف، مقصورة عددها وأركانها، وإن انتفى الأمران فكانوا آمنين مقيمين انتفى القصران، فيصلون صلاة تامة كاملة، وإن وجد أحد السببين ترتب عليه قصره وحده، فإذا وجد الخوف والإقامة قصرت الأركان واستوفى العدد، وهذا نوع قصر، وليس بالقصر المطلق في الآية، فإن وجد السفر والأمن قصر العدد، واستوفى الأركان، وسميت صلاة أمن، وهذا نوع قصر، وليس بالقصر المطلق، وقد تسمى هذه الصلاة مقصورة باعتبار نقصان العدد، وقد تسمى تامة باعتبار تمام أركانها، وأنها لم تدخل في قصر الآية. والأول اصطلاح كثير من الفقهاء المتأخرين، والثاني يدل عليه كلام الصحابة كعائشة وابن عباس وغيرهما. قالت عائشة: فرضت الصلاة ركعتين، فلما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة زيد في صلاة الحضر، وأقرت صلاة السفر. فهذا يدل على أن صلاة السفر عندها غير مقصورة من أربع، وإنما هي مفروضة كذلك، وأن فرض المسافر ركعتان. وقال ابن عباس: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة. وقال عمر بن الخطاب: صلاة السفر ركعتان والجمعة ركعتان والعيد ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقد خاب من افترى. وهذا ثابت عن عمر رضي الله عنه، وهو الذي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ما بالنا نقصر؟ وقد أمنا؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صدقة تصدق بها الله عليكم فاقبلوا صدقته. ولا تناقض بين حديثيه، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أجابه بأن هذه صدقة الله عليكم، ودينه اليسر السمح، علم عمر أنه ليس المراد من الآية قصر العدد، كما فهمه كثير من الناس، فقال: صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر. وعلى هذا فلا دلالة في الآية على أن قصر العدد مباح منفي عنه الجناح، فإن شاء المصلي فعله وإن شاء أتم، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

رواه مسلم. 1345- (4) وعن أنس، قال: ((خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى مكة، فكان يصلي ركعتين ركعتين، حتى رجعنا إلى المدينة، قيل له: أقمتم بمكة شيئاً؟ قال: أقمنا بها عشراً)) ـــــــــــــــــــــــــــــ يواظب في أسفاره على ركعتين ركعتين، ولم يربع قط إلا شيئاً فعله في بعض صلاة الخوف، كما سنذكره هناك ونبين ما فيه- انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً الشافعي وأحمد والترمذي في تفسير وأبوداود والنسائي وابن ماجه في الصلاة والبيهقي (ج3 ص134-141) وغيرهم. 1345- قوله: (من المدينة) أي متوجهين (إلى مكة) أي للحج كما في رواية لمسلم. (فكان يصلي) أي الرباعية. (ركعتين ركعتين) أي كل رباعية ركعتين. (قيل له) أي لأنس. والقائل أي السائل هو يحيى بن أبي إسحاق الحضرمي الراوي عن أنس كما صرح به في رواية للبخاري في الصلاة. (أقمتم) بحذف همزة الاستفهام وفي رواية أبي داود: هل أقمتم. (شيئاً) أي من الأيام. (قال) أي أنس. (أقمنا بها) أي بمكة وبضواحيها. (عشراً) أي عشرة أيام، وإنما حذفت التاء من العشرة مع أن اليوم مذكر؛ لأن المميز إذا لم يذكر جاز في العدد التذكير والتأنيث. ولا يعارض هذا حديث ابن عباس المذكور بعده وحديث عمران الآتي في الفصل الثاني؛ لأنهما في فتح مكة، وهذا في حجة الوداع، قال الإمام أحمد: إنما وجه حديث أنس أنه حسب مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة ومنى، وإلا فلا وجه له غير هذا. واحتج بحديث جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدم مكة صبيحة رابعة من ذي الحجة. (يوم الأحد) فأقام بها الرابع والخامس والسادس والسابع، وصلى الصبح في اليوم الثامن. (يوم الخميس) ثم خرج إلى منى، وخرج من مكة متوجهاً إلى المدينة بعد أيام التشريق. ومثله حديث ابن عباس عند البخاري بلفظ: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لصبح رابعة يلبون بالحج ... الحديث. قال الحافظ: ولا شك أنه خرج من مكة صبح الرابع عشر فتكون مدة الإقامة بمكة وضواحيها عشرة أيام بلياليها كما قال أنس، وتكون مدة إقامته بمكة أربعة أيام سواء؛ لأنه خرج منها في اليوم الثامن فصلى الظهر بمنى. وقال المحب الطبري: أطلق على ذلك إقامة بمكة؛ لأن هذه المواضع مواضع النسك، وهي في حكم التابع لمكة؛ لأنها المقصود بالإصالة، لا يتجه سوى ذلك، كما قال الإمام أحمد- انتهى. وقد أشكل الحديث على الشافعية؛ لأنه قد تقرر عندهم أنه لو نوى المسافر إقامة أربعة أيام بموضع عينه انقطع سفره بوصوله ذلك الموضع بخلاف ما لو نوى دونها وإن زاد عليه. ولا ريب أنه - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع كان جازماً بالإقامة بمكة المدة المذكورة، وأجاب البيهقي في السنن الكبرى (ج3 ص149) بما نصه: وإنما أراد أنس بقوله "فأقمنا بها عشراً" أي بمكة ومنى وعرفات، وذلك لأن الأخبار الثابتة تدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم مكة في

حجته لأربع خلون من ذي الحجة فأقام بها ثلاثاً يقصر، ولم يحسب اليوم الذي قدم فيه مكة؛ لأنه كان فيه سائراً، ولا يوم التروية؛ لأنه خارج فيه إلى منى، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح، فلما طلعت الشمس سار منها إلى عرفات، ثم دفع منها حيت غربت الشمس حتى أتى المزدلفة، فبات بها ليلتئذ حتى أصبح، ثم دفع منها حتى أتى منى فقضى بها نسكه، ثم أفاض إلى مكة فقضى بها طوافه، ثم رجع إلى منى فأقام بها، ثم خرج إلى المدينة، فلم يقم - صلى الله عليه وسلم - في موضع واحد أربعاً يقصر- انتهى كلام البيهقي. وتعقبه ابن التركماني، وتعقبه متجه عندي، قال: أقام بمكة أربعة أيام يقصر، فإنه - صلى الله عليه وسلم - قدم صبح رابعة من ذي الحجة، فأقام الرابع والخامس والسادس والسابع وبعض الثامن ناوياً للإقامة بها بلا شك، ثم خرج إلى منى يوم التروية، وهو الثامن قبل الزوال. وهذا يبطل تقديرهم بأربعة أيام، ولهذا حكى ابن رشد عن أحمد وداود أنه إذا أزمع على أكثر من أربعة أيام أتم، قال واحتجوا بمقامه عليه السلام في حجته بمكة مقصراً أربعة أيام. وذكر صاحب التمهيد عن الأثرم قال أحمد: أقام عليه السلام اليوم الرابع والخامس والسادس والسابع وصلى الصبح بالأبطح في الثامن. فهذه إحدى وعشرون صلاة قصر فيها، وقد أجمع على إقامتها وظهر بهذا بطلان قول البيهقي: "فلن يقم عليه السلام في موضع واحد أربعاً يقصر". وكيف يقول كان سائراً في اليوم الرابع مع أنه قدم في صبيحته فأقام بمكة؟! أو كيف لا يحسب يوم الدخول مع أن الأحكام المتعلقة بالسفر لينقطع حكمها يوم الدخول إذا نوى الإقامة، ويلحق بما بعده أصله رخصة المسح والإفطار؟! فلا معنى لإخراجه بعد نية الإقامة بغير دليل شرعي، وكذا يوم الخروج قبل خروجه. وفي اختلاف العلماء للطحاوي روي عن ابن عباس وجابر أنه عليه السلام قدم مكة صبيحة رابعة من ذي الحجة، فكان مقامه إلى وقت خروجه أكثر من أربع، وقد كان يقصر الصلاة، فدل على سقوط الاعتبار بالأربع- انتهى كلام ابن التركماني. وأجاب بعضهم عن هذا التعقب بأنه إنما يخالفنا إذا أقام أربع ليال مع أيامها التامة. ويمكن أنه صلى الله عليه وسلم خرج في اليوم الثامن من قبل الوقت الذي دخل فيه في اليوم الرابع، فما تمت له أيام الأربع، كذا أجاب، ولا يخفى ما فيه، قلت: واستدل الشافعية والمالكية على مذهبهم بنهيه صلى الله عليه وسلم للمهاجر عن إقامة فوق ثلاث بمكة فتكون الزيادة عليها لإقامة لا قدر الثلاث. قال القسطلاني: الترخيص في الثلاث يدل على بقاء حكم السفر بخلاف الأربعة فالأربع حد الإقامة، وما دونه حد السفر يقصر فيه. وردّ ذلك بأن الثلاث قدر قضاء الحوائج لا لكونها غير إقامة. قال ابن حزم في المحلى (ج5ص24) : ليس في هذا الخبر نص ولا إشارة إلى المدة التي إذا أقامها المسافر يتم صلاته، وإنما هو في حكم المهاجر لا يقيم أكثر من ثلاثة أيام ليجاز شغله وقضى حاجته في الثلاث، ولا حاجة إلى أكثر منها، ولا يدل على أنه يصير مقيماً في الأربعة، ولو احتمل لا يثبت حكم شرعي بالاحتمال، قال وأيضاً

متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن المسافر مباح له أن يقيم ثلاثاً وأكثر من ثلاث لا كراهية في شيء من ذلك. وأما المهاجر فمكروه له أن يقيم بمكة بعد انقضاء نسكه أكثر من ثلاث، فأي نسبة بين إقامة مكروهة وإقامة مباحة؟ وأيضاً فإن ما زاد على الثلاثة الأيام للمهاجر داخل عندهم في حكم أن يكون مسافراً. لا مقيماً وما زاد على الثلاثة فإقامة صحيحة. وهذا مانع من أن يقاس أحدهما على الآخر، وأيضاً فإن إقامة قدر صلاة واحدة زيادة على الثلاثة مكروهة للمهاجر، فينبغي عندهم إذا قاسوا عليه المسافر أن يتم، وهو خلاف مذهبهم. وقد ظهر بهذا أنه ليس حديث مرفوع صريح في ما ذهب إليه المالكية والشافعية. وكذا فيما ذهب إليه الحنفية كما صرح به ابن رشد في البداية. وقال صاحب العرف الشذى: لا مرفوع لأحد ولكل واحد آثار. فاستدل الحنفية بما روى الطحاوي عن ابن عباس وابن عمر قالا: إذا قدمت بلدة وأنت مسافر، وفي نفسك أن تقيم خمسة عشر يوماً أكمل الصلاة بها، وإن كنت لا تدري متى تظعن فاقصرها، ذكره الزيلعي في نصب الراية، والحافظ في الدراية، والعيني في البناية وابن الهمام في فتح القدير. وروى نحوه محمد بن الحسن في كتاب الآثار عن ابن عمر وحده. قال الشوكاني: ورد بأنه من مسائل الاجتهاد، ولا حجة في أقوال في المسائل التي للاجتهاد فيها مسرح، قال: والحق أن من حط رحله ببلد ونوى الإقامة بها أيامها من دون تردد لا يقال له مسافر، فيتم الصلاة ولا يقصر إلا لدليل ولا دليل ههنا إلا في ما في حديث الباب من إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة أربعة أيام يقصر الصلاة، والاستدلال به متوقف على ثبوت أنه صلى الله عليه وسلم عزم على إقامة أربعة أيام إلا أن يقال: إن تمام أعمال الحج في مكة لا يكون في دون الأربع، فكان كل من يحج عازماً على ذلك فيقتصر على هذا المقدار، ويكون الظاهر والأصل في حق من نوى إقامة أكثر من أربع أيام هو التمام، وإلا لزم أن يقصر الصلاة من نوى إقامة سنين متعددة، ولا قائل به. ولا يرد على هذا قوله في إقامته بمكة في الفتح: إنا قوم سفر؛ لأنه كان إذ ذاك متردداً، ولم يعزم على إقامة مدة معينة- انتهى. قلت: لا شك أنه صلى الله عليه وسلم كان جازماً بالإقامة أربعة أيام بمكة في حجته؛ لأنه دخل بها صبيحة رابعة، وخرج منها إلى منى في بعض الثامن أي بعد صلاة الصبح، فكان ناوياً لإقامة تلك المدة بلا شك، وقد قصر بها الصلاة. فهذا يدل على مذهب الإمام أحمد. ولم يثبت من حديث مرفوع قولي أو فعلي أنه صلى الله عليه وسلم أزمع على أكثر من أربعة أيام وقصر الصلاة. فالقول الراجح عندي هو ما ذهب إليه أحمد، والله أعلم. وأما حديث ابن عباس فسيأتي الكلام فيه. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص136و145و148و153) وغيرهم.

1346- (5) وعن ابن عباس، قال: ((سافر النبي - صلى الله عليه وسلم - سفراً، فأقام تسعة عشر يوماً يصلي ركعتين ركعتين، قال ابن عباس: فنحن نصلي فيما بيننا وبين مكة، تسعة عشر، ركعتين ركعتين، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1346- قوله: (سافر النبي - صلى الله عليه وسلم - سفراً) أي في فتح مكة، ففي رواية للبخاري في المغازي: أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة تسعة عشر يوماً يصلي ركعتين. وذكره المجد بن تيمية في المنتقى بلفظ: لما فتح النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة أقام فيها تسع عشرة يصلي ركعتين. (فأقام) أي فلبث. (تسعة عشر) بتقديم الفوقية على السين. (يوماً) بليلته. (يصلي) أي حال كونه يصلي. (ركعتين ركعتين) أي يقصر الصلاة الرباعية؛ لأنه كان متردداً متى تهيأ له فراغ حاجته وهو انجلاء حرب هوازن ارتحل، وأعلم أنه اختلفت الروايات في إقامته - صلى الله عليه وسلم - بمكة عام الفتح، فروي تسعة عشر، كما ذكره المصنف. وروي عشرون، أخرجه عبد بن حميد في مسنده. وروي سبعة عشر بتقديم السين، أخرجه أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والبيهقي. وروي خمسة عشر، أخرجه أبوداود والنسائي كلها عن ابن عباس. وروي ثمانية عشر، كما في حديث عمران الآتي. قال البيهقي في السنن الكبرى (ج3 ص151) : وأصح هذه الروايات في ذلك عندي رواية من روى تسع عشرة أي بتقديم التاء، وهي الرواية التي أودعها للبخاري في الجامع الصحيح، وجمع أيضاً البيهقي بين روايات تسع عشرة وثمان عشرة وسبع عشرة بأن من رواها تسع عشرة عد يوم الدخول ويوم الخروج، ومن روى ثمان عشرة لم يعد أحد اليومين، ومن قال سبع عشرة لم يعدهما، قال الحافظ في التلخيص (ص129) : وهو جمع متين، وتبقى رواية خمسة عشر شاذة لمخالفتها، ورواية عشرين، وهي صحيحة الإسناد إلا أنها شاذة أيضاً، اللهم إلا أن يحمل على جبر الكسر، ورواية ثمانية عشر ليست بصحيحة من حيث الإسناد، أي لما في سنده علي زيد بن جدعان، وهو ضعيف، وسيأتي الكلام فيه، وقال في الفتح بعد ذكر الجمع المذكور: وأما رواية خمسة عشر فضعفها النووي في الخلاصة، وليس بجيد؛ لأن رواتها ثقات، ولم ينفرد بها ابن إسحاق، فقد أخرجها النسائي من رواية عراك بن مالك عن عبيد الله كذلك. وإذا ثبت أنها صحيحة فليحمل على أن الراوي ظن أن الأصل رواية سبع عشرة، فحذف منها يومي الدخول والخروج، فذكر أنها خمس عشرة. واقتضى ذلك أن رواية تسع عشرة أرجح الروايات. وبهذا أخذ إسحاق بن راهويه، ويرجحها أيضاً إنها أكثر ما وردت به الروايات الصحيحة، وأخذ الثوري وأهل الكوفة برواية خمس عشرة، لكونها أقل ما ورد، فيحمل ما زاد على أنه وقع اتفاقاً- انتهى. (قال ابن عباس) استنباطاً من هذا الحديث. (فنحن نصلي فيما بيننا وبين مكة تسعة عشر) أي يوماً. ولفظ الترمذي: فنحن نصلي فيما بيننا وبين تسع عشرة. (ركعتين ركعتين) وفي رواية للبخاري: ونحن نقصر ما بيننا وبين تسع عشرة. وفي رواية للبيهقي (ج3 ص150) : فنحن إذا سافرنا فأقمنا تسعة عشر صلينا ركعتين ركعتين، ولأبي يعلى: إذا سافرنا فأقمنا في موضع تسعة عشر.

فإذا أقمنا أكثر من ذلك صلينا أربعاً)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ (فإذا أقمنا) أي مكثنا (أكثر من ذلك صلينا أربعاً) وقد أخذ به إسحاق بن راهويه أيضاً، كما تقدم في كلام الحافظ، فمدة القصر عنده وعند ابن عباس تسعة عشر يوماً، فإذا أجمع على أكثر من ذلك في موضع أتم. قال الترمذي: أما إسحاق فرأى أقوى المذاهب فيه حديث ابن عباس هذا، قال: لأن أبن عباس روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم تأوله بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -. (يعني أخذ به وعمل عليه بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم -) - انتهى. قلت: الاستدلال بهذا الحديث على أن من يقيم هذه المدة. (تسعة عشر أو خمسة عشر على اختلاف الروايتين والمذهبين) قصداً يقصر، لا يخلو عن إشكال؛ لأنه موقوف على ثبوت أنه - صلى الله عليه وسلم - أزمع في أول الأمر على إقامته بمكة هذه المدة، ولا دلالة في هذه القصة على ذلك أصلاً، بلا الظاهر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام بمكة هذه المدة اتفاقاً، ولا يدري أول الأمر أن إقامته تمتد إلى متى؛ لأنه كان متردداً متى تهيأ له فراغ حاجته يرحل. ومن كان كذلك يقر أبداً؛ لأنه لم ينو الإقامة، والأصل بقاء السفر، ولذا قال الترمذي: أجمع أهل العلم على أن المسافر يقصر ما لم يجمع إقامة، وإن أتى عليه سنون، وكذا قال ابن المنذر. وأما الاستدلال بحديث ابن عباس على أن من يزيد على هذه المدة يتم، كما قال ابن عباس وإسحاق ففي غاية الخفاء، هذا وقد أجاب عن الأشكال المذكور الإمام ابن تيمية في أحكام السفر (ص81) بأنه معلوم بالعادة أن ما كان يفعل بمكة وتبوك لم يكن ينقضي في ثلاثة أيام ولا أربعة حتى يقال إنه كان يقول اليوم أسافر، غداً أسافر، بل فتح مكة وأهلها وما حولها كفار محاربون له، وهي أعظم مدينة فتحها، وبفتحها ذلت الأعداء، وأسلمت العرب. ومثل هذه الأمور مما يعلم أنها لا ينقضي في أربعة أيام، فعلم أنه أقام لأمور يعلم أنها لا تنقضي في أربعة أيام، وكذلك تبوك إلى آخر ما قال. ولا يخفى ما فيه على المتأمل. (رواه) أي أصل الحديث. (البخاري) وإلا فالسياق المذكور ليس للبخاري، فإن الحديث رواه البخاري في الصلاة بلفظ: أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة تسعة عشر يوماً يصلي ركعتين، ومطولاً بلفظ: أقمنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر تسع عشرة نقصر الصلاة. وقال ابن عباس: ونحن نقصر ما بيننا وبين تسع عشرة، فإذا أزدنا أتممنا. والسياق الذي ذكره المصنف إنما هو للترمذي والبيهقي بفرق يسير. والبغوي إنما ذكر في المصابيح سياق البخاري المختصر. ولعل المصنف أعرض عنه لاختصاره، وأورد سياق الترمذي والبيهقي، لكونه واضحاً مطولاً، لكن كان ينبغي له أن ينبه على تصرفه هذا، فإن صنيعه يدل على أن السياق المذكور للبخاري، والأمر ليس كذلك، كما عرفت، والحديث أخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص149، 150، 151) .

1347- (6) وعن حفص بن عاصم، قال: ((صحبت ابن عمر في طريق مكة، فصلى لنا الظهر ركعتين، ثم جاء رحله، وجلس، فرأى ناساً قياماً، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قلت: يسبحون. قال: لو كنت مسبحاً أتممت صلاتي. صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبا بكر، وعمر، وعثمان كذلك)) ـــــــــــــــــــــــــــــ 1347- قوله: (وعن حفص بن عاصم) بن عمر بن الخطاب ثقة من الطبقة الوسطى من التابعين (صحبت ابن عمر) أي رافقت عمي عبد الله بن عمر بن الخطاب. (فصلى لنا الظهر ركعتين) قصراً ثم أقبل وأقبلنا معه. (ثم جاء) وفي مسلم: حتى جاء. (رحله) أي منزله ومسكنه. (وجلس) وجلسنا معه، فحانت منه إلتفاتة نحو حيث صلى. (فرأى ناساً قياماً) بكسر القاف جمع قائم أي قائمين للصلاة في المكان الذي صلوا الفرض فيه. (فقال) إنكاراً: (ما يصنع هؤلاء؟ قلت: يسبحون) أي يصلون النافلة، فالسبحة هنا صلاة النفل، (لو كنت مسبحاً) أي مصلياً النافلة في السفر. (أتممت صلاتي) أي المكتوبة. قال السندي: لعل المعنى لو كنت صليت النافلة على خلاف ما جاءت به السنة لأتممت الفرض على خلافها، أي لو تركت العمل بالسنة لكان تركها لإتمام الفرض أحب وأولى من تركها لإتيان النفل، وليس المعنى لو كانت النافلة مشروعة لكان الإتمام مشروعاً حتى يرد عليه ما قيل: إن شرع الفرض تاماً يفضي إلى الحرج، إذ يلزم حينئذٍ الإتمام. وأما شرع النفل فلا يفضي إلى حرج، لكونها إلى خيرة المصلي- انتهى. وقال الحافظ في الفتح: مراد ابن عمر بقوله هذا يعني أنه لو كان مخيراً بين الإتمام وصلاة الراتبة لكان الإتمام أحب إليه، لكنه فهم من القصر التخفيف، فلذلك كان لا يصلي الراتبة ولا يتم. (فكان لا يزيد في السفر على ركعتين) أي في غير المغرب، إذ لا يصح ذلك في المغرب قطعاً. والمعنى لا يزيد نفلاً قبل الفريضة وبعدها. (وأبا بكر) أي وصحبت أبا بكر. (وعمر وعثمان كذلك) أي صحبتهم كما صحبته - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا لا يزيدون في السفر على ركعتين. وفيه دليل على أنه - صلى الله عليه وسلم - واظب على القصر في السفر ولازمه، ولم يصل تماماً. وذكر الموقوف بعد المرفوع مع أن الحجة قائمة بالمرفوع ليبين أن العمل استمر على ذلك، ولم يطرق إليه نسخ ولا معارض ولا راجح، لكن في ذكر عثمان إشكال؛ لأنه كان في آخر أمره يتم الصلاة. وأجيب بما سيأتي في الفصل الثالث من حديث ابن عمر وعثمان صدراً من خلافته. قال في المصابيح: وهو الصواب، ذكره القسطلاني، أو المراد أنه إنما كان يتم إذا كان نازلاً. وأما إذا كان سائراً فيقصر. فلذلك قيده في هذه الرواية بالسفر. وقال الزركشي: ولعل ابن عمر أراد في هذه الرواية أيام عثمان في سائر أسفاره في غير منى؛ لأن إتمامه كان بمنى، كما فسره عمران بن الحصين في روايته. والحديث فيه إشكال آخر، فإنه يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يتنفل في السفر. وقد روى ابن عمر

نفسه، كما سيأتي في الفصل الثاني، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي النافلة بعد الظهر والمغرب. وورد في حديث أبي قتادة عند مسلم في قصة النوم عن صلاة الصبح في السفر: ثم صلى ركعتين قبل الصبح ثم صلى الصبح. وقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى صلاة الضحى في السفر. كما تقدم، وصلاة الليل على الدابة، كما سيأتي من حديث ابن عمر، وصلاة الزوال أو الراتبة قبل الظهر، كما في حديث البراء عند الترمذي وأبي داود. وأيضاً يشكل على إنكار ابن عمر على المتنفلين ما سيأتي في آخر الباب أن ابن عمر كان يرى ابنه عبيد الله يتنفل في السفر، فلا ينكر عليه، وما روي عن ابن عمر أنه كان يصلي على راحلته في السفر حيثما توجهت به. قال العراقي: الجواب: أن النفل المطلق وصلاة الليل لم يمنعهما ابن عمر ولا غيره. فأما السنن الرواتب فيحمل حديث الباب على الغالب من أحواله في أنه لا يصلى الرواتب، وحديثه في فعل أنه فعله في بعض الأوقات لبيان استحبابها وإن لم يتأكد فعلها فيه كتأكده في الحضر، أو أنه كان نازلاً في وقت الصلاة ولا شغل له يشتغل به عن ذلك، أو سائراً، وهو على راحلته. ولفظ "كان" في حديث الباب لا يقتضي الدوام ولا التكرار على الصحيح، فلا تعارض بين حديثيه. وقيل: مذهب ابن عمر الفرق بين الرواتب والنوافل المطلقة كالتهجد والوتر والضحى وغير ذلك، فيحمل الإنكار على الأول، والإثبات على الثاني، ولا يخفى ما فيه. وقيل: نفي التطوع في السفر محمول على ما بعد الصلاة خاصة أي الرواتب البعدية، فلا يتناول ما قبلها ولا ما لا تعلق له بها من النوافل المطلقة، وإليه مال البخاري، كما يظهر من تبويبة. قال الحافظ: وهو فيما يظهر أظهر. قلت: بل هو غاية الخفاء فضلاً عن أن يكون ظاهراً فضلاً عن أن يكون أظهر لما سيأتي من حديث ابن عمر نفسه في إثبات الرواتب البعدية. وقيل: لعل النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الرواتب في رحله فلا يراه ابن عمر. وقيل: النفي محمول على الصلاة على الأرض، والإثبات على الدابة. قال الحافظ: وقد جمع ابن بطال بين ما اختلف عن ابن عمر في ذلك بأنه كان يمنع التنفل على الأرض، ويقول به على الدابة. وقيل: الأولى أن يحمل حديث الباب أي عدم الزيادة على ركعتي الفرض على حالة السير وحديث الثبوت على حالة النزول والقرار، وهو المختار من مذهب الحنفية، كما صرح به الدر المختار وفي الكبرى، هو أعدل الأقوال. قلت: قد اختلف العلماء في التنفل في السفر على ستة أقوال: أحدها المنع مطلقاً. الثاني الجواز مطلقاً. الثالث: الفرق بين الرواتب والمطلقة، وهو مذهب ابن عمر، كما أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح. الرابع: الفرق بين الليل والنهار في المطلقة. الخامس: الفرق بين الرواتب البعدية وغيرها، فيحمل النفي على الأولى، فلا يتناول ما قبلها ولا النوافل المطلقة. السادس: ما اختاره ابن القيم حيث قال في الهدي (ج1 ص134) : كان من هديه - صلى الله عليه وسلم - الاقتصار على الفرض، ولم يحفظ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى سنة الصلاة

متفق عليه. 1348- (7) وعن ابن عباس، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين صلاة الظهر والعصر، ـــــــــــــــــــــــــــــ قبلها ولا بعدها إلا ما كان من الوتر وسنة الفجر، فإنه لم يكن ليدعهما حضراً ولا سفراً، قال: وأما ابن عمر فكان لا يتطوع قبل الفريضة ولا بعدها إلا من جوف الليل مع الوتر، وهذا هو الظاهر من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان لا يصلي قبل الفريضة المقصورة ولا بعدها شيئاً، ولم يكن يمنع من التطوع قبلها ولا بعدها، فهو كالتطوع المطلق لا أنه سنة راتبة للصلاة كسنة صلاة الإقامة. ويؤيد هذا أن الرباعية قد خففت إلى ركعتين تخفيفاً على المسافر، فكيف يجعل لها سنة راتبة يحافظ عليها، وقد خفف الفرض ركعتين، فلولا قصد التخفيف على المسافر وإلا كان الإتمام أولى به، وقال أيضاً (ج1 ص83) : وكان أي النبي - صلى الله عليه وسلم - في السفر يواظب على سنة الفجر، والوتر أشد من جميع النوافل دون سائر السنن، ولم ينقل في السفر أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى سنة راتبة غيرهما، ولذلك كان ابن عمر لا يزيد على ركعتين، وسئل عن سنة الظهر في السفر، فقال: لو كنت مسبحاً لأتممت. وهذا من فقهه رضي الله عنه، فإن الله سبحانه وتعالى خفف عن المسافر في الرباعية شطرها، فلو شرع له الركعتان قبلها أو بعدها لكان الإتمام أولى به. وتعقب قوله: لم يتنفل في السفر أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى سنة راتبة غير سنة الفجر والوتر، بما سيأتي من حديث ابن عمر في إثبات الراتبة البعدية للظهر والمغرب. قال الترمذي: اختلف أهل العلم بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فرأى بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتطوع الرجل في السفر، وبه يقول أحمد وإسحاق، ولم ترَ طائفة أن يصلي قبلها ولا بعدها، ومعنى من لم يتطوع في السفر قبول الرخصة، ومن تطوع فله في لك فضل كثير، وهو قول أكثر أهل العلم يختارون التطوع في السفر- انتهى. قلت: والراجح عندي أن لا يترك في السفر الوتر وسنة الفجر. وأما غيرهما من الرواتب القبلية والبعدية فهي إلى خيرته، إن شاء فعلها وحصل ثوابها، وإن شاء تركها ولا شيء عليه، أعني أنها لا تبقى في حقه متأكدة كسنة صلاة الإقامة، والله أعلم. (متفق عليه) فيه أن السياق المذكور ليس لهما ولا لأحدهما، بل هو مجموع من مجموع ما فيهما، فأول الحديث إلى قوله "أتممت صلاتي" من إفراد مسلم، لم يروه البخاري أصلاً. وقوله: صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى آخر الحديث" وهو سياق البخاري. وعند مسلم: يا ابن أخي! إني صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، ثم صحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وقد قال الله تعالى: {لقد كان لكن في رسول الله أسوة حسنة} [21:33] وسياق المشكاة موافق لما في المصابيح. ولو نبه المصنف على تصرف البغوي في سياق الحديث لكان أحسن. والحديث أخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص158) . 1348- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين صلاة الظهر والعصر) أي جمع تأخير، وهو أن يؤخر

إذا كان على ظهر يسير، ويجمع بين المغرب والعشاء)) ـــــــــــــــــــــــــــــ الظهر إلى أن يدخل وقت العصر، فيصلي الظهر والعصر جميعاً في وقت العصر. (إذا كان على ظهر يسير) قال القسطلاني: بإضافة ظهر يسير. وللأصيلي وابن عساكر وأبي الوقت وأبي ذر عن الكشمهيني: ظهر بالتنوين، يسير بلفظ المضارع بتحتانية مفتوحة في أوله أي حال كونه يسير، وعزا في الفتح الأولى للأصيلي، والثانية للكشمهيني. ولفظ ظهر في قوله: "ظهر يسير" مقحم للتأكيد كقوله: الصدقة عن ظهر غنى. وقد يزاد في مثل هذا اتساعاً للكلام، كأن السير مستند إلى ظهر قوي من المطي مثلاً. وقيل: جعل للسير ظهر؛ لأن الراكب ما دام سائراً فكأنه راكب ظهر، وفيه جناس التحريف بين الظهر والعصر. (ويجمع بين المغرب والعشاء) أي كذلك. واستدل به على جواز جمع التأخير في السفر. وأما جمع التقديم فسيأتي الكلام فيه في شرح حديث معاذ بن جبل الآتي. واحتج بحديث ابن عباس هذا من قال باختصاص الجمع بالسائر دون النازل. وفي مسألة الجمع بين الصلاتين في السفر سبعة أقوال: أحدها أنه يجوز الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في السفر في وقت أحدها جمعاً حقيقياً تقديماً وتأخيراً مطلقاً، أي سواء كان سائراً أم لا، وسواء كان سيراً مجداً أم لا. قال به كثير من الصحابة والتابعين، ومن الفقهاء الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبوثور وابن المنذر وأشهب. وحكاه ابن قدامة عن مالك أيضاً. وقال الزرقاني: وإليه ذهب مالك في رواية مشهورة. قلت: وهو مختار المالكية، كما في فروعهم، واختاره الشاه ولي الله الدهلوي، حيث قال في حجة الله (ج2 ص18) : من رخص السفر الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، والأصل فيه ما أشرنا أن الأوقات الأصلية ثلاثة الفجر والظهر والمغرب، وإنما اشتق العصر من الظهر والمغرب من العشاء، ولئلا تكون المدة الطويلة فاصلة بين الذكرين، ولئلا يكون النوم على صفة الغفلة، فشرع لهم جمع التقديم والتأخير، لكنه لم يواظب عليه ولم يعزم عليه مثل ما فعل في القصر- انتهى. والثاني أنه يختص الجمع بمن يجدّ في السير أي يسرع، قاله الليث، وهو قول مالك في المدونة. واستدل لهما بما روي في الصحيح عن ابن عمر قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين المغرب والعشاء (جمع تأخير) إذا جد به السير، وسيأتي الجواب عنه. والثالث أنه يختص بما إذا كان سائراً لا نازلاً، قاله ابن حبيب من المالكية. واستدل لذلك بقوله: إذا كان على ظهر سير في حديث الباب. وأجيب عن ذلك بما وقع من التصريح في حديث معاذ بن جبل في الموطأ بلفظ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخر الصلاة (في غزوة تبوك) خرج فصلى الظهر والعصر جميعاً، ثم دخل ثم خرج، فصلى المغرب والعشاء جميعاً. قال الشافعي في الأم قوله: "ثم دخل ثم خرج" لا يكون إلا وهو نازل، فللمسافر أن يجمع نازلاً ومسافراً. وقال ابن عبد البر: هذا أوضح دليل في الرد على من قال لا يجمع إلا من جد به السير، وهو قاطع للالتباس. وقال الباجي: مقتضى قوله: "ثم دخل ثم خرج" أنه مقيم غير سائر؛ لأنه إنما يستعمل في الدخول في المنزل والخباء، والخروج منهما، وهو غالب الاستعمال إلا أن يريد

أنه خرج من الطريق إلى الصلاة، ثم دخله للسير، وفيه بعد. وكذا حكى عياض هذا التأويل عن بعضهم ثم استبعده ولا شك في بعده، وكأنه - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك لبيان الجواز، وكان أكثر عادته التفرقة في حال الجمع بين ما إذا كان سائراً أو نازلا، ومن ثم قال الشافعية ترك الجمع أفضل. والرابع أن الجمع مكروه، قال ابن العربي: إنها رواية المصريين عن مالك، والخامس أنه يختص بمن له عذر حكى عن الأوزاعي. والسادس أنه يجوز جمع التأخير دون التقديم وهو اختيار ابن حزم، وسيأتي الكلام فيه. والسابع أنه لا يجوز الجمع مطلقاً إلا بعرفة والمزدلفة، وهو قول الحسن والنخعي وأبي حنفية وصاحبيه، ووقع عند النووي أن الصاحبين خالفا شيخهما، ورد عليه السروجي في شرح الهداية، وهو أعرف بمذهبه، وأجاب هؤلاء عما ورد من الأخبار في ذلك الذي وقع جمع صوري، وهو أنه أخر المغرب مثلاً إلى آخر وقتها، وعجل العشاء في أول وقتها. وتعقبه الخطابي في المعالم (ج1 ص264) بما حاصله: أن الجمع من الرخص العامة لجميع الناس عامهم وخاصهم، فلو كان على ما ذكروه لكان أعظم ضيقاً من الإتيان بكل صلاة في وقتها؛ لأن أوائل الأوقات وأواخرها مما لا يدركه أكثر الخاصة فضلاً عن العامة. وأما أمره - صلى الله عليه وسلم - للمستحاضة بالجمع الصوري، فهو وارد في شيء يندر وجوده، على أنه - صلى الله عليه وسلم - قيد ذلك بقوله: إن قويت كما تقدم، فإن قدرت المستحاضة على معرفة أوائل الأوقات وأواخرها، وعلى الاغتسال ثلاث مرات جمعت بين الصلاتين فعلاً وصورة. ومن الدليل على أن الجمع رخصة، قول ابن عباس: أراد أن لا يحرج أمته، أخرجه مسلم. وهذا يقدح في حمله على الجمع الصوري؛ لأن النزول للصلاتين والخروج إليهما مرة واحدة وإن كان أسهل من النزول مرتين، لكن لا يخلو ذلك عن حرج ومشقة بسبب عدم معرفة أكثر الناس أوائل أوقات الصلاة وأواخرها بخلاف الجمع الوقتي فهو أيسر وأخف من الجمع الفعلي، وهذا ظاهر وأيضاً فإن الأخبار جاءت صريحة بالجمع في وقت إحدى الصلاتين، وهي نصوص صريحة لا تحتمل تأويلاً، كما سيأتي. قال الشيخ عبد الحي اللكنوي في التعليق الممجد (ص129) : حمل أصحابنا يعني الحنفية الأحاديث الواردة في الجمع على الجمع الصوري. وقد بسط الطحاوي الكلام فيه في شرح معاني الآثار، لكن لا أدري ماذا يفعل بالروايات التي وردت صريحاً بأن الجمع كان بعد ذهاب الوقت، وهي مروية في صحيح البخاري وسنن أبي داود وصحيح مسلم وغيرها من الكتب المعتمدة على ما لا يخفى على من نظر فيها، فإن حمل على أن الرواة لم يحصل التمييز لهم، فظنوا قرب خروج الوقت، خروج الوقت، فهذا بعيد عن الصحابة الناصين على ذلك، وأن أختير ترك تلك الروايات بأبداء الخلل في الإسناد فهو أبعد وأبعد مع إخراج الأئمة لها وشهادتهم بتصحيحها، وإن عورض بالأحاديث التي صرحت بأن الجمع كان بالتأخير إلى آخر الوقت والتقديم في أول الوقت فهو أعجب، فإن الجمع بينهما بحملها على اختلاف الأحوال ممكن

رواه البخاري. 1349- (8) وعن ابن عمر قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت به ـــــــــــــــــــــــــــــ بل هو الظاهر- انتهى كلام الشيخ اللكنوي. وأيضاً المتبادر إلى الفهم من لفظ الجمع هو الجمع الوقتي لا الفعلي. قال الخطابي في المعالم (ج1 ص264) : ظاهر اسم الجمع عرفاً لا يقع على من أخر الظهر حتى صلاها في آخر وقتها، وعجل العصر فصلاها في أول وقتها؛ لأن هذا قد صلى كل صلاة منهما في وقتها الخاص بها، وإنما الجمع المعروف بينهما أن تكون الصلاتان معاً في وقت إحداهما ألا ترى أن الجمع بينهما بعرفة والمزدلفة كذلك- انتهى. ولو سلم أن لفظ الجمع عام يشمل الوقتي والفعلي كليهما فالروايات الصريحة في جمع التقديم والتأخير معين للمراد من لفظ الجمع في الروايات المطلقة، وأن المقصود هو الجمع الوقتي أي الحقيقي لا الصوري أي الفعلي. ومما يرد الحمل على الجمع الصوري جمع التقديم الآتي ذكره في الفصل الثاني. قال الحافظ: وفي هذه الأحاديث أي أحاديث الجمع الحقيقي الصريحة المفسرة تخصيص لحديث الأوقات التي بينها جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - وبينها النبي - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي حيث قال في آخرها: الوقت ما بين هذين- انتهى. وبهذا يندفع ما قيل: إن هذه الصلوات عرفت مؤقتة بأوقاتها بالدلائل المقطوع بها من الكتاب والسنة والإجماع، فلا يجوز تغييرها عن أوقاتها بخبر الواحد؛ لأن خبر الواحد لا يقبل في معارضة الدليل المقطوع به؛ لأن أحاديث الأوقات عامة وأحاديث الجمع خاصة بالسفر، ولا تعارض بين العام والخاص، فتحمل أحاديث الأوقات على ما عدا حالة السفر. (رواه البخاري) من طريق عكرمة عن ابن عباس. قال ميرك: ورواه مسلم بمعناه. قلت: روى مسلم من طريق أبي الزبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الصلاتين في سفرة سافرها في غزوة تبوك، فجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء قال سعيد: فقلت لابن عباس: ما حمله على ذلك؟ قال: أرادا أن لا يحرج أمته. وأخرج البيهقي الرواية الأولى (ج3 ص164) . 1349- قوله: (على راحلته) الراحلة من الإبل ما كان منها صالحاً؛ لأن يرتحل أي يشد عليه الرحل والقوي منها على الأحمال والأسفار للذكر والأنثى، والتاء للمبالغة. (حيث توجهت به) أي ولو إلى غير القبلة. قيل الضمير عائد إلى حيث أو إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، والباء للتعدية، والعائد إلى حيث محذوف أي إليه. وقوله: "حيث توجهت به" متعلق بقوله: "يصلي". ففي حديث عامر بن ربيعة عند البخاري: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو على الراحلة، يسبح يومئ برأسه قبل أي وجه توجه. قيل: وهو قيد احتراز, فصوب أي جهة سفره قبلته، فلو صلى إلى غير ما توجهت به دابته لا يجوز. قال الحافظ: واستدل به على أن جهة الطريق تكون بدلاً عن القبلة، حتى يجوز الانحراف عنها عامداً قاصداً لغير حاجة المسير إلا إن كان سائراً في غير جهة القبلة فانحرف إلى جهة

يومئ إيماء صلاة الليل إلا الفرائض، ويوتر على راحلته)) ـــــــــــــــــــــــــــــ القبلة فإن ذلك لا يضره على الصحيح. وقال ابن قدامة: وقبلة هذا المصلي حيث كانت وجهته، فإن عدل عنها نظرت فإن كان عدوله إلى جهة الكعبة جاز؛ لأنها الأصل، وإنما جاز تركها للعذر، فإذا عدل إليها أتى بالأصل، وإن عدل إلى غيرها عمداً فسدت صلاته؛ لأنه ترك قبلته عمداً. (يومئ) بياء مبدلة من همزة من أومأ. قال الطيبي: حال من فاعل يصلي، وكذا على راحلته. (إيماء) نصب على المصدرية أي يشير برأسه إلى الركوع والسجود من غير أن يضع جبهته على ظهر الراحلة، وكان يومئ للسجود أخفض من الركوع تمييزاً بينهما، وليكون البدل على وفق الأصل، وقد وقع ذلك صريحاً في حديث جابر الآتي في الفصل الثاني. (صلاة الليل) مفعول يصلي. وفيه أن المراد بقوله: {وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} [144:2] الفرائض. (إلا الفرائض) مستثنى من صلاة الليل أي لكن الفرائض. فلم يكن يصليها على الراحلة، فالاستثناء منقطع لا متصل؛ لأن المراد خروج الفرائض من الحكم ليلية أو نهارية. (ويوتر) بعد فراغه من صلاة الليل. (على راحلته) قال ابن الملك: يدل على عدم وجوب الوتر يعني؛ لأنه لو كان واجباً لما جازت صلاته على الدابة. قلت: الحديث نص في جواز الوتر على الدابة في السفر وهو من علامات عدم وجوب الوتر. واختلف فيه أهل العلم، فقال مالك والشافعي وأحمد بجوازه، وهو مروي عن على وابن عمر وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري. وقولهم هو الحق. وقال أبوحنيفة وصاحباه: لا يجوز الوتر إلا على الأرض، كما في الفرائض وهو خلاف السنة الثابتة. قال محمد بن نصر المروزي في كتاب الوتر بعد رواية الأحاديث والآثار الدالة على جواز الوتر على الدابة ما لفظه: وزعم النعمان يعني أبا حنيفة أن الوتر على الدابة لا يجوز خلافاً لما روينا. واحتج له بعضهم بحديث رواه عن ابن عمر أنه نزل عن دابته فأوتر بالأرض. فيقال لمن احتج بذلك: هذا ضرب من الغفلة، هل قال أحد لا يحل للرجل أن يوتر بالأرض؟ إنما قال العلماء: لا بأس أن يوتر على الدابة، وإن شاء أوتر بالأرض, وكذلك كان ابن عمر يفعل ربما أوتر على الدابة، وربما أوتر على الأرض. (أي طلباً للأفضل) . وعن نافع أن ابن عمر كان ربما أوتر على راحلته، وربما نزل. وفي رواية: كان يوتر على راحلته، وكان ربما نزل- انتهى. وقال الشيخ عبد الحي اللكنوي في التعليق الممجد (ص131) : أخذ أصحابنا يعني الحنفية بالآثار الواردة بنزول ابن عمر للوتر، وشيدوه بالأحاديث المرفوعة في نزوله - صلى الله عليه وسلم - للوتر. وقال المجوزون لأدائه على الدابة: إنه لا تعارض ههنا إذ يجوز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل الأمرين، فأحيانا أدى الوتر على الدابة وأحياناً على الأرض واقتدى به ابن عمر. ويؤيده ما أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار عن مجاهد عن محمد ابن إسحاق عن نافع قال: كان ابن عمر يوتر على الراحلة، وربما نزل فأوتر على الأرض. وذكر الطحاوي بعد ما أخرج آثار الطرفين الوجه في ذلك عندنا أنه قد يجوز أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر على الراحلة قبل أن

متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ يحكم بالوتر، ويغلظ أمره، ثم أحكم بعد ولم يرخص في تركه، ثم أخرج حديث: إن الله أمدكم بصلاة هي خر لكم من حمر النعم الخ من حديث خارجة وأبي بصرة، ثم قال: فيجوز أن يكون ما روى ابن عمر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وتره على الراحلة كان منه قبل تأكيده إياه، ثم نسخ ذلك- انتهى. وفيه نظر لا يخفى إذ لا سبيل إلى إثبات النسخ بالاحتمال ما لم يعلم ذلك بنص وارد في ذلك- انتهى كلام الشيخ اللكنوي. وفي الحديث جواز التنفل على الراحلة في السفر، وهو مما أجمع عليه المسلمون. قال الشوكاني: جواز التطوع على الراحلة للمسافر قبل جهة مقصده إجماع كما قال النووي والعراقي والحافظ وغيرهم، وإنا الخلاف في جواز ذلك في الحضر، فجوزه أبويوسف وأبوسعيد الأصطخري من أصحاب الشافعي وأهل الظاهر. وقال ابن حزم: وقد روينا عن إبراهيم النخعي قال: كانوا يصلون على رحالهم ودوابهم حيثما توجهت، قال: وهذه حكاية عن الصحابة والتابعين عموماً في الحضر والسفر. قال النووي: وهو محكي عن أنس بن مالك. قال العراقي: استدل من ذهب إلى ذلك بعموم الأحاديث التي لم يصرح بذكر السفر، وهو ماش على قاعدتهم أنه لا يحمل المطلق على المقيد، بل يعمل على كل منهما. فأما من يحمل المطلق على المقيد، وهم الجمهور فحملوا الروايات المطلقة على المقيدة. وظاهر الأحاديث عدم الفرق بين السفر الطويل والقصير. (لأن الروايات ليس فيها شيء من التحديد فوجب الامتثال بالعموم) وإليه ذهب الشافعي وجمهور العلماء. (أبوحنيفة وصاحباه وأحمد وداود وغيرهم) وذهب مالك إلى أنه لا يجوز إلا في سفر يقصر في مثله الصلاة. (لأن الروايات التي حكاها ابن عمر وغيره وردت فيما يقصر فيه الصلاة) ، وهو محكي عن الشافعي لكنها حكاية غريبة- انتهى. وقال الحافظ: قد أخذ بمضمون هذه الأحاديث فقهاء الأمصار، إلا أن أحمد وأبا ثور كانا يستحبان أن يستقبل القبلة بالتكبير حال ابتداء الصلاة. والحجة لذلك حديث الجارود بن أبي سبرة عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يتطوع في السفر استقبل بناقته القبلة، ثم صلى حيث وجهت ركابه، أخرجه أبوداود وأحمد والدارقطني- انتهى. وقال ابن قدامة في المغني (ج1 ص436) : وإن كان يعجز عن استقبال القبلة في ابتداء الصلاة كراكب راحلته لا تطيعه أو كان في قطار أي جماعة الإبل التي تربط بعضها ببعض فليس عليه استقبال القبلة في شيء من الصلاة، وإن أمكنه افتتاحها إلى القبلة تخرج فيه روايتان: إحداهما يلزمه لرواية أنس عند أحمد وأبي داود أنه عليه السلام استقبل بناقته القبلة، فكبر، والثانية: لا يلزمه؛ لأنه جزء من أجزاء الصلاة أشبه سائر أجزائها والحديث يحمل على الفضيلة والندب- انتهى. وكان السر فيما ذكر من جواز التطوع على الدابة في السفر تحصيل النوافل على العباد وتكثيرها تعظيماً لأجورهم رحمة من الله بهم. (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب الوتر في السفر، وأخرجه أيضاً مالك وأحمد وأبوداود والنسائي والطحاوي والبيهقي (ج2 ص5، 491) .

{الفصل الثاني}

{الفصل الثاني} 1350- (9) عن عائشة، قالت: ((كل ذلك قد فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قصر الصلاة وأتم)) ـــــــــــــــــــــــــــــ 1350- قوله: (كل ذلك) إشارة إلى ما ذكر بعده من القصر والإتمام "وكل" مفعول قوله. (قد فعل) أو مبتدأ على حذف العائد أي كل ذلك فعله. قال الطيبي: ذلك إشارة إلى أمر مبهم له شأن لا يدري إلا بتفسيره. وتفسيره قولها رضي الله عنها: (قصر الصلاة وأتم) ونظيره قوله تعالى: {وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين} [15: 66] ، تعني كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقصر الرباعية في السفر ويتمها. والحديث قد احتج به القائلون بعدم وجوب القصر في السفر، لكنه ضعيف جداً؛ لأن في سنده طلحة بن عمرو بن عثمان الحضرمي المكي، وهو متروك ليس بشيء، واحتجوا أيضاً بما روى الدارقطني (ص242) والبيهقي (ج3: ص141) من طريقه عن عائشة أن النبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقصر ويتم ويفطر ويصوم. قال الدارقطني: إسناده صحيح. وأجيب عنه بأنه حديث فيه كلام لا يصح للاحتجاج. قال الحافظ في التلخيص (ص128) : قد استنكره أحمد، وصحته بعيدة، فإن عائشة كانت تتم،وذكر عروة أنها تأولت ما تأول عثمان، كما في الصحيح، فلو كان عندها من النبي - صلى الله عليه وسلم - رواية لم يقل عروة: إنها تأولت، وقد ثبت في الصحيحين خلاف ذلك- انتهى. وقال ابن القيم في الهدي (ج1: ص121) بعد ذكر هذا الحديث: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هو كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهى. واحتجوا أيضاً بما روى النسائي والدارقطني (ص242) والبيهقي (ج3 ص142) عن عائشة أيضاً قالت: خرجت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في عمرة في رمضان، فأفطر وصمت، وقصر وأتممت، فقالت: - بأبي وأمي- أفطرت وصمت، وقصرت وأتممت! فقال أحسنت يا عائشة! قال الدارقطني: إسناده حسن. وأجيب عنه بأنه أيضاً لا يصلح للاحتجاج. قال في البدر المنير: إن في متن هذا الحديث نكارة، وهو كون عائشة خرجت معه في عمرة في رمضان، والمشهور أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يعتمر إلا أربع عمر ليس منهن شيء في رمضان، بل كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته، فكان إحرامها في ذي القعدة، وفعلها في ذي الحجة، قال: هذا هو المعروف في الصحيحين وغيرهما. وقد تمحل بعض الحفاظ في الجواب عن هذا الإشكال، واعتراض عليه الحافظ أبوعبد الله بن محمد بن عبد الأحد المقدسي في كلام له على هذا الحديث، وقال: وهم في هذا غير موضع، وذكر أحاديث في الرد عليه. وقال ابن حزم: هذا حديث لا خير فيه، وطعن فيه. وقال ابن القيم في الهدي (ج1 ص133) بعد ذكر هذا الحديث: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هذا الحديث كذب على عائشة، ولم تكن عائشة تصلي بخلاف صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسائر الصحابة، وهي تشاهدهم يقصرون ثم تتم هي وحدها بلا موجب. كيف وهي القائلة: فرضت الصلاة ركعتين، فزيد في الصلاة الحضر،

رواه في شرح السنة. 1351- (10) وعن عمران بن حصين، قال: ((غزوت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وشهدت معه الفتح، فقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين، يقول: يا أهل البلد! صلوا أربعاً، فإنا سفر)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأقرت صلاة السفر، فكيف يظن أنها تريد على ما فرض الله وتخالف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد حسن فعلها وأقرها عليه فما للتأويل. (يعني ما تقدم ذكره في كلام الحافظ في التلخيص) حينئذٍ وجه، ولا يصح أن يضاف إتمامها إلى التأويل على هذا التقدير، وقد أخبر ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يزيد في السفر على ركعتين ولا أبوبكر ولا عمر، أفيظن بعائشة أم المؤمنين مخالفتهم وهم تراهم يقصرون؟ وأما بعد موته - صلى الله عليه وسلم - فإنها أتمت كما أتم عثمان، وكلاهما تأول تأويلاً، والحجة في روايتهم لا في تأويل الواحد منهم مع مخالفة غيره له- انتهى. وبالجملة فلم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه أتم الرباعية في سفره البتة، بل لازم القصر في جميع أسفاره، فعلى المسلم أن يلازم القصر في السفر، كما لازمه - صلى الله عليه وسلم -. (رواه) أي صاحب المصابيح. (في شرح السنة") وأخرجه أيضاً الشافعي والدارقطني (ص242) والبيهقي (ج3 ص142) ، وفي سنده طلحة بن عمرو، وهو مترك، فالحديث ضعيف جداً. 1351- قوله: (غزوت مع النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي غزوات. (الفتح) أي فتح مكة. (فأقام) أي مكث. (ثماني عشرة ليله) أي مع أيامها، وما كان نوى الإقامة هذه المدة من أول الأمر بل كان متردداً متى تهيأ فراغ حاجته ارتحل كما تقدم، فامتد مكثه بمكة لذلك. (لا يصلي إلا ركعتين) في الرباعية. (يقول) بعد تسليمة خطاباً لمن اقتدى به من أهل مكة: (يا أهل البلد صلوا أربعاً) أي لا تقصروا صلاتكم بل أتموها أربعاً. (فإنا) قوم. (سفر) بفتح السين وسكون الفاء. جمع سافر، كركب وراكب وصحب وصاحب، أي إني وأصحابي مسافرون فنقصر الصلاة الرباعية من أجل السفر، وأنتم مقيمون فلا تقصروها بل أتموها. قال الطيبي: الفاء هي الفصيحة لدلالتها على محذوف هو سبب لما بعد الفاء، أي صلوا أربعاً ولا تقتدوا بنا فإنا سفر، كقوله تعالى: {فانفجرت} أي فضرب فانفجرت- انتهى. وفي الحديث دليل على أن المسافر إذا كان إماماً للمقيمين وسلم على ركعتين في الرباعية يتم المقيمون صلاتهم كإتمام أهل مكة، وهذا إجماع، ويستحب له أن يقول بعد التسليم به أتموا صلاتكم إتباعاً لفعله - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن عبد البر: لا خلاف علمته فيما بينهم أن المسافر إذا صلى بمقيمين ركعتين وسلم فأتموا لأنفسهم. وقال الشوكاني: جواز ائتمام المقيمين بالمسافر مجمع عليه. واختلف في العكس، فذهب طاووس وداود والشعبي وغيرهم إلى عدم الصحة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: لا تختلفوا على إمامكم، وقد خالف في العدد والنية، وذهب الحنفية والشافعية إلى الصحة إذ لم تفصل أدلة الجماعة، ويدل للجواز ما أخرجه أحمد في مسنده عن ابن عباس أنه سئل ما بال المسافر يصلي ركعتين إذا انفرد وأربعاً

رواه أبوداود. 1352- (11) وعن ابن عمر، قال: ((صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر في السفر ركعتين، وبعدها ركعتين. وفي رواية قال: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحضر والسفر، فصليت معه في الحضر الظهر أربعاً، وبعدها ركعتين. وصليت معه في السفر الظهر ركعتين، وبعدها ركعتين، والعصر ركعتين، ولم يصل بعدها شيئاً، والمغرب في الحضر والسفر سواء ثلاث ركعات، ولا ينقص في حضر ولا سفر، ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا ائتم بمقيم؟ فقال: تلك السنة. وفي لفظ قال له موسى بن سلمة: إنا إذا كنا معكم صلينا أربعاً، وإذا رجعنا صلينا ركعتين! فقال: تلك سنة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -. وقد أورد الحافظ هذا الحديث في التلخيص (ص130) ولم يتكلم عليه-انتهى. وقال ابن عبد البر في الاستذكار: اختلفوا ... في المسافر يصلي وراء مقيم، فقال مالك وأصحابه: إذا لم يدرك معه تامة صلى ركعتين، فإن أدرك معه ركعة بسجدتيها صلى أربعاً. وذكر الطحاوي أن أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمداً قالوا: يصلي صلاة المقيم وإن أدركه في التشهد وهو قول الثوري والشافعي-انتهى. قلت: وهو مذهب الإمام أحمد كما في المغني (ج1ص284) وغيره من كتب فروع الحنابلة. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً البيهقي (ج3ص157) من طريق أبي داود وأخرجه أيضاً هو (ج3ص135، 136، 153) والترمذي بنحوه مطولاً، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال الحافظ في التلخيص (ص129) : إن الترمذي حسن هذا الحديث، ولكن نقل المنذري والزيلعي (ج2ص187) أنه قال: حسن صحيح. والحديث نسبه أيضاً الزيلعي إلى الطبراني وابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه وأبي داود الطيالسي. وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان، وقد تكلم فيه جماعة من الأئمة، وقال الحافظ: هو ضعيف، وإنما حسن الترمذي حديثه لشواهده، ولم يعتبر الاختلاف في المدة، كما عرف من عادة المحدثين من اعتبارهم الاتفاق على الأسانيد دون السياق-انتهى. قال شيخنا في شرح الترمذي: علي بن زيد عند الترمذي صدوق، كما في الميزان وغيره، فلأجل ذلك حسنه وصححه، على أن لهذا الحديث شواهد، وكم من حديث ضعيف قد حسنه الترمذي لشواهده-انتهى. 1352- قوله: (الظهر) أي صلاته. (في السفر ركعتين) أي فرضاً. (وبعدها) أي بعد صلاة الظهر. (ركعتين) أي سنة الظهر. (وفي رواية) أي عن ابن عمر. (الظهر) أي فرضه. (أربعاً) أي أربع ركعات. (ولم يصل بعدها) أي بعد صلاة العصر. (شيئاً) لكراهة التطوع بعدها. (والمغرب في الحضر والسفر سواء) حال أي مستويا عددها فيهما وقوله. (ثلاث ركعات) بيان لها. (لا ينقص في حضر ولا سفر) على البناء للفاعل

وهي وتر النهار، وبعدها ركعتين)) ، رواه الترمذي. 1353- (12) وعن معاذ بن جبل، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل، جمع بين الظهر والعصر، وإن ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى ينزل للعصر، في المغرب مثل ذلك، إذا غابت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين المغرب والعشاء، وإن ارتحل قبل أن تغيب الشمس أخر المغرب حتى ينزل للعشاء، ثم يجمع بينهما)) ـــــــــــــــــــــــــــــ أي شيء منها، يعني لا ينقص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المغرب عن ثلاث ركعات في الحضر ولا في السفر؛ لأن القصر منحصر في الرباعية. (وهي وتر النهار) جملة حالية كالتعليل لعدم جواز النقصان، قاله الطيبي. (وبعدها) أي بعد صلاة المغرب. (ركعتين) أي سنة المغرب. والروايتان تدلان على جواز الإتيان بالرواتب في السفر، وقد تقدم الكلام فيه مفصلاً. (رواه الترمذي) الرواية الأولى من طريق حجاج بن أرطاة عن عطية عن ابن عمر. والثانية المطولة من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عطية ونافع عن ابن عمر، وقد حسن الترمذي الروايتين جميعاً، وإنما حسن الرواية الأولى أي المختصرة مع أن في سندها حجاج بن أرطاة وعطية، وكلاهما مدلسان، وروياه بالعنعنة. وقال في الميزان: عطية تابعي شهير ضعيف؛ لأنه قد تابع حجاجاً ابن أبي ليلى في طريق الرواية الثانية، وكذلك تابع عطية نافع فيها، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى صدوق فقيه تكلم فيه من قبل حفظه، وحديثه مما يحتج به إذا تابعه غيره. 1353- قوله: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك) غير منصرف على المشهور، وهو موضع قريب من الشام. (إذا زاغت الشمس) أي مالت عن وسط السماء إلى جانب المغرب أراد به الزوال. (قبل أن يرتحل) ظرف لما قبله أو ما بعده. (جمع بين الظهر والعصر) أي في المنزل جمع تقديم، بأن قدم العصر فصلاها في وقت الظهر. (قبل أن تزيغ الشمس) أي تزول. (آخر الظهر) أي إلى وقت العصر. (حتى ينزل للعصر) أي لوقته فجمع بينهما جمع تأخير بأن صلى الظهر في وقت العصر ثم صلى العصر. (وفي المغرب مثل ذلك) أي مثل ما فعل في الظهر والعصر. (إذا غابت) وفي المصابيح: إن غابت، كما في أبي داود، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج6ص451) (جمع بين المغرب والعشاء) في المنزل جمع تقديم. (آخر المغرب حتى ينزل للعشاء) أي لوقته. (ثم يجمع) وفي المصابيح: ثم جمع موافقاً، لما في أبي داود، ووقع في جامع الأصول، كما في المشكاة. (بينهما) أي جمع تأخير. وفي الحديث دليل لما ذهب إليه الشافعي وغيره من جواز الجمع الحقيقي تقديماً وتأخيراً. قال ابن حجر

رواه أبوداود والترمذي ـــــــــــــــــــــــــــــ المكي: إنه حديث صحيح، وإنه جملة الأحاديث التي هي نص لا يحتمل تأويلاً في جواز جمعي التقديم والتأخير-انتهى. قلت: وفي الباب أحاديث أخرى، وهي صريحة في الجمع الحقيقي، وسنذكرها. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً النسائي والدارقطني (ص150) والبيهقي (ج3ص162، 163) كلهم من طريق هشام بن سعد عن أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ. قال الحافظ في التلخيص (ص130) : وهشام لين الحديث، وقد خالف أوثق الناس في أبي الزبير، وهو الليث بن سعد. وقال في الفتح (ج5ص588) : وهشام مختلف فيه، وقد خالفه الحفاظ من أصحاب أبي الزبير، كمالك والثوري وقرة بن خالد وغيرهم-انتهى. قلت: هشام بن سعد المدني أبوعباد صاحب زيد بن أسلم، قد استشهد به مسلم في الصحيح، وعلق له البخاري في جامعه الصحيح، وضعفه ابن معين والنسائي وابن عدي. وقال الساجي: صدوق. وقال: أبوزرعة محله الصدق، وهو أحب إليّ من ابن إسحاق. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين صالح، وليس بمتروك الحديث. وقال أبوداود: هشام بن سعد أثبت الناس في زيد بن أسلم. وقال الحاكم: أخرج له مسلم في الشواهد، كذا في التهذيب. وقال في البدر المنير: قال عبد الحق عن البزار: لم أر أحدا توقف عن حديثه- انتهى. فحديثه لا ينحط عن درجة الحسن، وعلى هذا فالحديث المذكور ليس بضعيف، كما تفوه النيموي، بل هو حسن بلا شك. وأما ما ذكر الحافظ من مخالفته لأصحاب أبي الزبير، وكأنه يشير إلى أن روايته بجمع التقديم شاذة، ففيه أنه ليس بين روايته وبين رواياتهم مخالفة ومعارضة أصلاً، فإن رواياتهم مجملة ساكتة عن بيان كيفية الجمع، ورواية هشام هذه مفصلة مفسرة، والمفسرة قاضٍ على المجمل، فيحمل هذا على ذاك، وللحديث طريق أخرى عن معاذ بن جبل أخرجها أحمد (ج5 ص241، 242) والترمذي وأبوداود وابن حبان والدارقطني (ص150) والبيهقي (ج3 ص163) والحاكم في علوم الحديث (ص119) بنحوه من رواية قتيبة عن الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل عن معاذ بن جبل، وهذا الطريق قد اضطربت فيه أقوال العلماء، قال في البدر المنير: للحفاظ في هذا الحديث خمسة أقوال: أحدها أنه حسن غريب، قاله الترمذي. ثانيها: أنه محفوظ صحيح، قاله ابن حبان. ثالثها: أنه منكر، قاله أبوداود. (حكاه الحافظ في التلخيص ص130) والمنذري في مختصر السنن) . رابعها: أنه منقطع، قاله ابن حزم. خامسها: أنه موضوع، قاله الحاكم. (في علوم الحديث ص120) وأصل حديث أبي الطفيل في صحيح مسلم، وأبوطفيل ثقة مأمون- انتهى. وقال الحافظ في الفتح (ج5 ص588) : وقد أعله جماعة من أئمة الحديث بتفرد قتيبة عن الليث. وقال في التلخيص (ص130) بعد ذكر هذا الحديث: قال الترمذي حسن غريب، تفرد به قتيبة، والمعروف عند أهل العلم حديث معاذ من حديث أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ،

وليس فيه جمع تقديم. يعني الذي أخرجه مسلم. وقال أبوداود: هذا حديث منكر، وليس في جمع التقديم حديث قائم. وقال أبوسعيد بن يونس: لم يحدث بهذا الحديث إلا قتيبة، ويقال: إنه غلط فيه فغير بعض الأسماء، وأن موضع يزيد بن أبي حبيب أبوالزبير. وقال ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه: لا أعرفه من حديث يزيد، والذي عندي أنه دخل له حديث في حديث، وأطنب الحاكم في علوم الحديث في بيان علة هذا الخبر، فليراجع منه، وحاصله أن البخاري سأل مع من كتبته؟ فقال: مع خالد المدائني قال البخاري: كان خالد المدائني يدخل على الشيوخ، يعني يدخل في روايتهم ما ليس منها، وأعله ابن حزم بأنه معنعن ليزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل ولا يعرف له عنه رواية- انتهى كلام الحافظ. قلت: الكلام الذي عزاه الحافظ لأبي داود ليس في سننه، بل الذي فيها "لم يرو هذا الحديث إلا قتيبة وحده، ولم يقم دليل على ما قيل من أن قتيبة أو غيره من الرواة غلط في هذا الحديث فغير بعض الأسماء، وقد راجعنا علوم الحديث للحاكم فوجدنا أنه قد أفرط في الكلام على هذا الحديث فحكم بكونه موضوعاً، ولم يأت بشيء يؤيد قوله، والحق أن الحديث على شرط صحيح. قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي: وما أحسن ما قال، وقد أسرف الحاكم أبوعبد الله في علوم الحديث فزعم أنه موضوع، مع أنه اعترف بأن رواته أئمة ثقات وعلل ذلك بأنه "شاذ الإسناد والمتن، لا نعرف له علة نعلله بها" وأطال القول في ذلك بما لا طائل تحته، والحديث حديث صحيح ليست له علة، وقد صححه أيضاً ابن حبان. (كما تقدم) وليس الشاذ ما انفرد به الثقة، إنما الشاذ أن يخالف الراوي غيره ممن هو أحفظ منه وأقوى- انتهى. ويؤيد ذلك ما روى الحاكم (ص119) عن الشافعي أنه قال: ليس الشاذ من الحديث أن يروي الثقة ما لا يرويه غيره، هذا ليس بشاذ إنما الشاذ أن يروي الثقة حديثاً يخالف فيه الناس، هذا الشاذ من الحديث- انتهى. وقد رد أيضاً على الحاكم ابن القيم في الهدي (ج1 ص136) فقال: حكمه بالوضع على هذا الحديث غير مسلّم، قال: وإسناده على شرط الصحيح وفي جمع التقديم أحاديث أخرى فمنها حديث ابن عباس، أخرجه أحمد (ج1 ص368، 369) والدارقطني (ص149) والبيهقي (ج3 ص163) من طريق حسين بن عبد الله عن عكرمة وكريب عن ابن عباس مرفوعاً، وذكره أبوداود تعليقاً، والترمذي في بعض الروايات عنه، وحسين بن عبد الله الهاشمي ضعفه جماعة. وقال ابن أبي مريم عن ابن معين: ليس به بأس يكتب حديثه. وقال ابن عدي: أحاديثه يشبه بعضها بعضاً، وهو ممن يكتب حديثه، فإني لم أجد في حديثه منكراً، قد جاوز المقدار. قال الحافظ في التلخيص (ص130) : يقال إن الترمذي حسن هذا الحديث، وكأنه باعتبار المتابعة، وغفل ابن العربي فصحح إسناده‘ لكن له طريق أخرى أخرجها يحيى بن عبد الحميد الحماني في مسنده عن أبي خالد الأحمر عن الحجاج عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس، وله طريق أخرى أيضاً أخرجها إسماعيل القاضي في الأحكام

عن إسماعيل بن أبي أويس عن أخيه عن سليمان بن بلال عن هشام بن عروة عن كريب عن ابن عباس بنحوه، وله طريق أخرى أيضاً أخرجها أحمد (ج1 ص242) من رواية حماد عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس قال: لا أعلمه إلا قد رفعه، قال: كان إذا نزل منزلاً- الحديث. ونسبه الحافظ في الفتح للبيهقي وقال: رجاله ثقات، إلا أنه مشكوك في رفعه. (حيث قال: ولا أعلمه مرفوعاً) والمحفوظ أنه موقوف. وقد أخرجه البيهقي من وجه آخر مجزوماً بوقفه، ولا ابن عباس حديث آخر، ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص160، 159) وعزاه للطبراني في الأوسط وقال: فيه أبومعشر نجيح، وفيه كلام كثير، وقد وثقه بعضهم- انتهى. ومنها حديث علي أخرجه الدارقطني (ص150) وفي إسناده، كما قال الحافظ: من لا يعرف، وفيه أيضاً المنذر بن محمد القابوسي، وهو ضعيف. وقال الدارقطني: مجهول، وأخرج عبد الله بن أحمد في زيادات المسند (ج1 ص136) بإسناد آخر أن علياً كان يسير حتى إذا غربت الشمس وأظلم نزل فصلى المغرب ثم صلى العشاء على أثرها ثم يقول: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع. قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند: إسناده صحيح. ومنها حديث أنس أخرجه جعفر الفريابي والبيهقي في كتاب المعرفة، وفي السنن الكبرى (ج3 ص162) والإسماعيلي وأبونعيم في مستخرجه على مسلم كلهم من طريق إسحاق بن راهويه عن شبابة عن الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن أنس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعاً ثم ارتحل، وأعل بتفرد إسحاق ابن راهويه، وليس ذلك بقادح فإنه إمام حافظ قاله الحافظ في الفتح، وقال في التلخيص (ص130) بعد ذكر الحديث: وإسناده صحيح، قاله النووي، وفي ذهني أن أبا داود أنكره على إسحاق ولكن له متابع، رواه الحاكم في الأربعين له عن أبي العباس محمد بن يعقوب عن محمد بن إسحاق الصغاني عن حسان بن عبد الله عن المفضل بن فضالة عن عقيل عن ابن شهاب، وهو في الصحيحين من هذا الوجه، وليس فيه: والعصر، وهي زيادة غريبة صحيحة الإسناد، وقد صححه المنذري من هذا الوجه والعلائي، وتعجب من الحاكم كونه لم يورده في المستدرك- انتهى. وقال في الفتح: قال الحافظ صلاح الدين العلائي: هكذا وجدته بعد التتبع في نسخ كثيرة من الأربعين بزيادة العصر، وسند هذه الزيادة جيد- انتهى. قلت. (قائله الحافظ) : وهي متابعة قوية لرواية إسحاق بن راهويه أن كانت ثابتة لكن في ثبوتها نظر؛ لأن البيهقي أخرج في السنن الكبرى (ج3 ص161) هذا الحديث عن الحاكم بهذا الإسناد مقروناً برواية أبي داود عن قتيبة. وقال: إن لفظهما سواء إلا أن في رواية قتيبة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية حسان: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان، وله طريق أخرى رواها الطبراني في الأوسط، ذكرها الحافظ في التلخيص (ص130، 131) بسندها ومتنها ثم نقل عن الطبراني أنه قال: تفرد به يعقوب بن محمد. وقال

1354- (13) وعن أنس، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سافر وأراد أن يتطوع، استقبل القبلة بناقته، فكبر، ثم صلى حيث كان وجهه ركابه)) ـــــــــــــــــــــــــــــ الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص160) بعد عزوه إلى الطبراني: ورجاله موثقون- انتهى. هذا وقد ظهر بما ذكرنا من أحاديث جمع التقديم ومتابعاتها، وهن ما حكي عن أبي داود أنه قال: ليس في جمع التقديم حديث قائم، وتحقق قوة وصحة ما قاله الشوكاني في النيل من أن بعضها صحيح وبعضها حسن، وذلك يرد قول أبي داود ليس في جمع التقديم حديث قائم- انتهى. وأما جمع التأخير فقد ورد فيه أحاديث كثيرة صحيحة صريحة مخرجة في الصحيحين وغيرهما. فمنها حديث أنس قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل يجمع بينهما، فإن زاغت قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب. متفق عليه. وفي رواية لمسلم: حتى يدخل أول وقت العصر ثم يجمع بينهما. ومنها حديث أنس أيضاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا عجل عليه السفر يؤخر الظهر إلى وقت العصر فيجمع بينهما ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق، رواه مسلم، ومنها ما روي عن نافع أن ابن عمر كان إذا جدّ به السير جمع بين المغرب والعشاء بعد أن يغيب الشفق، ويقول: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء. رواه مسلم. ومنها حديث جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غابت له الشمس بمكة، فجمع بينهما بسرف. رواه أبوداود والنسائي. وهذه الروايات صريحة في الجمع في وقت إحدى الصلاتين، وفيها إبطال تأويل الحنفية في قولهم: إن المراد بالجمع الجمع الصوري، أي الفعلي يعني تأخير الأولى إلى آخر وقتها وتقديم الثانية إلى أول وقتها، وأما ما يذكر من الروايات المخرجة في غير الصحيحين الدالة على الجمع الصوري، فهي لا توازي روايات الصحيحين. 1354- قوله: (إذا سافر) سفراً قصيراً أو طويلاً، وقيل: المراد السفر الشرعي. (وأراد) وفي أبي داود فأراد. (أن يتطوع) أي يتنفل راكباً والدابة تسير. (استقبل القبلة بناقته) وفي أبي داود: استقبل بناقته القبلة أي ليحصل استقبال القبلة وقت افتتاح الصلاة. (فكبر) أي للتحريمة عقب الاستقبال. (ثم صلى) أي ثم استمر في صلاته، قاله ابن حجر. وقال الطيبي: ثم ههنا للتراخي في الرتبة، ولما كان الاهتمام بالتكبير أشد لكونه مقارناً بالنية خص بالتوجه إلى القبلة. (حيث وجهه ركابه) أي ذهب به مركوبه. مستقبل القبلة أو غير مستقبلها، وفي دليل على مشروعية استقبال القبلة بالتكبير حال ابتداء الصلاة، وقد تقدم الكلام فيه. قال ابن القيم بعد ذكر هذا الحديث: وفي هذا الحديث نظر، وسائر من وصف صلاته صلى الله عليه وسلم على راحلته أطلقوا أنها كان يصلي عليها قبل أي جهة توجهت به، ولم يستثنوا من ذلك تكبيرة الإحرام ولا غيرها كعامر

رواه أبوداود. 1355- (14) وعن جابر، قال: ((بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حاجته، فجئت وهو يصلي على راحلته نحو المشرق، ويجعل السجود أخفض من الركوع)) رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن ربيعة وعبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله، وأحاديثهم أصح من حديث أنس هذا- انتهى. قلت: حديث أنس هذا ليس فيه دليل على وجوب استقبال القبلة بالتكبير وقت افتتاح صلاة التطوع على الراحلة، فيحمل على الندب والفضيلة، كما قال ابن قدامة، وحينئذٍ فلا مخالفة بينه وبين أحاديث غيره ممن ذكرهم ابن القيم. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً أحمد والدارقطني (152) والبيهقي (ج2 ص5) . والحديث قد سكت عنه أبوداود والمنذري. وقال في التعليق المغني: الحديث صحيح الإسناد. قلت: الأمر كما قال صاحب التعليق. 1355- قوله: (في حاجته) وفي المصابيح: في حاجة. وكذا في سنن أبي داود والترمذي، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج6 ص317) وللبيهقي: لحاجة. (فجئت) أي إليه بعد قضاء الحاجة. (وهو يصلي) حال. (نحو المشرق) ظرف، أي يصلي إلى جانب المشرق، أو حال أي متوجهاً نحو المشرق أو كانت متوجهة إلى جانب المشرق. قال الحافظ في الفتح: وبين في المغازي أن ذلك كان في غزوة أنمار، وكانت أراضهم قبل المشرق لمن يخرج من المدينة، فتكون القبلة على يسار القاصد إليهم. (ويجعل السجود) أي إيماء إليه، كذا وقع في المصابيح، ويجعل السجود. وفي سنن أبي داود وجامع الترمذي: والسجود أي بالرفع، وبدون لفظ يجعل، وكذا نقله الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص152) عنهما، وكذا حكاه المنذري في مختصر السنن، وكذا ذكره المجد بن تيمية في المنتقى، والجزري في جامع الأصول. (أخفض من الركوع) أي أسفل من إيماء إلى الركوع، وفيه مشروعية التطوع على الدابة في السفر، والإيماء للركوع والسجود على الدابة، وكون الإيماء للسجود أخفض من الركوع بحيث يفترق به السجود عن الركوع، وبهذا قال الجمهور. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارقطني وابن حبان والبيهقي (ج2 ص5) من طرق مختلفة بألفاظ بعضها مطول وبعضها مختصر. وقال المنذري: وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه بنحوه أتم منه. وفي حديث الترمذي وحده: والسجود أخفض من الركوع. وقال حسن صحيح. قلت: أصل الحديث عند البخاري، ولفظ ابن حبان: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي النوافل على راحلته في كل وجه يومئ إيماء، ولكنه يخفض السجدتين من الركعتين، وبنحوه أخرج أحمد في مسنده.

{الفصل الثالث}

{الفصل الثالث} 1356- (15) عن ابن عمر، قال: ((صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين، وأبوبكر بعده، وعمر بعد أبي بكر، وعثمان صدراً من خلافته. ثم إن عثمان صلى بعد أربعاً، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1356- قوله: (بمنى) أي في حجة الوداع. وزاد مسلم في رواية سالم عن أبيه بمنى وغيره. (ركعتين) أي في الفرائض الرباعية للسفر. (وأبو بكر بعده) أي كذلك. (وعمر بعد أبي بكر) كذلك. (وعثمان) كذلك (صدراً من خلافته) أي زماناً أولاً منها نحو ست سنين. قال النووي: هذا هو المشهور أن عثمان أتم بعد ست سنين من خلافته. (ثم إن عثمان صلى بعد) أي بعد مضى الصدر الأول من خلافته. (أربعاً) اعلم أنه اختلف في ذكر السبب لإتمام عثمان بمنى على أقوال: فقيل: لأنه تأهل بمكة على ما روى أحمد (ج1 ص62) من حديثه أنه صلى بمنى أربع ركعات، فأنكره الناس عليه، فقال: يا أيها الناس إني تأهلت بمكة منذ قدمت، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من تأهل في بلد فليصل صلاة المقيم، لكن إسناد هذا الحديث ضعيف؛ لأن في سنده عكرمة بن إبراهيم الباهلي، وهو مجهول الحال. فقد نقل الحافظ في التعجيل (ص290) في ترجمته عن الحسيني أنه قال: "ليس بالمشهور". ونقل عن ابن شيخه أنه قال: "لا أعرف حاله". وقيل: رأى عثمان القصر والإتمام جائزين، فأخذ بأحد الجائزين، ورأى ترجيح طرف الإتمام لما فيه من المشقة. قال ابن بطال: الوجه الصحيح في ذلك أن عثمان وعائشة كانا يريان أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قصر لأنه أخذ بالأيسر من ذلك على أمته، فأخذا لأنفسهما بالشدة- انتهى. وهذا رجحه جماعة من آخرهم القرطبي. وقيل: إن عثمان يرى القصر مختصاً بمن كان شاخصاً سائراً. وأما من كان قائماً في مكان في أثناء السفر فله حكم المقيم. قال الحافظ: والمنقول أن سبب إتمام عثمان أنه كان يرى القصر مختصاً بمن كان شاخصاً سائراً. وأما من أقام بمكان في أثناء سفره فله حكم المقيم فيتم، والحجة فيه ما رواه أحمد بإسناد حسن عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: لما قدم علينا معاوية حاجاً صلى بنا الظهر ركعتين بمكة ثن انصرف إلى دار الندوة، فدخل عليه مروان وعمرو بن عثمان فقالا: لقد عبت أمر ابن عمك؛ لأنه كان قد أتم الصلاة، قال: وكان عثمان حيث أتم الصلاة إذا قدم مكة صلى بها الظهر والعصر والعشاء أربعاً أربعاً، ثم إذا خرج إلى منى وعرفة قصر الصلاة، فإذا فرغ من الحج وأقام بمنى أتم الصلاة، قال الحافظ: وهذا الوجه أولى. (أي من الوجه الثاني) لتصريح الراوي بالسبب وإن رجح الوجه الثاني جماعة. وقيل: إنما صلى عثمان بمنى أربعاً؛ لأن الأعراب كانوا كثروا في ذلك العام، فأحب أن يعلمهم أن الصلاة أربع، ذكره الطحاوي عن أيوب عن الزهري. وروى البيهقي من طريق عبد الرحمن بن حميد بن

فكان ابن عمر إذا صلى مع الإمام صلى أربعاً، وإذا صلاها وحده صلى ركعتين)) متفق عليه. 1357- (16) وعن عائشة، قالت: ((فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ففرضت أربعاً، وتركت صلاة السفر على الفريضة الأولى، ـــــــــــــــــــــــــــــ عوف عن أبيه عن عثمان أنه أتم بمنى، ثم خطب، فقال: إن القصر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ولكنه حدث طعام يعني بفتح الطاء والمعجمة، فخفت أن يستنوا. وعن ابن جريج: أن أعرابياً ناداه في منى يا أمير المؤمنين ما زلت أصليها منذ رأيتك عام أول ركعتين. قال الحافظ: وهذه طرق يقوي بعضها بعضاً، ولا مانع أن يكون هذا أصل سبب الإتمام، وليس بمعارض للوجه الذي اخترنه، بل يقويه من حيث أن حالة الإقامة في أثناء السفر أقرب إلى قياس الإقامة المطلقة عليها بخلاف السائر، وهذا ما أدى إليه اجتهاد عثمان- انتهى. وههنا أقوال أخرى في بيان السبب في إتمام عثمان بمنى، لكنها لا دليل عليها، بل هي ظنون ممن قالها، فلا حاجة إلى ذكرها. (فكان ابن عمر إذا صلى مع الإمام) الظاهر أنه عثمان، ويحتمل أنه أراد إماماً يتم (صلى أربعاً) ؛ لأنه يجب على المسافر المقتدي أن يتبع إمامه قصر أو أتم، كما تقدم. (وإذا صلاها وحده صلى ركعتين) أي قصر الرباعية؛ لأنه مسافر، والقصر أفضل وأحوط بلا خلاف. (متفق عليه) واللفظ لمسلم، بل ما ذكر من فعل ابن عمر أي قوله فكان ابن عمر إذا صلى الخ لم يروه البخاري أصلاً، والحديث أخرجه أيضاً أحمد (ج2 ص55-58) والترمذي والنسائي كلهم من طريق عبيد الله بن عمر العمري عن نافع عن عبد الله بن عمر. وأخرجه مسلم أيضاً من طريق سالم عن أبيه عبد الله بن عمر، وأخرجه البخاري والنسائي أيضاً من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه. 1357- قوله: (فرضت الصلاة) أي أولاً بمكة ليلة الإسراء. (ركعتين) وفي رواية: ركعتين ركعتين بالتكرير لإرادة عموم التثنية لكل صلاة في الحضر والسفر. زاد أحمد في مسنده: إلا المغرب فإنها كانت ثلاثاً. (ثم هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي إلى المدينة. وفي البخاري: "النبي " يدل "رسول الله". (ففرضت أربعاً) أربعاً أي في الحضر إلا الصبح. (قال الدولابي: نزل إتمام صلاة المقيم في الظهر يوم الثلاثاًء اثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر بعد مقدمه صلى الله عليه وسلم بشهر، وأقرت صلاة السفر، ذكره العيني. وقال السهيلي: بعد الهجرة بعام أو نحوه، زيد في صلاة الحضر. (وتركت صلاة السفر) ركعتين ركعتين. (على الفريضة الأولى) ليس في البخاري لفظ: الفريضة، وإنما وقع ذلك في رواية مسلم من طريق يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين،ثم أتمها في الحضر، فأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى.

قال القسطلاني: الأولى بضم الهمزة، لأبي ذر على الأول أي من عدم الزيادة بخلاف صلاة الحضر، فإنه زيد في ثلاث منها ركعتان. وفي رواية للبخاري: فرض الله الصلاة حين فرضها في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر، أي لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وقد تمسك بظاهر الحديث الحنفية على أن القصر في السفر عزيمة لا رخصة، فلا يجوز الإتمام إذ ظاهر قولها: أقرت يقتضيه. وأجيب عنه بوجوه: منها المعارضة بقوله تعالى: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} [101:4] ؛ لأنه يدل على أن الأصل الإتمام؛ لأن القصر إنما يكون عن تمام سابق، ونفي الجناح يدل على جوازه دون وجوبه. وأجاب الحنفية عن هذه الآية بوجوه، كما تقدم في شرح حديث يعلى بن أمية في الفصل الأول من هذا الباب. وقال بعضهم: إن إطلاق القصر عليه باعتبار ما زيد في الصلاة لا باعتبار أصل الصلاة، فإنها تدل على أن إطلاق القصر عليه باعتبار ما زيد فيها في الحضر لا باعتبار مطلق الصلاة، فإنه كان زيد فيه بإطلاق اللفظ لا بخصوصية الحضر، وكان في علم الله مخصوصة بالحضر فأطلق القصر عليه باعتبار إطلاق ظاهر اللفظ- انتهى. وزاد بعضهم موضحاً ومبيناً لهذا الجواب يعني فإطلاق القصر مجاز باعتبار الزيادة- انتهى. ولا يخفى ما في هذا الجواب من التكلف والتعسف. ومنها أن حديث عائشة من قولها غير مرفوع، وأنها لم تشهد زمان فرض الصلاة. وتعقب بأنه مما لا مجال للرأي فيه، فله حكم الرفع، وعلى تقدير تسليم أنها لم تشهد فرض الصلاة يكون مرسل صحابي، وهو حجة؛ لأنه يحتمل أن تكون أخذته عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو عن صحابي آخر أدرك ذلك. ومنها أن عائشة أتمت في السفر، والعبرة عند الحنفية برأي الصحابي لا بمرويه. قال الحافظ: الزموا الحنفية على قاعدتهم فيما إذا عارض رأي الصحابي روايته بأنهم يقولون العبرة بما رأى لا بما روى، وخالفوا ذلك هنا، فقد ثبت عن عائشة أنها كانت تتم في السفر، فدل ذلك على أن المروي عنها غير ثابت. وأجيب بأن هذا الإلزام مدفوع بما في آخر هذا الحديث من قول عروة: تأولت أي عائشة، كما تأول عثمان، فإنه يدل على أن الأصل في السفر ركعتان عندها أيضاً، ولكنها أتممت بالتأويل. كما أتم عثمان بالتأويل. قال الحافظ: والجواب عن الحنفية أن عروة الراوي عنها قد قال لما سئل عن إتمامها في السفر: أنها تأولت، كما تأول عثمان، فعلى هذا لا تعارض بين روايتها وبين رأيها، فروايتها صحيحة, ورأيها مبني على ما تأولت- انتهى. ومنها المعارضة بحديث ابن عباس الذي بعد هذا: فرض الله الصلاة في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين، وأجاب عنه الحافظ: بأنه يمكن الجمع بين حديث عائشة وابن عباس بأن يقال: إن الصلوات فرضت ليلة الإسراء ركعتين ركعتين إلا المغرب، ثم زيدت بعد الهجرة عقب الهجرة إلا الصبح، كما روى ابن خزيمة

قال الزهري: قلت لعروة: ما بال عائشة تتم؟ قال تأولت كما تأول عثمان)) متفق عليه. 1358- (17) وعن ابن عباس، قال: ((فرض الله الصلاة على لسان نبيكم - صلى الله عليه وسلم - في الحضر أربعاً، ـــــــــــــــــــــــــــــ وابن حبان والبيهقي من طريق الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت: فرضت صلاة الحضر والسفر ركعتين ركعتين، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة واطمأن زيد في صلاة الحضر ركعتان ركعتان، وتركت صلاة الفجر لطول القراءة، وصلاة المغرب لأنها وتر النهار- انتهى. ثم بعد أن استقر فرض الرباعية خفف منها في السفر عند نزول الآية السابقة، ويؤيده ذلك ما ذكره ابن الأثير في شرح المسند أن قصر الصلاة كان في السنة الرابعة من الهجرة، وهو مأخوذ مما ذكره غيره أن نزول آية الخوف كان فيها. وقيل: كان قصر الصلاة في السفر في الربيع الآخر من السنة الثانية. وقيل: بعد الهجرة بعام أو نحوه. وقيل: بعد الهجرة بأربعين يوماً، فعلى هذا فالمراد بقول عائشة: فأقرت صلاة السفر أي باعتبار ما آل إليه الأمر من التخفيف، لا أنها استمرت منذ فرضت فلا يلزم من ذلك أن القصر عزيمة- انتهى. وقال السندي: قوله: فأقرت أي رجعت بعد نزول القصر في السفر إلى الحالة الأولى بحيث كأنها كانت مقررة على الحالة الأصلية، وما ظهرت الزيادة فيها أصلاً- انتهى. (قال الزهري: قلت لعروة) بن الزبير. (تتم) بضم أوله الصلاة. (قال) عروة: (تأولت كما تأول عثمان) كذا في رواية مسلم، وفي رواية البخاري: تأولت ما تأول عثمان. قال الحافظ: يمكن أن يكون مراد عروة التشبيه بعثمان في الإتمام بتأويل لا اتحاد تأويلهما، ويقويه أن الأسباب اختلفت في تأويل عثمان، فتكاثرت بخلاف تأويل عائشة- انتهى. وقد سبق الكلام في تأويل عثمان. وأما عائشة فقد جاء عنها سبب الإتمام صريحاً، وهو فيما أخرجه البيهقي (ج3 ص143) من طريق هشام بن عروة عن أبيه أنها كانت تصلي في السفر أربعاً، فقلت لها: لو صليت ركعتين، فقالت: با ابن أختي أنه لا يشق على، إسناده صحيح، وهو دال على أنها تأولت أن القصر رخصة وان الإتمام لمن لا يشق عليه أفضل، ويدل على اختيار الجمهور ما رواه أبويعلى والطبراني بإسناد جيد عن أبي هريرة أنه سافر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ومع أبي بكر وعمر، فكلهم كان يصلي ركعتين من حين يخرج من المدينة إلى مكة حتى يرجع إلى المدينة في السير، وفي المقام بمكة، كذا في الفتح. (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب التأريخ من كتاب الهجرة إلا لفظ الفريضة، فإنه ليس للبخاري، بل هو لمسلم وحده، كما تقدم، وإلا قوله قال الزهري الخ. فإن هذه الزيادة عند البخاري إنما هي في آخر حديث عائشة في أبواب تقصير الصلاة. والحديث أخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج3 ص135، 143) بألفاظ متقاربة. 1358- قوله: (فرض الله الصلاة) أي الرباعية. (على لسان نبيكم - صلى الله عليه وسلم -) قال الطيبي: هو مثل قوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى} [3:53] . (في الحضر أربعاً) أي بعد ما كانت ركعتين، ثم قصرت في السفر، فكانت صلاة

وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة)) رواه مسلم. 1359- 1360- (18-19) وعنه، وعن ابن عمر، قالا: ((سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة السفر ركعتين، وهما تمام غير قصر، والوتر في السفر سنة)) ـــــــــــــــــــــــــــــ السفر، كأنها ما زيد فيها، وهذا معنى قوله. (وفي السفر ركعتين) فلا يعارض هذا الحديث ما روى عن عائشة: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين في الحضر والسفر، وقد تقدم وجه الجمع مفصلاً في كلام الحافظ. (وفي الخوف ركعة) فيه أن اللازم في الخوف ركعة ولو اقتصر عليها جاز. قال النووي: هذا الحديث قد عمل بظاهره طائفة من السلف، منهم الحسن البصري والضحاك وإسحاق بن راهويه. (وعطاء وطاووس ومجاهد والحكم بن عتيبة وقتادة والثوري من التابعين وابن عباس وأبوهريرة وأبوموسى الأشعري من الصحابة) . وقال الشافعي ومالك والجمهور. (وفيهم أبوحنيفة وأحمد) : إن صلاة الخوف كصلاة الأمن في عدد الركعات، فإن كانت في الحضر وجب أربع ركعات، وإن كانت في السفر وجب ركعتان. ولا يجوز الاقتصار على ركعة واحدة في حال من الأحوال، وتأولوا حديث ابن عباس هذا على أن المراد ركعة مع الإمام وركعة أخرى يأتي بها منفرداً، كما جاءت الأحاديث الصحيحة في صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في الخوف، وهذا التأويل لا بد منه للجمع بين الأدلة-انتهى. قال السندي: لا منافاة بين وجوب واحد والعمل باثنتين حتى يحتاج إلى التأويل للتوفيق، لجواز أنهم عملوا بالأحب والأولى- انتهى. وسيأتي مزيد الكلام في ذلك في صلاة الخوف. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد (ج1 ص237، 355) وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج4 ص135) وفي الباب عن أبي هريرة أخرجه أحمد. 1359- 1360- قوله: (سن) أي شرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (صلاة السفر ركعتين) أي ثبت على لسانه، وإلا فالقصر ثابت بالكتاب، أو المراد أنه بين بالقول والفعل ما في الكتاب، قاله القاري. وقال ابن حجر: أي بين أنها كذلك لمن أراد القصر. (وهما تمام غير قصر) أي في الثواب، أو المراد أنهما المشروع في السفر، كما نطق به حديث عائشة وإن أطلق القصر في كتاب الله تعالى، قاله في اللمعات. وقال القاري: وهما تمام أي تمام المفروض غير قصر أي غير نقصان عن أصل الفرض، فإطلاق القصر في الآية مجاز أو إضافي- انتهى. وقال السندي: تمام غير قصر، أي لا ينبغي الزيادة فيها فصارت كالتمام، فلا يرد أن قوله تعالى: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} [101:4] ظاهر في القصر فكيف يصح القول بأنها تمام غير قصر. وقال ابن حجر: أي تمام بالنسبة للثواب، فثواب القصر يقارب ثواب الإتمام. (والوتر في السفر سنة) أي مشروع بالسنة أو المراد بالسنة الطريقة المسلوكة في الدين أعم من السنة المصطلح عليها عند الفقهاء، كما يدل عليه السوق أي الوتر في السفر طريقة مسلوكة

رواه ابن ماجه. 1361- (20) وعن مالك، بلغه ((أن ابن عباس كان يقصر الصلاة في مثل ما يكون بين مكة والطائف، وفي مثل ما بين مكة وعسفان، وفي مثل ما بين مكة وجدة، قال مالك: وذلك أربعة برد)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ مستمرة لا تترك في السفر، كما تترك النوافل والرواتب وإلا فالوتر إن كان واجباً فليس سنة، وإن كان سنة فهو سنة في الحضر والسفر كليهما، فما وجه التخصيص بالسفر. (رواه ابن ماجه) في باب الوتر في السفر. وأخرجه أيضاً أحمد (ج1 ص241) وفي سنده عندهما جابر الجعفي، وهو ضعيف، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص155) وقال: "رواه البزار، وفيه جابر الجعفي، وثقه شعبة والثوري، وضعفه آخرون"، فنسي أن ينسبه إلى مسند الإمام أحمد، وأنه في سنن ابن ماجه. 1361- قوله: (وعن مالك) أنه. (بلغه أن ابن عباس) قال ابن عبد البر: وما رواه مالك عن ابن عباس هذا معروف من نقل الثقات متصل الإسناد عنهم من وجوه، ثم رواها في الاستذكار عن عبد الرزاق وغيره. (كان يقصر الصلاة) الرباعية. (في مثل ما يكون بين مكة والطائف) وفي الموطأ في مثل ما بين مكة والطائف بالهمزة بعد الألف، وبينهما ثلاثة مراحل أو اثنان، قاله الزرقاني. وقال ياقوت في معجمه: هي مسيرة يوم للطالع من مكة ونصف يوم للهابط إلى مكة، وقال: أيضاً الطائف هو وادي وج، وهو بلاد ثقيف بينها وبين مكة اثنا عشر فرسخا- انتهى. وقيل: بينهما من طريق السيل مائة وخمسة وثلاثون كيلو متراً، أي نحو خمسة وثمانين ميلاً، ومن طريق عرفة تسعة وتسعون كيلو متراً، أي نحو اثنين وستين ميلاً. (وفي مثل ما بين مكة وعسفان) بضم العين كعثمان، والنون زائدة. موضع على مرحلتين من مكة، قاله المجد. وقال الزرقاني: بين مكة وعسفان ثلاثة مراحل. وفي المعجم لياقوت الحموي: قال أبومنصور منهلة من مناهل الطريق بين الجحفة ومكة. وقيل: قرية جامعة بها منبر ونخيل ومزارع على ستة وثلاثين ميلاً من مكة، وهي حد تهامة. (وفي مثل ما بين مكة وجدة) بضم الجيم وتشديد الدال، بلد على الساحل بحر اليمن، وهي فرضة مكة، بينها وبين مكة ثلاث ليال. وقيل: بينهما يوم وليلة. وقيل: هي على مرحلتين شاقتين من مكة. وقيل: بينهما ثلاثة وسبعون كيلو متراً، أي نحو ستة وأربعين ميلاً. (قال مالك وذلك) أي أقل ما بين ما ذكر من المواضع، أو كل واحد من هذه الأماكن. (أربعة برد) بضمتين جمع بريد، وكل بريد أربعة فراسخ، وكل فرسخ ثلاثة أميال، فهي ثمانية وأربعون ميلاً. قال مالك: وذلك أحب ما يقصر فيه الصلاة إليّ. وقد سبق بيان اختلاف العلماء في قدر المسافة التي يجوز فيها القصر وتعيين القول الراجح في ذلك. وقد روى مالك في الموطأ عن ابن عمر أنه ركب من المدينة إلى ريم فقصر الصلاة في مسيره ذلك، قال مالك: وذلك نحو من أربعة برد، وروى عنه أيضاً أنه ركب إلى ذات النصب فقصر الصلاة، قال مالك:

رواه في الموطأ. 1362- (21) وعن البراء، قال: ((صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية عشر سفراً، فما رأيته ترك ركعتين إذا زاغت الشمس قبل الظهر)) رواه أبوداود، والترمذي، ـــــــــــــــــــــــــــــ بين ذات النصب والمدينة أربعة برد، وروي عنه أيضاً كان يقصر الصلاة في مسيرة اليوم التام. قال ابن عبد البر في الاستذكار: مسيرة اليوم التام باليسير أربعة برد أو نحوها. قال الباجي: أكثر مالك من ذكر أفعال الصحابة لما لم يصح عنده في ذلك توقيف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى. قلت: وروى البيهقي (ج3ص137) عن عطاء بن أبي رباح أن عبد الله بن عمرو وعبد الله بن عباس كانا يصليان ركعتين ويفطران في أربعة برد فما فوق ذلك. قال ابن حجر: ومثل ذلك لا يكون إلا بتوقيف، وروى عبد الرزاق عن ابن جريح عن عطاء عن ابن عباس قال: لا تقصروا الصلاة إلا في اليوم ولا تقصر فيما دون اليوم، ولابن أبي شيبة من وجه آخر صحيح عنه، قال: تقصر الصلاة في مسيرة يوم وليلة. (رواه) أي مالك (في الموطأ) أي عن مالك أنه بلغه، وهذا كما ترى غير ملائم، فكان على المؤلف أن يقول: وعن ابن عباس أنه كان يقصر الصلاة الخ. ثم يقول: رواه مالك في الموطأ بلاغاً، ثم يقول: وقال وذلك الخ. على طبق سائر الأحاديث، حيث يبدأ بالصحابي ويختم بالمخرج، كذا في المرقاة، وقد تقدم أن هذا البلاغ رواه ابن عبد البر في الاستذكار موصولاً، ووصله الشافعي أيضاً، قال: أنا سفيان عن عمرو عن عطاء عن ابن عباس أنه سئل أنقصر الصلاة إلى عرفة؟ قال: لان ولكن إلى عسفان وإلى جدة وإلى الطائف. قال الحافظ في التلخيص (ص129) وإسناده صحيح، وذكره مالك في الموطأ عن ابن عباس بلاغاً-انتهى. وأخرج ابن أبي شيبة بسنده عن عطاء بن أبي رباح، قلت لابن عباس: أقصر إلى عرفة؟ قال لا، قلت: أقصر إلى الطائف وإلى عسفان؟ قال: نعم، وذلك ثمانية وأربعون ميلاً، وعقد بيده. وقد روي عن ابن عباس مرفوعاً، أخرجه الدارقطني (ص148) والبيهقي (ج3ص137- 138) ، وابن أبي شيبة والطبراني في الكبير من طريق عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه وعطاء عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يا أهل مكة لا تقصروا الصلاة في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان. قال الحافظ: وإسناده ضعيف من أجل عبد الوهاب فإنه متروك رواه عنه إسماعيل بن عياش، وروايته عن الحجازيين ضعيفة، والصحيح عن ابن عباس من قوله، كما سبق ذكره. 1362- قوله: (وعن..... البراء) أي ابن عازب. (ثمانية عشر سفراً) بفتح السين المهملة والفاء. (فما رأيته ترك ركعتين إذا زاغت الشمس قبل الظهر) ظرف لترك، الظاهر أن هاتين الركعتين هما سنة الظهر القبلية. فهذا الحديث دليل لمن قال بجواز الإتيان بالرواتب في السفر، وقد حمله من لم يقل بذلك على سنة الزوال لا على الراتبة قبل الظهر، وقد تقدم الكلام في ذلك مفصلاً. (رواه أبوداود، والترمذي) كلاهما عن قتيبة عن

(42) باب الجمعة

وقال: هذا حديث غريب. 1363- (22) وعن نافع، قال: إن عبد الله بن عمر كان يرى ابنه عبيد الله ينتفل في السفر فلا ينكر عليه. رواه مالك. (42) باب الجمعة ـــــــــــــــــــــــــــــ الليث بن سعد عن صفوان بن سليم عن أبي بسرة الغفاري عن البراء بن عازب. (وقال) أي الترمذي. (هذا حديث غريب) وقال أيضاً: سألت محمداً عنه فلم يعرفه إلا من حديث الليث بن سعد، ولم يعرف اسم أبي بسرة الغفاري ورآه حسناً-انتهى. وسكت عنه أبوداود، ونقل المنذري كلام الترمذي وأقره. وأخرجه البيهقي (ج3ص158) من طريق ابن وهب عن الليث بن سعد وأبي يحيى بن سليمان عن صفوان بن سليم عن أبي بسرة عن البراء. 1363- قوله: (كان يرى ابنه عبيد الله) بضم العين المهملة ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب. (ينتفل في السفر فلا ينكر عليه) هذا بظاهره مشكل، لما سبق في حديث حفص بن عاصم من إنكاره على المسبحين، أي المنتفلين، فقيل: مذهب ابن عمر الفرق بين الرواتب والمطلقة كالتهجد والوتر والضحى وغير ذلك، فيحمل إنكاره على الأول وسكوته على الثاني، فلعله رأى ابنه عبيد الله ينتفل بغير الرواتب فسكت ولم ينكر عليه، وقيل غير ذلك، كما تقدم. (رواه مالك) في الموطأ قال: بلغني عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يرى ابنه الخ، كذا وقع في نسخ الموطأ المطبوعة بالهند، وكذا ذكره الجزري في جامع الأصول (ج6ص463) . ووقع في النسخ المصرية، قال: بلغني أن عبد الله بن عمر كان يرى ابنه الخ أي بدون قوله: عن نافع. قال الزرقاني: زاد ابن وضاح: عن نافع-انتهى. وهذه الزيادة موجودة في جميع النسخ الهندية الموجودة عندنا، وقوله: بلغني عن نافع يدل على أن مالكاً لم يأخذه عن نافع مباشرة، والله أعلم. (باب الجمعة) بضم الميم على المشهور إتباعاً لضمه الجيم، كعسر في عسر، اسم من الاجتماع، أضيف إليه اليوم والصلاة، ثم كثر الاستعمال حتى حذف منه الصلاة، وهي لغة الحجاز، وجوز إسكان الميم على الأصل لمفعول كهزأة، وهي لغة تميم أي اليوم المجموع فيه، وفتحها بمعنى فاعل أي اليوم الجامع، فهو كهزة، فتاءها للمبالغة كضحكة للمكثر من ذلك لا للتأنيث، وإلا لما وصف بها اليوم. والمراد هنا بيان فضل يوم الجمعة وشرفه. قال النووي: يقال بضم الجيم والميم وإسكانها وفتحها، حكاهن الفراء والواحدي وغيرهما، ووجهوا الفتح بأنها تجمع الناس ويكثرون فيها، كما يقال: همزة ولمزة لكثرة الهمز واللمز، ونحو ذلك، سميت بذلك

{الفصل الأول}

{الفصل الأول} 1364- (1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم ـــــــــــــــــــــــــــــ لاجتماع الناس فيها أي للصلاة، وكان يوم الجمعة في الجاهلية يسمى العروبة-انتهى. وبهذا جزم ابن حزم فقال: إنه اسم إسلامي لم يكن في الجاهلية، وإنما كان يسمى في الجاهلية العروبة، فسميت في الإسلام الجمعة للاجتماع إلى الصلاة، ويؤيد ذلك ما أخرجه عبد بن حميد في تفسيره عن ابن سيرين بسند صحيح إليه في قصة تجميع الأنصار مع أسعد بن زرارة، وكانوا يسمون يوم الجمعة يوم العروبة فصلى بهم وذكرهم، فسموه الجمعة حين اجتمعوا إليه-انتهى. وقيل: سميت بذلك لأن كما الخلائق جمع فيها. وقيل: لأن خلق آدم جمع فبها، ورد ذلك من حديث سلمان. أخرجه أحمد وابن خزيمة وغيرهما في أثناء حديث، وله شاهد عن أبي هريرة، ذكره ابن أبي حاتم موقوفاً بإسناد قوي، وأحمد مرفوعاً بإسناد ضعيف. قال الحافظ: وهذا أصح الأقوال: وقيل: لأن كعب بن لؤي كان يجمع فيه قومه فيذكرهم ويأمرهم بتعظيم الحرم. وقيل: إن قصياً هو الذي كان يجمع في دار الندوة. وذكر ابن القيم في الهدي (ج1ص102- 118) ليوم الجمعة ثلاثاً وثلاثين خصوصية ذكر بعضها الحافظ في الفتح ملخصاً من أحب الوقوف عليها رجع إليهما. 1364- قوله: (نحن) أي أنا وأمتي. (الآخرون) أي زماناً في الدنيا. (السابقون) أي أهل الكتاب وغيرهم منزلة وكرامة. (يوم القيامة) في الحشر والحساب والقضاء لهم قبل الخلائق وفي دخول الجنة. قال الحافظ: أي الآخرون زمانا الأولون منزلة يوم القيامة، والمراد أن هذه الأمة وإن تأخر وجودها في الدنيا عن الأمم الماضية، فهي سابقة لهم في الآخرة، وبأنهم أول من يحشر، وأول من يحاسب، وأول من يقضى بينهم، وأول من يدخل الجنة. وقيل: المراد بالسبق هنا إحراز فضيلة اليوم السابق بالفضل، وهو يوم الجمعة. ويوم الجمعة وإن كان مسبوقاً بسبت قبله أو أحد لكن لا يتصور اجتماع الأيام الثلاثة متوالية إلا ويكون يوم الجمعة سابقاً. وقيل: المراد بالسبق أي القبول والطاعة التي حرمها أهل الكتاب فقالوا سمعنا وعصينا، والأول أقوى-انتهى. (بيد) بموحدة مفتوحة ثم تحتية ساكنة مثل غير وزناً ومعنى وإعراباً. وبه جزم الخليل والكسائي، ورجحه ابن سيدة. وروى عن الشافعي أن معنى بيد من أجل واستبعده عياض ولا بُعد فيه، والمعنى إنا سبقنا بالفضل إذ هدينا للجمعة مع تأخرنا في الزمان بسبب أنهم ضلوا عنها مع تقدمهم، ويشهد له ما في فوائد ابن المقري بلفظ: نحن الآخرون في الدنيا ونحن السابقون أول من يدخل الجنة؛ لأنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وفي موطأ سعيد بن عفير عن مالك

أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناهم من بعدهم، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم- يعني يوم الجمعة- ـــــــــــــــــــــــــــــ عن أبي الزناد بلفظ: ذلك بأنهم أوتوا الكتاب. وقيل: في معناه على أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا. وقيل: مع أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا. قال القرطبي: إن كانت بمعنى "غير" فنصب على الاستثناء، وإن كانت بمعنى "مع" فنصب على الظرف. وقال الطيبي: هي للاستثناء، وهو من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم، فإنه يؤكد مدح السابقين بما عقب من قوله: وأوتيناه من بعدهم؛ لأنه أدمج فيه معنى النسخ لكتابهم، فالناسخ هو السابق في الفضل، وإن كان متأخراً في الوجود، وبهذا التقرير يظهر موقع قوله: نحن الآخرون مع كونه أمراً واضحاً، والمعنى نحن السابقون في الفضل غير أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا الخ. فهو من باب: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب. وأرجع لمزيد التفصيل في تفسير لفظ: بيد، وضبطه إلى تعليق مسند الإمام أحمد (ج3ص34) للعلامة الشيخ أحمد شاكر. (أوتوا الكتاب) اللام للجنس، والمراد التوراة والإنجيل. والضمير في أوتيناه للقرآن، قاله الحافظ. وقال السندي: اللام للجنس، فيحمل بالنسبة إليهم على كتابهم، وبالنسبة إلينا على كتابنا، وهذا بيان زيادة شرف آخر لنا، أي فصار كتابنا ناسخاً لكتابهم وشريعتنا ناسخة لشريعتهم، وللناسخ فضل على المنسوخ، أو المراد بيان أن هذا يرجع إلى مجرد تقدمهم علينا في الوجود، وتأخرنا عنهم فيه، ولا شرف لهم فيه، أو شرف لنا أيضاً من حيث قلة انتظارنا أمواتاً في البرزخ، ومن حيث حيازة المتأخر علوم المتقدم دون العكس، فقولهم الفضل للمتقدم ليس بكلي-انتهى. (ثم) أتى بها إشعاراً بأن ما قبلها كالتوطئة والتأسيس لما بعدها. (هذا) أي هذا اليوم، وهو يوم الجمعة. (يومهم الذي فرض) بصيغة المجهول. قال الحافظ: كذا للأكثر، وللحموي: فرض الله. (عليهم) أي وعلينا تعظيمه بعينه أو الاجتماع فيه. قال الحافظ: المراد باليوم يوم الجمعة، والمراد بفرضه فرض تعظيمه. وأشير إليه بهذا لكونه ذكر في أول الكلام كما عند مسلم من طريق آخر عن أبي هريرة، ومن حديث حذيفة قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا-الحديث. (يعني يوم الجمعة) كذا في جميع النسخ من طبعات الهند. ووقع متن المرقاة يعني الجمعة أي بحذف بلفظ يوم. قال القاري: تفسير من الراوي لهذا يومهم. وفي نسخة صحيحة: يعني يوم الجمعة أي يريد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اليوم يوم الجمعة-انتهى. قلت: ليس هذا التفسير في الصحيحين ولا عند النسائي، فالله أعلم من أين أخذه البغوي أو هو الذي فسره بذلك. قال القسطلاني: روى ابن أبي حاتم عن السدي: أن الله فرض على اليهود الجمعة فأبوا وقالوا يا موسى! إن الله لم يخلق يوم السبت شيئاً فاجعله لنا فجعل عليهم. وفي بعض الآثار مما نقله أبوعبد الله الآبي أن موسى عليه الصلاة والسلام عين لهم يوم الجمعة وأخبرهم بفضيلته، فناظروه

فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، والناس لنا فيه ـــــــــــــــــــــــــــــ بأن السبت أفضل، فأوحى الله تعالى إليهم: دعهم وما اختاروا، والظاهر أنه عينه لهم؛ لأن السياق دل على ذمهم في العدول عنه، فيجب أن يكون قد عينه لهم؛ لأنه لو لم يعينه لهم ووكل التعيين إلى اجتهادهم لكان الواجب عليهم تعظيم يوم لا بعينه، فإذا أدى الاجتهاد إلى أنه السبت أو الأحد لزم المجتهد ما أدى الاجتهاد إليه ولا يأثم، ويشهد له قوله هذا: يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه، فإنه ظاهر أو نص في التعيين، وليس ذلك بعجيب من مخالفتهم، كما وقع لهم في قوله تعالى: {ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة} [58:2] وغير ذلك، وكيف لا وهم القائلون سمعنا وعصينا- انتهى. (فاختلفوا فيه) هل يلزم تعيينه أم يسوغ لهم أبداً له بغيره من الأيام وأبدلوه وغلطوا في إبداله، قاله النووي. وقال القسطلاني: اختلفوا فيه بعد أن عين لهم وأمروا بتعظيمه فتركوه وغلبوا القياس، فعظمت اليهود السبت للفراغ فيه من الخلق، وظنت ذلك فضيلة توجب عظم اليوم وقالت: نحن نستريح فيه من العمل ونشتغل بالعبادة والشكر، وعظمت النصارى الأحد؛ لأنه أول يوم بدأ الله فيه بخلق الخلق فاستحق التعظيم. (فهدانا الله له) أي لهذا اليوم بالوحي الوارد في تعظيمه بأن نص لنا ولم يكلنا إلى اجتهادنا ثم ثبتنا على قوله والقيام بحقوقه أو هدانا الله له بالاجتهاد الموافق للمراد، يعني وفقنا للإصابة حتى عينا الجمعة، ويشهد للثاني ما رواه عبد الرزاق بإسناد صحيح عن محمد بن سيرين قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل أن تنزل الجمعة فقالت الأنصار: إن لليهود يوماً يجتمعون فيه كل سبعة أيام وللنصارى كذلك، فهلم فلنجعل يوماً نجتمع فيه فنذكر الله تعالى ونصلي ونشكره، فجعلوه يوم العروبة، واجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذٍ، وأنزل الله تعالى: بعد ذلك. {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} [9:62] الآية، وهذا وإن كان مرسلاً، فله شاهد بإسناد حسن. أخرجه أحمد وأبوداود وابن ماجه، وصححه ابن خزيمة وغير واحد من حديث كعب بن مالك قال: كان أول من صلى بنا الجمعة قبل مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أسعد بن زرارة- الحديث. فمرسل ابن سيرين يدل على أن أولئك الصحابة اختاروا يوم الجمعة بالاجتهاد. ولا يمنع ذلك أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علمه بالوحي، وهو بمكة فلم يتمكن من إقامتها ثم، فقد ورد فيه حديث عن ابن عباس عند الدارقطني. ولذلك جمع بهم أول ما قدم المدينة. كما حكاه ابن إسحاق وغيره، وعلى هذا فقد حصلت الهداية للجمعة بجهتي البيان والتوفيق. وقيل: في الحكمة في اختيارهم الجمعة وقوع خلق آدم فيه، والإنسان إنما خلق للعبادة فناسب أن يشتغل بالعبادة فيه، ولأن الله تعالى أكمل فيه الموجودات وأوجد فيه الإنسان الذي ينتفع بها فناسب أن يشكر على ذلك بالعبادة فيه، كذا في الفتح. (والناس) وفي الصحيحين فالناس أي أهل الكتابين. (لنا) متعلق بتبع. وقيل: متعلقة محذوف، واللام تعليلية مشيرة إلى النفع. (فيه) أي في

تبع، اليهود غداً، والنصارى بعد غد)) متفق عليه. وفي رواية لمسلم، قال: ((نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة، بيد أنهم)) ، وذكر نحوه إلى آخره. 1365- (2) وفي أخرى له عنه، وعن حذيفة، قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آخر الحديث: ـــــــــــــــــــــــــــــ اختيار هذا اليوم للعبادة. (تبع) فإنهم إنما اختاروا ما يعقبه؛ لأنه لما كان يوم الجمعة مبدأ خلق الإنسان وأول أيامه كان المتعبد فيه باعتبار العادة متبوعاً، والمتعبد فيه في اليومين الذين بعده تابعاً، ويحتمل أن يقال إن الأيام الثلاثة بتواليها، مع قطع النظر عن اعتبار الأسبوع لا شك في تقديم يوم الجمعة وجوداً فضلاً عن الرتبة، وتبع بفتح التاء المثناة والباء الموحدة جمع تابع. (اليهود غداً) أي يوم السبت. (والنصارى بعد غد) أي يوم الأحد. قيل: التقدير تعييد اليهود غداً، وتعييد النصارى بعد غد، كذا قدره ابن مالك ليسلم من الإخبار بظرف الزمان عن الجثة. وقال القرطبي: غداً هنا منصوب على الظرف، وهو متعلق بمحذوف، وتقديره اليهود يعظمون غداً، وكذا قوله بعد غد ولابد من هذا التقدير؛ لأن ظرف الزمان لا يكون خبراً عن الجثة. وفي الحديث دليل على فريضة الجمعة، كما قاله النووي لقوله: فرض عليهم فهدانا الله له، فإن التقدير فرض عليهم فضلوا وهدينا. وفي رواية لمسلم: كتب علينا، وفيه أن القياس مع وجود النص ساقط، وذلك أن كلاً منهما قال بالقياس مع وجود النص على قول التعيين فضلاً وأن الجمعة أول الأسبوع شرعاً، ويدل على ذلك تسمية الأسبوع كله جمعة، وكانوا يسمون الأسبوع سبتاً، كما وقع في حديث أنس عند البخاري في الاستسقاء، وذلك أنهم كانوا مجاورين لليهود فتبعوهم في ذلك، وفيه بيان واضح لمزيد فضل هذه الأمة على الأمم السالفة. (متفق عليه) واللفظ لبخاري وأخرجه أيضاً أحمد (ج2 ص243، 249، 274) والنسائي والبيهقي (ج3 ص170-171) . (وفي رواية لمسلم نحن الآخرون) أي وجوداً وخلقة في الدنيا. (الأولون) أي بعثاً ومرتبة. (يوم القيامة) والعبرة بذلك اليوم ومواقفه. (ونحن أول من يدخل الجنة) يعني نبينا قبل سائر الأنبياء وأمته قبل سائر الأمم. (بيد أنهم) قال العيني: هو مثل غير وزناً ومعنى وإعراباً، ويقال ميد بالميم، وهو اسم ملازم للإضافة إلى أن وصلتها، وله معنيان أحدهما غير إلا أنه لا يقع مرفوعاً ولا مجروراً بل منصوباً ولا يقع صفة ولا استثناء متصلاً، وغنما يستثنى به في الانقطاع خاصة. (وذكر) أي مسلم. (نحوه) أي معنى ما تقدم من المتفق عليه. (إلى آخره) يعني أن الخلاف إنما هو في صدر الحديث بوضع الأولون موضع السابقون ويكون أحدهما نقلاً بالمعنى وبزيادة: ونحن أول من يدخل الجنة في رواية مسلم هذه. 1365- قوله: (وفي أخرى له عنه) أي وفي رواية أخرى لمسلم عن أبي هريرة. (وعن حذيفة) عطف على

((نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة المقضي لهم قبل الخلائق)) . 1366- (3) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ـــــــــــــــــــــــــــــ عنه أي عنهما جميعاً. (نحن الآخرون) أي الذين تأخروا عنهم في حال كوننا وإياهم. (من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة) أي من أهل الآخرة في السبق لهم. قال الطيبي: اللام في "الآخرين" موصولة و"من أهل الدنيا" حال من الضمير في الصلة وقوله. (المقضي لهم قبل الخلائق) صفة "الآخرون"، أي الذين يقضى لهم قبل الناس ليدخلوا الجنة أولا كأنه قيل الآخرون السابقون- انتهى. وهذه الرواية أخرجها النسائي وابن ماجه أيضاً. 1366- قوله: (خير يوم) قال صاحب المفهم: خير وشر يستعملان للمفاضلة ولغيرها، فإذا كانا للمفاضلة فأصلهما أخير وأشر على وزن أفعل، وأما إذا لم يكونا للمفاضلة، فهما من جملة الأسماء، كما قال تعالى: {إن ترك خيراً} . (180:2) ، {ويجعل الله فيه خيراً كثيراً} [6:38] وهو في هذا الحديث للمفاضلة، ومعناه أن يوم الجمعة أفضل من كل يوم طلعت شمسه. (طلعت عليه) أي ما فيه. (الشمس) جملة "طلعت" صفة "يوم" للتنصيص على التعميم، كما قالوا في قوله تعالى: {ولا طائر يطير بجناحيه} [6:38] فإن الشيء إذا وصف بصفة تعم جنسه يكون تنصيصاً على اعتبار استغراقه إفراد الجنس. (يوم الجمعة) فيه أن أفضل الأيام يوم الجمعة، فيكون أفضل من يوم عرفة، وبه جزم ابن العربي، ويشكل على ذلك ما أخرجه ابن حبان في صحيحه عن جابر مرفوعاً: ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة- الحديث. وقد جمع العراقي فقال: المراد بتفضيل الجمعة بالنسبة إلى أيام الجمعة أي أيام الأسبوع، وتفضيل يوم عرفة بالنسبة إلى أيام السنة، وصرح بأن حديث أفضلية الجمعة أصح، وفي حاشية الموطأ نقلاً عن المحلى ظاهر الحديث أن الجمعة أفضل من عرفة، وبه قال أحمد، وهو وجه للشافعية، والأصح عندهم أن عرفة أفضل ويتأول الحديث بأنها أفضل أيام الأسبوع، ويظهر فائدة الاختلاف فيمن نذر الصيام أو علق عملاً من الأعمال بأفضل الأيام مثلاً قال لزوجته: أنت طالق في أفضل الأيام فتطلق يوم عرفة على أصح الوجهين عند الشافعية ويوم الجمعة على الوجه الثاني، وهذا إذا لم يكن له نية فأما إن أراد أفضل أيام السنة فتعيين يوم عرفة، وإن أراد أفضل أيام الأسبوع فتعيين الجمعة. (وفيه أدخل الجنة) فيه دليل على أن آدم لم يخلق في الجنة بل خلق خارجها ثم أدخل إليها. قيل: إن خلقه وإدخاله كانا في يوم واحد، ويحتمل أنه خلق يوم الجمعة ثم أمهل إلى يوم جمعة أخرى فأدخل فيه الجنة، وكذا الاحتمال في يوم الإخراج. (وفيه أخرج منها) قال ابن كثير: إن كان يوم خلقه يوم إخراجه وقلنا الأيام الستة، كهذه الأيام فقد أقام في الجنة بعض يوم من أيام الدنيا، وفيه نظر وإن كان إخراجه في غير يوم الذي

ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة)) رواه مسلم. 1367- (4) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن في الجمعة لساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيراً إلا أعطاه إياه)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ خلق فيه، وقلنا إن كل يوم بألف سنة، كما قال ابن عباس والضحاك واختاره ابن جرير فقد لبث هناك مدة طويلة- انتهى. وقيل: كان إخراجه في اليوم الذي خلق فيه، لكن المراد من اليوم الإطلاق الثاني أي ما مقداره كألف سنة فيكون مكثه فيها زماناً طويلاً. (ولا تقوم الساعة) أي القيامة. (إلا في يوم الجمعة) قيل: هذه القضايا ليست لذكر فضيلته؛ لأن إخراج آدم وقيام الساعة لا يعد فضيلة، وإنما هو لبيان ما وقع فيه من الأمور العظام. وقيل: بل جميعها فضائل وخروج آدم سبب وجود الذرية من الرسل والأنبياء والأولياء، والساعة سبب تعجيل جزاء الصالحين، وموت آدم سبب لنيله إلى ما أعد له من الكرامات. قال ابن العربي في شرح الترمذي: أما إخراجه منها فلأفضل فيه ابتداء إلا أن يكون لما بعده من الخيرات والأنبياء والطاعات، وأن خروجه منها لم يكن طرداً، كما كان خروج إبليس وإنما كان خروجه منها مسافراً لقضاء أوطار ويعود إلى تلك الدار، وقال أيضاً: وذلك أي قيام أعظم لفضله لما يظهر الله رحمته وينجز من وعده. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً الترمذي والنسائي والبيهقي (ج3 ص251) . 1367- قوله: (إن في الجمعة لساعة) كذا فيه مبهمة، وقد عينت في أحاديث أخر، كما سيأتي. وأصل الساعة وحقيقتها جزء مخصوص من الزمان، وقد يطلق على جزء من أربعة وعشرين جزء هي مجموع اليوم والليلة، ويطلق على جزء ما غير مقدر من الزمان، ويطلق على الوقت الحاضر أيضاً. (لا يوافقها) أي لا يصادفها، وهو أعم من أن يقصد لها، أو يتفق له وقوع الدعاء فيها. (عبد مسلم) فيه تخصيص لدعاء المسلمين بالإجابة في تلك الساعة. (يسأل الله عليها) بلسان الحال باستحضاره بقلبه أو بلسان القال. (خيراً) أي يليق السؤال فيه. (إلا أعطاه) أي ذلك المسلم. (إياه) أي ذلك الخير، يعني إما يعجله له، وإما أن يدخره له، كما ورد في الحديث. وفي حديث أبي لبابة الآتي: ما لم يسأل حراماً. وفي حديث سعد بن عبادة عند أحمد: ما لم يسأل إثماً أو قطيعة رحم. وقطيعة الرحم من جملة الإثم، فهو من عطف الخاص على العام للاهتمام به. وفي الحديث بيان فضل يوم الجمعة لاختصاصه بساعة الإجابة، وسيأتي ذكر الاختلاف في تعيين هذه الساعة، وبيان القول الراجح فيه. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجمعة والطلاق والدعوات، والسياق المذكور لمسلم إلا قوله: "عبد" فإنه ليس عنده في هذه الرواية. والحديث أخرجه أحمد ومالك والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص249، 250) .

وزاد مسلم، قال: وهي ساعة خفيفة. وفي رواية لهما، قال: ((إن في الجمعة لساعة لا يوافقها مسلم قائم يصلي يسأل الله خيراً إلا أعطاه إياه)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ (وزاد مسلم قال) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (وهي ساعة خفيفة) أي لطيفة. وفي رواية لهما: وأشار أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده ليقللها. فإن قلت قد روى أبوداود والحاكم عن جابر مرفوعاً: يوم الجمعة ثنتا عشرة ساعة لا يوجد عبدمسلم يسأل الله شيئاً إلا أعطاه الله عزوجل فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر- انتهى. ومقتضاه أنها غير خفيفة، أجيب بأنه ليس المراد أنها مستغرقة للوقت المذكور، بل المراد أنها لا تخرج عنه؛ لأنها لحظة خفيفة. (وفي رواية لهما) أي للبخاري ومسلم. (قال) النبي - صلى الله عليه وسلم -. (إن في الجمعة لساعة) قال الجزري: هي أرجح أوقات الإجابة. (لا يوافقها) أي لا يجدها. (مسلم قائم) أي ثابت في مكانه أو ملازم مواظب على حد قوله: {ما دمت عليه قائماً} . (يصلي) أي ينتظر الصلاة أو يدعوا. وإنما أوّلنا بذلك ليتوافق جميع الروايات. (يسأل الله) فيها. (خيراً إلا أعطاه إياه) قال الطيبي قوله: قائم يصلي الخ. كلها صفات لمسلم. ويجوز أن يكون يصلي حالاً لاتصافه بقائم، ويسأل إما حال مترادفة أو متداخلة. زاد النووي: إذ معنى يصلي يدعو، كذا في المرقاة، واعلم أنه اختلفت الأحاديث في تعيين ساعة الإجابة، وبحسب ذلك اختلف أقوال الصحابة والتابعين والأئمة بعدهم. قال الحافظ في الفتح: قد اختلف أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم في هذه الساعة هل هي باقية أو رفعت؟ وعلى البقاء هل هي في كل جمعة أو في جمعة واحدة من كل سنة؟ وعلى الأول هل هي وقت من اليوم معين أو مبهم؟ وعلى التعيين هل تستوعب الوقت أو تبهم فيه؟ وعلى الإبهام ما ابتداءه وما انتهاءه؟ وعلى كل ذلك هل تستمر أو تتنقل؟ وعلى الانتقال هل تستغرق اليوم أو بعضه؟ ثم ذكر رحمه الله تلخيص ما اتصل إليه من الأقوال مع أدلتها وبيان حالها في الصحة والضعف والرفع والوقف والإشارة إلى مأخذ بعضها، وقد بلغت هذه الأقوال إلى أكثر من الأربعين قولاً، وليست كلها متغايرة من كل جهة، بل كثير منها يمكن اتحاده مع غيره. ورجح الحافظ منها قولين حيث قال بعد ذكرها: ولا شك أن أرجح الأقوال المذكورة حديث أبي موسى. (يعني الذي ذكره المصنف بعد هذا أنها ما بين أن يجلس الإمام على المنبر إلى أن تقضى الصلاة) وحديث عبد الله بن سلام. (يريد به ما يأتي في حديث أبي هريرة الطويل في الفصل الثاني من قوله: إنها في آخر ساعة بعد العصر في يوم الجمعة) قال المحب الطبري: اصح الأحاديث فيها حديث أبي موسى، وأشهر الأقوال فيها قول عبد الله بن سلام- انتهى. قال الحافظ وما عداها إما موافق لهما أو لأحدهما أو ضعيف الإسناد أو موقوف، استند قائله إلى اجتهاد دون توقيف. ولا يعارضهما حديث أبي سعيد في كونه - صلى الله عليه وسلم - أنسيهما بعد أن علمها، لاحتمال أن يكونا سمعا ذلك منه قبل أن أنسي، أشار إلى ذلك

1368- (5) وعن أبي بردة بن أبي موسى، قال: سمعت أبي يقول، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، ـــــــــــــــــــــــــــــ البيهقي وغيره، وقد اختلف السلف في أيهما أرجح؟ فرجح مسلم فيما روى البيهقي حديث أبي موسى، وبه قال جماعة منهم البيهقي وابن العربي والقرطبي. قال القرطبي: هو نص في موضع الخلاف فلا يلتفت إلى غيره. وقال النووي: هو الصحيح بل الصواب، وجزم في الروضة بأنه الصواب، ورجحه أيضاً بكونه مرفوعاً صريحاً، وبأنه في أحد الصحيحين. وذهب آخرون إلى ترجيح قول عبد الله بن سلام، فحكى الترمذي عن أحمد أنه قال: أكثر الأحاديث على ذلك. وقال ابن عبد البر: أنه أثبت شيء في هذا الباب، وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح على أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أناساً من الصحابة اجتمعوا فتذاكروا ساعة الجمعة ثم افترقوا فلم يختلفوا أنها آخر ساعة من يوم الجمعة، ورجحه كثير من الأئمة أيضاً كأحمد وإسحاق ومن المالكية الطرطوشي، واختاره ابن الزملكاني شيخ الشافعية في وقته، وحكاه عن نص الشافعي وهو الذي اختاره ابن القيم ورجحه في زاد المعاد (ج1 ص107) في بحث نفيس يرجع إليه ويستفاد، واحتج فيه بما سنذكره من حديث أبي سعيد وأبي هريرة عند أحمد، وقد استشكل هذا، فإنه ترجيح لغير ما في الصحيح على ما هو فيه، والمعروف من علوم الحديث وغيرها أن ما في الصحيحين أو ما في أحدهما مقدم على غيره. والجواب أن ذلك حيث لم يكن حديث الصحيحين أو أحدهما مما انتقده الحفاظ، كحديث أبي موسى هذا الذي في مسلم فإنه قد أعل بالانقطاع والاضطراب، وسيأتي ذكرهما في شرحه، وسلك بعضهم مسلكا آخر وهو الجمع بين الحديثين بأن ساعة الإجابة تنتقل فتكون في جمعة في ما بين أن يجلس الإمام على المنبر إلى أن تقضى الصلاة. وفي أخرى في آخر ساعة من اليوم. قال ابن عبد البر: الذي ينبغي الاجتهاد في الدعاء في الوقتين المذكورين، وسبق على ذلك الإمام أحمد. قال الحافظ: وهو أولى في طريق الجمع. واستشكل حصول الإجابة لكل داع بالشرط المتقدم مع اختلاف الزمان باختلاف البلاد والمصلي، فيتقدم بعض على بعض وساعة الإجابة متعلقة بالوقت فكيف تتفق مع الاختلاف وأجيب باحتمال أن تكون ساعة الإجابة متعلقة بفعل كل مصل، كما قيل نظيره في ساعة الكراهة، ولعل هذا فائدة جعل الوقت الممتد مظنة لها، وإن كانت هي خفيفة، ويحتمل أن يكون عبر عن الوقت بالفعل فيكون التقدير وقت جواز الخطبة أو الصلاة أو نحو ذلك. 1368- قوله: (وعن أبي بردة) بضم الموحدة وسكون الراء ودال مهملة، اسمه عامر. وقيل: الحارث، ثقة من أوساط التابعين المشهورين، مات سنة أربع ومائة. وقيل: غير ذلك. وقد جاوز الثمانين. (بن أبي موسى)

في شأن ساعة الجمعة: ((هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأشعري، عبد الله بن قيس الصحابي. (في شأن ساعة الجمعة) أي في بيان وقتها. (هي) أي ساعة الجمعة، يعني ساعة الإجابة في يوم الجمعة. (ما بين أن يجلس الإمام) أي جلوس الإمام للخطبة. (إلى أن تقضى الصلاة) أي إلى تمام الصلاة وانقضائها. قال أبوداود: يعني على المنبر، أي المراد بجلوس الإمام في الحديث جلوسه عقب صعوده على المنبر للخطبة. والحديث نص في أن ساعة الإجابة في ما بين جلوس الإمام على المنبر للخطبة إلى تمام الصلاة، وليس المراد أنها تستوعب جميع الوقت الذي عين، بل المعنى أنها تكون في أثنائه لقوله فيما مضى: يقللها وقوله: وهي ساعة خفيفة. وفائدة ذكر الوقت أنها تنتقل فيه فيكون ابتداء مظنتها ابتداء الخطبة وانتهائها انتهاء الصلاة. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أبوداود والبيهقي (ج3ص350) . والحديث مع كونه في صحيح مسلم قد أعل بالانقطاع والاضطراب. أما الانقطاع فلأن مخرمة بن بكير رواه عن أبيه بكير بن عبد الله بن الأشج، وهو لم يسمع من أبيه، قاله أحمد عن حماد بن خالد عن مخرمة نفسه، وكذا قال سعيد بن أبي مريم عن موسى بن سلمة عن مخرمة، وزاد: إنما هي كتب كانت عندنا. وقال علي بن المديني: لم أسمع أحداً من أهل المدينة يقول عن مخرمة أنه قال في شيء من حديثه سمعت أبي. ولا يقال مسلم يكتفي في المعنعن بإمكان اللقاء مع المعاصرة، وهو كذلك؛ لأنا نقول وجود التصريح عن مخرمة بأنه لم يسمع من أبيه كاف في دعوى الانقطاع. وأجيب عن هذا بأنه اختلف في سماع مخرمة من أبيه: فقال أحمد وابن معين وابن حبان: لم يسمع من أبيه أي شيئاً. وقال أبوداود: لم يسمع من أبيه إلا حديثاً واحداً وهو حديث الوتر. وقال علي بن المديني: سمعت معن بن عيسى يقول: مخرمة سمع من أبيه، وعرض عليه ربيعة أشياء من رأي سليمان بن يسار، قال علي: ولا أظن مخرمة سمع من أبيه كتاب سليمان لعله سمع الشيء اليسير، ولم أجد أحدا بالمدينة يخبرني عن مخرمة أنه كان يقول في شيء من حديثه: سمعت أبي. وقال ابن أبي أويس: وجدت في ظهر كتاب مالك سألت مخرمة عما يحدث به عن أبيه سمعها من أبيه فحلف لي، ورب هذه البنية سمعت من أبي، كذا في تهذيب التهذيب، فلعل مسلماً ممن صح وثبت عندهم سماع مخرمة من أبيه، ويدل على ذلك ما رواه البيهقي من طريق أحمد بن سلمة أن مسلماً قال: حديث أبي موسى أجود شيء في هذا الباب وأصحه. ولو سلمنا أن مخرمة لم يسمع من أبيه لا يضر؛ لأنه يروي من كتب أبيه، والعمل بالوجادة جائز. قال النووي: أما العمل بالوجادة، فعن المعظم أنه لا يجوز. وعن الشافعي ونظار أصحابه جوازه. وقطع البعض بوجوب العمل بها عند حصول الثقة به، قال: وهذا هو الصحيح الذي لا يتجه في هذه الأزمان غيره-انتهى. وأما الاضطراب، فقال العراقي: إن أكثر الرواة

{الفصل الثاني}

{الفصل الثاني} 1369- (6) عن أبي هريرة، قال: خرجت إلى الطور، فلقيت كعب الأحبار، فجلست معه، فحدثني عن التوراة، وحدثته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان فيما حدثته أن قلت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أهبط، ـــــــــــــــــــــــــــــ جعلوه من قول أبي بردة مقطوعاً به وأنه لم يرفعه غير مخرمة عن أبيه. وقال الحافظ: رواه أبوإسحاق وواصل الأحدب ومعاوية بن قرة وغيرهم عن أبي بردة من قوله، وهؤلاء من أهل الكوفة، وأبوبردة كوفي، فهم أعلم بحديثه من بكير المدني، وهم عدد وهو واحد أيضاً، فلو كان عند أبي بردة مرفوعاً لم يقفوه عليه، ولهذا جزم الدارقطني فيما استدركه على مسلم بأن الموقوف هو الصواب. وأجاب النووي عن ذلك بقوله: وهذا الذي استدركه بناه على القاعدة المعروفة له، ولأكثر المحدثين أنه إذا تعارض في رواية الحديث وقف ورفع أو إرسال واتصال حكموا بالوقف والإرسال، وهي قاعدة ضعيفة ممنوعة، والصحيح طريقة الأصوليين والفقهاء والبخاري ومسلم ومحققي المحدثين أنه يحكم بالرفع والاتصال؛ لأنها زيادة ثقة-انتهى. وأجاب بعضهم عن قول الدارقطني: والصواب أنه من قول أبي بردة، بأنه لا يكون إلا مرفوعاً فإنه لا مسرح للاجتهاد في تعيين أوقات العبادة. 1369- قوله: (خرجت إلى الطور) أي حيث كلم الله موسى عليه السلام. قال القاري: الطور محل معروف المتبادر طور سيناء. وقال الباجي: الطور في كلام العرب واقع على كل جبل، إلا أنه في الشرع يطلق على جبل بعينه، وهو الذي كلم فيه موسى عليه السلام، وهو الذي عناه أبوهريرة-انتهى. وقال ياقوت في معجمه: وبالقرب من مصر عند موضع يسمى مدين، جبل يسمى الطور. وعليه كان الخطاب الثاني لموسى عليه السلام عند خروجه من مصر ببني إسرائيل-انتهى. (فلقيت كعب الأحبار) جمع حبر بالفتح والكسر والإضافة، كما في زيد الخيل، وهو كعب بن ماتع تقدم ترجمته. (فحدثني عن التوراة) يعني أخبرني بما في التوراة التي بأيديهم على وجه القصص والإخبار واعتبار ما يوافق منها ما عند أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قاله الباجي. (حدثته) أي كعباً الأحاديث. (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان فيما حدثته) خبر كان. (أن قلت) اسم كان ومقوله. (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهذا لفظ مالك، وسياق النسائي قال: أي أبوهريرة أتيت الطور فوجدت ثم كعباً فمكثت أنا وهو يوماً أحدثه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويحدثني عن التوراة فقلت له: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (وفيه أهبط) قال القاري: الظاهر أن أهبط هنا بمعنى أخرج في الرواية السابقة. وقيل: كان

وفيه تيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس، شفقاً من الساعة، إلا الجن والإنس. وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي ـــــــــــــــــــــــــــــ الإخراج من الجنة إلى السماء، والإهباط أي إنزال منها إلى الأرض، فيفيد أن كلاً منهما كان في يوم الجمعة: أما في يوم واحد: وإما في يومين، قيل: كان هبوط آدم على جبل بسرنديب في أرض الهند، يقال له نود. وقد أورد السيوطي في ذلك أحاديث في الدر المنثور. (وفيه تيب عليه) على بناء المفعول من التوبة أي وفق للتوبة وقبلت التوبة منه قال تعالى: {ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى} [20: 122] . (وفيه) أي في نحوه من أيام الجمعة. (مات) وله ألف سنة، كما في حديث أبي هريرة وابن عباس مرفوعاً. وقيل: إلا سبعين. وقيل: إلا ستين. وقيل: إلا الأربعين، قاله الزرقاني. واختلف أيضاً في موضع موته ومحل دفنه على أقوال، وصحح ابن كثير أنه مات على جبل نود بسرنديب في الهند، ودفن فيه موضع الذي أهبط عليه، والله أعلم. (وما من دابة) زيادة "من" لإفادة الاستغراق في النفي. (إلا وهي مصيخة) بالصاد المهملة والخاء المعجمة، من أصاخ أي مصغية مستمعة تتوقع قيام الساعة. وروى بسين بدل الصاد، وهما لغتان بمعنى. قال الجزري: والأصل الصاد، قال القاري: وفي أكثر نسخ المصابيح بالسين. (يوم الجمعة) ظرف لمصيخة. (من حين تصبح) قال الطيبي: بني على الفتح لإضافته إلى الجملة، ويجوز إعرابه إلا أن الرواية بالفتح. (حتى تطلع الشمس) ؛ لأن بطلوعها يتميز يوم الساعة عن غيره، فإنها تطلع في يوم الساعة من المغرب. (شفقاً من الساعة) أي خوفاً من قيامها فيه أن البهائم تعلم الأيام بعينها، وأنها تعلم أن القيام تقوم يوم الجمعة، ولا تعلم وقائع التي بين زمانها وبين القيامة، أو ما تعلم أن تلك الوقائع ما وجدت الآن. (إلا الجن والإنس) استثناء من الجنس؛ لأن اسم الدابة يقع على كل ما دب. قال الباجي: وجه عدم إشفاقهم أنهم علموا أن بين يدي الساعة شروطاً ينتظرونها، وليس بالبين؛ لأنا نجد منهم من لا يصيخ وليس له علم بالشروط. وقال ابن عبد البر: فيه أن الجن والإنس لا يعلمون من أمر الساعة ما يعرفه غيرهم من الدواب، وهذا أمر يقصر عنه الفهم. وقال التوربشتي في شرح المصابيح: وجه إساخة كل دابة يوم الجمعة، وهي مما لا تعقل أن نقول: إن الله تعالى يجعلها ملهمة بذلك مستشعرة منه وغير مستنكر أمثال ذلك وما هو فوقه في العجب من قدرة الله سبحانه، والحكمة في إخفاء ذلك من الجن والإنس أنهم مكلفون، ولا سيما بالإيمان بالغيب، فإذا كوشفوا بشيء من ذلك أخلت قاعدة الابتلاء وحق القول عليهم بالاعتداء، ثم أنهم لا يستطيعون به سمعاً إن أظهر لهم، ويجوز أن يكون وجه إساخة كل دابة يوم الجمعة أن الله تعالى يظهر يوم الجمعة في أرضه من عظائم الأمور وجلائل الشيءون ما تكاد الأرض تميد بها، فتبقى كل دابة ذاهلة دهشة كأنها مسيخة للرعب الذي تداخلها وللحالة التي تشاهدها، حتى كأنها تشفق شفقتها من قيام الساعة. (وفيه ساعة) خفيفة. (لا يصادفها) أي لا يوافقها. (وهو يصلي)

يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه. قال كعب: ذلك في كل سنة يوم؟ فقلت: بل في كل جمعة فقرأ كعب التوراة، فقال: صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال أبوهريرة: لقيت عبد الله بن سلام، فحدثته بمجلسي مع كعب الأحبار وما حدثته في يوم الجمعة، فقلت له: قال كعب: ذلك في سنة يوم؟ قال عبد الله بن سلام: كذب كعب، فقلت له: ثم قرأ كعب التوراة، فقال: بل هي في كل جمعة، فقال عبد الله بن سلام: صدق كعب، ثم قال عبد الله بن سلام: قد علمت أي ساعة هي؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ حقيقة أو حكماً بالانتظار، كما تقدم يدعو. ولفظ النسائي وفيه: ساعة لا يوافقها مؤمن، وهو في الصلاة. (يسأل الله) حال أو بدل. (شيئاً) من أمر الدنيا والآخرة بشروطه. (إلا أعطاه إياه) ما لم يسأل إثماً أو قطيعة رحم، كما تقدم. (ذلك) أي اليوم. (في كل سنة يوم) واحد. قال الطيبي: الإشارة إلى اليوم المذكور المشتمل على تلك الساعة الشريفة ويوم خبره. قال الباجي: يحتمل أن يكون ذلك على سبيل السهو في الإخبار عن التوراة أو التأويل للفظها. (بل في كل جمعة) أي هي في كل جمعة أو في كل أسبوع يوم، يعني ذلك اليوم المشتمل على ما ذكر كائن في كل أسبوع، وهذا أظهر مطابقة للجواب. (فقرأ كعب التوراة) بالحفظ أو بالنظر. (فقال) كعب (صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم) زاد النسائي هو في كل جمعة، وفي هذا معجزة عظيمة دالة على كمال علمه عليه السلام، حيث أخبر بما خفي على أعلم أهل الكتاب مع كونه أمياً. (لقيت عبد الله بن سلام) بتخفيف اللام ابن الحارث. من بني قينقاع الإسرائيلي أبويوسف، حليف بني عوف بن الخزرج، أسلم عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة، ونزل فيه: {وشهد شاهد من بني إسرائيل} وقوله تعالى: {ومن عنده علم الكتاب} [13: 43] ، وشهد مع عمر فتح بيت المقدس والجابية، قيل: كان اسمه الحصين، فسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله، روى خمسة وعشرين حديثاً، اتفقا على حديث، وانفرد البخاري بآخر، مات بالمدينة سنة. (43) . (فحدثته بمجلسي) أي بجلوسي. (وما حدثته) أي وأخبرته بالحديث الذي حدثت به كعباً. (في يوم الجمعة) أي في شأنه أو فضله. (فقلت له) أي لعبد الله بن سلام. (كذب كعب) أي أخطأ وغلط: قال الباجي: والكذب إخبار بالشيء على غير ما هو به سواء تعمد ذلك أو لم يتعمد. (بل هي) أي ساعة الإجابة. (في كل جمعة) كما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم. (قد علمت) بصيغة المتكلم. (أية ساعة هي) بنصب "أية" على أنها مفعول علمت، أي عرفت تلك الساعة. وفي بعض النسخ برفعها، كقوله تعالى: {لنعلم أي الحزبين أحصى} [18: 12] قال ابن عبد البر: وفيه إظهار العالم لعلمه بأن يقول أنا عالم

قال أبوهريرة: فقلت: أخبرني بها ولا تضن علي، فقال عبد الله بن سلام هي آخر ساعة في يوم الجمعة. ـــــــــــــــــــــــــــــ لكذا وكذا إذا لم يكن على وجه الفخر والرياء والسمعة. (قال أبوهريرة فقلت) أي لعبد الله بن سلام. (أخبرني بها) أي بتلك الساعة. (ولا تضن علي) بكسر الضاد وفتحها وبفتح النون المشددة من باب تعب وضرب، أي لا تبخل علي، قلت: وضبط في جامع الترمذي: لا تضنن بسكون الضاد وفتح النون الأولى، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج10ص172) عن الترمذي، ونقل عن الموطأ والنسائي لا تضنن. قال العراقي: يجوز في ضبطه ستة أوجه: أحدها فتح الضاد وتشديد النونين وفتحهما، والثاني بكسر الضاد والباقي مثل الأول، والثالث فتح الضاد وتشديد النون الأولى وفتحها وتخفيف الثانية، والرابع كسر الضاد والباقي مثل الذي قبله، والخامس إسكان الضاد وفتح النون الأولى وإسكان الثانية، والسادس كسر النون الأولى والباقي مثل الذي قبله-انتهى. قال أبوالطيب المدني: حاصل جميع الوجوه أنه من باب التأكيد بالنون الثقيلة أو الخفيفة، أو من باب الفك، وعلى التقديرين فالباب يحتمل فتح العين في المضارع وكسرها فتصير الوجوه ستة-انتهى. (هي آخر ساعة في يوم الجمعة) ولفظ الترمذي: هي بعد العصر إلى أن تغرب الشمس، وسياق الحديث صريح في أن ذلك من قول عبد الله بن سلام حيث لم يصرح بسماعه منه صلى الله عليه وسلم، لكن قول الصحابي فيما لا مسرح للاجتهاد فيه مرفوع حكماً، ويدل على كونه مرفوعاً صريحاً ما رواه ابن ماجه من طريق أبي النضر عن أبي سلمة عن عبد الله بن سلام قال: قلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس: إنا لنجد في كتاب الله في يوم الجمعة ساعة-انتهى. وفيه قال عبد الله: فأشار إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بعض ساعة، فقلت: صدقت أو بعض ساعة، قلت: أية ساعة هي؟ قال: هي آخر ساعات النهار، قلت: انها ليست ساعة الصلاة، قال: بلى إن العبد المؤمن إذا صلى ثم جلس لا يحبسه إلا الصلاة فهو في الصلاة. قال الحافظ: وهذا يحتمل أن يكون قائل قلت: أية ساعة هي عبد الله بن سلام، فيكون مرفوعاً، ويحتمل أن يكون أبا سلمة، فيكون موقوفاً، وهو الأرجح لتصريحه في رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بأن عبد الله بن سلام لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الجواب. أخرجه ابن أبي خيثمة، نعم رواه ابن جرير من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعاً أنها آخر ساعة بعد العصر يوم الجمعة، ولم يذكر عبد الله بن سلام قوله ولا القصة. وروى أبوداود والنسائي والحاكم بإسناد حسن عن جابر مرفوعاً: يوم الجمعة ثنتا عشرة ساعة لا يوجد مسلم يسأل الله شيئاً إلا آتاه الله عزوجل فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر، وروى أحمد (ج2ص272) عن أبي سعيد وأبي هريرة مرفوعاً: إن في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم-الحديث. وفيه وهي بعد العصر، وفي سنده محمد بن مسلمة الأنصاري روى عنه رجل اسمه عباس. قال الذهبي: لا يعرفان، وتعقبه الحافظ في اللسان (ج5ص318) فقال: عباس معروف، وهو عباس بن عبد الرحمن بن

قال أبوهريرة، فقلت: وكيف تكون آخر ساعة في يوم الجمعة وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي فيها؟ فقال عبد الله بن سلام: ألم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من جلس مجلساً ينتظر الصلاة، فهو في صلاة حتى يصلي؟ قال أبوهريرة: فقلت بلى، قال: فهو كذلك)) رواه مالك، وأبوداود، والترمذي، والنسائي، وروى أحمد إلى قوله: صدق كعب ـــــــــــــــــــــــــــــ ميناء. وقال في التقريب في ترجمته: أنه مقبول. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2ص165) : وثقه ابن حبان، ولم يضعفه أحد-انتهى. ومحمد بن مسلمة المذكور تابعي، ذكره ابن حبان في الثقات. والحديث صحح إسناده الشيخ أحمد شاكر، لكن قال: إن العباس راوي هذا الحديث ليس هو ابن ميناء، بل هو رجل آخر، وهو عباس ابن عبد الرحمن بن حميد القرشي من بني أسد بن عبد العزى المكي، ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل. قلت: ويؤيد حديث أبي هريرة هذا حديث أنس الآتي، والحديثان وإن كانا مطلقين غير مقيدين بآخر ساعة إلا أنهما يحملان على الأحاديث المقيدة بأنها آخر ساعة بعد العصر، فإن حمل المطلق على المقيد متعين، كما تقرر في الأصول. (قال أبوهريرة فقلت) لعبد الله بن سلام. (وكيف تكون) أي تلك الساعة. (وقد قال) الواو حالية. (رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي شأنها. (وهو يصلي فيها) قال القاري: وفي نسخة: وهو يصلي، وتلك الساعة لا يصلى فيها. قلت هكذا وقع في الموطأ وسنن أبي داود وجامع الترمذي، وكذا نقله الجزري (ج10ص172) ولفظ النسائي: وهو في الصلاة، وليست تلك الساعة صلاة. (فقال عبد الله بن سلام) في تأويل قوله صلى الله عليه وسلم. (من جلس مجلساً) أي جلوساً أو مكان الجلوس. (ينتظر الصلاة) أي في هذا المجلس. (فهو في صلاة) أي حكماً. (حتى يصلي) أي حقيقة يعني يفرغ من الصلاة، ولفظ النسائي: من صلى وجلس ينتظر الصلاة، فهو في صلاة حتى تأتيه الصلاة التي تليها. (فقلت: بلى) أي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك. (قال) أي عبد الله بن سلام. (فهو ذلك) أي هذا هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي. وقال القاري: فهو أي المراد بالصلاة ذلك أي الانتظار. ولفظ النسائي: فهو كذلك أي فالجالس في تلك الساعة منتظراً كذلك أي مصل. قال السيوطي في التنوير: هذا أي تأويل عبد الله بن سلام مجاز بعيد، ورد عليه الزرقاني بأنه بعد الثبوت وبعد قبول الصحابي إياه لا بُعد فيه ولا ريب أن الداعي آخر ساعة بعد العصر عازم على المغرب. (رواه مالك وأبوداود) وسكت عنه. (والترمذي) وقال: هذا حديث حسن صحيح، ونقل المنذري كلامه هذا وأقره. (والنسائي الخ) وأخرجه أيضاً ابن خزيمة وابن حبان والحاكم (ج1ص278) والبيهقي (ج3ص250، 251) .

1370- (7) وعن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((التمسوا الساعة التي ترجى في يوم الجمعة بعد العصر إلى غيبوبة الشمس)) . رواه الترمذي. 1371- (8) وعن أوس بن أوس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1370- قوله: (التمسوا) أي أطلبوا، ورواه الطبراني بلفظ: ابتغوا. (الساعة التي ترجى) بصيغة المجهول أي تطمع إجابة الدعاء فيها. (بعد العصر إلى غيبوبة الشمس) هذا يؤيد قول عبد الله بن سلام، وهو محمول على أن المراد بها آخر ساعة بعد العصر، كما تقدم. وقد اقتصر المصنف على ذكر قولين في تعيين ساعة الجمعة، كالبغوي كأنهما رأيا هذين القولين أرجح وأقوى من غيرهما دليلاً. (رواه الترمذي) أي من طريق محمد بن أبي حميد عن موسى بن وردان عن أنس، قال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه. وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير هذا الوجه، ثم تكلم في محمد بن أبي حميد بأنه ضعف من قبل حفظه، وقال: هو منكر الحديث. قلت: ورواه الطبراني في الأوسط من طريق ابن لهيعة، كما في الترغيب (ج1ص216) ومجمع الزوائد (ج2ص166) وزاد في آخره: وهي قدر هذا يعني قبضة. قال المنذري: وإسناده أصلح من إسناد الترمذي-انتهى. ورواه ابن جرير من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفاً، ومن طريق صفوان بن سليم عن أبي سلمة عن أبي سعيد مرفوعاً بلفظ: فالتمسوها بعد العصر. وذكر ابن عبد البر: إن قوله: "فالتمسوها" إلى آخره، مدرج في الخبر من قول أبي سلمة. ورواه ابن مندة من هذا الوجه وزاد: أغفل ما يكون الناس. ورواه أبونعيم في الحلية من طريق الشيباني عن عون بن عبد الله عن أخيه عبيد الله، كقول ابن عباس، كذا في الفتح. 1371- قوله: (وعن أوس بن أوس) الثقفي، صحابي، سكن دمشق، ومات بها، له حديثان أحدهما في الصيام والآخر في الجمعة. (إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة) فيه إشارة إلى أن يوم عرفة أفضل أو مساو؛ لأن زيادة "من" تدل على أن يوم الجمعة من جملة الأفاضل من الأيام، وليس هو أفضل الأيام مطلقاً. (فيه خلق آدم) أي طينته. (وفيه) أي في جنسه. (قبض) أي روحه. (وفيه النفخة) قال الطيبي: أي النفخة الأولى، فإنها مبدأ قيام الساعة، ومقدم النشأة الثانية. (وفيه الصعقة) أي الصيحة. والمراد بها الصوت الهائل الذي يموت الإنسان من هوله، وهي النفخة الأولى. قال تعالى: {ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله} [39: 68] فالتكرار باعتبار تغاير الوصفين. وقال القاري: المراد بالنفخة الثانية، وبالصعقة النفخة الأولى، قال: وهذا أولى لما فيه من التغاير الحقيقي، وإنما سميت النفخة الأولى بالصعقة؛ لأنها تترتب عليها، وبهذا

فأكثروا عليّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليّ. قالوا: يا رسول الله! وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ الوصف تتميز عن الثانية. وقيل: إشارة إلى صعقة موسى عليه السلام. (فأكثروا علي من الصلاة فيه) أي في يوم الجمعة، وهو تفريع على كون الجمعة من أفضل الأيام. (فإن صلاتكم معروضة عليّ) يعني على وجه القبول فيه وإلا فهي دائماً تعرض عليه بواسطة الملائكة، قاله القاري. وقال السندي: هذا تعليل للتفريع أي هي معروضة عليّ كعرض الهدايا على من أهديت إليه، فهي من الأعمال الفاضلة ومقربة لكم إليّ، كما يقرب الهدية المهدي إليه، وإذا كانت بهذه المثابة، فينبغي إكثار باقي الأوقات الفاضلة، فإن العمل الصالح يزيد فضلاً بواسطة فضل الوقت، وعلى هذا لا حاجة إلى تقييد العرض بيوم الجمعة، كما قيل. وقال الشوكاني في تحفة الذاكرين بعد ذكر أحاديث إبلاغ السلام إليه - صلى الله عليه وسلم - وعرض الصلاة عليه ما لفظه: وظاهر الجميع أن كل صلاة وسلام تبلغه - صلى الله عليه وسلم -، وسواء كان ذلك في يوم الجمعة أو في غيره من الأيام والليالي، فلعل في العرض عليه زيادة على مجرد الإبلاغ إليه، ويكون ذلك من خصائص الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - في يوم الجمعة. (وقد أرمت) جملة حالية بفتح الراء وسكون الميم وفتح التاء المخففة على وزن ضربت، ويروى بكسر الراء أي بَلِيْتَ. وقيل: أُرِمْت على البناء للمفعول من الأرم، وهو الأكل أي صرت مأكولاً للأرض. وقيل: أَرَمَّت بالميم المشددة والتاء الساكنة أي أَرَمَّتِ العظام وصارت رميماً من رَمَّ الميتُ وأَرَمَّ إذا بلى، ويروي أَرَمَمتَ بالميمين أي صرت رميماً، فعلى هذا يجوز أن يكون أَرِمتَ بحذف إحدى الميمين، كظلت ثم كسرت الراء لالتقاء الساكنين أو فتحت بالأخفية أو بالنقلية، وفي ضبطه أقوال أخر. قال السندي: لا بد ههنا أولا من تحقيق لفظ أرمت، ثم النظر في السؤال والجواب وبيان انطباقها، فأما أرمت بفتح الراء كضربت أصله أرممت من أرم بتشديد الميم إذا صار رميماً، فحذفوا إحدى الميمين، كما في ظلت، ولفظه: إما على الخطاب أو الغيبة على أنه مستند إلى العظام. وقيل: من أرم بتخفيف الميم أي فني، وكثيراً ما يروى بتشديد الميم والخطاب، فقيل هي لغة ناس من العرب. وقيل: بل خطأ والصواب سكون التاء لتأنيث العظام، أو أرممت بفك الإدغام. وأما تحقيق السؤال فوجهه أنهم فهموا عموم الخطاب في قوله: فإن صلاتكم معروضة للحاضرين ولمن يأتي بعده - صلى الله عليه وسلم -، ورأوا أن الموت في الظاهر مانع عن السماع والعرض، فسألوا عن كيفية عرض صلاة من يصلي بعد الموت، وعلى هذا فقولهم: وقد أرمت كناية عن الموت، والجواب بقوله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله حرم الخ. كناية عن كون الأنبياء أحياء في قبورهم، أو بيان لما هو خرق للعبادة المستمرة بطريق التمثيل أي ليجعلوه مقيساً عليه للعرض بعد الموت الذي هو خلاف العادة المستمرة، ويحتمل أن المانع من العرض عندهم فناء البدن لا مجرد الموت ومفارقة الروح، لجواز عود الروح إلى البدن ما دام سالماً عن التغير الكثير، فأشار - صلى الله عليه وسلم - إلى

قال: يقولون: بليت، قال: إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء)) . رواه أبوداود، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي، والبيهقي في الدعوات الكبير. ـــــــــــــــــــــــــــــ بقاء بدون الأنبياء عليهم السلام، وهذا هو ظاهر السؤال والجواب، بقي أن السؤال منهم على هذا الوجه يشعر بأنهم ما علموا أن العرض على الروح المجرد ممكن، فينبغي أن يبين لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يمكن العرض على الروح المجرد ليعلموا ذلك، ويمكن الجواب عن ذلك بأن سؤالهم يقتضي أمرين مساواة الأنبياء عليهم السلام وغيرهم بعد الموت، وأن العرض على الروح المجرد لا يمكن والاعتقاد الأول أسوء فأرشدهم - صلى الله عليه وسلم - بالجواب إلى ما يزيله وآخر ما يزيل الثاني إلى وقت يناسبه تدريجاً في التعليم. والله أعلم. (قال) أي أوس. (يقولون) أي الصحابة أي يريدون بهذا القول. (بليت) بفتح الباء وكسر اللام أي صرت باليا. (قال) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء) أي منعها من أن تأكل أجسادهم، فإن الأنبياء أحياء في قبورهم، لكن بحياة برزخية ليست نظير الحياة المعهودة، وهي أقوى وأكمل من حياة الشهداء. والحديث يدل على مشروعية الإكثار من الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة، وأنها تعرض عليه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته. (رواه أبوداود والنسائي) في الجمعة. (وابن ماجه) في الجنائز، وروى هو في الجمعة عن شداد بن أوس بمثل حديث أوس بن أوس وهو خطأ، والصواب ما وقع في الجنائز أي عن أوس بن أوس. (والدارمي والبيهقي في الدعوات الكبير) وأخرجه أيضاً أحمد (ج4ص8) وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم في مستدركه (ج1ص278) وقال: صحيح على شرط البخاري، ووافقه الذهبي. وقال النووي: إسناده صحيح، وأخرجه البيهقي (ج3ص248) في السنن من طريق الحاكم، وسكت عنه أبوداود. وقال المنذري: له علة دقيقة، أشار إليها البخاري وغيره، وقد جمعت طرقه في جزء-انتهى. وقال الشوكاني في النيل: ذكره ابن أبي حاتم في العلل وحكى عن أبيه أنه حديث منكر؛ لأن في إسناده عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وهو منكر الحديث. وذكر البخاري في تأريخه: أنه عبد الرحمن بن يزيد بن تميم. وقال ابن العربي: إن الحديث لم يثبت-انتهى. قلت: هذا الحديث من رواية عبد الرحمن بن يزيد بن جابر لا من رواية عبد الرحمن بن يزيد بن تميم، والأول ثقة، وثقه أحمد وابن معين والعجلي وابن سعد والنسائي ويعقوب بن سفيان وأبوداود وابنه أبوبكر بن أبي داود وابن حبان وأبوحاتم والذهبي والحافظ. والثاني أي ابن تميم ضعيف منكر الحديث، فالحق أن الحديث صحيح، ومن قال أنه ضعيف أو منكر، فكأنه اشتبه الأمر عليه لظنه أن الحديث من رواية ابن تميم. وقال ابن دحية: أنه صحيح بنقل العدل عن العدل، ومن قال: إنه منكر أو غريب لعله خفية به، فقد استروح؛ لأن الدارقطني ردها.

1372- (9) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اليوم الموعود يوم القيامة، واليوم المشهود يوم عرفة، والشاهد يوم الجمعة، وما طلعت الشمس ولا غربت على يوم أفضل منه، فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعوا الله بخير إلا استجاب الله له، ولا يستعيذ من شيء إلا أعاذه منه)) . رواه أحمد، والترمذي، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1372- قوله: (اليوم الموعود) أي الذي ذكره الله في سورة البروج. (يوم القيامة) ؛ لأن الله وعد الناس بإتيانه، أو لأنه وعد المؤمنين بعد إتيانه بنعيم الجنة. (واليوم المشهود يوم عرفة) ؛ لأن المؤمنين يشهدونه أي يحضرونه ويجتمعون فيه. (والشاهد يوم الجمعة) ؛ لأنه يشهد لمن حضر صلاته، أو لأنه يشهد على كل عامل بما عمل فيه. قال في اللمعات: إنما سمي يوم عرفة مشهوداً ويوم الجمعة شاهداً؛ لأن الخلائق يذهبون إلى عرفة ويشهدون فيها فكان مشهوداً، وفي يوم الجمعة هم على مكانهم فكان اليوم جاءهم وحضر فكان شاهداً. واعلم أنه وقع الإجماع على أن المراد باليوم الموعود المذكور في سورة البروج، هو يوم القيامة، واختلفوا في تفسير الشاهد والمشهود على أقوال، والراجح ما ذهب إليه الجمهور من الصحابة والتابعين. ومن بعدهم أن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة لحديث الباب، وهو وإن كان ضعيفاً فله شاهد من حديث أبي مالك الأشعري عند ابن جرير والطبراني وابن مردويه، وفيه إسماعيل بن عياش روى عن ضمضم بن زرعة الحمصي، وإسماعيل صدوق في روايته عن أهل بلده، ومن حديث جبير بن مطعم عند ابن عساكر وابن مردويه، ومن مرسل سعيد بن المسيب عند سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه. (وما طلعت الشمس ولا غربت) في الثاني زيادة تأكيد للأول. (على يوم) أي في يوم أو على موجود يوم وساكنه. (أفضل منه) أي من يوم الجمعة. (عبد مؤمن) قال القاري: من باب التفنن في العبارة فبالحديثين علم أن المؤمن والمسلم واحد في الشريعة، كقوله تعالى: {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين} [51: 36] . (يدعو الله بخير) فيه تفسير لقوله: "يصلي" مع زيادة التقييد بالخير. (إلا استجاب الله له) أي بنوع من الإجابة. (ولا يستعيذ من شيء) أي من شر نفس أو شيطان أو إنسان أو معصية أو بلية أو عار أو نار. (إلا أعاذه منه) أي أجاره بنوع من الإعاذة. والحديث من أدلة فضل يوم الجمعة. (رواه أحمد) (ج2ص298) مقتصراً على تفسير الآية موقوفاً من طريق يونس بن عبيد عن عمار مولى بني هاشم عن أبي هريرة من قوله، ومرفوعاً من طريق ابن جدعان عن عمار عن أبي هريرة، وكذا أخرجه البيهقي (ج3ص170) . قال ابن كثير: والموقوف أشبه. (والترمذي) في التفسير من طريق موسى بن عبيدة الربذي عن أيوب بن خالد عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة، أخرجه أيضاً من هذا الطريق ابن أبي حاتم

{الفصل الثالث}

وقال: هذا حديث غريب لا يعرف إلا من حديث موسى بن عبيدة، وهو يضعف. {الفصل الثالث} 1373- (10) عن أبي لبابة بن عبد المنذر، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن يوم الجمعة سيد الأيام وأعظمها عند الله، وهو أعظم عند الله من يوم الأضحى ويوم الفطر، فيه خمس خلال: خلق الله فيه آدم، وأهبط الله فيه آدم إلى الأرض، وفيه توفى الله آدم، وفيه ساعة لا يسأل العبد فيها شيئاً ـــــــــــــــــــــــــــــ وابن خزيمة. (وقال هذا حديث غريب لا يعرف) وفي نسخ الترمذي الحاضرة عندنا: هذا حديث لا نعرفه. (إلا من حديث موسى بن عبيدة) بضم العين المهملة وفتح الموحدة. (وهو يضعف) بصيغة المجهول أي في الحديث. قال الترمذي: ضعفه يحيى بن سعيد القطان وغيره من قبل حفظه-انتهى. قلت: ضعفه أيضاً أحمد وابن معين والنسائي وابن المديني وابن حبان وغيرهم. وقال الساجي وأبوحاتم: منكر الحديث. وقال أبوزرعة: ليس بقوي الأحاديث وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث وليس بحجة. وقال وكيع: كان ثقة وقد حدث عن عبد الله بن دينار أحاديث لم يتابع عليها. وقال أبوبكر البزار: موسى بن عبيدة رجل مفيد، وليس بالحافظ، إنما قصر به عن حفظ الحديث شغله بالعبادة. وقال الآجري عن أبي داود: أحاديثه مستوية إلا عن عبد الله بن دينار. وقال ابن معين: ليس بالكذوب، ولكنه روى عن ابن دينار أحاديث مناكير، كذا في تهذيب التهذيب. والظاهر أن موسى هذا ضعيف من قبل حفظه لا سيما في عبد الله بن دينار ومع ذلك فهو صدوق، وقد تأيد حديثه هذا بحديث أبي مالك الأشعري وجبير بن مطعم ومرسل ابن المسيب، وبالأحاديث التي رويت في فضل الجمعة وساعة الإجابة. 1373- قوله: (وعن أبي لبابة) بضم اللام وخفة موحدة أولى، الأوسي الأنصاري المدني، اسمه بشير، أو رفاعة بن عبد المنذر، صحابي مشهور. قال أبوأحمد الحاكم: يقال شهد بدراً، ويقال رده النبي - صلى الله عليه وسلم - حين خرج إلى بدر من الروحاء، واستعمله على المدينة، وضرب له بسهمه وأجره، فكان كمن شهدها ثم شهد أحداً وما بعدها وكانت معه رواية بني عمرو بن عوف في الفتح، وكان أحد النقباء شهد العقبة، له خمسة عشر حديثاً، اتفقا على حديث، مات في خلافة علي. وقيل: بعد الخمسين. (إن يوم الجمعة سيد الأيام) أي أفضل أيام الأسبوع، أو أريد بالسيد المتبوع، كما قال: والناس لنا تبع. (وهو أعظم عند الله من يوم الأضحى ويوم الفطر) قيل: أي باعتبار كونه يوم عبادة صرف، وهما يوم فرح وسرور، وفيه إشارة إلى تساوي يومي الجمعة وعرفة أو أفضلية عرفة. (فيه) أي في نفس يوم الجمعة. (خمس خلال) بكسر الخاء المعجمة أي خصال مختصة به. (خلق الله فيه آدم) أي طينته. (وأهبط الله فيه آدم إلى الأرض) أي أنزله من الجنة إلى الأرض. (لا يسأل العبد) اللام للعهد أي العبد المسلم. (فيها شيئاً)

إلا أعطاه، ما لم يسأل حراماً، وفيه تقوم الساعة، ما من ملك مقرب ولا سماء ولا أرض ولا رياح ولا جبال ولا بحر إلا هو مشفق من يوم الجمعة) . رواه ابن ماجه. 1374- (11) وروى أحمد عن سعد بن معاذ. ((أن رجلاً من الأنصار أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ـــــــــــــــــــــــــــــ أي مما يليق أن يدعو به المسلم، ويسأل فيه ربه تعالى. (إلا أعطاه) أي الله إياه. (ما لم يسأل حراماً) أي ما لم يكن مسؤله ممنوعاً. (ما من ملك مقرب ولا سماء ولا أرض ولا رياح ولا جبال ولا بحر) أي ولا من دابة، كما تقدم. (إلا هو مشفق) أي خائف من الإشفاق بمعنى الخوف، ولفظ ابن ماجه وأحمد: إلا وهن يشفقن. (من يوم الجمعة) أي خوفاً من فجأة الساعة، وفيه أن سائر المخلوقات تعلم الأيام بعينها، وأنها تعلم أن القيامة تقوم يوم الجمعة، ولا تعلم الوقائع التي بينها وبين القيامة، أو ما تعلم أن تلك الوقائع ما وجدت إلى الآن، لكن هذا بالنظر إلى الملك المقرب لا يخلو عن خفاء. والأقرب أن غلبة الخوف والخشية تنسيهم ذلك. (رواه ابن ماجه) وكذا أحمد (ج3ص430) بلفظ واحد. قال في الزوائد: إسناده حسن، وكذا قال العراقي، كما في النيل. وقال المنذري في الترغيب: في إسنادهما (أي أحمد وابن ماجه) عبد الله بن محمد بن عقيل، وهو ممن احتج به أحمد وغيره. 1374- قوله: (وروى أحمد عن سعد بن معاذ) كذا وقع في متن المرقاة وغيره، ووقع في بعض النسخ: سعيد بن معاذ، وكلاهما خطأ من النساخ؛ لأنه ليس في الرواة أحد اسمه سعيد بن معاذ، ولأن هذا الحديث من مرويات سعد بن معاذ، بل هو من مسانيد سعد بن عبادة، فالصواب سعد بن عبادة، كما وقع في مسند الإمام أحمد (ج5ص284) ومجمع الزوائد (ج2ص163) والترغيب للمنذري (ج1ص214) والفتح (ج4ص503) قال المنذري بعد ذكر حديث أبي لبابة عن المسند وسنن ابن ماجه: ورواه أحمد أيضاً والبزار من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل أيضاً من حديث سعد بن عبادة، وبقية رواته ثقات مشهورون-انتهى. وسعد بن عبادة بعين مضمومة وخفة موحدة، ابن دليم بن حارثة أبوثابت الأنصاري الساعدي الخزرجي، سيدهم، وصاحب رأية الأنصار في المشاهد كلها. اختلف في شهوده بدراً فوقع في صحيح مسلم أنه شهدها، وكذا قاله ابن عيينة والبخاري وأبوحاتم وأبوأحمد الحاكم وابن حبان، والمعروف عند أهل المغازي أنه تهيأ للخروج إلى بدر فنهش فأقام، وهو من نقباء العقبة الاثني عشر، وكان أحد الأجواد، يكتب بالعربية ويحسن العوم والرمي، وكان من أحسن ذلك يسمى الكامل، وكان كثير الصدقات جداً، حكايات جوده كثيرة مشهورة، تخلف عن بيعة أبي بكر رضي الله عنه وخرج عن المدينة، ولم يرجع إليها حتى مات بحوران من أرض الشام لسنتين ونصف من خلافة عمر سنة (15) وقيل: (14) وقيل: (11) ولم يختلفوا أنه وجد ميتا في مغتسلة، وقد أخضر جسده ولم يشعروا بموته حتى سمعوا قائلاً يقول ولا يرونه:

أخبرنا عن يوم الجمعة ماذا فيه من الخير؟ قال: فيه خمس خلال)) . وساق إلى آخر الحديث. 1375- (12) وعن أبي هريرة، قال: ((قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: لأي شيء سمي يوم الجمعة؟ قال: لأن فيها طبعت طينة أبيك آدم، وفيها الصعقة والبعثة وفيها البطشة، وفي آخر ثلاث ساعات منها ساعة من دعا الله فيها استجيب له)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة، ورمينا بسهمين فلم نخط فؤاده، فيقال: إن الجن قتلته. (أخبرنا عن يوم الجعة) أي عن خواصه. (ماذا فيه من الخير قال: فيه خمس خلال) قال الطيبي: يدل على أن هذه الخلال خيرات توجب فضيلة اليوم. (وساق) أي ذكرها مرتباً. (إلى آخر الحديث) والظاهر أنه ليس المراد بخمس خلال الحصر لما تقدم أن ابن القيم ذكر في الهدي ثلاثاً وثلاثين خصوصية للجمعة. 1375- قوله: (لأي شيء سمي) أي يوم الجمعة بالرفع. (يوم الجمعة) بالنصب على أنه مفعول ثان، وذكره المنذري في الترغيب، والهيثمي في الزوائد عن المسند بلفظ: أي شيء يوم الجمعة. (لأن فيها) أنثه نظراً للمضاف إليه. (طبعت) أي خمرت وجمعت. وقيل: جعلت صلصالاً كالفخار. (طينة أبيك) الطين بالكسر معروف وبالهاء قطعة منه. (آدم) أي الذي هو مجموعة العالم، والخطاب للقائل السائل. (وفيها الصعقة) أي الصيحة الأولى التي يموت بها جميع أهل الدنيا. (والبعثة) بكسر الباء وتفتح أي النفخة الثانية التي بها تحيا جميع الأجساد الفانية. (وفيها البطشة) أي الأخذة الشديدة يوم القيامة الطامة التي للخلائق عامة، والمراد بها المؤاخذة بعد البعث والحشر. قال القاري: وما قيل إنها يوم القيامة، فهو ضعيف؛ لأن التأسيس أولى من التأكيد. قال الطيبي: سئل - صلى الله عليه وسلم - عن علة تسمية الجمعة، فأجاب بأنه إنما سمي بها لاجتماع الأمور العظام وجلائل الشؤون فيها-انتهى. ولا يخفى أن فيما قدمناه إشارة إلى أن معنى الجمعية موجودة في كل من الأمور المذكورة مع قطع النظر عن الهيئة المجموعية. (وفي آخر ثلاث ساعات منها) أي من يوم الجمعة. (ساعة) قال الطيبي: وفي هذه تجريدية، إذا الساعة هي نفس آخر ثلاث ساعات، كما في قولك: في البيضة عشرون منا من حديد والبيضة نفس الأرطال-انتهى. قال القاري: ولعل العدول عن أن يقول: وفي آخرها ساعة إشارة إلى المحافظة على الساعتين قبل تلك الساعة لقربها-انتهى. وعلى هذا حديث أبي هريرة هذا يكون موافقاً للأحاديث المصرحة بأنها آخر ساعة بعد العصر، وهو الظاهر عندي، ويظهر من كلام الحافظ أنه فهم أن المراد منه آخر الساعة الثالثة من أول النهار حيث قال: القول الحادي عشر أنها آخر الساعة الثالثة من النهار، حكاه صاحب المغني (ج2ص355) ، وهو في مسند الإمام أحمد من طريق علي بن طلحة عن أبي هريرة مرفوعاً، فذكر حديث الباب ثم نقل عن المحب الطبري أنه قال: قوله في آخر ثلاث ساعات

رواه أحمد. 1376- (13) وعن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أكثروا الصلاة عليّ يوم الجمعة، فإنه مشهود يشهده الملائكة، وإن أحداً لم يصل عليً إلا عرضت علي صلاته حتى يفرغ منها. قال قلت: وبعد الموت؟ قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، فنبي الله حي يرزق)) ـــــــــــــــــــــــــــــ يحتمل أمرين: أحدهما أن يكون المراد الساعة الأخيرة من الثلاثة الأول. ثانيهما أن يكون المراد أن في آخر كل من الثلاثة ساعة إجابة، فيكون فيه تجوز لإطلاق الساعة على بعض الساعة-انتهى. (رواه أحمد) من طريق علي بن أبي طلحة عن أبي هريرة، وفي إسناده فرج بن فضالة، وهو ضعيف، وعلي لم يسمع من أبي هريرة، قاله الحافظ، ووهم الهيثمي إذ قال: رجاله رجال الصحيح، ووهم المنذري أيضاً حيث قال: رجاله محتج بهم في الصحيح. 1376- قوله: (فإنه) أي يوم الجمعة. (مشهود يشهده) قال القاري: بالياء والتاء. وفي ابن ماجه: تشهده بالتاء، وكذا نقله المجد بن تيمية والمنذري. (الملائكة) هذا لا ينافي ما تقدم من أن يوم الجمعة شاهد؛ لأن إطلاق المشهود عليه هنا باعتبار آخر، فهو شاهد ومشهود، كما قيل في حقه تعالى: هو الحامد، وهو المحمود، مع أنه يحتمل أن يكون ضمير فإنه في هذا الحديث راجعاً إلى إكثار الصلاة المفهوم من "أكثروا"، ويؤيده السياق المكتنف بالسباق واللحاق. (إلا عرضت) بصيغة المجهول. (على صلاته) بواسطة الملائكة أي في كل وقت، فعرضها في يوم الجمعة الذي هو أفضل الأيام أولى، ويحتمل أن يكون ذلك العرض مخصوصاً بيوم الجمعة أي وجوباً والبتة على وجه الكمال كذا في اللمعات. (حتى يفرغ منها) أي من الصلاة يعني الصلوات كلها معروضة على وإن طالت المدة من ابتداء شروعه فيها إلى الفراغ منها. (قلت وبعد الموت) أي أيضاً، والاستفهام مقدر "أو" وبعد الموت ما الحكم فيه. (إن الله حرم على الأرض) أي منعها منعاً كلياً. (أن تأكل أجساد الأنبياء) فلا فرق لهم في الحالين. وفيه إشارة إلى أن العرض على مجموع الروح والجسد منهم بخلاف غيرهم. (فنبي الله) يحتمل الإضافة الاستغراق، ويحتمل أنها للعهد، والمراد نفسه، وهو الظاهر. وقال القاري: يحتمل الجنس والاختصاص بالفرد الأكمل، والظاهر هو الأول؛ لأنه رأى موسى قائماً يصلي في قبره، وكذلك إبراهيم، كما في حديث مسلم. (حي يرزق) رزقاً معنويا فإن الله تعالى قال في حق الشهداء من أمته: {بل أحياء عند ربهم يرزقون} فكيف سيدهم بل رئيسهم؛ لأنه حصل له أيضاً مرتبة الشهادة مع مزيد السعادة بأكل الشأة المسمومة وعود سمها، وإنما عصمة الله من الشهادة الحقيقية للبشاعة الصورية ولإظهار القدرة الكاملة بحفظ فرد من بين أعداءه من شر البرية، ولا ينافيه أن يكون هناك رزق حسي أيضاً، وهو الظاهر المتبادر، قاله القاري. ثم هذه الجملة يحتمل أن تكون من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -

رواه ابن ماجه. 1377- (14) وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر)) . رواه أحمد، والترمذي، وقال: هذا حديث غريب، وليس إسناده بمتصل. ـــــــــــــــــــــــــــــ نتيجة للكلام، ويحتمل أن تكون من قول أبي الدرداء استفادة من كلامه وتفريعاً عليه - صلى الله عليه وسلم -، وهذا هو الظاهر. وفي الحديث مشروعية الإكثار من الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة، وأنها تعرض عليه - صلى الله عليه وسلم -، وأنه حي في قبره. وقد ذهب جماعة من العلماء ومنهم البيهقي والسيوطي إلى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حي بعد وفاته، وأنه يسير بطاعات أمته، وعندنا حياته هذه هي نوع حياة برزخية وليست نظير الحياة الدنيوية المعهودة، فإن روحه - صلى الله عليه وسلم - في مستقرها في عليين مع الرفيق الأعلى، ولها تعلق ببدنه الطيب قوي فوق تعلق روح الشهيد بجسده، فلا يثبت لها أحكام الحياة الدنيوية إلا ما وقع ذكره في الأحاديث الصحيحة، وارجع للبسط والتحقيق إلى الصارم المنكى (ص196- 204) واقتضاء الصراط المستقيم، وصيانة الإنسان. (رواه ابن ماجه) في آخر الجنائز. قال العراقي في شرح الترمذي، والحافظ في تهذيب التهذيب (ج3ص398) : رجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعاً؛ لأن في إسناده زيد بن أيمن عن عبادة بن نسي عن أبي الدرداء. قال البخاري: زيد بن أيمن عن عبادة بن نسي مرسل، ونقل السندي عن البوصيري أنه قال في الزوائد: هذا الحديث صحيح إلا أنه منقطع في موضعين؛ لأن عبادة روايته عن أبي الدرداء مرسلة، قاله العلاء وزيد بن أيمن عن عبادة مرسلة، قاله البخاري-انتهى. 1377- قوله: (ما من مسلم) قال القاري: زيادة "من" لإفادة العموم، فيشمل الفاسق إلا أن يقال إن التنوين للتعظيم. (يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة) الظاهر أن "أو" للتنويع لا للشك. (إلا وقاه الله) أي حفظه. (فتنة القبر) أي عذابه وسؤاله، وهو يحتمل الإطلاق والتقييد، والأول هو الأولى بالنسبة إلى فضل المولى، وهذا يدل على أن شرف الزمان له تأثير عظيم، كما أن فضل المكان له أثر جسيم. (رواه أحمد) (ج2ص169) . (والترمذي) في الجنائز، كلاهما من طريق سعيد بن أبي هلال عن ربيعة بن سيف عن عبد الله بن عمرو. (وقال) أي الترمذي. (هذا حديث غريب وليس إسناده بمتصل) ؛ لأن ربيعة بن سيف إنما يروي عن أبي عبد الرحمن الحبلى عن عبد الله بن عمرو. قال الترمذي: ولا نعرف لربيعة بن سيف سماعاً من عبد الله بن عمرو-انتهى. وذكر الحافظ كلام الترمذي هذا في التهذيب وأقره، قال شيخنا في شرح الترمذي: فالحديث ضعيف؛ لانقطاعه، لكن له شواهد. قال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث: في إسناده ضعف. وأخرجه أبويعلى من حديث أنس نحوه،

1378- (15) وعن ابن عباس، أنه قرأ: {اليوم أكملت لكم دينكم} الآية، ـــــــــــــــــــــــــــــ وإسناده أضعف-انتهى. وقال الهيثمي: في سند حديث أنس يزيد الرقاشى، وفيه كلام-انتهى. وقال القاري: ذكره السيوطي في باب من لا يسأل في القبر، وقال: أخرجه أحمد والترمذي وحسنه، وابن أبي الدنيا عن ابن عمرو، ثم قال: وأخرجه ابن وهب في جامعه والبيهقي أيضاً من طريق آخر عنه بلفظ: إلا برئ من فتنة القبر. وأخرجه البيهقي أيضاً من طريق ثالثة عنه موقوفاً بلفظ: وقي الفتان-انتهى. قلت: لم أجد عند الترمذي تحسينه فلعله وهم وقع في النسخة التي كانت بيد السيوطي، لكن الحديث رواه أحمد من طريق آخر صحيح (ج2ص176، 219) وجاء نحوه أيضاً من حديث جابر رواه أبونعيم في الحلية (ج3ص155، 156) بإسناد فيه ضعف. قال ابن القيم: حديث جابر تفرد به عمرو بن موسى الوجيهي، وهو مدني ضعيف-انتهى. قال السيوطي: قال القرطبي هذه الأحاديث أي التي تدل على نفي سؤال القبر لا تعارض أحاديث السؤال السابقة أي لا تعارضها بل تخصها وتبين من لا يسئل في قبره ولا يفتن فيه ممن يجري عليه السؤال ويقاسي تلك الأهوال، وهذا كله ليس فيه مدخل للقياس ولا مجال للنظر فيه، وإنما فيه التسليم والإنقياد لقول الصادق المصدوق. قال الحكيم الترمذي: ومن مات يوم الجمعة فقد انكشف له الغطاء عما له عند الله؛ لأن يوم الجمعة لا تسجر فيه جهنم وتغلق أبوابها، ولا يعمل سلطان النار فيه ما يعمل في سائر الأيام، فإذا قبض الله عبداً من عبيده فوافق قبضه يوم الجمعة كان ذلك دليلا لسعادته وحسن مآبه، وأنه لا يقبض في ذلك اليوم إلا من كتب له السعادة عنده، فلذلك يقيه فتنة القبر؛ لأن سببها إنما هو تمييز المنافق من المؤمن. قلت: ومن تتمة ذلك أن من مات يوم الجمعة له أجر شهيد، فكان على قاعدة الشهداء في عدم السؤال، كما أخرجه أبونعيم في الحلية عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة أجير من عذاب القبر، وجاء يوم القيامة وعليه طابع الشهداء. وأخرج حميد في ترغيبه عن إياس بن بكير: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من مات يوم الجمعة كتب له أجر شهيد ووقي فتنة القبر. وأخرج من طريق ابن جريج عن عطاء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما من مسلم أو مسلمة يموت في يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقي عذاب القبر وفتنة القبر، ولقي الله ولا حساب عليه، وجاء يوم القيامة ومعه شهود يشهدون له أو طابع، وهذا الحديث لطيف صرح فيه بنفي الفتنة والعذاب معاً-انتهى كلام السيوطي. قال ابن القيم في حديث جابر: تفرد بع عمر بن موسى الوجيهي، وهو مدني، ضعيف. 1378- قوله: (اليوم أكملت لكم دينكم) أي ما تحتاجون إليه في تكليفكم من تعليم الحلال والحرام وقواعد العقائد وقوانين القياس وأصول الاجتهاد. وقيل: أي أحكامه وفرائضه وشرائعه، فلم ينزل بعدها حلال ولا حرام. (الآية) وهي قوله. {وأتممت عليكم نعمتي} أي بالهداية والتوفيق، أو بإكمال الدين، أو بفتح مكة

وعنده يهودي، فقال: لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذناها عيداً، فقال ابن عباس: فإنها نزلت في يوم عيدين، في يوم جمعة، ويوم عرفة)) . رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب. ـــــــــــــــــــــــــــــ ودخولها آمنين. وقيل: أي أمور دنياكم. {ورضيت} أي اخترت. {لكم الإسلام ديناً} حال أي اخترته لكم من بين الأديان وآذنتكم بأنه هو الدين المرضى وحده. (وعنده) أي وعند ابن عباس. (يهودي) أي حاضر. وفي حديث عمر بن الخطاب عند البخاري في كتاب الإيمان: أن رجلاً من اليهود قال له أي لعمر. قال الحافظ: هذا الرجل، هو كعب الأحبار، بين ذلك مسدد في مسنده، والطبري في تفسيره، والطبراني في الأوسط، وللبخاري في المغازى: أن ناساً من اليهود، وله في التفسير: قالت اليهود، فيحمل على أن أنهم كانوا حين سؤال كعب عن ذلك جماعة، وتكلم كعب على لسانهم وأطلق على كعب هذه الصفة إشارة إلى أن سؤاله عن ذلك وقع قبل إسلامه؛ لأن إسلامه كان في خلافة عمر على المشهور، وأطلق عليه ذلك باعتبار ما مضى. (فقال) أي اليهودي. (لاتخذناها) أي جعلنا يوم نزولها. (عيداً) نعظمه في كل سنة ونسر فيه لعظم ما حصل فيه من كمال الدين. (فإنها) أي الآية. (نزلت) أي علينا. (في يوم عيدين) أي وقت عيدين لنا. (في يوم جمعة ويوم عرفة) وفي بعض نسخ المشكاة وجامع الترمذي: في يوم الجمعة أي معرفاً باللام، وهو بدل مما قبله بإعادة الجار، يعني أنزلها الله في يومي عيد لنا فضلاً وإحساناً من غير أن نجعلهما عيدين بأنفسنا، أو قد تضاعف السرور لنا بإنزالها فإنا نعظم الوقت الذي نزلت فيه مرتين وإن كان نزولها في الوقت المشتمل على اليومين، فإنها نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفة يوم الجمعة. وفي حديث عمر عند الطبري: نزلت يوم جمعة يوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيد. والطبراني: وهما لنا عيدان. قال الطيبي: في جواب ابن عباس لليهودي إشارة إلى الزيادة في الجواب، يعني ما اتخذنا عيداً واحداً، بل عيدين، وتكرير اليوم تقرير لاستقلال كل يوم بما سمي به وإضافة يوم إلى عيدين كإضافة اليوم إلى الجمعة أي يوم الفرح المجموع، والمعنى يوم الفرح الذي يعودون مرة بعد أخرى فيه إلى السرور. قال الراغب: العيد ما يعاود مرة بعد أخرى، وخص في الشريعة بيوم الفطر ويوم النحر، ولما كان ذلك اليوم مجعولاً للسرور في الشريعة، كما نبه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: أيام منى أيام أكل وشرب وبعال صار يستعمل العيد في كل يوم فيه مسرة. والحديث من أدلة فضل الجمعة؛ لأن فيه أخبر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين أنه قد أكمل لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى زيادة أبداً. فلما أكمل لهم الدين تمت عليهم النعمة، وفي يوم وقع ذلك له فضل عظيم. (رواه الترمذي) في تفسير سورة المائدة وحسنه. وأخرجه أيضاً ابن جرير في تفسيره، وأصل الحديث عند الشيخين وغيرهما عن عمر بن الخطاب أن رجلاً من اليهود قال له الخ.

(43) باب وجوبها

1379- (16) وعن أنس، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل رجب قال: اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان. قال: وكان يقول: ليلة الجمعة ليلة أَغَرٌّ، ويوم الجمعة أزهر)) . رواه البيهقي في الدعوات الكبير. (43) باب وجوبها ـــــــــــــــــــــــــــــ 1379- قوله: (إذا دخل رجب) أي الشهر الذي هو فرد من الأشهر الحرم منون. وقيل: غير منصرف. (اللهم بارك لنا) أي في طاعتنا وعبادتنا. (في رجب وشعبان) يعني وفقنا للإكثار من الأعمال الصالحة فيهما. (وبلغنا رمضان) أي إدراكه بتمامه والتوفيق لصيامه وقيامه. قيل: ولم يقل ورمضان لبعده عن أول رجب. (قال) أي أنس. (وكان يقول) - صلى الله عليه وسلم -. (ليلة الجمعة ليلة أغر) قال الطيبي: أي أنور من الغرة- انتهى. وكان الظاهر أن يقال غراء، وإنما قال: أغرّ بحذف الموصوف أي زمان أو وقت أغر. وقال القاري: نزل ليلته منزلة يومه فوصف بأغر على طريق المشاكلة، أو ذكره باعتبار أن ليلة بمعنى الليل، إذ التاء لوحدة الجنس لا للتأنيث. قلت: وذكره السيوطي في الجامع الصغير عن البيهقي وابن عساكر وابن السني في عمل اليوم والليلة والهيثمي في مجمع الزوائد عن البزار بلفظ: ليلة غراء. (ويوم الجمعة يوم أزهر) قال الطيبي: الأزهر الأبيض، ومنه أكثروا الصلاة عليّ في الليلة الغراء، واليوم الأزهر أي ليلة الجمعة ويومها- انتهى. والنورانية فيهما معنوية لذاتهما، فالنسبة حقيقية أو للعبادة الواقعة فيهما، فالنسبة مجازية، قاله القاري. (رواه البيهقي) وأخرجه أيضاً ابن عساكر، وابن السني (ص165) قال العزيزي: وفيه ضعف، كما في الأذكار (ص143) ونسبه الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص165) للبزار، وقال: فيه زائدة بن أبي الرقاد. قال البخاري: منكر الحديث، وجهله جماعة- انتهى. قلت: وقال البزار. لا بأس به، وإنما نكتب من حديثه ما لم نجد عند غيره، كذا في التهذيب، وفيه أيضاً زيادة النميري، وهو ضعيف. (باب وجوبها) أي الأحاديث الدالة على وجوبها وفرضيتها. قال في شرح السنة: الجمعة من فروض الأعيان عند أكثر أهل العلم، وذهب بعضهم إلى أنها من فروض الكفايات. وقال ابن الهمام: الجمعة فريضة محكمة بالكتاب والسنة والإجماع، وقد صرح أصحابنا بأنه فرض آكد من الظهر وبإكفار جاحدها- انتهى. وفي كتاب الرحمة في اختلاف الأمة: اتفق العلماء على أن الجمعة فرض على الأعيان، وغلطوا من قال هي فرض كفاية. وقال العراقي: مذاهب الأئمة الأربعة متفقة، على أنها فرض عين، لكن بشروط يشترطها أهل كل مذهب. وحكى ابن

{الفصل الأول}

{الفصل الأول} 1380-1381. (1-2) عن أبي عمر، وأبي هريرة، أنهما قالا: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره: ((لينتهين أقوام ـــــــــــــــــــــــــــــ المنذر الإجماع على أنها فرض عين. وقال الإمام البخاري في صحيحه: باب فرض الجمعة لقوله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} [9:62] ثم ذكر حديث أبي هريرة السابق في الفصل الأول من باب الجمعة بلفظ: هذا يومهم الذي فرض عليهم. قال الحافظ: استدلال البخاري بهذه الآية على فرضية الجمعة سبقه إليه الشافعي في الأم وكذا حديث أبي هريرة ثم قال: فالتزيل والسنة يدلان على إيجابها قال: وعلم بالإجماع أن يوم الجمعة، هو الذي بين الخميس والسبت. وقال الشيخ الموفق في المغني (ج2 ص295) : الأمر بالسعي يدل على الوجوب إذ لا يجب السعي إلا إلى واجب. وقال الزين بن المنير وجه الدلالة من الآية مشروعية النداء لها إذ الأذان من خواص الفرائض، وكذا النهي عن البيع؛ لأنه لا ينهى عن المباح، يعني نهى التحريم إلا إذا أفضى إلى ترك واجب، ويضاف إلى ذلك التوبيخ على قطعها قال: وأما وجه الدلالة من الحديث، فهو من التعبير بالفرض لأنه للإلزام، وإن أطلق على غير الإلزام كالتقدير، لكنه متعين له لاشتماله على ذكر الصرف لأهل الكتاب عن اختياره وتعيينه لهذه الأمة، سواء كان ذلك وقع لهم بالتنصيص أم بالاجتهاد. وفي سياق القصة إشعار بأن فرضيتها على الأعيان لا على الكفاية، وهو من جهة إطلاق الفرضية ومن التعميم في قوله: فهدانا الله له والناس لنا فيه تبع. واختلف في وقت فرضيتها، فالأكثر أنها فرضت بالمدينة، وهو مقتضى ما تقدم أن فرضيتها بالآية المذكورة، وهي مدنية، ويدل عليه أيضاً ما روى ابن ماجه بسند ضعيف من حديث جابر قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا أيها الناس توبوا إلى ربكم- الحديث، وفيه: واعلموا أن الله كتب عليكم الجمعة في يومي هذا في مقامي هذا في شهري هذا إلى يوم القيامة. وقال الشيخ أبوحامد: فرضت بمكة، وهو غريب، واستدل بعضهم لذلك بما أخرجه الدارقطني عن ابن عباس قال: أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجمعة قبل أن يهاجر، ولم يستطع أن يجمع بمكة، فكتب إلى مصعب بن عمير الخ. ذكره الحافظ في التلخيص: ولم يبين أن هذه الرواية أي كتاب للدار قطني، وكيف حالها من حيث الصحة والضعف. 1380-1381- قوله: (على أعواد منبره) أي على درجاته، وذكره للدلالة على كمال التذكير وللإشارة إلى اشتهار هذا الحديث. وقال الأمير اليماني: أي منبره الذي من عود لا على الذي كان من الطين ولا على الجذع الذي كان يستند إليه. (لينتهين أقوام) قيل: أيهم خوف كسر قلب من يعينه؛ لأن النصيحة في الملأ فضيحة.

{الفصل الثاني}

عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين)) رواه مسلم {الفصل الثاني} 1382- (3) عن أبي الجعد الضمري، ـــــــــــــــــــــــــــــ (عن ودعهم) بفتح الواو وسكون الدال. (الجمعات) أي عن تركهم إياها والتخلف عنها تهاوناً من غير عذر، من ودع الشيء يدعه إذا تركه. وقول النحاة: أن العرب أماتوا ماضي يدع ومصدره أعني، ودع ودعا استغناء يترك تركاً معناه أن الغالب عدم استعمالها، أي يحمل على قلة استعمالها استغناء بما هو أخف منهما، لا أم معناه عدم استعمالهما أصلاً، وإلا نافاه استعمال الودع في هذا الحديث الفصيح. فالحق ثبوت استعمالهما في فصيح الكلام، وحمل كلام النحاة على ما مر. وقيل: قولهم مردود، والحديث حجة عليهم قال التوربشتي: لا عبرة بما قال النحاة، فإن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الحجة القاضية على كل ذي فصاحة. وقال السيوطي: والظاهر أن استعماله ههنا من الرواة المولدين الذين لا يحسنون العربية، ورده السندي بأنه لا يخفى على من تتبع كتب العربية أن قواعد العربية مبنية على الاستقراء الناقص دون التام عادة، وهي مع ذلك أكثريات لا كليات فلا يناسب تغليط الرواة. (أو ليختمن الله على قلوبهم) أي يطبع عليها ويغطيها بالرين كناية عن إعدام اللطف وأسباب الخير، يعني لينعنهم لطفه وفضله. وقال القرطبي: الختم عبارة عما يخلقه الله تعالى في قلوبهم من الجهل والجفاء والقسوة. وقال العراقي: المراد بالطبع على قلبه أنه يصير قلبه قلب منافق، كما روى الطبراني من حديث عبد الله ابن أبي أوفى مرفوعاً بإسناد جيد: من سمع النداء يوم الجمعة ولم يأتها ثم سمع النداء ولم يأتها ثلاثاً طبع على قلبه، فجعله قلب منافق. قال الهيثمي: وفيه من لم يعرف. قيل: ومن ختم على قلبه بالرين قد يتيقظ للخير في بعض الأوقات بخلاف الغافل عن مولاه، فلا يتفطن للخير أصلاً، فلهذا ترقى فقال (ثم ليكونن) بضم النون الأولى. (من الغافلين) أي ثم يترقى بهم في الشر إلى هذه المرتبة. قال الطيبي: ثم لتراخى الرتبة، فإن كونهم من جملة الغافلين المشهود عليهم بالغفلة ادعى لشقائهم وأنطق لخسرانهم من مطلق كونهم مختوماً عليهم. وقيل: المراد الدائمين في الغفلة. قال القاضي: والمعنى أن أحد الأمرين كائن لا محالة، أما الانتهاء عن ترك الجمعات أو ختم الله على قلوبهم فإن اعتياد ترك الجمعة يغلب الرين على القلب ويزهد النفوس في الطاعة، وذلك يؤدي بهم إلى أن يكونوا من الغافلين، أي عن اكتساب ما ينفعهم من الأعمال وعن ترك ما يضرهم منها. والحديث من أعظم الزواجر عن ترك الجمعة والتساهل فيها ومن أدلة أنها من فروض الأعيان. (رواه مسلم) وكذا البيهقي (ج3 ص171) وأخرجه أحمد والنسائي والبيهقي أيضاً (ج3 ص171-172) من حديث ابن عمر، وابن عباس. 1382- قوله: (عن أبي الجعد) بفتح الجيم وسكون العين المهملة. (الضمرى) بفتح الضاد المعجمة وسكون

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ترك ثلاث جمع تهاوناً بها، طبع الله على قلبه)) رواه أبوداود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي. 1383- (4) ورواه مالك عن صفوان بن سليم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الميم، نسبة إلى ضمرة بن بكر بن عبد مناة، قاله في جامع الأصول، وكذا في المغني لمحمد طاهر الفتني، ووقع في بعض نسخ المشكاة: الضميري، بضم الضاد وفتح الميم، وهو خطأ، وأبوالجعد الضمري، لا يعرف اسمه. قال الترمذي: سألت محمداً عن اسم أبي الجعد، فلم يعرف اسمه. وقيل: اسمه كنيته. وقيل: اسمه أدرع. وقيل: عمرو بن بكر. وقيل: جنادة، صحابي، قال الخزرجي: له أربعة أحاديث، وعند الأربعة حديث، قال ابن سعد: بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - بجيش قومه لغزوة الفتح، ولغزوة تبوك. ويقال: إن عثمان استقضاه، قتل مع عائشة يوم الجمل. (من ترك) أي ممن تجب عليه. (ثلاث جمع) بضم الجيم وفتح الميم. قال الباجي: وأما اعتبار العدد في الحديث فانتظار للفيئة وإمهال منه تعالى عبده للتوبة. قال الشوكاني: يحتمل أن يراد حصول الترك مطلقاً سواء توالت الجمعات أو تفرقت، حتى لو ترك في كل سنة جمعة لطبع الله على قلبه بعد الثالثة، وهو ظاهر الحديث. ويحتمل أن يراد ثلاث جمع متوالية، كما في حديث أنس عند الديلمي في مسند الفردوس؛ لأن موالاة الذنب ومتابعته مشعرة بقلة المبالاة به-انتهى. قلت: الاحتمال الثاني هو المتعين لما تقرر في الأصول من حمل الروايات المطلقة على المقيدة، ويؤيد حديث أنس ما رواه أبويعلى برجال الصحيح عن ابن عباس: من ترك الجمعة ثلاث جمع متواليات فقد نبذ الإسلام وراء ظهره. قال الشوكاني: هكذا ذكره موقوفاً، وله حكم الرفع؛ لأن مثله لا يقال من قبل الرأي، كما قال العراقي. (تهاوناً بها) قيل: المراد بالتهاون الترك من غير عذر، فيكون مفعولاً مطلقاً للنوع، وقيل: هو مفعول له. وقيل: هو مصدر في موضع الحال أي متهاوناً. قال في اللمعات: الظاهر أن المراد بالتهاون التكاسل وعدم الجد في أدائه وقلة الاهتمام به، لا الإهانة والاستخفاف، فإن الاستخفاف بفرائض الله كفر، وفيه أن الطبع المذكور إنما يكون على قلب من ترك ذلك تهاوناً، فينبغي أن تحمل الأحاديث المطلقة على هذا الحديث المقيد بالتهاون، وكذلك تحمل الأحاديث المطلقة على المقيدة بعدم العذر. (طبع الله على قلبه) أي ختم عليه وغشاه ومنعه الألطاف أو صير قلبه قلب منافق. (رواه أبوداود الخ) وأخرجه أيضاً الشافعي وأحمد (ج3ص424) وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والبغوي والدولابي في الكنى (ج1ص21- 22) والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم. والبيهقي (ج3ص172، 247) وفي رواية لابن خزيمة وابن حبان: من ترك الجمعة ثلاثاً من غير عذر فهو منافق. والحديث قد حسنه الترمذي، وصححه وابن السكن، وسكت عنه أبوداود. 1383- قوله: (ورواه مالك) في الموطأ. (عن صفوان بن سليم) قال مالك: لا أدري أعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أم

1384- (5) وأحمد عن أبي قتادة. 1385- (6) وعن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من ترك الجمعة من غير عذر فليصدق بدينار، فإن لم يجد فبنصف دينار)) . رواه أحمد، وأبوداود، وابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ لا أنه قال: من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير عذر ولا علة طبع الله على قلبه. وصفوان بن سليم بضم السين وفتح اللام، المدني أبوعبد الله القرشي الزهري، مولاهم ثقة، فقيه، تابعي، عابد، زاهد، مات سنة. (132) وهو ابن (72) سنة، فالحديث مرسل ومع ذلك قد تردد الإمام مالك في رفعه. قال ابن عبد البر: هذا يسند من وجوه أحسنها حديث أبي الجعد الضمري. أخرجه الشافعي وأصحاب السنن الأربعة-انتهى. ذكره السيوطي. 1384- (وأحمد) (ج5ص300) . (وعن أبي قتادة) مرفوعاً: من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير ضرورة طبع على قلبه، وإسناده حسن، كما قال المنذري في الترغيب، والهيثمي في مجمع الزوائد (ج2ص192) والدارقطني في العلل. وأخرجه أيضاً الحاكم وقال: صحيح الإسناد. وفي الباب عن جماعة من الصحابة، ذكرهم الشوكاني في النيل والهيثمي في مجمع الزوائد. 1385- قوله: (من ترك الجمعة) أي صلاتها ممن تلزمه. (فليتصدق بدينار) قال في المفاتيح: الأمر للندب لدفع إثم الترك. (بدينار) أي كفارة. (فإن لم يجد) أي الدينار. (فبنصف دينار) أي فليتصدق بنصفه. قال ابن حجر: وهذا التصدق لا يرفع إثم الترك أي بالكلية حتى ينافي خبر من ترك الجمعة من غير عذر لم يكن لها كفارة دون يوم القيامة، وإنما يرجى بهذا التصدق تخفيف الإثم. وذكر الدينار ونصفه لبيان الأكمل، فلا ينافي ذكر الدرهم أو نصفه، وصاع حنطة أو نصفه في رواية لأبي داود؛ لأن هذا البيان أدنى ما يحصل به الندب، ذكره القاري. يعني أن الأمر بالتصدق بدينار للواجد وبنصفه لغير الواجد بيان للأكمل، وإلا فيحصل أصل السنة بالتصدق بالدرهم ونصفه الخ. وقيل: الأولى أن يقال إن التصدق بالدرهم أو نصفه لمن لم يجد الدينار ونصفه. قال السندي: والظاهر أن الأمر للاستحباب، ولا بد من التوبة بعد ذلك، فإنها الماحية للذنب. (رواه أحمد) (ج5ص8، 14) . (وأبوداود وابن ماجه) والنسائي والبيهقي (ج3ص248) أيضاً. أما أحمد وأبوداود فأخرجاه من طريق همام عن قتادة عن قدامة بن وبرة عن سمرة. وأما ابن ماجه فأخرجه من طريق نوح بن قيس عن أخيه عن قتادة عن الحسن عن سمرة. وأخرجه النسائي من الطريقين، وكذا البيهقي. وقدامة بن وبرة قال الحافظ: مجهول. وقال الذهبي: لا يعرف. وقال أبوحاتم عن أحمد: لا يعرف. وقال مسلم: قيل لأحمد: يصح حديث سمرة من ترك الجمعة؟ فقال قدامة يرويه لا نعرفه. وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة. وقال

1386- (7) وعن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((الجمعة على من سمع النداء)) رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ البخاري: لم يصح سماعه من سمرة. وقال ابن خزيمة في صحيحه: لا أقف على سماع قدامة من سمرة، ولست أعرف قدامة بن وبرة بعدالة ولا جرح، كذا في التهذيب. فطريق قدامة ضعيف لجهالته ولعدم سماعه من قتادة وأما طريق الحسن عن سمرة فقد تقدم ما فيه من الكلام. 1386- قوله: (الجمعة على من سمع النداء) وفي أبي داود: الجمعة على كل من سمع النداء. ورواه الدارقطني، ومن طريقه البيهقي بلفظ: إنما الجمعة على من سمع النداء أي حقيقة أو حكماً. قال الشوكاني: ظاهر الحديث عدم وجوب الجمعة على من لم يسمع النداء، سواء كان في البلد الذي تقام فيه الجمعة أو في خارجه، وقد ادعى في البحر الإجماع على عدم اعتبار سماع النداء في موضعها، واستدل لذلك بقوله: إذا لم تعتبره الآية، وأنت تعلم أن الآية قد قيد الأمر بالسعي فيها بالنداء لما تقرر عند أئمة البيان من أن الشرط قيد لحكم الجزاء والنداء المذكور فيها يستوي فيه من في المصر الذي تقام فيه الجمعة ومن خارجه، نعم إن صح الإجماع كان هو الدليل على عدم اعتبار سماع النداء لمن في موضع إقامة الجمعة عند من قال بحجية الإجماع. وقد حكى العراقي في شرح الترمذي عن الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل أنهم يوجبون الجمعة على أهل المصر وإن لم يسمعوا النداء. وقد اختلف أهل العلم فيمن كان خارجاً عن البلد الذي تقام فيه الجمعة، ثم بسط الأقوال فيه مع العزو إلى قائليها، قال: والمراد بالنداء المذكور في الحديث هو النداء الواقع بين يدي الإمام في المسجد؛ لأنه الذي كان في زمن النبوة لا الواقع على المنارات، فانه محدث، كما سيأتي، وقال ابن الملك: المراد به الأذان أول الوقت كما هو الآن في زماننا ليعلم الناس وقت الجمعة ليحضروا ويسعوا إلى ذكر الله، وإنما زاده عثمان لينتهي الصوت إلى نواحي المدينة. والظاهر عندي ما قاله الشوكاني. (رواه أبوداود) والدارقطني والبيهقي أيضاً من طريق قبيصة بن عقبة السوائي عن سفيان الثوري عن محمد بن سعيد الطائفي عن أبي سلمة بن نبيه عن عبد الله بن هارون عن عبد الله بن عمرو. قال أبوداود: روى هذا الحديث جماعة عن سفيان مقصورا. (أي موقوفاً) على عبد الله بن عمرو، وإنما أسنده قبيصة –انتهى. وقد تفرد به محمد بن سعيد عن أبي سلمة، وتفرد به أبوسلمة عن عبد الله بن هارون. وأبوسلمة وعبد الله بن هارون كلاهما مجهولان، كما في التقريب. وقد ورد من وجه آخر أخرجه الدارقطني من رواية الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً. وزهير بن محمد روى عن أهل الشام مناكير. والوليد مدلس، وقد رواه بالعنعنة. وأخرجه الدارقطني من وجه آخر من رواية محمد بن الفضل عن حجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً. ومحمد بن الفضل

187- (8) وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((الجمعة على من آواه الليل إلى أهله)) رواه الترمذي: وقال: هذا حديث إسناده ضعيف. ـــــــــــــــــــــــــــــ ضعيف جداً نسبوه إلى الكذب. والحجاج مدلس مختلف في الاحتجاج به. وقد ظهر بذلك أن جميع طرق هذا الحديث متكلم فيه، ففي الاستدلال به على اعتبار سماع النداء حقيقة أو حكماً لمن في وضع إقامة الجمعة نظر لا يخفى على المتأمل. فالحق عدم اعتبار ذلك، والقول بوجوب شهود الجمعة على كل من في موضع إقامة الجمعة لإطلاق الآية وعمومها. والله أعلم. 1387- قوله: (الجمعة من آواه الليل إلى أهله) قال الجزري: يقال أويت إلى المنزل وآويت غيري، وأويئته. وفي الحديث من المتعدي. قال المظهر: أي للجمعة واجبة على من كان بين وطنه وبين الموضع الذي يصلي فيه الجمعة مسافة يمكنه الرجوع بعد أداء الجمعة إلى وطنه قبل الليل، ذكره القاري. وقال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث ما نصه: والمعنى أنها تجب على من يمكنه الرجوع إلى أهله قبل دخول الليل. واستشكل بأنه يلزم منه أنه يجب السعي من أول النهار، وهو بخلاف الآية-انتهى. وقيل: معناه أن الجمعة على من كان آوياً إلى أهله أي مقيماً في وطنه غير مسافر. وحاصله أن الجمعة واجبة على المقيم لا على المسافر. قلت: الحديث قد استدل به من قال من السلف: أنها تجب على من يؤويه الليل إلى أهله، لكنه حديث ضعيف غير صالح للاحتجاج، كما ستعرف. (رواه الترمذي) من طريق الحجاج بن نصير عن معارك بن عباد عن عبد الله بن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة. وروى البيهقي (ج3:ص176) نحوه من طريق مسلم عن معارك. (وقال هذا حديث إسناده ضعيف) ونقل عن أحمد أنه لم يعده شيئاً، وضعفه لحال إسناده، وقال لمن ذكره له: استغفر ربك. وهذا لأن في سنده ثلاثة ضعفاء، الأول الحجاج بن نصير قال الحافظ: ضعيف كان يقبل التلقين. ضعفه ابن معين والنسائي وابن سعد والدارقطني والأزدي وغيرهم. وقال أبوداود: تركوا حديثه. والثاني معارك بن عباد ضعفه الدارقطني. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال أبوزرعة: واهي الحديث. والثالث عبد الله بن سعيد المقبري، وهو متروك الحديث. واعلم أنهم اتفقوا على أنه يشترط للجمعة الجماعة والوقت والخطبة والعقل البلوغ والذكورة والحرية والسلامة من المرض والإقامة والاستيطان. واختلفوا في أنه هل يشترط العدد المخصوص المعين أم لا، وفيه أقوال كثيرة ذكرها الحافظ في الفتح (ج4ص507) وابن حزم في المحلى (ج5ص46- 49) والشوكاني في النيل (ج3ص108- 109) منها أنه اثنان كالجماعة، وهو قول النخعي وأهل الظاهر. ومنها اثنان مع الإمام، وهو قول أبي يوسف ومحمد. ومنها أنه ثلاثة معه، وهو مذهب أبي حنيفة.

ومنها أنه اثنا عشر، ومنها أربعون بالإمام، وهو قول الشافعي، وإليه ذهب أحمد في إحدى الروايتين عنه. ومنها خمسون في رواية عن أحمد. والراجح عندي ما ذهب إليه أهل الظاهر أنه تصح الجمعة باثنين؛ لأنه لم يقم دليل على اشتراط عدد مخصوص، وقد صحت الجماعة في سائر الصلوات باثنين، ولا فرق بينها وبين الجمعة في ذلك، ولم يأت نص من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الجمعة لا تنعقد إلا بكذا. قال الشوكاني: الجمعة يعتبر فيها الاجتماع، وهو لا يحصل بواحد. وأما الاثنان فبإنضمام أحدهما إلى الآخر يحصل الاجتماع. وقد أطلق الشارع اسم الجماعة عليهما، فقال: الاثنان فما فوقهما جماعة كما تقدم، وقد انعقدت سائر الصلوات بهما بالإجماع. والجمعة صلاة فلا تختص بحكم يخالف غيرها إلا بدليل، ولا دليل على اعتبار عدد فيها زائد على المعتبر في غيرها. وقد قال عبد الحق: إنه لا يثبت في عدد الجمعة حديث، وكذلك قال السيوطي: لم يثبت في شيء من الأحاديث تعيين عدد مخصوص-انتهى. واختلفوا أيضاً في محل إقامة الجمعة، فقال أبوحنيفة وأصحابه: لا تصح إلا في مصر جامع، وذهب الأئمة الثلاثة إلى جوازها وصحتها في المدن والقرى جميعاً. واستدل لأبي حنيفة بما روي عن علي مرفوعاً: لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع. وقد ضعف أحمد، وغيره رفعه، وصحح ابن حزم، وغيره وقفه، وللاجتهاد فيه مسرح، فلا ينتهض للاحتجاج به فضلاً عن أن يخصص به عموم الآية أو يقيد به إطلاقها، مع أن الحنفية قد تخبطوا في تحديد المصر الجامع وضبطه على أقوال كثيرة متباينة متناقضة متخالفة جداً، كما لا يخفى على من طالع كتب فروعهم. وهذا يدل على أنه لم يتعين عندهم معنى الحديث. والراجح عندنا ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة من عدم اشتراط المصر، وجوازها في القرى لعموم الآية وإطلاقها، وعدم وجود ما يدل على تخصيصها، ولا بد لمن يقيد ذلك بالمصر الجامع أن يأتي بدليل قاطع من كتاب أو سنة متواترة أو خبر مشهور بالمعنى المصطلح عند المحدثين، وعلى التنزل بخبر واحد مرفوع صريح صحيح يدل على التخصيص بالمصر الجامع. ويدل أيضاً على شرعيتها في القرى ما روى البخاري وغيره عن ابن عباس: أن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد عبد القيس بجواثي قرية من قرى البحرين. كذا في رواية وكيع عند أبي داود، وكذا للإسماعيلي. وهذا أولى من قول البكري وغيره: إنها مدينة؛ لأن ما ثبت في نفس الحديث أصح مع احتمال أن تكون في أول قرية ثم صارت مدينة. وأما ما حكى الجوهري والزمخشري والجزري أن جواثي اسم حصن بالبحرين فلا ينافي كونها قرية. والظاهر أن عبد القيس لم يجمعوا إلا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لما عرف من عادة الصحابة من عدم الاستبداد بالأمور الشرعية في زمن نزول الوحي، ولأنه لو كان ذلك لا يجوز لنزل فيه القرآن، كما استدل جابر وأبوسعيد على جواز العزل، فإنهم

فعلوه، والقرآن ينزل، فلم ينبهوا عنه، ولم يثبت برواية قوية أو ضعيفة أنه أسلم أهل قرية قبل عبد القيس. ومن ادعى ذلك فعلية البيان. قال الحافظ في شرح حديث ابن عباس المذكور: فيه إشعار بتقدم إسلام عبد القيس على غيرهم من أهل القرى وهو كذلك، كما قررته في أواخر كتاب الإيمان، وقال في شرح حديث عبد القيس، ما لفظه: فيه دليل على تقدم إسلام عبد القيس على قبائل مضر الذين كانوا بينهم وبين المدينة، وكانت مساكن عبد القيس بالبحرين وما والاها من أطراف العراق. ويدل على سبقهم إلى الإسلام أيضاً ما رواه المصنف (يعني البخاري) في الجمعة عن ابن عباس قال: إن أول جمعة جمعت الخ، قال: وإنما جمعوا بعد رجوع وفدهم إليهم، فدل على أنهم سبقوا جميع القرى إلى الإسلام-انتهى مختصراً. ويدل عليه أيضاً ما روى البيهقي في المعرفة أن النبي صلى الله عليه وسلم حين ركب من بني عمرو بن عوف في هجرته إلى المدينة مر على بني سالم، وهي قرية بين قباء والمدينة، فأدركته الجمعة فصلى فيهم الجمعة، وكانت أول جمعة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم، وما روى ابن أبي شيبة وابن حزم عن عمر أنه كتب إلى أهل البحرين أن جمعوا حيثما كنتم. قال الحافظ: وهذا يشمل المدن والقرى، وما روى عبد الرزاق عن ابن عمر أنه كان يرى أهل المياه بين مكة والمدينة يجمعون فلا يعيب عليهم. وذكره ابن حزم بلفظ: فلا ينهاهم عن ذلك. وروى البيهقي (ج3ص178) من طريق الوليد بن مسلم سألت الليث بن سعد فقال: كل مدينة أو قرية فيها جماعة أمروا بالجمعة، فإن أهل مصر وسواحلها كانوا يجمعون الجمعة على عهد عمر وعثمان بأمرهما، وفيهما رجال من الصحابة. واختلفوا أيضاً أنه إذا وجبت الجمعة في موضع بشرائطها فعلى من يجب شهودها من أهل ذلك الموضع، وممن كان في حواليه، فقالت طائفة: تجب الجمعة على من آواه الليل إلى أهله، واستدلوا لذلك بحديث أبي هريرة، الذي فرغنا من شرحه، وقد عرفت أنه ضعيف جداً. وقالت طائفة: إنها تجب على من سمع النداء حقيقة أو حكماً. واستدلوا لذلك بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص المتقدم، وقد تقدم أنه أيضاً ضعيف. وقالت طائفة: تجب على من بينه وبين المنار ثلاثة أميال. أما من هو في البلد فتجب عليه ولو كان من المنار على ستة أميال. وقالت طائفة: تجب على أهل المصر، ولا تجب على من كان خارج المصر، سمع النداء أو لم يسمع. وقال أبوحنيفة: لا تجب إلا في مصر جامع أو فيما هو في حكمه كمصلى العيد. قال ابن الهمام: ومن كان من توابع المصر فحكمه حكم أهل المصر في وجوب الجمعة عليه. واختلفوا فيه، فعن أبي يوسف إن كان الموضع يسمع فيه النداء من المصر فهو من توابع المصر، وإلا فلا. وعنه أنها تجب في ثلاثة فراسخ. وقال بعضهم: قدر ميل. وقيل: قدر ميلين. وقيل: ستة أميال. وقيل: إن أمكنه أن يحضر الجمعة ويبيت بأهله من غير تكلف تجب عليه الجمعة، وإلا فلا. قال في البدائع: وهذا أحسن-انتهى. والراجح عندي: أنه لا يشترط سماع الأذان في المصر، وكذا في القرية

1388- (9) وعن طارق بن شهاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة، إلا على أربعة: عبد مملوك ـــــــــــــــــــــــــــــ الكبيرة. وأما من كان خارج المصر والقرية الكبيرة من أهالي القرى الصغيرة القريبة أو البعيدة فلا يجب عليهم الشهود في المصر أو القرية الكبيرة للجمعة، بل لهم أن يقيموا الجمعة في مساكنهم لوجوب الجمعة عليهم لعموم قوله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} [62: 9] ، ولعدم ما يدل على وجوب الإتيان إلى المصر للجمعة على من كان في حواليه. وارجع لمزيد التفصيل إلى عون المعبود (ج1ص413- 416) وقد ألف علماؤنا رسائل عديدة في مسئلة إقامة الجمعة في القرى، وبسطوا الكلام فيها على الرد على الحنفية، فعليك أن تراجع هذه الرسائل. 1388-قوله: (وعن طارق بن شهاب) بن عبد شمس البجلي الأحمسى أبوعبد الله الكوفي أدرك الجاهلية، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع منه شيئاً. قال أبوحاتم: ليست له صحبة، والحديث الذي رواه مرسل. قال الحافظ في الإصابة: إذا ثبت أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم فهو صحابي على الراجح، وإذا ثبت أنه لم يسمع منه فروايته عنه مرسل صحابي، وهو مقبول على الراجح. وقد أخرج له النسائي عدة أحاديث. وذلك مصير منه إلى إثبات صحبته. وأخرج له أبوداود حديثاً واحداً، وقال: طارق رأى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع منه شيئاً-انتهى. وقال ابن الأثير في جامع الأصول: رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وليس له سماع منه إلا شاذاً، ذكره ابن التركماني في الجوهر النقي، والمصنف في رجال المشكاة. غزا طارق في خلافة أبي بكر وعمر ثلاثاً وثلاثين أو أربعاً وثلاثين غزوة، ومات سنة (82 أو83أو 84) . (الجمعة) أي صلاتها. (حق واجب) أي فرض مؤكد. (على كل مسلم) فيه دليل على أن صلاة الجمعة من فروض الأعيان، ورد على من قال بأنها فرض كفاية. (في جماعة) ؛ لأنها لا تصح إلا بجماعة بالإجماع، وإنما اختلفوا في العدد المخصوص الذي تحصل به، كما تقدم. (إلا على أربعة عبد مملوك) بالجر على أنه عطف بيان للأربعة، قال القاري: وفي بعض النسخ برفع عبد، وما بعده على أنه خبر مبتدأ محذوف، وهو هم. و"أو" بمعنى الواو. قال الطيبي: "إلا" بمعنى غير، وما بعده مجرور صفة لمسلم أي على كل مسلم غير عبد مملوك الخ وقال ابن حجر: الأحسن جعله استثناء من واجب على كل مسلم. والتقدير إلا أنها لا تجب على أربعة. ولفظ أبي داود: إلا أربعة عبد مملوك أي بإسقاط لفظ "على". قال السيوطي: وقد يستشكل. (أي قوله عبد مملوك بصورة المرفوع) بأن المذكورات عطف بيان لأربعة، وهو منصوب؛ لأنه استثناء من موجب. والجواب أنها منصوبة لا مرفوعة، وكانت عادة المتقدمين أن يكتبوا المنصوب

أو امرأة، أو صبي، أو مريض)) . رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ بغير (ألف) ويكتبوا عليه تنوين النصب، ذكره النووي في شرح مسلم. قال السيوطي ورأيته أنا في كثير من كتب المتقدمين المعتمدة، ورأيته في خط الذهبي في مختصر المستدرك. وعلى تقدير أن تكون مرفوعة تعرب خبر مبتدأ-انتهى. وقوله: "عبد مملوك" فيه دليل على أن الحرية شرط لوجوب الجمعة، وأن الجمعة غير واجبة على العبد، وهو متفق عليه إلا عند داود، فقال بوجوبها عليه لدخوله تحت عموم الخطاب في قوله: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة} [62: 9] الخ، وأجيب عنه بأنه خصصته الأحاديث وإن كان فيها مقال، فإنه يقوي بعضها بعضاً. (أو امرأة) فيه أن الذكورة من شرائط وجوب الجمعة، وأن الجمعة لا تجب على المرأة، وهو مجمع عليه. وقال الشافعي: يستحب للعجائز حضورها بإذن الزوج. (أو صبي) فيه أن البلوغ شرط لوجوب الجمعة، وهو متفق على أن لا جمعة على الصبي، وفي معناه المجنون. (أو مريض) أي مرضاً يشق معه الحضور عادة فيه أن المريض لا تجب عليه الجمعة إذا كان الحضور يجلب عليه مشقة، وهو يدل على أن صحة البدن من شرائط وجوب الجمعة. قال البيهقي في المعرفة: وعند الشافعي لا جمعة على المريض الذي لا يقدر على شهود الجمعة إلا بأن يزيد في مرضه...... أو يبلغ به مشقة غير محتملة، وكذلك من كان في معناه من أهل الأعذار-انتهى. وقال ابن الهمام: الشيخ الكبير الذي ضعف يلحق بالمريض، فلا يجب عليه-انتهى. وقد ألحق أبوحنيفة الأعمى بالمريض وإن وجد قائداً لما في ذلك من المشقة، ولأن القادر بقدرة الغير غير قادر عنده، وقال الشافعي وأبويوسف ومحمد: إنه غير معذور إن وجد قائداً، فيجب عليه عندهم عند تيسر القائد. (رواه أبوداود) وقال طارق: قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه شيئاً، قال ابن الهمام: وليس هذا قدحاً في صحبته ولا في الحديث، بل بيان للواقع-انتهى. والحديث أخرجه أيضاً البيهقي في السنن (ج3ص172، 183) والدارقطني (ص164) وأخرجه الحاكم (ج1ص288) والبيهقي في المعرفة من حديث طارق المذكور عن أبي موسى. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. وقال الحافظ في التلخيص: وصححه غير واحد. وقال الخطابي في المعالم (ج1ص244) : ليس إسناد هذا الحديث بذلك، وطارق بن شهاب لا يصح له سماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه قد لقي النبي صلى الله عليه وسلم-انتهى. قال العراقي: فإذا قد ثبتت صحبته فالحديث صحيح. وغايته أن يكون مرسل صحابي، وهو حجة عند الجمهور، إنما خالف فيه أبوإسحاق الاسفرايني، بل ادعى بعض الحنفية الإجماع على أن مرسل الصحابي حجة-انتهى. وبنحو هذا قال النووي في شرح المهذب (ج4ص483) ، وفي الخلاصة، قلت: وقد اندفع الإعلال بالإرسال بما في رواية الحاكم من ذكر أبي موسى، على أن للحديث شواهد ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2ص170) والشوكاني في النيل (ج3ص103) والزيلعي في نصب الراية (ج2ص199) ، فمنها حديث جابر عند الدارقطني (ص164) ، والبيهقي (ج3ص184)

{الفصل الثالث}

1389- (10) وفي شرح السنة بلفظ المصابيح عن رجل من بني وائل. {الفصل الثالث} 1390- (11) عن ابن مسعود. أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: ((لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس، ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو آخر حديث الباب، وسيأتي الكلام فيه. ومنها حديث تميم الداري عند العقيلي والحاكم أبي أحمد والبيهقي (ج3ص183) والطبراني وابن أبي حاتم في العلل (ج1ص212) . قال ابن القطان: فيه أربعة ضعفاء على الولاء. قلت فيه الحكم بن عمرو، وقد ضعفه النسائي وغيره، وضرار بن عمرو المطلي، وهو متروك، وأبوعبد الله الشامي ضعفه الأزدي. ومنها حديث ابن عمر عند الطبراني في الأوسط والبيهقي (ج3ص184) وفيه أبوالبلاد، قال أبوحاتم: لا يحتج به. ومنها حديث أبي هريرة، أخرجه الطبراني في الأوسط بلفظ: خمسة لا جمعة عليهم: المرأة والمسافر والعبد والصبي وأهل البادية. وفيه إبراهيم بن حماد ضعفه الدارقطني. قال في النهاية: إن البادية تختص بأهل العمد والخيام دون أهل القرى والمدن. ومنها حديث مولى لآل الزبير، أخرجه البيهقي (ج3ص184) . ومنها حديث أم عطية، أخرجه البيهقي وابن خزيمة بلفظ: نهينا عن إتباع الجنائز، ولا جمعة علينا. 1389- (وفي شرح السنة) أي للبغوي. (بلفظ المصابيح عن رجل) متعلق بلفظ المصابيح، قاله الطيبي. (من بني وائل) لفظ المصابيح هكذا: "تجب الجمعة على كل مسلم إلا امرأة أو صبياً أو مملوكاً أو مريضاً". ولفظ شرح السنة على ما ذكره القاري: "عن محمد بن كعب أنه سمع رجلاً من بني وائل يقول قال النبي صلى الله عليه وسلم: تجب الجمعة على كل مسلم إلا امرأة أو صبي أو مملوك" ورواه طارق بن شهاب عن النبي صلى الله عليه وسلم وزاد: أو مريض-انتهى. والحديث أخرجه البيهقي في السنن (ج3ص173) قال: أخبرنا أبوبكر بن الحسن القاضي وأبوزكريا بن أبي إسحاق قالا: ثنا أبوالعباس الأصم أنبأ الربيع بن سليمان أنبأ الشافعي أنبأ إبراهيم بن محمد حدثني سلمة بنت عبد الله الخطمى عن محمد بن كعب أنه سمع رجلاً من بني وائل يقول قال النبي صلى الله عليه وسلم:.. فذكر بلفظ شرح السنة سواء. وفيه إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي، وقد تقدم الكلام فيه. 1390- قوله: (قال لقوم) أي في شأنهم. (ثم أحرق) بالنصب من الإحراق أو من التحريق. (على رجال يتخلفون) أي من غير عذر. (عن الجمعة) أي عن إتيان صلاة الجمعة. (بيوتهم) مفعول "لأحرق". والمعنى لقد قصدت أن استخلف رجلاً ليؤم الناس، ثم أذهب أنا إلى المتخلفين من غير علة، فأحرق بيوتهم أي ما في

رواه مسلم. 1391- (12) وعن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من ترك الجمعة من غير ضرورة، كتب منافقاً في كتاب لا يمحى ولا يبدل)) -وفي بعض الروايات-ثلاثاً. رواه الشافعي. 1392- (13) وعن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فعليه الجمعة، إلا مريض، أو مسافر، أو امرأة، أو صبي، أو مملوك. فمن استغنى بلهو أو تجارة استغنى الله عنه، ـــــــــــــــــــــــــــــ بيوتهم من أنفسهم ومتاعهم عليهم. وفي هذا من الوعيد ما لا يوصف. فإن قلت: كيف يترك الفرض ويشتغل بهم؟ قلت: لا يلزم من الاستخلاف ترك فرض الجمعة مطلقاً، فإنه يتصور تكرارها. قال ابن الهمام: قال السرخسي: الصحيح من مهذب أبي حنيفة جواز إقامتها في مصر واحد في مسجدين وأكثر. وبه نأخذ لإطلاق لا جمعة إلا في مصر، فإذا تحقق تحقق في كل واحد منها. قال ابن الهمام: وهو الأصح فارتفع الأشكال من أصله، كذا في المرقاة. والحديث دليل على أن الجمعة من فروض الأعيان. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والبيهقي (ج3ص172) والحاكم (ج1ص292) وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه هكذا إنما خرجا بذكر العتمة وسائر الصلوات-انتهى. وهذا وهم من الحاكم، فإن الحديث أخرجه مسلم بذكر الجمعة صريحاً. 1391- قوله (من ترك الجمعة) أي صلاتها. (من غير ضرورة) بفتح الضاد أي من غير علة وعذر كالمطر والمرض والوحل ونحوها. (كتب منافقاً) وعيد شديد. (في كتاب لا يمحى) أي ما فيه. (ولا يبدل) بالتشديد ويخفف، أي لا يغير بغيره ما لم يتب. وقيل: أو ما لم يتصدق. (وفي بعض الروايات ثلاثاً) أي قال من ترك الجمعة ثلاثاً. (رواه الشافعي) في كتاب الأم (ج184) . 1392- قوله: (فعليه الجمعة) أي يجب عليه صلاة الجمعة. (يوم الجمعة) ظرف للجمعة. (أو مسافر) فلا يجب عليه حضورها، وهو يحتمل أن يراد به مباشر السفر أي السائر. وأما النازل فيجب عليه ولو نزل بمقدار الصلاة. وإليه ذهب جماعة، منهم الزهري والنخعي، وقيل: لا تجب عليه؛ لأنه داخل في لفظ المسافر. وإليه ذهب الجمهور، وهو الأقرب والأشبه؛ لأن أحكام السفر باقية له من القصر ونحوه. (أو امرأة أو صبي مملوك) قال الطيبي: رفع على الاستثناء من الكلام الموجب على التأويل، أي من كان يؤمن فلا يترك الجمعة إلا مريض، فهو بدل من الضمير المستكن في يترك الراجع إلى من. (فمن استغنى بلهو أو تجارة) أي عن طاعة الله. (استغنى الله عنه)

(44) باب التنظيف والتبكير

والله غني حميد)) . رواه الدارقطني. (44) باب التنظيف والتبكير {الفصل الأول} 1393- (1) عن سلمان، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يغتسل رجل يوم الجمعة، ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه، أو يمس من طيب بيته، ـــــــــــــــــــــــــــــ أي فليعلم أن الله مستغن عنه وعن عبادته وعن جميع عباده، وإنما أمرهم بالعبادة ليتشرفوا بالطاعة. (والله غني) بذاته. (حميد) محمود في جميع صفاته، سواء حمد أو لم يحمد، أو غني عن العباد وطاعتهم. لا يعود نفعها إليه، حميد أي حامد لمن أطاعه يثنى عليه ويشكره بإعطاء الجزيل على العمل القليل. وفي الحديث إشارة إلى قوله تعالى: {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً, قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين} [62: 11) . (رواه الدارقطني) (ص164) وأخرجه أيضاً البيهقي (ج3ص184) وفيه ابن لهيعة، وهو متكلم فيه، ومعاذ بن محمد الأنصاري شيخ لابن لهيعة لا يعرف. كذا ذكر الذهبي، قاله في الجوهر النقي. وقال الحافظ في اللسان: ذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن عدي: منكر الحديث، ثم أخرج له من رواية ابن لهيعة عنه عن أبي الزبير عن جابر رفعه في الجمعة، وقال معاذ: غير معروف. وروى الطبراني في الأوسط من حديث أبي سعيد الخدري بمعناه. وفيه علي بن يزيد الألهاني. (باب التنظيف) أي تطهير الثوب والبدن من الوسخ والدرن، ومن كماله التدهين والتطيب. (والتبكير) في النهاية: بكر بالتشديد، أتى الصلاة في أول وقتها، وكل من أسرع إلى شيء فقد بكر إليه. 1393- قوله: (لا يغتسل) بالرفع. (ويتطهر ما استطاع من طهر) بالتنكير للمبالغة في التنظيف، أو المراد به التنظيف بأخذ الشارب والظفر والعانة والإبط، أو المراد بالغسل غسل الجسد، وبالتطهير غسل الرأس وتنظيف الثياب. (ويدهن من دهنه) بتشديد الدال بعد المثناة التحتية من باب الافتعال أي يطلى بالدهن ليزيل شعث رأسه ولحيته به. وفيه إشارة إلى التزين يوم الجمعة. (أو يمس) بفتح الياء والميم. (من طيب بيته) أي إن لم يجد دهنا. أو "أو" بمعنى الواو، فلا ينافي الجمع بينهما. وأضاف الطيب إلى البيت إشارة إلى أن السنة أن يتخذ المرء لنفسه طيبا، ويجعل استعماله له عادة، فيدخره في البيت. كذا قال الطيبي بناء على أن المراد بالبيت حقيقته، لكن في

ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى)) ـــــــــــــــــــــــــــــ حديث عبد الله بن عمرو عند أبي داود: أو يمس من طيب امرأته، فعلى هذا فالمعنى إن لم يتخذ لنفسه طيباً فليستعمل من طيب امرأته، وهو موافق لحديث أبي سعيد عند مسلم: ولو من طيب المرأة. وفيه أن بيت الرجل يطلق، ويراد به امرأته، ذكره الحافظ في الفتح. وقال القاري: المراد بقوله من طيب بيته حقيقة بيت الرجل، وهو أعم من أن يكون متزوجاً أو عزباً، ولا ينافيه من طيب امرأته؛ لأن طيبها غالباً من عنده. ويطلق عليه..... أنه من طيب بيته، فإن الإضافة تصح لأدنى ملابسة. ولما كان طيبها غالباً متميزاً عن طيب الرجل متعيناً متبيناً لها أشار عليه السلام أنه ينبغي أن يكون للرجل طيب مختص لاستعماله، وأكد في التطيب يوم الجمعة وبالغ حتى قال: ولو من طيب المرأة. (ثم يخرج) أي إلى المسجد، كما في حديث أبي أيوب عند ابن خزيمة. ولأحمد من حديث أبي الدرداء: ثم يمشي وعليه السكينة. (فلا يفرق) بتشديد الراء المكسورة. (بين اثنين) بالتخطي أو بالجلوس بينهما، ففي حديث عبد الله بن عمرو المذكور: ثم لم يتخط رقاب الناس. وفي حديث أبي الدرداء: ولم يتخط أحداً ولم يؤذه، وهو كناية عن التبكير أي عليه أن يبكر، فلا يتخطى رقاب الناس ولا يزاحم رجلين فيدخل بينهما؛ لأنه ربما ضيق عليهما خصوصاً في شدة الحر واجتماع الأنفاس. قال الزين بن المنير: التفرقة بين اثنين تتناول القعود بينهما، وإخراج أحدهما والقعود مكانه. وقد يطلق على مجرد التخطي، وفي التخطي زيادة رفع رجليه على رؤسهما أو أكتافهما، وربما تعلق بثيابهما شيء مما برجليه. وفي الحديث كراهة التفرقة بين الاثنين. والأكثر على أنها كراهة تنزيه، واختار ابن المنذر التحريم، وبه جزم النووي في زوائد الروضة. (ثم يصلي ما كتب له) أي قدر وقضي له من سنة الجمعة. فيه أن الصلاة قبل الجمعة لا حد لها، وأقله ركعتان تحية المسجد. (ثم ينصت) بضم أوله من أنصت إذا سكت سكوت مستمع. (إذا تكلم الإمام) أي شرع في الخطبة. فيه أن من تكلم حال تكلم الإمام لم يحصل له من الأجر ما في الحديث. وفيه دليل على جواز الكلام قبل تكلم الإمام. (إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى) وفي رواية: ما بين الجمعة إلى الجمعة الأخرى. وفي رواية: حط عنه ذنوب ما بينه وبين الجمعة الأخرى. تأنيث الآخر بفتح الخاء لا بكسرها. والمراد بها الجمعة التي مضت لما في حديث أبي ذر عند ابن خزيمة: غفر له ما بينه وبين الجمعة التي قبلها، ولابن حبان من حديث أبي هريرة: غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام من التي بعدها، ولأبي داود من حديث أبي سعيد وأبي هريرة: كانت كفارة لما بينها وبين جمعته التي قبلها. والمراد غفران الصغائر لما زاده في حديث أبي هريرة عند ابن ماجه: ما لم تغش الكبائر. وذلك أن معنى هذه الزيادة أي فإنها إذا غشيت لا تكفر، وليس المراد أن تكفير الصغائر شرطه اجتناب الكبائر، إذ اجتناب الكبائر بمجرده يكفر الصغائر كما

رواه البخاري. 1394- (2) وعن أبي هريرة: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من اغتسل، ثم أتى الجمعة فصلى ما قدر له، ـــــــــــــــــــــــــــــ نطق به القرآن في قوله: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} [4: 31] ، أي نمح عنكم صغائركم. ولا يلزم من ذلك أن لا يكفر الصغائر إلا اجتناب الكبائر، وإذا لم يكن للمرء صغائر تكفر رجي له أن يكفر عنه بمقدار ذلك من الكبائر، وإلا أعطي من الثواب بمقدار ذلك، وقد تبين بمجموع ما ذكر من الغسل والتنظيف إلى آخره أن تكفير الذنوب من الجمعة إلى الجمعة مشروط بوجود جميع ما تقدم من غسل وتنظف وتطيب أو دهن ولبس أحسن الثياب والمشي بالسكينة وترك التخطي والتفرقة بين الاثنين وترك الأذى والتنفل والإنصات وترك اللغو. وفي حديث عبد الله بن عمرو: فمن تخطى أو لغا كانت له ظهراً. وفي الحديث مشروعية النافلة قبل صلاة الجمعة لقوله: يصلي ما كتب له، ثم قال: ثم ينصت إذا تكلم الإمام. فدل على تقدم ذلك على الخطبة، وقد بينه أحمد من حديث نبيشة الهذلي بلفظ: فإن لم يجد الإمام خرج صلى ما بدا له. واستدل به على أن التبكير ليس من ابتداء الزوال؛ لأن خروج الإمام يعقب الزوال، فلا يسع وقتاً يتنفل فيه. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي والدارمي والبيهقي (ج3ص242، 243) ولفظ النسائي: ما من رجل يتطهر يوم الجمعة كما أمر، ثم يخرج من بيته حتى يأتي الجمعة، وينصت حتى يقضي صلاته إلا كان كفارة لما قبله من الجمعة. ورواه الطبراني في الكبير بإسناد حسن نحو رواية النسائي. وقال في آخره: إلا كان كفارة لما بينه وبين الجمعة الأخرى ما اجتنبت المقتلة، وذلك الدهر كله. 1394- قوله: (من اغتسل) أي للجمعة لحديث: إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل، أو مطلقاً. وفيه دلالة على أنه لا بد في إحرازه لما ذكر من الأجر من الاغتسال، إلا أن في الرواية الآتية بيان أن غسل الجمعة سنة وليس بواجب. وقيل: ليس فيها نفي الغسل، وقد ذكر الغسل في الرواية الأولى، فيحتمل أن يكون ذكر الوضوء في الرواية الثانية لمن تقدم غسله على الذهاب فاحتاج إلى إعادة الوضوء. (ثم أتى الجمعة) أي الموضع الذي تقام فيه الجمعة، كما يدل عليه قوله: (فصلى) أي من سنة الجمعة أو النوافل. (ما قدر له) بتشديد الدال. فيه دليل على مشروعية الصلاة قبل الجمعة، وأنه لا حد لها. وقد ورد في سنة الجمعة التي قبلها أحاديث أخرى ضعيفة. ذكرها الحافظ في الفتح (ج4ص509) ، والزيلعي في نصب الراية (ج2ص206، 207) . قال الحافظ: وأقوى ما يتمسك به في مشروعية ركعتين قبل الجمعة عموم ما صححه ابن حبان من حديث عبد الله بن الزبير مرفوعاً:

ثم أنصت حتى يفرغ من خطبته، ثم يصلي معه، غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وفضل ثلاثة أيام)) . رواه مسلم. 1395- (3) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام. ـــــــــــــــــــــــــــــ ما من صلاة مفروضة إلا وبين يديها ركعتان. ومثله حديث عبد الله بن مغفل: بين كل أذانين صلاة. (ثم أنصت حتى يفرغ) أي الإمام. (من خطبته) قال النووي: قوله: "حتى يفرغ من خطبته" هكذا هو في الأصول من غير ذكر الإمام، وعاد الضمير إليه للعلم به وإن لم يكن مذكوراً. (ثم يصلي معه) بالرفع عطفاً على "ثم أنصت". وفيه دليل على أن النهي عن الكلام إنما هو حال الخطبة لا بعد الفراغ منها ولو قبل الصلاة، فإنه لا نهي عنه، كما دلت عليه "حتى". (غفر له ما بينه) أي ذنوب ما بينه. (وبين الجمعة الأخرى) أي الماضية لا المستقبلة. (وفضل ثلاثة أيام) أي من التي تلي بعدها، و"فضل" مرفوع عطفاً بالواو بمعنى مع على ما في ما بينه، أي بين يوم الجمعة الذي فعل فيه ما ذكر مع زيادة ثلاثة أيام على السبعة، أي وغفرت له ذنوب ثلاثة أيام مع السبع لتكون الحسنة بعشر أمثالها. وجوز الجر في "فضل" للعطف على الجمعة، والنصب على المفعول معه. قال النووي: معنى المغفرة له ما بين الجمعتين وثلاثة أيام أن الحسنة بعشر أمثالها، وصار يوم الجمعة الذي فعل فيه هذه الأفعال الجميلة في معنى الحسنة التي تجعل بعشر أمثالها. والمراد بما بين الجمعتين من صلاة الجمعة وخطبتها إلى مثل ذلك الوقت من الجمعة الثانية حتى تكون سبعة أيام بلا زيادة ولا نقصان، ويضم إليها ثلاثة، فتصير عشرة. قال ابن حجر: لا ينافي ما قبله؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان أخبر بأن المغفور ذنوب سبعة أيام ثم زيد له ثلاثة أيام، فأخبر به إعلاما بأن الحسنة بعشر أمثالها. (رواه مسلم) وأخرج البيهقي (ج3ص243) نحوه. 1395- قوله: (من توضأ) قد استدل به على أن غسل الجمعة سنة. قال القرطبي: ذكر الوضوء وما معه مرتباً عليه الثواب المقتضى للصحة، فدل على أن الوضوء كافٍ، وقد تقدم الجواب عنه آنفاً. (فأحسن الوضوء) أي أتى بمكملاته من سننه ومستحباته. قال النووي: معنى إحسان الوضوء الإتيان به ثلاثاً ثلاثاً. وذلك الأعضاء وإطالة الغرة، والتحجيل، وتقديم الميامن، والإتيان بسننه المشهورة. (ثم أتى الجمعة) أي أتى المسجد لصلاة الجمعة. وقال القاري: أي حضر خطبتها وصلاتها. (فاستمع وأنصت) أي سكت للاستماع، قاله السندي. وقال الرازي في تفسيره: الإنصات سكوت مع استماع. ومتى انفك أحدهما عن الآخر لا يقال له إنصات. وقال العيني في شرح البخاري: الإنصات هو السكوت مع الإصغاء-انتهى. (غفر له ما بينه وبين الجمعة) السابقة وهي سبعة أيام

ومن مس الحصا فقد لغا)) . رواه مسلم. 1396- (4) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان يوم الجمعة، وقفت الملائكة على باب المسجد، يكتبون الأول، فالأول، ومثل المهجر ـــــــــــــــــــــــــــــ بناء على أن الحساب من وقت الصلاة إلى مثله من الثانية فبزيادة ثلاثة أيام تتم عشرة. (ومن مس الحصى) أي لتسويتها سواء مسها في الصلاة أو قبلها بطريق اللعب في حال الخطبة. (فقد لغا) أي ومن لغا فلا جمعة له، كما جاء والمراد أنه يصير محروماً من الأجر الزائد. قال النووي: فيه النهي عن مس الحصى وغيره من العبث في حال الخطبة. وفيه إشارة إلى إقبال القلب والجوارح على الخطبة. والمراد باللغو ههنا الباطل المذموم المردود-انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً الترمذي وأبوداود وابن ماجه والبيهقي (ج3ص223) . 1396- قوله: (إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة) هم غير الحفظة، كما يدل عليه الأحاديث الواردة في فضل التبكير. والمعنى أنهم يستمرون من طلوع الفجر وهو أول اليوم شرعاً أو من طلوع الشمس، وهو أول النهار العرفي، أو من ارتفاع النهار، أو من حين الزوال. قال القاري: وهو أقرب، ورجحه أيضاً الشاه ولي الله الدهلوي في المسوى شرح الموطأ (ج1ص150) وإليه مال الشوكاني، وبه قالت المالكية، وهو وجه للشافعية والأول هو ظاهر كلام الشافعي، وصححه النووي والرافعي وغيرهما. والثاني أيضاً وجه للشافعية. والراجح عندي هو الثالث، وقد اختاره ابن رشد في البداية، وسيأتي بسط الكلام في ذلك. (على باب المسجد) وعند ابن خزيمة على كل باب من أبواب المسجد ملكان يكتبان الأول فالأول. قال الحافظ: فكان المراد بقوله "على باب المسجد" ههنا جنس الباب، ويكون من مقابلة المجموع بالمجموع. قلت: وفي رواية للشيخين، إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة. وفي أخرى لمسلم: على كل باب من أبواب المسجد ملك يكتب. وفي رواية للنسائي: تقعد الملائكة على أبواب المسجد. وكذا في حديث أبي أمامة عند أحمد والطبراني، وحديث علي وأبي سعيد عند أحمد. (يكتبون الأول فالأول) قال الطيبي: أي الداخل الأول. والفاء فيه، و"ثم" في قوله: "ثم كالذي يهدي بقرة" كلتاهما لترتيب النزول من الأعلى إلى الأدنى، لكن في الثانية تراخ ليس في الأولى-انتهى. قال القسطلاني قال في المصابيح نصب. (أي الأول) على الحال، وجاءت معرفة، وهو قليل. (ومثل المهجر) بضم الميم وتشديد الجيم المكسورة، اسم فاعل من التهجير أي صفة المبكر إلى الجمعة. فالمراد بالتهجير التبكير أي المبادرة إلى الجمعة بعد الصبح. وقيل: المراد الذي يأتي في المهاجرة أي عند شدة الحر قرب نصف النهار، فيكون دليلاً للمالكية في قولهم: إن الساعات من حين الزوال، وإن الذهاب إلى الجمعة بعد الزوال لا قبله؛ لأن التهجير هو

كمثل الذي يهدي بدنه، ثم كالذي يهدي بقرة، ثم كبشاً، ثم دجاجة، ثم بيضة، ـــــــــــــــــــــــــــــ السير في الهاجرة أي نصف النهار. قال الحافظ: وأجيب بأن المراد بالتهجير هنا التبكير كما تقدم نقله عن الخليل في المواقيت. وقال القرطبي: الحق أن التهجير هنا من الهاجرة، وهو السير في وقت الحر، وهو صالح لما قبل الزوال وبعده، فلا حجة فيه لمالك. وقال التوربشتي: من ذهب في معناه إلى التبكير فإنه أصاب وسلك طريقاً حسناً من طريق الاتساع، وذلك أنه جعل الوقت الذي يرتفع فيه النهار ويأخذ الحر في الازدياد من الهاجرة تغليباً، بخلاف ما بعد الزوال، فإن الحر يأخذ في الانحطاط، وهذا كما يسمى النصف الأول من النهار غدوة، والآخر عشية. ومما يدل على استعمالهم التهجير في أول النهار ما أنشد ابن الأعرابي في نوادره لبعض العرب: يهجرون تهجير الفجر. (كمثل الذي يهدي) بضم أوله وكسر ثالثه أي يقرب. (بدنة) بفتحتين أي بعيراً ذكراً كان أو أنثى. والتاء للوحدة لا للتأنيث، وهو خبر عن قوله: "مثل المهجر"، والكاف لتشبيه صفة بصفة. والمعنى صفة المبكر إلى الجمعة مثل صفة الذي يتصدق بإبل متقرباً إلى الله تعالى. وقيل: المراد كالذي يهديها إلى مكة، ولا يناسبه الدجاجة والبيضة. قال الطيبي: سميت بدنة لعظم بدنها، وهي الإبل خاصة، وفي اختصاص ذكر الهدي، وهو مختص بما يهدى إلى الكعبة، إدماج لمعنى التعظيم في إنشاء الجمعات، وأن المبادر إليها كمن ساق الهدى، وأنه بمثابة الحضور في عرفات. (ثم) الثاني (كالذي يهدي بقرة) ذكرا أو أنثى. والتاء للوحدة لا للتأنيث. وفيه دليل على أن البدنة لا تشمل البقرة لتقابلها بها وإليه ذهب الشافعي، وقال أبوحنيفة: البدنة تطلق على البقر أيضاً، وإنما أريد هنا البعير خاصة لقرينة المقابلة، وهذا لا ينفي عموم الإطلاق. (ثم) الثالث كالذي يهدي. (كبشاً) بفتح الكاف وسكون الموحدة، وهو الفحل الذي يناطح، قاله في المجمع. وقال في القاموس: الكبش الحمل إذا أثنى أو إذا خرجت رباعيته. وفي ذكر الكبش، وهو الذكر، إشارة إلى أنه أفضل من الأنثى. وفي رواية: كبشاً أقرن. قال النووي: وصفه به؛ لأنه أكمل وأحسن صورة. ولأن قرنه ينتفع به. وفي رواية النسائي: ثم كالمهدي شاة، واستدل بالترتيب المذكور على أن التقرب بالإبل أفضل من التقرب بالبقر، والتقرب بالبقر أفضل من التقرب بالشاة، وهو متفق عليه في الهدي، مختلف فيه في الأضحية، والجمهور على أنها كذلك. وقال مالك: الأفضل في الضحايا الغنم ثم البقر ثم الإبل. ثم إنه وقع في رواية النسائي زيادة البطة بين الشاة والدجاجة، وهي زيادة شاذة، كما صرح به النووي في الخلاصة. (ثم) الرابع كالذي يهدي. (دجاجة) بفتح الدال في الأفصح ويجوز الكسر والضم، ودخلت الهاء فيها لأنه واحد من جنس مثل حمامة وبطة ونحوهما، ووقع في رواية أخرى للنسائي: زيادة مرتبة بين الدجاجة والبيضة، وهي العصفور وهي أيضاً زيادة شاذة. (ثم) الخامس كالذي يهدي. (بيضة) هي واحدة من البيض، والجمع بيوض، وجاء في الشعر بيضات، وإنما

فإذا خرج الإمام طووا صحفهم ويستمعون الذكر. ـــــــــــــــــــــــــــــ قدرنا الثاني، لأنه-كما قال في المصابيح-لا يصح العطف على الخبر لئلا يقعا معاً خبراً عن واحد، وهو مستحيل، وحينئذٍ فهو خبر مبتدأ محذوف مقدر بما مر. وكذا قوله: "ثم كبشاً" لا يكون معطوفاً على بقرة؛ لأن المعنى يأباه، بل هو معمول فعل محذوف دل عليه المتقدم. والتقدير-كما مر-، ثم الثالث كالذي يهدي كبشاً وكذا ما بعده، واستشكل ذكر الدجاجة والبيضة؛ لأن الهدي لا يكون منهما. وأجيب بأنه من باب المشاكلة أي من تسمية الشيء باسم قرينه. والمراد بالإهداء هنا التصدق، كما دل عليه لفظ: قرب في رواية أخرى وهو يجوز بهما. (فإذا خرج الإمام) أي من الصف إلى المنبر يعني ظهر بطلوعه على المنبر. (طووا) أي الملائكة (صحفهم) التي كتبوا فيها درجات السابقين على من يليهم في الفضيلة، قال الحافظ: وقع في حديث عمر صفة الصحف المذكورة، أخرجه أبونعيم في الحلية مرفوعاً بلفظ: إذا كان يوم الجمعة بعث الله ملائكة بصحف من نور، وأقلام من نور-الحديث. وهو دال على أن الملائكة المذكورين غير الحفظة، وظيفتهم كتابة حاضري الجمعة خاصة. والمراد بطي الصحف طي صحف الفضائل المتعلقة بالمبادرة إلى الجمعة دون غيرها من سماع الخطبة. وإدراك الصلاة والذكر والدعاء والخشوع ونحو ذلك، فإنه يكتبه الحافظان قطعاً. ووقع في آخر الحديث عند ابن ماجه فمن جاء بعد ذلك فإنما يجيء لحق الصلاة يعني فله أجر الصلاة، وليس له شيء من الزيادة في الأجر. فإن قلت: وقع في رواية للشيخين: فإذا جلس الإمام طووا الصحف فما الفرق بين الروايتين؟ قلت: بخروج الإمام يحضرون إلى المنبر من غير طي، فإذا جلس الإمام على المنبر طووها. ويقال: ابتداء طيهم الصحف عند ابتداء خروج الإمام، وانتهاؤه بجلوسه على المنبر، وهو أول سماعهم للذكر. (ويستمعون) أي الملائكة. (الذكر) أي الخطبة. قال العيني والحافظ: المراد بالذكر ما في الخطبة من المواعظ وغيرها-انتهى. وأتى بصيغة المضارع لاستحضار صورة الحال اعتناء بهذه المرتبة، وحملاً على الإقتداء بالملائكة. قال التيمي في استماع الملائكة حض على استماعها والإنصات إليها. وفي الحديث فوائد كثيرة لا تخفي على المتأمل. وقد رواه أيضاً الشيخان بلفظ: من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا أخرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر. قال الحافظ: في هذا الحديث الحض على الإغتسال يوم الجمعة وفضله وفضل التبكير إليها، وأن الفضل المذكور إنما يحصل لمن جمعهما، وعليه ما أطلق في باقي الروايات من ترتب الفضل على التبكير من غير تقييد بالغسل. وفيه أن مراتب الناس في الفضل بحسب أعمالهم. وأن القليل من الصدقة غير محتقر في الشرع. واعلم أنه اختلف العلماء في الساعات المذكورة في هذه الرواية ما المراد منها؟ واختلفوا أيضاً في أن ابتداء هذه الساعات من حين الزوال أو من قبله، فقال مالك والقاضي حسين وإمام الحرمين من الشافعية،

المراد بالساعات الخمس لحظات خفيفة لطيفة أولها زوال الشمس، وآخرها قعود الخطيب على المنبر، فالساعات الخمس المذكورة كلها في ساعة واحدة أي هي أجزاء من الساعة السادسة الزمانية بعد الزوال، ولم ير هؤلاء التبكير إلى الجمعة قبل الزوال لا من طلوع الفجر، ولا من طلوع الشمس، ولا من ارتفاع النهار. واختار هذا القول الشاه ولي الله في المسوي. ومال إليه الشوكاني في النيل. واستدل لهم بوجوه: منها لفظ: الرواح في الرواية المتقدمة، فإنه يدل على أن أول الذهاب إلى الجمعة من الزوال؛ لأن حقيقة الرواح من الزوال إلى آخر النهار، والغدو من أوله إلى الزوال. قال المازرى: تمسك مالك بحقيقة الرواح، وتجوز في الساعة، وعكس غيره. وأجيب بأن الرواح-كما قال الأزهري -: يطلق لغة على الذهاب سواء كان أول النهار أو آخره أو في الليل. قال الأزهري: وهي لغة أهل الحجاز. ونقل أبوعبيد في الغريبين نحوه. ثم إنه لم يقع التعبير بالرواح-كما قال الحافظ-إلا في رواية مالك عن سمي، ورواه ابن جريج عن سمي بلفظ: غدا. ورواه أبوسلمة عن أبي هريرة بلفظ: المتعجل إلى الجمعة. صححه ابن خزيمة، وفي حديث سمرة عند ابن ماجه: ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل الجمعة في التبكير كناحر البدنة الخ. وفي حديث علي عند أبي داود: إذا كانت الجمعة غدت الشياطين براياتها إلى الأسواق، وتغدو الملائكة فتجلس على باب المسجد، فتكتب الرجل من ساعة ... الحديث، فدل مجموع هذه الأحاديث على أن المراد بالرواح الذهاب. وقيل: النكتة في التعبير بالرواح الإشارة إلى أن الفعل المقصود إنما يكون بعد الزوال، فيسمى الذاهب إلى الجمعة رائحاً وإن لم يجيء وقت الرواح، كما سمى القاصد إلى مكة حاجاً. ومنها لفظ المهجر فإنه مشتق من التهجير، وهو السير في وقت الهاجرة، وهي نصف النهار عند اشتداد الحر، تقول منه هجر النهار، وقد ذكر المراتب الباقية بلفظ: "ثم" من غير ذكر الساعات. وقد تقدم الجواب عن هذا. ومنها أن الساعة في اللغة الجزء من الزمان، وحملها-كما ذهب إليه الجمهور- على الزمانية التي يقسم النهار فيها إلى اثنا عشر جزء يبعد إحالة الشرع عليه لاحتياجه إلى حساب ومراجعة آلات تدل عليه. وأجيب بأن الساعة قد يطلق على جزء من أربعة وعشرين جزءاً هي مجموع اليوم والليلة. ويدل على اعتبارها في عرف الشرع ما روى أبوداود والنسائي، وصححه الحاكم من حديث جابر مرفوعاً: يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة. وهذا وإن لم يرد في حديث التبكير فيستأنس به في المراد بالساعات. ومنها أن الساعة لو طلعت للزم تساوى الآتين فيها، والأدلة تقتضى رجحان السابق بخلاف ما إذا قيل: إنها لحظة خفيفة لطيفة. وأجيب بأن التساوي وقع مسمى البدنة، والتفاوت

صفاتها يعني أن بدنة الأول مثلاً أكمل من بدنة الأخير، وبدنة المتوسط متوسطة، فمراتبهم متفاوتة، وإن اشتركوا في البدنة مثلاً. ومنها عمل أهل المدينة، فإنهم لم يكونوا يأتون من أول النهار، وأيضاً لم يعرف أن أحداً من الصحابة كان يأتي المسجد لصلاة الجمعة عند طلوع الشمس وصفائها، ولا يمكن حمل حالهم على ترك هذه الفضيلة العظيمة. وهذا يدل على أن المراد من الساعات لحظات خفيفة بعد الزوال، لا الساعات الزمانية المعروفة عند أهل الفلك وعلم الميقات. وأجيب بأن عمل أهل المدينة ليس بحجة، كما تقرر في موضعه، وأيضاً ليس في عمل أهل المدينة هذا إلا ترك الرواح إلى الجمعة من أول النهار، وهذا جائز بالضرورة. وقد يكون اشتغال الرجل بمصالحه ومصالح أهله ومعاشه وغير ذلك من أمور دينه ودنياه أفضل من رواحه إلى الجمعة من أول النهار. وترك أهل المدينة وغيرهم ذلك لا يدل على أنه مكروه. وقال القاري: وقد كان السلف يمشون على السرج يوم الجمعة إلى الجامع. وفي الإحياء وأول بدعة حدثت في الإسلام ترك التبكير إلى المساجد-انتهى. وقد أنكر عمر على عثمان ترك التبكير بمحضر من الصحابة، وكبار التابعين من أهل المدينة. وهذا يرد على من ادعى إجماع أهل المدينة على ترك التبكير. ومنها أن حملها على الساعات الفلكية يستلزم صحة صلاة الجمعة قبل الزوال؛ لأن تقسيم الساعات إلى خمس، ثم تعقيبها بخروج الإمام وخروجه عند أول الزوال يقتضي أنه يخرج في أول الساعة السادسة، وهي قبل الزوال. وقد أجاب عنه الحافظ بأنه ليس في شيء من طرق هذا الحديث ذكر الإتيان من أول النهار، فلعل الساعة الأولى منه جعلت للتأهب بالاغتسال وغيره، ويكون مبدأ المجيء من أول الثانية، فهي أولى بالنسبة إلى المجيء ثانية بالنسبة للنهار. وعلى هذا فآخر الخامسة أول الزوال. وإلى هذا أشار الصيدلاني شارح المختصر حيث قال: إن أول التبكير يكون من ارتفاع النهار، وهو أول الضحى، وهو أول الهاجرة. ويؤيده الحث على التهجير إلى الجمعة. وحمل الجمهور الساعات المذكورة في الحديث على الساعات الزمانية. كما في سائر الأيام. وقد تقدم حديث جابر مرفوعاً: يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة. والمراد بها الساعات الآفاقية التي لا يختلف عددها بطول النهار وقصره، فالنهار اثنتا عشرة ساعة، لكن يزيد كل منها وينقص، والليل كذلك. ثم اختلفوا فقالت طائفة منهم: ابتداء هذه الساعات من طلوع الشمس، والأفضل عندهم التبكير في ذلك الوقت إلى الجمعة، وهو قول الثوري وأبي حنيفة والشافعي وأحمد. قال الماوردي: إنه الأصح ليكون قبل ذلك من طلوع الفجر زمان غسل وتأهب. وقال الروياني: إن ظاهر كلام الشافعي أن التبكير يكون من طلوع الفجر، وصححه الروياني، وكذلك صاحب المهذب قبله، ثم الرافعي والنووي. وحكى الصيدلاني أن أول التبكير من ارتفاع

متفق عليه. 1397- (5) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت، والإمام يخطب، ـــــــــــــــــــــــــــــ النهار، وهو أول الضحى، وهو أول الهاجرة. قلت: وهذا القول هو الراجح عندي، وبه تجتمع الأحاديث، وبه يرتفع الإشكال الذي يرد على مذهب مالك. وسيأتي ذكره في كلام النووي. ويؤيد هذا القول الحث على التهجير إلى الجمعة، فقد تقدم في كلام القرطبي أن التهجير هنا من الهاجرة، وهو السير في وقت الحر، وهو صالح لما قبل الزوال وبعده-انتهى. ومن المعلوم أن اشتداد الحر يكون من ربع النهار غالباً، فمن راح إلى الجمعة في هذا الوقت أي عند ارتفاع النهار يعني في أول الضحى وأول الهاجرة صدق عليه الألفاظ الواردة في الأحاديث التي أشرنا إليها، وهي المتعجل والتبكير والغدو والرواح والتهجير. قال النووي: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن الملائكة تكتب من جاء في الساعة الأولى، وهو كالمهدي بدنة، ثم من جاء في الساعة الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة، ثم الخامسة، فإذا خرج الإمام طووا الصحف، ولم يكتبوا بعد ذلك أحداً. ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج إلى الجمعة متصلاً بعد الزوال، فدل على أنه لا شيء من الهدي والفضيلة لمن جاء بعد الزوال، وكذا ذكر الساعات إنما كان للحث على التبكير إليها، والترغيب في فضيلة السبق، وتحصيل الصف الأول، وانتظارها بالاشتغال بالتنفل والذكر ونحوه. وهذا كله لا يحصل بالذهاب بعد الزوال، ولا فضيلة لمن أتى بعد الزوال؛ لأن النداء يكون حينئذٍ، ويحرم التخلف بعد النداء-انتهى. هذا. وقد بسط ابن القيم الكلام على ذلك في الهدي (ج1ص110- 112) ورجح قول من قال: إن ابتداء الساعات من أول النهار. من شاء البسط رجع إليه. (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب الاستماع إلى الخطبة من كتاب الجمعة. وأخرجه أيضاً أحمد ومالك والترمذي وأبوداود والنسائي والبيهقي وغيرهم. 1397- قوله: (إذا قلت) بلفظ الخطاب. (لصاحبك) الذي تخاطبه إذ ذاك أو جليسك. وإنما ذكر الصاحب لكونه الغالب. (يوم الجمعة) فيه دلالة على أن الخطبة غير الجمعة ليست مثلها ينهى عن الكلام حالها. قال الحافظ: قوله. (يوم الجمعة) مفهومة أن غير يوم الجمعة بخلاف ذلك، وفيه بحث-انتهى. (أنصت) أي أسكت عن الكلام مطلقاً واستمع للخطبة. وقال ابن خزيمة: المراد بالإنصات السكوت عن مكالمة الناس دون ذكر الله. قال الحافظ: وتعقب بأنه منه جواز القراءة والذكر حال الخطبة، فالظاهر أن المراد السكوت مطلقاً، ومن فرق احتاج إلى دليل. ولا يلزم من تجويز التحية لدليلها الخاص جواز الذكر مطلقاً. (والإمام يخطب) جملة

فقد لغوت)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ حالية مشعرة بأن ابتداء الإنصات من الشروع في الخطبة. ففيه دليل على أنه يختص النهي بحال الخطبة، ورد على من جعل وجوب الإنصات، والنهي عن الكلام من حال خروج الإمام. نعم الأولى والأحسن الإنصات. (فقد لغوت) أي ومن لغا فلا أجر له، فإذا كان هذا القدر مبطلاً للأجر مع أنه أمر بالمعروف، فكيف ما فوقه، واختلفوا في معنى قوله: "لغوت" فقال الأخفش: اللغو الكلام الذي لا أصل له من الباطل وشبهه. وقال ابن عرفة: اللغو السقط من القول. وقيل: الميل عن الصواب. وقيل: اللغو الإثم، كقوله تعالى: {وإذا مروا باللغو مروا كراماً} [72:25] . وقال الباجي: اللغو رديء الكلام وما لا خير فيه. وقال المجد: اللغو واللغى، كالفتي، السقط وما لا يعتد به من كلام وغيره. وقال الزين بن المنير: اتفقت أقوال المفسرين على أن اللغو ما لا يحسن من الكلام. وقال النضر بن شميل: معنى لغوت خبت من الأجر. وقيل: بطلت فضيلة جمعتك. وقيل: صارت جمعتك ظهراً. قال الحافظ: أقوال أهل اللغة متقاربة المعنى. ويشهد للقول الأخير ما رواه أبوداود وابن خزيمة والبيهقي (ج3:ص231) من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً: ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهراً. قال ابن وهب أحد رواته: أجزأت عنه الصلاة، وحرم فضيلة الجمعة. ولأحمد من حديث علي مرفوعاً: من قال صه فقد تكلم، ومن تكلم فلا جمعة له. ولأبي داود ونحوه. ولأحمد والبزار من حديث ابن عباس مرفوعاً: من تكلم يوم الجمعة، والإمام يخطب، فهو كالحمار يحمل أسفاراً. والذي يقول له أنصت ليست له جمعة. وله شاهد قوي في جامع حماد بن سلمة عن ابن عمر موقوفاً. قال العلماء: معناه لا جمعة له كاملة للإجماع على إسقاط فرض الوقت عنه-انتهى. واستدل بالحديث على منع جميع أنواع الكلام حال الخطبة؛ لأنه إذا جعل قوله: "أنصت" مع كونه أمراً بمعروف لغواً فغيره من الكلام أولى أن يسمى لغواً، ويؤيده حديثاً علي وابن عباس المتقدمان في كلام الحافظ لإطلاق الكلام فيهما، وعدم الفرق بين ما لا فائدة فيه وغيره. والمسألة مختلف فيها عند الأئمة، فقال الشافعية: يكره الكلام حال الخطبة من إبتدائها لقوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} [204:7] . وقد ذكر كثير من المفسرين أنه نزل في الخطبة، وسميت قرآناً لاشتمالها عليه، ولحديث أبي هريرة الذي نحن بصدد شرحه. ولا يحرم للأحاديث الدالة على ذلك كحديث أنس المروي في الصحيحين في قصة السائل في الاستسقاء، وكحديث أنس أيضاً المروي بسند صحيح عند البيهقي في قصة السائل عن وقت الساعة. وجه الدلالة أنه لم ينكر عليهما الكلام، ولم يبين لهما وجه السكوت، والأمر في الآية للندب، ومعنى "لغوت" تركت الأدب جمعاً بين الأدلة. قال العيني: وفي التوضيح والجديد الصحيح من مذهب الشافعي أنه لا يحرم الكلام، ويسن الإنصات، وبه قال الثوري وداود. والقديم أنه يحرم، وبه قال مالك والأوزاعي

وأبوحنيفة وأحمد-انتهى. وقال الحافظ: للشافعي في المسألة قولان مشهوران، وبناهما بعض الأصحاب على الخلاف في أن الخطبتين بدل عن الركعتين أم لا؟ فعلى الأول يحرم لا على الثاني، والثاني هو الأصح. فمن ثم أطلق من أطلق إباحة الكلام. وعن أحمد أيضاً روايتان. واختلفوا فيمن كان به صمم أو بعد عن الإمام بحيث لا يسمع، فقال المالكية: يحرم الكلام عليه أيضاً لعموم وجوب الإنصات، وعن أحمد والشافعي التفرقة بين من يسمع الخطبة ومن لا يسمعها، قال العيني: نقل ابن بطال: أن أكثر العلماء أن الإنصات واجب على من سمعها ومن لم يسمعها وأنه قول مالك، وكان عروة لا يرى بأساً بالكلام إذا لم يسمع الخطبة. وقال أحمد: لا بأس أن يذكر الله ويقرأ من لم يسمع الخطبة. قال العيني: واختلف المتأخرون. (أي من الحنفية) فيمن كان بعيد لا يسمع الخطبة، فقال محمد بن سلمة: المختار السكوت، وهو الأفضل. وقال نصر بن يحيى: يسبح ويقرأ القرآن، وهو قول الشافعي. وأجمعوا أنه لا يتكلم. وقيل: الاشتغال بالذكر وقراءة القرآن أفضل من السكوت-انتهى. قال الحافظ: ويدل على الوجوب في السامع أن في حديث علي المشار إليه: ومن دنا فلم ينصت كان عليه كفلان من الوزر، ولأن الوزر لا يترتب على من فعل مباحاً ولو كان مكروها كراهة تنزيه. وأما ما استبدل به من أجاز مطلق من قصة السائل في الاستسقاء ونحو ففيه نظر؛ لأنه استدل بالأخص على الأعم، فيمكن أن يخص عموم الأمر بالإنصات بمثل ذلك كأمر عارض في مصلحة عامة كما خص بعضهم منه رد السلام بوجوبه. ونقل صاحب المغني الإتفاق على أن الكلام الذي يجوز في الصلاة يجوز في الخطبة كتحذير الضرير من البئر. وعبارة الشافعي: وإذا خاف على أحد لم أر بأساً إذا لم يفهم عنه بالإشارة أن يتكلم-انتهى. وأجيب أيضاً عن حديث أنس في قصة الاستسقاء وما في معناه بأنه غير محل النزاع؛ لأن محل النزاع الإنصات والإمام يخطب. وأما سؤال الإمام وجوابه فهو قاطع لكلامه، فيخرج عن ذلك. واختلف في رد السلام وتشميت العاطس، وتحميد العاطس، فرخص فيه أحمد والشافعي وإسحاق. قال الشافعي في الأم: ولو سلم رجل على رجل يوم الجمعة كرهت ذلك له، ورأيت أن يرد عليه بعضهم؛ لأن رد السلام فرض، وقال أيضاً ولو عطس رجل يوم الجمعة فشمته رجل رجوت أن يسعه؛ لأن التشميت سنة-انتهى. وقال ابن الهمام: يكره تشميت العاطس ورد السلام، وهل يحمد إذا عطس؟ الصحيح نعم في نفسه، وذكر العيني عن أبي حنيفة إذا سلم عليه يرده بقلبه، وعن أبي يوسف: يرد السلام، ويشمت العاطس فيها، وعن محمد: يرد ويشمت بعد الخطبة ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - في قلبه-انتهى. وفي المدونة قال مالك فيمن عطس والإمام يخطب. فقال: يحمد الله في نفسه سراً ولا يشمت أحد العاطس-انتهى. واختلفوا في وقت الإنصات، فقال أبوحنيفة: خروج الإمام يقطع الصلاة والكلام جميعاً لما روى الطبراني

متفق عليه. 1398- (6) وعن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة، ثم يخالف ـــــــــــــــــــــــــــــ في الكبير من حديث ابن عمر رفعه. إذا دخل أحدكم المسجد، والإمام على المنبر، فلا صلاة ولا كلام حتى يفرغ الإمام، وهو حديث ضعيف فيه أيوب بن نهيك، وهو منكر الحديث، قاله أبوزرعة وأبوحاتم، ذكره الحافظ. وقال الهيثمي: هو متروك ضعفه جماعة. وذكره ابن حبان في الثقات وقال: يخطئ. وقال طائفةك لا يجب الإنصات إلا عند إبتداء الخطبة، ولا بأس بالكلام قبلها، وهو قول مالك والثوري وأبي يوسف ومحمد والشافعي. قلت: والراجح عندي في المسائل المذكورة أن السكوت في حال الخطبة واجب والكلام حرام، هذا فيمن يدنو من الإمام ويسمع الخطبة. وأما من كان بعيداً عنه، ولا يسمع الخطبة، أو كان به صمم، فالسكوت في حقه أحوط، ويجوز تشميت العاطس ورد السلام سراً في النفس، وكذا الحمد عن العطسة، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يكره الإشارة بالرأس أو باليد أو بالعين لإزالة منكر أو جواب سائل. ووقت الإنصات هو ابتداء الخطبة والشروع فيها لا خروج الإمام. هذا ما عندي. والله تعالى أعلم. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً مالك وأحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3:ص218، 219) وغيرهم في الباب عن جماعة من الصحابة ذكرهم العيني (ج6:ص240) . 1398- قوله: (لا يقيمن أحدكم أخاه) قال الحافظ: هذا لا مفهوم له، بل ذكر لمزيد التنفير عن ذلك لقبحه؛ لأنه إن فعله من جهة الكبر كان قبيحاً، فإن فعله من جهة الأشرة كان أقبح. (يوم الجمعة) فيه أن النهي المذكور مقيد بيوم الجمعة، وقد ورد ذلك بلفظ العموم، كما في حديث ابن عمر الآتي في الفصل الثالث من هذا الباب. قال الشوكاني: ذكر يوم الجمعة في حديث جابر من باب التنصيص على بعض أفراد العام، لا من باب التقييد للأحاديث المطلقة، ولا من باب التخصيص للمعلومات، فمن سبق إلى موضع مباح، سواء كان مسجداً أو غيره في يوم جمعة، أو غيرها، لصلاة أو لغيرها من الطاعات، فهو أحق به، ويحرم على غيره إقامته منه، والقعود فيه، إلا أنه يستثنى من ذلك الموضع الذي قد سبق لغيره فيه حق كان يقعد رجل في موضع، ثم يقوم منه لقضاء حاجة من الحاجات، ثم يعود إليه، فإنه أحق به ممن قعد فيه بعد قيامه؛ لحديث أبي هريرة عند أحمد ومسلم مرفوعاً بلفظ: إذا قام أحدكم من مجلسه، ثم رجع إليه، فهو أحق به، ولحديث وهب بن حذيفة عند أحمد والترمذي رفعه: الرجل أحق بمجلسه وإن خرج لحاجته ثم عاد فهو أحق بمجلسه. قال الشوكاني: وظاهرهما عدم الفرق بين المسجد وغيره. ويجوز له إقامة من قعد فيه، وقد ذهب إلى ذلك الشافعية (ثم يخالف) قال القاري بالرفع.

{الفصل الثاني}

إلى مقعده، فيقعد فيه، ولكن يقول: افسحوا)) رواه مسلم. {الفصل الثاني} 1399، 1400- (7، 8) عن أبي سعيد، وأبي هريرة، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ((من اغتسل يوم الجمعة، لبس من أحسن ثيابه، ـــــــــــــــــــــــــــــ وقيل بالجزم أي يقصد ويذهب. (إلى مقعده) أي إلى موضع قعوده. (فيقعد فيه) قال الزمخشري: خالفني فلان إلى كذا إذا قصده، وأنت مول عنه، وخالفني عنه إذا ولى عنه، وأنت قاصده، ويلقاك الرجل صادراً عن الماء، فتسأله عن صاحبه، فيقول لك: خالفني إلى الماء، يريد أنه ذاهب إليه وارداً، وأنا ذاهب عنه صادراً. ومنه قوله تعالى: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} [11: 88] ، يعني أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها لأستبد بها دونكم-انتهى. وقال الطيبي: المخالفة أن يقيم صاحبه من مقامه فيخالف، فينتهي إلى مقعده فيقعد فيه. قال تعالى: {ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} . وفيه إدماج وزجر للمتكبرين، أي كيف تقيم أخاك المسلم، وهو مثلك في الدين لا مزية لك عليه. زاد ابن حجر: فيحرم ذلك بغير رضا الجالس رضاً حقيقياً لا عن خوف أو أحياء، ذكره القاري. قال الشوكاني: وظاهر حديث جابر وحديث ابن عمر أنه يجوز للرجل أن يقعد في مكان غيره إذا أقعده برضاه، قال: ويكره الإيثار بمحل الفضيلة كالقيام من الصف الأول إلى الثاني؛ لأن الإيثار وسلوك طرائق الآداب لا يليق أن يكون في العبادات والفضائل، بل المعهود أنه في حظوظ النفس وأمور الدنيا، فمن آثر بحظه في أمر من أمور الآخرة فهو من الزاهدين في الثواب-انتهى. وقال ابن حجر: الإيثار بالقرب بلا عذر مكروه، وأما قوله تعالى: {ويؤثرون على أنفسهم} [59: 9] فالمراد به الإيثار في حظوظ النفس، كما بينه قوله: {ولو كان بهم خصاصة} [59: 9]-انتهى. (ولكن يقول) أي أحدكم للقاعدين. (افسحوا) أي وسعوا في المجلس. وفي حديث ابن عمر: تفسحوا وتوسعوا، يقال فَسَحَ له في المجلس أي وسَّعَ له وتفَسَّحُوا في المجلس وتفاسَحُوا أي توسَّعُوا. فإن زاد {يفسح الله لكم} كما أشارت إليه آيته فلا بأس. وفيه إشارة إلى قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم} [58: 11] لكن هذا إن كان المحل قابلاً للتوسع، وإلا فلا يصيق على أحد، بل يصلي ولو على باب المسجد. (رواه مسلم) في كتاب الأدب والاستيذان. وأخرجه أحمد والبيهقي (ج3ص333) قال القاري: وجه مناسبته للترجمة أنه متضمن للحث على التبكير لئلا يقع فيما يجب عنه التحذير من قيام أخيه المسلم. 1399، 1400- قوله: (ولبس من أحسن ثيابه) قال الطيبي: يريد الثياب البيض-انتهى. يعني أفضلها

ومس من طيب إن كان عنده، ثم أتى الجمعة، فلم يتخط أعناق الناس، ثم صلى ما كتب الله له، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يفرغ من صلاته، ـــــــــــــــــــــــــــــ من حيث اللون البيض للخبر الصحيح: البسوا من ثيابكم البياض، فإنها خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم. وفي رواية صحيحة: فإنها أطهر وأطيب. وفيه مشروعية اللبس من أحسن الثياب، واستحباب التجمل والزينة يوم الجمعة الذي هو عيد للمسلمين، ولا خلاف في ذلك. (ومس الطيب إن كان) أي الطيب. (عنده) أي إن تيسر له تحصيله بأن يكون في بيته أو عند امرأته. وفيه مشروعية التطيب يوم الجمعة، ولا خلاف في استحباب ذلك. وروي عن أبي هريرة بإسناد صحيح، كما قال الحافظ في الفتح: إنه كان يوجب الطيب يوم الجمعة، وبه قال بعض أهل الظاهر. (فلم يتخط أعناق الناس) أي لم يتجاوز رقاب الناس ولم يؤذهم، وهو كناية عن التبكير، أي عليه أن يبكر فلا يتخطى رقاب الناس. وفيه كراهية تخطي الرقاب. قال الشافعي: أكره التخطي إلا لمن لا يجد السبيل إلى المصلى إلا بذلك-انتهى. قال الحافظ: وهذا يدخل فيه الإمام، ومن يريد وصل الصف المنقطع إن أبى السابق من ذلك، ومن يريد الرجوع إلى موضعه الذي قام منه لضرورة. وكان مالك يقول: لا يكره التخطي إلا إذا كان الإمام على المنبر. قال الشوكاني: ولا دليل على ذلك. ويأتي بقية الكلام على ذلك في شرح حديث معاذ بن أنس الآتي. (ثم صلى ما كتب الله له) فيه أنه ليس قبل الجمعة سنة مخصوصة مؤكدة كالسنة بعد الجمعة، فالمصلي إذا دخل المسجد يوم الجمعة فله أن يصلي ما شاء متنفلاً. وأما ما رواه ابن ماجه عن ابن عباس قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يركع قبل الجمعة أربعاً لا يفصل في شيء منهن، ففي إسناده بقية ومبشر بن عبيد والحجاج بن أرطاة وعطية العوفي، وكلهم متكلم فيه. كذا في عون المعبود. (ثم أنصت إذا خرج إمامه) أي ظهر بطلوعه على المنبر استدل به الحنفية على أن وقت الإنصات خروج الإمام، وأجيب عنه بأنه محمول على الأولوية لحديث أبي هريرة المتقدم، وهو خامس أحاديث الفصل الأول، ولحديث ابن عباس الآتي في الفصل الثالث، ولحديث أبي الدرداء مرفوعاً: إذا سمعت أمامك يتكلم فأنصت حتى يفرغ. أخرجه أحمد والطبراني في الكبير، ورجال أحمد موثقون. قاله الهيثمي. (حتى يفرغ من صلاته) قال ابن حجر: كان حكمة ذكره طلب الإنصات بين الخطبة والصلاة وإن كانت كراهة الكلام عندنا وحرمته عند غيرنا تنتهي بفراغ الخطبة-انتهى. قلت: اختلفوا في الكلام بعد فراغ الخطيب من الخطبة، وقيل الشروع في الصلاة، فذهب أبوحنيفة إلى الكراهة، ومالك والشافعي وأحمد وأبويوسف ومحمد إلى أنه لا بأس بذلك، ورجح ابن العربي السكوت حيث قال: وأما التكلم يوم الجمعة بين النزول من المنبر والصلاة فقد جاءت فيه الروايتان، والأصح عندي أن لا يتكلم بعد الخطبة. قال الشوكاني: ومما يرجح ترك الكلام بين الخطبة والصلاة الأحاديث الواردة في الإنصات حتى تنقضي الصلاة كما عند النسائي من حديث سلمان بإسناد جيد

كانت كفارة لما بينها وبين جمعته التي قبلها)) . رواه أبوداود. 1401- (9) وعن أوس بن أوس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من غسل يوم الجمعة واغتسل، ـــــــــــــــــــــــــــــ بلفظ: فينصت حتى يقضي صلاته، وأحمد بإسناد صحيح من حديث نبيشة بلفظ: فاستمع وأنصت حتى يقضي الإمام جمعته وكلامه. ويجمع بين الأحاديث بأن الكلام الجائز بعد الخطبة، هو كلام الإمام لحاجة، أو كلام الرجل للرجل لحاجة-انتهى. (كانت) أي هذه الأفعال بجملتها. (كفارة لما بينها) أي لما وقع له من الذنوب بين ساعة صلاته هذه. (وبين جمعته) أي صلاة جمعته. (رواه أبوداود) في أواخر الطهارة، وزاد قال. (أي محمد بن سلمة أحد رواة الحديث أو أبوسلمة بن عبد الرحمن راوي الحديث عن أبي سعيد وأبي هريرة) ، ويقول أبوهريرة: وزيادة ثلاثة أيام، ويقول. (أي أبوهريرة) إن الحسنة بعشر أمثالها. قال المنذري: وأخرجه مسلم مختصراً من حديث أبي صالح عن أبي هريرة، وأدرج زيادة ثلاثة أيام في الحديث-انتهى. وأخرجه أيضاً الحاكم (ص283) والبيهقي (ج3ص243) قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. 1401- قوله: (من غسل يوم الجمعة واغتسل) روى قوله: "غسل" مشدداً ومخففاً، فالمشدد معناه جامع امرأته أو أمته قبل خروجه إلى الصلاة ليكون أملك لنفسه وأحفظ في طريقه لبصره، من غَسَّل امرأته إذا جامعها. ومن هذا قول العرب: فحل غُسَلَه إذا كان كثير الضراب، وقد فسر بذلك وكيع وعبد الرحمن بن الأسود وهلال بن يساف. ويؤيده حديث: أيعجز أحدكم أن يجامع أهله في كل يوم جمعة؟ فإن له أجرين اثنين: أجر غسله، وأجر امرأته. أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة، ذكره السيوطي. وقيل: أراد غَسَّل غيره أي حمله على الاغتسال، وأوجب الغسل عليه. وإذا وطىء امرأته فقد حملها على الاغتسال وأحوجها إليه. وقيل: معناه اغتسل بعد الجماع للجنابة، ثم اغتسل للجمعة، فكرر لهذا المعنى. وقيل: معناه بالغ في غسل الأعضاء إسباغاً وتثليثاً. وقيل: معناه بالغ في غسل الرأس، فالتشديد للمبالغة، كما في قطع وكسر؛ لأن العرب لهم لمم وشعور، وفي غسلها كلفة، فأفرد ذكر غسل الرأس لذلك. وقيل: هما بمعنى واحد، والتكرار التأكيد. وأما المخفف، وقد قال النووي: الأرجح عند المحققين التخفيف، فقيل في معناه كالمشدد أي وطىء صاحبته، وأصابها من غسل امرأته بالتخفيف والتشديد إذا جامعها، قاله الزمخشري، وحكاه صاحب النهاية وغيره أيضاً. وقيل: معناه غسل الرأس واغتسل أي فضل سائر الجسد، وأفراد الرأس بالذكر لما فيه من المؤنة لأجل الشعر، أو لأنهم كانوا يجعلون فيه الخطمي ونحوه، وكانوا يغسلونه أولاً ثم يغتسلون. ويؤيده ما في رواية لأحمد وأبي داود من هذا الحديث: من غسل رأسه يوم الجمعة واغتسل. ويؤيده أيضاً ما روى البخاري

وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام واستمع ولم يلغ، كان له بكل خطوة عمل سنة: أجر صيامها وقيامها)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأحمد وابن خزيمة بإسناد صحيح إلى طاووس قال: قلت لابن عباس: زعموا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: اغتسلوا يوم الجمعة واغسلوا رؤسكم وإن لم تكونوا جنباً-الحديث. ويؤيده أيضاً ما روى ابن خزيمة عن أبي هريرة مرفوعاً: إذا كان يوم الجمعة فاغتسل الرجل وغسل رأسه-الحديث. قال المنذري: في هذا الحديث دليل لمن فسر قوله غسل بغسل الرأس. وقيل: المراد غسل أعضائه للوضوء ثم اغتسل للجمعة. وقيل: المراد غسل ثيابه واغتسل في جسده. وقيل: هما بمعنى، والتكرار للتوكيد، والمختار أن المشدد بمعنى جامع امرأته، أو بمعنى غسَّل أي أحوجها إلى الغسل، وأوجبه عليها بالجماع، والمخفف بمعنى غسل رأسه. (وبكر) بالتشديد على المشهور، وجوز التخفيف أي راح في أول الوقت. (وابتكر) قيل: معناهما واحد كرره للتأكيد والمبالغة، وليس المخالفة بين اللفظين لاختلاف المعنيين، وبه جزم ابن العربي. وقيل: "بكر" بمعنى أتى الصلاة في أول وقتها، وكل من أسرع إلى شيء فقد بكر إليه. و"ابتكر" أي أدرك أول الخطبة وأول كل شيء باكورته، وابتكر الرجل إذا أكل بأكورة الفاكهة. وقيل: "بكر" بمعنى تصدق قبل خروجه، قاله ابن الأنباري، وتأول في ذلك ما روى في الحديث باكروا بالصدقة، فإن البلاء لا يتخطاها. والراجح ـ كما صرح به العراقي ـ أن "بكر" بمعنى راح في أول الوقت، "وابتكر" بمعنى أدرك أول الخطبة. (ومشى) أي إلى الجمعة على قدميه. (ولم يركب) قيل: هما بمعنى جمع بينهما تأكيداً ودفعاً لما يتوهم من حمل المشي على مجرد الذهاب ولو راكباً، أو حمله على تحقق المشي ولو في بعض الطريق. (ودنا من الإمام) أي قرب منه. (واستمع) أي أصغى. وفيه أنه لا بد من الأمرين جميعاً، فلو استمع وهو بعيد، أو قرب ولم يستمع، لم يحصل له هذا الأجر. (ولم يلغ) أي لم يتكلم، فإن الكلام حال الخطبة لغو، قاله النووي. أو استمع الخطبة ولم يشتغل بغيرها، قاله الأزهري. (كان له بكل خطوة) بضم المعجمة وتفتح، وبعد ما بين القدمين. قال السندي: أي ذهاباً وإياباً أو ذهاباً فقط أو بكل خطوة من خطوات ذلك اليوم. (عمل سنة) أي ثواب أعمالها. (أجر صيامها وقيامها) بدل من "عمل سنة". وقد ورد في المشي إلى مطلق الصلاة رفع درجة في كل خطوة، وكتابة حسنة، ومحو سيئة. أما ثبوت أجر عمل سنة، كما في هذا الحديث، فهو من خصائص الجمعة. قال السندي: والظاهر أن المراد أنه يحصل له أجر من استوعب السنة بالصيام والقيام لو كان، ولا يتوقف ذلك على أن يتحقق الاستيعاب من أحد. ثم الظاهر أن المراد في هذا وأمثاله ثبوت أصل أجر الأعمال لا مع المضاعفات المعلومة بالنصوص. ويحتمل أن يكون مع المضاعفات، وفي الحديث مشروعية الغسل يوم الجمعة،

رواه الترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه. 1402- (10) وعن عبد الله بن سلام، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما على أحدكم إن وجد أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومشروعية التبكير والمشي على الأقدام، والدنو من الإمام والاستماع وترك اللغو، وأن الجمع بين هذه الأمور سبب لاستحقاق ذلك الثواب الجزيل. (رواه الترمذي) وحسنه. وقال النووي: إسناده جيد. ولم يذكر الترمذي "ومشى ولم يركب". (أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري. (والنسائي وابن ماجه) وأخرجه أيضاً أحمد (ج4ص8، 9، 10، 104) والطيالسي والدارمي وابن سعد في الطبقات (ج5ص375) ، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، والحاكم (ج1ص282) وصححه والبيهقي (ج3ص227- 229) ، ورواه الطبراني في الأوسط من حديث ابن عباس، قاله المنذري في الترغيب. وقال الشوكاني: وقد رواه الطبراني بإسناد، قال العراقي: حسن، عن أوس المذكور، ورواه أحمد في مسنده (ج2ص209) ، والحاكم (ج1ص282) والبيهقي (ج3ص227) عنه عن عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى. قلت: في سنده عثمان بن خالد الشامي. قال الحاكم: مجهول، ووافقه الذهبي. وأعل أيضاً البيهقي رواية عثمان هذه بزيادة عبد الله بن عمرو في الإسناد، وبالاختلاف في المتن، وقد رد تعليل من أعله بذلك العلامة الشيخ أحمد شاكر في شرحه للمسند (ج11ص176) ، والحافظ في لسان الميزان (ج4ص159) ، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2ص171) ، والمنذري في الترغيب، وقالا: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح. 1402- قوله: (ما على أحدكم) ما نافية أي ليس على أحدكم حرج من حيث الدنيا، يريد الترغيب فيه بأنه شيء ليس فيه حرج وتكليف على فاعله، وهو خير إذ لا يفوته الإنسان. وقال الزرقاني: استفهام يتضمن التنبيه والتوبيخ يقال لمن قصر في شيء، أو غفل عنه ما عليه لو فعل كذا، أي يلحقه من ضرر أو عار أو نحو ذلك-انتهى. وقال القاري: قيل "ما" موصولة. وقال الطيبي: ما، بمعنى ليس، واسمه محذوف، و"على أحدكم" خبره، وقوله: (إن وجد) أي سعة يقدر بها على تحصيل زائد على ملبوس مهنته وهذه شرطية معترضة وقوله: (أن يتخذ) متعلق بالاسم المحذوف، معمول له ويجوز أن يتعلق "على" بالمحذوف، والخبر "أن يتخذ" كقوله تعالى: {ليس على الأعمى حرج} إلى قوله: {أن تأكلوا من بيوتكم} [24: 61] والمعنى ليس على أحد حرج أي نقص يخل بزهده في أن يتخذ. (ثوبين) قميصاً ورداءً أو جبةً أو إزاراً ورداءً. (ليوم الجمعة) أي يلبسهما فيه وفي أمثاله. من العيد وغيره. وفيه أن ذلك ليس من شيم المتقين لولا تعظيم الجمعة، ومراعاة شعائر الإسلام. (سوى ثوبي مهنته) بفتح الميم أي بذلته وخدمته أي غير الثوبين الذين يلبسهما في أشغاله، وكسر الميم جائز

رواه ابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قياساً، كالجلسة والخدمة. فجوزه بعضهم نظراً على ذلك، ومنعه الآخرون وعدوه خطأ نظراً إلى السماع. قال الزمخشري في الفائق: روي بكسر الميم وفتحها، والكسر عند الإثبات خطأ. وقال الأصمعي: بالفتح الخدمة، ولا يقال بالكسر، وكان القياس، لو جيء بالكسر، أن يكون كالجلسة والخدمة إلا أنه جاء على فعلة. وقال ابن عبد البر: المهنة بفتح الميم الخدمة. وأجاز غير الأصمعي كسر الميم، ذكره الزرقاني. وقال المجد في القاموس: المهنة بالكسر والفتح والتحريك وككلمة الحذق بالخدمة والعمل، مهنة كنصره ومنعه مَهْناً ومَهْنَةً ويكسر-انتهى. ويقال: هو في مهنة أهله أي في خدمتهم، وخرج في ثياب مهنته، أي في ثياب خدمته التي يلبسها في أشغاله. والحديث يدل على استحباب لبس الثياب الحسنة يوم الجمعة، وتخصيصه بملبوس غير ملبوس سائر الأيام، قال ابن عبد البر: وفيه الندب لمن وجد سعة أن يتخذ الثياب الحسان للجمع والأعياد ويتجمل بها، وكان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، ويعتم ويتطيب ويلبس أحسن ما يجد في الجمعة والعيد. وفيه الأسوة الحسنة، وكان يأمر بالطيب والسواك والدهن-انتهى. (رواه ابن ماجه) وكذا البيهقي (ج3ص242) كلاهما من طريق عمرو بن الحارث عن يزيد بن أبي حبيب عن موسى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن عبد الله بن سلام أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول على المنبر في يوم الجمعة: ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته. قال في الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله ثقات-انتهى. قلت: هو منقطع؛ لأن محمد بن يحيى بن حبان لم يدرك عبد الله بن سلام، فإن ابن حبان مات سنة إحدى وعشرين ومائة، وهو ابن أربع وسبعين سنة. وعلى هذا فكانت ولادته سنة سبع وأربعين. ومات عبد الله بن سلام قبل ولادته سنة ثلاث وأربعين. ثم أخرجه ابن ماجه من طريق آخر قال: حدثنا أبوبكر بن أبي شيبة ثنا شيخ لنا عن عبد الحميد بن جعفر عن محمد بن يحيى بن حبان عن يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبيه قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك، وفيه رجل مجهول. قال المزي: هذا الشيخ هو محمد بن عمر الواقدي-انتهى. والواقدي متروك. وأخرجه أبوداود من ثلاثة وجوه: الأول طريق يحيى ابن سعيد الأنصاري عن محمد بن يحيى بن حبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما على أحدكم الخ، وهذا مرسل، لأن ابن حبان تابعي. والثاني طريق عمرو بن الحارث عن يزيد بن أبي حبيب عن موسى بن سعد عن ابن حبان عن ابن سلام أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الخ. وهذا يحتمل أن يكون المراد بابن سلام عبد الله بن سلام، وبه جزم الحافظ في التلخيص، وفي التهذيب في باب من نسب إلى أبيه أو جده أو أمه أو عمه أو نحو ذلك. ويحتمل أن يكون المراد به يوسف بن عبد الله بن سلام، كما يدل عليه الطريق الآتي، فيكون الحديث من مسند يوسف بن عبد الله بن سلام لا من مسند عبد الله بن سلام، والوجه الثالث طريق يحيى بن أيوب

1403- (11) رواه مالك عن يحيى بن سعيد. 1404- (12) وعن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((احضروا الذكر وادنوا من الإمام، فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة وإن دخلها)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن ابن أبي حبيب عن موسى بن سعد عن يوسف بن عبد الله بن سلام عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا صريح في أن الحديث من مسند يوسف بن عبد الله بن سلام. وذكر البخاري أن يوسف له صحبة. فالحديث بهذا الطريق موصول، لكن قال المزي في الأطراف: هو أي كونه من مسند عبد الله بن سلام أشبه بالصواب. 1403- (ورواه مالك) في الموطأ، وكذا أبوداود والبيهقي وغيرهم. (عن يحيى بن سعيد) أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما على أحدكم الخ، قال الحافظ في الفتح (ج4ص483) : وصله ابن عبد البر في التمهيد من طريق يحيى بن سعيد الأموي عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عمرة عن عائشة. وفي إسناده نظر، فقد رواه أبوداود من طريق عمرو بن الحارث وسعيد بن منصور عن ابن عيينة، وعبد الرزاق عن النوري ثلاثتهم عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن جبان مرسلاً. ووصله أبوداود وابن ماجه من وجه آخر عن محمد بن يحيى عن عبد الله بن سلام. ولحديث عائشة طريق عند ابن خزيمة وابن ماجه-انتهى. قال الزرقاني: ويقال لا نظر. (أي في إسناد ابن عبد البر) ؛ لأن الأموي الراوي عن الأنصاري ثقة، فأي مانع من كون الأنصاري له فيه شيخان: عمرة عن عائشة موصولاً، ومحمد بن يحيى بن حبان مرسلاً-انتهى. ويحيى بن سعيد الأنصاري المذكور هو يحيى بن قيس الأنصاري المدني ثقة ثبت من صغار التابعين. وسيأتي البسط في ترجمته في أوائل الجنائز. 1404- قوله: (احضروا الذكر) أي الخطبة المشتملة على ذكر الله وتذكير الأنام. (وادنوا) أي اقربوا قدر ما أمكن. (من الإمام) يعني إذا لم يكن هناك مانع من القرب منه. وهذا إشارة إلى التبكير إلى الجمعة أي التعجيل في الرواح إليها. (فإن الرجل لا يزال يتباعد) أي يتأخر في الحضور إلى الجمعة فيتباعد من الإمام. وقيل: أي عن مواطن الخيرات بلا عذر. (حتى يؤخر) على صيغة المجهول. (في الجنة) أي في دخولها أو في درجاتها. (وإن دخلها) قال الطيبي: أي لا يزال الرجل يتباعد عن استماع الخطبة، وعن الصف الأول الذي هو مقام المقربين حتى يؤخر إلى آخر صف المتسفلين، وفيه توهين أمر المتأخرين وتسفيه رأيهم حيث وضعوا أنفسهم من أعالي الأمور إلى سفافها. وفي قوله: "وإن دخلها، تعريض بأن الداخل قنع من الجنة ومن المقامات العالية والدرجات الرفيعة بمجرد الدخول-انتهى. وقال الشوكاني: وفيه أن التأخر عن الإمام يوم الجمعة من أسباب

رواه أبوداود. 1405- (13) وعن معاذ بن أنس الجهني، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تخطى رقاب الناس ـــــــــــــــــــــــــــــ التأخر عن دخول الجنة - جعلنا الله تعالى من المتقدمين في دخولها-. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً أحمد كلاهما عن علي بن عبد الله المديني نا معاذ بن هشام الدستوائي قال: وجدت في كتاب أبي بخط يده ولم أسمعه منه، ثنا قتادة عن يحيى بن مالك عن سمرة بن جندب. قال الشوكاني: قال المنذري: في إسناده انقطاع-انتهى. وسببه أن معاذاً لم يسمع هذا الحديث من أبيه، بل أخذه منه على سبيل الوجادة، وهي من أنواع التحمل، وقد تقدم بيان حكمها، وأخرجه الحاكم (ج1ص289) من هذا الطريق. وصرح بسماع معاذ عن أبيه، وأخرجه البيهقي (ج3ص238) من رواية أبي داود، ثم ذكر رواية الحاكم واعترض عليها، فقال: لا أحسبه إلا واهماً في ذكر سماع معاذ عن أبيه هو أو شيخه-انتهى. والحديث ذكره المنذري في الترغيب (ج1ص221) ، قال: وروي عن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احضروا الجمعة، وادنوا من الإمام فإن الرجل ليكون من أهل الجنة فيتأخر عن الجمعة فيؤخر عن الجنة، وأنه لمن أهلها. رواه الطبراني والأصبهاني وغيرهما، وعزاه الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2ص177) إلى الطبراني في الصغير، وقال: وفيه الحكم بن عبد الملك، وهو ضعيف. قلت: وأخرجه من طريقه البيهقي أيضاً. 1405- قوله: (وعن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه) كذا في جميع النسخ، وهو سهو؛ لأن أنساً والد معاذ ليس له صحبة ولا رواية، وإن ذكره ابن مندة في الصحابة كما يظهر من تجريد الذهبي (ج1ص33) وذكره خليفة فيمن نزل الشام من الصحابة. وما وقع في بعض الروايات مما يدل على كونه صحابياً له رواية فهو خطأ. وارجع إلى الإصابة (ج1ص74، 75) . فالصواب حذف قوله: عن أبيه أو أن يقول عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه، كما في الترمذي وابن ماجه، وسهل بن معاذ بن أنس الجهني تابعي شامي نزل مصر. قال الحافظ: لا بأس به إلا في روايات زبان بن فائد عنه، وهذا الحديث من رواية زبان عنه. وقال ابن معين. ضعيف. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: لا يعتبر بحديثه ما كان من رواية زبان بن فائد عنه، وذكره في الضعفاء، وقال: منكر الحديث جداً، فلست أدري أوقع التخليط في حديثه منه أو من زبان؟ فإن كان من أحدهما فالأخبار التي رواها ساقطة، وإنما اشتبه هذا لأن راويها عن سهل زبان إلا الشيء بعد الشيء، وزبان ليس بشيء. وقال العجلي: مصري تابعي ثقة. كذا ي التهذيب (ج4ص258، 259) ، وأما والده معاذ بن أنس فقد تقدم ترجمته. (من تخطى) أي تجاوز. (رقاب الناس) قال القاضي: أي بالخطو عليها. وقال في القاموس: تخطى الناس واختطاهم ركبهم

يوم الجمعة، اتخذ جسراً إلى جهنم)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ وجاوزهم. (يوم الجمعة) ظاهر التقييد بيوم الجمعة أن الكراهة مختصة به. ويحتمل أن يكون التقييد خرج مخرج الغالب لاختصاص الجمعة بكثرة الناس بخلاف سائر الصلوات فلا يختص ذلك بالجمعة، بل يكون حكم سائر الصلوات حكمها. ويؤيد ذلك التعليل بالأذية، كما في بعض الروايات. وظاهر هذا التعليل أن ذلك يجري في مجالس العلم وغيرها. ويؤيده أيضاً ما أخرجه الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي أمامة مرفوعاً: من تخطى حلق قوم بغير إذنهم فهو عاص، لكن في إسناده جعفر بن الزبير، وقد كذبه شعبة وتركه الناس، وقال العيني: تقييد التخطي بيوم الجمعة هو المذكور في الأحاديث، وكذلك قيده الترمذي في حكايته عن أهل العلم، وكذلك قيده الشافعية في كتب فقههم في أبواب الجمعة، وكذلك هو عبارة الشافعي في الأم، إذ قال: وأكره تخطى رقاب الناس يوم الجمعة لما فيه من الأذى وسوء الأدب-انتهى. لكن هذا التعليل يشمل الجمعة وغيرها سائر الصلوات في المساجد وغيرها، وسائر المجامع من حلق العلم وسماع الحديث ومجالس الوعظ، فيحمل التقييد بالجمعة على أنه خرج مخرج الغالب لاختصاص الجمعة بمكان الخطبة وكثرة الناس بخلاف غيره. ويؤيد ذلك ما رواه أبومنصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث أنس فذكره. (اتخذ) على بناء المفعول أي يجعل يوم القيامة (جسراً) بفتح الجيم وسكون المهملة أي معبراً يمر عليه من يساق. (إلى جهنم) مجازاة له بمثل عمله. ويجوز بناءه للفاعل أي اتخذ لنفسه بصنيعه ذلك طريقا يؤديه إلى جهنم لما فيه من إيذاء الناس واحتقارهم. فكأنه جسرا اتخذه إلى جهنم، أو المعنى اتخذ نفسه جسراً الأهل جهنم، إلى جهنم بذلك العمل، والثالث أبعد الوجوه. وقال الطيبي: والشيخ التوربشتي ضعف المبني للمفعول رواية ودراية-انتهى. والحديث يدل على كراهة التخطي يوم الجمعة. واختلف في حكمه أنه للتحريم أو لا، فقال الترمذي حاكيا عن أهل العلم أنهم كرهوا ذلك وشددوا فيه. قال العيني: المتقدمون يطلقون الكراهة. ويريدون التحريم. وحكى الشيخ أبوحامد في تعليقه عن نص الشافعي التصريح بتحريمه، وصرح النووي في شرح المهذب أنه مكروه بكراهة تنزيه. وقال في زوائد الروضة: إن المختار تحريمه للأحاديث الصحيحة، واقتصر أصحاب أحمد على الكراهة فقط-انتهى كلام العيني. ويكره عند المالكية لغير فرجة قبل جلوس الإمام على المنبر، ويحرم بعده ولو لفرجة، ثم اختلفوا في أنه هل يستثنى أحد من كراهة التخطي أو لا، فقال الحنفية: يجوز التخطي بشرطين: عدم الإيذاء وعدم خروج الإمام؛ لأن الإيذاء حرام والتخطي عمل، والعمل بعد خروج الإمام حرام، فلا يرتكبه لفضيلة الدنو من الإمام، بل يستقر في موضعه من المسجد، ذكره الطحطاوي على المراقى. وقد تقدم مذهب المالكية. وقال الشافعية إنه مكروه إلا أن يكون قدامه فرجة لا يصلها إلا بالتخطي، فلا يكره حينئذٍ. وقال ابن المنذر: بكراهته مطلقاً، ونقل ذلك عن سلمان الفارسي وأبي هريرة وكعب وابن المسيب وعطاء وأحمد بن حنبل. وفي فقه الحنابلة أنه يستثنى الإمام والمؤذن

رواه الترمذي. وقال: هذا حديث غريب. 1406- (14) وعن معاذ بن أنس، ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحبوة ـــــــــــــــــــــــــــــ والتخطي إلى الفرجة. وقال العراقي: وقد استثنى من التحريم أو الكراهة الإمام أو من كان بين يديه فرجة لا يصل إليها إلا بالتخطي. وهكذا أطلق النووي في الروضة، وقيد ذلك في شرح المهذب، فقال: إذا لم يجد طريقاً إلى المنبر والمحراب لا بالتخطي لم يكره؛ لأنه ضرورة. وروى نحو ذلك عن الشافعي، وحديث عقبة بن الحارث عند البخاري والنسائي قال: صليت وراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة العصر، ثم قام مسرعاً فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه-الحديث، يدل على جواز التخطي للحاجة في غير الجمعة. فمن خصص الكراهة بالجمعة فلا معارضة بينه وبين أحاديث الباب عنده. ومن عمم الكراهة لوجود العلة المذكورة سابقاً في الجمعة وغيرها فهو محتاج إلى الإعتذار عنه. وقد خص الكراهة بعضهم بغير من يتبرك الناس بمروره، ويسرهم ذلك، ولا يتأذون لزوال علة الكراهة التي هي التأذي، كذا في النيل. قلت: والراجح عندي أنه يحرم التخطي مطلقاً لإطلاق الأحاديث المقتضية للكراهة إلا لمن يتبرك الناس بمروره، ويسرهم ذلك، ولا يتأذون لحديث عقبة بن الحارث المذكور. (رواه الترمذي) وابن ماجه أيضاً كلاهما من طريق رشدين بن سعد، وهو صالح عابد سيء الحفظ، عن زبان بن فائد، وهو ضعيف الحديث مع صلاحه وعبادته، ضعفه أحمد وابن معين وغيرهما. وقال ابن حبان: منكر الحديث جداً يتفرد عن سهل بن معاذ بنسخة كأنها موضوعة، لا يحتج به عن سهل بن معاذ. وقد تقدم أنه لا يعتبر بحديثه إذا كان من رواية زبان عنه. ورواه أحمد في مسنده (ج3ص437) وابن عبد الحكم في فتوح مصر. (298) كلاهما من طريق ابن لهيعة عن زبان. وفي الباب عن جماعة من الصحابة ذكر أحاديثهم الشوكاني في النيل (ج3ص128) والهيثمي في مجمع الزوائد (ج2ص178- 179) مع الكلام عليها وفي أكثرها ضعف. وأقوى ما ورد في ذلك حديث عبد الله بن بسر قال: جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اجلس فقد آذيت. أخرجه أحمد وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج3ص231) وسكت عنه أبوداود والمنذري، وصححه ابن خزيمة وغيرهم. 1406- قوله: (نهى عن الحبوة) مثلثة الحاء، اسم من الاحتباء. قال القاضي عياض في المشارق (ج1ص176- 177) : الاحتباء هو أن ينصب الرجل ساقيه ويدير عليهما ثوبه، أو يعقد يديه على ركبتيه متعمداً على ذلك-انتهى. وقال التوربشتي في شرح المصابيح: الحبوة بضم الحاء وكسرها الاسم من الاحتباء، وهو أن يجمع الرجل ظهره وساقيه بثوب وقد يحتبى بيديه. ووجدت الرواية بكسر الحاء، والحبوة بالفتح المرة من الاحتباء، ولا معنى لها ههنا ووجه النهي-والله اعلم- هو أنها مجلبة للنوم فيلهى عن الخطبة، ثم أنها هيئة

يوم الجمعة والإمام يخطب)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يكون معها تمكن، فربما تفضي إلى انتفاض الطهارة فيمنعه الاشتغال بالطهارة عن استماع الخطبة وحضور الذكر إن لم تفته الصلاة، مع ما يتوقع منه من الافتتان في الصلاة لغلبة الحياء ممن يخلو عن علم يسوسه وورع يحجزه-انتهى. (يوم الجمعة، والإمام يخطب) قال القاري: هو قيد احترازي، والأول واقعي اتفاقي أو تأكيدي-انتهى. وقال الشوكاني: وقد ورد النهي عن الاحتباء مطلقاً غير مقيد بحال الخطبة ولا بيوم الجمعة؛ لأنه مظنة؛ لأنكشاف عورة من كان عليه ثوب واحد. وقد اختلف أهل العلم في كراهة الاحتباء يوم الجمعة، فقال بالكراهة قوم من أهل العلم، كما قال الترمذي، منهم عبادة بن نسي التابعي. قال العراقي: وورد عن مكحول وعطاء والحسن أنهم كانوا يكرهون أن يحتبوا، والإمام يخطب يوم الجمعة. رواه ابن أبي شيبة في المصنف، قال: ولكنه قد اختلف عن الثلاثة، فنقل عنهم القول بالكراهة، ونقل عنهم عدمها. واستدل من قال بالكراهة بحديث معاذ بن أنس، وبحديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند ابن ماجه، وفي سنده بقية بن الوليد، وهو مدلس، وقد رواه بالعنعنة عن شيخه عبد الله بن واقد. قال العراقي: لعله من شيوخه المجهولين. وقال الحافظ في التقريب: عبد الله بن واقد شيخ لبقية مجهول، يحتمل أن يكون الهروي يعني عبد الله بن واقد بن الحارث الحنفي الهروي، وهو ثقة موصوف بخصال من الخير، وبحديث جابر عند ابن عدي في الكامل، وفي إسناده عبد الله بن ميمون القداح، وهو ذاهب الحديث كما قال البخاري. وقال الشوكاني: وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضاً. وذهب أكثر أهل العلم- كما قال العراقي-إلى عدم الكراهة، فروى أبوداود والطحاوي والبيهقي (ج3ص235) عن يعلى بن شداد قال: شهدت مع معاوية فتح بيت المقدس فجمع بنا، فإذا جل من في المسجد أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فرأيتهم محتبين والإمام يخطب. روى الطحاوي وابن أبي شيبة عن ابن عمر أنه كان يحتبى يوم الجمعة والإمام يخطب. وذكر أبوداود عن أنس بن مالك وشريح القاضي وصعصعة بن صوحان التابعي المخضرم وابن المسيب والنخعي ومكحول وإسماعيل بن محمد بن سعد ونعيم بن سلامة أنهم كانوا يحتبون والإمام يخطب، قال أبوداود ولم يبلغني أن أحدا كرهها إلا عبادة ابن نسي. وقال ابن عبد البر: ولم يرو عن أحد من الصحابة خلافه، ولا روي عن أحد من التابعين كراهة الاحتباء إلا وقد روى عنه جوازه-انتهى. قلت: وإلى عدم الكراهة ذهب الأئمة الأربعة وغيرهم، واعتذر هؤلاء عن أحاديث الباب بوجوه: منها أنها كلها ضعيفة. وفيه أن حديث معاذ قد حسنه الترمذي وسكت عليه أبوداود، وصححه الحاكم، وله شاهدان ضعيفان من حديث عبد الله بن عمرو وحديث جابر، كما تقدم. ومنها أنها منسوخة لعمل جل الصحابة بخلافها، وإليه يشير صنيع أبي داود حيث روى حديث يعلى المتقدم بعد حديث معاذ بن أنس، وذكر عن ابن عمر وغيره أنهم كانوا يحتبون يوم الجمعة، والإمام يخطب إلى آخر ما قال. وذكر

رواه الترمذي، وأبوداود. 1407- (15) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا نعس أحدكم يوم الجمعة، فليتحول ـــــــــــــــــــــــــــــ الطحاوي في مشكل الآثار: أن النهي محمول على إحداث الحبوة واستينافها في حالة الخطبة؛ لأنه عمل في الخطبة واشتغال بغير الخطبة وإقبال على ما سواها. وأما الحبوة التي كان الصحابة يفعلونها فكانت قبل الخطبة، أي ما كانوا يستأنفونها وإمامهم يخطب، بل كانوا يستعملونها قبل الخطبة. وقيل: النهي مختص بمن يجلب الاحتباء النوم له. وقال شيخنا في شرح الترمذي بعد ذكر الجواب الأول: أحاديث الباب، وإن كان ضعيفة، لكن يقوي بعضها بعضاً ولا شك في أن الحبوة جالبة لنوم، فالأولى أن يحترز عنها يوم الجمعة في حال الخطبة. هذا ما عندي والله أعلم بالصواب. (رواه الترمذي وأبوداود) وأخرجه أيضاً أحمد والحاكم (ج1ص289) والبيهقي (ج3ص235) وابن عبد الحكم في فتوح مصر (ص297) كلهم من طريق أبي مرحوم عبد الرحيم بن ميمون عن سهل بن معاذ بن أنس عن معاذ. والحديث قد حسنه الترمذي وسكت عليه أبوداود وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وقال المنذري بعد نقل تحسين الترمذي: وسهل بن معاذ ضعفه يحيى بن معين وتكلم فيه غيره، وأبومرحوم ضعفه ابن معين. وقال أبوحاتم الرازي: لا يحتج به-انتهى. قلت: قد تقدم أن سهل بن معاذ لا بأس به إلا في روايات زبان عنه، وهذا ليس من رواية زبان عنه، وأبومرحوم قد ذكره ابن حبان في الثقات. وقال النسائي: أرجو أنه لا بأس به. وقال ابن يونس: زاهد يعرف بالإجابة والفضل، فالظاهر أن الحديث لا ينحط عن درجة الحسن، لا سيما وقد تأيد بالشاهدين المذكورين. 1407- قوله: (إذا نعس) بفتح العين من باب نصر ومنع، والنعاس الوسن وأول النوم، وهي ريح لطيفة تأتي من قبل الدماغ تغطي على العين ولا تصل إلى القلب، فإذا وصله كان نوماً. (أحدكم) في مجلسه. (يوم الجمعة) أي وهو في المسجد، كما في رواية أبي داود وأحمد (ج2ص32) . قال الشوكاني: لم يرد بيوم الجمعة جميع اليوم، بل المراد به إذا كان في المسجد ينتظر صلاة الجمعة، كما في رواية أحمد في مسنده (ج2ص32) بلفظ: إذا نعس أحدكم في المسجد يوم الجمعة، وسواء فيه حال الخطبة أو قبلها، لكن حال الخطبة أكثر-انتهى. وقد استثنى الحنفية حال الخطبة، فقالوا: التحول في حالة الخطبة ممنوع؛ لأن العمل في الخطبة منهي عنه. فلا يدخل وقت الخطبة في عموم الحديث. قلت: ظاهر الحديث الإطلاق، ولذلك بوب عليه أبوداود باب الرجل ينعس والإمام يخطب. (فليتحول) أي فليتنقل؛ لأنه إذا تحول حصل له من الحركة ما ينفي الفتور المقتضي للنوم. قيل: فإن لم يجد

{الفصل الثالث}

من مجلسه ذلك)) . رواه الترمذي. {الفصل الثالث} 1408- (16) عن نافع، قال: سمعت ابن عمر يقول: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقيم الرجل الرجل من مقعده ويجلس فيه. ـــــــــــــــــــــــــــــ في الصفوف مكاناً يتحول إليه فليقم ثم يجلس. وقيل: يتحول إلى مكان صاحبه ويتحول صاحبه إلى مكانه. (من مجلسه ذلك) أي إلى غيره، كما في رواية أحمد وأبي داود. قال الشوكاني: والحكمة في الأمر بالتحول أن الحركة تذهب النعاس. ويحتمل أن الحكمة فيه انتقاله من المكان الذي أصابته فيه الغفلة بنومه وإن كان النائم لا حرج عليه، فقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة نومهم عن صلاة الصبح في الوادي بالانتقال منه، وأيضاً من جلس ينتظر الصلاة فهو في صلاة، والنعاس في الصلاة من الشيطان، فربما كان الأمر بالتحول لإذهاب ما هو منسوب إلى الشيطان من حيث غفلة الجالس في المسجد عن الذكر أو سماع الخطبة أو ما فيه منفعة. (رواه الترمذي) وأخرجه أيضاً أحمد (ج2ص22، 32، 135) وأبوداود وابن حبان في صحيحه، والبيهقي (ج3ص237) . وقد صححه الترمذي وسكت عليه أبوداود، ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره. وفي إسناده محمد بن إسحاق، وهو مدلس، لكن قدر صرح بالتحدث في رواية أحمد (ج2ص135) وفي الباب عن سمرة عند البزار والطبراني في الكبير والبيهقي (ج3ص238) مرفوعاً بلفظ: إذا نعس أحدكم يوم الجمعة فليتحول إلى مكان صاحبه، ويتحول صاحبه إلى مكانه. قيل لإسماعيل. (راوي الحديث عن الحسن عن سمرة) والإمام يخطب، قال: نعم-انتهى. قال الهيثمي: وفيه إسماعيل بن مسلم المكي، وهو ضعيف. وقال البزار: إسماعيل لا يتابع على حديثه-انتهى. وفي سماع الحسن عن سمرة خلاف قد تقدم. 1408- قوله: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقيم الرجل الرجل) أي نهى عن إقامة الرجل الرجل، فإن مصدرية. (من مقعده) بفتح الميم أي من موضع قعود الرجل الثاني. (ويجلس فيه) أي في مقعده النصب عطفاً على يقيم، أي وأن يجلس. والمعنى أن كل واحد منهما منهي عنه. ولو صحت الرواية بالرفع لكان الكل المجموعي منهياً عنه. وظاهر النهي التحريم فلا يصرف عنه إلا بدليل، فلا يجوز أن يقيم أحداً من مكانه ويجلس فيه؛ لأن من سبق إلى مباح فهو أحق به. قال ابن حجر: قوله "يجلس" بالنصب عطف على يقيم، فكل منهي عنه على حدته، وروي بالرفع فالجملة حالية، والنهي عن الجمع حتى لو أقامه ولم يقعد هو في مكانه لم يرتكب النهي. والوجه هو الرواية الأولى وما أفادته، لأن العلة الإيذاء، وهو حاصل بكل على الإنفراد فحرم؛ لأن ما سبق إلى المباح فهو

قيل لنافع: في الجمعة؟ قال: في الجمعة وغيرها)) . متفق عليه. 1409- (17) وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يحضر الجمعة ثلاثة نفر: فرجل حضرها بلغو، فذلك حظه ـــــــــــــــــــــــــــــ أحق به بنص الحديث الصحيح-انتهى. قلت: محط الإيذاء إنما هو الإقامة منه، وذكر الجلوس للسبب العادي، ولو قام الجالس باختياره وأجلس غيره فلا كراهة في جلوس غيره. وأما ما روى أحمد ومسلم من امتناع ابن عمر عن الجلوس في مجلس من قام له برضاه فهو محمول على أنه كان تورعاً منه؛ لأنه ربما استحيا منه إنسان فقام له بدون طيبة من نفسه لكن الظاهر أن من فعل ذلك فقد أسقط حق نفسه، وتجويز عدم طيبة نفسه بذلك خلاف الظاهر. ولو بعث من يقعد له في مكان ليقوم عنه إذا جاء هو جاز أيضاً من غير كراهة. ولو فرش له نحو سجادة فلغيره تنحيتها، والصلاة مكانها؛ لأنه لا حرمة لها، ولأن السبق بالأجسام لا بما يفرش. وقيل: لا يجوز لأنه سبق إليه فصار كحجر الموات. (قيل لنافع) هو مولى ابن عمر راوي الحديث عن ابن عمر، والقائل لنافع هو ابن جريج. (في الجمعة) أي هذا النهي في الجمعة خاصة أو مطلقاً. (قال) أي نافع. (في الجمعة وغيرها) يعني النهي عام في حق سائر الأيام في مواضع الصلوات، وقد ورد التقييد بيوم الجمعة في حديث جابر آخر أحاديث الفصل الأول، وتقدم الكلام عليه هناك، وقد بوب البخاري على حديث ابن عمر المطلق "باب لا يقيم الرجل أخاه يوم الجمعة ويقعد في مكانه". قال الحافظ: وكأن البخاري اغتنى عنه. (أي عن حديث جابر المقيد بيوم الجمعة) بعموم حديث ابن عمر المذكور في الباب. وبالعموم المذكور احتج نافع حين نافع حين سأله ابن جريج عن الجمعة-انتهى. وبالنظر إلى عمومه أورده المصنف في الجمعة، واستدل به على التبكير، كما تقدم بيان وجه المناسبة في شرح حديث جابر. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجمعة والاستيذان، ومسلم في الاستيذان، وأخرجه أيضاً أحمد في مواضع من مسنده، والبيهقي (ج3ص232) . 1409- قوله: (ثلاثة نفر) يعني ثلاثة أصناف من الرجال. (فرجل) الفاء تفصيلية؛ لأن التقسيم حاصر، فإن حاضري الجمعة ثلاثة: فمن رجل لاغ مؤز يتخطى رقاب الناس، فحظه من الحضور اللغو والأذى، ومن ثان طالب حظه غير مؤذ، فليس عليه ولا له إلا أن يتفضل الله بكرمه، فيسعف مطلوبة، ومن ثالث طالب رضا الله عنه. متحر احترام الخلق فهو هو، ذكره الطيبي. (حضرها بلغو) بباء الجر في أوله، أي حضوراً متلبساً بكلام عبث أو فعل باطل حال الخطبة. وفي بعض النسخ: يلغو على المضارع، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج10ص265) وهكذا وقع في رواية أحمد، وفي بعض النسخ من السنن الكبرى للبيهقي. وعلى هذا فيكون حالاً من الفاعل، أي يعبث ويتكلم بما لا يعينه. (فذلك) أي للغو. وفي أبي داود: وهو. (حظه) أي

منها. ورجل حضرها بدعاء، فهو رجل دعا الله، إن شاء أعطاه وإن شاء منعه. ورجل حضرها بإنصات وسكوت ولم يتخط رقبة مسلم، ولم يؤذ أحداً، فهي كفارة إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام، وذلك بأن الله يقول: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} رواه أبوداود. 1410- (18) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب، فهو كمثل الحمار ـــــــــــــــــــــــــــــ حظ ذلك الرجل. (منها) أي من الجمعة، أي ليس له نصيب من صلاة الجمعة وخطبتها وإن سقطت الفريضة عنه. وقال ابن حجر: أي لا حظ له كامل؛ لأن اللغو يمنع كمال ثواب الجمعة. ويجوز أن يراد باللغو ما يشمل التخطي والإيذاء بدليل نفيه عن الثالث أي فذلك الأذى حظه. (ورجل حضرها بدعاء) أي مشتغلاً به حال الخطبة حتى منعه ذلك من أصل سماعه أو كماله أخذاً من قوله: "في الثالث" بإنصات وسكوت. وفي أبي داود: يدعو بلفظ المضارع. (إن شاء أعطاه) أي مدعاة لسعة حلمه وكرمه. (وإن شاء منعه) عقاباً على ما أساء به من اشتغاله بالدعاء عن سماع الخطبة، فإنه مكروه عندنا حرام عند غيرنا، قاله ابن حجر. (ورجل حضرها بإنصات) أي مقترناً باستماع للخطبة. (وسكوت) عن اللغو. وقيل: هما بمعنى، وجمع بينهما للتأكيد ومحله إذا سمع الخطبة. (ولم يؤذ أحداً) أي بنوع آخر من الأذى كالإقامة من مكانه أو القعود على سجادته بغير رضاه. (فهي) أي جمعته الشاملة للخطبة والصلاة والأوصاف المذكورة. (كفارة) أي له، قاله الطيبي. يعني لذنوبه من حين انصرافه. (إلى الجمعة التي) أي إلى مثل تلك الساعة من الجمعة التي (تليها) أي تقربها. وهي التي قبلها على ما ورد منصوصا. (وزيادة ثلاثة أيام) بالجر عطف على الجمعة. (وذلك) أي ما ذكر من كفارة ما بين الجمعتين من السبعة وزيادة ثلاثة أيام. (رواه أبوداود) وسكت عليه. وقال العراقي: إسناده جيد. وأخرجه أيضاً أحمد (ج2ص181، 214) وابن خزيمة في صحيحه، والبيهقي (ج3ص219) وابن أبي حاتم وابن مردويه. 1410- قوله: (من تكلم) ظاهره المنع من جميع أنواع الكلام من غير فرق بين ما لا فائدة فيه وغيره لإطلاق الكلام فيه. ويؤيده أنه إذا جعل قوله: أنصت مع كونه أمراً بمعروف لغواً، كما تقدم، ومحبطاً لفضيلة الصلاة فغيره من الكلام أولى بأن يسمى لغواً. وقد ذهب إلى تحريم كل كلام الجمهور، ولكن قيد ذلك بعضهم بالسامع للخطبة، والأكثر لم يقيدوا. قالوا: وإذا أراد الأمر بالمعروف فليجعله بالإشارة. (والإمام يخطب) أي والمتكلم يعلم كراهة الكلام أو حرمته، وهذا لأجل قوله. (فهو كمثل الحمار) أي صفته كصفة أو مثله

يحمل أسفاراً، والذي يقول له: أنصت، ليس له جمعة)) . رواه أحمد. 1411- (19) وعن عبيد بن السباق مرسلاً، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمعة من الجمع: ((يا معشر المسلمين! ـــــــــــــــــــــــــــــ الغريب الشأن كمثل الحمار. (يحمل) صفة أو حال. (أسفاراً) جمع سفر بالكسر أي كتباً كباراً من كتب العلم، كناية عن العلم بلا عمل، وعن عدم نفع علمه مع تحمل التعب والمشقة في تحصيله. وقيل: إنما شبه من لم يمسك عن الكلام في حال الخطبة بالحمار الحامل للأسفار؛ لأنه فاته الانتفاع بأبلغ نافع، وقد تكلف المشقة وأتعب نفسه في حضور الجمعة، والمشبه به كذلك فاته الانتفاع فأبلغ نافع مع تحمل التعب في استصحابه، والحاصل أنه شبهه بالحمار يجامع عدم الانتفاع. وقال الطيبي: شبه المتكلم العارف بأن التكلم حرام؛ لأن الخطبتين قائمة مقام الركعتين بالحمار الذي حمل أسفاراً من الحكمة، وهو يمشي ولا يدري ما عليه. (والذي يقول) أي بالعبارة لا بالإشارة. (له) أي لهذا المشبه بالحمار. (أنصت) أي استمع. (ليس له جمعة) فيه دليل على أنه لا صلاة له، فإن المراد بالجمعة الصلاة، إلا أنها تجزئة إجماعاً، فلا بد من تأويل هذا بأنه نفي للفضيلة التي يحوزها من أنصت، وهو كما في حديث عبدلله بن عمرو: من لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهراً. قال ابن وهب أحد رواته: معناه أجزأته الصلاة وحرم فضيلة الجمعة. قال النووي: لا تبطل الجمعة بالكلام بلا خلاف وإن قلنا بحرمته. وخبر "فلا جمعة له" أي كاملة، يعني ن المراد بنفيها نفي كمال ثوابها لا نفي أصله. وقد احتج بالحديث على حرمة الكلام حال الخطبة، فإن تشبيهه بالمشبه به المستنكر، وملاحظة وجه الشبه يدل على قبح ذلك، وكذلك نسبته إلى فوات الفضيلة الحاصلة بالجمعة، ما ذاك إلا لما يلحق المتكلم من الوزر الذي يقاوم الفضيلة فيصير محبطاً لها. (رواه أحمد) (ج1ص230) وأخرجه أيضاً ابن أبي شيبة في المصنف، والبزار في مسنده، والطبراني في الكبير، وفي إسناده مجالد بن سعيد، وقد ضعفه الناس، ووثقه النسائي في رواية، كذا في مجمع الزوائد (ج2ص184) . قلت: وقال محمد بن المثنى: يحتمل حديثه لصدقه. وقال العجلي: جائز الحديث. وقال البخاري: صدوق. وقال يعقوب بن سفيان: تكلم الناس فيه، وهو صدوق، ولذلك قال الحافظ في بلوغ المرام: لا بأس بإسناده، وله شاهد قوي في جامع حماد. وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده حسن. 1411- قوله: (وعن عبيد) بضم العين بلا إضافة. (بن السباق) بفتح السين المهملة وتشديد الباء الموحدة الثقفي المدني، يكنى أبا سعيد، من ثقات الطبقة الوسطى من التابعين، روى له الستة، وذكره مسلم في الطبقة الأولى من تابعي أهل المدينة. (مرسلاً) أي بحذف الصحابي ورواه ابن ماجه موصولاً، كما سيأتي. (من الجمع) بضم الجيم وفتح الميم، جمع جمعة، وقد تجمع على جمعات. (يا معشر المسلمين) وفي بعض نسخ الموطأ: يا معاشر المسلمين

إن هذا يوم جعله الله عيداً فاغتسلوا، ومن كان عنده طيب فلا يضره أن يمس منه، وعليكم بالسواك)) . رواه مالك. 1412- (20) ورواه ابن ماجه عنه، وهو عن ابن عباس متصلاً. ـــــــــــــــــــــــــــــ وهكذا وقع في رواية البيهقي. قال النووي: المعشر الطائفة التي يشملهم وصف، فالشباب معشر، والشيوخ معشر، والنساء معشر، والأنبياء معشر، وما أشبهها. (إن هذا يوم جعله الله عيداً) أي للمسلمين خاصة، ففي رواية ابن ماجه: إن هذا يوم عيد جعله الله للمسلمين. (فاغتسلوا) فإن التنظيف والتجمل في الأعياد مطلوب ومندوب. وظاهر لفظ الموطأ أن الاغتسال لا يختص بمن يشهد الجمعة. ولفظ ابن ماجه: فمن جاء إلى الجمعة فليغتسل، يشير إلى أنه يختص بمن يحضرها. واختلف في أن الغسل لصلاة الجمعة أو ليومها، فذهب محمد وداود، وهي رواية عن أبي يوسف، أنه لليوم، فيشمل الصبيان والنساء والرجال والعبيد، ولا يختص بمن يشهد الصلاة. وذهب الجمهور إلى أنه للصلاة لا لليوم، فيختص بمن يحضر صلاة الجمعة. والظاهر أن ههنا اغتسالان: أحدهما لليوم، والثاني للصلاة. وقد ورد في كليهما الأحاديث، والأول مندوب، والثاني مؤكد بل واجب، فمن اغتسل قبل الجمعة حصل له فضل الغسلين، ومن اغتسل بعد الجمعة حصل له فضل غسل اليوم، ولم يحصل فضل غسل الصلاة الذي اختلف العلماء في أنه سنة مؤكدة أو واجب. (ومن كان عنده طيب) ولو من طيب امرأته. وقيل: أي من طيب الرجال، وهو ما ليس له لون وله رائحة. (فلا يضره أن يمس منه) قال الطيبي: فإن قيل: هذا إنما يقال فيما فيه مظنة ضرر وحرج، ومس الطيب، ولا سيما يوم الجمعة، سنة مؤكدة فما معناه؟ قلت: لعل رجالاً من المسلمين توهموا أن مس الطيب من عادة النساء، فنفي الحرج عنهم، كما هو الوجه في قوله: {فلا جناح عليه أن يطوف بهما} [2: 158) مع أن السعي واجب أو ركن-انتهى. قال الزرقاني: عبره على شأن معنى الندب والترغيب، فهو بمنزله التصريح بأنه غير واجب، وأوجبه أبوهريرة، فإن لم يحمل على إيجاب سنة وندب فالجمهور على خلافه-انتهى. ولفظ ابن ماجه: وإن كان طيب فليمس منه. (وعليكم بالسواك) أي الزموه لتأكد استحبابه يوم الجمعة، خصوصاً عند الوضوء والغسل تكميلاً للطهارة والنظافة. (رواه مالك) عن ابن شهاب الزهري عن عبيد بن السباق أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخ. 1412- قوله: (ورواه ابن ماجه) بسنده. (عنه) أي عن ابن السباق. (وهو) أي عبيد. (عن ابن عباس متصلاً) رواية ابن ماجه هذه تخالف لما روى البخاري في صحيحه من طريق شعيب عن الزهري، قال طاووس: قلت لابن عباس: ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اغتسلوا يوم الجمعة واغسلوا رؤسكم وإن لم تكونوا جنباً، وأصيبوا من الطيب. قال ابن عباس: أما الغسل فنعم. وأما الطيب فلا أدري. وفي رواية: قال: لا أعلمه.

(45) باب الخطبة والصلاة

1413- (21) وعن البراء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حقاً على المسلمين أن يغتسلوا يوم الجمعة، وليس أحدهم من طيب أهله، فإن لم يجد فالماء له طيب)) . رواه أحمد، والترمذي وقال: هذا حديث حسن. (45) باب الخطبة والصلاة ـــــــــــــــــــــــــــــ وأجيب بأن في سنده عند ابن ماجه صالح بن أبي الأخضر الذي روى عن الزهري عن عبيد، وصالح ضعيف، وقد خالفه مالك فرواه عن الزهري عن عبيد مرسلاً. قال الحافظ: فإن كان صالح حفظ فيه ابن عباس احتمل أن يكون ذكره بعد ما نسيه أو عكس ذلك-انتهى. ورواه البيهقي (ج3ص243) من طريق الشافعي عن مالك عن ابن شهاب عن ابن السباق مرسلاً، ثم قال: هذا هو الصحيح مرسل، وقد روي موصولاً ولا يصح وصله-انتهى. وروى نحوه الطبراني في الأوسط والصغير من حديث أبي هريرة مرفوعاً، لكن ليس فيه ذكر الطيب. قال الهيثمي (ج2ص172- 173) رجاله ثقات. 1413- قوله: (حقاً) بالنصب قال الطيبي: "حقاً" مصدر مؤكد أي حق ذلك حقاً، فحذف الفعل وأقيم المصدر مقامه اختصاراً. (أن يغتسلوا) فاعل حق المقدر. (يوم الجمعة) ظرف للاغتسال. (وليمس) بكسر اللام، ويسكن. قال الطيبي: عطف على ما سبق بحسب المعنى، إذ فيه سمة الأمر، أي ليغتسلوا أو ليمس. (من طيب أهله) أي بشرط أهله لقوله صلى الله عليه وسلم: لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس أو من طيب له عند أهله. (فإن لم يجد) أي طيباً. (فالماء له طيب) قال العراقي: المشهور في الرواية بكسر الطاء وسكون المثناة من تحت، أي أنه يقوم مقام الطيب، قال الطيبي: أي عليه أن يجمع بين الماء والطيب، فإن تعذر الطيب فالماء كاف؛ لأن المقصود التنظيف وإزالة الرائحة الكريهة. وفيه تطيب لخاطر المساكين-انتهى. (رواه أحمد) (ج4ص282، 283) . (والترمذي، وقال: هذا حديث حسن) قال شيخنا في شرح الترمذي في كونه حسناً كلام فإن مداره على يزيد بن أبي زياد الهاشمي الكوفي، وقد ضعفه جماعة. قال الذهبي في الميزان: قال يحيى: ليس بالقوي، وقال أيضاً لا يحتج به. وقال ابن المبارك. ارم به. وقال شعبة: كان يزيد بن أبي زياد رفاعاً. وقال أحمد: حديثه ليس بذلك، وخرج له مسلم مقروناً بآخر. وقال الحافظ في التقريب: إنه كبر فتغير، وصار يتلقن-انتهى. (باب الخطبة والصلاة) أي خطبة الجمعة وصلاتها وما يتعلق بصفاتهما وكمالاتهما وبيان أوقاتهما. والخطبة بالضم مصدر خطب يخطب خطابه وخطبة أي وعظ. ويطلق على الكلام الذي يخطب به، وهو الكلام

{الفصل الأول}

{الفصل الأول} 1414- (1) عن أنس، ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ المنثور المسجع ونحوه، كذا في القاموس. وفي عرف الشرع عبارة عن كلام يشتمل على الذكر والتشهد والصلاة والوعظ. واختلف هل هي شرط صحة صلاة الجمعة، وركن من أركانها أم لا؟ فذهب الجمهور إلى أنها شرط وركن. وقال أقوام: إنها ليست بفرض، وجمهور أصحاب مالك على أنها فرض إلا ابن الماجشون، ذكره ابن رشد. قلت: ذهب داود الظاهري وابن حزم والحسن البصري والجويني إلى أن خطبة الجمعة ليست فرضاً، بل هي مندوبة، وهو الظاهر؛ لأنه لم ينتهض دليل على إيجابها لا من كتاب ولا من سنة. وأما قوله تعالى: {فاسعوا إلى ذكر الله} [62: 9] فليس فيه حجة على ذلك؛ لأن المراد بالذكر المأمور بالسعي إليه هو الصلاة. غاية الأمر أنه متردد بينها وبين الخطبة، وقد وقع الاتفاق على وجوب الصلاة، والنزاع في وجوب الخطبة، فلا ينتهض هذا الدليل للوجوب. قال ابن حزم: قد أقدم بعضهم فقال إن قول الله تعالى: {فاسعوا إلى ذكر الله} إنما مراده إلى الخطبة، وجعل هذا حجة في إيجاب فرضها. قال ابن حزم: من لهذا المقدم؟ إن الله تعالى أراد بالذكر المذكور فيها الخطبة، بل أول الآية وآخرها يكذبان ظنه الفاسد؛ لأن الله تعالى إنما قال: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} ، ثم قال عزوجل: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض، وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً} فصح أن الله تعالى إنما افترض السعي إلى الصلاة إذا نودي لها، وأمر إذا قضيت بالانتشار، وذكره كثيراً، فصح يقيناً أن الذكر المأمور بالسعي له هو الصلاة، وذكر الله تعالى فيها بالتكبير والتسميع والتمجيد والقراءة والتشهد لا غير ذلك، فإن قالوا: لم يصلها عليه السلام قط إلا بخطبة. قلنا: ولا صلاها عليه السلام قط إلا بخطبتين قائماً يجلس بينهما، فاجعلوا كل ذلك فرضاً لا تصح الجمعة إلا به، ولا صلى عليه السلام قط إلا رفع يديه في التكبيرة الأولى، فأبطلوا الصلاة بترك ذلك-انتهى. 1414- قوله: (حين تميل الشمس) أي تزول عن كبد السماء وعن استوائها، يعني بعد تحقق الزوال. قال الحافظ: في التعبير بـ"كان" إشعار بمواظبته - صلى الله عليه وسلم - على صلاة الجمعة إذا زالت الشمس-انتهى. وفيه دليل لما ذهب إليه الجمهور من أن أول وقت الجمعة إذا زالت الشمس كوقت الظهر، وأنها لا تصلى إلا بعد الزوال. ويدل له أيضاً ما رواه مسلم عن سلمة بن الأكوع قال: كنا نجمع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا زالت الشمس، ثم نرجع نتتبع الفيء. قال النووي: قال مالك وأبوحنيفة والشافعي وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم: لا تجوز الجمعة إلا بعد زوال الشمس، ولم يخالف في هذا إلا أحمد بن حنبل وإسحاق، فجوزاها قبل الزوال.

رواه البخاري. 1415- (2) وعن سهل بن سعد، قال: ((ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ وروي في هذا أشياء عن الصحابة لا يصح منها شيء إلا ما عليه الجمهور-انتهى. واستدل لأحمد ومن وافقه بحديث سهل بن سعد الآتي، وسنذكر وجه الاستدلال مع الجواب عنه، ثم إنه اختلف أصحاب أحمد، فقال بعضهم: وقتها وقت صلاة العيد، فتجوز في أول النهار. وقال الخرقي: وإن صلوا الجمعة قبل الزوال في الساعة السادسة أجزأتهم. وظاهره أنه لا يجوز صلاتها فيما قبل الساعة السادسة، وهو الذي صححه ورجحه ابن قدامة في المغني (ج2ص357) . والأولى والأفضل عندهم أن لا تصلى إلا بعد الزوال ليخرج من الخلاف، ويفعلها في الوقت الذي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعلها فيه في أكثر أوقاته. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والبيهقي (ج3ص190) . 1415- قوله: (ما كنا نقيل) بفتح النون، من قال يقيل قيلولة فهو قائل. قال في النهاية: المقيل والقيلولة الاستراحة نصف النهار وإن لم يكن معها نوم. (ولا نتغدى) بالغين المعجمة والدال المهملة من الغداء، وهو الطعام الذي يوكل أول النهار. زاد في رواية أحمد ومسلم والترمذي: في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. (إلا بعد الجمعة) أي بعد فراغ صلاتها. وفي رواية للبخاري: كنا نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الجمعة، ثم تكون القائلة. واستدل به لأحمد على جواز صلاة الجمعة قبل الزوال؛ لأن الغداء والقيلولة محلهما قبل الزوال، وحكي عن ابن قتيبة أنه قال لا يسمى غداء ولا قائلة بعد الزوال. وأجيب عنه بأنه لا دلالة فيه على أنهم كانوا يصلون الجمعة قبل الزوال، بل فيه أنهم كانوا يتشاغلون عن الغداء والقائلة بالتهيؤ للجمعة ثم بالصلاة، ثم ينصرفون فيقيلون ويتغدون، فيكون قائلتهم وغداءهم بعد الجمعة عوضاً عما فاتهم في وقته من أجل بكورهم. والحاصل أن قائلتهم وغداءهم بعد الجمعة لما كانا قائمين مقام القيلولة والغداء، أطلق عليهما ذلك مجازاً، وهذا كما أطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السحور اسم الغداء فقال لعرباض ابن سارية: هلم إلى الغداء المبارك. أخرجه أبوداود والنسائي، فكما أنه لا يصح الاستدلال بقوله - صلى الله عليه وسلم - هذا على جواز السحور وقت الغداء أي بعد طلوع الفجر إلى الزوال، كذلك لا يصح الاستدلال بلفظ القيلولة والتغدي على جواز صلاة الجمعة قبل الزوال. وبالجملة حمل الجمهور حديث سهل على التبكير، وأنهم كانوا يشتغلون أول النهار بآلة الجمعة، فيؤخرون الغداء والقيلولة عن وقتهما. والحاصل أن ما كان غداء في غير يوم الجمعة يكون بعد صلاة الجمعة، فلا يبقى فيه غداء، وكذا القيلولة. وقال الأمير اليماني: ليس في حديث سهل دليل على الصلاة قبل الزوال؛ لأنهم في المدينة ومكة لا يقيلون ولا يتغدون إلا بعد صلاة الظهر، كما قال تعالى: {وحين تضعون ثيابكم

من الظهيرة} [24: 58] نعم كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسارع بصلاة الجمعة في أول وقت الزوال بخلاف الظهر، فقد كان يؤخره بعده حتى يجتمع الناس-انتهى. واستدل لأحمد أيضاً بحديث سلمة: كنا نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمعة، ثم ننصرف وليس للحيطان ظل نستظل به. وفي رواية: وما نجد فيئاً نستظل به. وجه الاستدلال أنه قد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب خطبتين، ويجلس بينهما، ويقرأ القرآن في الخطبة مثل سورة {ق} و {تبارك} ، ويذكر الناس، ويقرأ في صلاتها بسورة {الجمعة} و {المنافقين} ، ولو كانت خطبته وصلاته بعد الزوال لما انصرف منها إلا وقد صار للحيطان ظل يستظل به. وأجيب عنه بأن خطبته - صلى الله عليه وسلم - وصلاته كانتا قصداً، فلا يزيد شغله في الخطبة والصلاة على الساعة الواحدة العرفية، ومع مضى الساعة الواحدة لا يمكن أن يكون لجدران المدينة فيء يستظل به لقصر جدرانها، إذ ذاك قال الشوكاني: المراد نفي الظل الذي يستظل به لا نفي أصل الظل، كما هو الأكثر الأغلب من توجه النفي إلى القيود الزائدة. ويدل على ذلك قوله: "ثم نرجع نتبع الفيء" وإنما كان كذلك؛ لأن الجدران كانت في ذلك العصر قصيرة لا يستظل بظلها إلا بعد توسط الوقت، فلا دلالة في ذلك على أنهم كانوا يصلون قبل الزوال-انتهى. واستدل له أيضاً بحديث أنس قال: كنا نبكر بالجمعة، ونقيل بعد الجمعة، أخرجه البخاري. قال الحافظ: ظاهره أنهم كانوا يصلون الجمعة باكر النهار، لكن طريق الجمع أولى من دعوى التعارض، وقد تقرر فيما تقدم أن التبكير يطلق على فعل الشيء في أول وقته أو تقديمه على غيره، وهو المراد هنا. والمعنى أنهم كانوا يبدؤون بالصلاة قبل القيلولة، بخلاف ما جرت به عادتهم في صلاة الظهر في الحر، فإنهم كانوا يقيلون ثم يصلون لمشروعية الإبراد، واستدل له أيضاً بحديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الجمعة ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها حين تزول الشمس، أخرجه أحمد ومسلم والنسائي. قيل: المتبادر منه أن صلاتهم كانت قبل الزوال؛ لأنه قد صرح بأن إراحتهم لنواضحهم بعد الجمعة كانت عند الزوال. وتعقب بأن قوله: "حين تزول الشمس" يحتمل أن يكون متعلقاً بقوله: "يصلي" فلا يتم الاستدلال به. واستدل له أيضاً بما روى عبد الله بن أحمد في زيادات المسند، والدارقطني وأبونعيم في كتاب لصلاة، وابن أبي شيبة من رواية عبد الله بن سيدان قال: شهدت الجمعة مع أبي بكر فكانت صلاته وخطبته قبل نصف النهار، وشهدتها مع عمر فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول انتصف النهار، ثم شهدتها مع عثمان فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول زال النهار، فما رأيت أحداً عاب ولا أنكره. وأجيب عنه بأن عبد الله بن سيدان بسين مهملة مكسورة بعدها تحتية ساكنة. قيل: سندان بالنون بعد السين المطرودي السلمي غير معروف العدالة. قال ابن عدي: شبه المجهول، وقال ـــــــــــــــــــــــــــــ

متفق عليه. 1416- (3) وعن أنس، قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتد البرد بكر بالصلاة، وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة، يعني الجمعة)) ـــــــــــــــــــــــــــــ البخاري: لا يتابع على حديثه. وقال اللالكائي: مجهول لا خير فيه. وقال النووي في الخلاصة: اتفقوا على ضعف ابن سندان- انتهى. بل قد عارضه ما هو أقوى منه، فروى ابن أبي شيبة من طريق سويد بن غفلة أنه صلى مع أبي بكر وعمر حين زالت الشمس. قال الحافظ: إسناده قوي. وقد ظهر بما ذكرنا أنه ليس في صلاة الجمعة قبل الزوال حديث صحيح صريح. فالقول الراجح هو ما قال به الجمهور. قال شيخنا في شرح الترمذي: والظاهر المعول عليه هو ما ذهب إليه الجمهور من أنه لا تجوز الجمعة إلا بعد زوال الشمس. وأما ما ذهب إليه بعضهم من أنها تجوز قبل الزوال فليس فيه حديث صريح- انتهى. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والترمذي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص241) . 1416- قوله: (إذا اشتد البرد) فيه نوع من المشاكلة. والمراد عدم اشتداد الحر. (بكر) أي تعجل وأسرع. (بالصلاة) أي صلاها في أول وقتها. (أبرد بالصلاة) أي صلاها بعد أن وقع ظل الجدار في الطريق كيلا يتأذى الناس بالشمس. كذا قال بعض الشراح من الحنفية. (يعني الجمعة) يعني أنه ليس الحديث في صلاة الجمعة، وإنما هو في صلاة الظهر إلا أن أنساً لما استدل به على صلاة الجمعة قياساً على الظهر حمله بعض الرواة عليها فقال يعني الجمعة، فليس دليل الإبراد بصلاة الجمعة في شدة الحر إلا القياس لا الحديث. قال الشوكاني: يحتمل أن يكون قوله: "يعني الجمعة" من كلام التابعي أو من دون أخذه قائله مما فهمه من التسوية بين الظهر والجمعة عند أنس حيث استدل لما سئل عن الجمعة بقوله:"كان يصلي الظهر" ويؤيده ما عند الإسماعيلي عن أنس من طريق أخرى، وليس فيه قوله:"يعني الجمعة"- انتهى. والحاصل أن الروايات تدل على أن الإبراد بالجمعة عند أنس إنما هو بالقياس على الظهر لا النص، لكن أكثر الأحاديث تدل على التفرقة في الظهر، وعلى التبكير في الجمعة مطلقاً من غير تفصيل. قال الكرماني. قال الفقهاء: ندب الإبراد إلا في الجمعة لشدة الخطر في فواتها، ولأن الناس يبكون إليها، فلا يأذون بالحر. وقال ابن قدامة في المغني (ج2 ص296) : ولا فرق في استحباب إقامة الجمعة عقيب الزوال بين الشدة والحر وغيره، فإن الجمعة يجتمع لها الناس، فلو انتظروا الإبراد شق عليهم، ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعلها إذا زالت الشمس في الشتاء والصيف على ميقات واحد، وقال في (ج1 ص390) : فأما الجمعة فيسن تعجيلها في كل وقت بعد الزوال من غير إبراد؛ لأن سلمة بن الأكوع قال: كنا نجمع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

رواه البخاري. 1417- (4) وعن السائب بن يزيد، قال: ((كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر، على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر، وعمر، فلما كان عثمان وكثر الناس، زاد النداء الثالث ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا زالت الشمس، متفق عليه. ولم يبلغنا أنه أخرها، بل كان يعجلها، حتى قال سهل بن سعد: ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة، أخرجه البخاري، ولأن السنة التبكير بالسعي إليها ويجتمع الناس لها، فلو أخرها لتأذى الناس بتأخير الجمعة- انتهى. قلت: وقد نحا البخاري إلى مشروعية الإبراد بالجمعة، وإليه ميل الحنفية. والراجح عندنا التعجيل من غير فرق بين الحر والبرد لعدم النص في الإبراد بالجمعة. والله تعالى أعلم. (رواه البخاري) وللحديث قصة وحاصلها أن الحكم بن أبي عقيل الثقفي كان نائباً على البصرة عن ابن عمه الحجاج بن يوسف، وكان الحكم على طريقة ابن عمه في تطويل الخطبة يوم الجمعة حتى يكاد الوقت أن يخرج، فأنكر ذلك على الحكم بعضهم، وسأل الحكم من أنس كيف كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الظهر؟ فأجاب أنس بما ذكر من الحديث. والحديث أخرجه البخاري في الأدب المفرد أيضاً، وأخرجه أبويعلى في مسنده مع القصة، والبيهقي (ج3 ص291، 192) معها وبدونها. 1417- قوله: (كان النداء) الذي ذكره الله في القرآن. (أوله) بالرفع بدل من اسم، كان وخبرها "إذا جلس الإمام". وفي رواية لابن خزيمة: كان ابتداء النداء الذي ذكره الله في القرآن يوم الجمعة. (إذا جلس الإمام على المنبر) أي قبل الخطبة، وثانيه وهو الإقامة، إذا فرغ من الخطبة ونزل. (على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي في زمانه. (وأبي بكر وعمر) يعني في خلافتهما. وفي رواية لابن خزيمة: كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر أذانين يوم الجمعة. قال ابن خزيمة: قوله: "أذانين" يريد الأذان والإقامة يعني تغليباً أو لاشتراكهما في الإعلام. (فلما كان عثمان) أي زمن خلافته. قال الطيبي: "كان" تامة أي حصل عهده. وقيل: يصح كونها ناقصة، والخبر محذوف أي خليفة. (وكثر الناس) أي المؤمنون بالمدينة عن أن يسمعوا الأذان عند باب المسجد. (زاد) أي عثمان بعد مضي مدة من خلافته. (النداء الثالث) أول الوقت عند الزوال قبل خروجه وصعوده على المنبر ليعلم الناس أن الجمعة قد حضرت، وإنما سماه ثالثاً بالنسبة إلى إحدائه؛ لأنه زيد على النداءين الذين كانا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمن الشيخين، وهما الأذان بعد صعود الإمام على المنبر قبل قراءة الخطبة، وهو المراد بالنداء الأول والإقامة بعد فراغه من الخطبة عند نزوله، وهو المراد بالنداء الثاني. وفي بعض روايات الحديث: فأمر عثمان بالأذان الأول، وهو الموافق للواقع فعلاً؛ لأنه

على الزوراء)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ يبدأ به قبل خروج الإمام. وفي بعض رواياته أيضاً تسميته الثاني باعتبار أنه زيد على الأذان الذي كان قبل، وعدم اعتبار الإقامة في العدد؛ لأنها ليست أذاناً وإن كانت من النداء للصلاة، والحاصل أنه باعتبار كونه مزيداً يسمى ثالثاً، وباعتبار كونه جعل مقدماً على الأذان والإقامة يسمى أولاً، وبالنظر إلى الأذان الحقيقي دون الإقامة يسمى ثانياً، قال الطيبي: إنما زاد عثمان ذلك لكثرة الناس فرأى هو أن يؤذن المؤذن قبل الوقت. (يعني المعتاد، وهو صعوده على المنبر بعد الزوال) لينتهي الصوت إلى نواحي المدينة، ويجتمع الناس قبل خروج الإمام لئلا يفوت عنهم أوائل الخطبة. (على الزوراء) بفتح الزاي وسكون الواو بعدها راء ممددة موضع بالسوق بالمدينة، قاله البخاري في جامعه الصحيح. وفي رواية ابن خزيمة وابن ماجه: زاد النداء الثالث على دار في السوق يقال لها الزوراء، وزاد في رواية للبخاري وغيره: فثبت الأمر على ذلك. قال الحافظ: والذي يظهر أن الناس أخذوا بفعل عثمان في جميع البلاد إذ ذاك لكونه خليفة مطاع الأمر، لكن ذكر الفاكهاني: أن أول من أحدث الأذان الأول بمكة الحجاج، وبالبصرة زياد، وبلغني أن أهل المغرب الأدنى الآن لا تأذين عندهم سوى مرة. وروى ابن أبي شيبة من طريق ابن عمر قال: الأذان الأول يوم الجمعة بدعة، فيحتمل أن يكون قال ذلك على سبيل الإنكار. ويحتمل أنه يريد لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وكل ما لم يمكن في زمنه يسمى بدعة لكن منها ما يكون حسناً، ومنها ما يكون بخلاف ذلك، وتبين بما مضى أن عثمان أحدثه لإعلام الناس بدخول وقت الصلاة قياساً على بقية الصلوات، فألحق الجمعة بها وأبقى خصوصيتها بالأذان بين يدي الخطيب- انتهى كلام الحافظ. وقد ذكر الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي (ج2 ص393) هنا كلاماً حسناً أحببنا إيراده لعل الله ينفع بها الطالبين، قال: "فائدة" في رواية عند أبي داود في هذا الحديث: كان يؤذن بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس على المنبر يوم الجمعة على باب المسجد، فظن العوام بل كثير من أهل العلم أن هذا الأذان يكون أمام الخطيب مواجهة، فجعلوا مقام المؤذن في مواجهة الخطيب. (قريباً من المنبر) على كرسي أو غيره، وصار هذا الأذان تقليداً صرفاً لا فائدة له في دعوة الناس إلى الصلاة وإعلامهم حضورها، كما هو الأصل في الأذان والشأن فيه، وحرصوا على ذلك، حتى لينكرون على من يفعل غيره، وإتباع السنة أن يكون على المنارة عند باب المسجد ليكون إعلاماً لمن لم يحضر، وحرصوا على إبقاء الأذان قبل خروج الإمام، وقد زالت الحاجة إليه؛ لأن المدينة لم يكن بها (مسجد جامع) إلا المسجد النبوي وكان الناس كلهم يجمعون فيه، وكثروا عن أن يسمعوا الأذان عند باب المسجد، فزاد عثمان الأذان الأول ليعلم من بالسوق ومن حوله حضور الصلاة، أما الآن وقد كثرت المساجد، وبنيت فيها المنارات، وصار الناس يعرفون وقت الصلاة بأذان المؤذن على المنارة فإنا نرى أن يكتفي بهذا الأذان، وأن يكون عند خروج الإمام إتباعاً للسنة أو يؤمر المؤذنون

رواه البخاري. 1418- (5) وعن جابر بن سمرة، قال: ((كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خطبتان، يجلس بينهما ـــــــــــــــــــــــــــــ عند خروج الإمام أن يؤذنوا على أبواب المساجد- انتهى. قلت: إذا وقعت اليوم الحاجة إلى النداء العثماني في بلد كما وقعت بالمدينة في عهد عثمان رضي الله عنه فلا بأس بأن يؤذن على موضع مرتفع كالمنار أو سطح البيت خارج المسجد قبل خروج الإمام كما كان في زمن عثمان رضي الله عنه. وأما بغير الحاجة وعند عدم الضرورة فالاكتفاء بالأذان عند خروج الإمام هو المتعين عندي. وأما كون هذا الأذان أمام الخطيب مواجهة قريباً من المنبر فليس في شيء من السنة، فإن السنة أن يؤذن عند باب المسجد ليحصل فائدة الأذان لا داخل المسجد عند المنبر، والله تعالى أعلم. (رواه البخاري) بألفاظ وأسانيد. وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3ص192، 205) . 1418- قوله: (كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - خطبتان) فيه أن المشروع خطبتان، وقد ذهب إلى وجوبهما الشافعي وأحمد. قال ابن قدامة: يشترط للجمعة خطبتان، وهذا مذهب الشافعي. وقال مالك والأوزاعي وإسحاق وأبوثور وابن المنذر وأصحاب الرأي: يجزيه خطبة واحدة، وقد روى عن أحمد ما يدل عليه، فإنه قال لا تكون الخطبة إلا كما خطب النبي صلى الله عليه وسلم أو خطبة تامة-انتهى. وقال الشوكاني: قد ذهب إلى وجوبهما العترة الشافعي. وحكى العراقي في شرح الترمذي عن مالك وأبي حنيفة والأوزاعي وإسحاق بن راهويه وأبي ثور وابن المنذر وأحمد بن حنبل في رواية أن الواجب خطبة واحدة، قال: وإليه ذهب جمهور العلماء، ولم يستدل من قال بالوجوب إلا بمجرد الفعل مع قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي"-الحديث. وقد عرفت ألا ذلك ينتهض لإثبات الوجوب، يعني لأن مجرد الفعل لا يفيد الوجوب. وأما قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" فهو مع كونه غير صالح للاستدلال به على الوجوب ليس فيه إلا الأمر بإيقاع الصلاة على الصفة التي كان يوقعها عليها، والخطبة ليست بصلاة. (يجلس بينهما) أي بين الخطبتين. وفيه إشارة إلى أن خطبته كانت حالة القيام، وقد ورد ذلك مصرحا عن جابر نفسه، وعن ابن عمر وكعب بن عجرة، كما سيأتي، قال الشوكاني في شرح حديث ابن عمر وجابر: فيه أن القيام حال الخطبة المشروع. قال ابن المنذر: وهو الذي عليه عمل أهل العلم من علماء الأمصار. واختلف في وجوبه، فذهب مالك والشافعي إلى الوجوب، غير أن مالكاً قال: إنه واجب لو تركه أساء، وصحت الجمعة. وقال الشافعي: إنه شرط في صحة الخطبة، وإنه متى خطب قاعداً لغير عذر لم تصح. قال ابن قدامة ويحتمله كلام أحمد. وذهب أبوحنيفة إلى أن القيام سنة وليس بواجب، قال ابن قدامة: قال القاضي: يجزيه الخطبة قاعداً، وقد نص عليه أحمد، وهو مذهب أبي حنيفة. واستدل الأولون بحديث جابر وابن عمر وبغيرهما من الأحاديث الصحيحة: قال الشوكاني:

يقرأ القرآن، ويذكر الناس، ـــــــــــــــــــــــــــــ لاشك أن الثابت عنه صلى الله عليه وسلم وعن الخلفاء الراشدين هو القيام حال الخطبة، ولكن الفعل بمجرده لا يفيد الوجوب. وفي الحديث مشروعية الجلوس بين الخطبتين. واختلف في وجوبه، فذهب الشافعي إلى أنه فرض، وشرط لصحة الخطبة. وذهب الجمهور مالك وأحمد وأبوحنيفة إلى أنه غير واجب. استدل من أوجب ذلك بفعله صلى الله عليه وسلم، وقوله: "صلوا كما رأيتموني"، وقد تقدم الجواب عن مثل هذا الاستدلال. قال ابن المنذر: لم أجد للشافعي دليلاً، والفعل، وإن اقتضى الوجوب عند الشافعي، لا يدل على بطلان الجمعة بتركه، وأي فرق بين الجلوس قبلهما وبينهما، مع أن كلا منهما ثابت عنه عليه الصلاة والسلام. قال جمع من الشافعية وهو كما قال، والعجب إيجاب هذا دون الاستقبال، قاله القاري. (يقرأ القرآن) تفسير الخطبة. وقال القاضي: هو صفة ثانية للخطبتين. والراجح محذوف، والتقدير يقرأ فيهما. وقوله: (ويذكر الناس) عطف عليه داخل في حكمه-انتهى. والتذكير هو الوعظ والنصيحة، وذكر ما يوجب الخوف والرجاء من الترهيب والترغيب. واستدل به على مشروعية القراءة والوعظ في الخطبة، ولا خلاف فيه وإنما الخلاف في الوجوب، فذهب الشافعي إلى أنه يشترط في الخطبة الوعظ والقراءة، قال النووي: قال الشافعي: لا تصح الخطبتان إلا بحمد الله تعالى والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما والوعظ، وهذه الثلاثة واجبات في الخطبتين، وتجب قراءة آية من القرآن في إحداهما على الأصح، ويجب الدعاء للمؤمنين في الثانية على الأصح. وقال مالك وأبوحنيفة والجمهور: يكفي من الخطبة ما يقع عليه الاسم. وقال أبوحنيفة وأبويوسف ومالك في رواية عنه: يكفي تحميدة أو تسبيحة أو تهليلة، وهذا ضعيف؛ لأنه لا يسمى خطبة. ولا يحصل به مقصودها مع مخالفته ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم-انتهى. قلت: الراجح عندي أنه يجب في خطبة الجمعة شيء سوى حمد الله والموعظة؛ لأن ذلك يسمى خطبة ويحصل به المقصود فأجزأ، وما عداه من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وقراءة القرآن والدعاء لإنسان ليس على اشتراطه ووجوبه في الخطبة دليل، ولا يجب أن يخطب على صفة خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بالاتفاق؛ لأنه قد روى أنه كان يقرأ آيات، ولا يجب قراءة آيات، ولكن يستحب أن يقرأ آيات كذلك، ولما روت أم هشام قالت: ما أخذت ق والقرآن المجيد إلا من في رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخطب بها في كل جمعة. وفي حديث الشعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ سورة. وقوله: "يذكر الناس" دليل صريح على أن الخطبة وعظ وتذكير للناس، وأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعلم أصحابه في خطبة الجمعة قواعد الإسلام وشرائعه ويأمرهم وينهاهم في خطبته إذا عرض له أمر أو نهي، وكان يأمرهم بمقتضى الحال، فلا بد للخطيب من أن يعظ الناس، ويذكرهم ويبين لهم ما يحتاجون إليه. فإن كان السامعون من غير العرب وعظهم بلغتهم، فإن التذكير

فكانت صلاته قصداً، وخطبته قصداً)) . رواه مسلم. 1419- (6) وعن عمار، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته، مئنة من فقهه، ـــــــــــــــــــــــــــــ والوعظ في بلاد العجم لا يفيد، ولا يحصل أثره إلا إذا كان بلغتهم. وحديث جابر هذا هو أول دليل على هذا. (فكانت صلاته قصداً) أي متوسطة بين الإفراط والتفريط من التقصير والتطويل بفتح القاف وسكون الصاد، وآخره دال، وهو الوسط بين الطرفين، وهو المعتدل الذي لا يميل إلى أحد طرفي التفريط والإفراط. (وخطبته قصداً) قال الطيبي: أصل القصد الاستقامة في الطريق، استعير للتوسط في الأمور والتباعد عن الإفراط، ثم للتوسط بين الطرفين كالوسط، أي كانت صلاته - صلى الله عليه وسلم - متوسطة، لم تكن غاية الطول، ولا في غاية القصر، وكذلك الخطبة. وذلك لا يقتضى مساواة الخطبة للصلاة، إذ توسط كل يعتبر في بابه، فلا يخالف حديث عمار الآتي. (رواه مسلم) هما حديثان عند مسلم رواهما عن جابر بن سمرة، تم الأول على قوله "ويذكر الناس" وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3ص210) ولفظ الثاني: قال جابر: كنت أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت صلاته قصداً وخطبته قصداً. ونسب المجد هذا في المنتقى للجماعة إلا البخاري وأبا داود. قلت: وأخرجه البيهقي (ج3ص207) أيضاً. 1419- قوله: (إن طول صلاة الرجل) أي إطالتها. (وقصر خطبته) بكسر القاف وفتح الصاد أي تقصيرها. (مئنة) بفتح الميم ثم همزة مكسورة ثم نون مشددة. (من فقهه) أي علامة يتحقق بها فقهه، مفعلة بنيت من، إن المكسورة المشددة وحقيقتها مظنة ومكان لقول القائل: إنه فقيه؛ لأن الصلاة مقصودة بالذات، والخطبة توطئة لها، فتصرف العناية إلى الأهم، كذا قيل، أو لأن حال الخطبة توجهه إلى الخلق وحال الصلاة مقصده الخالق. فمن فقاهة قلبه إطالة معراج ربه، أو لأن الصلاة هي الأصل، والخطبة هي الفرع، ومن القضايا الفقهية أن يؤثر الأصل على الفرع بزيادة. وقال الطيبي: قوله "من فقهه" صفة "مئنة" أي مئنة ناشئة من فقهه، في النهاية: أي ذلك مما يعرف به فقه الرجل، فكل شيء دل على شيء فهو مئنة له. وحقيقتها أنها مفعلة من معنى أن التي للتحقيق غير مشتقة من لفظها؛ لأن الحروف لا يشتق منها، وإنما ضمن حروفها دلالة على أن معناها فيها. قال النووي: قال الأزهري والأكثرون: الميم فيها زائدة، وهي مفعلة، قال الأزهري: غلط أبوعبيد في جعله الميم أصلية. وقال القاضي عياض: قال شيخنا ابن سراج: هي أصلية-انتهى. قال الشوكاني: وإنما كان اقتصار الخطبة علامة من فقه الرجل؛ لأن الفقيه هو المطلع على جوامع الألفاظ، فيتمكن بذلك من التعبير باللفظ المختصر عن

فأطيلوا الصلاة، واقصروا الخطبة، وإن من البيان سحراً)) . رواه مسلم. 1420- (7) وعن جابر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، ـــــــــــــــــــــــــــــ المعاني الكثيرة. (فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة) قال النووي: الهمزة في "أقصروا" همزة وصل، وليس هذا الحديث مخالفاً للأحاديث المشهورة في الأمر بتخفيف الصلاة، ولقوله في الرواية المتقدمة: "كانت صلاته قصداً وخطبته قصداً"؛ لأن المراد بحديث عمار أن الصلاة تكون طويلة بالنسبة إلى الخطبة لا تطويلاً يشق على المأمومين، وهي حينئذٍ قصد أي معتدلة، والخطبة قصد بالنسبة إلى وضعها. وقال العراقي: أو حيث احتيج إلى التطويل لإدراك بعض من تخلف، قال: وعلى تقدير تعذر الجمع بين الحديثين يكون الأخذ في حقنا بقوله؛ لأنه أدل بفعله لاحتمال التخصيص. وقال القاري: لا تنافي بينهما، فإن الأول أي حديث جابر دل على الاقتصار فيهما، والثاني أي حديث عمار على اختيار المزية في الثانية منهما، ثم لا ينافي هذا ما ورد في مسلم من حديث أبي زيد، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر، وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر، فنزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس، فأخبرنا بما كان، وبما هو كائن-انتهى. لوردوه نادراً اقتضاه الوقت، ولكونه بياناً للجواز، وكأنه كان واعظاً، والكلام في الخطب المتعارفة-انتهى. (وإن من البيان سحراً) أي من البيان ما يصرف قلوب المستمعين إلى قبول ما يستمعون فشبه الكلام العامل في القلوب الجاذب للعقول بالسحر لأجل ما اشتمل عليه من الجزالة وتناسق الدلالة وإفادة المعاني الكثيرة. والظاهر أنه من عطف الجمل، ذكره استطراداً. وقال الطيبي: الجملة حال من "اقصروا" أي اقصروا الخطبة وأنتم تأتون بها معاني جمة في ألفاظ يسيرة، وهي من أعلى طبقات البيان، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: أوتيت جوامع الكلم. قال النووي: قال القاضي: فيه تأويلان أحدهما أنه ذم؛ لأنه إمالة للقلوب، وصرفها بمقاطع الكلام إليه، حتى يكسب من الإثم به، كما يكتسب بالسحر، وأدخله مالك في الموطأ في "باب ما يكره من الكلام" وهو مذهبه في تأويل الحديث. والثاني أنه مدح؛ لأن الله تعالى امتن على عباده بتعليمهم البيان. وشبه بالسحر لميل القلوب إليه. وأصل السحر الصرف، فالبيان يصرف القلب ويميله إلى ما يدعو إليه. قال النووي: وهذا التأويل الثاني هو الصحيح. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد (ج4ص263) والبيهقي (ج3ص208) . 1420- قوله: (وعن جابر) أي ابن عبد الله. (إذا خطب) أي للجمعة كما في رواية لمسلم. (احمرت عيناه وعلا صوته) بالرفع أي ارتفع صوته. (واشتد غضبه) يفعل ذلك لإزالة الغفلة من قلوب الناس ليتمكن فيها

حتى كأنه منذر جيش، ويقول: صبحكم ومساكم، ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين، ويقرن بين إصبعيه: السبابة والوسطى)) . رواه مسلم. 1421- (8) وعن يعلى بن أمية، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر. {ونادوا يا مالك ـــــــــــــــــــــــــــــ كلامه صلى الله عليه وسلم فضل تمكن، أو لأنه يتوجه فكره إلى الموعظة، فيظهر عليه آثار الهيبة الإلهية. واستدل به على أنه يستحب للخطيب أن يفخم أمر الخطبة، ويرفع صوته وكلامه، ليكون مطابقاً للفصل الذي يتكلم فيه من ترغيب أو ترهيب. ولعل اشتداد غضبه صلى الله عليه وسلم كان عند إنذاره أمراً عظيماً. (كأنه منذر جيش) هو الذي يجيء مخبرا للقوم بما قد دهمهم من عدو أو غيره، أي كمن ينذر قوماً من قرب جيش عظيم قصدوا الإغارة عليهم. (يقول) ضميره عائد لمنذر، والجملة صفته (صبحكم) بتشديد الباء، وفاعله ضمير يعود إلى العدو المنذر منه، ومفعوله يعود إلى المنذرين، أي نزل بكم العدو صباحاً. والمراد سينزل، وصيغة الماضي للتحقق مثل حال الرسول - صلى الله عليه وسلم - في خطبته وإنذاره بمجيء القيامة، وقرب وقوعها، وتهالك الناس فيما يرديهم بحال من ينذر قومه عند غفلتهم بجيش قريب منهم، يقصد الإحاطة بهم بغتة من كل جانب. فكما أن المنذر يرفع صوته، وتحمر عيناه، ويشتد غضبه على تغافلهم، كذلك حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وإلى قرب المجيء أشار بإصبعيه. ونظيره ما روى أنه لما نزل: {وأنذر عشيرتك الأقربين} صعد الصفا، فجعل ينادي: يا بني فهر يا بني عدي-الحديث. (مساكم) بتشديد السين مثل "صبحكم" ويحتمل أن ضمير يقول للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والجملة حال. وضمير "صبحكم" للعذاب والمراد به قرب منكم إن لم تطيعوني. (ويقول) أي النبي صلى الله عليه وسلم عطف على احمرت. (بعثت أنا والساعة) روى برفعها ونصبها، والمشهور نصبها على المفعول معه، والرفع عطفاً على الضمير، وأكد بالضمير المنفصل ليصح العطف، أي بعثني قريباً من القيامة. (ويقرن) بضم الراء على المشهور الفصيح، وحكر كسرها. (السبابة) بالجر على البدلية وجوز الرفع أي المسبحة. (رواه مسلم) في الجمعة، وكذا البيهقي (ج3ص206، 213) وأخرجه أيضاً أحمد وابن ماجه في السنة، وهذا طرف من حديث طويل عندهم. 1421- قوله: (وعن يعلى بن أمية) بضم الهمزة وفتح الميم وتشديد التحتية. (ونادوا) أي أهل النار الداخلون فيها، وهم الكفار. (يا مالك) بإثبات الكاف، وهي قراءة الجمهور. وقرأ الأعمش "ونادوا يا مال" بالترخيم، ورويت عن علي، وهي قراءة ابن مسعود، وفيه إشعار بأنهم لضعفهم لا يستطيعون تأدية اللفظ بالتمام، فإن قلت: كيف قال ونادوا يا مالك بعد ما وصفهم بالابلاس؟ أجيب بأنها أزمنة متطاولة وأحقاب ممتدة، فتختلف

ليقض علينا ربك} متفق عليه. 1422- (9) وعن أم هشام بنت حارثة بن النعمان، قالت: ما أخذت {ق والقرآن المجيد} إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقرأها في كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ بهم الأحوال، فيسكتون أوقاتاً لغلبة اليأس عليهم، ويستغيثون أوقاتاً لشدة ما بهم. (ليقض علينا ربك) أي بالموت قال الطيبي: من قضي عليه أماته. ومنه قوله: {فوكزه موسى فقضى عليه} [28: 15] أي أماته. ومعنى الآية يقول الكفار لمالك خازن النار سل ربك أن يقضي علينا، يقولون هذا لشدة ما بهم، فيجابون بقوله: {إنكم ماكثون} أي خالدون. وفيه نوع استهزاء بهم دل هذا الحديث وما قبله. وقوله تعالى: {إن أنت إلا نذير} [35: 23] ، وقوله تعالى: {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} [35: 24] ، وقوله تعالى: {ليكون للعالمين نذيراً} [25: 1] ، على أن الناس إلى الإنذار والتخويف أحوج منهم إلى التبشير لتماديهم في الغفلة وانهماكهم في الشهوات. (متفق عليه) أخرجه البخاري في ذكر الملائكة وصفة النار من بدء الخلق، وفي تفسير سورة الزخرف، ومسلم في الصلاة وأخرجه أيضاً أحمد (ج4ص223) والترمذي في الصلاة وأبوداود في القراءات والنسائي في السنن الكبرى والبيهقي (ج3ص211) . 1422- قوله: (وعن أم هشام بنت حارثة النعمان) هي أخت عمرة بنت عبد الرحمن لأمها، الأنصارية النجارية. قال أحمد بن زهير: سمعت أبي يقول: أم هشام بنت حارثة بايعت بيعة الرضوان، ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب، ولم يذكر اسمها. وذكرها الحافظ في الإصابة والتهذيب والتقريب "ولم يسمها" أيضاً، وقال في التقريب صحابية مشهورة. (قالت: ما أخذت) أي ما حفظت (ق والقرآن المجيد) أي هذه السورة. (يقرأها) قال الطيبي: نقلاً عن المظهر، وتبعه ابن الملك: إن المراد أول السورة لا جميعها؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يقرأها جميعها في الخطبة. وقال ابن حجر: أي كلها وحملها على أول السورة صرف للنص عن ظاهره-انتهى. وقال القاري: الظاهر أنه كان يقرأ في كل جمعة بعضها، فحفظت الكل في الكل. قلت: الظاهر عندي ما قاله ابن حجر. والله تعالى أعلم. (كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس) فيه دليل على مشروعية قراءة سورة ق في الخطبة كل جمعة. قال العلماء: وسبب اختياره صلى الله عليه وسلم هذه السورة لما اشتملت عليه من ذكر البعث والموت والمواعظ الشديدة والزواجر الأكيدة. وفيه دلالة لقراءة شيء من القرآن في الخطبة كما سبق، وقد قام الإجماع على عدم وجوب قراءة السورة المذكورة ولا بعضها في الخطبة، وكانت محافظته على هذه السورة اختيارا منه لما هو الأحسن في الوعظ والتذكير. وفيه دلالة على ترديد الوعظ، كذا في السبل. قال الشوكاني بعد ذكر أحاديث ورد فيها ذكر قراءة القرآن في الخطبة. وقد استدل بحديث الباب وما ذكرناه من الأحاديث على مشروعية قراءة شيء من القرآن

رواه مسلم. 1423- (10) وعن عمرو بن حريث، ((أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفيها بين كتفيه يوم الجمعة)) . رواه مسلم. 1424- (11) وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب: ((إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب، فليركع ركعتين، ـــــــــــــــــــــــــــــ في الخطبة، ولا خلاف في الاستحباب، وإنما الخلاف في الوجوب، كما تقدم، قال: والظاهر من أحاديث الباب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يلازم قراءة سورة أو آية مخصوصة في الخطبة، بل كان يقرأ مرة هذه السورة ومرة هذه، ومرة هذه الآية ومرة هذه-انتهى. وعلى هذا فالمراد بكل جمعة في حديث الباب جمعات حضرت أم هشام فيها. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد (ج6ص435- 436، 463) وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج3ص211) والحاكم (ج1ص284) . 1423- قوله: (وعن عمرو بن حريث) بالتصغير القرشي المخزومي، صحابي صغير مات سنة (85) وقيل: قبض النبي صلى الله عليه وسلم، وله (12) سنة. (خطب) وفي رواية: خطاب الناس. (وعليه عمامة) بكسر العين. (سوداء) فيه لباس الثوب الأسود في الخطبة وإن كان الأبيض أفضل منه، كما ثبت في الحديث الصحيح: خير ثيابكم البياض. وأما لباس الخطباء السوداء في حال الخطبة فجائز، ولكن الأفضل البياض كما ذكرنا، وإنما لبس العمامة السوداء في هذا الحديث بياناً للجواز. (قد أرخى) أي سدل وأرسل. (طرفيها) بالتثنية أي طرفي عمامته. قال النووي: هكذا هو في جميع نسخ بلادنا وغيرها طرفيها بالتثنية، وكذا هو في الجمع بين الصحيحين للحميدي. وذكر القاضي عياض أن الصواب المعروف طرفها بالإفراد. وإن بعضهم رواه طرفيها بالتثنية، والله أعلم-انتهى. (بين كتفيه يوم الجمعة) فيه أن إرسال طرفي العمامة بين الكتفين ولبس الزينة يوم الجمعة سنة. قال الأمير اليماني. من آداب العمامة إرسال العذبة بين الكتفين، ويجوز تركها بالأصالة. قلت: سيأتي بسط الكلام فيه في كتاب اللباس. ومن أحب التفصيل رجع إلى تحفة الأحوذى (ج3ص48- 50) وشرح الشمائل (ص66- 67) للبيجوري، والمرقاة (ج2ص232) . (رواه مسلم) في الحج، وأخرجه أبوداود والنسائي في الزينة، والترمذي في الشمائل، وابن ماجه في الصلاة، والبيهقي (ج3ص246) . 1424- قوله: (وهو يخطب) جملة حالية أي يوم الجمعة. (إذا جاء أحدكم يوم الجمعة، والإمام يخطب فليركع ركعتين) أي ندباً. وفيه دليل مشروعية تحية المسجد واستحبابها حال الخطبة للداخل بتلك الحالة.

وليتجوز فيهما)) ـــــــــــــــــــــــــــــ وإلى ذلك ذهب الحسن وابن عيينة والشافعي وأحمد وإسحاق ومكحول وأبوثور وابن المنذر. وحكاه النووي عن فقهاء المحدثين. وحكى ابن العربي أن محمد بن الحسن حكاه عن مالك. (وليتجوز) بكسر اللام ويسكن أي ليخفف. فيه مشروعية التخفيف لتلك الصلاة ليتفرغ لسماع الخطبة، ولا خلاف في ذلك بين القائلين بأنها تشرع صلاة التحية حال الخطبة. والحديث حجة على مالك وأبي حنيفة في منع الداخل عن صلاة التحية في أثناء الخطبة، وقد أجاب من تبعهما عن هذا الحديث بأجوبة: منها المعارضة بقوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} [7: 204] وبقوله صلى الله عليه وسلم: إذا قلت لصاحبك أنصت، والإمام يخطب يوم الجمعة، فقد لغوت، قالوا فإذا امتنع الأمر بالمعروف، وهو أمر اللاغي بالإنصات مع قصر زمنه، فمنع التشاغل بالتحية مع طول زمنها أولى، وبقوله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب للذي دخل يتخطى رقاب الناس: اجلس، فقد آذيت. أخرجه أبوداود والنسائي، وصححه ابن خزيمة وغيره من حديث عبد الله بن بسر، قالوا: فأمره بالجلوس، ولم يأمره بالتحية. وروى الطبراني من حديث ابن عمر رفعه إذا دخل أحدكم، والإمام على المنبر، فلا صلاة ولا كلام حتى يفرغ الإمام. والجواب عن ذلك كله أن المعارضة التي تؤول إلى إسقاط أحد الدليلين إنما يعمل بها عند تعذر الجمع، والجمع ههنا ممكن. أما الآية فليست الخطبة كلها قرآناً. وأما ما فيها من القرآن فالجواب عنه كالجواب عن الحديث، وهو تخصيص عمومه بالداخل. وأيضاً فمصلي التحية يجوز أن يطلق عليه أنه منصت لحديث أبي هريرة أنه قال: يا رسول الله سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول فيه؟ فأطلق على القول سراً السكوت. وأما حديث ابن بُسر فهو أيضاً واقعة عين لا عموم فيها، فيحتمل أن يكون ترك أمره بالتحية قبل مشروعيتها. ويحتمل أن يجمع بينهما بأن يكون قوله: "اجلس" أي بشرطه، وقد عرف قوله للداخل. فلا تجلس حتى تصلي ركعتين. فمعنى قوله: "اجلس" أي لا تتخط، أو ترك أمره بالتحية لبيان الجواز فإنها ليست واجبة، أو لكون دخوله وقع في أواخر الخطبة بحيث ضاق الوقت عن التحية، وقد اتفقوا على استثناء هذه الصورة. ويحتمل أن يكون صلى التحية في مؤخر المسجد، ثم تقدم ليقرب من سماع الخطبة فوقع منه التخطي فأنكر عليه. والجواب عن حديث ابن عمر بأنه ضعيف فيه أيوب بن نهيك، وهو منكر الحديث، قاله أبوزرعة وأبوحاتم. والأحاديث الصحيحة لا تعارض بمثله كذا في الفتح. قال بعض الحنفية. حديث جابر مبيح للصلاة، وحديث الإنصات محرم لها، فاجتمع المبيح والمحرم فترجح-انتهى. وفيه أن الترجيح للمحرم إنما يكون إذا لم يمكن الجمع، والجمع ههنا ممكن، كما تقدم. وقال الأمير اليماني: هذا أمر الشارع، وهذا أمر الشارع، فلا تعارض بين أمريه، بل القاعد ينصت، والداخل يركع التحية. وقال الشوكاني: حديث الإنصات وارد في

المنع من المكالمة للغير، ولا مكالمة في الصلاة، ولو سلم أنه يتناول كل كلام حتى الكلام في الصلاة لكان عموماً مخصصاً بأحاديث الباب. وقال السندي: لا دليل على المنع من الركعتين عند الحنفية إلا حديث: إذا قلت لصاحبك أنصت. الخ. وذلك؛ لأن الأمر بالمعروف أعلى من تحية المسجد، فإذا منع منه منها بالأولى. وفيه بحث أما أولاً فلأنه استدلال بالدلالة أو القياس في مقابلة النص، فلا يسمع. وأما ثانياً فلأن المضي في الصلاة لمن شرع فيها قبل الخطبة جائز، بخلاف المضي في الأمر بالمعروف لمن شرع فيه قبل. فكما لا يصح قياس الصلاة على الأمر بالمعروف بقاء لا يصح ابتداء-انتهى. ومنها أن حديث جابر هذا أصله قصة سليك الغطفاني جعله الراوي قولاً كلياً وتشريعاً عاماً وضابطة من جانب نفسه، فهو إدراج من الراوي. وتوضيح ذلك أنه روي عن جابر في هذه المسألة حديثان: فعلي وقولي. أما الفعلي، وهي قصة سليك، فهو أنه قال: دخل رجل (وهو سليك الغطفاني) يوم الجمعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال صليت؟ قال لا، قال فصل ركعتين، رواه الجماعة. وأما الثاني أي القولي فهو قوله صلى الله عليه وسلم: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة الخ. وكلاهما يدل على جواز صلاة التحية حال الخطبة للداخل بتلك الحالة خلافاً لمالك وأبي حنيفة. وقد حمل المانعون قصة سليك على أعذار، وأجابوا عنها بأجوبة تزيد على عشرة كلها مردودة، سردها الحافظ في الفتح مع الرد عليها. وقد تعقب العيني على كلام الحافظ ههنا كعادته بما لا يلتفت إليه. ومن أحب الوقوف على ذلك رجع إلى الفتح والعمدة. وأما الحديث القولي فتصدوا للجواب عنه أيضاً مع اعترافهم بأن التفصي عنه مشكل لكونه تشريعاً عاماً، فقال بعضهم قد تكلم الدارقطني في هذا المتن وأعله، فقال إن أصله واقعة جعله الراوي ضابطة، فالصواب أنه مدرج من الراوي. قلت: لم يقل الدارقطني بكون الحديث القولي مدرجاً، بل أشار إلى شذوذه، ولو سلم فلا يثبت الإدراج بالادعاء والوجدان، بل لا بد لذلك من وجود ما يدل على ذلك واضحة، كما ذكره أهل الأصول وليس ههنا شيء يدل على كونه مدرجاً. وأما قول بعضهم: أن القرينة عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان قاله في تلك القصة، يعني أنه لو كان الفعل والقول منه عليه السلام مسلسلاً، فلِمَ أمسك عن الخطبة إذن. ولَمِ أمهلها؟ فإن سنة التحية حينئذٍ أن تؤدى خلال الخطبة أيضاً، فلا حاجة إلى الإمساك مع ثبوته قطعاً. ففيه أنه لم يثبت الإمساك عن الخطبة أصلاً، فإن ما روي في ذلك مرسل أو معضل، والمرسل ليس بحجة على القول الصحيح. ويرده أيضاً حديث أبي سعيد عند الترمذي بلفظ: فأمره فصلى ركعتين، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب. وقد أجاب الحافظ في مقدمة الفتح عن إعلال الدارقطني لهذا الحديث حيث قال: قال الدارقطني وأخرجا جميعاً حديث شعبة عن عمرو عن جابر: إذا جاء أحدكم، والإمام يخطب، فليصل ركعتين، وقد رواه ابن جريج وابن عيينة وحماد بن زيد وأيوب وورقاء وحبيب بن يحيى كلهم عن عمرو: أن رجلاً دخل المسجد، فقال له: صليت؟ قال الحافظ:

أراد الدارقطني أن شعبة خالف هؤلاء الجماعة في سياق المتن واختصروه، وهم إنما أوردوه على حكاية قصة الداخل، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - له بالصلاة ركعتين، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، وهي قصة محتملة للخصوص. وسياق شعبة يقتضي العموم في حق كل داخل. قال الحافظ: فهي مع اختصارها أزيد من روايتهم، وليست بشاذة، فقد تابعه على ذلك روح بن القاسم عن عمرو بن دينار، أخرجه الدارقطني في السنن، فهذا يدل على أن عمرو بن دينار حدث به على الوجهين-انتهى. قلت: وقد تابعه على ذلك أيضاً ابن عيينة عن عمرو عند الدارقطني، وطلحة عن جابر عند أحمد وأبي داود، وأبوسفيان عن جابر عند أحمد ومسلم والدارقطني. فدعوى التفرد والشذوذ أو الإدراج باطلة مردودة. ومنها أن هذا الحديث مضطرب حيث ورد عند مسلم والنسائي في رواية شعبة عن عمرو بلفظ: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة، وقد خرج الإمام فليصل ركعتين، وهذا يدل على أن الأمر بالصلاة ركعتين عند خروج الإمام، وقبل الشروع في الخطبة. وورد في بعض الروايات: إذا جاء أحدكم والإمام يخطب. وهذا يدل على أن الأمر بالتحية للداخل حال الخطبة. وورد عند البخاري والدارقطني في رواية شعبة عن عمرو: إذا جاء أحدكم والإمام يخطب أو قد خرج أي بالشك. فما دام لم ينفصل لفظ النبي صلى الله عليه وسلم لا تبني عليه المسألة. قلت: أكثر الروايات الصحيحة وأشهرها بلفظ: إذا جاء أحدكم والإمام يخطب، فيقدم على غيره على أنه لا اختلاف بين هذه الروايات، فإن حاصلها أنه يستحب صلاة التحية للداخل بعد خروج الإمام مطلقاً سواء شرع في الخطبة أو لم يشرع. و"أو" في رواية البخاري والدارقطني للتنويع لا للشك من الراوي. ومنها أن معنى قوله "والإمام يخطب" أي يريد ويقرب أن يخطب، يدل عليه قوله في رواية مسلم: وقد خرج الإمام، ففيه أن الأمر فيما لم يخطب بعد، وهو بصدد أن يخطب. قلت: فيه ارتكاب المجاز من غير حاجة وضرورة، فإنه لا منافاة بين اللفظين حتى يأول أحدهما إلى الآخر، فيشرع التحية لمن دخل حال كون الإمام قد خرج للخطبة شرع فيها أم لا. وفيه أيضاً أنه يقتضي جواز التحية للداخل في ابتداء قعود الإمام على المنبر، وهو خلاف مذهبهم، فإنهم صرحوا بأن خروج الإمام يقطع الصلاة والكلام، فلا يمهل الإمام اليوم أحداً أن يصلي شيئاً، ولا ينتظر له، ولا يمسك له عن الشروع في الخطبة. ومنها أن عمل أهل المدينة خلفاً عن سلف من لدن الصحابة إلى عهد مالك أن التنفل في حال الخطبة ممنوع مطلقاً، وهذا الجواب للمالكية، وهو أقوى ما اعتمدوه في هذه المسألة، كما صرح به القرطبي وغيره. قال الحافظ: وتعقب بمنع اتفاق أهل المدينة على ذلك. فقد ثبت فعل التحية عن أبي سعيد الخدري، روى ذلك عنه الترمذي وابن خزيمة وصححاه، وهو من فقهاء الصحابة من أهل المدينة، وحمله عنه أصحابه من أهل المدينة أيضاً، ولم يثبت عن أحد من الصحابة صريحاً ما يخالف ذلك. وأما ما نقله ابن بطال

رواه مسلم. 1425- (12) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن عمر وعثمان واحد من الصحابة من المنع مطلقاً، فاعتماده في ذلك على روايات عنهم فيها احتمال كقول ثعلبية بن أبي مالك: أدركت عمر وعثمان، وكان الإمام إذا خرج تركنا الصلاة. وجه الاحتمال أن يكون ثعلبة عنى بذلك من كان داخل المسجد خاصة. قال شيخنا الحافظ العراقي في شرح الترمذي: كل من نقل عنه يعني من الصحابة منع الصلاة، والإمام يخطب محمول على من كان داخل المسجد؛ لأنه لم يقع عن أحد منهم التصريح بمنع التحية، وقد ورد فيها حديث يخصها فلا تترك بالاحتمال-انتهى. وللمانعين أجوبة أخرى مستبشعة مستكرهة لا ينبغي الاشتغال بذكرها. والصحيح عندنا ما ذهب إليه الشافعي وأحمد من أنه يشرع صلاة التحية حال الخطبة للداخل بتلك الحالة لحديث الباب، والله تعالى أعلم. (رواه مسلم) من طريق أبي سفيان عن جابر قال: جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فجلس، فقال له: يا سليك! قم فاركع ركعتين وتجوز فيهما، ثم قال: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة، والإمام يخطب الخ. وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والدارقطني والبيهقي (ج3ص194) وأخرج مسلم أيضاً من طريق شعبة عن عمرو بن دينار عن جابر مختصراً بغير قصة سليك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب فقال: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة وقد خرج الإمام فليصل ركعتين، وأخرجه البخاري والدارقطني أيضاً وقد ذكرنا لفظهما. 1425- قوله: (من أدرك ركعة من الصلاة) قال ابن الملك: يعني صلاة الجمعة. وقال الطيبي: هذا مختص بالجمعة، بينه حديث أبي هريرة في الفصل الثالث-انتهى. وإليه يشير صنيع البغوي حيث أورد هذا الحديث في باب صلاة الجمعة. والظاهر حمله على العموم. قال البيهقي بعد روايته (ج3ص203) : قال الزهري. (راوي الحديث) والجمعة من الصلاة هذا هو الصحيح، وهو رواية الجماعة عن الزهري. وفي رواية معمر. (عن الزهري) دلالة على أن لفظ الحديث في الصلاة مطلق وأنها بعمومها تتناول الجمعة، كما تتناول غيرها من الصلوات-انتهى. قلت: ورواه الحاكم من حديث الأوزاعي وأسامة بن زيد الليثي ومالك بن أنس وصالح بن أبي الأخضر كلهم عن الزهري في الجمعة نصاً، وهذا لا ينافي الروايات المطلقة؛ لأن ذكر فرد من أفراد العام لا يقتضى نفي ما عداه، على أن ما روى في خصوص الجمعة مخدوش كله. (مع الإمام) تفرد بهذا اللفظ مسلم. (فقد أدرك الصلاة) ليس على ظاهره بالإجماع؛ لأنه لا يكون بالركعة الواحدة مدركاً لجميع الصلاة، بحيث تحصل براءة ذمته من الصلاة، فإذاً فيه إضمار، تقديره

"فقد أدرك وقت الصلاة أو حكم الصلاة" ويلزمه إتمام بقيتها. وقيل: التقدير "فقد أدرك وجوب الصلاة" يعني من لم يكن أهلاً للصلاة ثم صار أهلاً، وقد بقي من وقت الصلاة قدر ركعة أو أقل وجبت عليه الصلاة ولزمته، فهو محمول على أن معنى إدراك الصبي البلوغ والحائض الطهارة والكافر الإسلام. وقيل: التقدير "فقد أدرك فضل الصلاة" أي يحصل له أجر صلاة الجماعة وثوابها. والراجح عندنا تقدير الوقت أو الحكم، يعني مدرك الركعة مدرك لحكم الصلاة كله من سهو الإمام ولزوم الإتمام وغير ذلك، ويؤيده قوله مع الإمام. والحديث عام لكنهم حملوه على صلاة الجمعة بقرينة الحديث الآتي في آخر الباب. قال الشافعي: فقد أدرك الصلاة أي لم تفته ومن لم تفته الجمعة صلاها ركعتين. قال ابن الملك: فيقوم بعد تسليم الإمام ويصلي ركعة أخرى-انتهى. والظاهر حمله على العموم، كما تقدم، وقد ظهر من إطلاق لفظ الصلاة حكم الجمعة أن مدرك ركعة من صلاة الجمعة مع الإمام مدرك الجمعة، فيلزمه إتمامها وهو قول أكثر أهل العلم، منهم ابن مسعود وابن عمر وأنس وابن المسيب والحسن والزهري والنخعي ومالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأبي حنيفة وصاحبيه، وقال عطاء وطاووس ومجاهد ومكحول: من لم يدرك الخطبة صلى أربعاً؛ لأن الخطبة شرط للجمعة، فلا تكون جمعة في حق من لم يوجد في حقه شرطها وهذا ليس بشيء؛ لأنه لم يقم دليل على اشتراط الخطبة، ولأن الحديث يرده، ولأن الأول قول من ذكرنا من الصحابة ولا مخالف لهم في عصرهم. بقي حكم من أدرك أقل من ركعة من صلاة الجمعة بأن دخل في السجدة أو التشهد قبل سلام الإمام. واختلف فيه أيضاً فذهب الحكم وحماد وأبوحنيفة وأبويوسف وداود إلى أنه يكون مدركاً للجمعة فيصلي ركعتين لا أربعاً؛ لإطلاق حديث: ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا. قال ابن حزم في المحلى (ج5ص74) : فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن يصلي مع الإمام ما أدرك وعم عليه السلام ولم يخص، وسماه مدركاً لما أدرك من الصلاة، فمن وجد الإمام جالساً أو ساجداً فإن عليه أن يصير معه في تلك الحال ويلتزم إمامته ويكون بذلك بلا شك داخلاً في صلاة الجماعة، فإنما يقضى ما فاته ويتم تلك الصلاة ولم تفته إلا ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان فلا يصلي إلا ركعتين-انتهى. وقال الشافعي وأحمد ومالك ومحمد: من لم يدرك ركعة مع الإمام بل أدركه في السجدة أو التشهد لا يكون مدركاً للجمعة ويصلي ظهراً أربعاً، ثم اختلفوا: فقال الشافعي، كما في كتب فروعه: يتم بعد سلامه ظهراً، وينوي وجوباً في إقتداءه جمعة موافقة مع الإمام. وقال مالك: إذا قام يكبر تكبيرة أخرى. وقال الثوري: إذا أدرك الإمام جالساً لم يسلم صلى أربعاً، ينوي الظهر وأحب إلي أن يستفتح الصلاة. وقال عبد العزيز بن أبي سلمة: قعد بغير تكبيرة فإذا سلم الإمام قام فكبر ودخل في صلاة نفسه، وإن قعد مع الإمام بتكبيرة سلم إذا فرغ الإمام ثم قام فكبر للظهر. وقال أحمد، كما في كتب فروعه: نوي ظهراً عند إحرامه إن كان دخل وقت الظهر، وإلا بأن لم يكن دخل وقت الظهر عند إحرامه، ونوي الجمعة فإنه يتم صلاته نفلاً، واستدل هؤلاء بحديث الباب

{الفصل الثاني}

متفق عليه. {الفصل الثاني} 1426- (13) عن ابن عمر، قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين كان يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ أراه المؤذن، ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنه بإطلاقه يشمل الجمعة، فيلزم أن مدرك ركعة من الجمعة مدرك لها، وبمفهومه يدل على أن من لم يدرك ركعة بل دونها، فهو غير مدرك، ومن لم يدرك الجمعة يصلي أربعاً. وأجاب الحنفية بأن الحديث مطلق، فيفيد أن حكم جميع الصلوات واحد، وحكم سائر الصلوات أنه إذا أدرك شيئاً منها مع الإمام، ولو في التشهد يصلي ما أدرك معه ويتم الباقي ولا يزيد على ذلك، فكيف يزيد في الجمعة بإطلاق الحديث، والمفهوم عندهم لا عبرة به ولو كان معتبرا لا يقدم على الصريح، واستدل الشافعي ومن وافقه أيضاً بحديث أبي هريرة الآتي في آخر الباب، وأجيب عنه بأنه حديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج، كما ستعرف. والراجح عندي ما ذهب إليه أبوحنيفة: من أن من أدرك مع الإمام شيئاً من صلاة الجمعة ولو في التشهد يصلي ما أدرك معه ويتم الباقي بعد سلامة ولا يصلي ظهراً أربعاً لإطلاق ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا. وأما ما ذهب إليه الشافعي وغيره فلم أجد حديثاً صحيحاً صريحاً يدل عليه. ويقوي قول أبي حنيفة: إن المسافر إذا أدرك المقيم في التشهد لزمه الإتمام وكان بمنزلة مدرك المقيم في التحريمة فوجب مثله في الجمعة إذ الدخول في كل واحدة منهما بغير الفرض. قيل: ويرد على مذهب الشافعي ومن وافقه مخالفة الأصول في إقتداء مصلى الظهر بمن يصلي الجمعة إن دخل بنية الظهر، فإنه يلزم الاختلاف على الإمام في النية. وقد قال عليه السلام: لا تختلفوا على الإمام، ولذا لا يجوز صلاة الظهر خلف من يصلي العصر أو بناء الظهر على الجمعة إن دخل بنية الجمعة وهما صلاتان مستقلتان، فكيف يبني الظهر على الجمعة، ولذا ترى القائلين ببناء الظهر اختلفوا فيما بينهم جداً، كما تقدم فتأمل. (متفق عليه) قد تقدم أن قوله مع الإمام مما تفرد به مسلم دون البخاري. والحديث أخرجه أيضاً الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي وغيرهم. 1426- قوله: (يخطب خطبتين) أي يوم الجمعة، كما في رواية مسلم وغيره وهذا إجمال وتفصيله: (كان يجلس) أي على المنبر استئناف مبين. (إذا صعد المنبر) قال العلماء: يستحب الخطبة على المنبر. (حتى يفرغ أراه) بضم الهمزة. (المؤذن) بالنصب على المفعولية لأراه، وبالرفع على الفاعلية ليفرغ. وزاد لفظ: "أراه" لأنه لم يقل شيخه لفظ المؤذن، فيقول الراوي أظن أنه أراد بفاعل يفرغ المؤذن. وقال الطيبي: أي قال الراوي أظن

ثم يقوم فيخطب، ثم يجلس ولا يتكلم، ثم يقوم فيخطب)) . رواه أبوداود. 1427- (14) وعن عبد الله بن مسعود، قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا. ـــــــــــــــــــــــــــــ أن ابن عمر أراد بإطلاق قوله: حتى يفرغ تقييده بالمؤذن. والمعنى كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجلس على المنبر مقدار ما يفرغ المؤذن من أذانه-انتهى. وفيه مشروعية الجلوس على المنبر قبل الخطبة الأولى، واتفقوا على أنه سنة. (ثم) أي بعد ما يفرغ المؤذن من الأذان. (يقوم) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم. (فيخطب) أي الخطبة الأولى. (ثم يجلس) أي جلسة خفيفة. قال شيخنا في شرح الترمذي: لم يرد تصريح مقدار الجلوس بين الخطبتين في حديث الباب، وما رأيته في حديث غيره، وذكر ابن التين أن مقداره كالجلسة بين السجدتين، وعزاه لابن القاسم، وجزم الرافعي وغيره أن يكون بقدر سورة (الإخلاص) -انتهى. (ولا يتكلم) وفي سنن أبي داود: فلا يتكلم، وكذا نقله الجزري أي في تلك الجلسة بغير الذكر أو الدعاء أو القراءة سراً، والأولى القراءة لرواية ابن حبان كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في جلوسه كتاب الله، والأولى قراءة (الإخلاص) ، كذا في شرح الطيبي، ذكره القاري. وقال الحافظ في الفتح: واستفيد من قوله: فلا يتكلم أن حال الجلوس بين الخطبتين لا كلام فيه، لكن ليس فيه نفي أن يذكر الله أو يدعوه سراً-انتهى. قلت: لكن لم يثبت في ذلك دعاء مأثور أو ذكر مخصوص أو قراءة آية أو سورة معينة أو غير معينة. وأما رواية ابن حبان التي أشار إليها القاري نقلاً عن شرح الطيبي، فلم أجدها. (ثم يقوم فيخطب) أي الخطبة الثانية. (رواه أبوداود) ومن طريق البيهقي (ج3ص205) وفي سنده العمري، وهو عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، وفيه مقال. قلت: وأخرجه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي من طريق عبيد الله بن عمر. (المصغر وهو ثقة) عن نافع عن عبد الله بن عمر بلفظ: كان يخطب قائماً ثم يقعد ثم يقوم، كما تفعلون اليوم. 1427- قوله: (استقبلناه بوجوهنا) قال ابن الملك: أي توجهناه، فالسنة أن يتوجه القوم الخطيب والخطيب القوم-انتهى. قال أبوطيب المدني في شرح الترمذي: أي لا بالتحلق حول المنبر، لما ورد من المنع عنه يوم الجمعة، بل بالتوجه إليه في الصفوف، ويؤيده ما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري في خطبة العيد ولفظه: فأول شيء يبدأ به الصلاة ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس، والناس جلوس على صفوفهم. وأما حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس يوماً على المنبر وجلسنا حوله، رواه البخاري، فيمكن حمله على غير الجمعة والعيد. والحديث يدل على مشروعية استقبال الناس الخطيب. ويدل عليه أيضاً ما رواه ابن ماجه عن

رواه الترمذي، وقال: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث محمد بن الفضل، وهو ضعيف، ذاهب الحديث. ـــــــــــــــــــــــــــــ عدي بن ثابت عن أبيه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام على المنبر استقبله أصحابه بوجوههم. قال في الزوائد: رجال إسناده ثقات إلا أنه مرسل. وقال الحافظ في التلخيص: قال ابن ماجه أرجو أن يكون متصلاً، كذا قال، ووالد عدي لا صحبة له إلا أن يراد بأبيه جده أبوأبيه فله صحبة على رأي بعض الحفاظ من المتأخرين-انتهى. وقال في تهذيب التهذيب في ترجمة ثابت والد عدي بعد ذكر الاختلاف في اسم جد عدي بن ثابت ما لفظه: ولم يترجح لي في اسم جده إلى الآن شيء من هذه الأقوال كلها، إلا أن أقربها إلى الصواب أن جده هو جده لأمه عبد الله بن يزيد الخطمي، والله أعلم. بقي المصنف (صاحب تهذيب الكمال) أن ينبه على ما وقع عند ابن ماجه من رواية عدي بن ثابت عن أبيه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام على المنبر استقبله أصحابه بوجوههم. قال ابن ماجه أرجو أن يكون متصلاً. قلت. (قائلة الحافظ) : لا شك ولا ارتياب في كونه مرسلاً أو يكون سقط منه عن جده-انتهى. وفي الباب أيضاً عن مطيع أبي يحيى المدني عن أبيه عن جده قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام على المنبر استقبلناه بوجوهنا. أخرجه الأثرم. ومطيع هذا قال ابن حبان في الثقات بعد ذكر الحديث من طريقة: لست أعرفه ولا أباه. وفي الباب أيضاً عن البراء أخرجه ابن خزيمة ومن طريقة البيهقي (ج3ص198) وممن كان يستقبل الإمام ابن عمر. أخرجه البيهقي (ج3ص199) وأنس أخرجه ابن أبي شيبة وابن المنذر وأبونعيم والبيهقي. قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم، يستحبون استقبال الإمام إذا خطب، وهو قول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق. قال العراقي وغيرهم عطاء وشريح ومالك والأوزاعي وأصحاب الرأي. قال ابن المنذر: هذا كالإجماع. وقال في المحلى شرح الموطأ: قال الشمس الأئمة الحلواني من كان أمام الإمام يواجهه، ومن كان يميناً ويساراً انحرف إلى الإمام، قال: والرسم في زماننا استقبال القبلة وترك استقبال الخطيب لما يلحقهم من الحرج بتسوية الصفوف بعد الخطبة لكثرة الزحام-انتهى. قال صاحب الأوجز: بل لشيوع الجهل، فإن كثرة الزحام كان في الزمن الأول أيضاً-انتهى. قال القسطلاني: ومن لازم استقبال الإمام استدباره، هو القبلة واغتفر لئلا يصير مستدبر القوم الذين يعظهم، وهو قبيح خارج عن عرف المخاطبات، ومن حكمة استقبالهم للإمام التهيؤ لسماع كلامه وسلوك الأدب معه في استماع كلامه فإذا استقبله بوجهه وأقبل عليه بجسده وبقلبه وحضور ذهنه كان ادعى لتفهيم موعظته وموافقته فيما شرع له القيام لأجله. (هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث محمد بن فضل) أي ابن عطية الكوفي نزيل بخاري. (وهو ضعيف ذاهب الحديث) كناية عن سوء حفظه. قال الطيبي: أي ذاهب حديثه غير حافظ

{الفصل الثالث}

{الفصل الثالث} 1428- (15) عن جابر بن سمرة، قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائماً، ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائماً، فمن نبأك أنه كان يخطب جالساً فقد كذب، فقد والله صليت معه، أكثر من ألفي صلاة)) . رواه مسلم. 1429- (16) وعن كعب بن عجرة، أنه دخل المسجد وعبد الرحمن بن أم الحكم يخطب قاعداً، ـــــــــــــــــــــــــــــ للحديث، وهو عطف بيان لقوله ضعيف-انتهى. قلت: محمد بن الفضل هذا رماه الأئمة بالكذب منهم أحمد وابن معين والنسائي وغيرهم. مات سنة (180) . قال الحافظ في التلخيص (ص136) قد تفرد بهذا الحديث، وضعفه به الدارقطني وابن عدي وغيرهما. قال الترمذي: لا يصح في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء يعني صريحاً. قلت: أحاديث الباب وإن كانت ضعيفة فقد شد عضدها عمل السلف والخلف على ذلك، كما تقدم. 1428- قوله: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب) يوم الجمعة. (قائماً) على المنبر. (ثم يجلس) بعد الخطبة الأولى على المنبر جلسة خفيفة. قال في اللمعات: ثم ههنا للتراخي باعتبار المبدأ، والثاني للمشاكلة. (فمن نبأك) بتشديد الموحدة أي أخبرك. وفي رواية أبي داود: فمن حدثك. (فقد والله صليت) قال الطيبي: "والله" قسم اعترض بين "قد ومتعلقه" وهو دال على جواب القسم، والفاء في "فمن" جواب شرط محذوف، وفي "فقد كذب" جواب من وفي "فقد والله" سببية، والمعنى أنه كاذب ظاهر الكذب بسبب أني صليت. (معه أكثر من ألفي صلاة) أي من الجمعة وغيرها، أو أراد التكثير لا التحديد؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يقم بالمدينة إلا عشر سنين، وأول جمعة صلاها هي الجمعة التي تلي قدومه المدينة، فلم يصل ألفي جمعة بل نحو خمسمائة، قاله القاري. وقال السندي في فتح الودود: ظاهر المقام يفيد أنه أراد صلاة الجمعة، فالعدد مشكل إلا أن يراد به الكثرة والمبالغة، فإن حمل على المطلق الصلاة فالأمر سهل-انتهى. والحديث يدل على مواظبته - صلى الله عليه وسلم - على القيام حال الخطبتين، واستدل به للشافعي ومالك ومن وافقهما على وجوب القيام في خطبة الجمعة، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يواظب على الشيء الفاضل مع جواز غيره ونحن نقول به. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي والبيهقي (ج3ص197) . 1429- قوله: (عن كعب بن عجرة) بضم العين وسكون الجيم. (أنه دخل المسجد) في الكوفة. (وعبد الرحمن بن أم الحكم) بفتحتين، هو عبد الرحمن بن عبد الله بن أم الحكم بنت أبي سفيان بن حرب من

فقال: أنظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعداً، وقد قال الله تعالى: {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً} رواه مسلم. 1430- (17) وعن عمارة بن رويبة: ـــــــــــــــــــــــــــــ بني أمية، استعمله معاوية أميراً على الكوفة. (فقال) أي كعب من غاية الغضب. (انظروا إلى هذا الخبيث) قال ابن حجر: فيه جواز التغليظ على من ارتكب حراماً عند من قال به أو مكروها عند غيره؛ لأن إظهار خلاف ما داوم عليه الصلاة والسلام على رؤس الأشهاد ينبىء عن خبث أيّ خبث. (وقد قال الله تعالى) وفي بعض النسخ: وقال بغير لفظ "قد" كما في صحيح مسلم، وكذا نقله الجزري (ج6ص433) . (إذا رأوا) أي أبصروا أو عرفوا. (تجارة) أي بيعاً وشراء. (أو لهواً) أي طبلاً. (انفضوا) أي تفرقوا. (إليها) أي إلى التجارة وما ذكر معها فيكون من باب الاكتفاء ومراعاة أقرب المذكورين، أو اختصت بالذكر لأنها المقصود الأعظم من الأمرين، فإن الطبل كان لإعلام مجيء أسباب التجارة. قال الطيبي: قوله: قد قال الله حال مقررة لجهة الإنكار أي كيف يخطب قاعدا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب قائماً بدليل قوله تعالى: {وتركوك قائماً} [62: 11] وذلك أن أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء، فقدم تجارة من زيت الشام والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة قائماً فتركوه قائماً وما بقي معه إلا يسير-انتهى. وهم اثنا عشر منهم أبوبكر وعمر، كما في صحيح مسلم. قال النووي: كلام ابن عجرة يتضمن إنكار المنكر والإنكار على ولاة الأمور إذا خالفوا السنة. ووجه استدلاله بالآية إن الله تعالى أخبر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب قائماً. وقد قال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [33: 21] مع قوله تعالى: {فاتبعوه} وقوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه} [59: 60] مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: صلوا كما رأيتموني أصلي-انتهى. قلت: استدل الشافعية بهذا الحديث على اشتراط القيام في الخطبة وفيه أن إنكار كعب على عبد الرحمن إنما هو لتركه السنة، ولو كان شرطاً لما صلوا معه مع تركه له. قال ابن الهمام: لم يحكم هو أي كعب ولا غيره بفساد تلك الصلاة، فعلم أنه ليس بشرط عندهم، فيكون كالإجماع وأجيب بأنه إنما صلى خلفه مع تركه القيام الذي هو شرط خوف الفتنة، أو أن الذي قعد إن لم يكن معذوراً فقد يكون قعوده نشأ عن اجتهاد منه، كما قالوه في إتمام عثمان الصلاة في السفر، وقد أنكر ذلك ابن مسعود، ثم أنه صلى خلفه فأتم معه واعتذر بأن الخلاف شر ولا يخفى ما في هذا الجواب. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً النسائي وابن خزيمة والبيهقي (ج3ص196- 197) ، وفي رواية ابن خزيمة: ما رأيت كاليوم قط إماماً يؤم المسلمين يخطب، وهو جالس، يقول ذلك مرتين. 1430- قوله: (وعن عمارة) بضم العين وتخفيف الميم. (بن رويبة) بضم الراء وفتح الواو وسكون التحتية

أنه رأى بشر بن مروان على المنبر رافعاً يديه، فقال: قبح الله هاتين اليدين، ـــــــــــــــــــــــــــــ وفتح الباء الموحدة. (أنه رأى بشر) بكسر الباء وسكون الشين المعجمة. (بن مروان) بن الحكم الأموي القرشي، أخو عبد الملك بن مروان، كان والياً على الكوفة من قبل أخيه. (رافعا يديه) زاد أحمد (ج4ص261) يشير بإصبعيه يدعو. وفي رواية له (4ص136) قال حصين: كنت إلى جنب عمارة وبشر يخطبنا فلما دعا رفع يديه، ولفظ الترمذي: فرفع يديه في الدعاء، وكذا رواه البيهقي. ولفظ أبي داود: رأى عمارة بن رويبة بشر بن مروان، وهو يدعو في يوم جمعة. واعلم أنه اختلف في المراد عن رفع اليدين المذكور، ففهم البيهقي والنووي والشوكاني أن المراد به الرفع الذي يكون عند الدعاء. قال النووي في شرحه: فيه أن السنة أن لا يرفع اليد في الخطبة، وهو قول مالك وأصحابنا وغيرهم. وحكى القاضي عن بعض السلف، وبعض المالكية إباحته؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه في خطبة الجمعة حين استسقى، وأجاب الأولون بأن هذا الرفع كان لعارض-انتهى. وترجم البيهقي (ج3ص210) على حديث عمارة هذا، وحديث سهل بن سعد. (قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهراً يديه قط يدعو على منبره ولا على غيره، ولكن رأيته يقول هكذا، وأشار بالسبابة، وعقد الوسطى بالإبهام) باب ما يستدل به على أنه يدعو في خطبته، وقال بعد روايتهما: والقصد من الحديثين إثبات الدعاء في الخطبة، ثم فيه من السنة أن لا يرفع يديه في حال الدعاء في الخطبة ويقتصر على أن يشير بإصبعه، وثابت عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مد يديه ودعا، وذلك حين استسقى في خطبة الجمعة، روينا عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء حتى يرى بياض إبطيه، وروينا عن الزهري أنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب يوم الجمعة دعا فأشار بإصبعه وأمن الناس-انتهى. وفهم النسائي وابن أبي شيبة والطيبي: أن المراد به الرفع الذي يكون عند التكلم وخطاب الناس، كما هو عادة الخطباء والوعاظ أنهم يرفعون أيديهم يميناً وشمالاً ينبهون الناس على الاستماع، وبوب الترمذي وأبوداود بما يحتمل المعنيين. والراجح عندي: هو المعنى الأول لرواية أحمد والترمذي والبيهقي، فإن فيها زيادة على رواية مسلم والنسائي، فيكره رفع اليدين والإشارة بالإصبعين عند الدعاء في خطبة الجمعة في غير الاستسقاء. والله تعالى أعلم. (فقال) عمارة. (قبح الله) قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي: قبح ثلاثي من باب منع أي أبعده الله ونحاه عن الخير. قال أبوعمرو: قبحت له وجهه مخففة، والمعنى قلت قبحه الله، وهو من قوله تعالى: {ويوم القيامة هم من المقبوحين} [28: 42] أي من المبعدين الملعونين، وهو من القبح وهو الإبعاد، هذا هو المعروف في كتب اللغة، والمشهور على ألسنة الناس تشديد الباء، وقد وجهه في المصابيح والمعيار بأنه للمبالغة-انتهى. (هاتين اليدين) زاد الترمذي القُصيرَتَيْن. والظاهر أنه دعاء عليه بالقبح؛ لأن هذا

لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا، وأشار بإصبعه المسبحة)) . رواه مسلم. 1431- (18) وعن جابر، قال: ((لما استوى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على المنبر، قال: اجلسوا، فسمع ذلك ابن مسعود، فجلس على باب المسجد، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: تعال يا عبد الله بن مسعود)) . رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ الرفع كان على خلاف السنة وما كان مخالفاً للسنة فهو مردود مقبوح. وقيل إخبار عن قبح صنعه. (ما يزيد على أن يقول) أي يشير. (بيده هكذا وأشار) أي الراوي أو عمارة لأراءة الإشارة المذكورة. (بإصبعه المسبحة) بالجر، قال الطيبي: قوله يقول أي يشير عند التكلم في الخطبة بإصبعه يخاطب الناس وينبههم على الاستماع. والحديث يدل على كراهة رفع اليدين على المنبر في خطبة الجمعة للدعاء أو لتنبيه السامعين على الاستماع، كما هو دأب الخطباء والوعاظ على ما فهمه الطيبي. ويدل على جواز الإشارة بالإصبع أي السبابة للدعاء أو لتنبيه الناس. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج3ص210) . 1431- قوله: (لما استوى) أي استقر. (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة على المنبر) أي ورأى بعض الحاضرين أنهم قاموا ليصلوا. (قال: اجلسوا) فيه دليل على جواز التكلم للخطيب على المنبر عند الحاجة، وقد بوب عليه أبوداود: الإمام يكلم الرجل في خطبته، وكذا البيهقي في سننه (ج3ص217) ، ويؤيد ذلك قصة الرجل الداخل وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - له بصلاة التحية. قال ابن حجر: الظاهر أنه رأى أحداً من الحاضرين قام ليصلي فأمره بالجلوس لحرمة الصلاة على الجالس بجلوس الإمام على المنبر إجماعاً. (فسمع ذلك) أي أمره - صلى الله عليه وسلم - بالجلوس. (ابن مسعود) وكان على باب المسجد. (فجلس على باب المسجد) مبادرة إلى امتثال أمره - صلى الله عليه وسلم -. (فرآه) أي ابن مسعود. (فقال) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (تعال) أي تقدم. وقال القاري: أي ارتفع عن صف النعال إلى مقام الرجال وهلم إلى المسجد. وقال الراغب: أصله أن يدعى الإنسان على مكان مرتفع ثم جعل للدعاء إلى كل مكان، وتعالى ذهب صاعداً يقال عليته فتعالى. (يا عبد الله بن مسعود) ولعله دعاه النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه كان من فقهاء الصحابة، وقد قال: ليليني منكم أولو الأرحام والنهى، ولا يلزم منه التخطي المنهي عنه فإنه لم يذكر أن الصفوف وصلت إلى باب المسجد حتى يلزم التخطي. وقد كان ابن مسعود على الباب يريد أن يتقدم فلما سمع أمره - صلى الله عليه وسلم - بالجلوس جلس من فوره امتثالاً لأمره الشريف. (رواه أبوداود) من طريق مخلد بن يزيد، وهو من رجال الصحيحين عن ابن جريج

1432- (19) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أدرك من الجمعة ركعة فليصل إليها أخرى، ومن فاتته الركعتان، فليصل أربعاً، أو قال: الظهر)) ـــــــــــــــــــــــــــــ عن عطاء عن جابر بن عبد الله. وأخرجه البيهقي (ج3ص218) من طريق معاذ بن معاذ عن ابن جريج. قال أبوداود: هذا يعرف مرسلاً، إنما رواه الناس عن عطاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أي مرسلاً. وقال البيهقي: ورواه عمرو بن دينار عن عطاء فأرسله، ثم ذكره. وأخرج المرسل ابن أبي شيبة أيضاً، ولم يتفرد مخلد بروايته موصولاً، بل تابعه على ذلك معاذ بن معاذ عند البيهقي، فلا يضر ذلك إرسال من أرسله. 1432- قوله: (فليصل إليها) أي إلى تلك الركعة. (أخرى) أي ركعة أخرى بعد سلام الإمام. قال السندي: الظاهر أنه بتخفيف اللام من الوصل، لكن قال السيوطي بتشديد اللام أي فليصل أخرى ويضمها إليها. وقال القاري: ضبطه ابن حجر بضم ففتح فتشديد، وهو غير صحيح لوجود إليها، فالصواب بفتح فكسر وسكون لام مخففة؛ لأن الوصول يتعدى بإلى. (ومن فاتته الركعتان) أي صلاتها. وقيل: أي الركوعان. قال ابن حجر: بأن يدرك الإمام بعد ركوع الركعة الثانية. والفرق بينهما وبين سائر الصلوات أن الجمعة صلاة الكاملين، والجماعة شرط في صحتها، فأحتيط لها ما لم يحتط لغيرها فلم تدرك إلا بإدراك ركعة كاملة، كما صرح به في هذا الحديث. والحديث السابق-انتهى. قال القاري: وفيه أن هذا ليس من باب التصريح، بل من باب مفهوم المخالف المعتبر عندهم الممنوع عندنا على الصحيح-انتهى. (فليصل) بضم ففتح فتشديد. (أربعاً) أي الظهر. (أو قال) أي بدل أربعاً. قد استدل الشافعية ومن وافقهم بهذا الحديث على أن من فاته الركوع من الركعة الثانية من صلاة الجمعة ودخل في السجدة أو التشهد فهو يصلي الظهر وليس له أن يقتصر على ركعتي الجمعة، لكن الاستدلال به موقوف على أن المراد بالركعتين في الحديث الركوعان. وفيه نظر؛ لأن الركعة حقيقة لجميعها من القيام والركوع والسجود وغير ذلك وإطلاقها على الركوع، وما بعده مجاز لا يصار إليه إلا لقرينة، وههنا ليست قرينة تصرف عن حقيقة الركعة، بل قوله: ركعة في الجملة السابقة يعين المعنى الحقيقي ويأبى إرادة المجاز، ومفهوم قوله: "من فاتته الركعتان" أن من أدركهم جلوساً. (في التشهد قبل فوت الركعتين بالسلام) صلى ثنتين. واستدل له أيضاً بما رواه الدارقطني والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: من أدرك من الجمعة ركعة فليصل إليها أخرى فإن أدركهم جلوساً صلى أربعاً، وفيه أن مداره على صالح بن أبي الأخضر البصري. وقد ضعفه ابن معين وأحمد والبخاري والنسائي ويحي القطان وأبوزرعة وأبوحاتم وابن عدي والعجلي. وفيه أيضاً أن المراد بالجلوس فيه الجلوس الذي يكون بعد الفراغ من الصلاة، يدل عليه قوله: "ومن فاتته الركعتان" واستدل لهم أيضاً بما رواه الدارقطني عن أبي هريرة أيضاً مرفوعاً، إذا أدرك أحدكم الركعتين من يوم الجمعة فقد أدرك الجمعة، وإذا أدرك ركعة فليركع إليها أخرى،

رواه الدارقطني. ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن لم يدرك ركعة فليصل أربعاً. وفيه أن مداره على ياسين بن معاذ الزيات، وهو متروك، قاله النسائي. وقال البخاري: منكر الحديث، وضعفه غير واحد، وبما رواه الدارقطني عن أبي هريرة أيضاً مرفوعاً: من أدرك الركوع من الركعة الآخرة يوم الجمعة فليضف إليها أخرى ومن لم يدرك الركوع من الركعة الأخرى فليصل الظهر أربعاً. وفيه أن هذه الرواية أيضاً ضعيفة، فإن فيها سليمان بن أبي داود الحراني، ضعفه أبوحاتم. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال ابن حبان: لا يحتج به. (رواه الدارقطني) من طريق ياسين بن معاذ عن ابن شهاب عن سعيد، أو عن أبي سلمة عن أبي هريرة وياسين ضعيف متروك، ولهذا الحديث طرق كلها معلولة. قال الحافظ في التلخيص (ص127) : بعد ذكرها. وقد قال ابن حبان في صحيحه: إنها كلها معلولة. وقال ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه لا أصل لهذا الحديث إنما المتن من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها، وذكر الدارقطني الاختلاف فيه في علله، وقال: الصحيح من أدرك من الصلاة ركعة، وكذا قال العقيلي. والله أعلم. بعون الله وحسن توفيقه تم الجزء الرابع من مشكاة المصابيح مع شرحه مرعاة المفاتيح، ويليه الجزء الخامس إن شاء الله تعالى، وأوله "باب صلاة الخوف".

(46) باب صلاة الخوف

(46) باب صلاة الخوف ـــــــــــــــــــــــــــــ (باب صلاة الخوف) أي أحكام الصلاة عند الخوف من الكفار، ولما كان لصلاة الخوف أحكام وصفة تختص بها بخلاف الصلوات التي عم الناس معرفتها دعت الحاجة إلى بيان صفتها وأحكامها، وههنا عدة أبحاث نوردها مجملاً؛ ليكون الطالب على بصيرة. الأول: أنهم اختلفوا في أي سنة نزل بيان صلاة الخوف؟ فقال الجمهور: إن أول ما صليت في غزوة ذات الرقاع، واختلف أهل السير في أي سنة كانت هي، فقال عامة أهل السير: ابن إسحاق وابن عبد البر وغيرهما أنها كانت بعد بني النضير والخندق في جمادى الأولى سنة أربع، وقال ابن سعد وابن حبان: في عاشر المحرم سنة خمس. وقال أبومعشر: بعد بني قريظة في آخر السنة الخامسة وأول التي تليها، وقال البخاري: بعد خيبر في السنة السابعة، وهو الراجح عند ابن القيم والحافظ، وذهب ابن القيم إلى أن أول صلاة صليت للخوف بعسفان، وكانت في عمرة الحديبية، وهي بعد الخندق وقريظة سنة ست، وصليت بذات الرقاع أيضاً فعلم أنها بعد الخندق وبعد عسفان، وقد بسط الكلام في الهدي في الاستدلال لذلك، وإليه جنح الحافظ في الفتح حيث قال بعد الاستدلال لهذا القول: وإذا تقرر أن أول ما صليت صلاة الخوف بعسفان وكانت في عمرة الحديبية، وهي بعد الخندق وقريظة وقد صليت صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع، وهي بعد عسفان فتعين تأخرها عند الخندق وعن قريظة وعن الحديبية أيضاً فيقوى القول بأنها بعد خيبر؛ لأن غزوة خيبر كانت عقب الرجوع من الحديبية – انتهى. الثاني: أنهم اتفقوا على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل صلاة الخوف بغزوة الخندق، واختلفوا في سبب ذلك، فقيل: كانت تلك الغزوة بعد نزول صلاة الخوف، وأنه أخر الصلاة يومئذٍ نسياناً، يدل عليه ما روى أحمد من حديث ابن لهيعة عن أبي جمعة حبيب بن سباع، قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الأحزاب صلى المغرب، فلما فرغ قال هل علم أحد منكم إني صليت العصر؟ قالوا: لا يا رسول الله! ما صليتها، فأمر المؤذن فأقام فصلى العصر، ثم أعاد المغرب، قال الحافظ: وفي صحته نظر؛ لأنه مخالف لما في الصحيحين من قوله - صلى الله عليه وسلم - لعمر: ((والله ما صليتها)) ، ويمكن الجمع بينهما بتكلف، وقيل: أخرها عمداً؛ لأنه كان مشغولاً بالقتال، والاشتغال بالقتال والمسايفة يمنع الصلاة، قاله صاحب الهداية والطحاوي وأبوبكر الجصاص الرازي، وقيل: لأنه لم يكن أمر

........................... ـــــــــــــــــــــــــــــ حينئذٍ أن يصلي صلاة الخوف راكباً، فقد روي عن أبي سعيد الخدري قال: كنا مع رسول الله يوم الخندق، فشغلنا ... ، الحديث، وفي آخره: وذلك قبل أن ينزل عليه {فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً} ، أخرجه أحمد والنسائي والطيالسي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبويعلى والبيهقي في السنن والطحاوي، وقيل: لتعذر الطهارة، وقيل: لأنه كان في حضر، وحكم صلاة الخوف أن تكون في السفر، قاله ابن الماجشون. وقيل: أخرها عمداً؛ لأنه كانت قبل نزول صلاة الخوف، ذهب إليه الجمهور، كما قال ابن رشد، وبه جزم ابن القيم في الهدي، والحافظ في الفتح، والقرطبي في شرح مسلم، وعياض في الشفاء، والزيلعي في نصب الراية، وابن القصار. وهذا هو الراجح عندنا. الثالث: أن جمهور العلماء متفقون على أن حكمها باقٍ بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحكي عن المزني من الشافعية أنها منسوخة حيث لم يصلها النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق فتأخيره في غزة الخندق دال على نسخ صلاة الخوف، قال ابن القصار: هذا قول من لا يعرف السنن؛ لأن صلاة الخوف نزلت بعد الخندق، وحكي عن أبي يوسف: أنها كانت تختص برسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى: {وإذا كنت فيهم ... } الاية [4: 102] . جوزت بشرط كونه - صلى الله عليه وسلم - فيهم فإذا خرج من الدنيا انعدم الشرط؛ ولأنها لما فيها من كثرة ما ينافي الصلاة، كالذهاب والمجيء والأعمال الكثيرة شرعت لرغبة الناس إلى الصلاة خلفه - صلى الله عليه وسلم - وميل كل أحد إلى بركة الاقتداء به، وأما بعده - صلى الله عليه وسلم - ففيم يرغب، فصلاة الخوف بجماعة واحدة، وإمام واحد مقصورة على عهده - صلى الله عليه وسلم -، وأجيب عن الآية بأنها قيد واقعي نحو قوله تعالى: إن خفتم في صلاة المسافر وتخصيص النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخطاب لا يوجب تخصيصه بالحكم ما لم يقم دليل على اختصاصه به؛ ولأن الصحابة أنكروا على مانعي الزكاة قولهم إن الله تعالى خص نبيه بأخذ الزكاة بقوله: {خذ من أموالهم صدقة ... } [9: 103] ، وقال ابن العربي: شرط كونه فيهم إنما ورد لبيان الحكم لا لوجوده أي بين لهم بفعلك؛ لأنه أوضح من القول – انتهى. وأيضاً ما ثبت في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت في حقنا ما لم يقم دليل على اختصاصه به، فإن الله تعالى أمر باتباعه، وأيضاً فإن الصحابة أجمعوا على صلاة الخوف، فروي أن علياً صلى صلاة الخوف ليلة الهرير، وصلاها أبوموسى الأشعري بأصبهان بأصحابه، وروي أن سعيد بن العاص كان أميراً على الجيش بطبرستان، فقال: أيكم صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف؟ فقال حذيفة: أنا، فقدمه فصلى بهم، قال الزيلعي: دليل الجمهور وجوب الاتباع والتأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقوله: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) ، والأفعال المنافية إنما هي لأجل الضرورة، وهي موجودة بعده - صلى الله عليه وسلم -، وقد وردت صلاة الخوف من قوله – عليه الصلاة والسلام -، كما رواه البخاري في صحيحه في تفسير سورة البقرة في باب قوله: {فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً} [2: 239] بسنده عن نافع أن عبد الله بن عمر كان سئل عن صلاة الخوف قال:

............................ ـــــــــــــــــــــــــــــ يتقدم الإمام وطائفة من الناس ... الحديث، وفي آخره قال نافع: لا أرى عبد الله بن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الرابع: أن صلاة الخوف جائزة في الحضر إذا احتيج إلى ذلك بنزول العدو قريباً من البلد، قال به الجمهور: الشافعي وأحمد وأبوحنيفة ومالك في المشهور عنه، وحكي عنه أنها لا تجوز في الحضر، وبه قال ابن الماجشون، وقال أصحابه: يجوز، كما قال الجمهور، وهو الحق؛ لأن قوله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة ... } الآية [4: 102] عام في كل حال. الخامس: أن الخوف لا يؤثر في عدد الركعات في حق الإمام والمأموم جميعاً في قول أكثر أهل العلم، منهم ابن عمر والنخعي ومالك والشافعي وأحمد وأبوحنيفة وأصحابه وسائر أهل العلم من علماء الأمصار لا يجيزون ركعة. وقال ابن عباس والحسن البصري وعطاء وطاؤس ومجاهد والحكم بن عتيبة وقتادة وإسحاق والضحاك والثوري: أنها ركعة عند شدة القتال يومئ إيماءً، واستدل لهم بما روي عن حذيفة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة الخوف بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا. أخرجه أحمد وأبوداود والنسائي والأثرم، وصححه ابن حبان، ومثله عند النسائي وابن خزيمة عن ابن عباس، وعند النسائي والأثرم عن زيد بن ثابت، وبما روي عن ابن عباس قال: ((فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة)) أخرجه أحمد ومسلم وغيرهما، قلت: وأول الجمهور بأن المراد به ركعة مع الإمام، وليس في نفي الثانية، وفيه أنه لا منافاة بين وجوب واحدة، والعمل باثنتين حتى يحتاج إلى التأويل للتوفيق لجواز أنهم عملوا بالأحب والأولى، وأيضاً يرد هذا التأويل قوله: لم يقضوا، وأما تأويلهم لم يقضوا بأن المراد منه أنهم لم يعيدوا الصلاة بعد الأمن فبعيد جداً. السادس: ذكر أبوداود في سننه لصلاة الخوف ثمانية أوجه، وكذا ابن حبان في صحيحه، وزاد تاسعاً، وقال: ليس بينها تضاد، ولكنه - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة الخوف مراراً، والمرء مباح له أن يصلي ما شاء عند الخوف من هذه الأنواع، وهي من الاختلاف المباح، وقال ابن حزم: صح فيها أربعة عشر وجهاً، وبينها في جزء مفرد، وقال ابن العربي في القبس: جاء فيها روايات كثيرة أصحها ست عشرة رواية مختلفة ولم يبينها، وقال النووي في شرح مسلم نحوه ولم يبينها أيضاً، وقد بينها العراقي في شرح الترمذي، وزاد وجهاً آخر فصارت سبعة عشر وجهاً، لكن قال يمكن أن تتداخل، وقال ابن القيم: أصولها ست صفات بلغها بعضهم أكثر، وهؤلاء كلما رأوا اختلاف الرواة في قصة جعلوا ذلك وجهاً من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو من اختلاف الرواة، قال الحافظ: وهذا هو المعتمد، وإليه أشار شيخنا (العراقي) بقوله: يمكن أن تتداخل، وحكى ابن القصار المالكي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاها عشر مرات، وقال ابن العربي: صلاها أربعاً وعشرين مرة، وقال الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص247) ذكر بعض الفقهاء: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاها في عشر مواضع والذي استقر عند أهل السير

...................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ والمغازي أربعة مواضع: ذات الرقاع وبطن نخل وعسفان وذي قرد، فحديث ذات الرقاع أخرجه البخاري وغيره عن سهل بن أبي حثمة، وفي لفظ للبخاري عمن صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحديث بطن نخلة أخرجه النسائي عن جابر قال: ((كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ببطن نخل والعدو بيننا وبين القبلة ... )) الحديث، وحديث عسفان أخرجه أبوداود والنسائي عن أبي عياش الزرق، وحديث ذي قرد أخرجه النسائي عن ابن عباس أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بذي قرد ... الحديث. السابع: قال ابن قدامة: يجوز أن يصلى صلاة الخوف على كل صفة صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال أحمد: كل حديث يروى في أبواب صلاة الخوف فالعمل به جائز، وقال: ستة أوجه أو سبعة، يروى فيها كلها جائزة، وقال الأثرم: قلت لأبي عبد الله (الإمام أحمد) تقول بالأحاديث كلها، كل حديث في موضعه أو تختار واحداً منها؟ قال: أنا أقول من ذهب إليها كلها فحسن، وأما حديث سهل فأنا أختاره، ثم بين ابن قدامة هذه الوجوه الستة وقال بعد ذكر الوجه السادس: وهو أن يصلي بكل طائفة ركعة ولا تقضي شيئاً ما لفظه فهذه الصلاة يقتضي عموم كلام أحمد جوازها؛ لأنه ذكر ستة أوجه ولا أعلم وجهاً سادساً سواها، وأصحابنا ينكرون ذلك – انتهى. قلت: الصفات الثابتة في الأحاديث الصحيحة كلها جائزة عند جميع العلماء، وإنما الاختلاف عندهم فيما هي أولى وأفضل إلا ثلاث صور، فإنه قد أولها من لا يقول بها على تقدير ثبوتها، كما سيأتي، قال السهيلي: اختلف العلماء في الترجيح، فقالت طائفة يعمل منها بما كان أشبه بظاهر القرآن، وقال طائفة: يجتهد في طلب الأخير منها فإنه الناسخ لما قبله، وقالت طائفة: يؤخذ بأصحها نقلاً وأعلاها رواة، وقالت طائفة: يؤخذ بجميعها على حسب اختلاف أحوال الخوف، فإذا اشتد الخوف أخذ بأيسرها مؤنة – انتهى. قلت: ورجح أحمد والشافعي ما روي عن يزيد بن رومان عن صالح بن خوات عمن صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الحديث الثاني من هذا الباب لسلامة الصفة المذكورة فيه من كثرة المخالفة، ولكونها أحوط لأمر الحرب، واختار مالك ما روي عن ابن مسعود عند أبي داود بسند ضعيف، وما روي عن ابن عمر عند البخاري وغيره، وهو الحديث الأول من الباب، وفي دلالتهما على مذهب أبي حنيفة ومحمد خفاء، كما سيأتي، ولم يختر إسحاق شيئاً على شيء، وبه قال الطبري وغير واحد منهم ابن المنذر وسرد ثمانية أوجه، وأما الصور الثلاث المختلف فيها فالأول منها أن يصلي الإمام بكل طائفة صلاة منفردة ويسلم بها، فيكون الإمام في الثانية متنفلاً يؤم المفترضين، وأوله بعض الحنفية بما لا يلتفت إليه وأنكر بعضهم ثبوته، وهو مردود أيضاً، والثاني أن يصلي بالطائفة الأولى ركعتين ولا يسلم ثم تسلم الطائفة، وتنصرف ولا تقضي شيئاً وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي بهم ركعتين ويسلم بها ولا تقضي شيئاً فيكون له أربع ركعات

{الفصل الأول}

{الفصل الأول} 1433- (1) عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، قال: ((غزوت مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قبل نجد، فوازينا العدو، فصاففنا لهم، فقام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يصلي لنا، فقامت طائفة معه، ـــــــــــــــــــــــــــــ بسلام واحد وللقوم ركعتان ركعتان فقط، وقد أوله الحنفية والمالكية والحنابلة بما هو غني عن الرد وارجع إلى المغني، والثالث: الاقتصار على ركعة، أنكره الشافعي ومالك وأبوحنيفة وأصحاب أحمد، وأولوه بما تقدم مع الجواب. والثامن: أن صلاة الخوف تجوز بشرائط، منها: أن يكون العدو مباح القتال، وأن لا يؤمن هجومه، ومنها: أن يكون هجوم من يريد صلاة الخوف مباحاً، فلو كانوا عصاة كالبغاة مثلاً لا يجوز لهم صلاة الخوف. ومنها: أن يكون في المصلين كثرة يمكن تفريقهم طائفتين، كل طائفة ثلاثة فأكثر قاله أبوالخطاب، وقال القاضي: إن كانت كل فرقة أقل من ثلاثة كرهناه، وحكاه الحافظ عن الشافعي وعلل بأنه أعاد عليهم ضمير الجمع بقوله {أسلحتهم} ، قال ابن قدامة: والأولى أن لا يشترط هذا؛ لأن ما دون الثلاثة عدد تصح به الجماعة، فجاز أن يكون طائفة كالثلاثة، ومنها: أن لا يقاتل في الصلاة، وهذا عند الحنفية. 1433- قوله (قال) أي ابن عمر (غزوت) أي الكفار، في القاموس: غزا العدو سار إلى قتالهم وأصل الغزو القصد (مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم -) حال (قبل نجد) بكسر القاف وفتح الموحدة، نصباً على الظرف أي جهة نجد، والنجد كل ما ارتفع من بلاد العرب من تهامة إلى العراق، وقال الأبهري: المراد هنا نجد الحجاز لا نجد اليمن، قال العيني والقسطلاني: وهذه الغزوة غزوة ذات الرقاع (فوازينا) بالزاي أي قابلنا بالموحدة وحاذينا من الموازاة، وهي المقابلة والمواجهة، وأصله من الإزاء بهمزة في أوله، قال الجوهري: يقال هو بإزائه أي بحذائه، وقد آزيته إذا حاذيته، ولا تقل: وازيته بالواو – انتهى. فعلى هذا أصل وازينا آزينا قلبت الهمزة واو. وقال القارئ بعد نقل كلام الجوهري: لكن رواية المحدثين مقدمة على نقل اللغويين مع أن المثبت مقدم على النافي، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، لا سيما ووافقهم صاحب النهاية، أو هما لغتان كالمواكلة والمؤاخذة – انتهى. (فصاففنا) أي قمنا صفين، كما سيأتي (لهم) أي لحربهم، أو جعلنا نفوسنا صفين في مقابلتهم (يصلي لنا) أي لأجلنا أو يصلي بنا بالموحدة، وقال القارئ: أي يصلي بالجماعة إماماً لنا، والحديث من أقوى الحجج على وجوب الجماعة حيث ما ترك في تلك الحالة – انتهى. وكانت هذه الصلاة رباعية، قال الحافظ: وسيأتي في المغازي - من صحيح البخاري - ما يدل على أنها كانت صلاة العصر (فقامت طائفة معه) تصلي أي

وأقبلت طائفة على العدو، وركع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بمن معه، وسجد سجدتين، ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل، فجاؤا، فركع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بهم ركعة، وسجد سجدتين، ثم سلم، فقام كل واحد منهم، فركع لنفسه ركعة، وسجد سجدتين. ـــــــــــــــــــــــــــــ حيث لا تبلغهم سهام العدو (وركع) وفي رواية فركع (رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بمن معه) أي مع الذين قاموا معه (وسجد سجدتين) أي بمن معه ثم ثبت قائماً (ثم انصرفوا) أي الطائفة التي صلت تلك الركعة (مكان الطائفة التي لم تصل) أي فقاموا في مكانهم في وجه العدو (فجاؤا) أي الطائفة الأخرى التي كانت تحرس، وهو – عليه الصلاة والسلام – قائم في الثانية منتظر لها (ثم سلم) أي النبي – صلى الله عليه وسلم – وحده (فقام كل واحد منهم) أي من المأمومين من الطائفتين (فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين) قال الحافظ: ظاهره أنهم أتموا لأنفسهم في حالة واحدة، ويحتمل أنهم أتموا على التعاقب، وهو الراجح من حيث المعنى، وإلا فيستلزم تضييع الحراسة المطلوبة، وإفراد الإمام وحده، ويرجحه ما رواه أبوداود من حديث ابن مسعود، ولفظه: ((ثم سلم فقام هؤلاء أي الطائفة فقضوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا، ثم ذهبوا ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا)) – انتهى. وظاهره أن الطائفة الثانية والت بين ركعتيها ثم أتمت الطائفة الأولى بعدها، ووقع في الرافعي تبعاً لغيره من كتب الفقه أن في حديث ابن عمر هذا أن الطائفة الثانية تأخرت وجاءت الطائفة الأولى فأتموا ركعة ثم تأخروا وعادت الطائفة الثانية فأتموا ولم نقف على ذلك في شيء من الطرق، وبهذه الكيفية أخذ الحنفية واختار الكيفية التي في حديث ابن مسعود أشهب من المالكية والأوزاعي، ورجح ابن عبد البر الكيفية الواردة في حديث ابن عمر على غيرها لقوة الإسناد ولموافقة الأصول في أن المأموم لا يتم صلاته قبل سلام إمامه – انتهى مختصراً. وقال القرطبي في شرح مسلم: والفرق بين حديث ابن عمر وحديث ابن مسعود أن في حديث ابن عمر كان قضاءهم في حالة واحدة ويبقى الإمام كالحارس وحده، وفي حديث ابن مسعود كان قضاءهم متفرقاً على صفة صلاتهم، وقد تأول بعضهم حديث ابن عمر على ما في حديث ابن مسعود، وبه أخذ أبوحنيفة وأصحابه غير أبي يوسف، وهو نص أشهب من أصحابنا خلاف ما تأوله ابن حبيب، والله أعلم – انتهى. قلت: حديث ابن مسعود ظاهر في أن الطائفة التي صلت مع الإمام آخراً هي بدأت بالقضاء قبل الطائفة الأولى، أي والت بين ركعتيها ثم أتمت الطائفة الأولى بعدها، وليس هذا في قول أبي حنيفة، وقال القارئ في شرح قوله: ((فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين)) ، تفصيله أن الطائفة الثانية ذهبوا إلى وجه العدو وجاءت الأولى إلى مكانهم وأتموا صلاتهم منفردين وسلموا وذهبوا إلى وجه العدو، وجاءت الطائفة الثانية وأتموا منفردين وسلموا، كما ذكره بعض الشراح من علماءنا، قال ابن الملك: كذا قيل، وبهذا أخذ أبوحنيفة

وروى نافع نحوه، وزاد: فإن كان خوف هو أشد من ذلك صلوا رجالاً، ـــــــــــــــــــــــــــــ لكن الحديث لم يشعر بذلك – انتهى. قال القاري: وهو كذلك، لكن قال ابن الهمام: ولا يخفى أن هذا الحديث إنما يدل على بعض ما ذهب إليه أبوحنيفة، وهو مشي الطائفة الأولى وإتمام الطائفة الثانية في مكانها من خلف الإمام، وهو أقل تغييراً، وقد دل على تمام ما ذهب إليه ما هو موقوف على ابن عباس من رواية أبي حنيفة، ذكره محمد في كتاب الآثار، وساق إسناد الإمام، ولا يخفى أن ذلك مما لا مجال للرأي فيه، فالموقوف فيه كالمرفوع – انتهى. قلت: ومذهب أبي حنيفة كما سيأتي أن الطائفة الأولى تتم الركعة التي بقيت عليها بلا قراءة كاللاحق، الطائفة الثانية تقضيها بالقراءة كالمسبوق، وهذا شيء لم يرو عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصلاً ولا عن أحد من أصحابه، بل ولا يعرف عن أحد من الأمة قبل أبي حنيفة، وأما أثر ابن عباس فليس فيه أدنى إشارة إلى ذلك فضلاً أن يكون نصاً في ذلك، قال محمد في كتاب الآثار (ص35) : أخبرنا أبوحنيفة عن حماد عن إبراهم في صلاة الخوف قال: إذا صلى الإمام بأصحابه فلتقم طائفة منهم مع الإمام، وطائفة بإزاء العدو، فيصلي الإمام بالطائفة الذين معه ركعة ثم تنصرف الطائفة الذين صلوا مع الإمام من غير أن يتكلموا حتى يقوموا في مقام أصحابهم، وتأتي الطائفة الأخرى فيصلون مع الإمام الركعة الأخرى، ثم ينصرفون من غير أن يتكلموا حتى يقوموا في مقام أصحابهم، وتأتي الطائفة الأولى حتى يصلوا ركعة وحداناً ثم ينصرفون فيقومون مقام أصحابهم، وتأتي الطائفة الأخرى حتى يقضوا الركعة التي بقيت عليهم وحداناً، قال محمد: أخبرنا أبوحنيفة حدثنا الحارث بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عباس – رضي الله عنهم – مثل ذلك قال: وبهذا كله نأخذ، وأما الطائفة الأولى فيقضون ركعتهم بغير قراءة؛ لأنهم أدركوا أول الصلاة مع الإمام فقراءة الإمام لهم قراءة، وأما الطائفة الأخرى فإنهم يقضون ركعتهم بقراءة؛ لأنهم فاتتهم مع الإمام، وهذا كله قول أبي حنيفة – انتهى. (وروى نافع) أي عن ابن عمر أيضاً (نحوه) أي معنى ما رواه سالم عنه، ولفظ حديث نافع عند البخاري في تفسير سورة البقرة من طريق مالك عن نافع: أن ابن عمر كان إذا سئل عن صلاة الخوف قال: يتقدم الإمام وطائفة من الناس فيصلي بهم الإمام ركعة، وتكون طائفة منهم بينهم وبين العدو لم يصلوا، فإذا صلى الذين معه ركعة استأخروا مكان الذين لم يصلوا ولا يسلمون، ويتقدم الذين لم يصلوا فيصلون معه ركعة، ثم ينصرف الإمام وقد صلى ركعتين، فيقوم كل واحد من الطائفتين فيصلون لأنفسهم ركعة بعد أن ينصرف الإمام، فيكون كل واحد من الطائفتين قد صلى ركعتين فإن كان خوف....الخ (وزاد) أي نافع عن ابن عمر (فإن كان خوف) أي هناك أو وقع خوف شديد والتنوين للتعظيم (هو أشد من ذلك) الذي تقدم بأن لا يمكن معه الانقسام والاصطفاف وغير ذلك (صلوا) حينئذٍ بحسب الإمكان (رجالاً) بكسر الراء وتخفيف الجيم جمع راجل.

قياماً على أقدامهم، أو ركباناً مستقبلي القبلة، أو غير مستقبلها، قال نافع: لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الرازي في تفسيره: الراجل الكائن على رجله ماشياً كان أو واقفاً – انتهى. (قياماً) بكسر القاف جمع قائم، وقيل: إنه مصدر بمعنى اسم الفاعل أي قائمين، وهما حالان من فاعل صلوا، أي صلوا حال كونهم راجلين قائمين (على أقدامهم) زاد مسلم: ((يومئ إيماء)) ، وقوله ((قياماً على أقدامهم)) تفسير لقوله رجالاً، قال ابن حجر: فيه إشارة إلى ترك الركوع والسجود، والإيماء إليهما عند العجز عنهما لقوله ((قياماً على أقدامهم)) ، ويكون المراد قيامهم على أقدامهم في كل حالاتهم من صلاتهم (أو ركباناً) أي راكبين على دوابهم بضم الراء جمع راكب، وأو للتخيير أو الإباحة أو التنويع (مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها) أي بحسب ما يتسهل لهم، والحاصل أنه إذا اشتد الخوف ركباناً إلى القبلة وإلى غيرها يومئون بالركوع والسجود على قدر الطاقة ولا يؤخرون الصلاة عن وقتها، وبه قالت الحنابلة، فيجوز عندهم الصلاة في شدة الخوف وحالة المسايفة والتحام القتال ماشياً وراكباً وطالباً ومطلوباً، وكذا عند الشافعية إلا لطالب عدو لا يخشى كرهم عليه أو انقطاعاً من رفقته، وكذا عند المالكية، لكنهم قالوا: لا يصنعون ذلك حتى يخشوا فوت الوقت، وأيضاً اختلفوا في الطالب فقال ابن عبد الحكم: لا يصلي - أي الطالب - إلا بالأرض صلاة الأمن، وقال ابن حبيب: هو في سعة من ذلك وإن كان طالباً، وحكي ذلك عن مالك، وقال القسطلاني: قال مالك: يصلي - أي الطالب – راكباً حيث توجهت دابته إذا خاف فوت العدو إن نزل – انتهى. وقالت الحنفية: لا يجوز الصلاة في حالة المسايفة والقتال ولا في حالة المشي مطلقاً أي لا طالباً ولا مطلوباً، ويجوز الصلاة راكباً للمطلوب، ولو كانت الدابة سائرة لا للطالب، وقيل: قول ابن عمر في هذا الحديث ((قياماً على أقدامهم)) يؤيد الحنفية في نفي الصلاة في حالة المشي، وإليه يظهر ميل البخاري حيث قال: باب صلاة الخوف رجالاً وركباناً راجل قائم، قال الحافظ: يريد به أن المراد به ههنا القائم، ويطلق على الماشي أيضاً، وهو المراد في سورة الحج: {يأتوك رجالاً ... } الآية – انتهى. وفرق الحنفية بين المشي في الصلاة وبين الصلاة ماشياً، فجوزوا الأول قالوا: وهو المذكور في حديث ابن عمر دون الثاني، ولا يخفى ما فيه (قال نافع: لا أرى) بضم الهمزة أي لا أظن (ذكر ذلك) أي قوله (فإن كان خوف ... ) الخ (إلا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) هكذا أخرجه مالك عن نافع في موطئه بالشك، وكذا أخرجه البخاري في صحيحه من طريق مالك، قال ابن عبد البر: رواه عن نافع جماعة لم يشكوا في رفعه، منهم ابن أبي ذئب وموسى بن عقبة وأيوب بن موسى، وكذا رواه الزهري عن سالم عن ابن عمر مرفوعاً، ورواه خالد بن معدان عن ابن عمر مرفوعاً – انتهى. وقال الحافظ: قد أخرج مسلم حديث ابن عمر من طريق الثوري

رواه البخاري. 1434- (2) وعن يزيد بن رومان، عن صالح بن خوات، عمن صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـــــــــــــــــــــــــــــ عن موسى بن عقبة فذكر صلاة الخوف نحو سياق الزهري عن سالم، وقال في آخره: قال ابن عمر: فإذا كان خوف أكثر من ذلك فليصل راكباً أو قائماً يومئ إيماءً، ورواه ابن المنذر من طريق داود بن عبد الرحمن عن موسى بن عقبة موقوفاً كله، لكن قال في آخره: وأخبرنا نافع أن عبد الله بن عمر كان يخبر بهذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فاقتضى ذلك رفعه كله، ثم ذكر الحافظ رواية الموطأ والبخاري ثم قال: ورواه عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً كله بغير شك. أخرجه ابن ماجه ولفظه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الخوف أن يكون الإمام يصلي بطائفة، فذكر نحو سياق سالم عن أبيه، وقال في آخره: فإن كان خوف أشد من ذلك فرجالاً أو ركباناً، وإسناده جيد، والحاصل أنه اختلف في قوله ((فإن كان خوف أشد من ذلك)) هل هو مرفوع أو موقوف على ابن عمر، والراجح وقفه، والله أعلم – انتهى. (رواه البخاري) حديث سالم عن أبيه أخرجه الجماعة والبيهقي (ج3 ص260) ، وحديث نافع عن ابن عمر أخرجه مالك في موطئه والبخاري في تفسير قوله تعالى: {فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً} [البقرة: 292] ، والبيهقي (ج3 ص256، 260-261) . 1434- قوله (وعن يزيد بن رومان) - بضم الراء المهملة - المدني، مولى آل الزبير بن العوام، ثقة من صغار التابعين، مات سنة (130) ، (عن صالح بن خوات) بفتح المعجمة وتشديد الواو، وآخره تاء مثناة من فوق أي ابن جبير - بضم الجيم - ابن النعمان الأنصاري، المدني، تابعي مشهور، عزيز الحديث، ثقة، روى له الجماعة هذا الحديث، وأبوه خوات بن جبير، صحابي جليل، أول مشاهده أحد، وقيل: شهد بدراً، مات بالمدينة سنة (40) أو بعدها، وله (74) وقيل (71) سنة. (عمن صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) ولفظ البخاري (عمن شهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) ، قيل: إن اسم هذا المبهم سهل بن أبي حثمة؛ لأن القاسم بن محمد روى حديث صلاة الخوف عن صالح بن خوات عن سهل بن أبي حثمة، وهذا هو الظاهر من رواية البخاري، ولكن الراجح أنه أبوه خوات بن جبير؛ لأن أبا أويس رواه عن يزيد بن رومان شيخ مالك فيه فقال: عن صالح بن خوات عن أبيه، أخرجه ابن منده في معرفة الصحابة من طريقه، وكذلك أخرجه البيهقي من طريق عبيد الله بن عمر عن القاسم بن محمد عن صالح بن خوات عن أبيه، وجزم النووي في تهذيبه بأنه خوات بن جبير، وقال: إنه محقق من رواية مسلم وغيره، وسبقه لذلك الغزالي، ويؤيده أيضاً تعيين كونها ذات الرقاع، فإنه إنما يصح ذلك في روايته عن أبيه، إذ ليس في رواية صالح عن سهل أنه صلاها مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويؤيده أيضاً أن سهلاً لم يكن في سن من يخرج تلك الغزوة لصغره، لكن لا يلزم منه أن سهلاً لا يرويها، فيحتمل أن

يوم الرقاع صلاة الخوف: أن طائفة صفت معه، وطائفة وجاه العدو، فصلى بالتي معه ركعة، ثم ثبت قائماً، وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا، فصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى، فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالساً وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ صالحاً سمعه منهما، ورواية سهل تكون مرسل صحابي (يوم ذات الرقاع) بكسر الراء – جمع الرقعة بمعنى الخرقة، وهي القطعة من الثوب، وسميت هذه الغزوة ذات الرقاع لأن الظهر كان قليلاً وأقدام المسلمين نقبت من الحفاء فلفوا عليها الخرق، وهي الرقاع، رواه البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري، وهو الصحيح في تسميتها، وقيل: سميت بذلك لأنهم رقعوا فيها راياتهم، وقيل: بشجر ذلك الموضع، يقال له ذات الرقاع، وقيل: بل الأرض التي كانوا نزلوا بها كانت ذات ألوان تشبه الرقاع، وقيل: لأن خيلهم كان بها سواد وبياض، قاله ابن حبان، وقال الواقدي: سميت بحبل هناك فيه بقع، وهذا لعله مستند ابن حبان، ويكون قد تصحف جبل بخيل، وقد رجح السهيلي والنووي السبب الذي ذكره أبوموسى، ثم قال النووي: ويحتمل أن تكون سميت بالمجموع، وأغرب الداودي فقال: سميت ذات الرقاع لوقوع صلاة الخوف فيها، فسميت بذلك لترقيع الصلاة فيها، كذا في الفتح، وسبب وقوعها أن أعرابياً جاء بجلب إلى المدينة فقال: إني رأيت ناساً من بني ثعلبة وبني أنمار قد جمعوا لكم جموعاً وأنتم في غفلة عنهم، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم واستعمل على المدينة أباذر الغفاري، وقيل: عثمان بن عفان، وخرج في أربعمائة، وقيل: في سبعمائة، فلقي جمعاً من بني ثعلبة، فتوافقوا ولم يكن بينهم قتال، وقيل: لم يلق كيداً؛ لأن العدو تفرق في الجبال، إلا أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم صلاة الخوف؛ لأنه كان يخاف أن يجتمعوا فيحملوا على المسلمين، وقد تقدم اختلاف أهل العلم في تاريخ هذه الغزوة، وأن الراجح عند أهل السير أنها كانت في جمادى الأولى سنة أربع، وعند البخاري أنها بعد خيبر سنة سبع (صلاة الخوف) مفعول صلى (أن طائفة) قال الطيبي: متعلق بما يتعلق به عمن أي عمن صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن طائفة (صفت معه) أي للصلاة (وطائفة) بالنصب للعطف، وقيل: بالرفع على الابتداء أي وطائفة أخرى (وجاه العدو) بكسر الواو وبضم، أي محاذيهم ومواجههم، ونصبه على الظرفية بفعل مقدر (فصلى بالتي معه) أي بالطائفة التي معه - صلى الله عليه وسلم - (ثم) أي لما قام إلى الركعة الثانية (ثبت) حال كونه (قائماً وأتموا) أي الطائفة التي صلى بها الركعة الأولى (لأنفسهم) الركعة الأخرى (ثم) أي بعد سلامهم (انصرفوا) إلى وجه العدو (فصفوا وجاه العدو) أي في غير حالة الصلاة (وجاءت الطائفة الأخرى) التي كانت وجاه العدو إلى مكان الطائفة الأولى فاقتدوا به (فصلى بهم الركعة) الثانية (التي بقيت من صلاته) - صلى الله عليه وسلم - (ثم ثبت جالساً) في التشهد ولم يخرج من صلاته بالسلام (وأتموا) أي الطائفة التي جاءت بعد (لأنفسهم) الركعة الأخرى، وجلسوا معه في التشهد (ثم سلم بهم) أي بالطائفة

متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأخيرة، أي معهم ليحصل لهم فضيلة التسليم معه - صلى الله عليه وسلم -، كما حصل للطائفة الأولى فضيلة التحريم معه - صلى الله عليه وسلم -، وقد صلى كل طائفة ركعة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وركعة لأنفسهم وحداناً، وهذه الكيفية اختارها الشافعي وأحمد، وقال مالك: يتشهد الطائفة الثانية مع الإمام، فإذا سلم الإمام قاموا فقضوا ما فاتهم كالمسبوق، واستدل بحديث القاسم بن محمد عن صالح بن خوات عن سهل بن أبي حثمة، قال ابن قدامة: والأول أولى لقول الله تعالى: {ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك} [النساء: 102] ، وهذا يدل على أن صلاتهم كلها معه، ولأنه روي أنه - صلى الله عليه وسلم - سلم بالطائفة الثانية، ولأن الأولى أدركت معه فضيلة الإحرام، فينبغي أن يسلم بالثانية ليسوي بينهم، ثم ذكر مذهب أبي حنيفة، ثم قال: ولنا ما روى صالح بن خوات عمن صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم ذات الرقاع صلاة الخوف، فذكر الحديث وقال: العمل بهذا أولى؛ لأنه أشبه بكتاب الله تعالى وأحوط للصلاة والحرب، أما موافقة الكتاب فإن قول الله تعالى: {ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك} يقتضي أن جميع صلاتها معه، وعند أبي حنيفة تصلى معه ركعة فقط، وعندنا جميع صلاتها معه، إحدى الركعتين توافقه في أفعاله وقيامه، والثانية تأتي بها قبل سلامه ثم تسلم معه ومن مفهوم قوله: لم يصلوا، أن الطائفة الأولى قد صلت جميع صلاتها، وعلى قولهم لم تصل إلا بعضها – انتهى. قلت: الظاهر أن الله تعالى ذكر في الآية صفة الركعة الأولى وسكت عن حال الركعة الثانية، وكانت هي موضع الفصل، وفعل ذلك للتوسع والمتبادر من تعبير صلاة الطائفة الأولى بالسجدة في قوله: {فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم} أنهم بعد أداء الركعة ينصرفون إلى وجه العدو ولا يتمون لأنفسهم الركعة الأخرى، ولو أتموها لأطلق عليها الصلاة، فذكر لفظ السجدة يؤيد الحنفية في أن الطائفة الأولى تنصرف إلى وجه العدو بعد الركعة؛ لأنه يدل على عدم تمام صلاتها، وعلى مذهب الشافعية ومن وافقهم كان الأولى أن يقال: فإذا صلوا، والمتبادر من ذكر لفظ الصلاة في ذكر الطائفة الثانية في قوله: {ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك} أنهم يتمون لأنفسهم في ذلك المكان، وهذا أوفق للشافعية، فحملوا قوله: فإذا سجدوا، على معنى: فإذا فعلوا، بقرينة قوله: فليصلوا، وحملت الحنفية قوله: فليصلوا، على معنى فليسجدوا، لقوله: فإذا سجدوا، وقد ظهر من هذا أن الآية لا توافق واحداً من المذهبين بتمامه للإجمال في حال الركعة الثانية، نعم تنطبق على الصفة المذكورة في حديث ابن مسعود، فإن حاصلها أن الطائفة الأولى تذهب إلى وجه العدو بعد ركعة، وتجيء الطائفة الأخرى فتصلي مع الإمام ركعة ثم تتم لنفسها ركعة أخرى هناك ثم ترجع إلى وجه العدو، وهذه الصفة هي ظاهر الآية كذا ذكر بعد الحنفية، وقد بسط ابن قدامة الكلام في كون الصفة المختارة عند الأئمة الثلاثة أحوط للصلاة والحرب، فعليك أن ترجع إلى المغني. (متفق عليه) أخرجه البخاري في المغازي من طريق قتيبة عن مالك، ومسلم في الصلاة من طريق يحيى بن يحيى عن مالك عن يزيد بن رومان، وأخرجه أيضاً مالك وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج3 ص252) .

1435- (3) وأخرج البخاري بطريق آخر عن القاسم، عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1435- قوله (وأخرج البخاري بطريق آخر) أي من طريق مسدد عن يحيى القطان عن شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم (عن القاسم) أي ابن محمد بن أبي بكر الصديق (عن سهل بن أبي حثمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي نحوه، وهذه الرواية مرسل صحابي؛ لأن أهل العلم بالأخبار اتفقوا على أن سهلاً كان صغيراً في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمات النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثمان سنين، فلم يكن إذ ذاك في سن من يخرج في تلك الغزوة، وعلى هذا فتكون روايته لقصة صلاة الخوف مرسلة، ويتعين أن يكون مراد صالح بن خوات ممن صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف غيره، والذي يظهر أنه أبوه كما تقدم، واعلم أن البخاري روى أولاً حديث سهل بن أبي حثمة موقوفاً عليه قوله من طريق مسدد عن يحيى القطان عن يحيى الأنصاري عن القاسم عن صالح عن سهل بن أبي حثمة قال: يقوم الإمام مستقبل القبلة وطائفة منهم معه وطائفة من قبل العدو وجوههم إلى العدو فيصلي بالذين معه ركعة، ثم يقومون فيركعون لأنفسهم ركعة ويسجدون سجدتين في مكانهم، ثم رواه مرفوعاً قال: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن صالح بن خوات عن سهل بن أبي حثمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله، أي مثل المتن الموقوف من رواية يحيى عن يحيى، وقد أورده مسلم وأبوداود والنسائي من هذا الطريق بلفظ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بأصحابه في الخوف فصفهم خلفه صفين، فذكر الحديث، وهو مما يقوي أن سهل بن أبي حثمة لم يشهد ذلك، وأن المراد بقول صالح بن خوات ممن شهد أبوه لا سهل، والحديث أخرجه أيضاً أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي موقوفاً ومرفوعاً، وأخرجه مالك موقوفاً، قال ابن عبد البر: هذا الحديث موقوف عند رواة الموطأ، ومثله لا يقال بالرأي، وقد جاء مرفوعاً مسنداً – انتهى. قال الزرقاني: وتابع مالكاً على وقفه يحيى القطان وعبد العزيز بن أبي حازم، كلاهما عن يحيى الأنصاري، ورفعه يحيى القطان في روايته عن شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن صالح عن سهل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بأصحابه صلاة الخوف ... الحديث، قال ابن عبد البر: وعبد الرحمن بن القاسم أسنّ من يحيى بن سعيد وأجل – انتهى. هذا ورواية البخاري والنسائي والترمذي وابن ماجه ساكتة عن بيان سلام الإمام، ورواية أحمد ومسلم وأبي داود صريحة في أنه يسلم الإمام بالطائفة الثانية بعد أدائهم الركعة الثانية، كما هو منطوق رواية يزيد بن رومان عن صالح، وهو مختار الشافعي وأحمد كما تقدم، ورواية مالك صريحة في أن الإمام يسلم منفرداً قبل أن تأتي الطائفة الثانية بالركعة الأخرى، وقال الدارقطني بعد ما روى حديث

1436- (4) وعن جابر قال: أقبلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كنا بذات الرقاع، قال: كنا إذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فجاء رجل من المشركين وسيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معلق بشجرة، فأخذ سيف نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فاخترطه، فقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتخافني؟ قال: لا، قال: فمن يمنعك مني؟ قال: الله يمنعني منك، ـــــــــــــــــــــــــــــ يزيد بن رومان: قال ابن وهب: قال مالك: أحب إلي هذا ثم رجع، وقال: قضاؤهم يكون بعد السلام أحب إلي – انتهى. وقال ابن عبد البر: وهذا الذي رجع إليه مالك بعد أن قال بحديث يزيد بن رومان، وإنما اختاره ورجع إليه للقياس على سائر الصلوات أن الإمام لا ينتظر المأموم، وأن المأموم إنما يقضي بعد سلام الإمام – انتهى. والراجح عندي: مختار الشافعية والحنابلة للوجوه التي تقدمت في كلام ابن قدامة، ولم تفرق المالكية والحنفية بين أن يكون العدو في جهة القبلة أم لا، وفرق الشافعي والجمهور، فحملوا حديث سهل على أن العدو كان في غير جهة القبلة، فلذلك صلى بكل طائفة وحدها جميع الركعة، وأما إذا كان العدو في جهة القبلة فعلى ما في حديث ابن عباس أن الإمام يحرم بالجميع ويركع بهم، فإذا سجد سجد معه صف وحرس صف ... إلى آخره، ويأتي حديث جابر: صفنا صفين والعدو بيننا وبين القبلة. 1436- قوله (حتى إذا كنا بذات الرقاع) أي بالمكان الذي كانت به غزوة ذات الرقاع، فسميت البقعة باسم الوقعة (قال) أي جابر (كنا) أي معشر الصحابة عند إرادة نزول المنزل (إذا أتينا) أي مررنا (على شجرة ظليلة) أي مظللة أي ذات ظل كثيف، يعني كثيرة الظل (تركناها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -) لينزل تحتها ويستظل بها، يعني فكذا فعلنا بذات الرقاع، ونزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت شجرة للاستراحة، فيه تفريق الناس عن الإمام في الغزو عند القائلة والاستظلال بالشجر، وهذا محله إذا لم يكن هناك ما يخافون منه. (قال) أي جابر (فجاء رجل من المشركين) اسمه غورث – وزن جعفر – بن الحارث، وقيل: اسمه دعثور، وقيل: غويرث (وسيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معلق بشجرة) أي بشجرة كان النبي - صلى الله عليه وسلم - تحت ظلها. فيه تعليق السيف بالشجرة في السفر عند النوم وقت القائلة (فأخذ) أي المشرك (سيف نبي الله - صلى الله عليه وسلم -) لكونه نائماً (فاخترطه) بالخاء المعجمة والمثناة الفوقية والراء آخره طاء مهملة – أي سله من غمده، وهو غلافه (قال) أي المشرك (فمن يمنعك مني) بضم العين، و"من" استفهام يتضمن معنى النفي، كأنه قال: لا مانع لك مني، وكرر ذلك في رواية للبخاري ثلاث مرات. (قال) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (الله) أي هو الذي سلطك علي (يمنعني منك) أي يخلصني منك

قال: فتهدده أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فغمد السيف وعلقه، قال: فنودي بالصلاة، فصلى بطائفة ركعتين، ثم تأخروا، وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، قال: فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع ركعات، وللقوم ركعتان)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذ لا حول ولا قوة إلا بالله، قال الطيبي: كان يكفي في الجواب أن يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الله، فبسط اعتماداً على الله واعتضاداً بحفظه وكلاءته، قال الله تعالى: {والله يعصمك من الناس} [المائدة: 67] انتهى. وهذا من أعظم الخوارق للعادة، فإنه عدو متمكن بيده سيف مشهور فلم يحصل للنبي - صلى الله عليه وسلم - روع ولا جزع، قال الحافظ: فيه فرط شجاعته - صلى الله عليه وسلم - وقوة يقينه وصبره على الأذى وحلمه عن الجهال (قال) أي جابر (فتهدده) أي هدده وخوفه (أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) ظاهره يشعر بأنهم حضروا القصة، وأنه إنما رجع عما كان عزم عليه بالتهديد، وليس كذلك، فإنه وقع في رواية للبخاري بعد قوله (فعلق بها سيفه) : قال جابر فنمنا نومة، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعونا فجئناه، فإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتاً، فقال لي: من يمنعك؟ قلت: الله، فها هو ذا جالس ثم لم يعاقبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) ، فقد بينت هذه الرواية أن هذا القدر لم يحضره الصحابة، وإنما سمعوه من النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن دعاهم واستيقظوا، ووقع في رواية أخرى للبخاري بعد قوله: قلت الله فشام السيف، والمراد أغمده وكان الأعرابي لما شاهد ذلك الثبات العظيم وعرف أنه حيل بينه وبين تحقق صدقه وعلم أنه لا يصل إليه فألقى السلاح، وأمكن من نفسه (فغمد السيف) بفتح الميم المخففة وتشدد أي أدخله في غلافه، وفي صحيح مسلم: فأغمد أي من الإغماد (وعلقه) أي في مكانه، ووقع في رواية ابن إسحاق بعد قوله: قال الله فدفع جبريل في صدره فوقع السيف من يده فأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: من يمنعك أنت مني؟ قال: لا أحد، قال: قم فاذهب لشأنك، فلما ولى قال: أنت خير مني، فقال - صلى الله عليه وسلم -: أنا أحق بذلك، ثم أسلم بعد، وفي لفظ: قال: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، ثم أتى قومه فدعاهم إلى الإسلام، ويجمع بين قوله: ((فها هو ذا جالس ثم لم يعاقبه)) وبين رواية ابن إسحاق بأن قوله: ((فاذهب لشأنك)) كان بعد أن أخبر الصحابة بقصته، فمن عليه لشدة رغبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في استئلاف الكفار ليدخلوا في الإسلام ولم يؤاخذه بما صنع بل عفا عنه، وقد تقدم أنه أسلم بعد ذلك وأنه رجع إلى قومه واهتدى به خلق كثير. (قال) أي جابر (فنودي) أي أذن وأقيم للظهر (فصلى بطائفة ركعتين) ثم سلم وسلموا (ثم تأخروا) أي إلى جهة العدو (وصلى) وفي مسلم: فصلى أي النبي - صلى الله عليه وسلم - متنفلاً (بالطائفة الأخرى) التي كانت في جهة العدو بعد مجيئها إليه – عليه الصلاة والسلام – (ركعتين) ثم سلم وسلموا (قال) أي جابر (فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع ركعات) أي بتسليمتين فرضاً ونفلاً (وللقوم ركعتان) فرضاً، واستدل به على جواز صلاة المفترض

متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ خلف المتنفل، كذا قرره النووي في شرح مسلم جمعاً بينه وبين حديث جابر الآتي في الفصل الثاني، وحديث أبي بكرة قال: ((صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في خوف الظهر فصف بعضهم خلفه وبعضهم بإزاء العدو، فصلى ركعتين ثم سلم، وانطلق الذين صلوا معه فوقفوا موقف أصحابهم ثم جاء أولئك فصلوا خلفه، فصلى بهم ركعتين ثم سلم ... )) الحديث، أخرجه أبوداود والنسائي وابن حبان وغيرهم بإسناد صحيح، قال الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص246) حديث أبي بكرة صريح في أنه – عليه الصلاة والسلام – سلم من الركعتين، وحديث جابر ليس صريحاً، فلذلك حمله بعضهم على حديث أبي بكرة، ومنهم النووي، ومنهم من لم يحمله عليه، ومنهم القرطبي، وقال في (ج2 ص56) لفظ الصحيحين من حديث جابر قد يفهم منه أنه لم يسلم من الركعتين، وهو الأقرب، كما فهمه القرطبي في شرح مسلم. وقد يفهم منه أنه سلم من الركعتين ويفسره حديث أبي بكرة كما فهمه النووي، بل قد جاء مفسراً من رواية جابر أنه سلم من الركعتين، كما رواه البيهقي في المعرفة من طريق الشافعي. قلت: الأقرب عندي هو ما فهمه النووي، بل هو المتعين لحديث أبي بكرة، وهو حديث صحيح، ولرواية جابر المفسرة عند النسائي وابن خزيمة والدارقطني والبيهقي، والأحاديث يفسر بعضها بعضاً، قال الزيلعي: وعلى كل حال فالاستدلال على الحنفية بحديث جابر صحيح وإن لم يسلم من الركعتين؛ لأن فرض المسافر عندهم ركعتان والقصر عزيمة، فإن صلى المسافر أربعاً وقعد في الأولى صحت صلاته وكانت الأخريان له نافلة، وقد ذهل عن هذا جماعة من شراح الحديث، ومنهم النووي، وقالوا: لا يحسن الاستدلال عليهم إلا بحديث أبي بكرة أو بحديث جابر على تقدير أنه سلم في الركعتين – انتهى. وقد رد بمثل ذلك ابن حزم في المحلى (ج4 ص228) ، فارجع إليه إن شئت، ويأتي بقية الكلام في شرح حديث جابر في الفصل الثاني، ثم الكيفية المذكورة في حديث جابر مخالفة للكيفية التي في حديث يزيد بن رومان، مع أن الموضع واحد، وذلك لاختلاف الزمان، فيحمل على أنه – عليه الصلاة والسلام – صلى في هذا الموضع مرتين، مرة كما رواه يزيد بن رومان، ومرة كما رواه جابر، أو يحمل على تعدد غزوة ذات الرقاع، فقد قيل: إنها وقعت مرتين: مرة في السنة الخامسة، ومرة في السنة السابعة، والله أعلم. (متفق عليه) فيه نظر، فإن البخاري لم يسنده في صحيحه أصلاً، بل ذكره معلقاً في المغازي في غزوة ذات الرقاع، فقال: وقال أبان: حدثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر قال: ((أقبلنا ... )) الحديث، ورواه أيضاً متصلاً بإسناده لكن لم يذكر فيه قصة الصلاة، ووهم مجد الدين ابن تيمية في المنتفى حيث قال بعد ذكره باللفظ المذكور: متفق عليه. قال الزيلعي (ج2 ص246) : لم يصل البخاري سنده به، ووهم شيخنا علاء الدين مقلداً لغيره فقال: أخرجاه، وقد نص على ذلك الحميدي، وعبد الحق في كتابيهما الجمع بين الصحيحين، مع أن البخاري وصل سنده به في مواضع لكن ليس فيه قصة الصلاة، قال: ووهم

1437- (5) وعنه قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف، فصففنا خلفه صفين، والعدو بيننا وبين القبلة، فكبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وكبرنا جميعاً، ثم ركع وركعنا جميعاً، ثم رفع رأسه من الركوع، ورفعنا جميعاً، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه، وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - السجود وقام الصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود، ـــــــــــــــــــــــــــــ النووي في الخلاصة، فذكره باللفظ المذكور وقال: متفق عليه – انتهى. والحديث أخرجه أيضاً أحمد (ج3 ص364) ، والبيهقي (ج3 ص259) . 1437- قوله (وعنه) أي عن جابر (قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف) في صحيح مسلم قال: شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف (فصففنا) وفي بعض النسخ من صحيح مسلم ((فصفنا)) (خلفه) أي خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (صفين والعدو بيننا وبين القبلة) قد ورد في رواية لمسلم عن جابر تعيين القوم الذين حاربوهم، ولفظها: ((غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوماً من جهينة، فقاتلونا قتالاً شديداً، فلما صلينا الظهر قال المشركون: لو ملنا عليه ميلة لاقتطعناهم، فأخبر جبريل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر ذلك لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: وقالوا: إنه ستأتيهم صلاة هي أحب إليهم من الأولاد، فلما حضرت العصر قال: صفنا صفين والمشركون بيننا وبين القبلة ... )) الحديث، وروى أحمد وأبوداود والنسائي والبيهقي وابن حبان وصححه من حديث أبي عياش الزرقي مثل حديث جابر، وزاد تعيين محل الصلاة أنها كانت بعسفان، فالظاهر أن جابراً روى القصتين معاً، أي قصة صلاة الخوف بغزوة ذات الرقاع وكان العدو فيها في غير جهة القبلة، وقصة الخوف بغزوة عسفان، وكان العدو فيها وجاه القبلة، والله تعالى أعلم. (فكبر النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي للتحريم (وكبرنا جميعاً) أراد به الصفين (ثم ركع) أي بعد القراءة (ثم انحدر بالسجود) أي انهبط إليه وانخفض له، وقال القاري: أي نزل متلبساً بالسجود أو بسببه (والصف الذي يليه) أي وانحدر الصف الذي يقرب منه، وهو عطف على الضمير المتصل من دون تأكيد؛ لأنه قد وقع الفصل، والإفراد باعتبار لفظ الصف المراد به القوم (وقام) أي بقي قائماً (الصف المؤخر) أي الذين تأخروا للحراسة لمن أمامهم في سجودهم (في نحر العدو) أي في مقابلتهم، ونحر كل شيء أوله (فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - السجود) أي أداه، والمعنى: فلما فرغ من السجدتين (وقام الصف الذي يليه) يعني رفعوا رؤوسهم من السجود، وقاموا معه – عليه الصلاة والسلام – (انحدر الصف المؤخر بالسجود) أي سجد الآخرون الذين كانوا خلف الصف

ثم قاموا، ثم تقدم الصف المؤخر، وتأخر المقدم، ثم ركع النبي - صلى الله عليه وسلم - وركعنا جميعاً، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعاً، ثم انحدر بالسجود، والصف الذي يليه الذي كان مؤخراً في الركعة الأولى، وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - السجود والصف الذي يليه، انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا، ثم سلم النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلمنا جميعاً)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأول (ثم) أي لما فرغوا من سجدتهم (قاموا) وفي مسلم: وقاموا (ثم تقدم الصف المؤخر) ووقفوا مكان الصف الأول، أي بعد أن استووا مع الأولين في القيام خلفه - صلى الله عليه وسلم - في الركعة الثانية (وتأخر المقدم) قيل: الحكمة في التقدم والتأخر حيازة فضيلة المعية في الركعة الثانية جبراً لما فاتهم من المعية في الركعة الأولى (ثم ركع النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي قام وقرأ الفاتحة والسورة ثم ركع، قاله الطيبي. (الذي كان مؤخراً في الركعة الأولى) صفة ثانية للصف، وقدر ابن حجر لفظ "وهو" قبل هذا الموصول الثاني (وقام الصف المؤخر) هو الذي كان مقدماً في الركعة الأولى (في نحر العدو) وفي بعض النسخ من صحيح مسلم: في نحور العدو أي بلفظ الجمع (انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا، ثم سلم النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلمنا جميعاً) وفي رواية لمسلم: فلما سجد الصف الثاني، ثم جلسوا جميعاً سلم عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والحديث دليل على أنه إذا كان العدو في جهة القبلة فإنه يخالف ما إذا لم يكن كذلك، فإنها تمكن الحراسة مع دخولهم جميعاً في الصلاة، وذلك أن الحاجة إلى الحراسة إنما تكون في حال السجود فقط؛ لأن حال الركوع لا يمتنع معه إدراك أحوال العدو، فيتابعون الإمام جميعاً في القيام والركوع، ويحرس الصف المؤخر في حال السجدتين بأن يتركوا المتابعة للإمام، ثم يسجدون عند قيام الصف الأول، ويتقدم الصف المؤخر إلى محل الصف المقدم، ويتأخر المقدم ليتابع المؤخر الإمام في السجدتين الأخيرتين، فيصح مع كل من الطائفين المتابعة في سجدتين، قال النووي: وحديث ابن عباس – عند البخاري وغيره – نحو حديث جابر، لكن ليس فيه تقدم الصف وتأخر الآخر، وبهذا الحديث قال الشافعي وابن أبي ليلى وأبويوسف إذا كان العدو في جهة القبلة، ويجوز عند الشافعي تقدم الصف الثاني وتأخر الأول كما في رواية جابر، ويجوز بقاءهما على حالهما، كما هو ظاهر حديث ابن عباس – انتهى. والصفة المذكورة في حديث جابر لا توافق ظاهر الآية، ولا توافق الرواية الأولى عن ابن عمر، ولا رواية يزيد بن رومان، ولا رواية جابر في غزوة ذات الرقاع إلا أنه قد يقال: إنها تختلف الصفات باختلاف الأحوال، وقال الطحاوي: ليس هذا

{الفصل الثاني}

رواه مسلم. {الفصل الثاني} 1438- (6) عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بالناس صلاة الظهر في الخوف ببطن نخل، فصلى بطائفة ركعتين، ثم سلم، ثم جاء طائفة أخرى، فصلى بهم ركعتين، ثم سلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ بخلاف القرآن لجواز أن يكون قوله تعالى: {ولتأت طائفة أخرى} [النساء: 102] إذا كان العدو في غير القبلة، وذلك ببيانه - صلى الله عليه وسلم - ثم بين كيفية الصلاة إذا كان العدو في جهة القبلة، والله أعلم. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد (ج3 ص319) ، والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص257) . 1438- قوله (كان) قال القاري: ليس للاستمرار، بل لمجرد الربط والدلالة على المضي (يصلي بالناس صلاة الظهر في الخوف) أي في حالة الخوف (ببطن نخل) بفتح النون وسكون الخاء المعجمة، وهو موضع من المدينة على يومين، وهو بواد يقال له "شدخ" بالشين المعجمة والدال المهملة والخاء المعجمة، وفيه طوائف من قيس وبني فزارة وأشجع وأنمار، وقال ابن حجر: اسم موضع بين مكة والطائف، ذكره القاري، وغفل من قال إن المراد نخل بالمدينة، واستدل به على مشروعية صلاة الخوف في الحضر، وليس كما قال؛ لأنه لم يحفظ عنه – عليه السلام – أنه صلى صلاة خوف قط في حضر، ولم يكن له حرب قط في حضر إلا يوم الخندق، ولم يكن آية الخوف نزلت بعد، فالصحيح أن المراد به موضع من نجد من أراضي غطفان كما تقدم، (فصلى بطائفة ركعتين، ثم سلم) هذا صريح في أنه – عليه السلام – سلم من الركعتين، ومثله حديث أبي بكرة عند أبي داود والنسائي وغيرهما، وقد تقدم (ثم جاء طائفة أخرى، فصلى بهم ركعتين، ثم سلم) فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع ركعات بتسليمتين فرضاً ونفلاً، ولكل طائفة ركعتان ركعتان فرضاً، وبهذا قال الحسن والشافعي وأحمد، قال القاري: لا إشكال في ظاهر الحديث على مقتضى مذهب الشافعي، فإنه محمول على حالة القصر، وقد صلى بالطائفة الثانية نفلاً، وعلى قواعد مذهبنا مشكل جداً، فإنه لو حمل على السفر لزم اقتداء المفترض خلف المتنفل، وهو غير صحيح عندنا، فلا يحمل عليه فعله – عليه الصلاة والسلام -، وإن حمل على الحضر يأباه السلام على رأس كل ركعتين، اللهم إلا أن يقال: هذا من خصوصياته، وأما القوم فأتموا ركعتين أخريين بعد سلامه، واختار الطحاوي أنه كان في وقت كانت الفريضة تصلى مرتين – انتهى كلام القاري، قلت: لا شك أن الحديث مشكل على الحنفية جداً، وقد عجزوا عن جوابه، ولذلك قال السندي: فيه اقتداء المفترض بالمتنفل، ولم أر لهم عنه جواباً شافياً – انتهى. فأما قولهم: إن هذا خاص برسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفضيلة الصلاة خلفه، فإن في الائتمام به من البركة في

{الفصل الثالث}

رواه في شرح السنة. {الفصل الثالث} 1439- (7) عن أبي هريرة، ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزل بين ضجنان وعسفان، ـــــــــــــــــــــــــــــ النافلة ما ليس في الائتمام بغيره في الفريضة، ففيه أنه لا يثبت الخصوص بالادعاء، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) ، وأمرنا باتباعه، فما ثبت في حقه ثبت فيه حقنا ما لم يقم دليل على اختصاصه به، وأما قول الطحاوي: إنه يجوز أن يكون ذلك كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والفريضة حينئذٍ تصلى مرتين، فيكون كل واحدة منهما فريضة، وقد كان ذلك يفعل في أول الإسلام ثم نسخ، ففيه أنه يرده ما قال ابن حزم في المحلى (ج4 ص227) فهذا آخر فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن أبابكرة شهده، وإنما كان إسلامه يوم الطائف بعد فتح مكة وبعد حنين، ولم يغز – عليه السلام – بعد الطائف غير تبوك فقط، وأيضاً قد روى ابن حزم بسنده (ج4 ص226) عن أبي بكرة أنه صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف، فصلى بالذين خلفه ركعتين، والذين جاءوا بعد ركعتين، فكانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - أربعاً ولهؤلاء ركعتين، وأجاب بعضهم بأن المراد بالسلام السلام الذي في التشهد، وهو السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وهذا غني عن الرد لكونه ظاهر البطلان، فإن المتبادر منه سلام التحلل من الصلاة، وهو المعروف، وهو الذي يدل عليه سياق الروايات في ذلك فالحمل عليه متعين. (رواه) أي البغوي صاحب المصابيح (في شرح السنة) وأخرجه أيضاً النسائي والشافعي في كتاب الأم (ج1 ص153) ، والدارقطني (ص186-187) ، وابن خزيمة والبيهقي في المعرفة وفي السنن (ج3 ص259) كلهم من طريق الحسن عن جابر، وقال البزار: روى الحسن عن جابر بن عبد الله أحاديث، ولم يسمع منه، وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي سمع الحسن عن جابر؟ قال: ما أرى، ولكن هشام بن حسان يقول عن الحسن ثنا جابر، وأنا أنكر هذا، إنما الحسن عن جابر كتاب، مع أنه أدرك جابراً – انتهى. قلت: وذلك لا يقتضي الانقطاع، وأخرج ابن جرير وأحمد والطحاوي (ج1 ص187) من طريق قتادة عن سليمان اليشكري عن جابر مثله، وأشار إليه أبوداود في السنن، ونقل الحافظ عن البخاري وابن معين أن قتادة لم يسمع من اليشكري. 1439- قوله (نزل بين ضجنان) بفتح الضاد المعجمة وسكون الجيم وبنونين بينهما ألف، قال الجزري: هو موضع أو جبل بين مكة والمدينة (عسفان) بضم مهملة أولى وسكون ثانية، موضع على مرحلتين من مكة، قاله في القاموس، وقال الجزري: هي قرية جامعة بين مكة والمدينة – انتهى. وزاد النسائي: محاصراً

فقال المشركون: لهؤلاء صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم، وهي العصر، فأجمعوا أمركم، فتميلوا عليهم ميلة واحدة، وإن جبريل أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمره أن يقسم أصحابه شطرين، فيصلي بهم، وتقوم طائفة أخرى وراءهم وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم، فتكون لهم ركعة، ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتان)) ، رواه الترمذي والنسائي. ـــــــــــــــــــــــــــــ المشركين (فقال المشركون) أي بعضهم لبعض (لهؤلاء) أي للمسلمين (من آبائهم وأبنائهم) وفي النسائي: من أبنائهم وأبكارهم (وهي العصر) لما وقع من تأكيد المحافظة على مراعاتها في قوله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} [البقرة: 238] ، (فأجمعوا) بفتح الهمزة وكسر الميم من الإجماع (أمركم) أي أمر القتال، والمعنى فأعزموا عليه (فتميلوا) بالنصب على جواب الأمر أي فتحملوا، ولفظ الترمذي: فميلوا، وعند النسائي: ثم ميلوا أي بصيغة الأمر (وإن جبريل أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -) قال الطيبي: حال من قوله ((فقال المشركون)) على نحو جاء زيد والشمس طالعة (شطرين) أي نصفين، كما في رواية النسائي، وفي بعض النسخ من سنن النسائي: بصفين (فيصلي) بالنصب (بهم) وفي رواية النسائي: فيصلي بطائفة منهم (وتقوم) بالنصب (طائفة أخرى وراءهم وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم) وفي رواية النسائي: وطائفة مقبلون على عدوهم قد أخذوا حذرهم وأسلحتهم، قال الطيبي: أي ما فيه الحذر، وفي الكشاف: جعل الحذر، وهو التحرز والتيقظ، آلة يستعملها الغازي، فلذلك جمع بينه وبين الأسلحة في الأخذ دلالة على التيقظ التام والحذر الكامل، ومن ثَمَّ قدمه على أخذ الأسلحة (فتكون لهم) أي لكل طائفة منهم (ركعة) وقع في الترمذي والنسائي لفظ "ركعة" مكرراً أي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويصلي كل طائفة منهم ركعة أخرى لأنفسهم؛ لتكون لكل منهما ركعتان، وقال قوم: هو محمول على ظاهره، وعدوه من خصائص صلاة الخوف (ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتان) تابعه في الركعة الأولى الطائفة الأولى، وفي الثانية الطائفة الأخرى، ولا يخفى أن قوله "فتكون لهم ركعة، ولرسول الله ركعتان" لا يصح ترتبه على ما وقع في المشكاة قبله من لفظ الحديث، ووقع عند الترمذي قبل ذلك، ثم يأتي الآخرون ويصلون معه ركعة واحدة، ولفظ النسائي: ثم يتأخر هؤلاء، ويتقدم أولئك، فيصلي بهم ركعة، تكون لهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعة ركعة ... الخ، والظاهر أن المصنف ذكر ذلك السياق تقليداً لما نقله الجزري في جامع الأصول (ج6 ص473-474) ، ولم يراجع جامع الترمذي والنسائي، ولم يتأمل في ما في السياق المذكور من الخلل، والله تعالى أعلم. (رواه الترمذي) في تفسير سورة النساء وصححه (والنسائي) في الصلاة، وأخرجه أيضاً أحمد وابن جرير، كلهم من طريق عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة،

(47) باب صلاة العيدين

(47) باب صلاة العيدين ـــــــــــــــــــــــــــــ وأشار إليه أبوداود في "باب من قال: يصلي بكل طائفة ركعة ولا يقضون"، فقال بعد رواية حديث حذيفة بلفظ: ((فصلى بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا)) ، وكذا رواه عبيد الله بن عبد الله ومجاهد عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعبد الله بن شقيق عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ... الخ. تنبيه: قال الحافظ: لم يقع في شيء من الأحاديث المروية في صلاة الخوف تعرض لكيفية صلاة المغرب، وقد أجمعوا على أنه لا يدخلها قصر، واختلفوا هل الأولى أن يصلي بالأولى ثنتين والثانية واحدة أو العكس – انتهى كلام الحافظ، قلت: روى الدارقطني (ص187) ، والحاكم (ص337) ، والبيهقي (ج3 ص260) من طريق عمرو بن خليفة البكراوي عن الأشعث بن عبد الملك عن الحسن عن أبي بكرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بالقوم في الخوف صلاة المغرب ثلاث ركعات ثم انصرف، وجاء الآخرون فصلى بهم ثلاث ركعات، قال الحاكم: سمعت أباعلي الحافظ يقول: هذا حديث غريب، قال الحاكم: وإنه صحيح على شرط الشيخين، وأقره الذهبي، وقال أبوداود بعد رواية حديث أبي بكرة في صلاة الخوف في الظهر: وكذلك في المغرب، يكون للإمام ست ركعات، وللقوم ثلاثاً ثلاثاً، وهذا يدل على أنه ليس عنده في المغرب إلا القياس، قال الشوكاني: وهو قياس صحيح، وقال البيهقي بعد ذكر كلام أبي داود هذا: وقد رواه بعض الناس عن أشعث في المغرب مرفوعاً، ولا أظنه إلا واهماً في ذلك، ثم ذكر الحديث من الطريق المذكور، وقد تفرد بروايته عمرو بن خليفة البكراوي، وقال في اللسان في ترجمته: ربما كان في روايته بعض المناكير، وذكره ابن حبان في الثقات وأخرج له ابن خزيمة في صحيحه، وارجع لاختلاف العلماء في كيفية صلاة المغرب في الخوف إلى المغني (ج2 ص410-411) . (باب صلاة العيدين) أي الفطر والأضحى، وأصل العيد عود؛ لأنه مشتق من عاد يعود عوداً، هو الرجوع، قلبت الواو ياءً لسكونها وانكسار ما قبلها، كما في الميزان والميقات، وجمعه أعياد للزوم الياء في الواحد أو للفرق بينه وبين أعواد الخشب، وسميا عيدين لكثرة عوائد الله تعالى فيهما، أو لأنهم يعودون إليهما مرة بعد أخرى، أو لتكرارهما وعودهما كل عام، أو لعود السرور بعودهما، قال في الأزهار: كل اجتماع للسرور فهو عند العرب عيد، يعود السرور بعوده، وقيل: لأن الله تعالى يعود على العباد بالمغفرة والرحمة، وقيل: تفاؤلاً بعوده على من أدركه، كما سميت القافلة تفاؤلاً برجوعها، وقيل: لعود بعض المباحات فيهما واجباً كالفطر، وقيل: لأنه يعاد فيهما التكبيرات مرات، والله تعالى أعلم. وارجع لحكمة مشروعيتهما إلى حجة الله البالغة (ج2 ص23) لمحدث الهند الشاه ولي الله الدهلوي، فإنه قد بسط الكلام فيها فأجاد وأحسن، واتفقوا على أن أول عيد صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الفطر في السنة الثانية من الهجرة، وهي التي فرض رمضان في شعبانها، ثم داوم عليه

{الفصل الأول}

{الفصل الأول} 1440- (1) عن أبي سعيد الخدري قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، ـــــــــــــــــــــــــــــ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن توفاه الله عزوجل، وقيل: شرع عيد الأضحى أيضاً في السنة الثانية من الهجرة، واختلفوا في حكم صلاة العيدين؛ قال المرتضى الزبيدي الحنفي في شرح الإحياء: قال أصحابنا: صلاة العيدين واجبة على من تجب عليه الجمعة نصاً عن أبي حنيفة في روايته على الأصح، وبه قال الأكثرون، وهو المذهب، ونقل ابن هبيرة في الإفصاح رواية ثانية عن الإمام بأنها سنة، قال ابن عابدين: الأول قول الأكثرين، كما في المجتبى ونص على تصحيحه في الخانية والبدائع والهداية والمحيط والمختار والكافي وغيرهما – انتهى. ورجح السرخسي في المبسوط كونها سنة، وقال مالك والشافعي: سنة مؤكدة لرواية الأعرابي إلا أن تطوع، وقال أحمد: هي فرض على الكفاية كالجنائز إذا قام بها من يكفي سقطت عن الباقين، وبه قال بعض أصحاب الشافعي، والراجح عندي ما ذهب إليه أبوحنيفة من أنها واجبة على الأعيان لقوله تعالى: {فصل لربك وانحر} [الكوثر: 2] ، والأمر يقتضي الوجوب، ولمداومة النبي - صلى الله عليه وسلم - على فعلها من غير ترك، ولأنها من أعلام الدين الظاهرة، فكانت واجبة، ولا يخالف ذلك حديث الأعرابي؛ لأن المراد نفي وجوب ما عدا الصلوات الخمس في كل يوم وليلة، وصلاة العيد ليست مما تجب وتتكرر في كل يوم وليلة. واختلفوا في شروطها، فقال الحنفية: يشترط لها جميع ما يشترط للجمعة وجوباً وأداءً إلا الخطبة، فإنها ليست بشرط لها، بل هي سنة بعدها، وأجاز مالك والشافعي أن يصليها منفرداً من شاء من الرجال والنساء والعبيد والمسافرين، وعن أحمد روايتان كالقولين، كما في المغني (ج2 ص392-393) ، والمرجح عند الحنابلة هو القول الأول، والراجح عندي هو ما ذهب إليه مالك والشافعي لعدم ما يدل على ما ذهب إليه الحنفية من كون شروط الجمعة شروطاً للعيد، والله تعالى أعلم. 1440- قوله (يخرج يوم الفطر والأضحى) أي يوم عيد الفطر ويوم عيد الأضحى (إلى المصلى) أي مصلى العيد، وهو موضع معروف خارج باب المدينة، بينه وبين باب المسجد ألف ذراع، قاله عمر بن شبة في أخبار المدينة عن أبي غسان الكتاني صاحب مالك، واستدل به على استحباب الخروج إلى الصحراء لأجل صلاة العيد، وأن ذلك أفضل من صلاتها في المسجد ولو كان واسعاً، وهذا مذهب الحنفية والحنابلة والمالكية، وقال الشافعية: فعلها في المسجد الحرام وبيت المقدس أفضل من الصحراء تبعاً للسلف والخلف، ولشرفهما ولوسعهما وفعلها في سائر المساجد إن اتسعت أولى؛ لأنها خير البقاع وأطهرها، ولسهولة الحضور إليها، فلو صلى في الصحراء كان تاركاً للأولى، قال الشافعي في الأم: بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج في العيدين إلى المصلى بالمدينة، وكذا من بعده إلا من عذر مطر ونحوه، وكذلك عامة أهل البلدان إلا أهل مكة،

فأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف، فيقوم مقابل الناس، والناس جلوس على صفوفهم، فيعظهم، ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم أشار إلى أن سبب ذلك سعة المسجد وضيق أطراف مكة، قال: فلو عمر بلد فكان مسجد أهله يسعهم في الأعياد لم أر أن يخرجوا منه، فإن كان لا يسعهم كرهت الصلاة فيه ولا إعادة، قال الحافظ: ومقتضى هذا أن العلة تدور على السعة والضيق لا لذات الخروج إلى الصحراء؛ لأن المطلوب حصول عموم الاجتماع، فإذا حصل في المسجد مع أفضليته كان أولى – انتهى. قال الشوكاني: وفيه أن كون العلة الضيق والسعة مجرد تخمين لا ينتهض للاعتذار عن التأسي به - صلى الله عليه وسلم - في الخرج إلى الجبنانة بعد الاعتراف بمواظبته - صلى الله عليه وسلم - على ذلك. وأما الاستدلال على أن ذلك هو العلة بفعل الصلاة في مسجد مكة فيجاب عنه باحتمال أن يكون ترك الخروج إلى الجبانة لضيق أطرف مكة لا للسعة في مسجدها – انتهى. والراجح عندي ما ذهب إليه الحنفية من أن الخروج إلى الصحراء أفضل ولو كان مسجد البلد واسعاً؛ لأنه قد واظب النبي - صلى الله عليه وسلم - على الخروج إلى الجبانة وترك المسجد، وكذلك الخلفاء بعده، ولا يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الأفضل مع قربه، ويتكلف فعل الناقص مع بُعده، ولا يشرع لأمته ترك الفضائل، ولأننا قد أمرنا باتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - والاقتداء به، ولا يجوز أن يكون المأمور به هو الناقص، ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى العيد بمسجده إلا من عذر كما سيأتي؛ ولأن هذا إجماع المسلمين، فإن الناس في كل عصر ومصر يخرجون إلى المصلى، فيصلون العيد في المصلى مع سعة المسجد وضيقه، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في المصلى مع شرف مسجده، وصلاة النفل في البيت أفضل منها في المسجد مع شرفه. (فأول شيء يبدأ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (به الصلاة) برفع "أول" على أنه مبتدأ، وقوله "الصلاة" خبره، ولفظ "أول" وإن كان نكرة فقد تخصص بالإضافة، والأولى جعل أول خبراً مقدماً والصلاة مبتدأ؛ لأنه معرفة وإن تخصص أول، فلا يخرج عن التنكير، وجملة "يبدأ به" في محل الجر صفة لشيء. وفيه أن السنة تقديم الصلاة على الخطبة، وسيأتي الكلام عليه مبسوطاً (ثم ينصرف) أي من الصلاة (فيقوم مقابل الناس) بكسر الباء حال أي مواجهاً لهم، وفي رواية ابن حبان: فينصرف إلى الناس قائماً في مصلاه، ولابن خزيمة في رواية مختصرة خطب يوم علي على رجليه، وهذا مشعر بأنه لم يكن إذ ذاك في المصلى منبر، وفيه أن السنة كون الخطبة على الأرض عن قيام في المصلى، والفرق بينه وبين المسجد أن المصلي يكون بمكان فيه فضاء فيتمكن من رؤيته كل من حضر بخلاف المسجد، فإنه يكون في مكان محصور فقد لا يراه بعضهم، ووقع في آخر الحديث ما يدل على أن أول من خطب الناس في المصلى على المنبر مروان، وسيأتي الكلام عليه في آخر الباب (والناس جلوس) جملة اسمية حالية، و"جلوس" جمع جالس (على صفوفهم) أي مستقبلين له على حالتهم التي كانوا في الصلاة عليها (فيعظهم) أي يخوفهم عواقب الأمور، وقيل: يذكرهم بالعواقب بشارة مرة، ونذارة

ويوصيهم ويأمرهم، وإن كان يريد أن يقطع بعثاً قطعه، أو يأمر بشيء أمر به، ثم ينصرف)) متفق عليه. 1441- (2) وعن جابر بن سمرة قال: ((صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العيدين غير مرة ولا مرتين بغير أذان ولا إقامة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ أخرى، وبالوعد في الثواب، وبالوعيد في العقاب لئلا يستلذهم فرط السرور في هذا اليوم، فيغفلون عن الطاعة ويقعون في المعصية، وقيل: ينذرهم ويخوفهم ليتقوا من عقاب الله (ويوصيهم) بسكون الواو، وقيل: من التوصية أي بالتقوى لقوله تعالى: {ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله} [النساء: 131] ، وقيل: أي بما تنبغي الوصية به، وقيل: أي في حق الغير لينصحوا له، وقيل: بإدامة الطاعات، والتحرز عن السيئات، وبرعاية حقوق الله وحقوق عباده، ومنها النصح التام لكل مسلم (ويأمرهم) أي وينهاهم يعني بما يظهر له من الأمر والنهي المناسب للمقام فيكون الاختصار على يأمرهم من باب الاكتفاء. وقيل: يأمرهم بالحلال وينهاهم عن الحرام (وإن كان يريد) أي في ذلك الوقت (أن يقطع) أي يرسل (بعثاً) بفتح الباء وسكون العين مصدر بمعنى المبعوث يعني طائفة من الجيش إلى جهة من الجهات للغزو (قطعه) أي أرسله، وقيل: "قطعه" بمعنى وزعه على القبائل وقسمه بأن يقول يخرج من بني فلان كذا، ومن بني فلان كذا، وفي النهاية: أي لو أراد أن يفرد قوماً من غيرهم يبعثهم إلى الغزو لأفردهم وبعثهم (أو يأمر) بالنصب (بشيء) أي وإن كان يريد أن يأمر بشيء مما يتعلق بالبعث وقطعه من الحرب والاستعداد لها، وليس هذا بتكرار؛ لأن معناه غير معنى الأول على ما لا يخفى (أمر به) أي لأمر بما أراد به الأمر (ثم ينصرف) أي ثم هو يرجع إلى بيته (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب الخروج إلى المصلى بغير منبر، وفي آخره: فقال أبوسعيد: فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان، وهو أمير المدينة في أضحى أو فطر، فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي فجبذت بثوبه فجبذني، فارتفع فخطب قبل الصلاة، فقلت له: غيرتم والله، فقال: يا أباسعيد! قد ذهب ما تعلم، فقلت: ما أعلم والله خير مما لا أعلم، فقال: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة فجعلتها قبل الصلاة – انتهى. وأصل الحديث أخرجه أحمد والنسائي والبيهقي (ج3 ص280) وغيرهم. 1441- قوله (صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العيدين غير مرة ولا مرتين) قال الطيبي: حال أي كثيراً (بغير أذان ولا إقامة) فيه دليل على عدم شرعية الأذان والإقامة في صلاة العيدين، قال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم أن لا يؤذن لصلاة العيدين ولا لشيء من النوافل، وقال العراقي: وعليه

رواه مسلم. 1442- (3) وعن ابن عمر قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبوبكر وعمر يصلون العيدين قبل الخطبة. ـــــــــــــــــــــــــــــ عمل العلماء كافة، وقال ابن قدامة في المغني (ج2 ص378) : ولا نعلم في هذا خلافاً لمن يعتد بخلافه إلا أنه روي عن ابن الزبير أنه أذن وأقام، وقيل: أول من أذن في العيدين ابن زياد – انتهى. وروى ابن أبي شيبة في المصنف بإسناد صحيح قال: أول من أحدث الأذان في العيد معاوية، وقد زعم ابن العربي أنه رواه عن معاوية من لا يوثق به، قال ابن قدامة: وقال بعض أصحابنا: ينادى لها الصلاة جامعة، وهو قول الشافعي، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق أن يتبع – انتهى. قلت: استدل الشافعي لذلك بما روى عن الثقة عن الزهري أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر المؤذن في العيدين فيقول: الصلاة جامعة، قال الحافظ: وهذا مرسل يعضده القياس على صلاة الكسوف لثبوت ذلك فيها – انتهى. قال الأمير اليماني: وفيه تأمل، قلت: ويخالفه ما روى مسلم عن عطاء عن جابر قال: لا أذان للصلاة يوم العيد ولا إقامة ولا شيء، فإن هذا يدل على أنه لا يقال أمام صلاتها شيء من الكلام، قال الزبيدي: والاعتبار في ذلك أنه لما توفرت الدواعي على الخروج في هذا اليوم إلى المصلى من الصغير والكبير سقط حكم الأذان والإقامة؛ لأنهما للإعلام لتنبيه الغافل، والتهيؤ ههنا حاصل، فحضور القلب مع الله يغني عن إعلام الملك بلمته الذي هو بمنزلة الأذن والإقامة للإسماع، والذي أحدثه معاوية مراعاة للنادر، وهو تنبيه الغافل، فإنه ليس ببعيد أن يغفل عن الصلاة بما يراه من اللعب – انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والترمذي والبيهقي (ج3 ص284) . 1442- قوله (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبوبكر وعمر يصلون العيدين قبل الخطبة) قال التوربشتي: ذكر الشيخين مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يقرره من السنة إنما يكون على وجه البيان لتلك السنة بأنها ثابتة معمول بها قد عمل الشيخان بها بعده، ولم ينكر عليهما ولم يغير، وكان ذلك بمحضر من مشيخة أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس ذكرهما على سبيل الاشتراك في التشريع معاذ الله أن يظن فيه ذلك – انتهى. قلت: روى الجماعة إلا الترمذي عن ابن عباس قال: شهدت العيد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان، فكلهم كانوا يصلون قبل الخطبة، وفي الحديثين دليل على أن تقديم صلاة العيد على الخطبة هو الأمر الذي داوم عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه، واستمروا على ذلك، قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم أن صلاة العيدين قبل الخطبة، وقيل: إن أول من خطب قبل الصلاة مروان بن الحكم، وقال ابن قدامة (ج2 ص384) : لا نعلم فيه خلافاً بين المسلمين إلا عن بني أمية، وروي عن عثمان وابن الزبير أنهما فعلاه، ولم يصح ذلك عنهما.

...................... ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا يعتد بخلاف بني أمية؛ لأنه مسبوق بالإجماع الذي كان قبلهم، ومخالف لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحيحة، وقد أنكر عليهم فعلهم، وعد بدعة ومحالفاً للسنة – انتهى. فلو خطب قبل الصلاة فهو كمن لم يخطب؛ لأنه خطب في غير محل الخطبة فيعيد الخطبة بعد الصلاة فإن لم يفعل صحت الصلاة، وقد أساء لترك السنة، وإليه ذهب المالكية والحنابلة، قال الباجي: وما روي عن أبي سعيد من إنكاره على مروان تقديم الخطبة إنما كان على وجه الكراهة، ولذلك شهد مع مروان العيد، ولو كان أمراً محرماً أو شرطاً في صحة الصلاة لما شهده، وحكى القاري عن ابن الهمام لو خطب قبل الصلاة خالف السنة، ولا يعيد الخطبة، وقال ابن المنذر: أجمع العلماء على أنها بعد الصلاة، ولا يجزئ التقديم، وأما الصلاة فصحيحة اتفاقاً – انتهى. وفي مختصر المزني عن الشافعي ما يدل على عدم الاعتداد بالصلاة مع تقديم الخطبة، وكذا قال النووي في شرح المهذب: إن ظاهر نص الشافعي أنه لا يعتد بها، وقال: وهو الصواب، وهذا يدل على أن تقديم الخطبة على صلاة العيد حرام عند الشافعي، وهو مذهب الشافعية، كما هو مصرح في كتب فروعهم، قيل: وجه الفرق بين الجمعة وغيرها في تقديم الخطبة وتأخيرها أن خطبة الجمعة فريضة، فلو قدمت الصلاة على الخطبة ربما يتفرق جماعة من الناس إذا صلوا الصلاة، ولا ينتظرون الخطبة فيأثمون، وأما خطبة العيد فسنة، فلو صلى بعض القوم فلم ينتظروا استماع الخطبة لا إثم عليهم، واختلف في أول من خطب قبل الصلاة، فروي عن عمر أنه فعل ذلك، قال عياض ومن تبعه كابن العربي والعراقي: لا يصح عنه، قال الحافظ: وفيما قالوه نظر؛ لأن عبد الرزاق وابن أبي شيبة روياه جميعاً بإسناد صحيح، لكن يعارضه حديث ابن عباس وحديث ابن عمر المذكوران، فإن جمع بوقوع ذلك منه نادراً، وإلا فما في الصحيحين أصح، وروى ابن المنذر بإسناد صحيح إلى الحسن البصري قال: أول من خطب قبل الصلاة عثمان، صلى بالناس ثم خطبهم يعني على العادة، فرأى ناساً لم يدركوا الصلاة، ففعل ذلك أي صار يخطب قبل الصلاة، قال الحافظ: يحتمل أن يكون عثمان فعل ذلك أحياناً، وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن الزهري قال: أول من أحدث الخطبة قبل الصلاة في العيد معاوية، وروى مسلم عن طارق بن شهاب قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان، وقد أخرج الشافعي عن عبد الله بن يزيد نحو حديث ابن عباس المذكور، وزاد: حتى قدم معاوية فقدم الخطبة، فهذا يشير إلى أن مروان إنما فعل ذلك تبعاً لمعاوية؛ لأنه كان أمير المدينة من جهته، وروى ابن المنذر عن ابن سيرين أن أول من فعل ذلك زياد بالبصرة، قال عياض: ولا مخالفة بين هذين الأثرين وأثر مروان؛ لأن كلاً من مروان وزياد كان عاملاً لمعاوية، فيحمل على أنه ابتدأ ذلك وتبعه عماله، والله أعلم. وقد ظهر بما قدمنا أن العلة التي ذكرت لتقديم عثمان الخطبة على الصلاة غير التي اعتل بها مروان؛ لأن عثمان راعى مصلحة الجماعة في إدراكهم الصلاة، وأما مروان فراعى مصلحتهم في إسماعهم الخطبة، لكن قيل: إنهم كانوا في زمن مروان يتعمدون

متفق عليه. 1443- (4) وسئل ابن عباس: أشهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العيد؟ قال: نعم، خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى، ثم خطب، ـــــــــــــــــــــــــــــ ترك سماع خطبته لما فيها من سب من لا يستحق السب والإفراط في مدح بعض الناس، فعلى هذا إنما راعى مصلحة نفسه، قال الحافظ: يحتمل أن يكون عثمان فعل ذلك أحياناً بخلاف مروان، فواظب عليه، فلذلك نسب إليه – انتهى. وقال العراقي: الصواب أن أول فعله مروان بالمدينة في خلافة معاوية، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري، قال: ولم يصح فعله عن أحد من الصحابة لا عن عمر ولا عثمان ولا معاوية ولا ابن الزبير – انتهى. وقد عرفت صحة بعض ذلك، فالمصير إلى الجمع أولى. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص (296) . 1443- قوله (وسئل) بصيغة المجهول (ابن عباس) وعند البخاري في آخر كتاب النكاح، عن عبد الرحمن بن عابس: سمعت ابن عباس سأله رجل (أشهدت) أي أحضرت؟ وفي المصابيح: بحذف حرف الاستفهام موافقاً لما في رواية البخاري المذكورة، ووقع في بعض نسخ البخاري: هل شهدت، وفي بعض الروايات: أشهدت، بذكر همزة الاستفهام، وهكذا ذكر الجزري رواية عبد الرحمن بن عابس (ج7 ص91) ، (العيد) أي صلاته (قال) أي ابن عباس (نعم) أي شهدته، وفي البخاري بعده: ولولا مكاني منه ما شهدته يعني من صغره، قال: خرج ... الخ (خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي إلى المصلى (فصلى) بالناس العيد (ثم خطب) فيه دليل على مشروعية خطبة العيد، وليس فيه أنها خطبتان كالجمعة، وأنه يقعد بينهما، ولم يثبت ذلك من فعله - صلى الله عليه وسلم - بسند معتبر، وإنما صنعه الناس قياساً على الجمعة واستدلالاً بما روى ابن ماجه عن يحيى بن حكيم عن أبي بحر عن عبيد الله بن عمرو الرقي عن إسماعيل بن مسلم عن أبي الزبير عن جابر قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فطر أو أضحى فخطب قائماً، ثم قعد قعدة ثم قام، قال البوصيري: رواه النسائي في الصغرى من حديث جابر إلا قوله: ((يوم فطر أو أضحى)) ، وإسناد ابن ماجه فيه إسماعيل بن مسلم، وقد أجمعوا على ضعفه، وأبوبحر ضعيف – انتهى. وبما روى البزار في مسنده عن سعد بن أبي وقاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى العيد بغير أذان ولا إقامة، وكان يخطب خطبتين يفصل بينهما بجلسة، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص203) : رواه البزار وجادة، وفي إسناده من لم أعرفه – انتهى. وقال النووي في الخلاصة: وروي عن ابن مسعود أنه قال: من السنة أن يخطب في العيدين خطبتين، فيفصل بينهما بجلوس، ضعيف غير متصل، ولم يثبت في تكرير الخطبة شيء، ولكن المعتمد فيه القياس على الجمعة – انتهى.

ولم يذكر أذاناً ولا إقامة، ثم أتى النساء فوعظهن، وذكرهن، وأمرهن بالصدقة، فرأيتهن يهوين إلى آذانهن وحلوقهن يدفعن إلى بلال، ثم ارتفع ـــــــــــــــــــــــــــــ (ولم يذكر) أي ابن عباس في بيان كيفية صلاته - صلى الله عليه وسلم - (أذاناً ولا إقامة) وهذه الجملة معترضة (ثم أتى النساء) أي بعد الخطبة، ومعه بلال، وهذا يشعر بأن النساء كن على حدة من الرجال غير مختلطات بهم (فوعظهن) أي أنذرهن العقاب أو نصحهن بالخصوص لبعدهن وعدم سماعهن الخطبة (وذكرهن) بتشديد الكاف من التذكير، تفسير لسابقه أو تأكيد له، وقيل: تأسيس والمعنى ذكرهن بالأوامر والنواهي المختصة بهن (وأمرهن بالصدقة) الظاهر أن المراد بها مطلق الصدقة، وقيل: المراد الزكاة خاصة وفيه استحباب وعظ النساء وتعليمهن أحكام الإسلام وتذكيرهن بما يجب عليهن ويستحب حثهن إلى الصدقة، وتخصيص بذلك في مجلس منفرد. ومحل ذلك كله إذا أمن الفتنة والمفسدة (يهوين) بفتح أوله وكسر الواو من الهُوِيّ وبضم أوله من الأهواء أي يقصدن (إلى آذانهن) بالمد جمع أذن، وقيل: المراد يهوين بأيديهن إلى آذانهن أي يمددن أيديهن إليها (وحلوقهن) جمع حلق بفتح الحاء وسكون اللام، وهو الحلقوم أي إلى ما فيها من القرط والقلادة (يدفعن) أي حال كونهن يدفعن ما أخذن من آذانهن وحلوقهن (إلى بلال) أي بإلقائه في ثوبه، وفي رواية: يهوين بأيديهن يقذفنه في ثوب بلال، أي يمددن أيديهن بالصدقة حال كونهن يرمين المتصدق به في ثوب بلال، يقال: أهوى بيده إليه أي مدها نحوه وأمالها إليه، ويقال: أهوى بيده إلى الشيء ليأخذه، أي مدّ يده إليه، وقيل: الباء زائدة. وحقيقته أهوى يده إليه أي جعلها هاوية بمعنى ذاهبة قاصدة، ثم الأقرب أن الحلي كانت ملكاً لهن، واستدل به على جواز صدقة المرأة من مالها من غير توقف على إذن زوجها، وعلى مقدار معين من مالها كالثلث خلافاً لبعض المالكية، ووجه الدلالة من القصة ترك الاستفصال عن ذلك كله، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يسألهن هل استأذن أزواجهن في ذلك أم لا، وهل هو خارج من الثلث أم لا؟ ولو اختلف الحكم بذلك لسأل، لا يقال: إن الغالب حضور أزواجهن فتركهم الإنكار يكون رضاً بفعلهن؛ لأنا نقول: إن النساء كن معتزلات لا يعلم الرجال من المتصدقة منهن من غيرها، ولا قدر ما يتصدق به، ولو علموا فسكوتهم ليس إذناً، وقال القرطبي: ليس فيه تسليم أزواجهن لهن ذلك؛ لأن من ثبت له الحق فالأصل بقاءه حتى يصرح بإسقاطه، ولم ينقل أن القوم صرحوا بذلك – انتهى. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها، فهو محمول على الأولى، وخص منه أمر المولى، أو محمول على العطية العرفية من الهبة للأجنبية بناءً على المعاشرة الزوجية، أو على الصدقات التطوعية دون الواجبات والفرضية، وقيل: لا يقاوم هذا أحاديث الجواز فلا حاجة إلى الجمع والتوفيق (ثم ارتفع) أي ذهب وأسرع من ارتفع البعير في سيره أي أسرع

هو وبلال إليه بيته)) . متفق عليه. 1444- (5) وعن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى يوم الفطر ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال القسطلاني: أي رجع (هو) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (وبلال إلى بيته) أي إلى بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي الحديث خروج النساء والصبيان إلى المصلى في الأعياد وإن لم يصلوا. (متفق عليه) أخرجه البخاري في مواضع بألفاظ متقاربة، واللفظ المذكور له في باب "والذين لم يبلغوا الحلم منكم" من كتاب النكاح، وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص307) . 1444- قوله (صلى يوم الفطر) صلاة العيد (ركعتين) هو دليل على أن صلاة العيد ركعتان وهو إجماع فيمن صلى مع الإمام في الجبانة، وأما إذا فاتته صلاة الإمام فصلى وحده، فكذلك عند الأكثر، وذهب أحمد والثوري إلى أنه يصلي أربعاً، وأخرج سعيد بن منصور عن ابن مسعود من فاتته صلاة العيد مع الإمام فليصل أربعاً، وهو إسناد صحيح، وقال إسحاق: إن صلاها في الجبانة فركعتين، وإلا فأربعاً، وقال أبوحنيفة: إذا قضى صلاة العيد فهو مخير بين اثنين وأربع (لم يصل قبلهما) أي قبل الركعتين، وروي "قبلها وبعدها" بإفراد الضمير نظراً إلى الصلاة (ولا بعدهما) أي في المصلى؛ لحديث أبي سعيد الخدري أنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يصلي قبل العيد شيئاً، فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين، أخرجه أحمد وابن ماجه والحاكم وصححه، وحسنه الحافظ في الفتح، وفي بلوغ المرام. وأما "قبل الركعتين" فيحتمل الإطلاق والتقييد. قال السندي: لم يصل قبلها أن مطلقاً أو في المصلى. وأما قوله: "ولا بعدها" فلابد من تقييده بالمصلى – انتهى. قلت: حديث أبي سعيد الخدري يشهد لكراهة الصلاة قبل الركعتين مطلقاً أي في المصلى وفي غيره؛ لأنه نفي مطلق بخلاف حديث ابن عباس فإنه أخبر أنه شاهده في المصلى لم يصل شيئاً، وقد يكون صلى في منزله، ففيه احتمال أن يكون مختصاً بالمصلى دون البيت، ولذلك قلنا: إن قوله "لم يصل قبلهما" يحتمل الإطلاق والتقييد، واختلف العلماء في التطوع قبل صلاة العيد وبعدها، فذهب أحمد إلى أنه يكره التنفل قبلها وبعدها للإمام والمأموم في موضع الصلاة سواء كان في المصلى أو المسجد، وهو مذهب ابن عباس وابن عمر، وروي ذلك عن غير واحد من الصحابة، وقال مالك: إن كانت الصلاة في المصلى فإنه لا يتنفل قبلها ولا بعدها، سواء كان إماماً أو مأموماً، وإن كانت في المسجد ففيه روايتان: إحداهما المنع كالمصلى، والأخرى يتنفل قبل الجلوس وبعد الصلاة، وقال الشافعي: يكره للإمام بعد الحضور التنفل قبلها وبعدها لاشتغاله بغير الأهم، ولمخالفة فعله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه صلى عقب حضوره، وخطب عقب صلاته، وأما المأموم فلا يكره له ذلك قبلها مطلقاً

متفق عليه. 1445- (6) وعن أم عطية قالت: ((أمرنا أن نخرج الحيض يوم العيدين، ـــــــــــــــــــــــــــــ في غير الوقت المنهي عنه ولا بعدها إن لم يسمع الخطبة؛ لأنه لم يشتغل بغير الأهم بخلاف من يسمعها، فإنه معرض عن الخطيب بالكلية، وقال الحنفية: لا يتنفل قبلها مطلقاً وكذا بعدها في مصلاها، فإن تنفل بعدها في البيت جاز، قال ابن العربي: التنفل في المصلى لو فعل لنقل، ومن أجازه رأى أنه وقت مطلق للصلاة، ومن تركه رأى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعله، ومن اقتدى فقد اهتدى – انتهى. قال الحافظ: والحاصل أن صلاة العيد لم يثبت لها سنة قبلها ولا بعدها خلافاً لمن قاسها على الجمعة، وأما مطلق النفل فلم يثبت فيه منع بدليل خاص إلا إن كان ذلك في وقت الكراهة الذي في جميع الأيام – انتهى. وكذا قال العراقي في شرح الترمذي , قال الشوكاني: وهو كلام صحيح جارٍ على مقتضى الأدلة، فليس في الباب ما يدل على منع مطلق النفل ولا على منع ما ورد فيه دليل يخصه كتحية المسجد إذا أقيمت صلاة العيد في المسجد – انتهى. قلت: القول الراجح عندي هو ما ذهب إليه أحمد من كراهة التنفل للإمام والمأموم في موضع الصلاة قبلها وبعدها؛ لحديث ابن عباس، ولما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكبر في صلاة العيد سبعاً وخمساً، ويقول لا صلاة قبلها ولا بعدها، حكى ابن عقيل أن الإمام ابن بطة رواه بإسناده، ذكره ابن قدامة في المغني، وقال الحافظ في التلخيص: روى أحمد من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً: لا صلاة يوم العيد لا قبلها ولا بعدها، فإن صح هذا كان دليلاً على المنع مطلقاً؛ لأنه نفي في قوة النهي، وقد سكت عليه الحافظ فينظر فيه. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص295، 302) وغيرهم. 1445- قوله (وعن أم عطية) بفتح العين وكسر الطاء اسمها نسيبة – بضم النون وفتح السين المهملة وسكون الياء وفتح الباء الموحدة، وقيل: بفتح أولها مكبراً – بنت الحارث، وقيل: بنت كعب الأنصارية، بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكانت من كبار الصحابيات، وكانت تغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيراً، تداوي الجرحى، وتمرض المرضى، تعد في أهل البصرة، وكانت جماعة من الصحابة وعلماء التابعين بالبصرة يأخذون عنها غسل الميت؛ لأنها شهدت غسل بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فحكت ذلك وأتقنت، فحديثها أصل في غسل الميت، ويأتي حديثها هذا في كتاب الجنائز (أمرنا) مبني للمجهول للعلم بالآمر، وإنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي رواية للبخاري: أمرنا نبينا (أن نخرج) بضم النون وكسر الراء من الإخراج أي إلى المصلى (الحيض) بالنصب على المفعولية، وهو بضم الحاء وتشديد الياء المفتوحة – جمع حائض أي المباشرات بالحيض (يوم العيدين) قال المالكي: فيه إفراد اليوم، وهو المضاف إلى العيدين، وهو في المعنى مثنى، ونحو قوله: "ومسح أذنيه

وذوات الخدور، فيشهدن جماعة المسلمين ودعوتهم، وتعتزل الحيض عن مصلاهن، قالت امرأة: يا رسول الله! إحدانا ليس لها جلباب؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ ظاهرهما وباطنهما، يعني حيث أفرد الظاهر والباطن، قال ابن حجر: فلو روى الحديث بلفظ التثنية على الأصل لجاز أي جاز أن يقول يومي العيدين أو يومي العيد (وذوات الخدور) منصوب بالكسر كمسلمات عطفاً على الحيض والخدور – بضم الخاء المعجمة والدال المهملة – جمع خدر بكسرها وسكون الدال، وهو ستر يكون في ناحية البيت تقعد البكر وراءه. وقال الجزري: الخدر ناحية في البيت، يكون عليها ستر، فتكون فيها الجارية البكر، وهي المخدرة أي خدرت في الخدر، وفي رواية: نخرج العواتق وذوات الخدور والحيض، والعواتق جمع عاتق، وهي الشابة أول ما تدرك، وقيل: هي التي قاربت البلوغ، وقيل: هي الجارية التي قد أدركت وبلغت، فخدرت في بيت أهلها ولم تتزوج، سميت بذلك لأنها عتقت عن خدمة أبويها، ولم يملكها زوج بعد (فيشهدن) أي يحضرن (جماعة المسلمين ودعوتهم) أي دعائهم وفي رواية: يشهدن الخير ودعوة المسلمين، قيل: المراد بشهود الخير هو الدخول في فضيلة الصلاة لغير الحيض، وقوله: "دعوة المسلمين" يعم الجميع، واستدل بقوله: "دعوة المسلمين" على مشروعية الدعاء بعد صلاة العيد، كما يدعى دبر الصلوات الخمس، وفيه نظر؛ لأنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعاء صلاة العيدين، ولم ينقل أحد الدعاء بعدها بل الثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يخطب بعد الصلاة من غير فصل بشيء آخر، فلا يصح التمسك بإطلاق قوله "دعوة المسلمين" والظاهر أن المراد بها الأذكار التي في الخطبة وكلمات الوعظ والنصح، فإن لفظ الدعوة عام والله تعالى أعلم. (وتعتزل الحيض عن مصلاهن) أي عن مكان صلاة النساء اللاتي لسن بحيض يعني تنفصل وتقف في موضع منفردات غير مختلطات بالمصليات خوف التنجيس والإخلال بتسوية الصفوف، وهو خبر بمعنى الأمر، قال في الفتح: حمله الجمهور على الندب؛ لأن المصلى ليس بمسجد فيمتنع الحيض من دخوله، وقال ابن المنير: الحكمة في اعتزالهن أي في وقوفهن وهن لا يصلين مع المصليات إظهار استهانة بالحال، فاستحب لهن اجتناب ذلك – انتهى. وفي رواية: كنا نؤمر أن نخرج يوم العيد حتى نخرج البكر من خدرها حتى نخرج الحيض، فيكن خلف الناس، فيكبرن بتكبيرهم، ويدعون بدعائهم يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته، وفي رواية: فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهد الخير ودعوة المسلمين، وفيه أن الحائض لا تهجر ذكر الله ولا مواطن الخير كمجالس العلم والذكر سوى المساجد، قال الخطابي: أمر جميع النساء بحضور المصلى يوم العيد لتصلي من ليس لها عذر وتصل بركة الدعاء إلى من لها عذر، وفيه ترغيب الناس في حضور الصلوات ومجالس الذكر ومقاربة الصلحاء لينالهم بركتهم. (قالت امرأة) هي أم عطية نفسها، كما تدل عليه رواية الشيخين (إحدانا) أي ما حكم واحدة منا (ليس لها جلباب) وقال القسطلاني: قوله: "إحدانا" أي بعضنا مبتدأ

قال: لتلبسها صاحبتها من جلبابها ـــــــــــــــــــــــــــــ خبره "ليس لها جلباب" أي كيف تشهد ولا جلباب لها وذلك بعد نزول الحجاب، وفي رواية: أعلى إحدانا بأس إذا لم يكن لها جلباب أن لا تخرج؟ والجلباب بكسر الجيم وسكون اللام وبموحدتين بينهما ألف، كساء تستتر النساء به إذا خرجن من بيتهن، وقال في القاموس: الجلباب كسِرْداب وسنَمار: القميص وثوب واسع للمرأة دون الملحفة، أو ما يغطى به ثيابها من فوق كالملحفة، أو هو الخمار – انتهى. (لتلبسها) بضم التاء وسكون اللام وكسر الموحدة وجزم المهملة، أمر من الإلباس على سبيل الندب (صاحبتها) بالرفع على الفاعلية (من جلبابها) قال الحافظ: يحتمل أن يكون للجنس، أي تعيرها من جنس ثيابها يعني تعيرها من ثيابها ما لا تحتاج إليه، ويؤيده رواية ابن خزيمة من جلابيبها، وللترمذي: فلتعرها أختها من جلابيبها، والمراد بالأخت الصاحبة، ويحتمل أن يكون المراد تشركها معها في ثوبها الذي عليها، ويؤيده رواية أبي داود: تلبسها صاحبتها طائفة من ثوبها، يعني إذا كان واسعاً، ويحتمل أن يكون المراد بقوله "ثوبها" جنس الثياب، فيرجع للأول، ويؤخذ منه جواز اشتمال المرأتين في ثوب واحد عند التستر، وقيل: إنه ذكر على سبيل المبالغة أي يخرجن على كل حال ولو اثنتين في جلباب – انتهى. وفي الحديث من الفوائد أن من شأن العواتق المخدرات عدم البروز إلا فيما أذن لهن فيه، وفيه استحباب إعداد الجلباب للمرأة، ومشروعية عارية الثياب، وفيه امتناع خروج المرأة بغير جلباب، وفيه استحباب خروج النساء إلى شهود العيدين، سواء كن شواب أم لا، وذوات هيئات أم لا، قال الشوكاني: حديث أم عطية وما في معناه من الأحاديث قاضية بمشروعية خروج النساء في العيدين إلى المصلى من غير فرق بين البكر والثيب والشابة والعجوز والحائض وغيرها ما لم تكن معتدة أو كان في خروجها فتنة، أو كان لها عذر، وقد اختلف العلماء في ذلك على أقوال: أحدها أن ذلك مستحب، وحملوا الأمر فيه على الندب، ولم يفرقوا بين الشابة والعجوز، وهذا قول أبي حامد من الحنابلة والجرجاني من الشافعية، وهو ظاهر إطلاق الشافعي. القول الثاني: التفرقة بين الشابة والعجوز، قال العراقي: وهو الذي عليه جمهور الشافعية تبعاً لنص الشافعي في المختصر. والقول الثالث: أنه جائز غير مستحب لهن مطلقاً، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد فيما نقله عنه ابن قدامة في المغني (ج2 ص375-376) . والرابع: أنه مكروه، وقد حكاه الترمذي عن الثوري وابن المبارك، وهو قول مالك وأبي يوسف، وحكاه ابن قدامة عن النخعي ويحيى بن سعيد الأنصاري، وروى ابن أبي شيبة عن النخعي أنه كره للشابة أن تخرج إلى العيدين، والقول الخامس: أنه حق على النساء الخروج إلى العيد، حكاه القاضي عياض عن أبي بكر وعلي وابن عمر، وقد روى ابن أبي شيبة عن أبي بكر وعلي أنهما قالا: حق على كل ذات نطاق الخروج إلى العيدين. قال الحافظ: وقد ورد هذا مرفوعاً بإسناد لا بأس به، أخرجه أحمد وأبويعلى وابن المنذر من طريق امرأة من عبد القيس عن أخت عبد الله بن

متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ رواحة والمرأة لم تسم، والأخت اسمها عمرة صحابية، وقوله "حق" يحتمل الوجوب، ويحتمل تأكد الاستحباب – انتهى. قال الشوكاني: والقول بكراهة الخروج على الإطلاق رد للأحاديث الصحيحة بالآراء الفاسدة، وتخصيص الشواب يأباه صريح الحديث المتفق عليه وغيره – انتهى. قلت: ذهب الحنفية إلى كراهة الخروج للعيدين للشواب دون العجائز، قال ابن الهمام: وتخرج العجائز للعيد لا الشواب – انتهى. قال القاري بعد نقل كلام ابن الهمام ما لفظه: وهو قول عدل، لكن لابد أن يقيد بأن تكون غير مشتهاة ي ثياب بذلة بإذن حليلها مع الأمن من المفسدة، بأن لا يختلطن مع الرجال، ويكن خاليات من الحلي والحلل البخور والشموم والتبختر والتكشف ونحوهما مما أحدثن في هذا الزمان من المفاسد، وقد قال أبوحنيفة: ملازمات البيوت لا يخرجن – انتهى. قلت: لا دليل على منع الخروج للعيد للشواب وذوات الهيئات مع الأمن من المفاسد مما أحدثن في هذا الزمان، بل هو مستحب لهن، وهو القول الراجح، وأما الاستدلال على كراهة خروج النساء إلى العيدين مطلقاً بقول عائشة: لو أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أحدث النساء لمنعهن من الخروج كما منعت نساء بني إسرائيل، فمردود لوجوه ثمانية سردها ابن حزم في المحلى (ج4 ص200) ، وقد أوردنا بعضها في باب فضل الجماعة نقلاً عن الفتح، قال الحافظ: وقد ادعى بعضهم النسخ فيه، قال الطحاوي: وأمره – عليه السلام – بخروج الحيض وذوات الخدور إلى العيد يحتمل أن يكون في أول الإسلام، والمسلمون قليل، فاريد التكثير بحضورهن إرهاباً للعدو، وأما اليوم فلا يحتاج إلى ذلك، وتعقب بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، قال الكرماني: تاريخ الوقت لا يعرف، قال الحافظ: بل هو معروف بدلالة حديث ابن عباس أنه شهد خروجهن، وهو صغير، وكان ذلك بعد فتح مكة، ولا حاجة إليهن لقوة الإسلام حينئذٍ، فلم يتم مراد الطحاوي، وقد صرح في حديث أم عطية بعلة الحكم، وهو شهودهن الخير ودعوة المسلمين ورجاء بركة ذلك اليوم وطهرته، وقد أفتت به أم عطية بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بمدة، ولم يثبت عن أحد من الصحابة مخالفتها في ذلك، وأما قول عائشة: لو رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أحدث النساء ... الخ فلا يعارض ذلك لندوره إن سلمنا أن فيه دلالة على أنها أفتت بخلافه مع أن الدلالة منه بأن عائشة أفتت بالمنع ليست صريحة، وفي قوله: "إرهاباً للعدو" نظر؛ لأن الاستنصار بالنساء والتكثر بهن في الحرب دال على الضعف، والأولى أن يخص ذلك بمن يؤمن عليها وبها الفتنة ولا يترتب على حضورها محذور ولا تزاحم الرجال في الطريق ولا في المجامع – انتهى. وقال ابن قدامة بعد ذكر قول عائشة المذكور: وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق أن تتبع، وقول عائشة مختص بمن أحدثت دون غيرها، ولا شك بأن ذلك يكره لها الخروج، وإنما يستحب لهن الخروج غير متطيبات ولا يلبسن ثوب شهرة ولا زينة ويخرجن في ثياب البذلة؛ لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((وليخرجن تفلات)) ، ولا يخالطن الرجال، بل يكن ناحية منهن – انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في مواضع ومسلم في العيدين بألفاظ مختلفة، واللفظ الذي أتى به

1446- (7) وعن عائشة قالت: إن أبابكر دخل عليها وعند جاريتان في أيام منى تدففان وتضربان، وفي رواية: تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث، ـــــــــــــــــــــــــــــ المصنف للبخاري في باب "وجوب الصلاة في الثياب" من أوائل الصلاة، وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص305-306) وغيرهم. 1446- قوله (جاريتان) دون البلوغ من جوار الأنصار، إحداهما لحسان بن ثابت، كما في حديث أم سلمة عند الطبراني، أو كلاهما لعبد الله بن سلام، كما في الأربعين للسلمي، وفي العيدين لابن أبي الدنيا من طريق فليح عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: دخل علي أبوبكر، والنبي - صلى الله عليه وسلم - متقنع، وحمامة وصاحبتها تغنيان عندي، قال الحافظ: إسناده صحيح، ولم أقف على تسمية الأخرى، ولم يذكر أحد من مصنفي أسماء الصحابة حمامة هذه، نعم ذكر الذهبي في التجريد حمامة أم بلال اشتراها أبوبكر وأعتقها (في أيام منى) بعدم الانصراف، وقيل: ينصرف يعني الثلاثة بعد يوم النحر، وهي أيام التشريق، والمراد أيام عيد الأضحى بالمدينة لا بمنى (تدففان) بفائين من التدفيف أي تضربان بالدف يعني مع الغناء، وفي رواية لمسلم: تلعبان بدف، وللنسائي: تصربان بدفين، والدف: بضم الدال وفتحها، والضم أفصح وأشهر، ويقال له أيضاً: الكربال – بكسر الكاف -، وهو الذي لا جلاجل فيه، فإن كانت فيه فهو المزهر. (وتضربان) أي بالدف، فيكون عطفاً تفسيرياً، قال الطيبي: هذا تكرار لزيادة الشرح (وفي رواية) أي للشيخين (تغنيان) أي ترفعان أصواتهما بإنشاد الشعر، وهو قريب من الحداء (بما تقاولت الأنصار) أي قال بعضهم لبعض من فخر أو هجاء، وفي رواية: بما تعازفت – بعين مهملة وزاي وفاء – من العزف، وهو الصوت الذي له دويّ، وفي رواية: بما تقاذفت بقاف بدل الغين وذال معجمة بدل الزاي من القذف، وهو هجاء بعضهم لبعض (يوم بعاث) بضم الباء الموحدة وتخفيف العين المهملة، وفي آخره ثاء مثلثة بالصرف وعدمه، وقال صاحب المطالع: الأشهر فيه ترك الصرف، قال البكري: هو موضع من المدينة على ليلتين، وقال صاحب النهاية: هو اسم حصن للأوس، وقيل: هو موضع في ديار بني قريظة فيه أموالهم، وكان موضع الوقعة في مزرعة لهم هناك، ولا منافة بين القولين، قال الخطابي: يوم بعاث يوم مشهور من أيام العرب، وكانت فيه مقتلة عظيمة بين الأوس والخزرج، وكانت النصرة للأوس، واستمرت المقتلة مائة وعشرين سنة حتى جاء الإسلام فألف الله بينهم ببركة النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما ذكره ابن إسحاق وغيره، وتبعه على هذا جماعة من شراح الصحيحين، قال الحافظ: وفيه نظر؛ لأنه يوهم أن الحرب التي وقعت يوم بعاث دامت هذه المدة، وليس كذلك، فسيأتي في أوائل الهجرة قول عائشة: كان يوم بعاث يوماً قدمه الله لرسوله، فقدم المدينة، وقد افترق ملؤهم وقتلت سراتهم، وقد روى ابن سعد بأسانيده أن النفر الستة أو الثمانية الذين لقوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى أول من

والنبي - صلى الله عليه وسلم - متغشّ بثوبه، فانتهرهما أبوبكر، فكشف النبي - صلى الله عليه وسلم - عن وجهه فقال: ((دعهما يا أبابكر، فإنها أيام عيد – وفي رواية -: يا أبابكر، إن لكل قوم عيداً، وهذا عيدنا)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ لقيه من الأنصار وكانوا قد قدموا مكة ليحالفوا قريشاً كان في جملة ما قالوا له لما دعاهم إلى الإسلام والنصر له وأعلم أنما كانت وقعة بعاث عام الأول، فموعدك الموسم القابل، فقدموا في السنة التي تليها، فبايعوه، وهي البيعة الأولى، ثم قدموا الثانية فبايعوه، وهم سبعون نفساً، وهاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - في أوائل التي تليها، فدل ذلك على أن وقعة بعاث كانت قبل الهجرة بثلاث سنين، وهو المعتمد، نعم دامت الحرب بين الحيين الأوس والخزرج المدة التي ذكرها في أيام كثيرة شهيرة – انتهى. وزاد في الرواية المذكورة: وليستا بمغنيتين، أي ليس الغناء عادة لهما، ولا هما معروفتان به، قال في شرح السنة: كان الشعر الذي تغنيان به في وصف الحرب والشجاعة، وفي ذكره معونة لأمر الدين، وأما الغناء بذكر الفواحش والمنكرات من القول فهو المحظور من الغناء، وحاشا أن يجري شيء من ذلك بحضرته – عليه الصلاة والسلام -. (متغشّ بثوبه) أي متغطّ وملتفّ به (فانتهرهما أبوبكر) أي زجر الجاريتين، وفي رواية: فانتهرني، ويجمع بأنه شرك بينهن في الانتهار والزجر، أما عائشة فلتقريرها لهما على الغناء وضرب الدف، وأما الجاريتان فلفعلهما ذلك في بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وزاد في رواية وقال: مزمارة الشيطان عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ بكسر الميم آخره هاء التأنيث، يعني الغناء أو الدف، وهي مشتقة من الزمير، وهو الصوت الذي له صفير، ويطلق على الصوت الحسن والغناء، وسميت به الآلة التي يزمر بها، وإضافتها إلى الشيطان من جهة أنها تلهي، فقد تشغل القلب عن ذكر الله تعالى، وهذا من الشيطان، وهذا من أبي بكر إنكار لما سمع معتمداً على ما تقرر عنده من منع الغناء واللهو مطلقاً، ولم يعلم أنه - صلى الله عليه وسلم - أقرهن على هذا التقرير اليسير لكونه دخل فوجده مضطجعاً، فظنه نائماً فتوجه له الإنكار (فكشف النبي - صلى الله عليه وسلم - عن وجهه) أي الثوب، وفي رواية: فكشف رأسه (دعهما) أي أترك الجاريتين (فإنها) أي هذه الأيام (أيام عيد) أي أيام سرور وفرح شرعي لأهل الإسلام (وفي رواية) أي للشيخين (يا بابكر إن لكل قوم) أي إن لكل طائفة من الأمم المختلفة (عيداً) يسمونه باسم النيروز والمهرجان (وهذا) أي هذا الوقت أو هذا اليوم (عيدنا) أي يوم عيدنا معاشر الإسلام، وهو يوم سرور شرعي، فلا ينكر مثل هذا، قال الحافظ: قوله: ((إن لكل قوم عيداً، وهذا عيدنا)) فيه تعليل الأمر بتركهما وإيضاح خلاف ما ظنه الصديق من أنهما فعلتا ذلك بغير علمه - صلى الله عليه وسلم -؛ لكونه دخل فوجده مغطى بثوبه، فظنه نائماً فتوجه له الإنكار على ابنته من هذه الأوجه مستصحباً لما تقرر عنده من منع الغناء واللهو، فبادر إلى إنكار ذلك قياماً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك مستنداً إلى ما ظهر له، فأوضح له النبي - صلى الله عليه وسلم - الحال،

........................... ـــــــــــــــــــــــــــــ وعرفه الحكم مقروناً ببيان الحكمة بأنه يوم عيد، أي يوم سرور شرعي، فلا ينكر فيه مثل هذا كما لا ينكر في الأعراس، وبهذا يرتفع الإشكال عمن قال: كيف ساغ للصديق إنكار شيء أقره النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتكلف جواباً لا يخفى تعسفه – انتهى. وقال الطيبي: وهذا اعتذار منه – عليه الصلاة والسلام – بأن إظهار السرور في يوم العيدين شعار أهل الدين، وليس كسائر الأيام. قال النووي: اختلف العلماء في الغناء، فأباحه جماعة من أهل الحجاز، وهي رواية عن مالك، وحرمه أبوحنيفة وأهل العراق، ومذهب الشافعي كراهته، وهو المشهور من مذهب مالك، واحتج المجوزون بهذا الحديث، وأجاب الآخرون بأن هذا الغناء إنما كان في الشجاعة والقتل والحذق في القتال ونحو ذلك مما لا مفسدة فيه، بخلاف الغناء المشتمل على ما يهيج النفوس على الشر، ويحملها على البطالة والقبيح، قال القاضي: إنما كان غناهما بما هو من أشعار الحرب والمفاخرة بالشجاعة والظهور والغلبة، وهذا لا يهيج الجواري على شر، ولا إنشادهما كذلك من الغناء المختلف فيه، وإنما هو رفع الصوت بالإنشاد، ولهذا قالت: وليستا بمغنيتين، أي ليستا ممن يغنى بعادة المغنيات من التشويق والهوى، والتعريض بالفواحش، والتشبيب بأهل الجمال وما يحرك النفوس ويبعث الهوى، والغزل كما قيل: "الغناء رقية الزنا"، وليستا أيضاً ممن اشتهر وعرف بإحسان الغناء الذي فيه تمطيط وتكسير، وعمل يحرك الساكن، ويبعث الكامن، ولا ممن اتخذ ذلك صنعة وكسباً، والعرب تسمى الإنشاد غناء، وليس هو من الغناء المختلف فيه، بل هو مباح، وقد استجازت الصحابة غناء العرب الذي هو مجرد الإنشاد والترنم، وأجازوا الحداء وفعلوه بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي كل هذا إباحة مثل هذا وما في معناه، وهذا أو مثله ليس بحرام – انتهى كلام النووي. وقال الحافظ في الفتح: استدل جماعة من الصوفية بحديث الباب على إباحة الغناء وسماعه بآلة وبغير آلة، ويكفي في رد ذلك تصريح عائشة بقولها: "وليستا بمغنيتين" فنفت عنهما من طريق المعنى ما أثبتته لهما باللفظ؛ لأن الغناء يطلق على رفع الصوت وعلى الترنم الذي تسميه العرب النصب – بفتح النون وسكون المهملة – وعلى الحداء، ولا يسمى فاعله مغنياً، وإنما يسمى بذلك من ينشد بتمطيط وتكسير، وتهييج وتشويق بما فيه تعريض بالفواحش أو تصريح. قال القرطبي: قولها "ليستا بمغنيتين" أي ليستا ممن يعرف الغناء كما يعرفه المغنيات المعروفات بذلك، وهذا منها تحرز عن الغناء المعتاد عند المشتهرين به، وهو الذي يحرك الساكن، ويبعث الكامن، وهذا النوع إذا كان في شعر فيه وصف محاسن النساء والخمر وغيرهما من الأمور المحرمة لا يختلف في تحريمه، لكن النفوس الشهوانية غلبت على كثير ممن ينسب إلى الخير، حتى لقد ظهرت من كثير منهم فعلات المجانين والصبيان، حتى رقصوا بحركات متطابقة وتقطيعات متلاحقة، وانتهى التواقح بقوم منهم إلى أن جعلوها من باب القرب وصالح الأعمال، وإن ذلك يثمر سنتي الأحوال، وهذا على التحقيق من آثار الزندقة وقول أهل المخرفة، والله المستعان – انتهى. قال الحافظ: وينبغي أن يعكس مرادهم ويقرأ سيّء عوض النون

متفق عليه. 1447- (8) وعن أنس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات، ـــــــــــــــــــــــــــــ الخفيفة المكسورة بغير همز بمثناة تحتية ثقيلة مهموزاً، وأما الآلات فقد حكى قوم الإجماع على تحريمها، وحكى بعضهم عكسه، وقد بسط الكلام في ذلك الشوكاني في النيل في آخر أبواب السبق، والعلامة البوفالي في دليل الطالب وهداية السائل، وسنذكر تفصيل المسألة في كتاب النكاح، وفي الموضع الذي يليق بذلك إن شاء الله تعالى، ولا يلزم من إباحة الضرب بالدف في العرس ونحوه إباحة غيره من الآلات كالعود ونحوه، كما سنبينه في كتاب النكاح، قال الحافظ: وأم التفافه - صلى الله عليه وسلم - بثوب ففيه إعراض عن ذلك لكون مقامه يقتضي أن يرتفع عن الإصغاء إلى ذلك، لكن عدم إنكاره دال على تسويغ مثل ذلك على الوجه الذي أقره، إذ لا يقرر على باطل، والأصل التنزه عن اللعب واللهو، فيقتصر على ما ورد فيه النص وقتاً وكيفية تقليلاً لمخالفة الأصل. وفي هذا الحديث من الفوائد مشروعية التوسعة على العيال في أيام الأعياد بأنواع ما يحصل لهم به بسط النفس وترويح البدن من كلف العبادة، وأن الإعراض عن ذلك أولى، وفيه أن إظهار السرور في الأعياد من شعار الدين، وفيه جواز دخول الرجل على ابنته وهي عند زوجها إذا كان له بذلك عادة، وتأديب الأب بحضرة الزوج وإن تركه الزوج، إذ التأديب وظيفة الآباء، والعطف مشروع من الأزواج للنساء. وفيه أن مواضع أهل الخير تنزه عن اللهو واللغو، وإن لم يكن فيه إثم إلا بإذنهم. وفيه أن التلميذ إذا رأى عند شيخه ما يستكره مثله بادر إلى إنكاره، ولا يكون في ذلك إفتيات على شيخه، بل هو أدب منه ورعاية لحرمته، وإجلال لمنصبه. وفيه فتوى التلميذ بحضرة شيخه بما يعرف من طريقته، ويحتمل أن يكون أبوبكر ظن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نام فخشي أن يستيقظ، فيغضب على ابنته، فبادر إلى سدر هذه الذريعة، واستدل به على جواز سماع صوت الجارية بالغناء ولو لم تكن مملوكة؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر على أبي بكر سماعه، بل أنكر إنكاره واستمرتا إلى أن أشارت إليهما عائشة بالخروج، ولا يخفى أن محل الجواز ما إذا أمنت الفتنة بذلك، واستنبط من تسمية أيام منى بأنها أيام عيد مشروعية قضاء صلاة العيد فيها لمن فاتته – انتهى كلام الحافظ. (متفق عليه) واللفظ للخاري في باب إذا فاته العيد يصلي ركعتين، والحديث أخرجه أيضاً أحمد والنسائي. 1447- قوله (لا يغدو) أي لا يخرج إلى المصلى لصلاة العيد (يوم الفطر) أي يوم عيد الفطر (حتى يأكل تمرات) ولفظ الإسماعيلي وابن حبان والحاكم: ما خرج يوم فطر حتى يأكل تمرات ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً، أو أقل من ذلك أو أكثر وتراً، وهي أصرح في المداومة على ذلك، قال المهلب: الحكمة في الأكل قبل الصلاة أن

ويأكلهن وتراً)) رواه البخاري. 1448- (9) وعن جابر قال: ((كان - صلى الله عليه وسلم - إذا كان يوم عيد خالف الطريق)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يظن ظان لزوم الصوم حتى يصلى العيد، فكأنه أراد سدّ هذه الذريعة، وقيل: لما وقع وجوب الفطر عقب وجوب الصوم استحب تعجيل الفطر مبادرة إلى امتثال أمر الله تعالى، ويشعر بذلك اقتصاره على القليل من ذلك، ولو كان لغير الامتثال لأكل قدر الشبع، وسيأتي توجيه آخر لابن المنير في شرح حديث بريدة في الفصل الثاني. قال ابن قدامة لا نعلم في استحباب تعجيل الأكل يوم الفطر اختلافاً – انتهى. والحكمة في استحباب التمر لما في الحلو من تقوية البصر الذي يضعفه الصوم، ولأن الحلو مما يوافق الإيمان، ويعبر به المنام، ويرق به القلب، وهو أيسر من غيره، ومن ثم استحب بعض التابعين أنه يفطر على الحلو مطلقاً كالعسل، رواه ابن أبي شيبة عن معاوية بن قرة وابن سيرين وغيرهما، وروى فيه معنى آخر عن ابن عون أنه سئل عن ذلك، فقال: إنه يحبس البول، وهذا كله في حق من يقدر على ذلك، وإلا فينبغي أن يفطر ولو على الماء ليحصل له شبه ما من الاتباع (ويأكلهن) بالرفع (وتراً) ولفظ أحمد "ويأكلهن أفراداً" والحكمة في جعلهن وتراً الإشارة إلى الوحدانية، وكذلك كان يفعل - صلى الله عليه وسلم - في جميع أموره تبركاً بذلك (رواه البخاري) ، وأخرجه أيضاً أحمد والبخاري في تاريخه والترمذي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم (ج1 ص394) ، والبيهقي (ج3 ص282-283) ، وقول المصنف رواه البخاري فيه شيء؛ لأن جملة "ويأكلهن وتراً" أوردها البخاري تعليقاً ووصلها أحمد وغيره، وإيراد المصنف يقتضي أنه يرويها في صحيحه موصولاً، وليس كذلك، فإنه أخرج الحديث موصولاً مسنداً من طريق هشيم عن عبيد الله بن أبي بكر بن أنس عن أنس إلى قوله: "حتى يأكل تمرات" ثم قال: وقال مُرَجَّى بن رجاء: حدثني عبيد الله بن أبي بكر قال: حدثني أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويأكلهن وتراً، ويمكن أن يقال من قبل المصنف أنه لم يلتزم بيان التمييز بين الموصولات والمعلقات في ديباجة الكتاب، لكن مواقع استعمالاته في بيان المخرج يشعر بالالتزام حيث قال في بعض المواضع: رواه البخاري، والأمر فيه هين، قاله ميرك. قلت: قوله رواه البخاري لا يخلو عن نظر، والأمر ليس بهين، كما لا يخفى على المتأمل الخبير، والظاهر أن المصنف قلد في ذلك الجزري حيث قال في جامع الأصول (ج7 ص97) بعد ذكر الحديث إلى قوله: "ويأكلهن وتراً" رواه البخاري. 1448- قوله (إذا كان يوم عيد) بالرفع فاعل "كان" وهي تامة تكتفي بمرفوعها أي إذا وقع يوم عيد، وجواب إذا قوله (خالف الطريق) أي رجع من مصلاه في غير طريق الذهاب إليه يعني يخرج إليه من طريق، ويرجع من أخرى، ففي رواية الإسماعيلي: كان إذا خرج إلى العيد رجع من غير الطريق الذي ذهب فيه،

رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ فيستحب الذهاب إلى صلاة العيد في طريق، والرجوع في طريق أخرى للإمام والمأموم جميعاً تأسياً واقتداء به - صلى الله عليه وسلم -، وبه قال الحنفية والحنابلة وأكثر الشافعية. قال الحافظ في الفتح: وبه قال أكثر أهل العلم، وقد اختلف في الحكمة في مخالفته - صلى الله عليه وسلم - الطريق في الذهاب والرجوع يوم العيد على أقوال كثيرة. قال الحافظ: اجتمع لي منها أكثر من عشرين قولاً، فقيل إنه فعل ذلك ليشهد له الطريقان، وقيل: سكانهما من الجن والإنس، وقيل: ليسوي بينهما في مزية الفضل بمروره أو في التبرك به أو ليشم رائحة المسك من الطريق التي يمر بها؛ لأنه كان معروفاً بذلك، وقيل: ليزور أقاربه الأحياء والأموات، وقيل: ليصل رحمه، وقيل: ليتفاءل بتغير الحال إلى المغفرة والرضاء. وقيل: لاظهار شعار الإسلام فيهما، وقيل: لإظهار ذكر الله، وقيل: ليغيظ المنافقين أو اليهود. وقيل: ليرهبهم بكثرة من معه، وقيل: فعل ذلك ليعمهم في السرور به، أو التبرك بمروره وبرؤيته، والانتفاع به في قضاء حوائجهم في الاستفتاء، أو التعلم والاقتداء والاسترشاد، أو الصدقة، أو السلام عليهم، أو غير ذلك. وقيل: لأن الملائكة تقف في الطرقات، فأراد أن يشهد له فريقان منهم. وقيل: لئلا يكثر الازدحام، وقيل: لأن عدم التكرار أنشط عند طباع الأنام، وقيل: غير ذلك، وأشار ابن القيم إلى أنه فعل ذلك لجميع ما ذكر من الأشياء المحتملة القريبة. قال القسطلاني: ثم من شاركه - صلى الله عليه وسلم - في المعنى ندب له ذلك، وكذا من لم يشاركه في الأظهر تأسياً به – عليه الصلاة والسلام – كالرمل والاضطباع سواء فيه الإمام والمأموم. وقال ابن قدامة: وفي الجملة الاقتداء به سنة لاحتمال بقاء المعنى الذي فعله من أجله، ولأنه قد يفعل الشيء لمعنى، ويبقى في حق غيره سنة مع زوال المعنى كالرمل والاضطباع في طواف القدوم، وفعله هو وأصحابه لإظهار الجلد للكفار، وبقي سنة بعد زوالهم، ولهذا روى عن عمر – رضي الله عنه – أنه قال: يم الرملان الآن ولمن نبدي مناكبنا؟ وقد نفى الله المشركين، ثم قال مع ذلك: لا ندع شيئاً فعلناه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (رواه البخاري) من طريق فليح بن سليمان عن سعيد بن الحارث عن جابر. واختلف الرواة في الرواية عن فليح، فبعضهم جعله عن جابر، كما في البخاري والبيهقي (ج3 ص308) وبعضهم جعله عن أبي هريرة، وهو عند أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم (ج1 ص296) ، والبيهقي (ج3 ص308) أيضاً، وقد رجح البخاري كونه عن جابر حيث قال: حديث جابر أصح، وكذا رجحه الترمذي تبعاً لشيخه البخاري، وخالفه أبومسعود الدمشقي، فرجح أنه عن أبي هريرة. قال الحافظ: ولم يظهر لي في ذلك ترجيح، وقال الشيخ أحمد شاكر: وأنا أرجح صحتهما معاً سمع سعيد بن الحارث الحديثين من جابر وأبي هريرة، فكان يروي مرة حديث هذا ومرة حديث ذاك، قال الحافظ: قد تفرد بهذا الحديث فليح، وهو مضعف عند ابن معين والنسائي وأبي داود، ووثقه آخرون، فحديثه من قبيل الحسن، لكن له شواهد من حديث ابن عمر وسعد

1449- (10) وعن البراء قال: خطبنا النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر فقال: ((إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل أن نصلي فإنما هو شاة لحم ـــــــــــــــــــــــــــــ القرظ وأبي رافع وعثمان بن عبيد الله التيمي وغيرهم يعضد بعضها بعضاً، فعلى هذا فهو من القسم الثاني من قسمي الصحيح – انتهى. 1449- قوله (خطبنا النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي في المدينة (يوم النحر) أي يوم عيد الأضحى بعد أن صلى العيد (فقال) أي في خطبته (إن أول ما نبدأ به) بصيغة المتكلم والجمع بين الأول، و"ما نبدأ به" للتأكيد والمبالغة (في يومنا هذا) أي يوم عيد النحر (أن نصلي) صلاة العيد، قيل: المعنى أول ما يكون به الابتداء في هذا اليوم الصلاة التي بدأنا بها، وقدمنا فعلها، فعبر بالمستقل عن الماضي، وهو مثل قوله تعالى: {وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا} [البروج: 8] أي الإيمان المتقدم منهم، وفي رواية للبخاري: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أضحى إلى البقيع فصلى ركعتين، ثم أقبل علينا بوجهه، فقال: ((إن أول نسكنا في يومنا هذا أن نبدأ بالصلاة، ثم نرجع فننحر ... )) الحديث، وهذا ظاهر في أن ذلك الكلام وقع منه بعد الصلاة للإعلام بأن ما فعله من تقديم الصلاة ثم الخطبة، وأن تقديم كل من هذين على الذبح هو المشروع الذي لا ينبغي مخالفته (ثم نرجع) من المصلى إلى المنزل (فننحر) بالنصب فيهما عطفاً على نصلى، ويرفعان أي نحن نرجع فننحر أي ما من شأنه، أي ينحر، ونذبح ما من شأنه أن يذبح من الأضحية، وقيل: المراد بالنحر هنا الذي هو في لبة الإبل ما يشمل الذبح، وهو ما في الحلق مطلقاً، وقد يطلق النحر على الذبح بجامع إنهار الدم، ثم التعقيب بـ"ثم" لا يستلزم عدم تخلل أمر آخر بين الأمرين، فلا يدل ذلك على تقديم الخطبة على الصلاة (فمن فعل ذلك) أي ما ذكر من تقديم الصلاة على الذبح يعني أخر النحر عن الصلاة (فقد أصاب سنتنا) أي طريقتنا وصادف شريعتنا (ومن ذبح) أي أضحيته (قبل أن نصلي) العيد (فإنما هو) أي المذبوح المفهوم من ذبح (شاة لحم) أي ليست أضحية ولا ثواب فيها، بل هو مجرد لحم يؤكل ليس فيه معنى العبادة، قال الطيبي: هذه الإضافة بيانية كخاتم فضة أي شاة هي لحم؛ لأن الشاة شاتان: شاة يأكل لحمها الأهل، وشاة نسك، يتصدق بها لله تعالى، وقال القسطلاني: استشكلت هذه الإضافة بأن الإضافة إما معنوية مقدرة بمن كخاتم حديد أو باللام كغلام زيد أو بفي كضرب اليوم أي ضرب في اليوم، وأما لفظية صفة مضافة إلى معمولها، كضارب زيد وحسن الوجه، ولا يصح شيء منها في شاة لحم. وأجيب بأن الإضافة بتقدير محذوف أي شاة طعام لحم، أي لإطعام نسك أو ما أشبه ذلك يعني شاة لحم غير

عجله لأهله، ليس من النسك في شيء)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ نسك، فهي مضافة إلى محذوف أقيم المضاف إليه مقامه – انتهى. والتعبير بالشاة للغالب، إذ البقر والإبل كذلك (عجله لأهله) أي قدمه لهم ينتفعون به (ليس من النسك) بضمتين (في شيء) أي ليس من العبادة فلا ثواب فيها بل هي لحم ينتفع به أهله، قال الحافظ: النسك يطلق ويراد به الذبيحة، ويستعمل في نوع خاص من الدماء المراقة، ويستعمل بمعنى العبادة، وهو أعم، يقال: فلا ناسك أي عابد، وقد استعمل في حديث البراء بالمعنى الثالث – انتهى. والحديث يدل على أن وقت الذبح يدخل بعد فعل الصلاة مع الإمام، ولا يشترط التأخير إلى نحر الإمام وأن من ذبح قبل الصلاة لم يجزئه عن الأضحية، واختلف العلماء في أول وقت التضحية. قال ابن المنذر: أجمعوا على أنها لا يجوز قبل طلوع الفجر يوم النحر، واختلفوا فيما بعد ذلك. فقال الشافعي وداود وآخرون: يدخل وقتها إذا طلعت الشمس، ومضى قدر صلاة العيد وخطبتين، فإن ذبح بعد هذا الوقت أجزأه سواء صلى الإمام أم لا، وسواء صلى المضحى أم لا، وسواء كان من أهل الأمصار أو من أهل القرى والبوادي والمسافرين، وسواء ذبح الإمام أضحيته أم لا. قال القرطبي: ظواهر الأحاديث تدل على تعليق الذبح بالصلاة، لكن لما رأى الشافعي أن من لا صلاة عيد عليه مخاطب بالتضحية حمل الصلاة على وقتها. قال الحافظ: وإنما شرط الشافعية فراغ الخطبة؛ لأن الخطبتين مقصودتان مع الصلاة في هذه العبادة، فيعتبر مقدار الصلاة والخطبتين على أخف ما يجزئ بعد طلوع الشمس. وقال أبوحنيفة: يدخل وقتها في حق أهل القرى والبوادي إذا طلع الفجر الثاني، ولا يدخل في حق أهل الأمصار حتى يصلي الإمام ويخطب، فإن ذبح قبل ذلك لم يجزئه. وقال مالك: لا يجوز ذبحها إلا بعد صلاة الإمام وخطبته وذبحه , واستدل له بحديث جابر قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر بالمدينة، فتقدم رجال فنحروا وظنوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نحر، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من كان نحر قبله أن يعيد بنحر آخر، ولا ينحروا حتى ينحر النبي - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه أحمد ومسلم، وهو صريح في أن الاعتبار بنحر الإمام، وأنه لا يدخل وقت التضحية إلا بعد نحره، ومن فعل قبل ذلك أعاد. وقال أحمد: لا يجوز قبل صلاة الإمام ويجوز بعدها قبل ذبح الإمام، وسواء عنده أهل الأمصار والقرى، ونحوه عن الحسن والأوزاعي وإسحاق به راهويه. قال الحافظ: وهو وجه للشافعية قوي من حيث الدليل، وإن ضعفه بعضهم، ومثله قول الثوري: يجوز بعد صلاة الإمام قبل خطبته وفي أثنائها. وقال ربيعة فيمن لا إمام له: إن ذبح طلوع الشمس لا يجزئه، وبعد طلوعها يجزئه. قلت: الراجح عندي من هذه الأقوال هو ما ذهب إليه أحمد ومن وافقه من أن وقت التضحية بعد صلاة الإمام، فالمؤثر في عدم الإجزاء هو الذبح قبل الصلاة، وسواء في ذلك أهل القرى والأمصار، وهذا لظواهر الأحاديث الواردة في

متفق عليه. 1450- (11) وعن جندب بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من ذبح قبل الصلاة فليذبح مكانها أخرى، ومن لم يذبح حتى صلينا، فليذبح على اسم الله)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الباب؛ لأنها متفقة على تعليق الذبح بالصلاة فقط من غير تفريق بين أهل القرى والأمصار، وأما حديث جابر الذي استدل به لمالك فتأوله الجمهور على أن المراد زجرهم عن التعجيل الذي قد يؤدي إلى فعلها قبل الوقت، ولهذا جاء في باقي الأحاديث التقييد بالصلاة، وإن من ضحى بعدها أجزأه، ومن لا فلا، ويؤيد ذلك من طريق النظر أن الإمام لو لم يذبح لم يكن ذلك مسقطاً عن الناس مشروعية الذبح، ولو أن الإمام ذبح قبل أن يصلي لم يجزئه ذبحه، فدل على أنه هو والناس في وقت الأضحية سواء، وأما إذا لم يكن ثم إمام فالظاهر أنه يعتبر لكل مضح بصلاته، ولا يصلح للتمسك لمن جوز الذبح من طلوع الشمس وهو ربيعة، أو من طلوع الفجر وهو أبوحنيفة في حق غير أهل الأمصار، ما ورد من أن يوم النحر يوم ذبح؛ لأنه كالعام، وأحاديث الباب خاصة فيبنى العام على الخاص – والله تعالى أعلم. (متفق عليه) أخرجه البخاري في العيدين والأضاحي والأيمان والنذور، ومسلم في الأضاحي بألفاظ مختلفة، واللفظ الذي أتى به المصنف للبخاري في باب التبكير للعيد إلا أن في هذه الرواية عنده "فإنما هو لحم" مكان قوله "فإنما هو شاة لحم"، والحديث أخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج3 ص283-284، 311) . 1450- قوله (وعن جندب) بضم الجيم وسكون النون وفتح الدال وضمها (بن عبد الله) بن سفيان، وربما نسب إلى جده، فقيل: جندب بن سفيان (البجلي) بفتح الموحدة والجيم نسبة إلى بَجِيلة (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي في خطبته بعد أن صلى العيد يوم النحر في المدينة (من ذبح) أضحيته (قبل الصلاة) أي قبل صلاة العيد (فليذبح مكانها أخرى) تأنيث آخر، وهي صفة لمحذوف أي ذبيحة أخرى أو شاة أخرى، فإن الأولى لا تحسب من النسك (ومن لم يذبح) ولفظ البخاري: ومن كان لم يذبح، وفي رواية لمسلم: ومن لم يكن ذبح (فليذبح على اسم الله) ، وفي رواية لمسلم: فليذبح باسم الله، قال النووي: قوله: "فليذبح على اسم الله" هو بمعنى رواية فليذبح باسم الله، أي قائلاً باسم الله، والجار والمجرور متعلق بمحذوف، وهو حال من الضمير في قوله: "فليذبح"، وهذا أولى ما حمل عليه الحديث، وصححه النووي، ويؤيده ما ورد في حديث أنس عند البخاري: وسمى وكبر، وقال عياض: يحتمل أربعة أوجه: أحدها أن يكون معناه فليذبح لله، والباء تجيء بمعنى اللام، والثاني: معناه فليذبح بسنة الله، والثالث: بتسمية الله على ذبيحته إظهاراً للإسلام، ومخالفة لمن يذبح لغيره،

متفق عليه. 1451- (12) وعن البراء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من ذبح قبل الصلاة فإنما يذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين)) متفق عليه. 1452- (13) وعن ابن عمر قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذبح وينحر بالمصلى. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقمعاً للشيطان. والرابع: متبركاً باسمه ومتيمناً بذكره، كما يقال: سر على بركة الله، وسر باسم الله. قال: وأما كراهة بعض العلماء أن يقال: افعل كذا على اسم الله؛ لأن اسمه سبحانه على كل شيء، فضعيف ليس بشيء، قال: وهذا الحديث يرد على هذا القائل. قال الحافظ: ويحتمل وجهاً خامساً أن يكون معنى قوله: "بسم الله" مطلق الإذن في الذبيحة؛ لأن السياق يقتضي المنع قبل ذلك والإذن بعد ذلك، كما يقال للمستأذن بسم الله أي أدخل، وقد استدل بهذا الأمر في قوله: "فليذبح مكانها أخرى" على وجوب الأضحية، ومن لا يقول به يحمله على أن المقصود بالبيان أن السنة لا تتأدى بالأولى، بل يحتاج إلى الثانية، فالمراد فليذبح مكانها أخرى لتحصيل سنة إن أرادها (متفق عليه) أخرجه البخاري في العيدين والذبائح والأضاحي والأيمان والنذور والتوحيد، ومسلم في الأضاحي، واللفظ للبخاري في الذبائح في باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: فليذبح على اسم الله، والحديث أخرجه أيضاً النسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص312، 262، ج9 ص277) . 1451- قوله (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي في خطبته بعد أن صلى العيد يوم النحر (من ذبح قبل الصلاة) أي صلاة العيد (فإنما يذبح) أضحيته (لنفسه) لحماً يأكله، ليس بنسك أي أضحية يعني لا ثواب فيه (ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه) أي عبادته وصح أضحيته (وأصاب سنة المسلمين) أي وافق طريقتهم وصادف شريعتهم. وهذا الحديث والذي قبله صريح في مذهب أحمد ومن وافقه في تعليق الذحب بفعل الصلاة وأن وقت الذبح يدخل بعد فعل الصلاة، ولا يشترط التأخير إلى نحر الإمام (متفق عليه) واللفظ للبخاري في "باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بردة: ضح بالجذع من المعز" من كتاب الأضاحي، وأخرجه أيضاً بعين هذا اللفظ من حديث أنس في أول الأضاحي. 1452- قوله (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) يذبح) أي البقرة والشاة (وينحر) أي الإبل (بالمصلى) أي الجبانة بعد أن يصلي العيد ليرغب الناس فيه، وليقتدوا به، وليتعلموا منه صفة الذبح، فيه استحباب أن يكون الذبح والنحر بالمصلى، والحكمة في ذلك أن يكون بمرأى من الفقراء، فيصيبون من لحم الأضحية، وقيل: لأن الأضحية من

{الفصل الثاني}

رواه البخاري. {الفصل الثاني} 1453- (14) عن أنس قال: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قد أبدلكم الله بهما خيراً منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ القرب العامة، فإظهارها أفضل؛ لأن فيه إحياء لسنتها، وقال ابن بطان: هو سنة للإمام خاصة عند مالك، قال مالك: إنما يفعل ذلك لئلا يذبح أحد قبله، وليذبحوا بعده على يقين مع ما فيه من تعليمهم صفة الذبح، وقال القسطلاني: قال مالك: لا يذبح أحد حتى يذبح الإمام، نعم أجمعوا على أن الإمام لو لم يذبح للناس إذا دخل وقت الذبح فالمدار على الوقت لا الفعل. قلت: قد تقدم أن الراجح أنه لا يشترط التأخير إلى نحر الإمام، وأنه هو والناس في وقت الأضحية سواء (رواه البخاري) في العيدين وفي الأضاحي، وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج9 ص277) . 1453- قوله (قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة) أي من مكة مهاجراً (ولهم) أي لأهل المدينة (يومان يلعبون فيهما) وهما يوم النيروز ويوم المهرجان، كذا قال الشراح، وفي القاموس: النيروز أول يوم السنة، معرب نوروز – انتهى. والنوروز مشهور، وهو أول يوم تتحول الشمس فيه إلى برج الحمل، وهو أول السنة الشمسة، كما أن غرة شهر المحرم أول السنة القمرية، وأما المهرجان فالظاهر بحكم مقابلته بالنيروز أن يكون أول يوم الميزان، وهما يومان معتدلان في الهواء لا حر ولا برد، ويستوي فيه الليل والنهار، فكأن الحكماء المتقدمين المتعلقين بالهيئة اختاروهما للعيد في أيامهم، وقلدهم أهل زمانهم لاعتقادهم بكمال عقول حكمائهم، فجاء الأنبياء وأبطلوا ما بنى عليه الحكماء (في الجاهلية) أي في زمن الجاهلية قبل أيام الإسلام (قد أبدلكم الله) هذا لفظ النسائي، ولفظ أبي داود: إن الله قد أبدلكم (بهما) أي في مقابلتهما (خيراً منهما) يريد أن نسخ ذينك اليومين، وشرع في مقابلتهما هذين اليومين، وقال القاري: الباء هنا داخلة على المتروك، وهو الأفصح، أي جعل لكم بدلاً عنهما خيراً منهما في الدنيا والأخرى. و "خيراً" ليست أفعل تفضيل، إذ لا خيرية في يوميهما (يوم الأضحى) بفتح الهمزة، جمع أضحاة شاة يضحي بها، وبه سمي يوم الأضحى، قال المظهر: في الحديث دليل على أن تعظيم النيروز والمهرجان وغيرهما من أعياد الكفار منهي عنه، وقال الحافظ في الفتح: استنبط منه كراهة الفرع في أعياد المشركين والتشبه بهم.

رواه أبوداود. 1454- (15) وعن بريدة قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم، ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي. ـــــــــــــــــــــــــــــ وبالغ الشيخ أبوحفص الكبير النسفي من الحنفية فقال: من أهدى فيه أي في النيروز بيضة إلى مشرك تعظيماً لليوم فقد كفر بالله تعالى – انتهى. وقال القاضي أبوالمحاسن الحسن بن منصور الحنفي: من اشترى فيه شيئاً لم يكن يشتريه في غيره أو أهدى فيه هدية إلى غيره، فإن أراد بذلك تعظيم اليوم كما يعظمه الكفرة فقد كفر، وإن أراد بالشراء التنعم والتنزه، وبالإهداء التحاب جرياً على العادة فلم يكن كفراً، لكنه مكروه كراهة التشبه بالكفرة حينئذٍ فيحترز عنه – انتهى. قال ابن حجر: قد وقع في هذه الورطة أهل مصر ونحوهم، فإن كثيراً من أهلها يوافقون اليهود والنصارى في أعيادهم على صور تعظيماتهم كالتوسع في المأكل والزينة على طبق ما يفعله الكفار، ومن ثم أعلن النكير عليهم في ذلك ابن الحاج المالكي في مدخله، وبين تلك الصور، وكيفية موافقة المسلمين لهم فيها، كذا في المرقاة. قلت: وكذلك كثير من مسلمي الهند والباكستان يوافقون الكفار من الهنادك والسيخ والنصارى وعباد النار في أعيادهم، ويفعلون ما يفعلون فيها، فإلى الله المشتكى. (رواه أبوداود) في الصلاة، وأخرجه أيضاً النسائي وابن حبان والحاكم (ج1 ص294) ، والبيهقي (ج3 ص277) ، قال الحافظ في الفتح وبلوغ المرام: إسناده صحيح، وسكت عنه أبوداود والمنذري، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. 1454- قوله (وعن بريدة) بالتصغير (حتى يطعم) بفتح العين أي يأكل (ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي) وفي رواية ابن ماجه والبيهقي: حتى يرجع، وزاد أحمد والدارقطني والبيهقي: فيأكل من أضحيته، ورواه الأثر بلفظ: حتى يضحي، وفي رواية للبيهقي: وكان إذا رجع أكل من كبد أضحيته، والحديث يدل على أن السنة أن يأكل في الفطر قبل الصلاة، ولا يأكل في الأضحى حتى يصلي، والحكمة في تأخير الأكل في يوم الأضحى أنه يوم تشرع فيه الأضحية والأكل منها، فاستحب أن يكون فطره على شيء منها، قال الأمير اليماني: لما كان إظهار كرامة الله تعالى للعباد بشرعية نحر الأضاحي كان الأهم الابتداء بأكلها شكراً لله على ما أنعم به من شرعية النسيكة الجامعة لخير الدنيا وثواب الآخرة، وقال الزين بن المنير: وقع أكله - صلى الله عليه وسلم - في كل من العيدين في الوقت المشروع لإخراج صدقتها الخاصة بهما، فإخراج صدقة الفطر قبل الغدو إلى المصلى، وإخراج صدقة الأضحية بعد ذبحها – انتهى. وقد خصص أحمد بن حنبل استحباب تأخير الأكل في عيد الأضحى بمن له ذبح، قال ابن قدامة: قال أحمد: والأضحى لا يأكل فيه حتى يرجع إذا كان له ذبح؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل من ذبيحته، وإذا لم يكن له ذبح

رواه الترمذي، وابن ماجه، والدارمي. 1455- (16) وعن كثير بن عبد الله، عن أبيه، عن جده، ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبر في العيدين في الأولى سبعاً قبل القراءة، وفي الآخرة خمساً قبل القراءة. ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يبال أن يأكل (رواه الترمذي) في العيدين (وابن ماجه) في الصيام (والدارمي) في العيدين، وأخرجه أيضاً أحمد وابن حبان والأثرم والدارقطني والحاكم (ج1 ص294) ، والبيهقي (ص3 ص283) ، وصححه ابن القطان وابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي. 1455- قوله (عن جده) أن عن جد كثير، وهو عمرو بن عوف المزني أبوعبد الله الصحابي (كبر في العيدين في الأولى) أي في الركعة الأولى (سبعاً) أي سبع تكبيرات، وهذا يحتمل أن السبع بتكبيرة الإحرام، وأنها من غيرها، والأظهر بل المتعين أنها من دونها، ففي حديث عائشة عند الدارقطني (ص180) ، والحاكم (ج1 ص298) كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكبر في العيدين اثني عشر تكبيرة سوى تكبيرة الاستفتاح، وفيه ابن لهيعة، وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند الدارقطني (ص181) سوى تكبيرة الإحرام. وفي رواية له وللبيهقي: سوى تكبيرة الصلاة (وفي الآخرة) في وفي الركعة الثانية (خمساً) أي خمس تكبيرات غير تكبيرة القيام، فيكون في الأولى ثمانية مع تكبيرة التحريم، وفي الثانية ست مع تكبيرة القيام، والحديث دليل على أنه يكبر في الأولى من ركعتي العيد سبعاً قبل القراءة وفي الثانية خمساً قبل القراءة، وإلى هذا ذهب جماعة من الصحابة، منهم الخلفاء الراشدون، والتابعين والأئمة بعدهم، قال العراقي: وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين والأئمة، قال: وهو مروي عن عمر وعلي وأبي هريرة وأبي سعيد وجابر وابن عمر وابن عباس وأبي أيوب وزيد بن ثابت وعائشة، وهو قول الفقهاء السبعة من أهل المدينة وعمر بن عبد العزيز والزهري ومكحول، وبه يقول مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق، إلا أنه قال الشافعي والأوزاعي وإسحاق وابن حزم: إن السبع في الأولى بعد تكبيرة الإحرام، وقال مالك وأحمد: السبع في الأولى مع تكبيرة الإحرام، واتفقوا على أن الخمس في الثانية غير تكبيرة النهوض، وذهب أبوحنيفة إلى أنه يكبر في الأولى ثلاثاً بعد تكبيرة الإحرام أم قبل القراءة، وفي الثانية ثلاثاً بعد القراءة غير تكبيرة الركوع، وهو مروي عن ابن مسعود وأبي موسى الأشعري وحذيفة بن اليمان وأبي مسعود الأنصاري البدري وأنس بن مالك والمغيرة بن شعبة وابن المسيب، وهو قول سفيان الثوري، وفي عدد التكبيرات، وفي مواضعها أقوال أخرى غير ما ذكرنا نحو من عشر ذكرها ابن المنذر والشوكاني، والمشهور منها ما أوردنا. واحتج لمن ذهب إلى أن التكبير سبع في الأولى، وخمس في الثانية، والقراءة بعدهما

....................... ـــــــــــــــــــــــــــــ كلتيهما بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبر في العيدين ثنتي عشرة تكبيرة: سبعاً في الأولى، وخمساً في الآخرة. أخرجه أحمد (ج2 ص180) ، وأبوداود وابن ماجه والدارقطني (ص181) ، والبيهقي (ج3 ص285) ، قال أحمد: أنا أذهب إلى هذا، وفي رواية قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((التكبير في العيد سبع في الأولى، وخمس في الآخرة، والقراءة بعدهما كلتيها)) أخرجه أبوداود والدارقطني والبيهقي، وهذا حديث صحيح أو حسن صالح للاحتجاج، قال الحافظ العراقي: إسناده صالح، ونقل الترمذي في العلل المفردة عن البخاري أنه قال: إنه حديث صحيح، كذا في النيل (ج3 ص282) ، والسنن الكبرى (ج3 ص286) ، والخلاصة للنووي. وقال الحافظ في التلخيص (ص144) : صححه أحمد وعلي والبخاري فيما حكاه الترمذي – انتهى. وسكت عنه أبوداود، وسكوته تصحيح أو تحسين منه كما قال ابن الهمام وغيره، وقال صاحب العرف الشذى: أخرجه أبوداود بسند قوي صححه البخاري، كما نقل الترمذي في العلل الكبرى – انتهى. هذا وقد تكلم على هذا الحديث ابن القطان، كما في نصب الراية (ج2 ص217) ، والطحاوي في شرح الآثار (ج2 ص398) ، وابن التركماني في الجوهر النقي (ج3 ص285) ، ولم يكن حاجة إلى ذكر كلامهم ثم الرد عليهم بعد ما صححه أئمة هذا الشأن الجهابذة النقاد: أحمد بن حنبل وعلي بن المديني والبخاري، واحتج به الأئمة المجتهدون، وهو تصحيح منهم للحديث على ما قال به صاحب الأوجز، لكن لما أخذ كلامهم صاحب البذل وصاحب آثار السنن، واعتمدا عليه وجب علينا أن نذكره مع الجواب عنه، ولما كان كلام صاحب الآثار أخصر، واعتمد عليه صاحب البذل في نقد الحديث في مواضع أخرى اقتصرنا على إيراده واكتفينا بذكره ثم رده. قال النيموي في آثار السنن بعد ذكر حديث عبد الله بن عمر: وإسناده ليس بالقوي، وقال في تعليقه: عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فيه كلام – انتهى. وقد أجاب عنه شيخنا في شرح الترمذي فقال: قول النيموي ليس مما يعول عليه، والتحقيق أن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده صحيح أو حسن قابل للاحتجاج إذا كان السند إليه صحيحاً، وقد قال الحافظ في الفتح: وترجمة عمرو قوية على المختار حيث لا تعارض – انتهى. ثم قال النيموي: ومع ذلك مداره على عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي، قال الذهبي في الميزان: ذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن معين: صويلح، وقال مرة: ضعيف، وقال النسائي وغيره: ليس بالقوي، وكذا قال أبوحاتم – انتهى. قلت: وقال الذهبي في الميزان بعد هذه العبارة ما لفظه: وقال ابن عدي: أما سائر حديثه فعن عمرو بن شعيب، وهي مستقيمة – انتهى. وهو من رجال مسلم. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب: له في مسلم حديث واحد كاد أمية أن يسلم، وفيه وقال العجلي: ثقة، وحكى ابن خلفون: أن ابن المديني وثقه، فإسناد هذا الحديث إلى عمرو حسن صالح،

.............................. ـــــــــــــــــــــــــــــ وترجمة عمرو قوية على المختار، فالحديث حسن قابل للاحتجاج، كيف وقد قال العراقي: إسناده صالح، وصححه أحمد وعلي بن المديني والبخاري؟ ثم قال النيموي: أما تصحيح الإمام أحمد فيعارضه ما قال ابن القطان في كتابه: وقد قال أحمد بن حنبل ليس في تكبير العيدين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث صحيح – انتهى. قلت: قد عرفت أن الإمام أحمد قال بما يدل عليه هذا الحديث، وذهب إليه، فقوله به يدل على أن تصحيحه متأخر من كلامه الذي ذكره ابن القطان. ثم قال النيموي: وأما تصحيح البخاري ففيه نظر؛ لأن قوله: وحديث عبد الله الطائفي ... الخ يحتمل أن يكون من كلام الترمذي، قال الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص217) بعد ما خرج حديث عمرو بن عوف المزني: قال الترمذي حديث حسن، وهو أحسن شيء روي في هذا الباب – انتهى. وقال في علله الكبرى: سألت محمداً عن هذا، فقال: ليس شيء في هذا الباب أصح منه، وبه أقول، وحديث عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي أيضاً صحيح، والطائفي مقارب الحديث – انتهى. قال ابن القطان: هذا ليس بصريح في التصحيح، فقوله "هو أصح شيء في الباب" يعني أشبه ما في الباب وأقل ضعفاً، وقوله: "وبه أقول" يحتمل أن يكون من كلام الترمذي، أي وأنا أقول إن هذا الحديث أشبه ما في الباب، وكذا قوله "وحديثه أيضاً صحيح" يحتمل أن يكون من كلام الترمذي – انتهى. قلت: هذا الاحتمال بعيد جداً، بل الظاهر المتعين هو ما فهمه الحافظ ابن حجر وغيره من أن قوله: "وبه أقول" من كلام البخاري، والمعنى أن بهذا الحديث أقول، وإليه أذهب، والدليل عليه أن الترمذي ينقل عن شيخه الإمام البخاري مثل هذا الكلام كثيراً في الجرح والتعديل وبيان علل الحديث، ولا يقول بعد نقل كلامه: "وبه أقول البتة، وإن كنت في شك منه ففتش وتتبع المقامات التي تقل الترمذي فيها عن البخاري مثل هذا الكلام تجد ما قلت لك حقاً صحيحاً، فالحاصل أن حديث عبد الله بن عمرو حسن صالح للاحتجاج، ويؤيده الأحاديث المرفوعة التي نذكرها، وهي وإن كانت ضعافاً ولكن يشد بعضها بعضاً، ويصلح كل واحد منها للاستشهاد والاعتضاد والمتابعة، ومجموعها للاحتجاج والاستدلال. فمنها حديث عمرو بن عوف المزني، وهو حديث الباب، وفيه كثير بن عبد الله وقد ضعفوه جداً، بل رماه بعضهم بالكذب، لكن حسن الترمذي حديثه، والظاهر أنه حسنه لشواهده، وقيل: تحسين الترمذي للحديث توثيق للراوي، وذهاب منه إلى أنه لم يرض الكلام فيه، والعجب من البغوي أنه ذكر حديث كثير بن عبد الله، وهو ضعيف، وترك حديث عبد الله بن عمرو، وهو حديث صحيح أو حسن، ولعله فعل ذلك تبعاً للترمذي وموافقة له إذ اقتصر على رواية حديث كثير، وقال بعد تحسينه: هو أحسن شيء روي في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومنها: حديث عائشة قالت:

........................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكبر في الأولى بسبع تكبيرات، وفي الثانية بخمس قبل القراءة سوى تكبيرة الركوع، أخرجه أحمد وأبوداود وابن ماجه والحاكم (ج1 ص298) ، والطحاوي والدارقطني والبيهقي (ج3 ص286) ، وفيه ابن لهيعة وقد تفرد به، وقد استشهد به مسلم في موضعين. ومنها: حديث سعد القرظ مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أخرجه ابن ماجه والحاكم (ج3 ص607) ، وفيه عبد الرحمن بن سعد بن عمار، روى عن أبيه، وعبد الرحمن ضعيف، وأبوه سعد بن عمار مستور لا يعرف حاله، ورواه البيهقي (ج3 ص287) أيضاً، وفي سنده بقية، وهو مدلس، وقد رواه عن الزبيدي بالعنعنة، نعم صرح بالتحديث في رواية الحاكم (ج3 ص608) لكن ليس فيها ذكر تكبيرات العيدين، ورواه الدارمي والبيهقي من طريق عبد الرحمن بن سعد عن عبد الله بن محمد بن عمار عن أبيه عن جده، وفيه أيضاً عبد الرحمن بن سعد كما ترى. ومنها: حديث عبد الرحمن بن عوف قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تخرج له العنزة في العيدين حتى يصلي إليها، وكان يكبر ثلاث عشرة تكبيرة، وكان أبوبكر وعمر يفعلان ذلك، أخرجه البزار، وفيه الحسن بن حماد البجلي، قال الهيثمي (ج2 ص204) : لم يضعفه أحد ولم يوثقه، وقد ذكره المزي للتمييز، وبقية رجاله ثقات – انتهى. وقال الشوكاني في النيل: الحسن بن حماد لين الحديث، وقال الحافظ في التلخيص: صحح الدارقطني إرساله. ومنها: حديث ابن عمر مثل حديث عمرو بن شعيب، أخرج الدارقطني (ص181) ، والطحاوي (ص399) ، والبزار: قال البخاري فيما حكاه الترمذي: تفرد به فرج بن فضالة، وهو ضعيف. ومنها: حديث جابر قال: مضت السنة أن يكبر في العيدين سبعاً وخمساً يذكر الله ما بين كل تكبيرتين، أخرجه البيهقي (ج3 ص292) وفي سنده من يحتاج إلى كشف حاله. ومنها حديث ابن عباس قال: سنة الاستسقاء سنة الصلاة في العيدين إلا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلب رداءه، وصلى ركعتين، وكبر في الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية خمس تكبيرات، أخرجه البيهقي (ج3 ص348) ، والدارقطني (ص189) ، والحاكم (ج1 ص326) كلهم من طريق محمد بن عبد العزيز عن أبيه عن طلحة بن عبد الله عن ابن عباس، قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه – انتهى، وفي تصحيحه نظر؛ لأن محمد بن عبد العزيز هذا قال البخاري فيه: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك الحديث، وقال أبوحاتم: ضعيف الحديث، وقال ابن القطان: أبوه عبد العزيز مجهول الحال، فاعتل الحديث بهما، كذا في التعليق المغني، ولابن عباس حديث آخر عند الطبراني في الكبير أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكبر في العيدين ثنتي عشرة تكبيرة، في الأولى سبعاً، وفي الآخرة خمساً، قال الهيثمي: في إسناده سليمان بن أرقم، وهو ضعيف.

.......................... ـــــــــــــــــــــــــــــ ومنها حديث أبي واقد الليثي وعائشة، أخرجه الطحاوي (ج2 ص399) والطبراني في الكبير، وفيه ابن لهيعة، وقد اضطرب في إسناده، وقال أبوحاتم: إنه باطل. ومنها حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((التكبير في العيدين سبعاً قبل القراءة، وخمساً بعد القراءة)) أخرجه أحمد (ج2 ص357) ، وفيه أيضاً ابن لهيعة، وقال الحافظ في التلخيص: صحح الدارقطني في العلل أنه موقوف، وقال البخاري: الصحيح ما أخرج مالك يعني في الموطأ وغيره من الحفاظ عن نافع عن أبي هريرة موقوفاً يعني فعله. ومنها حديث عبد الله بن محمد بن عمار بن سعد عن أبيه عن جده قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكبر في العيدين في الأولى سبع تكبيرات وفي الآخرة خمساً، أخرجه الدارقطني (ص181) ، والدارمي والبيهقي (ج3 ص288) ، وفيه أيضاً عبد الرحمن بن سعد بن عمار المتقدم، وهو حديث مرسل على أن يعود الضمير في جده إلى عبد الله بن محمد أو هو الحديث الثالث من الأحاديث التي ذكرناها للاستشهاد على أن يعود الضمير إلى محمد والد عبد الله. ومنها حديث جابر بن محمد الآتي، وسيأتي الكلام فيه، وفي الباب آثار جمع من الصحابة تؤيد الأحاديث المرفوعة، وهي وإن كانت موقوفة لكنها مرفوعة حكماً؛ فإنه لا مساغ فيها للاجتهاد، فلا تكون رأياً إلا توقيفاً يجب التسليم لها. واحتج لأبي حنيفة بحديث سعيد بن العاص الآتي، وهو حديث موقوف لا مرفوع، كما ستعرف، وبما روى الطحاوي في شرح الآثار (ج2 ص400) من طريق عبد الله بن يوسف عن يحيى بن حمزة قال: حدثني الوضين بن عطاء أن القاسم أباعبد الرحمن حدثه قال: حدثني بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: صلى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم عيد فكبر أربعاً أربعاً، ثم أقبل علينا بوجهه حين انصرف، فقال: لا تنسوا كتكبير الجنازة، وأشار بأصبعه، وقبض إبهامه، قال الطحاوي: هذا حديث حسن الإسناد، وعبد الله بن يوسف ويحيى بن حمزة والوضين والقاسم كلهم أهل رواية معروفون بصحة الرواية – انتهى. قلت: في كون هذا الحديث حسن الإسناد نظر، بل هو ضعيف، فإن الوضين بن عطاء الدمشقي واهي الحديث سيء الحفظ، وقد تفرد به، قال ابن التركماني في الجوهر النقي (ج1 ص29) : هو واهٍ، وقال ابن سعد: كان ضعيفاً في الحديث، وقال الجوجاني: واهي الحديث، وقال ابن قانع: ضعيف، وقال الحافظ: صدوق سيء الحفظ، والقاسم بن عبد الرحمن أبوعبد الرحمن الشامي الدمشقي ذكر ابن التركماني في الجوهر النقي (ج2 ص20) عن ابن حبان أنه قال: يروي عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المعضلات، ويأتي عن الثقات المقلوبات حتى يسبق إلى القلب أنه كان المتعمد لها- انتهى. ولا يغتر بتحسين الطحاوي، فإنه ليست عادته نقد الحديث كنقد أهل العلم، ولم يكن له معرفة بالإسناد كمعرفة أهل العلم به، وإن كان كثير الحديث فقيهاً عالماً باختلاف المذاهب.

.......................... ـــــــــــــــــــــــــــــ قال ابن تيمية في منهاج السنة: ليست عادته نقد الحديث نقد أهل العلم، ولهذا روى في شرح معاني الآثار الأحاديث المختلفة، وإنما يرجح ما يرجحه منها في الغالب من جهة القياس الذي رآه حجة، ويكون أكثره مجروحاً من جهة الإسناد ولا يثبت، فإنه لم يكن له معرفة بالإسناد كمعرفة أهل العلم به، وإن كان كثير الحديث فقيهاً عالما به – انتهى. واحتج له أيضاً بما أخرج الطحاوي في الجنائز بسنده عن إبراهيم النخعي قال: قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس مختلفون في التكبير على الجنازة ... الحديث، وفي آخره: فتراجعوا الأمر بينهم (في خلافة عمر) فأجمعوا أمرهم على أن يجعلوا التكبير على الجنائز مثل التكبير في الأضحى والفطر، أربع تكبيرات، فأجمع أمرهم على ذلك، قال بعض الحنفية: فهذا كالنص في أن تكبيرهما أربعاً كان مجمعاً عليه، أرجعوا إليها تكبيرات الجنازة – انتهى. وقال صاحب العرف الشذى (ص240) : وأعلى ما في الباب لنا ما هو من إجماعيات عمر، روه إبراهيم النخعي مرسلاً في معاني الآثار (ص286) . قلت: إبراهيم النخعي قال ابن المديني فيه: إنه لم يلق أحداً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال أبوحاتم: لم يلق أحداً من الصحابة إلا عائشة، ولم يسمع منها، وأدرك أنساً ولم يسمع منه، فالحكاية منقطعة موقوفة لا يجوز الاحتجاج بها، لاسيما وقد عارضها الأحاديث المرفوعة الموصولة التي ذكرناها، والآثار المروية عن الصحابة التي أشرنا إليها. واحتج له أيضاً بما روي عن ابن مسعود وغيره موقوفاً عليهم من فعلهم ولا حجة فيه؛ لأنه رأي منهم للقياس مدخل فيه، فلعلهم قاسوا ذلك على تكبير الجنائز، كما يشير إليه قوله في رواية الطحاوي المرفوعة ((لا تنسوا كتكبير الجنازة)) وقوله في حديث سعيد بن العاص الآتي: كان يكبر أربعاً تكبيره على الجنائز، بخلاف أقاويل الصحابة في السبع والخمس فإنه لا مدخل للقياس فيه، فهي كنقل عدد الركعات، ولو سلم أن أثر ابن مسعود وغيره مرفوع حكماً فهو لا يقاوم الأحاديث المرفوعة حقيقة، ولذلك قال البيهقي في السنن (ج3 ص291) بعد ذكر أثر ابن مسعود: هذا رأي من جهة عبد الله، والحديث المسند مع ما عليه من عمل المسلمين أولى أن يتبع، وقال أيضاً (ج3 ص292) : نخالف ابن مسعود في عدد التكبيرات وتقديمهن على القراءة في الركعتين جميعاً لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم فعل أهل الحرمين وعمل المسلمين إلى يومنا هذا – انتهى. تنبيه: قال في الهداية: وظهر عمل العامة اليوم بقول ابن عباس لأمر الخلفاء من بني العباس به، قال في الظهيرية: وهو تأويل ما روي عن أبي يوسف ومحمد، فإنهما فعلا ذلك، لأن هارون أمرهما أن يكبرا بتكبير جده ففعلا ذلك امتثالاً له لا مذهباً واعتقاداً – انتهى. وقال ابن التركماني في الجوهر النقي: وإنما كان عمل المسلمين بقول ابن عباس؛ لأن أولاده الخلفاء أمروهم بذلك، فتابعوهم خشية الفتنة لا رجوعاً عن مذاهبهم واعتقاداً لصحة رأي ابن عباس في ذلك -

............................ ـــــــــــــــــــــــــــــ انتهى. قلت: ظاهر كلام هؤلاء يدل على أن الاختلاف بين الأئمة في ذلك اختلاف في الجواز والصحة، وأن عمل المسلمين بما ذهب إليه مالك ومن وافقه كان خشية الفتنة لا اعتقاداً لصحته وجوازه، وفيه نظر ظاهر، لكونه دعوى مجردة من غير برهان، بل لحق أنهم عملوا بذلك اعتقاداً لصحته؛ لكونه موافقاً للسنة المرفوعة، ولسنة الخلفاء الراشدين، ولأن الحق أن اختلافهم في ذلك اختلاف في الأولوية والأفضلية لا في الجواز وعدمه. قال الإمام محمد في موطئه بعد ما روى عن مالك عن نافع قال: شهدت الأضحى والفطر مع أبي هريرة، فكبر في الأولى سبع تكبيرات قبل القراءة، وفي الآخرة بخمس تكبيرات قبل القراءة – قال صاحب التعليق الممجد: وهذا لا يكون رأياً إلا توقيفاً يجب التسليم له – انتهى. والظاهر أن هذا كان في إمارة أبي هريرة على المدينة في أيام معاوية أو مروان، وهو يدل على إجماع المسلمين من الصحابة والتابعين وتبعهم في المدينة، إذ ذاك على كون تكبيرات الزوائد ثنتي عشرة قبل القراءة في الركعتين -. قد اختلف الناس ي التكبير في العيدين فما أخذت به فهو حسن، وأفضل ذلك عندنا ما روي عن ابن مسعود....الخ قال: وهو قول أبي حنيفة – انتهى. وقال الشامي في رد المحتار (ج1 ص780) : ومنهم من جزم بأن ذلك رواية عنهما – أي عن أبي يوسف ومحمد – بل في المجتبى: وعن أبي يوسف أنه رجع إلى هذا ثم ذكر غير واحد من المشايخ أن المختار العمل برواية الزيادة، أي زيادة تكبيرة في عيد الفطر، وبرواية النقصان في عيد الأضحى عملاً بالروايتين وتخفيفاً في الأضحى لاشتغال الناس بالأضاحي، قال وذكر في البحر أن الخلاف في الأولوية، ونحوه في الحلية – انتهى. وقال في الدر المختار: ولو زاد أي الإمام التكبير على الثلاث تابعه، قال الشامي: لأنه تبع لإمامه فتعجب عليه متابعته، وترك رأيه برأي الإمام لقوله – عليه السلام -: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه)) ، فما لم يظهر خطؤه بيقين كان اتباعه واجباً، ولا يظهر الخطأ في المجتهدات، فأما إذا خرج عن أقوال الصحابة فقد ظهر خطؤه بيقين، فلا يلزمه اتباعه، قال: وأشار بقوله ندباً – في قوله: ويوالي ندباً بين القراءتين – إلى أنه لو كبر في أول كل ركعة جاز؛ لأن الخلاف في الأولوية كما مر عن البحر – انتهى. وقال صاحب التعليق الممجد (ص138) بعد ذكر الأحاديث والآثار المختلفة: وهذا الاختلاف الوارد في المرفوع والآثار كلها اختلاف في المباح، كما أشار إليه محمد بقوله: فما أخذت به فهو حسن، فلا يجوز لأحد أن يعنف على خلاف ما يراه، واختلاف الأئمة في ذلك إنما هو اختلاف في الراجح، كما أشار إليه محمد بقوله: وأفضل ذلك ... الخ، فإن اختار أحد غير ما روي عن ابن مسعود فلا بأس به أيضاً – انتهى. وقال صاحب العرف الشذي (ص241) وأما ثنتا عشرة تكبيرة فجائزة عندنا، فإن في الهداية أن أبايوسف أتى بها حين أمره هارون الرشيد ولا يتوهم أنه كان من أولى الأمر فإنه لو كان غير جائز عنده كيف اتبعه، وإن كان والي الأمر فلابد من أن يقال: إنه قائل بجوازها، وأيضاً في الهداية: لو زاد الإمام التكبيرات على الستة يتبعه إلى ثنتي عشرة تكبيرة، فدل على الجواز، ولقد صرح محمد

..................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ في موطئه بجوازها، فإنه قال: "وما أخذت به فهو حسن"- انتهى. قلت: والأولى للعمل عندنا والأفضل هو أن يكبر في الأولى سبعاً وفي الثانية خمساً والقراءة بعدهما كلتيهما؛ لوجهين: الأول: أنه قد جاء فيه أحاديث مرفوعة عديدة. وبعضها صحيح أو حسن، والباقية مؤيدة له، وأما ما ذهب إليه أبوحنيفة فلم يرد فيه حديث مرفوع غير حديث أبي موسى الأشعري الآتي، وستعرف أنه لا يصلح للاحتجاج، وغير حديث الوضين بن عطاء عند الطحاوي، وقد عرفت أنه حديث ضعيف، قال ابن عبد البر: روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من طريق كثيرة حسان أنه كبر في العيدين سبعاً في الأولى، وخمساً في الثانية، من حديث عبد الله بن عمرو وابن عمر وجابر وعائشة وأبي واقد وعمرو بن عوف المزني، ولم يرو من وجه قوي ولا ضعيف خلاف هذا، وهو أولى ما عمل به، ذكره ابن قدامة. والوجه الثاني: أنه قد عمل به أبوبكر وعمر وعثمان وعلي – رضي الله عنهم -، وقد قال الحافظ الحازمي في كتاب الاعتبار: الوجه الحادي والثلاثون أن يكون أحد الحديثين قد عمل به الخلفاء الراشدون دون الثاني فيكون آكد، ولذلك قدم رواية من روى في تكبيرات العيدين سبعاً وخمساً على رواية من روى أربعاً كأربع الجنائز؛ لأن الأول قد عمل به أبوبكر وعمر، فيكون إلى الصحة أقرب والأخذ به أصوب – انتهى. ثم ههنا مسائل من متعلقات التكبير، نذكرها مختصراً تتميماً للفائدة: إحداها: حكم هذه التكبيرات، قال ابن قدامة: التكبيرات سنة وليست بواجبة، فإن نسي التكبير وشرع في القراءة لم يعد إليه، قاله ابن عقيل: لأنه سنة فلم يعد إليه بعد الشروع في القراءة كالاستفتاح. وقال القاضي: فيها وجه آخر أنه يعود إلى التكبير؛ لأنه ذكره في محله، وهو القيام فيأتي به كما قبل الشروع في القراءة – انتهى مختصراً. وذهب الحنفية إلى وجوبها، كما في البدائع وغيره. قال الحصفكي في الواجبات: وتكبيرات العيدين وكذا أحدها. قال ابن عابدين: أفاد أن كل تكبير واجب مستقل – انتهى. وقالت الشافعية: إن كل تكبيرة سنة مؤكدة، فإذا ترك الإمام أو المنفرد تكبيرة منها سجد للسهو عنها، ولا شيء على المأموم في ترك السنن ولو عمداً إذا أتى بها الإمام. قال الشوكاني: والظاهر عدم الوجوب لعدم وجدان دليل يدل عليه. والثانية: محل دعاء الاستفتاح، قال ابن قدامة: يدعو بدعاء الاستفتاح عقيب التكبيرة الأولى، ثم يكبر تكبيرات العيد، ثم يتعوذ ثم يقرأ، وهذا مذهب الشافعي – وإليه ذهب الحنفية كما في فروعهم، وهو الراجح عندنا -، وعن أحمد رواية أخرى أن الاستفتاح بعد التكبيرات اختارها الخلال وصاحبه، وهو قول الأوزاعي؛ لأن الاستفتاح تليه الاستعاذة وهي قبل القراءة، ولنا أن الاستفتاح شرع ليستفتح به الصلاة، فكان في أولها كسائر الصلوات، والاستعاذة شرعت للقراءة فهي تابعة لها، فتكون عند الابتداء بها لقول الله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النحل: 98] وقد روى أبوسعيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتعوذ قبل القراءة، قال: وأياً ما فعل كان جائزاً، والثالثة: رفع اليدين مع التكبيرات الزوائد، قال ابن قدامة:

.............................. ـــــــــــــــــــــــــــــ يستحب أن يرفع يديه في حال تكبيرة حسب رفعهما مع تكبرة الإحرام، وبه قال عطاء والأوزاعي وأبوحنيفة والشافعي، وقال مالك والثوري: لا يرفعهما فيما عدا تكبيرة الإحرام، لنا ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه مع التكبير. قال أحمد: أما أنا فأرى أن هذا الحديث يدخل فيه هذا كله. وروي عن عمر أنه كان يرفع يديه في كل تكبيرة في الجنازة وفي العيد، رواه الأثرم. ولا يعرف له مخالف في الصحابة – انتهى. قلت: أثر عمر رواه البيهقي أيضاً (ج3 ص293) وفيه ابن لهيعة. والحديث الذي استدل به أحمد على رفع اليدين مع التكبيرات الزائد قيل: هو محمول على الصلاة المكتوبة لما روى ابن ماجه بسند ضعيف عن عمير بن حبيب قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه مع كل تكبيرة في الصلاة المكتوبة – انتهى. والحق أنه ليس في رفع اليدين مع تكبيرات العيدين حديث صريح مرفوع لا قوي ولا ضعيف، وأقوى ما استدل به القائلون بالرفع إنما هو عموم بعض الأحاديث وإطلاقه، فقد روى أبوداود والدارقطني (ص108) ، والبيهقي (ج3 ص293) من طريق بقية – وقد تابعه في ذلك ابن أخي الزهري عند الدارقطني (ص108) – ثنا الزبيدي عن الزهري عن سالم عن عبد الله بن عمر قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة رفع يديه ... الحديث، وفي آخره: ويرفعهما في كل تكبيرة يكبرها قبل الركوع حتى تنقضي صلاته، قال الحافظ في التلخيص (ص145) : احتج به ابن المنذر والبيهقي، أي على رفع اليدين في تكبيرات العيدين بناءً على أن المراد بقوله: "ويرفعهما في كل تكبيرة يكبرها قبل الركوع" العموم في كل تكبيرة تقع قبل الركوع، فيندرج في ذلك تكبيرات العيدين لا العموم في تكبيرات الركوع، كما توهم ابن التركماني. والأولى عندي ترك الرفع لعدم ورود نص صريح في ذلك، ولعدم ثبوته صريحاً بحديث مرفوع صحيح، ومن رفع مستدلاً بعموم حديث ابن عمر وإطلاقه، وبما روي عن عمر وابنه عبد الله وزيد بن ثابت من فعلهم فلا بأس به، هذا ما عندي، والله تعالى أعلم. والرابعة: هل يشرع الموالاة بين التكبيرات أو يشرع الفصل بينها بشيء من التحميد والتسبيح ونحو ذلك؟ قال ابن قدامة: إذا فرغ من الاستفتاح حمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم فعل هذا بين كل تكبيرتين، فإن قال: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً فحسن، وإن قال غيره نحو أن يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر أو ما شاء من الذكر فهو جائز، وبهذا قال الشافعي، وقال أبوحنيفة ومالك والأوزاعي: يكبر متوالياً لا ذكر بينه؛ لأنه لو كان بينه ذكر مشروع نقل كما نقل التكبير – انتهى. وقال الرافعي: يقف بين كل تكبيرتين بقدر آية لا طويلة ولا قصيرة. هذا لفظ الشافعي، وقد روي مثل ذلك عن ابن مسعود قولاً وفعلاً. قلت: الراجح عندي ما ذهب إليه مالك وأبوحنيفة؛ لأنه لم يحفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر بين التكبيرات، ولم يرو ذلك في حديث مسند، ولا نقل عن أحد من السلف إلا ما جاء في حديث جابر المتقدم مع ما فيه من الكلام، وفي ما روي عن ابن مسعود موقوفاً عند

رواه الترمذي، وابن ماجه، والدارمي. 1456- (17) وعن جعفر بن محمد مرسلاً ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبابكر وعمر كبروا في العيدين والاستسقاء سبعاً وخمساً. ـــــــــــــــــــــــــــــ البيهقي بسند فيه من يحتاج إلى كشف حاله، وعند الطبراني من طريق إبراهيم النخعي أن الوليد بن عقبة دخل المسجد، وابن مسعود وأبوحذيفة وأبوموسى في عرصة المسجد ... الحديث، قال الهيثمي: وإبراهيم لم يدرك واحداً من هؤلاء الصحابة، وهو مرسل، ورجاله ثقات، وعند الأثرم ولم أقف على سنده. (رواه الترمذي) وحسنه قال: وهو أحسن شيء روى في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد أنكر جماعة تحسينه على الترمذي؛ لأن في سنده كثير بن عبد الله، وقد عرفت حاله، وأجاب النووي في الخلاصة عن الترمذي في تحسينه، فقال: لعله اعتضد بشواهد وغيرها، وقال العراقي: والترمذي إنما تبع في ذلك البخاري، فقد قال في كتاب العلل المفردة: سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: ليس في هذا الباب شيء أصح منه، وبه أقول – انتهى. وقيل: تحسين الترمذي وتصحيحه توثيق للراوي وذهاب منه إلى أنه لم يرض الكلام فيه، وأما قول البخاري: ليس في هذا الباب شيء أصح منه، ففيه أن الظاهر أن حديث عبد الله بن عمر أصح شيء الباب، والله تعالى أعلم. (وابن ماجه والدارمي) كذا في جميع النسخ الموجودة عندنا، والظاهر أن قوله "والدارمي" خطأ من الناسخ، والصحيح الدارقطني، فإني لم أجد هذا الحديث في سنن الدارمي، ولم يعزه أحد المخرجين إليه، والله تعالى أعلم، وأخرجه أيضاً ابن خزيمة والبيهقي والطحاوي وابن عدي. 1456- قوله (وعن جعفر بن محمد) هو جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي أبوعبد الله المدني المعروف بالصادق، وأمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر، وأمها أسماء بنت أبي بكر، فلذلك كان يقول: ولدني أبوبكر مرتين، وروي عنه أنه قال: والله إني لأرجو أن ينفعني الله بقرابة أبي بكر، روى عن أبيه محمد الباقر وغيره، وروى عنه الأئمة الأعلام نحو يحيى بن سعيد الأنصاري، وشعبة، وسفيانان، ومالك، وأبوحنيفة. قال الحافظ: صدوق فقيه إمام، ووثقه الشافعي وابن معين وأبوحاتم وابن عدي والنسائي، قال مالك: اختلفت إليه زماناً، فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال، إما مصلٍّ وإما صائم وإما يقرأ القرآن، وما رأيته يحدث إلا على طهارة، ولد سنة (80) ، ومات سنة (148) ، وهو ابن (68) سنة، ودفن بالبقيع في قبر فيه أبوه محمد الباقر وجده علي زين العابدين (مرسلاً) أي منقطعاً (كبروا في العيدين والاستسقاء) أي في صلاة عيد الفطر وصلاة الأضحى وصلاة الاستسقاء (سبعاً) أي سبع تكبيرات، يعني في الركعة الأولى (خمساً)

وصلوا قبل الخطبة، وجهروا بالقراءة)) . رواه الشافعي. 1457- (18) وعن سعيد بن العاص ـــــــــــــــــــــــــــــ في الثانية، وبه قال الشافعي، وسيأتي الكلام في التكبير في صلاة الاستسقاء في موضعه (وصلوا قبل الخطبة) أي في العيد والاستسقاء، وتقدم أن في صلاة العيد قبل الخطبة إجماع، وأنه لا عبرة بمن خالف فيه من بني أمية (وجهروا بالقراءة) أي فيهما، وهو اتفاق، بل حكي فيه الإجماع. قال ابن قدامة: لا نعلم خلافاً بين أهل العلم في أنه يسن الجهر بالقراءة في صلاة العيدين إلا أنه روي عن علي – رضي الله عنه – أنه كان إذا قرأ في العيدين أسمع من يليه ولم يجهر ذلك الجهر. وقال ابن المنذر: أكثر أهل العلم يرون الجهر بالقراءة، وفي أخبار من أخبر بقراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - دليل على أنه كان يجهر، ولأنها صلاة عيد فأشبهت الجمعة – انتهى. والحديث دليل لمن قال إن التكبيرات الزوائد في العيدين سبع في الركعة الأولى، وخمس في الثانية، لكنه منقطع وهو من أقسام الضعيف. (رواه الشافعي) في كتاب الأم (ج1 ص209) وفي مسنده (ج6 ص109) قال: أنا إبراهيم، قال: حدثني جعفر بن محمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ... الخ، فالحديث منقطع، بل معضل، فالمراد بالمرسل في قول المصنف المنقطع، وروى الشافعي أيضاً في الأم (ج1 ص209) وفي المسند (ج6 ص109) عن إبراهيم عن جعفر عن أبيه عن علي – رضي الله عنه – أنه كبر في العيدين والاستسقاء سبعاً وخمساً وجهر بالقراءة – انتهى. ورواه عبد الرزاق في مصنفه قال: أخبرنا إبراهيم بن أبي يحيى عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: كان علي يكبر في الأضحى والفطر والاستسقاء سبعاً في الأولى، وخمساً في الأخرى، ويصلي قبل الخطبة، ويجهر بالقراءة، قال: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبوبكر وعمر وعثمان يفعلون ذلك – انتهى. كذا في نصب الراية (ج2 ص219) ، وذكره ابن حزم في المحلى (ج5 ص83) ، وقال: إلا أن في الطريق إبراهيم بن أبي يحيى، وهو أيضاً منقطع – انتهى. قلت: محمد الباقر والد جعفر لم ير هو ولا أبوه علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -. 1457- قوله (وعن سعيد بن العاص) كذا قال المصنف تبعاً للجزري، والأولى أنه يقول: وعن أبي عائشة جليس أبي هريرة أنه حضر سعيد بن العاص سأل أباموسى الأشعري وحذيفة بن اليمان كيف كان ... الخ، أو يقول: وعن أبي موسى وحذيفة أن سعيد بن العاص سألهما كيف كان ... الخ، وسعيد هذا هو سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية الأموي، ولد عام الهجرة، قتل أبوه يوم بدر كافراً، ومات جده أبوأُحيحة قبل بدر مشركاً، وكان سعيد من أشراف قريش وفصحائهم، ولذا ندبه عثمان فيمن ندب لكتابة القرآن، وكان حليماً وقوراً، قال ابن سعد: قبض النبي - صلى الله عليه وسلم - ولسعيد تسع سنين، وذكر في الصحابة؛ لأن له رؤية، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وكان ممن اعتزل الجمل وصفين وولي إمرة الكوفة لعثمان، وإمرة المدينة لمعاوية، وغزا طبرستان ففتحها،

قال: سألت أباموسى وحذيفة، كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكبر في الأضحى والفطر؟ فقال أبوموسى: كان يكبر أربعاً، تكبيره على الجنائز، فقال حذيفة: صدق)) . رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ وغزا جرجان، وكان في عسكره حذيفة وغيره من كبار الصحابة، مات في قصره بالعرصة على ثلاثة أميال من المدينة، ودفن بالبقيع سنة (58) ، وقيل غير ذلك (في الأضحى والفطر) أي في صلاتهما (كان يكبر) قال القاري: أي في كل ركعة (أربعاً) أي مع تكبير الإحرام في الأولى ومع تكبير الركوع في الثانية، قاله القاري. (تكبيره) أي مثل عدد تكبيره، قاله القاري، وقال ابن حجر: أي مثل تكبيره على الجنائز. (فقال حذيفة) بن اليمان (صدق) أي أبوموسى، فقال أبوموسى: كذلك كنت أكبر في البصرة حيث كنت (أميراً) عليهم. وقد استدل به الحنفية لمذهبهم، لكن الحديث ضعيف، كما ستعرف (رواه أبوداود) ، وأخرجه أيضاً أحمد (ج4 ص416) ، والطحاوي (ص400) ، والبيهقي من طريق أبي داود (ج3 ص289-290) ، وسكت عنه أبوداود والمنذري. قلت: في سنده أبوعائشة الأموي مولاهم، جليس أبي هريرة، وهو مجهول الحال، قال الذهبي: أبوعائشة جليس لأبي هريرة غير معروف، وقال الزيلعي نقلاً عن التنقيح: ولكن أبوعائشة قال ابن حزم فيه: مجهول. وقال ابن القطان: لا أعرف حاله – انتهى. وقال ابن حزم في المحلى (ج5 ص84) : أبوعائشة مجهول لا يدرى من هو، ولا يعرفه أحد، ولا تصح عنه رواية لأحد – انتهى. وقد تفرد أبوعائشة هذا برفع هذا الحديث، ورواه جماعة من الثقات وهم علقمة والأسود عند عبد الرزاق، كما في نصب الراية (ص213) ، وعبد الله بن قيس عند الطحاوي في شرح الآثار، وكردوس عند ابن أبي شيبة، كما في الجوهر النقي، فوقفوه على ابن مسعود، وعلى هذا فزيادة الرفع منكرة، والموقوف هو المحفوظ، وزيادة الرفع إنما تقبل إذا كان راويها ثقة حافظاً ثبتاً، والذي لم يذكرها مثله أو دونه في الثقة، وبشرط أن لا تكون شاذة، والأمر ههنا ليس كذلك، كما لا يخفى على المنصف الغير المتعسف، وأيضاً في سنده عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان الدمشقي الزاهد الصالح، وهو متكلم فيه، فكان علي بن المديني ودحيم وأبوداود حسن الرأي فيه، وقال أحمد: لم يكن بالقوي في الحديث، وأحاديثه مناكير، وقال العجلي وأبوزرعة الرازي: لين، وقال النسائي: ضعيف، وقال مرة: ليس بالقوي، وقال مرة: ليس بثقة، وقال ابن معين: ضعيف، يكتب حديثه على ضعفه، وكذا قال ابن عدي: ومع هذا فقد تغير عقله في آخر عمره، كما قال أبوحاتم، ولم يتابعه أحد على رفع هذا الحديث. قال البيهقي في السنن الكبرى (ج 3 ص290) : قد خولف راوي هذا الحديث في موضعين، أحدهما: في رفعه، والآخر في جواب أبي موسى، والمشهور في هذه القصة أنهم أسندوا أمرهم إلى ابن مسعود، فأفتاه ابن مسعود بذلك، ولم يسنده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، كذلك رواه أبوإسحاق السبيعي عن عبد الله بن موسى أو ابن أبي موسى أن سعيد بن العاص أرسل ... الخ.

1458- (19) وعن البراء، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نوول يوم العيد قوساً فخطب عليه. رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ وعبد الرحمن بن ثوبان ضعفه ابن معين – انتهى. وقال في معرفة السنن بعد نقل تضعيف عبد الرحمن عن ابن معين، والمشهور في هذه القصة أنهم أسندوا أمرهم إلى ابن مسعود فأفتاه ابن مسعود في الأولى قبل القراءة وأربع في الثانية بعد القراءة، ويركع برابعة، ولم يسنده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، كذلك رواه أبوإسحاق السبيعي وغيره عن شيوخهم، ولو كان عند أبي موسى فيه علم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان يسأله عن ابن مسعود، وروي عن علقمة عن عبد الله أنه قال: خمس في الأولى، وأربع في الثانية، وهذا يخالف الرواية الأولى – انتهى. وقد ظهر بهذا أن هذا الحديث لا يصلح للاستدلال وإن سكت عنه أبوداود والمنذري، وقد تقدم الكلام في سكوتهما فتذكر، ولشيخنا رسالة مستقلة بالأردية في مسألة التكبيرات الزوائد وما يتعلق بها، سماها "القول السديد فيما يتعلق بتكبيرات العيد"، فعليك أن تطالعها. 1458- قوله (نوول) بووين على وزن نودي صيغة ماضٍ مجهول من المناولة أي أعطي، كذا وقع في جميع نسخ المشكاة، وفي بعض نسخ أبي داود، وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7 ص95) ، ووقع في أكثر نسخ أبي داود "نُوِّل" بواو واحد على بناء المجهول الماضي، من باب التفعيل، قال في القاموس: أنلته إياه ونوَّلته ونَوَّلت عليه، وله: أعطيته. (يوم العيد) أي الأضحى، كما في رواية أحمد والبيهقي (قوساً فخطب) أي متوكئاً (عليه) وفي رواية أحمد والبيهقي: أعطي قوساً أو عصاً فاتكأ عليه، فحمد الله وأثنى عليه ... الخ، وفي الحديث مشروعية الاعتماد على قوس أو عصا حال الخطبة، قيل: والحكمة في ذلك الاشتغال عن العبث، وقيل: إنه أربط للجأش (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري. وأخرجه أيضاً أحمد وطوله، والبيهقي (ج3 ص300) ، والطبراني، وصححه ابن السكن، وله شواهد من حديث الحكم بن حزن الكلفي عند أبي داود والبيهقي في حديث أوله: وفدت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سابع سبعة أو تاسع تسعة، فدخلنا عليه ... الحديث، وفيه: شهدنا الجمعة معه، فقام متوكئاً على عصا أو قوس، فحمد الله وأثنى عليه. قال الحافظ: إسناده حسن، فيه شهاب بن خراش، وقد اختلف فيه، والأكثر وثقوه، وقد صححه ابن السكن وابن خزيمة – انتهى. ومن حديث ابن الزبير عند الطبراني في الكبير والبزار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب بمخصره، وفيه ابن لهيعة، ومن حديث ابن عباس عند الطبراني في الكبير أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخطبهم في السفر متوكئاً على قوس، وفيه أبوشيبة وهو ضعيف، ومن حديث سعد القرظ عند الطبراني أيضاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خطب في الجمعة خطب على عصا، قال الهيثمي: ذكر هذا في أثناء حديث طويل، وإسناده ضعيف – انتهى. قلت: وروى البيهقي (ج3 ص206)

1459- (20) وعن عطاء مرسلاً، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خطب يعتمد على عنزته اعتماداً. رواه الشافعي. 1460- (21) وعن جابر قال: شهدت الصلاة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في يوم عيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة، بغير أذان ولا إقامة، فلما قضى الصلاة قام متكئاً على بلال، فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ الناس، ـــــــــــــــــــــــــــــ من طريق عبد الرحمن بن سعد بن عمار بن سعد حدثني أبي عن آبائه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خطب في الحرب خطب على قوس، وإذا خطب في الجمعة خطب على عصا، وقال الحافظ في التلخيص (ص137) بعد ذكر حديث الحكم والبراء: وفي الباب عن ابن عباس وابن الزبير رواهما أبوالشيخ بن حبان في كتاب أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - له – انتهى. 1459- قوله (وعن عطاء) أي ابن يسار، قاله القاري، وهو تابعي مشهور كان كثير الرواية عن ابن عباس، قاله المؤلف، والظاهر أن المراد به هنا عطاء بن أبي رباح (على عنزته) بفتح المهملة والنون بعدها زاي معجمة، رمح قصير في طرفها زُجٌّ أي نصل. قال الحافظ في الفتح: العنزة – بفتح النون – عصى أقصر من الرمح لها سنان. وقيل: هي الحربة القصيرة، وقيل: عصا عليه زج أي سنان. (اعتماداً) مفعول مطلق أي اعتماداً كلياً (رواه الشافعي) في كتاب الأم (ج1 ص211) ، وفي مسنده (ج6 ص110) عن إبراهيم عن ليث بن أبي سليم عن عطاء مرسلاً، وليث ضعيف، وأخرج البيهقي في السنن الكبرى (ج3 ص206) من طريق جعفر بن عون عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم إذا خطب على عصا؟ قال: نعم، وكان يعتمد عليها اعتماداً. 1460- قوله (شهدت) أي حضرت (الصلاة) أي صلاة العيد (في يوم عيد) أي يوم عيد الفطر، كما هو مصرح في رواية للشيخين (فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة) فيه تقديم العيد على الخطبة، وترك الأذان والإقامة لصلاة العيد، وقد تقدم البسط في ذلك (قام متكئاً) كذا في جميع النسخ الموجودة للمشكاة، من الإتكاء، والظاهر أنه خطأ من النساخ، والصحيح متوكئاً أي من التوكأ، كما في المصابيح، وهكذا في مسلم والنسائي والبيهقي (ج3 ص296) ، وهكذا ذكره المجد بن تيمية في المنتقى، وعزاه إلى مسلم والنسائي، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7 ص89) ، وعزاه للنسائي (على بلال) أي متحاملاً عليه، ومنه التوكؤ على العصا، وهو التحامل عليها، والمراد أنه كان معتمداً على يد بلال، كما يفيده رواية الشيخين وأبي داود، وفيه أن الخطيب ينبغي أن يعتمد على شيء كالقوس والعصا والعنزة، أو يتكئ على إنسان (ووعظ الناس)

وذكرهم، وحثهم على طاعته، ومضى إلى النساء ومعه بلال، فأمرهن بتقوى الله، ووعظهن وذكرهن. رواه النسائي. 1461- (22) وعن أبي هريرة قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج يوم العيد في طريق رجع في غيره. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الراغب: الوعظ زجر مقترن بتخويف، وقال الخليل: هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب، فقوله (وذكرهم) بالتشديد عطف تفسيري، قاله القاري، وقال ابن حجر: "ذكرهم" أي العواقب يدل مما قبله، وقيل: معنى وعظهم: نصحهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذكرهم بأحوال القيامة والنار والجنة (وحثهم) أي رغبهم وحضهم (على طاعته) أي طاعة الله تعالى، ومنها طاعته – عليه السلام -، وهذا تعميم بعد تخصيص؛ لأنه يشمل مكارم الأخلاق، أو المراد عبادته النافلة، قاله القاري. قلت: ولفظ مسلم بعد قوله "على بلال": "ثم أمر بتقوى الله، وحث على طاعته، ووعظ الناس وذكره". (ومضى إلى النساء) ولفظ النسائي: ثم مال إلى النساء، والمراد أنه أتاهن بعد فراغ خطبة الرجال، كما صرح بذلك في رواية الشيخين، وفيه إشعار بأن النساء كن على حدة من الرجال غير مختلطات بهم (فأمرهن) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (بتقوى الله) أي الجامعة لامتثال المأمورات واجتناب المنهيات (ووعظهن) بتخويف العقاب (وذكرهن) بتحصيل الثواب، وهو تفسير لـ"وعظهن" أو تأكيد له. ولفظ مسلم: ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن، واكتفى في رواية لمسلم بالتذكير، وكذا في رواية البخاري وأبي داود، فيه أنه يستحب للإمام إذا لم يسمع النساء الخطبة أن يأتيهن بعد فراغه ويعظهن ويذكرهن إذا لم يترتب عليه مفسدة، وفيه أيضاً تمييز مجلس النساء إذا حضرن مجامع الرجال؛ لأن الاختلاط ربما كان سبباً للفتنة الناشئة عن النظر أو غيره، وبعد ذلك في رواية النسائي ومسلم: وحمد الله وأثنى عليه، ثم حثهن على طاعته، ثم قال: ((تصدقن، فإن أكثركن خطب جهنم)) ، فقالت امرأة من سفلة النساء، سفعاء الخدين: لِمَ يا رسول الله؟ قال: ((تكثرن الشكاة، وتكفرن العشير)) ، فجعلن ينزعن قلائدهن وأقرطهن وخواتيمهن يقذفنه في ثوب بلال يتصدقن به، لفظ النسائي. (رواه النسائي) وأخرجه أيضاً مسلم والبيهقي (ج3 ص296) ، فكان من حقه أن يذكر في الصحاح أي الفصل الأول، وذهل المصنف فعزاه للنسائي، وترك مسلماً، وأصل الحديث متفق عليه، أخرجه البخاري في "باب المشي والركوب إلى العيد والصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة"، وفي باب "موعظة الإمام النساء يوم العيد"، وأخرجه أيضاً أبوداود في باب الخطبة يوم العيد، وذهل المنذري في مختصره فعزاه للنسائي، وترك البخاري ومسلماً. 1461- قوله (إذا خرج يوم العيد) ذاهباً (في طريق رجع في غيره) أي في طريق غيره

رواه الترمذي والدارمي. 1462- (23) وعنه، أنه أصابهم مطر في يوم عيد، فصلى بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة العيد في المسجد. رواه أبوداود، وابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ (رواه الترمذي والدارمي) وأخرجه أيضاً أحمد وابن ماجه وابن حبان والحاكم (ج1 ص296) ، والبيهقي (ج3 ص308) ، وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم والذهبي على شرط الشيخين، وأخرجه البخاري والبيهقي من حديث جابر، قال الترمذي تبعاً للبخاري: وحديث جابر كأنه أصح، وتقدم الكلام في هذا. 1462- قوله (وعنه) أي عن أبي هريرة (أنه) أي الشأن (أصابهم) أي الصحابة (مطر في يوم عيد فصلى بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة العيد في المسجد) أي مسجد المدينة. قال ابن الملك: يعني كان - صلى الله عليه وسلم - يصلي صلاة العيد في الصحراء إلا إذا أصابهم مطر فيصلي في المسجد، فالأفضل أداءها في الصحراء في سائر البلدان، وفي مكة خلاف – انتهى. قلت: الحديث يدل على أن ترك الخروج إلى الجبانة وفعل الصلاة في المسجد عند عروض عذر المطر غير مكروه، وقد اختلف هل الأفضل في صلاة العيد الخروج إلى الجبانة أي الصحراء أو الصلاة في مسجد البلد إذا كان واسعاً؟ الثاني قول الشافعي، أنه إذا كان مسجد البلد واسعاً صلوا فيه ولا يخرجون، فكلامه يقضي بأن العلة في الخروج طلب الاجتماع، ولذا أمر - صلى الله عليه وسلم - بإخراج العواتق وذوات الخدور، فإذا حصل ذلك في المسجد فهو أفضل، ولذلك فإن أهل مكة لا يخرجون لسعة مسجدها وضيق أطرافها، والقول الأول لمالك وأحمد وأبي حنيفة: إن الخروج إلى الجبانة أفضل ولو اتسع المسجد للناس، وحجتهم محافظته - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، ولم يصل في المسجد إلا لعذر المطر، ولا يحافظ - صلى الله عليه وسلم - إلى على الأفضل، وتقدم أن هذا القول هو الراجح عندنا. (رواه أبوداود وابن ماجه) وأخرجه أيضاً الحاكم (ج1 ص295) والبيهقي (ج3 ص310) وسكت عنه أبوداود والمنذري. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي على شرطهما. وقال الحافظ في التلخيص: إسناده ضعيف – انتهى. قلت: في سنده رجل مجهول، وهو عيسى بن عبد الأعلى بن أبي فروة الأموي مولاهم، قال فيه الحافظ في التقريب: مجهول. وقال الذهبي في الميزان: لا يكاد يعرف، وقال: هذا حديث منكر، قال ابن القطان: لا أعلم عيسى هذا مذكوراً في شيء من كتب الرجال ولا في غير هذا الإسناد – انتهى. وروى البيهقي (ج3 ص310) من حديث عبد الله بن عامر بن ربيعة: إن الناس مطروا على عهد عمر بن الخطاب فامتنع الناس من المصلى فجمع عمر الناس في المسجد فصلى بهم، ثم قام عمر على المنبر فقال: يا أيها الناس إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج بالناس إلى المصلى يصلي بهم؛ لأنه أرفق بهم وأوسع عليهم، وأن المسجد كان لا يسعهم، فإذا كان هذا المطر فالمسجد أرفق.

1463- (24) وعن أبي الحويرث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى عمرو بن حزم وهو بنجران: ((عجّل الأضحى، وأخّر الفطر، وذكّر الناس)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1463- قوله (وعن أبي الحويرث) بالتصغير، اسمه عبد الرحمن بن معاوية بن الحُوَيرث الأنصاري، الزرقي، المدني، مشهور بكنيتة. قال الحافظ في التقريب: صدوق سيء الحفظ من الطبقة السادسة، وهي طبقة لم يثبت لهم لقاء أحد من الصحابة، فأبوالحويرث هذا من أتباع التابعين، والحديث مرسل كما قال الحافظ في التلخيص، والمجد ابن تيمية في المنتقى، والبيهقي في السنن الكبرى، واختلف فيه قول ابن معين، فقال الدوري عنه: ليس يحتج بحديثه، وقال عثمان الدارمي وغيره عنه: ثقة، وقال أبوحاتم: ليس بقوي يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال مالك والنسائي: ليس بثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، ولم يتكلم فيه البخاري بشيء. (كتب إلى عمرو بن حزم) الأنصاري، صحابي مشهور، أول مشاهده الخندق، وله خمس عشرة سنة، استعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على نجران سنة عشر، وقد تقدم ترجمته (وهو بنجران) بفتح النون وسكون الجيم، فراء، فألف، فنون على وزن سلمان، بلد باليمن، كان عمرو والياً فيه (عجل الأضحى) أي صلاته ليشتغل الناس بذبح الأضاحي (وأخر الفطر) أي صلاته لتوسع على الناس إخراج زكاة الفطر قبل الصلاة، قاله ابن الملك. (وذكر الناس) أي بالموعظة في خطبتي العيدين، قال الشوكاني: الحديث يدل على مشروعية تعجيل الأضحى وتأخير الفطر، ولعل الحكمة في ذلك ما تقدم من استحباب الإمساك في صلاة الأضحى حتى يفرغ من الصلاة، فإنه ربما كان ترك التعجيل لصلاة الأضحى مما يتأذى به منتظر الصلاة لذلك، وأيضاً فإنه يعود إلى الاشتغال بالذبح لأضحيته بخلاف عيد الفطر فإنه لا إمساك ولا ذبيحة، وأحسن ما ورد من الأحاديث في تعيين وقت صلاة العيدين حديث جندب قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بنا يوم الفطر والشمس على قيد رمحين، والأضحى قيد رمح. أخرجه الحسن بن أحمد البناء في كتاب الأضاحي له من طريق وكيع عن المعلى بن هلال عن الأسود بن قيس عن جندب، ذكره الحافظ في التلخيص ولم يتكلم عليه، قلت: معلى بن هلال المذكور في سنده من رجال ابن ماجه، وقد اتفق النقاد على تكذيبه، فالحديث ضعيف جداً، قال الشوكاني: قال في البحر: وهي من بعد انبساط الشمس إلى الزوال، ولا أعرف فيه خلافاً – انتهى. قلت: دعوى عدم الخلاف خطأ؛ فإنهم اختلفوا في أول وقت صلاة العيد وآخره، فعند الشافعية وقتها بين ابتداء طلوع الشمس ولو للبعض ولا يعتبر تمام الطلوع وزوالها ولا نظر لوقت الكراهة؛ لأن هذه صلاة لها سبب متقدم ويسن تأخيرها لترتفع الشمس قيد رمح خروجاً من الخلاف، وعند المالكية والحنابلة والحنفية أول وقتها وقت حل النافلة، وهو من ارتفاع الشمس قدر رمح من رماح العرب إلى قبيل الزوال، وهذا هو الراجح عندنا، ويدل على مشروعية التعجيل لصلاة العيد وكراهة تأخيرها عن وقتها المجمع عليه - وهو انبساط الشمس وارتفاعها

رواه الشافعي. 1464- (25) وعن أبي عمير بن أنس، عن عمومة له من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ـــــــــــــــــــــــــــــ قدر رمح أو رمحين، وهو وقت حل صلاة النافلة – ما روى أحمد وأبوداود وابن ماجه والحاكم والبيهقي عن يزيد بن خمير قال: خرج عبد الله بن بُسر – صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الناس في يوم عيد فطر أو أضحى فأنكر ابطاء الإمام، فقال: إنا كنا قد فرغنا ساعتنا هذه، وذلك حين التسبيح. قال الحافظ: أي وقت صلاة السبحة، وذلك إذا مضى وقت الكراهة، وفي رواية صحيحة للطبراني: وذلك حين تسبيح الضحى، وقال الكرماني: حين التسبيح أي حين صلاة الضحى، أو حين صلاة العيد؛ لأن صلاة العيد سبحة ذلك اليوم – انتهى. وروى البيهقي من طريق الشافعي: انبأ الثقة أن الحسن كان يقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يغدو إلى الأضحى والفطر حين تطلع الشمس فيتتام طلوعها. قال البيهقي: هذا مرسل، وشاهده عمل المسلمين بذلك، أو بما يقرب منه مؤخراً عنه – انتهى. (رواه الشافعي) في كتاب الأم (ج1 ص205) ، وفي مسنده (ج6 ص107) عن إبراهيم بن محمد عن أبي الحويرث به، وهو مرسل، وضعيف أيضاً، وأخرجه أيضاً البيهقي (ج3 ص282) من طريق الشافعي، وقال: هذا مرسل، وقد طلبته في سائر الروايات لكتابه إلى عمرو بن حزم، فلم أجده – انتهى. قال ابن حجر: وهو وإن كان ضعيفاً إلا أنه يعمل به في مثل ذلك اتفاقاً. 1464- قوله (وعن أبي عمير) بالتصغير (بن أنس) بن مالك الأنصاري، قال الحاكم أبوأحمد: اسمه عبد الله، وكان أكبر أولاد أنس، قلت: ذكر الباوردي حديثه هذا، وسماه في مسنده عبد الله، قال الحافظ: ثقة من الرابعة، وهي طبقة تلي الطبقة الوسطى من التابعين، وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات، وصحح حديثه البيهقي والنووي في شرح المهذب والخلاصة وأبوبكر بن المنذر وابن السكن وابن حزم والخطابي، وتصحيحهم توثيق لرواته أبي عمير وغيره. وقال ابن عبد البر: هو مجهول، قال الحافظ في التلخيص: كذا قال، وقد عرفه من صحح له – انتهى. قال المؤلف: عمر بعد أبيه أنس زماناً طويلاً. (عن عمومة له) بضم العين جمع عم، كالبعولة جمع بعل، وفي رواية ابن ماجه والبيهقي: حدثني عمومتي من الأنصار (من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -) صفة عمومة، قال النووي في الخلاصة: عمومة أبي عمير صحابة لا يضر جهالة أعيانهم؛ لأن الصحابة كلهم عدول، وقال البيهقي (ج3 ص316) : عمومة أبي عمير من أصحابه – عليه السلام – لا يكونون إلا ثقات، وقال أيضاً (ج4 ص249) : الصحابة كلهم ثقات سموا أو لم يسموا – انتهى. وقال النووي في التقريب: الصحابة كلهم عدول من لابس الفتن وغيرهم بإجماع من يعتد به، فإذا صح الإسناد عن الثقات إلى رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ذلك حجة وإن لم يسم ذلك الرجل، ولا يضر الجهالة لثبوت

أن ركباً جاؤا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يشهدون أنه رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم أن يفطروا، وإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم. رواه أبوداود والنسائي. ـــــــــــــــــــــــــــــ عدالتهم على العموم (أن ركباً) جمع راكب، كصحب وصاحب (جاؤا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يشهدون أنه رأوا الهلال بالأمس) يعني لم يروا الهلال في المدينة ليلة الثلاثين من رمضان فصاموا يوم الثلاثين، فجاء قافلة في أثناء ذلك اليوم وشهدوا أنهم رأوا الهلال ليلة الثلاثين، وفي رواية أحمد وابن ماجه والدارقطني والبيهقي: أغمي علينا هلال شوال فأصبحنا صياماً، فجاء ركب من آخر النهار، فشهدوا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم رأوا الهلال بالأمس. وفي رواية الطحاوي: أنهم شهدوا بعد الزوال، وبه أخذ أحمد وأبوحنيفة وغيرهما أن وقتها إلى زوالها إذ لو كانت صلاة العيد تؤدى بعد الزوال لما أخرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الغد (فأمرهم) أي الناس (أن يفطروا) أي ذلك اليوم؛ لأنه ثبت أنه يوم عيد الفطر (وإذا أصبحوا) أي في اليوم الثاني من شوال (أن يغدوا) أي يذهبوا في الغدوة أي جميعاً (إلى مصلاهم) لصلاة العيد، كما في رواية ابن ماجه وغيره، قال الشوكاني: الحديث دليل لمن قال: إن صلاة العيد تصلى في اليوم الثاني إن لم يتبين العيد إلا بعد خروج وقت صلاته، وإلى ذلك ذهب الأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق وأبوحنيفة وأبويوسف ومحمد، وهو قول للشافعي، وظاهر الحديث أن الصلاة في اليوم الثاني أداء لا قضاء – انتهى. وقال الخطابي في المعالم (ج1 ص252) : وإلى هذا الحديث ذهب الأوزاعي وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وإسحاق. وقال الشافعي: إن علموا بذلك قبل الزوال خرجوا وصلى الإمام بهم صلاة العيد، وإن لم يعلموا إلا بعد الزوال لم يصلوا يومهم ولا من الغد؛ لأنه عمل في وقت إذا جاز ذلك الوقت لم يعمل في غيره، وكذلك قال مالك وأبوثور، قال الخطابي: سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى، وحديث أبي عمير صحيح، فالمصير إليه واجب – انتهى. قلت: وروى البيهقي عن الشافعي ما يدل على أنه علق القول به على صحة هذا الحديث، وقد تقدم أن الحديث صحيح، صححه غير واحد من الأئمة، فالقول به واجب. (رواه أبوداود والنسائي) وأخرجه أيضاً أحمد وابن ماجه في الصيام والدارقطني والبيهقي (ج3 ص316) ، وابن حبان في صحيحه، وسكت عنه أبوداود والمنذري، وصححه الدارقطني والبيهقي والنووي وابن المنذر وابن السكن وابن حزم والخطابي والحافظ ابن حجر في بلوغ المرام. فائدة: اختلف العلماء فيمن لم يدرك صلاة العيد مع الإمام، فذهب المزني ومالك وأبوحنيفة إلى أنه لا يقضيها، وبه قال أحمد، قال ابن قدامة: من فاتته صلاة العيد أي مع الجماعة، فلا قضاء عليه – انتهى. وذهب الشافعي إلى أنه يقضيها، واختلفوا أيضاً في أنه كيف يقضي، فقال أبوحنيفة: إن شاء صلى وإن شاء لم يصل، فإن شاء صلى أربعاً وإن شاء صلى ركعتين، وإليه ذهب أحمد، قال ابن قدامة: من فاتته صلاة العيد فلا قضاء عليه، فإن أحب قضاءها فهو مخير إن شاء صلاها أربعاً، روي هذا

{الفصل الثالث}

{الفصل الثالث} 1465-1466- (26-27) عن ابن جريج قال: أخبرني عطاء عن ابن عباس، وجابر بن عبد الله قالا: لم يكن يؤذن يوم الفطر ولا يوم الأضحى، ثم سألته – يعني عطاء – بعد حين عن ذلك، فأخبرني قال: أخبرني جابر بن عبد الله أن لا أذان للصلاة يوم الفطر حين يخرج الإمام، ولا بعد ما يخرج، ـــــــــــــــــــــــــــــ عن ابن مسعود، وهو قول الثوري، قال ابن مسعود: من فاته العيد مع الإمام فليصل أربعاً - أخرجه سعيد بن منصور بإسناد صحيح -، وإن شاء أن يصلي ركعتين، كصلاة التطوع، وهو قول الأوزاعي، وإن شاء صلاها على صفة صلاة العيد بتكبير وحده أو في جماعة، نقل ذلك عن أحمد إسماعيل بن سعد، واختاره الجوزجاني، وهذا قول النخعي ومالك والشافعي وأبي ثور وابن المنذر أنه يصليها كما يصلي مع الإمام إلا أن مالكاً استحب له ذلك من غير إيجاب، وذلك لما روى البيهقي عن عبد الله بن أبي بكر بن أنس قال: كان أنس إذا فاته العيد مع الإمام جمع أهله فصلى بهم مثل صلاة الإمام في العيد، وروى ابن أبي شيبة عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح قال: من فاته العيد يصلي ركعتين ويكبر؛ ولأنه قضاء صلاة فكان على صفتها كسائر الصلوات. قلت: وإليه ذهب البخاري، كما يدل عليه تبويبه، وهو قول الراجح عندنا. 1465-1466- قوله (عن ابن جريج) بضم الجيم الأولى مصغراً، وهو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي مولاهم المكي، أصله رومي، ثقة، فقيه، فاضل، وكان يدلس ويرسل، مات سنة (150) أو بعدها، وقد جاوز السبعين. قال ابن جريج: لزمت عطاء بن أبي رباح سبع عشرة سنة، وقال ابن عيينة: سمعت أبي عبد الرزاق بن همام عن ابن جريج ما دون العلم تدويني أحد، وقال أحمد: أول من صنف الكتب ابن جريج وابن أبي عروبة (أخبرن عطاء) أي ابن أبي رباح (لم يكن) أي الشأن (يؤذن) أن بالصلاة بفتح الذال المشددة مبنياً للمفعول خبر كان واسمها ضمير الشأن (يوم) عيد (الفطر ولا يوم) عيد (الأضحى) أي في زمنه - صلى الله عليه وسلم -، واليوم منصوب على الظرفية، قال ابن جريج (ثم سألته يعني عطاء) تفسير للضمير المنصوب من المصنف (بعد حين عن ذلك) أي عن تفصيله أو الإعادة لتأكيد الإفادة احتياطاً (فأخبرني) أي عطاء بالتفصيل الآتي (قال) أي عطاء (أخبرني جابر بن عبد الله) الأنصاري (أن) بالتخفيف (لا أذان) أي مشروع (للصلاة) أي لصلاة العيد (يوم الفطر) ترك يوم عيد الأضحى للاكتفاء (حين يخرج الإمام) أي للصلاة (ولا بعد ما يخرج) أي

ولا إقامة ولا نداء ولا شيء، لا نداء يومئذٍ ولا إقامة. رواه مسلم. 1467- (28) وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج يوم الأضحى ويوم الفطر، فيبدأ بالصلاة، فإذا صلى صلاته، قام فأقبل على الناس، وهم جلوس في مصلاهم، فإن كانت له حاجة ببعث ذكره للناس، أو كانت له حاجة بغير ذلك أمرهم بها، وكان يقول: تصدقوا، تصدقوا، تصدقوا، وكان أكثر من يتصدق النساء، ثم ينصرف، فلم يزل كذلك حتى كان مروان ابن الحكم، ـــــــــــــــــــــــــــــ للخطبة، وقال القاري: حين يخرج الإمام أي أول الوقت ولا بعد ما يخرج أي عند إرادته الصلاة (ولا إقامة ولا نداء) تأكيد (ولا شيء) من ذلك قط، وهو تأكيد للنفي (لا نداء) بلا واو (يومئذٍ ولا إقامة) قال الطيبي: تأكيد على تأكيد أن كان من كلام جابر وأن كان من كلام عطاء. ذكره تفريعاً لابن جريج، يعني حدثت لك أنه لم يؤذن ثم سألتني عن ذلك بعد حين – انتهى. واستدل بقوله: ولا إقامة ولا نداء ولا شيء أنه لا يقال إمام صلاة العيد شيء من الكلام، وقد سبق الكلام فيه. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً البيهقي (ج3 ص284) ، وأخرجه البخاري مختصراً عن عطاء عن ابن عباس وجابر قالا: لم يكن يؤذن يوم الفطر ولا يوم الأضحى. 1467- (كان يخرج) أي لصلاة العيد (يوم) عيد (الأضحى ويوم) عيد (الفطر، فيبدأ بالصلاة) أي قبل الخطبة (فإذا صلى صلاته) أي فرغ منها، ووقع في مسلم بعد صلاته لفظ "وسلم" (قام) أي للخطبة (وهم جلوس في مصلاهم) أي مستقبلي القبلة، وهي جملة اسمية حالية (فإن كانت له) أي للنبي - صلى الله عليه وسلم - (حاجة ببعث) أي ببعث عسكر لموضع (ذكره) أي البعث بتفصيله أو المبعوث ممن يريد بعثه (أو كانت له) أي للنبي - صلى الله عليه وسلم - (حاجة بغير ذلك) أي بغير البعث من مصالح المسلمين العامة أو الخاصة (وكان يقول) في أثناء خطبته (تصدقوا، تصدقوا، تصدقوا) التثليث للتأكيد اعتناء بأمر الصدقة؛ لعموم نفعها وشح النفوس بها أو باعتبار من بحذائه ويمينه وشماله (وكان أكثر من يتصدق النساء) قال القاري: أكثر النسخ على رفع أكثر، ونصب النساء، وذلك لأنه – عليه الصلاة والسلام – كان يبالغ في حثهن على الصدقة أكثر، ويعلل ذلك بأنه رآهن أكثر أهل النار لكفرانهن العشير وإكثارهن اللعن والشكاة (ثم ينصرف) أي يرجع إلى بيته (فلم يزل) أي الأمر (كذلك) أي مثل ذلك، على ذلك النوال من تقديم الصلاة على الخطبة، والخطبة بالقيام على الأرض دون المنبر (حتى كان مروان ابن الحكم) قال الطيبي: كان تامة، والمضاف محذوف

فخرجت مخاصراً مروان حتى أتينا المصلى، فإذا كثير بن الصلت ـــــــــــــــــــــــــــــ أي حدوث عهده، أو أمارته يعني على المدينة من قبل معاوية، وهو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية القرشي أبوعبد الملك الأموي، وهو ابن عم عثمان بن عفان، ولد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة اثنتين من الهجرة، وقيل: عام الخندق سنة أربع أو خمس، وقيل: ولد يوم أحد، يعني سنة ثلاث، وقيل غير ذلك. وقال ابن شاهين: مات النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثمان سنين، فيكون مولده بعد الهجرة بسنتين، يقال له رؤية، والصحيح أنه لاي ثبت له صحبة، جزم به جماعة منهم البخاري، قال ابن عبد البر: لم ير النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه خرج إلى الطائف طفلاً لا يعقل، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان قد نفى أباه الحكم الذي أسلم يوم الفتح إليها فلم يزل بها حتى ولي عثمان بن عفان فرده عثمان فقدم المدينة هو وولده في خلافة عثمان، وتوفي أبوه فاستكتبه عثمان وضمه إليه، فاستولى إليه إلى أن قتل عثمان، وكان هو من أسباب قتله، ثم شهد الجمل مع عائشة، ثم صفين مع معاوية، ثم ولى إمرة المدينة لمعاوية ثم لم يزل بها إلى أن أخرجهم ابن الزبير في أوائل إمرة يزيد بن معاوية، فكان ذلك من أسباب وقعة الحرة، وبقي بالشام إلى أن مات معاوية بن يزيد بن معاوية، فبايعه بعض أهل الشام سنة (64) في قصة طويلة ثم كانت الوقعة بينه وبين الضحاك بن قيس، وكان أميراً لابن الزبير فانتصر مروان وقتل الضحاك واستوثق له ملك الشام، ثم توجه إلى مصر فاستولى عليها ثم بغته الموت، فعهد إلى ولده عبد الملك فكانت خلافته تسعة أشهر، ومات في صدر رمضان سنة (65) وله (63) أو (61) سنة، وهو أول من ضرب الدنانير الشامية التي يباع الدينار منها بخمسين، وكتب عليها قل هو الله أحد، وكان يعد في الفقهاء، قال عروة بن الزبير: كان مروان لا يتهم في الحديث، وقد روى عنه سهل بن سعد الساعدي الصحابي اعتماداً على صدقه، وإنما نقموا عليه أنه رمى طلحة يوم الجمل بسهم فقلته، ثم شهر السيف في طلب الخلافة حتى جرى ما جرى. قال الحافظ: فأما قتل طلحة فكان متأولاً فيه، كما قرره الإسماعيل وغيره، وأما بعد ذلك فإنما حمل عنه سهل بن سعد وعروة وعلي بن الحسين وأبوبكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وهؤلاء أخرج البخاري أحاديثهم عنه في صحيحه لما كان أميراً عندهم في المدينة قبل أن يبدو منه في الخلافة على ابن الزبير ما بدا. والله تعالى أعلم، وقد اعتمد مالك على حديثه ورأيه والباقون سوى مسلم – انتهى. (فخرجت) لصلاة العيد (مخاصراً) حال من الفاعل (مروان) مفعوله، والمخاصرة أن يأخذ رجل بيد رجل يتماشيان فيقع يد كل واحد منهما عند خاصرة صاحبه عبارة عن شدة التصاقهما في المشي (فإذا) للمفاجأة (كثير بن الصلت) كثير ضد القليل، والصلت – بفتح الصاد المهملة وسكون اللام ثم مثناة فوقية -، وهو كثير بن الصلت بن معدي كرب الكندي المدني، ثقة من كبار التابعين، ووهم من جعله صحابياً، قاله الحافظ في التقريب، وقال في الفتح: تابعي كبير، ولد في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، جزم به البخاري وأبوحاتم

قد بنى منبراً من طين ولبن، ـــــــــــــــــــــــــــــ والعسكري وابن حبان وابن منده وابن عبد البر وغيرهم. وقدم المدينة هو وإخوته بعده فسكنها وحالف بني جمح، وروى ابن سعد بإسناد صحيح إلى نافع قال: كان اسم كثير بن الصلت قليلاً فسماه عمر كثيراً، ورواه أبوعوانة فوصله بذكر ابن عمر، ورفعه بذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -، والأول أصح، وقد صح سماه كثير من عمر فمن بعده وكان له شرف وذكر، وهو ابن أخي جَمْدٍ أحد ملوك بني كندة الذين قتلوا في الردة، وقد ذكر أبوه الصلت في الصحابة لابن منده، وفي صحة ذلك نظر – انتهى. وقال الذهبي في التجريد: الصلت الكندي مختلف في صحبته – انتهى. قلت: وذكر الحافظ كثيراً هذا في الإصابة في القسم الثاني من حرب الكاف فيمن له رؤية اعتماداً على رواية أبي عوانة وشاهدها الذي ذكره الفاكهي، قال: ولهذا ساغ ذكره في هذا القسم، فكأنه كان ولد قبل أن يهاجر أبوه وهاجر به معه ثم رجع إلى بلده ثم هاجر كثير – انتهى. (قد بنى منبراً من طين ولبن) بكسر الباء الآجر قبل الطبخ لتكون الخطبة عليه، واختص كثير ببناء المنبر بالمصلى لأن داره كانت مجاورة للمصلى، كما في حديث ابن عباس عند البخاري أنه - صلى الله عليه وسلم - أتى في يوم العيد إلى العلم الذي عند دار كثير بن الصلت. قال ابن سعد: كانت دار كثير بن الصلت قبلة المصلى في العيدين، وهي تطل على بطن بطحان الوادي الذي في وسط المدينة – انتهى. قال السمهودي: وليس المراد أنها متصلة بوادي بطحان، بل بينهما بُعد، ودار كثير هذه كانت قبله للوليد بن عتبة ثم اشتهرت بكثير بن الصلت، وهو من التابعين، ولد في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - فوقع التعريف بداره ليقرب إلى ذهن السامع فهم ذلك، وليس كثير بن الصلت هو الذي اختطها خلافاً لما وقع في كلام الحافظ ابن حجر، حيث قال: وإنما بنى كثير بن الصلت داره بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بمدة، لكنها لما صارت شهيرة في تلك البقعة وصف المصلى بمجاورتها، فتعريفه بكونه عند دار كثير بن الصلت على سبيل التقريب للسامع، وإلا فداره محدثة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفيه دليل على أنه لم يكن في المصلى في زمانه - صلى الله عليه وسلم - منبر، وأن أول من اتخذه مروان، وقد وقع في المدونة لمالك ورواه عمر بن شبة عن أبي غسان عنه قال: أول من خطب الناس في المصلى على المنبر عثمان بن عفان كلمهم على منبر من طين بناه كثير بن الصلت، وهذا معضل وما في الصحيحين أصح، فقد رواه البخاري نحو رواية مسلم، وقد ذكرنا لفظه في شرح أول حديث الباب، ويحتمل أن يكون عثمان فعل ذلك مرة ثم تركه حتى أعاده مروان ولم يطلع على ذلك أبوسعيد، كذا في الفتح، ولا يخالف هذا ما روى أحمد وأبوداود وابن ماجه عن إسماعيل بن رجاء عن أبيه قال: أخرج مروان المنبر يوم عيد وبدأ بالخطبة قبل الصلاة فقام إليه رجل فقال: يا مروان خالفت السنة ... الحديث؛ لأنه يمكن الجمع بينهما فلعل مروان لما أنكروا عليه إخراج المنبر ترك إخراجه بعد وأمر ببنائه من لبن وطين بالمصلى، ولا بُعد في أن ينكر عليه تقديم

فإذا مروان ينازعني يده، كأنه يجرني نحو المنبر وأنا أجره نحو الصلاة، فلما رأيت ذلك منه قلت: أين الابتداء بالصلاة؟ فقال: لا يا أباسعيد! قد ترك ما تعلم، قلت: كلا والذي نفسي بيده لا تأتون بخير مما أعلم – ثلاث مرار – ثم انصرف. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الخطبة على الصلاة مرة بعد أخرى (فإذا مروان) هي كالتي قبلها للمفاجأة، أي فاجأنا مكان المنبر زمان الإتيان والمنازعة (ينازعني) أي يجازبني (يده) بالرفع بدل بعض من ضمير الفاعل وينصب على أنه مفعول ثانٍ (فلما رأيت ذلك) أي عزمه المنجر إلى الإصرار وعدم الانقياد بالانجرار (منه) أي من مروان (قلت) له (أين الابتداء بالصلاة) أي تقديم الصلاة على الخطبة (فقال: لا) أي لا يبتدأ بالصلاة أو لا يعتقد أن تقديم الصلاة هو السنة (يا أباسعيد قد ترك ما تعلم) أي من تقديم الصلاة على الخطبة، وقد أتينا بما هو خير من ذلك، ولذلك أجابه بقوله: لا تأتون بخير مما أعلم، لأني أعلم سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنة الخلفاء الراشدين بعده (كلا) كلمة ردع (ثلاث مرار) راءين أي قال أبوسعيد ذلك ثلاث مرات، وإنما كرره لينزجر عن إحداثه (ثم انصرف) أي أبوسعيد من جهة المنبر إلى جهة الصلاة؛ لما في رواية البخاري أنه صلى معه وكلمه في ذلك بعد ذلك، ولفظه: فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي، فجبذت بثوبه، فجبذني فارتفع، فخطب قبل الصلاة، فقلت له: غيرتم والله، فقال: أباسعيد قد ذهب ما تعلم، فقلت: ما أعلم والله خير مما لا أعلم، فقال: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة، فجعلتها قبل الصلاة – انتهى. فيه أن الخطبة على الأرض عن قيام أولى من القيام على المنبر، وفيه إنكار العلماء على الأمراء إذا صنعوا ما يخالف السنة، وفيه حلف العالم على صدق ما يخبر به والمباحثة في الأحكام وجواز عمل العالم بخلاف الأولى إذا لم يوافقه الحاكم على الأولى؛ لأن أباسعيد حضر الخطبة ولم ينصرف، فيستدل به على أن البداءة بالصلاة فيها ليس بشرط في صحتها، والله أعلم. (رواه مسلم) أي بهذا السياق، ورواه البخاري بمعناه بزيادة، وأخرجه أيضاً البيهقي (ج3 ص280، 297) . هذا وقد بقيت مسائل من باب العيدين لم يذكر المصنف أحاديثها، وهي مما لا غنى عنه للطالب، ولنذكر طائفة من هذه المسائل مع الإشارة إلى أحاديثها وآثارها، ومن أحب البسط والتفصيل رجع إلى مظانها من كتب الفقة الجامع وشروح الحديث كالمغني لابن قدامة والروضة الندية والنيل، فمنها أنه يستحب الاغتسال للعيدين بالإجماع، وقد ورد فيه حديثان ضعيفان، حديث ابن عباس عند ابن ماجه، وحديث الفاكه بن سعد عند البزار والبغوي وابن قانع وعبد الله بن أحمد في زيادات المسند، ورواه البزار من حديث أبي رافع، وسنده ضعيف أيضاً، وفي الباب من الموقوف عن علي رواه الشافعي، وعن ابن عمر رواه مالك، ووقت الغسل بعد طلوع الفجر، وقيل: قبل

.......................... ـــــــــــــــــــــــــــــ الفجر وبعده، وهو لليوم فيستوي فيه الذاهب إلى الصلاة والقاعد، ويندب لبس أحسن الثياب والتطيب بأجود الأطياب، لما روي فيه من حديث الحسن بن علي عند الطبراني في الكبير والحاكم، ولحديث جابر عند ابن خزيمة وحديث ابن عباس عند الطبراني في الأوسط، ومنها أنه يستحب أن يخرج إلى العيدين ماشياً وعليه السكينة والوقار؛ لعموم قوله: ((إذا أتيتم الصلاة فأتوها وأنتم تمشون)) ، ولحديث علي عند الترمذي وابن ماجه وحديث عمر وسعد القرظ عند ابن ماجه وحديث سعد بن أبي وقاص عند البزار، وهذه الأحاديث الأربعة ضعيفة، وإن كان له عذر أو كان مكانه بعيداً فركب فلا بأس، ومال البخاري إلى التسوية بين المشي والركوب، كما يدل عليه تبويبه؛ لما رأى من عدم صحة الأحاديث في المشي فرجع إلى الأصل في التوسعة، ومنها أنه يشرع التكبير في العيدين عند الجماهير، وهو واجب فيهما عند بعض العلماء، والأكثر على أنه سنة، وهو الراجح لعدم ما يدل على الوجوب فيبقى على الأصل، ومنها أنه يستحب أن يكبر في طريق العيدين ويجهر بالتكبير إلى أن يصلي؛ لحديث ابن عمر عند الدارقطني والحاكم والبيهقي مرفوعاً وموقوفاً وصحح البيهقي وقفه. قال الحاكم: هذه سنة تدولها أئمة الحديث، وقد صحت به الرواية عن ابن عمر وغيره من الصحابة، وفي الصغير والأوسط للطبراني عن أبي هريرة مرفوعاً: ((زينوا أعيادكم بالتكبير)) ، قال الحافظ: إسناده غريب، وقال الهيثمي: فيه عمر بن راشد، ضعفه أحمد وابن معين والنسائي، وقال العجلي: لا بأس به، وفي الباب عن الزهري مرسلاً عند أبي بكر النجاد وابن أبي شيبة. قال ابن الهمام: الخلاف في الجهر بالتكبير في الفطر لا في أصله؛ لأنه داخل في عموم ذكر الله تعالى، فعندهما يجهر به كالأضحى وعنده لا يجهر، وعن أبي حنيفة كقولهما – انتهى. ومنها أنه يستحب عند كثير من أهل العلم أن يفتتح الخطبة بتسع تكبيرات تترى، والثانية بسبع تكبيرات تترى، أخرجه البيهقي وابن أبي شيبة من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: السنة أن تفتتح ... الخ، وهو من فقهاء التابعين، وليس قول التابعي من السنة ظاهراً في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال ابن القيم: وأما قول كثير من الفقهاء أنه تفتتح خطبة الاستسقاء بالاستغفار وخطبة العيدين بالتكبير فليس معهم فيها سنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - البتة، والسنة تقتضي خلافه، وهو افتتاح جميع الخطب بالحمد – انتهى. ويستحب أن يكثر التكبير في أثناء الخطبة، لما روى ابن ماجه بسند ضعيف عن سعد بن قرظ المؤذن قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكبر بين أضعاف الخطبة يكثر التكبير في خطبة العيدين، وصفة التكبير أن يقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيراً. أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن سلمان، وقيل: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد. أخرجه الدارقطني عن جابر مرفوعاً، وقيل غير ذلك، وهو يدل على التوسعة في الأمر، وإطلاق الآية يقتضي ذلك. ومنها أنه إذا أدرك الإمام في التشهد جلس معه فإذا سلم الإمام قام فصلى ركعتين يأتي فيهما بالتكبير؛ لأنه أدرك بعض الصلاة فقضاها على صفتها كسائر الصلوات.

(48) باب في الأضحية

(48) باب في الأضحية ـــــــــــــــــــــــــــــ ومنها أن خطبتي العيدين سنة لا يجب حضورها ولا استماعها، لما روى عبد الله بن السائب قال: شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العيد فلما قضى الصلاة قال: ((إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب)) . أخرجه النسائي وابن ماجه، ورواه أبوداود وقال: مرسل، وقال النسائي: هذا خطأ، والصواب مرسل، قال المجد بن تيمية: فيه بيان أن الخطبة سنة، إذ لو وجبت وجب الجلوس لها، قال الشوكاني: قد اتفق الموجبون لصلاة العيد وغيرهم على عدم وجوب خطبته، ولا أعرف قائلاً يقول بوجوبها – انتهى. (باب في الأضحية) بضم الهمزة وكسرها، وهي اسم للمذبوح يوم النحر، قال الأصمعي: فيها أربع لغات: الأولى والثانية: أُضحيّة وإِضحيّة – بضم الهمزة وكسرها – وجمعها أضاحي بتشديد الياء وتخفيفها. والثالثة: ضَحِيّة – بفتح الضاد بعد حذف الهمزة – وجمعها ضحايا، كهدية وهدايا، والرابعة: أضحاة – بفتح الهمزة – والجمع أضحى كأرطاة وأرطى، وبها سمي يوم الأضحى. قال القاضي: وقيل: سميت بذلك لأنها تفعل في وقت الضحى، وهو ارتفاع النهار. قال النووي: وفي الأضحى لغتان: التذكير لغة قيس، والتأنيث لغة تميم، وهو منصرف. وقال الطيبي: الأضحية ما يذبح يوم النحر على وجه القربة، وبه سمي يوم الأضحى، ويقال: ضحى بكبش أو غيره إذا ذبحه وقت الضحى من أيام الأضحى، ثم كثر حتى قيل ذلك ولو ذبح آخر النهار – انتهى. والأصل في مشروعيتها الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: {فصل لربك وانحر} [الكوثر: 2] أي صل صلاة العيد وانحر النسك أي الأضحية، كما قاله جمع من المفسرين، وأما السنة فما روي في ذلك من أحاديث الباب، وهي متواترة من جهة المعنى؛ لأنها مشتركة في أمر واحد، وهو مشروعية الأضحية، وأما الإجماع فهو ظاهر لا خلاف في كونها من شرائع الدين، وقد تواتر عمل المسلمين بذلك من زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا، وهي من سنة إبراهيم – عليه السلام – لقوله تعالى: {وفديناه بذبح عظيم} [الصافات: 107] ، واختلف هل هي سنة أو واجبة؟ فذهب أكثر أهل العلم إلى أنها سنة مؤكدة غير واجبة، روي ذلك عن أبي بكر وعمر وبلال وأبي مسعود البدري، وبه قال ابن المسيب وعلقمة والأسود وعطاء والشافعي وأحمد وإسحاق وأبوثور وابن المنذر وأبويوسف ومحمد وداود والبخاري وغيرهم. قال ابن حزم: لا يصح عن أحد من الصحابة أنها واجبة، وصح أنها غير واجبة عن الجمهور، ولا خلاف في كونها من شرائع الدين. وقال ربيعة ومالك والثوري والأوزاعي والليث وأبوحنيفة: هي واجبة على الموسر، والمشهور عن أبي حنيفة أنه قال: إنما نوجبها على مقيم يملك نصاباً. قال الحافظ في الفتح: هي عند الشافعية والجمهور سنة مؤكدة على الكفاية، وفي وجه للشافعية من فروض الكفاية، وعن أبي حنيفة: تجب على المقيم الموسر، وعن مالك مثله في رواية، لكن لم يقيد بالمقيم، ونقل عن الأوزاعي وربيعة والليث مثله، وخالف أبويوسف من الحنفية، وأشهب من المالكية،

............................ ـــــــــــــــــــــــــــــ فوافقا الجمهور. وقال أحمد: يكره تركها مع القدرة، وعنه: واجبة، وعن محمد بن الحسن: هي سنة غير مرخص في تركها، قال الطحاوي: وبه نأخذ، وليس في الآثار ما يدل على وجوبها – انتهى. واستدل من قال بالوجوب بقوله تعالى: {فصل لربك وانحر} والأمر للوجوب، وأجيب بأن المراد تخصيص الرب بالنحر لا للأصنام، فالأمر متوجه إلى ذلك؛ لأنه القيد الذي يتوجه إليه الكلام ولا شك في وجوب تخصيص لله بالصلاة والنحر، واستدلوا أيضاً بحديث: ((من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا)) ، أخرجه أحمد وابن ماجه والبيهقي وابن أبي شيبة وأبويعلى والدارقطني والحاكم من حديث أبي هريرة. قال الحافظ في الفتح: رجاله ثقات، لكن اختلف في رفعه ووقفه، والموقوف أشبه بالصواب، قاله الطحاوي وغيره ومع ذلك فليس صريحاً في الإيجاب – انتهى. وقال ابن الجوزي في التحقيق: هذا الحديث لا يدل على الوجوب، كما في حديث ((من أكل الثوم فلا يقربن مصلانا)) ، واستدلوا أيضاً بحديث مخنف بن سليم الآتي في باب العتيرة، ولا حجة فيه؛ لأن الصيغة ليست صريحة في الوجوب المطلق، وقد ذكر معها العتيرة وليس بواجبة عند من قال بوجوب الأضحية. وقال البيهقي في المعرفة: إن صح هذا فالمراد به على طريق الاستحباب، بدليل أنه قرن بين الأضحية والعتيرة، والعتيرة غير واجبة بالإجماع – انتهى. وقال ابن قدامة في المغني: حديث أبي هريرة وحديث مخنف بن سليم محمولان على تأكيد الاستحباب، كما قال: ((غسل الجمعة واجب على كل محتلم)) ، وقال: ((من أكل من هاتين الشجرتين فلا يقربن مصلانا)) ، واستدلوا أيضاً بحديث ابن عمر قال: أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين يضحي، أخرجه الترمذي، وفي سنده حجاج بن أرطاة، وهو كثير الخطأ والتدليس، ورواه عن نافع بالعنعنة، قال القاري: مواظبته دليل الوجوب، وفيه أن مجرد مواظبته – عليه السلام – على فعل ليس دليل الوجوب، كما لا يخفى، واستدلوا أيضاً بما روي في حديث البراء وأنس عند الشيخين، وحديث جابر عند أحمد ومسلم من الأمر بإعادة الذبح لمن ذبح قبل الصلاة، قالوا: الأمر ظاهر في الوجوب، وأجيب بأن المقصود بيان شرط الأضحية المشروعة، فهو كما قال لمن صلى راتبة الضحى قبل طلوع الشمس: إذا طلعت الشمس فأعد صلاتك، واستدل من قال بعدم الوجوب بحديث أم سلمة الآتي. قال البيهقي في المعرفة: قال الشافعي في هذا الحديث دليل على عدم وجوب الأضحية؛ لأنه علقه بالإرادة، والإرادة تنافي الوجوب، وقال الشوكاني في حديث أم سلمة: ربما كان صالحاً لصرف الأمر عن الوجوب إلى الاستحباب لقوله: ((وأراد أحدكم أن يضحي)) ؛ لأن التفويض إلى الإرادة يشعر بعدم الوجوب، واستدلوا أيضاً بحديث ابن عباس رفعه: ((ثلاث هن علي فرائض ولكم تطوع: النحر والوتر وركعتا الضحى)) أخرجه البزار وابن عدي والحاكم والبيهقي وغيرهم. وأجيب بأن هذا الحديث ضعيف غير صالح للاحتجاج، وقد صرح الحافظ بأن الحديث ضعيف من جمع طرقه، واستدلوا أيضاً بما أخرجه البيهقي عن أبي بكر وعمر أنهما كانا لا يضحيان كراهة أن يظن من رآهما

{الفصل الأول}

{الفصل الأول} 1468- (1) عن أنس قال: ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أملحين أقرنين، ـــــــــــــــــــــــــــــ أنها واجبة، وكذلك أخرج عن ابن عباس وبلال وأبي مسعود وابن عمر، وقد ظهر بما ذكرنا رجحان قول من ذهب إلى أن الأضحية سنة مؤكدة غير واجبة، يكره تركها لمن يقدر عليها، ووهن قول من ذهب إلى وجوبها، وذهب الشوكاني إلى وجوبها إذ قال في السيل الجرار بعد ذكر دلائل الوجوب: وبهذا تعرف أن الحق ما قاله الأقلون من كونها واجبة، ولكن هذا الوجوب مقيد بالسعة، فمن لا سعة له لا أضحية عليه – انتهى. واعلم أنه يتعين عندنا التضحية وإراقة الدم سواء كانت الأضحية سنة أو واجبة، ولا يكفي الصدقة بقيمتها؛ لأنه لم ينقل ولو بسند ضعيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء بعده آثروا الصدقة على الأضحية قط، ولأن الصدقة بقيمتها تفضي إلى ترك شعار عظيم من شعائر الإسلام، فإراقة الدم والذبح متعين لمن يقدر عليه، والله تعالى أعلم. 1468- قوله (ضحى) من التضحية، وفي رواية: كان يضحي، وفيها إشعار بالمداومة على ذلك، فتمسك به من قال الضأن في الأضحية أفضل ضرورة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يداوم إلا على ما هو الأفضل، وسيأتي الكلام في ذلك (بكبشين) الكبش – بفتح فسكون – فحل الضأن في أي سن كان، واختلف في ابتدائه، فقيل: إذا أثنى، وقيل: إذا أربع – أي خرجت رباعيته -، واستدل به على اختيار العدد في الأضحية، ومن ثم قال الشافعية: إن الأضحية بسبع شياه أفضل من البعير؛ لأن الدم المراق فيها أكثر والثواب يزيد بحسبه، وأن من أراد أن يضحي بأكثر من واحد يعجله، وحكى الروياني من الشافعية: التفريق على أيام النحر، قال النووي: هذا أرفق بالمساكين، لكنه خلاف السنة، كذا قال. والحديث دال على اختيار التثنية، ولا يلزم منه أن من أراد أن يضحي بعدد فضحى أول يوم باثنين ثم فرق البقية على أيام النحر أن يكون مخالفاً للسنة، قاله الحافظ، وفيه أن الذكر في الأضحية أفضل من الأنثى؛ لأن لحمه أطيب (أملحين) بالحاء المهملة تثنية أملح من الملحة، وهي بياض يخالطه سواد كالملح محركة، كذا في القاموس، وفي معنى الأملح أقوال؛ قال العراقي: أصحها أنه الذي فيه بياض وسواد، والبياض أكثر، وقيل: هو الأبيض الخالص، وبه تمسك الشافعية في تفضيل الأبيض في الأضحية، وقيل: هو الأغبر أي الأبيض المشوب بشيء من السواد، وقيل: هو الأسود الذي يعلوه حمرة، وقيل: هو الذي يخالط بياضه حمرة، وقيل: هو الأبيض الذي في خلال صوفه الأبيض طبقات سود، واختار هذه الصفة لحسن منظره. وقيل: لشحمه وطيب لحمه (أقرنين) أي لكل منهما قرنان معتدلان، قاله الحافظ. وقال النووي: الأقرن الذي له قرنان حسنان، وقيل: طويل القرنين أو عظيمهما، وقيل: سالم القرنين، وفيه استحباب التضحية بالأقرن،

ذبحهما بيده وسمى وكبر، قال: رأيته واضعاً قدمه على صفاحهما، ويقول: بسم الله والله أكبر. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأنه أفضل من الأجم مع الاتفاق على جواز التضحية بالأجم، وهو الذي لم يخلق له قرن، واستدل به على مشروعية استحسان الأضحية صفة ولوناً، قال الماوردي: إن اجتمع حسن المنظر مع طيب المخبر في اللحم فهو أفضل، وإن انفردا فطيب المخبر أولى من حسن المنظر. وقال أكثر الشافعية: أفضلها البيضاء ثم الصفراء ثم الغبراء ثم البلقاء ثم السوداء (ذبحهما بيده) وهو المستحب لمن يعرف آداب الذبح ويقدر عليه، وإلا فليحضر عند الذبح؛ لما روى الحاكم والبيهقي بسند ضعيف عن عمران بن حصين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لفاطمة: ((قومي إلى أضحيتك فاشهديها، فإنه يغفر لك عند أول قطرة من دمها كل ذنب عملتيه ... )) الحديث، وروي أيضاً من حديث أبي سعيد الخدري أخرجه الحاكم، وفيه عطية، وقد قال أبوحاتم: إنه حديث منكر، ورواه الحاكم أيضاً، والبيهقي من حديث علي، وفيه عمرو بن خالد الواسطي، وهو متروك، قال المظهر: في الحديث أن السنة أن يذبح كل واحد أضحيته بيده؛ لأن الذبح عبادة والعبادة أفضلها أن يباشر كل بنفسه، ولو وكل غيره جاز، أي لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استناب من نحر باقي بدنه بعد ثلاث وستين، وهذا لا شك فيه، قال الحافظ: وقد اتفقوا على جواز التوكيل فيها للقادر، لكن عند المالكية رواية بعدم الإجزاء مع القدرة، وعند أكثرهم يكره، لكن يستحب أن يشهدها، ومذهب الشافعية أن الأولى للمرأة أن توكل في ذبح أضحيتها ولا تباشر الذبح بنفسها (وسمى وكبر) أي قال: بسم الله والله أكبر. والواو الأولى لمطلق الجمع، فإن التسمية قبل الذبح، وفيه مشروعية التسمية عند الذبح، وهي شرط في صفة الذبح مع الذكر، وتسقط بالسهو والنسيان عند مالك والثوري وأبي حنيفة، وهو المشهور من مذهب أحمد، وهو المروي عن ابن عباس، وعن أحمد: أنها مستحبة غير واجبة في عمد ولا سهو، وبه قال الشافعي. والقول الراجح عندنا هو ما ذهب إليه الجمهور. وأما التكبير فهو مستحب عند الجميع، قال ابن قدامة: لا نعلم في استحباب التكبير مع التسمية خلافاً، ولا في أن التسمية مجزئة – انتهى. ثم الجمهور على أنه تكره الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الذبح، وخالفهم الشافعي وقال: إنه يستحب، والراجح عندنا قول الجمهور. (قال) أي أنس (رأيته) - صلى الله عليه وسلم - (واضعاً) حال (قدمه) بالنصب على صفاحهما – بكسر الصاد المهملة وتخفيف الفاء وآخره حاء مهملة – جمع صفح – بفتح فسكون -، وهو الجنب. وقيل: جمع صفحة وهو عرض الوجه، وقيل: صفحة كل شيء جانبه، وجمع وإن كان وضعه - صلى الله عليه وسلم - قدمه إنما كان على صفحتيهما إما باعتبار أن الصفحتين من كل واحد في الحقيقة موضوع عليهما القدم المبارك؛ لأن إحداهما مما يلي الأخرى مما يلي الرجل أو هو من باب قطعت رؤس الكبشين. قال العيني: لعله على مذهب من قال: إن أقل الجمع اثنان، كقوله تعالى: {فقد صغت قلوبكما} [التحريم: 4] ، فكأنه قال: صفحتيهما، وإضافة المثنى إلى المثنى تفيد التوزيع، فكان معناه وضع رجله على صفحة كل منهما، وقال الحافظ: الصفاح الجوانب، والمراد الجانب الواحد

متفق عليه. 1469- (2) وعن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بكبشين أقرن، يطأ في سواد، ويبرك في سواد، وينظر في سواد، فأتي به ليضحي به، قال: ((يا عائشة! هلمي المدية، ثم قال: اشحذيها بحجر)) ، ـــــــــــــــــــــــــــــ من وجه الأضحية وإنما ثنى إشارة إلى أنه فعل ذلك في كل منهما فهو من إضافة الجمع إلى المثنى بإرادة التوزيع، وفعل ذلك ليكون أثبت له وأمكن لئلا تضطرب الذبيحة برأسها فتمنعه من إكمال الذبح أو تؤذيه أو تنجسه، قال الحافظ: وفيه استحباب وضع الرجل على صفحة عنق الأضحية الأيمن، واتفقوا على أن إضجاعها يكون على الجانب الأيسر، فيضع رجله على الجانب الأيمن ليكون أسهل على الذبح في أخذ السكين باليمين وإمساك رأسها بيده اليسار – انتهى. وقال ابن القاسم: الصواب أن يضجعها على شقها الأيسر وعلى ذلك عمل المسلمين، فإن جهل فأضجعها على الشق الآخر لم يحرم أكلها. (متفق عليه) فيه أن قوله: ويقول بسم الله والله أكبر، من أفراد مسلم دون البخاري، والحديث أخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج9 ص259 و283) وغيرهم. 1469- قوله (أمر بكبش) أي بأن يؤتى به إليه (يطأ) الأرض ويمشي (في سواد) أي في قوائمه سواد (ويبرك) أي يتنوخ (في سواد) أي في بطنه وصدره سواد (وينظر في سواد) أي مكحول في عينيه سواد وباقيه أبيض، وهو أجمل، وقيل: ينظر في سواد أي حوالي عينيه سواد، قال النووي: قوله: ((يطأ في سواد ... )) الخ معناه أن قوائمه وبطنه وما حول عينيه سود، وقال الخطابي: يريد أن أظلافه ومواضع البروك منه وما أحاط بملاحظ عينيه من وجهه أسود، وسائر بدنه أبيض – انتهى. وفيه دليل على أنها تستحب التضحية بما كان على هذه الصفة. وأخرج أحمد والترمذي وصححه وأبوداود والنسائي وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري قال: ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكبش أقرن فحيل يأكل في سواد ويمشي في سواد وينظر في سواد، ولا اختلاف بينهما وبين حديث أنس المتقدم لحملهما على حالين، فكان ما في حديث عائشة وأبي سعيد في مرة أخرى. (فأتي به) أي فجيء بالكبش (ليضحي به) علة لأمره – عليه السلام – (هلمي المدية) أي هاتيها، قال الطيبي: بنو تميم تثني وتجمع وتؤنث، وأهل الحجاز يقولون هلم في الكل – انتهى. ومنه قوله تعالى: {قل هلم شهداءكم} [الأنعام: 150] أي أحضروهم، والمدية – بضم الميم وكسرها وفتحها – وهي السكين، قيل: بضم الميم أصح من الكسر والفتح (أشحذيها) بفتح الحاء المهملة وبالذال المعجمة، أي حدديها (بحجر) من الأحجار، يقال: شَحَذْتُ السيف والسكين، إذا حددته بالمسن

ففعلت، ثم أخذها وأخذ الكبش، فأضجعه ثم ذبحه، ثم قال: ((بسم الله، الله تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد)) ، ثم ضحى به. ـــــــــــــــــــــــــــــ وغيره مما يستخرج به حدها، وكذلك شحثتها – بالثاء -؛ لأن الثاء والذال متقاربان، وهذا موافق لحديث شداد بن أوس عند مسلم في الأمر بإحسان الذبح وإحداد الشفرة، ففيه استحباب إحسان الذبح وكراهة التعذيب كأن يذبح بما في حده ضعف. (وأخذ الكبش فأضجعه) على جنبه الأيسر (ثم ذبحه) أي أراد ذبحه (ثم ضحى به) أي فعل الأضحية بذلك الكبش، قاله القاري. وقال الطيبي: ثم في قوله: "ثم قال: بسم الله" للتراخي في الرتبة وأنها هي المقصودة الأولية، وإلا فالتسمية مقدمة على الذبح، ومن ثم كنى بها عن الذبح في قوله تعالى: {والبدن جعلناها لكم من شعائر الله فاذكروا اسم الله عليها} [الحج: 36] قال: وقوله: "ثم ضحى به" أي غدى، كما في الأساس يعني غدى الناس به، أي جعله طعام غداء لهم، وقال النووي: هذا الكلام فيه تقديم وتأخير، وتقديره: فأضجعه ثم أخذ في ذبحه قائلاً: بسم الله ... الخ مضحياً به ولفظة " "ثم" ههنا متأولة على ما ذكرته بلا شك، وفيه استحباب إضجاع الغنم في الذبح، وأنها لا تذبح قائمة ولا باركة بل مضجعة؛ لأنه أرفق بها، وبهذا جاءت الأحاديث وأجمع المسلمون عليه، قال: وفي قوله: ((اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد)) دليل لاستحباب قول المضحي حال الذبح مع التسمية والتكبير: اللهم تقبل مني، قال أصحابنا: ويستحب معه: اللهم منك وإليك تقبل مني، فهذا مستحب عندنا وعند الحسن وجماعة، وكرهه أبوحنيفة وكره مالك: اللهم منك وإليك، وقال: هي بدعة – انتهى. وقال ابن قدامة: إن زاد أي على التسمية والتكبير فقال: اللهم هذا منك ولك اللهم تقبل مني أو من فلان فحسن، وبه قال أكثر أهل العلم. وقال أبوحنيفة: يكره أن يذكر اسم غير الله لقول الله تعالى: {وما أهل لغير الله به} [المائدة: 3] ، ولنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بكبش ليضحي به فأضجعه ثم قال: اللهم تقبل من محمد وآل محمد وأمة محمد ثم ضحى به. رواه مسلم. وفي حديث جابر – عند أبي داود وابن ماجه والبيهقي – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اللهم منك ولك عن محمد وأمته، بسم الله والله أكبر)) ثم ذبح، وهذا نص لا يعرج على خلافه – انتهى. قال الخرقي: وليس عليه أن يقول عند الذبح عمن؛ لأن النية تجزئ. قال ابن قدامة: لا أعلم خلافاً في أن النية تجزئ، وإن ذكر من يضحى عنه فحسن، لما روينا من الحديث. قال الحسن: يقول بسم الله والله أكبر، هذا منك ولك، تقبل من فلان، وكره أهل الرأي هذا، كما ذكرنا – انتهى. وفيه دليل على أنه إذا ذبح واحد عن أهل بيته بشاة تأدت السنة لجميعهم. وبهذا قال أحمد والليث والأوزاعي وإسحاق، وروى ذلك عن ابن عمر وأبي هريرة، وقال الثوري وأبوحنيفة: لا تجزئ الشاة إلا عن نفس واحدة، والحديث يرد عليهما، وتأويله بإشراك الآل في الثواب خلاف الظاهر، والقول بالنسخ أو التخصيص مردود؛ لأه مجرد دعوى. قال الخطابي في المعالم: قوله ((تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد)) دليل على أن الشاة الواحدة تجزئ عن الرجل وعن أهله وإن كثروا.

رواه مسلم. 1470- (3) وعن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تذبحوا إلا مسنة، ـــــــــــــــــــــــــــــ وروي عن ابن عمر وأبي هريرة أنهما كانا يفعلان ذلك، وأجاز مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه - انتهى. وفي الباب أحاديث ذكرها شيخنا في شرح الترمذي (ج2 ص357، 358) ، وبسط الكلام فيه فارجع إليه (رواه مسلم) في الأضاحي، وأخرجه أيضاً أبوداود والبيهقي (ج3 ص267، 272، 286) . 1470- قوله (لا تذبحوا إلا مسنة) - بضم الميم وكسر السين وبالنون المشددة - اسم فاعل من أسنت إذا طلع سنها لا من أسن الرجل إذا كبر، قاله السندي في حاشية النسائي، وقال ابن عابدين في رد المحتار (ج2 ص24) - في شرح قوله: وفي أربعين مسن ذو سنتين - قوله "مسن" - بضم الميم وكسر السين - مأخوذ من الأسنان، وهو طلوع السن في هذه السنة لا الكبر، قهستاني عن ابن الأثير - انتهى. وقال في (ج2 ص31) : سميت بذلك لأن عمرها يعرف بالسن واحدة الأسنان بخلاف الآدمي - انتهى. وفي القاموس وشرحه (ج9 ص243) يقال: أسن البعير إذا نبت سنه الذي يصير به مسناً من الدواب وفيهما أيضاً. وفي لسان العرب (ج17 ص86) والبقرة والشاة يقع عليهما اسم المسن إذا أثنيا فإذا سقطت ثنيتهما بعد طلوعها فقد أسنت، وليس في معنى أسنانها كبرها كالرجل، ولكن معناه طلوع ثنيتها - انتهى. وقال الجزري في النهاية (ج2 ص118) قال الأزهري: البقرة والشاة يقع عليها اسم المسنة إذا أثنيا يثنيان في السنة الثالثة، وليس معنى أسنانها كبرها كالرجل، ولكن معناه طلوع سنها في السنة الثالثة - انتهى. وقال الفيومي في المصباح (ج1 ص140) : أسن الإنسان وغيره أسناناً إذا كبر فهو مسن، والجمع مسان، قال الأزهري: ليس معنى أسنان الإبل والشاة كبرها كالرجل، ولكن معناه طلوع الثنية - انتهى. وقال الحافظ في الفتح (ج23 ص328) : حكى ابن التين عن الداودي أن المسنة التي سقطت أسنانها للبدل، وقال أهل اللغة: المسن الثني الذي يلقي سنه ... الخ، وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي في أشعة اللمعات (ج1 ص649) : وجه تسميه بمسنة - آن است كه وي مي اندازد دو دندان بيش راكه آن راثنايا كويند درين عمر - وقال الشيخ سلام الله الدهلوي في شرح الموطأ في شرح قول نافع أن عبد الله بن عمر كان يتقي من الضحايا والبدن التي لم تُسِنّ ما لفظه - بضم التاء وكسر السين وفتح النون المشددة - أي يتقي التي لم تكن مسنة، وهي الثنية - انتهى. وحكى الجزري في النهاية (ج2 ص118) عن ابن قتيبة أنه قال في معناه: هي التي لم تَنْبُت أسنانُها كأنها لم تُعْطَ أسناناً، كما يقال: لم يُلبن فلان أي لم يُعْطَ لبناً، وأراد ابن عمر أنه لا يضحي بأضحية لم تُسِنّ أي لم تصر ثنية، فإذا أثْنَت فقد أسَنَّت، وكذا ذكر في تاج العروس (ج9 ص243) ، وفي لسان

................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ العرب (ج17 ص86) : وقال ابن عبد البر في التمهيد: والزرقاني في شرحه (ج3 ص70-71) قوله: "لم تسن" روي بكسر السين من السن، وروي بفتح السين أي التي لم تنبت أسنانها، كأنها لم تعط أسنانها، كما تقول: لم يُلْبَن ولم يُسْمَن ولم يُعْسَل، أي لم يعط ذلك، وقال غيره: معناه لم تبدل أسنانها، وهذ أشبه بمذهب ابن عمر؛ لأنه يقول في الأضاحي والبدن الثني فما فوقه ولا يجوز عنده الجذع من الضأن – انتهى. وقال الزمخشري في الفائق (ج1 ص306) لم تستن أي لم تثن وإذا أثنت فقد أسنت؛ لأن أول الأسنان الإثناء، وهو أن تنبت ثنيتاها وأقصاه في الإبل البزول، وفي البقر والغنم الصلوع، ورواه القتبي بفتح النون في لم تسن، وقال: أي لم ينبت أسنانها كأنها لم تعط أسناناً كقولهم لبن وسمن وعسل إذا أُعطي شيئاً منها، والأول أي كسر النون هو الرواية عن الأثبات – انتهى. وقال المطرزي الحنفي في المغرب (ج1 ص266) : والسن هي المعروفة ثم سمى بها صاحبها كالناب – للمسنة – من النوق ثم استعيرت لغيره كابن المخاض وابن اللبون، ومن المشتق منها الأسنان وهو في الدواب أن تنبت السن التي يصير بها صاحبها مسناً أي كبيراً وأدناه في الشاة والبقر الثني ... الخ، ومنه حديث ابن عمر: يتقى من الضحايا التي لم تسنن أي لم تثن – انتهى. وقال النووي: قال العلماء: المسنة هي الثنية من كل شيء من الإبل والبقر والغنم فما فوقها – انتهى. وقال الإمام محمد في كتاب الآثار: المُسِنّة الثنية فصاعدا – انتهى. وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي: يجوز من جميع هذه الأقسام الثني، وهو المراد من المسنة، وقال السندي: الثني هو المسن، وروى أبوعبيد في الأموال (ص384) عن جرير عن مغيرة عن الشعبي قال: المسن الثني فما زاد – انتهى. وقال في لسان العرب (ج18 ص133) : والثني من الإبل الي يلقي ثنيته، وذلك في السادسة، وإنما سمي البعير ثنياً لأنه ألقى ثنيته وأثنى البعير صار ثنياً، وقيل: كل ما سقطت ثنيته من غير الإنسان، ثنى وأثنى أي ألقى ثنيته، وقال الجوهري في الصحاح (ج2 ص454) الثني الذي يلقي ثنيته، ويكون ذلك في الظلف والحافر في السنة الثالثة وفي الخف في السنة السادسة، وقال ابن سيده في المحكم: الثني من الإبل الذي يلقي ثنيته، وذلك في السادسة، وإنما سمي البعير ثنياً لأنه ألقى ثنيته، وقال الأزهري في التهذيب: إنما سمي البعير ثنياً لأنه ألقى ثنيته، وقال الفيومي في المصباح (ج1 ص43) والثني الذي يلقي ثنيته يكون من ذوات الظلف والحافر في السنة الثالثة، ومن ذوات الخف في السنة السادسة، وهو بعد الجذع، وأثنى إذا ألقى ثنيته فهو ثني، فعيل بمعنى الفاعل، وقال في مختار الصحاح: الثني الذي يلقي ثنيته. وقال الثعالبي في فقه اللغة (ص104) فإذا كان في السادسة وألقى ثنيته فهو ثني. وقال المطرزي في المغرب (ج1 ص69-70) : الثنايا هي الأسنان المقدمة اثنتان فوق واثنتان أسفل قال: ومنها الثني من الإبل الذي أثنى أي ألقى ثنيته، وهو ما استكمل السنة الخامسة ودخل في السادسة ومن الظلف ما استكمل الثانية ودخل في الثالثة ومن الحافر ما استكمل الثالثة ودخل في الرابعة وهو في كلها بعد

إلا أن يعسر عليكم، فتذبحوا جذعة من الضأن. ـــــــــــــــــــــــــــــ الجذع، وقيل: الرباعي والجمع ثنيان وثناء – انتهى. وقال الدميري في حياة الحيوان (ج1 ص266) الثني الذي يلقي ثنيته أو قال في الصراح (ج2 ص433) ثنى على فعيل دندان بيش افنكنده، ويكون ذلك في الظلف والحافر في السنة الثالثة وفي الخف في السنة السادسة، وقال أبوداود في السنن في باب تفسير أسنان الإبل نقلاً عن أهل اللغة: فإذا دخل في السادسة وألقى ثنيته فهو حينئذٍ ثني حتى يستكمل ستاً – انتهى. وقال الحافظ في الفتح: قال أهل اللغة: المسن الثني الذي يلقي سنه، ويكون في ذات الخف في السنة السادسة وفي ذات الظلف والحافر في السنة الثالثة، وقال في الكفاية (ج1 ص124) شرح الهداية أما تفسير كتب اللغة كالصحاح والديوان والمغرب وغيرها الثني الذي يلقي ثنيته ويكون ذلك في الظلف والحافر في السنة الثالثة. وفي الخف في السنة السادسة. وقال السقاقي في النهاية شرح الهداية: الثني من الإبل الذي أثنى أي ألقى سنه، وهو ما استكمل السنة الخامسة ودخل في السادسة، ومن الظلف ما استكمل الثانية ودخل في الثالثة – انتهى. وقال ابن قدامة في المغني (ج8 ص623) : قال الأصمعي وأبوزيد الكلابي وأبوزيد الأنصاري: إذا مضت السنة الخامسة على البعير ودخل في السادسة وألقى ثنيته فهو حينئذٍ ثني، ونرى إنما سمي ثنياً لأنه ألقى ثنيه – انتهى. وقال أبوعبيدة: إذا أتت عليه أي على الإبل الخامسة فهو حذع، فإذا ألقى ثنيته في السادسة فهو ثني، كذا في المنتقى (ج3 ص86) لأبي الوليد الباجي، هذا وقد تحصل بما ذكرنا من أقوال أهل اللغة - وهم العمدة في ذلك - وأصحاب شروح الحديث والفقه: أن المسنة والمسن من الأسنان بمعنى طلوع السن واحدة والأسنان لا بمعنى الكبير؛ لأن عمر الدواب يعرف بالسن التي هي عظم نابت في فم الحيوان بخلاف الآدمي فإن عمره يعرف بالسنة والحول، وأن المُسِنّ والثني والمُسِنّة والثنية شيء واحد، وأن المُسِنّ والثني من البعير والبقر والغنم ما ألقى ثنيته، وهي أسنان مقدم الفم، وأن العبرة في معنى المُسنّ والثني وفي سنّ الأضحية لإلقاء الثنية ونبات السن وطلوعها لا للعمر والكبر والسنة فلا يلتفت إلى عمرها، ولا يجوز التضحية من البعير والبقر والمعز إلا بما ألقى ثنيته، ولا يجزئ في الأضحية من هذه الأقسام إلا الذي أنبت أسنانه، وأما الضأن فسيأتي حكمه (إلا أن يعسر) أي يصعب (عليكم) أي ذبحها بأن لا تجدوها، أو لا تجدوا ثمنها (فتذبحوا جذعة) بفتحتين، قال في القاموس: الجذع محركة قبل الثني، وهي بهاء اسم له في زمن وليس بسن تنبت أو تسقط والشاب الحدث جمع جِذاع وجُذعان، ومثل ذلك في عامة كتب اللغة كلسان العرب وتاج العروس والصحاح والمصباح المنير وغيره (من الضأن) قال في القاموس: الضائن خلاف الماعز من الغنم جمع ضأن، ويحرك وكأمير وهي ضائنة جمع ضوائن. وقال في المصباح: الضأن ذوات الصوف من الغنم، والمعز اسم جنس لا واحد له من لفظه: هي ذوات الشعر من الغنم الواحدة شاة وهي مؤنثة، والغنم اسم جنس يطلق على

.......................... ـــــــــــــــــــــــــــــ الضأن والمعز – انتهى. وقال في الصراح: ضائن ميش نر خلاف معز، والجمع ضأن مثل راكب وركب، وضأن بالتحريك أيضاً مثل حارس وحرس – انتهى. وقال الجزري في النهاية: أصل الجذع من أسنان الدواب، وهو ما كان منها شاباً فتياً، فهو من الإبل ما دخل في السنة الخامسة، ومن البقر والمعز ما دخل في السنة الثانية، وقيل: البقر في الثالثة، ومن الضأن ما تمت له سنة، وقيل: أقل منها، ومنهم من يخالف بعض هذا في التقدير – انتهى. وقال الحافظ في الفتح (ج23 ص324) : جذعة – بفتح الجيم والذال المعجمة – هو وصف لسِن معين من بهيمة الأنعام، فمن الضأن ما أكمل السنة، وهو قول الجمهور، وقيل: دونها، ثم اختلف في تقديره، فقيل: ابن ستة أشهر، وقيل: ثمانية، وقيل: عشرة، وحكى الترمذي عن وكيع أنه ابن ستة أشهرو أو سبعة أشهر، وعن ابن الأعرابي أن ابن الشابين يجذع لستة أشهر إلى سبعة، وابن الهرمين يجذع لثمانية إلى عشرة، قال: والضأن أسرع أجذعاً من المعز، وأما الجذع من المعز فهو ما دخل في السنة الثانية، ومن البقر ما أكمل الثالثة، ومن الإبل ما دخل في الخامسة – انتهى. قال في الأزهار: النهي في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تذبحوا)) للحرمة في الإجزاء والتنزيه في العدول إلى الأدنى، وهو المقصود في الحديث بدليل ((إن أن يعسر عليكم)) والعسر قد يكون لغلاء ثمنها، وقد يكون لفقدها وعزتها، ومعنى الحديث الحمل والحث على الأكمل والأفضل، وهو الإبل ثم البقر ثم الضأن، وليس المراد الترتيب والشرط – انتهى. قلت: الحديث دليل على أنه لا يجوز التضحية بما عدا المسنة مما دونها، ونص في أنه لا يجزئ الجذع من الضأن إلا إذا عسر على المضحي المسنة فذبح الجذعة مقيد بتعسر المسنة، فلا يجوز مع عدم التعسر، وفيه أيضاً أنه لا يجزئ الجذع من غير الضأن، لكن ذهب الجمهور مالك والشافعي وأحمد وأصحاب الرأي وغيرهم إلى أنه يجوز الجذع من الضأن سواء وجد غيره أم لا، وقال ابن عمر والزهري: إن الجذع لا يجزئ مطلقاً لا من الضأن ولا من غيره، وبه قال ابن حزم، وعزاه لجماعة من السلف، وأطنب في الرد على من أجازه، وقال عطاء والأوزاعي: يجزئ الجذع من جميع الأجناس مطلقاً، والجمهور حملوا الحديث – كما قال النووي – على الاستحباب والأفضل، وتقديره: يستحب لكم أن لا تذبحوا إلا مسنة، فإن عجزتم فاذبحوا جذعة من الضأن، قال النووي: وليس فيه تصريح بمنع جذعة الضأن، وأنها لا تجزئ بحال، قال: وقد أجمعت الأمة على أن الحديث ليس على ظاهره؛ لأن الجمهور يجوزون الجذع من الضأن مع وجود غيره وعدمه، وابن عمر والزهري يمنعانه مع وجود غيره وعدمه، فيتعين تأويله على ما ذكرنا من الاستحباب. قلت: ويدل للجمهور على الإجزاء جذع الضأن مع وجود غيره وعدمه حديث أبي هريرة الآتي في الفصل الثاني بلفظ: ((نعمت الأضحية الجذع من الضأن)) ، وحديث عقبة بن عامر: ضحينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجذاع من الضأن. أخرجه النسائي بسند قوي، وحديث أم هلال بنت بلال عن أبيها رفعه: ((يجوز الجذع من الضأن أضحية)) ، أخرجه أحمد وابن ماجه

........................ ـــــــــــــــــــــــــــــ وابن جرير الطبري والطبراني في الكبير والبيهقي. قال الشوكاني: رجال إسناده بعضهم ثقة وبعضهم صدوق وبعضهم مقبول. وقال الهيثمي: رجاله ثقات. وحديث مجاشع الآتي وغير ذلك من الأحاديث الدالة على مذهب الجمهور المقتضية للتأويل المذكور، وهي ترد على ما ذهب إليه ابن عمر والزهري وعطاء وصاحبه الأوزاعي، فالحق هو ما ذهب إليه الجمهور من إجزاء الجذع من الضأن سواء وجد غيره أم لا، وعدم إجزاء غيره من جذع الإبل والبقر والمعز مطلقاً، والله تعالى أعلم. قال إبراهيم الحربي: إنما يجزئ الجذع من الضأن؛ لأنه ينزو فيلقح، فإذا كان من المعز لم يلقح حتى يكون ثنياً. واختلف الجمهور القائلون بإجزاء جذع الضأن في سنه على آراء؛ أحدها: أنه ما أكمل سنة ودخل في الثانية، وهو الأصح عند الشافعية، وهو الأشهر عند أهل اللغة. ثانيها: نصف سنة، وهو قول الحنفية والحنابلة. ثالثها: سبعة أشهر، وحكاه صاحب الهداية عن الزعفراني. رابعها: سنة أو سبعة، حكاه الترمذي عن وكيع. خامسها: التفرقة بين ما تولد بين شابين فيكون له نصف سنة أو بين هرمين فيكون ابن ثمانية. سادسها: ابن عشر. سابعها: لا يجزئ حتى يكون عظيماً. قال صاحب الهداية: إنه إذا كانت عظيمة بحيث لو اختلطت بالثنيات اشتبهت على الناظر من بعيد أجزأت، كذا في الفتح (ج23 ص329) ، واعلم أنه لا يجزئ في الأضحية غير بهيمة الأنعام لقوله تعالى: {ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} [الحج: 34] ، وهي الإبل والبقر والغنم الأهلية، وأما الجاموس فمذهب الحنفية وغيرهم جواز التضحية به، قالوا: لأن الجاموس نوع من البقر، ويؤيد ذلك أن الجاموس في الزكاة كالبقرة، فيكون في الأضحية أيضاً مثلها، ويذكرون في ذلك حديثاً صريحاً أورده المناوي في كنوز الحقائق بلفظ: الجاموس في الأضحية عن سبعة، وعزاه الديلمي في مسند الفردوس، والأمر عندي ليس واضحاً كما زعموا، فإنهم قد اعترفوا بأن الجاموس في ما يتعارف الناس نوع آخر غير البقر لما بينهما من الاختلاف العظيم في الظاهر والمخبر، ولذلك صرحوا بأن من حلف أن لا يأكل لحم البقر فأكل لحم الجاموس لا يكون حانثاً، وإن حلف بالطلاق لم تطلق زوجته بأكل لحم الجاموس. وأما ما ينسب إلى بعض أهل اللغة أنه قال: إن الجاموس نوع أو ضرب من البقر، فالظاهر أنه وقع منه التساهل في ذلك، والأصل فيه أن يقال: الجاموس كالبقرة أو بمنزلة البقرة كما روى ابن أبي شيبة عن الحسن أنه قال: الجاموس بمنزلة البقر، وعلى هذا فليس الجاموس من البقر، ولعله لما رأى الفقهاء مالكاً والحسن وعمر بن عبد العزيز وأبايوسف وابن مهدي ونحوهم أنهم جعلوا الجاموس في الزكاة كالبقر فهم من ذلك أن الجاموس ضرب من البقر، فعبر عن ذلك بأنه نوع منه، ولا يلزم من كون الجاموس في الزكاة كالبقر أن يكون في الأضحية مثلها، كما لا يخفى. وأما الحديث المذكور فليس مما يعرج عليه لما لا يعرف حاله،

رواه مسلم. 1471- (4) وعن عقبة بن عامر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه غنماً يقسمها على صحابته ضحايا، فبقي عتود، فذكره لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((ضح به أنت – وفي رواية – قلت: يا رسول الله ‍‍! أصابني جذع، قال: ضح به)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ والأحوط عندي أن يقتصر الرجل في الأضحية على ما ثبت بالسنة الصحيحة عملاً وقولاً وتقريراً، ولا يلتفت إلى ما لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا الصحابة والتابعين – رضي الله عنهم -، ومن اطمأن قلبه بما ذكره القائلون باستنان التضحية بالجاموس ذهب مذهبهم ولا لوم عليه في ذلك، هذا ما عندي والله أعلم. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج9 ص269، 279) ، وكان مقتضى عادة المصنف أن يجمع بينه وبين الحديث الأول ويقول: رواهما مسلم. 1471- قوله (غنماً) يشمل الضأن والمعز (على صحابته) ويروى على أصحابه، قيل: الضمير فيه يحتمل أن يكون للنبي - صلى الله عليه وسلم - ويحتمل أن يكون لعقبة. قلت: الظاهر أنه عائد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثم إنه قيل: يحتمل أن يكون الغنم ملكاً للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأمر بقسمتها بينهم تبرعاً، ويحتمل أن يكون من الفيء، وإليه مال القرطبي حيث قال في الحديث: إن الإمام ينبغي له أن يفرق الضحايا على من لم يقدر عليها من بيت مال المسلمين. وقال ابن بطال: إن كان قسمها بين الأغنياء فهي من الفيء، وإن كان خص بها الفقراء فهي من الزكاة. (ضحايا) حال من الضمير في يقسمها (فبقي) أي بعد قسمتها (عتود) بفتح العين المهملة وضم المثناة الفوقية الخفيفة، وهو من أولاد المعز خاصة، وهو ما قوي ورعى وأتى عليه حول، كذا في النهاية وغيرها من كتب اللغة، وجمعه أعتدة وعتدان، وتدغم التاء في الدال، فيقال: عُدّان. وقال ابن بطال: العتود الجذع من المعز ابن خمسة أشهر، وهذا يبين المراد بقوله في الرواية الأخرى: ((جذعة وأنها كانت من المعز)) ، وزعم ابن حزم أن العتود لا يقال إلا للجذع من المعز، وتعقب بما وقع في كلام صاحب المحكم أن العتود الجدي – بفتح الجيم وسكون الدال المهملة ذكر ولد المعز – الذي استكرش – أي عظم بطنه وأخذ في الأكل -، وقيل: الذي بلغ السفاد، وقيل: هو الذي أجذع – انتهى. (فذكره) أي عقبة بقاء العتود (فقال) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ضح به أنت) قال القاري: فيه دليل على جواز التضحية بالمعز إذا كان له سنة، وهو مذهبنا، وقال صاحب اللمعات: العتود إن كان ما تم عليه الحول فهو جائز عندنا مطلقاً، وإن كان ما تم عليه أكثر الحول فأجزأه عنه خصوصية له، كما جاء في حديث أبي بردة في جذع المعز: ((اذبحها ولن تجزئ عن أحد بعدك)) – انتهى.

متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قلت: روى البيهقي (ج9 ص270) حديث عقبة من طريق عبد الله البوشجي – أحد الأئمة الكبار في الحفظ والفقه وسائر فنون العلم – رواها عن يحيى بن بكير عن الليث بالسند الذي ساقه البخاري، وزاد فيها: ((ولا رخصة فيها لأحد بعدك)) ، وهذه الزيادة صريحة في أن إجزاء العتود عنه خصوصية له سواء كان المراد من العتود والجذع في حديث عقبة ما تم عليه الحول كما عليه عامة أهل اللغة أو كان المراد ما تم عليه أكثر الحول، وفيه دليل لقول الجمهور إن الجذع من المعز لا يجزئ، ورد على الحنفية على تفسير أهل اللغة في قولهم بجواز التضحية بالمعز إذا كانت له سنة، والحق أنه لا يجوز الجذع من المعز، وإنما يجوز منها الثني، وهو الذي ألقى ثنيته كما تقدم. واعلم أن بين قوله - صلى الله عليه وسلم - لعقبة: ((ولا رخصة فيها لأحد بعدك)) وبين قوله لأبي بردة بن نيار: ((ضح بالجذع من المعز ولن تجزئ عن أحد بعدك)) منافاة ظاهرة، فإن في كل منهما صيغة عموم، فأيهما يقدم على الآخر اقتضى انتفاء الوقوع للثاني، فقيل: يحتمل أن ذلك صدر لكل منهما في وقت واحد، أو تكون خصوصية الأول نسخت بثبوت الخصوصية للثاني، ولا مانع من ذلك؛ لأنه لم يقع في السياق استمرار المنع لغيره صريحاً، وذكر بعضهم أن الذين ثبتت لهم الرخصة أربعة لكن ليس التصريح بالنفي إلا في قصة أبي بردة في الصحيحين وفي قصة عقبة بن عامر في البيهقي، ولم يشاركهما أحد في ذلك، نعم وقعت المشاركة في مطلق الإجزاء لا في خصوص منع الغير لزيد بن خالد، رواه أبوداود وأحمد، وصححه ابن حبان، ولسعد بن أبي وقاص رواه الطبراني في الأوسط من حديث ابن عباس، وأخرجه الحاكم من حديث عائشة، ولأبي يعلى والحاكم من حديث أبي هريرة: أن رجلاً قال: يا رسول الله! هذا جذع من الضأن مهزول، وهذا جذع من المعز سمين، وهو خيرهما أفأضحي به؟ قال: ((ضح به فإن لله الخير)) ، وفي سنده ضعف، قال الحافظ: لا منافاة بين هذه الأحاديث وبين حديثي أبي بردة وعقبة لاحتمال أن يكون ذلك في ابتداء الأمر ثم تقرر الشرع بأن الجذع من المعز لا يجزئ، واختص أبوبردة وعقبة بالرخصة في ذلك، قال: والمشاركة إنما وقعت في مطلق الإجزاء لا في خصوص منع الغير، قال: وأما ما أخرجه ابن ماجه من حديث أبي زيد الأنصاري: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل من الأنصار: ((اذبحها ولن تجزئ جذعة عن أحد بعدك)) فهذا يحمل على أنه أبوبردة بن نيار فإنه من الأنصار، وكذا ما أخرجه أبويعلى والطبراني: أن رجلاً ذبح قبل الصلاة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تجزئ عنك، قال: إن عندي جذعة، فقال: تجزئ عنك ولا تجزئ بعد)) فلم يثبت الإجزاء لأحد، ونفيه عن الغير إلا لأبي بردة وعقبة وإن تعذر الجمع الذي تقدم، فحديث أبي بردة أصح مخرجاً، والله أعلم – انتهى كلام الحافظ (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج9 ص269-270) .

1472- (5) وعن ابن عمر قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذبح وينحر بالمصلى. رواه البخاري. 1473- (6) وعن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((البقرة عن سبعة والجزور عن سبعة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1472- قوله (يذبح) أي الشاة أو البقرة (وينحر) أي الإبل (بالمصلى) أي بعد أن يصلي العيد، فيه دليل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يضحي بالإبل والبقر؛ لأن النحر لا يجوز في الغنم، وإنما هو في الإبل وعلى تكرُّهٍ في البقر، فيكون ذلك قرينة واضحة على أن قول أنس: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحي بكبشين – ليس للدوام، ويؤيد ذلك ما وقع في بعض الروايات قول أنس بلفظ: ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلى هذا فليس فيه دليل على كون الضأن أفضل في الأضحية، وحديث ابن عمر هذا قد تقدم في آخر الفصل الأول من باب صلاة العيد، ذكره هنا لبيان مكان الذبح، إذ الذبح في المصلى مستحب لإظهار الشعار، وذكره ثمه لبيان وقت الذبح؛ لأنه إذا ذبح بالمصلى علم أن الذبح بعد الصلاة لا قبلها (رواه البخاري) تقدم ذكر من أخرجه غيره. 1473- قوله (البقرة عن سبعة) أي تجزئ عن سبعة أشخاص (والجزرو) بفتح الجيم، وهو ما يجزر أي ينحر من الإبل خاصة ذكراً كان أو أنثى (عن سبعة) أي يجزئ عن سبعة أنفس أو يضحى عن سبعة أشخاص، والحديث رواه مسلم وغيره بألفاظ، ففي رواية لمسلم: نحرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة، وفي رواية قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهلين بالحج، فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة، وفي رواية قال: اشتركنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحج والعمرة كل سبعة منا في بدنة، فقال رجل لجابر: أيشترك في البقرة ما يشترك في الجزور؟ فقال: ما هي إلا من البدن، وفي لفظ رواه البرقاني على شرط الشيخين: ((اشتركوا في الإبل والبقر كل سبعة في بدنة)) ، وفي هذه الروايات دلالة على أن الحديث الذي ذكره البغوي إنما هو في الهدي لا في الأضحية، وظاهر هذه الروايات جواز الاشتراك في الهدي، وهو قول الشافعي وأحمد، وبهذا قال أكثر أهل العلم من غير فرق بين أن يكون المشتركون مفترضين أو متطوعين أو بعضهم مفترضاً وبعضهم متنفلاً أو مريداً للحم. وقال أبوحنيفة: يشترط في الاشتراك أن يكونوا كلهم متقربين، وعن داود وبعض المالكية يجوز الاشتراك في هدي التطوع دون الواجب، وقال مالك: لا يجوز مطلقاً، وروي عن ابن عمر نحو ذلك، ولكنه روى عنه أحمد ما يدل على الرجوع، واتفق من قال بالاشتراك على أنه لا يكون في أكثر من سبعة إلا إحدى الروايتين عن سعيد بن المسيب فقال: يجزئ الجزور عن عشرة، وبه قال إسحاق بن راهويه، وإليه ذهب ابن خزيمة، واحتج له في صحيحه وقواه، واحتج له بحديث رافع بن خديج

رواه مسلم، وأبوداود، واللفظ له. ـــــــــــــــــــــــــــــ أنه - صلى الله عليه وسلم - قسم فعدل عشراً من الغنم ببعير، وفيه أن هذا قياس فاسد؛ لأن هذا التعديل كان في القسمة وهي غير محل النزاع، ويؤيد كون الجزور عن سبعة فقط ما روي عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتاه رجل فقال: إن علي بدنة وأنا موسر ولا أجدها فأشتريها، فأمره - صلى الله عليه وسلم - أن يبتاع سبع شياه فيذبحهن، أخرجه أحمد وابن ماجه، فإنه لو كانت البدنة تعدل عشراً لأمره بإخراج عشر شياه؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وأما الأضحية فقال الجمهور بجواز الاشتراك فيها كالهدي، سواء كان المشتركون من البيت الواحد أو من أبيات شتى أقارب كانوا أو أباعد، واشترط أبوحنيفة أن يكون المشتركون كلهم متقربين، وقال مالك: لا يجوز الاشتراك فيها في الذات بأن يحصل الاشتراك في الثمن، نعم يجوز الاشتراك لأهل البيت الواحد في الأجر بأن ينحر الرجل عنه وعن أهل بيته وإن كانوا أكثر من السبع البدنة، ويذبح البقرة هو يملكها ويذبحها عنهم ويشركهم فيها، فإما أن يشتري البدنة أو البقرة ويشتركون فيها فيخرج كل إنسان منهم حصته من ثمنها، ويكون له حصته من لحمها، فإن ذلك يكره عنده، قال ابن حزم: قال مالك: يجزئ الرأس الواحد من الإبل أو البقر أو الغنم عن واحد وعن أهل البيت وإن كثر عددهم وكانوا أكثر من سبعة إذا أشركهم فيها تطوعاً، ولا تجزئ إذا اشتروها بينهم شركة ولا عن أجنبيين فصاعداً، واختلف القائلون بالاشتراك في البدنة، فقال الشافعي وأحمد وأبوحنيفة: إنها تجزئ عن سبعة كالهدي، وقال إسحاق وابن خزيمة وابن المسيب: إنها تجزئ عن عشرة. قال الشوكاني: وهذا هو الحق هنا، أي في الأضحية؛ لحديث ابن عباس يعني الذي يأتي في الفصل الثاني، والأول هو الحق في الهدي للأحاديث المتقدمة، يعني بها الروايات التي ذكرناها من حديث جابر. وأما البقرة فتجزئ عن سبعة فقط في الهدي والأضحية – انتهى. وأورد البغوي حديث جابر في باب الأضحية مع أنه في الهدي لا في الأضحية كما تدل عليه الروايات الأخر إما نظراً إلى إطلاق اللفظ أو ليثبت الاشتراك في الأضحية. وأن البدنة والبقرة كليهما عن سبعة بالقياس على الهدي، ولا حاجة إلى القياس مع وجود النص في الأضحية وهو حديث ابن عباس الآتي. (رواه مسلم وأبوداود) وأخرجه أيضاً أحمد ومالك والترمذي وابن ماجه والبيهقي (ج9 ص279، 294) . (واللفظ له) أي لفظ الحديث لأبي داود ولمسلم معناه، وهذا هو الداعي للمصنف إلى ذكر أبي داود مع أن ما في الفصل الأول لا يسنده لغير الصحيحين، لكن البغوي لما أخذ لفظ أبي داود الثابت معناه في صحيح مسلم وجعله في الفصل الأول أوهم أن اللفظ لأحد الصحيحين، فبين المصنف أن الذي في مسلم هو المعنى، ولأبي داود اللفظ، قاله القاري. وقيل: فيه تعريض بالاعتراض على البغوي حيث أورده في الفصل الأول اعتباراً بمعناه، وكان الأولى أن يورده في الفصل الثاني، وأخرجه الدارقطني (ص265) بلفظ: سنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البقرة والجزور عن سبعة، وأخرجه الطبراني في الثلاثة من حديث عبد الله بن

1474- (7) وعن أم سلمة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا دخل العشر وأراد بعضكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئاً – وفي رواية – فلا يأخذن شعراً، ولا يقلمن ظفراً -، وفي رواية: من رأى هلال ذي الحجة وأراد أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره -)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ مسعود مرفوعاً: البقرة عن سبعة، والجزور عن سبعة في الأضاحي، قال الهيمثي (ج4 ص20) : وفيه حفص بن جميع، وهو ضعيف – انتهى. 1474- قوله (إذا دخل) وفي مسلم: ((إذا دخلت)) (العشر) أي أول عشر ذي الحجة (وأراد بعضكم أن يضحي) قال في شرح السنة: في الحديث دلالة على أن الأضحية غير واجبة؛ لأنه فوض إلى إرادته حيث قال: ((وأراد)) ولو كانت واجبة لم يفوض – انتهى. وقيل: لا حجة فيه؛ لأن الواجب قد يفوض إلى الإرادة ويعلق عليها، فالوصية قد علقت على الإرادة في قوله – عليه السلام -: ((ما حق امرئ له شيء يريد أن يوصي فيه ... )) الحديث، وليس هذا اللفظ دليلاً على عدم وجوب الوصية عند الظاهرية القائلين بافتراض الوصية. وأجاب عن هذا ابن حزم بأن الوصية عندنا فرض؛ لأنه قد جاء نص آخر بإيجاب الوصية في القرآن والسنة، قال تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية} الآية [البقرة: 180] ، فأخذنا بهذا ولم يأت نص بإيجاب الأضحية، ولو جاء لأخذنا به – انتهى. وأجاب السندي عن الحديث بأن هذا لو قلنا بالوجوب على الكل، وأما إذا قلنا بالوجوب على من يملك النصاب وبالندب في حق غيره فلا دلالة (فلا يمس) بفتح السين المهملة أي بالقطع والإزالة (من شعره) بفتح العين وتسكن (وبشره) بفتحتين (شيئاً – وفي رواية فلا يأخذن) بنون التأكيد، أي لا يزيلن (ولا يقلمن) بكسر اللام مع فتح الياء، وقيل: بالتثقيل أي لا يقطعن، قال السندي: يقال: قلم الظفر كضرب وقلم بالتشديد أي قطعه، والتشديد للمبالغة، فالتخفيف ههنا أولى فافهم (ظفراً) بضمتين (وفي رواية) هذه الرواية عند النسائي والترمذي، وليست عند مسلم (من رأى هلال ذي الحجة) أي أبصره أو علمه (وأراد أن يضحي فلا يأخذ) كذا في رواية للنسائي بغير نون التأكيد، وعند الترمذي: ((فلا يأخذن)) أي بنون التأكيد (من شعره ولا من أظفاره) زاد النسائي ((حتى يضحي)) ، قال أصحاب الشافعي: المراد بالنهي عن أخذ الظفر والشعر النهي عن إزالة الظفر بقلم أو كسر أو غيره، والمنع من إزالة الشعر بحلق أو تقصير أو نتف أو إحراق أو أخذه بنورة أو غير ذلك من شعور بدنه، قال إبراهيم المروزي وغيره من أصحاب الشافعي: حكم أجزاء البدن كلها حكم الشعر والظفر، ودليله الرواية السابقة ((فلا يمس من شعره وبشره شيئاً)) ، وفي الحديث دليل على مشروعية ترك أخذ الشعر والأظفار بعد دخول عشر ذي الحجة لمن أراد أن يضحي، وقد اختلف العلماء في ذلك، فذهب سعيد بن المسيب

...................... ـــــــــــــــــــــــــــــ وربيعة وأحمد وإسحاق وداود وبعض أصحاب الشافعي إلى أنه يحرم عليه أخذ شيء من شعره وأظفاره حتى يضحي في وقت الأضحية، واحتج هؤلاء بحديث أم سلمة؛ لأن النهي ظاهر في التحريم، وقال الشافعي وأصحابه: هو مكروه كراهة تنزيه، ليس بحرام، وحكي عنه أن ترك الحلق والتقصير والقلم لمن أراد التضحية مستحب، وقال أبوحنيفة: هو مباح لا يكره ولا يستحب، والحديث يرد عليه، وقال مالك في رواية: لا يكره، وفي رواية: يكره، وفي رواية: يحرم في التطوع دون الواجب، واحتج الشافعي بحديث عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث بهديه ولا يحرم عليه شيء أحله الله له حتى ينحر هديه، أخرجه الشيخان، قال الشافعي: البعث بالهدي أكثر من إرادة التضحية، فدل على أنه لا يحرم ذلك – انتهى. فجعل هذا الحديث مقتضياً لحمل حديث الباب على كراهة التنزيه، قال الشوكاني: ولا يخفى أن حديث أم سلمة أخص منه مطلقاً، فيبنى العام على الخاص، ويكون الظاهر مع من قال بالتحريم، ولكن على من أراد التضحية – انتهى. وقال ابن قدامة في المغني (ج8 ص619) : حديث عائشة عام، وحديث أم سلمة خاص يجب تقديمه بتنزيل العام على ما عدا ما تناوله الحديث الخاص، ولأنه يجب حمل حديث عائشة على غير محل النزاع لوجوه فذكرها، ثم قال: ولأن عائشة تخبر عن فعله، وأم سلمة عن قوله، والقول يقدم على الفعل لاحتمال أن يكون فعله خاصاً له – انتهى. وأجاب الطحاوي عن حديث أم سلمة بأنه موقوف، وقد أعله الدارقطني أيضاً بالوقف، قال الطحاوي في شرح الآثار بعد رواية حديث أم سلمة موقوفاً ما لفظه: فهذا هو أصل الحديث عن أم سلمة – رضي الله عنها – انتهى. وتعقب بأنه لا شك في أن بعض الرواة روى حديث أم سلمة موقوفاً، لكن أكثرهم رووه بأسانيد صحيحة مرفوعاً، وقد بسط هذه الأسانيد مسلم والنسائي، وتلك الطرق المرفوعة كلها صحيحة، فكيف يصح القول بأن حديث أم سلمة الموقوف هو أصل الحديث، بل الظاهر أن المرفوع هو أصل الحديث، وأفتت أم سلمة على وفق حديثها المرفوع، فروى بعضهم موقوفاً عليها من قولها. والحاصل أن حديث أم سلمة مرفوعاً صحيح، وهو حديث قولي ولم يجئ ما يعارضه، فالأخذ به متعين، ومقتضى النهي التحريم، فالراجح عندنا ما ذهب إليه أحمد ومن وافقه، والله تعالى أعلم. واختلفوا في بيان حكمة النهي، فقيل: للتشبه بالمحرم، قال التوربشتي: وهذا قول إذا أطلق لم يستقم؛ لأن هذا الحكم لو شرع للتشبه بهم لشاع ذلك في سائر محظورات الإحرام، ولما خص بما يؤخذ من أجزاء البدن كالشعر والظفر والبشر، وقال النووي: قال أصحابنا: هذا الوجه غلط؛ لأنه لا يعتزل النساء، ولا يترك الطيب واللباس وغير ذلك مما يتركه المحرم، وتعقب بأن التشبه لا يلزم من جميع الوجوه، وقيل: الحكمة أن يبقى كامل الأجزاء للعتق من النار، قال التوربشتي: إن المضحي يجعل أضحيته فدية يفتدي بها نفسه من عذاب يوم القيامة ويرتاد بها القربة لوجه الله الكريم، فكأنه لما اكتسب عن السيئات وأتى به من التقصير في حقوق الله رأى نفسه مستوجبة أن يعاقبه

رواه مسلم. 1475- (8) وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر، ـــــــــــــــــــــــــــــ بأعظم العقوبات وهو القتل، غير أنه أحجم عن الإقدام عليه إذ لم يؤذن له فيه، فجعل قربانه فداء لنفسه فصار كل جزء منه فداء كل جزء منها، وعمت ببركته أجزاء البدن، فلم تخل منها ذرة ولم تحرم عنها شعرة، وإذا كانت هذه الفضيلة ملحقة بالأجزاء المتصلة بالمتقرب دون المنفصلة عنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا يمس شيئاً من شعره وبشره لئلا يفقد من ذلك قسط ما عند تنزل الرحمة وفيضان النور الإلهي ليتم له الفضائل ويتنزه عن النقائص – انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والدارقطني والطحاوي والبيهقي (ج9 ص266) وغيرهم، واستدركه الحاكم فوهم. 1475- قوله (ما من أيام العمل الصالح) بالرفع مبتدأ يشمل أنواع العبادات كالصلاة والتكبير والذكر والصوم وغيرها (فيهن) متعلق بالعمل (أحب) بالرفع (إلى الله من هذه الأيام العشر) أي الأول من ذي الحجة، ففي رواية أبي داود الطيالسي في مسنده: ((ما العمل في أيام أفضل منه في عشر ذي الحجة)) ، وكذا في رواية الدارمي. ووقع في رواية أخرى له ((ما من عمل أزكى عند الله ولا أعظم أجراً من خير يعمله في عشر الأضحى)) ، وفي حديث جابر في صحيحي أبي عوانة وابن حبان: ((ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الحجة)) ، قال السندي: كلمة "من" في قوله ((ما من أيام)) زائدة لاستغراق النفي، وجملة ((العمل الصالح ... )) الخ صفة أيام، والخبر محذوف أي موجودة أو خير، وهو الأوجه، وقوله: ((من هذه الأيام)) متعلقة بأحب، والمعنى على حذف المضاف أي من عمل هذه الأيام ليكون المفضل والمفضل عليه من جنس واحد – انتهى. وقال الطيبي: العمل مبتدأ وفيهن متعلق به والخبر أحب، والجملة خبر ما أي واسمها أيام ومن الأولى زائدة والثانية متعلقة بأفعل وفيه حذف، كأنه قيل: ليس العمل في أيام سوى العشر أحب إلى الله من العمل في هذه العشر – انتهى. وإذا كان العمل في أيام العشر أفضل من العمل في أيام غيره من السنة لزم منه أن تكون أيام العشر أفضل من غيرها من أيام السنة حتى يوم الجمعة منه أفضل منه في غيره لجمعه الفضيلتين. قال السندي: المتبادر من هذا الكلام عرفاً أن كل عمل صالح إذا وقع فيها فهو أحب إلى الله تعالى من نفسه إذا وقع في غيرها، وهذا من باب تفضيل الشيء على نفسه باعتبارين وهو شائع، وأصل اللغة في مثل هذا الكلام لا يفيد الأحبية، بل يكفي فيه المساواة؛ لأن نفي الأحبية يصدق بالمساواة، وهذا واضح وعلى الوجهين لا يظهر لاستبعادهم المذكور بلفظ: ((ولا الجهاد)) معنى إذ لا يستبعد أن يكون الجهاد في هذه

......................... ـــــــــــــــــــــــــــــ الأيام أحب منه في غيرها أو مساوياً للجهاد في غيرها، نعم لو كان المراد أن العمل الصالح في هذه الأيام مطلقاً أي عمل كان أحب من العمل في غيرها مطلقاً أي عمل كان حتى أن أدنى الأعمال في هذه الأيام أحب من أعظم الأعمال في غيرها لكان الاستبعاد موجهاً، لكن كون ذلك مراداً بعيد لفظاً ومعنى، فلعل وجه استبعادهم أن الجهاد في هذه الأيام يخل بالحج، فينبغي أن يكون في غيرها أحب منه فيها، وحينئذٍ قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إلا رجل)) أي جهاد رجل بيان لفخامة جهاده وتعظيم له بأنه قد بلغ مبلغاً لا يكاد يتفاوت بشرف الزمان وعدمه – انتهى كلام السندي. وذكر السيد: أنه اختلف العلماء في أن هذه العشرة أفضل أم عشرة رمضان؟ فقال بعضهم: هذا العشر أفضل لهذا الحديث. وقال بعضهم: عشر رمضان أفضل للصوم ولليلة القدر، والمختار أن أيام هذا العشر أفضل لوجود يوم عرفة فيها، وليالي عشر رمضان أفضل لوجود ليلة القدر فيها؛ لأن يوم عرفة أفضل أيام السنة، وليلة القدر أفضل ليالي السنة، ولذا قال: ((ما من أيام)) ولم يقل: من ليال، كذا في الأزهار، ذكره القاري. وقال القسطلاني: الأيام إذا أطلقت دخلت فيها الليالي تبعاً، وقد أقسم الله تعالى بها، فقال: {والفجر. وليالٍ عشر} [الفجر: 1] وقد زعم بعضهم أن ليالي عشر رمضان أفضل من لياليه لاشتمالها على ليلة القدر. قال الحافظ ابن رجب: وهذا بعيد جداً، ولو صح حديث أبي هريرة المروي في الترمذي – يعني الذي يأتي في آخر الفصل الثاني -: ((قيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر)) لكان صريحاً في تفضيل لياليه على ليالي عشر رمضان، فإن عشر رمضان فضل بليلة واحدة، وهذا جميع لياليه متساوية، والتحقيق ما قاله بعض أعيان المتأخرين من العلماء أن مجموع هذا العشر أفضل من مجموع عشر رمضان، وإن كان في عشر رمضان ليلة لا يفضل عليها غيرها – انتهى. واستدل به على فضل صيام عشر ذي الحجة لاندراج الصوم في العمل، وعورض بتحريم صوم يوم العيد، وأجيب بأنه محمول على الغالب. ولا ريب أن صيام رمضان أفضل من صوم العشر؛ لأن فعل الفرض أفضل من النفل من غير تردد، وعلى هذا فكل ما فعل من فرض في العشر فهو أفضل من فرض فعل في غيره، وكذا النفل، ولا يرد على ما ذكرنا من كون الحديث دليلاً على فضل صيام عشر ذي الحجة ما يأتي في الصيام من حديث عائشة قالت: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صائماً في العشر قط. لاحتمال أن يكون ذلك لكونه كان يترك العمل وهو يحب أن يعمله خشية أن يفرض على أمته، كما رواه الشيخان من حديث عائشة أيضاً، وقيل: قولها: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صام العشر قط – لا ينافي صوم بعضها، قيل: الحكمة في تخصيص عشر ذي الحجة بهذه المزية اجتماع أمهات العبادة فيها: الحج والصدقة والصيام والصلاة، ولا يتأتى ذلك في غيرها، وعلى هذا هل يختص الفضل بالحاج أو يعم المقيم؟ فيه احتمال، وقيل: المراد بالعمل الذكر، ويؤيد ذلك ما روى الطبراني في الكبير، قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح، عن ابن عباس مرفوعاً: ((ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إلى الله العمل فيها من أيام العشر، فأكثروا فيهن من التسبيح

قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ والتهليل والتحميد والتكبير)) ، وروى أحمد عن ابن عمر مرفوعاً نحوه، ويؤيد التعميم ما وقع من الزيادة بعد الأمر بالإكثار من التحميد والتكبير في حديث ابن عباس عند البيهقي: ((وإن صيام يوم منها يعدل صيان سنة، والعمل بسبعمائة ضعف)) ، وما سيأتي من حديث أبي هريرة في آخر الفصل الثاني، لكن إسناده ضعيف، وكذا إسناد حديث ابن عباس، وحديث ابن عمر عند أحمد وحديث ابن عباس عند الطبراني والبيهقي يدلان على مشروعية التكبير من أول ذي الحجة، واختلف العلماء في حكم تكبير عيد الأضحى، أي تكبير التشريق، فأوجبه بعض العلماء لقوله تعالى: {واذكروا الله في أيام معدودات} [البقرة: 203] ، ولقوله تعالى: {كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم} [الحج: 37] . وذهب الجمهور إلى أنه سنة مؤكدة للرجال والنساء، ومنهم من خصه بالرجال. وأما وقته فظاهر الآية والآثار عن الصحابة أنه لا يختص بوقت دون وقت، إلا أنه اختلف العلماء، فمنهم من خصه بعقب الصلاة مطلقاً، ومنهم من خصه بعقيب الفرائض دون النوافل، ومنهم من خصه بالجماعة دون الفرادى، وبالمؤداة دون المقضية، وبالمقيم دون المسافر، وبالأمصار دون القرى، وأما ابتداؤه وانتهاؤه ففيه خلاف أيضاً، فقيل في الأول من صبح يوم عرفة، وقيل: من ظهره، وقيل: من عصره، وفي الثاني إلى ظهر ثالثه، وقيل: إلى آخر أيام التشريق، وقيل: إلى ظهره، وقيل: إلى عصره، ولم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في شيء من ذلك حديث. وأصح ما ورد فيه عن الصحابة عن أبي هريرة وابن عمر تعليقاً أنهما كانا يخرجان إلى السوق أيام العشر يكبران، ويكبر الناس بتكبيرهما، وذكر البغوي والبيهقي ذلك. قال الطحاوي: كان مشايخنا يقولون بذلك التكبير أيام العشر جميعها، ذكره العلامة الأمير اليماني في سبل السلام، قلت: الظاهر أن التكبير مشروع ومستحب من أول ذي الحجة إلى آخر أيام التشريق، ولا يختص استحبابه بعقب الصلوات ولا بالرجال ولا بالفرائض ولا بالمؤداة ولا بالجماعة والمقيم والأمصار، بل هو مستحب في كل وقت من تلك الأيام ولكل أحد من المسلمين، كما يدل على ذلك حديث ابن عمر وحديث ابن عباس وآثار ابن عمر وأبي هريرة، والله تعالى أعلم. (قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد) بالرفع (في سبيل الله) أي ولا الجهاد في أيام أخر أحب إلى الله من العمل في هذه الأيام (قال) عليه الصلاة والسلام (ولا الجهاد في سبيل الله) أي أحب من ذلك (إلا رجل) أي إلا جهاد رجل (فلم يرجع من ذلك) أي مما ذكر من نفسه وماله (بشيء) أي صرف ماله ونفسه في سبيل الله، فيكون أفضل من العامل في أيام

{الفصل الثاني}

رواه البخاري. {الفصل الثاني} 1476- (9) عن جابر قال: ذبح النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الذبح كبشين أقرنين أملحين موجوئين، ـــــــــــــــــــــــــــــ العشر أو مساوياً له، قال القسطلاني: في هذا الحديث أن العمل المفضول في الوقت الفاضل يلتحق بالعمل الفاضل في غيره، ويزيد عليه لمضاعفة ثوابه وأجره (رواه البخاري) في العيدين، وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود وابن ماجه في الصيام، واللفظ المذكور للترمذي، ولفظ البخاري في رواية أبي ذر عن الكشمهيني: ((ما العمل في أيام أفضل منها في هذا العشر، قالوا: ولا الجهاد؟ قال: ولا الجهاد إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء)) . 1476- قوله (ذبح النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي أراد أن يذبح، بدليل قوله: "فلما ... "الخ (يوم الذبح) أي يوم الأضحى، ويسمى يوم النحر أيضاً، وفي رواية أحمد (ج3 ص375) : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذبح يوم العيد، وكذا في رواية ابن ماجه والدارمي (موجوئين) بفتح ميم وسكون واو فضم جيم وسكون واو فهمز مفتوح، تثنية موجوء، اسم مفعول من وجأ – مهموز اللام، وروي بالإثبات للهمزة وقلبها ياءً ثم قلب الواو ياءً وإدغامها فيها كمرمى أي منزوعي الأنثيين، قاله أبوموسى الأصفهاني. وقال الجوهري وغيره: الوجاء - بالكسر والمد – رض عرق الأنثيين. قال الهروي: والأنثيان بحالهما، وقال الجزري في النهاية: الوجاء أن ترض أي تدق أنثيا الفحل رضاً شديداً يذهب شهوة الجماع. وقيل: هو أن يوجأ العروق والخصيتان بحالهما، قال: ومنه الحديث "أنه ضحى بكبشين موجوئين" أي خصيين. ومنهم من يرويه موجئين بوزن مكرمين، وهو خطأ، ومنهم من يرويه موجيين بغير همز على التخفيف، ويكون من وجيته وجياً فهو موجي – انتهى. وقال في جامع الأصول (ج4 ص393) : الوجاء نحو الخصاء، وهو أن يؤخذ الكبش فترض خصيتاه ولا تقطعا، وقيل: هو أن يقطع عروقهما وتتركا بحالهما. وفي القاموس وجيء هو بالضم فهو موجوء ووجئ دق عروق خصيتيه بين حجرين ولم يخرجهما أو هو رضاضهما حتى ينفضخا أي ينكسرا. قال الخطابي: في هذا دليل على أن الخصي في الضحايا غير مكروه، وقد كرهه بعض أهل العلم لنقص العضو، وهذا نقص ليس بعيب؛ لأن الخصاء يزيد اللحم طيباً وينفي فيه الزهومة وسوء الرائحة – انتهى. وقال ابن قدامة: يجزئ الخصي؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى بكبشين موجوئين؛ ولأن الخصاء ذهاب عضو غير مستطاب يطيب اللحم بذهابه ويكثر ويسمن، قال الشعبي: ما زاد في لحمه وشحمه أكثر مما ذهب منه، وبهذا قال

فلما وجههما قال: ((إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض على ملة إبراهيم حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، اللهم منك ولك، عن محمد وأمته، بسم الله، والله أكبر)) ، ثم ذبح، رواه أحمد، وأبوداود، وابن ماجه، والدارمي، وفي رواية لأحمد: ـــــــــــــــــــــــــــــ الحسن وعطاء والشعبي والنخعي ومالك والشافعي وأبوثور وأصحاب الرأي، ولا نعلم فيه مخالفاً – انتهى. (فلما وجههما) أي جعل وجه كل واحد منهما نحو القبلة (إني وجهت وجهي) أي جعلت ذاتي متوجهاً (للذي فطر السماوات والأرض) أي إلى خالقهما ومبدعهما (على ملة إبراهيم) حال من ضمير المتكلم في وجهت، أي أنا على ملة إبراهيم، يعني في الأصول وبعض الفروع (حنيفاً) حال من إبراهيم، أي مائلاً عن الأديان الباطلة إلى الملة القويمة التي هي التوحيد الحقيقي، وقيل: حال من ضمير المتكلم في وجهت متداخلة أو مترادفة (إن صلاتي ونسكي) أي سائر عباداتي أو تقربي بالذبح. قال الطيبي: أي وما آتيه في حياتي وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح – انتهى. (لله) أي خالصة لوجهه (وأنا من المسلمين) هذا لفظ أبي داود، وعند أحمد وابن ماجه والدارمي: ((وأنا أول المسلمين)) أي أول مسلمي هذه الأمة، وفي الحديث استحباب تلاوة هذه الآية عند توجيه الأضحية للذبح، وقد تقدم ذكرها في دعاء الاستفتاح في الصلاة (اللهم منك) أي هذه الأضحية عطية ومنحة واصلة إلي منك (ولك) أي مذبوحة وخالصة لك، وفي المصابيح "إليك" مكان "لك" أي واصلة وراجعة إليك، أو أتقرب به إليك (عن محمد) أي صادرة عنه (وأمته) أي قال في أحدهما عن محمد، وفي الآخر عن أمته، كما في حديث أبي سلمة عن عائشة وأبي هريرة عند ابن ماجه في أوائل الأضاحي (بسم الله، والله أكبر) بالواو، وعند أحمد (ج3 ص375) ((بسم الله الله أكبر)) بغير الواو. (رواه أحمد) (ج3 ص375) ، (وأبوداود) وسكت عنه (وابن ماجه والدارمي) ، وأخرجه أيضاً البيهقي (ج9 ص268، 287) ، وفي إسناده عندهم محمد بن إسحاق، وقد صرح بالتحديث في روايته عن يزيد بن أبي حبيب عند أحمد، وفيه أيضاً أبوعياش المعافري المصري، قال الحافظ في التقريب: مقبول، وفي التضحية بالخصي أحاديث عن جماعة من الصحابة عائشة وأبي هريرة وأبي رافع وأبي الدرداء ذكرها الزيلعي في نصب الراية (ج4 ص215-216) ، والحافظ في الدراية (ص326) ، والتلخيص (ص385) ، والشوكاني في النيل، ولجابر حديث آخر رواه أبويعلى، قال الهيثمي بعد ذكره: إسناده حسن. (وفي رواية لأحمد)

وأبي داود، والترمذي ذبح بيده وقال: ((بسم الله والله أكبر، اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي)) . 1477- (10) وعن حنش قال: رأيت علياً يضحي بكبشين، فقلت له: ما هذا؟ فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوصاني أن أضحي عنه، فأنا أضحي عنه. ـــــــــــــــــــــــــــــ (ج3 ص356، 362) (وأبي داود والترمذي ذبح بيده) أول الحديث قال جابر: شهدت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الأضحى بالمصلى، فلما قضى خطبته نزل عن منبره فأتي بكبش فذبحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده ... الخ. (اللهم هذا) أي الكبش (عني) أي اجعله أضحية عني (وعمن لم يضح من أمتي) قد استدل بهذا الحديث على عدم وجوب الأضحية؛ لأن الظاهر أن تضحيته - صلى الله عليه وسلم - عن أمته تجزئ كل من لم يضح سواء كان متمكناً من الأضحية أو غير متمكن، وهذه الرواية عند أحمد وأبي داود والترمذي من طريق المطلب بن عبد الله بن حنطب عن جابر بن عبد الله، وقد سكت عليه أبوداود، وقال الترمذي: حديث غريب من هذا الوجه، وقال المطلب بن عبد الله بن حنطب يقال إنه لم يسمع من جابر – انتهى. قال المنذري: وقال أبوحاتم الرازي: يشبه أن يكون أدركه – انتهى. وقال في التهذيب (ج10 ص179) : قال ابن أبي حاتم في المراسيل عن أبيه: لم يسمع من جابر ... الخ. 1477- قوله (وعن حنش) بفتح الحاء المهملة وبالنون الخفيفة المفتوحة بعدها معجمة، هو حنش بن المعتمر، ويقال: ابن ربيعة الكناني أبوالمعتمر الكوفي، من أوساط التابعين، قال الحافظ في التهذيب (ج3 ص58-59) : قال أبوداود والعجلي: ثقة، وقال البخاري: يتكلمون في حديثه، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال ابن حبان: كان كثير الوهم في الأخبار ينفرد عن علي بأشياء لا تشبه حديث الثقات حتى صار ممن لا يحتج بحديثه، وذكره العقيلي والساجي وابن الجارود وأبوالعرب الصقلي في الضعفاء، وقال ابن حزم في المحلى: ساقط مطرح – انتهى. وقال في التقريب: صدوق له أوهام. (يضحي بكبشين) أحدهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والآخر عن نفسه، كما في رواية الترمذي وأحمد والحاكم (ج4 ص229-230) . (ما هذا) أي ما الذي بعثك على فعلك هذا؟ (أوصاني) أي عهد إلي وأمرني (أن أضحي عنه) بعد موته بكبشين؛ كبش عنه وكبش عن نفسي (فأنا أضحي عنه) وفي رواية الترمذي، فقال: أمرني به يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا أدعه أبداً، والحديث يدل على أن التضحية تجوز عمن مات، قال الترمذي: قد رخص بعض أهل العلم أن يضحى عن الميت ولم ير بعضهم أن يضحى عنه، وقال عبد الله بن المبارك: أحب إلي أن يتصدق عنه ولا يضحى، وإن ضحى فلا يأكل منها شيئاً ويتصدق بها كلها – انتهى. قال في غنية الألمعي ما محصله: إن قول من رخص في التضحية عن الميت مطابق للأدلة، ولا دليل لمن منعها، وقد

رواه أبوداود، وروى الترمذي نحوه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يضحي بكبشين؛ أحدهما عن نفسه وأهل بيته والآخر عن أمته ممن شهد له بالتوحيد وشهد له البلاغ، ومعلوم أن كثيراً من أمته قد كانوا ماتوا في عهده - صلى الله عليه وسلم -، فدخل في أضحيته - صلى الله عليه وسلم - الأحياء والأموات كلهم، ولكبش الواحد الذي يضحي به عن أمته كما كان للأحياء من أمته كذلك كان للأموات من أمته بلا تفرقة، ولم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتصدق بذلك الكبش كله، ولا يأكل منه شيئاً، أو كان يتصدق بجزء معين بقدر حصة الأموات، بل قال أبورافع: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطعمهما جميعاً المساكين، ويأكل هو وأهله منهما، رواه أحمد، وكان دأبه - صلى الله عليه وسلم - أنه يأكل من الأضحية هو وأهله، ويطعم منها المساكين، وأمر بذلك أمته، ولم يحفظ عنه خلافه، فإذا ضحى الرجل عن نفسه وعن بعض أمواته، أو عن نفسه وعن أهله وعن بعض أمواته فيجوز أن يأكل هو وأهله من تلك الأضحية، وليس عليه أن يتصدق بها كلها، نعم إن تخص الأضحية للأموات من دون شركة الأحياء فيها فهي حق للمساكين كما قال عبد الله بن المبارك – انتهى ما في غنية الألمعي محصلاً. قال شيخنا في شرح الترمذي: لم أجد في التضحية عن الميت منفرداً حديثاً مرفوعاً صحيحاً. وأما حديث علي هذا فضعيف، فإذا ضحى الرجل عن الميت منفرداً فالاحتياط أن يتصدق بها كلها – انتهى. (رواه أبوداود، وروى الترمذي نحوه) وأخرجه أيضاً أحمد (ج1 ص107، 149) ، والحاكم (ج4 ص229-230) ، والبيهقي (ج9 ص288) كلهم من طريق شريك بن عبد الله النخعي عن أبي الحسناء عن الحكم عن حنش، وقد سكت عليه أبوداود، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث شريك، وقال المنذري بعد نقل كلام الترمذي: وحنش قد تكلم فيه غير واحد، ثم نقل كلام ابن حبان، ثم قال: وشريك بن عبد الله فيه مقال، وقد أخرج له مسلم في المتابعات – انتهى. قال شيخنا: وأبوالحسناء شيخ شريك به عبد الله مجهول كما قال الحافظ في التقريب، فالحديث ضعيف – انتهى. وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند (ج2 ص152) : إسناده صحيح، وقال بعد نقل كلام الترمذي: وفي طبعة بولاق (ج1 ص282-283) زيادة نصها "قال محمد: قال علي بن المديني: وقد رواه غير شريك. قلت له: أبوالحسناء ما اسمه فلم يعرفه. قال مسلم: اسمه الحسن"، وهذه الزيادة ثابتة في مخطوطتنا الصحيحة من الترمذي، وأبوالحسناء هذا مترجم له في التهذيب، فلم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، وقال: اسمه الحسن، ويقال: الحسين، وترجمه الذهبي في الميزان فقال: لا يعرف، ولكن الحديث رواه الحاكم، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأبوالحسناء هذا هو الحسن بن الحكم النخعي، ووافقه الذهبي، والراجح عندي ما قاله الحاكم، والحسن بن الحكم النخعي الكوفي يكنى أباالحسن. ورجح الحافظ في التهذيب (ج2 ص271) أنه يكنى أباالحكم، فقد اختلف في كنيته، فالظاهر أن بعضهم كناه أيضاً أباالحسناء، وهو من شيوخ شريك

1478- (11) وعن علي قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستشرف العين والأذن، وأن لا نضحي بمقابلة ولا مدابرة، ولا شرقاء ولا خرقاء. ـــــــــــــــــــــــــــــ أيضاً، وقد وثقه أحمد وابن معين، وترجمه البخاري في الكبير فلم يذكر فيه جرحاً – انتهى. قلت: في كون هذا الحديث صحيحاً عندي نظر قوي، وهذا لا يخفى على من تأمل في ترجمة شريك وأبي الحسناء وحنش. 1478- قوله (أن نستشرف العين والأذن) أي نبحث عنهما ونتأمل في حالهما لئلا يكون فيهما عيب ونقصان يمنع عن جواز التضحية بها , قيل: والاستشراف إمعان النظر، والأصل فيه وضع يدك على حاجبك كيلا تمنعك الشمس من النظر، مأخوذ من الشَرَف، وهو المكان المرتفع، فإن من أراد أن يطلع على شيء أشرف عليه – أي اطلع عليه من فوق -. وقال ابن الملك: الاستشراف الاستكشاف. قال الطيبي: وقيل: هو من الشرفة – بضم الشين وسكون الراء -، وهي خيار المال، أي أمرنا أن نتخيرهما أن نختار ذات الأذن والعين الكاملتين، كذا في المرقاة. وقال السيوطي في حاشية الترمذي: اختلف في المراد به، هل هو من التأمل والنظر من قولهم: استشرف إذا نظر من مكان مرتفع، فإنه أمكن في النظر والتأمل، أو هو تحري الإشراف بأن لا يكون في عينه أو أذنه نقص؟ وقيل: المراد به كبر العضوين المذكورين؛ لأنه يدل على كونه أصيلاً في جنسه، قال الشافعي: معناه أن نضحي بواسع العينين، طويل الأذنين، وقال الجوهري: أذن شرفاء أي طويلة، والقول الأول هو المشهور، ذكره السندي. وقال الجزري في جامع الأصول (ج4 ص389) الاستشراف هو أن تضع يدك على حاجبك كالذي يستظل من الشمس حتى يستبين الشيء، والمعنى في الحديث: أمرنا أن نختبر العين والأذن، فتأمل سلامتهما من آفة تكون بهما (وأن لا نضحي) بتشديد الحاء (بمقابلة) بفتح الباء هي التي قطع من قبل أذنها شيء ثم ترك معلقاً من مقدمها، قال في القاموس: هي شاة قطعت أذنها من قدام وتركت معلقة، ومثله في النهاية إلا أنه لم يقيد بقدام، وقال في جامع الأصول: شاة مقابلة إذا قطع من مقدم أذنها قطعة وتركت معلقة كأنها زئمة. (ولا مدابرة) بفتح الباء أيضاً، وهي التي قطع من دبر أذنها وترك معلقاً من مؤخرها، قال في النهاية: المدابرة أن يقطع من مؤخر أذن الشاة شيء ثم يترك معلقاً كأنه زَئَمة. (ولا شرقا) بالمد، أي مشقوقة الأذن بإثنين أي نصفين، شَرَّق أذنَها يَشْرُق شرقاً إذا شقها، كذا في النهاية. وقال في القاموس: شَرَّقَ الشاة شَرْقاً: شق أذنها، وشَرِقَت الشاة كفرح: انشقت أذنها طولاً فهي شرقا – انتهى. (ولا خرقا) بالمد أي مثقوبة الأذن ثقباً مستديراً، وقيل: الشرقاء ما قطع أذنها طولاً والخرقاء ما قطع أذنها عرضاً، زاد في رواية لأحمد والنسائي وابن ماجه "جدعاء" من الجدع، وهو قطع الأنف أو الأذن أو الشفة، وهو بالأنف أخص، فإذا أطلق غلب عليه، والحديث يدل على النهي عن التضحية بالتي قطع بعض أذنها من قبلها أو دبرها وترك معلقاً، وبمشقوقة

رواه الترمذي، وأبوداو، والنسائي، والدارمي، وابن ماجه، وانتهت روايته إلى قوله "والأذن". ـــــــــــــــــــــــــــــ الأذن طولاً بنصفين، وبمثقوبة الأذن ثقباً مستديراً، وحمله الجمهور على الكراهة والتنزيه، قال ابن قدامة في المغني (ج8 ص626) : هذا نهي تنزيه، ويحصل الإجزاء بها، ولا نعلم يه خلافاً، ولأن اشتراط السلامة من ذلك يشق، إذ لا يكاد يوجد سالم من هذا كله – انتهى. وقال القاري: يجوز التي شقت أذنها طولاً أو من قبل وجهها، وهي متدلية أو من خلفها، فالحديث محمول على التنزيه، وقال ابن جماعة: ذهب الأربعة إلى أن تجزئ الشرقاء وهي التي شقت أذنها، والخرقاء وهي المثقوبة الأذن من كيّ أو غيره – انتهى. قلت: وإليه يشير تبويب الترمذي حيث بوب على حديث البراء الآتي "باب ما لا يجوز من الأضاحي"، ثم بوب على حديث علي هذا "باب ما يكره من الأضاحي"، ولم أقف على دليل قوي يصرف النهي عن معناه الحقيقي، وهو التحريم المستلزم لعدم الإجزاء، ومن يدعي أنها تجزئ مع الكراهة يحتاج إلى إقامة دليل قوي على ذلك، ولا مخالفة بينه وبين حديث علي في النهي عن عضباء الأذن حتى يحتاج إلى الجمع بينهما، فيحمل الحديث الذي نحن بصدد شرحه على التنزيه، كما زعم الطحاوي، فإنه مبني على اتحاد مفهوم عضباء الأذن ومفهوم ما ذكر في هذا الحديث من المقابلة وغيرها، والظاهر أنهما مختلفان، فالراجح أنه لا تجوز التضحية بشاة قطع بعض أذنها أو شقت طولاً أو ثقبت كما لا يجوز أعضب الأذن، والله تعالى أعلم. (رواه الترمذي) الخ، وأخرجه أيضاً أحمد (ج1 ص128، 148) ، والبزار وابن حبان والحاكم (ج4 ص224) ، والبيهقي (ج9 ص275) ، وسكت عنه أبوداود، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، ونقل المنذري كلام الترمذي وأقره، وصححه ابن حبان والحاكم، ووافق الذهبي الحاكم، وسكت عليه الحافظ في الدراية (ص325) ، وقال في التلخيص: وأعله الدارقطني – انتهى. ولم يذكر وجه التعليل، ولعله أعله بالوقف، وهذا ليس بشيء فإنه في حكم المرفوع؛ لأن مثل هذا لا يقال بالرأي (وانتهت روايته) أي رواية ابن ماجه (إلى قوله: والأذن) بالنصب على الحكاية، وهي الأولى، واعلم أن لحديث علي هذا طريقين: طريق أبي إسحاق السبيعي عن شريح بن النعمان الصائدي عن علي، وطريق سلمة بن كهيل عن حجية بن عدي عن علي، فرواه أحمد (ج1 ص128، 149) ، والترمذي وأبوداود والنسائي والدارمي والحاكم والبيهقي من الطريق الأول مطولاً بكلا الجزئين، وروى أحمد (ج1 ص80) ، والنسائي والحاكم أيضاً وابن ماجه من هذا الطريق مختصراً أي الجزء الثاني فقط، يعني النهي عن التضحية بمقابلة ... الخ، وروى أحمد (ج1 ص95، 105، 152) والنسائي وابن ماجه والحاكم والبيهقي والدارمي من الطريق الثاني الجزء الأول فقط، أي الأمر باستشراف العين والأذن، فالحديث رواه ابن ماجه بكلا الجزئين لكن من طريقين، وقد روى أحمد (ج1 ص132) الجزء الأول من طريق أخرى أيضاً، وهي طريق أبي إسحاق عن هبيرة بن يريم عن علي، وهذه الطرق كلها صحيحة.

1479- (12) وعنه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نضحي بأعضب القرن والأذن. رواه ابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1479- قوله (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نضحي) كذا في جميع نسخ المشكاة الموجودة عندنا أي بصيغة جمع المتكلم، وفي المصابيح "يضحي" بالياء، وكذا في ابن ماجه، وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول (بأعضب القرن والأذن) أي مكسور القرن ومقطوع الأذن، قاله ابن الملك، فيكون من باب علفتها تبناً وماءً بارداً، وقيل: مقطوع القرن والأذن، والعضب القطع، كذا في المرقاة. وذكر في رواية غير ابن ماجه قال قتادة – راوي هذا الحديث -: فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب – يعني قلت له ما الأعضب؟ - فقال: العضب ما بلغ النصف فما فوق ذلك، قال الشوكاني في النيل: في الحديث دليل على أنها لا تجزئ التضحية بأعضب القرن والأذن، وهو ما ذهب نصب قرنه أو أذنه، وذهب أبوحنيفة والشافعي والجمهور إلى أنها تجوز التضحية بمكسورة القرن مطلقاً، وكرهه مالك إذا كان يدمي وجعله عيباً، وقال في القاموس: إن العضباء الشاة المكسورة القرن الداخل، فالظاهر أن مكسورة القرن لا تجوز التضحية بها إلا أن يكون الذاهب من القرن مقداراً يسيراً بحيث لا يقال لها عضباء لأجله، أو يكون دون النصف إن صح أن التقدير بالنصف المروي عن سعيد بن المسيب لغوي أو شرعي، وكذلك لا تجزي التضحية بأعضب الأذن، وهو ما صدق عليه اسم العضب لغة أو شرعاً – انتهى. قال شيخنا: قال في الفائق: العضب في القرن داخل الانكسار، ويقال: للانكسار في الخارج القصم، وكذلك في القاموس كما عرفت، وقال فيه: القصماء المعز المكسورة القرن الخارج – انتهى. فالظاهر عندي أن المكسورة القرن الخارج تجوز التضحية بها، وأما المكسورة القرن الداخل فكما قال الشوكاني من أنها لا تجوز التضحية بها إلا أن يكون الذاهب من القرن الداخل مقداراً يسيراً ... الخ، والله تعالى أعلم. (رواه ابن ماجه) وأخرجه أيضاً الشافعي وأحمد والترمذي وأبوداود والنسائي والحاكم والبيهقي، وصححه الترمذي، وسكت عنه أبوداود، ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره كما يظهر مما نقله صاحب العون، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وقيل: في تصحيح هذا الحديث نظر، فإن جري بن كليب السدوسي البصري هو الذي روى هذا الحديث عن علي، وقد سئل عنه أبوحاتم الرازي فقال: شيخ لا يحتج بحديثه، وقال ابن المديني: مجهول لا أعلم أحداً روى عنه غير قتادة، قلت: وكان قتادة يثني عليه خيراً، وقال العجلي: تابعي ثقة، وذكره ابن حبان في ثقات، وقال في التقريب: مقبول، فالحديث لا ينحط عن درجة الحسن، والعبرة برواية الراوي لا برأيه.

1480- (13) وعن البراء بن عازب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل ماذا يتقى من الضحايا؟ فأشار بيده فقال: ((أربعاً: العرجاء البين ظلعها، والعوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعجفاء ـــــــــــــــــــــــــــــ 1480- قوله (ماذا يتقى) بصيغة المجهول من الاتقاء أي يحترز ويجتنب، وهذا لفظ مالك وأحمد والدارمي في رواية، ولفظ أبي داود وأحمد في رواية: ((أربع لا تجوز)) ، ولفظ ابن ماجه: ((أربع لا تجزئ)) ، ونحوه رواية النسائي، وكذا وقع عند الدارمي في رواية، وللترمذي: ((لا يضحى بالعرجاء ... )) الخ. (من الضحايا) من بيانية لما (فأشار بيده) أي بأصابعه كما في رواية للنسائي (فقال: أربعاً) كذا في جميع النسخ، وهكذا في المصابيح، أي اتقوا أربعاً، وفي الموطأ: وقال: ((أربع)) بالرفع، وكذا عند أحمد (ج4 ص301) نعم وقع في رواية للبيهقي (ج9 ص274) فقال: ((أربعاً)) بالنصب، والظاهر أن ما في المشكاة خطأ من الناسخ، والله تعالى أعلم. (العرجاء) بالنصب بدلاً من أربعاً، ويجوز الرفع على أنه خبر، كذا في الأزهار (البين) بالوجهين أي الظاهر (ظلعها) بفتح الظاء وسكون اللام وبفتح، أي عرجها، وهو أن يمنعها المشي، قال السندي: المشهور على ألسنة أهل الحديث فتح الظاء واللام، وضبطه أهل اللغة بفتح الظاء وسكون اللام، هو العرج، قال: كأن أهل الحديث راعوا مشاكلة العور والمرض – انتهى. قال ابن قدامة: العرجاء البين عرجها هي التي بها عرج فاحش، وذلك يمنعها من اللحاق بالغنم، فتسبقها إلى الكلأ فيرعينه ولا تدركهن فينقص لحمها، فإن كان عرجاً يسيراً لا يفضي بها إلى ذلك أجزأت (والعوراء) بالمد تأنيث الأعور، عطف على العرجاء (البين عورها) بفتح العين والواو، وهو ذهاب بصر إحدى العينين، أي العوراء يكون عورها ظاهراً بيناً، وفيه أن العور إذا كان خفيفاً لا يظهر وإنما يتوهمه فلا حاجة إلى أن تعرفه بجد وتكلف (والمريضة البين مرضها) هي التي لا تعتلف، قاله القاري، وقال ابن قدامة: هي التي يبين أثر المرض عليها؛ لأن ذلك ينقص لحمها ويفسده، وهذا أصح. وقال القاضي: إن المراد بالمريضة الجرباء؛ لأن الجرب يفسد اللحم ويهزل إذا كثر، وهذا قول أصحاب الشافعي، وهذا تقييد للمطلق وتخصيص للعموم بلا دليل، فالمعنى يقتضي العموم كما يقتضيه اللفظ، فإن كان المرض يفسد اللحم وينقصه فلا معنى للتخصيص مع عموم اللفظ والمعنى – انتهى. والحديث يدل على أن العيب الخفي في الضحايا معفو عنه، قاله ابن الملك، وقال الشوكاني: فيه دليل على أن متبينة العور والعرج والمرض لا يجوز التضحية بها إلا ما كان من ذلك يسيراً غير بين (والعجفاء) أي المهزولة، وهذا لفظ مالك والترمذي، وكذا عند أحمد والنسائي والدارمي في رواية، وفي رواية أخرى لهم: الكسيرة بدل العجفاء، وكذا عند أبي داود، وفسر بالمنكسر أي

التي لا تنقي)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرجل التي لا تقدر على المشي، فعيل بمعنى مفعول، ورواية العجفاء أظهر معنى (التي لا تنقي) بضم التاء الفوقية وإسكان النون وكسر القاف، من أنقى إذا صار ذا نقى – بكسر النون وإسكان القاف – أي ذا مخ، فالمعنى: التي ما بقي لها مخ من غاية العجف أي الهزال، قال التوربشتي: هي المهزولة التي لا نقى لعظامها، يعني لا مخ لها من العجف، يقال: أنْقَت الناقة أي صار فيها نقى، أي سمنت ووقع في عظامها المخ، قال الترمذي: والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم، قال النووي: وأجمعوا على أن العيوب الأربعة المذكورة في حديث البراء لا تجزئ التضحية بها، وكذا ما كان في معناها أو أقبح منها كالعمى وقطع الرجل وشبهه – انتهى. وروى أحمد والبخاري في تاريخه وأبوداود والحاكم (ج1 ص469) والبيهقي (ج9 ص275) عن عتبة بن عبد السلمي: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المُصَفَّرة – أي ذاهبة جميع الأذن – والمستأصَلَة – هي التي أخذ قرنها من أصله – والبخقاء – من البخق وهو أن يذهب البصر وتبقى العين قائمة -، قاله الجزري، وقال المجد: البَخَق – محركة – أقبح العور وأكثره غمصاً أو أن لا يلتقي شفر عينه على حدقته، وقال الخطابي: بخق العين فقؤها -، المشيَّعَة – بفتح الياء، أي التي تحتاج إلى من يشيّعها أي يتبعها الغم لضعفها، وبالكسر وهي التي تشيع الغنم أي تتبعها لعجفها، قاله المجد. وقال الجزري: هي التي لا تزال تتبع الغنم عجفاً أي لا تلحقها فهي أبداً تشيعها أي تمشي وراءها، هذا إن كسرت الياء، وإن فتحتها فلأنها يحتاج إلى من يشيعها، أي يسوقها لتأخرها عن الغنم -، والكسراء – أي التي لا تقوم من الهزال، وقيل: المنكسر الرجل التي لا تقدر على المشي -. فالمصفرة التي تستأصل أذنها حتى يبدو صماخها، والمستأصلة التي ذهب قرنها من أصله، والبخقاء التي تبخق عينها، والمشيعة التي لا تتبع الغنم عجفاً وضعفاً، والكسراء التي لا تنقي – انتهى. قلت: ولا تجزئ أيضاً ما قطع منها عضو كالإلية والأطباء – وهي حلمات الضرع -. وقد روى الطبراني في الأوسط والحاكم في النهي عن المصطلمة الأطباء حديثاً مرفوعاً، لكنه ضعيف، فيه علي بن عاصم، وقد ضعفوه، وأما العيب الحادث بعد تعيين الأضحية فلا يضر لما روى أحمد وابن ماجه والبيهقي عن أبي سعيد قال: اشتريت كبشاً أضحي به، فعدا الذئب فأخذ الإلية، قال: فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((ضح به)) انتهى. فهذا دليل على أن من اشترى أضحية صحيحة تامة ثم عرض لها عنده نقص لا يضر ذلك، فيذبحها وتكون أضحية، وإليه ذهب أحمد ومالك والشافعي وإسحاق والثوري والزهري والنخعي والحسن وعطاء، لكن الحديث ضعيف في إسناده جابر الجعفي وهو ضعيف جداً، وفيه أيضاً محمد بن قرظة وهو مجهول، وقد قيل: إنه وثقه ابن حبان، ويقال: إنه لم يسمع من أبي سعيد، وتجزئ الجماء وهي التي لم يخلق لها قرن؛ لأنه لا ينقص اللحم ولا يخل بالمقصود ولم يرد به النهي، ولأنه ليس بمرض ولا عيب، والصمعاء وهي الصغيرة الأذن، والبتراء وهي التي لا ذنب لها خلقة، وأما الثرماء أي التي ذهب بعض أسنانها فنقل القاضي حسين عن الشافعي أنه قال: لا نحفظ

رواه مالك، وأحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي. 1481- (14) وعن أبي سعيد قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحي بكبش أقرن فحيل، ينظر في سواد، ويأكل في سواد، ويمشي في سواد، رواه الترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه. 1482- (15) وعن مجاشع من بني سليم، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: ((إن الجذع يوفي ـــــــــــــــــــــــــــــ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في نقص الأسنان شيئاً، يعني في النهي، والله تعالى أعلم. (رواه مالك ... ) الخ وأخرجه أيضاً ابن حبان والحاكم (ج1 ص468) ، و (ج4 ص223) ، والبيهقي (ج9 ص274) ، وصححه الترمذي والحاكم، وسكت عنه أبوداود، ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره. 1481- قوله (أقرن) أي ذي قرنين (فحيل) بفتح الفاء وكسر الحاء المهملة، أي كامل الخلقة لم تقطع أنثياه، ولا اختلاف بين هذه الرواية وبين رواية الموجوئين لحملهما على وقتين، وكل منهما فيه صفة مرغوبة، فإن الموجوء يكون أسمن وأطيب لحماً، والفحيل أتم خلقة، قال الشوكاني: فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى بالفحيل كما ضحى بالخصي، وقيل: الفحيل المنجب في ضرابه، قال في القاموس: فحل فحيل كريم منجب في ضرابه، وكذا في النهاية. وقال الخطابي: هو الكريم المختار للفِحْلة، وأما الفحل فهو عام في الذكورة منها - أي يطلق على الذكر من كل حيوان -، وقالوا: في ذكورة النخل فُحّال فرقاً بينه وبين سائر الفحول من الحيوان - انتهى. (ينظر في سواد) أي حول عنينه سواد (ويأكل في سواد) أي فمه أسود (ويمشي في سواد) أي قوائمه سود مع بياض سائره، زاد في رواية البيهقي: ويبطن في سواد، أي يبرك في سواد يعني في بطنه سواد، وفيه أنها تستحب التضحية بما كان على هذه الصفة. رواه (الترمذي) وصححه (وأبوداود) وسكت عنه، ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره (والنسائي وابن ماجه) ، وأخرجه أيضاً أحمد والحاكم (ج4 ص228) والبيهقي (ج9 ص273) وصححه ابن حبان وهو على شرط مسلم، قاله صاحب الاقتراح، وصححه أيضاً الحاكم، وقال الذهبي: على شرط البخاري ومسلم. 1482- قوله (وعن مجاشع) بضم الميم وتخفيف الجيم وبشين معجمة مكسورة (من بني سليم) بالتصغير، وهو مجاشع بن مسعود بن ثعلبة بن وهب السلمي، صحابي، قتل يوم الجمل قبل الوقعة سنة (36) ، قال العسكري: كان مع عائشة، وقال عمر بن شبة: استخلفه المغيرة بن شعبة على البصرة في خلافة عمر (أن الجذع) أي من الضأن، كما في رواية للبيهقي، وهو ما تمت له سنة (يوفى) بصيغة المعلوم من التوفية أو الإيفاء، يقال: أوفاه

مما يوفى منه الثني، رواه أبوداود، والنسائي، وابن ماجه. 1483- (16) وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((نعمت الأضحية الجذع من الضان)) رواه الترمذي. 1481- (17) وعن ابن عباس قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فحضر الأضحى، فاشتركنا في البقرة سبعة، ـــــــــــــــــــــــــــــ حقه ووفاه إذا أعطاه وافيا أي تاماً، والمراد يجزئ ويكفي (مما يوفى منه الثني) أي من المعز، والثني هو المسن يعني أن الجذع من الضأن يجزئ في الأضحية كما يجزئ الثني من المعز. ففي رواية النسائي والبيهقي: أن الجذعة تجزئ مما تجزئ منه التثنية. وفيه دليل على أنها تجوز التضحية بالجذع من الضأن كما ذهب إليه الجمهور فيرد به على ابن عمر والزهري حيث قالا: إنه لا يجزئ، وقد تقدم الكلام على ذلك. (رواه أبوداود والنسائي وابن ماجه) لكن لم يسم النسائي الصحابي، بل وقع عنده أنه رجل من مزينة، وأن ذلك كان في سفر فيستدل به على أن المسافر يضحي كالمقيم. والحديث أخرجه أيضاً الحاكم (ج4 ص226) والبيهقي (ج9 ص270-271) وقد سكت عنه أبوداود وصححه الحاكم. وقال المنذري: في إسناده عاصم بن كليب. قال ابن المديني: لا يحتج به إذا انفرد، وقال أحمد: لا بأس بحديثه، وقال أبوحاتم الرازي: صالح، وأخرج له مسلم – انتهى. 1483- قوله (نعمت الأضحية) بكسر الهمزة وضمها أشهر (الجذع من الضأن) مدحه - صلى الله عليه وسلم - ليعلم الناس أنه جائز في الأضحية بخلاف الجذع من المعز فإنها لا تجزئ. (رواه الترمذي) وقال: غريب، وقد روي هذا عن أبي هريرة موقوفاً، وقال في علله الكبير: سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: رواه عثمان بن واقد، فرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورواه غيره فوقفه على أبي هريرة، وسألته عن اسم أبي كباش – راوي الحديث عن أبي هريرة – فلم يعرفه – انتهى. كذا في نصب الراية (ج4 ص217) . وقال الحافظ في الدراية (ص326) : استغربه الترمذي، ونقل عن البخاري أنه أشار إلى أن الراجح وقفه – انتهى. قلت: أبوكباش – بكسر الكاف وآخره معجمة بصيغة الجمع – العيشي، وقيل: السلمي، مجهول، قاله في التقريب واللسان، وقال الذهبي: لا يعرف، ولذلك قال الحافظ في الفتح (ج23 ص329) : في سنده ضعف، والحديث أخرجه أيضاً البيهقي (ج9 ص271) . 1484- قوله (فحضر الأضحى) أي يوم عيده (فاشتركنا في البقرة سبعة) أي سبعة أشخاص بالنصب على تقدير أعني بياناً لضمير الجمع، قاله الطيبي. وقيل: نصب على الحال، وقيل: مرفوع بدلاً من ضمير "اشتركنا".

وفي البعير عشرة. رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. 1485- (18) وعن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما عمل ابن آدم من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم، وإنه ليأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، ـــــــــــــــــــــــــــــ والظاهر أنه منصوب على الحال (وفي البعير عشرة) فيه دليل على أنه يجوز اشتراك عشرة أشخاص في البعير في الأضحية، وبه قال إسحاق بن راهويه وابن خزيمة، وهو الحق خلافاً للجمهور، قالوا: إنه منسوخ، ولا يخفى ما فيه. (رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه) وأخرجه أيضاً أحمد (ج1 ص275) وابن حبان في صحيحه، والحاكم (ج4 ص230) وقال: صحيح على شرط البخاري، ووافقه الذهبي. ويشهد له ما روي عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً: الجزور في الأضحى عن عشرة. قال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير، وفيه عطاء بن السائب وقد اختلط، ويشهد له أيضاً ما روى الطبراني في الكبير، والحاكم (ج4 ص230-231) من طريق عبد الله بن صالح كاتب الليث بن سعد عن الليث عن إسحاق بن بزرج عن زيد بن الحسن بن علي عن أبيه عن الحسن بن علي قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نلبس أجود ما نجد، وأن نتطيب بأجود ما نجد، وأن نضحي بأسمن ما نجد، البقرة عن سبعة والجزور عن عشرة....الحديث، قال الهيثمي: عبد الله بن صالح قال عبد الملك بن شعيب بن الليث: ثقة مأمون، وضعفه أحمد وجماعة – انتهى. وقال الحاكم: لولا جهالة إسحاق بن بزرج لحكمت للحديث بالصحة – انتهى. قلت: ليس بمجهول، فقد ضعفه الأزدي، ووثقه ابن حبان، ذكره في التلخيص (ص143) وذكره ابن أبي حاتم بروايته عن الحسن ورواية الليث عنه فلم يذكر فيه جرحاً، كذا في اللسان (ج1 ص353) . 1485- قوله (ما عمل ابن آدم) وفي رواية الترمذي: ((ما عمل آدمي)) (من عمل) من زائدة لتأكيد الاستغراق، أي عملاً (يوم النحر) بالنصب على الظرفية (أحب) بالنصب صفة عمل، وقيل: بالرفع، وتقديره: هو أحب. وفي رواية الحاكم: ما تقرب إلى الله تعالى يوم النحر بشيء هو أحب (من إهراق الدم) أي صبه، قال ابن العربي: لأن قربة كل وقت أخص به من غيرها وأولى، ولأجل ذلك أضيف إليه، أي فيقال يوم النحر وهو محمول على غير فرض الأعيان كالصلاة. (وإنه) أي الشأن، وقال الطيبي: الضمير راجع إلى ما دل عليه إهراق الدم يعني المهراق دمه، وقال ابن الملك: إنه أي المضحى به (بقرونها) جمع قرن (وأشعارها) جمع شعر (وأظلافها) جمع ظلف، وضمير التأنيث باعتبار أن المهراق دمه أضحية، قال زين العرب: يعني أفضل العبادات يوم النحر إراقة دم القربان وإنه يأتي يوم القيامة كما كان في الدنيا من غير نقصان شيء منه؛ ليكون بكل عضو منه أجر، ويصير

وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع بالأرض، فطيبوا بها نفساً)) ، رواه الترمذي وابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ مركبه على الصراط، ذكره القاري. وقال ابن العربي: يريد أنها تأتي بذلك فتوضع في ميزانه كما صرح به في حديث علي – رضي الله عنه – انتهى. ولعله أراد بذلك ما رواه أبوالقاسم الأصبهاني عن علي بلفظ: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يا فاطمة! قومي فاشهدي أضحيتك، فإن لك بأول قطرة تقطر من دمها مغفرة لكل ذنب، أما إنه يجاء بدمها ولحمها فيوضع في ميزانك سبعين ضعفاً ... )) الحديث. قال المنذري في الترغيب: قد حسن بعض مشايخنا حديث علي هذا، والله أعلم. (وإن الدم ليقع من الله) أي من رضاه (بمكان) أي بموضع قبول (قبل أن يقع بالأرض) في رواية الترمذي ((من الأرض)) ، وفي ابن ماجه والحاكم ((على الأرض)) ، وفي البيهقي ((في الأرض)) ، يعني يقبله تعالى عند قصد الذبح قبل أن يقع دمه على الأرض، وقال العراقي في شرح الترمذي: أراد أن الدم وإن شاهده الحاضرون يقع على الأرض فيذهب ولا ينتفع به، فإنه محفوظ عند الله لا يضيع، كما في حديث عائشة: ((إن الدم وإن وقع في التراب فإنما يقع في حرز الله برمته، يوافيه صاحبه يوم القيامة)) رواه أبوالشيخ ابن حبان في كتاب الصحابة – انتهى. قلت: ويؤيد ذلك أيضاً ما روى الطبراني في الأوسط عن علي مرفوعاً ((إن الدم وإن وقع في الأرض فإنه يقع في حرز الله عزوجل)) ، ذكره المنذري في الترغيب، وصدره بلفظه "روى" وأهمل الكلام عليه في آخره. وقال الهيثمي (ج3 ص17) : فيه عمرو بن الحصين العقيلي، وهو متروك الحديث. (فطيبوا بها) أي بالأضحية (نفساً) منصوب على التمييز وجعله من طيب، ونصب نفساً على المفعول بعيد، قال ابن الملك: الفاء جواب شرط مقدر أي إذا علمتم أنه تعالى يقبله يجزيكم بها ثواباً كثيراً، فلتكن أنفسكم بالتضحية طيبة غير كارهة لها – انتهى. قال العراقي: الظاهر أن هذه الجملة مدرجة من قول عائشة، وليست مرفوعة لما في رواية أبي الشيخ عن عائشة أنها قالت: يا أيها الناس! ضحوا وطيبوا بها نفساً، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما من عبد يوجه أضحيته ... )) الحديث – انتهى. والحديث دليل على أن التضحية أحب الأعمال إلى الله يوم النحر. (رواه الترمذي وابن ماجه) وأخرجه أيضاً الحاكم (ج4 ص221-222) والبيهقي (ج9 ص261) كلهم من طريق أبي المثنى، واسمه سليمان بن يزيد عن هشام بن عروة عن أبيه عنها، قال الترمذي: حديث حسن غريب، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، قلت: قال الذهبي: سليمان واهٍ وبعضهم تركه، وقال المنذري بعد نقل تحسين الترمذي وتصحيح الحاكم: سليمان واهٍ وقد وثق، وقال البيهقي: قال البخاري فيما حكى أبوعيسى عنه: هو حديث مرسل لم يسمع أبوالمثنى من هشام بن عروة. قال الشيخ: أحمد رواه ابن خزيمة عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن أبي المثنى عن إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن هشام عن أبيه عن عائشة أو عن عمه موسى بن عقبة هكذا بالشك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ... الخ – انتهى. فلعل الترمذي حسنه لشواهده، وقد ذكرها المنذري في الترغيب والهيثمي في مجمع الزوائد، لكن لا يخلوا واحد منها عن كلام ويشد بعضها بعضاً، ويبلغ

1486- (19) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من أيام أحب إلى الله أن يتعبد له فيها من عشر ذي الحجة، يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة، وقيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر)) ، رواه الترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: إسناده ضعيف. ـــــــــــــــــــــــــــــ بمجموعها إلى درجة الحسن، ولا شك أنه يقبل مثلها في فضائل الأعمال، قال ابن العربي في شرح الترمذي: ليس في فضل الأضحية حديث صحيح – انتهى. قلت: الأمر كما قال ابن العربي، والله تعالى أعلم. 1486- قوله (ما من أيام) من زائدة وما بمعنى ليس وأيام اسمها (أحب إلى الله) بالنصب على أنه خبرها، وبالفتح صفتها وخبرها ثابتة، وقيل: بالرفع على أنه صفة أيام على المحل، والفتح على أنها صفتها على اللفظ، وقوله (أن يتعبد) في محل رفع بتأويل المصدر على أنه فاعل أحب، وقيل: التقدير لأن يتعبد أي يفعل العبادة (له) أي لله (فيها) أي في الأيام (من عشر ذي الحجة) قال الطيبي: قيل: لو قيل أن يتعبد مبتدأ وأحب خبره ومن متعلق بأحب يلزم الفصل بين أحب ومعموله بأجنبي، فالوجه أن يقرأ أحب بالفتح ليكون صفة أيام وأن يتعبد فاعله ومن متعلق بأحب، والفصل ليس بأجنبي، وهو كقوله: ما رأيت رجلاً احسن في عينه الكحل من عين زيد، وخبر ما محذوف، أقول: لو جعل أحب خبر ما وأن يتعبد متعلقاً بأحب بحذف الجار أي ما من أيام أحب إلى الله لأن يتعبد له فيها من عشر ذي الحجة لكان أقرب لفظاً ومعنى، أما اللفظ فظاهر، وأما المعنى فلأن سوق الكلام لتعظيم الأيام، والعبادة تابعة لها لا عكسه، وعلى ما ذهب إليه القائل يلزم العكس مع ارتكاب ذلك التعسف (يعدل) بالمعلوم، وقيل: بالمجهول أي يسوى (صيام كل يوم منها) أي ما عدا العاشر. وقال ابن الملك: أي من أول ذي الحجة إلى يوم عرفة (بصيام سنة) كذا في جميع النسخ الحاضرة، وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج4 ص167) عن الترمذي، ولكن في نسخ الترمذي وابن ماجه صيام سنة أي بدون حرف الجر، يعني لم يكن فيها عشر ذي الحجة، كذا قيل، والمراد صيام التطوع فلا يحتاج إلى أن يقال لم يكن فيها أيام رمضان (رواه الترمذي وابن ماجه) كلاهما في الصوم (وقال الترمذي: إسناده ضعيف، وفي نسخ الترمذي الحاضرة عندنا قال أبوعيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث مسعود بن واصل عن النهاس بن قهم، وسألت محمداً عن هذا الحديث، فلم يعرفه من غير هذا الوجه مثل هذا، وقال: قد روي عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسل شيء من هذا – انتهى. قلت: مسعود بن واصل لين الحديث، قال أبوداود: مسعود ليس بذاك ونهاس بن قهم ضعيف، كما في التقريب، ضعفه ابن معين والنسائي وغيرهما، فالحديث ضعيف.

{الفصل الثالث}

{الفصل الثالث} 1487- (20) عن جندب بن عبد الله قال: شهدت الأضحى يوم النحر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يعد أن صلى وفرغ من صلاته وسلم، فإذا هو يرى لحم أضاحي قد ذبحت قبل أن يفرغ من صلاته، فقال: ((من كان ذبح قبل أن يصلي – أن نصلي – فليذبح مكانها أخرى)) ، وفي رواية قال: صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر، ثم خطب، ثم ذبح وقال: ((من كان ذبح قبل أن يصلي فليذبح أخرى مكانها، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1487- قوله (شهدت) أي حضرت (الأضحى) أي عيده، وقيل: أي مصلاه (فلم يعد) بفتح الياء وسكون العين وضم الدال من عدا يعدو أي لم يتجاوز (وسلم) عطف تفسيري (فإذا هو يرى لحم أضاحي) بتشديد الياء ويخفف أي لم يتجاوز عن الصلاة إلى الخطبة ففاجأ لحم الأضاحي (فقال) أي في خطبته (من كان ذبح قبل أن يصلي) بكسر اللام أي هو (أو نصلي) أي نحن، شك من الراوي، والمآل واحد، إلا لم يكن هناك مصلى متعدد، قاله القاري، وقال الشوكاني: الأولى بالياء التحتية، والثانية بالنون، وهو شك من الراوي، ورواية النون موافقة لقوله في أول الحديث: "ذبحت قبل أن يصلى" فإن المراد صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وموافقة أيضاً لقوله في آخر الحديث: ((ومن لم يكن ذبح حتى صلينا)) ، - وقد تقدمت هذه الرواية في آخر الفصل الأول من صلاة العيدين -، وهذا يدل على أن وقت الأضحية بعد صلاة الإمام لا بعد صلاة غيره، فيكون المراد بقوله في حديث أنس – المتقدم، وكذا في رواية جندب السابقة – من كان ذبح قبل الصلاة: الصلاة المعهودة، وهي صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصلاة الأئمة بعد انقضاء عصر النبوة، ويؤيد هذا ما أخرجه الطحاوي من حديث جابر، وصححه ابن حبان أن رجلاً ذبح قبل أن يصلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنهى أن يذبح أحد قبل الصلاة – انتهى. وقد تقدم البسط في ذلك وبيان ما هو الراجح فيه (فليذبح مكانها) أي بدل تلك الذبيحة (أخرى) أي أضحية أخرى أو ذبيحة أخرى، (وفي رواية قال: صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر) صلاة العيد (وقال) أي في خطبته (من كان ذبح) وفي بعض النسخ: من ذبح، وهكذا نقله الجزري (ج4 ص145) ، قال الحافظ: قوله "وقال: من ذبح" هو من جملة الخطبة، وليس معطوفاً على قوله "ثم ذبح" لئلا يلزم تخلل بين الخطبة، وهذا القول (قبل أن يصلي) العيد (فليذبح) ذبيحة (أخرى مكانها، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله) ، قال النووي: قال الكتاب من أهل العربية: إذا قيل باسم الله تعين كتبه بالألف، وإنما تحذف الألف إذا كتب بسم الله الرحمن الرحيم بكمالها (متفق عليه) أي على أصل الحديث، ولفظ الرواية الأولى لمسلم في

1488- (21) وعن نافع أن ابن عمر قال: الأضحى يومان بعد يوم الأضحى. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأضاحي، والثانية للبخاري في باب كلام الإمام والناس في خطبة العيدين من كتاب العيدين، وللحديث ألفاظ منها ما ذكره المؤلف في العيدين، وقد تقدم هناك تخريجه. 1488- قوله (الأضحى) قال الطيبي: هذا جمع أضحاة، وهي الأضحية كأرطى واَرطاة، أي وقت الأضاحي (يومان بعد يوم الأضحى) وهو اليوم الأول من أيام النحر، وبه أخذ أبوحنيفة ومالك وأحمد والثوري، وقالوا: ينتهي وقت الذبح بغروب ثاني أيام التشريق فآخر وقت الذبح عندهم آخر اليوم الثاني من أيام التشريق، فتكون أيام النحر ثلاثة أيام فقط يوم العيد ويومان بعده، وروي هذا عن علي وعمر وابن عباس وأبي هريرة وأنس، كما في المحلى (ج7 ص377) . وحكى ابن القيم وابن قدامة عن أحمد أنه قال: هو قول غير واحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكره الأثرم عن ابن عباس، واستدل لذلك بما روي من النهي عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث. قال ابن قدامة: ولا يجوز الذبح في وقت لا يجوز ادخار الأضحية إليه، ونسخ تحريم الادخار لا يستلزم نسخ وقت الذبح. وقال الشافعي: يمتد وقت الأضحية إلى غروب الشمس آخر أيام التشريق، فالأضحى عنده ثلاثة أيام بعد يوم النحر، وإليه ذهب عطاء والحسن البصري وعمر بن عبد العزيز وسليمان بن موسى الأسدي فقيه أهل الشام، ومكحول، وهو قول ابن عباس، روى ذلك عنهم البيهقي في السنن (ج9 ص296-297) ، وابن حزم في المحلى (ج7 ص377-378) ، وذكر ابن القيم في الهدي عن علي أنه قال: أيام النحر يوم الأضحى وثلاثة أيام بعده، وكذا حكاه النووي عنه في شرح مسلم، وحكاه أيضاً عن جبير بن مطعم وابن عباس وغيرهما، وحكاه ابن القيم عن الأوزاعي وابن المنذر، وبهذا يظهر خطأ من زعم تفرد الشافعي به، واستدل له بما روى جبير بن مطعم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((كل أيام التشريق ذبح)) ، أخرجه ابن حبان في صحيحه والبيهقي (ج9 ص296) من رواية عبد الرحمن بن حسين عنه، وأخرجه البزار من هذا الوجه، وقال: ابن أبي حسين لم يلق جبير بن مطعم، فهو منقطع، وأخرجه البيهقي في المعرفة وفي السنن، ولم يذكر فيه انقطاعاً. قلت: عبد الرحمن بن أبي حسين عن جبير بن مطعم، هكذا وقع في صحيح ابن حبان، كما في موارد الظمآن والسنن للبيهقي، وكذا نقله الزيلعي (ج3 ص61، وج4 ص212) ، وقال الحافظ في التلخيص (ص216) بعد عزوه إلى ابن حبان والطبراني والبيهقي والبزار ما لفظه: "وفي سنده انقطاع، فإنه من رواية عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين عن جبير بن مطعم، ولم يلقه، قاله البزار"، قيل: هو الصواب كما في تهذيب التهذيب (ج12 ص290) ، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين هذا هو ابن الحارث بن عامر بن نوفل المكي القرشي النوفلي من رجال الستة، ثقة عالم بالمناسك، روى عن نافع بن جبير وغيره، وروى عنه: مالك والسفيانان وغيرهم، من الخامسة، أي من صغار التابعين، وهم الذي رأوا

............................. ـــــــــــــــــــــــــــــ الواحد والاثنين من الصحابة، ولم يثبت لبعضهم السماع من الصحابة كالأعمش، وأما عبد الرحمن بن أبي حسين فذكره ابن حبان في الثقات في التابعين (ص160) ، قال: عبد الرحمن بن أبي حسين يروي عن جبير بن مطعم، روى عنه سليمان بن موسى، أحسبه والد عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المدني – انتهى. قلت: وصنيع ابن حبان وشرطه في صحيحه ومسلكه في كتاب الثقات على ما صرح به في آخره (ص308) يدل على أن حديث جبير بن مطعم من طريق سليمان بن يسار عن عبد الرحمن بن أبي حسين عن جبير بن مطعم صحيح متصل غير منقطع خلافاً لما قاله البزار. قلت: حديث جبير بن مطعم هذا أخرجه الدارقطني (ص544) والبيهقي (ج9 ص296) أيضاً من وجهين آخرين موصولين فيهما ضعف، أخرج أحدهما البزار، وأخرجه أحمد (ج4 ص82) ، والبيهقي (ج9 ص295) من طريق سليمان بن موسى عن جبير بن مطعم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي أيضاً منقطعة، قال البيهقي: سليمان لم يدرك جبير بن مطعم، وكذا قال ابن كثير كما في نصب الراية (ج3 ص61) ، وأخرجه ابن عدي في الكامل، والبيهقي في السنن (ج9 ص296) من حديث أبي سعيد وأبي هريرة وضعفاه بمعاوية بن يحيى الصدفي. قال ابن عدي: هذا جميعاً غير محفوظين لا يرويهما غير الصدفي، والصدفي ضعيف لا يحتج به، وذكر ابن أبي حاتم عن أبيه أنه موضوع بهذا الإسناد، قال ابن القيم: روي من وجهين مختلفين يشد أحدهما الآخرين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((كل أيام التشريق ذبح)) ، وروي من حديث جبير مطعم، وفيه انقطاع، ومن حديث أسامة بن زيد عن عطاء عن جابر، قال يعقوب بن سفيان: أسامة بن زيد عند أهل المدينة ثقة مأمون – انتهى. وقال ابن حجر الهيثمي: والحاصل أن للحديث طرقاً يقوي بعضها بعضاً فهو حسن يحتج به، وبذلك قال ابن عباس وجبير بن مطعم، ونقل عن علي أيضاً، وبه قال كثير من التابعين، فمن زعم تفرد الشافعي به فقد أخطأ – انتهى. وقال ابن سيرين وحميد بن عبد الرحمن: لا تجوز الأضحية إلا في يوم النحر خاصة، وهو قول داود الظاهري؛ لأنها وظيفة عيد فلا تجوز إلا في يوم واحد كأداء الفطرة يوم الفطر، ولأن هذا اليوم اختص بهذه التسمية، فدل على اختصاص حكمها به، ولو جاز في الثلاثة لقيل لها أيام النحر كما قيل لها أيام الرمي وأيام منى وأيام التشريق، وأجيب عنه بأن المراد النحر الكامل، واللام يستعمل كثيراً للكمال، وقال القرطبي: التمسك بإضافة اليوم إلى النحر ضعيف مع قوله تعالى: {ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} [الحج: 28] ، وقال ابن بطال: ليس استدلال بقوله – عليه السلام – بشيء؛ لأن النحر في أيام منى فعل الخلف والسلف، وجرى عليه العمل في جميع الأمصار – انتهى. وقال سعيد بن جبير وجابر بن زيد: إن وقته يوم النحر فقط لأهل الأمصار، وثلاثة أيام في منى؛ لأنها هناك من أيام أعمال المناسك من الرمي والطواف والحلق، فكانت

رواه مالك. وقال: بلغني ـــــــــــــــــــــــــــــ أياماً للذبح بخلاف أهل الأمصار. وقال أبوسلمة بن عبد الرحمن بن عوف وسليمان بن يسار: الأضحى إلى هلال المحرم لمن استأنى بذلك، وبه قال ابن حزم. روى البيهقي (ج9 ص297) وابن حزم في المحلى (ج7 ص378-379) وابن أبي شيبة والدارقطني وأبوداود في المراسيل عن أبي سلمة وسليمان بن يسار قالا جميعاً: بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الأضحى إلى هلال المحرم لمن أراد أن يستأني بذلك)) وهذا مرسل ضعيف، وروى أحمد وأبونعيم في مستخرجه من طريقه، والبيهقي عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف يقول: إن كان المسلمون ليشتري أحدهم الأضحية فيسمنها فيذبحها بعد الأضحى آخر ذي الحجة. قال أحمد: هذا الحديث عجيب، يشير إلى أن زيادة قوله فيذبحها بعد الأضحى آخر ذي الحجة مستنكرة. قال البيهقي: حديث أبي سلمة وسليمان مرسل، وحديث أبي أمامة حكاية عمن لم يسم – انتهى. قلت: حديث أبي أمامة ليس من قسم الحديث المرفوع ولا الموقوف، بل هو من قسم المقطوع الذي ليس بحجة بالاتفاق. والقول الراجح من هذه الأقوال الخمسة عندي هو ما ذهب إليه الشافعي للأحاديث التي ذكرناها، وهي يقوي بعضها بعضاً، وقد أجاب عنه بعض من اختار القول الأول بجواب هو في غاية السقوط، وهو أنه لم يعمل بحديث جبير بن مطعم أحد من الصحابة، وقد عرفت أنه قول جماعة من الصحابة على أن مجرد ترك الصحابة من غير تصريح منهم بعدم الجواز لا يعد قادحاً، أما النهي عن ادخار لحوم لأضاحي فوق ثلاث فلا يدل على أن أيام الذبح ثلاثة فقط. قال ابن القيم: لأن الحديث دليل على نهي الذابح أن يدخر شيئاً فوق ثلاثة أيام من يوم ذبحه، فلو أخر الذبح إلى اليوم الثالث لجاز له الادخار ما بينه وبين ثلاثة أيام، والذين حددوه بالثلاث فهموا من نهيه عن الادخار فوق ثلاث أن أولها من يوم النحر، قالوا: وغير جائز أن يكون الذبح مشروعاً في وقت يحرم فيه الأكل، قالوا: ثم نسخ تحريم الأكل فبقي وقت الذبح بحاله، فيقال لهم: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينه إلا عن الادخار فوق ثلاث لم ينه عن التضحية بعد ثلاث، فأين أحدهما من الآخر، ولا تلازم بين ما نهي عنه وبين اختصاص الذبح بثلاث لوجهين: أحدهما أنه يسوغ الذبح في اليوم الثاني والثالث فيجوز له الادخار إلى تمام الثلاث من يوم الذبح، ولا يتم لكم الاستدلال حتى يثبت النهي عن الذبح بعد يوم النحر، ولا سبيل لكم إلى هذا الثاني، لو ذبح في آخر جزء من يوم النحر لساغ له حينئذٍ الادخار ثلاثة أيام بعده بمقتضى الحديث – انتهى كلام ابن القيم. هذا، وقد ذهب بعض علمائنا إلى جواز التضحية إلى آخر ذي الحجة معتمداً على أثر أبي سلمة وسليمان بن يسار وأثر أبي أمامة المذكورين في معرض الاستدلال للقول الخامس، وقد رد عليه شيخ مشايخنا الشيخ الإمام الرحلة حسين بن محسن الأنصاري راداً مشبعاً في رسالة مستقلة سماها: إقامة الحجة في الرد على من ادعى جواز التضحية إلى آخر ذي الحجة، وهي ملحقة بفتاواه المطبوعة فعليك أن تطالعها. (رواه مالك) وأخرجه أيضاً البيهقي وابن حزم (وقال) أي مالك (وبلغني) وفي بعض النسخ بلغني أي بغير

عن علي بن أبي طالب مثله. ـــــــــــــــــــــــــــــ الواو، ولفظ الموطأ أنه بلغه (عن علي بن أبي طالب مثله) بالرفع، أي مثل مروي ابن عمر، ولم أقف على من روى أثر علي موصولاً، نعم قال ابن حزم في المحلى (ج3 ص377) روينا من طريق ابن أبي ليلى عن المنهال بن عمر وعن زر عن علي قال: النحر ثلاثة أيام، أفضلها أولها، قال ابن حزم: ابن أبي ليلى سيء الحفظ، والمنهال متكلم فيه – انتهى. وعزاه علي المتقي في الكنز (ج3 ص46) إلى ابن أبي الدنيا، وأخرج ابن عبد البر في التمهيد، وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا عن علي قال: الأيام المعدودات ثلاثة أيام: يوم النحر ويومان بعده، اذبح في أيها شئت، وأفضلها أولها. واعلم أنه وقع الخلاف في جواز التضحية في ليالي أيام الذبح. فقال أبوحنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبوثور والجمهور: إنه يجوز مع كراهة. قال ابن قدامة: وهو اختيار أصحابنا المتأخرين، وقال مالك في المشهور عنه، وعامة أصحابه، ورواية عن أحمد – واختارها الخرقي -: أنه لا يجزئ، بل يكون شاة لحم. قال الشوكاني: ولا يخفى أن القول بعدم الإجزاء وبالكراهة يحتاج إلى دليل، ومجرد ذكر الأيام في حديث جبير بن مطعم وإن دل على إخراج الليالي بمفهوم اللقب لكن التعبير بالأيام عن مجموع الأيام والليالي والعكس مشهور متداول بين أهل اللغة، لايكاد يتبادر غيره عند الإطلاق – انتهى. وأما ما أخرجه الطبراني في الكبير عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يضحى ليلاً، ففي إسناده سليمان بن سلمة الخبايري، وهو متروك، كذا في مجمع الزوائد (ج4 ص23) ، واستدل بعضهم لذلك بقوله تعالى: {ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} قالوا: فلم يذكر الليل، قال ابن حزم في الرد عليه: إن الله تعالى لم يذكر في هذه ذبحاً ولا تضحية ولا نحراً، لا في نهار ولا في ليل، وإنما أمر الله تعالى بذكره في تلك الأيام المعلومات، أفترى يحرم ذكره في لياليهن؟ إن هذا لعجب، وليس هذا النص بمانع من ذكره تعالى وحمده على ما رزقنا من بهيمة الأنعام في ليل أو نهار في العام كله، ولا يختلفون فيمن حلف أن لا يكلم زيداً ثلاثة أيام أن الليل يدخل في ذلك مع النهار، قال: وذكروا حديثاً لا يصح، رويناه من طريق بقية بن الوليد عن مبشر بن عبيد الحلبي عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الذبح بالليل. قال ابن حزم: بقية ليس بالقوي، ومبشر بن عبيد مذكور بوضع الحديث عمداً، ثم هو مرسل، ثم لو صح لما كان لهم فيه حجة؛ لأنهم يجيزن الذبح بالليل فيخالفونه فيما فيه ويحتجون به فيما ليس فيه، وقال قائل منهم: لما كانت ليلة النحر لا تجوز التضحية فيها، وكان يومه تجوز التضحية فيه كانت ليالي سائر أيام التضحية كذلك. قال ابن حزم: هذا القياس باطل؛ لأن يوم النحر هو مبدأ دخول وقت التضحية، وما قبله ليس وقتاً للتضحية، ولا يختلفون معنا في أن من طلوع الشمس إلى أن يمضي بعد أبيضاضها وارتفاع وقت واسع من يوم النحر لا تجوز فيه التضحية، فيلزمهم أن يقيسوا على ذلك اليوم ما بعده من أيام التضحية، فلا يجيزون التضحية فيها إلا بعد مضي مثل ذلك الوقت وإلا فقد تناقضوا وظهر فساد قولهم -

1489- (22) وعن ابن عمر قال: أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة عشر سنين يضحي. رواه الترمذي. 1490- (23) وعن زيد بن أرقم قال: قال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله! ما هذه الأضاحي؟ قال: ((سنة أبيكم إبراهيم – عليه السلام)) ، قالوا: فما لنا يا رسول الله؟ قال: ((بكل شعرة حسنة)) ، قالوا: فالصوف يا رسول الله؟، قال: ((بكل شعرة من الصوف حسنة)) ، رواه أحمد، وابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ انتهى. وروى البيهقي (ج9 ص290) عن الحسن البصري قال: نهى عن جداد الليل وحصاد الليل والأضحى بالليل، وهو وإن كانت الصيغة مقتضية للرفع مرسل وأيضاً في آخره "وإنما كان ذلك من شدة حال الناس، كان الرجل يفعله ليلاً فنهى عنه ثم رخص في ذلك"، وهذا خلاف ما ذهب إليه مالك وأصحابه. 1489- قوله (أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة عشر سنين يضحي) أي كل سنة، واستدل به على وجوب الأضحية. قال القاري: مواظبته دليل الوجوب، وتعقب بأن مجرد مواظبته - صلى الله عليه وسلم - على فعل ليس دليل الوجوب، كما لا يخفى (رواه الترمذي) وأخرجه أيضاً أحمد (ج2 ص38) قال الترمذي: حديث حسن، قلت: في إسناده حجاج بن أرطاة، وهو كثير الخطأ والتدليس، ورواه عن نافع بالعنعنة. 1490- قوله (ما هذه الأضاحي) أي من خصائص شريعتنا أو سبقتنا بها بعض الشرائع (قال: سنة أبيكم) أي طريقته التي أمرنا باتباعها فهي من الشرائع القديمة التي قررتها شريعتنا (إبراهيم – عليه السلام) وفي بعض النسخ "صلى الله عليه وسلم" وليس في مسند الإمام أحمد والسنن لابن ماجه جملة الدعاء (فما لنا) وفي المسند "ما لنا" أي بغير الفاء (فيها) أي في الأضاحي من الثواب يا رسول الله (بكل شعرة) بالسكون والفتح (حسنة) أي فضلاً عن اللحم والشحم والجلد، والباء للبدلية أو للسببية، قال الطيبي: الباء في "بكل شعرة" بمعنى في ليطابق السؤال أي أيّ شيء لنا من الثواب في الأضاحي؟ فأجاب: في كل شعرة منها حسنة، ولما كان الشعر كناية عن المعز كنوا عن الضأن بالصوف (قالوا: فالصوف يا رسول الله) أي فالضأن ما لنا فيه؟ فإن الشعر مختص بالمعز، كما أن الوبر مختص بالإبل. قال تعالى: {ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين} [النحل: 80] ولكن قد يتوسع بالشعر فيعم، قال (بكل شعرة) أي طافة (من الصوف حسنة) فكذا بكل وبرة حسنة. (رواه أحمد) (ج4 ص386) (وابن ماجه) وأخرجه أيضاً البيهقي (ج9 ص261) ، وذكره المنذري في الترغيب، وقال: رواه ابن ماجه والحاكم

(49) باب العتيرة

(49) باب العتيرة {الفصل الأول} 1491- (1) عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا فرع ولا عتيرة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ وغيرهما كلهم عن عائذ الله عن أبي داود عن زيد بن أرقم. وقال الحاكم: صحيح الإسناد، قال المنذري: بل واهية، عائذ الله هو المجاشعي، وأبوداود هو نفيع بن الحارث الأعمى، وكلاهما ساقط – انتهى. وقال البوصيري في الزوائد: في إسناده أبوداود نفيع بن الحارث، وهو متروك واتهم بوضع الحديث، وحكى البيهقي عن البخاري أنه قال: عائذ الله المجاشعي عن أبي داود لا يصح حديثه، وقال ابن التركماني: أبوداود نفيع متروك، ذكره الذهبي في كتابيه الكاشف والضعفاء. (باب العتيرة) بفتح العين المهملة وكسر الفوقية وسكون التحتية بعدها راء فهاء تأنيث، بوزن عظيمة فعيلة بمعنى مفعولة، وهي النسيكة أي الذبيحة التي تعتر أي تذبح، وكانوا يذبحونها في العشر الأول من رجب ويسمونها الرجبية، كما في حديث محنف الآتي، ونقل النووي اتفاق العلماء على تفسير العتيرة بهذا. وفيه نظر فقد قال أبوعبيد: العتيرة ذبيحة كانوا يذبحونها في الجاهلية في رجب يتقربون بها لأصنامهم. وقال غيره: العتيرة نذر كانوا ينذرونه من بلغ ماله كذا أن يذبح من كل عشرة منها رأساً في رجب. وذكر ابن سيدة: أن العتيرة إن الرجل كان يقول في الجاهلية: إن بلغ إبلي مائة عترت منها عتيرة، زاد في الصحاح في رجب. وقال الترمذي: العتيرة ذبيحة كانوا يذبحونها في رجب يعظمون شهر رجب؛ لأنه أول شهر من أشهر الحرم. وأما الفرع المذكور في الحديث، وهو بفتح الفاء والراء بعدها عين مهملة. ويقال فيه الفرعة – بالهاء – فاختلف في تفسيره أيضاً. فقيل: هو أول نتاج البهيمة الناقة أو الشاة، كان أهل الجاهلية يذبحونه يطلبون به البركة في أموالهم ولا يملكونه رجاء البركة فيما يأتي بعده أي في كثرة نسلها، هكذا فسره كثيرون من أهل اللغة وجماعة من أهل العلم. منهم الشافعي كما في السنن الكبرى (ج9 ص313) للبيهقي. وقيل: هو أول النتاج كانوا يذبحونه لآلهتهم، وهي طواغيتهم، هكذا جاء تفسيره في آخر حديث أبي هريرة الآتي. وقيل: هو أول النتاج لمن بلغت إبله مائة يذبحونه، قال شمر: قال مالك: كان الرجل إذا بلغت إبله مائة قدم بكراً فنحره لصمنه ويسمونه الفرع. 1491- قوله (لا فرع ولا عتيرة) هكذا جاء بلفظ النفي، والمراد به النهي، وقد ورد بصيغة النهي في

قال: والفرع: أول نتاج كان ينتج لهم، كانوا يذبحونه لطواغيتهم، والعتيرة: في رجب. ـــــــــــــــــــــــــــــ رواية للنسائي، وللإسماعيلي بلفظ: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووقع في رواية لأحمد: لا فرع ولا عتيرة في الإسلام، كذا في الفتح، وقيل: لعل صيغة النهي في رواية النسائي والإسماعيلي من بعض الرواة لزعمه أن المراد بالنفي النهي على أنه من قبيل قوله: {فلا رفث ولا فسوق} ، فعبر بالنهي لقصد النقل بالمعنى، والله تعالى أعلم. (قال: والفرع) قيل: هذا التفسير من سعيد بن المسيب، ففي سنن أبي داود من رواية عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: الفرع أو النتاج ... الحديث، جعله موقوفاً على سعيد بن المسيب، وقال الخطابي: أحسب التفسير فيه من قول الزهري. قال الحافظ: قد صرح عبد المجيد بن أبي رواد عن معمر فيما أخرجه أبوقرة موسى بن طارق في السنن له بأن تفسير الفرع والعتيرة من قول الزهري. (أول نتاج) بكسر النون بعدها مثناة خفيفة وآخره جيم. (كان ينتج لهم) بضم أوله وفتح ثالثه، يقال: نتجب الناقة – بضم النون وكسر التاء الفوقية -، ولا يستعمل هذا الفعل إلا هكذا وإن كان مبنياً للفاعل. (كانوا) في الجاهلية (يذبحونه لطواغيتهم) أي لأصنامهم التي كانوا يعبدونها من دون الله، جمع طاغوت. وقيل: جمع طاغية ما كانوا يعبدونه من الأصنام وغيرها، زاد أبوداود عن بعضهم: ثم يأكلونه ويلقى جلده على الشجر، وفيه إشارة إلى علة النهي، واستنبط منه الجواز إذا كان الذبح لله جمعاً بينه وبين أحاديث جواز الفرع (والعتيرة) بالرفع (في رجب) أي شاة كانت تذبح في رجب، واعلم أنه اختلفت الأحاديث في حكم الفرع والعتيرة، فبعضها يدل على المنع، وهو حديث أبي هريرة هذا، وحديث ابن عمر عند ابن ماجه، وبعضها يدل على تأكد أمرهما، وهو حديث محنف الآتي، وحديث نبيشة الهذلي عند أحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجه والحاكم (ج4 ص236) والبيهقي (ج9 ص312) ، وحديث عائشة عند أبي داود والحاكم والبيهقي وعبد الرزاق، وحديث أنس وابن عمر عند الطبراني في الأوسط، وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند أبي داود والنسائي والحاكم والبيهقي. وبعضها يدل على مجرد الجواز والإباحة من غير تأكد، وهو حديث الحارث بن عمرو عند أحمد والنسائي والحاكم والبيهقي، وحديث أبي رزين العقيلي عند أحمد وأبي داود والنسائي وابن حبان، وحديث يزيد بن عبد الله المزني عن أبيه عند الطبراني في الكبير والأوسط، وحديث سمرة عند الطبراني في الكبير، وحديث ابن عباس عند الطبراني أيضاً، ذكر أكثر هذه الأحاديث الشوكاني في النيل، والعيني والحافظ في شرحيهما للبخاري، والنووي في شرح مسلم، واختلف العلماء في الجمع بين هذه الأحاديث والروايات القاضية بالمنع. فقيل: إنه يجمع بينها بحمل أحاديث الجواز على الندب، وأحاديث المنع على نفي الوجوب، قال الشافعي بعد تفسير الفرع بما حكينا عنه فسألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عما كانوا يصنعون في الجاهلية خوفاً أن يكره في الإسلام فأعلمهم أنه لا كراهة عليهم فيه، وأمرهم اختياراً واستحباباً أن يتركوه حتى يحمل عليه في سبيل الله، وقوله: ((الفرع

............................. ـــــــــــــــــــــــــــــ حق)) في حديث عبد الله بن عمرو، أي ليس بباطل، وهو كلام عربي خرج على جواب السائل ولا مخالفة بينه وبين حديث: ((لا فرع ولا عتيرة)) ، فإن معناه لا فرع واجب ولا عتيرة واجبة. وقيل: النهي موجه إلى ما كانوا يذبحونه لأصنامهم، فيكون المنع غير متناول لما ذبح من الفرع والعتيرة لغير ذلك مما فيه وجه قربة. وقيل: المراد بالنفي المذكور أنهما ليسا كالأضحية في تأكد الاستحباب أو في ثواب إراقة الدم، فأما تفرقة اللحم على المساكين فبر وصدقة، والجمع الأول أولى. وقال النووي: نص الشافعي في حرملة على أن الفرع والعتيرة مستحبان، ويؤيده حديث نبيشة قال: نادى رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنا كنا نعتر عتيرة في الجاهلية في رجب، فما تأمرنا؟ قال: ((اذبحوا لله في أي شهر كان)) ، قال: إنا نفرع في الجاهلية. قال: ((في كل سائمة فرع تغذوه ماشيتك حتى إذا استحمل ذبحته فتصدقت بلحمه فإن ذلك خير)) ، وفي رواية: ((السائمة مائة)) ، ففي هذا الحديث أنه – عليه السلام – لم يبطل الفرع والعتيرة من أصلهما وإنما أبطل صفة من كل منهما، فمن الفرع كونه يذبح أول ما يولد ومن العتيرة خصوص الذبح في شهر رجب. وقال ابن قدامة: المراد بحديث أبي هريرة نفي كونها سنة لا تحريم فعلها ولا كراهته فلو ذبح إنسان ذبيحة في رجب أو ذبح ولد الناقة لحاجته إلى ذلك أو للصدقة به وإطعامه لم يكن ذلك مكروهاً. وذهب جماعة إلى أن أحاديث الجواز منسوخة بأحاديث المنع. قال ابن المنذر: النهي لا يكون إلا عن شيء قد كان يفعل، وما قال أحمد أنه كان ينهى عنهما ثم أذن في فعلهما. وقال ابن قدامة: حديث أبي هريرة في النهي متأخر عن الأمر بها فيكون ناسخاً، ودليل تأخره أمران: أحدهما أن راويه أبوهريرة، وهو متأخر الإسلام فإنه أسلم عند فتح خيبر سنة سبع من الهجرة. والثاني أن فعل الفرع والعتيرة كان أمراً متقدماً على الإسلام، فالظاهر بقاؤهم إلى حين نسخه واستمرار النسخ من غير رفع له، ولو قدرنا تقدم النهي على الأمر بها لكانت قد نسخت ثم نسخ ناسخها، وهذا خلاف الظاهر – انتهى. هكذا قرر النسخ ولا يخفى ما فيه، وادعى عياض أن جماهير العلماء على النسخ، وبه جزم الحازمي، وما تقدم نقله عن الشافعي يرد عليهم، وقد كان ابن سيرين يذبح العتيرة في رجب، وقال وكيع بن عدس – راوي حديث أبي رزين -: لا أدعه، وجزم أبوعبيد بأن العتيرة تستحب، ونقل الطحاوي عن ابن عون أنه كان يفعله، وفي هذا تعقب على من قال إن ابن سيرين تفرد بذلك، وقال في شرح السنة: كانوا يذبحون الفرع لآلهتهم في الجاهلية، وقد كان المسلمون يفعلونه في بدء الإسلام، أي لله سبحانه ثم نسخ ونهي عنه أي للتشبه. وقال القاري: الظاهر أن حديث نبيشة كان في صدر الإسلام ثم وقع النهي العام للتشبه بأهل الأصنام – انتهى. قلت: أعدل الأقوال عندي هو الجمع بين الأحاديث بما ذكره الشافعي ومن وافقه،

{الفصل الثاني}

متفق عليه. {الفصل الثاني} 1492- (2) عن مخنف بن سليم قال: كنا وقوفاً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفة، فسمعته يقول: ((يا أيها الناس! إن على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة، هل تدرون ما العتيرة؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ لأن الجزم بالنسخ لا يجوز إلا بعد ثبوت أن أحاديث المنع متأخرة، ولم يثبت هذا العدم العلم بالتاريخ، ولأن المصير إلى الترجيح مع إمكان الجمع لا يجوز، وقد تأيد ما ذكره الشافعي من وجه الجمع بأحاديث نبيشة وعائشة وعبد الله بن عمرو وغيرهم، والله تعالى أعلم. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج9 ص313) وغيرهم. 1492- قوله (عن مخنف) بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح النون كمنبر (بن سليم) بالتصغير – ابن الحارث بن عوف الأزدي الغامدي، أسلم وصحب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونزل الكوفة بعد ذلك، واستعمله علي بن أبي طالب على أصبهان وكان معه راية الأزد يوم صفين، وكان ممن خرج مع سليمان بن صرد في وقعة عين الوردة، وقتل بها سنة (64) . (كنا وقوفاً) بضم الواو أي وافقين (بعرفة) يعني في حجة الوداع، كذا في جميع النسخ بعرفة، وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج4 ص121) ، وفي الترمذي وأبي داود "بعرفات". (إن علي كل أهل بيت) قال السندي في حاشية النسائي: ظاهره الوجوب لكنهم حملوه على الندب المؤكد – انتهى. قلت: هذا الحديث من جملة الأدلة التي تمسك بها من قال بوجوب الأضحية، وقد تقدم الكلام على ذلك. وقال ابن الجوزي: هذا الحديث متروك الظاهر، إذ لا يسن العتيرة أصلاً، ولو قلنا بوجوب الأضحية كانت على الشخص الواحد لا على جميع أهل البيت – انتهى. وقال السندي في حاشية ابن ماجه: قوله: ((إن على كل أهل بيت)) مقتضاه أن الأضحية الواحدة تكفي عن تمام أهل البيت، ويوافقه ما رواه الترمذي عن أبي أيوب: كان الرجل يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويطعمون حتى تباهى الناس، فصارت كما ترى، وقال: هذا حديث حسن صحيح، قال: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، وهو قول أحمد وإسحاق. وقال بعض أهل العلم: لا تجزئ الشاة الواحدة إلا عن نفس واحدة، وهو قول عبد الله بن المبارك وغيره من أهل العلم. وقال ابن العربي في شرحه في قوله الثاني: الآثار الصحاح ترد عليه – انتهى. (وعتيرة) قال القاري: وهي شاة تذبح في رجب يتقرب بها أهل الجاهلية (لأصنامهم) والمسلمون في صدر الإسلام (لله سبحانه) ، قال الخطابي: وهذا هو الذي يشبه معنى الحديث، ويليق بحكم الدين، وأما العتيرة التي يعترها أهل الجاهلية فهي

هي التي تسمونها الرجبية)) . رواه الترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث غريب ضعيف الإسناد، وقال أبوداود: والعتيرة منسوخة. ـــــــــــــــــــــــــــــ الذبيحة التي كانت تذبح للأصنام، ويصب دمها على رأسها، في النهاية: كانت العتيرة بالمعنى الأول في صدر الإسلام ثم نسخ - أي للتشبه بأهل الأصنام -، (هي التي تسمونها الرجبية) أي الذبيحة المنسوبة إلى رجب لوقوعها فيه. (رواه الترمذي ... ) الخ، وأخرجه أيضاً أحمد (ج4 ص215) و (ج5 ص76) ، وابن أبي شيبة وأبويعلى والبزار والبيهقي والطبراني كلهم من طريق ابن عون عن عامر أبي رملة عن مخنف. (وقال الترمذي: هذا حديث غريب ضعيف الإسناد) فيه نظر؛ لأن عبارة الترمذي هكذا "هذا حديث حسن غريب، لا نعرف هذا الحديث إلا من هذا الوجه من حديث ابن عون"- انتهى. وهذا كما ترى ليس فيه الحكم بضعف إسناد هذا الحديث، وهكذا وقع هذا الكلام في جميع النسخ الحاضرة للترمذي، وكذا نقله الزيلعي في نصب الراية (ج4 ص211) والمنذري في مختصر السنن (ج3 ص92) والمجد ابن تيمية في المنتقى. قال ميرك: وكذا نقله عنه صاحب التخريج – انتهى. وقال الحافظ في بحث الفرع والعتيرة من الفتح (ج22 ص283) : ضعفه الخطابي، لكن حسنه الترمذي، وجاء من وجه آخر عند عبد الرزاق عن مخنف بن سليم – انتهى. قلت: وسكت عنه أبوداود. وقال الحافظ في بحث حكم الأضحية من الفتح (ج23 ص323) : أخرجه أحمد والأربعة بسند قوي – انتهى. وقال أبوبكر المعافري: حديث مخنف بن سلم ضعيف لا يحتج به، وقال الزيلعي (ج4 ص211) : قال عبد الحق: إسناده ضعيف، قال ابن القطان: وعلته الجهل بحال أبي رملة، واسمه عامر، فإنه لا يعرف إلا بهذا، يرويه عنه ابن عون، وقدر رواه عنه – أي عن مخنف – أيضاً ابنه حبيب، وهو مجهول أيضاً، قال الزيلعي: رواه من هذه الطريق عبد الرزاق في مصنفه: أخبرنا ابن جريج أخبرني عبد الكريم عن حبيب بن مخنف بن سليم عن أبيه، ومن طريق عبد الرزاق رواه الطبراني في معجمه – انتهى. قلت: وأخرجه أيضاً أحمد (ج5 ص76) من طريق عبد الرزاق، لكن وقع فيه التصريح بكون حبيب بن مخنف صحابياً، وهو وهم، وفي الإسناد عبد الكريم بن أبي المخارق، وهو متروك، وإنما هو عن حبيب بن مخنف عن أبيه، قال أبونعيم: وهو الصواب، قال: وكان عبد الرزاق يرويه مرة مجرداً ومرة لا يقول عن أبيه، وقال ابن عبد البر في ترجمة حبيب هذا بعد ذكر حديثه من طريق عبد الرزاق وأبي عاصم لا يصح حديثه قال: إلا أن عبد الرزاق قال: لا أدري أعن أبيه أم لا – انتهى. وهذا وجه ثالث عن عبد الرزاق، والرواية المشهورة إنما هي طريق ابن عون عن أبي رملة عن مخنف، وأبورملة مجهول، فالظاهر أن الترمذي إنما حسن هذا الحديث لشواهدة. (وقال أبوداود والعتيرة منسوخة) وفي بعض النسخ: العتيرة

{الفصل الثالث}

{الفصل الثالث} 1493- (3) عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أمرت بيوم الأضحى عيداً جعله الله لهذه الأمة، قال له رجل: يا رسول الله! أرأيت إن لم أجد إلا منيحة أنثى، أفأضحي بها؟ قال: لا، ولكن خذ ـــــــــــــــــــــــــــــ بلا واو، وكذا في أبي داود، وقد تقدم أن جماعة من أهل العلم ذهبت إلى أن الأمر بالعتيرة منسوخ بأحاديث المنع، وأن القاضي عياضاً ادعى أن جماهير العلماء على ذلك، وقد تقدم بيان ما هو الحق في ذلك. 1493- قوله (عن عبد الله بن عمرو) بالواو (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي لرجل كما في رواية النسائي، وللحاكم والبيهقي: إن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أمرت بيوم الأضحى) أي بجعله (عيداً جعله الله) أي يوم الأضحى (لهذه الأمة) أي عيداً، قال السندي: ظاهر السوق أن قوله ((أمرت)) على بناء المفعول للخطاب أو بناء الفاعل للمتكلم، أي أمرتك أو أمرت الناس، ويحتمل أنه على بناء المفعول للمتكلم، والمعنى: أمرت بالتضحية في يوم الأضحى حال كونه عيداً أو يوم الأضحى أن أتخذه عيداً، والمعنى الأول أقرب إلى قول الرجل – انتهى. وقال الطيبي: قوله "عيداً" منصوب بفعل يفسره ما بعده، أي بأن أجعله عيداً، وقوله "جعله الله لهذه الأمة" حكم ذكر بعد ما يشعر بالوصف المناسب، وهو قوله يوم الأضحى؛ لأن فيه معنى التضحية، كأنه قيل: حكم الله على هذه الأمة بالتضحية يوم العيد، ومن ثم حسن قول الصحابي: أرأيت ... الخ – انتهى. قال القاري: وهو تكلف مستغنى عنه، فإن الشيء بالشيء يذكر، فلما ذكر – عليه الصلاة والسلام – إنه مأمور بجعل ذلك اليوم عيداً وكان من أحكام ذلك اليوم حكم التضحية والأضاحي (قال له رجل) وفي أبي داود: قال الرجل، وكذا عند النسائي والحاكم والبيهقي (أرأيت) أي أخبرني (إن لم أجد إلا منيحة) في النهاية: المنيحة أن يعطي الرجل الرجل ناقة أو شاة ينتفع بلبنها ثم يعيدها، وكذا إذا أعطى لينتفع بصوفها ووبرها زمانا ثم يردها، والمعنى: لي ناقة أو شاة ذات لبن أنتفع به وأعطيه غيري. وقال السندي: أصل المنيحة ما يعطيه الرجل غيره ليشرب لبنها ثم يردها عليه ثم يقع على كل شاة أو ناقة؛ لأن من شأنها أن تمنح بها وهو المراد ههنا. (أنثى) قيل: وصف منيحة بأنثى يدل على أن المنيحة قد تكون ذكراً وإن كان فيها علامة التأنيث، كما يقال: حمامة ذكر وحمامة أنثى، وزاد في رواية الحاكم: أو شاة أهلي ومنيحتهم. (أفاضحي بها؟ قال: لا) قال الطيبي: إنما منعه لأنه لم يكن عنده شيء سواها ينتفع به. قال السندي: ويحتمل أن المراد بالمنيحة ههنا ما أعطاه غيره ليشرب اللبن ومنعه؛ لأنه ملك الغير وقول الرجل لزعمه أن المنحة لا ترد ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - المنحة مردودة، والله تعالى أعلم. (ولكن خذ) كذا في جميع النسخ بصيغة

من شعرك وأظفارك، وتقص شاربك، وتحلق عانتك، فذلك تمام أضحيتك عند الله)) رواه أبوداود، والنسائي. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأمر، وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج4 ص123) ، وفي أبي داود والنسائي: "تأخذ" بصيغة المضارع، قال السندي: كأنه أرشده إلى أن يشارك المسلمين في العيد والسرور وإزالة الوسخ، فذاك يكفيه إذا لم يجد الأضحية (من شعرك) قال القاري: المراد به الجنس أي من أشعارك (وأظفارك) وفي رواية النسائي: وتقلم أظفارك (وتقص شاربك) قال القاري: خبر بمعنى الأمر ليكون عطفاً على ما قبله، وكذا الحكم فيما بعده من قوله: ((وتحلق عانتك)) – انتهى. قلت: قد تقدم أن لفظ أبي داود والنسائي: تأخذ من شعرك، وهذا يدل على أن ما وقع في نسخ المشكاة تبعاً للجزري خطأ، وعلى هذا فلا حاجة إلى التأويل المذكور، ولفظ الحاكم والبيهقي: ولكن قلم أظفارك وقص شاربك واحلق عانتك. (فذلك) أي ما ذكر من الأفعال، ولفظ أبي داود: فتلك، أي الأفعال المذكورة (تمام أضحيتك عند الله) أي أضحيتك تامة بنيتك الخالصة ولك بذلك مثل ثواب الأضحية، قاله القاري، وقال السندي: أي هو ما يتم به أضحيتك بمعنى أنه يكت لك به أضحية تامة لا بمعنى أن لك أضحية ناقصة إن لم تفعل ذلك وإن فعلته تصير تامة، والله تعالى أعلم. (رواه أبوداود والنسائي) وأخرجه أيضاً الحاكم (ج4 ص223) والبيهقي (ج9 ص264) وسكت عنه أبوداود والمنذري، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، والحديث غير مطابق للباب، فإنه ليس فيه ذكر العتيرة، وكان حقه أن يذكر في باب الأضحية، ثم إنه ههنا مسائل تتعلق بالأضحية ينبغي لنا أن نذكرها مختصراً تكميلاً للفائدة. أحدها: متى تصير الأضحية أضحية؟ فقال مالك: إذا اشترى شاة أو غيرها بنية الأضحية صارت أضحية. وقال الحنفية: أضحية الفقير تتعين بالشراء له، فليس له أن يستبدلها بغيرها ولا ينتفع بدرها وصوفها بعد ذلك ولو فعل لزمه قيمته، وأما أضحية الغني فلا تتعين بنفس الشراء له، وله أن يستبدلها بغيرها وينتفع بها وبدرها ويربح فيها إن شاء، إلا أنه إذا عينها بعد ذلك ليس له الانتفاع بها. وقال أحمد والشافعي: لا تتعين الأضحية بمجرد الشراء بنيتها حتى يقول: هذه أضحية، فالذي تتعين به الأضحية عندهما هو القول دون النية؛ لأنه إزالة ملك على وجه القربة فلا تؤثر فيه النية المقارنة للشراء كالعتق والوقف. وقال الشوكاني في السيل الجرار: ليس في مصير الأضحية أضحية بمجرد الشراء بالنية دليل يقوم به الحجة، ويجب المصير إليه والعمل به، قال: والظاهر أنه إذا ذبحه بنية الأضحية وفى بما عليه وصار فاعلاً لما شرعه الله تعالى لعباده من الضحايا – انتهى. الثانية: ما يفعل بولد الأضحية إذا ولدته بعد التعيين؟ فقال ابن قدامة: ولدها تابع لها حكمه حكمها سواء كان حملاً حين التعيين أو حدث بعده، وبهذا قال الشافعي، وعن أبي حنيفة: لا يذبحه ويدفعه إلى المساكين حياً، وإن ذبحه دفعه إليهم مذبوحاً، وأرش ما نقصه الذبح؛ لأنه من نمائها فلزمه دفعه إليهم

........................... ـــــــــــــــــــــــــــــ على صفته كصوفها وشعرها، قال: ولنا أن استحقاق ولدها حكم يثبت للولد بطريق السراية من الأم، فيثبت له ما يثبت لها كولد أم الولد والمدبرة إذا ثبت هذا فإنه يذبحه كما يذبحها؛ لأنه صار أضحية على وجه التبع لأمه ولا يجوز ذبحه قبل يوم النحر ولا تأخيره عن أيامه كأمه. وقد روي عن علي – رضي الله عنه – أن رجلاً سأله فقال: يا أمير المؤمنين إني اشتريت هذه البقرة لأضحي بها، وإنها وضعت هذا العجل، فقال علي: لا تحلبها إلا فضل عن تيسير ولدها، فإذا كان يوم الأضحى فاذبحها وولدها عن سبعة. رواه سعيد بن منصور عن أبي الأحوص العبسي عن المغيرة بن حذف عن علي. الثالثة: حكم لبنها وصوفها وشعرها، قال ابن قدامة: لا يشرب من لبنها إلا الفاضل عن ولدها، فإن لم يفضل عنه شيء أو كان الحلب يضر بها أو ينقص لحمها لم يكن له أخذه، وإن لم يكن كذلك فله أخذه والانتفاع به، وبهذا قال الشافعي. وقال أبوحنيفة: لا يحلبها ويرش على الضرع الماء حتى ينقطع اللبن، فإن احتلبها تصدق به؛ لأن اللبن متولد من الأضحية الواجبة فلم يجز للمضحي الانتفاع به كالولد. قال ابن قدامة: ولنا قول علي المذكور، ولأنه انتفاع لا يضرها فأشبه الركوب ويفارق الولد فإنه يمكن إيصاله إلى محله، أما اللبن فإن حلبه وتركه فسد وإن لم يحلبه تعقد الضرع وأضر بها فيجوز له شربه وإن تصدق به كان أفضل، وإن احتلب ما يضر بها أو بولدها لم يجز، وعليه أن يتصدق به، فإن قيل: فصوفها وشعرها ووبرها إذا جزه تصدق به ولم ينتفع به، فلم أجزتم له الانتفاع باللبن؟ قلنا: الفرق بينهما بوجهين: أحدهما أن لبنها يتولد من غذائها وعلفها، وهو القائم به، فجاز صرفه إليه، كما أن المرتهن إذا علف الرهن كان له أن يحلب ويركب وليس له أن يأخذ الصوف ولا الشعر. الثاني: أن الشعر والصوف ينتفع به على الدوام فجرى مجرى جلدها وأجزائها، واللبن يشرب ويؤكل شيئاً فشيئاً فجرى مجرى منافعها وركوبها، ولأن اللبن يتجدد كل يوم، والصوف والشعر عين موجودة دائمة في جميع الحول. الرابعة: حكم إبدال الأضحية وبيعها، فقال أحمد: يجوز أن تبدل بخير منها، وبه قال عطاء ومجاهد وعكرمة ومالك وأبوحنيفة ومحمد بن الحسن. وقال أبويوسف والشافعي وأبوثور: لا يجوز بيعها ولا إبدالها؛ لأنه قد جعلها لله تعالى فلم يملك التصرف فيها بالبيع، والإبدال كالوقف، وقال القاضي: يجوز أن يبيعها ويشتري خيراً منها، وهو قول عطاء ومجاهد وأبي حنيفة، واستدلوا بإشراكه - صلى الله عليه وسلم - علياً – رضي الله عنه – في هديه، قالوا: هذا نوع من الهبة أو بيع، وهذا الاستدلال خارج عن محل النزاع كما بينه في النيل (ج4 ص330) ، ويؤيد من قال بجواز بيع الأضحية ما روي عن ابن عباس في الرجل يشتري البدنة أو الأضحية فيبيعها ويشتري أسمن منها فذكر رخصة، رواه الطبراني في الأوسط. قال الهيثمي: رجاله ثقات، ويؤيدهم أيضاً ما رواه الترمذي وأبوداود عن حكيم بن حزام أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثه يشتري له أضحية بدينار فاشترى أضحية فأربح فيها ديناراً فاشترى أخرى مكانها فجاء بالأضحية والدينار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

........................... ـــــــــــــــــــــــــــــ فقال: ((ضح بالشاة وتصدق بالدينار)) ، لكن في سنده عند الترمذي انقطاع، وعند أبي داود شيخ مجهول، وقال الحنفية: يجوز للغني بيع الأضحية ما لم يعين، وكان للنبي - صلى الله عليه وسلم - حكم الغني لكون الأضحية واجبة عليه، والفرق بين الفقير والغني في الأحكام منوط على وجوبها في الذمة وعدم وجوبها، فلم يكن بأس في بيع حكيم أول المشتراتين لعدم تعينها للتضحية، وطاب الفضل للنبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أنه أمر بتصدقه؛ لكونه حصل بربح دينار نوى صرفه في سبيل الله بطريق الأضحية يعني أنه قد خرج عنه للقربة لله تعالى في الأضحية، فكره أكل ثمنها. وقال الشوكاني في السيل الجرار: ليس في ثبوت هذه الأحكام التي ذكرها المصنف – صاحب حدائق الأزهار – من أنه لا ينتفع بالأضحية ... إلى آخر ما ذكره من ذلك دليل يقوم به الحجة، ويجب المصير إليه والعمل به، فإن كان قياساً للأضحية على الهدي وإن كان الباب مختلفاً فلا بأس بذلك، فإنه قد ورد في الهدي إن المهدي إذا خشي عليه موتاً فلينحره، ولا يطعمه هو ولا أحد من رفقته، كما في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي قبيصة، وفي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود والترمذي وابن ماجه من حديث ناجية الخزاعي، قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم في هدي التطوع ... إلى آخر كلامه في سننه، وورد في منع بيع الهدي ما أخرجه أحمد وأبوداود، والبخاري في تاريخه، وابن حبان وابن خزيمة في صحيحيهما عن ابن عمر قال: أهدى عمر نجيباً فأعطي بها ثلاثمائة دينار، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إني أهديت نجيباً فأعطيت بها ثلاثمائة دينار فأبيعها وأشتري بثمنها بدناً؟ قال: ((لا، انحرها إياها)) ، فالحاصل أنه إن صح قياس الأضحية على الهدي فذاك وإلا فالأصل عدم ثبوت شيء من هذه الأحكام، ومما يدل على اختلاف البابين أنه قال في الضحايا: كلوا وادخروا وايتجروا – انتهى. ولا يجوز إبدالها بدونها ولا خلاف في هذا، ولا يجوز بمثلها أيضاً لعدم الفائدة في هذا. الخامسة: إذا تلفت الأضحية أو ضلت أو سرقت بغير تفريط منه: قال ابن قدامة: لا ضمان عليه؛ لأنها أمانة في يده فإن عادت إليه – في صورة الضلال أو السرقة – ذبحها سواء كان في زمن الذبح أو فيما بعده – انتهى. وقال الشوكاني في السيل الجرار في شرح قول صاحب حدائق الأزهار "فإن فاتت أو تعيبت بلا تفريط لم يلزم البدل" ما لفظه: "قد قدمنا أن الأدلة تدل على وجوب الأضحية، فهذه التي اشتراها إذا تلفت أو تعيبت بنى الخطاب عليه في الوفاء بما هو واجب عليه إن كان قائلاً بالوجوب، وإنما هو سنة إن كان يرى أنها سنة، فكون مجرد التلف مسقطاً للأضحية مسوغاً لعدم إبدال ما تلف محتاج إلى دليل، وكيف يصح والنبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بإعادة الذبح لمن كان ذبحها قبل الصلاة، فلينظر ما وجه كلام المصنف، فإن هذا مع كونه خلاف الدليل يخالف حكم الهدي، فيكون قادحاً في القياس مع أنه لا وجه لثبوت ما ذكره من أحكام الأضحية إلا مجرد القياس على الهدي كما قدمنا، وأيضاً مما يقدح في ذلك القياس تجويز المصنف للبيع ولإبدال مثل وأفضل مع ما تقدم في الهدي من نهيه - صلى الله عليه وسلم - لعمر عن

................................ ـــــــــــــــــــــــــــــ البيع وأمره بأن يذبح النجيبة – انتهى. السادسة: ما يفعل بالأضحية إذا فات وقت الذبح. فقال أبوحنيفة: يسلمها إلى الفقراء ولا يذبحها، فإن ذبحها فرق لحمها وعليه أرش ما نقصها الذبح؛ لأن الذبح قد سقط بفوات وقته. وقال ابن قدامة: يذبح الواجب قضاء ويصنع ما يصنع بالمذبوح في وقته، وهو مخير في التطوع، فإن فرق لحمها كانت القربة بذلك دون الذبح لأنها شاة لحم وليست أضحية، وبهذا قال الشافعي: قال ابن قدامة: إن الذبح أحد مقصودي الأضحية فلا يسقط بفوات وقته كتفرقة اللحم وذلك أنه لو ذبحها في الأيام ثم خرجت قبل تفريقها فرقها بعد ذلك ويفارق الوقوف والرمي؛ لأن الأضحية لا تسقط بفواتها بخلاف ذلك – انتهى. السابعة: ما يفعل بالأضحية إذا مات صاحبها وعليه دين لا وفاء له. فقال ابن قدامة: لم يجز بيعها وبهذا قال أبوثور ويشبه مذهب الشافعي وقال الأوزاعي: إن ترك ديناً لا وفاء له إلا منها بيعت فيه. وقال مالك: إن تشاجر الورثة فيها باعوها. قال ابن قدامة: ولنا أنه تعين ذبحها فلم يصح بيعها في دينه كما لو كان حياً، إذا ثبت هذا فإن ورثته يقومون مقامه في الأكل والصدقة والهدية؛ لأنهم يقومون مقام مورثهم فيما له وعليه. قلت: الظاهر عندي هو ما ذهب إليه الأوزاعي ثم ما ذهب إليه مالك؛ لأن الدين حق العبد وهو أوجب وألزم من الأضحية إن كانت واجبة. الثامنة: حكم لحم الأضحية: فالمستحب عند الحنابلة تثليثه. قال أحمد: نحن نذهب إلى حديث عبد الله – ابن مسعود – يأكل هو الثلث ويطعم من أراد الثلث، ويتصدق على المساكين بالثلث، وعن ابن عمر قال: الضحايا والهدايا ثلث لك وثلث لأهلك وثلث للمساكين، وروي عن ابن عباس في صفة أضحية النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ويطعم أهل بيته الثلث ويطعم فقراء جيرانه الثلث ويتصدق على السؤال بالثلث، رواه الحافظ أبوموسى الأصفهاني في الوظائف، وقال: حديث حسن. وقال تعالى: {فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر} [الحج: 36] ، والقانع: السائل، والمعتر: الذي يعتريك أي يعترض لك لتطعمه فلا يسأل، فذكر ثلاثة أصناف، فينبغي أن يقسم بينهم أثلاثاً، وبهذا قال إسحاق بن راهويه، وهو أحد قولي الشافعي، وقال في الآخر: يجعلها نصفين، يأكل نصفاً ويتصدق بنصف لقوله تعالى: {فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير} [الحج: 28] ، وقال أصحاب الرأي: ما كثر من الصدقة فهو أفضل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدى مائة بدنة وأمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فأكل هو وعلي من لحمها وحسيا من مرقها، ونحر خمس أو ست بدنات، وقال: من شاء فيقتطع ولم يأكل منهن شيئاً. قال ابن قدامة: الأمر في هذا واسع، فلو تصدق بها كلها أو بأكثرها جاز، وإن أكلها كلها إلا أوقية تصدق بها جاز، وقال أصحاب الشافعي: يجوز أكلها كلها. قال ابن قدامة: ولنا أن الله تعالى قال: {فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر} ، وقال: {وأطعموا البائس الفقير} ، والأمر يقتضي الوجوب. وقال بعض أهل العلم: يجب الأكل منها ولا يجوز الصدقة بجميعها للأمر بالأكل منها، ولنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحر خمس بدنات ولم يأكل منهن شيئاً، وقال: من شاء فليقطع، ولأنها ذبيحة يتقرب بها إلى الله تعالى

(50) باب صلاة الخسوف

(50) باب صلاة الخسوف ـــــــــــــــــــــــــــــ فلم يجب الأكل منها كالعقيقة، والأمر للاستحباب أو للإباحة كالأمر بالأكل من الثمار والزرع والنظر إليها – انتهى. التاسعة: حكم جلد الأضحية: فقال أحمد: لا يجوز أن يبيعه ولا شيئاً منها، واجبة كانت أو تطوعاً، له أن ينتفع بجلدها من غير بيع، وهو مذهب الشافعي، ورخص الحسن والنخعي في الجلد أن يبيعه ويشتري به الغربال والمنخل أو آلة البيت، وروي نحو هذا عن الأوزاعي؛ لأنه ينتفع به هو وغيره، فجرى مجرى تفريق اللحم، وقال أبوحنيفة: يبيع ما شاء منها ويتصدق بثمنه، وروي عن ابن عمر أنه يبيع الجلد ويتصدق بثمنه، والراجح هو ما ذهب إليه الشافعي وأحمد؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تبيعوا لحوم الهدي والأضاحي وكلوا وتصدقوا واستمتعوا بجلودها ولا تبيعوها، وإن أطعمتم من لحومها شيئاً فكلوه إن شئتم)) أخرجه أحمد، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج4 ص26) : هو مرسل صحيح الإسناد، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من باع جلد أضحيته فلا أضحية له)) أخرجه الحاكم (ج4 ص389) ، والبيهقي من حديث أبي هريرة، قال الحاكم: صحيح الإسناد. قلت: فيه عبد الله بن عياش، وقد ضعفه أبوداود والنسائي، وذكره ابن حبان في الثقات، وأخرج له مسلم في الشواهد، وقال أبوحاتم: صدوق ليس بالمتين يكتب حديثه، هو قريب من ابن لهيعة، ولقول علي – رضي الله عنه -: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقوم على بدنه وأقسم جلودها وجلالها، وأمرني أن لا أعطي الجزار منها شيئاً، وقال: ((نحن نعطيه من عندنا)) ، أخرجه الجماعة إلا الترمذي، قال الزيلعي في نصب الراية والمصنف يعني صاحب الهداية: احتج بحديث أبي هريرة وعلي – رضي الله عنه – على كراهة بيع جلد الأضحية مع جوازه، وهو خلاف ظاهر اللفظ، وقد احتج ابن الجوزي بظاهر حديث علي – رضي الله عنه – على التحريم – انتهى. (باب صلاة الخسوف) أي للشمس والقمر، قال أهل اللغة: خسوف العين ذهابها وغيبوبتها وغورها، أي دخولها في الرأس، وخسوف المكان ذهابه في الأرض، وخسوف الشيء نقصانه، وخسوف القمر ذهاب ضوئه، والخسف أيضاً الذل، والكسوف التغير إلى السواد، ومنه كسف وجهه إذا تغير، وكسفت الشمس أي اسودت وذهب شعاعها، والمشهور على ألسنة الفقهاء استعمال الكسوف للشمس، والخسوف للقمر، واختاره ثعلب أيضاً، قال في الفصيح: إن كسفت الشمس وخسف القمر أجود الكلامين، وذكر الجوهري في الصحاح: إنه أفصح، وعلى هذا فكان الأولى للمؤلف أن يقول: الكسوف، بدل الخسوف، فإن أحاديث الباب كلها وردت في كسوف الشمس، أو يقول: الكسوف والخسوف؛ لأن حكمهما واحد في أكثر المسائل عند الفقهاء، وقيل: أتى بلفظ الخسوف تنبيهاً على أن الخسوف يستعمل في الشمس والقمر كما يستعمل الكسوف فيهما، واختياراً لما دلت عليه الأحاديث أنه يقال بهما في كل منهما، قال القسطلاني: الأصح أن الكسوف والخسوف يضافان للشمس والقمر بمعنى يقال: كسفت الشمس والقمر وخسفا – بفتح القاف والخاء مبنياً للفاعل -، وكسفا وخسفا – بضمهما مبنياً للمفعول -، وانكسفا

{الفصل الأول}

{الفصل الأول} 1494- (1) عن عائشة قالت: إن الشمس خسفت ـــــــــــــــــــــــــــــ وانخسفا بصيغة انفعل، ومعنى المادتين واحد أو يختص ما بالكاف بالشمس وما بالخاء بالقمر، وهو المشهور على ألسنة الفقهاء، واختاره ثعلب، وادعى الجوهري أفصحيته، ونقل عياض عن بعضهم عكسه، وعورض بقوله تعالى: {وخسف القمر} [القيامة: 8] ، ويدل للقول الأول إطلاق اللفظين في المحل الواحد في الأحاديث، قال المنذري، وقبله ابن العربي: حديث الكسوف رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - سبعة عشر نفساً، رواه جماعة منهم بلفظ الكاف وجماعة بالخاء وجماعة باللفظين جميعاً – انتهى. لكن لم يرد في الأحاديث نسبة الكسوف إلى القمر على جهة الانفراد. قال القسطلاني نقلاً عن الحافظ وغيره: ولا ريب أن مدلول الكسوف لغة غير مدلول الخسوف؛ لأن الكسوف لغة تغير إلى سواد، والخسوف النقص والذل كما مر، فإذا قيل في الشمس: كسفت أو خسفت؛ لأنها تتغير ويلحقها النقص ساغ ذلك، كذلك القمر. ولا يلزم من ذلك أن الكسوف والخسوف مترادفان، وقيل: بالكاف في الابتداء، وبالخاء في الانتهاء، وقيل: بالكاف لذهاب جميع الضوء، بالخاء لبعضه، وقيل: بالخاء لذهاب كل اللون، وبالكاف لتغيره، واعلم أنه لا خلاف في مشروعية صلاة الكسوف والخسوف، وأصل مشروعيتها بالسنة وإجماع الأمة لكن اختلفوا في حكمها وصفتها، فقال الشافعي وأحمد: صلاة كسوف الشمس سنة مؤكدة لفعله - صلى الله عليه وسلم - لها وجمعه الناس مظهراً لذلك، وهذه أمارة الاعتناء والتأكيد وللأمر بها، والصارف عن الوجوب ما سبق من قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا إلا أن تطوع)) ، وعند أبي حنيفة سنة غير مؤكدة، وصرح أبوعوانة في صحيحه بوجوبها، وإليه ذهب بعض الحنفية واختاره أبوزيد الدبوسي صاحب الأسرار، قال ابن الهمام: للأمر بها، والظاهر أن الأمر للندب؛ لأن المصلحة دفع الأمر المخوف فهي مصلحة تعود إلينا دنيوية إلى آخر ما قال. وعن مالك أنه أجراها مجرى الجمعة، وفي الشرح الكبر للمالكية: أنها سنة عين، وأما صلاة خسوف القمر فهي سنة مؤكدة عند الشافعي وأحمد ككسوف الشمس، ومستحبة عند أبي حنيفة ومالك، لكن قالا: يصلون فرادى من غير جماعة، وقال ابن دقيق العيد: تردد في صلاة الخسوف مذهب مالك وأصحابه ولم يلحقها بكسوف الشمس في قول. وقال ابن قدامة: قال مالك: ليس في كسوف القمر سنة، وحكى ابن عبد البر عنه وعن أبي حنيفة أنهما قالا: يصلي الناس لخسوف القمر وحداناً ركعتين ركعتين ولا يصلون جماعة، قال العيني: أبوحنيفة لم ينف الجماعة بل قال: الجماعة فيها غير سنة بل هي جائزة – انتهى. والراجح: ما ذهب إليه الشافعي وأحمد، وأما الصفة فسيأتي الكلام عليها قريباً. 1494- قوله (إن الشمس خسفت) بفتح الخاء والسين، وفي إسناد الخسوف إلى الشمس رد على من

على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبعث منادياً: الصلاة جامعة، فتقدم فصلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات. قالت عائشة: ما ركعت ركوعاً قط ولا سجدت سجوداً قط كان أطول منه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: إنه يتعين الخسوف للقمر، وعلى من قال: إن استعمال الخسوف للشمس خلاف الأفصح. (على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي في زمانه يوم مات ابنه إبراهيم كما سيأتي. (فبعث منادياً) يقول (الصلاة جامعة) يعني ينادي بهذه الجملة، قال الطيبي: الصلاة مبتدأ وجامعة خبره، أي الصلاة تجمع الناس، ويجوز أن يكون التقدير الصلاة ذات جماعة، أي تصلى جماعة لا منفرداً كالسنن الرواتب، فالإسناد مجازي كطريق سائر – انتهى. ويجوز نصب الصلاة على الإغراء، وجامعة على الحال، أي احضروا الصلاة حال كونها جامعة للجماعات أو للناس، وهو من الأحوال المقدرة، وفيه تقادير أخرى، وهو يدل على أنه يسن أن ينادى لصلاة الكسوف: الصلاة جماعة، قال ابن دقيق العيد: هذا الحديث حجة لمن استحب ذلك، وقد اتفقوا على أنه لا يؤذن لها ولا يقام؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاها بغير أذان ولا إقامة، وقاس بعضهم صلاة العيدين على الكسوف في مشروعية النداء بالصلاة جامعة، وهو محل نظر؛ لأنه لم يرد الأمر بهذا اللفظ عنه - صلى الله عليه وسلم - إلا في هذه الصلاة مع الحاجة إلى ذلك في عهده - صلى الله عليه وسلم -، فالاقتصار عليه هو المشروع (فتقدم) أي هو - صلى الله عليه وسلم - (فصلى) وفي رواية مسلم: فاجتمعوا وتقدم وكبر وصلى، وفي رواية للنسائي: فاجتمعوا واصطفوا فصلى. (أربع ركعات) أي ركوعات (وأربع سجدات) قال العيني والقسطلاني: بنصب أربع عطفاً على أربع ركعات. قال القاري: فائدة ذكره أن الزيادة منحصرة في الركوع دون السجود (قالت عائشة) اعلم أن هذا الحديث إلى قوله: وأربع سجدات، رواه الشيخان والنسائي أيضاً من طريق الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن الزهري عن عروة عن عائشة أن الشمس خسفت ... الخ، وأما قوله: قالت عائشة: ما ركعت ... الخ فليس في هذا الحديث ولا هو مروي من هذا الطريق، بل هو تتمة حديث عبد الله بن عمر، وأخرجه هؤلاء الثلاثة من رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عبد الله بن عمر، وبنحو حديث عائشة المذكور، وفي آخره فقالت عائشة: ما ركعت ... الخ، فالراوي لذلك عنها هو غير الراوي حديث عائشة المتقدم المرفوع وهو أبوسلمة، ويحتمل أن يكون عبد الله بن عمرو، فيكون من رواية صحابي عن صحابية، قال الحافظ: ووهم من زعم أنه معلق، فقد أخرجه مسلم وابن خزيمة وغيرهما من رواية أبي سلمة عن عبد الله بن عمرو، وفيه قول عائشة – انتهى. (ما ركعت ركوعاً قط ولا سجدت سجوداً قط كان أطول منه) أي كان ذلك الركوع والسجود أطول من ركوع الخسوف وسجوده، وهذا لفظ مسلم، واقتصر البخاري على ذكر السجود، ولفظه: قالت عائشة: ما سجدت سجوداً قط كان أطول منها، أي من سجدة الكسوف، أو هو على حذف مضاف أي من سجود صلاة الكسوف، وقد ثبت طول الركوع والسجود في الكسوف في أحاديث كثيرة، منها أحاديث ابن عباس وعائشة وأبي موسى المذكورة

........................ ـــــــــــــــــــــــــــــ في الباب، ومنها حديث أبي هريرة عند النسائي، ومنها حديث سمرة عند أبي داود والنسائي، ومنها حديث جابر عند أحمد ومسلم وأبي داود، ومنها حديث أسماء عند أحمد والبخاري وأبي داود وابن ماجه، وإلى مشرعية التطويل في الركوع والسجود في صلاة الكسوف كما يطول القيام ذهب أحمد وأبوحنيفة ومالك في المشهور عنه، والشافعي في أحد قوليه، وبه جزم أهل العلم بالحديث من أصحابه. والحديث يدل على مشروعية الجماعة لصلاة الكسوف، وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء. وقال ابن حبيب: الجماعة فيها شرط. وقيل: لا تقام إلا في جماعة واحدة. قال الترمذي: ويرى أصحابنا يعني أصحاب الحديث أن يصلي صلاة الكسوف في جماعة في كسوف الشمس والقمر. وبوب البخاري باب صلاة الكسوف جماعة. قال الحافظ: أي إن لم يحضر الإمام الراتب فيؤم لهم بعضهم. وبه قال الجمهور. وعن الثوري إن لم يحضر الإمام صلوا فرادى – انتهى. قلت: وقال الحنفية أيضاً بأنه إن لم يحضر إمام الجمعة والعيدين صلوا فرادى، وقالوا: لا جماعة في صلاة خسوف القمر، ففي شرح الوقاية: عند الكسوف يصلي إمام الجمعة بالناس ركعتين، وإن لم يحضر – أي إمام الجمعة – صلوا فرادى كالخسوف – انتهى مختصراً. وقال في الدر المختار: يصلي بالناس من يملك إقامة الجمعة ركعتين. قال ابن عابدين: بيان للمستحب، يعني فعلها بالجماعة إذا وجد إمام الجمعة وإلا فلا تستحب الجماعة بل تصلى فرادى، هذا ظاهر الرواية، وعن الإمام في غير رواية الأصول لكل إمام مسجد أن يصلي بجماعة في مسجده – انتهى. قال في البدائع: والصحيح ظاهر الرواية. قلت: والراجح عندي أنه يجوز الأمر إن الانفراد والتجميع فيهما؛ لأنه لم يرد ما يقتضي اشتراط التجميع؛ لأن فعله - صلى الله عليه وسلم - لا يدل على الوجوب فضلاً عن الشرطية، لكن لا شك أن التجميع أفضل بل أوكد، لأنه - صلى الله عليه وسلم - أمر المنادي بالإعلام بالصلاة جامعة ليجتمع الناس وصلاها جماعة، وقد أمر بالصلاة للكسوف والخسوف أمراً واحداً، فيسن الجماعة للخسوف كما تسن للكسوف، وعن ابن عباس أنه صلى بأهل البصرة في خسوف القمر ركعتين وقال: إنما صليت لأني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي، ولأن خسوف القمر أحد الكسوفين فأشبه كسوف الشمس، وسيأتي مزيد الكلام في صلاة خسوف القمر قريباً، وأما إذا لم يحضر الإمام الراتب للجمعة والعيدين أو إمام الحي فيؤم لهم بعضهم ولا يكون احتمال الفتنة والخلل إذا اتفقوا على أحد للإمامة وتراضوا به. وفي الحديث أيضاً دليل على أن المشروع في صلاة الكسوف ركعتان في كل ركعة ركوعان، والأحاديث الواردة في وصفها مختلفة جداً. فمنها هذا المذكور أي ركعتان في كل ركعة ركوعان، روي هذا من حديث عائشة وابن عباس وعبد الله بن عمرو متفق عليهم، وأسماء بنت أبي بكر عند أحمد، والبخاري والنسائي وابن ماجه وجابر عند أحمد، ومسلم وأبي داود وأبي هريرة عند النسائي، وابن عمر عند البزار وابن جرير، قال الهيثمي: في سنده مسلم بن خالد، وهو ضعيف، وقد وثق – انتهى. وله حديث آخر عند البيهقي (ج3 ص324) من طريق الشافعي

............................ ـــــــــــــــــــــــــــــ عن يحيى بن سليم عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر، قال البيهقي: تفرد به يحيى بن سليم عن عبيد الله بن عمر، وروي ذلك أيضاً من حديث أم سفيان عند الطبراني كما في الفتح، وأبي موسى الأشعري، وسمرة بن جندب كما في التلخيص، وأبي شريح الخزاعي عن عثمان من فعله بالمدينة وبها عبد الله بن مسعود، أخرجه أحمد والبيهقي (ج3 ص324) وأبويعلى والطبراني في الكبير والبزار. قال الهيثمي: رجاله موثقون، واختار هذه الكيفية مالك والشافعي وأحمد والجمهور. ومنها في كل ركعة ثلاث ركوعات، روي هذا من حديث عائشة عند أحمد ومسلم والنسائي، وابن عباس عند الترمذي وصححه، وفيه حبيب بن أبي ثابت، وهو مدلس، وصفه بذلك ابن خزيمة والدارقطني وابن حبان، ولم يبين سماعه من طاوس، وروي ذلك أيضاً من حديث جابر عند أحمد ومسلم وأبي داود والنسائي والبيهقي، وقد أعله البيهقي (ج3 ص326) ، وروي ذلك أيضاً من فعل ابن عباس وحذيفة كما في المحلى (ج5 ص99) . ومنها في كل ركعة أربع ركوعات، روي هذا من حديث ابن عباس عند أحمد ومسلم وأبي داود والنسائي والبيهقي، وقد أعله البيهقي (ج3 ص327) ، ومن حديث حذيفة عند البزار واليهقي (ج3 ص329) من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن حبيب بن أبي ثابت عن صلة بن زفر عن حذيفة، قال البيهقي: محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى لا يحتج به، ومن حديث علي عند أحمد (ج1 ص143) والبيهقي (ج3 330) ، وروي أيضاً من فعل علي وابن عباس، واختاره حبيب بن أبي ثابت كما في المحلى (ج5 ص100) . ومنها في كل ركعة خمس ركوعات، روي هذا من حديث أبي بن كعب عند أبي داود، والحاكم والبيهقي وعبد الله بن أحمد، وهو حديث معلول كما ستعرف، ومن حديث علي عند البزار كما في الفتح ومجمع الزوائد، وذكر البيهقي في المعرفة وفي السنن (ج3 ص329) وابن حزم في المحلى (ج5 ص100) عن الحسن أن علي بن أبي طالب صلى في كسوف عشر ركعات في أربع سجدات. قال البيهقي: رواية الحسن عن علي لم تثبت، وأهل العلم بالحديث يرويها مرسلة. ومنها أن يصلى ركعتين ويسلم ثم ركعتين ويسلم هكذا حتى ينجلي الكسوف، روي هذا من حديث النعمان بن بشير عند أحمد (ج4 ص269) ، وفيه: وكان يصلي ركعتين ثم يسأل ثم يصلي ركعتين ثم يسأل حتى انجلت الشمس ... الخ. وأخرجه البيهقي (ج3 ص333) بلفظ: فجعل يصلي ركعتين ويسلم حتى انجلت الشمس، قال في هامشه: كذا في المصرية. وفي المدراسية: ويصي ركعتين ويسلم ويصلي ركعتين ويسلم مرتين – انتهى. وهو عند الطحاوي بلفظ: فجعل يصلي ركعتين ويسلم ويسأل حتى انجلت. وأخرجه أبوداود بلفظ: فجعل يصلي ركعتين ركعتين ويسأل عنها حتى انجلت، ورواه النسائي من حديث قبيصة الهلالي بلفظ: فصلى ركعتين ركعتين حتى انجلت. واختار هذا إبراهيم النخعي والحسن كما في المحلى، وروى الحسن عن أبي حنيفة: إن شاءوا صلوا ركعتين وإن شاءوا صلوا أربعاً وإن شاءوا صلوا أكثر من ذلك، ذكره في المحيط والبدائع.

.............................. ـــــــــــــــــــــــــــــ واستدلت الحنفية بحديث النعمان وقبيصة على ما ذهبوا إليه من أن صلاة الكسوف ركعتان كسائر النوافل بلا تكرار الركوع، وسيأتي الجواب عنه. ومنها كأحدث صلاة، روي هذا من حديث النعمان بن بشير عند النسائي وابن حزم (ج5 ص97) والبيهقي (ج3 ص332) بلفظ: ((إذا رأيتم ذلك فصلوا كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة)) ، وروي أيضاً من حديث قبيصة الهلالي عند أحمد (ج5 ص60) وأبي داود والنسائي والبيهقي والحاكم والطحاوي والبغوي، وقوله ((كأحدث صلاة)) يعني كأقرب صلاة. قال ابن حزم محتجاً بهذا الحديث: يصلي لكسوف الشمس خاصة إن كسفت من طلوعها إلى أن يصلي الظهر ركعتين، وإن كسفت من بعد صلاة الظهر إلى أخذها في الغروب صلى أربع ركعات كصلاة الظهر ولاعصر، وفي كسوف القمر خاصة إن كسفت بعد صلاة المغرب إلى أن يصلي العشاء الآخرة صلى ثلاث ركعات كصلاة المغرب، وإن كسفت بعد صلاة العتمة إلى الصبح صلى أربعاً كصلاة العتمة – انتهى. وعليه حمله السندي حيث قال في حاشية النسائي: قوله ((كأحدث صلاة)) فيه أنه ينبغي أن يلاحظ وقت الكسوف فيصلي لأجله صلاة هي مثل ما صلاها من المكتوبة قبيلها، ويلزم منه أن يكون عدد الركعة على حسب تلك الصلاة، وأن يكون الركوع واحداً – انتهى. وحمله الحنفية على صلاة الصبح خاصة، قالوا: المراد أنه يصلي ركعتين كصلاة الصبح بركوعين وأربع سجدات. وقيل: التشبيه فيه محمول على بعض الصفات لا على جميعها، يعني أن التشبيه ههنا في عدد الركعات والقراءة فقط لا من كل الجهات، فيصلي ركعتين ويجهر بالقراءة كصلاة الصبح، لكن كل ركعة بركوعين، وهذا لئلا يعارض القول ما رواه الشيخان من فعله بتثنية الركوع في كل ركعة. وقيل: معناه إذا وقع الكسوف عقب صلاة جهرية يصلي ويجهر فيها بالقراءة، وإن وقع عقب صلاة سرية يصلي ويخافت فيها بالقراءة. ومنها: ركعتان في كل ركعة ركوع. روي هذا من حديث عبد الله بن عمر، وعند أحمد (ج2 ص198) وأبي داود والنسائي والترمذي في الشمائل، والطحاوي والحاكم (ج1 ص329) وأبي حنيفة في مسنده، كلهم من طريق عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمر. وقال الحاكم: صحيح، ولم يخرجاه من أجل عطاء بن السائب، وقال تقي الدين في الإمام: كل من روى عن عطاء بن السائب روى عنه في الاختلاط إلا شعبة وسفيان – انتهى. قلت: أخرجه أبوداود عن حماد بن سلمة عن عطاء، والترمذي عن جرير عن عطاء، والحاكم عن الثوري عن عطاء، والطحاوي عن حماد بن سلمة والثوري وغيرهما عن عطاء، وأخرج النسائي في رواية عن شعبة عن عطاء به، لكن ليس متنه بصريح في الركعتين، وحكى العراقي في التقييد والإيضاح (ص392) عن ابن معين أنه قال: حديث سفيان وشعبة وحماد بن سلمة عن عطاء بن السائب مستقيم – انتهى. وروي ذلك أيضاً من حديث سمرة بن جندب عند أحمد (ج5 ص16) وأبي داود

............................... ـــــــــــــــــــــــــــــ والنسائي والحاكم (ج1 ص330) والبيهقي (ج3 ص339) وصححه الحاكم، وروي أيضاً من حديث محمود بن لبيد عند أحمد (ج5 ص428) ، قال الهيثمي (ج2 ص207) : رجاله رجال الصحيح – انتهى. واختار هذه الصفة الحنفية، واستدلوا بهذه الأحاديث الثلاثة، وبما ورد من قوله "صلى ركعتين" في بيان صلاته - صلى الله عليه وسلم - لكسوف الشمس في حديث أبي بكرة عند البخاري والنسائي وعبد الرحمن بن سمرة عند مسلم وأبي داود والنسائي والحاكم، وابن مسعود عند ابن خزيمة، والنعمان بن بشير عند الحاكم، وقبيصة عند أبي داود والنسائي وغيرهما على عدم تعدد الركوع في الركعة. قال الزيلعي: ظاهر قوله "صلى ركعتين" إن الركعتين بركوع واحد. وأجيب بأن ذكر ركوع في ركعة لا يدل على نفي الزائد، فكان ذكر الركوع الثاني حذف فيها كما حذفت السجدة الثانية في ذكر السجدة، وبأن أحاديث تثنية الركوع أصح وأرجح وأكثر وأشهر، فتقدم على هذه الأحاديث، وبأن فيها زيادة فهي أولى بالقبول؛ لأنها أثبتت ما لم يثبت حديث عبد الله بن عمرو وسمرة ومحمود بن لبيد وغيرهم، وبأنها مثبتة فتقدم على غيرها مما يدل على عدم تعدد الركوع، وبأن معنى قوله "صلى ركعتين" أي ركوعين في ركعة فصار أربع ركوعات في ركعتين، قال القرطبي: يحتمل أنه إنما أخبر عن حكم ركعة واحدة، وسكت عن الأخرى، وبأن قوله "صلى ركعتين" مطلق، وفي أحاديث تثنية الركوع زيادة، فيحمل هذا المطلق على الروايات المقيدة، والمعنى: صلاها ركعتين بزيادة ركوع في كل ركعة. وقد ظهر بما ذكرنا أن جملة ما ورد في صفة صلاة الكسوف سبع صفات: ركوع في كل ركعة، وركوعان في كل ركعة، وثلاثة في كل ركعة، وأربعة في كل ركعة، وخمسة في كل ركعة، وكأحدث صلاة، وأن يصلي ركعتين ويسلم ثم يصلي ركعتين ويسلم هكذا حتى تنجلي الشمس، وكثير من الأحاديث الواردة فيها صحيح، وأصحها أحاديث تثنية الركوع، فإن هذه هي الثابتة في الصحيحين وغيرهما من طرق كثيرة، ثم دونها في الصحة مع كونه صحيحاً أحاديث تثليث الركوع، وكذا أحاديث تربيع الركوع فإن ذلك قد انفرد به مسلم، ثم دون هذا حديث تخميس الركوع، وكذا أحاديث وحدة الركوع، وللعلماء فيها مسلكان؛ أحدهما مسلك الجمع: بحملها على تعدد الكسوف وتعدد صلاته في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذهب إليه إسحاق بن راهويه وابن خزيمة والخطابي، واستحسنه ابن المنذر، وقواه النووي، ورجحه ابن رشد في البداية وابن حزم في المحلى وابن جرير الطبري وغيرهم. وأبدى بعضهم أن حكمة الزيادة في الركوع والنقص كان بحسب سرعة الانجلاء وبطئه، فحين وقع الانجلاء في أول ركوع اقتصر على مثل النافلة، وحين أبطأ زاد ركوعاً، وحين زاد في الإبطاء زاد ثالثاً، وهكذا إلى غاية ما ورد في ذلك، وتعقب

............................. ـــــــــــــــــــــــــــــ بأن إبطاء الانجلاء وعدمه لا يعلم في أول الحال ولا في الركعة الأولى، وقد اتفقت الروايات على أن عدد الركوع في الركعتين سواء، وهذا يدل على أنه مقصود في نفسه منوى من أول الحال. والمسلك الثاني: الترجيح فرجح القائلون بكونها ركعتين في كل ركعة ركوعان أحاديث تثنية الركوع لكونها أكثر وأصح. قال الحافظ في الفتح بعد ذكر من روى من الصحابة تثنية الركوع في كل ركعة ما لفظه: وفي رواياتهم زيدة رواها الحفاظ الثقات، فالأخذ بها أولى من إلغائها. وبذلك قال جمهور أهل العلم من أهل الفتيا، وقد وردت الزيادة في ذلك من طرق ... ، فذكر من روي عنه أحاديث تثليث الركوع وتربيعه وتخميسه ثم قال: ولا يخلو إسناد منها عن علة، وقد أوضح ذلك البيهقي وابن عبد البر، ونقل صاحب الهدي عن الشافعي وأحمد والبخاري أنهم كانوا يعدون الزيادة على الركوعين غلطاً من بعض الرواة، فإن أكثر طرق الحديث يمكن رد بعضها إلى بعض، ويجمعها أن ذلك كان يوم مات إبراهيم – عليه السلام -، وإذا اتحدت القصة تعين الأخذ بالراجح، والراجح قطعاً هو حديث عائشة وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو وأسماء بنت أبي بكر وجابر وغيرهم الذي فيه ركوعان في كل ركعة. وقال الشوكاني في السيل الجرار: إذا تقرر لك أن القصة واحدة عرفت أنه لا يصح ههنا أن يقال كما قيل في صلاة الخوف أنه يأخذ بأي الصفات شاء، بل الذي ينبغي ههنا أن يأخذ بأصح ما ورد وهو ركوعان في كل ركعة لما في الجمع بين هذه الروايات من التكلف البالغ. وقال ابن تيمية في التوسل والوسيلة (ص69-70) : لا يبلغ تصحيح مسلم تصحيح البخاري، بل كتاب البخاري أجل ما صنف في هذا الباب، والبخاري من أعرف خلق الله بالحديث وعلله مع فقهه فيه، قال: ولهذا كان جمهور ما أنكر على البخاري مما صححه يكون قوله فيه راجحاً على قول من نازعه بخلاف مسلم فإنه نوزع في عدة أحاديث مما خرجها، وكان الصواب فيها مع من نازعه، كما روى في حديث الكسوف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بثلاث ركوعات وبأربع ركوعات كما روى أنه صلى بركوعين، والصواب أنه لم يصل إلا بركوعين وأنه لم يصل الكسوف إلا مرة واحدة يوم مات إبراهيم، وقد بين ذلك الشافعي، وهو قول البخاري وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه، والأحاديث التي فيها الثلاث والأربع فيها أنه صلاها يوم مات إبراهيم، ومعلوم أنه لم يمت في يومي كسوف ولا كان له إبراهيمان، ومن نقل أنه مات عاشر الشهر فقد كذب – انتهى. وقال في منهاج السنة: حديث صلاة الكسوف بثلاث ركوعات وأكثر في مسلم من المواضع المنتقدة بلا ريب، وإلى ترجيح روايات تثنية الركوع ذهب أيضاً صاحب فيض الباري من الحنفية حيث قال: لم تنكسف الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا مرة، والروايات في تعدد الركوع بلغت إلى ست ركوعات في ركعتين، والأرجح عندي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ركع ركوعين في ركعة، والباقي أوهام كانت فتاوى الصحابة فاختلطت بالمرفوع، وإذن لا أتمسك من روايات ورد فيها ركوع

............................. ـــــــــــــــــــــــــــــ واحد، بل أحملها على الاختصار – انتهى. قلت: وفي تاريخ الخميس وأوائل الثقات لابن حبان: أن الشمس كسفت في عهده - صلى الله عليه وسلم - مرتين: الأولى في السنة السادسة، والثانية في السنة العاشرة يوم توفي إبراهيم بن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأما القمر ففي شرح الإحياء ذكر صاحب جمع العدة: أن خسوف القمر وقع في السنة الرابعة في جمادى الآخرة ولم يشتهر أنه - صلى الله عليه وسلم - جمع له الناس، وذكر في الهدي وفي تاريخ الخميس (ج1 ص469) عن السيرة لابن حبان أنه وقع في السنة الخامسة في جمادى الآخرة، فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه، وكانت أول صلاة كسوف في الإسلام، وقد جزم به مغلطائي في سيرته. والظاهر عندي ما ذهب إليه ابن تيمية وغيره من جمهور أهل العلم أنه لم يصلي صلاة كسوف الشمس في عهده - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة إلا مرة. قال الشيخ أحمد شاكر في حاشية المحلى (ج5 ص104، 105) : لقد حاولت كثيراً أن أجد من العلماء بالفلك من يظهر لنا بالحساب الدقيق عدد الكسوفات التي حصلت في مدة إقامة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، وتكون ؤيتها بها ممكنة، وطلبت ذلك من بعضهم مراراً، فلم أوفق إلى ذلك، إلا أني وجدت للمرحوم محمود باشا الفلكي جزءاً صغيراً سماه نتائج الأفهام في تقويم العرب قبل الإسلام، وقد حقق فيه بالحساب الدقيق يوم الكسوف الذي حصل فيه السنة العاشرة، وهو اليوم الذي مات فيه إبراهيم – عليه السلام -، ومنه اتضح أن الشمس كسفت في المدينة في يوم الاثنين 29 شوال سنة (10) ، الموافق ليوم 27 يناير سنة 632 ميلادية في الساعة 8 والدقيقة 30 صباحاً، وهو يرد أكثر الأقوال التي نقلت في تحديد يوم موت إبراهيم، وعسى أن يكون هذا البحث والتحقيق حافزاً لبعض النبهاء من العالمين بالفلك إلى حساب الكسوفات الي حصلت بالمدينة في السنين العشر الأولى من الهجرة النبوية، أي إلى وقت وفاته - صلى الله عليه وسلم - في يوم الأحد 12 ربيع الأول سنة 11 أو الاثنين 13 منه الموافقان ليومي 7 يونية سنة 632 و8 منه، فإذا عرف بالحساب عدد الكسوفات في هذه المدة أمكن التحقيق من صحة أحد المسلكين. إما حمل الروايات على تعدد الوقائع، وإما ترجيح الرواية التي فيها ركوعان في كل ركعة، وأنا أميل جداً إلى الظن بأن صلاة الكسوف ما صليت إلا مرة واحدة، فقد علمنا من رسالة محمود باشا الفلكي أنه حصل خسوف للقمر في المدينة في يوم الأربعاء 14 جمادى الثانية من السنة الرابعة للهجرة الموافق 20 نوفمبر سنة 625، ولم يرد ما يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع الناس فيه لصلاة الخسوف، ويؤيد هذا أن الأحاديث الواردة في صلاة الكسوف دالة بسياقها على أن هذه الصلاة كانت لأول مرة، وأن الصحابة لم يكونوا يعلمون ماذا يصنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وقتها، وأنهم ظنوا أنها كسفت لموت إبراهيم، وأن المدة بين موت إبراهيم – عليه السلام – وبين موت أبيه - صلى الله عليه وسلم - لم تزد على أربعة أشهر ونصف، فلو كان الكسوف حصل مرة أخرى وقاموا للصلاة لظهر ذلك واضحاً في النقل لتوفر الدواعي إلى نقله، كما نقلوا ما قبله بأسانيد كثيرة، والله أعلم بالصواب – انتهى كلام الشيخ أحمد. هذا وقد تقدم أن الحنفية اختاروا وحدة الركوع في كل ركعة كسائر

....................... ـــــــــــــــــــــــــــــ الصلوات ثم اختلفوا. فقال بعضهم: الأرجح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ركع ركوعين في كل ركعة والباقي أوهام وروايات وحدة الركوع محمولة على الاختصار، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن ركع ركوعين لكنه لم يعلمنا إلا أن نأتي بها كأحدث صلاة صلاها وفيها ركوع واحد، فتعدد الركوع مخصوص به - صلى الله عليه وسلم -، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد بقوله: ((صلوا كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة)) أن لا تصلوا أنتم، كما رأيتم من تعدد الركوع، ولكن صلوا كصلاة الصبح – انتهى مختصراً محصلاً. وأجيب عنه بأن كل ما صح وثبت من فعله - صلى الله عليه وسلم - يكون سنة لنا ما لم يقم دليل على اختصاصه به ولا دليل على كون تعدد الركوع في صلاة الكسوف مختصاً به - صلى الله عليه وسلم -، فدعوى الاختصاص مردودة، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلوا كأحدث صلاة ... )) الخ فليس بصريح ولا بظاهر فيما قالوا به فإنه يحتمل معاني أخرى كما تقدم عن السندي وابن حزم وغيرهما مفصلاً وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال والتشبيه لا يجب أن يكون من جميع الجهات فلا يترك به الأحاديث الصريحة التي هي أصح منه لكونها مروية في الصحيحين وغيرهما. وقال بعضهم أحاديث الفعل متعارضة فيطرح الكل ويؤخذ بالأصل، والأصل في الركوع الاتحاد دون التعدد وقد جاء في بعض الروايات كذلك. وفيه إن من شرط التعارض التساوي في الثبوت والقوة وهو منتفٍ ههنا، فإن أحاديث الفعل ليست بمتساوية بل روايات تثنية الركوع أصح وأرجح وأقوى وأشهر لاتفاق الشيخين على تخريجها، فيجب تقديمها وترجيحها ويتعين الأخذ بها ولا يجوز طرحها. وقال بعضهم: أحاديث وحدة الركوع مرجحة بوجوه: منها أن روايات تعدد الركوع متعارضة، وهي مع ذلك تخالف قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلوا كأحدث صلاة ... )) الخ والعبرة للقول إذا خالف الفعل. وفيه أنه لا تعارض بين روايات التعدد لكون أحاديث تثنية الركوع أصح وأرجح وأقوى فتقدم على غيرها ولا تخالف بينها وبين القول المذكور فإن المقصود منه التشبيه في بعض الصفات وهي عدد الركعات والجهر بالقراءة لا في جميعها وإلا فينبغي للحنفية أن يقولوا باستنان الجهر بالقراءة في صلاة كسوف الشمس وأن لا يقولوا باستحباب تطويل القراءة والركوع والسجود بل يكرهوا الإطالة، لكنهم قد صرحوا بأن صلاة الكسوف مستثناة من كراهة التطويل وقالوا: يطيل فيها الركوع والسجود والقراءة، واستدلوا لذلك بروايات الفعل، ولو فرضنا التعارض بين روايات الفعل والقول فالقول إنما يقدم ويرجح على الفعل إذا لم يمكن الجمع بينهما وكان القول مساوياً للفعل في القوة والثبوت، والأمر ههنا ليس كذلك. ومنها أن روايات وحدة الركوع موافقة للقياس أي موافقة للأصول المعهودة فزيادة ركن في الصلاة لم تعهد. قال الحافظ: أشار الطحاوي إلى أن قول أصحابه أجري على القياس في صلاة النوافل لكن اعترض بأن القياس مع وجود النص يضمحل، وبأن صلاة الكسوف أشبه بصلاة العيد وبنحوها مما يجمع فيه من طلق النوافل، فامتازت صلاة الجنازة بترك الركوع والسجود، وصلاة العيدين بزيادة التكبيرات، وصلاة الخوف بزيادة الأفعال

............................... ـــــــــــــــــــــــــــــ الكثيرة واستدبار القبلة، فلذلك اختصت صلاة الكسوف بزيادة الركوع، فالأخذ به جامع بين العمل بالنص والقياس بخلاف من لم يعمل به – انتهى. وقد رد على هذا الوجه ابن حزم أيضاً فأجاد، فعليك أن ترجع إلى المحلى (ج5 ص101) . ومنها أن روايات التعدد متعارضة مضطربة. قال ابن الهمام: أحاديث تعدد الركوع مضطربة، والاضطراب موجب للضعف فوجب تركها. وفيه أن الاختلاف الواقع في روايات الفعل ليس اضطراباً قادحاً مورثاً للضعف فإن الاختلاف في الحديث من جهة الإسناد أو المتن إنما يورث الاضطراب الموجب للضعف إذا استوت وجوه الاختلاف وتساوت الروايات المختلفة، وأما إذا ترجحت إحداها بوجه من وجوه الترجيح قدمت ولا يعل الراجح بالمرجوح، يعني يكون العبرة للراجح، وههنا روايات تثنية الركوع أصح وأرجح وأقوى فيكون لها الاعتبار لا لروايات الزيادة على الركوعين ولا لروايات وحدة الركوع. هذا وتأول بعضهم أحاديث تعدد الركوع بتأويلات كلها أضاحيك نذكرها عبرة للناظرين وفي ذكرها غنى عن الرد. فمنها ما ذكره الفخر الزيلعي في شرح الكنز: أنه – عليه الصلاة والسلام – كان يرفع رأسه ليختبر حال الشمس هل انجلت أم لا فظنه بعضهم ركوعاً فأطلق عليه اسمه فلا يعارض ما روينا يعني من أحاديث وحدة الركوع – انتهى. قال الحافظ في الفتح: أجاب بعض الحنفية عن زيادة الركوع بحمله على رفع الرأس لرؤية الشمس هل انجلت أم لا، فإذا لم يرها انجلت رجع إلى ركوعه ففعل ذلك مرة أو مراراً فظن بعض من رآه يفعل ذلك ركوعاً زائداً. وتعقب بالأحاديث الصحيحة الصريحة في أنه أطال القيام بين الركوعين، ولو كان الرفع لرؤية الشمس فقط لم يحتج إلى تطويل ولا سيما الأخبار الصريحة بأنه ذكر ذلك الاعتدال ثم شرع في القراءة، فكل ذلك يرد هذا الحمل، ولو كان كما زعم هذا القائل لكان فيه إخراج لفعل الرسول عن العبادة المشروعة، أو لزم منه إثبات هيئة في الصلاة لا عهد بها وهو ما فر منه – انتهى كلام الحافظ. ومنها ما ذكره صاحب المحيط البرهاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما ركع ركوعين على وجه الصورة لا على وجه الحقيقة؛ لأنه قربت إليه الجنة والنار، وإنما رفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه من الركوع فزعاً حين قربت منه النار، وكان ذلك رفعاً على وجه الصورة لا الحقيقة. ورد بما وقع من التصريح في الأحاديث الصحيحة بتطويل القيام الثاني وتطويل الركوع الذي بعده، وكذا تطويل الاعتدال الذي يليه السجود، وهذا كالصريح في أنه - صلى الله عليه وسلم - ركع ركوعين ركوعاً حقيقة لا صورياً، وأن رفع الرأس لم يكن فزعاً على وجه الصورة، بل كان قياماً حقيقياً قرأ فيه قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الأولى، ولو كان الرفع أي القيام فزعاً والركوع لأنه قربت إليه الجنة لم يقع التطويل فيهما كما لم يقع في تقدمه وتأخره، ويرد ذلك أيضاً أن الذي وقع منه - صلى الله عليه وسلم - حين قربت إليه الجنة والنار

................................ ـــــــــــــــــــــــــــــ إنما هو التقدم والتأخر كما صرح به في رواية مسلم وغيره لا الركوع ورفع الرأس منه. ومنها ما ذكره صاحب العرف الشذى: أن الركوع الثاني لم يكن ركوعاً صلوياً بل كان ركوع آية وتخشع وتضرع يعني كان بدل السجود للآيات مما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجنة والنار ممثلتين في جدار القبلة، فتعدد الركوع كتعدد السجود في الصلاة عند تلاوة آية السجدة، فكما تتعدد السجدة لداعية كذلك يجوز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - ركع ركوعين؛ لأنه شاهد فيما ما لم يكن يشاهد في عامة الصلوات والسجود عند ظهور آية معروف. قال أبوعبد الله البلخي: إن الزيادة ثبتت في صلاة الكسوف لا للكسوف بل لأحوال اعترضت حتى روي أنه - صلى الله عليه وسلم - تقدم في الركوع حتى كان كمن يأخذ شيئاً ثم تأخر كمن ينفر عن شيء، فيجوز أن تكون الزيادة منه باعتراض تلك الأحوال، كذا في البدائع، وحاصل هذا كله أنه تعدد الركوع مختص بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا نحو ما تقدم من المحيط البرهاني، وقد تقدم جوابه، ويزاد عليه أنه لا فرق بين الركوعين في الصورة، فكما أن الركوع الأول كان ركوع صلاة لا ركوع آية وتخشع كذلك كان الركوع الثاني ركوع صلاة لا ركوع آية، ومن يدعي الفرق بينهما فليأت بدليل صريح قوي على ذلك، ولا يكفي في مثل هذا الإمكان والاحتمال والتجويز، ويدل على بطلان هذا القول ودعوى الاختصاص عمل الصحابة بتعدد الركوع بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويبطله أيضاً أن التقدم والتأخر إنما وقع من النبي - صلى الله عليه وسلم - في حال قيامه الثاني من الركعة الثانية كما رواه سعيد بن منصور في سننه لا في الركوع كما قال البلخي. ومنها ما قال الفخر الزيلعي في شرح الكنز: أنه - صلى الله عليه وسلم - طول الركوع فيها فمل بعض القوم فرفعوا رؤوسهم أو ظنوا أنه – عليه الصلاة والسلام – رفع رأسه فرفعوا رؤوسهم أو رفعوا رؤوسهم على عادة الركوع المعتاد، فوجدوا النبي - صلى الله عليه وسلم - راكعاً فركعوا ثم فعلوا ثانياً وثالثاً كذلك ففعل من خلفهم كذلك ظناً منهم أن ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم روى كل واحد منهم على ما وقع في ظنه، ومثل هذا الاشتباه قد يقع لمن كان في آخر الصفوف، فعائشة في صفوف النساء، وابن عباس في صفوف الصبيان، وحكى الطحطاوي على المراقي هذا التأويل عن الإمام محمد، وقال فروى كل واحد على حسب ما عنده من الاشتباه، قال بعض من كتب على الموطأ من أهل عصرنا: هذا أوجه؛ لأنه تجمع به الروايات كلها – انتهى. قلت: بل هو أسخف من جميع ما تأولوا به روايات تعدد الركوع فضلاً عن أن يكون وجيهاً أو أوجه، لا يخفى ركاكته وسخافته على من له أدنى فهم، ولله در صاحب فيض الباري حيث اعترف بركاكته فقال: وما قالوا – أي في تأويل أحاديث تعدد الركوع – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ركع فيه ركوعاً طويلاً وكان الصحابة يرفعون رؤوسهم يرون أنه هل قام منه أم لا فتوهم المتأخرون منهم تعدد الركوع فإنه ركيك عندي وإن كان أصله من المبسوط للسرخسي – انتهى. قلت: ويبطل هذا التأويل أن عائشة وأسماء – وهما ممن روى تثنية الركوع – لم تكونا في صفوف النساء، بل صلتا في حجرة

متفق عليه. 1495- (2) وعنها قالت: جهر النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الخسوف بقراءته. ـــــــــــــــــــــــــــــ عائشة قريباً من القبلة، وابن عباس لم يكن في صفوف الصبيان، بل صلى بجنب النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما رواه الطبراني والبيهقي في المعرفة، علاوة أن الزيادة في الركوع قد رويت من حديث جابر بن عبد الله وعبد الله بن عمرو وأبي هريرة وأبي بن كعب وابن عمر وحذيفة وعلي وغيرهم، وهؤلاء كانوا رجالاً لا صبياناً ولا نساء، ولا دليل على أنهم قاموا في آخر الصفوف، أو كانوا خلف الصف الأول أو الثاني، فنسبة اشتباه الأمر إلى جميع هؤلاء غلط بلا شك. ومنها ما ذكر بعض من كتب على الموطأ من أهل عصرنا أنه يحتمل أن الركوع كان بدل سجود التلاوة، لما ورد في الروايات من قراءة سورة الحج، وفيها سجدتان عندهم، والركوع بدل السجود كافٍ. قلت: هذا تأويل فاسد باحتمال غير ناشيء عن دليل فهو مردود، وأما الرواية التي أشار إليها هذا البعض فأخرجها البيهقي في السنن (ج3 ص330) عن علي موقوفاً عليه من فعله، وفيه حنش بن ربيعة، وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة كما تقدم في باب الأضحية في ترجمة حنش، وفيه أيضاً أن علياً قرأ سورة الحج ويس في الركعة الأولى ثم ركع أربع ركعات ثم سجد – أي بعد الركوع الرابع -، ثم قام فقرأ سورة الحج ويس ثم صنع كما صنع في الركعة الأولى، ثمان ركعات وأربع سجدات، فلو كانت الركوعات الزائدة بدل السجدتين في سورة الحج لم يزد عددها على ست ركوعات مع ضم ركوعي الصلاة، وههنا قد صرح بأنه ركع ثمان ركعات، وهذا يبطل الاحتمال الذي اخترعها هذا البعض، وقد رواه ابن أبي شيبة وأحمد (ج1 ص143) وابن خزيمة والطحاوي وابن جرير وأبوالقاسم بن منده في كتاب الخشوع والبيهقي أيضاً (ج3 ص330، 331) عن علي مرفوعاً من طريق حنش، وليس فيه ذكر سورة الحج، بل في رواية أحمد: فقرأ يس أو نحوها، وفي لفظ عند غير أحمد: بالحجر أو يس، وفي لفظ: يس والروم، وفي لفظ: سورة من المئين أو نحوها، وأما ما ذكر في كفاية الركوع عن سجدة التلاوة فهو دعوى بلا برهان فلا يلتفت إليها، وقد تقدم الكلام عليه في باب سجدة التلاوة. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً النسائي والبيهقي (ج4 ص320) وأخرجه أبوداود مختصراً، وأخرجه البخاري ومسلم أيضاً من حديث عبد الله بن عمرو. 1495- قوله (جهر النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الخسوف) أي خسوف الشمس، كما صرح في رواية الإسماعيلي، وإسحاق بن راهويه وابن حبان، وفي رواية لأحمد (ج6 ص76) وفيه رد على من فسر لفظ الصحيحين بخسوف القمر (بقراءته) هذا نص في أن قراءته - صلى الله عليه وسلم - في صلاة كسوف الشمس كانت جهراً لا سراً، وهو يدل على أن السنة في صلاة الكسوف هي الجهر بالقراءة لا الإسرار، ويدل لذلك أيضاً حديث أسماء عند البخاري، قال الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص232) ، والحافظ في الدراية (ص137) ، وابن الهمام في فتح

............................ ـــــــــــــــــــــــــــــ القدير، والعيني في البناية: وللبخاري من حديث أسماء بنت أبي بكر قالت: جهر النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الكسوف – انتهى. ويدل له أيضاً ما روى ابن خزيمة والطحاوي عن علي مرفوعاً وموقوفاً من الجهر بالقراءة في صلاة الكسوف، قال الطحاوي بعد رواية الحديث عن علي موقوفاً: ولو لم يجهر النبي - صلى الله عليه وسلم - حين صلى علي معه لما جهر علي أيضاً؛ لأنه علم أنه السنة فلم يترك الجهر، والله أعلم، ذكره العيني. وقد اختلفت الأئمة في ذلك، فقال بالجهر أبويوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة وأحمد وإسحاق وابن خزيمة وابن المنذر وغيرهما من محدثي الشافعية وابن العربي من المالكية، وقال الطبري: يخير بن الجهر والإسرار، وقال الأئمة الثلاثة: يسر في الشمس ويجهر في القمر، كذا في الفتح، قلت: وحكى الترمذي عن مالك الجهر، وقال القاضي عياض والقرطبي: إن معن بن عيسى والواقدي رويا عن مالك الجهر، قيل: هي رواية شاذة، والمشهور عنه هو الإسرار، وقال ابن العربي في العارضة: اختلف قول مالك، فروى المصريون أنه يسر، وروى المدنيون أنه يجهر، والجهر عندي أولى – انتهى. واحتج للشافعي ومن وافقه بقول ابن عباس: قرأ نحواً من سورة البقرة، أخرجه الشيخان. قال الشافعي: لو جهر بالقراءة لم يحتج إلى تقديره. وذكر البيهقي عنه أنه قال: فيه دليل على أنه لم يسمع ما قرأ؛ لأنه لو سمعه لم يقدر بغيره، وقال القرطبي: هذا دليل لمن قال يخفي القراءة؛ لأنه لو جهر لعلم ما قرأ، وقال المنذري: هذا الحديث يدل على الإسرار. وتعقب باحتمال أن يكون بعيداً منه في صفوف الصبيان، لكن ذكر الشافعي تعليقاً عن ابن عباس أنه صلى بجنب النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكسوف فلم يسمع منه حرفاً، ورواه الطبراني في معجمه موصولاً قال: ثنا علي بن المبارك، ثنا زيد بن المبارك، ثنا موسى بن عبد العزيز، ثنا الحكيم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس، وأخرجه البيهقي أيضاً في المعرفة من طريق الحكم بن أبان، وقال: يدفع حمله على البعد رواية الحكم بن أبان: صليت إلى جنبه – انتهى. قلت: موسى بن عبد العزيز صدوق سيء الحفظ، والحكم بن أبان صدوق له أوهام، قاله الحافظ في التقريب. فرواية الطبراني لا تقاوم روايات الجهر الصحيحة الصريحة. واحتج له أيضاً بقول عائشة عند أبي داود: فحزرت قراءته فرأيت أنه قرأ سورة البقرة. قال الخطابي: هذا يدل على أنه لم يجهر بالقراءة فيها، ولو جهر لم تحتج فيها إلى الحزر والتخمين، وبحديث ابن عباس قال: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الكسوف فلم أسمع منه فيها حرفاً، أخرجه أحمد (ج1 ص293، 350) وأبويعلى وأبونعيم في الحلية، والطحاوي (ج1 ص197) ، والبيهقي (ج3 ص335) ، وفيه ابن لهيعة، وبحديث سمرة الآتي في الفصل الثاني، وبأنها صلاة نهار فلا يجهر فيها كصلاة الظهر، وأجيب عن هذا كله بأن روايات الجهر نصوص صريحة صحيحة، والأحاديث المذكورة ليست بنص في السر ونفي الجهر، فكيف تعارض روايات الجهر

متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ بمثل هذا! قال ابن قدامة: هذا نفي محتمل لأمور كثيرة، فكيف يترك من أجله الحديث الصحيح الصريح! وقياسهم منتقض بالجمعة والعيدين والاستسقاء، وقياس هذه الصلاة على هذه الصلوات أولى من قياسها على الظهر لبعدها منها وشبهها بهذه – انتهى. وقال ابن التركماني في الجوهر النقي: حديث عائشة صحيح صريح في الجهر، وأحاديث هذا الباب – يعني أحاديث عائشة وابن عباس وسمرة – فيها دلالة على الإسرار، فكان المصير إلى ذلك الحديث أولى – انتهى. وقال العيني: روايات الجهر أصح. وقال ابن حزم: ليس لهم فيه – أي في حديث سمرة – حجة؛ لأنه ليس فيه أنه – عليه السلام – لم يجهر، وإنما فيه لا نسمع له صوتاً، وصدق سمرة في أنه لم يسمعه، ولو كان بحيث يسمعه لسمعه كما سمعت عائشة – رضي الله عنها – التي كانت قريباً من القبلة في حجرتها، وكلاهما صادق، ثم لو كان فيه لم يجهر لكان خبر عائشة زائداً على ما في خبر سمرة، والزائد أولى – انتهى. وقال الزيلعي (ج2 ص234) : واعلم أن الحديث يعني حديث ابن عباس بلفظ: نحواً من سورة البقرة، وما في معناه غير صريح في الإخفاء، وإن كان العلماء كلهم يحملوه عليه، ولكن قد ينسى الإنسان الشيء المقروء بعينه، وهو مع ذلك ذاكر لقدره، فيقول: قرأ فلان نحو سورة البقرة وهو قد سمع ما قرأ ثم نسيه، والله أعلم – انتهى. وقال البخاري: حديث عائشة في الجهر أصح من حديث سمرة – انتهى. وقال الحافظ: حديث عائشة مثبت للجهر ومعه قدر زائد، فالأخذ به أولى، وحديث سمرة إن ثبت لا يدل على نفي الجهر. قال ابن العربي: الجهري عندي أولى؛ لأنها صلاة جامعة ينادى لها ويخطب ـ فأشبهت العيد والاستسقاء، والله أعلم. وقال الشوكاني في النيل: إن كانت صلاة الكسوف لم يقع منه - صلى الله عليه وسلم - إلا مرة واحدة، كما نص على ذلك جماعة من الحفاظ، فالمصير إلى الترجيح متعين، وحديث عائشة أرجح لكونه في الصحيحين، ولكونه متضمناً للزيادة، ولكونه مثبتاً، ولكونه معتضداً بما أخرجه ابن خزيمة وغيره عن علي مرفوعاً من إثبات الجهر. وقال في السيل الجرار: رواية الجهر أصح وأكثر، وراوي الجهر مثبت وهو مقدم على النافي – انتهى. وسيأتي شيء من الكلام فيه في شرح حديث سمرة. وتأول بعض الحنفية حديث عائشة بأنه - صلى الله عليه وسلم - جهر بآية أو آيتين. قال في البدائع: نحمل ذلك على أنه جهر ببعضها اتفاقاً، كما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسمع الآية والآيتين في صلاة الظهر أحياناً – انتهى. وهذا تأويل باطل؛ لأن عائشة كانت تصلي في حجرتها قريباً من القبلة، وكذا أختها أسماء، ومن كان كذلك لا يخفى عليه قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلو كانت قراءته في صلاة الكسوف سراً وكان يجهر بآية وآيتين أحياناً، كما فعل كذلك في صلاة الظهر، لما عبرت عن ذلك بأنه كان يجهر بالقراءة في صلاة الكسوف، كما لم يقل أحد ممن روى قراءته في صلاة الظهر أنه جهر فيها بالقراءة (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي

1496- (3) وعن عبد الله بن عباس قال: انخسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس معه، فقام قياماً طويلاً نحواً من قراءة سورة البقرة، ثم ركع ركوعاً طويلاً، ثم رفع فقام قياماً طويلاً، وهو دون القيام الأول، ـــــــــــــــــــــــــــــ وأبوداود وابن حبان والحاكم (ج1 ص334) وأبوداود الطيالسي والطحاوي والبيهقي (ج3 ص336) والدارقطني. 1496- قوله (انخسفت الشمس) بنون بعد ألف الوصل ثم خاء، كذا في البخاري في باب صلاة الكسوف جماعة، وفي مسلم: انكسفت، وفي الموطأ: خسفت، وكذا عند البخاري في باب كفران العشير من كتاب النكاح. (فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس معه) أي صلى صلاة الكسوف بالجماعة (فقام قياماً طويلاً) صفة لقياما أو لزماناً مقدر (نحواً) أي تقريباً، وبيانه قوله (من قراءة سورة البقرة) أي من مقدار قراءتها، وفي مسلم: قدر نحو سورة البقرة، وفي النسائي: قرأ نحواً من سورة البقرة، وفي رواية لعائشة: خسفت الشمس في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فخرج إلى المسجد فصف الناس وراءه فكبر فاقترأ قراءة طويلة، وفي رواية: فقرأ بسورة طويلة، وفيه دليل على مشروعية تطويل القيام بقراءة سورة طويلة في صلاة الكسوف، وهو مستحب عند الجميع، وحكى الزبيدي في شرح الإحياء عن الشافعية استحباب الإطالة وإن لم يرض بها الناس، وعن ابن الهمام أنها مستثناة من كراهة التطويل. (ثم ركع ركوعاً طويلاً) وهو الركوع الأول، قال الحافظ: لم أر في شيء من الطرق بيان ما قال فيه، إلا أن العلماء اتفقوا على أنه لا قراءة فيه، وإما فيه الذكر من تسبيح وتكبير ونحوهما – انتهى. قال ابن دقيق العيد: لم يجد فيه حداً، وقد ذكر أصحاب الشافعي فيه أنه نحو من مائة آية، واختار غيرهم عدم التحديد إلا بما يضر بم خلفه، وقال القسطلاني: يسبح قدر مائة آية من البقرة، وقال ابن قدامة: يسبح قدر مائة. وقال المالكية: يركع كالقيام الذي قبله، ويؤيده ما في حديث جابر عند مسلم: ثم ركع نحواً مما قام. (ثم رفع) أي رأسه من الركوع (فقام قياماً طويلاً) وهو الاعتدال الأول (وهو دون القيام الأول) وفي رواية لعائشة: ثم كبر فركع ركوعاً طويلاً، ثم قال: سمع الله لمن حمده فقام ولم يسجد، وقرأ قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الأولى. وقدرها الشافعية والحنابلة بنحو سورة آل عمران، لكن في رواية لعائشة عند أبي داود: أنها حزرت قراءته بآل عمران بعد القيام من السجدتين أي في قيام الركعة الثانية. وزاد في رواية لعائشة عند البخاري: ربنا ولك الحمد بعد قوله: سمع الله لمن حمده، قال الحافظ: استدل به على استحباب الذكر المشروع في الاعتدال في أول القيام الثاني من الركعة الأولى. واستشكله بعض متأخري الشافعية من جهة كونه قيام قراءة لا قيام اعتدال بدليل اتفاق العلماء ممن

ثم ركع ركوعاً طويلاً، وهو دون الركوع الأول، ـــــــــــــــــــــــــــــ قال بزيادة الركوع في كل ركعة على قراءة الفاتحة فيه، وإن كان محمد بن مسلمة المالكي خالف فيه، والجواب أن صلاة الكسوف جاءت على صفة مخصوصة فلا مدخل للقياس فيها، بل كل ما ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - فعله فيها كان مشروعاً؛ لأنها أصل برأسه، وبهذا المعنى رد الجمهور على من قاسها على صلاة النافلة حتى منع من زيادة الركوع فيها – انتهى. وقال العيني: وأجاب عن ذلك شيخنا العراقي بقوله: في استشكاله نظر لصحة الحديث فيه، بل لو زاد الشارع عليه ذكراً آخر لما كان مستشكلاً – انتهى. (ثم ركع ركوعاً طويلاً) وهو الركوع الثاني (وهو دون الركوع الأول) قال القسطلاني: وقدروه بثمانين آية، وقال ابن قدامة: يركع بقدر ثلثي ركوعه الأول – انتهى. واختلف في أن أي الركوعين من الركعتين فرض، وبإدراك أي الركوعين يكون مدركاً للركعة؟ فذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الأصل والفرض هو الركوع الأول وقيامه، وأما الركوع الثاني وقيامه فتابع وزائد وسنة كتكبيرات العيد، فمن أدرك الإمام في الركوع الأول من الركعة الأولى أو الثانية أدرك الركعة، كما في سائر الصلوات، ومن أدركه في الركوع الثاني من أي ركعة فلا يدرك شيئاً، وعكسه المالكية فقالوا: الزائد والتابع والسنة في كل من الركعتين القيام الأول والركوع الأول، والفرض إنما هو الركوع الثاني والقيام الثاني في كل ركعة، فمن أدرك الإمام في الركوع الثاني من الركعة الأولى أدرك الركعة ولم يقض شيئاً، وإن أدرك الركوع الثاني من الركعة الثانية يقضي الأولى بقيامها فقط ولا يقضي القيام الثالث. وقال ابن قدامة في المغني: إذا أدرك الإمام في الركوع الثاني احتمل أنه تفوته الركعة، قال القاضي: لأنه قد فاته من الركعة ركوع أشبه ما لو فاته الركوع من غير هذه الصلاة، ويحتمل أن تصح صلاته؛ لأنه يجوز أن يصلي هذه الصلاة بركوع واحد، فاجتزئ به في حق المسبوق – انتهى. واعلم أنه لم يرد تعيين ما قرأ به - صلى الله عليه وسلم - إلا في حديث لعائشة عند الدارقطني (ص188) أنه قرأ في الركعة الأولى بالعنكبوت أو الروم، وفي الثانية بـ"يس"، وأخرجه البيهقي (ج3 ص236) وفيه أنه قرأ في الركعة الأولى بـ"العنكبوت"، وفي الثانية بـ"لقمان" أو "الروم"، وفي حديث علي عند البيهقي (ج3 ص330) أنه قرأ بـ"يس" ونحوها، وفي آخره ثم حدثهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذلك فعل، وفي رواية عنده: أنه قرأ في الركعة الأولى سورة الحج ويس ثم ركع أربع ركعات ثم سجد في الرابعة ثم قام فقرأ بسورة الحج ويس وهو موقوف من فعله، ويأتي حديث أبي بن كعب أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ بسورة من الطوال، وتقدم الإشارة إلى حديث عائشة عند أبي داود والبيهقي (ج3 ص335) أنها قالت: حزرت قراءته فرأيت أنه قرأ سورة البقرة ثم سجد سجدتين ثم قام فأطال القراءة، فحزرت فرأيت أنه قرأ سورة آل عمران، وهذا كله يدل على أنه لا تعيين في القراءة في صلاة الكسوف، فيختير

ثم رفع، ثم سجد، ـــــــــــــــــــــــــــــ المصلي من القرآن ما شاء، وإن التطويل أولى، والله تعالى أعلم. قال الشوكاني: لا بد من القراءة بالفاتحة في كل ركعة لما تقدم من الأدلة الدالة على أنها لا تصح ركعة بدون الفاتحة. قال النووي: واتفق العلماء على أنه يقرأ الفاتحة في القيام الأول من كل ركعة، واختلفوا في القيام الثاني، فمذهبنا ومذهب مالك وجمهور أصحابه أنها لا تصح الصلاة إلا بقراءتها فيه، وقال محمد بن مسلمة من المالكية: لا تتعين الفاتحة في القيام الثاني – انتهى. قال الباجي: يستفتح القراءة في الركعة الأولى والثالثة بأم القرآن، وأما الثانية والرابعة فإنه يقرأ فيهما بالسورة، وهل يقرأ الفاتحة أم لا؟ قال مالك: نعم، وقال محمد بن مسملة: لا، وجه الأول أنها ركعة بقراءة، فوجب الفاتحة كالأولى، ووجه الثاني: أن الركعتين في حكم الركعة الواحدة، بدليل أن المأموم يجزيه إدراك أحدهما، فالقراءتان في حكم القراءة الواحدة، فوجب أن لا يتكرر الفاتحة – انتهى. وقال ابن دقيق العيد في شرح العمدة (ج2 ص139) : كأنه رآها ركعة واحدة زيد فيها ركوع، والركعة الواحدة لا تثنى الفاتحة فيها، وهذا يمكن أن يؤخذ من الحديث، كما سننبه عليه في موضعه – انتهى. وقال في شرح حديث عائشة بلفظ: فاستكمل أربع ركعات وأربع سجدات (ج2 ص142) . أطلق الركعات على عدد الركوع، وجاء في موضع آخر في ركعتين، وهذا هو الذي أشرنا إلى أنه متمسك من قال من أصحاب مالك إنه لا يقرأ الفاتحة في الركوع الثاني من حيث أنه أطلق على الصلاة ركعتين، والله أعلم. (ثم رفع) أي رأسه من الركوع الثاني (ثم سجد) أي سجدتين، لم يذكر فيه تطويل الاعتدال الذي يتعقبه السجود، ووقع في حديث جابر عند مسلم تطويل هذا الاعتدال، ولفظه: ثم رفع فأطال ثم سجد. قال النووي: هي رواية شاذة مخالفة لرواية الأكثرين، فلا يعمل بها، أو المراد زيادة الطمأنينة في الاعتدال لا إطالته نحو الركوع. وتعقب بما رواه النسائي وابن خزيمة وغيرهما من حديث عبد الله بن عمرو أيضاً ففيه: ثم ركع فأطال حتى قيل: لا يرفع، ثم رفع فأطال حتى قيل: لا يسجد، ثم سجد فأطال حتى قيل: لا يرفع، ثم رفع فجلس فأطال الجلوس حتى قيل: لا يسجد، ثم سجد. لفظ ابن خزيمة من طريق الثوري عن عطاء بن السائب عن أبيه عنه. قال الحافظ: والثوري سمع من عطاء قبل الاختلاط، فالحديث صحيح – انتهى. قلت: قد صرح الشافعية والحنابلة في فروعهم بعدم تطويل الاعتدال الذي يلي السجود، وهو مقتضى مذهب الحنفية والمالكية، وكأنهم اتفقوا على عدم مشروعية هذا الاعتدال، وهذا ليس بشيء بعد ما ثبت بالسنة الصحيحة الصريحة، وعدم ذكره في باقي الروايات أي السكوت عنه لا يدل على شذوذه، ولم يذكر في حديث ابن عباس تطويل السجود، ولكنه مذكور في حديث عائشة وغيرها، وقد تقدم الكلام في هذا، قال الحافظ: ولم أقف في شيء من الطرق على تطويل الجلوس بين السجدتين إلا في حديث عبد الله بن عمرو، وقد

ثم قام فقام قياماً طويلاً، وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً، وهو دون الركوع الأول، ثم رفع فقام قياماً طويلاً، ـــــــــــــــــــــــــــــ نقل الغزالي الاتفاق على ترك إطالته، فإن أراد الاتفاق المذهبي فلا كلام وإلا فهو محجوج بهذه الرواية – انتهى. وقال النووي في الأذكار: قال أصحابنا: لا يطول الجلوس بين السجدتين، بل يأتي به على العادة في غيرها، وهذا الذي قالوه فيه نظر، فقد ثبت في حديث صحيح إطالته، وقد ذكرت ذلك واضحاً في شرح المهذب، فالاختيار استحباب إطالته – انتهى. قال صاحب الأوجز: وهكذا ينبغي للحنفية أن يصرحوا باستحباب تطويله؛ لأن الرواية التي استدلوا بها في الكسوف صريحة في تطويله، وفي مسند أبي حنيفة من حديث ابن عمر: فكان جلوسه بين السجدتين قدر سجوده ... الحديث. (ثم قام) أي إلى الركعة الثانية (فقام قياما طويلاً) كذا في البخاري في باب كفران العشير من كتاب النكاح، وفي مسلم: ثم قام قياماً طويلاً، أي من غير تكرار قام، وكذا في البخاري في باب صلاة الكسوف جماعة. (وهو دون القيام الأول) يحتمل أن يراد منه القيام الأول من الركعة الأولى أو القيام الذي يليه. قال ابن عبد البر: أي ذلك كان فلا حرج إن شاء الله تعالى. وفي المدونة قال مالك: إنما يعني دون القيام الذي يليه، وكذلك قال في الركوع إنما يعني دون الركوع الذي يليه، وقال ابن بطال: لا خلاف أن الركعة الأولى بقيامها وركوعيها تكون أطول من الركعة الثانية بقيامها وركوعيها، وقال النووي: اتفقوا على أن القيام الثاني وركوعه فيهما أقصر من القيام الأول وركوعه فيهما، واختلفوا في القيام الأول من الثانية وركوعه هل هما أقصر من القيام الثاني من الأولى وركوعه أو يكونان سواء؟ قيل: وسبب هذا الخلاف فهم معنى قوله: وهو دون القيام الأول، هل المراد به الأول من الثانية أو يرجع إلى الجميع؟ فيكون كل قيام دون الذي قبله، ورواية الإسماعيل لحديث عائشة بلفظ: الأولى فالأولى أطويل، تعين هذا الثاني ويرجحه أيضاً أنه لو كان المراد من قوله: القيام الأول، أول قيام من الأولى فقط لكان القيام الثاني والثالث مسكوتاً عن مقدارهما فالأول أكثر فائدة، كذا في الفتح. قلت: وقدر الشافعية هذه القيام الثالث بنحو سورة النساء، والرابع بنحو المائدة، وأشكل بأن الراجح المختار أن القيام الثالث أقصر من الثاني، والنساء أطول من آل عمران، وأجاب الزرقاني بأنه إذا أسرع بقراءتها ورتل آل عمران كانت أطول، وقال السبكي في شرح المنهاج: قد ثبت بالأخبار تقدير القيام الأول بنحو البقرة وتطويله على الثاني والثالث، ثم الثالث على الرابع. وأما نقص الثالث عن الثاني أو زيادته عليه فلم يرد فيه شيء فيما أعلم فلأجله لا بعد في ذكر سورة النساء فيه وآل عمران في الثاني، نعم إذا قلنا بزيادة ركوع ثالث فيكون أقصر من الثاني. ذكره القسطلاني. (ثم ركع ركوعاً) ثالثاً طويلاً (وهو دون الركوع الأول) قدروه بنحو سبعين آية (ثم رفع) رأسه من الركوع الثالث (فقام قياماً) رابعاً (طويلاً) وقدروه بنحو المائدة

وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً، وهو دون الركوع الأول، ثم رفع، ثم سجد، ثم انصرف وقد تجلت الشمس، فقال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا يخسفان لموت أحد ـــــــــــــــــــــــــــــ (وهو دون القيام الأول) أي الثالث (ثم ركع ركوعاً) رابعاً (طويلاً) وقدروه بنحو خمسين آية تقريباً (وهو دون الركوع الأول) أي الثالث (ثم رفع) رأسه للقومة (ثم سجد) أي سجدتين كذلك (ثم انصرف) من الصلاة (وقد تجلت الشمس) بفوقية وشد لام أي انكشفت، وفي حديث جابر عند مسلم: فانصرف وقد آضت الشمس، وعند أبي داود: فقضى الصلاة وقد طلعت الشمس، وفي حديث قبيصة عند النسائي: فوافق انصرافه انجلاء الشمس، وفي حديث عبد الله بن عمرو عند أبي داود ففرغ من صلاته وقد امحصت الشمس، والمراد أنه انصرف من الصلاة بالسلام بعد التشهد، والحال أن الشمس انجلت بين جلوسه للتشهد والسلام، كما في حديث عبد الله بن عمر، وعند البخاري: ثم جلس ثم جلى عن الشمس، وفي حديث سمرة عند أبي داود والنسائي: فوافق تجلي الشمس جلوسه في الركعة الثانية ثم سلم، وفي حديث عبد الله بن عمرو عند النسائي: ثم رفع رأسه – أي من السجدة – وانجلت الشمس، وفي حديث أبي بن كعب الآتي: ثم جلس كما هو مستقبل القبلة يدعو حتى انجلى كسوفها، فهذه الروايات كلها تدل على أن الانجلاء كان في الجلوس آخر الصلاة، وحديث عبد الرحمن بن سمرة عند مسلم يدل بظاهره أن انجلاء الشمس وقع قبل الشروع في الصلاة، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ابتدأ صلاة الكسوف بعد الانجلاء، وهو خلاف جميع الروايات وخلاف ما ذهب إليه العلماء، وسيأتي توجيهه. (فقال) بإلفاء، وللأصيلي: وقال. ذكره القسطلاني يعني أنه خطب فقال في خطبته بعد الحمد والثناء على الله. (إن الشمس والقمر) فيه إيماء إلى أن حكم صلاة كسوف الشمس وخسوف القمر واحد. (آيتان) أي علامتان (من آيات الله) أي الدالة على وحدانيته وقدرته وعظمته أو على تخويف عباده من بأسه وسطوته، ويؤيده قوله تعالى: {وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً} [الإسراء: 59] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي بكرة وأبي موسى عند البخاري: يخوف الله بهما عباده)) أو أنهما مسخران لقدرة الله وتحت حكمه ليس لهما سلطان في غيرهما ولا قدرة على الدفع عن أنفسهما. (لا يخسفان) بفتح فسكون فكسر على أنه لازم، ويجوز ضم أوله على متعدٍ أي لا يذهب الله نورهما، وأتى بالتذكير تغليباً للقمر طبق القمرين. (لموت أحد) من العظماء كما توهمه بعض الناس تبعاً لما كان يعتقده أهل الجاهلية أن كسوف الشمس والقمر لا يكون إلا لموت عظيم، وقد وقع في رواية للبخاري من حديث أبي بكرة بيان سبب هذا القول، ولفظها: وذلك أن ابناً للنبي - صلى الله عليه وسلم - يقال له إبراهيم مات، فقال الناس في ذلك، وعند ابن حبان: فقال الناس: إنما كسفت الشمس لموت إبراهيم، وفي حديث النعمان بن بشير الآتي: ثم

ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله، قالوا: يا رسول الله! رأيناك تناولت شيئاً في مقامك هذا، ثم رأيناك تعكعكت، فقال: إني رأيت الجنة، ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: إن أهل الجاهلية كانوا يقولون: إن الشمس والقمر لا ينخسفان إلا لموت عظيم ... الخ، وفي هذا الحديث إبطال ما كان أهل الجاهلية يعتقدونه من تأثير الكواكب في الأرض، وهو نحو قوله في الحديث المشهور: ((يقولون مطرنا بنوء كذا ... )) ، قال الخطابي: كانوا في الجاهلية يعتقدون أن الكسوف يوجب حدوث تغير في الأرض من موت أو ضرر، فأعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه اعتقاد باطل، وأن الشمس والقمر خلقان مسخران ليس لهما سلطان في غيرهما ولا قدرة على الدفع عن أنفسهما. (ولا لحياته) أي لولادته، وهي تتمة للتقسيم وإلا فلم يدع أحد أن الكسوف لحياة أحد أو ذكر لدفع توهم من يقول: لا يلزم من نفي كونه سبباً للفقدان لا يكون سبباً للإيجاد، فعمم الشارع النفي لدفع هذا التوهم. (فإذا رأيتم ذلك) أي الكسوف في أحد منهما لاستحالة كسوفهما معاً في وقت واحد عادة، واستدل به على مشروعية صلاة خسوف القمر (فاذكروا الله) بالصلاة والتسبيح والتكبير والدعاء والتهليل والاستغفار وسائر الأذكار (تناولت شيئاً) أي قصدت تناول شيء وأخذه كذا للأكثر: تناولت، بصيغة الماضي، وفي رواية الكشمهيني: تناول، بحذف إحدى التائين تخفيفاً وضم اللام بالخطاب من المضارع، ويروى تتناول على الأصل بإثباتها (في مقامك هذا) أي في الموضع الذي صليت فيه (تكعكعت) بتاء مثناة فوقية في أوله وكافين مفتوحتين ومهملتين ساكنتين بعد كل منهما، أي تأخرت أو تقهقرت، وفي رواية: كعكعت، بحذف التاء أوله، وهو يقتضي مفعولاً أي رأيناك كعكعت نفسك، قال أبوعبيد: كعكته فتكعكع، وهو يدل على أن كعكع متعدٍ وتكعكع لازم، واختلف في أنه ثلاثي مزيد أو رباعي مجرد، وقول الجوهري وغيره يدل على أنه ثلاثي مزيد فيه؛ لأنه نقل عن يونس كع يكع بالضم. وقال سيبويه: بالكسر أجود كمد وفر إذا نكص على عقيبه، وفي رواية مسلم: رأيناك كففت أي نفسك بفائين خفيفتين من الكف وهو المنع (فقال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (إني رأيت الجنة) أي رؤية عين بأن الحجب كسفت له دونها فرآها على حقيقتها وطويت المسافة بينهما حتى أمكنه أن يتناول منها كبيت المقدس حيث وصفه لقريش، وهذا أشبه بظاهر هذا الحديث، ويؤيده ما روى البخاري من حديث أسماء في أوائل صفة الصلاة بلفظ: ((دنت مني الجنة حتى لو اجترأت عليها لجئتكم بقطاف من قطافها)) . ومنهم من حمله على أنه مثلت له في الحائط كما تنطبع الصورة في المرآة فرأى جميع ما فيها، ويؤيده حديث أنس عند البخاري في كتاب التوحيد: ((لقد عرضت علي الجنة والنار آنفاً في عرض هذا الحائط وأنا أصلي)) ، وفي رواية: ((لقد مثلت)) ، ولمسلم (لقد صورت)) ، ولا يقال: إن الانطباع إنما هو في الأجسام

فتناولت منها عنقوداً، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار ـــــــــــــــــــــــــــــ الصقيلة؛ لأن ذلك شرط عادي فيجوز أن تنخرق العادة خصوصاً للنبي - صلى الله عليه وسلم -، لكن هذه قصة أخرى وقعت في صلاة الظهر، ولا مانع أن يرى الجنة والنار مرتين بل مراراً على صور مختلفة، وأبعد من قال: إن المراد بالرؤية رؤية العلم، قال القرطبي: لا إحالة في بقاء هذه الأمور على ظواهرها، ولاسيما على مذهب أهل السنة أن الجنة والنار قد خلقتا، وهما موجودتان الآن، فيرجع إلى أن الله تعالى خلق لنبيه إدراكاً خاصاً به أدرك الجنة والنار على حقيقتهما (فتناولت) بين سعيد بن منصور في سننه من وجه آخر أن التناول كان حين قيامه الثاني من الركعة الثانية، ذكره الحافظ. (منها) أي من الجنة (عنقوداً) بضم العين، وهو من العنب ونحوه ما تراكم من حبه، وقيل: المراد قطعة من العنب (ولو أخذته) وفي رواية أخرى للبخاري: ((ولو أصبته)) ، واستشكل هذا مع قوله: ((فتناولت)) ، وأجيب بأنه يحمل التناول على تكلف الأخذ لا حقيقة الأخذ. وقيل: المراد تناولت لنفسي، ولو أخذته لكم وأعطيتكم، حكامه الكرماني وليس بجيد. وقيل: المراد بقوله: تناولت، وضعت يدي عليه بحيث كنت قادراً على تحويله، لكن لم يقدر لي قطفه ولو أخذته أي لو تمكنت من قطفه، يدل عليه قوله في حديث عقبة بن عامر عند ابن خزيمة: أهوى بيده ليتناول شيئاً، وفي حديث أسماء المذكور: حتى لو اجترأت عليها، وكأنه لم يؤذن له في ذلك فلم يجترئ عليه. وقيل: الإرادة مقدرة، أي أردت أن أتناول ثم لم أفعل، ويؤيده حديث جابر عند مسلم: ((ولقد مددت يدي وأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه ثم بدا لي أن لا أفعل)) ، ومثله للبخاري من حديث عائشة في آخر الصلاة بلفظ: ((حتى لقد رأيتني أريد أن آخذ قطفاً من الجنة حين رأيتموني جعلت أتقدم)) ، ولعبد الرزاق من طريق مرسلة: ((أردت أن آخذ منها قطفاً لأريكموه فلم يقدر)) ، ولأحمد من حديث جابر ((فحيل بيني وبينه)) ، كذا في الفتح (لأكلتم منه) أي من العنقود (ما بقيت الدنيا) وجه ذلك أنه يخلق الله تعالى مكان كل حبة تقتطف حبة أخرى كما هو المروي في خواص ثمر الجنة، والخطاب عام في كل جماعة يتأتى منهم السماع والأكل إلى يوم القيامة لقوله ((ما بقيت الدنيا)) ، وسبب تركه - صلى الله عليه وسلم - تناول العنقود، قال ابن بطال: لأنه من طعام الجنة، وهو لا يفني والدنيا فانية لا يجوز أن يؤكل فيها ما لا يفنى. وقيل: لأنه لو تناوله ورآه الناس لكان إيمانهم بالشهادة لا بالغيب فيخشى أن يقع رفع التوبة والتكليف فلا ينفع نفساً إيمانها. وقيل: لأن الجنة جزاء الأعمال والجزاء بها لا يقع إلا في الآخرة. (ورأيت النار) كانت رؤيته - صلى الله عليه وسلم - النار قبل رؤيته للجنة لما وقع في رواية عبد الرزاق المذكورة ((عرضت على النبي - صلى الله عليه وسلم - النار فتأخر عن مصلاه حتى أن الناس ليركب بعضهم بعضاً، وإذا رجع عرضت عليه الجنة فذهب يمشي حتى وقف في مصلاه)) ، ولمسلم من حديث جابر: ((لقد جيء بالنار حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها)) ، وفيه: ((ثم جيء بالجنة

فلم أر كاليوم منظراً قط أفظع، ـــــــــــــــــــــــــــــ وذلك حين رأيتموني تقدمت حتى قمت في مقامي)) ، وزاد فيه ((ما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاته هذه)) ، واللام في النار للعهد أي رأيت نار جهنم (فلم أر كاليوم) أي مثل اليوم، والمراد من اليوم الوقت الذي هو في (منظراً) منصوب بلم أر (قط) بتشديد الطاء ظرف للماضي أي أبداً، قال القاري: أي لم أر منظراً مثل منظر اليوم، فقوله كاليوم صفة منظراً فلما قدم نصب على الحال (أفظع) أي أقبح وأبشع وأشنع وأسوأ، كذا وقع في جميع النسخ الموجودة للمشكاة، وكذا في النسخ الموجودة للموطأ من طبعات الهند، ولفظ المصابيح فلم أر كاليوم منظراً أفظع قط منها، ولفظ البخاري في النكاح من طريق عبد الله بن يوسف عن مالك عن زيد بن أسلم والنسائي من طريق ابن القاسم عن مالك ومسلم من طريق حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم بلفظ: فلم أر كاليوم منظراً قط أي بدون لفظ أفظع، وكذا وقع في نسخ الموطأ من طبعات مصر، ورواه البيهقي من طريق القعنبي بلفظ: فلم أر كاليوم منظراً أفظع منها، قال البيهقي: ورواه الشافعي أي عن مالك ولم يذكر قوله أفظع منها والباقي سواء – انتهى. ورواه البخاري في صلاة الكسوف من طريق القعنبي بلفظ: فلم أر منظراً كاليوم قط أفظع، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7 ص116) قال الحافظ: أي لم أر منظراً مثل منظر رأيته اليوم فحذف المرئي وأدخل التشبيه على اليوم لبشاعة ما رأى فيه وبعده عن النظر المألوف، وقيل: الكاف اسم، والتقدير: ما رأيت مثل منظر هذا اليوم منظراً، وقال القسطلاني: منظراً نصب بأر وأفظع صفة للمنصوب وكاليوم قط اعتراض بين الصفة والموصوف، وأدخل كاف التشبيه عليه لبشاعة ما رأى فيه، وجوز الخطابي في أفظع وجهين: أن يكون بمعنى فظيع كأكبر بمعنى كبير، وأن يكون أفعل تفضيل على بابه على تقدير منه فصفة فعل التفضيل محذوفة. قال ابن السيد: العرب تقول: ما رأيت كاليوم رجلاً، وما رأيت كاليوم منظراً، والرجل والمنظر لا يصح أن يشبها باليوم، والنحاة تقول معناه ما رأيت كرجل أراه اليوم رجلاً وما رأيت كمنظر رأيته اليوم منظراً، وتلخيصه: ما رأيت كرجل اليوم رجلاً وكمنظر اليوم منظراً، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وجازت إضافة الرجل والمنظر إلى اليوم لتعلقهما به وملابستهما له باعتبار رؤيتهما فيه، وقال غيره: الكاف هنا اسم، وتقديره: ما رأيت مثل منظر هذا اليوم منظراً، ومنظراً تمييز، ومراده باليوم الوقت الذي هو فيه، ذكره الدماميني والبرماوي، لكن تعقب الدماميني الأخير وهو قوله وقال غيره ... الخ بأن اعتباره في الحديث يلزم منه تقديم على عامله، والصحيح منعه. فالظاهر في إعرابه أن منظراً مفعول أرَ وكاليوم ظرف مستقر صفة له، وهو بتقدير مضاف محذوف، كما تقدم أي كمنظر اليوم، وقط ظرف لأر وأفظع حال من اليوم على

ورأيت أكثر أهلها النساء، قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: بكفرهن، قيل: يكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك التقدير، والمفضل عليه، وجارٌ ومجرور محذوفان، أي كمنظر اليوم حال كونه أفظع من غيره – انتهى. (ورأيت أكثر أهلها النساء) استشكل مع حديث أبي هريرة أن أدنى أهل الجنة منزلة من له زوجتان من الدنيا، ومقتضاه أن النساء ثلثا أهل الجنة، وأجيب بحمل حديث أبي هريرة على ما بعد خروجهن من النار، وما قيل: إنه خرج مخرج التغليظ والتخويف فهو لغو؛ لأنه إخبار عن الرؤية الحاصلة، وفي حديث جابر: ((وأكثر من رأيت فيها النساء اللاتي إن اؤتمنّ أفشين، وإن سئلن بخلن، وإن سألن إلحفن، وإن أعطين لم يشكرن)) فدل على أن المرئى في النار منهم من اتصف بصفات ذميمة، قال الحافظ: حديث ابن عباس يفسر وقت الرؤية في قوله - صلى الله عليه وسلم - لهن في خطبة العيد: ((تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار)) ، قال النووي: فيه دليل على أن بعض الناس اليوم معذب في جهنم. (قالوا) أي الصحابة (بم) كذا في البخاي في صلاة الكسوف بالباء أصله بما بالألف وحذفت تخفيفاً، أي بسبب أي شيء من الأعمال، وللبخاري في النكاح ((لم)) باللام، وكذا في مسلم والنسائي (قيل: يكفرن) بحذف همزة الاستفهام، والقائل أسماء بنت يزيد بن السكن التي تعرف بخطيبة النساء كما يدل عليه رواية البيهقي والطبراني من طريق شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد (قال يكفرن العشير) قال الحافظ: كذا للجمهور عن مالك بلا واو، وكذا عند مسلم من رواية حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم، ووقع في موطأ يحيى بن يحيى قال: ويكفرن العشير بزيادة واو، وقال ابن عبد البر: هكذا ليحيى وحده بالواو، ولم يزدها غيره، والمحفوظ عن مالك من رواية سائر الرواة بلا واو، قال الحافظ: ورواية يحيى وإن كانت شاذة، لكن معناها صحيح؛ لأن الجواب طابق السوال وزاد، وذلك أنه أطلق لفظ النساء فعم المؤمنة والكافرة، فلما قيل: أيكفرن بالله؟ فأجاب ويكفرن العشير ... الخ، وكأنه قال: نعم، يقع منهن الكفر بالله وغيره؛ لأن منهن من يكفر بالله، ومنهن من يكفر الإحسان، وقال ابن عبد البر: وجه رواية يحيى أن يكون الجواب لم يقع على وفق سؤال السائل لإحاطة العلم بأن من النساء من يكفر بالله فلم يحتج إلى جوابه؛ لأن المقصود في الحديث خلافه – انتهى. والعشير الزوج وحمله بعضهم على العموم، وقال: أراد به كل من يعاشرها من زوج أو غيره، والألف واللام على الأول للعهد، وعلى الثاني للجنس، قيل: لم يعد كفر العشير بالباء كما عدى الكفر بالله؛ لأن كفر العشير لا يتضمن معنى الاعتراف بخلاف الكفر مبينة للجملة الأولى على طريق أعجبني زيد وكرمه، وكفر الإحسان تغطيته وعدم الاعتراف به أو جحده وإنكاره، كما يدل عليه قوله (لو أحسنت إلى إحداهن الدهر) بالنصب على الظرفية، زاد في رواية البخاري في صلاة

ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط)) متفق عليه. 1497- (4) وعن عائشة نحو حديث ابن عباس، وقالت: ثم سجد فأطال السجود، ثم انصرف وقد انجلت الشمس، فخطب الناس، ـــــــــــــــــــــــــــــ الكسوف كله أي تمام عمر الرجل أو الزمان جميعه لقصد المبالغة والخطاب في أحسنت لكل من يصلح لذلك من الرجال فهو خطاب خاص لفظاً عام معنى (شيئاً) أي ولو حقيراً لا يوافق هواها من أي نوع كان، وقيل: التنوين فيه للتقليل أي شيئاً قليلاً لا يوافق غرضها (خيراً) قليلاً (قط) أي في جميع ما مضى من العمر، وفي الحديث المبادرة إلى الطاعة عند رؤية ما يحذر منه واستدفاع البلاء بذكر الله وأنواع طاعته وتحريم كفران الحقوق ووجوب شكر المنعم وغير ذلك من الفوائد الكثيرة التي ذكرت في شرحي البخاري للحافظ والعيني وشرح مسلم للنووي (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد (ج1 ص298، 358) ومالك وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج3 ص321) . 1497- قوله (وعن عائشة نحو حديث ابن عباس) برفع نحو أي مثل حديثه في المعنى (ثم سجد فأطال السجود) كالركوع (ثم انصرف) عن الصلاة بالسلام بعد التشهد (وقد انجلت الشمس) بنون بعد ألف الوصل أي صفت وانكشفت (فخطب الناس) هذا ظاهر في الدلالة على أن لصلاة الكسوف خطبة، قال العيني: حديث الباب صريح في الخطبة، وبها قال الشافعي وإسحاق وابن جرير وفقهاء أصحاب الحديث، وقال أبوحنيفة ومالك وأحمد: لا خطبة فيها. قالوا: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بالصلاة والتكبير والصدقة ولم يأمرهم بالخطبة، ولو كانت سنة لأمرهم بها، وإنما خطب - صلى الله عليه وسلم - بعد الصلاة ليعلمهم حكمها فكأنه مختص به. وقيل: خطب بعدها لا لها بخصوصها بل ليردهم عن قولهم: إن الشمس كسفت لموت إبراهيم وليخبرهم بما رأى في الصلاة من الجنة والنار وغيرهما من الآيات، كما في الحديث، ولذا خطب بعد الانجلاء، ولو كانت سنة لخطب قبله كالصلاة والدعاء. وأجيب عن الأول بأن المشروعية والسنية لا تتوقف على البيان بالقول بل تثبت بفعله - صلى الله عليه وسلم - أيضاً، وههنا قد ورد ذكر الخطبة بعد صلاة الكسوف في أحاديث كثيرة صحيحة فلا شك في مشروعيتها واستحبابها، وعن الثاني بما في الأحاديث الصحيحة من التصريح بالخطبة وحكاية شرائطها من الحمد والثناء والموعظة وغير ذلك مما تضمنته الأحاديث فلم يقتصر على الإعلام بسبب الكسوف والإخبار بما رأى من الجنة والنار وغيرهما من الآيات، كما لا يخفى على من تأمل في حديث أسماء وحديث عائشة متفق عليهما، وحديث جابر عند مسلم وحديث سمرة عند أحمد والحاكم، والأصل مشروعية الاتباع والخصائص لا تثبت إلا بدليل، وقال ابن دقيق العيد: العذر المذكور

فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا ـــــــــــــــــــــــــــــ ضعيف؛ لأن الخطبة لا تنحصر مقاصدها في شيء معين بعد الإتيان بما هو المطلوب منها من الحمد والثناء والموعظة، وقد يكون بعض هذه الأمور داخلاً في مقاصدها مثل ذكر الجنة والنار وكونهما من آيات الله، بل هو كذلك جزماً – انتهى. قال الحافظ: وجميع ما ذكر من سبب الكسوف وغيره هو من مقاصد خطبة الكسوف فينبغي التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فيذكر الإمام ذلك في خطبة الكسوف – انتهى. وذكر الزيلعي كلام ابن دقيق العيد بتمامه ولم يتعقبه بشيء. قال صاحب الهداية من الحنفية: ليس في الكسوف خطبة؛ لأنه لم ينقل. وتعقب بأن الأحاديث قد ثبتت فيه، وهي ذات كثرة، قال الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص236) بعد ذكر كلام صاحب الهداية المذكور: هذا غلط، ثم ذكر أحاديث أسماء وابن عباس وعائشة متفق عليها، وحديث جابر عند مسلم، وحديث سمرة عند أحمد وحديث عمرو بن العاص عند ابن حبان، وكلها مشتمل على ذكر الخطبة، وما قال فيها، وقال الحافظ في الدراية (ص138) بعد ذكر كلام صاحب الهداية: وهذا النفي مردود بما في الصحيحين عن أسماء: ثم انصرف بعد أن تجلت الشمس فقام فخطب الناس فحمد الله تعالى وأثنى عليه....الحديث، وفي المتفق أيضاً عن ابن عباس وعائشة، ولمسلم عن جابر ولأحمد والحاكم عن سمرة ولابن حبان عن عمرو بن العاص – انتهى. قال بعض الحنفية: لعل مراد صاحب الهداية بقوله: "لم ينقل" أي الأمر بها كما نقل الأمر بالصلاة والذكر والدعاء وغير ذلك. قلت: صاحب الهداية قد نفى نقل الخطبة مطلقاً، وهو الذي فهمه الزيلعي والحافظ، ولذلك اتفقا على تغليطه والرد عليه، والاحتمال الذي ذكره هذا البعض خلاف الظاهر فهو مردود. واحتج بعض أصحاب مالك على ترك الخطبة بأنه لم ينقل في الحديث أنه صعد المنبر. وقد زيفه ابن المنير بأن المنبر ليس شرطاً، ثم لا يلزم من أنه لم يذكر أنه لم يقع، قلت: ورد ذكر صعود المنبر صريحاً في حديث عائشة عند النسائي وحديث أسماء عند أحمد (ج6 ص354) ، قال الحافظ: صرح أحمد والنسائي وابن حبان في روايتهم بأنه صعد المنبر، وكذا قال الزيلعي في نصب الراية (فحمد الله وأثنى عليه) زاد النسائي والبيهقي والحاكم في حديث سمرة وشهد أنه عبد الله ورسوله. (فإذا رأيتم ذلك) أي الكسوف في أحدهما (فادعوا الله) قال القسطلاني: وللحموي والمستملي: ((فاذكروا الله)) ، بدل رواية الكشمهيني ((فادعوا الله)) انتهى. قال ابن الملك: إنما أمر بالدعاء لأن النفوس عند مشاهدة ما هو خارق للعادة تكون معرضة عن الدنيا ومتوجهة إلى الحضرة العلياء فتكون أقرب إلى الإجابة (وكبروا) أي عظموا الرب أو قولوا: الله أكبر (وصلوا) أي صلاة الكسوف والخسوف كما صليتم الآن، وروى البخاري عن أبي مسعود قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:

وتصدقوا، ثم قال: يا أمة محمد! والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، ـــــــــــــــــــــــــــــ إن الشمس والقمر لا يخسفان لموت أحد من الناس ولكنهما آيتان من آيات الله، فإذا رأيتموها (أي الآية) فقوموا فصلوا، قال الحافظ: استدل به على أنه لا وقت لصلاة الكسوف معين؛ لأن الصلاة علقت برؤية الكسوف، وهي ممكنة في كل وقت من النهار، وبهذا قال الشافعي ومن تبعه، واستثنى الحنفية أوقات الكراهة، وهو مشهور مذهب أحمد، وعن المالكية وقتها من حل النافلة إلى الزوال، وفي رواية إلى صلاة العصر. ورجح الأول بأن المقصود إيقاع هذه العبادة قبل الانجلاء، وقد اتفقوا على أنها لا تقضى بعد الانجلاء، فلو انحصرت في وقت لأمكن الانجلاء قبله فيفوت المقصود، ولم أقف في شيء من الطرق مع كثرتها على أنه - صلى الله عليه وسلم - صلاها الأضحى لكن ذلك وقع اتفاقاً، ولا يدل على منع ما عداه، واتفقت الطرق على أنه بادر إليها – انتهى. (وتصدقوا) لأن الصدقة تطفئ غضب الرب، وفي الحديث المبادرة بالصلاة وسائر ما ذكر من الدعاء والتكبير والصدقة عند الكسوف، قال الشاه ولي الله الدهلوي في حجة الله: الأصل فيها إن الآيات إذا ظهرت انقادت لها النفوس والتجأت إلى الله تعالى وانفكت عن الدنيا نوع انفكاك، فتلك الحالة غنيمة للمؤمن ينبغي أن يبتهل في الدعاء والصلاة وسائر أعمال البر، وأيضاً فإنها وقت قضاء الله الحوادث في عالم المثال، ولذلك يستشعر فيها العارفون الفزع وفزع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندها لأجل ذلك، وهي أوقات سريان الروحانية في الأرض، فالمناسب للمحسن أن يتقرب إلى الله في تلك الأوقات، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث النعمان: ((فإذا تجلى الله لشيء من خلقه خشع له)) ، وأيضاً فالكفار يسجدون للشمس والقمر فكان من حق المؤمن إذا رأى آية عدم استحقاقهما العبادة أن يتضرع إلى الله ويسجد له، وهو قوله تعالى: {لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن} [فصلت: 37] ليكون شعاراً للدين وجواباً مسكتاً لمنكريه – انتهى. (يا أمة محمد) فيه ذكر الباعث لهم على الامتثال وهو نسبتهم إليه - صلى الله عليه وسلم -، قاله القاري، وقيل: خاطبهم بذلك إظهاراً لمعنى الشفقة، كما يقول أحد: يا بني، وعدل عن يا أمتي لأن المقام مقام تخويف وتحذير، وفي قوله: ((أمتي)) إشعار بالتكريم (والله) أتى باليمين لإرادة التأكيد لخبره، وإن كان لا يرتاب في صدقه (ما من أحد أغير) أي أشد غيرة (من الله أن يزني عبده أو تزني أمته) أي على زنا عبده أو أمته، قال القسطلاني: برفع أغير صفة لأحد باعتبار المحل، والخبر محذوف منصوب أي موجوداً على أن ما حجازية – وهي تعمل عمل ليس -، أو يكون أحد مبتدأ وأغير خبره على أن ما تميمية، ويجوز نصب أغير على أنه خبر ما الحجازية، و"من" زائدة للتأكيد وأن يكون مجروراً بالفتحة على الصفحة للمجرور باعتبار اللفظ والخبر المحذوف مرفوع على أن ما تميمية، وقوله ((أن يزني)) متعلق بأغير

يا أمة محمد! والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ وحذف الجار من أن قياس مستمر. قال الحافظ: أغير أفعل تفضيل من الغيرة بفتح الغين المعجمة، وهي في اللغة تغير يحصل من الحمية والأنفة، وأصلها في الزوجين والأهلين وكل ذلك محال على الله تعالى؛ لأنه منزه عن كل تغير ونقص فيتعين حمله على المجاز، فقيل: لما كانت ثمرة الغيرة صون الحريم ومنعم وزجر من يقصد إليهم أطلق عليه ذلك لكونه منع من فعل ذلك وزجر فاعله وتوعده فهو من باب تسمية الشيء بما يترتب عليه. وقال ابن فورك: المعنى ما أحد أكثر زجراً عن الفواحش من الله تعالى. وقال غيره: غيرة الله ما يغير من حال العاصي بانتقامه منه في الدنيا والآخرة أو في أحدهما، ومنه قوله تعالى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} [الرعد: 11] ، وقال ابن دقيق العيد: أهل التنزيه في مثل هذا على قولين إما ساكت وإما مؤول، على أن المراد بالغيرة شدة المنع والحماية، فهو من مجاز الملازمة، وقال الطيبي: وجه اتصال هذا المعنى بما قبله من قوله: ((فادعوا الله وكبروا ... )) الخ، من جهة أنهم لما أمروا باستدفاع البلاء بالدعاء والذكر والتكبير والصلاة والتصدق ناسب ردعهم عن المعاصي التي هي من أسباب جلب البلاء وخص منها الزنا؛ لأنه أعظمها في ذلك. وقيل: لما كانت هذه المعصية من أقبح المعاصي وأشدها تأثيراً في إثارة النفوس وغلبة الغضب ناسب ذلك تخويفهم في هذا المقام من مؤاخذة رب الغيرة وخالقها سبحانه وتعالى. ولعل تخصيص العبد والأمة بالذكر رعاية لحسن الأدب مع الله تعالى لتنزيهه عن الزوجة والأهل ممن يتعلق بهم الغيرة غالباً – انتهى كلام الحافظ، وقيل: الغيرة من صفات الكمال، فتثبت لله تعالى كما هو مدلول اللغة، ولا دليل على صرفه عن ظاهر معناه، وما ذكروه من حقيقته فهو بالنسبة إلينا، والله جل وعلا منزه عن مماثلة المخلوقات، فكما إن ذاته ليست كذواتنا فصفاته ليست كصفاتنا ولله المثل الأعلى. (لو تعلمون ما أعلم) قال الباجي: يريد أنه – عليه الصلاة والسلام – خصه الله تعالى بعلم لا يعلمه غيره، ولعله ما أراه في مقامه من النار وشناعة منظرها. وقال النووي: لو تعلمون من عظم انتقام الله تعالى من أهل الجرائم وشدة عقابه وأهوال القيامة وما بعدها ما علمت، وترون النار كما رأيت في مقامي هذا وفي غيره لبكيتم كثيراً ولقل ضحككم لفكركم فيما علمتموه – انتهى. ولا يخفى أنهم علموا بواسطة خبره إجمالاً، فالمراد التفصيل كعلمه - صلى الله عليه وسلم -، فالمعنى لو تعلمون ما أعلم كما أعلم، وقيل: المعنى لو دام علمكم كما دام علمي، فإن علمه - صلى الله عليه وسلم - متواصل بخلاف علم غيره. (لضحكتم قليلاً) أي زماناً قليلاً أو مفعول مطلق، وقيل: القلة ههنا بمعنى العدم كما في قوله: قليل التشكي أي عديمه، والتقدير لتركتم الضحك ولم يقع منكم إلا نادراً لغلبة الخوف واستيلاء الحزن. (ولبكيتم كثيراً) خوفاً من الله تعالى أو لتفكركم فيما علمتموه، وقيل: المعنى لو علمتم من سعة

متفق عليه. 1498- (5) وعن أبي موسى قال: خسفت الشمس، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فزعاً يخشى أن تكون الساعة، ـــــــــــــــــــــــــــــ رحمة الله وحلمه وغير ذلك ما أعلم لبكيتم على ما فاتكم من ذلك، وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم الزجر عن كثرة الضحك والحث على كثرة البكاء والاعتبار بآيات الله، وفيه الرد على من زعم أن للكواكب تأثيراً في الأرض لانتفاء ذلك عن الشمس والقمر فكيف بما دونهما. ومن حكمة وقوع الكسوف، تبيين أنموذج ما سيقع في القيامة، وصورة عقاب من لم يذنب فكيف بمن له ذنب، والتنبيه على سلوك طريق الخوف مع الرجاء لوقع الكسوف بالكوكب ثم كشف ذلك عنه؛ ليكون المؤمن من ربه على خوف ورجاء، والإشارة إلى تقبيح من يعبد الشمس أو القمر (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد (ج6 ص164) ومالك والنسائي والبيهقي، وأخرجه أبوداود مختصراً على قوله: ((الشمس والقمر لا يخسفان لموت أحد – إلى قوله – وتصدقوا)) . 1498- قوله (خسفت الشمس) بفتح الخاء والسين (فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فزعاً) بكسر الزاي صفة مشبهة أو بفتحها مصدر بمعنى الصفة أو مفعول مطلق لفعل مقدر (يخشى) بالبناء للفاعل في محل النصب على الحال (أن تكون) في موضع النصب مفعول يخشى (الساعة) بالرفع على أن تكون تامة أو على أنها ناقصة، والخبر محذوف أن أن تكون الساعة قد حضرت أو نصب على أنها ناقصة واسمها محذوف أي تكون هذه الآية الساعة أي علامة حضورها. قال ابن دقيق العيد: فيه إشارة إلى دوام المراقبة لفعل الله وتجريد الأسباب العادية عن تأثيرها لمسبباتها، وفيه جواز الإخبار بما يوجبه الظن من شاهد الحال؛ لأن سبب الفزع يخفى عن المشاهدة لصورة الفزع فيحتمل أن يكون الفزع لغير ما ذكر، فعلى هذا فيشكل هذا الحديث من حيث أن للساعة مقدمات كثيرة لم تكن وقعت كفتح البلاد واستخلاف الخلفاء وخروج الخوارج ثم الأشراط كطلوع الشمس من مغربها والدابة والدجال والدخان وغير ذلك. ويجاب عن هذا بأجوبة: منها أن غلبة الخشية والدهشة وفجاءة الأمور العظام تذهل الإنسان عما يعلم. ومنها احتمال أن يكون الأمور المعلومة وقوعها بينه وبين الساعة كانت مقيدة بشرط يعني أن حالة استحضار إمكان القدرة غلبت على استحضار ما تقدم من الشروط؛ لاحتمال أن تكون تلك الأشراط كانت مشروطة بشرط لم يتقدم ذكره، فيقع المخوف بغير أشراط لفقد الشرط، ومنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدر وقوع الممكن لولا ما أعمله الله تعالى بأنه لا يقع قبل الأشراط، وجعل ما سيقع كالواقع إظهاراً لتعظيم شأن الكسوف

فأتى المسجد، فصلى بأطول قيام وركوع وسجود، ما رأيته قط يفعله، وقال: ـــــــــــــــــــــــــــــ وتنبيهاً لأمته أنه إذا وقع بعده يخشون أمر ذلك، لاسيما إذا وقع لهم ذلك بعد حصول الأشراط أو أكثر ويفزعون إلى ذكر الله والصلاة والصدقة ليدفع عنهم البلايا. ومنها أن راويه ظن أنه - صلى الله عليه وسلم - خشي أن تكون الساعة، وليس يلزم من ظنه أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - خشي ذلك حقيقة، بل خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - مستعجلاً مهتماً بالصلاة وغيرها من أمر الكسوف مبادراً إلى ذلك، وربما خاف أن يكون نوع عقوبة تحدث كما كان يخاف عند هبوب الريح، فظن الراوي خلاف ذلك ولا اعتبار بظنه. وفيه أن تحسين الظن بالصحابي يقتضي أنه لا يجزم ذلك إلا بتوقيف. ومنها لعله خشي أن يكون ذلك بعض المقدمات يعني خشي أن يكون الكسوف مقدمة لبعض الأشراط كطلوع الشمس من مغربها، ولا يستحيل أن يتخلل بين الخسوف والطلوع المذكور أشياء مما ذكر، وتقع متتالية بعضها أثر بعض مع استحضار قوله تعالى: {وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب} [النحل: 77] ، ومنها أن هذا تخييل من الراوي وتمثيل منه كأنه قال فزع فزعاً كفزع من يخشى أن تكون الساعة، وإلا فالنبي - صلى الله عليه وسلم - كان عالماً بأن الساعة لا تقوم وهو فيهم، وقد وعده الله مواعد لم تتم ولم تقع بعد، وإنما كان فزعه عند ظهور الآيات كالخسوف والزلازل والريح الصواعق شفقاً على أهل الأرض أن يأتيهم عذاب الله كما أتى من قبلهم من الأمم لا عن قيام الساعة (فأتى المسجد) أي مسجد المدينة، قال ابن دقيق العيد: في الحديث دليل على أن سنة صلاة الكسوف في المسجد وهو المشهور عن العلماء، وخير بعض أصحاب مالك بين المسجد والصحراء، والصواب: المشهور الأول، فإن هذه الصلاة تنتهي بالانجلاء، وذلك مقتض لأن يعتني بمعرفته ويراقب حال الشمس، فلولا أن المسجد أرجح لكانت الصحراء أولى؛ لأنها أقرب إلى إدراك حال الشمس في الانجلاء وعدمه، وأيضاً فإنه يخاف من تأخيرها فوات إقامتها بأن يشرع الانجلاء قبل اجتماع الناس وبروزهم – انتهى. (ما رأيته قط يفعله) أي ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل مثله، كذا في جميع النسخ الموجودة للمشكاة بذكر كلمة ما قبل رأيته، وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7 ص118) وفي نسخ البخاري من طبعات الهند ومصر الحاضرة عندنا رأيته قط يفعله أي بدون حرف النفي قبل رأيته، لكن قال العيني في كثير من النسخ أي للبخاري وقعت على الأصل وهو ما رأيته قط يفعله – انتهى. ولفظ مسلم والنسائي والبيهقي: ما رأيته يفعله في صلاة قط، قال العيني: كلمة "قط" لا تقع إلا بعد الماضي المنفي، ووجه النسخة التي هي بغير لفظ ما أن يقدر حرف النفي كما في قوله تعالى: {تالله تفتؤ تذكر يوسف} [يوسف 85] ، أي لا تفتؤ ولا تزال تذكره تفجعاً، فحذف لا أو أن لفظ أطول فيه معنى عدم المساواة أي بما لم يساو قط قياماً رأيته يفعله، أو قط بمعنى حسب أي صلى في تلك اليوم فحسب بأطول قيام رأيته يفعله أو تكون بمعنى أبداً لكن إذا كانت بمعنى حسب تكون القاف مفتوحة والطاء ساكنة (وقال) أي في خطبته بعد فراغه من

هذه الآيات التي يرسل الله، لا تكون لموت أحد ولا لحياته، ولكن يخوف الله بها عباده، ـــــــــــــــــــــــــــــ صلاة الكسوف (هذه الآيات) أي كسوف النيرين والزلزلة وهبوب الريح الشديدة (ولكن يخوف الله بها) أي بالآيات (عباده) قال الله تعالى: {وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً} قال القسطلاني: فالكسوف من آياته تعالى المخوفة، إما أنه آية من آيات الله فلأن الخلق عاجزون عن ذلك، وإما أنه من الآيات المخوفة فلأن تبديل الطاعا بعد الإيمان الصلاة. وفيه رد على أهل الهيئة حيث قالوا: إن الكسوف أمر عادي لا تأخير فيه ولا تقديم؛ لأنه لو كان كما زعموا لم يكن فيه تخويف ولا فزع، ولم يكن للأمر بالصلاة والصدقة معنى. ولئن سلمنا ذلك فالتخويف باعتبار أنه يذكر القيامة لكونه أنموذجاً قال الله تعالى: {فإذا برق البصر. وخسف القمر} الآية [القيامة: 7] ، ومن ثم قام – عليه السلام – فزعاً فخشي أن تكون الساعة، وكان – عليه السلام – إذا اشتد هبوب الرياح تغير ودخل وخرج خشية أن تكون الريح كريح عاد، وإن كان هبوب الرياح أمراً عادياً، وقد كان أرباب الخشية والمراقبة يفزعون من أقل من ذلك، إذ كل ما في العالم علويه وسفليه دليل على نفوذ قدرة الله تعالى وتمام قهره. وقد وقع في حديث النعمان بن بشير وغيره للكسوف سبب آخر غير ما يزعمه أهل الهيئة، وهو ما أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه وصححه ابن خزيمة والحاكم بلفظ: ((إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله، وإن الله إذا تجلى لشيء من خلقه خشع له)) ، وقد استشكل الغزالي هذه الزيادة، وقال: إنها غير صحيحة نقلاً، فيجب تكذيب ناقلها، وبنى ذلك على أن قول الفلاسفة في باب الكسوف والخسوف حق لما قام عليه من البراهين القطعية، وهو أن خسوف القمر عبارة عن انمحاء ضوئه بتوسط الأرض بينه وبين الشمس من حيث أنه يقتبس نوره من الشمس والأرض كرة، والسماء محيطة بها من الجوانب، فإذا وقع القمر في ظل الأرض انقطع عنه نور الشمس، وأن كسوف الشمس معناه وقوع جرم القمر بين الناظر والشمس، وذلك عند اجتماعهما في العقدتين على دقيقة واحدة. قال ابن القيم: إسناد هذه الرواية لا مطعن فيه ورواته ثقات حفاظ، ولكن لعل هذه اللفظة مدرجة في الحديث من كلام بعض الرواة، ولهذا لا توجد في سائر أحاديث الكسوف، فقد روى حديث الكسوف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بضعة عشر صحابياً فلم يذكر أحد منهم في حديثه هذه اللفظة، فمن ههنا نشأ احتمال الإدراج، وقال السبكي: قول الفلاسفة صحيح كما قال الغزالي، لكن إنكار الغزالي هذه الزيادة غير جيد، فإنه مروي في النسائي وغيره، وتأويله ظاهر فأي بعد في أن العالم بالجزئيات ومقدر الكائنات سبحانه يقدر في أزل الأزل خسوفهما بتوسط الأرض بين الشمس والقمر، ووقوف جرم القمر بين الناظر والشمس

فإذا رأيتم شيئاً من ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره)) متفق عليه. 1499- (6) وعن جابر قال: انكسفت الشمس في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم مات إبراهيم بن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ـــــــــــــــــــــــــــــ ويكون ذلك وقت تجليه سبحانه وتعالى عليهما، فالتجلي سبب لكسوفهما، قضت العادة بأنه يقارن توسط الأرض ووقوف جرم القمر، لا مانع من ذلك ولا ينبغي منازعة الفلاسفة فيما قالوا إذا دلت عليه براهين قطعية – انتهى. قال السندي: ويحتمل أن المراد إذا بدا – هذا لفظ أحمد والنسائي – أي بدو الفاعل للمفعول أي إذا تصرف في شيء من خلقه بما يشاء خشع له أي قبل ذلك ولم يأب عنه – انتهى. وقال ابن دقيق العيد: ربما يعتقد بعضهم الذي يذكره أهل الحساب ينافي قوله: ((يخوف الله بهما عباده)) وليس بشيء؛ لأن لله أفعالاً على حسب الأسباب العادية، وأفعالاً خارجة عن تلك الأسباب، وقدرته حاكمة على كل سبب ومسبب، فيقتطع ما يشاء من الأسباب والمسببات بعضها عن بعض، وإذا ثبت ذلك فأصحاب المراقبة لله ولأفعاله الذين عقدوا أبصار قلوبهم بوحدانيته وعموم قدرته على خرق العادة واقتطاع المسببات عن أسبابها وأنه يفعل ما يشاء، إذا وقع شيء غريب حدث عندهم الخوف لقوة اعتقادهم المذكور، وذلك لا يمنع أن يكون ثمة أسباب تجرى عليها العادة إلى يشاء الله تعالى خرقها، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - عند اشتداد هبوب الريح يتغير ويدخل ويخرج خشية أن تكون كريح عاد، وإن كان هبوب الريح موجوداً في العادة، وحاصله أن الذي يذكره أهل الحساب إن كان حقاً في نفس الأمر لا ينافي كون ذلك مخوفاً لعباد الله تعالى، وذكر ابن القيم في كتاب مفتاح السعادة توجيهاً آخر لذلك، وقد نقله السيوطي في حاشية النسائي فارجع إليها. (فإذا رأيتم شيئاً من ذلك) أي مما ذكر من الآيات (فافزعوا) بفتح الزاي أي التجأوا من عذابه أو توجهوا (إلى ذكره) ومنه الصلاة (ودعاء واستغفاره) يقال: فزعت إلى الشيء أي لجأت إليه، ويقال: فزعت إلى فلان فأفزعني أي لجأت إليه فألجأني واستعنت به فأعانني، في الحديث إشارة إلى المبادرة إلى ما أمر به، وتنبيه على الالتجاء إلى الله تعالى عند المخاوف بالدعاء والاستغفار، وإشارة إلى أن الذنوب سبب البلايا والعقوبات العاجلة أيضاً، وأن الاستغفار والتوبة سببان للمحو يرجى بهما زوال المخاوف. قال الحافظ: استدل بالحديث على أن الأمر لمبادرة إلى الذكر والدعاء والاستغفار وغير ذلك لا يختص بالكسوفين؛ لأن الآيات أعم من ذلك، ولم يقع في هذه الرواية ذكر الصلاة، فلا حجة فيه لمن استحبها عند كل آية، وقال العيني: قوله ((فافزعوا إلى ذكر الله)) حجة لمن قال ذلك؛ لأن الصلاة يطلق عليها ذكر الله؛ لأن فيها أنواعاً من ذكر الله تعالى. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً النسائي والبيهقي (ج3 ص340) . 1499- قوله (انكسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم مات إبراهيم بن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وأمه

فصلى بالناس ست ركعات بأربع سجدات. ـــــــــــــــــــــــــــــ مارية قبطية سرية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قد أهداها إليه المقوقس صاحب الاسكندرية ومصر، ولد في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة، وتوفي وهو ابن ستة عشر شهراً، وقيل: سبعة عشر، وقيل: ثمانية عشر، وهو أصح، ودفن بالبقيع، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن له مرضعاً يتم رضاعه في الجنة)) ، وقد ذكر جمهور أهل السير أنه مات بالمدينة في السنة العاشرة من الهجرة، ثم اختلفوا، فقيل: في ربيع الأول، وقيل: في رمضان، وقيل: في ذي الحجة، قيل: في عاشر الشهر، وعليه الأكثر، وقيل: في رابعه، وقيل: في رابع عشرة، ولا يصح شيء منها على قول ذي الحجة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذ ذاك بمكة في الحج، وقد ثبت أنه شهد وفاته وكانت بالمدينة بلا خلاف، نعم قيل: إنه مات سنة تسع، فإن ثبت يصح، وذكر الواقدي أنه مات يوم الثلاثاء لعشر ليال خلون من شهر ربيع الأول سنة عشر، وتقدم قول ابن تيمية: أنه من نقل أنه مات عاشر الشهر فقد كذب، وتقدم أيضاً الإشارة إلى تحقيق المرحوم محمود باشا الفلكي ليوم الكسوف الذي حصل في السنة العاشرة يوم مات فيه إبراهيم – عليه السلام -. وحاصله أن الشمس كسفت بالمدينة في الساعة 8 والدقيقة 30 صباحاً يوم الاثنين 29 شوال سنة 10 الموافق ليوم 27 يناير سنة 632 ميلادية، وعلى هذا يكون ولادته في جمادى الأولى سنة 9، وعمره ثمانية عشر شهراً أو سبعة عشر أو ستة عشر على اختلاف في الروايات بإدخال شهري الميلاد والوفاة على الأول وإخراجهما على الثالث وإدخال أحدهما على الثاني (فصلى بالناس ست ركعات) أي ركوعات إطلاقاً للكل وإرادة الجزء (بأربع سجدات) أي في ركعتين فيكون في كل ركعة ثلاث ركوعات وسجدتان، قال الطيبي: أي صلى ركعتين كل ركعة بثلاث ركوعات – انتهى. والحديث قد اختلف فيه على جابر، فروى عنه عطاء كما ترى فصلى بالناس ست ركعات، وروى عنه أبوالزبير أنه صلى ركعتين بأربع ركوعات، أخرجه مسلم وأحمد والنسائي، ورواية عطاء مع كونها في صحيح مسلم قد أعلها البيهقي، إذ قال (ج 3 ص326) بعد رواية حديث جابر من طريق عطاء مطولاً ما لفظه: من نظر في هذه القصة وفي القصة التي رواها أبوالزبير عن جابر علم أنه قصة واحدة، وأن الصلاة التي أخبر عنها إنما فعلها يوم توفي إبراهيم بن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد اتفقت رواية عروة بن الزبير وعمرة بنت عبد الرحمن عن عبد الله بن عمر، ورواية عطاء بن يسار وكثيرة بن عباس عن ابن عباس، ورواية أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمر، ورواية أبي الزبير عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما صلاها ركعتين في كل ركعة ركوعين، وفي حكاية أكثرهم قوله - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله ... )) الخ دلالة على أنه صلاها يوم توفي ابنه فخطب، وقال هذه المقالة رداً لقولهم: إنما كسفت لموته، وفي اتفاق هؤلاء العدد مع فضل حفظهم دلالة على أنه لم يزد في كل ركعة على ركوعين، كما ذهب إليه الشافعي ومحمد بن إسماعيل البخاري – رحمهما الله تعالى – انتهى. وحاصله أن رواية أبي الزبير عن جابر أرجح لاتفاق الشيخين على

رواه مسلم. 1500- (7) وعن ابن عباس قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين كسفت الشمس ثمان ركعات في أربع سجدات. وعن علي مثل ذلك. ـــــــــــــــــــــــــــــ تخريجها، ورواية عطاء مرجوحة لانفراد مسلم بها، وقد تقدم منا أن رواية تثليث الركوع وتربيعه في كل ركعة صحيحة، لكن رواية الركوعين في كل ركعة أصح وأكثر وأشهر فيجب ترجيحها وتتعين هي للعمل؛ لأنه إنما يؤخذ بالأصح، فالأصح من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والبيهقي (ج3 ص326) . 1500- قوله (ثمان ركعات) أي ركوعات (في أربع سجدات) يعني ركع ثمان مرات كل أربع في ركعة وسجد في كل ركعة سجدتين، وقد رواه مسلم من طريق آخر بلفظ: أنه صلى في كسوف قرأ ثم ركع ثم قرأ ثم ركع ثم قرأ ركع ثم قرأ ثم ركع ثم سجد، قال: والأخرى مثلها، والحديث يدل على أنه من جملة صفات صلاة الكسوف ركعتين في كل ركعة أربع ركوعات، وهو مع كونه في صحيح مسلم قد أعله البيهقي فقال (ج3 ص327) بعد روايته: وأما محمد بن إسماعيل البخاري فإنه أعرض عن هذه الروايات التي فيها خلاف رواية الجماعة، وقد روينا عن عطاء بن يسار وكثير بن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلاها ركعتين في كل ركعة ركوعان، وحبيب بن أبي ثابت وإن كان من الثقات فقد كان يدلس – وصفه بذلك ابن خزيمة والدارقطني وابن حبان وغيرهم -، ولم أجده ذكر سماعه في هذا الحديث عن طاوس، قال: وقد روى سليمان عن طاوس عن ابن عباس من فعله أنه صلاها ست ركعات في أربع سجدات، فخالفه في الرفع والعدد جميعاً – انتهى. وفيه أن إخراج مسلم لحديث حبيب بن أبي ثابت في صحيحه دليل على أنه ثبت عنده أنه متصل وأنه لم يدلس فيه. قال النووي: ما في الصحيحين عن المدلس بعن ونحوها فمحمول على ثبوت السماع من جهة أخرى، فالحديث صحيح، وأما رواية سليمان الموقوفة فلا تعلل بها الرواية المرفوعة الصحيحة؛ لأن العبرة لما روى الراوي لا لما رأى كذا قيل، وقد تقدم كلام ابن تيمية أن الصواب مع من أنكر على مسلم ونازعه في إخراجه حديث صلاة الكسوف بثلاث ركوعات وأربع ركوعات، وأن هذا من المواضع المنتقدة بلا ريب، وبالجملة هذا الحديث وإن كان مخرجاً في صحيح مسلم لكن العمل على روايات الركوعين لكونها أكثر وأصح وأشهر وأرجح، والله تعالى أعلم. (وعن علي مثل ذلك) أي وروي عنه مثل رواي ابن عباس، كذا أحاله على حديث ابن عباس ولم يذكر لفظه. وقد أسلفنا أن حديث علي في تربيع الركوع أخرجه أحمد والبيهقي عنه مرفوعاً من طريق

رواه مسلم. 1501- (8) وعن عبد الرحمن بن سمرة قال: كنت أرتمي بأسهم لي بالمدينة في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ كسفت الشمس، فنبذتها، فقلت: والله لأنظرن إلى ما حدث لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كسوف الشمس؟ قال: فأتيته وهو قائم في الصلاة، رافع يديه، فجعل يسبح ويهلل ويكبر ويحمد ويدعو ـــــــــــــــــــــــــــــ الحسن بن حر عن الحكم عن حنش عن علي، وقيل: المراد من قوله: وعن علي مثل ذلك، أي من فعله؛ لأنه لو كان من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لجعله حديثاً على حدة. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج3 ص327) . 1501- قوله (وعن عبد الرحمن بن سمرة) - بفتح السين المهملة وضم الميم وسكونها - ابن حبيب بن عبد شمس العبشمي يكنى أباسعيد، أسلم يوم فتح مكة، وصحب النبي - صلى الله عليه وسلم -، يقال: كان اسمه عبد كلال، وقيل غير ذلك، فسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الرحمن، وشهد غزوة تبوك مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم شهد فتوح العراق، وهو الذي افتتح سجستان وكابل وغيرهما في خلافة عثمان، ثم نزل البصرة ومات بها سنة (50) أو بعدها. (كنت أرتمي) افتعال من الرمي، أي أرمي كما وقع في رواية أخرى لمسلم: كنت أرمي أي باب ضرب، وفي أخرى له: بينما أتَرَمّى أي من باب التفعل، وفي بعض النسخ: أترامي، أي من باب التفاعل، قال في المجمع (ج2 ص40) : خرجت أرتمي بأسهمي، وروي أترامى رميت بالسهم، وارتميت وتراميت وراميت إذا رميت به عن القسي، وقيل: خرجت أرتمي إذا رميت القنص، وأترمى إذا خرجت ترمي في الأهداف ونحوها – انتهى. وقال النووي: قوله: كنت أرتمي بأسهم، أي أرمي، كما قاله في الرواية الأولى، يقال: أرمي وأرتمي وأترامي وأترَمّى كما قاله في الرواية الأخيرة (بأسهم) جمع سهم (في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي امتثالاً لقوله تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} [الأنفال: 40] ، فإنه صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فسرها بالرمي، وقال: ((من تعلم الرمي فتركه فليس منا)) ، (فنبذتها) أي وضعت السهام وألقيتها (فقلت) أي في نفسي (لأنظرن) أي لأبصرن (إلى ما حدث) أي تجدد من السنة (لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كسوف الشمس) زعم عبد الرحمن أنه لابد أن يقرر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكسوف شيئاً من السنن، فأراد أن ينظره (وهو قائم في الصلاة رافع يديه) قال النووي: فيه دليل لأصحابنا في رفع اليدين في القنوت، ورد على من يقول لا ترفع الأيدي في دعوات الصلاة

حتى حسر عنها، فلما حسر عنها قرأ سورتين وصلى ركعتين، رواه مسلم في صحيحه عن عبد الرحمن بن سمرة. ـــــــــــــــــــــــــــــ (حتى حسر عنها) على بناء المفعول أي أزيل الكسوف عن الشمس، ويحتمل أن لا يكون في "حسر" ضمير، ويكون مسنداً إلى الجار والمجرور، أي أزيل وكشف ما بها (فلما حسر عنها قرأ سورتين وصلى ركعتين) هذا صريح في أنه شرع في الصلاة بعد الانجلاء، وهو خلاف لسائر الروايات، فقال بعضهم: إن هذه الصلاة كانت تطوعاً مستقلاً بعد انجلاء الكسوف، لا أنها صلاة الكسوف، وهذا مخالف لظاهر قوله: فأتيته وهو قائم في الصلاة ... الخ، وقال في اللمعات: صلى ركعتين، أي أتم صلاته التي كان شرع فيها وحسر عنها في أثنائها، وقال الطيبي: يعني دخل في الصلاة ووقف في القيام الأول وطول التسبيح والتهليل والتكبير والتحميد حتى ذهب الخسوف، ثم قرأ القرآن وركع ثم سجد، ثم قام في الركعة الثانية وقرأ فيها القرآن وركع وسجد وتشهد وسلم – انتهى. وقال النووي بعد ذكر رواية مسلم بلفظ: فانتهيت إليه وهو رافع يديه يدعو ويكبر ويحمد ويهلل حتى جلي عن الشمس، فقرأ سورتين وركع ركعتين ما لفظه: هذا مما يستشكل ويظن أن ظاهره أنه ابتدأ صلاة الكسوف بعد انجلاء الشمس، وليس كذلك، فإنه لا يجوز ابتداء صلاتها بعد انجلائها، وقوله: فانتهيت إليه وهو رافع يديه، محمول على أنه وجده في الصلاة، كما في الرواية الأخرى: فأتيته وهو قائم في الصلاة، ثم جمع الراوي جميع ما جرى في الصلاة من دعاء وتكبير وتهليل وتحميد وتسبيح وقراءة سورتين في القيامين الأخيرين للركعة الثانية، وكانت السورتان بعد الانجلاء تتميماً للصلاة فتمت جملة الصلاة ركعتين، أولها في حال الكسوف، وآخرها بعد الانجلاء، وهذا الذي ذكرته من تقديره لابد منه جمعاً بين الروايتين؛ لأنه مطابق للرواية الثانية ولقواعد الفقه ولروايات باقي الصحابة – انتهى. لكن هذا الجواب لا يوافق رواية النسائي لحديث عبد الرحمن بن سمرة بلفظ: فأتيته مما يلي ظهره وهو في المسجد، فجعل يسبح ويكبر ويدعو حتى حسر عنها، قال: ثم قام فصلى ركعتين وأربع سجدات – انتهى. وعلى هذا فالترجيح لسائر الروايات التي تدل على أن انجلاء كان في جلوس التشهد بعد الركعة الثانية وقبل السلام، وظاهر هذا الحديث أنه صلى ركعتين كل ركعة بركوع، وهو أيضاً مستبعد بالنظر إلى سائر الروايات، وتأوله المازري على أنها كانت صلاة تطوع بعد الانجلاء لا صلاة كسوف فإنه إنما صلى بعد الانجلاء وابتداءها بعد الانجلاء لا يجوز، وضعفه النووي بمخالفة لقوله: فأتيته وهو قائم في الصلاة ... الخ، فتأوله هو على أن قوله: صلى ركعتين يعني في كل ركعة قيامان وركوعان – انتهى. وقال القرطبي: يحتمل أنه إنما أخبر عن حكم ركعة واحدة وسكت عن الركعة الأخرى – انتهى. وهذا يرده لفظ النسائي: فصلى ركعتين أو أربع سجدات، فالصواب أن يقال: إن الترجيح لروايات الركوعين في كل ركعة لكونها صريحة، ولكونها أصح وأشهر وأكثر، والله تعالى أعلم. (رواه مسلم في صحيحه عن عبد الرحمن بن سمرة) وأخرجه أيضا أحمد

{الفصل الثاني}

وكذا في شرح السنة عنه، وفي نسخ المصابيح عن جابر بن سمرة. 1502- (9) وعن أسماء بنت أبي بكر قالت: لقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعتاقة في كسوف الشمس، رواه البخاري. {الفصل الثاني} 1503- (10) عن سمرة بن جندب قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كسوف لا نسمع له صوتاً. ـــــــــــــــــــــــــــــ (ج5 ص61-62) وأبوداود والنسائي والحاكم (ج1ص129) ، والبيهقي (ج3 ص332) ، (وكذا في شرح السنة) للبغوي صاحب المصابيح (عنه) أي عن عبد الرحمن بن سمرة (وفي نسخ المصابيح عن جابر بن سمرة) أي بدل عبد الرحمن بن سمرة، فالظاهر أن ما في المصابيح من خطأ الناسخ وسهوه، ويؤيد ذلك رواية صاحب المصابيح هذا الحديث في شرح السنة عن عبد الرحمن بن سمرة، قال المؤلف: وجدت حديث عبد الرحمن بن سمرة في صحيح مسلم وكتاب الحميدي والجامع وفي شرح السنة بروايته، ولم أجد لفظ المصابيح في الكتب المذكورة برواية جابر بن سمرة، ذكره الطيبي، كذا في المرقاة. 1502- قوله (لقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعتاقة) بفتح العين المهملة أي الإعتاق يعني فك الرقاب من العبودية (في كسوف الشمس) فيه مشروعية الإعتاق عند الكسوف، والأمر محمول على الاستحباب دون الوجوب بالإجماع، والإعتاق وسائر الخيرات مأمور بها في خسوف الشمس والقمر؛ لأن الخيرات تدفع العذاب (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً أحمد ((ج6 ص345) وأبوداود والحاكم (ج1 ص332) والبيهقي (ج3 ص340) . 1503- قوله (في كسوف) أي للشمس كما في رواية أبي داود والنسائي وغيرهما (لا نسمع له صوتاً) قال القاري وغيره: هذا يدل على أن الإمام لا يجهر بالقراءة في صلاة كسوف الشمس – انتهى. وقال السندي: يمكن أنه حكاية لحال من كان مع سمرة في الصفوف البعيدة، ولا يلزم من عدم سماعهم نفي الجهر – انتهى. وكذا قال المجد بن تيمية في المنتقى، وابن حبان في صحيحه، لكن في رواية سمرة المطولة عند أبي داود والنسائي والبيهقي وغيرهم ما يدفع هذا الاحتمال كما لا يخفى على المتأمل، والصواب أن يقال: إن أحاديث الجهر – حديث عائشة المتقدم في أول الباب وحديث أسماء عند البخاري على ما ذكره الزيلعي في نصب الراية، وابن الهمام في فتح القدير، وحديث علي عند ابن خزيمة والطحاوي – نصوص صريحة في الجهر، وحديث سمرة وما في معناه إن ثبت

رواه الترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه. 1504- (11) وعن عكرمة قال: قيل لابن عباس: ماتت فلانة – بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فخر ساجداً، فقيل له: تسجد في هذه الساعة؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ ليس بنص في السر ونفي الجهر ولا يوازي أحاديث الجهر في الصحة، فيتعين تقديم أحاديث الجهر لكونها أصح، ولكونها متضمنة للزيادة ولكونها مثبتة (رواه الترمذي) وصححه (وأبوداود) وسكت عنه هو والمنذري (والنسائي وابن ماجه) وأخرجه أيضاً أحمد (ج5 ص16) وابن حبان والبيهقي (ج3 ص339) والطحاوي والحاكم (ج1 ص331، 334) وصححه، وقال ابن حزم في المحلى (ج5 ص102) : هذا لا يصح؛ لأنه لم يروه – عن سمرة – إلا ثعلبة بن عبّاد وهو مجهول – انتهى. وقال الحافظ في التهذيب (ج2 ص24) في ترجمة ثعلبة: هذا ذكره ابن المديني في المجاهيل الذين يروي عنهم الأسود بن قيس، وأما الترمذي فصحح حديثه، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن حزم: مجهول، وتبعه ابن القطان، وكذا نقل ابن المواق عن العجلي – انتهى. وقال في التلخيص: وأعله ابن حزم بجهالة ثعلبة بن عباد راويه عن سمرة، وقد قال ابن المديني: إنه مجهول، وقد ذكره ابن حبان في الثقات، مع أنه لا راوي له إلا الأسود بن قيس – انتهى. والحديث أخرجه الترمذي وابن ماجه مختصراً، وأبوداود وابن حبان مطولاً وأحمد والنسائي والحاكم والبيهقي مطولاً ومختصراً. 1504- قوله (وعن عكرمة) مولى ابن عباس (ماتت فلانة) هي صفية زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، ففي رواية للبيهقي (ج3 ص343) قال عكرمة: سمعنا صوتاً بالمدينة، فقال لي ابن عباس يا عكرمة! انظر ما هذا الصوت؟ قال: فذهبت فوجدت صفية بنت حيي امرأة النبي - صلى الله عليه وسلم - قد توفيت....الحديث، وفي تهذيب الكمال للحافظ المزي عن عكرمة قال: توفيت بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال إسحاق بن راهويه: أظنه سماها صفية بنت حيي بالمدينة، فأتيت ابن عباس فأخبرته ... الخ، كذا في حاشية تهذيب التهذيب (ج4 ص128) . (بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -) الظاهر أن الراوي نسي اسمها فكنى عنها بلفظ فلانة، ثم بين أن المراد بقوله فلانة بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو بالرفع بدل أو بيان أو خبر مبتدأ محذوف والنصب بتقدير يعني (فخر) أي سقط ووقع (ساجداً) أي آتياً بالسجود (فقيل له تسجد) بحذف الاستفهام (في هذه الساعة) وفي الترمذي وأبي داود والبيهقي: تسجد هذه الساعة، أي بحذف حرف الجر قبل هذه الساعة، وكان الوقت وقت كراهة الصلاة، فقاسوا عليها كراهة السجدة، ففي رواية البيهقي المذكورة: قال عكرمة: فجئت إلى ابن عباس فوجدته ساجداً ولما تطلع الشمس، فقلت: سبحان الله تسجد ولم تطلع الشمس

{الفصل الثالث}

فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا رأيتم آية فاسجدوا)) ، وأي آية أعظم من ذهاب أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -؟، رواه أبوداود، والترمذي. {الفصل الثالث} 1505- (12) عن أبي بن كعب قال: انكسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى بهم، فقرأ بسورة من الطول، ـــــــــــــــــــــــــــــ بعد ... الخ، وفي رواية تهذيب الكمال: فأتيت ابن عباس فأخبرته فسجد، فقلت له: أتسجد ولما تطلع الشمس ... الخ، (إذا رأيتم آية) أي علامة مخوفة، قال الطيبي: قالوا: المراد بها العلامات المنذرة بنزول البلايا والمحن التي يخوف الله بها عباده، ووفاة أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من تلك الآيات؛ لأنهن ضممن إلى شرف الزوجية شرف الصحبة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا أمنة أصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة أهل الأرض ... )) الحديث، فهن أحق بهذا المعنى من غيرهن، فكانت وفاتهن سالبة للأمن، وزوال الأمنة موجب الخوف (فاسجدوا) قال الطيبي: هذا مطلق، فإن أريد بالآية خسوف الشمس والقمر فالمراد بالسجود الصلاة، وإن كانت غيرها كمجيء الريح الشديدة والزلزلة وغيرهما، فالسجود هو المتعارف، ويجوز الحمل على الصلاة أيضاً لما ورد: ((كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة)) – انتهى. قلت: قد ثبت عن ابن عباس أنه صلى في زلزلة بالبصرة، كما روى البيهقي (ج3 ص343) . (وأي آية أعظم من ذهاب أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -) ؛ لأن لهن فضل الصحبة مع فضل خاص ثابت للزوجية ليس لأحد من الأصحاب، وأيضاً بذهابهن يذهب ما تفردن من العلم بأحواله - صلى الله عليه وسلم -، قال القاري: لأنهن ذوات البركة فبحياتهن يدفع العذاب عن الناس ويخاف العذاب بذهابهن، فينبغي الالتجاء إلى ذكر الله والسجود عند انقطاع بركتهن ليندفع العذاب ببركة الذكر والصلاة – انتهى. ولفظ البيهقي في الرواية التي ذكرنا أولها فقال - أي ابن عباس -: يا لا أم لك، أليس قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا رأيتم آية فاسجدوا)) ، فأي آية أعظم من أن يخرجن أمهات المؤمنين من بين أظهرنا ونحن أحياء؟ (رواه أبوداود) وسكت عنه (والترمذي) وقال: هذا حديث غريب، وأخرجه أيضاً البيهقي. قال المنذري: في إسناده سلم بن جعفر – البكراوي، أبوجعفر الأعمى -، قال يحيى بن كثير العنبري: صاحبه كان ثقة، وقال الموصلي: يعني أباالفتح الأزدي: متروك الحديث لا يحتج به، وذكر هذا الحديث – انتهى. قلت: وثقه أيضاً ابن المديني، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال في التقريب: صدوق تكلم فيه الأزدي بغير حجة. 1505- قوله (فصلى بهم) أي صلاة الكسوف (فقرأ بسورة من الطول) بضم الطاء وتكسر وبفتح

وركع خمس ركعات، وسجد سجدتين، ثم قام الثانية فقرأ بسورة من الطول، ثم ركع خمس ركعات، وسجد سجدتين، ثم جلس كما هو مستقبل القبلة يدعو حتى انجلى كسوفها. رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ الواو. قال الطيبي: جمع الطولي كالكبرى والكبر (وركع خمس ركعات) أي ركوعات (ثم قام الثانية) بالنصب على نزع الخافض، كذا وقع في جميع النسخ الحاضرة، وهكذا في جامع الأصول (ج7 ص125) قال القاري: وفي نسخة أي من المشكاة: إلى الثانية – انتهى. وعند البيهقي: ثم قام في الثانية (ثم جلس كما هو) أي كائناً على الهيئة التي هو عليها (مستقبل القبلة) بالنصب أي جلس بعد الصلاة كجلوسه فيها يعني مستقبل القبلة (حتى انجلى كسوفها) أي انكشف وارتفع، والحديث دليل على أن صلاة الكسوف ركعتان في كل ركعة خمس ركوعات، لكنه معلول كما ستعرف، فلا يعارض أحاديث الركوعين (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً عبد الله بن أحمد في زيادات المسند (ج5 ص143) ، والحاكم (ج1 ص333) والبيهقي (ج3 ص329) ، وقد سكت عنه أبوداود، وقال المنذري: في إسناده أبوجعفر واسمه عيسى بن عبد الله بن ماهان الرازي، وفيه مقال، واختلف فيه قول ابن معين وابن المديني – انتهى. وقال الزيلعي: أبوجعفر الرازي فيه مقال، قال النووي في الخلاصة: لم يضعفه أبوداود، وهو حديث في إسناده ضعف – انتهى. وقال البيهقي: هذا إسناد لم يحتج بمثله صاحبا الصحيح، وهذا توهين منه للحديث بأن سنده مما لا يصلح للاحتجاج به، وقال الحاكم: الشيخان قد هجرا أباجعفر الرازي ولم يخرجا عنه، وحاله عند سائر الأئمة أحسن الحال، وهذا الحديث فيه ألفاظ ورواته صادقون – انتهى. وتعقبه الذهبي فقال: خبر منكر، وعبد الله بن أبي جعفر – الراوي عن أبي جعفر عند أبي داود والحاكم – ليس بشيء، وأبوه فيه لين – انتهى. وقال النيموي: في إسناده لين، وقال الشوكاني: وروي عن ابن السكن تصحيح هذا الحديث – انتهى. قلت: في تصحيحه نظر قوي، فإن أباجعفر الرازي قد تفرد بهذا الحديث عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب، وأبوجعفر مختلف فيه وثقه ابن معين في رواية إسحاق بن منصور والدوري، ووثقه أيضاً ابن المديني في رواية وابن عمار الموصلي وأبوحاتم وابن سعد والحاكم وابن عبد البر، وقال أحمد - في رواية – والنسائي والعجلي: ليس بالقوي، وقال عمرو بن علي الفلاس وابن خراش: هو من أهل الصدق سيء الحفظ، وقال أبوزرعة: شيخ يهم كثيراً، وقال ابن حبان: كان ينفرد عن المشاهير بالمناكير لا يعجبني الاحتجاج بحديثه إلا فيما وافق الثقات، وقال الحافظ في التقريب: صدوق سيء الحفظ – انتهى. والربيع بن أنس ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: الناس يتقون من حديثه ما كان من رواية أبي جعفر عنه؛ لأن في أحاديثه عنه اضطراباً كثيراً – انتهى. وقد ظهر بهذا كله أن من وثق أباجعفر الرازي فإنما وثقه لكونه من أهل الصدق والستر والصلاح، ومن تكلم فيه إنما تكلم لسوء حفظه، ومن المعلوم أن الراوي إذا كان سيء الحفظ لا يحتج بحديثه إذا تفرد به، والله أعلم.

1506- (13) وعن النعمان بن بشير قال: كسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل يصلي ركعتين ركعتين ويسأل عنها، حتى انجلت الشمس، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1506- قوله (فجعل يصلي ركعتين ركعتين) أي ركوعين ركوعين في كل ركعة (ويسأل عنها) أي يسأل الله بالدعاء أن يكشف عنها أو يسأل الناس عن انجلائها، أي كلما صلى ركوعين يسأل بالإشارة هل انجلت؟ قال الحافظ: إن كان هذا الحديث محفوظاً احتمل أن يكون معنى قوله: ركعتين أي ركوعين، وقد وقع التعبير عن الركوع بالركعة في حديث الحسن البصري: خسف القمر وابن عباس بالبصرة فصلى ركعتين في كل ركعة ركعتان ... الحديث، أخرجه الشافعي، وأن يكون السؤال وقع بالإشارة، فلا يلزم التكرار، وقد أخرج عبد الرزاق بإسناد صحيح عن أبي قلابة أنه - صلى الله عليه وسلم - كان كلما ركع ركعة أرسل رجلاً ينظر هل انجلت؟ فتعين الاحتمال المذكور، وإن ثبت تعدد القصة زال الإشكال – انتهى. وقال الشيخ رشيد أحمد الكنكوهي الحنفي في معنى هذا الحديث: قوله: "فجعل يصلي ركعتين ركعتين" كلمة جعل توهم أن المعنى أخذ في صلاة ركعتين ثم ركعتين، وهو ينافي سائر ما نقل عنه - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الكسوف، إذ لم يرو أحد منهم زيادة على ركعتين، فالصحيح أن ركعتين بمعنى ركوعين تأكيد للأولى منهما، وعلى هذا فالمعنى ظاهر، وبذلك يظهر إيراد أبي داود هذا الحديث في باب من قال يركع ركعتين، وإنما افتقر إلى تأكيد في أمر الركوعين لمزيد الاختلاف قوله ويسأل عنها أي يدعو الله في شأنها وشأن أنفسهم أن ينجي كلامنا عما يؤخذ فيه – انتهى. قال صاحب البذل: يؤيد ذلك رواية الطحاوي بلفظ: فجعل يصلي ركعتين ويسلم ويسأل حتى انجلت، فإنه ليس فيها لفظ عنها بل فيها ويسأل، وكذلك يؤيده حديث أحمد في مسنده (ج4 ص267، 269) ، فإنه ليس فيه لفظ عنها، وكذلك يؤيده ما أخرجه الحاكم من طريق معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن أبي قلابة عن النعمان بن بشير: إن الشمس انكسفت، فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتين، فإنه ليس فيه تكرار ركعتين ولا ذكر السؤال، قال: لكن يخالف ما قال الشيخ حديث أحمد، فإن فيه: كان يصلي ركعتين ثم يسأل ثم يصلي ركعتين ثم يسأل حتى انجلت، فإنه صريح في أنه يصلي ركعتين ثم ركعتين – انتهى. قلت: في كون حديث النعمان بن بشير محفوظاً نظر، فإنه مخالف لجميع الروايات الصحيحة في حكاية صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - لكسوف الشمس، فإنها صريحة في الاقتصار على ركعتين وصريحة في الزيادة على الركوع، ولذا أعل البيهقي وغيره حديث النعمان وإن صححه ابن حزم وغيره فيتعين تقديم الأحاديث التي فيها أنه صلى ركعتين في كل ركعة ركوعان، قال ابن قدامة في المغني (ج3 ص424) : فأما أحاديث الحنفية فمتروكة غير معمول بها باتفاقنا، فإنهم قالوا: يصلي ركعتين، وحديث النعمان أنه يصلي ركعتين ثم ركعتين حتى انجلت الشمس، وحديث قبيصة فيه أنه يصلي كأحدث صلاة صليتموها، وأحد الحديثين يخالف الآخر ثم حديث قبيصة

رواه أبوداود، وفي رواية النسائي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى حين انكسفت الشمس مثل صلاتنا يركع ويسجد، وله في أخرى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج يوماً مستعجلاً إلى المسجد، وقد انكسفت الشمس، ـــــــــــــــــــــــــــــ مرسل، ثم يحتمل أنه صلى ركعتين في كل ركعة ركوعين، ولو قدر التعارض لكان الأخذ بأحاديثنا أولى لصحتها وشهرتها واتفاق الأئمة على صحتها، والأخذ بها واشتمالها على الزيادة، والزيادة من الثقة مقبولة، ثم هي نافلة عن العادة، وقد روي عن عروة أنه قيل له: إن أخاك صلى ركعتين، فقال: إنه أخطأ السنة – انتهى. (رواه أبوداود) وسكت عنه، وأخرجه أيضاً وأحمد والطحاوي (ص195) والبيهقي (ج3 ص332) ، وهو عند أحمد (ج4 ص269) وأبي داود والطحاوي من طريق أبي قلابة عن النعمان بن بشير، وعند البيهقي من طريق أبي قلابة عن رجل عن النعمان بن بشير، وكذا عند أحمد في رواية أخرى (ج4 ص267) وأخرجه النسائي عن أبي قلابة عن قبيصة الهلالي، وأخرجه البيهقي عن أبي قلابة عن هلال بن عامر عن قبيصة الهلالي، قال الزيلعي: تكلموا في سماع أبي قلابة من النعمان، قال ابن أبي حاتم في علله: قال أبي: قال يحيى بن معين: قد أدرك أبوقلابة النعمان بن بشير ولا أعلم أسمع منه أو لا؟ وقد رواه عفان – عند أحمد – عن عبد الوارث عن أيوب عن أبي قلابة عن النعمان، وروي عنه عن قبيصة بن مخارق الهلالي، وروي عنه عن هلال بن عامر عن قبيصة – انتهى. وقال النووي في الخلاصة بعد ذكر رواية أبي داود: إسناده صحيح، إلا أنه بزيادة رجل بين أبي قلابة والنعمان، ثم اختلف في ذلك الرجل – انتهى. وقال ابن حزم في المحلى (ج5 ص98) : أبوقلابة قد أدرك النعمان، فروى هذا الخبر عنه، ورواه أيضاً عن آخر فحدث بكلنا روايتيه، ولا وجه للتعلل بمثل هذا أصلاً ولا معنى له – انتهى. وصححه ابن عبد البر في التمهيد، وقال البيهقي بعد بسط الاختلاف في إسناده ومتنه ما لفظه: فألفاظ هذه الأحاديث تدل على أنها راجعة إلى الإخبار عن صلاته يوم توفي ابنه – عليهما السلام -، وقد أثبت جماعة من أصحاب الحفاظ عدد ركوعه في كل ركعة، فهو أولى بالقبول من رواية من لم يثبته – انتهى. (وفي رواية النسائي) من حديث أبي قلابة عن النعمان، وأخرجه أيضاً أحمد (ج4 ص271، 277) . (أن النبي - صلى الله عليه وسلم -) وفي النسائي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (صلى حين انكسفت الشمس مثل صلاتنا) أي المعهودة فيفيد اتحاد الركوع، أو مثل ما نصلي في الكسوف فيلزم توقفه على معرفة تلك الصلاة، قاله السندي، قلت: الحديث بظاهره يؤيد الحنفية لكونه يفيد اتحاد الركوع، لكن أحاديث الركوعين في كل ركعة أصح وأشهر (وله) أي للنسائي (في أخرى) أي في رواية أخرى يعني من طريق الحسن عن النعمان عن النعمان بن بشير (خرج يوماً مستعجلاً) يجر رداءه

فصلى حتى انجلت، ثم قال: ((إن أهل الجاهلية كانوا يقولون: إن الشمس والقمر لا ينخسفان إلا لموت عظيم من عظماء أهل الأرض، وإن الشمس والقمر لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما خليقتان من خلقه، يحدث الله في خلقه ما شاء، فأيهما انخسف فصلوا حتى ينجلي، أو يحدث الله أمراً)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ كما رواية البيهقي (فصلى) زاد في رواية الحاكم وعند ابن ماجه والبيهقي (ج3 ص233) والنسائي في رواية: فلم يزل يصلي (إلا لموت عظيم من عظماء أهل الأرض وإن الشمس) وفي رواية البيهقي وابن ماجه والنسائي المذكورة وليس كذلك، إن الشمس (ولكنهما خليقتان من خلقه) قال الطيبي: أي مخلوقتان ناشئتان من خلق الله تعالى المتناول لكل مخلوق على التساوي، ففيه تنبيه على أنه لا أثر لشيء منهما في الوجود، قال في نهاية: الخلق الناس، والخليقة البهائم، وقيل: هما بمعنى واحد، يعني المعنى الأعظم. قال الطيبي: والمعنى الأول أنسب في هذا المقام؛ لأنه رد لزعم من يرى أثرهما في هذا العالم بالكون والفساد أي ليس كما يزعمون، بل هما مسخران كالبهائم، دائبان مقهوران تحت قدرة الله تعالى، وفي هذا تحقير لشأنهما مناسب لهذا المقام (يحدث الله في خلقه ما شاء) وفي النسائي، وكذا البيهقي ((ما يشاء)) من من الكسوف والنور والظلمة، قال الطيبي: ((ما شاء)) مفعول المصدر المضاف إلى الفاعل، و"من" ابتدائية على ما تقدم بيانه – انتهى. يعني في قوله من خلقه (فأيهما انخسف فصلوا) وفي رواية البيهقي والنسائي المذكورة: ((إن الله عزوجل إذا بدأ لشيء من خلقه خشع له، فإذا رأيتم ذلك فصلوا كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة)) ، قال البيهقي: هذا مرسل أبوقلابة لم يسمعه من النعمان، إنما رواه عن رجل عن النعمان، وليس فيه هذه اللفظة الأخيرة – انتهى. (حتى ينجلي أو يحدث الله أمراً) تفوت به الصلاة كقيام الساعة أو وقوع فتنة مانعة من الصلاة، قال الطيبي: غاية لمقدر أي صلوا من ابتداء الانخساف منتهين إما إلى الإنجلاء أو إلى إحداث الله تعالى أمراً، وهذا القدر يربط الشيء بالجزاء لما فيه من العائد إلى الشرط – انتهى. ورواية النسائي هذه أخرجها أيضاً البيهقي من طريق الحسن عن النعمان (ج3 ص333-334) ، قال البيهقي: هذا أشبه أن يكون محفوظاً، وأخرجها الحاكم من طريق أبي قلابة عن النعمان وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ، وأقره الذهبي، وهذا يدل على أنهما وافقا من قال بسماع أبي قلابة من النعمان بن بشير. فائدة: إن فرغ من الصلاة قبل انجلاء الشمس أي تمت الصلاة والكسوف قائم لا تعاد الصلاة ولا تكرر، بل يشتغل بالذكر والدعاء حتى تنجلي؛ لأن السنة في صلاة

(51) باب في سجود الشكر

(51) باب في سجود الشكر ـــــــــــــــــــــــــــــ الكسوف قد فرغوا عنها، ولم يزد النبي - صلى الله عليه وسلم - على ركعتين، وهو مذهب المالكية والحنابلة، وكذلك في ظاهر الرواية عند الحنفية، وإن انجلت الشمس كلها في أثناء الصلاة بعد تمام ركعة بركوعيها وسجدتيها أو قبل تمام الركعة الأولى بسجدتيها أتمها على سنتها وخففها ولا ينقص أحد الركوعين اللذين نواهما، وإليه ذهبت الحنابلة والشافعية، وإذا اجتمع صلاتان كالكسوف مع غيره من الجمعة أو صلاة مكتوبة أو الوتر أو التراويح، قال ابن قدامة: الصحيح عندي أن الصلوات الواجبة التي تصلى في الجماعة مقدمة على الكسوف بكل حال؛ لأن تقديم الكسوف عليها يفضي إلى المشقة لإلزام الحاضرين بفعلها مع كونها ليست واجبة عليهم وانتظارهم للصلاة الواجبة، مع أن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتخفيف الصلاة الواجبة كيلا يشق على المأمومين، فإلحاق المشقة بهذه الصلاة الطويلة الشاقة مع أنها غير واجبة أولى، وكذلك الحكم إذا اجتمعت مع التراويح قدمت التراويح لذلك، وإن اجتمعت مع الوتر في أول وقت الوتر قدمت؛ لأن الوتر لا يفوت، وإن خيف فوات الوتر قدم؛ لأنه يسير يمكن فعله وإدارك وقت الكسوف وإن لم يبق إلا قدر الوتر فلا حاجة بالتلبس بصلاة الكسوف؛ لأنها إنما تقع في وقت النهي، وإن اجتمع الكسوف وصلاة الجنازة قدمت الجنازة وجهاً؛ لأن الميت يخاف عليه - انتهى. (باب في سجود الشكر) قال في اللمعات: السجدة المنفردة خارج الصلاة على عدة أقسام: منها سجدة الشكر على حصول نعمة واندفاع بلية، وفيها اختلاف: فعند الشافعي وأحمد سنة، وهو قول محمد، والأحاديث والآثار كثيرة في ذلك، وعند أبي حنيفة ومالك ليس بسنة، بل هي مكروهة، وهم يقولون: إن المراد بالسجدة الواقعة في تلك الأحاديث والآثار الصلاة، عبر عنها بالسجدة، وهو كثير إطلاقاً للجزء على الكل، أو منسوخ، وقالوا: نعم الله لا تعد ولا تحصى، والعبد عاجز عن أداء شكرها، فالتكليف بها يؤدي إلى التكليف بما لا يطاق هذا، ولكن العاملين بها يريدون النعم العظيمة - انتهى. وقال القاري: سجدة الشكر عند حدوث ما يسر به من نعمة عظيمة وعند اندفاع بلية جسيمة سنة عند الشافعي، وليست بسنة عند أبي حنيفة خلافاً لصاحبيه - انتهى. وقال السندي: ظاهر الأحاديث أن سجود الشكر مشروع، كما قال محمد من علمائنا وغيره، وكونه - صلى الله عليه وسلم - صلى شكراً ركعتين يوم بشر بقطع رأس أبي جهل في بدر لا ينافي شرع السجود شكراً كما جاء، وقال الشوكاني في النيل بعد ذكر أحاديث سجود الشكر ما لفظه: وهذه الأحاديث تدل على مشروعية سجود الشكر، وإلى ذلك ذهب أحمد والشافعي، وقال مالك، وهو مروي عن أبي حنيفة: إنه يكره، إذ لم يؤثر عنه - صلى الله عليه وسلم - مع تواتر النعم عليه - صلى الله عليه وسلم -، وفي رواية عن أبي حنيفة: أنه مباح؛ لأنه لم يؤثر، وإنكار ورود سجود الشكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من

{الفصل الثاني}

وهذا الباب خال من الفصل الأول والثالث {الفصل الثاني} 1507- (1) عن أبي بكرة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جاءه أمر سروراً - أو يسر به - ـــــــــــــــــــــــــــــ مثل هذين الإمامين مع وروده عنه - صلى الله عليه وسلم - من هذه الطرق التي ذكرها المصنف وذكرناها من الغرائب، ومما يؤيد ثبوت سجود الشكر قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث سجدة ص: ((هي لنا شكر، ولداود توبة)) انتهى. (وهذا الباب خال عن الفصل الأول) اعتذار عن صاحب المصابيح (والثالث) اعتذار عن نفسه، قال الشيخ الجزري: لم يذكر - أي صاحب المصابيح - من الصحاح حديثاً فيه، أي في هذا الباب، وكل ما أورده فيه من الحسان، وقد وجدت منه في الصحاح عن كعب بن مالك أنه سجد لله شكراً لما بشر بتوبة الله عليه، وقصته مشهورة متفق عليها، كذا في المرقاة. (1507) - قوله (عن أبي بكرة) صحابي، اسمه نفيع بن الحارث (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جاء أمر) بالتنوين للتعظيم، ولفظ ابن ماجه: ((كان إذا أتاه أمر)) ، قال السندي: أي عظيم جليل القدر رفيع المنزلة من هجوم نعمة منتظرة أو غير منتظرة مما يندر وقوعها لا ما يستمر وقوعها، إذ لا يقال في المستمر: إذا أتاه، فلا يرد قول من قال: لو ألزم العبد السجود عند كل نعمة متجددة عظيمة الموقع عند صاحبها لكان عليه أن لا يغفل عن السجود طرفة عين؛ لأنه لا يخلو عنها أدنى ساعة، فإن من أعظم نعمه على العباد نعمة الحياة، وذلك يتجدد عليه بتجدد الأنفاس عليه، على أنه لم يقل أحد بوجوب السجود ولا دليل عليه، وإنما غاية الأمر أن يكون السجود مندوباً، ولا مانع منه، فليتأمل. والله تعالى أعلم. (سروراً) نصب على تقدير يوجب أو حال بمعنى سارّاً، وقال القاري: بالنصب على نزع الخافض، أي لأجل حصوله أو على التمييز من النسبة أو بتقدير أعني يعني أمر سرور، وفي نسخة: أمر سرور على الوصفية للمبالغة أو على أن المصدر بمعنى الفاعل أو المفعول به أو على المضاف المقدر أي أمر ذو سرور، وفي نسخة: أمر سرور على الإضافة. قلت: وكذا وقع في أبي داود، قال في العون: أمر سرور بالإضافة - انتهى. وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج6 ص367) ، قال القاري: وقال ابن حجر: قوله ((إذا جاءه أمر سرور)) أي إذا جاءه أمر عظيم حال كونه سروراً - انتهى. وهو لا يتم إلا بتقدير مضاف، أو يكون المصدر بمعنى الفاعل أو المفعول، أو على طريق المبالغة كرجل عدل (أو يسر به) بصيغة المضارع المجهول من السرور شك من الراوي، وفي بعض نسخ أبي داود: ((أو بشر به)) على بناء الماضي المجهول من التبشير، ولفظ ابن ماجه: ((إذا أتاه أمر يَسُرُّه

خر ساجداً شاكراً لله تعالى)) رواه أبوداود، والترمذي، وقال: "هذا حديث حسن غريب". ـــــــــــــــــــــــــــــ أو يُسَرُّ به)) (خر ساجداً شاكراً) وفي بعض النسخ: شاكراً بالنصب للعلة، وكذا نقله الجزري، والحديث صريح في مشروعية سجود الشكر، قال الترمذي: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، رأوا سجدة الشكر – انتهى. وحمل هذا الحديث وأمثاله على الصلاة بعيد غاية البعد، بل هو باطل جداً؛ لأنه لا دليل عليه. واعلم أنه قد اختلف هل يشترط لسجدة الشكر الطهارة أم لا؟ فقيل: يشترط قياساً على الصلاة، وقيل: لا يشترط، قال الأمير اليماني: وهو الأقرب، أي لأن الأصل أنه لا يشترط الطهارة إلا بدليل، وأدلة وجوب الطهارة ودرت للصلاة، والسجدة الفردة لا تسمى صلاة، فلا دليل على من شرط ذلك، وليس في أحاديث الباب ما يدل على اشتراطها، وليس فيها أيضاً ما يدل على التكبير. (رواه أبوداود) في الجهاد (والترمذي) في أبواب السير، وأخرجه أيضاً ابن ماجه والدارقطني (ص157) والحاكم (ص276) والبيهقي (ج2 ص370) ، وأخرجه أحمد (ج5 ص45) بلفظ: أنه شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أتاه بشير يبشره بظفر جند له على عدوهم ورأسه في حجر عائشة – رضي الله عنها -، فقام فخر ساجداً ... الحديث، والحديث سكت عنه أبوداود وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم وأقره الذهبي، وقال المنذري: في إسناده بكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة، وفيه مقال، قلت: ذكره العقيلي في الضعفاء، وقال يعقوب بن سفيان في باب من يرغب عن الرواية عنهم: ضعيف، وقال ابن معين في رواية الدوري: ليس بشيء، وفي رواية إسحاق بن منصور: صالح، وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به، وهو من جملة الضعفاء الذين يكتب حديثهم، وقال البزار: ليس به بأس، وقال مرة: ضعيف، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الحافظ في التقريب: صدوق يهم، وقال الحاكم: صدوق عند الأئمة، ولهذا الحديث شواهد يكثر ذكرها، ثم ذكر أربعة منها، قلت: في الباب أحاديث كثيرة، منها حديث عبد الرحمن بن عوف عند أحمد والحاكم والبزار والبيهقي وغيرهم، قال الهيثمي: رجاله ثقات، ومنها حديث أنس عند ابن ماجه بنحو حديث أبي بكرة، وفي سنده ضعف واضطراب، ومنها حديث البراء بن عازب، أخرجه البيهقي بإسناد صحيح في المعرفة، وفي السنن الكبرى (ج3 ص369) ، ومنها حديث كعب بن مالك متفق عليه، ومنها حديث سعد بن أبي وقاص الآتي، ومنها حديث حذيفة عند أحمد، وفيه ابن لهيعة، ومنها حديث ابن عمر عند الطبراني في الأوسط والصغير، ومنها حديث أبي قتادة عند الطبراني أيضاً، ومنها حديث ابن عمر عند الطبراني في الأوسط بسند ضعيف، ومنها حديث أبي موسى عند الطبراني في الكبير، وفيه ضعف، ومنها حديث جابر عند ابن حبان في الضعفاء، ومنها حديث جرير بن عبد الله عند الطبراني في الكبير، وفي الحسن بن عمارة ضعفه جماعة كثيرة، ومنها حديث أبي جحيفة أشار إليه البيهقي، ومنها حديث عرفجة عند البيهقي والطبراني في الأوسط، ومنها حديث أبي

1508- (2) وعن أبي جعفر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً من النغاشين فخر ساجداً، رواه الدارقطني مرسلاً، وفي شرح السنة: لفظ المصابيح. ـــــــــــــــــــــــــــــ جعفر الباقر الآتي، وفي الباب آثار عن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعلي، ذكرها البيهقي، من أحب الاطلاع على ألفاظ هذه الأحاديث رجع إلى مجمع الزوائد (ج2 ص287، 289) ، والسنن الكبرى للبيهقي (ج2 ص369، 371) . 1508- قوله (وعن أبي جعفر) أي محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب المعروف بالباقر (رأى رجلاً من النغاشين) بضم النون والغين والشين معجمتان، واحده نغاش، هو والنغاشي القصير جداً أقصر ما يكون من الرجال، وزاد في النهاية: الضعيف الحركة الناقص الخلق، كذا في اللمعات، وقال القاري: النغاشين بضم النون وتخفيف الياء، وفي نسخة بتشديدها، قال ميرك النغاشي بتشديد الياء، والنغاش بحذفها: هو القصير جداً الضعيف الحركة الناقص الخلقة – انتهى. وفي المصابيح رأى رجلاً نغاشياً فسجد شكراً لله. قال القاري: قال بعض الشراح: وروي نغاشياً بتشديد الياء (فخر ساجداً) فيه دليل على شرعية سجدة الشكر على العافية إذا رأى مبتلى بمرض سيء أو زمانة، قال المظهر: السنة إذا رأى مبتلى أن يسجد شكراً لله على أن عافاه الله تعالى من ذلك البلاء وليكتم والسجود، وإذا رأى فاسقاً فليظهر السجود لينتبه ويتوب – انتهى. (رواه الدارقطني) (ص157) (مرسلاً) ؛ لأن أباجعفر لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي إسناده جابر الجعفي، وفيه كلام مشهور، وأخرجه أيضاً البيهقي (ج3 ص371) وقال: هذا منقطع، ورواية جابر الجعفي، ولكن له شاهد من وجه آخر، يعني ما رواه عن عرفجة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبصر رجلاً به زمانة فسجد، قال: ويقال: هذا عرفجة السلمي، ولا يرون له صحبة، فيكون مرسلاً شاهداً لما تقدم – انتهى. وقال الحافظ في التلخيص (ص115) : حديث إن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً نغاشياً فخر ساجداً ثم قال أسأل الله العافية، هذا الحديث ذكره الشافعي في المختصر بلفظ: فسجد شكراً لله، ولم يذكر إسناده، وكذا صنع الحاكم في المستدرك واستشهد به على حديث أبي بكرة وأسنده الدارقطني والبيهقي من حديث جابر الجعفي عن أبي جعفر محمد بن علي مرسلاً، وزاد أن اسم الرجل زنيم، وكذا هو في مصنف ابن أبي شيبة من هذا الوجه، ووصله ابن حبان في الضعفاء في ترجمة يوسف بن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جابر – انتهى. ولعل الحافظ يريد بحديثه ما ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص289) بلفظ: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رأى رجلاً متغيراً الخلق سجد، وعزاه للطبراني وقال: فيه يوسف بن محمد بن المنكدر، وثقه أبوزرعة، وضعفه جماعة. (وفي شرح السنة لفظ المصابيح) وفي بعض النسخ بلفظ المصابيح يعني نغاشياً بدل من النغاشين، وكذا عند البيهقي: رأى رجلاً نغاشياً.

1509- (3) وعن سعد بن أبي وقاص قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة نريد المدينة، فلما كنا قريباً من عزوزاء، نزل ثم رفع يديه، فدعا الله ساعة، ثم خر ساجداً، فمكث طويلاً، ثم قام فرفع يديه ساعة، ثم خر ساجداً، فمكث طويلاً، ثم قام فرفع يديه ساعة، ثم خر ساجداً، قال: ((إني سألت ربي، وشفعت لأمتي، فأعطاني ثلث أمتي فخررت ساجداً لربي شكراً، ثم رفعت رأسي، فسألت ربي لأمتي، فأعطاني ثلث أمتي، فخررت ساجداً لربي شكراً، ثم رفعت رأسي، فسألت ربي لأمتي، فأعطاني الثلث الآخر، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1059- قوله (نريد) بصيغة المتكلم مع الغير (فلما كنا قريباً) أي في موضع قريب أو قريبين أو ذوي قرب (من عزوزاء) هكذا في جميع النسخ الحاضرة للمشكاة، بفتح العين المهملة والزائين المعجمتين بينهما واو مفتوحة وبعد الزاي الثانية ألف ممدودة، والأشهر حذف الألف، هكذا صحح هذه اللفظة شراح المصابيح، وقالوا: هي موضع بين مكة والمدينة، والعزازة – بفتح العين – الأرض الصلبة، وقال صاحب المغرب والشيخ الجزري في تصحيح المصابيح: عزوراء – بفتح العين المهملة وزاي ساكنة ثم واو وراء مهملة مفتوحتين وألف، وضبط بعضهم بحذف الألف، وهي ثنية عند الجحفة خارج مكة، قال الشيخ الجزري: ولا ينبغي أن يلتفت إلى ما ضبطه شراح المصابيح مما يخالف ذلك، فقد اضطربوا في تقييدها، ولم أر أحداً منهم ضبطها على الصواب – انتهى. كذا في المرقاة، قلت: وفي أبي داود عزوراء، قال في العون: بفتح العين المهملة وسكون الزاي وفتح الواو وفتح الراء المهملة بالقصر، ويقال فيها: عزور – أي بحذف الألف مثل قسور، وكذا وقع في البيهقي -، ثنية بالجحفة عليها الطريق من المدينة إلى مكة، كذا في النهاية، وفي المراصد: عزور بفتح أوله وسكون ثانيه وفتح الواو وآخره راء مهملة موضع أو ماء قريب من مكة، وقيل: ثنية المدينتين إلى بطحاء مكة، وقيل: هي ثنية الجحفة عليها الطريق بين مكة والمدينة – انتهى. (نزل) نزول النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الموضع لم يكن لخاصية البقعة، بل لوحي أوحي إليه في النهي والأمر، قاله الطيبي. (فمكث) بفتح الكاف وضمها (طويلاً) أي مكثاً طويلاً أو زماناً كثيراً (إني سألت ربي) أي دعوته أو طلبت رحمته (وشفعت لأمتي) هو بيان للمسؤول أو بعضه (فخررت) بفتح الراء (ساجداً لربي شكراً) أي لهذه النعمة وطلباً للزيادة، قال تعالى: {لئن شكرتم لأزيدنكم ... } [إبراهيم: 7] . (فأعطاني الثلث الآخر) بكسر الخاء، وقيل: بفتحها، قال التوربشتي: أي فأعطانيهم فلا يجب عليهم الخلود، وتنالهم شفاعتي فلا يكونون كالأمم السالفة، فإن من عذب منهم وجب عليه الخلود، وكثير منهم لعنوا لعصيانهم الأنبياء، فلم تنلهم الشفاعة، والعصاة من هذه الأمة من عوقب منهم نقي وهذب، ومن مات منهم على الشهادتين يخرج من النار وإن عذببها، وتناله الشفاعة

(52) باب الاستسقاء

فخررت ساجداً لربي شكراً)) ، رواه أحمد، وأبوداود. (52) باب الاستسقاء ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن اجترح الكبائر ويتجاوز عنهم ما وسوست به صدورهم ما لم يعلموا أو يتكلموا إلى غير ذلك من الخصائص التي خص الله تعالى هذه الأمة كرامة لنبيه - صلى الله عليه وسلم - انتهى. وقال المظهر: ليس معنى الحديث أن يكون جميع أمته مغفورين بحث لا تصيبهم النار؛ لأنه يناقض كثيراً من الآيات والأحاديث الواردة في تهديد آكل مال اليتيم والربا ولزاني وشارب الخمر وقاتل النفس بغير حق وغير ذلك، بل معناه أنه سال أن يخص أمته من سائر الأمم بأن لا يمسخ صورهم بسبب الذنوب، وأن لا يخلدهم في النار بسبب الكبائر، بل يخرج من النار من مات في الإسلام بعد تطهيره من الذنوب وغير ذلك من الخواص التي خص الله تعالى أمته – عليه السلام – من بين سائر الأمم. قال الطيبي: يفهم من كلام المظهر: إن الشفاعة مؤثرة في الصغائر وفي عدم الخلود في حق أهل الكبائر بعد تمحيصهم بالنار، ولا تأثير للشفاعة في حق أهل الكبائر قبل الدخول في النار، وقد روينا عن الترمذي وأبي داود عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)) ، وعند الترمذي عن جابر: ((من لم يكن من أهل الكبائر فما له للشفاعة)) ، والأحاديث فيها كثيرة، نعم يتعلق ذلك بالمشيئة والإذن، فإذا تعلقت المشيئة بأن تنال بعض أصحاب الكبائر قبل دخول النار وإذن فيها فذاك وإلا كانت بعد الدخول، والله أعلم بحقيقة الحال – انتهى. والحديث يدل على مشروعية سجود الشكر ورفع اليدين في الدعاء. (رواه أحمد وأبوداود) كذا في جميع النسخ، لكن لم أجده في مسند الإمام أحمد في مسند سعد بن أبي وقاص، والحديث ذكره المجد بن تيمية في المنتقى، وعزاه لأبي داود فقط، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (ج2 ص370) من طريق أبي داود، وقد سكت عليه أبوداود، وقال المنذري: في إسناده موسى بن يعقوب الزمعي، وفيه مقال – انتهى. قلت: وثقه ابن معين وابن القطان، وقال أبوداود: هو صالح، وقال ابن عدي: لا بأس به عندي ولا برواياته، وذكره ابن حبان في الثقات، وضعفه ابن المديني، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال أحمد: لا يعجبني حديثه، كذا في التهذيب، وقال في التقريب: صدوق سيء الحفظ. (باب الاستسقاء) أي هذا باب في بيان أحكام الاستسقاء، قال القاري: وفي نسخة صحيحة: باب صلاة الاستسقاء، وهو لغة: طلب سقي الماء من الغير للنفس أو للغير، وشرعاً: طلبه من الله عند حصول الجدب على الوجه المبين في الأحاديث، قال الجزري في النهاية: هو استفعال من طلب السقيا، أي إنزال الغيث على البلاد والعباد، يقال: سقى الله عباده الغيث وأسقاهم، والاسم: السقيا – بالضم -، واستسقيت فلاناً، إذا طلبت منه أن يسقيك – انتهى. قال القسطلاني: الاستسقاء ثلاثة أنواع: أحدها – وهو أدناها – أن يكون بالدعاء مطلقاً – أي من غير صلاة – فرادى

{الفصل الأول}

{الفصل الأول} 1510- (1) عن عبد الله بن زيد قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس إلى المصلى يستسقي، فصلى بهم ركعتين، ـــــــــــــــــــــــــــــ ومجتمعين. وثانيها – وهو أفضل من الأول – أن يكون بالدعاء، خلف الصلوات ولو نافلة كما في البيان وغيره عن الأصحاب، خلافاً لما وقع للنووي في شرح مسلم من تقييده بالفرائض، وفي خطبة الجمعة. وثالثها – وهو أفضلها وأكملها – أن يكون بصلاة ركعتين والخطبتين. قال النووي: يتأهب قبله بصدقة وصيام وتوبة وإقبال على الخير ومجانبة الشر ونحو ذلك من طاعة الله تعالى. قال الشاه ولي الله الدهلوي: قد استسقى النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته مرات على أنحاء كثيرة، لكن الوجه الذي سنه لأمته أن خرج بالناس إلى المصلى متبذلاً متواضعاً متضرعاً، فصلى بهم ركعتين، جهر فيهما بالقراءة، ثم خطب واستقبل فيها القبلة يدعو ويرفع يديه، وحول رداءه، وذلك لأن لاجتماع المسلمين في مكان واحد راغبين في شيء واحد بأقصى هممهم واستغفارهم وفعلهم الخيرات أثراً عظيماً في استجابة الدعاء، والصلاة أقرب أحوال العبد من الله، ورفع اليدين حكاية من التضرع التام، والابتهال العظيم تنبه النفس على التخشع، وتحويل ردائه حكاية عن تقلب أحوالهم كما يفعل المستغيث بحضرة الملوك – انتهى. 1510- قوله (عن عبد الله بن زيد) بن عاصم المازني، لا عبد الله بن زيد بن عبد ربه الذي أري الأذان كما زعم ابن عيينة (خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس) في شهر رمضان سنة ست من الهجرة، أفاده ابن حبان، قاله الحافظ. وهذا يدل على أن بدأ مشروعية صلاة الاستسقاء كان في رمضان سنة (6) من الهجرة. (إلى المصلى) أي في المدينة، وفيه دليل على أن سنة الاستسقاء البروز إلى المصلى، وقد حكى ابن عبد البر الإجماع على استحباب الخروج إلى الاستسقاء، والبروز إلى ظاهر المصر. (يستسقي) حال أي حال كونه يريد الاستسقاء، أو استئناف فيه معنى التعليل (فصلى بهم ركعتين) فيه دليل على أن الصلاة في الاستسقاء في جماعة في حالة البروز سنة، وبه قال مالك والشافعي وأحمد والجمهور، وهو قول أبي يوسف ومحمد، قال محمد في موطأه: أما أبوحنيفة فكان لا يرى في الاستسقاء صلاة، وأما في قولنا: فإن الإمام يصلي بالناس ركعتين ثم يدعو ويحول رداءه – انتهى. كذا ذكر شيخنا في شرح الترمذي. قلت: اختلفوا في حكم صلاة الاستسقاء جداً، فقال أبويوسف ومحمد: هي سنة، وقالت المالكية والشافعية والحنابلة: إنها سنة مؤكدة، واضطربت الحنفية في بيان مذهب إمامهم، فقال بعضهم: إنه إنما أنكر سنية صلاة الاستسقاء في جماعة ولم ينكر مشروعيتها وجوازها، قال صاحب الهداية: قال أبوحنيفة: ليس في الاستسقاء صلاة مسنونة في جماعة، وإن صلى الناس وحداناً جاز، وإنما الاستسقاء الدعاء والاستغفار، قال: فعله مرة وتركه أخرى، فلم يكن سنة، قال ابن الهمام: وإنما يكون سنة ما واظب عليه، وقال بعضهم: أنكر أبوحنيفة مشروعية صلاة

..................... ـــــــــــــــــــــــــــــ الاستسقاء بجماعة، قال صاحب البدائع: وأما صلاة الاستسقاء فظاهر الرواية عن أبي حنيفة أنه قال: لا صلاة في الاستسقاء، وإنما هو الدعاء، وأراد بقوله: لا صلاة في الاستسقاء: الصلاة بجماعة، أي لا صلاة فيه بجماعة، بدليل ما روي عن أبي يوسف أنه قال: سألت أباحنيفة عن الاستسقاء هل فيه صلاة أو دعاء مؤقت أو خطبة؟ فقال: أما صلاة بجماعة فلا، ولكن الدعاء والاستغفار، وإن صلوا وحداناً فلا بأس به، والدليل له قوله: {واستغفروا ربكم إنه كان غفاراً} [نوح: 10] ، والمراد منه الاستغفار في الاستسقاء، فمن زاد عليه الصلاة فلا بد له من دليل، ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الروايات المشهورة أنه صلى في الاستسقاء ... إلى آخر ما قال. وقال بعضهم: لم ينكر أبوحنيفة استنان صلاة الاستسقاء بجماعة واستحبابها، وإنما أنكر كونها سنة مؤكدة، قال بعض من كتب على المشكاة من أهل عصرنا ما لفظه: صلاة الاستسقاء سنة عند أبي حنيفة، لكنها غير مؤكدة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلها مرة وتركها مرة، واقتصر على الاستغفار فقط، قال: فقد استسقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خطبة الجمعة، كما في حديث أنس في الصحيحين ولم يصل له، وثبت أن عمر بن الخطاب استسقى ولم يصل ولو كانت سنة – أي مؤكدة – لما تركها؛ لأنه كان أشد الناس اتباعاً لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتأويل ما رواه أنه - صلى الله عليه وسلم - فعله مرة وتركه أخرى، والسنة لا تثبت بمثله بل بالمواظبة، كذا في التبيين – انتهى. وقال صاحب العرف الشذي: قال في الهداية: لأنه – عليه السلام – صلى مرة لا أخرى، فلا تكون سنة ... الخ. أقول: لا تكون سنة مؤكدة، وإلا فمطلق السنة والاستحباب لا يمكن إنكاره لما قال صاحب الهداية أنه – عليه السلام – صلى مرة. وقال المحقق ابن أمير الحاج: نسب البعض إلينا أن الصلاة عندنا منفية، وهذا غلط، والصحيح أن الصلاة عندنا مستحبة ... الخ – انتهى كلام صاحب العرف. ولعلك قد عرفت بما ذكرنا وجه تخبط الحنفية في بيان مذهب إمامهم، وهو أنه قد نفى الصلاة في الاستسقاء مطلقاً كما هو مصرح في كلام أبي يوسف ومحمد في بيان مذهب أبي حنيفة، ولا شك أن قوله هذا مخالف ومنابذ للسنة الصحيحة الثابتة الصريحة، فاضطربت الحنفية لذلك وتخبطوا في تشريح مذهبه وتعليله حتى اضطر بعضهم إلى الاعتراف بأن الصلاة في الاستسقاء بجماعة سنة، وقال: لم ينكر أبوحنيفة سنيتها واستحبابها، وإنما أنكر كونها سنة مؤكدة، وهذا كما ترى من باب توجيه الكلام بما لا يرضى به قائله؛ لأنه لو كان الأمر كذلك لم يكن بينه وبين صاحبيه خلاف، مع أنه قد صرح جميع الشراح وغيرهم ممن كتب في اختلاف الأئمة بالخلاف بينه وبين الجمهور في هذه المسألة. قال شيخنا في شرح الترمذي: قول الجمهور هو الصواب والحق؛ لأنه قد ثبت صلاته - صلى الله عليه وسلم - ركعتين في الاستسقاء من أحاديث كثيرة صحيحة. منها: حديث عبد الله بن زيد – الذي نحن بصدد شرحه -، وهو حديث متفق عليه. ومنها: حديث أبي هريرة، أخرجه أحمد وابن ماجه وأبوعوانة والطحاوي والبيهقي في السنن

.......................... ـــــــــــــــــــــــــــــ (ج3 ص347) وقال تفرد به النعمان بن راشد. وقال في الخلافيات: رواته ثقات. ومنها حديث ابن عباس أخرجه أحمد وأصحاب السنن وأبوعوانة وابن حبان والحاكم والبيهقي والدارقطني، وصححه الترمذي وأبوعوانة وابن حبان. ومنها: حديث عائشة أخرجه أبوداود وقال: إسناده جيد، وابن حبان في صحيحه، والحاكم وأبوعوانة والبيهقي، وصححه الحاكم وابن السكن، وسيأتي في الفصل الثالث. قال الشيخ: فهذه الأحاديث حجة بينه لقول الجمهور، وهي حجة على الإمام أبي حنيفة – انتهى. ويدل لقول الجمهور أيضاً ما روى البخاري ومسلم والبيهقي عن أبي إسحاق قال: خرج عبد الله بن يزيد الأنصاري – وقد كان رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان خروجه إلى الصحراء بأمر عبد الله بن الزبير حين كان أميراً على الكوفة من جهته -، وخرج معه البراء بن عازب وزيد بن أرقم فاستسقى فقام لهم على رجليه على غير منبر فاستسقى ثم صلى ركعتين يجهر بالقراءة ولم يؤذن ولم يقم. قال الشيخ عبد الحي اللكنوي في تعليقه (ص155) على موطأ الإمام محمد بعد ذكر الأحاديث الأربعة المرفوعة ما نصه: وبه ظهر ضعف قول صاحب الهداية في تعليل مذهب أبي حنيفة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استسقى، ولم ترو عنه الصلاة – انتهى. فإنه إن أراد أنه لم يرو بالكلية، فهذه الأخبار تكذبه، وإن أراد أنه لم يرو في بعض الروايات – أو في كثير من الروايات – فغير قادح – انتهى. قال العيني في شرح البخاري (ج7 ص35-36) قال أبوحنيفة: ليس في الاستسقاء صلاة مسنونة في جماعة، فإن صلى الناس وحداناً جاز، إنما الاستسقاء الدعاء والاستغفار لقوله تعالى: {استغفروا ربكم إنه كان غفاراً. يرسل السماء عليكم مدراراً} [نوح: 10-11] ، علق نزول الغيث بالاستغفار لا بالصلاة، فكان الأصل فيه الدعاء دون الصلاة، ويشهد لذلك أحاديث، ثم ذكر أحاديث الاستسقاء وآثاره التي ليس فيها ذكر الصلاة، ثم قال: فهذه الأحاديث والآثار كلها تشهد لأبي حنيفة أن الاستسقاء دعاء واستغفار – انتهى. وأجيب عن الآية بأنها لا تنافي سنية الصلاة في الاستسقاء، إذ ليس فيها نفيها، وكذا ليس فيها حصر الاستسقاء في الدعاء والاستغفار، بل هي ساكتة عن ذكر الصلاة نفياً وإثباتاً، وقد ثبت بأحاديث صحيحة أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى مع الناس في الاستسقاء فالاستدلال لأبي حنيفة بالآية ليس بصحيح، ولذلك خالفه صاحباه الإمام أبويوسف ومحمد وغيرهما، وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي: الفتوى على قول صاحبيه. وأما الأحاديث التي ذكرها العيني ونقلها عنه صاحب الأوجز فليس فيها أنه - صلى الله عليه وسلم - استسقى ولم يصل بل غاية ما فيها ذكر الاستسقاء بدون ذكر الصلاة ولا يلزم من عدم ذكر الشيء عدم وقوعه فالاستشهاد بها لأبي حنيفة على عدم كون الصلاة في الاستسقاء سنة غير صحيح. قال النووي: أما الأحاديث التي ليس فيها ذكر الصلاة فبعضها محمول على نسيان الراوي، وبعضها كان في الخطبة للجمعة، ويتعقبه الصلاة للجمعة

........................... ـــــــــــــــــــــــــــــ فاكتفى بها ولو يصل أصلاً كان بياناً لجواز الاستسقاء بالدعاء بلا صلاة ولا خلاف في جوازه وتكون الأحاديث المثبتة للصلاة مقدمة؛ لأنها زيادة علم، ولا معارضة بينهما، ثم ذكر النووي أنواع الاستسقاء التي ذكرنا في أول الباب، وقال ابن رشد بعد ذكر بعض الأحاديث والآثار التي ليس فيها ذكر الصلاة ما لفظه: والحجة للجمهور أنه من لم يذكر شيئاً فليس هو بحجة على من ذكره، والذي يدل عليه اختلاف الآثار في ذلك ليس عندي فيه شيء أكثر من أن الصلاة ليست من شرط صحة الاستسقاء، إذ قد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قد استسقى على المنبر لا أنها ليست من سنته كما ذهب إليه أبوحنيفة – انتهى. وأجاب العيني عن الأحاديث التي فيها الصلاة بأنه - صلى الله عليه وسلم - فعلها مرة – أي واحدة – وتركها أخرى – أي في مرات أخرى – وذا لا يدل على السنية، وإنما يدل على الجواز – انتهى. وفيه أنه لم يرو في حديث صحيح أو ضعيف نفي الصلاة وعدم نقل الصلاة لا يستلزم عدم الوقوع، فدعوى أنه لم يصل إلا مرة واحدة وتركها أخرى مردودة، ولو سلم فصلاته في المصلى في الاستسقاء ولو مرة تدل على أنها سنة في حق أمته من غير شك، كما قال صاحب العرف الشذي: إن مطلق السنة والاستحباب لا يمكن إنكاره لما قال صاحب الهداية: أنه – عليه السلام – صلى مرة، وكما قال الشاه ولي الله الدهلوي: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسقى لأمته مرات على أنحاء كثيرة، لكن الوجه الذي سنه لأمته أن خرج بالناس إلى المصلى متبذلاً متواضعاً متضرعاً فصلى بهم ركعتين ... إلى آخر ما تقدم من كلامه. وقال الشيخ عبد الحي اللكنوي في التعليق الممجد: وأما ما ذكروا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله مرة وتركه أخرى فلم يكن سنة فليس بشيء، فإنه لا ينكر ثبوت كليهما – أي على زعمه – مرة هذا ومرة هذا لكن يعلم من تتبع الطرق أنه لما خرج إلى الصحراء صلى فتكون الصلاة مسنونة في هذه الحالة بلا ريب ودعائه المجرد كان في غير هذه الصورة – انتهى. قال القسطلاني في شرح البخاري، وابن حجر المكي في شرح المشكاة، والشيخ عبد الحي في عمدة الرعاية حاشية شرح الوقاية: لعله لم تبلغ أباحنيفة تلك الأحاديث، وإلا لم ينكر استنان الجماعة، قال شيخنا: هذا هو الظن به والله تعالى أعلم. قال الكاساني في البدائع: ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بجماعة حديث شاذ، ورد في محل الشهرة لأن الاستسقاء يكون بملأ من الناس، ومثل هذا الحديث يرجح كذبه على صدقه أو وهمه على ضبطه، فلا يكون مقبولاً مع أن هذا مما تعم به البلوى في ديارهم، وما تعم به البلوى ويحتاج الخاص والعام إلى معرفته لا يقبل فيه الشاذ – انتهى. وكذا تفوه السرخسي، وقال في المحيط البرهاني والكافي: إنه لم يبلغنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك صلاة إلا حديث واحد شاذ لا يؤخذ به، قال ابن الهمام: ووجه الشذوذ أن فعله – عليه الصلاة والسلام – لو كان ثابتاً لاشتهر نقله اشتهاراً واسعاً ولفعله عمر حين استسقى ولأنكروا عليه إذا لم يفعل؛ لأنها كانت بحضرة جميع الصحابة لتوفر

جهر فيهما بالقراءة، ـــــــــــــــــــــــــــــ الكل في الخروج معه – عليه الصلاة والسلام – للاستسقاء، فلما لم يفعل ولم ينكروا ولم تشتهر روايتها في الصدر الأول، بل هو عن ابن عباس وعبد الله بن زيد على اضطراب في كيفيتها عن ابن عباس وأنس كان ذلك شذوذاً فيما حضره الخاص والعام والصغير والكبير. واعلم أن الشذوذ يراد باعتبار الطرق إليهم، إذ لو تيقنا عن الصحابة المذكورين رفعه لم يبق إشكال – انتهى. كذا في المرقاة. قلت: قد روى صلاته - صلى الله عليه وسلم - في الاستسقاء أربعة نفر من كبراء الصحابة: عبد الله بن زيد، وأبوهريرة، وابن عباس، وعائشة، والطرق إليهم صحيحة ثابتة قطعاً، لا يمكن إنكاره، وليس فيها اضطراب قادح أصلاً، كما لا يخفى على من تأمل في طرق هذه الأحاديث ومتونها، فالارتياب في كونها مرفوعة والتوهم بكونها كذباً أو وهماً ليس منشأه إلا التقليد الأجوف والعصبية العمياء وغمط الحق والنفور عن السنة، والخبر المذكور مشهور، قد عمل به الصحابة وغيرهم كابن الزبير وعبد الله بن يزيد والبراء بن عازب وزيد بن أرقم، وكذا عمل به من بعدهم، كما قال ابن قدامة في المغني (ج2 ص329، 339) فتبين أن الحديث قد اشتهر بينهم واستفاض في الصدر الأول حديث عمل به الصحابة وغيرهم، وتلقوه بالقبول، فادعاء شذوذه باطل مردودة على من تفوه به، ولا يلزم من اقتصار عمر على الاستغفار عدم ثبوت الصلاة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يجوز تكذيب الرواة العدول الثقات لفعل عمر، والظاهر أن عمر إنما لم يزد على الاستغفار ليبين للناس أن الصلاة ليست من شرط صحة الاستسقاء، كما قال ابن رشد، وأيضاً فقد أنكروا على عمر اقتصاره على الاستغفار، إذ قالوا: ما رأيناك استسقيت، أي على الوجه الذي استسقى به النبي - صلى الله عليه وسلم - في حالة الخروج إلى الصحراء من الصلاة والدعاء والخطبة وتحويل الرداء، ولا يضر هذه الأحاديث كونها مما تعم به البلوى، فإن خبر الواحد مقبول في ذلك في قول الجمهور لعمل الصحابة والتابعين بأخبار الآحاد في عموم البلوى، فقد قبلوا خبر عائشة في الغسل من الجماع بغير الإنزال، وخبر رافع بن خديج في المخابرة، وقد أثبتت الحنفية تثنية الإقامة وانتقاض الوضوء بخروج النجاسة من غير السبيل، ورفع اليدين مع تكبيرات العيدين بأخبار الآحاد مع كون ذلك مما تعم به البلوى. (جهر فيهما بالقراءة) قال النووي في شرح مسلم: أجمعوا على استحباب الجهر بالقراءة، وكذا نقل الإجماع على استحبابه ابن بطال، كما في الفتح، قال الحافظ: لم يقع في شيء من طرق حديث عبد الله بن زيد صفة الصلاة المذكورة، ولا ما يقرأ فيها، وقد أخرج الدارقطني – والحاكم والبيهقي – من حديث ابن عباس أنه قال: سنة الاستسقاء سنة الصلاة في العيدين – الحديث، وفيه: وصلى ركعتين كبر في الأولى سبع تكبيرات وقرأ بسبح اسم ربك الأعلى، وقرأ في الثانية: {هل أتاك حديث الغاشية} ، وكبر فيها خمس تكبيرات، وفي إسناده مقال، فإن في سنده محمد بن عبد العزيز وقال فيه البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك الحديث، وضعفه أيضاً أبوحاتم

واستقبل القبلة يدعو، ورفع يديه، وحول رداءه ـــــــــــــــــــــــــــــ وابن حبان وابن القطان، وأصله في السنن بلفظ: فصلى ركعتين، كما يصلي في العيد، فأخذ بظاهره الشافعي فقال: يكبر فيهما سبعاً وخمساً كالعيد، وهو قول سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وهو رواية عن أحمد، وذهب الجمهور مالك والأوزاعي وإسحاق وأبويوسف ومحمد وأحمد – في رواية – إلى أنه يكبر فيهما كسائر الصلوات تكبيرة واحدة للافتتاح؛ لأنه لم يذكر عبد الله بن زيد وأبوهريرة وعائشة تكبيرات الزوائد في رواياتهم، ولا ابن عباس فيما صح من روايته، وظاهرها أنه لم يكبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، والزيادة تحتاج إلى دليل صحيح يؤيدها، وتأويل الجمهور قول ابن عباس: صلى ركعتين كما كان يصلي في العيد، على أن المراد كصلاة العيد في العدد والجهر بالقراءة، وكونهما قبل الخطبة، قال الزرقاني: لم يأخذ به مالك لضعف الرواية المصرحة بالتكبير، ولما يطرق الثانية من احتمال نقص التشبيه – انتهى. وقال ابن قدامة: كيفما فعل كان جائزاً حسناً – انتهى. (واستقبل القبلة) أي بعد الصلاة، واختلفوا في استقبال القبلة متى يكون؟ فقال محمد: يخطب خطبتين بعد الصلاة، ويتوجه إلى القبلة بعد الفراغ من الخطبة، ويشتغل بالدعاء رافعاً يديه. وقالت الشافعية: إذا مضى الثلث من الخطبة الثانية يتوجه إلى القبلة ويدعو، وبعد الدعاء يستقبل الناس ويكمل الخطبة، وقالت المالكية: يتوجه إلى القبلة بعد الفراغ من الخطبة الثانية ويدعو مستقبلاً للقبلة. قال الباجي: اختلف قول مالك في استقبال القبلة متى يكون، فروى عنه ابن القاسم أنه يفعل ذلك إذا فرغ من الخطبة، وقال عنه علي بن زياد: يفعل ذلك في أثناء خطبته يستقبل القبلة ويدعو ما شاء ثم ينصرف فيستقبل الناس ويتم خطبته، وجه الأول أنه خطبة مشروعة فلا يسن قطعها بذكر كخطبتي العيد، وجه الثاني: أن السنة فيها خطبتان لا زيادة عليهما، فإذا أتى بالدعاء مفرداً كان ذلك كالخطبة الثالثة – انتهى. وقالت الحنابلة: يخطب بعد الصلاة خطبة واحدة ويدعو رافعاً يديه، ويجهر ببعض دعائه ليسمع الناس فيؤمنون على دعائه، ثم يستقبل القبلة في أثناء الخطبة ويدعو حال استقباله، والراجح عندنا: أنه يخطب خطبة واحدة ويستقبل القبلة في أثناء الخطبة ويدعو مستقبلاً للقبلة؛ لأن ظاهر الحديث يدل على هذا. (يدعو) حال (ورفع يديه) أي للدعاء، وكذا يرفع الناس أيديهم مع الإمام يدعون، وقد بوب البخاري في صحيحه: باب رفع الناس أيديهم مع الإمام في الاستسقاء، وأورد فيه حديث أنس في استسقاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبة الجمعة عند شكوى الأعرابي، وفيه: فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه يدعو ورفع الناس أيديهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعون. (وحول رداءه) بحيث صار الأيمن إلى الجانب الأيسر وطرفه الأيسر إلى الجانب الأيمن، وصار باطنه ظاهراً وظاهره باطناً، وطريقة هذا القلب والتحويل أن يأخذ بيده اليمنى الطرف الأسفل من جانب يساه وبيه اليسرى الطرف الأسفل من جانب يمينه، ويقلب يديه خلف ظهره حتى يكون الطرف المقبوض بيده اليمنى على كتفه

حين استقبل القبلة. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأعلى من جانب اليمين والطرف المقبوض بيده اليسرى على كتفه الأعلى من جانب اليسار، فإذا فعل ذلك فقد انقلب اليمين يساراً واليسار يميناً والأعلى أسفل وبالعكس، ذكر الواقدي أن طول ردائه - صلى الله عليه وسلم - كان في ستة أذرع في ثلاثة أذرع، وطول إزاره أربعة أذرع وشبرين في ذراعين وشبر كان يلبسهما في الجمعة والعيد – انتهى. وفيه دليل على استحباب تحويل الرداء في هذه العبادة، وخالف أبوحنيفة في ذلك فأنكر استنانه واستحبابه، وقال: كان ذلك تفاؤلاً بتغيير الحال كما جاء مصرحاً عند الدارقطني والحاكم والبيهقي من طريق جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن جابر بلفظ: وحول رداءه ليتحول القحط. قال الحافظ: رجاله ثقات، ورجح الدارقطني إرساله، وفي الطوالات للطبراني من حديث أنس بلفظ: وقلب رداءه لكي ينقلب القحط إلى الخصب. قلت: كون التحويل للتفاؤل لا ينافي استحبابه عند الدعاء في الاستسقاء في الصحراء، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق أن تتبع. قال ابن دقيق العيد: وقال من احتج لأبي حنيفة: إنما قلب رداءه ليكون أثبت على عاتقه عند رفع اليدين في الدعاء أو عرف من طريق الوحي تغيير الحال عند تغيير ردائه. قلنا: القلب من جهة أخرى أو من ظهر إلى بطن لا يقتضي الثبوت على العاتق، بل أي حالة اقتضت الثبوت أو عدمه في إحدى الجهتين فهو موجود في الأخرى، وإن كان قد قرب من السقوط تلك الحال فيمكن تثبيته من غير قلب، والأصل عدم ما ذكر من نزول الوحي بتغير الحال عند تغيير الرداء، والاتباع لفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى من تركه لمجرد احتمال الخصوص مع ما عرف من الشرع من صحة التفاؤل – انتهى. ويستحب أن يحول الناس بتحويل الإمام، وهو قول الجمهور: مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، لما روى أحمد من حديث عبد الله بن زيد بلفظ: وحول الناس معه، وقال الليث وأبويوسف ومحمد وابن المسيب وعروة والثوري: يحول الإمام وحده، والحق ما ذهب إليه الجمهور؛ لأن الظاهر أن تحويلهم كان عن علمه - صلى الله عليه وسلم -، فتقريره إياهم إذ حولوا على كونه سنة في حقهم أيضاً، واستثنى الشافعية والمالكية النساء، فقالوا: لا يستحب في حقهن، وظاهر قوله: وحول الناس معه أنه يستحب ذلك للنساء أيضاً. (حين استقبل القبلة) وفي رواية لمسلم: لما أراد أن يدعو استقبل القبلة وحول رداءه، وفي أخرى له: فجعل إلى الناس ظهره يدعو الله واستقبل القبلة وحول رداءه، وأفادت هذه الروايات أن التحويل وقع في أثناء الخطبة عند إرادة الدعاء حال استقبال القبلة، وفي رواية للبخاري: فحول إلى الناس ظهره واستقبل القبلة يدعو ثم حول رداءه، قال الحافظ: ظاهره أن الاستقبال وقع سابقاً لتحويل الرداء، وهو ظاهر كلام الشافعي، ووقع في كلام كثير من الشافعية أنه يحوله حال الاستقبال – انتهى. وقيل: يحمل "ثم" في رواية البخاري على معنى "الواو" لتوافق الروايات الأخرى. واعلم أنه لم يرد في حديث عبد الله بن زيد في الصحيحين التصريح بالخطبة، وإنما ذكر تحويل الظهر إلى

........................ ـــــــــــــــــــــــــــــ الناس واستقبال القبلة والدعاء وتحويل الرداء فاحتج به لأبي حنيفة على أنه لا خطبة في الاستسقاء، وإنما يدعو ويتضرع، وهي رواية عن أحمد، وهو الحق والصواب لما وقع من التصريح بالخطبة في حديث عبد الله بن زيد عند أحمد (ج4 ص41) وفي حديث أبي هريرة عند ابن ماجه والبيهقي (ج3 ص374) والطحاوي (ص192) ، وفي حديث عائشة عند أبي داود والحاكم (ج1 ص328) والبيهقي (ج3 ص349) واحتج أيضاً لمن لم يقل بالخطبة بقول ابن عباس: لم يخطب خطبتكم هذه ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير. أخرجه أبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم (ج1 ص327) والبيهقي (ج3 ص347-348) والطحاوي (ج1 ص191) ، وأجيب عنه بأن ابن عباس إنما نفى وقوع خطبة منه - صلى الله عليه وسلم - مشابهة لخطبة المخاطبين ولم ينف وقوع مطلق الخطبة منه - صلى الله عليه وسلم -. قال شيخنا: النفي متوجه إلى القيد لا إلى المقيد كما يدل على ذلك الأحاديث المصرحة بالخطبة. وفي رواية أبي داود: فرقى المنبر ولم يخطب خطبتكم هذه، فقوله: فرقى المنبر أيضاً يدل على أن النفي متوجه إلى القيد، قال الزيلعي (ج2 ص242) : مفهوم قول ابن عباس أنه خطب لكنه لم يخطب خطبتين كما يفعل في الجمعة، ولكنه خطب خطبة واحدة، فلذلك نفى النوع ولم ينف الجنس، ولم يرو أنه خطب خطبتين، فلذلك قال أبويوسف: يخطب خطبة واحدة، ومحمد يقول: يخطب خطبتين، ولم أجد له شاهداً – انتهى. وقال ابن قدامة: قول ابن عباس نفي للصفة لا لأصل الخطبة أي لم يخطب كخطبتكم هذه إنما كان جل خطبته الدعاء والتضرع والتكبير – انتهى. قال بعض من كتب على سنن أبي داود من أهل عصرنا: ظاهر قوله: فلم يخطب خطبتكم هذه أن النفي راجع إلى القيد والمقيد جميعاً ولم يخطب - صلى الله عليه وسلم - في هذه المرة قال: وقوله ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير كالصريح في أنه لم يخطب مطلقاً فإن الخطبة كانت مستقبل الناس مستدير الكعبة والدعاء بالعكس، قال: وأما قوله: فرقى المنبر فهو مختلف فيه، ذكره عثمان بن أبي شيبة عند أبي داود ومحمد بن عبيد بن محمد عند النسائي، وعثمان له مع كونه ثقة أوهام، ومحمد بن عبيد قال فيه النسائي ومسلمة: لا بأس به، ولم يذكر هذا اللفظ غيرهما. قلت: وقع عند أحمد والبيهقي من رواية وكيع عن سفيان عن هشام بن إسحاق عن أبيه عن ابن عباس: لم يخطب كخطبتكم هذه، وهذا صريح في أن ابن عباس إنما نفى الخطبة المشابهة لخطبتهم ولم ينف وقوع مطلق الخطبة، ولا يفهم منه غير ذلك، فهو ظاهر في أن النفي راجع إلى القيد فقط، وأما قوله: لكن لم يزل في الدعاء ... الخ فلا ينافي الخطبة؛ لأن معناه أن جل خطبته وأكثرها كان الدعاء والتضرع والتكبير، كما قال ابن قدامة، وأيضاً الدعاء يكون بعد فراغ الموعظة في آخر الخطبة وبعد الدعاء يستقبل الإمام الناس ويتم خطبته، وقوله: فرقى المنبر صريح في وقوع الخطبة في هذه المرة أيضاً؛

......................... ـــــــــــــــــــــــــــــ لأن الظاهر أنه لا يرقاه إلا للخطبة، ولم يتفرد به عثمان ومحمد بن عبيد، بل قد تابعهما أبوثابت المدني محمد بن عبيد الله بن محمد عند البيهقي، وهو أيضاً ثقة، فهي زيادة صحيحة، رواها جماعة من الثقات ولا يضرها سكوت من سكت عنها، ولا دليل على كونها وهما فلابد من قبولها. ثم إنه اختلفت الأحاديث في وقت الخطبة للاستسقاء، ففي حديث عبد الله بن زيد عند أحمد (ج4 ص41) وحديث أبي هريرة أنه بدأ بالصلاة قبل الخطبة، وفي حديث عائشة عند أبي داود وغيره أنه بدأ بالخطبة قبل الصلاة، وكذا في حديث ابن عباس عند أبي داود ففيه خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - متبذلاً متواضعاً متضرعاً حتى أتى المصلى فرقى المنبر فلم يخطب خطبتكم هذه ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير ثم صلى ركعتين، وقد استدل بها على أن الخطبة قبل الصلاة لكن ليس فيها التصريح بأنه خطب، واختلفوا في دفع هذا الاختلاف، فقال الزيلعي في نصب الراية (ج3 ص242) بعد ذكر الروايات المذكورة: ولعلهما واقعتان، وقال ابن قدامة: يحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل الأمرين، ورجح البيهقي رواية تقديم الصلاة على الخطبة من حديث عبد الله بن زيد، كما يظهر من كلامه في باب ذكر الأخبار التي تدل على أنه دعا أو خطب قبل الصلاة (ج3 ص348-349) ، قال القرطبي: ويعتضد القول بتقديم الصلاة على الخطبة بمشابهتها للعيد، وكذا ما تقرر من تقديم الصلاة أمام الحاجة، ورجح بعضهم تقديم الخطبة. قال ابن رشد في الجمع بين ما اختلف من الروايات في ذلك بأنه - صلى الله عليه وسلم - بدأ بالدعاء ثم صلى ركعتين ثم خطب فاقتصر بعض الرواة على شيء، وبعضهم على شيء، وعبر بعضهم عن الدعاء بالخطبة، فلذلك وقع الاختلاف – انتهى. واختلف أيضاً مذاهب العلماء في محل الخطبة، واختلافهم إنما هو في الاستحباب لا في الجواز، فالمرجح عند مالك والشافعي وأبي يوسف ومحمد: الشروع بالصلاة، وهو المشهور عن أحمد. قال ابن عبد البر: وعليه جماعة الفقهاء. وقال النووي: وبه قال الجماهير، وذهب ابن حزم والليث وابن المنذر إلى أن الخطبة قبل الصلاة، وروي ذلك عن عمر – رضي الله عنه – وابن الزبير وأبان بن عثمان وهشام بن إسماعيل وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، كما في سنن الأثرم، وعن أحمد رواية كذلك، قال النووي: وكان مالك يقول به ثم رجع إلى قول الجماهير. قال أصحابنا: ولو قدم الخطبة على الصلاة صحتا، ولكن الأفضل تقديم الصلاة كصلاة العيد وخطبتها، وجاء في الأحاديث ما يقتضي جواز التقديم والتأخير، واختلفت الرواية في ذلك عن الصحابة – انتهى. وعن أحمد رواية ثالثة أنه مخير في الخطبة قبل الصلاة وبعدها. قال ابن قدامة: لورود الأخبار بكلا الأمرين ودلالتها على كلتا الصفتين، فيحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل الأمرين – انتهى. وقال الشوكاني بعد ذكر القولين الأولين ما لفظه:

متفق عليه. 1511- (2) وعن أنس قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرفع يديه في شيء من دعاء إلا في الاستسقاء، فإنه يرفع حتى يرى بياض إبطيه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وجواز التقديم والتأخير بلا أولوية هو الحق – انتهى. وتقدم أنه روي عن أحمد نفي الخطبة أيضاً، قال ابن قدامة بعد ذكر الروايات الأربعة عنه: وأياً ما فعل من ذلك فهو جائز؛ لأن الخطبة غير واجبة على الروايات كلها، فإن شاء فعلها وإن شاء تركها، والأولى أن يخطب بعد الصلاة خطبة واحدة لتكون كالعيد، وليكونوا قد فرغوا من الصلاة أن أجيب دعاءهم فأغيثوا فلا يحتاجون إلى الصلاة في المطر – انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الاستسقاء في مواضع، وأخرجه أيضاً في الدعوات، وأخرجه مسلم في الاستسقاء كلاهما بألفاظ مختلفة، ولفظ المشكاة بهذا السياق والنسق ليس لهما ولا لأحدهما، بل ولا لغيرهما من أصحاب السنن والمسانيد والمعاجم، والجهر بالقراءة لم يذكره في رواية مسلم قد انفرد به البخاري، وليس في رواية الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد ذكر رفع اليدين أصلاً، نعم رواه الترمذي وأبوداود والنسائي، ولا أدري من أين نقل البغوي والمصنف هذا السياق؟ والظاهر أن هذا من تصرف البغوي، والعجب من المصنف إنه لم ينتبه لذلك، والحديث أخرجه أيضاً أحمد ومالك والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم. 1511- قوله (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرفع يديه) أي رفعاً بليغاً، يعني لا يبالغ في الرفع، وإلا فأصل الرفع ثابت في مطلق الدعاء، وآخر الحديث يشعر بهذا المعنى (في شي من دعاء إلا في الاستسقاء) أي في دعائه (فإنه يرفع) أي كان يرفع يديه (حتى يرى) بصيغة المجهول (بياض إبطيه) بكسر الهمزة وسكون الباء الموحدة وقد تكسر باطن المنكب يذكر ويؤنث، قال الحافظ: قوله: إلا في الاستسقاء، ظاهره نفي الرفع في كل دعاء غير الاستسقاء، وهو معارض بالأحاديث الثابتة في الرفع في غير الاستسقاء وهي كثيرة، فذهب بعضهم إلى أن العمل بها أولى، وحمل حديث أنس على نفي رؤيته، وذلك لا يستلزم نفي رؤية غيره، ورواية المثبت مقدمة على النافي، وذهب آخرون إلى تأويل حديث أنس المذكور لأجل الجمع، بأن يحمل النفي على صفة مخصوصة، إما على الرفع البليغ، ويدل عليه قوله: حتى يرى بياض إبطيه، ويؤيده أن غالب الأحاديث التي وردت في رفع اليدين في الدعاء، إنما المراد به مد اليدين وبسطهما عند الدعاء، وكأنه عند الاستسقاء مع ذلك زاد فرفعهما إلى جهة وجهه حتى حاذتاه، وحينئذٍ يرى بياض إبطيه، وإما على صفة اليدين في ذلك كما في رواية مسلم التي تليه، ولأبي داود من حديث أنس أيضاً: كان يستسقي هكذا، ومد يديه وجعل بطونهما مما يلي الأرض حتى رأيت بياض إبطيه.

متفق عليه. 1512- (3) وعنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء. رواه مسلم. 1513- (4) وعن عائشة قالت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رأى المطر قال: ((اللهم صيباً ـــــــــــــــــــــــــــــ (متفق عليه) ، وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي والبيهقي (ج3 ص357) ، والحاكم (ص327) ، وذكر المنذري والقسطلاني والعيني: ابن ماجه أيضاً فيمن خرجه في الاستسقاء، ولم أجده، ونسبه الجزري في جامع الأصول (ج7 ص139) للبخاري ومسلم وأبي داود والنسائي فقط، نعم روى ابن ماجه عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسقى حتى رأيت أو رؤي بياض إبطيه، أخرجه أيضاً أحمد (ج2 ص236) والبزار. 1512- قوله (إن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء) على عكس ما هو المتعارف في الدعاء، قيل: الحكمة في الإشارة بظهر الكفين في الاستسقاء دون غيره التفاؤل بتقليب الحال، كما قيل في تحويل الرداء، قال التوربشتي: معنى الحديث أنه كان يجعل بطن كفيه إلى الأرض وظهرهما إلى السماء، يشير بذلك إلى قلب الحال ظهر البطن وذلك مثل صنيعه في تحويل الرداء، ويحتمل وجهاً آخر، وهو أنه جعل بطن كفيه إلى الأرض إشارة إلى مسألته من الله تعالى بأن يجعل بطن السحاب إلى الأرض لينصب ما فيه من المطر كما أن الكف إذا جعل وجهها أي بطنها إلى الأرض أنصب ما فيها من الماء – انتهى. وقال النووي: قال العلماء: السنة في كل دعاء لرفع البلاء أن يرفع يديه جاعلاً ظهور كفيه إلى السماء، وإذا دعا بسؤال شيء وتحصيله أن يجعل كفيه إلى السماء – انتهى. وقد أخرج أحمد من حديث السائب بن خلاد عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سأل جعل باطن كفيه إليه، وإذا استعاذ جعل ظاهرهما إليه، وفي إسناده ابن لهيعة، وفيه مقال مشهور. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أبوداود، وتقدم لفظه، وأخرجه البيهقي بكلا اللفظين (ج3 ص357) . 1513- قوله (كان إذا رأى المطر) يحتمل أن يكون المراد إذا رأى المطر بعد الاستسقاء، والمطر بفتح الطاء: ماء السحاب (صيباً) بفتح الصاد وتشديد الياء المكسورة أي منهمراً متدافعاً، أصله واو لأنه من صاب يصوب صوباً إذا نزل فأصاب الأرض وبناءه صيوب كفعيل، فأبدلت الواو ياءً وأدغمت كسيد، قال ابن عباس في قوله تعالى: {أو كصيب من السماء} [البقرة: 19] : الصيب المطر، وبه قال الجمهور. قال الواحدي: هو المطر الكثير، وقيل: المطر الذي يجري ماؤه، وقال بعضهم: الصيب السحاب، ولعله أطلق ذلك مجازاً؛ لأنه من صاب المطر يصوب إذا نزل فأصاب الأرض، ويؤيد معنى المطر الكثير ما في الكشاف: الصيب المطر الذي يصوب، أي

نافعاً)) رواه البخاري. 1514- (5) وعن أنس قال: أصابنا ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مطر، قال: فحسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثوبه حتى أصابه من المطر، فقلنا: يا رسول الله! لِمَ صنعتَ هذا؟ قال: ((لأنه حديث عهد بربه)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ ينزل ويقع، وفيه مبالغات من جهة التركيب والبناء والتكثير، فدل على أنه نوع من المطر شديد هائل، ولذا تممه بقوله: ((نافعاً)) صيانة عن الأضرار والفساد، وهو منصوب بفعل مقدر أي اجعله، كما في رواية النسائي وابن ماجه والبيهقي أو أسقنا أو أسألك. وقيل: على الحال، أي أنزله علينا حال كونه صيباً أي مطراً (نافعاً) صفة للصيب؛ ليخرج بذلك الصيب الضار أو ما لا يترتب عليه نفع أعم من أن يترتب عليه ضرر أم لا، قال في المصابيح: وهذا أي قوله ((صيباً نافعاً)) كالخبر الموطئ في قولك: زيد رجل فاضل، إذ الصفة هي المقصودة بالإخبار بها، ولولا هي لم تحصل الفائدة، هذا إن بنينا على قول ابن عباس: إن الصيب هو المطر، وإن بنينا على أنه المطر الكثير كما نقله الواحدي فكل من صيباً ونافعاً مقصود، والاقتصار عليه محصل للفائدة – انتهى. وفي الحديث دليل على استحباب الدعاء المذكور عند نزول المطر للازدياد من الخير والبركة، وفي رواية ابن ماجه والبيهقي والنسائي في عمل اليوم والليلة: هنيئاً، بدل نافعاً، وفي رواية ابن أبي شيبة، وكذا في رواية لابن ماجه: سيباً نافعاً – بفتح السين المهملة وإسكان الياء – مصدر بمعنى الفاعل صفة لمحذوف، أي اجعله مطراً جارياً، من ساب المطر يسيب سيباً إذا جرى، وذهب كل مذهب، وقيل: السيب العطاء (رواه البخاري) في الاستسقاء، وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي في السنن، وفي عمل اليوم والليلة وابن ماجه في الدعاء والبيهقي (ج3 ص361) وابن أبي شيبة. 1514- قوله (فحسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثوبه) أي كشف بعض ثوبه عن بدنه (لم صنعت هذا) أي ما الحكمة فيه (قال: لأنه) أي المطر الجديد (حديث عهد بربه) أي جديد النزول بأمر ربه أو بإيجاد ربه وتكوينه إياه، يعني أن المطر رحمة، وهي قريبة العهد بخلق الله تعالى لها فيتبرك بها، وفيه دليل على أنه يستحب عند أول المطر أن يكشف بدنه ليناله المطر لذلك. وقال التوربشتي: أراد أنه قريب عهد بالفطرة، وأنه هو الماء المبارك الذي أنزله الله من المزن ساعتئذ فلم تمسه الأيدي الخاطئة ولم تكدره ملاقاة أرض عبد عليها غير الله. قال المظهر: فيه تعليم لأمته أن يتقربوا ويرغبوا فيما فيه خير وبركة – انتهى. ويسن الدعاء وطلب الإجابة عند نزول المطر، كما في حديث سهل بن سعد وحديث أبي أمامة رواهما البيهقي (ج3 ص360) (رواه مسلم) في الاستسقاء، وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود في الدعاء والبيهقي (ج3 ص359) .

{الفصل الثاني}

{الفصل الثاني} 1515- (6) عن عبد الله بن زيد قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المصلى، فاستسقى وحول رداءه حين استقبل القبلة، فجعل عطافه الأيمن على عاتقه الأيسر، وجعل عطافه الأيسر على عاتقه الأيمن، ثم دعا الله، رواه أبوداود. 1516- (7) وعنه أنه قال: استسقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه خميصة له سوداء، فأراد أن يأخذ أسفلها، فيجعله أعلاها، فلما ثقلت قلبها على عاتقيه. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1515- قوله (فجعل عطافه) بكسر العين المهملة، أي طرف ردائه (الأيمن على عاتقه الأيسر، وجعل عطافه الأيسر على عاتقه الأيمن) قال في المجمع: العطاف والعطف الرداء، سمي عطافاً لوقوعه على عطفي الرجل، وهما ناحيتا عنقه، إنما أضاف العطاف إلى الرداء لأنه أراد أحد شقي العطاف، فالهاء ضمير الرداء، ويجوز أن يكون للنبي - صلى الله عليه وسلم - ويريد بالعطاف جانب الرداء وطرفه (ثم دعا الله) أي لرفع القحط ونزول الغيث، وفي الحديث بيان المراد من تحويل الرداء، وهو أن يجعل الأيمن منه أيسر والأيسر منه أيمن، وليس فيه ذكر الصلاة، وهو محمول على نسيان الراوي أو أنه اختصره. (رواه أبوداود) وسكت عنه، وأخرجه أيضاً البيهقي (ج3 ص350) من طريق أبي داود. 1516- قوله (وعليه خميصة) أي كساء أسود مربع له علمان في طرفيه من صوف وغيره، فإن لم يكن معلماً فليس بخميصة (له) أي للنبي - صلى الله عليه وسلم - (سوداء) صفة لخميصة، وفيه تجريد، وقال الجزري في النهاية: الخميصة ثوب خز أو صوف معلم. وقيل: لا تسمى خميصة إلا أن تكون سوداء معلمة، وكانت من لباس الناس قديماً، وجمعها الخمائص – انتهى. (فلما ثقلت) أي الخميصة يعني عسر عليه جعل أسفلها أعلاها (قلبها) أي الخميصة بتخفيف اللام. وقيل: بتشديدها (على عاتقيه) بأن جعل جانبها الأيمن على عاتقه الأيسر، والجانب الأيسر على عاتقه الأيمن. قال الطحاوي بعد رواية الأحاديث التي فيها ذكر صفة قلب الرداء ما لفظه: ففي هذه الآثار قلبه لردائه وصفة قلب الرداء كيف كان وإنه إنما جعل ما على يمينه منه على يساره، وما على يساره على يمينه لما ثقل عليه أن يجعل أعلاه أسفله وأسفله أعلاه، فكذلك نقول ما أمكن أن يجعل أعلاه أسفله وأسفله أعلاه، فقلبه كذلك هو وما لا يمكن ذلك فيه حوله فجعل الأيمن منه أيسر والأيسر منه أيمن – انتهى. قلت: اختلفوا في حكم التنكيس – وهو أن يجعل

رواه أحمد وأبوداود. 1517- (8) وعن عمير مولى آبي اللحم، أنه ـــــــــــــــــــــــــــــ أسفله أعلاه -، فقال الجمهور: مالك وأحمد باستحباب التحويل فقط، وروي ذلك عن أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز وهشام بن إسماعيل وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وكان يقول به الشافعي ثم رجع فاستحب فعل ما هم به - صلى الله عليه وسلم - من تنكيس الرداء مع التحويل الموصوف، وتقدم مذهب الحنفية في كلام الطحاوي، وزعم القرطبي كغيره إن الشافعي اختار في الجديد تنكيس الرداء لا تحويله، والذي في كتاب الأم أنه اختار التنكيس مع التحويل. قال الحافظ في الفتح: ولا ريب أن الذي استحبه الشافعي أحوط – انتهى. وذلك لأنه اختار الجمع بين التحويل والتنكيس كما تقدم، وإذا كان مذهبه ما ذكره عنه القرطبي فليس بأحوط، واستدل الجمهور بحديث العطاف. قال ابن قدامة: وفي حديث أبي هريرة نحو ذلك والزيادة التي نقلوها – يعني في التنكيس – إن ثبتت فيه ظن الراوي لا يترك لها فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد نقل تحويل الرداء جماعة لم ينقل أحد منهم أنه جعل أعلاه أسفله، ويبعد أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك ذلك في جميع الأوقات لثقل الرداء – انتهى. قلت: الزيادة المذكورة لا تنحط عن درجة الحسن، بل هي صحيحة، وهي إخبار عن مشاهدة، وفيها الجمع بين الروايات، فالأحوط عندنا هو ما ذكره الشافعي في الأم من استحباب التنكيس مع التحويل، والله تعالى أعلم. (رواه أحمد) (ج4 ص41-42) ، (وأبوداود) وأخرجه الحاكم (ج1 ص327) والبيهقي (ج3 ص351) وأبوعوانة وابن حبان، وأخرجه النسائي مختصراً، أي إلى قوله: وعليه خميصة سوداء، والحديث قد سكت عنه أبوداود والمنذري، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وقال في الإلمام: إسناده على شرط الشيخين. 1517- قوله (وعن عمير) بالتصغير مولى آبي اللحم الغفاري، صحابي شهد خيبر مع مولاه، وعاش إلى نحو السبعين. (مولى آبى اللحم) بألف ممدودة اسم فاعل من أبى بمعنى امتنع. قال الحافظ: آبى اللحم – بالمد – بلفظ اسم الفاعل من الإباء، صحابي مشهور غفاري، يقال: إن اسمه خلف، وقيل غير ذلك، شهد حنيناً، ومعه مولاه عمير، وإنما لقب بآبي اللحم لأنه كان يأبى أن يأكل اللحم مطلقاً، وقيل: لأنه كان لا يأكل ما ذبح للأصنام في الجاهلية، قال ابن عبد البر: هو من قدماء الصحابة وكبارهم، ولا خلاف أنه شهد حنيناً وقتل بها، قيل: هو الذي يروي هذا الحديث ولا يعرف له حديث سواه، قال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمة آبي اللحم: له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث واحد في الاستسقاء، روى عنه عمير مولاه (أنه) الضمير لعمير.

رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستسقي عند أحجار الزيت، قريباً من الزوراء قائماً يدعو يستسقي، رافعاً يديه قِبَل وجهه لا يجاوزه بهما رأسه، رواه أبوداود، وروى الترمذي، والنسائي نحوه. ـــــــــــــــــــــــــــــ (رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستسقي عند أحجار الزيت) قال ياقوت الحموي: موضع بالمدينة، قريب من الزوراء، وهو موضع صلاة الاستسقاء، وقال العمراني: أحجار الزيت موضع بالمدينة داخلها، وقال القاري: موضع بالمدينة من الحرة، سمي بذلك لسواد أحجاره كأنها طليت بالزيت – انتهى. (قريباً) أي حال كونه قريباً أو في مكان قريب (من الزوراء) بفتح الزاء المعجمة وسكون الواو موضع عند سوق المدينة مرتفع كالمنارة قرب المسجد (قائماً) أي يستسقي قائماً (يدعو يستسقي) حالان أي داعياً مستسقياً (رافعاً يديه) وفي رواية لأحمد: رافعاً كفيه (قبل وجهه) بكسر القاف وفتح الموحدة أي قبالته (لا يجاوز بهما) أي بيديه حين رفعهما (رأسه) قال القاري: لا ينافي ما مر عن أنس أنه كان يبالغ في الرفع للاستسقاء لاحتمال أن ذلك كان أكثر أحواله، وهذا في نادر منها أو بالعكس – انتهى. وزاد أحمد في روايته: مقبل بباطن كفيه إلى وجهه، وهذا لا يخالف ما مر من حديثه أيضاً أنه كان يشير بظهر كفيه إلى السماء في الاستسقاء، أي يجعل بطون يديه مما يلي الأرض؛ لأنه يحتمل أنه كان يفعل تارة كذا وتارة كذا، والله تعالى أعلم. والحديث استدل به لأبي حنيفة على عدم استنان الصلاة في الاستسقاء؛ لأنه ليس فيه ذكر الصلاة، وقد تقدم الجواب عنه. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاًُ أحمد (ج5 ص223) وسكت عنه أبوداود. (وروى الترمذي والنسائي نحوه) أي معناه كلاهما عن قتيبة عن الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن يزيد بن عبد الله عن عمير مولى آبي اللحم عن آبي اللحم أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند أحجار الزيت يستسقي، وهو مقنع بكفيه يدعو، قال الترمذي: كذا قال قتيبة في هذا الحديث "عن آبي اللحم" ولا نعرف له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا هذا الحديث الواحد، وعمير مولى آبي اللحم قد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث، وله صحبة – انتهى. قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي: هكذا روى الترمذي والنسائي عن قتيبة أنه زاد في الإسناد "عن آبي اللحم"، ولكن رواه أحمد عن قتيبة نفسه من حديث عمير مولى آبي اللحم ولم يذكر عن آبي اللحم، وذكر الحديث في مسند عمير، فلعل قتيبة لم يحفظ هذا الحديث جيداً، فكان يرويه مرة هكذا ومرة هكذا، وقد أخطأ في إسناده خطأ آخر إذ جعل الرواية عن يزيد بن عبد الله بن الهاد عن عمير مباشرة، والصواب أن يزيد رواه عن محمد بن إبراهيم التيمي عن عمير كما في رواية أحمد وأبي داود من طريق حيوة وعمر بن مالك عن ابن الهاد – انتهى. قلت: ورواه الحاكم (ج1 ص327) من طريق يحيى بن بكير عن الليث، فجعله من حديث عمير مولى آبي اللحم، ولم يذكر "عن آبي اللحم" وقال: صحيح الإسناد، وعمير مولى آبي اللحم له صحبة – انتهى. وهذا يؤيد أن الحديث

1518- (9) وعن ابن عباس قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني في الاستسقاء متبذلاً، متواضعاً، متخشعاً، متضرعاً، رواه الترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ من مسند عمير لا من مسند مولاه آبي اللحم، وأن قتيبة لم يحفظ جيداً، ووافق الذهبي الحاكم في تصحيح الحديث، لكن زاد في السند لفظ "عن آبي اللحم" وروى أحمد (ج4 ص36) وأبوداود من طريق شعبة عن عبد ربه بن سعيد عن محمد بن إبراهيم قال: أخبرني من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو عند أحجار الزيت باسطاً كفيه، اللفظ لأبي داود، قال الحافظ في مبهمات التقريب، وتهذيب التهذيب: محمد بن إبراهيم التيمي أخبرني من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - عند أحجار الزيت، هو عمير مولى آبي اللحم – انتهى. وهو أيضاً يرجح كون الحديث من مسند عمير لا من مسند مولاه آبي اللحم. 1518- قوله (يعني في الاستسقاء) أي يريد ابن عباس أنه – عليه الصلاة والسلام – خرج إلى المصلى في الاستسقاء، وهو من كلام البغوي، وأول الحديث قال إسحاق بن عبد الله بن الحارث بن كنانة: أرسلني الوليد بن عتبة - وكان أمير المدينة – إلى ابن عباس أسأله عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الاستسقاء فأتيته فقال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (متبذلاً) بمثناة فوقية ثم موحدة ثم ذال معجمة، أي لابساً ثياب البذلة، تاركاً لثياب الزينة، تواضعاً لله تعالى وإظهاراً للحاجة. قال في النهاية: التبذل ترك التزين والتهيء بالهيئة الحسنة الجميلة على جهة التواضع (متواضعاً) في الظاهر (متخشعاً) في الباطن، وقال الشوكاني: قوله: متخشعاً، أي مظهراً للخشوع ليكون ذلك وسيلة إلى نيل ما عند الله عز وجل، زاد في رواية ابن ماجه والحاكم، وكذا في رواية لأحمد (ج1 ص230) والبيهقي (ج3 ص344) : مترسلاً، أي متأنياً غير مستعجل في مشيه، يقال: ترسل الرجل في كلامه ومشيه: إذا لم يعجل (متضرعاً) أي مظهراً للضراعة، وهي التذلل عند طلب الحاجة والمبالغة في السؤال والرغبة، ووقع عند أبي داود فيما روى عن عثمان بن أبي شيبة: حتى أتى المصلى فرقى على المنبر، وكذا وقع ذكر الجلوس على المنبر عند النسائي من رواية أبي جعفر محمد بن عبيد بن محمد النحاس الكوفي المحاربي، وعند البيهقي من رواية أبي ثابت محمد بن عبيد الله بن محمد المدني، ووقع عند الثلاثة، وكذا عند الترمذي وغيره: فلم يخطب خطبتكم هذه، ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير، وصلى ركعتين كما كان يصلي في العيدين، ولفظ أبي داود: ثم صلى ركعتين كما يصلي في العيد، وقد تقدم الكلام على معناه (رواه الترمذي) ... الخ، وأخرجه أيضاً أحمد (ج1 ص230، 269، 355) ، وأبوعوانة وابن حبان والحاكم (ج1 ص326) ، والدارقطني والبيهقي (ج3 ص344) ، وصححه الترمذي وأبوعوانة وابن حبان.

1519- (10) وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا استسقى قال: ((اللهم اسق عبادك وبهيمتك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت)) رواه مالك وأبوداود. 1520- (11) وعن جابر قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يواكيء ـــــــــــــــــــــــــــــ 1519- قوله (عن أبيه) شعيب (عن جده) عبد الله بن عمرو بن العاص (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا استسقى) أي طلب الغيث عند الحاجة (قال) أي في دعائه (اللهم اسق) بهمزة الوصل والقطع (عبادك) من الرجال والنساء والعبيد والإماء والصغير والكبير، وفي الإضافة إليه تعالى مزيد الاستعطاف (وبهيمتك) أي بهائمك من جميع دواب الأرض وحشراتها، قال في القاموس: البهيمة كل ذات أربع قوائم، ولو في الماء، أو كل حي لا يميز – انتهى. وهذا لفظ مالك في الموطأ، وعند أبي داود: وبهائمك، بلفظ الجمع (وانشر) بضم الشين، أي ابسط وعمم (رحمتك) أي المطر ومنافعه وبركاته، قال تعالى: {وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته} [الشورى: 28] ، (وأحي) أمر من الإحياء (بلدك الميت) بتشديد الياء أن بإنبات الأرض بعد موتها أي جدبها ويبسها كأنه تلميح إلى قوله تعالى: {فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحي الأرض بعد موتها} [الروم: 50] وإلى قوله: {والله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها} [فاطر: 9] ، وإلى قوله: {وأحيينا به بلدة ميتاً} [ق: 11] ، قال الطيبي: يريد به بعض البلاد المبعدين عن مظان الماء الذي لا ينبت فيها عشب للجدب فسماه ميتاً على الاستعارة ثم فرع عليه الإحياء، والحديث دليل على استحباب الدعاء بما اشتمل عليه عند الاستسقاء (رواه مالك وأبوداود) ظاهر هذا أنهما روياه موصولاً، وليس كذلك، فإن حديث مالك مرسل، قال الزرقاني: رواه مالك وجماعة عن يحيى بن سعيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً، ورواه آخرون عن يحيى عن عمرو عن أبيه عن جده مسنداً، منهم الثوري عند أبي داود – انتهى. قلت: وأخرجه البيهقي (ج3 ص356) من طريق عبد الرحيم بن سليمان الأشل عن الثوري موصولاً، قال الحافظ في التلخيص (ص151) : ورجح أبوحاتم إرساله – انتهى. 1520- قوله (رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يواكئ) بضم الياء المثناة تحت وآخره همزة بصيغة المضارع من المواكأة، هكذا وقع في جميع النسخ من المصابيح والمشكاة، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7 ص140) ، وهكذا ذكره الخطابي في معالم السنن (ج1 ص254) ، ثم فسره فقال: معناه يتحامل على يديه إذا رفعهما ومدهما في الدعاء، ومن هذا التوكؤ على العصا وهو التحامل عليها – انتهى. قال القاري: المواكأة والتوكؤ والاتكاء: الاعتماد، والتحامل على الشيء في النهاية، أي يتحامل على يديه أي يرفعهما ويمدهما في الدعاء، ومنه

فقال: ((اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً، مريئاً، مريعاً، ـــــــــــــــــــــــــــــ التوكؤ على العصا، وهو التحامل عليها، هكذا قال الخطابي في معالم السنن، والذي جاء في سنن أبي داود: "بواكئ" بالباء الموحدة، هكذا جاء في الكتاب فيما قرأناه، وبحثت عنه في نسخ أخرى فوجدته كذلك – انتهى. قلت: وهكذا وقع بالباء الموحدة المفتوحة عند الحاكم في المستدرك، أي جاءت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - نفوس باكية أو نساء باكيات لانقطاع المطر عنهم، ملتجئة إليه، قال في فتح الودود: هذه هي الرواية المعتمدة في سنن أبي داود، وقد صحف كثير منهم نسخ السنن بوجوه متعددة لا يظهر لبعضها معنى صحيح – انتهى. وقال المنذري: هكذا وقع في روايتنا وفي غيرها مما شاهدناه "بواكئ" بالباء الموحدة المفتوحة، وذكر الخطابي قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يُواكئ – بضم الياء باثنتين من تحتها – انتهى. قال الحافظ في التلخيص: وقد تعقبه النووي في الخلاصة وقال: وهذا الذي ادعاه الخطابي لم تأت به الرواية ولا انحصر الصواب فيه، بل ليس هو واضح المعنى، وصحح بعضهم ما قال الخطابي. قال الحافظ: وقد رواه البزار بلفظ يزيل الإشكال، وهو عن جابر أن بواكي أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد أعله الدارقطني في العلل بالإرسال، وقال: رواية من قال عن زيد الفقير من غير ذكر جابر أشبه بالصواب، وكذا قال أحمد بن حنبل كما في البيهقي (ج3 ص355) ، وجرى النووي في الأذكار على ظاهره فقال: صحيح على مسلم – انتهى. قلت: وفي رواية للبيهقي: أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - هوازن بدل بواكي. (اللهم أسقنا) بالوصل والقطع (غيثاً) أي مطراً يغيثنا من الجدب، فقوله (مغيثاً) بضم الميم تأكيداً وتجريداً، وأريد به المنقذ من الشدة على ما في النهاية. قال الطيبي: عقب الغيث وهو المطر الذي يغيث الخلق من القحط على الإسناد المجازي وإلا فالمغيث في الحقيقة هو الله سبحانه – انتهى. وقال القاري: مغيثاً بضم أوله أي معيناً من الإغاثة بمعنى الإعانة، وقيل: أي مشبعاً (مريئاً) بفتح الميم وبالمد وبالهمزة أي هنيئاً محمود العاقبة لا ضرر فيه من الغرق والهدم، في النهاية: مرأني الطعام وامرأني: إذا لم يثقل على المعدة وانحدر عنها طيباً، وقيل: بفتح الميم وتشديد الياء بغير همز، أبدلت الهمزة ياء ثم أدغمت، وقيل: هو ناقص، ومعناه: كثيراً غزيراً، المري والمرية: الناقة العزيرة الدر، من المري وهو الحلب، قال التوربشتي: في شرح المصابيح: مريئاً أي صالحاً كالطعام الذي يمرأ، ومعناه الخلو عن كل ما ينقصه كالهدم والغرق، ويحتمل أن يكون بغير همزة، ومعناه مدراراً، من قولهم: ناقة مري، أي كثير اللبن ولا أحققه رواية – انتهى. (مريعاً) بفتح الميم وسكون التحتية – أي ذا مراعة، وهي الخصب، فعيل من مرع الأرض – بالضم – مراعة، أي صارت كثيرة الماء والنبات، وقيل: بضم الميم وسكون التحتية أي أسقنا غيثاً كثير النماء ذا ريع، من أراعت الإبل إذا كثرت أولادها، ويقال: راع الطعام وأراع إذا صارت له زيادة في العجين والخبز، وروي مربعاً – بضم الميم وكسر الباء الموحدة – أي منبتاً للربيع، وهو النبات الذي يرعاه الشاء في الربيع من أرْبَع الغيث إذا أنبت الربيع، وقيل: معناه مقيماً للناس مغنياً لهم عن

{الفصل الثالث}

نافعاً غير ضار، عاجلاً غير آجل)) ، قال: فأطبقت عليهم السماء. رواه أبوداود. {الفصل الثالث} 1521- (12) عن عائشة قالت: شكا الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قحوط المطر، فأمر بمنبر، فوضع له في المصلى ووعد الناس يوماً يخرجون فيه، ـــــــــــــــــــــــــــــ الارتياد والنجعة أي طلب الكلأ، فالناس يربعون حيث شاءوا أي يقيمون ولا يحتاجون إلى الانتقال في طلب الكلأ لعمومه جميع البلاد، من أربع بالمكان إذا أقام به، وروي مَرتعاً – بفتح الميم وبالباء المثناة من فوق – أي منبتاً ما ترتع فيه المواشي وترعاه، من الرتع وهو الاتساع في الخصب، فكل خصب مرتع، ومنه: {يرتع ويلعب} . (نافعاً) إجمال بعد تفصيل (غير ضار) تأكيد (عاجلاً) في الحال (غير آجل) مبالغة (قال) أي جابر (فأطبقت) على بناء الفاعل، وقيل بالمفعول (عليهم السماء) ، يقال: أطبق إذا جعل الطبق على رأس شيء وغطاه به، أي جعلت عليهم السحاب كطبق، قيل: أي ظهر السحاب في ذلك الوقت وغطاهم كطبق فوق رؤسهم بحيث لا يرون السماء من تراكم السحاب وعمومه الجوانب، وقيل: أطبقت بالمطر الدائم، يقال: أطبقت عليه الحمى أي دامت، وفي شرح السنة: أي ملأت، والغيث المطبق هو العام الواسع (رواه أبوداود) وأخرجه الحاكم (ج1 ص327) والبيهقي (ج3 ص355) وسكت عنه أبوداود والمنذري، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وقال النووي: صحيح على شرط مسلم، وتقدم أن الدارقطني أعله في العلل بإرسال، وقد رويت بعض هذه الألفاظ وبعض معانيها عن جماعة من الصحابة مرفوعة، ذكرها الشوكاني في النيل. 1521- قوله (قحوط المطر) بضم القاف أي حبس المطر وفقده، قال الطيبي: القحوط مصدر كالقحط أو هو جمعه، وأضافه إلى المطر ليشير إلى عمومه في بلدان شتى، وقال المجد في القاموس: القحط احتباس المطر، قحط العام كمنع وفرح وعُني قحطاً وقحِط الناس كسمع وقُحطوا وأُقحطوا بضمهما لغتان (فأمر) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (بمنبر فوضع له في المصلى) فيه أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بإخراج المنبر في الاستسقاء إلى المصلى، وخالفه الحنفية فقالوا: لا يخرج (ووعد الناس يوماً) أي عينه لهم (يخرجون فيه) أي في ذلك اليوم، وفيه ما يدل على أنه يحسن تقديم تبيين اليوم للناس ليتأهبوا ويتخلصوا من المظالم ونحوها ويقدموا التوبة، وهذه الأمور واجبة مطلقاً إلا أنه مع حصول الشدة وطلب تفريجها من الله تعالى يتضيق ذلك، وقد ورد في الإسرائيليات: إن الله حرم قوماً من بني إسرائيل السقيا؛ لأنه كان فيهم فيهم عاصٍ واحد، وقال الله تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون}

قالت عائشة: ((فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بدأ حاجب الشمس، فقعد على المنبر فكبر، وحمد الله، ـــــــــــــــــــــــــــــ [الأعراف: 96] ولفظ الناس يعم المسلمين وغيرهم، قيل: فيشرع إخراج أهل الذمة ويعتزلون المصلى. وقال ابن قدامة: لا يستحب إخراج أهل الذمة وإن خرجوا لم يمنعوا ويؤمروا بالانفراد عن المسلمين (حين بدا) بالألف لا بالهمز أي ظهر (حاجب الشمس) أي أولها أو ناحيتها. قال ميرك: الظاهر أن المراد بالحاجب ما طلع أولاً من جرم الشمس مستدقاً مشبهاً بالحاجب. وقال في المغرب: حاجب الشمس أول ما يبدو من الشمس، مستعار من حاجب الوجه. وقال في القاموس: حاجب الشمس ضوءها أو ناحيتها- انتهى. وإنما سمي الضوء حاجباً لأنه يحجب جرمها عن الإدراك، وفيه استحباب الخروج لصلاة الاستسقاء عند طلوع الشمس. قال القسطلاني بعد ذكر حديث عائشة هذا ما لفظه. وبهذا أخذ الحنفية والمالكية والحنابلة فقالوا: إن وقتها وقت صلاة العيد، والراجح عند الشافعية أنه لا وقت لها معين وإن كان أكثر أحكامها كالعيد بل جميع الليل والنهار وقت لها لأنها ذات سبب فدارت مع سببها كصلاة الكسوف لكن وقتها المختار وقت صلاة العيد كما صرح الماوردي وابن الصلاح لهذا الحديث- انتهى. قلت: ظاهر كلام العيني في شرح الهداية أن مذهب الحنفية التعميم فإنه قال: ثم الاستسقاء لا يختص بوقت صلاة العيد ولا بغيره ولا بيوم، وقيل يختص بوقت صلاة العيد والصحيح أنه لا يختص، وفي المدونة يصلي ركعتين ضحوة فقط. وقال ابن قدامة: ليس لصلاة الاستسقاء وقت معين إلا أنها لا تفعل في وقت النهي بغير خلاف قال والأولى فعلها في وقت العيد لحديث عائشة عند أبي داود؛ ولأنها تشبهها في الموضع والصفة فكذلك في الوقت؛ لأن وقتها لا يفوت بزوال الشمس؛ لأنها ليس لها يوم معين فلا يكون لها وقت معين- انتهى. وهذا الاختلاف إنما هو في الاستسقاء الذي يكون معهوداً بالصلاة، وأما بمجرد الدعاء فلا وقت له بلا خلاف (فقعد على المنبر) فيه استحباب الصعود على المنبر لخطبة الاستسقاء، وإليه ذهب أحمد. قال ابن قدامة: قال أبوبكر اتفقوا عن أبي عبد الله إن في صلاة الاستسقاء خطبة وصعوداً على المنبر- انتهى. ومنعه الحنفية، قال في البدائع: لا يخرج المنبر في الاستسقاء ولا يصعده لو كان في موضع الدعاء منبر، لأنه خلاف السنة - انتهى. وحديث عائشة هذا نص في إخراج المنبر والصعود عليه، وهو حديث متصل جيد الإسناد كما قال أبوداود، وقد أقره المنذري، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي وابن السكن، ويؤيده لفظ: فرقي المنبر في حديث ابن عباس عند أبي داود وغيره فالظاهر ما ذهب إليه أحمد ومن وافقه من استحباب إخراج المنبر والصعود عليه لخطبة الاستسقاء وهذا بخلاف العيد فإن إخراج المنبر فيه أمر منكر فقد عاب الناس على مروان عند إخراجه المنبر في العيدين ونسبوه إلى خلاف السنة كما تقدم ولا يخالفه ما روى البخاري وغيره أن عبد الله بن يزيد

ثم قال: إنكم شكوتم جدب دياركم واستيخار المطر عن إبان زمانه عنكم، وقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم، ثم قال: الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله، لا إله إلا أنت الغني، ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوةً وبلاغاً إلى حين، ثم رفع يديه، فلم يترك الرفع حتى بدا ـــــــــــــــــــــــــــــ خرج ومعه البراء بن عازب وزيد بن أرقم فاستسقى فقام لهم على رجليه على غير منبر فاستسقى ثم صلى ركعتين- الحديث. لأن إخراج المنبر والصعود عليه لخطبة الاستسقاء ليس واجباً ولا سنة مؤكدة فلا يكون في تركه الأمر بإخراج المنبر وفي تركهم الإنكار عليه دليل على كونه خلاف السنة (إنكم شكوتم) إلى الله ورسوله (جدب دياركم) بفتح الجيم وسكون المهملة أي قحطها (وأستيخار المطر) أي تأخره. قال الطيبي: والسين للمبالغة يقال: استأخر الشيء إذا تأخر تأخراً بعيداً (عن إبان زمانه) بكسر الهمزة بعدها باء موحدة مشددة أي عن أول زمان المطر والإبان أول الشيء. قال في النهاية: قيل نونه أصلية فيكون فعالاً، وقيل زائدة فيكون فعلان من آب الشيء يؤب إذا تهيأ للذهاب، وفي القاموس: إبان الشيء بالكسر حينه أو أوله (عنكم) متعلق باستيخار (وقد أمركم الله) في كتابه (أن تدعوه) أي دائما خصوصا عند الشدائد. قال تعالى: {أدعوني أستجب لكم} [غافر:60] (ووعدكم أن يستجيب لكم) كما في الآية الأولى، وفي قوله: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} [البقرة: 186] (مالك يوم الدين) قال القاري: بالألف في جميع النسخ- انتهى. وكذا وقع في جامع الأصول (ج7:ص137) وفي سنن أبي داود: ملك يوم الدين بقصر الميم أي بلا ألف بعد الميم، وكذا عند البيهقي قال أبوداود بعد رواية الحديث أهل المدينة يقرؤون ملك يوم الدين (بغير ألف) وأن هذا الحديث حجة لهم – انتهى. (ونحن الفقراء) أي إلى إيجادك وإمدادك (الغيث) أي المطر الذي يغيثنا من الضرر (ما أنزلت) أي من الخير المنزل (قوة) أي سبباً لقوتنا على الطاعة (وبلاغنا) أي زاداً يبلغنا (إلى حين) أي إلى زمان طويل يعني مده لنا مداً طويلاً ليكمل ويتم انتفاعنا به. قال الطيبي: البلاغ ما يتبلغ به إلى المطلوب. والمعنى اجعل الخير الذي أنزل علينا سبباً لقوتنا ومدداً لنا مدداً طوالاً، وفي بعض نسخ أبي داود "إلى خير" بدل "إلى حين" (ثم رفع يديه) (أي للدعاء (فلم يترك الرفع) بل بالغ، فيه كذا في جميع النسخ فلم يترك، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7:ص137) وكذا وقع عند البيهقي. وفي أبي داود: فلم يزل في الرفع، وكذا وقع في المستدرك، وكذا نقله المجد في المنتقى والزيلعي في نصب الراية: والحافظ في بلوغ المرام (حتى بدا)

بياض إبطيه، ثم حول إلى الناس ظهره وقلب أو حول رداءه، وهو رافع يديه، ثم أقبل على الناس ونزل، فصلى ركعتين، فأنشأ الله سحابة، فرعدت وبرقت، ثم أمطرت بإذن الله، فلم يأت مسجده حتى سالت السيول، فلما رأى سرعتهم إلى الكن ضحك حتى بدت نواجذه، فقال: أشهد أن الله على كل شيءٍ قدير، وأني عبد الله ورسوله)) رواه أبوداود. 1522- (13) وعن أنس، أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس ـــــــــــــــــــــــــــــ أي ظهر (بياض إبطيه) فيه استحباب المبالغة في رفع اليدين في دعاء الاستسقاء، وقد تقدم بيانه (ثم حول إلى الناس ظهره) فاستقبل القبلة إشارة إلى الرجوع إلى الله والانقطاع عما سواه (وقلب) بالتشديد والتخفيف (أو حول) شك من الراوي (رداءه) فيه استحباب تحويل الرداء عند استقبال الخطيب القبلة (وهو رافع يديه) حال من قوله: حول إلى الناس ظهره، يعني هذه الحالة كانت موجودة في حال تحويل ظهره أيضاً (ثم أقبل على الناس) أي توجه إليهم بعد تحويل ظهره عنهم (ونزل) من المنبر (فأنشأ الله) أي أوجد وأحدث (فرعدت وبرقت) بفتح الراء أي ظهر فيها الرعد والبرق فالنسبة مجازية (ثم أمطرت بإذن الله) بالألف من الأمطار، وفيه دليل للمذهب المختار الذي عليه الأكثرون، والمحققون من أهل اللغة، أن أمطرت ومطرت لغتان في المطر، خلافاً لما قال بعض أهل اللغة أنه لا يقال أمطرت إلا في العذاب (فلم يأت) رسول الله صلى الله عليه وسلم من المحل الذي استسقى فيه من الصحراء (مسجده) النبوي (حتى سالت السيول) من جميع الجوانب (فلما رأى سرعتهم) أي سرعة مشيهم والتجاءهم (إلى الكن) بكسر الكاف وتشديد النون وهو ما يرد به الحر والبرد من المساكن. وقال في القاموس: الكن وقاء كل شيء وستره كالكنة والكنان بكسرهما والبيت والجمع أكنان وأكنة- انتهى. (ضحك حتى بدت نواجذه) النواجذ على ما ذكره صاحب القاموس أقصى الأضراس، وهي أربعة أو هي الأنياب أو التي تلي الأنياب أو هي الأضراس كلها جمع ناجذ، والنجذ شدة العض بها- انتهى. قال الطيبي: كان ضحكه تعجباً من طلبهم المطر اضطراراً ثم طلبهم الكن عنه فراراً ومن عظيم قدرة الله وإظهار قربة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وصدقه بإجابة دعاءه سريعاً ولصدقه أتى بالشهادتين (رواه أبوداود) وقال: هذا حديث غريب إسناده جيد، وأخرجه أيضاً أبوعوانة وابن حبان والحاكم (ج1:ص328) والبيهقي (ج3:ص349) وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي وصححه أيضاً أبوعلي بن السكن، كما في التلخيص. 1522- قوله: (كان إذا قحطوا) بضم القاف وكسر الحاء المهملة أي أصابهم القحط (استسقى بالعباس)

ابن عبد المطلب، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك نبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، فاسقنا فيسقون. ـــــــــــــــــــــــــــــ أي توسل عمر بدعائه وشفاعته في الاستسقاء. وقال القاري: أي تشفع به في الإستسقاء بعد استغفاره ودعائه (بن عبد المطلب) للرحم التي بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - فأراد عمر أن يصلها بمراعاة حقه إلى من أمر بصلة الأرحام ليكون ذلك وسيلة إلى رحمة الله. قال الحافظ: وقد بين الزبير بن بكار في الأنساب صفة ما دعا به العباس في هذه الواقعة، والوقت الذي وقع فيه ذلك فأخرج بإسناده أن العباس لما استسقى به عمر قال: اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولم يكشف إلا بتوبة وقد توجه بي القوم إليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة فاسقنا الغيث، فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض وعاش الناس، وأخرج أيضاً من طريق زيد بن أسلم عن ابن عمر قال: استسقى عمر بن الخطاب عام الرمادة بالعباس بن عبد المطلب فذكر الحديث وفيه فخطب الناس عمر فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرى للعباس ما يرى الولد للوالد فاقتدوا أيها الناس برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عمه العباس واتخذوه وسيلة إلى الله، وفيه: فما برحوا حتى سقاهم الله، وذكر ابن سعد وغيره أن عام الرمادة كان سنة ثمان عشرة وكان ابتداءه مصدر الحاج منها ودام تسعة أشهر، والرمادة بفتح الراء وتخفيف الميم، سمي العام بها لما حصل من شدة الجدب فأغبرت الأرض جدا من عدم المطر- انتهى. وعند ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان فلما صعد عمر ومعه العباس المنبر قال عمر: اللهم توجهنا إليك بعم نبيك وصنو أبيه فاسقينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، ثم قال: قل يا أباالفضل فقال العباس: اللهم لم ينزل بلاء إلا بذنب إلخ (اللهم إنا كنا نتوسل إليك نبينا) أي بدعائه وشفاعته في حال حياته لا بذاته (فتسقينا) بفتح حرف المضارعة وضمها (وإنا) أي بعده (نتوسل إليك بعم نبينا) العباس أي بدعائه وشفاعته (فاسقنا) بالوجهين (فيسقون) في هذه القصة الاستشفاع بأهل الخير والصلاح وأهل بيت النبوة، وفيها فضل العباس وفضل عمر لتواضعه للعباس ومعرفته بحقه، قاله الحافظ. وقد استدل القبوريون بهذا الحديث على التوسل المعهود فيما بينهم، وهو مردود، فإن التوسل المذكور في الحديث ليس هو التوسل بذات الحي أو الميت أو التوسل بذكر إسمه، بل إنما هو التوسل بدعاء الحي وشفاعته والذي فعله عمر، فعله مثله معاوية بحضرة من معه من الصحابة والتابعين فتوسلوا بدعاء يزيد بن الأسود الجرشي، كما توسل عمر بالعباس، وكذلك ذكر الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهم أنه يتوسل في الإستسقاء بدعاء أهل الخير والصلاح قالوا: وإن كان من أقارب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو أفضل إقتداء بعمر ولم يقل أحد من أهل العلم يسأل الله تعالى في ذلك بمخلوق لا بنبي ولا بغير نبي. قال ابن قدامة (ج2:ص439) ويستحب أن يستسقى بمن ظهر صلاحه؛ لأنه أقرب إلى إجابة الدعاء ثم ذكر قصة

رواه البخاري. 1523- (14) وعن أبي هريرة، قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((خرج نبي من الأنبياء بالناس يستسقى، فإذا هو بنملة رافعة بعض قوائمها إلى السماء، فقال: ارجعوا فقد استجيب لكم من أجل هذه النملة)) رواه الدارقطني. ـــــــــــــــــــــــــــــ استسقاء عمر بدعاء العباس وقصة استسقاء معاوية والضحاك بدعاء يزيد بن الأسود الجرشي. وقال صاحب فيض الباري: ليس في الحديث التوسل المعهود الذي يكون بالغائب حتى قد لا يكون به شعور أصلاً بل فيه توسل السلف، وهو أن يقدم رجلا ذا وجاهة عند الله تعالى ويأمره أن يدعو لهم ثم يحيل عليه في دعائه كما فعل بعباس رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان فيه توسل المتأخرين (أي من الحنفية ومنهم القبوريون) لما احتاجوا إلى إذهاب العباس معهم ولكفى لهم التوسل بنبيهم بعد وفاته أيضاً أو بالعباس مع عدم شهوده معهم - انتهى. هذا وقد بسط الكلام في الرد على استدلال القبوريين بهذا الحديث الإمام تقي الدين بن تيمية في رسالته التوسل (ص50-51 و86-87 و110) والعلامة السهسواني في صيانة الإنسان (ص131-210) فعليك أن ترجع إليهما (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً البيهقي (ج3:ص352) وقد وقع في رواية الإسماعيلي رفع هذا الحديث ولفظه: قال أي أنس كانوا إذا قحطوا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - استسقوا به فيستسقى لهم فيسقون فلما كان في إمارة عمر- الحديث. وكذا أخرجه ابن حبان في صحيحه، كما في الفتح. 1523- قوله: (خرج نبي من الأنبياء) هو سليمان عليه السلام (بالناس يستسقى) فيه دلالة على أن الإستسقاء شرع قديم والخروج له كذلك (فإذا هو بنملة رافعة بعض قوائمها إلى السماء فقال ارجعوا) إلخ. وفي لفظ لأحمد: خرج سليمان يستسقى فرأى نملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء تقول: اللهم إنا خلق من خلقك ليس بنا غنى عن سقياك فقال: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم (من أجل هذه النملة) في السنن للدارقطني من أجل شأن هذه النملة، وفي الحديث إظهار عظمة الله تعالى وقدرته وغناه عما سواه، وفيه بيان رأفته ورحمته على كافة المخلوقات وإحاطة علمه بأحوال سائر الموجودات وأنه مسبب الأسباب وقاضي الحاجات وأن للبهائم إدراكاً يتعلق بمعرفة الله ومعرفة بذكره فتطلب الحاجات منه (رواه الدارقطني) وأخرجه أيضاً أحمد والحاكم (ج1:ص325) وقال صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي وأخرجه الطحاوي من طرق منها من حديث أبي الصديق الناجي قال: خرج سليمان عليه السلام فذكره، وفي آخره: ارجعوا فقد كفيتم بغيركم، وفي ابن ماجه

(53) باب في الرياح

(53) باب في الرياح {الفصل الأول} 1524- (1) عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نصرت بالصبا، ـــــــــــــــــــــــــــــ من حديث ابن عمر في أثناء حديث ولولا البهائم لم يمطروا، وفي إسناده خالد بن يزيد بن عبد الرحمن بن أبي مالك، وهو ضعيف، وفي حديث أبي هريرة عند أبي يعلى والبزار والبيهقي، مهلاً عن الله مهلاً فاته لولا شباب خشع وبهائم رتع وأطفال رضع لصب عليكم العذاب صباً، وفي إسناده إبراهيم بن خثيم بن عراك، وقد ضعفوه، وأخرجه أبونعيم والبيهقي وابن عدي من طريق مالك بن عبيدة بن مسافع عن أبيه عن جده ومالك بن عبيده قال: أبوحاتم وابن معين مجهول، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن عدي ليس له غير هذا الحديث، وله شاهد مرسل أخرجه أبونعيم أيضاً. فائدة إذا تأخر المطلوب أي لم يسقوا بعد الخروج إلى الصحراء وصلاة الاستسقاء كرروا الخروج في اليوم الثاني والثالث لا أكثر، وهذا عند الحنفية والحنابلة، وأما عند الشافعية والمالكية فيكرروا الخروج ثانياً وثالثاً وأكثر حتى يسقوا وإذا سقوا قبل الخروج وقد كانوا تأهبوا للخروج خرجوا وصلوا شكراً لله تعالى وحمدوه ودعوه وسألوه المزيد من فضله، وكذلك إذا خرجوا وسقوا قبل أن يصلوا فائدة أخرى إذا كثر المطر بحيث يضرهم، أو مياه الأنهار والعيون دعوا الله تعالى أن يخففه ويصرف عنهم مضرته ويجعله في أماكن تنفع ولا تضر كدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: باللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الظراب والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر، ولأن الضرر بزيادة المطر أحد الضررين فيستحب الدعاء لإزالته كإنقطاعه، وأما النداء بكلمات الأذان المشروعة للإعلام بأوقات الصلوات الخمس لرفع المطر أو تخفيفه عند الضرر بكثرته كما يفعله القبوريون فليس في شيء من السنة ولم يعرف في عهد السلف الصالح من الصحابة والتابعين ولم يؤثر من أتباعهم. (باب في الرياح) وفي بعض النسخ: باب الرياح بالإضافة، وفي بعضها: باب من غير ترجمة، وهو بالسكون على الوقف أو بالرفع منوناً على أنه خبر مبتدأ محذوف، وعلى النسختين الأوليين ما ذكر فيه من الرياح وقع بطريق التبع فلذا لم يتعرض له بالترجمة، ووجه ذكر ترجمة للرياح عقب باب الاستسقاء إن المطلوب بالاستسقاء نزول المطر والريح في الغالب تعقبه. 1254- قوله: (نصرت) بضم النون (بالصبا) بفتح المهملة وتخفيف الموحدة مقصورة هي الريح الشرقية

وأهلكت عاد بالدبور)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ (وأهلكت) بضم الهمزة وكسر اللام (عاد) قوم هود (بالدبور) بفتح الدال وتخفيف الموحدة المضمومة، هي الريح الغربية. قال الطيبي: الصبا الريح التي تجيئ من قبل ظهرك إذا استقبلت القبلة، ويقال لها: القبول بفتح القاف لأنها تقابل باب الكعبة إذ مهبهاً من مشرق الشمس ومطلعها، والدبور هي التي تجيئ من قبل وجهك إذا استقبلت القبلة أيضاً فهي تأتي من دبرها ومهبهاً من مغرب الشمس قيل هذا في ديار خراسان وما وراء النهر وما في حكمهما من الأماكن التي قبلتها السمت الغربي دون الروم والعرب. وقال ابن الأعرابي: الصبا مهبهاً من مطلع الثريا إلى بنات نعش، والدبور من مسقط النسر الطائر إلى سهيل، وفرق بين تفسير الطيبي وتفسير ابن الأعرابي: فإن الأول يشمل سعة المشرق والمغرب كلها، والثاني الناحية منها، قيل إن الصبا هي التي حملت ريح يوسف عليه السلام إلى يعقوب قبل البشير إليه فإليها يستريح كل مخزون، والدبور هي الريح العقيم ونصرته - صلى الله عليه وسلم - بالصبا كانت يوم الخندق الذي يقال له غزوة الأحزاب، وكانوا زهاء أثني عشر ألفاً أو أكثر حين حاصروا المدينة فأرسل الله عليهم ريح الصبا باردة في ليالي شاتية شديدة البرد فسقت التراب والحصى في وجوههم وأطفأت نيرانهم وقطعت خيامهم فانهزموا من غير قتال {إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها} - الآية. ومع ذلك فلم يهلك منهم أحد ولم يتأصلهم لما علم الله من رأفة نبيه عليه الصلاة والسلام بقومه رجاء أن يسلموا، وأما عاد فإنه ابن عوص بن أرم بن سام بن نوح عليه السلام فتفرعت أولاده فكانوا ثلاث عشرة قبيلة ينزلون الأحقاف وبلادها وكانت ديارهم بالدهناء وعالج وبثرين ودبار وعمان إلى حضر موت وكانت أخصب البلاد وأكثرها جناناً، فلما سخط الله عليهم جعلها مفاوز فأرسل الله عليهم الدبور فأهلكتهم وكانت عليهم سبع ليالٍ وثمانية أيام حسوماً أي متتابعة ابتدأت غدوة الأربعاء وسكنت في آخر الثامن واعتزل هو ونبي الله عليه السلام ومن معه من المؤمنين، قيل:وكانوا أربعة آلاف في حظيرة لا يصيبهم منها إلا ما يلين الجلود وتلذ الأعين وكانت الريح تقلع الشجر وتهدم البيوت ومن لم يكن في بيته منهم أهلكته في البراري والجبال، وكان ترفع الظعينة بين السماء والأرض حتى ترى كأنها جرادة وترميهم بالحجارة فتدق أعناقهم، قيل: كان طول أحدهم أثني عشرة ذراعاً، وقيل: كان أكثر من عشرة، وقيل: غير ذلك، وفي التفسير: أن الريح كانت تحمل الرجل فترفعه في الهواء ثم تلقيه فتشدخ رأسه فيبقى جثة بلا رأس فذلك قوله: {كأنهم أعجاز نخل خاوية} [الحاقة:6] ، وروى ابن أبي حاتم من حديث ابن عمر والطبراني من حديث ابن عباس رفعاه ما فتح الله على عاد من الريح إلا موضع الخاتم فمرت بأهل البادية فحلمتهم ومواشيهم وأموالهم بين السماء والأرض فرأهم الحاضرة فقالوا: هذا عارض ممطرنا فألقتهم عليهم فهلكوا جميعاً، والحديث قد استنبط منه ابن بطال تفضيل بعض المخلوقات على بعض يعني أن المقصود منه تفضيل الصبا على الدبور من جهة إضافة النصر للصبا والإهلاك للدبور وتعقب بأن كل واحدة منهما أهلكت أعداء الله ونصرت

متفق عليه. 1525- (2) وعن عائشة، قالت: ((ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكاً حتى أرى منه لهواته، إنما كان يبتسم، فكان إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف في وجهه)) ـــــــــــــــــــــــــــــ أنبياءه وأولياءه، وقيل المقصود: بيان أن الأشياء والعناصر مسخرة تحت أمر الله تعالى وإرادته رداً على الطبيعيين والحكماء المتفلسفيين، فالريح مأمورة تجيئ تارة بأمره تعالى لنصرة قوم وتارة لإهلاك قوم، وفيه أيضاً إخبار المرأ عن نفسه بما فضله الله تعالى به على سبيل تحديث النعمة لا على الفخر، ومن الرياح الجنوب وهي التي مهبهاً من جهة يمين القبلة والشمال وهي التي تهب من جهة شمالها، فهذه الأربع تهب من الجهات الأربع ولكل من الأربعة طبع فالصبا حارة يابسة، والدبور باردة رطبة، والجنوب حارة رطبة، والشمال باردة يابسة وهي ريح الجنة التي تهب عليهم كما في صحيح مسلم (متفق عليه) أخرجه البخاري في الاستسقاء وبدأ الخلق والأنبياء والمغازي ومسلم في الاستسقاء، وأخرجه أيضاً أحمد (ج1:ص222-228-324-341-355-373) والنسائي في التفسير من السنن الكبرى والبيهقي (ج3:ص364) . 1525- قوله: (ضاحكاً) حال أو مفعول ثان، وفي رواية للشيخين: مستجمعاً ضاحكاً. قال الحافظ في رواية الكشمهيني: مستجمعاً ضحكاً، أي مبالغاً في الضحك لم يترك منه شيئاً، يقال: استجمع السيل اجتمع من كل موضع واستجمعت للمرأ أموره اجتمع له ما يحبه، فعلى هذا قوله: ضاحكاً منصوب على التمييز وإن كان مشتقاً مثل لله دره فارساً، أي ما رأيته مستجمعاً من جهة الضحك بحيث يضحك ضحكاً تاماً مقبلاً بكليته على الضحك (حتى أرى) أي أبصر (منه لهواته) بفتح اللام والهاء جمع لهاة، وهي اللحمة الحمراء المعلقة في أعلى الحنك. قاله الأصمعي وقيل: هي اللحمة التي بأعلى الحنجرة من أقصى الفم وقيل: هي اللحمات في سقف أقصى الفم. وقيل: اللهاة قعر الفم قريب من أصل اللسان (إنما كان يتبسم) لا ينافي هذا الحديث ما جاء في الحديث الآخر: أنه ضحك حتى بدت نواجذه؛ لأن ظهور النواجذ وهي الأسنان التي في مقدم الفم أو الأنياب لا يستلزم ظهور اللهاة. قاله الحافظ: وقيل: كان التبسم على سبيل الأغلب وظهور النواجذ على سبيل الندرة (فكان) وفي الصحيحين قالت (أي عائشة) وكان (إذا رأى غيماً) أي سحاباً (عرف) بضم العين وكسر الراء مبنياً للمفعول أي التغيير (في وجهه) قال الطيبي: أي ظهر أثر الخوف في وجهه مخافة أن يحصل من ذلك السحاب أو الريح ما فيه ضرر الناس، دل نفي الضحك البليغ على أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن فرحاً لاهياً بطراً، ودل إثبات التبسم على طلاقة وجهه، ودل أثر خوفه من رؤية الغيم أو الريح على رأفته ورحمته على الخلق وهذا هو الخلق العظيم، كذا في المرقاة. وهذا

متفق عليه. 1526- (3) وعنها، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا عصفت الريح قال: ((اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به، وإذا تخيلت السماء، تغير لونه، وخرج ودخل، وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سرى عنه، فعرفت ذلك عائشة، فسألته، فقال: لعله يا عائشة ـــــــــــــــــــــــــــــ القدر المذكور من حديث عائشة طرف من حديث طويل. أخرجه البخاري في تفسير سورة الأحقاف، ومسلم في الإستسقاء وبعده قالت يا رسول الله الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاءً أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرف في وجهك الكراهية فقال يا عائشة: ما يؤمني أن يكون فيه عذاب عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا، وارجع لشرح هذا إلى الفتح من سورة الأحقاف (متفق عليه) أخرجه البخاري في التفسير مطولاً وفي الأدب مختصراً إلى قوله: إنما كان يبتسم. وأخرجه أيضاً مطولاً أبوداود في الأدب، والبيهقي في الاستسقاء (ج3:ص360) . 1526- قوله: (إذا عصفت الريح) أي اشتد هبوبها (اللهم إني أسألك خيرها) أي خبر ذاتها (وخير ما فيها) أي من منافعها (وخير ما أرسلت به) أي بخصوصها في وقتها، وهو بصيغة المفعول، ويجوز أن يكون بصيغة الفاعل. قال الطيبي: يحتمل الفتح على الخطاب وشرما أرسلت على بناء المفعول ليكون من قبيل أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم، وقوله صلى الله عليه وسلم: الخير بيديك والشر ليس إليك (وإذا تخيلت السماء) أي تهيأت السحاب للمطر. قال الطيبي: السماء هنا بمعنى السحاب وتخيلت السماء إذا ظهر في السماء أثر المطر. وقال أبوعبيدة: تخيلت من المخيلة بفتح الميم وكسر المعجمة بعدها تحتانية ساكنة، وهي سحابة فيها رعد وبرق يخيل إليه أنها ماطرة يعني سحابة يخال فيها المطر وتكون مظنة للمطر. وقال الجزري: المخيلة السحابة التي يظن أن فيها مطراً وتخيلت السماء إذا تغيمت (تغير لونه) من خشية الله ومن رأفته على أمته وتعليماً لهم في متابعته (وخروج) من البيت تارةً (ودخل) أخرى (وأقبل وأدبر) فلا يستقر في حال من الخوف (فإذا مطرت) أي السحاب. وفي رواية البخاري: فإذا أمطرت السماء من الأمطار. قال الحافظ: فيه رد على من زعم أنه لا يقال أمطرت إلا في العذاب، وأما الرحمة فيقال مطرت- انتهى. ومطر السحاب وأمطرت بمعنى (سري عنه) بضم المهملة وتشديد الرأي بلفظ المجهول، أي كشف عنه الخوف والحزن وأزيل (فعرفت ذلك) أي التغيير (فسألته) أي عن سببه (لعله) أي لعل هذا

كما قال قوم عاد: {فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارضٌ ممطرنا} )) . وفي رواية: ويقول إذا رأى المطر رحمة - متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ المطر. وقيل: لعل هذا السحاب (كما قال قوم عاد) الإضافة للبيان، أي مثل الذي قال في حقه قوم عاد هذا عارض ممطرنا قال تعالى: {فلما رأوه} أي السحاب {عارضاً} أي سحاباً عرض {مستقبل أوديتهم} أي صحاريهم ومحال مزارعهم. قال الجزري: العارض السحاب الذي يعرض في السماء (قالوا) ظناً أنه سحاب ينزل منه المطر {هذا عارض ممطرنا} ، أي سحاب عرض ليمطر قال تعالى رداً عليهم: {بل هو ما استعجلتم به} أي من العذاب {ريح فيها عذاب أليم} {تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين} [الأحقاف:25] فظهرت منه ريح فأهلكتهم فلا يجوز لأحد أن يأمن من عذاب الله تعالى. قال النووي: في الحديث الاستعداد بالمراقبة لله والالتجاء إليه عند إختلاف الأحوال وحدوث ما يخاف بسببه، وكان خوفه صلى الله عليه وسلم أن يعاقبوا بعصيان العضاة، وفيه تذكر ما يذهل المرأ عنه مما وقع للأمم الخالية والتحذير من السير في سبيلهم خشية من وقوع مثل ما أصابهم. وفيه شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ورأفته بهم كما وصفه الله تعالى، فإن قيل كيف يخشى النبي صلى الله عليه وسلم أن يعذب القوم وهو فيهم مع قوله تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} [الأنفال:33] ، والجواب إن في الآية احتمال التخصيص بالمذكورين أو بوقت دون وقت أو مقام الخوف يقتضي غلبة عدم الأمن من مكر الله، (ويقول إذا رأى المطر رحمة) بالنصب أي اجعله رحمة لا عذاباً وبالرفع أي هذا رحمة (متفق عليه) فيه نظر؛ لأن لفظ الرواية الأولى بالسياق المذكور من رواية ابن وهب عن ابن جريج عن عطاء عن عائشة من إفراد مسلم والرواية الثانية أيضاً من إفراده أخرجها من طريق جعفر بن محمد عن عطاء عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم الريح والغيم عرف ذلك في وجهه وأقل وأدبر فإذا مطرت سربه، وذهب عنه ذلك قالت عائشة: فسألته فقال: إني خشيت أن يكون عذاباً سلط على أمتي ويقول إذا رأى المطر رحمة، وأما البخاري فأخرجه في أوائل بدء الخلق عن مكي بن إبراهيم عن ابن جريج عن عطاء عن عائشة مختصراً بلفظ: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى مخيلة في السماء أقبل وأدبر ودخل وخرج وتغير وجهه فإذا مطرت سري عنه فعرفته عائشة ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وما أدري لعله كما قال قوم {فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم} الآية، فظهر بهذا أن قوله متفق عليه لا يخلو عن نظر اللهم إلا أن يقال إن المراد اتفاق الشيخين على أصل الحديث، ومعناه وقد أخرجه بسياق المشكاة البيهقي (ج3:ص360) وأخرجه الترمذي في الدعوات مختصراً إلى قوله وشر ما أرسلت به وأخرجه ابن ماجه في الدعاء بنحو رواية البخاري.

1527- (4) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مفاتيح الغيب خمس، ثم قرأ {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث} الآية)) ـــــــــــــــــــــــــــــ 1527- قوله: (مفاتيح الغيب) بوزن مصابيح جمع مفتاح، وهو الآلة التي يفتح بها (خمس) يعني العلوم التي يتوصل بها إلى الغيب خمس لا يعلمها إلا الله، وروى مفاتح بوزن مساجد، وهو جمع مفتح بفتح الميم، وهو المخزن أي مخازن الغيب جعل للأمور الغيبية مخازن يخزن فيها على طريق الاستعارة أو جمع مفتح بكسر الميم، وهو المفتاح جعل للأمور الغيبية مفاتيح يتوصل بها إلى ما في المخازن منها على طريق الاستعارة أيضاً وقد عقد البخاري على هذا الحديث في تفسير سورة الأنعام باب قوله: {وعند مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو} [الأنعام: 59] وأراد بذلك أن يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فسر آية الأنعام بتلك الخمس المذكورة في سورة لقمان. قال الحافظ: المفاتح جمع مفتح بكسر الميم الآلة التي يفتح بها مثل منجل ومناجل، وهي لغة قليلة في الآلة، والمشهور مفتاح بإثبات الألف وجمعه مفاتيح بإثبات الياء، وقد قرئ بها في الشواذ قرأ ابن السميفع وعنده مفاتيح الغيب وقيل: بل هو جمع مفتح بفتح الميم وهو المكان، ويؤيده تفسير السدي فيما رواه الطبري مفاتح الغيب خزائنة-انتهى. قال القسطلاني: وعلى الأول قد جعل للغيب مفاتيح على طريق الاستعارة؛ لأن المفاتيح هي التي يتوصل بها إلى ما في الخزائن المستوثق منها بالإغلاق فمن علم كيف يفتح بها ويتوصل إلى ما فيها فهو عالم، وكذلك ههنا لما كان الله تعالى عالماً بجميع المعلومات ما غاب منها وما لم يغب عبر عنه بهذه العبارة إشارة إلى أنه هو المتوصل إلى المغيبات وحده لا يتوصل إليها غيره وهذا هو الفائدة في التعبير بعند- انتهى. وقال في النهاية: المفاتيح والمفاتح جمع مفتاح ومفتح وهما في الأصل كل ما يتوصل به إلى استخراج المغلقات التي يتعذر الوصول إليها والمعنى لا يعلم كلياتها غير الله وقد يطلع بعض أصفيائه على جزئيات منهن، والغيب ما غاب عن الخلق وسواء كان محصلاً في القلوب أو غير محصل ولا غيب عند الله عزوجل ذكره العيني. وقال البيضاوي: الغيب هو الأمر الخفي الذي لا يدركه الحس ولا يقتضيه بداهة العقل، وهو قسمان: قسم لا دليل عليه وهو المعنى بقوله تعالى: {وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو} [الأنعام:59] ، وقسم نصب عليه دليل عقلي أو نقلي كالصانع وصفاته واليوم الآخر وأحواله وهو المراد في قوله: {يؤمنون بالغيب} [البقرة:3]- انتهى. (ثم قرأ) أي بياناً لتلك الخمس (إن الله عنده) أي لا عند غيره (علم الساعة) أي علم وقت قيامها فلا يعلم ذلك نبي مرسل ولا ملك مقرب، لا يجليها لوقتها إلا هو (وينزل) بالتشديد (الغيث) أي يرسل المطر الذي يغيث البلاد والعباد في وقته المقدر له والمحل المعين له في علمه وبالكمية والكيفية المقررتين عنده لا يعلم ذلك إلا هو (الآية) بالنصب أي اقرأ، أو أذكر بقية الآية وبالجر أي إلى آخر الآية وهو {ويعلم ما في الأرحام} مما يريد أن يخلقه من ذكر أو أنثى تام

رواه البخاري. 1528- (5) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليست السنة ـــــــــــــــــــــــــــــ أو ناقص أبيض أو أسود طويل أو قصير سعيد أو شقي وغير ذلك مما لا يعلم تفصيله إلا هو. قال القاري: ولا يعلم مجملة بحسب خرق العادة إلا من قبله تعالى. وقال القسطلاني: لكن إذا أمر به علمته ملائكته المؤكلون به {وما تدري نفس ماذا تكسب غداً} في الدنيا من الخير والشر والطاعة والمعصية، وفي الآخرة من الثواب والعقاب {وما تدري نفسٌ بأي أرض تموت} أي في بلدها أم في غيرها فليس أحد من الناس يدري أين مضجعة من الأرض أفي بر أو بحر سهل أو جبل (إن الله عليم) أي بما ذكر وغيره من الكليات والجزئيات إلا يعلم من خلق (خبير) أي مطلع على خفايا الأمور، فإن قيل الغيوب التي لا يعلمها إلا الله كثيرة ولا يعلم مبلغها إلا الله تعالى، وقال الله تعالى: {وما يعلم جنود ربك إلا هو} [المدثر:31] فما وجه التخصيص بالخمس. قلت: أجيب عنه بوجوه: الأول: أن التخصيص بالعدد لا يدل على نفي الزائد، والثاني: أن ذكر هذا العدد في مقابلة ما كان القوم يعتقدون أنهم يعرفون من الغيب هذه الخمس، والثالث: أنهم كانوا يسألونه عن هذه الخمس، والرابع: أن أمهات الأمور هذه لأنها إما أن تتعلق بالآخرة، وهو علم الساعة وإما بالدنيا وذلك إما متعلق بالجماد أو بالحيوان، والثاني إما يحسب مبدأ وجوده أو بحسب معاده أو بحسب معاشه. قال القرطبي: لا مطمع لأحد في علم شيء من هذه الأمور الخمس لهذا الحديث (يعني حديث أبي هريرة في سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام وفيه خمس لا يعلمهن إلا الله ثم تلى النبي صلى الله عليه وسلم {إن الله عنده علم الساعة} الآية [لقمان:34] وقد فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - قول الله تعالى: {وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو} [الأنعام:59] بهذه الخمس، وهو في الصحيح قال فمن أدعى علم شئ منها غير مسنده إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان كاذباً في دعواه قال: وأما ظن الغيب فقد يجوز من المنجم وغيره إذا كان عن أمر عادي وليس ذلك بعلم، كذا في الفتح (رواه البخاري) أي هكذا مختصراً في تفسير سورة الأنعام على رواية أبي ذر، وفي تفسير سورة لقمان وأخرجه أيضاً في الاستسقاء وتفسير سورة الرعد والتوحيد بألفاظ، وقد بسط الشيخ أبومحمد بن جمرة في شرح هذا الحديث وأجاد ولخص كلامه الحافظ في الفتح في شرح باب قوله: عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلخ. من كتاب التوحيد من أحب الوقوف عليه رجع إلى الفتح، والحديث أخرجه أيضاً أحمد (ج2:ص24و58-85-122) والطبري (ج2:ص56) وأخرجه ابن حبان (ج1:ص228-229) وأحمد أيضاً (ج2:ص52) بتفصيل الأنواع الخمسة بدل تلاوة الآية. 1528- قوله: (ليست السنة) بفتح السين الجدب والقحط، ومنه قوله تعالى: {ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين} [الأعراف:130] قال في النهاية: السنة الجدب، وهي من الأسماء الغالبة، ويقال: أسنتوا إذا أجدبوا، قلبوا

{الفصل الثاني}

بأن لا تمطروا، ولكن السنة أن تمطروا وتمطروا ولا تنبت الأرض شيئاً)) رواه مسلم. {الفصل الثاني} 1529- (6) عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الريح من روح الله تأتي بالرحمة وبالعذاب، فلا تسبوها، وسلوا الله من خيرها، وعوذوا به من شرها)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ لامها تاء (بأن لا تمطروا) أي لا ينزل عليكم المطر يعني عدم المطر فالباء زائدة (ولكن) بالتخفيف (السنة) أي قد تكون (أن تمطروا وتمطروا) التكرير للتأكيد والتكثير أي تمطروا المرة بعد الأخرى مطراً كثيراً (ولا تنبت الأرض شيئاً) أي لإمساكه تعالى لها من الإنبات والمعنى لا تظنوا أن الرزق والبركة من المطر بل الرزق من الله تعالى فرب مطر لا ينبت منه شيء فالقحط الشديد ليس بأن لا يمطر بل بأن يمطر ولا ينبت لأن حصول الشدة بعد توقع الرخاء وظهور مخائله وأسبابه أفظع مما إذا كان اليأس حاصلاً من أول الأمر (رواه مسلم) في الفتن وأشراط الساعة وأخرجه أيضاً أحمد والشافعي والبيهقي (ج3:ص363) . 1529- قوله: (الريح) أي الهواء المسخر بين السماء والأرض (من روح الله) قيل: الروح بفتح الراء النفس والفرج والرحمة أي من رحمته تعالى يريح بها عباده ومنه قوله تعالى {فروح وريحان} [الواقعة:89] وقوله {ولا تيأسوا من روح الله} [يوسف:87] فإن قيل: كيف يكون الريح من رحمته مع أنها تجيء بالعذاب؟ قلت: إذا كان عذاباً للظلمة فيكون رحمة للمؤمنين حيث يتخلصون من الكفار الفجار، وأيضاً الروح بمعنى الرائح أي الجائي من حضرة الله بأمره تارة للكرامة وأخرى للعذاب فلا يعيب فإنه تأديب والتأديب حسن (تأتي بالرحمة) من إنشاء سحاب ماطر مثلا لمن أراد الله تعالى أن يرحمه (وبالعذاب) لمن أراد أن يهلكه (فلا تسبوها) أي بلحوق ضرر منها فإنها مأمورة مقهورة مسخرة (وسلوا الله) وروى واسألوا (من خيرها) أي خير ما أرسلت به (وعوذوا به) بفتح العين وتشديد الواو من التعويذ يقال عوذ الرجل إذا دعا له بالحفظ، وقال له أعيذك بالله، ولفظ أبي داود استعيذوا، وابن ماجه تعوذوا يقال تعوذ واستعاذة بالله فأعاذه وعوذه أي حفظه (من شرها) أي من شر ما أرسلت به. قال المظهر: فإن قيل: كيف تكون الريح من روح الله أي رحمته مع أنها تجيء بالعذاب فجوابه من وجهين: الأول أنه عذاب لقوم ظالمين رحمة لقوم مؤمنين. قال الطيبي: يؤيده قوله تعالى: {فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين} [الأنعام:45] الكشاف، فيه إيذان بوجوب الحمد عند إهلاك الظلمة، وهو من أجل النعم، الثاني بأن الروح مصدر بمعنى الفاعل أي الرائح. فالمعنى أن الريح من روائح الله تعالى أي من الأشياء التي تجيء من حضرته بأمره ليس لأحد مدخل في مجيئها فتارة تجيء بالرحمة وأخرى

رواه الشافعي، وأبوداود، وابن ماجه، والبيهقي في الدعوات الكبير. 1530- (7) وعن ابن عباس، أن رجلاً لعن الريح عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ((لا تلعنوا الريح، فإنها مأمورة، وإنه من لعن شيئاً له بأهل رجعت اللعنة عليه)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. 1531- (8) وعن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون ـــــــــــــــــــــــــــــ بالعذاب فلا يجوز سبها بل تجب التوبة عند التضرر بها وهو تأديب من الله تعالى وتأديبه رحمة للعباد- انتهى. (رواه الشافعي) في الأم (ج1:ص224) وفي المسند (ج6:ص114) (وأبوداود) في الأدب وسكت عليه هو والمنذري (وابن ماجه) في الدعاء وأخرجه أيضاً أحمد (ج2:ص250-268) والبخاري في الأدب المفرد (ص132) والحاكم في المستدرك (ج4:ص285) وقال صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي وعزاه المنذري في تلخيص السنن للنسائي والشوكاني في تحفة الذاكرين لابن حبان أيضاً، ولعل النسائي أخرجه في السنن الكبرى. 1530- قوله: (إن رجلاً لعن الريح عند النبي - صلى الله عليه وسلم -) الحديث. رواه أبوداود أيضاً ولفظه في رواية: إن رجلاً نازعته الريح رداءه على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فلعنها (لا تلعنوا الريح) لفظ الترمذي وأبي داود: لا تلعن الريح (فإنها مأمورة) إما بالرحمة أو بالنقمة، وقيل: أي بأمر منا والمنازعة من خاصيتها ولوازم وجودها عادة أو فإنها مأمورة حتى بهذه المنازعة أيضاً ابتلاء لعباده (وإنه) أي الشأن (من لعن شيئاً ليس) أي ذلك الشيء (له) أي اللعن (بأهل) أي بمستحق (رجعت اللعنة عليه) أي على اللاعن لأن اللعنة، وكذا الرحمة تعرف طريق صاحبها. قال الطيبي: ليس له صفة شيئاً واسمه ضمير راجع إليه والضمير في "له" راجع إلى مصدر لعن، وفي عليه إلى من على تضمين رجعت معنى استقلت يعني استقلت اللعنة عليه راجعة لأن اللعن طرد عن رحمة الله فمن طرد ما هو أهل لرحمة الله عن رحمته جعل مطروداً (رواه الترمذي) في باب اللعنة من أبواب البر والصلة (وقال هذا حديث غريب) وفي بعض نسخ الترمذي: حديث حسن غريب وبعده لا نعلم أحداً أسنده غير بشر بن عمر- انتهى. والحديث أخرجه أبوداود في الأدب وسكت عنه، وقال المنذري بعد نقل كلام الترمذي المذكور ما لفظه وبشر بن عمر هذا هو الزهراني احتج به البخاري ومسلم- انتهى. 1531- قوله: (لا تسبوا الريح) فإن المأمور معذور (فإذا رأيتم ما تكرهون) أي ريحاً تكرهونها

فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به)) رواه الترمذي. 1532- (9) وعن ابن عباس، قال: ما هبت ريح قط إلا جثا النبي - صلى الله عليه وسلم - على ركبتيه، وقال: ((اللهم اجعلها رحمة، ولا تجعلها عذاباً، اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً)) . قال ابن عباس في كتاب الله تعالى: ـــــــــــــــــــــــــــــ لشدة حرارتها أو برودتها أو تأذيتم لشدة هبوبها (فقولوا) أي راجعين إلى خالقها وآمرها (اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح) أي باعتبار ذاتها (وخير ما فيها) أي باعتبار صفاتها (وخير ما أمرت به) على بناء المفعول أي من خالقها لطفاً وجمالاً (رواه الترمذي) في الفتن وصححه وأخرجه أيضاً ابن السني في عمل اليوم والليلة (ص98) . 1532- قوله: (ما هبت ريح) أي ثارت وهاجت يعني اشتدت (إلا جثا) بالألف من الجثو بمعنى القعود على الركب فقوله (على ركبتيه) تأكيد أو تجريد وكان هذا منه صلى الله عليه وسلم تواضعاً لله تعالى وخوفاً على أمته وتعليماً لهم في تبعيته. قال الأمير اليماني: أي برك على ركبتيه وهي قعدة المخافة لا يفعلها في الأغلب إلا الخائف، ورواه الطبراني بلفظ: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا هاجت ريح استقبلها بوجهه وجثا على ركبتيه ومد يديه، وقال: اللهم إني أسألك من خير هذه الريح وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها وشر ما أرسلت به اللهم اجعلها رحمة إلخ (اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً) وجه هذا إن العرب تقول لا تلقح الشجر إلا من الرياح المختلفة ولا تلقح من ريح واحدة فهو - صلى الله عليه وسلم - دعاء بأن يجعلها رياحاً تلقح ولا يجعلها ريحاً لا تلقح. قال الخطابي: إن الرياح إذا كثرت جلبت السحاب وكثرت الأمطار فزكت الزروع والأشجار وإذا لم تكثر وكانت ريحاً واحدة فإنها تكون عقيمة والعرب تقول لا تلقح السحاب إلا من رياح. وقيل: إن الرياح هي المذكورة في آيات الرحمة والريح هي المذكورة في آيات العذاب كقوله عزوجل {الريح العقيم} {وريحاً صرصراً} لكن قد عرف مما تقدم من حديث عائشة وأبي هريرة وأبي بن كعب، ومن رواية الطبراني لهذا الحديث إن الريح قد تأتي بالخير وقد تأتي بالشر، فلعل وجه قوله في هذا الحديث اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً أن الرياح لا تأتي إلا بالخير والريح تأتي تارة بهذا وتارة بهذا فسأل الله أن يجعلها رياحاً لأنها خير محض ولا يجعلها ريحاً تحتمل الخير والشر وسيأتي مزيد الكلام في ذلك (قال ابن عباس في كتاب الله تعالى) أورد المؤلف قول ابن عباس تائيداً لقوله عليه الصلاة

{إنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً} و {أرسلنا عليهم الريح العقيم} و {أرسلنا الرياح لواقح} و {أن يرسل الرياح مبشرات} ـــــــــــــــــــــــــــــ والسلام رياحاً وريحاً فقوله في كتاب الله خبر مقدم وقوله: {إنا أرسلنا عليهم} مبتدأ بتقدير هذه الآيات الدالة على أن الرياح للخير والريح بالأفراد للشر والجملة مقول القول {ريحاً صرصراً} أي شديدة البرد والهبوب والآية من سورة القمر {وأرسلنا عليهم الريح العقيم} أي ما ليس فيه خير سميت عقيماً؛ لأنها أهلكت قوم عاد وقطعت دابرهم والمرأة العقيم التي لا تلد ولا تلقح والآية من سورة الذاريات {وأرسلنا الرياح لواقح} يعني تُلقِح الأشجار وتجعلها حاملة بالأثمار، قيل: أصله مَلاقح جمع مُلقِحة فحذفت الميم تخفيفاً وزيدت الواو بعد اللام وهو من النوادر، وهذا قول أبي عبيدة يقال اَلقَحَ الفَحلُ الناقة احبلها واَلقَحتِ الريحُ الشجر أو السحاب اَحمَلَتها، وقيل: هي جمع لاقحة بمعنى حاملة. قال البغوي في تفسيره: لواقح أي حوامل؛ لأنها تحمل الماء إلى السحاب، وهي جمع اللاقحة - انتهى. وقال البيضاوي: أي حوامل شبه الريح التي جاءت بخير من إنشاء سحاب ماطر بالحامل كما شبه مالا يكون كذلك بالعقيم، وقيل: اللواقح بمعنى الملقحات للشجر أو السحاب، ونظيره الطوائح بمعنى المطيحات- انتهى. وإطلاق اللواقح على الملقحات إما على الإسناد المجازي بأن يوصف الرياح بصفة ما هي أسباب له أو المجاز اللغوي بإعتبار السببية؛ لأن لقح الرياح سبب لالقاحها أو بإعتبار ما كان فإن الملقح كان أولاً لاقحاً أو من باب النسبة (أي ذات اللقاح) كلابن وتامر على حذف الزوائد نحو أثقل فهو ثاقل كذا قيل ذكره في اللمعات، وقيل اللواقح من الرياح التي تحمل اللقاح (ما تلقح به النخلة) إلى الشجر والتي تحمل الندى ثم تمجه في السحاب فإذا اجتمع في السحاب صار مطراً والآية من سورة الحجر {وأن يرسل الرياح مبشرات} بالمطر كقوله سبحانه وتعالى: {بشراً بين يدي رحمته} [الأعراف: 57] والآية من سورة الروم. قال الأمير اليماني: قول ابن عباس بيان أنها جاءت مجموعة في الرحمة ومفردة في العذاب فاستشكل ما في الحديث من طلب أن تكون رحمة وأجيب بأن المراد لا تهلكنا بهذه الريح لأنهم لو هلكوا بهذه الريح لم تهب ريح أخرى فتكون ريحاً لا رياحاً- انتهى. قال الطيبي: معظم الشارحين على أن تأويل ابن عباس غير موافق للحديث نقل التوربشتي عن أبي جعفر الطحاوي أنه ضعف هذا الحديث جداً وأبى أن يكون له أصل في السنن وأنكر على أبي عبيدة تفسيره كما فسره ابن عباس، ثم استشهد أي الطحاوي بقوله تعالى: {وجرين بهم بريح طيبةٍ وفرحوا بها جاءتها ريحٌ عاصف} الآية [يونس: 22] . وبالأحاديث الواردة في هذا الباب فإن جل استعمال الريح المفردة في الباب في الخير والشر، ثم قال التوربشتي: والذي قاله أبوجعفر وإن كان قولاً متيناً فإنا نرى أن

رواه الشافعي، والبيهقي في الدعوات الكبير. ـــــــــــــــــــــــــــــ لا نتسارع إلى رد هذا الحديث، وقد تيسر لنا تأويله على وجه لا يكون مخالفاً للنصوص المذكورة ثم ذكره بنحو ما تقدم عن الأمير اليماني من شاء الوقوف عليه رجع إلى شرح المصابيح للتوربشتي وشرح المشكاة للقاري. وقال الطيبي: معنى كلام ابن عباس في كتاب الله معناه إن هذا الحديث مطابق لما في كتاب الله تعالى فإن استعمال التنزيل دون أصحاب اللغة إذا حكم على الريح والرياح مطلقين كان إطلاق الريح غالباً في العذاب والرياح في الرحمة، فعلى هذا لا ترد تلك الآية على ابن عباس؛ لأنها مقيدة بالوصف ولا تلك الأحاديث؛ لأنها ليست من كتاب الله وإنما قيدت الآية بالوصف ووحدت؛ لأنها في حديث الفلك وجريانها في البحر فلو جمعت لأوهمت اختلاف الرياح وهو موجب للعطب أو الاحتباس ولو أفردت ولم تقيد بالوصف لآذنت بالعذاب والدمار؛ ولأنها أفردت وكررت ليناط به مرة طيبة وأخرى عاصف ولو جمعت لم يستقم التعلق- انتهى. وقال السيوطي في الإتقان (ج1ص192) ذكرت الريح مجموعة ومفردة فحيث ذكرت في سياق الرحمة جمعت أو في سياق العذاب أفردت أخرج ابن أبي حاتم وغيره عن أبي بن كعب قال كل شيء في القرآن من الرياح فهي رحمة وكل شيء فيه من الريح فهو عذاب، لهذا ورد في الحديث: اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً، وذكر في حكمة ذلك أن رياح الرحمة مختلفة الصفات والهيآت والمنافع وإذا هاجت منها ريح أثير لها من مقابلها ما يكسر سورتها فينشأ من بينهما ريح لطيفة تنفع الحيوان والنبات فكانت في الرحمة رياحاً، وأما في العذاب فإنها تأتي من وجه واحد ولا معارض لها ولا دافع، وقد أخرج عن هذه القاعدة قوله تعالى في سورة يونس: {وجرين بهم بريح طيبة} وذلك لوجهين: لفظي وهو المقابلة في قوله: {جاءتها ريح عاصف} ، ورب شيء يجوز في المقابلة، ولا يجوز استقلالاً نحو {ومكروا ومكر الله} . ومعنوي وهو أن تمام الرحمة هناك أنما يحصل بوحدة الريح لا باختلافها فإن السفينة لا تسير إلا بريح واحدة من وجه واحد فإذا اختلف عليها الرياح كانت سبب الهلاك فالمطلوب هناك ريح واحدة ولهذا أكد هذا المعنى بوصفها بالطيب وعلى ذلك أيضاً جرى قوله: {إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد} [الشورى: 33] وقال ابن المنير: إنه على القاعدة لأن سكون الريح عذاب وشدة على أصحاب السفن- انتهى. (رواه الشافعي) في الأم (ج1ص224) وفي المسند (ج6ص114) قال أخبرني من لا أتهم عن العلاء بن راشد عن عكرمة عن ابن عباس، وأخرجه أبويعلى والطبراني في الدعاء وفي الكبير من طريق حسين ابن قيس الرحبي الواسطي عن عكرمة وعزاه الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10ص135- 136) للطبراني فقط وقال: فيه حسين بن قيس الرحبي الملقب بحنش، وهو متروك، وقد وثقه حصين بن نمير وبقية رجاله رجال الصحيح- انتهى. وفي تهذيب التهذيب (ج2ص365) زعم أبومحصن حصين بن نمير أنه أي حصين بن قيس شيخ صدوق- انتهى. وقد ضعفه جميع من عداه.

1533- (10) وعن عائشة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أبصر ناشئاً من السماء ـ تعني السحاب ـ ترك عمله واستقبله، وقال: ((اللهم إني أعوذ بك من شر ما فيه، فإن كشفه حمد الله، وإن مطرت، قال: اللهم سقياً نافعاً)) . رواه أبوداود، والنسائي، وابن ماجه، والشافعي، واللفظ له. 1534- (11) وعن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع صوت الرعد ـــــــــــــــــــــــــــــ 1533- قوله: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أبصر ناشئاً) أي سحاباً خارجاً يعني حادثاً مرتفعاً ظاهراً (من السماء) قال التوربشتي: سمي السحاب ناشئاً؛ لأنه ينشأ من الأفق يقال: نشأ أي خرج أو ينشأ في الهواء أي يظهر، أو لأنه ينشأ من الأبخرة المتصاعدة من البحار والأراضي النزه ونحو ذلك. وقال الجزري: الناشى من السحاب هو الذي لم يتكامل اجتماعه واصطحابه فهو في أول أمره (تعني) أي تريد عائشة بقولها ناشئاً (السحاب) جملة معترضة لتفسير اللغة بين الشرط وجزاءه وهو قولها ترك. ولفظ أبي داود: كان إذا رأى ناشئاً في أفق السماء. ولفظ النسائي وابن ماجه: كان إذا رأى سحاباً مقبلاً من أفق من الآفاق أي من ناحية من النواحي (ترك) أي النبي صلى الله عليه وسلم (عمله) المشتغل به من الأمور المباحة، قاله القاري. وفي رواية أبي داود: ترك العمل وإن كان في صلاة. ولفظ النسائي وابن ماجه ترك ما هو فيه وإن كان في صلاته (واستقبله) أي السحاب. وفي رواية النسائي وابن ماجه: حتى يستقبله. وليس عند أبي داود شيء منهما (من شر ما فيه) وعند النسائي وابن ماجه، من شر ما أرسل به وانتهت رواية النسائي إلى هذا (فإن كشفه) أي أذهب الله ذلك السحاب ولم يمطر (حمد الله) أي على النجاة مما كان يخاف من العذاب. وقيل: أي من حيث أن الخير فيما اختاره الله، ولعل الشر كان في ذلك السحاب فيجب الحمد على دفع الشر، كأنه صلى الله عليه وسلم تذكر قوله تعالى في قوم عاد: {فلما رأوه عارضاً} الآية [الأحقاف: 24] . وليست هذه الجملة عند أبي داود (وإن مطرت قال اللهم سقياً نافعاً) قال القاري: بفتح السين وضمها أي اسقنا سقياً أو أسألك سقياً، فهو مفعول مطلق أو مفعول به. ولفظ ابن ماجه: إن أمطر قال: اللهم سيباً نافعاً مرتين أو ثلاثة. وعند أبي داود: إن مطر قال: اللهم صيباً هنيئاً ودعا بذلك خوفاً من الضرر الذي قد يكون في المطر (رواه أبوداود) في الأدب وسكت عنه هو والمنذري (والنسائي) في عمل اليوم والليلة (وابن ماجه) في الدعاء (والشافعي) في الأم (ج1ص224) والمسند (ج6ص114) (والفظ له) أي لفظ الحديث للشافعي وللباقين معناه. 1534- قوله: (كان إذا سمع صوت الرعد) بإضافة العام إلى الخاص للبيان، فإن الرعد هو الصوت

والصواعق، ـــــــــــــــــــــــــــــ الذي يسمع من السحاب، كذا قاله ابن الملك. والصحيح أن الرعد ملك مؤكل بالسحاب، فقد روى عن ابن عباس أن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد، فقال: ملك من الملائكة مؤكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله، وسألوا عن الصوت الذي يسمع من السحاب، فقال زجرة بالسحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر، أخرجه الترمذي وصححه. ونقل الشافعي عن الثقة عن مجاهد أن الرعد ملك والبرق أجنحته يسوق السحاب بها، ثم قال: وما أشبه ما قاله بظاهر القرآن. قال بعضهم: وعليه فيكون المسموع صوته أو صوت سوقه على اختلاف فيه. ونقل البغوي عن أكثر المفسرين أن الرعد ملك يسوق السحاب، والمسموع تسبيحه. وقيل: البرق لمعان سوط الرعد يزجر به السحاب. وأما قول الفلاسفة: إن الرعد صوت اصطكاك أجرام السحاب، البرق ما يقدح من اصطكاكها فهو من حرزهم وتخمينهم فلا يعول عليه، كذا في المرقاة. وقال الآلوسي: للناس في الرعد والبرق أقوال: والذي عول عليه أن الأول صوت زجر الملك المؤكل بالسحاب، والثاني لمعان مخاريقه التي هي من نار، والذي اشتهر عند الحكماء أن الشمس إذا أشرقت على الأرض اليابسة حللت منها أجزاء نارية يخالطها أجزاء أرضية فيركب منهما دخان ويختلط بالبخار، وهو الحادث بسبب الحرارة السماوية إذا أثرت في البلة، ويتصاعدان معاً إلى الطبقة الباردة، وينعقد ثمة سحاب ويحتقن الدخان فيه، ويطلب الصعود إن بقي على طبعه الحار، والنزول إن ثقل وبرد وكيف كان يمزق السحاب بعنفه، فيحدث منه الرعد وقد تشتعل منه لشدة حركته ومحاكته نار لامعة، وهي البرق إن لطفت، والصاعقة إن غلظت. وربما كان البرق سبباً للرعد، فإن الدخان المشتعل ينطفيء في السحاب، فيسمع لإنطفاءه صوت، كما إذا أطفأنا النار بين أيدينا، والرعد والبرق يكونان معاً إلا أن البرق يرى في الحال، لأن الأبصار لا يحتاج إلا إلى المحاذاة من غير حجاب، والرعد يسمع بعد، لأن السماع إنما يحصل بوصول تموج الهواء إلى القوة السامعة، وذلك يستدعى زماناً كذا قالوه، وربما يختلج في ذهنك قرب هذا، ولا تدري ماذا تصنع بما ورد عن حضرة من أسرى به ليلاً بلا رعد ولا برق على ظهر البراق، وعرج إلى ذي المعارج فرجع، وهو أعلم خلق الله على الإطلاق، فأنا بحول الله تعالى أوفق لك بما يزيل الغين عن العين وسر جوامع الكلم التي أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم ثم ذكر الآلوسي توجيهاً لذلك يشبه طريق الصوفية من كان له ذوق بذلك فليرجع إلى روح المعاني (ج1ص171) (والصواعق) جمع صاعقة. والظاهر أنها في الأصل صفة من الصعق وهي الصراخ. وتاؤها للتأنيث إن قدرت صفة لمؤنث، أو للمبالغة إن لم تقدر كرواية، أو للنقل من الوصفية إلى الاسمية كحقيقة. وقيل: إنها مصدر كالعافية والعاقبة، وهي اسم لكل هائل مسموع أو مشاهد. والمشهور أنها الرعد الشديد معه قطعة من نار لا تمر بشيء إلا أتت عليه، وقد يكون معه جرم حجري أو حديدي، كذا قال الآلوسي. وفي الجلالين: الصاعقة شدة صوت الرعد

{الفصل الثالث}

((قال: اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك)) . رواه أحمد، والترمذي، وقال: هذا حديث غريب. {الفصل الثالث} 1535- (12) عن عبد الله بن الزبير، ـــــــــــــــــــــــــــــ فهي مأخوذة من الصعق، وهي شدة الصوت. وقيل: هي نار تخرج من السحاب فيقدر له فعل أي ورأى الصواعق، فهو من باب علفته تبناً وماءاً بارداً لمجاورة الصاعقة غالباً صوت الرعد مسموعاً. ولعل إعتبار الجمع موافقة للآية المراد فيها التعدد المحيط بهم زيادة للنكال، قاله القاري في شرح الحصن. وقال في المرقاة: والصواعق بالنصب، فيكون التقدير وأحس الصواعق من باب علفتها تبناً وماءاً بارداً، أو أطلق السمع وأريد به الحس من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل، وفي نسخة بالجر عطفاً على الرعد، وهو إنما يصح على بعض الأقوال في تفسير الصاعقة. قال بعضهم: هي نار تسقط من السماء في رعد شديد، فعلى هذا لا يصح عطفه على شيء مما قبله. وقيل: الصاعقة صيحة العذاب أيضاً وتطلق على صوت شديد غاية الشدة يسمع من الرعد، وعلى هذا يصح عطفه على صوت الرعد أي صوت السحاب، فالمراد بالرعد السحاب بقرينة إضافة الصوت إليه، أو الرعد صوت السحاب ففيه تجريد. وقال الطيبي هي قعقعة رعد ينقض معها قطعة من نار يقال صعقته الصاعقة إذا أهلكته فصعق أي مات إما لشدة الصوت وإما بالإحراق- انتهى. (وعافنا) أي أمتنا بالعافية (قبل ذلك) أي قبل نزول عذابك (رواه أحمد) (ج2ص100) (والترمذي) في الدعوات، وأخرجه أيضاً البخاري في الأدب المفرد، والدولابي في الكي، وابن السني في عمل اليوم والليلة، والحاكم في المستدرك (ج4ص286) والبيهقي (ج3ص362) قال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. وقال ميرك نقلاً عن التصحيح: إسناده جيد وله طرق. وقال الشوكاني في تحفة الذاكرين: ضعف النووي إسناد الترمذي- انتهى. قلت: حديث ابن عمر هذا قد تفرد به أبومطر عند الجميع. وقال الحافظ في التقريب: أبومطر شيخ الحجاج بن أرطاة مجهول، وقال في التهذيب في ترجمته: ذكره ابن حبان في الثقات. 1535- قوله: (عن عبد الله بن الزبير) كذا في جميع النسخ، وهو يدل على أن هذا الأثر موقوف على عبد الله بن الزبير. ورواية البيهقي نص في ذلك حيث رواه بسنده إلى مالك عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن عبد الله بن الزبير أنه كان إذا سمع الرعد إلخ وفي النسخ الهندية من الموطأ "مالك عن عامر بن عبد الله بن الزبير أنه كان" إلخ هكذا وقع في نسخة الزرقاني والتنوير للسيوطي والمنتقى للباجي، ولم يبين الزرقاني والسيوطي مرجع

أنه كان إذا سمع الرعد ترك الحديث، وقال: ((سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته)) . رواه مالك. ـــــــــــــــــــــــــــــ ضمير قوله "أنه كان" وقال الباجي: قوله" إن ابن الزبير" يريد عبد الله كان إذا سمع الرعد ترك الحديث إلخ. وهذا يدل على أن الأثر عنده موقوف على عبد الله بن الزبير، وعليه يدل ما وقع في تفسير ابن كثير وتحفة الذاكرين وحاشية الحصن الحصين وهو الظاهر عندنا، وعامر بن عبد الله بن الزبير بن العوام الأسدي أبوالحارث المدني ثقة عابد تابعي مات سنة إحدى وعشرين ومائة. (كان إذا سمع الرعد) أي صوته (ترك الحديث) أي الكلام مع الأنام. قال الباجي: يريد- والله أعلم. ارتياعاً منه وإقبالاً على ذكر الله عزوجل والتسبيح والإخبار بأن الرعد يسبح بحمده عزوجل. ويحتمل أن يكون الرعد ملكاً يزجر السحاب- انتهى. قلت: ويؤيد هذا ما تقدم من حديث ابن عباس مرفوعاً: أن الرعد ملك مؤكل بالسحاب معه مخاريق من نار (يسبح الرعد) أي ينزهه حال كونه متلبساً (بحمده) له تعالى، وقد تقدم أن الرعد ملك، فنسبة التسبيح إلى حقيقة، وهو الصحيح. وقيل: إسناده مجازي، لأن الرعد بمعنى الصوت سبب؛ لأن يسبح الله السامع حامداً له خائفاً راجياً (والملائكة من خيفته) أي من أجل خوف الله تعالى. وقيل: من خوف الرعد، فإنه رئيسهم. وبعده في الموطأ: ثم يقول (أي ابن الزبير) : أن هذا الوعيد لأهل الأرض شديد. وروى ابن جرير عن أبي هريرة مرفوعاً أنه كان إذا سمع الرعد قال: سبحان من يسبح الرعد بحمده. وروى عن علي أنه كان إذا سمع الرعد يقول: سبحان من سبحت له، وكذا روى عن ابن عباس وطاؤس والأسود بن يزيد أنهم كانوا يقولون كذلك، وكأنهم يذهبون إلى قوله تعالى: {ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته} [الرعد: 13] وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سمعتم الرعد فاذكروا الله تعالى، فإنه لا يصيب ذاكراً، وفي إسناده يحيى بن أبي كثير أبوالنضر وهو ضعيف (رواه مالك) في الموطأ في باب القول إذا سمعت الرعد من كتاب الجامع عن عامر ابن عبد الله بن الزبير أنه كان إلخ وقد صحح النووي إسناده، وأخرجه أيضاً البخاري في الأدب المفرد، والبيهقي (ج3ص362) .

(5) كتاب الجنائز

(5) كتاب الجنائز (1) باب عيادة المريض وثواب المرض {الفصل الأول} 1536- (1) عن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أطعموا الجائع، وعودوا المريض، ـــــــــــــــــــــــــــــ (كتاب الجنائز) بفتح الجيم لا غير، جمع جنازة بالفتح والكسر، والكسر أفصح، اسم للميت في النعش أو بالفتح، اسم لذلك وبالكسر اسم للنعش وعليه الميت. وقيل: عكسه. وقيل: هما لغتان فيهما، فإن لم يكن عليه ميت فهو سرير ونعش، وهي من جنزه يجنزه من باب ضرب إذا ستره، ذكره ابن فارس وغيره. أورد كتاب الجنائز بعد الصلاة كأثر المصنفين من المحدثين والفقهاء، لأن الذي يفعل بالميت من غسل وتكفين وغير ذلك لهمه الصلاة عليه لما فيها من فائدة الدعاء له بالنجاة من العذاب لاسيما عذاب القبر الذي سيدفن فيه. وقيل: لأن للإنسان حالتين: حالة الحياة وحالة الممات. ويتعلق بكل منهما أحكام العبادات وأحكام المعاملات، وأهم العبادات الصلاة، فلما فرغوا من أحكامها المتعلقة بالأحياء ذكروا ما يتعلق بالموتى من الصلاة وغيرها. قيل: شرعت صلاة الجنازة بالمدينة في السنة الأولى من الهجرة، فمن مات بمكة قبل الهجرة لم يصل عليه. (باب عيادة المريض) أي وجوباً وثواباً. وأصل عيادة عِوادة بالواو فقلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها، يقال: عُدتُ المريض أعوده عياداً وعيادةً وعُوادةً إذا زرته وسألت عن حاله (وثواب المرض) الذي يصيب الإنسان إذا صبر عليه. 1536- قوله: (أطعموا الجائع) ندباً أو وجوباً إن كان مضطراً. قال في اللمعات: هو سنة إن لم يصل حد الاضطرار، وفرض إن وصل على الكفاية إن لم يتعين أحد، وعين إن يتعين (وعودوا) أمر من العيادة (المريض) وهي سنة إن كان له متعهد، وواجب إن لم يكن، وجزم البخاري بالوجوب لظاهر الأمر، فقد ترجم عليه في كتاب المرضى بلفظ "باب وجوب عيادة المريض" قال الحافظ: قال ابن بطال: يحتمل أن يكون الأمر على الوجوب بمعنى الكفاية كإطعام الجائع وفك الأسير، ويحتمل أن يكون للندب للحث على التواصل والألفة. وجزم الداودى بالأول فقال هي فرض يحمله بعض الناس عن بعض. وقال الجمهور: هي في الأصل للندب، وقد

وفكوا العاني)) . رواه البخاري. 1537 - (2) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حق المسلم على المسلم خمس: ـــــــــــــــــــــــــــــ تصل إلى الوجوب في حق بعض دون بعض. وعن الطبري تتأكد في حق من ترجى بركته، وتسن فيمن يراعي حاله، وتباح فيما عدا ذلك. وفي الكافر خلاف كما سيأتي في أول الفصل الثالث. ونقل النووي الإجماع على عدم الوجوب يعني على الأعيان. واستدل بعموم قوله عودوا المريض على مشروعية العيادة في كل مريض واستثنى بعضهم الأرمد لكون عائدة قد يرى ما لا يراه هو. وتعقب بأنه قد يتأتى مثله في بقية الأمراض كالمغمى عليه، وقد جاء في عيادة الأرمد بخصوصها حديث زيد بن أرقم عند أبي داود وغيره، وقد ذكره المصنف في الفصل الثاني، وسيأتي الكلام عليه هناك مفصلاً، ويؤخذ من إطلاقه أيضاً عدم التقييد بزمان يمضي من ابتداء مرضه وهو قول الجمهور، وجزم الغزالي في الأحياء بأنه لا يعاد إلا بعد ثلاث، واستند إلى حديث أنس الآتي في الفصل الثالث، وهو حديث ضعيف جداً وسيجيء الكلام عليه هناك، وفي إطلاق الحديث أيضاً أن العيادة لا تتقيد بوقت دون وقت، لكن جرت العادة بها في طرفي النهار، ونقل ابن الصلاح عن الفراوى: أن العيادة تستحب في الشتاء ليلاً وفي الصيف نهاراً وهو غريب ومن آدابها أن لا يطيل الجلوس حتى يضجر المريض أو يشق على أهله، فإن اقتضت ذلك ضرورة فلا بأس ويلتحق بعيادة المريض تعهده وتفقد أحواله والتلطف به وربما كان ذل في العادة سبباً لوجود نشاطه وانتعاش قوته (وفكوا) بضم الفاء وتشديد الكاف أي خلّصوا (العاني) بالعين المهملة والنون المكسورة المخففة، وزن القاضي أي الأسير، وفكه تخليصه بالفداء أي أخلصوا الأسير المسلم في أيدي الكفار أو المحبوس ظلماً بغير حق، قال ابن بطال: فكاك الأسير واجب على الكفاية، وبه قال الجمهور. وقال إسحاق بن راهوية: من مال ببيت المال. وقيل: المعنى أعتقوا الأسير أي الرقيق، وكل من ذل واستكان وخضع فقد عنى (رواه البخاري) في الأطعمة والنكاح والأحكام والجهاد والمرضى، وأخرجه أيضاً أحمد، وأبوداود والبيهقي (ج3ص379) . 1537- قوله: (حق المسلم على المسلم خمس) أي خصال كلهن فروض على الكفاية. وقال القسطلاني: هذا يعم وجوب العين والكفاية والندب. وقال الشوكاني: المراد بحق المسلم أنه لا ينبغي تركه ويكون فعله إما واجباً أو مندوباً ندباً مؤكداً شبيهاً بالواجب الذي لا ينبغي تركه، ويكون استعماله في المعنيين من باب استعمال المشترك في معنييه، فإن الحق يستعمل في معنى الواجب، كذا ذكره ابن الأعرابي، وكذا يستعمل في معنى الثابت

رد السلام، وعيادة المريض، وإتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس)) متفق عليه. 1538 - (3) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حق المسلم على المسلم ست. قيل: ما هن يا رسول الله؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ ومعنى اللازم ومعنى الصدق وغير ذلك- انتهى. قلت وفي رواية لمسلم، وكذا عند أبي داود: وخمس تجب للمسلم على أخيه. وقد تبين بهذه الرواية أن معنى الحق هنا الوجوب. قال الحافظ: والظاهر أن المراد به هنا وجوب الكفاية. ثم العدد قد جاء في الروايات مختلفاً، فيدل على أنه لا عبرة لمفهوم العدد، ولا يقصد به الحصر. ويؤتي به أحياناً على حسب ما يليق بالمخاطب (رد السلام) أي جوابه. وهو فرض عين من الواحد، وفرض كفاية من جماعة يسلم عليهم. وأما السلام فسنة، فقد نقل ابن عبد البر وغيره إجماع المسلمين على أن ابتداء السلام سنة، وأن رده فرض وصفة الرد أن يقول وعليكم السلام. ويأتي الكلام عليه في باب السلام من كتاب الآداب (واتباع الجنائز) أي المضي معها والمشي خلفها إلى حين دفنها بعد الصلاة عليها، وهو من الواجبات على الكفاية (وإجابة الدعوة) بفتح الدال فيه مشروعية إجابة الدعوة، وهذا إذا لم يكن هناك مانع شرعي أو عرفي، وهي أعم من الوليمة. ويأتي الكلام عليها في باب الوليمة من كتاب النكاح (وتشميت العاطس) أي جوابه بـ "يرحمك الله" إذا قال الحمد لله. قال في النهاية: التشميت بالشين المعجمة والسين المهملة الدعاء للعاطس بالخير والبركة، والمعجمة أعلاهما. واشتقاقه من الشوامت وهي القوائم، كأنه دعاء للعاطس بالثبات على طاعة الله. وقيل: الأصل فيه المهملة فقلبت معجمة. وقال صاحب المحكم: تشميت العاطس معناه الدعاء له بالهداية إلى السمت الحسن. وفيه دليل على مشروعية تشميت العاطس. ويأتي الكلام عليه في باب العطاس والتثاؤب من كتاب الآداب. قال في شرح السنة هذه الخصال كلها في حق الإسلام يستوي فيها جميع المسلمين برهم وفاجرهم غير أن يخص البر بالبشاشة والمسألة والمصافحة دون الفاجر المظهر لفجوره. قال المظهر: إذا دعا المسلم المسلم إلى الضيافة والمعاونة يجب عليه طاعته إذا لم يكن ثمة ما يتضرر به في دينه من الملاهي ومفارش الحرير ورد السلام واتباع الجنائز فرض على الكفاية. وأما تشميت العاطس إذا حمد الله وعيادة المريض فسنة إذا كان له متعهد، وإلا فواجب. ويجوز أن يعطف السنة على الواجب إن دل عليه القرينة كما يقال: صم رمضان وستة من شوال، ذكره الطيبي (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجنائز ومسلم في كتاب الآداب، وأخرجه أيضاً أبوداود في الأدب والنسائي في اليوم والليلة، وأخرجه ابن ماجه في الجنائز بغير هذا السياق. 1538- قوله: (حق المسلم على المسلم ست) من الخصال. ومفهوم العدد لا يفيد الحصر، فللمسلم

قال: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه)) رواه مسلم. 1539- (4) وعن البراء بن عازب، قال: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بسبع، ونهانا عن سبع، أمرنا: ((بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، ورد السلام، وإجابة الداعي، وإبرار المقسم، ـــــــــــــــــــــــــــــ حقوق آخر (إذا لقيته فسلم عليه) ندباً، ويلزمه رد السلام، واكتفى بذكره في الحديث الأول (وإذا دعاك) أي للإعانة أو الدعوة (فأجبه) وجوباً إن كانت للإعانة أو وليمة العرس، وندباً إن كانت لغيرها (وإذا استنصحك) أي طلب منك النصيحة (فانصح له) وجوباً، وكذا يجب النصح وإن لم يستنصحه. وقال في اللمعات: هي سنة، وعند الاستنصاح واجبة. والنصيحة إرادة الخير للمنصوح له. وقال الراغب: النصح تحري قول أو فعل فيه إصلاح صاحبه. وفي رواية الترمذي والنسائي: وينصح له إذا غاب أو شهد أي يريد له الخير في جميع أحواله، وهو المراد بقوله إذا غاب أو شهد، إذ الأحوال لا تخلوا عن غيبة وحضور. والمقصود أنه لا يقصر النصح على الحضور كحال من يراعي الوجه، بل ينصح لأجل الإيمان، فيسوى بين السر والإعلان (وإذا عطس) بفتح الطاء ويكسر (فحمد الله) فيه أنه لا يشرع تشميت العاطس إذا لم يحمد الله، فالمطلق في الحديث المتقدم محمول على هذا المقيد (فشمته) أي قل له يرحمك الله (وإذا مرض فعده) أمر من العيادة أي زره واسأل عن حاله (وإذا مات فاتبعه) حتى تصلى ويدفن. قال السيد: هذا الحديث لا يناقض الأول في العدد، فإن هذا زائد، والزيادة مقبولة، والظاهر أن الخمس مقدم في الصدور، قال والأمر للتسليم، والعيادة للندب والاستحباب، ولام فانصح له زائدة، ولو لم يحمد الله لم يستحب التشميت، ولذلك قال فحمد الله فشمته، كذا قاله في الأزهار (رواه مسلم) في الآداب، وأخرجه أيضاً البخاري في الأدب المفرد، وأخرجه الترمذي في الآداب، والنسائي في الجنائز بلفظ: للمؤمن على المؤمن ست خصال: يعوده إذا مرض، ويشهده إذا مات، ويجيبه إذا دعاه، ويسلم عليه إذا لقيه، ويشمته إذا عطس، وينصح له إذا غاب أو شهد. وفي الباب عن علي عند أحمد والترمذي وابن ماجه وأبي مسعود عند أحمد وابن ماجه. 1539- قوله: (أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع ونهانا عن سبع) بحذف مميز العدد في الموضعين أي خصال (ورد السلام) وفي رواية مسلم، وكذا في رواية البخاري: وإفشاء السلام، وهو يحتمل الإبتداء بالسلام ورده (وإبرار المقسم) بكسر همزة إبرار إفعال من البر خلاف الحنث، والمقسم بضم الميم وسكون القاف وكسر السين،

ونصر المظلوم، ونهانا: عن خاتم الذهب، وعن الحرير، والإستبرق، والديباج، والميثرة الحمراء، ـــــــــــــــــــــــــــــ اسم فاعل من الأقسام أي تصديق من أقسم عليه، وهو أن يفعل ما سأله الملتمس وأقسم عليه أن يفعله، يقال بر وأبر القسم إذا صدقه. وقال الطيبي: المراد من المقسم الحالف، وإبراره جعله بارداً صادقاً في يمينه أو جعل يمينه صادقه. والمعنى أنه لو حلف أحد على أمر مستقبل، وأنت تقدر على تصديق يمينه ولم يكن فيه معصية، كما لو أقسم أن لا يفارقك حتى تفعل كذا، وأنت تستطيع فعله، فافعل كيلا يحنث- انتهى. وفي رواية القسم بفتحات. قال السندي: إبرار القسم جعل الحالف باراً في حلفه إذا أمكن كما إذا حلف والله زيد يدخل الدار اليوم، فإذا علم به زيد وهو قادر عليه ولا مانع منه ينبغي له أن يدخل لئلا يحنث القائل- انتهى. قال القسطلاني: وهو خاص فيما يحمل من مكارم الأخلاق، فإن ترتب على تركه مصلحة فلا، ولذا قال عليه الصلاة والسلام لأبي بكر في قصة تعبير الرؤيا: لا تقسم حين قال أقسمت عليك يا رسول الله لتخبرني بالذي أصبت- انتهى. وقال النووي: إبرار القسم سنة مستحبة متأكدة، وإنما يندب إليه إذا لم يكن فيه مفسدة أو خوف وضرر أو نحو ذلك، فإن كان شيء من هذا لم يبر قسمه، كما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر في قصة تعبير الرؤيا لا تقسم ولم يخبر. وفي رواية لمسلم: وإنشاد الضوال مكان قوله: وإبرار المقسم. والضوال جمع الضالة، وهي الضائعة وإنشادها تعريفها طريقها أو تعريف صاحبها بها (ونصر المظلوم) مسلماً كان أو ذمياً بالقول أو بالفعل. قال في شرح السنة: هو واجب يدخل فيه المسلم والذمي، وقد يكون ذلك بالقول، وقد يكون بالفعل وبكف الظالم عن الظلم - انتهى. وقال النووي: نصر المظلوم من فروض الكفاية، وهو من جملة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما يتوجه الأمر به على من قدر عليه ولم يخف ضرراً (ونهانا عن خاتم الذهب) بفتح التاء ويكسر أي عن لبسة للرجال (وعن الحرير) أي لبس الثوب المنسوج من الأبريسم للرجال (والإستبرق) بهمزة قطع مكسورة، وهو الديباج الغليظ على الأشهر. وقيل: الرقيق، وهو تعريب استبرك (والديباج) بكسر الدال وتفتح، عجمي معرب الديبا، جمعه دبابيج ودباييج بالباء وبالياء، لأن أصله دباج. وقيل: جمعه ديابيج، وهو الثوب الذي سداه ولحمته حرير يعني الثوب المتخذ من الأبريسم. وذكر الإستبرق والديباج بعد الحرير مع تناوله لهما من باب ذكر الخاص بعد العام اهتماماً بحكمهما أو دفعاً لتوهم أن اختصاصها باسم يخرجهما عن حكم العام أو أن العرف فرق أسماءها لاختلاف مسمياتهما، فربما توهم متوهم أنهما غير الحرير. وقال القاري: الديباج هو الرقيق. وقيل: الحرير المركب من الأبريسم وغيره مع غلبة الأبريسم والمراد بها الأنواع والتفصيل لتأكيد التحريم (والميثرة الحمراء) بكسر الميم وسكون التحتية وفتح المثلثة بلا همز، فهي مفعلة من الوثار، يقال وثر يوثر بضم الثاء فيهما وثارة بفتح الواو فهو وثير أي وطيء لين وأصلها مِوثرة فقلبت الواو لكسرة الميم، جمعها مواثر ومياثر وهي من مراكب العجم تعمل من حرير أو ديباج وتتخذ كالفراش

والقسي، وآنية الفضة. ـ وفي رواية ـ وعن الشرب في الفضة. فإنه من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة)) ـــــــــــــــــــــــــــــ الصغير، وتحشى بقطن أو صوف يجعلها الراكب تحته على الرحال والسروج، كذا في النهاية. وقيل: هي وطاء كانت النساء يصنعنه لأزواجهن على السروج، وكان من مراكب العجم، وتكون من الحرير، وتكون من الصوف وغير ذلك. وقيل: أغشية للسروج تتخذ من الحرير. وقيل: هي سروج من الديباج. قال الطيبي: وصفها بالحمراء، لأنها كانت الأغلب في مراكب الأعاجم يتخذونها رعونة- انتهى. والميثرة إن كانت من الحرير، كما هو الغالب فيما كان من عادتهم، فهي حرام، لأنه جلوس على الحرير واستعمال له وهو حرام على الرجال، سواء كان على رحل أو سرج أو غيرهما، وإن كانت ميثرة من غير الحرير فليست بحرام، ويكون النهي فيها للزجر عن التشبه بالأعاجم أو للسرف أو التزين لا للحمرة، لن الثوب الأحمر لا كراهة فيه وقد ثبتت الأحاديث الصحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبس حلة حمراء، وبحسب ذلك تفصيل النهي بين التحريم والتنزيه (والقسي) بفتح القاف وكسر السين المهملة المشددة، فسرت في كتاب اللباس من صحيح البخاري بأنها ثياب يؤتي بها من الشام أو مصر مضلعة فيها حرير فيها أمثال الأترج. وقال الجزري: هو ثياب منسوجة من كتان مخلوط بحرير يؤتي بها من مصر، نسبت إلى قرية على ساحل البحر قريباً من تنيس يقال لها: القس بفتح القاف، وبعض أهل الحديث يكسرها. وقيل: أصل القسي القزى بالزاي منسوب إلى القز، وهو ضرب من الأبريسم. وقيل: هو ردى الحرير فأبدلت الزاي سيناً. قال العيني: القس والتنيس وفرما كانت مدناً على ساحل بحر دمياط، غلب عليها البحر فاندثرت فكانت يخرج منها ثياب مفتخرة ويتاجر بها في البلاد- انتهى. وهذا القسي إن كان من حرير أو كان حريره أكثر من الكتان فالنهي عنه للتحريم وإلا فلكراهة التنزيه. قال ميرك: فإن قلت ما الفرق بين هذه الأربعة؟ قلت: الحرير اسم عام والديباج نوع منه والإستبرق نوع من الديباج والقسي ما يخالطه الحرير أو ردى الحرير، وفائدة ذكر الخاص بعد العام بيان الاهتمام بحكمه ودفع توهم أن تخصيصه باسم مستقل ينافي دخوله تحت الحكم العام والإشعار بأن هذه الثلاثة غير الحرير نظراً إلى العرف وكونها ذوات أسماء مختلفة مقتضية لاختلاف مسمياتها (وآنية الفضة) والذهب أولى مع أنه صرح به في حديث آخر، وهي حرام على العموم للسرف والخيلاء. قال الخطابي: وهذه الخصال مختلفة المراتب في حكم العموم والخصوص والوجوب فتحريم خاتم الذهب وما ذكر معه من لبس الحرير والديباج خاص للرجال، وتحريم آنية الفضة عام للرجال والنساء لأنه من باب السرف والمخيلة (وفي رواية) أي لمسلم (وعن الشرب) بضم الشين وفي معناه الأكل (في الفضة) والذهب بالطريق الأولى (فإنه) أي الشأن (من شرب فيها في الدنيا) أي ثم مات ولم يتب (لم يشرب فيها في الآخرة) قال المظهر: أي من اعتقد حلها ومات عليه فإنه كافر، وحكم من لم يعتقد ذلك خلاف ذلك فإنه ذنب صغير غلظ وشدد للرد والارتداع- انتهى. قال الطيبي: قوله

متفق عليه. 1540 - (5) وعن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يشرب فيها كناية تلويحية عن كونه جهنمياً فإن الشرب من أواني الفضة من دأب أهل الجنة لقوله تعالى: {قوارير من فضة} [الدهر: 16] فمن لم يكن هذا دأبه لم يكن من أهل الجنة فيكون جهنمياً فهو كقوله: إنما يجرجر في بطنه نار جهنم- انتهى. وقيل: الأولى أن يقال إنه لم يشرب فيها في الجنة وإن دخلها فيحرم من الشرب فيها في الجنة لشربه فيها في الدنيا، وظاهر الحديث تأييد التحريم فإن دخل الجنة شرب في جميع أوانيها إلا في آنية الفضة والذهب ومع ذلك لا يتألم لعدم الشرب فيها ولا يحسد من يشرب فيها ويكون حاله كحال أصحاب المنازل في الخفض والرفعة (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجنائز والمظالم والنكاح والأشربة والمرضى واللباس والأدب والاستيذان والنذور، ومسلم في اللباس، واللفظ للبخاري، وأخرجه أيضاً الترمذي في الاستيذان والأدب مطولاً، وفي اللباس مختصراً، والنسائي في الجنائز والإيمان والنذور والزينة وابن ماجه في الكفارات واللباس مختصراً. ثم قوله: "متفق عليه" يشعر بأن قوله وعن الشرب في الفضة إلخ اتفق الشيخان على إخراجه والأمر ليس كذلك فإنه قد تفرد مسلم به ولم يخرجه البخاري. 1540- قوله: (إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم) أي زاره في مرضه (لم يزل في خرفة الجنة) بضم المعجمة وسكون الراء وفتح الفاء بعدها هاء هي الثمرة إذا نضجت، وقيل: ما يخترف ويجتنى من ثمار النخيل إذا أدركت أي لم يزل في التقاط فواكه الجنة واختراف مجتناها أو لم يزل في مواضع خرفتها أي في بساتينها شبه - صلى الله عليه وسلم - ما يحوزه ويحرزه عائد المريض من الثواب بما يحرزه المجتنى والمخترف من الثمر، وقيل: المراد بها هنا الطريق، والمعنى أن العائد يمشي في طريق تؤديه إلى الجنة. قال الحافظ في الفتح: والتفسير الأول أولى، فقد أخرجه البخاري في الأدب المفرد من هذا الوجه، وفيه قلت لأبي قلابة ما خرفة الجنة؟ قال جناها، وهو عند مسلم من جملة المرفوع- انتهى. وفي رواية لمسلم: عائد المريض في مخرفة الجنة حتى يرجع بفتح الميم والراء بينهما خاء معجمة ساكنة أي في بستانها. قال الشوكاني: بالخاء المعجمة على زنة مرحلة، وهي البستان، ويطلق على طريق اللاحب أي الواضح أي عائد المريض في بساتين الجنة وثمارها (حتى يرجع) أي الثواب حاصل للعائد من حين يذهب للعيادة حتى يرجع إلى محله ويعلم منه أن من كان طريقه أطول كان أكثر ثواباً وليس المراد المكث الكثير عند المريض لما علم أنه يطلب التخفيف في المكث عنده (رواه مسلم) في البر والصلة والأدب، وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي في الجنائز، والبخاري في الأدب المفرد والبيهقي (ج3ص380) وابن أبي شيبة.

1541- (6) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى يقول يوم القيامة: يا ابن آدم! مرضت فلم تعدني. قال: يا رب! كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم! استطعمتك فلم تطعمني. قال: يا رب! كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا ابن آدم! استسقيتك فلم تسقني! قال: يا رب! كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما أنك لو سقيته وجدت ـــــــــــــــــــــــــــــ 1541- قوله: (إن الله تعالى يقول يوم القيامة) على لسان ملك أو بلا واسطة بلسان القال معاتباً لابن آدم بما قصر في حق أولياؤه (يا ابن آدم مرضت فلم تعدني) بفتح المثناة الفوقية وضم العين وسكون الدال أي مرض عبدي الكامل الشديد القرب مني قرب مكانة إذ إسناد وصف العبد له تعالى دليل على ذلك، قاله الحفني وقال القاري: أراد مرض عبده وإنما أضاف إلى نفسه تشريفاً لذلك العبد فنزله منزلة ذاته، والحاصل أن من عاد مريضاً لله تعالى فكأنه زار الله- انتهى. وقال النووي: قال العلماء إنما أضاف المرض إليه سبحانه وتعالى والمراد العبد تشريفاً للعبد وتقريباً له (كيف أعودك) أي كيف تمرض حتى أعودك (وأنت رب العالمين) والرب المالك والسيد والمدبر والمربي والمنعم، وهذه الأوصاف تنافي المرض والنقصان والاحتياج والهلاك. قال القاري: حال مقررة لجهة الإشكال الذي يتضمنه كيف أي المرض إنما يكون للمريض العاجز وأنت القاهر القوي المالك، فإن قيل إن الظاهر أن يقال كيف تمرض مكان كيف أعودك؟ قلنا عدل عنه معتذراً إلى ما عوتب عليه وهو مستلزم لنفي المرض (أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده) أي لوجدت رضائي وثوابي وكرامتي. ويدل على هذا المعنى قوله تعالى في تمام الحديث لو أطعمته لوجدت ذلك عندي أي ثوابه. قال الطيبي: في العبارة إشارة إلى أن العيادة أكثر ثواباً من الإطعام والإسقاء الآتيين حيث خص الأول بقوله لوجدتني عنده فإن فيه إيماء إلى أن الله تعالى أقرب إلى المنكسر المسكين- انتهى (استطعمتك) أي طلبت منك الطعام (كيف أطعمك وأنت رب العالمين) أي والحال أنك تطعم ولا تطعم (أما علمت أنه) أي الشأن (أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك) أي ثواب إطعامه (استسقيتك) أي طلبت منك الماء (فلم تسقني) بالفتح والضم في أوله (كيف أسقيك) بالوجهين (وأنت رب العالمين) أي مربيهم غير محتاج إلى شيء من الأشياء فضلاً عن الطعام والماء (لو سقيته وجدت) بلا لام هنا إشارة على جواز

ذلك عندي؟)) رواه مسلم. 1543 - (7) وعن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أعرابي يعوده، وكان إذا دخل على مريض يعوده قال: ((لا بأس، طهور إنشاءالله، فقال له: لا بأس، طهور إنشاءالله. قال: كلا، بل حمى تفور، على شيخ كبير، تزيره القبور، فقال النبي صلى الله عليه وسلم فنعم إذاً)) ـــــــــــــــــــــــــــــ حذفها لكن وقع في صحيح مسلم باللام كإخواته، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج10:ص350) (ذلك عندي) فإن الله لا يضيع أجر المحسنين، وفي الحديث بيان أن الله تعالى عالم بالكائنات يستوي في علمه الجزئيات والكليات وأنه مبتل عباده بما شاء من أنواع الرياضات ليكون كفارة للذنوب ورفعاً للدرجات العاليات (رواه مسلم) في البر والصلة والأدب. 1542- قوله: (إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أعرابي) بفتح الهمزة أي واحد من سكان البادية قيل: اسمه قيس بن أبي حازم، كما في ربيع الأبرار للزمخشري، فقال في باب الأمراض والعلل دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - على قيس بن أبي حازم يعوده، فذكر القصة. قال الحافظ: إن كان هذا محفوظاً فهو غير قيس بن أبي حازم أحد المخضرمين، لأن صاحب القصة مات في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقيس لم ير النبي صلى الله عليه وسلم في حال إسلامه فلا صحبة له ولكن أسلم في حياته ولأبيعه صحبة عاش بعده دهراً طويلاً (يعوده) جملة حالية، قال ابن عباس (وكان) النبي - صلى الله عليه وسلم - (إذا دخل على مريض) حال كونه (يعوده قال) له (لا بأس) أي لا مشقة ولا تعب عليك من هذا المرض بالحقيقة. قال الحافظ: أي إن المرض يكفر الخطايا فإن حصلت العافية فقد حصلت الفائدتان وإلا حصل ربح التكفير (طهور) خبر مبتدأ محذوف أي هو طهور لك من ذنوبك أي مطهرة (إن شاء الله) يدل على أن قوله طهور دعاء لا خبر (فقال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (له) أي للأعرابي (لا بأس) عليك هو (طهور) لك من ذنوبك أي مطهر لك (قال) أي الأعرابي مخاطباً للنبي - صلى الله عليه وسلم - أقلت طهور (كلا) أي ليس بطهور. وقال القاري: أي ليس الأمر كما قلت أو لا تقل هذا فإن قوله كلا محتمل للكفر وعدمه، ويؤيده كونه أعرابياً حلفا فلم يقصد حقيقة الرد والتكذيب ولا بلغ حد اليأس والقنوط (بل حمى) وفي البخاري: بل هي حمى، وهكذا نقله الجزري (ج7:ص403) (تفور) بالفاء أي يظهر حرها ووجهها وغليانها (على شيخ كبير) أي تغلى في بدنه كغلى القدور (تزبرة) بضم الفوقية وكسر الزاى من إزاره إذا حمله على الزيارة (القبور) نصب مفعول ثان، والهاء في أول والمعنى تبعثه إلى القبور (فنعم) بفتح العين (إذاً) بالتنوين، وفي بعض النسخ: إذن كما في البخاري

رواه البخاري. 1543 - (8) وعن عائشة، قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتكى منا إنسان، مسحه بيمينه، ثم قال: ((اذهب البأس رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاءك، ـــــــــــــــــــــــــــــ في باب عيادة الأعراب. قال القسطلاني: الفاء مرتبة على محذوف وإذا جواب وجزاء. ونعم تقرير لما قال الأعرابي أي إذا أبيت فنعم أي كان كما ظننت. وقال الطيبي: يعني أرشدتك بقولي لا بأس عليك إلى أن الحمى تطهرك من ذنوبك فاصبر واشكر الله عليها فأبيت إلا اليأس والكفران فكان كما زعمت وما اكتفيت بذلك بل رددت نعمة الله وأنت مسجع به قاله غضباً عليه – انتهى. وقال ابن التين: يحتمل أن يكون ذلك دعاء عليه، ويحتمل أن يكون خبراً عما يؤل إليه أمره. وقال غيره: يحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - علم أنه سيموت من ذلك المرض فدعا له بأن تكون الحمى له طهره لذنوبه فأصبح ميتاً، ويحتمل أن يكون أعلم بذلك لما أجابه الأعرابي بما أجابه، وزاد الطبراني من حديث شرجيل والد عبد الرحمن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للأعرابي إذا أبيت فهي كما تقول قضاء الله كائن فما أمسى من الغد إلا ميتاً. وأخرجه الدولابي في الكنى وابن السكن في الصحابة، ولفظه: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ما قضى الله فهو كائن فأصبح الأعرابي ميتاً، وفائدة الحديث: أنه لا نقص على الإمام في عيادة مريض من رعيته ولو كان أعرابياً جافياً ولا على العالم في عيادة الجاهل ليعلمه ويذكره بما ينفعه ويأمره بالصبر لئلا يتسخط قدر الله فيسخط عليه ويسليه عن ألمه بل يغبطه بسقمه إلى غير ذلك من جبر خاطره وخاطر أهله. وفيه أنه ينبغي للمريض أن يتلقى موعظة العائدة بالقبول، ويحسن جواب من يذكره بذلك (رواه البخاري) في علامات النبوة والمرضى والتوحيد. وأخرجه أيضاً النسائي في اليوم والليلة، والبيهقي (ج3:ص382-383) . 1543- قوله: (إذا اشتكى) أي مرض (مسحه) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك المريض. وقيل: موضع الوجع تفاؤلاً لزوال ذلك الوجع (بيمينه ثم قال) أي داعياً (اذهب البأس) أي أزل شدة المرض، والباس بغير همزة للمواخاة والازدواج فإن أصله الهمزة، وقيل: سهلت الهمزة بقلبها ألفاً لانفتاح ما قبلها، وهي لغة لقريش (رب الناس) نصباً بحذف حرف النداء (واشف أنت الشافي) وفي رواية البخاري: واشفه وأنت الشافي. قال الحافظ: في رواية الكشمهيني بحذف الواو، والضمير في اشفه للعليل أو هي هاء السكت، ويؤخذ منه جواز تسمية الله تعالى بما ليس في القرآن بشرطين: أحدهما أن لا يكون في ذلك ما يوهم نقصاً، والثاني أن يكون له أصل في القرآن، وهذا من ذاك فإن في القرآن: {وإذا مرضت فهو يشفين} (لا شفاء) بالمد مبنى على الفتح والخبر محذوف، والتقدير حاصل لنا أو للمريض (إلا شفاءك) بالرفع على أنه بدل من موضع لا شفاء، وفي حديث أنس عند البخاري لا شافي إلا أنت، وفيه إشارة إلى أن كل ما يقع من الدواء والتداوى لا ينجع إن لم يصادف تقدير الله تعالى. وقال الطيبي: قوله لا شفاء خرج مخرج

شفاء لا يغادر سقما)) متفق عليه. 1544 - (9) وعنها، قالت كان إذا اشتكى الإنسان الشيء منه، أو كانت به قرحة أو جرح، قال النبي صلى الله عليه وسلم بإصبعه: ((بسم الله، تربة أرضنا بريقة بعضنا، ـــــــــــــــــــــــــــــ الحصر تأكيداً لقوله: أنت الشافي، لأن خبر المبتدأ إذا كان معرفاً باللام أفاد الحصر لأن تدبير الطبيب ونفع الدواء لا ينجع في المريض إذا لم يقدر الله الشفاء (شفاء) منصوب بقوله اشف على أنه مفعول مطلق ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو يعني الشفاء المطلوب (لا يغادر) بالغين المعجمة أي لا يترك (سقماً) بفتحتين ويجوز ضم ثم إسكان لغتان أي مرضاً، والتنكير للتقليل، والجملة صفة لقوله "شفاء" وهو تكميل لقوله اشف، والجملتان معترضتان بين الفعل والمفعول المطلق، وفائدة قوله لا يغادر أنه قد يحصل الشفاء من ذلك المرض فيخلفه مرض آخر متولد منه فكان يدعو له بالشفاء المطلق لا بمطلق الشفاء. وفي الحديث: استحباب مسح المريض باليمين والدعاء له. قال النووي: وقد جاءت فيه روايات كثيرة صحيحة جمعتها في كتاب الأذكار، وهذا المذكور ههنا من أحسنها، وقد استشكل الدعاء للمريض بالشفاء مع ما في المرض من كفارة الذنوب والثواب كما تظافرت الأحاديث بذلك، والجواب أن الدعاء عبادة ولا ينافي الثواب والكفارة لأنهما يحصلان بأول مرض وبالصبر عليه والداعي بين حسنتين إما أن يحصل له مقصودة أو يعوض عنه بجلب نفع أو دفع ضرر وكل من فضل الله تعالى (متفق عليه) أخرجه البخاري في المرضى في الطب، ومسلم في الطب، واللفظ لمسلم، وأخرجه أيضاً النسائي في اليوم والليلة، وابن ماجه في الطب. 1544- قوله: (وعنها قالت كان) إما زائدة أو فيها ضمير الشأن يفسره ما بعده (إذا اشتكى الإنسان الشيء) بالنصب على المفعولية أي شكا وجع العضو (منه) الضمير للإنسان أي من جسده (أو كانت به) أي بالإنسان (قرحة) بفتح القاف وضمها ما يخرج من الأعضاء مثل الدمل (أو جرح) بالضم كالجراحة بالسيف وغيره (قال النبي - صلى الله عليه وسلم - بإصبعه) أي أشار بها قائلاً، قاله القاري: قلت. وفي مسلم بعد قوله بإصبعه "هكذا ووضع سفيان سبابته بالأرض ثم رفعها" والمعنى أنه كان يأخذ من ريقه على إصبعه شيئاً ثم يضعها على التراب فيتعلق بها منه شيء فيمسح بها على الموضع الجريح، ويقول هذه الكلمات (بسم الله) أي أتبرك به (تربة أرضنا) أي هذه تربة أرضنا (بريقة بعضنا) أي ممزوجة بريقه. وهذا يدل على أنه كان يتفل عند الرقية، وفي رواية: وريقة بالواو بدل الموحدة. قال النووي: قال جمهور العلماء: المراد بأرضنا ههنا جملة الأرض، وقيل: أرض المدينة خاصة لبركتها والريقة أقل من الريق. قيل: وبعضنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لشرف

............................... ـــــــــــــــــــــــــــــ ريقه فيكون ذلك مخصوصاً، وفيه نظر، قال النووي: معنى الحديث أنه يأخذ من ريق نفسه على إصبعه السبابة ثم يضعها على التراب فيعلق بها منه شيء فيمسح به على الموضع الجريح أو العليل ويقول هذا الكلام في حال المسح- انتهى. قلت: الظاهر أن هذا ليس مخصوصاً بأرض المدينة ولا بريق النبي صلى الله عليه وسلم فالمراد بالأرض ههنا جملة الأرض وبالبعض كل من يرقى بذلك، فيجوز هذا بل يستحب فعله عند الرقية في كل مكان، وأما حكم نقل تراب الحرم المكي أو المدني ونقل حصاهما وأحجارهما للتبرك أو للدواء وحكم الاستشفاء بتراب المدينة فقد بسط القول فيه السمهودي في وفاء الوفاء (ص67-68-69-114-115-116-117) وفي بعض كلامه خدشات لا تخفى على متبع السنة. قال القرطبي: فيه دليل على جواز الرقى من كل الآلام وإن ذلك كان أمراً فاشياً معلوماً بينهم، قال: ووضع النبي صلى الله عليه وسلم سبابته بالأرض ووضعها عليه يدل على استحباب ذلك عند الرقية ثم قال وزعم بعض العلماء أن السر فيه أن تراب الأرض لبرودته ويبسه يبرى الموضع الذي به الألم ويمنع انصباب المواد إليه ليبسه مع منفعته في تجفيف الجراح واندمالها قال وقال في الريق أنه يختص بالتحليل والانضاح وأبراء الجرح والألم لاسيما من الصائم الجائع، وتعقبه القرطبي: أن ذلك إنما يتم إذا وقعت المعالجة على قوانينها من مراعاة مقدار التراب والريق وملازمة ذلك في أوقاته وإلا فالنفث ووضع السبابة على الأرض إنما يتعلق بها ما ليس له بال ولا أثر وإنما هذا من باب التبرك بأسماء الله تعالى وآثار رسوله وأما وضع الإصبع بالأرض فلعله لخاصية في ذلك أو لحكمة أخفاء آثار القدرة بمباشرة الأسباب المعتادة. وقال البيضاوي: قد شهدت المباحث الطبية على أن للريق مدخلاً في النضح وتبديل المزاج وتعديله ولتراب الوطن تأثير في حفظ المزاج الأصلي ودفع نكاية المضرات ولذا ذكر في تيسير المسافرين أنه ينبغي أن يستصحب المسافر تراب أرضه إن عجز عن استصحاب ماءها حتى إذا ورد ماء غير ما اعتاده جعل شيئاً منه في سقاءه وشرب الماء منها ليأمن من تغير مزاجه ثم أن الرقى والعزائم لها آثار عجيبة تتقاعد العقول عن الوصول إلى كنهها- انتهى. وقال التوربشتي: الذي يسبق إلى الفهم من صنيعه ذلك، ومن قوله هذا: إن تربة أرضنا إشارة إلى فطرة آدم عليه السلام والريقة أشارة إلى النطفة التي خلق منها الإنسان، فكأنه يتضرع بلسان الحال ويعرض بفحوى المقال أنك اخترعت الأصل الأول من طين ثم أبدعت بنيه من ماء مهين فهين عليك أن تشفي من كان هذا شأنه وتمن بالعافية على من استوى في ملكك حياته ومماته- انتهى. وقد علم كل أناس مشربهم وكل إناء يرشح بما فيه. قال القاري، وقوله: بإصبعه في موضع الحال من فاعل قال وتربة أرضنا خبر مبتدأ محذوف أي هذه، والباء في بريقة متعلق بمحذوف، وهو خبر ثان أو حال والعامل معنى الإشارة أي قال النبي صلى الله عليه وسلم مشيراً بإصبعه: بسم الله هذه تربة أرضنا معجونة بريقة بعضنا، قلنا بهذا القول أو صنعنا هذا الصنيع

ليشفي سقيمنا، بإذن ربنا)) متفق عليه. 1545 - (10) وعنها، قالت: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات، ومسح عنه بيده، ـــــــــــــــــــــــــــــ (ليشفي) على بناء المفعول (سقيمنا) بالرفع نائب عن الفاعل. قال الطيبي: فعلى هذا بسم الله مقول القول صريحاً ويجوز أن يكون بسم الله حالا أخرى متداخلة أو مترادفة على تقدير قال متبركاً بسم الله، ويلزم منه أن يكون مقولاً والمقول الصريح قوله تربة أرضنا- انتهى. وقال السندي: ليشفي علة للممزوج. قلت: وفي رواية يشفي بحذف اللام (بإذن ربنا) متعلق بيشفي أي بأمره على الحقيقة سواء كان بسبب دعاء أو دواء أو بغيره (متفق عليه) أخرجاه في الطب، اللفظ لمسلم، وأخرجه أيضاً أبوداود وابن ماجه في الطب، والنسائي في اليوم والليلة. 1545- قوله: (كان النبي صلى الله عليه وسلم) أي مرض وهو لازم وقد يأتي متعدياً فيكون التقدير وجعاً (نفث) بالمثلثة من باب ضرب ونصر أي أخرج الريح من فمه مع شيء من ريقه. وقيل: النفث نفخ لطيف بلا ريق (على نفسه بالمعوذات) بكسر الواو المشددة أي قرأها على نفسه ونفث الريق على بدنه، والمراد بالمعوذات سورة الفلق والناس والإخلاص فيكون من باب التغليب أو المراد المعوذتان (الفلق والناس) وكل ما ورد من التعويذ في القرآن كقوله تعالى {وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [المؤمنون:97] وغير ذلك، أو المراد المعوذتان فقط، وجمع باعتبار أن أقل الجمع اثنان أو أطلق الجمع على التثنية مجازاً أو الجمع باعتبار الآيات، وإنما اجتزا بهما لما اشتملتا عليه من جوامع الاستعاذة من المكروهات جملة وتفصيلاً من السحر والحسد وشر الشيطان ووسوسته وغير ذلك وقيل المراد الكلمات المعوذات بالله من الشيطان والأمراض والآفات ونحوها (ومسح عنه) أي عليه وعلى أعضاءه (بيده) وقع عند البخاري في آخر الحديث بيان كيفية ذلك، ففيه قال معمر سألت ابن شهاب كيف كان ينفث قال ينفث على يديه ثم يمسح بهما وجهه. وفي رواية: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بقل هو الله أحد وبالمعوذتين جميعاً ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسده، فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك، وقال الطيبي: الضمير في عنه راجع إلى ذلك النفث والجار والمجرور حال أي نفث على بعض جسده ثم مسح بيده متجاوزاً عن ذلك النفث إلى سائر أعضاءه. قال عياض: فائدة النفس التبرك بتلك الرطوبة والهواء والنفس المباشرة للرقية والذكر الحسن كما يتبرك بغسالة ما يكتب من الذكر، وقد يكون على سبيل التفاؤل بزوال

فلما اشتكى وجعه الذي توفي فيه. كنت أنفث عليه بالمعوذات التي كان ينفث، وأمسح بيد النبي صلى الله عليه وسلم)) .متفق عليه. وفي رواية لمسلم، قالت: كان إذا مرض أحد من أهل بيته نفث عليه بالمعوذات. 1546- (11) وعن عثمان بن أبي العاص، أنه شكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعاً يجده في جسده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ضع يدك ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك الألم عن المريض كانفصال ذلك عن الراقي- انتهى. (فلما أشتكى) أي النبي صلى الله عليه وسلم (وجعه) بالنصب أي مرضه (الذي توفي فيه) صلى الله عليه وسلم (كنت أنفث عليه) وفي البخاري في هذه الرواية: طفقت أنفث على نفسه، ولأبي ذر: أنفث عنه (بالمعوذات التي كان ينفث وأمسح بيد النبي - صلى الله عليه وسلم -) لبركتها، وفي الحديث دلالة على أن الرقية والنفث بكلام الله سنة. قال النووي: فيه استحباب النفث في الرقية، وقد أجمعوا على جوازه، واستحبه الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. قال الحافظ: قد أجمع العلماء على جواز الرقي عند إجتماع ثلاثة شروط أن يكون بكلام الله تعالى، أو بأسماءه وصفاته وباللسان العربي، أو بما يعرف معناه من غيره، وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بذات الله تعالى. وقال الربيع: سألت الشافعي عن الرقية فقال لا بأس أن يرقى بكتاب الله وما يعرف من ذكر الله. قلت: أيرقى أهل الكتاب المسلمين قال نعم إذا رقوا بما يعرف من كتاب الله وبذكر الله- انتهى. وفي الموطأ: أن أبابكر قال لليهودية التي كانت ترقى عائشة أرقيها بكتاب الله. وروى ابن وهب عن مالك كراهية الرقية بالحديدة والملح وعقد الخيط والذي يكتب خاتم سليمان وقال لم يكن ذلك من أمر الناس القديم (متفق عليه) أخرجه البخاري في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي فضائل القرآن وفي الطب. وأخرجه مسلم في الطب، واللفظ البخاري في الوفاة النبوية، وأخرجه أيضاً مالك في كتاب الجامع من الموطأ وأبوداود وابن ماجه في الطب (وفي رواية لمسلم قالت كان إذا مرض أحد من أهل بيته نفث عليه بالمعوذات) لم يذكر المسح فيحتمل أنه كان يفعله وتركت ذكره للعلم به من النفث، ويحتمل أنه كان يتركه أحياناً اكتفاء بالنفث والأظهر الأول والجمع أفضل. 1546- قوله: (أنه شكى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعاً يجده في جسده) أي في بدنه، ويؤخذ منه جواز شكاية ما بالإنسان لمن يتبرك به رجاء لبركة دعاءه (ضع) أمر من الوضع (يدك) وفي رواية مالك والترمذي وأبي داود: أمسحه بيمينك، وعند ابن ماجه: إجعل يدك اليمنى عليه وللطبراني والحاكم: ضع يمينك على المكان

على الذي يألم من جسدك، وقل: بسم الله ثلاثاًً، وقل سبع مرات: أعوذ بعزة الله وقدرته من شرما أجد وأحاذر، قال: ففعلت، فأذهب الله ما كان بي)) رواه مسلم. 1547- (12) وعن أبي سعيد الخدري، أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد! اشتكيت؟ فقال: نعم، قال: ((بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد، ـــــــــــــــــــــــــــــ الذي تشتكي فامسح بها سبع مرات (على الذي يألم) أي على الموضع الذي يوجع (من جسدك) فيه استحباب وضع اليد اليمنى على موضع الألم مع الدعاء (وقل بسم الله ثلاث وقل سبع مرات) إلخ. قال الشوكاني في الأعداد: التي ترد في مثل هذا الحديث سر من أسرار النبوة، وليس لنا أن نطلب العلة، والسبب الذي يقتضيه كما في إعداد الركعات والانصباء والحدود (أعوذ بعزة الله) أي بعظمته وغلبته (من شر ما أجد) أي من الوضع (وأحاذر) أي أخاف وأحترز، وصيغة المفاعلة للمبالغة. قال الطيبي: تعوذ من وجع هو فيه ومما يتوقع حصوله في المستقبل من الحزن والخوف، فإن الحزن هو الاحتراز عن مخوف، وللترمذي في الدعوات وحسنه والحاكم وصححه عن محمد بن سالم قال: قال لي ثابت البناني: يا محمد! إذا اشتكيت فضع يدك حيث تشتكي ثم قل بسم الله أعوذ بعزة الله وقدرته من شرما أجد من وجعي ثم أرفع يدك ثم أعد ذلك وتراً. قال فإن أنس بن مالك حدثني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثه بذلك (قال) أي عثمان (ففعلت) أي ما قال لي (فاذهب الله ما كان بي) من الوجع والألم ببركة الامتثال، زاد في رواية مالك والترمذي وأبي داود بعده "فلم أزل آمر به أهلي وغيرهم" (رواه مسلم) في الطب وأخرجه مالك في كتاب الجامع والترمذي وأبوداود وابن ماجه في الطب والنسائي في اليوم والليلة والحاكم في الجنائز (ج1:ص343) وابن أبي شيبة في مصنفه. 1547- قوله: (أشتكيت) ففتح الهمزة للإستفهام، وحذف همزة الوصل. وقيل: بالمد على إثبات همزة الوصل وأبدالها ألفاً. وقيل: بحذف الاستفهام، قاله القاري (فقال نعم قال) أي جبرئيل (بسم الله أرقيك) بفتح الهمزة وكسر القاف مأخوذ من الرقية أي أعوذك (من كل شيء يؤذيك) بالهمزة ويبدل أي من أنواع المرض (من شر كل نفس) أي خبيثة (وعين) بالتنوين فيهما. وقيل: بالإضافة. وقيل: بالتنوين في الأول، وبالإضافة في الثاني (حاسد) وأو تحتمل الشك والأظهر أنها للتنويع. قال النووي: قيل يحتمل أن المراد بالنفس نفس الآدمي. وقيل: يحتمل أن المراد بها العين فإن النفس تطلق على العين، ويقال رجل نفوس إذا كان يصيب الناس بعينه، كما قال في الرواية الأخرى من شر كل ذي عين ويكون قوله أو عين حاسد من باب التوكيد بلفظ

الله يشفيك، بسم الله أرقيك)) رواه مسلم. 1548 - (13) وعن ابن عباس، قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين: ((أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة، ـــــــــــــــــــــــــــــ مختلف أو شكاً من الراوي في لفظه- انتهى. (ألله يشفيك) يجوز أن يكون بفتح حرف المضارعة، ويجوز أن يكون بضمة من أشفاءه (بسم الله أرقيك) كرره للمبالغة وبدأ به وختم به إشارة إلى أنه لا نافع إلا هو (رواه مسلم) في الطب، وأخرجه أيضاً الترمذي في الجنائز، والنسائي في اليوم والليلة، وابن ماجه في الطب، وروى مسلم من حديث عائشة أنها قالت: كان إذا اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم رقاه جبرئيل عليه السلام قال: بسم الله يبريك ومن كل داء يشفيك من شر حاسد إذا حسد وشر كل ذي عين. 1548- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعوذ) بتشديد الواو المكسورة بعدها ذال معجمة من التعويذ (الحسن والحسين) ابني فاطمة أي يرقيهما. وقيل: يدعو لهما بالحفظ، ويطلب لهما من الله عصمة (أعيذكما) أي يقول أعيذكما، وهو تفسير وبيان ليعوذ، وهذا لفظ أحمد والترمذي وأبي داود والنسائي، ولفظ البخاري: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين، ويقول إن أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق أعوذ (بكلمات الله) قيل: المراد بها كلامه على الإطلاق أو المعوذتان أو القرآن. وقيل: أسماءه وصفاته (التامة) صفة لازمة أي الكاملة أو النافعة أو الشافية أو المباركة أو الوافية في دفع ما يتعوذ منه. وقال الجزري: إنما وصف كلامه بالتمام لأنه لا يجوز أن يكون في شيء من كلامه نقص أو عيب كما يكون في كلام الناس. وقيل: معنى التمام ههنا أنها تنفع المتعوذ بها وتحفظه من الآفات وتكفيه- انتهى. قال الخطابي في المعالم: كان أحمد بن حنبل يستدل بقوله بكلمات الله التامة على أن القرآن غير مخلوق وما من كلام مخلوق إلا وفيه نقص فالموصوف منه بالتمام هو غير مخلوق وهو كلام الله سبحانه ويحتج أيضاً بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يستعيذ بمخلوق (من كل شيطان) أنسى وجنى (وهامة) بالتنوين وهي بتشديد الميم واحدة الهوام التي تدب على الأرض وتؤذي الناس. وقيل: هي ذوات السموم. قال الشوكاني: والظاهر أنها أعم من ذوات السموم لما ثبت في الحديث من قوله - صلى الله عليه وسلم -: أيؤذيك هوام رأسك. وقال الجزري: الهامة كل ذات سم يقتل، والجمع الهوام، فأما ما يسم ولا يقتل فهو السامة كالعقرب والزنبور، وقد يقع الهوام على ما يدب من الحيوان وإن لم يقتل كالحشرات- انتهى. وقيل المراد كل نسمة تهم بسوء (ومن كل عين) بالتنوين (لامه) بتشديد الميم أيضاً أي ذات لمم، واللمم كل داء يلم من خبل أو جنون أو نحوهما أي من كل عين تصيب بسوء، ويجوز أن تكون على ظاهرها بمعنى جامعة للشر على المعيون من لمه إذا

ويقول: إن أبا كما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق)) رواه البخاري. وفي أكثر نسخ المصابيح "بهما" على لفظ التثنية. 1549- (14) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يرد الله به خيراً يصب منه)) ـــــــــــــــــــــــــــــ جمعه. وقال في الصحاح: العين اللامه هي التي تصيب بسوء اللمم طرف من الجنون ولامه أي ذات لمم، وأصلها من الممت بالشيء إذا نزلت به. وقيل: لامه لازدواج هامة والأصل ملمة لأنها فاعل الممت - انتهى. وقال الجزري: اللمم طرف من الجنون يلم بالإنسان أي يقرب منه ويعتريه، ومنه حديث الدعاء أعوذ بكلمات الله التامة من شر كل سامة ومن كل عين لامه أي ذات لمم ولذلك لم يقل ملمة وأصلها من الممت بالشيء ليزاوج قوله من شر كل سامة أي لكونه أخف على اللسان (ويقول) لهما (أن أباكما) يريد إبراهيم عليه السلام وسماه أباً لكونه جداً أعلى (كان يعوذ بها) أي بهذه الكلمات (إسماعيل وإسحاق) ابنيه (رواه البخاري) في الأنبياء وأخرجه أيضاً أحمد (ج1:ص235-269) والترمذي في الطب وأبوداود في باب القرآن من كتاب السنة والنسائي في اليوم والليلة وابن ماجه في الطب (وفي أكثر نسخ المصابيح بهما على لفظ التثنية) قال الطيبي: الظاهر أنه سهو من الناسخ - انتهى. قلت: قد وقع في بعض روايات البخاري بهما بالتثنية، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج5:ص132) قال القسطلاني: ولأبي الوقت وابن عساكر بهما بلفظ التثنية - انتهى. وكذا وقع بلفظ التثنية في بعض نسخ السنن لأبي داود كما في عون المعبود، وتأوله القاري بأن كلمات الله مجاز من معلومات الله ومما تكلم به سبحانه من الكتب المنزلة أو الأولى جملة المستعاذ به والثانية جملة المستعاذ منه، ولا يخفى ما في من التكلف. 1549- قوله: (من يرد الله به خيراً يصب) بضم التحتية وكسر الصاد المهملة، وعليه عامة المحدثين، والفاعل الله، أي ينل الله تعالى (منه) أي من ذلك الشخص المعبر عنه بمن، فالضمير المجرور لمن أي يبتليه الله تعالى بالمصائب ليثيبه عليها. وقيل: الفاعل الضمير الراجع لمن، وضمير منه راجع للخير أي يحصل له من ذلك الخير، فهذا علامة أرادة الله له الخير. وقيل: الفاعل الله وقوله منه بمعنى لأجله، وضميره عائد إلى الخير أي يجعله الله ذا مصيبة لأجل ذلك الخير، وروى بفتح الصاد. قال ابن الخشاب: وهو أحسن وأليق. وقال الطيبي: أنه أليق الأدب كما قال تعالى: {وإذا مرضت فهو يشفين} [الشعراء:80] والمعنى يصير ذا مصيبة أي يوصل له المصائب عن الله، فضمير يصب حينئذ راجع لمن، وضمير منه راجع لله. وقال ميرك: يصب مجزوم

رواه البخاري. 1550 -1551- (15-16) وعنه، وعن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما يصيب المسلم من نصب، ولا وصب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم، حتى الشوكة ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنه جواب الشرط أي من يرد الله به خيراً أوصل إليه مصيبة فمن للتعدية يقال أصاب زيد من عمرو أي أوصل إليه مصيبة ليطهره بها من الذنوب وليرفع درجته، قال الحافظ: ويشهد للكسر ما أخرجه أحمد من حديث محمود بن لبيد رفعه إذا أحب الله قوماً ابتلاهم فمن صبر فله الصبر ومن جزع، فله الجزع ورواته ثقات إلا أن محمود بن لبيد، اختلف في سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم وقد رآه وهو صغير، وله شاهد من حديث أنس عند الترمذي وحسنه (رواه البخاري) في المرضى وأخرجه أيضاً مالك (ج2:237) وأحمد والنسائي في الكبرى. 1550-1551- قوله: (وعنه) أي عن أبي هريرة (وعن أبي سعيد) أي الخدري (ما يصيب المسلم) ما نافية ومن زائدة للاستغراق في قوله (من نصب ولا وصب) بفتحتين فيهما والأول التعب والألم الذي يصيب البدن من جراحة وغيرها والثاني الوجع اللازم والمرض الدائم، ومنه قوله تعالى {ولهم عذاب واصب} [الصافات:9] أي لازم ثابت (ولا هم) بفتح الهاء وتشديد الميم (ولا حزن) بضم الحاء وسكة الزاى بفتحهما. قال الحافظ: هما من أمراض الباطن ولذلك ساغ عطفهما على الوصب. وقيل: ألهم يختص بما هو آت والحزن بما مضى، وقيل: ألهم الحزن الذي يهم الرجل أي يذيبه من هممت الشحم إذا أذبته فانهم، ويقال: هم السقم جسمه أذابه وأذهب لحمه، والحزن هو الذي يظهر من في القلب حزونة أي خشونة وضيق يقال مكان حزن أي خشن وبهذا الاعتبار قيل خشنت صدره أي حزنته، وعلى هذا فالهم أخص وأبلغ في المعنى من الحزن (ولا أذى) هو أعم مما تقدم، وقيل: هو خاص بما يلحق الشخص من تعدي غيره عليه (ولا غم) بالغين المعجمة ولا لتأكيد النفي في كلها، وهو أيضاً من أمراض الباطن، وهو ما يضيق على القلب. وقيل: هو الحزن الذي يغم الرجل أي يصيره بحيث يقرب أن يغمى عليه، والحزن أسهل منه. قال الحافظ: وقيل في هذه الأشياء الثلاثة، وهي الهم والغم والحزن أن الهم ينشأ عن الفكر فيما يتوقع حصوله مما يتأذى به، والغم كرب يحصل للقلب بسبب ما حصل، والحزن يحدث لفقد ما يشق على المرأ فقده. وقيل: الهم والغم بمعنى واحد. قال الترمذي: سمعت الجارود يقول سمعت وكيعاً يقول إنه لم يسمع في الهم أنه كفارة إلا في هذا الحديث (حتى الشوكة) بالرفع فحتى ابتدائية، والجملة بعد الشوكة خبرها وبالجر فحتى عاطفة أو بمعنى إلى فما بعدها حال. وقال الزركشي

يشاكها، إلا كفر الله بها خطاياه)) متفق عليه. 1552 - (17) وعن عبد الله بن مسعود، قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك، فمسسته بيدي، ـــــــــــــــــــــــــــــ بالنصب على أنه مفعول فعل مقدر أي حتى يجد الشوكة (يشاكها) بضم أوله أي يشوكه غيره بها، ففيه وصل الفعل لأن الأصل يشاك بها. قال في الكشاف: شكت الرجل شوكة أدخلت في جسده شوكة وشيك على ما لم يسم فاعله يشاك شوكاً- انتهى. وقال السفاقسي: حقيقة قوله يشاكها أن يدخلها غيره في جسده يقال شكته أشوكه. قال الأصمعي: يقال شاكتني تشوكني إذا دخلت هي ولو كان المراد هذا لقيل تشوكه ولكن جعلها مفعولة، وهذا يرده ما في مسلم من رواية هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ولا يصيب المؤمن شوكة فأصاب الفعل إليها، وهو الحقيقة ولكنه لا يمنع إرادة المعنى الأعم، وهو أن تدخل هي بغير إدخال أحد أو بفعل أحد، قاله القسطلاني وقيل: فيه أي في يشاكها ضمير المسلم أقيم مقام فاعله و"ها" ضمير الشوكة أي حتى الشوكة يشاك المسلم تلك الشوكة أي تجرح أعضاءه بشوكة، والشوكة ههنا للمرة من شاكة ولو أراد واحدة النبات لقال يشاك بها والدليل على أنها المرة من المصدر جعلها غاية للمعاني، كذا قال القاري (إلا كفر الله من خطاياه) ظاهره تعميم جميع الذنوب، لكن الجمهور خصوا ذلك بالصغائر لحديث الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر فحملوا المطلقات الواردة في التفكير على هذا المقيد، كذا في الفتح ولابن حبان من حديث عائشة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة وهذا يقتضي حصول الأمرين معاً حصول الثواب ورفع العقاب وشاهده عند الطبراني في الأوسط من وجه آخر عن عائشة بلفظ ما ضرب على مؤمن عرق قط إلا حط الله به عنه خطيئة وكتب له حسنة ورفع له درجة وسنده جيد (متفق عليه) أخرجه البخاري في المرضى، ومسلم في الأدب، واللفظ للبخاري، وأخرجه أيضاً ابن أبي شيبة (ج4:ص70) والبيهقي (ج3:ص373) وأخرجه الترمذي في الجنائز عن أبي سعيد متفرداً نحوه. وقال: قد روى بعضهم هذا الحديث عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصرح الجزري في جامع الأصول (ج10ص354) بإخراج البخاري، ومسلم والترمذي عنهما جميعاً، ثم قال: وذكره الحميدي في مسند أبي هريرة. 1552- قوله: (دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يوعك) الواو للحال ويوعك بفتح العين المهملة من وعكته الحمى أي اشتدت عليه وآذته، والوعك بفتح الواو وسكون العين المهملة وقد تفتح وهي الحمى. وقيل: ألمها وقيل: تعبها. وقيل: إرعادها الموعوك. وقيل: حرارتها (فمسسته بيدي) في الصحاح مِسْست الشيء بالكسر

فقلت: يا رسول الله! إنك لتوعك وعكاً شديداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم، قال: فقلت: ذلك لأن لك أجرين؟ فقال: أجل، ثم قال: ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه، إلا حط الله تعالى به سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ اََمَسّه هي اللغة الفصيحة، وحكى أبوعبيد َمسَسْت بالفتح اَمُسّه بالضم (إنك لتوعك وعكاً شديداً) قال القاري: هو بيان للواقع (فقال النبي صلى الله عليه وسلم أجل) أي نعم وزناً ومعنى إني (أوعك) على بناء المجهول أي يأخذني الوعك (كما يوعك) يعني أحم كما يحم (رجلان منكم) قال ابن مسعود (فقلت ذلك) أي تضاعف الحمى (لأن) وفي البخاري بأن، وكذا نقله الجزري (ج10:ص355) وفي مسلم: إن بغير الموحدة أو اللام (لك أجرين) قال القاري: يحتمل أن يكون المراد بالتثنية التكثير (فقال) النبي - صلى الله عليه وسلم - (أجل) أي نعم وفي البخاري بعد هذا "ذلك كذلك" وذلك إشارة إلى مضاعفة الأجر بشدة الحمى وتضاعفها (ما من مسلم يصيبه الأذى) أي ما يؤذيه ويتعبه (من مرض فما سواه) أي فما دونه أو غيره مما تتأذى به النفس. وفي رواية للبخاري: ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها. قال الحافظ: شوكة بالتنكير للتقليل ليصح ترتب قوله فما فوقها ودونها في العظم والحقارة عليه بالفاء، وهو يحتمل وجهين فوقها في العظم ودونها في الحقارة وعكس ذلك (إلا حط الله تعالى به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها) بالنصب على المفعولية وتحط بفتح أوله وضم المهملة وتشديد الطاء المهملة أي تلقيه الشجرة منتشراً. قال الحافظ: والحاصل أنه أثبت أن المرض إذا اشتد ضاعف الأجر ثم زاد عليه بعد ذلك أن المضاعفة تنتهي إلى أن تحط السيئات كلها أو المعنى قال: نعم شدة المرض ترفع الدرجات وتحط الخطيئات أيضاً حتى لا يبقى منها شيء ويشير إلى ذلك حديث سعد عند الدارمي والنسائي في الكبرى، وصححه الترمذي وابن حبان حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئه - انتهى. قال الطيبي: شبه حالة المريض وإصابة المرض جسده ثم محو السيئآت عنه سريعاً بحالة الشجر وهبوب الرياح الخريفية وتناثر الأوراق منها وتجردها عنها فهو تشبيه تمثيل لانتزاع الأمور المتوهمة في المشبه من المشبه به فوجه التشبيه الإزالة الكلية على سبيل السرعة لا الكمال والنقصان، لأن إزالة الذنوب عن الإنسان سبب كماله وإزالة الأوراق عن الشجر سبب نقصانها- انتهى كلام الطيبي. وفي الحديث بشارة عظيمة لأن كل مسلم لا يخلو عن كونه متأذياً (متفق عليه) أخرجه البخاري في المرضى، ومسلم في الأدب، واللفظ له، وأخرجه أيضاً أحمد (ج1:ص381-441-445) والبيهقي (ج3:ص372) وابن أبي شيبة (ج4:ص70) .

1553- (18) عن عائشة، قالت: ((ما رأيت أحداً الوجع عليه أشد من رسول الله صلى الله عليه وسلم)) متفق عليه. 1554- (19) وعنها، قالت: ((مات النبي صلى الله عليه وسلم بين حاقنتي وذاقنتي، فلا أكره شدة الموت لأحد أبداً بعد النبي صلى الله عليه وسلم)) ـــــــــــــــــــــــــــــ 1553- قوله: (ما رأيت أحداً الوجع) بالرفع، قال العلماء: الوجع ههنا المرض، والعرب تسمى كل مرض وجعاً، ذكره النووي (عليه أشد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي من وجعه. قال الطيبي: الوجع مبتدأ وأشد خبره، والجملة بمنزلة المفعول الثاني لرأيت أي ما رأيت أحداً أشد وجعاً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (متفق عليه) أخرجه البخاري في المرضى، ومسلم في الأدب، واللفظ للبخاري، وأخرجه أيضاً الترمذي في الزهد وابن ماجه في الجنائز. 1554- قوله: (مات النبي - صلى الله عليه وسلم - بين حاقنتي) بالحاء المهملة والقاف المكسورة والنون المفتوحة الوهدة المنخفضة بين الترقوتين. وقيل: النقرة بين الترقوة وحبل العاتق. وقيل: ما دون الترقوة من الصدر (وذاقنتي) بالذال المعجمة والقاف المكسورة الذقن. وقيل: طرق الحلقوم. وقيل: ما يناله الذقن من الصدر. وقال الجزري في جامع الأصول (ج11:ص482) الحاقنة ما سف من البطن والذاقنة طرق الحلقوم الناتئ. وقيل: الحاقنة المطمئن من الترقوة والحلق والذاقنة نقرة الذقن- انتهى. وفي رواية للبخاري: توفى في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحرى، والسحر بفتح المهملة وسكون الحاء المهملة هو الصدر، وفي الأصل الرئة والنحر بفتح النون وسكون المهملة، والمراد به موضع النحر، والحاصل أن ما بين الحاقنة والذاقنة هو ما بين السحر والنحر، والمراد أنه مات ورأسه بين حنكها وصدرها - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنها، وهذا لا يعارض حديثها أن رأسه كان على فخذها لاحتمال أنها رفعته عن فخذها إلى صدرها. وأما ما رواه الحاكم وابن سعد من طرق أنه - صلى الله عليه وسلم - مات ورأسه في حجر علي، ففي كل طريق من طرقه شيعي، فلا يحتج به، وقد بين حالها الحافظ في الفتح من أحب الاطلاع عليه رجع إليه (فلا أكره شدة الموت لأحد أبداً بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -) يعني ظننت شدة الموت تكثرة الذنوب وظننتها من علامة الشقاوة وسوء حال الرجل عند الله وهذا قبل موت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأيت شدة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم علمت أن شدة الموت ليست بعلامة الشقاوة ولا بعلامة سوء حال الرجل ولا من المنذرات بسوء العاقبة، لأنه لو كان كذلك لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم شدة الموت بل شدة الموت لرفع الدرجة وتضعيف الأجر ولتطهير الرجل من الذنوب فإذا كان كذلك فلا أكره شدة الموت لأحد بعد ما علمت هذا

رواه البخاري. 1555 - (20) وعن كعب بن مالك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تفيئها الرياح، تصرعها مرة وتعدلها أخرى، ـــــــــــــــــــــــــــــ (رواه البخاري) في مواضع بألفاظ، واللفظ المذكور له في باب مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - في أواخر المغازي وأخرجه أيضاً النسائي في الجنائز. 1555- قوله: (مثل المؤمن كمثل الخامة) وفي مسلم: مثل الخامة، وهي بالخاء المعجمة والميم المخففة الطاقة الغضة الطريقة اللينة (من الزرع) وألفها منقلبة عن الواو. قال الجزري في جامع الأصول (ج1:ص307) الخامة من النبات الغضة الرطبة اللينة – انتهى. وقيل: الخامة هي الزرع أول ما ينبت على ساق واحد، ووقع عند أحمد في حديث جابر: مثل المؤمن مثل السنبلة تستقيم مرة وتخر أخرى، وله في حديث لأبي بن كعب: مثل المؤمن مثل الخامة تحمر مرة وتصفر أخرى (تفيئها) بتشديد الياء المكسورة وهمزة بعدها، وقيل بكسر الفاء وسكون الياء أي تميلها وتحركها (الرياح) يعني تميلها كذا وكذا حتى ترجع من جانب إلى جانب. قال النووي: تميلها وتفيئها بمعنى واحد، ومعناه تقلبها الريح يميناً وشمالاً- انتهى. قال التوربشتي: وذلك أن الريح إذا هبت شمالاً أمالت الخامة إلى الجنوب فصار فيئها في الجانب الجنوبي، وإذا هبت جنوباً صار فيئها في الجانب الشمالي (تصرعها) بفتح الراء بيان لما قبله أي تسقطها. قال الجزري: أي ترميها وتلقيها من المصارعة. وقال النووي: أي تخفضها (وتعدلها) بفتح التاء وسكون المهملة وكسر الدال المخففة وبضم التاء أيضاً وفتح المهملة وتشديد الدال المكسورة أي ترفعها وتقيمها وتسويها (أخرى) أي تارة أخرى، وعند مسلم في هذه الرواية مرة. قال الحافظ: وكان ذلك باختلاف الريح فإن كانت شديدة حركتها فمالت يميناً وشمالاً حتى تقارب السقوط وإن كانت ساكنة أو إلى السكون أقر إقامتها، ووقع في رواية لمسلم حتى تهيج. قال الحافظ: أي حتى تستوي ويكمل نضجها. وقال النووي: أي تيبس. وقال الجزري: هاج النبات يهيج هيجاً إذا أخذ في الجفاف والاصفرار بعد الغضاضة والاخضرار. قال المهلب: ووجه التشبيه أن المؤمن من حيث أنه جاءه أمر الله أن طاع له ورضى به، فإن وقع له خير فرح به وشكر، وإن وقع له مكروه صبر ورجا فيه الخير والأجر، فإذا اندفع عنه اعتدل شاكراً. قال أبوالفرج ابن الجوزي: والناس في ذلك على أقسام: منهم من ينظر إلى أجر البلاء فيهون عليه البلاء، ومنهم من يرى أن هذا من تصرف المالك في ملكه فيسلم ولا يعترض، ومنهم من تشغله المحبة عن طلب رفع البلاء وهذا أرفع من سابقه، ومنهم من يتلذذ به وهذا أرفع الأقسام، لأنه عن اختياره نشأ. وقال الزمخشري في الفائق: قوله من الزرع صفة للخامة؛ لأن التعريف في

حتى يأتي أجله، ومثل المنافق كمثل الأرزة المجذية التي لا يصيبها شيء حتى يكون انجعافها مرة واحدة)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الخامة للجنس، وتفيئها يجوز أن يكون صفة أخرى للخامة وأن يكون حالاً من الضمير المتحول إلى الجار والمجرور. وهذا التشبيه يجوز أن يكون تمثيلياً فيتوهم للمشبه ما للمشبه به وأن يكون معقولاً بأن تؤخذ الزبدة من المجموع. وفيه إشارة إلى أن المؤمن ينبغي له أن يرى نفسه في الدنيا عارية معزولة عن استيفاء اللذات والشهوات معروضة للحوادث والمصيبات مخلوقة للآخرة؛ لأنها جنته ودار خلوده (حتى يأتي) وفي بعض النسخ: يأتيه كما في صحيح مسلم (أجله) أي يموت (ومثل المنافق) وفي رواية لمسلم: ومثل الكافر، وبهذا يظهر أن المراد بالمنافق في رواية الكتاب نفاق الكفر (كمثل الأرزة) بفتح الهمزة والزاى بينهما راء ساكنة هذا هو المشهور في ضبطها وهو المعروف في الروايات وكتب الغريب. وذكر الجوهري وصاحب نهاية الغريب: أنها تقال أيضاً بفتح الراء قال في النهاية: وقال بعضهم يعني أباعبيدة أنما هو الآرزة بالمد وكسر الراء على وزن فاعلة ومعناها الثابتة في الأرض، ورده أبوعبيد بأن الرواة اتفقوا على عدم المد، وإنما اختلفوا في سكون الراء وتحريكها والأكثر على السكون، قيل: هي واحدة شجر الأرز وهو شجر معروف يقال له الأرزن يشبه شجر الصنوبر وليس به يكون بالشام وبلاد الأرمن وهو الشجر الذي يعمر طويلاً ويكثر وجوده في جبال لبنان، وقيل: هو شجر الصنوبر والصنوبر ثمرته وهو شجر صلب شديد الثبات في الأرض. وقيل: هو شجر الصنوبر الذكر خاصة، وقيل: هو شجر العرعر (المجذية) بميم مضمومة ثم جيم ساكنة ثم ذال معجمة مكسورة ثم ياء تحتية أي الثابتة المنتصبة القائمة من جذاً يجذواً وأجذى يجذى لغتان أي ثبت قائماً والجذاة أصول الشجر العظام (التي لا يصيبها شيء) أي من الميلان باختلاف الرياح. وفي رواية لمسلم: المجذية على أصلها لا يفيئها شيء (حتى يكون انجعافها) بسكون النون وكسر الجيم بعدها عين ثم ألف ثم فاء أي انقطاعها وإنقلاعها. وقيل: انكسارها من وسطها أو أسفلها وهو مطاوع جعف تقول: جعفته فانجعف مثل قلعته فانقلع (مرة واحدة) وجه التشبيه أن المنافق لا يتفقده الله باختياره بل يحصل له التيسير في الدنيا ليتعسر عليه الحال في المعاد حتى إذا أراد الله إهلاكه قصمة فيكون موته أشد عذاباً وعليه أكثر ألماً في خروج نفسه. وقيل: المعنى أن المؤمن يتلقى الأعراض الواقعة عليه لضعف حظه من الدنيا فهو كأوائل الزرع شديد الميلان لضعف ساقه والمنافق بخلاف ذلك وهذا في الغالب من حال الاثنين (متفق عليه) أخرجه البخاري في المرضى، ومسلم في التوبة، واللفظ له، وأخرجه أيضاً أحمد (ج6:ص386) والنسائي في الكبرى.

1556- (21) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح تميله، لا يزال المؤمن يصيبه البلاء، ومثل المنافق كمثل شجرة الأرزة لا تهتز حتى تستحصد)) متفق عليه. 1557- (22) وعن جابر، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم السائب ـــــــــــــــــــــــــــــ 1556- قوله: (كمثل الزرع) وفي مسلم: مثل الزرع. وفي البخاري: كمثل الخامة من الزرع وفي رواية له: كمثل خامة الزرع. وفي الترمذي: كمثل الزرع (لا تزال الريح) اللام للجنس. وفي الترمذي: الرياح (تميله) بتشديد الياء وبتخفيفها (لا يزال المؤمن يصيبه البلاء) قال الطيبي: التشبيه إما تمثيلي، وإما مفرق، فيقدر للمشبه معان بإزاء ما للمشبه به، وفيه إشارة إلى أن المؤمن ينبغي له أن يرى نفسه عارية معزولة عن استعمال اللذات معروضة للحوادث والمصيبات مخلوقة للآخرة؛ لأنها دار خلود (لا تهتز) أي لا تتحرك (حتى تستحصد) على بناء المفعول. وقال ابن الملك: بصيغة الفاعل أي يدخل وقت حصادها فتقطع- انتهى. وقال النووي: بفتح أوله وكسر الصاد كذا ضبطنا، وكذا نقله القاضي عن رواية الأكثرين، وبعضهم بضم أوله وفتح الصاد على ما لم يسم فاعله، والأول أجود أي لا تتغير حتى تنقلع مرة واحدة كالزرع الذي انتهى يُبْسُه. قال معنى الحديث: أن المؤمن كثير الآلام في بدنه أو أهله أو ماله، وذلك مكفر لسيئاته ورافع لدرجاته. وأما المنافق والكافر فقليلها وإن وقع به شيء لم يكفر شيئاً من سيئاته بل يأتي بها يوم القيامة كاملة (متفق عليه) أخرجه البخاري في المرضى وفي التوحيد ومسلم في التوبة واللفظ له وأخرجه أيضاً أحمد (ج2ص234، 284، 285) والترمذي في الأمثال ولفظ البخاري في التوحيد: مثل المؤمن كمثل خامة الزرع يفيء ورقه من حيث أتتها الريح تكفئها فإذا سكنت اعتدلت وكذلك المؤمن يكفأ بالبلاء ومثل الكافر كمثل الأرزة صماء معتدلة حتى يقصمها الله إذا شاء. 1557- قوله: (دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أم السائب) وفي مسلم بعد ذلك "أو أم المسيب" وفي البيهقي: دخل على أم السائب أو أم المسيب، وهي ترفرف. قال ابن عبد البر: أم السائب الأنصارية روى عنها أبوقلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحمى. وقال بعضهم: فيها أم المسيب- انتهى. قلت: أخرجه أبونعيم بلفظ: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة من الأنصار يقال لها أم المسيب فذكر نحو حديث الباب، وأخرجه ابن مندة فقال: أم السائب جزما، وأسنده من طريق الثقفي عن أيوب عن أبي الزبير عن جابر قال ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على أم السائب، فذكر الحديث نحوه. قال الحافظ: ولم أر في شيء من طرقه أنها أنصارية بل

فقال: مالك تزفزفين؟ قالت: الحمى لا بارك الله فيها، فقال: لا تسبي الحمى، فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد)) . رواه مسلم. 1558- (23) وعن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا مرض العبد أو سافر، كتب له ـــــــــــــــــــــــــــــ ذكرها ابن كعب في قبائل العرب بين المهاجرين والأنصار (فقال مالك تزفزفين) وفي مسلم والبيهقي وابن سعد وأبي يعلى: مالك يا أم السائب أو يا أم المسيب إلخ. وتزفزفين بالزايين بصيغة المعلوم والمجهول فإنه لازم ومتعد. قال القاري في نسخة صحيحة: بالراءين المهملتين على بناء الفاعل. قال الطيبي: رفرف الطائر بجناحيه إذا بسطهما عند السقوط على شيء والمعنى مالك ترتعدين، ويروي بالزاء من الزفزفة وهي الارتعاد من البرد والمعنى ما سبب هذا الارتعاد الشديد. وقال النووي: تزفزفين بزائين معجمتين وفائين والتاء مضمومة هذا هو الصحيح المشهور في ضبط هذه اللفظة، وادعى القاضي أنها رواية جميع رواة مسلم. ووقع في بعض نسخ بلادنا بالراء والفاء ومعناه تتحركين حركة شديدة أي ترعدين- انتهى. وقال المنذري: روى برائين وبزائين ومعناهما متقارب وهو الزعدة التي تحصل للمحموم، ونقله الجزري في جامع الأصول (ج10ص355) تزفزفين بالزايين وقال أصل الزفيف الحركة السريعة ومنه زفّ الظليم إذا أسرع حتى يسمع لجناحه حركة فكأنه سمع ما عرض لها من رعدة الحمى هذا على من رواه بالزاي المعجمة ومن رواه بالراء المهملة فعنى به زفزفة جناح الطائر وهو تحريكه عند الطيران فشبه حركة رعدتها به والزاي أكثر رواية (الحمى لا بارك الله فيها) مبتدأ وخبره الجملة تتضمن الجواب أو تقديره تأخذني الحمى أو الحمى معي، والجملة بعده دعائية، قاله القاري. ولفظ أبي يعلى قالت من الحمى لا بارك الله فيها (فإنها تذهب) من الإذهاب أي تمحوا وتكفر وتزيل (خطايا بني آدم) أي مما يقبل التكفير (كما يذهب الكير) بكسر الكاف بعدها تحتية ثم راء مهملة (خبث الحديد) بفتحتين أي وسخه. قال الطيبي: كير الحداد وهو المبني من الطين. وقيل: الزق الذي ينفخ به النار والمبنى الكور (رواه مسلم) في الأدب، وأخرجه أيضاً البيهقي (ج3ص377) وابن سعد وأبويعلى وأبونعيم وابن مندة وفضل الحمى والمرض روايات عن جماعة من الصحابة ذكرها المنذري في الترغيب في كتاب الجنائز. 1558- قوله: (إذا مرض العبد) المؤمن وكان يعمل عملاً قبل مرضه ومنعه منه المرض ونيته لولا المانع مداومته عليه (أو سافر) سفر طاعة ومنعه السفر مما كان يعمل من الطاعات ونيته المداومة، ففي رواية أبي داود: إذا كان العبد يعمل عملاً صالحاً فشغله عنه مرض أو سفر (كتب له) أي للعبد من الأجر كما في

بمثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً)) رواه البخاري. 1559 - (24) وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الطاعون شهادة كل مسلم)) ـــــــــــــــــــــــــــــ رواية أحمد (بمثل ما كان يعمل) حال كونه (مقيماً) وحال كونه (صحيحاً) فهما حالان مترادفان أو متداخلان، وفيه اللف والنشر الغير المرتب؛ لأن مقيماً يقابل إذا سافر وصحيحاً يقابل إذا مرض. قال القاري: والباء زائدة كهى في قوله تعالى: {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به} [البقرة: 137] انتهى. قلت: وفي البخاري كتب له مثل ما كان يعمل أي بغير الباء، وفي رواية أبي داود كصالح ما كان يعمل وهو صحيح مقيم. ووقع في حديث عبد الله بن عمرو ابن العاص مرفوعاً عند عبد الرزاق وأحمد والحاكم وصححه، والبيهقي: إن العبد إذا كان على طريقة حسنة من العبادة ثم مرض قيل للملك الموكل به: أكتب له مثل عمله إذا كان طليقاً حتى أطلقه أو أكفته إلى، ولأحمد من حديث أنس رفعه إذا ابتلى الله العبد المسلم ببلاء في جسده قال الله: أكتب له صالح عمله الذي كان يعمله فإن شفاه غسله وطهره وإن قبضه غفر له ورحمه، وعند الطبراني من حديث أبي موسى: إن الله يكتب للمريض أفضل ما كان يعمل في صحته ما دام في وثاقه- الحديث. وفي حديث عائشة عند النسائي: ما من امريء تكون له صلاة من الليل يغلبه نوم أو وجع إلا كتب له أجر صلاته وكان نومه عليه صدقة، وحمل ابن بطال الحكم المذكور على النوافل لا للفرائض فلا تسقط بالسفر والمرض، وتعقبه ابن المنير بأنه حجر واسعاً بل تدخل فيه الفرائض التي شأنه أن يعمل بها وهو صحيح إذا عجز عن جملتها أو بعضها بالمرض كتب له أجر ما عجز عنه فعلاً؛ لأنه قام به عزماً إن لو كان صحيحاً حتى صلاة الجالس في الفرض لمرضه يكتب له عنها أجر صلاة القائم-انتهى. قال الحافظ: وليس اعتراض ابن المنير بجيد، لأنهما لم يتواردا على محل واحد، وفي الأحاديث المذكورة تعقب على من زعم من الشافعية أن الأعذار المرخصة لترك الجماعة تسقط الكراهة والإثم خاصة من غير أن تكون محصلة للفضيلة والثواب، وبذلك جزم النووي في شرح المهذب: ومما يدل على بطلان قوله حديث أبي هريرة رفعه: من توضأ فأحسن وضوءه ثم خرج إلى المسجد فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله مثل أجر من صلى وحضر لا ينقص ذلك من أجره شيئاً. أخرجه أبوداود والنسائي والحاكم، وإسناده قوي (رواه البخاري) في كتاب الجهاد، وأخرجه أيضاً أحمد (ج4ص410، 418) وأبوداود في الجنائز وابن أبي شيبة (ج4ص70) والبيهقي (ج3ص374) . 1559- قوله: (الطاعون شهادة كل مسلم) أي حكماً، كذا بالإضافة في نسخ المشكاة. وفي الصحيحين شهادة لكل مسلم، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج8ص364) أي سبب لكونه شهيداً يعني شهادة أخروية لكل مسلم مات به لمشاركته للشهيد فيما يكابده من الشدة، وهكذا جاء مطلقاً في هذا الحديث، وسيأتي

............................... ـــــــــــــــــــــــــــــ مقيداً بثلاثة قيود في حديث عائشة الذي يلي حديث أبي هريرة. قال المناوي: ظاهر حديث أنس يشمل الفاسق. وقال الحافظ بعد ذكر أحاديث: تدل على أن سبب الطاعون ظهور الفاحشة وفشوا الزنا ما لفظه: ففي هذه الأحاديث أن الطاعون قد يقع عقوبة بسبب المعصية، فكيف يكون شهادة؟ ويحتمل أن يقال بل تحصل له درجة الشهادة لعموم الأخبار الواردة، ولاسيما حديث أنس الطاعون شهادة لكل مسلم، ولا يلزم من حصول درجة الشهادة لمن اجترح السيئات مساواة المؤمن الكامل في المنزلة، لأن درجات الشهداء متفاوتة كنظيره من العصاة إذا قتل مجاهداً في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العلياء مقبلاً غير مدبر- انتهى. والطاعون بوزن فاعول من الطعن، عدلوا به عن أصله ووضعوه دالاً على الموت العام كالوباء. قال النووي في تهذيبه: هو بثر وورم مؤلم جداً يخرج مع لهب ويسود ما حواليه أو يخضر أو يحمر حمرة شديدة بنفسجية كدرة ويحصل معه خفقان وقيء، ويخرج غالباً في المراق والآباط، وقد يخرج في الأيدي والأصابع وسائر الجسد. وقال جماعة من الأطباء منهم ابن سينا: الطاعون مادة سمية تحدث ورماً قتالاً يحدث في المواضع الرخوة والمغابن من البدن، وأغلب ما تكون تحت الإبط أو خلف الأذن أو عند الأرنبة، قال وسببه دم رديء مائل إلى العفونة والفساد، ويستحيل إلى جوهر سمي يفسد العضو ويؤدي إلى القلب كيفية رديئة فتحدث القيء والغثيان والغشى والخفقان، ولرداءته لا يقبل من الأعضاء إلا ما كان أضعف بالطبع، والطواعين تكثر عند الوباء في البلاد الوبيئة، ومن ثم أطلق على الطاعون وباء وبالعكس، والوباء فساد جوهر الهواء الذي هو مادة الروح ومدده- انتهى. وحاصل هذا أن حقيقة الطاعون ورم ينشأ عن هيجان الدم أو انصباب الدم إلى عضو فيفسده وأن غير ذلك من الأمراض العامة الناشئة عن فساد الهواء يسمى طاعوناً بطريق المجاز لإشتراكهما في عموم المرض به أو كثرة الموت. وما قال الأطباء: أن الطاعون ينشأ عن هيجان الدم أو انصبابه لا يعارض حديث الطاعون وخز أعداءكم من الجن، أخرجه أحمد وغيره من حديث أبي موسى الأشعري مرفوعاً، إذ يجوز أن ذلك يحدث عن الطعنة الباطنة فتحدث منها المادة السمية ويهيج الدم بسببها أو ينصب، وإنما لم يتعرض الأطباء لكونه من طعن الجن، لأنه أمر لا يدرك بالعقل، وإنما يعرف من جهة الشارع، فتكلموا في ذلك على ما اقتضته قواعدهم، لكن في وقوع الطاعون في أعدل الفصول وأصح البلاد هواء وأطيبها ماء دلالة على أن الطاعون إنما يكون من طعن الجن، ولأنه لو كان بسبب فساد الهواء لدام في الأرض، لأن الهواء يفسد تارة ويصح أخرى، والطاعون يذهب أحياناً ويجيء أحياناً على غير قياس ولا تجربة، وربما جاء سنة على سنة، وربما أبطأ سنين، وأيضاً لو كان من فساد الهواء لعم الناس والحيوان وربما يصيب الكثير من الناس، ولا يصيب من هو بجانبهم ممن هو في مثل مزاجهم، وربما يصيب بعض أهل البيت الواحد، ويسلم منه الآخرون منهم وقوله: وخز بفتح أوله وسكون المعجمة بعدها زاي، هو الطعن إذا كان غير نافذ، ووصف طعن الجن بأنه وخز، لأنه يقع من الباطن إلى الظاهر فيؤثر بالباطن أولاً ثم يؤثر في الظاهر وقد لا ينفذ، وهذا بخلاف

متفق عليه. 1560 - (25) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله)) ـــــــــــــــــــــــــــــ طعن الإنس، فإنه يقع من الظاهر إلى الباطن فيؤثر في الظاهر أولاً ثم يؤثر في الباطن وقد لا ينفذ. وأما ما يقع في الألسنة بلفظ: وخز إخوانكم من الجن. فقال الحافظ: إنه لم يجده في شيء طرق الحديث المسندة لا في الكتب المشهورة ولا الأجزاء المنثورة بعد التتبع الطويل البالغ، وعزاه في آكام المرجان لمسند أحمد والطبراني وكتاب الطواعين لابن أبي الدنيا، ولا وجود له في واحد منها (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجهاد وفي الطب، ومسلم في الجهاد، وأخرجه أيضاً أحمد. 1560- قوله: (الشهداء) جمع شهيد سمي به، لأن الملائكة يشهدون موته فكان مشهوداً، وقيل مشهود له بالجنة، فعلى هذا الشهيد فعيل بمعنى مفعول. وقيل: سمي به، لأنه حي عند الله تعالى حاضر ويشهد حضرة القدس. وقيل: لأنه شهد ما أعد الله له من الكرامات. وقيل: لأنه يستشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة على سائر الأمم المكذبين، فعلى على هذه المعاني يكون الشهيد بمعنى الشاهد، قاله العيني. وقال القاري: بمعنى فاعل، لأنه يشهد مقامه قبل موته أو بمعنى مفعول، لأن الملائكة تشهده أي تحضره مبشرة له. وذكر الحافظ في سبب تسميته بذلك أقوالاً أخرى (خمسة) وفي حديث جابر بن عتيك الآتي: الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله. وفي حديث عمر عند أحمد والترمذي: الشهداء أربعة فاختلفت الأحاديث في عدد أسباب الشهادة. قال الحافظ: الذي يظهر أنه صلى الله عليه وسلم أعلم بالأقل ثم أعلم زيادة على ذلك فذكرها في وقت آخر، ولم يقصد الحصر في شيء من ذلك- انتهى. (المطعون) أي الذي يموت بالطاعون (والمبطون) أي الذي يموت بمرض البطن مطلقاً أو الاستسقاء أو الإسهال أو القولنج. قال القرطبي: اختلف هل المراد بالبطن الاستسقاء أو الإسهال على قولين للعلماء (والغريق) بالياء بعد الراء. وفي رواية: الغرق بغير ياء، وهو بفتح الغين المعجمة وكسر الراء بعدها قاف أي الذي يموت من الغرق في الماء. قال القاري: الظاهر انه مقيد بمن ركب البحر ركوباً غير محرم (وصاحب الهدم) أي الذي يموت تحت الهدم، وهو بفتح الهاء والدال ما يهدم به من البناء. قال في النهاية: الهدم بالتحريك البناء المهدوم، فعل بمعنى المفعول، وبالسكون الفعل نفسه. وقال الحفنى: قوله الَهدم هو مجاز، لأنه يموت تحت المهدوم الذي سببه الهدم أي الفعل، فإن قريء بفتح الدال فهو ظاهر، لأنه اسم للمهدوم - انتهى. وحاصل جميع ذلك أن صاحب الهدم هو الذي يقع عليه بناء أو حائط فيموت تحته. قال القرطبي: هذا والغريق إذا لم يغررا بأنفسهما ولم يهملا التحرز، فإن فرطا في التحرز حتى أصابهما ذلك فهما عاصيان (والشهيد) أي الذي يقتل (في سبيل الله)

متفق عليه. 1561 - (26) وعن عائشة، قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون فأخبرني: ((أنه عذاب يبعثه الله على من يشاء، وأن الله جعله رحمة للمؤمنين، ـــــــــــــــــــــــــــــ يعني الذي حكمه أن لا يغسل ولا يصلي عليه بخلاف الأربعة السابقة، فالحقيقية الأخير والذي قبله مجاز، فهم شهداء في الثواب كثواب الشهيد واستشكل التعبير بالشهيد في سبيل الله مع قوله: الشهداء خمسة، فإنه يلزم منه حمل الشيء على نفسه، لأن قوله: خمسة خبر للمبتدأ، والمعدود بعده بيان له، فكأنه قال الشهيد هو الشهيد. وأجيب بأنه عبر عن المقتول بالشهيد، لأنه هو الشهيد الكامل فهو من باب أنا أبوالنجم، وشعري شعري أو معنى الشهيد القتيل، فكأنه قال والمقتول، فعبر عنه بالشهيد أو يقال: إن الشهيد مكرر في كل واحد منها، فيكون من التفصيل بعد الإجمال، والتقدير الشهداء خمسة، الشهيد كذا والشهيد كذا والشهيد القتيل في سبيل الله. قال ابن الملك: وإنما أخره، لأنه من باب الترقي من الشهيد الحكمي إلى الحقيقي. واعلم أن الشهداء الحكمية كثيرة وردت في أحاديث شهيرة، جمعها السيوطي في كراسته سماها أبواب السعادة في أبواب الشهادة. وقد سرد العيني والحافظ هذه الروايات، ولخصها القسطلاني والزرقاني، إن شئت الإطلاع عليها فارجع إلى العمدة والفتح. قال العيني: فإن قلت: كيف التوفيق بين الأحاديث التي فيها العدد المختلف صريحاً والأحاديث الأخر أيضاً؟ قلت: أما ذكر العدد المختلف فليس على معنى التحديد، بل كل واحد من ذلك بحسب الحال وبحسب السؤال وبحسب ما تجدد العلم في ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، على أن التنصيص على العدد المعين لا ينافي الزيادة- انتهى. قال العلماء: الشهداء على ثلاثة أنواع: شهيد الدنيا والآخرة وهو المقتول في سبيل الله، وشهيد الآخرة دون الدنيا وهم الأربعة المذكورون في حديث أبي هريرة، وشهيد الدنيا دون الآخرة وهو من قتل مدبراً أو غل في الغنيمة أو قاتل لغرض دنياوي (متفق عليه) أخرجه البخاري في الأذان وفي الصلاة وفي الجهاد، ومسلم في الجهاد، وأخرجه أيضاً مالك في الصلاة والترمذي في الجنائز. 1561- قوله: (فأخبرني) بالإفراد (أنه عذاب) من قبل الجن كما تقدم. وفي رواية: أنه كان عذاباً (يبعثه الله على من يشاء) أي من كافر أو عاص كما في قصة آل فرعون وفي قصة أصحاب موسى مع بلعام (وأن الله جعله) بفتح الهمزة على العطف وبكسرها على الاستئناف. وفي رواية: فجعله الله (رحمة للمؤمنين) أي من هذه الأمة. وفي حديث أبي عسيب عند أحمد: فالطاعون شهادة للمؤمنين ورحمة لهم ورجس على الكافر، وهو صريح في أن كون الطاعون رحمة إنما هو خاص بالمسلمين، وإذا وقع بالكفار فإنما هو عذاب عليهم يعجل لهم في الدنيا قبل الآخرة. وأما العاصي من هذه الأمة فهل يكون الطاعون له شهادة أو يختص بالمؤمن الكامل والمراد

ليس من أحد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابراً محتسباً، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر شهيد)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالعاصي مرتكب الكبيرة الذي يهجم عليه الطاعون وهو مصر، فإنه يحتمل أن لا يكرم بدرجة الشهادة لشؤم ما كان متلبساً به لقوله تعالى: {أم حسب الذين اجترحوا السيئآت أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات} [الجاثيات:21] وفي حديث ابن عمر عند ابن ماجه والبيهقي ما يدل على أن الطاعون ينشأ عن ظهور الفاحشة. ولفظه: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها الإفشاء فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم، وفي إسناده خالد بن يزيد بن أبي مالك، وقد ضعفه أحمد وابن معين وغيرهما، ووثقه أحمد بن صالح المصري وأبوزرعة الدمشقي. وقال ابن حبان: كان بخطئي كثيراً لكن له شاهد عن ابن عباس في الموطأ بلفظ: ولا فشا الزنا في قوم إلا كثر فيهم الموت- الحديث. قال في الفتح: فيه إنقطاع فدل هذا وغيره مما روى في معناه أن الطاعون قد يقع عقوبة بسبب المعصية، فكيف يكون شهادة؟ نعم يحتمل أنه يحصل له درجة الشهادة لعموم الأحاديث في ذلك، ولا يلزم المساواة بين الناقص والكامل في المنزلة، لأن درجات الشهادة متفاوتة- انتهى ملخصاً من الفتح (ليس) هذه الجملة بيان لقوله: جعله رحمة (من أحد) من زائدة أي ليس أحد يعني من المسلمين. وفي رواية: ليس من عبد أي مسلم (يقع الطاعون) صفة أحد، والراجع محذوف أي يقع في مكان هو فيه أو يقع في بلده (فيمكث) عطف على يقع (في بلده) وفي رواية أحمد في بيته، وفي رواية البخاري في القدر بلفظ: ما من عبد يكون في بلد يكون (أي الطاعون) فيه ويمكث فيه ولا يخرج من البلد أي التي وقع فيها الطاعون (صابراً) أي غير منزعج ولا قلق محتسباً أي طالبا للثواب على صبره، وهما حالان من فاعل يمكث أي يصبر وهو قادر على الخروج متوكلاً على الله طالباً لثوابه لا غير كحفظ ماله أو غرض آخر. وهذا قيد في حصول أجر الشهادة لمن يموت بالطاعون، وهو أن يمكث بالمكان الذي يقع به فلا يخرج منه فراراً، كما ورد النهى عنه صريحاً في الحديث الذي يليه (يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له) أي من الحياة والممات. وهذا قيد آخر وهي جملة حالية تتعلق بالإقامة، فلو مكث وهو قلق أو متندم على عدم الخروج ظاناً أنه لو خرج لما وقع به أصلاً ورأساً وأنه بإقامته يقع به، فهذا لا يحصل له أجر الشهيد ولو مات بالطاعون. هذا الذي يقتضيه مفهوم هذا الحديث كما اقتضى منطوقه أن من اتصف بالصفات المذكورة يحصل له أجر الشهيد وإن لم يمت بالطاعون، ويدخل تحته ثلاث صور من اتصف بذلك فوقع به الطاعون فمات به أو وقع به ولم يمت به أو لم يقع به أصلا ومات بغيره عاجلاً أو آجلاً، قاله الحافظ. (إلا كان له مثل أجر الشهيد) خبر ليس، والاستثناء مفرغ. ولعل السر في التعبير مع ثبوت التصريح بأن من مات بالطاعون كان شهيداً، أن من لم يمت من هؤلاء بالطاعون كان له مثل أجر الشهيد وإن لم يحصل له درجة الشهادة بعينها،

رواه البخاري. 1562- (27) وعن أسامة بن زيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الطاعون رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل، أو على من كان قبلكم، ـــــــــــــــــــــــــــــ وذلك أن من اتصف بكونه شهيداً أعلى درجة ممن وعد بأنه يعطي مثل أجر الشهيد ويكون كمن خرج على نية الجهاد في سبيل الله ليتكون كلمة الله هي العليا فمات بسبب آخر غير القتل، وفضل الله واسع ونية المؤمن أبلغ من عمله (رواه البخاري) في ذكر بني إسرائيل وفي التفسير وفي الطب وفي القدر وأخرجه أيضاً أحمد والبيهقي (ج3:ص376) . 1562- قوله: (وعن أسامة بن زيد) أي ابن حارثة (الطاعون رجز) بكسر الراء أي عذاب (أرسل على طائفة من بني إسرائيل) قال الطيبي: هم الذين أمرهم الله تعالى أن يدخلوا الباب سجدا فخالفوا. قال تعالى: {فأرسلنا عليهم رجزاً من السماء} [الأعراف:162] قال ابن الملك: فأرسل عليهم الطاعون فمات منهم في ساعة أربعة وعشرون ألفاً من شيوخهم وكبراءهم (أو على من كان قبلكم) قال الحافظ: كذا وقع بالشك، ووقع في رواية عند ابن خزيمة بالجزم بلفظ: فإنه رجز سلط على طائفة من بني إسرائيل، ووقع في رواية أخرى عنده بالجزم أيضاً، لكن قال رجز أصيب به من كان قبلكم، قال: والتنصيص على بني إسرائيل أخص، فإن كان ذلك المراد فكأنه أشار بذلك إلى ما جاء في قصة بلعام، فأخرج الطبري من طريق سليمان التيمي عن سيار أن رجلاً كان يقال له بلعام كان مجاب الدعوة وأن موسى أقبل في بني إسرائيل يريد الأرض التي فيها بلعام فأتاه قومه، فقالوا: ادع الله عليهم قال حتى أو أمر ربي فمنع، فأتوه بهدية فقبلها، وسألوه ثانياً، فقال: حتى أو أمر ربي فلم يرجع إليه بشئ، فقالوا لو كره لنهاك، فدعا عليهم فصار يجري على لسانه ما يدعو به على بني إسرائيل فينقلب على قومه، فلاموه على ذلك، فقال: سأدلكم على ما فيه هلاكهم إلخ. وفيه فوقع في بني إسرائيل الطاعون (أي بسبب تمكين بنت الملك رأس بعض الأسباط من نفسها) فمات منهم سبعون ألفاً في يوم، قال وهذا مرسل جيد وسيار شامي موثق. وذكر ابن إسحاق في المبتدأ: أن بني إسرائيل كثر عصيانهم فخيرهم بين ثلاث: إما أن أبتليهم بالقحط أو للعدو شهرين، أو الطاعون ثلاثة أيام فأخبرهم، فقالوا اختر لنا، فاختار الطاعون فمات منهم إلى أن زالت الشمس سبعون ألفاً. وقيل: مائة ألف، فتضرع داود إلى الله فرفعه، قال: وورد وقوع الطاعون في غير بني إسرائيل فيحتمل أن يكون هو المراد بقوله: من كان قبلكم، فمن ذلك ما أخرجه الطبري وابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير قال: أمر موسى بني إسرائيل أن يذبح كل رجل منهم كبشاً، ثم ليخضب كفه في دمه، ثم

فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض، وأنتم بها، فلا تخرجوا فراراً منه)) ـــــــــــــــــــــــــــــ ليضرب به على بابه ففعلوا، فسألهم القبط عن ذلك، فقالوا: إن الله سيبعث عليكم عذاباً، وإنما ينجو منه بهذا العلامة، فأصبحوا وقد مات من قوم فرعون سبعون ألفاً، فقال فرعون عند ذلك لموسى: {أدع لنا ربك بما عهد عندك، لئن كشفت عنا الرجز} [الآية] ، فدعا فكشفه عنهم، وهذا مرسل جيد الإسناد، وأخرج عبد الرزاق في تفسيره والطبري من طريق الحسن في قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت} [البقرة:243] قال: فروا من الطاعون، فقال لهم الله: موتوا ثم أحياءهم ليكملوا بقية آجالهم، قال فأقدم من وقفنا عليه في المنقول ممن وقع الطاعون به من بني إسرائيل في قصة بلعام ومن غيرهم في قصة فرعون وتكرر بعد ذلك لغيرهم- انتهى مختصراً. (فإذا سمعتم به) أي بالطاعون (بأرض) قال الطيبي: الباء الأولى متعلقة بسمعتم على تضمين أخبرتم. وبأرض حال أي واقعاً في أرض- انتهى. ويروي فإذا سمعتم أنه بأرض. قال ابن حجر الهيثمي في فتاواه: المراد بالأرض محل الإقامة وقع به الطاعون، سواء كان بلداً أم قرية أم محلة أم غيرها لا جميع الإقليم. وقال المناوي: قوله: إذا سمعتم بالطاعون بأرض أي إذا بلغكم وقوعه في بلدة أو محلة (فلا تقدموا) بسكون القاف وفتح الدال (عليه) أي لا تدخلوا عليه ليكون أسكن لأنفسكم وأقطع لوساوس الشيطان (وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً) أي لأجل الفرار (منه) أي من الطاعون، فإنه فرار من القدر ومعارضة له، والحديث يدل على حرمة الخروج من أرض وقع بها الطاعون فراراً منه، وكذا الدخول في أرض وقع بها الطاعون، لأن الأصل في النهى التحريم. ويدل عليه أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة عند أحمد: الفار منها كالفار من الزحف. وفي الباب أحاديث أخرى ذكر بعضها الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2:ص314-315) والحافظ في الفتح: وأشار إلى بعضها الترمذي بقوله: وفي الباب. وقد اختلف العلماء في ذلك. فذهب بعضهم إلى الجواز. قال الحافظ: نقل عياض وغيره جواز الخروج من الأرض التي يقع بها الطاعون (أي لمن قوى توكله وصح يقينه) عن جماعة من الصحابة منهم أبوموسى الأشعري والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين منهم الأسود بن هلال ومسروق. ومنهم من قال: النهى فيه للتنزيه فيكره ولا يحرم، وخالفهم جماعة، فقالوا: يحرم الخروج منها لظاهر النهى الثابت في الأحاديث الماضية. وهذا هو الراجح عند الشافعية وغيرهم، ويؤيده ثبوت الوعيد على ذلك، فأخرج أحمد وابن خزيمة من حديث عائشة مرفوعاً بسند حسن. قلت: يارسول الله! فما الطاعون؟ قال: غدة كغدة البعير، المقيم فيها كالشهيد والفار منها كالفار من الزحف. وله شاهد من حديث جابر مرفوعاً عند أحمد أيضاً وابن خزيمة وسنده صالح للمتابعات- انتهى. وفصل بعضهم في هذه المسألة تفصيلاً جيداً فقال من خرج لقصد الفرار محضاً فهذا يتناوله النهى لا محالة ومن خرج لحاجة متمحضة لا لقصد

............................ ـــــــــــــــــــــــــــــ الفرار أصلاً ويتصور ذلك فيمن تهيأ للرحيل من بلد كان بها إلى بلد إقامته مثلاً. ولم يكن الطاعون وقع فاتفق وقوعه في أثناء تجهيزه فهذا لم يقصد الفرار أصلاً فلا يدخل في النهى. والثالث: من عرضت له حاجة فأراد الخروج وانضم لذلك أنه قصدا الراحة من الإقامة بالبلد الذي به الطاعون فهذا محل النزاع. وقال النووي في شرح مسلم: وفي هذه الأحاديث منع القدوم على بلدة الطاعون ومنع الخروج فراراً من ذلك. أما الخروج لعارض فلا بأس. وهذا الذي ذكرنا هو مذهبنا ومذهب الجمهور. قال القاضي: هو قول الأكثريين حتى قالت عائشة: الفرار منه كالفرار من الزحف، قال ومنهم من جوز القدوم عليه. والخروج منه فراراً، ثم قال: والصحيح ما قدمناه من النهى عن القدوم عليه والفرار منه لظاهر الأحاديث الصحيحة- انتهى. وقال الزرقاني المالكي في شرح الموطأ: والجمهور على أنه للتحريم حتى قال ابن خزيمة: إنه من الكبائر التي يعاقب الله عليها إن لم يعف-انتهى. وقال في شرح المواهب اللدنية: وخالفهم الأكثر وقالوا إنه للتحريم، حتى قال ابن خزيمة: إنه من الكبائر التي يعاقب عليها إن لم يعف، وهو ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: الطاعون غدة كغدة البعير، المقيم بها كالشهيد، والفار منه كالفار من الزحف. رواه أحمد برجال ثقات. وروى الطبراني وأبونعيم بإسناد حسن مرفوعاً الطاعون شهادة لأمتي، وخز أعداءكم من الجن، غدة كغدة الإبل تخرج في الآباط والمراق، من مات منه مات شهيداً ومن أقام به كان كالمرابط في سبيل الله، ومن فر منه كان كالفار من الزحف- انتهى. وقال الشيخ إسماعيل المهاجر الحنفي في تفسيره روح البيان: والفرار من الطاعون حرام إلى أن قال: وفي الحديث الفار من الطاعون كالفار من الزحف، والصابر فيه كالصابر في الزحف، فهذا الخبر يدل على أن النهى عن الخروج للتحريم، وأنه من الكبائر- انتهى. وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي الحنفي في أشعة اللمعات (ج2:ص682) ضابطه دور همين أست كه در آنجا كه هست نبايد رفت، واز آنجا كه باشد نبايد كريخت، واكرجه كريختن در بعض مواضع مثل خانه كه دورى زلزله شده يا آتش كرفته يا نشستن در زير ديواريكه خم شده نزد غلبه ظن بهلاك آمده است أما در باب طاعون جز صبر نيامده وكريختن تجويز نيافته، وقياس اين برآن مواد فاسد است كه آنها از قبيل أسباب عادية أند، واين از أباب وهمى، وبرهر تقدير كريختن أز آنجا جائز نيست؛ وهيج جاوارد نشده وهركه بكريزد عاصي ومرتكب كبيره ومردود است، نسأل الله العافية- انتهى. قلت: وهذا هو الحق عندنا فالخروج من أرض وقع فيها الطاعون فراراً منه حرام، وكذا الدخول فيها لظاهر الأحاديث الصحيحة، وهو الذي حققه وصوبه شيخنا في شرح الترمذي. وقد ألف أيضاً في هذه المسألة رسالة مستقلة في جزئيين متوسطين باللغة الأردية سماها "خير الماعون في منع الفرار من الطاعون" ذكر في الجزء الأول

متفق عليه. 1563- (28) وعن أنس، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((قال الله سبحانه وتعالى: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه، ـــــــــــــــــــــــــــــ الأحاديث والآثار التي تدل على عدم جواز الفرار من الموضع الذي وقع فيه وباء الطاعون، وأفرز الجزء الثاني بذكر الأجوبة عن دلائل القائلين بالفرار ودفع شبهاتهم وأعذارهم، وهي عديم النظير في بابها فعليك أن تطالعها. هذا وقد ذكر العلماء في النهى عن الخروج حكماً بسطها الحافظ في الفتح (ج23:ص415) والغزالي في الأحياء، وغيرهما في غيرهما، لا يخلوا واحد منها عن نظر. والظاهر أن النهى للتعبد، والله تعالى اعلم. قال العلامة الآلوسي في روح المعاني (ج28:ص98) واختلفوا في علة النهى فقيل: هي أن الطاعون إذا وقع في بلد مثلاً عم جميع من فيه بمداخلة سببه فلا يفيد الفرار منه، بل إن كان أجله قد حضر فهو ميت وإن رحل، وإلا فلا وإن أقام فتعينت الإقامة لما في الخروج من العبث الذي لا يليق بالعقلاء. واعترض بمنع عمومه إذا وقع في بلد جميع من فيه بمداخلة سببه، ولو سلم فالوباء مثله في أن الشخص الذي في بلده إن كان أجله قد حضر فهو ميت وإن رحل، وإلا فلا وإن أقام مع أنهم جوزوا الفرار منه. وقيل: هي أن الناس لو تواردوا على الخروج لضاعت المرضى العاجزون عن الخروج لفقد من يتعهدهم والموتى لفقد من يجهزهم، وأيضاً في خروج الأقوياء كسر قلوب الضعفاء عن الخروج، وأيضاً إن الخارج يقول: لو لم أخرج لمت، والمقيم يقول: لو خرجت لسلمت، فيقعان في اللو المنهى عنه. واعترض كل ذلك بأنه موجود في الفرار عن الوباء أيضاً وكذا الداء الحادث ظهوره المعروف بين الناس بأبي زوعة الذي أعيا الأطباء علاجه، ولم ينفع فيه التحفظ والعزلة على الوجه المعروف في الطاعون. وقيل: هي أن للميت به وكذا للصابر المحتسب المقيم في محله وإن لم يمت به، أجر شهيد، وفي الفرار إعراض عن الشهادة، وهو محل التشبيه في حديث عائشة عند بعض. واعترض بأنه قد صح أنه صلى الله عليه وسلم مر بحائط مائل فأسرع ولم يمنع أحد من ذلك، وكذا في الفرار من الحريق مع أن الميت بذلك شهيد أيضاً. وذهب بعض العلماء إلى أن النهى تعبدى، وكأنه لما رأى أنه لا تسلم علة له من الطعن قال ذلك، ولهم في ذلك رسائل عديدة فمن أراد استيفاء الكلام فيها فليرجع إليها- انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في ذكر بني إسرائيل وفي الطب وفي ترك الحيل، ومسلم في الطب، وأخرجه أيضاً أحمد (ج5:ص201-202-206-207-208-209-210) والترمذي في الجنائز، والبيهقي (ج3:ص376) . 1563- قوله: (إذا ابتليت عبدي) المؤمن (بحبيبتيه) بالتثنية أي محبوبيه يعني يفقد بصر عينيه، وقيل أي أنزلت البلاء بعينيه حتى يصير أنه لا يرى بهما. قال الحافظ: المراد بالحبيبتين المحبوبتان، لأنهما أحب أعضاء

(الفصل الثاني)

ثم صبر، عوضته منهما الجنة يديد عينيه)) رواه البخاري. ((الفصل الثاني)) 1564- (29) عن علي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من مسلم يعود مسلماً غدوة ـــــــــــــــــــــــــــــ الإنسان إليه لما يحصل له بفقدهما من الأسف على فوات روية ما يريد رؤيته من خير فيسر به أو شر فيجتنبه (ثم صبر) قال الطيبي: ثم ههنا لتراخي الرتبة. وفي البخاري: فصبر أي بالفاء يدل ثم، وزاد الترمذي وابن حبان في روايتهما عن أبي هريرة واحتسب، وكذا لابن حبان من حديث ابن عباس أيضاً. قال الحافظ: والمراد أنه يصبر مستحضراً ما وعد الله به الصابر من الثواب لا أن يصبر مجرداً عن ذلك، لأن الأعمال بالنيات، وابتلاء الله عبده في الدنيا ليس من سخطه عليه، بل إما لدفع مكروه أو لكفارة ذنوب أو لرفع منزلة فإذا تلقى ذلك بالرضاء تم له المراد، وإلا يصبر كما جاء في حديث سلمان: أن مرض المؤمن يجعله الله له كفارة ومستعتباً، وأن مرض الفاجر كالبعير عقله أهله ثم أرسلوه فلا يدري لم عقل ولم أرسل أخرجه البخاري في الأدب المفرد (وابن أبي شيبة) موقوفاً (عوضته منهما) أي بدلهما أو من أجل فقدهما (الجنة) أي دخولها مع السابقين أو بغير عذاب أو منازل مخصوصة فيها، وقال الحافظ: هذا أعظم العوض، لأن الالتذاذ بالبصر يفنى بفناء الدنيا والالتذاذ بالجنة باق ببقاءها، وهو شامل لكل من وقع له ذلك بالشرط المذكور، ووقع في حديث أبي أمامة فيه قيد آخر أخرجه البخاري في الأدب المفرد بلفظ: إذا أخذت كريمتيك فصبرت عند الصدمة واحتسبت، فأشار إلى أن الصبر النافع هو ما يكون في وقوع البلاء فيفوض ويسلم، وإلا فمتى تضجر وتقلق في أول وهلة، ثم يئس فيصبر لا يكون حصل المقصود. وورد في حديث أنس (الآتي في باب البكاء على الميت) إنما الصبر عند الصدمة الأولى، وقد وقع في حديث العرباض بن سارية فيما صححه ابن حبان فيه بشرط آخر ولفظه: إذا سلبت من عبدي كريمتيه وهو بهما ضنين لم أرض له ثواباً دون الجنة، إذا هو حمدني عليهما ولم أر هذه الزيادة في غير هذه الطريق، وإذا كان ثواب من وقع له ذلك الجنة فالذي له أعمال صالحة أخرى يراد في رفع الدرجات- انتهى. (يريد) أي النبي صلى الله عليه وسلم بحبيبتيه (عينيه) قال القاري: والظاهر أن هذا التفسير من أنس. وقال الحافظ: قد فسرهما آخر الحديث بقوله: يريد عينيه، ولم يصرح بالذي فسرهما (رواه البخاري) في المرضى، وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي في الزهد، والبيهقي (ج3:ص375) وفي الباب عن جماعة من الصحابة ذكرها أحاديثهم المنذري في الترغيب، والهيثمي في مجمع الزوائد. 1564- قوله: (غدوة) بضم الغين ما بين صلاة الغداوة وطلوع الشمس، كذا قاله ابن الملك. والظاهر

إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عادة عشية إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة)) رواه الترمذي، وأبوداود. 1565- (30) وعن زيد بن أرقم، قال: عادني النبي صلى الله عليه وسلم من وجع كان بعيني. ـــــــــــــــــــــــــــــ أن المراد به أول النهار ما قبل الزوال (إلا صلى عليه) أي دعا له بالمغفرة (حتى يمسى) بضم التحتية من الإمساء، أي يدخل في المساء. وقال القاري: أي يغرب بقرينة مقابلته (وإن عاده) إن نافية بدلالة إلا ولمقابلتها ما (عشية) أي ما بعد الزوال أو أول الليل (وكان له) أي للعائد (خريف) أي بستان. وهو في الأصل الثمر المجتنى أو مخروف من ثمر الجنة، فعيل بمعنى مفعول، قاله القاري. وقال الجزري: الخريف الثمر الذي يخترف أي يجنى ويقطف، فعيل بمعنى مفعول (رواه الترمذي وأبوداود) في الجنائز، واللفظ للترمذي. قال الترمذي: هذا حديث غريب حسن. وقد روى عن علي هذا الحديث من غير وجه ومنهم من وقفه ولم يرفعه- انتهى. قال المنذري في الترغيب. بعد إيراد الحديث ونقل كلام الترمذي. ما لفظه: ورواه أبوداود موقوفاً على علي، ثم قال وأسند هذا عن علي من غير وجه صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رواه مسنداً بمعناه. ولفظ الموقوف: ما من رجل يعود مريضاً ممسياً إلا خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة، ومن أتاه مصبحاً خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يمسى، وكان له خريف في الجنة، ورواه بنحو هذا أحمد وابن ماجه مرفوعاً، وزادا في أوله إذا عاد المسلم أخاه مشى في خرافة الجنة حتى يجلس، فإذا جلس غمرته الرحمة- الحديث. وليس عندهما خريف في الجنة، ورواه ابن حبان في صحيحه مرفوعاً أيضاً. ولفظه: ما من مسلم يعود مسلماً إلا يبعث إليه سبعين ألف ملك يصلون عليه في أي ساعات النهار حتى يمسى وفي أي ساعات الليل حتى يصبح. ورواه الحاكم مرفوعاً بنحو الترمذي وقال صحيح على شرطهما- انتهى. قلت: في سند الترمذي ثوير بن أبي فاختة وهو ضعيف روى البخاري في الكبير والصغير عن الثوري قال: كان ثوير من أركان الكذب. ولعل الترمذي حسنه لتعدد طرقه، فقد رواه أحمد بطرق أخرى (ج1:ص81-97-118-121) مرفوعاً وموقوفاً، وأخرجه أيضاً ابن أبي شيبة (ج4:ص73) ، والبيهقي مرفوعاً وموقوفاً (ج3:ص380-381) . 1565- قوله: (عادني النبي صلى الله عليه وسلم من وجع) أي من رمد، كما في رواية أحمد، وفي حديث أنس عند الحاكم (كان بعيني) بفتح النون وتشديد الياء. قال ابن الملك: هذا يدل على أن من به وجع يجلس لأجله في بيته ولم يقدر أن يخرج منه فعيادته سنة. وقال في الأزهار: فيه بيان استحباب العيادة وإن لم يكن المرض مخوفاً

رواه أحمد، وأبوداود. 1566- (31) وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من توضأ فأحسن الوضوء، وعاد أخاه المسلم محتسباً، بوعد من جهنم مسيرة ستين خريفاً)) رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ كالصداع ووجع الضرس، وأن ذلك عيادة حتى يحوز بذلك أجر العيادة. وروى عن بعض الحنفية أن العيادة في الرمد ووجع الضرس خلاف السنة. والحديث يرده ولا أعلم من أين تيسر لهم الجزم بأنه خلاف السنة مع أن السنة خلافه نعوذ بالله من شرور أنفسنا. وقد ترجم عليه أبوداود في سننه، فقال "باب العيادة من الرمد" ثم أسند الحديث والله الهادي، ذكره ميرك. وأما ما أخرجه البيهقي والطبراني من حديث أبي هريرة مرفوعاً: ثلاثة لا يعادون صاحب الرمد وصاحب الضرس وصاحب الدملة، ففيه مسلمة بن على الخشني البلاطي وهو ضعيف متروك. وقال الحافظ في الفتح: صحح البيهقي أنه موقوف على يحيى بن أبي كثير، وقال في تهذيب التهذيب في ترجمة مسلمة المذكور. أخرج له العقيلي من رواية سعيد بن أبي مريم عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي جعفر عن أبي هريرة رفعه: ثلاثة لا يعادون صاحب الرمد والضرس والدمل، قال ورواه بقية عن الأوزاعي عن ابن أبي كثير من قوله، وقال هذا أولى. قال أبوحاتم: هذا باطل منكر- انتهى. (رواه أحمد) (ج4 ص375) (وأبوداود) في الجنائز وسكت عليه هو والمنذري، وأخرجه أيضاً البخاري في الأدب المفرد، والبيهقي (ج3 ص381) والحاكم (ج1 ص342) وقال صحيح على شرط الشيخين، قال: وله شاهد صحيح من حديث أنس بن مالك، فرواه بإسناده عن أنس قال: عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن أرقم من رمد كان به، وقد وافقه الذهبي الحاكم على تصحيح الحديثين. 1566- قوله: (فأحسن الوضوء) أي أتى به كاملاً (وعاد أخاه المسلم) قال الطيبي: فيه أن الوضوء سنة في العيادة، لأنه إذا دعا على الطهارة، كان أقرب إلى الإجابة. وقال زين العرب: ولعل الحكمة في الوضوء هنا أن العيادة عبادة، وأداء العبادة على وجه الأكمل أفضل (محتسباً) أي طالباً للأجر والثواب (بوعد) ماض مجهول من المباعدة والمفاعلة للمبالغة (خريفاً) أي عاماً سمي بذلك لاشتماله عليه إطلاقاً للبعض على الكل. والخريف في الأصل فصل بين الصيف والشتاء (رواه أبوداود) في الجنائز من طريق الفضل بن دلهم الواسطي البصري، وقد تفرد هو بزيادة الوضوء للعيادة. قال أبوداود فيما رواه أبوالحسن بن العبد عنه حديثه منكر، وليس هو برضي، كذا في تهذيب التهذيب. وقال المنذري: في إسناده الفضل بن دلهم. قال يحيى بن معين: ضعيف الحديث، وقال مرة حديثه صالح. وقال أحمد: لا يحفظ وذكر أشياء مما أخطأ فيها، وقال مرة ليس به بأس. وقال ابن حبان:

1567- (32) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يعود مسلماً فيقول سبع مرات: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك، إلا شفى، إلا أن يكون قد حضر أجله)) رواه أبوداود، والترمذي. 1568- (33) وعنه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم من الحمى ومن الأوجاع كلها أن يقولوا: ـــــــــــــــــــــــــــــ كان ممن يخطئ فلم يفحش خطأه حتى يبطل الاحتجاج به ولا اقتضى أثر العدول فيسلك به سننهم فهو غير محتج به إذا انفرد- انتهى. 1567- قوله: (ما من مسلم) ما للنفي ومن زائدة (يعود مسلماً) أي يزوره في مرضه. ولفظ الترمذي: ما من عبد مسلم يعود مريضاً لم يحضر أجله، ولفظ أبي داود من عاد مريضاً لم يحضر أجله (فيقول) أي العائد في دعاءه له (سبع مرات) هذا العدد من أسرار النبوة، فليس لأحد أن يطلب العلة لذلك أو يبحث عن السبب، وهكذا كل عدد يرد عن الشارع صلى الله عليه وسلم (أسأل الله العظيم) أي في ذاته وصفاته (أن يشفيك) بفتح أوله مفعول ثان (إلا شفى) على بناء المجهول أي ذلك المسلم المريض. والحصر غالبي أو مبني على شروط لابد من تحققه. ولفظ الترمذي: إلا عوفي. ولفظ أبي داود: إلا عافاه الله من ذلك المرض (إلا أن يكون قد حضر أجله) أي فلا ينفعه شيء كما قال الشاعر: وإذا المنية أنشبت أظفارها ألقيت كل تميمة لا تنفع. ويمكن أن يهون الله عليه الموت ببركة هذا الدعاء (رواه أبوداود) في الجنائز (والترمذي) في الطب واللفظ الذي ذكره المصنف ليس للترمذي ولا لأبي داود. وقد ذكره الجزري في جامع الأصول (ج8:ص355) بلفظ أبي داود وعزاه للترمذي وأبي داود والحديث أخرجه أيضاً ابن السني في اليوم والليلة (ص174) ، والحاكم (ج1:ص342) و (ج4:ص213) كلهم من طريق يزيد بن عبد الرحمن عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. والحديث قد حسنه الترمذي، وسكت عنه أبوداود، وصححه الحاكم على شرط البخاري، ووافقه الذهبي. وقال المنذري: في إسناده يزيد بن عبد الرحمن أبوخالد الدالاني وقد وثقه أبوحاتم الرازي وتكلم فيه غير واحد- انتهى. قلت: وأخرجه البخاري في الأدب المفرد، والحاكم أيضاً عن طريق عبد ربه بن سعيد عن المنهال به. قال الحاكم: هذا شاهد صحيح غريب ووافقه الذهبي. والحديث أخرجه ابن حبان أيضاً كما في الترغيب. 1568- قوله: (كان يعلمهم) أي أصحابه (من الحمى) أي من أجلها (أن يقولوا) أي المرضى أو عوادهم، وهذا لفظ ابن ماجه، وعند الترمذي وابن السني في عمل اليوم والليلة، والحاكم (ج4:ص414) :

بسم الله الكبير، أعوذ بالله العظيم، من شر كل عرق نعار، ومن شر حز النار)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب، لا يعرف إلا من حديث إبراهيم بن إسماعيل وهو يضعف في الحديث. 1569- (34) وعن أبي الدرداء، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من اشتكى منكم شيئاً أو اشتكاه أخ له، ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يقول أي المريض أو عائده (أعوذ بالله) كذا في الترمذي وابن ماجه وابن أبي شيبة ولفظ ابن السني والحاكم نعوذ بالله (من شر كل عرق) بكسر فسكون منوناً (نعار) بفتح النون وتشديد العين المهملة وبالراء المهملة أي الممتلى من الدم أو فوار الدم يقال: نعر العرق ينعر بالفتح فيهما إذا فار منه الدم استعاذ، لأنه إذا غلب لم يمهل. وقال الطيبي: نعر العرق بالدم إذا ارتفع وعلا وجرح نعار ونعور إذا صوت دمه عند خروجه. وقال القاضي أبوبكر ابن العربي في شرح الترمذي: النعار هو الذي يرتفع دمه ويزيد فيحدث فيه الحر. وفي رواية لابن ماجه: من شر عرق يعار بفتح المثناة التحتية وتشديد العين المهملة أي صوات بخروج الدم. وأصل اليعار صوت الغنم يقال: يعرت العنز تيعر بالكسر يعاراً بالضم أي صاحت (ومن شر حر النار) فمن قال ذلك ولازمه بنية صادقة نفعه من جميع الآلام والأسقام. وفي الحديث إشارة إلى أن الحمى تكون من فوران الدم في البدن، وأنها نوع من حر النار. وقد وردت أحاديث في أن الحمى من فيح النار، وأنها تبرد بالماء (رواه الترمذي) في الطب، وأخرجه أيضاً أحمد (ج1:ص299) ، وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص181) ، وابن ماجه في الطب، والحاكم (ج4:ص414) ، وابن أبي شيبة والبيهقي في الدعوات الكبير، وابن أبي الدنيا (وقال) أي الترمذي (هذا حديث غريب لا يعرف) وفي الترمذي لا نعرفه (إلا من حديث إبراهيم بن إسماعيل) أي ابن أبي حبيبة الأنصاري الأشهلي (وهو يضعف في الحديث) ضعفه ابن معين والنسائي. وقال البخاري في التاريخ الكبير والضعفاء، وأبوحاتم: منكر الحديث. وقال الدارقطني: متروك الحديث ووثقه أحمد والعجلي. وقال الحربي: شيخ مدني صالح له فضل ولا أحسبه حافظاً. وقال ابن سعد: كان مصلياً عابداً صام ستين سنة، وكان قليل الحديث. وقال العقيلي: له غير حديث لا يتابع على شيء منها، ثم ضرب المثل بهذا الحديث. قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على مسند الإمام أحمد (ج4:ص257) بعد ذكر أقوال الجارحين: والظاهر عندي أن من تكلم فيه إنما تكلم في حفظه وفي خطئه في بعض ما يروي، ثم ذكر كلام الحربي وابن سعد والعقيلي المذكور، ثم قال: ومثل هذا لا يقل حديثه عن درجة الحسن- انتهى. قلت: وقال الحاكم بعد روايته: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الذهبي في تلخيصه: إبراهيم قد وثقه أحمد. 1569- قوله: (من اشتكى منكم شيئاً) أي من الوجع في جسده (أو اشتكاه) قال القاري: الضمير عائد

فليقل: ربنا الله الذي في السماء، تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء فاجعل رحمتك في الأرض، أغفرلنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك، وشفاء من شفائك، على هذا الوجع، فيبرأ)) رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى شيئاً. وقيل: التقدير أي اشتكى إليه (ربنا الله) بالرفع فيهما على الابتداء والخبر (الذي في السماء) صفة وهو كقوله تعالى: {وهو الله في السماوات وفي الأرض} [الأنعام:3] وقوله: {وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله} (تقدس إسمك) خبر بعد خبر أو استئناف. وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب أي تطهرت وتنزهت عما لا يليق بك. قال الطيبي: ربنا مبتدأ، الله خبره، الذي صفة مادحة عبارة عن مجرد العلو والرفعة، لأنه منزه عن المكان، ومن ثمة نزه اسمه عما لا يليق فيلزم منه تقديس المسمى بطريق الأولى (أمرك في السماء والأرض) أي نافذ وماض وجار (كما رحمتك) بالرفع على أن ما كافة مهيئة لدخول الكاف على الجملة (في السماء) أي لجميع من في السماء من الملائكة وأرواح الأنبياء والصلحاء. قال في الفائق: الأمر مشترك بين السماء والأرض، لكن الرحمة شأنها أن تخص بالسماء دون الأرض، لأنها مكان الطيبين المعصومين. قال ابن الملك: ولذلك أتى بالفاء الجزائية، فالتقدير إذا كان كذلك (فاجعل رحمتك في الأرض) أي لكل مؤمن من أهل الأرض، فالمراد الرحمة الخاصة المختصة بالمؤمنين، وإلا فالرحمة العامة شاملة للجميع. قال تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء} [الأعراف:156] (أغفر لنا حوبنا) بضم الحاء المهملة وفتحها أي ذنبنا وإثمنا. وقال الجزري: حوبنا بضم الحاء الإثم وبالفتح مثله. وقيل: إن الضم لغة أهل الحجاز، والفتح لغة تميم- انتهى. والمراد الذنب الكبير. وفي رواية الحاكم ذنوبنا يدل حوبنا (وخطايانا) أي صغائرنا أو المراد بالحوب العمد، وبالخطأ ضده (أنت رب الطيبين) أي الطاهرين من المعاصي. والإضافة تشريفية. خصوا بالذكر لشرفهم وفضلهم، وإلا فهو رب كل شيء من الخبيث والطيب، ولا ينسب إلى الله إلا الطيب. قيل هذا بمنزلة العلة لطلب المغفرة أي أغفرلنا آثامنا لنكون طاهرين من الذنوب مستحقين لتربيتك ورحمتك الخاصة (أنزل) بفتح الهمزة. وفي رواية الحاكم: فأنزل، وكذا نقله الجزري (ج7:ص351) عن أبي داود (رحمة) خاصة عظيمة (من رحمتك) الواسعة التي وسعت كل شيء. قال الطيبي: هذا إلى آخره تقرير للمعنى السابق (على هذا الوجع) بفتح الجيم أي المرض أو بكسر الجيم أي المريض (فيبرأ) بفتح الراء وضم الهمزة من البرء أي فهو يتعافى (رواه أبوداود) في الطب، وأخرجه أيضاً الحاكم (ج1:ص344) والنسائي في الكبرى، كما في تلخيص المنذري وتهذيب التهذيب (ج3:ص392) : وأول حديث الحاكم عن فضالة بن عبيد. أن رجلين أقبلا يلتمسان الشفاء من البول فانطلق بهما إلى أبي الدرداء، فذكرا وجع اثنيهما له.

1570- (35) وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا جاء الرجل يعود مريضاً فليقل: اللهم اشف عبدك ينكأ لك عدواً أو يمشى لك إلى جنازة) رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من اشتكى إلخ. وذكره الجزري في جامع الأصول (ج8:ص351) بلفظ: أتاه (أي أباالدرداء) رجل يذكر أن أباه أصابه الأسر وهو احتباس البول فعلمه رقية سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من اشتكى منكم شيئاً أو اشتكى أخ له فليقل إلخ. قال الجزري: ولم يذكر مجيء الرجل إليه وما قال له – انتهى. والحديث قد سكت عنه أبوداود، وفي سنده زيادة بن محمد الأنصاري. قال البخاري والنسائي وابن حبان وأبوحاتم: منكر الحديث. وقال الحاكم في المستدرك: هو شيخ من أهل مصر قليل الحديث. قال الذهبي في التلخيص: قال البخاري وغيره منكر الحديث. 1570- قوله: (ينكأ) بفتح الياء في أوله وبالهمزة في آخره مجزوماً على جواب الأمر. وروى بالرفع أي فهو ينكأ (لك) أي لمرضاتك (عدوا) أي يجرحهم ويقتلهم. والمعنى يغزو في سبيك، يقال: نكأ القرحة ينكأ من باب فتح نكأ قشرها قبل أن تبرأ فنديت ونكأ العدو في العدو قتل فيهم وجرح أثخن. وقال في النهاية: أو ينكى لك عدواً من نكيت في العدو وأنكى إذا أكثرت فيهم الجراح والقتل فوهنوا لذلك. وقد يهمز لغة، يقال نكأت القرحة أنكأها إذا قشرتها. وقال في جامع الأصول (ج7:ص574) (ينكأك عدواً) نكأت العدو في الغزو إذا أثرت فيه أثراً بيناً من قتل أو نهب أو غير ذلك- انتهى. ولا يخفى أن قول الجزري في النهاية يدل على أن ينكأ من المعتل، وقد يهمز فيفيد الضبط بالهمزة والياء، والهمزة ضعيف بالنسبة إلى الناقص، لكن نسخ المشكاة وأبي داود والمستدرك على كتابة بالألف وضبطه بالهمز على خلاف في رفعه وجزمه فلو كان من الناقص اليائي كما ذكره صاحب النهاية لكان يكتب بالياء. ثم رأيت القاموس ذكر في الناقص اليائي نكى العدو وفيه نكاية قتل وجرح والقرحة نكأها، وقال في المهموز: نكأ القرحة كمنع قشرها قبل أن تبرأ فنديت والعدو نكأهم. وحاصل هذا أنهما لغتان، وأن الحديث من المهموز ورفعه أقوى لقوله: أو يمشي لك إلى جنازة. وقال الطيبي: ينكأ مجزوم على جواب الأمر، ويجوز الرفع أي فانه ينكأ (أو يمشي) بالرفع أي أو هو يمشي. قال ميرك: كذا ورد بالياء وهو على تقدير ينكأ بالرفع ظاهر، وعلى تقدير الجزم فهو وارد على قراءة من يتق ويصبر (لك) أي لأمرك وابتغاء وجهك أو لأجلك طلباً لرضاك وامتثالاً لأمرك (إلى جنازة) أي إلى إتباعها للصلاة لما جاء في رواية ابن السني والحاكم: إلى صلاة، وهذا توسع شائع. قال الطيبي: ولعله جمع بين النكاية وتشييع الجنازة، لأن الأول كدح في إنزال العقاب على عدو الله، والثاني سعى في إيصال الرحمة إلى ولي الله- انتهى. (رواه أبوداود)

1571- (36) وعن علي بن زيد، عن أمية أنها سألت عائشة عن قول الله عزوجل: {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} ـــــــــــــــــــــــــــــ في الجنائز، وسكت عنه هو والمنذري، وأخرجه أيضاً ابن السني في اليوم والليلة (ص175) ، وابن حبان والحاكم (ج1:ص344) وصححه على شرط مسلم وأقره الذهبي. 1571- قوله: (وعن علي بن زيد) هو علي بن زيد بن عبد الله بن زهير بن عبد الله بن جدعان التيمي البصري، أصله من مكة وهو المعروف بعلي بن زيد بن جدعان بضم الجيم وإسكان الدال وفتح العين المهملتين، ينسب أبوه إلى جد جده. قال العجلي: لا بأس به. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة صالح الحديث وإلى اللين ما هو. وقال الترمذي: صدوق إلا أنه ربما رفع الشيء الذي يوقفه غيره. وقال الساجي: كان من أهل الصدوق ويحتمل لرواية الجلة عنه، وليس يجرى مجرى من أجمع على ثبته، وضعفه آخرون، روى له مسلم مقروناً بغيره. وقال ابن خزيمة: لا أحتج به لسوء حفظه (عن أمية) بالتصغير بنت عبد الله، ويقال أمينة وهي أم محمد إمرأة والد علي بن زيد بن جدعان وليست بأمه، ذكرها الذهبي في الميزان في فصل المجهولات. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب: أمية بنت عبد الله عن عائشة وعنها ربيبها علي بن زيد بن جدعان وقيل: عن علي عن أم محمد وهي إمرأة أبيه واسمها أمينة. ووقع في بعض النسخ من الترمذي عن علي بن زيد بن جدعان عن أمه وهو غلط، فقد روى علي بن زيد عن إمرأة أبيه أم محمد عدة أحاديث- انتهى. (إن تبدوا) أي إن تظهروا (ما في أنفسكم) أي ما في قلوبكم من السوء بالقول أو الفعل (أو تخفوه) أي تضمروه مع الإصرار عليه، إذ لا عبرة بخطور الخواطر. وقال الآلوسي في تفسيره (ج3:ص64) : (إن تبدوا) أي تظهروا للناس (ما في أنفسكم) أي ما حصل فيها حصولاً أصلياً بحيث يوجب اتصافها به كالملكات الرديئة والأخلاق الذميمة كالحسد والكبر والعجب والكفران وكتمان الشهادة (أو تخفوه) بأن لا تظهروه {يحاسبكم به الله} أي يجازيكم به يوم القيامة. وأما تصور المعاصي والأخلاق الذميمة فهو لعدم إيجابه اتصاف النفس به لا يعاقب عليه ما لم يوجد في الأعيان. وإلى هذا الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم أي إن الله تعالى لا يعاقب أمتي على تصور المعصية، وإنما يعاقب على عملها، فلا منافاة بين الحديث والآية، ولا يشكل على هذا أنهم قالوا إذا وصل التصور إلى حد التصميم والعزم يؤاخذ به لقوله تعالى: {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} [البقرة:225] لأنا نقول المؤاخذة بالحقيقة على تصميم العزم على إيقاع المعصية في الأعيان، وهو أيضاً من الكيفيات النفسية التي تلحق بالملكات ولا كذلك سائر ما يحدث في النفس- انتهى. {يحاسبكم به الله} أي

وعن قوله: {من يعمل سوء يجز به} فقالت: ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هذه معاتبة الله العبد بما يصيبه من الحمى والنكبة، حتى البضاعة يضعها في يد قميصه فيفقدها، فيفزع لها، حتى ـــــــــــــــــــــــــــــ يجازيكم بسركم وعلنكم أو يخبركم بما أسررتم وما أعلنتم (وعن قوله) تعالى {من يعمل} ظاهراً وباطناً {سوء} أي صغيراً أو كبيراً {يجز به} أي في الدنيا والعقبى إلا ما شاء ممن شاء (فقالت) عائشة (ما سألني عنها) أي عن هذه المسألة (منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي عنها (فقال هذه) إشارة إلى مفهوم الآيتين المسؤل عنهما أي محاسبة العباد أو مجازاتهم بما يبدون وما يخفون من الأعمال (معاتبة الله العبد) أي مؤاخذة العبد بما اقترف من الذنب (بما يصيبه) أي في الدنيا، وهو صلة معاتبة ويصح كون الباء سببية (من الحمى) وغيرها مؤاخذة المعاتب، وإنما خصت الحمى بالذكر، لأنها من أشد الأمراض وأخطرها. قال في المفاتيح: العتاب أن يظهر أحد الخليلين من نفسه الغضب على خليله لسوء أدب ظهر منه مع أن في قلبه محبته، يعني ليس معنى الآية أن يعذب الله المؤمنين بجميع ذنوبهم يوم القيامة، بل معناها أنه يلحقهم بالجوع والعطش والمرض والحزن وغير ذلك من المكاره حتى إذا خرجوا من الدنيا صاروا مطهرين من الذنوب. قال الطيبي: كأنها فهمت أن هذه مؤاخذة عقاب أخروي فأجابها بأنها مؤاخذة عتاب في الدنيا صادرة عن مبدأ عناية ورحمة على ما هو معهود من ذي عاطفة وإشفاق على معطوف عليه يراقب أوقاته وأخواله وينبهه لطريق السعادة كلما ازورّ عن سواء الطريق يرده إليه لطفا وقهرا، فكأنه عليه الصلاة والسلام يقول لها: لا تظني أن هذه المحاسبة مؤاخذة سخط وغضب وأنها مخصوصة بالآخرة إنما هي مؤاخذة عتاب يجرى بين المتعاتبتين، ولهذا جاء بصلة المعاتبة توضيحاً لها وتحقيقاً لمعناها في قوله: بما يصيبه من الحمى- انتهى. (والنكبة) بفتح النون أي المحنة وما يصيب الإنسان من حوادث الدهر (حتى البضاعة) بالجر عطفاً على ما قبلها وبالرفع على الابتداء، وهي بالكسر قطعة من المال تعين للتجارة والأصل فيها البضع وهو جملة من اللحم تبضع أي تقطع (يضعها في يد قميصه) أي كمه سمى باسم ما يحمل فيه، ووقع في بعض النسخ من الترمذي: في كم قميصه (فيفقدها) أي يتفقدها ويطلبها فلم يجدها لسقوطها أو أخذ سارق لها منه يقال فقدت الشيء أفقده فقداً أي طلبته بعد ما غاب قال الله تعالى: {ماذا تفقدون} [يوسف:71] (فيفزع لها) أي يحزن لضياع البضاعة، فيكون كفارة، كذا قاله ابن الملك. وقال الطيبي: يعني إذا وضع بضاعة في كمه، ووهم أنها غابت فطلبها وفزع لذلك كفرت عنه ذنوبه، وفيه من المبالغة ما لا يخفى يقال فزع له أي تغير وتحول من حال إلى حال. قال في النهاية: يقال: فزعت لمجئ فلان إذا تأهبت له متحولاً من حال إلى حال (حتى) أي لا يزال يكرر

إن العبد ليخرج من ذنوبه، كما يخرج التبر الأحمر من الكير)) رواه البخاري. 1572- (37) وعن أبي موسى، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يصيب عبداً نكبة فما فوقها أو دونها إلا بذنب، وما يعفو الله تعالى عنه أكثر، وقرأ {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه تلك الأحوال حتى (إن العبد) بكسر الهمزة. وفي بعض النسخ بالفتح: وأظهر العبد موضع ضميره إظهاراً لكمال العبودية المقتضي للصبر والرضا بأحكام الربوبية. وقال الطيبي: كأنه قيل: يخرج عبدي ومن هو تحت عنايتي ولطفي (ليخرج من ذنوبه) بسبب الابتلاء (كما يخرج التبر) بالكسر أي الذهب والفضة قبل أن يضربا دراهم ودنانير فإذا ضربا كانا عيناً. وفي رواية ابن أبي الدنيا: الذهب بدل التبر (من الكير) بكسر الكاف متعلق بيخرج (رواه الترمذي) في تفسير البقرة. وأخرجه أيضاً ابن جرير وابن أبي حاتم. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من حديث عائشة لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة- انتهى. قال ابن كثير وشيخه علي بن زيد بن جدعان ضعيف يغرب في رواياته، وهو يروي هذا الحديث عن إمرأة أبيه أم محمد أمية بنت عبد الله عن عائشة وليس عنها في الكتب سواه - انتهى. 1572- قوله: (لا يصيب عبداً) التنوين للتنكير (نكبة) أي محنة وأذى والتنوين للتقليل لا للجنس ليصح ترتب ما بعدها عليها بالفاء وهو (فما فوقها) أي في العظم (أو دونها) أي في المقدار. وقال ابن حجر: فما فوقها في العظم أو دونها في الحقارة ويصح عكسه (إلا بذنب) أي يصدر من العبد (وما يعفو الله) "ما" موصولة أي الذي يغفره ويمحوه (أكثر) مما يجازيه (وقرأ) أي النبي صلى الله عليه وسلم {وما أصابكم} خطاب للمؤمنين، و "ما" شرطية أو موصولة متضمنة لمعنى الشرط {من مصيبة} أي بليه وشدة {فبما كسبت أيديكم} أي كسبتم من الذنوب وعبر بالأيدي لأن أكثر الأفعال تزاول بها {ويعفو عن كثير} أي من الذنوب فلا يعاقب عليها بمصيبة عاجلاً قيل وآجلاً. قال ابن كثير: {ويعفو عن كثير} أي من السيئآت فلا يجازيكم عليها بل يعفو عنها {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة} -انتهى. وهذا في المذنبين، وأما غيرهم فما يصيبهم في الدنيا يكون لرفع درجاتهم في الآخرة أو لحكم أخرى خفيت علينا. وأما الأطفال والمجانين فغير داخلين في الخطاب، لأنه للمكلفين، وبفرض دخولهم أخرجهم للتخصيص بأصحاب الذنوب فما يصيبهم من المصائب فهو لحكم خفية. وقيل: في مصائب الطفل رفع درجته ودرجة أبويه أو من يشفق عليه بحسن الصبر ثم أن المصائب قد تكون عقوبة على الذنب وجزاء عليه بحيث لا يعاقب عليه يوم القيامة، ويدل على ذلك ما رواه أحمد

رواه الترمذي. 1573- (38) وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد إذا كان على طريقه حسنة من العبادة، ثم مرض، قيل للملك المؤكل به: أكتب له مثل عمله إذا كان طليقاً حتى أطلقه، أو أكتفه إلى)) . 1574- (39) وعن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا ابتلى المسلم ببلاء في جسده، قيل للملك: ـــــــــــــــــــــــــــــ (ج1:ص85) وغيره من حديث علي قال: ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله حدثنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيدكم ويعفو عن كثير} ، وسأفسرها لك يا علي ما أصابك من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم والله تعالى أكرم من أن يثنى عليكم العقوبة في الآخرة وما عفا الله تعالى فمنه في الدنيا فالله سبحانه أكرم من أن يعود بعد عفوه، ولا استحالة في كون الدنيا دار تكليف ويقع فيها لبعض الأشخاص ما يكون جزاء له على ذنبه أي مكفراً له (رواه الترمذي) في تفسير سورة الشورى من طريق عبيد الله بن الوازع الكلابي عن شيخ من بني مرة عن بلال بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى به، وعبيد الله وشيخه مجهولان وبلال بن أبي بردة قاضي البصرة كان ظلوماً، وذكره أبوالعرب الصقلي في الضعفاء، وابن حبان في الثقات، فالحديث ضعيف، وله شاهد من حديث علي عند أحمد وغيره، وتقدم لفظه وفيه: أزهر بن راشد الكاهلي وهو ضعيف، ويؤيده حديث معاوية عند أحمد (ج4:ص98) وابن أبي شيبة (ج4:ص71) وحديث أبي سعيد، وحديث ابن مسعود المتقدمان في الفصل الأول. 1573- قوله: (وعن عبد الله بن عمرو) بالواو (إن العبد إذا كان على طريقه حسنة) أي على جهة المتابعة الشرعية (من العبادة) أي نوع من أنواعها من النوافل بعد قيامه بالفرائض (ثم مرض) ولم يقدر على تلك العبادة (قيل) أي قال الله تعالى، كما في رواية، ودل عليه قوله: هنا حتى أطلقه (إذا كان طليقاً) أي مطلقاً من المرض الذي عرض له غير مقيد به من أطلقه إذا رفع عنه القيد أي إذا كان صحيحاً لم يقيده المرض عن العمل، كذا ذكره ميرك (حتى أطلقه) بضم الهمزة أي أكتب إلى حين أرفع عنه قيد المرض (أو أكفته إلى) بفتح الهمزة وكسر الفاء بعدها تاء مثناة فوق أي أضمه إلى وأقبضه. قال في النهاية: أي أضمه إلى القبر، وكل ضممته إلى شيء فقد كفته، ومنه قيل للأرض كفأت. وقال المظهر: أي أميته. قيل: الكفت الضم والجمع وهنا مجاز عن الموت. 1574- قوله: (إذا ابتلى المسلم ببلاء في جسده قيل للملك) وذكره الحافظ في الفتح، والمنذري في

أكتب له صالح عمله الذي كان يعمل، فإن شفاه غسله وطهره، وإن قبضه غفر له ورحمه)) رواهما في شرح السنة. 1575- (40) وعن جابر بن عتيك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الشهادة سبع، سوى القتل في سبيل الله، المطعون شهيد، والغريق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمبطون شهيد، ـــــــــــــــــــــــــــــ الترغيب، والهيثمي في مجمع الزوائد نقلاً عن أحمد بلفظ: إذا ابتلى الله عزوجل العبد المسلم ببلاء في جسده قال الله عزوجل للملك: أي صاحب يمينه، وهو كاتب الحسنات (أكتب له صالح عمله) أي مثله (الذي كان يعمل) قال القاري: الظاهر من الحديث أنه يكتب له نفس العمل، وقيل ثوابه، والأول أبلغ فانه يشمل التضاعف (فإن شفاه) الله عزوجل (غسله) بالتشديد ويخفف أي نظفه (وطهره) من الذنوب؛ لأن المرض كفرها، والواو تفسيرية أو تأكيدية (وإن قبضه) أي أمر بقبضه وأماته (غفر له) من السيئآت (ورحمه) بقبول الحسنات أو تفضل عليه بزيادة المثوبات (رواهما) أي روى صاحب المصابيح الحديثين السابقين (في شرح السنة) الحديث الأول أخرجه أيضاً عبد الرزاق وأحمد (ج2:ص203-205) والبيهقي (ج3:ص374) قال المنذري: إسناده حسن. وقال الهيثمي (ج2:ص303) إسناده صحيح، وأخرج أيضاً نحوه أحمد (ج2:ص159-194-198) والدارمي وابن أبي شيبة والبزار والطبراني والحاكم (ج1:ص348) وصححه. والحديث الثاني أخرجه أيضاً أبويعلى وأحمد وابن أبي شيبة (ج4:ص72) قال المنذري، والهيثمي: رجاله ثقات، وذكره الحافظ في الفتح، وسكت عنه. 1575- قوله: (وعن جابر بن عتيك) بفتح العين المهملة وكسر التاء المثناة الفوقية. قال الحافظ في التقريب: جابر بن عتيك بن قيس الأنصاري صحابي جليل، اختلف في شهوده بدراً مات سنة (61) وهو ابن (91) سنة (الشهادة) أي الحكمية (سبع سوى القتل في سبيل الله) أي غير الشهادة الحقيقية، وقد تقدم أن العدد ليس للحصر (المطعون شهيد) قال الطيبي: هو إلى آخره بيان للسبع بحسب المعنى (والغريق) بالياء، وفي رواية: الغرق بفتح فكسر بلا ياء (وصاحب ذات الجنب) قال في النهاية: ذات الجنب الدبيلة والدمل الكبيرة التي تظهر في باطن الجنب وتنفجر إلى داخل وقلما يسلم صاحبها وذو الجنب الذي يشتكي جنبه بسبب الدبيلة إلا أن ذو للمذكر وذات للمؤنث وصارت ذات الجنب علماً لها وإن كانت في الأصل صفة مضافة- انتهى. وقال في جامع الأصول (ج3:ص376) : ذات الجنب دمل أو قرحة تعرض في جوف الإنسان تنفجر إلى داخل فيموت صاحبها وقد تنفجر إلى خارج. وقال القاري: هي قرحة أو قروح تصيب الإنسان داخل جنبه ثم تفتح ويسكن الوجع

وصاحب الحريق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيد)) رواه مالك، وأبوداود والنسائي. 1576- (41) وعن سعد، قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الناس أشد بلاء؟ قال: ((الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، ـــــــــــــــــــــــــــــ وذلك وقت الهلاك ومن علاماتها الوجع تحت الأضلاع وضيق النفس مع ملازمة الحمى والسعال وهي في النساء أكثر. وقال الحافظ ابن القيم: ذات الجنب عند الأطباء نوعان: حقيقي وغير حقيقي، فالحقيقي ورم حار يعرض في نواحي الجنب في الغشاء المستبطن للأضلاع، وغير الحقيقي ألم يشبهه يعرض في نواحي الجنب عن رياح غليظة مؤذية تحتقن بين الصفاقات فتحدث وجعاً قريباً من وجع ذات الجنب الحقيقي إلا أن الوجع في هذا القسم ممدود وفي الحقيقي ناخس، قال: ويلزم ذات الجنب الحقيقي خمسة أعراض: وهي الحمى، والسعال، والوجع الناخس، وضيق النفس، والنبض المنشاري- انتهى (وصاحب الحريق) أي المحرق وهو الذي يموت بالحرق، وهذا لفظ أبي داود، وعند النسائي، وصاحب الحرق. قال السندي: بفتحتين النار وصاحب النار من قتله النار، وفي الموطأ: والحرق شهيد، وهو بفتح فكسر بمعنى من يموت حريفاً في النار (والذي يموت تحت الهدم) بفتح الدال أي البناء المهدوم يعني الذي وقع عليه بناء أو حائط فمات تحته (والمرأة تموت بجمع) قال الجزري: قيل هي التي تموت وفي بطنها ولد، وقيل التي تموت بكراً، والجمع بالضم بمعنى المجموع كالذخير بمعنى المذخور، وكسر الكسائي الجيم، والمعنى أنها ماتت مع شيء مجموع فيها غير منفصل عنها من حمل أو بكارة- انتهى (رواه مالك وأبوداود) في الجنائز واللفظ له (والنسائي) في الجنائز وفي الجهاد وأخرجه أيضاً أحمد (ج5ص446) وابن ماجه في الجهاد، وابن حبان والحاكم (ج1ص352) وقال: حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. وقال النووي في شرح مسلم: هذا الحديث صحيح بلا خلاف وإن لم يخرجه الشيخان. 1576- قوله: (وعن سعد) بن أبي وقاص (قال سئل النبي - صلى الله عليه وسلم -) وفي رواية لأحمد، والبيهقي، والحاكم قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية ابن ماجه: قال: قلت يا رسول الله (أي الناس أشد) أي أكثر أو أصعب (بلاء) أي محنة ومصيبة بدليل السياق وإن كان البلاء يطلق على المنحة للاختبار أيضاً فيعطي بعض الناس الصحة والعلم والسعة ليختبر هل يقوم بشكر تلك النعمة (قال الأنبياء) أي هم أشد في الابتلاء، لأنهم يتلذذون بالبلاء كما يتلذذ غيرهم بالنعماء، ولأنهم لو لم يبتلوا لتوهم فيهم الألوهية وليتوهن على الأمة الصبر على البلية، ولأن من كان أشد بلاء كان أشد تضرعاً والتجاء إلى الله تعالى (ثم الأمثل فالأمثل) أي الأفضل فالأفضل

يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان دينه صلباً اشتد بلاءه، وإن كان في دينه رقة هوّن عليه، فما زال كذلك حتى يمشي على الأرض ماله ذنب)) . رواه الترمذي. وابن ماجه، والدارمي، ـــــــــــــــــــــــــــــ على ترتيبهم في الفضل، فكل من كان أفضل فبلاءه أشد. قال الحافظ: الأمثل أفعل من المثالة، والجمع أماثل وهم الفضلاء. وقال الخطابي: الأمثل يعبر به عن الأشبه بالفضل والأقرب إلى الخير، وأماثل القوم كناية عن خيارهم. وقال ابن الملك: أي الأشرف فالأشرف والأعلى فالأعلى رتبة ومنزلة يعني من هو أقرب إلى الله بلاءه أشد ليكون ثوابه أكثر. قال الطيبي: ثم فيه للتراخي في الرتبة، والفاء للتعاقب على سبيل التوالي تنزلاً من الأعلى إلى الأسفل، واللام في الأنبياء للجنس. قال القاري: ويصح كونها للاستغراق إذ لا يخلو واحد منهم من عظيم محنة وجسيم بلية بالنسبة لأهل زمنه، ويدل عليه قوله (يبتلى) بالبناء للمفعول (الرجل) وفي رواية ابن ماجه، العبد (على حسب) بالتحريك (دينه) أي مقداره ضعفاً وقوة ونقصاً وكمالاً يعني بقدر قوة إيمانه وضعفه. قال الطيبي: الجملة بيان للجملة الأولى، واللام في الرجل للاستغراق في الأجناس المتوالية (فإن كان) تفصيل للابتلاء وقدره (في دينه صلباً) بضم فسكون أي قوياً شديداً، وهو خبر كان، واسمه ضمير راجع إلى الرجل، والجار متعلق بالخبر (اشتد بلاءه) أي كمية وكيفية (وإن كان) أي هو (في دينه رقة) أي ضعف ولين، والجملة خبر كان، ويحتمل أن يكون رقة اسم كان. قال الطيبي: جعل الصلابة صفة له والرقة صفة لدينه مبالغة وعلى الأصل. وقال القاري: وكان الأصل في الصلب أن يستعمل في الجثث، وفي الرقة أن تستعمل في المعاني، ويمكن أن يحمل على التفنن في العبارة- انتهى. (هون) على بناء المفعول أي سهل (عليه) أي البلاء، وفي رواية لأحمد: فإن كان في دينه صلابة زيد في بلاءه وإن كان في دينه رقة خفف عنه- انتهى. والسر في ذلك أن البلاء في مقابلة النعمة فمن كانت النعمة عليه أكثر فبلاءه أغزر (فما زال) أي الرجل المبتلى. قال الطيبي: الضمير راجع إلى اسم كان الأول (كذلك) أي أبدا يصيب الصالح البلاء ويغفر ذنبه بإصابته إياه (حتى يمشي على الأرض ماله) أي عليه (ذنب) كناية عن خلاصة من الذنوب فكأنه كان محبوساً ثم أطلق وخلى سبيله يمشي ما عليه بأس، ولفظ الحديث من قوله: هون عليه إلى آخره ليس لواحد ممن نسب إليه الحديث. والظاهر أن البغوي ذكر معنى آخر الحديث اختصاراً، ولفظ الترمذي: ابتلى على قدر دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة، وعند ابن ماجه: ابتلى على حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض، وما عليه من خطيئة، ونحوه في رواية لأحمد والحاكم والبيهقي، ولفظ الدارمي: فإن كان في دينه صلابة زيد صلابة وإن كان في دينه رقة خفف عنه، ولا يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض ماله خطيئة، وفي رواية ابن حبان: فمن ثخن دينه اشتد بلاءه ومن ضعف دينه ضعف بلاءه إلخ (رواه الترمذي) في الزهد (وابن ماجه) في الفتن (والدارمي) في

وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. 1577- (42) وعن عائشة، قالت: ما أغبط أحداً بهون موت بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. رواه الترمذي، والنسائي. 1578- (43) وعنها، قالت: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، وهو بالموت، ـــــــــــــــــــــــــــــ الرقاق، وأخرجه أيضاً أحمد (ج1ص172، 174، 180، 185) والنسائي في الكبرى، وابن حبان والحاكم (ج1ص41) وابن أبي شيبة (ج4ص72) وابن أبي الدنيا، والبيهقي (ج1ص372) (وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح) وصححه أيضاً الحاكم، والبغوي في المصابيح، وله شاهد من حديث أبي سعيد عند ابن ماجه، وابن أبي الدنيا، والحاكم (ج1ص40) والبيهقي (ج3ص372) بلفظ: قال الأنبياء قال ثم من قال العلماء قال ثم من قال الصالحون- الحديث. وليس فيه ما في آخر حديث سعد، وفي الباب أيضاً عن فاطمة بنت اليمان أخت حذيفة عند أحمد (ج6ص369) والنسائي في الكبرى وقد صححه الحاكم (ج4ص404) وحسنه الهيثمي. 1577- قوله: (ما أغبط) بكسر الباء يقال غبطت الرجل أغبطه إذا اشتهيت أن يكون لك مثل ماله وأن يدوم عليه ما هو فيه أي ما أحسد (أحداً) ولا أتمنى ولا أفرح لأحد (بهون الموت) الهون بالفتح الرفق واللين أي بسهولة موت، والإضافة فيه إضافة الصفة إلى الموصوف، وفي جامع الأصول (ج11ص385) يهون عليه الموت (بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي لما رأيت شدة وفاته علمت أن ذلك ليس من المنذرات الدالة على سوء عاقبة المتوفى وأن هون الموت وسهولته ليس من المكرمات وإلا لكان - صلى الله عليه وسلم - أولى الناس به فلا أكره شدة الموت لأحد ولا أغبط أحداً يموت من غير شدة (رواه الترمذي والنسائي) أي في الجنائز، واللفظ للترمذي أخرجه من طريق عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه عن ابن عمر عن عائشة به، وقال: إنما أعرفه من هذا الوجه-انتهى. قال شيخنا: لم يحكم (الترمذي) عليه بشيء من الصحة والضعف، والظاهر أنه حسن- انتهى. ولفظ النسائي، وقد أخرجه من غير طريق الترمذي: مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه لبين حاقنتني وذاقنتني ولا أكره شدة الموت لأحد أبداً بعد ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد تقدم في الفصل الأول من رواية البخاري، وسياق الكتاب نسبه النابلسي في ذخائر المواريث (ج4ص202) للترمذي فقط. 1578- قوله: (وهو بالموت) أي مشغول أو ملتبس به، وفي رواية ابن ماجه: وهو يموت

وعنده قدح فيه ماء وهو يدخل يده في القدح، ثم يمسح وجهه، ثم يقول: ((اللهم اعني على منكرات الموت أو سكرات الموت)) . رواه الترمذي، وابن ماجه. 1579- (44) وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أراد الله تعالى بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافيه يوم القيامة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ (وعنده قدح) بفتحتين معروف (وهو يدخل) وعند ابن ماجه: فيدخل (ثم يمسح وجهه) أي بالماء كما في الترمذي وابن ماجه وسقط لفظ "بالماء" من نسخ المشكاة والمصابيح وكان - صلى الله عليه وسلم - يمسح تخفيفاً للحرارة أعنى ما سأل دفع تلك المكروهات عنه بل سأل الإعانة على حملها، ففيه أن ذاك خير لرفع الدرجات، قاله السندي. وقيل: أو دفعاً للغشيان وكربه (اللهم اعني على منكرات الموت أو سكرات الموت) قال القاري: قيل أو للشك، وبه جزم ابن حجر، ويحتمل أن تكون للتنويع، ويراد من منكرات الموت ما يقع من تقصير في تلك الحال من المريض أو وساوس الشيطان وخطراته وتزيين خطراته ومن سكرات الموت شدائده التي لا يطيقها المحتضر فيموت جزعاً فزعاً، والمطلوب أنه لا يموت إلا أنه مسلم ومسلم محسن للظن بربه، وفي هذا تعليم منه عليه الصلاة والسلام لأمته- انتهى. قلت: هكذا وقع في المصابيح والمشكاة على منكرات الموت أو سكرات الموت، والذي في الترمذي على غمرات الموت وسكرات الموت، وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج11ص385) قال في مجمع البحار: غمرات الموت شدائده. وقال في القاموس: غمرة الشيء شدته ومزدحمة ج غمرات وغمار- انتهى. وسكرات جمع سكرة بفتح السين وسكون الكاف وهي شدة الموت. قال سراج أحمد في شرح الترمذي: هو عطف بيان لما قبله، والظاهر أن يراد بالأولى الشدة وبالأخرى ما يترتب عليها من الدهشة والحيرة الموجبة للغفلة، وقال القاضي في تفسير قوله تعالى: {وجاءت سكرة الموت بالحق} [ق: 19] أن سكرته شدته الذاهبة بالعقل-انتهى. (رواه الترمذي وابن ماجه) في الجنائز، وأخرجه أيضاً النسائي في اليوم والليلة، وفي سنده موسى بن سرجس، وهو مستور. 1579- قوله: (عجل) بالتشديد أي أسرع (له بالعقوبة) أي الابتلاء بالمكاره (في الدنيا) ليخرج منها وليس عليه ذنب ومن فعل ذلك معه فقد أعظم اللطف به والمنية عليه (أمسك) أي أخر (عنه) ما يستحقه من العقوبة (بذنبه) أي بسببه (حتى يوافيه) أي يجازيه جزاءً وافياً (به) أي بذنبه (يوم القيامة) قال الطيبي الضمير المرفوع راجع إلى الله تعالى. والمنصوب إلى العبد، ويجوز أن يعكس- انتهى. قال القاري: ولعل الموافاة حينئذ بمعنى الملاقاة قال: والمعنى لا يجازيه بذنبه حتى يجيء في الآخرة متوافر الذنوب وافيها فيستوفي حقه من

1580- (45) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله عزوجل إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط)) رواه الترمذي، وابن ماجه. 1581- (46) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال البلاء بالمؤمن أو المؤمنة ـــــــــــــــــــــــــــــ العقاب - انتهى. قلت: وفي الترمذي حتى يوافي به أي بدون الضمير المنصوب أي حتى يأتي العبد بذنبه يوم القيامة ونقله الجزري هكذا "حتى يوافي يوم القيامة" (رواه الترمذي) في الزهد، وهو حديث حسن، وأخرجه الحاكم في الجنائز (ج1ص349) والحدود (ج4ص377) من حديث عبد الله بن مغفل وقال: حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. 1580- قوله: (إن عظم الجزاء) أي عظمة الأجر وكثرة الثواب (مع عظم البلاء) بكسر العين المهملة وفتح الظاء فيهما، ويجوز ضمها مع سكون الظاء فمن كان ابتلاءه أعظم فجزاءه أعظم (ابتلاهم) أي اختبرهم بالمحن والرزايا (فمن رضي) أي بما ابتلاه الله به (فله الرضا) منه تعالى وجزيل الثواب. قال السندي: قوله: فمن رضي فله الرضا أي رضا الله تعالى عنه جزاء لرضاه أو فله جزاء رضاه، وكذا قوله فله السخط، ثم الظاهر أنه تفصيل لمطلق المبتلين لا لمن أحبهم فابتلاهم إذا الظاهر أنه تعالى يوفقهم للرضا فلا يسخط منهم أحد- انتهى. (ومن سخط) بكسر الخاء أي كره بلاء الله وفزع ولم يرض بقضاءه (فله السخط) منه تعالى وأليم العذاب {ومن يعمل سوء يجز به} ، والمقصود الحث على الصبر على البلاء بعد وقوعه لا الترغيب في طلبه للنهي عنه (رواه الترمذي) في الزهد بسند الحديث الذي قبله وقال: حديث حسن غريب (وابن ماجه) في الفتن، وفي الباب عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا أحب الله قوما ابتلاهم فمن صبر فله الرضا ومن جزع فله الجزع. أخرجه أحمد قال المنذري، والهيثمي: رواته ثقات، ومحمود بن لبيد رأى النبي صلى الله عليه وسلم، واختلف في سماعه منه. 1581- قوله: (لا يزال) في الترمذي ما يزال، وكذا وقع في رواية الحاكم (ج4ص314) وهكذا نقله المنذري في الترغيب والجزري في جامع الأصول (ج11ص357) عن الترمذي نعم وقع في رواية أحمد والحاكم (ج1ص346) وابن أبي شيبة والبيهقي لا يزال (البلاء بالمؤمن) أي ينزل بالمؤمن الكامل (أو المؤمنة)

في نفسه وماله وولده، حتى يلقي الله تعالى وما عليه من خطيئة)) رواه الترمذي، وروى مالك نحوه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. 1582- (47) وعن محمد بن خالد السلمي، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ـــــــــــــــــــــــــــــ قال القاري: أو للتنويع، ووقع في أصل ابن حجر: بالواو فقال الواو بمعنى أو بدليل إفراد الضمير أي في نفسه وماله وولده، وهو مخالف للنسخ المصححة والأصول المعتمدة يعني من المشكاة. قلت: وفي نسخ الترمذي الموجودة عندنا وقع بالواو وكذا في الترغيب للمنذري وجامع الأصول للجزري، وهكذا رواه البيهقي وابن أبي شيبة ووقع عند أحمد بلفظة "أو" (وولده) بفتح الواو واللام وبضم فسكون أي أولاده (حتى يلقي الله) أي يموت (وما عليه من خطيئة) وفي الترمذي: وما عليه خطيئة أي بحذف من، وهكذا في الترغيب وجامع الأصول، وكذا في رواية الحاكم (ج4ص314) ووقع عند أحمد والحاكم (ج1ص346) والبيهقي وابن أبي شيبة من خطيئة. قال القاري: بالهمز والإدغام أي وليس عليه سيئة لأنها زالت بسبب البلاء. وقال الباجي: يحتمل أن يريد أنه يحط لذلك عنه خطاياه حتى لا يبقى له خطيئة، ويحتمل أن يريد أنه يحصل له على ذلك من الأجر ما يزن جميع ذنوبه فيلقي الله تعالى وليس له ذنب يزيد على حسناته فهو بمنزلة من لا ذنب له وإنما هذا لمن صبر واحتسب، وأما من سخط ولم يرض بقدر الله تعالى فإنه أقرب إلى أن يأثم لتسخطه فيكثر بذلك سائر آثامه (رواه الترمذي) في الزهد، وأخرجه أيضاً أحمد وابن أبي شيبة (ج4ص71) والبزار والحاكم (ج1ص346ج4ص314، 315) والبيهقي (ج3ص374) (وروى مالك) في الجنائز (نحوه) أي بمعناه، ولفظه ما يزال المؤمن يصاب في ولده وحامته حتى يلقي الله وليست له خطيئة (وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح) وصححه أيضاً البغوي في المصابيح، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. 1582- قوله: (وعن محمد بن خالد السلمي) بضم السين وفتح اللام مجهول من طبقة كبار أتباع التابعين (عن أبيه) خالد وهو مجهول أيضاً من أوساط التابعين. قال الهيثمي: محمد بن خالد وأبوه لم أعرفهما (عن جده) أي جد محمد بن خالد، زاد في روايات من خرج حديثه هذا وكانت له (أي لجد محمد بن خالد) صحبة، يقال اسمه اللجلاج بجيمين وفتح اللام الأولى. زيد، ويكنى أباخالد. قال الحافظ في الأسماء من الإصابة: اللجلاج بن حكيم السلمي أخو الجحاف، ذكره ابن مندة وقال له صحبة عداده في أهل الجزيرة، وقال في الكنى منه أبوخالد السلمي جد محمد بن خالد، أورده البغوي في الكنى، وأورد من طريق أبي المليح عن محمد بن خالد

((إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله، ابتلاه الله في جسده أو في ماله أو في ولده، ثم صبره على ذلك حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله)) رواه أحمد، وأبوداود. 1583- (48) وعن عبد الله بن شخير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل ابن آدم وإلى جنبه تسع ـــــــــــــــــــــــــــــ السلمي عن أبيه عن جده وكانت له صبحة، فذكر حديثاً وسماه ابن مندة اللجلاج. وقال ابن الأثير: أبوخالد السلمي له صحبة سكن الجزيرة حديثه عند أولاده روى أبوالمليح عن محمد بن خالد عن أبيه عن جده وكانت له صحبة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر هذا الحديث. وقال أخرجه ابن مندة وأبونعيم (إن العبد إذا سبقت له) أي في علم الله أو في قضاءه وقدره (من الله منزلة) أي مرتبة عالية في الجنة (لم يبلغها بعمله) لعجزه عن العمل الموصل إليها. قال القاري: وفيه دليل على أن الطاعات سبب للدرجات، قيل ودخول الجنة بفضل الله تعالى وإيمان العبد والخلود بالنية. وقال الطيبي: فيه إشعار بأن للبلاء خاصية في نيل الثواب ليس للطاعة ولذا كان الأمثل فالأمثل أشد بلاء (ابتلاءه الله في جسده أو في ماله أو في ولده) أو في الموضعين للتنويع باعتبار الأوقات أو بإختلاف الأشخاص (ثم صبره) بالتشديد أي رزقه الصبر (حتى يبلغه) الله بالتشديد، وقيل: بالتخفيف. قال الطيبي: "حتى" هذه إما للغاية وإما بمعنى كي، والمعنى حتى يوصله الله تعالى (المنزلة) أي المرتبة العليا (التي سبقت له) أي إرادتها (من الله) تعالى شأنه (رواه أحمد) (وأبوداود) في الجنائز وسكت عنه، قال في عون المعبود: والحديث ليس من رواية اللؤلؤي، ولذا لم يذكره المنذري في مختصره. وقال المزي في الأطراف: هذا الحديث في رواية ابن العبد وابن داسة، ولم يذكره أبوالقاسم- انتهى. وأخرجه أيضاً البيهقي (ج3ص374) من طريق أبي داود وأبويعلى والطبراني في الكبير والأوسط. قال المنذري في الترغيب: محمد بن خالد لم يرو عنه غير أبي المليح الرقي ولم يرو عن خالد إلا ابنه محمد- انتهى. وله شاهد جيد من حديث أبي هريرة بلفظ: إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة فما يبلغها بعمله فما يزال الله يبتليه بما يكره حتى يبلغها، وفي رواية يكون له عند الله المنزلة الرفيعة. أخرجه أبويعلى. قال الهيثمي: ورجاله ثقات، وابن حبان في صحيحه من طريقه وغيرهما. 1583- قوله: (مثل) بضم الميم وتشديد المثلثة أي صور وخلق (ابن آدم) بالرفع نائب الفاعل، وقيل: مثل ابن آدم بفتحتين وتخفيف المثلثة، ويريد به صفته وحاله العجيبة الشأن، وهو مبتدأ خبره الجملة التي بعده أي الظرف وتسعة وتسعون مرتفع به أي حال ابن آدم أن تسعة وتسعين منية متوجهة إلى نحوه منتهية إلى جانبه، وقيل: خبره محذوف والتقدير مثل ابن آدم مثل الذي يكون إلى جنبه تسعة وتسعون منية، ولعل الحذف من بعض الرواة (وإلى جنبه) الواو للحال أي بقربه (تسع) وفي المصابيح: تسعة، وكذا في جامع الترمذي

وتسعون منية، إن أخطأته المنايا وقع في الهرم حتى يموت)) . رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. 1584- (49) وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطي أهل البلاء الثواب، لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض)) ـــــــــــــــــــــــــــــ (وتسعون) أراد به الكثرة لا الحصر (منية) بفتح الميم أي بلية مهلكة. وقال بعضهم: أي سبب موت (إن أخطأته المنايا) قال الطيبي: المنايا جمع منية، وهي الموت لأنها مقدرة بوقت مخصوص من المنى، وهو التقدير سمي كل بلية من البلايا منية لأنها طلائعها ومقدماتها- انتهى. أي أسباب الموت كثيرة متعددة كالأمراض والجوع والغرق والحرق والهدم وغير ذلك، فإن جاوزه واحد وقع في الآخر فإن جاوزه فرضاً الجميع مرة بعد أخرى (وقع في الهرم) قال في القاموس: الهرم محركة أقصى الكبر (حتى يموت) أي وقع في السبب الذي يفضى إلى الموت ولا محالة وهو الهرم. وقال بعضهم: يريد أن أصل خلقة الإنسان من شأنه أن لا تفارقه المصائب والبلايا والأمراض والأدواء كما قيل البرايا أهداف البلايا، وكما قال صاحب الحكم ابن عطاء: ما دمت في هذه الدار لا تستغرب وقوع إلا كدار فإن أخطأته تلك النوائب على سبيل الندرة أدركه من الأدواء الداء الذي لا دواء له وهو الهرم، وحاصله أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر والمصائب كفارة لذنوبه، فينبغي للمؤمن أن يكون صابراً على حكم الله راضياً بما قدره الله تعالى وقضاه (رواه الترمذي) في أواخر القدر وقال: حديث حسن غريب، وأعاده في أواخر الزهد سنداً ومتناً، وقال: هذا حديث حسن صحيح، ولعله صححه ههنا لشواهد رويت في ذلك والله اعلم. والحديث أخرجه أيضاً الضياء المقدسي في المختارة، كما في الجامع الصغير. 1584- قوله: (يود) أي يتمنى (أهل العافية) أي في الدنيا (يوم القيامة) ظرف يود (حين يعطي) بالبناء للمفعول (الثواب) مفعول ثان أي كثيرا وبلا حساب لقوله تعالى: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} [الزمر: 10] (قرضت) بالتخفيف، ويحتمل التشديد للمبالغة والتأكيد أي قطعت (في الدنيا) قطعة قطعة (بالمقاريض) جمع المقراض ليجدوا ثواباً كما وجد أهل البلاء. قال الطيبي: الود محبة الشيء وتمنى كونه له، ويستعمل في كل واحد من المعنيين من المحبة والتمني، وفي الحديث هو من المودة التي هي بمعنى التمني وقوله لو أن إلخ منزلة مفعول يود كأنه قيل يود أهل العافية ما يلازم لو أن جلودهم كانت مقرضة في الدنيا وهو الثواب المعطي. قال ميرك: ويحتمل أن مفعول يود الثواب على طريق التنازع وقوله لو أن جلودهم حال أي متمنين أن جلودهم إلخ أو قائلين لو أن جلودهم على طريقة الالتفات من التكلم إلى الغيبة- انتهى. قلت: ورواه

رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. 1585 - (50) وعن عامر الرام، قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسقام، فقال: ((إن المؤمن إذا أصابه السقم، ثم عافاه الله عزوجل منه، كان كفارة لما مضى من ذنوبه، وموعظة له فيما يستقبل، وإن المنافق إذا مرض ثم أعفي، كان كالبعير عقله أهله ـــــــــــــــــــــــــــــ البيهقي بلفظ: يود أهل العافية يوم القيامة أن جلودهم قرضت بالمقاريض مما يرون من ثواب أهل البلاء (رواه الترمذي) في الزهد، وأخرجه أيضاً ابن أبي الدنيا والبيهقي (ج3ص375) كلهم من طريق عبد الرحمن بن مغراء عن الأعمش عن أبي الزبير عن جابر، وابن مغراء هذا صدوق تكلم في حديثه عن الأعمش. وقال المنذري في الترغيب بعد ذكر هذا الحديث: رواه الترمذي وابن أبي الدنيا من رواية عبد الرحمن بن مغراء، وبقية رجاله ثقات. وقال الترمذي: حديث غريب، ورواه الطبراني في الكبير عن ابن مسعود موقوفاً عليه، وفيه رجل لم يسم. قال الهيثمي: وبقية رجاله ثقات، وفي الباب عن ابن عباس أخرجه الطبراني في الكبير، وفيه مجاعة بن الزبير. قال الهيثمي (ج2ص305) وثقة أحمد وضعفه الدارقطني. 1585- قوله: (وعن عامر الرام) بحذف الياء تخفيفاً كما في المتعال، ويقال الرامي لأنه كان ارمي العرب صحابي، روى له أبوداود وحده. قال الحافظ في تهذيبه: عامر الرام، وقيل: الرامي أخو الخضر بن محارب عداده في الصحابة روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن المؤمن إذا ابتلى ثم عافاه الله كان كفارة لذنوبه- الحديث. وقال في الإصابة: عامر الرامي أخو الخضر بضم الخاء وسكون الضاد المعجمتين المحاربي من ولد مالك بن مطرف ابن خلف بن محارب وكان يقال لولد مالك الخضر لأنه كان شديد الأدمة وكان عامر رامياً حسن الرمي فلذلك قيل له الرامي (ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسقام) جمع سقم أي الأمراض وثوابها (إذا أصابه السقم) بضم فسكون وبفتحتين أي المرض (ثم عافاه الله) من المعافاة وفي أبي داود أعفاه الله أي من الإعفاء، وكذا في الترغيب للمنذري وجامع الأصول للجزري (ج5ص277) يقال أعفا الله فلاناً أي عافاه وأعفاه من الأمر برأه (منه) أي من ذلك السقم (كان) أي السقم (وموعظة له) أي تنبيهاً للمؤمن فيتوب ويتقي (فيما يستقبل) من الزمان. قال الطيبي: أي إذا مرض المؤمن ثم عوفي تنبه وعلم أن مرضه كان مسبباً عن الذنوب الماضية فيندم ولا يقدم على ما مضى فيكون كفارة لها (وإن المنافق) وفي معناه الفاسق المصر (إذا مرض ثم أعفي) بمعنى عوفي كما تقدم، والاسم منه العافية (كان) أي المنافق في غفلته (كالبعير عقله أهله) أي شدوه وقيدوه، يقال: عقل البعير أي ثنى وظيفة مع ذراعه فشدهما معا بحبل هو العقال، وهو كناية عن المرض استئناف مبين

ثم أرسلوه، فلم يدر لم عقلوه ولم أرسلوه. فقال رجل: يا رسول الله! وما الأسقام؟ والله ما مرضت قط، فقال: قم عنا فلست منا)) . رواه أبوداود. 1586- (51) وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في أجله، فإن ذلك لا يرد شيئاً، ويطيب ـــــــــــــــــــــــــــــ لوجه الشبه (ثم أرسلوه) أي أطلقوه من عقاله، وهو كناية عن العافية (فلم يدر) أي لم يعلم (لم) أي لأي سبب (عقلوه ولم أرسلوه) يعني أن المنافق لا يتعظ بما حصل له ولا يستيقظ من غفلته ولا يتوب فلا يفيد مرضه لا فيما مضى ولا فيما يستقبل (وما الأسقام) قال الطيبي: عطف على مقدر أي عرفنا ما يترتب على الأسقام وما الأسقام (قم عنا) أي تنح وأبعد (فلست منا) أي لست من أهل طريقتنا حيث لم تبتل ببلية ومصيبة، وشأن المؤمن أن يبتلى بالبلايا حتى يطهر من الذنوب في الدنيا، وقيل: الظاهر أن هذا الرجل كان منافقاً (رواه أبوداود) في أول الجنائز، وأخرجه أيضاً أحمد وابن السكن وابن أبي شيبة وغيرهم كلهم من طريق ابن إسحاق عن أبي منظور عن عمه عن عامر الرامي، وأبومنظور وعمه مجهولان. قال الحافظ في التقريب في ترجمة عامر الرامي: صحابي له حديث يروي بإسناد مجهول. 1586- قوله: (إذا دخلتم على المريض) أي لعيادته (فنفسوا له في أجله) من التنفيس، وأصله التفريج يقال: نفس الله عنه كربته أي فرجها، وتعديته بفي لتضمين معنى التطمع أي طمعوه في طول عمره، واللام بمعنى عن وقال الطيبي: اللام للتأكيد وهذا التنفيس إما أن يكون بالدعاء بطول العمر أو بنحو يشفيك الله وإما الجزم فلا يمكن. وقال القاري: أي اذهبوا حزنه فيما يتعلق بأجله بأن تقولوا لا بأس طهوراً ويطول الله عمرك ويشفيك ويعافيك أو وسعوا له في أجله فينفس عنه الكرب، والتنفيس التفريج. وقال الجزري: نفست عن المريض إذا منيته طول الأجل وسألت الله أن يطيل عمره. وقال في اللمعات: التنفيس التفريج أي فرجوا له واذهبوا كربه فيما يتعلق بأجله بأن تدعوا له بطول العمر وذهاب المرض، وأن تقولوا لا بأس طهور ولا تخف سيشفيك الله وليس مرضك صعباً وما أشبه ذلك فإنه وإن لم يرد شيئاً من الموت المقدر ولا يطول عمره لكن يطيب نفسه ويفرحه ويصير ذلك سببا لانتعاش طبيعته وتقويتها فيضعف المرض- انتهى. (فإن ذلك) أي تنفيسكم له (لا يرد شيئاً) أي من القدر والقضاء قيل: قوله فإن ذلك تعليل لما يفهم من المقام كأنه قيل: هل يزيد بذلك العمر أو ماذا فائدته، فقال: لا، فإن التنفيس لا يرد شيئاً مما أريد بالمريض (ويطيب) من طاب يطيب والباء في قوله

بنفسه)) رواه الترمذي، وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث غريب. 1587 - (52) وعن سليمان بن صرد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قتله بطنه لم يعذب في قبره)) رواه أحمد، والترمذي، وقال: هذا حديث غريب. ـــــــــــــــــــــــــــــ (بنفسه) للتعدية أو زائدة على الفاعل، كما قيل: ويحتمل أنه من طيب بالتشديد والباء زائدة. وفي الترمذي: ويطيب نفسه أي بدون الباء، وهكذا نقله الجزري (ج7:ص402) ولفظ ابن ماجه: وهو يطيب بنفس المريض. قال المناوي: يعني لا بأس عليكم بتنفيسكم له فإن ذلك التنفيس لا أثر له إلا في تطيب نفسه فلا يضركم ذلك ومن ثم عدوا من آداب العيادة تشجيع العليل بلطيف المقال وحسن الحال- انتهى. وارجع لمزيد الكلام إلى زاد المعاد (ج2:ص94) (رواه الترمذي) في الطب (وابن ماجه) في أول الجنائز وأخرجه أيضاً ابن السني في اليوم والليلة وابن أبي شيبة (ج4:ص74) (وقال الترمذي هذا حديث غريب) لم يحكم الترمذي عليه بشيء من الصحة والضعف، وفي إسناده موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي المدني. قال البخاري: وأبوزرعة والنسائي وأبوحاتم وأبوأحمد الحاكم منكر الحديث، فالحديث ضعيف. 1587- قوله: (وعن سليمان بن صرد) بضم المهملة وفتح الراء ابن الجون الخزاعي أبومطرف الكوفي صحابي. قال ابن عبد البر: كان خيراً فاضلاً وكان اسمه في الجاهلية يسار فسماه النبي صلى الله عليه وسلم سليمان سكن الكوفة وكان له سن عالية وشرف وقدر وكلمة في قومه وشهد مع علي صفين وهو الذي قتل حوشب ذا ظليم الألهاني بصفين مبارزة وكان فيمن كتب إلى الحسين يسأله القدوم إلى الكوفة فلما قدمها ترك القتال معه فلما قتل الحسين ندم هو والمسيب بن نجية الفزاري في آخرين إذ لم يقاتل معه ثم قالوا مالنا من توبة مما فعلنا إلا أن نقتل أنفسنا في الطلب بدمه فخرجوا فعسكروا بالنخيلة وولوا أمرهم سليمان بن صرد وسموه أمير التوابين ثم ساروا فالتقوا بمقدمة عبيد الله بن زياد في أربعة آلاف بموضع يقال له عين الوردة فقتل سليمان والمسيب في ربيع الآخر سنة (65) وقيل رماه يزيد بن الحصين بن نمير بسهم فقلته وحمل رأسه ورأس المسيب إلى مروان بن الحكم وكان سليمان يوم قتل ابن (93) سنة (من قتله بطنه) إسناده مجازي أي من مات من مرض بطنه، وهو يحتمل الإسهال والاستسقاء والنفاس (لم يعذب في قبره) وفي رواية لأحمد "فلن يعذب في قبره" لأنه لشدته كان كفارة لسيئته. قال المناوي: وإذا لم يعذب في قبره لم يعذب في غيره لأنه أول منازل الآخرة فإن كان سهلاً فما بعده أسهل. وصح في مسلم وغيره أن الشهيد يغفر له كل شيء إلا الدين أي إلا حقوق الآدميين (رواه أحمد) (ج4:ص262) (والترمذي) في الجنائز وأخرجه أيضاً النسائي في الجنائز، وابن حبان (وقال هذا حديث غريب) وفي

{الفصل الثالث}

{الفصل الثالث} 1588- (53) عن أنس، قال: كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: ((أسلم، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال: أطع أبا القاسم فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار)) ـــــــــــــــــــــــــــــ نسخ الترمذي الموجودة عندنا: هذا حديث حسن غريب في هذا الباب، وقد روى من غير هذا الوجه- انتهى. قلت: روى أحمد والنسائي من غير طريق الترمذي. والحديث لا ينحط عن درجة الحسن. 1588 – قوله: (كان غلام يهودي) لم يقف الحافظ على اسمه نعم نقل عن ابن بشكوال أن صاحب العتبية حكى عن زياد أن اسمه عبد القدوس قال وهو غريب ما وجدته عند غيره (يخدم النبي صلى الله عليه وسلم) بكسر الدال وضمها (فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم) حال كونه (يعوده فقعد) النبي صلى الله عليه وسلم (عند رأسه) أي رأس الغلام وهو من مستحبات العيادة (فقال) النبي صلى الله عليه وسلم (له) أي للغلام (أسلم) بكسر اللام فعل أمر من الإسلام، والظهر أن الغلام كان عاقلاً (فنظر) أي الغلام (إلى أبيه وهو) أي أبوالغلام (عنده) وفي رواية أبي داود عند رأسه (فقال) له أبوه (أطع أبا القاسم) صلى الله عليه وسلم (فأسلم) بفتح اللام أي الغلام، وفي رواية النسائي: فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم (فخرج النبي صلى الله عليه وسلم) من عنده (وهو) أي النبي (يقول الحمد لله الذي أنقذه) بالذال المعجمة أي خلصة ونجاه (من النار) أي لو مات كافراً، في رواية أبي داود: أنقذه بي من النار أي أنقذه الله بسببي من النار. قال الحافظ في الفتح: وفي الحديث جواز استخدام المشرك وعبادته إذا مرض، وفيه حسن العهد واستخدام الصغير وعرض الإسلام على الصبي ولولا صحته منه ما عرضه عليه، وفي قوله: أنقذه بي من النار، دلالة على أنه صح إسلامه وعلى أن الصبي إذا عقل الكفر ومات عليه أنه يعذب- انتهى. قيل: هذا يحمل على أنه كان قبل أن يعلمه الله تعالى أن أطفال المشركين في الجنة، كما هو مذهب الأكثرين، وعلى تقدير تسليم أن هذا الحديث وقع بعد تقرر أن الأطفال في الجنة، فالمراد من قوله: من النار الكفر المسمى ناراً لأنه سببها أو يؤول إليها. والله تعالى أعلم. قيل: إنما تشرع عيادة غير المسلم ليدعى إلى الإسلام إذا رجى أن يجيب إلى الدخول في الإسلام ألا ترى أن اليهودي أسلم حين عرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام فأما إذا لم يطمع في إسلام الكافر ولا يرجى إنابته فلا ينبغي

رواه البخاري. 1589 - (54) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من عاد مريضاً نادى منادى من المساء: طبت وطاب ممشاك، وتبؤت من الجنة منزلاً)) . رواه ابن ماجه. 1590- (55) وعن ابن عباس، قال: ((إن علياً خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي توفي فيه، فقال الناس: يا أباالحسن! كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أصبح بحمد الله بارئاً)) ـــــــــــــــــــــــــــــ عيادته. قال الحافظ: والذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف المقاصد فقد يقع بعيادته مصلحة أخرى. قال الماوردي: عيادة الذمي جائزة، والقربة موقوفة على نوع حرمة تقترن بها من جوار أو قرابة- انتهى. (رواه البخاري) في الجنائز، وفي المرضى، وأخرجه أيضاً أبوداود في الجنائز، والنسائي والبيهقي (ج3:ص383) . 1589- قوله: (من عاد مريضاً) أي محتسباً (نادى مناد) أي ملك (طبت) بكسر الطاء أي طاب حالك (وطاب ممشاك) مصدر أي كثر ثواب مشيك إلى هذه العبادة، وقيل: مكان أو زمان مبالغة (وتبوأت) أي تهيأت (من الجنة) أي من منازلها العالية (منزلاً) أي منزلة عظيمة بما فعلت. وقيل: أي ثبت وتحقق دخولك الجنة بسبب هذه العبادة. وقال الطيبي: طبت دعاء له بأن يطيب عيشه في الدنيا، وطيب الممشى كناية عن سيره وسلوكه طريق الآخرة بالتعري عن رذائل الأخلاق والتحلي بمكارمها، وقوله: تبوأت دعاء له بطيب العيش في الآخرة، وإنما أخرجت الأدعية في صورة الإخبار إظهاراً للحرص على وقوعها كأنها حاصلة وهو يخبر عنها كما تقول رحمك الله وعصمك الله من الآفات ((رواه ابن ماجه) في الجنائز، وأخرجه أيضاً الترمذي في باب زيارة الأخوان من أبواب البر والصلة بلفظ: ما عاد مريضاً أو زار أخاً له في الله ناداه مناد الخ. وأخرجه ابن حبان في صحيحه بلفظ: إذا عاد الرجل أخاه أو زاره قال الله تعالى طبت إلخ. ذكر المنذري في الترغيب: إن الترمذي حسنه، وفيه أنه ليس في نسخ الترمذي الموجودة عندنا لفظ: حسن، بل فيها حديث غريب، وفي سنده عندهم أبوسنان عيسى بن سنان القسملي، وهو لين الحديث. 1590- قوله: (في وجعه) أي في زمن مرضه (الذي توفي فيه) أي قبض روحه فيه (فقال الناس) أي لعلي (يا أباالحسن) كنية علي (أصبح بحمد الله) أي مقروناً بحمده أو متلبساً بموجب حمده وشكره (بارئاً)

رواه البخاري. 1591 - (56) وعن عطاء بن أبي رباح، قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! إني أصرع، وإني أتكشف، فادع الله، فقال: ((إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك. ـــــــــــــــــــــــــــــ بالهمزة إسم فاعل من برأ المريض إذا أفاق من المرض. قال القاري: خبر بعد خبر أو حال من ضمير أصبح، والمعنى قريباً من البرء بحسب ظنه أو للتفاؤل أو بارئاً من كل ما يعترى المريض من القلق والغفلة. وفي الحديث استحباب السؤال عن حال المريض بلفظ: كيف أصبح، والجواب عنه بقوله أصبح بحمد الله بارئاً (رواه البخاري) مطولاً في باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته من أواخر المغازي، وفي باب المعانقة من الاستيذان، وأخرجه أيضاً أحمد (ج1:ص263-325) . 1591- قوله: (ألا) بتخفيف اللام قبلها همزة مفتوحة (أريك) بضم الهمزة وكسر الراء (هذه المرأة السوداء) إسمها سعيرة بالمهملات مصغراً الأسدية، كما في رواية جعفر المستغفري في كتاب الصحابة، وأخرجه أبوموسى في الذيل من طريقه، ووقع في رواية ابن مندة بقاف بدل العين، وفي أخرى للمستغفري بالكاف، وذكر ابن سعد وعبد الغني في المبهمات من طريق الزبير أن هذه المرأة هي ماشطة خديجة التي كانت تتعاهد النبي صلى الله عليه وسلم بالزيادة (أتت النبي صلى الله عليه وسلم) استئناف بيان لكونها من أهل الجنة (إن أصرع) بصيغة المجهول، قيل: الصرع علة تمنع الأعضاء الرئيسة عن انفعالها منعاً غير تام، وسببه ريح غليظ يحتبس في منافذ الدماغ أو بخار رديء يرتفع إليه من بعض الأعضاء وقد يتبعه تشنج في الأعضاء فلا يبقى الشخص معه منتصباً بل يسقط ويقذف بالزيد لغلظ الرطوبة، وقد يكون الصرع من الجن ولا يقع إلا من النفوس الخبيثة منهم إما لاستحسان بعض الصور الإنسية وإما لإيقاع الأذية به، وأنكر ذلك كثير من الأطباء، وقد رد عليهم ابن القيم في زاد المعاد رداً حسناً، فعليك أن تراجعه (وإني أتكشف) بفتح المثناة الفوقية والشين المعجمة المشددة من التكشف. قال الحافظ: وبالنون الساكنة بدل الفوقية وكسر المعجمة مخففاً من الانكشاف، والمراد أنها خشيت أن تظهر عورتها وهي لا تشعر (فادع الله) لي أي يشفيني من ذلك الصرع (فقال) صلى الله عليه وسلم مخبراً لها (إن شئت صبرت) على ذلك (ولك الجنة) فيه إيماء إلى جواز ترك الدواء بالصبر على البلاء والرضاء بالقضاء بل ظاهره أن إدامة

فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف، فدعا لها)) متفق عليه. 1592- (57) وعن يحيى بن سعيد، قال: إن رجلا جاءه الموت في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل، هنيئاً له، مات ولم يبتل بمرض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ويحك! ـــــــــــــــــــــــــــــ الصبر مع المرض أفضل من العافية لكن بالنسبة إلى بعض الأفراد وأن ترك التداوى أفضل وإن كان يسن التداوى (فقالت أصبر) على الصرع. قال ابن القيم: من حدث له الصرع، وله خمس وعشرون سنة وخصوصاً بسبب دماغي أيس من برءه، وكذلك إذا استمر به إلى هذا السن قال: فهذه المرأة التي جاء في الحديث أنها كانت تصرع وتنكشف، يجوز أن يكون صرعها من هذا النوع فوعدها صلى الله عليه وسلم بصبرها على هذا المرض بالجنة ودعا لها أن تنكشف وخيرها بين الصبر والجنة وبين الدعاء لها بالشفاء من غير ضمان فاختارت الصبر والجنة - انتهى. قال الحافظ: وفي الحديث فضل من يصرع وأن الصبر على بلايا الدنيا يورث الجنة وأن الأخذ بالشدة أفضل من الأخذ بالرخصة لمن علم من نفسه الطاقة ولم يضعف عن التزام الشدة، وفيه دليل على جواز ترك التداوى، وفيه أن علاج الأمراض كلها بالدعاء والالتجاء إلى الله أنجع وأنفع من العلاج بالعقاقير وأن تأثير ذلك وإنفعال البدن عنه أعظم من تأثير الأدوية البدنية ولكن إنما ينجع بأمرين: أحدهما من جهة العليل، وهو صدق القصد والآخر من جهة المداوى، وهو قوة توجهه، وقوة قلبه بالتقوى والتوكل والله اعلم (متفق عليه) أخرجه البخاري في المرضى ومسلم في الأدب وأخرجه أيضاً أحمد (ج1ص346- 347) والنسائي في الكبرى في الطب. 1592- قوله: (وعن يحيى بن سعيد) هو يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري المدني أبوسعيد القاضي ثقة ثبت من صغار التابعين سمع أنس بن مالك والسائب بن يزيد وخلقاً سواهما روى عنه هشام بن عروة ومالك ابن أنس وشعبة والثوري وابن عيينة وابن المبارك وغيرهم كان يتولى القضاء بالمدينة زمن بني أمية وأقدمه منصور العراق وولاه القضاء بالهاشمية مات سنة (143) وقيل (144) وقيل بعدها. قال المؤلف: كان إماماً من أئمة الحديث والفقه عالماً ورعاً زاهداً صالحاً مشهوراً بالفقه والدين (إن رجلاً جاءه الموت) أي فجأة من غير مرض (هنيئاً له) مصدر لفعل محذوف (مات ولم يبتل بمرض) استئناف مبين لموجب التهنئة، والواو حالية (ويحك) كلمة ترحم وتوجع يقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها وهي منصوبة بإضمار فعل كأنه قيل ألزمك الله ويحاً

ما يدريك لو أن الله ابتلاه بمرض فكفر عنه من سيئاته)) . رواه مالك مرسلاً. 1593- (58) وعن شداد بن أوس، والصنابحى، ـــــــــــــــــــــــــــــ يعني لا تمدح عدم المرض وإنما ترحم عليه لعذره في ظنه أن عدم المرض مكرمة (ما يدريك) أيّ أي شيء يعلمك أن عدم المرض خير ومكرمة (لو أن الله ابتلاه بمرض) قال الطيبي: لو للتمني لأن الامتناعية لا تجاب بالفاء أي لا تقل هنيئاً له ليت أن الله ابتلاه بمرض، ويجوز أن يقدر لو ابتلاه الله لكان خيراً له فكفر. قال القاري: وعلى الأول ما يدريك معترضة وعلى الثاني متصلة بما بعدها (فكفر عنه من سيئاته) وفي نسخ الموطأ الموجودة عندنا: يكفر به عنه من سيئاته. قال في المحلى: لو أن الله إلخ. جملة شرطية والجزاء قوله يكفر أو هو صفة لمرض والجزاء محذوف أي لكان خيراً له، ويحتمل أن يكون لو للتمني بمعنى ليت وعلى هذا يتعين قوله: يكفر صفة- انتهى. وفي الحديث أن الابتلاء بالمصائب طب الهي يداوي به الإنسان من أمراض الذنوب فإن غير المعصوم لا يخلو غالباً من السيئات فالمرض مكفر لها أو رافع للدرجات وكاسر لشماخة النفس (رواه مالك) في كتاب الجامع من الموطأ عن يحيى بن سعيد (مرسلا) لأن يحيى بن سعيد تابعي. قال ابن المديني في العلل: لا أعلمه سمع من صحابي غير أنس، ذكره الحافظ في تهذيبه، وقد اعتضد هذا المرسل بما في الباب من الأحاديث المسندة الدالة على كون المرض كفارة للذنوب. 1593- قوله: (وعن شداد بن أوس) تقدم ترجمته (والصنابحى) عطف على شداد، وهذا يدل على أن الراوي، وهو أبوالأشعث الصنعاني، روى القصة عن شداد والصنابحى، وفيه نظر، فإن الرواية في مسند الإمام أحمد هكذا قال عبد الله حدثني أبي ثنا هيثم بن خارجة ثنا إسماعيل بن عياش عن راشد بن داود الصنعاني عن أبي الأشعث الصنعاني أنه راح إلى مسجد دمشق وهجر بالرواح فلقي شداد بن أوس والصنابحى معه فقلت أين تريد أن يرحمكما الله قالا نريد ههنا إلى أخ لنا مريض نعوده فانطلقت معهما حتى دخلا على ذلك الرجل فقالا له كيف أصبحت إلخ والظاهر أن هذا التقصير إنما وقع من اختصار المصنف وكان الأولى أن يذكر الرواية من قوله: عن أبي الأشعث الصنعاني أنه راح إلخ كما صنع الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2ص303) والمنذري في الترغيب (ج4ص90) والصنابحى هذا هو عبد الرحمن بن عسيلة بمهملة مصغرا المرادي أبوعبد الله الصنابحى بضم الصاد المهملة وتخفيف النون والباء الموحدة المكسورة والحاء المهملة نسبة إلى صنابح بن زاهر بطن من مراد ثقة من كبار التابعين قدم المدينة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بخمسة أيام، مات في خلافة عبد الملك بن مروان روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً وعن أبي بكر وعمر وعلي وبلال وسعد بن عبادة وعمرو بن عبسة وشداد بن أوس

أنهما دخلا على رجل مريض يعودانه، فقالا له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت بنعمة، قال شداد: أبشر بكفارات السيئات، وحط الخطايا، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله عزوجل يقول: إذا أنا ابتليت عبداً من عبادي مؤمناً، فحمدني على ما ابتليته، فإنه يقوم من مضجعه ذلك كيوم ولدته أمه من الخطايا، ويقول رب تبارك وتعالى: أنا قيدت عبدي وابتليته، فأجروا له ما كنتم تجرون له وهو صحيح)) . رواه أحمد. 1594- (59) وعن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كثرت ذنوب العبد، ولم يكن له ما يكفرها من العمل، ابتلاه الله بالحزن ليكفرها عنه)) ـــــــــــــــــــــــــــــ وغيرهم، وروى عنه أسلم مولى عمر ومحمود بن لبيد الأنصاري وجماعة (أنهما دخلا على رجل مريض يعودانه فقالا له كيف أصبحت) استدل به على أن العيادة في أول النهار أفضل (أصبحت بنعمة) أي مصحوباً بنعمة عظيمة وهي نعمة الرضا والتسليم للقضاء (أبشر) أمر من الابشار، ويجوز أن يكون من باب ضرب وسمع (بكفارات السيئات) أي المعاصي (وحط الخطايا) أي وضع التقصيرات في الطاعات والعبادات (مؤمناً) نعت أو حال (فحمدني على ما ابتليته) أي به من مرض أو وجع (فإنه يقوم من مضجعه) أي مرقده (ذلك) أي الذي هو فيه، والمراد من مرضه سمي باسم ملازمه غالباً وهو متجرد باطناً عن ذنوبه (كيوم ولدته أمه) بفتح الميم، وفي نسخة بالجر أي كتجرده ظاهراً في وقت ولدته أمه من الخطايا (أنا قيدت عبدي) أي حبسته بالمرض (وابتليته) أي امتحنته ليظهر منه الشكر أو الكفر (فاجروا له) أمر من الإجراء (ما كنتم تجرون له) أي من كتابة الأعمال، وفي المسند كما كنتم تجرون له، وكذا نقله الهيثمي، والمنذري (وهو صحيح) حال (رواه أحمد) (ج4ص123) وأخرجه أيضاً الطبراني في الكبير والأوسط كلاهما من رواية إسماعيل بن عياش عن راشد ابن داود الصنعاني، وهو ضعيف في غير الشاميين، وهذا الحديث قد رواه عن راشد الصنعاني صنعاء دمشق الشام فهو من أحاديثه المستقيمة. قال المنذري: وله شواهد كثيرة. 1594- قوله: (إذا كثرت ذنوب العبد) أي الإنسان المسلم (ما يكفرها من العمل) أي الصالح لفقده أو لقلته (ابتلاه الله بالحزن) أي بأسبابه وهو بضم فسكون وبفتحتين (ليكفرها) أي الذنوب (عنه) أي عن

رواه أحمد. 1595- (60) وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من عاد مريضاً لم يزل يخوض الرحمة حتى يجلس، فإذا جلس اغتمس فيها)) رواه مالك، وأحمد. 1596- (61) وعن ثوبان، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أصاب أحدكم الحمى، فإن الحمى قطعة من النار، فليطفئها عنه بالماء، فليستنقع في نهر جار ـــــــــــــــــــــــــــــ العبد بسبب الحزن (رواه أحمد) قال الهيثمي: وفيه ليث بن أبي سليم، وهو مدلس، وبقية رجاله ثقات. وقال المنذري: رواته ثقات إلا ليث بن أبي سليم. 1595 – قوله: (لم يزل يخوض الرحمة) أي يدخل فيها من حين يخرج من بيته بنية العيادة (حتى يجلس) أي عنده (اغتمس فيها) أي غاص فيها وغطس، وفي رواية البخاري في الأدب المفرد: استقر فيها. قال الطيبي: شبه الرحمة بالماء إما في الطهارة أو في الشيوع والشمول ثم نسب إليها ما هو منسوب إلى المشبه به من الخوض ثم عقب الاستعارة بالانغماس ترشيحاً (رواه مالك) أي في كتاب الجامع من الموطأ بلاغاً ففيه "مالك أنه بلغه عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا عاد الرجل المريض خاض في الرحمة حتى إذا قعد عنده قرت فيه أو نحو هذا" (وأحمد) أي مسنداً. قال الزرقاني: برجال الصحيح، وأخرجه أيضاً البخاري في الأدب المفرد، وقاسم بن أصبغ والبزار وابن حبان في صحيحه والحاكم (ج1ص350) وصححه البيهقي (ج3ص380) قال الهيثمي والمنذري: رجال أحمد رجال الصحيح، وفي الباب عن أنس وأبي هريرة وكعب بن مالك وعمرو بن حزم وأبي أمامة وابن عباس وصفوان بن عسال وأبي الدرداء ذكر أحاديثهم الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2ص297- 298) والمنذري في الترغيب. 1596- قوله: (إذا أصاب أحدكم الحمى) أي أخذته (فإن الحمى قطعة من النار) أي لشدة ما يلقي المريض فيها من الحرارة الظاهرة والباطنة، وفي حديث رافع بن خديج عند الشيخين: الحمى من فيح جهنم. وسيأتي الكلام عليه في الطب. وقال الطيبي: جواب إذا فليعلم أنها كذلك (فليطفئها عنه بالماء) أي البارد قال ويحتمل أن يكون الجواب فليطفئها وقوله. فإن الحمى معترضة قالوا هذا خاص ببعض أنواع الحمى الحادثة من الحرارة التي يعتادها أهل الحجاز ولما كان بيانه صلى الله عليه وسلم لعلاج الأمراض البدنية تبعاً لم يستفض في تعميم أنواعها واقتصر على علاج ما هو أعم وأغلب وقوعها (فليستنقع في نهر جار) بيان للإطفاء. قال في القاموس:

- وليستقبل جريته، فيقول: بسم الله، اللهم أشف عبدك، وصدق رسولك ـ بعد صلاة الصبح قبل طلوع الشمس، وليغمس فيه ثلاث غمسات ثلاثة أيام، فإن لم يبرأ في ثلاث فخمس، فإن لم يبرأ في خمس فسبع، فإن لم يبرأ في سبع فتسع، فإنها لا تكاد تجاوز تسعاً بإذن الله عزوجل)) ـــــــــــــــــــــــــــــ استنقع في الغدير نزل واغتسل ثبت فيه ليتبرد (وليستقبل جريته) بكسر الجيم. قال الطيبي: يقال: ما أشد جرية هذا الماء بالكسر، وهو مصدر بمعنى السيلان كالجري والجريان يقال نهر سريع الجرية (فيقول) أي حال الاستقبال (وصدق رسولك) أي اجعل قوله هذا صادقاً بأن تشفيني، ذكره الطيبي (بعد صلاة الصبح) ظرف ليستنقع، وكذا قوله قبل طلوع الشمس (وليغمس) بفتح الياء وكسر الميم (فيه) أي في النهر أو في ماءه (ثلاث غمسات) بفتحتين (ثلاثة أيام) قال الطيبي: قوله وليغمس بيان لقوله فليستنقع جيء به لتعلق المرات (فإن لم يبرأ) بفتح الراء (في ثلاث) أي ثلاث غمسات أو في ثلاثة أيام (فخمس) بالرفع. قال الطيبي: أي فالأيام التي ينبغي أن ينغمس فيها أو فالمرات (فسبع) بالرفع كما تقدم آنفاً (فتسع) كذلك (فإنها) أي الحمى (لا تكاد) أي تقرب (تجاوز تسعاً) أي بعد هذا العمل (بإذن الله) أي بإرادته أو بأمره لها بالذهاب وعدم العود. قال ابن القيم في زاد المعاد في بحث علاج الحمى بالماء بعد ذكر حديث ابن عمر بلفظ: إنما الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء. ما لفظه خطابه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث خاص بأهل الحجاز وما والاهم إذ كان أكثر الحميات التي تعرض لهم من نوع الحمى العرضية الحادثة عن شدة حرارة الشمس وهذه ينفعها الماء البارد شرباً واغتسالاً إلخ. وقال بعد تقسيم الحمى إلى عرضية ومرضية، فيجوز أن يكون مراد الحديث من أقسام الحميات العرضية (وهي الحادثة عن ورم أو حركة أو إصابة حرارة الشمس أو القيظ الشديد ونحو ذلك) فإنها تسكن على المكان بالانغماس في الماء البارد وسقي الماء البارد المثلوج ولا يحتاج صاحبها مع ذلك إلى علاج آخر فإنها مجرد كيفية حادة متعلقة بالروح فيكفي في زوالها مجرد وصول كيفية باردة تسكنها وتخمد لهبها من غير حاجة إلى استفراغ مادة أو انتظار نضج، ويجوز أن يراد به جميع أنواع الحميات وقد اعترف جالينوس بأن الماء البارد ينفع فيها، قال في كتاب حيلة البرء: ولو أن رجلاً شاباً حسن اللحم خصب البدن في وقت القيظ وفي وقت منتهى الحمى وليس في احشاءه ورم استحم بماء بارد أو سبح فيه لا تنفع بذلك قال ونحن نأمر بذلك بلا توقف. وقال الرازي في كتابة الكبير: إذا كانت القوي قوية والحمى حادة جداً والنضج بين ولا ورم في الجوف ولا فتق ينفع الماء البارد شرباً وإن كان العليل خصب البدن والزمان حار وكان معتاد الاستعمال الماء البارد من خارج فليؤذن له فيه- انتهى. وقد نزل ابن القيم حديث ثوبان على هذه القيود فقال بعد ذكره: وهذه الصفة تنفع في فصل الصيف

رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب. 1597 - (62) وعن أبي هريرة، قال: ذكرت الحمى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسبها رجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبها فإنها تنفي الذنوب كما تنفي النار خبث الحديد)) . رواه ابن ماجه. 1598- (63) وعنه، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد مريضاً فقال: ((أبشر فإن الله تعالى يقول: هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن ـــــــــــــــــــــــــــــ في البلاد الحارة على الشرائط التي تقدمت (أي الحمى العرضية أو الغب الخالصة التي لا ورم معها ولا شيء من الأعراض الرديئة والمواد الفاسدة) فإن الماء في ذلك الوقت أبرد ما يكون لعبده عن ملاقاة الشمس ووفور القوى في ذلك الوقت لكونه عقب النوم والسكون وبرد الهواء قال والأيام التي أشار إليها هي التي يقع فيها بحران الأمراض الحادة غالباً ولاسيما في البلاد الحارة- انتهى. ويأتي مزيد الكلام عليه في كتاب الطب إنشاء الله تعالى (رواه الترمذي) في الطب وأخرجه أيضاً أحمد (ج5ص281) وابن السني (ص182) كلهم من رواية سعيد بن زرعة الشامي الحمصى، الجرار الخزاف عن ثوبان. قال الحافظ في التقريب في ترجمة سعيد أنه مستور، وقال في الفتح: وفي سنده سعيد بن زرعة، مختلف فيه. وقال في تهذيب التهذيب: قال أبوحاتم مجهول، وذكره ابن حبان في الثقات. 1597- قوله: (ذكرت الحمى) على صيغة المجهول أي وصفت شدتها (لا تسبها) بفتح الباء (تنفي الذنوب) من النفي أي تزيل وهو أبلغ من تمحو (كما تنفي النار خبث الحديد) كناية عن المبالغة في تمحيصها من الذنوب وخبث الحديد بفتح الخاء المعجمة والباء الموحدة هو ما تلقيه النار من وسخه إذا أذيب، والمعنى أن الحمى من هذه الحيثية توجب الصبر والشكر لا السب (رواه ابن ماجه) في الطب. قال البوصيري في الزوائد: وفي إسناده موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف- انتهى. ويؤيده ما تقدم من حدث جابر في الفصل الأول في نهيه - صلى الله عليه وسلم - أم السائب عن سب الحمى وقد جاء في معناه أحاديث أخرى. 1598- قوله: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاد مريضاً) وبعده في ابن ماجه وغيره من وعك كان به ومعه أبوهريرة (هي) أي الحمى كما يفيده السباق والسياق (ناري أسلطها على عبدي المؤمن) قال الطيبي: في إضافة النار إشارة إلى أنها لطف ورحمة منه ولذلك صرح بقوله عبدي، ووصفه بالمؤمن وقوله أسلطها خبر بعد خبر أو

في الدنيا لتكون حظه من النار يوم القيامة)) رواه أحمد، وابن ماجه، والبيهقي في شعب الإيمان. 1599 - (64) وعن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الرب سبحانه وتعالى يقول: وعزتي وجلالي لا أخرج أحداً من الدنيا أريد أغفر له، حتى استوفي كل خطيئة في عنقه بسقم في بدنه، وإقتار في رزقه)) رواه رزين. ـــــــــــــــــــــــــــــ استئناف (في الدنيا) متعلق بأسلطها (لتكون) أي الحمى (حظه) أي نصيبه بدلاً (من النار) مما اقترف من الذنوب، ويحتمل أنها نصيب من الحتم المقضي في قوله تعالى: {وإن منكم إلا واردها} [مريم: 71] قال الطيبي: والأول هو الظاهر، وقيل: المعنى أن الحمى تسهل عليه الورود حتى لا يشعر به ولا يحس (يوم القيامة) وعند ابن ماجة وابن السني والحاكم "في الآخرة" (رواه أحمد) (وابن ماجه) في الطب (والبيهقي) وأخرجه أيضاً ابن السني (ص173) والحاكم (ج1ص345) وصححه ووافقه الذهبي، وفي الباب عن أبي ريحانة عند ابن أبي الدنيا والطبراني وعن أبي أمامة عند أحمد بإسناد لا بأس به، وعن عائشة عند البزار بإسناد حسن، وعن أنس عند الطبراني في الأوسط ذكرهم المنذري في الترغيب (ج4ص94) والهيثمي في مجمع الزوائد (ج2ص306) والسيوطي في الجامع الصغير، وعلى المتقي في الكنز (ج2ص66) . 1599- قوله: (وعزتي) أي غلبتي وقوتي (وجلالي) أي عظمتي وقدرتي (أريد أغفر له) قال القاري بالرفع. وفي نسخة بالنصب. قال الطيبي: أي أريد أن أغفر فحذف أن والجملة إما حال من فاعل أخرج أو صفة للمفعول، وفي جامع الأصول (ج10ص358) نقلاً عن رزين أريد أن أغفر له (حتى استوفي) يقال استوفى حقه أي أخذه تاماً وافياً (كل خطيئة) أي جزاء كل سيئة اقترفها وكنى عنه بقوله (في عنقه) بضمتين في ذمته حيث لم يتب عنها أي كل خطيئة باقية (بسقم) بفتحتين وضم وسكون متعلق باستوفي، والباء سببية فلا تحتاج إلى تضمين استبدل كما اختاره ابن حجر (في بدنه) إشارة على سلامة دينه (وإقتار) أي تضييق (في رزقه) أي نفقته. قال ميرك: الإقتار التضييق على الإنسان في الرزق يقال اقتر الله رزقه أي ضيقه وقلله وقد اقتر الرجل فهو مقتر وقتر فهو قتور، كذا في الطيبي، فعلى هذا الإقتار مستعمل في جزء معناه على سبيل التجريد (رواه رزين) أي ابن معاوية العبدري السرقسطي، والحديث أورده المنذري في الترغيب، وقال ذكره رزين (يعني في كتاب التجريد الذي جمع فيه ما في الصحاح الخمسة والموطأ) ولم أره. وقال ميرك: لم أره في الأصول - انتهى. فلا يعرف حال إسناده لكنه يؤيده ما في هذا الباب من الأحاديث في كون المصائب والبلايا كفارة للسيئات.

1600- (65) وعن شقيق، قال: مرض عبد الله بن مسعود، فعدناه، فجعل يبكي، فعوتب، فقال: إني لا أبكي لأجل المرض، لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((المرض كفارة، وإنما أبكي أنه أصابني على حال فترة، ولم يصبني في حال اجتهاد، لأنه يكتب للعبد من الأجر إذا مرض ما كان يكتب له قبل أن يمرض فمنعه منه المرض)) . رواه رزين. 1601- (66) وعن أنس، قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعود مريضا إلا بعد ثلاث)) ـــــــــــــــــــــــــــــ 1600- قوله: (وعن شقيق) أي ابن أبي سلمة الأسدي أبي وائل الكوفي تقدم ترجمته (فعوتب) أي في البكاء فإنه مشعر بالجزع من المرض، وهو ليس من أخلاق الأكابر (وإنما أبكي أنه) أي لأجل أنه (أصابني) أي المرض (على حال فترة) أي على حال فتور وضعف في الجسم من الكبر لا أقدر على عمل كثير. وقال القاري: على حال فترة أي ضعف في العبادة (ولم يصبني في حال اجتهاد) أي في الطاعة البدنية فلو وقعت الإصابة حال الاجتهاد في العبادة والقوة في الجسم لكانت سبباً للزيادة (لأنه) أي الشأن (يكتب للعبد) المؤمن (من الأجر إذا مرض ما كان) أي مثل جميع ما كان من الأعمال (يكتب له قبل أن يمرض) بفتح الياء والراء (فمنعه منه المرض) أي لا مانع آخر من الشغل والكبر (رواه رزين) لم أقف على هذا الأثر في شيء من الأصول، ويؤيده ما تقدم من حديث شداد بن أوس عند أحمد، وحديث عبد الله بن عمرو وأنس عند البغوي في الفصل الثاني، وحديث أبي موسى عند البخاري في الفصل الأول. 1601- قوله: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعود مريضاً إلا بعد ثلاث) قال الشوكاني: هذا يدل على أن عيادة المريض إنما تشرع بعد مضي ثلاثة أيام من ابتداء مرضه فتقيد به مطلقات الأحاديث الواردة في العيادة ولكنه غير صحيح أو حسن (كما ستعرف) فلا يصلح لذلك- انتهى. قلت: ذهب الجمهور إلى أن العيادة لا تتقيد بزمان يمضي من ابتداء مرضه بل هي سنة من أول المرض لإطلاق قوله صلى الله عليه وسلم عودوا المريض، وجزم الغزالي في الأحياء بأنه لا يعاد إلى بعد مضي ثلاث ليال، مستند الحديث أنس، وتعقب بأنه ضعيف جداً لأنه تفرد به مسلمة ابن علي الخشني، وهو متروك، وقد سئل عنه أبوحاتم فقال: هو حديث باطل وله شاهد من حديث أبي هريرة عند الطبراني في الأوسط مرفوعاً لا يعاد المريض إلا بعد ثلاث، وفيه نصر بن حماد، وهو متروك أيضاً. وقال السندي في حاشية ابن ماجه: لعل حديث أنس إن صح يحمل على أنه لتحقق مرضه أي يؤخر حتى يتحقق عنده أنه مرض. وقال القاري: يمكن حمل الحديث على أنه ما كان يسأل عن أحوال من يغيب عنه إلا بعد ثلاث فبعد العلم بها

رواه ابن ماجه، والبيهقي في شعب الإيمان. 1602 - (67) وعن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخلت على مريض فمره يدعوا لك، فإن دعاءه كدعاء الملائكة)) رواه ابن ماجه. 1603- (68) وعن ابن عباس، قال: من السنة تخفيف الجلوس ـــــــــــــــــــــــــــــ كان يعود. قلت: ويؤيد هذا ما رواه أبويعلى عن أنس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه فإن كان غائباً دعا له وإن كان شاهداً زاره وإن كان مريضاً عاده- الحديث. ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: فيه عباد بن كثير وكان رجلاً صالحاً، ولكنه ضعيف الحديث متروك لغفلته- انتهى. (رواه ابن ماجه) في الجنائز (والبيهقي) وفي سنده عندهما مسلمة بن علي الخشني. قال البخاري وأبوحاتم وأبوزرعة: منكر الحديث. وقال النسائي والدارقطني والبرقاني: متروك الحديث. قال الحافظ: ومن منكراته عن ابن جريج عن حميد عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يعود مريضاً إلا بعد ثلاثة أيام- انتهى. وقال السخاوي في المقاصد: عيادة المريض بعد ثلاث، له طرق ضعاف يتقوى بعضها ببعض، ولهذا أخذ بمضمونها جماعة كالنعمان ابن أبي عياش الزرقي من فضلاء أبناء الصحابة فقال عيادة المريض بعد ثلاث، والأعمش ولفظه: كنا نقعد في المجالس فإذا فقدنا الرجل ثلاثة أيام سألنا عنه فإن كان مريضاً عدناه، وهذا يشعر بعدم انفراده، كذا قال ولا يخفى ما فيه. 1602- قوله: (فمره يدعوا لك) أي التمس منه الدعاء. قال المناوي: قوله يدعو لك مفعول بإضمار "أن" أي مره بأن يدعو لك، قال الطيبي أي مره يدعو لك لأنه خرج عن الذنوب (فإن دعاءه كدعاء الملائكة) أي في قرب الاستجابة. وقال الطيبي: إنما يؤمر بالدعاء حينئذ، لأنه نقي من الذنوب كيوم ولدته أمه وصار معصوماً كالملائكة ودعاء المعصوم مقبول. وقال العلقمي: في الحديث استحباب طلب الدعاء من المريض، لأنه مضطر ودعاءه أسرع إجابة من غيره، ففي السنة أقرب الدعاء إلى الله إجابة دعوة المضطر (رواه ابن ماجه) في الجنائز وأخرجه أيضاً ابن السني في اليوم والليلة (178) قال البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله ثقات إلا أنه منقطع. قال العلائي في المراسيل والمزي في رواية ميمون بن مهران عن عمر ثلمة- انتهى. وقال النووي في الأذكار: ميمون لم يدرك عمر. وقال المنذري رواته ثقات مشهورون إلا أن ابن ميمون بن مهران لم يسمع من عمر- انتهى. وفي الباب عن أنس عند الطبراني في الأوسط، وفيه عبد الرحمن بن قيس الضبي، وهو متروك الحديث. 1603- قوله: (من السنة تخفيف الجلوس) هذا مرفوع على الصحيح الذي قاله الجمهور، لأن مطلق

وقلة الصخب في العيادة عند المريض، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كثر لغطهم واختلافهم: ((قوموا عني)) . رواه رزين. ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك ينصرف بظاهره إلى من جب إتباع سنته وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأيضاً فالسنة في عرف الاستعمال صارت موضوعة لطريقته عليه السلام في الشريعة (وقله الصخب) بفتحتين ويسكن الثاني أي رفع الصوت (في العيادة عند المريض) قال الطيبي: اضطراب الأصوات للخصام منهي من أصله لاسيما عند المريض فالقلة بمعنى العدم، وفيه دليل على أن الأدب في العيادة أن لا يطيل العائد الجلوس عند المريض حتى يضجره وأن لا يتكلم عنده بما يزعجه (قال) أي ابن عباس. قال القاري: كذا في أصل العفيف، وفي أكثر النسخ ليس بموجود. قلت: هو موجود في جامع الأصول (ج7ص404) (وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كثر لغطهم) قال في النهاية: اللغط صوت وضجة لا يفهم معناه (واختلافهم قوموا عني) قال الطيبي: وكان ذلك عند وفاته روى ابن عباس أنه لما احتضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب قال النبي - صلى الله عليه وسلم - هلموا اكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده فقال ـ عمر وفي رواية فقال بعضهم ـ رسول الله قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبكم كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يقول غير ذلك فلما أكثروا اللغط والاختلاف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قوموا عني. متفق عليه. ويأتي هذا الحديث مطولاً في باب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن حجر: وكأنه عليه الصلاة والسلام لما أراد الكتابة فوقع الخلاف ظهر له أن المصلحة في عدمها فتركها اختياراً منه كيف وهو عليه الصلاة والسلام لو صمم على شيء لم يكن لأحد عمر أو غيره أن ينطق ببنت شفة ولقد بقي حياً بعد هذه القضية نحو ثلاثة أيام ليس عنده عمر ولا غيره بل أهل البيت كعلي والعباس فلو رأى المصلحة في الكتابة بالخلافة أو غيرها لفعل على أنه اكتفى في الخلافة بما كاد أن يكون نصاً جلياً، وهو تقديم أبي بكر رضي الله عنه للإمامة بالناس أيام مرضه ومن ثم قال علي رضي الله عنه لما خطب لمبايعة أبي بكر على رؤس الأشهاد رضية رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إليه أن صل بالناس وأنا جالس عنده ينظرني ويبصر مكاني، ونسبة علي رضي الله عنه فارس الإسلام على التقية جهل بعظم مكانته- انتهى. (رواه رزين) لم أره في الأصول والله اعلم بحال إسناده، ويؤيده ما روى عن علي بن عمر بن علي عن أبيه عن جده رفعه قال أعظم العيادة أجراً أخفها والتعزية مرة. رواه البزار، وقال: أحسب ابن أبي فديك لم يسمع من علي، كذا في مجمع الزوائد (ج2ص296) .

1604- (69) وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((العيادة فواق ناقة)) 1605- (70) وفي رواية سعيد بن المسيب، مرسلاً، أفضل العيادة سرعة القيام. رواه البيهقي في شعب الإيمان. 1606- (71) وعن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً، فقال له: ((ما تشتهي؟ قال أشتهي خبز بر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: من كان عنده خبز بر فليبعث إلى أخيه، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا اشتهى مريض أحدكم شيئاً ـــــــــــــــــــــــــــــ 1604- قوله: (العيادة فواق ناقة) بفتح الفاء وضمها وبالرفع. قال القاري: وفي نسخة بالنصب خبر المبتدأ أي أفضل زمان العيادة مقدار فواقها، وهو قدر ما بين الحلبتين من الوقت لأنها تحلب ثم تترك سويعة يرضعها الفصيل لتدر ثم تحلب يقال ما أقام عنده إلا فواقاً، وقبل هو ما بين فتح يد الحالب وقبضها على الضرع، والذي ذكره الجوهري في الصحاح الأول أعني الزمن الذي بين حلبتي الناقة فإنها إذا حلبت وشح لبنها أطلق ولدها ليرضعها ليدر اللبن ثم تحلب ثانياً. 1605- قوله: (وفي رواية سعيد بن المسيب مرسلاً) أي بحسب الصحابي، وإسناد الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (أفضل العيادة سرعة القيام) قال الطيبي أي أفضل ما يفعله العائد في العيادة أن يقوم سريعاً. قال ميرك: والأظهر أن يقال أفضل العيادة عيادة فيها سرعة القيام هذا ويستثنى منه ما إذا ظن أن المريض يؤثر التطويل لنحو صداقة أو تبرك أو قيام بما يصلحه ونحو ذلك (رواه) أي ما ذكر من الحديثين الموصول والمرسل (البيهقي في شعب الإيمان) ولم أقف على سنده. 1606- قوله: (ما تشتهي) فيه أنه ينبغي سؤال المريض عن أحواله وعما يحتاج إليه (من كان عنده خبز برّ فليبعث) أي به (إلى أخيه) فيه أنه ينبغي إيثار المريض والمحتاج على نفسه وعياله فيخص به ما جاء من حديث ابدأ بنفسك إلا أن يقال المراد من كان عنده خبز بر زائد على قوته وقوت عياله (إذا اشتهى مريض أحدكم شيئاً) أي غير مخالف لمرضه، ويحتمل أن المراد ولو مخالفاً وكثيراً ما يجعل الله شفاءه فيما يشتهى وإن كان مخالفاً ظاهراً، قاله السندي. وقال في اللمعات: قوله إذا اشتهى مريض أحدكم أي اشتهاء صادقاً، فإنه علامة الصحة وقد لا يضر لبعض المرضى الأكل مما يشتهي إذا كان قليلاً ويقوي الطبيعة ويفضي إلى الصحة ولكن فيما لا يكون ضرره غالباً، وبالجملة ليس هذا الحكم كلياً بل جزئيا. وقال الطيبي: مبني على التوكل وأنه هو الشافي

فليطعمه)) . رواه ابن ماجه. 1607 - (72) وعن عبد الله بن عمرو، قال: توفي رجل بالمدينة ممن ولد بها، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((يا ليته مات بغير مولده، قالوا: ولم ذلك يا رسول الله؟ قال: إن الرجل إذا مات بغير مولده قيس له من مولده إلى منقطع أثره ـــــــــــــــــــــــــــــ أو على اليأس من حياته لكونه قد شارف الموت. وقيل في الحديث حكمة لطيفة، وهي أن المريض إذا تناول ما يشتهيه وإن كان يضر قليلاً كان أنفع أو أقل ضرراً مما لا يشتهيه وإن كان نافعاً لاسيما إن كان ما يشتهيه غداء بلاغاً كالخبر والكعك فينبغي للطبيب الكيس أن يجعل شهوة المريض من جملة أدلته على الطبيعة وما يهتدي به إلى طريق علاجه (فليعمه) من الإطعام. قال المناوي: أي ما اشتهاه ندباً لأن المريض إذا تناول ما اشتهاه عن شهوة صادقة طبيعية وإن كان فيه ضرر ما فهو أنفع له مما لا يشتهيه وإن كان نافعاً لكن لا يطعم إلا قليلاً بحيث تنكسر حدة شهوته. قال بقراط: الإقلال من الضار خير من الإكثار من النافع ووجود الشهوة في المريض علامة جيدة عند الأطباء. قال ابن سينا: مريض يشتهي أحب إلى من صحيح لا يشتهي، وأرجع لمزيد الكلام إلى زاد المعاد (ج2:ص90-91) (رواه ابن ماجه) في الجنائز، وفي الطب، وفي إسناده صفوان بن هبيرة العيشى. قال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمته: قال أبوحاتم شيخ، وروى له ابن ماجه حديثاً واحداً في الطب. وقال العقيلي لا يتابع على حديثه ولا يعرف إلا به، وذكر البوصيري في الزوائد أن ابن حبان ذكره في الثقات. وقال الحافظ في التقريب. أنه لين الحديث، وفي الباب عن أنس قال دخل النبي صلى الله عليه وسلم على مريض يعوده فقال أتشتهي شيئاً أتشتهي كعكاً قال نعم فطلبوا له. أخرجه ابن ماجه وابن السني، وفي سنده يزيد بن أبان الرقاشي، قال في الزوائد: إسناده ضعيف لضعف يزيد الرقاشي. 1607- قوله: (وعن عبد الله بن عمرو) بالواو (توفي رجل) أي مات (ممن ولد بها) أي بالمدينة (يا ليته مات بغير مولده) لعله صلى الله عليه وسلم لم يرو بذلك ياليته مات بغير المدينة بل أراد ياليته كان غريباً مهاجراً بالمدينة ومات بها فإن الموت في غير مولده فيمن مات بالمدينة كما يتصور بأن يولد في المدينة ويموت في غيرها كذلك يتصور بأن يولد في غير المدينة ويموت بها فليكن التمني راجعاً إلى هذا الشق حتى لا يخالف الحديث حديث فضل الموت بالمدينة المنورة (أن الرجل) يعني الإنسان (إذا مات بغير مولده) أي بغير المحل الذي ولد فيه بأن مات غريباً سواء كان في سفر أو في إقامة بغير وطنه (قيس له) أي أمر الله الملائكة أن تقيس له أي تذرع له (من مولده إلى منقطع) بفتح الطاء (أثره) أي إلى موضع قطع أجله، فالمراد بالأثر الأجل، لأنه يتبع العمر

في الجنة)) . رواه النسائي، وابن ماجه. 1608 - (73) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((موت غربة شهادة)) رواه ابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال زهير- والمرأ ما عاش ممدود له أجل- لا ينتهي العمر حتى ينتهي الأثر. ذكره الطيبي. ويحتمل أن يكون المراد إلى موضع انقطع فيه سفره وانتهى إليه فمات فيه يعني إلى منتهي سفره ومشيه فالمراد أثر أقدامه (في الجنة) متعلق بقيس، وظاهره أنه يعطي له في الجنة هذا القدر لأجل موته غريباً يعني بفسح له في الجنة بقدر مسافة ما بين مولده ومنتهى سفره، وقيل هذا ليس بمراد فإن هذا القدر من المكان لا اعتبار له في جنب سعة الجنة إلا أن يقال المراد يعطي ثواب عمل عمله في مثل هذه المسافة. وقيل: منقطع أثره هو قبره، وفي الجنة متعلق بمحذوف، والمعنى يفسح له في قبره قدر ما بين مولده وبين قبره ويفتح له باب إلى الجنة ودلالة اللفظ على هذا المعنى خفية (رواه النسائي وابن ماجه) في الجنائز وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه. 1608- قوله: (موت غربة) بضم الغين مصدر غريب بفتح الراء يغرب بضمها أي نزح عن وطنه، فالمراد بالغربة غربة بالجسم (شهادة) أي في حكم الآخرة، وهذا إذا لم يكن الغريب عاصياً بغربته، وفي الحديث دليل على فضيلة موت الغربة (رواه ابن ماجه) في الجنائز من رواية الهذيل بن الحكم الأزدي عن عبد العزيز بن أبي رواد عن عكرمة عن ابن عباس، وأخرجه أيضاً البيهقي في الشعب من هذا الطريق وقال أشار البخاري إلى تفرد الهذيل به، وهو منكر الحديث، قال وروينا من حديث إبراهيم بن بكر الكوفي عن عبد العزيز بن أبي رواد وزعم ابن عدي أنه سرقه من الهذيل- انتهى كلام البيهقي. وقال السندي في حاشية ابن ماجه: قال السيوطي أورد ابن الجوزي هذا الحديث في الموضوعات من وجه آخر عن عبد العزيز ولم يصب في ذلك، وقد سقت له طرقاً كثيرة في اللآلي المصنوعة. قال الحافظ ابن حجر في التلخيص: إسناد ابن ماجه ضعيف، لأن الهذيل منكر الحديث، وذكر الدارقطني في العلل الخلاف فيه على الهذيل وصحح قول من قال عن الهذيل عن عبد العزيز عن نافع عن ابن عمر واغتر عبد الحق بهذا وادعى أن الدارقطني صححه من حديث ابن عمر وتعقبه ابن القطان فأجاد وفي الزوائد هذا إسناد فيه الهذيل بن الحكم قال فيه البخاري منكر الحديث. وقال ابن عدي: لا يقيم الحديث. وقال ابن حبان: منكر الحديث جداً. وقال ابن معين: هذا الحديث منكر ليس بشيء وقد كتبت عن الهذيل ولم يكن به بأس -انتهى. وقال المنذري في الترغيب: قد جاء في أن الموت الغريب شهادة جملة من الأحاديث لا يبلغ شيء منها درجة الحسن فيما أعلم - انتهى. وقد أطال الحافظ الكلام على طرق هذا الحديث في التلخيص (ص169) فعليك أن ترجع إليه.

1609- (74) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مات مريضاً مات شهيداً، أو وقى فتنة القبر، وغدى وريح عليه برزقه من الجنة)) رواه ابن ماجه، والبيهقي في شعب الإيمان. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1609- قوله: (من مات مريضاً) قال السندي: هذا إن صح يحمل على مرض مخصوص كمرض البطن مثلاً-انتهى. وذكر ابن حجر أن القرطبي قال: هذا عام في جميع الأمراض لكن يقيد بالحديث الآخر من قتله بطنه لم يعذب في قبره. أخرجه النسائي وغيره، والمراد به الاستسقاء، وقيل: الإسهال، كذا في المرقاة. وقيل قوله مريضاً مصحف مرابطاً كما سيأتي (مات شهيداً أو وقى) أي حفظ، كذا في أكثر النسخ الموجودة عندنا وفي بعض النسخ مات شهيداً ووقى أي بالواو بدل أو، وكذا وقع في ابن ماجه (فتنة القبر) أي سؤال الملكين فيه فإنه اختبار وقيل أي عذابه (وغدى) بمعجمة ثم مهملة على بناء المفعول من الغدو (وريح) بلفظ المجهول من الرواح (عليه) حال (يرزقه) نائب الفاعل أي جئ له برزقه حال كونه نازلاً عليه (من الجنة) يعني يؤتى عنده برزقه أول النهار وآخره كالشهيد والتعدية بعلى لتضمين معنى الدر والإفاضة والإنزال ونحوها، والمراد بالغدو والرواح الدوام كما قال تعالى {أكلها دائم} [الرعد:35] أو كناية عن التعميم كقوله تعالى: {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا} [مريم:62] ويمكن أن يكون للوقتين المخصوصين رزق خاص لهم، ثم المراد بالرزق هنا حقيقته لعدم استحالته (رواه ابن ماجه) في الجنائز (والبيهقي) وفي إسناده إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي وكنى ابن جريج جده أباعطاء، والحديث ذكره ابن الجوزي في الموضوعات، وتعقبه السيوطي فقال في تعقباته (ص22) حديث أبي هريرة من مات مريضاً مات شهيداً- الحديث. قال ابن الجوزي: فيه إبراهيم بن محمد ابن أبي يحيى الأسلمي متروك. قلت (هو قول السيوطي) كان الشافعي يوثقه. والحديث أخرجه ابن ماجه، والحق فيه أنه ليس بموضوع وإنما وهم راويه في لفظه منه، فقد روى الدارقطني أن إبراهيم بن محمد أنكر على ابن جريج هذا الحديث عنه وقال إنما حدثته من مات مرابطاً فروى عني من مات مريضاً وما هكذا حدثته، وكذا قال أحمد بن حنبل إنما الحديث من مات مرابطاً فالحديث إذن من نوع المعلل أو المصحف- انتهى. ونقل السندي عن السيوطي: أنه قال أورد ابن الجوزي هذا الحديث في الموضوعات وأعله بإبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي فإنه متروك قال وقال أحمد بن حنبل إنما هو من مات مرابطاً. قال الدارقطني: بإسناده عن إبراهيم بن أبي يحيى حدثت ابن جريج هذا الحديث من مات مرابطاً فروى عني من مات مريضاً وما هكذا حدثته. وفي الزوائد. في إسناده إبراهيم بن محمد كذبه مالك ويحيى بن سعيد القطان وابن معين. وقال أحمد بن حنبل: قدري معتزلي

1610- (75) وعن العرباض بن سارية، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يختصم الشهداء والمتوفون على فرشهم إلى ربنا عزوجل في الذين يتوفون من الطاعون، فيقول الشهداء: إخواننا قتلوا كما قتلنا، ويقول المتوفون: إخواننا ماتوا على فرشهم كما متنا، فيقول ربنا: أنظروا إلى جراحتهم فإن أشبهت جراحهم جراح المقتولين، فإنهم منهم ومعهم، فإذا جراحهم قد أشبهت جراحهم)) ـــــــــــــــــــــــــــــ جهمي كل بلاء فيه. وقال البخاري: جهمي، تركه ابن المبارك والناس، فقد كذبه مالك وابن معين- انتهى. قلت: وقال الشافعي لأن يخر إبراهيم من بعد أحب إليه من أن يكذب، وكان ثقة في الحديث، كذا في التهذيب. 1610- قوله: (وعن العرباض) بكسر أوله وسكون الراء بعدها موحدة وآخره معجمة (ابن سارية) بسين مهملة وكسر راء وبمثناة تحت (يختصم الشهداء) أي الذين قتلوا في سبيل الله (والمتوفون) بتشديد الفاء المفتوحة (إلى ربنا) أي رافعين اختصامهم إلى الله، فهو حال من المعطوف والمعطوف عليه (في الذين) متعلق بيختصم (يتوفون) على بناء المفعول (من الطاعون) أي بسببه (فيقول للشهداء) بيان الاختصام (أخواننا) خبر لمبتدأ هو هم أي المطعونون أخواننا (قتلوا كما قتلنا) بيان المشابهة، ولا شك أن مقصود الشهداء بذلك إلحاق المطعون معهم ورفع درجته إلى درجاتهم. وأما الأموات على الفرش فلعله ليس مقصودهم أصالة أن لا ترفع درجة المطعون إلى درجات الشهداء، فإن ذلك حسد مذموم، وهو منزوع عن القلوب في ذلك الدار. وإنما مرادهم أن ينالوا درجات الشهداء كما نال المطعون مع موته على الفراش، فمعنى قولهم أخواننا ماتوا على فرشهم كما متنا أي فإن نالوا مع ذلك درجات الشهداء ينبغي أن ننالها أيضاً. وعلى هذا فينبغي أن يعتبر هذا الخصام خارج الجنة وإلا فقد جاء فيها {ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم} ، فينبغي أن ينال درجة الشهداء من يشتهيها في الجنة، والظاهر أن الله تعالى ينزع من قلب كل أحد في الجنة اشتهاه درجة من فوقه ويرضيه بدرجته والله تعالى أعلم، قاله السندي (ويقول المتوفون) أي على فرشهم (أخواننا) أي هم أمثالنا (كما متنا) بكسر الميم وضمها (أنظروا) أي تأملوا ليتبين لكم الحكم وأبصروا (إلى جراحتهم) بكسر الجيم وبفتح والخطاب للملائكة أو للفريقين المختصمين. وفي النسائي إلى جراحهم، وكذا نقله الجزري (ج3:ص341) عن النسائي، وهكذا وقع في رواية لأحمد، وفي أخرى له: إلى جراحات المطعنين (فإن أشبهت جراحهم) جمع جراحة بالكسر (فإنهم منهم) أي ملحق بهم في ثوابهم (ومعهم) أي في حشرهم ومقامهم (فإذا) أي فنظروا فإذا (جراحهم) أي جراح المطعونين (قد أشبهت جراحهم) أي جراح المقتولين. زاد في رواية لأحمد: فيلحقون معهم. واستدل بالحديث على أستواء شهيد الطاعون وشهيد المعركة، ويدل عليه

(2) باب تمنى الموت وذكره

رواه أحمد، والنسائي. 1611 - (76) وعن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الفار من الطاعون كالفار من الزحف، والصابر فيه له أجر شهيد)) رواه أحمد. (2) باب تمنى الموت وذكره {الفصل الأول} 1612- (1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يتمنى ـــــــــــــــــــــــــــــ أيضاً ما روى الطبراني في الكبير. وقال الحافظ: أخرجه أحمد بسند حسن عن عقبة بن عبد السملي رفعه يأتي الشهداء والمتوفون بالطاعون فيقول أصحاب الطاعون نحن شهداء فيقال أنظروا، فإن كان جراحهم كجراح الشهداء تسيل دماً وريحها كريح المسك فهم شهداء فيجدونهم كذلك (رواه أحمد) (ج4:ص128-129) (والنسائي) في الجنائز. قال الحافظ: بسند حسن. 1611- قوله: (الفار من الطاعون كالفار من الزحف) أي جهاد الكفار فكما يحرم الفرار من الزحف يحرم الخروج من بلد وقع فيها الطاعون بقصد الفرار والزحف في الأصل مصدر أطلق على الجيش العظيم، لأنه يرى لكثرته كأنه يزحف باسته أي دبره على الأرض. قال الطيبي: شبه به في ارتكاب الكبيرة والزحف الجيش الدهم الذي لكثرته كأنه يزحف أي يدب دبيباً من زحف الصبي إذا دب على أسته قليلاً قليلاً سمى بالمصدر (والصابر فيه) أي في الطاعون (له أجر شهيد) سواء مات به أو لا، لما في إثبات من الرضا والوقوف مع المقدور (رواه أحمد) بسند حسن، قاله المنذري. وقال الهيثمي: رجاله ثقات. وأخرجه أيضاً البزار والطبراني في الأوسط وابن خزيمة. قال الحافظ: وسنده صالح للمتابعات وله شاهد جيد من حديث عائشة مرفوعاً في أثناء حديث قلت يارسول الله فما الطاعون؟ قال غدة كغدة الإبل المقيم فيها كالشهيد والفار منها كالفار من الزحف أخرجه أحمد وابن خزيمة. قال الحافظ: بسند حسن، وأبويعلى والطبراني في الأوسط. قال الهيثمي رجال أحمد ثقات. (باب تمنى الموت) أي حكم تمنيه (وذكره) أي فضل ذكر الموت. 1612- قوله: (لا يتمنى) قال الحافظ: كذا للأكثر بإثبات التحتية وهو لفظ نفي بمعنى النهى، ووقع في رواية الكشمهيني: لا يتمن على لفظ النهى أي بدون الياء، ووقع في رواية معمر في كتاب التمنى، بلفظ: لا يتمنى للأكثر،

أحدكم الموت، إما محسناً فلعله أن يزداد خيراً، وإما مسيئاً فلعله أن يستعتب)) ـــــــــــــــــــــــــــــ وبلفظ: لا يتمنين للكشمهيني بزيادة نون التأكيد بعد التحتية – انتهى. وقال الطيبي: الياء في قوله: لا يتمنى مثبتة في رسم الخط في كتب الحديث، فلعله نهى ورد على صيغة الخبر، أو المراد منه لا يتمن فأجرى مجرى الصحيح. وقيل: هو لفظ النهى وأشبعت الفتحة. قيل: والنفي بمعنى النهى أبلغ وآكد لإفادته أن من شأن المؤمن انتفاء ذلك عنه وعدم وقوعه عنه بالكلية أو لأنه قدر أن المنهى حين ورد النهى عليه انتهى عن المنهى عنه، وهو يخبر عن انتهائه ولو ترك على النهى المحض ما كان أبلغ (أحدكم) الخطاب للصحابة والمراد هم ومن بعدهم من المسلمين عموماً (الموت) قال التوربشتي: النهى عن تمنى الموت وإن أطلق في هذا الحديث، فالمراد منه المقيد، كما في حديث أنس الآتي، فعلى هذه يكره تمنى الموت من ضر أصابه في نفسه أو ماله، لأنه في معنى التبرم عن قضاء الله في أمر يضره في دنياه وينفعه في آخرته ولا يكره للخوف في دينه من فساد (إما محسناً) قال ابن الملك: بكسر الهمزة أصله "إن ما" فأدغمت، و"ما" زائدة عوضاً عن الفعل المحذوف أي إن كان محسناً. وقال المالكي: تقديره إما أن يكون محسناً، وإما أن يكون مسيئاً، فحذف يكون مع إسمها مرتين وأبقى الخبر وأكثر ذلك إنما يكون بعد أن، ولو قال زين العرب كقوله الناس مجزيون بأعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر. وقال السندي: إما بكسر الهمزة بتقدير يكون أي لا يخلو التمنى إما يكون محسناً فليس له أن يتمنى فإنه لعله يزداد خيراً بالحياة وإما مسيئاً فكذلك ليس له أن يتمنى فإنه لعله أن يستعتب أي يرجع عن الإساءة ويطلب رضاءالله تعالى بالتوبة. وجملة إما محسناً إلخ بمنزلة التعليل للنهى، ويمكن أن يكون إما بفتح الهمزة، والتقدير إما إن كان محسناً فليس له التمنى لأنه لعله يزداد بالحياة خيراً فهو مثل قوله تعالى: {فأما إن كان من المقربين} [الواقعة:88] والله تعالى أعلم – انتهى. (فلعله) جواب إن الشرطية (أن يزداد خيراً) أي من فعل الخير (وإما مسيئاً فلعله أي يستعتب) أي يرجع عن موجب العتب عليه. وقيل: أي يطلب العتبى وهو الرضا أي يطلب رضاءالله تعالى بالتوبة ورد المظالم وتدارك الفائت. وقال الحافظ: يستعتب أي يسترضى الله بالإقلاع والاستغفار والاستعتاب طلب الأعتاب. والهمزة للإزالة أي يطلب إزالة العتاب عاتبه لامه واعتبه أزال عتابه. قال الكرماني: وهو مما جاء على غير القياس إذ الاستفعال إنما ينبني من الثلاثي لا من المزيد. قال ابن الملك: لعل هنا بمعنى عسى. وقال القسطلاني: لعل في الموضعين للرجاء المجرد من التعليل وأكثر مجيئها في الرجاء إذا كان معه تعليل نحو {وأتقو الله لعلكم تفلحون} [آل عمران:200،130] انتهى. قال الحافظ: وفيه إشارة إلى أن المعنى في النهى عن تمنى الموت والدعاء به هو انقطاع العمل وبالموت فإن الحياة يتسبب منها العمل وبالعمل يحصل زيادة الثواب ولو لم يكن إلا استمرار التوحيد، فهو أفضل الأعمال ولا يرد على هذا أنه يجوز أن يقع الارتداد عن الإيمان، لأن ذلك نادر والإيمان بعد أن تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد، وعلى تقدير وقوع ذلك وقد وقع لكن نادراً فمن سبق له في علم الله خاتمة السوء فلا بد من وقوعها

رواه البخاري. 1613 - (2) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يتمنى أحدكم الموت ولا يدع به من قبل أن يأتيه، إنه إذا مات انقطع أمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً)) ـــــــــــــــــــــــــــــ طال عمره أو قصر فتعجيله لطلب الموت لا خير له فيه- انتهى. (رواه البخاري) في المرضى، وفي التمني وأخرجه أيضاً أحمد في مواضع والنسائي في الجنائز، والدارمي والبيهقي (ج3:ص377) . 1613 – قوله: (لا يتمنى) وفي مسلم: لا يتمنين بزيادة نون التأكيد، وهكذا في جامع الأصول (ج3:ص108) (أحدكم الموت) أي بقلبه (ولا يدع) أي بلسانه (به) أي بالموت. وقال الحافظ: الدعاء بالموت أخص من تمنى الموت وكل دعاء تمنى من غير عكس. قال ابن الملك: قوله: لا يدع بحذف الواو على أنه نهى. قال الزين: وجه صحة عطفه على النفي من حيث أنه بمعنى النهى. وقال ابن حجر: فيه إيماء إلى أن الأول نهى على بابه، ويكون قد جمع بين لغتي حذف حرف العلة وإثباته (من قبل أن يأتيه) قال الحافظ: وهو قيد في الصورتين، ومفهومه أنه إذا حل به لا يمنع من تمنيه رضا بلقاء الله ولا من طلبه من الله لذلك، وهو كذلك ولهذه النكتة عقب البخاري حديث أبي هريرة بحديث عائشة: اللهم اغفرلي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى، إشارة إلى أن النهى مختص بالحالة التي قبل نزول الموت، فلله دره ما كان استحضاره وإيثاره الأخفى على الأجلى تشحيذاً للأذهان (إنه) بكسر الهمزة والضمير للشأن وهو استئناف فيه معنى التعليل (إذا مات) أي أحدكم (انقطع أمله) أي رجاءه من زيادة الخير. قال الطيبي: بالهمزة في الحميدى وجامع الأصول، وفي شرح السنة بالعين- انتهى. قلت: وكذا وقع في النسخ الموجودة عندنا لصحيح مسلم عمله أي بالعين المهملة، وكذا ذكره المنذري في الترغيب، وكذا وقع في جامع الأصول (ج3:ص108) وقال النووي: هكذا هو في بعض النسخ عمله، وفي كثير منها أمله، وكلاهما صحيح لكن الأول أجود وهو المكرر في الأحاديث (وإنه) أي الشأن (لا يزيد المؤمن عمره) بضم الميم ويسكن أي طول عمره (إلا خيراً) لصبره على البلاء وشكره على النعماء ورضاه بالقضاء وامتثاله أمر المولى. قال الحافظ: واستشكل بأنه قد يعمل السيئات فيزيد عمره شراً وأجيب بأجوبة: أحدها حمل المؤمن على الكامل، وفيه بعد. والثاني أن المؤمن بصدد أن يعمل ما يكفر ذنوبه إما من إجتناب الكبائر وإما من فعل حسنات أخر قد تقاوم بتضعيفها سيئاته ومادام الإيمان باق فالحسنات بصدد التضعيف والسيئات بصدد التكفير. والثالث يقيد ما أطلق في هذه الرواية بما وقع في الرواية المتقدمة من الترجي حيث جاء بقوله لعله والترجي مشعر بالوقوع غالباً لا جزماً، فخرج الخبر مخرج تحسين الظن بالله وأن المحسن يرجو من الله الزيادة بأن يوفقه للزيادة من

رواه مسلم. 1614- (3) وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يتمنين أحدكم الموت من ضر أصابه، فإن كان لا بد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ عمله الصالح وأن المسيء لا ينبغي له القنوط من رحمة الله ولا قطع رجاءه (رواه مسلم) في الدعوات، وأخرجه أيضاً أحمد. 1614 – قوله: (لا يتمنين أحدكم الموت من ضر) بضم الضاد وتفتح أي من أجل ضرر مالي أو بدني (أصابه) فإنه يدل على الجزع في البلاء وعدم الرضاء بالقضاء. قال الحافظ: قوله من ضر أصابه. حمله جماعة من السلف على الضر الدنيوي فإن وجد الضر الأخروي بأن خشي فتنة في دينه لم يدخل في النهى، ويمكن أن يؤخذ من رواية ابن حبان لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به في الدنيا على أن في هذا الحديث سببية أي بسبب أمر من الدنيا وقد فعل ذلك عمر بن الخطاب كما في الموطأ: اللهم كبرت سني وضعفت قوتي وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط. وعند أبي داود من حديث معاذ مرفوعاً فإذا أردت بقوم فتنة فتوفني إليك غير مفتون (فإن كان) أي أحدكم (لا بد فاعلاً) ما ذكر من تمنى الموت، ففي رواية للبخاري فإن كان لا بد متمنياً للموت (فليقل إلخ) أي فلا يتمن صريحاً بل يعدل عنه إلى التعليق بوجود الخير فيه. قال الحافظ: هذا يدل على أن النهى عن تمنى الموت مقيد بما إذا لم يكن على هذه الصيغة، لأن في التمنى المطلق نوع اعتراض ومراغمة للقدر المختوم، وفي هذه الصورة المأمور بها نوع تفويض وتسليم للقضاء، وقوله: فإن كان لا بد إلخ. فيه ما يصرف عن حقيقته من الوجوب والاستحباب، ويدل على أنه لمطلق الإذن لأن الأمر بعد الحظر لا يبقى على حقيقته (اللهم أحيني) أي أبقني على الحياة (ما كانت الحياة) أي مدة بقاءها (خيراً لي) أي من الموت، وهو أن تكون الطاعة غالبة على المعصية والأزمنة خالية عن الفتنة والمحنة (وتوفني) أي أمتني (إذا كانت الوفاة خيراً لي) من الحياة بأن يكون لأمر عكس ما تقدم. قال العراقي في شرح الترمذي: لما كانت الحياة حاصلة وهو متصف بها حسن الإتيان بما أي ما دامت الحياة متصفة بهذا الوصف، ولما كانت الوفاة معدومة في حال التمنى لم يحسن أن يقول ما كانت بل أتى بإذا الشرطية فقال إذا كانت أي إذا آل الحال إلى أن تكون الوفاة بهذا الوصف (متفق عليه) أخرجه البخاري في المرضى والدعوات، ومسلم في الدعوات، وأخرجه أيضاً الترمذي وأبوداود والنسائي في الجنائز وابن ماجه في الزهد والبيهقي (ج3:ص377) .

1615- (4) وعن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1615- قوله: (من أحب لقاء الله) أي المصير إلى الدار الآخرة بمعنى أن المؤمن عند الغرغرة يبشر برضوان الله فيكون موته أحب إليه من حياته، قيل: الحب هنا هو الذي يقتضيه الإيمان بالله والثقة بوعده دون ما يقتضيه حكم الجبلة. وقال الخطابي: معنى محبة العبد للقاء الله إيثاره الآخرة على الدنيا فلا يجب استمرار الإقامة فيها بل يستعد للارتحال عنها والكراهة بضد ذلك، واللقاء على وجوه منها الرؤية، ومنها البعث كقوله تعالى: {قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله} [الأنعام: 31] أي بالبعث ومنها الموت كقوله: {من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت} . وقال الجزري في النهاية: المراد بلقاء الله هنا المصير إلى الدار الآخرة وطلب ما عند الله (وعدم الركون إلى الدنيا والرضا بحياتها والاطمينان بها) وليس الغرض به الموت، لأن كلا يكرهه فمن ترك الدنيا، وأبغضها أحب لقاء الله ومن آثرها وركن إليها كره لقاء الله لأنه إنما يصل إليه بالموت، وقوله: والموت دون لقاء الله يبين أن الموت غير اللقاء لكنه معترض دون الغرض المطلوب، فيجب أن يصبر عليه، ويحتمل مشاقه حتى يصل بعده إلى الفوز باللقاء. قال الطيبي: يريد أن قول عائشة "إنا لنكره الموت" يوهم أن المراد بلقاء الله في الحديث الموت، وليس كذلك، لأن لقاء الله غير الموت. بدليل قوله: في الرواية الأخرى، والموت دون لقاء الله لكن لما كان الموت وسيلة إلى لقاء الله عبر عنه بلقاء الله. قال الحافظ: وقد سبق ابن الأثير إلى تفسير لقاء الله بغير الموت الإمام أبوعبيد القاسم بن سلام فقال: ليس وجهه عندي كراهة الموت وشدته، لأن هذا لا يكاد يخلو عنه أحد، ولكن المذموم من ذلك إيثار الدنيا والركون إليها وكراهية أن يصير إلى الله والدار الآخرة قال ومما يبين ذلك أن الله تعالى عاب قوماً بحب الحياة فقال: {إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها} . قلت: الصواب في معنى الحديث ما فسره به قائله صلى الله عليه وسلم وهو أن هذه المحبة محمولة على حالة النزع والاحتضار والمعاينة. قال النووي: هذا الحديث يفسر آخره أوله وبين المراد بباقي الأحاديث المطلقة من أحب لقاء الله وكره لقاء الله، ومعنى الحديث أن الكراهة المعتبرة هي التي تكون عند النزع في حالة لا تقبل توبته ولا غيرها، فحينئذ يبشر كل إنسان بما هو صائر إليه وما أعد له ويكشف له عن ذلك فأهل السعادة يحبون الموت ولقاء الله لينتقلوا إلى ما أعد لهم ويحب الله لقاءهم أي فيجزل لهم العطاء وأهل الشقاوة يكرهون لقاءه لما علموا من سوء ما ينتقلون إليه ويكره الله لقاءهم أي يبعدهم عن رحمته وكرامته ولا يريد ذلك بهم- انتهى. (أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله) حين يرى ماله من العذاب عند الغرغرة (كره الله لقاءه) أي أبعده عن

فقالت عائشة أو بعض أزواجه: إنا لنكره الموت، قال: ليس ذلك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت ـــــــــــــــــــــــــــــ رحمته وأدناه من نقمته، فإن قيل: الشرط ليس سبباً للجزاء بل الأمر بالعكس. أجيب بأن المعنى فليفرح أو فأخبره بأن الله يحب لقاءه. قال الكرماني: مثله مؤل بالإخبار أي من أحب لقاء الله أخبره الله بأن الله أحب لقاءه، وكذلك الكراهة. قال الحافظ في قوله: أحب الله لقاءه. العدول عن الضمير إلى الظاهر تفخيماً وتعظيماً ودفعاً لتوهم عود الضمير على الموصول لئلا يتحد في الصورة المبتدأ والخبر، ففيه إصلاح اللفظ لتصحيح المعنى، وأيضاً فعود الضمير على المضاف إليه قليل. وقال ابن الصائغ في شرح المشارق: يحتمل أن يكون لقاء الله مضافاً للمفعول فأقامه مقام الفاعل ولقاءه إما مضاف للمفعول أو للفاعل الضمير أو للموصول، لأن الجواب إذا كان شرطاً فالأولى أن يكون فيه ضمير نعم هو موجود هنا ولكن تقديراً (فقالت عائشة أو بعض أزواجه) كذا في هذه الرواية بالشك، وجزم سعد بن هشام في روايته عن عائشة عند مسلم بأنها هي التي قالت ذلك ولم يتردد. قال الحافظ: وهذه الزيادة في هذا الحديث لا تظهر صريحاً هل هي من كلام عبادة والمعنى أنه سمع الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم وسمع مراجعة عائشة أو من كلام أنس (راوي الحديث عن عبادة) بأن يكون حضر ذلك فقد وقع في رواية حميد عن أنس عند أحمد وغيره بلفظ: فقلنا يا رسول الله فيكون أسند القول إلى جماعة وإن كان المباشر له واحداً وهي عائشة، ويحتمل أيضاً أن يكون من كلام قتادة (الراوي عن أنس عن عبادة) أرسله في رواية همام (الراوي عن قتادة) ووصله في رواية سعيد بن أبي عروبة عنه عن زرارة عن سعد بن هشام عن عائشة (عند مسلم) فيكون في رواية همام إدراج، وهذا أرجح في نظري، فقد أخرجه مسلم عن هداب بن خالد عن همام مقتصراً على أصل الحديث دون قوله: فقالت عائشة إلخ ثم أخرجه من رواية سعد بن عروبة موصولاً تاماً، وكذا أخرجه هو وأحمد من رواية شعبة والنسائي من رواية سليمان التيمي كلاهما عن قتادة، وكذا جاء عن أبي هريرة وغير واحد من الصحابة بدون المراجعة. وقد أخرجه أبويعلى عن هدبة بن خالد عن همام تاماً، كما أخرجه البخاري عن حجاج عن همام، وهدبة هو هداب شيخ مسلم فكان مسلماً، حذف الزيادة عمداً لكونها مرسلة من هذا الوجه واكتفى بإيرادها موصولة من طريق سعيد بن أبي عروبة، وقد رمز البخاري إلى ذلك حيث علق رواية شعبة بقوله اختصره أبوداود وعمر وعن شعبة، وكذا أشار إلى رواية سعيد تعليقاً، وهذا من العلل الخفية جداً -انتهى كلام الحافظ. (إنا لنكره الموت) وفي رواية سعد بن هشام: فقلت. يا نبي الله أكراهية الموت فكلنا يكره الموت أي بحسب الطبع وخوفاً مما بعده (ليس ذلك) بكسر الكاف أي ليس الأمر كما ظننت يا عائشة إذ ليس كراهة المؤمن الموت لخوف شدته كراهة لقاء الله، بل تلك الكراهة هي كراهة الموت لإيثار الدنيا على الآخرة والركون إلى الحظوظ العاجلة إذا بشر بعذاب الله وعقوبته عند حضور الموت (ولكن المؤمن)

بشر برضوان الله وكرامته، فليس أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله، وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكره إليه مما أمامه، فكره لقاء الله، وكره الله لقاءه)) . متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ بتشديد نون لكن، ولأبي ذر: ولكن المؤمن بالتخفيف ورفع المؤمن (بشر برضوان الله) بضم الموحدة وكسر الشين المعجمة المشددة (مما أمامه) بفتح الهمزة أي مما يستقبله بعد الموت (فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه) وفي حديث حميد عن أنس عند أحمد: ولكن المؤمن إذا حضر جاءه البشير من الله وليس شيء أحب إليه من أن يكون قد لقي الله فأحب الله لقاءه (وإن الكافر إذا حضر) على بناء المفعول أي حضره الموت (بشر) فيه تهكم نحو {فبشرهم بعذاب أليم} ، أو مشاكلة للمقابلة، أو أريد المعنى اللغوي أي أخبر (بعذاب الله له) في القبر (وعقوبته) وهي أشد العذاب في النار (فليس شيء) يومئذ (أكره إليه مما أمامه) أي قدامة (فكره لقاء الله وكره الله لقاءه) وفي حديث عائشة عند عبد بن حميد مرفوعاً: إذا أراد الله بعبد خيراً قيض له قبل موته بعام ملكاً يسدده ويوفقه حتى يقال مات بخير ما كان فإذا حضر ورأى ثوابه اشتاقت نفسه فذلك حين أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه وإذا أراد الله بعبد شراً قيض له قبل موته بعام شيطاناً فأضله وفتنه حتى يقال مات بشر ما كان عليه فإذا حضر ورأى ما أعد له من العذاب جزعت نفس فذلك حين كره لقاء الله وكره الله لقاءه وفي الحديث فوائد: منها أن المحتضر إذا ظهر عليه علامات السرور كان ذلك دليلاً على أنه بشر بالخير، وكذا بالعكس. ومنها أن محبة لقاء الله لا تدخل في النهي عن تمني الموت، لأنها ممكنة مع عدم تمني الموت كأن تكون المحبة حاصلة لا يفترق حاله فيها بحصول الموت ولا بتأخره، وأن النهي عن تمني الموت محمول على حالة الحياة المستمرة، وأما عند الاحتضار والمعاينة فلا تدخل تحت النهي، بل هي مستحبة. ومنها أن في كراهة الموت في حال الصحة تفصيلاً فمن كرهه إيثاراً للحياة على ما بعد الموت من نعيم الآخرة كان مذموماً، ومن كرهه خشية أن يفضي إلى المؤاخذة كأن يكون مقصراً في العمل لم ستعد له بالأهبة بأن يتخلص من التبعات ويقوم بأمر الله كما يجب فهو معذور، لكن ينبغي لمن وجد ذلك أن يبادر إلى أخذ الأهبة حتى إذا حضره الموت لا يكرهه بل يحبه لما يرجو بعده من لقاء الله (متفق عليه) فيه نظر فإن الحديث من رواية عبادة مع الزيادة المذكورة. أعني قوله فقالت عائشة أو بعض أزواجه إلى آخره من أفراد البخاري، أخرجه في أواخر الرقاق، ورواه مسلم بدون هذه الزيادة، فإنه أخرجه أولاً عن هداب بن خالد عن همام عن قتادة عن أنس بن مالك عن عبادة مقتصراً على أصل الحديث دون قوله فقالت عائشة إلخ. وكذا أخرجه أحمد والترمذي في الجنائز والزهد، والنسائي في الجنائز من طرق أخرى عن

1616- (5) وفي رواية عائشة والموت قبل لقاء الله. 1617- (6) وعن أبي قتادة: أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر عليه بجنازة، فقال: مستريح، أو مستراح منه، ـــــــــــــــــــــــــــــ قتادة بدون المراجعة، وكذا جاء عن أبي هريرة، ثم أخرجه مسلم من رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن زرارة عن سعد بن هشام عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه فقلت يا نبي الله أكراهية الموت فكلنا يكره الموت قال ليس كذلك ولكن المؤمن. فذكره. والحاصل أن المراجعة المذكورة ليست عند مسلم في حديث عبادة بل هي في حديث عائشة كما رأيت، فالصواب أن يعزو المصنف الحديث للبخاري فقط أو يذكر لفظ "متفق عليه" بعد قوله:"كره الله لقاءه" ثم يقول وزاد البخاري في رواية من طريق همام عن قتادة فقالت عائشة أو بعض أزواجه إنا لنكره الموت قال ليس ذلك الخ، وحديث عائشة مع المراجعة المذكورة أخرجه أيضاً أحمد والترمذي والنسائي كلاهما في الجنائز، وابن ماجه في الزهد. 1616- قوله: (وفي رواية عائشة إلخ) هذه الرواية عند مسلم وحده أخرجها من رواية الشعبي عن شريح ابن هانيء عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه والموت قبل لقاء الله، وعزاها الحافظ في الفتح لمسلم والنسائي وذكرها بلفظ: والموت دون لقاء الله، قال وهذه الزيادة من كلام عائشة فيما يظهر لي ذكرتها استنباطاً مما تقدم- انتهى. (والموت قبل لقاء الله) يعني لا تمكن رؤية الله قبل الموت بل بعده، أو المراد أن من أحب لقاء الله أحب الموت، لأنه يتوصل به إلى لقاءه ولا يتصور وجوده قبله، وفيه دلالة على أن اللقاء غير الموت. وقال الحافظ: وفي الحديث إن الله تعالى لا يراه في الدنيا أحد من الأحياء وإنما يقع ذلك للمؤمنين بعد الموت أخذاً من قوله والموت دون لقاء الله وقد تقدم أن اللقاء أعم من الموت فإذا انتفى اللقاء انتفت الرؤية، وقد ورد بأصرح من هذا في صحيح مسلم من حديث أبي أمامة مرفوعاً في حديث طويل وفيه: واعلموا أنكم لن تروه حتى تموتوا. 1617- قوله: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر) بضم الميم وتشديد الراء على البناء المجهول من المرور (عليه بجنازة) قال الحافظ: لم أقف على اسم المار ولا المرور بجنازته (فقال) - صلى الله عليه وسلم - (مستريح) أي هو مستريح. قال في النهاية: يقال أراح الرجل واستراح إذا رجعت إليه نفسه بعد الإعباء (أو مستراح منه) أو للتنويع أو للترديد أي لا يخلو الميت عن أن يكون من أحد هذين القسمين، فعلى الأول يراد بالميت الجنس استطراداً، وعلى الثاني

فقالوا: يا رسول الله! ما المستريح والمستراح منه؟ فقال: العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله، والعبد الفاجر يستريح منه العباد، والبلاد، والشجر، والدواب)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشخص الحاضر. وفي الصحيحين والمؤطا والنسائي مستريح أو مستراح منه أي بالواو بدل أو. قال السندي: الواو بمعنى أو، والتقدير هذا الميت أو كل ميت إما مستريح أو مستراح منه، أو بمعناها على أن هذا الكلام بيان لمقدر يقتضيه الكلام كأنه قال: هذا الميت أو كل ميت أحد رجلين فقال مستريح ومستراح منه. وقال الحافظ: الواو فيه بمعنى أو، وهي للتقسيم على ما صرح بمقتضاه في جواب سؤالهم (فقالوا) أي الصحابة. قال الحافظ: ولم أقف على اسم السائل منهم بعينه إلا أن في رواية إبراهيم الحربي عند أبي نعيم قلنا فيدخل فيهم أبوقتادة، فيحتمل أن يكون هو السائل- انتهى. وهذا لفظ النسائي. وفي المؤطا والصحيحين قالوا بدون الفاء (ما المستريح والمستراح منه) أي ما معناهما. وفي رواية الدارقطني: ما المستراح منه بإعادة ما (فقال) كذا في جميع النسخ، وهكذا في جامع الأصول (ج11ص446) وفي الأصول قال بدون الفاء (العبد المؤمن) يحتمل أن يراد به التقى خاصة أي المؤمن الكامل، ويحتمل كل مؤمن (يستريح) أي يجد الراحة بالموت (من نصب الدنيا) بفتحتين أي من تعبها ومشقتها (وأذاها) من عطف العام على الخاص، كذا ذكره الحافظ قال السندي بعد نقله عن السيوطي: قلت وما أشبهه بعطف المتساويين (إلى رحمة الله) أي ذاهباً وواصلاً إليها، ومن ثم قال مسروق: ما غبطت شيئاً لشيء كمؤمن في لحده أمن من عذاب الله واستراح من الدنيا (والعبد الفاجر) أي الكافر أو ما يعمه والعاصي. قيل: الظاهر حمله على الكافر لمقابلته بالمؤمن، وعليه حمله النسائي حيث ترجم على الحديث بالاستراحة من الكفار. قلت: آخر الحديث أي الجملة الآتية يدل على أن المراد بالفاجر ما هو أعم من الكافر فإن الظلم والفساد والفجور يحصل من المسلم أيضاً كما يحصل من الكافر فيستريح العباد والبلاد من الفاجر المسلم كما تستريح من الفاجر الكافر، فالأولى حمل الفاجر هنا على العموم، كما قال القاري هو أعم من الكافر (يستريح منه) أي من شره (العباد) من جهة ظلمة عليهم ومن جهة أنه حين فعل منكراً أن منعوه آذاهم وعاداهم وإن سكتوا عنه أضر بدينهم ودنياهم (والبلاد) لما يأتي به من المعاصي فإنه يحصل به الجدب فيقتضي هلاك الحرث والنسل أو لما يقع له من غصبها ومنعها من حقها وصرفه في غير وجهه (والشجر) لقلعه إياها غصباً أو غصب ثمرها أو بما يحصل من الجدب لشوم معاصيه (والدواب) لاستعماله لها فوق طاقتها وتقصيره في علفها وسقيها أو للجدب بمعاصيه. قال النووي: معنى استراحة العباد من الفاجر اندفاع أذاه عنهم، وأذاه كون من وجوه منها ظلمة لهم، ومنه ارتكابه للمنكرات فإن أنكروها قاسوا مشقة من ذلك وربما نالهم ضرره وإن سكتوا عنه أثموا، وتعقب هذا

متفق عليه. 1618- (7) وعن عبد الله بن عمر، قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي، فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، ـــــــــــــــــــــــــــــ بأن من ناله الأذى من أهل المنكر لا يأثم بترك الإنكار عليهم، ويكفيه أن ينكره بقلبه أو بوجه لا يناله به أذاه. قال النووي: واستراحة الدواب منه لأنه كان يؤذيها ويضربها ويحملها ما لا يطيقه ويجيعها في بعض الأوقات وغير ذلك واستراحة البلاد والشجر لأنها تمنع القطر بمعصية، ولأنها يغصبها ويمنعها حقها من الشرب. وقال الطيبي: أما استراحة البلاد والأشجار فإن الله تعالى بفقده يرسل السماء عليكم مدراراً ويحي به الأرض والشجر والدواب بعد ما حبس بشوم ذنوبه الأمطار (متفق عليه) أخرجه البخاري في آخر الرقاق، ومسلم في الجنائز، وأخرجه أيضاً أحمد (ج5 ص302،296،304) ومالك، والنسائي في الجنائز والبيهقي (ج3 ص379) . 1618- قوله: (أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنكبي) بكسر الكاف الموحدة وتخفيف التحتية مجمع العضد والكتف. قال الحافظ وضبط في بعض الأصول بمنكبتي بلفظ التثنية (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) قال الطيبي: أو يجوز أن تكون للتخيير والإباحة. والأحسن أن تكون بمعنى بل كما في قول الشاعر: بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى وصورتها أو أنت في العين أملح، قال الجوهري: يريد بل أنت في العين أملح شبه النبي صلى الله عليه وسلم الناسك السنالك أولاً بالغريب الذي ليس له مسكن يأويه ولا سكن يسلبه ثم ترقى وأضرب عنه بقوله أو عابر سبيل لأن الغريب قد يسكن في بلد الغربة ويقيم فيها بخلاف عابر السبيل القاصد للبلد الشاسع وبينه وبينها أودية مردية ومفاوز مهلكة وهو بمرصد من قطاع طريق، فهل له أن يقيم لحظة أو يسكن لمحة كلا، ومن ثم عقبه بقوله (عند أحمد والترمذي وابن ماجه) وعد نفسك في أهل القبور. وقال ابن عمر: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء أي سر دائماً ولا تفتر من السير ساعة فإنك إن قصرت في السير انقطعت عن المقصود وهلكت في تلك الأودية، وهذا معنى المشبه به، وأما المشبه فهو قوله وخذ من صحتك لمرضك يعني عمرك لا يخلو من الصحة والمرض فإذا كنت صحيحاً سر سيرك القصد بل لا تقنع به وزد عليه ما عسى أن يحصل لك الفتور بسبب المرض وفي قوله: ومن حياتك لموتك إشارة إلى أخذ نصيب الموت وما يحصل فيه من الفتور من السقم يعني لا تقعد بسبب المرض من السير كل القعود بل ما أمكنك منه فاجتهد فيه حتى تنتهي إلى لقاء الله وما عنده من الفلاح والنجاح وإلا خبت وخسرت- انتهى. وقال النووي: معنى الحديث لا تركن إلى الدنيا ولا تتخذها وطناً ولا تحدث نفسك بالبقاء

وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك)) . رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ فيها ولا تتعلق منها بما لا يتعلق به الغريب في غير وطنه. وقيل: المراد أن ينزل المؤمن نفسه في الدنيا منزلة الغريب فلا يعلق قلبه بشيء من بلد الغربة بل قلبه متعلق بوطنه الذي يرجع إليه ويجعل إقامته في الدنيا ليقضي حاجته وجهازه للرجوع إلى وطنه، وهذا شأن الغريب أو يكون كالمسافر لا يستقر في مكانه بعينه بل هو دائم السير إلى بلد الإقامة ومن كانت هذه حاله في الدنيا فهمته تحصيل الزاد للسفر فليس له همة للاستكثار من طلب متاع الدنيا (وكان ابن عمر يقول) وفي رواية: ليث عن مجاهد عند الترمذي فقال لي ابن عمر إذا أصبحت إلخ وهو مقولة مجاهد أي قال ابن عمر مخاطباً لي (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء) وصية ابن عمر هذه مأخوذة من الحديث الذي رواه وهي متضمنة لنهاية قصر الأمل وأن الإنسان إذا أمسى لم ينتظر الصباح وإذا أصبح لم ينتظر المساء بل يظن أن أجله يدرك قبل ذلك. قال القاري أي ليكن الموت في إمسائك وإصباحك نصب عينك مقصراً للأمل مبادراً للعمل غير مؤخر عمل الليل إلى النهار وعمل النهار إلى الليل (وخذ من صحتك) أي زمن صحتك (لمرضك) وفي رواية الترمذي: قبل سقمك أي خذ زاداً من وقت صحتك لوقت مرضك أي اغتنم صحتك واغتنم العمل فيها، والمعنى إشتغل في الصحة بالطاعة بحيث لو حصل تقصير في المرض لا تجبر بذلك (ومن حياتك لموتك) أي اغتنم الأعمال الصالحة في الحياة قبل أن يحول بينك وبينها الموت. وزاد في رواية الترمذي: فإنك لا تدري يا عبد الله ما اسمك غداً يعني لعلك غداً من الأموات دون الأحياء أي لا يدري هل يقال لك حي أو ميت؟ وهذا القدر الموقوف من الحديث قد جاء معناه من حديث ابن عباس مرفوعاً أخرجه الحاكم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل وهو يعظه اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك، وفي الحديث مس المعلم أعضاء المتعلم والموعوظ عند الموعظة، وذلك للتأنيس والتنبيه ولا يفعل ذلك غالباً إلا بمن يميل إليه، وفيه حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على إيصال الخير لأمته والحض على ترك الدنيا والاقتصار على ما لابد منه (رواه البخاري) في الرقاق وأخرجه أيضاً الترمذي في الزهد، والبيهقي (ج3 ص369) وأخرجه أحمد (ج2 ص41،24،132) وابن ماجه في الزهد مقتصراً على الحديث المرفوع، وزاد أحمد، والترمذي، وابن ماجه: وعد نفسك في أهل القبور.

1619- (8) وعن جابر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول: ((لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1619- قوله: (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل موته بثلاثة أيام) يفيد كمال ضبط الراوي وأحكام المروى (يقول لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله) قال القاري: أي لا يموتن أحدكم في حال من الأحوال إلا في هذه الحالة، وهي حسن الظن بالله بأن يغفر له، فالنهي وإن كان في الظاهر عن الموت وليس إليه ذلك حتى ينتهي، لكن في الحقيقة عن حالة ينقطع عندها الرجاء لسوء العمل كيلا يصادفه الموت عليها، وفي الحديث حث على الأعمال الصالحة المقتضية لحسن الظن- انتهى. وقال السندي: أي دوموا على حسن الظن وأثبتوا عليه حتى يجيء الموت وأنتم عليه قيل الأمر بحسن الظن يستلزم الأمر بحسن العمل إذ لا يحسن الظن إلا عند حسن العمل. قال الخطابي: إنما يحسن الظن بالله من حسن عمله فكأنه قال أحسنوا أعمالكم بحسن ظنكم بالله تعالى إذ من ساء عمله ساء ظنه. وقد يكون أيضاً حسن الظن بالله من جهة الرجاء وتأميل عفوه عزوجل. وقال الطيبي: أي أحسنوا أعمالك الآن حتى يحسن ظنكم بالله عند الموت فإن من ساء عمله قبل الموت يسوء ظنه عند الموت. وقال النووي في شرح المهذب: معنى تحسين الظن بالله أن يظن إن الله تعالى يرحمه ويرجو ذلك بتدبر الآيات والأحاديث الواردة في كرم الله تعالى وعفوه ورحمته وما وعد به أهل التوحيد وما يسره لهم من رحمته يوم القامة كما قال الله تعالى في الحديث الصحيح: أنا عند ظن عبدي بي. هذا هو الصواب في معنى الحديث، وهو الذي قاله جمهور العلماء، وشذ الخطابي فذكر تأويلاً آخر أن معناه أحسنوا أعمالكم حتى يحسن ظنكم بربكم فمن حسن عمله حسن ظنه ومن ساء عمله ساء ظنه، وهذا تأويل باطل نبهت عليه لئلا يغتر به، وقال في شرح مسلم هذا تحذير من القنوط وحث على الرجاء عند الخاتمة، ومعنى إحسان الظن بالله أن يظن أنه يرحمه ويعفو عنه قالوا وفي حالة الصحة يكون خائفاً راجياً ويكونان سواء، وقيل: يكون الخوف أرجح فإذا دنت إمارات الموت غلب الرجاء أو محضه، لأن مقصود الخوف الانكفاف عن المعاصي والقبائح والحرص على الإكثار من الطاعات والأعمال وقد تعذر ذلك أو معظمه في هذا الحال فاستحب إحسان الظن المتضمن الافتقار إلى الله تعالى والإذعان له، ويؤيده حديث يبعث كل عبد على ما مات عليه. قال العلماء: معناه يبعث على الحال التي مات عليها ومثله حديث ثم بعثوا على نياتهم- انتهى. وسيأتي شيء من الكلام على هذا في شرح أنس آخر أحاديث الفصل الثاني من هذا الباب (رواه مسلم) في صفة النار، وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود في الجنائز، وابن ماجه في الزهد، والبيهقي، (ج3 ص378) .

{الفصل الثاني}

{الفصل الثاني} 1620- (9) عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن شئتم أنبأتكم: ما أول ما يقول الله للمؤمنين يوم القيامة؟ وما أول يقولون له؟ قلنا نعم يا رسول الله! قال: إن الله يقول للمؤمنين: هل أحببتم لقائي؟ فيقولون: نعم يا ربنا! فيقول: لم؟ فيقولون: رجونا عفوك ومغفرتك، فيقول: قد وجبت لكم مغفرتي)) رواه في شرح السنة، وأبو نعيم في الحلية. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1620- قوله: (إن شئتم أنبأتكم) أي أخبرتكم (ما) أي بالذي هو (أول ما يقول الله) وقال القاري: ما الأولى استفهامية والثانية موصولة (للمؤمنين) بلا واسطة أو بواسطة ملك (يوم القيامة وما أول ما يقولون) أي المؤمنون (له) أي لله تعالى (قلنا نعم) أخبرنا (يا رسول الله) وهذا توطئة للتهيؤ بالإصغاء للكلام ليحصل الإدراك على الوجه التام (هل أحببتم لقائي) قد تقدم أن المراد باللقاء المصير إلى دار الآخرة وطلب ما عند الله (فيقولون نعم يا ربنا) استعطاف لمزيد عطاءه ورضوانه (فيقول لم) أي لأي شيء أحببتم لقائي (رجونا عفوك ومغفرتك) فيه أن من حسن الظن بالله أحب لقاء الله، ولعل حكمة الاستفهام مع علمه تعالى ببواطنهم إعلام السامعين بسبب محبتهم للقاءه على حد أو لم تؤمن قال بلى (فيقول قد وجبت لكم مغفرتي) أي ثبتت لأن الله تعالى عند ظن عبده به (رواه) البغوي (في شرح السنة وأبونعيم) هو الحافظ الكبير محدث العصر أحمد بن عبد الله ابن أحمد بن إسحاق الأصبهاني الصوفي الأحول صاحب حلية الأولياء، كان من الأعلام المحدثين، وأكابر الحفاظ الثقات أخذ عن الأفاضل وأخذوا عنه وانتفعوا به. قال المؤلف: هو من مشائخ الحديث الثقات المعمول بحديثهم المرجوع إلى قولهم كبير القدر ولد سنة (334) وقيل (336) ومات في صفر، وقيل: في العشرين من المحرم سنة (430) بأصبهان وله من العمر (96) سنة، وبسط الذهبي ترجمته في التذكرة (ج3 ص291-296) (في الحلية) قال ابن خلكان هو من أحسن الكتب. وقال السلفي: لم يصنف مثل كتاب حلية الأولياء. وقال حمزة بن العباس العلوي: كان أصحاب الحديث يقولون لما صنف أبونعيم كتاب الحلية حمل الكتاب في حياته إلى نيسابور فاشتروه بأربع مائة دينار، وله تصانيف أخرى مشهورة ككتاب معرفة الصحابة، والمستخرج على البخاري، والمستخرج على مسلم ودلائل النبوة، وفضائل الصحابة. وحديث معاذ بن جبل هذا أخرجه أيضاً أحمد (ج5 ص238) والطبراني في الكبير، وفيه عبيد الله بن زجر. قال الهيثمي: وهو ضعيف قلت: قال أبوزرعة الرازي صدوق، وقال النسائي لا بأس به، وحسن الترمذي غير ما حديث له.

1621- (10) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكثروا ذكر هاذم اللذات الموت) رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه. 1622- (11) وعن ابن مسعود، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم لأصحابه: استحيوا من الله حق الحياء، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1621- قوله: (أكثروا ذكر هاذم اللذات) بالذال المعجمة بمعنى قاطعها أو بالمهملة من هدم البناء، والمراد الموت وهو هاذم اللذات إما لأن ذكره يزهد فيها أو لأنه إذا جاء ما يبقى من لذائذ الدنيا شيئاً. قال ميرك: وصحح الطيبي بالدال المهملة حيث قال شبه اللذات الفانية والشهوات العاجلة، ثم زوالها ببناء مرتفع ينهدم بصدمات هائلة ثم أمر المنهمك فيها بذكر الهادم لئلا يستمر على الركون إليها ويشتغل عما يجب عليه من التزود إلى دار القرار- انتهى كلامه. لكن قال الأسنوي في المهمات: الهاذم بالذال المعجمة هو القاطع، كما قاله الجوهري. وهو المراد هنا، وقد صرح السهيلي في الروض الأنف: بأن الرواية بالذال المعجمة ذكر في غزوة أحد في الكلام على قتل وحشي لحمزة. وقال الجزري: هادم يروي بالدال المهملة أي دافعها أو مخربها وبالمعجمة أي قاطعها، وأختاره بعض من مشائخنا، وهو الذي لم يصحح الخطابي غيره وجعل الأول من غلط الرواة، كذا في المرقاة. وقال الحافظ في التلخيص (ص152) ذكر السهيلي في الروض أن الرواية فيه بالذال المعجمة، ومعناه القاطع، وأما بالمهملة فمعناه المزيل للشيء وليس ذلك مراداً هنا وفي هذا النفي نظر لا يخفى- انتهى كلام الحافظ. قال الأمير اليماني: يريد أن المعنى على الدال المهملة صحيح فإن الموت يزيل اللذات كما يقطعها ولكن العمدة الرواية والحديث دليل على أنه لا ينبغي للإنسان أن يغفل عن ذكر أعظم المواعظ وهو الموت (الموت) بالجر عطف بيان وبالرفع خبر مبتدأ محذوف هو هو وبالنصب على تقدير أعني يعني أذكروه ولا تنسوه لأنه أزجر عن المعصية وأدعى إلى الطاعة وهذا تفسير من بعض الرواة ففي الترمذي وابن ماجه يعني الموت (رواه الترمذي) في الزهد وحسنه (والنسائي) في الجنائز (وابن ماجه) في الزهد، وأخرجه أحمد، وصححه ابن حبان والحاكم (ج4 ص321) وابن السكن وابن طاهر كلهم من حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة وأعله الدارقطني بالإرسال، كذا في التلخيص وأخرجه أيضاً الطبراني في الأوسط بإسناد حسن والبيهقي في شعب الإيمان، وفي الباب عن أنس وابن عمرو أبي سعيد ذكرهم المنذري في الترغيب (ج4 ص70-71) والمتقي في الكنز (ج8 ص70-71) . 1622- قوله: (ذات يوم) قيل: ذات مقحم. وقيل: صفة لمدة. وقيل: غير ذلك (لأصحابه) ليس هذا اللفظ في مسند الإمام أحمد ولا في الترمذي (استحيوا من الله حق الحياء) أي حياء ثابتاً لازماً صادقاً، قاله المناوي. وقيل:

قالوا: إنا نستحي من الله يا نبي الله! والحمد لله، قال: ليس ذلك، ولكن من استحي من الله حق الحياء، فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحي من الله حق الحياء)) ـــــــــــــــــــــــــــــ أي اتقوا الله حق تقاته (قالوا إنا نستحي من الله يا نبي الله) وفي المسند: قال قلنا يا رسول الله إنا نستحي، وفي الترمذي: قلنا يا نبي الله إنا لنستحي. قال القاري: لم يقولوا حق الحياء اعترافاً بالعجز عنه (والحمد لله) على توفيقنا به (قال ليس ذلك) أي ليس حق الحياء من الله تعالى ما تحسبونه (فليحفظ الرأس) أي عن استعماله في غير طاعة الله بأن لا تسجد لغيره ولا تصلي للرياء ولا تخضع به لغير الله ولا ترفعه تكبراً على عباد الله (وما وعى) من الوعي وهو الحفظ أي ما جمعه الرأس من اللسان والعين والأذن عما لا يحل (وليحفظ البطن) أي عن أكل الحرام (وما حوى) أي ما اتصل اجتماعه به من الفرج والرجلين واليدين والقلب، فإن هذه الأعضاء متصلة بالجوف وحفظها بأن لا تستعملها في المعاصي بل في مرضاة الله تعالى. قال الطيبي: أي ليس حق الحياء من الله ما تحسبونه بل أن يحفظ نفسه بجميع جوارحه، وقوله: عما لا يرضاه فليحفظ رأسه وما وعاه من الحواس الظاهرة والباطنة من السمع والبصر واللسان حتى لا يستعملها إلا في ما يحل والبطن وما حوى أي لا يجمع فيها إلا الحلال ولا يأكل إلا الطيب، وقوله: ليس ذلك رد لحملهم الحياء على ما تعورف مطلقاً لما ضم إليه من التقييد بقوله حتى الحياء ولذلك أعادها في الجواب يعني حق الحياء، أن لا يترك شيئاً منها وما يتصل بها وما يتفرغ عليها إلا أن يتحرى ويقام به كما قال الله تعالى {اتقوا الله حق تقاته} [آل عمران: 102] قال صاحب الكشاف: أي واجب تقواه وما يحق منها وهو القيام بالواجب واجتناب المحارم ونحوه فاتقوا الله ما استطعتم يريد بالغوا بالتقوى حتى لا تتركوا في المستطاع منها شيئاً- انتهى. (وليذكروا الموت والبلى) بكسر الباء من بلى الشيء إذا صار خلقاً متفتتاً يعني وليذكر صيرورته في القبر عظاماً بالية، لأن من ذكر هذا هان عليه ما فاته من اللذات العاجلة وأهمه ما يجب عليه من طلب الآجلة (ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا) فإنهما لا يجتمعان على وجه الكمال حتى للأقوياء، قاله القاري. وقال المناوي: لأنهما ضرتان فمتى أرضيت أحديهما أغضبت الأخرى، واللفظ المذكور لأحمد، ولفظ الترمذي: ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن يحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى ويذكر الموت والبلى ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا وآثر الآخرة على الأولى (فمن فعل ذلك) أي جميع ما ذكر (فقد استحي من الله حق الحياء) قال الطيبي: المشار إليه جميع ما سبق فمن أهمل من ذلك شيئاً لم يخرج من عهدة الاستحياء فظهر من هذا أن جبلة الإنسان وخلقته من رأسه إلى قدمه ظاهره وباطنه معدن العيب ومكان المخازي وأن الله سبحانه وتعالى

رواه أحمد، والترمذي، وقال: هذا حديث غريب. 1623 - (12) وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تحفة المؤمن الموت)) رواه البيهقي في شعب الإيمان. ـــــــــــــــــــــــــــــ هو العالم والواقف على ما ينشأ منها من القبائح فحق الحياء أن يستحي منه ويصونها عما يعاب فيها (رواه أحمد) (ج1ص387) (والترمذي) في الزهد (وقال) أي الترمذي (هذا حديث غريب) إنما نعرفه من حديث أبان بن إسحاق عن الصباح بن محمد - انتهى. قلت: أبان بن إسحاق الأسدي ثقة تكلم فيه الأزدي بلا حجة. وثقة العقيلي، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن معين: ليس به بأس، والصباح بن محمد البجلي الأحمسي ضعيف، أفرط فيه ابن حبان. وقال العقيلي: في حديثه وهم، ويرفع الموقوف. وقال الذهبي في الميزان: رفع حديثين هما من قول عبد الله يعني هذا، والذي رواه أحمد في مسنده (ج1ص387) بلفظ إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم- الحديث. وحديث الباب رواه الحاكم في المستدرك (ج4ص323) ولكن سمي رواية الصباح بن محارب. قال الشيخ أحمد شاكر: وهو خطأ عجيب فليس للصباح بن محارب رواية في هذا الحديث ولا هو من هذه الطبقة بل هو متأخر عن الصباح بن محمد ثم الحديث حديث الصباح بن محمد دون شك وأعجب منه أن يوافقه الذهبي على ذكر الصباح بن محمد وعلى تصحيح الحديث- انتهى. والحاصل أن سنده ضعيف، ويؤيده ما روى عن عائشة مرفوعاً بنحوه عند الطبراني في الأوسط، ذكره المنذري في الترغيب (ج4ص71) . 1623- قوله: (وعن عبد الله بن عمرو) بالواو (تحفة المؤمن الموت) لما كانت الدنيا دار همّ وبالموت يستريح الشخص من مشقة مجاهدة النفس وغيرها، وبه يصل المحبوب إلى محبة والحياة سجن كأن الموت تحفة، وهي اسم لما كان به العبد من النفائس. وقيل: التحفة البر واللطف والطرفة، فالمراد أن الموت لطف من الله تعالى للمؤمن وبر منه ونعمة هنيئة له يوصله إلى جنته وقربه ويذهب عنه مشقة الدنيا وشدتها. وقال الطيبي: اعلم أن الموت ذريعة إلى وصول السعادة الكبرى ووسيلة إلى نيل الدرجات العلى وهو أحد الأسباب الموصلة إلى النعيم المقيم وهو انتقال من دار إلى دار، فهو وإن كان في الظاهر فناء واضمحلالاً ولكنه في الحقيقة ولادة ثانية وهو باب من أبواب الجنة منه يتوصل إليها ولو لم يكن الموت لم يكن الجنة. وفي النهاية: التحفة طرفة الفاكهة وقد تفتح الحاء ثم تستعمل في غير الفاكهة من الألطاف. قال الأزهري: أصلها وحفة فأبدلت الواو تاء يريد به ماله عند الله من الخير الذي لا يصل إليه إلا بالموت- انتهى. (رواه البيهقي إلخ) وأخرجه أيضاً الطبراني في الكبير، وأبونعيم في الحلية، والحاكم في المستدرك كما في الجامع الصغير، ونسبه المنذري في الترغيب والهيثمي في مجمع

1624- (13) وعن بريدة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن يموت بعرق الجبين)) رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه. 1625- (14) وعن عبيد الله بن خالد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ـــــــــــــــــــــــــــــ الزوائد إلى الطبراني. قال المنذري: إسناده جيد. وقال الهيثمي: رجاله ثقات، وفي الباب عن جابر عند الدارقطني كما في الكنز (ج8ص77) . 1624 – قوله: (المؤمن يموت بعرق) بفتح العين المهملة والراء (الجبين) أي متلبساً بعرق الجبين، والحديث قد اختلف في معناه، فقيل: إن عرق الجبين يكون لما يعالج من شدة الموت فقد تبقى عليه بقية من الذنوب فيشدد عليه وقت الموت ليخلص منها أو يكون ذلك لما يشدد عليه عند الموت لتزيد درجته، والمعنى أن حالة الموت ونزوع الروح شديد عليه فهو صفة لكيفية الموت وشدته على المؤمن وقيل هو من الحياء فإنه إذا جاءته البشرى مع ما كان قد اقترف من الذنوب حصل له بذلك خجل وحياء من الله تعالى فيعرق لذلك جبينه وقيل يحتمل أن عرق الجبين علامة جعلت لموت المؤمن وإن لم يعقل معناه وقيل كناية عن كده في طلب الحلال وتضييقه على النفس بالصوم والصلاة إلى وقت الموت، والمعنى أنه يدركه الموت في حال كونه على هذه الحالة الشديدة التي يعرق منها الجبين فهو صفة للحال التي يفاجئه الموت عليها (رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه) في الجنائز، وأخرجه أيضاً أحمد (ج5ص350، 357، 360) والحاكم في المستدرك (ج1ص361) وقال على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وصححه ابن حبان. وقال الترمذي: هذا حديث حسن. وقال بعض أهل الحديث: لا نعرف لقتادة سماعاً من عبد الله بن بريدة- انتهى. قلت: قتادة بن دعامة السدوسي حافظ ثقة ثبت، لكنه مدلس ولم يصرح هنا بالتحديث. وقال البخاري: لا نعرف له سماعاً من ابن بريدة، وذكره الحافظ في تهذيب التهذيب (ج8ص355) وعبد الله بن بريدة من ثقات التابعين إلا أنه تكلم في روايته عن أبيه بريدة. قال البغوي: عن محمد بن علي الجوزجاني عن أحمد أنه ضعفه فيما يروي عن أبيه. وقال إبراهيم الحربي: عبد الله أشهر من أخيه سليمان ولم يسمعا من أبيهما وفيما روى عبد الله عن أبيه أحاديث منكرة وسليمان أصح حديثاً- انتهى. وله في البخاري من روايته عن أبيه فرد حديث ووافقه مسلم على إخراجه، وفي الباب عن ابن مسعود أخرجه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجاله ثقات ورجال الصحيح، قاله الهيثمي (ج2ص320) . 1625- قوله: (وعن عبيد الله بن خالد) كذا في جميع النسخ، وهو غلط، والصواب عبيد بن خالد وهو عبيد بن خالد السلمي البَهْزي، صحابي مهاجري، يكنى أباعبد الله، سكن الكوفة. وروى عنه جماعة من

((موت الفجاءة أخذة الأسف)) رواه أبوداود، ـــــــــــــــــــــــــــــ الكوفيين، منهم سعد بن عبيدة، وتميم بن سلمة، شهد صفين مع علي، وبقي إلى إمرة الحجاج (موت الفجاءة) بضم الفاء والمد، أو بفتح الفاء وسكون الجيم بلا مد أي الموت بغتة. قال الجزري في النهاية: يقال فَجِئَه الأمر وَفَجأهُ فَجاءة بالضم والمد، وفاجأه مفاجأة إذا جاءه بغتة من غير تقدم سبب، وقيده بعضهم بفتح الفاء وسكون الجيم من غير مد- انتهى. (أخذة الأسف) هكذا في جميع النسخ. وفي أبي داود: أخذة أسف بدون اللام، وكذا في مسند الإمام أحمد والبيهقي، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج11ص398) والسيوطي في الجامع الصغير، وعلى المتقى في الكنز، والأسف روى بفتح المهملة بمعنى السخط والغضب، وبكسرها ككتف بمعنى الساخط والغضبان. قيل وهذه الإضافة فيه بمعنى من نحو خاتم فضة. قال الزين: لأن اسم الغضب يقع على الأخذة وقوع اسم الفضة على الخاتم يعني أن موت الفجاءة من آثار غضب الله وسخطه حيث لم يتركه، لأن يستعد للآخرة بالتوبة والعمل ولم يمرضه ليكون كفارة لذنوبه، وهذا للكافر ولمن ليس على طريقة محمودة (أي الفاسق الغير المتأهب للموت) بدليل الرواية الأخرى. قال التوربشتي: والمعنى أن موت الفجاءة من آثار غضب الرب. لأنه أخذ بغتة فلم يتفرغ لأن يستعد لمعاده على سنة من درج من عصاة الأولين. قال الله تعالى: {أخذناهم بغتة} [الأنعام: 44] قال: والحديث مخصوص بالكفار للحديث الآخر، والظاهر أن موت الفجاءة مما لا يحمد ويستعاذ منه بالله- انتهى. قلت: روى الطبراني في الأوسط عن أبي أمامة قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ من موت الفجاءة وكان يعجبه أن يمرض قبل أن يموت. قال الهيثمي: وفيه عثمان بن عبد الرحمن القرشي، وهو متروك، وروى أحمد والبزار والطبراني في الكبير عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعاذ من سبع موتات موت الفجاءة ومن لدغ الحية- الحديث. قال الهيثمي: وفيه ابن لهيعة (رواه أبوداود) في الجنائز وأخرجه أيضاً أحمد (ج3ص424) والبيهقي (ج3ص378) واختلف فيه على شعبة عن منصور، فرواه يحيى بن سعيد عن شعبة مرة مرفوعاً مرة أخرى موقوفاً من قول عبيد بن خالد، ورواه عنه روح بن عبادة فرفعه، كما في البيهقي، ورواه محمد بن جعفر عنه فوقفه، كما في مسند الإمام أحمد، والبيهقي. قال المنذري في مختصر السنن: قد روى هذا الحديث من حديث عبد الله بن مسعود (عند البيهقي واختلف في رفعه ووقفه) وأنس بن مالك وأبي هريرة وعائشة (حديث عائشة أخرجه أحمد والبيهقي والطبراني في الأوسط، وذكر البيهقي الاختلاف في رفعه ووقفه، وفيه أيضاً عبيد الله بن الوليد الوصافي. قال الهيثمي: متروك) وفي كل منها مقال. وقال الأزدي: ولهذا الحديث طرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال المنذري: وحديث عبيد هذا رجال إسناده ثقات والوقف فيه لا يؤثر فإن مثله لا يؤخذ بالرأي وكيف وقد أسنده مرة الراوي- انتهى.

وزاد البيهقي في شعب الإيمان، ورزين في كتابه: أخذة الأسف للكافر ورحمة للمؤمن. 1626- (15) وعن أنس، قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم على شاب وهو في الموت، فقال: كيف تجدك؟ قال: أرجو الله يا رسول الله! وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن، إلا أعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخاف)) . رواه الترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث غريب. ـــــــــــــــــــــــــــــ (وزاد البيهقي في شعب الإيمان ورزين في كتابه) التجريد، وقول المصنف زاد إلخ. يدل بظاهره على أن الزيادة "للكافر ورحمة للمؤمن" وقع عند البيهقي ورزين في حديث عبيد بن خالد، وفيه نظر، فإن الرواية مع الزيادة المذكورة حديث آخر مستقل مروي عن عائشة. أخرجه أحمد والطبراني في الأوسط والبيهقي في السنن الكبرى (ج3ص379) وقد تقدم الكلام فيه آنفاً (أخذة الأسف) وفي بعض النسخ: أخذة أسف، كما في البيهقي وغيره، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (للكافر) وعند البيهقي وأحمد والطبراني الفاجر وهو يعم الكافر والفاسق الغير المتأهب للموت (ورحمة) بالرفع (للمؤمن) أي المتأهب المراقب له. 1626- قوله: (وهو في الموت) أي في سكراته (كيف تجدك) قال ابن الملك: أي كيف تجد قلبك أو نفسك في الانتقال من الدنيا إلى الآخرة أراجياً رحمة الله أو خائفاً من غضب الله (أرجو الله) أي أجدني أرجو رحمته (وإني) أي مع هذا (أخاف ذنوبي) قال الطيبي: علق الرجاء بالله والخوف بالذنب، وأشار بالفعلية إلى أن الرجاء حدث عند السياق (النزع) وبالاسمية والتأكيد بأن إلى أن خوفه كان مستمراً محققاً (لا يجتمعان) أي الرجاء والخوف (في مثل هذا الموطن) أي في هذا الوقت، وهو زمان سكرات الموت ومثله كل زمان يشرف على الموت حقيقة أو حكماً كوقت المبارزة وزمان القصاص ونحوهما. فلا يحتاج إلى القول بزيادة المثل. وقال الطيبي: مثل زائدة، والموطن إما مكان أو زمان كمقتل الحسين رضي الله تعالى عنه (ما يرجو) أي من الرحمة (وآمنه مما يخاف) أي من العقوبة بالعفو والمغفرة. قال السندي: والحديث يدل على أنه ينبغي وجود الأمرين (الرجاء والخوف) على الدوام حتى في ذلك الوقت (أي وقت الإشراف على الموت) وأنه لا ينبغي أن يغلب في ذلك الوقت بحيث لا يبقي من الخوف شيء- انتهى. فالحديث مؤيد لمن قال لا يهمل عند الإشراف على الموت جانب الخوف أصلاً بحيث يجزم أنه آمن، وفيه رد على من استحب الاقتصار على الرجاء في ذلك الوقت. والله تعالى اعلم (رواه الترمذي) في الجنائز (وابن ماجه) في الزهد، وأخرجه أيضاً ابن السني

{الفصل الثالث}

{الفصل الثالث} 1627- (16) عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تمنوا الموت فإن هول المطلع شديد، وإن من السعادة أن يطول عمر العبد ويرزقه الله عزوجل الإنابة)) رواه أحمد. 1628- (17) وعن أبي أمامة، قال: جلسنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرنا ورققنا، ـــــــــــــــــــــــــــــ في اليوم والليلة (ص172) وابن أبي الدنيا كلهم من رواية جعفر بن سليمان الضبعي عن ثابت عن أنس. قال الترمذي: حديث غريب. وقد روى بعضهم هذا الحديث عن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً- انتهى. وقال المنذري في الترغيب: إسناده حسن، فإن جعفراً صدوق صالح، احتج به مسلم، وتكلم فيه الدارقطني وغيره- انتهى. 1627- قوله: (لا تمنوا الموت) بحذف إحدى التائين (فإن هول المطلع) بضم الميم وتشديد الطاء وفتح اللام موضع الإطلاع من إشراف إلى انحدار، والمراد ما يطلع عليه العبد من أهوال الآخرة في مواقف القيامة، أو أمور بطلع عليها عقب الموت من أحوال البرزخ (شديد) أي لا فائدة في تمني الموت إلا تمني الشدائد والآلام، وليس هذا من شأن العاقل (وإن من السعادة) أي العظمى (أن يطول عمر العبد) بضم الميم ويسكن (ويرزقه الله عزوجل الإنابة) أي الرجوع والإقبال إليه. قال في النهاية: المطلع مكان الإطلاع من موضع عال يقال مطلع هذا الجبل من موضع كذا أي ماتأه ومصعده يريد به ما يشرف عليه من سكرات الموت وشدائده، فشبهه بالمطلع الذي يشرف عليه من موضع عال. قال الطيبي: علل النهي عن تمني الموت أولاً بشدة المطلع، لأنه إنما يتمناه من قلة صبر وضجر فإذا جاءه متمناه يزداد ضجراً على ضجر فيستحق مزيد سخط، وثانياً بحصول السعادة في طول العمر لأن الإنسان إنما خلق لاكتساب السعادة السرمدية ورأس ماله العمر، وهل رأيت تاجراً يضيع رأس ماله فإذا بم يربح إذا ضيعه- انتهى. وقال ميرك: يجوز أن يكون المراد من المطلع زمان إطلاع ملك الموت أو المنكر والنكير أو زمان إطلاع الله تعالى بصفة الغضب في القيامة أو زمان الإطلاع على أمور تترتب على الموت (رواه أحمد) (ج3ص332) بإسناد حسن، وأخرجه أيضاً البيهقي وابن منيع وعبد بن حميد، وعزاه الهيثمي (ج10ص203) لأحمد والبزار، وقال: إسناده حسن. 1628- قوله: (جلسنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي متوجهين إليه (فذكرنا) بالتشديد من التذكير أي العواقب أو وعظنا (ورققنا) من الترقيق أي رقق أفئدتنا بالتذكير، قاله الطيبي. وقيل: أي زهدنا في الدنيا

فبكا سعد بن أبي وقاص، فأكثر البكاء، فقال: يا ليتني مت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا سعد! أعندي تتمنى الموت؟! فردد ذلك ثلاث مرات، ثم قال: يا سعد! إن كنت خلقت للجنة فما طال عمرك وحسن من عملك، فهو خير لك)) . رواه أحمد. 1629- (18) وعن حارثة بم مضرب، ـــــــــــــــــــــــــــــ ورغبنا في الأخرى (يا ليتني مت) بضم الميم وكسرها أي في الصغر أو قبل ذلك مطلقاً حتى استريح مما اقترفت (أعندي) بهمزة الاستفهام للإنكار (تتمنى الموت) يعني لتمنيه بعدي وجه في الجملة، وأما مع وجودي فكيف يطلب العدم، قاله القاري. وقيل تتمنى الموت وقد نهيت عن تمنيه لما فيه من النقص من الأجر والدرجات التي تحصل بسبب كثرة العمل وحسنه في طول العمر. وقيل: المراد بحضرتي وحياتي تتمنى الموت وحضورك عندي ومشاهدتك لجمالي وكمالي خير لك من الموت وإن حصل لك بعد الموت درجات فكل ذلك لا يوازي النظر إلى وجهي (فردد) أي النبي صلى الله عليه وسلم (ذلك) أي يا سعد إلخ (ثلاث مرات) لتأكيد الإنكار (إن كنت) أي لا وجه لتمني الموت فإنك إن كنت (خلقت للجنة فما طال عمرك) قال الطيبي: ما مصدرية والوقت مقدر، ويجوز أن تكون موصولة والمضاف محذوف أي الزمان الذي طال فيه عمرك (وحسن من عملك) قال الطيبي: "من" زائدة على مذهب الأخفش أو تبعيضية أي حسن بعض عملك (فهو) أي ما ذكر من طول العمر وحسن العمل قال الطيبي: الفاء داخلة على الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط (خير لك) زاد الطبراني فيه، وإن كنت خلقت للنار فبئس الشيء تتعجل إليه. قال الطيبي: فإن قيل هو من العشرة المبشرة فكيف قال إن كنت أجيب بأن المقصود التعليل لا الشك أي كيف تتمنى الموت عندي وأنا بشرتك بالجنة، أي لا تتمن لأنك من أهل الجنة وكلما طال عمرك زادت درجتك. ونظيره في التعليل قوله تعالى: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} [آل عمران: 139] فقيل له: الشهادة خير لك مما طلبت، وهي إنما تحصل بالجهاد، ويعضده ما ورد في المتفق عليه عن سعد أنه قال أخلف بعد أصحابي قال صلى الله عليه وسلم إنك لن تخلف فتعمل عملاً تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضربك آخرون- انتهى. وقيل: يحتمل أن هذا الحديث وقع البشارة (رواه أحمد) (ج5ص267) وأخرجه أيضاً الطبراني وابن عساكر، وفيه علي بن يزيد الألهاني، وهو ضعيف لكن الحديث يؤيده ما جاء من الأحاديث في طول عمر المؤمن والنهي عن تمنيه الموت. 1629- قوله: (وعن حارثة) بالحاء المهملة والثاء المثلثة (بن مضرب) بضم الميم وفتح الضاد المعجمة وتشديد الراء المكسورة العبدى الكوفي، ثقة من كبار التابعين غلط من نقل عن ابن المديني أنه تركه

قال: دخلت على خباب وقد اكتوى سبعاً، فقال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يتمن أحدكم الموت لتمنيته، ولقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أملك درهماً، وإن في كل جانب بيتي الآن لأربعين ألف درهم، قال: ثم أتى بكفنه، فلما رآه بكى، وقال: لكن حمزة لم يوجد له كفن إلا بردة ملحاء ـــــــــــــــــــــــــــــ (دخلت على خباب) بالموحدتين الأولى مثقلة ابن الأرت بهمزة وراء مفتوحتين، وشدة مثناة فوق تميمي سبى في الجاهلية وبيع بمكة ثم حالف بني زهرة وأسلم قبل أن يدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم. قيل: إنه أسلم سادس ستة، وهو أول من أظهر إسلامه، فعذب عذاباً شديداً لذلك ذكر أن عمر بن الخطاب سأله عما لقي في ذات الله فكشف عن ظهره فقال عمر ما رأيت كاليوم قال خباب لقد أوقدت لي نار وسحبت عليها فما أطفأها إلا ودك ظهري، شهد بدراً والمشاهد كلها وكان قيناً في الجاهلية يعمل السيوف، ونزل الكوفة، ومات بها سنة (37) منصرف علي رضي الله عنه من صفين وصلى عليه علي رضي الله عنه، وقيل: لما رجع على من صفين مر على قبر خباب فقال رحم الله خباباً، أسلم راغباً وهاجر طائعاً وعاش مجاهداً وابتلى في جسمه أحوالاً ولن يضيع الله أجره (وقد اكتوى) من الكي، وهو إحراق الجلد بحديدة ونحوها (سبعاً) أي في سبع مواضع من بدنه. وفي رواية الترمذي: وقد اكتوى في بطنه. قال الطيبي: الكي علاج معروف في كثير من الأمراض، وقد ورد النهي عن الكي، فقيل النهي لأجل أنهم كانوا يرون أن الشفاء منه. وأما إذا اعتقد أنه سبب ,ان الشافي هو الله فلا بأس به، ويجوز أن يكون النهي من قبل التوكل، وهو درجة أخرى غير الجواز- انتهى. ويؤيده حديث لا يسترقون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون (لا يتمن) بصيغة النهي وفي رواية أخرى لأحمد: لا يتمنى (أحدكم الموت) أي لضر نزل به (لتمنيته) أي لأستريح من شدة المرض الذي من شأن الجبلة البشرية أن تنفرد منه ولا تصبر عليه (لقد رأيتني مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أملك درهماً) كأكثر الصحابة لأن الفتوحات العظيمة لم تقع إلا بعد ألا ترى أن عبد الله بن أبي السرح لما افتتح افرقية في زمن عثمان بلغ سهم الفارس فيه ثلاثة آلاف دينار (قال) أي حارثة (ثم أتى) على بناء المفعول (بكفنه) وكان نفيساً من الأقمشة (فلما رآه) أي ما هو عليه من الحسن والبهاء (بكى) قال الطيبي: كأنه اضطر إلى تمنى الموت إما من ضر أصابه فاكتوى بسببه أو غنى خاف منه والظاهر الثاني، ولذا عقبه بالجملة القسمية، وبين فيها تغير حالتيه حالة صحبته مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحالته يومئذ ثم قال حاله في جودة الكفن على حال عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تكفينه و (لكن حمزة) عم رسول الله صلى الله عليه وسلم (لم يوجد له كفن إلا بردة) بالرفع على البدلية (ملحاء) بفتح الميم وسكون اللام أي فيها خطوط بيض وسود

(3) باب ما يقال عند من حضره الموت

إذا جعلت على رأسه قلصت عن قدميه، وإذا جعلت على قدميه قلصت عن رأسه، حتى مدت على رأسه، وجعل على قدميه الإذخر)) . رواه أحمد، والترمذي، إلا أنه لم يذكر: ثم أتى بكفنه إلى آخره. (3) باب ما يقال عند من حضره الموت {الفصل الأول} 1630- 1631- (1- 2) عن أبي سعيد، وأبي هريرة، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقنوا موتاكم ـــــــــــــــــــــــــــــ (إذ جعلت) أي البردة (على رأسه قلصت) بفتحتين أي قصرت وانكشفت واجتمعت وانضمت (حتى مدت) بضم الميم أي وضعت ممدودة (وجعل على قدميه الإذخر) حشيشة معروفة طيبة الرائحة يسقف بها البيوت فوق الخشب وتجعل في القبور. قال الطيبي: لكن تستدعى المخالفة بالنفي والإثبات بين الكلامين لفظاً أو معنى، فأين المخالفة بينهما. قلت: المعنى إني تركت متابعة أولئك السعادة الكرام وما اقتفيت أثرهم حيث هيأت لكفني مثل هذا الثوب النفيس لكن حمزة سار بسيرهم فما وجد ما يواريه حيث جعل على قدميه الإذخر- انتهى. (رواه أحمد) (ج5ص111وج6ص395- 396) (والترمذي) في الجنائز (إلا أنه) أي الترمذي (لم يذكر ثم أتى بكفنه إلى آخره) لحديث حارثة بن مضرب ثلاث طرق: الأولى طريق شريك عن أبي إسحاق عن حارثة عند أحمد (ج5ص109) اقتصر فيها على ذكر النهي عن تمني الموت. والثانية طريق شعبة عن أبي إسحاق، وهي عند الترمذي، وكذا عند أحمد (ج5ص110) . والثالثة طريق إسرائيل عن أبي إسحاق، وهي عند أحمد (ج6ص395- 396) وهي التي ذكر لفظها في المشكاة. (باب ما يقال عند من حضره الموت) أي علامته. 1630- 1631- قوله: (لقنوا) أي ذكروا (موتاكم) أي الذين هم في سياق الموت سماهم الموتى، لأن الموت قد حضر لهم. قال الطيبي: أي من قرب منكم الموت سماه باعتبار ما يؤل إليه مجازاً، وعليه يحمل قوله عليه الصلاة والسلام: اقرؤا على موتاكم يس- انتهى. ويدل عليه أن ابن حبان روى هذا الحديث عن أبي هريرة

لا إله إلا الله)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ باللفظ المذكور وزاد فإنه من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة يوماً من الدهر وإن أصابه ما أصاب قبل ذلك، ذكره الحافظ في التلخيص. وقال فيه: وروى من حديث عطاء بن السائب عن أبيه عن جده بلفظ: من لقن عند الموت شهادة أن لا إله إلا الله دخل الجنة- انتهى. والتلقين أن يذكره عنده ويقوله بحضرته ويتلفظ به عنده حتى يسمع ليتفطن فيقوله لا أن أن يأمره به ويقول قل لا إله إلا الله إلا أن يكون كافراً فيقول له قل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب وللغلام اليهودي. والمقصود من هذا التلقين أن يكون آخر كلامه لا إله إلا الله كما في الحديث الآتي في الفصل الثاني من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة، ولذلك قالوا إذا قال مرة لا تعاد عليه إلا أن يتكلم بكلام آخر. وفي الترمذي: روى عن ابن المبارك أنه لما حضرته الوفاة جعل رجل يلقنه لا إله إلا الله ويكثر عليه فقال له عبد الله إذا قلت ذلك مرة فإنا على ذلك ما لم أتكلم بكلام. قال النووي: والأمر بهذا التلقين أمر ندب، وأجمع العلماء على هذا التلقين وكرهوا الإكثار عليه والموالاة لئلا يضجر بضيق حاله وشدة كربه فيكره ذلك بقلبه ويتكلم بما لا يليق - انتهى. وقال القاري: الجمهور على أنه يندب هذا التلقين، وظاهر الحديث يقتضي وجوبه وذهب إليه جمع بل نقل بعض المالكية الاتفاق عليه- انتهى. (لا إله إلا الله) قيل: أي ومحمد رسول الله، فالمراد كلمتا الشهادة. قال الزين بن المنير: قول لا إله إلا الله لقب جري على النطق بالشهادتين شرعاً- انتهى. وقال الدميري: نقل في الروضة عن الجمهور الاقتصار على لا إله إلا الله، ونقل جماعة من الأصحاب أنه يضيف إليها محمد رسول الله، لأن المراد ذكر التوحيد، والمراد موته مسلماً ولا يسمى مسلماً إلا بهما والأول أصح. أما إذا كان المحتضر كافراً فينبغي الجزم بتلقين الشهادتين لأنه لا يصير مسلماً إلا بهما، كذا في السراج المنير. قلت: كلمة لا إله إلا الله كلمة إسلام وكلمة ذكر فإذا قالها الكافر ليدخل في الإسلام، فهي كلمة إسلام وكلمة الإسلام هي كلمتا الشهادة جميعاً، وإذا ذكر بها المسلم فهي ذكر كسائر الأذكار، كما قال صلى الله عليه وسلم أفضل الذكر لا إله إلا الله، والظاهر أن المراد في حديث الباب تلقينها من حيث أنها كلمة ذكر فلا يشترط قول محمد رسول الله عند المحتضر فإنه ليس بذكر وإن كان ركن الإسلام، والمراد بموتاكم موتى المسلمين. وأما موتى غيرهم فيعرض عليهم الإسلام كما عرضه عليه السلام على عمه عند السياق وعلى الغلام الذمي الذي كان يخدمه. قال في المجموع: يذكر عند المحتضر لا إله إلا الله بلا زيادة عليها فلا تسن زيادة محمد رسول الله لظاهر الأخبار وقيل: تسن زيادته لأن المقصود بذلك التوحيد، ورد بأن هذا موحد، ويؤخذ من هذه العلة ما بحثه الأسنوي: أنه لو كان كافراً لقن الشهادتين وأمر بهما، قال القسطلاني (رواه مسلم) في الجنائز، والحديث ذكره السيوطي في الجامع الصغير. وقال: رواه أحمد، ومسلم والأربعة (الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه)

1632- (3) وعن أم سلمة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا حضرتم المريض، أو الميت فقولوا خيراً، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون)) رواه مسلم. 1633- (4) وعنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله به ـــــــــــــــــــــــــــــ عن أبي سعيد ومسلم وابن ماجه عن أبي هريرة والنسائي عن عائشة- انتهى. وفي الباب عن جماعة من الصحابة، كما في مجمع الزوائد والنيل. قال العقيلي: روى في الباب أحاديث صحاح عن غير واحد من الصحابة. 1632- قوله: (وعن أم سلمة) أم المؤمنين (إذا حضرتم المريض أو الميت) أي الحكمي، وهو المحتضر فأو للشك أو الحقيقي فأو للتنويع، قاله القاري. وفي أبي داود والبيهقي: إذا حضرتم الميت من غير ذكر المريض (فقولوا خيراً) قال السندي: أي أدعوا له بالخير لا بالشر أو أدعوا بالخير مطلقاً لا بالويل ونحوه والأمر للندب، ويحتمل أن المراد فلا تقولوا شراً فالمقصود النهي عن الشر بطريق الكناية لا الأمر بالخير- انتهى. وقال المظهر: أي ادعوا للمريض بالشفاء وقولوا: اللهم اشفه وللميت بالرحمة والمغفرة وقولوا اللهم اغفر له وارحمه (فإن الملائكة) أي ملك الموت وأعوانه أو غيره (يؤمنون) بالتشديد من التأمين أي يقولون آمين (على ما تقولون) أي من الدعاء خيراً أو شراً ودعاء الملائكة مستجاب، وفي الحديث الندب إلى قول الخير حينئذ من الدعاء والاستغفار وطلب اللطف به والتخفيف عنه ونحوه، وفيه حضور الملائكة حينئذ وتأمينهم، قاله النووي. (رواه مسلم) في الجنائز مطولاً. وأخرجه أيضاً الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص384) وابن أبي شيبة (ج4 ص74) . 1633- قوله: (ما من مسلم تصيبه مصيبة) أي مصيبة كانت لقوله - صلى الله عليه وسلم - كل شيء ساء المؤمن فهو مصيبة رواه ابن السني، قاله الزرقاني. (فيقول ما أمره الله به) المراد بالأمر الندب بالترغيب فيه وترتيب الأجر فإنه بمنزلة الندب وإلا فلا أمر في قوله تعالى: {وبشر الصابرين} الآية [البقرة:155} وقال الآبي: يحتمل الأمر أنه بوحي في غير القرآن، ويحتمل أن الأمر مفهوم من الثناء على قائل ذلك، لأن المدح على الفعل يستلزم الأمر به. وقال الباجي: لم يرد لفظ الأمر بهذا القول، لأنه إنما ورد القرآن بتبشير من قاله والثناء عليه، ويحتمل أن يشير إلى غير القرآن فيخبر صلى الله عليه وسلم عن أمر الباري لنا بذلك، ولذا وصله بقوله اللهم أجرني إلخ. وقال الطيبي: فإن قلت أين الأمر في الآية؟ قلت: لما أمره بالبشارة وأطلقها ليعم كل مبشر به، وأخرجه مخرج الخطاب ليعم كل أحد نبه على تفخيم الأمر وتعظيم شأن هذا القول، فنبه بذلك على كون القول مطلوباً وليس الأمر

إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها، إلا أخلف الله له خيراً منها. فلما مات أبوسلمة، قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة؟ أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ـــــــــــــــــــــــــــــ إلا طلب الفعل. وأما التلفظ بذلك مع الجزع فقبيح وسخط للقضاء. وقال القاري: والأقرب أن كل ما مدح الله تعالى في كتابه من خصلة يتضمن الأمر بها، كما أن المذمومة فيه تقتضي النهي عنها (إنا) بدل من ما أي إن ذواتنا وجميع ما ينسب إلينا (لله) ملكاً وخلقاً (وإنا إليه راجعون) في الآخرة (اللهم) ظاهره أنه من جملة ما أمره الله به، كما تقدم عن الباجي. قال ابن حجر: الظاهر أن الله تعالى أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعلم أمته أنه أمرهم أن يقولوا ذلك كله بخصوصه (أجرني) بسكون الهمزة وضم الجيم وبالمد وكسر الجيم على أنه من باب الأفعال. قال في النهاية: أجره يوجره إذا أثابه وأعطاه الأجر والجزاء، وكذلك اَجَره يأجُرُه والأمر منها آجِرني وأجُرني (في مصيبتي) قال القاري: الظاهر أن في بمعنى باء السببية (واخلف لي خيراً منها) أي اجعل لي خلفاً مما فات عني في هذه المصيبة خيراً من الفائت فيها، ففي الكلام تجوز وتقدير. قال في النهاية: يقال خلف الله لك خلفاً بخير واخلف عليك خيراً أي أبدلك بما ذهب منك وعوضك عنه. وقيل: إذا اذهب للرجل ما يخلفه مثل المال والولد. قيل: أخلف الله لك وعليك وإذا ذهب له ما لا يخلفه غالباً كالأب والأم. قيل: خلف الله عليك، وقد يقال: خلف الله عليك إذا مات لك ميت أي كان الله خليفة عليك وأخلف الله عليك أي أبدلك- انتهى. وقال النووي: قوله - صلى الله عليه وسلم -: واخلف لي هو بقطع الهمزة وكسر اللام، قال أهل اللغة: يقال لمن ذهب له مال أو ولد أو قريب أو شيء يتوقع حصول مثله أخلف الله عليك أي رد عليك مثله فإن ذهب ما لا يتوقع مثله بأن ذهب والد أو عم أو أخ لمن لا جد له ولا والد له. قيل: خلف الله عليك بغير ألف كان الله خليفة منه عليك - انتهى. (فلما مات أبوسلمة) تعني زوجها عبد الله بن عبد الأسد المخزومي (قلت) في نفسي أو باللسان تعجباً (أي المسلمين خير) وفي رواية لمسلم: مَن خير من أبي سلمة. قال الطيبي: تعجب من تنزيل قوله صلى الله عليه وسلم: إلا أخلف الله خيراً منها على مصيبتها استعظاماً لأبي سلمة انتهى يعني على زعمها (أول بيت) استئناف فيه بيان للتعجب وتعليل له، والتقدير فإنه أول بيت أي أول أهل بيت (هاجر) أي مع عياله، قاله القاري. وقال الآبي: تعجبت أم سلمة لاعتقادها أنه لا أخير من أبي سلمة ولم تطمع أن يتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو خارج من هذا العموم وتعني بقولها من خير من أبي سلمة بالنسبة إليها فلا يكون خيراً من أبي بكر، لأن الأخير في ذاته قد لا يكون خيراً لها، ويحتمل أن تعني أنه خير مطلقاً والإجماع على أفضلية أبي بكر إنما هو على من تأخرت وفاته

ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم)) . رواه مسلم. 1634- (5) وعنها، قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه سلم على أبي سلمة وقد شق بصره، فأغمضه، ثم قال: إن الروح إذا قبض تبعه البصر، فضج ناس من أهله، ـــــــــــــــــــــــــــــ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهل هو أفضل ممن تقدمت وفاته، فيه خلاف فلعلها أخذت بأحد القولين وقولها أول بيت هاجر يدل على أنه أرادت أنه أفضل مطلقاً بالنسبة إليها- انتهى. والظاهر أن الخيرية بالنسبة إليها وباعتبار نفسها والله اعلم. (ثم إني قلتها) أي كلمة الاسترجاع والدعاء المذكور بعدها (فأخلف الله لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي بأني جعلني زوجته وكان عوض خير لي من زوجي أبي سلمة (رواه مسلم) في الجنائز، وأخرجه أيضاً مالك وأبوداود فيه، والنسائي في اليوم والليلة، وأخرجه الترمذي في الدعوات وابن ماجه في الجنائز عن أم سلمة عن أبي سلمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. 1634- قوله: (وقد شق بصره) أي بقي بصره منفتحاً. قال النووي: هو بفتح الشين ورفع بصره، وهو فاعل شق، هكذا ضبطناه وهو المشهور، وضبطه بعضهم بصره بالنصب وهو صحيح أيضاً والشين مفتوحة بلا خلاف قال القاضي: قال صاحب الأفعال يقال شق بصر الميت وشق بصر الميت وشق الميت بصره، ومعناه شخص، كما في حديث أبي هريرة عند مسلم مرفوعاً: ألم تروا أن الإنسان إذا مات شخص بصره قالوا بلى قال: فذلك حين يتبع بصره نفسه. وقال ابن السكيت في الإصلاح، والجوهري حكاية عن ابن السكيت: يقال شق بصر الميت ولا يقال شق الميت بصره (يعني أن شق ههنا لازم لا متعد بمعنى انفتح لا فتح) وهو الذي حضره الموت وصار ينظر إلى الشيء لا يرتد إليه طرفه- انتهى. (فأغمضه) أي غمض رسول الله صلى الله عليه وسلم عيني أبي سلمة لئلا يقبح منظره، والإغماض بمعنى التغميض والتغطية (إن الروح إذا قبض تبعه البصر) يحتمل أن يكون علة للإغماض كأنه قال أغمضته لأن الروح إذا خرج من الجسد تبعه البصر في الذهاب فلم يبق لانفتاح بصره فائدة، وأن يكون بياناً لسبب الشق، والمعنى أن المحتضر يتمثل له ملك الموت فينظر إليه ولا يرتد طرفه حتى تفارقه الروح ويضمحل بقايا قوى البصر فيبقى البصر على تلك الهيئة. قال التوربشتي: يحتمل هذا وجهين: أحدهما أن الروح إذا قبض تبعه البصر أي في الذهاب، فلهذا أغمضته لأن فائدة الانفتاح ذهبت بذهاب البصر عند ذهاب الروح، والوجه الآخر أن روح الإنسان إذا قبضها الملائكة نظر إليها الذي حضره الموت نظراً شزراً لا يرتد إليه طرفه حتى يضمحل بقية القوة الباصرة الباقية بعد مفارقة الروح الإنساني التي يقع لها الإدراك والتمييز دون الحيواني الذي به الحس والحركة وغير مستنكر من قدرة الله تعالى أن يكشف عنه الغطاء ساعتئذ حتى يبصر مالم يكن يبصره وهذا الوجه في حديث أبي هريرة (يعني الذي تقدم في كلام النووي) أظهر (فضج) بالجيم المشددة أي رفع الصوت بالبكاء وصاح (ناس من أهله) أي من أهل أبي سلمة

{الفصل الثاني}

فقال: ((لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون، ثم قال: اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره، ونور له فيه)) . رواه مسلم. 1635- (6) وعن عائشة، قالت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين توفي سجى ببرد حبرة. متفق عليه. {الفصل الثاني} 1636- (7) وعن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كان آخر كلامه ـــــــــــــــــــــــــــــ (لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير) أي لا تدعوا بالويل والثبور على عادة الجاهلية (فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون) أي في دعائكم من خير أو شر (وارفع درجته في المهديين) بتشديد الياء الأولى، أي الذين هداهم الله إلى الإسلام سابقاً (واخلفه) بهمزة الوصل وضم اللام من خلف يخلف إذا قام مقام غيره في رعاية أمره وحفظ مصالحه أي كن خليفة له (في عقبه) بكسر القاف، قال الطيبي: أي أولاده، وقيل: أي من يعقبه ويتأخر عنه من ولد وغيره، ولذا أبدل عن عقبه بقوله (في الغابرين) بإعادة الجار، وقال الطيبي: أي الباقين في الأحياء من الناس فقوله: في الغابرين حال من عقبه أي أوقع خلافتك في عقبه كائنين في جملة من الباقين من الناس (وافسح) أي وسع (له في قبره) دعاء بعدم الضغطة، قاله القاري. (ونور له فيه) أي في قبره أراد به دفع الظلمة، وفي الحديث دليل لمن يقول إن الأرواح أجسام لطيفة متحللة في البدن وتذهب الحياة من الجسد بذهابها وليس عرضاً كما يقوله آخرون، وفيه دليل على أنه يدعى للميت عند موته ولأهله ولعقبه بأمور الآخرة والدنيا، وفيه دلالة على أن الميت ينعم في قبره أو يعذب (رواه مسلم) الأخصر أن يجمل ويقول روى الأحاديث الأربعة مسلم. وحديث أم سلمة هذا أخرجه أيضاً أبوداود، وابن ماجه، والبيهقي (ج3ص384) . 1635- قوله: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفي) بصيغة المجهول (سجى) بضم السين وبعدها جيم مشددة مكسورة أي غطى وستر بعد الموت قبل الغسل (ببرد حبرة) بكسر الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة بعدها راء مهملة فتاء تأنيث وزن عتبة، وهي برد قطن يماني موشي مخطط، والبرد يجوز إضافته إليها ووصفه بها. وفيه استحباب تسجية الميت قبل الغسل. قال النووي: وهو مجمع عليه، وحكمته صيانة الميت عن الانكشاف وستر صورته المتغيرة عن الأعين (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد، وأبوداود، والنسائي، وللبيهقي (ج3ص385) . 1636- قوله: (من كان آخر كلامه) أي عند خروجه من الدنيا. قال القاري: برفع آخر. وقيل: بنصبه

لا إله إلا الله، دخل الجنة)) رواه أبوداود. 1637 - (8) وعن معقل بن يسار، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اقرأوا سورة يس على موتاكم)) ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله (لا إله إلا الله) محله النصب أو الرفع على الخبرية أو الاسمية. وقال القسطلاني: وآخر بالنصب لأبي ذر خبر كان تقدم على اسمها وهو لا إله إلا الله، وساغ كونها مسنداً إليها مع أنها جملة، لأن المراد بها لفظها فهي في حكم المفرد. ولغير أبي ذر آخر بالرفع اسم كان- انتهى. قيل: المراد بقول: لا إله إلا الله الشهادتان؛ لأنه علم لهما. قال الحافظ: والمراد بقول: لا إله إلا الله في هذا الحديث وغيره كلمتا الشهادة، فلا يرد إشكال ترك ذكر الرسالة. قال الزين بن المنير: قول لا إله إلا الله لقب جري على المنطق بالشهادتين شرعاً- انتهى. قلت: الظاهر أن المراد به كلمة التوحيد فقط، أي من غير زيادة محمد رسول الله، لأن المطلوب قولها عند الموت من حيث أنها كلمة ذكر لا من حيث أنها كلمة إسلام كما سبق تحقيقه في شرح حديث التلقين (دخل الجنة) أي قبل العذاب دخولاً خاصاً أو بعد أن عذب بقدر ذنوبه والأول الأظهر ليتميز عن غيره من المؤمنين الذين لم يكن آخر كلامهم هذه الكلمة، قاله القاري. وقال ابن رسلان: معنى ذلك أنه لابد له من دخول الجنة فإن عاصياً غير تائب فهو في أول أمره في خطر المشيئة. يحتمل أن يغفر الله له، ويحتمل أن يعاقبه ويدخل الجنة بعد العقاب، ويحتمل أن يكون من وفق لأن يكون آخر كلامه لا إله إلا الله، يكون ذلك علامة على أن الله تعالى يعفو عنه فلا يكون في خطر المشيئة تشريفاً له على غيره ممن لم يوفق أن يكون آخر كلامه ذلك- انتهى. قلت: الاحتمال الثاني أي احتمال أن قول ذلك عند الموت علامة على عفو الله تعالى عنه ومسقط لما تقدم له، هو الراجح عندي، فيدخل قائلها عند الموت الجنة قبل العذاب مع السابقين والله تعالى اعلم، ولأجل ذلك يستحب أن تذكر هذه الكلمة عند من حضره الموت ليتفطن لها ويتكلم بها فتكون آخر كلامه ويدخل الجنة (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً أحمد والحاكم (ج1ص351) وسكت عنه أبوداود، والمنذري، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وقال الحافظ في التلخيص: وأعله ابن القطان بصالح بن أبي عريب، وأنه لا يعرف وتعقب بأنه روى عن جماعة، وذكره ابن حبان في الثقات-انتهى. وفي الباب عن علي رواه الطبراني في الأوسط وفيه أبوبلال الأشعري، ضعفه الدارقطني. وفي الباب أيضاً أحاديث أخرى، ذكرها الحافظ في التلخيص، والهيثمي في مجمع الزوائد. 1637- قوله: (وعن معقل) بفتح الميم وسكون المهملة وكسر القاف (بن يسار) المزني صحابي أسلم قبل الحديبية وشهد بيعة الرضوان، وكنيته أبوعلي المشهور وهو الذي حفر وفجر نهر معقل بالبصرة بأمر عمر فنسب إليه ونزل البصرة وبنى بها داراً ومات بها في آخر خلافته معاوية، وقيل في ولاية يزيد وذكره البخاري في الأوسط في فصل من مات بين الستين إلى السبعين (اقرؤا سورة يس على موتاكم) أي على من حضره مقدمات الموت، لأن الميت

رواه أحمد، وأبوداود، وابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يقرأ عليه. وقيل لأن سورة يس مشتملة على أصول العقائد من البعث والقيامة فيتقوى بسماعها التصديق والإيمان حتى يموت. وقيل: المراد به من قضى نحبه، وهو في بيته أو دون مدفنه أو في القبر، لأن اللفظ نص في الأموات وتناوله للحي المحتضر مجاز فلا يصار إليه إلا لقرينة. وقيل: الأولى الجمع عملاً بالقولين. والراجح عندي هو الأول، لما روى أحمد (ج4ص105) عن أبي المغيرة ثنا صفوان حدثني المشيخة: أنهم حضروا غضيف بن الحارث الثمالي حين اشتد سوقه فقال: هل منكم أحد يقرأها يس؟ قال: فقرأها صالح بن شريح السكوني فلما بلغ أربعين منها قبض، قال: فكان المشيخة يقولون إذا قرئت عند الميت خفف عنه بها. قال الحافظ في التلخيص: وأسنده صاحب الفردوس (الديلمي) من طريق مروان بن سالم عن صفوان بن عمرو عن شريح عن أبي الدرداء وأبي ذر قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من ميت يموت فيقرأ عنده يس إلا هون الله عليه- انتهى. قال الأمير اليماني بعد ذكر الحديثين: وهذان يؤيدان ما قاله ابن حبان من أن المراد به المحتضر، وهما أصرح في ذلك مما استدل به. وقال في اللمعات: الظاهر أن المراد المحتضر، وعليه العمل. وقال ابن القيم في كتاب الروح (ص14) : حديث معقل يحتمل أن يراد به قراءتها على المحتضر عند موته مثل قوله: لقنوا موتكم لا إله إلا الله، ويحتمل أن يراد به القراءة عند القبر والأول أظهر لوجوه: أحدها: أنه نظير قوله: لقنوا موتاكم لا إله إلا الله. الثاني: انتفاع المحتضر بهذه السورة لما فيها من التوحيد والمعاد والبشرى بالجنة لأهل التوحيد وغبطة من مات عليه بقوله: {يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين} . فيستبشر الروح بذلك فيحب لقاء الله فيحب الله لقاءه، فإن هذه السورة قلب القرآن، ولها خاصية عجيبة في قراءتها عند المحتضر. الثالث: أن هذا عمل الناس وعادتهم قديماً وحديثاً يقرؤن يس عند المحتضر. الرابع: أن الصحابة لو فهموا من قوله - صلى الله عليه وسلم - اقرؤا يس عند موتاكم قراءتها عند القبر لما أخلوا به وكان ذلك أمرا معتاداً مشهوراً بينهم. الخامس: أن انتفاعه باستماعها وحضور قلبه وذهنه عند قراءتها في آخر عهده بالدنيا هو المقصود، وأما قراءتها عند القبر فإنه لا يثاب على ذلك، لأن الثواب إما بالقراءة أو بالاستماع وهو عمل وقد انقطع من الميت- انتهى. (رواه أحمد) (ج5ص26- 27) (وأبوداود وابن ماجه) وأخرجه أيضاً ابن حبان والحاكم (ج1ص565) والبيهقي (ج3ص383) وابن أبي شيبة (ج4ص74) كلهم من طريق سليمان التيمي عن أبي عثمان غير النهدي عن أبيه عن معقل بن يسار، وعزاه الحافظ في التلخيص وبلوغ المرام والمنذري في تلخيص السنن للنسائي أيضاً. قال الحافظ: ولم يقل النسائي عن أبيه، ونقل في العون عن المزي أن الحديث أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة. والحديث قد سكت عنه أبوداود. وقال المنذري أبوعثمان وأبوه ليسا بمشهورين. وقال الحافظ: أعله ابن القطان بالاضطراب وبالوقف وبحهالة حال أبي عثمان وأبيه، ونقل أبوبكر بن العربي عن الدارقطني أنه قال: هذا حديث ضعيف الإسناد، مجهول المتن، ولا يصح في الباب حديث - انتهى. وقال النووي

1638- وعن عائشة، قالت: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل عثمان بن مظعون وهو ميت، وهو يبكي حتى سال دموع النبي صلى الله عليه وسلم على وجه عثمان)) رواه الترمذي، وأبوداود، وابن ماجه. 1639- وعنها، قالت: ((إن أبابكر قبل النبي صلى الله عليه وسلم ـــــــــــــــــــــــــــــ في الأذكار: إسناده ضعيف. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب: أبوعثمان وليس بالنهدي. قيل: اسمه سعد روى عن معقل بن يسار. وقيل: عن أبيه عن معقل روى عنه سليمان التيمي. قال ابن المديني: ولم يرو عنه غيره، وهو مجهول. وقال الآجري عن أبي داود: هو ابن عثمان السكنى، وذكره ابن حبان في الثقات- انتهى. وقال في التقريب: أبوعثمان شيخ لسليمان التيمي، قال في روايته عنه وليس بالنهدي. قيل اسمه سعد مقبول. 1638- قوله: (قبل) من التقبيل (عثمان بن مظعون) بالظاء المعجمة أي بعد ما غسل وكفن، كما في الاستيعاب (وهو ميت) حال من المفعول (وهو) أي النبي صلى الله عليه وسلم (يبكي حتى سال دموع النبي صلى الله عليه وسلم على وجه عثمان) لفظ الترمذي: وهو يبكي أو قالت عيناه تذرفان، وعند أبي داود: حتى رأيت الدموع تسيل، ولفظ ابن ماجه: فكأني أنظر إلى دموعه تسيل على خديه. ورواه البيهقي بلفظ: بكى حتى رأيت الدموع تسيل على وجنتيه. وعند الحاكم: وهو يبكي قال وعيناه تهرقان. وذكر المجد بن تيمية في المنتقى بلفظ: قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون، وهو ميت حتى رأيت الدموع تسيل على وجهه، وعزاه لأحمد وابن ماجه والترمذي. وهذه الروايات كما ترى ليس فيها تصريح أنه سال الدموع على وجه عثمان بل هي تحتمل أنه سال الدموع على خدي النبي صلى الله عليه وسلم أو على خدي عثمان، ولم أقف على رواية تعين الاحتمال الثاني أو تؤيده، والحديث يدل على أن تقبيل المسلم بعد الموت والبكاء عليه جائز (رواه الترمذي، وأبوداود، وابن ماجه) وأخرجه أيضاً أحمد والحاكم (ج1ص361) والبيهقي (ج3ص407) وسكت عنه أبوداود، وصححه الترمذي. وقال المنذري بعد نقل تصحيح الترمذي، وفي إسناد الحديث عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب، وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة- انتهى. ورواه البزار من حديث عامر بن ربيعة قال الهيثمي: إسناده حسن. 1639- قوله: (إن أبابكر قبل النبي صلى الله عليه وسلم) أي بين عينيه، كما في رواية النسائي، والترمذي في الشمائل. وفي رواية للبخاري: كشف عن وجهه ثم أكب عليه، فقبله. وفي رواية لأحمد: أتاه من قبل رأسه فحدر فاه فقبل جبهته ثم قال: وانبياه ثم رفع رأسه فحدر فاه وقبل جبهته ثم قال: واصفياه ثم رفع رأسه وحدر فاه وقبل جبهته ثم قال: واخليلاه. ولابن أبي شيبة عن ابن عمر: فوضع فاه على جبين رسول الله صلى الله عليه وسلم

وهو ميت)) رواه الترمذي، وابن ماجه. 1640- (11) وعن حصين بن وحوح، أن طلحة بن البراء مرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقال: ((إني لا أرى طلحة إلا قد حدث به الموت، فآذنوني به وعجلوا، فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله)) . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فجعل يقبله ويبكي ويقول: بأبي وأمي طبت حياً وميتاً: وللطبراني من حديث جابر: أن أبابكر قبل جبهته (وهو ميت) قال الحافظ: فيه جواز تقبيل الميت تعظيماً وتبركاً. قال الشوكاني: لأنه لم ينقل أنه أنكر أحد من الصحابة على أبي بكر فكان إجماعاً- انتهى. (رواه الترمذي) أي موصولاً في شمائله بلفظ: أن أبابكر قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ما مات. وأما في جامعه، فذكره معلقاً حيث قال بعد رواية حديث عائشة المتقدم، وفي الباب عن ابن عباس وجابر وعائشة قالوا: إن أبابكر قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ميت (وابن ماجه) في الجنائز، وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي والبيهقي (ج3ص406) وأخرجه البخاري في باب مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته عن عائشة وابن عباس أن أبابكر قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته، فالأولى بل الصواب إيراد هذا الحديث في الصحاح أي الفصل الأول. 1640- قوله: (وعن حصين) بضم حاء وفتح صاد مهملتين (بن وحوح) بفتح واوين وسكون حاء مهملة أولى، الأنصاري الأوسي المدني، صحابي، له حديث واحد في ذكر طلحة بن البراء، ذكر ابن الكلبي: أنه استشهد بالقادسية، كذا في تهذيب التهذيب (أن طلحة بن البراء) البلوى الأنصاري، صحابي، وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ مات وصلى عليه: اللهم الق طلحة وأنت تضحك إليه وهو يضحك إليك، وكان لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو غلام فجعل يلصق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقبل قدميه ويقول مرني بما أحبَبْتَ يا رسول الله فلا أعصي لك أمراً فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعجب به ثم مرض ومات فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قبره وذلك أنه توفي البراء ليلاً فقال: أدفنوني وألحقوني بربي ولا تدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني أخاف عليه اليهود وأن يصاب في سببي فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أصبح فجاء حتى وقف على قبره وصف الناس معه فصلى ودعا له (إني لا أرى) بضم الهمزة أي أظن (إلا قد حدث به الموت) أي ظهرت فيه آثار الموت ومقدماته (فآذنوني) بالمد وكسر الذال (به) أي إذا مات فأخبروني بموته حتى أصلي عليه (وعجلوا) أي تجهيزه وتكفينه (فإنه) أي الشأن (لا ينبغي لجيفة مسلم) أي جئته. وفي رواية: لجسد مسلم (أن تحبس) أي تقام وتوقف (بين ظهراني أهله) أي بين أهله والظهر مقحم أي لا تتركوا الميت زماناً طويلاً لئلا ينتن ويزيد حزن أهله عليه. قال الطيبي: أن المؤمن عزيز كريم فإذا استحال جيفة ونتناً استقذرته النفوس وينفر عنه الطباع، فينبغي أن

{الفصل الثالث}

رواه أبوداود. {الفصل الثالث} 1641- (12) عن عبد الله بن جعفر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقنوا موتاكم لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين، قالوا: يا رسول الله! كيف للأحياء؟ قال: أجود وأجود)) رواه ابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ يسرع فيما يواريه فذكر الجيفة ههنا كذكر السوأة في قوله تعالى: {كيف يواري سوأة أخيه} [المائدة: 31] قال ميرك: وليس في قوله جيفة مسلم دليل على نجاسته- انتهى. والحديث يدل على مشروعية التعجيل بالميت والإسراع في تجهيزه، وتشهد له أحاديث الإسراع بالجنازة، قاله الشوكاني: (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً البيهقي (ج3ص386) والطبراني وابن شاهين وابن أبي عاصم وابن أبي خيثمة والبغوي وغيرهم، وسكت عنه أبوداود، وفيه عروة بن سعيد الأنصاري، ويقال عزرة بن سعيد عن أبيه، وهو وأبوه مجهولان. وقال الحافظ في الإصابة في ترجمة حصين بن وحوح، وعلى ما ذكر ابن الكلبي من أنه قتل بالقادسية يكون هذا الحديث مرسلاً، لأن سعيداً والد عروة لم يدرك زمن القادسية، فإما أن يكون حصين بن وحوح آخر ممن أدركهم سعيد، وإما أن يكون لم يقتل بالقادسية، كما قال ابن الكلبي- انتهى. 1641- قوله: (عن عبد الله بن جعفر) أي ابن أبي طالب القرشي الهاشمي، يكنى أباجعفر، ولدته أمه أسماء بنت عميس بأرض الحبشة، وهو أول مولود، ولد في الإسلام بها وقدم مع أبيه المدينة وحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى عنه كان جواداً ظريفاً خليقا عفيفاً حليماً يسمى بحر الجود، ويقال: أنه لم يكن في الإسلام أسخى منه وأخباره في الكرم شهيرة. وقال ابن حبان: كان يقال له قطب السخاء، روى عنه خلق كثير، توفي بالمدينة سنة (80) وهو ابن (80) سنة وقيل ابن (90) وصلى عليه أبان بن عثمان، وهو يومئذ أمير المدينة، وذلك العام يعرف بعام الجحاف لسيل كان بمكة أجحف بالحاج وذهب بالإبل وعليها الحمولة (لقنوا موتاكم) أي المشرفين على الموت (العظيم) صفة للرب أو العرش، والثاني أبلغ ووصفه بالعظمة؛ لأنه أكبر المخلوقات ومحيط بالمكونات (الحمد الله) أي على الحياة والممات (كيف) أي هذا التلقين (للأحياء) أي للأصحاء أيحسن أم لا (أجود وأجود) أي أحسن وأحسن كرر للتأكيد والمبالغة. قال الطيبي: التكرار للاستمرار أي جودة وهذا معنى الواو فيه (رواه ابن ماجه) وفي سنده إسحاق بن عبد الله بن

1642- (13) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الميت تحضره الملائكة فإذا كان الرجل صالحاً قالوا: أخرجي أيتها النفس الطيبة، كانت في الجسد الطيب، أخرجي حميدة، وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان، فلا تزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء ـــــــــــــــــــــــــــــ جعفر، وهو مستور، روى عنه كثير بن زيد الأسلمي المدني، وهو صدوق، فيه لين، ذكره ابن حبان في الثقات، ووثقه ابن عمار الموصلي، ونقل السندي عن البوصيري، أنه قال في الزوائد: في إسناده إسحاق لم أر من وثقة ولا من جرحه، وكثير بن زيد، قال فيه أحمد: ما أرى به بأساً. وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال مرة: ليس به بأس. وقال مرة: صالح. وقال أبوحاتم: صالح ليس بالقوى. وقال النسائي: ضعيف. وقيل: ثقة، وباقي رجاله ثقات-انتهى. والحديث أخرجه أيضاً الحكيم الترمذي، والطبراني كما في الكنز (ج8ص78) . 1642- قوله: (الميت) أي جنسه، والمراد من قرب موته (تحضره الملائكة) أي ملائكة الرحمة أو ملائكة العقوبة، قاله ابن حجر. قيل: وهذه الملائكة هم أعوان ملك الموت في قبض الأرواح، وحاصل الأحاديث في ذلك أن ملك الموت يقبض الأرواح والأعوان يكونون معه يعملون عمله بأمره والله تعالى هو الذي يزهق الروحُ بأمره، وبه يجمع بين الآيات والأحاديث المختلفة التي أضيف التوفي فيها تارة إلى الله تعالى، وتارة إلى ملك الموت، وتارة إلى أعوانه من الملائكة، فملك الموت يقبض الروح من الجسد بأمره تعالى، ثم يسلمها إلى ملائكة الرحمة إن كان مؤمناً، وملائكة العذاب إن كان كافراً وعند معاينتهم يعاين ما يصير إليه من رحمة وعذاب (صالحاً) أي مؤمناً. وقيل: أو قائماً بحقوق الله تعالى وحقوق عباده (أخرجي) أي من جسدك الطيب والخطاب للنفس فيستقيم هذا الخطاب مع عموم الميت للذكر والأنثى (أيتها النفس) أي الروح (كانت في الجسد الطيب) قال الطيبي: الظاهر كنت، ليطابق النداء وأخرجي لكن اعتبر اللام الموصولة أي النفس التي طابت كائنة في الجسد، ويحتمل أن يكون صفة أخرى للنفس، لأن المراد ليست نفساً معينة بل الجنس مطلقاً- انتهى. (أخرجي) فيه دلالة على أن الروح جسم لطيف يوصف بالدخول والخروج والصعود والنزول، وهو خطاب ثان أو تأكيد لقوله (حميدة) أي محمودة (بروح) بفتح الراء أي راحة أو رحمة (وريحان) أي رزق أو طيب، والتنوين فيهما للتعظيم والتكثير (ورب) أي وبملاقاة رب (غير غضبان) بعدم الانصراف. وقيل: بالانصراف. قال ابن حجر: وعدل إليه عن راض رعاية للفاصلة أي السجع (فلا تزال) أي النفس (يقال لها ذلك) أي ما تقدم من أنواع البشارة زيادة في سرورها بسماعها ما تقر به عينها (ثم يعرج بها) بصيغة المجهول (إلى السماء)

فيفتح لها، فيقال: من هذا؟ فيقولون: فلان، فيقال: مرحباً بالنفس الطيبة: كانت في الجسد الطيب، ادخلي حميدة، وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان، فلا تزال يقال لها ذلك، حتى تنتهي إلى السماء التي فيها الله، فإذا كان الرجل السوء، قال: أخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، أخرجي ذميمة، وأبشري بحميم وغساق، وآخر من شكله أزواج، فما تزال يقال لها ذلك، حتى تخرج ثم يعرج إلى السماء فيفتح لها ـــــــــــــــــــــــــــــ أي الدنيا (فيفتح لها) أي بعد الاستفتاح أو قبله، وعند أحمد: فيستفتح لها (فيقال) أي يقول ملائكة السماء (من هذا فيقولون) أي يقول ملائكة الرحمة الذين معه (فلان) أي هذا فلان أي روحه (فلا تزال) أي هي (يقال لها ذلك) أي ما ذكر من الأمر بالدخول والبشارة بالصعود من سماء إلى سماء (حتى تنتهي) أي تصل إلى السماء (التي فيها الله) أي أمره وحكمه أي ظهور ملكه وهو العرش، قاله القاري. وقيل: أي فيها يظهر ويلقي حكمه. وقيل: أي قدرته ورحمته الخاصة (فإذا كان الرجل) بالرفع. وقيل: بالنصب على أن كان تامة أو ناقصة (السوء) بفتح السين وضمها صفة الرجل (قال) أي ملك الموت أو رئيس ملائكة العذاب أو كل واحد منهم فيطابق ما سبق بصيغة الجمع (ذميمة) أي مذمومة (وأبشري) قال الطيبي: استعارة تهكمية، كقوله تعالى: {فبشرهم بعذاب أليم} [آل عمران: 21] أو على المشاكلة والازدواج وحميم وغساق مقابل لروح وريحان (بحميم) أي ماء حار غاية الحرارة (وغساق) بتخفيف وتشديد ما يغسق أي يسيل من صديد أهل النار. وقيل: البارد المنتن (وآخر) قال القاري: عطف على حميم أي وبعذاب آخر. وفي نسخة: بضم الهمزة أي وبأنواع آخر من العذاب (من شكله) أي مثل ما ذكر في الحرارة والمرارة (أزواج) بالجر أي أصناف. قال الطيبي: أي مذوقات آخر مثل الغساق في الشدة والفظاعة أزواج أجناس- انتهى. ولا وجه لإرجاع الضمير إلى الغساق وحده وإن كان هو أقرب مذكور فالصحيح ما ذكرناه من أن إفراد الضمير باعتبار ما ذكر. قال: وآخر في محل الجر عطف على حميم وأزواج صفة لآخر وإن كان مفرداً، لأنه في تأويل الضروب والأصناف كقول الشاعر: معي جياعاً. والظاهر أنه في تأويل النوع والصنف، كذا قال القاري. وقال السندي: وآخر أي بأخر وأزواج، بدل منه أي بأصناف ومن شكله جار ومجرور وقع حالاً من أزواج أي وبأصناف كائنة من جنس المذكور من الحميم والغساق (ثم يعرج إلى السماء) كذا في أكثر النسخ، ووقع في بعض النسخ ثم يعرج بها إلى السماء، وهو مطابق لما في مسند الإمام أحمد وابن ماجه (فيفتح لها) أي يستفتح لها لقوله تعالى: {لا تفتح لهم أبواب السماء} [الأعراف: 40] وعند

فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان، فيقال لا مرحباً بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، ارجعي ذميمة، فإنها لا تفتح لك أبواب السماء، فترسل من السماء ثم تصير إلى القبر)) . رواه ابن ماجه. 1643- (14) وعنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان يصعدانها)) قال حماد: فذكر من طيب ريحها وذكر المسك، قال ويقول أهل السماء: روح طيبة جاءت من قبل الأرض، ـــــــــــــــــــــــــــــ أحمد فيستفتح لها (فترسل) أي ترد وسيأتي أنها تطرح (ثم تصير) أي ترجع (إلى القبر) وتكون محبوسة في أسفل السافلين، بخلاف روح المؤمن فإنها تسرح في الجنة حيث تشاء، ولها تعلق بجسده أيضاً تعلقاً كلياً بحيث يتنعم في قبره وينظر إلى منازله في الجنة بحسب مرتبته فأمر الروح وأحوال البرزخ والآخرة كلها على خوارق العادات فلا يشكل شيء منها على المؤمن بالآيات (رواه ابن ماجه) في الزهد بإسناد صحيح، قاله المنذري في الترغيب. وقال البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح، رجاله ثقات- انتهى. والحديث أخرجه أيضاً أحمد (ج2ص344) وذكره ابن القيم في كتاب الروح، وعزاه لابن منذه، وذكر توثيق رواته عن الحافظ أبي نعيم. 1643- قوله: (تلقاها ملكان) وفي الحديث السابق ذكر الملائكة بإرادة ما فوق الواحد أو يلقي بعضهم ملكان، وبعضهم أكثر. وقال القاري: هذا تفصيل للمجمل السابق ويحتمل أنهما الكريمان الكاتبان ولا ينافي الجمع فيما مر، أما على قول من يقول أقل الجمع اثنان فظاهر، وأما على قول غيره فلاحتمال أن الحاضرين جمع المفوض إليه منهم ذلك اثنان والبقية أو الكل يقولون لروحه اخرجي أيتها النفس أو القائل واحد ونسب إلى الكل مجازاً كقوله تعالى: {فعقروها} [الشمس: 14] وكقولهم قتله بنو فلان، ويؤيده حديث البراء الآتي (يصعدانها) بضم الياء (قال حماد) وهو ابن زيد الأزدي البصري، راوي الحديث عن بديل عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة (فذكر) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الصحابي، وهو أبوهريرة وكان سبب ذلك نسيان رواية لفظ النبوة في هذا دون معناه، فذكره بسياق يشعر بذلك، قاله القاري. والظاهر أن فاعل ذكر بديل بن ميسرة شيخ حماد بن زيد (من طيب ريحها) أي أوصافها عظيمة من طيب ريحها (وذكر المسك) أي بطريق التشبيه أي رائحة كرائحة المسك. وقال القاري: أي ومن أنواع ذلك المسك. وقال الطيبي: أي وذكر المسك لكن لم يعلم أن ذلك كان طريقة التشبيه أو الاستعارة أو غير ذلك. وقال الأبهري: الأظهر أن يقال وذكر أن طيب ريحها أطيب من ريح المسك (قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (ويقول أهل السماء) أراد به الجنس أي كل سماع (روح طيبة) مبتدأ أو خبر لمحذوف هو هي وقوله (جاءت) الآن (من قبل الأرض) بكسر القاف وفتح الموحدة

صلى الله عليك وعلى جسد كنت تعمرينه، فينطلق به إلى ربه، ثم يقول: انطلقوا به إلى آخر الأجل. قال: وإن الكافر إذا خرجت روحه، قال حماد: وذكر من نتنها وذكر لعناً، ويقول أهل السماء: روح خبيثة جاءت من قبل الأرض، فيقال: انطلقوا به إلى آخر الأجل. قال أبوهريرة: فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ريطة كانت عليه على أنفه هكذا. رواه مسلم. 1644- (15) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا حضر المؤمن ـــــــــــــــــــــــــــــ أي من جهتها صفة ثانية (صلى الله عليك) أي أنزل الرحمة عليك، والخطاب للروح. قال الطيبي: في عليك التفات من الغيبة في قوله: جاءت إلى الخطاب، وفائدته مزيد اختصاص لها بالصلاة عليها (وعلى جسد كنت تعمرينه) بضم الميم. قال الطيبي: استعارة شبه تدبيرها الجسد بالعمل الصالح بعمارة من يتولى مدينة ويعمرها بالعدل والإحسان (فينطلق به) على بناء المفعول (إلى ربه) وفي حديث براءة الآتي إلى السماء السابعة (ثم يقول) أي الرب سبحانه (انطلقوا به) أي الآن أي ليكون مستقراً في الجنة أو عندها (إلى آخر الأجل) قال القاري: المراد بالأجل هنا مدة البرزخ، يعني اذهبوا به إلى المكان الذي أعد له إلى وقت القيامة. قال الطيبي: يعلم من هذا أن لكل أحد أجلين أولاً وآخراً ويشهد له قوله تعالى: {ثم قضى أجلا وأجل مسمى} [الأنعام: 2] عنده أي أجل الموت وأجل القيامة. وقال القاضي: المراد هنا انطلقوا بروح المؤمن إلى سدرة المنتهى، وفي روح الكافر انطلقوا بروح الكافر إلى سجين فهي منتهى الأجل. ويحتمل أن المراد إلى انقضاء الدنيا (وذكر من نتنها) بسكون التاء (وذكر لعناً) أي مع النتن فإن البعد من لوازم النتن (روح خبيثة جاءت) أي قاربت السماء (فيقال انطلقوا به) قال الطيبي: ذكر ههنا يقال وفي الأول يقول رعاية لحسن الأدب حيث نسب الرحمة إلى الله سبحانه ولم ينسب إليه الغضب كما في قوله تعالى: {أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم} [الفاتحة: 7] (فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ريطة) أي طرف ريطة وهي بفتح الراء وإسكان الياء التحتية كل ملاءة على طاقة واحدة ليست لفقتين، وقيل: كل ثوب رقيق (كانت عليه) أي على بطنه عليه الصلاة والسلام (على أنفه) متعلق برد. قال الطيبي: رد رسول الله صلى الله عليه وسلم الريطة على الأنف لما كوشف بروح الكافر وشم من نتن ريح روحه كما أنه غطى رأسه حين مر بالحجر لما شاهد من عذاب أهلها، وقيل: رد عليه السلام الريطة على أنفه ليرى أصحابه كيف تتقي الملائكة نتن ريح تلك الروح بوضع شيء على الأنف لئلا تتضرر بذلك (هكذا) أي كفعلي هذا وكان أبوهريرة وضع ثوبه على أنفه بكيفية خاصة صدرت منه عليه الصلاة والسلام (رواه مسلم) قبيل كتاب الفتن. 1644- قوله: (إذا حضر المؤمن) على بناء المفعول أي حضره الموت. وفي رواية الحاكم: إذا احتضر

أتت ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء، فيقولون: اخرجي راضية مرضياً عنك، إلى روح الله وريحان، ورب غير غضبان، فتخرج كأطيب ريح المسك، حتى إنه ليناوله بعضهم بعضاً حتى يأتوا به أبواب السماء، فيقولون: ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الأرض! فيأتون به أرواح المؤمنين، فلهم أشد فرحاً به من أحدكم بغايبه يقدم عليه، فيسألونه: ماذا فعل فلان؟ فيقولون: دعوه، ـــــــــــــــــــــــــــــ وفي رواية ابن حبان: إذا قبض (أتت) وفي النسائي: أتته (ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء) ولعل روحه تلف فيها وترفع إلى السماء والكفن الدنيوي يصحب الجسد الصوري، قاله القاري. وفي رواية أبي حاتم: أن المؤمن إذا حضره الموت حضرته ملائكة الرحمة فإذا قبض جعلت روحه في حريرة بيضاء فينطلق بها إلى باب السماء (اخرجي) الخطاب للنفس فيستقيم هذا الخطاب مع عموم المؤمنين للذكر والأنثى (راضية) عن الله سابقاً وبثواب الله لاحقاً (مرضياً عنك) أي أولاً وآخراً. وفي بعض النسخ: مرضية عنك، كما في النسائي (إلى روح الله) بفتح الراء أي رحمته أو راحة منه (وريحان) أي رزق أو مشموم (كأطيب ريح المسك) حال أي حال كونه مثل أطيب ريح المسك. وقيل: صفة مصدر محذوف أي خروجاً كخروج أطيب ريح المسك، يعني تخرج خروجاً مثل ريح مسك بفتق فأرتها وهو قد فاق سائر أرواح المسك (حتى أنه) أي روح المؤمن (ليناوله بعضهم بعضاً) أي يتداولونه ويصعدون به من يد إلى يد تكريماً وتعظيماً وتبركاً وتشريفاً لا كسلاً وتعباً (حتى يأتوا به) وفي رواية الحاكم: يشمونه حتى يأتوا به (أبواب السماء) أي باب بعد باب. وفي النسائي والمستدرك: باب السماء، وهو منصوب بنزع الخافض أي إلى أن يأتوا به، وهو غاية للمناولة (فيقولون) أي بعض الملائكة لبعض ملائكة السماء على جهة التعجب من غاية عظمة طيبة (فيأتون به) وفي رواية الحاكم: فكلما أتوا سماء قالوا ذلك حتى يأتوا به (أرواح المؤمنين) منصوب بنزع الخافض أي إلى مقر أرواحهم في عليين (فلهم) الضمير للمؤمنين أو لأرواحهم (أشد فرحاً) قال الطيبي: اللام المفتوحة لام الابتداء مؤكدة نحو قوله تعالى: {لهو خير للصابرين} [النحل: 126] وهم مبتدأ وأشد خبره، ولا يبعد أن تكون اللام جارة، والتقدير لهم فرح هو أشد فرحاً على توصيف الفرح بكونه فرحاً على المجاز فيكون الفرح فرحاً على سبيل المبالغة. قلت: ويؤيد الأول رواية الحاكم بلفظ: فلهم أفرح به (به) أي بقدومه (من أحدكم) أي من فرح أحدكم (بغائبه يقدم عليه) أي حال قدومه (فيسألونه) أي بعض أرواح المؤمنين (ماذا فعل فلان) على بناء الفاعل، والمراد ما شأنه وحاله (ماذا فعل فلان) تأكيد أو المراد شخص آخر، وهو الآظهر (فيقولون) أي بعض أخر من الأرواح (دعوه) أي أتركوه، زاد في رواية الحاكم: حتى

فإنه كان في غم الدنيا. فيقول: قد مات، أما أتاكم؟ فيقولون: قد ذهب به إلى أمه الهاوية. وإن الكافر إذا احتضر أتته ملائكة العذاب بمسح، فيقولون: اخرجي ساخطة مسخوطاً عليك إلى عذاب الله عزوجل. فتخرج كأنتن ريح جيفة، حتى يأتون به إلى باب الأرض، فيقولون: ما أنتن هذه الريح، حتى يأتون به أرواح الكفار. رواه أحمد، والنسائي. 1645- (16) وعن البراء بن عازب، قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر، ولما يلحد، ـــــــــــــــــــــــــــــ يستريح. قال الطيبي: أي يقول بعضهم لبعض دعوا القادم فإنه حديث عهد بتعب الدنيا (فإنه) أي الشأن (كان) أي القادم (في غم الدنيا) أي إلى الآن ما استراح من همها (فيقول) أي القادم في جواب السؤال (قد مات) أي فلان المسؤل (أما أتاكم) أي أما جاءكم (فيقولون) وفي رواية الحاكم: فإذا قال لهم أما أتاكم فإنه قد مات قال فيقولون أي أرواح المؤمنين (قد ذهب به) على بناء المفعول (إلى أمه الهاوية) أي أنه لم يلحق بنا فقد ذهب به إلى النار، والهاوية من أسماء النار كأنها العميقة تهوي أهل النار فيها مهوى بعيداً، وهي بدل أو عطف بيان، وتسمية النار إما باعتبار أنها مأوى صاحبها كالأم مأوى الولد ومفزعه، ومنه قوله تعالى: {فأمه هاوية} [القارعة:9] (إذا احتضر) بصيغة المجهول (بمسح) بكسر الميم البلاس. وقال النووي: هو ثوب من الشعر غليظ معروف (اخرجي) أي إلى غضب الله (ساخطة) أي كارهة غير راضية عن الله حياً وميتاً (مسخوطاً) أي مغضوباً (إلى عذاب الله) متعلق بأخرجي (حتى يأتون به) بإثبات النون ورفعه على حكاية الحال الماضية على حد {وزلزلوا حتى يقول الرسول} في قراءة نافع بالرفع أي حتى أتوا به (إلى باب الأرض) فيرد إلى أسفل السافلين (فيقولون) أي ملائكة الأرض (حتى يأتون به) وفي رواية الحاكم كلما أتوا على أرض قالوا ذلك حتى يأتوا به فيتعين أن يكون حتى غاية لقولهم ذلك (أرواح الكفار) ومحلها سجين، وهو موضع في مقر جهنم (رواه أحمد) (ج4ص287- 288) (والنسائي) في الجنائز، وأخرجه أيضاً البزار، وأبوحاتم، وابن حبان في صحيحيهما، والحاكم (ج1ص352- 353) وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. 1645- قوله: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار) أي إلى البقيع (فانتهينا إلى القبر) أي وصلنا إليه (ولما يلحد) من اَلْحد أو لَحَد كمنع على بناء المفعول أو الفاعل أي الحفار،

فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله، كأن على رؤسنا الطير، وفي يده عود ينكت به في الأرض، فرفع رأسه فقال: ((استعيذوا بالله من عذاب القبر، مرتين أو ثلاثاً، ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء، بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت عليه السلام، حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الطيبة! اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من السقاء، ـــــــــــــــــــــــــــــ يقال الحد الميت ولحده أي دفنه وألحد اللحد ولحده أي حفره وألحد للميت ولحد له حفر له لحداً، ولما بمعنى لم، وفيه توقع، فدل على نفي اللحد فيما مضى وعلى توقعه فيما يستقبل، والجملة حال أي وصلنا إلى القبر حال كون الميت لم يحفر اللحد له بعد (فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) في انتظار أن يحفر اللحد (وجلسنا حوله كأن) بتشديد النون. وفي رواية: وكأن (على رؤسنا الطير) بالنصب على أنه اسم كأن، وهذا كناية عن غاية السكون أي لا يتحرك منا أحد ولا يتكلم توقيراً لمجلسه - صلى الله عليه وسلم -، والمعنى جلسنا ساكنين متأدبين في حضرته متواضعين بحيث يكاد يقعد الطير على رؤسنا والطير لا يكاد يقعد إلا على شيء لا تحرك له وكانوا رضي الله عنهم يراعون أوقاته فأحياناً يتكلمون عنده ويضحكون وأحياناً يتأدبون ولا يتحركون. قال الجزري: وصفهم بالسكون والوقار وأنهم لم يكن فيهم طيش ولا خفة؛ لأن الطير لا تكاد تقع إلا على شيء ساكن (وفي يده عود ينكت) بضم الكاف (به في الأرض) أي يؤثر بطرف العود الأرض فعل المتفكر المهموم، ذكره الطيبي. يقال: نكت الأرض بقضيب أي ضربها به حال التفكر فأثر فيها، ويسمى المعنى الدقيق الذي أخرج بدقة نظر وإمعان فكر نكتة؛ لأن من عادة المتفكر أن ينكت (مرتين أو ثلاثاً) ظرف لقال وأو للشك من الراوي (في انقطاع من الدنيا) أي إدبار منها (وإقبال من الآخرة) أي اتصال بها (كأن وجوههم الشمس) أي وجه كل واحد منهم كالشمس (وحنوط) بفتح الحاء. قال الطيبي: الحنوط ما يخلط من الطيب لأكفان الموتى وأجسادهم (حتى يجلسوا منه مد البصر) أي قريبا منه (الطيبة) وفي رواية الحاكم وابن منده: المطمئنة (اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان) أي ليس أمامك إلا المغفرة والرضوان، وفيه بشارة دفع العذاب وكمال الثواب (قال) أي النبي صلى الله عليه وسلم (فتخرج) أي روحه (تسيل) حال (كما تسيل القطرة) أي كسيلان القطرة في السهولة (من السقاء) بكسر السين أي القربة وفي المسند: من في السقاء، والمقصود بيان أن الروح تخرج من البدن بسهولة. قال القاري: لا منافاة بين اضطراب

فيأخذها، فإذا أخذها، لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، قال: فيصعدون بها فلا يمرون ـ يعني بها ـ على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيفتح لهم، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي به إلى السماء السابعة، ـــــــــــــــــــــــــــــ الجسد وسهولة خروج الروح بل قد يكون الأول سبباً للثاني كما أن رياضة النفس وتضعيف البدن عند الصوفية موجب لقوة الروح على العبادة والمعرفة. وقال ابن حجر: ولا ينافي ذلك ما مر أن المؤمن يشدد عليه عند النزع دون غيره، لأن محله فيما قبل خروج الروح، واعترض عليه القاري بأن حالة النزع هو وقت خروج الروح فبين كلاميه تناقض- انتهى. فتأمل. (فيأخذها) أي ملك الموت (لم يدعوها) بفتح الدال أي لم يتركوها (في يده طرفة عين) أدباً معه أو اشتياقاً إليها. قال الطيبي: فيه إشارة إلى أن ملك الموت إذا قبض روح العبد سلمها إلى أعوانه الذين معهم كفن من أكفان الجنة- انتهى. والطرفة بفتح الطاء وسكون الراء المرة من طرف أي يك بلك زدن يقال: طَرَفَ بصره أو طرف بعينه يَطْرِف طرفاً أي أطبق أحد جفنيه على الآخر (ويخرج منها) أي من الروح ريح أو شيء (كأطيب نفحة مسك) أي مثل أطيبها فالكاف مثليه. قال الطيبي: صفة موصوف محذوف هو فاعل يخرج منها رائحة كأطيب نفحة مسك- انتهى. والنفحة المرة من نفح الطيب أي انتشرت رائحته ونفحة الطيب رائحته (فيصعدون) أي أعوان ملك الموت أو ملائكة الرحمة منهم أو من غيرهم (يعني بها) هذا كلام الصحابي أو الراوي على ملأ أي جمع عظيم (من الملائكة) أي الذين بين السماء والأرض (إلا قالوا) أي الملأ (ما هذا الروح) بفتح الراء أي الريح وضمها (فيقولون) أي ملائكة الرحمة (فلان بن فلان) أي روحه أو روحه (بأحسن أسماءه) أي ألقابه وأوصافه (التي كانوا) أي أهل الدنيا (يسمونه) أي يذكرونه (بها) أي بتلك الأسماء (حتى) أي لا يزال الملائكة يسألون ويجابون كذلك (حتى ينتهوا بها) أي بتلك الروح (فيستفتحون له) الضمير للروح فإنه يذكر ويؤنث (فيفتح) بالتذكير والجار نائب الفاعل (لهم) قال ابن حجر: أفرد الضمير، لأنه المقصود بالاستفتاح، ثم جمع إشارة إلى أنهم لا يفارقونه بل يستمرون معه (فيشيعه) من التشييع، وهو الخروج مع أحد لتوديعه أو لتبليغه منزله يعني يستقبله ويصحبه بعد دخوله في السماء (حتى ينتهي به) بصيغة المجهول والجار

فيقول الله عزوجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارةً أخرى. قال: فتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان، فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله. فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام. فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت. فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي، ـــــــــــــــــــــــــــــ نائب الفاعل (اكتبوا) أي أثبتوا (كتاب عبدي) الإضافة للتشريف، ولذا قال في الكافر اكتبوا كتابه أي اجعلوا كتابة عبدي بكتابة اسمه (في عليين) أي في دفتر المؤمنين وديوان المقربين، والظاهر أنه اسم موضع في السماء السابعة، فيه كتاب الأبرار فالمراد بكتاب العبد صحيفة أعماله. وقال الأبهري: أي في كتاب عبدي، يعني أنه في عليين أو في عوال أو غرف من الجنة مآلاً. قال ابن حجر في فتاواه: أرواح المؤمنين في عليين، وأرواح الكفار في السجين، ولكل روح بجسدها اتصال معنوي لا يشبه الاتصال في الحياة الدنيا بل أشبه شيء به حال النائم وإن كان هو أشد من حال النائم اتصالاً، قال: وإذا نقل الميت من قبر إلى قبر فالاتصال المذكور مستمر وكذا لو تفرقت الأجزاء- انتهى مختصراً. (وأعيدوه) الآن (إلى الأرض) أي إلى جسده الذي دفن في الأرض (فإني منها خلقتهم) أي أجساد بني آدم (وفيها أعيدهم) أي أجسادهم وأرواحهم (فتعاد روحه في جسده) ظاهر الحديث أن عود الروح إلى جميع أجزاء بدنه فلا التفات إلى ما قيل إن العود إنما يكون إلى البعض أو إلى النصف فإنه محتاج إلى النقل الصحيح (فيأتيه ملكان) أي المنكر والنكير لكن في صورة مبشر وبشير. وفي بعض الأحاديث جاء سؤال ملك ولا تعارض في ذلك بل الكل صحيح المعنى فإن هذا الاختلاف بالنسبة إلى الأشخاص (ما هذا الرجل الذي بعث فيكم) أي أرسل إليكم يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم وعبر بذلك امتحاناً لئلا يتلقن تعظيمه من عبارة القائل والإشارة لما في الذهن فإنه لم يرد حديث صحيح ولا ضعيف في أنه يكشف للميت حتى يرى النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا التفات إلى قول القبوريين ومن شاكلهم بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشهد بذاته في الخارج في قبر كل ميت عند سؤال الملكين (وما علمك) أي ما سبب علمك برسالته ومن أين علمت ذلك وما حجتك على رسالته (فآمنت به) أي بالكتاب أو بالرسول أو بما فيه وعلمت جميع ما ذكرت من معانيه (وصدقت) أي تصديقا قلبياً وما اكتفيت بالإيمان اللساني أو هو تأكيد (أن صدق عبدي) أن تفسيرية؛ لأن في النداء معنى القول

فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، قال: فيأتيها من روحها وطيبها، فيفسح له في قبره مد بصره، قال: ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير. فيقول: أنا عملك الصالح. فيقول: رب أقم الساعة! حتى أرجع إلى أهلي ومالي. قال: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، ـــــــــــــــــــــــــــــ وقيل مصدرية (فأفرشوه) بقطع الهمزة أي أعطوه فراشاً أو أفرشوا له فراشاً، فالهمزة لتأكيد التعدية، ففي القاموس: أفرش فلاناً بساطاً بسطه له كفرشه فرشاً وفرشه تفريشاً (من الجنة) أي من فرشها (وألبسوه) بقطع الهمزة أي أكسوه (من الجنة) أي من ثيابها (وافتحوا له) أي لأجله (باباً) أي من القبر (إلى الجنة) أي جهتها (من روحها) بفتح الراء أي من نسيمها (وطيبها) أي رائحتها (فيفسح) بالتخفيف أي يوسع له (في قبره مد بصره) أي منتهى بصره، وهو مختلف باختلاف البصر (ويأتيه) أي المؤمن (رجل) وفي رواية الحاكم: ويتمثل له رجل (أبشر بالذي يسرك) أي بما يجعلك مسروراً (فيقول) أي المؤمن (له من أنت) قال الطيبي: لما سره بالبشارة قال له: إني لا أعرفك من أنت حتى أجازيك بالثناء والمدح، ثم قال وقوله من أنت متضمن معنى المدح مجملاً أي بمعونة المقام، وقرينه الحال ثم قال: والفاء في (فوجهك) لتعقيب البيان بالمجمل على عكس قول الشقي للملك من أنت (الوجه) أي وجهك هو الكامل في الحسن والجمال والنهاية في الكمال وحق لمثل هذا الوجه أن يجيء بالخير ويبشر بمثل هذه البشارة وقوله (يجيء بالخير) جملة استئنافية، وقيل الموصول مقدر أي وجهك الوجه الذي يجيء بالخير (فيقول) أي المصور بصورة الرجل (فيقول رب أقم الساعة رب أقم الساعة) التكرار للإلحاح في الدعاء (حتى أرجع إلى أهلي) أي من الحوار العين والخدم (ومالي) من القصور والبساتين وغيرهما مما يطلق عليه اسم المال، وقيل المراد بالأهل أقاربه من المؤمنين وبمالي ما يشتمل الحور والقصور. قال ميرك: طلب إقامة القيامة لكي يصل إلى ما أعد له من الثواب والدرجات، ويؤيده ما ذكر في الكافر حكاية عنه: رب لا تقم الساعة لكي يهرب به عما يعد له من العقاب. وقال الطيبي: لعله عبارة عن طلب أحياءه لكي يرجع إلى الدنيا ويزيد في العمل الصالح والإنفاق في سبيل الله حتى يزيد ثواباً ويرفع في درجاته يعني لكنه لما علم أن ليس الأحياء بعد الموت إلا بالبعث يوم القيامة طلب قيام الساعة كناية عن الأحياء، وقيل: يحتمل أن يكون قول المؤمن في القبر: حتى أرجع إلى أهلي ومالي لفرط سروره وغاية فرحة ويكون تمنيه الرجوع إلى أهله

معهم المسوح، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت، حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله، قال: فتفرق في جسده، فينتزعها كما ينزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة، إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسماءه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهي إلى السماء الدنيا، فيستفح له، فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا تفتح لهم أبواب السماء ـــــــــــــــــــــــــــــ ليخبرهم بذلك كما يقول ويتمنى المسافر الذي حصل له التنعم في بلد الغربة (معهم المسوح) بضم الميم جمع المسح بكسرها وهو البلاس واللباس الخشن (إلى سخط الله) أي آثار غضب الله من أنواع عقابه، وفي المسند إلى سخط من الله وغضب، وكذا عند الحاكم) (فتفرق) بحذف إحدى التائين أي الروح (في جسده) أي تنتشر في أعماق البدن فزعا وكراهة للخروج إلى ما يسخن عينه من العذاب الأليم، كما أن أرواح المؤمن تخرج وتسيل، كما تسيل القطرة من السقاء فرحاً إلى ما تقربه عينه من الكرامة (فينتزعها) أي ملك الموت يستخرج روحه بعنف وشدة ومعالجة (كما ينزع) بالبناء للمجهول، وفي المسند كما ينتزع (السفود) كتنور الحديدة التي يشوى عليها اللحم، وفي رواية لأحمد: السفود الكثير الشعب (من الصفوف المبلول) قال الطيبي: شبه نزع روح الكافر من أقصى عروقه بحيث يصحبه العروق، كما قال في الرواية الأخرى وتنزع نفسه مع العروق بنزع السفود وهو الحديدة التي يشوي بها اللحم فيبقى معها بقية من المحروق فيستصحب عند الجذب شيئاً من ذلك الصوف مع قوة وشدة وبعكسه شبه خروج روح المؤمن من جسده بترشح الماء وسيلانه من القربة المملوءة ماء مع سهولة ولطف (لم يدعوها في يده طرفة عين) أي مبادرة إلى الأمر (ويخرج منها) أي من روح الكافر (فيصعدون) افتضاحاً لها وإظهارا لرداءتها (بأقبح أسماءه) أي يذكرونه بأشنع أوصافه (التي كان يسمي) أي ذلك الكافر (بها) أي بتلك الأسماء (ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي استشهاداً على ما ذكر من عدم الفتح للكافر قوله تعالى: {إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها} [الأعراف: 40،36] (لا تفتح) بالتأنيث مع التشديد قراءة الجمهور (لهم) أي لأرواحهم (أبواب السماء) أي شيء منها، وقيل: المعنى لا تفتح أبواب السماء

ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} فيقول الله عزوجل: اكتبوا كتابه في سجين، في الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحاً، ثم قرأ: {ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق} ، فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان، فيجلسانه فيقولان له: ـــــــــــــــــــــــــــــ لأدعيتهم إذا دعوا، قاله مجاهد، والنخعي. وقيل: لأعمالهم أي لا تقبل بل ترد عليهم فيضرب بها في وجوههم قال العلامة الشوكاني في فتح القدير (ج2 ص195) : ولا مانع من حمل الآية على ما يعم الأرواح والدعاء والأعمال ولا ينافيه ورود من أنها لا تفتح أبواب السماء لواحد من هذه، فإن ذلك لا يدل على عدم فتحها لغيره مما يدخل تحت عموم الآية {ولا يدخلون الجنة حتى يلج} أي يدخل من الولوج وهو الدخول بشدة ولذلك يقال هو الدخول في ضيق فهو أخص من مطلق الدخول {الجمل} هو الذكر من الإبل، ولا يقال للبعير جمل إلا إذا بزل أي دخل في السنة التاسعة، وقيل: إنما يسمى جملاً إذا أربع أي بلغ أربع سنين {في سم الخياط} السم مثلث السين لغة لكن السبعة على الفتح، وقرى شاذاً بالكسر والضم وهو الثقب اللطيف الضيق والخياط الآلة التي يخاط بها كالمخيط فعال ومفعل كإزار ومئزر ولحاف وملحف والمراد به الإبرة في هذه الآية، وخص الجمل بالذكر من بين سائر الحيوانات، لأنه أكبر من سائر الحيوانات جسماً عند العرب، ويضرب به المثل عندهم في كبر الذات وعظم الجرم، وخص سم الخياط لكونه غاية الضيق وأضيق المنافذ ودخول الجمل مع عظم جسمه في ثقب الإبرة الضيق غير ممكن فكذا ما توقف عليه (في سجين) قيل هو كتاب جامع الأعمال الشياطين والكفرة، وقيل هو مكان في أسفل الأرض السابعة، وهو محل إبليس وجنوده (في الأرض) حال لازمه أو بدل بإعادة الجار بدل كل من بعض (السفلى) أي السابعة، وفيه إشارة إلى محل جهنم، وهو الأشهر من خلاف فيه (فتطرح روحه طرحاً) أي ترمي رمياً شديداً {ومن يشرك بالله فكأنما خر} أي سقط {من السماء} إلى الأرض {فتخطفه} بفتح الطاء المخففة (الطير) أي تسلب لحمه وتقطعه بمخالبها وتذهب به {أو تهوى به الريح} أي تقذفه وترمى به. قال القاري: أو للتنويع أو للتخيير في التمثيل (في مكان سحيق) أي بعيد لا يصل إليه أحد بحال. قال الزمخشري: يجوز في هذا التشبيه أن يكون من المركب والمفرق فإن كان تشبيهاً مركباً فكأنه قال: من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكاً ليس بعده هلاك بأن صور حالة من خر من السماء فاختطفته الطير متفرقاً موزعاً في حواصلها أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض الأماكن البعيدة وإن كان مفرقاً فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط من السماء والأهواء المردية بالطير المختطفة والشيطان الموقع في الضلال بالريح التي تهوى بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة- انتهى. قال الطيبي: أو تهوى به الريح أي عصفت

من ربك؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري. فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري. فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. فينادي منادى من السماء: أن كذب فافرشوه من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوءك، هذا يومك الذي كنت توعد. فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالشر. فيقول: أنا عملك الخبيث. فيقول: رب لا تقم الساعة. وفي رواية نحوه، وزاد فيه: إذا خرج روحه صلى عليه كل ملك بين السماء والأرض، وكل ملك في السماء، وفتحت له أبواب السماء، وليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله ـــــــــــــــــــــــــــــ به أي هوت به في بعض المطارح البعيدة، وهذا استشهاد مجرد لقوله صلى الله عليه وسلم في سجين في الأرض السفلى فتطرح روحه طرحاً لا أنه بيان لحال الكافر حينئذ؛ لأنه شبه في الآية من يشرك بالله بالساقط من السماء والأهواء التي توزع أفكاره بالطير المختطفة والشيطان الذي يغويه ويطرح به في وادي الضلالة بالريح الذي هو يهوى بما عصف به في بعض المهاوي المتلفة (هاه هاه) بسكون الهاء الأخيرة فيهما كلمة يقولها المبهوت المتحير في الجواب من الدهشة والخوف (أن كذب) هذا الكافر في النفي الدراية عنه مطلقاً بل عرف الله وأشرك به وتبين الدين وما تدين به وظهرت رسالة النبي بالمعجزات عنده وما أطاعه (فافرشوه من النار) زاد في رواية أبي داود والحاكم: وألبسوه من النار (فيأتيه من حرها) أي يأتيه بعض حرها في قبره، وأما تمامه ففي الآخرة قال تعالى: {ولعذاب الآخرة أشد وأبقى} [طه:127] (وسمومها) بفتح السين، وهي الريح الحارة (ويضيق) بصيغة المجهول من التضييق (حتى تختلف فيه) أي في قبره وفي بدنها (أضلاعه) أي عظام جنبه بأن يدخل عظام الجنب الأيمن في عظام الأيسر وعظام الجنب الأيسر في الأيمن من شدة التضييق. وأما ضغطة القبر للمؤمن فإنما هي ضمة للأرض كمعانقة الأم المشتاقة لولدها (يسوءك) أي يحزنك (فوجهك الوجه) أي الكامل في القبح (أنا عملك الخبيث) أي المركب من خبث عقائدك وأعمالك وأخلاقك فالمعاني تتجسد وتتصور في قوالب المباني (وفي رواية) أي لأحمد (ونحوه) أي معنى ما ذكر من الألفاظ (وزاد) أي الروي (فيه) أي في نحوه في بيان حال المؤمن (إذا خرج روحه) أي روح المؤمن (وكل ملك في السماء) أريد بها الجنس (ليس من أهل باب)

أن يعرج بروحه من قبلهم، وتنزع نفسه- يعني الكافر- مع العروق، فيلعنه كل ملك بين السماء والأرض، وكل ملك في السماء، وتغلق أبواب السماء ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله أن لا يعرج روحه من قبلهم)) رواه أحمد. ـــــــــــــــــــــــــــــ أي من أبواب كل سماء (أن يعرج بروحه) بالبناء للمفعول أي يعرج الملائكة به (من قبلهم) بكسر القاف وفتح الباء أي من جهتهم وقال صلى الله عليه وسلم في ذكر حال الكافر (وتنزع) بصيغة المجهول (نفسه) أي روحه (يعني الكافر) تفسير من المؤلف (مع العروق) إشارة إلى كراهة خروجه وشدة الجذب في نزع روحه (وتغلق) أي دونه (أبواب السماء) أي جميعها (ليس من أهل باب) أي من أبواب سماء الدنيا (أن لا يعرج روحه) بالتذكير وبصيغة المجهول ويصح أن يكون للفاعل أي أن لا يصعد روحه. وفي المسند: أن لا تعرج روحه أي بالتأنيث (من قبلهم) كراهة لظاهره وباطنه، والحديث نص في أن الروح تعاد إلى الميت في قبره وقت السؤال، وهو مذهب جميع أهل السنة من سائر الطوائف. قال ابن تيمية: الأحاديث الصحيحة المتواترة تدل على عود الروح إلى البدن وقت السؤال وسؤال البدن بلا روح، قول قاله طائفة وأنكره الجمهور، وقابله آخرون، فقالوا: السؤال للروح بلا بدن، وهذا قاله ابن مرة، وابن حزم، وكلاهما غلط، والأحاديث الصحيحة ترده. وارجع للتفصيل إلى كتاب الروح لابن القيم (رواه أحمد) الرواية الأولى في (ص287-288) والثانية في (ج2 ص295-296) وكلتاهما من رواية المنهال بن عمرو عن زادان عن البراء بن عازب، وأخرجه من هذا الطريق أبوداود في السنة، وسكت عنه، والحاكم (ج1 ص37- 38- 39) وصححه ووافقه الذهبي، وأبوعوانة وصححه، والبيهقي وقال: حديث صحيح الإسناد، وأخرجه أبوداود أيضاً والنسائي وابن ماجه كلهم في الجنائز من طريق المنهال مختصراً أي إلى قوله جلسنا حوله، وأخرجه ابن مندة مطولاً في كتاب الروح والنفس من طريق عيسى بن المسيب عن عدي بن ثابت عن البراء، ومن طريق خصيف الجزري عن مجاهد عن البراء. وقال السيوطي بعد ذكر الحديث من رواية أحمد: ورواه أبوداود في سننه، والحاكم في مستدركه، وابن أبي شيبة في مصنفه، وأبوداود الطيالسي وعبد بن حميد في مسنديهما، وهناد بن السري في الزهد، وابن جرير وابن أبي حاتم وغيره من طريق صحيحة- انتهى. ونسبه على المتقى في الكنز (ج8 ص94) إلى ابن خزيمة والضياء أيضاً. وقال المنذري في الترغيب بعد ذكر الحديث من رواية أحمد ما لفظه: هذا الحديث حديث حسن رواته محتج بهم في الصحيح، وهو مشهور بالمنهال بن عمرو عن زادان عن البراء، كذا قال أبوموسى الأصبهاني والمنهال روى له البخاري حديثاً واحداً. وقال ابن معين والعجلي: المنهال ثقة. وقال أحمد: تركه شعبة على عمد.

1646- (17) وعن عبد الرحمن بن كعب، عن أبيه، قال: لما حضرت كعباً الوفاة أتته أم بشر بنت البراء بن معرور، ـــــــــــــــــــــــــــــ قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: لأنه سمع من داره صوت قراءة بالتطريب. وقال عبد الله بن احمد سمعت أبي يقول: أبوبشر أحب إلى من المنهال. وزاذان ثقة مشهور ألانه بعضهم، وروى له مسلم حديثين في صحيحه، ورواه البيهقي من طريق المنهال بنحو رواية أحمد، ثم قال: وهذا حديث صحيح الإسناد، وقد رواه عيسى بن المسيب عن عدي بن ثابت عن البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن القيم في كتاب الروح (ص75) هذا حديث ثابت مشهور مستفيض صححه جماعة من الحفاظ، ولا نعلم أحداً من أئمة الحديث طعن فيه، بل رووه في كتبهم وتلقوه بالقبول وجعلوه أصلاً من أصول الدين في عذاب القبر ونعيمه ومسائلة منكر ونكير وقبض الأرواح وصعودها إلى بين يدي الله ثم رجوعها إلى القبر، قال: ورواه عن البراء غير زاذان، ورواه عنه عدي بن ثابت ومجاهد بن جبر ومحمد بن عقبة وغيرهم، وقد جمع الدارقطني طرقه في مصنف مفرد، وزاذان من الثقات وروى له مسلم في صحيحه، ثم ذكر توثيقه عن ابن معين والعجلى وابن عدي، قال: والمنهال أحد الثقات العدول، ثم ذكر توثيقه عن ابن معين والعجلى، قال وأعظم ما قيل فيه: إنه سمع من بيته صوت غناء، وهذا لا يوجب القدح في روايته وإطراح حديثه- انتهى. 1646- قوله: (وعن عبد الرحمن بن كعب) أي ابن مالك الأنصاري السلمي أبوالخطاب المدني، ثقة من كبار التابعين، ويقال ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، مات في خلافة سليمان بن عبد الملك (عن أبيه) أي كعب ابن مالك الأنصاري السلمي الصحابي المشهور الشاعر، وهو أحد الثلاثة الذين خلفوا. قال السندي في حاشية ابن ماجه: قوله: عن عبد الرحمن بن كعب عن أبيه هكذا في النسخ التي رأيت، والظاهر أن قوله عن أبيه زيد، والحديث من قول عبد الرحمن نفسه، فإنه شاهده ورواه لا أنه أخذه عن أبيه، وهو الأوفق باللفظ، لكن إمكان الأخذ موجود، فيمكن أن عبد الرحمن ما كان حاضراً ثم سمعه من أبيه قبل موته ثم مات. وأما لفظ لما حضرت كعبا الوفاة فأمره سهل- انتهى. (قال) أي عبد الرحمن (أتته) أي كعباً (أم بشر) بكسر الباء، ويقال لها: أم بشر أيضاً. قيل: اسمها خليدة ولم يصح. قال الحافظ: والذي ظهر لي بعد البحث أن خليدة والدة بشر بن البراء ابن معرور (بنت البراء معرور) الأنصارية صحابية روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وروى عنها عبد الله بن كعب ابن مالك ومجاهد وعبد الرحمن بن كعب بن مالك. وأما أبوها فهو البراء بن معرور بن صخر الأنصاري السلمي الخزرجي أبوبشر كان من النفر الذين بايعوا البيعة الأولى بالعقبة، وهو أول من بايع وأول من استقبل الكعبة حياً وميتاً، وهو أول من أوصى بثلث ماله، وهو أحد النقباء مات في صفر قبل قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة بشهر، فلما

فقالت: يا أباعبد الرحمن! إن لقيت فلانا فأقرأ عليه مني السلام. فقال: غفر الله لك يا أم بشر! نحن أشغل من ذلك، فقالت: يا أباعبد الرحمن! أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أرواح المؤمنين في طير ـــــــــــــــــــــــــــــ قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أتى قبره في أصحابه فكبر عليه وصلى وقد أمر البراء أهله عند موته أن يوجهوه إلى الكعبة فوجه قبره إليها. ومعرور بفتح الميم وسكون العين المهملة وضم الراء الأولى (يا أباعبد الرحمن) كنيته كعب (إن لقيت) أي بعد موتك (فلاناً) أي روحه قيل: تعني أباها البراء، ففي رواية للطبراني في الكبير: إن لقيت أبي فاقرأ مني السلام، وذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2ص329) . وقيل: المراد به ولدها مبشر ففي رواية لأحمد (ج2ص455) قالت أم مبشر للكعب بن مالك وهو شاك اقرأ على ابني السلام تعني مبشراً، فقال: يغفر الله لك يا أم مبشر- الحديث. وقيل: المراد ولدها بشر، فقد أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب القبور عن أبي لبيبة الأشهلى قال: لما مات بشر بن البراء بن معرور وجدت أمه وجداً شديداً فقالت: يا رسول الله! لا يزال الهالك يهلك من بني سلمة فهل تتعارف الموتى؟ فأرسل إلى بشر بالسلام، قال: نعم والذي نفسي بيده إنهم يتعارفون كما يتعارف الطير في رؤس الأشجار، وكان لا يهلك هالك من بني سلمة إلا جاءته أم بشر. فقالت: يا فلان عليك السلام فيقول وعليك، فتقول: اقرأ على بشر مني السلام (نحن أشغل) أي بأعمالنا وجزاءها (من ذلك) أي مما تقولين من تعارف الموتى وإبلاغ سلام الأحياء إياهم (أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلخ) أي لست ممن يشغل عن ذلك، بل أنت ممن ورد فيهم هذه الكرامة وقولها فهو ذلك أي الفضل والكرامة التي ترجى لك ذاك، فتكون أنت في غاية السرور والحبور لا مشغولاً ومخذولاً، كذا في اللمعات. وقال الطيبي: هذا جواب عن اعتذاره بقوله: نحن أشغل أي لست ممن يشغل عما كلفتك، بل أنت ممن قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم كيت وكيت (إن أرواح المؤمنين) ظاهر هذا السوق العموم، فيتناول كل مؤمن شهيداً كان أم غير شهيد، وإليه ذهب ابن القيم وابن كثير، فقالا: أرواح المؤمنين كلهم في الجنة شهداء كانوا أو غير شهداء إذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرة ولا دين، وتلقاهم ربهم بالعفو عنهم والرحمة لهم، لأن هذا الحديث وكذا الحديث الآتي لم يخص فيهما شهيداً من غير شهيد. وقيل: المراد بالمؤمنين الشهداء خاصة دون غيرهم لما في رواية أحمد (ج6ص386) والترمذي من طريق عمرو بن دينار عن الزهري عن ابن كعب بن مالك عن أبيه مرفوعاً أن أرواح الشهداء الخ، وهذا اختاره ابن القرطبي وابن عبد البر، فقالا: الكرامة المذكورة في الحديث خاصة بالشهداء دون غيرهم، لأن القرآن والسنة إنما يدلان على ذلك، فالروايات المطلقة تحمل على المقيدة (في طير) جمع

خضر ـــــــــــــــــــــــــــــ طائر، ويطلق على الوحد (خضر) بضم فسكون جمع أخضر أي تدخل في أجواف طير وأبدانها، ففي رواية للطبراني: أن أرواح المؤمنين في أجواف طير خضر، ذكرها الهيثمي، وليس ذلك حبساً للأرواح وتسجناً لجواز أن يقدر الله تعالى في تلك الأجواف من السرور والنعيم ما تجده في الفضاء الواسع يعني أنها تجد فيها من النعيم ما لا يوجد في الفضاء أو تكون الطيور وأجوافها بمنزلة المراكب للأرواح ترتع وتسرح بها في الجنة وتتنعم أو تكون الطيور للأرواح كالهوادج للجالسين فيها والله اعلم. وقيل: المعنى أن الأرواح تجعل في صور طير أي أن الروح نفسها تتشكل وتتمثل بأمر الله طائرا كتمثل الملك بشراً. قال السيوطي في حاشية أبي داود: إذا فسرنا الحديث أن الروح يتشكل طيراً فالأشبه أن ذلك في القدرة على الطيران فقط لا في صورة الخلقة، لأن شكل الإنسان أفضل الأشكال- انتهى. قال السندي: هذا إذا كان الروح الإنساني له شكل في نفسه ويكون على شكل الإنسان وأما إذا كان لا شكل له، بل يكون مجرداً أو أراد الله تعالى أن يتشكل ذلك المجرد لحكمة ما فلا يبعد أن يتشكل من أول الأمر على شكل الطائر- انتهى. قلت: اختلف ألفاظ الرواية في أن الروح والنسمة تكون طيراً أو تكون في جوف طير كما اختلفت في أن هذه الكرامة للشهداء خاصة أو لجميع المؤمنين شهداء كانوا أم غير الشهداء، وقد تقدم شيء من الكلام على الاختلاف الثاني. وأما الاختلاف الأول فرجح القرطبي وابن عبد البر والقاضي عياض رواية من روى أن الروح والنسمة طير أو كطير أو في صورة طير، وأنكروا رواية في أجواف طير وبحواصل طير، لأنها حينئذ تكون محصورة مضيقاً عليها. ورد بأن رواية في أجواف طير في صحيح مسلم فلا يمكن إنكارها والتأويل محتمل كما تقدم. وذهب آخرون إلى الجمع والتوفيق. قال ابن القيم في كتاب الروح (ص157) : إن الله سبحانه جعل أرواح الشهداء في أجواف طير خضر فإنهم لما بذلوا أنفسهم لله حتى أتلفها أعداءه فيه أعاضهم منها في البرزخ أبداناً خيراً منها تكون فيها إلى يوم القيامة، ويكون نعيمها بواسطة تلك الأبدان أكمل من نعيم الأرواح المجردة عنها، ولهذا كانت نسمة المؤمن في صورة طير أو كطير ونسمة الشهيد في جوف طير. وتأمل لفظ الحديثين، فإنه قال (أي في حديث كعب الآتي) نسمة المؤمن طير، فهذا يعم الشهيد وغيره، ثم خص الشهيد بأن قال هي في جوف طير، ومعلوم أنها إذا كانت في جوف طير صدق عليها أنها طير-انتهى. قال ابن كثير في هذا الحديث: إن روح المؤمن على شكل طير في الجنة، وأما أرواح الشهداء ففي حواصل طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، كما رواه أحمد عن ابن عباس مرفوعاً، فهي كالراكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين، فإنها تطير بأنفسها فهو بشرى لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة أيضاً وتسرح فيها وتأكل من ثمارها، كذا في شرح الموطأ للزرقاني. ومال القاري إلى الجمع بوجه

تعلق بشجر الجنة؟ قال: بلى، قالت: فهو ذلك)) . رواه ابن ماجه، والبيهقي في كتاب البعث والنشور. ـــــــــــــــــــــــــــــ آخر حيث قال في أجواف طير خضر أي في صورة طير كما تقول رأيت ملكاً في صورة إنسان- انتهى. وحاصله أن مؤدي رواية في أجواف طير هو كون الروح أو النسمة في صورة طير فكأنه أرجع هذه الرواية إلى رواية النسمة طير أو كطير أو في صورة طير (تعلق) بفتح المثناة فوق وسكون المهملة وضم اللام أي ترعى من أعلي شجر الجنة، قاله المنذري. وقال الجزري: أي تأكل وهو في الأصل للإبل إذا أكلت العضاه، يقال: علقت تعلق علوقاً فنقل إلى الطير- انتهى. وقال ابن عبد البر: يروي بفتح اللام وهو الأكثر ويروي بضم اللام والمعنى واحد وهو الأكل والرعي. وقيل بفتح اللام أي يتعلق ويتشبث بها ويقع عليها تكرمة للمؤمن وثواباً له، وبضم اللام بمعنى يشيب منها العلقة من الطعام (بشجر الجنة) وفي رواية لأحمد والطبراني في شجر الجنة. قيل: الظاهر أن يقال تعلق شجر الجنة أو من شجر الجنة، كما وقع في رواية لأحمد من ثمر الجنة. وفي الترمذي: من ثمر الجنة أو شجر الجنة. قيل: الباء زائدة. وقيل: تعديته بالباء تفيد الاتصال، لعله كنى به عن الأكل، لأنها إذا اتصلت بشجر الجنة وتشبثت بها أكلت من ثمرها وأرادت أم بشر بذلك أنهم أحياء فيمكن إرسال السلام إليهم (فهو ذلك) وفي بعض النسخ: فهو ذاك، كما في ابن ماجه. قال القاري: وقد تعلق بهذا الحديث وأمثاله بعض القائلين بالتناسخ وانتقال الأرواح وتنعيمها في الصور الحسان المرفهة وتعذيبها في الصور القبيحة، وزعموا أن هذا هو الثواب والعقاب، وهذا باطل مردود لا يطابق ما جاءت به الشرائع من إثبات الحشر والنشر والجنة والنار، ولهذا قال في الحديث الآتي حتى يرجعه الله إلى جسده، وفي بعض حواشي شرح العقائد: اعلم أن التناسخ عند أهله هو رد الأرواح إلى الأبدان الأخر في هذا العالم (أي عالم الدنيا يعني بالتوالد والتناسل) لا في الآخرة، إذ هم ينكرون الآخرة والجنة والنار ولذا كفروا- انتهى. قال شيخنا في شرح الترمذي على بطلان التناسخ دلائل كثيرة واضحة في الكتاب والسنة: منها قوله تعالى: {حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون، لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا، إنها كلمةٌ هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون} [المؤمنون: 100] (رواه ابن ماجه) في الجنائز من طريق محمد بن إسحاق عن الحارث بن فضيل عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه، وأخرجه الطبراني في الكبير وفيه أيضاً محمد بن إسحاق. قال الهيثمي: وهو مدلس وبقية رجاله الصحيح - انتهى. وأخرجه أحمد والترمذي من طريق عمرو بن دينار عن الزهري عن ابن كعب بن مالك عن أبيه مختصراً بدون القصة، ورواه أحمد من طريق معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: قالت أم مبشر لكعب بن مالك وهو شاك: اقرأ على ابني السلام تعني مبشراً، فقال: يغفر الله لك يا أم مبشر- الحديث. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد باختلاف يسير، وعزاه للطبراني في الكبير، وقال: رجاله رجال الصحيح. قلت: واختلف في سماع الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك. وسيأتي الكلام فيه في تخريج الحديث الذي بعدها هذا.

1647- (18) وعنه، عن أبيه، أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما نسمة المؤمن طير تعلق في شجر الجنة، حتى يرجعه الله في جسده، يوم يبعثه)) رواه مالك، والنسائي، والبيهقي في كتاب البعث والنشور. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1647- قوله: (وعنه) أي عن عبد الرحمن (عن أبيه) أي كعب بن مالك (إنما نسمة المؤمن) بفتح النون والسين المهملة أي روحه. قال النووي: النسمة يطلق على ذات الإنسان جسماً وروحاً وعلى الروح مفردة، وهو المراد ههنا لقوله: حتى يرجعه الله في جسده. وبنحو ذلك قال ابن عبد البر. وقال الخليل بن أحمد: النسمة الإنسان، قال والنسمة الروح والنسيما هبوب الريح- انتهي. والمراد روح المؤمن الشهيد، كما جاء في بعض روايات الحديث أرواح كل مؤمن شهيداً كان أو غير شهيد (طير) وفي رواية: طائر. وظاهره أن الروح يتشكل ويتمثل بأمر الله تعالى طائراً كتمثل الملك بشراً. ويحتمل أن المراد أن الروح يدخل في بدن طائر كما يدل عليه رواية: بأجواف طير وفي طير (تعلق) بالتأنيث وفي الموطأ يعلق أي بالتذكير، وكذا عند أحمد من طريق مالك عن الزهري أي ترعى وتسرح (حتى يرجعه الله) أي يرده (في جسده يوم يبعثه) أي يوم القيامة (رواه مالك) في الجنائز عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك الأنصاري أنه أخبره أن أباه كعب بن مالك كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إلخ. (والنسائي) في الجنائز، وأخرجه أيضاً أحمد (ج3:ص455) وابن ماجه في الزهد كلهم من طريق مالك عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب أنه أخبره أن أباه كعب بن مالك إلخ. قال ابن عبد البر: في رواية مالك هذه بيان سماع الزهري لهذا الحديث من عبد الرحمن بن كعب بن مالك، وكذلك رواه يونس عن الزهري قال سمعت عبد الرحمن بن كعب بن مالك يحدث عن أبيه. وكذلك رواه الأوزاعي عن الزهري حدثني عبد الرحمن بن كعب. وقد أعل محمد بن يحيى الذهلي هذا الحديث بأن شعيب بن أبي حمزة ومحمد بن أخي الزهري وصالح بن كيسان رووه عن الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن جده كعب فيكون منقطعاً، وقال صالح بن كيسان عن ابن شهاب عن عبد الرحمن أنه بلغه أن كعب بن مالك كان يحدث، قال الذهلي وهذا المحفوظ عندنا. وخالفه في هذا غيره من الحفاظ فحكموا لمالك والأوزاعي. قال ابن عبد البر: فاتفق مالك ويونس والأوزاعي والحارث بن فضيل على رواية هذا الحديث عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه، قال ابن عبد البر: ولا وجه عندي لما قاله الذهلي من ذلك ولا دليل عليه، واتفاق مالك ويونس والأوزاعي ومحمد بن إسحاق أولى بالصواب، والنفس إلى قولهم وروايتهم أسكن، وهم من الحفظ والإتقان بحيث لا يقاس بهم من خالفهم في هذا الحديث- انتهى. قلت: ورواية شعيب عند أحمد (ج3:ص456) وفيها تصريح بسماع الزهري عن عبد الرحمن بن كعب قال أحمد: حدثنا أبواليمان قال أنبأنا

(4) باب غسل الميت وتكفينه

1648- (19) وعن محمد بن المنكيدر، قال: دخلت على جابر بن عبد الله، وهو يموت، فقلت: ((اقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم)) . رواه ابن ماجه. (4) باب غسل الميت وتكفينه ـــــــــــــــــــــــــــــ شعيب عن الزهري قال أنا عبد الرحمن بن كعب بن مالك أن كعب بن مالك الأنصاري كان يحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إلخ. والظاهر عندي أن الزهري سمع هذا الحديث من عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه كعب، كما قال مالك ومن معه، وسمع أيضاً من ابن أخيه عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن جده كعب بن مالك، كما قال صالح بن كيسان، ودعوى كون هذه الرواية منقطعة مخدوشة. قال الحافظ: وقع في جهاد صحيح البخاري تصريحه بالسماع من جده- انتهى. وبرواية مالك ومن معه يرد ما قال أحمد بن صالح إنه لم يسمع الزهري من عبد الرحمن ابن كعب شيئاً، إنما روى عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب. وأما تأويل رواية مالك ومن وافقه بأن عبد الرحمن المذكور فيها هو عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ونسب في رواية مالك إلى جده فبعيد جداً. 1648- قوله: (وعن محمد بن المنكدر) ثقة فاضل من أوساط التابعين. قال المؤلف: من مشاهير التابعين جميع بين العلم والزهد العبادة مات سنة ثلاثين ومائة أو بعدها (دخلت على جابر بن عبد الله) بن حرام الأنصاري صحابي ابن صحابي غزا تسع عشرة غزوة (وهو يموت) أي في سياق الموت ونزعه (اقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه ابن ماجه) في الجنائز قال في الزوائد: إسناده صحيح ورجاله ثقات إلا أنه موقوف- انتهى. وروى البخاري في تأريخه من طريق أم سلمة بنت معقل عن جدتها خلدة بنت عبد الله بن أنس قال: جاءت أم البنين بنت أبي قتادة بعد موت أبيها بنصف شهر إلى عبد الله بن أنيس وهو مريض، فقالت يا عم: اقرأ أبي مني السلام. ذكره الحافظ في الإصابة في ترجمة عبد الله بن أنيس الجهني، وفي هذا وفي حديث محمد بن المنكدر وحديث عبد الرحمن بن كعب دليل على جواز إرسال السلام إلى الأموات، لكنها موقوفة ولم أجد حديثاً مرفوعاً صريحاً صحيحاً أو ضعيفاً يدل على ذلك. (باب غسل الميت وتكفينه) أي بيان أحكامها وآدابها. واعلم أنه اختلف في حكم غسل الميت. فذهب الجمهور إلى أن فرض كفاية على الأحياء. واختلفت المالكية في ذلك، فقال بعضهم بالوجوب كالجمهور، وذهب بعضهم إلى أنه سنة على الكفاية، حكى ذلك الخلاف ابن رشد في البداية، والحافظ في الفتح، والدسوقي وغيرهم. قال الحافظ: قد نقل النووي الإجماع على أن غسل الميت فرض كفاية وهو ذهول شديد، فإن الخلاف مشهور عند الماليكة حتى أن القرطبي رجع في شرح مسلم أنه سنة. ولكن الجمهور على وجوبه، وقد رد ابن العربي على

{الفصل الأول}

{الفصل الأول} 1649- (1) عن أم عطية، قالت: ـــــــــــــــــــــــــــــ من لم يقل بذلك. وقد توارد به القول والعمل وغسل الطاهر المطهر فكيف بمن سواه- انتهى. واستدل للوجوب بقوله صلى الله عليه وسلم في المحرم: اغسلوه، وبقوله في حديث أم عطية اغسلنها كما سيأتي. قلت: غسل الأموات ثابت في هذه الشريعة ثبوتاً قطعياً ولم يسمع في أيام النبوة أنه مات ميت غير شهيد فترك غسله، بل هذه الشريعة في غسل الأموات ثابتة من لدن أبينا آدم عليه الصلاة والسلام، فقد روى الحاكم في المستدرك (ج2ص545) من طريق ثابت البناني عن الحسن عن عتي بن ضمرة السعدي عن أبي بن كعب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لما توفى آدم غسلته الملائكة بالماء وتراً وألحدوا له، وقالوا هذه سنة آدم في ولده. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، وأخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (ج5ص136) مطولاً من طريق حميد عن الحسن عن عتي عن أبي بن كعب موقوفاً عليه، ورواه البيهقي (ج3ص404) مرفوعا من طريق خارجة ابن مصعب (وهو متروك) عن يونس بن عبيد عن الحسن عن عتي عن أبي وموقوفاً من طريق هشيم عن يونس. واختلف في أن غسل الميت تعبد أو للنظافة، فالمشهور عند الجمهور أنه غسل تعبدي فيشترط فيه ما يشترط في بقية الأغسال الواجبة والمندوبة. وقال ابن شعبان وغيره من المالكية: إنه للتنظيف فيجزىء بالماء المضاف كماء الورد ونحوه وقال محمد بن شجاع البلخي: سبب وجوب الغسل هو الحدث، لأن الموت لا يخلو عن سابقة حدث لوجود استرخاء المفاصل وزوال العقل وهو القياس في الحي، لأن الإنسان لا ينجس لكرامته، وإنما اقتصر في الحي على الأعضاء للحرج لكثرة تكرر سبب الحدث، فلما لم يلزم سبب الحرج في الميت عاد الأصل، قال: وليس غسله للتطهير أي لإزالة نجاسة تحل بالموت، فإن الآدمي لا ينجس بالموت بتشرب الدم المسفوح في أجزاءه كرامة له؛ لأنه لو تنجس لما حكم بطهارته بالغسل كسائر الحيوانات التي حكم بنجاستها بالموت، وقد روى عن ابن عباس أنه قال: المسلم لا ينجس حياً ولا ميتاً. وقال عامة مشائح الحنفية: إن غسله للتطهير من النجاسة، قالوا إن بالموت يتنجس الميت لما فيه من الدم المسفوح كما يتنجس سائر الحيوانات التي لها دم مسفوح إلا أنه إذا غسل يحكم بطهارته كرامة له فكانت الكرامة عندهم في الحكم عندهم في الحكم بالطهارة عند وجود السبب المطهر في الجملة. والراجح عندنا أن غسله إنما هو للتعبد وأنه لا ينجس بالموت كما قال ابن عباس، والله اعلم. 1649- قوله: (عن أم عطية) اسمها نسيبة بنت كعب الأنصارية وكانت تغسل الميتات، وقد شهدت غسل ابنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحكت ذلك فأتقنت، وحديثها أصل في غسل الميت، ومدار حديثها على محمد وحفصة

دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نغسل ابنته، فقال: اغسلنها ثلاثاً أو خمساً ـــــــــــــــــــــــــــــ ابني سيرين، وحفظت منها حفصة ما لم يحفظ محمد بن سيرين. قال ابن المنذر: ليس في أحاديث الغسل للميت أعلى من حديث أم عطية وعليه عول الأئمة (دخل علينا) أي معشر النسائي (ونحن نغسل ابنته) لم تقع في شيء من روايات البخاري ابنته هذه مسماه. والمشهور أنها زينب زوج أبي العاص بن الربيع والدة أمامة التي تقدم ذكرها في باب ما لا يجوز من العمل في الصلاة وما يباح منه، وزينب أكبر بنات النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكانت وفاتها في أول سنة ثمان، وقد وردت مسماة في هذا عند مسلم من طريق عاصم الأحول عن حفصة عن أم عطية قالت: لما ماتت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اغسلنها إلخ. وقيل: إنها أم كلثوم زوج عثمان، كما في ابن ماجه من رواية أبي بكر بن أبي شيبة عن عبد الوهاب الثقفي عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أم عطية قالت: دخل علينا ونحن نغسل ابنته أم كلثوم. قال الحافظ: هذا الإسناد على شرط الشيخين، وكما وقع في المبهمات لابن بشكوال من طريق الأوزاعي عن محمد بن سيرين عن أم عطية قالت: كنت فيمن غسل أم كلثوم- الحديث، وكما وقع في الذرية الطاهرة للدولابي من طريق أبي الرجال عن عمرة أن أم عطية كانت ممن غسل أم كلثوم ابنة النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الحافظ: فيمكن ترجيح ذلك لمجيئه من طرق متعددة وفيه أنه وقع في رواية للبخاري قول ابن سيرين: ولا أدري أي بناته، وهذا يدل على أن تسميتها في رواية ابن ماجه وابن بشكوال ممن دون ابن سيرين، وأن أيوب لم يسمع تسميتها من حفصة بنت سيرين ولا ينافي هذا تسمية الآخر لها بزينب، لأنه علم ما لم يعلمه أيوب، وقد صرح عاصم في روايته عن حفصة عند مسلم أنها زينب. وأما رواية الدولابي فلا يلزم منها أن تكون البنت في حديث الباب أم كلثوم، لأن أم عطية كانت غاسلة الميتات، كما جزم به ابن عبد البر، فيمكن أن تكون حضرت لهما جميعاً (اغسلنها) أمر لأم عطية ومن معها من النساء. قال ابن بزيزة: استدل به على وجوب غسل الميت. قال ابن دقيق العيد: لكن قوله ثلاثاً ليس للوجوب على المشهور من مذاهب العلماء، فيتوقف الاستدلال به على تجويز إرادة المعنيين المختلفين بلفظ واحد، لأن قوله ثلاثاً غير مستقل بنفسه، فلابد أن يكون داخلاً تحت صيغة الأمر فيراد بلفظ الأمر الوجوب بالنسبة إلى أصل الغسل والندب بالنسبة إلى الايتار- انتهى. فمن جوز ذلك كالشافعية جوز الاستدلال بهذا الأمر على الوجوب، ومن لم يجوزه حمل الأمر على الندب لهذه القرينة. واستدل على الوجوب بدليل آخر كما سبق (ثلاثاً أو خمساً) وفي رواية للنسائي اغسلنها وتراً ثلاثاً أو خمساً و"أو" هنا للترتيب لا للتخيير. قال النووي: المراد اغسلنها وتراً وليكن ثلاثاً فإن احتجن إلى زيادة فخمساً. وحاصله أن الايتار مطلوب والثلاث مستحبة، فإن حصل الانقاء بها لم يشرع ما فوقها، والأزيد وتراً حتى يحصل الانقاء، والواجب من ذلك مرة واحدة عامة للبدن- انتهى. وقال ابن العربي: في قوله: أو خمساً إشارة إلى أن المشروع هو الايتار، لأنه نقلهن

أو أكثر من ذلك، إن رأيتن ذلك بماء وسدر، ـــــــــــــــــــــــــــــ من الثلاث إلى الخمس وسكت عن الأربع (أو أكثر من ذلك) أي من الخمس بكسر الكاف، لأنه خطاب للمؤنث. ويدل الحديث على أنه لا تحديد في غسل الميت، بل المطلوب التنظيف، لكن لابد من مراعاة الايتار، فقد وقع في رواية للشيخين كما سيأتي: ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً، وفي رواية لهما ولأبي داود والنسائي: أو سبعاً أو أكثر من ذلك، وهذا ظاهر في شرعية الزيادة على السبع إن احتيج إلى ذلك (إن رأيتن ذلك) بكسر الكاف خطاب لأم عطية، فإنها كانت رئيستهن فخصت بالخطاب وعممن في قوله رأيتن. قال الطيبي: رأيت من الرأي أي إن احتجتن إلى أكثر من ثلاث أو خمس للانقاء لا للتشهي فافعلنه. وفيه دليل على التفويض إلى اجتهاد الغاسل، ويكون ذلك بحسب الحاجة لا التشهي. قال ابن المنذر: إنما فوض الرأي إليهن بالشرط المذكور وهو الايتار (بماء وسدر) بكسر السين شجر النبق، والنبق حمله وثمره. والمراد في الحديث ورق السدر، قيل الحكمة فيه: أنه يقلع الأوساخ وينقى البشرة وينعمها ويشد العصب. قال ابن التين: قوله: بماء والسدر هو السنة في ذلك، والخطمي مثله، فإن عدم فما يقوم مقامه كالأشنان والنطرون. قال الزين: قوله: بماء وسدر متعلق بقوله اغسلنها، وظاهره أن السدر يخلط في كل مرة من مرات الغسل وهو مشعر بأن غسل الميت للتنظيف لا للتطهير، لأن الماء المضاف (أي الماء المقيد وهو الذي خالطه طاهر كالأشنان والصابون والزعفران والباقلاء فغير إحدى صفاته طعمه أو لونه أو ريحه وبقي رقيقاً كالماء المطلق) لا يتطهر به (أي عند الأئمة الثلاثة خلافاً للحنفية) . قال الحافظ: وقد يمنع كون الماء يصير مضافاً بذلك لاحتمال أن لا يغير السدر وصف الماء بأن يمعك (أي يدلك) بالسدر ثم يغسل بالماء في كل مرة، فإن لفظ الخبر لا يأبى ذلك وقال القرطبي: يجعل السدر في ماء ويخضخض إلى أن تخرج رغوته ويدلك به جسده، ثم يصب عليه الماء القراح فهذه غسله. وقيل. تطرح ورقات السدر في الماء أي لئلا يمازج الماء فيتغير وصفه المطلق. وحكى عن أحمد أنه أنكر ذلك، وقال يغسل في كل مرة بالماء والسدر. قال ابن قدامة: هذا المنصوص عن أحمد. قال صالح: قال أبي: الميت يغسل بماء وسدر ثلاث غسلات. قلت: فيبقى عليه فقال: أي شيء يكون هو أنقى له. وذكر عن عطاء أن ابن جريج قال له إنه يبقى عليه السدر إذا غسل به كل مرة، فقال عطاء هو طهور. قال ابن قدامة. قول أحمد هذا دال على أن تغيير الماء بالسدر لا يخرجه عن طهوريته. وقيل الغسلة الأولى تكون بالماء وحده وفي الثانية تكون بماء وسدر، لأن الغسل أولاً هو الفرض، فوجب أن يكون بالماء وحده وما بعد ذلك فإنما هو على وجه التنظيف والتطييب فلا يضره ما خالطه مما يزيد في تنظيفه. وقيل: يغسل أولاً بالماء والسدر ثم بالماء وحده، لأن فرض الغسل إنما يجب أن يكون بعد المبالغة في تنظيفه. وقيل غير ذلك ولا يخفى أن هذه التأويلات كلها مخالفة لظاهر قوله اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً أو أكثر من ذلك بماء وسدر

واجعلن في الآخرة كافوراً أو شيئاً من كافور، فإذا فرغتن آذنني، فلما فرغنا آذناه، فألقى إلينا حقوه، فقال: أشعرنها إياه. وفي رواية: اغسلنها وتراً ثلاثا أو خمساً أو سبعاً، وأبدأن ـــــــــــــــــــــــــــــ في حديث أم عطية، وقوله: اغسلوه بماء وسدر في حديث ابن عباس الآتي في المحرم، وقوله: اغسليها بعد ذلك ثلاث مرات بماء وسدر في حديث أم سليم عند الطبراني، فالراجح عندنا هو أنه يغسل في كل مرة بماء وسدر بأن يغلي الماء بالسدر ثم يغسل به، وقد روي أبوداود بإسناد صحيح عن ابن سيرين أنه كان يأخذ الغسل عن أم عطية يغسل بالسدر مرتين والثالثة بالماء والكافور. وقال ابن الهمام: الأولى كون الأوليين بالسدر كما هو ظاهر كتاب الهداية لما في أبي داود عن ابن سيرين أنه كان يأخذ الغسل عن أم عطية يغسل بالسدر مرتين والثالث بالماء والكافور، وسنده صحيح- انتهى. (واجعلن في الآخرة) أي المرة الآخرة (كافوراً أو شيئاً من كافور) هو شك من الراوي أي اللفظتين قال. والأول محمول على الثاني، لأنه نكرة في سياق الإثبات، فيصدق بكل شئ منه. وجزم في رواية للبخاري باللفظ الأول. وظاهره أنه يجعل الكافور في الماء، ولا يضر الماء تغييره به. قيل: الحكمة في الكافور مع كونه يطيب رائحة الموضع لأجل من يحضر من الملائكة وغيرهم أنه فيه تجفيفاً وتبريداً وقوة نفوذ وخاصية في تصليب بدن الميت وطرد الهوام عنه وردع ما يتخلل من الفضلات ومنع إسراع الفساد إليه وهو أقوى الأرابيح الطيبة في ذلك، وهذا هو السر في جعله في الغسلة الأخيرة، إذ لو كان في الأولى مثلاً لأذهبه الماء، وإذا عدم الكافور قام غيره مقامه مما فيه هذه الخواص أو بعضها (فإذا فرغتن) من غسلها (آذنني) بمد الهمزة وكسر الذال المعجمة وفتح النون الأولى المشددة وكسر الثانية من الإيذان، وهو الأعلام، والنون الأول أصلية ساكنة، والثانية ضمير فاعل، وهي مفتوحة والثالثة للوقاية (فلما فرغنا) من غسلها (آذناه) بالمد أي أعلمناه بالفراغ (فألقى إلينا) وفي رواية: فأعطانا (حقوه) بفتح الحاء المهملة، ويجوز كسرها بعدها قاف ساكنة أي إزارة. والحقو في الأصل معقد الإزار فسمى به ما يشد على الحقو توسعاً للمجاورة (أشعرنها) بهمزة القطع أي زينب ابنته (إياه) أي الحقو أي اجعلنه شعارها. والشعار والثوب الذي يلي الجسد، لأنه يلى شعره يعني اجعلنه تحت الأكفان بحيث يلاقي بشرتها. والمراد إيصال البركة إليها والحكمة في تأخير الإزار إلى أن يفرغن من الغسل ولم يناولهن إياه أولاً ليكون قريب العهد من جسده الكريم حتى لا يكون بين انتقاله من جسده إلى جسدها فاصل، وهو أصل في التبرك بآثار الصالحين واختلف في صفة أشعارها إياه، فقيل: يجعل لها مئزراً. وقيل: تلف فيه، وهو الصواب. وفي الحديث جواز تكفين المرأة في ثوب الرجل. وقد نقل ابن بطال الاتفاق على ذلك (وفي رواية) أي للشيخين (اغسلنها وتراً ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً) ظاهره أنه لا يزاد على السبع، لأنه نهاية ما ورد في عدد التطهير، لكن ورد في رواية أخرى للشيخين وغيرهما الإذن بالزيادة عند الحاجة كما تقدم (أبدأن)

بميامنها ومواضع الوضوء منها، وقالت: فضفرنا شعرها ثلاثة قرون، فألقيناها خلفها)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ يجمع المؤنث من بدأ يبدأ (بميامنها) جمع ميمنة أي بالأيمن من بدنها من اليد والجنب والرجل يعني ابدأن بغسل أعضاء اليمين منها قبل المياسر في الغسل والوضوء (ومواضع الوضوء منها) أي وابدأن بغسل مواضع الوضوء قبل باقي الأعضاء، قال الحافظ: ليس بين الأمرين تناف لإمكان البداءة بمواضع الوضوء وبالميامن معاً. وقال الزين بن المنير: ابدأن يميامنها أي في الغسلات التي لا وضوء فيها ومواضع الوضوء منها أي في الغسلة المتصلة بالوضوء. وفيه دليل على شرعية الوضوء للميت. وأصرح منه ما ورد في حديث أم سليم عند الطبراني: فإذا فرغت من غسل سفلتها غسلاً نقياً بماء وسدر فوضئيها وضوء الصلاة ثم اغسليها. قال العيني: وضوء الميت سنة كما في الاغتسال في حالة الحياة غير أنه لا يمضمض ولا يستنشق، لأنهما متعسران لتعذر إخراج الماء من الأنف والفم قال ابن قدامة في المغني: يوضأه وضوء الصلاة فيغسل كفيه ثم يأخذ خرقة خشنه، فيبلها ويجعلها على إصبعه فيمسح أسنانه وأنفه حتى ينظفهما ويكون ذلك في رفق ثم يغسل وجهه ويتم وضوءه، قال: ولا يدخل الماء فاه ولا منخريه في قول أكثر أهل العلم، كذلك قال سعيد بن جبير والنخعي والثوري وأبوحنيفة. وقال الشافعي: يمضمض ويستنشق كما يفعل الحي (وقالت) أم عطية في جملة حديثها (فضفرنا) بالضاد المعجمة وتخفيف الفاء من الضفر (شعرها) أي نسجنا شعر رأسها عريضاً. قال العيني: الضفر نسج الشعر عريضاً، وكذلك التضفير. وقال الطيبي: من الضفيرة وهي النسج، ومنه ضفر الشعر وإدخال بعضه في بعض (ثلاثة قرون) أي ضفائر جمع القرن وهو الخصلة من الشعر (فألقيناها) أي الضفائر (خلفها) أي وراء ظهرها. وفي رواية: ضفرنا شعرها ناصيتها وقرنيها أي اجعلنا ناصيتها ضفيرة وقرنيها أي جانبي رأسها ضفيرتين. والمراد بالقرون في رواية الكتاب الضفائر والذوائب. ووقع في رواية: مشطناها ثلاثة قرون أي سرحنا شعرها بالمشط ثم جعلناه ثلاث ضفائر. وفيه حجة للشافعي ومن وافقه على استحباب تسريح شعر الميت وجعله ثلاث ضفائر وإلقاءها خلف ظهره. وقال ابن القاسم: لا أعرف الضفر. وقال العيني من الحنفية: يجعل ضفيرتين على صدرها فوق الدرع. وقال بعضهم: يسدل شعرها بين ثديها من الجانبين جميعاً تحت الخمار ولا يسدل شعرها خلف ظهرها، قالوا: ليس في الحديث إشارة من النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الأمور، وإنما المذكور فيه الأخبار عن أم عطية عن فعلهن، وليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم علم بذلك. وأجيب بأن الأصل أن لا يفعل بالميت شيء من القرب إلا بإذن من الشارع محقق. وقال النووي: الظاهر إطلاعه صلى الله عليه وسلم على ذلك وتقريره له- انتهى. وهو عجيب، ففي صحيح ابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك. ولفظه: واجعلن لها ثلاثة قرون وترجم عليه ذكر البيان بأن أم عطية

متفق عليه. 1650- (2) وعن عائشة، قالت: ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كفن في ثلاثة أثواب ـــــــــــــــــــــــــــــ إنما مشطت قرونها بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لا من تلقاء نفسها، وفي السنن لسعيد بن منصور: اغسلنها وتراً واجعلن شعرها ضفائر، وفي حديث أم سليم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - واضفرن شعرها ثلاثة قرون قصة وقرنين ولا تشبهنها بالرجال. وقد ظهر بهذا بطلان قول من قال من الحنفية بأن ضفرها ومشطها وإلقاءها خلف ظهرها من باب الزينة، وهذه ليست بحال الزينة. (متفق عليه) إلا قولها فألقيناها خلفها، فإنه للبخاري فقط. والحديث أخرجه أيضاً أحمد ومالك والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وابن أبي شيبة والبيهقي وغيرهم. 1650- قوله: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن) بصيغة المجهول من التكفين. (في ثلاثة أثواب) في طبقات ابن سعد إزاراً ورداء ولفافة. وفيه رد على من قال: إن المشروع في كفن الرجل إلى سبعة ثياب. واستدل لذلك بما روى أحمد (ج1ص94، 102) والبزار وابن سعد في طبقاته (ج2ص67) ، وابن عدي في الكامل، وابن حبان في الضعفاء من حديث علي بن أبي طالب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفن في سبعة أثواب. وأجيب عنه بأن في سنده عندهم عبد الله بن محمد بن عقيل، وقد وهم هو فيه. قال الحافظ في التلخيص (ص155) : هو سيء الحفظ لا يصلح حديثه للاحتجاج إذا خالف الثقات كما هنا، وقد خالف هو رواية نفسه، فإنه روى عن جابر أنه - صلى الله عليه وسلم - كفن في ثوب نمرة. قال الحافظ: وروى الحاكم من حديث أيوب عن نافع عن ابن عمر ما يعضد رواية عقيل عن ابن الحنفية بمعنى أنه - صلى الله عليه وسلم - كفن في سبعة. قلت: ويعارضه ما روى ابن ماجه من طريق سليمان بن موسى عن نافع عن ابن عمر أنه كفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاث رياط بيض سحولية. قال في الزوائد: إسناده حسن. وقد قال الترمذي: تكفينه في ثلاثة أثواب أصح ما ورد في كفنه. وقال الحاكم: إنها تواترت الأخبار عن علي وابن عباس وابن عمر وعبد الله بن مغفل وعائشة في تكفين النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها قميص ولا عمامة، ذكره الشوكاني في النيل. وقال في السيل الجرار: لم يرو في عدد الأكفان شيء يعتمد عليه إلا ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة، قال: ولم يثبت في تكفينه - صلى الله عليه وسلم - ما يخالف هذا، وكل ما روي في ذلك فهو لا يصلح لمعارضة هذا مع كونه في نفسه غير صحيح لا يحل العمل به فضلاً عن أن يعارض ما في الصحيحين وغيرهما. وفيه أيضاً رد على المالكية حيث أن المرجح عندهم في كفن الرجل خمسة ثياب: إزار ولفافتان وقميص وعمامة، وعلى الشافعي حيث قال بجواز الخمسة من غير استحباب، واستدل لذلك بما روى سعيد بن منصور أنه كفن ابنه واقداً في خمسة أثواب: قميص وعمامة وثلاث لفائف، ولا يخفى أنه فعل صحابي، وقد خالف فيه ما روى هو وغيره من الصحابة في تكفين النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفيه أيضاً

يمانية، بيض سحولية، من كرسف، ليس فيها قميص ولا عمامة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ رد على من استحسن من المتأخرين من الحنفية زيادة العمامة للعالم، وقال بأربعة أثواب في كفنه، واحتج بفعل ابن عمر المذكور. ولا يخفى ما فيه، فالصواب هو عدم الزيادة على الثلاثة. قال ابن قدامة: وتكره الزيادة على ثلاثة أثواب في الكفن لما فيه من إضاعة المال. (يمانية) بالتخفيف، وأصله يمنية بالتشديد نسبة إلى اليمن، لكن قدمت إحدى اليائين ثم قلبت الفاء أو حذفت وعوض عنها بألف على خلاف القياس. وقال الشوكاني: يمانية بتخفيف الياء على اللغة الفصيحة المشهورة. وحكى سيبويه والجوهري وغيرهما لغة في تشديدها. ووجه الأول أن الألف بدل من ياء النسبة فلا يجتمعان، فيقال يمنية بالتخفيف، وكلاهما نسبة إلى اليمن. (بيض) بكسر الباء جمع أبيض، فيستحب الثياب البيض للكفن؛ لأن الله تعالى لم يكن ليختار لنبيه إلا الأفضل. وسيأتي حديث ابن عباس بلفظ: وكفنوا فيها. (أي في الثياب البيض) موتاكم. قال النووي: استحباب التكفين في البياض مجمع عليه. (سحولية) بضم السين والحاء المهملتين ولام، ويروي بفتح أوله نسبة إلى سحول قرية باليمن. وقال الأزهري: بالفتح المدينة، وبالضم الثياب. وقيل: النسبة إلى القرية بالضم. وأما بالفتح فنسبة إلى القصار؛ لأنه يسحل الثياب أي ينقيها، كذا في الفتح. وقال النووي بضم السين وفتحها وهو أشهر، وهو رواية الأكثرين قال في النهاية تبعاً للهروى: فالفتح منسوب إلى السحول وهو القصار؛ لأنه يسحلها أي يغسلها أو إلى سحول وهي قرية باليمن. وأما الضم فهو جمع سحل وهو الثوب الأبيض النقي، ولا يكون إلا من قطن، وفيه شذوذ؛ لأنه نسب إلى الجمع. وقيل: إن اسم القرية بالضم أيضا-انتهى. وفي الصحاح السحل الثوب الأبيض من الكرسف من ثياب اليمن، والجمع سحول وسحل مثل سقف، ثم ذكر هذا الحديث، ثم قال: ويقال سحول موضع باليمن وهي تنسب إليه. (من كرسف) بضم الكاف والسين بينهما راء ساكنة أي من قطن. ووقع في رواية للبيهقي: سحولية جدد. (ليس فيها قميص ولا عمامة) أي ليس موجوداً أصلاً، بل هي الثلاثة فقط. فالمقصود نفي وجودهما جملة. قال النووي: معناه لم يكفن في قميص ولا عمامة، وإنما كفن في ثلاثة أثواب غيرهما ولم يكن مع الثلاثة شيء آخر، هكذا فسره الشافعي وجمهور العلماء، وهو الصواب الذي يقتضيه ظاهر الحديث. وقيل: معناه لم يكن القميص والعمامة من جملة الثلاثة، بل كانا زائدين على الثلاثة فيكون ذلك خمسة، وهو تفسير مالك. قال العراقي: وهو خلاف الظاهر. قال السندي: بل يرده حديث أبي بكر: في كم كفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالت عائشة: في ثلاثة أثواب، فقال أبوبكر لثوب عليه كفنوني فيه مع ثوبين آخرين، وهو حديث صحيح. (أخرجه مالك والبخاري وغيرهما) . قال بعض الحنفية: سألها أبوبكر وإن تولى تكفينه علي والعباس وابنه الفضل؛ لأنها كانت في البيت شاهدت ذلك-انتهى. قلت: ويؤيد التفسير الأول ما رواه ابن سعد في طبقاته عن عائشة بلفظ: ليس في كفنه

قميص ولا عمامة، والأفضل أن يكفن الرجل في ثلاث لفائف بيض ليس فيها قميص ولا عمامة ولا يزيد عليها، وإليه ذهب الجمهور. قال الترمذي: والعمل عليه عند أكثر أهل العمل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم وهو مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل، والمستحب عند الحنفية ثلاثة ثياب كالجمهور، لكن الثلاثة عند الحنفية: إزار. (من القرن إلى القدم. وقيل: من الحقو إلى القدم كإزار الحي) ، وقميص غير مخيط ولا مكفوف ولا مزرر بلا جيب ودخاريص وكمين (من الرقبة إلى القدمين، وقيل: إلى نصف الساق) ولفافة، وكان محمد بن سيرين يستحب أن يكون قميص الميت كقميص الحي مكففاً مزرراً. واستدل الحنفية على استحباب القميص بما في قصة عبد الله بن أبي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى ابنه قميصه ليكفنه فيه. وفيه أن غاية ما فيه أنه يدل على جواز التكفين في القميص ولا اختلاف فيه، وإنما الاختلاف في الأفضلية، وفعل ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - تكرمة لابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي وإجابة لسؤاله حين سأله ذلك ليتبرك به أبوه. وقيل: إنما فعل ذلك جزاء لعبد الله بن أبي عن كسوته العباس قميصه يوم بدر، فيكون مختصاً بهذه القضية، على أن قميصه - صلى الله عليه وسلم - هذا كان مخيطاً مكفوف الأطراف ذا الكمين والجيب، والمستحب عند الحنفية هو غير هذا كما تقدم. واستدلوا أيضاً بما روى النسائي والطحاوي والبيهقي (ج4ص15- 16) في قصة الأعرابي من حديث شداد بن الهاد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفنه في جبته - صلى الله عليه وسلم -. وفيه ما تقدم أنه إنما يدل على الجواز ولا اختلاف فيه، على أنه يخالف الحنفية من جهة أن المستحب عندهم إنما هو القميص الغير المخيط بلا كمين، والجبة المذكورة كانت مخيطة مكفوفة الأطراف ذات كمين واستدلوا أيضاً بما روى عن عبد الله بن مغفل أنه قال: إذا أنا مت فاجعلوا في غسلي كافوراً، وكفنوني في بردين وقميص، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك، أخرجه الحاكم (ج3ص578) والطبراني في الكبير، وابن سعد في طبقاته (ج2ص68) ، وبما روى البزار وابن عدي في الكامل عن جابر بن سمرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفن في ثلاثة أثواب بيض قميص وإزار ولفافة، وبما روى أحمد وأبوداود وابن ماجه والبيهقي وابن أبي شيبة عن ابن عباس قال: كفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة أثواب نجرانية: الحلة ثوبان وقميصه الذي توفي فيه، وبما روى محمد بن الحسن في كتاب الآثار، وابن سعد في طبقاته عن إبراهيم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفن في حلة يمانية وقميص، وأخرجه ابن سعد أيضاً وعبد الرزاق عن الحسن نحوه، وبما روى الطبراني في الأوسط عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفن في ثلاثة أثواب أحدها قميص. قال الهيثمي: إسناده حسن، وبما روى ابن أبي شيبة عن عبد الله بن عمرو قال: يكفن الميت في ثلاثة أثواب قميص وإزار ولفافة. وأجيب بأن هذه الأحاديث لا تنتهض لمعارضة حديث عائشة الثابت في الصحيحين وغيرهما؛ لأنها كلها مدخولة، أما حديث ابن مغفل ففيه صدقة بن موسى. قال الحافظ:

صدوق، له أوهام. قلت: وضعفه ابن معين وأبوداود والنسائي والدولابي والساجي. وقال أبوأحمد الحاكم: ليس بالقوي عندهم. وقال الترمذي: ليس عندهم بذاك القوي. وقال البزار: ليس بالحافظ عندهم، وقال في موضع آخر: ليس به بأس. وأما حديث جابر بن سمرة فقد تفرد به ناصح بن عبد الله المحلمي، وهو منكر الحديث قاله البخاري غيره. وأما حديث ابن عباس ففيه يزيد بن أبي زياد وقد تغير، وهذا من ضعيف حديثه. قال النووي: هذا الحديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به؛ لأن يزيد بن أبي زياد مجمع على ضعفه، سيما وقد خالف روايته رواية الثقات. وقال السندي: ولا يخفى أن التكفين في القميص الذي مات فيه وغسل فيه مستبعد عادة أيضاً لكونه يبل الأكفان. وقال ابن الهمام: قد ذكروا أنه عليه الصلاة والسلام غسل في قميصه الذي توفي فيه فكيف يلبسونه الأكفان فوقه وفيه بللها-انتهى. على أنه يخالف الحنفية؛ لأن قميصه الذي توفي فيه كان مخيطاً مكفوف الأطراف ذا الجيب والدخاريص والكمين؛ لأنه هو المعتاد في قميص الحي. وهذا خلاف الحنفية، ولذا أول بعضهم حديث عائشة بأن المراد فيه نفي القميص ذي الكمين والدخاريص لا نفي القميص مطلقاً، قالوا: لو كفن أحد في قميصه قطع جيبه ولبته وكماه. وأما حديث إبراهيم النخعي فمرسل، وكذا حديث الحسن، المرسل ليس بحجة على الصحيح خصوصاً في مقابلة الحديث الصحيح. وأما حديث أنس ففي كونه حسناً قابلاً للاحتجاج نظر، فإن صحة الإسناد أو حسنه لا يستلزم صحة الحديث أو حسنه كما تقرر في مقره. وحديث أنس هذا وإن حسن الهيثمي إسناده فهو شاذ لكونه مخالفاً لحديث عائشة الصحيح المخرج في الصحيحين وغيرهما. على أنه لا يطمئن القلب بتحسين الهيثمي، فإن له أوهاماً في كتابه، وقد تتبع الحافظ أوهامه فيه فبلغه فعاتبه فترك التتبع. وأما أثر عبد الله بن عمرو فهو من قوله ورأيه، وقد خالف به ما اختاره الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم -. هذا، وقد تأول بعض الحنفية حديث عائشة بأن معناه ليس فيها قميص أي جديد. وقيل: ليس فيها القميص الذي غسل فيها. وقيل: معناه ليس فيها قميص مخيط مكفوف الأطراف ذو الكمين والدخاريص، فإن قميص الكفن ليس له دخاريص ولا كمان حتى لو كفن في قميصه قطع جيبه ولبته وكماه، قاله الكبيري من الحنفية. وحاصل هذا أن محمل رواية عائشة نفي القميص المخيط مع الكمين، ومحمل الروايات المتقدمة المثبتة أن الثوب الواحد من الثلاثة كان على هيئة القميص. قلت: تفسير الشافعي ومن وافقه هو الظاهر وما عداه تعسف لا يخفى عسفه على المنصف، وإنما ارتكبه من ارتكبه تمشية للمذهب فلا يلتفت إليه. وأما الجمع فإنما يصار إليه عند المعارضة والمعادلة، ولا يعادل حديث الصحيحين أحاديث غيرهما، فالعمل على حديث عائشة هو الأولى. قال ابن قدامة: هو أصح حديث روي في كفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعائشة أقرب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأعرف

متفق عليه. 1651- (3) وعن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أكفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه)) رواه مسلم. 1652- (4) وعن عبد الله بن عباس، قال: ((إن رجلاً كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ـــــــــــــــــــــــــــــ بأحواله، ولهذا لما ذكر لها قول الناس: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفن في برد، قالت: قد أتى بالبرد، ولكنهم لم يكفنوه فيه، فحفظت ما أغفله غيرها، وقالت أيضاً: أدرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في حلة يمنيه كانت لعبد الله بن أبي بكر ثم نزعت عنه فرفع عبد الله بن أبي بكر الحلة، وقال: أكفن فيها، ثم قال: لم يكفن فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأكفن فيها! فتصدق بها، رواه مسلم. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد، ومالك، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه وابن أبي شيبة والبيهقي وغيرهم. 1651- قوله: (إذا كفن) بتشديد الفاء. (أحدكم أخاه) وفي رواية النسائي: إذا ولي أحدكم أخاه بفتح الواو وكسر اللام المخففة من الولاية أي تولى أمر تجهيزه وتكفينه. (فليحسن) بضم الياء وفتح الحاء وتشديد السين المهملة المكسورة. وقيل: بإسكان الحاء وتخفيف السين. قال النووي: كلاهما صحيح. (كفنه) قيل بسكون الفاء مصدر أي تكفينه فيشمل الثوب وهيئته وعمله، والمعروف الفتح. قال النووي في شرح المهذب: هو الصحيح، والمراد بتحسين الكفن بياضه ونظافته ونقاءه وسبوغه وكثافتة (أي كونه صفيقاً) وستره وتوسطه، وكونه من جنس لباسه في الحياة لا أفخر منه ولا أحقر، وليس المراد بإحسانه السرف فيه والمغالاة (أي كونه غالي الثمن) ونفاسته لحديث علي الآتي: لا تغالوا في الكفن، فإنه يسلب سلباً سريعاً. قال التوربشتي: معنى الحديث أن يختار لأخيه المسلم من الثياب أتمها وأنظفها وأنصعها لوناً على ما ورد به السنة، ولم يرد بالتحسين ما يؤثره المبذرون أشراً ورياء وسمعة من الثياب الرفيعة، فإن ذلك منهي عنه بأصل الشرع، وهو النهي عن إضاعة المال، ثم ذكر حديث علي، ثم قال: وفي حديث جابر هذا زيادة مبينة للمعنى الذي ذكرناه ولم يذكره في المصابيح، وقد ذكر مسلم الحديث بتمامه، وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب يوماً فذكر رجلاً من أصحابه قبض فكفن في كفن غير طائل. (أي غير جيد يعني حقير غير كامل) وقبر ليلاً فزجر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقبر الرجل ليلاً حتى يصلى عليه إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج3ص403) والحاكم (ج1ص369) أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي قتادة. 1652- قوله: (إن رجلاً) قال الحافظ: لم أقف على تسميته. (كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي بعرفة عند

فوقصته ناقته وهو محرم فمات، فقال رسول الله صلى اله عليه وسلم: اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تمسوه بطيب، ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الصخرات راكباً على ناقته فوقع عنها. (فوقصته) بفتح الواو بعدها قاف ثم صاد مهملة. (ناقته) أي كسرت عنقه قال في النهاية: الوقص كسر العنق وقَصَت عنقه اقِصُها وقْصَاً ووقَصَت به راحلته كقولك: خذ الخِطامَ وبالخطام ولا يقال وقصت العنق نفسها ولكن يقال وقص الرجل فهو موقوص-انتهى. قال الكرماني: إن كان الكسر حصل بسبب الوقوع فإسناد الوقص إلى الناقة مجاز، وإن حصل من الناقة بأن أصابته بعد أن وقع فحقيقة. (اغسلوه بماء وسدر) فيه دليل على وجوب غسل الميت. وفيه إباحة غسل المحرم الحي بالسدر خلافاً لمن كرهه له، قاله ابن المنذر. (وكفنوه في ثوبيه) أي إزاره وردائه اللذين لبسهما في الإحرام، وفيه أن الوتر ليس بشرط في الصحة، وأن الثلاث في حديث عائشة المتقدم ليست واجبة، وإنما هي مستحبة، وهو قول الجمهور. وأما الواحد الساتر لجميع البدن فلا بد منه بالاتفاق. وقيل: يحتمل اقتصاره له على التكفين في ثوبيه لكونه مات فيهما وهو متلبس بتلك العبادة الفاضلة. ويحتمل أنه لم يجد غيرهما. وفيه أن الكفن من رأس المال؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - أمر به ولم يستفصل هل عليه دين مستغرق أم لا؟ وفيه استحباب تكفين المحرم في ثياب إحرامه، وأنه لا يكفن في المخيط. وفيه التكفين في الثياب الملبوسة وهو مجمع عليه. (ولا تمسوه بطيب) بضم المثناة الفوقية وكسر الميم من الإمساس. وقيل بفتح التاء والميم من المس. وفي رواية: لا تحنطوه. (ولا تخمروا) بالتشديد أي لا تغطوا ولا تستروا. (رأسه) في النهي عن تخمير الرأس دليل على بقاء حكم الإحرام، وكذا في المنع عن التحنيط. وأصرح من ذلك التعليل بقوله: (فإنه يبعث) أي يحشر (يوم القيامة ملبياً) أي بصفة الملبين بنسكه الذي مات فيه من الحج قائلاً: لبيك اللهم لبيك. وفي رواية النسائي: فإنه يبعث يوم القيامة محرماً. والحديث دليل لما ذهب إليه الشافعي وأحمد وإسحاق والثوري وعطاء أن المحرم إذا مات يبقى في حقه حكم الإحرام فلا يغطى رأسه ولا يحنط ويكفن في ثوبي الإحرام. وخالف في ذلك مالك وأبوحنيفة. قال ابن دقيق العبد: وهو مقتضى القياس لانقطاع العبادة بزوال محل التكليف وهو الحياة، لكن اتبع الشافعي الحديث، وهو مقدم على القياس. قلت: استدل الحنفية والمالكية بما رواه مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعاً: إذا مات ابن آدم انقطع عمله. وأجيب بأن تكفينه في ثوبي إحرامه وتبقيته على هيئة إحرامه من عمل الحي بعده كغسله والصلاة عليه، فلا معنى لما ذكروه. وأجاب الحنفية والمالكية عن حديث ابن عباس بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعله عرف بالوحي بقاء إحرامه بعد موته فهو خاص بذلك الرجل، وبأنه واقعة حال لا عموم لها، وبأنه علل بقوله: فإنه يبعث ملبياً، وهذا الأمر لا يتحقق في غيره وجوده، فيكون خاصاً به. قال الشيخ

متفق عليه. وسنذكر حديث خباب: قتل ـــــــــــــــــــــــــــــ عبد الحي اللكنوي في التعليق الممجد بعد ذكر هذه الأجوبة ما لفظه: ولا يخفى على المنصف أن هذا كله تعسف، فإن البعث ملبياً ليس بخاص به بل هو عام في كل محرم حيث ورد: يبعث كل عبد على ما مات عليه، أخرجه مسلم، وورد من مات على مرتبة من هذه المراتب بعث عليها يوم القيامة، أخرجه الحاكم. وورد أن المؤذن يبعث وهو يؤذن والملبي يبعث وهو يلبي، أخرجه الأصبهاني في الترغيب والترهيب. وورد غير ذلك مما يدل عليه أيضاً كما بسطه السيوطي في البدور السافرة، فهذا التعليل لا دلالة له على الاختصاص، وإنما علل به لأنه لما حكم بعدم التخمير المخالف لسنن الموتى نبه على حكمة فيه وهو أنه يبعث ملبياً، فينبغي إبقاءه على صورة الملبين، واحتمال الاختصاص بالوحي مجرد احتمال لا يسمع، وكونه واقعة حال لا عموم لها إنما يصح إذا لم يكن فيه تعليل. وأما إذا وجد وهو عام فيكون الحكم عاماً. والجواب عن أثر ابن عمر يعني الذي رواه محمد بن مالك عن نافع أن ابن عمر كفن ابنه واقد بن عبد الله وقد مات محرماً بالجحفة وخمر رأسه أنه يحتمل أنه لم يبلغه الحديث، ويحتمل أن يكون بلغه وحمله على الأولوية، وجوز التخمير. ولعل هذا هو الذي لا يتجاوز الحق عنه-انتهى كلام الشيخ اللكنوي. وقال الحافظ في الفتح: قال أبوالحسن بن القصار: لو أريد تعميم هذا الحكم في كل محرم لقال: فإن المحرم كما جاء أن الشهيد يبعث وجرحه يثعب دماً. وأجيب بأن الحديث ظاهر في أن العلة في الأمر المذكور كونه كان في النسك، وهي عامة في كل محرم. والأصل أن كل ما ثبت لواحد في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت لغيره حتى يتضح التخصيص. قال الحافظ: وأورد بعضهم أنه لو كان إحرامه باقياً لوجب أن يكمل به المناسك ولا قائل به. وأجيب بأن ذلك ورد على خلاف الأصل فيقتصر به على مورد النص، ولا سيما وقد وضح أن الحكمة في ذلك استبقاء شعار الإحرام كاستبقاء دم الشهيد-انتهى. وفي الحديث أن الإحرام يتعلق بالرأس، وأن من شرع في عمل طاعة ثم حال بينه وبيت إتمامه الموت رجي له أن الله يكتبه في الآخرة من أهل ذلك العمل. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجنائز والحج، ومسلم في الحج، وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي في الحج، وأبوداود والنسائي في الجنائز، وابن ماجه في الحج والبيهقي (ج3ص390) قال ابن الهمام عند قول صاحب الهداية: "والإزار من القرن إلى القدم واللفافة كذلك" لا إشكال أن اللفافة من القرن إلى القدم، وأما كون الإزار كذلك فلا أعلم وجه مخالفة إزار الميت إزار الحي من السنة. وقد قال عليه الصلاة والسلام في ذلك المحرم: كفنوه في ثوبيه وهما إزاره ورداءه، ومعلوم أن إزاره من الحقو، وكذا حديث ليلى بنت قانف قالت: كنت فيمن يغسل أم كلثوم بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان أول ما أعطانا الحقاء ثم الدرع ثم الخمار ثم الملحفة ثم أدرجت بعد في الثوب الآخر. رواه أبوداود، وروى حقوه في حديث غسل زينب، وهذا ظاهر في أن إزار الميت كإزار الحي من الحقو فيجب كونه في المذكر كذلك لعدم الفرق في هذا-انتهى. (وسنذكر حديث خباب) بالتشديد. (قتل) قال الطيبي: مجهول حكاية ما في

{الفصل الثاني}

مصعب بن عمير في "باب جامع المناقب" إن شاء الله تعالى. {الفصل الثاني} 1653- (5) عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألبسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم، ومن خير أكحالكم الإثمد، ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث بدل من قوله حديث خباب أي سنذكر هذا اللفظ وهو قتل. (مصعب بن عمير) أي إلى آخره. (في باب جامع المناقب) . قال القاري: هذا اعتذار قولي واعتراض فعلي على صاحب المصابيح زعماً من المؤلف أن حديث خباب أليق بذلك الباب مع أنه ليس كذلك. وها أنا أذكر الحديث على ما في الكتاب. قال خباب بن الأرت: قتل مصعب بن عمير يوم أحد فلم نجد شيئاً نكفنه فيه إلا نمرة، وهي بفتح النون وكسر الميم شملة مخططة بخطوط بيض في سود، كنا إذا غطينا أي سترنا بها رأسه خرجت رجلاه وإذا غطينا بها رجليه خرج رأسه، فقال عليه الصلاة والسلام: ضعوها مما يلي أي يقرب رأسه، واجعلوا على رجليه الإذخر-انتهى. وهذا كحديثه عن حمزة في ما تقدم وهما دليلان على أن كفن الضرورة ثوب واحد، وعلى أن ستر جميع الميت واجب-انتهى. قلت: حديث خباب هذا قد أورده مخرجوه في الجنائز إلا الترمذي، فإنه أورده في المناقب، وقد تبعه المؤلف. ولا شك أنه أليق بالجنائز. وأورده البخاري في الهجرة والمغازي والرقاق أيضاً، وقد استدل به على أنه إذا ضاق الكفن عن ستر جميع البدن ولم يوجد غيره جعل مما يلي الرأس وجعل النقص مما يلي الرجلين. 1653- قوله: (ألبسوا) بفتح الباء. (من ثيابكم) من تبعيضية أو بيانية مقدمة. (البياض) أي ذات البياض. وفي رواية لأحمد: البيض بكسر الباء جمع الأبيض، فلا تجوز، وكذا وقع عند أبي داود والبيهقي. (فإنها) أي الثياب البيض. (من خير ثيابكم) لدلالتها غالباً على التواضع وعدم الكبر والعجب والخيلاء ولكونها أطهر وأطيب. (وكفنوا فيها موتاكم) عطف على ألبسوا أي ألبسوها في حياتكم وكفنوا فيها موتاكم. والحديث يدل على استحباب لبس البيض من الثياب وتكفين الموتى فيها. قال الشوكاني: الأمر في الحديث ليس للوجوب بل للندب، أما في اللباس فلما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من لبس غيره، وإلباس جماعة من الصحابة ثياباً غير بيض، وتقريره لجماعة منهم على غير لبس البياض. وأما في الكفن فلما ثبت عند أبي داود، قال الحافظ بإسناد حسن من حديث جابر مرفوعاً: إذا توفى أحدكم فوجد شيئاً فليكفن في ثوب حبرة. (ومن خير أكحالكم) بفتح الهمزة جمع الكحل. (الإثمد) بكسر الهمزة والميم بينهما مثلثة وساكنة، وحكي فيه ضم الهمزة، حجر معروف

فإنه ينبت الشعر ويجلو البصر)) . رواه أبوداود، والترمذي، وروى ابن ماجه إلى موتاكم. 1654- (6) وعن علي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تغالوا في الكفن ـــــــــــــــــــــــــــــ أسود يضرب إلى الحمرة يكون في بلاد الحجاز وأجوده يؤتي به من أصبهان. واختلف هل هو اسم الحجر الذي يتخذ منه الكحل أو هو نفس الكحل؟ ذكره ابن سيدة وأشار إليه الجوهري، كذا في الفتح. وقال التوربشتي: هو الحجر المعدني. وقيل: هو الكحل الأصفهاني ينشف الدمعة والقروح ويحفظ صحة العين، ويقوي غصنها لا سيما للشيوخ والصبيان. (فإنه ينبت) بضم الياء وكسر الباء. (الشعر) بفتح العين، ويجوز إسكانها أي شعر الهدب، وهو بالفارسية مزه، وهو الذي ينبت على أشفار العين. (ويجلو البصر) من الجلاء أي يحسن النظر ويزيد نور العين، وينظف الباصرة بدفعه المواد الرديئة النازلة إليها من الرأس. قال القاري: والأفضل عند النوم إتباعاً له - صلى الله عليه وسلم -، ولأنه أشد تأثيراً وأقوى سرياناً حينئذٍ-انتهى. قلت: لفظ أحمد في رواية: خير أكحالكم الإثمد عند النوم ينبت الشعر ويجلو البصر. (رواه أبوداود) في اللباس أي بتمامه، وسكت عنه (والترمذي) في الجنائز إلى قوله: موتاكم، وصحه، ونقل المنذري تصحيحه وأقره. (وروى ابن ماجه) في الجنائز واللباس (إلى موتاكم) فيه أن الترمذي أيضاً رواه إلى قوله: موتاكم، فلا وجه لتخصيص المصنف ابن ماجه بكونه رواه مختصراً، نعم روى الترمذي في اللباس من طريق آخر عن ابن عباس مرفوعاً: اكتحلوا بالإثمد وأنه يجلو البصر وينبت الشعر. قال الترمذي: حديث حسن، وحديث الباب أخرجه أحمد مطولاً (ج1ص247، 274، 328، 355، 363) ومقتصراً على ذكر الإثمد (ج1ص231) وأخرجه أيضاً البيهقي مطولاً (ج3ص245) والحاكم نحو رواية ابن ماجه (ص354) وصححه وأقره الذهبي، ونسبة الحافظ في التلخيص (ص138) للشافعي وابن حبان أيضاً، والسيوطي في الجامع الصغير للطبراني. وقال الحافظ: صححه ابن القطان، وفي الباب عن سمرة عند الترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم، وسيأتي في اللباس، وعن عمران بن حصين عند الطبراني، وعن أنس عند أبي حاتم في العلل، والبزار في مسنده، وعن ابن عمر عند ابن عدي في الكامل، وعن أبي الدرداء عند ابن ماجه يرفعه: أحسن ما زرتم الله به في قبوركم ومساجدكم البياض. 1654- قوله: (لا تغالوا) بفتح التاء واللام أي لا تتغالوا، فحذفت إحدى التائين تخفيفاً، وقد يروى بضم التاء واللام من المغالاة، وهو إكثار الثمن أي لا تبالغوا ولا تجاوزوا الحد. (في الكفن) أي في كثرة قيمته قال ابن الأثير الجزري: أصل الغلاء الارتفاع ومجاوزة القدر في كل شيء غاليت الشيء وبالشيء وغلوت فيه أغلو إذا جاوزت فيه الحد-انتهى. ويقال: غالى في الأمر أي بالغ فيه، وغالى بالشيء أي اشتراه بثمن غالٍ.

فإنه يسلب سلباً سريعاً)) رواه أبوداود. 1655- (7) وعن أبي سعيد الخدري، أنه لما حضره الموت دعا بثياب جدد، فلبسها، ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ وفي الحديث أن الحد الوسط في الكفن هو المستحب المستحسن. (فإنه) أي الكفن. (يسلب) على بناء المفعول أي يبلى. (سلباً سريعاً) أي بلياً سريعاً، ففي مغالاة الكفن إضاعة المال. قال الطيبي: استعير السلب لبلى الثوب مبالغة في السرعة-انتهى. وقال المناوي: كأنه قال لا تشتروا الكفن بثمن غال فإنه يبلى بسرعة، ووقع في بعض النسخ من أبي داود: فإنه يسلبه بذكر ضمير المفعول، وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج11ص415) وهو بصيغة المجهول، قيل نائب الفاعل ضمير الميت، والضمير المنصوب للكفن، وقيل الأول للكفن والثاني للميت أي أن الكفن يسلب عن الميت. (رواه أبوداود) من رواه الشعبي عن علي، وأخرجه أيضاً البيهقي (ص403) من طريق أبي داود، وقد سكت عنه أبوداود، ونقل القاري عن ميرك: أنه قال حسنه النووي والمنذري، قاله ابن الملقن. وقال الحافظ في التلخيص: في إسناده عمرو بن هاشم أبومالك الجنبي مختلف فيه، وفيه انقطاع بين الشعبي وعلي؛ لأنه قال الدارقطني أنه لم يسمع منه سوى حديث واحد-انتهى. وقال المنذري: في إسناده عمرو بن هاشم، وفيه مقال، وذكر ابن أبي حاتم، وأبوأحمد الكرابيسي: أن الشعبي رأى علي بن أبي طالب، وذكر أبوعلي الخطيب أنه سمع منه، وروى عنه عدة أحاديث-انتهى. 1655- قوله: (جدد) بضمتين جمع جديد. (فلبسها) بكسر الباء. (ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها) قال في اللمعات: ظاهرة أن أبا سعيد إنما لبس ثياباً جدداً امتثالاً لظاهر هذا الحديث بأن المراد ظاهره، وهو أن البعث يكون في الثياب، واستشكل ذلك بأنه قد ورد في الحديث الصحيح: يحشر الناس حفاة عراة، فأجاب بعضهم بأن البعث غير الحشر، وكأنه أراد أن البعث هو إخراج الموتى من القبر، والحشر نشرهم في عرصات القيامة، فيحتمل أن يكون البعث في الثياب والحشر عراة، يعني يخرجون من القبور بثيابهم ثم تتناثر وتتساقط في المحشر، وهذا الكلام بعيد في غاية البعد. وقال المحققون من أهل الحديث: أن الثياب في قوله - صلى الله عليه وسلم -: الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها، كناية عن الأعمال التي يموت عليها، وقد ورد: يبعث العبد على ما مات عليه من عمل صالح أو سيء، والعرب يكنى بالثياب عن الأعمال لملابسة الرجل بها ملابسة الثياب، وقيل في قوله تعالى: {وثيابك فطهر} [المدثر:4] أي أعمالك فأصلح-انتهى. وقال الهروي: ليس قول من ذهب به إلى الأكفان بشيء؛ لأن الإنسان إنما يكفن بعد موته. وقال الحافظ في التلخيص:

رواه أبوداود. 1656- (8) وعن عبادة بن الصامت، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((خير الكفن الحلة، وخير الأضحية الكبش الأقرن)) . رواه أبوداود، ـــــــــــــــــــــــــــــ والقصة التي في حديث أبي سعيد ترد ذلك. (أي تأويل الثياب بالأعمال) وهو أعلم بالمراد ممن بعده، وحكى الخطابي في الجمع بينهما. (أي بين ظاهر حديث أبي سعيد وحديث يحشر الناس حفاة عراة) أنه يبعث في ثيابه ثم يحشر عرياناً، والله أعلم-انتهى. وقال ابن الديبع الشيباني: هذا أي حديث أبي سعيد مختص بالشهيد، كما قاله القرطبي، وبه يجمع بينه وبين حديث: تحشرون حفاة عراة غرلاً-الحديث.. (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري، وأخرجه أيضاً الحاكم (ج1ص340) والبيهقي (ج3ص384) وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وأخرجه ابن حبان بدون القصة. 1656- قوله: (خير الكفن الحلة) إزار ورداء بضم الحاء المهملة وتشديد اللام واحدة الحلل، برود اليمن، ولا يطلق إلا على ثوبين من جنس واحد، والمقصود والله أعلم أنه لا ينبغي الاقتصار على الثوب الواحد، والثوبان خير منه، وإن أريد السنة والكمال فثلاث على ما عليه الجمهور. قال السندي: لعل المراد أنها من خير الكفن، والمطلوب بيان وفائها في التكفين-انتهى. والحاصل أن الحلة وهي ثوبان خير من ثوب واحد، والثلاثة أفضل وأكمل. وقيل: يحتمل أن يكون المراد أنه ينبغي أن يكون الكفن من برود اليمن، وفيها خطوط خضر أو حمر. قال المظهر: اختار بعض الأئمة أن يكون الكفن من برود اليمن لهذا الحديث، والأصح أن البيض أفضل لحديث عائشة، وحديث ابن عباس المتقدمين. وقال ابن الملك: الأكثرون على اختيار البيض، وإنما قال ذلك في الحلة؛ لأنها كانت يومئذٍ أيسر عليهم-انتهى. (وخير الأضحية الكبش الأقرن) ماله قرنان حسنان معتدلان، والمراد تفضيل الذكر على الأنثى، أو المراد أن التضحية بالكبش الأقرن أفضل من الاشتراك في بدنة أو بقرة، لا أنه أفضل من البدنة أو من البقرة كما أخذ به مالك. قال الطيبي: ولعل فضيلة الكبش الأقرن على غيره لعظم جثته وسمنه في الغالب-انتهى. (رواه أبوداود) في الجنائز، وأخرجه أيضاً الحاكم (ج4ص228) والبيهقي (ج3ص403) وأخرجه ابن ماجه مقتصراً منه على ذكر الكفن، والحديث سكت عنه أبوداود والمنذري، والحافظ في التلخيص، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وفي سنده عندهم حاتم بن أبي نصر القنسريني، ذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن القطان الفاسي: لم يرو عنه غير هشام بن سعد، فهو مجهول، كذا في تهذيب التهذيب، وقال في التقريب: إنه مجهول، وفي سنده أيضاً نسي الكندي، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال في التقريب

ورواه الترمذي، وابن ماجه، عن أبي أمامة. 1657- (9) وعن ابن عباس، قال: ((أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود، وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم)) . رواه أبوداود، وابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ والخلاصة: مجهول. (ورواه الترمذي وابن ماجه) في الأضحية. (عن أبي أمامة) قال الحافظ: في إسناده عُفيَر بن معدان، وهو ضعيف، وقال الترمذي: هذا حديث غريب وعُفَير بن معدان يضعف في الحديث. 1657- قوله: (أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتلى أحد) بضمتين، وقتلى جمع قتيل، والباء بمعنى في، أي أمر أصحابه في حقهم. (أن ينزع) بصيغة المجهول. (عنهم الحديد) أي السلاح والدروع. (والجلود) مثل الفرو والكساء الغير المطلخ بالدم. (وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم) أي المتلطخة بالدم، قاله القاري. وهذا ظاهر في أنهم لم يغسلوا، وفي ترك غسل الشهيد أحاديث ذكرها ابن تيمية في المنتقى، والشوكاني في النيل، والحديث يدل على مشروعية دفن الشهيد بما قتل فيه من الثياب، ونزع الحديد والجلود عنه وكل ما هو آلة للحرب، ويدل عليه أيضاً ما روى أحمد عن عبد الله بن ثعلبة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم أحد: زملوهم في ثيابهم، وما روى أبوداود من حديث جابر رضي الله عنه قال: رمى رجل بسهم في صدره أو في حلقه فمات، فأدرج في ثيابه كما هو ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإسناده على شرط مسلم. قال الشوكاني: قد روى زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي أنه قال: ينزع من الشهيد الفرو والخف والقلنسوة والعمامة والمنطقة والسراويل، إلا أن يكون أصاب السراويل دم، وفي إسناده أبوخالد الواسطي، والكلام فيه معروف، وقد روى ذلك أحمد بن عيسى في أماليه من طريق الحسين بن علوان عن أبي خالد المذكور عن زيد بن علي، والحسين بن علوان متكلم فيه أيضاً، والظاهر أن الأمر بدفن الشهيد بما قتل فيه من الثياب للوجوب-انتهى. قلت: أبوخالد الواسطي اسمه عمرو بن خالد القرشي مولى بني هاشم متروك الحديث، كذبه أحمد وابن معين، وأبوداود ووكيع وغيرهم. قال أحمد: كذاب يروي عن زيد بن علي عن آبائه أحاديث موضوعة يكذب. وقال الحاكم: يروي عن زيد بن علي الموضوعات، ونسبه إلى الوضع إسحاق بن راهويه وأبوزرعة أيضاً، والحسين بن علوان الكلبي ضعيف جداً. قال أبوحاتم والنسائي والدارقطني: متروك الحديث. وكذبه يحيى والنسائي، وقال صالح جزرة وابن حبان: كان يضع الحديث، وقد ظهر بهذا أن أثر علي هذا لا يصلح لاستدلال من استدل به من الحنفية كصاحب البدائع وغيره على نزع الخف والمنطقة والقلنسوة عن الشهيد. (رواه أبوداود وابن ماجه) في الجنائز، وأخرجه أيضاً أحمد (ج1ص247) كلهم من رواية علي بن عاصم عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن

{الفصل الثالث}

{الفصل الثالث} 1658- (10) عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، أن عبد الرحمن بن عوف أتى بطعام وكان صائماً، فقال: قتل مصعب بن عمير ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن عباس. قال الحافظ في التلخيص (ص159) : في إسناده ضعف؛ لأنه من رواية عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير، وهو مما حدث به عطاء بعد الاختلاط-انتهى. قلت: قال أحمد من سمع من عطاء بن السائب قديماً فسماعه صحيح، ومن سمع منه حديثاً لم يكن بشيء، سمع منه قديماً سفيان وشعبة، وسمع منه حديثاً جرير وخالد وإسماعيل وعلي بن عاصم، كذا في تهذيب التهذيب (ج7ص204) . وفي الباب أحاديث وقد تقدم بعضها، فينجبر بها ضعف هذا الحديث. 1658- قوله: (عن سعد بن إبراهيم) أي ابن عبد الرحمن بن عوف الزهري القرشي، ولي قضاء المدينة، وكان ثقة فاضلاً عابداً من صغار التابعين. رأى ابن عمر وسمع أباه وغيره، مات سنة (125) ، وقيل بعدها وهو ابن. (72) سنة. (عن أبيه) أي إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري. قال المصنف: ادخل على عمر رضي الله عنه وهو صغير، سمع أباه وسعد بن أبي وقاص، روى عنه ابنه والزهري. وقال الحافظ في التقريب: قيل له رؤية وسماعه من عمر أثبته يعقوب بن شيبة، مات سنة (95) وقيل: (96) . قال في التهذيب: قال العجلي تابعي ثقة، وقال يعقوب بن شيبة: كان ثقة، يعد في الطبقة الأولى من التابعين، ولا نعلم أحداً من ولد عبد الرحمن روى عن عمر سماعاً غيره، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين. (أن عبد الرحمن بن عوف) الزهري القرشي أحد العشرة المبشرة أسلم قديماً ومناقبه شهيرة. (أتى) بضم الهمزة مبنياً للمفعول أي جيء (بطعام) أي للإفطار وكان خبزاً ولحماً كما في الشمائل للترمذي. (وكان) أي عبد الرحمن يومئذٍ (صائماً) ذكر ابن عبد البر أن ذلك كان في مرض موته. (قتل) بضم القاف مبنياً للمفعول. (مصعب بن عمير) بضم الميم وسكون الصاد وفتح العين المهملتين نائب عن الفاعل، وعمير بضم العين مصغراً القرشي العبدري. قال ابن عبد البر: كان مصعب بن عمير من أجلة الصحابة وفضلائهم، أسلم قديماً والنبي - صلى الله عليه وسلم - في دار الأرقم، وكتم إسلامه خوفاً من أمه وقومه، فعلمه عثمان بن طلحة فأعلم أهله، فأوثقوه فلم يزل محبوساً إلى أن هرب مع من هاجر إلى الحبشة، ثم رجع إلى مكة فهاجر إلى المدينة، وشهد بدراً، ثم شهد أحداً، ومعه اللواء، فاستشهد، قتله عمرو بن قمئة الليثي، وهو ابن أربعين سنة وأزيد شيئاً، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بعث مصعباً إلى المدينة قبل الهجرة بعد العقبة الثانية يقرئهم القرآن ويفقههم في الدين، وكان يدعى القاري والمقري، وهو أول من جمع الجمعة بالمدينة قبل الهجرة، وكان في الجاهلية من أنعم الناس عيشاً وألينهم لباساً وأحسنهم جمالاً،

وهو خير مني، كفن في بردة، إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطي رجلاه بدا رأسه، وأراه قال: وقتل حمزة وهو خير مني، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط، أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا، ولقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا، ثم جعل يبكي، حتى ترك الطعام)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ وكان أبواه يحبانه، وكانت أمه تكسوه أحسن ما يكون من الثياب، وكان أعطر أهل مكة يلبس الحضرمي من النعال، فلما أسلم وزهد في الدنيا وتقشف فتشف جلده تخشف الحية. ويقال إن فيه نزلت وفي أصحابه: {رجال صدقوا ما عاهدوا الله} الآية [الأحزاب: 23] . (وهو خير مني) قاله تواضعاً وهضماً لنفسه، وإلا فقد صرح العلماء بأن العشرة المبشرة أفضل من غيرهم. قال الحافظ: ويحتمل أن يكون ما استقر عليه الأمر من تفضيل العشرة على غيرهم بالنظر إلى من لم يقتل في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -. (كفن في بردة) وفي رواية للبخاري: فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا برده، بالضمير العائد على مصعب، وفي رواية: إلا بردة، بلفظ واحدة البرود، وفي حديث خباب عند البخاري: قتل مصعب بن عمير ولم يترك إلا نمرة. (إن غطي) بضم الغين أي ستر. (رأسه) بالرفع أي بالبردة. (بدت) أي ظهرت رجلاه. (وإن غطي رجلاه بدا رأسه) أي ظهر، وسيأتي في جامع المناقب أنه غطي بها رأسه وجعل على رجليه الإذخر. (وأراه) بضم الهمزة أي أظنه. (قال) أي عبد الرحمن. (وقتل حمزة) هو حمزة بن عبد المطلب بن هاشم بن عبدمناف القرشي الهاشمي أبوعمارة عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخوه من الرضاعة، أرضعتهما ثويبة مولاة أبي لهب، ولد قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - بسنتين، وقيل بأربع، أسلم قديماً في السنة الثانية من البعثة، ولازم نصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهاجر معه، وقد ذكر ابن إسحاق قصة إسلامه مطولة، وقيل: كان إسلامه بعد دخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم في السنة السادسة، فاعتز الإسلام بإسلامه، وشهد بدراً وأبلى فيها بلاء حسناً مشهوراً، واستشهد يوم أحد، قتله وحشي بن حرب الحبشي، وقد مثّل به وبأصحابه يومئذٍ، وكان ذلك في النصف من شوال سنة (3) من الهجرة، فعاش دون الستين، ولقبه النبي - صلى الله عليه وسلم - أسد الله، وسماه سيد الشهداء، روى عنه علي والعباس وزيد بن حارثة. (وهو خير مني) وروى الحاكم في مستدركه من حديث أنس أن حمزة كفن أيضاً كذلك. (ثم بسط) بضم الباء أي وسع وكثر. (لنا) أراد نفسه وبقية مياسير الصحابة. (من الدنيا ما بسط) أشار إلى ما فتح لهم من الفتوح والغنائم وحصل من الأموال، وكان لعبد الرحمن بن عوف من ذلك الحظ الوافر. (ولقد خشينا أن تكون حسناتنا) وفي رواية: طيباتنا. (عجلت لنا) أي أعطيت عاجلاً لنا أي في حياتنا الدنيا. (ثم جعل) عبد الرحمن (يبكي) قال العيني: كان خوفه وبكاؤه وإن كان أحد العشرة المشهود لهم بالجنة مما كان عليه الصحابة من الإشفاق والخوف من التأخر عن اللحاق بالدرجات العلى. (حتى ترك الطعام) أي في

رواه البخاري. 1659- (11) وعن جابر، قال: ((أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن أبي بعد ما أدخل حفرته، ـــــــــــــــــــــــــــــ وقت الإفطار، وفي الحديث دليل على أن الكفن من جميع المال أي من رأسه لا من الثلث، وهو قول جمهور العلماء؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كفن مصعباً في نمرته، وكذا حمزة في بردته، ولم يلتفت إلى غريم ولا إلى وصية ولا إلى وارث، وبدأ بالتكفين على ذلك كله، فعلم أن التكفين مقدم وأنه من رأس المال؛ لأن جميع مالهما كان لكل منهما بردة، وفيه فضل الزهد، وأن الفاضل في الدين ينبغي له أن يمتنع من التوسع في الدنيا لئلا تنقص حسناته، وإلى ذلك أشار عبد الرحمن بقوله: خشينا أن تكون حسناتنا عجلت، وفيه أنه ينبغي ذكر سير الصالحين وتقللهم في الدنيا لتقل رغبته فيها، والبكاء خوفاً من تأخر اللحاق بالأخيار والإشفاق من ذلك، وفيه إيثار الفقر على الغنى، وإيثار التخلي للعبادة على تعاطي الاكتساب، فلذلك امتنع عبد الرحمن من تناول ذلك الطعام مع أنه كان صائماً. (رواه البخاري) في الجنائز والمغازي، وأخرجه البيهقي (ج3ص401) أيضاً ويظهر من كلام الحافظ في الفتح أن الحديث عند أحمد أيضاً حيث قال: في رواية أحمد عن غندر عن شعبة وأحسبه لم يأكله-انتهى. ولم أجده في مسند عبد الرحمن بن عوف. 1659- قوله: (عبد الله) بالنصب مفعول أتى، أي جاء قبره. (بن أبيّ) بضم الهمزة وفتح الباء الموحدة وتشديد الياء آخر الحروف ابن سلول: (هي علم لأم عبد الله فيكتب الابن بالألف؛ لأنه صفة لعبد الله لا صفة أبي) وعبد الله بن أبيّ هذا كان رأس المنافقين، وكان سيد الخزرج في الجاهلية، وهو الذي تولى كبر الإفك في قصة الصديقة، وهو الذي قال: {ليخرجن الأعز منها الأذل} ، وقال: {لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا} [المنافقون: 7] . ورجع يوم أحد بثلث العسكر إلى المدينة بعد أن خرجوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال الواقدي: مرض عبد الله بن أبيّ في ليال بقين من شوال، ومات في ذي القعدة سنة تسع منصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تبوك، وكان مرضه عشرين ليلة وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعوده فيها. (إلى آخر ما قال) وجاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بناء على وصيته أو باستدعاء ولده المؤمن عبد الله بن عبد الله بن أبيّ، وكان اسم ابنه الحباب، فسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعبد الله كاسم أبيه، وهو من فضلاء الصحابة وخيارهم، شهد المشاهد واستشهد يوم اليمامة في خلافة أبي بكر، وكان أشد الناس على أبيه، ولو أذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه لضرب عنقه. (بعد ما أدخل حفرته) بضم الحاء المهملة أي قبره. وفي رواية النسائي: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - قبر عبد الله بن أبي واقد وضع في حفرته

فأمر به، فأخرج، فوضعه على ركبتيه، فنفث فيه من ريقه، وألبسه قميصه، قال: وكان كسا عباساً قميصاً)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ فوقف عليه. (فأخرج) أي من قبره. (فنفث فيه) أي في جلده كما في تفسير الثعلبي. (وألبسه قميصه) إنجازاً لوعده في تكفينه في قميصه، والحديث صريح في أن إعطاء القميص وإلباسه إياه كان بعد ما أدخل ووضع في القبر، وهذا معارض لما في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر لما مات عبد الله بن أبي جاء ابنه فقال: يا رسول الله، أعطني قميصك أكفنه فيه، فأعطاه قميصه وقال: آذاني أصلي عليه فآذنه، فلما أراد أن يصلي عليه جذبه عمر- الحديث. وقد جمع بينهما بأن المراد من قوله في حديث ابن عمر "فأعطاه" أي أنعم له بذلك، فأطلق على الوعد اسم العطية مجازاً لتحقق وقوعها، وكان أهل عبد الله بن أبيّ خشوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - المشقة في حضوره، فبادروا إلى تجهيزه قبل وصول النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما وصل وجدهم قد دلوه في حفرته فأمر بإخراجه إنجازاً لوعده في تكفينه في القميص والصلاة عليه. وقيل: المراد من حديث جابر أن الواقع بعد إخراجه من حفرته، هو النفث، وأما القميص فقد كان ألبس، والجمع بينهما في الذكر لا يدل على وقوعهما معاً؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب ولا المعية، فلعله أراد أن يذكر ما وقع في الجملة من إكرامه - صلى الله عليه وسلم - له من غير إرادة الترتيب. وقيل: أعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد قميصيه أولاً، ولما دفن أعطاه الثاني بسؤال ولده عبد الله. وفي الإكليل للحاكم ما يؤيد ذلك، كذا في الفتح وغيره، ولا يخفى أن هذه التوجيهات لا يندفع بها الإيراد بالكلية، فإن حديث ابن عمر صريح في أنه حضر الصلاة عليه وأعطاه القميص، ورواية ابن عباس عن عمر عند الترمذي في تفسير سورة التوبة، وقد صححا أشد صراحة في ذلك، ففيها دعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصلاة عليه فقام إليه. (إلى أن قال:) ثم صلى عليه ومشى معه فقام على قبره حتى فرغ منه، فإنه صريح في أنه - صلى الله عليه وسلم - كان مع الجنازة إلى أن أتي به القبر، وحديث جابر يفيد أنه جاء بعد ذلك وألبسه القميص بعد، نبه على ذلك السندي في حاشية النسائي. وقال الولي العراقي في شرح التقريب: ويحتمل الجمع بين الحديثين بصرف حديث ابن عمر عن ظاهره، إما بأن يكون ولده إنما طلب القميص بعد تكفينه وإدخاله حفرته، أو طلبه من أول موته لكن تأخر إعطاءه له حتى أدخل قبره، والفاء التي في قوله "فأعطاه قميصه" لا تنافي هذا؛ لأن زمن تجهيزه زمن يسير لا ينافي التعقيب. وفي الحديث جواز إخراج الميت من قبره لحاجة أو لمصلحة، وأن التكفين في القميص ليس ممتنعاً سواء كان مكفوف أو غير مكفوف، خلافاً لمن قال: إن القميص لا يسوغ إلا إذا كانت أطرافه غير مكفوفة أو كان غير مزرر ليشبه الرداء، وفي الخلافيات للبيهقي من طريق ابن عون قال: كان محمد بن سيرين يستحب أن يكون قميص الميت كقميص الحي مكففاً مزرراً. (قال) أي جابر. (وكان) أي عبد الله بن أبيّ (كسا عباساً) عمه - صلى الله عليه وسلم - حين أسر ببدر (قميصاً) وفي

(5) باب المشي بالجنازة والصلاة عليها

متفق عليه. (5) باب المشي بالجنازة والصلاة عليها ـــــــــــــــــــــــــــــ الجهاد عند البخاري عن جابر أيضاً قال: لما كان يوم بدر أتى بأسارى، وأتى بالعباس ولم يكن عليه ثوب، فنظر النبي - صلى الله عليه وسلم - له قميصاً، فوجدوا قميص عبد الله بن أبيّ يقدر عليه. (إنما كان كذلك لأن العباس كان بين الطوال وكذلك كان عبد الله بن أبيّ) فكساه النبي - صلى الله عليه وسلم - إياه فلذلك نزع النبي - صلى الله عليه وسلم - قميصه الذي ألبسه. قال ابن عيينة: كانت له عند النبي - صلى الله عليه وسلم - يد فأحب أن يكافئه. (كي لا يكون لمنافق عليه يد لم يكافئه عليها) . وقيل: أعطاه قميصه إكراماً لولده وكان مسلماً بريئاً من النفاق. وقيل: تأليفاً لغيره من قومه رجاء أن يسلموا لما يرونه يتبرك بقميصه صلى الله عليه وسلم. وقيل: لأنه سأله ذلك وكان لا يرد سائلاً. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجنائز والجهاد واللباس، ومسلم في التوبة، وأخرجه أيضاً النسائي والبيهقي. فائدة المشروع في كفن المرأة أن يكون خمسة أثواب: إزاراً، ودرعاً، وخماراً، ولفافتين؛ لما روى أحمد وأبوداود من حديث ليلى بنت قانف الثقفية قالت: كنت فيمن غسل أم كلثوم بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند وفاتها، وكان أول ما أعطانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحقا، ثم الدرع، ثم الخمار، ثم الملحفة، ثم أدرجت بعد ذلك في الثوب الآخر، قالت: ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند الباب معه كفنها يناولنا ثوباً ثوباً. وروى الخوارزمي من طريق إبراهيم بن حبيب بن الشهيد عن هشام بن حسان عن حفصة عن أم عطية أنها قالت: وكفناها في خمسة أثواب وخمرناها كما نخمر الحي. قال الحافظ: وهذه الزيادة صحيحة الإسناد. قال ابن المنذر: أكثر من نحفظ عنه من أهل العلم يرى أن تكفن المرأة في خمسة أثواب كالشعبي والنخعي والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور. قال الشافعي: تكفن في خمسة: ثلاث لفائف، وإزار وخمار، وفي القديم قميص، ولفافتان. وهو الأصح واختاره المزني. وقال أحمد: تكفن في قميص، وميزر، ولفافة، ومقنعة. (خمار) وخرقة خامسة تشهد بها فخذاها تحت الإزار. قال ابن قدامة: والذي عليه أكثر أصحابنا وغيرهم أن الأثواب الخمسة: إزار، ودرع، وخمار، ولفافتان، وهو الصحيح لحديث ليلى بنت قانف، ولما روت أم عطية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ناولها إزاراً، ودرعاً، وخماراً، وثوبين-انتهى. والمندوب لها عند المالكية سبع: إزار، وقميص، وخمار، وأربع، لفائف. (باب المشي) أي آدابه (بالجنازة) أي بالسرير الذي عليه الميت. (والصلاة) عطف على المشي. (عليها) أي على الجنازة أي الميت.

{الفصل الأول}

{الفصل الأول} 1660- (1) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله عليه وسلم: ((أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك ـــــــــــــــــــــــــــــ 1660- قوله: (أسرعوا) أمر من الإسراع، نقل ابن قدامة: أن الأمر بالإسراع للندب بلا خلاف بين العلماء، وشذ ابن حزم فقال بوجوبه، والمراد بالإسراع الإسراع المتوسط بين الخبب أي شدة السعي وبين المشي المعتاد، بدليل قوله في حديث أبي بكرة عند أحمد والنسائي: وإنا لنكاد نرمل بالجنازة رملاً، ومقاربة الرمل ليس بالسعي الشديد، قاله العراقي. وأما ما وقع في أبي داود بلفظ: ونحن نرمل رملاً، فقال العيني: مراده الإسراع المتوسط، ويدل عليه ما روى ابن أبي شيبة في مصنفه من حديث عبد الله بن عمرو: إن أباه أوصاه قال: إذا أنت حملتني على السرير فامش مشياً بين المشيين-الحديث. قال البيهقي في المعرفة: قال الشافعي الإسراع بالجنازة هو فوق سجية المشي المعتاد، ويكره الإسراع الشديد. قال الحافظ: وهو قول الجمهور، والحاصل أنه يستحب الإسراع بها لكن بحيث لا ينتهي إلى شدة يخاف معها حدوث مفسدة بالميت أو مشقة على الحامل أو المشيع. وأما ما روى أحمد (ج4ص406) من حديث أبي موسى أنه قال: مرت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - جنازة تمخض مخض الزق فقال: عليكم بالقصد، فالظاهر أنه كان يفرط في الإسراع بها، ولعله خشي انفجارها أو خروج شيء منها. (بالجنازة) أي بحملها إلى قبرها. قال السندي: ظاهره الأمر للحملة بالإسراع في المشي، ويحتمل الأمر بالإسراع في التجهيز وتعجيل الدفن بعد تيقن موته. وقال النووي: والأول هو المتعين لقوله: فشر تضعونه عن رقابكم، ولا يخفى أنه يمكن تصحيحه على المعنى الثاني بأن يجعل الوضع عن الرقاب كناية عن التبعيد عنه وترك التلبس به-انتهى. قيل: ويؤيده أن الكل لا يحملونه. قلت: ويؤيده أيضاً ما روى الطبراني. قال الحافظ: بإسناد حسن من حديث ابن عمر مرفوعاً: إذا مات أحدكم فلا تحبسوه وأسرعوا به إلى قبره، وما تقدم من حديث حصين بن وحوح مرفوعاً: لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله. (فإن تك) أصله فإن تكن حذفت النون للتخفيف، والضمير فيه للجنازة التي هي عبارة عن الميت. (صالحة) نصب على الخبرية. (فخير) خبر مبتدأ محذوف أي فهي خير أي الجنازة بمعنى الميت لمقابلته بقوله: فشر، فحينئذٍ لا بد من اعتبار الاستخدام في ضمير إليه الراجع إلى الخير أو هو مبتدأ خبره محذوف، والتقدير فلها خير، أو فهناك خير لكن لا تساعده المقابلة، قاله السندي. وقال القاري: فخير أي فحالها خير أو فعلها خير. (تقدمونها) بالتشديد. (إليه) قال القاري: أي فإن كان حال ذلك الميت حسناً طيباً فأسرعوا به حتى يصل إلى تلك الحالة الطيبة عن قريب. (وإن تك) أي الجنازة (سوى ذلك) أي غير صالحة.

فشر تضعونه عن رقابكم)) . متفق عليه. 1661- (2) وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا وضعت الجنازة، فاحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت لأهلها: يا ويلها ـــــــــــــــــــــــــــــ (فشر) أي فهو شر (تضعونه عن رقابكم) فلا مصلحة لكم في مصاحبتها؛ لأنها بعيدة من الرحمة، ويؤخذ منه ترك صحبة أهل البطالة وغير الصالحين. وفي الحديث دليل على ندب المبادرة بتجهيز الميت ودفنه لكن بعد تحقق موته، فإن من المرضى من يخفى موته ولا يظهر إلا بعد مضي زمان كالمسبوت ونحوه. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد ومالك، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه. 1661- قوله: (إذا وضعت الجنازة) يحتمل أن المراد بالجنازة الميت، أي إذا وضع الميت على السرير، ويحتمل أن المراد بها السرير أي إذا وضع السرير على الكتف، والأول أولى؛ لقوله بعد ذلك: فإن تك صالحة قالت، فإن المراد هناك الميت، ويؤيده حديث أبي هريرة عند النسائي وأبي داود الطيالسي بلفظ: إذا وضع الرجل الصالح على سريره، كذا قيل. قال السندي: بل هو المتعين، إذ على الثاني يكون قوله: فاحتملها الرجال على أعناقهم تكراراً، ولا يمكن جعله تأكيداً إذ لا يناسبها الفاء فليتأمل، نعم ضمير احتملها بالسرير أنسب إذ هو المحمول أصالة والميت تبعاً، لكن يكفي في صحة إرادة الميت كونه محمولاً تبعاً، ويحتمل أن يكون المراد بالضمير السرير بالاستخدام-انتهى. قلت: وقع في رواية للبخاري واحتملها الرجال بالواو بدل الفاء فلا يبعد أن يكون تأكيداً، نعم التأسيس أولى من التأكيد. وقال القاري: إذا وضعت الجنازة أي بين يدي الرجال وهيئت ليحملوها. (قالت) حقيقة بلسان القال بحروف وأصوات يخلقها الله تعالى فيها. قال ابن بزيرة: قوله في آخر الحديث "يسمع صوتها كل شيء" دال على أنه قول بلسان القال لا بلسان الحال، قيل: يحتمل أن القائل الروح أو الجسد بواسطة رد الروح إليه، وقيل: دعوى إعادة الروح إلى الجسد قبل الدفن يحتاج إلى دليل، والله عزوجل قادر على أن يحدث نطقاً في الميت إذا شاء. (قدموني) أي لثواب العمل الصالح الذي عملته. قال السندي: كأنه يعتقد أنهم يسمعون قوله، فيقول لهم ذلك، أو أنه تعالى يجري على لسانه ذلك ليخبر عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - للناس، فتحصل الفائدة بواسطة ذلك الإخبار، والله تعالى اعلم. (قالت لأهلها) قال الطيبي: أي لأجل أهلها إظهاراً لوقوعها في الهلكة، وكل من وقع في الهلكة دعا بالويل. (يا ويلها) أي ويل الجنازة أي يا هلاكي احضر فهذا أوانك، وكان القياس أن يقول يا ويلي، فعدل إلى إضافة الويل إلى ضمير الغائب حملاً على المعنى، كراهة أن يضيف الويل إلى نفسه، أو كأنه لما أبصر نفسه غير صالحة نفر عنها وجعلها كأنها

أين تذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمع الإنسان لصعق)) رواه البخاري. 1662- (3) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا رأيتم الجنازة فقوموا، ـــــــــــــــــــــــــــــ غيره، ويؤيد الأول أن في رواية أبي هريرة عند النسائي: يا ويلتى أين تذهبون بي، فدل على أن ذلك من تصرف الرواة. (أين تذهبون بها) قالته لأنها تعلم أنها لم تقدم خيراً، وأنها تقدم على ما يسوءها فتكره القدوم عليه. (يسمع صوتها) المنكر بذلك الويل (كل شيء) أي حتى الجماد، وقيل أي من الحيوان. (إلا الإنسان) بالنصب على الاستثناء. (ولو سمع الإنسان) أي صوتها بالويل المزعج (لصعق) أي لغشي عليه أو مات من شدة هول ذلك، وهذا في غير الصالح؛ لأن الصالح من شأنه اللطف والرفق في كلامه، فلا يناسب الصعق من سماع كلامه، وقيل: يحتمل حصول الصعق من سماع كلام الصالح أيضاً لكونه غير مألوف. قال السندي: وهذا مبني على أن المراد لو سمعه أحياناً وإلا فلو سمعه على الدوام لما بقي غير مألوف، والله أعلم-انتهى. وفيه بيان حكمة عدم سماع الإنسان من أنه يختل نظام العالم ويكون الإيمان شهودياً لا غيبياً، واستدل البخاري بقوله: فاحتملها الرجال على منع النساء من حمل الجنازة وإن كان الميت امرأة، فقد بوب على هذا الحديث "باب حمل الرجال الجنازة دون النساء"، وقد استشكل ذلك لكونه إخباراً فلا يكون حجة في منع النساء؛ لأنه ليس فيه أن لا يكون الواقع إلا ذلك، وأجيب بأن كلام الشارع مهما أمكن حمله على التشريع لا يحمل على مجرد الإخبار عن الواقع. وقد روى أبويعلى من حديث أنس قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة فرأى نسوة فقال: أتحملنه؟ قلن: لا، أتدفنه؟ قلن: لا، قال: فارجعن مأزورات غير مأجورات. ونقل النووي في شرح المهذب: أنه لا خلاف في هذه المسألة بين العلماء، والسبب فيه أن في الحمل على الأعناق والأمر بالإسراع مظنة الانكشاف غالباً، وهو مباين للمطلوب منهن من التستر، مع ضعف نفوسهن عن مشاهدة الموتى غالباً فكيف بالحمل، مع ما يتوقع من صراخهن عند حمله ووضعه، وأيضاً لا بد أن يشيع الجنازة الرجال، فلو حملها النساء لكان ذلك ذريعة إلى اختلاطهن بالرجال، فيفضي إلى الفتنة، نعم إن لم يوجد غيرهن تعين عليهن. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً النسائي. 1662- قوله: (إذا رأيتم الجنازة فقوموا) فيه مشروعية القيام للجنازة إذا مرت بالمكلف القاعد وإن لم يقصد تشييعها، وظاهره عموم جنازة من مؤمن وغيره، ويؤيده قيامه - صلى الله عليه وسلم - لجنازة يهودي مرت به، وقد علل ذلك بأن الموت فزع. وفي رواية: أليست نفساً، وسيأتي الكلام على ذلك. واختلف العلماء في حكم القيام للجنازة لمن مرت به، فذهب جماعة من السلف والخلف، كما قال ابن عبد البر في التمهيد إلى وجوبه. وقال مالك والشافعي وأبوحنيفة وصاحباه: أنه منسوخ. وذهب أحمد ومن وافقه إلى أنه مستحب. قال

فمن تبعها فلا يقعد حتى توضع)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشوكاني: ذهب أحمد وإسحاق بن راهويه وابن حبيب وابن الماجشون من المالكية: إلى أن القيام للجنازة لم ينسخ والقعود منه - صلى الله عليه وسلم -، كما في حديث الآتي إنما هو لبيان الجواز فمن جلس فهو في سعة ومن قام فله أجر، وكذا قال ابن حزم: أن قعوده - صلى الله عليه وسلم - بعد أمره بالقيام يدل على أن الأمر للندب، ولا يجوز أن يكون نسخاً. قال النووي: والمختار أنه مستحب، وبه قال المتولي، وصاحب المهذب من الشافعية، وممن ذهب إلى استحباب القيام ابن عمر وأبومسعود وقيس بن سعد وسهل بن حنيف، كما يدل على ذلك الروايات المذكورة في الباب. (أي باب ما جاء في القيام للجنازة إذا مرت من كتاب المنتقى) . وقال أبوحنيفة ومالك والشافعي: أن القيام منسوخ بحديث علي الآتي، قال الشافعي: إما أن يكون القيام منسوخاً أو يكون لعلة، وأيهما كان فقد ثبت أنه تركه بعد فعله، والحجة في الآخر من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهى. وقد دل كلام الشوكاني على أن الإمام أحمد ذهب إلى استحباب القيام للجنازة. وقال عياض: ذهب أحمد إلى التوسعة والتخيير، ويؤيده ما حكاه الترمذي عن أحمد أنه قال: إن شاء قام وإن شاء قعد. وقال ابن قدامة: إذا مرت به جنازة لم يستحب له القيام لها لقول علي: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قعد. قال أحمد: إن قام لم أعبه وإن قعد فلا بأس، وذكر ابن أبي موسى والقاضي: أن القيام مستحب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالقيام. قال ابن قدامة: وقد ذكرنا أن آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك القيام بها، والأخذ بالآخر من أمره أولى-انتهى. وسيأتي بيان ما هو الراجح في ذلك في شرح حديث علي الآتي. (فمن تبعها فلا يقعد حتى توضع) يحتمل أن المراد حتى توضع على الأرض أو توضع في اللحد، وقد روي عن أبي هريرة باللفظين إلا أنه أشار البخاري إلى ترجيح رواية حتى توضع بالأرض بقوله: باب من تبع جنازة فلا يقعد حتى توضع عن مناكب الرجال. وصرح أبوداود بترجيحها حيث قال بعد رواية حديث أبي سعيد من طريق سهيل بن أبي صالح بلفظ: إذا تبعتم الجنازة فلا تجلسوا حتى توضع، وروى الثوري هذا الحديث عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال فيه: حتى توضع بالأرض، ورواه أبومعاوية عن سهيل قال: حتى توضع في اللحد، وسفيان أحفظ من أبي معاوية-انتهى. وكذا قال الأثرم. قال الحافظ: ورواه جرير عن سهيل أي عن أبي صالح عن أبي سعيد فقال: حتى توضع حسب، وزاد قال سهيل ورأيت أبا صالح لا يجلس حتى توضع عن مناكب الرجال. أخرجه أبونعيم في المستخرج بهذه الزيادة والبيهقي (ج4ص26) وهو في مسلم بدونها. قال الحافظ: ورجح رواية: حتى توضع بالأرض عند البخاري بفعل أبي صالح لأنه راوي الخبر، وهو أعرف بالمراد منه، ورواية أبي معاوية مرجوحة، كما قال أبوداود-انتهى. قلت: المختار عند القائلين باستحباب قيام التابع قبل الوضع هو أن المراد بالوضع وضعها بالأرض. وفي المحيط للحنفية: الأفضل أن لا يجلسوا حتى يسووا عليه التراب، وحجته رواية أبي معاوية. وفي البدائع والخانية والعناية وغيرها خلافه، حيث صرحوا بأنه لا بأس بالجلوس بعد الوضع بالأرض. والحديث

يفيد النهي عن جلوس المشيع أي الماشي مع الجنازة قبل أن توضع على الأرض. واختلف العلماء في ذلك، فذهب بعض السلف إلى أنه يجب القيام حتى توضع، واحتج له برواية سعيد عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا: ما رأينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهد جنازة قط فجلس حتى توضع. أخرجه النسائي. قال الشوكاني: ولا يخفى أن مجرد الفعل لا ينتهض دليلاً للوجوب، فالأولى الاستدلال له بحديث أبي سعيد فإن فيه النهي عن القعود قبل وضعها، وهو حقيقة للتحريم وترك الحرام واجب، ومثل ذلك حديث أبي هريرة عند أحمد مرفوعاً: من صلى على جنازة ولم يمش معها فليقم حتى تغيب عنه، فإن مشى معها فلا يقعد حتى توضع-انتهى. وقال الأوزاعي وأحمد وإسحاق ومحمد بن الحسين: يستحب له أن لا يجلس حتى توضع عن أعناق الرجال، حكى عنهم ذلك النووي، والحافظ في الفتح، ونقله ابن المنذر عن أكثر الصحابة والتابعين، وحكى في الفتح عن الشعبي والنخعي: أنه يكره القعود قبل أن توضع، وهو مذهب الحنفية والحنابلة، كما في كتب فروعهم. واختلف الشافعية في ذلك فقال بعضهم: قيام المشيع قبل وضع الجنازة بالأرض منسوخ كالقيام لمن مرت به، وهو الذي حكاه ابن قدامة عن الشافعي، وقال بعضهم كقول الجمهور: أنه يستحب له أن لا يقعد حتى توضع، واستدل للنسخ بما سيأتي من حديث عبادة بن الصامت. (عند الترمذي وأبي داود وابن ماجه والبيهقي) (ج4ص28) والبزار والحازمي (ص130) قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اتبع الجنازة لم يقعد حتى توضع في اللحد، فعرض له حبر فقال: هكذا نصنع يا محمد، فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: اجلسوا وخالفوهم. وأجيب عنه بأنه حديث ضعيف كما ستعرف، فلا يسوغ الاستدلال به على نسخ السنة الثابتة بالأحاديث الصحيحة. قال الحافظ في الفتح: لو لم يكن إسناده ضعيفاً لكان حجة في النسخ. وقال الحازمي بعد روايته: هذا حديث غريب. ولو صح لكان صريحاً في النسخ، غير أن حديث أبي سعيد أصح وأثبت فلا يقاومه هذا الإسناد-انتهى. على أن هذا الحديث إنما يدل على نسخ القيام قبل الوضع في اللحد لا على نسخ القيام قبل الوضع بالأرض، والمطلوب إثبات هذا لا ذاك. قال القاري في شرح قوله "خالفوهم" فبقي القول بأن التابع لم يقعد حتى توضع عن أعناق الرجال هو الصحيح، مع أن قوله: حتى توضع في اللحد يرده ما في حديث البراء الطويل المتقدم كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد، فجلس فجلسنا حوله. واستدل للنسخ أيضاً بما سيأتي من حديث علي قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا بالقيام في الجنازة، ثم جلس بعد ذلك وأمرنا بالجلوس، أخرجه أحمد (ج1ص82) وابن حبان والحازمي (ص121) وأخرجه البيهقي (ج4ص27) بلفظ: ثم قعد بعد ذلك وأمرهم بالقعود. وأجاب عنه الشوكاني بأن هذا الحديث إن صح صلح للنسخ لقوله فيه: وأمرنا بالجلوس، ولكنه لم يخرج هذه الزيادة مسلم ولا الترمذي ولا أبوداود (ولا ابن ماجه ولا أحمد في أكثر رواياته) ، بل اقتصروا على قوله: ثم قعد.

متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ (ومجرد الفعل لا يدل على نسخ القول؛ لاحتمال أن قعوده كان لبيان الجواز) قال: واقتصار جمهور المخرجين لحديث علي وحفاظهم على مجرد القعود بدون ذكر زيادة الأمر بالجلوس مما يوجب عدم الاطمينان إليها، والتمسك بها في النسخ لما هو من الصحة في الغاية. وأجاب عنه ابن حزم (ج5 ص154) بأن الأمر فيه للإباحة والتخفيف، قال: كنا نقطع بالنسخ بهذا الخبر، لولا ما روينا من طريق النسائي عن سعيد المقبري عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا جميعاً: ما رأينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهد جنازة قط فجلس حتى توضع، قال: فهذا عمله عليه السلام المداوم، وأبوهريرة وأبوسعيد ما فارقاه عليه السلام حتى مات، فصح أن أمره بالجلوس إباحة وتخفيف، وأمره بالقيام وقيامه ندب – انتهى. قلت: والظاهر أن المراد بالقيام المذكور في حديث علي هو القيام للجنازة إذا مرت به، لا قيام التابع والمشيع. وأما رواية الحازمي (ص130) بلفظ: قال علي: قدمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أول ما قدمنا، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يجلس حتى توضع الجنازة، ثم جلسب بعد وجلسنا معه، فكان يؤخذ بالآخر فالآخر من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ففي كونها صالحة للاستدلال نظر، قال الحازمي: هذا الحديث بهذه الألفاظ غريب أيضاً. قلت: وكذا رواية البيهقي (ج4 ص27) بلفظ: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع الجنائز حتى توضع وقام الناس معه، ثم قعد بعد ذلك وأمرهم بالقعود، غريب أيضاً. نعم يشكل رواية الترمذي والنسائي والبيهقي (ج4 ص27) بلفظ: عن علي بن أبي طالب أنه ذكر القيام على الجنازة حتى توضع، فقال علي بن أبي طالب: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قعد، ورواية البيهقي (ج4 ص28) بلفظ: رأى علي الناس قياماً ينتظرون الجنازة أن توضع، فأشار إليهم بدرة معه أو سوط أن اجلسوا، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد جلس بعد ما كان يقوم؛ لأن هاتين الروايتين تدلان على أن المراد القيام مطلقاً، وأن الذي فهمه عليّ رضي الله عنه هو الترك مطلقاً، ولهذا أمر بالقعود من رأى قائماً ينتظر الجنازة أن توضع. ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن الذي استند إليه عليّ في الأمر بقعود المنتظرين إنما هو فعله - صلى الله عليه وسلم -، ومن المعلوم أن مجرد الفعل لا يدل على النسخ؛ لأنه يحتمل أن قعوده كان لبيان الجواز، وأن النهي في حديث أبي سعيد للتنزيه لا للتحريم، فتأمل. والقول الراجح عندي هو ما ذهب إليه الجمهور من أنه يستحب أن لا يجلس التابع والمشيع للجنازة حتى توضع بالأرض. وأن النهي في قوله: فلا يقعد، محمول على التنزيه. والله تعالى أعلم. ويدل على استحباب القيام إلى أن توضع ما رواه البيهقي (ج4 ص27) من طريق أبي حازم قال: مشيت مع أبي هريرة وابن عمر وابن الزبير والحسن بن علي أمام الجنازة حتى انتهينا إلى المقبرة، فقاموا حتى وضعت ثم جلسوا، فقلت لبعضهم، فقال: إن القائم مثل الحامل يعني في الأجر. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج4ص26) .

1663- (4) وعن جابر، قال: ((مرت جنازة، فقام لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقمنا معه، فقلنا: يا رسول الله! إنها يهودية، فقال: إن الموت فزع، فإذا رأيتم الجنازة فقوموا)) . متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1663- قوله: (إنها) أي الميتة (يهودية) أو الجنازة جنازة يهودية، وهذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري: إنها جنازة يهودي. (إن الموت فزع) بفتحتين. قال القرطبي: معناه أن الموت يفزع منه إشارة إلى استعظامه. ومقصود الحديث أن لا يستمر الإنسان على الغفلة بعد رؤية الموت لما يشعر ذلك من التساهل بأمر الموت، فمن ثم استوى فيه كون الميت مسلماً أو غير مسلم. وقال غيره: جعل نفس الموت فزعاً مبالغة، كما يقال رجل عدل. قال البيضاوي: هو مصدر جرى مجرى الوصف للمبالغة، أو فيه تقدير الموت ذو فزع-انتهى. ويؤيد الثاني رواية النسائي بلفظ: إن للموت فزعاً. وعن أبي هريرة عند ابن ماجه وعن ابن عباس عند البزار مثله. قال البزار: وفيه تنبيه على أن تلك الحالة ينبغي لمن رآها أن يقلق من أجلها ويضطرب، ولا يظهر منه عدم الاحتفال والمبالاة. (فإذا رأيتم الجنازة فقوموا) أي تعظيماً لهول الموت وفزعه لا تعظيماً للميت، فلا يختص القيام بميت دون ميت. واعلم أنه اختلف الأحاديث في تعليل القيام بجنازة اليهودي أو اليهودية، ففي هذا الحديث التعليل بقوله: إن الموت فزع، وفي حديث سهل بن حنيف وقيس الآتي التعليل بكونها نفساً، وفي حديث أنس عند النسائي والحاكم: إنما قمنا للملائكة، ونحوه لأحمد من حديث أبي موسى، وسيأتي هذان الحديثان في الفصل الثالث، وفي حديث عبد الله بن عمرو عند أحمد والحاكم والبيهقي: إنما تقومون للذي يقبض النفوس، وأخرجه ابن حبان بلفظ: إعظاماً لله الذي يقبض الأرواح. ولا معارضة في هذه التعليلات، إذ يجوز تعدد الأغراض والعلل، فيكون القيام مطلوباً تعظيما لأمر الموت والملائكة جميعاً وغير ذلك. قال الحافظ: لا منافاة فيها لأن القيام للفزع من الموت فيه تعظيم لأمر الله وتعظيم للقائمين بأمره في ذلك وهم الملائكة. وأما ما أخرجه أحمد من حديث الحسن بن علي: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تأذياً بريح اليهودي. زاد الطبراني من حديث عبد الله بن عياش: فآذاه ريح بخورها. وللنسائي والطبري من وجه آخر عن الحسن: كره أن تعلو رأسه جنازة يهودي، فإن ذلك لا يعارض الأخبار الأولى الصحيحة. أما أولاً فلأن أسانيدها لا تقاوم تلك في الصحة، وأما ثانياً فلأن التعليل بذلك راجع إلى ما فهمه الراوي، والتعليل الماضي صريح من لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكأن الراوي لم يسمع بالتعليل منه فعلل باجتهاده، كذا في الفتح. (متفق عليه) واللفظ لمسلم. ولفظ البخاري: مر بنا جنازة فقام لها النبي - صلى الله عليه وسلم - وقمنا، فقلنا يا رسول الله! إنها جنازة يهودي، قال:

1664- (5) وعن علي، قال: ((رأينا رسول الله صلى الله - صلى الله عليه وسلم - قام فقمنا، وقعد فقعدنا، ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا رأيتم الجنازة فقوموا. قال ميرك: في قوله: متفق عليه، نظر من وجهين أحدهما أن جملة إن الموت فرع من أفراد مسلم عن البخاري، والثاني أن لفظ البخاري: إنها جنازة يهودي-انتهى. والحديث أخرجه أبوداود والنسائي والبيهقي أيضاً. 1664- قوله: (رأينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام) أي لرؤية الجنازة. (فقمنا) أي تبعاً له. (وقعد فقعدنا) وفي رواية لمسلم: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قعد. قال البيضاوي: يحتمل قول علي: ثم قعد، أي بعد أن جاوزته وبعدت عنه. ويحتمل أن يريد كان يقوم في وقت ثم ترك القيام أصلاً، وعلى هذا يكون فعله الأخير قرينة في أن المراد بالأمر الوارد في ذلك الندب. ويحتمل أن يكون نسخاً للوجوب المستفاد من ظاهر الأمر. والأول أرجح؛ لأن احتمال المجاز يعني في الأمر أولى من دعوى النسخ-انتهى. وقال الترمذي: معنى قول علي: قام النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنازة ثم قعد، يقول: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقوم إذا رأى الجنازة ثم ترك ذلك بعد، فكان لا يقوم إذا رأى الجنازة، قال: وهذا الحديث ناسخ للحديث الأول: إذا رأيتم الجنازة فقوموا-انتهى. وكذا استدل به على النسخ كل من ذهب إلى نسخ القيام للجنازة لمن مرت به. وتعقبه النووي بأن حديث علي هذا ليس صريحاً في النسخ لاحتمال أن القعود فيه لبيان الجواز، فلا يصح دعوى النسخ؛ لأن النسخ إنما يكون إذا تعذر الجمع بين الأحاديث، ولم يتعذر بل هو ممكن، كما تقدم. وقال ابن حزم في المحلى (ج5ص154) : قعوده - صلى الله عليه وسلم - بعد بأمره بالقيام يدل على أن الأمر للندب. ولا يجوز أن يكون نسخاً؛ لأن النسخ لا يكون إلا بنهي أو بترك معه نهي-انتهى. وأما حديث علي الآتي بلفظ: أمرنا بالقيام في الجنازة، ثم جلس بعد ذلك وأمرنا بالجلوس، فقد تقدم جوابه عن الشوكاني وابن حزم في شرح حديث أبي سعيد. وأما ما رواه أحمد (ج1ص142) والحازمي (ص121) من طريق أبي معمر وهو عبد الله بن سخبرة قال: كنا مع علي فمر به جنازة فقام لها ناس، فقال علي: من أفتاكم هذا؟ فقالوا أبوموسى. قال إنما فعل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرة، فكان يتشبه بأهل الكتاب، فلما نهي انتهى، لفظ أحمد، ولفظ الحازمي: فلما نسخ ذلك ونهي عنه انتهى. ففيه أنه لا يصلح النسخ ما ثبت بالأحاديث المخرجة في الصحيحين وغيرهما؛ لأن مداره على ليث بن أبي سليم وهو صدوق يهم، قاله البخاري. وقال الحافظ: صدوق اختلط أخيراً، ولم يتميز حديثه فترك-انتهى. ولا يغتر برواية الثوري هذا الحديث عن ليث، فإن رواية الثقات عن الضعفاء الواهمين لا يدل على كون الرواية صالحة للاحتجاج، كما لا يخفى. وقد روى هذا الحديث أحمد بأطول من هذا من طريق ليث في مسند أبي موسى الأشعري (ج4ص413) وفيه فإذا نهي انتهى، فما عاد لها بعد، ورواه النسائي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر قال: كنا عند علي فمرت به جنازة فقاموا

يعني في الجنازة)) . رواه مسلم، وفي رواية مالك، وأبي داود: ((قام في الجنازة، ثم قعد بعد)) . 1665- (6) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من اتبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً، وكان معه حتى يصلي عليها ـــــــــــــــــــــــــــــ لها، فقال علي: ما هذا؟ قالوا أمر أبي موسى، فقال: إنما قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجنازة يهودية ولم يعد بعد ذلك-انتهى. وهذا كما ترى، ليس فيه ذكر النسخ والنهي، وهو موافق لرواية مسلم والترمذي وأبي داود وأكثر روايات أحمد، فهو مقدم على رواية ليث، ولأن ابن نجيح اتفق الأئمة على توثيقه. ولعلك عرفت بما ذكرنا أنه لا يصلح شيء مما يذكره الجمهور لنسخ القيام للجنازة. والقول الراجح عندي هو ما ذهب إليه أحمد أنه مخير، إن قام فلا عيب عليه، وإن قعد فلا بأس به، والله تعالى اعلم. (رواه مسلم) وأخرجه أحمد (ج1ص83، 131، 138) والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج4ص27) . (وفي رواية مالك وأبي داود قام في الجنازة) أي لها. (ثم قعد بعد) هذا لفظ أبي داود. وسياق الموطأ: كان يقوم في الجنائز ثم جلس بعد. قال ميرك: وكأنه اعتراض على صاحب المصابيح، حيث أورد الحديث في الصحاح بلفظ مالك وأبي داود دون مسلم. والجواب من قبل صاحب المصابيح أنه يحتمل أنه اختار لفظ أبي داود؛ لأنه أصرح في النسخ. (على زعمه) من عبارة مسلم كما لا يخفى، وإنما أورده لبيان أن الأمر بالقيام للجنازة المفهوم من الحديث السابق منسوخ، لا لأنه المقصود من الباب، تأمل-انتهى. 1665- قوله: (من اتبع) بتشديد التاء المثناة الفوقية من الإتباع. قال القاري: وفي نسخة صحيحة: من تبع أي بدون الألف. وكسر الباء. قلت: وقع في أكثر روايات البخاري: اتبع بالتشديد. وفي رواية الأصيلي وابن عساكر: تبع بغير ألف وكسر الموحدة (جنازة مسلم) يقال: تبع القوم بالكسر يَتْبَعهم بالفتح تَبْعاً وتَبَاعةً إذا مشي خلفهم أو مروا به فمضى معهم، واتَّبَع القوم مثل تبعهم. (إيماناً) أي بالله ورسوله. وقيل أي تصديقاً بأنه حق. وقيل: تصديقاً بما وعد عليه من الأجر. (واحتساباً) أي طلباً للثواب لا مكافاة ومخافة، ونصبهما على العلة أو على أنهما حالان أي مؤمناً ومحتسباً. (وكان معه) أي استمر مع جنازته. (حتى يصلي عليها) بصيغة المعلوم. وضمير الفاعل يرجع إلى من. ويروي بفتح اللام على صيغة المجهول، وقوله: عليها، مفعول ناب عن الفاعل، فعلى الرواية الأولى لا يحصل الموعود به إلا لمن توجد منه الصلاة، وعلى الثانية قد يقال يحصل له ذلك ولو لم يصل. والصواب أنه لا يحصل له القيراطان بالدفن من غير صلاة؛ لأن المراد أن يصلي هو أيضاً جمعاً بين الروايتين وحملاً للمطلق على المقيد. قال الحافظ: رواية فتح اللام محمولة على رواية الكسر، فإن حصول القيراط

ويفرغ من دفنها، فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن، فإنه يرجع بقيراط)) ـــــــــــــــــــــــــــــ متوقف على وجود الصلاة من الذي يحصل له-انتهى. وقال ابن المنير: إن القيراط لا يحصل إلا لمن اتبع وصلى أو اتبع وشيع وحضر الدفن، لا لمن اتبع مثلاً وشيع ثم انصرف بغير صلاة، وذلك لأن الإتباع إنما هو وسيلة لأحد مقصودين إما الصلاة وإما الدفن، فإذا تجردت الوسيلة عن المقصد لم يحصل المترتب على المقصود وإن كان يترجى أن يحصل لذلك، فضل ما يحتسب. (ويفرغ من دفنها) بالبناء للفاعل، ويروى بالبناء للمفعول، والجار والمجرور نائب الفاعل، والفعلان منصوبان بأن مضمرة بعد حتى. (من الأجر) حال من قوله: بقيراطين. قال الطيبي: أي كائناً من الثواب، فمن بيانية تقدمت على المبين. (بقيراطين) مثنى قيراط أي بقسطين ونصيبين عظيمين، والباء تتعلق بيرجع. والقيراط بكسر القاف أصله قراط بتشديد الراء بدليل جمعه على قراريط فأبدل من أحد الرائين ياء، كما في الدينار أصله دنار بدليل جمعه على دنانير. قال الجوهري القيراط نصف دانق والدانق سدس الدرهم، فعلى هذا يكون القيراط جزءاً من اثني عشر جزءاً من الدرهم. وقال صاحب النهاية، القيراط جزء من أجزاء الدينار، وهو نصف عشره في أكثر البلاد. وأهل الشام يجعلونه جزءاً من أربعة وعشرين، وقد يطلق ويراد به بعض الشيء، وذكر القيراط تقريباً للفهم لما كان الإنسان يعرف القيراط ويعمل العمل في مقابلته، فضرب له المثل بما يعلم، ثم لما كان مقدار القيراط المتعارف حقيراً نبه على عظم القيراط الحاصل لمن فعل ذلك فقال: (كل قيراط مثل أحد) بضمتين، قال الحافظ: ذهب الأكثر إلى أن المراد بالقيراط ههنا جزء من أجزاء معلومة عند الله تعالى، وقد قربها النبي - صلى الله عليه وسلم - للفهم بتمثيله القيراط بأُحد. قال الطيبي: قوله: مثل أُحد، تفسير للمقصود من الكلام لا للفظ القيراط. والمراد منه على الحقيقة أنه يرجع بنصيب كبير من الأجر، وذلك لأن لفظ القيراط مبهم من وجهين، فبين الموزون بقوله: من الأجر، وبين المقدار منه بقوله: مثل أحد. والحاصل أنه تمثيل واستعارة. والقيراط عبارة عن ثواب معلوم عند الله تعالى عبر عنه ببعض أسماء المقادير، وفسر بجبل عظيم تعظيماً له وهو أحد. وخص التمثيل بأحد لأنه كان قريباً من المخاطبين يشترك أكثرهم في معرفته كما ينبغي، ولأنه كان أكثر الجبال إلى النفوس المؤمنة حبًّا؛ لأنه الذي قال في حقه: إنه جبل يحبنا ونحبه. ويجوز أن يكون على حقيقته بأن يجعل الله ذلك العمل يوم القيامة جسماً قدر جبل أحد ويوزن. وفي حديث واثلة عند ابن عدي: كتب له قيراطان أخفهما في ميزانه يوم القيامة أثقل من جبل أحد، فأفادت هذه الرواية بيان وجه التمثيل بجبل أحد، وأن المراد به زنة الثواب المرتب على ذلك العمل. ووقع في رواية للنسائي: كل واحد منهما أعظم من أحد. وعند مسلم: أصغرهما مثل أحد. ولا مخالفة فيها؛ لأن ذلك يختلف باختلاف أحوال المتبعين. (ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن) أي الجنازة. (فإنه يرجع بقيراط) أي من الأجر. قال النووي: اعلم أن

متفق عليه. 1666- (7) وعنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نعى للناس النجاشي ـــــــــــــــــــــــــــــ الصلاة يحصل بها قيراط إذا انفردت، فإن انضم إليها الإتباع حتى الفراغ من الدفن حصل له قيراط ثان، فلمن صلى وحضر الدفن القيراطان، ولمن اقتصر على الصلاة قيراط واحد. ولا يقال: يحصل بالصلاة مع الدفن ثلاثة قراريط كما يتوهمه بعضهم من ظاهر بعض الأحاديث؛ لأن هذا النوع صريحاً، والحديث المطلق والمحتمل محمول عليه. وأما رواية من صلى على جنازة فله قيراط. ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان. فمعناه فله تمام قيراطين بالمجموع، قال وفي الحديث تنبيه على مسألة أخرى، وهي أن القيراط الثاني مقيد بمن اتبعها وكان معها في جميع الطريق حتى تدفن، فلو صلى وذهب إلى القبر وحده ومكث حتى جاءت الجنازة وحضر الدفن لم يحصل له القيراط الثاني-انتهى. وفي الحديث الحث على الصلاة على الميت واتباع جنازته وحضور دفنه. وفيه الحض على الاجتماع لذلك، والتنبيه على عظيم فضل الله، وتكريمه للمسلم في تكثير الثواب لمن يتولى أمره بعد موته. وفيه تقدير الأعمال بنسبة الأوزان إما تقريباً للأفهام، وإما على حقيقته بأن يجعلها أعياناً. قال الحافظ: قد تمسك بقوله: من أتبع من زعم أن المشي خلف الجنازة أفضل ولا حجة فيه؛ لأنه يقال تبعه إذا مشى خلفه وإذا مر به فمشى معه، وكذلك أتبعه بالتشديد وهو افتعل منه فإذا هو مقول بالاشتراك وبين المراد الحديث الآخر المصحح عند ابن حبان وغيره من حديث ابن عمر بالمشي أمامها. وأما أتبعه بالإسكان فهو بمعنى لحقه إذا كان سبقه ولم تأت به الرواية ههنا-انتهى. (متفق عليه) واللفظ للبخاري في كتاب الإيمان والحديث أخرجه أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي أيضاً. وفي الباب عن جماعة من الصحابة ذكرهم الحافظ في الفتح. 1666- قوله: (نعى للناس النجاشي) أي أخبرهم بموته. في القاموس. نعاه له نعواً ونعياً أخبره بموته. والنجاشي بفتح النون وتخفيف الجيم وبعد الألف شين معجمة ثم ياء ثقيلة كياء النسب. وقيل بالتخفيف ورجحه الصنعاني. وهو لقب لكل من ملك الحبشة. وحكى المطرزي تشديد الجيم عن بعضهم وخطأه، كذا في الفتح. وقال العيني: النجاشي بفتح النون وكسرها، كلمة للحبش تسمى بها ملوكها، والمتأخرون يلقبونه الأبحري. قال ابن قتيبة: هو بالنبطية، ذكره ابن سيدة، وكان اسمه أصحمة، كما في رواية للشيخين، وهو بفتح الهمزة وسكون الصاد وبفتح الحاء المهملتين على وزن أربعة، ووقع في مصنف ابن أبي شيبة صحمة بفتح الصاد وسكون الحاء، ووقع في بعض الروايات أصخمة بخاء معجمة وإثبات الألف. قال الإسماعيلي: وهو غلط. وحكى الكرماني أن في بعض النسخ صحبة بالموحدة بدل الميم. ومعنى أصحمة بالعربية عطية، قاله ابن قتيبة وغيره.

والنجاشي هذا هو الذي هاجر المسلمون إليه، وكتب إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - مع عمرو بن أمية الضمرى سنة ست أو سبع من الهجرة في المحرم. فأخذ كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضعه على عينيه، ونزل عن سريره فجلس على الأرض تواضعاً، ثم أسلم على يدي جعفر بن أبي طالب وكتب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وتوفي في رجب سنة تسع من الهجرة منصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - من تبوك، ونعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم توفي، هكذا قال جماعة من أهل السير والتاريخ، منهم الواقدي وابن سعد وابن جرير وآخرون. قال في الخميس نقلاً عن المواهب: وأما النجاشي الذي ولى بعده وكتب إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعوه إلى الإسلام فكان كافراً لم يعرف إسلامه ولا اسمه، وقد خلط بعضهم ولم يميز بينهما-انتهى. وقال ابن القيم: ليس الأمر كما قال الواقدي وغيره، فإن أصحمة النجاشي الذي صلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس هو الذي كتب إليه. (مع عمرو بن أمية) وهو الثاني، ولا يعرف إسلامه بخلاف الأول، فإنه مات مسلماً، وقد روى مسلم في صحيحه من حديث قتادة عن أنس قال: كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي، وليس بالنجاشي الذي صلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن حزم: إن هذا النجاشي الذي بعث إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن أمية الضمرى لم يسلم. قال ابن القيم: والظاهر قول ابن حزم-انتهى. وأجاب أهل السير عن حديث أنس بأنه وهم من بعض الرواة، أو أنه عبر ببعض ملوك الحبشة عن الملك الكبير، أو يحمل على أنه لما توفي قام مقامه آخر فكتب إليه أي في سنة تسع، وهذا هو الراجح. وحاصله أنه - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى النجاشي الذي صلى عليه وإلى النجاشي الذي تولى بعده على يد عمرو بن أمية أو غيره، فيكون هذه الكتابة متأخرة عن الكتابة لأصحمة الرجل الصالح الذي آمن به - صلى الله عليه وسلم -، وأكرم أصحابه، وصلى هو عليه، فلا مخالفة بين رواية أهل السير ورواية مسلم، فتأمل. وفي الحديث دليل على جواز النعي أي الإعلام بالموت، وقد بوب عليه البخاري "باب الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه". قال الحافظ: فائدة هذه الترجمة الإشارة إلى أن النعي ليس ممنوعاً كله، وإنما نهي عما كان أهل الجاهلية يصنعونه، فكانوا يرسلون من يعلن بخبر موت الميت على أبواب الدور والأسواق، ثم ذكر عن ابن سيرين أنه قال: لا أعلم بأساً أن يؤذن الرجل صديقه وحميمه، قال: وحاصله أن محض الإعلام بذلك لا يكره، فإن زاد على ذلك فلا، وقد كان بعض السلف يشدد في ذلك، حتى كان حذيفة إذا مات له الميت يقول: لا تؤذنوا أحداً، إني أخاف أن يكون نعياً، إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأذني هاتين ينهى عن النعي، أخرجه الترمذي وابن ماجه بإسناد حسن. قال ابن العربي: يؤخذ من مجموع الأحاديث ثلاث حالات: الأولى إعلام الأهل والأصحاب وأهل الصلاح، فهذا سنة، الثانية دعوة الحفل للمفاخرة، فهذه تكره، الثالثة الإعلام بنوع آخر كالنياحة ونحو ذلك. فهذا يحرم.

اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى، ـــــــــــــــــــــــــــــ (اليوم) ظرف نعي أي في اليوم. (الذي مات فيه) وهو في رجب سنة تسع من الهجرة منصرفه من تبوك كما تقدم وذلك معجزة عظيمة منه - صلى الله عليه وسلم - حيث أعلمهم بموته في اليوم الذي توفي فيه مع بُعد عظيم ما بين المدينة والحبشة. (وخرج بهم إلى المصلى) وفي رواية ابن ماجه: فخرج وأصحابه إلى البقيع. قال الحافظ: والمراد بالبقيع بقيع بطحان، أو يكون المراد بالمصلي موضعاً معداً للجنائز ببقيع الغرقد غير مصلى العيدين، والأول أظهر، وقال في شرح حديث ابن عمر في رجم اليهوديين بلفظ "فأمر بهما فرجماً قريباً من موضع الجنائز عند المسجد". حكى ابن بطال عن ابن حبيب أن مصلى الجنائز بالمدينة كان لاصقاً بمسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - من ناحية جهة المشرق-انتهى. فإن ثبت ما قال، وإلا فيحتمل أن يكون المراد بالمسجد هنا المصلي المتخذ للعيدين والاستسقاء؛ لأنه لم يكن عند المسجد النبوي مكان يتهيأ فيه الرجم، وسيأتي في قصة ماعز "فرجمناه بالمصلي"-انتهى. وقد تمسك بهذا الحديث من قال بكراهة صلاة الجنازة في المسجد، سواء كان القوم والميت في المسجد، أو كان الميت خارج المسجد، والقوم كلهم أو بعضهم في المسجد، وهذا لأنه - صلى الله عليه وسلم - خرج بأصحابه إلى المصلي فصف بهم وصلى عليه، ولو ساغ أن يصلي عليه في المسجد لما خرج بهم، والقول بالكراهة للحنفية والمالكية. واستدل لهم أيضاً ما رواه أبوداود وابن ماجه من حديث أبي هريرة مرفوعاً: من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له. وأجيب بأنه ليس فيه نهي عن الصلاة في المسجد. ويحتمل أن يكون خرج بهم إلى المصلي لغير المعنى الذي ذكروه، وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى على سهيل بن بيضاء في المسجد، فكيف يترك هذا الصريح لأمر محتمل، بل الظاهر أنه إنما خرج بالمسلمين إلى المصلي لقصد تكثير الجمع الذين يصلون عليه، ولتعظيم شأنه، ولإشاعة كونه مات على الإسلام، فقد كان بعض الناس لم يدر بكونه أسلم، كما روى ابن أبي حاتم في التفسير، والدارقطني في الأفراد، والبزار من حديث أنس. وأما حديث أبي هريرة فأجيب عنه بوجوه، منها أنه ضعيف ضعفه أحمد بن حنبل وابن حبان وابن عدي والبيهقي والخطابي وابن المنذر والنووي وغيرهم. قلت: في سنده صالح بن نبهان مولى التوأمة، وقد تفرد به وهو صدوق، اختلط بآخره، ورواه عنه ابن أبي ذئب، واختلفوا في أنه سمع هذا الحديث من صالح قبل الاختلاط أو بعده. قال ابن معين: سمع منه ابن أبي ذئب قبل أن يخرف. وقال ابن المديني: سماع ابن أبي ذئب منه قبل الخرف. وقال الجوزجاني: تغير أخيراً، فحديث ابن أبي ذئب عنه مقبول لسنه وسماعه القديم. وقال ابن عدي: لا بأس به إذا روى عنه القدماء مثل ابن أبي ذئب وابن جريج. ويعارض هذا كله ما روى الترمذي عن البخاري عن أحمد بن حنبل قال: سمع ابن أبي ذئب من صالح أخيراً، وروى عنه منكراً، حكاه ابن القطان عن الترمذي. وما نقل الزيلعي عن ابن عدي أنه عد هذا

الحديث من منكرات صالح، والظاهر أن ابن أبي ذئب سمع منه قبل الاختلاط وبعده، ولم يدر أنه أخذ هذا الحديث منه قبل الاختلاط أو بعده. قال ابن حبان: اختلط حديثه الأخير بحديثه القديم ولم يتميز فاستحق الترك-انتهى. وعلى هذا لا يكون هذا الحديث صالحاً للاحتجاج، ومنها ما قال النووي: إن الذي في النسخ المشهورة المحققة المسموعة من سنن أبي داود "من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء عليه" فلا حجة لهم حينئذٍ. ومنها ما قاله النووي أيضا: إنه لو ثبت الحديث بلفظ "فلا شيء له" لوجب تأويله بأن له بمعنى عليه ليجمع بين الروايتين، ولئلا يخالف قوله فعله في الصلاة على ابني بيضاء في المسجد، ومنها أن معنى قوله: فلا شيء له، أي فلا أجر له، كما في رواية، والروايات يفسر بعضها بعضاً، والمراد فلا أجر له كاملاً. قال القاري: الأظهر أن يحمل على نفي الكمال كما في نظائره، والدليل عليه ما في مسلم عن عائشة: والله لقد صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على ابني بيضاء في المسجد سهيل وأخيه. وقال الخطابي: ثبت أن أبا بكر وعمر صلى عليهما في المسجد، ومعلوم أن عامة المهاجرين والأنصار شهدوا الصلاة عليهما، وفي تركهم الإنكار دليل الجواز-انتهى. قلت: وكذا يحمل على نفي الكمال رواية ابن ماجه: فليس له شيء. قال السندي: ظاهره أن المعنى فليس له أجر، كما في رواية، وسلب الأجر من الفعل الموضوع للأجر يقتضي عدم الصحة، ولذا جاء في رواية ابن أبي شيبة في مصنفه: فلا صلاة له، لكن يشكل بأن الصلاة صحيحة إجماعاً، فيحمل على أنه ليس له أجر كامل، ويمكن أن يقال: معنى فلا شيء فلا أجر له لأجل كونه صلى في المسجد، فالحديث لبيان أن صلاة الجنازة في المسجد ليس لها أجر لأجل كونها في المسجد كما في المكتوبات، فأجر أصل الصلاة باق، وإنما الحديث لإفادة سلب الأجر بواسطة ما يتوهم من أنها في المسجد، فيكون الحديث مفيداً لإباحة الصلاة في المسجد من غير أن يكون لها بذلك فضيلة زائدة على كونها خارجها، وينبغي أن يتعين هذا الاحتمال دفعاً للتعارض وتوفيقاً بين الأدلة بحسب الإمكان، وعلى هذا فالقول بكراهة الصلاة في لمسجد مشكل، نعم ينبغي أن يكون الأفضل خارج المسجد بناء على الغالب أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي خارج المسجد، وفعله في المسجد كان مرة أو مرتين-انتهى كلام السندي. وأما ما قال بعض الحنفية: إن العمل استقر على ترك الصلاة عليها في المسجد؛ لأن الناس قد أنكروا وعابوا على عائشة وغيرها من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاتهن على جنازة سعد بن أبي وقاص في المسجد النبوي، وكان هؤلاء المنكرون من الصحابة فمردود بأن عائشة لما أنكرت ذلك الإنكار سلموا لها، فدل على أنها حفظت ما نسوه، وقد روى أبوبكر بن أبي شيبة وغيره أن عمر صلى على أبي بكر في المسجد، وأن صهيباً صلى على عمر في المسجد، زاد في رواية ووضعت الجنازة في المسجد تجاه المنبر. قال الحافظ: وهذا يقتضى الإجماع على جواز ذلك-انتهى.

فصف بهم، وكبر أربع تكبيرات. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال ابن قدامة: كان هذا بمحضر من الصحابة فلم ينكر فكان إجماعاً-انتهى. وأما دعوى الطحاوي والعيني ومن تبعهما أن الجواز كان أولاً ثم بحديث أبي هريرة، أو أنه كان لعذر وضرورة مثل المطر أو الاعتكاف فمردودة، وكل ما ذكروه لإثبات النسخ فمما لا طائل تحته. قال البيهقي: لو كان عند أبي هريرة نسخ حديث عائشة لذكره يوم صلى على أبي بكر الصديق في المسجد ويوم صلى على عمر بن الخطاب في المسجد، ولذكره من أنكر على عائشة أمرها بإدخاله المسجد، أو ذكره أبوهريرة حين روت فيه الخبر، وإنما أنكره من لم يكن له معرفة بالجواز، فلما روت فيه الخبر سكتوا ولم ينكروه ولا عارضوه بغيره-انتهى. والحق أنه يجوز الصلاة على الجنائز في المسجد من غير كراهة، والأفضل الصلاة عليها خارج المسجد؛ لأن أكثر صلاته - صلى الله عليه وسلم - على الجنائز كان في المصلى. ولبعض أفاضل بلدة بنارس من أهل الحديث رسالتان لطيفتان في هذه المسألة، قد بسط في الثانية القول في الجواب عن حديث أبي هريرة بما لا مزيد عليه. (فصف بهم) لازم، والباء بمعنى مع، أي صف معهم، أو متعد والباء زائدة للتوكيد أي صفهم، قاله الزرقاني. وفيه دليل على أن من سنة هذه الصلاة الصف كسائر الصلوات، ويتقدمهم إمامهم، ففي رواية من حديث جابر: فصفوا خلفه. وفي أخرى: فصفنا وراءه. وفي أخرى: فقمنا فصفنا صفين. وفي أخرى: قال جابر كنت في الصف الثاني. وفي كل هذا رد على من استحب أن يكون المصلون على الجنازة سطراً واحداً، نقله ابن العربي عن مالك. (وكبر أربع تكبيرات) فيه دليل على أن المشروع في تكبير الجنازة أربع، وسيأتي الكلام في ذلك. وفي هذه القصة دليل على مشروعية الصلاة على الميت الغائب في بلد آخر، وفيه أقوال: الأول تشرع مطلقاً، سواء كان الميت في جهة القبلة أو لم تكن، وسواء كان بين البلدين مسافة القصر أو لم تكن، وسواء كان بأرض لم يصل عليه فيها أو كان بأرض صلى عليه فيها، وبه قال الشافعي وأحمد وجمهور السلف حتى قال ابن حزم لم يأت عن أحد من الصحابة منعه. والثاني منعه مطلقاً وهو للحنفية والمالكية. والثالث يجوز في اليوم الذي مات فيه الميت أو ما قرب منه لا إذا طالت المدة، حكاه ابن عبد البر، والرابع يجوز ذلك إذا كان الميت في جهة القبلة، فلو كان بلد الميت مستدبر القبلة مثلاً لم يجز، قال به ابن حبان، وحجته حجة الذي قبله الجمود على قصة النجاشي. والخامس أنه يصلي على الغائب إذا كان بأرض لا يصلي عليه فيها كالنجاشي، فإنه مات بأرض لم يسلم أهلها واختاره ابن تيمية، ونقله الحافظ في الفتح عن الخطابي وإنه استحسنه الروياني من الشافعية. قال الحافظ: وهو محتمل إلا أنني لم أقف في شيء من الأخبار أنه لم يصل عليه في بلده أحد. وتعقبه الزرقاني بأن هذا مشترك الإلزام، فلم يرد في شيء من الأخبار

أنه صلى عليه أحد في بلده كما جزم به أبوداود، ومحله في اتساع الحفظ معلوم-انتهى. قال في عون المعبود: نعم ما ورد فيه شيء نفياً ولا إثباتاً، لكن من المعلوم أن النجاشي أسلم شاع إسلامه ووصل إليه جماعة من المسلمين مرة بعد مرة وكرة بعد كرة، فيبعد كل البعد أنه ما صلى عليه أحد في بلده. وقال ابن قدامة في المغني (ج2ص513) إن هذا بعيد؛ لأن النجاشي ملك الحبشة وقد أسلم وأظهر إسلامه، فيبعد أن يكون لم يوافقه أحد يصلي عليه-انتهى. واستدل بعضهم لما قال الخطابي وغيره بما روى الطيالسي وأحمد وابن ماجه والطبراني والضياء من حديث حذيفة بن أسيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج بهم، فقال: صلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم، قالوا: من هو؟ قال النجاشي، ولا حجة فيه لهم، بل فيه حجة عليهم، فإنه ليس فيه أنه لم يصل عليه أحد في بلده. والمراد بأرضكم أرض المدينة كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن النجاشي إن مات في أرضكم المدينة لصليتم عليه كما تصلون على من تشهدون جنازته. لكنه مات في غير أرضكم، فصلوا عليه صلاة الغائب، فهذا تشريع منه وسنة للأمة الصلاة على كل غائب. واعتذر من منع من صلاة الجنازة على الغائب مطلقاً عن هذه القصة بأن ذلك خاص بالنجاشي؛ لأنه كشف له - صلى الله عليه وسلم - ورفع الحجب عنه، حتى رآه كما كشف له عن بيت المقدس حين سألته قريش عن صفته، فصلى عليه وهو يرأه صلاته على الحاضر المشاهد وإن كان على مسافة من البعد، فتكون صلاته كصلاة الإمام على ميت رآه ولم يره المأمومون، ولا خلاف في جوازها، واستندوا لذلك إلى ما ذكر الواقدي في أسبابه عن ابن عباس قال: كشف للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن سرير النجاشي حتى رآه وصلى عليه، ولابن حبان من حديث عمران بن حصين: فقام وصفوا خلفه وهم لا يظنون إلا أن جنازته بين يديه، ولأبي عوانة: فصلينا خلفه ونحن لا نرى إلا أن الجنازة قدامنا، قالوا ويدل على الخصوصية أيضاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل على غائب غيره، وقد مات من الصحابة خلق كثير وهم غايبون عنه وسمع بهم، فلم يصل عليهم إلا غائباً واحداً، ورد أنه طويت له الأرض حتى حضره أو رفع له الحجاب حتى رآه، وهو معاوية بن معاوية المزني كما روى الطبراني وابن مندة والبيهقي وابن سعد وغيرهم من حديث أنس، والطبراني وأبوأحمد والحاكم من حديث أبي أمامة. وأجيب عن ذلك بأن الأصل عدم الخصوصية، ولو فتح باب هذا الخصوص؛ لأنسد كثير من أحكام الشرع. قال الخطابي: زعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مخصوصاً بهذا الفعل فاسد؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا فعل شيئاً من أفعال الشريعة كان علينا إتباعه والإيتساء به، والتخصيص لا يعلم إلا بدليل، ومما يبين ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - خرج بالناس إلى الصلاة فصف بهم وصلوا معه، فعلم أن هذا التأويل فاسد. وقال ابن قدامة: نقتدي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ما لم يثبت ما يقتضي اختصاصه، ولأن الميت مع البعد لا تجوز الصلاة عليه

متفق عليه. 1667- (8) وعن عبد الرحمن بن أبي ليلي، قال: كان زيد بن أرقم يكبر على جنائزنا أربعا وإنه كبر على جنازة، خمسا، فسألناه فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكبرها. ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن رئي. ثم لو رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - لاختصت الصلاة به. وقد صف النبي - صلى الله عليه وسلم - فصلى بهم-انتهى. وأما الاستناد للتخصيص إلى ما ذكروه من حديث ابن عباس وحديث عمران بن حصين فليس بشيء، فإن حديث ابن عباس ذكره الواقدي في أسبابه بغير إسناد، كما قال الحافظ في الفتح فلا يلتفت إليه. وأما حديث عمران بن حصين المذكور بلفظ: وهم لا يظنون إلا أن جنازته بين يديه، وبلفظ: لا نرى إلا أن الجنازة قدامنا فلأن المراد به أنهم صلوا عليه كما يصلون على الميت الحاضر من غير فرق. ويدل عليه حديث عمران نفسه عند الترمذي وغيره بلفظ: فقمنا فصففنا كما يصف على الميت وصلينا عليه كما يصلي على الميت. ويؤيده أيضاً حديث مجمع عند الطبراني بلفظ: فصففنا خلفه صفين وما نرى شيئاً-انتهى. قال ابن العربي المالكي: قال المالكية ليس ذلك إلا لمحمد، قلنا: وما عمل به محمد تعمل به أمته يعني؛ لأن الأصل عدم الخصوصية، قالوا: طويت له الأرض وأحضرت الجنازة بين يديه، قلنا إن ربنا عليه لقادر، وإن نبينا لأهل ذلك، ولكن لا تقولوا إلا ما رويتم، ولا تخترعوا حديثاً من عند أنفسكم ولا تحدثوا إلا بالثابتات ودعوا الضعاف، فإنها سبيل تلاف إلى ما ليس له تلاف. وأما ما قالوا لإثبات الخصوصية من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل على غائب غيره إلا غائباً واحداً، وهو معاوية بن معاوية المزني. ففيه أنه يكفي لثبوت مشروعية أمر واستحبابه ورود حديث صحيح قولي أو فعلي أو تقريري، ولا يلزم لذلك كون ذلك الأمر مروياً عن جماعة من الصحابة في وقائع متعددة، وإلا لارتفع كثير من الأحكام الشرعية التي معمول بها عند جماعة من الأئمة، كيف وقد صرح الحنفية بمشروعية صلاة الاستسقاء وجوازها جماعة مع زعمهم أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يصل للاستسقاء إلا مرة واحدة، هذا وقد بسط الكلام في هذه المسألة في عون المعبود، فعليك أن تراجعه. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد ومالك والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي. 1667- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكبرها) أي الخمس أحياناً. وقد استدل به من قال: إن تكبيرات الجنازة خمس، واختلف السلف في ذلك، فحكي الخمس عن حذيفة كما سيأتي، وزيد بن أرقم كما في حديث الباب، وابن مسعود كما في الفتح والمحلى، وعيسى مولى حذيفة كما عند سعيد بن منصور، وأصحاب معاذ بن جبل كما في المحلى والمغني، وأهل الشام من الصحابة والتابعين كما في المحلى، وأبي يوسف من أصحاب أبي حنيفة،

كما في المبسوط، وهو مذهب الظاهرية. واستدل لهذا القول أيضاً بما روى ابن ماجه من طريق كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كبر خمساً، وكثير فيه كلام كثير إلا أن الترمذي صحح له غير حديث، والراوي عنه إبراهيم بن علي الرافعي ضعفه البخاري وابن حبان ورماه بعضهم بالكذب، وبما روى أحمد والطحاوي من طريق يحيى بن عبد الله الجابر عن عيسى مولى حذيفة عن حذيفة أنه صلى على جنازة فكبر خمساً، وفيه أنه رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحكي عن بعض السلف ما يدل على أن الزيادة على الأربع تخصيص بأهل الفضل، فروى سعيد بن منصور وغيره عن علي أنه كبر على سهل بن حنيف ستاً، وقال: إنه بدري. وروى الطحاوي وابن أبي شيبة والدارقطني والبيهقي عن عبد خير قال: كان علي يكبر على أهل بدر ستاً وعلى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمساً وعلى سائر المسلمين أربعاً. وروى البيهقي عن علي أنه صلى على أبي قتادة فكبر عليه سبعاً، وقال: إنه كان بدرياً، وحكى عن بعضهم التخيير والإقتداء بالإمام في عدد التكبير، فروى ابن المنذر عن ابن مسعود أنه قال: التكبير تسع وسبع وخمس وأربع، وكبر ما كبر الإمام، وروى ابن حزم عنه أنه قال: كبروا عليها ما كبر أئمتكم لا وقت ولا عدد، وحكى عن بعضهم أن التكبيرات ثلاث، روى ذلك عن ابن عباس وأنس كما في الفتح والمحلى، وعن محمد بن سيرين وجابر بن يزيد أبي الشعثاء كما في المحلى أيضاً. وذهب الجمهور من السلف والخلف منهم الأئمة الثلاثة إلى أنها أربع لا أقل ولا أكثر. قال ابن قدامة في المغني (ج2ص516) : أكثر أهل العلم يرون التكبير أربعاً، منهم عمر وابنه وزيد بن ثابت وجابر وابن أبي أوفى والحسن بن علي والبراء بن عازب وأبوهريرة وعقبة بن عامر ومحمد بن الحنفية وعطاء والأوزاعي، وهو قول مالك وأبي حنيفة والثوري والشافعي-انتهى. واستدل الجمهور لما ذهبوا إليه بما روي عن جماعة من الصحابة تكبيره - صلى الله عليه وسلم - أربعاً، فمنهم أبوهريرة وجابر أخرج حديثهما الشيخان في قصة الصلاة على النجاشي، ومنهم عثمان بن عفان أخرج حديثه ابن ماجه، وفيه خالد بن إلياس واتفقوا على تضعيفه، ومنهم ابن عباس عند الشيخين، وابن أبي أوفى عند أحمد وابن ماجه والطحاوي والبيهقي، ويزيد بن ثابت عند أحمد وابن ماجه والبيهقي أيضاً، وسهل بن حنيف عند الطحاوي والبيهقي، وأبوسعيد عند البزار والطبراني، وفيه عبد الرحمن بن مالك بن مغول وهو متروك، وأنس عند أبي يعلى، وفيه محمد بن عبيد الله العزرمي وهو متروك، وأبي بن كعب عند الطبراني والبيهقي، وجابر عند أحمد والطبراني والبيهقي، وعامر بن ربيعة عند الطبراني، وفيه القاسم بن عبد الله العمري وهو متروك، وأبوقتادة عند الطحاوي. قال الجمهور: إن ما فوق الأربع من التكبيرات منسوخ بحديث أبي هريرة في قصة النجاشي؛ لأن إسلام أبي هريرة متأخر، وموت النجاشي كان بعد إسلام أبي هريرة بمدة. وفيه ما قال ابن الهمام: إن هذا

مسلم لو علم التاريخ في أحاديث من أثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - كبر خمساً أو غير ذلك. واستدلوا للنسخ أيضاً بما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - كبر أربعاً في آخر صلاة صلاها، روي ذلك من حديث ابن عباس عند البيهقي والدارقطني والطبراني وأبي نعيم وابن حبان في الضعفاء، ومن حديث عمر عند الدارقطني والحازمي، ومن حديث ابن عمر عند الحارث بن أبي أسامة، ومن حديث أنس عند الحازمي. وأجيب عن ذلك بأن طرق هذه الأحاديث ضعيفة واهية كما بسطها الزيلعي. وقال الحازمي: قد روي آخر صلاته كبر أربعاً من عدة روايات كلها ضعيفة. وقال البيهقي بعد رواية حديث ابن عباس من طريق النضر بن عبد الرحمن: قد روي هذا من وجوه أخر كلها ضعيفة-انتهى. وروى ابن عبد البر في الاستذكار بسنده عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة عن أبيه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكبر على الجنائز أربعاً وخمساً وستاً وسبعاً فثمانياً، حتى جاءه موت النجاشي فخرج إلى المصلى فصف الناس وراءه وكبر عليه أربعاً، ثم ثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - على أربع حتى توفاه الله عزوجل، ذكره الزيلعي في نصب الراية، والحافظ في التلخيص والدراية، ولم يتكلما عليه، فإن ثبت وصح هذا كان حجة على أن آخر الأمر كان أربعاً، لكن لا يكون رافعاً للنزع؛ لأن اقتصاره على الأربع لا ينفي مشروعية الخمس بعد ثبوتها عنه، وغاية ما فيه جواز الأمرين، قاله الشوكاني. ورجح الجمهور ما ذهبوا إليه بمرجحات: الأول أن الأربع ثبتت من طريق جماعة من الصحابة أكثر عدداً ممن روى عنهم الخمس كما تقدم، الثاني أنها في الصحيحين، الثالث أنه أجمع على العمل بها الصحابة، فروى البيهقي من طريق علي بن الجعد ثنا شعبة عن عمرو بن مرة سمعت سعيد بن المسيب يقول: إن عمر قال: كل ذلك قد كان أربعاً وخمساً، فاجتمعنا على أربع، ورواه ابن المنذر من وجه آخر عن شعبة، وروى البيهقي أيضاً عن أبي وائل قال: كانوا يكبرون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعاً وخمساً وستاً وسبعاً، فجمع عمر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فأخبر كل رجل منهم بما رأى، فجمعهم عمر على أربع تكبيرات، ومن طريق إبراهيم النخعي اجتمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيت أبي مسعود، فأجمعوا على أن التكبير على الجنازة أربع. واستدل بعضهم بإجماع الصحابة على الأربع على نسخ ما فوق الأربع. قال الطحاوي بعد رواية أثر إبراهيم النخعي بسنده: فهذا عمر قد رد الأمر في ذلك إلى أربع تكبيرات بمشورة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وهم حضروا من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما رواه حذيفة وزيد بن أرقم، فكأن ما فعلو من ذلك عندهم هو أولى مما قد كانوا علموا، فذلك نسخ لما قد كانوا علموا؛ لأنهم مأمونون على ما قد فعلوا كما كانوا مأمونين على ما رووا-انتهى. وقال البيهقي بعد رواية حديث ابن عباس في كون الأربع آخر أمره: قد روي هذا اللفظ من وجوه أخرى كلها ضعيفة، إلا أن اجتماع أكثر الصحابة على الأربع كالدليل على ذلك. وأجيب عن الأول من هذه المرجحات والثاني بأنه إنما يرجح بهما عند التعارض. ولا تعارض

رواه مسلم. 1668- (9) وعن طلحة بن عبد الله بن عوف، قال: ((صليت خلف ابن عباس على جنازة فقرأ فاتحة الكتاب، فقال: ـــــــــــــــــــــــــــــ بين الأربع والخمس، لأن الخمس مشتملة على زيادة غير معارضة، وعن الثالث بأن في ثبوت إجماع الصحابة على الأربع نظراً، حيث ثبت أن زيد بن أرقم كبر بعد عمر خمساً، وكذا ثبت الزيادة على الأربع عن علي وعن الصحابة بالشام، وثبت النقص عن الأربع عن أنس وابن عباس، وثبت التوسعة وعدم التوقيت عن ابن مسعود كما تقدم، اللهم إلا أن يقال: إن هؤلاء الصحابة ما علموا بالنسخ، فكانوا يعملون بما عليه الأمر أولاً. وذهب أحمد إلى مشروعية الأربع، وقال: إذا كبر الإمام خمساً تابعه المأموم ولا يتابعه في زيادة عليها. قال ابن قدامة (ج2ص514) : لا يختلف المذهب أنه لا يجوز الزيادة على سبع تكبيرات ولا أنقص من أربع، والأولى أربع لا يزاد عليها، واختلفت الرواية فيما بين ذلك. فظاهر كلام الخرقي أن الإمام إذا كبر خمساً تابعه المأموم ولا يتابعه في زيادة عليها، ورواه الأثرم عن أحمد. وروى حرب عن أحمد إذا كبر خمساً لا يكبر معه ولا يسلم إلا مع الإمام، قال الخلال: وكل من روى عن أبي عبد الله يخالفه، وممن لم ير متابعة الإمام في زيادة على أربع الثوري ومالك وأبوحنيفة والشافعي، واختارها ابن عقيل. قال ابن قدامة: ولنا ما روي عن زيد بن أرقم، فذكر حديث الباب وحديث حذيفة وأثر علي وغيره، ثم قال: ومعلوم أن المصلين مع زيد بن أرقم كانوا يتابعونه-انتهى. وفي المسألة أقوال أخرى. والراجح عندي أنه لا ينبغي أن يزاد على أربع؛ لأن فيه خروجاً من الخلاف، ولأن ذلك هو الغالب من فعله - صلى الله عليه وسلم -، لكن الإمام إذا كبر خمساً تابعه المأموم؛ لأن ثبوت الخمس لا مرد له من حيث الرواية والعمل، وثبوت نسخ الزيادة على الأربع أو إجماع الصحابة على الأربع منظور فيه كما تقدم. ولا يجوز النقصان من الأربع؛ لأنه لم يرو شيء في النقص من أربع مرفوعاً، والله تعالى أعلم. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد (ج4ص367، 372) والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي والحازمي. 1668- قوله: (وعن طلحة بن عبد الله بن عوف) الزهري المدني القاضي ابن أخي عبد الرحمن بن عوف، يلقب طلحة الندى، ثقة مكثر فقيه من أوساط التابعين، روى عن عمه عبد الرحمن بن عوف وابن عباس وعثمان بن عفان وغيرهم، وعنه الزهري وسعد بن إبراهيم وغيرهما، مات سنة (97) وهو ابن (72) سنة. (صليت خلف ابن عباس على جنازة فقرأ فاتحة الكتاب فقال) أي إنما قرأت الفاتحة أو رفعت بها صوتي كما في رواية.

لتعلموا أنها سنة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ (لتعلموا أنها) أي قرأة الفاتحة على الجنازة. (سنة) وفي رواية للنسائي: فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة وجهر حتى أسمعنا، فلما فرغ أخذت بيده فسألته، فقال: سنة وحق. وللحاكم من طريق ابن عجلان: أنه سمع سعيد بن أبي سعيد يقول: صلى ابن عباس على جنازة فجهر بالحمد لله، ثم قال إنما جهرت لتعلمون أنها سنة. والمراد بالسنة: الطريقة المألوفة عنه - صلى الله عليه وسلم - لا ما يقابل الفريضة، فإنه اصطلاح عرفي حادث. قال الأشرف: الضمير المؤنث لقراءة الفاتحة، وليس المراد بالسنة أنها ليست بواجبة بل ما يقابل البدعة، أي أنها طريقة مروية. وقال القسطلاني: إنها أي قراءة الفاتحة في الجنازة سنة. أي طريقة للشارع، فلا ينافي كونها واجبة. وقد علم أن قول الصحابي: من السنة كذا، حديث مرفوع عند الأكثر. قال الشافعي في الأم: وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقولون: السنة إلا لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن شاء الله تعالى-انتهى. وليس في حديث الباب بيان محل القراءة، وقد وقع التصريح به في حديث جابر بلفظ: وقرأ بأم القرآن بعد التكبيرة الأولى، أخرجه الشافعي في الأم، ومن طريقه الحاكم (ج1ص358) ، ومن طريق الحاكم البيهقي في سننه (ج4ص39) وسنده ضعيف، وفي حديث أبي أمامة عند النسائي بإسناد على شرط الشيخين بلفظ: قال: السنة في الصلاة على الجنازة أن يقرأ في التكبيرة الأولى بأم القرآن مخافتة. وفي رواية عزاها الحافظ في الفتح لعبد الرزاق والنسائي من حديث أي أمامة قال: السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر، ثم يقرأ بأم القرآن، ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يخلص الدعاء للميت، ولا يقرأ إلا في الأولى. قال الحافظ: إسناده صحيح. والحديث دليل على مشروعية قراءة فاتحة الكتاب في صلاة الجنازة. وقد حكى ابن المنذر ذلك عن ابن مسعود والحسن بن علي وابن الزبير والمسور بن مخرمة، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق، ونقل ابن المنذر أيضاً عن أبي هريرة وابن عمر أنه ليس فيها قراءة، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأصحابه وسائر الكوفيين، كذا في النيل. قلت: وممن كان يقرأ أيضاً من الصحابة أبوهريرة وأبوالدرداء وأنس بن مالك وعبد الله بن عمرو بن العاص، ومن التابعين سعيد بن المسيب والحسن البصري ومجاهد والزهري، كما في المحلى. قال ابن التركماني: ومذهب الحنفية أن القراءة في صلاة الجنازة لا تجب ولا تكره، ذكره القدورى في التجريد-انتهى. ويكره القراءة عند المالكية إلا أن يقصد الخروج من الخلاف. قال الدسوقي: إن قصد بقراءة الفاتحة الخروج من خلاف الشافعي فلا كراهة، لكن لا بد من الدعاء قبلها أو بعدها-انتهى. واستدل مالك بعمل أهل المدينة، إذ قال: قراءة فاتحة الكتاب فيها ليست بمعمول بها في بلدنا بحال. وفيه أن عمل أهل المدينة ليس بحجة شرعية، وإنما الحجة هو قول الله وقول رسوله، على أنه قد روي عن أبي أمامة وسعيد وابن المسيب وغيرهم من علماء المدينة القراءة في الصلاة على الجنازة، وبما روى هو

عن نافع أن عبد الله بن عمر كان لا يقرأ في الصلاة على الجنازة. وفيه أنه معارض بعمل غيره من الصحابة. ويمكن أن يكون المراد لا يقرأ أي شيئاً من القرآن إلا فاتحة الكتاب، وأيضاً هو نفي يقدم عليه الإثبات، وأيضاً قول الصحابي لا يكون حجة بالاتفاق إذا نفاه السنة، وبأن صلاة الجنازة مشابهة للطواف في أنها لا ركوع فيها ولا سجود فلا تفتقر للقراءة. وفيه أنه قياس في مقابلة النص، على أنه قد أطلق عليها لفظ الصلاة فيكون لها حكم الصلاة في القراءة وغيرها إلا ما خص، وأيضاً اتفقوا على أنها تفتقر إلى التكبير والقيام والنية والتسليم واستقبال القبلة والطهارة، فشبهها بالصلاة أبين وأقوى منه بالطواف. واستدل الحنفية كما في البدائع وغيره بما روى أحمد عن ابن مسعود قال: لم يوقت لنا في الصلاة على الميت قراءة ولا قول. وفيه أنه إنما قال: لم يوقت أي لم يقدر، ولا يدل هذا على نفي أصل القراءة، وقد روي عنه أنه قرأ على جنازة بفاتحة الكتاب، ثم إنه لا يعارض ما روي من الأحاديث المرفوعة في القراءة؛ لأنه نفي فيقدم عليه الإثبات، وبأنها لما لم تقرأ بعد التكبيرة الثانية دل على أنها لا تقرأ فيما قبلها؛ لأن كل تكبيرة قائمة مقام ركعة، ولما لم يتشهد في آخرها دل على أنه لا قراءة فيهما، ذكره الطحاوي. وفيه أن هذا الاستدلال ليس بشيء؛ لأنه قياس في مقابلة النص فلا يلتفت إليه، وبأنها شرعت للدعاء، ومقدمة الدعاء الحمد والثناء والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - لا القراءة. وفيه ما تقدم آنفاً أنه تعليل في مقابلة النص فهو مردود، على أن فاتحة الكتاب مشتملة على الحمد والثناء، فينبغي أن يكون افتتاح صلاة الجنازة بالفاتحة أولى وأحسن، فلا وجه لإنكارها والمنع عنها. وقوله لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب يتناول بإطلاقه صلاة الجنازة، فيكون لها في القراءة حكم الصلوات الأخر إلا ما خص منها. وأجاب الحنفية عن حديث ابن عباس وما في معناه بأن قراءة الفاتحة في الصلاة على الميت كانت بنية الدعاء والثناء لا بنية القراءة والتلاوة. قال الطحاوي: من قرأها من الصحابة يحتمل أن يكون على وجه الدعاء لا التلاوة. وفيه أن هذا ادعاء محض لا دليل عليه، واحتمال ناشيء من غير دليل، فلا يلتفت إليه. والحق والصواب أن قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة واجبة، كما ذهب إليه الشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم؛ لأنهم أجمعوا على أنها صلاة، وقد ثبت حديث لا صلاة، إلا بفاتحة الكتاب، فهي داخلة تحت العموم، وإخراجها منه يحتاج إلى دليل، ولأنها صلاة يجب فيها القيام فوجبت فيها القراءة كسائر الصلوات، ولأنه ورد الأمر بقراءتها صريحاً، فقد روى ابن ماجه بإسناد فيه ضعف يسير عن أم شريك قالت: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نقرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب، وروى الطبراني في الكبير من حديث أم عفيف قالت: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نقرأ على ميتنا بفاتحة الكتاب. قال الهيثمي: وفيه عبد المنعم أبوسعيد وهو ضعيف-انتهى. والأمر من أدلة الوجوب. وروى الطبراني في

الكبير أيضاً من حديث أسماء بنت يزيد قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا صليتم على الجنازة فاقرؤا بفاتحة الكتاب. قال الهيثمي: وفيه معلى بن حمران ولم أجد من ذكره، وبقية رجاله موثقون وفي بعضهم كلام، هذا وقد صنف حسن الشرنبلالي من متأخري الحنفية في هذه المسألة رسالة سماها "النظم المستطاب لحكم القراءة في صلاة الجنازة بأم الكتاب"، وحقق فيها أن القراءة أولى من ترك القراءة، ولا دليل على الكراهة، وهو الذي اختاره الشيخ عبد الحي اللكنوي في تصانيفه كعمدة الرعاية والتعليق الممجد وإمام الكلام، ثم إنه استدل بحديث ابن عباس على الجهر بالقراءة في الصلاة على الجنازة؛ لأنه يدل على أنه جهر بها حتى سمع ذلك من صلى معه. وأصرح من ذلك ما ذكرنا من رواية النسائي بلفظ: صليت خلف ابن عباس على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة وجهر حتى أسمعنا، فلما فرغ أخذت بيده فسألته، فقال: سنة وحق. وفي رواية أخرى له أيضا: صليت خلف ابن عباس على جنازة فسمعته يقرأ فاتحة الكتاب الخ. ويدل على الجهر بالدعاء حديث عوف بن مالك الآتي، فإن الظاهر أنه حفظ الدعاء المذكور لما جهر به النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة على الجنازة. وأصرح منه حديث واثلة في الفصل الثاني. واختلف العلماء في ذلك، فذهب بعضهم إلى أنه يستحب الجهر بالقراءة والدعاء فيها. واستدلوا بالروايات التي ذكرناها آنفاً. وذهب الجمهور إلى أنه لا يندب الجهر بل يندب الإسرار. قال ابن قدامة: ويسر القراءة والدعاء في صلاة الجنازة، لا نعلم بين أهل العلم فيه خلافاً-انتهى. واستدلوا لذلك بما ذكرنا من حديث أبي أمامة قال: السنة في الصلاة على الجنازة أن يقرأ في التكبيرة الأولى بأم القرآن مخافتة. الحديث أخرجه النسائي، ومن طريقه ابن حزم في المحلى (ج5ص129) . قال النووي في شرح المهذب: رواه النسائي بإسناد على شرط الصحيحين، وقال: أبوأمامة هذا صحابي-انتهى. وبما روى الشافعي في الأم (ج1ص239) ، والبيهقي (ج4ص39 من طريقه) عن مطرف بن مازن عن معمر عن الزهري قال: أخبرني أبوأمامة بن سهل أنه أخبره رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام، ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سراً في نفسه-الحديث. وضعفت هذه الرواية بمطرف، لكن قواها البيهقي بما رواه في المعرفة والسنن من طريق عبيد الله بن أبي زياد الرصافي عن الزهري بمعنى رواية مطرف، وبما روى الحاكم (ج1ص359) ، والبيهقي من طريقه (ج4ص42) عن شرحبيل بن سعد قال: حضرت عبد الله بن عباس صلى على جنازة بالأبواء فكبر ثم قرأ بأم القرآن رافعاً صوته بها، صلى على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: اللهم عبدك وابن عبدك-الحديث. وفي آخره ثم انصرف, فقال: يا أيها الناس إني لم أقرأ علناً (أي جهراً) إلا لتعلموا أنها سنة. قال الحافظ في الفتح: وشرحبيل مختلف في توثيقه-انتهى. وأخرج ابن الجارود في المنتقى من طريق زيد بن طلحة التيمي قال: سمعت ابن عباس قرأ على جنازة فاتحة الكتاب وسورة وجهر بالقراءة، وقال: إنما جهرت

رواه البخاري. 1669- (10) وعن عوف بن مالك، قال: ((صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جنازة فحفظت من دعائه وهو يقول: اللهم اغفر له وارحمه، وعافه، واعف عنه، ـــــــــــــــــــــــــــــ لأعلمكم أنها سنة. وذهب بعضهم إلى أنه يخير بين الجهر والإسرار. وقال بعضهم أصحاب الشافعي: إنه يجهر بالليل كالليلية ويسر بالنهار. قال شيخنا في شرح الترمذي قول ابن عباس: إنما جهرت لتعلموا أنها سنة، يدل على أن جهره كان للتعليم أي لا لبيان أن الجهر بالقراءة سنة، قال: وأما قول بعض أصحاب الشافعي: يجهر بالليل كالليلية فلم أقف على رواية تدل على هذا-انتهى. وهذا يدل على أن الشيخ مال إلى قول الجمهور أن الإسرار بالقراءة مندوب، هذا ورواية ابن عباس عند النسائي بلفظ: فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة، تدل على مشروعية قراءة سورة مع الفاتحة في الجنازة. قال الشوكاني: لا محيص عن المصير إلى ذلك؛ لأنها زيادة خارجة من مخرج صحيح. قلت: ويدل عليه أيضاً ما ذكره ابن حزم في المحلى (ج5ص129) معلقاً عن محمد بن عمرو بن عطاء أن المسور بن مخرمة صلى على الجنازة، فقرأ في التكبيرة الأولى بفاتحة الكتاب وسورة قصيرة رفع بهما صوته فلما فرغ قال: لا أجهل أن تكون هذه الصلاة عجماء ولكن أردت أن أعلمكم أن فيها قراءة. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً الترمذي وأبوداود والنسائي والشافعي وابن حبان والحاكم والبيهقي وابن الجارود. 1669- قوله: (فحفظت من دعائه وهو يقول) وفي رواية لمسلم: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - وصلى على جنازة يقول. وفي رواية النسائي: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي على ميت فسمعت في دعائه وهو يقول. قال الشوكاني: جميع ذلك يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جهر بالدعاء، وهو خلاف ما صرح به جماعة من استحباب الإسرار بالدعاء وقد قيل إن جهره - صلى الله عليه وسلم - بالدعاء لقصد تعليمهم، قال: والظاهر أن الجهر والإسرار بالدعاء جائزان-انتهى. وتأول النووي قوله حفظت من دعائه أي علمنيه بعد الصلاة فحفظته-انتهى. ويرد هذا التأويل قوله في رواية أخرى: سمعته صلى على جنازة يقول. قال الشوكاني: ليس في هذا الحديث تعيين الموضع الذي يقال فيه هذا الدعاء وغيره من الأدعية المأثورة فيقوله المصلي على الجنازة بعد أي تكبيرة أراد-انتهى. وإلى مشروعية الدعاء بعد كل تكبيرة ذهب المالكية وعند الحنابلة والشافعية والحنفية الدعاء بعد التكبيرة الثالثة. (اللهم اغفر له) بمحو السيئات. (وارحمه) بقبول الطاعات. وقال ابن حجر: تأكيد أو أعم. (وعافه) أمر من المعافاة، والهاء ضمير. وقيل: للسكت، والمعنى خلصه من المكروهات. وقال الطيبي: أي سلمه من العذاب والبلايا. (واعف عنه) أي عما وقع منه من التقصيرات. وقال ابن حجر: عافه أي سلمه من كل موذ واعف عنه تأكيداً وأخص أي سلمه من خطر

وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، ـــــــــــــــــــــــــــــ الذنوب. (وأكرم نزله) بضمتين وقد يسكن الزاي أي أحسن نصيبه من الجنة، وهو في الأصل قرى الضيف يعني ما يعد ويقدم للضيف من طعام وشراب، والمراد هنا الأجر والثواب والرحمة والمغفرة. (ووسع) بكسر السين المشددة. (مدخله) بفتح الميم أي موضع دخوله الذي يدخل فيه، وهو قبره. قال ميرك: بفتح الميم، كذا في المسموع من أفواه المشائخ، والمضبوط في أصل سماعنا، وضبط الشيخ الجزري في مفتاح الحصن: بضم الميم، وكلاهما صحيح بحسب المعنى-انتهى؛ لأن معناه مكان الدخول أو الإدخال، وإنما اختار الشيخ الضم؛ لأن الجمهور من القراء قرؤا بالضم في قوله تعالى: {وندخلكم مدخلاً كريماً} [النساء: 31] وانفرد الإمام نافع بالفتح، والضم أيضاً بحسب المعنى أنسب؛ لأن دخوله ليس بنفسه بل بإدخال غيره. (واغسله) بهمزة وصل أي اغسل ذنوبه. (بالماء والثلج والبرد) بفتحتين وهو حب الغمام، أي طهره من الذنوب والمعاصي أنواع الرحمة، كما أن هذه الأشياء أنواع المطهرات من الوسخ والدنس، فالغرض منه تعميم أنواع الرحمة والمغفرة في مقابلة أصناف المعصية والغفلة. (ونقه) بتشديد القاف المكسورة أمر من التقنية بمعنى التطهير، والهاء ضمير للميت أو للسكت. (من الخطايا كما نقيت) وفي رواية لمسلم: ينقى. (الثوب الأبيض من الدنس) بفتحتين، الوسخ تشبيه للمعقول بالمحسوس، وهو تأكيد لما قبله أراد به المبالغة في التطهير من الخطايا والذنوب. (وأبدله) أمر من الإبدال أي عوضه. (داراً) أي من القصور أو من سعة القبور. (خيراً من داره) أي في الدنيا الفانية. (وأهلاً خيراً من أهله) يشمل الزوجة والخدم. (وزوجاً خيراً من زوجه) هذا من عطف الخاص على العام. وقيل المراد بالأهل الخدم خاصة. قال القاري: (زوجاً) أي زوجة من الحور العين، أو من نساء الدنيا في الجنة. (خيراً من زوجة) أي من الحور العين، ونساء الدنيا أيضاً، فلا يشكل أن نساء الدنيا يكن في الجنة أفضل من الحور لصلاتهن وصيامهن، كما ورد في الحديث. وأما قول ابن حجر: "وخيراً" ليست على بابها من كونها أفعل تفضيل، إذ لا خيرية في الدنيا بالنسبة للآخرة، فليس على بابه إذ الكلام في النسبة الحقيقية لا في النسبة الإضافية. قال تعالى: {والآخرة خير وأبقى} [الأعلى:17] وقال: {والآخرة خير لمن اتقى} [النساء:77]-انتهى. قال السيوطي: قال طائفة من الفقهاء هذا خاص بالرجل، ولا يقال في الصلاة على المرأة: أبدلها زوجاً خيراً من زوجها، لجواز أن تكون لزوجها في الجنة، فإن المرأة لا يمكن الاشتراك فيها والرجل يقبل ذلك، كذا ذكر السندي في حاشية النسائي. وقال الشامي: المراد بالإبدال في الأهل والزوجة إبدال الأوصاف لا الذوات لقوله: {ألحقنا بهم ذريتهم} [الطور:21]

وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار)) . وفي رواية: ((وقه فتنة القبر وعذاب النار، قال: حتى تمنيت أنا أكون ذلك الميت)) . رواه مسلم. 1670- (11) وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن، ((أن عائشة لما توفي سعد بن أبي وقاص قالت: ادخلوا به المسجد حتى أصلي عليه، ـــــــــــــــــــــــــــــ ولخبر الطبراني وغيره: أن نساء الجنة من نساء الدنيا أفضل من الحور العين، وفيمن لا زوجة له على تقديرها له أن لو كانت، ولأنه صح الخبر بأن المرأة لآخر أزواجها أي إذا مات، وهي في عصمته. وفي حديث رواه جمع، لكنه ضعيف: المرأة منا ربما يكون لها زوجان في الدنيا فتموت ويموتان ويدخلان الجنة، لأيهما هي؟ قال: لأحسنهما خلقاً كان عندها في الدنيا، وتمامه في تحفة ابن حجر المكي-انتهى. (وأدخله الجنة) أي ابتداء. (وأعذه) أمر من الإعاذة أي أجره وخلصه. (وفي رواية وقه) بهاء الضمير أو السكت أمر من وقى يقي أي أحفظه. (فتنة القبر) أي التحير في جواب الملكين المؤدي إلى عذاب القبر. (قال) أي عوف. (أنا) تأكيد للضمير المتصل. (ذلك الميت) بالنصب على الخبرية أي لدعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك الميت. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً النسائي، وابن ماجه والبيهقي، وابن أبي شيبة، وأخرجه الترمذي مختصراً، ونقل عن البخاري أنه قال: أصح شيء في هذا الباب هذا الحديث. 1670- قوله: (لما توفي سعد بن أبي وقاص) أي في قصره بالعقبق على عشرة أميال من المدينة سنة (55) على المشهور، وحمل إلى المدينة على أعناق الرجال ليدفن بالبقيع، وذلك في خلافة معاوية وعلى المدينة مروان. (ادخلوا به المسجد) قال الباجي: إنما أمرت بذلك لامتناعها هي وسائر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من الخروج مع الناس إلى جنازته لكراهية خروجهن إلى الجنائز. (حتى أصلي عليه) فيه دليل على جواز صلاة النساء على الجنائز. قال الباجي: وهذا الذي يقتضيه مذهب مالك. وقال الشافعي: لا يصلي النساء على الجنائز، والدليل على صحة ذلك أن هذه صلاة يصح أن يفعلها الرجال، فصح أن يفعلها النساء كصلاة الجمعة. وهل يجوز أن يفعلها النساء دون الرجال؟ قال ابن القاسم وأشهب: يجوز ذلك وإن اختلفا في صفتهما-انتهى. وقال ابن قدامة: يصلي النساء جماعة إمامتهن في وسطهن. نص عليه أحمد، وبه قال أبوحنيفة. وقال الشافعي: يصلين مفردات لا يسبق بعضهن بعضاً وإن صلين جماعة جاز، ولنا أنهن من أهل الجماعة فيصلين جماعة كالرجال، وما ذكروه من كونهن منفردات لا يسبق بعضهن بعضاً تحكم لا يصار إليه إلا بنص أو إجماع، وقد صلى أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - على سعد بن أبي وقاص-انتهى. قلت: ويدل على صلاة النساء مع الرجال جماعة ما رواه الحاكم: أن أبا طلحة دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عمير

فأنكر ذلك عليها، فقالت: والله لقد صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ابني بيضاء في المسجد: سهيل وأخيه)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن أبي طلحة حين توفي فأتاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى عليه في منزلهم فتقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أبوطلحة وراءه وأم سليم وراء أبي طلحة ولم يكن معهم غيرهم. قال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين، وسنة غريبة في إباحة صلاة النساء على الجنائز، ووافقه الذهبي. (فأنكر ذلك) أي إدخاله في المسجد. (عليها) أي على عائشة. وفي رواية لمسلم: لما توفي سعد بن أبي وقاص أرسل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يمروا بجنازته في المسجد فيصلين عليه ففعلوا، فوقف به على حجرهن يصلين عليه. ثم أخرج به من باب الجنائز الذي كان إلى المقاعد، فبلغهن أن الناس عابوا ذلك وقالوا: ما كانت الجنائز يدخل بها المسجد، فبلغ ذلك عائشة فقالت: ما أسرع الناس إلى أن يعيبوا ما لا علم لهم به، عابوا علينا أن يمر بجنازة في المسجد الخ. (والله لقد صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ابني بيضاء) لقب للأم، واسمها دعد بفتح الدال وسكون العين المهملتين بنت الجحدم الفهرية. (في المسجد) وفي رواية لمسلم: في جوف المسجد. (سهيل) بالتصغير. (وأخيه) سهل. وقيل: صفوان: واعلم أن المعروفين ببني البيضاء ثلاثة إخوة: سهل وسهيل وصفوان. وأمهم البيضاء اسمها دعد، والبيضاء وصف، وأبوهم وهب بن ربيعة القرشي الفهري. كان سهل ممن قام في نقض الصحيفة التي كتبتها قريش على بني هاشم. قال أبوحاتم: كان ممن أظهر إسلامه بمكة. وقال ابن عبد البر: أسلم سهل بمكة، وأخفى إسلامه فأخرجته قريش معهم إلى بدر، فأسر يومئذٍ مع المشركين، فشهد له عبد الله بن مسعود أنه رآه بمكة يصلي فخلى عنه، ومات بالمدينة، وبها مات أخوه سهيل، وصلى عليهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، فيما رواه ابن أبي فديك عن الضحاك بن عثمان عن أبي النضر عن أبي سلمة عن عائشة قالت: والله ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ابني بيضاء إلا في المسجد سهل وسهيل. وزعم الواقدي أن سهل بن بيضاء مات بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما سهيل فكان قديم الإسلام هاجر إلى الحبشة قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة فأقام معه حتى هاجر وهاجر سهيل، فجمع الهجرتين جميعاً، ثم شهد بدراً والمشاهد كلها، ومات بالمدينة في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد رجوعه من تبوك سنة تسع، ولا عقب له. وأما صفوان فقد شهد بدراً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقتل يومئذٍ ببدر شهيداً، قتله طعيمة بن عدي فيما قاله ابن إسحاق وموسى بن عقبة وابن سعد وأبوحاتم، وجزم ابن حبان بأنه مات سنة (30) ، وقيل: في شهر رمضان سنة (38) وبه جزم الحاكم أبوأحمد تبعاً للواقدي. واختلف في المراد بالأخ المذكور في الحديث، فقيل: سهل جزم به ابن عبد البر، وقيل: صفوان. قال أبونعيم: اسم أخي سهيل صفوان، ووهم من سماه سهلاً، ولم يزد مالك في روايته على سهيل. والحديث يدل على جواز إدخال الميت في المسجد والصلاة عليه

رواه مسلم. 1671- (12) وعن سمرة بن جندب، قال: ((صليت وراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على امرأة ماتت في نفاسها، فقام وسطها)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه، وبه قال الشافعي، وأحمد، وإسحاق، والجمهور خلافاً لمالك في المشهور عنه وأبي حنيفة. وأجاب بعض من كره ذلك عن الحديث بأن الأمر استقر على ترك ذلك؛ لأن الذين أنكروا على عائشة كانوا من الصحابة، ورد بأن عائشة لما أنكرت ذلك الإنكار سلموا لها. فدل على أنها حفظت ما نسوه وأن الأمر استقر على الجواز، ويدل على ذلك الصلاة على أبي بكر وعمر في المسجد، كما تقدم، قاله الشوكاني. وقال السندي في حاشية النسائي: الحديث ظاهر في الجواز في المسجد، نعم كانت عادته - صلى الله عليه وسلم - خارج المسجد، فالأقرب أن يقال: الأولى أن تكون خارج المسجد مع الجواز فيه، والله تعالى أعلم-انتهى. وقد تقدم بسط الكلام فيه شرح حديث قصة النجاشي. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد، ومالك، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه، والبيهقي، والطحاوي. 1671- قوله: (صليت وراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على امرأة) هي أم كعب الأنصارية، كما في مسلم. (ماتت في نفاسها) بكسر النون أي حين ولادتها. وقال القسطلاني: "في" هنا للتعليل، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: إن امرأة دخلت النار في هرة، أي ماتت بسبب نفاسها. (فقام) أي وقف للصلاة. (وسطها) أي حذاء وسطها، وهو بسكون السين وفتحها بمعنى فلذا جوز الوجهان، وقد فرق بعضهم بينهما، قاله السندي. وقال الطيبي: الوسط بالسكون يقال فيما كان متفرق الأجزاء كالناس والدواب وغير ذلك، وما كان متصل الأجزاء والرأس فهو بالفتح. وقيل: كل منهما يقع موقع الآخر، وكأنه أشبه. وقال صاحب المغرب: الوسط بالفتح كالمركز للدائرة، وبالسكون داخل الدائرة، وقيل: كل ما يصلح فيه بين فبالفتح وما لا فبالسكون-انتهى. وقال القسطلاني: من سكن السين جعله ظرفاً، ومن فتح جعله اسماً، والمراد على الوجهين عجيزتها، وكون هذه المرأة في نفاسها وصف غير معتبر، وإنما هو حكاية أمر واقع، وأما كونها امرأة فالظاهر أنه معتبر، كما يدل عليه حديث أنس الآتي في آخر الفصل الثاني، والحديث فيه دليل على أن السنة أن يقوم الإمام، وكذا المنفرد في صلاة الجنازة حذاء وسط المرأة، أي عند عجيزتها. قال الأمير اليماني: وهذا مندوب، وأما الواجب فإنما هو استقبال جزء من الميت رجلاً أو امرأة. واختلف العلماء في حكم الاستقبال في حق الرجل والمرأة، فقال أبوحنيفة في المشهور عنه: إنهما سواء، فيقوم الإمام بحذاء صدرها. وقال مالك: يقوم حذاء الرأس منهما، ونقل عنه أن يقوم من الرجل عند وسطه

متفق عليه. 1672- (13) وعن ابن عباس ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بقبر دفن ليلاً، ـــــــــــــــــــــــــــــ ومن المرأة عند منكبيها. وقال أحمد كما في المغني والخطابي: يقوم من المرأة حذاء وسطها ومن الرجل حذاء صدره. وحكى الترمذي عن أحمد: أنه ذهب إلى أنه يقوم من المرأة عند وسطها ومن الرجل عند رأسه، كما هو مقتضى حديث أنس آخر حديث الفصل الثاني، وهو مذهب الشافعي وإسحاق وأبي يوسف، وهو الحق لما يدل عليه حديث سمرة وحديث أنس الآتي، وهو رواية عن أبي حنيفة. قال في الهداية: وعن أبي حنيفة أنه يقوم من الرجل بحذاء رأسه ومن المرأة بحذاء وسطها؛ لأن أنساً فعل ذلك وقال: هو السنة-انتهى. ورجح الطحاوي قول أبي حنيفة هذا على قوله المشهور حيث قال في شرح الآثار: قال أبوجعفر: القول الأول أحب إلينا لما قد شده الآثار التي روينا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهى. وقال بعضهم: يقوم حذاء رأس الرجل وثدي المرأة، واستدل بفعل علي، وقال بعضهم: يستقبل صدر المرأة وبينه وبين السرة من الرجل. قال الشوكاني بعد ذكر هذه الأقوال: وقد عرفت أن الأدلة دلت على ما ذهب إليه الشافعي، وأن ما عداه لا مستند له من المرفوع إلا مجرد الخطأ في الاستدلال، أو التعويل على محض الرأي، أو ترجيح ما فعله الصحابي على ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. نعم لا ينتهض مجرد الفعل دليلاً للوجوب، ولكن النزاع فيما هو الأولى والأحسن، ولا أحسن من الكيفية التي فعلها المصطفى - صلى الله عليه وسلم - انتهى كلام الشوكاني. قلت: وأجاب الحنفية عن حديث أنس وسمرة: بأنه لا ينافي كون الصدر وسطاً، بل الصدر وسط البدن باعتبار توسط الأعضاء، إذ فوقه يداه ورأسه وتحته بطنه وفخذاه، أو يأوّل فيقال: يحتمل أنه وقف بحذاء صدر كل واحد منهما إلا أنه مال في أحد الموضعين إلى الرأس وفي الآخر إلى العجز أي العورة، فظن الراوي أنه فرق بين الأمرين لتقارب المحلين، كذا قال ابن الهمام في شرح الهداية، والكاساني في البدائع: ولا أدري أي شيء ألجأهم إلى هذا التأويل، وتكلف الجواب والتمحل، مع أنه لم يرد حديث مرفوع صحيح أو ضعيف يوافق مذهبهم بأن يدل على عدم الفرق بين الرجل والمرأة والقيام بحذاء صدرهما، بل ورد ما يخالفهم، ولذلك قال شيخنا في شرح الترمذي بعد ذكر كلام ابن الهمام: هذا مما لا يلتفت إليه بعد ما ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم حذاء رأس الرجل وحذاء عجيزة-انتهى. (متفق عليه) وأخرجه أحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه، والبيهقي. 1672- قوله: (مر بقبر دفن) بضم الدال وكسر الفاء. (ليلاً) نصب على الظرفية أي دفن صاحبه فيه ليلاً، فهو من قبيل ذكر المحل وإرادة الحال. قيل: اسم صاحب القبر طلحة بن البراء بن عمير البلوى، حليف الأنصار،

فقال: متى دفن هذا؟ قالوا: البارحة، قال: أفلا آذنتموني؟ قالوا: دفناه في ظلمة الليل فكرهنا أن نوقظك، فقام فصففنا خلفه، فصلى عليه)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ روى قصته أبوداود والبيهقي مختصراً من حديث حصين بن وحوح، وقد تقدم. (متى دفن) بصيغة المجهول. (هذا) الميت. (البارحة) أي دفن الليلة الماضية. (أفلا آذنتموني) بمد الهمزة أي أدفنتموه فلا أعلمتموني بموته حين مات. (فكرهنا أن نوقظك) أي ننبهك من النوم. (فصففنا) بفائين. (فصلى عليه) أي على قبره صبيحة دفنه، وفيه جواز الدفن بالليل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - اطلع على ذلك ولم ينكره، بل أنكر عليهم عدم إعلامهم بأمره. ويدل عليه أيضاً حديث ابن عباس عند الترمذي: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل قبراً ليلاً فأسرج له سراج فأخذه من قبل القبلة-الحديث. وحديث جابر عند أبي داود والحاكم قال: رأى ناس ناراً في المقبرة فأتوها، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القبر، وإذا هو يقول: ناولوني صاحبكم-الحديث. وحديث أبي ذر عند ابن أبي شيبة قال: كان رجل يطوف بالبيت يقول: أوه أوه، قال أبوذر: فخرجت ذات ليلة فإذا النبي - صلى الله عليه وسلم - في المقابر يدفن ذلك الرجل ومعه مصباح، ذكره العيني. وحديث أبي أمامة بن سهل عند مالك والبيهقي وابن عبد البر في دفن المسكينة ليلاً. وحديث أبي سعيد عند ابن ماجه وغير ذلك من الأحاديث: وقد دفن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلاً، كما رواه أحمد عن عائشة. ودفن أبوبكر وعمر ليلاً، ودفن علي فاطمة ليلاً، وبهذا قال مالك والشافعي وأحمد في الأصح المشهور عنه، وأبوحنيفة وإسحاق والجمهور، وكرهه قتادة والحسن البصري وسعيد بن المسيب وأحمد في رواية. وقال ابن حزم: لا يجوز أن يدفن أحد ليلاً إلا عن ضرورة، وكل من دفن ليلاً منه - صلى الله عليه وسلم - ومن أزواجه وأصحابه فإنما ذلك لضرورة أوجبت ذلك من خوف زحام أو خوف الحر على من حضر، وحر المدينة شديداً، وخوف تغير أو غير ذلك مما يبيح الدفن ليلاً، لا يحل لأحد أن يظن بهم خلاف ذلك. واستدل هؤلاء بحديث جابر عند أحمد ومسلم وأبي داود: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب يوماً فذكر رجلاً من أصحابه قبض فكفن في كفن غير طائل وقبر ليلاً فزجر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقبر الرجل ليلاً حتى يصلى عليه، إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه، وأجاب الجمهور عنه بأن النهي ليس لأجل كراهة الدفن ليلاً، بل لأنهم كانوا يفعلون ذلك بالليل لرداءة الكفن وإساءته، كما يدل عليه أول الحديث وآخره. وقال الطحاوي: أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنهي عن الدفن ليلاً أن يصلي على جميع المسلمين؛ لما يكون لهم في ذلك من الفضل، يعني فيحتسب تأخير دفنه إلى الصباح إن رجي بتأخيره صلاة من ترجي بركته. وقيل: يحتمل أن يكون نهى عن ذلك أولاً ثم رخص. وقيل: المنهي عنه الدفن قبل الصلاة، وتعقب بأن الدفن قبل الصلاة منهي عنه مطلقاً سواء كان بالليل أو بالنهار. والظاهر أن النهي

عن الدفن بالليل ولو بعد الصلاة، ففي رواية ابن ماجه من حديث جابر مرفوعاً: لا تدفنوا موتاكم بالليل إلا أن تضطروا. وفي الحديث أيضاً دليل على صحة الصلاة على القبر بعد دفن الميت سواء صلى عليه قبل الدفن أم لا. وبه قال أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم، روي ذلك عن أبي موسى وابن عمر وعائشة وعلى وابن مسعود وأنس وسعيد بن المسيب وقتادة، وإليه ذهب الأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وابن وهب وداود وسائر أصحاب الحديث، ويدل لهم أيضاً أحاديث من بين صحاح وحسان وردت في الباب عن جماعة من الصحابة، أشار إليها الحافظ في التلخيص (ص162) ، وساق أكثرها بأسانيدها ابن عبد البر في التمهيد. وقال النخعي والثوري ومالك وأبوحنيفة: لا تعاد الصلاة على الميت إلا للولي إذا كان غائباً، ولا يصلى على القبر إلا كذلك، وعنهم إن دفن قبل أن يصلى عليه شرع الصلاة عليه وإلا فلا، وأحاديث الباب ترد عليهم مطلقاً، وقد اعتذر عنها مالك بأنه ليس عمل أهل المدينة عليها، ولا يخفى ما فيه، وأجاب غيره بأن ذلك من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -، واحتجوا لهذا بقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة عند مسلم: إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وأن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم. قالوا: صلاته - صلى الله عليه وسلم - كانت لتنوير القبر، وذا لا يوجد في صلاة غيره، فلا يكون الصلاة على القبر مشروعاً. وأجاب ابن حبان عن ذلك بأن في ترك إنكاره - صلى الله عليه وسلم - على من صلى معه على القبر بيان جواز ذلك لغيره، وأنه ليس من خصائصه. وتعقب بأن الذي يقع بالتبعية لا ينتهض دليلاً للأصالة. ومن جملة ما أجاب به الجمهور عن قوله: إن هذه القبور مملوءة ظلمة الخ أنه مدرج، كما سيأتي. قلت: واستدل بعضهم للخصوصية بقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث يزيد بن ثابت عند أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان والبيهقي: إن صلاتي له رحمة. قال السندي: قد أخذ منه الخصوص من ادعى ذلك، وهذه دلالة غير قوية. وقال الشوكاني: إن الاختصاص لا يثبت إلا بدليل، ومجرد كون الله ينور القبور بصلاته - صلى الله عليه وسلم - على أهلها لا ينفي مشروعية الصلاة على القبر لغيره، لا سيما بعد قوله - صلى الله عليه وسلم -: صلوا كما رأيتموني أصلي. وقال ابن حزم: ليس في الكلام المذكور دليل على أنه خصوص له، وإنما في هذا الكلام بركة صلاته - صلى الله عليه وسلم - وفضيلتها على صلاة غيره فقط، وليس فيه نهي غيره عن الصلاة على القبر أصلاً، بل قد قال الله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [الأحزاب: 21] انتهى. قال الشوكاني: وهذا باعتبار من كان قد صلى عليه قبل الدفن، وأما من لم يصل عليه ففرض الصلاة عليه الثابت بالأدلة وإجماع الأمة باقٍ، وجعل الدفن مسقطاً لهذا الفرض محتاج إلى دليل-انتهى. هذا واختلف في المدة التي تشرع فيها الصلاة على القبر، فقال أحمد وإسحاق وأصحاب الشافعي: إلى شهر. قال أحمد: أكثر ما سمعنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على قبر أم سعد بن عبادة بعد شهر. وقيل: يصلي عليه ما لم يبل

متفق عليه 1673- (14) وعن أبي هريرة: ((أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد، أو شاب، ففقدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأل عنها، أو عنه، فقالوا: مات، قال: أفلا كنتم آذنتموني؟ قال: فكأنهم صغروا أمرها، أو أمره، ـــــــــــــــــــــــــــــ جسده. وقال أبوحنيفة: يصلي عليه الولي إلى ثلاث ولا يصلي عليه غيره بحال. وقيل: يصلي عليه أبداً، واختاره ابن عقيل من الحنابلة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على شهداء أحد بعد ثمان سنين، ولأن المراد من الصلاة عليه الدعاء، وهو جائز في كل وقت. قال الأمير اليماني: وهو الحق إذ لا دليل على التحديد بمدة-انتهى. ومال شيخنا إلى ترجيح قول أحمد، ومن وافقه، فقال: الظاهر الاقتصار على المدة التي تثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأما القياس على مطلق الدعاء وتجويزه في كل وقت ففيه نظر، كما لا يخفى-انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري بألفاظ هذا أحدها، أورده في باب صفوف الصبيان مع الرجال على الجنائز، وأخرجه أيضاً ابن ماجه، وأخرجه مسلم، والترمذي، والنسائي، والدارقطني، والبيهقي مختصراً. 1673- قوله: (أن امرأة سوداء) سماها البيهقي في روايته من حديث ابن بريدة عن أبيه: أم محجن. (كانت تقم المسجد) بضم القاف وتشديد الميم أي تكنسه وتطهره من القمامة أي الكناسة. وفي بعض الطرق: كانت تلقط الخرق والعيدان من المسجد. (أو شاب) أي كان يقم ورفعه على أنه عطف على محل اسم أن. وفي صحيح مسلم: أو شاباً أي بالنصب منوناً عطفاً على امرأة، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7ص154) . وقد رواه ابن خزيمة من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة. فقال: امرأة سوداء من غير شك، وبه جزم أبوالشيخ في كتاب الصلاة، له بسند مرسل. قال القسطلاني: فالشك هنا من ثابت على الراجح، وسماها في رواية البيهقي: أم محجن. (ففقدها) أو ففقده أي لم يرها حاضرة في المسجد. (فسأل) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس. (عنها أو عنه) على الشك. (فقالوا) أي بعضهم، وفي حديث بريدة المتقدم: أن الذي باشر جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم هو أبوبكر الصديق رضي الله عنه. (مات) أو ماتت. (قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -. (أفلا كنتم آذنتموني) أي أخبرتموني بموته أو بموتها لأصلي عليه أو عليها. (قال) أي أبوهريرة حكاية عما وقع منهم في جواب قوله: أفلا الخ. (فكأنهم) أي المخاطبين (صغروا) أي حقروا. (أمرها أو أمره) أي وعظموا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتكليفه للصلاة عليه، ولابن خزيمة: قالوا مات من الليل فكرهنا أن نوقظك، وكذا في

فقال: دلوني على قبره، فدلوه فصلى عليها، ثم قال: إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم)) . متفق عليه. ولفظه مسلم. 1674- (15) وعن كريب مولى ابن عباس، عن عبد الله بن عباس: ((أنه مات له ابن بقديد أو بعسفان، فقال: يا كريب! انظر ما اجتمع له من الناس، ـــــــــــــــــــــــــــــ حديث بريدة، ووقع في رواية للبخاري: فحقروا شأنه. قال القسطلاني: لا ينافي ما سبق من التعليل بأنهم كرهوا أن يوقظوه عليه الصلاة والسلام في الظلمة خوف المشقة، إذ لا تنافي بين التعليلين. (فقال) النبي - صلى الله عليه وسلم -: (دلوني) بضم الدال أمر من الدلالة. (على قبره) أو قبرها. (فدلوه) بفتح الدال وضم اللام المشددة. (فصلى عليها) أو عليه، يعني على قبرها. فيه رد على الحنفية والمالكية حيث منعوا الصلاة على القبر. (إن هذه القبور) قال ابن الملك المشار إليها القبور التي يمكن أن يصلي عليها النبي - صلى الله عليه وسلم -. (ظلمة) بالنصب على التمييز. (على أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم) قال الطيبي: وهو كأسلوب الحكيم، أي ليس النظر في الصلاة على الميت إلى حقارته ورفعة شأنه، بل هي بمنزلة الشفاعة، يعني فلا تختص بميت دون ميت. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أبوداود وابن ماجه والبيهقي كلهم من رواية حماد بن زيد عن ثابت البناني عن أبي رافع عن أبي هريرة. (ولفظه لمسلم) أخرجه من طريق أبي كامل الجحدري عن حماد بن زيد. اعلم أن جملة "إن هذه القبور" إلى آخر الحديث من أفراد مسلم وليس للبخاري. قال الحافظ: إنما لم يخرج البخاري هذه الزيادة؛ لأنها مدرجة في هذا الإسناد، وهي من مراسيل ثابت، بيّن ذلك غير واحد من أصحاب حماد بن زيد، وقد أوضحت ذلك بدلائله في كتاب بيان المدرج. قال البيهقي: الذي يغلب على القلب أن تكون هذه الزيادة في غير رواية أبي رافع عن أبي هريرة، فإما أن تكون عن ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلة، كما رواه أحمد بن عبدة ومن تابعه، أو عن ثابت عن أنس، كما رواه خالد بن خداش، وقد رواه غير حماد عن ثابت عن أبي رافع فلم يذكرها-انتهى. قال الحافظ: ووقع في مسند أبي داود الطيالسي عن حماد بن زيد وأبي عامر الخزاز كلاهما عن ثابت بهذه الزيادة، وفي الحديث فضل تنظيف المسجد، والسؤال عن الخادم والصديق إذا غاب، وفيه المكافأة بالدعاء والترغيب في شهود جنائز أهل الخير وندب الصلاة على الميت الحضر عند قبره لمن يصل عليه والإعلام بالموت. 1674- قوله: (وعن كريب) بالتصغير) بالتصغير. (أنه مات له) أي لعبد الله. (بقديد) بالتصغير موضع قريب بعسفان. (أو بعسفان) بضم العين شك من الراوي. (ما اجتمع له) ما موصولة بينها. (من الناس) ويمكن أن يكون

قال: فخرجت فإذا ناس قد اجتمعوا له، فأخبرته، فقال: تقول هم أربعون؟ قال: نعم، قال: أخرجوه، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه)) . رواه مسلم 1675- (16) وعن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من ميت تصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة، كلهم يشفعون له، إلا شفعوا فيه)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ ما بمعنى من. (فأخبرته) أي بهم أو باجتماعهم. (فقال) أي ابن عباس. (تقول) بالخطاب أي تظن. وفي رواية أحمد قال: يقول أي قال كريب يقول لي ابن عباس. (هم أربعون قال) أي كريب. (نعم) وظاهر الكلام أن يقول "قلت" ففيه تجريد، وذكره الجزري في جامع الأصول (ج7ص161) بلفظ: قال: قلت: نعم. وفي رواية ابن ماجه فقال: ويحك كم تراهم أربعين؟ قلت: لا بل هم أكثر. (قال) أي ابن عباس. (أخرجوه) أي الميت. (فيقوم) أي للصلاة. (على جنازته أربعون رجلاً) أي فيصلون عليه ويدعون له. (لا يشركون بالله شيئاً) وفي رواية ابن ماجه: ما من أربعين مؤمن يشفعون لمؤمن (إلا شفعهم الله) بتشديد الفاء أي قبل شفاعتهم. (فيه) أي في حق ذلك الميت. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد (ج1ص277) وابن ماجه، وأخرج أبوداود والبيهقي من طريقه المسند منه فقط. 1675- قوله: (ما من ميت) أي مسلم. (تصلي عليه أمة) أي جماعة. (من المسلمين) وفي رواية الترمذي والنسائي: لا يموت أحد من المسلمين فيصلي عليه أمة من المسلمين. (يبلغون) أي في العدد. (مائة كلهم يشفعون له) بسكون الشين وفتح الفاء أي يدعون له. (إلا شفعوا) بتشديد الفاء على بناء المفعول، أي قبلت شفاعتهم. (فيه) أي في حقه، وفي الحديث استحباب تكثير جماعة الجنازة، ويطلب بلوغهم إلى هذا العدد الذي يكون من موجبات الفوز. وقد قيد ذلك بأمرين: الأول: أن يكونوا شافعين فيه، أي مخلصين له الدعاء سائلين له المغفرة. الثاني: أن يكونوا مسلمين ليس فيهم من يشرك بالله شيئاً، كما في حديث ابن عباس المتقدم، ويأتي حديث مالك بن هبيرة بلفظ: من صلى عليه ثلاثة صفوف فقد أوجب. ولا اختلاف في هذه الأحاديث الثلاثة. قال القاضي: قيل: هذه الأحاديث خرجت أجوبة لسائلين، سألوا عن ذلك، فأجاب كل واحد عن سؤاله. قال النووي: ويحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بقبول شفاعة مائة فأخبر به، ثم بقبول شفاعة أربعين، ثم ثلاثة صفوف وإن قل عددهم فأخبر به، قال: ويحتمل أيضاً أن يقال هذا مفهوم عدد، ولا يحتج به جماهير الأصوليين، فلا يلزم من

رواه مسلم 1676- (17) وعن أنس، قال: ((مروا بجنازة فأثنوا عليها خيراً، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: وجبت، ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شراً، ـــــــــــــــــــــــــــــ الإخبار عن قبول شفاعة مائة منع قبول ما دون ذلك. وكذا في الأربعين مع ثلاثة صفوف، وحينئذٍ كل الأحاديث معمول بها، وتحصل الشفاعة بأقل الأمرين من ثلاثة صفوف وأربعين-انتهى كلام النووي. وقال التوربشتي في شرح المصابيح: لا تضاد بين حديث عائشة وحديث ابن عباس؛ لأن السبيل في أمثال هذا الحديث إن الأقل من العددين متأخر؛ لأن الله تعالى إذا وعد المغفرة لمعنى واحد لم يكن من سنته أن ينقص من الفضل الموعود بعد ذلك، بل يزيد عليه فضلاً وتكرماً على عباده. فجعلنا حديث ابن عباس في أربعين متأخراً عن حديث عائشة في المائة للمعنى الذي ذكرنا-انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي والنسائي والبيهقي، وروى ابن ماجه بمعناه عن أبي هريرة، ومسلم عن أنس، والطبراني في الكبير عن ابن عمر، وفيه مبشر بن أبي المليح، قال الهيثمي: لم أجد من ذكره. 1676- قوله: (مروا) أي الصحابة، وفي رواية مر بضم الميم على البناء للمفعول. (فأثنوا عليها) أي ذكروها بأوصاف حميدة. فقوله: خيراً تأكيد أو دفع لما يتوهم من على (خيراً) صفة لمصدر محذوف فأقيمت مقامه فنصبت أي ثناء حسناً، أو هو منصوب بنزع الخافض أي أثنوا عليها بخير. وفي رواية الحاكم: فقالوا كان يحب الله ورسوله ويعمل بطاعة الله ويسعى فيها. وقال التي أثنوا عليها شراً فقالوا: كان يبغض الله ورسوله ويعمل بمعصية الله ويسعى فيها، ففيه تفسير ما أبهم من الخير والشر في رواية الشيخين. (وجبت) أي ثبتت له الجنة. (ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شراً) قال الطيبي: استعمال الثناء في الشر مشاكلة أو تهكم-انتهى. قال القاري: ويمكن أن يكون أثنوا في الموضعين بمعنى وصفوا، فيحتاج حينئذٍ إلى القيد، ففي القاموس الثناء وصف بمدح أو ضم أو خاص بالمدح-انتهى. وإنما مكنوا من الثناء بالشر مع الحديث الصحيح في البخاري في النهي عن سب الأموات؛ لأن النهي عن سبهم إنما هو في حق غير المنافقين والكفار وغير المتظاهر بالفسق أو البدعة، فأما هؤلاء فلا يحرم ذكرهم بالشر للتحذير من طريقتهم ومن الإقتداء بآثارهم والتخلق بأخلاقهم، وهذا الحديث محمول على أن الذي أثنوا عليه شراً كان مشهوراً بنفاق أو نحوه، قاله النووي. قال الحافظ: يرشد إلى ذلك ما رواه أحمد من حديث أبي قتادة بإسناد صحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يصل على الذي أثنوا عليه شراً وصلى على الآخر-انتهى. وقيل النهي عن سب الأموات محمول على ما بعد الدفن، والجواز على ما قبله ليتعظ به من يسمعه من فساق الأحياء، وقيل: يحتمل أن

فقال: وجبت، فقال عمر: ما وجبت؟ فقال: هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض) . ـــــــــــــــــــــــــــــ يكون حديث أنس وما في معناه قبل ورود النهي العام. وقيل: إن هذا كان على معنى الشهادة، والمنهي عنه هو على معنى السب، وما كان على جهة الشهادة وقصد التحذير لا يسمى سباً في اللغة. (فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - وجبت) أي حقت له النار. (فقال عمر ما وجبت) أي ما المراد بقولك وجبت في الموضعين، أراد التصريح بما يعلم من قيام القرينة. (هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا) أي الآخر. (أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار) قال الحافظ: المراد بالوجوب الثبوت، إذ هو في صحة الوقوع كالشيء الواجب، والأصل أنه لا يجب على الله شيء بل الثواب فضله والعقاب عدله، لا يسئل عما يفعل. وفي رواية مسلم: من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة، وهو أبين في العموم من رواية البخاري، وفيه رد على من زعم أن ذلك خاص بالميتين المذكورين لغيب اطلع الله نبيه عليه، وإنما هو خبر عن حكم أعلمه الله به. (أنتم شهداء الله في الأرض) قيل: الخطاب مخصوص بالصحابة؛ لأنهم كانوا ينطقون بالحكمة بخلاف من بعدهم. وقيل: بل المراد هم ومن كانوا على صفتهم من الإيمان. وقيل: الصواب أن ذلك يختص بالثقات والمتقين. ونقل الطيبي عن بعض شراح المصابيح: أنه قال ليس معنى قوله "أنتم شهداء الله" أن ما يقول الصحابة والمؤمنون في حق شخص يكون كذلك؛ لأن من يستحق الجنة لا يصير من أهل النار بقولهم "ولا من يستحق النار" يصير من أهل الجنة بقولهم، بل معناه أن الذي أثنوا عليه خيراً رأوا منه الصلاح والخيرات في حياته، والخيرات والصلاح علامة كون الرجل من أهل الجنة، والذي أثنوا عليه شراً رأوا منه الشر والفساد، والشر والفساد من علامة النار، فترجى الجنة لمن شهد له بالخير، ويخاف النار لمن شهد له بالشر وتعقبه. الطيبي بأن قوله "وجبت" بعد ثناء الصحابة حكم عقب وصفاً مناسباً، وهو يشعر بالعلية، وكذا الوصف بقوله "أنتم شهداء الله في الأرض"؛ لأن الإضافة للتشريف، وأنهم بمكان ومنزلة عالية عند الله، وهو أيضاً كالتزكية من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته وإظهار عدالتهم بعد أداء شهادتهم لصاحب الجنازة، فينبغي أن يكون لها أثر ونفع في حقه، وأن الله تعالى يقبل شهادتهم ويصدق ظنونهم في حق المثنى عليه، كرامة لهم وتفضيلاً عليهم كالدعاء والشفاعة، فيوجب لهم الجنة والنار على سبيل الوعد والوعيد؛ لأن وعده حق لا بد من وقوعه، فهو كالواجب إذ لا أثر للعمل ولا الشهادة في الوجوب. وإلى معنى الحديث يرمز قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً} [البقرة: 143] أي جعلناكم عدولاً خيار الشهود لتشهدوا على غيركم، ويكون الرسول رقيباً عليكم ومزكياً لكم ويبين عدالتكم. وقال النووي: قيل:

متفق عليه. وفي رواية: ((المؤمنون شهداء الله في الأرض)) . 1677- (18) وعن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة، قلنا: وثلاثة؟ قلنا: واثنان؟ قال: واثنان، ثم لم نسأله عن الواحد) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا مخصوص بمن أثنى عليه أهل الفضل وكان ثناءه لهم مطابقاً لأفعاله فهو من أهل الجنة فإن كان غير مطابق فلا وكذا عكسه قال: والصحيح أنه على عمومه وإطلاقه، وإن كل مسلم مات فألهم الله الناس أو معظمهم الثناء عليه كان ذلك دليلاً على أنه من أهل الجنة سواء كانت أفعاله تقتضي ذلك أم لا إذ العقوبة غير واجبة بل هو في خطر المشيئة، فإذا ألهم الله الناس الثناء عليه استدللنا بذلك على أنه تعالى قد شاء المغفرة له، وبهذا تظهر فائدة الثناء، وإلا فإذا كانت أفعاله مقتضية للجنة لم يكن للثناء فائدة. وقد أثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - له فائدة-انتهى. قال الحافظ: وهذا في جانب الخير واضح، ويؤيده ما رواه أحمد وابن حبان والحاكم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس مرفوعاً: ما من مسلم يموت فيشهد له أربعة من جيرانه الأدنين أنهم لا يعلمون منه إلا خيراً قال الله تعالى: قد قبلت قولكم وغفرت له مالا تعلمون. وأما جانب الشر فظاهر الأحاديث أنه كذلك، لكن إنما يقع ذلك في حق من غلب شره على خيره، وقد وقع في رواية النضر بن أنس عن أبيه عند الحاكم في آخر الحديث: إن لله ملائكة تنطق على ألسنة بني آدم بما في المرء من الخير والشر-انتهى. (متفق عليه) واللفظ للبخاري في الجنائز، وأخرجه أيضاً أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والبيهقي. وأخرجه أحمد، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه عن أبي هريرة بنحوه. (وفي رواية) أي للبخاري في الشهادات: (المؤمنون) اللام للجنس. (شهداء الله في الأرض) الإضافة تشريفية، ومشعرة بأنهم عند الله بمنزلة في قبول شهادتهم. 1677- قوله: (أيما مسلم شهد له أربعة) من المسلمين وظاهره العموم، كما اختاره النووي. (بخير) أي أثنوا عليه بحميل. (أدخله الله الجنة) بفضله، تصديقاً لظن المؤمنين في حقه. (قلنا) أي عمر وغيره: (وثلاثة) أي وما حكم ثلاثة. (قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وثلاثة) أي وكذلك ثلاثة، وقيل: هو وما قبله عطف تلقين. (ثم لم نسأله عن الواحد) قيل: الحكمة في الاقتصار على الاثنين؛ لأنهما نصاب الشهادة غالباً. وقال الزين بن المنير: إنما لم يسأل عمر عن الواحد استبعاداً منه أن يكتفي في مثل هذا المقام العظيم بأقل من النصاب. (رواه البخاري) في الجنائز والشهادات من طريق عبد الله بن بريدة عن أبي الأسود الديلي التابعي الكبير المشهور

1678- (19) وعن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا)) رواه البخاري. 1679- (20) وعن جابر، (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد، ـــــــــــــــــــــــــــــ عن عمر. قال الحافظ: لم أره من رواية عبد الله بن بريدة عن أبي الأسود إلا معنعناً، وقد حكى الدارقطني في كتاب التتبع عن علي بن المديني أن ابن بريدة إنما يروي عن يحيى بن يعمر عن أبي الأسود، ولم يقل في هذا الحديث: سمعت أبا الأسود. قال الحافظ: وابن بريدة ولد في عهد عمر، فقد أدرك أبا الأسود بلا ريب، لكن البخاري لا يكتفي بالمعاصرة، فلعله أخرجه شاهداً، واكتفى للأصل بحديث أنس الذي قبله والله أعلم-انتهى. والحديث أخرجه أيضاً أحمد، والترمذي، والنسائي، والبيهقي. 1678- قوله: (لا تسبوا الأموات) ظاهره النهي عن سب الأموات على العموم، وقد خصص هذا العموم بما تقدم في حديث أنس أنه قال - صلى الله عليه وسلم - عند ثنائهم بالخير والشر: وجبت، أنتم شهداء الله في الأرض، ولم ينكر عليهم ولم ينههم عن الثناء بالشر، بل أقرهم على ذلك. وقيل: إن اللام في الأموات عهدية، والمراد بهم المسلمون. وقد ذكرنا توجيهات أخرى في شرح حديث أنس. قال الشوكاني: والوجه تبقية الحديث على عمومه إلا ما خصه دليل كالثناء على الميت بالشر. (على جهة الشهادة) وجرح المجروحين من الرواة أحياء وأمواتاً لإجماع العلماء على جواز ذلك، وذكر مساوي الكفار والفساق للتحذير منهم والتنفير عنهم. (فإنهم قد أفضوا) بفتح الهمزة والضاد أي وصلوا. (إلى ما قدموا) من التقديم أي لأنفسهم من الأعمال، والمراد جزاءها أي فلا ينفع سبهم فيهم، كما ينفع سب الحي في النهي والزجر حتى لا يقع في الهلاك، نعم قد يتضمن سبهم مصلحة الحي، كما إذا كان لتحذيره عن طريقهم مثلاً فيجوز كما تقدم. (رواه البخاري) في الجنائز، وفي الرقاق، وأخرجه أيضاً أحمد، والنسائي، والبيهقي. 1679- قوله: (كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد) جمل قتيل أي شهداء غزوة أحد. (في ثوب واحد) أي من الكفن للضرورة، ولا يلزم منه تلاقي بشرتهما إذ يمكن حيلولتهما بنحو إذخر، ويحتمل أن الثوب كان طويلاً فقطعه بينهما نصفين وكفن كل واحد على حياله، ويؤيد الأول بل يعينه قول جابر في تمام الحديث عند البخاري: فكفن أبي وعمي في نمرة واحدة. وقال المظهر في شرح المصابيح قوله: في ثوب واحد، أي في قبر واحد، إذ يجوز تجريدهما في ثوب واحد بحيث تتلاقى بشرتاهما. قال السندي: نقله عنه غير واحد وأقروه عليه،

ثم يقول: أيهم أكثر أخذاً للقرآن؟ فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد، وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة، وأمر بدفنهم بدمائهم، ولم يصل عليهم، ـــــــــــــــــــــــــــــ لكن النظر في الحديث يرده، بقي أنه ما معنى ذلك، والشهيد يدفن بثيابه التي كانت عليه، فكان هذا فيمن قطع ثوبه ولم يبق على بدنه أو بقي منه قليل لكثرة الجروح، وعلى تقدير بقاء شيء من الثوب السابق فلا إشكال، لكونه فاصلاً عن ملاقاة البشرة، وأيضاً قد اعتذر بعضهم عنه بالضرورة. وقال بعضهم: جمعهما في ثوب واحد هو أن يقطع الثوب الواحد بينهما-انتهى. (أيهم أكثر أخذاً للقرآن) بالنصب على التمييز في أخذاً. وفي رواية الترمذي: حفظاً للقرآن. (فإذا أشير له) أي للنبي - صلى الله عليه وسلم - (إلى أحدهما قدمه) أي ذلك الأحد. (في اللحد) بفتح اللام وسكون الحاء، أي الشق في عرض القبر جانب القبلة، سمى لحداً لأنه شق يعمل في ناحية القبر، مائلاً عن وسطه، قدر ما يوضع الميت في جهة القبلة، والإلحاد لغة الميل، وفيه دليل على جواز تكفين الرجل في ثوب واحد لأجل الضرورة، وفيه جمع الرجلين فصاعداً في لحد لأجل الضرورة، ففي رواية عبد الرزاق: كان يدفن الرجلين والثلاثة في قبر واحد. وروى أصحاب السنن عن هشام بن عامر الأنصاري قال: جاءت الأنصار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد فقالوا: أصابنا قرح وجهد، فقال: احفروا وأوسعوا واجعلوا الرجلين والثلاثة في قبر. صححه الترمذي، ومثله المرأتان والثلاث. وفيه أنه يقدم الأكثر أخذاً للقرآن على غيره لفضيلة القرآن، كنظيره في الإمامة في الحياة، ويقاس عليه سائر جهات الفضل إذا جمعوا في اللحد. (وقال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أنا شهيد على هؤلاء) كلمة على في مثله تحمل على معنى اللام، أي أنا شفيع لهؤلاء وأشهد لهم بأنهم بذلوا أرواحهم وتركوا حياتهم لله تعالى، وفيه تشريف لهم وتعظيم وإلا فالأمر معلوم عنده تعالى. (ولم يصل عليهم) قال الحافظ في الفتح: هو مضبوط في روايتنا بفتح اللام، وهو اللائق بقوله بعد ذلك "ولم يغسلوا" وسيأتي من وجه آخر بلفظ: ولم يصل عليهم ولم يغسلهم، وهذه بكسر اللام، والمعنى ولم يفعل ذلك بنفسه ولا بأمره- انتهى. وفيه دليل على أنه لا يصلى على الشهيد المقتول في معركة الكفار، ويدل عليه أيضاً ما روى أحمد والترمذي وحسنه، وأبوداود والدارقطني والحاكم عن أنس: إن شهداء أُحد لم يغسلوا ودفنوا بدمائهم ولم يصل عليهم-انتهى. وفي ذلك خلاف بين العلماء معروف، فقال مالك والشافعي وإسحاق وأحمد في المشهور عنه: بمنع الصلاة عليه عملاً بحديثي جابر وأنس. وقال الثوري وأبوحنيفة: يجب الصلاة عليه كسائر الأموات عملاً بعموم أدلة الصلاة على الميت، وبأحاديث رُويت في الصلاة على قتلى أحد حمزة وغيره من الشهداء، وقد سردها الزيلعي في نصب الراية، والحافظ في التلخيص، وبعضها حسن، وبما روى البخاري وغيره عن عقبة بن عامر: أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى على قتلى أحد، وبما روى أبوداود،

وسكت عنه هو والمنذري عن أبي سلام عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: طلب رجل من المسلمين رجلاً من جهينة فضربه فأخطأه وأصاب نفسه بالسيف، فابتدره أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجدوه قد مات، فلفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثيابه ودمائه وصلى عليه -انتهى مختصراً. وبما روى النسائي والطحاوي والحاكم والبيهقي عن شداد بن الهاد الليثي الصحابي: أن رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فآمن به واتبعه ... الحديث، وفيه أنه استشهد فصلى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذهب أحمد في رواية إلى أن الصلاة عليه مستحبة، قال ابن قدامة: صرح بذلك أي بالاستحباب في رواية المروذي فقال: الصلاة عليه أجود وإن لم يصلوا عليه أجزأ- انتهى. وقال ابن حزم: إن صلى على الشهيد فحسن وإن لم يصل عليه فحسن، واستدل بحديثي جابر وعقبة، وقال: ليس يجوز أن يترك أحد الأثرين المذكورين للآخر، بل كلاهما حق مباح، وليس هذا مكان نسخ؛ لأن استعمالهما معاً ممكن في أحوال مختلفة، وأجاب الحنفية عن حديثي جابر وأنس: بأن النفي محمول على نفي الصلاة منفرداً، ولكنه كان يصلي على تسعة تسعة أو عشرة عشرة، وحمزة معهم، كما تدل عليه الروايات، أو المعنى أنه لم يصل على أحد كصلاته على حمزة حيث صلى عليه مراراً لمزيد الرحمة والرأفة والبركة، وصلى على غيره مرة، ثم أعاد الصلاة عليهم بأن صلى عليهم بعد ثمان سنين صلاته على الميت وكان توديعاً لهم. وقال بعضهم: إنه لم يصل عليهم يوم أحد أي حال الوقعة، وعليه يحمل رواية جابر وأنس: ثم صلى عليهم قبيل وفاته، استدراكاً لما فاته كما يشهد له حديث عقبة بن عامر عند البخاري وغيره: أنه صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين، كالمودع للأحياء والأموات، قالوا: ترك الصلاة عليهم يوم أحد لاشتغاله عنهم قلة فراغه لذلك، وكان يوماً صعباً على المسلمين، فعذروا بترك الصلاة عليهم يومئذٍ، قالوا: وتجوز الصلاة على القبر ما لم يتفسخ الميت، والشهداء لا يتفسخون ولا يحصل لهم تغير، فالصلاة عليهم لا تمتنع أي وقت كان. وأجابوا أيضاً بأن أحاديث الصلاة مثبتة والإثبات مقدم على النفي. وأجاب الشافعية عن حديث عقبة بن عامر بأن المراد بالصلاة فيه الدعاء والاستغفار كقوله: {وصل عليهم} لا الصلاة على الميت المعهودة. قال النووي: المراد بالصلاة هنا الدعاء، وأما كونه مثل الذي على الميت، فمعناه أنه دعا لهم بمثل الدعاء الذي كانت عادته أن يدعو به للموتى، والتشبيه لا يقتضي التسوية من كل وجه، فقوله "صلاته على الميت" لا يمنع من حمل الصلاة على الدعاء والاستغفار. قال الأمير اليماني: ويؤيد كونه دعا لهم عدم الجمعية بأصحابه، إذ لو كانت صلاة الجنازة المعهودة لأشعر أصحابه وصلاها جماعة، كما فعل في صلاته على النجاشي، فإن الجماعة أفضل قطعاً، وأهل أحد أولى الناس بالأفضل، ولأنه لم يرو عنه أنه صلى على قبر فرادى. وقال في فيض الباري (ج2 ص478) بعد ذكر التأويل النووي

المذكور، ورد عليه العيني فقال: إنه ليس بتأويل بل تحريف، فإن المفعول المطلق للتشبيه، فقوله "صلاته على الميت" صريح في أنه صلى عليهم، كما يصلى على الجنائز. أقول والصواب، كما قاله النووي. فإني تتبعت الروايات فتبين أن صلاته كانت في السنة التي مات فيها، وكانت في المسجد النبوي، وإليه يشير لفظ البخاري: ثم انصرف إلى المنبر، وأين كان المنبر في أُحد؟ فخروجه - صلى الله عليه وسلم - في تلك الواقعة إنما هو في المسجد لا إلى أُحد، وإنما أراد بذلك أن يدعوا لهم قبيل خروجه من الدنيا أيضاً لمزيد فضلهم، قال: وسها من زعم أن خروجه كان إلى أحد فإنه بثلاثة أميال عن المدينة-انتهى. وأجابوا عن أحاديث الصلاة على قتلى أحد مع حمزة بأن كلها مدخولة لا يخلو واحد منها عن كلام. قال المجد بن تيمية في المنتقى: وقد رويت الصلاة عليهم بأسانيد لا تثبت-انتهى. وقد أعل الشافعي بعض روايات الصلاة على قتلى أُحد، وعلى حمزة بأنه متدافع، قال في كتاب الأم (ج1ص337) : كيف يستقيم أنه عليه السلام صلى على حمزة سبعين صلاة إذا كان يؤتى بتسعة وحمزة عاشرهم، وشهداء أحد إنما كانوا اثنين وسبعين شهيداً، فإذا صلى عليهم عشرة عشرة فالصلاة إنما تكون سبع صلوات أو ثمانياً، فمن أين جاءت سبعون صلاة؟ وأجيب عنه بأن المراد صلى على سبعين نفساً وحمزة معهم كلهم، فكأنه صلى عليه سبعين صلاة. وأجاب الزيلعي وابن التركماني عنه بوجه آخر. ثم قال الشافعي: وإن كان عني سبعين تكبيرة فنحن وهم نزعم أن التكبير على الجنائز أربع، فهي إذا كانت تسع صلوات تكون ستاً وثلاثين تكبيرة، فمن أين جاءت أربع وثلاثون؟ وأجاب بعض الحنفية عنه بأنه إن كان مراد الإمام الشافعي أن الأمر استقر على أربع تكبيرات في الجنائز فمسلّم، وهذا لا يرد التأويل؛ لأنه ثبت أنه عليه السلام كبر على الجنائز ثلاثاً وأربعاً وخمساً وأكثر من ذلك، وفي جنازة حمزة كبر تسعاً. كما رواه الطحاوي (ص290) من حديث عبد الله بن الزبير والطبراني في الكبير والأوسط من حديث ابن عباس. قال الهيثمي: وإسناده حسن وإن أراد أنه عليه السلام لم يكبر على جنازة أكثر من أربع تكبيرات قط، وإنه وإننا متفقان على هذا فهذا ليس بصحيح-انتهى. وأجاب البيهقي عن حديث شداد بن الهاد بأنه يحتمل أن يكون الأعرابي بقي حياً حتى انقضت الحرب ثم مات، فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والذين لم يصل عليهم بأُحد ماتوا قبل انقضاء الحرب-انتهى. ولا يخفى ما فيه فإنه احتمال غير ناشىء عن دليل فلا يلتفت إليه. وأجاب بعضهم بأنه مرسل؛ لأن شداد بن الهاد تابعي. وفيه أن شدادا هذا صحابي معروف شهد الخندق وما بعدها، فالحديث موصول. وأما حديث أبي سلام الذي استدل به للصلاة على الشهيد، فقال الشوكاني: لم أقف للمانعين من الصلاة على جواب عليه، وهو من أدلة المثبتين؛ لأنه قتل في المعركة بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسماه شهيداً وصلى عليه-انتهى. والقول الراجح عندي ما حكي عن أحمد: أن الصلاة على الشهيد مستحبة غير واجبة، وإن صلى عليه كان

ولم يغسلوا)) . رواه البخاري. 1680- (21) وعن جابر بن سمرة، قال: ((أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بفرس معرور، فركبه حين انصرف من جنازة ابن الدحداح، ـــــــــــــــــــــــــــــ حسناً، وإن لم يصل أجزأ. وقد أطال الشوكاني الكلام في هذه المسألة واختار الصلاة على الشهيد. (ولم يغسلوا) إبقاء لأثر الشهادة عليهم. وفي حديث أحمد عن جابر أيضاً أنه - صلى الله عليه وسلم - قال في قتلى أُحد: لا تغسلوهم فإن كل جرح أو كلم أو دم يفوح مسكاً يوم القيامة، ولم يصل عليهم، فبين الحكمة في ذلك. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً الترمذي والنسائي، وابن ماجه، والبيهقي. فائدة: قال الشوكاني: قد اختلف في الشهيد الذي وقع الخلاف في غسله والصلاة عليه هل هو مختص بمن قتل في المعركة أو أعم من ذلك؟ فعند الشافعي أن المراد بالشهيد قتيل المعركة في حرب الكفار، وخرج بقوله: في المعركة، من جرح في المعركة وعاش بعد ذلك حياة مستقرة، وخرج: بحرب الكفار، من مات في قتال المسلمين كأهل البغي، وخرج بجميع ذلك من يسمى شهيداً بسبب غير السبب المذكور، ولا خلاف أن من جمع هذه القيود شهيد، وروي عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد: أن من جرح في المعركة إن مات قبل الارتثاث فشهيد، والارتثاث أن يحمل ويأكل أو يشرب أو يوصي أو يبقى في المعركة يوماً وليلة حياً، وذهبت الهادوية إلى أن من جرح في المعركة يقال له شهيد وإن مات بعد الارتثاث، وأما من قتل مدافعاً عن نفس أو مال أو في المصر ظلماً، فقال أبوحنيفة وأبويوسف والهادوية: إنه شهيد. وقال الإمام يحيى والشافعي: إنه وإن قيل شهيد فليس من الشهداء الذين لا يغسلون، وذهبت العترة والحنفية والشافعي في قول له: إن قتيل البغاة شهيد، قالوا: إذ لم يغسل على أصحابه وهو توقيف-انتهى كلام الشوكاني. ومن أحب البسط والتفصيل رجع إلى المغني (ج2ص528، 536) . 1680- قوله: (أتي) بصيغة المجهول. (بفرس معرور) كذا في النسخ الموجودة بكسر الراء الثانية منوناً، أي عار من السرج ونحوه، وهكذا في جامع الأصول (ج11ص421) ، وفي المصابيح، وكذا وقع عند أحمد (ج5ص90) . قال في مجمع البحار: في الحديث أتي بفرس معرور، أي لا سرج عليه ولا غيره، وأعرورى فرسه إذا ركبه عرياناً، فهو لازم ومتعد، أو يكون أتى بفرس معرورى على المفعول-انتهى. وقال الطيبي أعرورى الفرس أي ركبه عرياناً، فالفارس معرور والفرس معرورى هذا هو القياس، لكن الرواية صحت بالكسر-انتهى. والذي في نسخ صحيح مسلم الموجودة عندنا: معرورى. قال النووي: معناه بفرس عرى وهو بضم الميم وفتح الرائين منوناً. قال أهل اللغة: أعروريت الفرس إذا ركبته عرياً فهو معرورى. قالوا: ولم يأت افعوعل معدى إلا قولهم أعروريت الفرس واحلوليت الشيء. (فركبه) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (حين انصرف من جنازة ابن الدحداح)

{الفصل الثاني}

ونحن نمشي حوله)) . رواه مسلم. {الفصل الثاني} 1681- (22) عن المغيرة بن شعبة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الراكب يسير خلف الجنازة، ـــــــــــــــــــــــــــــ بفتح مهملتين وسكون حاء مهملة أولى. قال الحافظ في الإصابة (ج1ص191) : هو ثابت بن الدحداح بن نعيم ابن غم بن أياس حليف الأنصار، ويقال: ثابت بن الدحداحة، ويكنى أبا الدحداح، وأبا الدحداحة. روى الطبراني من طريق ابن إسحاق حدثني موسى بن يسار عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة ثابت بن الدحداح- الحديث. وهو في صحيح مسلم من حديث جابر بن سمرة، لكن لم يسمه قال: صلينا على ابن الدحداح. وفي رواية علي أبي الدحداح. قال الواقدي في غزوة أحد حدثني عبد الله بن عمار الخطمي قال: أقبل ثابت بن الدحداحة يوم أحد فقال: يا معشر الأنصار إن كان محمد قتل فإن الله حي لا يموت، فقاتلوا عن دينكم، فحمل بمن معه من المسلمين، فطعنه خالد فأنفذه فوقع ميتاً. قال الواقدي وبعض أصحابنا يقول: إنه جرح ثم برأ من جراحاته تلك ومات على فراشه من جرح كان أصابه ثم انتقض به مرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية. قال الحافظ: وهو الراجح. (ونحن نمشي حوله) قال النووي: فيه مشي الجماعة مع كبيرهم الراكب وأنه لا كراهة فيه في حقه ولا في حقهم إذا لم يكن فيه مفسدة، وإنما يكره ذلك إذا حصل فيه انتهاك للتابعيين، أو خيف إعجاب أو نحو ذلك من المفاسد-انتهى. والحديث يدل على جواز الركوب عند الانصراف من الجنازة، ويدل عليه أيضاً ما روي عن ثوبان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتي بدابة وهو مع جنازة فأبى أن يركبها، فلما انصرف أتي بدابة فركب، فقيل له فقال: إن الملائكة كانت تمشي فلم أكن لأركب وهم يمشون، فلما ذهبوا ركبت. أخرجه أبوداود، وسكت عنه هو والمنذري. وقال الشوكاني: رجال إسناده رجال الصحيح. قال العلماء: لا يكره الركوب في الرجوع من الجنازة اتفاقاً؛ لانقضاء العبادة. (رواه مسلم) وفي رواية له صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ابن الدحداح ثم أتى بفرس عرى فعقله رجل فركبه، فجعل يتوقص به ونحن نتبع به نسعى خلفه-انتهى. والحديث أخرجه أحمد والترمذي والنسائي والبيهقي أيضاً. 1681- قوله: (الراكب يسير خلف الجنازة) أي الأفضل في حقه ذلك. وفيه دليل على جواز الركوب في الذهاب مع الجنازة. ويعارضه ما سيأتي من حديث ثوبان قال: خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في جنازة فرآى ناساً ركباناً، فقال: ألا تستحيون أن ملائكة الله على أقدامهم وأنتم على ظهور الدواب! قال شيخنا في شرح الترمذي: والجمع بين هذين الحديثين بوجوه: منها أن حديث المغيرة في حق المعذور بمرض أو شلل أو عرج ونحو ذلك.

والماشي يمشي خلفها وأمامها، وعن يمينها، وعن يسارها قريباً منها، والسقط يصلى عليه، ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة)) رواه أبوداود. وفي رواية أحمد، والترمذي، والنسائي وابن ماجه ـــــــــــــــــــــــــــــ وحديث ثوبان في حق غير المعذور، ومنها أن حديث ثوبان محمول على أنهم كانوا قدام الجنازة أو طرفها، فلا ينافي حديث المغيرة، ومنها أن حديث المغيرة لا يدل على عدم الكراهة، وإنما يدل على الجواز، فيكون الركوب جائزاً مع الكراهة-انتهى. (والماشي يمشي خلفها وأمامها وعن يمينها وعن يسارها قريباً منها) أي كلما يكون أقرب منها في الجوانب الأربعة فهو أفضل للمساعدة في الحمل عند الحاجة. وفيه دليل على جواز المشي أمام الجنازة وخلفها وعن يمينها وعن شمالها، وأن جميع الجهات في حق الماشي سواء. وفيه خلاف بين العلماء، كما ستعرف. (والسقط) قال في القاموس: السقط مثلثة الولد لغير تمام-انتهى. (يصلى عليه) إذا استهل أو تيقنت حياته، ثم مات عند الجمهور، ومطلقاً عند أحمد إذا ولد بعد نفخ الروح فيه وتمام أربعة أشهر وعشر. (ويدعى لوالديه) إن كانا مسلمين. (بالمغفرة) وفي رواية لأحمد والحاكم: بالعافية. (والرحمة) أي في الصلاة عليه. وظاهره أنه لا يجب الدعاء له بخصوصه، ونقل ميرك عن الأزهار أنه ليس المراد به الاقتصار على ذلك، بل يجب له ويستحب لهما بقوله: اللهم اجعله شفيعاً لأبويه وسلفاً وذخراً وعظة واعتباراً، وثقل به موازينهما، وافرغ الصبر على قلوبهما، ولا تفتنهما بعده، واغفرلهما وله-انتهى. وسيأتي شيء من الكلام على الدعاء للطفل في آخر الفصل الثالث. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً أحمد (ج4:ص248-249) والحاكم (ج1:ص363) لكن لم يذكر في الماشي خلفها وأمامها، وأخرجه البيهقي من طريق أبي داود والحاكم، وسكت عنه أبوداود والمنذري. وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد على شرط البخاري. (وفي رواية أحمد) (ج4:ص247-252) . (والترمذي والنسائي وابن ماجه) وأخرجها أيضاً الحاكم (ج1:ص355-363) وقال: حديث صحيح على شرط البخاري، ووافقه الذهبي. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره. قلت: مدار الحديث بلفظيه عند من خرجه على زياد بن جبير، وقد اختلف عليه أصحابه، فرواه عن يونس بن عبيد موقوفاً أوشك في رفعه، كما وقع عند أبي داود والحاكم (ج1:ص363) وأحمد (ج4:ص249) وأبي داود الطيالسي وابن أبي شيبة، ورواه عنه سعيد بن عبيد الله فرفعه، كما وقع عند أحمد (ج4:ص252) والنسائي وابن ماجه والترمذي والحاكم (ج1:ص355-363) وابن أبي شيبة وابن عبد البر في التمهيد، وكذا رواه مرفوعاً المغيرة بن عبيد الله عند النسائي والمبارك عند أحمد (ج2:ص248) ، والجزم مقدم على الشك فالراجع رفعه. والمحفوظ أنه رواه زياد بن جبير عن أبيه عن المغيرة بن شعبة، كما وقع عند جميع المخرجين. وأما ما وقع

قال: ((الراكب خلف الجنازة، والماشي حيث شاء منها، والطفل يصلى عليه)) . وفي المصابيح عن المغيرة بن زياد. 1828- (23) وعن الزهري، عن سالم عن أبيه، قال: ((رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبابكر وعمر يمشون أمام الجنازة)) ـــــــــــــــــــــــــــــ عند ابن ماجه في باب شهود الجنائز "زياد بن جبير سمع المغيرة بن شعبة"، فهو شاذ أو رواه زياد عن أبيه عن المغيرة، ثم سمعه عن المغيرة مباشرة أو بالعكس، والله أعلم. (الراكب خلف الجنازة) قال السندي: أي اللائق بحالة أن يكون خلف الجنازة. (والماشي حيث شاء منها) أي يمشي حيث أراد من الجنازة أمامها وخلفها وعن يمينها وعن يسارها. فإن حاجة الحمل تدعو إلى جميع ذلك. (والطفل يصلى عليه) هذا بعمومه يشمل من استهل ومن لا، وبه أخذ أحمد وغيره. ولكن الجمهور أخذوا بحديث جابر الآتي في آخر الفصل الثالث بلفظ: الطفل لا يصلى عليه حتى يستهل، ترجيحاً للنهي على الحل عند التعارض، وحملاً للمطلق على المقيد. ويأتي الكلام هناك مفصلاً. (وفي المصابيح عن المغيرة بن زياد) الظاهر أنه من خطأ الناسخ، إذ ليس في عدد الصحابة والتابعين أحد بهذا الاسم والنسب. 1682- قوله: (وعن الزهري عن سالم عن أبيه) أي عبد الله بن عمر. (قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبابكر وعمر) زاد في رواية عند أحمد وابن حبان والنسائي والبيهقي ذكر عثمان. (يمشون أمام الجنازة) فيه دليل على أن المشي أمام الجنازة أفضل؛ لأنه حكاية عادة، وكانت عادتهم اختيار الأفضل، واختلف العلماء بعد الاتفاق على جواز المشي أمام الجنازة وخلفها ويمينها ويسارها اختلافاً في الأولوية على أقوال: الأول: أن المشي أمامها أولى وأفضل. قال ابن قدامة: وإليه ذهب أكثر أهل العلم، روي ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وابن عمرو وأبي هريرة والحسن بن علي وابن الزبير وأبي قتادة وأبي أسيد وعبيد بن عمير وشريح والقاسم بن محمد والزهري ومالك والشافعي. وروى البيهقي بسنده عن زياد بن قيس الأشعري قال: أتيت المدينة، فرأيت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المهاجرين والأنصار يمشون أمام الجنازة، وروى مثله عن أبي صالح أيضاً، كما في المغني والمحلى. الثاني: أن المشي خلفها أفضل، وبه قال أبوحنيفة وأصحابه وأهل الظاهر، ويروى ذلك عن علي وابن مسعود وأبي الدرداء وعمرو بن العاص، وبه قال إبراهيم النخعي والأوزاعي، واستدل لذلك بحديث ابن مسعود الذي بعده، وهو حديث ضعيف لا يصلح للاستدلال، كما ستعرف، وبحديث أبي هريرة المتقدم في أول الجنائز في ذكر حقوق المسلم بلفظ: إتباع الجنائز، وبلفظ:: إذا مات فاتبعه، وبحديث أبي هريرة أيضاً في الفصل

رواه أحمد، وأبوداود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وقال الترمذي: وأهل الحديث كأنهم يرونه مرسلاً. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأول من هذا الباب بلفظ: من اتبع جنازة مسلم الخ. قالوا: والإتباع لا يكون إلا إذا مشى خلفها. وقد أسلفنا جوابه في أول الجنائز نقلاً عن الفتح فتذكر. واستدلوا أيضاً بأحاديث سردها الزيلعي في نصب الراية (ج2: ص290-293) لا يخلوا واحد منها عن كلام، ورجحوا تلك الأحاديث بالمعنى؛ لأن المشي خلفها أقرب إلى الاتعاظ والاعتبار والانتباه؛ لأنه يعاين الجنازة، ولأنه يكون الماشي خلفها مستعداً للمساعدة والمعاونة في حمل الجنازة عند الحاجة. قالوا: والمروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبيان الجواز أو لتسهيل الأمر على الناس عند الازدحام، وهو تأويل فعل أبي بكر وعمر لما روى عبد الرزاق وابن أبي شيبة (ج4:ص100-101) عن ابن ابزى. الثالث: التخيير والتوسعة، وأن الكل سواء. قيل: هو قول الثوري، وإليه ميل البخاري، ورواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة (ج4:ص100) عن أنس. الرابع: التفصيل يعني أن أمام الجنازة أفضل في حق الماشي وخلفها أفضل في حق الراكب، وإليه ذهب أحمد، كما يظهر من المغني، وكما صرح به الزيلعي. الخامس: أن الماشي يمشي حيث شاء والراكب خلفها لحديث المغيرة المتقدم، نسب هذا القول الأمير اليماني إلى الثوري. السادس: إن كان مع الجنازة مشى أمامها، وإلا فخلفها، حكاه الحافظ في الفتح عن النخعي. والظاهر عندي هو القول الثاني، والله تعالى أعلم. (رواه أحمد) (ج2:ص8) . (وأبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجه) وأخرجه أيضاً الدارقطني وابن حبان والبيهقي وابن أبي شيبة كلهم من طريق ابن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه، ورواه أيضاً موصولاً عن الزهري ابن أخيه محمد بن عبد الله عند أحمد (ج2:ص122) ومنصور وبكر بن وائل عند الترمذي والنسائي، وزياد بن سعد عند الترمذي والنسائي. قال ابن عبد البر: وصله عن الزهري عن سالم عن أبيه جماعة ثقات من أصحاب الزهري، منهم ابن عيينة ومعمر ويحيى بن سعيد وموسى بن عقبة وابن أخي ابن شهاب وزياد بن سعد وعباس بن الحسن الحراني على اختلاف على بعضهم، ثم أسند رواياتهم، ذكره السيوطي في شرح الموطأ. (وقال الترمذي: وأهل الحديث كأنهم يرونه مرسلاً) عبارة الترمذي في جامعه: وروى معمر ويونس بن يزيد ومالك وغيرهم من الحفاظ عن الزهري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يمشي أمام الجنازة، وأهل الحديث كلهم يرون أن الحديث المرسل في ذلك أصح، ثم روى الترمذي عن ابن المبارك أنه قال: حديث الزهري في هذا مرسلاً أصح من حديث ابن عيينة، وقال النسائي: وصله خطأ، وهم فيه ابن عيينة، وخالفه مالك. فرواه عن الزهري مرسلاً، وهو الصواب، قال: وإنما أتي عليه فيه من جهة أن الزهري رواه عن سالم عن أبيه أنه

1683- (24) وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الجنازة متبوعة ولا تتبع، ليس معها من تقدمها)) ـــــــــــــــــــــــــــــ كان يمشي أمام الجنازة قال: وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبوبكر وعمر يمشون أمام الجنازة. فقوله: "وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - " إلى آخره من كلام الزهري لا من كلام ابن عمر-انتهى. وبهذا اللفظ الذي أشار إليه النسائي رواه أحمد في (ج2:ص37) عن عبد الرزاق وابن بكر قالا: أخبرنا ابن جريج قال: قال ابن شهاب الخ. وفي (ج2:ص140) عن حجاج ثنا ليث ثنى عقيل بن خالد عن ابن شهاب الخ. وعن حجاج قال: قرأت على ابن جريج حدثني زياد بن سعد أن ابن شهاب قال: حدثني سالم عن عبد الله بن عمر أنه كان يمشي بين يدي الجنازة، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبوبكر وعمر وعثمان يمشون أمامها. قال في التلخيص: قال عبد الله: قال أبي ما معناه: القائل "وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إلى آخره هو الزهري، والحديث عن الزهري مرسل، وحديث سالم فعل ابن عمر، وحديث ابن عيينة وهم. وقد ذكر الدارقطني في العلل اختلافاً كثيراً فيه على الزهري. قال: والصحيح قول من قال عن الزهري عن سالم عن أبيه أنه كان يمشي، قال: وقد مشى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبوبكر وعمر، واختار البيهقي ترجيح الموصول؛ لأنه من رواية ابن عيينة وهو ثقة حافظ. وعن علي بن المديني قال: قلت لابن عيينة: يا أبا محمد! خالفك الناس في هذا الحديث، فقال: استيقن الزهري حدثني مراراً لست أحصيه يعيده ويبديه، سمعته من فيه عن سالم عن أبيه. قلت: (القائل هو الحافظ) : وهذا لا ينفى عنه الوهم، فإنه ضابط؛ لأنه سمعه منه عن سالم عن أبيه، والأمر كذلك إلا أن فيه إدراجاً، لعل الزهري أدمجه، إذ حدث به ابن عيينة وفصله لغيره. وقد أوضحته في المدرج بأتم من هذا، وجزم أيضاً بصحته ابن المنذر وابن حزم، وقد روى يونس عن الزهري عن أنس مثله، أخرجه الترمذي، وقال: سألت عنه البخاري فقال: هذا خطأ، أخطأ فيه محمد بن بكر-انتهى كلام الحافظ. 1683- قوله: (الجنازة متبوعة) أي يسن لمن شيع جنازة أن يمشي خلفها. (ولا تتبع) وفي رواية لأحمد: وليست يتابعه، وكذا عند ابن ماجه. قال "لا تتبع" بفتح التاء والباء ويرفع العين على النفي، وبسكونها على النهي، أي لا تتبع هي الناس فلا تكون عقيبهم، وهو تصريح بما علم ضمناً. (ليس معها من تقدمها) أي لا يعد مشيعاً لها. قال الطيبي: قوله "لا تتبع" صفة مؤكدة أي متبوعة غير تابعة، وقوله "ليس معها من تقدمها" تقرير بعد تقرير يعني من تقدم الجنازة ليس ممن يتبعها فلا يثبت له الأجر-انتهى. وبه أخذ أبوحنيفة ومن وافقه. والحديث ضعيف غير صالح للاحتجاج، كما ستعرف وقوله "ليس معها" كذا هو في أبي داود وابن ماجه، وكذا في البيهقي وابن أبي شيبة، وكذا ذكره الزيلعي في نصب الراية، والجزري في جامع الأصول (ج1:ص419) نقلاً

رواه الترمذي، وأبوداود، وابن ماجه، قال الترمذي: وأبوماجد الراوي رجل مجهول. 1684- (25) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من تبع جنازة وحملها ثلاث مرار، فقد قضى ما عليه من حقها)) رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ عن الترمذي وأبي داود. والذي في الترمذي "ليس منها"، وكذا وقع عند أحمد (ج1:419) ، وكذا ذكر الحافظ في التلخيص، ووقع عند أحمد (ج1:ص394، 415) "ليس منا". والحديث ذكره السيوطي في الجامع الصغير ونسبه لابن ماجه. قال المناوي: "ليس منا" كذا رأيته بخط المؤلف يعني السيوطي. وفي نسخ أي للجامع الصغير "منها" وهو أوضح-انتهى. (رواه الترمذي وأبوداود وابن ماجه) وأخرجه أيضاً أحمد وابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه وأبويعلى والطحاوي، كلهم من حديث يحيى الجابر عن أبي ماجد الحنفي عن عبد الله بن مسعود. وقد ضعف هذا الحديث البخاري والترمذي والنسائي وابن عدي والبيهقي وغيرهم؛ لأن أبا ماجد الحنفي مجهول، قاله الدارقطني وأحمد بن حنبل والترمذي والساجي وابن عدي والبيهقي. (قال الترمذي: وأبوماجد) ويقال: أبوماجدة الحنفي العجلي الكوفي، اسمه عائذ بن نضلة، قاله أبوحاتم. (رجل مجهول) وقال الدارقطني: مجهول متروك. وقال ابن عدي: لا يعرف. وقال الساجي: مجهول منكر الحديث: وقال ابن المديني: لم يرو عنه غير يحيى الجابر، وله غير حديث منكر. وقال الترمذي في علله الكبرى: قال البخاري: أبوماجد منكر الحديث، وكذا قال النسائي في الضعفاء (ص33) ، وقال البخاري في الكنى (ص687) : قال الحميدي: قال ابن عيينة: قلت ليحيى: من أبوماجد؟ قال طائر طرأ علينا، فحدثنا وهو منكر الحديث، وقال نحو هذا في الضعفاء (ص38) والصغير (ص112) . 1684- قوله: (من تبع جنازة) لإنسان مسلم، سواء كان بجنبها أو أمامها أو خلفها، خلافاً لمن خص التبعية بالخلف، فالمراد تبيعيتها من أي جهة. (وحملها ثلاث مرار) والذي في الترمذي "مرات" وكذا في جامع الأصول (ج11:ص418) . قال المناوي: يحتمل أن المراد أن يحمل حتى يتعب فيستريح، ثم يفعل كذلك ثانياً وثالثاً. وقال ابن الملك: يعني يعاون الحاملين في الطريق ثم يتركها ليستريح ثم يحملها في بعض الطريق، يفعل كذلك ثلاث مرات. (فقد قضى ما عليه من حقها) أي من حق الجنازة بيان لما قال ميرك أي من جهة المعاونة لا من دين وغيبة ونحوهما-انتهى. وقد عدّ - صلى الله عليه وسلم - فيما مر أول كتاب الجنائز أن من جملة الحقوق التي للمؤمن على المؤمن أن يشيع جنازته من غير أن يقيده بحملها ثلاث مرات. (رواه الترمذي) من طريق عباد بن منصور عن أبي المهزم عن أبي هريرة، وأخرجه ابن أبي شيبة (ج4:ص103) موقوفاً من هذا الطريق.

وقال: هذا حديث غريب. 1685- (26) وقد روى في شرح السنة: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حمل جنازة سعد بن معاذ بين العمودين)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ (وقال: في هذا حديث غريب) وقال أيضاً: ورواه بعضهم بهذا الإسناد ولم يرفعه. وأبو مهزم اسمه يزيد بن سفيان وضعفه شعبة-انتهى. وقال البخاري: تركه شعبة. وقال مسلم بن إبراهيم عن شعبة: رأيت أبا المهزم ولو أعطوه فلسين لحدثهم سبعين حديثاً. قال الحافظ: وفي رواية عنه: لوضع، ذكرها الحاكم، وزاد روى المناكير. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال ابن معين: ضعيف، وقال مرة لا شيء. وقال الدارقطني: ضعيف يترك، كذا في تهذيب التهذيب للحافظ: فحديث أبي هريرة هذا ضعيف. قال شيخنا: لم يحكم الترمذي عليه بالضعف، وهو ضعيف؛ لأن في سنده أبا المهزم، وهو متروك –انتهى. 1685- قوله: (وقد روى) أي البغوي. قال القاري: وفي نسخة بصيغة المجهول. (في شرح السنة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حمل جنازة سعد بن معاذ بين العمودين) بفتح العين أي قائمتي السرير، ورواه ابن سعد في الطبقات عن الواقدي عن إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن شيوخ من بني عبد الأشهل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمل جنازة سعد بن معاذ من بيته بين العمودين حتى خرج به من الدار. قال الواقدي: والدار تكون ثلاثين ذراعاً-انتهى. قلت: الواقدي مكشوف الحال، وابن أبي حبيبة ضعيف، وشيوخه مجاهيل. وقال النووي في الخلاصة، ورواه الشافعي بسند ضعيف، وقال في شرح المهذب (ج5:ص269) ذكره البيهقي في كتاب المعرفة، وأشار إلى تضعيفه. وقال الحافظ في التلخيص: رواه الشافعي من بعض أصحابه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه حمل جنازة سعد بن معاذ بين العمودين، ورواه ابن سعد عن الواقدي عن ابن أبي حبيبة عن شيوخ بني عبد الأشهل-انتهى. والحديث فيه دليل على مشروعية الحمل للميت، وأنه ليس دناءة في حمل الجنازة، وأنه من حملها وضع السرير على كاهله بين العمودين المقدمين، وبه قال الشافعي، لكن الحديث ضعيف. نعم ثبتت الآثار في الباب عن الصحابة وغيرهم. واختلف العلماء في ذلك. قال ميرك نقلاً عن الأزهار: هذا أي حمل الجنازة على الكاهل بين العمودين مذهب الشافعي، بأن يحملها ثلاثة يقف أحدهم قدامها بين العمودين واثنان خلفها كل واحد منهما يضع عموداً على عاتقه، هذا عند حمل الجنازة من الأرض، ثم لا بأس أن يعاونهم من شاء كيف شاء، والأفضل عند أبي حنيفة التربيع، بأن يحملها أربعة يأخذ كل واحد عموداً على عاتقه-انتهى. وذهبت الحنابلة إلى أن التربيع سنة، وأنه أفضل من الحمل بين العمودين، وإن حمل بين العمودين كان حسناً ولم يكره. وذهب مالك

إلى أنه يحمل كما شاء الحامل، إن شاء من أحد قوائمه، وإن شاء بين العمودين. قال ابن قدامة: التربيع سنة في حمل الجنازة لقول ابن مسعود: إذا تبع أحدكم جنازة فليأخذ بجوانب السرير الأربع، ثم ليتطوع بعد أو ليذر فإنه من السنة، رواه سعيد بن منصور في سننه. وهذا يقتضي سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى. قلت: وأخرجه أيضاً ابن ماجه وابن أبي شيبة والبيهقي وأبوداود الطيالسي وعبد الرزاق والطبراني، ورجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعاً؛ لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه شيئاً. وفي الباب آثار عن أبي الدرداء عند ابن أبي شيبة، وفيه عامر بن جَشِيب وثقه الدارقطني، وقال: إنه لم يسمع من أبي الدرداء، وعن ابن عباس عند ابن أبي شيبة أيضاً، وفيه مندل العنزى، وهو ضعيف، وعن ابن عمر عند عبد الرزاق وابن أبي شيبة أيضاً، وعن أبي هريرة عند عبد الرزاق، وفيه أبوالمهزم وهو ضعيف. قال ابن قدامة: وصفة التربيع المسنون أن يبدأ فيضع قائمة السرير اليسرى على كتفه اليمنى من عند رأس الميت، ثم يضع القائمة اليسرى من عند الرجل على الكتف اليمنى، ثم يعود أيضاً إلى القائمة اليمنى من عند رأس الميت فيضعها على كتفه اليسرى، ثم ينتقل إلى اليمنى من عند رجليه، وبهذا قال أبوحنيفة والشافعي. وعن أحمد أنه يدور عليها فيأخذ بعد ياسرة المؤخرة يامنة المؤخرة ثم المقدمة، وهو مذهب إسحاق، وروي عن ابن مسعود وابن عمر وسعيد بن جبير وأيوب، ولأنه أخف، ووجه الأول أنه أحد الجانبين فينبغي أن يبدأ فيه بمقدمه كالأول. فأما الحمل بين العمودين فقال ابن المنذر: روينا عن عثمان وسعد بن مالك وابن عمر وأبي هريرة وابن الزبير أنهم حملوا بين عمودي السرير، وقال به الشافعي وأحمد وأبوثور وابن المنذر، وكرهه النخعي والحسن وأبوحنيفة وإسحاق، والصحيح الأول؛ لأن الصحابة قد فعلوه، وفيهم أسوة حسنة. وقال مالك: ليس في حمل الميت توقيت يحمل من حيث شاء، ونحوه قال الأوزاعي، واتباع الصحابة رضي الله عنهم فيما فعلوه وقالوه أحسن وأولى-انتهى كلام ابن قدامة. قلت: الآثار المروية عن الصحابة في الحمل بين العمودين، روى بعضها ابن سعد في الطبقات (ج8ص60) وسعيد بن منصور في سننه، كما في المحلى (ج5ص168- 169) والطبراني في معجمه، وروى أكثرها الشافعي في كتاب الأم (ج1ص231) ورواها البيهقي من طريق الشافعي في المعرفة وفي السنن (ج4ص20) وقد ذكرها الزيلعي في نصب الراية (ج2ص288) والحافظ في التلخيص (ص156) . قال النووي في شرح المهذب (ج5ص269) : والآثار المذكورة عن الصحابة رواها الشافعي والبيهقي بأسانيد ضعيفة إلا أثر سعد بن أبي وقاص فصحيح، والله أعلم-انتهى. قلت: وقد صح عن ابن عمر أيضاً الحمل بين العمودين، رواه سعيد بن منصور في سننه كما في المحلى (ج5ص168) . والقول الراجح عندي هو ما ذهب إليه أحمد أن التربيع سنة، وهو أفضل من الحمل بين العمودين، وإن حمل بين العمودين كان حسناً ولم يكره، والله تعالى أعلم.

1686- (27) وعن ثوبان، قال: ((خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في جنازة، فرأى ناساً ركباناً، فقال: ألا تستحيون؟! إن ملائكة الله على أقدامهم، وأنتم على ظهور الدواب)) . رواه الترمذي وابن ماجه، وروى أبوداود نحوه، قال الترمذي: وقد روى عن ثوبان موقوفاً. 1687- (28) وعن ابن عباس: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1686- قوله: (ألا تستحيون إن ملائكة الله) إن هذه بكسر الهمزة. (وأنتم على ظهور الدواب) وفي رواية ابن ماجه: إن ملائكة الله يمشون على أقدامهم وأنتم ركبان، أي تمشون ركباناً. والحديث يدل على كراهة الركوب لمن كان متبعاً للجنازة، ويعارضه حديث المغيرة المتقدم من إذنه للراكب أن يمشي خلف الجنازة، وتقدم وجه الجمع بينهما. وقال السندي في شرح حديث ثوبان: إنه يدل على أنه لا ينبغي الركوب في جنائز الصلحاء الذين يرجى حضور الملائكة في جنائزهم، وأنه ترك الأولى، وإلا فالركوب قد جاء ما يدل على جوازه-انتهى. (رواه الترمذي وابن ماجه) واللفظ للترمذي، أخرجه من طريق عيسى بن يونس عن أبي بكر بن أبي مريم عن راشد بن سعد عن ثوبان، وأخرجه ابن ماجه من طريق بقية بن الوليد عن أبي بكر بن أبي مريم. (وروى أبوداود نحوه) أي بمعناه، وهو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتي بدابة وهو مع الجنازة فأبي أن يركب، فلما انصرف أتي بدابة فركب فقيل له، فقال: إن الملائكة كانت تمشي فلم أكن لأركب وهم يمشون، فلما ذهبوا ركبت-انتهى. وقد سكت عنه أبوداود والمنذري. وقال الشوكاني: رجاله رجال الصحيح. (قال الترمذي: وقد روي) أي الحديث المذكور (عن ثوبان موقوفاً) أخرجه البيهقي من طريق بقية ثنا أبوبكر بن أبي مريم حدثني راشد بن سعد عن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه خرج في جنازة فرأى ناساً خروجاً على دوابهم ركباناً فقال لهم ثوبان: ألا تستحيون ملائكة الله على أقدامهم وأنتم ركبان. قال البيهقي: هذا هو المحفوظ بهذا الإسناد موقوف، ثم رواه البيهقي من طريق عيسى بن يونس مرفوعاً، ثم قال ورواه ثور بن يزيد عن راشد بن سعد موقوفاً عن ثوبان. وفي ذلك دلالة على أن الموقوف أصح، وكذا قاله البخاري-انتهى. لكن هذا الموقوف في حكم المرفوع؛ لأن مثل هذا لا يقال من قبل الرأي، ولم يتكلم الترمذي على حديث ثوبان المرفوع بحسن ولا ضعف، وفي إسناده أبوبكر بن أبي مريم، كما تقدم، وهو ضعيف، وكان قد سرق بيته فاختلط، قاله الحافظ في التقريب. والحديث أخرجه أيضاً الحاكم (ج1ص356) مرفوعاً من طريق أبي بكر بن أبي مريم، وسكت عنه هو والذهبي. 1687- قوله: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ على الجنازة) أي في الصلاة على الجنازة. (بفاتحة الكتاب)

رواه الترمذي، وأبوداود، وابن ماجه. 1688- (29) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء)) رواه أبوداود، وبن ماجه. 1689- (30) وعنه، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى على الجنازة، قال: اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، ـــــــــــــــــــــــــــــ بعد التكبيرة الأولى كما تقدم. (رواه الترمذي) من طريق إبراهيم بن عثمان عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس. ومن هذا الوجه أخرجه ابن ماجه، قال الترمذي: ليس إسناده بذاك القوي. إبراهيم بن عثمان هو أبوشيبة الواسطي منكر الحديث. والصحيح عن ابن عباس قوله: من السنة القراءة على الجنازة بفاتحة الكتاب، ثم أسنده الترمذي من طريق طلحة بن عبد الله بن عوف، قال الحافظ بعد ذكر قول الترمذي هذا ما لفظه: هذا مصير منه يعني من الترمذي إلى الفرق بين الصيغتين. (أي بين قوله "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب" وبين قوله "من السنة القراءة على الجنازة بفاتحة الكتاب") ولعله أراد الفرق بالنسبة إلى الصراحة والاحتمال-انتهى. (وأبوداود) ولفظه: عن طلحة بن عبد الله بن عوف قال: صليت مع ابن عباس على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب فقال: إنها من السنة-انتهى. فنسبة الحديث مرفوعاً صريحاً إلى أبي داود غير صحيح. 1688- قوله: (فأخلصوا له الدعاء) أي أدعوا له بالإخلاص التام؛ لأن القصد بهذه الصلاة إنما هو الشفاعة للميت، وإنما يرجى قبولها عند توفر الإخلاص والابتهال. وقيل: معناه خصوه بالدعاء، ولا يخفى ما فيه. قال الشوكاني: فيه دليل على أنه يتعين دعاء مخصوص من الأدعية الواردة، وأنه ينبغي للمصلي على الميت أن يخلص الدعاء له، سواء كان محسنا أو مسيئاً، فلأن ملابس المعاصي أحوج الناس إلى دعاء إخوانه المسلمين وأفقرهم إلى شفاعتهم، ولذلك قدموه بين أيديهم وجاءوا به إليهم. (رواه أبوداود) وسكت عنه (وابن ماجه) وأخرجه أيضاً ابن حبان والبيهقي، وفيه ابن إسحاق وقد عنعن، لكن أخرجه ابن حبان من طريق أخرى عنه مصرحاً بالسماع، كذا في التلخيص (ص161) . 1689- قوله: (وشاهدنا) أي حاضرنا. (وصغيرنا وكبيرنا) ههنا إشكال وهو أن المغفرة مسبوقة بالذنوب، فكيف تتعلق بالصغير ولا ذنب له، وذكروا في دفعه وجوهاً، فقال السندي: المقصود في مثله التعميم. وقال ابن حجر: الدعاء بالمغفرة في حق الصغير لرفع الدرجات. وقال القاري: يمكن أن يكون المراد بالصغير والكبير الشاب والشيخ. وقال التوربشتي: سئل أبوجعفر الطحاوي عن معنى الاستغفار للصبيان مع أنه لا ذنب لهم، فقال

وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده)) . رواه أحمد، وأبوداود، والترمذي، وابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ معناه السؤال من الله أن يغفر لهم ما كتب في اللوح المحفوظ أن يفعلوه بعد البلوغ من الذنوب حتى إذا كانوا فعلوه كان مغفوراً، وإلا فالصغير غير مكلف لا حاجة له إلى الاستغفار-انتهى. وسيأتي زيادة تحقيق لهذا المبحث في أواخر الفصل الثالث. (وذكرنا وأنثانا) قال الطيبي: المقصود من القرائن الأربع الشمول والاستيعاب، فلا يحمل على التخصيص نظراً إلى مفردات التركيب، كأنه قيل: اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات كلهم أجمعين. (فأحيه على الإسلام) أي الاستسلام والإنقياد للأوامر والنواهي. (فتوفه على الإيمان) أي التصديق القلبي، إذ لا نافع حينئذٍ غيره. قيل: خص الوفاة بالإيمان لأن الإسلام أكثر ما يطلق على الأعمال الظاهرة وليس هذا وقتها. (لا تحرمنا أجره) بفتح التاء وكسر الراء من باب ضرب، أو بضم أوله من باب أفعل. قال السيوطي: بفتح التاء وضمها لغتان فصيحتان، والفتح أفصح، يقال: حرمه وأحرمه أي منعه، والمراد أجر موته، فإن المؤمن أخو المؤمن، فموته مصيبة عليه يطلب فيها الأجر، نقله في عون المعبود عن فتح الودود. (ولا تفتنا) بتشديد النون من باب ضرب. (بعده) أي لا تجعلنا مفتونين بعد الميت بل اجعلنا معتبرين بموته عن موتنا ومستعدين لرحلتنا. وقال ابن الملك أي لا تلق علينا الفتنة بعد الإيمان، والمراد بها ههنا خلاف مقتضى الإيمان. (رواه أحمد وأبوداود) وفي رواية أبي داود: فأحيه على الإيمان، وتوفه على الإسلام وفي آخره: لا تضلنا بعده. (والترمذي) وانتهت روايته عند قوله "فتوفه على الإيمان". (وابن ماجه) وفي روايته: لا تضلنا بعده، كما في رواية أبي داود: والحديث أخرجه أيضاً ابن حبان والحاكم كلهم من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، وقد سكت عليه أبوداود. وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين وأقره الذهبي، قال الحاكم: وله شاهد صحيح على شرط مسلم، فرواه من طريق عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عائشة نحوه، وأخرجه البيهقي من طريق الحاكم. وأعله الترمذي بعكرمة بن عمار، وقال: إنه يهم في حديثه، واختلف في حديث أبي هريرة، فرواه هشام الدستوائي وسعيد بن أبي عروبة وعلي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً. ورواه أيوب بن عتبة وهقل بن زياد وشعيب بن إسحاق عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - موصولاً. قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة، فقال: الحفاظ لا يذكرون أبا هريرة، إنما يقولون أبوسلمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً، ولا يوصله بذكر أبي هريرة إلا غير متقن، والصحيح أنه مرسل-انتهى. ورواه همام بن يحيى عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أخرجه أحمد (ج4ص170) والبيهقي.

1690- (31) ورواه النسائي عن أبي إبراهيم الأشهلى، عن أبيه، وانتهت روايته عند قوله: ((وأنثانا)) . وفي رواية أبي داود: ((فأحيه على الإيمان، وتوفه على الإسلام)) . وفي آخره: ((ولا تضلنا بعده)) . 1691- (32) وعن واثلة بن الأسقع، قال: ((صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رجل من المسلمين، فسمعته يقول: اللهم إن فلان بن فلان في ذمتك ـــــــــــــــــــــــــــــ 1690- قوله: (ورواه النسائي) وكذا أحمد (ج4ص170) والترمذي والبيهقي كلهم من طريق يحيى بن أبي كثير. (عن أبي إبراهيم الأشهلى) المدني الأنصاري. قال الحافظ في التقريب: مقبول من الثالثة، وهي الطبقة الوسطى من التابعين. قال الترمذي: سألت البخاري عن اسم أبي إبراهيم الأشهلى فلم يعرفه، وقد توهم بعض الناس أنه عبد الله بن أبي قتادة وهو غلط، أبوإبراهيم من بني عبد الأشهل وأبوقتادة من بني سلمة. (عن أبيه) أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في الصلاة على الميت: اللهم اغفرلنا الخ، قال الترمذي: حديث والد أبي إبراهيم حديث حسن صحيح، قال: سمعت محمداً يعني البخاري يقول: أصح هذه الروايات حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي إبراهيم الأشهلى عن أبيه، ولوالده صحبة، وحديث أبي سلمة عن أبي هريرة وعائشة وأبي قتادة غير محفوظ، وأصح حديث في هذا الباب حديث عوف بن مالك. (وانتهت روايته) أي رواية النسائي. (عند قوله وأنثانا) وكذا رواية أحمد والترمذي والبيهقي. (وفي رواية أبي داود: فأحيه على الإيمان وتوفه على الإسلام) ، قال في فتح الودود: المشهور الموجود في رواية الترمذي وغيره: فأحيه على الإسلام وتوفه على الإيمان، وهو الظاهر المناسب لأن الإسلام هو التمسك بالأركان الظاهرية، وهذا لا يتأتى إلا في حالة الحياة. وأما الإيمان فهو التصديق الباطني وهو الذي المطلوب عليه الوفاة، فتخصيص الأول بالإحياء والثاني بالإماتة هو الوجه-انتهى. وقال القاري: الرواية المشهورة هي العمدة، ورواية أبي داود إما من تصرفات الرواة نسياناً، أو بناء على زعم أنه لا فرق بين التقديم والتأخير وجواز النقل بالمعنى، أو يقال: فأحيه على الإيمان أي وتوابعه من الأركان، وتوفه على الإسلام أي على الانقياد والتسليم؛ لأن الموت مقدمة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم-انتهى. وقال الشوكاني: لفظ فأحيه على الإسلام هو الثابت عند الأكثر. (ولا تضلنا بعده) من الإضلال، أي لا توقعنا في الضلال بعد موته. 1691- قوله: (إن فلان بن فلان) فيه دليل مشروعية تسمية الميت باسمه واسم أبيه، وهذا إن كان معروفاً، وإلا جعل مكان ذلك إن عبدك هذا أو نحوه. (في ذمتك) أي في أمانك وعهدك وحفظك. قال ابن الأثير في جامع الأصول (ج7ص535) : الذمة والذمام الضمان، تقول: فلان في ذمتي أي في ضماني. وقيل:

وحبل جوارك، فقه من فتنة القبر وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحق، اللهم اغفر له، وارحمه، إنك أنت الغفور الرحيم)) . رواه أبوداود، وابن ماجه. 1692- (33) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اذكروا محاسن موتاكم، وكفوا عن مساويهم)) ـــــــــــــــــــــــــــــ الذمة والذمام الأمان والعهد. (وحبل جوارك) بكسر الجيم. قيل: عطف تفسيري. وقيل: الحبل العهد أي في كنف حفظك وعهد طاعتك. وقيل: أي في سبيل قربك، وهو الإيمان. والأظهر أن المعنى أنه متمسك ومتعلق بالقرآن، كما قال تعالى: {واعتصموا بحبل الله} [آل عمران: 103] وفسره جمهور المفسرين بكتاب الله، والمراد بالجوار: الأمان، والإضافة بيانية يعني الحبل الذي يورث الاعتصام به الأمن والأمان والإسلام والإيمان، قاله القاري. وقال ابن الأثير في جامع الأصول: الحبل العهد والأمان، ومنه قوله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعاً} أي بعهده، وكان من عادة العرب أن يخيف بعضهم بعضاً، فكان الرجل إذا أراد سفراً أخذ عهداً من سيد قبيلة، فيأمن بذلك مادام في حدوده. (أي مجاوراً أرضه) حتى (ينتهي) إلى آخر فيأخذ مثل ذلك، فهذا حبل الجوار أي العهد والأمان مادام مجاوراً أرضه. وقال الطيبي: الحبل العهد والأمان "وحبل جوارك" بيان لقوله "في ذمتك"، نحو أعجبني زيد وكرمه، والأصل أن فلاناً في عهدك، فنسب إلى الجوار ما كان منسوباً إلى الله تعالى، فجعل للجوار عهداً مبالغة في كمال حمايته، فالحبل مستعار للعهد لما فيه من التوثقة وعقد القول بالأيمان المؤكدة. (فقه) صيغة أمر من الوقاية بالضمير أو بهاء السكت. (من فتنة القبر) أي امتحان السؤال فيه أو من أنواع عذابه من الضغطة والظلعة وغيرهما. (وأنت أهل الوفاء) أي بالوعد، فإنك لا تخلف الميعاد. (والحق) أي أنت أهل الحق، فالمضاف مقدر. (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري. 1692- قوله: (اذكروا محاسن موتاكم) جمع حسن على غير قياس، والأمر للندب. (وكفوا) بضم الكاف أمر للوجوب أي امتنعوا. (عن مساويهم) جمع سوء على غير قياس أيضاً، أي لا تذكروهم إلا بخير، ويستثنى منه الثناء على الميت بالشر عند رؤية الجنازة قبل الدفن لما تقدم من حديث أنس، وجرح المجروحين من الرواة أحياء وأمواتاً لإجماع العلماء على جواز ذلك، وذكر مساوئ الكفار والفساق للتحذير منهم والتنفير عنهم. والمراد بالفاسق من ارتكب بدعة يفسق بها ويموت عليها، وأما الفاسق بغير ذلك فإن علمنا أنه مات وهو مصر على فسقه والمصلحة في ذكره جاز ذكر مساوية وإلا فلا. قال حجة الإسلام: غيبة الميت أشد من غيبة الحي، وذلك لأن عفو الحي واستحلاله ممكن ومتوقع في الدنيا بخلاف الميت. وفي الأزهار قال العلماء: وإذا رأى الغاسل من

رواه أبوداود، والترمذي. 1693- (34) وعن نافع أبي غالب، قال: ((صليت مع أنس بن مالك على جنازة رجل، فقام حيال رأسه، ثم جاؤا بجنازة امرأة من قريش، فقالوا: يا أبا حمزة! صل عليها، فقام حيال وسط السرير، فقال له العلاء بن زياد: ـــــــــــــــــــــــــــــ الميت ما يعجبه كاستنارة وجهه وطيب ريحه وسرعة انقلابه على المغتسل استحب أن يتحدث به، وإن رأى ما يكره كنتنه وسواد وجهه أو بدنه أو انقلاب صورته حرم أن يتحدث به. (رواه أبوداود والترمذي) وأخرجه أيضاً الحاكم والبيهقي من طريقه كلهم من رواية عمران بن أنس المكي عن عطاء عن ابن عمر، وسكت عنه أبوداود. وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. وقال الترمذي: حديث غريب سمعت محمداً يعني البخاري يقول: عمران بن أنس المكي منكر الحديث، وروى بعضهم عن عطاء عن عائشة-انتهى. ويؤيده ما تقدم من حديث عائشة: لا تسبوا الأموات، ويؤيده أيضاً ما رواه النسائي عن عائشة قالت: ذكر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - هالك بسوء، فقال: لا تذكروا هلكاكم إلا بخير. 1693- قوله: (وعن نافع) ويقال: رافع أبوغالب الباهلي مولاهم الخياط البصري، ثقة من صغار التابعين، وثقة ابن معين وأبوحاتم وموسى بن هارون الحمال وابن حبان. (أبي غالب) عطف بيان. قال الطيبي: كأن الكنية كانت أعرف وأشهر فجيء بها بياناً لنافع. (صليت مع أنس بن مالك على جنازة رجل) أي عبد الله بن عمير، كما في رواية أبي داود، وكذا نقله ابن الأثير في جامع الأصول (ج7:ص148) ، وكذا وقع في رواية البيهقي، ولم أجد ترجمته في شيء من الكتب، ووقع في بعض النسخ من سنن أبي داود: عبد الله بن عمر مكبراً، وليس هو عبد الله بن عمر بن الخطاب، فإن الظاهر أن هذه القصة وقعت بالبصرة لما أن أنس بن مالك قطن البصرة، وهو آخر من مات بها من الصحابة، وعبد الله بن عمر بن الخطاب مات بمكة، ودفن بذي طوى، وصلى عليه الحجاج. قيل: المحفوظ في رواية أبي داود: عبد الله بن عمير بالتصغير، وعبد الله بن عمر تصحيف، والله أعلم. (حيال رأسه) بكسر الحاء أي حذاءه ومقابله. وفي أبي داود: عند رأسه. (بجنازة امرأة من قريش) وفي رواية أبي داود: المرأة الأنصارية. قال القاري: فالقضية إما متعددة وإما متحدة، فتكون المرأة قرشية أنصارية-انتهى. (فقالوا) أي أولياؤها: (يا أبا حمزة) كنية أنس. (حيال وسط السرير) بسكون السين وفتحها بمعنى، فلذا جوز الوجهان، وقد فرق بعضهم بينهما. (العلاء بن زياد) هو العلاء بن زياد بن مطر بن شريح العدوي أبونصر

{الفصل الثالث}

هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام على الجنازة مقامك منها؟ ومن الرجل مقامك منه؟ قال: نعم)) رواه الترمذي، وابن ماجه، وفي رواية أبي داود نحوه مع زيادة، وفيه: ((فقام عند عجيزة المرأة)) . {الفصل الثالث} 1694- (35) عن عبد الرحمن بن أبي ليلة، قال: ((كان سهل بن حنيف، وقيس بن سعد ـــــــــــــــــــــــــــــ البصري أحد العباد من ثقات التابعين، مات في ولاية الحجاج سنة (94) . (هكذا) بحذف الاستفهام. (قام على الجنازة) أي من المرأة. (قال) أي أنس. (نعم) فيه دليل على أن المصلي على المرأة يقف حذاء وسطها، وعلى الرجل حذاء رأسه، وقد تقدم بسط الكلام عليه في شرح حديث سمرة. (رواه الترمذي) وحسنه. (وابن ماجه) واللفظ للترمذي، وأخرجه أيضاً أحمد (ج3:ص118-204) والبيهقي (ج4:ص33) وابن حزم في المحلى (ج5:ص124) . (وفي رواية أبي داود نحوه مع زيادة) أخرجه أبوداود مطولاً، وسكت عنه، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره. (وفيه) أي في كتاب أبي داود. (فقام) أي أنس. (عند عجيزة المرأة) بفتح مهملة وكسر جيم، قال الجزري: العجيزة العجز وهي للمرأة خاصة والعجز مؤخر الشيء-انتهى. قال في اللمعات: هو بيان حال وسط السرير. وقال الشوكاني: لا منافاة بين رواية أبي داود، وبين قوله في حديث سمرة "فقام وسطها"؛ لأن العجيزة يقال لها وسط-انتهى. وأجاب الحنفية عن حديث أنس هذا بأن ذلك كان قبل اتخاذ النعش للنساء، ورد بأنه قد صرح في رواية أبي داود بأن أنساً قد صلى كذلك والمرأة كان عليها نعش أخضر. 1694-قوله. (كان سهل بن حنيف) بضم الحاء وفتح النون الأنصاري الأوسي المدني، صحابي من أهل بدر. قال ابن عبد البر: شهد بدراً والمشاهد كلها، وثبت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أُحد، وكان بايعه على الموت، ثم صحب علياً من حين بويع، فاستخلفه على البصرة، ثم شهد معه صفين، وولاه فارس، مات سنة (38) وصلى عليه علي وكبر ستاً. وقال ابن سعد: آخي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين علي، ولما توفي كبر عليه علي خمساً ثم التفت إليهم فقال: إنه بدري. (وقيس بن سعد) بسكون العين ابن عبادة بضم العين الأنصاري الخزرجي، صحابي جليل، وكان ضخماً حسناً جسيماً طويلاً إذا ركب الحمار خطت رجلاه، وكان من النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير. قال ابن عبد البر: كان أحد الفضلاء الجلة وأحد دهاة العرب، وأهل الرأي والمكيدة في الحروب مع النجدة والبسالة والسخاء والكرم، وكان شريف قومه غير مدافع، وكان أبوه وجده كذلك. شهد قيس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المشاهد، وأعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الراية يوم فتح مكة. إذ نزعها من أبيه لشكوى قريش من

قاعدين بالقادسية، فمر عليهما بجنازة، فقاما، فقيل لهما: إنها من أهل الأرض، أي من أهل الذمة، فقالا: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرت به جنازة فقام، فقيل له: إنها جنازة يهودي، فقال: أليست نفساً؟)) متفق عليه. 1695- (36) وعن عبادة بن الصامت، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا تبع جنازة لم يقعد حتى توضع في اللحد، فعرض له حبر من اليهود، فقال له: إنا هكذا نصنع يا محمد! قال: فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ـــــــــــــــــــــــــــــ سعد يومئذٍ، وصحب قيس علياً وشهد معه مشاهده، وكان قد أمره علي مصر فاحتال عليه معاوية فلم ينخدع له، فاحتال على أصحاب علي حتى حسنوا له تولية محمد بن أبي بكر فولاه مصر، ففسدت عليه مصر، وارتحل قيس فشهد مع علي صفين، ثم كان مع الحسن بن علي حتى صالح معاوية، فرجع قيس إلى المدينة فأقام بها ومات في آخر خلافة معاوية سنة (60) وقيل بعد ذلك، وكان رجلاً سناطاً، ليس في وجهه شعرة ولا شيء من لحية وكان مع ذلك جميلا. ً قال ابن عبد البر: وكذلك كان شريح وعبد الله بن الزبير لم يكن في وجوههم شعر، قال: وخبره في السراويل عند معاوية كذب وزور مختلق ليس له إسناد، ولا يشبه أخلاق قيس ولا مذهبه في معاوية ولا سيرته في نفسه-انتهى. وحكاياته في سخاء وجوده كثيرة مشهورة، ذكرها ابن عبد البر وغيره. (قاعدين) بالتثنية والنصب خبر كان. (بالقادسية) بالقاف وكسر الدال والسين المهملتين وتشديد التحتية، مدينة صغيرة ذات نخل ومياه، بينها وبين الكوفة مرحلتان أو خمسة عشر فرسخاً. (فمر) بضم الميم على بناء المجهول. وفي رواية: فمروا بصيغة الجمع المعلوم. (إنها) أي الجنازة. (أي من أهل المدينة) تفسير لأهل الأرض أي من أهل الجزية المقرين بأرضهم؛ لأن المسلمين لما فتحوا البلاد أقروهم على عمل الأرض وحمل الخراج. (أليست نفساً) ماتت فالقيام لها لأجل صعوبة الموت وتذكره لا لذات الميت. ومقتضى هذا التعليل أن القيام يستحب لكل جنازة، وقد تقدم بسط الكلام في مسألة القيام للجنازة إذا مرت به، وأجاب القائلون بالنسخ عن هذا الحديث بأنه منسوخ، وأن سهل بن حنيف وقيس بن سعد لم يعلما بالنسخ، ومن علم حجة على من لم يعلم. وتعقب بأنه لم يثبت النسخ بحديث صحيح صريح، فلا يتمشى ذلك. (متفق عليه) وأخرجه أحمد (ج6:ص6) والنسائي والبيهقي (ج4:ص27) . 1695- قوله: (فعرض) أي ظهر (حبر) بفتح الحاء المهملة وتكسر أي عالم. (فقال) أي الحبر. (له) - صلى الله عليه وسلم -: (إنا) أي معشر اليهود. (هكذا نضع) أي إذا تبعنا جنازة نقوم، ولا نجلس حتى توضع في اللحد. (فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي مخالفة لليهود. وهذا لا يدل على نسخ القيام لها إذا مرت ولا على قيام التابع والمشيع.

وقال: خالفوهم)) رواه الترمذي، وأبوداود، وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث غريب، وبشر بن رافع الراوي ليس بالقوي. 1696- (37) وعن علي، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا بالقيام في الجنازة، ثم جلس بعد ذلك وأمرنا بالجلوس) رواه أحمد. ـــــــــــــــــــــــــــــ (وقال خالفوهم) وفي رواية أبي داود: وقال اجلسوا خالفوهم. قال القاري: فبقى القول بأن التابع لم يقعد حتى توضع عن أعناق الرجال. (على الأرض) هو الصحيح-انتهى. وقد استدل بعضهم بهذا الحديث على نسخ القيام للجنازة، ولا يخفى ما فيه، فإنه ليس فيه ذكر القيام للجنازة أصلاً. واحتج به بعضهم على نسخ القيام للتابع، وهو أيضاً متعقب، فإن غاية ما فيه أنه يدل على الأمر بالجلوس قبل الوضع في اللحد، وهذا لا يستلزم بل ولا يقتضي نسخ القيام قبل الوضع بالأرض، فافهم، على أن الحديث ضعيف لا يقاوم حديث أبي سعيد وغيره. هذا وسبق الكلام عليه مفصلاً في شرح حديث أبي سعيد في الفصل الأول. (رواه الترمذي وأبوداود) وسكت عنه. (وابن ماجه) وأخرجه أيضاً البزار والبيهقي والحازمي. (وبشر) بكسر أوله وسكون ثانيه (بن رافع) أبوالأسباط الحارثي النجراني. (الراوي) بسكون الياء أي أحد رواة هذا الحديث. (ليس بالقوي) في الحديث. وقال أحمد: ليس بشيء ضعيف في الحديث. وقال النسائي: ضعيف. وقال الدارقطني: منكر الحديث. وقال أبوحاتم: ضعيف الحديث، منكر الحديث لا نرى له حديثاً قائماً. وقال البزار: لين الحديث وقد احتمل حديثه. وقال ابن عبد البر في الكنى: هو ضعيف عندهم منكر الحديث، وقال في كتاب الإنصاف: اتفقوا على إنكار حديثه وطرح ما رواه، وترك الاحتجاج به، لا يختلف علماء الحديث في ذلك. وقال البخاري: لا يتابع في حديثه، كذا في تهذيب التهذيب. وفي سنده أيضاً عبد الله بن سليمان بن جنادة بن أمية عن أبيه. وعبد الله هذا قال البخاري: فيه نظر لا يتابع على حديثه. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الحافظ: ضعيف، وأبوه سليمان بن جنادة قال أبوحاتم: منكر الحديث. وقال البخاري: هو حديث منكر، ولم يتابع في هذا. وقال ابن عدي: لم ينكر عليه البخاري غير هذا الحديث. 1696- قوله: (أمرنا بالقيام) أمر ندب. (في الجنازة) أي في حال رؤيتها إذا مرت بنا. وقيل: قبل وضعها على الأرض. (ثم جلس بعد ذلك) لبيان الجواز. (وأمرنا بالجلوس) أي أمر إباحة وتخفيف، فلا دلالة فيه على نسخ القيام للجنازة ولا على نسخ قيام التابع، وقد تقدم الكلام عليه في شرح حديثي أبي سعيد وعلي في الفصل الأول من هذا الباب. (رواه أحمد) (ج1:ص82) ورجاله ثقات وأخرجه أيضاً ابن حبان كما في التلخيص، والبيهقي (ج4:ص27) والحازمي (ص121) .

1697- (38) وعن محمد بن سيرين، قال: ((إن جنازة مرت بالحسن بن علي وابن عباس، فقام الحسن ولم يقم ابن عباس، فقال الحسن: أليس قد قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجنازة يهودي؟ قال: نعم، ثم جلس)) رواه النسائي. 1698- (39) وعن جعفر بن محمد، عن أبيه، ((أن الحسن بن علي كان جالساً فمر عليه بجنازة، فقام الناس حتى جاوزت الجنازة، فقال الحسن: إنما مر بجنازة يهودي، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على طريقها جالساً، وكره أن تعلو رأسه جنازة يهودي، فقام)) . رواه النسائي. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1697- قوله: (إن جنازة مرت بالحسن بن علي) أي ابن أبي طالب. (قال) أي ابن عباس في جواب الحسن. (نعم) أي قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أوائل الأمر. (ثم جلس) بعده، أي فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلا من الأمرين، لكن جلوسه كان متأخراً، فيكون كما سبق من حديث علي رضي الله عليه في الفصل الأول، وهذا هو الظاهر بل المتعين لأن يكون مراداً. وقد استدل به على نسخ القيام للجنازة إذا مرت به. وأجيب بأن مجرد الفعل لا يدل على النسخ لاحتمال أن القعود كان لبيان الجواز، والأمر بالقعود إن ثبت كان للإباحة والتخفيف. (رواه النسائي) ورجال إسناده ثقات، وأخرجه أيضاً أحمد (ج1:ص200-201) وأخرجه البيهقي والنسائي أيضاً من طريق أبي مجلز: أن جنازة مرت بابن عباس والحسن بن علي، فقام أحدهما ولم يقم الآخر، فقال أحدهما: ألم يقم النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال الآخر: بلى، ثم قعد. 1698- قوله: (عن جعفر بن محمد) المعروف بالصادق. (عن أبيه) هو محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبوجعفر الباقر. (وكره أن تعلو رأسه جنازة يهودي) إيماء إلى أن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه. (فقام) أي عن الطريق لهذا، فهذا إنكار منه رضي الله عنه على قيام الناس للجنازة، عكس ما سبق منه من الإنكار على ابن عباس على عدم القيام. قيل: كان هذا بعد ما علم الحسن بنسخ القيام، فأشار إلى ذلك مع ذكر العلة التي قام لأجلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: كان إنكاره على ابن عباس؛ لأنه كان على الطريق، وإنكاره على الناس؛ لأنهم لم يكونوا على الطريق، قاله القاري: قلت: إسناد هذا الحديث ضعيف لانقطاعه، فلا يقاوم الحديث السابق، فلا حاجة إلى تكلف الجواب، والتاريخ غير معلوم، فلا يصح دعوى تأخر هذا الحديث. وأما الاختلاف في التعليل الواقع بينه وبين غيره من الأحاديث، فقد تقدم الكلام عليه في شرح حديث جابر في الفصل الأول. (رواه النسائي) وإسناده منقطع، فإن محمد بن علي أبا جعفر الباقر تابعي ثقة ولكن لم يدرك الحسن بن علي عم

1699- (40) وعن أبي موسى، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا مرت بكم جنازة يهودي أو نصراني أو مسلم، فقوموا لها، فلستم لها تقومون، إنما تقومون لمن معها من الملائكة)) رواه أحمد. 1700- (41) وعن أنس، ((أن جنازة مرت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام، فقيل: إنها جنازة يهودي، فقال: إنما قمت للملائكة)) رواه النسائي. 1701- (42) وعن مالك بن هبيرة، قال. (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ما من مسلم يموت فيصلي عليه ثلاثة صفوف من المسلمين، إلا أوجب ـــــــــــــــــــــــــــــ أبيه؛ لأنه ولد سنة (56) والحسن مات سنة (50) ، قاله الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على مسند الإمام أحمد. 1699- قوله: (إذا مرت بكم) كذا في بعض النسخ "بكم"، وهكذا في مسند الإمام أحمد (ج4:ص394-413) ، وكذا ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج3:ص27) . ووقع في أكثر نسخ المشكاة "بك" بضمير الإفراد، والظاهر أنه خطأ من الناسخ (جنازة يهودي أو نصراني أو مسلم) أو للتنويع. (فقوموا لها) أمر ندب. (فلستم لها تقومون) أي في الحقيقة. (إنما تقومون لمن معها من الملائكة) أي ملائكة الرحمة إن كانت الجنازة لمسلم، أو ملائكة العذاب إن كانت لكافر. قد يقال هذا مشكل؛ لأنه أثبت القيام لها، ثم نفاه عنها. وقد يجاب بأنه أثبته لها باعتبار الصورة. ونفاه عنها باعتبار باطن الأمر والحقيقة، وإنكار البليغ على رعاية الاعتبارات والحيثيات سائغ شائع، كذا في المرقاة. (رواه أحمد) (ج4:ص391-413) وفيه ليث بن أبي سليم وهو صدوق، لكنه اختلط أخيراً ولم يتميز حديثه فترك. قاله الحافظ في التقريب. وقال الهيثمي: هو ثقة. ولكنه مدلس-انتهى. ويؤيده حديث أنس الذي يليه. 1700- قوله: (إنما قمت) كذا في جميع النسخ، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ص426) ، وكذا وقع في المستدرك للحاكم. وفي النسخ الموجودة عندنا للنسائي: إنما قمنا. (للملائكة) لا لذات الميت فيستوي فيه المسلم وغير المسلم. (رواه النسائي) وأخرجه أيضاً الحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي. 1701- قوله: (وعن مالك بن هبيرة) بضم الهاء مصغراً، ابن خالد بن مسلم السكوني أو الكندي، يكنى أباسعيد، صحابي نزل حمص ومصر. ولي حمص لمعاوية، وروى عنه من أهلها جماعة. وذكره محمد بن الربيع الجيزي فيمن شهد فتح مصر من الصحابة، مات في أيام مروان بن الحكم. (إلا أوجب) وذكره الحافظ في الإصابة بلفظ "إلا وجبت له الجنة"، وفي رواية أحمد "إلا غفر له"، وكذا في رواية للحاكم والبيهقي. فمعنى قوله "أوجب"

فكان مالك إذا استقل أهل الجنازة جزأهم ثلاثة صفوف لهذا الحديث)) رواه أبوداود. وفي رواية الترمذي، قال: كان مالك بن هبيرة إذا صلى على جنازة فتقال الناس عليها جزأهم ثلاثة أجزاء، ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى عليه ثلاثة صفوف أوجب)) وروى ابن ماجه نحوه. 1702- (43) وعن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة على الجنازة: ((اللهم أنت ربها وأنت خلقتها وأنت هديتها إلى الإسلام، وأنت قبضت روحها، ـــــــــــــــــــــــــــــ أي ذلك الفعل على الله الجنة أو المغفرة لذلك الميت وعداً منه وفضلاً، أو أوجب الله تعالى المغفرة أو الجنة له. (فكان مالك) أي ابن هبيرة. (إذا استقل أهل الجنازة) أي عدهم قليلاً (جزأهم) بتشديد الزاي وفي آخره همزة من التجزئة، أي فرقهم وجعل القوم الذين يمكن أن يكونوا صفاً واحداً. (ثلاثة صفوف لهذا الحديث) أي ثم صلى عليها. (رواه أبوداود) وسكت عنه. (وفي رواية الترمذي) بالإضافة. (إذا صلى) أي أراد الصلاة. (فتقالّ الناس عليها) بتشديد اللام تفاعل من القلة أي رآهم قليلين، استقل الشيء وتقاله عده ورآه قليلاً. (جزأهم ثلاثة أجزاء) أي فرقهم وجعلهم ثلاثة صفوف وفي رواية أحمد: فكان مالك يتحرى إذا قل أهل جنازة أن يجعلهم ثلاثة صفوف. (ثم قال) أي استدلالاً لفعله: (من صلى عليه ثلاثة صفوف) وأقل الصف أن يكون اثنين على الأصح. (أوجب) أي الله تعالى الجنة أو المغفرة لذلك الميت. (وروى ابن ماجه نحوه) أي معناه، وهو كان إذا أتي بجنازة فتقال من تبعها جزأهم ثلاثة صفوف ثم صلى عليها. وقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما صف صفوف ثلاثة من المسلمين على ميت إلا أوجب-انتهى. والحديث أخرجه أيضاً أحمد (ج4:ص79) والحاكم (ج1:ص362) والبيهقي (ج4:ص30) كلهم من طريق ابن إسحاق عن يزيد ابن أبي حبيب عن أبي الخير مرثد بن عبد الله اليزنى عن مالك بن هبيرة، وقد سكت عنه أبوداود وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وفيه محمد بن إسحاق وهو مدلس وقد عنعن. وقال الحافظ في الإصابة في ترجمة مالك بن هبيرة: قد اختلف على ابن إسحاق فيه، أدخل بعضهم عنه بين أبي الخير وبين مالك بن هبيرة الحارث بن مالك، كذا وقع في المعرفة لابن مندة، وذكره الترمذي، وقال: تفرد به إبراهيم بن سعد، ورواية الجماعة أصح عندنا-انتهى. 1702- قوله: (أنت ربها) أي سيدها ومالكها. (وأنت خلقتها) أي ابتداء. (وأنت هديتها إلى الإسلام) المشتمل على الإيمان انتهاء. وفي بعض النسخ من سنن أبي داود: للإسلام. (وأنت قبضت روحها)

وأنت أعلم بسرها وعلانيتها، جئنا شفعاء فاغفر له)) رواه أبوداود. 1703- (44) وعن سعيد بن المسبب، قال: ((صليت وراء أبي هريرة على صبي لم يعمل خطيئة قط، فسمعته يقول: اللهم أعذه من عذاب القبر)) ـــــــــــــــــــــــــــــ أي أمرت بقبض روحها. (وأنت أعلم بسرها وعلانيتها) بتخفيف الياء أي باطنها وظاهرها. (جئنا) أي حضرنا. (شفاء) له بين يديك. (فاغفر له) وفي بعض النسخ من سنن أبي داود "لها" كما في رواية النسائي، وتأنيث الضمير باعتبار النفس أو الروح التي هي الأصل، والتذكير باعتبار الشخص أو الميت. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري، وأخرجه أيضاً النسائي في اليوم والليلة، والبيهقي (ج4:ص42) . 1703- قوله: (وعن سعيد بن المسيب) بفتح التحتية المشددة وتكسر، ابن حزن بن أبي وهب القرشي المخزومي المدني، يكنى أبا محمد، ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر بن الخطاب، كان سيد كبار التابعين، جمع بين الفقه والحديث والزهد والعباد والورع، وهو المشار إليه المنصوص عليه، وكان أعلم الناس بحديث أبي هريرة، وقضايا عمر، لقي جماعة كثيرة من الصحابة، وروى عنهم، وعنه الزهري وكثير من التابعين وغيرهم. قال مكحول إمام أهل الشام: طفت الأرض كلها في طلب العلم فما لقيت أعلم من ابن المسيب، اتفقوا على أن مرسلاته أصح المراسيل. وقال ابن المديني: لا أعلم في التابعين أوسع علماً منه. وقال ابن المسيب: حججت أربعين حجة مات بعد التسعين وقد ناهز الثمانين. (صليت وراء أبي هريرة على) جنازة (صبي) قال الباجي: الصلاة على الصبي قربة له ورغبة في إلحاقه بصالح السلف، ولا خلاف في وجوب الصلاة عليه. (لم يعمل خطيئة قط) أي أبداً لموته قبل البلوغ، وقد رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم، قال ابن حجر قوله: لم يعمل خطيئة، صفة كاشفة، إذ لا يتصور في غير بالغ عمل ذنب-انتهى. قال القاري: ويمكن أن يحمل على المبالغة في نفي الخطيئة عنه ولو صورة. وقال الدسوقي يؤخذ من هذا أن الأطفال يسئلون، وقيل: لا يسئلون، وقيل: بالوقف، وهو الحق؛ لأنه لم يرو نص بشيء. (فسمعته) أي أبا هريرة. (يقول) في دعائه بعد قراءة الفاتحة والصلاة على النبي. (اللهم أعذه) أمر من الإعاذة أي أجره. (من عذاب القبر) قال القاضي: يحتمل أن يكون أبوهريرة اعتقد شيئاً سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أن عذاب القبر عام في الصغير والكبير، وأن الفتنة فيه لا تسقط عن الصغير بعدم التكليف في الدنيا، أي لأن الله تعالى يفعل ما يشاء، وقال ابن عبد البر: عذاب القبر غير فتنة القبر، ولو عذب الله عباده أجمعين كان غير ظالم لهم؛ لأنه لا يسئل عما يفعل، وقال بعضهم: ليس المراد بعذاب القبر هنا عقوبة بل مجرد الألم بالغم

رواه مالك. 1704- (45) وعن البخاري تعليقاً، قال: يقرأ الحسن على الطفل فاتحة الكتاب، ويقول: اللهم اجعله لنا سلفاً وفرطاً وذخراً وأجراً. ـــــــــــــــــــــــــــــ والحسرة والوحشة والضغطة، وذلك يعم الأطفال وغيرهم. وقال أبوعبد الملك: يحتمل أنه قال ذلك على العادة في الصلاة على الكبير، أو ظن أنه كبير أو دعا له على معنى الزيادة أي في الدرجات، كما كانت الأنبياء عليهم السلام تدعوا الله أن يرحمها وتستغفره، كذا في شرح الموطأ للزرقاني، ولا يستغفر للصبي عند الحنفية، ولا يأتي بشيء من دعاء البالغين في الصلاة عليه، بل يقتصر على قوله: اللهم اجعله لنا فرطاً الخ. (رواه مالك) عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: صلت وراء أبي هريرة الخ. 1704- قوله: (وعن البخاري تعليقاً) التعليق أن يحذف من مبدأ إسناده واحد فأكثر على التوالي ويعزى الحديث إلى من فوق المحذوف من رواته، واستعمله بعضهم في حذف كل الإسناد، كما هنا، مثاله: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا، قال ابن عباس كذا، قال سعيد بن المسيب كذا، عن أبي هريرة كذا. قالوا: تعليقات البخاري في حكم المسانيد. وقال النووي: فما كان منه بصيغة الجزم، كقال وفعل وأمر وروى وذكر معروفاً فهو حكم بصحته عن المضاف إليه، وما ليس فيه جزم، كروي ويذكر ويحكى، ويقال وحكي عن فلان وروي وذكر مجهولاً فليس فيه حكم بصحته عن المضاف إليه، ومع ذلك فإيراده في كتاب الصحيح مشعر بصحة أصله إشعاراً يؤنس به ويركن إليه، وعلى المدقق إذا رام الاستدلال به أن ينظر في رجاله وحال سنده ليرى صلاحيته للحجة وعدمها. (قال) أي البخاري نقلاً عن الحسن: (يقرأ الحسن) أي كان يقرأ الحسن وهو البصري، وما وقع في جامع الأصول (ج7:ص147) أنه الحسن بن علي بن أبي طالب فهو وهم من ابن الأثير. (على الطفل) أي على جنازته. (فاتحة الكتاب) أي بعد التكبيرة الأولى. (ويقول) أي بعد القراءة والصلاة على النبي. (اللهم اجعله) أي الطفل (سلفاً) بفتحتين أي متقدماً إلى الجنة لأجلنا. قال في النهاية: قيل هو من سلف المال كأنه قد أسلفه وجعله ثمناً للأجر والثواب الذي يجازى على الصبر عليه، وقيل: سلف الإنسان من تقدمه بالموت من آبائه وذوى قرابته، ولهذا سمي الصدر الأول من التابعين السلف الصالح. (وفرطاً) بالتحريك هو الذي يتقدم القوم الواردة فيهيء لهم أسباب المنزل كالأرسان والدلاء ونحوها ويرد الحياض ويستقي لهم. (وذخراً) بضم الذال وسكون الخاء أي ذخيرة. (وأجراً) أي ثواباً جزيلاً. قال ميرك: عبارة البخاري هكذا وقال الحسن: يقرأ (أي المصلى) على الطفل بفاتحة الكتاب، ويقول: اللهم اجعله لنا فرطاً وسلفاً وأجراً. فعلى

1705- (46) وعن جابر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الطفل لا يصلى عليه، ولا يرث، ولا يورث، حتى يستهل)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ المصنف أن يقول وعن الحسن أنه قال:.. الخ، ثم يقول في آخره: رواه البخاري عنه تعليقاً، فإن البخاري من جملة المخرجين، لا من جملة الرواة الذين التزم المصنف ذكرهم، وأيضاً يفهم من رواية البخاري أن الحسن كان يأمر بذلك، ومن إيراد المصنف يفهم أنه كان يفعله، وبين العبارتين فرق ظاهر، وأيضاً فإن لفظه "ذخراً" ليست في رواية البخاري، كما ترى مع أن في عبارة المصنف تقديماً وتأخيراً أيضاً، تأمل، ولعل في نسخة المصنف من البخاري: وكان الحسن يقرأ على الطفل، وصحف قال بكان، فوقع فيما وقع، كذا في المرقاة. قال الحافظ في الفتح: وصل هذا الأثر عبد الوهاب بن عطاء الخفاف في كتاب الجنائز له عن سعيد بن أبي عروبة أنه سئل عن الصلاة على الصبي فأخبرهم عن قتادة عن الحسن أنه كان يكبر ثم يقرأ فاتحة الكتاب ثم يقول: اللهم اجعله لنا سلفاً وفرطاً وأجراً-انتهى. وهذا يؤيد ما وقع في المشكاة من أن الحسن كان يفعله، وذكر ابن الأثير هذا الأثر في جامع الأصول (ج7ص147) عزوا إلى البخاري بلفظ: قال. (أي الحسن) يقرأ على الطفل فاتحة الكتاب ويقول: اللهم اجعله لنا سلفاً وفرطاً وذخراً وأجراً. قال الحافظ في التلخيص (ص161) : روى البيهقي من حديث أبي هريرة أنه كان يصلي على النفوس: اللهم اجعله لنا فرطاً وسلفاً وأجراً. وفي جامع سفيان عن الحسن في الصلاة على الصبي: اللهم اجعله لنا سلفاً واجعله لنا فرطاً واجعله لنا أجراً. 1705- قوله: (الطفل لا يصلى عليه ولا يرث ولا يورث حتى يستهل) أي يصيح عند ولادته، وحمله الجمهور على أن المراد منه إمارة الحياة، أي يوجد منه إمارة الحياة، وعبر بالاستهلال لأنه المعتاد وهو الذي يعرف به الحياة عادة. قال في المجمع: استهلال الصبي تصويته عند ولادته، أراد العلم بحياته بصياح أو اختلاج أو نفس أو حركة أو عطاس-انتهى. وقال ابن الهمام: الاستهلال أن يكون منه ما يدل على الحياة من حركة عضو أو رفع صوت-انتهى. وأخرج البزار عن ابن عمر مرفوعاً: استهلال الصبي العطاس. قال الحافظ: وإسناده ضعيف-انتهى. والحديث يدل على أنه لا يصلى على المولود إلا إذا استهل، وفيه اختلاف. قال الخطابي في المعالم: اختلف الناس في الصلاة على السقط، فروي عن ابن عمر أنه قال: يصلى عليه وإن لم يستهل، وبه قال ابن سيرين وابن المسيب. وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية: كلما نفخ فيه الروح وتمت له أربعة أشهر وعشر صلي عليه. وقال إسحاق: إنما الميراث بالاستهلال، فأما الصلاة فإنه يصلى عليه؛ لأنه نسمة تامة قد كتب عليها الشقاوة والسعادة، فلأي شيء تترك الصلاة عليه؟ وروي عن ابن عباس أنه قال: إذا استهل ورث وصلى عليه،

رواه الترمذي، وابن ماجه إلا أنه لم يذكر: ولا يورث. ـــــــــــــــــــــــــــــ وعن جابر إذا استهل صلي عليه، وإن لم يستهل لم يصل عليه، وبه قال أصحاب الرأي، وهو قول مالك والأوزاعي والشافعي-انتهى كلام الخطابي. وقد رجح المجد بن تيمية في المنتقى قول أحمد حيث قال: وإنما يصلى عليه إذا نفخت فيه الروح، وهو أن يستكمل أربعة أشهر، فأما إن سقط لدونها فلا؛ لأنه ليس بميت إذ لم ينفخ فيه روح، وأصل ذلك حديث ابن مسعود قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق: إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكاً بأربع كلمات: يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح. متفق عليه-انتهى. قال الشوكاني بعد ذكر كلام ابن تيمية هذا: ومحل الخلاف فيمن سقط بعد أربعة أشهر ولم يستهل، وظاهر حديث الاستهلال أنه لا يصلى عليه وهو الحق؛ لأن الاستهلال يدل على وجود الحياة قبل خروج السقط كما يدل على وجودها بعده، فاعتبار الاستهلال من الشارع دليل على أن الحياة بعد الخروج من البطن معتبرة في مشروعية الصلاة على الطفل، وأنه لا يكتفى بمجرد العلم بحياته في البطن فقط-انتهى كلام الشوكاني.. (رواه الترمذي) في الجنائز بهذا اللفظ من طريق إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف الحديث، عن أبي الزبير وهو مدلس، عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. (وابن ماجه) في الجنائز، وفي الفرائض من طريق الربيع بن بدر عن أبي الزبير، والربيع بن بدر ضعفوه. (إلا أنه) أي ابن ماجه. (لم يذكر: ولا يورث) لفظ ابن ماجه: هكذا إذا استهل الصبي صلى عليه وورث. وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه والبيهقي والحاكم، وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. وقال الحافظ في التلخيص (ص157) بعد ذكر هذا الحديث: أخرجه الترمذي والنسائي (في الكبرى) وابن ماجه والبيهقي، وفي إسناده إسماعيل بن مسلم المكي عن أبي الزبير وهو ضعيف. قال الترمذي: رواه أشعث وغير واحد عن أبي الزبير عن جابر موقوفاً، وكأن الموقوف أصح، وبه جزم النسائي، وقال الدارقطني في العلل: لا يصح رفعه، وقد روي عن شريك عن أبي الزبير مرفوعاً ولا يصح، ورواه ابن ماجه من طريق الربيع بن بدر عن أبي الزبير مرفوعاً، والربيع ضعيف، ورواه ابن أبي شيبة من طريق أشعث بن سوار عن أبي الزبير موقوفاً، ورواه النسائي أيضاً وابن حبان في صحيحه والحاكم من طريق إسحاق الأزرق عن سفيان الثوري عن أبي الزبير عن جابر، وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووهم لأن أبا الزبير ليس من شرط البخاري، وقد عنعن، فهو علة هذا الخبر إن كان محفوظاً عن سفيان الثوري، ورواه الحاكم أيضاً من طريق المغيرة بن مسلم عن أبي الزبير مرفوعاً، وقال: لا أعلم أحداً رفعه عن أبي الزبير غير المغيرة، وقد وقفه ابن جريج وغيره، ورواه أيضاً من طريق بقية عن الأوزاعي عن أبي الزبير مرفوعاً-انتهى كلام الحافظ في التلخيص. وفي الباب عن علي وابن عباس أخرجهما ابن عدي في الكامل.

(6) باب دفن الميت

1706- (47) وعن أبي مسعود الأنصاري، قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقوم الإمام فوق شيء والناس خلفه، يعني أسفل منه)) . رواه الدارقطني في المجتبى في كتاب الجنائز. (6) باب دفن الميت {الفصل الأول} 1707- (1) عن عامر بن سعد بن أبي وقاص أن سعد بن أبي وقاص قال في مرضه الذي هلك فيه: ((ألحدوا ليّ لحداً، وانصبوا علي اللبن نصباً، كما صنع برسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) ـــــــــــــــــــــــــــــ 1706- قوله: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقوم) أي من أن يقف. (الإمام) أي وحده في صلاة الجنازة والمكتوبة وغيرها مما تشرع فيه الجماعة. (فوق شيء والناس خلفه) أي خلف ذلك الشيء. (يعني أسفل منه) ويعلم النهي من العكس بالطريق الأولى، والحديث يدل على كراهة ارتفاع الإمام عن المؤتمين، وقد سبق الكلام عليه في باب الموقف. (رواه الدارقطني في المجتبى) اسم كتاب له، قاله القاري. والظاهر أن المراد به كتاب السنن للدارقطني المشهور. (في كتاب الجنائز) فيه إيماء إلى وجه مناسبة، ذكره في هذا الباب مع أن الأنسب ذكره في باب الموقف من هذا الكتاب. والحديث أخرجه الحاكم والبيهقي، وسكت عنه الحاكم والذهبي، وأخرجه أبوداود وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبيهقي أيضاً عن همام: أن حذيفة أمّ الناس بالمدائن على دكان، فأخذ أبومسعود بقميصه فجبذه، فلما فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك؟ قال: بلى، قد ذكرت حين مددتني. (باب دفن الميت) 1707- قوله: (هلك) أي مات. (ألحدوا) بوصل الهمزة من لحد، كمنع، أو بقطع الهمزة من الحد. (لي) أي لأجلي. (لحداً) بفتح اللام مفعول مطلق من بابه، أو من غيره، أو مفعول به على تجريد في الفعل، أي اجعلوا لي لحداً، واللحد الشق الذي يعمل في جانب القبر القبلي لوضع الميت. (وانصبوا) بكسر الصاد من ضرب أي أقيموا. (علي) أي فوقى. (اللبن) بكسر الباء، في القاموس: اللبن ككتف المضروب من الطين مربعاً للبناء. (كما صنع برسول الله) أي بقبره. قال النووي: فيه استحباب اللحد ونصب اللبن؛ لأنه فعل ذلك برسول الله - صلى الله عليه وسلم -

رواه مسلم. 1708- (2) وعن ابن عباس، قال: ((جعل في قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطيفة حمراء)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ باتفاق الصحابة، وقد نقلوا أن عدد لبناته - صلى الله عليه وسلم - تسع-انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد (ج1ص169، 173، 184) ، والنسائي، وابن ماجه، والبيهقي. وفي الباب عن جابر عند ابن حبان والبيهقي، وعن ابن عمر عند أحمد، وعن عائشة عند ابن حبان، وعن علي عند الحاكم، وعن بريدة عند ابن عدي في الكامل، والطبراني في الأوسط. 1708- قوله: (جعل في قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطيفة حمراء) هي كساء له خمل، وهو الهُدّاب، وهداب الثوب الخيوط التي تبقى في طرفيه من عرضيه دون حاشيتيه، وجعل بضم الجيم مبني للمفعول، والجاعل لذلك هو شُقْران مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فروى الترمذي من حديثه قال: أنا والله طرحت القطيفة تحت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القبر، وقال: حسن غريب. وروى ابن إسحاق في المغازي، والحاكم في الإكليل من طريقه، والبيهقي (ج3ص408) عنه من طريق ابن عباس قال: كان شقران حين وضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حفرته أخذ قطيفة كان يلبسها ويفترشها فدفنها معه في القبر وقال: والله لا يلبسها أحد بعدك فدفنت معه. وروى الواقدي عن علي بن حسين: أنهم أخرجوها. وبذلك جزم ابن عبد البر حيث قال في الاستيعاب: وطرح في قبره سمل قطيفة كان يلبسها، فلما فرغوا من وضع اللبن أخرجوها وهالوا التراب على لحده-انتهى. وقال الحافظ العراقي في ألفيته في السيرة: وفرشت في قبره قطيفة. وقيل: أخرجت، وهذا أثبت. والحديث يدل على جواز افتراش الثوب في القبر تحت الميت، وإليه ذهب البغوي وابن حزم، وذهب الجمهور إلى كراهته، وأجابوا عن هذا الحديث بأن شقران فرشها من غير علم الصحابة بذلك. قال النووي: قال العلماء وإنما جعلها شقران برأيه، ولم يوافقه أحد من الصحابة، ولا علموا بفعله. وفي رواية للترمذي إشارة إلى هذا، ذكره الزيلعي. وقيل: هذا من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: دفنت معه ثم استخرجت قبل أن يهال التراب. قال النووي في شرح مسلم: هذه القطيفة ألقاها شقران، وقال: كرهت أن يلبسها أحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد نص الشافعي وجميع أصحابنا وغيرهم من العلماء على كراهة وضع قطيفة أو مضربة أو مخدة أو نحو ذلك تحت الميت في القبر، وشذ عنهم البغوي من أصحابنا فقال في كتابه التهذيب: لا بأس بذلك لهذا الحديث، والصواب كراهته، كما قاله الجمهور، وأجابوا عن هذا الحديث بأن شقران انفرد بفعل ذلك ولم يوافقه غيره من الصحابة ولا علموا ذلك، وإنما فعله شقران لما ذكرناه عنه من كراهة أن يلبسها أحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يلبسها ويفترشها، فلم تطب نفس شقران أن يتبذلها أحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخالفه غيره، فروى البيهقي عن ابن عباس أنه كره

رواه مسلم. 1709- (3) وعن سفيان التمار: ((أنه رأى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - مسنماً)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يجعل تحت الميت ثوب في قبره-انتهى كلام النووي. (رواه مسلم) وأخرجه النسائي وابن حبان أيضاً، قال الحافظ في التلخيص: وروى ابن أبي شيبة، وأبوداود في المراسيل عن الحسن نحوه، وزاد: لأن المدينة أرض سبخة-انتهى. 1709- قوله: (وعن سفيان التمار) بفتح التاء المثناة من فوق وتشديد الميم، هو سفيان بن دينار التمار أبوسعيد العصفري الكوفي، ثقة من كبار أتباع التابعين، وقد لحق عصر الصحابة، ولم تعرف له رواية عن صحابي، ووقع في جامع الأصول (ج11ص394) عبد الله بن عباس مكان سفيان التمار، وهو خطأ واضح وغلط بين. (أنه رأى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - مسنماً) بتشديد النون المفتوحة، ورواه ابن أبي شيبة وزاد: وقبر أبي بكر وقبر عمر كذلك، وكذلك رواه أبونعيم وذكر هذه الزيادة التي ذكرها ابن أبي شيبة. قال الطيبي: تسنيم القبر هو أن يجعل كهيئة السنام، وهو خلاف تسطيحة. وقال السيد جمال الدين: المسنم المحدب كهيئة السنام خلاف المسطح. وقال في القاموس: التسنيم ضد التسطيح وقال: سطحه كمنعه بسطه. واستدل بهذا على أن المستحب تسنيم القبور. وقد اختلف العلماء في الأفضل من التسنيم والتسطيح أي التربيع بعد الاتفاق على جواز الكل، فذهب مالك وأحمد وأبوحنيفة وكثير من الشافعية منهم المزني إلى أن تسنيم القبر أفضل من تسطيحه، وذهب الشافعي وأكثر الشافعية إلى أن التسطيح أفضل، وتمسك الأولون بقول سفيان التمار المذكور، وبما في مصنف ابن أبي شيبة: ثنا يحيى بن سعيد عن سفيان عن أبي حصين عن الشعبي: رأيت قبور شهداء أحد جثى مسنمة، وبما قال الطبري: ثنا ابن بشار ثنا عبد الرحمن ثنا خالد بن أبي عثمان قال: رأيت قبر ابن عمر مسنماً، وبما قال إبراهيم النخعي: أخبرني من رأى قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه مسنمة ناشزة من الأرض عليها مرمر أبيض ذكره العيني، وبما قال الطبري: إن هيئة القبور سنة متبعة، ولم يزل المسلمون يسنمون قبورهم، وبما قال المزني: إن المسطح يشبه ما يصنع للجلوس بخلاف المسنم فإنه ليس موضع الجلوس، وقد نهى عن الجلوس على القبور، وبما قال ابن قدامة إن التسطيح يشبه أبنية أهل الدنيا، وهو أشبه بشعار أهل البدع يعني الرافضة. واستدل القائلون بأفضلية التسطيح، بما قال الشافعي: بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سطح قبر ابنه إبراهيم ووضع عليه الحصباء ورش عليه الماء. قال القسطلاني: وفعله - صلى الله عليه وسلم - حجة لا فعل غيره، وفيه أن هذا البلاغ مرسل أو معضل فلا يكون حجة، وبحديث أبي الهياج الأسدي الآتي. قال الشوكاني في السيل الجرار: حديث أبي الهياج يدل على أن التربيع

رواه البخاري. 1710- (4) وعن أبي الهياج الأسدي، ـــــــــــــــــــــــــــــ أفضل؛ لأن في التسنيم بعض أشراف. وأجيب عنه بأنه محمول على ما كانوا يفعلونه من تعلية القبور بالبناء الحسن العالي، قاله ابن الجوزي. وقال ابن الهمام: هذا الحديث محمول على ما كانوا يفعلونه من تعلية القبور بالبناء العالي، وليس مرادنا ذلك بتسنيم القبر بل بقدر ما يبدو من الأرض ويتميز عنها. وقال الطبري: تسوية القبور ليست بتسطيح، وبما في حديث القاسم بن محمد في آخر الفصل الثاني من هذا الباب فكشفت (عائشة) لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء. قال ابن الملك: أي مسوأة مبسوطة على الأرض. قال ابن حجر: هو صريح في أن القبور الثلاثة مسطحة لا مسنمة-انتهى. قيل: ولا حجة في قول سفيان التمار، كما قال البيهقي، والنووي، والبغوي، لاحتمال أن قبره - صلى الله عليه وسلم - وقبري صاحبيه لم تكن مسنمة في الأزمنة الماضية بل كانت مسطحة، ثم لما بنى جدار القبر في إمارة عمر بن عبد العزيز على المدينة من قبل الوليد بن عبد الملك غيروها وصيروها مسنمة. قال البيهقي: حديث القاسم يدل على التسطيح، وهو أصح وأولى أن يكون محفوظاً. وفيه أن هذا خلاف اصطلاح أهل هذا الشأن بل حديث التمار أصح؛ لأنه مخرج في صحيح البخاري، وحديث القاسم لم يخرج في شيء من الصحيح. قال ابن قدامة: حديث التمار أثبت من حديث القائلين بالتسطيح وأصح فكان العمل به أولى-انتهى. على أن في إسناده عمرو بن عثمان بن هانيء، وهو مستور، كما في التقريب، فلا يكون حديثه هذا صحيحاً فضلاً عن أن يكون أصح من حديث التمار وإن سكت عنه أبوداود والمنذري والزيلعي والحافظ، ولو سلم صحته فليس فيه دليل على التسطيح فإن المعنى. (لا مشرفة) أي مرتفعة غاية الارتفاع، وقيل: أي عالية أكثر من شبر. (ولا لاطئة) أي مستوية على وجه الأرض. (مبطوحة بالبطحاء العرصة) أي ملقاة فيها البطحاء. قال الطحاوي بعد ذكر حديث القاسم: ليس في هذا دليل على تربيع ولا تسنيم؛ لأنه يجوز أن تكون مبطوحة بالبطحاء، وهي مسنمة، وفي التجريد للقدوري: يحتمل أن تكون مبطوحة والتسنيم في وسطها فهذا الخبر محتمل، وحديث التمار صريح في التسنيم، فليس بينهما مخالفة حتى يحتاج إلى الجمع والتوفيق هذا، وقد رجح الشوكاني التسطيح، والأفضل عندي هو التسنيم، والله تعالى أعلم. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً ابن أبي شيبة (ص134) والبيهقي (ج4ص3) . 1710- قوله: (وعن أبي الهياج) بفتح الهاء وتشديد الياء المثناة من تحت وآخره جيم. (الأسدي) بفتح السين وبسكن اسمه حيان بفتح الحاء المهملة وتشديد التحتية وآخره نون، ابن حصين الكوفي من ثقات التابعين،

قال: قال لي علي: ((ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته)) . رواه مسلم. 1711- (5) وعن جابر، قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن يجصص القبر، ـــــــــــــــــــــــــــــ وليس له في مسلم والترمذي وأبي داود والنسائي إلا هذا الحديث الواحد. (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي ألا أرسلك للأمر الذي أرسلني له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما ذكر تعديته بحرف "على" لما في البعث من معنى الاستعلاء والتأمير، أي أجعلك أميراً على ذلك، كما أمرني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (أن لا تدع) "أن" مصدرية و "لا" نافية خبر مبتدأ محذوف، أي هو أن لا تدع. وقيل: "أن" تفسيرية و "لا" ناهية أي لا تترك. (تمثالاً) أي صورة، والمراد صورة ذي روح. (إلا طمسته) أي محوته وأبطلته بقطع رأسه وتغيير وجهه ونحو ذلك. (ولا قبراً مشرفاً) بكسر الراء من أشرف إذا ارتفع، والمراد هو الذي بني عليه حتى ارتفع دون الذي أعلم عليه بالرمل والحصا والحجر ليعرف فلا يوطأ، ولا فائدة في البناء عليه فلذلك نهي عنه. (إلا سويته) قال في المجمع: الجمهور على أن الارتفاع المأمور إزالته ليس هو التسنيم، ولا ما يعرف به القبر كي يحترم، وإنما هو ارتفاع كثير تفعله الجاهلية، فإن التسنيم صفة قبره - صلى الله عليه وسلم - انتهى. وتقدم كلام ابن الهمام بنحو هذا، وفي الأزهار قال العلماء: يستحب أن يرفع القبر قدر شبر، ويكره فوق ذلك، ويستحب الهدم، ففي قدره خلاف، قيل: إلى الأرض تغليظاً، وهذا أقرب إلى اللفظ أي لفظ الحديث من التسوية. وقال الشوكاني في النيل: قوله "ولا قبراً مشرفاً إلا سويته" فيه أن السنة أن لا يرفع القبر رفعاً كثيراً من غير فرق بين من كان فاضلاً ومن كان غير فاضل، والظاهر أن رفع القبور زيادة على القدر المأذون فيه محرم، وقد صرح بذلك أصحاب أحمد وجماعة من أصحاب الشافعي ومالك، ومن رفع القبور الداخل تحت الحديث دخولاً أولياً القبب والمشاهد المعمورة على القبور، وأيضاً هو من اتخاذ القبور مساجد، وقد لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - فاعل ذلك. وكم قد سرى عن تشييد أبنية القبور وتحسينها من مفاسد يبكي لها الإسلام، منها اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد الكفار للأصنام، وعظم ذلك فظنوا أنها قادرة على جلب النفع ودفع الضرر، فجعلوها مقصداً لطلب قضاء الحوائج، وملجأ لنجاح المطالب، وسألوا منها ما يسأله العباد من ربهم، وشدوا إليها الرحال، وتمسحوا بها واستغاثوا، وبالجملة أنهم لم يدعوا شيئاً مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إلا فعلوه، فإنا لله وإنا إليه راجعون. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد (ج1ص96و 111و 129و 145) والترمذي، وأبوداود، والنسائي، والبيهقي، والحاكم. 1711- قوله: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجصص القبر) أي عن تجصيص القبر أي بناءه

وأن يبني عليه، وأن يقعد عليه)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالقصة. وفي رواية لمسلم: نهى عن تقصيص القبور بالقاف والصاد المهملتين، وهو التجصيص. والقصة بفتح القاف وتشديد الصاد هي الجص. قال في الأزهار: النهى عن تجصيص القبور للكراهة، وهو يتناول البناء بذلك. وتجصيص وجهه. قلت: الحديث دليل على تحريم تجصيص القبر؛ لأن الأصل في النهي التحريم، ولا يعرف صارف عن هذا الأصل. قال العراقي: ذكر بعضهم أن الحكمة في النهي عن تجصيص القبور كون الجص أحرق بالنار، وحينئذٍ فلا بأس بالتطيين، كما نص عليه الشافعي، وقال ابن قدامة بعد ذكر هذا الحديث: فيه دليل على الرخصة في تطيين القبر لتخصيصه التجصيص بالنهي، نهى عمر بن عبد العزيز أن يبنى على القبر بآجر فأوصى بذلك، وأوصى الأسود بن يزيد أن لا تجعلوا على قبري آجراً، وقال إبراهيم: كانوا يكرهون الآجر في قبورهم. وقال ابن قدامة: سئل أحمد عن تطيين القبور فقال: أرجو أن لا يكون به بأس، ورخص في ذلك الحسن والشافعي، وروى أحمد بإسناده عن نافع عن ابن عمر: أنه كان يتعاهد قبر عاصم بن عمر، قال نافع: وتوفي ابن له، وهو غائب، فقدم فسألنا عنه فدللناه عليه فكان يتعاهد القبر ويأمر بإصلاحه، وروي عن الحسن عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يزال الميت يسمع الأذان ما لم يطين قبره. أو قال ما لم يطو قبره-انتهى. وقال الحافظ في التلخيص (ص165) : ذكر صاحب مسند الفردوس عن الحاكم: أنه روى من طريق ابن مسعود مرفوعاً: لا يزال الميت يسمع الأذان ما لم يطين قبره. وإسناده باطل، فإنه من رواية محمد بن القاسم الطالقاني، وقد رموه بالوضع، قال: وقد روى أبوبكر النجاد من طريق جعفر بن محمد عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع قبره من الأرض شبراً وطين بطين أحمر من العرصة-انتهى. واختلفت الحنفية في ذلك فكرهه الكرخي. وقال في الفتاوى المنصورية والمضمرات والخانية: لا بأس به. (وأن يبنى عليه) يحتمل أن المراد البناء على نفس القبر ليرتفع عن أن ينال بالوطأ، أو المراد البناء حول القبر مثل أن يتخذ حوله متربة أو مسجد ونحو ذلك. قال العراقي: وعليه حمله النووي في شرح المهذب، وقال التوربشتي: يحتمل وجهين: أحدهما البناء على القبر بالحجارة وما يجرى مجراها، والآخر أن يضرب عليه خباء ونحوه، وكلاهما منهى عنه؛ لأنه من صنيع أهل الجاهلية، ولأنه اضاعة المال. وقال الشوكاني: فيه دليل على تحريم البناء على القبر، وفصل الشافعي وأصحابه فقالوا: إن كان البناء في ملك المباني فمكروه، وإن كان في مقبرة مسبلة فحرام، ولا دليل على هذا التفصيل. وقد قال الشافعي: رأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما يبنى، ويدل على الهدم حديث علي المتقدم-انتهى. قلت: الأمر كما قال الشوكاني. (وأن يقعد عليه) بالبناء للمفعول كالفعلين السابقين. قال الطيبي: المراد من القعود هو الجلوس، كما هو الظاهر، وقد نهى عنه لما فيه من الاستخفاف بحق أخيه المسلم، وحمله جماعة على قضاء الحاجة، والأول هو الصحيح، لما أخرجه الطبراني والحاكم عن عمارة بن حزم قال: رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالساً على قبر فقال: يا صاحب القبر انزل من على القبر، لا تؤذي صاحب القبر

ولا يؤذيك. وأخرج سعيد بن منصور عن ابن مسعود: أنه سئل عن الوطء على القبر، قال: كما أكره أذى المؤمن في حياته فإني أكره أذاه بعد موته، كذا في المرقاة. وحديث عمارة هذا عزاه الهيثمي للطبراني في الكبير، وقال: وفيه ابن لهيعة، وفيه كلام، وقد وثق. وذكر أثر ابن مسعود بلفظ: لأن أطأ على جمرة أحب إلى من أن أطأ على قبر مسلم، وعزاه للطبراني أيضاً قال: وفيه عطاء بن سائب وفيه كلام، وقد اختلف العلماء في الجلوس على القبر لغير قضاء الحاجة. فقال الحسن البصري وابن سيرين وسعيد بن جبير ومكحول وأحمد وإسحاق وأبوسليمان داود، وكثير من الشافعية منهم النووي بتحريم الجلوس مطلقاً. قال العيني: ويروى ذلك أي كراهة الجلوس على القبر مطلقاً أيضاً عن عبد الله وأبي بكرة وعقبة بن عامر وأبي هريرة وجابر، وإليه ذهبت الظاهرية. وقال ابن حزم في المحلى لا يحل لأحد أن يجلس على قبر، وهو قول أبي هريرة، وجماعة من السلف، واستدل لذلك بحديث جابر، وما في معناه من الأحاديث المرفوعة والآثار الموقوفة، وهي كثيرة. وذهب أبوحنيفة وصاحباه، وجماعة من الشافعية إلى أن القعود على القبر لغير قضاء الحاجة مكروه فقط، أي يكره تنزيهاً لا تحريماً، وكذا وطؤه والاتكاء إليه. قال في الأزهار: نقلاً عن بعض العلماء: الأولى أن يحمل من هذه الأحاديث ما فيه التغليظ على الجلوس للحدث، فإنه يحرم، وما لا تغليظ فيه على الجلوس المطلق فإنه مكروه، والاتكاء والاستناد كالجلوس المطلق، نقله السيد جمال الدين. وقال مالك والطحاوي: لا يكره الجلوس على القبر، وحمل مالك أحاديث النهي على الجلوس لقضاء الحاجة. قال النووي: هو تأويل ضعيف أو باطل. وقال أحمد: ليس هذا بشيء، ولم يعجبه رأي مالك، واحتج الطحاوي لذلك القول بما روي عن ابن عمر أنه كان يجلس على القبور. وأخرج عن علي نحوه، وعن زيد بن ثابت: إنما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الجلوس على القبر لحدث غائط أو بول، ورجال إسناده ثقات. قال السندي: ويؤيد الحمل على ظاهره ما جاء من النهي عن وطئه. وقال الحافظ: ويؤيد قول الجمهور ما أخرجه أحمد (والنسائي) عن عمرو بن حزم الأنصاري مرفوعاً: لا تقعدوا على القبور. وفي رواية له، أي لأحمد عنه: رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا متكئ على قبر، فقال: لا تؤذ صاحب القبر، إسناده صحيح، وهو دال على أن المراد بالجلوس القعود على حقيقته. ورد ابن حزم التأويل المتقدم بأن لفظ حديث أبي هريرة عند مسلم: لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده، قال: وما عهدنا أحداً يقعد على ثيابه للغائط، فدل على أن المراد القعود على حقيقته. وقال ابن بطال: التأويل المذكور بعيد؛ لأن الحدث على القبر أقبح من أن يكره الجلوس المتعارف-انتهى. والراجح عندي هو قول الجمهور أنه يحرم الجلوس على القبر مطلقاً، والله تعالى أعلم.

رواه مسلم. 1712- (6) وعن أبي مرثد الغنوي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها)) رواه مسلم. 1713- (7) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لأن يجلس أحدكم على جمرة ـــــــــــــــــــــــــــــ (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه والترمذي، وسيأتي لفظه وابن حبان والحاكم والبيهقي. 1712- قوله: (وعن أبي مرثد) بفتح الميم وسكون الراء بعدها مثلثة. (الغنوي) بمعجمة ونون مفتوحتين، نسبة إلى غني بن يعصر، اسمه كناز بفتح الكاف وتشديد النون وآخره زاي. ابن الحصين بن يربوع صحابي بدري، مشهور بكنيته، حليف حمزة بن عبد المطلب، وكان تربه. قال ابن عبد البر: آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين عبادة بن الصامت، شهد سائر المشاهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومات سنة (12) من الهجرة في خلافة أبي بكر وهو ابن (66) سنة، وكان فيما قيل رجلاً طويلاً كثير الشعر، ويعد في الشاميين، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث الباب، وروى عنه واثلة بن الأسقع. (لا تجلسوا على القبور) هذا دليل واضح على تحريم الجلوس على القبر مطلقاً، وإليه ذهب الجمهور، وهو الصحيح. قال ابن الهمام: وكره الجلوس على القبر ووطؤه، وحينئذٍ فما يصنعه الناس ممن دفنت أقاربه ثم دفنت حواليه خلق من وطأ تلك القبور إلى أن يصل إلى قبر قريبه مكروه، ويكره النوم عند القبر، وقضاء الحاجة بل أولى، ويكره كل ما لم يعهد من السنة، والمعهود منها ليس إلا زيارتها. والدعاء عندها قائماً كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل في الخروج إلى البقيع-انتهى. (ولا تصلوا إليها) أي مستقبلين إليها لما فيه من التعظيم البالغ. قال القاري: ولو كان هذا التعظيم حقيقة للقبر أو لصاحبه لكفر المعظم، فالتشبه به مكروه، وينبغي أن تكون كراهة تحريم. قلت: الحديث يدل على تحريم الصلاة إلى القبر مطلقاً، ويدل عليه أيضاً ما روي عن ابن عباس مرفوعاً: لا تصلوا إلى قبر ولا تصلوا على قبر. رواه الطبراني في الكبير. قال الهيثمي: وفيه عبد الله بن كيسان المروزي، ضعفه أبوحاتم، ووثقه ابن حبان. وما روى عن واثلة بن الأسقع قال: نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نصلي إلى القبور أو نجلس عليها. أخرجه الطبراني أيضاً، وفيه الحجاج بن أرطاة. وما روي عن أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة بين القبور. أخرجه البزار. قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد (ج4:ص135) وأبوداود والترمذي والبيهقي، وعزاه المنذري في مختصر السنن، والنابلسي في ذخائر المواريث للنسائي أيضاً. 1713- قوله: (لأن يجلس) بفتح اللام مبتدأ خبره خير من أن يجلس على قبر. (على جمرة) أي من النار.

{الفصل الثاني}

فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده، خير له من أن يجلس على قبر)) رواه مسلم. {الفصل الثاني} 1714- (8) عن عروة بن الزبير، قال: ((كان بالمدينة رجلان: أحدهما يلحد، والآخر لا يلحد، فقالوا: أيهما جاء أولاً عمل عمله، فجاء الذي يلحد، ـــــــــــــــــــــــــــــ (فتحرق) بضم التاء وكسر الراء من الإحراق، وضميره للجمرة. (ثيابه) بالنصب. (فنخلص) بضم اللام أي تصل. (إلى جلده) بكسر الجيم. قال الطيبي: جعل الجلوس على القبر وسراية مضرته إلى قلبه، وهو لا يشعر بمنزلة سراية النار من الثوب إلى الجلد. (خير له) أي أحسن له وأهون (من أن يجلس على قبر) قال صاحب البذل: ظاهر الحديث يدل على النهي عن القعود مطلقاً سواء كان للتغوط أو لغيره-انتهى. قلت: لا ريب أن الحديث ظاهر في أنه لا يجوز الجلوس على القبر مطلقاً، وقد تقدم النهي عن ذلك صريحاً، وأن الجمهور ذهبوا إلى التحريم، وأن المراد القعود على حقيقته لا للحدث. وأما ما روى الطحاوي من طريق محمد بن كعب عن أبي هريرة مرفوعاً: من جلس على قبر يبول عليه أو يغوط فكأنما جلس على جمرة، فإسناده ضعيف، وما روي عن ابن عمر أنه كان يجلس على القبر، يحمل على أنه لم يبلغه النهي، والله تعالى أعلم. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه والبيهقي. 1714- قوله: (كان بالمدينة رجلان) أي حفاران للقبور. (أحدهما) وهو أبوطلحة زيد بن سهل الأنصاري. (يلحد) بفتح الياء والحاء من لحد كمنع، وبضم الياء وكسر الحاء من الحد أن يحفر اللحد. (والآخر) وهو أبوعبيدة بن الجراح أحد العشرة المبشرة. (لا يلحد) بل يشق ويضرح أي يفعل الضريح، وهو الشق في وسط القبر. قال الباجي: يقتضي أن الأمرين جائزان ولو كان أحدهما محظوراً لما استدام عمله، ومثل هذا لا يخفى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من عمله؛ لأنه من الأمور الظاهرة، لا سيما والذي كان لا يلحد من أفضل الصحابة وأكثرهم اختصاصاً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى. (فقالوا) أي الصحابة يعني اتفقوا بعدما اختلفوا في الشق واللحد على أن (أيهما جاء أولاً) بالتنوين منصوباً. قال القاري: وفي نسخة "أول" بالفتح والضم. قيل: الرواية في أول بالضم؛ لأنه مبني كقبل، ويجوز الفتح والنصب-انتهى. والحديث أخرجه مالك في موطئه، واختلفت النسخ المطبوعة من الموطأ في هذه اللفظة، فوقع في الهندية أولاً وفي المصرية أول. قال الزرقاني: أو بمنع الصرف للوصف ووزن الفعل، وروي أولاً بالصرف. (عمل عمله) من اللحد أو الشق في قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -. (فجاء الذي يلحد) أي قبل الآخر كما سبق في علم الله تعالى من اختياره لمختاره - صلى الله عليه وسلم -. (فلحد)

فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم)) رواه في شرح السنة. 1715- (9) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اللحد لنا، والشق لغيرنا)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ بفتح الحاء. (لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي حفر له اللحد. (رواه) أي البغوي. (في شرح السنة) وأخرجه أيضاً هكذا مرسلاً مالك في الموطأ، قال الزرقاني: وصله ابن سعد من طريق حماد بن سلمة عن هشام عن أبيه عن عائشة-انتهى. قلت: ووصله أيضاً أبوحاتم من هذا الطريق. قال الحافظ في التلخيص: رواه أبوحاتم في العلل عن أبي الوليد عن حماد عن هشام عن أبيه عن عائشة وقال: إنه خطأ، والصواب المحفوظ مرسل، وكذا رجح الدارقطني المرسل-انتهى. وله طريق أخرى عن عبيد بن طفيل المقري عن عبد الرحمن بن أبي مليكة القرشي عن ابن أبي مليكة عن عائشة، رواه ابن ماجه عن عمر بن شبة عن عبيد بن الطفيل. قال الحافظ في التلخيص: وإسناده ضعيف-انتهى. قلت: عبيد بن الطفيل مجهول، وعبد الرحمن بن أبي مليكة ضعيف، ورواه أحمد وابن ماجه من حديث أنس، قال الحافظ: وإسناده حسن، ورواه أحمد (ج1:ص260-292) وابن ماجه أيضاً وابن سعد (ج3:ص47) وابن هشام في السيرة (ج2:ص375) والبيهقي (ج3:ص48) من حديث ابن عباس وبين أن الذي كان يضرح هو أبوعبيدة، وأن الذي كان يلحد هو أبوطلحة. قال الحافظ في التلخيص والدراية: وفي إسناده ضعف، يعني لضعف حسين بن عبد الله بن عباس عبيد الله بن الهاشمي، تركه أحمد وابن المديني والنسائي. وقال البخاري: يقال: إنه كان يتهم بالزندقة، وقواه ابن عدي. 1715- قوله: (اللحد لنا والشق لغيرنا) معنى اللحد أنه إذا بلغ أرض القبر حفر فيه مما يلي القبلة مكاناً يوضع الميت فيه وينصب عليه اللبن. ومعنى الشق: أن يحفر في وسط أرض القبر شقاً يضع الميت فيه ويسقفه عليه بشيء. قال في اللمعات: إن كان المراد بضمير الجمع في "لنا" المسلمون، "ولغيرنا" اليهود والنصارى مثلاً، فلا شك أنه يدل على أفضلية اللحد بل على كراهة غيره، وإن كان المراد بغيرنا الأمم السابقة، ففيه إشعار بالأفضلية، وعلى كل تقدير ليس اللحد واجباً والشق منهياً، وإلا لما كان يفعله أبوعبيدة، وهو لا يكون إلا بأمر من الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو تقريره، ولم يتفقوا على أن أيهما جاء أولاً عمل عمله-انتهى. وقال زين العرب: تبعاً للتوربشتي أي اللحد آثرو أولى لنا والشق آثر وأولى لغيرنا، أي هو اختيار من قبلنا من أهل الإيمان، وفي ذلك بيان فضيلة اللحد، وليس فيه نهي عن الشق؛ لأن أبا عبيدة مع جلالة قدره في الدين والأمانة كان يصنعه، ولأنه لو كان منهياً لما قالت الصحابة: أيهما جاء أولاً عمل عمله، ولأنه قد يضطر إليه لرخاوة الأرض-انتهى. وقال الطيبي: ويمكن أنه عليه الصلاة والسلام عني بضمير الجمع نفسه، أي أوثر لي اللحد، وهو إخبار عن الكائن فيكون معجزة-انتهى. وقيل: معناه اللحد لنا معاشر الأنبياء والشق جائز لغيرنا. قلت: ويؤيد ما قاله التوربشتي حديث جرير بن عبد الله عند أحمد (ج4:ص362-363)

رواه الترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه. 1716- (10) ورواه أحمد عن جرير بن عبد الله. 1717- (11) وعن هشام بن عامر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم أحد: ـــــــــــــــــــــــــــــ بلفظ: اللحد لنا والشق لأهل الكتاب. وفي سنده أبواليقظان عثمان بن عمير البجلي، وهو ضعيف. وفي رواية له (ج4:ص359) : الحدوا ولا تشقوا فإن اللحد لنا والشق لغيرنا، وفي سنده أبوجناب الكلبي، رواه عن زاذان عن جرير، واسمه يحيى بن أبي حية، وقد ضعفوه لكثرة تدليسه. (رواه الترمذي) وقال: حديث غريب. (وأبوداود) وسكت عنه هو والمنذري. (والنسائي وابن ماجه) وأخرجه أيضاً ابن سعد، والبيهقي كلهم عن ابن عباس. قال الحافظ: وفي إسناده عبد الأعلى بن عامر الثعلبي، وهو ضعيف، وصححه ابن السكن. وقال الشوكاني: وحسنه الترمذي كما وجدنا ذلك في بعض النسخ الصحيحة من جامعه. 1716- قوله: (ورواه أحمد عن جرير بن عبد الله) رواه أحمد في (ج4:ص357) من طريق حجاج عن عمرو بن مرة عن زاذان عن جرير وفي (ج4:ص359) من طريق أبي جناب عن زاذان، وفي (ج4:ص362-363) من طريق أبي اليقظان عثمان بن عمير عن زاذان، وهذا معلول بأبي اليقظان، والثاني بأبي جناب الكلبي، وحديث جرير أخرجه أيضاً ابن ماجه والطيالسي (ص92) وابن أبي شيبة (ج3:ص127) والبيهقي (ج3:ص408) والطبراني والبزار وأبونعيم في الحلية كلهم من طريق أبي اليقظان، وفي الباب عن جابر عند ابن شاهين. قال الحافظ في الدراية: وسنده ضعيف. وأحاديث الباب تدل على استحباب اللحد، وأنه أولى من الضرح، وإلى ذلك ذهب الأكثر، كما قال النووي، وحكى في شرح مسلم إجماع العلماء على جواز اللحد والشق. قال الشوكاني: ولا يقدح في صححه حديث ابن عباس وما في معناه تحير الصحابة عند موته - صلى الله عليه وسلم - هل يلحدون له أو يضرحون؟ بأن يقال: لو كان عندهم علم بذلك لم يتحيروا؛ لأنه يمكن أن يكون من سمع منه - صلى الله عليه وسلم - ذلك لم يحضر عند موته-انتهى. 1717- قوله: (وعن هشام بن عامر) بن أمية بن الحسحاس بمهملات النجاري الأنصاري صحابي ابن صحابي، يقال كان اسمه شهاباً، فغيره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، سكن البصرة، ومات بها، وقد عاش إلى زمن زياد، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعنه ابنه سعد وحميد بن هلال وأبوالدحلة قرفة بن بهيس العدوى وغيرهم، وذكر أبوحاتم أن رواية حميد بن هلال عنه مرسلة. (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال) أي حينما جاءته الأنصار وقالوا: أصابنا قرح وجهد والحفر علينا لكل إنسان شديد. (يوم أحد) أي وقت انتهاء غزوته عند إرادة

((احفروا وأوسعوا وأعمقوا وأحسنوا، وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد، وقدموا أكثرهم قرآناً)) رواه أحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وروى ابن ماجه إلى قوله: وأحسنوا. ـــــــــــــــــــــــــــــ دفن الشهداء. (احفروا) أي القبور بهمزة وصل من باب ضرب. (وأوسعوا) بقطع الهمزة. (وأعمقوا) كذلك. قال في القاموس: أعمق البئر جعلها عميقة، وفيه دليل على مشروعية إعماق القبر. وقد اختلف في حد الإعماق، فقال الشافعي: قامة. وقال عمر بن عبد العزيز: إلى السرة. وقال مالك: لا حد لإعماقه. وقيل: إلى الثدي، وأقله ما يواري الميت ويمنع السبع. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن عمر بن الخطاب أنه قال: أعمقوا القبر إلى قدر قامة وبسطة، ذكره في النيل، وفي المغني (ج2ص497) قال أحمد: يعمق إلى الصدر، الرجل والمرأة في ذلك سواء، كان الحسن وابن سيرين يستحبان أن يعمق القبر إلى الصدر. وروى سعيد أن عمر بن عبد العزيز لما مات ابنه أمرهم أن يحفروا قبره إلى السرة ولا يعمقوا. وذكر أبوالخطاب أنه يستحب أن يعمق قدر قامة وبسطة، وهو قول الشافعي؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (احفروا وأوسعوا وأعمقوا) رواه أبوداود، ولأن ابن عمر أوصى بذلك في قبره، ولأنه أحرى أن لا تناله السباع وأبعد على من ينبشه، والمنصوص عن أحمد أن المستحب تعميقه إلى الصدر؛ لأن التعميق قدر قامة وبسطة يشق ويخرج عن العادة، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - أعمقوا ليس فيه بيان لقدر التعميق، ولم يصح أنه أوصى بذلك في قبره، ولو صح عند أبي عبد الله يعني الإمام أحمد لم يعده إلى غيره-انتهى. وقالت الحنفية: يعمق إلى الصدر وإلا فالسرة. (وأحسنوا) أي إلى الميت في الدفن، قاله في الأزهار. وقال زين العرب تبعاً للمظهر: أي اجعلوا القبر حسناً بتسوية قعره ارتفاعاً وانخفاضاً وتنقيته من التراب والقذاة وغيرهما. (وأدفنوا الاثنين والثلاثة) بالنصب أي من الأموات. (في قبر واحد) فيه جواز الجمع بين جماعة في قبر واحد، ولكن إذا دعت إلى ذلك حاجة، كما في مثل هذه الواقعة وإلا كان مكروهاً، كما ذهب إليه أبوحنيفة والشافعي وأحمد. (وقدموا أكثرهم قرآناً) أي إلى جدار اللحد ليكون أقرب إلى الكعبة، وفيه إرشاد إلى تعظيم المعظم علماً وعملاً حياً وميتاً. (رواه أحمد) (ج4ص19- 20) . (والترمذي) في الجهاد وصححه. (وأبوداود) في الجنائز، وسكت عنه، ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره. (والنسائي) في الجنائز، وأخرجه أيضاً البيهقي (ج3ص413وج4ص34) . (وروى ابن ماجه) في الجنائز. (إلى قوله: أحسنوا) قال الحافظ في التلخيص بعد عزو حديث هشام هذا إلى أحمد وأصحاب السنن الأربعة ما لفظه: واختلف فيه على حميد بن هلال راويه عن هشام، فمنهم من أدخل بينه وبينه ابنه سعد بن هشام، ومنهم من أدخل بينهما أبا الدهماء ومنهم من لم يذكر بينهما أحداً، ورواه أحمد (ج5ص408) وأبوداود والبيهقي (ج3ص414) من حديث عاصم بن كليب عن أبيه عن

1718- (12) وعن جابر، قال: ((لما كان يوم أحد جاءت عمتي بأبي لتدفنه في مقابرنا، فنادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ردوا القتلى إلى مضاجعهم)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ رجل من الأنصار قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - على القبر يوصي الحافر: أوسع من قبل رجليه أوسع من قبل رأسه. إسناده صحيح-انتهى. 1718- قوله: (جاءت عمتي) اسمها فاطمة بنت عمرو بن حرام الأنصارية. قال الحافظ في الإصابة: ثبت ذكرها في الحديث الصحيح من رواية شعبة عن ابن المنكدر عن جابر قال: لما قتل أبي جعلت أكشف التراب عن وجهه، والقوم ينهوني، فجعلت عمتي فاطمة بنت عمرو تبكيه-الحديث. وهذا لفظ رواية الطيالسي عن شعبة. (بأبي) الباء للتعدية. (لتدفنه في مقابرنا) أي في المدينة ليقرب على أقاربه زيارة قبره والدعاء له أو لفضل اعتقدته في الدفن بالبقيع. (ردوا) بضم الراء. (القتلى) جمع القتيل وهو المقتول أي الشهداء. (إلى مضاجعهم) كذا في جميع النسخ، وكذا وقع في جامع الأصول (ج11ص429) . والذي في جامع الترمذي: إلى مضاجعها، أي إلى محالهم التي قتلوا فيها، والمعنى لا تنقلوا الشهداء من مقتلهم بل أدفنوهم حيث قتلوا، وهو يحتمل أن المراد منع النقل إلى أرض أخرى أو الدفن في خصوص البقعة التي قتلوا فيها، والله تعالى أعلم، وفي رواية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتلى أحد أن يردوا إلى مصارعهم، وكانوا قد نقلوا إلى المدينة، ورواه البيهقي بلفظ: لما كان يوم أحد حمل القتلى ليدفنوا بالبقيع، فنادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمركم أن تدفنوا القتلى في مضاجعهم، بعد ما حملت أمي أبي وخالي عديلين لتدفنهم في البقيع فردوا-انتهى. قال في الأزهار: الأمر في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ردوا القتلى للوجوب، وذلك أن نقل الميت من موضع إلى موضع يغلب فيه التغير حرام، وكان ذلك زجراً عن القيام بذلك والإقدام عليه، وهذا أظهر دليل وأقوى حجة في تحريم النقل وهو الصحيح، نقله السيد. قال القاري. والظاهر أن نهي النقل مختص بالشهداء؛ لأنه نقل ابن أبي وقاص من قصره إلى المدينة بحضور جماعة من الصحابة ولم ينكروا كما تقدم، والأظهر أن يحمل النهي على نقلهم بعد دفنهم لغير عذر، ويؤيده لفظ مضاجعهم، لعل وجه تخصيص الشهداء قوله تعالى: {قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم} [آل عمران: 154] وفيه حكمة أخرى، وهو اجتماعهم في مكان واحد حياة وموتاً وبعثاً وحشراً، ويتبرك الناس بالزيارة إلى مشاهدهم-انتهى كلام القاري. وقيل المنع من النقل كان في الابتداء أي ابتداء أحد، وأما بعده فلا، لما روي أن جابراً جاء بأبيه عبد الله الذي قتل بأحد بعد ستة أشهر إلى البقيع ودفنه بها. وقال الطيبي: لعل الظاهر أنه إذا دعت ضرورة إلى النقل نقل وإلا فلا. قال القاري: وهذا القول هو القول؛ لأنه لا يظن بجابر أنه ينقل بعد النهي عن أن ينقل-انتهى.

رواه أحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، والدارمي، ولفظه للترمذي. 1719- (13) وعن ابن عباس، قال: ((سل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قبل رأسه)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الحافظ في الفتح: اختلف في جواز نقل الميت من بلد إلى بلد، فقيل: يكره لما فيه من تأخير دفنه وتعريضه لهتك حرمته، وقيل: يستحب، والأولى تنزيل ذلك على حالتين، فالمنع حيث لم يكن هناك غرض راجح كالدفن في البقاع الفاضلة. وتختلف الكراهة في ذلك فقد تبلغ التحريم، والاستحباب حيث يكون ذلك بقرب مكان فاضل، كما نص الشافعي على استحباب نقل الميت إلى الأرض الفاضلة كمكة وغيرها والله اعلم-انتهى. وقال ابن قدامة: يستحب دفن الشهيد حيث قتل. قال أحمد: أما القتلى فعلى حديث جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ادفنوا القتلى في مصارعهم، فأما غيرهم فلا ينقل الميت من بلده إلى بلد آخر إلا لغرض صحيح، وهذا مذهب الأوزاعي وابن المنذر. قال عبد الله بن أبي مليكة: توفي عبد الرحمن بن أبي بكر بالحبشة. (وفي رواية البيهقي) (ج4ص57) بالحبشي على رأس أميال من مكة، فحمل إلى مكة فدفن، فلما قدمت عائشة أتت قبره ثم قالت: والله لو حضرتك ما دفنت إلا حيث مت، ولو شهدتك ما زرتك، ولأن ذلك أخف لمؤنته وأسلم له من التغيير، فأما إن كان فيه غرض صحيح جاز. وقال أحمد: ما أعلم بنقل الرجل يموت في بلده إلى بلد آخر بأساً. وسئل الزهري عن ذلك فقال: قد حمل سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد من العقيق إلى المدينة-انتهى. وعند الحنفية لا بأس بنقله قبل الدفن أو تسوية اللبن، قيل: مطلقاً، وقيل: إلى ما دون مدة السفر، وقيده محمد بقدر ميل أو ميلين؛ لأن مقابر البلد ربما بلغت هذه المسافة فيكره فيما زاد، وأما نقله بعد دفنه فلا يجوز مطلقاً إلا لعذر. قال في التجنيس: والعذر أن يظهر أن الأرض مغصوبة أو يأخذها شفيع. (رواه أحمد) (ج3ص297، 308) . (والترمذي) في الجهاد وصححه وأقر المنذري تصحيحه. (وأبوداود) في الجنائز وسكت عنه. (والنسائي) فيه. (والدارمي) وأخرجه أيضاً ابن ماجه والبيهقي (ج4ص57) . (ولفظه) أي لفظ الحديث، والمراد هذا اللفظ. (للترمذي) قد تقدم أن في الترمذي: مضاجعها بدل قوله مضاجعهم. وفي الباب عن أبي سعيد أخرجه البزار، قال الهيثمي (ج3ص43) : إسناده حسن. 1719- قوله: (سلّ) بتشديد اللام على صيغة المجهول، في النهاية: هو إخراج الشيء بتأن ورفق وتدريج، أي جر بلطف. (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي في القبر. (من قِبل رأسه) بكسر القاف وفتح الباء أي من جهة رأسه وجانبه. قال السندي في حاشية ابن ماجه: السل بتشديد اللام الإخراج بتأن وتدريج، وهو بأن يوضع السرير في مؤخر القبر ويحمل الميت منه فيوضع في اللحد، وهذا هو المعمول به اليوم وهو الأسهل، وعن أصحابنا الحنفية: أنه يدخل

الميت القبر من قبل القبلة، فيوضع في اللحد فيكون الآخذ له مستقبل القبلة حال الأخذ، والخلاف في الأفضل-انتهى. قلت: الأفضل عند الشافعي وأحمد والأكثرين هو إدخال الميت في القبر من قبل الرأس، بأن يوضع رأس الجنازة على مؤخر القبر ثم يدخل الميت القبر ويسل كذلك. واستدل لذلك بحديث ابن عباس هذا، وسيأتي الكلام فيه. وبما روى أبوبكر النجاد عن ابن عمر مثله، وبما روى أحمد كما في المغني وأبوداود والبيهقي من طريقه وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة عن أبي إسحاق أن الحارث (الأعور) أوصى أن يصلي عليه عبد الله بن يزيد، فصلى عليه ثم أدخله القبر من قبل رجلي القبر وقال: هذا من السنة، وقد سكت عنه أبوداود والمنذري والحافظ في التلخيص. وقال الشوكاني: رجال إسناده رجال الصحيح. وقال ابن الهمام: إسناده صحيح. وقال البيهقي إسناده صحيح، وهو كالمسند لقوله من السنة، وذكر الزيلعي كلام البيهقي هذا وأقره، وبما سيأتي من حديث أبي رافع قال: سلّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعداً ورش على قبره ماء، وإسناده ضعيف كما ستعرف، وبما روى ابن شاهين في الجنائز عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يدخل الميت من قبل رجليه ويسل سلاً. قال الحافظ في الدراية: إسناده ضعيف، ورواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح لكنه موقوف على أنس-انتهى. وعزا الهيثمي أثر أنس إلى أحمد وقال: رجاله ثقات، وبما روى ابن أبي شيبة أيضاً عن وكيع عن إسرائيل عن جابر عن عامر عن ابن عمر أنه أدخل ميتاً من قبل رجليه، وبما روى الطبراني في الكبير عن صفوان بن عمرو السكسكي قال: خرجنا في جنازة فإذا أهلها يدخلونها القبر من قبل القبلة فقال كرب اليحصى: قال النعمان بن بشير: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أن لكل بيت باباً، وباب القبر من تلقاء رجليه. قال الهيثمي: وفيه جماعة لم يعرفوا-انتهى. واختار أبوحنيفة أخذ الميت من قبل القبلة؛ لأن جانب القبلة معظم فيستحب الإدخال منه. واستدل له بحديث ابن عباس الذي يأتي بعد هذا، وهو حديث ضعيف وإن حسنه الترمذي؛ لأن مداره على الحجاج بن أرطاة، وهو مدلس ولم يذكر سماعاً، وبما روي عن ابن عباس أيضاً قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبوبكر وعمر يدخلون الميت من قبل القبلة. رواه الطبراني في الكبير، وفيه عبد الله بن خراش، ذكره ابن حبان في الثقات وقال: ربما أخطأ وضعفه غيره: البخاري وأبوزرعة وأبوحاتم والدارقطني والنسائي وابن عدي الساجي، ورماه ابن عمار بالكذب. وبما روى ابن أبي شيبة أن علياً أدخل ابن المكفف من قبل القبلة، وأن ابن الحنفية أدخل ابن عباس من قبل القبلة، وبما روى ابن ماجه عن أبي سعيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ من قبل القبلة واستل استلالاً، وفيه عطية العوفي، وهو ضعيف مدلس وقد عنعن. وبما روى ابن عدي في الكامل ومن طريقه البيهقي عن بريدة قال: أدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - من قبل القبلة-الحديث. وفيه أبوبردة عمرو بن يزيد التميمي الكوفي، وهو ضعيف في الحديث، وبما روى أبوداود في المراسيل وابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أدخل من قبل القبلة ولم يسل سلاً. قال البيهقي: والذي ذكره الشافعي من أنه أدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - من قبل رجلي القبر أشهر في أرض

رواه الشافعي. 1720- (14) وعنه ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل قبراً ليلاً فأسرج له بسراج، فأخذ من قبل القبلة، وقال: رحمك الله، إن كنت لأواهاً ـــــــــــــــــــــــــــــ الحجاز، يأخذه الخلف عن السلف فهو أولى بالإتباع والله اعلم. وقال الشافعي: ولا يتصور إدخاله من جهة القبلة لأن القبر في أصل الحائط، ذكره الزيلعي وسكت عنه. وأجاب عنه ابن الهمام بما لا يلتفت إليه، ثم قال ابن الهمام: ولو ترجح ما أسنده الشافعي فإنما كان للضرورة، وغاية فعل غيره أنه فعل صحابي ظن السنة ذلك وقد وجدنا التشريع المنقول عنه - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المرفوع خلافه. قلت: أراد به حديث ابن عباس الآتي، وهو ضعيف كما عرفت، على أنه فعل عارضه حديث عبد الله بن يزيد وهو حديث صحيح مسند على القول الصحيح وحديث أبي رافع، وحديث أنس، وحديث النعمان بن بشير، وهذه الأحاديث بعضها فعل وبعضها قول، فهي مقدمة على حديث ابن عباس، وأثر علي قد عارضه أثر أنس وأثر ابن عمر. (رواه الشافعي) في الأم (ج1ص242) : أخبرنا الثقة عن عمر بن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس. قال الحافظ في التلخيص: قيل: إن الثقة هنا هو مسلم بن خالد الزنجي، قال الشافعي: وعن ابن جريج عن عمران بن موسى مرسلاً مثله، وعن بعض أصحابه عن أبي الزناد وربيعة وأبي النضر كذلك قال لا يختلفون في ذلك، وكذا أبوبكر وعمر من طريق الشافعي رواها البيهقي (ج4ص54) وقال: هذا هو المشهور فيما بين أهل الحجاز. وقال الشافعي في الأم: هو من الأمور العامة التي يستغنى فيها عن الحديث-انتهى. 1720- قوله: (دخل قبراً) أي قبر ميت ليدفنه. (ليلاً) فيه دليل على أن دفن الميت ليلاً لا يكره، وقد تقدم الكلام عليه. (فأسرج) ماض مجهول. (له) أي للميت أو للنبي - صلى الله عليه وسلم -. (بسراج) أقيم مقام الفاعل والباء زائدة. (فأخذ) كذا في جميع النسخ الحاضرة عندنا، وفي الترمذي فأخذه، وكذا نقله الجزري أي أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - الميت، قيل: هو عبد الله بن عبد نهم المزني ذو البجادين، دليل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مات في غزوة تبوك فدفنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلاً. (من قبل القبلة) قال في الأزهار: احتج أبوحنيفة بهذا الحديث على أن الميت يوضع في عرض القبر في جانب القبلة بحيث يكون مؤخر الجنازة إلى مؤخر القبر، ورأسه إلى رأسه ثم يدخل الميت القبر. وقال الشافعي: والأكثرون يسل من قبل الرأس، بأن يوضع رأس الجنازة على مؤخر القبر ثم يدخل الميت القبر-انتهى. (إن كنت) إن مخففة من المثقلة أي أنك كنت. (لأواهاً) بتشديد الواو أي كثير التأوه من خشية الله. قال في النهاية: الأواه المتأوه المتضرع. وقيل: هو

تلاءً للقرآن)) رواه الترمذي، وقال في شرح السنة: إسناده ضعيف. 1721- (15) وعن ابن عمر، ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أدخل الميت القبر قال: باسم الله، وبالله، وعلى ملة رسول الله)) وفي رواية: ((وعلى سنة رسول الله)) . رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، وروى أبوداود الثانية. ـــــــــــــــــــــــــــــ الكثير البكاء أو الكثير الدعاء. (تلاء) بتشديد اللام أي كثير التلاوة. (رواه الترمذي) وأخرجه أيضاً ابن أبي شيبة والبيهقي كلهم من حديث المنهال بن خليفة عن الحجاج بن أرطاة عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس. قال الترمذي: حديث حسن. قال الزيلعي: وأنكر عليه (أي على الترمذي) ؛ لأن مداره على الحجاج بن أرطاة وهو مدلس ولم يذكر سماعاً. قال ابن القطان: ومنهال بن خليفة ضعفه ابن معين. وقال البخاري: فيه نظر-انتهى. (وقال) أي البغوي (في شرح السنة: إسناده ضعيف) يشير إلى كون الحجاج بن أرطاة والمنهال بن خليفة في سنده، والحجاج كثير الخطأ والتدليس، والمنهال ضعفه ابن معين والنسائي وابن حبان وغيرهم. 1721- قوله: (كان إذا أدخل) روى مجهولاً ومعلوماً. (الميت) بالرفع أو النصب. (القبر) مفعول ثان. (قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -. (بسم الله) أي وضعته أو وضع أو أدخله. (وبالله) أي بأمره وحكمه أو بعونه وقدرته. (وعلى ملة رسول الله) أي على طريقته ودينه. (وفي رواية وعلى سنة رسول الله) أي على طريقته وشريعته، والمراد بملة رسول الله وسنته واحد. قال الطيبي: قوله "أدخل" روى معلوماً ومجهولاً، والثاني أغلب، فعلى المجهول لفظ كان بمعنى الدوام، وعلى المعلوم بخلافه، لما روى أبوداود عن جابر قال: رأى نأس ناراً في المقبرة فأتوها، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القبر وهو يقول: ناولوني صاحبكم فإذا هو بالرجل الذي يرفع صوته بالذكر. قال السندي: وفيه نظر؛ لأنه إذا فرض أنه يداوم عليه إذا أدخله شخص أي شخص كان فلأن يداوم عليه إذا أدخله هو بنفسه أوفى، بل أدخل بناء المفعول يشمل إدخاله أيضاً، فكيف يستقيم الدوام فيه إذا فرض عدم الدوام عند إدخاله بنفسه، وهذا ظاهر فليتأمل-انتهى. وقال ميرك: فيه أي في كلام الطيبي نظر؛ لأنه على تقدير المعلوم يحتمل الدوام أيضاً، وعلى تقدير المجهول يحتمل عدمه أيضاً كما لا يخفى. قال القاري: وفيه أن إدخاله عليه الصلاة والسلام الميت بنفسه الأشرف لم يكن دائماً بل كان نادراً لكن قوله: بسم الله يمكن أن يكون دائماً مع إدخاله وإدخال غيره تأمل-انتهى. (رواه أحمد) (ج2ص27، 41، 59، 69، 128) . (والترمذي) وحسنه. (وابن ماجه) أي كلهم الروايتين. (وروى أبوداود الثانية) أي الرواية الثانية وصنيع المصنف يدل على أن الحديث عند الأربعة كلهم فعلى، وفيه نظر فإن الإمام أحمد رواه فجعله حديثاً قولياً لا فعلياً، وكذا هو عند ابن حبان والحاكم والبيهقي وابن

1722- (16) وعن جعفر بن محمد، عن أبيه مرسلاً ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حثى على الميت ثلاث حثيات بيديه جميعاً، ـــــــــــــــــــــــــــــ الجارود وابن أبي شيبة والطبراني. والحديث قد اختلف في رفعه ووقفه، ورجح الدارقطني والنسائي الوقف، ورجح غيرهما الرفع، وهو الصواب عندي، وارجع إلى نصب الراية (ج2ص301- 302) والتلخيص (ص164) وشرح المسند (ج7ص28) للشيخ أحمد شاكر. وفي الباب عن أبي أمامة قال: لما وضعت أم كلثوم بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القبر قال رسول الله عليه وسلم: {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} ، بسم الله وفي سبيل الله، وعلى ملة رسول الله -الحديث. أخرجه أحمد (ج5ص254) والحاكم (ج2ص348) والبيهقي. قال الحافظ في التلخيص (ص164) والهيثمي (ج3ص42) سنده ضعيف. وقال الذهبي: لم يتكلم عليه الحاكم وهو خبر واهٍ؛ لأن علي بن يزيد متروك، وعن واثلة عند الطبراني في الكبير، وفيه بسطام بن عبد الوهاب وهو مجهول، وعن عبد الرحمن بن اللجلاج عن أبيه عند الطبراني والبيهقي. قال الهيثمي (ج3ص44) : رجاله موثقون، وعن أبي حازم مولى الغفاريين عن البياضي عند الحاكم. 1722- قوله: (وعن جعفر) أي الصادق (بن محمد عن أبيه) أي محمد الباقر. (مرسلاً) ؛ لأنه لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحذف الصحابي، وغالب روايته عن جابر. (حثى) كرمى أي قبض التراب ورماه. (على الميت) المراد به الجنس. (ثلاث حثيات) أي حفنات. قال القاري: وروى أحمد بإسناد ضعيف أنه يقول مع الأولى: منها خلقناكم، ومع الثانية: وفيها نعيدكم، ومع الثالثة: ومنها نخرجكم تارة أخرى-انتهى. وقال الشوكاني: ويستحب أن يقول عند ذلك أي عند الحثى على الميت: {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} ، ذكره أصحاب الشافعي-انتهى. والحديث الذي أشار إليه القاري لم أقف على مخرجه ولا على أنه من أين أخذ هذا الحديث، ولم أجد أحداً ذكره ولا يطمئن القلب بنقل القاري، فإنه ليس من أهل هذا الشأن. (بيديه جميعاً) قال ابن الملك: فالسنة لمن حضر الميت على رأس القبر أن يحثي التراب ويرميه في القبر بعد نصب اللبن، وروى البيهقي عن أبي أمامة قال: توفى رجل، فلم تصب له حسنة إلا ثلاث حثيات حثاها في قبر فغفرت له ذنوبه، وروى أبوالشيخ في مكارم الأخلاق عن أبي هريرة مرفوعاً: من حثى على مسلم احتساباً كتب الله له بكل ثراة حسنة. قال الحافظ إسناده ضعيف، وفي الباب عن عامر بن ربيعة عند البيهقي والبزار والدارقطني قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - حين دفن عثمان بن مظعون صلى عليه وكبر عليه أربعاً وحثي على قبره بيده ثلاث حثيات من التراب وهو قائم عند رأسه، وزاد البزار فأمر فرش عليه الماء، وعزاه الهيثمي إلى البزار، وقال: رجاله موثقون إلا أن شيخ البزار

وأنه رش على قبر ابنه إبراهيم، ووضع عليه حصباء)) رواه في شرح السنة، وروى الشافعي من قوله: رش. 1723- (17) وعن جابر، قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجصص القبور، وأن يكتب عليها، ـــــــــــــــــــــــــــــ ومحمد بن عبد الله لم أعرفه-انتهى. وعن أبي المنذر عند أبي داود في المراسيل، وعن أبي هريرة عند ابن ماجه، ويأتي في الفصل الثالث، وعن علي وابن عباس عند البيهقي من فعلهما. (وأنه) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -. (رش) أي الماء. (على قبر ابنه إبراهيم) قال ابن الملك: ويسن حيث لا مطر رش القبر بماء بارد وطاهر طهور تفاؤلاً بأن الله يبرد مضجعه. وقال ابن قدامة: يستحب أن يرش على القبر ماء ليلتزق ترابه، ثم ذكر حديثي جابر وأبي رافع في رش القبر بماء، وقد ذكرهما المصنف وسيأتي الكلام فيهما. (ووضع عليها حصباء) بالمد الحصى الصغار، ففي القاموس: الحصباء الحصى، والحصى صغار الحجارة. وفي النهاية: الحصباء الحصى الصغار. قال ابن الملك: وهو يدل على أن وضع الحصا على القبر سنة. قال الشافعي فيما نقله البيهقي عنه: والحصباء لا تثبت إلا على قبر مسطح. قال ابن التركماني في الجوهر: قد يكون بأعلى القبر تسطيع يسير يوضع فيه الحصباء ولا يخرجه ذلك عن كونه مسنماً باعتبار الغالب-انتهى. (رواه) أي صاحب المصابيح. (في شرح السنة وروى الشافعي من قوله: رش) أخرج الشافعي في الأم عن إبراهيم بن محمد الأسلمي عن جعفر بن محمد عن أبيه مرسلاً في حديثين أحدهما إلى جميعاً والآخر أنه رش على قبر ابنه الخ. وقدم حديث الرش على حديث حثي فجميع الحديث عند الشافعي، وهو خلاف ما قاله المصنف، وحديث الرش رواه البيهقي (ج3ص411) من طريق الشافعي. قال النيموي في آثار السنن (ج2ص125) بعد عزوه إلى الشافعي: إسناده مرسل جيد. وقال الحافظ في التلخيص (ص165) وروى أبوداود في المراسيل والبيهقي (ج3ص411) من طريق الدراوردي عن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي عن أبيه نحوه، وزاد: وأنه أول قبر رش عليه وقال بعد فراغه: سلام عليكم، ولا أعلمه إلا قال: حثا عليه بيديه، رجاله ثقات مع إرساله-انتهى. وروى الطبراني في الأوسط عن عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رش على قبر ابنه إبراهيم. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح خلا شيخ الطبراني. 1723- قوله: (أن يجصص القبور) بالتذكير في جمع النسخ، وفي الترمذي: تجصص بالتأنيث، وفي جامع الأصول (ج11ص434) أن يجصص القبر أي بالتذكير وبإفراد القبر. (وأن يكتب عليها) قال السندي نقلاً عن العراقي: يحتمل النهي عن الكتابة مطلقاً ككتابة اسم صاحب القبر وتاريخ وفاته أو كتابة شيء

وأن توطأ)) رواه الترمذي. 1724- (18) وعنه، قال: ((رُش قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان الذي رش الماء على قبره بلال بن رباح بقربة، ـــــــــــــــــــــــــــــ من القرآن وأسماء الله تعالى ونحو ذلك للتبرك؛ لاحتمال أن يوطأ أو يسقط على الأرض فيصير تحت الأرجل. وقال الحاكم في المستدرك (ج1:ص370) بعد تخرج هذا الحديث: هذه الأسانيد صحيحة، وليس العمل عليها فإن أئمة المسلمين من الشرق إلى الغرب مكتوب على قبورهم، وهو عمل أخذ به الخلف عن السلف. وتعقبه الذهبي في مختصره بأنه لا نعلم صحابياً فعل ذلك، وإنما هو شيء أحدثه بعض التابعين ولم يبلغهم النهي-انتهى. وقال ابن حجر: وأخذ أئمتنا أنه يكره الكتابة على القبر سواء اسم صاحبه أو غيره في لوح عند رأسه أو غيره. وقال الشوكاني: فيه تحريم الكتابة على القبور، وظاهره عدم الفرق بين كتابة اسم الميت على القبر وغيرها، وقد استثنت الهادوية رسم الاسم فجوزه لا على وجه الزخرفة، قياساً على وضعه - صلى الله عليه وسلم - الحجر على قبر عثمان وهو من التخصيص بالقياس، وقد قال به الجمهور، لا أنه قياس في مقابلة النص، كما قال في ضوء النهار. ولكن الشأن في صحة هذا القياس-انتهى. (وأن توطأ) أي بالأرجل والنعال لما فيه من الاستخفاف، قال في الأزهار: والوطء لحاجة كزيارة ودفن ميت لا يكره. قال القاري: في وطء للزيارة محل بحث-انتهى. قال الشوكاني: فيه دليل على تحريم وطء القبر. (رواه الترمذي) : وقال: حديث حسن صحيح، وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم والبيهقي. قال الحافظ: وصرح بعضهم بسماع أبي الزبير عن جابر، وهو في مسلم بدون الكتابة. وقال الحاكم: الكتابة على شرط مسلم، وهي صحيحة غريبة. وفي رواية لأبي داود والنسائي "أو يزاد عليه"، وبوب عليه البيهقي (ج3:ص410) : لا يزاد في القبر أكثر من ترابه لئلا يرتفع جداً. قال السندي: قوله: أو "يزاد عليه" بأن يزاد التراب على التراب الذي خرج منه، أو بأن يزاد طولاً وعرضاً عن قدر جسد الميت-انتهى. 1724- قوله: (رش) بصيغة المجهول. (قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -) قال الطيبي: لعل ذلك إشارة إلى استنزال الرحمة الإلهية والعواطف الربانية على القبر، كما ورد في الدعاء: اللهم اغسل خطاياه بالماء والثلج والبرد، أو إلى الدعاء بالطراوة وعدم الدروس. قال ميرك: ولعل الحكمة فيه أن القبر إذا رش بالماء كان أكثر بقاء وأبعد عن التناثر والاندراس-انتهى. وقال في اللمعات: وذلك لمصلحة رآها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والعلة في رش قبر غيره - صلى الله عليه وسلم - التفاؤل باستنزال الرحمة وغسل الخطايا وتطهير الذنوب، وعلل أيضاً بأن يمسك تراب القبر عن الانتشار ويمنع من الدروس. (بلال بن رباح) بالرفع وقيل بالنصب. (بقربة) بكسر القاف. (بدأ) أي ابتدأ

بدأ من قبل رأسه حتى انتهى إلى رجليه)) . رواه البيهقي في دلائل النبوة. 1725- (19) وعن المطلب أبي بن وداعة، قال: ((لما مات عثمان بن مظعون، أخرج بجنازته فدفن، ـــــــــــــــــــــــــــــ في الرش. (من قبل رأسه) من شقه الأيمن لشرفه واستمر. (حتى انتهى إلى رجليه) ظاهره أنه مرة، ويحتمل مراراً. وفيه دليل على مشروعية الرش على القبر، وإليه ذهب الشافعي وأحمد وأبوحنيفة وغيرهم. (رواه البيهقي في دلائل النبوة) وأخرجه أيضاً في السنن الكبرى (ج3:ص411) من طريق الواقدي عن عبد الله بن جعفر عن ابن أبي عون عن أبي عتيق عن جابر بن عبد الله، والكلام في الواقدي معروف. وفي الباب عن عامر بن ربيعة وعائشة، وقد تقدما في شرح حديث جعفر بن محمد عن أبيه. وروى سعيد بن منصور والبيهقي (ج3:ص411) من طريق جعفر بن محمد عن أبيه مرسلاً: أن الرش على القبر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. 1725- قوله: (وعن المطلب) بتشديد الطاء. (بن أبي وداعة) بفتح الواو القرشي السهمي، واسم أبي وداعة الحارث بن صُبَيرة بن سعيد بن سعد بن سهم، وأم المطلب بن أبي وداعة أروى بنت الحارث بن عبد المطلب بنت عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، صحابي أسلم يوم فتح مكة، ثم نزل الكوفة، ثم نزل بعد ذلك المدينة، وله بها دار، وبقي دهراً ومات بها، روى عنه أهل المدينة، اعلم أن هذا الحديث رواه أبوداود. (ومن طريقه البيهقي ج3:ص412) ولم ينسب المطلب راويه، وكذا في المصابيح وقع غير منسوب. وذكره الجزري في جامع الأصول (ج11:ص435) منسوباً إلى عبد الله، والمصنف جعله منسوباً إلى أبي وداعة، وأخطأ في ذلك، فإن الحديث من رواية المطلب بن عبد الله بن المطلب بن حنطب بن الحارث المخزومي المدني وهو تابعي صدوق، وليس من رواية المطلب بن أبي وداعة الصحابي. قال ميرك: قال الشيخ الجزري في تصحيح المصابيح، والسلمي في تخريجه: رواه أبوداود من حديث المطلب بن عبد الله المدني، وهو المطلب بن عبد الله بن حنطب المخزومي، وهو تابعي يروي عن أبي هريرة وعائشة وابن عمر وابن عباس، ففي الحديث إرسال، وهو الظاهر من السياق حيث قال المطلب: قال الذي يخبرني عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى آخره، والدليل على خطأ ما وقع في المشكاة ما رواه ابن سعد في الطبقات قال: حدثنا محمد بن عمر حدثنا كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال: لما مات عثمان بن مظعون دفن بالبقيع، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء فوضع عند رأسه، وقال: هذا علامة قبره يدفن إليه يعني من مات بعده-انتهى. وقال الحافظ في التلخيص (ص166) : رواه أبوداود من حديث المطلب بن عبد الله بن حنطب وليس صحابياً، ولكنه قد بين أن مخبراً أخبره به ولم يسمه، ولا يضر إبهام الصحابي-انتهى. فالحديث موصول، وليس بمرسل، كما توهم ميرك. (عثمان) تقدم ترجمته. (بن مظعون) بالظاء المعجمة. (أخرج بجنازته) كأنه من باب حذف

أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً أن يأتيه بحجر، فلم يستطع حملها، فقام إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحسر عن ذراعيه، قال المطلب: قال الذي يخبرني عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كأني أنظر إلى بياض ذراعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين حسر عنهما، ثم حملها فوضعها عند رأسه، وقال: أعلم بها قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي)) . رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ العاطف، أي وأخرج جنازته وقوله: (أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -) جواب "لما" كذا قيل: والأظهر أن جواب "لما" هو "أخرج" لوقوعه في محله "وأمر" حذف عاطفه، ويدل عليه ما في بعض نسخ السنن لأبي داود فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذا ذكره الحافظ في التلخيص، والجزري في جامع الأصول (ج11ص435) . (بحجر) أي كبير لوضع العلامة. وفي حديث أنس: أعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - قبر عثمان بن مظعون بصخرة. (فلم يستطع) أي ذلك الرجل وحده. (حملها) قال ابن الملك: تأنيث الضمير على تأويل الصخرة. وفي بعض نسخ أبي داود "حمله" بتذكير الضمير، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول، والحافظ في التلخيص. (فقام إليها) أي الصخرة. (وحسر) أي كشف الثوب. (عن ذراعيه) بكسر الذال أي ساعديه. (ثم حملها) أي الصخرة وحده. (فوضعها عند رأسه) أي رأس قبر عثمان. (أعلم) مضارع متكلم من الإعلام. (بها) أي أعلم الناس بهذه الصخرة. وفي جامع الأصول: أتعلم أي من العلم. (قبر أخي) سماه أخاً لأخوة الإسلام تعظيماً له أو لقرابة، فإنه كان قرشياً، أو لأنه أخوه من الرضاعة، وهو الأصح، قاله القاري. (وأدفن إليه) أي إلى قربه. وقال الطيبي: أي أضم إليه في الدفن. (من مات من أهلي) قيل: أول من ضم إليه إبراهيم بن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي الحديث أن وضع العلامة على القبر، كنصب حجر أو نحوه ليعرفه الناس سنة، وكذلك دفن بعض الأقارب بقرب بعض. (رواه أبوداود) وأخرجه البيهقي من طريقه. قال المنذري: في إسناده كثير بن زيد مولى الأسلميين، وقد تكلم فيه غير واحد. وقال الحافظ في التلخيص: إسناده حسن ليس فيه إلا كثير بن زيد راويه عن المطلب وهو صدوق، وقد بين المطلب أن مخبراً أخبره به ولم يسمه، ولا يضر إبهام الصحابي، ورواه ابن ماجه وابن عدي مختصراً من طريق كثير بن زيد أيضاً عن زينب بنت نبيط عن أنس. قال أبوزرعة: هذا خطأ، وأشار إلى أن الصواب رواية من رواه عن كثير عن المطلب، ورواه الطبراني في الأوسط من حديث أنس بإسناد آخر فيه ضعف، ورواه الحاكم في المستدرك (ج3ص190) في ترجمة عثمان بن مظعون بإسناد آخر فيه الواقدي من حديث أبي رافع فذكر معناه-انتهى.

1726- (20) وعن القاسم بن محمد، قال: ((دخلت على عائشة، فقلت: يا أماه! اكشفي لي عن قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه، فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة، مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء)) . رواه أبوداود. 1727- (21) وعن البراء بن عازب، قال: ((خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد بعد، فجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - مستقبل القبلة، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1726- قوله: (وعن القاسم بن محمد) أي ابن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه. (يا أماه) بسكون الهاء وهي عمته، لكن قال: يا أماه لأنها بمنزلة أمه، أو لكونها أم المؤمنين. ووقع في جامع الأصول (ج11ص 394) يا أمه، أي بحذف الألف وسكون الهاء. (اكشفي لي) أي أظهري وارفعي الستارة. (وصاحبيه) أي ضجيعية، وهما أبوبكر الصديق وعمر رضي الله عنهما. (لا مشرفة) أي مرتفعة غاية الارتفاع، وقيل: أي عالية أكثر من شبر. (ولا لاطئة) بالهمزة والياء أي لازقة ولاصقة بالأرض. وقال القاري: أي مستوية على وجه الأرض، يقال: لطأ بالأرض أي لصق بها. (مبطوحة) صفة لقبور أي مفروشة. (ببطحاء العرصة) أي برمل العرصة وحصاها وهي موضع. وقال الطيبي: العرصة جمعها عرصات. وهي كل موضع واسع لا بناء فيه. والبطحاء مسيل واسع فيه دقاق الحصى، والمراد بها هنا الحصى لإضافتها إلى العرصة. (الحمراء) صفة للبطحاء أو العرصة. والحديث قد استدل به للشافعي ومن وافقه على أن تسطيح القبر أفضل من تسنيمه، وقد سبق بسط الكلام وتحقيقه في شرح حديث سفيان التمار. (رواه أبوداود) وأخرجه الحاكم (ج1ص369) والبيهقي (ج4ص3) وزاد: فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقدماً، وأبابكر رأسه بين كتفي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعمر رأسه عند رجلي النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي صفة القبور الثلاثة اختلاف كثير بسطها السمهودى في الفصل الحادي والعشرين من الباب الرابع من كتابه "وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى" (ص550- 556) ، فعليك أن تراجعه. وحديث القاسم هذا سكت عنه أبوداود والمنذري، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. 1727- قوله: (في جنازة رجل من الأنصار) لم أقف على تسميته. (فانتهينا) أي فوصلنا. (ولما يلحد) بصيغة المجهول. وفي النسائي: ولم يلحد، وكذا في بعض نسخ أبي داود، وليست هذه الجملة عند ابن ماجه. (بعد) أي لم يفرغ من حفر اللحد بعد مجيئنا. (فجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - مستقبل القبلة) فيه دليل على استحباب استقبال القبلة في

وجلسنا معه) رواه أبوداود، والنسائي، وابن ماجه، وزاد في آخره: كأن على رؤسنا الطير. 1728- (22) وعن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كسر عظم الميت ككسره حياً)) رواه مالك، وأبوداود، وابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الجلوس لمن كان منتظراً دفن الجنازة. (وجلسنا معه) هذا لفظ أبي داود، وللنسائي: وجلسنا حوله. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري. (والنسائي وابن ماجه) قال الشوكاني: رجال إسناد هذا الحديث رجال الصحيح على كلام في المنهال بن عمرو وشيخه زاذان. قلت: تقدم هذا الحديث مطولاً في "باب ما يقال عند من حضره الموت" في الفصل الثالث منه، وسبق الكلام فيه هناك مفصلاً. (وزاد) أي ابن ماجه، وفي بعض النسخ "وزادا" بلفظ التثنية، وهو الراجح، فإن الزيادة المذكورة عند النسائي أيضاً. (كأن على رؤسنا الطير) تقدم معناه. 1728- قوله: (كسر عظم الميت) قال السيوطي في حاشية أبي داود في بيان سبب الحديث: عن جابر قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة، فجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - على شفير القبر وجلسنا معه، فأخرج الحفار عظماً ساقاً أو عضداً، فذهب ليكسره فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تكسرها، فإن كسرك إياها ميتاً ككسرك إياها حياً، ولكن دسه في جانب القبر. (ككسره) أي العظم. (حياً) يعني في الإثم، كما في رواية القضاعي، وكذا في حديث أم سلمة عند ابن ماجه. قال الطيبي: إشارة إلى أنه لا يهان ميتاً كما لا يهان حياً. وقال الباجي: يريد أن له من الحرمة في حال موته مثل ما له منها حال حياته، وأن كسر عظامه في حال موته يحرم كما يحرم كسرها حال حياته، قال: ولا يتساويان في القصاص وغيره، وإنما يتساويان في الإثم. قال الزرقاني: الاتفاق على حرمة فعل ذلك به في الحياة والموت لا في القصاص والدية، فمرفوعان عن كاسر عظم الميت إجماعاً-انتهى. وكذا قال الطحاوي في مشكله. وحاصله أن عظم الميت له حرمة مثل ما لعظم الحي من الحرمة، فكان كاسره في انتهاك الحرمة ككاسر عظم الحي لكن لا حياة فيه، فينتفى القصاص والأرش لأنعدام المعنى الذي يوجبه وهو الحياة-انتهى. ويحتمل أن الميت يتألم كما يتألم الحي. ويؤيده ما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال: أذى المؤمن في موته كأذاه في حياته. قال ابن عبد البر: يستفاد منه أن الميت يتألم بجميع ما يتألم به الحي، ومن لازمه أن يستلذ بما يستلذ به الحي. (رواه مالك وأبوداود وابن ماجه) الحديث أخرجه مالك موقوفاً من قول عائشة أنه بلغه أنها كانت تقول: كسر عظم الميت ميتاً ككسره وهو حي. قال ابن عبد البر: كذا الأكثر الرواة، ولبعضهم مالك عن أبي الرجال عن عائشة موقوفاً، ولا أعلم أحداً رفعه عن مالك-انتهى. وأخرجه أحمد وأبوداود وابن ماجه وابن حبان والبيهقي مرفوعاً، وسكت عنه أبوداود والمنذري، وحسنه ابن القطان. وقال ابن دقيق العيد والحافظ في بلوغ المرام: إنه على شرط مسلم،

{الفصل الثالث}

{الفصل الثالث} 1729- (23) عن أنس، قال: ((شهدنا بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تدفن، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس على القبر، فرأيت عينيه تدمعان، فقال: هل فيكم من أحد لم يقارف ـــــــــــــــــــــــــــــ ورواه القضاعي من وجه آخر عنها، وزاد: في الإثم، وأخرجه ابن ماجه من حديث أم سلمة، وفيه هذه الزيادة، وفي سنده عبد الله بن زياد، وهو مجهول. 1729- قوله: (شهدنا) أي حضرنا. (بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي جنازتها، وهي أم كلثوم زوج عثمان بن عفان رضي الله عنه، بينه الواقدي في روايته عن فليح بن سليمان عن هلال بن علي عن أنس، أخرجه ابن سعد في الطبقات في ترجمة أم كلثوم، وكذا الدولابي في الذرية الطاهرة، وكذلك رواه الطبري والطحاوي، وكانت وفاتها سنة تسع، ورواه حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس فسماها رقية، أخرجه البخاري في تاريخه الأوسط، والحاكم في المستدرك، وقد رده البخاري حيث قال: ما أدري ما هذا، فإن رقية ماتت والنبي - صلى الله عليه وسلم - ببدر لم يشهدها. قال الحافظ: وهم حماد في تسميتها فقط، ويؤيد الأول ما رواه ابن سعد أيضاً في ترجمة أم كلثوم من طريق عمرة بنت عبد الرحمن قالت: نزل في حفرتها أبوطلحة. (تدفن) أي في حال دفنها. (ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس) جملة حالية. (على القبر) أي على جانب القبر وشفيره وهو الظاهر. (تدمعان) بفتح الميم أي تسيلان دمعاً. وفيه جواز البكاء على الميت بعد موته حيث لا صياح ولا غيره مما ينكر شرعاً، وأما قوله "فإذا وجبت فلا تبكين باكية" فهو محمول على الصياح ورفع الصوت، أو على الأولوية، أو أنه مخصوص بالنساء؛ لأنه قد يفضي بكاءهن إلى ما يحذر من النياحة لقلة صبرهن، فيكون من باب سد الذريعة. (هل فيكم من أحد) من زائدة. (لم يقارف) من المقارفة بالقاف والفاء. قال في النهاية: قارف الذنب إذا أتاه ولاصقه، وقارف امرأته إذا جامعها. وفي جامع الأصول: لم يقارف أي لم يذنب ذنباً. ويجوز أن يراد الجماع فكنى عنه، ذكره الطيبي. وبالثاني جزم ابن حزم قال: ومعاذ الله أن يتزكى أبوطلحة بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه لم يقارف ذنباً تلك الليلة-انتهى. ويقويه أن في رواية ثابت عن أنس عند البخاري في التاريخ الأوسط: لا يدخل القبر أحد قارف أهله البارحة، فتنحى عثمان. وحكى عن الطحاوي أنه قال "لم يقارف" تصحيف، والصواب لم يقاول أي لم ينازع غيره الكلام؛ لأنهم كانوا يكرهون الحديث بعد العشاء. وتعقب بأنه تغليظ للثقة لغير مستند. قيل: سبب قوله - صلى الله عليه وسلم - إن عثمان كان قد جامع بعض جواريه في تلك الليلة. فتلطف - صلى الله عليه وسلم -

الليلة؟ فقال أبوطلحة: أنا. قال: فانزل في قبرها، فنزل في قبرها)) رواه البخاري. 1730- (24) وعن عمرو بن العاص قال لابنه وهو في سياق الموت: ((إذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فشنوا عليّ التراب شناً، ـــــــــــــــــــــــــــــ في منعه من النزول في قبر زوجته بغير تصريح. واستبعد أن يكون عثمان جامع في تلك الليلة التي حدث فيها موت زوجته لحرصه على مراعاة الخاطر الشريف. وأجيب عنه باحتمال أن يكون مرض المرأة طال واحتاج عثمان إلى الوقاع، ولم يكن يظن موتها تلك الليلة، وليس في الخبر ما يقتضي أنه واقع بعد موتها، بل ولا حين احتضارها. (الليلة) أي البارحة بقرينة السؤال. (فقال أبوطلحة) زيد بن سهل الأنصاري. (أنا) لم أقارف الليلة. (قال) عليه الصلاة والسلام: (فانزل في قبرها) فيه دليل على أنه لا ينزل في قبر الميت إلا الرجال متى وجدوا وإن كان الميت امرأة بخلاف النساء لضعفهن عن ذلك غالباً، ولأنه معلوم أنه كان لبنت النبي - صلى الله عليه وسلم - محارم من النساء كفاطمة وغيرها. وفيه أنه يقدم الرجال الأجانب الذين بعد عهدهم بالملاذ في مواراة الميت على الأقارب الذين قرب عهدهم بذلك كالأب والزوج. وعلل بعضهم من لم يقارف بأنه حينئذٍ يأمن من أن يذكره الشيطان بما كان منه تلك الليلة. قال النووي لا يشكل هذا الحديث على قولهم: إن المحارم والزوج أولى من صالح الأجانب لاحتمال أنه عليه الصلاة والسلام وعثمان كان لهما عذر منعهما نزول القبر، نعم يؤخذ من الخبر أنه لو كان ثمة صلحاء، وأحدهم بعيد العهد بالجماع قدم. (فنزل) أي أبوطلحة. (في قبرها) زاد في بعض الروايات: فقبرها أي لحدها. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً أحمد والبيهقي والترمذي في الشمائل. 1730- قوله: (قال لابنه) أي عبد الله. (وهو) أي عمرو. (في سياق الموت) في مسلم: سياقة الموت. قال النووي: بكسر السين أي حال حضور الموت-انتهى. يقال: ساق المريض نفسه وسيق إذا شرع في نزع الروح. (إذا أنا مت) بضم الميم وكسرها. (فلا تصحبني) بفتح الحاء من باب سمع أي لا تترك أن يكون مع جنازتي. (نائحة) أي صائحة بالبكاء ونادبة بالنداء. (ولا نار) كان من عادة الجاهلية إرسال النار مع الميت، وقد هدم النبي - صلى الله عليه وسلم - شعار الجاهلية وأبطله. وقيل: لأنه سبب للتفاؤل القبيح. وقيل: المراد به البخور الذي يوضع في المجمر. (فإذا دفنتموني) أي أردتم دفني. (فشنوا) بضم الشين، أمر من شن الماء إذا صبه متفرقاً. (عليّ) بتشديد الياء. (التراب شناً) قال النووي: سنوا علي التراب سناً، ضبطناه بالسين المهملة وبالمعجمة، وكذا قال القاضي: إنه بالمعجمة والمهملة قال: وهو الصب. وقيل: بالمهملة الصب في سهولة ورفق، وبالمعجمة التفريق.

ثم أقيموا حول قبري قدر ما ينحر جزور ويقسم لحمها، حتى أستأنس بكم وأعلم ماذا أراجع به رسل ربي)) رواه مسلم. 1731- (25) وعن عبد الله بن عمر، قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا مات أحدكم فلا تحبسوه، وأسرعوا به إلى قبره، وليقرأ عند رأسه فاتحة البقرة، وعند رجليه بخاتمة البقرة)) ـــــــــــــــــــــــــــــ (أقيموا حول قبري) للدعاء بالتثبيت. (قدر ما ينحر جزور) بفتح الجيم وهي من الإبل، قاله النووي. وقال القاري: أي بعير وهو مؤنث اللفظ وإن أريد به المذكر، فيجوز تذكير "ينحر" وتأنيثه. (حتى أستأنس بكم) أي بدعائكم واستغفاركم وسؤالكم التثبيت. (وأعلم) أي من غير وحشة. (ماذا أراجع) أي أجاوب به. (رسل ربي) أي سؤال الملكين. وفي الحديث فوائد: منها إثبات فتنة القبر وسؤال الملكين، وهو مذهب أهل الحق، ومنها استحباب المكث عند القبر بعد دفن لحظة نحو ما ذكر لما ذكر. (رواه مسلم) في كتاب الإيمان في حديث طويل، وأخرجه أيضاً البيهقي (ج5ص56) . 1731- قوله: (فلا تحبسوه) أي لا تؤخروا دفنه من غير عذر. قال ابن الهمام: يستحب الإسراع بتجهيزه كله من حين يموت. (وأسرعوا به إلى قبره) هو تأكيد وإشارة إلى سنة الإسراع في الجنازة، وقد سبق الكلام فيه. (وليقرأ) بالتذكير وبسكون اللام ويكسر. (عند رأسه) أي بعد الدفن. (فاتحة البقرة) أي إلى المفلحون. (وعند رجليه بخاتمة) وفي بعض النسخ: خاتمة (البقرة) أي من {آمن الرسول} الخ قال الطيبي: لعل تخصيص فاتحتها لاشتمالها على مدح كتاب الله، وأنه هدى للمتقين الموصوفين بالخلال الحميدة من الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وخاتمتها لاحتوائها على الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله. وإظهار الاستكانة وطلبت الغفران والرحمة، والتولي إلى كنف الله تعالى وحمايته-انتهى. وفيه دليل على جواز قراءة أول البقرة وخاتمتها عند القبر بعد الدفن. ويدل عليه أيضاً ما روى البيهقي (ج4ص56) عن عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه أنه قال لبنيه: إذا أدخلتموني قبري فضعوني في اللحد، وقولوا: بسم الله وعلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسُنّوا علي التراب سناً، واقرؤوا عند رأسي أول البقرة وخاتمتها، فإني رأيت ابن عمر يستحب ذلك، وهذا موقوف على ابن عمر، كما ترى، وليس بمرفوع، وكذا الحديث الذي نحن في شرحه، كما سيأتي، ونقل الزيلعي حديث عبد الرحمن بن العلاء عن الطبراني بلفظ: عن عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه قال: قال لي أبي اللجلاج أبوخالد: يا بني إذا أنا مت فالحد لي، فإذا وضعتني في اللحد فقل: باسم الله وعلى ملة رسول الله ثم شن التراب على شناً، ثم اقرأ عند رأسي بفاتحة البقرة وخاتمتها، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

يقول ذلك، وهذا كما ترى مرفوع، وقد سكت عنه الزيلعي. وقال الهيثمي: رجاله موثقون. وقد استدل بالحديثين على إهداء ثواب قراءة القرآن للميت. وفيه نظر، فإنه ليس فيهما ذكر للإهداء وجعل ثواب القراءة للميت. والظاهر أن قراءة أول البقرة وخاتمتها عند القبر كانت ليأنس بها الميت فيختص ذلك بأن يكون عند القبر عقب الدفن لا مطلقاً. واختلف العلماء في وصول ثواب قراءة القرآن وغيرها من العبادات البدنية للميت كالصلاة والصوم والذكر، بعد ما اتفقوا على أنه ينتفع الميت بما تسبب إليه في حياته، وبدعاء المسلمين، واستغفارهم له، والصدقة والحج. فذهب أحمد وأبوحنيفة إلى وصول ثواب القراءة وغيرها من العبادات البدنية. واستدل لهما بأحاديث ذكرها القاري في المرقاة نقلاً عن شرح الصدور للسيوطي، وقد نقلها شيخنا في شرح الترمذي (ج2 ص26) وفي كتاب الجنائز له (ص103-104) ، وهي ضعيفة كلها لا تصلح للاستدلال والاحتجاج، وبالقياس على الدعاء والصدقة والحج. وذهب مالك والشافعي إلى أن ذلك لا يصل. واستدل لهما بدلائل ذكرها ابن القيم في كتاب الروح (ص196- 197) ثم بسط في الجواب عنها، ولبعض شيوخنا رسالة لطيفة في الأردوية في هذه المسألة رتبها على مقدمة ومقصد وخاتمة، وسماها "إهداء ثواب" وبسط الكلام في تحقيق المقام فأجاد، فعليك أن تطالعها، وقد اختار هو القول بعدم وصول ثواب قراءة القرآن إلى الميت، وإليه يميل قلبي، فإنه لم يقم على إهداء ثواب القراءة دليل شرعي لا من قرآن ولا من سنة صريحة صحيحة ولا من إجماع، ولا يكفي في مثل هذه المسألة حديث ضعيف أو أثر صحابي فضلاً عن القياس أو أثر التابعي ومن دونه. وقد صرح ابن القيم الذي هو قائل بوصول ثواب القراءة إلى الميت بأنه لم يصح عن السلف شيء في ذلك، واعتذر عن هذا بأنهم كانوا يخفون أعمال البر، واعترض عليه بأنه لو كان معروفاً لكان عن اعتقاد مشروعيته، وحينئذٍ يبلغونه ولا يكتمونه، بل لتوفرت الدواعي على نقله عنهم بالتواتر؛ لأنه من رغائب جميع الناس. هذا، وقد رد صاحب تفسير المنار (ج8 ص257- 258) على ابن القيم رداً حسناً فيما طول له الكلام من إثبات إهداء الثواب إلى الأموات، فارجع إليه إن شئت. قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} [النجم: 39] ومن هذه الآية الكريمة استنبط الشافعي ومن تبعه أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى؛ لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم، ولهذا لم يندب إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته، ولا حثهم عليه ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، وباب القربات يقتصر فيه على النصوص، ولا يتصرف فيه بأنواع الأقسية والآراء. فأما الدعاء والصدقة فذاك مجمع على وصولهما ومنصوص من الشارع عليهما- انتهى. وفي الاختيارات لشيخ الإسلام تقى الدين بن تيمية: ولم يكن من

رواه البيهقي في شعب الإيمان وقال: والصحيح أنه موقوف عليه. 1732- (26) وعن ابن أبي مليكة، قال: ((لما توفي عبدارحمن بن أبي بكر بالحبشى، وهو موضع، فحمل إلى مكة فدفن بها، فلما قدمت عائشة أتت قبر عبد الرحمن بن أبي بكر فقالت: ... ... وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر، حتى قيل: لن يتصدعا ـــــــــــــــــــــــــــــ عادة السلف إذا صلوا تطوعاً أو صاموا تطوعاً أو حجوا تطوعاً أو قرؤوا القرآن، يهدون ثواب ذلك إلى أموات المسلمين، فلا ينبغي العدول عن طريق السلف، فإنه أفضل وأكمل- انتهى. (رواه البيهقي في شعب الإيمان) ونقله الهيثمي عن الطبراني في الكبير، وقال: وفيه يحيى بن عبد الله البابلتي. وهو ضعيف- انتهى. قلت: هو يحيى بن عبد الله بن الضحاك البابلتى أبوسعيد الحراني ضعفه أبوزرعة وغيره. وقال أبوحاتم لا يعتد به. وقال ابن عدى: له أحاديث صالحة تفرد ببعضها، وأثر الضعف على حديثه بين. وقال الحافظ في التقريب: ضعيف. وقال الخليلي: شيخ مشهور أكثر عن الأوزاعي، وطعنوا في سماعه عنه. قال ابن معين: لم يسمع والله من الأوزاعي شيئاً. (وقال) البيهقي. (والصحيح أنه موقوف عليه) أي على ابن عمر. 1732- قوله: (وعن ابن أبي مليكة) هو عبد الله بن عبيد الله بن أبي ملكية بالتصغير تقدم ترجمته. (عبد الرحمن بن أبي بكر) أي الصديق أمه أم رومان والدة عائشة فهو شقيق عائشة، كان أسن ولد أبي بكر، أسلم قبيل الفتح، وكان اسمه في الجاهلية عبد الكعبة أو عبد العزى، فغيره النبي - صلى الله عليه وسلم - وسماه عبد الرحمن، وكان امرأًً صالحاً لم يجرب عليه كذبه قط، وكان أشجع رجال قريش وأرماهم بسهم، وحضر اليمامة مع خالد بن الوليد فقتل سبعة من كبارهم، وشهد الفتوح الأخرى وشهد الجمل مع أخته عائشة، وكان أخوه محمد يومئذٍ مع علي رضي الله عنهم أجمعين، وأبى عبد الرحمن على معاوية البيعة ليزيد، وبعث إليه معاوية بعد ذلك بمائة ألف درهم فردها عليه وأبى أن يأخذها، وقال: لا أبيع ديني بدنياي، فخرج إلى مكة فمات بها قبل أن تتم البيعة ليزيد. وقيل: مات بطريق مكة فجأة سنة (53) وقيل بعد ذلك، وتوفيت عائشة بعد ذلك بيسير سنة (59) . (بالحبشى) بضم الحاء المهملة وسكون الباء الموحدة وكسر الشين المعجمة وتشديد الياء آخر الحروف، موضع قريب بمكة على اثني عشر ميلاً من مكة. وقيل: على نحو عشرة أميال منها. وقال الجوهري: جبل بأسفل مكة. (وهو موضع) تفسير من الراوي. (فحمل) أي نقل من الحبشى. (فلما قدمت عائشة) أي إلى مكة حاجة. (فقالت) أي منشدة مشيرة إلى أن طول الاجتماع في الدنيا بعد زواله يكون كأقصر زمن وأسرعه، كما هو شأن الفاني جميعه. (وكنا كندماني جذيمة) قال الشمني في شرح المغني: هذا البيت لتميم بن نويرة يرثي أخاه مالكاً الذي قتله خالد بن الوليد في خلافة

فلما تفرقنا، كأني ومالكاً لطول اجتماع لم نبت ليلة معاً ثم قالت: والله لو حضرتك ما دفنت إلا حيث مت، ولو شهدتك ما زرتك)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبي بكر الصديق. وجذيمة بفتح الجيم وكسر الذال. قال الطيبي: جذيمة هذا كان ملكاً بالعراق والجزيرة وضم إليه العرب وهو صاحب الزباء- انتهى. وفي القاموس: الزباء ملكة الجزيرة وتعد من ملوك الطوائف، أي كنا كندمانى جذيمة وجليسيه، وهما مالك وعقيل كانا منادميه وجليسيه وأنيسيه مدة أربعين سنة. (حقبة) بالكسر أي المدة طويلة. (حتى قيل لن يتصدعا) أي إلى أن قال الناس لن يتفرقا. (فلما تفرقنا) أي بالموت. (كأني ومالكاً) هو أخو الشاعر الميت. (لطول اجتماع) قيل اللام بمعنى مع أو بعد كما في قوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} [الإسراء:78] ومنه: صوموا لرويته، أي بعد رؤيته. (لم نبت ليلة معاً) أي مجتمعين. (ثم قالت) أي عائشة: (لو حضرتك) أي وقت الدفن. (ما دفنت) بصيغة المجهول. (إلا حيث مت) أي منعتك أن تنقل من مكان إلى مكان، بل دفنت حيث مت، وقد سبق الكلام في نقل الميت فيما تقدم، وكأنها ذهبت إلى منع النقل مطلقاً. (ولو شهدتك) أي حضرت وفاتك. (ما زرتك) قال الطيبي: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن زوارات القبور-انتهى. ويرد عليه أن عائشة كيف زارت مع النهي وإن كانت لم تشهد وقت موته ودفنه، ويمكن أن يجاب عنه بأن النهي محمول على تكثير الزيارة؛ لأنه صيغة مبالغة، ولذا قالت: لو شهدتك ما زرتك؛ لأن التكرار ينبىء عن الإكثار. وفيه أنه ورد اللعن على مطلق الزيارة في بعض الروايات أي بغير صيغة المبالغة. فقد روى أحمد وأبوداود وغيرهما عن ابن عباس مرفوعاً: لعن الله زائرات القبور. وقد تقدم في باب المساجد مع الكلام عليه. وقيل: النهي محمول على زيارتهن لمحرم كالنوح وغيره مما اعتدنه. واختلف العلماء في زيارة القبر للنساء، فذهب الأكثر إلى الجواز. ومحله ما إذا أمنت الفتنة، ويؤيد الجواز حديث أنس الآتي في باب البكاء قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بامرأة تبكي عند قبرها، فقال: اتقي الله واصبري الخ. فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر على المرأة قعودها عند القبر وتقريره حجة. قال البيهقي: ليس في خبر أنس أنه نهاها إلى الخروج إلى المقبرة، ويؤيد الجواز أيضاً ما رواه مسلم من حديث عائشة قالت: كيف أقول يا رسول الله تعني إذا زرت القبور، قال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين-الحديث. سيأتي في باب زيارة القبور، وممن حمل الإذن في زيارة القبور على عمومه للرجال والنساء عائشة، كما يدل عليه حديث الباب وأصرح منه ما روى الحاكم (ج1:ص376) والبيهقي (ج4:ص78) والأثرم في سننه كلهم من طريق ابن أبي مليكة أنها أقبلت ذات يوم من المقابر، فقلت لها: يا أم المؤمنين من أين أقبلت؟ قالت: من قبر أخي عبد الرحمن بن أبي بكر، فقلت لها: أليس كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن زيارة القبور؟ قالت: نعم، كان نهى ثم أمر بزيارتها، وسيأتي مزيد الكلام عليه في باب

رواه الترمذي. 1733- (27) وعن أبي رافع، قال: ((سل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعداً ورش على قبره ماء)) . رواه ابن ماجه. 1734- (28) وعن أبي هريرة: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى على جنازة، ثم أتى القبر فحثى عليه من قبل رأسه ثلاثاً)) . رواه ابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ زيارة القبور. (رواه الترمذي) ولم يحكم عليه بشيء من الصحة والضعف. قال شيخنا: ورجاله ثقات إلا أن ابن جريح مدلس، ورواه عن عبد الله بن أبي مليكة بالعنعنة. 1733- قوله: (سلّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعداً) أي ابن معاذ بأن وضع السرير في مؤخر القبر ثم حمل سعداً من قبل رأسه وأدخله في القبر، وهو الأفضل عند الشافعي وأحمد، وقد سبق الكلام فيه مفصلاً. (ورش على قبره ماء) فيه مشروعية رش القبر بالماء ولا خلاف فيها. (رواه ابن ماجه) بإسناد ضعيف. قال في الزوائد في إسناده مندل بن علي ضعيف، ومحمد بن عبيد الله بن أبي رافع متفق على ضعفه-انتهى. قلت: محمد بن عبيد الله هذا. قال البخاري فيه: منكر الحديث. وقال أبوحاتم: ضعيف الحديث منكر الحديث جداً وذاهب. وقال الدارقطني: متروك، وله معضلات. وقال ابن معين: ليس بشيء، وذكره ابن حبان في الثقات، كذا في تهذيب الحافظ. وقال الزيلعي في نصب الراية (ج2:ص300) بعد ذكر الحديث: ومندل بن علي ضعيف-انتهى. فالحديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج بإنفراده، لكن قد تقدم في الرش والسل أحاديث أخرى، وهي تؤيد حديث أبي رافع هذا. 1734- قوله: (فحثى عليه) أي رمى على قبره بالتراب. (ثلاثاً) أي ثلاث حثيات. (رواه ابن ماجه) قال الحافظ في التلخيص (ص165) بعد نقل هذا الحديث عن ابن ماجه: وقال أبوحاتم في العلل: هذا حديث باطل قلت: (قائله الحافظ) إسناده ظاهره الصحة. قال ابن ماجه: حدثنا العباس بن الوليد الدمشقي ثنا يحيى بن صالح ثنا سلمة بن كلثوم ثنا الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى على جنازة الخ، ليس لسلمة بن كلثوم في سنن ابن ماجه وغيرها إلا هذا الحديث الواحد، ورجاله ثقات، وقد رواه ابن أبي داود في كتاب "التفرد" له من هذا الوجه، وزاد في المتن أنه كبر عليه أربعاً، وقال بعده: ليس يروى في حديث صحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - كبر على جنازة أربعاً إلا هذا، فهذا حكم منه بالصحة على هذا الحديث، لكن أبوحاتم إمام لم يحكم عليه بالبطلان إلا بعد أن تبين له، وأظن العلة فيه عنعنة الأوزاعي وعنعنة شيخه، وهذا كله

(7) باب البكاء على الميت

1735- (29) وعن عمرو بن حزم، قال: ((رآني النبي - صلى الله عليه وسلم - متكئاً على قبر، فقال: لا تؤذ صاحب هذا القبر، أو لا تؤذه)) . رواه أحمد. (7) باب البكاء على الميت {الفصل الأول} 1736- (1) عن أنس، قال: ((دخلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي سيف ـــــــــــــــــــــــــــــ إن كان يحيى بن صالح هو الوحاظي شيخ البخاري-انتهى كلام الحافظ. وقد نقل الشوكاني كلام الحافظ هذا في النيل وسكت عليه. 1735- قوله: (وعن عمرو بن حزم) بفتح الحاء وسكون الزاي. (تؤذ صاحب القبر) أي لا تهنه فإن روح الميت لا يرضى بالإتكاء على قبره لتضمنه الإهانة. (أو لا تؤذه) أي بالضمير موضع لفظ صاحب القبر وهو شك من الراوي، ورواه النسائي بلفظ: لا تقعدوا على القبور، وكذا وقع في رواية لأحمد، كما قال الحافظ في الفتح. وفي الحديث دليل لما ذهب إليه الجمهور من أن المراد بالجلوس القعود على حقيقته لا الحدث، وفيه بيان علة المنع من الجلوس وهو التأذى. (رواه أحمد) وأخرجه أيضاً النسائي. قال الحافظ في الفتح: إسناده صحيح، وفي الباب عن عمارة بن حزم أخي عمرو بن حزم قال رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالساً على قبر فقال: أنزل من القبر لا تؤذ صاحب القبر. أخرجه أحمد من طريق نعيم بن زياد الحضرمي عن عمارة، ذكره الحافظ في الإصابة. (ج2:ص514) وعزاه الهيثمي للطبراني، وقال: وفيه ابن لهيعة، وفيه كلام، وقد وثق. (باب البكاء) بالمد على الأفصح أي جوازه. (على الميت) أي بدون نياحة. 1736- قوله: (على أبي سيف) بفتح السين، قال عياض: اسمه البراء بن أوس الأنصاري، وأم سيف زوجته هي أم بردة واسمها خولة بنت المنذر الأنصارية. قال الحافظ في الفتح: جمع بذلك بين ما وقع في هذا الحديث الصحيح وبين قول الواقدي فيما رواه ابن سعد في الطبقات عنه عن يعقوب بن أبي صعصعة عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة قال: لما ولد إبراهيم تنافست فيه نساء الأنصار أيتهن ترضعه، فدفعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أم بردة بنت المنذر بن زيد بن لبيد من بني عدي بن النجار، وزوجها البراء بن أوس بن خالد بن الجعد من بني عدي بن النجار، فكانت ترضعه وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتيه في بني النجار-انتهى. وما جمع به غير مستبعد، إلا أنه لم يأت عن أحد من الأئمة التصريح بأن البراء بن أوس يكنى أبا سيف، ولا أن أبا سيف يسمى البراء

القين، وكان ظئراً لإبراهيم، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إبراهيم فقبله وشمه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك، وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تذرفان. فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله؟! ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن أوس، وقال في الإصابة في ترجمة أبي سيف بعد ذكر رواية الواقدي ما لفظه: فإن كان ثابتاً احتمل أن تكون أم بردة أرضعته ثم تحول إلى أم سيف وإلا فالذي في الصحيح هو المعتمد-انتهى. وقال في ترجمة أم بردة: اسمها خولة، قاله ابن سعد، وهي التي أرضعت إبراهيم بن النبي - صلى الله عليه وسلم -، دفعه إليها لما وضعته مارية، فلم تزل ترضعه حتى مات عنها. وقال أبوموسى: المشهور أن التي أرضعته أم سيف، ولعلهما جميعاً أرضعتاه-انتهى. (القين) بفتح القاف وسكون الياء آخره نون صفة لأبي سيف أي الحداد، ويطلق على كل صانع، يقال: قان الشيء إذا أصلحه. (وكان) أي أبوسيف. (ظئراً) بكسر الظاء المعجمة وسكون الهمزة أي مرضعاً، وأطلق عليه ذلك؛ لأنه كان زوج المرضعة، وأصل الظئر من ظأرت الناقة إذا عطفت على غير ولدها، فقيل ذلك للتي ترضع ولد غيرها، وأطلق ذلك على زوجها؛ لأنه يشاركها في تربيته غالباً. قال ابن الجوزي: الظئر المرضعة ولما كان زوجها تكفله سمي ظئراً، وأصله عطف الناقة على غير ولدها ترضعه، وفي المحكم: الظئر العاطفة على ولد غيرها المرضعة من الناس والإبل الذكر والأنثى في ذلك سواء. (لإبراهيم) أي ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية لمسلم: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم، ثم دفعه إلى أم سيف امرأة قين بالمدينة يقال له أبوسيف، فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاتبعته، فانتهى إلى أبي سيف، وهو ينفخ بكيره وقد امتلأ البيت دخاناً، فأسرعت المشى بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: يا أباسيف! امسك جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (فقبله وشمه) أي وضع أنفه ووجهه على وجهه كمن يشم رائحة. فيه أي محبة الأطفال والترحم بهم سنة. (ثم دخلنا عليه) أي على أبي سيف. (بعد ذلك) أي بأيام. (وإبراهيم يجود بنفسه) أي يخرجها ويدفعها، كما يدفع الإنسان ماله يجود به. (تذرفان) بالذال المعجمة وكسر الراء وبالفاء أي يجري دمعها. في النهاية: ذرفت العين إذا جرى دمعها. (وأنت يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) فيه معنى التعجب، والواو تستدعى معطوفاً عليه، أي الناس لا يصبرون على المصائب ويتفجعون ويبكون، وأنت تفعل كفعلهم، أي لا ينبغي لك أن تنفجع، كأنه استغرب ذلك منه؛ لأنه يدل على ضعف النفس والعجز عن مقاومه المصيبة بالصبر، ويخالف ما عهده منه من الحث على الصبر والنهي عن الجزع، فأجاب بقوله: إنها رحمة، أي الحالة التي تشاهدها مني يا ابن عوف هي رقة ورحمة وشفقة على المقبوض، أي الولد، لا ما توهمت من الجزع وقلة الصبر، ووقع في حديث جابر عند الترمذي والبيهقي، وفي حديث عبد الرحمن نفسه عند ابن سعد والطبراني: فقلت: يا رسول الله! تبكي، أوَ لم تنه عن البكاء؟ وزاد

فقال يا ابن عوف! إنها رحمة، ثم اتبعها بأخرى، فقال: إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون)) متفق عليه. 1737- (2) وعن أسامة بن زيد، قال: ((أرسلت ابنة النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه: أن ابناً لي قبض ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه: إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نغمة لهو ولعب ومزامير الشيطان، وصوت عند مصيبة خمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان، قال: إنما هذا رحمة، ومن لا يرحم لا يرحم. وفي رواية محمود بن لبيد عند ابن سعد فقال: إنما أنا بشر. وعند عبد الرزاق من مرسل مكحول: إنما أنهى الناس عن النياحة، أن يندب الرجل بما ليس فيه. (إنها) أي هذه الدمعة التي تراها في العين أو الحالة التي تشاهدها. (رحمة) أي أثر رحمة جعلها الله في قلوب عباده. (ثم اتبعها بأخرى) أي اتبع الدمعة الأولى بدمعة أخرى، وقيل: اتبع الكلمة الأولى المجملة، وهي قوله: "إنها رحمة" بكلمة أخرى مفصلة، وهي قوله: إن العين تدمع، والقلب يحزن. فكان هذه الكلمة الأخرى صارت مفسرة للكلمة الأولى. قال الحافظ: ويؤيد هذا التأويل ما تقدم من طريق عبد الرحمن ومرسل مكحول. (والقلب) بالنصب ويرفع. (يحزن) بفتح الزاي. (ولا نقول) أي مع ذلك. (إلا ما يرضى ربنا) قال القاري: وفي نسخة بضم الياء وكسر الضاد ونصب ربنا. (وإنا بفراقك) أي بسبب مفارقتك إيانا. (لمحزونون) وفي حديث عبد الرحمن ومحمود بن لبيد: ولا نقول ما يسخط الرب، وزاد في حديث عبد الرحمن في آخره: لولا أنه أمر حق، ووعد صدق، وسبيل تأتيه، وأن آخرنا سيلحق بأولنا لحزنا عليك حزناً هو أشد من هذا، ونحوه في حديث أسماء بنت يزيد عند ابن ماجه ومرسل مكحول، وفي آخر حديث محمود بن لبيد وقال: إن له مرضعاً في الجنة. ومات وهو ابن ثمانية عشر شهراً. قال ابن بطال وغيره: هذا الحديث يفسر البكاء المباح والحزن الجائز، وهو ما كان بدمع العين ورقة القلب من غير سخط لأمر الله، وهو أبين شيء وقع في هذا المعنى. وفيه مشروعية تقبيل الولد وشمه. ومشروعية الرضاع، وعيادة الصغير، والحضور عند المحتضر، ورحمة العيال، وجواز الأخبار عن الحزن وإن كان الكتمان أولى. وفيه وقوع الخطاب للغير، وإرادة غير بذلك، وكل منهما مأخوذ من مخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولده مع أنه في تلك الحالة لم يكن ممن يفهم الخطاب لوجهين: أحدهما صغره. والثاني نزعه، وإنما أراد بالخطاب غيره من الحاضرين، إشارة إلى أن ذلك لم يدخل في نهيه السابق. وفيه جواز الاعتراض على من خالف فعله ظاهر قوله ليظهر الفرق ذكره الحافظ في الفتح. (متفق عليه) وأخرجه أبوداود والبيهقي من وجه آخر بنحوه، وكذا مسلم، وقد ذكرنا أوله. 1737- قوله: (أرسلت ابنة النبي - صلى الله عليه وسلم -) هي زينب كما عند ابن أبي شيبة وابن بشكوال. (أن ابناً لي قبض) أي قرب قبضه وموته. وقال القسطلاني: أي في حال القبض ومعالجة الروح، فأطلق القبض مجازاً باعتبار أنه في

فأرسل يقرئ السلام، ويقول: إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب، فأرسلت إليه تقسم عليه ـــــــــــــــــــــــــــــ حالة كحالة النزع. وفي النهاية: قبض المريض إذا توفي وإذا أشرف على الموت. قيل: الابن المذكور هو علي بن أبي العاص بن الربيع. واستشكل بأنه عاش حتى ناهز الحلم، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أردفه على راحلته يوم الفتح فلا يقال فيه صبي عرفاً وإن جاز من حيث اللغة. وقيل: هو عبد الله بن عثمان بن عفان من رقية بنت النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لما روى البلاذري في الأنساب أنه لما توفي وضعه النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجرة وقال: إنما يرحم الله من عباده الرحماء. وقيل: هو محسن؛ لما روى البزار في مسنده عن أبي هريرة قال: ثقل ابن لفاطمة فبعث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكر نحو حديث الباب ولا ريب أنه مات صغيراً. وقيل: هي أمامة بنت زينب لأبي العاص بن الربيع، كما ثبت في مسند أحمد. وصوبه الحافظ، وأجاب عما استشكل من قوله "قبض" مع كون أمامة عاشت بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى تزوجها علي بن أبي طالب وقتل عنها، بأن الظاهر أن الله أكرم نبيه عليه الصلاة والسلام لما سلم الأمر ربه وصبر ابنته، ولم يملك مع ذلك عينيه من الرحمة والشفقة، بأن عافى الله ابنة ابنته في ذلك الوقت، فخلصت من تلك الشدة، وعاشت تلك المدة. وقال العيني: الصواب قول من قال ابني أي بالتذكير لا ابنتي بالتأنيث، كما نص عليه في حديث الباب، وجمع البرماوي بين ذلك باحتمال تعدد الواقعة في بنت واحد أو بنتين، أرسلت زينب في علي أو أمامة، أو رقية في عبد الله بن عثمان، أو فاطمة في ابنها محسن بن علي، كذا ذكر القسطلاني. (فأرسل) - صلى الله عليه وسلم -. (يقرئ) بضم الياء أي عليها. (السلام ويقول) أي تسلية لها. (إن لله ما أخذ وله ما أعطى) أي فلا حيلة إلا الصبر، قدم ذكر الأخذ على الإعطاء وإن كان متأخراً في الواقع لما يقتضيه المقام، والمعنى أن الذي أراد الله أن يأخذه هو الذي كان أعطاه، فإن أخذه أخذ ما هو له، فلا ينبغي الجزع؛ لأن مستودع الأمانة لا ينبغي له أن يجزع إذا استعيدت منه، وكلمة "ما" في الموضعين موصولة، ومفعول أخذ وأعطى محذوف؛ لأن الموصول لا بد له من صلة وعائد، ونكتة حذف المفعول فيهما الدلالة على العموم، فيدخل فيه أخذ الولد وإعطاءه وغيرهما، ويجوز أن تكون "ما" في الموضعين مصدرية، والتقدير إن لله الأخذ والإعطاء، وهو أيضاً أعم من إعطاء الولد وأخذه. (وكل) أي وكل واحد من الأخذ والإعطاء. (عند الله) أي في علمه. (بأجل مسمى) أي مقدر بأجل معلوم. (ولتحتسب) أي تنوى بصبرها طلب الثواب من ربها ليحسب لها ذلك من عملها الصالح. (فأرسلت) أي ابنته. (إليه) - صلى الله عليه وسلم -. (تقسم) بضم التاء من الإقسام، وهي جملة حالية، ووقع في حديث عبد الرحمن بن عوف عند الطبراني أنها راجعته مرتين، وأنه إنما قام في ثالث مرة. أما ترك أجابته

ليأتينها، فقام ومعه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، ورجال فرفع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبي ونفسه تتقعقع، ففاضت عيناه، فقال سعد: يا رسول الله! ما هذا؟ فقال: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، فإنما يرحم الله من عباده الرحماء)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى الله عليه وسلم - أولاً فيحتمل أنه كان في شغل في ذلك الوقت، أو كان امتناعه مبالغة في إظهار التسليم لربه. أو كان لبيان الجواز في أن من دعي لمثل ذلك لم تجب عليه الإجابة، بخلاف الوليمة مثلاً، وأما إجابته - صلى الله عليه وسلم - بعد إلحاحها عليه فكانت دفعاً لما يظنه بعض الجهلة أنها ناقصة المكان عنده، أو أنه لما رآها عزمت عليه بالقسم حن عليها بإجابته. (ليأتينها) بالنون المؤكدة. (فقام ومعه) بإثبات واو الحال. (ورجال) أي آخرون ذكر منهم في غير هذه الرواية عبادة بن الصامت وأسامة راوي الحديث وعبد الرحمن بن عوف. (فرفع) بضم الراء من الرفع، يعني فمشوا إلى أن وصلوا إلى بيتها فاستأذنوا فأذن لهم فرفع (إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبي) أو الصبية، أي وضع في حجرة عليه الصلاة والسلام. (ونفسه) أي روحه (تتقعقع) أي تضطرب وتتحرك ولا تثبت على حالة واحدة، كذا في النهاية، والجملة اسمية حالية. (ففاضت) أي سالت. (عيناه) أي عينا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالبكاء. (فقال سعد) هو ابن عبادة المذكور. (ما هذا؟) أي البكاء منك. (فقال: هذه) أي الدمعة التي تراها. (رحمة) أي أثر رحمة أي أن الذي يفيض من الدمع من حزن القلب بغير تعمد من صاحبه ولا استدعاء، لا مؤاخذة عليه، وإنما المنهي عنه الجزع وعدم الصبر. قال النووي: ظن سعد أن جميع أنواع البكاء حرام، وأنه عليه الصلاة والسلام نسي فاعلمه عليه الصلاة والسلام أن مجرد البكاء ودمع العين ليس بحرام ولا مكروه، بل هو رحمة وفضيلة، وإنما المحرم النوح والندب والبكاء المقرون بهما أو بأحدهما. (فإنما) وفي بعض النسخ وإنما أي بالواو. (يرحم الله من عباده الرحماء) جمع رحيم بمعنى الراحم، أي وإنما يرحم الله من عباده من اتصف بأخلاقه ويرحم عباده، و "من" في عباده بيانية حال من المفعول وهو الرحماء، وقيل: الأظهر أن "من" تبعيضية أي إنما يرحم من جملة عباده الرحماء، فمن لا يرحم لا يُرحم، وفي هذا الحديث من الفوائد: جواز استحضار ذوى الفضل للمحتضر لرجاء بركتهم ودعائهم، وجواز القسم عليهم لذلك. وفيه استحباب إبرار المقسم، وأمر صاحب المصيبة بالصبر قبل وقوع الموت ليقع وهو مستشعر بالرضى مقاوماً للحزن بالصبر. وفيه تقديم السلام على الكلام، وعيادة المريض ولو كان مفضولاً أو صبياً صغيراً، وفيه أن أهل الفضل لا ينبغي أن يقطعوا الناس عن فضلهم ولو ردوا أول مرة، واستفهام التابع عما يشكل عليه مما يتعارض ظاهره، وفيه الترغيب في الشفقة على خلق الله تعالى والرحمة لهم، والترهيب من قساوة القلب وجمود العين، وجواز

متفق عليه. 1738- (3) وعن عبد الله بن عمر، قال: ((اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود، فلما دخل عليه وجده في غاشية، فقال: قد قضى؟ قالوا: لا، يا رسول الله! فبكى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما رأى القوم بكاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بكوا، فقال: ألا تسمعون؟ إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا، وأشار إلى لسانه ـــــــــــــــــــــــــــــ البكاء من غير نوح ونحوه. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجنائز والطب والنذور والتوحيد، ومسلم في الجنائز. وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي. 1738- قوله: (اشتكى) أي مرض. (شكوى) بغير تنوين، مصدر أو مفعول به أي مرضاً. (له) أي حاصلاً له. (يعوده) حملة حالية أي يقصد عيادته. (في غاشية) بمعجمتين. قال الخطابي: هذا يحتمل وجهين أن يراد به القوم الحضور عنده الذين هم غاشيته، أي يغشونه للخدمة، وأن يراد ما يتغشاه من كرب الوجع الذي به. ويؤيده ما وقع في رواية مسلم: في غشية، وورد في بعض روايات البخاري: في غاشية أهله، وهذا يأبى المعنى الثاني، ولا يتأتى ذلك إلا على رواية العامة بإسقاط أهله. وقال التوربشتي في شرح المصابيح: الغاشية الداهية من شر أو مرض أو مكروه، والمراد به ههنا ما كان يتغشاه من كرب الوجع الذي فيه لا حال الموت؛ لأنه بريء من ذلك المرض وعاش بعده زماناً. (فقال) - صلى الله عليه وسلم -. (قد قضي) على بناء المفعول بحذف همزة الاستفهام، أي أقد خرج من الدنيا، ظن أنه قد مات فسأل عن ذلك. (فبكى النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي رحمة عليه. (فلما رأى القوم بكاء النبي - صلى الله عليه وسلم -) في نسبة البكاء إلى الروية إشارة إلى أنه لم يكن إلا الدمعة. (بكوا) في هذا إشعار بأن هذه القصة كانت بعد قصة إبراهيم بن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن عبد الرحمن بن عوف كان معهم في هذه، ولم يعترضه بمثل ما اعترض به هناك، فدل على أنه تقرر عنده العلم بأن مجرد البكاء بدمع العين من غير زيادة على ذلك لا يضر. (ألا تسمعون، إن الله) بكسر الهمزة استئنافاً؛ لأن قوله "تسمعون" لا يقتضي مفعولاً؛ لأنه جعل كاللازم، فلا يقتضى مفعولاً، أي ألا توجدون السماع، كذا قرره البرماوي والحافظ، كالكرماني، وقد تعقبه العيني، فقال: ما المانع أن يكون بالفتح في محل المفعول لتسمعون، وهو الملائم لمعنى الكلام-انتهى. قال القسطلاني: لكن الذي في روايتنا بالكسر. قال الحافظ: وفيه إشارة إلى أنه فهم من بعضهم الإنكار، فبين لهم الفرق بين الحالتين. (ولكن يعذب بهذا) أي إن قال

أو يرحم، وإن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه)) . متفق عليه. 1739- (4) وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ سواء من الجزع والنوح. (أو يرحم) أي بهذا إن قال خيراً واستسلم لقضاء الله. ويحتمل أن يكون معنى قوله "أو يرحم" أي إن لم ينفذ الوعيد. (إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه) يأتي الكلام فيه في الفصل الثالث من هذا الباب. وفي هذا الحديث من الفوائد: استحباب عيادة المريض، وعيادة الفاضل للمفضول، والإمام لأتباعه مع أصحابه، وفيه النهي عن المنكر، وبيان الوعيد عليه، وجواز البكاء عند المريض، وجواز إتباع القوم للباكي. (متفق عليه) إلا أن قوله: "إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه" في هذا الحديث من زيادات البخاري، والحديث أخرجه البيهقي أيضاً. 1739- قوله: (ليس منا) أي من أهل سنتنا وطريقتنا، وليس المراد به إخراجه عن الدين، إذ المعاصي لا يكفر بها عند أهل السنة، ولكن فائدة إيراده بهذا اللفظ المبالغة في الردع عن الوقوع في مثل ذلك، كما يقول الرجل لولده عند معاتبته لست منك ولست مني، أي ما أنت على طريقتي. وقيل: المعنى ليس على ديننا الكامل، أي أنه خرج من فرع من فروع الدين وإن كان معه أصله. قال الحافظ في الفتح: ويظهر لي أن هذا النفي يفسره التبرئ المذكور في حديث أبي موسى الآتي حيث قال: أنا بريء ممن حلق الخ. وأصل البراءة الانفصال من الشيء، وكأنه توعده بأن لا يدخله في شفاعته، وهذا يدل على تحريم ما ذكر من شق الجيب وغيره، وكان السبب في ذلك ما تضمنه ذلك من عدم الرضا بالقضاء، فإن وقع التصريح باستحلاله مع العلم بتحريم السخط مثلاً بما وقع فلا مانع من حمل النفي على الإخراج من الدين. قال: وحكي عن سفيان الثوري: أنه كان يكره الخوض في تأويله ويقول: ينبغي أن يمسك عن ذلك ليكون أوقع في النفوس وأبلغ في الزجر-انتهى. (من ضرب الخدود) خص الخد بذلك لكونه الغالب في ذلك وإلا فضرب بقية الوجه داخل في ذلك، وإنما جمع وإن كان ليس للإنسان إلا خدان فقط باعتبار إرادة الجمع، فإن من مفرد اللفظ مجموع المعنى فيكون من مقابلة الجمع بالجمع. وأما على قوله تعالى: {وأطراف النهار} [طه:130] . وقول العرب: شابت مفارقه، وليس إلا مفرق واحد. (وشق الجيوب) بضم الجيم جمع جيب بفتح الجيم، وهو الخرق الذي يخرج الإنسان منه رأسه في القميص ونحوه، من جابه أي قطعه. (ودعا بدعوى الجاهلية) في رواية مسلم بدعوى أهل الجاهلية وهي زمان الفترة قبل الإسلام، أي دعا بدعائهم بأن قال عند البكاء ما لا يجوز شرعاً مما يقول به أهل الجاهلية، كالدعاء بالويل والثبور وكواكهفاه واجبلاه. وعمومه يشمل الذكر والأنثى،

متفق عليه. 1740- (5) وعن أبي بردة، قال: ((أغمي على أبي موسى، فأقبلت امرأته أم عبد الله تصيح برنة، ثم أفاق، فقال: ألم تعلمي! وكان يحدثها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أنا بريء ممن حلق وصلق وخرق)) . متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وتخصيص الإناث في بعض الأحاديث خرج مخرج العادة، فإن هذه الأفعال إنما هي عادتهن لا عادة الذكور، والواو فيهما بمعنى أو، فالحكم في كل واحد لا المجموع؛ لأن كلاً منهما دال على عدم الرضاء والتسليم للقضاء. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجنائز، وفي مناقب قريش، ومسلم في الإيمان. وأخرجه أيضاً أحمد. (ج1:ص386،432،442،456،465) والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي. 1740- قوله: (أغمي على أبي موسى) الأشعري. وفي رواية: وجع أبو موسى وجعاً فغشي عليه. (فأقبلت) أي شرعت وجعلت وصارت. (امرأته أم عبد الله) أي بنت أبي دومة، كما في رواية النسائي، ويستفاد من تاريخ البصرة لعمر بن شبة أن اسمها صفية بنت دمون، وأنها والدة أبي بردة بن أبي موسى، وأن ذلك وقع حيث كان أبوموسى أميراً على البصرة من قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهي صحابية هاجرت مع أبي موسى، ذكرها الحافظ وابن عبد البر في الكنى من الصحابيات. (تصيح برنة) بفتح الراء وتشديد النون، صوت مع البكاء فيه ترجيع. (ثم أفاق) أي أبوموسى. (ألم تعلمي) أي ما حدثتك. (وكان يحدثها) قال الطيبي: وكان يحدثها حال، والعامل قال، ومفعول "ألم تعلمي" مقول القول، أي ألم تعلمي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أنا بريء، فتنازعا فيه. (أنا بريء) قال عياض: أي من فعلهن أو مما يستوجبن من العقوبة أو من عهدة ما لزمني بيانه، وأصل البراءة الانفصال، وليس المراد التبري من الدين والخروج منه. قال النووي: ويحتمل أن يراد به ظاهره وهو البراءة من فاعل هذه الأمور. (ممن حلق) أي شعره عند المصيبة لأجلها كما هو عادة الهنادك في الهند. (وصلق) بالصاد المهملة والقاف، وفي المصابيح بالسين بدل الصاد وهو لغة، ومنه قوله تعالى: {سلقوكم بألسنة حداد} [الأحزاب:19] . أي رفع صوته بالبكاء عند المصيبة. وقيل: هو أن تصك المرأة وجهها وتخدشه. (وخرق) بالتخفيف أي شق ثوبه عند المصيبة، والحديث يدل على تحريم هذه الأفعال؛ لأنها مشعرة بعدم الرضا بالقضا، وكان الجميع من صنيع الجاهلية، وكان ذلك في أبلغ الأحوال من صنيع النساء. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجنائز معلقاً. وقيل موصولاً، ومسلم في الإيمان، وأخرجه أحمد أيضاً. (ج4:ص396-404-405-411-416)

ولفظه لمسلم. 1741- (6) وعن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة، وقال: النائحة إذا لم تتب قبل موتها، ـــــــــــــــــــــــــــــ وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي وابن حبان. (ولفظه لمسلم) ولفظ البخاري: قال (أي أبوبردة) وجع أبوموسى وجعاً فغشي عليه، ورأسه في حجر امرأة من أهله، فلم يستطع أن يرد عليها شيئاً، فلما أفاق قال: أنا بريء ممن بريء منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برئ من الصالقة والحالقة والشاقة. 1741- قوله: (أربع) أي أربع خصال كائنه. (في أمتي) حال كونهن. (من أمر الجاهلية) أي من أمورهم وخصالهم المعتادة. (لا يتركونهن) يعني أن هذه الخصال تدوم في الأمة لا يتركونهن بأسرهم تركهم لغيرها من سنن الجاهلية، فإنهن إن تتركهن طائفة جاءهن وتمسك بهن آخرون. (الفخر) أي الافتخار وهو المباهاة والتمدح بالخصال والمناقب والمكارم. إما فيه أو في أهله، قال في الفائق: الفخر تعداد الرجل من مآثره ومآثر آبائه. (في الأحساب) أي في شأنها وسببها، والحسب ما يعده الرجل من الخصال التي تكون فيه، كالشجاعة والفصاحة وغير ذلك، وقيل: الحسب ما يعده الإنسان من مفاخر آبائه، ومعنى الفخر في الأحساب هو التكبر والتعظم بعَدّ مناقبه ومآثر آبائه، وهذا يستلزم تفضيل الرجل نفسه على غيره ليحقره، وهو لا يجوز، وفي الحديث كرم الرجل دينه وحسبه وخلقه، وفي ذلك نفي ما كان عليه أهل الجاهلية، وفيه تنبيه على أن الحسب الذي يحمد به الإنسان ما تحلى به من خصال الخير في نفسه لا ما يعده من مفاخره ومآثر آبائه. (والطعن في الأنساب) أي إدخال العيب في أنساب الناس، وذلك يستلزم تحقير الرجل آباء غيره، وتفضيل آبائه على آباء غيره، وهو ممنوع. قال التوربشتي: الظاهر أن المراد منه الطعن فيمن ينتسب إليه حجيج الطاعن، فينسب آباءه وذويه عند المساجلة والمساماة إلى الخمول والخساسة والغموض والانحطاط؛ لأنه ذكر في مقابلة الفخر بالأحساب. (والاستسقاء) أي طلب السقيا. (بالنجوم) أي بسببها يعني توقع الأمطار عن وقوع النجوم في الأنواع، كما كانوا يقولون: مطرنا بنوء كذا، قال الطيبي: وقيل: المعنى سؤال المطر من الأنواء، فإن كان ذلك على جهة اعتقاد أنها المؤثرة في نزول المطر حقيقة فهو كفر. (والنياحة) بالرفع وهو الرابعة، وهو البكاء على الميت بصياح وعويل وجزع. والندبة عد شمائل الميت ومحاسنه مثل وا شجاعاه وا أسداه وا جبلاه. (والنائحة إذا لم تتب قبل موتها) أي قبل حضور موتها. قال التوربشتي:

تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب)) . رواه مسلم. 1742- (7) وعن أنس، قال: ((مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بامرأة تبكي عند قبر، فقال: اتقي الله ـــــــــــــــــــــــــــــ وإنما قيد به ليعلم أن من شرط التوبة أن يتوب التائب وهو يؤمل البقاء، ويمكن أن يتأتى منه العمل الذي يتوب منه، ومصداق ذلك في كتاب الله: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن} [النساء:18] . (تقام) مجهول من الإقامة وهي الإيقاف. (يوم القيامة) بين أهل الموقف للفضيحة. قال الطيبي: تقام أي تحشر، ويحتمل أنها تقام على تلك الحالة بين أهل النار وأهل الموقف جزاء على قيامها في المناحة، وهو أمثل وأشبه. (وعليها سربال) بكسر السين أي قميص. (من قطران) بفتح القاف وكسر الطاء. قال ابن عياض: هو النحاس المذاب. وقيل: ما يتحلب من شجر يسمى الأبهل، فيطبخ فيطلى به الإبل الجربى، فيحرق الجرب بحدته وحرارته الجلد، وقد تبلغ حرارته الجوف. (ودرع) عطف على سربال والدرع بكسر الدال قميص النساء، والسربال القميص مطلقاً. (من جرب) أي من أجل جرب كائن بها. قال الطيبي: أي يسلط على أعضائها الجرب والحكة بحيث يغطي جلدها تغطية الدرع ويلتزق بها التزاقه، فتطلى مواقعه بالقطران لتداوي، فيكون الدواء أدوى من الداء لاشتماله على لذع القطران وحدته وحرارته، وإسراع النار في الجلود واشتغالها ونتن الرائحة وسواد اللون الذي تشمئز عنه النفوس. قال التوربشتي: خصت بدرع من جرب؛ لأنها كانت تجرح بكلماتها المحرقة قلوب ذوات المصيبات وتحك بها بواطنهن، فعوقبت في ذلك المعنى بما يماثله في الصورة، وخصت أيضاً بسرابيل من قطران؛ لأنها كانت تلبس الثياب السود في المأتم، فألبسها الله قميصاً من قطران لتذوق وبال أمرها-انتهى. فإن قلت ذكر الخلال الأربع في الحديث، ولم يرتب عليها الوعيد سوى النياحة فما الحكمة فيه؟ قلت: النياحة مختصة بالنساء وهن لا ينزجرن انزجار الرجال فاحتجن إلى مزيد الوعيد، كذا في المرقاة.. (رواه مسلم) في الجنائز وأخرجه أيضاً أحمد (ج5:ص342-343-344) والحاكم (ج1:ص383) والبيهقي (ج4:ص63) وابن ماجه، ولفظه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: النياحة على الميت من أمر الجاهلية، وأن النائحة إذا ماتت ولم تتب قطع الله لها ثياباً من قطران ودرعاً من لهب النار. 1742- قوله: (مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بامرأة تبكي عند قبر) لم يوقف على اسم المرأة ولا اسم صاحب القبر، لكن في رواية مسلم ما يشعر بأنه ولدها، ولفظه: تبكي على صبي لها، وصرح به في مرسل يحيى بن أبي كثير عند عبد الرزاق، ولفظه قد أصيبت بولدها. (فقال: اتقي الله) قال القرطبي: الظاهر أنه كان في بكائها قدر زائد من نوح أو غيره، ولهذا أمرها بالتقوى. قلت: ويؤيده أن في مرسل يحيى بن أبي كثير المذكور: فسمع منها ما يكره فوقف

واصبري. قالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأتت باب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليها. وقال الطيبي: قوله: اتقي الله، توطئه لقوله: (واصبري) كأنه قيل لها خافي غضب الله إن لم تصبري، ولا تجزعي ليحصل لك الثواب. (قالت) أي جاهلة بمن يخاطبها وظانة أنه من آحاد الناس. (إليك عني) اسم فعل أي أبعد وتنح. (لم تصب) على بناء المجهول. (بمصيبتي، ولم تعرفه) الواو فيه للحال أي خاطبته بذلك، والحال أنها لم تعرف أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ لو عرفته لم تخاطبه بهذا الخطاب. (فقيل لها) أي للمرأة بعد ما ذهب النبي - صلى الله عليه وسلم -. (أنه النبي - صلى الله عليه وسلم -) وفي رواية للبخاري: فمر بها رجل فقال لها: إنه رسول الله، فقالت: ما عرفته. وفي رواية أبي يعلى من حديث أبي هريرة قال: فهل تعرفينه؟ قالت: لا. وللطبراني في الأوسط من طريق عطية عن أنس: أن الذي سألها هو الفضل بن عباس. وزاد مسلم في رواية له: فأخذها مثل الموت، أي من شدة الكرب الذي أصابها لما عرفت أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خجلاً منه ومهابة. وإنما اشتبه عليها - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه من تواضعه لم يكن يستتبع الناس وراءه إذا مشى، كعادة الملوك والكبراء، مع ما كانت فيه من شاغل الوجد والبكاء. (فلم تجد عنده) أي عند بابه. (بوابين) يمنعون الناس من الدخول عليه. وفي رواية للبخاري: بواباً بالإفراد. قال الطيبي: فائدة هذه الجملة أنه لما قيل لها أنه النبي - صلى الله عليه وسلم - استشعرت خوفاً وهيبة في نفسها، فتصورت أنه مثل الملوك، له حاجب أو بواب يمنع الناس من الوصول إليه، فوجدت الأمر بخلاف ما تصورته. (فقالت) معتذرة إليه مما سبق منها حيث قالت إليك عني. (لم أعرفك) فاعذرني من تلك الردة وخشونتها. (إنما الصبر عند الصدمة الأولى) وفي رواية للبخاري: عند أول صدمة، وهي مرة من الصدم، وهو ضرب الشيء الصلب بمثله، ثم استعمل في كل مكروه حصل بغتة. والمعنى الصبر الذي يحمد عليه صاحبه ويصاب عليه فاعله بجزيل الأجر ما كان منه عند مفاجأة المصيبة، بخلاف ما بعد ذلك فإنه على مدى الأيام يسلو أو ينسى. وقال الحافظ: المعنى إذا وقع الثبات أول شيء يهجم على القلب من مقتضيات الجزع، فذلك هو الصبر الكامل الذي يترتب عليه الأجر، وأصل الصدم ضرب الشيء الصلب بمثله، فاستعير للمصيبة الواردة على القلب. قال الطيبي: صدر هذا الجواب منه - صلى الله عليه وسلم - من قولها "لم أعرفك" على أسلوب الحكيم، كأنه قال لها: دعي الاعتذار، فإن من شيمتي أن لا أغضب إلا لله، وانظري إلى تفويتك من نفسك الجزيل من الثواب بالجزع وعدم الصبر أول فجأة المصيبة، فاغتفر لها عليه السلام تلك الجفوة لصدورها منها في حال مصيبتها وعدم معرفتها به، وبين لها أن حق هذا الصبر أن يكون في أول الحال، فهو الذي يترتب عليه الثواب، بخلاف ما بعد ذلك، فإنه

متفق عليه. 1743- (8) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد ـــــــــــــــــــــــــــــ على طول الأيام يسلو، كما يقع لكثير من أهل المصائب. وفي هذا الحديث من الفوائد: جواز زيارة القبور للنساء؛ لأنه لم ينه المرأة المذكورة عن زيارة قبر ميتها، وإنما أمرها بالصبر والتقوى لما رأى من جزعها، فدل على جوازها. وفيه ما كان فيه عليه الصلاة والسلام من التواضع والرفق بالجاهل ومسامحة المصاب وقبول اعتذاره، وملازمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفيه أن القاضي لا ينبغي له أن يتخذ من يحجبه عن حوائج الناس. وأن من أمر بمعروف ينبغي له أن يقبل ولو لم يعرف الآمر. وفيه أن الجزع من المنهيات لأمره لها بالتقوى مقروناً بالصبر، وفيه الترغيب في احتمال الأذى عند بذل النصيحة ونشر الموعظة. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي. 1743- قوله: (لا يموت لمسلم) رجل أو امرأة، ففي هذه اللفظة عموم تشمل الذكر والأنثى، بخلاف الرواية الآتية فإنها مقيدة بالنساء، وليس لها مفهوم لما في بقية الروايات من التعميم، وقيد الإسلام شرط؛ لأنه لا نجاة للكافر بموت أولاده، فقيده به ليخرج الكافر فهو مخصوص بالمسلم، وهل يدخل في ذلك من مات له ولد فأكثر في حالة الكفر ثم أسلم بعد ذلك أو لا بد أن يكون موتهم في حالة إسلامه، قد يدل للأول حديث: أسلمت على ما أسلفت من خير، لكن جاءت أحاديث فيها تقييد ذلك بكونه في الإسلام، فالرجوع إليها أولى، فمنها حديث أبي ثعلبة الأشجعي المروي في مسند أحمد والمعجم الكبير للطبراني، قلت: يا رسول الله، مات لي ولدان في الإسلام، فقال: من مات له ولدان في الإسلام أدخله الله الجنة، وحديث عمرو بن عبسة عند أحمد وغيره مرفوعاً: من ولد له ثلاثة أولاد في الإسلام فماتوا قبل أن يبلغوا الحنث أدخل الله الجنة بفضل رحمته إياهم. (ثلاثة) وهل هو حكم ما سوى الثلاثة، سيأتي في شرح الحديث الآتي. (من الولد) بفتحتين يشمل الذكر والأنثى، والظاهر أن المراد من ولد الرجل حقيقة، أي الأولاد الصلبية، يدل عليه حديث أنس عند النسائي رفعه: من احتسب ثلاثة من صلبه دخل الجنة، وكذا حديث عقبة بن عامر عند أحمد والطبراني رفعه: من أثكل ثلاثة من صلبه فاحتسبهم على الله-الحديث، وحديث عمرو بن عبسة عند الطبراني وحديث عثمان بن أبي العاص عند أبي يعلى والبزار والطبراني أيضاً، وفيه عبد الرحمن ابن إسحاق أبوشيبة وهو ضعيف. وأما أولاد الأولاد ففي دخولهم بحث. قال الحافظ: والذي يظهر أن أولاد الأولاد الصلب يدخلون ولا سيما عند فقد الوسائط بينهم وبين الأب، والتقييد بكونهم من الصلب يدل على إخراج

فيلج النار إلا تحلة القسم)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ أولاد البنات، وزاد في الرواية الآتية: لم يبلغوا الحنث، وسيأتي الكلام فيه. (فيلج النار) أي فيدخلها من الولوج وهو الدخول، وهو منصوب بأن المقدرة، تقديره فإن يلج النار؛ لأن الفعل المضارع ينصب بعد النفي بأن المقدرة بعد الفاء، لكن حكى الطيبي منعه عن بعضهم معللا بأن شرط ذلك أن يكون ما قبل الفاء سبباً لما بعدها، ولا سببية هنا؛ لأنه ليس موت الأولاد، ولا عدمه سبباً لولوج أبيهم النار بل سبباً للنجاة منها وعدم الدخول فيها، وبيان ذلك أنك تعمد إلى الفعل الذي هو غير موجب فتجعله موجباً، وتدخل عليه إن الشرطية وتجعل الفاء وما بعدها من الفعل جواباً، كما تقول في قوله تعالى: {ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي} [طه:81] أن تطغوا فيه، فحلول الغضب حاصل، وفي قوله: "ما تأتينا فتحدثنا أن تأتنا"، فالحديث واقع وهنا إذا قلت: إن يمت لمسلم ثلاثة من الولد فولوج النار حاصل لم يستقم. قال الطيبي: فالفاء هنا بمعنى الواو التي للجمع، وهي تنصب المضارع بعد النفي كالفاء، والمعنى لا يجتمع لمسلم موت ثلاثة من أولاده وولوجه النار إلا تحلة القسم لا محيد عن ذلك إن كانت الرواية بالنصب، وإن كانت الرواية بالرفع على أن الفاء عاطفة للتعقيب فمعناه: لا يوجد ولوج النار عقب موت الأولاد إلا تحلة القسم أي مقداراً يسيراً، ومعنى فاء التعقيب كمعنى الماضي في قوله تعالى: {ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار} [الأعراف: 44] في أن ما سيكون بمنزلة الكائن وأن ما أخبر به الصادق عن المستقبل كالواقع. وقال الحافظ: أن السببية. (أي في صورة النصب) حاصلة بالنظر إلى الاستثناء؛ لأن الاستثناء بعد النفي إثبات، فكان المعنى أن تخفيف الولوج مسبب عن موت الأولاد وهو ظاهر؛ لأن الولوج عام تخفيفه يقع بأمور منها موت الأولاد بشرطه-انتهى. وتعقبه السندي في حاشية البخاري بما فيه تأمل. وأجاب ابن الحاجب والدماميني عن الإشكال المذكور بوجه آخر، ذكره القسطلاني. (إلا تحلة القسم) بفتح المثناة الفوقية وكسر المهملة وتشديد اللام، والقسم بفتح القاف والسين أي ما تنحل به اليمين، وهو مصدر حلل اليمين أي كفرها. قال أهل اللغة: يقال فعلته تحلة القسم، أي لم أفعله إلا بقدر ما حللت به يميني ولم أبالغ. وقال الخطابي: حللت القسم تحلة أي أبررتها. وقال الجزري في النهاية: تقول العرب ضربه تحليلاً ضربه تعزيراً إذا لم يبالغ في ضربه، وهذا مثل في القليل المفرط في القلة، وهو أن يباشر من الفعل الذي يقسم عليه المقدار الذي يبر به قسمه، مثل أن يحلف على النزول بمكان، فلو وقع به وقعة خفيفة أجزأته، فتلك تحلة قسمه، فالمعنى لا بدخل النار إلا دخولاً يسيراً مثل تحلة قسم الحالف، ويريد بتحلته الورود على النار والاجتياز بها، والتاء في التحلة زائدة-انتهى. قال القرطبي: اختلف في المراد بهذا القسم، فقيل هو معين، وقيل غير معين، فالجمهور على الأول، والمراد قسم الله تعالى على ورود جميع الخلق النار، فيردها بقدر ما يبر الله تعالى قسمه ثم ينجو، وقيل: لم يعن به قسم بعينه، وإنما معناه التقليل لأمر ورودها، وهذا

متفق عليه. 1744- (9) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنسوة من الأنصار: ـــــــــــــــــــــــــــــ اللفظ يستعمل في هذا، تقول: لا ينام هذا إلا لتحليل الإلية، وتقول: ما ضربته إلا تحليلاً، إذا لم تبالغ في الضرب، أي قدراً يصيبه منه مكروه، وقيل: الاستثناء بمعنى الواو، أي لا تمسه النار قليلاً ولا كثيراً ولا تحلة القسم، وقد جوز الفراء والأخفش مجيء إلا بمعنى الواو، والأول قول الجمهور، وبه جزم أبوعبيد وغيره قالوا: المراد به قوله تعالى: {وإن منكم إلا واردها} [مريم:71] قال الخطابي: معناه لا يدخل النار ليعاقب بها، ولكنه يدخلها مجتازاً، ولا يكون ذلك الجواز إلا قدر ما يحلل به الرجل يمينه، ويدل ذلك ما وقع عند عبد الرزاق في آخر هذا الحديث: إلا تحلة القسم يعني الورود، وذكر الحافظ في الفتح روايات أخرى تدل على هذا، أي على كون المراد بالقسم قول الله تعالى المذكور، وبالورود الجواز والعبور، فعليك أن ترجع إلى الفتح. واختلف في موضع القسم من الآية، فقيل: هو مقدر أي والله إن منكم، وقيل: معطوف على القسم الماضي في قوله: {فوربك لنحشرنهم} [مريم:68] ، أي وربك إن منكم، وقيل: هو مستفاد من قوله تعالى: {حتماً مقتضياً} أي قسماً واجباً. وقال الطيبي: يحتمل أن يكون المراد بالقسم ما دل على القطع والبت من السياق، فإن قوله: {كان على ربك} تذييل وتقرير لقوله: {وإن منكم} ، فهذا بمنزلة القسم بل أبلغ لمجيء الاستثناء بالنفي والإثبات. واختلف في المراد بالورود في الآية، فقيل: هو الدخول، رواه عبد الرزاق عن ابن عباس، وروى أحمد والنسائي والحاكم من حديث جابر مرفوعاً: الورود الدخول، لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً، وقيل: المراد بالورود الممر عليها. رواه الطبري عن أبي هريرة وابن مسعود. وهذان القولان أصح ما ورد في ذلك، ولا تنافي بينهما؛ لأن من عبر بالدخول تجوز به عن المرور، ووجهه أن المار عليها فوق الصراط في معنى من دخلها، لكن تختلف أحوال المارة باختلاف أعمالهم، ويؤيد صحة هذا التأويل ما رواه مسلم من طريق أم مبشر أن حفصة قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال: "لا يدخل أحد شهد الحديبية النار": أليس الله يقول: {وإن منكم إلا واردها} ؟ فقال: أليس الله تعالى يقول: {ثم ننجي الذين اتقو} الآية [مريم:72] . وفي هذا بيان ضعف من قال: إن الورود مختص بالكفار، ومن قال: الورود الدنو منها، ومن قال: معناه الإشراف عليها، ومن قال: معنى ورودها ما يصيب المؤمن في الدنيا من الحمى. وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم: أن أولاد المسلمين في الجنة؛ لأنه يبعد أن الله تعالى يغفر الآباء بفضل رحمته للأبناء ولا يرحم الأبناء، وكونهم في الجنة مذهب الجمهور، ووقف طائفة قليلة، وتقدم البحث في ذلك. (متفق عليه) ، وأخرجه أيضاً أحمد ومالك والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي. 1744- قوله: (قال لنسوة) اسم جمع. (من الأنصار) أي من نسائهم. قال القاري: وفائدة ذكره كمال

((لا يموت لإحداكن ثلاثة من الولد فتحتسبه، إلا دخلت الجنة. فقالت امرأة منهن: أو اثنان يا رسول الله! قال: أو اثنان)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ استحضار القضية لا أن هناك خصوصية. (من الولد) بفتحتين وهو يشمل الذكر والأنثى والمفرد والجمع. (فتحتسبه) وفي رواية البيهقي: فتحتسبهم. قال القاري: بالرفع لا غير، أي تطلب بموته ثواباً عند الله بالصبر عليه. قال الطيبي: أي فتصبر راجية لرحمة الله وغفرانه. وليس هذه الفاء كما في "فيلج" بل هي للتسبب بالموت، وحرف النفي منصب على السبب والمسبب معاً-انتهى. قال الباجي: بيان لصفة من يؤجر بمصابه في ولده، وهو أن تحتسبهم، وأما من لم يحتسبهم ولم يرض بأمر الله فيه فإنه غير داخل في هذا الوجه-انتهى. والاحتساب عند المكروهات هو البدار إلى طلب الأجر، وتحصيله بالتسليم والصبر، وذكر المصنف هذا الحديث لقوله: فتحتسبه، فجعله تفسيراً للحديث قبله. وقد ورد التقييد بذلك في أحاديث أخرى، ذكرها الحافظ في الفتح، ثم قال: وقد عرف من القواعد الشرعية أن الثواب لا يترتب إلا على النية، فلابد من قيد الاحتساب، والأحاديث المطلقة محمولة على المقيدة-انتهى. (إلا دخلت الجنة) أي دخولاً أولياً، وهو لا ينافي الولوج تحلة القسم، والاستثناء من أعم الأحوال. (فقالت امرأة منهن) الظاهر أنها أم سليم الأنصارية والدة أنس بن مالك، كما رواه الطبراني بإسناد جيد عنها أو أم مبشر الأنصارية. رواه الطبراني أيضاً من حديث جابر، ويحتمل أن يكون كل منهما سأل عن ذلك في ذلك المجلس، ويحتمل التعدد، والله تعالى أعلم. وجاءت روايات أخرى نسب فيها السؤال إلى غيرهما كأم أيمن وعائشة وأم هاني وجابر وعمر رضي الله عنهم. (أو اثنان) عطف تلقين، أي هل يمكن أن تقول أو اثنان. وفي رواية: واثنان. قال العيني عطف على ثلاثة، ومثله يسمى بالعطف التلقيني، أي قل يا رسول الله: واثنان، ونظيره قوله تعالى حكاية عن إبراهيم: {ومن ذريتي} [البقرة:124] . وقال الحافظ: أي وإذا مات اثنان ما الحكم؟ فقال: واثنان، أي وإذا مات اثنان فالحكم كذلك. (قال: أو اثنان) قال العيني: أي أو إن وجد اثنان فكالثلاثة، وفيه التسوية بين حكم الثلاثة والاثنين. قال ابن بطال: وكأنه أوحي إليه بذلك في الحال، ولا يبعد أن ينزل عليه الوحي في أسرع من طرفة عين، ويحتمل أن يكون كان العلم عنده حاصلاً لكنه أشفق عليهم أن يتكلوا؛ لأن موت الاثنين غالباً أكثر من موت الثلاثة، ثم لما سئل عن ذلك لم يكن بد من الجواب، وهل يدخل في الحكم المذكور الولد الواحد؟ فالظاهر أنه نعم؛ لما ورد في ذلك من الأحاديث الصريحة كحديث ابن عباس في الفصل الثاني من هذا الباب، وحديث أبي هريرة عند مسلم مرفوعاً: صغارهم دعاميص الجنة، يلقى أحدهم أباه فيأخذ بناحية ثوبه فلا يفارقه حتى يدخله الجنة، وحديث قرة المزني عند أحمد، وحديث علي عند ابن ماجه، وحديث معاذ بن جبل عند أحمد، وحديث ابن مسعود عند الترمذي، وابن ماجه وستأتي هذه الأحاديث في الفصل الثالث، وكحديث جابر بن سمرة عند الطبراني، وفيه ناصح بن عبد الله وهو ضعيف جداً، قاله الحافظ في

رواه مسلم. وفي رواية لهما: ((ثلاثة لم يبلغوا الحنث)) . 1745- (10) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يقول الله: ما لعبدي المؤمن عند جزاء إذا قضبت صفيه من أهل الدنيا ـــــــــــــــــــــــــــــ الفتح. وقال الهيثمي: هو متروك، وقد سرد العيني في باب فضل من مات له ولد فاحتسب أحاديث أخرى، وكذا الهيثمي في مجمع الزوائد في باب من مات له واحد، ويدل على ذلك أيضاً حديث أبي هريرة الذي بعد هذا، فإن قوله "صفية" يدخل فيه الواحد فما فوقه، وهو أصح ما ورد في ذلك. (رواه مسلم) في البر والصلة وأخرجه أيضاً البيهقي. (وفي رواية لهما) أي للشيخين (ثلاثة لم يبلغوا الحنث) يعني في اللفظ المتقدمة ثلاثة مطلق، وفي رواية لهما ثلاثة مقيدة بهذا الوصف، والحنث بكسر المهملة وسكون النون آخره مثلثة: الإثم والذنب، قال تعالى: {وكانوا يصرون على الحنث العظيم} [الواقعة:46] ، يعني لم يبلغوا سن التكليف الذي يكتب فيه الإثم والذنب، وقيل: المعنى لم يبلغوا مبلغ الرجال حتى يجري عليهم القلم فيكتب عليهم الحنث والإثم. قال الخليل: بلغ الغلام الحنث إذا جرى عليه القلم والحنث الإثم، وقيل: المراد بلغ إلى زمان يؤخذ بيمينه إذا حنث. وقال الراغب: عبر بالحنث عن البلوغ لما كان الإنسان يؤخذ بما ارتكبه فيه بخلاف ما قبله، وخص الإثم بالذكر لأنه الذي يحصل بالبلوغ؛ لأن الصبي قد يثاب، وخص الصغير بذلك لأن الشفقة عليه أعظم والحب له أشد والرحمة له أوفر، وعلى هذا فمن بلغ الحنث لا يحصل لمن فقده ما ذكر من هذا الثواب، وإن كان في فقد الولد أجر في الجملة، وبهذا صرح كثير من العلماء وفرقوا بين البالغ وغيره بأنه يتصور منه العقوق المقتضي لعدم الرحمة، بخلاف الصغير فإنه لا يتصور منه ذلك إذ ليس بمخاطب، لكن قال الزين بن المنير والعراقي في شرح تقريب الأسانيد: بل يدخل البالغون في ذلك بطريق الفحوى؛ لأنه إذا ثبت ذلك في الطفل الذي هو كَلٌّ على أبويه فكيف لا يثبت في الكبير الذي بلغ معه السعي! ولا ريب أن التفجع على فقد الكبير أشد والمصيبة أعظم، لا سيما إذا كان نجيباً يقوم عن أبيه بأموره ويساعده في معيشته، وهذا معلوم مشاهد. قال الحافظ ويقوي الأول قوله في آخر حديث أنس: بفضل رحمته إياهم؛ لأن الرحمة للصغار أكثر لعدم حصول الإثم منهم-انتهى. 1745- قوله: (ما لعبدي) أي ليس لعبدي (جزاء) أي ثواب. (إذا قبضت صفيه) بفتح الصاد المهملة وكسر الفاء وتشديد التحتانية، وهو الحبيب المصافي، كالولد والأخ، وكل من يحبه الإنسان. قال في النهاية: صفي الرجل الذي يصافيه الود ويخلصه له، فعيل بمعنى فاعل أو مفعول، والمراد بالقبض قبض روحه وهو الموت. (من أهل الدنيا) قال الطيبي: إنما قيده بذلك ليؤذن بأن الصفي إذا كان من أهل الآخرة كان جزاؤه وراء الجنة وهو رضوان

{الفصل الثاني}

ثم احتسبه إلا الجنة)) . رواه البخاري. {الفصل الثاني} 1746- (11) عن أبي سعيد الخدري قال: ((لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النائحة والمستمعة)) رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ الله تعالى ورضوان من الله أكبر-انتهى. قال القاري: وتعقبه ابن حجر بما لا طائل تحته، وجعله بياناً للواقع. (ثم احتسبه) ، أي صبر على فقد صفيه وقبض روحه راجياً الأجر من الله تعالى على ذلك، وأصل الحسبة بالكسر الأجر، والاحتساب طلب الأجر من الله تعالى خالصاً. (إلا الجنة) متعلق بقوله "ما لعبدي المؤمن". قال القاري: بالنصب والرفع أي ماله جزاء إلا الجنة، ويؤخذ من هذا الحديث أن الثواب المترتب على الثلاثة والاثنين مرتب على الواحد، كما في رواية أخرى-انتهى. قال الحافظ: استدل به ابن بطال على أن من مات له ولد واحد يلتحق بمن مات له ثلاثة، وكذا اثنان، وأن قول الصحابي في بعض الروايات: ولم نسأله عن الواحد، لا يمنع من حصول الفضل لمن مات له واحد، فلعله - صلى الله عليه وسلم - سئل بعد ذلك عن الواحد فأخبر بذلك، أو أعلم بأن حكم الواحد حكم ما زاد عليه. قال الحافظ: وجه الدلالة من الحديث أن الصفي أعم من أن يكون ولداً أم غيره. وقد أفرد ورتب الثواب بالجنة لمن مات له فاحتسبه، ويدخل في هذا ما أخرجه أحمد والنسائي من حديث قرة بن إياس: أن رجلاً كان يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه ابن له، فقال: أتحبه؟ قال: نعم، ففقده، فقال: ما فعل فلان؟ قالوا: يا رسول الله! مات ابنه، فقال: ألا تحب أن لا تأتي باباً من أبواب الجنة إلا وجدته ينتظرك؟ فقال رجل: يا رسول الله! أله خاصة أم لكلنا؟ قال: بل لكلكم، وسنده على شرط الصحيح، وقد صححه ابن حبان والحاكم-انتهى. وسيأتي هذا الحديث في الفصل الثالث. (رواه البخاري) في باب العمل الذي يبتغى به وجه الله تعالى من أوائل الرقاق، والحديث من إفراده. 1746- قوله: (لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النائحة) النوح هو رفع الصوت بتعديد شمائل الميت ومحاسن أفعاله، والحديث دليل على تحريم ذلك، وهو مجمع عليه. قال القاري: يقال: ناحت المرأة على الميت إذا ندبته، أي بكت عليه وعددت محاسنه. وقيل: النوح بكاء مع الصوت. والمراد بها التي تنوح على الميت أو على ما فاتها من متاع الدنيا، فإنه ممنوع منه في الحديث. وأما التي تنوح على معصيتها فذلك نوع من العبادة. وخص النائحة لأن النوح يكون من النساء غالباً. (والمستمعة) أي التي تقعد السماع ويعجبها، كما أن المستمع والمغتاب شريكان في الوزر، والمستمع والقاري مشتركان في الأجر. (رواه أبوداود) وأخرجه أحمد والبيهقي (ج4:ص63) قال

1747- (12) وعن سعد بن أبي وقاص، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عجب للمؤمن: إن أصابه خير حمد الله وشكر، وإن أصابته مصيبة حمد الله وصبر، والمؤمن يؤجر في كل أمره حتى في اللقمة يرفعها إلى في امرأته)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ المنذري: في إسناده محمد بن الحسن بن عطية العوفي عن أبيه عن جده، وثلاثتهم ضعفاء-انتهى. وقال الحافظ في التلخيص بعد عزوه لأحمد ما لفظه: واستنكره أبوحاتم في العلل، ورواه الطبراني والبيهقي من حديث عطاء عن ابن عمر، ورواه ابن عدي من حديث الحسن عن أبي هريرة، وكلها ضعيفة. 1747- قوله: (عجب) أي أمر غريب وشأن عجيب. (للمؤمن) أي الكامل، وقال الطيبي: أصله أعجب عجباً. فعدل من النصب إلى الرفع للثبات، كقولك: سلام عليك. قيل: ومن ثم كان سلام إبراهيم في قوله: {قالوا سلاماً قال سلام} [هود:69] أبلغ من سلام الملائكة، كذا في المرقاة. وذكر السيوطي هذا الحديث في الجامع الصغير بلفظ: عجبت للمسلم، وعزاه للطيالسي والبيهقي في الشعب. ثم بين وجه العجب بقوله: (إن أصابه خير) كصحة وسلامة، ومال وولد وجاه. (حمد الله وشكر) على نعمة الخير ودفع الشر. (وإن أصابته مصيبة) أي بلية ومحنة. (حمد الله وصبر) على حكم ربه واحتسب. قال القاري: وفيه إشارة إلى أن الإيمان نصفه صبر، ونصفه شكر، قال تعالى: {إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور} [إبراهيم:5] . وقال ابن الملك: قوله "إن أصابته مصيبة حمد الله" أي حمده عندها لعلمه بما يثاب عليه من الثواب العظيم، والثواب نعمة، فحمد الله لذلك يدل على أن الحمد محمود عند النعمة وعند المصيبة-انتهى. وقد يقال: معناه حمده على سائر نعمه، ولذلك ذكره في الحالين لقوله تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} [إبراهيم:34] . أو حمده على أن المصيبة ليست في دينه، أو على أنه ما دفع أكبر أو أكثر منها. قال المظهر: وتحقق الحمد عند المصيبة؛ لأنه يحصل بسببها ثواب عظيم، وهو نعمة تستوعب الشكر عليها. قال الطيبي: وتوضيحه قول القائل: فإن مس بالنعماء عم سرورها وإن مس بالضراء أعقبه الأجر ويحتمل أن يراد بالحمد الثناء على الله بقوله: {إن لله وإنا إليه راجعون} [البقرة:156] انتهى. (والمؤمن يؤجر) بالهمزة ويبدل فيهما، أي المؤمن الكامل يثاب. (في كل أمره) أي شأنه من الصبر والشكر وغيرهما حتى في أمور المباح. قيل: المراد بالأمر هنا الخير، فالمباح ينقلب خيراً بالنية والقصد. (حتى اللقمة يرفعها إلى في امرأته) أي فمها. في الحديث دليل على أن المباحات وإن كان يرى كل واحد منها في الظاهر من قبيل حظ النفس، لكنها باشتمالها على نية التقريب إلى الله تصير عبادات، ويؤجر فاعلها على حسب نيته ببركة إيمانه. قال الطيبي: الفاء جزاء شرط مقدر، يعني إذا أصابته نعمة فحمد أجر،

رواه البيهقي في شعب الإيمان. 1748- (13) وعن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من مؤمن إلا وله بابان: باب يصعد منه عمله، وباب ينزل منه رزقه، فإذا مات بكيا عليه، ـــــــــــــــــــــــــــــ وإذا أصابته مصيبة فصبر أجر، فهو مأجور في كل أموره حتى في الشهوانية ببركة إيمانه، وإذا قصد بالنوم زوال التعب للقيام إلى العبادة عن نشاط كان النوم طاعة، وعلى هذا الأكل وجميع المباحات. (رواه البيهقي في شعب الإيمان) وأخرجه النسائي في اليوم والليلة، وفيه عمر بن سعد بن أبي وقاص وهو صدوق، لكنه مقته الناس، لكونه كان أميراً على الجيش الذي قتلوا الحسين بن علي. قال القاري: قد يقال: إنه لم يباشر قتله، ولعل حضوره مع العسكر كان بإكراه، أو ربما حسن حاله وطاب مآله. والحديث ظاهر صحته مبنى ومعنى، ولا يتعلق به حكم من الأحكام ديناً ودنياً. قلت: وللحديث شواهد: منها ما رواه أحمد ومسلم من حديث صهيب الرومي مرفوعاً: عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له، ومنها ما رواه الحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري عن أبي الدرداء مرفوعاً: إن الله عزوجل قال: ياعيسى! إني باعث من بعدك أمة إن أصابهم ما يحبون حمدوا الله، وإن أصابهم ما يكرهون احتسبوا وصبروا، ولا حلم ولا علم، فقال: يا رب! كيف يكون هذا؟ قال: أعطيهم من حلمي وعلمي. 1748- قوله: (وله) أي مختص به. (بابان) أي من السماء. (يصعد) بفتح الياء وتضم أي يطلع ويرفع. (عمله) أي الصالح إلى مستقر الأعمال. وهو محل كتابتها في السماء بعد كتابتها في الأرض. وفي إطلاقه العمل إشعار بأن عمله كله صالح. (ينزل) بصيغة الفاعل أو المفعول. (رزقه) أي الحسي أو المعنوي إلى مستقر الأرزاق من الأرض. (بكيا) أي البابان. (عليه) أي على فراقه؛ لأنه انقطع خيره منهما، بخلاف الكافر، فإنهما يتأذيان بشره فلا يبكيان عليه، قاله ابن الملك. وهو ظاهر موافق لمذهب أهل السنة على ما نقله البغوي أن للأشياء كلها علماً بالله، ولها تسبيح ولها خشية وغيرها. وقيل: أي بكى عليه أهلهما من الملائكة والناس، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقال الطيبي: الكشاف هذا تمثيل وتخييل مبالغة في فقدان من درج وانقطع خيره، وكذلك ما روي عن ابن عباس من بكاء مصلى المؤمن وآثاره في الأرض ومصاعد عمله ومهابط رزقه في السماء تمثيل، ونفي ذلك في قوله تعالى: {فما بكت عليهم السماء والأرض} [الدخان:29] تهكم بهم وبحالهم المنافية لحال من يعظم فقده، فيقال فيه: بكت عليه السماء والأرض-انتهى. وهو مخالف لظاهر الآية والحديث، ولا وجه للعدول لمجرد

فذلك قوله تعالى: {فما بكت عليهم السماء والأرض} ) . رواه الترمذي. 1749- (14) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من كان له فرطان من أمتي أدخله الله بهما الجنة، فقالت عائشة: فمن كان له فرط من أمتك؟ قال: ومن كان له فرط يا موفقة! فقالت: فمن لم يكن له فرط من أمتك؟ قال: فأنا فرط أمتي، لن يصابوا بمثلي)) . رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ مخالفته لظاهر العقول، كذا في المرقاة. (فذلك) أي مفهوم الحديث أو مصداقه (قوله تعالى) في سورة الدخان: {فما بكت عليهم السماء والأرض} بقية الآية {وما كانوا منظرين} [الدخان:29] . قال ابن كثير: أي لم تكن لهم أعمال صالحة تصعد في أبواب السماء فتبكي على فقدهم، ولا لهم في الأرض بقاع عبدوا الله تعالى فيها فقدتهم، فلهذا استحقوا أن لا ينظروا ولا يؤخروا لكفرهم وإجرامهم وعتوهم وعنادهم. (رواه الترمذي) في تفسير سورة الدخان، وقال: حديث غريب، وأخرجه أبويعلى وابن أبي حاتم وغيرهما، وفي سنده عندهم موسى بن عبيدة الربذي ويزيد بن إبان الرقاشي، قال الترمذي: يضعفان في الحديث-انتهى. وفي الباب عن شريح بن عبيد الحضرمي مرسلاً مرفوعاً عند ابن جرير، وعن علي عند ابن أبي حاتم، وعن ابن عباس عند ابن جرير موقوفاً من قولهما، ذكر ذلك ابن كثير في تفسيره. 1749- قوله: (من كان له فرطان) بفتحتين أي ولدان لم يبلغا أوان الحلم بل ماتا قبله، يقال: فرط إذا تقدم وسبق فهو فارط. والفرط هنا الولد الذي مات قبله، فإنه يتقدم يهنئ لوالديه نزلاً ومنزلاً في الجنة، كما يتقدم فراط القافلة إلى المنازل، فيعدون لهم ما يحتاجون إليه من الماء والمرعى وغيرهما. قال الطيبي: الفرط بالتحريك من يتقدم القافلة، فيطلب الماء والمرعى، ويهيئ لهم ما يحتاجون إليه في المنزل، فعل بمعنى فاعل يستوي فيه الواحد والجميع مثل تبع وتابع. المعنى الطفل المتوفى يتقدم والديه، فيهئ لهما في الجنة منزلاً ونزلاً، كما يتقدم فراط القافلة، فيعدون لهم ما يفتقرون إليه من الأسباب، ويهيئون لهم المنازل. (من أمتي) بيان لمن. (فمن كان له فرط من أمتك) أي فما حكمه أو فهل له هذا الثواب؟ (قال: ومن كان له فرط) أي فكذلك. (يا موفقة) أي في الخيرات وللأسئلة الواقعة موقعها شفقة على الأمة. وقيل: أي الحريصة على تعلم الشرائع. وقال الطيبي: يعني وفقك الله تعالى للسؤال، حتى تفضل على العباد، وسهل عليهم حصول ذلك المعنى من ولد واحد، حتى يفضل من لا ولد له بفرط مثلي، ونعم الفارط أنا. (فمن لم يكن له فرط من أمتك) أي فما حاله. (فأنا فرط أمتي) أي سابقهم وإلى الجنة بالشفاعة سائقهم، بل أنا أعظم من كل فرط، فإن الأجر على قدر المشقة. (لن يصابوا) أي أمتي. (بمثلي) أي بمثل مصيبتي لهم، فإن مصيبتي أشد عليهم من سائر المصائب، فأكون أنا فرطهم. (رواه الترمذي)

وقال هذا حديث غريب. 1750- (15) وعن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا مات ولد العبد، قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم. فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم. فيقول: ما قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع. فيقول الله. ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسموه بيت الحمد)) رواه أحمد، والترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأخرجه أحمد (ج1:ص3340335) والبيهقي. (وقال: هذا حديث غريب) في نسخ الترمذي الموجودة عندنا: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد ربه بن بارق، وقد روى عنه غير واحد من الأئمة-انتهى. قلت: عبد ربه هذا قال في تهذيب التهذيب في ترجمته: قال أحمد: ما به بأس، وأثنى عليه عمرو بن علي الفلاس خيراً، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال في التقريب: إنه صدوق يخطئ، فالحديث لا ينزل عن درجة الحسن، والله تعالى أعلم. 1750- قوله: (إذا مات ولد العبد) أي المؤمن. (قال الله تعالى لملائكته) أي ملك الموت وأعوانه. (قبضتم) بتقدير الاستفهام. (ولد عبدي) أي روحه، فيقول (قبضتم ثمرة فؤاده) أي يقول ثانياً إظهاراً لكمال الرحمة كما أن الوالد العطوف يسأل الفصاد، هل فصدت ولدي، مع أنه بأمره ورضاه. قيل: سمي الولد ثمرة فؤاده؛ لأنه نتيجة الأب كالثمرة للشجرة. (واسترجع) أي قال: إنا لله وإن إليه راجعون. (وسموه بيت الحمد) قال القاري: أضاف البيت إلى الحمد الذي قاله عند المصيبة؛ لأنه جزاء ذلك الحمد. قال الطيبي: مرجع السؤال إلى تنبيه الملائكة على ما أراد الله تعالى من التفضيل على عبده الحاضر لأجل تصبره على المصائب، أو عدم تشكيه، بل إعداده إياها من جملة النعماء التي تستوجب الشكر عليها، ثم استرجاعه وأن نفسه ملك لله، وإليه المصير في العاقبة. قال أولاً: ولد عبدي أي فرع شجرته، ثم ترقى إلى ثمرة فؤاده أي نقاوة خلاصته، فإن خلاصة الإنسان الفؤاد، والفؤاد إنما يعتد به لما هو مكان اللطيفة التي خلق لها وبها شرفه وكرامته، فتحقيق لمن فقد مثل تلك النعمة الخطيرة وتلقاها بمثل ذلك الحمد، أن تكون محموداً حتى المكان الذي يسكن فيه، ولذلك سمي بيت الحمد، والله أعلم-انتهى. (رواه أحمد) (ج4:ص415) . (والترمذي) واللفظ له. ولفظ أحمد: قال الله تعالى: يا ملك الموت قبضت ولدي، قبضت قرة عينه وثمرة فؤاده؟ قال: نعم، قال: فما قال؟ قال: حمدك واسترجع. قال: ابنوا له بيتاً في الجنة، وسموه بيت الحمد. والحديث أخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه، والبيهقي وحسنه الترمذي.

1751- (16) وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من عزى مصاباً، فله مثل أجره)) . رواه الترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث غريب، لا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث علي بن عاصم الراوي، وقال: رواه بعضهم عن محمد بن سوقة بهذا الإسناد موقوفاً. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1751- قوله: (من عزى) من التعزية أي سلى. (مصاباً) أي بأي شيء كان أعم من فقد الولد وغيره. قال القاري: من عزى مصاباً أي ولو بغير موت بالمأتي لديه أو بالكتابة إليه بما يهون المصيبة عليه، ويحمله على الصبر بوعد الأجر أو بالدعاء له بنحو: أعظم الله لك الأجر، وألهمك الصبر، ورزقك الشكر. (فله) أي للمعزي. (مثل أجره) أي نحو المصاب على صبره؛ لأن الدال على الخير كفاعله. وقيل: إن من حمله على العزاء بالمد وهو الصبر فله لأجل هذه التعزية ثواب مثل ثواب المصاب لأجل صبره في المصيبة. (رواه الترمذي وابن ماجه) وأخرجه البيهقي في السنن (ج4:ص59) كلهم من طريق علي بن عاصم عن محمد بن سوقة عن إبراهيم عن الأسود عن عبد الله، وأخرجه أيضاً الحاكم والخطيب وغيرهما من طرق عن ابن سوقة. (وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث علي بن عاصم) . وقال البيهقي: تفرد به علي بن عاصم، وهو أحد ما أنكر عليه واعترض عليه بأنه قد تابعه عن ابن سوقة عبد الحكيم بن منصور وشعبة وإسرائيل ومحمد بن الفضل بن عطية وعبد الرحمن بن مالك بن مغول والحارث بن عمران وغيرهم، لكن قال الخطيب: ليس شيء منها ثابتاً، ولذلك قال الزركشي في تخريج أحاديث الرافعي: وهذه المتابعات لا ترد على البيهقي لضعف أسانيدها. (الراوي) بسكون الياء. وعلي بن عاصم هذا هو علي بن عاصم بن صهيب الواسطي، أبوالحسن التيمي مولاهم، صدوق يخطئ ويصر، مات سنة (201) وقد جاوز التسعين، كذا في التقريب، وسيأتي ذكر شيء من الكلام عليه في شرح كلام الترمذي الآتي. (وقال) أي الترمذي: (رواه بعضهم عن محمد بن سوقة) بضم المهملة، الغنوي الكوفي، ثقة مرضي عابد. (بهذا الإسناد موقوفاً) أي على ابن مسعود. وتمام كلام الترمذي: ويقال: أكثر ما ابتلي به علي بن عاصم، بهذا الحديث نقموا عليه. وقال الخطيب: هذا الحديث مما أنكر الناس على علي بن عاصم، وكان أكثر كلامهم فيه بسببه، وقال يعقوب بن شيبة: هذا حديث كوفي منكر، يرون أنه لا أصل له، لا نعلم أحداً أسنده، ولا أوقفه غير علي بن عاصم، وقد رواه أبوبكر النهشلي، وهو صدوق ضعيف الحديث عن محمد بن سوقة فلم يجاوز به محمداً، وقال: يرفع الحديث، قال يعقوب: وهذا الحديث من أعظم ما أنكره الناس على علي بن عاصم، وتكلموا فيه مع ما أنكر عليه سواه-انتهى. ويحكى عن أبي داود قال: عاتب يحيى بن سعيد القطان علي بن عاصم في وصل هذا

الحديث. وإنما هو عدهم منقطع. وقال: إن أصحابك الذين سمعوه معك لا يسندونه، فأبى أن يرجع. والحديث أورده ابن الجوزي في الموضوعات، وقال: تفرد به علي بن عاصم عن محمد بن سوقة، وقد كذبه شعبة ويحيى بن معين ويزيد بن هارون. قال السيوطي في تعقباته (ص24-25) : أخرجه الترمذي وابن ماجه من طريقه. وقال الترمذي: أكثر ما ابتلي به علي بن عاصم، بهذا الحديث نقموا عليه. وقال الذهبي: أبلغ ما شنع به عليه هذا الحديث، وهو مع ضعفه صدوق في نفسه، وله صورة كبيرة في زمانه، وقد تابعه على هذا الحديث ضعفاء، وقد وثقه جماعة، فقال يعقوب بن شيبة: كان من أهل الدين والصلاح والخير البارع، وكان شديد التوقي، أنكر عليه كثرة الغلط مع تماديه على ذلك. وقال وكيع: ما زلنا نعرفه بالخير، فخذوا الصحاح من حديثه، ودعوا الغلط. وقال أحمد بن حنبل: أما أنا فأحدث عنه، كان فيه لجاج ولم يكن متهماً. وقال الفلاس: صدوق. وقد أخرجه الحاكم والبيهقي في الشعب من طريق معمر بن عن ابن سوقة، وأخرجه البيهقي أيضاً من طريق عبد الحكيم بن منصور الخزاعي عن ابن سوقة، وعبد الحكيم من رجال الترمذي، وهو ضعيف أيضاً. وأخرجه ابن أبي الدنيا في العزاء من طريق عبد الرحمن بن مالك بن مغول عن ابن سوقة، وعبد الرحمن متروك. وقال الخطيب: تابع علي بن عاصم على هذا الحديث جماعة، منهم الحارث بن عمران الجعفري. وقال الحافظ في تخريج أحاديث الرافعي: كل المتابعين له أضعف منه بكثير، وليس فيها رواية يمكن التعلق بها إلا طريق إسرائيل، فقد ذكره صاحب الكمال من طريق وكيع عنه. ولم أقف على إسنادها بعد-انتهى. وقال الصلاح العلائي: علي بن عاصم أحد الحفاظ المكثرين، ولكن له أوهام كثيرة تكلموا فيه بسببها، ومن جملتها هذا الحديث، وقد تابعه عليه عن ابن سوقة: عبد الحكيم بن منصور، لكنه ليس بشيء. قال فيه ابن معين والنسائي: متروك. وقد رواه إبراهيم بن مسلم الخوارزمي عن وكيع عن قيس بن الربيع عن محمد بن سوقة، وإبراهيم بن مسلم هذا ذكره ابن حبان في الثقات، ولم يتكلم فيه أحد، وقيس بن الربيع صدوق متكلم فيه، لكن حديثه يؤيد رواية علي بن عاصم، ويخرج به عن يكون ضعيفاً واهياً فضلاً عن أن يكون موضوعاً-انتهى. وقال الزركشي في تخريج أحاديث الرافعي بعد ذكر المتابعات المذكورة: وهذا كله يرد على ابن الجوزي حيث ذكر الحديث في الموضوعات-انتهى. وللحديث شواهد: منها حديث جابر بهذا اللفظ، وهو أضعف منه، رواه ابن عدي وابن أبي الدنيا من طريق محمد بن عبيد الله العزرمي عن أبي الزبير عن جابر، وأورده ابن الجوزي في الموضوعات، وأعله بالعزرمي، ومنها حديث عمرو بن حزم مرفوعاً: ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبته إلا كساه الله سبحانه من حلل الكرامة يوم القيامة، أخرجه ابن ماجه، وحسنه النووي. ومنها حديث أبي برزة الآتي: هذا. وقد بسط السيوطي الكلام على حديث ابن

1752- (17) وعن أبي برزة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من عزى ثكلى كسي برداً في الجنة)) . رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. 1753- (18) وعن عبد الله بن جعفر، قال: ((لما جاء نعي جعفر، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فقد أتاهم ما يشغلهم)) ـــــــــــــــــــــــــــــ مسعود في اللآلئ المصنوعة (ج2:ص225-226) من أحب الاطلاع عليه رجع إليه. 1752- قوله: (من عزى ثكلى) بفتح المثلثة مقصوراً أي المرأة التي فقدت ولدها. (كسي) بصيغة المجهول. (برداً) بضم الباء أي ثوباً عظيماً مكافأة له على تعزيتها. قال المناوي في شرح الجامع الصغير: لا يعزى المرأة الشابة إلا زوجها أو محرمها. (رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب) وليس إسناده بالقوي؛ لأن فيه مسنية ابنة عبيد بن أبي برزة، وهي مجهولة، قال الحافظ في التقريب: لا يعرف حالها. 1753- قوله: (وعن عبد الله بن جعفر) أي ابن أبي طالب. (لما جاء نعي جعفر) بفتح النون وسكون العين، أي خبر موته بموتة، وهي موضع عند تبوك، سنة ثمان. (اصنعوا لآل جعفر طعاماً) فيه أنه ينبغي للأقرباء أن يرسلوا إلى أهل الميت طعاماً لاشتغالهم عن أنفسهم يما دهمهم من المصيبة. قال الترمذي. وقد كان بعض أهل العلم يستحب أن يوجه إلى أهل الميت بشيء لشغلهم بالمصيبة، وهو قول الشافعي. (ما يشغلهم) بفتح الياء والغين. وقيل: بضم الأول وكسر الثالث. قال في القاموس: شغله كمنعه شغلاً ويضم، وأشغله لغة جيدة أو قليلة أو رديئة. والمعنى جاءهم ما يمنعهم من الحزن تهيئة الطعام لأنفسهم، فيحصل لهم الضرر وهم لا يشعرون. قال الطيبي: دل على أنه يستحب للأقارب والجيران تهيئة طعام لأهل الميت-انتهى. قال ابن العربي في شرح الترمذي: والحديث أصل في المشاركات عند الحاجة، وصححه الترمذي. والسنة فيه أن يصنع في اليوم الذي مات فيه، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فقد جاءهم ما يشغلهم عن حالهم، فحزن موت وليهم اقتضى أن يتكلف لهم عيشهم"، وقد كانت للعرب مشاركات ومواصلات في باب الأطعمة باختلاف أسباب وفي حالات جماعها-انتهى. قال القاري: والمراد طعام يشبعهم يومهم وليلتهم، فإن الغالب أن الحزن الشاغل عن تناول الطعام لا يستمر أكثر من يوم، ثم إذا صنع لهم ما ذكر سن أن يلح عليهم في الأكل لئلا يضعفوا بتركه استحياء أو لفرط جزع-انتهى. وقال ابن المهام: ويستحب لجيران أهل الميت والأقرباء الأباعد تهيئة طعام يشبعهم يومهم وليلتهم؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اصنعوا لآل جعفر طعاماً"، وقال: يكره اتخاذ الضيافة من أهل الميت؛ لأنه شرع في السرور لا في الشرور، وهي بدعة مستقبحة-انتهى. وقال القاري: واصطناع أهل الميت الطعام لأجل اجتماع الناس عليه بدعة مكروه، بل صح عن جرير

رواه الترمذي، وأبوداود، وابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ رضي الله عنه، كنا نعده من النياحة، وهو ظاهر في التحريم-انتهى. قلت: حديث جرير بن عبد الله البجلي هذا أخرجه أحمد وابن ماجه بلفظ: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة. قال السندي: قوله "كنا نعد" الخ. هذا بمنزلة رواية إجماع الصحابة أو تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى الثاني فحكمه الرفع على التقديرين فهو حجة، ثم نقل عن البوصيري أنه قال في الزوائد: إسناده صحيح-انتهى. فإن قيل: حديث جرير هذا مخالف لما سيأتي في آخر باب المعجزات من حديث عاصم بن كليب عن أبيه عن رجل من الأنصار قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة. فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على القبر يوصي الحافر أوسع من قبل رجليه، أوسع من قبل رأسه، فلما رجع استقبله داعي امرأته فأجاب، ونحن معه، فجيء بالطعام فوضع يده، ثم وضع القوم، فأكلوا-الحديث. رواه أبوداود والبيهقي في دلائل النبوة. فقوله: "فلما رجع استقبله داعي امرأته" الخ صريح في أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجاب دعوة أهل بيت الميت، واجتمع هو وأصحابه بعد دفنه، وأكلوا مما صنعه أهل الميت له ولأصحابه، فإن الضمير المجرور في امرأته راجع إلى ذلك الميت الذي خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازته، فما وجه التوفيق بين هذين الحديثين؟ قلت: منشأ المخالفة بين الحديثين هو قوله: "داعى امرأته" أي بإضافة لفظ امرأة إلى الضمير المجرور، وهو غلط. والصواب داعي امرأة منوناً أي بغير الإضافة وإسقاط الضمير المجرور. والدليل عليه أنه وقع في سنن أبي داود "داعي امرأة" بغير الإضافة، أي بإسقاط الضمير، وهكذا ذكره الجزري في جامع الأصول (ج12:ص65) نقلاً عن سنن أبي داود، وروى هذا الحديث أحمد في مسنده (ج5:ص293) ، وقد وقع فيه أيضاً "داعي امرأة" بغير الإضافة" بل زاد فيه بعد "داعي امرأة" لفظ "من قريش"، وهكذا وقع في السنن للدارقطني (ص545) ولفظه: خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في جنازة، فلما انصرف تلقاه داعي امرأة من قريش. وفي رواية له عن عاصم بن كليب عن أبيه عن رجل من مزينة قال: صنعت امرأة من المسلمين من قريش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - طعاماً فدعته وأصحابه الخ. ورواه البيهقي في السنن الكبرى (ج6:ص97) بلفظ: صنعت امرأة من قريش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - طعامه، فدعته وأصحابه. ورواه الطحاوي في شرح الآثار (ج2:ص320) بلفظ: إن رجلاً من الأنصار كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في جنازة، فلقيه رسول امرأة من قريش يدعوه إلى الطعام، وهذا كله يدل على أن الصحيح في حديث عاصم بن كليب هذا لفظ "داعي امرأة" منوناً، أي بغير إضافة امرأة إلى الضمير المجرور، بل بإسقاط الضمير، وعلى هذا فلا مخالفة بين الحديثين، وهذا ظاهر لا يحتاج إلى التفكر والتأمل. (رواه الترمذي) وحسنه. (وأبوداود) وسكت عنه، ونقل المنذري عن الترمذي أنه قال: هذا حديث حسن صحيح، وأقر تصحيحه. (وابن ماجه) وأخرجه

{الفصل الثالث}

{الفصل الثالث} 1754- (19) عن المغيرة بن شعبة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من نيح عليه، فإنه يعذب بما نيح عليه يوم القيامة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ أيضاً الشافعي وأحمد (ج1:ص205) والدارقطني (ص194) والحاكم (ج1:ص372) وصححه ابن السكن والحاكم وأقره الذهبي، وأخرجه أحمد (ج6:ص370) والطبراني وابن ماجه من حديث أسماء بنت عميس، وهي والدة عبد الله بن جعفر، وفي سنده امرأتان مجهولتان. 1754- قوله: (من نيح عليه) بكسر النون وسكون التحتية وفتح الحاء مبنياً للمفعول من الماضي. (بما نيح عليه) الباء سببية و"ما" مصدرية أي بسبب النياحة عليه، ويؤيده رواية الطبراني بلفظ: إذا نيح على الميت عذب بالنياحة عليه، ورواه أحمد (ج4:ص245) عن علي بن ربيعة الأسدي. قال: مات رجل من الأنصار يقال له قرظة بن كعب فنيح عليه. (وهو أول من نيح عليه بالكوفة) ، فخرج المغيرة بن شعبة فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ما بال النوح في الإسلام، ثم قال: ألا إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن كذباً علي ليس ككذب على أحد، ألا ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار، ألا وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من يُنَح عليه يعذب بما يناح به عليه. وفي الحديث دليل على أن المراد من البكاء في حديث ابن عمر هو النوح والندب لا مطلق البكاء. وفيه دليل على تحريم النياحة. قيل: ويحتمل أن يكون الجار والمجرور حالاً، "وما" موصولة أي يعذب متلبساً بما يندب عليه من الألفاظ كياجبلاه وياكهفاه ونحوهما على سبيل التهكم، كما في حديث النعمان الآتي. ويحتمل أن الباء للآلة، و"ما" موصولة، وتلك الألفاظ تجعل آلة للعذاب حيث تذكر له توبيخاً وتقريعاً عليه. (يوم القيامة) فيه رد على من ذهب إلى التفرقة بين حال البرزخ وحال يوم القيامة، فحمل قوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الإسراء:15] على يوم القيامة. وهذا الحديث وما أشبهه على البرزخ خاصة. وظاهر حديث المغيرة وحديث عمر وابنه المذكور بعده أن الميت يعذب بسبب النياحة عليه. واختلف العلماء في ذلك على مذاهب: أحدها: أنه على ظاهره مطلقاً، ذهب إليه جماعة من السلف، منهم عمر، وهو بين من قصته مع صهيب، كما سيأتي في حديث عبد الله بن أبي مليكة، ومنهم عبد الله بن عمر، كما رواه عبد الرزاق. الثاني: لا مطلقاً، فرد أهل هذا القول حديث المغيرة وما أشبهه، وعارضوه بقوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} وممن روي عنه الإنكار مطلقاً أبوهريرة، كما رواه أبويعلى من طريق بكر بن عبد الله المزني قال: قال أبوهريرة: والله! لئن انطلق مجاهد في سبيل الله فاستشهد، فعمدت إمرأته سفهاً وجهلاً فبكت عليه ليعذب هذا الشهيد بذنب

هذه السفيهة. الثالث: أن الباء للحال، أي إنه يعذب حال بكائهم عليه، والتعذيب عليه من ذنبه لا بسب البكاء، يعني أن مبدأ عذاب الميت يقع عند بكاء أهله عليه، وذلك أن شدة بكائهم غالباً إنما تقع عند دفنه، وفي تلك الحالة يسأل ويبتدأ به عذاب القبر، فكان معنى الحديث: أن الميت يعذب حالة بكاء أهله عليه، ولا يلزم من ذلك أن يكون بكاءهم سبباً لتعذيبه. قال العيني: حكى الخطابي عن بعض أهل العلم أنه ذهب إلى أنه مخصوص ببعض الأموات الذين وجب عليه العذاب بذنوب اقترفوها، وجرى من قضاء الله سبحانه فيهم أن يكون عذابه وقت البكاء عليهم. ومعنى قوله: "يعذب ببكاء أهله" أي عند بكائهم عليه لاستحقاقه ذلك بذنبه، ويكون ذلك حالاً لا سبباً. قال الحافظ: ولا يخفى ما فيه من التكلف، ولعل قائله إنما أخذه من قول عائشة: إنما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنه ليعذب بمعصيته أو بذنبه، وإنه ليبكون عليه الآن، أخرجه مسلم، وعلى هذا يكون خاصاً ببعض الموتى. الرابع: أنه خاص بالكافر، وأن المؤمن لا يعذب بذنب غيره أصلاً، وهو بين من رواية ابن عباس عن عائشة حيث قالت: يرحم الله عمر، والله! ما حدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه، ولكن إن الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه. الخامس: أن المراد بالميت ميت معهود معين. قال الحافظ: ومنهم من أوله على أن الراوي سمع بعض الحديث ولم يسمع بعضه، وأن اللام في الميت لمعهود معين، كما جزم به القاضي أبوبكر الباقلاني وغيره. وحجتهم ما سيأتي في رواية عمرة عن عائشة. قال الحافظ بعد ذكر هذه الأقوال الثلاثة الأخيرة ما لفظه: وهذه التأويلات عن عائشة متخالفة، وفيه إشعار بأنها لم ترد حديث أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه بحديث آخر، بل بما استشعرته من معارضة القرآن. قال الداودي: رواية ابن عباس عن عائشة بلفظ: إن الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه، بينت ما نفته عمرة وعروة عنها إلا أنها خصته بالكافر؛ لأنها أثبتت أن الميت يزداد عذاباً ببكاء أهله، فأي فرق بين أن يزداد بفعل غيره أو يعذب ابتداء. وقال القرطبي: إنكار عائشة ذلك وحكمها على الراوي بالتخطئة أو النسيان أو على أنه سمع بعضاً ولم يسمع بعضاً بعيد؛ لأن الرواة لهذا المعنى من الصحابة كثيرون، وهم جازمون، فلا وجه للنفي مع إمكان حمله على محمل صحيح، وقد جمع كثير من أهل العلم بين حديثي عمر وعائشة بضروب من الجمع، كما ستعرف. السادس: أنه خاص بمن كان النوح من سنته وطريقته، وهذا أحد وجوه الجمع، وعليه البخاري حيث قال في صحيحه: باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته، لقول الله تعالى: {قو أنفسكم وأهليكم ناراً} [التحريم:6] . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) ، فإذا لم يكن من سنته فهو كما قالت عائشة: {ولا تزر وازرة وزرا أخرى} الخ. السابع أنه فيمن أوصى به أهله وهو أخص من الذي قبله، وهذا قول

الجمهور، كما قال النووي.، قالوا كان ذلك معروفاً من العرب، فإنهم كانوا يوصون أهليهم بالبكاء والنوح عليهم، وهو موجود في أشعارهم، كقول طرفة بن العبد: إذا مت فابكيني بما أنا أهله ... وشق علي الجيب يا ابنة معبد ومثل هذا كثير في أشعارهم، وإذا كان كذلك فالميت إنما تلزمه العقوبة بما تقدم في ذلك من أمره إياهم بذلك وقت حياته، واعترض بأن ذنب الميت الأمر بذلك، فلا يختلف عذابه بامتثالهم وعدمه وأجيب بأن الذنب على السبب يعظم بوجود المسبب. شاهده حديث: من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها. الثامن: أنه فيمن لم يوص بتركه، فتكون الوصية بذلك واجبة إذا علم أن من شأن أهله أن يفعلو ذلك، وهو قول داود وطائفة. قال ابن المرابط: إذا علم المرء ما جاء في النهي عن النوح، وعرف أن أهله من شأنهم أن يفعلوا ذلك، ولم يعلمهم بتحريمه ولا زجرهم عن تعاطيه، فإذا عذب على ذلك عذب بفعل نفسه لا بفعل غيره بمجرده. التاسع: أن المراد بالتعذيب توبيخ الملائكة بما يندبه أهله به، كما روى أحمد من حديث أبي موسى مرفوعاً: الميت يعذب ببكاء الحي، إذا قالت النائحة: وا عضداه، وا ناصراه، وا كاسياه، جبذ الميت. وقيل له: أنت عضدها، أنت ناصرها، أنت كاسيها. ورواه ابن ماجه بلفظ: يتعتع به، ويقال: أنت كذلك. ورواه الترمذي بلفظ آخر كما سيأتي. وشاهده حديث النعمان بن بشير، وسيأتي أيضاً. العاشر: معنى التعذيب تألم الميت مما يقع من أهله من النياحة وغيرها، وهذا اختيار أبي جعفر الطبري وابن المرابط وعياض ومن تبعه، ونصره ابن تيمية وجماعة من المتأخرين، واستدلوا لذلك بما أخرجه ابن أبي خيثمة وابن أبي شيبة، والطبراني وغيرهم من حديث قَبْلَة، وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فوالذي نفسي بيده إن أحدكم ليبكي فيسعتبر إليه صويحبه، فيا عباد الله! لا تعذبوا موتاكم. قال الحافظ: هو حسن الإسناد. قال الطبراني: ويؤيده ما قال أبوهريرة: إن أعمال العباد تعرض على أقربائهم من موتاهم ثم ساقه بإسناد صحيح إليه، وشاهده حديث النعمان بن بشير مرفوعاً، أخرجه البخاري في تاريخه، وصححه الحاكم. قال ابن المرابط: حديث قيلة نص في المسألة فلا يعدل عنه واعترضه ابن رشيد بأنه ليس نصاً، وإنما هو محتمل، فإن قوله "فيستعير إليه صويحبه" ليس نصاً في أن المراد به الميت، بل يحتمل أن يراد به صاحبه الحي، وأن الميت يعذب حينئذٍ ببكاء الجماعة عليه. الحادي عشر: أن المراد التعذيب بالصفات التي يبكون بها عليه، وهي مذمومة شرعاً، كما كان أهل الجاهلية يقولون: يأمر مل النسوان، يا مُيَتّم الأولاد، يا مخرب الدور. قال الحافظ: ومن وجوه الجمع أن معنى قوله: يعذب ببكاء أهله عليه أن بنظير ما يبكيه أهله به، وذلك أن الأفعال التي يعدون بها عليه غالباً تكون من الأمور المنهية، فهم يمدحونه بها، وهو يعذب بصنيعه ذلك، وهو عين ما يمدحونه، وهذا إختيار ابن حزم وطائفة. واستدل له بحديث ابن عمر يعني الذي

متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ تقدم في الفصل الأول من هذا الباب في قصة شكوى سعد بن عبادة، وفيه "ولكن يعذب بهذا وأشار إلى لسانه". قال ابن حزم: فصح أن البكاء الذي يعذب به الإنسان ما كان منه باللسان. إذ يندبونه برياسته التي جاء فيها، وشجاعته التي صرفها في غير طاعة الله، وجوده الذي لم يضعه في الحق، فأهله يبكون عليه بهذه المفاخرة، وهو يعذب بذلك. وقال الإسماعيلي: كثر كلام العلماء في هذه المسألة، وقال: كل مجتهد على حسب ما قدر له، ومن أحسن ما حضرني وجه لم أرهم ذكروه، وهو أنهم كانوا في الجاهلية يغيرون ويسبون ويقتلون، وكان أحدهم إذا مات بكته باكية بتلك الأفعال المحرمة. فمعنى الخبر أن الميت يعذب بذلك الذي يبكى عليه أهله به؛ لأن الميت يندب بأحسن أفعاله، وكانت محاسن أفعالهم ما ذكر، وهي زيادة ذنب في ذنوبه يستحق العذاب عليها. قال الحافظ بعد ذكر هذه الوجوه الستة الأخيرة للجمع بين الحديثين ما لفظه: ويحتمل أن يجمع بين هذه التوجيهات، فينزل على اختلاف الأشخاص بأن يقال: مثلاً من كانت طريقته النوح، فمشى أهله على طريقته، أو بالغ فأوصاهم بذلك عذب بصنعه، ومن كان ظالماً فندب بأفعاله الجائرة عذب بما ندب به. ومن كان يعرف من أهله النياحة فأهمل نهيهم عنها. فإن كان راضياً بذلك إلتحق بالأول، وإن كان غير راض عذب بالتوبيخ كيف أهمل النهي، ومن سلم من ذلك كله واحتاط فنهى أهله عن المعصية، ثم خالفوه وفعلوا ذلك. كان تعذيبه تألمه بما يراه منهم من مخالفة أمره وإقدامهم على معصية ربهم، والله تعالى أعلم بالصواب. الثاني عشر: التفرقة بين حال البرزخ وحال يوم القيامة، فيحمل قوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الإسراء:15] على يوم القيامة، وحديث التعذيب بالبكاء على البرزخ، ذكره الكرماني وحسنه، قال: ويؤيد ذلك أن مثل ذلك يقع في الدنيا، والإشارة إليه بقوله تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} [الأنفال:25] فإنها دالة على جواز وقوع التعذيب على الإنسان بما ليس له فيه تسبب، فكذلك يمكن أن يكون الحال في البرزخ بخلاف يوم القيامة –انتهى. وفي هذا الجمع نظر، فإنه ينافيه لفظ يوم القيامة في حديث المغيرة بن شعبة فتفكر، وأرجع الأقوال وأحسن المذاهب في ذلك عندي هو قول من قال: إن الحديث المذكور في حق من له في بكاء غيره تسبب، بأن يكون البكاء من طريقته، أو أوصى به في حياته، أو عرف أن أهله يفعلون ذلك وأهمل النهي عن ذلك، وترك الزجر عنه. وأما إذا لم يكن له فيه تسبب أصلاً، فهو كما قالت عائشة: {لا تزر وازرة وزر أخرى} والله تعالى أعلم. (متفق عليه) واللفظ لمسلم. وأخرجه أحمد (ج4:ص245) والترمذي والطبراني والبيهقي (ج:ص72) وفي الباب عن عمر وابن عمر، وسيأتيان، وعن أبي موسى الأشعري عند أحمد، وقد ذكرنا لفظه وعن عمران بن حصين عند ابن عبد البر، وعن سمرة عند أحمد والبزار.

1755- (20) وعن عمرة بنت عبد الرحمن، أنها قالت: سمعت عائشة، وذكر لها أن عبد الله بن عمر يقول: ((إن الميت ليعذب ببكاء الحي عليه، تقول: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، أما إنه لم يكذب، ولكنه نسي أو أخطأ، إنما مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على يهودية يبكى عليها، فقال: إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1755- قوله: (وعن عمرة) بفتح العين المهملة وسكون الميم. (بنت عبد الرحمن) بن سعد بن زرارة الأنصارية المدنية، ثقة من أوساط التابعين، كانت في حجر عائشة، أكثرت عنها. قال ابن المديني: عمرة أحد الثقات العلماء بعائشة، الأثبات فيها. وقال ابن حبان: كانت من أعلم الناس بحديث عائشة. وقال سفيان: أثبت حديث عائشة حديث عمرة والقاسم وعروة، ماتت قبل المائة، وقيل بعدها. (وذكر) بصيغة المجهول. (لها) أي لعائشة. (إن الميت ليعذب ببكاء الحي عليه) أي سواء كان الباكي من أهل الميت أم لا، فليس الحكم مختصاً بأهله، وقوله "ببكاء أهله عليه" في الرواية الآتية خرج مخرج الغالب؛ لأن المعروف أنه إنما يبكي على الميت أهله. ووقع في بعض طرق حديث ابن عمر عند ابن أبي شيبة "من نيح عليه فإنه يعذب بما نيح عليه"، فرواية الباب عامة في البكاء، وهذه الرواية خاصة في النياحة، فيحمل المطلق على المقيد، وتكون الرواية التي فيها مطلق البكاء محمولة على البكاء بنوح. ويؤيد ذلك إجماع العلماء على حمل ذلك على البكاء بنوح. ومما يدل على أنه ليس المراد عموم البكاء قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عمر: إن الميت ليعذب ببعض بكاء أهله عليه. فقيد ببعض البكاء، فحمل على ما فيه نياحة جمعاً بين الأحاديث. قال الشوكاني: حكى النووي إجماع العلماء على اختلاف مذاهبهم أن المراد بالبكاء الذي يعذب الميت عليه هو البكاء بصوت ونياحة لا بمجرد دمع العين. (تقول) حال من عائشة. وقيل: مفعول ثان لـ"سمعت" وما بينهما جملة معترضة. (يغفر الله لأبي عبد الرحمن) كنية عبد الله بن عمر، قدمته تمهيداً أو دفعاً لمن يوحش من نسبته إلى النسيان والخطأ، قال الله تعالى: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} [التوبة:43] ، فمن استغرب من غيره شيئاً ينبغي أن يوطئ ويمهد له بالدعاء إقامة لعذره فيما وقع منه، وإنه لم يتعمد، ومن ثم زادت على ذلك بياناً واعتذاراً بقولها: (أما) بالتخفيف للتنبيه أو للافتتاح، يؤتي بها لمجرد التأكيد. (أنه) أي ابن عمر. (ولكنه نسي) أي مورده الخاص. (أو أخطأ) أي في إرادته العام. (يبكى عليها) بصيغة المجهول وفي رواية: يبكي عليها أهلها. (إنهم) أي اليهود. (وإنها) أي اليهودية. (لتعذب في قبرها) أي لكفرها في حال بكاء أهلها عليها لا بسبب البكاء. قال القاري: ولا يخفى أن هذا الاعتراض وارد لو لم يسمع

متفق عليه. 1756- (21) وعن عبد الله بن أبي مليكة، قال: ((توفيت بنت لعثمان بن عفان بمكة، فجئنا لنشهدها، وحضرها ابن عمر وابن عباس، فإني لجالس بينهما، فقال عبد الله بن عمر لعمرو بن عثمان وهو مواجهه: ألا تنهى عن البكاء؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث إلا في هذا المورد، وقد ثبت بألفاظ مختلفة وبروايات متعددة عنه وعن غيره غير مقيدة بل مطلقة، دخل هذا الخصوص تحت ذلك العموم، فلا منافاة ولا معارضة، فيكون اعتراضها بحسب اجتهادها-انتهى. وتقدم قول القرطبي: إن إنكار عائشة ذلك وحكمها على الراوي بالتخطئة أو النسيان، أو على أنه سمع بعضاً ولم يسمع بعضاً بعيد؛ لأن الرواة لهذا المعنى من الصحابة كثيرون وهم جازمون، فلا وجه للنفي مع إمكان حمله على محمل صحيح-انتهى. (متفق عليه) واللفظ لمسلم، وأخرجه مالك والترمذي والنسائي وأبوعوانة والبيهقي. 1756- قوله: (وعن عبد الله بن أبي مليكة) بالصغير. (بنت لعثمان بن عفان) هي أم أبان، كما صرح به في مسند أحمد وصحيح مسلم والنسائي. (لنشهدها) أي لنحضر صلاتها ودفنها. (وحضرها ابن عمر) بن الخطاب. (وابن عباس) أي وقد حضراها أيضاً، وفي رواية لمسلم: فحضرها ابن عمر وابن عباس. (فإني لجالس بينهما) أي بين ابن عمر وابن عباس. قال الطيبي: الظاهر أن يقال "وإني لجالس" ليكون حالاً، والعامل حضر، والفاء تستدعي الاتصال بقوله: "فجئنا لنشهدها" نقله السيد جمال الدين. قلت: قوله: "فإني لجالس" كذا في جميع النسخ الموجودة الحاضرة عندنا، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج11:ص399) . ووقع في الصحيحين "وإني لجالس" بالواو. وقال ابن حجر: قوله "فإني لجالس" عطف على "فجئنا". وقال القاري: الأظهر أن الفاء دخلت على مقدر، تقديره فبعد حضورها إني لجالس بينهما إشعاراً بكمال الاطلاع على ما نقل عنهما. (لعمرو بن عثمان) أخيها، وهو عمرو بن عثمان بن عفان الأموي يكنى أبا عثمان، مدني ثقة من كبار التابعين. قال الزبير بن بكار: كان أكبر ولد عثمان الذي أعقبوا، وإن معاوية زوجه لما ولي الخلافة ابنته رملة. (وهو) أي ابن عمر. (مواجهه) أي مقابل ابن عثمان. (ألا تنهى) النساء. (عن البكاء) أي بالصياح والنياح. وفي رواية لمسلم وأحمد عن ابن مليكة قال: كنت جالساً إلى جنب ابن عمر، ونحن ننتظر جنازة أم أبان بنت عثمان، وعنده عمرو بن عثمان، فجاء ابن عباس يقوده قائد، فأراه أخبره بمكان ابن عمر، فجاء حتى جلس إلى جنبي فكنت بينهما، فإذا صوت من الدار. وفي رواية النسائي والحميدي: فبكى النساء، فظهر السبب في قول ابن عمر لعمرو بن عثمان ما قال. والظاهر أن المكان الذي جلس فيه ابن عباس كان أوفق له من الجلوس يجنب ابن عمر، أو اختار أن لا يقيم ابن أبي مليكة من

فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه، فقال ابن عباس: قد كان عمر يقول بعض ذلك، ثم حدث، فقال: صدرت مع عمر من مكة حتى إذا كنا بالبيداء، فإذا هو يركب تحت ظل سمرة، فقال: اذهب فانظر من هؤلاء الركب؟ فنظرت، فإذا هو صهيب، قال: فأخبرته، فقال: ادعه، فرجعت إلى صهيب، فقلت: ارتحل فالحق أمير المؤمنين، فلما أن أصيب عمر دخل صهيب يبكي، يقول: وا أخاه، وا صاحباه، ـــــــــــــــــــــــــــــ مكانه ويجلس فيه للنهى عن ذلك. (إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه) زاد في رواية لمسلم وأحمد وقال: فأرسلها عبد الله مرسلة. قال النووي: معناه أن ابن عمر أطلق في روايته تعذيب الميت ببكاء الحي، ولم يقيده بيهودي كما قيدته عائشة، ولا بوصية كما قيده آخرون، ولا قال ببعض بكاء أهله كما رواه أبوعمر. (فقال ابن عباس) أي معترضاً على ابن عمر بأن عائشة خالفته كأبيه. (قد كان عمر يقول بعض ذلك) أي للعموم، وهو أن يكون بصوت أو ندبة أو يروى أي بعض ذلك الكلام؛ لأن في روايته: ببعض بكاء أهله كما سيأتي. (ثم حدث) أي روى ابن عباس ما سمعه من عمر (صدرت) أي رجعت. (مع عمر من مكة) قافلاً من حجه. (بالبيداء) بفتح الموحدة وسكون التحتية، مفازة بين مكة والمدينة، قاله العيني. وقال القاري: موضع قريب من ذي الحليفة. (فإذا هو) أي عمر "وإذا" للمفاجأة. (بركب) بفتح فسكون أي جماعة راكبين. (تحت ظل سمرة) بفتح السين المهملة وضم الميم، شجرة عظيمة من شجر الغضاة. (فقال) أي عمر. (اذهب فانظر) أي تحقق (صهيب) أي ومن معه بضم الصاد ابن سنان بن قاسط، وكان من السابقين الأولين المعذبين في الله. (قال) أي ابن عباس. (فأخبرته) أي أخبرت عمر بذلك. (ادعه) بضم الهاء أي اطلب صهيباً لي. (فقلت) أي لصهيب. (ارتحل) أي من مكانك. (فالحق) بفتح الحاء، أمر من اللحوق. (أمير المؤمنين) هذا توطئة للمصاحبة والخصوصية الخالصة والمؤاخاة السالفة بين عمر وصهيب. (فلما أن) زائدة. (أصيب عمر) أي بالجراحة التي مات بها، وكان ذلك عقب حجه المذكور، ففي رواية مسلم المذكورة: فلما قدمنا المدينة لم يلبث عمر أن أصيب. وفي رواية الحميدي: لم يلبث أن طعن. (يبكي) حال. (يقول) بدل اشتمال من يبكي، قاله القاري. وقال العيني "يبكي" جملة وقعت حالاً من صهيب، وكذلك يقول "حال"، ويجوز أن يكون من الأحوال المترادفة، وأن يكون من المتداخلة. (وا أخاه وا صاحباه) كلمة "وا" للندبة. والألف في آخره ليس مما يلحق الأسماء الستة لبيان الإعراب، بل هو مما يزاد في آخر المندوب لتطويل مد الصوت، والهاء ليست بضمير، بل هو هاء السكت، وشرط المندوب أن يكون معروفاً، فلا بد من القول بأن

فقال عمر: يا صهيب! أتبكي علي! وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الميت ليعذب ببعض بكاء أهله عليه، فقال ابن عباس: فلما مات عمر ذكرت ذلك لعائشة فقالت: يرحم الله عمر، لا والله ما حدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه، ولكن إن الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه، ـــــــــــــــــــــــــــــ الأخوة والصاحبية له كانا معلومين معروفين حتى يصح وقوعهما للندبة. (أتبكي) بهمزة الاستفهام الإنكاري. (علي) أي بالصوت والندبة، وفي رواية النسائي. فقال عمر: يا صهيب: لا تبك. قال السندي: خاف أن يفضي بكاءه إلى البكاء بعد الموت، وإلا فالحديث في البكاء بعد الموت. (ببعض بكاء أهله عليه) قيده ببعض البكاء، فحمل على ما فيه نوح وندبة جمعاً بين الأحاديث. وقيل: المراد بالبعض ما يكون من وصيته. (فقالت: يرحم الله عمر) قال الطيبي: هذا من الآداب الحسنة على منوال قوله تعالى: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} [التوبة:43] ، فاستعربت من عمر ذلك القول فجعلت قولها "يرحم الله" تمهيداً ودفعاً لما يوحش من نسبته إلى الخطأ. (لا) أي ليس كذلك. (إن الميت) بكسر الهمزة وتفتح. (ليعذب ببكاء أهله عليه) في البخاري: إن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه. وفي مسلم: إن الله يعذب المؤمن ببكاء أحد، وفي أخرى له: ما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قط، إن الميت يعذب ببكاء أحد، قال القاري. أي مطلقاً ولا مقيداً، وهذا النفي المؤكد بالقسم منها بناء على ظنها وزعمها، أو مقيد بسماعها، وإلا فمن حفظ حجة على من لم يحفظ، والمثبت مقدم على النافي. وكيف والحديث روي من طرق صحيحة بألفاظ صريحة، مع أنه بعمومه لا ينافي ما قالت بخصوصه. (ولكن) بإسكان النون أي الذي حدث به جملة إن الله الخ. قال القاري: وفي نسخة "ولكن" قال: وفي البخاري "ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال"، وفي رواية لمسلم "ولكنه قال". (إن الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه) فحملت الميت على الكافر وأنكرت الإطلاق، وقد جاء فيه الزيادة كقوله تعالى: {زدناهم عذاباً فوق العذاب} [النحل:88] وقوله: {فلن نزيدكم إلا عذاباً} [النبأ:30] لكن قد يقال: زيادة العذاب بعمل الغير أيضاً مشكلة معارضة بقوله تعالى: {ولا تزر} الخ، فينبغي أن تحمل الباء في قوله "ببعض بكاء أهله" على المصاحبة لا السببية، وتخصيص الكافر حينئذٍ لأنه محل الزيادة، قاله السندي في حاشية النسائي، وقال في حاشية البخاري: كأنها فهمت أن معنى هذا الحديث هو أن الله يزيد الكافر عذاباً جزاء لكفره، كما قال تعالى: {فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً} [النبأ:30] إلا أن الله أجرى عادته بإظهار الزيادة عند البكاء، فصار كأن البكاء سبب للزيادة؛ لأن الزيادة جزاء للبكاء، ولا يتصور مثل ذلك في تعذيب المؤمن بسبب البكاء، فصار هذا الحديث بفهمها غير مخالف لقوله تعالى: {ولا تزر} بل هو موافق

وقالت عائشة: حسبكم القرآن: {ولا تزر وازرة أخرى} ، قال ابن عباس عند ذلك: والله أضحك وأبكي، ـــــــــــــــــــــــــــــ لقوله تعالى: {فلن نزيدكم إلا عذاباً} بخلاف حديث تعذيب المؤمن، فلا يرد أن هذا الحديث مخالف لظاهر قوله تعالى: {ولا تزر} الخ. فما بالها تثبته وتبطل الحديث الآخر بالمخالفة فافهم-انتهى. ولا يخفى ما فيه من التكلف. وقال القاري: فيه أن النفي منها رضي الله عنها هنا مناقض لما قالت سابقاً من أن الحديث ورد في يهودية كانوا يبكون عليها، وهي تعذب في قبرها-انتهى. وقال الحافظ: هذه التأويلات عن عائشة متخالفة، وفيها إشعار بأنها لم ترد الحديث بحديث آخر، بل بما استشعرته من معارضة القرآن. قال الداودي: رواية ابن عباس عن عائشة بينت ما نفته عمرة وعروة عنها، إلا أنها خصته بالكافر؛ لأنها أثبتت أن الميت يزداد عذاباً ببكاء أهله، فأي فرق بين أن يزداد بفعل غيره أو يعذب ابتداء. (وقالت عائشة) أي تأكيداً لقولها أولاً: (حسبكم القرآن) بسكون السين المهملة، أي كافيكم أيها المؤمنون القرآن، أي في تأييد ما ذهبت إليه من رد الخبر: {ولا تزر وازرة ورز أخرى} الجملة بدل كل أو بعض من القرآن أو خبر مبتدأ محذوف هو هو. قال الطيبي: الوزر والوقر أخوان، وزر الشيء إذا حمله، والوازرة صفة النفس. والمعنى أن كل نفس يوم القيامة لا تحمل إلا وزرها الذي اقترفته. لا تؤخذ نفس بذنب نفس، كما تأخذ جبارة الدنيا الولي بالولي والجار بالجار-انتهى. (قال ابن عباس عند ذلك) أي عند انتهاء حديثه عن عائشة مؤيداً لها ومصداقاً لكلامها: (والله) بالرفع مع الواو، وهو حاصل معنى الآية في سورة النجم بلفظ: إنه هو {أضحك وأبكى} قال ميرك: أي إن العبرة لا يملكها ابن آدم ولا تسبب له فيها، فكيف يعاقب عليها فضلاً عن الميت-انتهى. وحاصله جواز عموم البكاء، وهو خلاف الإجماع. وقال الداودي: معناه أن الله تعالى أذن في الجميل من البكاء فلا يعذب على ما أذن فيه-انتهى. وهو خارج عن البحث كما لا يخفى. وقال الطيبي: غرضه تقرير قول عائشة أي أن بكاء الإنسان وضحكه وحزنه وسروره من الله يظهرها فيه فلا أثر له في ذلك-انتهى. وفيه أن الكل من عند الله خلقاً ومن العبد كسباً كما هو مقرر، والشرع قد اعتبر ما يترتب عليه من الأثر كسائر أفعال البشر، ألا ترى أن التبسم والضحك في وجه المؤمن من الحسنات، وعلى المؤمن على وجه السخرية من السيئات، وكذا الحزن والسرور تارة يكونان من الأحوال السيئة، يثاب الشخص بهما، وتارة من الأفعال الدنية، يعاقب عليهما، كما هو مقرر في محله. ثم قال الطيبي: فإن قلت: كيف لم يؤثر ذلك في حق المؤمن وقد أثر في حق الكافر؟ قلت: لأن المؤمن الكامل لا يرضى بالمعصية مطلقاً، سواء صدرت منه أو من غيره بخلاف الكافر، ومن ثم قالت الصديقة رضي الله عنها: حسبكم القرآن أي كافيكم، أيها المؤمنون! من

قال ابن أبي مليكة: فما قال ابن عمر شيئاً)) . متفق عليه. 1757- (22) وعن عائشة، قالت: ((لما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل ابن حارثة وجعفر ـــــــــــــــــــــــــــــ القرآن هذه الآية {ولا تزر} الخ إنها في شأنكم، وما ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه في شأن الكفار-انتهى. قال القاري: لا دلالة لقولها على هذه المدعى مع أن العبرة بعموم ألفاظ الآيات والأحاديث في المعنى لا لخصوص الأسباب في المبنى-انتهى. وقال الكرماني: لعل غرض ابن عباس من هذا الكلام في هذا المقام أن الكل بخلق الله وإرادته، فالأولى فيه أن يقال بظاهر الحديث، وأن له أن يعذبه بلا ذنب، ويكون البكاء عليه علامة لذلك أو يعذبه بذنب غيره، سيما وهو السبب في وقوع الغير فيه، ولا يسئل عما يفعل، وتخصص آية الوزر بيوم القيامة. (فما قال ابن عمر شيئاً) أي من القول أو شيئاً آخر. قال الطيبي: أي فعند ذلك سكت ابن عمر وأذعن. وقال الزين بن المنير: لا يدل سكوته على الإذعان، فلعله كره المجادلة في ذلك المقام. وقال القرطبي: ليس سكوته لشك طرأ له بعد ما صرح برفع الحديث، ولكن احتمل عنده أن يكون الحديث قابلاً للتأويل، ولم يتعين له محمل يحمله عليه إذ ذاك، أو كان المجلس لا يقبل المماراة، ولم يتعين الحاجة إلى ذلك حينئذٍ. وقال الخطابي: الرواية إذا ثبتت لم يكن في دفعها سبيل بالظن، وقد رواه عمر وابنه، ليس فيما حكت عائشة ما يرفع روايتهما الجواز أن يكون الخبران صحيحين معاً، ولا منافاة بينهما، فالميت إنما تلزم العقوبة بما تقدم من وصيته إليهم به وقت حياته، وكان ذلك مشهوراً من مذاهبهم، وهو موجود في أشعارهم. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد (ج1:ص41-42) والنسائي والبيهقي (ج4:ص73) . 1757- قوله: (لما جاء النبي) بالنصب على المفعولية والفاعل. (قتل ابن حارثة) أي زيد وقد تقدم ترجمته. (وجعفر) هو ابن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم الطيار، ذو الجناحين ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأحد السابقين إلى الإسلام وأخو علي شقيقه، وكان أكبر من علي بعشر سنين، هاجر إلى الحبشة فأسلم النجاشي ومن تبعه على يديه، وأقام جعفر عنده، ثم هاجر إلى المدينة فقدم والنبي - صلى الله عليه وسلم - بخيبر، فقيل بين عينيه وقال: ما أدري أنا بقدوم جعفر أسر أو بفتح خيبر؟ وكان أشبه الناس خلقاً وخلقاً برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان أبوهريرة يقول: خير الناس للمساكين جعفر، ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته حتى أن كان ليخرج إلينا العكة ليس فيها شيء فيشقها. وفي رواية: كان يحب المساكين ويجلس إليهم ويخدمهم ويخدمونه، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكنيه أبا المساكين. وقال أبوهريرة: ما احتذى النعال ولا ركب المطايا ولا وطئ التراب بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل من جعفر بن أبي طالب، استعمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على غزوة موتة،

وابن رواحة، جلس يعرف فيه الحزن، وأنا أنظر من صائر الباب – تعني شق الباب- فأتاه رجل فقال: إن نساء جعفر، وذكر بكاءهن، ـــــــــــــــــــــــــــــ واستشهد بها سنة ثمان من الهجرة، قاتل فيها حتى قطعت يداه جميعاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله أبدله بيديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء، فمن هناك قيل: له جعفر الطيار وجعفر ذوالجناحين، وهو أول من عرقب فرساً في سبيل الله، نزل يوم مؤتة إذ رأى الغلبة، فعرقب فرسه. وقاتل حتى قتل، قال ابن عمر: كنت معهم في تلك الغزوة، فالتمسنا جعفراً فوجدنا فيما أقبل من جسمه بضعاً وتسعين بين طعنة ورمية، وكان سنه يوم قتل (41) سنة. (وابن رواحة) هو عبد الله بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس الخزرجي الأنصاري الشاعر، أحد السابقين الأولين من الأنصار، وأحد النقباء ليلة العقبة، وثالث الأمراء بغزوة مؤتة، شهد بدراً وما بعدها إلى أن استشهد بمؤتة. قال ابن سعد: كان يكتب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي جاء ببشارة بدر إلى المدينة. قال ابن عبد البر: هو أحد الشعراء المحسنين الذين كانوا يردون الأذى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفيه وفي صاحبه حسان، وكعب بن مالك نزلت: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذكروا الله كثيراً} الآية [الشعراء:237] ، ومناقبة كثيرة، وقصة غزوة مؤتة في الصحيحين. (جلس) هو جواب "لما" أي لما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - خبر شهادتهم على لسان جبريل جلس أي في المسجد، كما في رواية أبي داود. وفيه دليل على جواز الجلوس للعزاء في المسجد. (يعرف) بصيغة المجهول. (فيه) أي في وجهه. (الحزن) أي أثره وهو بضم الحاء وسكون الزاي، والجملة حال أي جلس حزيناً، وعدل إلى قوله: يعرف، ليدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كظم الحزن كظماً، وكان ذلك القدر الذي ظهر فيه من جبلة البشرية. (وأنا أنظر) جملة حالية أيضاً. وقائلها عائشة رضي الله عنها. (من صائر الباب) بالصاد المهملة المفتوحة والهمزة بعد الألف أي الشق الذي كان بالباب. قال المازري: كذا وقع في الصحيحين "صائر الباب"، والصواب صير الباب بكسر الصاد وسكون التحتية، وهو الشق. قال القسطلاني: وهو المحفوظ كما في المجمل والصحاح والقاموس، وقال ابن الجوزي صائر وصير بمعنى واحد. وفي كلام الخطابي نحوه. (تعني) أي تريد عائشة بصائر الباب. (شق الباب) بفتح الشين المعجمة أي الموضع الذي ينظر منه، وهذا لفظ البخاري في المغازي. قال العيني: وهذا التفسير إنما وقع في رواية القابسي، فيكون من الراوي. وفي رواية لهما "وأنا أنظر من صائر الباب شق الباب" أي بدون لفظ تعني. (فأتاه رجل) قال الحافظ: لم أقف على اسمه، وكأنه أبهم عمداً لما وقع في حقه من غض عائشة منه. (إن نساء جعفر) أي امرأته وهي أسماء بنت عميس الخثعمية ومن حضر عندها من النساء من أقاربها وأقارب جعفر ومن في معناها، ولم يذكر أهل العلم بالأخبار لجعفر امرأة غير أسماء. (وذكر) أي الرجل. (بكاءهن) الجملة في محل النصب على الحالية سادة مسد الخبر. قال الطيبي: هو حال عن المستتر في قوله "فقال"

فأمره أن ينههن، ثم أتاه الثانية لم يطعنه، فقال: إنههن، فأتاه الثالثة، قال: والله غلبننا يا رسول الله! فزعمت أنه قال: فأحث في أفواههن التراب، ـــــــــــــــــــــــــــــ وحذفت رضي الله عنها خبر "إن" من القول المحكي عن نساء جعفر لدلالة الحال عليه، يعني أن ذلك الرجل قال: إن نساء جعفر فعلن كذا وكذا مما حظره الشرع من البكاء المشتمل على رفع الصوت والنياحة-انتهى. وقد وقع عند النسائي "يبكين"، وعند أبي عوانة "قد كثر بكاؤهن"، وعند ابن حبان "قد أكثرن بكاءهن". (فأمره) عليه الصلاة والسلام. (أن ينهاهن) عن فعلهن. (فذهب) أي فنهاهن فلم يطعنه. (ثم أتاه) أي أتى الرجل النبي - صلى الله عليه وسلم - (الثانية) أي المرة الثانية فقال: إنهن (لم يطعنه) أي في ترك البكاء. قال الطيبي: قوله لم يطعنه حكاية لمعنى قول الرجل، أي فذهب ونهاهن ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: نهيتهن فلم يطعنني، يدل عليه قوله في المرة الثالثة: والله غلبننا، ووقع في رواية أبي عوانة: فذكر أنهن لم يطعنه. (انههن) بهمزة وصل مكسورة وفتح الهاء أمر من النهي. (فأتاه الثالثة) أي فذهب إليهن ونهاهن ولم يطعنه أيضاً، فأتاه المرة الثالثة. (غلبننا) بلفظ جمع المؤنث الغائبة، أي في عدم الامتثال لقوله؛ لكونه لم يصرح لهن بنهي الشارع، أو حملن الأمر على التنزيه، أو لشدة الحزن لم يستطعن ترك ذلك، وليس النهي عن البكاء فقط، بل الظاهر أنه على نحو النوح. (فزعمت) بالغيبة أي عائشة وهو مقول عمرة، والزعم قد يطلق على القول المحقق، وهو المراد هنا، قاله الحافظ. أي قالت عمرة: فزعمت أي قالت عائشة. (أنه) - صلى الله عليه وسلم - (قال) للرجل لما لم ينتهين: (وأحث) بضم المثلثة أمر من حثاً يحثو وبكسرها أيضاً من حثي يحثى أي ارم. (في أفواههن التراب) بالنصب أي ليسد محل النوح فلا يتمكن منه، أو المراد به المبالغة في الزجر. قال القرطبي: هذا يدل على أنهن رفعن أصواتهن بالبكاء، فلما لم ينتهين أمره أن يسد أفواههن بذلك، وخص الأفواه بذلك لأنها محل النوح بخلاف الأعين مثلاً. وقيل: لم يرد بالأمر حقيقته. قال عياض: هو بمعنى التعجيز أي أنهن لا يسكتن إلا بسد أفواههن، ولا يسدها إلا أن تملأ بالتراب، فإن أمكنك فافعل. وقال القرطبي: يحتمل أنهن لم يطعن الناهي لكونه لم يصرح لهن بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهاهن، فحملن ذلك على أنه مرشد للمصلحة من قبل نفسه، أو علمن ذلك لكن غلب عليهن شدة الحزن لحرارة المصيبة، ثم الظاهر أنه كان في بكائهن زيادة على القدر المباح، فيكون النهي للتحريم، بدليل أنه كرره وبالغ فيه وأمر بعقوبتهن إن لم يسكتن، ويحتمل أن يكون بكاء مجرداً، والنهي للتنزيه، ولو كان للتحريم لأرسل غير الرجل المذكور لمنعهن؛ لأنه لم يقر على باطل، ويبعد تمادى الصحابيات بعد تكرار النهي على فعل الأمر المحرم. وفائدة نهيهن عن الأمر المباح خشية أن يسترسلن فيه، فيفضى بهن إلى الأمر لضعف صبرهن، فيستفاد منه جواز النهي عن المباح عند

فقلت: أرغم الله أنفك، لم تفعل ما أمرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم تترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العناء)) . متفق عليه. 1758- (23) وعن أم سلمة، قالت: ((لما مات أبوسلمة قلت: غريب، وفي أرض غربة، لأبكينه بكاء ـــــــــــــــــــــــــــــ خشية إفضائه إلى ما يحرم، كذا في الفتح. (فقلت) للرجل. (أرغم الله أنفك) بالراء والغين المعجمة، أي ألصق الله أنفك بالرغام بفتح الراء وهو التراب إهانة وإذلالاً. قال الحافظ: دعت عليه من جنس ما أمر أن يفعله بالنسوة لفهمها من قرائن الحال أنه أحرج النبي - صلى الله عليه وسلم - بكثرة تردده إليه في ذلك. وقال الطيبي: أي أذلك الله فإنك آذيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما كففتهن عن البكاء، وهذا معنى قولها رضي الله عنها: (لم تفعل ما أمرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي على درجة الكمال في الزجر، وإلا فقد قام بالأمر حيث نهاهن عن الضجر، قاله القاري. وقال الكرماني: أي لم تبلغ النهي، ونفته وإن كان قد نهاهن لأنه لم يترتب على نهيه الامتثال، فكأنه لم يفعله، ويحتمل أن تكون أرادت لم تفعل أي الحثو بالتراب. (ولم تترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العناء) بفتح العين المهملة والنون والمد أي المشقة والتعب، ومراد عائشة أن الرجل لا يقدر على ذلك، فإذا كان لا يقدر فقد أتعب نفسه ومن يخاطبه في شيء لا يقدر على إزالته، ولعل الرجل لم يفهم من الأمر المحتم. وقال النووي: معناه أنك قاصر لا تقوم بما أمرت به من الإنكار لنقصك وتقصيرك، ولا تخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقصورك عن ذلك حتى يرسل غيرك ويستريح من العناء. وفي هذا الحديث من الفوائد أيضاً: جواز الجلوس للعزاء بسكينة ووقار، وجواز نظر النساء المحتجبات إلى الرجال الأجانب، وتأديب من نهي عما لا ينبغي له فعله إذا لم ينته، قاله الحافظ: وقد ترجم البخاري في صحيحه على هذا الحديث. باب من جلس عند المصيبة يعرف فيه الحزن، قال الزين بن المنير ما ملخصه: موقع هذه الترجمة من الفقة أن الاعتدال في الأحوال هو المسلك الأقوم، فمن أصيب بمصيبة عظيمة لا يفرط في الحزن حتى يقع في المحذور من اللطم والشق والنوح وغيرها، ولا يفرط في التجلد حتى يفضي إلى القسوة والاستخفاف بقدر المصاب، فيقتدي به - صلى الله عليه وسلم - في تلك الحالة بأن يجلس المصاب جلسة خفيفة بوقار وسكينة تظهر عليه مخائل الحزن، ويؤذن بأن المصيبة عظيمة، كذا في الفتح. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجنائز وفي المغازي، ومسلم في الجنائز، وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وأبوعوانة وابن حبان والبيهقي (ج4:ص59) . 1758- قوله: (وعن أم سلمة) أم المؤمنين. (لما مات أبوسلمة) أي زوجها الأول. (غريب وفي أرض غربة) بالإضافة أي أنه من أهل مكة ومات بالمدينة. (لأبكينه) بتشديد النون، أي والله لأبكين عليه. (بكاء) أي

يتحدث عنه، فكنت قد تهيأت للبكاء عليه، إذ أقبلت امرأة تريد أن تسعدني، فاستقبلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أتريدين أن تدخلي الشيطان بيتاً أخرجه الله منه؟ مرتين، وكففت عن البكاء فلم أبك)) . رواه مسلم. 1759- (24) وعن النعمان بن بشير، قال: ((أغمى على عبد الله بن رواحة، فجعلت أخته عمرة تبكي: ـــــــــــــــــــــــــــــ شديداً. (يتحدث عنه) بصيغة المجهول، أي يتحدث الناس به ويتعجبون منه لكمال شدته، والظاهر أن هذا منها كان قبل علمها بتحريم النياحة. (فكنت قد تهيأت للبكاء عليه) أي بالقصد والعزيمة، وتهيئة أسباب الحزن من الثياب السود وغيرها. قال الطيبي: الفاء متصلة بقولها: قلت أي قلت عقيب ما تهيأت للبكاء، ولا يجوز أن يتصل بالقول إلا مع الواو ليكون حالاً-انتهى. وقال ابن حجر: هو عطف على قلت، أي عقب قولي ذلك وقع مني تمام التهيؤ. (إذ أقبلت امرأة) ظرف لتهيأت، وقيل: ظرف لقلت. وفي رواية للبيهقي: فلما تهيأت للبكاء عليه إذا امرأة تريد أن تأتيني، وفي أخرى له: فبينا أنا كذلك قد تهيأت للبكاء عليه إذ أتت امرأة. (تريد أن تسعدني) من الإسعاد وهو الإعانة، أي تساعدني في البكاء والنوح. (فاستقبلها) أي تلك المرأة. (فقال) أي بعد علمه بما هي قاصدة له. (أتريدين) أيتها المرأة بإعانتك على المعصية. (أن تدخلي الشيطان) أي أن تكوني سبباً لدخول الشيطان. (بيتاً أخرجه الله) أي الشيطان. (منه) أي من ذلك البيت وأبعده من إغواء أهله. (مرتين) الظاهر أنه متعلق بـ"قال" أي أعاد هذا الكلام لكمال الاهتمام مرتين. (وكففت) عطف على مقدر، أي فأنزجرت ومنعت نفسي. (عن البكاء فلم أبك) أي البكاء المذموم. قال البيهقي: هذا في بكاء يكون معه ندب أو نياحة –انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه البيهقي أيضاً (ج4:ص63) . 1759- قوله: (عن النعمان) بضم النون. (أغمي على عبد الله) بصيغة المجهول يعني مرض، وحصل له الإغماء في مرضه، فلما رأت أخته عمرة هذه الحالة بكت وندبت. (أخته عمرة) بنت رواحة الأنصارية زوجة بشير بن سعد الأنصاري، ووالدة النعمان بن بشير، راوي هذا الحديث، وهي التي سألت بشيراً أن يخص ابنها منه بعطية دون إخوته، فرد النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، والحديث في الصحيحين. قال ابن عبد البر: لما ولدت النعمان بن بشير حملته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا بتمرة، فمضغها ثم ألقاها في فيه فحنكه بها، فقالت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أدع الله أن يكثر ماله وولده، فقال: أما ترضين أن يعيش كما عاش خاله حميداً، وقتل شهيداً، ودخل الجنية. (تبكي)

وا جبلاه! وا كذاه! تعدد عليه، فقال حين أفاق: ما قلت شيئاً إلا قيل لي: أنت كذلك)) ؟ زاد في رواية: ((فلما مات لم تبك عليه)) رواه البخاري. 1760- (25) وعن أبي موسى، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما من ميت يموت فيقوم باكيهم فيقول: وا جبلاه! وا سيداه! ونحو ذلك، إلا وكل الله به ملكين يلهزانه، ويقولان: أهكذا ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه وتقول. (وا جبلاه) بالجيم والموحدة واللام، والواو فيه للندبة وهو حرف نداء، ولكنه يختص بالندبة. والهاء فيه للسكت. قال الطيبي: حال والقول محذوف أي قائلة وا جبلاه، أي أنه كان لها كالجبل تأوي إليه عند طروق الحوادث فتعتصم به، ومستنداً تستند إليه في أمورها. (وا كذا وا كذا) مرتين كنايتان عن نحو سيداه وسنداه. (تعدد عليه) بضم التاء من التعديد، وهو ذكر أوصاف الميت ومحاسنه في أثناء البكاء، يعني تذكر محاسنه، وذلك غير جائز، وعند أبي نعيم في المستخرج وا عضداه، وفي مرسل الحسن عند ابن سعد وا جبلاه وا عزاه، وفي مرسل أبي عمران الجوني عنده وا ظهراه، وزاد فيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان عاده، فأغمي عليه فقال: اللهم إن كان أجله حضر فيسر عليه وإلا فاشفه، قال: فوجد خفة، فقال: كان ملك قد رفع مرزبة من حديد يقول: أنت كذا، فلو قلت نعم لقمعنى بها. (فقال) عبد الله. (حين أفاق) من الإغماء لأخته عمرة. (ما قلت شيئاً) مما سبق. (إلا قيل لي) استثناء مفرغ. (أنت كذلك) استفهام على سبيل الإنكار، أي قيل لي أنت لها جبل؟ أي كهف تلجيء إليك على سبيل الإيذاء والإهانة والتهكم والوعيد الشديد، وزاد أبونعيم في آخرها فنهاها عن البكاء عليه. قال الطيبي: هذا الحديث ينصر مذهب عمر رضي الله عنه في حديث ابن أبي مليكة. وقال ابن حجر: فإن قلت: ما وجه توبيخه بهذا مع أنه لم يرض به ولا أمر؟ قلت: إخباره بذلك حتى ينزجر الناس عن فعل شيء من ذلك. (فلما مات) عبد الله بن رواحة في غزوة مؤتة وبلغها خبره. (لم تبك عليه) أي أخته لنهيه إياها عن ذلك في مرضه الذي أغمي عليه فيه ولم يمت منه، وقيل: لم تبك عليه مخافة أن يقال له بعد الموت أيضاً، كما قيل في حالة الإغماء. (رواه البخاري) في المغازي وأخرجه ابن سعد والبيهقي أيضاً (ج4:ص64) . 1760- قوله: (ما من ميت) أي حقيقي أو مشرف على الموت. (يموت) قال الطيبي هو كقول ابن عباس يمرض المريض وتضل الضالة فسمي المشارف للموت والمرض والضلال ميتاً ومريضاً وضالة، وهذه الحالة هي الحالة التي ظهرت على عبد الله بن رواحة. (فيقوم) أي فيشرع. (يلهزانه) بفتح الهاء أي يضربانه ويدفعانه. وفي النهاية: اللهز الضرب بجمع اليد في الصدر، يقال: لهزه بالرمح أي طعنه في الصدر. (أهكذا كنت) أي توبيخاً وتقريعاً وتهكماً به،

كنت؟)) . رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب حسن. 1761- (26) وعن أبي هريرة، قال: ((مات ميت من آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاجتمع النساء يبكين عليه، فقام عمر ينهاهن ويطردهن، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: دعهن يا عمر فإن العين دامعة، والقلب مصاب، والعهد قريب)) رواه أحمد، والنسائي. ـــــــــــــــــــــــــــــ كما في قوله: {ذق إنك أنت العزيز الكريم} . وفيه حديث النعمان دليل على تحريم الندية والنياحة على الميت الحقيقي وعلى المشرف على الموت. (رواه الترمذي) وأخرجه أحمد (ج4ص414) بلفظ: الميت يعذب ببكاء الحي عليه، إذا قالت النائحة: وا عضداه وا ناصراه وا كاسياه، جبذ الميت وقيل له: أنت عضدها أنت ناصرها أنت كاسيها؟ وأخرجه ابن ماجه بلفظ: يتعتع به ويقال: أنت كذلك. وقوله: يتعتع على بناء المفعول من تعتعت الرجل إذا عنفه وأقلقته، كذا في الصحاح. والعنف هو الأخذ بمجامع الشيء وجره بقهر. وأخرجه الحاكم بنحوه وقال: صحيح الإسناد. قال الحافظ في الفتح والتلخيص بعد ذكر حديث أبي موسى من رواية أحمد والترمذي والحاكم: وشاهده ما روى البخاري في المغازي من صحيحه من حديث النعمان بن بشير، فذكر لفظه، وفي الباب عن عبد الله بن عمر أخرجه الطبراني في الكبير، وعن معاذ بن جبل أخرجه الطبراني في الكبير، وعن معاذ بن جبل أخرجه الطبراني أيضاً، ذكرهما الهيثمي في الزوائد (ج3ص14- 15) ، والمنذري في الترغيب وقالا: في الأول الأعمش لم يدرك ابن عمر، وفي الثاني الحسن لم يدرك معاذاً. 1761- قوله: (مات ميت من آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) هي زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما سيأتي في الحديث الآتي. (يبكين عليه) أي على الميت من غير نياحة. (دعهن) أي اتركهن. (فإن العين دامعة) أي بالطبع والجبلة البشرية. قال السندي: فيه أن بكاءهن كان بدمع العين لا بالصياح، فلذلك رخص في ذلك، وبه يحصل التوفيق بين أحاديث الباب. (والقلب) بالنصب والرفع. (مصاب) أي أصابه المصيبة فلا بد له من أن يحزن، فهو السبب في بكاء العين. (والعهد) أي زمان المصيبة. (قريب) أي منهن فالصبر صعب عليهن. قال الطيبي: كان من الظاهر أن يعكس الترتيب؛ لأن قرب العهد مؤثر في القلب بالحزن، والحزن مؤثر في البكاء، ولكن قدم ما يشاهد، ويستدل به على الحزن الصادر من قرب، وفيه أنهن لم يكن يزدن على البكاء النياحة والجزع-انتهى. وقال القاري الظاهر أن بكاءهن كان بصوت لكن لا برفعه، فنهاهن عمر سداً لباب الذريعة حتى لا ينجر إلى النياحة المذمومة، فأمره عليه الصلاة والسلام بتركهن، وأظهر عذراً لهن في أفعالهن-انتهى. والظاهر عندي هو ما قاله الطيبي والسندي. (رواه أحمد والنسائي) وأخرجه ابن ماجه وابن حبان والبيهقي (ج4ص70) أيضاً، ولفظ ابن ماجه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في جنازة فرأى عمر امرأة. (أي باكية) فصاح بها. (لتنتهي عنه) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:

1762- (27) وعن ابن عباس، قال: ((ماتت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبكت النساء، فجعل عمر يضربهن بسوطه، فأخره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده، وقال: مهلاً يا عمر! ثم قال: إياكن ونعيق الشيطان، ثم قال: إنه مهما كان من العين ومن القلب، فمن الله عزوجل ـــــــــــــــــــــــــــــ دعها يا عمر، فإن العين دامعة، والنفس مصابة، والعهد قريب، ذكره الحافظ في التلخيص، وسكت عنه، ونقل السندي في حاشيته ابن ماجه عن الحافظ أنه قال في الفتح: رجاله ثقات. 1762- قوله: (ماتت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وقع في رواية عند أحمد والبيهقي وابن سعد: رقية بنت رسول الله بدل زينب، وهو خطأ، والصواب زينب، وهي أكبر بناته - صلى الله عليه وسلم -، وأول من تزوج منهن، ولدت قبل البعثه بمدة. قيل: إنها عشر سنين، وتزوجها ابن خالتها أبوالعاص بن الربيع العبشمي، وأمه هالة بنت خويلد، أسلمت زينب وهاجرت حين أبى زوجها أبوالعاص أن يسلم، وولدت من أبي العاص غلاماً اسمه علي مات وقد ناهز الاحتلام ومات في حياته، وجارية اسمها أمامة عاشت حتى تزوجها علي بعد فاطمة، وتوفيت زينب في أول سنة ثمان من الهجرة، وكان سبب موتها أنها لما خرجت من مكة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عدلها هبار بن الأسود ورجل آخر، فدفعها أحدهما فيما ذكروا، فسقطت على صخرة، فأسقطت واهراقت الدماء، فلم يزل بها مرضها حتى ماتت سنة (8) من الهجرة، وكان زوجها محباً فيها، وكانت وفاته بعدها بقليل. (فأخره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده) . في المسند (ج1ص238) : فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده. (مهلاً) بسكون الهاء، أي أمهلهن مهلاً أو أعطهن مهلاً. قال السيد: "مهلا" مصدر عامله محذوف، وقيل المَهْل والمَهَل الرفق التؤدة والتباطؤ، ويقال مَهْلاً وعلى مَهْل أي امهِل، وهو مصدر نائب مناب فعله يستوي فيه المذكر والمؤنث مفرداً ومثنى وجمعاً. (يا عمر) والمعنى لا تبادر حتى يتبين لهن الحكم. وفي رواية لأحمد (ج1ص335) : دعهن يبكين. (ونعيق الشيطان) أي صياحه بالنياحة، وأضيف إليه لحمله عليه، من نعق الراعي بغنمة دعاها لتعود إليه، ومنه قوله تعالى: {كمثل الذي ينعق} [البقرة: 171] . (ثم قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - مبيناً له أتم البيان. (إنه) أي الشأن. (مهما كان) في القاموس: مهما بسيط لا مركب من "مه وما" ولا من "ماما" خلافا لزاعميها-انتهى. واختلف في أنها اسم شرط أو حرف شرط، وهو في هذا المقام ظرف لفعل الشرط، أي مهما كان البكاء. (من العين) أي من الدمع. (ومن القلب) أي من الحزن. (فمن الله عز وجل) أي محمود ومرضي من جهة وصادر من خلقته. وقال الطيبي: "مهما" حرف الشرط تقول مهما تفعل افعل. قيل: إن أصلها "ماما" فقلبت الألف الأولى هاء،

ومن الرحمة، وما كان من اليد ومن اللسان، فمن الشيطان)) . رواه أحمد. 1763- (28) وعن البخاري تعليقاً، قال: ((لما مات الحسن بن الحسن بن علي ضربت امرأته القبة على قبره سنة ـــــــــــــــــــــــــــــ ومحله رفع بمعنى أيما شيء كان من العين فمن الله. (ومن الرحمة) أي وناشئ من رحمة صاحبه. (وما كان) "ما" شرطية أيضاً. (من اليد) كالضرب على الخد وقطع الثوب ونتف الشعر. (ومن اللسان) أي بطريق الصياح وعلى وجه النياح، أو يقول مما لا يرضى به الرب. (فمن الشيطان) أي من إغوائه أو برضاه. قال الطيبي: وجه اختصاص البكاء بالله أن الغالب في البكاء أن يكون محموداً، فالأدب أن يسند إلى الله تعالى، بخلاف قول الخنا والضرب باليد عند المصيبات فإن ذلك مذموم. وقال ميرك: ولعل إسناد البكاء إلى الله تعالى لأجل أن الله تعالى راض به ولا يؤاخذ به، بخلاف ما صدر من اللسان واليد عند المصيبة فإن الشيطان راض بهما والرحمن يؤاخذ بهما. وقال القاري: بعضها مباح أو محمود فينسب إلى الله لإباحته أو لرضاه فيترتب عليه الثواب، وبعضها معصية فينسب إلى الشيطان حيث تسبب بالإغواء وحصل له به الرضا، فيستوجب عليه العذاب. (رواه أحمد) (ج1ص237- 238و 335) ، وأخرجه البيهقي (ج4ص70) وابن سعد أيضاً، والحديث في إسناده علي بن زيد، وفيه كلام وهو موثق، وأشار إليه الحافظ في التلخيص وسكت عنه. 1763- قوله: (وعن البخاري تعليقاً) أي بلا إسناد. قال القاري: كان من حق المصنف أن يذكر من يرويه البخاري عنه أولاً، وينسب الحديث إليه معنعناً، ثم يقول بعد تمام الحديث: رواه البخاري تعليقاً-انتهى. قلت: أورد البخاري هذا الأثر معلقاً بحذف كل السند، يعني ذكره غير معزو إلى من رواه حيث قال "باب ما يكره من اتخاذ المسجد على القبور"، ولما مات الحسن بن الحسن بن علي الخ. ثم روى بسنده عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في مرضه الذي مات فيه: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وعلى هذا فلا وجه للاعتراض على المصنف، وقد وصل هذا الأثر الحسين بن إسماعيل بن عبد الله المحاملي في أماليه من طريق جرير عن المغيرة بن مقسم، ووصله أيضاً ابن أبي الدنيا في كتاب القبور من طريق المغيرة. (لما مات الحسن بن الحسن بن علي) بن أبي طالب الهاشمي بفتح الحاء والسين في الاسمين، وهو ممن وافق اسمه اسم أبيه، وكانت وفاته سنة سبع وتسعين وله بضع وخمسون سنة، وهو من ثقات التابعين، وله ولد يسمى الحسن أيضاً فهم ثلاثة في نسق واحد. (ضربت امرأته) فاطمة بنت الحسين بن علي أبي طالب الهاشمية، وهي ابنة عمه تقدم ترجمتها. (القبة) بضم القاف، وتشديد الموحدة أي الخيمة، كما جاء في رواية المحاملي وابن أبي الدنيا بلفظ الفسطاط. (على قبره سنة)

ثم رفعت، فسمعت صائحاً يقول: ألا هل وجدوا ما فقدوا؟ فأجابه آخر: بل يئسوا فانقلبوا)) . 1764- 1765- (29- 30) وعن عمران بن حصين، وأبي برزة، قالا: ((خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة، فرأى قوماً قد طرحوا أرديتهم يمشون في قمص، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبفعل الجاهلية تأخذون؟ أو بصنيع الجاهلية ـــــــــــــــــــــــــــــ قال ابن المنير: إنما ضربت الخيمة هناك للاستمتاع بالميت بالقرب منه تعليلاً للنفس وتخييلاً باستصحاب المألوف من الأنس ومكابرة للحس، كما يتعلل بالوقوف على الأطلال البالية ومخاطبة المنازل الخالية فجاءتهم الموعظة على لسان الهاتفين بتقبيح ما صنعوا. (ثم رفعت) بالبناء للفاعل أي أمرت المرأة برفعها أو للمفعول أي رفعت الخيمة. (فسمعت) أي المرأة، ويروى: فسمعوا أي المرأة ومن معها. (صائحاً) أي هاتفاً من مؤمني الجن أو الملائكة. (ألا) بالتخفيف للتنبيه. (ما فقدوا) بفتح القاف، ويروى: ما طلبوا. (فأجابه آخر) أي صائح آخر. (بل يئسوا فانقلبوا) أي رجعوا، وفي هذا الأثر دليل على كراهة ضرب القبة على القبر، وإليه ذهب أحمد وهو الحق. قال ابن قدامة: كره أحمد أن يضرب على القبر فسطاط، وأوصى أبوهريرة حين حضرته الوفاة أن لا يضربوا عليه فسطاطاً-انتهى. وذكر البخاري ذلك الأثر في الباب المذكور؛ لأنه يدل على كراهة ضرب القبة على القبر. قال القسطلاني: مطابقته للترجمة ومناسبته لحديث الباب من جهة أن المقيم في الفسطاط لا يخلوا من الصلاة فيه، فيستلزم اتخاذ المسجد عند القبر، وقد يكون القبر في جهة القبلة فتزداد الكراهة، وإذا أنكر الصائح بناء زائلاً فالبناء الثابت أجدر، لكن لا يؤخذ من كلام الصائح حكم؛ لأن مسلك الأحكام الكتاب والسنة والإجماع والقياس، ولا وحي بعده عليه الصلاة والسلام، وإنما هذا وأمثاله تنبيه على انتزاع الأدلة من مواضعها واستنباطها من مظانها-انتهى. وقال الحافظ: إنما ذكره البخاري لموافقته للأدلة الشرعية لا لأنه دليل برأسه. 1764-1765- قوله: (فرأى قوماً) أي من متبعي الجنازة. (قد طرحوا أرديتهم) قال السندي: أي غيروا لباسهم للحزن على الميت، وهذا من صنيع الجاهلية، لكن أهل الجاهلية يبالغون فيه فلذلك سمى هذا تشبيهاً بهم-انتهى. (يمشون) حال من فاعل طرحوا، أو صفة بعد صفة لقوماً. (في قمص) بضمتين جمع قميص. قال القاري: يؤخذ منه أن الشعار المعروف في ذلك الزمن هو الرداء فوق القميص. قال الطيبي: حال متداخلة؛ لأن يمشون حال من الواو في طرحوا، أو هو من الواو في يمشون. (أبفعل الجاهلية) أي من تغير الزي المألوف عند

تشبهون؟ لقد هممت أن أدعو عليكم دعوة ترجعون في غير صوركم. قال: فأخذوا أرديتهم، ولم يعودوا لذلك)) . رواه ابن ماجه. 1766- (31) وعن ابن عمر، قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تتبع جنازة معها رانة)) رواه أحمد، وابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الموت. (تأخذون) الهمزة للإنكار، ومحله الفعل، وقدم الجار لبيان محط الإنكار. (أو بصنيع الجاهلية) أو للتنويع أو للشك. (تشبهون) أي تتشبهون فحذف إحدى التائين. (لقد هممت) أي قصدت. (دعوة) مفعول مطلق. (ترجعون) على بناء للفاعل أو للمفعول، أي تصيرون أو تردون بتلك الدعوة. (في غير صوركم) أي بالمسخ. قال الطيبي: هو محمول على تضمين الرجوع معنى صار، كما في قوله تعالى: {أو لتعودن في ملتنا} [الأعراف: 88] ، أو تحمل الصورة على الصفة والحالة، أي ترجعون إلى غير الفطرة كما كنتم عليه-انتهى. قال ميرك: ويحتمل أن يكون المراد ترجعون إلى بيوتكم في غير صوركم، وفي غير صوركم حال فلا حاجة إلى الوجهين-انتهى. (قال) أي الراوي، وفيه إبهام فإن الراوي اثنان، فيحتمل أن يكون المراد قال كل منهما، ويحتمل قال الراوي الشامل لهما أو لأحدهما. (ولم يعودوا) أي لم يرجعوا بعد ذلك. (لذلك) أي إلى ذلك الفعل أو لم يرجعوا في ذلك الفعل لأجل ذلك القول الصادر منه - صلى الله عليه وسلم -. قال الطيبي: فإذا ورد في مثل أدنى تغيير من وضع الرداء عن المنكب هذا الوعيد البليغ فكيف ما يشاهد من الأمور الشنيعة. (رواه ابن ماجه) بإسناد ضعيف، فيه نفيع بن الحارث أبوداود الأعمى تركه غير واحد، ونسبه ابن معين وغيره للوضع، وفيه أيضاً علي بن الحزور كذلك متروك الحديث، وقال البخاري: منكر الحديث عنده عجائب، وقال مرة: فيه نظر. 1766- قوله: (أن تتبع) بالتخفيف وتشدد على بناء المجهول، أي تشيع (جنازة معها رانة) بالراء المهملة وبعد الألف نون مشددة بصيغة اسم الفاعل، أي نائحة صائحة. في القاموس: رنَّ يَرِنّ رنيناً صاح، وفي رواية أحمد: رَنَّة، وهي الصوت يريد به نواح النساء خلف الجنازة. وفيه دليل على تحريم اتباع الجنازة التي معها النائحة. قال القاري: وفي معناها إذا كان معها أمر آخر من المنكرات. وهذا أصل أصيل في عدم الحضور عند مجلس فيه المحظور. (رواه أحمد) (ج2ص92) . (وابن ماجه) في سنده عند ابن ماجه أبويحي القتات رواه عنه إسرائيل. قال أحمد: روى عنه إسرائيل أحاديث كثيرة مناكير جداً. وقال ابن معين: في حديثه ضعف. وقال يعقوب بن سفيان والبزار: لا بأس به. وقال الحافظ: لين الحديث. قلت: قد تابعه على روايته هذا الحديث عن مجاهد ليث بن أبي سليم عند أحمد، فصار الحديث حسناً بل صحيحاً لاعتضاده بالأحاديث التي تدل على تحريم النياحة.

1767- (32) وعن أبي هريرة، أن رجلاً قال له: ((مات ابن لي فوجدت عليه، هل سمعت من خليلك صلوات الله عليه شيئاً يطيب بأنفسنا عن موتانا؟ قال: نعم، سمعته - صلى الله عليه وسلم - قال: صغارهم دعاميص الجنة، يلقى أحدهم أباه فيأخذ بناحية ثوبه، فلا يفارقه حتى يدخله الجنة)) رواه مسلم، وأحمد واللفظ له. 1768- (33) وعن أبي سعيد، قال: ((جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله! ـــــــــــــــــــــــــــــ 1767- قوله: (أن رجلاً) هو أبوحسان القيسي، ففي مسلم عن أبي حسان قال: قلت لأبي هريرة أنه قد مات لي ابنان الخ. واسم أبي حسان هذا خالد بن غلاق القيسي. (مات ابن لي) أي صغير. (فوجدت عليه) أي حزنت عليه حزناً شديداً. (يطيب بأنفسنا) بالتخفيف مع فتح أوله فالباء للتعدية، وبالتشديد فالباء للتأكيد، كما في قوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة: 195] ، {وهزي إليك بجزع النخلة} [مريم: 25] . وهذه الزيادة أعني زيادة الباء أمر مطرد عند أرباب العربية على ما ذكره المغني، قاله القاري. أي يسليها. وفي مسلم: فما أنت محدثي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحديث تطيب به أنفسنا. (عن موتانا) أي من الصغار. (صغارهم) أي صغار المسلمين. (دعاميص الجنة) بالدال والعين والصاد المهملات جمع دعموص بضم الدال أي صغار أهلها، وأصل الدعموص دويبة تكون في الماء لا تفارقه، أي أن هذا الصغير في الجنة لا يفارقها. وفي النهاية: جمع دعموص وهي دويبة تغوص في الماء، وتكون في مستنقع الماء، والدعموص أيضاً الدخال في الأمور، أي أنهم سياحون في الجنة دخالون في منازلها لا يمنعون من موضع، كما أن الصبيان في الدنيا لا يمنعون من الدخول على الحرم، ولا يحتجب منهم، قاله الطيبي: (يلقي أحدهم) أي أحد الصغار. (أباه) أي فكيف بأمه. وفي صحيح مسلم: يتلقى أحدهم أباه أو قال أبويه. (بناحية ثوبه) أي بطرفه. (فلا يفارقه حتى يدخله الجنة) ولفظ مسلم: فيأخذ بثوبه أو قال بيده كما آخذ أنا بضفة ثوبك هذا، فلا ينتهي حتى يدخله الله وأباه الجنة. وفيه دليل أن أطفال المؤمنين في الجنة، وكذا آباء هؤلاء الأطفال وأمهاتهم في الجنة إذا احتسبوهم. (رواه مسلم) في الأدب والبر والصلة. (وأحمد) وأخرجه أيضاً البيهقي (ج4ص67) . (واللفظ له) أي لأحمد. ولعل المصنف لهذا ذكر أحمد؛ لأنه ملتزم أنه لا يذكر بعد الشيخين أحداً من المخرجين؛ لظهور صحة الحديث إذا كان في الصحيحين أو في أحدهما. 1768- قوله: (جاءت امرأة) قال الحافظ: لم أقف على اسمها. ويحتمل أن تكون هي أسماء بنت يزيد

ذهب الرجال بحديثك، فاجعل لنا من نفسك يوماً نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله، فقال: اجتمعن في يوم كذا وكذا في مكان كذا وكذا. فاجتمعن، فأتاهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعلمهن مما علمه الله، ثم قال: ما منكن امرأة تقدم بين يديها من ولدها ثلاثة، إلا كان لها حجاباً من النار، فقالت امرأة منهن: يا رسول الله! أو اثنين؟ فأعادتها مرتين. ثم قال: واثنين واثنين واثنين)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن السكن. (ذهب الرجال بحديثك) قال الطيبي: أي أخذوا نصيباً وافراً من مواعظك. وقال القاري: أي فازوا وظفروا به. ونحن محرومات من اغتنامه واكتسابه-انتهى. وفي رواية: غلبنا عليك الرجال أي بملازمتهم لك كل الأيام يتعلمون الدين، ونحن نساء ضعفة لا نقدر على مزاحمتهم. (فاجعل) أي انظر لنا فعين (لنا من نفسك) أي من اختيارك لا من اختيارنا. (يوماً) من الأيام فـ"من" ابتدائية تتعلق بـ"اجعل"، و"يوما" مفعول به، يعني هذا الجعل منشؤه اختيارك لا اختيارنا. قال الكرماني: ويحتمل أن يكون المراد من أوقات نفسك بإضمار الوقت والظرف صفة لـ"يوما"، وهو ظرف مستقر على هذا الاحتمال-انتهى. يعني اجعل لنا وقتاً ما من الأوقات المختصة بذاتك الأشرف. (اجتمعن) بكسر الميم. (في يوم كذا) أي في نهار كذا (وكذا) أي في وقت كذا. (في مكان كذا) أي من المسجد أو البيت. (وكذا) أي من وصفه بمقدمه أو مؤخره. (فاجتمعن) بفتح الميم. (ما منكن امرأة تقدم) من التقديم. (بين يديها) أي إلى يوم القيامة. (إلا كان) أي التقديم أو تقدمهم وموتهم. (حجاباً) أي ستراً. (فقالت امرأة منهن) هي أم سليم أو أم مبشر أو أم أيمن. (أو اثنين) عطف على "ثلاثة"، ويقال لمثل هذا: عطف تلقين، كأنه يلقن المخاطب المتكلم بأن يعطفه على ما قبله. وفي رواية: واثنين، أي وما حكم اثنين أو ومن قدم اثنين. (فأعادتها) أي المرأة كلمة أو اثنين. (مرتين) وفي رواية مسلم: فقالت امرأة: واثنين واثنين واثنين. (ثم قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -. (واثنين واثنين واثنين) ثلاث مرات للتوكيد، والواو بمعنى أو. وفي الحديث ما كان عليه نساء الصحابة من الحرص على تعلم أمور الدين. وفيه أن أطفال المسلمين في الجنة: وأن من مات له ولدان حجباه من النار، ولا اختصاص لذلك بالنساء كما تقدم. (رواه البخاري) في العلم وفي الجنائز وفي الاعتصام، وأخرجه أيضاً مسلم في الأدب والبر والصلة، واللفظ للبخاري في الاعتصام، فكان من حق المصنف أن يقول: متفق عليه، واللفظ للبخاري، وأخرجه أحمد (ج3ص34، 72) والبيهقي أيضاً.

1769- (34) وعن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من مسلمين يتوفى لهما ثلاثة، إلا أدخلهما الله الجنة بفضل رحمته إياهما، فقالوا: يا رسول الله! أو اثنان؟ قال: أو اثنان. قالوا: أو واحد؟ قال: أو واحد. ثم قال: والذي نفسي بيده إن السقط ليجر أمه بسرره إلى الجنة إذا احتبسته)) . رواه أحمد، وروى ابن ماجه من قوله: ((والذي نفسي بيده)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1769- قوله: (ما من مسلمين) على صيغة التثنية أي من الوالدين. (ثلاثة) أي من الولد من البنين والبنات. (إلا أدخلهما) أي الوالدين المسلمين. (بفضل رحمته إياهما) أي بفضل رحمة الله تعالى للوالدين. وهذا صريح في أن المراد بقوله "إياهما" الأبوان لا الأولاد. وورد بعض الأحاديث بما يدل على أن المراد بفضل رحمة الله للأولاد، ففي حديث أنس عند ابن ماجه: ما من مسلمين يتوفى لهما ثلاثة من الولد، لم يبلغوا الحنث إلا أدخلهم الله. (أي الأبوين والأولاد) بفضل رحمة الله إياهم. ورواه أحمد (ج6ص376) والطبراني في الكبير من حديث أم سليم، والنسائي من حديث أبي ذر، وفي حديث أبي ثعلبة الأشجعي عند أحمد (ج6ص396) والطبراني في الكبير برجال ثقات: من مات له ولدان في الإسلام أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهما. وفي حديث عمرو بن عبسة عند أحمد (ج4ص386) : من ولد له ثلاثة أولاد في الإسلام فماتوا قبل أن يبلغوا الحنث. أدخله الله الجنة برحمته إياهم. وللطبراني. إلا أدخله الله برحمته هو وإياهم. (أو اثنان) عطف على ثلاثة عطف التماس. (قال: أو واحد) هذا صريح في أن للواحد حكم الاثنين والثلاثة. (ثم قال) أي تتميماً ومبالغة في ثواب الولد. (إن السقط) بكسر السين أكثر وأشهر من الضم والفتح، وهو ولد يسقط من بطن أمه قبل تمامه. (ليجر أمه) بضم الجيم ليسحبها. (بسرره) بفتحتين وتكسر السين، هو ما تقطعه القابلة، وهو السر بالضم أيضاً. وأما السرة فهي ما يبقى بعد القطع. وقال الجزري في النهاية: السرر ما يبقى بعد القطع مما تقطعه القابلة. (إلى الجنة) قال الطيبي: هذا تتميم ومبالغة للكلام السابق، ومن ثم صدره - صلى الله عليه وسلم - بالقسم، أي إذا كان السقط الذي لا يؤبه به يجر الأم بما قد قطع من العلاقة بينهما، فكيف الولد المألوف الذي هو فلذة الكبد. (إذا احتبسته) أي صبرت عليه طلباً للأجر من الله تعالى. (رواه أحمد) أي من أول الحديث (ج5ص241) ، وأخرجه أيضاً الطبراني في الكبير. (وروى ابن ماجه من قوله: والذي نفسي بيده) أي إلى آخر الحديث، وفي سنده عندهم يحيى بن عبيد الله التيمي. قال الهيثمي: لم أجد من وثقه ولا جرحه-انتهى. ونقل السندي عن البوصيري أنه قال في الزوائد: في إسناده يحيى بن عبيد الله بن موهب، وقد اتفقوا على ضعفه، والله اعلم-انتهى. قلت يحيى بن عبيد الله بن موهب التيمي قال فيه يعقوب بن سفيان: لا بأس به إذا روى عن ثقة. وقال الساجي: فيجوز في الزهد وفي الرقائق،

1770- (35) وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من قدم ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث، ـــــــــــــــــــــــــــــ وليس هو بحجة في الأحكام. وقال الجوزجاني: أحاديثه متقاربة من حديث أهل الصدق، وضعفه غيرهم. وقال الحافظ في التقريب: إنه متروك-انتهى. وفي كونه هو المراد في سند هذا الحديث عندي نظر. والظاهر أن الراوي فيه رجل آخر لا يعرف، أو هو يحيى بن عبد الله الجابر، وهو لين الحديث. ذكر الحافظ في تهذيب التهذيب ترجمة يحيى بن عبيد الله بن عبد الله بن موهب التيمي برقم الترمذي وابن ماجه: ثم قال تحت رقم ابن ماجه: يحيى بن عبيد الله عن عبيد الله بن مسلم الحضرمي، وعنه عبيدة بن حميد. وقيل: عن عبيدة عن يحيى بن عبد الله الجابر عن عبيد الله بن مسلم، وهو الصواب-انتهى. وقال الذهبي في الميزان: يحيى بن عبيد الله ق عن عبيد الله بن مسلم عن معاذ لا يعرف، روى عنه عبيدة بن حميد، وكأنه يحيى بن عبد الله الجابر-انتهى. وذكر الذهبي. أيضاً هذا الحديث في ترجمة يحيى الجابر، فقال: عبيدة بن حميد حدثنا يحيى الجابر عن عبد الله بن مسلم الحضرمي عن معاذ بن جبل مرفوعاً: ما من امرأين مسلمين يموت لهما ثلاثة-الحديث. وفيه: أن السقط ليجر أمه بسرره إلى الجنة إذا احتسبت-انتهى. وقال الحافظ في اللسان: يحيى بن عبيد الله عن عبيد الله بن مسلم وعنه عبيدة بن حميد، وقال إسرائيل وخالد الطحان: عن يحيى بن عبد الله الجابري-انتهى. وقد ظهر بهذا كله أن حديث معاذ بن جبل هذا ضعيف لا يصلح للاحتجاج. وفي ثواب السقط أحاديث لا يصلح واحد منها للاستدلال، منها: حديث علي الآتي، ومنها حديث أبي هريرة عند ابن ماجه أيضاً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لسقط أقدمه بين يدي أحب إلي من فارس أخلفه خلفي. قال في الزوائد: قال المزي في التهذيب والأطراف: يزيد بن رومان لم يدرك أبا هريرة، ويزيد بن عبد الملك النوفلي وإن وثقه ابن سعد فقد ضعفه أحمد وابن معين وغيرهما، ومنها حديث سهل بن حنيف مرفوعاً: تزوجوا، فإني مكاثر بكم الأمم، وإن السقط ليرى محبنطئاً بباب الجنة يقال له: ادخل، يقول: حتى أدخل أبوي، رواه الطبراني في الأوسط، وفيه موسى بن عبيدة، وهو ضعيف، كذا في مجمع الزوائد (ج3:ص11) . ومنها حديث معاوية بن حيدة عند ابن حبان في الضعفاء بنحو حديث سهل بن حنيف، ذكره العيني. 1770- قوله: (من قدم ثلاثة من الولد) أي من قدمهم بالصبر على موتهم. قال القاري: معناه من قدم صبر ثلاثة من الولد عند فقدهم واحتسب ثوابهم عند ربهم، أو المراد بالتقديم لازمه وهو التأخر، أي من تأخر أي موته عن موت ثلاثة من أولاده المقدمين عليه. (لم يبلغوا الحنث) أي الذنب. والمراد أنهم لم يحتلموا. قال القاري: والظاهر أن هذا قيد للكمال؛ لأن الغالب أن يكون القلب عليهم أرق، والصبر عنهم أشق وشفاعتهم أرجى وأسبق. وقال السندي: يأبى عنه أي عن التعميم قوله. (في حديث عتبة بن عبد السلمي عند ابن ماجه) "إلا تلقوه من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء دخل"، إذ لا يلزم في الكبير الإسلام ودخول الجنة فضلاً عن تلقيه إياه من الأبواب

كانوا له حصناً حصيناً من النار، فقال أبوذر: قدمت اثنين. قال: واثنين. قال أبيّ بن كعب أبوالمنذر سيد القراء: قدمت واحدا. قال: وواحداً)) . رواه الترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. 1771- (36) وعن قرة المزني: ((أن رجلاً كان يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه ابن له. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: أتحبه؟ فقال: يا رسول الله! أحبك الله كما أحبه. ففقده النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ما فعل ابن فلان؟ قالوا: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! مات. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما تحب أن لا تأتي باباً من أبواب الجنة إلا وجدته ـــــــــــــــــــــــــــــ الثمانية، وكذا ما يأتي عنه في قوله: بفضل الله إياهم، أي بفضل رحمة الله تعالى للأولاد، إذ لا يلزم في الكبير أن يكون مرحوماً فضلاً عن أن يرحم أبوه بفضل رحمته، نعم قد جاء دخول الجنة بسبب الصبر مطلقاً كما في بعض الأحاديث-انتهى. (حصناً حصيناً) أي ستراً قوياً. وقال القاري: أي حصاراً محكماً وحاجزاً ومانعاً. (قدمت اثنين) أي فما حكمه؟ (قال: واثنين) أي وكذا من قدم اثنين. وقال الطيبي: فقال أبوذر: زد يا رسول الله! في البشارة، فإني قدمت اثنين، قال: واثنين، أي ومن قدم اثنين. (أبوالمنذر) عطف بيان. (سيد القراء) إنما قيل له سيد القراء لقوله - صلى الله عليه وسلم -: أقرأكم أبيّ. (قال: وواحد) زاد الترمذي: ولكن إنما ذلك عند الصدمة الأولى. (رواه الترمذي وابن ماجه) وأخرجه أيضاً أحمد (ج1:ص375،429،451) وابن أبي شيبة، وإسناده ضعيف لانقطاعه؛ لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه عبد الله بن مسعود، وفيه أيضاً اختلاف على راويه العوام بن حوشب، ذكره الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على مسند الإمام أحمد (ج5:ص188) . (وقال الترمذي: هذا حديث غريب) ، وقال أيضاً: أبوعبيدة لم يسمع من أبيه. 1771- قوله: (وعن قرة) بضم القاف وتشديد المهملة ابن إياس. (المزني) بضم الميم وفتح الزاي. (أتحبه) أي حباً بالغاً حيث يصحبك دائماً. (أحبك الله كما أحبه) دعاء له بزيادة محبة الله له - صلى الله عليه وسلم -، يريد أنه يحب ولده حباً شديداً، يطلب لك مثله من الله تعالى. (ففقده) أي الابن أو الأب، وهو الأليق بما وقع في رواية للنسائي من قوله: فامتنع الرجل أن يحضر الحلقة لذكر ابنه فحزن عليه، ففقده النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: مالي لا أرى فلاناً؟ الحديث. وقيل: فقده أي ابنه معه. (ما فعل) بصيغة الفاعل. (ابن فلان) أي ما جرى له من الفعل. (مات) أي ابنه. (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي فقال له حين لقيه في الطريق. (إلا وجدته)

ينتظرك؟ فقال رجل: يا رسول الله! له خاصة، أم لكلنا؟ قال: بل لكلكم)) . رواه أحمد. 1772- (37) وعن علي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن السقط ليراغم ربه إذا أدخل أبويه النار، فيقال: أيها السقط المراغم ربه! أدخل أبويك الجنة، فيجرهما بسرره حتى يدخلهما الجنة)) . رواه ابن ماجه. 1773- (38) وعن أبي أمامة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يقول الله تبارك وتعالى: ابن آدم! إن صبرت واحتسبت عند الصدمة الأولى لم أرض لك ثواباً دون الجنة)) رواه ابن ماجه. 1774- (39) وعن الحسين بن علي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها، ـــــــــــــــــــــــــــــ أي ابنك. (ينتظرك) ليشفعك وليدخلها معك. وقال الطيبي: ينتظرك أي مفتحاً لك مهيئاً لدخولك، كما قال تعالى: {جنات عدن مفتحة لهم الأبواب} [ص:50] فاستعير للفتح الانتظار مبالغة-انتهى. وفي رواية للنسائي: إلا وجدته عنده يسعى يفتح لك، وفي أخرى له: إلا وجدته قد سبقك إليه يفتحه لك. (له خاصة) أي هذا الحكم. (أم لكلنا) أي أم هو عامة لجميعنا معشر المسلمين. (بل لكلكم) أي كافة. (رواه أحمد (ج3:ص436) قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، وأخرجه أيضاً النسائي. قال الحافظ: بإسناد صحيح، والحاكم (ج1:ص384) وصححه ووافقه الذهبي، والبيهقي (ج4:ص60،59) وابن أبي شيبة (ج4: ص145) . 1772- قوله: (وعن علي) أي ابن أبي طالب. (ليراغم ربه) أي يحاجه ويخاصمه ويعارضه. والمراد أنه يبالغ في شفاعته ويجتهد حتى تقبل شفاعته. (إذا أدخل أبويه) أي إذا أراد أن يدخلهما. (رواه ابن ماجه) من طريق مندل بن علي العنزي عن الحسن بن الحكم النخعي عن أسماء بنت عابس بن ربيعة عن أبيها عن علي، ومندل ضعيف، وأسماء بنت عابس مجهولة لا يعرف حالها. قال في الزوائد: إسناده ضعيف لاتفاقهم على ضعف مندل بن علي-انتهى. والحديث نسبه العيني في شرح البخاري إلى ابن أبي شيبة، وقال: ورواه أبويعلى أيضاً. 1773- قوله: (ابن آدم) منادى بتقدير حرف النداء. (إن صبرت) أي على البلاء. (واحتسبت) أي طلبت به الأجر والثواب من الله تعالى. (دون الجنة) أي دخولها ابتداء، وإلا فأصل الدخول يكفي فيه الإيمان، قاله السندي. (رواه ابن ماجه) قال في الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله ثقات. 1774- قوله: (وعن الحسين) بضم الحاء مصغراً. (بن علي) بن أبي طالب. (وإن طال عهدها) أي بَعُدَ

فيحدث لذلك استرجاعاً، إلا جدد الله تبارك وتعالى له عند ذلك، فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب بها)) رواه أحمد، والبيهقي في شعب الإيمان. 1775- (40) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا انقطع شسع أحدكم فليسترجع، فإنه من المصائب)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ زمانها و"إن" وصلية. (فيحدث) أي يحدد. (لذلك) أي عند تذكر تلك المصيبة، فاللام للتوقيت. (استرجاعاً) بالقول أي يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون قولاً جديداً وقت التذكر. (إلا جدد الله تبارك وتعالى له عند ذلك) أي أثبت الله له عند الاسترجاع ثواباً جديداً، بينه قوله: {فأعطاه مثل أجرها} أي مثل ثواب تلك المصيبة. (يوم أصيب بها) أي وقت ابتلائه بتلك المصيبة ابتداء وصبره وتسليمه بقضائه تعالى. وفيه دليل على أن استرجاع المصاب عند ذكر المصيبة يكون سبباً لاستحقاقه لمثل الأجر الذي كتبه الله له في الوقت الذي أصيب فيه بتلك المصيبة، وإن تقادم عهدها ومضت عليها أيام طويلة، وهذا فضل من الله تعالى ورحمة. (رواه أحمد) (ج1:ص201) . (والبيهقي) وأخرجه أيضاً الطبراني في الأوسط وابن ماجه ولفظه: من أصيب بمصيبة، فذكر مصيبته، فأحدث استرجاعاً وإن تقادم عهدها، كتب الله له من الأجر مثله يوم أصيب. والحديث إسناده ضعيف جداً فيه هشام بن زياد وهو هشام بن أبي هشام أبوالمقدام البصري، متروك. رواه عن أمه، ولا يعرف من هي. ونقل السندي عن الزوائد قال: "قد اختلف الشيخ هل هو (أي هشام) روى عن أبيه أو أمه"، وذكره ابن كثير في التفسير، وأشار إلى رواية ابن ماجه، ثم قال: "وقد رواه إسماعيل بن علية ويزيد بن هارون عن هشام بن زياد عن أبيه". 1775- قوله: (إذا انقطع شسع أحدكم) أي شسع نعله بكسر الشين المعجمة وسكون المهملة، زمام للنعل بين الإصبع الوسطى والتي تليها. وقال في النهاية: الشسع أحد سيور النعل، وهو ما يدخل بين الإصبعين. (الوسطى والتي تليها) ويدخل طرفه في الثقب الذي في صدر النعل المشدود في الزمام، والزمام السير الذي يعقد فيه الشسع. (فليسترجع) أي يقل: إنا لله وإنا إليه راجعون، وهو أمر ندب. (فإنه) أي انقطاع الشسع. وفي مجمع الزوائد والجامع الصغير نقلاً عن البزار "فإنها" أي بضمير المؤنث، وكذا وقع في الميزان. قال المناوي: أي هذه الحادثة التي هي انقطاع شسع النعل. (من المصائب) أي من جملتها. قال القاري: وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - استرجع حين انطفأ سراج له: ولعل المراد من انقطاع الشسع أقل أفراد المصيبة. وقال ابن حجر: نبه بالشسع على ما فوقه بالأولى، وعلى ما دونه بطريق التساوي، فيسن ذكر الاسترجاع في الجميع.

1776- (41) وعن أم الدرداء، قالت: سمعت أبا الدرداء يقول: سمعت أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الله تبارك وتعالى قال: يا عيسى! إني باعث من بعدك أمة إذا أصابهم ما يحبون حمدوا الله، وإن أصابهم ما يكرهون احتسبوا وصبروا، ولا حلم ولا عقل. فقال: يا رب! كيف يكون هذا لهم ولا حلم ولا عقل؟ قال: أعطيهم من حلمي وعلمي)) رواهما البيهقي في شعب الإيمان. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1776- قوله: (وعن أم الدرداء) هي أم الدرداء الصغرى، هجيمة الأوصابية الدمشقية الفقيهة التابعية، لا أم الدرداء الكبرى الصحابية. (إني باعث) أي خالق ومظهر. (أمة) أي جماعة عظيمة. والمراد بهم صلحاء أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. (حمدوا الله) أي على إصابتهم ما يحبون. (احتسبوا) أي طلبوا الثواب من الله. (ولا حلم) أي الحال أنهم لا حلم لهم. (ولا عقل) أي كسبيان أو كاملان قبل ذلك يحملهم على ما سبق منهم، قاله القاري. وفي مسند الإمام أحمد (ج6:ص450) والمستدرك (ج1:ص348) "ولا علم" بدل "ولا عقل" في الموضعين، وكذا في مجمع الزوائد والترغيب. (فقال) أي عيسى: (كيف يكون هذا) أي ما ذكر من الحمد حال السراء والصبر حال الضراء. (ولا حلم ولا عقل) ؛ لأن الحلم هي الصفة المعتدلة تمنع الإنسان عن العجلة وتبعثه على التأمل في القضايا والأحكام حتى يقوم بمقتضى المقام، فيشكر عند الإنعام ولا يبطر، ويصبر على المحنة، ولا يجزع عند المصيبة. والعقل يمنعه ويعقله عما لا ينبغي، فيكون مانعاً له من الكفران وحاملاً وباعثاً له على حمد الله تعالى، وبه يعلم الإنسان أن الأمر كله بيد الله، والخير فيما اختاره الله، فيصبر على ما قدر وقضاه. وأما إذا لم يكن لهم حلم ولا عقل فأمرهم غريب وحالهم عجيب. (أعطيهم من حلمي وعلمي) أي اللدنيين عند المنحة والمحنة ليشكروا حال السراء ويصبروا حال الضراء على وجه الكمال، قاله القاري. وقال الطيبي: قوله "لا حلم ولا عقل" قيل: هو مؤكد لمفهوم احتسبوا وصبروا؛ لأن الاحتساب أن يحمله على العمل والإخلاص وابتغاء مرضاة الله لا الحلم والعقل، وحينئذٍ يتوجه السؤال أي كيف يصبر ويحتسب من لا حلم ولا عقل له؟ فأجاب بأنه إن فنى حلمه وعقله يتحلم ويتعقل بحلم الله وعلمه. وفي وضع علمي موضع العقل إشارة إلى عدم جواز نسبة العقل إليه، تعالى عن صفات المخلوقين علواً كبيراً، وهو القوة المتهيئة لقبول العلم-انتهى. والحديث يدل على الترغيب في الصبر سيما لمن ابتلى في نفسه وماله، وعلى فضل الأمة المحمدية. (رواهما) أي هذا الحديث والذي قبله. (البيهقي) الحديث الأول أخرجه البزار وابن عدي أيضاً، كما في الجامع الصغير، ونسبه الهيثمي (ج2:ص331) للبزار. وقال: فيه بكر بن خنيس، وهو ضعيف، وروى البزار أيضاً عن شداد بن أوس مثله، وفيه خارجة بن مصعب، وهو متروك. وفي الباب أيضاً عن أبي أمامة عند الطبراني في الكبير، وفيه العلاء بن كثير، وهو متروك، وله حديث آخر عند

(8) باب زيارة القبور

(8) باب زيارة القبور {الفصل الأول} 1777- (1) عن بريدة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ـــــــــــــــــــــــــــــ الطبراني أيضاً، وسنده ضعيف. والحديث الثاني أخرجه أيضاً أحمد (ص450) والحاكم (ج1:ص348) والبزار والطبراني في الكبير والأوسط. قال الحاكم: حديث صحيح على شرط البخاري، ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي (ج10:ص68) بعد عزوه لأحمد والبزار والطبراني: ورجال أحمد رجال الصحيح غير الحسن بن سوار وأبي حلبس يزيد بن مسيرة، وهما ثقتان-انتهى. (باب زيارة القبور) أي جوازها وفضلها وآدابها. 1777- قوله: (وعن بريدة) بضم الباء أي ابن الحصيب الأسلمي. (نهيتكم) أي قبل هذا، وفي صحيح مسلم: كنت نهيتكم، وكذا وقع في حديث أبي سعيد عند أحمد والبزار والحاكم، وفي حديث ثوبان عند الطبراني، وفي حديث ابن مسعود عند ابن ماجه، وسيأتي. (عن زيارة القبور فزوروها) قال القاري: الأمر للرخصة أو للاستحباب، وعليه الجمهور، بل ادعى بعضهم الإجماع، بل حكى ابن عبد البر عن بعضهم وجوبها-انتهى. وقال الحافظ في الفتح: في الحديث تصريح بجواز زيارة القبور. وفيه نسخ النهي عن ذلك. قال النووي تبعاً للعبدري والحازمي وغيرهما: اتفقوا على أن زيارة القبور للرجال جائزة، كذا أطلقوا، وفيه نظر؛ لأن ابن أبي شيبة وغيره روى عن ابن سيرين وإبراهيم النخعي والشعبي الكراهة مطلقاً، حتى قال الشعبي: لولا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - لزرت قبر ابنتي، فلعل من أطلق أراد بالاتفاق ما استقر عليه الأمر بعد هؤلاء، وكان هؤلاء لم يبلغهم النسخ، والله أعلم. ومقابل هذا قول ابن حزم: إن زيارة القبور واجبة ولو مرة واحدة في العمر لورود الأمر به. قال الشوكاني: وهذا يتنزل على الخلاف في الأمر بعد النهي هل يفيد الوجوب أو مجرد الإباحة فقط. والكلام في ذلك مستوفى في الأصول-انتهى. واختلف في النساء، فقيل: دخلن في عموم الإذن. وقيل: هو مخصوص بالرجال، كما هو الظاهر من الخطاب، لكن عموم علة التذكير الواردة في الأحاديث قد تؤيد عموم الحكم، إلا أن يمنع كونه تذكرة في حق النساء لتمكن غفلتهن، وسيأتي تفصيل الكلام عليه في الفصل الثالث. قيل: سبب النهي عن زيارة القبور في أول الأمر كانوا حديث عهد بالجاهلية وقريب عهد بعبادة الأوثان ودعاء الأصنام، فنهوا عن زيارة القبور خشية أن يقولوا أو يفعلوا عندها ما كانوا يعتادونه في الجاهلية، وخوفاً من أن يكون ذلك ذريعة لعبادة أهل القبور

ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فامسكوا ما بدالكم، ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء فاشربوا في الأسقية كلها ولا تشربوا مسكراً)) . رواه مسلم ـــــــــــــــــــــــــــــ ودعائهم لكشف الشدائد وقضاء الحوائج، ولما استحكموا في التوحيد أذن لهم في ذلك. قال العيني في شرح البخاري (ج8:ص70) : معنى النهي عن زيارة القبور إنما كان في أول الإسلام عندهم قربهم بعبادة الأوثان واتخاذ القبور مساجد، فلما استحكم الإسلام وقوي في قلوب الناس وأمنت عبادة القبور والصلاة إليها، نسخ النهي عنها؛ لأنها تذكر الآخرة وتزهد في الدنيا-انتهى. وقال الطيبي: الفاء في قوله "فزوروها" متعلق بمحذوف، أي كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فإن المباهاة بتكثير الأموات فعل الجاهلية. وأما الآن فقد دار رحى الإسلام وهدم قواعد الشرك فزوروها، فإنها تورث رقة القلب وتذكر الموت والبلى وغير ذلك من الفوائد-انتهى. ويؤيده ما في رواية الترمذي من زيادة "فإنها تذكر الآخرة"، وفي حديث أبي سعيد عند أحمد وحديث أم سلمة عند الطبراني "فإن فيها عبرة"، وفي حديث ابن مسعود الآتي "فإنها تزهد في الدنيا"، وفي حديث أبي هريرة الآتي "فإنها تذكر الموت"، وفي حديث أنس عند الحاكم "ترق القلب وتدمع العين فلا تقولوا هجراً" أي كلاماً فاحشاً أو ما ينبغي من الكلام، وهو بضم الهاء وسكون الجيم. (ونهيتكم عن لحوم الأضاحي) بتشديد الياء أي عن ادخارها وإمساكها، وكان النهي لأجل الفقراء المحتاجين من أهل البادية الذين دخلوا المدينة. (فوق ثلاث) أي ليال. وفي رواية للنسائي: فوق ثلاثة أيام. (فأمسكوا) أي لحومها مطلقاً، فالأمر للرخصة، وهو الظاهر من إطلاق الحديث. (ما بدا) بالألف أي ظهر. (لكم) أي مدة بدو الإمساك. قال الطيبي: نهاهم أن يأكلوا ما بقي من لحوم أضاحيهم فوق ثلاث ليال، وأوجب عليهم التصدق به، فرخص لهم الإمساك ما شاء-انتهى. وفي رواية للنسائي: فكلوا وأطعموا وادخروا ما بدالكم. (ونهيتكم عن النبيذ) أي عن إلقاء التمر والزبيب ونحوهما في الماء. (إلا في سقاء) بكسر السين أي قربة، وذلك أن السقاء يبرد الماء فلا يشتد ما يقع فيه اشتداد ما في الظروف والأواني، فيصير خمراً، قاله الطيبي. وقال القاري: فإن السقاء جلد رقيق لا يجعل الماء حاراً، فلا يصير مسكراً عن قريب، بخلاف سائر الظروف، فإنها تجعل الماء حاراً، فيصير النبيذ مسكراً، فرخص لهم في شرب النبيذ من كل ظرف ما لم يصر مسكراً، فقال: (فاشربوا في الأسقية) أي الظروف والأواني وإلا لا يصح المقابلة، وفيه تغليب لما عرف من تعريف السقاء. (ولا تشربوا مسكراً) قال الطيبي: حاصله أن المنهي هو المسكر لا الظروف بعينها، كما قال: نهاهم عن أربع الحنتم والدباء والنقير والمزفت-انتهى. وسيأتي بسط الكلام في ذلك في الأشربة إن شاءالله تعالى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والحاكم والبيهقي وغيرهم.

1778- (2) وعن أبي هريرة، قال: ((زار النبي - صلى الله عليه وسلم - قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال: استأذنت ربي في أن أستغفر لها، فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1778- قوله: (زار النبي - صلى الله عليه وسلم - قبر أمه) أي بالأبواء بين مكة والمدينة، وذلك كان عام الفتح. قال القاضي عياض: سبب زيارته - صلى الله عليه وسلم - قبرها أنه قصد قوة الموعظة والذكرى بمشاهدة قبرها. ويؤيده قوله - صلى الله عليه وسلم - في آخر الحديث: فزوروا القبور، فإنها تذكر الموت. وقيل: زيارته - صلى الله عليه وسلم - قبرها مع أنها كافرة تعليم منه للأمة حقوق الوالدين والأقارب، فإنه لم يترك قضاء حقها مع كفرها. (فبكى) قال القاضي: بكاؤه - صلى الله عليه وسلم - على ما فاتها من إدراكه والإيمان به. وقيل: على عذابها، وفيه دليل على جواز البكاء عند حضور المقابر. (فلم يؤذن لي) قال ابن الملك: لأنها كافرة، والاستغفار للكافرين لا يجوز؛ لأن الله لا يغفر لهم أبداً. وقال الشوكاني: فيه دليل على عدم جواز الاستغفار لمن مات على غير ملة الإسلام. وقال النووي: فيه النهي عن الاستغفار للكفار. (فأذن لي) بصيغة المجهول مراعاة لقوله: "فلم يؤذن لي"، ويجوز أن يكون بصيغة الفاعل. قال النووي: فيه جواز زيارة المشركين في الحياة وقبورهم بعد الوفاة؛ لأنه إذا جازت زيارتهم بعد الوفاة، ففي الحياة أولى، وقد قال الله تعالى: {وصاحبهما في الدنيا معروفاً} [لقمان:15] انتهى. قلت: الحديث بظاهره يدل على أن أمه - صلى الله عليه وسلم - ماتت على غير الإسلام، وهو مذهب جمهور العلماء في شأن أبويه - صلى الله عليه وسلم -، وقد ترجم النسائي وابن ماجه لهذا الحديث "باب زيارة قبر المشرك". قال السندي في حاشية النسائي: كأنه أخذ ما ذكر في الترجمة من المنع عن الاستغفار، أو من مجرد أنه الظاهر على مقتضى وجودها في وقت الجاهلية، لا من قوله: بكى وأبكى، إذ لا يلزم من البكاء عند الحضور في ذلك المحل العذاب أو الكفر، بل يمكن تحققه مع النجاة والإسلام أيضاً، لكن من يقول بنجاة الوالدين لهم ثلاث مسالك في ذلك: مسلك أنهما ما بلغتهما الدعوة، ولا عذاب على من لم تبلغه الدعوة؛ لقوله تعالى: {وما كنا معذبين} [الإسراء:15] الخ، فلعل من سلك هذا المسلك يقول في تأويل الحديث: إن الاستغفار فرع تصور الذنب لهم، وذلك في أوان التكليف، ولا يعقل ذلك فيمن لم تبلغه الدعوة، فلا حاجة إلى الاستغفار لهم، فيمكن أنه ما شرع الاستغفار إلا لأهل الدعوة لا لغيرهم، وإن كانوا ناجين. وأما من يقول بأنهما أحييا له - صلى الله عليه وسلم - فآمنا به، فيحمل هذا الحديث على أنه كأنه قبل الإحياء. وأما من يقول بأنه تعالى يوفقهما للخير عند الامتحان يوم القيامة، فهو يقول بمنع الاستغفار لهما قطعاً، فلا حاجة له إلى تأويل، فاتضح وجه الحديث على جميع المسالك-انتهى كلام السندي. ولا يخفى ما في الوجوه الثلاثة من الضعف؛ لأن حديث إحياء أبويه - صلى الله عليه وسلم - ضعيف جداً، حتى حكم عليه بعض الأئمة بالوضع كالدارقطني والجوزقاني وابن الجوزي وابن دحية، وصرح بضعفه فقط غير واحد كابن شاهين والخطيب وابن عساكر والسهلي والمحب الطبري وابن سيد الناس، وقد اعترف

فزوروا القبور فإنها تذكر الموت)) . رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ بضعفه السيوطي أيضاً حيث قال: وروى ابن شاهين حديثاً مسنداً في ذلك لكن الحديث مضعف. وأما الآية الكريمة {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} فهي مكية، وزيارته - صلى الله عليه وسلم - لقبر أمه كانت عام الفتح. وقيل: عام الحديبية سنة ست من الهجرة. وقيل: الآية في حق الأمم السالفة السابقة خاصة. وقيل: المنفي فيها عذاب الاستئصال في الدنيا لا عذاب الآخرة. وقيل: المراد وما كنا معذبين في الأعمال التي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالشرع إلا بعد مجيء الشرع من أنواع العبادات والحدود. وأما القول بأنه تعالى يوفقهما للخير عند الامتحان في يوم القيامة فهي دعوى مجردة من غير برهان. فلا يلتفت إليه. قال النووي في شرح حديث أنس "إن رجلاً قال يا رسول الله! أين أبي؟ قال: في النار، قال: فلما قفى دعاه. فقال: إن أبي وأباك في النار، فيه أن من مات على الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو من أهل النار، وليس هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة. فإن هؤلاء قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم-انتهى. وهذا يدل على أن النووي يكتفي في وجوب الإيمان على كل أحد ببلوغه دعوة من قبله من الرسل، وإن لم يكن مرسلاً إليه، وإلى ذلك ذهب الحليمي، كما صرح به في منهاجه. وقال القاري: الجمهور على أن والديه - صلى الله عليه وسلم - ماتا كافرين، وهذا الحديث أصح ما ورد في حقهما. وأما قول ابن حجر: وحديث إحيائهما حتى آمنا به ثم توفيا حديث صحيح، وممن صححه الإمام القرطبي والحافظ ابن ناصر الدين، فعلى تقدير صحته لا يصلح أن يكون معارضاً لحديث مسلم، مع أن الحفاظ طعنوا فيه ومنعوا جوازه أيضاً بأن إيمان اليأس غير مقبول إجماعاً، كما يدل عليه الكتاب والسنة، وبأن الإيمان المطلوب من المكلف إنما هو الإيمان الغيبي. وقد قال تعالى: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} [الأنعام:28] . وهذا الحديث الصحيح صريح أيضاً في رد ما تثبت به بعضهم بأنهما كانا من أهل الفترة ولا عذاب عليهم مع اختلاف في المسألة. واعلم أن هذه المسألة كثير النزاع والخلاف بين العلماء، فمنهم من نص على عدم نجاة الوالدين كما رأيت في كلام القاري والنووي، وقد بسط الكلام في ذلك القاري في شرح الفقه الأكبر، وفي رسالة مستقلة له، ومنهم من شهد لهما بالنجاة كالسيوطي، وقد ألف في هذه المسألة سبع رسائل بسط الكلام فيها وذكر الأدلة من الجانبين. من شاء رجع إليها. والأسلم والأحوط عندي هو التوقف والسكوت. (فزوروا القبور فإنها) أي القبور أو زيارتها. (تذكر الموت) في مسلم: تذكركم الموت يعني وذكر الموت يزهد في الدنيا ويرغب في العقبى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه والحاكم (ج1:ص375) والبيهقي (ج4:ص76) وعزاه المجد ابن تيمية في المنتقى إلى الجماعة بدون استثناء، وهو وهم منه، فإن هذا الحديث من أفراد مسلم، ولم أجده في الترمذي أيضاً، ولا عزاه إليهما غيره كالجزري في جامع الأصول (ج11:ص439)

1779- (3) وعن بريدة، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر: السلام عليكم أهل الديار ـــــــــــــــــــــــــــــ والمنذري في مختصر السنن، والنابلسي في الذخائر (ج4:ص91) والنووي في شرح مسلم. قال ميرك: حديث أبي هريرة في زيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - قبر أمه ذكره الحافظ الكبير أبوالحجاج المزي في الأطراف، وهو لم يوجد في نسخ رواياتنا بالصحيح المشرقية. قال النووي في شرحه: هذا الحديث وجد في رواية أبي العلاء ابن ماهان لأهل المغرب، ولا يوجد في نسخة بلادنا من طريق عبد الغافر بن محمد الفارسي-انتهى. وقد رواه محي السنة من طريق عبد الغافر من صحيح مسلم، فلعله يوجد في بعض النسخ، ولولا ذلك لم يذكره المزي في الأطراف-انتهى. 1779- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمهم) أي الصحابة. (إذا خرجوا إلى المقابر) أي للزيارة أن يقولوا عند وصولهم إليها: (السلام عليكم) قال الطيبي: في محل النصب على أنه مفعول ثان لـ"يعلم"، أي يعلمهم كيفية التسليم على أهل المقابر، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يؤخرون السلام. قال الحماسي: عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ... ورحمته ما شاء أن يترحما فخالفهم وقدم السلام. قال الخطابي: فيه أن السلام على الموتى كما هو على الأحياء في تقديم الدعاء على الاسم أي في ابتداء السلام، ولا يقدم الاسم على الدعاء كما يفعله العامة، وكذلك في كل دعاء بخير. قال الله تعالى: {رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت} [هود:73] وقال سبحانه وتعالى {سلام على إلياسين} [صافات:130] . ولا يعارض هذا حديث جابر بن سليم عند أحمد وأبي داود والترمذي والنسائي قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: عليك السلام، فقال: لا تقل: عليك السلام، فإن عليك السلام تحية الميت؛ لأن فيه إشارة إلى ما جرت به العادة منهم في تحية الأموات وإخباراً عن الواقع لا المشروع، أي أن الشعراء وغيرهم يحيون الموتى بهذه اللفظة، فكره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحيا بتحية الأموات، والسنة لا تختلف في تحية الأحياء والأموات. وسيأتي بسط الكلام عليه في شرح حديث جابر بن سليم في باب فضل الصدقة. والذي في مسلم: كان يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر فكان قائلهم يقول: السلام عليكم ... الخ. وفي ابن ماجه: كان قائلهم يقول، أي بغير الفاء. قال السندي: قوله "كان قائلهم يقول" بدل من قوله "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمهم" للتنبيه على أنهم كانوا يعلمون بما يعلمهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والمراد أنه كان يعلمهم هذا الذكر، وكانوا يأتون به-انتهى. وذكره الجزري (ج11:ص442) نقلاً عن مسلم والنسائي بلفظ: كان يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم. (أهل الديار) بالنصب بتقدير حرف النداء. ويؤيده ما في الرواية الآتية بياء النداء. وقيل: نصبه على الاختصاص أفصح، وبالجر على البدل من الضمير. قال الطيبي: سمى - صلى الله عليه وسلم - موضع القبور داراً تشبيهاً له بدار الأحياء

{الفصل الثاني}

من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية)) . رواه مسلم. {الفصل الثاني} 1780- (4) عن ابن عباس، قال: ((مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبور بالمدينة، فأقبل عليهم بوجهه، فقال: السلام عليكم يا أهل القبور! يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ـــــــــــــــــــــــــــــ لاجتماع الموتى فيها. (من المؤمنين) بيان لأهل الديار. (والمسلمين) قال النووي: فيه أن المسلم والمؤمن قد يكونان بمعنى واحد، وعطف أحدهما على الآخر لاختلاف اللفظ، وهو بمعنى قوله تعالى: {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين. فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين} [الذاريات:35] ولا يجوز أن يكون المراد بالمسلم في هذا الحديث غير المؤمن؛ لأن المؤمن إن كان منافقاً لا يجوز السلام عليه والترحم-انتهى. (وإنا إن شاء الله بكم للاحقون) التقييد بالمشيئة على سبيل التبرك والتفويض وامتثال قوله تعالى: {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله} [الكهف:23] وقيل: المشيئة عائدة إلى الكون معهم في تلك التربة بعينها، يعني أن التعليق باعتبار اللحوق بخصوص أهل المقبرة. وقيل: أتى به لأن الموت على الإيمان والإسلام مشكوك فيه، فعلى هذا يكون خاصاً بالأمة، وأتى به - صلى الله عليه وسلم - تعليماً لهم، أو "إن" فيه بمعنى "إذ" كما في {وخافوني إن كنتم مؤمنين} [آل عمران:175] . (نسأل الله لنا ولكم العافية) أي الخلاص من المكاره. في الحديث دليل على استحباب التسليم على أهل القبر والدعاء لهم بالعافية. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج4:ص79) وزاد في رواية النسائي "أنتم لنا فرط ونحن لكم تبع"، وفي حديث عائشة عند ابن ماجه "اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم". 1780- قوله: (فأقبل عليهم بوجهه) أي على أهل القبور. قال القاري: فيه دلالة على أن المستحب في حال السلام على الميت أن يكون وجهه لوجه الميت، وأن يستمر كذلك في الدعاء أيضاً، وعليه عمل عامة المسلمين، خلافاً لما قاله ابن حجر من أن السنة عندنا أنه حالة الدعاء يستقبل القبلة، كما علم من أحاديث في مطلق الدعاء-انتهى. وفيه أن كثيراً من مواضع الدعاء ما وقع استقباله عليه الصلاة والسلام للقبلة. منها ما نحن فيه، ومنها حالة الطواف والسعي، ودخول المسجد وخروجه، وحال الأكل والشرب، وعيادة المريض وأمثال ذلك، فيتعين أن يقتصر الاستقبال وعدمه على المورد إن وجد، وإلا فخير المجالس ما استقبل كما ورد به الخبر-انتهى كلام القاري. (أنتم سلفنا) بفتحتين في النهاية هو من سلف المال، كأنه أسلفه وجعله ثمناً للأجر على الصبر عليه.

{الفصل الثالث}

ونحن بالأثر)) رواه الترمذي، قال: هذا حديث حسن غريب. {الفصل الثالث} 1781- (5) عن عائشة، قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلما كان ليلتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج من آخر الليل إلى البقيع، فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين! وأتاكم ما توعدون، غداً مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ـــــــــــــــــــــــــــــ وقيل: سلف الإنسان من تقدمه بالموت من الآباء وذوي القرابة، ولذا سمي صدر الأول من التابعين بالسلف الصالح-انتهى. (ونحن بالأثر) بفتحتين يعني تابعون لكم من وراءكم، لاحقون بكم. (رواه الترمذي) لم أجد من رواه غيره، ونسبه العيني في شرح البخاري (ج8ص69) إلى أحمد. (وقال) أي الترمذي. (هذا حديث حسن غريب) في سنده قابوس بن أبي ظبيان، وهو مختلف فيه. 1781- قوله: (كلما كان ليلتها) أي في آخر عمره بعد حجة الوداع، قاله السندي. (من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) "من" متعلق بالليلة بمعنى النصيب، أو المحذوف أي التي تخصها منه. قال الطيبي: "كلما" ظرف فيه معنى الشرط والعموم وجوابه. (يخرج) وهو العامل فيه. وهذا حكاية معنى قولها لا لفظها، أي كان من عادته أنه إذا بات عندها أن يخرج. (من آخر الليل) أي في آخره. (إلى البقيع) أي بقيع الغرقد، وهو موضع بظاهر المدينة فيه قبور أهلها. في النهاية: هو المكان المتسع، ولا يسمى بقيعاً إلا وفيه شجر أو أصولها، والغرقد شجر، والآن بقيت الإضافة دون الشجرة. وقال النووي: البقيع مدفن أهل المدينة، سمي بقيع لغرقد كان فيه، وهو ما عظم من العوسج. وفي الحديث فضيلة الدعاء آخر الليل وفضيلة زيارة قبور البقيع. (دار قوم) دار منصوب على النداء. والتقدير: يا أهل دار قوم، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، وقيل الدار مقحم. (وأتاكم) بالقصر أي جاءكم. قال ابن الملك: وإنما قال أتاكم؛ لأن ما هو آت كالحاضر-انتهى. أو لتحققه كأنه وقع. (ما توعدون) أي ما كنتم توعدون به من الثواب أو أعم منه ومن العذاب. (غداً) هو متعلق بما قبله، ويحتمل تعلقه بما بعده وهو قوله: (مؤجلون) أي أنتم مؤخرون وممهلون إلى غد باعتبار أجوركم استيفاء واستقصاء، فالجملة مستأنفة مبينة أن ما جاءهم من الموعود أمور إجمالية لا أجور تفصيلية. قال الطيبي: إعرابه مشكل إن حمل على الحال المؤكدة من واو توعدون على حذف الواو والمبتدأ كان فيه شذوذان. قال ابن حجر: وهو سائغ إذا دل عليه السياق، كما هنا. قال الطيبي: ويجوز حمله على الإبدال من "ما توعدون" أي أتاكم ما تؤجلونه أنتم، والأجل الوقت

اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد)) رواه مسلم. 1782- (6) وعنها، قالت: ((كيف أقول يا رسول الله؟ تعني في زيارة القبور، قال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون)) رواه مسلم. 1783- (7) وعن محمد بن النعمان، يرفع الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((من زار قبر أبويه أو أحدهما في كل جمعة، غفر له وكتب براً)) ـــــــــــــــــــــــــــــ المضروب والمحدود في المستقبل؛ لأن ما هو آت بمنزلة الحاضر-انتهى. قال القاري: وهو كما قال ابن حجر بعيد تكلف جداً، بل السياق ينبو عنه-انتهى. ورواه النسائي بلفظ: وإنا وإياكم متواعدون غداً ومتواكلون. قال السندي: متواعدون أي كان كل منا ومنكم وعد صاحبه حضور غد، أي يوم القيامة، ومتواكلون أي متكل بعضهم على بعض في الشفاعة والشهادة، والله تعالى أعلم. (اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد) أي مقبرة المدينة، وفيه الدعوة الإجمالية على وجه العموم كافية. (رواه مسلم) وأخرجه النسائي والبيهقي أيضاً. 1782- قوله: (تعني) أي تريد عائشة رضي الله عنها بالسؤال كيفية المقال، وهذا تفسير من المصنف. (من المؤمنين والمسلمين) فيه تغليب الرجال على النساء. (المستقدمين) أي الذين تقدموا علينا بالموت. (منا) أي معشر المؤمنين. (والمستأخرين) أي المتأخرين في الموت، والسين فيها لمجرد التأكيد لا للطلب، أي الأموات منا والإحياء، وفي الحديث دليل لمن جوز للنساء زيارة القبور عند وجود الشروط المعتبرة في حقهن. (رواه مسلم) وأخرجه النسائي والبيهقي أيضاً. 1783- قوله: (وعن محمد بن النعمان) الظاهر أنه محمد بن النعمان بن بشير الأنصاري أبوسعيد، ثقة من كبار التابعين. (يرفع الحديث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي بإسقاط الصحابي أو من دونه. (أو أحدهما) عطف على أبويه أي أو قبر أحدهما. (في كل جمعة) أي في كل يوم جمعة أو في كل أسبوع، ويؤيد الأول رواية ابن عدي من حديث أبي بكر بلفظ: من زار قبر والديه أو أحدهما يوم الجمعة. (غفر له) ذنوبه الصغائر. (وكتب براً) بفتح الباء أي كان باراً بهما غير عاق بتضييع حقهما، فعدل منه إلى قوله "كتب" لمزيد الإثبات، وأنه من الراسخين ثبت في ديوان الأبرار، ومنه قوله تعالى: {فاكتبنا مع الشاهدين} [آل عمران: 53] . وفيه استحباب زيارة قبر الوالدين في

رواه البيهقي في شعب الإيمان مرسلاً. 1784- (8) وعن ابن مسعود، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، فإنها تزهد في الدنيا، وتذكر الآخرة)) رواه ابن ماجه. 1785- (9) وعن أبي هريرة: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن زوّارات القبور)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ يوم الجمعة لكن الحديث مرسل، وكل ما يروي في ذلك ضعيف. (رواه البيهقي في شعب الإيمان مرسلاً) تقدم معنى المرسل، ولم أقف على إسناد هذا الحديث، فلا أدري كيف حاله. وفي الباب عن أبي بكر عند ابن عدي بإسناد ضعيف، وعن أبي هريرة عند الحكيم الترمذي وإسناده أيضاً ضعيف، قاله العزيزي في شرح الجامع الصغير. وحديث أبي هريرة عزاه الهيثمي في مجمع الزوائد (ج4ص59) إلى الطبراني في الأوسط والصغير وقال: وفيه عبد الكريم أبوأمية وهو ضعيف-انتهى. وروى الحاكم (ج1ص377) والبيهقي (ج3ص78) من حديث الحسين، أن فاطمة كانت تزور قبر عمها حمزة كل جمعة. قال الحاكم: رواته ثقات، وتعقبه الذهبي فقال: هذا منكر جداً، وسليمان بن داود ضعيف. 1784- قوله: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور) خوفاً عليكم من فعل الجاهلية من الجزع والنوح وذكر ما لا ينبغي في ابتداء إسلامكم، والآن استحكم فيكم الإسلام وصرتم أهل التقوى. (فزوروها) ندباً، ففيه جمع بين الناسخ والمنسوخ. (فإنها) أي زيارة القبور أو القبور أي رؤيتها. (تزهد في الدنيا) أي ترغب عنها وتحمل على التقليل منها. (وتذكر الآخرة) وتعين على الاستعداد لها. (رواه ابن ماجه) قال المنذري في الترغيب: بإسناد صحيح، وقال الحافظ في التلخيص: في إسناده أيوب بن هانىء، وهو مختلف فيه، وقال في الزوائد: إسناده حسن، وأيوب بن هانىء قال ابن معين: ضعيف، وقال أبوحاتم: صالح، وذكره ابن حبان في الثقات-انتهى. وأخرجه الحاكم (ج1ص375) والبيهقي (ج4ص77) وسكت عنه الحاكم، وقال الذهبي: أيوب ضعفه ابن معين-انتهى. والظاهر أن الحديث حسن الإسناد، كما قال البوصيري. 1785- قوله: (زوّرات القبور) قال القاري: لعل المراد كثيرات الزيارة، وقال القرطبي: حمل بعضهم حديث الترمذي في اللعن على من يكثر الزيارة منهن؛ لأن زوّارات للمبالغة، ويمكن أن يقال أن النساء إنما يمنعن من إكثار الزيارة لما يؤدي إليه الإكثار من تضييع حقوق الزوج والتبرج والشهرة، والتشبه بمن يلازم القبور لتعظيمها، ولما يخاف عليها من الصراخ وغير ذلك من المفاسد، وعلى هذا يفرق بين الزائرات والزوارات، ذكره العيني.

رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال: قد رأى بعض أهل العلم أن هذا كان قبل أن برخص النبي - صلى الله عليه وسلم - في زيارة القبور، فلما رخص دخل في رخصته الرجال والنساء. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال السيوطي: زوّارات جمع زوارة بمعنى زائرة. قلت: ويؤيده حديث ابن عباس عند أحمد وأبي داود والنسائي بلفظ "زائرات القبور"، فإنه يدل على أنه لا فرق بين الزائرات والزوارات، وأن الزوارات بمعنى الزائرات، وعلى هذا يمكن أن يقال: إن اللعن محمول على زيارتهم بما لا يجوز كالتبرج والجزع والصياح وغير ذلك مما لا ينبغي، وأما إذا أمن جميع ذلك فلا مانع من الإذن لهن؛ لأن الزيارة عللت بتذكير الموت، ويحتاج إليه الرجال والنساء جميعاً. قال القاري بعد ذكر الأحاديث التي وردت في الرخصة في زيارة القبور: وقد عللت الزيارة فيها بأنها ترق القلب وتدمع العين وتذكر الآخرة والموت، وبأن فيها عبرة ما لفظه هذه الأحاديث بتعليلاتها تدل على أن النساء كالرجال في حكم الزيارة إذا زرن بالشروط المعتبرة في حقهن، وأما خبر: لعن الله زوّارات القبور، فمحمول على زيارتهن لمحرم كالنوح وغيره مما اعتدنه-انتهى. وقال القرطبي: وقد يقال: إذا أمن جميع ذلك (أي تضييع حق الزوج والتبرج وما ينشأ من الصياح ونحو ذلك) فلا مانع من الإذن لهن؛ لأن تذكر الموت يحتاج إليه الرجال والنساء-انتهى. قال الشوكاني: وهذا الكلام هو الذي ينبغي اعتماده في الجمع بين أحاديث الباب المتعارضة في الظاهر-انتهى. (رواه أحمد والترمذي وابن ماجه) وأخرجه ابن حبان والبيهقي (ج4ص78) أيضاً. وفي الباب عن ابن عباس، وقد تقدم في باب المساجد. وعن حسان بن ثابت، أخرجه أحمد وابن ماجه والحاكم والبيهقي. (وقال) أي الترمذي. (قد رأى) أي اعتقد. (بعض أهل العلم أن هذا) أي اللعن. (كان قبل أن يرخص النبي - صلى الله عليه وسلم - في زيارة القبور، فلما رخص دخل في رخصته الرجال والنساء) ، قال الحافظ في الفتح: وهو قول الأكثر، ومحله ما إذا أمنت الفتنة، وممن حملهن الإذن على عمومه للرجال والنساء عائشة عنه كما تقدم في آخر باب دفن الميت. قال الشوكاني: استدل القائلون بالجواز بأدلة منها: دخولهن تحت الإذن العام بالزيارة، ويجاب عنه بأن الإذن العام مخصص بهذا النهي الخاص المستفاد من اللعن، إما على مذهب الجمهور فمن غير فرق بين تقدم العام وتأخره ومقارنته وهو الحق، وإما على مذهب البعض القائلين بأن العام المتأخر ناسخ فلا يتم الاستدلال به إلا بعد معرفة تأخره منها-انتهى. وقال شيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي (ج2ص138) : النهي ورد خاصاً بالنساء، والإباحة لفظها عام، والعام لا ينسخ الخاص، بل الخاص حاكم عليه ومقيد له. قال الشوكاني: ومنها ما رواه مسلم عن عائشة قالت: كيف أقول يا رسول الله إذا زرت القبور؟ قال: قولي السلام على

وقال بعضهم: إنما كره زيارة القبور للنساء لقلة صبرهن وكثرة جزعهن. تم كلامه. 1786- (10) وعن عائشة، قالت: ((كنت أدخل بيتي الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإني واضع ثوبي، وأقول: إنما هو زوجي وأبي، فلما دفن عمر معهم، فوالله ما دخلته إلا أنا مشدودة عليّ ثيابي حياءً من عمر)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ أهل الديار الخ. (وهو ثاني أحاديث الفصل الثالث من هذا الباب) ، ومنها ما أخرجه البخاري: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرّ بامرأة تبكي عند قبر، فقال: اتقي الله واصبري، قالت: إليك عني-الحديث. (وقد تقدم في باب البكاء) ، ومنها ما رواه الحاكم أن فاطمة بنت محمد - صلى الله عليه وسلم - كانت تزور قبر عمها حمزة كل جمعة الخ. قلت: هذا حديث ضعيف منكر كما تقدم عن الذهبي. (وقال بعضهم: إنما كره) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وروي بصيغة المجهول، قاله القاري. (زيارة القبور للنساء لقلة صبرهن وكثرة جزعهن) يعني بقيت النساء تحت النهي لقلة صبرهن وكثرة جزعن، قال السندي: وهو الأقرب إلى تخصيصهن بالذكر في أحاديث اللعن. وأجاب القائلون بالجواز عن هذه الأحاديث بأنها محمولة على زيارتهن لمحرم كالنوح وغيره، كما تقدم عن القرطبي والشوكاني والقاري. وبهذا تجمع الأحاديث المتخالفة في الظاهر، وهو الراجح عندي. والله تعالى أعلم. (تم كلامه) أي قال المصنف: تم كلام الترمذي. 1786- قوله: (بيتي الذي فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي قبره أو دفن فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي مسند الإمام أحمد (ج6ص202) : بيتي الذي دفن فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي. (وإني واضع) بالتنوين، والظاهر واضعة، فكأنه نزل منزلة الحائض، أو التذكير باعتبار الشخص، ويجوز إضافته إلى قولها: (ثوبي) أي بعض ثيابي، ولذا أفرد هنا وجمع فيما سيأتي، وفي المسند: فأضع ثوبي، بلفظ المتكلم من المضارع. (وأقول) وفي المسند: فأقول، أي في نفسي لبيان عذر الوضع. وقال الطيبي: القول بمعنى الاعتقاد، وهو كالتعليل لوضع الثوب. (إنما هو) أي الكائن هنا. (زوجي وأبي) أي إنما هو زوجي والآخر أبي، والضمير للشأن، أي إنما الشأن زوجي وأبي مدفونان فيه، أو الضمير للبيت، أي إنما هو مدفن زوجي وأبي على تقدير مضاف. (فلما دفن عمر معهم) فيه اختيار أن أقل الجمع اثنان. (فوالله ما دخلته إلا وأنا مشدودة عليّ ثيابي حياءً من عمر) فيه أنه ينبغي احترام الميت عند زيارة قبره كاحترامه حياً. قال الطيبي: في الحديث دليل بيّن على أنه يجب احترام أهل القبور، وتنزيل كل منزلته ما هو عليه في حياته من مراعاة الأدب معهم على قدر مراتبهم، والله أعلم- انتهى. وقد روى ابن أبي الدنيا في كتاب القبور عن سليم بن غفر أنه مر على مقبرة وهو حاقن قد غلبه البول، فقيل له: لو نزلت فبلت، قال: سبحان الله، والله إني لأستحي

رواه أحمد. ـــــــــــــــــــــــــــــ من الأموات كما أستحي من الأحياء، ذكره القاري. (رواه أحمد) (ج6ص202) قال: ثنا حماد بن أسامة قال: أنا هشام عن أبيه عن عائشة قالت: كنت أدخل الخ. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج8ص26) : رجاله رجال الصحيح. هذا آخر كتاب الجنائز، وقد بقيت أحكام ومسائل كثيرة تتعلق بالميت والمحتضر محل ذكرها وبسطها كتب الفقه والفتاوى، من شاء الوقوف عليها رجع إلى المغني لابن قدامة وغيره من الكتب المؤلفة في الجنائز والمحتضر خاصة، ولشيخنا الأجل المباركفوري تأليف متوسط في هذا الموضوع في الأردوية سماه كتاب الجنائز، وقد رتبه على مقدمة وعشرة أبواب، قد استوعب فيها أحكام الجنائز ومسائلها، وهو مفيد جداً، لم يصنف مثله في اللغة الأردوية، وقد طبع مرتين. بعون الله وحسن توفيقه تم الجزء الخامس من مشكاة المصابيح مع شرحه مرعاة المفاتيح، ويليه الجزء السادس إن شاء الله تعالى، وأوله "كتاب الزكاة".

(6) كتاب الزكاة

بسم الله الرحمن الرحيم (6) كتاب الزكاة ـــــــــــــــــــــــــــــ (كتاب الزكاة) قال الحافظ: هي الركن الثالث من الأركان التي بني الإسلام عليها، كما تقدم في كتاب الإيمان، وهو أمر مقطوع به في الشرع، يستغنى عن تكلف الاحتجاج له، وإنما وقع الاختلاف في بعض فروعها. وأما أصل فرضية الزكاة فمن جحدها كفر- انتهى. وهي في اللغة: النماء أي الزيادة والتطهير. والزكاة موجبة لنماء المال وطيبه وطهارته، ونماء أجر صاحبه وطهارته من الذنوب. وتطلق على المال المؤدي، وعلى أدائه على الوجه المخصوص المعتبر في الشرع. والأصل في شرعية الزكاة والصدقة: مرعاة الفقراء ومواساتهم. قال ابن دقيق العيد: الزكاة في اللغة لمعنيين: أحدهما النماء، والثاني الطهارة، فمن الأول قولهم: زكى الزرع، ومن الثاني قوله تعالى: {وتزكيهم بها} [التوبة:103] وسمي هذا الحق زكاة بالاعتبارين: أما الأول فبمعنى أن يكون إخراجها سبباً للنماء في المال كما صح ما نقص مال من صدقة وجه الدليل منه أن النقصان محسوس بإخراج القدر الواجب، فلا يكون غير ناقص إلا بزيادة تبلغه إلى ما كان عليه على المعنيين جميعاً أعنى المعنوي والحسي في الزيادة أو بمعنى أن متعلقها الأموال ذات النماء (كالتجارة والزراعة) أو بمعنى تضعيف أجورها، كما جاء أن الله يربي الصدقة حتى تكون كالجبل وأما بالمعنى الثاني فلأنها طهرة للنفس من رذيلة البخل، أو لأنها تطهر من الذنوب، وهذا الحق أثبته الشارع لمصلحة الدافع والآخذ معا. أما في حق الدافع فتطهيره وتضعيف أجوره. وأما في حق الآخذ فلسد خلته- انتهى. وقال الشامي: ولها معان آخر: البركة. يقال: زكت البقعة إذا بورك فيها، والمدح يقال: زكى نفسه إذا مدحها، والثناء الجميل يقال: زكى الشاهد إذا أثنى عليه، وكلها توجد في المعنى الشرعي، لأنها تطهر مؤديها من الذنوب ومن صفة البخل، والمال بإنفاق بعضه، ولذا كان المدفوع مستقذراً فحرم على آل البيت خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وتنميه بالخلف، وما أنفقتم من شئ فهو يخلفه ويربي الصدقات، وبها تحصل البركة، لا ينقص مال من صدقة، ويمدح بها الدافع ويثنى عليه بالجميل والذين هم للزكاة فاعلون، قد أفلح من تزكى وهي شرعاً على مذهب الحنفية. تمليك جزء مال عينه الشارع من مسلم فقير غير هاشمي ولا مولاه مع قطع المنفعة عن المملك من كل وجه لله تعالى، كذا في الدر المختار. وقال ابن العربي: تطلق الزكاة على الصدقة (الواجبة والمندوبة) وعلى الحق والنفقة والعفو عند اللغويين، وهي شرعاً إيتاء جزء من النصاب الحولي

إلى فقير ونحوه غير هاشمي. ثم لها ركن وسبب وشرط، وحكم حكمة، فركنها جعلها الله تعالى بالإخلاص وسببها المال. وشرطها نوعان: شرط السبب، وشرط من تجب عليه، فالأول ملك النصاب الحولي، والثاني العقل والبلوغ والحرية. وحكمها سقوط الواجب في الدنيا، وحصول الثواب في الآخرة. وحكمتها كثيرة: منها التطهير من أدناس الذنوب والبخل، ومنها ارتفاع الدرجة والقربة، ومنها الإحسان إلى المحتاجين، ومنها استرقاق الأحرار، فإن الإنسان عبيد الإحسان- انتهى. قال الحافظ: هو جيد، لكن في شرط من تجب عليه الاختلاف- انتهى. وإن شئت الوقوف على مصالح فرضية الزكاة والحكم المرعية في وجوبها في الأصناف الأربعة دون غيرها من المال، واختلاف مقاديرها وتعيين النصاب في أنواع المال، فعليك أن ترجع إلى كتب أسرار الشريعة مثل حجة الله البالغة (ج2:ص30،29) للشاه ولي الله الدهلوي، والهدى (ج1:ص152،151) والإعلام (ج1:ص182، 183) للإمام ابن القيم. وأسرار الشريعة الإسلامية للشيخ إبراهيم أفندي. وأعلم أنه اختلف في أول وقت فرض الزكاة، فذهب الأكثر إلى أنه وقع بعد الهجرة، وقال ابن خزيمة في صحيحة: إن فرضها كان قبل الهجرة. واحتج بما أخرجه من حديث أم سلمة في قصة هجرتهم إلى الحبشة، وفيها أن جعفر بن أبي طالب قال للنجاشي في جملة ما أخبر به عن النبي صلى الله عليه وسلم: ويأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. قال الحافظ: في استدلاله بذلك نظر، لأن الصلوات الخمس لم تكن فرضت بعد ولا صيام رمضان، فيحتمل أن تكون مراجعة جعفر لم تكن في أول ما قدم على النجاشي، وإنما أخبره بذلك بعد مدة قد وقع فيها ما ذكر من قصة الصلاة والصيام وبلغ ذلك جعفراً، فقال: يأمرنا بمعنى يأمر به أمته، وهو بعيد جداً. وأولى ما حمل عليه حديث أم سلمة هذا إن سلم من قدح في إسناده: أن المراد بقوله يأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام أي في الجملة ولا يلزم من ذلك أن يكون المراد بالصلاة والصلوات الخمس، ولا بالصيام صيام رمضان، ولا بالزكاة هذه الزكاة المخصوصة ذات النصاب والحول-انتهى. واختلف الأولون فقيل: كان فرضها في السنة الثانية قبل فرض رمضان، أشار إليه النووي في الروضة، وجزم ابن الأثير في التاريخ بأن ذلك كان في التاسعة. قال الحافظ: وفيه نظر، لأنها ذكرت في حديث ضمام بن ثعلبة، وفي حديث وفد عبد القيس، وفي عدة أحاديث، وكذا في مخاطبة أبي سفيان مع هرقل، وكانت في أول السابعة. وقال فيها يأمرنا بالزكاة، ووقع في تاريخ الإسلام في السنة الأولى فرضت الزكاة. قلت: قال الحافظ ابن كثير في تفسير المزمل تحت قوله تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} [المزمل:20] وهذا يدل لمن قال بأن فرض الزكاة نزل بمكة لكن مقادير النصب والمخرج لم تبين إلا بالمدينة- والله أعلم. وقال القاري: المعتمد أن الزكاة فرضت بمكة إجمالاً، وبينت بالمدينة تفصيلاً، جمعا بين الآيات التي تدل على

*

{الفصل الأول} 1787- (1) عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن، ـــــــــــــــــــــــــــــ فرضيتها بمكة وغيرها من الآيات والأدلة- انتهى. قلت: وهذا هو الراجح، بل هو المتعين عندي، والله تعالى أعلم: قال الشيخ محمد الخضري في تاريخ الأمم الإسلامية: مما فرض بمكة الزكاة، فأنا قلما نجد من الأوامر المكية ذكر الصلاة إلا وبجانبه إيتاء الزكاة وطلبت زكاة ما يخرج من الأرض في سورة الأنعام {وآتوا حقه يوم حصاده} [الأنعام:141] إلا أن هذه الحقوق الواجبة لم تفصل بمكة، فقد كان ذلك موكولا لما في النفوس من الجود وبحسب حاجة الناس. وقال صاحب تفسير المنار فرضت الزكاة المطلقة بمكة في أول الإسلام، وترك أمر مقدارها ودفعها إلى الشعور المؤمنين وأريحتهم ثم فرض مقدارها من كل أنواع الأموال في السنة الثانية من الهجرة على المشهور. وقيل: في الأولى، ذكره الذهبي في تاريخ الإسلام، وكانت تصرف للفقراء، كما قال تعالى في سورة البقرة {إن تبدو الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} : [271] وقد نزلت في السنة الثانية، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: تؤخذ من أغنياءهم فترد على فقراءهم، ثم نزلت هذه المصارف السبع أو الثمان في سنة تسع، فتوهم بعض العلماء أن فرض الزكاة كانت في هذه السنة، قال: والحكمة فيما ذكر: أن تعيين المقادير، وقيام أولى الأمر بتحصيلها وتوزيعها على من فرضت لهم، وتعدد أصنافهم: كل ذلك إنما وجد بوجود حكومة إسلامية تناطيها مصالح الأمة في دينها ودنياها في دار تسمى دار الإسلام، لأن أحكامها تنفيذ فيها بسلطانه، وكانت أول دار الإسلام دار الهجرة، إذا كانت مكة دار كفر وحرب لا ينفذ فيها للإسلام حكم، بل لم يكن لأحد من أهله فيها حرية الجهر بالصلاة إلا بحماية قريب أو جار من المشركين- انتهى. 1787-قوله: (بعث معاذاً) بضم الميم (إلى اليمن) كان بعثه إليها سنة عشر قبل حجة الوداع، كما ذكره البخاري في أواخر المغازي. وقيل: كان ذلك في أواخر سنة تسع عند إنصرافه صلى الله عليه وسلم من تبوك، رواه الواقدي بإسناده إلى كعب بن مالك وأخرجه ابن سعد في الطبقات عنه، ثم حكي ابن سعد أنه كان في ربيع الآخر سنة عشر. وقيل: بعثه عام الفتح سنة ثمان. واتفقوا على أنه لم يزل على اليمن إلى أن قدم في عهد أبي بكر، ثم توجه إلى الشام فمات بها. واختلف هل كان معاذ والياً أو قاضياً؟ فجزم الغساني بالأول، وابن عبد البر بالثاني. قال في الاستيعاب: بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضياً إلى الجند باليمن يعلم الناس القرآن وشعائر الإسلام ويقضي بينهم، وجعل إليه قبض الصدقات من العمال الذين باليمن، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قسم اليمن على خمسة رجال، خالد بن سعيد على صنعاء، والمهاجر بن أبي أمية على كندة، وزياد بن لبيد على حضر موت،

فقال: ((إنك تأتي قوم أهل كتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فإن هم أطاعوا لذلك، ـــــــــــــــــــــــــــــ ومعاذ بن جبل على الجند، وأبي موسى الأشعري على زبيد وزمعة وعدن والساحل- انتهى. قال الحافظ: ولمعاذ بالجند مسجد مشهور إلى اليوم (إنك تأتي قوما أهل كتاب) بنصب "أهل" بدلا من "قوما" لا صفة، وروى أحمد (ج5:ص235) عن معاذ قال: لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، خرج معه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوصيه ومعاذ راكب الخ. فقوله إنك تأتي قوماً أهل كتاب كالتوطئة والتمهيد للوصية لتستجمع وتقوى همته في الدعاء لهم لكون أهل الكتاب أهل علم في الجملة، فلا تكون العناية في مخاطبتهم كمخاطبة الجهال من عبدة الأوثان، وليس فيه أن جميع من يقدم عليهم من أهل الكتاب، بل يجوز أن يكون فيهم من غيرهم، وإنما خصهم بالذكر تفضيلاً لهم أو تغليًا على غيرهم (فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) وقعت البداءة في المطالبة بالشهادتين، لأنهما أصل الدين الذي لا يصح شئ من فروعه إلا بهما، فمن كان منهم غير موحد على التحقيق، فالمطالبة متوجهة إليه بكل واحدة من الشهادتين على التعيين، ومن كان موحداً فالمطالبة له بالجمع بين ما أقر به من التوحيد وبين الإقرار بالرسالة وإن كانوا يعتقدون ما يقتضي الإشراك أو يستلزمه كمن يقول بنبوة عزيز أو يعتقد التشبيه، فتكون مطالبتهم بالتوحيد لنفي ما يلزم من عقائدهم، واستدل بذلك على أنه لا يكفي في الإسلام الإقتصار على شهادة أن لا إله إلا الله حتى يضيف الشهادة لمحمد بالرسالة وهو قول الجمهور (فإن هم أطاعوا) أي انقادوا (لذلك) أي للإتيان بالشهادتين. ولابن خزيمة: فإن هم أجابوا لذلك. واستدل به على أن الكفار غير مخاطبين بالفروع. حيث أمر بالدعاء أولاً إلى الإيمان فقط، وجعل الدعاء إلى الفروع بعد إجابتهم إلى الإيمان. وتعقب بأن الترتيب في الدعاء لا يلزم منه الترتيب في الوجوب. ألا ترى أن الصلاة والزكاة لا ترتيب بينهما في الوجوب وقد قدمت الصلاة على الزكاة في هذا الحديث، وأخر الإخبار بوجوب الزكاة عن الطاعة بالصلاة مع أنهما مستويتان في الخطاب للوجوب. وقال السندي: قوله: فادعهم إلى شهادة الخ. أي فأدعهم بالتدريج إلى ديننا شيئاً فشيئاً ولا تدعهم إلى كله دفعة لئلا يمنعهم من دخولهم فيه ما يجدون فيه من كثرة مخالفة لدينهم فإن مثله قد يمنع من الدخول ويورث التنفر لمن أخذ قبل على دين آخر بخلاف من لم يأخذ على آخر، فلا دلالة في الحديث على أن الكافر غير مكلف بالفروع، كيف! ولو كان ذاك مطلوبا للزم أن التكليف بالزكاة بعد الصلاة، وهذا باطل بالإتفاق- انتهى. قال النووي: أعلم أن المختار أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة المأمور به والمنهى عنه، هذا قول المحققين والأكثرين. وقيل: ليسوا مخاطبين. وقيل: مخاطبون بالمنهى دون المأمور. وقال العيني

فأعلمهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوا لذلك، ـــــــــــــــــــــــــــــ قال شمس الأئمة في كتابه في فصل بيان موجب الأمر في حق الكفار: لا خلاف أنهم مخاطبون بالإيمان، ولا خلاف أنهم مخاطبون بالمشروع من العقوبات، ولا خلاف أن الخطاب بالمعاملات يتناولهم أيضاً، ولا خلاف أن الخطاب بالشرائع يتناولهم في حكم المؤاخذة في الآخرة. فأما في وجوب الأداء في أحكام الدنيا، فمذهب العراقيين من أصحابنا: أن الخطاب يتناولهم أيضاً، والأداء واجب عليهم، ومشائخ ديارنا يقولون أنه لا يخاطبون بأداء ما يحتمل السقوط من العبادات- انتهى. وقال ابن عابدين في رد المختار في بحث الجزية نقلا عن شرح المنار لصاحب البحر إن الكفار مخاطبون بالإيمان وبالعقوبات سوى حد الشرب والمعاملات. وأما العبادات فقال السمرقنديون: إنهم غير مخاطبين أداء واعتقاداً. وقال البخاريون: إنهم غير مخاطبين بهما أداء فقط. وقال العراقيون: إنهم مخاطبون بهما فيعاقبون عليهما، وهو المعتمد- انتهى. قال صاحب فتح الملهم بعد ذكر هذا كله: ويؤيد هذا الأخير قوله تعالى: {وويلٌ المشركين الذي لا يؤتون الزكاة} : [حم السجدة:6] و {قالوا لم نكن من المصلين} : [المدثر: 43] الآيتين، فتحصل من هذا كله أن الكفار يعاقبون على ترك اعتقاد الصلاة مثلاً وترك أداءها كليهما عند من قال بتعلق الخطاب بهم في الدنيا اعتقاداً وأداءاً، وإن لم يجب عليهم قضاء الصلوات بعد الإسلام عند أحد ويعاقبون على ترك الاعتقاد فقط عند من قال بتعلق الخطاب اعتقاداً لا أداءاً، ولا يعاقبون على ترك واحد منهما عند الشرذمة القائلة بعدم تعلق الخطاب بهم أصلاً إلا بسبب ترك الإيمان بالتوحيد والرسالة، فالنزاع تحققه بحسب تعلق الخطاب في الدنيا وتبينه وظهور آثاره في الآخرة- انتهى. (فأعلمهم) بفتح الهمزة من الإعلام بمعنى الأخبار (أن الله) بفتح الهمزة لأنها في محل نصب، مفعول ثان للإعلام، والضمير مفعول أول (خمس صلوات) قال السندي، هذا يدل على عدم وجوب الوتر، كما عليه الجمهور والصاحبان من علمائنا الحنفية. قلت: وهذا ظاهر، لأن بعث معاذ إلى اليمن كان قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بقليل. والقول بأنه يحتمل أنه ثبت وجوب الوتر بعد ذلك مما لا يلتفت إليه، لأنه احتمال ناشي من غير دليل (فإن هم أطاعوا لذلك) بأن أقروا بوجوب الخمس عليهم أو فعلوها. قال ابن دقيق العيد: طاعتهم في الصلاة يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون المراد إقرارهم بوجوبها عليهم وإلتزامهم لها. والثاني أن يكون المراد الطاعة بالفعل وأداء الصلاة. وقد يرجح الأول بأن المذكور في لفظ الحديث هو الإخبار بالفرضية، فتعود الإشارة إليها. ويترجح الثاني بأنهم لو أخبروا بالوجوب فبادروا إلى الإمتثال بالفعل لكفى، ولم يشترط التلفظ بالإقرار بخلاف الشهادتين، فالشرط عدم الإنكار، والإذعان للوجوب - انتهى. قال الحافظ: والذي يظهر أن المراد القدر المشترك بين الأمرين، فمن امتثل بالإقرار أو بالفعل كفاه أو بهما فأولى وقد وقع في رواية الفضل بن العلاء بعد ذكر الصلاة فإذا صلوا، وبعد ذكر الزكاة، فإذا أقروا بذلك فخذ منهم

فأعلمهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنياءهم فترد على فقراءهم ـــــــــــــــــــــــــــــ (فأعلمهم) أي فأخبرهم (أن الله قد فرض عليهم صدقة) أي زكاة في أموالهم. قيل: الحكمة في ترتيب الزكاة على الصلاة: أنهم إذا أجابوا إلى الشهادتين ودخلوا بذلك في الإسلام، ولم يطيعوا لوجوب الصلاة بل جحدوها، كان ذلك كفراً وردة عن الإسلام بعد دخولهم فيه، فصار ما لهم فيئاً، فلا يؤمرون بالزكاة، بل يقتلون. وقال الخطابي: أخر ذكر الصدقة عن ذكر الصلاة، لأنها إنما تجب على قوم دون قوم، وإنما لا تكرر تكرر الصلاة. قال الحافظ: هذا حسن. وتمامه أن يقال: بدأ بالأهم فالأهم، وذلك من التلطف في الخطاب، لأنه لو طالبهم بالجميع في أول مرة لم يأمن النفرة (تؤخذ من أغنياءهم) قال الحافظ: استدل به على أن الإمام هو الذي يتولى قبض الزكاة وصرفها إما بنفسه وإما بنائبه، فمن امتنع منها أخذت منه قهراً. وقال ابن دقيق العيد: قد يستدل به على وجوب إعطاء الزكاة للإمام، لأنه وصف الزكاة بكونها مأخوذة من الأغنياء، فكل ما أقتضى خلاف هذه الصفة فالحديث ينفيه- انتهى. وقيل، حديث معاذ في صدقة السوائم وفي العشر ونحوهما. وأما الذهب والورق فإن أدى زكاتهما خفية يجزئه. قال الحافظ: قد أطبق الفقهاء بعد ذلك على أن لأرباب الأموال الباطنة مباشرة الإخراج. وشذ من قال بوجوب الدفع إلى الإمام - انتهى. قلت: يحتاج إلى الفرق بين الأموال الظاهرة والباطنة في ذلك إلى دليل قوى يعتمد عليه. والظاهر عندي أن ولاية أخذ الزكاة إلى الإمام ظاهرة وباطنة، فإن لم يكن إمام فرقها المالك في مصارفها. وقد حقق ذلك الشوكاني في السيل الجرار بما لا مزيد عليه فليرجع إليه (فترد على فقراءهم) خصم بالذكر، وإن كان مستحق الزكاة أصنافا أخر لمقابلة الأغنياء ولاحتمال أن يكون الفقراءهم الأغلب. واستدل به من لا يرى جواز نقل الزكاة عن بلد المال، لأن الضمير في فقراءهم يعود على أهل اليمن فيدل على وجوب صرف الزكاة إلى فقراء من أخذت منهم، وعدم جواز إخراجها إلى غيرهم إلا لضرورة كعدم فقير فيهم. قال الإسماعيلي: ظاهر الحديث أن الصدقة ترد على فقراء من أخذت من أغنياءهم-انتهى. وقد ترجم البخاري لهذا الحديث "باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا " قال ابن المنير: اختار البخاري جواز نقل الزكاة من بلد المال لعموم قوله: فترد في فقراءهم، لأن الضمير يعود للمسلمين، فأي فقير منهم ردت فيه الصدقة، في أي جهة كان، فقد وافق عموم الحديث - انتهى. قال الحافظ: والذي يتبادر إلى الذهن من هذا الحديث عدم النقل، وأن الضمير يعود على المخاطبين، فيختص بذلك فقراءهم. لكن رجح ابن دقيق العيد الأول، وقال: وإنه وإن لم يكن الأظهر إلا أنه يقويه أن أعيان الأشخاص المخاطبين في قواعد الشرع الكلية لا تعتبر في الزكاة، كما لا تعتبر في الصلاة، فلا يختص بهم الحكم وإن اختص بهم خطاب المواجهة -انتهى.

فإن هم أطاعوا لذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقد اختلف العلماء في هذه المسألة فأجاز النقل الليث وأبوحنيفة وأصحابهما، ونقله ابن المنذر عن الشافعي وأختاره والأصح عند الشافعية والمالكية والجمهور: ترك النقل، فلو خالف ونقل أجزاء عند المالكية على الأصح، ولم يجزئ عند الشافعية على الأصح، إلا إذا فقد يستحقون لها ولا يبعد أنه اختيار البخاري، لأن قوله "حيث كانوا" يشعر بأنه لا ينقلها عن بلد، وفيه ممن هو متصف بصفة الاستحقاق -انتهى كلام الحافظ. وقال شيخنا في شرح الترمذي: والظاهر عندي عدم النقل إلا إذا فقد المستحقون لها أو تكون في النقل مصلحة أنفع وأهم من عدمه، والله تعالى أعلم. قال الحافظ: وفي الحديث إيجاب الزكاة في مال الصبي والمجنون الغنيين لعموم قوله من أغنياءهم، قاله عياض، وفيه بحث، وأن الزكاة لا تدفع إلى الكافر لعود الضمير في فقراءهم إلى المسلمين سواء قلنا بخصوص البلد أو العموم، وأن من ملك نصاباً لا يعطي من الزكاة، وهو مذهب الحنفية من حيث أنه جعل المأخوذ منه غنياً، وقابله بالفقير، ومن ملك النصاب فالزكاة مأخوذة منه، فهو غني، والغنى مانع من إعطاء الزكاة إلا من استثنى في الحديث. قال ابن دقيق العيد: وليس هذا البحث بالشديد القوة (فإن هم أطاعوا لذلك) أي للإنفاق (فإياك وكرائم أموالهم) بنصب كرائم بفعل مضمر لا يجوز إظهاره للقرينة الدالة عليه. قال ابن قتيبة: ولا يجوز حذف واو "وكرائم"-انتهى. وعلل بأنها حرف عطف، فيختل الكلام بالحذف. وكرائم جمع كريمة، وهي خيار المال وأفضله. قال الجزري في النهاية: كرائم أموالهم أي نفائسها التي تتعلق بها نفس مالكها ويختصها لها حيث هي جامعة للكمال الممكن في حقها. وقال في جامع الأصول: هي خيارها ونفائسها وما يكرم على أصحابها ويعز عليهم. والمراد اجتنبها فلا تأخذها في الصدقة، وخذ الوسط لا العالي ولا النازل الردي، ففيه ترك أخذ خيار المال وهي الأكولة والربى وفحل الغم والماخض وحزرات المال. والحكمة فيه: أن الزكاة وجبت مواساة للفقراء من مال الأغنياء. ولا يناسب ذلك الاحجاف بأرباب الأموال، فسامح الشرع بأرباب الأموال بما يضنون به، ونهى المصدقين عن أخذه إلا إن رضوا بذلك كما سيأتي (واتق دعوة المظلوم) أي تجنب الظلم لئلا يدعوا عليك المظلوم. وفيه تنبيه على المنع من جميع أنواع الظلم، وإنما ذكره عقب المنع من أخذ الكرائم للإشارة إلى أن أخذها ظلم. قال السندي: فيه أنه وإن كان قد يغلب حب الدنيا حتى ينسى الآخرة، فلا يترك الظلم لكونه حراماً مضراً في الآخرة فليترك لحب الدنيا خوفا من دعوة المظلوم، وإلا فالظلم يجب تركه، لكونه حراماً، وإن لم يخف دعوة صاحبه (فإنه) أي الشأن (ليس بينها وبين الله) أي بين وصولها إلى محل الاستجابة والقبول (حجاب) أي مانع بل هي معروضة عليه يعني ليس لها ما يصرفها ولو كان المظلوم فيه ما يقتضي أنه لا يستجاب لمثله من كون مطعمه حرام

متفق عليه. 1788- (2) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها، ـــــــــــــــــــــــــــــ أو نحو ذلك، حتى ورد في بعض طرقه وإن كان كافراً، رواه أحمد من حديث أنس، قاله العيني. وقال الحافظ: والمراد أنها مقبولة، وإن كان عاصياً، كما جاء في حديث أبي هريرة عند أحمد مرفوعاً: دعوة المظلوم مستجابة، وإن كان فاجراً ففجوره على نفسه. وإسناده حسن. وليس المراد أن الله تعالى حجاباً يحجبه عن الناس. وقال الطيبي: قوله "اتق دعوة المظلوم" تذييل لاشتماله على الظلم الخاص من أخذ الكرائم وعلى غيره، وقوله "فأنه ليس بينها وبين الله حجاب" تعليل للاتقاء وتمثيل للدعاء، كمن يقصد دار السطان متظلماً، فلا يحجب عنه -انتهى. قال ابن العربي: هذا الحديث، وإن كان مطلقاً فهو مقيد بالحديث الآخر إن الداعي على ثلاث مراتب، إما أن يجعل لهما ما طلب وإما أن يدخر له أفضل منه، وإما أن يدفع عنه من السوء مثله، وهذا كما قيد مطلق قوله تعالى: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه} [النمل: 62] بقوله تعالى: {فيكشف ما تدعون إليه إن شاء} [الأنعام: 41] تنبيه لم يقع في هذا الحديث ذكر الصوم والحج مع أن بعث معاذ كما تقدم كان في آخر الأمر. وأجاب الكرماني بأن اهتمام الشارع بالصلاة والزكاة أكثر، ولهذا كررا في القرآن، وبأنهما إذا وجبا على المكلف لايسقطان عنه أصلاً بخلاف الصوم فإنه قد يسقط بالفدية والحج، فإن الغير قد يقوم مقامه فيه كما في المعضوب، وقال السندي: هذا الحديث ليس مسوقاً لتفاصيل الشرائع بل لكيفية الدعوة إلى الشرائع إجمالاً. وأما تفاصيلها فذاك أمر مفوض إلى معرفة معاذ، فترك ذكر الصوم والحج لا يضر، كما لا يضر، ترك تفاصيل الصلاة والزكاة -انتهى. وأجاب البلقيني بنحوه وبسط فيه ذكره الحافظ في الفتح، والسيوطي في حاشية النسائي (متفق عليه) أخرجه البخاري في الزكاة وفي المظالم والمغازي والتوحيد، ومسلم في الإيمان، وأخرجه أيضا الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي كلهم في الزكاة، وأخرجه أيضا أحمد (ج1:ص233) . 1788- قوله: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها) قال التوربشتي في شرح المصابيح: ذكر جنسين من المال: ثم قال لا يؤدي منها حقها، ذهاباً إلى أن الضمير إلى معنى الذهب والفضة دون لفظهما لأن كل واحد منهما جملة وافية ودنانير ودراهم. ويحتمل أن يراد بها الأموال ويحتمل أنه أراد بها الفضة واكتفى يذكر أحدهما كقول القائل: ومن يك أمسى بالمدينة رحله ... ... فإني وقيا ربها لغريب

إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما ردت أعيدت له ـــــــــــــــــــــــــــــ وبمثله ورد التنزيل قال الله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله} [التوبة:34] (صفحت) بضم الصاد وتشديد الفاء المكسورة أي جعلت الفضة ونحوها (له) أي لصاحبها (صفائح) أي كأمثال الألواح جمع صفيحة، وهي ما طبع عريضاً. وقرئت مرفوعاً على أنه مفعول ما لم يسم فاعله لقوله: "صفحت" ومنصوبا على أنه مفعول ثان، وفي الفعل ضمير الذهب والفضة، وأنث إما بالتأويل السابق، وإما على التطبيق بينه وبين المفعول الثاني الذي هو هو (من نار) أي يجعل الذهب والفضة صفائح من نار أي يجعل صفائح كأنها نار أو كأنها مأخوذة من نار يعني كأن صفائح الذهب والفضة لفرط احمائها وشدة حرارتها صفائح النار، فتكوى بها (فأحمي عليها) بصيغة المجهول، والجار والمجرور نائب الفاعل أي أوقد عليها نار ذات حمى وحر شديد من قوله: نار حامية، ففيه مبالغة ليست في فأحميت في نار، قاله الطيبي: والضمير في "عليها" إلى الفضة، فالفاء تفسيرية. وقيل: الضمير إلى الصفائح النارية أي تحمى مرة ثانية (في نار جهنم) ليشتد حرها، فالفاء تعقيبية (فيكوى بها) أي بتلك الفضة أو بتلك الصفائح (جنبه وجبينه وظهره) قيل: خص هذه الأعضاء بالذكر من بين سائر الأعضاء، لأنها مجوفة فتسرع الحرارة إليها أو لأن الكي في الوجه أبشع وأشهر، وفي الظهر والجنب أوجع وآلم. وقيل: لأن جمعهم وإمساكهم كان لطلب الوجاهة بالغني والتنعيم بالمطاعم الشهية والملابس البهية. وقيل: لأن السائل متى تعرض للطلب من البخيل أول ما يبدو منه من آثار الكراهة والمنع أنه يُقَطِّب في وجهه، ويتكلح ويجمع أساريره، فيتجعَّد جبينه، ثم إن كرر الطلب ناء بجانبه عنه ومال عن جبهته وتركه جانباً، فإن استمر الطلب ولاه ظهره واستقبل جهة أخرى وهي النهاية في الرد والغاية في المنع الدال على كراهيته للعطاء والبذل، وهذا دأب مانعي البر والإحسان، وعادة البخلاء بالرفد والعطاء، فلذلك خص هذه الأعضاء بالكيّ، قاله الجزري في جامع الأصول (ج5 ص465) (كلما ردت) أي عن بدنه إلى النار (أعيدت) أي أشد ما كانت كما ترد الحديدة المحماة إلى الكور. ويخرج منه ساعة فساعة، قال الطيبي: أي كلما بردت ردت إلى نار جهنم ليحمى عليها، والمراد منه الاستمرار-انتهى. قلت: وقع في بعض نسخ مسلم: كلما بردت أعيدت. قال النووي: هكذا هو في بعض النسخ، بردت بالباء وفي بعضها ردت بحذف الباء وبضم الراء، وذكر القاضي الروايتين، وقال: الأولى هي الصواب، قال: والثانية رواية الجمهور- انتهى. وقال ابن الملك: يعني إذا وصل كي هذه الأعضاء من أولها إلى آخرها أعيد الكي إلى أولها حتى وصل إلى آخرها (له) أي لمانع الزكاة

في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي بين العباد، فيرى سبيله، إما إلى الجنة وإما إلى النار. قيل: يا رسول الله! فالإبل؟ قال: ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها، ومن حقها حلبها يوم وردها، ـــــــــــــــــــــــــــــ (في يوم) وهو يوم القيامة (كان مقداره خمسين ألف سنة) أي على الكافرين، ويطول على بقية العاصين بقدر ذنوبهم. وأما المؤمنون الكاملون فهو على بعضهم كركعتي الفجر، وأشار إليه بقوله عزوجل: {يوم عسير على الكافرين غير يسير} [المدثر: 9] (حتى يقضي) على بناء المفعول أي يحكم (فيرى سبيله) بصيغة المجهول من الرؤية والإراءة. وقوله "سبيله" مرفوع على الأول، ومنصوب على أنه مفعول ثان على الثاني. وروى أيضا "فيرى" بصيغة المعلوم من الرؤية أي هو سبيله. قال النووي: ضبطناه بضم ياء يرى وفتحها وبرفع لام "سبيله" ونصبها (إما إلى الجنة) إن لم يكن له ذنب سواه، وكان العذاب تكفيراً له (وإما إلى النار) إن كان على خلاف ذلك. قال القاري: وفيه رد على من يقول: إن الآية {والذين يكنزون الذهب} الخ. مختصة بأهل الكتاب. ويؤيده القاعدة الأصولية: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، مع أنه لا دلالة في الحديث على خلوده في النار. وبهذا يعلم ضعف قول ابن حجر أيضا إما إلى الجنة إن كان مؤمناً بأن لم يستحل ترك الزكاة، وإما إلى النار إن كان كافراً بأن استحل تركها (قيل يا رسول الله فالإبل) أي هذا حكم النقود، فالإبل ما حكمها؟ أو عرفنا حكم النقدين فما حكم الإبل؟ فالفاء متصل بمحذوف (ولا صاحب إبل) بالرفع أي يوجد ويكون. وقيل: بالجر عطفا على قوله "من صاحب ذهب" والحاصل أنه ليس جوابا للسؤال لفظا لوجود الواو بل جواب له معنى (لا يؤدي) صفة أي لا يعطي صاحب الإبل (منها حقها) أي الواجب عليه فيها (ومن حقها) أي المندوب و"من" تبعيضية (حلبها) قال النووي: بفتح اللام على اللغة المشهورة وحكى إسكانها، وهو غريب ضعيف، وإن كان هو القياس (يوم وردها) بكسر الواو. وقيل: الورد الإتيان إلى الماء، ونوبة الإتيان إلى الماء، فإن الإبل تأتي الماء في كل ثلاثة أو أربعة، وربما تأتي في ثمانية. قال الجزري في جامع الأصول "يوم وردها" أي يوم ترد الماء فيسقى من لبنها من حضره من المحتاجين إليه، وهذا على سبيل الندب والفضل لا الوجوب - انتهى. وإنما خص حالة وردها، لأنه حالة كثرة لبنها، ولأن الفقراء يحضرون هناك طلباً لذلك. وقال الطيبي: معناه أن يسقي ألبانها المارة ومن ينتاب المياه من أبناء السبيل. وقيل: أمر أن يحلبها صاحبها عند الماء ليصيب ذو والحاجة منه، وهذا مثل نهية عليه الصلاة والسلام عن الجذاذ بالليل، أراد أن يصوم بالنهار ليحضرها الفقراء- انتهى. قال ابن بطال: يريد حق الكرم والمواساة وشريف الأخلاق لا أن ذلك فرض، قال: وكانت

عادة العرب التصدق باللبن على الماء، فكان الضعفاء يرصدون ذلك منهم، قال: والحق حقان فرض عين وغيره، فالحلب من الحقوق التي هي من مكارم الأخلاق. وقال الإسماعيل القاضي: الحق المفترض هو الموصوف المحدود، وقد تحدث أمور لا تحد، فتجب المواساة للضرورة التي تنزل من ضعيف مضطر أو جائع أو عار أو ميت ليس له من يواريه فيجب حينئذٍ على من يمكنه المواساة التي تزول بها هذه الضرورات، قال ابن التين: وقيل: كان هذا قبل فرض الزكاة - انتهى. قال القاري: واعلم أن ذكره وقع استطراداً وبياناً لما ينبغي أن يعتني به من له مروأة لا لكون التعذيب، يترتب عليه أيضاً لما هو مقرر من أن العذاب لا يكون إلا على ترك واجب أو فعل محرم، اللهم إلا أن يحمل على وقت القحط أو حالة الاضطرار أو على وجوب ضيافة المال، وهذا معنى ما قيل: إن حقها الأول أعم من الثاني. وقيل: أن التعذيب عليهما معا تغليظ - انتهى. كلام القاري. قلت: الحديث بظاهره دليل لمن يرى في المال حقوقاً واجبة غير الزكاة خلافا للجمهور. وأجابوا عن ذلك بوجوه كما رأيت في كلام ابن بطال وابن التين والجزري والقاري. وقال الحافظ العراقي الظاهر أن قوله: "ومن حقها حلبها يوم وردها" مدرج من قول أبي هريرة، قال: وكأن أباداود أشار إلى ذلك في سننه من غير تصريح، فإنه لما ذكر هذه الزيادة روى بعدها من حديث أبي عمر الغداني عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحو هذه القصة، فقال له يعني لأبي هريرة: فما حق الإبل؟ قال: تعطي الكريمة وتمنح الغزيرة، وتفقر الظهر وتطرق الفحل وتسقي اللبن. قال العراقي ففي هذه الرواية أن هذا من قول أبي هريرة، فإن قلت: ففي صحيح مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر: ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي منها حقها- الحديث. وفيه قلنا يا رسول الله! وما حقها؟ قال: إطراق فحلها، وإعارة دلوها ومنحتها، وحلبها على الماء وحمل عليها في سبيل لله, وذكر الحديث. وهذا صريح في رفع هذا الكلام إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - صراحة لا يحتمل معها الإدراج. قلت: قال العراقي: الظاهر أن هذه الزيادة ليست متصلة، وقد بين ذلك أبوالزبير في بعض طرق مسلم، فذكر الحديث دون الزيادة، ثم قال أبوالزبير: سمعت عبيد بم عمير يقول هذا القول، ثم سألنا جابر بن عبد الله، فقال مثل قول عبيد بن عمير: قال أبوالزبير، وسمعت عبيد بن عمير يقول قال رجل: يا رسول الله ما حق الإبل؟ قال: حلبها على الماء وإعارة دلوها، وإعارة فحلها ومنحتها وحمل عليها في سبيل الله. قال العراقي فقد تبين بهذه الطريق إن هذه الزيادة إنما سمعها أبوالزبير من عبيد بن عمير مرسلة، لا ذكر لجابر فيها- انتهى. قال ولد العراقي في شرح التقريب بعد ذكر ذلك: وبتقدير إن تصح هذه الزيادة مرفوعة فجواب الجمهور عنها من وجهين أحدهما أن ذلك منسوخ بآية الزكاة. وفي سنن ابن ماجه عن ابن عمر لما سأل عن هذه الآية إنما كان هذا

إنما إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلاً واحداً، تطؤه بأخفافها، وتعضده بأفواهها، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها ـــــــــــــــــــــــــــــ قبل أن تنزل الزكاة فلما أنزلت جعلها طهوراً للأمور الخ، ثانيهما أن هذا من الحق الزائد على الواجب ولا عقاب بتركه، وإنما ذكر استطراداً لما ذكر حقها بين الكمال فيه، وإن كان له أقل يزول الذم بفعله، وهو الزكاة. ويحتمل أن يكون ذلك من الحق الواجب إذا كان هناك مضطر إلى شرب لبنها. فيحمل الحديث على هذه الصورة - انتهى. (إلا إذا كان يوم القيامة) استثناء مفرغ من أعم الأحوال (بطح) على بناء المفعول أي طرح وألقى صاحب الإبل على وجهه (لها) أي لأجل تلك الإبل. قال النووي: قوله "بطح" قال جماعة: معناه ألقي على وجهه. قال القاضي: قد جاء في رواية للبخاري (في ترك الحيل) تخبط وجهه بأخفافها، قال: وهذا يقتضي أنه ليس من شرط البطح كونه على الوجه، وإنما هو في اللغة بمعنى البسط والمد، فقد يكون على وجهه، وقد يكون على ظهره، ومنه سميت بطحاء مكة لانبساطها (بقاع) أي في أرض واسعة مستوية (قرقر) بقاف وراء مكررتين بفتح القافين وإسكان الراء الأولى أي أملس. وقيل: أي مستو واسع، فيكون صفة مؤكدة. قال الجزري: القاع المكان المستوي من الأرض الواسع، والقرقر الأملس. وقال النووي: القرقر المستوي من الأرض الواسع فهو بمعنى القاع فذكره بعده تأكيداً (أوفر ما كانت) أي أكثر عدداً وأعظم سمناً وأقوى قوة، لأنها تكون عنده على حالات مختلفة، فتأتي على أكملها ليكون ذلك أنكى له لشدة ثقلها. في شرح السنة يريد كمال حال الإبل التي وطئت صاحبها في القوة والسمن ليكون أثقل لوطئها. قال الطيبي "أوفر" مضاف إلى " ما" المصدرية، والوقت مقدر وهو منصوب على الحال من المجرور في "لها" والعامل "بطح" وقوله (لا يفقد) أي الصاحب (منها) أي من الإبل (فصيلا) أي ولدا (واحدا) تأكيد، والجملة مؤكدة لقوله "أوفر" (تطؤه) حال أو استئناف بيان أي تدوسه الإبل (بأخفافها) جمع خف البعير أي بأرجلها، والخف من الإبل بمنزلة الظلف للغنم، والقدم للآدمي، والحافر للحمار والبغل والفرس. والظلف بكسر الظاء للبقر والغنم والظباء. وكل حافر منشق فهو ظلف، وقد استعير الظلف للفرس (وتعضه) بفتح العين) (بأفواهها) أي بأسنانها (كلما مر عليه أولاها) أي أولى الإبل (رد عليه أخراها) كذا في جميع الأصول من صحيح مسلم من رواية زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة. كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها. قال عياض: قالوا هو تغيير وتصحيف، وصوله ما في الرواية التي بعده من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه "كلما مر عليه أخراها رد عليه أولاها) " وبهذا ينتظم الكلام، وكذا وقع في مسلم من حديث أبي ذر أيضا وأقره النووي على هذا، وحكاه القرطبي، وأوضع وجه الرد بأنه إنما يرد الأول الذي قد مر قبل، وأما الآخر فلم يمر بعد، فلا يقال: فيه، رد ثم أجاب بأنه يحتمل أن

أن في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي بين العباد، فيرى سبيله: إما إلى الجنة وإما إلى النار. قيل: يا رسول الله! فالبقرة والغنم؟ قال: ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر، لا يفقد منها شيئاً، ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا عضباء تنطحه بقرونها، وتطؤه بأظلافها، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي بين العباد، فيرى سبيله: إما إلى الجنة أو إلى النار. ـــــــــــــــــــــــــــــ المعنى أن أول الماشية إذا وصلت إلى آخرها تمشي عليه تلاحقت بها أخراها، ثم إذا أرادت الأولى الرجوع بدأت الأخرى بالرجوع فجاءت الأخرى أول حتى تنتهي إلى آخر الأولى، وكذا وجهه الطيبي، فقال: إن المعنى أولاها إذا مرت عليه التتابع إلى أن تنتهي إلى الأخرى، ثم ردت الأخرى من هذه الغاية، وتبعها ما كان يليها فما يليها إلى أن تنتهي أيضاً إلى الأولى، حصل الغرض من التتابع والاستمرار - انتهى. فيكون الابتداء في المرة الأولى من الإبل الأولى، وفي الثانية من الأخرى. والحاصل أنه يحصل هذا مرة بعد أخرى (خمسين ألف سنة) أي على هذا المعذب. وإلا فقد جاء أنه يخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة، قاله السندي. وقيل: معناه لو حاسب فيه غير الله سبحانه (فالبقر والغنم) أي كيف حال صاحبها (لا يفقد منها) أي من ذواتها وصفاتها شيئاً. وقال الطيبي: أي قرونها سليمة (ليس فيها عقصاء) بفتح العين المهملة وسكون القاف بعدها صاد مهملة ثم ألف ممدودة أي ملتوية القرنين، وإنما ذكرها، لأن العقصاء لا تؤلم بنطحها كما يؤلم غير العقصاء (ولا جلحاء) بجيم مفتوحة ثم لام ساكنة ثم حاء مهملة التي لا قرن لها (ولا عضباء) بفتح العين المهملة وسكون الضاد المعجمة المكسورة القرن، وقال النووي: التي انكسر قرنها الداخل، ونفي الثلاثة عبارة عن سلامة قرونها ليكون أجرح للمنطوح. وظاهر الحديث أن هذه الصفات فيها معدومة في العقبى، وإن كانت موجودة لها في الدنيا. وظاهر البعث أن يعيد الله تعالى الأشياء على ما كانت هي عليه في الدنيا، كما هو مفهوم من الكتاب والسنة، ولعله يخلقها كما كانت، ثم يعطيها القرون، ليكون سبباً لعذاب من منع زكاتها على وجه الشدة (تنطحه) بكسر الطاء. ويجوز فتحها، والأول أفصح وهو المشهور في الرواية، كما قال العراقي أي تضربه وتطعنه بقرونها وفي القاموس نطحه كمنعه وضربه أصابه بقرنه فقوله (بقرونها) إما تأكيد وإما تجريد (بأظلافها) جمع ظلف بكسر الظاء وهو للبقر والغنم والظباء، وهو المنشق من القوائم. وفي الحديث أن الله يحيي البهائم ليعاقب بها مانع الزكاة، وفي ذلك معاملة له بنقيض قصده، لأنه قصد منع حق الله منها، وهو الارتفاق والانتفاع بما يمنعه منها فكان ما قصد الانتفاع به أضر الأشياء عليه. والحكمة في كونها تعاد كلها مع أن حق الله فيها إنما هو في بعضها

قيل: يا رسول الله! فالخيل ثلاثة: هي لرجل وزر، وهي لرجل ستر، وهي لرجل أجر، فأما التي هي له وزر، فرجل ربطها رياء وفخراً ونواء على أهل الإسلام، فهي له وزر، وأما التي هي له ستر: فرجل ربطها في سبيل الله، ـــــــــــــــــــــــــــــ لأن الحق في جميع المال غير متميز، ولأن المال لما لم تخرج زكاته غير؟ مطهر. وفيه دليل على وجوب الزكاة في الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم. قال النووي: ولا خلاف في ذلك، وهذا الحديث أصح الأحاديث الواردة في زكاة البقر (قيل يا رسول الله فالخيل) أي ما حكمه (قال فالخيل الخ) قال الطيبي: جواب على أسلوب الحكيم وله توجيهان، فعلى مذهب الشافعي معناه: دع السؤال عن الوجوب، إذ ليس فيه حق واجب، ولكن أسأل عما يرجع من اقتناءها على صاحبها من المضرة والمنفعة، وعلى مذهب أبي حنيفة معناه: لا تسأل عما وجب فيه من الحقوق وحده، بل أسأل عنه وعما يتصل بها من المنفعة والمضرة إلى صاحبها. فإن قيل كيف يستدل بهذا الحديث على الوجوب؟ قلت: بعطف الرقاب على الظهور، لأن المراد بالرقاب الذوات إذ ليس في الرقاب منفعة للغير كما في الظهور، وبمفهوم الجواب الآتي في قوله عليه السلام: ما أنزل علي في الحمر شيء. وأجاب القاضي عنه بأن معنى قوله: ثم لم ينس حق الله في رقابها، أداء زكاة تجارتها- انتهى. وقيل: المراد بالحق في رقابها الإحسان إليها، والقيام بعلفها وسائر مؤنها. والمراد بظهورها إطراق فحلحا ًإذا طلب منه إعارته. وهذا على سبيل الندب. وقال ابن حجر أي فالخيل ما حكمها أيجب فيها زكاة فيعاقب تاركها لذلك أولا؟ فلا قال: فالخيل أحكامها ثلاثة أخرى أي غير ما مر، فلا زكاة فيها حتى يعاقب تاركها (ثلاثة) أي ربطها على ثلاثة أنحاء، قاله القاري (هي) أي الخيل (وزر) أي إثم وثقل (وهي لرجل ستر) بكسر السين أي لحاله في معيشيته لحفظة عن الاحتجاج إلى الخلق وصيانته عن السؤال (وهي لرجل أجر) أي ثواب عظيم. قال الطيبي: في قوله "فالخيل ثلاثة" فيه جمع وتفريق وتقسيم. أما الجمع فقوله ثلاثة، وأما التفريق فقوله (فأما التي هي له وزر فرجل) الظاهر. أن يقال: فخيل ربطها أو يقال وأما الذي له وزر فرجل. قلت: قال النووي: قوله فأما التي هي له وزر، هكذا هو في أكثر نسخ صحيح مسلم، ووقع في بعضها "الذي" وهو أوضح وأظهر. وعلى النسخة المشهورة فالأظهر أن يكون التقدير فخيل رجل (ربطها رياء) أي ليرى الناس عظمته في ركوبه وحشمته (وفخراً) أي يفتخر باللسان على من دونه من أفراد الإنسان (ونواء) بكسر النون والمد أي معاداة؟، يقال: ناوأت الرجل مناوأة أي عاديته، والواو بمعنى أو، فإن هذه الأشياء قد تفترق في الأشخاص، وكل واحد منها مذموم على حدته (فهي) أي تلك الخيل (له وزر) أي على ذلك القصد، فهي جملة مؤكدة مشعرة باهتمام الشارع به، والتحذير عنه (وأما التي هي له ستر فرجل ربطها في سبيل الله) قال الطيبي: لم يرد به الجهاد، بل النية الصالحة، إذ يلزم التكرار، قال:

ثم لم ينس حق الله في ظهورها ولا رقابها، فهي له ستر، وأما التي هي له أجر: فرجل ربطها في سبيل الله لأهل الإسلام في مرج وروضة، فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة من شيء إلا كتب له عدد ما أكلت حسنات، ـــــــــــــــــــــــــــــ ويعضده رواية غيره و"رجل ربطها تغنيا وتعففاً) أي استغناء بها وتعففاً عن السؤال، أو هو أن يطلب بنتاجها والغني أو يتردد عليها متاجرة ومزارعة، فتكون ستراً له يحجبه عن الفاقة (ثم لم ينس حق الله في ظهورها) أي بالعارية للركوب أو الفعل (ولا رقابها) قال الطيبي: إما تأكيد وتتمة للظهور، وإما دليل على وجوب الزكاة فيها- انتهى. وقال الجزري في جامع الأصول (ج5 ص466- 467) أما حق ظهورها فهو أن يحمل عليها منقطعاً، ويشهد له قوله في موضع آخر "وأن يفقر ظهرها" وأما حق رقابها فقيل أراد به الإحسان إليها (والقيام بعلفها وسائر مؤنها) وقيل: أراد به الحمل عليها فعبر بالرقبة عن الذات - انتهى. وأوله السندي بأن المراد لم ينس شكر الله لأجل إباحة ظهورها وتمليك رقابها، وذلك الشكر يتأدى بالعارية (فهي له ستر) أي حجاب يمنعه عن الحاجة للناس (ربطها في سبيل الله لأهل الإسلام) فيه إشارة إلى أن المراد به الجهاد فإن نفعه متعد إلى أهل الإسلام (في مرج) بفتح الميم وسكون الراء آخره جيم أي مرعى. في النهاية هو الأرض الواسعة ذات نبات كثير يمرج فيها الدواب أي تسرح، والجار متعلق بـ"ربط" (وروضة) عطف تفسير أو الروضة أخص من المرعى وفي نسخة المصابيح بلفظ: أو، وكذا في مسلم. قال ابن الملك: شك من الراوي ذكره في المرقاة. وقال الولي العراقي: المرج الموضع الواسع الذي فيه نبات ترعاه الدوآب، سمي بذلك، لأنها تمرج فيه، أي تروح وتجيء وتذهب كيف شاءت. والروضة الموضع الذي يكثر فيه الماء، فيكون فيه صنوف النبات من رياحين البادية وغيرها، فالفرق بين المرج والروضة أن الأول معد لرعي الدواب، ولذلك يكون واسعاً ليتأتى لها فيه ذلك، والروضة ليست معدة لرعي الدوآب، وإنما هي للتنزه بها لما فيها من أصناف النبات. هذا هو الذي يتحرر من كلام أهل اللغة، فصح عطف الروضة على المرج، وكذا وقع في صحيح مسلم عطف الروضة أولاً بالواو وثانية بأو؟ والظاهر أن الواو أولاً بمعنى أو انتهى (فما أكلت) أي الخيل (من ذلك المرج) بيان مقدم (من شيء) أن من العلف أو الأزهار قل أو كثر (إلا كتب له عدد ما أكلت) أي الذي أكلته من العشب والذرع (حسنات) بالرفع نائب الفاعل ونصب عدد على نزع الخافض أي بعدد مأكولاتها. وقال الولي الراقي: برفع "عدد" لنيابته عن الفاعل، ونصب "حسنات" بالكسرة على التمييز. ويحتمل رفع قوله "حسنات" على أنه بدل من عدد أو عطف بيان. ويحتمل أن يكون هو النائب عن الفاعل، ويكون قوله "عدد"

وكتب له عدد أرواثها وأبوالها حسنات، ولا تقطع طولها فاستنت شرفا أو شرفين إلا كتب الله له عدد آثارها وأرواثها حسنات، ولا مر بها صاحبها على نهر فشربت منه، ولا يريد أن يسقيها، إلا كتب الله له عدد ما شربت حسنات. قيل: يا رسول الله! فالحمر؟ قال ما أنزل عليَّ في الحمر شيء إلا هذه الآية الفاذة الجامعة {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومنصوباً نصب المصدر العددي (وكتب له عدد أرواثها وأبوالها حسنات) لأن بها بقاء حياتها مع أن أصلها قبل الاستحالة غالباً من مال مالكها (ولا تقطع) أي الخيل (طولها) بكسر الطاء وفتح الواو. ويقال: طيلها بالياء، وكذا جاء في الموطأ. والطول والطيل حبلها الطويل الذي شد أحد طرفيه في يد الفرس والآخر في وتد أو غيره لتدور فيه وترعى من جوانبها، ولا تذهب لوجهها (فاستنت) بتشديد النون أي جرت بقوة من الاستنان، وهو الجري. قال القاري: أي عدت ومرجت ونشطت لمراحها (شرفاً) بفتح الشين المعجمة والراء، هو العالي من الأرض. وقيل: المراد هنا طلقا أو طلقين، قاله النووي. وقال الجزري: الشرف الشوط والمدى (عدد آثارها) أي بعدد خطاها (أوراثها) أي في تلك الحالة، ولعله أراد بالروث هنا ما يشمل البول أو أسقطه للعلم به منه (على نهر) بفتح الهاء وسكونها (فشربت) أي الخيل (ولا يريد) أي والحال أن صاحبها لا ينوي (أن يسقيها) بفتح الياء وضمها (إلا كتب الله له عدد ما شربت حسنات) قال الطيبي: فيه مبالغة في اعتداد الثواب، لأنه إذا اعتبر ما تستقذرة النفوس وتنفر عنه الطباع فكيف بغيرها، وكذا إذا احتسب مالا نية له فيه، وقد ورد وإنما لكل امريء ما نوى، فما بال ما إذا قصد الاحتساب فيه، قال ابن الملك، فالحاصل أنه يجعل لمالكها بجميع حركاتها وسكناتها وفضلاتها حسنات. قال الحافظ: وفيه أن الإنسان يؤجر على التفاصيل التي تقع في فعل الطاعة إذا قصد أصلها، وإن لم يقصد تلك التفاصيل (فالحمر) بضمتين جمع حمار أي ما حكمها (إلا هذه الآية) بالرفع (الفاذة) بالذال المعجمة المشددة أي المنفردة في معناها. وقيل: القليلة النظير. وقيل: النادرة الواحدة (الجامعة) أي العامة المتبناولة لكل خير ومعروف. قال ابن الملك: يعني ليس في القرآن آية مثلها في قلة الألفاظ وجمع معاني الخير والشر. قال الطيبي: سميت جامعة لاشتمال اسم الخير على جميع أنواع الطاعات فرائضها نوافلها، واسم الشر على ما يقابلها من الكفر والمعاصي صغيرها وكبيرها: قال النووي وفيه إشارة إلى التمسك بالعموم. ومعنى ذلك أنه لم ينزل عليَّ فيها نص بعينها، ولكن نزلت هذه الآية العامة (فمن يعمل مثقال ذرة) أي مقدار نملة أو ذرة من الهباء الطائر في الهواء (خيراً يره) أي يرى ثوابه وجزاءه (ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) فلو أعان أحداً على بر بركوبها يثاب، ولو استعان بركوبها على فعل معصية يعاقب

رواه مسلم. 1789- (3) وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته، مثل له ماله يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان، يطَوَّقه يوم القيامة، ـــــــــــــــــــــــــــــ (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد في مواضع من مسنده مطولاً ومختصراً، وأبوداود الطيالسي والبيهقي، ورواه البخاري وأبوداود والنسائي مختصراً. والحديث نسبه الجزري في جامع الأصول (ج5 ص296) للبخاري ومسلم والموطأ وأبي داود والنسائي، ونسبه المنذري في الترغيب للبخاري ومسلم. والظاهر أنهما أرادا بهذه النسبة أصل الحديث لا تفصيله وتمامه، فإنه لم يروه كاملا أحد من أصحاب الكتب الستة إلا مسلم. من أحب الوقوف على اختلاف الروايات وألفاظها رجع إلى جامع الأصول (ج5 ص296، 303) . 1789- قوله: (من آتاه الله) بمد الهمزة أي أعطاه (مالاً) قال الحافظ: المراد بالمال الناض (مثل) بضم الميم وتشديد المثلثة على صيغة المجهول أي صور وجعل (له ماله) أي الذي لم يؤد زكاته (شجاعاً) بضم الشين ويكسر، منصوب على أنه مفعول ثان. وقال الطيبي: شجاعاً نصب يجري مجرى المفعول، أي صور ماله شجاعاً أو ضمن مثل معنى التصيير أي صير ماله على صورة شجاع. وقال البدر الدماميني: شجاعا منصوب على الحال، وهو الحية الذكر. وقيل: هو الحية مطلقاً، وقيل: الذي يقوم على ذنبه ويواثب الفارس والراجل؟ وربما بلغ رأس الفارس، ويكون في الصحاري (أقرع) قال في جامع الأصول: الأقرع صفة الحية بطول العمر. وذلك أنه بطول عمره قد أمرق شعر رأسه فهو أخبث له وأشد شراً - انتهى، وقال في النهاية: هو الذي لا شعر له على رأسه يريد حية قد تمعط وذهب جلد رأسه لكثرة سمه وطول عمره، قال الأزهري في تهذيبه: سمي أقرع، لأنه يقري السم ويجمعه في رأسه حتى تتمعط فروة رأسه قال ذو الرمة: قرى السم حتى أنمار فروة رأسه عن العظم صل قاتل اللسع ما رده وقيل: هو الأبيض الرأس من كثرة السم، وكلما كثر سمه أبيض رأسه: وقيلي نوع من الحيات أقبح منظراً (له زبيبتان) ثنية زبيبة بزاي معجمة مفتوحة فموحدتين بينهما تحتية ساكنة، وهما الزبدتان اللتان في الشدقين، يقال: تكلم فلان حتى زبَّب شِدقاه أي خرج الزبد عليهما. وقيل: هما النكتتان السوداء وإن فوق عينيه، وهو أو حش ما يكون من الحيات وأخبثه. وقيل: هما نقطتان يكتنفان فاه. وقيل: هما في حلقة بمنزلة زنمتعي العنز: وقيل: لحمتان على رأسه مثل القرنين. وقيل: نابان يخرجان من فيه (يطوقه) بفتح الواو المشددة, والضمير الذي"فيه" مفعوله الأول والضمير البارز مفعوله الثاني، وهو يرجع إلى من في قوله "من آتاه الله مالاً" والضمير المستتر يرجع إلى

ثم يأخذ بلهزمتيه، يعني شدقيه، ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا {ولا يحسبن الذين يبخلون} الآية)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشجاع أي يجعل الشجاع طوقا في عنقه. وقيل: المعنى يطوق ذلك الرجل شجاعاً قال القاري: وهو الموافق لقوله تعالى: {سيطوقون ما بخلوا به} [آل عمران:180] (ثم يأخذ) أي الشجاع ذلك البخيل. قال الحافظ: فاعل يأخذ الشجاع والمأخوذ يد صاحب المال، كما وقع مبيناً في رواية همام عن أبي هريرة الآتية في ترك الحيل (عند البخاري) بلفظ: لا يزال يطلبه حتى يبسط يده، فيلقمها فاه (بلهزمتيه) بكسر اللام وسكون الهاء بعدها زاى مكسورة ثم ميم بعدها فوقية، تنثية لهزمة، وفسرهما بقوله (يعني شدقية) بكسر الشين المعجمة وسكون الدال المهملة أي بطرفي فمه. قيل: ضمير "لهزمتيه" للشجاع، ويمكن أن يكون لصاحب المال. قال الطيبي اللهزمة اللحي وما يتصل به من الحنك، وفسر بالشدق وهو قريب منه -انتهى. وقال في الصحاح: هما العظمان الناتئان في اللحيين تحت الأذنين وفي الجامع: هما لحم الخدين الذي يتحرك إذا أكل الإنسان. وقيل: مضيغتان في أصل الحنك (ثم يقول) أي الشجاع المصور من المال (أنا مالك أنا كنزك) فائدة هذا القول: الحسرة والزيادة في التعذيب حيث لا ينفعه الندم. وفيه نوع من التهكم لمزيد غصته وهمه، لأنه شر أتاه من حيث كان يرجو خيراً، وزاد في رواية البخاري: يفر منه صاحبه ويطلبه. وفي حديث ثوبان عند ابن حبان: يتبعه فيقول: أنا كنزك الذي تركته بعدك، فلا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيمضغها، ثم يتبعه سائر جسده. ولمسلم في حديث جابر: يتبع صاحبه ذهب وهو يفر منه، فإذا رأى أنه لا بد منه أدخل يده في فيه فجعل يقضمها كما يقضم الفحل. وللطبراني في حديث ابن مسعود: ينقر رأسه (ثم تلا) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -، ففي حديث ابن مسعود عند الشافعي والحميدي: ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر الآية {ولا يحسبن الذين يبخلون} بالغيب في "يحسبن" أسنده إلى الذين، وقدر مفعولاً دل عليه "يبخلون" أي لا يحسبن الباخلون بخلهم خيراً لهم، وفي رواية: ولا تحسبن بالخطاب، وهي قراءة حمزة، أسند إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقدر مضافا أي لا تحسبن يا محمد بخل الذين يبخلون هو خيراً لهم، فبخل وخير مفعولان. وفي حديث ابن مسعود عند الترمذي: ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصداقه: سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة. قال الحافظ: في هذين الحديثين تقوية لقول من قال المراد بالتطويق في الآية الحقيقة، خلافاً لمن قال إن معناه سيطوقون الإثم. وفي تلاوة النبي - صلى الله عليه وسلم - الآية عقب ذلك دلالة على أن الآية نزلت في مانعي الزكاة، وهو قول أكثر أهل العلم بالتفسير، وقيل: إنها نزلت في اليهود الذين كتموا صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: نزلت فيمن له قرابة لا يصلهم، قاله مسروق -انتهى (الآية) أي بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم، سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة. قال السندي: ظاهر قوله: " ما بخلوا به" أنه يجعل قدر الزكاة طوقا له، لأنه الذي بخل به.

رواه البخاري 1790- (4) وعن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((ما من رجل يكون له إبل أو بقر أو غنم لا يؤدي حقها، إلا أتى بها يوم القيامة أعظم ما يكون وأسمنه، تطأه بأخفافها، ـــــــــــــــــــــــــــــ وظاهر الحديث أنه الكل. ويمكن أن يقال المراد في القرآن ما بخلوا بزكاته وهو كل المال، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. ثم لا تنافي بين هذا وبين قوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة} [الآية التوبة:34] إذ يمكن أن يجعل بعض أنواع المال طوقاً، وبعضها يحمى عليه في نار جهنم، أو يعذب حينا بهذه الصفة وحينا بتلك الصفة، والله أعلم - انتهى. وقال الحافظ: المراد بالمال (أي في الحديث) الناض. ولا تنافي بين روايتي أبي هريرة يعني هذه الرواية التي نحن في شرحها، والرواية السابقة بلفظ: ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمى عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه الخ. لإحتمال إجتماع الأمرين معا، فهذه الرواية توافق الآية التي ذكرها، وهي سيطوقون، والرواية السابقة توافق قوله تعالى: {يوم يحمى عليها في نار جهنم} [الآية- التوبة:35] وقال العيني: في الحديث ما يدل على قلب الأعيان، وذلك في قدرة الله تعالى بين لا ينكر. وفيه أن لفظ ما لا بعمومه يتناول الذهب والفضة وغيرهما من الأموال الزكوية (رواه البخاري) في الزكاة والتفسير وترك الحيل، وأخرجه أيضا مالك والنسائي وابن حبان والبيهقي (ج4:ص81) ولكن وقفه مالك على أبي هريرة ولم يرفعه. وهذا الحديث جعله أبوالعباس الطرقي والذي قبله حديثاً واحدا ولا يخفى ما فيه. وذكره المنذري في الترغيب والترهيب، ثم قال رواه البخاري والنسائي ومسلم، وقد وهم في نسبته لصحيح مسلم فإنه لم يروه بذلك، وقد نقله ابن كثير في التفسير عن البخاري، وقال تفرد به البخاري دون مسلم. وفي الباب عن ابن مسعود عند أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وسيأتي، وعن جابر عند أحمد ومسلم والنسائي، وعن ابن عمر عند أحمد والنسائي، وعن ثوبان عند البزار والطبراني وابن خزيمة وابن حبان. 1790- قوله: (ما من رجل يكون له إبل أو بقر أو غنم) أو للتقسيم (لا يؤدي حقها) هذا لفظ البخاري. وفي رواية مسلم: لا يؤدي زكاتها (إلا أتى بها) بضم الهمزة على صيغة المجهول (أعظم ما تكون) بالتأنيث. "وأعظم" بالنصب على الحال "وما" مصدرية (وأسمنه) عطف على المنصوب السابق، والضمير راجع إلى لفظ ما (تطأه بأخفافها) أي تدوسه ذوات الأخفاف بأرجلها، وهذا راجع للإبل، لأن الخف مخصوص بها، كما أن الظلف مخصوص بالبقر والغنم والظباء والحافر يختص بالفرس والبغل والحمار، والقدم للآدمي

وتنطحه بقرونها، كلما جازت أخراها ردت عليه أولها، حتى يقضي بين الناس)) . متفق عليه. 1791- (5) وعن جرير بن عبد الله، قال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أتاكم المصدق، فليصدر عنكم وهو عنكم راض)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ (تنطحه) بكسر الطاء وتفتح أي تضربه ذوات القرون (بقرونها) فالضمير في كل قسم عائد على بعض الجملة لا على الكل، والخف للإبل، والقرون للبقر والغنم، كما أن الظلف لهما، وقيل: قوله "تنطحه بقرونها" راجع للبقر (كلما جازت) بالجيم والزاي أي مرت (ردت) بضم الراء مبنياً للمفعول أي أعيدت (عليه) أي على الرجل يعني فهو معاقب بذلك (حتى يقضي بين الناس) أي إلى أن يفرغ الحساب (متفق عليه) واللفظ للبخاري، وأخرجه أيضا أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج4:ص97) وغيرهم. 1791- قوله: (إذا أتاكم المصدق) بكسر الدال المشددة مع تخفيف الصاد أي آخذ الصدقة، وهو الساعي العامل وأما المصدق بتشديد الصاد فهو دافع الصدقة أي معطيها، وهو رب المال (فليصدر عنكم) بضم الدال أي يرجع (وهو عنكم راض) الجملة حال. وفي رواية الترمذي والبيهقي: فلا يفارقنكم إلا عن رضى. وفي رواية ابن ماجه: لا يرجع المصدق إلا عن رضا، قال الطيبي: ذكر المسبب وأراد السبب، لأنه أمر للعامل، وفي الحقيقة أمر للمزكي. والمعنى تلقوه بالترحيب وأداء زكاة أموالكم تامة ليرجع عنكم راضياً، وإنما عدل إلى هذه الصفة مبالغة في استرضاء المصدق وإن ظلم كما سيجيئ - انتهى. وقال البيهقي في سننه (ج4:ص137) : قال الشافعي، يعني والله أعلم أن يوفوه طائعين ولا يلووه لا أن يعطوه لا أن يعطوه من أموالهم ما ليس عليهم فبهذا يأمرهم ويأمر المصدق. قال البيهقي: وهذا الذي قاله الشافعي محتمل، لولا ما في رواية أبي داود من الزيادة، وهي قالوا يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن ظلمونا، قال: أرضوا مصدقيكم وإن ظلمتم، ففي هذا كالدلالة على أنه رأى الصبر على تعديهم - انتهى. قال عياض: فيه الحض على طاعة الأمراء وترك مخالفتهم، وكل ذلك حض على الألفة وإجتماع الكلمة التي جعلها الله سبحانه وتعالى أصلاً لصلاح الكافة وعمارة ونظام أمر الدنيا والآخرة. وقال النووي: مقصود الحديث الوصاة بالسعادة وطاعة ولاة الأمور وملاطفتهم وجمع كلمة المسلمين وإصلاح ذات البين، وهذا كله مالم يطلب جوراً، فإذا طلب جوراً فلا موافقة له ولا طاعة لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس في صحيح البخاري: فمن سألها على وجهها فليعطها ومن سئل فوقها فلا يعط -انتهى. وقال السندي: أي لا يرجع عامل الصدقة إلا عن رضى بأن تلقوه بالترحيب وتودوا إليه الزكاة طائعين، ولم يرد أن تعطوه الزائد على الواجب لحديث: من سأل فوقها فلا يعطي أي فوق الواجب. وقيل: لا يعطي أصلاً لأنه الغزل بالجور-انتهى. وسيأتي رواية

رواه مسلم. 1792- (6) وعن عبد الله بن أبي أوفى، قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: ((اللهم صلى على آل فلان. فأتاه أبى بصدقته، فقال: اللهم صل على آل أبى أوفى)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبي داود التي أشار إليها البيهقي من حديث جرير في الفصل الثاني من هذا الباب، ورواية البخاري من حديث أنس الذي ذكره النووي والسندي في الفصل الأول من "باب ما يجب فيه الزكاة" ويأتي هناك وجه الجمع بين الروايتين (رواه مسلم) في آخر الزكاة وأخرجه أيضا أحمد (ج4:ص360-364) والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج4:ص136) . 1792- قوله: (وعن عبد الله بن أبي أوفى) بفتح الهمزة وسكون الواو وفتح الفاء مقصوراً، قد تقدم ترجمة عبد الله، وأما والده أبوأوفى فهو علقمة بن خالد بن الحرث الأسلمي، مشهور بكنيته، شهد هو وابنه عبد الله بيعة الرضوان تحت الشجرة، وعمر عبد الله إلى أن كان آخر من مات من الصحابة بالكوفة، وذلك سنة سبع وثمانين (إذا أتاه قوم بصدقتهم) أي بزكاة أموالهم (اللهم صلى على آل فلان) أي اغفر له وارحمه. قال العيني: كذا في رواية الأكثريين. وفي رواية أبي ذر: صل على فلان -انتهى. والمعنى واحد. لأن الآل يطلق على ذات الشئ. وقيل: لفظ الآل مقحم يدل عليه الرواية الآتية (فأتاه أبى) أبوأوفى (على آل أبى أوفى) يريد أباأوفى نفسه، لأن الآل يطلق على ذات الشيء كقوله في قصة أبي موسى: لقد أوتي مزماراً من مزامير آل داود، يريد داود نفسه. وقيل: لا يقال ذلك إلا في حق الرجل الجليل القدر. وقال القاري: الظاهر أن الآل مقحم يدل عليه الرواية الآتية: اللهم صلى عليه، أو المراد هو وأهل بيته فيعم الدعاء، لأنه إذا دعى لآله لأجله، فهو يستحق الدعاء بطريق الأولى -انتهى. وهذا الدعاء منه صلى الله عليه وسلم امتثال لقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصلى عليهم إن صلاتك سكن لهم} [التوبة:103] فإنه أمره الله بالصلاة عليهم ففعلها بلفظها حيث قال: اللهم صل على آل أبى أوفى. ولفظ الصلاة: بحتم، بل غيره من الدعاء ينزل منزلته، مثل أن يقول آجرك الله فيما أعطيت، وبارك لك فيما أبقيت، أو يقول اللهم أغفرله وتقبل منه ونحو ذلك. والدليل عليه ما رواه النسائي والبيهقي من حديث وائل بن حجر أنه - صلى الله عليه وسلم - قال في رجل بعث بناقة حسنة في الزكاة: اللهم بارك فيه وفي إبله. وفي الحديث دليل على أنه يستحب الدعاء عند أخذ الصدقة لمعطيها. وقال بعض أهل الظاهر: بوجوب ذلك على الإمام، وحكاه أبوعبد الله الحناطي بالحاء المهملة وجهاً لبعض الشافعية. وكأنهم أخذوه من الأمر في الآية. وأجيب بأنه لو كان واجباً لعلمه النبي صلى الله عليه وسلم السعى ولم ينقل. وفيه أن وجوب الدعاء كان معلوماً لهم من الآية الكريمة،

فلم يكن حاجة إلى تعليم الدعاء والأمر به وأجاب الجمهور أيضاً بأن سائر ما يأخذه الإمام من الكفارات والديون وغيرهما لا يجب عليه فيها الدعاء، فكذلك الزكاة، وبأن ذلك لا يجب على الفقير المدفوع إليه، فالنائب أولى. وأما الآية فيحتمل أن يكون الوجوب خاصاً به لكون صلاته سكناً لهم بخلاف غيره. واستدل بالحديث على جواز الصلاة على غير الأنبياء استقلالاً، وأنه يدعو آخذ الصدقة للمتصدق بهذا الدعاء، وهو قول أحمد، قالوا والصلاة ههنا بمعنى الدعاء والتبريك لا بمعنى التعظيم والتكريم. وكره مالك والشافعي وأبوحنيفة، قالوا لا يصلي على غير الأنبياء استقلالاً، ولكن يصلي عليهم تبعاً. وأجابوا عن هذا الحديث بأن هذا حقه عليه الصلاة والسلام له أن يعطه لمن شاء، وليس لغيره ذلك. وقال في اللمعات: هذه الصلاة غير ما يصلي به على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو بمعنى الترحم والتعطف والترحيب لا على وجه التعظيم والتكريم أخذا من قوله تعالى: {وصل عليهم} [التوبة:103] وقيل: لا يجوز الدعاء بلفظ الصلاة على أحد إلا النبي صلى الله عليه وسلم ولمن سواه من الأئمة أن يدعوا عند أخذ الصدقة بمضمونه وبمعناه لا بلفظ الصلاة – انتهى. قلت: ومال البخاري إلى الجواز مطلقاً حيث بوب في جامعه الصحيح. باب هل يصلي على غير النبي صلى الله عليه وسلم، وصدر بالآية وهي قوله تعالى: {وصل عليهم} ثم أورد الحديث الدال على الجواز مطلقاً، وهو حديث عبد الله بن أبي أوفى، وعقبه بالحديث الدال على الجواز تبعا. قال الحافظ: قوله له يصلي على غير النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ أي استقلالاً أو تبعاً، ويدخل في الغير الأنبياء والملائكة والمؤمنون. فأما مسألة الأنبياء فورد فيها أحاديث: أحدها حديث علي في الدعاء بحفظ القرآن، ففيه وصل علي وعلى سائر النبيين، أخرجه الترمذي والحاكم، وحديث بريدة رفعه: لا تتركن في التشهد الصلاة علي وعلى أنبياء الله، الحديث أخرجه البيهقي بسند واه، وحديث أبي هريرة رفعه: صلوا على أنبياء الله، الحديث أخرجه إسماعيل القاضي بسند ضعيف، وحديث ابن عباس رفعه: إذا صليتم علي فصلوا على أنبياء الله، فإن الله بعثهم كما بعثني، أخرجه الطبراني، وسنده ضعيف أيضاً. وقد ثبت عن ابن عباس اختصاص ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم، أخرجه ابن أبي شيبة من طريق عثمان بن حكيم عن عكرمة عنه، قال: ما أعلم الصلاة تنبغي علي أحد إلا على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا سند صحيح: وحكي القول به عن مالك، وقال ما تعبدنا به، وجاء نحوه عن عمر بن عبد العزيز، وعن مالك يكره. وقال عياض: عامة أهل العلم على الجواز. وقال سفيان: يكره أن يصلي إلا على نبي. ووجدت بحظ بعض شيوخي مذهب مالك لا يجوز أن يصلي إلا على محمد، وهذا غير معروف عن مالك، وإنما قال أكره الصلاة على غير الأنبياء، وما ينبغي لنا أن نتعدى ما أمرنا به، وخالفه يحيى بن يحيى فقال لا بأس به، واحتج بأن الصلاة دعا بالرحمة فلا يمنع إلا بالنص أو إجماع. قال عياض: والذي أميل إليه قول مالك وسفيان وهو قول المحققين من المتكلمين والفقهاء، قالوا يذكر غير الأنبياء بالرضاء والغفران، والصلاة على غير الأنبياء يعني

استقلالاً لم تكن من الأمر المعروف، وإنما أحدثت في دولة بني هاشم وأما الملائكة فلا أعرف فيه حديثاً نصاً، وإنما يؤخذ ذلك من الذي قبله إن ثبت، لأن الله تعالى سماهم رسلاً. وأما المؤمنون فاختلف فيه، فقيل لا تجوز إلا على النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة، وحكي عن مالك كما تقدم. وقالت طائفة. لا تجوز مطلقاً استقلالاً، وتجوز تبعاً فيما ورد به النص. أو الحق به لقوله تعالى: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً} [الفرقان:63] ولأنه لما علمهم السلام. قال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، ولما علمهم الصلاة قصر ذلك عليه وعلى أهل بيته، وهذا القول اختاره القرطبي في المفهم وأبوالمعالى من الحنابلة، وهو اختيار ابن تيمية من المتأخرين. وقالت: طائفة تجوز تبعاً مطلقاً، ولا تجوز استقلالاً، وهذا قول أبي حنيفة وجماعة. وقالت طائفة: تكره استقلالاً لا تبعاً، وهي رواية عن أحمد. وقال النووي: هو خلاف الأولى. وقالت طائفة: تجوز مطلقاً، وهو مقتضي صنيع للبخاري (كما تقدم تقريره) ووقع مثل حديث ابن أبي أوفى عن قيس بن سعد بن عبادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه وهو يقول: اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة، أخرجه أبوداود والنسائي، وسنده جيد، وفي حديث جابر أن امرأته قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: صل علي وعلى زوجي. ففعل، أخرجه أحمد مطولاً ومختصراً، وصححه ابن حبان. وهذا القول جاء عن الحسن ومجاهد، ونص عليه أحمد في رواية أبي داود، وبه قال إسحاق وأبوثور وداود والطبري، واحتجوا بقوله تعالى: {هو الذي يصلي عليكم وملائكته} [الأحزاب:43] وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعاً: إن الملائكة تقول لروح المؤمن صلى الله عليك وعلى جسدك. وأجاب المانعون عن ذلك كله بأن ذلك صدر من الله ورسوله، ولهما أن يخصا من شاءا بما شاءا، وليس ذلك لأحد غيرهما. قال الحافظ: والحجة فيه أنه صار شعار للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا يشاركه غيره فيه فلا يقال قال أبوبكر - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان معناه صحيحا. ويقال: صلى الله على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى خليفته. ونحو ذلك وقريب من هذا أنه لا يقال محمد عزوجل، وإن كان معناه صحيحاً، لأن هذا الثناء صار شعارا لله سبحانه، فلا يشاركه غيره فيه. ولا حجة لمن أجاز ذلك منفردً محتجاً بقوله تعالى: {وصل عليهم} [التوبة:103] وبقوله: - صلى الله عليه وسلم - " اللهم صلى على آل أبى أوفى" وبقول امرأة جابر: "صل علي وعلى زوجي" فقال: صل عليهما، فإن ذلك كله صدر من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولصاحب الحق أن يتفضل من حقه بما شاء لمن شاء، وليس لغيره أن يتصرف إلا بإذنه، ولم يثبت عنه إذن في ذلك. ويقوي المنع بأن الصلاة على غير النبي - صلى الله عليه وسلم - صار شعاراً لأهل الاهواء، يصلون على من يعظمونه من أهل البيت وغيرهم، وهل المنع في ذلك حرام أو مكروه أو خلاف الأولى؟ حكي الأوجه الثلاثة النووي في الأذكار، وصحح الثاني. وقد روى إسماعيل بن إسحاق في أحكام القرآن بإسناد حسن عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب: أما بعد وإن ناساً من القصاص أحدثوا في الصلاة على خلفاءهم وأمراءهم عدل الصلاة على النبي. فإذا جاءك

متفق عليه. وفي رواية إذا أتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم بصدقته، قال: اللهم صلى عليه. 1793- (7) وعن أبي هريرة، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة، ـــــــــــــــــــــــــــــ كتابي هذا فمرهم أن تكون صلاتهم على النبيين ودعاءهم للمسلمين ويدعوا ما سوى ذلك، ثم أخرج عن ابن عباس بإسناد صحيح، قال: لا تصلح الصلاة على أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن للمسلمين والمسلمات الاستغفار- انتهى. وقال البيهقي: يحمل قول ابن عباس بالمنع إذا كان على وجه التعظيم لا ما إذا كان على وجه الدعاء بالرحمة والبركة. وقال ابن القيم: المختار أن يصلي على الأنبياء والملائكة وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وآله وذريته وأهل الطاعة على سبيل الإجمال، وتكره في غير الأنبياء لشخص مفرد بحيث يصير شعاراً ولاسيما إذا ترك في حق مثله أو أفضل منه كما يفعله الرافضة، فلو اتفق وقوع ذلك مفرداً في بعض الأحايين من غير أن يتخذ شعاراً لم يكن به بأس- انتهى. تنبيه: اختلف في السلام على غير الأنبياء بعد الاتفاق على مشروعيته في تحية الحي، فقيل: يشرع مطلقاً. وقيل: بل تبعاً ولا يفرد لواحد لكونه صار شعاراً للرافضة، ونقله النووي عن الشيخ أبي محمد الجويني، كذا في الفتح (متفق عليه) أخرجه البخاري في الزكاة والمغازي والدعوات، ومسلم في الزكاة، وأخرجه أيضاً أحمد (ج4:ص353-354-355) وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج4:ص157) (وفي رواية) هذه الرواية من أفراد البخاري أوردها في باب هل يصلي على غير النبي - صلى الله عليه وسلم - من كتاب الدعوات (اللهم صل عليه) تمامه: وأتاه أبي بصدقته، فقال: اللهم صل على آل أبى أوفى. 1793- قوله: (بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر) أي أرسله ساعياً وعاملاً (على الصدقة) أي الواجبة يعني الزكاة المفروضة، لأنها المعهودة بانصراف الألف واللام إليها، ولأن البعث إنما يكون على الصدقات المفروضة. وقال ابن القصار المالكي: الأليق أنها صدقة التطوع، لأنه لا يظن بهؤلاء الصحابة أنهم منعوا الفرض، وعلى هذا فعذر خالد واضح، لأنه أخرج ماله في سبيل الله، فما بقي له مال يحتمل المواساة بصدقة التطوع، ويكون ابن جميل شح بصدقة التطوع فعتب عليه. وقال في العباس: هي على ومثلها معها أي أنه لا يمتنع إذا طلبت منه. وتعقب بأنهم ما منعوه كلهم جحداً ولا عناداً. أما ابن جميل فقد قيل: إنه كان منافقا ثم تاب بعد ذلك، كما حكاه المهلب. قيل: وفيه نزلت: {وما نقموا} – [البروج: 8] الآية إلى قوله: {فإن يتوبوا يك خيراً لهم} -[التوبة: 74] فقال: استتاب نبي الله فتاب وصلح حاله، والمشهور نزولها في غيره. وأما خالد فكان متنأولاً بأجزاء ما حبسه عن الزكاة، وكذلك العباس لاعتقاده ما سيأتي التصريح به، ولهذا عذر النبي - صلى الله عليه وسلم - خالداً والعباس، ولم يعذر ابن جميل. قال القسطلاني أخذا عن ابن دقيق العيد: فالظاهر أنها الصدقة الواجبة لتعريف الصدقة باللام

فقيل: منع ابن جميل، وخالد بن الوليد، والعباس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرا فأغناه الله ورسوله،? ـــــــــــــــــــــــــــــ العهدية. وقال النووي: إنه الصحيح المشهور. ويؤيده قوله: "بعث عمر على الصدقة" فهو مشعر بأنها صدقة الفرض، لأن صدقة التطوع لا تبعث عليها السعاة - انتهى. (فقيل) القائل هو عمر رضي الله عنه، لأنه هو المرسل. ويؤيده رواية الدارقطني من حديث ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث عمر ساعياً، فأتى العباس فأغلط له، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إن العباس قد أسلفنا زكاة ماله- الحديث. (منع ابن جميل) بفتح الجيم وكسر الميم، قال ابن مندة: لم يعرف اسمه، ومنهم من سماه حميداً. وقيل: اسمه عبد الله، وذكره الذهبي في تجريده (ج2 ص225) فيمن عرف بأبيه ولم يسم. وقال الحافظ في الفتح: لم أقف على اسمه في كتب الحديث (وخالد بن الوليد) بالرفع عطف على ابن جميل، وهو خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشي، أبو سليمان سيف الله، وأمه لبابة الصغرى أخت ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان أحد أشراف قريش في الجاهلية، وكان إليه أعنة الخيل في الجاهلية، وشهد مع كفار قريش الحروب إلى عمرة الحديبية والفتح، وشهد مؤته، ويومئذٍ سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيف الله، وشهد الفتح وحنيناً. واختلف في شهوده خيبر، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعنه ابن خالته ابن عباس وجابر بن عبد الله والمقدام بن معديكرب وغيرهم. استعمله أبوبكر على قتال أهل الردة ومسليمة، ثم وجهه إلى العراق ثم إلى الشام، وهو أحد أمراء الأجناد الذين ولوا فتح دمشق. قال الزبير بن بكار: كان ميمون النقيبة، ولما هاجر لم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوليه الخيل، ويكون في مقدمته. وقال ابن سعد: كان يشبه عمر في خلقته وصفته. ولما نزل الحيرة قيل له: أحذر السم لا تسقيكه الأعاجم، فقال: ائتوني به فأخذه بيده. وقال: بسم الله وشربه، فلم يضره شيئاً. قال ابن سعد وابن نمير: مات بحمص سنة (21) ، وقال دحيم. وغيره. مات بالمدينة. وقيل: مات سنة (22) ويروى أنه لما حضرته الوفاة بكى. وقال: لقيت كذا وكذا زحفاً. وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة بسيف أو طعنة برمح، وها أنا أموت على فراشي، فلا نامت أعين الجبناء. (والعباس) بالرفع عطفاً على وخالد. ووقع في رواية أبي عبيد (ص592) منع ابن جميل وخالد والعباس أن يتصدقوا، وهو مقدر ههنا لأن منع يستدعى مفعولاً أي منع هؤلاء التصدق يعني إعطاء الزكاة (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) بيان لوجه امتناع هؤلاء من الإعطاء، فلذلك ذكره بالفاء (ما ينتقم ابن جميل) بكسر القاف من باب ضرب ما ينكر الزكاة (إلا أنه) أي لأجل أنه (أنه كان فقيراً فأغناه الله ورسوله) فجعل نعمة الله، وهو كونه أغناه الله بعد فقره سبباً لكفرها، مع أنه لا يصلح أن يكون علة لكفران النعمة، بل هو موجب للشكر، فعكس

وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً، قد احتبس أدراعه وأعتده ـــــــــــــــــــــــــــــ وجعلها موجبة للكفران، فاستحق كل الذم. وفي هذا قول الشاعر: ما نقموا من بني أمية إلا أنهم يحلمون إذا غضبوا أو ما ينقم أي ما يكره شيئاً إلا أغناء الله، وهذا مما لا يكره أو ما ينكر شيئاً إلا كون الله أغناه بعد فقره، وهذا ليس بمنكر، فكأنه لم ينكر منكراً أصلاً. يقال: نَقَمتُ منه كذا أنقم بالفتح في الماضي والكسر في المستقبل إذا عِتَبه وأنكرته عليه وكرهته، وكذلك نَقمت بالكسر في الماضي والفتح في المستقبل. وقيل: ينقم بكسر قاف أفصح من فتحها قال في النهاية: ويقال: نقم من فلان الإحسان إذا جعل إحسانه مما يؤيديه إلى كفر النعمة أي أواه غناه إلى أن كفر نعمة الله، فما ينقم شيئاً في منع الزكاة إلا أن يكفر النعمة. قال التوربشتي: وهذا الذي قاله صحيح، لأنه قول القائل لمن أساء إليه بعد أن أحسن هو إليه ما عِبتَ عليّ إلا الإحسان إليك، تعريض بكفران النعمة، وتقريع بسوء الصنيع في مقابلة الإحسان، وإنما ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسه عند المنة عليه، لأنه كان سباً لدخوله في الإسلام، فأصبح غنياً بعد فقره بما أفاءه الله على رسوله، وبما أباح لأمته من الغنائم ببركته- انتهى. وقال الكرماني: الاستثناء مفرغ. ومحل أن وصلتها نصب على المفعول به أو على أنه مفعول لأجله، والمفعول به حينئذٍ محذوف أي ليس ثمة شيء ينقم له ابن جميل يوجب منع الزكاة إلا أغناه الله، وليس بموجب للمنع، فلا موجب له أصلاً، وهذا مما تقصد العرب في مثله تأكيد النفي والمبالغة فيه بإثبات شيء، وذلك الشيء لا يقتضي إثباته، فهو منتف أبداً، ويسمى مثل ذلك عند البيانين تأكيد المدح بما يشبه الذم وبالعكس، فمن الأول قول الشاعر: ولأعيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب لأنه إذا لم يكن فيهم عيب إلا هذا. وهذا ليس بعيب فلا عيب فيهم. ومن الثاني هذا الحديث وشبهه أي ما ينقم ابن جميل شيئاً إلا كون الله أغناه بعد فقره، وهذا مما لا ينقم فليس ثمة شيء ينقم أو فلم ينكر منكراً أصلاً، فينبغي له أن يعطي مما أعطاه الله ولا يكفر بالنعمة (وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً) عبر بالظاهر دون أن يقول تظلمونه بالضمير على الأصل تفخيماً لشأنه وتعظيما لأمره، نحو {وما أدراك ما الحاقة} -[الحاقة: 3] والمعنى تظلمونه بطلبكم منه زكاة ما عنده، فإنه (قد احتبس) أي وقف (أدراعه) بمهملات جمع درع بكسر الدال، وهي الزردية (وأعتده) بضم المثناة جمع عتد بفتحتين. وفي مسلم: أعتاده بزيادة الألف بعد التاء، وهو أيضاً جمعه. وقال النووي: واحده عتاد بفتح العين. وقال الجزري: الأعُتدُ والأعتاد جمع عتاد وهو ما أعده الرجل من السلاح والدواب وآلات الحرب. ويجمع على أعتده (بكسر التاء) أيضاً. وقيل: هو الخيل خاصة، يقال: فرس عتيد أي صلب أو معد

في سبيل الله فهي على ومثلها معها، ـــــــــــــــــــــــــــــ للركوب أو سريع الوثوب (في سبيل الله) قصة خالد تُؤولّ على وجوه: أحدها أنهم طالبوا خالداً بالزكاة عن أثمان الأعتاد والأدراع بظن أنها للتجارة، وأن الزكاة فيها واجبة، فقال لهم: لا زكاة فيها علي، فقالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن خالداً منع الزكاة، فقال: إنكم تظلمونه، لأنه حبسها ووقفها في سبيل الله قبل الحول، فلا زكاة فيها، فيكون فيه حجة لمن أسقط الزكاة عن الأموال المحبسة ولمن أوجبها في عروض التجارة، ولمن جوز احتباس آلات الحروب من الدروع والسيوف والجحف، وقد يدخل فيها الخيل والإبل، لأنها كلها عتاد للجهاد، وعلى قياس ذلك الثياب والبسط والفرش ونحوها من الأشياء التي ينتفع بها مع بقاء أعيانها، ولمن جوز صحة الوقف والحبس من غير إخراج من يد الواقف، وذلك أن الشيء لو لم يكن في يده لم يكن لمطالبته بالزكاة عنه معنى، وثانيها، أنه قد اعتذر لخالد ودافع عنه. وأراد أن يمنع الزكاة إن وجبت عليه، لأنه قد جعل أدراعه وأعتاده في سبيل الله تبرراً وتبرعاً وتقرباً إليه تعالى، وذلك غير واجب عليه، فكيف يجوز عليه منع الصدقة الواجبة، فإذا أخبر بعدم الوجوب أو منع فيصدق في قوله ويعتمد على فعله. وقيل: المعنى أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقبل قول من أخبره بمنع خالد حملاً على أنه لم يصرح بالمنع، وإنما نقلوه بناء على ما فهموه، ويكون قوله: "تظلمونه" أي بنسبتكم إياه إلى المنع، وهو لم يمنع، وكيف يمنع الفرض، وقد تطوع بتحبيس سلاحه وخيله، وثالثها، أنه أجاز لخالد أن يحتسب ما حبسه في سبيل الله فيما يجب عليه من الزكاة التي أمر بقبضها منه، وذلك لأن أحد الأصناف الثمانية سبيل الله، وهم المجاهدون، فصرفها في الحال كصرفها في المآل فيكون فيه حجة لمن جوز صرف الزكاة إلى صنف واحد من الثمانية، وهو قول كافة العلماء، خلافاً للشافعي، ولمن قال بجواز إخراج القيم في الزكاة كالحنفية، وقد أدخل البخاري هذا الحديث في باب أخذ العروض في الزكاة، فيدل على أنه ذهب إلى هذا التأويل. وتعقب ابن دقيق العيد جميع ما يتفرع على التأويل الأول والثالث بأن القصة واقعة عين محتملة لما ذكر ولغيره، فلا ينهض الاستدلال بها على شئ مما ذكر، قال: ويحتمل أن يكون تحبيس خالد لأدراعه وأعتاده في سبيل الله إرصاده إياها لذلك وعدم تصرفه بها في غير ذلك، وهذا النوع حبس وإن لم يكن تحبيساً أي وقفاً. ولا يبعد أن يراد مثل ذلك بهذا اللفظ، فلا يتعين الاستدلال بذلك لما ذكر، فإنه استدلال بأمر محتمل غير متعين لما ادعى (فهي) أي صدقة العباس (علي) أي أنا ضامن مكتفل عنه، وإلا فالصدقة عليه حرام (ومثلها معها) أي مثل تلك الصدقة في كونها فريضة عام آخر لا في الأسان والمقادير، فإن ذلك يتغير بزيادة المال ونقصانه، ولا يعرف ذلك إلا بعد دخول عام آخر. قيل: معناه أنه أخر عنه زكاة عامين لحاجة بالعباس وتكفل بها عنه. قال الجزري في جامع الأصول (ج5:ص470) معناه أنه أوجبها عليه وضمنه إياها ولم يقبضها، وكانت ديناً على العباس، لأنه رأى به حاجة

إلى ذلك. وقال أبوعبيد: أرى – والله أعلم – أنه كان أخر عنه الصدقة عامين من أجل حاجة العباس، فإنه يجوز للإمام أن يؤخرها إذا كان ذلك على وجه النظر ثم يأخذها بعد كالذي فعله عمر في عام الرمادة، فلما أحيى الناس في العام المقبل أخذ منهم صدقة عامين. قال التوربشتي: ويخرج معنى قوله "فهي على ومثلها معها" على هذا التأويل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: هذا القول على صيغة التكفل بما يتوجه عليه من صدقة عامين، وهو تأويل حسن – انتهى. وقال في اللمعات: استمهل العباس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك عامين لحاجة كانت له فأمهله، ويجوز للإمام أن يؤخرها إذا كان لوجه النظر ثم يأخذها وقيل: معناه أنه - صلى الله عليه وسلم - التزم بإخراج ذلك عنه، ويرجحه قوله: إن عم الرجل صنو أبيه أي مثله، ففي هذا اللفظة إشعار بذلك، فإن كونه صنوا لاب يناسب أني حمل عنه أي هي علي إحساناً إليه وبرآً به وتفضيلاً له وتشريفاً. قال الخطابي: وقد يحتمل معنى الحديث أن يكون قد تحمل بالصدقة وضمن أداءها عنه لسنتين، ولذلك قال: إن عم الرجل صنو أبيه يريد أنه حقه في الوجوب كحق أبيه عليه، إذ هما شقيقان خرجا من أصل واحد، فأنا أنزهه عن منع الصدقة والمطل بها وأوديها عنه. وقيل: معنى علي عندي أي هي عندي قرض، لأنه - صلى الله عليه وسلم - استقرض منه زكاة عامين لاحتياجه لصرفها في مصارفها أو في المصارف الأخرى التي على بيت مال المسلمين، وقد ورد ذلك صريحاً فيما أخرجه الترمذي وغيره من حديث علي. وفي إسناده مقال. وفي الدارقطني من طريق موسى ابن طلحة. أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إنا كنا احتجنا فتعجلنا من العباس صدقة ماله سنتين، وهذا مرسل وروى الدارقطني أيضاً موصولاً بذكر طلحة، وإسناد المرسل أصح. وقيل: إن العباس عجل إليه - صلى الله عليه وسلم - صدقة عامين هذا العام الذي طلب العامل منه، والعام الذي بعده، وهو المراد بقوله: "ومثلها معها" ومعنى على عندي، أي قد وصل إلى زكاة العباس لعامين، فهي عندي. قال أبوعبيدة بعد ذكر ما يدل على أنه أخر زكاته عنه وما يدل على أنه تعجلها منه: ولعل الأمرين جميعاً قد كانا أي في وقتين. قال وكلا الوجهين: جائز إذا كان على وجه الإجتهاد، وحسن النظر من الإمام وقيل: يحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أستسلف منه مالاً ينفقه في سبيل الله، ثم يتحسب له من الصدقة عند حلولها. قال الحافظ، وقيل المعنى استسلف منه قدر صدقة عامين، فأمر أن يقاص به من ذلك، واستبعد ذلك بأنه لو كان وقع لكان - صلى الله عليه وسلم - أعلم عمر بأنه لا يطالب العباس، وليس ببعيد- انتهى. وأعلم أنه وقع اختلاف في هذا اللفظ، ففي رواية وقع كما في الكتاب، وهو لفظ مسلم. وفي رواية فهي علي صدقة ومثلها معها، وهو لفظ البخاري، وفي رواية هي "عليه ومثلها معها" أي من غير ذكر الصدقة، ذكر هذا اللفظ البخاري، ووصله الدارقطني من طريق محمد بن إسحاق. وفي رواية "فهي له ومثلها معها" وهو لفظ ابن خزيمة، أخرجه من طريق موسى بن عقبة. أما معنى اللفظ الذي في المشكاة فقد تقدم الكلام عليه آنفاً. وأما معنى فهي عليه صدقة ومثلها معها

ثم قال: يا عمر! أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه)) . متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ فقيل: إنه - صلى الله عليه وسلم - ألزم العباس بتضعيف صدقته ليكون أرفع لقدره وأنبه لذكره وأنفى للذم عنه، فضمير "عليه" للعباس. والمعنى هي، أي الصدقة المطلوبة من العباس، عليه صدقة أي واجبة ثابتة عليه لازمة له، سيتصدق بها ومثلها معها أي ويضيف إليها مثلها كرماً منه، وليس معناه أنه يقبضها لأن الصدقة عليه حرام لكونه من بني هاشم، أي وظاهر هذا الحديث أنها صدقة عليه ومثلها معها. فكأنه أخذها منه وأعطاها له. وقيل: هو محمول على ظاهره، وكان ذلك قبل تحريم الصدقة على بني هاشم. وقيل: المعنى أن أمواله كالصدقة عليه، لأنه استدان في مفاداة نفسه وعقيل، فصار من جملة الغارمين الذين لا تلزمهم الزكاة، فساغ له أخذ الزكاة بهذا الاعتبار. وقيل: يحتمل أن ضمير "عليه" لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو المرافق لما قبل: إنه صلى الله عليه وسلم استسلف منه صدقة عامين أي فصدقة العباس على الرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيكون موافقاً لقوله في رواية مسلم: فهي علي. وأما معنى، فهي عليه ومثلها معها، فهو أنه أخرها عنه ذلك العام إلى عام قابل، فيكون عليه صدقة عامين، وقد تقدم هذا في كلام أبي عبيدة واضحاً. وقيل: المراد بقوله: فهي عليه أي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ليكون موافقاً لرواية مسلم بلفظ: فهي على قال البيهقي ورواية الحديث بلفظ: فهي علي أولى بالصحة، لموافقتها للروايات الصريحة بالاستسلاف والتعجيل-انتهى. وقال الحفاظ بعد ذكر حديث ابن مسعود: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - تعجل من العباس صدقة سنتين: في اسناده محمد بن ذكوان وهو ضعيف، ولو ثبت لكان رافعاً للإشكال، ولرجح به سياق رواية مسلم على بقية الروايات. وأما معنى فهي له ومثلها معها أي فهي عليه. قال البيهقي: له بمعنى عليه، وهذه الرواية محمولة على سائر الروايات أي اللام هنا بمعنى على لتتفق الروايات. قال الحافظ: وهذا أولى، لأن المخرج واحد، وإليه مآل ابن حبان (أما شعرت) بفتح العين، و"الهمزة" استفهامية، و "ما" نافية أي ما علمت (أن عم الرجل صنو أبيه) بكسر الصاد وسكون النون أي مثله ونظيره، إذ يقال لنخلتين: نبتا من أصل واحد: صنوان، ولأحدهما صنو والمعنى أما تنبهت أنه عمى وأبى، فكيف تتهمه بما ينافي حاله، لعل له عذر أو أنت تلومه، قاله القاري: وقال المظهر: يعني عم الرجل وأبوه كلاهما من أصل واحد، يعني إذا علمت أنه وإني من أصل واحد فلا تقل له ما يتأذى منه محافظة لجانبي. وقال التوربشتي: أراد بأن أباه والعباس من أرومة واحدة وأنه منه بمثابة الأب، ويقال للمثل: الصنو أي مثل أبيه، فمن الأدب بل من الواجب أن لا يسمعه فيه ما يعود منه نقيصه عليه. وقال الجزري: المراد بهذا القول، إن حق العباس في الوجوب كحق أبيه صلى الله عليه وسلم، فأنا أنزهه عن منع الصداقة والمطل بها (متفق عليه) واللفظ لمسلم، وأخرجه أيضًا أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه وأبوعبيد وابن خزيمة والبيهقي.

1794- (8) وعن أبي حميد الساعدي، قال: ((استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد، يقال له ابن التبية، على الصدقة، فلما قدم، قال: هذا لكم، وهذا أهدي لي، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإني أستعمل رجالاً منكم على أمور مما ولاني الله، فيأتي أحدهم ـــــــــــــــــــــــــــــ 1794- بقوله: (استعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً) أي جعله عاملاً وساعياً (من الأزد) بفتح الهمزة وسكون الزاي، آخره دال مهملة، أبوحي اليمن. وفي رواية: من الأسد بالسين المهملة بدل الزاي. وفي رواية: من بني الأسد. قال النووي: الأسد بإسكان السين، ويقال له (أي للرجل المذكور) الأزدي من أزدشنوة، ويقال لهم الأزد والأسد. وقال التيمي: الأسد والأزد يتعاقبان. وقال الرشاطي: هو الأزد بن الغوث ابن نبت بن ملكان بن زيد بن كهلان، ثم قال: يقال له: الأزد بالزاي والأسد بالسين (يقال له ابن اللتبية) بضم اللام وسكون المثناة الفوقية وكسر الموحدة ثم ياء النسب. وفي بعض الأصول بفتح المثناة. وقيل بفتح اللام والمثناة، والمشهور الأول. قيل: وهو الصواب، نسبة إلى بني لنب حي من الأزد، واسم ابن التبية عبد الله فيما ذكر ابن سعد وغيره. قال في الإصابة: عبد الله بن التبية بن ثعلبة الأزدي مذكور في حديث أبي حميد الساعدي في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على الصدقات يدعى ابن اللتبية- الحديث. وإنما يأتي في أكثر الروايات غير مسمى، وسماه ابن سعد والبغوي وابن أبي حاتم والطبراني وابن حبان والباوردي وغير واحد عبد الله- انتهى. قيل: واللتبية كانت أمه فعرف بها. قال الحافظ: ولم أقف على إسمها، ووقع في رواية ابن الاتبية بضم الهمزة بعدها مثناة فوقية ساكنة وتفتح فموحدة مكسورة فتحتية مشددة (على الصدقة) وفي رواية: على صدقات بني سليم بضم السين وفتح اللام. قال الحافظ: أفاد العسكري بأنه بعث على صدقات بني ذبيان، فلعله كان على القبيلتين. وفي رواية: بعث مصدقاً إلى اليمن (فلما قدم) أي المدينة بعد رجوعه من عمله وأمر عليه السلام من يحاسبه ويقبض منه (قال هذا لكم وهذا أهدي لي) بصيغة الماضي المجهول من الإهداء، أي قال لبعض ما معه من المال: هذا مال الزكاة، وقال: لبعضه الآخر هذا أعطانيه القوم هدية. وفي رواية أبي نعيم: فجعل يقول: هذا لكم وهذا لي حتى ميزه قال: يقولون من أين هذا لك؟ قال أهدي لي، فجاؤا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بما أعطاهم (فخطب النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي الناس ليعلمهم وليحذرهم من فعله، زاد في رواية قبل ذلك ألا جلست في بيت أبيك وبيت أمك حتى تأتيك هديتك عن كنت صادقا، ثم قام فخطب. وفي رواية: فصعد المنبر وهو مغضب (استعمل رجالاً) أي اجعلهم عمالا (مما ولاني الله) أي جعلني حاكماً فيه (فيأتي أحدهم) أي من العمال وروعي فيه الإجمال ولم يبين

فيقول: هذا لكم، وهذه هدية أهديت لي، فهلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه، فينظر أيهدى له، أم لا؟ والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منه شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيراً له رغاء أو بقراً له خوار، ـــــــــــــــــــــــــــــ عينه ستراً وتكرماً عليه (وهذه) أنث لتأنيث الخبر، وهي (هدية أهديت لي) أعطيت لي أو أرسلت إلى هدية (فهلا) وفي رواية "ألا" بفتح الهمزة وتشديد اللام وهما بمعنى (جلس) أي لم لم يجلس (في بيت أبيه أو بيت أمه) قال القاري: أو للتنويع أو للشك، وهذا تحقير لشأنه في حد ذاته، يعني إنما عرض له التعظيم من حيث عمله- انتهى. وفي رواية للشيخين: في بيت أبيه وأمه. وفي رواية للبخاري: في بيت أبيه وبيت أمه أي بالواو بدل أو (فينظر) بالنصب جواب قوله"فهلا جلس" أي فيرى أو فينتظر، قاله القاري. وقال القسطلاني: الظاهر أن النظر ههنا من طريق العلم، وتوقف فيه ابن هشام في مغنية، وقال به أخرى، حكاه في المصابيح (أيهدي له) أي شيء في بيته الأصلي (أم لا) وفي رواية للبخاري: حتى تأتيه هديته إن كان صادقاً. والمعنى لولا الإمارة والحكومة لم يهد له شيء، فهذا الذي أهدى له إنما هو لإمارته وعمله، وهو الرشوة، فلا يحل له. قال النووي: في الحديث بيان أن هدايا العمال حرام وغلول، لأنه خان في ولايته وأمانته، ولهذا ذكر في الحديث في عقوبته وحمله ما أهدى إليه يوم القيامة، كما ذكر مثله في الغال، وقد بين صلى الله عليه وسلم في نفس الحديث السبب في تحريم الهدية عليه وأنها بسبب الولاية بخلاف الهدية لغير العامل، فإنها مستحبة، وحكم ما يقبضه العامل ونحوه باسم الهدية أنه يرده إلى مهديه، فإن تعذر فإلي بيت المال. وقال الخطابي: في الحديث بيان أن هدايا العمال سحت، وأنه ليس سبيلها سبيل سائراً الهدايا المباحة، وإنما يهدي إليه للمحاياة وليخفف عن المهدي ويسوغ له بعض الواجب عليه، وهو خيانة منه وبخس للحق الواجب عليه استيفاءه لأهله (لا يأخذ أحد منه) أي مال الصدقة (شيئاً) وفي رواية: لا ينال أحد منكم منهما (أي من الصدقة التي يقبضها) شيئاً. وفي أخرى: لا يأخذ أحد منكم منها شيئاً بغير حقه. وعند أبي عوانة: لا يغل منه شيئا (يحمله) حال أو استئناف بيان (على رقبته) أي تشهيراً وافتضاحاً. وفي رواية: على عنقه (إن كان) أي المأخوذ (بعيراً) أي يحمله على رقبته بحذف جواب الشرط لدلالة المذكور عليه (له رغاء) بضم الراء وبالغين المعجمة ممدوداً، يقال: رغا البعير إذا صوت أي إن كان المأخوذ بقراً يحمله على رقبته حال كونه له رغاء. وقال الطيبي: أي فله رغاء فحذف الفاء من الجملة الاسمية. وهو سائغ، لكنه غير شائع- انتهى. وعند أبي داود: إلا جاء يوم القيامة إن كان بعيراً فله رغاء، أو بقر فلها خوار (أو) كان المأخوذ (بقراً) يحله على رقبته حال كونه (له خوار) بضم الخاء المعجمة وفتح الواو المخففة بعدها ألف فراء، وهو صوت

أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطية، ثم قال: اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ البقر (أو) كان المأخوذ (شاة) يحملها على رقبته حال كونها (تيعر) بفتح الفوقية وسكون التحتية وفتح العين المهملة بعدها راء، ويجوز كسر العين أي تصيح وتصوت، واليعار صوت الشاة الشديد. قال في المفاتيح: يعني من سرق شيئاً في الدنيا من مال الزكاة أو غيرها يجيء يوم القيامة، وهو حامل لما سرق إن كان حيواناً له صوت رفيع ليعلم أهل العرصات حاله، فيكون فضيحته أشهر، كما قال تعالى: {ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة} [آل عمران: 161] وقال التوربشتي: لما كان الرغاء والخوار من الأصوات التي يسمعها البعيد كما يسمعها القريب قال له رغاء وله خوار، فلما انتهى إلى الشاة جعل الصياح صفة لازمة لها ليدل على أنها لا تزال تيعر بين أهل الموقف ليكون ذلك أنكل في العقوبة وأبلغ في الفضيحة- انتهى. (ثم رفع يديه) أي وبالغ في رفعهما (حتى رأينا عفرة إبطيه) بضم العين المهملة وسكون الفاء وفتح الراء آخرة هاء تأنيث أي بياضهما المشرب بالسمرة والعفرة بياض ليس بخالص (اللهم هل بلغت) بالتشديد أي قد بلغت أو استفهام تقريري، والمراد بلغت حكم الله إليكم امتثالاً لقوله تعالى له: {بلغ} [المائدة: 67] وإشارة إلى ما يقع في القيامة من سؤال الأمم هل بلغهم أنبياءهم ما أرسلوا به إليهم (اللهم هل بلغت) وفي رواية لمسلم: قال اللهم هل بلغت مرتين ومثله لأبي داود ولم يقل مرتين. وفي رواية للبخاري: اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت ثلاثاً. وفي أخرى له: ألا هل بلغت ثلاثاً أي أعادها ثلاث مرات وكرر هذا لتقرير وعظه على الناس ليكون أكثر وقعاً وتعظيماً وحفظاً في خواطرهم يعني الله تعالى شاهدي على تبليغ حال السرقة حتى لا ينكروا تبليغي يوم القيامة. وفي الحديث من الفوائد محاسبة العامل والمؤتمن، وأن المحاسبة تصحح أمانته، وهو أصل فعل عمر في محاسبة العمال. وفيه أن هدايا العمال تجعل في بيت المال، وأن العامل لا يملكها إلا أن يطيبها له الإمام كما في قصة معاذ، أنه عليه السلام طيب له الهداية، فأنفذها له أبوبكر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ في الفتح: في الحديث منع العمال من قبول الهدية ممن له عليه حكم، ومحل ذلك إذا لم يأذن له الإمام في ذلك، لما أخرجه الترمذي من رواية قيس بن أبي حازم عن معاذ بن جبل قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فقال: لا تصيبن شيئاً بغير أدنى، فإنه غلول. وقال المهلب: فيه أنها إذا أخذت تجعل في بيت المال، ولا يختص العامل منها إلا بما أذن له فيه الإمام، وهو مبني على أن ابن اللتبية أخذ منه ما ذكر أنه أهدى له وهو ظاهر السياق، ولكن لم أر صريحاً. ونحوه قول ابن قدامة في المغني (ج9 ص78) لما ذكر الرشوة والهدية التي ليس للحاكم قبولها فعليه ردها إلى أربابها، لأنه أخذها بغير حق، فأشبه المأخوذ بعقد فاسد. ويحتمل أن يجعلها في بيت المال لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر ابن اللتبية برد الهدية التي أهديت له على من أهداها. وقال ابن بطال: يلحق بهدية العامل الهدية لمن له دين ممن عليه الدين، ولكن له أن يحاسب بذلك من دينه

متفق عليه. قال الخطابي: وفي قوله: هلا جلس في بيت أمه أو أبيه، فينظر أيهدي إليه أم لا؟ دليل على أمر يتذرع به إلى محظور، فهو محظور وكل دخل في العقود فينظر هل يكون حكمه عند الانفراد كحكمه عند الاقتران أم لا؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ وفيه إبطال كل طريق يتوصل بها من يأخذ المال محاباة المأخوذ منه والانفراد بالمأخوذ. وقال ابن المنير: يؤخذ من قوله هلا جلس في بيت أبيه وأمه جواز قبول الهدية ممن كان يهاديه قبل ذلك كذا قال: ولا يخفى أن محل ذلك إذا لم يزد على العادة. وفيه أن من رأى متأولا أخطأ في تأويل يضر من أخذ به أن يشهر القول للناس، ويبين خطأه ليحذر من الاغترار به. وفيه جواز توبيخ المخطيء واستعمال المفضول في الإمارة وللإمامة والأمانة مع وجود من هو أفضل منه- انتهى كلام الحافظ (متفق عليه) أخرجه البخاري في الزكاة والهبة والإيمان والنذور والحيل والأحكام، ومسلم في المغازي وأخرجه أيضا أحمد (ج5 ص523) وأبوداود في الخراج، وأبوعوانة والبيهقي وغيرهم. وفي الباب عن عائشة عند البزار، وعن ابن عباس عند الطبراني في الكبير ذكرهما الهيثمي في مجمع الزوائد (ج3 ص85- 86) مع الكلام فيهما (قال الخطابي) صاحب معالم السنن (وفي قوله هلا جلس في بيت أمه أو أبيه) كذا في رواية أبي داود بتقديم الأم. قيل: هي رواية بالمعنى، والأصل ما وقع عند الآخرين بتقديم الأب وهو أيضاً مقتضي المقام، فإنه مشعر بزيادة الإكرام، فقوله في الحديث "أو بيت أمه" محمول على التنزل (فينظر أيهدي إليه أم لا) كذا في بعض نسخ أبي داود بلفظ: إليه مكان له, وهكذا وقع في بعض الروايات البخاري (دليل على أن كل أمر يتذرع) بالذال المعجمة على بناء المفعول من التذرع أي يتوسل (به إلى محظور فهو محظور) أي ممنوع ومحرم. ويدخل في ذلك القرض يجر المنفعة، والدار المرهونة يسكنها المرتهن بلا أجرة، وكراء والدابة المرهونة يركبها أو يرتفق بها من غير عوض، قاله القاري. وقال الشاه عبد العزيز الدهلوي في فتاواه: معنى قول الخطابي: أن المباح إذا جعله وسيلة إلى أمر محرم صار حراماً كقبول الهدية في قصة ابن اللتبية، فإنه في الأصل مباح، لكن لما جعل وسيلة إلى أخذ الزكاة بالمحاباة والمسامحة، وهو حرام صار حراماً، لأن للوسائل حكم المقاصد في الحرمة - انتهى. (وكل دخل) بفتحتين. هكذا وقع في بعض النسخ. وفي أكثرها دخيل على وزن كريم، وهكذا في معالم السنن "وكل" بالرفع. وقيل بالنصب أي كل عقد يدخل (في العقود) ويضم إلى بعضها كعقد البيع والبهة والإجارة والقرض والنكاح والرهن (ينظر) أي فيه (هل يكون حكمه عند الانفراد) أي قبل دخوله في ذلك العقد وانضمامه إليه (كحكمه عند الاقتران) والاجتماع والدخول (أم لا) فعلى الأول يصح وعلى الثاني لا يصح، كما إذا باع من أحد متاعاً يساوي عشرة بمائة ليقرضه ألفاً مثلا يدفع ربحه إلى ذلك الثمن، ومن رهن داراً بمبلغ كثير

هكذا في شرح السنة. ـــــــــــــــــــــــــــــ وآجره بشيء قليل، فقد ارتكب محظوراً. ولما علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن بعض أمته يرتكبون هذا المحظور بالغ حيث قال: اللهم هل بلغت مرتين، كذا في المرقاة. وقال الشاه عبد العزيز الدهلوي: معنى قول الخطابي: أن من أدخل عقد في عقد آخر، كمن أدخل إعارة في رهن أو إجارة في رهن أو قرضاً في بيع ينظر هل يكون حكم ذلك العقد الداخل عند الانفراد عن العقد الذي أدخل فيه كحكمه في تعليق رضاء المتعاقدين به عند اقترانه به أم لا، فعلى الأول يصح، وعلى الثاني لا يصح، كما إذا باع متاعاً بثمن يسير ليقرضه ألفاً، فلو لم يتوقع البائع منفعة القرض لما باع بهذا القدر ولم يرض به، وكذا لو لم يكن رهن الدار بمبلغ كثير لم يرض الراهن بإجارتها بشيء يسير، ولم يرض بإعارتها فلا تصح هذه العقود، لأنها لم يتعلق بها الرضاء عند الانفراد بل عند الاقتران فقط، ولو كان بين الراهن والمرتهن صداقة تصح الإعارة أو الإجارة بشيء يسير، ولو لم ينعقد بينهما عقد الرهن صح الإعارة أو الإجارة، لأنهما مما يتعلق به الرضاء عند الانفراد لأجل الصدقة مثلاً فقط- انتهى. (هكذا) أي نقله البغوي عنه (في شرح السنة) وكلام الخطابي هذا معالم السنن (ج3 ص8) هكذا وفي قوله "ألا جلس في بيت أمه أو أبيه فينظر أيهدي إليه أم لا، دليل على أن كل أمر يتذرع به إلى محظور فهو محظور، ويدخل في ذلك القرض يجر المنفعة والدار المرهونة يسكنها المرتهن بلا كراء، والدابة المرهونة يركبها ويرتفق بها من غير عوض. وفي معناه باع درهماً ورغيفاَ بدرهمين، لأن معلوماَ أنه إنما جعل الرغيف ذريعة إلى أن يربح فضل الدرهم الزائد، وكذلك كل تلجئة وكل دخيل في العقود يجري مجرى ما ذكرناه على معنى قوله هلا قعد في بيت أمه حتى ينظر أيهدي إليه أم لا، فينظر في الشيء وقرينه إذا أفرد أحدهما عن الآخر، وفرق بين إقرانهما، هل يكون حكمه عند الانفراد كحكمه عند الاقتران والله أعلم" قلت: وإليه ذهب الإمام مالك، وقد بسط ذلك في المؤطا وذكر لذلك نظائر وأمثله في باب المراطلة من كتاب البيوع: منها أن الرجل يعطي صاحبه الذهب الجيد ويجعل معد ردئياً، ويأخذ منه ذهباً متوسطاً مثلاً بمثل. فقال: هذا لا يصلح، لأنه أخذ فضل جيده من الردي، ولو لاه لم يبايعه - انتهى. ملخصاً. وقد ذكره ابن رشد في البداية (ج2 ص164- 165) مع بيان اختلاف العلماء في ذلك فارجع إليه. ومنها أن رجلاً أراد أن يبتاع ثلاثة آصع من تمر عجوة بصاعين ومدين من تمر كبيس. فقيل له: هذا لا يصلح، فجعل صاعين من كبيس، وصاعاً من حشف، يريد أن يجيز بذلك بيعه، فذلك لا يصلح، لأنه لم يكن صاحب العجوة ليعطيه صاعاً من العجوة بصاع من حشف، ولكنه إنما أعطاه ذلك لفضل الكبيس. ومنها أن يقول الرجل للرجل: يعني ثلاثة آصع من البيضاء بصاعين ونصف من حنطة شامية، فيقول: هذا لا يصلح إلا مثلاً بمثل، فيجعل صاعين من

حنطة شامية وصاعاً من شعير (الشعير والحنطة عند مالك صنف واحد) يريد أن يجيز بذلك البيع، فهذا لا يصلح لأنه لم يكن ليعطيه بصاع من شعير صاعاً من حنطة بيضاء لو كان ذلك الصاع مفرداً، وإنما أعطاه إياه لفضل الشامية فهذا لا يصلح إلى آخر ما قال، وعليك أن ترجع لشرح هذه الأمثلة إلى شروح المؤطا للزرقاني والباجي وغيرهما وما قاله الخطابي في الكلية الأولى، فهو موافق لمذهب الحنفية ومذهب الشافعي وغيره، لأن من القواعد المقررة أن للوسائل حكم المقاصد، فوسيلة الطاعة طاعة ووسيلة المعصية معصية. وأما ما قاله من الكلية الثانية، فإنما يليق بمذهب من منع الحيل للتوسل بها إلى الخروج من الربا أو غيره، كمالك وأحمد. وأما أبوحنيفة والشافعي فهما يريان إباحة الحيل فلا ينظران إلى هذا الدخيل. واستدل لهما بما سيأتي في باب الربوا من حديث أبي سعيد وأبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل رجلاً على خيبر فجاءه بتمر جنيب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال لا والله يا رسول الله! إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة، فقال: لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيباً- انتهى. ونحوه حديث أبي سعيد في قصة بلال، وسيأتي أيضا في ذلك الباب. قال القاري: أفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن كل عقد توسط في معاملة أخرجها عن المعاملة المؤدية إلى الربوا جائز؟ وقال أيضاً هذا الحديث (يعني حديث أبي سعيد في قصة بلال) كالذي قبله صريح في جواز الحيلة في الربوا الذي قال به أبو حنيفة والشافعي. وبيانه أنه - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يبيع الردى بالدراهم ثم يشتري بها الجيد من غير أن يفصل في أمره بين كون الاشتراء من ذلك المشتري أو من غيره، بل ظاهر السياق أنه بما في ذمته، وإلا لبينه له- انتهى. وأجيب عن هذا الاستدلال بأن قوله - صلى الله عليه وسلم - بع الجمع مطلق لا عام، والمطلق لا يشمل، ولكن يشيع، فإذا عمل به في صورة سقط الاحتجاج به فيما عداها، ولا يصح الاستدلال به على جواز الشراء ممن باعه تلك السلعة بعينها، هذا ملخص ما ذكره الإمام ابن القيم في إعلام الموقعين في الجواب عن هذا الاستدلال، وقد أطال فيه جداً وبسط الكلام أيضاً على سد الذرائع وإبطال الحيل، فعليك أن ترجع إليه وإلى إرشاد الفحول (ص17- 18) للشوكاني. والفروق للقرافي (ج2 ص39، 41) وقال القرطبي: استدل بهذا الحديث من لم يقل بسد الذرائع، لأن بعض صور هذا البيع يؤدي إلى بيع التمر بالتمر متفاضلاً، ويكون الثمن لغواً، قال: ولا حجة في هذا الحديث، لأنه لم ينص على جواز شراء التمر الثاني ممن باعه التمر الأول ولا يتناوله ظاهر السياق بعمومه، بل بإطلاقه، والمطلق يحتمل التقييد إجمالاً، فوجب الاستفسار، وإذا كان كذلك فتقييده بأن دليل كاف، وقد دل الدليل على سد الذرائع، فلتكن هذه الصورة ممنوعة- انتهى. وسيأتي مزيد الكلام في هذا في الباب الربوا إنشاء الله تعالى.

{الفصل الثاني}

1795- (9) وعن عدي بن عميرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطاً فما فوقه كان غلولاً يأتي به يوم القيامة)) . رواه مسلم. {الفصل الثاني} 1796- (10) عن ابن عباس، قال: لما نزلت هذه الآية {والذين يكنزون الذهب والفضة} ـــــــــــــــــــــــــــــ 1795- قوله: (وعن عدي بن عميرة) بفتح المهملة وكسر الميم بعدها تحتية ثم راء هو عدي بن عميرة فروة بن زرارة بن الأرقم الكندي صحابي معروف، يكنى أبا زرارة وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - وروى عنه شيئا يسيراً، وروى عنه أخوه العرس وله صحبة وغير واحد. قال أبوعروبة الحراني: كان عدي بن عميرة قد نزل الكوفة ثم خرج عنها بعد قتل عثمان، فصار إلى الجزيرة فمات بها، وله عقب بحران، وقال ابن سعد: لما قدم عليّ الكوفة جعل بعض أصحابه يتناول عثمان، فقال بنوالأرقم لا نقيم ببلد يشتم فيها عثمان. فتحولوا إلى الشام، فأنزل معاوية الجزيرة، وقيل: أسكنهم الرها وأقطعهم بها ومات بها عدي بن عميرة في خلافة معاوية (من استعملناه) أي جعلناه عاملاً (منكم) أيها المؤمنون، إذا الكافر لا يصح توليته. قال المناوي: فخرج الكافر، فلا يجوز استعماله على شيء من أموال بيت المال (فكتمنا) بفتح الميم أي أخفى عنا (مخيطا) بكسر الميم وسكون المعجمة، وفتح أي إبرة (فلما فوقه) أي فشيئا يكون فوق المخيط في الصغر أو الكبر. قال الطيبي: الفاء في قوله: فما فوقه، للتعقيب على التوالي وما فوقه يحتمل أن يكون المراد به الأعلى أو الأدنى، كما في قوله تعالى: {بعوضة فما فوقها} -[البقرة: 26] (كان) أي ذلك الكتمان (غلولاً) بضم المعجمة أي خيانة في الغنيمة. قال النووي: أصل الغلول الخيانة مطلقاً ثم غلب اختصاصه في الاستعمال بالخيانة في الغنيمة (به) أي بماغل (يوم القيامة) تفضيحاً له وتعذيباً. والحديث مسوق لحث العمال على الأمانة وتحذيرهم عن الخيانة ولو في تافه وقد أجمع المسلمون على تحريم الغلول وأنه من الكبار وأن عليه رد ما غله، وذكر هذا الحديث في باب الزكاة استطراداً لمناسبته للحديث السابق في ذكر العمل والخيانة (رواه مسلم) في المغازي وأخرجه أيضاً أحمد (ج4 ص192) وأبوداود في القضايا. 1796- قوله: (والذين يكنزون الذهب والفضة) أي يجمعونها يقال كنزت المال كنزاً من باب ضرب جمعته وادخرته، وكنزت التمر في وعائه كنزاً أيضاً فأصل الكنز في اللغة الضم والجمع ولا يختص ذلك بالذهب والفضة. قال ابن جرير: الكنز كل شيء مجموع بعضه إلى بعض في بطن الأرض كان أو على ظهرها- انتهى. ومنه

كبر ذلك على المسلمين، فقال عمر: أنا أفرج عنكم، فانطلق فقال: يا نبي الله! إنه كبر على أصحابك هذه الآية، فقال: إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث، وذكر كلمة لتكون لمن بعدكم، فقال: فكبر عمر، ثم قال له: ألا أخبرك بخير ما يكنز المرأ؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ ناقة كناز مكتنزة اللحم. وقيل: الكنز المال المدفون معروف تسمية بالمصدر والجمع كنوز وأكتنز الشيء اجتمع وامتلأ ومال مكنوز أي مجموع (كبر) بضم الباء أي شق وأشكل (ذلك) أي نزول الآية أو ظاهر الآية من العموم (على المسلمين) لأنهم حسبوا أنه يمنع جمع المال مطلقاً وأن كل من تأثل مالاً جل أو قل فالوعيد لاحق به (أنا أفرج عنكم) بتشديد الراء أي أزيل هذه الشدة عنكم وآتى بالفرج لكم فإنه ليس عليكم في الدين من حرج (فانطلق) أي فذهب عمر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فقال) وفي بعض نسخ أبي داود: فانطلقوا فقالوا (يا نبي الله إنه) أي الشأن (كبر) أي عظم وصعب (على أصحابك هذه الآية) أي حكمها والعمل بها لما فيها من عموم منع الجمع (فقال) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إلا ليطيب) من التفعيل أي ليحل الله بأداء الزكاة لكم (ما بقي من أموالكم) قال تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} -[التوبة: 103] ومعنى التطييب إن أداء الزكاة إما أم يحل ما بقي من ماله المخلوط بحق الفقراء، وإما أن يزكيه من تبعه ما لحق به من إثم منع حق الله تعالى، وحاصل الجواب أن المراد بالكنز منع الزكاة لا الجمع مطلقاً، ولعل في الآية في قوله تعالى: {ولا ينفقونها في سبيل الله} -[التوبة: 34] إشارة إليه بأن المراد بالإنفاق إعطاء الزكاة لا إنفاق المال كله. قال الحافظ: المراد بسبيل الله في الآية المعنى الأعم لا خصوص أحد السهام الثمانية التي هي مصارف الزكاة وإلا لاختص بالصرف إليه بمقتضي هذه الآية (وإنما فرض المواريث) عطف على قوله: " إن الله لم يفرض الزكاة" قال الطيبي: كأنه قيل إن الله لم يفرض الزكاة إلا لكذا ولم يفرض المواريث إلا ليكون طيباً لمن يكون بعدكم، والمعنى لو كان الجمع محظوراً مطلقاً لما افترض الله الزكاة ولا الميراث (وذكر كلمة) من كلام الراوي أي أن ابن عباس أي وذكر - صلى الله عليه وسلم -: كلمة أخرى بعد المواريث لم أحفظها، والجملة معترضة بين الفعل وعلته وهو قوله (لتكون) أي وإنما فرض المواريث لتكون الأموال بالميراث طيبة (لمن بعدكم) وفي النسخ التي بأيدينا من سنن أبي داود وإنما فرض المواريث لتكون لمن بعدكم أي بدون قوله: "وذكر كلمة" ورواه البيهقي بلفظ: وإنما فرض المواريث في أموال تبقى بعدكم (فقال) أي ابن عباس (فكبر عمر) أي فرحاً على كشف المعضلة (ثم قال) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (له) أي لعمر (ألا أخبرك) يحتمل أن تكون للتنبيه وأن تكون الهمزة الاستفهامية ولا نافية (بخير ما يكنز المرأ) أي بأفضل ما يقتنيه ويتخذه لعاقبته ولما بين أن لا وزر في جمع المال بعد أداء

المرأة الصالحة: إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الزكاة ورأى فرحهم بذلك ورغبهم عن ذلك إلى ما هو خير وأبقى وهو التقلل والاكتفاء بالبلغة (المرأة الصالحة) أي الجميلة ظاهراً وباطناً. قال الطيبي: المرأة مبتدأ والجملة الشرطية خبره، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف. والجملة الشرطية بيان (إذا نظر) أي الرجل (سرته) أي جعلته مسروراً بجمال صورتها وحسن سيرتها وحصول حفظ الدين بها (وإذا أمرها) بأمر شرعي أو عرفي (أطاعته) وخدمته (حفظته) أي حقوقه في نفسها وماله وولده وبيته. قال القاضي: لما بين لهم - صلى الله عليه وسلم - أنه لا حرج عليهم في جمع المال وكنزه ما داموا يؤدون الزكاة ورأى استبشارهم به ورغبهم عنه إلى ما هو خير وأبقى وهي المرأة الصالحة الجميلة فإن الذهب لا ينفعك إلا بعد الذهاب عنك وهي ما دامت معك تكون رفيقك تنظر إليها فتسرك وتقضي عند الحاجة إليها وطرك وتشاورها فيما يعن لك فتحفظ عليك سرك وتستمد منها في حوائجك فتطيع أمرك وإذا غبت عنها تحامى مالك وتراعي عيالك ولو لم يكن لها إلا أنها تحفظ بذرك وتربي زرعك فيحصل لك بسببها ولد يكون لك وزيراً في حياتك وخليفة بعد وفاتك لكان بذلك فضل كثير- انتهى. وأعلم أنه ذهب أكثر العلماء إلى أن الكنز المذموم ما لم تؤد زكاته وإن لم تدفن فإن أديت فليس بكنز مذموم وإن دفن ولم يخالف في ذلك إلا طائفة من أهل الزهد كأبي ذر. قال ابن عبد البر: وردت عن أبي ذر آثار كثيرة تدل على أنه كان يذهب إلى أن كل مال مجموع يفضل عن القوت وسداد العيش فهو كنز يذم فاعله وأن آية الوعيد نزلت في ذلك وخالفه جمهور الصحابة ومن بعدهم وحملوا الوعيد على مانعي الزكاة وأصح ما تمسكوا به حديث طلحة وغيره في قصة الأعرابي حيث قال هل علي غيرها قال لا إلا أن تطوع- انتهى. والظاهر أن ذلك كان في أول الأمر كما سيأتي عن ابن عمر, وقد استدل له ابن بطال بقوله تعالى: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} -[البقرة: 219] أي ما فضل عن الكفاية فكان ذلك واجباً في أول الأمر ثم نسخ والله أعلم، وفي المسند من طريق يعلي بن شداد بن أوس عن أبيه قال كان أبوذر يسمع الحديث من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه الشدة ثم يخرج إلى قومه ثم يرخص فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يسمع الرخصة ويتعلق بالأمر الأول. قال الحافظ: والصحيح أن إنكار أبي ذر كان على السلاطين الذين يأخذون المال لأنفسهم ولا ينفقونه في وجهه، وتعقبه النووي بالإبطال لأن السلاطين حينئذٍ كانوا مثل أبي بكر وعمر وعثمان وهؤلاء لم يخونوا. قلت: لقوله محمل وهو أنه أراد من يفعل ذلك وإن لم يوجد حينئذٍ من يفعله- انتهى كلام الحافظ. قلت: ويشهد لما ذهب إليه الجمهور ما رواه أحمد في الزهد والبخاري وابن مردوية والبيهقي عن ابن عمر قال إنما هذا كان قبل أن تنزل الزكاة فلما نزلت الزكاة جعلها الله طهرة للأموال- الحديث. وفي الباب عن جابر أخرجه الحاكم بلفظ: إذا أديت زكاة مالك فقد أذهبت عنك شره ورجح أبوزرعة والبيهقي وقفه

رواه أبوداود. 1797- (11) وعن جابر بن عتيك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سيأتيكم ركيب مبغضون، فإذا جاؤكم فرحبوا بهم، وخلوا بينهم وبين ما يبتغون، ـــــــــــــــــــــــــــــ كما عند البزار، وعن أبي هريرة أخرجه الترمذي بلفظ: إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك. وقال حسن غريب وصححه الحاكم وهو على شرط ابن حبان، وعن أم سلمة عند الحاكم وصححه ابن القطان أيضاً، وأخرجه أبوداود. وقال ابن عبد البر: في سنده مقال، وذكر العراقي في شرح الترمذي أن سنده جيد، وعن ابن عباس أخرجه ابن أبي شيبة موقوفاً بلفظ: ما أدى زكاته فليس بكنز وارجع لمزيد الكلام في ذلك إلى طرح التثريب (ج4 ص7- 8) (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري، وأخرجه أيضاً الحاكم وصححه وابن أبي حاتم وابن مردوية والبيهقي وأبويعلى وغيرهم. 1797- قوله: (وعن جابر بن عتيك) بفتح العين وكسر التاء الفوقية (سيأتيكم ركيب) تصغير ركب وهو اسم جمع للراكب، وقال الجزري والخطابي: جمع راكب، كما قيل صحب في صاحب وتجر في تاجر أراد بهم السعاة في الصدقة، وفي بعض نسخ أبي داود سيأتيكم ركب، وكذا عند البيهقي والبزار أي سعاة وعمال للزكاة (مغضون) بفتح الغين المشددة والمبغض الذي جعل بغيضاً في قلوب الناس والبغيض من كرهه الناس وهو ضد الحبيب، ويجوز بسكون الباء من أبغض الرجل أحداً إذا كرهه أراد أنهم يبغضون طبعاً لا شرعاً لأنهم يأخذون محبوب قلوبهم. قال الخطابي: إنما جعلهم مبغضين لأن الغالب في نفوس أرباب الأموال التكره للسعاة لما جبلت عليه القلوب من حب المال وشدة حلاوته في الصدر إلا من عصمه الله ممن أخلص النية واحتسب فيها الأجر والمثوبة- انتهى. وقيل: معناه أنه قد يكون بعض العمال سيء الخلق متكبراً يكرههم الناس لسوء خلقهم. قال الطيبي: والأول أوجه لقوله - صلى الله عليه وسلم - سيأتيكم ركيب الخ لأن فيه إشعاراً بأنهم عمال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وينصره شكوى القوم عنهم في الحديث الذي يليه وهو قولهم أن ناساً من المصدقين يأتونا فيظلمونا ولا ارتياب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يستعمل ظالماً، فالمعنى أنه سيأتي عمالي يطالبون منكم زكاة أموالكم، والنفس مجبولة على حب المال، فتبغضونهم وتزعمون أنهم ظالمون، وليسوا بذلك وقوله: فإن عدلوا وإن ظلموا مبني على هذا الزعم، ولو كانوا ظالمين في الحقيقة كيف يأمرهم بالدعاء لهم بقوله وليدعوا لكم (فرحبوا بهم) أي قولوا لهم مرحباً وأهلاً وسهلاً، وأظهروا الفرح بقدومهم وعظموهم (وخلوا) أي أتركوا بينهم (بين ما يبتغون) أي ما يطلبون من الزكاة. قال ابن الملك: يعني كيف ما يأخذوا الزكاة لا تمنعوهم وإن ظلموكم لأن مخالفتهم مخالفة السلطان، لأنهم مأمورون من جهته ومخالفة

فإن عدلوا فلأنفسهم، وإن ظلموا فعليهم، وأرضوهم فإن تمام زكاتكم رضاهم، وليدعوا لكم)) . رواه أبوداود. 1798- (12) وعن جرير بن عبد الله، قال: جاء ناس ـ يعني من الأعراب ـ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: ((إن ناس من المصدقين ـــــــــــــــــــــــــــــ السلطان تؤدي إلى الفتنة وثورانها - انتهى. وهو كلام المظهر بناء على أنه عمم الحكم في جميع الأزمنة. قال الطيبي: وفيه بحث لأن العلة لو كانت هي المخالفة لجاز الكتمان لكنه لم يجز لقوله في الحديث الآتي أفنكتم من أموالنا بقدر ما يعتدون قال لا (فإن عدلوا) في أخذ الزكاة وتركوا الظلم (فلأنفسهم) أي فلهم الثواب (وإن ظلموا) بأخذ الزكاة أكثر مما وجب عليكم أو أفضل أي على الفرض والتقدير أو على زعمكم (فعليهم) كذا في جميع النسخ وهكذا في جامع الأصول (ج5 ص359) والترغيب. وفي المصابيح فعليها كما في سنن أبي داود، والبيهقي والبزار أي فعلى أنفسهم إثم ذلك الظلم ولكم الثواب بتحمل ظلمهم (وأرضوهم) أي اجتهدوا في إرضائهم ما أمكن بأن تعطوهم الواجب من غير مطل ولا غش ولا خيانة (فإن تمام زكاتكم) أي كمالها (رضاهم) أي حصول رضاهم (وليدعوا) بسكون اللام وكسرها (لكم) وهو أمر ندب لقابض الزكاة ساعياً أو مستحقاً أن يدعوا للمزكي (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا البيهقي (ج4 ص114) وقد سكت عنه أبوداود. وقال المنذري: في إسناده أبوالغصن، وهو ثابت بن قيس المدني الغفاري مولاهم، وقيل: مولى عثمان بن عفان قال الإمام أحمد ثقة وقال ابن معين ضعيف. وقال مرة ليس بذلك صالح، وقال مرة ليس به بأس، وقال ابن حبان كان قليل الحديث كثير الوهم فيما يرويه، ولا يحتج بخبره إذا لم يتابعه عليه غيره قال المنذري: وفي الرواة خمسة كل منهم اسمه ثابت بن قيس لا يعرف من تكلم فيه غيره انتهى. قلت: وقال النسائي ليس به بأس. وقال ابن سعد شيخ قليل الحديث. وقال ابن أبي عدي هو ممن يكتب حديثه. وقال الآجري عن أبي داود ليس حديثه بذاك. وقال الحافظ في التقريب: صدوق بهم، والحديث ذكره الهيثمي في باب رضا المصدق (ج3 ص79- 80) عن جابر من غير أن ينسبه بهذا اللفظ وعزاه إلى البزار. وقال ورجاله ثقات وفي بعضهم خلاف لا يضر. 1798- قوله: (جاء ناس يعني من الأعراب) تفسير من الراوي عن جرير قاله القاري. وفي رواية مسلم: جاء ناس من الأعراب، وفي رواية النسائي: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ناس من الأعراب، وفي رواية للبيهقي: أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعراب. فالظاهر أن التفسير المذكور في رواية أبي داود. ممن دون الراوي عن جرير (إن ناساً من المصدقين) بتخفيف الصاد وكسر الدال المشددة أي السعاة العاملين على الصدقة

يأتونا، فيظلمونا. فقال: أرضوا مصدقيكم، قالوا يا رسول الله! وإن ظلمونا؟! قال: أرضوا مصدقيكم وإن ظلمتم)) . رواه أبوداود. 1799- (13) وعن بشير بن الخصاصية، ـــــــــــــــــــــــــــــ (يأتونا فيظلمونا) بتخفيف النون وتشديد فيهما (أرضوا) بقطع الهمزة (وإن ظلمونا) أي نرضيهم ولو كانوا ظالمين علينا (وإن ظلمتم) على بناء المجهول أي وإن اعتقدتم أنكم مظلمون بسبب حبكم أموالكم ولم يرد أنهم وإن كانوا مظلومين حقيقة يجب إرضاءهم. بل المراد أنه يستحب إرضاءهم وإن كانوا مظلومين حقيقة، لقوله - صلى الله عليه وسلم - فإن تمام زكاتكم رضاهم. قال الطيبي: لأن لفظة "إن" الشرطية هنا تدل على الفرض، والتقدير. لا على الحقيقة، ونحوه قوله عليه الصلاة والسلام اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد الحبشي- انتهى. وقال السندي: علم - صلى الله عليه وسلم - إن عامليهم لا يظلمون ولكن أرباب الأموال لمحبتهم بالأموال يعدون الأخذ ظلماً، فقال لهم ما قال. فليس فيه تقرير للعاملين على الظلم ولا تقرير للناس على الصبر عليه، وعلى أعطاء الزيادة على ما حده الله تعالى في الزكاة- انتهى والحديث رواه مسلم لكن ليس عنده قوله وإن ظلمتم. قال النووي: قوله أرضوا مصدقيكم معناه ببذل الواجب وملاطفتهم وترك مشاقتهم، وهذا محمول على ظلم لا يفسق به الساعي إذ لو فسق لا نعزل ولم يجب الدفع إليه بل لا يجزي، والظلم قد يكون بغير معصية. فإنه مجاوزة الحد ويدخل في ذلك المكروهات- انتهى. (رواه أبوداود) عن أبي كامل عن عبد الواحد بن زياد، وعن عثمان بن أبي شيبة عن عبد الرحيم بن سليمان كلاهما عن محمد بن إسماعيل واللفظ المذكور لأبي كامل إلا قوله وإن ظلمتم فإنه زاده عثمان وأخرجه مسلم عن أبي كامل عن عبد الواحد. وعن أبي بكر بن أبي شيبة عن عبد الرحيم بن سليمان. وعن محمد بن بشار عن يحيى بن سعيد. وعن إسحاق عن أبي أسامة كلهم عن محمد بن إسماعيل بدون هذه الزيادة. وأخرجه أيضاً أحمد (ج4 ص362) عن يحيى، والنسائي عن محمد بن المثنى، وابن بشار عن يحيى بدون الزيادة المذكورة، وكذا البيهقي من طريق أبي أسامة (ج4 ص114) وأخرجه البيهقي أيضا من أبي داود (ج4 ص137) . 1799- قوله: (وعن بشير) بفتح الباء الموحدة وكسر المعجمة بعدها تحتانية ساكنة فراء مهملة (بن الخصاصية) بفتح الخاء المعجمة وخفة الصاد المهملة الأولى المفتوحة وكسر الثانية بعدها تحتانية مشددة مفتوحة وتاء تأنيث. هو بشير بن معبد وقيل ابن زيد بن معبد السدوسي المعروف بابن الخصاصية، وكان اسمه في الجاهلية، زحماً بالزاي المفتوحة، والحاء المهملة الساكنة. فسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - بشيراً. صحابي جليل روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنه بشير بن نهيك، وجرى بن كليب وديسم، رجل من بني سدوس وامرأته ليلى المعروف بالجهدمة ولها صحبة أيضاً، وجزم ابن عبد البر وغيره، إن الخصاصية أم بشير. قال الحافظ: وليس كذلك بل هي إحدى جداته

قال: قلنا: إن أهل الصدقة يعتدون علينا، أفنكتم من أموالنا بقدر ما يعتدون؟ قال: لا)) . رواه أبوداود. 1800- (14) وعن رافع بن خديج، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((العامل على الصدقة بالحق ـــــــــــــــــــــــــــــ وهي والدة جده الأعلى، ضباري بن سدوس حرر ذلك الدمياطي عن ابن الكلي وحزم به الرامهر مزي. وقال اسمها كبشة. وقيل: مارية بنت عمرو الغطريفية (قال قلنا إن الصدقة) هذا لفظ الحديث الموقوف رواه أبوداود من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن رجل يقال له ديسم عن بشير بن الخصاصية، قال قلنا إن أهل الصدقة الخ. فضمير قال للرجل الذي يقال له ديسم. وقوله "قلنا" أي لبشير بن الخصاصية ثم رواه أبوداود مرفوعاً: قال حدثنا الحسن بن علي ويحيى بن موسى، قالانا عبد الرزاق عن معمر عن أيوب بإسناده ومعناه إلا أنه قال: قلنا يا رسول الله! إن أصحاب الصدقة، قال أبوداود: رفعه عبد الرزاق عن معمر، وقال البيهقي بعد رواية الحديث المرفوع من طريق أبي بكر بن داسة عن أبي داود، ورواه حماد ابن زيد عن أيوب فلم يرفعه. وعلى هذا فكان حق البغوي أن يورد في المصابيح الطريق المرفوع لا الموقوف، والعجب أنه لم يتنبه لذلك المصنف فوقع فيما وقع فيه البغوي مع أن الجزري قد أورد في جامع الأصول (ج5 ص358) لفظ المرفوع لا الموقوف. والمراد بأهل الصدقة أهل أخذ الصدقة من العمال والسعاة (يعتدون علينا) الاعتداء: مجاوزة الحد، يعني يظلموننا ويأخذون أكثر مما يجب علينا (أفنكتم من أموالنا بقدر ما يعتدون) يعني إذا علمنا أنهم يأخذون عن الخمس من الإبل، شاتين، مع أن واجبها شاة، فإن كان لنا عشر من الإبل، فهل يجوز أن نكتم خمساً. ونقول ليس لنا إلا خمس حتى إذا أخذوا شاتين عن خمس، لا يكون عليهم ظلم (قال لا) قال ابن الملك: وإنما يرخص لهم في ذلك كتمان بعض المال خيانة. والخيانة كذب ومكر، ولأنه لو رخص لربما كتم بعضهم على عامل، غير ظالم. وفي الحديث دليل على أنه لا يجوز كتم شيء عن المصدقين، وإن تعدوا، قيل كأنه - صلى الله عليه وسلم - علم أنهم لحبهم المال. يرون أخذ الحق اعتداء وإلا فلا يصح صدور الاعتداء من عماله - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك سماهم مبغضين، وإلا فلا يجب إعطاء الزيادة لقوله - صلى الله عليه وسلم -، ومن سئل فوقه فلا يعطيه (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا البيهقي (ج4 ص104) وعبد الرزاق، وسكت عنه أبوداود والمنذري، وفي إسناده ديسم السدوسي، ذكره ابن حبان في الثقات. وقال في التقريب مقبول. 1800- قوله: (العامل على الصدقة) أي الزكاة (بالحق) متعلق بالعامل ويشهد له رواية أحمد.

كالغازي في سبيل الله حتى يرجع إلى بيته)) . رواه أبوداود، والترمذي. 1801- (15) وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا جلب ولا جنب، ـــــــــــــــــــــــــــــ (ص143) بلفظ العامل بالحق على الصدقة أي عملا بالصدق والصواب، أو بالإخلاص والاحتساب. قاله القاري: وزاد في رواية لأحمد: لوجه الله عزوجل. وقيل العامل بالحق أي بأن لم يخن في الصدقة، ولم يظلم أرباب الأموال فلم يأخذ منهم أكثر مما يجب عليهم ولا أقل (كالغازي في سبيل الله) أي في حصول الآجر، ويستمر ذلك (حتى يرجع) أي العامل (إلى بيته) أي محل أقامته، يعني يكون له الثواب ذهاباً وإياباً إلى حين الرجوع، كما ثبت في الغازي. وقال القاري: قوله "كالغازي" أي في تحصيل بيت المال واستحقاق الثواب في تمشية أمر الدارين. قال ابن العربي: في شرح الترمذي، وذلك إن الله ذو الفضل العظيم قال من جهز فقد غزا ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا. والعامل على الصدقة خليفة الغازي لأنه يجمع مال سبيل الله فهو غاز بعمله وهو غاز بنيته. وقال عليه السلام: أن بالمدينة قوما ما سلكتم وادياً، ولا قطعتم شعباً إلا وهو معكم حبسهم العذر فكيف بمن حسبه العمل للغازي وخلافته وجمع ماله الذي ينفقه في سبيل الله، وكما لا بد من الغزو، فلا بد من جمع المال الذي يغزى به فهما شريكان في النية شريكان في العمل، فوجب أن يشتركا في الأجر- انتهى. وقيل: في الحديث إلحاق الناقص بالكامل، ترغيباً. والله تعالى أعلم (رواه أبوداود) في الخراج (والترمذي) في الزكاة، وأخرجه أيضا أحمد (ج3 ص465 ج4 ص143) وابن ماجه وابن خزيمة في صحيحة والحاكم (ج1 ص406) وغيرهم. وقد سكت عنه أبوداود، وحسنه الترمذي، وأقره المنذري. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وفي سنده عندهم محمد بن إسحاق، وقد عنعن، والحديث عزاه الهيثمي لأحمد. وقال وفيه محمد بن إسحاق وهو ثقة. ولكنه مدلس وبقية رجاله رجال الصحيح. وفي الباب عن عبد الرحمن بن عوف عند الطبراني في الكبير بلفظ "العامل إذا استعمل فأخذ الحق وأعطى الحق لم يزل كالمجاهد في سبيل الله حتى يرجع إلى بيته" قال الهيثمي: وفيه دويب ابن عمامة قال الذهبي ضعفه الدارقطني: وغيره ولم يهدر. 1801- قوله: (وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده) أي جد شعيب عبد الله بن عمرو بن العاص ففي رواية أحمد (ج2 ص180) "عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو" وفي رواية (ج2 ص185) له أيضاً "عن عمرو بن شعيب عن أبيه عبد الله بن عمرو" وقد سمع شعيب من جده عبد الله فالحديث موصول ليس بمنقطع، ولا مرسل وقد تقدم تحقيقة (لا جلب) بفتح الجيم واللام (ولا جنب) بفتح

ولا تؤخذ صدقاتهم إلا في دورهم)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الجيم والنون وكل منهما يكون في الزكاة، والرهان، أي سباق الفرس. فأما الجلب في الزكاة فهو أن ينزل الساعي محلاً بعيداً من مواضع أرباب الأموال، ولا يأتي أماكنهم لأخذ الصدقات. ولكن يرسل من يجلب إليه الأموال من أماكنها أو يأمر أرباب الأموال أن يجمعوا أموالهم عنده ويجلبوها إليه ليأخذ زكاتها فنهى عن ذلك وأمر بأخذ صدقاتهم على أماكنهم ودورهم ومنازلهم ومياههم، لسهولة الأخذ. حينئذٍ لأن في إتيانهم وسوق مواشيهم وغيرها من الأموال من مواضعهم إلى الموضع، الذي نزل فيه العامل مشقة، والجنب في الزكاة أن يجنب أي يبعد أرباب الأموال من مواضعهم المعهودة إلى مواضع بعيدة حتى يحتاج العامل إلى الأبعاد في طلبهم فنهى عن ذلك لما في إيتأنه إليهم من المشقة، والحاصل أن الجلب أن يقرب العامل أموال الناس إليه والجنب أن يبعد صاحب المال بماله عن العامل، وقيل الجنب في الزكاة أن ينزل الساعي بأقصى محال أرباب الأموال، ثم يأمر بالأموال بأن تجنب إليه أي تحضر فنهى عن ذلك لما في من شدة المشقة على أرباب الأموال، والفرق بين التفسرين أن حكم النهي على الأول: يكون متعلقاً بالمعطى، وعلى الثاني: بالساعي والتفسير الأول أولى وأدخل في الفرق بينه وبين الجلب بخلاف الثاني فإنه لا فرق كثير بينهما عليه، وأما الجلب في سباق الخيل فهو أن يتبع الفارس رجلاً فرسه ليزجره ويجلب عليه ويصيح به حثاً له على قوة الجري، فنهى عنه، لما يترتب إليه من أضرار الفرس، وفسره مالك بأن تجلب الفرس في السباق فيحرك وراءه شيء يستحث فيسبق والجنب في السباق أن يجنّب فرساً إلى فرسه الذي يسابق عليه فإذا افتر المركوب يتحول إلى المجنوب فيسبق صاحبه، فنهى عنه. قيل: وكان وجه النهي عنه، أن السباق إنما هو لبيان إختباره قوة الفرس وبهذا الفعل لا يعرف قوة واحد من الفرسين، فرب فرس توانى أولاً. أو في الأثناء ثم سبق. قال الخطابي: في المعالم (ج2 ص40- 41) الجلب، يفسر تفسيرين يقال: إنه في رهان الخيل، وهو أن يجلب عليها عند الركض (ليحتدّ في الجري) ويقال: هو في الماشية. يقول لا ينبغي للمصدق أن يقيم بموضع، ثم يرسل إلى أهل المياه فيجلبوا إليه مواشيهم فيصدقها ولكن ليأتيهم على مياهم حتى يصدقهم هناك وأما الجنب فتفسيره أيضاً على وجهين، أحدهما أن يكون في الصدقة وهو أن أصحاب الأموال لا يجنبون عن مواضعهم أي لا يبعدون عنها حتى يحتاج المصدق إلى أن يتبعهم ويمعن في طلبهم. وقيل: أن الجنب في الرهان، وهو أن يركب فرساً فيركضه وقد أجنب معه فرساً آخر فإذا قارب الغاية ركبه وهو جامٌّ فيسبق صاحبه- انتهى. وكذا فسرهما الجزري في جامع الأصول (ج5 ص479) قال الطيبي: كلا اللغطين مشترك في معنى السباق، والزكاة والقرينة الموضحة لأداء المعنى الثانية قوله: (ولا تؤخذ صدقاتهم إلا في دورهم) أي منازلهم وأماكنهم ومياههم وقبائلهم على سبيل الحصر لأنه كنى بها عنه فإن أخذ الصدقة في دورهم لازم لعدم بعد الساعي عنها فيجلب إليه ولعدم بعد المزكي فإنه إذا بعد عنها لم يؤخذ فيها- انتهى. وحاصله أن

رواه أبوداود. 1802- (16) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من استفاد مالا فلا زكاة فيه، حتى يحول عليه الحول)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ آخر الحديث مؤكد لأوله. أو إجمال لتفصيله. ولا يخفى ما فيه على المتأمل (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً أحمد (ج2 ص180، 215- 216) والبيهقي (ج4 ص110) قال الشوكاني: الحديث سكت عنه أبوداود والمنذري والحافظ في التلخيص وفي إسناده محمد بن إسحاق وقد عنعن - انتهى. قلت: قد صرح بالتحديث عند أحمد (ج2 ص216) فزال شبهة التدليس، وفي الباب عن عمران بن حصين عند أحمد وأبي داود والنسائي والترمذي وابن حبان: وصححاه بمثل حديث الباب. وهو متوقف على صحة سماع الحسن من عمران. وقد أختلف في ذلك: وزاد أبوداود، بعد قوله لا جلب ولا جنب في الرهان: وعن أنس عند أحمد والبزار وابن حبان وعبد الرزاق وأعله البخاري، والترمذي والنسائي، وأبوحاتم، وأخرجه النسائي عنه من وجه آخر: وقال المنذري (ج2 ص206) وقد أخرجه أبوداود في الجهاد: من حديث الحسن البصري عن عمران بن حصين، وليس فيه ولا تؤخذ صدقاتهم إلا في دورهم، وأخرجه أيضاً من هذا الوجه الترمذي والنسائي. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وقد ذكر علي بن المديني وأبوحاتم الرازي وغيرهما من الأئمة، أن الحسن لم يسمع من عمران بن حصين- انتهى. 1802- قوله: (من استفاد مالاً فلا زكاة فيه حتى يحول عليه الحول) قال ابن الملك: يعني من وجدها مالاً، وعنده نصاب من ذلك الجنس، مثل أن يكون له ثمانون شاة ومضى عليها ستة أشهر ثم حصل له أحد وأربعون شاة بالشراء أو بالإرث أو غير ذلك، لا يجب عليه للأحد والأربعين حتى يتم حولها من وقت الشراء أو الإرث لأن المستفاد لا يكون تبعاً للمال الموجود. وبه قال الشافعي وأحمد: وعند أبي حنيفة ومالك يكون المستفاد تبعاً له فإذا تم الحول على الثمانين وجب الشأتان، يعني في الكل كما أن النتائج تبع للأمهات- انتهى. وقال ابن قدامة: في المغني (ج2 ص626) أن استفاد مالاًً مما يعتبر له الحول ولا مال له سواه، وكان نصاباً، أو كان له مال من جنسه لا يبلغ نصاباً، فبلغ بالمستفاد نصاباً انعقد عليه حول الزكاة من حينئذٍ فإذا تم حول وجبت الزكاة فيه، وإن كان عنده نصاب لم يخل المستفاد من ثلاثة أقسام: أحدها أم يكون المستفاد من نمائة كربح مال التجارة ونتاج السائمة فهذا يجب ضمه إلى ما عنده من أصله فيعتبر حوله بحوله لا نعلم فيه خلافاً لأنه تبع له من جنسه فأشبه النماء المتصل وهو زيادة قيمة عروض التجارة. الثاني

أن يكون المستفاد من غير جنس ما عنده فهذا له حكم نفسه لا يضم إلى ما عنده في حول ولا نصاب، بل أن كان نصاباً استقبل به حولاً وزكاه وإلا فلا شيء فيه، وهذا قول جمهور العلماء منهم أبوبكر، وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. الثالث أن يستفيد مالاً من جنس نصاب عنده قد انعقد عليه حول الزكاة بسبب مستقل مثل أن يكون عنده أربعون من الغنم مضى عليها بعض الحول، فيشتري أو يتهب مائة، فهذا لا تجب فيه الزكاة حتى يمضي عليه حول أيضاً وبهذا قال الشافعي: وقال أبوحنيفة يضمه إلى ما عنده في الحول فيزكيهما جميعاً عند تمام حول المال الذي كان عنده، لأنه يضم إلى جنسه في النصاب فوجب ضمه إليه في الحول كالنتاج ولأنه إذا ضم في النصاب وهو سبب فضمه إليه في الحول الذي هو شرط أولى، وبيان ذلك أنه لو كان عنده مائتا درهم مضى عليها نصف الحول فوجب له مائة أخرى فإن الزكاة تجب فيها إذا تم حولها بغير خلاف، ولولا المأتان ما وجب فيها شيء فإذا ضمت إلى المائتين في أصل الوجوب فكذلك في وقته، ولأن إفراده بالحول يفضي إلى تشقيص الواجب في السائمة واختلاف أوقات الواجب، والحاجة إلى ضبط مواقيت التملك ومعرفة قدر الواجب في كل جزء ملكه ووجوب القدر اليسير الذي لا يتمكن من إخراجه ثم يتكرر ذلك في كل حول ووقت وهذا حرج مدفوع بقوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 78] وقد اعتبر الشرع ذلك بإيجاب غير الجنس فيما دون خمس وعشرين من الإبل وجعل الأوقاص في السائمة وضم الأرباح والنتاج إلى حول أصلها مقروناً بدفع هذه المفسدة فيدل على أنه علة لذلك فوجب تعدية الحكم إلى محل النزاع وقال مالك: كقوله في السائمة دفعاً لتشقيص الواجب وكقولنا في الإثمان لعدم ذلك فيها. ولنا حديث عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول (أخرجه ابن ماجه وغيره بسند ضعيف) ثم ذكرت حديث ابن عمر قال وقد روى عن أبي بكر الصديق وعلي وابن عمر وعائشة وعطاء وعمر بن عبد العزيز وسالم والنخعي إنه لا زكاة في المستفاد حتى يحول عليه الحول. ولأنه مملوك أصلاً فيعتبر فيه الحول شرطأ كالمستفاد من غير الجنس. قال: وأما الأرباح والنتاج فإنما ضمت إلى أصلها، لأنها تبع له ومتولدة منه، ولا يوجد ذلك في مسألتنا، وإن سلمنا أن علة ضمنها ما ذكروه من الحرج. فلا يوجد ذلك في مسألتنا، لأن الأرباح تكثر وتتكرر في الأيام والساعات ويعسر ضبطها، وكذلك النتاج وقد يوجد ولا يشعر به فالمشقة فيه أتم لكثرة تكرره بخلاف هذه الأسباب المستقلة. فإن الميراث والاغتنام والاتهاب ونحو ذلك يندر ولا يتكرر فلا يشق ذلك فيه، فإن شق فهو درن المشقة في الأرباح والنتاج فيمتنع قياسه عليه، واليسر فيما ذكرنا أكثر. لأن الإنسان يتخير بين التأخير والتعجيل وما ذكروه يتعين عليه التعجيل. ولا شك إن التخيير بين شيئين أيسر من تعيين أحدهما، وأما ضمه إليه في النصاب فلأن النصاب معتبر لحصول الغني وقد حصل الغني بالنصاب الأول والحول معتبر ليحصل أداء الزكاة من الربح

ولا يحصل ذلك بمرور الحول على أصله فوجب أن يعتبر الحول له- انتهى. وأعلم أن نماء العين على الثلاثة أنواع: ربح، وغلة، وفائدة، ونماء الماشية على نوعين: فائدة، ونسل. والربح زائد ثمن مبيع تجر على ثمنه الأول ذهبا أو فضة، والغلة ما تجدد من سلع التجارة قبل بيع رقابها كغلة العبد ونجوم الكتابة. والفائدة ما تجدد لا عن مال أو عن مال غير مزكي كهبة وميراث واشتراء وثمن عرض مقتنى من عقار أو حيوان باعه بعين، والنسل هو نتاج الماشية وأولادها واختلف العلماء في ضم هذه الأنواع إلى الأصل واعتبار حولها. فأما الربح فقال ابن رشد: في البداية (ج1 ص244) اختلفوا في اعتبار حول ربح المال على ثلاثة أقوال: فرأى الشافعي أن حوله يعتبر من يوم استفيد سواء كان الأصل نصاباً أو لم يكن. وهو مروي عن عمر بن عبد العزيز (كما في كتاب الأموال (ص417) إنه كتب أن لا يعرض لإرباح التجار حتى يحول عليها الحول. وقال مالك: حول الربح هو حول الأصل أي إذا كمل للأصل حول، زكى الربح معه سواء كان الأصل نصاباً أو أقل من نصاب إذا بلغ الأصل مع ربحه نصاباً، قال أبوعبيد (ص414) ولم يتابعه عليه أحد من الفقهاء إلا أصحابه، وفرق قوم بين أن يكون رأس المال الحائل عليه الحول نصاباً أو لا يكون؟ فقالوا: إن كان نصابا زكى الربح مع رأس ماله وإن لم يك نصاباً لم يزك، وممن قال بهذا القول الأوزاعي وأبوثور وأبوحنيفة، وسبب اختلافهم تردد الربح بين أن يكون حكمه حكم المال المستفاد، أو حكم الأصل، فمن شبهه بالمال المستفاد ابتداء. قال: يستقبل به الحول ومن شبهه بالأصل وهو رأس المال. قال: حكمه حكم رأس المال. إلا أن من شروط هذا التشبيه أن يكون رأس المال قد وجبت فيه الزكاة، وذلك لا يكون إلا إذا كان نصاباً ولذلك يضعف قياس الربح على الأصل، في مذهب مالك. ويشبه أن يكون الذي اعتمده مالك في ذلك هو تشبيه ربح المال بنسل الغنم، لكن نسل الغنم مختلف فيه أيضاً. وقد روى عن مالك مثل قول الجمهور- انتهى. قال الزرقاني: هذا مذهب مالك، إن حول الربح حول أصله وإن لم يكن أصله نصاباً قياساً على نسل الماشية ولم يتابعه غير أصحابه، وقاسه على ما لا يشبهه في أصله ولا في فرعه وهما أصلان، والأصول لا يرد بعضها إلى بعض، وإنما يرد الفرع إلى أصله - انتهى. قلت والحنابلة موافقون للحنفية في مسألة الربح كما قال الخرقي (ج3 ص37) إذا كان في ملكه نصاب للزكاة فاتجر فيه فنمى أدى زكاة الأصل مع النماء إذا حال الحول. وقال في الروض المربع حصول الربح حول أصله إذا كان الأصل نصاباً فحول الجميع من كمال نصابه وإن لم يكن الأصل نصاباً- انتهى. وفي مسلك الشافعية تفصيل خلافاً لما حكى شراح الحديث من مذهب الشافعي قال ابن قدامة (ج3 ص37) قال الشافعي: إن نضت الفائدة قبل الحول لم يبين حولها على حول النصاب، وأستأنف بها حولاً لقوله عليه السلام؟: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" ولأنها فائدة

تامة لم تتولد مما عنده فلم يبين على حوله كما لو استفاد من غير الربح وإن اشترى سلعة بنصاب فزادت قيمتها عند رأس الحول. فإنه يضم الفائدة ويزكي عن الجميع بخلاف ما إذا باع السلعة قبل الحول بأكثر من نصاب فإنه يزكى عند رأس الحول عن النصاب ويستأنف للزيادة حولاً، وقال في شرح الإقناع يضم ربح حاصل في أثناء الحول، لأصل في الحول إن لم ينض بما يقوم به، فلو اشترى عرضاً بمائتي درهم فصارت قيمته في الحول ثلاث مائة زكاها، أما إذا نض دراهم أو دنانير بما يقوم به، وامسكه إلى آخر الحول فلا يضم إلى الأصل. بل يزكي الأصل بحوله ويفرد الربح بحول - انتهى. وقد استدل ابن قدامة لمذهب الحنابلة، بأن الربح نماء جار في الحول، تابع لأصله في الملك، فكان مضموماً إليه في الحول كالنتاج. وكما لو لم ينض ولأنه ثمن عرض تجب زكاة بعضه، ويضم إلى ذلك البعض قبل البيع فيضم إليه بعده كبعض النصاب. ولأنه لو بقي عرضاً زكى جميع القيمة فإذا نض كان أولى، لأنه يصير متحققاً، ولأن هذا الربح كان تابعاً للأصل في الحول، كما لو لم ينض فبنضه لا يتغير حوله. والحديث فيه مقال، وهو مخصوص بالنتاج، وبما لم ينض فنقيس عليه- انتهى. وأما الفائدة فقال ابن رشد: (ج1 ص244) أجمعوا على أن المال إذا كان أقل من نصاب، وأستفيد إليه مال من غير ربحه يكمل من مجموعها نصاب، إنه يستقبل به الحول من يوم كمل. واختلفوا إذا استفاد مالاً، وعنده نصاب مال آخر قد حال عليه الحول. فقال مالك: يزكي المستفاد إن كان نصاباً لحوله، ولا يضم إلى المال الذي وجبت فيه الزكاة. وبهذا القول في الفوائد. قال الشافعي: (وهو قول أحمد أيضاً) وقال أبوحنيفة وأصحابه والثوري الفوائد كلها تزكي بحول الأصل، إذا كان الأصل نصاباً، وكذلك الربح عنده، ذكر ابن رشد سبب اختلافهم في ذلك وهذا الاختلاف في حكم فائدة العين. وأما الفائدة الماشية فإن مذهب مالك فيها بخلاف مذهبه في فائدة العين، وذلك أنه يبني فائدة الماشية على الأصل، إذا كان الأصل نصاباً، كما يفعل أبوحنيفة في فائدة الدراهم. وفي فائدة الماشية فأبوحنيفة مذهبه في الفوائد حكم واحد، أعنى أنها تبني على الأصل إذا كانت نصاباً كانت فائدة غنم، أو فائدة ناض، والأرباح عنده والنسل كالفوائد. وأما مالك فالربح والنسل عنده حكمهما واحد ويفرق بين فوائد الناض أي العين، وفوائد الماشية. وأما الشافعي فالربح وفائدة العين، وفائدة الماشية عنده حكمه مع واحد، فاعتبار حولهما بأنفسها. ونسل الماشية حكمه أن يعتبر حوله بالأصل، إذا كان نصاباً. وأما أحمد فالأرباح والنسل عنده حكمهما واحد، باعتبار حولهما بالأصل إذا كان نصاباً وفائدة العين وفائدة الماشية واحد أيضاً باعتبار حولهما بأنفسهما، وكأنه إنما فرق مالك بين الماشية والعين إتباعاً لعمر وإلا فالقياس فيهما واحد أعني أن الربح شبيه بالنسل، والفائدة بالفائدة. وحديث عمر هذا هو أنه أمر أن يعد عليهم بالسخال ولا يأخذ منهما شيئاً. قال

رواه الترمذي، وذكر جماعة أنهم ـــــــــــــــــــــــــــــ الزرقاني (ج2 ص117) حاصل مذهب مالك في فائدة الماشية. أنهما إنما تضم إلى نصاب، وإلا أي إن لم تكن عنده نصابها قبل ذلك استؤنف بالجميع حولاً. وإن كان له نصاب من نوع، ما أفاد زكى الفائدة على حول النصاب ولو استفادها قبل الحول بيوم. وبه قال أبوحنيفة، وقال الشافعي وأبوثور لا تضم الفوائد. ويزكي كل على حوله الإنتاج الماشية فتزكى مع أمهاتها إن كانت نصاباً- انتهى. وقال في شرح الكبير وضمت الفائدة من النعم للنصاب من جنسه، وإن حصلت قبل تمام حول النصاب بلحظة: لا لأقل من نصاب، بل تضم الأولى للثانية وهذا بخلاف فائدة العين، فإنها لا تضم لنصاب قبلها، بل يستقبل بها ويبقى كل مال على حوله - انتهى. وأما نسل الماشية أي نتاجها. فقال مالك: حول النسل هو حول الأمهات كانت الأمهات نصاباً، أو لم تكن. كما قال في ربح الناض. وقال الشافعي وأبوحنيفة وأحمد وأبوثور. لا يكون حول النسل حول الأمهات، إلا أن تكون الأمهات نصاباً، وسبب اختلافهم هو بعينه سبب اختلافهم في ربح المال. والراجح عندي هو ما ذهب إليه أحمد. إن الربح والنسل حكمهما واحد، باعتبار حولهما باعتبار حولهما بالأصل. وفائدة العين والماشية حكمهما أيضاً واحد، باعتبار حولهما بأنفسهما والله تعالى أعلم. (رواه الترمذي) وأخرجه أيضاً البيهقي (ج4 ص95، 104) والدارقطني في السنن (ص198) كلهم من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر وعبد الرحمن ضعيف. قال الترمذي: والصحيح عن ابن عمر موقوف، وكذا قال البيهقي، وابن الجوزي والدارقطني وغيرهم. وأخرجه الدارقطني أيضاً وابن عبد البر في التمهيد مرفوعاً، من طريق بقية بن وليد عن إسماعيل بن عياش عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر. وهذا أيضاً ضعيف بقية مدلس، وقد عنعن وإسماعيل ضعيف، في روايته عن غير الشاميين. وأخرجه الدارقطني أيضاً، في غرائب مالك عن إسحاق بن إبراهيم الحنيني عن مالك عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً نحوه. قال الدارقطني: الحنيني ضعيف والصحيح عن مالك موقوف في الباب عن أنس أخرجه الدارقطني في السنن (ص199) وابن عدي في الكامل. وأعله بحسان بن سياه، وعن عائشة، أخرجه ابن ماجه والبيهقي (ج4 ص95، 103) وأبوعبيد في الأموال (ص413) وهو ضعيف أيضاً وعن أم سعد الأنصارية، امرأة زيد بن ثابت بنحو حديث الباب ذكره الهيثمي (ج3 ص79) وعزاه للطبراني قال. وفيه عنبسة بن عبد الرحمن وهو ضعيف، وروى البيهقي عن أبي بكر وعلي وعائشة موقوفاً عليهم، مثل ما روى عن ابن عمر، قال: والاعتماد في ذلك على الآثار الصحيحة، فيه عن أبي بكر وعثمان بن عفان وعبد الله بن عمر وغيرهم، وقال أبوعبيد (ص413) بعد ذكر حديث عائشة مرفوعاً، فإن كان لهذا أصل، فهو السنة. وإلا ففي من سمينا من الصحابة قدوة ومتبع- انتهى. وقال الحافظ: في التلخيص بعد ذكر قول البيهقي، قلت حديث علي (عند أبي داود وغيره) لا بأس بإسناده، والآثار تعضده فيصلح للحجة - انتهى. (وذكر) أي وسمي

وقفوه على ابن عمر. 1803- (17) وعن علي: ((أن العباس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحل، فرخص له ذلك)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الترمذي (جماعة) أي بأسماءهم، منهم أيوب وعبيد الله (أنهم) بدل اشتمال، أي ذكر أن جماعة عددهم (وقفوه) أي هذا الحديث (على ابن عمر) أي جعلوه من ابن عمر، ولم يرفعوه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال الترمذي: والموقوف أصح، وقال الحافظ في البلوغ. بعد ذكر حديث ابن عمر، المرفوع ما لفظه. والراجح وقفه، قال الأمير اليماني: له حكم الرفع، لأنه لا مسرح للاجتهاد فيه- انتهى. وقد بسط الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص328- 329- 330) طرق هذا الحديث، من أحب الوقوف عليها رجع إليه. 1803- قوله: (قبل أن تحل) بكسر الحاء أي قبل أن تجب، ومنه قوله تعالى: {أم أردتم أن يحل عليكم غضب} -[طه: 86] أي يجب على قراءة الكسر. ومن حل الدين حلولاً، وأما الذي بمعنى النزول، فبضم الحاء. ومنه قوله تعالى: {أو تحل قريباً من دارهم} -[الرعد: 31] قاله السندي: وقيل: أي قبل أن تسير حالاً بمضيء الحول. وقيل: أي قبل أن يجيء وقتها من حلول الأجل بمعنى مجيئه، وقال ابن حجر: أي قبل أن يتم حولها وهو حاصل المعنى (فرخص له) أي للعباس (في ذلك) أي في تعجيل الصدقة. قال ابن الملك: هذا يدل على جواز تعجيل الزكاة بعد حصول النصاب قبل تمام الحول- انتهى. واختلف العلماء فيه، فذهب الشافعي وأحمد وأبوحنيفة وسعيد بن جبير والأوزاعي وإسحاق وأبوعبيد إلى جواز ذلك، وقال ربيعة ومالك وداود إنه لا يجوز، واستدل لذلك بما روى أنه لا زكاة حتى يحول الحول. وأجيب عنه بأن الوجوب متعلق بالحلول، فلا وجوب حتى يحول عليه الحول، وهذا لا ينفي جواز التعجيل. واحتج أيضاً لمالك ومن وافقه، بأن الحول أحد شرطي الزكاة فلم يجز تقديم الزكاة عليه كالنصاب. وأجيب عن هذا، بأن تقديم الزكاة على النصاب تقديم لها على سببها، فأشبه تقديم الكفارة على اليمين، وكفارة القتل على الجرح، فلم يجز بخلاف تقديم الزكاة على الحول، فإنه تعجيل لمال وجد سبب وجوبه، فجاز كتعجيل قضاء الدين قبل حلول أجله، وأداء كفارة اليمين بعد الحلف وقبل الحنث، وقد سلم مالك تعجيل الكفارة، وبأنه إذا قدم على النصاب قدمها على الشرطين، وإذا قدمها على الحول قدمها على أحدهما. ومن قواعدهم إن ماله سببان، يقدم على أحدهما لا عليهما، فجاز تقديمها على الحول لا النصاب. واستدل له أيضاً بأن للزكاة وقتاً، فلم يجز تقديمها عليه كالصلاة. وأجيب عنه بأن الوقت إذا دخل في الشيء رفقا بالإنسان، كان له أن يعجله ويترك الإرفاق بنفسه كالدين المؤجل. وأم الصلاة والصيام فتعبد محض،

رواه أبوداود، والترمذي، وابن ماجه، والدارمي. 1804- (18) وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، خطب الناس فقال: ((ألا من ولى يتيماً له فليتجر فيه، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ والتوقيت فيهما غير معلول، فيجب إن يقتصر عليه. قاله ابن قدامة في المغنى. (ج2 ص630) وقال ابن الهمام: فيه خلاف، لمالك، وهو يقول الزكاة إسقاط الواجب، ولا إسقاط قبل الوجوب، وصار كالصلاة قبل الوقت بجامع أنه أداء قبل السبب إذا السبب هو النصاب الحولي، ولم يوجد. قلنا لا نسلم اعتبار الزائد على مجرد النصاب جزاء من السبب بل هو النصاب فقط، والحول تأجيل في الأداء بعد أصل الوجوب فهو كالدين المؤجل وتعجيل المؤجل صحيح، فالأداء بعد النصاب كالصلاة في أول الوقت لا قبله. وكصوم المسافر رمضان، لأنه بعد السبب. ويدل على صحة هذا الاعتبار ما في أبي داود والترمذي من حديث عليَّ إن العباس سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - في تعجيل زكاته الحديث. (رواه أبوداود الخ) وأخرجه أيضاً أحمد (ج1 ص104) والحاكم (ج3 ص332) والدارقطني (ص213) والبيهقي (ج4 ص111) وغيرهم، وفيه اختلاف ذكره الدارقطني والبيهقي، من شاء الوقوف عليه رجع إليهما. وقد رجحا إرساله، وكذا رجحه أبوداود. وفي الباب عن أبي رافع عند أبي داود الطيالسي والدارقطني والطبراني وإسناده ضعيف وعن ابن مسعود عند البزار والطبراني، وهو أيضاً ضعيف. وعن طلحة بن عبيد الله عند أبي يعلى والبزار وابن عدي والدارقطني، وفيه الحسن بن عمارة وهو متروك، وعن ابن عباس عند الدارقطني، وهو ضعيف أيضاً. من أحب الإطلاع على ألفاظها رجع إلى مجمع الزائد (ج3 ص79) والفتح: قال الحافظ: بعد ذكر هذه الروايات، وليس ثبوت هذه القصة في تعجيل صدقة العباس ببعيد في النظر بمجموع هذه الطرق - انتهى. وقال الأمير اليماني: قد ورد هذا من طرق بألفاظ مجموعها، يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - تقدم من العباس زكاة عامين. وإختلفت الروايات هل هو استلف ذلك أو تقدمه ولعلهما واقعان معاً- انتهى. 1804- قوله: (ألا) للتنبيه (من ولى يتيماً) بفتح الواو وكسر اللام، قال القاري: وفي نسخة بضم الواو وتشديد اللام المكسورة أي صار ولى يتيم (له مال) صفة "ليتيماً" أي من صار ولياً ليتيم ذي مال (فليتجر) بتشديد الفوقية أي بالبيع والشراء (فيه) أي في مال اليتيم وفي رواية أبي عبيد فليتجر له فيه (ولا يتركه) بالنهي وقيل بالنفي (حتى تأكله الصدقة) أي تنقصه وتفنيه لأن الأكل سبب الإفناء. قال ابن الملك: أي بأخذ الزكاة منها فينقص شيئاً فشيئا: وهذا يدل على وجوب الزكاة في مال الصبي، وبه قال: الشافعي ومالك

وأحمد, وعند أبي حنيفة لا زكاة فيه - انتهى. وقال ابن قدامة: الزكاة تجب في مال الصبي والمجنون لوجود الشرائط الثلاث. (أي الحرية والإسلام وتمام الملك) فيهما روى ذلك عن عمر وعلي وابن عمر وعائشة والحسن بن علي وجابر رضي الله عنهم. وبه قال جابر بن زيد، وابن سيرين وعطاء ومجاهد وربيعة ومالك وابن أبي ليلى والشافعي وابن عيينة وإسحاق وأبوعبيد وأبوثور. ويحكي عن ابن مسعود والثوري والأوزاعي، أنهم قالوا: تجب الزكاة ولا تخرج، حتى يبلغ الصبي ويفيق المعتوة قال ابن مسعود: أحصى ما يجب في مال اليتيم من الزكاة, فإذا بلغ، أعلمه فإن شاء زكى وإن لم يشأ لم يزك. وروى نحو هذا عن إبراهيم. وقال الحسن البصري وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وأبووائل النخعي وأبوحنيفة: لا تجب الزكاة في أموالها. وقال أبوحنيفة: يجب العشر في زروعهما وثمرتهما وتجب صدقة الفطر عليهما. واحتج في نفي الزكاة بقوله عليه السلام رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي يبلغ وعن المجنون حتى يفيق، وبأنها عبادة محضة فلا تجب عليهما كالصلاة والحج ولنا ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال من ولى يتيماً له مال فليتجر له ولا يتركه حتى تأكلة الصدقة. أخرجه الدارقطني، وفي رواية المثنى بن الصباح، وفيه مقال وروى موقوفاً على عمرو إنما تأكله الصدقة بإخراجها، وإنما يجوز إخراجها إذا كانت واجبة لأنه ليس له أن يتبرع بمال اليتيم، ولأن من وجب العشر في زرعه وجب ربع العشر في ورقه كالبالغ العاقل، ويخالف الصلاة والصوم فإنها مختصة بالبدن وبنية الصبي ضعيفة عنها والمجنون لا يتحقق منه نيتها والزكاة حق يتعلق بالمال فأشبه نفقة الأقارب والزوجات واروش الجنايات وقيم المتلفات، والحديث أريد به رفع الإثم والعبادات البدنية بدليل وجوب العشر وصدقة الفطر والحقوق المالية، ثم هو مخصوص بما ذكرنا. والزكاة في المال في معناه فنقيسها عليه إذا تقرر هذا فإن الولي يخرجها عنهما من مالهما لأنها زكاة واجبة فوجب إخراجها كزكاة العاقل البالغ والولي يقوم مقامه في أداء ما عليه، ولأنها حق واجب على الصبي والمجنون فكان على الولي أداءه عنهما كنفقة أقاربه وتعتبر نية الولي في الإخراج كما تعتبر النية من رب المال - انتهى. كلام ابن قدامة قلت: واستدل للأئمة الثلاثة أيضاً بما روى الطبراني في الأوسط عن أنس مرفوعاً اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة ذكره الحافظ في التلخيص (ص176) وفي الدراية (ص154) والزيلعي في نصب الراية (ج2 ص332) وسكتا عنه، والهيثمي في مجمع الزوائد (ج3 ص67) وقال أخبرني سيدي وشيخي يعني الحافظ العراقي أن إسناده صحيح، والسيوطي في الجامع الصغير قال المناوي وسنده كما قال الحافظ العراقي صحيح وبعموم الأحاديث الصحيحة في إيجاب الزكاة مطلقاً، وبما روى في ذلك من آثار الصحابة عمر وعلي وابن عمر وعائشة وجابر رواها أبوعبيد والبيهقي والدارقطني وغيرهم وذكرها الزيلعي

رواه الترمذي، وقال: في اسناده مقال، لأن المثنى ـــــــــــــــــــــــــــــ والحافظ في التلخيص وأجاب الحنفية عن حديث الباب بأن المراد بالصدقة النفقة على اليتيم نفسه، لأن الزكاة لا تفني جميع المال فعلم أن المراد به النفقة التي تستغرق جميع المال. قال السرخسي: ألا ترى أنه أضاف الأكل إلى جميع المال والنفقة هي التي تأتي على جميع المال دون الزكاة، ولأن اسم الصدقة قد ينطلق على النفقة لقوله عليه السلام: أن المسلم إذا أنفق على أهله كانت له صدقة وتعقب هذا بأن اسم الزكاة لا يطلق على النفقة لغة ولا شرعاً ولا يقاس على لفظ صدقة، لأن اللغة لا تؤخذ بالقياس، والقول بأن رواية من روى بلفظ الزكاة رواية بالمعنى باطل مردود لأنه مجرد دعوى لا دليل عليها، ويرده أيضاً أثر ابن مسعود المذكور في كلام ابن قدامة وغير ذلك من الآثار. وأجيب عن الأول بأن المراد بالأكل النقص كما قال القاري وابن الملك وأجاب ابن الهمام عن آثار الصحابة التي تدل على وجوب الزكاة في مال الصبي بأنها لا تستلزم كونها عن سماع إذ يمكن الرأي فيه فيجوز كونه بناء عليه، فحاصله قول الصحابي عن اجتهاد عارضه رأى صحابي آخر. قال محمد بن الحسن في كتاب الآثار أنا أبوحنيفة حدثنا ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن مسعود ليس في مال اليتيم زكاة. وليث كان أحد العلماء العباد، وقيل اختلط في آخر عمره، ومعلوم أن أباحنيفة لم يكن ليذهب فيأخذ عنه حال اختلاطه ويرويه وهو الذي شدد أمر الرواية ما لم يشدده غيره وروى مثل قول ابن مسعود عن ابن عباس تفرد به ابن لهيعة- انتهى. وتعقبه شيخنا في شرح الترمذي بأنه لم يثبت عن أحد من الصحابة بسند صحيح عدم القول بوجوب الزكاة في مال الصبي، وأما أثر ابن مسعود فهو ضعيف من وجهين: الأول أنه منقطع والثاني أن في إسناده ليث بن أبي سليم، قال الحافظ: صدوق اختلط أخيرا ولم يتميز حديثه. وقال البيهقي (ج4 ص108) هذا أثر ضعيف لأنه منقطع فإن مجاهداً لم يدرك ابن مسعود، وليث بن أبي سليم ضعيف عند أهل الحديث، ذكره الزيلعي (ج2 ص334) وسكت عليه، وأجاب ابن الهمام عن الوجه الثاني ولم يجب عن الوجه الأول وفيما أجاب به عن الوجه الثاني كلام فتفكر وأما أثر ابن عباس فقد تفرد به ابن لهيعة وهو ضعيف عند أهل الحديث، وأما حديث رفع القلم عن ثلاثة ففي الاستدلال به على عدم وجوب الزكاة في مال الصبي نظر كيف وقد رواه عائشة وعلي وهما قائلان بوجوب الزكاة في مال الصبي، وقال الزيلعي: قال ابن الجوزي والجواب أن المراد قلم الإثم أو قلم الأذى - انتهى. وقد بسط في الرد على من قاس الزكاة على الصلاة أبوعبيد في الأموال (ص454- 456) فأرجع إليه (رواه الترمذي) وأخرجه أيضا أبوعبيد في الأموال (ص448) والدارقطني (ص206) والبيهقي (ج4 ص107) (وقال) أي الترمذي (في اسناده مقال لأن المثنى) بضم الميم وفتح المثلثة وتشديد النون مقصوراً

{الفصل الثالث}

ابن الصباح ضعيف. {الفصل الثالث} 1805- (19) عن أبي هريرة، قال: لما توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - واستخلف أبوبكر بعده، وكفر من كفر من العرب، ـــــــــــــــــــــــــــــ (ابن الصباح) بالمهملة المفتوحة والموحدة المشددة اليماني الأبناوي نزيل مكة (ضعيف) أي في الحديث والذي في الترمذي "يضعف في الحديث" قلت: ضعفه أبوحاتم وابن سعد وابن حبان وابن أبي عمار والساجي وسحنون الفقيه والدارقطني وغيرهم. وقال ابن حبان: كان ممن اختلط في آخر عمره. وقال أحمد: لا يساوي حديثه شيئاً مضطرب الحديث، وذكره العقيلي في الضعفاء وأورد عن علي بن المديني سمعت يحيى القطان وذكر عنده المثنى فقال لم نتركه من أجل حديث عمرو بن شعيب ولكن كان اختلاط منه، ذكره الحافظ في تهذيبه (ج10 ص36- 37) وقال في التقريب: ضعيف اختلط بآخره وكان عابداً- انتهى. وقال الترمذي: إنما روى هذا الحديث من هذا الوجه ورواه بعضهم عن عمرو بن شعيب عن عمر بن الخطاب موقوفاً عليه - انتهى. وقال ههنا سألت أحمد عن هذا الحديث فقال ليس بصحيح، ورواد الدارقطني من حديث أبي إسحاق الشيباني أيضا عن عمرو بن شعيب لكن راوية عند مندل بن علي وهو ضعيف ومن حديث العزرمي عن عمرو، والعزرمي ضعيف متروك، ورواه ابن عدى من طريق عبد الله بن علي وهو الأفريقي وهو ضعيف. قال الحافظ في بلوغ المرام: ولحديث عمرو شاهد مرسل عند الشافعي- انتهى. يعني ما رواه عن عبد المجيد بن رواد عن ابن جريج عن يوسف بن ماهك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة. قال البيهقي بعد روايته من طريق الشافعي: وهذا مرسل، إلا أن الشافعي أكده بالاستدلال بالخبر الأول أي حديث أبي سعيد عند الشيخين ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة - الحديث. يعني لأنه يدل بعمومه على إيجاب الزكاة في مال كل حر مسلم وبما روى عن الصحابة في ذلك. وقال الحافظ في التلخيص بعد ذكر هذا المرسل: ولكن أكده الشافعي بعموم الأحاديث الصحيحة في إيجاب الزكاة مطلقاً. 1805- قوله: (لما توفي) بصيغة المجهول (واستخلف) بصيغة المجهول أيضاً أي جعل خليفة (بعده) أي بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - (وكفر من كفر من العرب) بعض بعبادة الأوثان، وبعض بالرجوع إلى إتباع مسيلمة وهم أهل اليمامة وغيرهم. واستمر بعض على الإيمان إلا أنه منع الزكاة، وتأول أنها خاصة بالزمن النبوي. قال الحافظ

في الفتح قال القاضي عياض وغيره كان أهل الردة ثلاث أصناف: صنف عادوا إلى عبادة الأوثان. وصنف تبعوا مسيلمة والأسود العنسي، وكان كل منهما ادعى النبوة قبل موت النبي - صلى الله عليه وسلم - فصدق مسيلمة أهل اليمامة وجماعة غيرهم، وصدق الأسود أهل صنعاء وجماعة غيرهم، فقتل الأسود قبل موت النبي - صلى الله عليه وسلم - بقليل، وبقي بعض من آمن به فقاتلهم عمال النبي - صلى الله عليه وسلم - في خلافة أبي بكر، وأما مسيلمة فجهز إليه أبوبكر الجيش، وعليهم خالد بن وليد فقتلوه. وصنف الثالث استمروا على الإسلام لكنهم جحدوا الزكاة وتأولوا بأنها خاصة بزمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم الذين ناظر عمر أبابكر في قتالهم كما وقع في حديث الباب. قال الخطابي في المعالم (ج2 ص4) : وهؤلاء أي الصنف الثالث في الحقيقة أهل بغي وإنما لم يدعوا بهذا الاسم في ذلك الزمان خصوصاً لدخولهم في غمار أهل الردة فأضيف الاسم في الجملة إلى الردة إذ كانت أعظم الأمرين وأهمهما وأرخ مبدأ قتال أهل البغي بأيام علي بن أبي طالب إذ كانوا متفردين في زمانه لم يختلطوا بأهل شرك وقد كان في ضمن هؤلاء المانعين للزكاة من كان يسمح بالزكاة ولا يمنعها إلا أن رؤساءهم صدوهم عن ذلك الرأي وقبضوا على أيديهم في ذلك كبني يربوع فإنهم قد جمعوا صدقاتهم وأرادوا أن يبعثوا بها إلى أبي بكر فمنعهم مالك بن نويرة عن ذلك وفرقها فيهم- انتهى. وقال أبومحمد بن حزم في الملل والنحل (ج2 ص79- 80) : انقسمت العرب بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -. أربعة أقسام: طائفة ثبتت على ما كانت عليه في حياته من الإسلام ولم تبدل شيئاً ولزمت طاعة أبي بكر وهم الجمهور والأكثر. وطائفة بقيت على الإسلام أيضاً إلا أنهم قالوا نقيم الصلاة وشرائع الإسلام إلا إنا لا نؤدي الزكاة إلى أبي بكر ولا نعطي طاعة لأحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان هؤلاء كثيراً إلا أنهم دون من ثبت على الطاعة أي قليل بالنسبة إلى الطائفة الأولى وطائفة ثالثة أعلنت بالكفر والردة كأصحاب طليحة وسجاح وسائر من ارتدوهم قليل بالإضافة إلى من قبلهم إلا أنه كان في كل قبيلة من المؤمنين من يقاوم المرتدين. وطائفة رابعة توقفت فلم تدخل في أحد من الطوائف المذكورة ولم تطعهم وبقوا يتربصون لمن تكون الغلبة فأخرج إليهم أبوبكر البعوث وكان فيروز ومن معه غلبوا على بلاد الأسود وقتلوه وقتل مسيلمة باليمامة وعاد طليحة إلى الإسلام وكذا سجاح ورجع غالب من كان ارتد إلى الإسلام فلم يمض عام واحد حتى راجع الجميع الإسلام أولهم عن آخرهم وإنما كانت نزعة من الشيطان كنار اشتعلت فأطفأ الله للوقت- انتهى. قال الحافظ وإنما أطلق الكفر ليشمل الصنفين فهو في حق من جحد الزكاة حقيقة وفي حق الآخرين أي الذين منعوا الزكاة مع الاعتراف مجاز تغليباً وإنما قاتلهم الصديق ولم يعذرهم بالجهل؛ لأنهم نصبوا القتال فجهز إليهم من دعاهم إلى الرجوع فلما أصروا قاتلهم - انتهى. قال الخطابي في المعالم (ج2 ص5) زعم زاعمون من الروافض أن أبابكر أول من سمي المسلمين

كفاراً وأن القوم كانوا متأولين في منع الصدقة وكانوا يزعمون أن الخطاب في قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقةً تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم} [التوبة: 103] خطاب خاص في مواجهة النبي - صلى الله عليه وسلم - دون غيره وأنه مقيد بشرائط لا توجد فيمن سواه وذلك أنه ليس لأحد من التطهير والتزكية والصلاة على المتصدق ما للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومثل هذه الشبهة إذا وجد كان مما يعذر فيه أمثالهم ويرفع به السيف عنهم فكان ما جرى من أبي بكر عليهم عسفاً وسوء سيرة. قلت: (قائله الخطابي) وهؤلاء قوم لا خلاق لهم في الدين وإنما رأس مالهم البهت والتكذيب والوقيعة في السلف وقد بينا أن الذين نسبوا إلى الردة كانوا أصنافاً منهم من ارتد عن الملة ودعا إلى نبوة مسليمة وغيره، ومنهم من ترك الصلاة والزكاة وأنكر الشرائع كلها. وهؤلاء الذين سماهم الصحابة كفاراً ولذلك رأى أبوبكر سبى ذراريهم وساعده على ذلك أكثر الصحابة، واستولد علي بن أبي طالب جارية من سبى بني حنيفة فولدت له محمد بن علي الذي يدعى ابن الحنفية ثم لم ينقض عصر الصحابة حتى أجمعوا على أن المرتد لا يسبي. فأما مانعوا الزكاة منهم المقيمون على أصل الدين فإنهم أهل بغي ولم يسموا على الانفراد عنهم كفاراً، وإن كانت الردة قد أضيفت إليهم لمشاركتهم المرتدين في منع بعض ما منعوه من حقوق الدين. وذلك أن الردة اسم لغوي وكل من انصرف عن أمر كان مقبلاً إليه فقد ارتد عنه، وقد وجد من هؤلاء القوم الانصراف عن الطاعة ومنع الحق فانقطع عنهم اسم الثناة والمدح بالدين. وعلق بهم الاسم القبيح لمشاركتهم القوم الذين كان ارتدادهم حقاً، وفي أمر هؤلاء المانعين للزكاة عرض الخلاف، ووقعت الشبهة لعمر لا في الصنفين الأولين أي الذين ارتدوا حقيقة. قال الخطابي: وأما قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم} [التوبة: 103] وما أدعوا من وقوع الخطاب فيه خاصاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن خطاب كتاب الله تعالى على ثلاثة أوجه: خطاب عام، كقوله: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} [المائدة: 6] الآية. وكقوله: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام} [البقرة: 183] وخطاب خاص للنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يشركه في ذلك غيره وهو ما اُبَيْنَ عن غيره بسمة التخصيص وقطع التشريك كقوله تعالى: {ومن الليل فتهجد به نافلةً لك} [الإسراء: 79] وكقوله: {خالصةً لك من دون المؤمنين} [الأحزاب: 50] وخطاب مواجهة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو وجميع أمته في المراد به سواه كقوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل} [الإسراء: 78] وقوله: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النحل: 98] وكقوله: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة} [النساء: 102] ونحو ذلك من خطاب المواجهة فكله عام للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولأمته غير مختص به - صلى الله عليه وسلم - بل تشركه الأمة في جميع ذلك، ومن هذا النوع قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} وإنما الفائدة في مواجهة النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه هو الداعي إلى الله سبحانه والمبين عنه معنى ما أراده فقدم اسمه في

الخطاب ليكون سلوك الأمة في شرائع الدين على حسب ما ينهجه ويبينه لهم، قال: وأما تطهير والتزكية والدعاء من الإمام لصاحب الصدقة فإن الفاعل لها قد ينال ذلك كله بطاعة الله وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فيها وكل ثواب موعود على عمل من الطاعات كان في زمانه حياته - صلى الله عليه وسلم - فإنه باق غير منقطع بوفاته، وقد يستحب للإمام ولعامل الصدقة أن يدعو للمتصدق بالنماء والبركة في ماله ويرجى أن الله يستجيب له ذلك ولا يخيب مسألته فيه. قال الخطابي: ومن أنكر فرض الزكاة في هذا الزمان وامتنع من أدائها إلى الإمام لم يكن حكمه حكم أهل البغي، بل كان كافراً بإجماع المسلمين. لأنه قد شاع اليوم دين الإسلام واستفاض علم وجوب الزكاة حتى عرفه الخاص والعام، واشترك فيه العالم والجاهل فلا يعذر أحد بتأويل يتأوله في إنكارها، وكذلك الأمر في كل في من أنكر شيئاً مما أجمعت عليه الأمة من أمور الدين إذا كان علمه منتشراً كالصلوات الخمس وصيام شهر رمضان والاغتسال من الجنابة وتحريم الخمر، والزنا ونكاح ذوات المحارم ونحوها من الأحكام إلا أن يكون رجل حديث عهد بالإسلام لا يعرف حدوده فإذا أنكر شيئاً منه جهلاً به لم يكفر وكان سبيله سبيل أولئك القوم في تبقية اسم الدين عليه، فإما ما كان الإجماع فيه معلوماً من طريق علم الخاصة كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها، وإن قاتل العمد لا يرث وإن للجدة السدس، وما أشبه ذلك من الأحكام فإن من أنكرها لا يكفر بل يعذر فيها لعدم استفاضة علمها في العامة وتفرد الخاصة بها. قال الخطابي: وإنما عرض الوهم في تأويل هذا الحديث من رواية أبي هريرة: ووقعت الشبهة فيه لمن تأوله على الوجه الذي حكيناه عنهم لكثرة ما دخله من الحذف والاختصار وذلك؛ لأن القصد لم يكن به سياق الحديث على وجهه، وذكر القصة في كيفية الردة منهم وإنما قصد به حكاية ما جرى بين أبي بكر وعمر وما تنازعاه من الحجاج في استباحة قتالهم ويشبه أن يكون أبوهريرة إنما لم يعن بذكر القصة وسوقها على وجهها كلها اعتماداً على معرفة المخاطبين بها إذ كانوا قد علموا وجه الأمر وكيفية القصة في ذلك فلم يضر ترك إشباع البيان مع حصول العلم عندهم به انتهى كلام الخطابي. وحاصله أن عمر إنما أراد بقوله الآتي تقاتل الناس، الصنف الأخير فقط. أي الذين منعوا الزكاة وتأولوا قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} [التوبة: 103] لأنه لا يتردد في جواز قتال الذين رجعوا إلى عبادة الأوثان، كما أنه لا يتردد في قتال غيرهم من المرتدين وكأنه لم يستحضر من الحديث إلا القدر الذي ذكره وقد حفظ غيرهم (كابن عمر عند الشيخين وأنس عند أبي داود والنسائي) في الصلاة والزكاة معاً، وقد رواه عبد الرحمن بن يعقوب عن أبي هريرة عند مسلم بلفظ: يعم الشريعة حيث قال فيها: ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإن مقتضى ذلك أن من جحد شيئاً مما جاء به - صلى الله عليه وسلم - ودعي إليه فامتنع ونصب القتال أنه يجب قتاله وقتله إذا أصر وإنما عرضت الشبهة لما دخله من الاختصار وكان راويه لم يقصد سياق الحديث على وجهه وإنما أراد سياق مناظرة أبي بكر وعمر واعتمد على معرفة السامعين بأصل الحديث.

قال عمر بن الخطاب: لأبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الحافظ: وفي هذا الجواب نظر؛ لأنه لو كان عند عمر في الحديث حتى يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ما استشكل قتالهم للتسوية في كون غاية القتال كل من التلفظ بالشهادتين وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة، قال عياض: حديث ابن عمر نص في قتال من لم يصل ولم يزك كمن لم يقر بالشهادتين، واحتجاج عمر على أبي بكر، وجواب أبي بكر دل على أنهما لم يسمعا في الحديث الصلاة الزكاة إذ لو سمعه عمر لم يحتج على أبي بكر ولو سمعه أبوبكر لرد به على عمر، ولم يحتج إلى الاحتجاج بعموم قوله إلا بحقه- انتهى. قلت: في كلام عياض الأخير نظر، وسيأتي التنبيه عليه (كيف تقاتل الناس) أي الذين منعوا الزكاة مع الإقامة على أصل الدين (أمرت) بضم الهمزة مبنياً للمفعول أي أمرني الله (حتى يقولوا لا إله إلا الله) كناية عن الإسلام. قال الخطابي وغيره: المراد بقوله حتى يقولوا لا إله إلا الله: إنما هم أهل الأوثان دون أهل الكتاب، لأنهم يقولون لا إله إلا الله ثم إنهم يقاتلون ولا يرفع عنهم السيف حتى يقروا بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - أويعطوا الجزية (فمن قال لا إله إلا الله) يعني كلمة الإيمان وهي لا إله إلا الله محمد رسول الله للإجماع على أنه لا يعتد في الإسلام بتلك وحدها (عصم) بفتح الصاد أي منع وحفظ (مني) أي من تعرضي أنا ومن اتبعني (ماله ونفسه) فلا يجوز هدر دمه واستباحة ماله بسبب من الأسباب (إلا بحقه) أي بحق الإسلام من نحو قصاص أو حد أو غرامة متلف ونحو ذلك. قال الطيبي: أي لا يحل لأحد أن يتعرض لماله ونفسه بوجه من الوجوه إلا بحقه، أي بحق هذا القول، أو بحق أحد المذكورين. وقال الحافظ: إن كان الضمير في قوله بحقه للإسلام فمهما ثبت أنه من حق الإسلام تناوله ولذلك اتفق الصحابة على قتال من جحد الزكاة- انتهى. قلت: ورد حديث ابن عمر المتقدم في كتاب الإيمان بلفظ: إلا بحق الإسلام فالظاهر أن ضمير بحقه في حديث الباب للقول المذكور الذي هو كناية عن الإسلام (وحسابه على الله) أي فيما يستسر به دون ما يخل به من الأحكام الواجبة عليه في الظاهر. قال الطيبي: يعني من قال لا إله إلا الله، وأظهر الإسلام نترك مقاتلته ولا نفتش باطنه، هو مخلص أم لا؟ فإن ذلك إلى الله تعالى وحسابه عليه. قال الخطابي: فيه دليل على أن الكافر المستسر بكفره لا يتعرض له إذا كان ظاهره الإسلام ويقبل توبته إذا أظهر الإنابة من كفر علم بإقراره أنه كان يستسر به وهو قول أكثر العلماء، وذهب مالك إلى أن توبة الزنديق لا تقبل، ويحكى ذلك أيضاً عن أحمد بن حنبل - انتهى. وقال العيني في هذا الحديث: قبول توبة الزنديق ولأصحاب الشافعي في الزنديق الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر ويعلم ذلك بأن يطلع الشهود على كفر كان يخفيه أو علم بإقراره خمسة

فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، ـــــــــــــــــــــــــــــ أوجه: أحدها: قبول توبته مطلقاً وهو الصحيح المنصوص عن الشافعي والدليل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: أفلا شققت عن قلبه. والثاني: وبه قال مالك لا تقبل توبته ويتحتم قتله لكنه إن كان صادقاً في توبته نفعه ذلك عندالله تعالى، وعن أبي حنيفة روايتان كالوجهين. والثالث. إن كان من الدعاة إلى الضلال لم تقبل توبتهم وتقبل توبة عوامهم. والرابع. إن أخذ ليقتل فتاب لم تقبل وإن جاء تائباً ابتداء وظهرت مخايل الصدق عليه قبلت، وحكى هذا القول عن مالك. والخامس: إن تاب مرة قبلت منه وإن تكررت منه التوبة لم تقبل، وقال صاحب التقريب: روى بشر بن الوليد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة في الزنديق الذي يظهر الإسلام، قال استيتب كالمرتد، وقال أبويوسف مثل ذلك زماناً فلما رأى ما يصنع الزنادقة من إظهار الإسلام ثم يعودون قال: إن أتيت بزنديق أمرت بقتله ولم استتب فإن تاب قبل أن أقتله خليته، وروى سليمان بن شعيب عن أبيه عن يوسف عن أبي حنيفة في نوادر له قال قال أبوحنيفة: اقتلوا الزنديق المستتر فإن توبته لا تعرف- انتهى. (والله لأقاتلن من فرق) بتشديد الراء وقد تخفف (بين الصلاة والزكاة) بأن أقر بالصلاة وأنكر الزكاة جاحداً أو مانعاً مع الاعتراف، وإنما أطلق في أول القصة الكفر ليشمل الصنفين فهو في حق من جحد حقيقة وفي حق الآخرين مجاز تغليباً وإنما قاتلهم الصديق ولم يعذرهم بالجهل؛ لأنهم نصبوا القتال فجهز إليهم من دعاهم إلى الرجوع فلما أصروا قاتلهم، قال المازري: ظاهر السياق إن عمر كان موافقاً على قتال من جحد الصلاة فالزمه الصديق بمثله في الزكاة لورودهما في الكتاب والسنة مورداً واحداً، كذا في الفتح. (فإن الزكاة حق المال) قال القسطلاني: احتج عمر في هذه القصة بظاهر ما استحضره مما رواه من قبل أن ينظر إلى قوله إلا بحقه ويتأمل شرائطه، فقال له أبوبكر: إن الزكاة حق المال كما أن الصلاة حق البدن أي فدخلت في قوله إلا بحقه فقد تضمنت القضية عصمة دم ومال معلقة باستيفاء شرائطها والحكم المعلق بشرطين لا يحصل بأحدهما والأخر معدوم فكما لا تتناول العصمة من لم يؤد حق البدن أي الصلاة، كذلك لا تتناول العصمة من لم يؤد حق المال أي الزكاة. وإذا لم تتناولهم العصمة بقوا في عموم قوله: أمرت أن أقاتل الناس فوجب قتالهم حينئذٍ، وهذا من لطيف النظر أن يقلب المعترض على المستدل دليله فيكون أحق به. وكذلك فعل أبوبكر فسلم له عمر ثم قاسه على الممتنع من الصلاة؛ لأنها كانت بالإجماع من رأى الصحابة فرد المختلف فيه إلى المتفق عليه وفيه دلالة على أن العمرين لم يسمعا من الحديث الصلاة والزكاة كما سمعه غيرهما أو لم يستحضراه إذ لو كان ذلك لم يحتج عمر على أبي بكر ولو سمعه أبوبكر لرد به على عمر ولم يحتج إلى الاحتجاج بعموم قوله: إلا بحقه لكن يحتمل أنه سمعه واستظهر بهذا الدليل النظري. وقال الطيبي: كان عمر حمل قوله: بحقه على غير الزكاة فلذلك صح استدلالة بالحديث فأجاب أبوبكر بأنه شامل للزكاة أيضاً أو ظن عمر أن القتال إنما كان لكفرهم لا لمنعهم الزكاة فاستشهد بالحديث فأجابه الصديق بأني ما أقاتلهم لكفرهم بل لمنعهم الزكاة- انتهى. وقال الحافظ: قوله فإن الزكاة حق

والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـــــــــــــــــــــــــــــ المال يشير إلى دليل منع التفرقة التي ذكرها أن حق النفس الصلاة، وحق المال الزكاة فمن صلى عصم نفسه ومن زكى عصم ماله فإن لم يصل قوتل على ترك الصلاة ومن لم يزك أخذت الزكاة من ماله قهراً وإن نصب الحرب لذلك قوتل. وهذا يوضح أنه لو كان سمع الحديث ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة لما احتاج إلى هذا الاستنباط لكنه يحتمل أن يكون سمعه واستظهر بهذا الدليل النظري - انتهى. قلت: هذا الاحتمال الأخير هو الراجح عندي لما روى النسائي والحاكم والبيهقي من حديث أنس قال لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ارتدت العرب، فقال عمر يا أبابكر كيف تقاتل العرب: فقال أبوبكر: إنما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وإني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة- الحديث. ورجاله رجال الصحيح إلا عمران أبوالعوام وهو صدوق بهم كما في التقريب، وقال النسائي عمران القطان ليس بالقوى في الحديث، وهذا الحديث خطأ والذي قبله الصواب حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبي هريرة، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد غير أن الشيخين لم يخرجا عن عمران القطان وليس لهما حجة في تركه فإنه مستقيم الحديث، وكذا قال الذهبي في تلخيصه: وقد ظهر بهذا وبما تقدم قبله أن أبابكر الصديق احتج على عمر بالنص الصريح وبعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - إلا بحقه وبمقايسة الزكاة بالصلاة وبكونهما فقرينتين في كتاب الله تعالى (والله لو منعوني عناقاً) بفتح العين وتخفيف النون وهي الأنثى من الأولاد المعز دون السنة (كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال الخطابي: فيه دليل على وجوب الصدقة في السخال والفصلان والعجاجيل وإن واحدة منها تجزيء عن الواجب في الأربعين، ومنها إذا كانت كلها صغاراً ولا يكلف صاحبها مسنة، وفيه دليل على أن حول النتاج حول الأمهات، ولو كان يستأنف بها الحول لم يوجد السبيل إلى أخذ العناق. وقال عياض: احتج بذلك من يجيز أخذ العناق في زكاة الغنم إذا كانت كلها سخالاً، وهو أحد الأقوال. قال النووي: هو محمول على ما إذا كانت الغنم صغاراً كلها بأن ماتت أمهاتها في بعض الحول، فإذا حال حول الأمات زكى السخال الصغار بحول الأمهات سواء بقي من الأمهات شيء أم لا، هذا هو الصحيح المشهور، ويتصور ذلك أيضاً فيما إذا مات معظم الكبار وحدثت صغار فحال حول الكبار على بقيتها وعلى الصغار- انتهى. قلت: اختلف العلماء فيما إذا كانت الغنم سخالاً كلها أو كانت الإبل فصلاناً والبقر عجاجيل. فقال مالك: عليه في الغنم جذعة أو ثنية، وعليه في الإبل والبقر ما في الكبار منها، وهو قول زفر وأبي ثور وأبي عبيد. وقال أبويوسف: والأوزاعي والشافعي يؤخذ منها إذا كانت صغاراً من كل صنف واحد منها، وهو مذهب البخاري في الغنم حيث ترجم لحديث الباب بقوله: "باب أخذ العناق في الصدقة. وقال أبوحنيفة ومحمد: لا شيء في الفصلان ولا في العجاجيل ولا في صغار الغنم لا منها ولا من غيرها، وهذا آخر

أقوال أبي حنيفة، وكان يقول أولاً بما ذهب إليه مالك، ثم رجع وقال بما ذهب إليه أبويوسف والشافعي، ثم رجع وقال ليس في الفصلان والعجاجيل والسخال صدقة. قال الخطابي: وهذا أظهر أقاويله، وإلى هذا ذهب أحمد بن حنبل، وحكى ذلك عن سفيان الثوري. قلت: الحنابلة موافقون في ذلك للشافعي. قال الموفق في المغنى: السخلة لا تؤخذ في الزكاة لقول عمر لساعيه: اعتد عليهم بالسخلة يروح بها الراعي على يديه ولا تأخذها منهم ولا نعلم فيه خلافاً إلا أن يكون النصاب كله صغاراً فيجوز أخذ الصغيرة في الصحيح من المذهب، وإنما يتصور ذلك بأن يبدل كباراً بصغار في أثناء الحول أو يكون عنده نصاب من الكبار فتوالد نصاب من الصغار ثم تموت الأمهات وتحول الحول على الصغار. وقال أبوبكر: لا يؤخذ أيضاً إلا كبيرة تجزيء في الأضحية، وهو قول مالك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما حقنا في الجذعة والثنية" ولنا قول الصديق رضي الله عنه"والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم عليها "فدل على أنهم كانوا يؤدون العناق، ولأنه مال تجب فيه الزكاة من غير اعتبار قيمته، فيجب أن يأخذ من عينه كسائر الأموال. والحديث محمول على ما فيه كبار- انتهى. واستدل لأبي حنيفة ومحمد بأن النصاب إنما يعرف بالنص، والنص ورد بإسم الإبل والبقر والغنم، وهذه الاسامي لا تتناول الفصلان والعجاجيل والحملان أي السخال، فلم يثبت كونها نصاباً وأجاب المانعون عن قول أبي بكر الصديق بأنه خرج على طريق التمثيل لا التحقيق أي لو وجبت هذه ومنعوها لقاتلتهم أو على المبالغة دون التحقيق بدليل ما في الرواية الأخرى "عقالاً" مكان "عناقاً" فإن العقال ليس من الصدقة، كما أن العناق ليس من سن الزكاة، وبأن المراد بالعناق فيه الجذعة والثنية مجازاً، فلا يستلزم أخذ الصغار ولو سلم جاز أخذها بطريق القيمة لا أنها هي نفس الواجب، وبأن معناه كانوا يؤدون عنها ما يجوز أداءه ويشهد له قول عمر اعدد عليهم السخلة ولا تأخذها. والقول الراجح عندي هو ما ذهب إليه الشافعي وأبويوسف لظاهر قول أبي بكر الصديق قال ابن رشد وهو الأقيس- انتهى. وما ذكره المانعون للجواب عن قول الصديق تكلف كله لا يخفى ذلك على من تأمل وانصف، هذا وقوله: "عناقاً" إنما هو للبخاري ولفظ مسلم "عقالاً" بكسر العين بدل العناق وكذا عند الترمذي والبخاري في رواية. ووقع عند أبي داود والنسائي كلا اللفظين، واختلف في رواية العقال فقيل هي وهم، وإلى ذلك أشار البخاري في "باب الإقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من كتاب الاعتصام، وقيل: الرواية محفوظة، ولها معنى متجه وجرى النووي على طريقته. فقال: هو محول على أن أبابكر قالها مرتين. مرة عناقاً ومرة عقالاً، فروى عنه اللفظان. قال الحافظ: هو بعيد مع اتحاد المخرج والقصة، واختلف في المراد بالعقال، قال في النهاية أراد بالعقال: الحبل الذي يعقل به البعير الذي كان يؤخذ في الصدقة، لأن على صاحبها التسليم وإنما يقع القبض بالرباط. وقيل: أراد ما يساوي عقالاً من حقوق الصدقة. وقيل: إذا أخذ المصدق أعيان الإبل،

لقاتلتهم على منعها. قال عمر: فوالله ما هو إلا رأيت، إن الله شرح صدر أبي بكر للقتال، ـــــــــــــــــــــــــــــ قيل أخذ عقالاً، وإذا أخذ أثمانها قيل أخذ نقداً. (كما أنشد أبوالعباس النحوي) لبعضهم: أتانا أبوالخطاب يضرب طبله فرد ولم يأخذ عقالً ولا نقداً وقيل أراد بالعقال صدقة العام، يقال أخذ المصدق عقال هذا العام أي أخذ منهم صدقته، وبعث فلان على عقال بني فلان إذا بعث على صدقاتهم، واختاره أبوعبيد. وقال: هي أشبه عندي بالمعنى: وقال الخطابي: إنما يضرب المثل في مثل هذا بالأقل لا بالأكثر وليس بسائر في لسانهم إن العقال صدقة عام وفي أكثر الروايات عناق وفي أخرى جدي. وقيل: إذا كان من عرض التجارة فبلغ مع غيره قيمة النصاب يجب فيه، وجاء في الحديث على القولين فمن الأول. حديث عمر أنه قال: يأخذ مع كل فريضة عقالاً ورداء، وحديث محمد بن مسلمة إنه كان يعمل على الصدقة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان يأمر الرجل إذا جاء بفريضتين أن يأتي بعقاليهما وقرانيهما، ومن الثاني. حديث عمر أنه آخر الصدقة عام الرمادة فلما أحيا الناس بعث عامله فقال: اعقل عنهم عقالين فاقسم فيهم عقالاً وأتى بالأخر يريد صدقة عامين- انتهى. وقد بسط الحافظ والنووي الكلام في تفسير العقال. وقال النووي: ذهب كثيرون من المحققين إلى أن المراد بالعقال، الحبل الذي يعقل به البعير، وهذا القول يحكي عن مالك وابن أبي ذئب وغيرهما، وهو اختيار صاحب التحرير وجماعة من حذاق المتأخرين، قال: وهذا الذي اختاره وهو الصحيح الذي لا ينبغي غيره. قيل: ولم يزد عينه، وإنما أراد قدر قيمته. قال النووي: وهذا ظاهر متصور في زكاة النقد وفي المعدن والركاز والمعشرات وزكاة الفطر، وفيما لو وجبت سن فأخذ الساعي دونه، وفيما إذا كانت الغنم سخالاً فمنع واحدة وقيمتها عقال (لقاتلهم على منعها) أي لأجل منعها أو على ترك أدانها إلى الأمام وهذا ظاهر في أنه قاتلهم على ترك أداءهم الزكاة إلى الإمام لا على إنكار فرضيتها وجحدها. وقال الخطابي: فيه دليل على أن الردة لا تسقط عن المرتد الزكاة الواجبة في أمواله، وتعقبه الحافظ: بأن المرتد كافر والكافر لا يطالب بالزكاة وإنما يطالب بالإيمان، وليس في فعل الصديق حجة لما ذكر، وإنما فيه قتال من منع الزكاة والذين تمسكوا بأصل الإسلام ومنعوا الزكاة بالشبهة التي ذكروها لم يحكم عليهم بالكفر قبل إقامة الحجة. وقد اختلف الصحابة فيهم بعد الغلبة عليهم هل تغنم أموالهم وتسبي ذراريهم كالكفار أو لا كالبغاة، فرأى أبوبكر الأول، وعمل به، وناظره عمر في ذلك، وذهب إلى الثاني، ووافقه غيره في خلافته على ذلك واستقر الإجماع عليه في حق من جحد شيئاً من الفرائض بشبهه فيطالب بالرجوع، فإن نصب القتال قوتل وأقيمت عليه الحجة فإن رجع وإلا عومل معاملة الكافر حينئذٍ- انتهى. (فوالله ما هو) أي الشأن (إلا رأيت) أي علمت (إن الله شرح صدر أبي بكر للقتال) أي فتح ووسع له، قال النووي: معناه علمت أنه جازم بالقتال لما ألقي الله سبحانه وتعالى في قلبه من الطمأنينة

فعرفت أنه الحق)) . متفق عليه. 1806- (20) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يكون كنز أحدكم يوم القيامة شجاعاً أقرع، يفر منه صاحبه، وهو يطلبه حتى يلقمه أصابعه)) . رواه أحمد. ـــــــــــــــــــــــــــــ لذلك واستصوا به ذلك. قال الطيبي: المستثنى منه غير مذكور أي ليس الأمر شيئاً من الأشياء إلا علمي بأن أبابكر محق، فهذا الضمير يفسره ما بعده نحو قوله تعالى: {إن هي إلا حياتنا الدنيا} [الأنعام: 29] (فعرفت أنه الحق) أي ظهر له من صحة احتياجه لا أنه قلده في ذلك، وهذا انصاف منه رضي الله عنه ورجوع إلى الحق عند ظهوره. وفي هذا الحديث فوائد كثيرة غير ما تقدم، ذكرها الحافظ والنووي من شاء الوقوف عليها رجع إلى الفتح وشرح مسلم للنووي (متفق عليه) واللفظ للبخاري، فقد تقدم إن مسلما رواه بلفظ "عقالاً" مكان "عناقاً" والحديث أخرجه البخاري في الزكاة وفي استنابة المرتدين وفي الاعتصام، ومسلم في الإيمان، وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي في الإيمان، وأبوداود في الزكاة والنسائي فيه وفي الجهاد وفي المحاربة والبيهقي وابن حبان وغيرهم، وأخرج مالك في الموطأ طرفا من قول أبي بكر قال مالك: بلغه أن أبابكر الصديق. قال: لو منعوني عقالاً لجاهدتهم عليه لم يزد على هذا. 1806- قوله: (يكون كنز أحدكم) أي المال المكنوز أي المجموع أو المدفون من غير إخراج الزكاة (شجاعاً) أي يصير حية وينقلب ويتصور (يفر منه صاحبه) أي صاحب الكنز أو صاحب الشجاع، والإضافة لأدنى ملابسة (وهو) أي الشجاع (يطلبه) ولا يتركه (حتى يلقمه) من الألقام (أصابعه) لأن المانع الكانز يكتسب المال بيديه. قال السيد جمال الدين: وهو يحتمل احتمالين. أحدهما: أن يلقم الشجاع أصابع صاحب المال على أن يكون أصابعه بدلاً من الضمير، وثانيهما: أن يلقم صاحب المال الشجاع أصابع نفسه أي يجعل أصابع نفسه لقمة الشجاع تأمل - انتهى. قال الطيبي: ذكر فيما تقدم أن الشجاع يأخذ بلهزمتيه أي شدقيه، وخص هنا بألقام الأصابع، ولعل السر فيه إن المانع يكتسب المال بيديه ويفتخر بشدقيه فخصا بالذكر, أو أن البخيل قد يوصف بقبض اليد، قالوا: يد فلان مقبوضة وأصابعه مكفوفة، كما أن الجواد يوصف ببسطها. قال الشاعر: تعود بسط الكف لو أنه ثناها بقبض لم تطعه أنامله انتهى. قال القاري: والأظهر أن يقال كل يعذب بما هو الغالب عليه، ويحتمل أن مانع الزكاة يعذب بجميع ما مر في الأحاديث، فيكون ماله تارةً يجعل صفائح وتارةً يتصور شجاعاً أقرع يطوقه، وتارةً يتبعه ويفر منه حتى يلقمه أصابعه (رواه أحمد) وأخرجه أيضاً الحاكم (ج1 ص389) . وقال: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي.

1807- (21) وعن ابن مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله، إلا جعل الله يوم القيامة في عنقه شجاعاً، ثم قرأ علينا مصداقة من كتاب الله، {ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله} الآية. رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه. 1808- (22) وعن عائشة، قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما خالطت الزكاة مالاً قط إلا أهلكته)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1807- قوله: (ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل الله يوم القيامة في عنقه شجاعاً) هذا لفظ الترمذي وللنسائي: ما من رجل له مال لا يؤدي حق ماله إلا جعل له طوقاً في عنقه، شجاع أقرع وهو يفر منه وهو يتبعه، ولفظ ابن ماجه، من أحد لا يؤدي زكاة ماله إلا مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع حتى يطوق به عنقه، وأخرجه أحمد بلفظ: "لا يمنع عبد زكاة ماله إلا جعل له شجاع أقرع يتبعه يفر منه وهو يتبعه فيقول أنا كنزك" (ثم قرأ) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في رواية ابن ماجه (علينا مصداقة) أي ما يصدقه ويوافقه (من كتاب الله) الظاهر أنه حال من مصداقة أو من بيان له وما بعده بدل بعض من الكل {ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله} الآية في الترمذي بعده، وقال مرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصداقة: {سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة} [آل عمران: 180] (رواه الترمذي) في التفسير واللفظ له (والنسائي وابن ماجه) في الزكاة وأخرجه أيضا أحمد (ج1 ص377) والبيهقي (ج4 ص81) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال المنذري في الترغيب: بعد إيراده رواه ابن ماجه والنسائي بإسناد صحيح وابن خزيمة في صحيحه- انتهى. وأخرجه الحاكم في التفسير (ج2 ص298- 299) وابن جرير عن ابن مسعود موقوفاً. 1808- قوله: (ما خالطت الزكاة مالاً قط) بأن يكون صاحب مال من النصاب فيأخذ الزكاة أو بأن لم يخرج من ماله الزكاة. قال المنذري: هذا الحديث يحتمل معنيين، أحدهما: أن الصدقة ما تركت في مال ولم تخرج منه إلا أهلكته، ويشهد لهذا حديث عمر مرفوعاً: ما تلف مال في بر ولا بحر إلا بحبس الزكاة (أخرجه الطبراني في الأوسط وفيه عمر ابن هارون وهو ضعيف) والثاني: إن الرجل يأخذ الزكاة وهو غني عنها فيضعها مع ماله فيهلكه، وبهذا فسره الإمام أحمد (كما سيأتي) (إلا أهلكته) أي نقصته أو أفنته أو قطعت بركته أي إذا لم تخرج الزكاة من مال وجبت فيه أهلكته أي محقته بأن سلطت عليه الآفات كسرقة وغصب وحرق، أو المراد قلت بركته حتى لا ينتفع به وإن كان موجوداً فهو حينئذٍ كالهالك المعدوم. وقال الطيبي: يحتمل محقته واستصالته لأن الزكاة كانت حصناً له

رواه الشافعي والبخاري في تاريخه، والحميدي، وزاد. قال يكون قد وجب عليك صدقة، فلا تخرجها، فيهلك الحرام الحلال، وقد احتج به من يرى تعلق الزكاة بالعين. ـــــــــــــــــــــــــــــ أو أخرجته من كونه منتفعاً به لأن الحرام غير منتفع شرعاً (رواه الشافعي) في باب الهدية للوالي بسبب الولاية (ج2 ص50) من كتاب الأم بلفظ: لا تخالطه الصدقة مالاً إلا أهلكته (والبخاري في تاريخه) الكبير في ترجمة محمد بن عثمان بن صفوان بن أمية الجحمي القرشي (ج1 180) بلفظ: "ما خالطت الصدقة مالاً قط إلا أهلكته" (والحميدي) كلهم من طريق محمد بن عثمان بن صفوان الجحمي المكي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ومحمد بن عثمان هذا لم يذكر البخاري فيه جرحاً ولا تعديلاً وهو من رجال ابن ماجه. قال الحافظ في تهذيبه (ج9 ص337) : روى عن هشام بن عروة والحكم بن اربان وغيرهما، وروى عنه الشافعي والحميدي وأحمد ابن حنبل وإبراهيم بن حمزة الزبيري (وعنه البخاري) وغيرهم. قال أبوحاتم: منكر الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الدارقطني: ليس بقوى. وقال في التقريب: ضعيف. والحديث أخرجه أيضاً ابن عدي، والبزار، والبيهقي، وأشار المنذري إلى ضعفه حيث صدره بلفظة روى. وقال الهيثمي (ج3 ص64) : بعد عزوه إلى البزار. وفيه عثمان بن عبد الرحمن الجحمي. قال أبوحاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به - انتهى. قلت: إن كان ما وقع في نسخة مجمع الزوائد المطبوعة صحيحاً فعثمان هذا من رجال الترمذي وابن ماجه. قال البخاري: فيه أنه مجهول، وقال الساجي: يحدث عن محمد بن زياد بأحاديث لا يتابع عليها وهو صدوق، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه مناكير، كذا في تهذيب التهذيب (ج7 ص136) وقال الحافظ في التقريب: ليس بالقوى (وزاد) أي الحميدي (قال) أي البخاري في تفسير الحديث (يكون قد وجب عليك صدقة فلا تخرجها فيهلك الحرام الحلال) فكأنها تعينت واختلطت (وقد احتج به من يرى تعلق الزكاة بالعين) أي لا بالذمة، قال الشوكاني: احتجاج من احتج به على تعلق الزكاة بالعين صحيح، لأنها لو كانت متعلقة بالذمة لم يستقم هذا الحديث، لأنها لا تكون في جزء من أجزاء المال فلا يستقيم اختلاطها بغيرها، ولا كونها سبباً لإهلاك ما خالطته - انتهى. وقال الطيبي: فإن قلت: هذا الحديث ظاهر في معنى المخالطة فإنها معنى ومبني تستدعي شيئين متمايزين يختلط أحدهما بالآخر، فأين هذا المعنى من قول من فسرها بإهلاك الحرام الحلال. قلت: لما جعلت الزكاة متعلقة بعين المال لا بالذمة، جعل قدر الزكاة المخرج من النصاب معيناً ومشخصاً، فيستقيم الخلط بنا بقي من النصاب - انتهى. قال في اللمعات: وإلى تعلق الزكاة بالعين ذهب الأئمة الثلاثة، ومن تبعهم، ولهذا لا يجوزون دفع القيم في الزكاة؛ لأنها قربة تعلقت بمحل، فلا تتأدى بغيره كالهدايا والضحايا. وتعلق الزكاة بالمال عندهم تعلق شركة، لأن المنصوص عليه هو الشأة، فالشارع أوجب

هكذا في المنتقى، وروى البيهقي، في شعب الإيمان، عن أحمد بن حنبل، بإسناده إلى عائشة، وقال أحمد في خالطت تفسيره إن الرجل يأخذ الزكاة، وهو موسر، أو غنى، وإنما هي للفقراء. ـــــــــــــــــــــــــــــ المنصوص عليه عيناً، والواجب لا يسع تركه - انتهى. قلت: ذهب الحنيفة إلى أنها متعلقة بعين المال، صرح به الدر المختار وغيره، وهو مذهب المالكية كما صرح به الزرقاني، وأشار إليه الباجي، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وأحد قولي الشافعي، وذهب ابن حزم إلى أنها واجبة في ذمة صاحب المال لا في عين المال، وهو القول الثاني للشافعي، والرواية الثانية عن أحمد. قال ابن قدامة (ج2 ص679) : الزكاة تجب في الذمة في إحدى الروايتين عن أحمد، وهو أحد قولي الشافعي، لأن إخراجها من غير النصاب جائز، فلم تكن الواجبة فيه كزكاة الفطر، ولأنها لو وجبت فيه لامتنع تصرف صاحب المال فيه، ولتمكن المستحقون من إلزامه أداء الزكاة من عينه، واسقطت الزكاة بتلف النصاب من غير تفريط كسقوط ارش الجنابة بتلف الجاني، والرواية الثانية أنها تجب في العين، وهذا قول الثاني للشافعي، وهذه الرواية هي الظاهرة عند بعض أصحابنا لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: في أربعين شاة شأة، وقوله: فيما سقت السماء العشر، وغير ذلك من الألفاظ الواردة بحرف"في" وهي للظرفية. وإنما جاز الإخراج من غير النصاب رخصة. وفائدة الخلاف أنها إذا كانت في الذمة فحال على ماله حولان لم يؤد زكاتهما وجب عليه أداءها لما مضى، ولا تنقص عنه الزكاة في الحول الثاني، وكذلك إن كان أكثر من نصاب لم تنقص الزكاة. وإن مضى عليه أحوال، فلو كان عنده أربعون شاة مضى عليها ثلاثة أحوال لم يؤد زكاتها وجب عليه ثلاث شياه، لأن الزكاة وجبت في ذمته، فلم يؤثر في تنقيص النصاب، وإن قلنا الزكاة تنعلق بالعين. وكان النصاب مما تجب الزكاة في عينه فحالت عليه أحوال لم تؤد زكاتها تعلقت الزكاة في الحول الأول من النصاب بقدرها، فإن كان فيه نصاباً لا زيادة عليه فلا زكاة فيه فيما بعد الحول الأول، لأن النصاب نقص فيه- انتهى. (هكذا) أي الحديث مع تخريجه وما ذكر من زيادة الحميدي إلى قوله: وقد احتج به من يرى تعلق الزكاة بالعين (في المنتقى) من أخبار المصطفى لمجد الدين أبي البركات ابن تيمية (وروى البيهقي في شعب الإيمان) أي هذا الحديث (وقال أحمد في خالطت) أي في لفظ"خالطت" الواقع في صدر الحديث (تفسيره) أي معناه أو تأويله وهو مقبول قول أحمد (إن الرجل يأخذ الزكاة وهو موسر أو غنى) شك من الراوي (وإنما هي) أي الزكاة (للفقراء) أي ولأمثالهم وغلبوا؛ لأنهم أكثر من البقية. وقال الشافعي: يعني أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والله أعلم أي بمراد كلام رسوله إن خيانة الصدقة تتلف المال المخلوط بالخيانة من الصدقة - انتهى.

(1) باب ما يجب فيه الزكاة

(1) باب ما يجب فيه الزكاة {الفصل الأول} 1809- (1) عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر ـــــــــــــــــــــــــــــ (باب ما يجب فيه الزكاة) قال مالك: لا تكون الصدقة إلا في ثلاثة أشياء، الحرث والعين والماشية. قال ابن عبد البر: لا خلاف في جملة ذلك، ويختلف في تفصيله. وقال في المسوي: وعليه أهل العلم إن صدقة الأموال على ثلاثة أقسام: وزكاة التجارة إنما تؤخذ بحساب القيمة وأما الصدقة الفطر فهي صدقة الرؤس. وقال الإمام ابن القيم في الهدى: (ج1 ص151) جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزكاة في أربعة أصناف من المال وهي أكثر الأموال دوراً بين الخلق وحاجتهم إليها ضرورية. أحدها: الزرع والثمار. الثانية: بهيمة الأنعام، الإبل والبقر والغنم. الثالث: الجوهران اللذان بهما قوام العالم، وهما الذهب والفضة. الرابع: أموال التجارة على اختلاف أنواعها، وقال ابن رشد في البداية (ج1 ص227) : وأما ما تجب فيه الزكاة من الأموال فإنهم اتفقوا منها على أشياء واختلفوا في أشياء أما ما اتفقوا عليه فصنفان من المعدن الذهب والفضة اللتين ليستا بحلي. وثلاثة أصناف من الحيوان، الإبل والبقر والغنم، وصنفان من الحبوب، الحنطة والشعير وصنفان من الثمر التمر والزبيب وفي الزيت خلاف شاذ- انتهى. ثم فصل ابن رشد الأشياء التي اختلفوا في وجوب الزكاة فيها كالحلي من الذهب والفضة والخيل من الحيوان، وغير السائمة من الإبل والبقر والغنم، وغير الأصناف الأربعة المذكورة من النبات. 1809- قوله: (ليس فيما دون خمسة أوسق) جمع وسق بفتح الواو، ويجوز كسرها كما حكاه صاحب المحكم وجمعه حينئذٍ أوساق كحمل وأحمال، وقد وقع كذلك في رواية لمسلم، وهو ستون صاعاً بالاتفاق، ووقع في رواية ابن ماجه نحو هذا الحديث، وفيه والوسق ستون صاعاً وأخرجها أحمد وأبوعبيد وأبوداود أيضاً، لكن قال ستون مختوماً قال أبوعبيد في الأموال (ص518) والمختوم ههنا الصاع بعينه، وإنما سمي مختوماً؛ لأن الأمراء جعلت على أعلاه خاتما مطبوعاً لئلا يزاد فيه ولا ينتقص منه- انتهى. والصاع أربعة أمداد والمدُّ رِطل وثُلُثُ رِطل، فالصاع خمسة أرطال وثلث رطل وذلك بالرطل الذي وزنه مائة درهم وثمانية وعشرون درهماً بالدراهم التي كل عشرة منها وزن سبعة مثاقيل (من التمر) وفي رواية لمسلم: ليس فيما دون خمسة أوساق من تمر ولا حب صدقة، وفي رواية له: ليس في حب ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق، وفي رواية له أيضاً

صدقة، ـــــــــــــــــــــــــــــ من ثمر بالثاء ذات النقط الثلاث (صدقة) أي زكاة والمراد بها العشر، أو نصف العشر. قال الحافظ: لفظ"دون" في مواضع الثلاثة من الحديث بمعنى أقل لا أنه نفي عن غير الخمس الصدقة كما زعم بعض من لا يعتد بقوله، والمعنى إذا خرج من الأرض أقل من ذلك في المكيل فلا زكاة عليه فيه وبه أخذ الجمهور وخالفهم أبوحنيفة. قلت: هذا الحديث صريح في أن النصاب شرط لوجوب العشر أو نصف العشر، فلا تجب الزكاة في شيء من الزروع والثمار حتى تبلغ خمسة أوسق، وهذا مذهب أكثر أهل العلم. وبه قال صاحبا أبي حنيفة محمد وأبويوسف رحمهم الله تعالى، وهو الحق والصواب، وذهب أبوحنيفة إلى أنه لا يشترط النصاب لوجوب الزكاة في ما يخرج من الأرض، فيجب عنده العشر أو نصف العشر في كثير الخارج وقليله، وهو قول إبراهيم النخعي ومجاهد وعمر بن عبد العزيز. أخرج عبد الرزاق في مصنفه عن معمر، عن سماك بن الفضل، عن عمر بن عبد العزيز، قال: فيما أنبتت الأرض من قليل أو كثير العشر، وأخرج نحوه عن مجاهد، وإبراهيم النخعي. وأخرج ابن أبي شيبة أيضاً عن هؤلاء نحوه. واستدل لهم بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض} [البقرة: 268] وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: فيما سقت السماء والعيون: أكان عثرياً العشر. وما سقي بالنضح نصف العشر، أخرجه البخاري من حديث ابن عمر وسيأتي. قالوا: إن الآية والحديث عام، فإن كلمة "ما" من ألفاظ العموم فتشمل ما يكون قدر خمسة أوسق أو أقل أو أكثر. وتعقب بأن الآية مبهمة، وكذا حديث ابن عمر مبهم، وحديث أبي سعيد مفسر، والزيادة من الثقة مقبولة،؟ فيجب حمل المبهم على المفسر والمبين يعنى أن الآية وحديث ابن عمر عام يشمل النصاب ودونه وحديث أبي سعيد خاص بقدر النصاب فيقضي الخاص على العام أي يبني العام على الخاص. وأجاب بعض الحنفية عن هذا التعقب بأن محل ذلك إذا كان البيان وفق المبين لا زائداً عليه ولا ناقصاً عنه، أما إذا بقي شيء من أفراد العام فإنه يتمسك به كحديث أبي سعيد هذا، فإنه دل على النصاب فيما يقبل التوسيق وسكت عما لا يقبله، فيتمسك بعموم قوله عليه السلام: فيما سقت السماء العشر. وأجاب القائلون بالنصاب عن هذا الجواب بما روى مرفوعاً "لا زكاة في الخضروات" رواه الدارقطني من طريق علي وطلحة ومعاذ مرفوعاً. قال الترمذي: لا يصح فيه شيء إلا مرسل موسى بن طلحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهو دال على أن الزكاة إنما هي فيما يكال مما يدخر للإقتيات في حال الاختيار، وهذا قول مالك والشافعي. وعن أحمد يخرج من جميع ذلك ولو كان لا يقتات، وهو قول محمد وأبي يوسف. وأجاب الحنفية عن التعقب المذكور بوجوه غير ما تقدم. منها. أن حديث الأوساق من أخبار الآحاد فلا يقبل في معارضه الكتاب والخبر المشهور. وفيه أنه ليس فيه شائبة المعارضة بل هو بيان المقدار ما يجب فيه العشر،

والبيان بخبر الواحد جائز كبيان المجمل والمتشابه قال الأمير اليماني: حديث الأوساق حديث صحيح، ورد لبيان القدر الذي تجب فيه الزكاة كما ورد حديث مائتي الدرهم لبيان ذلك مع ورود في الرقة ربع العشر، ولم يقل أحد أنه يجب في قليل الفضة وكثيرها الزكاة، وذلك؛ لأنه لم يرد حديث في الرقة ربع العشر إلا لبيان أن هذا الجنس تجب فيه الزكاة وأما قدر ما يجب فيه فموكول إلى حديث التبيين له بمائتي درهم فكذا هنا قوله: فيما سقت السماء العشر، أي في هذا الجنس يجب العشر وأما بيان ما يجب فيه فموكول إلى حديث الأوساق وكأنه ما ورد إلا لدفع ما يتوهم من عموم "فيما سقت السماء العشر" كما ورد ذلك في قوله "وليس فيما دون خمسة أواق من الورق صدقة". ثم إذا تعارض العام والخاص كان العمل بالخاص عند جهل التاريخ، كما هنا فإنه أظهر الأقوال في الأصول، وقال الإمام ابن القيم في الأعلام (ج1 ص283) : لا تعارض بين الحديثين بوجه من الوجوه فإن قوله"فيما سقت السماء العشر، إنما أريد به التمييز بين ما يجب فيه العشر وبين ما يجب فيه نصفه، فذكر النوعين مفرقاً بينهما في مقدار الواجب، وأما مقدار النصاب فسكت عنه في هذا الحديث وبينه نصاً في الحديث الآخر فكيف يجوز العدول عن النص الصحيح الصريح المحكم الذي لا يحتمل غير ما دل عليه البتة إلى المجمل المتشابه الذي غايته أن يتعلق فيه بعموم لم يقصد، وبيانه بالخاص المحكم المبين كبيان سائر العمومات بما يخصها من النصوص- انتهى. قلت: ذهب جمهور الأصوليين، وعامتهم إلى جواز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد الصحيح وهو الحق، واحتج لذلك في المحصول بأن العموم وخبر الواحد دليلان متعارضان وخبر الواحد أخص من العموم، فوجب تقديمه على العموم. قال الشوكاني: وأيضاً يدل على جواز التخصيص دلالة بينه واضحة ما وقع من أوامر الله عزوجل بإتباع نبيه - صلى الله عليه وسلم - من غير تقييد، فإذا جاء عنه الدليل كان إتباعه واجباً، وإذا عارضه عموم قرآني كان سلوك طريقة الجمع ببناء العام على الخاص متحتماً، ودلالة العام على إفراده ظنية لا قطيعة فلا وجه لمنع تخصيصه بالإخبار الصحيحة الآحادية- انتهى. ثم قال ابن القيم: ويا الله العجب: كيف يخصون عموم القرآن والسنة بالقياس الذي أحسن أحواله أن يكون مختلفاً في الاحتجاج به وهو محل اشتباه واضطرب إذ ما من قياس إلا وتمكن معارضته بقياس مثله أو دونه أو أقوى منه بخلاف السنة الصحيحة الصريحة؛ فإنها لا يعارضها إلا سنة ناسخة معلومة التأخر والمخالفة، ثم يقال إذا خصصتم عموم قوله "فيما سقت السماء العشر" بالقصب والحشيش، ولا ذكر لهما في النص فهلا خصصتموه بقوله: " لا زكاة في حب ولا ثمر حتى يبلغ خمسة أوسق" وإذا كنتم تخصون العموم بالقياس فهلا خصصتم هذا العام بالقياس الجلي الذي هو من أجلي القياس وأصحه على سائر أنواع المال الذي تجب فيه الزكاة فإن الزكاة الخاصة لم يشرعها الله ورسوله في مال إلا وجعل له نصاباً كالمواشي والذهب والفضة، ويقال أيضاً هلا أوجبتم الزكاة في قليل كل مال وكثيره عملاً بقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} [التوبة: 103] وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من صاحب إبل

ولا بقر لا يؤدي زكاتها إلا بطح له بقاع قرقر" وبقوله: ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا صفحت له يوم القيامة صفائح من نار" وهلا كان هذا العموم عندكم مقدماً على أحاديث النصب الخاصة وهلا قلتم هناك تعارض مسقط وموجب، فقدمنا الموجب احتياطاً وهذا في غاية الوضوح - انتهى. وقد اتضخ بهذا كله كل الاتضاح أنه يعجب تخصيص عموم قوله تعالى: {ومما أخرجنا لكم من الأرض} [البقرة: 267] وحديث ابن عمر بحديث الأوساق كم اخصص قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة] بالأخبار التي دلت على كون الزكاة منحصرة في أشياء مخصوصة وقوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله} [التوبة: 34] بأحاديث النصب الخاصة وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "في سائمة الإبل الزكاة" بقوله: ليس فيما دون خمس ذود صدقة" وقوله: "في الرقة ربع العشر" بقوله: "ليس في ما دون خمس أواق صدقة، على أن حديث الأوساق حديث مشهور، روى عن غير واحد من الصحابة منهم أبوسعيد عند الجماعة، ومنهم أبوهريرة عند أحمد والدارقطني والطحاوي، ومنهم ابن عمر عند أحمد والدارقطني ويحيى بن آدم (ص136) والبيهقي، ومنهم جابر عند أحمد ومسلم والبيهقي والطحاوي والحاكم وابن ماجه، ومنهم عائشة عند الطبراني في الأوسط، ومنهم أبورافع عند الطبراني في الكبير، ومنهم عمرو بن حزم عند الحاكم والطحاوي والطبراني والبيهقي، ومنهم أبوأمامة بن سهل ابن حنيف عند البيهقي، ومنهم عبد الله بن عمر، وعند يحيى بن آدم (ص137) والدارقطني (ص199) وبه قال الصحابة: منهم عمر وأبوسعيد وابن عمر وجابر وأبوأمامة بن سهيل بن حنيف. ولم يعرف لهم مخالف من الصحابة فهو إجماع منهم، وقد جرى به التعامل وتلقاه الأمة بقبولها. قال أبوعبيد في الأموال (ص408) : حدثنا يزيد عن حبيب بن أبي حبيب عن عمرو بن هرم عن محمد بن عبد الرحمن أن في كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي كتاب عمر في الصدقة أن لا تؤخذ من شيء حتى يبلغ خمسة أوسق. وروى الطحاوي والحاكم والبيهقي والطبراني عن عمرو بن حزم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كتب إلى أهل اليمن بكتاب فذكر فيه ما سقت السماء أو كان سيحاً أو كان بعلاً ففيه العشر إذا بلغ خمسة أوسق وما سقي بالرشاد والدالية ففيه نصف العشر إذا بلغ خمسة أوسق. ومنها أن حديث الأوساق منسوخ قال الزيلعي (ج2 ص385) ومن الأصحاب من جعله أي حديث الأوساق منسوخاً ولهم في تقريره قاعدة ذكرها السغناقي نقلاً عن الفوائد الظهيرية، قال: إدا ورد حديثان متعارضان أحدهما عام والآخر خاص، فإن علم تقديم العام على الخاص خص العام به وإن علم تأخير العام ناسخاً للخاص. قال محمد بن شجاع الثلجي هذا إذا علم التاريخ، أما إذا لم يعلم فإن العام يجعل آخراً لما فيه من الاحتياط وهنا لم يعلم التاريخ فيجعل العام آخراً لما فيه من الاحتياط- انتهى. وذكر العيني وابن الهمام نحو هذا. وفيه أن الحق في صورة تأخر العام عن الخاص هو بناء العام على الخاص أي تقديم الخاص وتخصيص العام به؛ لأن ما تناوله الخاص

متيقن وما تناوله العام ظاهر مظنون والمتيقن أولى، وكذا في صورة جهل التاريخ الحق هو البناء. قال ابن قدامة في روضة الناظر (ج1 ص161) الدليل الرابع من أدلة التخصيص التسع النص الخاص يخصص اللفظ العام فقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا قطع إلا في ربع دينار" خصص عموم قوله: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة: 38] وقوله عليه السلام: "لا زكاة فيما دون خمسة أوسق خصص عموم قوله: "فيما سقت السماء العشر" ولا فرق بين أن يكون العام كتاباً أو سنة أو متقدماً أو متأخراً- انتهى. أي فإن الخاص يخصص العام ويقدم عليه لقوة دلالة الخاص على مدلوله فإنها قاطعة، ودلالة العام على أفراده ظاهرة، والقاطع مقدم على الظاهر، مثاله لو قال كلما سرق السارق فاقطعوه، وهو معنى الآية، فدلالته على من سرق دون ربع دينار ظاهرة، ودلالة قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا قطع إلا في ربع دينار على عدم القطع فيما دونه قاطعة فيقدم. وقال الشوكاني في إرشاد الفحول: (ص144) الحق الذي لا ينبغي العدول عنه في صورة الجهل البناء وليس عنه مانع يصلح للتشبث به، والجمع بين الأدلة ما أمكن هو الواجب، ولا يمكن الجمع مع الجهل إلا بالبناء، قال: وقد تقرر أن الخاص أقوى دلالة من العام والأقوى أرجح وأيضاً إجراء العام على عمومه إهمال للخاص وإعمال الخاص لا يوجب إهمال العام، وأيضاً قد نقل أبوالحسين الإجماع على البناء مع جهل التأريخ. والحاصل أن البناء هو الراجح على جميع التقادير (إلى آخر ما قال) . ومنها ما قال صاحب الهداية إن حديث أبي سعيد وما في معناه ورد في زكاة التجارة دون العشر، وذلك لأنهم كانوا يتبايعون بالأوساق، وقيمة الوسق يومئذ كانت أربعين درهماً فيكون قيمة خمسة أوسق مائتى درهم وهو نصاب زكاة الفضة. وحاصله أن الجمهور نقلوا حديث زكاة التجارة إلى باب آخر، فوقع التعارض مع أن الحديث العام أي حديث ابن عمر وما في معناه كان في العشر، وحديث الأوساق في زكاة مال التجارة، فلا تعارض أصلاً. وقال الجصاص في أحكام القرآن: قد روى ليس فيما دون خمسة أوسق زكاة، فجائز أن يريد به زكاة التجارة بأن يكون سأل سائل عن أقل من خمسة أوسق طعام أو تمر للتجارة، فأخبر أن لا زكاة فيه، فنقل الراوي كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وترك ذكر السبب. وفيه ما قال الشيخ رشيد أحمد الكنكوكي بعد ذكر هذا الجواب. ولكن الأنصاف خلاف ذلك فإن تفاوت أسعار الثمار والشعير والحنطة غير قليل فكيف يعلم ماذا أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك حتى يعلم حكمه، كذا في الكوكب الدري (ج1 ص236) قلت: ويرد هذا التأويل أيضاً حديث عمرو بن جزم الذي ذكرنا لفظه وسيأتي أيضاً. ومنها ما قال الجصاص: قد ذكرنا أن الله حقوقاً واجبة في المال غير الزكاة ثم نسخت بالزكاة كما روى عن أبي جعفر محمد بن علي، والضحاك قالا: نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن فجائز أن يكون هذا التقدير معتبراً في الحقوق التي كانت واجبة فنسخت، نحو قوله تعالى: {وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى} [النساء: 8] الآية ونحو ما روى عن مجاهد، إذا حصدت طرحت للمساكين الخ. وهذا الحقوق غير واجبة

اليوم فجائز أن يكون ما روى من تقدير الخمسة الأوسق كان معتبرً في تلك الحقوق وإذا احتمل ذلك لم يجز تخصيص الآية والأثر المتفق عليه على نقله به- انتهى. وقال العيني (ج9 ص75) نفى النبي - صلى الله عليه وسلم - الصدقة ولم ينف العشر وقد كان في المال صدقات نسختها آية الزكاة والعشر ليس بصدقة مطلقة، إذ فيه معنى المؤنة وفيه أن النسخ لا يثبت بالاحتمال والتجويز والإدعاء وفيه أيضاً ما قال الشيخ محمد أنور بعد ذكر الوجوه الثلاثة الأخيرة) ، ويرد على هذه الأجوبة كلها ما عند الطحاوي (ج1 ص315) ما سقت السماء أو كان سيحاً أو بعلاً ففيه العشر إذا بلغ خمسة أوسق- الحديث. وإسناده قوى، فإنه يدل على أن الحديث (أي حديث أبي سعيد وما في معناه) في العشر لا في الصدقات المتفرقة كما ذهب إليه العيني (والجصاص) ولا من باب التجارة كما اختاره صاحب الهداية كذا في فيض الباري (ج3 ص46) قلت: رواية الطحاوي هذه أخرجها الحاكم (ج1 ص395) والطبراني والبيهقي (ج4 ص89، 180) أيضاً كلهم من حديث عمرو ابن حزم مطولاً وقد ذكرنا طرفاً منه. قال البيهقي: حديث مجود الإسناد ورأه أبوزرعة الرازي وأبوحاتم الرازي وعثمان بن سعيد الدارمي وجماعة من الحفاظ موصول الإسناد حسناً وروى البيهقي عن أحمد بن حنبل أنه قال: أرجو أن يكون صحيحاً- انتهى. وبسط الحافظ الكلام في إسناده هذا الحديث في ترجمة سليمان بن داود الخولاني الدمشقي من تهذيبه من أحب الوقوف عليه رجع إليه، وسيأتي أيضاً شيء من الكلام فيه في بيان نصاب الذهب، وقد جمع كما ترى حديث عمرو من حزم معنى حديث ابن عمر وحديث أبي سعيد، فدل على أنه لا تعارض بينهما خلافاً لما زعمت الحنفية وبطل به ما ذهبوا إليه من تقديم حديث ابن عمر وجعله متأخراً احتياطاً ولبطلان هذه الأجوبة. وجوه أخرى لا تخفى على المصنف. ومنها ما قال صاحب العرف الشذى: أن حديث الأوساق محمول على العرية، والعرية تكون فيما دون خمسة أوسق فلما أعطى رجل ما خرج من أرضه بطريق العرية فلا زكاة عليه فيما أعرى، لأنه مثل من وهب بجميع ماله أو بعضه أنه لا زكاة عليه فيما وهب فصح أنه لا عشر فيما دون خمسة أوسق؛ لأنها عرية، قال وعلي أن المذكور في الحديث حكم العرية قرائن. منها، أن في الصحيحين أن العرية إنما تكون إلى خمسة أوسق فالمتبادر أن في حديث أبي سعيد أيضاً حكم العرية، والمراد أن ما دون خمسة أوسق يؤدنه ديانة فيما بينهم وبين الله ولا يجب رفعه إلى بيت المال فإنه يؤدي إلى المعرى له ثم لما أداه بجميعه فتأدى زكاته أيضاً، فمراد الحديث ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، أي لا يجب رفعه إلى بيت المال، وحاصله أن النفي في حديث أبي سعيد ليس لثبوت النصاب في الثمار والزرع وأن ما دون خمسة أوسق يبقى في بيته لا تجب فيه فريضة الله أي للعشر، بل لأنه يتصدق فيها بنفسه فلا تؤخذ منه صدقة ترفع إلى بيت المال، فالنفي باعتبار رفعها إلى بيت المال لا لعدم وجوبها، وما حديث ابن عمر فبيان للواجب في نفس الأمر سواء رفع إلى بيت المال أو أمر باداءه بنفسه فلا تعارض أصلاً. قال ومنها رواية الطحاوي (ص315) عن مكحول بإسناد جيد مرسلاً، خففوا في الصدقات فإن في المال

العرية والوصية. وفي السنن الكبرى للبيهقي أن أبا بكر وعمر كانا يأمران سعاتهما أن لا يخرصوا في العرايا قلت: حاصل هذا الجواب أن حديث ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، محمول على العشر لكنه مصروف إلى العرايا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد رخص في العرايا في هذا القدر فلم يوجب فيها صدقة لأن العرية نفسها صدقة، وإنما فائدة الخبر أنما تصدق به صاحب العشر يحتسب له ولا تجب فيها صدقة ترفع إلى بيت المال ولا يضمنها، كما قاله الجصاص في شرح ما روى عن أبي سعيد مرفوعاً أنه قال: ليس في العرايا صدقة وهذا تأويل أيضاً باطل مردود لأنه - صلى الله عليه وسلم - نفى الصدقة فيما دون الخمسة أوسق مطلقاً كما أنه نفاها فيما دون خمس أواق من الرقة وفيما دون خمس ذود من الابل وهذا يدل دلالة بينة على أنه لا تجب الزكاة رأساً في الخارج من الأرض إذا كان دون هذا المقدار كما لا تجب أصلاً في الرقة إذا كانت دون خمس أواق، وفي الابل إذا كانت دون خمس، وحمل النفي في الخارج من الأرض خاصة على عدم أخذ لساعي ونفي رفعه إلى بيت المال مما لا دليل عليه. ولأن الظاهر أن المقصود من ذكر الفصول الثلاثة على نسق بيان نصب المعشرات والرقة من العين والابل من الماشية، فالفرق بينها يحمل الاثنين منها على بيان نصاب الصدقة، والأول على معنى آخر مع كون الثلاثة على نسق واحد وشاكلة واحدة غير صحيح؛ ولأنه وقع في هذا الحديث عند البيهقي (ج4:ص125) من طريق مرسلة بعد ذكر الأواق، والأوساق، والاذواد من زيادة قوله "وليس في العرايا صدقة" وروى الدارقطني من حديث علي مرفوعاً بسند فيه ضعف ليس في الخضروات صدقة، ولا في العرايا صدقة، ولا في أقل من خمسة أوسق صدقة، ولا في العوامل صدقة، الحديث وسيأتي في الفصل الثالث، وكأنه أشار إليه أبوعبيد في الأموال (ص489) بقوله "لأن سنته أن لا صدقة في أقل من خمسة أوسق، وأن لا صدقة في العرايا" وذكر نفى الصدقة في العرايا وفيما دون خمسة أوسق معاً يبعد حمل حديث الأوساق على العرايا. ويدل على أن المقصود من قوله: ولا في أقل من خمسة أوسق في حديث الأوساق بيان نصاب صدقة المعشرات، ومن نفي الصدقة في العرايا عدم وجوب الزكاة فيها رأساً، لأنها تكون دون النصاب وهو الذي فهمه جميع أهل العلم، وأما رواية مكحول فرواها أبوعبيد في الأموال (ص 487) بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث الخراص. قال: خففوا فإن في المال العرية والوطية، ورواها ابن أبي شيبة بلفظ: "خفف على الناس فإن المال العارية والوصية" وروى البيهقي (ج4:ص124) وأبوعبيد أيضاً عن الأوزاعي. قال: بلغنا أن عمر بن الخطاب قال: خففوا على الناس في الخرص فإن في المال العرية والواطئة والأكلة- انتهى. وليس في هذه الروايات أدنى دلالة على كون حديث الأوساق محمولاً على حديث العرية، وغاية ما فيها أنها تدل على التخفيف في الخرص على رب النخل في قدر ما يأكله هو وأهله وزواره والمارة والسابلة رطباً وفيما يعرى أهل الحاجة منها، ولذا عفى وأسقط الصدقة أي العشر عن ذلك رأساً لا أنه أوجبها فيها ورخص في عدم رفعها إلى بيت المال بل فوض صرفها في مصارفها إلى رب

الحائط واحتسب ذلك له أي أسقطه من الحساب؛ ولأنه يأباه كما قال صاحب فتح الملهم: ما وقع في رواية لمسلم في حديث أبي سعيد، ليس في حب ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق وما في بعض روايات جابر، لا صدقة في شيء من الزرع أو الكرم حتى يكون خمسة أوسق، ولأحمد من حديث أبي هريرة ولا يحل في البر والتمر زكاة حتى يبلغ خمسة أوسق فإن العرية تعرف في التمر أو الثمار لا في سائر الحبوب والزروع، فكيف يستقيم حمل الحديث المشتمل على جميع المعشرات على العرايا. وقد روى البيهقي بإسناده عن الزهري، قال سمعت أباأمامة بن سهل بن حنيف يحدث في مجلس سعيد بن المسيب إن السنة مضت أن لا تؤخذ صدقة من نخل حتى يبلغ خرصها خمسة أوسق، وهذا ظاهر في أن المقصود بيان نصاب الصدقة كما في قرينتيه من الدود والأواقي لا بيان ما أسقط من الحساب، هذا وقد اتضح بما ذكرنا أن كل ما تأول به الحنفية حديث الأوساق باطل، وقد ظهر بذلك أيضاً سخافة استدلالهم بحديث العموم. ولذلك أورد صاحب العرف الشذي حديثاً آخر للاحتجاج لمذهب الحنفية، وزعم أنه خاص صريح في مذهبهم حيث قال: أن الصحيح الاحتجاج بالرواية الخاصة في مقابلة الخاص فنحتج بما رواه الطحاوي (ج2:ص213) في باب العرايا عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في العرية في الوسق والوسقين والثلاثة والأربعة، وقال: في كل عشرة أقناء قنو يوضع في المسجد للمساكين، قال وما تمسك به أحد منا، والحديث قوي. ومراده عندي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أجاز بالعرية إلى أربعة أوسق. وأما المسألة فيما زاد فهي كما ذكرها فيما بعد أعنى إيجاب العشر حتى أوجب في عشرة أقناء قنوا، وحينئذٍ صار الحديث صريحا فيما رامه الحنفية. قلت: حديث جابر هذا ذكره الحافظ في الفتح في باب بيع الثمر على رؤس النخل بالذهب والفضة ونسبه إلى الشافعي وأحمد وابن خزيمة وابن حبان والحاكم، قال أخرجوه كلهم من طريق ابن إسحاق حدثني محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان عن جابر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: حين أذن لأصحاب العرايا أن يبيعوها بخرصها يقول الوسق والوسقين والثلاثة والأربعة، لفظ أحمد- انتهى. قلت: وأخرج أحمد الجزء الثاني (ج3:ص360) في رواية أخرى بلفظ: أمر من كل جاد بعشرة أوسق من تمر بقنو يعلق في المسجد. ولفظ الحاكم (ج1:ص417) : رخص في العرايا الوسق والوسقين والثلاثة والأربعة، وقال: في جاذ كل عشرة أوسق قنو يوضع للمساكين في المسجد. وأخرج أبوداود الجزء الثاني فقط بلفظ: أمر من كل جاد عشرة أوسق من التمر بقنو يعلق في المسجد للمساكين. قال الخطابي في المعالم (ج2:ص75) : قال إبراهيم الحربي: يريد قدراً من النخل يجذ منه عشرة أوسق، وتقديره مجذوذ فاعل بمعنى مفعول، وأراد بالقنوا العذق بما عليه من الرطب والبسر يعلق للمساكين يأكلونه، وهذا من صدقة المعروف دون الصدقة التي هي فرض واجب- انتهى. والعمدة هي رواية هؤلاء الحفاظ التي خالية عن زيادة قوله في كل عشرة أقناء قنو لا رواية الطحاوي المشتمل على تلك الزيادة، وذلك

لوجهين: الأول: أنه رواه ابن إسحاق عندهم بصيغة التحديث، ووقع في طريق الطحاوي روايته بعن. والثاني: أنه وقع عند بعض هؤلاء الحفاظ مكان الزيادة المذكورة قوله: أمر في كل جاذ عشرة أوسق بقنو يعلق في المسجد وهذا كما ترى مخالف لزيادة قوله: في كل عشرة أقناء قنو الواقعة في طريق الطحاوي، وهذا كله يورث التردد في قبول تلك الزيادة، كما قال صاحب فتح الملهم، بل يوجب ردها والله تعالى أعلم. ولو تنزلنا فرواية الطحاوي أيضاً محمولة على البر والإحسان والتطوع دون بيان الصدقة المفروضة أي العشر والزكاة، وعلى هذا حمل الحديث الشراح قاطبة من أصحاب الغريب وغيرهم، ونسبة الغلط والخطأ إليهم في فهم معنى الحديث جرأة شنيعة بل كبر ومكابرة، ويؤيد كون الحديث من قبيل المعروف وصدقة التطوع ما روى الحاكم (ج1 ص417) والطبراني في الأوسط عن ابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر من كل حائط بقناء للمسجد، قال الحاكم: صحيح. وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. واحتج بعضهم لمذهب الحنفية بأنه لا يعتبر للخارج من الأرض حول فلا يعتبر له نصاب فإنه لما سقط له وقت ينبغي أن يسقط له المقدار، وأجاب عنه ابن قدامة بأنه إنما لم يعتبر الحول له؛ لأنه يكمل نماءه باستحصاده لا ببقاءه واعتبر الحول في غيره؛ لأنه مظنة لكمال النماء في سائر الأموال والنصاب، اعتبر ليبلغ حدا يحتمل المواساة منه فلهذا اعتبر فيه يحققه أن الصدقة إنما تجب على الأغنياء بما قد ذكرنا فيما تقدم، ولا يحصل الغني بدون النصاب كسائر الأموال الزكاتيه- انتهى. قال في حجة الله: إنما قدر من الحب والترخمسة أوسق؛ لأنها تكفي أقل أهل البيت إلى السنة وذلك؛ لأن أقل أهل البيت الزوج والزوجة وثالث خادم أو ولد بينهما وما يضاهى ذلك من البيوت، وغالب قوت الإنسان رطل أو مد من الطعام فإذا أكل كل واحد من هؤلاء ذلك المقدار كفاهم لسنة وبقيت بقية لنوائبهم أو أدامهم- انتهى. إعلم أن الاعتبار في نصاب المعشرات وصدقة الفطر وغيرها إنما هو للكيل لا الوزن، فلا يخرج العشر وزكاة الفطر وغيرها إلا بالصاع والمد إلا إذا لم يتيسر ذلك فحينئذٍ يرجع إلى الوزن، والمراد بالصاع الصاع النبوي وهو صاع أهل الحجاز المحرمين وغيرهما لا الصاع الحجاجي الذي هو صاع أهل العراق وارجع لتحقيق ذلك إلى المحلى (ج5 ص240، 246) لابن حزم وكتاب الأموال (ص514، 525) لأبي عبيد والمجموع (ج1 ص122) و (ج5 ص458) و (ج6 ص128، 129) للنووي فإنهم قد بسطوا الكلام في تحقيق الصاع والمد وبيان مقدارهما من الوزن، وذكر مذاهب العلماء في ذلك، قال ابن قدامة: النصاب معتبر بالكيل فإن الأوساق مكيلة وإنما نقلت إلى الوزن لتضبط وتحفظ وتنقل، والمكيلات تختلف في الوزن فمنها الثقيل كالحنطة والعدس ومنها الخفيف كالشعير والذرة ومنها المتوسط، وقد نص أحمد على أن الصاع خمسة أرطال وثلث من الحنطة، وروى جماعة عنه أنه قال: الصاع وزنته فوجدته خمسة أرطال وثلثي رطل حنطة، وقال حنبل: قال أحمد: أخذت الصاع من أبي النضر وقال أبوالنضر

أخذته من ابن أبي ذئب، وقال: هذا صاع النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي يعرف بالمدينة، قال أبوعبد الله: فأخذنا العدس فعيرنا به وهو أصح ما يكال به؛ لأنه لا يتجافى عن مواضعه فكلنا به ووزناه فإذا هو خمسة أرطال وثلث وهذا أصح ما وقفنا عليه وما بين لنا من صاع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال بعض أهل العلم: أجمع أهل الحرمين على أن مد النبي - صلى الله عليه وسلم - رطل وثلاث قمحاً من أوسط القمح فمتى بلغ القمح ألفاً وستمائة رطل ففيه الزكاة وهذا يدل على أنهم قدروا الصاع بالثقيل، فأما التخفيف فتجب الزكاة فيه إذا قارب هذا وإن لم يبلغه- انتهى. واعلم أيضاً أنه اختلف في هذا النصاب هل هو تحديد أو تقريب، وبالأول جزم أحمد وهو أصح الوجهين للشافعية إلا أن كان نقصاً يسيراً جداً مما لا ينضبط فلا يضر، قاله ابن دقيق العيد: وصحح النووي في شرح مسلم أنه تقريب، كذا في الفتح. وقال ابن قدامة، قال القاضي: وهذا النصاب معتبر تحديداً فمتى نقص شيئاً لم تجب الزكاة لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة والناقص عنها لم يبلغها إلا أن يكون نقصاً يسيراً يدخل في المكاييل كالأوقية ونحوها فلا عبرة به؛ لأن مثل ذلك يجوز أن يدخل في المكاييل فلا ينضبط فهو كنقص الحول ساعة أو ساعتين انتهى. هذا ولم يتعرض في الحديث للقدر الزائد على النصاب المذكور وقد أجمع العلماء على أنه لا وقص في نصاب المعشرات، قال ابن قدامة: لا وقص في نصاب الحبوب والثمار بل مهما زاد على النصاب أخرج منه بالحساب فيخرج عشر جميع ما عنده فإنه لا ضرر في تبعيضه بخلاف الماشية فإن فيها ضرر ثم ههنا مسائل، ينبغي ذكرها تكميلاً للفائدة. الأولى: الخمسة الأوسق تعتبر بعد التصفية في الحبوب والجفاف في الثمار، فلو كان له عشرة أوسق عنباً لا يجيء منه خمسة أوسق زبيباً لم يجب عليه شيء، لأنه حال وجوب الإخراج منه فاعتبر النصاب بحاله. الثانية: إذا وجب عليه عشر مرة لم يجب عليه عشر آخر وإن حال عنده أحوالاً؛ لأن هذه الأموال غير مرصدة للنماء في المستقبل بل هي إلى النقص أقرب، والزكاة إنما تجب في الأشياء النامية ليخرج من النماء فيكون أسهل. الثالثة: وقت وجوب الزكاة في الحب إذا اشتد وفي الثمرة إذا بد إصلاحها قال ابن العربي في تفسيره: اختلف العلماء في وجوب الزكاة في هذه الأموال النباتية على ثلاثة أقوال. الأول: أنها تجب وقت الجذاذ. الثاني: أنها تجب يوم الطيب؛ لأن ما قبل الطيب علفا لا قوتاً وطعاماً، فإذا طابت وكان الأكل الذي أنعم الله به وجب الحق الذي أمر الله به. الثالث: أن يكون بعد تمام الخرص؛ لأنه حينئذٍ يتحقق الواجب فيه من الزكاة فيكون شرطاً لوجوبها، ولكل قول وجه كما ترون لكن الصحيح وجوب الزكاة بالطيب لما بينا من الدليل، وإنما خرص عليهم ليعلم قدر الواجب في ثمارهم- انتهى. الرابعة: يجب العشر أو نصفه إذا بلغ الخارج النصاب سواء زرعه في أرض له أو في أرض لغيره أرض خراج كانت أو أرض عشر، سقى بماء العشر أو بماء الخراج، وهذا قول جمهور الناس وبه قال مالك

والشافعي وأحمد وداود الظاهري، فيجتمع عندهم العشر والخراج في أرض واحدة. وقال أبوحنيفة: لا عشر فيما أصيب في أرض خراج فاشتراط الوجوب العشر أن تكون الأرض عشرية فلا يجتمع عنده العشر والخراج في أرض واحدة واستدل الجمهور بقوله تعالى: {ومما أخرجنا لكم من الأرض} [البقرة: 267] وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "فيما سقت السماء العشر" وغيره من عمومات الأخبار. قال ابن الجوزي في التحقيق بعد ذكر هذا الخبر هذا عام في الأرض الخراجية وغيرها، وقال ابن المبارك: يقول الله تعالى: {ومما أخرجنا لكم من الأرض} ثم يقول نترك القرآن لقول أبي حنيفة. واستدل الشيخ تقي الدين في الإمام للجمهور بما روى يحيى بن آدم في الخراج (ص165) والبيهقي من طريقه (ج4 ص131) عن سفيان بن سعيد، عن عمرو بن ميمون بن مهران. قال: سألت عمر بن عبد العزيز، عن مسلم يكون في يده أرض خراج فيسأل الزكاة فيقول إن عليّ الخراج قال فقال: الخراج على الأرض وفي الحب الزكاة، قال ثم سألته مرة أخرى فقال مثل ذلك، قال شيخنا في شرح الترمذي إسناده صحيح. قلت ما ورواه أبوعبيد الطبراني في الأموال (ص88) عن قبيصة عن سفيان قال الحافظ في الدراية (ص268) وصح عن عمر بن عبد العزيز أنه قال لمن قال: إنما عليّ الخراج الخراج على الأرض والعشر على الحب، أخرجه البيهقي من طريق يحيى بن آدم في الخراج له، وأخرج أيضاً عن يحيى ثنا ابن المبارك عن يونس (وفي الخراج ليحى (ص166) عن معمر مكان عن يونس) قال: سألت الزهري عن زكاة الأرض التي عليها الجزية فقال: لم يزل المسلمون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعده يعاملون على الأرض ويستكرونها ويؤدون الزكاة مما خرج منها فترى هذه الأرض على نحو ذلك- انتهى. وهذا فيه إرسال عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وروى يحيى بن آدم في الخراج (ص165) وأبوعبيد في الأموال (ص88) عن إبراهيم بن أبي عبلة قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الله بن أبي عوف عامله على فلسطين فيمن كانت في يده أرض يحرثها من المسلمين أن يقبض منها جزيتها، ثم يأخذ منها زكاة ما بقي بعد الجزية قال ابن أبي عبلة: أنا ابتليت بذلك ومنى أخذوا الجزية يعنى الخراج الأرض. واستدل الحنفية بما رواه ابن عدي في الكامل والبيهقي من طريقه (ج4 ص132) عن يحيى بن عنبسة ثنا أبوحنفية عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يجتمع عشر وخراج في أرض مسلم وبأن أحداً من أئمة العدل وولاة الجور لم يأخذ من أرض السواد عشر إلى يومنا هذا فالقول بوجوب العشر فيها يخالف الإجماع فيكون باطلاص. قال صاحب الهداية: لم يجمع أحد من أئمة العدل والجور بينهما يعني بين الخراج والعشر وكفى بإجماعهم حجة وأجيب عن الحديث بأنه باطل لا أصل له، قال البيهقي: هذا حديث باطل وصله ورفعه. ويحيى بن عنبسة متهم بالوضع، وقال ابن عدي: يحيى بن

عنبسة منكر الحديث، وإنما يروي هذا من قول إبراهيم، وقد رواه أبوحنيفة عن حماد عن إبراهيم قوله: فجاء يحيى بن عنبسة فأبطل فيه ووصله إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويحيى بن عنبسة مكشوف الأمر في ضعفه لروايته عن الثقات الموضوعات- انتهى. وقال ابن حبان: ليس هذا من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويحيى بن عنبسة دجال يضع الحديث لا تحل الرواية عنه، وقال الدارقطني: يحيى هذا دجال يضع الحديث هو كذب على أبي حنيفة ومن بعده إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات، كذا في نصب الراية (ج3:ص442) وأجيب عن دعوى الإجماع بأنها باطلة جداً، قال الحافظ في الدراية: (ص268) راداً على صاحب الهداية ولا إجماع مع خلاف عمر بن عبد العزيز والزهري، بل لم يثبت عن غيرهما التصريح بخلافهما - انتهى. وقال أبوعبيد في الأموال (ص90) لا نعلم أحداً من الصحابة، قال: لا يجتمع عليه العشر والخراج ولا نعلمه من التابعين إلا شيء يروي عن عكرمة، رواه عنه رجل من أهل خراسان يكنى أباالمنيب سمعه يقول ذلك- انتهى. واحتج لهم أيضاً بما روى أن عتبة بن فرقد قال لعمر رضي الله عنه حين اشترى أرض خراج ضع عن أرضي الصدقة فقال: أدعنها ما كانت تؤدي أو أرددها إلى أهلها وإن رجلا قال لعمر رضي الله عنه: أسلمت فضع عن أرضى الخراج فقال: إن أرضك أخذت عنوة، وقول عمر: في المرأة التي أسلمت من أهل نهر الملك (كورة واسعة ببغداد بعد نهر عيسى) فقال إن أدت ما على أرضها وإلا فخلوا بين المسلمين وبين أرضهم، وقول علي رضي الله عنه فيمن أسلم من أهل السواد: إن أقمت بأرضك تؤدي ما كانت تؤدي وإلا قبضناها منك وإن الرفيل أسلم فأعطاه عمر أرضه بخراجها. خرج هذه الآثار يحيى بن آدم والبيهقي في المعرفة وغيرهما، قال يحيى: (ص168) وليس في شيء من هذه الأحاديث إلا الخراج وحده ثم أجاب عنها قال: وذلك عندنا؛ لأنهم طلبوا طرح الخراج حتى يصير عليها العشر وحده فلم يفعل عمر رضي الله عنه لم يطرح الخراج ولم يذكر العشر بطرح ولا غيره؛ لأن العشر زكاة على كل مسلم، أي فهو واجب عليه في كل حال لا يحتاج إلى تصريحه وقال أبوعبيد: (ص87) ليس في ترك ذكر عمر وعلي رضي الله عنهما العشر دليل على سقوطه عنهم، لأن العشر حق واجب على المسلمين في أراضيهم لأهل الصدقة لا يحتاج إلى اشتراطها عليهم عند دخولهم في الأرضين، قال: وذلك أن حكم الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - على كل مسلم في أرضه أن ذكر ذلك أو ترك. وإنما أرض الخراج كالأرض يكتريها الرجل المسلم من ربها الذي يملكها بيضاء فيزدرعها أفلست ترى أن عليه كراءها لربها وعليه عشر ما تخرج إذا بلغ ما يجب فيه الزكاة. ومما يفرق بين العشر والخراج ويوضح لك أنهما حقان إثنان أن موضع الخراج الذي يوضع فيه سوى موضع العشر إنما ذلك في أعطية المقاتلة والأرزاق الذربة وهذا صدقة يعطاها الأصناف الثمانية فليس واحد من الحقين قاضياً عن

الآخر - انتهى. وقد ظهر بما ذكرنا أنه لم يقم دليل صحيح أو سقيم على أن الخراج والعشر لا يجتمعان على مسلم، بل الآية المذكورة وحديث "فيما سقت السماء العشر" وما في معناه يدلان بعمومهما على الجمع بينهما، وأثر عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد العدل، وأثر الزهري يدلان على أن العمل كان ذلك في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعده، فالحق والصواب في ذلك هو ما ذهب إليه الجمهور. تنبيه: إختلف أصحاب الفتوى من الحنفية في أراضي المسلمين في بلاد الهند في زمن الانكليز وتخبطوا في ذلك فقال بعضهم: لا عشر فيها لأنها أراضي دار الحرب، وقال بعضهم إن أراضي الهند ليست بعشرية ولا خراجة بل أراضي الحوز أي أراضي بيت المال وأرض المملكة. (أرجع لتعريفها إلى رد المختار (ج3:ص353-354) وقال بعضهم: إن الرجل الذي لا يعلم إن أرضه انتقلت إليه من أيدي الكفار والأرض الآن في ملكه فعليه فيها العشر وجعل بعضهم أراضيها على عدة أنواع، وقال الأحوط أداء العشر من جميع هذه الأنواع. والحق عندنا وجوب العشر في أراضي الهند مطلقاً أي على أي صفة كانت، فيجب والعشر أو نصفه على المسلم فيما يحصل له من الأرض، إذا بلغ النصاب سواء كانت الأرض ملكاً له أو لغيره زرع فيها على سبيل الإجارة أو العارية أو المزارعة. لأن العشر في الحب والزرع والعيرة لمن يملكه، فيجب الزكاة فيه على مالكه المسلم وليس من مؤنة الأرض فلا يبحث عن صفتها والضريبة التي تأخذها المملكة من أصحاب المزارع في الهند ليست خراجها شرعياً ولا مما يسقط فرضة العشر كما لا يخفى وارجع إلى المغني (ج2:ص728) فائدة في حد أرض العشر من أرض الخراج. قال أبوعبيد في كتاب الأموال (ص512) لا تكون الأرض عشرية إلا من أربعة أنواع. أحدها كل أرض أسلم عليها أهلها فهم مالكون لرقابها كالمدينة والطائف واليمن. والنوع الثاني: كل أرض أخذت عنوة ثم أن الإمام لم ير أن يجعلها فيئاً موقوفاً ولكنه رأى أن يجعلها غنيمة فخمسها وقسم أربعة أخماسها بين الذين إفتتحوها خاصة كفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأرض خيبر، فهذه أيضاً ملك إيمانهم ليس فيها غير العشر وكذلك الثغور كلها إذا قسمت بين الذين إفتتحوها خاصة. والنوع الثالث: كل أرض عادية لا رب لها ولا عامر أقطعها الإمام رجلاً من جزيرة العرب أو غيرها. والنوع الرابع: كل أرض ميتة استخرجها رجل من المسلمين فأحياها بالماء والنبات فهذه الأرضون التي جاءت فيها السنة بالعشر أو نصف العشر وكلها موجودة في الأحاديث- انتهى مختصراً. وقال أبويوسف في كتاب الخراج: (ص82) كل أرض أسلم عليها أهلها وهي من أرض العرب أو أرض العجم فهي لهم. وهي أرض عشر بمنزلة المدينة حين أسلم عليها أهلها وبمنزلة اليمن، وكذلك كل من لا تقبل منه الجزية ولا يقبل منه إلا الإسلام أو القتل فأرضهم أرض عشر وإن ظهر عليها الإمام، قال: وأيما دار من دور الأعاجم قد ظهر عليها الإمام وتركها في أيدي أهلها فهي أرض خراج، وإن قسمها

بين الذين غنموها فيه أرض عشر. ألا ترى أن عمر رضي الله عنه ظهر على أرض الأعاجم وتركها في أيديهم فهي أرض خراج وكل أرض من أراضي الأعاجم صالح عليها أهلها وصاروا ذمة فهي أرض خراج- انتهى. باختصار يسير. وقال ابن قدامة: (ج2:ص716) الأرض قسمان. صلح، وعنوة فأما الصلح: فكل أرض صالح أهلها عليها لتكون لهم ويؤدون خراجها معلوماً وهذا الخراج في حكم الجزية وأما الثاني: وهو ما فتح عنوة فهي ما أجلى عنها بالسيف ولم يقسم بين الغانمين فهذه تصير وقفاص للمسلمين يضرب علياً خراج معلوم يؤخذ منها في كل عام وتقر في أيدي أربابها ماداموا يؤدون خراجها وسواء كانوا مسلمين أو من أهل الذمة ولا يسقط خراجها بإسلام أربابها ولا بانتقالها إلى مسلم- انتهى مختصراً. الخامسة: يجب الزكاة عند أحمد فيما جمع هذه الأوصاف الكيل والبقاء واليبس من الحبوب والثمار مما ينبته الآدميون سواء كان قوتاً كالحنطة والشعير والسلت والارزة والذرة والدخن. أو من القطنيات كالفول والعدس والماش والحمص، أو من الأبازير أي التوابل كالكمون والكراويا أو البزور كبزر القثاء والخيار، أو حب البقول كحب الفجل والسمسم وسائر الحبوب، وتجب أيضاً فيما جمع هذه الأوصاف من الثمار كالتمر والزبيب واللوز والفستق والبندق إذا بلغ خمسة أوسق. ولا زكاة في سائر الفواكه كالخوخ والإجاص والكمثري والتفاح والتين ولا في الخضر كالقثاء والخيار والباذنجان واللفت والجزر. ونحوه قول أبي يوسف ومحمد فإنهما قالا: لا شيء فيما تخرجه الأرض إلا ما كانت له ثمرة باقية يبلغ مكيلها خمسة أوسق، واختلفت أقوالهم في ما لا يكال كالزعفران والقطن واستدل ابن قدامة لما ذهب إليه أحمد ومن وافقه بأن عموم قوله "فيما سقت السماء العشر". وقوله لمعاذ "خذ الحب من الحب" يقتضي وجوب الزكاة في جميع ما تناوله خرج منه مالاً يكال وما ليس بحب بمفهوم قوله. ليس في حب ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق. رواه مسلم والنسائي، فدل هذا الحديث على انتفاء الزكاة مما لا توسيق فيه وهو مكيال ففيما هو مكيل يبقى على العموم والدليل على انتفاء الزكاة مما سوى ذلك ما ذكر من اعتبار التوسيق وروى عن علي وعائشة وطلحة وأنس مرفوعاً: ليس في الخضروات صدقة، رواهن الدارقطني. وذهب مالك والشافعي إلى أنه لا زكاة في ثمر إلا التمر والزبيب ولا في حب إلا ما كان قوتاً في حال الاختيار لذلك إلا في الزيتون على اختلاف. وقال أبوحنيفة: تجب الزكاة في كل ما يقصد بزراعته نماء الأرض إلا الحطب والقصب الفارسي والحشيش، وهو قول عمر بن عبد العزيز وأبي بردة بن أبي موسى وحماد وإبراهيم وإليه ذهب داود الظاهري إلا أنه قال: إن كل ما يدخل فيه الكيل يراعى فيه النصاب وما لا يدخل فيه الكيل ففي قليلة وكثيرة الزكاة، قال الحافظ: وهذا نوع من الجمع بين الحديثين. واستدل لقول أبي حنيفة بقوله تعالى: {ومما أخرجنا لكم من الأرض} [البقرة: 267] وبقوله صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء العشر" وهذان عامان؛ ولأن هذا يقصد بزراعته نماء الأرض فأشبه الحب

وخص الجمهور هذا العموم بحديث الخضروات. وحكى عن أحمد لا زكاة إلا في الحنطة والشعير والتمر والزبيب وهو قول موسى بن طلحة والحسن البصري وابن سيرين والشعبي والحسن بن صالح وابن أبي ليلى وابن المبارك وأبي عبيد، ورجح هذا المذهب الأمير اليماني والشوكاني والعلامة الأمير القنوجي البوفالي واستدل لهذا القول بأن ما عدا هذه الأربعة لا نص فيها ولا إجماع ولا هو في معناها في غلبة الإقتيات بها وكثرة نفعها ووجودها فلم يصح قياسه عليها ولا إلحاقه بها فيبقى على النفي الأصلي، وأما عموم الآية والحديث فهو مخصوص بأحاديث الخضروات وبالأحاديث الواردة بصيغة الحصر في الأقوات الأربعة قالوا: وهي مروية بطرق متعددة يقوى بعضها بعضاً فتنتهض لتخصيص هذه العمومات. فمنها ما روى الدارقطني (ص201) والحاكم (ج1:ص401) والبيهقي (ج4:ص125) والطبراني من طريق طلحة بن يحيى عن أبي بردة عن أبي موسى ومعاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثهما إلى اليمن فأمرهما أن يعلما الناس أمر دينهم، وقال لا تأخذوا في الصدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة الشعير، والحنطة، والزبيب، والتمر، قال الحاكم: إسناده صحيح ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، ونقل الحافظ في التلخيص (ص178) عن البيقهي، أنه قال رواته ثقات وهو متصل. وقال في الدراية (ص164) في الإسناد طلحة بن يحيى مختلف فيه وهو أمثل مما في الباب- انتهى. قلت: وفيه أيضاً اختلف في رفعه ووقفه وانظر الخراج ليحيى بن آدم (ص153) رقم (537-538) والسنن الكبرى للبيهقي (ج4:ص125) ونصب الراية للزيلعي (ج2:ص389) والمحلي (ج5:ص221) ومنها ما روى ابن شيبة وأبوعبيد في الأموال (ص468) ويحيى بن آدم في الخراج (ص148) عن موسى بن طلحة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً حين بعثه إلى اليمن أن يأخذ الصدقة من الحنطة والشعير والنخل والعنب وهذا منقطع؛ لأن موسى بن طلحة لم يدرك معاذاً بعقله قاله ابن حزم (ج5:ص222) وقال الحافظ في التلخيص (ص179) : فيه انقطاع، وقال أبوزرعة موسى بن طلحة عبيد الله عن عمر مرسلة ومعاذ، توفي في خلافة عمر فرواية موسى بن طلحة عنه أولى بالإرسال، وقال تقي الدين في الإمام وفي الاتصال بين موسى بن طلحة ومعاذ نظر، فقد ذكروا أن وفاة موسى سنة ثلاث ومائة، وقيل: سنة أربع ومائة. ذكره الزيلعي (ج2:ص387) . وقال ابن عبد البر: لم يلق موسى معاذاً ولا أدركه- انتهى. والمشهور في ذلك ما روى عن عمرو بن عثمان عن موسى بن طلحة قال: عندنا كتاب معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه إنما أخذ الصدقة من الحنطة والشعير والزبيب والتمر أخرجه أحمد (ج5:ص228) والدارقطني (ص201) والبيهقي (ج4:ص129) وابن حزم في المحلي (ج5:ص222) وأبويوسف في الخراج (ص64) ومنها ما روى الدارقطني (ص201) والحاكم

(ج1:ص401) والبيهقي (ج4:ص129) والطبراني من طريق إسحاق بن يحيى بن طلحة عن عمه موسى بن طلحة عن معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فيما سقت السماء والبعل والسيل العشر وفيما سقى بالنضح نصف العشر وإنما يكون ذلك في التمر والحنطة والحبوب فأما، القثاء والبطيخ والرمان والقصب فقد عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. قلت في تصحيحهما لهذا الحديث نظر، فإنه حديث ضعيف، إسحاق بن يحيى بن طلحة ضعيف، متروك. وموسى بن طلحة عن معاذ منقطع، كما تقدم. ومنها ما روى الدارقطني (ص201) وأبويوسف في الخراج (ص65) من طريق محمد بن عبيد الله العزرمي عن الحكم عن موسى بن طلحة عن عمر بن الخطاب. قال: إنما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة في هذه الأربعة الحنطة، والشعير، والزبيب، والتمر، وفيه أن العزرمي متروك، وموسى بن طلحة عن عمر منقطع كما تقدم. ومنها ما روى ابن ماجه والدارقطني (ص200) من طريق العزرمي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. قال: إنما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة في هذه الخمسة الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب، والذرة، ورواه يحيى بن آدم في الخراج (ص150) من طريق يحيى بن أبي أنيسة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا ًبلفظ: أربع ليس فيما سواها شيء الحنطة، والشعير، والتمر والزبيب، وهذا أيضا ضعيف، العزرمي متروك ويحيى بن أبي أنيسة ضعيف جداً. ومنها ما روى الدارقطني (ص203) من حديث جابر. قال: لم تكن المقاثي فيما جاء به معاذ إنما أخذ الصدقة من البر، والشعير، والتمر، والزبيب، وليس في المقاثي شيء وفي سنده عدي بن الفضل وهو متروك الحديث. ومنها ما روى يحيى بن آدم في الخراج (ص150) عن أبي حماد الحنفي عن إبان عن أنس. قال: لم يفرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصدقة إلا من الحنطة، والشعير، والتمر والأعناب، وهذا أيضاً ضعيف، لضعف أبي حماد مفضل بن صدقة الحنفي الكوفي، قال: ابن معين ليس بشيء، وقال النسائي متروك، وقال أبوحاتم ليس بقوى يكتب حديثه. ومنها ما روى يحيى بن آدم في الخراج (ص149-150) والبيهقي من طريقه (ج4:ص129) عن عتاب بن بشير عن خصيف عن مجاهد قال: لم تكن الصدقة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في خمسة أشياء الحنطة، والشعير، والتمر والزبيب، والذرة وهذا مرسل، وفيه خصيف وهو صدوق سيئ الحفظ خلط بآخره أنكروا عليه أحاديث رواها عنه عتاب بن بشير. ومنها ما روى أيضاً يحيى بن آدم (ص149) والبيهقي من طريقه (ج4:ص129) عن ابن عيينة عن عمرو بن عبيد عن الحسن البصري. قال: لم يفرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الصدقة إلا في عشر أشياء الإبل، والبقر والغنم. والذهب، والفضة، والحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب، قال ابن عيينة أراه قال والذرة، وذكر في رواية للبيهقي السلت

وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقه، ـــــــــــــــــــــــــــــ مكان الذرة وهذا أيضاً مرسل، وقال العراقي: مراسيل الحسن شبه الريح، وقال أحمد: ليس في المرسلات أضعف من مرسلات الحسن، وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن عبيد متكلم فيه كان يكذب على الحسن في الحديث. ومنها ما روى أيضاً يحيى بن آدم (ص149) والبيهقي من طريقه (ج4 ص129) عن أبي بكر بن عياش عن الأجلح عن الشعبي. قال: كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل اليمن: إنما الصدقة في الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب، وهذا أيضاً مرسل، وأبوبكر بن عياش ثقة إلا أنه لما كبر ساء حفظه وكتابة صحيح. وأجاب الحنفية عن هذه الأحاديث بأنها ضعيفة لا يخلو واحد منها عن الكلام على أنها أخبار آحاد، ولا يجوز تخصيص عموم القرآن، والخبر المشهور بالأخبار الآحادية لو كانت صحيحة فكيف بالضعاف. وأجاب عنها الشافعية ومن وافقهم في عدم حصر العشر في الأشياء الأربعة بأن الحصر فيها ليس حصراً حقيقاً بل إضافي أي بالنسبة إلى الخضروات يدل على هذا قوله، في الحديث الثالث إنما يكون ذلك في التمر والحنطة والحبوب فأما القثاء والبطيخ والرمان والقصب فقد عفا عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي رواية القصب والخضر فعفو عفا عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وترجم البيهقي في السنن الكبرى (ج4 ص128) لهذه الأحاديث، باب الصدقة فيما يزرعه الآدميون وييبس ويدخر ويقتات دون ما تنتبه الأرض من الخضر- انتهى. وفي المسألة أقوال آخر، ذكرها العيني في شرح البخاري وأبوعبيد في الأموال، وأرجح هذه الأقوال، وأقواها عندي قول داود الظاهري، ثم قول من ذهب إلى الحصر العشر في الأربعة الحنطة، والشعير، من الحبوب، والتمر، والزبيب، من الثمار والله تعالى أعلم. (وليس فيما دون خمس أواق) قال الحافظ: بالتنوين وبإثبات التحتانية مشدداً ومخففاً جمع أوقية بضم الهمزة وتشديد التحتانية وحكى الجياني وقيه بحذف الألف وفتح الواو ومقدار الأوقية في هذا الحديث أربعون درهماً بالإتفاق، والمراد بالدراهم الخالص من الفضة سواء كان مضروبا أو غير مضروب (من الورق) بفتح الواو وكسر الراء وسكونها والمراد به ههنا الفضة مطلقاً أي مضروبة كانت أو غيرها، واختلف أهل اللغة في أصله، فقيل يطلق في الأصل على جميع الفضة، وقيل: هو حقيقة للمضروب دراهم، ولا يطلق على غير الدراهم إلا مجازاً، هذا قول كثيرين من أهل اللغة، وبالأول قال ابن قتيبة وغيره قاله النووي (صدقة) قال الحافظ: لم يخالف في أن نصاب الزكاة مائتا درهم يبلغ مائة وأربعين مثقالاً من الفضة الخالصة إلا ابن حبيب الأندلسي فإنه انفرد إن أهل كل بلد يتعاملون بدراهم، وذكر ابن عبد البر اختلافاً في الوزن بالنسبة إلى دراهم الأندلس وغيرها من دراهم البلاد، وكذا خرق المريسي الإجماع فاعتبر النصاب بالعدد لا الوزن، وانفرد السرخسي من الشافعية بحكاية وجه في المذهب أن الدراهم المغشوشة إذا بلغت قدر الوضم إليه قيمة الغش من نحاس مثلاً لبلغ نصاباً فإن الزكاة تجب

فيه كما نقل عن أبي حنيفة - انتهى. وقال ابن قدامة (ج3 ص1) : نصاب الفضة مائتا درهم لا نعلم في ذلك خلافاً بين علماء الإسلام وقد بينته السنة يعني بها هذا الحديث وحديث أنس الآتي، ففيه وفي الرقة ربه العشر فإن لم تكن إلا تسعين ومائة فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها قال ابن قدامة، والدراهم التي يعتبر بها النصاب هي الدراهم التي كل عشر منها وزن سبعة مثاقيل بمثقال الذهب وكل درهم نصف مثقال وخمسة وهي الدراهم الإسلامية التي تقدر بها نصف الزكاة ومقدار الجزية والديات ونصاب القطع في السرقة وغير ذلك، وكانت الدراهم في صدر الإسلام صنفين سوداً وطبرية، وكانت السود ثمانية دوانيق والطبرية أربعة دوانيق فجمعا في الإسلام وجعلا درهمين متساويين في كل درهم ستة دوانيق فعل ذلك بنوا أمية- انتهى. قلت: روى ابن سعد في الطبقات (ج5 ص170) عن الواقدي، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه. قال: ضرب عبد الملك بن مروان الدنانير والدراهم سنة خمس وسبعين وهو أول من أحدث ضربها ونقش عليها، وقال الواقدي: عن خالد بن ربيعة ابن أبي هلال عن أبيه قال: كانت مثاقيلاً الجاهلية التي ضرب عليها عبد الملك بن مروان اثنتين وعشرين قيراطاً إلا حبة بالشامي وكانت العشرة (دراهم) وزن سبعة (مثاقيل) وقال أبوعبيد في الأموال (ص524) كانت الدراهم قبل الإسلام كباراً وصغاراً، فلما جاء الإسلام وأرادو ضرب الدراهم وكانوا يزكونها من النوعين فنظروا إلى الدراهم الكبير فإذا هو ثمانية دوانيق وإلى الدرهم الصغير فإذا هو أربعة دوانيق فوضعوا زيادة الكبير على نقصان الصغير فجعلوها درهمين سواء كل واحد ستة دوانيق، ثم اعتبروها بالمثاقيل ولم يزل المثقال في آباد الدهر محدود إلا يزيد ولا ينقص فوجدوا عشرة من هذه الدراهم التي واحدها ستة دوانيق يكون وزن سبعة مثاقيل سواء فاجتمعت فيه وجوه الثلاثة، أن العشرة منها وزن سبعة مثاقيل وأنه عدل بين الصغار والكبار وأنه موافق لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصدقة فمضت سنة الدراهم على هذا واجتمعت عليه الأمة، فلم يختلف أن الدرهم التام ستة دوانيق فما زاد أو نقص قيل: "فيه" زائد أو ناقص، والناس في زكاتهم بحمد الله تعالى على الأصل الذي هو السنة لم يزيغوا عنه وكذلك في المبعايعات والديات على أهل الورق انتهى كلامه ملخصاً محرراً. قال العيني (ج8 ص258) : وفي كتاب المكائيل عن الواقدي عن معبد بن مسلم عن عبد الرحمن ابن سابطة. قال: كان لقريش أوزان في الجاهلية فلما جاء الإسلام أقرت على ما كانت عليه الأوقية أربعون درهماً والرطل اثنا عشر أوقية فذلك أربع مائة وثمانون درهما وكان لهم النش وهو عشرون درهماً والنواة وهي خمسة دراهم وكان المثقال اثنين وعشرين قيراطاً إلا حبة وكانت العشرة دراهم وزنها سبعة مثاقيل والدرهم خمسة عشر قيراطاً (إلى ما آخر قال) وأما مقدار نصاب الفضة بحسب أوزان بلادنا الهندية، فهو اثنان

وخمسون تولجة ونصف تولجة. قال القاضي ثناء الله الفاني فتى صاحب التفسير المظهري وتلميذ الشاة ولي الله الدهلوي: في رسالته الفارسية "ما لا بد منه" نصاب زر بيست مثقال ست كه هفت ونيم تولة باشد، ونصاب سيم دوصد درم ست. كه بنجاه وشش روبيه سكه دهلي وزن آن مى شود- انتهى. قال في حاشيتها: جون دوصد نزم محققين مساوى بنجاه ودونيم تولة است، جناجنة صاحب فتاوى جواهر اخلاطي مى أرد. فيكون مائتا درهم اثنين وخمسين تولجة ونصف تولجة من الفضة - انتهى. بس هر روبيه كه بوزن يازدة ماشه وباؤ ماشه بالا باشد بنجاه وشش روبيه خواهد بود، جناجة مصنف رحمة الله عليه فرموده است. وهمين روبيه در عهد مصنف رحمة الله علية رواج ميداشت وهر روبيه كه بوزن يازدة ماشا باشد از سيم مذكور بنجاه وجهار روبيه وسه ماشه خواهد بود - انتهى. وقال شيخ مشائخنا العلامة الشيخ عبد الله الغازيفوري في رسالته ما معربه نصاب الفضة مائتا درهم أي خمسون واثنتان تولجة ونصف تولجة، وهي تساوي ستين روبية من الروبية الإنكليزية (النافقة في الهند في زمن الإنكليز) التي تكون بقدر عشر ماهجة ونصف ماهجة. وقال الشيخ بحر العلوم اللكنوى الحنفي: في رسائل الأركان الأربعة (ص178) وزن مائتي درهم وزن خمس وخمسين روبية، وكل روبية أحد عشر ما شج واستدل بهذا الحديث على عدم الوجوب فيما إذا نقص من النصاب ولو حبة واحدة. قال ابن قدامة: نصاب الفضة مائتا درهم ولا فرق في ذلك بين التبر والمضروب، ومتى نقص النصاب عن ذلك فلا زكاة فيه، سواء كان كثيراً أو يسيراً هذا ظاهر كلام الخرقي. ومذهب الشافعي وإسحاق وابن المنذر لظاهر قوله عليه السلام: ليس فيما دون خمس أواق صدقة، والأوقية أربعون درهماً بغير خلاف فيكون ذلك مائتي درهم. وقال غير الخرقي من أصحابنا: إن كان النقص يسيراً كالحبة والحبتين وجبت الزكاة، لأنه لا يضبط غالباً فهو كنقص الحول ساعة أو ساعتين، وإن كان نقصاً بيناً كالدانق والدانقين فلا زكاة فيه. وقال مالك: إذا نقصت نقصاً يسيراً يجوز جواز الوازنة وجبت الزكاة، لأنها تجوز الوازنة فأشبهت الوازنة. والأول ظاهر الخبر فينبغي أن لا يعدل عنه- انتهى. قلت: وإليه ذهبت الحنفية والشافعية وهو الحق عندنا. واختلفوا في الفضة هل فيها وقص أم لا، وسيأتي الكلام عليه في الفصل الثاني في شرح حديث على هذا، واقتصر في حديث أبي سعيد وحديث أنس الآتي على ذكر نصاب الفضة؛ لأنها الأغلب. وأما الذهب فقال النووي في شرح مسلم: لم يأت في الصحيح بيان نصاب الذهب، وقد جاءت فيه أحاديث تحديد نصاب بعشرين مثقالاً، وهي ضعاف ولكن أجمع من يعتد به الإجماع على ذلك. وقال ابن عبد البر: لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في نصاب الذهب شيء إلا ما روى عن الحسن بن عمارة عن علي وابن عمارة أجمعوا على ترك حديثه لسوء حفظه وكثرة خطأه. ورواه الحفاظ موقوفاً على علىّ لكن عليه الجمهور الأئمة الأربعة

وغيرهم. وقال المهلب: لم ينقل عن الشارع زكاة الذهب من طريق الخبر كما تنقل عنه زكاة الفضة. وقال عياض نصاب الفضة خمس أوراق وهي مائتا درهم بنص الحديث، وأما الذهب فعشرون مثقالاً والمعول فيه على الإجماع. قال: وقد حكى فيه خلاف شاذ وروى فيه أيضاً حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال الشافعي: في كتاب الرسالة (ص52) في باب الزكاة وفرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الورق صدقة، وأخذ المسلمون في الذهب صدقة بعده، إما بخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبلغنا، وإما قياساً على أن الذهب والورق فقد الناس الذي اكتنزوه وأجازوه إثماناً على ما يتابعون به في البلدان قبل الإسلام وبعده. وقال في الأم (ج2 ص34) : لا أعلم اختلافاً في أن ليس في الذهب صدقة، حتى تبلغ عشرين مثقالاً فإذا بلغت عشرين مثقالاً ففيها الزكاة. وقال مالك: في الموطأ السنة التي لا اختلاف فيها عندنا إن الزكاة تجب في عشرين ديناراً عيناً كما تجب في مائتي درهم. قال الباجي: وهذا كما قال إن نصاب الذهب عشرون ديناراً من الدنانير الشرعية، وهو كل عشرة دراهم سبعة دنانير ولا خلاف في ذلك بين فقهاء الأمصار، إلا ما روى عن الحسن البصري أنه قال: لا زكاة في الذهب حتى يبلغ أربعين ديناراً فيكون فيه دينار. والدليل على صحة ما ذهب إليه الجمهور أن الإجماع أنعقد بعد الحسن على خلافه، وهذا من أقوى الأدلة على أن الحق في خلافه، ودليلنا من جهة السنة ما روى عاصم بن ضمرة والحارث الأعور عن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: وليس عليك شيء يعني في الذهب حتى يكون لك عشرون ديناراً وحال عليها الحول ففيها نصف دينار، وهذا الحديث ليس اسناده هناك غير إن اتفاق العلماء على الأخذ به دليل على صحة حكمه، ودليلنا من جهة المعنى أن المأتى الدرهم نصاب الورق ولا خلاف في ذلك. والدينار كان صرفه في وقت فرض الزكاة عشرة دراهم فوزن المأتى درهم عشرون مثقالاً، فكان ذلك نصاب الذهب - انتهى. وقال أبوعبيد في الأموال (ص409) : بعد ذكر حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في نصاب الذهب عشرين مثقالاً. ما لفظه فهذا، لا اختلاف فيه بين المسلمين، إذا كان الرجل قد ملك في أول السنة من المال ما تجب في مثله الصدقة وذلك مائتا درهم أو عشرون ديناراً أو خمس من الإبل أو ثلاثون من البقر أو أربعون من الغنم، فإذا ملك واحدة من هذه الأصناف من أول الحول إلى آخره فالصدقة واجبة عليه في قول الناس جميعاً - انتهى. وقال في شرح الأحياء نصاب الذهب عشرون ديناراً خالصة بالإجماع، ووقع في المنهاج مثقالاً بدل ديناراً ومآلهما واحد. لأن كل دينار زنة مثقال - انتهى. وقال ابن قدامة (ج3 ص4) : قال ابن منذر أجمع العلم على أن الذهب إذا كان عشرين مثقالاً قيمتها مائتا درهم، إن الزكاة تجب فيها، إلا ما حكى عن الحسن أنه لا زكاة

فيها حتى تبلغ أربعين وأجمعوا على أنه إذا كان أقل من عشرين مثقالاً ولا يبلغ مائتي درهم فلا زكاة فيه. وقال عامة الفقهاء: نصاب الذهب عشرون مثقالاً من غير اعتبار قيمتها. إلا ما حكى عن عطاء طاووس والزهري وسليمان بن حرب الواشحي وأيوب السختياني أنهم قالوا: هو معتبر بالفضة فما كانت قيمته مائتى درهم ففيه الزكاة (كان وزن ذلك من الذهب عشرين ديناراً أو أقل أو أكثر، هذا فيما كان منها دون الأربعين ديناراً، فإذا بلغت أربعين ديناراً كان الاعتبار بها نفسها لا بالدراهم لا صرفاً ور قيمة) واستدل للحسن بما روى ابن حبان والحاكم (ج1 ص395) والبيهقي (ج4 ص89) وابن حزم في المحلى (ج6 ص93) والطبراني من حديث يحيى بن حمزة عن سليمان بن داود عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده عمرو بن حزم مطولاً. وفيه بعد ذكر نصاب الفضة وفي كل أربعين ديناراً دينار، قال الحاكم: صحيح ووافقه الذهبي وقال أحمد كتاب عمرو بن حزم في الصدقات صحيح، وقال بعضهم في نسخة كتاب عمرو بن حزم تلقاها الأمة بالقبول. وهي متوارثة كنسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وهي دائرة على سليمان بن أرقم وسليمان بن داود الخولاني عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده وكلاهما ضعيف، بلى المرجح في روايتهما سليمان بن أرقم وهو متروك، لكن الشافعي في الرسالة (ص113) : لم يقبلوه حتى ثبت عندهم أنه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال أحمد: أرجو أن يكون هذا الحديث صحيحاً، وقال يعقوب بن سفيان الفسوي لا أعلم في جميع الكتب المنقولة أصح منه، كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعون يرجعون إليه ويدعون آراءهم، وقال البيهقي (ج4 ص90) : حديث سليمان بن داود مجود الإسناد قد اثنى على سليمان بن داود الخولاني. هذا أبوزرعة الرازي وأبوحاتم الرازي وعثمان بن سعيد الدارمي وجماعة من الحفاظ ورأوه هذا الحديث الذي رواه في الصدقة موصول الإسناد حسناً - انتهى. واستدل للحسن أيضاً بما روى الدارقطني (ص200) من حديث محمد بن عبد الله بن جحش عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر معاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن، أن يأخذ من كل أربعين ديناراً ديناراً - الحديث. وفيه عبد الله بن شيب قال ابن حبان في الضعفاء يقلب الأخبار ويسرقها ولا يجوز الاحتجاج به بحال - انتهى. وأجاب من وافق الحسن عن أحاديث العشرين مثقالاً بأنها لم تصح، فيكون الاعتماد في نصاب الذهب على الإجماع المتيقن المقطوع به وهو اتفاقهم على وجوبها في الأربعين واستدل للذين جعلوا الزكاة فيما دون الأربعين تبعاً للدراهم بأنه لما كانا من جنس واحد جعل الفضة هي الأصل، إذ كان النص قد ثبت فيها وجعل الذهب تابعاً لها في القيمة لا في الوزن وذلك فيما دون موضع الإجماع. قلت: واحتج بضعهم لذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس الآتي، وفي الرقة ربع العشر الخ بناء على ما قيل إن الرقة يطلق على الذهب

والفضة بخلاف الورق، فعلى هذا فقيل إن الأصل في زكاة النقدين نصاب الفضة فإذا بلغ الذهب ما قيمته مائتا درهم وجبت فيه الزكاة وهو ربع العشر كذا في الفتح وقد ورد في ذلك حديث صريح، رواه ابن حزم في المحلى (ج6 ص13) من طريق أبي أويس عن عبد الله ومحمد ابن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيهما عن جدهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنه كتب هذا الكتاب لعمرو بن حزم حين أمره على اليمن، وفيه بعد ذكر نصاب الفضة فإذا بلغت الذهب قيمة مائتى درهم ففي قيمة كل أربعين درهماً درهم حتى تبلغ أربعين ديناراً فإذا بلغت أربعين ديناراً ففيها دينار - انتهى. ورواه الحاكم (ج1 ص395) مختصراً بلفظ: "فإذا بلغ قيمة الذهب مائتى درهم ففي كل أربعين درهماً درهم:" وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي وفي تصحيحيهما له نظر، فإن أباأويس هذا هو عبد الله بن أويس ابن عم مالك بن أنس وزوج أخته وهو صالح صدوق بهم. قال ابن عبد البر: لم يحك أحد عنه جرحة في دينه وأمانته، وإنما عابوه بسوء حفظه وأنه يخالف في بعض حديثه - انتهى. وأخرج له مسلم فسي الشواهد والمتابعات دون الأصول، ولم يحتج به، وقد تفرد أبوأويس بهذا اللفظ، ورواه الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وليس فيه ما ذكره أبوأويس كما تقدم. ومع ذلك فحديثه هذا مرسل لأنه عن محمد بن عمرو بن حزم جد عبد الله ومحمد ابن أبي بكر بن عمرو بن حزم فلا يصح الاحتجاج برواية أبي أويس هذه ولا الاستشهاد والاعتبار. واستدل للجمهور بأحاديث منها حديث علي رواه أبوداود من طريق ابن وهب، أخبرني جرير بن حازم وسمي آخر عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة والحارث الأعور عن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا كان لك مائتا درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم وليس عليك شيء، يعني في الذهب حتى يكون لك عشرون ديناراً، فإذا كانت لك عشرون دينارا وحال عليها الحول ففيها نصف دينار، فما زاد فبحساب ذلك قال فلا أدري أعليُّ يقول فبحساب ذلك أو رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال وراه شعبة وسفيان وغيرهما عن أبي إسحاق عن عاصم عن علي ولم يرفعوه - انتهى. قال الزيلعي (ج2 ص328) : وفيه عاصم والحارث فعاصم وثقة المديني وابن معين والنسائي، وتكلم فيه ابن حبان وابن عدي فالحديث حسن. قال النووي في الخلاصة: وهو حديث صحيح أو حسن- انتهى. ولا يقدح فيه ضعف الحارث لمتابعة عاصم له- انتهى كلام الزيلعي. وضعفه ابن حزم أولاً (ج6 ص70) ثم رجع عن ذلك حيث قال (ج6 ص74) ثم استدركنا فرأينا إن حديث جرير بن حازم مسند صحيح لا يجوز خلافه، وإن الاعتلاال فيه بأن عاصم بن ضمرة أو أن أباإسحاق أو جريراً أخلط إسناد الحارث بإرسال عاصم. هو الظن الباطل الذي لا يجوز وما علينا من مشاركة الحارث لعاصم، ولا لإرسال من أرسله ولا لشك زهير فيه شيء، وجرير ثقة فالأخذ بما أسنده لازم - انتهى. وقال الحافظ في بلوغ المرام: وهو حسن وقد اختلف في رفعه وقال في التلخيص (ص182) حديث علي هذا

وليس فيما دون خمس ذود ـــــــــــــــــــــــــــــ معلول، فإنه قال أبوداود حدثنا سليمان بن داود المهري ثنا ابن وهب ثنا جرير بن حازم وسمي آخر عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة، والحارث عن علي ونبه ابن المواق على علة خفية فيه وهي إن جرير بن حازم لم يسمعه من أبي إسحاق. فقد رواه حفاظ أصحاب ابن وهب سحنون وحرملة ويونس وبحر بن نصر، وغيرهم عن ابن وهب عن جرير بن حازم والحارث بن نبهان عن الحسن بن عمارة عن أبي إسحاق، فذكره قال ابن المواق: الحمل فيه على سليمان شيخ أبي داود فإنه وهم في إسقاط رجل - انتهى. فلعل من حسن هذا الحديث إنما حسنه لشواهده والله تعالى أعلم ومنها حديث ابن عمر وعائشة أخرجه ابن ماجه والدارقطني من طريق إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع عن عبد الله بن واقد عن ابن عمر وعائشة، إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأخذ من كل عشرين ديناراً نصف دينار - انتهى. وابن مجمع قال فيه ابن معين لا شئ وقال أبوحاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به فإنه كثير الوهم ومنها حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أخرجه الدارقطني (ص199) من طريق ابن أبي ليلى عن عبد الكريم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال: ليس في أقل من عشرين مثقالاً من الذهب ولا في أقل من مائتي درهم صدقة، وذكره أبوعبيد في الأموال (ص409-445) وابن حزم في المحلى (ج6:ص69) معلقاً. قال الحافظ في التلخيص (ص182) : إسناده ضعيف. ورواه أبوأحمد بن زنجوية في الأموال كما في نصب الراية (ج2:ص369) من طريق العزرمي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً بلفط:"ليس فيما دون مائتي درهم شئ ولا فيما دون عشرين مثقالاً من الذهب شئ وفي المائتين خمسة دراهم وفي عشرين مثقالاً ذهباً نصف مثقال" قال الحافظ في الدراية (ص161) : بإسناد ضعيف أي لأن العزرمي متروك ومنها حديث محمد بن عبد الرحمن الأنصاري أخرجه أبوعبيد (ص408) عن يزيد بن هارون عن حبيب بن أبي حبيب عن عمرو بن هرم عن محمد ابن عبد الرحمن الأنصاري، إن في كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي كتاب عمر في الصدقة. إن الذهب لا يؤخذ منه شئ حتى يبلغ عشرين ديناراً فإذا بلغ عشرين ديناراً ففيه نصف دينار- الحديث. وذكره ابن حزم في المحلي (ج6:ص69) وقال هو حديث مرسل ومنها حديث ابن مسعود رواه الدارقطني (ص206) من طريق يحيى بن أبي أنيسة عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم إن لإمرأتي حلياً من عشرين مثقالاً، قال فأد زكاته نصف مثقال. قال الدارقطني: يحيى بن أبي أنيسة متروك وهذا وهم، والصواب مرسل موقوف- انتهى. وقد ظهر بما ذكرنا إن أحاديث تحديد نصاب الذهب ضعيفة إلا حديث علي، واختلف فيه أيضاً فحسنه النووي والحافظ في البلوغ والزيلعي، وصححه ابن حزم وأعله الحافظ في التلخيص. وقد تقدم إن المعول في ذلك إجماع المسلمين على تحديده بعشرين مثقالاً فهو المعتمد ومقداره من أوزان بلادنا سبع تولجات ونصف تولجة كما تقدم والله تعالى أعلم (وليس فيما دون خمس ذود) بفتح المعجمة وسكون الواو بعدها دال

من الإبل صدقة)) . متفق عليه. 1810- (2) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس على المسلم صدقة في عبده ـــــــــــــــــــــــــــــ مهملة والرواية المشهورة بإضافة خمس إلى ذود وروى بتنوين خمس على أن ذود بدل منه، وقوله: "من الإبل صفة مؤكدة لذود لأنه إسم الإبل خاصة، والأكثر على أن الذود من الثلاثة إلى العشرة وإنه لا واحد له من لفظه. وإنما يقال في الواحد بعير. وقيل: بل ناقة، فإن الذود في الإناث دون الذكور، لكن حملوه في الحديث على ما يعم الذكر والأنثى فمن ملك خمساً من الإبل ذكوراً يجب عليه فيها الصدقة. وقيل الذود ما بين الثنتين إلى التسع. وقيل: من الثلاثة إلى العشرة. وقيل: إلى خمس عشرة. وقيل: إلى عشرين. وقيل: إلى الثلثين، قال القسطلاني: القياس في تمييز ثلاثة إلى عشر أن يكون جمع تكسير جمع قلة فمجيئة اسم جمع كما في هذا الحديث قليل، والذود يقع على المذكر والمؤنث والجمع والمفرد فلذا أضاف خمس إليه - انتهى. قال القرطبي: أصله زاد يذود إذا دفع شيئاً فهو مصدر، وكان من كان عنده دفع عن نفسه معرة الفقر وشدة الفاقة والحاجة (من الإبل) بيان للذود (صدقة) أي إذا كان الإبل أقل من خمس فلا صدقة فيها، قال ابن قدامة: وجوب زكاة الإبل مما أجمع عليه علماء الإسلام وصحت فيه السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وأجمع المسلمون على أن ما دون خمس من الإبل لا زكاة فيه لحديث أبي سعيد هذا، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس الآتي، ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها (متفق عليه) وأخرجه أحمد ومالك والشافعي والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم. 1810- قوله: (ليس على المسلم) قال القسطلاني: خص المسلم وإن كان الصحيح عند الأصوليين والفقهاء تكليف الكافر بالفروع، لأنه مادام كافراً فلا يجب عليه الإخراج حتى يسلم، فإذا أسلم سقطت، لأن الإسلام يجب ما قبله. وقال ابن حجر: يؤخذ منه إن شرط وجوب زكاة المال بأنواعها الإسلام، ويوافقه قول الصديق في كتابه الآتي على المسلمين، قال القاري: هذا حجة على من يقول إن الكفار مخاطبون بالشرائع في الدنيا بخلاف من يقول إن الكافر مخاطب بفروع الشريعة بالنسبة للعقاب عليها في الآخرة كما أفهمه قوله تعالى: {وويل المشركين الذين لا يؤتون الزكاة} [فصلت:7] وقالوا {ولم نك نطعم المسكين} [مدثر:44] وعليه جمع من أصحابنا وهو الأصح عند الشافعية - انتهى. وقد سبق الكلام على هذا من أوائل الزكاة (صدقة) أي زكاة (في عبده) أي رقيقه ذكراً كان أو أنثى ونفي الصدقة في العبد مطلقاً، لكنه مقيد بما ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم ليس في العبد

ولا في فرسه ـــــــــــــــــــــــــــــ صدقة إلا صدقة الفطر، ولأبي داود ليس في الخيل والرقيق زكاة الفطر. (ولا في فرسه) الشامل للذكر ولأنثى وجمعه الخيل من غير لفظه وهذا إذا لم يكوناً للتجارة فإنه إذا اشتراهما للتجارة تجب الزكاة في قيمتهما كسائر أموال التجارة. واستدل بهذا الحديث من قال من أهل الظاهر بعدم وجوب الزكاة فيهما مطلقاً ولو كانا للتجارة، وأجيبوا بأن زكاة التجارة ثابتة بالإجماع، كما نقله ابن المنذر وغيره فيخص به عموم هذا الحديث. وتعقب هذا بأنه كف الإجماع مع خلاف الظاهرية، وأجيبوا أيضاً بأن زكاة التجارة متعلقها القيمة لا العين، فالحديث يدل على عدم التعلق بالعين فإنه لو تعلقت الزكاة بالعين من العبيد والخيل لثبتت ما بقيت العين وليس كذلك. فإنه لو نوى القنية لسقطت الزكاة والعين باقية وإنما الزكاة متعلقة بالقيمة بشرط نية التجارة. قال النووي هذا الحديث أصل في أن أموال القنية لا زكاة فيها وإنه لا زكاة في الخيل والرقيق إذا لم تكن للتجارة، وبهذا قال العلماء كافة من السلف والخلف، إلا أباحنيفة وشيخه حماد بن أبي سليمان وزفر أوجبوا في الخيل، إذا كانت إناثاً أو ذكوراً وإناثاً في كل فرس ديناراً وإن شاء قومها وأخرج عن كل مائتي درهم خمسة دراهم وليس لهم حجة في ذلك. وهذا الحديث صريح في الرد عليهم - انتهى. قلت: مذهب أبي حنيفة كما في البدائع أنه إذا كانت الخيل تسام للدر والنسل وهي ذكور وإناث يجب فيها الزكاة، وفي الذكور المنفردة والإناث المنفردة روايتان، وفي المحيط المشهور عدم الوجوب فيهما أي لعدم تحقق النماء في الذكور والإناث منفردة بالتوالد والتناسل. وقال ابن الهمام في الفتح: الراجح في الذكور عدمه وفي الإناث الوجوب أي لأنها تناسل بالفجل المستعار، واختلف متأخروا الحنفية في أن الفتوى على قول أبي حنيفة أو صاحبيه أبي يوسف ومحمد الذين وافقا الجمهور، ففي فتاوى (قاضي خان (ج1:ص119) قالوا: الفتوى على قولهما وأجمعوا على أن الإمام لا يأخذ منه صدقة الخيل جبراً- انتهى. وقال ابن عابدين (ج2:ص26) قال الطحاوي: هذا أي قول الصاحبين أحب القولين الينا، ورجحه القاضي أبوزيد في الأسرار وفي الينابيع وعليه الفتوى، "وفي الجواهر" والفتوى على قولهما "وفي الكافي" هو المختار للفتوى، وتبعه الزيلعي والبزازي تبعاً للخلاصة "وفي الخانية" قالوا: الفتوى على قولهما تصحيح العلامة قاسم. قال ابن عابدين وبه جزم "في الكنز" لكن رجح قول الإمام (أبي حنيفة) في الفتح (أي فتح القدير) "وفي التحفة" الصحيح قوله ورجحه الإمام السرخسي في المبسوط، والقدوري في التجريد وصاحب البدائع وصاحب الهداية. وهذا القول أقوى حجة على ما شهد به التجريد والمبسوط وشرح شيخنا- انتهى كلام ابن عابدين. قلت: والقول الراجح المعول عليه عندنا هو ما قال به جمهور أهل العلم لحديث أبي هريرة هذا، ولحديث علي الآتي في الفصل الثاني، ولحديث عمرو بن حزم عند ابن حبان والحاكم والبيهقي والطبراني، ولحديث عمر وحذيفة عند أحمد (ج1:ص118) وسنده ضعيف لانقطاعه. فإن راشد بن سعد لم يدرك عمر ولأن أبابكر بن عبد الله بن أبي مريم

ضعيف لاختلاطه وسوء حفظه ولحديث ابن عباس عند الطبراني في "الصغير والأوسط" وفيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وفيه كلام. قال أبوعبيد: في "كتاب الأموال" (ص465) إيجاب الصدقة في سائمة الخيل التي يبتغي منها النسل ليس على إتباع السنة ولا على طريق النظر، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد عفا عن صدقتها ولم يستثن سائمة ولا غيرها، وبه عملت الأئمة والعلماء بعده فهذه السنة. وأما في النظر فكان يلزمه إذا رأى فيها صدقة أن يجعلها كالماشية تشبيها بها لأنها سائمة مثلها ولم يصر إلى واحد من الأمرين على أن تسمية سائمتها قد جاءت عن غير واحد من التابعين بإسقاط الزكاة منها. ثم روى ذلك عن إبراهيم والحسن وعمر بن عبد العزيز. قلت: وأجاب الحنفية عن حديث أبي هريرة بأنه محمول على فرس الركوب والحمل والجهاد في سبيل الله، قال صاحب الهداية: وتأويله فرس الغازي هو المنقول عن زيد بن ثابت- انتهى. قلت: نقله عنه زيد الديوسي في "كتاب الأسرار" فقال إن زيد بن ثابت لما بلغه حديث أبي هريرة قال: صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إنما أراد فرس الغازي قال ومثل هذا لا يعرف بالرأي فثبت أنه مرفوع- انتهى. قال الحافظ: "في الدراية" (ص158) تبع أي صاحب الهداية في ذلك أبازيد الدبوسي فإنه نقله عن زيد بن ثابت بلا إسناد - انتهى. فما لم يعرف إسناده وأنه قوي صالح للإعتماد عليه لا يصح الاستناد إليه على أنه قول صحابي، وفيه مسرح للإجتهاد وحمل الحديث على فرس الغازي مخالف لظاهره، وأما ما روى ابن أبي شيبة وأبوعبيد "في الأموال" (ص464) وأبوأحمد بن زنجوية بإسناد صحيح عن طاووس قال: سألت ابن عباس عن الخيل أفيها صدقة فقال: "ليس على فرس الغازي في سبيل الله صدقة" فليس فيه إن ابن عباس فسر بذلك حديث أبي هريرة، وبين المراد من الفرس المذكور فيه وغاية ما فيه أنه نفي الصدقة عن فرس الغازي وهذا مما لا ينكره أحد والمفهوم ليس بحجة عند الحنفية مع أن مفهومه يعارض عموم حديث أبي هريرة فلا يلتفت إليه على أنه يقتضي أن يجب الصدقة في فرس غير الغازي، وإن كان يعلف للركوب والحمل ولم يقل به أحد. قال ابن الهمام: لا شك إن هذه الإضافة للفرس المفرد لصاحبها في قولنا فرسه وفرس زيد كذا وكذا يتبادر منه الفرس الملابس للإنسان ركوباً ذهاباً ومجيئاً عرفاً وإن كان لغة أعم والعرف املك ويؤيد هذه القرينة قوله "في عبده" ولا شك أن العبد للتجارة تجب فيه الزكاة، فعلم أنه لم يرد النفي عن عموم العبد بل عبد الخدمة. وقد روى ما يوجب حمله على هذا المحمل لو لم تكن هاتان القرينتان العرفية واللفظية، وهو ما في الصحيحين من حديث مانعي الزكاة وفيه الخيل لثلاثة الحديث- انتهى. قلت: المراد بالفرس والعبد في الحديث الجنس كما يدل عليه رواية أبي داود الآتية، ولا نسلم أن المتبادر من الإضافة المذكورة الفرس الملابس للإنسان ركوباً عرفاً، ولو سلمنا فكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - يجب حمله على مقتضي صرف اللغة لا على العرف فإن العرف يختلف على أنه ورد هذا الحديث في رواية ضعيفة لأبي داود بلفظ. "ليس في الخيل والرقيق زكاة إلا زكاة الفطر في الرقيق" أي بلفظ الجمع وبغير الإضافة وفي لفظ في "مسند

عبد الله بن وهب" لا صدقة على الرجل في خيله ولا في رقيقه، ولا يتمشى فيه تأويل ابن الهمام ويرد تأويله أيضاً ما رواه مالك في "الموطأ" عن الزهري عن سليمان بن يسار إن أهل الشام قالوا: لأبي عبيدة بن الجراح خذ من خيلنا ورقيقنا صدقة فأبى ثم كتب إلى عمر بن الخطاب فأبى عمر - الحديث. فافهم. وأما ما ذكر لتأييد ذلك من القرينة اللفظية ففيه أن الأصل أن يبقى اللفظ المطلق على إطلاقه والعام على عمومه ولا يقيد ولا يخص إلا بدليل شرعي، وقد قام الدليل من السنة والإجماع على وجوب الزكاة في عبد التجارة. فلم يكن بد من حمل العبد في الحديث على عبد الخدمة بخلاف الفرس، فإنه لم يقم دليل شرعي على استثناء غير فرس التجارة ولم يرد في السنة ما يدل على وجوب الزكاة في شي من الفرس إلا ما كان للتجارة فلا يصح حمل لفظ الفرس في الحديث على فرس الركوب خاصة وإستثناء السائمة منه وأما ما أشار إليه من حديث مانعي الزكاة في الصحيحين فليس فيه ما يوجب حمله على فرس الركوب كما ستعرف. وأجاب عن الحديث في "المحيط البرهاني" بأن المنفي ولاية أخذ الساعي فإن الفرس مطمع كل طامع، فالظاهر أنه إذا علموا به لا يتركوه لصاحبه- انتهى. وحاصله: أنه لم يرد نفي الزكاة عن الفرس رأسا بل أراد عدم وجوب أداءها إلى بيت المال على شاكلة الأموال الباطنة. قلت: لا دليل على هذا الحمل وظاهر الحديث يرده فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نفى الصدقة عن الفرس والعبد معاً بكلام واحد، فكما أن الزكاة معفوة ومنفية عن عبد غير التجارة رأساً كذلك منفية وساقطة عن الفرس الذي لم يكن للتجارة، وفي الفرق بين الأموال الظاهرة والباطنة عندي كلام. قال ابن الهمام: معتذراً عن عدم أخذه - صلى الله عليه وسلم - الزكاة عن الفرس ما نصه وعدم أخذه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن في زمانه أصحاب الخيل السائمة من المسلمين، بل أهل الإبل وما تقدم. إذ أصحاب هذه إنما هم أهل المدائن والدشت والتراكمة وإنما فتحت بلادهم في زمن عمر وعثمان- انتهى. قلت: هذا الاعتذار إنما يحتاج إليه لو ثبت وجوب الزكاة في الفرس السائمة بحديث مرفوع صحيح صريح فإنه حينئذٍ يسوغ أن يقال. بأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما لم يأخذ الزكاة عن الفرس مع الوجوب لعزة أصحاب الخيل السائمة من المسلمين في ذلك الوقت لكن لم يثبت الوجوب بحديث مرفوع صحيح أصلاً وإنما لم يأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - الزكاة عن الفرس كما لم يأخذ عن الرقيق. لأنه لا زكاة فيهما أصلاً، لا لكون الخيل قليلة إذ ذاك ولا أنه ترك زكاتها إلى المالكين بأن يؤدوها فيما بينهم وبين الله لمعنى يعلمه على أن أهل اليمن قد كانت عندهم الخيل كما يدل عليه رواية عبد الرزاق الآتية، وهم قد أسلموا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم ينقل أنه أخذ زكاتها منهم ولا أنه أمرهم بأدائها فيما بينهم وبين الله تعالى. قلت: واحتج الحنفية على أصل الوجوب بما تقدم من حديث أبي هريرة وهو أقوى ما احتجوا به، وفيه الخيل ثلاثة هي لرجل وزر وهي لرجل ستر وهي لرجل أجر قال: وأما التي هي له ستر فرجل ربطها

في سبيل الله (وفي رواية ربطها تغنياً وتعففاً) ثم ليس ينس حق الله في ظهورها ولا رقابها فهي له ستر الحديث. قالوا: إن الحق الثابت لله تعالى على رقاب الحيوانات ليس إلا الزكاة، فدل ذلك على وجوبها لأنه رتب على الخروج منه كونها له حينئذٍ ستراً يعني من النار. وأجاب عنه الطحاوي في شرح معاني الآثار: بأنه يجوز إن ذلك الحق سوى الزكاة فإنه قد روى لنا عن فاطمة بن قيس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: في المال حق سوى الزكاة. وحجة أخرى إنا رأينا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الإبل السائمة فقال: فيها حق فسئل ما هو فقال: إطراق فحلها وإعارة دلوها ومنحة سمنها فاحتمل أن يكون هو في الخيل - انتهى ملخصاً. وقال ابن الجوزي: في التحقيق بعد ذكر الدليل هنا للحنفية وجوابه من وجهين، أحدهما. إن حقها إعارتها وحمل المنقطعين عليها فيكون ذلك على وجه الندب. والثاني: أن يكون واجباً ثم نسخ بدليل قوله "قد عفوت لكم عن صدقة الخيل" إذ العفو لا يكون إلا عن شئ لازم - انتهى. وأجاب العيني عن الوجه الأول بأن الذي يكون على وجه الندب لا يطلق عليه حق، وعن الثاني بأن النسخ لو كان اشتهر زمن الصحابة لما قرر عمر الصدقة في الخيل وإن عثمان ما كان يصدقها- انتهى. وتعقب بأن الحق لغة بمعنى الشيء الثابت سواء كان لازماً أو غير لازم. وأيضاً قد روى البخاري مرفوعاً ومن حقها أي حق الإبل أن تحلب على الماء، وفي رواية أبي داود قلنا يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما حقها؟ قال: إطراق فحلها وإعارة دلوها ومنحتها وحلبها على الماء وحمل عليها في سبيل الله- انتهى ومن المعلوم أن هذه الأمور من الحقوق المندوبة لا الواجبة، وأما ما ذكر من أن عمر وعثمان أخذ الصدقة عن الخيل ففيه أنه كان ذلك على سبيل الندب والأختيار لا الإيجاب كما سيأتي. وقال الشيخ عبد العلي الحنفي المعروف ببحر العلوم اللكنوي صاحب فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت: في "رسائل الأركان الأربعة" (ص172) بعد ذكر استدلال الحنفية بحديث أبي هريرة ما لفظه هذا إنما يتم لو أريد بحق الله الحق الواجب وإن عمم، كما يدل عليه عطف "ولا ظهورها" لأنه ليس في الظهور حق واجب. وقد حمل ابن الهمام الحق في الظهور على حمل منقطعي الحاج ففيه أن هذا ليس حقاً واجبا بل الغاية الاستحباب، ثم الحديث إن دل على وجوب الزكاة فهو غير فارق بين الذكور والإناث والسائمة وغير السائمة وهو خلاف المذهب- انتهى. واحتج الحنفية لكمية الواجب في الفرس بما روى الدارقطني (ص214) والبيهقي (ج4:ص119) والطبراني من طريق الليث بن حماد الأصطخري عن أبي يوسف عن غورك بن الخضرم أبي عبد الله السعدي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: في الخيل السائمة في كل فرس دينار ورد هذا بوجهين أحدهما إن سنده ضعيف جداً، قال الدارقطني: تفرد به غورك وهو ضعيف جداً ومن دونه ضعفاء، وقال الهيثمي: فيه ليث بن حماد وغورك وكلاهما ضعيف. قال البيهقي: لو كان هذا الحديث صحيحاً

عند أبي يوسف لم يخالفه ذكره الزيلعي. والثاني أنه ليس في هذا الحديث ذكر للفرق بين الذكور المنفردة والإناث المنفردة والمختلط منهما ولا للتخيير بين الدينار والقيمة الذي قال به أبوحنيفة، وأجاب ابن الهمام عن الوجه الأول بما يقضي منه العجب حيث قال: ولعل ملحظهم في تقدير الواجب ما روى عن جابر من قوله عليه السلام في كل فرس دينار بناء على أنه صحيح في نفس الأمر، ولو لم يكن صحيحاً على طريقة المحدثين إذ لا يلزم من عدم الصحة على طريقتهم إلا عدمها ظاهراً دون نفس الأمر على أن الفحص عن مأخذهم لا يلزمنا إذ يكفي العلم بما اتفقوا عليه من ذلك- انتهى. وفي ذكر هذا غنى عن الرد ولعله حمله على ذلك غلوه في حماية مذهبه وشدة التعصب عليه وقد يحمل الإنسان عصبيته العمياء على اقبح من ذلك. واحتج الحنفية أيضاً بما روى الدارقطني في غرائب مالك بإسناد صحيح عنه عن الزهري إن السائب بن يزيد أخبره قال. رأيت أبي يقيم الخيل ثم يدفع صدقتها إلى عمر، وأخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني ابن أبي حسين إن ابن شهاب أخبره إن عثمان كان يصدق الخيل، وإن سائب بن يزيد أخبره إنه كان يأتي عمر بصدقة الخيل. قال ابن عبد البر: الخبر في صدقة الخيل عن عمر صحيح من حديث الزهري عن السائب بن يزيد. وأجاب عنه الطحاوي بأنه لم يأخذه عمر على أنه حق واجب عليهم بل بسبب آخر، ثم أخرج بسنده عن حارثة قال حججت مع عمر فأتاه أشراف الشام قالوا: إنا أصبنا خيلاً وأموالاً فخذ من أموالنا صدقة، فقال هذا شي لم يفعله اللذان كانا قبلي لكن إنتظروا حتى أسأل المسلمين. فسأل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم علي فقالوا حسن وعلي ساكت فقال عمر مالك يا أباالحسن فقالوا قد أشاروا عليك ولا باس بما قالوا إن لم يكن واجباً وجزية راتبة يؤخذون بها بعدك. فدل ذلك على أنه إنما أخذ على سبيل التطوع بعد ابتغاءهم ذلك لا على سبيل إنه شي واجب وقد أخبر إنه لم يأخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أبوبكر - انتهى. وقال ابن قدامة: في المغني (ج2:ص621) وأما عمر فإنما أخذ منهم شيئاً تبرعوا به وسألوه أخذه وعوضهم عنه برزق عبيدهم ثم ذكر هذا الحديث من رواية أحمد وقال: فصار حديث عمر حجة عليهم من وجوه، أحدها قوله ما فعله صاحباي قبلي يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ولو كان واجباً لما تركا فعله، الثاني إن عمر امتنع من أخذها ولا يجوز أن يمتنع من الواجب، الثالث قول علي حسن إن لم يكن جزية يؤخذون بها بعدك فسمى جزية إن أخذوا بها وجعل مشروطا بعدم أخذهم به فيدل على أن أخذهم بذلك غير جائز. الرابع استشارة عمر أصحابه في أخذه ولو كان واجباً لما احتاج إلى الاستشارة. الخامس إن عمر عوضهم عنه رزق عندهم (وكذا رزق فرسهم كما في رواية الدارقطني ص214) والزكاة لا يؤخذ عنها عوض- انتهى. وأجاب الحنفية عن هذا الجواب بأن رواية الدارقطني (ص219) "فوضع على فرس ديناراً" في قصة أهل الشام المذكور. ورواية عبد الرزاق من طريق يعلى بن أمية إن عمر قال له إن الخيل لتبلغ في بلادكم هذا وقد كان اشترى

وفي رواية، قال: ليس في عبده صدقة إلا صدقة الفطر)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ من رجل من أهل اليمن فرساً بمائة قلوص قال: فنأخذ من كل أربعين شاة شأة ولا نأخذ من الخيل شيئاً خذ من كل فرس ديناراً فقرر على الخيل ديناراً، وفي رواية ابن حزم والبيهقي فضرب على الخيل ديناراً دينار توجب خلاف ما قلتم من أن أخذه كان على سبيل إنه تطوع وتبرع لا للإيجاب، قلت: رواية الطحاوي في قصة أهل الشام صريحة في نفي الوجوب ورواها مالك بلفظ إن أهل الشام قالوا لأبي عبيدة: خذ من خيلنا ورقيقنا صدقة فأبى ثم كتب إلى عمر بن الخطاب فأبى عمر ثم كلموه أيضاً فكتب إلى عمر فكتب إليه عمر إن أحبوا فخذها منهم (يعني إنهم إذا تطوعوا بذلك فيقبل عنهم تطوعاً) وأردد عليهم (أي على فقراءهم) وارزق رقيقهم - انتهى. وهذه الرواية ظاهرة في أن عمر لم يقل بإيجاب الزكاة في الخيل لأنه إنما أمر بذلك حين أحبه أربابها وتبرعوا وتطوعوا بها، وأما ما ذكروه من رواية الدارقطني وعبد الرزاق وما شاكلها فهو محمول على هذه لتتافق الروايات ولا تختلف، قال بعض من كتب علي الموطأ من أهل عصرنا من الحنفية: والظاهر إن ذلك أي عدم الإيجاب كان عن عمر أولاً ثم قال: بالزكاة فيها أي إن الآخر من أمرى عمر أخذ الزكاة من الخيل كما يدل عليه رواية الدارقطني ورواية عبد الرزاق. قلت: ليس في شي من روايات قصة أهل الشام ما يدل أن ذاك كان أولاً وهذا كان آخراً والجمع بما قلنا واضح فالقول به متعين، ولو سلمنا فهو اجتهاد من عمر ومن وافقه كما اعترف به ابن الهمام وحديث أبي هريرة الذي نحن في شرحه يخالفه ويقطع بنفي الصدقة عنها فلا يلتفت إلى ما سواه لأنه لا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم والله تعالى أعلم. هذا وقد استدل ابن الهمام برواية الدارقطني في قصة أهل الشام على وجوب الزكاة في الفرس، وادعى وقوع إجماع الصحابة على ذلك، وقد رد عليه بحر العلوم اللكنوي الحنفي في رسائل "الأركان الأربعة" (ص173) رداً حسنا فعليك أن تراجعه (وفي رواية قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (ليس في عبده) في مسلم ليس في العبد (صدقة إلا صدقة الفطر) بالرفع على البدلية وبالنصب على الاستثنائية قال النووي: هذا صريح في وجوب صدقة الفطر على السيد عن عبده سواء كان للقنية أم للتجارة وهو مذهب مالك والشافعي والجمهور، وقال أهل الكوفة لا تجب في عبيد التجارة وحكى عن داود قال: لا تجب على السيد بل تجب على العبد ويلزم السيد تمكينه من الكسب ليؤديها- انتهى. وقال ابن حبان: فيه دليل على أن العبد لا يملك إذ لو ملك لوجب عليه صدقة الفطر (متفق عليه) إلا قوله "إلا صدقة الفطر" فإنه من إفراد مسلم وهذه الزيادة عند ابن حبان أيضاً ورواه الدارقطني بلفظ: لا صدقة على الرجل في فرسه ولا في عبده إلا زكاة الفطر وفي لفظ لأبي داود ليس: في الخيل والرقيق زكاة إلا زكاة الفطر في الرقيق، والرواية الأولى أخرجها أيضاً أحمد ومالك والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والدارقطني والبيهقي وغيرهم.

1811- (3) وعن أنس، أن أبا بكر كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين، بسم الله الرحمن الرحيم. هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1811- قوله: (إن أبابكر) الصديق (كتب له) أي لأنس، لما استخلف (هذا الكتاب) أي المكتوب الآتي (لما وجهه) أي حين أرسله أبوبكر (إلى البحرين) أي عاملاً عليها وهو تثنية بحر خلاف البر موضع معروف بين بحري فارس والهند ومقارب جزيرة العرب، ويقال هو إسم لاقليم مشهور يشتمل على مدن معروفة قاعدتها هجر وهكذا ينطق به بلفظ التثنية والنسبة إليه بحراني (بسم الله الرحمن الرحيم) بدل من الكتاب بمعنى إسم المفعول وهو واضح، لأن المراد كتب له هذه النقوش التي هي بسم الله الخ. قال الماوردي: يستدل به على إثبات البسملة في إبتداء الكتب وعلى أن الابتداء بالحمد ليس بشرط. وقال الحافظ: لم تجر العادة الشرعية ولا العرفية بابتداء المراسلات بالحمد وقد جمعت كتبه - صلى الله عليه وسلم - إلى الملوك وغيرهم، فلم يقع في واحد منها البداءة بالحمد بل بالبسملة (هذه) أي المعاني الذهنية الدالة عليها النقوش اللفظية الآتية (فريضة الصدقة) أي نسخة فريضة الصدقة فحذف المضاف للعلم به والفريضة بمعنى المفروضة (التي فرض رسول الله على المسلمين) هذا ظاهر في رفع الخبر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه ليس موقوفاً على أبي بكر وقد صرح برفعه في رواية إسحاق بن راهوية في مسنده ومعنى "فرض" هنا أوجب يعني بأمر الله تعالى قال الخطابي: معنى الفرض الإيجاب وذلك أن يكون الله تعالى قد أوجبها وأحكم فرضها في كتابه ثم أمر رسوله بالتبليغ فأضيف الفرض إليه بمعنى الدعاء اليه وحمل الناس عليه، وقد فرض الله طاعته على الخلق فجاز أن يسمى أمره وتبليغه عن الله عزوجل فرضاً على هذا المعنى. وقيل: معناه قد رأى بين وفصل لأن إيجابها ثابت بنص القرآن على سبيل الإجمال وبين - صلى الله عليه وسلم - مجملة بتقدير الأنواع والأجناس ففرض النبي - صلى الله عليه وسلم - لها بيانه للمجمل من الكتاب، ومن هذا فرض نفقة الأزواج وفرض أرزاق الجند. وقيل: معنى الفرض هنا السنة ومنه ما روى أنه - صلى الله عليه وسلم - فرض كذا أي سنة يعني شرعه بأمر الله تعالى (والتي) عطف على "التي" عطف تفسير أي الصدقة التي. ولأحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجه "التي" بدون العطف على أنها صفة بعد صفة أو يدل من الجملة الأولى (أمر الله بها) أي بتلك الصدقة أي أمر بتبلغيها أو بتقدير أنواعها وأجناسها والقدر المخرج منها (فمن سألها) بضم السين على بناء المفعول أي من سأل الزكاة (من المسلمين) بيان لمن (على وجهها) حال من المفعول الثاني في سئلها أي حال كونها على حسب ما بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فرض مقاديرها يعني على هذه الكيفية المبينة في هذا الكتاب (فليعطها) أي على الكيفية المذكورة في هذا الحديث. وفيه دلالة على دفع صدقة الأموال

ومن سأل فوقها فلا يعط في أربع وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم من كل خمس شاة، ـــــــــــــــــــــــــــــ الظاهرة إلى الإمام (ومن سئل فوقها) أي فوق حقها يعني زائداً على الفريضة المعينة في السن أو العدد، وقال الطيبي: أي أزيد من واجبها كمية أو كيفية، وتكون المسألة إجماعية إجمالاً، لا اجتهادية فإنها حينئذٍ يقدم الساعي (فلا يعط) أي فله المنع يعني لا يعطي الزائد على الواجب. وقيل: لا يعطي شيئاً من الزكاة لهذا الساعي، لأنه يصير خائناً بطلبه فوق الواجب فتسقط طاعته بظهور خيانته، لأن شرطه أن يكون أميناً وحينئذٍ يتولى هو إخراجه بنفسه أو يعطيه لساع آخر. قال الحافظ: لكن محل هذه إذا طلب الزيادة بغير تأويل - انتهى. وكأنه يشير بهذا إلى الجمع بين هذا الحديث وحديثي جرير وجابر بن عتيك المتقدمين في أوائل الزكاة، فيكون هذان الحديثان محمولين على أن للعامل تأويلاً في طلب الزائد على الواجب. قال القاري: هذا أي حديث أبي بكر يدل على أن المصدق إذا أراد أن يظلم المزكي فله أن يأباه ولا يتحرى رضاه، ودل حديث جرير وقوله: "أرضوا مصدقيكم وإن ظلمتم" على خلاف ذلك. وأجاب الطيبي بأن أولئك المصدقين من الصحابة وهم لم يكونوا ظالمين، وكان نسبة الظلم إليهم على زعم المزكي أو جريان على سبيل المبالغة وهذا عام فلا منافاة بينهما- انتهى. وقد يجاب بأن الأول محمول على الاستحباب وهذا على الرخصة والجواز، أو الأول إذا كان يخشى التهمة والفتنة وهذا عند عدمهما. قال في شرح السنة: فيه دليل على إباحة الدفع عن ماله إذا طولب بغير حقه- انتهى. (في أربع وعشرين) قال الطيبي: استئناف بيان لقوله "هذا فريضة الصدقة" وكأنه أشار بهذه إلى ما في الذهن ثم آتى به بياناً له. قال ابن الملك: "في أربع" خبر مبتدأ محذوف أي الواجب أو المفروض أو المعطى في أربع وعشرين (من الإبل) كلمة "من" بيانية وبدأ بزكاة الإبل لأنها كانت جل أموالهم وأنفسها (فما دونها) أي فما دون أربع وعشرين إلى الخمس (من الغنم) بيان للام الواجب المقدر، لأنه بمعنى الذي (من كل خمس شأة) أي الواجب من الغنم في أربع وعشرين إبلاً من كل خمس إبل شأة. وقال الطيبي: "من" الأولى ظرف مستقر، لأنه بيان لشأة توكيداً كما في قوله: "خمس ذود من الإبل" والثانية لغو إبتدائية متصلة بالفعل المحذوف، أي ليعط في أربع وعشرين من الإبل شأن كائنة من الغنم لأجل كل خمس من الإبل. وقيل: "من الغنم" خبر لمبتدأ محذوف أي الصدقة في أربع وعشرين من الإبل من الغنم. وقوله:"من كل خمس شأة" مبتدأ وخبر بيان للجملة المتقدمة. وقال الحافظ: قوله من الغنم كذا للأكثر وفي رواية ابن السكن بإسقاط "من" وصوبها بعضهم وقال عياض: كل صواب فمن أثبتها فمعناها زكاتها أي الإبل من الغنم و"من" للبيان لا للتبعيض، ومن حذفها فالغنم مبتدأ والخبر مضمر في قوله في أربع وعشرين. وإنما قدم الخبر لأن الغرض بيان المقادير التي تجب فيها الزكاة، والزكاة إنما تجب بعد وجود النصاب فحسن تقديمه. وههنا مسألتان خلافيتان، الأولى أنه ذهب الشافعي في قوله الجديد أي في غير البويطي ومالك في

رواية. وأحمد وأبوحنيفة وأبويوسف إلى أن الزكاة في النصاب فقط دون العفو والوقص (بفتح الواو والقاف ويجوز إسكانها وبالصاد المهملة وهو ما بين الفرضين عند الجمهور) وقال الشافعي: في القديم أي في البويطي ومالك في رواية ومحمد وزفر، إلى أنها في النصاب والعفو جميعاً. قال الحافظ: ويظهر أثر الخلاف فيمن له مثلاً تسع من الإبل فتلف منها أربعة بعد الحول وقبل التمكن من الأداء، حيث قلنا إنه شرط في الوجوب وجبت عليه شاة بلا خلاف. وكذا إن قلنا التمكن شرط في الضمان وقلنا الوقص عفو، وإن قلنا يتعلق به الفرض وجب خمس اتساع شاة – انتهى واستدل للقول الأول بقوله - صلى الله عليه وسلم - في الإبل في خمس شاة وفي عشر شاتان وفي الغنم إذا زادت على ثلاث مائة ففي كل مائة شأة، قال القاري في النقاية: هذا ظاهر في أن الزكاة في النصاب فقط- انتهى. وبقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عمرو بن حزم في خمس من الإبل شاة وليس في الزيادة شيء حتى تبلغ عشراً قال في البدائع: هذا نص على أن الواجب في النصاب دون الوقص- انتهى. لكن قد تكلم العيني في البناية في هذه الرواية. وقال الحافظ في الدراية (ص159) : لم أجده وذكره أبوإسحاق الشيرازي في المهذب وأبويعلى الفراء في كتابة وقد يستأنس له بحديث محمد بن عبد الرحمن الأنصاري أن في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم في الصدقات إن الإبل إذا زادت على عشرين ومائة فليس فيما دون العشر شيء أخرجه أبوعبيد (ص363) – انتهى. واستدل للقول الثاني بقول النبي صلى الله عليه وسلم في خمس من الإبل شاة إلى تسع ذكره في البدائع. وروى البيهقي (ج4 ص87) معناه من كتاب عمر قال الكاساني: وأخبر أي النبي صلى الله عليه وسلم إن الواجب يتعلق بالكل- انتهى. وقد يستدل لهذا القول أيضاً بظاهر قوله في كتاب أبي بكر في أربع وعشرين من الإبل فما دونها الغنم من كل خمس شأة، فإذا بلغت خمساً وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض- الحديث. وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شأة، قال الزيلعي (ج2 ص362) : وجه الدليل أنه غير الوجوب إلى النصاب الآخر فدل على أن الوجوب الأول منسحب إلى الوجوب الثاني وما بينهما هو العفو- انتهى. وقد رجح ابن الهمام هذا القول الثاني إذ قال ولا يخفى إن هذا الحديث (أي حديث عمرو بن حزم الذي استدل به للقول الأول، وفيه ليس في الزيادة حتى تبلغ عشراً) لا يقوي قوة حديثهما (أي الحديثين اللذين استدل بهما لمحمد وزفر) في الثبوت إن ثبت والله أعلم. وإنما نسبة ابن الجوزي في التحقيق، إلى رواية أبي يعلى القاضي وأبي إسحاق الشيرازي في كتابيهما، فقول محمد أطهر من جهة الدليل- انتهى. قال صاحب بذل المجهود: فمدار الحنيفة في الاستلال في استيناف الصدقة أيضاً على حديث عمرو بن حزم فلو كان الحديث عندهم ضعيفاً لا يصح الاستدلال به على الاستيناف، ومع هذا فقد ورد في حديث أبي داود (في كتاب عمر في الصدقة) وليس فيها شيء حتى تبلغ المائة فثبت بطريقين إن الأوقاص لا يجب فيها الزكاة- انتهى. المسألة الثانية قال الحافظ: استدل بقوله في أربع وعشرين من الإبل

فإذا بلغت خمساً وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى، ـــــــــــــــــــــــــــــ فما دونها من الغنم على تعين من الغنم إخراج الغنم في مثل ذلك، وهو قول مالك وأحمد فلو أخرج بعيراً عن الأربع والعشرين لم يجزه، وقال الشافعي والجمهور: يجزئه لأنه يجزيء عن خمس وعشرين فما دونها أولى، ولأن الأصل أن يجب من جنس المال. وإنما عدل عنه رفقاً بالمالك فإذا رجع باختياره إلى الأصل أجزأه قال الزرقاني: ورد بأنه قياس في معرض النص فإن كانت قيمة البعير مثلاً دون قيمة أربع شياه ففيه خلاف عند الشافعية وغيرهم، قال الحافظ: والأقيس أنه لا يجزيء - انتهى. ويجوز عند الحنفية إذا ساوى قيمة المؤدى قيمة الواجب كما بسط في فروعهم. وقوله من كل خمس شاة يقتضي إن الشأة هي الواجبة فيها، فلو أخرج عن خمس من الإبل واحدا منها لم يجزه وإنما يجزئه أن يخرج ما وجب عليه وهي شأة، وإليه ذهبت الحنابلة كما في المغنى (ج4 ص578) وبه قال ابن العربي والباجي من المالكية، وذهبت الشافعية والمالكية إلى الجواز، وبه قالت الحنفية لكن باعتبار القيمة (فإذا بلغت) أي الإبل (خمساً وعشرين) قال الحافظ: فيه إن في هذا القدر بنت مخاض وهو قول الجمهور إلا ما جاء عن علي إن في خمس وعشرين خمس شياه، فإذا صارت ستاً وعشرين كان فيها بنت مخاض. أخرجه ابن أبي شيبة وغيره عنه موقوفاً ومرفوعاً وإسناده المرفوع ضعيف - انتهى. قال الأمير اليماني: والموقوف ليس بحجة فلذا لم يقل به الجمهور (إلى خمس وثلاثين ففيها) أي ففي الإبل التي بلغت خمساً وعشرين (بنت مخاض) بفتح الميم وبالخاء المعجمة الخفيفة وفي آخره ضاد معجمة. قال الجزري في جامع الأصول (ج5 ص472) : بنت المخاض من الإبل وابن المخاض ما استكمل السنة الأولى. ودخل في الثانية ثم هو ابن مخاض وبنت مخاض إلى آخر الثانية سمي بذلك، لأن أمه من المخاض أي الحوامل والمخاض الحوامل لا واحد له من لفظه- انتهى. وقال الحافظ: هي التي أتى عليها حول ودخلت في الثانية وحملت أمها، والماخض الحامل أي دخل وقت حملها وإن لم تحمل - انتهى. وقال ابن قدامة: سميت بذلك لأن أمها قد حملت غيرها والماخض الحامل وليس كون أمها ماخضاً شرطا فيها وإنما ذكر تعريفا لها بغالب حالها وقال في المجمع (ج2 ص285) : الماخض اسم للنوق الحوامل واحدتها خلفة وابن مخاض وبنته ما دخل في السنة الثانية. لأن أمه لحقت بالمخاض أي الحوامل، وإن لم تكن حاملاً وقيل: هو الذي حملت أنه أو حملت الإبل التي فيها أمه، وإن لم تحمل هي، وهذا معنى ابن مخاض لأن الواحد لا يكون ابن نوق وإنما يكون ابن ناقة واحدة. والمراد أن يكون وضعتها أمها في وقت ما وقد حملت النوق التي وضعت مع أمها، وإن لم تكن أمها حاملة فنسبتها إلى الجماعة بحكم مجاورتها أمها، وسمي ابن مخاض في السنة الثانية لأن العرب إنما كانت تحمل الفحول على الإناث بعد وضعها لسنة ليشتد ولدها فهي تحمل في السنة الثانية وتمخض - انتهى. (أنثى) قيد بالأنثى للتأكيد كما يقال رأيت بعيني وسمعت بأذني، وقال الطيبي: ذكره تأكيداً، كما قال تعالى: {نفخة واحدة} [الحاقة: 13] ولئلا يتوهم إن البنت ههنا والابن في ابن لبون كالبنت والابن في بنت طبق،

فإذا بلغت ستاً وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون أنثى، فإذا بلغت ستاً وأربعين إلى ستين، ففيها حقة طروقه الجمل. فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة. فإذا بلغت ستاً وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون. فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتان الجمل. ـــــــــــــــــــــــــــــ وابن آوى يشترك فيهما الذكر والأنثى. وحاصله إن وصف البنت بالأنثى لئلا يتوهم إن المراد منه الجنس الشامل للذكر والأنثى كالولد، إذ في غير الآدمي قد يطلق البنت والابن ويراد بهما الجنس كما في ابن عرس وبنت طبق وهي السلحفاة وزاد في رواية حماد بن سلمة عن ثمامة عن أنس عند أحمد (ج1 ص11) وأبي داود والنسائي والدارقطني والبيهقي، فإن لم تكن بنت مخاض فابن لبون ذكر وهو الذي استكمل السنة الثانية ودخل في الثالثة وهو كذلك إلى تمامها، سمي بذلك لأن أمه صارت لبوناً أي ذاب لبن بوضع الحمل. (فإذا بلغت) الإبل (ستاً وثلاثين إلى خمس وأربعين) الغاية داخلة في المغيا بدليل قوله بعد ذلك فإذا بلغت ستاً وأربعين فعلم أن حكمها حكم ما قبلها (ففيها بنت لبون) هي التي تمت لها سنتان ودخلت في الثالثة إلى تمامها (أنثى) زاده تأكيداً كما عرفت (حقة) بكسر الحاء المهملة وفتح القاف المشددة والجمع حقاق بالكسر والتخفيف وهي من الإبل ما استكمل السنة الثالثة ودخل في الرابعة وهي كذلك إلى تمامها، ويقال للذكر الحق سميت بذلك لاستحقاقها أن تركب ويحمل عليها ويركبها الفحل ولذلك قال في صفتها (طروقة الجمل) بفتح أوله أي مطروقته فعولة بمعنى مفعولة كحلوبة بمعنى محلوبة صفة لحقة، والمراد من شأنها أن تقبل ذلك وإن لم يطرقها الفحل يعني إنها بلغت وصلحت أن يغشاها الجمل ويطأها من الطرق بمعنى الضرب (جذعة) بفتح الجيم والذال المعجمة قال الجزري: الجذعة والجذع من الإبل ما استكمل الرابعة ودخل في الخامسة إلى آخرها. قال القسطلاني: سميت بذلك لأنها جذعت مقدم أسنانها أي أسقطته وهي غاية أسنان الزكاة. وقال ابن قدامة: قيل لها ذلك لأنها تجذع إذا سقطت سنها وهي أعلى سن تجب في الزكاة. وقال القاري: سميت بذلك لأنها سقطت أسنانها والجذع السقوط. وقيل: لتكامل أسنانها. وقال التوربشتي يقال للإبل في السنة الخامس أجذع وجذع اسم له في زمن ليس سن ينبت ولا يسقط والأنثى جذعة - انتهى. (فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الجمل) أجمع العلماء على المذكور من أول الحديث إلى هذا إلا ما تقدم عن علي إنه قال: في خمس وعشرين من الإبل خمس شياه، وفي ست وعشرين بنت مخاض، حكى هذا الإجماع العيني وابن قدامة وأبوعبيد والسرخسي. قال ابن قدامة: هذا كله مجمع عليه إلى أن يبلغ عشرين ومائة، ذكره ابن المنذر. وقال أبوعبيد (ص363) : هذا ما جاء في فرائض الإبل إلى أن تبلغ

فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة. ـــــــــــــــــــــــــــــ عشرين ومائة لم يختلفوا إلا في هذا الحروف الواحد وحده، فإذا جاوزت عشرين ومائة فهناك الاختلاف، ثم ذكره كما سيأتي بيانه. وقال السرخسي: على هذا اتفقت الآثار وأجمع العلماء إلا ما روى شاذاً عن علي. وقال العيني: لا خلاف فيه بين الأئمة وعليها اتفقت الأخبار عن كتب الصدقات التي كتبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخلاف فيما إذا زادت على مائة وعشرين. (فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة) أي إذا زاد يجعل الكل على عدد الأربعينات والخمسينات، مثلاً إذا زاد واحد على العدد المذكور يعتبر الكل ثلاث أربعينات وواحد والواحد لا شيء فيه، وثلاث أربعينات فيها ثلاث لبونات إلى ثلاثين ومائة، وفي ثلاثين ومائة حقة لخمسين وبنتا لبون لأربعينين. وهكذا، ولا يظهر التغيير إلا عند زيادة عشر قاله السندي. وقال الشوكاني: المراد أنه يجب بعد مجاوزة المائة والعشرين بواحدة في كل أربعين بنت لبون، فيكون الواجب في مائة وإحدى وعشرين ثلاث بنات لبون، وإلى هذا ذهب الجمهور. ولا اعتبار بالمجاوزة بدون واحد كنصف أو ثلث أو ربع خلافاً للأصطخري من الشافعية، فقال: يجب ثلاث بنات لبون بزيادة بعض واحدة لصدق الزيادة ويرد عليه ما عند الدارقطني في آخر هذا الحديث وما في كتاب عمر، فإذا كانت أحدى وعشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون حتى تبلغ تسعاً وعشرين ومائة ومثله في كتاب عمرو بن حزم - انتهى. إعلم أنهم اختلفوا فيما زادت على عشرين ومائة، فذهب الشافعي الأوزاعي وإسحاق بن راهوية إلى أنها إذا زادت على العشرين والمائة واحدة ففيها ثلاث بنات لبون إلى أن تصير مائة وثلاثين فيجب فيها حقة وبنتا لبون. ثم كلما زادت عشرة كان في خمسين حقة وفي كل أربعين بنت لبون، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، والمختار عند الحنابلة، وهو قول عمر بن عبد العزيز وابن حزم وأبي سليمان داود والزهري وأبي ثور وابن القاسم صاحب مالك. قال الباجي: قول ابن القاسم رواية لمالك أيضاً واحتج لهذا القول بقوله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، فإنه علق النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الحكم بنفس الزيادة والواحدة زيادة فعندها يجب في كل أربعين بنت لبون. وقد جاء مصرحاً بذلك كما تقدم في كلام الشوكاني. وقال الخطابي في المعالم (ج2 ص20) فيه دليل على أن الإبل إذا زادت على العشرين ومائة لم يستأنف لها الفريضة لأنه علق تغير الفرض بوجود الزيادة، وقد يحصل وجود الزيادة بالواحدة كحصولها بأكثر منها، وعلى هذا وجد الأمر في أكثر الفرائض فإن زيادة الواحد بعد منتهى الوقص توجب تغير الفريضة كالواحدة بعد الخامسة والثلاثين وبعد الخامسة والأربعين وبعد كمال الستين. وذهب أبوعبيد ومحمد بن إسحاق وأحمد في رواية إلى أنها لا يجب فيما زاد على العشرين والمائة شيء، حتى تكون مائة وثلاثين ففيها حقة وبنتا لبون، فلا يتغير الفرض عندهم ولا يتعدى إلى ثلاثين ومائة وهو رواية عن مالك، رواها عنه عبد الملك وأشهب وابن نافع. واستدل بأن لهم بأن قوله - صلى الله عليه وسلم - فإذا زادت على عشرين ومائة -

الحديث. يقتضي أن يكون تغير الفرض في عدد يجب السِنَّان معاً، أي المراد بالزيادة هي التي يمكن اعتبار المنصوص عليه فيها وذلك لا يكون فيما دون العشر، وأجيب عنه بأن هذا غير لازم وذلك أنه إنما علق تغير الفرض بوجود الزيادة على المائة والعشرين، وجعل بعدها في أربعين ابنة لبون، وفي خمسين حقة، وقد وجدت الأربعونات الثلث في هذا النصاب، فلا يجوز أن يسقط الفرض ويتعطل الحكم. وإنما اشترط وجود السنين في محلين مختلفين لا في محل واحد فاشتراطهم وجودهما معاً في واحد غلط، واستدل لهم أيضاً بأن الفرض لا يتغير بزيادة الواحد كسائر الفروض، وأجيب عنه بأنه ما تغير بالواحدة وحدها، وإنما تغير بها مع ما قبلها فأشبهت الواحدة الزائدة عن التسعين والستين وغيرهما. واستدل لهم أيضاً بما روى أبوعبيد (ص363) عن يزيد عن حبيب بن أبي حبيب عن عمرو بن هرم عن محمد بن عبد الرحمن، إن في كتاب صدقة النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي كتاب عمر في الصدقة، إن الإبل إذا زادت على عشرين ومائة فليس فيما دون العشر شيء حتى تبلغ ثلاثين ومائة، وأجيب بأن هذا مرسل ولا حجة فيه. وأيضاً قد رواه الدارقطني (ص210) والحاكم (ج1 394- 395) والبيهقي (ج4 ص92) مطولاً، وفيه فإذا زادت على العشرين ومائة واحدة ففيها ثلاث بنات لبون، حتى تبلغ تسعاً وعشرين ومائة، فإذا كانت الإبل أكثر من ذلك فليس فيما لا يبلغ العشر منها شيء حتى يبلغ العشر- انتهى. وهذا كما ترى نص في القول الأول وصريح في الرد على القول الثاني. وذهب مطرف وابن أبي حازم وابن دينار وأصبغ إلى أن الساعي بالخيار بين أن يأخذ في إحدى وعشرين ومائة ثلاث بنات لبون، أو حقتين أي الصفتين أدى أجزأه إلى أن تبلغ ثلاثين ومائة، فيجب فيها حقة وبنتا لبون وهو رواية عن مالك أيضاً وهو مختار فروع المالكية. قال ابن حزم (ج5 ص31) : قول مالك في التخيير بين إخراج حقتين أو ثلاث بنات لبون خطأ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرق بين حكم العشرين ومائة, فجعل حقتين بنص كلامه وبين حكم ما زاد على ذلك فلم يجز أن يسوى بين حكمين، فرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما ولا نعلم أحداً قبل مالك قال بهذا التخيير- انتهى. وقد ظهر بما قدمنا أن فيما زاد على عشرين ومائة إلى تسع وعشرين ومائة لمالك ثلاث روايات التخيير، وعدم التغيير، ووجوب ثلاث بنات لبون من غير أن يخير الساعي. ومختار فروع المالكية الرواية الأولى ومذهب الشافعي وأحمد وجوب ثلاث بنات لبون من غير تخيير. وهو القول الراجح عندنا ثم إن هؤلاء الأئمة الثلاثة اتفقوا على أنه يدور الحكم بعد العشرين والمائة على الأربعينات والخمسينات أبداً من غير أن يستأنف الفريضة فتتغير الفريضة عندهم بعد العدد المذكور إلى بنت لبون في كل أربعين، وإلى حقة في كل خمسين. ولا تعود إلى الأول. واستدلوا لذلك بما روى في كتاب أبي بكر الصديق وفي كتاب عمر وفي كتاب عمرو بن حزم وفي كتاب زياد بن لبيد زياد بن لبيد إلى حضر الموت، من قوله - صلى الله عليه وسلم - زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت

لبون، وفي كل خمسين حقة، بسط طرق هذه الكتب الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص335، 345) وأخرج الثلاثة الأول منها الدارقطني (ص208، 210) والحاكم (ج1 ص390، 397) والبيهقي (ج4 ص85 و92) . وأما ما وقع في بعض الطرق من الاقتصار على قوله "في كل خمسين حقة" فهو من اختصار الراوي لا أنه - صلى الله عليه وسلم - ترك ذكر الأربعين قصداً. وذهب أبوحنيفة وأصحابه والثوري والنخعي إلى أنه يستأنف الفريضة بعد العشرين ومائة، كما في الأول وخمسين، إلا أنه لا تجب في هذا الاستيناف بنت لبون وجذعة فليس عندهم فيما بعد العشرين ومائة إلا حقتان فقط. حتى تتم خمساً وعشرين ومائة فيجب فيها حقتان وشأة إلى ثلاثين ومائة، فإذا بلغتها ففيها حقتان وشأتان إلى خمس وثلاثين ومائة، ففيها حقتان وثلاث شياه إلى الأربعين ومائة، ففيها حقتان وأربع شياه إلى خمس وأربعين ومائة، فإذا بلغتها ففيها حقتان وبنت مخاض إلى خمسين ومائة، فإذا بلغتها ففيها ثلاث حقاق. هذا هو الاستيناف الأول ثم تستأنف الفريضة وتجب فيها بنت لبون أيضاً على خلاف الاستيناف الأول، فيجب في مائة وخمس وخمسين ثلاث حقاق وشأة. ثم كما ذكرنا في كل خمس شاة مع الثلاث حقاق إلى أن تصير خمساً وسبعين ومائة، فيجب فيها بنت مخاض وثلث حقاق إلى ست وثمانين ومائة، فإذا بلغتها كانت فيها بنت لبون وثلث حقاق إلى ست وتسعين ومائة، فإذا بلغتها ففيها أربع حقاق إلى مائتين ثم تستأنف الفريضة كما بعد مائة وخمسين، فتجب في كل خمس شأة. فإذا صارت مائتين وخمساً وعشرين ففيها أربع حقاق وبنت مخاض، وفي ست وثلاثين ومائتين أربع حقاق وبنت لبون إلى ست وأربعين ومائتين، فإذا بلغتها كانت فيها خمس حقاق إلى خمسين ومائتين، وهكذا إلى ما لا نهاية له كلما بلغت الزيادة خمسين زاد حقة ثم استأنف تزكيتها بالغنم ثم بنت المخاض ثم ببنت اللبون ثم بالحقة. ولا يخفى أن هذا المذهب لا يصدق عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة، فإنه يدل على أن مدار الحكم والحساب بعد العشرين ومائة هو الأربعون والخمسون، وعلى أنه يجعل الكل على عدد الأربعينات والخمسينات، وقد عرفت أنهم لم يجعلوا الأربعين والخمسين مداراً للحكم، بل قالوا بالعود إلى أول الفريضة والاستيناف، وتقدم أنه ليس في الاستئناف الأول بنت لبون أصلاً. ثم إنها وإن كانت في الاستيناف الثاني لكن الفريضة لا تدور على الأربعين عندهم، فإنه تجب بنت لبون من ست وثلاثين إلى ست وأربعين والأربعون واقع في البين، فلم يكن مدار الحكم ولا يكون لتخصيصه بالذكر على مذهبهم، معنى لكون بنت لبون واجبة فيما دونه وفيما فوقه أيضاً، وكذا الحقة تجب من ست وأربعين إلى خمسين فلا يكون الخمسون فلا يكون الخمسون مداراً، ولا يظهر لتخصيصه في قوله وفي كل خمسين حقة معنى أيضاً. قال صاحب العرف الشذى: الحق إن حديث الباب أقرب بمذهب الحجازيين لأنه عليه السلام قد أجمل بعد مائة وعشرين،

ومذهب الحجازيين مستقيم على هذا الحديث بعد مائة وعشرين إلى الأبد. وأما مذهبنا الحنفية فاستقامته إنما هو بعد خمسين ومائة - انتهى. قلت: الحديث الذي استدل به أهل الحجاز لا يصدق على مذهب أهل العراق أصلاً، فإن مذهبهم كما لا يستقيم قبل خمسين ومائة لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس عند الدارقطني (ص209) فإذا بلغت إحدى وعشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة، كذلك لا يستقيم بعده أيضاً فإن مدار بنت اللبون هو ست وثلاثون لا أربعون، ومدار الحقة ست وأربعون لا خمسون، فإن هذين العددين يكونان في البين. والحديث نص في كون الأربعينات والخمسينات مداراً بعد العشرين، ومائة مطرداً دائماً. هذا وقد تصدى الحنفية كالطحاوي في شرح الآثار والسرخسي في المبسوط وأبي بكر الرازي في أحكام القرآن وابن الهمام في فتح القدير، والزيلعي في شرح الكنز والعيني في شرح البخاري للجواب عن حديث الباب. والتخلص من مخالفته ولولا أنه يطول البحث جداً لذكرنا كلاهم أجمعين، وبينا ما في أجوبتهم من التكلف والتمحل والتلبيس والتخليط والفساد، وقد ذكر تقرير ابن الهمام وجوابه الشيخ عبد العلي بحر العلوم اللكنوي الحنفي في رسائل الأركان الأربعة (ص170- 171) . ثم رد عليه ورجح مذهب الجمهور وقال في آخر كلامه فالأشبهة ما عليه الإمام الشافعي والإمام أحمد. واحتج الحنفية لمذهبهم بما روى أبوداود في المراسيل وإسحاق بن راهوية في مسنده، والطحاوي في مشكله عن حماد بن سلمة قال: قلت لقيس بن سعد خذ لي كتاب محمد بن عمرو بن حزم فأعطاني كتاباً أخبر أنه أخذه من أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم. إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتبه لجده فقرأته فكان فيه ذكر ما يخرج من فرائض الإبل فقص الحديث إلى أن يبلغ عشرين ومائة، فإذا كانت أكثر من عشرين ومائة فإنه يعاد إلى أول فريضة الإبل، وما كان أقل من خمس وعشرين ففيه الغنم في كل خمس ذود شاة كذا في نصب الراية. وأجيب عنه بما قال ابن الجوزي في التحقيق: إن هذا حديث مرسل. وقال هبة الله الطبري: هذا الكتاب صحيفة ليس بسماع ولا يعرف أهل المدينة كلهم عن كتاب عمرو بن حزم إلا مثل روايتنا، رواها الزهري وابن المبارك وأبوأويس كلهم عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده مثل قولنا. ثم لو تعارضت الروايتين عن عمرو بن حزم بقيت روايتنا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وهي في الصحيح وبها عمل الخلفاء الأربعة. وقال البيهقي في السنن (ج4 ص94) هذا منقطع بين أبي بكر بن حزم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقيس بن سعد أخذه عن كتاب لا عن سماع، وكذلك حماد بن سلمة أخذه عن كتاب لا سماع، وقيس بن سعد وحماد بن سلمة. وإن كانا من الثقات فروايتهما هذه بخلاف رواية الحفاظ عن كتاب عمرو بن حزم وغيره، وحماد بن سلمة ساء حفظه في آخر عمره، فالحفاظ لا يحتجون بما يخالف فيه ويتجنبون ما ينفرد به عن قيس بن سعد خاصة وأمثاله، وهذا الحديث قد جمع الأمرين

مع ما فيه من الانقطاع. وقال في معرفة السنن: الحفاظ مثل يحيى القطان وغيره يضعفون رواية حماد عن قيس ابن سعد، ثم أسند عن أحمد بن حنبل قال: ضاع كتاب حماد بن سلمة عن قيس بن سعد فكان يحدثهم من حفظه ثم أسند عن ابن المديني نحو ذلك. قال البيهقي: ويدل على خطأ هذه الرواية إن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم رواه عن أبيه عن جده بخلافه، وأبوالرجال محمد بن عبد الرحمن الأنصاري رواه بخلافه، والزهري مع فضل حفظه رواه بخلافه في رواية سليمان بن داود الخولاني عنه موصولاً، في رواية غيره مرسلاً وإذا كان حديث حماد عن قيس مرسلاً ومنقطعاً وقد خالفه عدد، وفيهم ولد الرجل والكتاب بالمدينة بأيديهم يتوارثونه بينهم، وأمر به عمر بن عبد العزيز فنسخ له فوجد مخالفاً لما رواه حماد عن قيس وموافقاً لما في كتاب أبي بكر وما في كتاب عمر وكتاب أبي بكر في الصحيح، وكتاب عمر أسنده سفيان بن حسين وسليمان بن كثير عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكتبه عمر عن رأية إذ لا مدخل للرأي فيه وعمل به وأمر عماله، فعملوا به. وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - متوافرون، وأقرأ ابنه عبد الله بن عمر وأقرأه عبد الله ابنه سالماً ومولاه نافعاً. وكان عندهم حتى قرأه مالك بن أنس أفما يدلك ذلك كله على خطأ هذه الرواية - انتهى. وقال ابن قدامة في المغنى: (ج2 ص584) بعد الإشارة إلى كتاب أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الذي استدل به الحنفية، ولنا أن في حديثي الصدقات الذي كتبه أبوبكر لأنس, والذي كان عند آل عمر بن الخطاب مثل مذهبنا وهما صحيحان، وقد رواه أبوبكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما كتاب عمرو بن حزم فقد اختلف في صفته فرواه الأثوم في سنته مثل مذهبنا والأخذ بذلك أولى لموافقته الأحاديث الصحاح وموافقته القياس، فإن المال إذا وجب فيه من جنسه لم يجب من غير جنسه، كسائر بهيمة الأنعام، ولأنه مال احتمل المواساة من جنسه فلم يجب من غير جنسه كالبقر والغنم. وإنما وجب في الابتداء من غير جنسه، لأنه ما احتمل المواساة من جنسه فعدلنا إلى غير الجنس ضرورة. وقد زال ذلك بزيادة المال وكثرته ولأنه عندهم ينقل من بنت مخاض إلى حقة بزيادة خمس من الإبل وهي زيادة يسيرة لا تقتضي الانتقال إلى حقة، فإنا لم ننقل في محل الوفاق من بنت مخاض إلى حقة إلا بزيادة إحدى وعشرين - انتهى. وقال ابن حزم: (ج6 ص41) والعجب أنهم يدعون أنهم أصحاب قياس وقد خالفوا في هذا المكان النصوص والقياس. فهل وجدوا فريضة تعود بعد سقوطها؟ وهل وجدوا في أوقاص الإبل وقصاً من ثلاثة وثلاثين من الإبل إذ لم يجعلوا بعد الإحدى والتسعين حكماً زائداً إلى خمسة وعشرين ومائة، وهل وجدوا في شيء من الإبل حكمين مختلفين في إبل واحدة؟ بعضها يزكي بالإبل وبعضها يزكي بالغنم، وهلا إذ ردوا الغنم وبنت المخاض بعد إسقاطهما ردوا أيضاً في ست وثلاثين زائداً على العشرين والمائة بنت اللبون، فإن قالوا منعنا عن ذلك قوله عليه السلام في كل خمسين حقة قيل لهم فهلا منعكم من رد الغنم قوله عليه السلام؟ وفي كل أربعين بنت لبون - انتهى.

واحتج الحنفية أيضاً بما روى ابن أبي شيبة (ج3 ص11) عن يحيى بن سعيد عن سفيان عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه قال: إذا زادت الإبل على عشرين ومائة يستقبل بها الفريضة - انتهى. ورواه البيهقي (ج4 ص92) بلفظ: إذا زادت على عشرين ومائة فبحساب ذلك ليستأنف بها الفرائض. قال الحافظ في الدراية: إسناده حسن إلا أنه اختلف على أبي إسحاق - انتهى. ورواه أبوعبيد (ص363) بلفظ استؤنف بها الفريضة بالحساب الأول. وأجيب عنه بما قال البيهقي (ج4 ص92) قد أنكر أهل العلم هذا على عاصم بن ضمرة لأن رواية عاصم بن ضمرة عن علي خلاف كتاب آل عمرو بن حزم، وخلاف كتاب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وقال: في (ص93) واستدلوا على خطأه بما فيه من الخلاف للروايات المشهورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في الصدقات. وقال: في (ص94) بعد ما روى من طريق عاصم بن ضمرة، والحارث عن علي في خمس وعشرين خمس من الغنم، فإذا زادت واحدة ففيها بنت مخاض ما لفظه وفيه وفي كثير من الروايات عنه في خمس وعشرين خمس شياه. وقد أجمعوا على ترك القول به لمخالفة عاصم بن ضمرة والحارث الأعور عن علي الروايات المشهورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أبي بكر وعمر في الصدقات في ذلك، كذلك رواية من روى عنه الاستئناف مخالفة لتلك الروايات المشهورة مع ما في نفسها من الاختلاف والغلط وطعن أئمة أهل النقل فيها، فوجب تركها والمصير إلى ما هو أقوى منها - انتهى. ونقل الخطابي في المعالم عن ابن المنذر أنه قال ليس هذا القول بثابت عن علي. قلت: وروى البيهقي (ج4 ص93) من طريق شريك وشعبة وابن حزم (ج6 ص38) من طريق معمر كلهم عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي قال: إذا زادت على عشرين ومائة ففي كل خمسين حقة وفي كل أربعين ابنة لبون موافقاً للروايات المشهورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال الحازمي في كتاب الاعتبار: (ص10) الوجه الثامن عشر من الترجيحات أن يكون أحد الحديثين قد اختلفت الرواية فيه والثاني لم يختلف فيه فيقدم الذي لم يختلف فيه، وذلك نحو ما رواه أنس في زكاة الإبل إذا زادت على عشرين ومائة، ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة. وهو حديث مخرج في الصحيح من رواية ثمامة عن أنس، ورواه عن ثمامة ابنه عبد الله وحماد بن سلمة ورواه عنهما جماعة كلهم، قد اتفقوا عليه من غير اختلاف بينهم، ثم ذكر الاختلاف في رواية أبي إسحاق عن عاصم عن علي ثم قال: فحديث أنس لم تختلف الرواية فيه وحديث علي اختلفت الرواية فيه كما ترى، فالمصير إلى حديث أنس أولى للمعنى الذي ذكرناه على أن كثيراً من الحفاظ أحالوا الغلط في حديث علي على عاصم وإذا تقابلت حجتان فما سلم منهما من المعارض كان أولى كالبينات إذا تقابلت فإن الحكم فيها كذلك - انتهى. وقال الشافعي: بعد ذكر رواية شريك عن أبي إسحاق موافقاً لحديث أنس كما قدمنا وبهذا نقول، وهو موافق للسنة وهم يعني بعض العراقيين لا يأخذون بهذا فيخالفون ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -

ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها صدقة، إلا أن يشاء ربها فإذا بلغت خمساً ففيها شأة. ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة، وليست عنده جذعة وعنده حقة، فإنها تقبل منه الحقة، ويجعل معها ـــــــــــــــــــــــــــــ وأبي بكر وعمر والثابت عن علي عندهم إلى قول إبراهيم (النخعي) وشيء يغلط به عن علي رضي الله عنه - انتهى. وقد تصدى الحنفية وتمحلوا الإثبات إن رواية سفيان عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي مسنده مرفوعة، وقد رد عليهم ابن حزم فأجاد من أحب الوقوف عليه رجع إلى المحلى (ج6 ص37- 38) . واحتجوا أيضاً بما روى الطحاوي عن خصيف عن أبي عبيدة وزيادة بن أبي مريم عن ابن مسعود قال: فإذا بلغت العشرين ومائة استقبلت الفريضة بالغنم في كل خمسين شاة فإذا بلغت خمساً وعشرين ففرائض الإبل. قال الزيلعي: واعترضه البيهقي بأنه موقوف ومنقطع بين أبي عبيدة وزيادة وبين ابن مسعود قال وخصيف غير محتج به - انتهى. وأخرج عن إبراهيم النخعي نحوه انتهى، كلام الزيلعي. وقد ظهر بما حررنا فساد قول الحنفية وخلافهم للروايات المرفوعة المشهورة ولأبي بكر وعمر وعلي وأنس وابن عمر وسائر الصحابة والتابعين دون أن يتعقلوا برواية صريحة صحيحة عن أحد منهم بمثل قولهم إلا عن إبراهيم النخعي وحده هذا. وقد ذهب ابن جرير إلى أنه يتخير بين الاستيناف وعدمه. قال الخطابي في المعالم: (ج2 ص21) وقال محمد بن جرير الطبري: هو مخير إن شاء إستأنف الفريضة إذا زادت الإبل على مائة وعشرين، وإن شاء أخرج الفرائض لأن الخبرين جميعاً قد رويا - انتهى. ثم رد عليه الخطابي (ومن لم يكن معه) أي في ملكه (إلا أربع من الإبل فليس) عليه (فيها) أي في إبله الأربع (صدقة إلا أن يشاء ربها) أي مالكها وصاحبها أن يتبرع ويتطوع بها يعني يخرج عنها نفلاً منه وإلا فلا واجب عليه فهو استثناء منقطع ذكر لدفع توهم نشأ من قوله فليس فيها صدقة، إن المنفي مطلق الصدقة لاحتمال اللفظ له وإن كان غير مقصود، وفيه دليل على أن ما دون خمس من الإبل لا زكاة فيه وهذا بالإجماع. (ومن بلغت عنده من الإبل) قال القاري: يتعين أن "من" زائدة على مذهب الأخفش داخلة على الفاعل أي ومن بلغت إبله (صدقة الجذعة) بالنصب والإضافة قال الطيبي: أي بلغت الإبل نصاباً يجب فيه الجذعة - انتهى. قال القاري: وفي نسخة يعني من المشكاة برفع "صدقة" بتنوينها ونصب "الجذعة" وفي نسخة بالإضافة. وقال العيني: قوله "صدقة الجذعة" كلام إضافي مرفوع، لأنه فاعل بلغت (وليست عنده جذعة) أي والحال إن الجذعة ليست موجودة عنده (وعنده حقة) أي والحال إن الموجودة عنده حقة (فإنها) أي القصة أو الحقة أو ضمير مبهم (تقبل منه الحقة) تفسير، أي تقبل الحقة من المالك من الزكاة، وقوله فإنها" الخ خبر المبتدأ الذي هو من بلغت (ويجعل) ضميره راجع إلى من (معها) أي مع الحقة

شأتين إن استيسرتا له، أو عشرين درهماً. ـــــــــــــــــــــــــــــ (شأتين) بصفة الشأة المخرجة عن خمس من الإبل. قال ابن حجر: ذكرين أو أنثيين أو أنثى، وذكر من الضأن مالها السنة، ومن المعز مالها سنتان. وقال ابن قدامة (ج2 ص578) ولا يجزيء في الغنم المخرجة في الزكاة إلا الجذع من الضأن والثني من المعز، وكذلك شاة الجبران وأيهما أخرج أجزأه، ولا يعتبر كونها من جنس غنمه ولا جنس غنم البلد، لأن الشأة مطلقة في الخبر الذي ثبت به وجوبها وليس غنمه ولا غنم الولد سبباً لوجوبها، فلم بتقييد بذلك كالشأة الواجبة في الفدية وتكون أنثى، فإن أخرج ذكراً لم يجزئه. لأن الغنم الواجبة في نصبها إناث، ويحتمل أن يجزئه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -. أطلق لفظ الشأة فدخل فيه الذكر والأنثى، ولأن الشأة إذا تعلقت بالذمة دون العين أجزأ فيها الذكر كالأضحية (إن استيسرتا له) أي وجدتا في ماشيته، يقال تيسر واستيسر بمعنى (أو عشرين درهماً) أو يجعل عشرين درهماً فضة من النقرة. قال الخطابي: فيه من الفقه إن كل واحدة من الشأتين والعشرين الدرهم أصل في نفسه ليست ببدل، وذلك لأنه قد خيره بينهما بحرف أو. وقد اختلف الناس في ذلك فذهب إلى الظاهر الحديث إبراهيم النخعي والشافعي وأحمد وأصحاب الحديث والظاهرية وذهب سفيان الثوري إلى ما روى عن علي أنه يرد عشرة دراهم أو شاتين. قال ابن حزم (ج6 ص23) وروى أيضاً عن عمر رضي الله عنه وإليه ذهب أبوعبيد (ص368) . وقال مالك: لا يعطي إلا ما وجب عليه بأن يبتاع للساعي والسن الذي يجب له، ولا يعطي سناً مكان سن برد شاتين أو عشرين درهماً. وقال أبوحنيفة: يأخذ قيمة السن الذي وجب عليه، وإن شاء أخذ الفضل منها ورد عليه فيه دراهم، وإن شاء أخذ دونها وأخذ الفضل دراهم، ولم يعين عشرين درهماً ولا غيرها فجبران ما بين السنين غير مقدر عنده ولكنه بحسب الغلاء والرخص. وحمل هذا الحديث على أن تفاوت ما بين السنين كان ذلك القدر في تلك الأيام لا أنه تقدير شرعي، بدليل ما روى عن علي رضي الله عنه أنه قدر جبران ما بين السنين بشأتين أو عشرة دراهم. وفيه أنه لا حجة في قول أحد دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأنه لو قدر تفاوت ما بين السنين بشيء، أدى إلى الأضرار بالفقراء أو الإجحاف بأرباب الأموال فالواجب هو تفاوت القيمة لا تعيين ذلك. واستدل به على جواز أداء القيم من العروض وغيرها بدل الزكاة الواجبة وإن كان المأمور بأخذ ممكناً وأجاب الجمهور الذين لم يقولوا بجواز أداء القيم في الزكاة عن ذلك، بأنه لو كان كذلك لكان ينظر إلى ما بين السنين في القيمة، فكان العرض يزيد تارة وينقص أخرى لاختلاف ذلك في الأمكنة والأزمنة، فلما قدر الشارع التفاوت بمقدار معين لا يزيد ولا ينقص كان ذلك هو الواجب في الأصل في مثل ذلك. قال الخطابي في المعالم (ج2 ص22) : وأصح هذه الأقاويل قول من ذهب إلى أن كل واحد من الشأتين والعشرين الدرهم أصل في نفسه، وإنه ليس له أن يعدل عنهما إلى القيمة،

ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده الحقة وعنده الجذعة، فإنها تقبل منه الجذعة، ويعطيه المصدق عشرين درهماً أو شاتين. ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده إلا بنت لبون، فإنها تقبل منه بنت لبون، ويعطي شاتين أو عشرين درهمًا. ومن بلغت صدقته بنت لبون وعنده حقة فإنها تقبل منه الحقة، ويعطيه المصدق عشرين درهماً أو شاتين. ومن بلغت صدقته بنت صدقته بنت لبون وليست عنده وعنده بنت مخاض، فإنها تقبل منه بنت مخاض، ويعطي معها عشرين درهماً أو شاتين. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولو كان للقيمة، فيها مدخل لم يكن لنقله الفريضة إلى سن فوقها وأسفل منها ولا لجبران النقصان فيهما بالعشرين أو بالشأتين معنى قال: ويشبه أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما جعل الشاتين أو العشرين الدرهم تقديراً في جبران النقصان والزيادة بين السنين ولم يكل الأمر في ذلك إلى اجتهاد الساعي وإلى تقديره. لأن الساعي إنما يحضر الأموال على المياه، وليس بحضرته حاكم ولا مقوم يحمله، ورب المال عند اختلافها على قيمة يرتفع بها الخلاف وتنقطع معها مادة النزاع، فجعلت فيها قيمة شرعية كالقيمة في المصراة والجنين حسماً لمادة الخلاف مع تعذر الوصول إلى حقيقة العلم بما يجب فيها عند التعديل، يعني فضبطه بشيء يرفع التنازع كالصاع في المصراة والغرة في الجنين (ومن بلغت عنده صدقة الحقة) أي وجبت الحقه عليه من أجل إن كانت الإبل ستاً وأربعين (وليست عنده) أي في ملكه (الحقة وعنده الجذعة) الواو للحال (فإنها تقبل منه الجذعة) عوضاً عن الحقة، وإن كانت الجذعة زائدة على ما لم يلزمه فلا يكلف تحصيل ما ليس عنده، وقوله "الجذعة" بدل من الضمير الذي هو اسم "إن" أو فاعل "تقبل" فالضمير للقصة (ويعطيه المصدق) بضم الميم وتخفيف الصاد وكسر الدال كمحدث، أخذ الصدقة وهو الساعي الذي يأخذ الزكاة (عشرين درهماً أو شاتين) كما سلف في عكسه. قال في التوضيح: وعندنا إن الخيار في الشأتين والدراهم لدافعها سواء كان المالك أو الساعي، وفي قول إن الخيرة إلى الساعي مطلقاً، فعلى هذا إن كان هو المعطى راعي المصلحة للمساكين (فإنها تقبل منه بنت لبون) إعرابه كما سبق (ويعطي) أي رب المال (شأتين أو عشرين درهماً) قال الطيبي: فيه دليل على أن الخيرة في الصعود والنزول من السن الواجب إلى المالك - انتهى. وعلل بأنهما شرعاً تخفيفاً له ففوض الأمر إلى اختباره (ومن بلغت صدقته بنت لبون) بنصب "بنت" على المفعولية (ويعطيه) أي رب المال (المصدق) أي العامل (عشرين درهماً أو شاتين) مقابل ما زاد عنده (وليست عنده) أي والحال إن بنت اللبون ليست موجودة عنده (ويعطي) أي رب المال (معها) أي مع بنت المخاض ومعها حال مما بعده لأنه صفة له تقدم عليه (عشرين درهماً) قال الطيبي: أي عشرين درهماً

ومن بلغت صدقته بنت مخاض، وليست عنده، وعنده بنت لبون، فانها تقبل منه، ويعطيه المصدق عشرين درهماً أو شاتين. فإن لم يكن عنده بنت مخاض على وجهها، وعنده ابن لبون، فإنه يقبل منه وليس معه شيء. ـــــــــــــــــــــــــــــ كائناً مع بنت المخاض، فلما قدم صار حالاً (ومن بلغت صدقته) بالرفع (بنت مخاض) بالنصب على المفعولية (وليست) أي بنت مخاض (عنده وعند بنت لبون فإنها تقبل منه) أي من مالك (ويعطيه المصدق) أي الساعي (عشرين درهماً أو شاتين) فيه دليل على أن جبر كل مرتبة بشأتين أو عشرين درهماً. وجواز النزول والصعود من الواجب عند فقده إلى سن آخر يليه، والخيار في الشأتين والدراهم لدافعها، سواء كان مالكاً أو ساعياً وفي الصعود والنزول للمالك في الأصح (فإن لم يكن) بالتذكير وفي بعض النسخ بالتأنيث (عنده) أي المالك (بنت مخاض على وجهها) بأن فقدها حساً أو شرعاً قاله القاري: قيل: أي على وجهها المفروض (فأنه يقبل منه) أي بدلاً من بنت مخاض وإن كان أقل قيمة منها ولا يكلف تحصيلها (وليس معه شئ) أي لا يلزمه مع ابن لبون شئ آخر من الجبران. قال ابن الملك تبعاً للطيبي: وهذا يدل على أن فضيلة الأنوثة تجبر بفضل السن. وقال الخطابي: هذا دليل على أنه ابنة المخاض مادامت موجودة، فان ابن اللبون لا يجزيء عنها وموجب هذا الظاهر أنه يقبل منه سواء كانت قيمته قيمة ابنة المخاض أو لم يكن، ولو كانت القيمة مقبولة لكان الأشبه أن يجعل بدل ابنة مخاض قيمتها دون أن يؤخذ الذكران من الإبل فان سنة الزكاة قد جرت بأن لا يؤخذ فيها إلا الإناث إلا ما جاء في البقر من التبيع - انتهى. وفيه دليل على أن ابن اللبون يجزىء عن بنت المخاض عند عدمها. وهو أمر متفق عليه لا خلاف في ذلك عند الأئمة، حكى هذا الإجماع جمع من الشراح كالباجي والحافظ والزرقاني وابن قدامة وابن رشد، لكن المدار عند الحنفية على القيمة وعليه حملوا الحديث بأن ابن اللبون كانت قيمته مساوية لقيمة بنت المخاض في ذلك الزمان، فعند الحنفية لا يتعين أخذ ابن اللبون خلافاً لمن عداهم من أهل العلم فانه يتعين عندهم أخذه وهو الحق والصواب. ولو لم يجد واحداً منهما لا بنت مخاض ولا ابن لبون يتعين شراء بنت مخاض، وهو قول مالك وأحمد. والأصح عند الشافعية إن له أن يشتري أيهما شاء. قال ابن قدامة (ج2:ص580) في شرح قول الخرقي: "فان لم يكن فيها ابنة مخاض فابن لبون" أراد إن لم يكن في إبله ابنة مخاض أجزأه ابن لبون ولا يجزئه مع وجود ابنة مخاض، لأنه صلى الله عليه وسلم شرط في إخراجه عدمها فان اشتراها وأخرجها جاز وإن أراد إخراج ابن لبون بعد شراءها لم يجز، لأنه صار في إبله بنت مخاض. فان لم يكن في إبله ابن لبون وأراد الشراء لزمه شراء بنت مخاض، وهذا قول مالك. وقال الشافعي: يجزئه شراء ابن لبون لظاهر الخبر وعمومه، ولنا أنهما استويا في

وفي صدقة الغنم ـــــــــــــــــــــــــــــ العدم فلزمته بنت مخاض كما لو استويا في الوجود. والحديث محمول على وجوده لأن ذلك للرفق به أغناء له عن الشراء، ومع عدمه لا يستغنى عن الشراء فكان شراء الأصل أولى على أن في بعض ألفاظ الحديث. "فمن لم يكن عنده ابنة مخاض على وجهها وعنده ابن لبون فإنه يقبل منه وليس معه شئ" فشرط في قبوله وجوده وعدمها وهذا في حديث أبي بكر وإن لم يجد إلا ابنة مخاض معيبة فله الانتقال إلى ابن لبون لقوله في الخبر "فإن لم يكن عنده بنت مخاض على وجهها" ولأن وجودها كعدمها لكونها لا يجوز إخراجها، فأشبه الذي لا يجد إلا ما لا يجوز الوضوء به في انتقاله إلى التيمم. وإن وجد ابنة مخاض أعلى من صفة الواجب لم يجزه ابن لبون لوجود بنت مخاض على وجهها، ويخير بين إخراجها وبين شراء بنت مخاض على صفة الواجب. ولا يخير بعض الذكورية بزيادة سن في غير هذا الموضع ولا يجزيه أن يخرج عن ابن لبون حقاً، ولا عن الحقة جذعاً لعدمهما ولا وجودهما. وقال القاضي وابن عقيل: يجوز ذلك مع عدمهما لأنهما أعلى وأفضل فيثبت الحكم فيهما بطريق التنبيه، ولنا أنه لا نص فيهما ولا يصح قياسهما على ابن لبون مكان بنت مخاض، لأن زيادة سن ابن لبون على بنت مخاض يمتنع بها من صغار السباع ويرعى الشجر بنفسه ويرد الماء، ولا يوجد هذا في الحق مع بنت لبون لأنهما يشتركان في هذا، فلم يبق إلا مجرد السن فلم يقابل إلا بتوجيه. وإن أخرج عن الواجب سناً أعلى من جنسه مثل أن يخرج بنت لبون عن بنت مخاض وحقه عن بنت لبون، أو بنت مخاض، أو أخرج عن الجذعة ابنتي لبون، أو حقتين جاز. لا نعلم فيه خلافاً، لأنه زاد على الواجب عن جنسه ما يجزى عنه مع غيره فكان مجزئاً عنه على انفراده كما لو كانت الزيادة في العدد. ثم ذكر حديث أبي ابن كعب في قبوله صلى الله عليه وسلم: ناقة فتية سمينة عظيمة عن ابنة مخاض حين تطوع بها صاحبها، وقوله صلى الله عليه وسلم: ذاك الذي وجب عليك فان تطوعت بخير اجزل الله فيه وقبلناه منك، أخرجه أحمد وأبوداود. ثم قال ابن قدامة: وهكذا الحكم إذا أخرج أعلى من الواجب في الصفة. وإن عدم السن الواجبة والتي تليها كمن وجبت عليه جذعة فعدمها وعدم الحقة أو وجبت عليه حقة فعدمها وعدم ابنة اللبون فقال القاضي: يجوز أن ينتقل إلى السن الثالث مع الجبران فيخرج ابنة اللبون في الصورة الأولى، ويخرج معها أربعة شياه أو أربعين درهماً، ويخرج ابنة مخاض في الثانية ويخرج معها مثل ذلك وذكر إن أحمد أومأ إليه وهذا قول الشافعي. وقال أبوالخطاب: لا ينتقل إلا إلى سن تلي الواجب فأما إن انتقل من حقه إلى بنت مخاض، أو من جذعة إلى بنت لبون لم يجز، لأن النص ورد بالعدول إلى سن واحد فيجب الاقتصار عليها كما اقتصرنا في أخذ الشياه عن الإبل على الموضع الذي ورد به النص، هذا قول ابن المنذر (وابن حزم) ثم ذكر ابن قدامة وجه القول الأول (وفي صدقة الغنم) خبر مقدم والغنم بفتحتين الشاء لا واحد لها من لفظها،

في سائمتها ـــــــــــــــــــــــــــــ وإنما يقول للواحد شاة وهو اسم جنس يقع على الذكور والإناث ويعم الضان والمعز. قال ابن الهمام: سمي به لأنه ليس له آلة الدفاع فكانت غنيمة لكل طالب والشأة تذكر وتؤنث وأصلها شاهة، لأن تصغيرها شويهة، والجمع شياه بالهاء إلى العشر يقال ثلث شياه فإذا جاوزت العشر فبالتاء (في سائمتها) أي راعيتها لا المعلوفة في الأهل، قال القسطلاني: وفي سائمتها كما قاله في شرح المشكاة بدل على من الغنم بإعادة الجار والمبدل في حكم الطرح فلا يجب في مطلق الغنم شئ، وهذا أقوى في الدلالة من أن لو قيل ابتداء في سائمة الغنم أو في الغنم السائمة، لأن دلالة البدل على المقصود بالمنطوق ودلالة غيره عليه بالمفهوم، وفي تكرار الجار أشار إلى أن للسوم في هذا الجنس مدخلاً قوياً وأصلاً يقاس عليه بخلاف جنسي الإبل والبقر- انتهى. والسائمة هي التي ترعى ولا تعلف في الأهل، والمراد السوم، لقصد الدر والنسل فلو اسيمت الابل أو البقر أو الغنم للحمل أو الركوب أو اللحم فلا زكاة فيها وإن اسيمت للتجارة ففيها زكاة التجارة، وإن كانت أقل من النصاب إذا سادت مائتي درهم. والمعتبر عند أحمد وأبي حنيفة السوم في أكثر الحول لأن اسم السوم لا يزول بالعلف اليسير. ولأن العلف اليسير لا يمكن التحرز عنه فاعتباره في جميع السنة يسقط الزكاة بالكلية سيما عند من يسوغ له الفرار من الزكاة، فإنه إذا أراد إسقاط الزكاة يوماً فأسقطها بالإسامة، ولأن الضرورة تدعو إليه في بعض الأحيان. ولأن هذا وصف معتبر في رفع الكلفة في الزرع والثمار، واعتبر الشافعي السوم في جميع الحول فلا تجب الزكاة فيها إذا لم تكن سائمة في جميع السنة. وفي الحديث دليل على أن الزكاة إنما تجب في الغنم إذا كانت سائمة، فأما المعلوفة فلا زكاة فيها، ولذلك لا تجب الزكاة في عوامل البقر والابل عند عامة أهل العلم، وإن كانت سائمة، وأوجبها مالك في عوامل البقر والابل. قال الزرقاني: لا خلاف في وجوب زكاة السائمة، واختلف في المعلوفة فقال مالك والليث: فيها الزكاة رعت أم لا، لأنها سائمة في صفتها والماشية كلها سائمة ومنعها من الرعي لا يمنع تسميتها سائمة، والحجة عموم أقواله صلى الله عليه وسلم: في الزكاة لم يخص سائمة من غيرها وقال سائر فقهاء الأمصار: لا زكاة في غير السائمة منها، وروى عن جمع من الصحابة. وقال ابن قدامة (ج2:ص576) وفي ذكر السائمة احتراز من العلوفة والعوامل فإنه لا زكاة فيها عند أكثر أهل العلم، وحكى عن مالك في الإبل النواضح والعلوفة الزكاة لعموم قوله صلى الله عليه وسلم في كل خمس شأة، قال أحمد: ليس في العوامل زكاة وأهل المدينة يرون فيها الزكاة، وليس عندهم في هذا أصل. ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم في كل سائمة في كل أربعين بنت لبون في حديث بهز بن حكيم فقيده بالسائمة، فدل على أنه لا زكاة في غيرها وحديثهم مطلق فيحمل على المقيد، ولأن وصف النماء معتبر في الزكاة والمعلوفة يستغرق علفها نماءها، إلا أن يعدها للتجارة فيكون فيها زكاة التجارة - انتهى. وقال العيني (ج9:ص22) وحجة من اشتراط السوم كتاب الصديق وحديث عمرو بن حزم مثله وشرطه في الإبل حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده مرفوعاً، في كل سائمة

إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شأة. فإذا زادت عشرين ومائة إلى مائتين ففيها شاتان. فإذا زادت على مائتين إلى ثلاث مائة، ففيها ثلاث شياه. فإذا زادت على ثلاث مائة ففي كل مائة شأة. ـــــــــــــــــــــــــــــ من كل أربعين من الإبل بنت لبون رواه أبوداود والنسائي والحاكم، وقال صحيح الإسناد. وقد ورد تقييد السوم وهو مفهوم الصفة والمطلق يحمل على المقيد إذا كانا في حادثة واحدة، والصفة إذا قرنت بالاسم العلم تنزل منزل العلة لا يجاب الحكم، ثم ذكر العيني أحاديث نفي الصدقة عن العوامل. وقال الخطابي في المعالم (ج2:ص25) فيه دليل على أن لا زكاة في المعلوفة من الغنم، لأن الشيء إذا كان يعتوره وصفان لازمان فعلق الحكم بأحد وصفيه كان ما عداه بخلافه وكذلك هذا في عوامل البقر والإبل قال الأمير اليماني: البقر لم يأت فيها ذكر السوم وإنما قاسوها على الإبل والغنم (إذا كانت) أي غنم الرجل، وفي رواية إذا بلغت (شأة) مبتدأ مؤخر "وفي صدقة الغنم" خبره وقيل: قوله"في صدقة الغنم" يتعلق بفرض أو كتب مقدراً أي فرض في صدقتها شاة أو كتب في شأن صدقة الغنم هذا، وهو إذا كانت أربعين إلى آخره، وحينئذٍ يكون "شأة" خبر مبتدأ محذوف أي فزكاتها شاة، أو بالعكس أي ففيها شاة (فإذا زادت) غنمه (على عشرين ومائة) واحدة فصاعداً ففي كتاب عمر، فإذا كانت أحدى وعشرين حتى تبلغ مائتين ففيها شاتان، وقد تقدم قول الاصطخري في ذلك والتعقب عليه (إلى مائتين ففيها شاتان) كذا في جميع النسخ للمشكاة وفي المصابيح، وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول والمجد في المنتقي والحافظ في البلوغ وكذا وقع عند أبي داود والنسائي وغيرهما والذي في البخاري "إلى مائتين شاتان" أي بإسقاط لفظه "ففيها" وهكذا نقله الزيلعي في نصب الراية عن البخاري، وعلى هذا فقوله "شاتان" مرفوع على الخبرية أي فزكاتها شاتان أو الإبتدائية أي فيها شاتان (فإذا زادت) غنمه (على مائتين) ولو واحدة (إلى ثلاث مائة ففيها ثلاث شياه فإذا زادت) غنمه (على ثلاث مائة) مائة أخرى لا دونها (ففي كل مائة شاة) ففي أربع مائة أربع شياه وفي خمس مائة خمس وفي ست مائة ست. وهكذا قال الخطابي: قوله "فإذا زادت على ثلاث مائة" الخ. إنما معناه أن يزيد مائة أخرى فيصير أربع مائة، وذلك لأن المائتين لما توالت إعدادها حتى بلغت ثلاث مائة وعلقت الصدقة الواجبة فيها بمائة مائة. ثم قيل: فإذا زادت عقل إن هذه الزيادة اللاحقة بها إنما هي مائة لا ما دونها وهو قول عامة الفقهاء الثوري وأصحاب الرأي وقول الحجازيين مالك والشافعي وغيرهم. وقال الحافظ: وهو قول الجمهور قالوا وفائدة ذكر الثلاث مائة لبيان النصاب الذي بعده لكون ما قبله مختلفاً، وعن بعض الكوفيين كالحسن بن صالح بن حي ورواية عن أحمد إذا زادت على الثلاث مائة واحدة وجبت الأربع - انتهى. واعلم إن مسألة نصاب الغنم من أوله إلى ثلاث مائة إجماعية حكى الإجماع عليها ابن المنذر وابن رشد وابن قدامة والعيني وغيرهم. قال ابن قدامة (ج2:ص597) إذا ملك أربعين من الغنم فأسامها أكثر السنة ففيها

فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة واحدة، فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها. ولا تخرج في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ـــــــــــــــــــــــــــــ شأة إلى عشرين ومائة، فإذا زادت واحدة ففيها شاتان إلى مائتين، فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث شياه وهذا كله مجمع عليه قاله ابن المنذر - انتهى. واختلفوا فيما زاد على ثلاث مائة قال ابن قدامة تحت قول الخرقي:"فإذا زادت ففي كل مائة شاة شأة" ظاهر هذا القول إن الفرض لا يتغير بعد المائتين وواحدة حتى يبلغ أربع مائة فيجب في كل مائة شاة ويكون الوقص ما بين المائتين وواحدة إلى أربع مائة وذلك مائة وتسعة وتسعون وهذا إحدى الروايتين عن أحمد وقول أكثر الفقهاء. وعن أحمد رواية أخرى، إنها إذا زادت على ثلاث مائة واحدة ففيها أربع شياه ثم لا يتغير الفرض حتى تبلغ خمس مائة فيكون في كل مائة شاة، ويكون الوقص الكبير بين ثلاث مائة وواحدة إلى خمس مائة وهو أيضاً مائة وتسعة وتسعون وهذا إختيار أبي بكر. وحكى عن النخعي والحسن بن صالح لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الثلاث مائة حداً للوقص وغاية له، فيجب أن يتعقبه تغير النصاب كالمائتين، ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم "فإذا زادت ففي كل مائة شأة" وهذا يقتضي أن لا يجب في دون المائة شئ وفي كتاب الصدقات الذي كان عند آل عمر بن الخطاب، فإذا زادت على ثلاث مائة واحدة فليس أخرج معناه أبوعبيد (ص386) وابن أبي شيبة فيها شئ حتى تبلغ أربع مائة شاة ففيها أربع شياه، وهذا نص لا يجوز خلافه إلا بمثله أو أقوى منه وتحديد النصاب لاستقرار الفريضة لا للغاية - انتهى. (فإذا كانت سائمة الرجل) وكذا المرأة (ناقصة) خبر"كانت" (من أربعين شأة) تمييز (واحدة) بالنصب على نزع الخافض أي بواحدة، أو على أنه مفعول ناقصة أي إذا كان عند الرجل سائمة تنقص واحدة من أربعين فلا زكاة عليه فيها وبطريق الأولى إذا نقصت زائداً على ذلك ويحتمل أن يكون شاة مفعول ناقصة وواحدة وصف لها والتمييز محذوف للدلالة عليه وروى بشأة واحدة بالجر (فليس فيها) أي في الناقصة عن الأربعين (صدقة) واجبة (إلا أن يشاء ربها) أن يتطوع ويخرج الصدقة نفلاً كما سلف (ولا تخرج) على بناء المجهول وفي رواية لا يؤخذ (في الصدقة) المفروضة أي الزكاة (هرمة) بفتح الهاء وكسر الراء أي كبيرة سقطت أسنانها. وقال الجزري: الكبيرة، الطاعنة في السن، وقال التوربشتي: أراد التي نال منها كبر السن وأضربها (ولا ذات عوار) بفتح العين المهملة وبضمها أي معيبة وقيل: بالفتح العيب، وبالضم العور في العين، واختلف في ضبطها فالأكثر على أنه ما يثبت به الرد في البيع. وقيل: ما يمنع الأجزاء في الأضحية ويدخل في المعيب المريض والذكورة بالنسبة إلى الأنوثة والصغير سناً بالنسبة إلى سن أكبر منه كذا في الفتح. وقال الجزري: بفتح العين وبضم أي صاحبة عيب ونقص. قال ابن حجر: فهو من عطف العام على الخاص إذا العيب يشمل المرض والهرم وغيرهما. قال ابن الملك: هذا إذا كان كل ماله أو بعضه سليماً فإن كان

ولا تيس، إلا ما شاء المصدق. ـــــــــــــــــــــــــــــ كله معيباً فإنه يأخذ واحداً من وسطه (ولا تيس) وفي رواية ولا تيس الغنم وهو بفتح التاء الفوقية وسكون التحتية بعدها سين مهملة أي فحل الغنم المعد لضرابها قال في القاموس: هو الذكر من الظباء والمعز والوعول أو إذا أتى عليه سنة. وقال الباجي: التيس الذكر من المعز وهو الذي لم يبلغ حد الفحولة فلا منفعة فيه لضراب ولا لدر ولا نسل وبنحوه فسره الإمام مالك كما في المدونة قال العيني: معناه إذا كانت ماشيته كلها أو بعضها إناثاً لا يؤخذ منه الذكر إنما تؤخذ الأنثى إلا في موضعين وردت بهما السنة. أحدهما: أخذ التبيع من ثلاثين من البقر. والآخر: أخذ ابن اللبون من خمس وعشرين من الإبل بدل بنت مخاض عند عدمها، وأما إذا كانت ماشيته كلها ذكوراً فيؤخذ الذكر. وقال الخطابي: إنما لا يؤخذ التيس لأنه مرغوب عنه لنتنه وفساد لحمه. وقيل: لأنه ربما يقصد به المالك منه الفحولة فيتضرر بإخراجه (إلا أن يشاء المصدق) اختلف في ضبطه ومصداقه، فقيل: المراد به رب الماشية لا الساعي، وعلى هذا هو إما بتخفيف الصاد وفتح الدال المشددة، وهذا اختيار أبي عبيد أي الذي أخذت صدقة ماله، أو بتشديد الصاد والدال معا وكسر الدال، وأصله المتصدق فأدغمت التاء بعد قلبها في الصاد. قال تعالى: {إن المصدقين والمصدقات} [الحديد:18] أو بتخفيف الصاد وكسر الدال المشددة اسم فاعل من قوله تعالى: {فلا صدق ولا صلى} [القيامة: 31] قال الراغب: يقال صدق وتصدق وتقدير الحديث لا تؤخذ هرمة ولا ذات عيب أصلاً ولا يؤخذ التيس إلا برضاك المالك لكونه يحتاج إليه ففي أخذه بغير اختياره أضرار به وعلى هذا فالاستثناء مختص بالثالث وهو التيس. وقيل: المراد به الساعي وعلى هذا هو بتخفيف الصاد وكسر الدال المشددة لا غير، وهذا هو المشهور في ضبطها وهو قول جمهور المحدثين وعامة الرواة كما قال الخطابي: أي العامل الذي يستوفي الزكاة من أربابها. قال في القاموس: المصدق كمحدث آخذ الصدقات – انتهى. والاستثناء متعلق بالأقسام الثلاث ففيه إشارة إلى التفويض إلى إجتهاد العامل لكونه كالوكيل للفقراء فيفعل ما يرى فيه المصلحة، والمعنى لا تخرج كبيرة السن ولا المعيبة ولا التيس، إلا أن يرى العامل إن ذلك أفضل للمساكين فيأخذه نظراً لهم. قال الحافظ: وهذا أشبه بقاعدة الشافعي في تناول الاستثناء جميع ما ذكر قبله فلو كانت الغنم كلها معيبة أو تيوساً أجزأه أن يخرج منها، وعن المالكية، يلزم المالك أن يشتري شاة مجزئة تمسكاً بظاهر هذه الحديث، وفي رواية أخرى عندهم كالأول - انتهى. وقيل: الاستثناء مخصوص بما إذا كانت المواشي كلها معيبة أو تيوساً. قال ابن قدامة: ج2:ص598) وعلى هذا أي ضبط المصدق بكسر الدال بمعنى العامل لا يأخذ المصدق وهو الساعي أحد هذه الثلاثة إلا أن يرى ذلك بأن يكون جميع النصاب من جنسه، فيكون له أن يأخذ من جنس المال فيأخذ هرمة من الهرمات، وذات عوار من أمثالها وتيساً من التيوس- انتهى. وهذا كله إذا كان الاستثناء متصلاً. قال الطيبي: ويحتمل أن يكون منقطعاً، والمعنى لا يخرج المزكي الناقص

ولا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع، خشية الصدقة ـــــــــــــــــــــــــــــ والمعيب لكن يخرج ما شاء المصدق من السليم والكامل (لا يجمع) بضم أوله وفتح ثالثه، أي لا يجمع المالك والمصدق (بين متفرق) بتقديم التاء على الفاء من التفرق وفي رواية مفترق بتقديم الفاء على التاء من الافتراق (ولا يفرق) بضم أوله وفتح ثالثه مشدد، أو يخفف أي لا يفرق المالك والمصدق (بين مجتمع) بكسر الميم الثانية (خشية) منصوب على أنه مفعول لأجله متعلق بالفعلين على التنازع. ويحتمل أن يتعلق بفعل مقدر يعم الفعلين أي لا يفعل شيئاً من ذلك خشية الصدقة، فيحصل المراد من غير تنازع (الصدقة) أي خشية وجوب الصدقة أو كثرتها هذا إن رجع إلى المالك وخشية سقوط الصدقة، أو قلتها إن رجع إلى المصدق فالنهى للمالك والساعي كليهما. والخشية خشيتان: خشية المالك أن يجب الصدقة أو تكثر، وخشية الساعي أن تسقط الصدقة أو تقل، وهذا إنما يقع في زكاة الخلطاء. قال الخطابي: قال الشافعي: الخطاب في هذا للمصدق ولرب المال معاً، وقال ابن رشد في مقدماته: ذهب الشافعي إلى أن النهى فيه إنما هو للسعاة، وذهب مالك إلى أن النهى إنما هو لأرباب المواشي والصواب على عمومه لهما جميعاً لا يجوز للساعي أن يجمع غنم رجلين أن لم يكونا خليطين على الخلطة ليأخذ أكثر من الواجب له، ولا أن يفرق غنم الخليطين فيزكيهما على الانفراد ليأخذ أكثر من الواجب له. وكذلك أرباب الماشية لا يجوز لهم إذا لم يكونوا خلطاء أن يقولوا نحن خلطاء ليؤدوا على الخلطة أقل مما يجب عليهم في الانفراد، ولا يجوز لهم إذا كانوا خلطاء أن ينكروا الخلطة ليؤدوا على الانفراد أقل مما يجب عليهم على الخلطة. وأما أبوحنيفة الذي لا يقول بالخلطة له (أي بخلطة الجوار) فيقول: المعنى في ذلك أنه لا يجوز للساعي أن يجمع ملك الرجلين فيزكيهما على ملك واحد مثل أن يكون للرجلين أربعون شاة فيما بينهما، ولا أن يفرق بملك الرجل الواحد فيزكيه على إملاك متفرقة مثل أن يكون له مائة وعشرون فلا يجوز له أن يجعلها ثلاثة أجزاء - انتهى. قلت: ومثال جمع المالك بين المتفرق خشية كثرة الصدقة أي لتقليلها رجل ملك أربعين شاة فجمعها وخلطها بأربعين لغيره عنده حضور المصدق فراراً عن لزوم الشاة إلى نصفها، إذ عند الجمع والخلط يؤخذ من كل المال شاة واحدة فنهى عن ذلك. ومثال تفريق المالك خشية وجوب الصدقة، أي لإسقاطها رجل كان له عشرون شاة مخلوطة بمثلها لغيره ففرقها لئلا يكون نصاباً فلا يجب شيء ومثال تفريقه أيضاً خشية كثرتها رجل يكون له مائة شاة وشاة مخلوطة بمثلها لغيره فيكون عليهما عند الاجتماع والخلط ثلاثة شياه، ففرقا ما لهما لتقل الصدقة ويكون على كل واحد شاة فقط. ومثال جمع المصدق خشية سقوط الصدقة أي لايجابها أو خشية قلتها أي لتكثيرها، رجلان كان لهما أربعون شاة متفرقة، فجمعها وخلطها المصدق ليجب فيها الزكاة ويأخذ شأة، أو كان لكل واحد منهما مائة وعشرون، فجمع بينهما ليصير الواجب ثلاثة شياه. ومثال تفريق المصدق خشية قلة الصدقة، أي لتكثيرها ثلاثة خلطاء في مائة وعشرين شاة وواجبها عليهم شأة، ففرقها الساعي أربعين أربعين ليكون فيها، ثلاث شياه. والحاصل: إن الخلط في الجوار عند الجمهور

وما كان من خليطين، فإنهما يتراجعان بينما بالسوية، ـــــــــــــــــــــــــــــ مؤثر في زيادة الصدقة ونقصانها كخلطة الشيوع، لكن لا ينبغي لأرباب الأموال أن يفعلوا ذلك فراراً عن زيادة الصدقة ولا للسعاة أن يفعلوا ذلك لوجوب الصدقة أو زيادتها، وأما عند أبي حنيفة لا أثر للخلطة، فمعنى الحديث عنده على ظاهر النفي على أن النفي راجع إلى القيد. وحاصله نفي الخلط لنفي الأثر أي لا أثر للخلطة والتفريق في تقليل الزكاة وتكثيرها، أي لا يفعل شيء من ذلك خشية الصدقة إذ لا أثر له في الصدقة فيكون ذلك لغوا عبثا لا فائدة فيه كذا قرره السندي. ولا يخفى ما فيه من التكلف بل من إهمال الحديث، وحمله عامة الحنفية كالكاساني في البدائع وابن الهمام في فتح القدير وغيرهما على خلطة الشيوع كما حملوا عليها قوله "وما كان من خلطين الخ. قالوا: والمراد الجمع والتفريق في الملك لا في المكان، والخشية خشيتان: خشية الساعي، وخشية المالك، وكذا النهي نهيان النهي للساعي. عن جمع المتفرق، وعن تفريق المجتمع، والنهي للمالك عن جمع المتفرق، وعن تفريق المجتمع، مثال الأول: كخمس من الإبل بين اثنين أو ثلاثين من البقر أو أربعين من الغنم حال عليها الحول، وأراد الساعي أن يأخذ منها الصدقة ويجمع بين الملكين، ويجعلهما كملك واحد خشية فوت الصدقة، أي يعدهما كملك رجل واحد لأخذ الصدقة فليس له ذلك. ومثال الثاني: كرجل له ثمانون من الغنم في مرعتين مختلفتين أنه يجب عليه شاة واحدة ولو أراد الساعي أن يفرق المجتمع خشية قلة الصدقة كأنها لرجلين، فيأخذ منها شاتين ليس له ذلك، لأن الملك مجتمع فلا يملك الساعي تفريقة لتكثير الصدقد ومثال الثالث: كثمانين من الغنم بين اثنين حال عليها الحول، أنه يجب فيها شاتان على كل واحد منهما شأة، ولو أراد أن يجمعا بين الملكين فيجعلاهما ملكاً واحداً خشية كثرة الصدقة، أي لتقليها، فيعطي الساعي شاة واحدة ليس لهما ذلك لتفرق ملكيهما فلا يملكان الجمع في الملك لأجل تقليل الزكاة. ومثال الرابع: كرجل، له أربعون من الغنم في مرعتين مختلفتين تجب عليه الزكاة لأن الملك مجتمع فلا يجعلها كالمتفرقين في الملك، أي كأنها في ملك رجلين خشية وجوب الصدقة أي لإسقاطها. قلت: حمله على خلطة الشيوع وعلى الجمع والتفريق في الملك بعيدا جدا، فإن المتبادر من لفظ الجمع والتفريق هو ما كان في المكان أي بالمخالطة لا في الملك، فإنه لا يعبر عن جعل الملكين كملك واحد أو جعل الملك الواحد كملكين بالجمع بين المتفرق أو بالتفريق بين المجتمع. وقد اعترف بذلك صاحب فيض الباري حيث قال: وقع في الحنفية بحمله على خلطة الشيوع في بعد من ألفاظ الحديث فإن الجمع والتفريق لا يتبادر منه إلا ما كان بحسب المكان ولا يأتي هذا التعبير في الجمع والتفريق ملكا، ثم حمله على خلطة الجواز كما فعل السندي (وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية) ما، هنا تامة نكرة متضمنة معنى حرف الاستفهام، ومعناها أي شيء كان من خليطين فإنهما يترادان الفصل بينهما بالسوية على قدر عدد أموالهما كما سيأتي توضيحة. واعلم أن الخلطة بضم الخاء على نوعين: خلطة اشتراك، وخلطة جوار، وقد يعبر عن الأول بخلطة الأعيان وخلطة الشيوع، وعن الثاني بخلطة الأوصاف:

والمراد بالأول لا يتميز نصيب أحد الرجلين أو الرجال عن نصيب غيره، كما شيه ورثها قوم أو ابتاعوها معاً. وبالثاني أن يكون مال كل واحد معيناً متميزاً، واختلف في المراد بالخليط في هذا الحديث فذهب أبوحنيفة إلى أنه الشريك، لأن الخليطين في اللغة العربية هما الشريكان اللذان اختلط ما لهما ولم يتميز كالخليطين من النبيذ، وما لم يختلط مع غيره فليسا بخليطين، وإذا تميز مال كل واحد منهما من مال الآخر فلا خلطة وذهب الجمهور: إلى أن المراد بالخليط المخالط وهو أعم من الشريك، وحكم الخليطين عندهم إن تصدق ما شيتهما كأنهما على رجل واحد، والخلطة عندهم أن يجتمعا في المسرح والمبيت والحوض والفحل. واعترض على أبي حنيفة بأن الشريك لا يعرف عين ماله وقد قال: إنهما يتراجعان بينهما بالسوية، ومما يدل على أن الخليط لا يستلزم أن يكون شريكاً قوله تعالى: {وإن كثير من الخلطاء} [ص: 24] وقد بينه قبل ذلك بقوله: {إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة} [ص: 23] واختلف أيضاً في أن الخلطة مؤثرة في الزكاة أم لا، فذهب الجمهور إلى كونها مؤثرة. وقال أبوحنيفة: لا تأثير للخلطة سواء كانت خلطة شيوع واشتراك في الأعيان أو خلطة أوصاف وجوار في المكان فلا يجب على أحد الشريكين أو الشركاء إلا مثل الذي كان يجب عليه لو لم يكن خلط. وتعقبه ابن جرير: بأنه لو كان تفريقها مثل جمعها في الحكم لبطلت فائدة الحديث، وإنما نهي عن أمر لو فعله كانت فيه فائدة قبل النهي. ولو كان كما قال: لما كان لتراجع الخليطين بينهما بالسوية معنى. واعتذر بعضهم عن الحنفية بأن الأصل قوله - صلى الله عليه وسلم -. ليس فيما دون خمس ذود صدقة وحكم الخلطة يغير هذا الأصل فلم يقولوا به. ورد بأن ذلك مع الانفراد وعدم الخلطة، لا إذا انضم ما دون الخمس إلى عدد الخليط يكون به الجميع نصاباً، فإنه يجب تزكية الجميع لهذا الحديث وما ورد في معناه ولا بد من الجمع بهذا. قال ابن قدامة (ج2 ص607) إن الخلطة في السائمة تجعل مال الرجلين كمال الرجلين الواحد في الزكاة سواء كانت خلطة أعيان، وهي أن تكون المشتركة بينهما لكل واحد منهما، منها نصيب أن يرثا نصاباً أو يشترياه أو يوهب لهما فيبقياه بحاله أو خلطة أوصاف وهي أن يكون مال كل واحد منهما مميزاً، فخلطاء واشتركا في الأوصاف التي نذكرها (يعني المسرح والمبيت والمحلب والمشرب والفحل) وسواء تساويا في الشركة أو اختلفا مثل أن يكون لرجل شاة ولآخر تسعة وثلاثون، أو يكون لأربعين رجلاً أربعون شاة لكل واحد منهم شاة نص عليهما أحمد. وهذا قول عطاء (كما في البيهقي) والأوزاعي والشافعي والليث وإسحاق. وقال مالك: إنما تؤثر الخلطة إذا كان لكل واحد من الشركاء نصاب، وحكى ذلك عن الثوري وأبي الثور واختاره ابن المنذر. وقال أبوحنيفة: لا أثر لها بحال لأن ملك كل واحد دون النصاب فلم يجب عليه زكاة كما لو لم يختلط بغيره، ولأبي حنيفة فيما إذا اختلطا في نصابين، إن كل واحد

منهما يملك أربعين من الغنم فوجبت عليه السلام في أربعين شاة شاة. ولنا ما روي البخاري في حديث أنس لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع وما كان من خليطين الخ. ولا يجيء التراجع إلا على قولنا في خلطة الأوصاف وقوله "لا يجمع بين متفرق" إنما يكون هذا إذا كان لجماعة فإن الواحد يضم ماله بعضه إلى بعض وإن كان في أماكن، وهذا لا يفرق بين مجتمع. ولأن للخلطة تأثيراً في تخفيف المؤنة فجاز أن تؤثر في الزكاة كالسوم والسقي وقياسهم مع مخالفة النص غير مسموع - انتهى. وقال ابن رشد في البداية: (ج1 ص237) أكثر الفقهاء إن للخلطة تأثيرا في قدر الواجب من الزكاة، واختلف القائلون بذلك هل لها تأثير في قدر النصاب أم لا. وأما أبوحنيفة وأصحابه فلم يروا للخلطة تأثيراً، لا في قدر الواجب ولا في قدر النصاب. وتفسير ذلك إن مالكا والشافعي وأكثر فقهاء الأمصار اتفقوا على أن الخلطاء يزكون زكاة المالك الواحد. واختلفوا من ذلك في موضعين: أحدهما: في نصاب الخلطاء هل يعد نصاب مالك واحد سواء لكل واحد منهم نصاب أو لم يكن، أم إنما يزكون زكاة الرجل الواحد إذا كان لكل واحد منهم نصاب. والثاني: في صفة الخلطة التي لها تأثير في ذلك وأما اختلافهم أولا في، هل للخلطة تأثير في النصاب وفي الواجب، أوليس لها تأثير، فسبب اختلافهم في مفهوم ما ثبت في كتاب الصدقة من قوله عليه الصلاة والسلام. لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بالسوية، فإن كل واحد من الفريقين أنزل مفهوم هذا الحديث على اعتقاده، وذلك إن الذين رأوا للخلطة تأثيراً، إما في النصاب والقدر الواجب، أو في القدر الواجب فقط. قالوا: إن قوله عليه الصلاة والسلام "وما كان من خليطين" الخ وقوله "لا يجمع بين متفرق" الخ يدل دلالة واضحة إن ملك الخليطين كملك رجل واحد فإن هذا الأثر مخصص لقوله عليه الصلاة والسلام "ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة" إما في الزكاة عند مالك وأصحابه أعنى في قدر الواجب وإما في الزكاة والنصاب معاً عند الشافعي وأصحابه. وأما الذين لم يقولوا بالخلطة فقالوا: إن الشريكين قد يقال لهما خليطان، ويحتمل أن يكون قوله عليه الصلاة والسلام. "لا يجمع بيم متفرق" الخ إنما هو نهي للسعاة أن يقسم ملك الرجل الواحدة قسمة توجب عليه كثرة الصدقة أو يجمع ملك رجل واحد إلى ملك رجل آخر حيث يوجب الجمع كثرة الصدقة. قالوا: وإذا كان هذا الاحتمال في هذا الحديث وجب إلا تخصص به الأصول الثابتة المجمع عليها أعنى أن النصاب والحق الواجب في الزكاة يعتبر بملك الرجل الواحد، وأما الذين قالوا بالخلطة فقالوا: إن لفظ الخلطة هو أظهر في الخلطة نفسها منه في الشركة. وإذا كان ذلك كذلك فقوله عليه الصلاة والسلام "فيهما أنهما يتراجعان بينهما بالسوية" مما يدل على أن الحق الواجب عليهما حكمه حكم رجل واحد. وعلى إن الخليطين ليسا بشريكين، لأن الشريكين ليس يتصور بينهما تراجع، إذ المأخوذ هو من مال الشركة، فمن اقتصر على هذا المفهوم ولم يقس عليه النصاب قال: الخليطان إنما يزكيان زكاة الرجل الواحد إذا كان لكل واحد منهما نصاب، ومن جعل حكم النصاب تابعاً لحكم

الحق الواجب. قال: نصابهما نصاب الرجل الواحد كما أن زكاتهما زكاة الرجل الواحد. وأما القائلون بالخلطة فإنهم اختلفوا فيما هي الخلطة المؤثرة في الزكاة، فذكره ابن رشد مختصراً ثم قال: وسبب اختلافهم اشتراك اسم الخلطة، ولذلك لم يرقوم تأثيرا الخلطة في الزكاة وهو مذهب أبي محمد بن حزم الأندلسي- انتهى كلام ابن رشد مختصرا. قلت: الأصل في اعتبار أوصاف الخلطة هو ما رواه الدارقطني (ص204) وأبوعبيد (ص395) وابن حزم (ج6 ص55- 56) من طريق أبي عبيد عن سعد بن أبي وقاص. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: والخليطان ما اجتمعا في الحوض والفحل والراعي، وروى المرعى وهو حديث ضعيف تفرد به ابن لهيعة وأخطأ فيه، وانظر الكلام عليه في التلخيص (ص175) إذا تحققت هذا فاعلم أن معنى قوله "ما كان من خليطين" الخ على مذهب الجمهور، إن ما كان متميزاً لأحد الخليطين من المال فأخذ الساعي من ذلك المتميز يرجع إلى صاحبه بحصته، بأن كان لكل عشرون شاة وأخذ الساعي من مال أحدهما يرجع إلى صاحب الأربعين بالثلثين، وإن أخذ منه يرجع على صاحب عشرين بالثلاث وهذا عند الشافعي. وأما عند مالك فهو كخليطين بينهما مائة شاة لأحدهما ستون وللآخر أربعون ففيها عليهما شاة واحدة يكون على صاحب الأربعين خمساها وعلى رب الستين ثلاثة أخماسها، فإن أخذ الساعي الشاة الواجبة من الأربعين، رجع صاحبها على صاحب الستين بقيمة ثلاثة أخماسها، وإن أخذها من الستين رجع صاحبها على صاحب الأربعين بخميسها. وعند أبي حنيفة الذي يحمل الخليط على الشريك ويقول بأن الخلطة غير مؤثرة، إذا كان المال بينهما على الشركة بلا تميز وأخذ الساعي الزكاة من المال المشترك، لأنه ليس عليه أن ينتظر قسمتهما لمالهما يجب التراجع بالسوية، أي يرجع كل منهما على صاحبه بقدر ما يساوي ماله، مثلاً لأحدهما أربعون بقرة وللآخر ثلاثون والمال مشترك غير متميز فأخذ الساعي عن صاحب أربعين مسنة، وعن صاحب ثلاثين تبيعاً، وأعطى كل منهما من المال المشترك فيرجع صاحب أربعين، وهكذا كلما كانت الشركة بينهما على التفاوت فأخذ من أحدهما زيادة لأجل صاحبه فإنه يرجع على صاحبه بذلك القدر. وأما إذا كان المأخوذ حصة كل واحد منهما لا غير بأن كان المال بينهما على السوية فلا تراجع بينهما. لأن ذلك القدر وكان واجبا على كل واحد منهما بالسوية هذا، وقد بسط أبو عبيد (ص391، 400) وابن حزم (ج6 ص51و 59) الكلام في بيان معنى الجمع بين المتفرق والتفريق بين المجتمع وتراجع الخليطين، وذكر مذاهب العلماء ووافق أبوعبيد الشافعي وابن حزم الحنفية ورجح مذهبهم. قيل: وإليه ميل البخاري كما يظهر من ذكر أثر طاووس وعطاء وأثر سفيان الثوي في باب ما كان من خلطين فإنهما يتراجعان بالسوية وفيه نظر قوى، فإن قول طاووس

وفي الرقة ربع العشر، ـــــــــــــــــــــــــــــ وعطاء يدل على الفرق بين الخلطة الجوار وخلطة الشيوع، بأن الأولى غير مؤثرة والثانية مؤثرة وهذا قول مخالف للحنفية، فإنه لا تأثير للخلطة عندهم مطلقاً على أنه روى البيهقي (ج4 ص106) من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج. قال: سألت عطاء عن النفر الخلطاء لهم أربعون شاة قال عليهم شاة قلت فإن كانت لواحدة تسع وثلاثون، ولآخر شاة قال عليهما شاة وهذا كما ترى عين. مذهب الشافعي. وأما قول سفيان فهو موافق للمالكية لا للحنفية كما لا يخفى، وعلى هذا فما قيل إن البخاري وافق الحنفية بعيد عن الصواب. والقول الراجح عندنا: هو ما ذهب إليه الشافعي ومن وافقه والله تعالى أعلم فائدة اختلف القائلون بتأثير الخلطة أنها هل تؤثر في غير السائمة من الزرع والثمار والعروض والنقدين أم لا، فقال الشافعي على ما ذكره ابن حزم: تؤثر في غير المواشي أيضاً. وقالت المالكية والحنابلة وأبوعبيد والأوزاعي: لا تأثير لها في غير الماشية، وهذا هو الراجح عندي. قال ابن قدامة (ص619) إذا اختلطوا في غير السائمة كالذهب والفضة وعروض التجارة والزروع والثمار لم تؤثر خلطتهم شيئاً وكان حكمهم حكم المنفردين وهذا قول أكثر أهل العلم، وعن أحمد رواية أخرى إن شركة الأعيان تؤثر في غير الماشية، فإذا كان بينهم نصاب يشتركون فيه فعليهم الزكاة وهذا قول إسحاق والأوزاعي في الحب والثمر، والمذهب الأول قال أبوعبد الله الأوزاعي يقول: في الزرع إذا كانوا شركاء فخرج لهم خمسة أوسق يقول فيه الزكاة قاسه على الغنم ولا يعجبني قول الأوزاعي. وأما خلطة الأوصاف فلا مدخل لها في غير الماشية بحال، لأن الاختلاط لا يحصل، وخرج القاضي وجهاً آخر إنها تؤثر لأن المؤنة تحف إذا كان الملقح واحداً والصعاد والناطور والجرين، وكذلك أموال التجارة والدكان واحد والمخزن والميزان والبائع فأشبه الماشية ومذهب الشافعي على نحو مما حكينا من مذهبنا، والصحيح إن الخلطة لا تؤثر في غير الماشية لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -. والخليطان ما اشتركا في الحوض والفحل والراعي فدل على أن ما لم يوجد فيه ذلك لا يكون خلطة مؤثرة، قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يجمع بين متفرق خشية الصدقة" إنما يكون في الماشية لأن الزكاة تقل بجمعها تارة وتكثر أخرى، وسائر الأموال تجب فيها فيما زاد على النصاب بحسابه فلا أثر لجمعها، ولأن الخلطة في الماشية تؤثر في النفع تارة وفي الضرر أخرى. ولو اعتبرنا في غير الماشية أثرت ضرراً محضاً برب المال فلا يجوز اعتبارها إذا ثبت هذا، فإن كان لجماعة حائط مشترك بينهم فيه ثمرة أو زرع فلا زكاة عليهم إلا أن يحصل في يد بعضهم نصاب كامل فيجب عليه، وعلى الرواية الأخرى إذا كان الخارج نصاباً ففيه الزكاة - انتهى. (وفي الرقة) بكسر الراء وتخفيف القاف الفضة سواء كانت مضروبة وغير مضروبة، أصله ورق حذف منه الواو وعوض عنه التاء كما في عدة ودية. وقيل: هي الدرهم المضروبة (ربع العشر) بضم الأول وسكون الثاني وضمهما فيهما يعني إذا كانت الفضة مائتي درهم فربع العشر

فإن لم تكن إلا تسعين ومائة، فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها)) . رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ خمسة دراهم، ومران الاقتصار عليها للغالب (فإن لم تكن) أي الرقة التي عنده (إلا تسعين) أي درهماً (ومائة) أي دراهم، والمعنى إذا كانت الفضة ناقصة عن مائتى درهم (فليس فيها شيء) أي لا يجب إجماعاً. في شرح السنة هذا يوهم إنها إذا زادت على التسعين والمائة شيئاً قبل أن تتم مائتين كانت فيه الصدقة وليس الأمر كذلك، لأن نصابها المائتان وإنما ذكر تسعين لأنه آخر فصل أي عقد من فصول المائة والحساب، إذا جاوز المائة كان تركيبه بالفصول والعشرات والمئات والألوف، فذكر التسعين ليدل على أن لا صدقة فيما نقص عن كمال المائتين بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة". قال الطيبي: أراد أن دلالة هذا الحديث على أقل ما نقص من النصاب، إنما يتم بحديث ليس فيما دون خمس أواق صدقة ويسمى هذا في الأصول النص المقيد بمفارقة نص آخر وينصره الحديث الآتي عن علي رضي الله تعالى عنه، وليس في تسعين ومائة شيء فإذا بلغت مائتين ففيها خمسة دراهم (إلا أن يشاء ربها) أي يريد مالكها أن يعطي على سبيل التبرع فإنه لا مانع له فيها، وهذا كقوله في حديث الأعرابي في الإيمان إلا أن تطوع (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً أحمد (ج1 ص11- 12) والشافعي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والدارقطني والحاكم والبيهقي وصححه الدارقطني وابن حبان وغيرهما واعلم أن هذا الحديث أخرجه البخاري مقطعاً في عشرة مواضع من صحيحة في الزكاة في ستة مواضع، وفي الشركة، وفي الخمس، وفي اللباس، وفي ترك الحيل، مطولاً ومختصراً بسند واحد. قال حدثنا محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري قال حدثني أبي قال حدثني ثمامة بن عبد الله بن أنس إن أنساً حدثه أن أبابكر كتب له هذا الكتاب الخ وقد انتقد عليه الدارقطني في التتبع والاستدراك حيث قال إن ثمامة لم يسمع من أنس ولا سمعه عبد الله بن المثنى من ثمامة. ثم روى عن علي بن المديني عن عبد الصمد حدثني عبد الله بن المثنى. قال دفع إلى ثمامة هذا الكتاب قال وثنا عفان ثنا حماد قال أخذت من ثمامة كتاباً عن أنس نحو هذا وكذا قال حماد بن زيد عن أيوب أعطاني ثمامة كتاباً فذكر هذا - انتهى. قال الحافظ في مقدمة الفتح: ليس فيما ذكر الدارقطني ما يقتضي إن ثمامة لم يسمعه من أنس كما صدر به كلامه فأما كون عبد الله بن المثنى لم يسمعه من ثمامة فلا يدل على قدح في هذا الإسناد بل فيه على صحة الرواية بالمناولة إن ثبت أنه يسمعه مع أن في سياق البخاري عن عبد الله بن المثنى، حدثني ثمامة إن أنساً حدثه وليس عبد الصمد فوق محمد بن عبد الله الأنصاري في الفقه، ولا أعرف بحديث أبيه منه - انتهى. وقال ابن حزم في المحلى (ج20 ص6) هذا الحديث في نهاية الصحة وعمل به أبوبكر الصديق بحضرة جميع الصحابة لا يعرف له منهم مخالف أصلاً رواه عن أبي بكر أنس وهو صاحب، ورواه عن أنس ثمامة وهو ثقة سمعه من أنس، ورواه عن ثمامة حماد بن سلمة وعبد الله بن المثنى وكلاهما ثقة وإمام. ورواه عن ابن المثنى ابنه القاضي محمد، وهو مشهور ثقة ولي قضاء البصرة، ورواه عن حماد بن سلمة يونس بن محمد (عند البيهقي وابن حزم)

1812- (4) وعن عبد الله بن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((فيما سقت السماء والعيون، أو كان عثريا العشر، وما سقي بالنضح ـــــــــــــــــــــــــــــ وشريح بن النعمان (عند النسائي وابن حزم) وموسى بن إسماعيل التبوذكي (عند أبي داود) وأبوكامل المظفر بن مدرك (عند النسائي وأحمد) وغيرهم (كالنضر بن شميل عند الدارقطني والحاكم) وكل هؤلاء إمام ثقة مشهور ولا مغمز لأحد في أحد من رواة هذا الحديث - انتهى. وتكلم ابن معين أيضاً على حديث أنس هذا، ففي الأطراف للمقدسي. قيل: لابن معين حديث ثمامة عن أنس في الصدقات، قال لا يصح وليس بشئ ولا يصح في هذا حديث في الصدقات - انتهى. قال ابن حزام: كلام ابن معين مردود لأنه دعوى بلا برهان: وقال البيهقي في المعرفة: لا نعلم من الحفاظ أحداً استقصى في انقاد الرواة ما استقصاه محمد بن إسماعيل البخاري مع إمامته في معرفة علل الأحاديث وأسانيدها. وهو قد اعتمد فيه على حديث ابن المثنى فأخرجه في صحيحه وذلك لكثرة الشواهد له بالصحة - انتهى. وقال في السنن الكبرى (ج4:ص90) قد روينا الحديث من حديث ثمامة بن عبد الله بن أنس عن أنس من أوجه صحيحة ورويناه عن سالم ونافع موصولاً ومرسلاً ومن حديث عمرو بن حزم موصولاً وجميع ذلك يشد بعضه بعضاً - انتهى. 1812- قوله: (فيما سقت السماء) أي المطر أو الثلج أو البرد أو الطل من باب ذكر المحل وإرادة الحال (والعيون) أي الأنهار الجارية التي يستسقى منها بإساحة الماء من دون اغتراف بآلة، والمراد ما لا يحتاج في سقيه إلى مؤنة. (أو كان عثرياًَ) بفتح العين المهملة وفتح المثلثة المخففة وكسر الراء وتشديد التحتية. قال الخطابي: هو الذي يشرب بعروقة من غير سقى لأنه عثر على الماء، وذلك حيث كان الماء قريباً من وجه الأرض فيغرس عليه فيصل إلى الماء عروق الشجر فيستغنى عن السقى وهو المسمى بالبعل في رواية أبي داود والنسائي وابن ماجه. وقال الحافظ في التلخيص: العثري بفتح المهملة والمثلثة وحكى إسكان ثانية. قال الأزهري وغيره: العثري مخصوص بما سقى من ماء السيل فيجعل عاثوراً وهو شبه ساقية تحفر ويجرى فيها الماء إلى أصوله وسمي كذلك. لأنه يتعثر به المار الذي لا يشعر به والنضح السقي بالسانية. وقال ابن قدامة قال القاضي: (أبويعلى) هو الماء المستنقع في بركة أو نحوها يصب إليه ماء المطر في سواقي تشق له فإذا اجتمع سقى منه، واشتقاقه من العاثور وهي الساقية التي يجرى فيها الماء لأنها يعثر بها من يمر بها (إذا لم يعلمها) قال الحافظ في الفتح بعد ذكر تفسير الخطابي: وهذا أولى من إطلاق أبي عبيد (ص478) أن العثري ما تسقيه السماء لأن سياق الحديث يدل على المغايرة (العشر) مبتدأ خبره "فيما سقت السماء" أي العشر واجب فيما سقت السماء أو أنه فاعل محذوف أي فيما ذكر يجب العشر (وما سقى) ببناء المجهول (بالنضح) بفتح النون وسكون الضاد المعجمة بعدها حاء مهملة هو السقى

نصف العشر)) . رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ بالرشا والغرب والدالية. وقال الحافظ: أي بالسانية وهي رواية مسلم يعني حديث جابر، والمراد بها الإبل يستقي عليها وذكر الإبل كالمثال وإلا فالبقر وغيرها كذلك في الحكم، والمراد ما يحتاج إلى مؤنة الآلة. قلت: وفي رواية أبي داود والنسائي وفيما سقي بالسواني والنضح، وهذا يدل على التغاير بين السانية والنضح وإن السواني المراد بها الدواب والنضح ما كان بغيرها كنضح الرجال بالآلة (نصف العشر) فيه دليل على التفرقة بين ما سقي بالسواني والنضح وبين ما سقي بماء السماء ونحوه وقد أجمع العلماء عليه. قال ابن قدامة: لا نعلم في هذه التفرقة خلافاً والفارق ثقل المؤنة هنا وخفتها في الأول. قال الخطابي: إنما كان وجوب الصدقة مختلفة المقادير في النوعين، لأن ما عمت منفعته وخفت مؤنة كان أحمل للمواساة فأوجب فيه العشر توسعة على الفقراء، وجعل فيما كثرت مؤنته نصف العشر رفقاً بأرباب الأموال - انتهى. وقد استدل أبوحنيفة بهذا الحديث: على عدم اشتراط النصاب في زكاة الخارج من الأرض وعلى وجوب الزكاة في جميع ما يخرج من الأرض، وقد تقدم الكلام على المسألتين مبسوطاً. قال السندي: استدل أبوحنيفة بعموم الحديث على وجوب الزكاة في كل ما أخرجته الأرض من قليل وكثير، والجمهور جعلوا هذا الحديث لبيان محل العشر ونصفه. وأما القدر الذي يؤخذ منه فأخذوا من حديث ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، وهذا أوجه لما فيه من استعمال كل من الحديثين فيما سيق له - انتهى. فائدة إن وجد ما يسقي بالنضح تارة وبغير النضح أخرى فإن كان ذلك على جهة الاستواء وجب فيه ثلاثة أرباع العشر وهو قول أهل العلم، قال ابن قدامة (ج2 ص699) : لا نعلم فيه مخالفاً، وإن سقي بأحدهما أكثر من الآخر اعتبر أكثرهما فوجب مقتضاه وسقط حكم الآخر أي كان حكم الأقل تبعاً للأكثر نص عليه أحمد وهو قول عطاء والثوري وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي. وقال ابن حامد: يؤخذ بالقسط وهو القول الثاني للشافعي، لأنهما لو كانا نصفين أخذ بالحصة، فكذلك إذا كان أحدهما أكثر كما كانت الثمرة نوعين، ووجه الأول إن اعتبار مقدار السقي وعدد مراته وقدر ما يشرب في كل سقيه يشق ويتعذر، فكان الحكم للأغلب منهما كالسوم في الماشية. قال الحافظ: ويحتمل أن يقال إن أمكن فصل كل واحد منهما أخذ بحسابه، وعن ابن القاسم صاحب مالك العبرة بما تم به الزرع وانتهى ولو كان أقل - انتهى. قال ابن قدامة: وإن جهل المقدار غلبنا إيجاب العشر احتياطاً نص عليه أحمد (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والدارقطني وابن الجارود وأبوعبيد البيهقي، وأخرجه أحمد ومسلم وأبوداود والنسائي من حديث جابر والترمذي، وابن ماجه من حديث أبي هريرة، والنسائي وابن ماجه من حديث معاذ، وأبوداود من حديث علي ويحيى بن آدم من حديث أنس.

1813 - (5) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((العجما جرحها جبار، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1813- قوله: (العجماء) بفتح المهملة وسكون الجيم وبالمد تأنيث الأعجم وهي البهيمة، سميت بذلك لأنها لا تتكلم وكل من لا يقدر على الكلام أصلاً فهو أعجم ومستعجم. وعن أبي حاتم يقال: لكل من لم يبين الكلام من العرب والعجم والصغار أعجم ومستعجم، وكذلك من الطير والبهائم كلها والاسم العجمة (جرحها) بضم الجيم وفتحها والمفهوم من النهاية نقلاً عن الأزهري إنه بالفتح لا غير، لأنه مصدر وبالضم الجراحة والمراد إتلافها، قال عياض: إنما عبر بالجرح لأنه الأغلب. وقيل: هو مثال نبه به على ما عداه كذا في المرقاة. وقال السندي: جرحها بفتح الجيم على المصدر لا غير وهو بالضم اسم منه، وذلك لأن الكلام في فعلها، لا في ما حصل في جسدها من الجرح وإن حمل جرحها بالضم على جرح حصل في جسد مجروحها يكون الإضافة بعيدة، وأيضاً الهدر حقيقة هو الفعل لا أثره في المجروح فليتأمل - انتهى. ووقع في رواية للبخاري العجماء جبار، ولا بد فيه من تقدير مضاف ليصح حمل المبتدأ على الخبر، أي فعل العجماء هدر. قال الولي العراقي لا بد في هذه الرواية من تقدير إذ لا معنى لكون العجماء نفسها هدراً، وقد دل غير هذه الرواية على أن ذلك المقدر هو الجرح فوجب الرجوع إليه لكن الحكم غير مختص به بل هو مثال منه يستدل به على ما عداه كما تقدم، ولو لم تدل رواية أخرى على تعيين ذلك المقدر لم يكن لرواية البخاري هذه عموم في جميع المقدرات التي يستقيم الكلام بتقدير واحد منها هذا هو الصيح المنصور في الأصول إن المقتضى لا عموم له - انتهى. وفي رواية للبخاري أيضاً العجماء عقلها جبار. قال الزين العراقي في شرح الترمذي: ليس ذكر الجرح قيداً، وإنما المراد به إتلافها بأي وجه كان سواء كان بجرح أو غيره، والمراد بالعقل الدية أي لا دية فيما تتلفه (جبار) بضم الجيم وتخفيف الباء الموحدة أي هدر غير مضمون أي لا شيء فيه، يقال ذهب دمه جباراً أي هدراً، وعن مالك أي هدر لا دية فيه يعني الدابة المرسلة في رعيها أو المنفلتة من صاحبها ليس لها قائد ولا سائق ولا راكب، إذا جرحت أحداً أو أتلفت شيئاً وكان نهاراً فلا ضمان، وإن كان معها أحد فهو ضامن لأن الإتلاف حصل بتقصيره، وكذلك إذا كان ليلاً لأن المالك قصر في ربطها إذ العادة أن تربط الدواب ليلاً. وتسرح نهاراً كذا ذكره الطيبي وابن الملك. وفي إعراب هذه الجملة وجهان. أحدهما: أن يكون قوله "جرحها جبار" جملة من المبتدأ وخبر وهي خبر عن المبتدأ الذي هو العجماء. والثاني: أن يكون قوله "جرحها" بدلاً من "العجماء" وهو بدل اشتمال والخبر قوله "جبار" والكلام جملة واحدة والمصدر في قوله "جرحها" مضاف للفاعل أي كون العجماء تجرح غيرها غير مضمون. وقد استدل بإطلاق الحديث من قال لا ضمان فيما اتلفت البهيمة سواء كانت منفردة أو معها أحد سواء كان راكبها أو سائقها أو قائدها وهو قول الظاهرية واستثنوا ما إذا كان الفعل منسوباً إليه بأن حملها على ذلك الفعل، إذا كان راكباً كان يلوى عنانها فتتلف شيئاً

والبئر ـــــــــــــــــــــــــــــ برجلها مثلاً أو يطعنها أو يزجرها حين يسوقها أو يقودها حتى تتلف ما مرت عليه، وإما ما لا ينسب إليه فلا ضمان فيه. وقال الشافعية: إذا كان مع البهيمة إنسان فإنه يضمن ما أتلفته من نفس أو عضو أو مال سواء كان راكباً أو سائقاً أو قاعداً، وسواء كان مالكاً أو أجيراً أو مستأجراً أو مستعيراً أو غاصباً، وسواء اتلفت بيدها أو رجلها أو ذنبها أو رأسها أو عضها، وسواء كان ذلك ليلاً أو نهاراً، والحجة في ذلك أن الإتلاف لا فرق فيه بين العمد وغيره ومن هو مع البهيمة حاكم عليها فهي كالآلة بيده ففعلها منسوب إليه سواء حملها عليه أم لا، سواء علم به أم، لا وعن مالك كذلك إلا أن رمحت بغير أن يفعل بها أحد شيئاً ترمح بسببه وحكاه ابن عبد البر عن الجمهور. وقال الحنفية: إن الراكب والقائد لا يضمنان ما نفحت الدابة برجلها أو ذنبها إلا أن أوقفها في الطريق. واختفلوا في السائق. فقال القدوري وآخرون: إنه ضامن لما أصابت بيدها أو رجلها لأن النفحة بمرأى عينه فيمكنه الاحتراز عنها وقال أكثرهم: لا يضمن النفحة أيضاً وإن كان يراها إذ ليس على رجلها ما يمنعها به فلا يمكنه التحرز عنه بخلاف الكدم لا مكان كبحها بلجامها، صححه صاحب الهداية: وكذلك قال الحنابلة: إن الراكب لا يضمن ما تتلفه البهيمة برجلها وحكى ابن حزم نفي الضمان من النفحة عن شريح القاضي والحسن البصري وإبراهيم النخعي ومحمد بن سيرين، وعطاء بن أبي رباح وعن الحكم والشعبي، يضمن لا يبطل دم المسلم وتمسك من نفي الضمان من النفحة بعموم هذا الحديث مع الرواية التي فيها الرجل جبار لكنها ضعيفة، ضعفها الدارقطني والشافعي وغيرهما. واستدل بالحديث على أنه لا فرق في إتلاف البهيمة للزروع وغيرها من الأموال في الليل والنهار فيما إذا لم يكن صاحبها معها وهو قول الحنفية والظاهرية. وقال الجمهور: إنما يسقط الضمان عن صاحب البهيمة إذا كان ذلك نهاراً. وأما بالليل فإن عليه حفظها فإذا انفلتت بتقصير منه وجب عليه ضمان ما اتلفت ودليل هذا التخصيص ما أخرجه الشافعي وأبوداود والنسائي وابن ماجه عن البراء بن عازب. قال: كانت له ناقة ضارية فدخلت حائطاً فأفسدت فيه فقضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها، وإن حفظ الماشية بالليل على أهلها، وإن على أهل المواشي ما أصابت ماشيتهم بالليل، وأشار الطحاوي إلى أنه منسوخ بحديث الباب. وتعقبوه بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال مع الجهل بالتاريخ وأقوى من ذلك قول الشافعي، أخذنا بحديث البراء لثبوته ومعرفة رجاله ولا يخالفه حديث العجماء جبار، لأنه عام المراد به الخاص فلما قال العجماء جبار وقضي فيما أفسدت العجماء بشيء في حال دون حال دل ذلك على أن ما أصابت العجماء من جرح وغيره في حال جبار وفي حال غير جبار. ثم نقض على الحنفية إنهم لم يستمروا على الأخذ بعمومه في تضمين الراكب متمسكين بحديث الرجل جبار مع ضعف رواية، كذا في الفتح. (والبئر) بكسر الموحدة ثم ياء ساكنة

جبار والمعدن جبار وفي الركاز ـــــــــــــــــــــــــــــ مهموزة ويجوز تسهيلها وهي مؤنثة، وقد تذكر على معنى القليب والطوى والجمع أبؤر وآبار بالمد والتخفيف وبهمزتين بينهما موحدة ساكنة (جبار) . وفي رواية لمسلم: "البئر جرحها جبار" قال أبوعبيد: المراد بالبئر هنا العادية القديمة التي لا يعلم لها مالك تكون في البادية فيقع فيها إنسان أو دابة فلا شيء في ذلك على أحد، وكذلك لو حفر بئراً في ملكه أو في موات فوقع فيها إنسان أو غيره، فتلف فلا ضمان إذا لم يكن منه تسبب إلى ذلك ولا تغرير، وكذا لو استأجر إنساناً ليحفر له البئر، فانهارت عليه فلا ضمان. وأما من حفر بئراً في طريق المسلمين وكذا في ملك غيره بغير إذن فتلف بها إنسان فإنه يجب ضمانه على عاقله الحافر والكفارة في ماله، وإن تلف بها غير آدمي وجب ضمانه في مال الحافر ويلتحق بالبئر كل حفرة على التفصيل المذكور (والمعدن) بفتح الميم وكسر الدال أي المكان من الأرض يخرج منه شيء من الجواهر والأجساد، كالذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص وغير ذلك مأخوذ من عدن بالمكان إذا أقام به يعدن بالكسر عدوناً سمي بذلك لعدون ما أنبته الله فيه قاله الأزهري وقال في القاموس: المعدن كمجلس منبت الجواهر من ذهب ونحوه لإقامة أهله فيه دائماً أو لإثبات الله عزوجل إياه فيه - انتهى. وقيل: أصل المعدن المكان بقيد الاستقرار فيه ثم اشتهر في نفس الأجزاء المستقرة التي ركبها الله تعالى في الأرض يوم خلق الأرض حتى صار الانتقال من اللفظ إليه ابتداء بلا قرينة (جبار) أي هدر وليس المراد أنه لا زكاة فيه، وإنما المعنى إن من حفر معدناً في ملكه أو في موات لاستخراج ما فيه فوقع فيه إنسان أو أنهار على حافره الأجير فهي هدر ولا ضمان فيه. قال الحافظ: وقع في رواية مسلم والمعدن جرحها جبار والحكم فيه ما تقدم في البئر، ولكن البئر مؤنثة والمعدن مذكر فكأنه ذكره بالتأنيث للمواخاة أو لملاحظة أرض المعدن. فلو حفر معدنا في ملكه أو في موات فوقع فيه شخص فمات فدمه هدر، وكذا لو استأجر أجيراً يعمل له فانهار عليه فمات ويلتحق بالبئر والمعدن في ذلك كل أجير على عمل، كمن استوجر على صعود نخلة فسقط منها فمات - انتهى. (وفي الركاز) بكسر الراء وتخفيف الكاف وآخره زاي من الركز بفتح الراء. قال ابن قدامة:" الركاز المدفون في الأرض، واشتقاقه من ركز يركز مثل غرز يغرز إذا خفي، يقال ركز الرمح إذا غرز أسفله في الأرض ومنه الركز وهو الصوت الخفي قال الله تعالى: {أو تسمع لهم ركزاً} [مريم: 98] وفي القاموس: الركاز ما ركزه الله تعالى في المعادن، أي أحدثه ودفين أهل الجاهلية وقطع الذهب والفضة من المعدن واركز الرجل وجد الركاز والمعدن صارفيه ركاز وارتكز ثبت - انتهى. واعلم أنهم اختلفوا في المراد من الركاز في الحديث فقال مالك والشافعي وأحمد والجمهور. إن الركاز كنز الجاهلية والمدفون في الأرض وليس المعدن بركاز ولا خمس في المعدن بل فيه الزكاة وسيأتي ببيانه في آخر الفصل الثاني من هذا الباب. وقال الحنفية: المعدن ركاز أيضاً فيجب الخمس فيهما. قال ابن الهمام: الركاز يعم المعدن والكنز لأنه من الركز مراداً به المركوز أعم من كون راكزه الخالق والمخلوق فكان

إيجاباً فيهما. وقال الكاساني: المستخرج من الأرض نوعان: أحدهما: يسمى كنزاً وهو المال الذي دفنه بنو آدم في الأرض. والثاني: يسمى معدناً وهو المال الذي خلقه الله تعالى في الأرض يوم خلق الأرض. والركاز اسم يقع على كل واحد منهما إلا أن حقيقته للمعدن واستعماله للكنز مجازاً. قال في النهر: لا يجوز أن يكون حقيقة في المعدن، مجازاً في الكنز، لامتناع الجمع بينهما بلفظ واحد. وقال في الدر المختار: هو لغة: من الركز أي الإثبات بمعنى المركوز. وشرعاً: مال مركوز تحت أرض أعم من معدن خلقي ومن كنز مدفون دفنه الكفار واحتج الجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم "والمعدن جبار وفي الركاز الخمس، ووجه الاستدلال إنه عطف الركاز على المعدن. وفرق بينهما بواو فاصلة، فعلم إن المعدن ليس بركاز عنده - صلى الله عليه وسلم - بل هما شيئان متغايران، ولو كان المعدن ركازاً عنده لقال المعدن جبار، وفيه الخمس ولما لم يقل ذلك ظهر أنه غيره لأن العطف يدل على المغايرة. قال الحافظ: والحجة للجمهور التفرقة من النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المعدن والركاز بواو العطف فصح أنه غيره وأجيب عن هذا بأنه لا يرد على الحنفية لأنهم قالوا إن الركاز يعم المعدن والكنز والمغايرة. بين العام والخاص مما لا يخفي، فلو قال فيه الخمس يعلم حكم المعدن دون الكنز، وأيضاً وضع المظهر محل المضمر مما لا ينكر على أنه ورد في رواية للبخاري في الديات، العجماء عقلها جبار والمعدن جبار والبئر جبار وفي الركاز الخمس، فلو قال: وفيه الخمس لحصل الالتباس باحتمال رجوع الضمير إلى البئر. قال ابن التركماني: المعدن هو الركاز فلما أراد أن يذكر له حكماً آخر ذكره بالاسم الآخر وهو الركاز، ولفظ الصحيح في الحديث والبئر جبار وفي الركاز الخمس فلو قال، وفيه الخمس لحصل الالتباس بعود الضمير إلى البئر. وقال في المواهب اللطيفة أخذاً من ابن الهمام: إن المغايرة بينهما إنما حصلت لاختلاف كل منهما في أمر يمتاز به عن الآخر، وذلك إن قوله "المعدن جبار" معنا إن إهلاكه أو الهلاك به للأجير الحافر له غير مضمون، لا أنه لا شيء فيه بنفسه، وإلا لم يجب شيء أصلاً وهو خلاف المتفق عليه (إذا الخلاف إنما هو في كميته لا في أصله) وغاية ما هناك أنه أثبت للمعدن بخصوصه حكماً فنص على خصوص اسمه ثم أثبت له حكماً آخر مع غيره فعبر بالاسم الذي يعمهما ليثبت فيهما فإنه - صلى الله عليه وسلم - علق الحكم أعنى وجوب الخمس بما يسمى ركازاً فما كان من أفراده وجب فيه - انتهى. وقال بعضهم: احتجاج الجمهور غير صحيح، فإن المراد بالمعدن حفرته فإنه إذا وقع فيها إنسان فلا ضمان فيه، والمراد بالركاز المال الذي في المعدن بأن المال المستخرج منها فيه الخمس، فعلى هذا دلالة العطف صحيحة لأن مدلول أحدهما غير مدلول الآخر فلا حجة فيه للجمهور واحتج الجمهور أيضاً بالركاز في لغة أهل الحجاز هو دفين الجاهلية، ولا شك في أن النبي الحجازي - صلى الله عليه وسلم -: تكلم بلغة أهل الحجاز وأراد به ما يريدون منه. قال ابن الأثير الجزري:

في النهاية الركاز عند أهل الحجاز كنوز الجاهلية المدفونة في الأرض، وعند أهل العراق المعادن والقولان تحتملها اللغة لأن كلاً منهما مركوز في الأرض أي ثابت، يقال ركزه يركزه ركزاً إذا دفنه وأركز الرجل إذا وجد الركاز. والحديث إنما جاء في التفسير الأول وهو الكنز الجاهلي، وإنما كان فيه الخمس لكثرة نفعه وسهولة أخذه. وقال في جامع الأصول: (ج5 ص481) الركاز عند أهل الحجاز كنز الجاهلية ودفنها لأن صاحبه ركزه في الأرض أي أثبته وهو أهل العراق المعدن، لأن الله ركزه في الأرض ركزاً. والحديث إنما جاء في التفسير الأول منهما وهو الكنز الجاهلي على ما فسره الحسن. وإنما كان فيه الخمس لكثرة نفعه وسهولة أخذه، والأصل فيه إن ما خفت كلفته كثر الواجب فيه، وما ثقلت كلفته قل الواجب فيه - انتهى. وقيل: إنما جعل الركاز الخمس لأنه مال كافر فنزل من وجده منزلة الغنائم فكان له أربعة أخماسه. وقال الزين بن المنير: كان الركاز مأخوذ من أركزته في الأرض إذا غرزته فيها، وأما المعدن فإنه ينبت في الأرض بغير وضع واضع هذه حقيقتهما فإذا افترقا في أصلهما فكذلك في حكمهما كذا في الفتح. واحتج الحنفية بما روى ابن عبد البر في التمهيد والحاكم (ج2 ص65) والبيهقي (ج4 ص155) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: في كنز وجده في خربة جاهلية إن وجدته في قرية مسكونة أو سبيل ميتاء فعرفه، وإن وجدته في خربة جاهلية أو في قرية مسكونة ففيه وفي الركاز الخمس، وروى أبوعبيد عنه بلفظ: إن المزني قال يا رسول الله فما يوجد في الخرب العادي، قال فيه وفي الركاز الخمس. قال التوربشتي: أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -: هذا عن المال المدفون ثم عطف عليه الركاز والمعطوف غير المعطوف عليه. وقال أبوعبيد: تبين لنا أن الركاز سوى المال المدفون لقوله فيه وفي الركاز، فجعل الركاز غير المال المدفون، فعلم بهذا أنه المعدن. وقال الكاساني: عطف النبي - صلى الله عليه وسلم - الركاز على الكنز، والشيء لا يعطف على نفسه هو الأصل فدل على أن المراد منه المعدن وأجيب عن هذا بأنه ورد فيما وجد من أموال الجاهلية ظاهراً فوق الأرض في الطريق غير الميتاء وفي القرية الغير المسكونة، فيكون فيه وفي الركاز الخمس وليس ذلك من المعدن بسبيل. وتعقبه ابن التركماني: بأن الرواية المذكور أولاً تدفع هذا الجواب لأن الكنز على ما ذكره أهل اللغة الجوهري وغيره، هو المال المدفون، وعطف الركاز على الكنز دليل على أن الركاز غير الكنز وأنه المعدن كما يقوله أهل العراق. ورد ذلك بأن الكنز هو المال المجموع بعضه على بعض، سواء كان على ظهر الأرض أو بطنها. قال الراغب: الكنز هو جعل المال بعضه على بعض وحفظه، وأصله من كنزت التمر في الوعاء. وقال ابن جرير: هو كل شيء جمع بعضه على بعض في بطن الأرض أو ظهرها - انتهى. وعلى هذا يصح حمل الحديث المذكور على ما وجد من مال الجاهلية ظاهراً فوق الأرض. واحتج الحنفية أيضاً

الخمس)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ بما روى البيهقي وغيره عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: في الركاز الخمس. قيل وما الركاز يا رسول الله؟ قال الذهب والفضة الذي خلقه الله في الأرض يوم خلقت. وأجيب عنه بأنه تفرد به عبد الله ابن سعيد ضعيف جداً، بل رماه بعضهم بالكذب. واحتجوا أيضاً بتسمية المعدن بالركاز. قال الهروي في كتابه الغريب: الركاز القطع العظام من الذهب والفضة كالجلاميد، واحده ركزة وقدار كز المعدن أنال - انتهى. وقال في القاموس: اركز (الرجل) وجد الركاز والمعدن صار فيه ركاز. وقال الإمام محمد بن الحسن في كتاب الحجج: إنما الركاز وجد في المعادن، وإنما قال: المدفون جعل نظيراً لمال يستخرج من المعدن، هذا أمر لم يكن أرى إن أهل المدينة يخالفونه من كلام العرب، إنما يقال أركز المعدن يعنون أنه استخرج منه مال كثير- انتهى. وقال التوربشتي في شرح المصابيح: قد نقل عن محمد بن الحسن الشيباني وهو مع رسوخه في الفقه يعد من علماء العربية أنه قال: إن العرب تقول أركز المعدن إذا كثر ما فيه من الذهب والفضة - انتهى. وأجيب عنه بأنه لا يلزم من الاشتراك في الاسم الاشتراك في الحكم والمعنى وإلا لوجب على من ربح ربحاً كثيراً الخمس في ربحه، لأنه يقال له أركز ولم يقل به أحد. قال الإمام البخاري في صحيحه: وقال بعض الناس المعدن ركاز مثل دفن الجاهلية، لأنه يقال أركز المعدن إذا أخرج منه شيء قيل له فقد يقال لمن وهب له الشيء أو ربح ربحاً كثيراً أو كثرة ثمره أركزت - انتهى. قال ابن بطال: ما ألزم به البخاري القائل المذكور وحجة بالغة لأنه لا يلزم من الاشتراك في الأسماء الاشتراك في المعنى، إلا إن أوجب ذلك من يجب التسليم له. وقد أجمعوا على أن المال الموهوب لا يجب فيه الخمس، وإن كان يقال له أركز فكذلك المعدن - انتهى. وارجع للتفصيل إلى رفع الالتباس عن بعض الناس والقول الراجح عندنا: هو ما ذهب إليه الجمهور من أن الركاز إنما هو كنز الجاهلية الموضوع في الأرض، وإنه لا يعم المعدن بل هو غيره الله تعالى أعلم (الخمس) فيه دليل على وجوب الخمس في الركاز وهو إجماع العلماء إلا ما حكى عن الحسن البصري. قال ابن قدامة: (ج2 ص17- 18) الأصل في صدقة الركاز ما روى أبوهريرة مرفوعاً العجماء جبار، وفي الركاز الخمس، متفق عليه. وهو أيضاً مجمع عليه. قال ابن المنذر: لا نعلم أحداً خالف هذا الحديث إلا الحسن، فإنه فرق بين ما يوجد في أرض الحرب وأرض العرب فقال: في ما يوجد في أرض الحرب الخمس وفيما يوجد في أرض العرب الزكاة - انتهى. ثم ههنا مسائل لا بد للطالب من الوقوف عليها فلنذكرها مختصراً والبسط في المنتقى للباجي وغيره من كتب الفروع وشروح الحديث. الأولى وأنه لا فرق بين قليل الركاز وكثيره عند الجمهور خلافاً للشافعي في قوله الجديد أنه لا يجب الخمس حتى يبلغ النصاب. قال البخاري في صحيحه قال مالك وابن إدريس: الركاز دفن الجاهلية في قليله وكثيره الخمس. قال الحافظ: قوله في قليله وكثيره

الخمس نقله ابن المنذر عن مالك كذلك، وفيه عند أصحابه عنه اختلاف وهو قول الشافعي في القديم كما نقله ابن المنذر واختاره. وأما في الجديد فقال: لا يجب الخمس يبلغ نصاب الزكاة، والأول قول الجمهور كما نقله ابن المنذر أيضاً وهو مقتضى ظاهر الحديث - انتهى. وقال ابن قدامة: (ج3 ص21) الخمس يجب في قليله وكثيره في قول إمامنا ومالك وإسحاق أصحاب الرأي والشافعي في القديم. وقال في الجديد: يعتبر النصاب فيه لأنه حق مال يجب فيما استخرج من الأرض فاعتبر فيه النصاب كالمعدن والزرع، ولنا عموم الحديث، ولأنه مال مخموس فلا يعتبر له نصاب كالغنيمة. ولأنه مال كافر مظهور عليه في الإسلام فأشبه الغنيمة والمعدن والزرع يحتاجان إلى عمل ونوائب، فاعتبر فيه النصاب تخفيفاً بخلاف الركاز، ولأن الواجب فيهما مواساة فاعتبر النصاب ليبلغ حداً يحتمل المواساة منه بخلاف مسألتنا - انتهى. الثانية قال الحافظ: اتفقوا على أنه لا يشترط فيه الحول بل يجب إخراج الخمس في الحال وأغرب ابن العربي في شرح الترمذي فحكى عن الشافعي الاشتراط ولا يعرف ذلك في شيء من كتبه ولا من كتب أصحابه الثالثة قال ابن قدامة (ج3 ص20) الركاز الذي فيه الخمس هو كل ما كان ما لا على اختلاف أنواعه من الذهب والفضة والحديد والرصاص والصفر والنحاس وغير ذلك، وهو قول إسحاق وأبي عبيد وابن المنذر وأصحاب الرأي وإحدى الروايتين عن مالك وأحد قولي الشافعي والقول الآخر لا تجب إلا في الأثمان. ولنا عموم قوله عليه السلام "وفي الركاز الخمس" ولأنه مال مظهور عليه من مال الكفار فوجب فيه الخمس مع اختلاف أنواعه كالغنيمة - انتهى. قلت: المشهور عند المالكية هو العموم والمذهب عند الشافعية خصوصه بالنقدين، وظاهر الحديث العموم فالراجح هو قول الجمهور. الرابعة قال الحافظ: اختلفوا في مصرفه فقال مالك وأبوحنيفة والجمهور مصرفه مصرف خمس الفيء وهو اختيار المزني. وقال الشافعي: في أصح قوليه مصرف الزكاة وعن أحمد روايتان. وينبني على ذلك ما إذا وجده ذمي فعند الجمهور يخرج منه الخمس وعند الشافعي لا يؤخذ منه شيء - انتهى. وقال ابن قدامة: (ج3 ص121) اختلفت الرواية عن أحمد في مصرفه مع ما فيه من اختلاف أهل العلم. فقال الخرقي: هو لأهل الصدقات ونص عليه أحمد في رواية حنبل فقال: يعطي الخمس من الركاز على مكانه، وإن تصدق على المساكين أجزأه وهذا هو قول الشافعي، لأن علي بن أبي طالب أمر صاحب الكنز أن يتصدق به على المساكين، حكاه الإمام أحمد والرواية الثانية مصرفه مصرف الفيء نقله محمد بن الحكم عن أحمد وهذه الرواية أصح وأقيس على مذهبه، وبه قال أبوحنيفة والمزني لما روى أبوعبيد (ص342) عن هشيم عن مجالد عن الشعبي، إن رجلاً وجد ألف دينار مدفونة خارجاً من المدينة فأتى بها عمر بن الخطاب فأخذ منه الخمس مائتي دينار، ودفع إلى الرجل بقيتها وجعل عمر يقسم المائتين بين من حفرة من المسلمين إلى أن فضل منها فضلة فقال عمر ابن صاحب الدنانير فقام إليه فقال عمر: خذ هذه الدنانير فهي لك ولو

كانت زكاة لخص بها أهلها ولم يرده على واجده، ولأنه يجب على الذمي والزكاة لا تجب عليه ولأنه مال مخموس زالت عنه يد الكافر أشبه خمس الغنيمة - انتهى. الخامسة اختلفوا فيمن يجب عليه الخمس وفي الأربعة الأخماس باعتبار اختلاف الواجد من كونه حراً أو عبداً أو مكاتباً قال ابن قدامة: (ج3 ص22) يجب الخمس على كل من وجده من مسلم وذمي وحر وعبد ومكاتب وكبير وصغير وعاقل ومجنون، إلا أن الواجد له إذا كان عبداً فهو لسيده لأنه كسب مال، وإن كان مكاتباً ملكه وعليه خمسة لأنه بمنزلة كسبه وإن كان صبياً أو مجنوناً فهو لهما ويخرج عنهما وليهما وهذا قول أكثر أهل العلم. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن على الذمى في الركاز يجده الخمس قاله مالك وأهل المدينة والثوري والأوزاعي وأهل العراق وأصحاب الرأي وغيرهم وقال الشافعي: لا يجب الخمس إلا على من تجب عليه الزكاة لأنه زكاة، وقال الثوري والأوزاعي وأبوعبيد: إذا كان الواجد له عبداً يرضخ له منه ولا يعطاه كله، ولنا عموم قوله عليه السلام وفي الركاز الخمس، فإنه يدل بعمومه على وجوب الخمس في كل ركاز يوجد ومفهومه إن باقية لواجده من كان ولأنه مال كافر مظهور عليه فكان فيه الخمس على من وجده وباقية لواجده كالغنيمة ولأنه اكتساب مال فكان لمكتسبة إن كان حراً أو لسيده إن كان عبداً كالاحتشاش والاصطياد - انتهى. السادسة يعرف كون الركاز من دفن الجاهلية بأن ترى عليه علامتهم كأسماء ملوكهم وصورهم وصلبهم وصور أصنامهم ونحو ذلك، واستشكله الرافعي وغيره بأنه لا يلزم من روية علامتهم عليه كونه من دفنهم لاحتمال أنه وجد مسلم كنزاً جاهلياً فكنزه ثانياً. والحكم مدار على كونه من دفن الجاهلية لا على روية علامتهم عليه وأجيب عنه بأن هذا الاحتمال مدفوع بالأصل ولا يخفى ما فيه قالوا فإن كان عليه علامة الإسلام أو اسم النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أحد من خلفاء المسلمين أو وال لهم أو آية من قرآن أو نحو ذلك فهو لقطة لأنه ملك مسلم لم يعلم زواله عنه فيعرفه الواجد سنة ثم له تملكه إن لم يظهر مالكه. وقيل: هو مال ضائع يمسكه الآخذ للمالك أبداً فلو لم يعرف إن الموجود من ضرب الجاهلية أو الإسلام ففيه للشافعي قولان: أظهرهما أنه ليس بركاز بل هو لقطة على الأصح. والقول الثاني: أنه ركاز في خمس وهو الأصح عند الحنفية: قال صاحب الهداية: ولو اشتبه الضرب يجعل جاهلياً في ظاهر المذهب لأنه الأصل. وقيل: إسلامياً في زماننا لتقادم العهد - انتهى. السابعة ليس في الحديث تعرض لمن يتعاطى إخراج الخمس من الركاز أهو الواجد أو يتعين الفاعل لذلك الإمام أو نائبه. وينبغي أن يقال إن قلنا مصرفه مصرف الزكاة، وأنه يجوز أن يتولى الرجل إخراج زكاته بنفسه فلو أخرجه الواجد له وقع الموقع. وإن قلنا أنه لا يتولى الرجل إخراج زكاته بنفسه أو إن مصرف الزكاة مصرف الفيء فذلك من وظيفة الإمام أو نائبه الذي أقامه لذلك. وقد حكى ابن المنذر عن أبي ثور: أنه لا يسعه أن يتصدق بخمسه فإن فعل ضمنه الإمام وعن أصحاب الرأي أنه يسعه ذلك قال ابن المنذر: وهذا أصح. وقال

متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن قدامة في المغنى: (ج3 ص23) ويجوز أن يتولى الإنسان تفرقة الخمس بنفسه، وبه قال أصحاب الرأي وابن المنذر. لأن علياً أمر واجد الكنز بتفرقة على المساكين قاله الإمام أحمد. ثم قال: ويتخرج أن لا يجوز ذلك لأن الصحيح أنه فئ فلم يملك تفرقته بنفسه كخمس الغنيمة. قال القاضي من الحنابلة: وليس للإمام رد خمس الركاز على واجده لأنه حق مال، فلم يجز رده على من وجب عليه كالزكاة وخمس الغنيمة. وقال ابن عقيل: يجوز لأنه روى عن عمر أنه رد بعضه على واجده، ولأنه فيء فجاز رده أو بعضه على واجده كخراج الأرض وهذا قول أبي حنيفة. الثامنة استدل به الحنفية على وجوب الخمس في المستخرج من المعادن، سواءاً كان ذهباً أو فضة أو غيرهما من معادن الأرض كالحديد والنحاس والرصاص وغيرها بناء على دخول ذلك في إسم الركاز، ولم يعتبروا في ذلك نصاباً ولا حولاً وجعلوا مصرفه مصرف الفيء، وذهب الأئمة الثلاثة والأكثرون إلى أن المعدن لا يدخل تحت اسم الركاز ولا له حكمه. واتفقوا على الإخراج منه في الجملة، وإن مصرف المخرج منه مصرف الزكاة، والمشهور من مذاهبهم اعتبار النصاب فيه دون الحول. ثم اختلفت تفاصيل مذاهبهم في ذلك. فقال الشافعية: إن كان المستخرج من المعدن غير الذهب والفضة فلا زكاة فيه إلا في وجه شاذ، وإن كان أحد النقدين ففيه الزكاة. وفي قدر الواجب ثلاثة أقوال للشافعي أصحها ربع العشر كزكاة النقدين. والثاني: الخمس. والثالث: إن ناله بلا تعب ومؤنة فالخمس وإلا فربع العشر ولم يخص الحنابلة ذلك بالذهب والفضة بل قالوا: بوجوب الزكاة في كل ما خرج من الأرض مما يخلق فيها من غيرهما مما له قيمة، إذا بلغ قيمة عشرين مثقالاً من الذهب أو مائتي درهم من الفضة، كالحديد والصفر والنحاس والزئبق والياقوت والزبرجد والبلور والعقيق والسبج والكحل والزاج والزرنيخ والمغرة بل وسعوا ذلك حتى قالوه: في المعادن الجارية كالقار والنفط والكبريت، والحنفية خصوا ذلك بما ينطبع كالحديد والنحاس. قال الحنابلة: والواجب فيه ربع العشر، وخص المالكية ذلك بالنقدين وقالوا إن الواجب ربع العشر إلا ما لا يتكلف فيه إلى عمل ففيه الخمس، واعتبر إسحاق بن راهوية وابن المنذر في زكاة المعدن الحول، وحكى قولاً عن الشافعي وسيأتي مزيد الكلام في ذلك. التاسعة اختلفوا في حكم الركاز باعتبار اختلاف موضعه، وقد بسطه ابن قدامة في المغني (ج3:ص20،18) والباجي في المنتقي (ج2:ص106،105) والكاساني في البدائع (متفق عليه) أخرجه البخاري في الزكاة وفي الديات ومسلم في الحدود وأخرجه أيضاً أحمد (ج2:ص228-239) ومالك في الزكاة مختصراً وفي الديات مطولاً، والترمذي في الزكاة وفي الأحكام وأبوداود مختصراً في آخر الخراج، والنسائي في الزكاة، وابن ماجه مختصراً في اللقطة، والبيهقي، وأبوعبيد وغيرهم، وفي الباب عن جماعة من الصحابة ذكرهم العيني في شرح البخاري (ج9:ص102،101) والمقصود من ذكر هذا الحديث في هذا الباب هو قوله في الركاز الخمس.

{الفصل الثاني}

{الفصل الثاني} 1814- (6) عن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد عفوت عن الخيل والرقيق فهاتوا، صدق الرقة من كل أربعين درهماً درهم. وليس في تسعين ومائة شي. فإذا بلغت مائتين، ففيها خمسة دراهم)) . رواه الترمذي وأبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1814- قوله: (قد عفوت عن الخيل والرقيق) أي إذا لم يكونا للتجارة، وفي الخيل السائمة للنسل خلاف تقدم قال السندي: أي تركت لكم أخذ زكاتهما وتجاوزت عنه، هذا لا يقتضى سبق وجوبه ثم نسخه، وقال الطيبي: عفوت مشعر بسبق ذنب من إمساك المال عن الإنفاق أي تركت وجاوزت عن أخذ زكاتهما مشيراً إلى أن الأصل في كل مال أن تؤخذ منه الزكاة - انتهى. وفيه دليل على أنه لا زكاة في الخيل خلافاً للحنفية. فقالوا: المراد بالخيل فيه الخيل المعدة للركوب والغزو بدليل أنه قرن بين الخيل والرقيق والمراد منها عبيد الخدمة، أو المراد عفوت عن إتيانكم بها إلي لأني ما كلفتكم بإحضارها عندي لقلة محالها بالغاية، وإن كانت واجبة فيها فلا تنسوا حق الله في رقابها بل أدوه فيما بينكم وبين الله تعالى - انتهى. ورد الأول. بأن هذه القرينة يبطل دلالتها مع كون دلالة الاقتران ضعيفة أحاديث نفي وجوب الزكاة في الخيل مطلقاً. منها حديث عمر ما فعله صاحباي قبلي فافعله ورد الثاني بأن هذا التأويل خلاف الظاهر وبأن مقتضاه مع قوله فهاتوا صدقة الرقة بعد ذلك، أن يجب إحضار صدقة الرقة عند الإمام ودفعها إليه مع أن زكاة الأموال الباطنة عند الجمهور يجوز لأصحابها أن يصرفوها بأنفسهم في مصارفها (فهاتوا) أي أعطوا من هاتاه مهاتاة أي أعطاه يقال هات يا رجل: أي أعط وهاتي يا امرأة وما أهاتيك أي ما أنا بمعطيك (صدقة الرقة) بكسر الراء وتخفيف القاف أي زكاة الفضة (من كل أربعين درهماً درهم) أي إذا بلغت الدراهم النصاب. وقال الخطابي: هذا تفصيل لجملة قد تقدم بيانها في حديث أبي سعيد الخدري وهو قوله ليس فيما دون خمس أواق شي وتفصيل الجملة لا يناقض الجملة (وليس) يجب (في تسعين ومائة شي) من الزكاة (فإذا بلغت) أي الرقة. وقيل: أي الدراهم (مائتين ففيها خمسة دراهم) أي الواجب فيها خمسة دراهم بعد جولان الحول (رواه الترمذي وأبوداود) من طريق أبي عوانة عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي، وأخرجه أيضاً من هذا الطريق أحمد (ج1:ص92-145) والبيهقي (ج4:ص118) وأخرجه النسائي من طريق الأعمش وسفيان الثوري وأحمد (ج1: ص113-114-148) والدارقطني (ص214) من طريق الأعمش عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة مختصراً، وأخرجه ابن ماجه من طريق الثوري وأحمد من طريق حجاج بن أرطاة (ج1:ص121) والثوري (ج1:ص132) وشريك (ج1:ص146) والبيهقي من طريق ابن عيينة والثوري (ج4:ص118)

وفي رواية لأبي داود عن الحارث الأعور عن علي قال زهير: أحسبه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ـــــــــــــــــــــــــــــ عن أبي إسحاق عن الحرث الأعور عن علي مختصراً أيضاً. قال الترمذي: روى هذا الحديث الأعمش وأبوعوانة وغيرهما عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي، وروى سفيان الثوري وابن عيينة وغير واحد عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي قال: وسألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: كلاهما عندي صحيح عن أبي إسحاق يحتمل أن يكون عنهما جميعاً- انتهى. وقال الحافظ في الفتح: بعد ذكر حديث علي هذا أخرجه أبوداود وغيره وإسناده حسن (وفي رواية لأبي داود عن الحارث الأعور عن علي) هذه الرواية: أخرجها أبوداود من طريق عبد الله ابن محمد النفيلي نا زهير نا أبوإسحاق عن عاصم بن ضمرة وعن الحارث الأعور عن علي وأخرجها أيضاً البيهقي (ج4:ص93-94-99) والحارث هذا هو الحارث بن عبد الله الأعور الهمداني الحوتي الكوفي أبوزهير وهو ممن اشتهر بصحبة علي بن أبي طالب، وروى عن ابن مسعود وزيد بن ثابت وعنه الشعبي وأبوإسحاق السبيعي وعطاء بن أبي رباح وغيرهم. قال شعبة: لم يسمع أبوإسحاق منه إلا أربعة أحاديث. وكذلك قال العجلي: وزاد وسائر ذلك كتاب أخذه وقد تكلم فيه الأئمة. فقال الشعبي وأبوإسحاق وابن المديني: هو كذاب. وقال الدارقطني: ضعيف. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه غير محفوظ. وقال ابن حبان: كان الحارث غالباً في التشيع واهياً في الحديث، وقال النسائي: ليس بالقوى. وقال في موضع آخر: ليس به بأس. وكذا قال ابن معين: في رواية الدوري عنه. وقال ابن أبي خيثمة. قيل: ليحيى يحتج بالحارث. فقال: مازال المحدثون يقبلون حديثه. وقال ابن عبد البر: لم يبين من الحارث كذبه وإنما نقم عليه إفراطه في حب علي. وقال أحمد بن صالح المصري الحارث الأعور: ثقة ما أحفظه وما أحسن ما روى عن علي وأثنى عليه. قيل له فقد قال الشعبي: كان يكذب. قال: لم يكن يكذب في الحديث إنما كان كذبه في رأيه. وقال ابن أبي داود: كان الحارث أفقه الناس وأحسب الناس وأفرض الناس تعلم الفرائض من علي. وقال الذهبي والنسائي: مع تعنته في الرجال قد احتج به وقوى أمره والجمهور على توهين أمره مع روايتهم لحديثه في الأبواب هذا الشعبي يكذبه ثم يروي عنه. والظاهر أنه كان يكذب في لهجته وحكاياته لا في الحديث النبوي: قال الحافظ: لم يحتج به النسائي. وإنما أخرج له في السنن حديثاً واحداً مقروناً بابن ميسرة وآخر في اليوم والليلة متابعة هذا جميع ماله عنده. وقال في التقريب: رمى بالرفض وفي حديثه ضعف مات في خلافة ابن الزبير سنة (65) (قال زهير) بالتصغير وهو زهير بن معاونة بن حُديج أبوخيثمة الجعفي الكوفي نزيل الجزيرة ثقة ثبت إلا أن سماعه عن أبي إسحاق بآخره. قال أحمد: زهير فيما روى عن المشائخ ثبت بخ بخ وفي حديثه عن أبي إسحاق لين سمع منه بآخره. وقال أبوزرعة: ثقة إلا أنه سمع من أبي إسحاق بعد الاختلاط مات في رجب سنة (172) أو (173) أو (174) وكان مولده سنة مائة (أحسبه) أي أظن هذا الحديث مروياً (عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (قال) يعني قال زهير: أظن أباإسحاق. قال: في حديثه بعد قوله عن

((هاتوا ربع العشر من كل أربعين درهماً درهم، وليس عليكم شيء، حتى تتم مائتي درهم. فإذا كانت مائتي درهم، ففيها خمسة دراهم، فما زاد فعلى حساب ذلك. ـــــــــــــــــــــــــــــ علي رضي الله عنه "عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " وهذا يدل على أن زهيراً شك في رفعه قال الزيلعي: (ج2 ص353، 360، 365، 366) ورواه الدارقطني في سننه مجزوماً به ما ليس فيه. وقال زهير: وأحسبه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن القطان: إسناده صحيح وكل من فيه ثقة معروف ولا أعنى رواية الحارث وإنما أعنى رواية عاصم - انتهى كلامه. قال الزيلعي: وهذا منه توثيق لعاصم - انتهى. قلت: لم أجد حديث زهير هذا بهذا السياق الطويل الآتي في الدارقطني في مظانة إلا ما في باب ليس في العوامل صدقة (ص204) فإنه هناك مجزوم برفعه ولكن متنه مختصر جداً، فإنه اقتصر على الجملة بلفظ: ليس في البقر العوامل شيء (هاتوا) أي في كل حول (ربع العشر) وفي أبي داود ربع العشور أي من الفضة وبيانه (من كل أربعين درهماً) نصب على التمييز (درهم) بالرفع على الابتداء وفي بعض نسخ أبي داود درهماً، أي بالنصب على المفعولية (وليس) يجب (عليكم شيء) أي من الزكاة (حتى تتم) بالتأنيث أي تبلغ الرقة (مائتي درهم) قال الطيبي: نصبه على الحالية أي بالغة مائتين كقوله تعالى: {فتم ميقات ربه أربعين ليلة} [الأعراف: 142] (فإذا كانت) أي الرقة (مائتي درهم) أي وزنها (ففيها) أي حينئذٍ (خمسة دراهم فما زاد) أي على مائتي درهم (فعلى حساب ذلك) أي تجب الزكاة في الزائد على النصاب بقدره قل أو كثر حتى إذا كانت الزيادة درهماً يجب فيها جزء من أربعين جزءاً من درهم. وفيه دليل على أنه لا وقص في نصاب الفضة فيخرج عما زاد على المائتي درهم بحسابه ربع العشر قلت الزيادة أو كثرت. وكذا فيما زاد على العشرين ديناراً في الذهب وهو قول أكثر أهل العلم، روى هذا عن علي وابن عمر، وبه قال عمر بن عبد العزيز والنخعي والثوري وابن أبي ليلى وأبويوسف ومحمد بن الحسن وأبوعبيد وأبوثور وابن المنذر، وهو قول مالك والشافعي وأحمد. وروى عن الحسن البصري والشعبي ومكحول وسعيد بن المسيب والأوزاعي وعطاء والزهري وعمرو بن دينار إنهم قالوا: لا شيء في زيادة الدراهم حتى تبلغ أربعين، ولا في زيادة الدنانير حتى تبلغ أربعة دنانير. وبه قال أبوحنيفة. واحتج أهل هذا القول بما روى الدارقطني (ص200) والبيهقي (ج4 ص135) من طريق ابن إسحاق عن المنهال بن الجراح عن حبيب بن نجيح عن عبادة بن نُسي عن معاذ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره حين وجهه إلى اليمن أن لا تأخذ من الكسور شيئاً، إذا كانت الورق مائتي درهم فخذ منها خمسة دراهم، ولا تأخذ مما زاد شيئاً حتى تبلغ أربعين درهماً، فإذا بلغت أربعين فخذ منها درهماً. قال الدارقطني: المنهال بن الجراح متروك الحديث واسمه الجراح بن المنهال وكان ابن إسحاق يقلب اسمه إذا روى عنه وعبادة لم يسمع من معاذ - انتهى. وقال ابن حبان: المنهال بن الجراح كان يكذب. وقال عبد الحق: كذاب. وقال أبوحاتم: متروك الحديث واهية، لا يكتب حديثه. وقال البيهقي: إسناد

هذا الحديث ضعيف جداً. واحتجوا أيضاً بما روى من طريق الحسن بن عمارة عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: هاتوا ربع العشر من كل مائتي خمسة دراهم، ومن كل عشرين ديناراً نصف دينار، وليس في مائتي درهم شيء حتى يحول عليها الحول. فإذا حال عليها الحول ففيها خمسة دراهم، فما زاد ففي كل أربعين درهماً درهم ذكره ابن حزم في المحلى. (ج6 ص61) والحسن بن عمارة متروك فالحديث ضعيف جداً، واحتجوا أيضاً بما روى الحاكم (ج1 ص395) والبيهقي (ج4 ص89) والطبراني وغيرهم من حديث عمرو ابن حزم الطويل وفيه " في كل خمس أواق من الورق خمسة دراهم وما زاد ففي كل أربعين درهماً درهم" وهذا حديث سنده جيد، وإن تكلم عليه ابن التركماني في الجوهر النقي، وأجيب عنه بأن غاية ما فيه إن في أربعين درهماً زائد درهم، ولا ينكره أهل القول الأول، وليس فيه إسقاط الزكاة عن أقل من أربعين زائدة على المائتين، أي ليس فيه أن لا زكاة فيما بين المأتين وبين الأربعين فلا يترك به منطوق حديث الباب. واحتجوا أيضاً بما روى ابن أبي شيبة عن الحسن البصري. قال: كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري فيما زاد على المائتين ففي كل أربعين درهماً درهم. وروى أبوعبيد في الأموال (ص422) من طريق يحيى بن أيوب عن حميد عن أنس قال: ولاني عمر بن الخطاب الصدقات فأمرني أن آخذ من كل عشرين ديناراً نصف دينار، وما زاد فبلغ أربعة دنانير ففيه درهم وإن آخذ من مائتي درهم خمسة دراهم فما زاد فبلغ أربعين درهماً ففيه درهم. وأجيب عن الأول. بأنه منقطع فإن الحسن لم يولد إلا لسنتين باقيتين من خلافة عمر. وعن الثاني: بما قال أبوعبيد (ص423) قد يحتمل قول عمر أن يكون إنما أراد أن يفهم الناس الحساب وأن يعلمهم إن في كل أوقية درهماً، وهو مع هذا يرى إن ما زاد على المائتين وعلى عشرين ديناراً ففيه الزكاة بالحساب - انتهى. واحتجوا أيضاً بأن له عفواً في الابتداء فكان له عفو بعد النصاب كالماشية وأجيب عنه بأن الماشية يشق تشقيصها بخلاف الأثمان. واستدل أهل القول الأول بحديث الباب وهو حديث صحيح أو حسن وله طرق ذكرها الزيلعي، وأجاب عنه أهل القول الثاني بأنه محمول على أن يكون الزائد على المائتين هو الأربعين جمعاً بين الأحاديث ولا يخفى ما فيه. واستدلوا أيضاً بما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم -. "ليس فيما دون خمس أواق صدقة" قال أبوعبيد: (ص424) القول الأول هو المعمول به عندنا والذي عليه الجمهور الأعظم من المسلمين ومع اجتماعهم عليه أنه موافق لتأويل الحديث المرفوع. قال: ألا ترى! أنه - صلى الله عليه وسلم - حين أخبر إن ليس في أقل من خمس أواق شيء، قد جعل الخمس حداً فاصلاً فيما بين ما تجب فيه الصدقة وبين ما لا تجب. فتبين لنا بقوله هذا إن الزائد على الخمس سواء قليله أو كثيره. وإن الزكاة واجبة فيه إذ لم يذكر بعد الخمس وقتاً آخر كتوقيته في الماشية حين قال: في كل خمس شاة وفي كل عشر شاتان، فجعل صدقة

وفي الغنم في كل أربعين شأة، شأة، إلى عشرين ومائة، فإن زادت واحدة، فشأتان إلى مائتين. فإن زادت، فثلاث شياه إلى ثلاث مائة. فإذا زادت على ثلاثمائة، ففي كل مائة شأة. فإن لم تكن إلا تسع وثلاثون، فليس عليك فيها شيء. ـــــــــــــــــــــــــــــ الماشية خاصة مراتب بعضها فوق بعض وألغى ما بينهما، وجعل الصامت وما تخرج الأرض كله بمنزلة واحدة، إذا بلغت الخمس فصاعداً. ثم شرحه علي وابن عمر وإبراهيم وعمر بن عبد العزيز بقولهم وما زاد فبالحساب. وقال الخطابي في المعالم: (ج2 ص14) في قوله ليس فيما دون خمس أواق صدقة دليل على أن ما زاد على المائتين، فإن الزكاة تجب فيه بحسابه لأن في دلالته إيجاباً في الخمس الأواقي وفيما زاد عليه، وقليل الزيادة وكثيرها سواء في مقتضى الاسم ولا خلاف في أن فيما زاد على الخمسة الأوسق من التمر صدقة قلت الزيادة أو كثرت. وقد اسقط النبي - صلى الله عليه وسلم - الزكاة عن الخمسة الأوسق كما أسقطها عما نقص عن الخمس الأواق، فوجب أن يكون حكم ما زاد على الخمس الأواقي من الورق حكم الزيادة على الخمسة الأوسق لأن مخرجهما في اللفظ مخرج واحد- انتهى. واستدل ابن حزم لذلك بما تقدم من قوله عليه السلام في كتاب أبي بكر الصديق وفي الرقة ربع العشر الخ. قال ابن حزم: أوجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصدقة في الرقة ربع العشر عموماً لم يخص عن ذلك شيئاً إلا ما كان أقل من خمس أواقي فبقي ما زاد على ذلك على وجوب الزكاة فيه، فلا يجوز تخصيص شيء منه أصلاً - انتهى. واستدل لذلك أيضاً بما روى أبوعبيد (ص420) وعبد الرزاق عن علي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة (ج3 ص7) وأبوعبيد (ص421) عن ابن عمر قالا في كل مائتي درهم خمسة دراهم وما زاد فبالحساب، وهذا القول هو الراجح المعول عليه المعول به عندنا والله تعالى أعلم. (في كل أربعين) بدل من في الغنم بإعادة الجار (شأة) قال القاري: تمييز للتأكيد كما في قوله تعالى: {ذرعها سبعون ذراعاً} [الحاقة: 32] . قال الطيبي: وليس شاة ههنا تمييزاً مثله في قوله في كل أربعين درهماً درهم، لأن درهماً بيان مقدار الواحد من أربعين ولا يعلم هذا من الرقة فيكون شاة هنا لمزيد التوضيح ونظر فيه ابن حجر (شأة) مبتدأ مؤخر "وفي الغنم" خبره. قال القاري: ثم الظاهر إن لفظ "كل" زائدة، أو المراد بها استغراق أفراد الأربعين ليفيد تعلق الزكاة بكل من أربعين أو الواجب شاة مبهمة. والحاصل إنها ليست مثلها في كل أربعين درهماً درهم، وإلا لفسد المعنى إذ لا تتكر الزكاة هنا بتكرر الأربعين إجماعاً ثم لا شيء فيما زاد على الأربعين. (إلى عشرين ومائة فإن زادت واحدة فشأتان إلى مائتين فإن زادت) أي واحدة أو الغنم على مأتين (فثلاث شياه إلى ثلاث مائة فإذا زادت) أي الشأة (على ثلاث مائة) مائة أخرى لا ما دونها (ففي كل مائة شاة فإن لم تكن) بالتأنيث وفي أبي داود فإن لم يكن بالتذكير (إلا تسع وثلاثون) من الغنم (فليس عليك فيها شيء) لأنها لم تبلغ النصاب، وليس في هذا الحديث عند أبي داود ما ذكر المصنف من سياق صدقة الغنم فإن أباداود لم يذكر سياقه بل أحاله

وفي البقر في كل ثلاثين تبيع، وفي الأربعين مسنة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ على حديث الزهري ولفظه "وفي الغنم في كل أربعين شاة شأة فإن لم يكن إلا تسع وثلاثون فليس عليك فيها شيء" وساق صدقة الغنم مثل الزهري - انتهى. أي وساق أبوإسحاق صدقة الغنم كما تقدم في حديث سفيان بن حسين عن الزهري عن سالم عن أبيه (وفي البقر) اسم جنس للمذكر والمؤنث إشتقت من بقرت الشيء إذا شققته، لأنها تبقر الأرض بالحراثة. وفيه دليل على وجوب الزكاة في البقر، قال ابن قدامة: (ج2 ص591) صدقة البقر واجبة بالسنة والإجماع. أما السنة فما روى أبوذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمن فتنطحه بقرونها الحديث. وقد تقدم في أوائل الزكاة ثم ذكر ابن قدامة حديث معاذ الآتي وحديثاً آخر له عن مسند الإمام أحمد. ثم قال: وأما الإجماع فلا أعلم اختلافاً في وجوب الزكاة في البقر. وقال أبوعبيد: (ص379) لا أعلم الناس يختلفون فيه اليوم (في كل ثلاثين) أي بقراً (تبيع) هو ما تم له الحول من ولد البقر وطعن في السنة الثانية سمي به، لأنه فطم عن أمه فهو يتبعها وتجزيء عنه تبيعة بل أولى للأنوثة (وفي الأربعين) من البقر (مسنة) هي التي استكملت سنتين وطعنت في الثالثة وهي الثنية وسميت بذلك لأنها طلعت سنها والاقتصار على المسنة يدل على أنه لا يجزيء المسن ولكن أخرج الطبراني عن ابن عباس مرفوعاً في كل ثلاثين تبيع وفي كل أربعين مسن أو مسنة. قال الهيثمي: وفيه ليث ابن أبي سليم وهو ثقة لكنه مدلس - انتهى. وهذا يدل على أنها لا تتعين الأنوثة في البقر بخلاف الإبل، وسيأتي مزيد من الكلام عليه في شرح الحديث الذي يليه. والحديث دليل على أن نصاب الزكاة في البقر ما ذكر فيه. قال ابن عبد البر: في الاستذكار لا خلاف بين العلماء إن السنة في زكاة البقر ما في حديث معاذ الآتي وإنه النصاب المجمع عليه فيها - انتهى. وفيه دلالة على أنه لا يجب فيما دون الثلاثين شيء وفيه خلاف الزهري. فقال: يجب في كل خمس شاة قياساً على الإبل. وأجاب الجمهور بأن النصاب لا يثبت بالقياس وبأنه قد روى (النسائي) ليس فيما دون ثلاثين من البقر شيء وهو وإن كان مجهول الإسناد فمفهوم حديث معاذ يؤيده كذا في سبل السلام. وقال ابن قدامة: لا زكاة فيما دون الثلاثين من البقر في قول جمهور العلماء، وحكى عن سعيد بن المسيب والزهري أنهما قالا: في كل خمس شاة لأنها عدلت الإبل في الهدى والأضحية فكذلك في الزكاة، ولنا ما تقدم من الخبر، ولأن نصب الزكاة إنما ثبتت بالنص والتوقيف وليس فيما ذكراه نص ولا توقيف فلا يثبت وقياسهم فاسد فإن خمساً وثلاثين من الغنم تعدل خمساً من الإبل في الهدى ولا زكاة فيها- انتهى. ثم قال ابن حجر: ولا شيء فيما زاد على الأربعين حتى تبلغ سنتين ففيها تبيعان ثم يتغير الفرض بزيادة عشر فعشر، ففي كل أربعين مسنة وفي كل ثلاثين تبيع - انتهى. وقال الخطابي في المعالم: (ج2 ص30) في الحديث دليل على أن البقر إذا زادت على الأربعين لم يكن فيها شيء حتى تكمل ستين، ويدل على صحة ذلك ما روى عن معاذ أنه أتى بوقص البقر فلم يأخذه، ومذهب أبي حنيفة إن ما

وليس على العوامل شيء. 1815- (7) وعن معاذ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لما وجهه إلى اليمن، أمره أن يأخذ من البقرة، من كل ثلاثين تبيعاً، أو تبيعة. ومن كل أربعين مسنة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ زاد على الأربعين فبحسابه - انتهى. وسيأتي تفصيل الكلام عليه في شرح الحديث الذي يليه. (وليس على العوامل شيء) "على" بمعنى في أو التقدير على صاحب العوامل وعند الدارقطني في حديث عاصم ليس في البقر العوامل شيء، وفي حديث الحارث ليس على البقر العوامل شيء وهي جمع عاملة وهي التي يستقي عليها ويحرث وتستعمل في الاشتغال. وفيه دليل على أنه لا يجب في البقر العوامل شيء ولو بلغت نصاباً، وظاهره سواء كانت سائمة أو معلوفة وقد ثبتت شرطية السوم في الغنم في حديث أبي بكر المتقدم. وفي الإبل في حديث بهز عند أبي داود والنسائي. قال الدميري: وألحقت البقر بهما. قال ابن قدامة: لا زكاة في غير السائمة من البقر في قول الجمهور وحكى عن مالك إن في العوامل والمعلوفة صدقة كقوله في الإبل وقد تقدم الكلام معه، ثم ذكر حديث عليه هذا وما روى في نفي الصدقة عن البقر العوامل من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً، ومن آثار الصحابة كعلي ومعاذ وجابر. قال ولأن صفة النماء معتبرة في الزكاة ولا يوجد إلا في السائمة - انتهى. وحديث على هذا أخرجه ابن عدي في الكامل عن زيد بن حبان الكوفي عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: هاتوا ربع العشور من كل أربعين درهماً درهم، وما زاد فبحساب ذلك- انتهى. ولين زيد بن حبان. وقال: لا أرى برواياته بأساً - انتهى. 1815- قوله: (وعن معاذ) بضم الميم (وجهه) أي بعثه (إلى اليمن) عاملاً على الزكاة وغيرها (من البقر) وفي بعض النسخ من البقر كما في أبي داود والنسائي والدارمي والتاء في بقرة للوحدة لا للتأنيث فيقع على الذكر والأنثى والمراد الجنس (تبيعاً أو تبيعة) فيه أنه مخير بين الأمرين (ومن كل أربعين مسنة) يعني أو مسناً كما تقدم في حديث ابن عباس عند الطبراني. واختلف العلماء فيه، فذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد إلى أنه لا يجزيء فيها المسن أي الذكر، وقال أبوحنيفة: ذكورها وإناثها في الصدقة سواء. قال في المبسوط: لا فرق بين الذكر والإناث في زكاة البقر بخلاف الإبل فإنه لا يؤخذ منها إلا الإناث، وذلك لتقارب ما بين الذكور والإناث في الغنم والبقر وتباين ما بينهما في الإبل - انتهى. وقال ابن قدامة: (ج2 ص593) لا يخرج الذكر في الزكاة أصلاً إلا في البقر فإن ابن اللبون ليس بأصل، إنما هو بدل عن ابنة مخاض. ولهذا لا يجزيء مع وجودها وإنما يجزيء الذكر في البقر عن الثلاثين وما تكرر منها كالستين والسبعين، وما تركب من الثلاثين

وغيرها كالسبعين فيها تبيع ومسنة والمائة فيها مسنة وتبيعان، وإن شاء أخرج مكان الذكور إناثاً لأن النص ورد بهما جميعاً، فأما الأربعون وما تكرر منها كالثمانين فلا يجزيء في فرضها إلا الإناث إلا أن يخرج عن المسنة تبيعين فيجوز، وإذا بلغت البقر مائة وعشرين اتفق الفرضان جميعاً فيخير رب المال بين إخراج ثلاث مسنات، أو أربع أتبعه، والواجب أحدهما أيهما شاء، والخيرة في الإخراج إلى رب المال. وهذا التفصيل فيما إذا كان فيها إناث فإن كانت كلها ذكوراً أجزأ الذكر فيها بكل حال، ويحتمل أنه لا يجزئه إلا إناث في الأربعينات. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على المسنات في حديث معاذ عند أحمد فيجب إتباع مورده فيكلف شراءها والأول. أولى لأننا أجزنا المذكر في الغنم مع أنه لا مدخل له في زكاتها مع وجود الإناث، فالبقر التي للذكر فيها مدخل أولى انتهى. قلت: والراجح عندي أنه يجزيء المسن عن الأربعين لحديث ابن عباس المتقدم والله تعالى أعلم. هذا وقد اختلفوا فيما زاد على الأربعين فذهب أكثر أهل العلم، ومنهم الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد وأبويوسف ومحمد والثوري والنخعي والشعبي والحسن وإسحاق وأبوعبيد وطاووس وعمر بن عبد العزيز والليث وأبوثور، لا شيء في الزيادة حتى تبلغ ستين فإذا بلغتها ففيها تبيعان إلى تسع وستين، فإذا بلغت سبعين ففيها مسنة وتبيع، ثم هكذا أبداً لا شيء فيها حتى تبلغ عشراً زائدة، فإذا بلغتها ففي كل ثلاثين من العدد تبيع وفي كل أربعين مسنة. وقال أبوحنيفة في الرواية المشهورة عنه: فيما زاد على الأربعين بحسابه في كل بقرة ربع عشر مسنة، وهكذا إلى ستين فراراً من جعل الوفص تسعة عشر وهو مخالف لجميع أوقاصها فإن جميع أوقاصها عشرة عشرة، فإذا بلغت الستين ففيها تبيعان ثم لا شيء فيها إلا في كل عشرة زائدة. قال في الهداية: إذا زادت على أربعين وجب في الزيادة بقدر ذلك إلى ستين عند أبي حنيفة، ففي الواحدة ربع عشر مسنة وهكذا وهو رواية الأصل، لأن العفو ثبت نصاً بخلاف القياس ولا نص ههنا. وروى الحسن عن أبي حنفية أنه لا يجب في الزيادة شيء حتى تبلغ خمسين، ثم فيها مسنة وربع مسنة أو ثلث تبيع لأن مبني هذا النصاب على أن يكون بين عقدين وقص وفي كل عقد واجب. وقال أبويوسف ومحمد: لا شيء في الزيادة حتى تبلغ ستين وهو رواية عن أبي حنيفة. قال العيني: وبه قال مالك والشافعي وأحمد: وفي المحيط هو أوفق الروايات عن أبي حنفية وفي جوامع الفقه هو المختار - انتهى. قلت: وهو القول الراجح المعول عليه عندنا لما روى أحمد (ج5 ص240) والطبراني من طريق ابن وهب عن حيوة بن شريح عن يزيد بن أبي حبيب عن سلمة بن أسامة عن يحيى بن الحكم إن معاذاً قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أصدق أهل اليمن وأمرني أن آخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعاً، ومن كل أربعين مسنة. قال: فعرضوا علي أن آخذ ما بين الأربعين والخمسين وبين الستين والسبعين، وما بين الثمانين والتسعين فأبيت ذاك. وقلت لهم حتى أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقدمت فأخبرت النبي - صلى الله عليه وسلم -

فأمرني أن آخذ من كل ثلاثين تبيعاً ومن كل أربعين مسنة، ومن الستين تبيعين ومن السبعين مسنة وتبيعاً، ومن الثمانين مسنتين ومن التسعين ثلاث أتبعة، ومن المائة مسنة وتبيعين، ومن العشرة ومائة مسنتين وتبيعاً، ومن العشرين ومائة ثلاث مسنات، أو أربعة أتبعه. قال: وأمرني أن لا أخذ فيما بين ذلك شيئاً إلا أن تبلغ مسنة أو جذعاً وزعم إن الأوقاص لا فريضة فيها - انتهى. قال ابن قدامة: (ج2 ص593) هذا صريح في محل النزاع وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآخر في كل ثلاثين تبيع وفي كل أربعين مسنة، يدل على أن الاعتبار بهذين العددين، ولأن البقر أحد بهيمة الأنعام، ولا يجوز في زكاتها كسر كسائر الأنواع، ولا ينقل من فرض فيها إلى فرض بغير وقص كسائر الفروض، ولأن هذه زيادة لا يتم بها أحد العددين فلا يجب فيها شيء كما بين الثلاثين والأربعين، وما بين الستين والسبعين. ومخالفة قول أبي حنيفة المشهور للأصول أشد من الوجوه التي ذكرناها على أن أوقاص الإبل والغنم مختلفة، فجاز الاختلاف ههنا - انتهى. قلت: حديث معاذ المذكور أخرجه أبوأحمد ابن زنجوية في كتاب الأموال، من طريق بن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن سلمة بن أسامة عن يحيى بن الحكم. وأخرجه أيضاً أبوعبيد في الأموال (ص383) من هذا الطريق، إلا أنه قال عن سلمة بن أسامة إن معاذ بن جبل قال بعثني الخ ولم يذكر يحيى بن الحكم. ونقل الزيلعي عن صاحب التنقيح أنه قال: هذا أي حديث معاذ المذكور حديث فيه إرسال، وسلمة بن أسامة ويحيى بن الحكم غير المشهورين ولم يذكرهما ابن أبي حاتم في كتابة - انتهى. واعترض بعض العلماء على هذا الحديث بأن معاذاً لم يلق النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد رجوعه من اليمن، بل توفي عليه السلام قبل قدوم معاذ من اليمن. قلت: اختلفت الروايات في قدوم معاذ على النبي - صلى الله عليه وسلم - من اليمن بعد أن أرسله، ففي رواية مالك من طريق طاووس عن معاذ فتوفي النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يقدم معاذ، وهذا منقطع طاووس لم يدرك معاذاً. وفي حديث ابن مسعود عند الحاكم (ج3 ص272) وقد صححه كان معاذ شاباً سمحاً فلم يزل يدَّان حتى أغرق ماله الحديث في تأمير النبي - صلى الله عليه وسلم - له على اليمن، وفيه فلم يزل فيها حتى توفي النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم رجع معاذ فوافي عمر بمكة أميراً على الموسم وعن كعب بن مالك نحوه (ج3 ص273) وصححه أيضاً وعن جابر بمعناه (ج3 ص274) وسكت عنه. وروى ابن سعد من طريق أبي وائل استعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذاً على اليمن فتوفي النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستخلف أبوبكر ومعاذ باق باليمن ويعارض هذه الأحاديث ما روى الدارقطني (ص202) والبيهقي (ج4 ص99) والبزار وابن حزم (ج6 ص6) من حديث بقية عن المسعودي عن الحكم عن طاووس عن ابن عباس قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معاذاً إلى اليمن الحديث. وفيه فلما رجع سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه يعني الوقص فقال: ليس فيها شيء، تفرد به بقية عن المسعودي والمسعودي قد اختلط، وتابعه الحسن بن عمارة عن الحكم، والحسن بن عمارة متروك. وما روى أبويعلى

رواه أبو داود والترمذي والنسائي والدارمي. ـــــــــــــــــــــــــــــ وغيره بإسناد فيه ضعف، من طريق صهيب إن معاذاً لما قدم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من اليمن سجد له. فقال ما هذا يا معاذ: إني وجدت اليهود والنصارى يسجدون لعظمائهم، وقالوا هذه التحية أنبياءنا قال - صلى الله عليه وسلم -: كذبوا على أنبياءهم الحديث. وأخرج أحمد من وجه آخر (ج5:ص227) نحوه ذكر هذه الأحاديث المتعارضة الزيلعي في نصب الراية، والحافظ في الدراية: وسكتا عن الترجيح أو الجمع. وقال القاري: بعد ذكر هذه الروايات، ولعل الجمع بتعدد الواقعة. وقال الحافظ في الفتح: اتفقوا على أن معاذاً لم يزل على اليمن إلى أن قدم في عهد أبي بكر ثم توجه إلى الشام فمات بها. وقال في الإصابة في ترجمته: قدم من اليمن في خلافة أبي بكر وكانت وفاته بالطاعون في الشام سنة سبع عشرة أو التي بعدها وهو قول الأكثر- انتهى. (رواه أبوداود والترمذي والنسائي والدارمي) واللفظ لأبي داود وأخرجه أيضاً أحمد (ج5:ص230) وابن ماجه وابن حبان والحاكم (ج1:ص398) والدارقطني (ص203) والبيهقي (ج4:ص98) كلهم من طريق الأعمش عن أبي وائل عن مسروق عن معاذ، وصححه ابن حبان والحاكم وأقره الذهبي وحسنه الترمذي. وقال ابن عبد البر: في التمهيد ولاستذكار إسناده متصل صحيح ثابت وكذا قال ابن بطال كما في الفتح. وأعله عبد الحق في أحكامه فقال مسروق لم يلق معاذاً. وقال الحافظ في الفتح: في الحكم بصحته نظر، لأن مسروقاً لم يلق معاذاً، وإنما حسنه الترمذي لشواهده وبالغ ابن حزم في المحلي (ج6:ص11) أولاً في تقرير إن هذا الحديث منقطع ثم استدركه في آخر المسألة، ورجع عن رأيه هذا حيث قال: (ج6:ص16) وجدنا حديث مسروق إنما ذكر فيه فعل معاذ باليمن في زكاة البقر، وهو بلا شك قد أدرك معاذاً وشهد حكمه وعمله المشهور المنتشر، فصار نقله لذلك، ولأنه عن عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نقلاً عن الكافة عن معاذ بلا شك فوجب القول به - انتهى. وقال ابن القطان: لا أقول إن مسروقاً سمع من معاذ إنما أقول إنه يجب على أصولهم أن يحكم بحديثه عن معاذ، بحكم حديث المتعاصرين الذين لم يعلم انتفاء اللقاء بينهما، فإن الحكم فيه أن له بالاتصال عند الجمهور. وشرط البخاري وابن المديني أن يعلم إجتماعهما ولو مرة واحدة، فهما إذا لم يعلما لقاء أحدهما للآخر لا يقولون في حديث أحدهما عن الآخر منقطع، إنما يقولان لم يثبت سماع فلان من فلان فإذن ليس في حديث المتعاصرين إلا رأيان أحدهما: أنه محمول على الاتصال. والآخر أن يقال لم يعلم اتصال ما بينهما. فأما الثالث وهو أنه منقطع فلا - انتهى. وقال الأمير اليماني: وأجيب عن دعوى الانقطاع بأن مسروقاً همداني النسب من وداعة يماني الدار، وقد كان في أيام معاذ باليمن فاللقاء ممكن بينهما، فهو محكوم باتصاله على رأي الجمهور- انتهى. قلت: فالاحتجاج بحديث مسروق عن معاذ هذا تام صحيح على رأي الجمهور، وعلى ما وجه ابن حزم هذا. وقد أشار الترمذي وأبوداود إلى اختلاف

1816- (8) وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المعتدي في الصدقة، كمانعها)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ في وصله. قال الترمذي بعد تحسينه: وروى بعضهم هذا الحديث عن الأعمش عن أبي وائل عن مسروق أن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا أي المرسل أصح أي من رواية مسروق عن معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا رجح الدارقطني في العلل الرواية المرسلة، وهذه الرواية المرسلة أخرجها ابن أبي شيبة (ج3:ص12) وأبوعبيد (ص378) بسنديهما. قلت: والحديث له طرق أخرى وشواهد قد اعتضد بعضها ببعض، فمنها: عن أبي وائل عن معاذ وهي عند أحمد (ج5: ص233-247) وأبي داود والنسائي. ومنها: عن إبراهيم النخعي عن معاذ، وهي عند النسائي والدارمي والبيهقي. ومنها: عن إبراهين النخعي عن مسروق عن معاذ، وهي عند أبي داود والنسائي والدارقطني والبيهقي. ومنها: عن طاووس عن معاذ، وهي في موطأ مالك. قال في الإمام: ورواية إبراهيم عن معاذ منقطعة بلا شك، ورواية طاووس عن معاذ كذلك قال الشافعي وطاووس عالم بأمر معاذ، وإن كان لم يلق لكثرة من لقيه مما أدرك معاذاً وهذا مما لا أعلم من أحد فيه خلافاً - انتهى. وقال البيهقي: طاووس وإن لم يلق معاذاً إلا أنه يماني وسيرة معاذ بينهم مشهورة - انتهى. ومنها: عن يحيى بن الحكم عن معاذ، وهي عند أحمد وقد تقدم. وأما الشواهد. فمنها: حديث ابن مسعود عند الترمذي وابن ماجه والبيهقي وهو منقطع، ورواه ابن الجارود في المنتقي موصولاً. ومنها: حديث طاووس عن ابن عباس عند الدارقطني والبيهقي والبزار وابن حزم وهو ضعيف. وتقدم الإشارة إليه، ولابن عباس حديث آخر عند الطبراني والدارقطني، من طريق ليث عن مجاهد وطاووس عن ابن عباس. وقد تقدم الإشارة إليه أيضاً. ومنها: حديث أنس عند البيهقي (ج4:ص99) واختلف في وصله ورجح الدارقطني الإرسال. ومنها: حديث عمرو بن حزم الطويل عند الحاكم والبيهقي والطبراني. ومنها: حديث علي الذي قبل هذا الذي نحن في شرحه. 1816- قوله: (المعتدي في صدقة كمانعها) الاعتداء مجاوزة الحد، فيحتمل أن يكون المراد به المالك الذي يعتدى بإعطاء الزكاة غير مستحقيها أي يعطيها في غير المصرف، أو الذي يجاوز الحد في الصدقة بحيث لا يبقى لعياله شيئاً، أو الذي يعتدى بكتم بعضها أو وصفها على الساعي حتى أخذ منه مالاً يجزئه، أو ترك عنه بعض ما هو عليه كمانعها من أصلها في الإثم. أو المراد الساعي الذي يأخذ أكثر وأجود من الواجب، لأنه إذا فعل ذلك سنة فصاحب المال يمنعه في السنة الأخرى، فيكون سبباًً للمنع فشارك المانع في إثم المنع. قال المظهر: يعني العامل الذي يأخذ في الزكاة أكثر من القدر الواجب، ويظلم أرباب الأموال هو في الوزر كالذي لا يعطي الزكاة، ويظلم الفقراء بمنع الزكاة عنهم، وكذلك العامل يظلم أرباب الأموال بأخذ الزيادة منهم - انتهى. وقال البغوي في

رواه أبوداود والترمذي. 1817- (9) وعن أبي سعيد الخدري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس في حب ولا تمر صدقة، حتى يبلغ خمسة أوسق)) . رواه النسائي. 1818- (10) وعن موسى بن طلحة ـــــــــــــــــــــــــــــ شرح السنة: معنى الحديث إن على المعتدى في الصدقة من الإثم ما على المانع فلا يحل لرب المال، كتمان المال، وإن اعتدى عليه الساعي- انتهى. قال شيخنا في شرح الترمذي: الظاهر إن المراد بالمعتدى في الصدقة العامل المعتدى في أخذ الصدقة، ويؤيده حديث بشير بن الخصاصية. قال: قلنا إن أهل الصدقة يعتدون علينا أفنكتم من أموالنا بقدر ما يعتدون قال: لا. رواه أبوداود (رواه أبوداود والترمذي) وأخرجه أيضاً ابن ماجه وأبوعبيد (ص401) والبيهقي (ج4:ص97) وابن خزيمة في صحيحه كلهم من رواية سعد بن سنان عن أنس. وقال الترمذي: حديث غريب. وقد تكلم أحمد بن حنبل في سعد بن سنان - انتهى. قلت: سعد بن سنان هذا كندي مصري، واختلف في إسمه فقيل: هكذا. وقيل: سنان بن سعد، وصوب هذا الثاني البخاري وابن يونس، وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة. قال الجوزجاني: أحاديثه واهية. وقال النسائي وابن سعد منكر الحديث. وقال الدارقطني: ضعيف. وقال أحمد: لم أكتب أحاديثه لأنهم اضطربوا فيه وفي حديثه. وقال ابن معين: ثقة. ونقل ابن القطان إن أحمد يوثقه. وقال المنذري: في آخر الترغيب بعد ذكر الجروح المذكورة. وروى عن أحمد توثيقه وحسن الترمذي حديثه، واحتج به ابن خزيمة في صحيحه في غير ما موضع - انتهى. وقال الحافظ في التقريب: صدوق له أفراد - انتهى. فالظاهر أنه من رجال الحسن، وإن حديثه هذا حسن والله تعالى أعلم. 1817- قوله: (ليس في حب ولا تمر) أي ولا زبيب (صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق) تقدم بيانه، وقد استدل بعضهم بمفهوم الحديث على أنه لا زكاة فيما ليس بحب، كالزعفران والعصفر والقطن وغيرها من الأزهار وكالجزر والبطاطة والخيار والقثاء وغيرها من الخضر والبقول. وفي هذا الاستدلال نظر، فإن المتبادر إن هذا بيان للنصاب في الحب والتمر لا لحصر الزكاة فيهما (رواه النسائي) بل رواه مسلم أيضاً، فكان ينبغي إيراده في الفصل الأول. وأخرجه أيضاً أحمد والبيهقي (ج4:ص128) . 1818- قوله: (وعن موسى بن طلحة) أي ابن عبيد الله القرشي التيمي يكنى أباعيسى وأبامحمد المدني نزيل الكوفة ثقة جليل من كبار التابعين. وقال ابن عساكر: يقال أنه ولد في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلم وسماه.

قال: ((عندنا كتاب معاذ بن جبل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: إنما أمره أن يأخذ الصدقة، ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال ابن الهمام: لم يثبت هذا. وذكره الحافظ في الإصابة في القسم الثاني من حرف الميم، أي فيمن ذكر في الصحابة من الأطفال الذين ولدوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لبعض الصحابة ممن مات صلى الله عليه وسلم وهو في دون سن التميز. قال الحافظ: لكن أحاديث هؤلاء عنه من قبيل المراسيل عند المحققين - انتهى. روى عن أبيه طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المبشرة، وعن عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وغيرهم من الصحابة، وعنه ابنه عمران وحفيده سليمان وابنا أخيه إسحاق، وطلحة إبناً يحيى بن طلحة، وعمرو بن عثمان وغيرهم مات سنة ثلاث ومائة على الصحيح (قال عندنا كتاب معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم) قال القاري: قال بعضهم أخذاً من كلام الطيبي إن تعلق عن النبي صلى الله عليه وسلم: بقوله عن موسى بن طلحة كان الحديث مرسلاً لأنه تابعي، ويكون قوله عندنا كتاب معاذ معترضاً ولا معنى له. قلت: قائله القاري) بل معناه إن كتابه بهذا المضمون أو موافق للرواية لفظاً ومعنى. ويؤيده قوله "قال" ويقويه قول المؤلف مرسل. قال: وإن تعلق بقوله عندنا كتاب معاذ كان حالاً من ضمير كتاب في الخبر، أي صادراً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يكون الحديث مرسلاً بل يكون هذا وجادة - انتهى. قال القاري: لكن يتوقف كونه وجادة على ثبوت كون الكتاب بخط معاذ. قال ثم رأيت الطيبي قال: هذا من باب الوجادة، لأنه من باب نقل من كتاب الغير من غير إجازة ولا سماع ولا قراءة - انتهى. قلت: الحق والصواب إن قوله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - متعلق بقوله عندنا كتاب معاذ، وهو من باب الوجادة بشرط أن يكون الكتاب المذكور بخط معاذ. والوجادة المصطحلة هي أن يقف على أحاديث بخط، راويها غير المعاصر له أو المعاصر ولم يلقه أو لقيه ولم يسمع منه أو سمع منه، ولكن لا يروي تلك الأحاديث الخاصة عنه بسماع ولا إجازة. فله أن يقول وجدت أو قرأت بخط فلان عن فلان، وهو من باب المنقطع لكن فيه شوب إتصال لقوله وجدت بخط فلان. وإذا وجد حديثاً في تأليف شخص وليس بخطه، قال ذكر فلان أو قال فلان. وهذا منقطع لا شوب من الاتصال فيه. وهذا كله إذا وثق بأنه خطه أو كتابه، وإلا فليقل بلغني عن فلان أو وجدت عنه إلى آخر ما قال السيوطي في التدريب. وروى هذا الحديث أبويوسف في الخراج (ص64) قال حدثنا عمرو بن عثمان عن موسى بن طلحة، أنه كان لا يرى صدقة إلا في الحنطة والشعير والنخل والكرم والزبيب. قال: وعندنا كتاب كتبه النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ، أو قال نسخة أو وجدت نسخة هكذا - انتهى. وهذا يدل على أن المراد بكتاب معاذ في رواية الباب كتاب كتبه النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ في الصدقة، لا كتاب كتبه معاذ في الصدقة، وكيف ما كان الأمر الحديث مرسل كما قال المؤلف (أنه) أي معاذاً (قال إنما أمره) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (أن يأخذ الصدقة) أي الزكاة وهي العشر أو نصفه ورواه أحمد (ج5:ص528) والحاكم (ج1:ص401) والدارقطني (ص201)

من الحنطة والشعير والزبيب والتمر)) . مرسل، رواه في شرح السنة. ـــــــــــــــــــــــــــــ والبيهقي (ج4:ص228) بلفظ: عن موسى بن طلحة. قال: عندنا كتاب معاذ بن جبل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنه إنما أخذ الصدقة الخ. قال البيهقي: ورواه عبد الله بن الوليد العدني عن سفيان، وزاد فيه بعث الحجاج موسى بن المغيرة على الخضر والسواد، فأراد أن يأخذ من الخضر الرطاب والبقول. فقال موسى بن طلحة: عندنا كتاب معاذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمره أن يأخذ الخ. (من الحنطة والشعير والزبيب والتمر) فيه دليل على أنه لا زكاة إلا في هذه الأربعة واحتج به من قال بحصر العشر أو نصفه في الحنطة والشعير من الحبوب والتمر الزبيب من الثمار. وأجاب من لم يقل بذلك بأن الحديث منقطع كما تقدم وسيأتي أيضاً، وبأنه ليس معناه أنه لا تجب الزكاة إلا في هذه الأربعة فقط، بل الزكاة واجبة فيما ينبته الآدميون إذا كان قوتاً في حال الاختيار كما قال الشافعي أو إذا كان مكيلاً مدخراً كما ذهب إليه أحمد، أو في جميع ما يقصد بزراعته نماء الأرض كما ذهب إليه أبوحنيفة وداود الظاهري. وإنما أمره أن يأخذ الزكاة من هذه الأربعة، لأنه لم يكن، ثم غير هذه الأربعة قال الطيبي: هذا إن صح بالنقل فلا كلام وإن فرض إن ثمة شيئاً غير هذه الأربعة مما تجب الزكاة فيه، فمعناه أنه إنما أمره أن يأخذ الصدقة من المعشرات من هذه الأجناس، وغلب الحنطة والشعير على غيرهما، من الحبوب لكثرتهما في الوجود، وإصالتهما في القوت. واختلف فيما تنبت الأرض مما يزرعه الناس وتغرسه، فعند أبي حنيفة تجب الزكاة في الكل سواء كان قوتاً أو غير قوت، فذكر التمر والزبيب عنده للتغليب أيضاً. وقيل: الحصر فيه ليس حصراً حقيقياً، بل هو إضافي بالنسبة إلى الخضروات ونحوها. لما روى الدارقطني وغيره عن موسى بن طلحة عن معاذ مرفوعاً، فيما سقت السماء والبعل والسيل العشر، وفيما سقى بالنضح نصف العشر. وإنما يكون ذلك في التمر والحنطة والحبوب، فأما القثاء والبطخ والرمان والقصب فقد عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه إسحاق بن طلحة وهو ضعيف متروك. وقد تقدم بسط الكلام على هذه المسألة في شرح حديث الأوساق (مرسل) أي منقطع. قال ابن حزم في المحلي (ج5:ص222) هذا منقطع لأن موسى بن طلحة لم يدرك معاذاً بعقله. وقال الحاكم: موسى بن طلحة تابعي كبير لم ينكر له أن يدرك أيام معاذ أي لا ينكر له لقي معاذ. قال الحافظ: قد منع ذلك أبوزرعة. وقال ابن عبد البر: لم يلق معاذاً ولا أدركه - انتهى. وقال ابن دقيق العيد: في الاتصال بين موسى بن طلحة ومعاذ نظر، فقد ذكروا إن وفاة موسى سنة ثلاث ومائة، وقيل: سنة أربع ومائة - انتهى. وقال ميرك: فيه شائبة الاتصال بواسطة الوجادة إن صح إن الكتاب بخط معاذ (رواه في شرح السنة) وأخرجه أيضاً أحمد والدارقطني والحاكم والبيهقي، وفي معناه أحاديث أخرى ذكرناها في شرح حديث الأوساق.

1819- (11) وعن عتاب بن أسيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((في زكاة الكروم، إنها تخرص ـــــــــــــــــــــــــــــ 1819- قوله: (وعن عتاب) بفتح المهملة وتشديد المثناة الفوقية آخره موحدة (بن أسيد) بفتح الهمزة وكسر السين المهملة ابن أبي العيص بن أمية بن عبدشمس الأموي المكي صحابي. وكان أمير مكة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومات في يوم مات أبوبكر الصديق فيما ذكر الواقدي لكن ذكر الطبراني أنه كان عاملاً على مكة لعمر سنة إحدى وعشرين كذا في التقريب. وقال ابن عبد البر: استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على مكة عام الفتح في خروجه إلى حنين، فحج بالناس سنة ثمان، وحج المشركون على ما كانوا عليه، ولم يزل على مكة حتى قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقره أبوبكر فلم يزل عليها والياً إلى أن مات فكانت وفاته فيما ذكر الواقدي يوم مات أبوبكر الصديق وكان رجلاً صالحاً فاضلاً، وكان عمره حين استعمل نيفاً وعشرين سنة له عند أصحاب السنن حديث الخرص. رووه من رواية سعيد بن المسيب عنه. قال أبوداود وأبوحاتم: لم يسمع سعيد من عتاب. وقال ابن قانع: لم يدركه وقال المنذري: إن قطاعه ظاهر. لأن مولد سعيد في خلافة عمر (لسنتين مضتا من خلافة عمر) ومات عتاب يوم مات أبوبكر. قال الحافظ في تهذيب التهذيب: في ترجمة سعيد بن المسيب بعد ذكر اختلاف أحمد ومالك وأبي حاتم في سماع سعيد من عمر ما لفظه. وقال ابن سعد: عن الواقدي لم أر أهل العلم يصححون سماعة من عمر، وإن كانوا قد رووه. قلت: قد وقع لي حديث بإسناد صحيح لا مطعن فيه تصريح بسماعه من عمر فذكره ثم قال: وأما حديثه عن بلال وعتاب بن أسيد فظاهر الانقطاع بالنسبة إلى وفاتيهما ومولده والله أعلم. وقال في ترجمة عتاب: روى الطيالسي والبخاري في تاريخه (ج4:ص54) من طريق أيوب عن عبد الله بن يسار عن عمرو بن عقرب، سمعت عتاباً فذكر حديثاً وإسناده حسن، ومقتضاه إن عتاباً تأخرت وفاته عما قال الواقدي. لأن عمرو بن عقرب ذكره البخاري في التابعين وقال سمع عتاباً، ويؤيد ذلك إن الطبري ذكر عتاباً فيمن لا يعرف تاريخ وفاته، وقال في تاريخه إنه كان والي عمر سنة عشرين، وذكره قبل ذلك في سني عمر، ثم ذكره في سنة (22) ثم قال في مقتل عمر سنة (23) قتل وعامله على مكة نافع بن عبد الحارث - انتهى. فهذا يشعر بأن موت عتاب كان في أواخر سنة (22) أو أوائل سنة (23) فعلى هذا فيصح سماع سعيد بن المسيب منه - انتهى. (قال في زكاة الكروم) أي في كيفية زكاتها وهي بضمتين، جمع الكرم بفتح الكاف وسكون الراء وهو شجر العنب. قال ابن حجر: ولا ينافي تسمية العنب كرماً خبر الشيخين لا تسموا العنب كرماً، فإن الكرم هو المسلم. وفي رواية: فإنما الكرم قلب المؤمن لأنه نهى تنزيه على أن تلك التسمية من لفظ الراوي لم يبلغه النهى أو خاطب به من لا يعرفه إلا به - انتهى. وسيأتي مزيد الكلام عليه في باب الأسامي في شرح حديث النهى المذكور (إنها تخرص)

كما تخرص النخل، ثم تؤدي زكاة زبيباً، كما تؤدي زكاة النخل تمراً)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ على بناء المجهول من باب ضرب ونصر أي تحزر (بتقديم الزاي المعجمة على الراء المهملة) من خرص الكرمة والنخلة يخرصها خرصاً بفتح المعجمة وسكون الراء إذا قدر ما عليها من الرطب تمراً، ومن العنب زبيباً. قال السندي: الخرص هو تقدير ما على النخل من الرطب تمراً، وما على الكروم من العنب زبيباً، ليعرف مقدار عشره ثم يخلى بينه وبين مالكه، ويؤخذ ذلك المقدار وقت قطع الثمار. وحكى الترمذي عن بعض أهل العلم إن تفسيره إن الثمار إذا أدركت من الرطب والعنب مما فيه الزكاة بعث السلطان خارصاً ينظر، فيقول يخرج من هذا كذا وكذا زبيباً، أو كذا وكذا تمراُ، فيحصيه وينظر مبلغ العشر من ذلك، فيثبته عليهم ويخلى بينهم وبين الثمار، فإذا جاء وقت الجذاذ أخذ منهم العشر- انتهى. وفائدة الخرص التوسعة على أرباب الثمار في التناول منها، والبيع من زهوها، وإيثار الأهل والجيران والفقراء لأن في منعهم تضييقاً لا يخفى. قال الأمير اليماني: فائدة الخرص أمن الخيانة من رب المال، ولذلك يجب عليه البينة في دعوى النقص بعد الخرص وضبط حق الفقراء على المالك ومطالبة المصدق بقدر ما خرصه وانتفاع المالك بالأكل ونحوه. وقال الخطابي: فائدة الخرص ومعناه إن الفقراء شركاء أرباب الأموال في الثمر، فلو منع أرباب الأموال من حقوقهم ومن الانتفاع بها إلى أن تبلغ الثمرة غاية جفافها لا ضرر ذلك بهم، ولو انبسطت أيديهم فيها لا خل ذلك بحصة الفقراء منها، إذا ليس مع كل أحد من التقية ما تقع به الوثيقة في أداء الأمانة، فوضعت الشريعة هذا العيار ليتوصل به أرباب الأموال إلى الإنتفاع ويحفظ على المساكين حقوقهم. وإنما يفعل ذلك عند أول وقت بدو صلاحها، قبل أن يؤكل ويستهلك ليعلم حصة الصدقة منها فيخرج بعد الجفاف بقدرها تمراً وزبيباً - انتهى. كما تخرص النخل ثم تؤدي زكاته) أي المخروص (زبيباً) هو اليابس من العنب يعني إذا ظهر في العنب وثمر النخل حلاوة يخرص على المالك ويقدر الخارص، إن هذا العنب إذا صار زبيباً كم يكون. وكذلك الرطب إذا صار تمراً كم يكون، ثم ينظر فإن كان نصاباً يجب عليه زكاته وإن لم يكن نصاباً لم يجب عليه (كما تؤدي زكاة النخل تمراً) قال الخطابي: إنما يخرص من الثمر ما يحيط به البصر بارزاً لا يحول دونه حائل، ولا يخفى موضعه في خلال ورق الشجر والعنب في هذا المعنى كثمراً النخل. فأما سائر الثمار فإنها لا تجري فيها الخرص لأن هذا المعنى فيها معدوم - انتهى. وقيل: إن حكمة جعل النخل فيه أصلاً مقيساً عليه، إن خيبر فتحت أول سنة سبع وبها نخل، وقد بعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة. فخرصها فلما فتح الطائف وبها العنب الكثير أمر بخرصه كخرص النخل المعروف عندهم ذكره صاحب البيان وهو الأحسن. أو إن النخل كانت عندهم أكثر وأشهر كذا في المرقاة. والحديث دليل على مشروعية الخرص في العنب والنخل واليه ذهب أكثر أهل العلم، منهم عمر بن الخطاب وسهل بن أبي حثمة

................................ ـــــــــــــــــــــــــــــ ومروان والقاسم بن محمد وعطاء والزهري، وعمرو بن دينار ومالك والشافعي وأحمد وأبوعبيد وأبوثور. ثم اختلفوا هل هو واجب أو مستحب أو جائز؟ فقال الشافعي: في أحد قوليه بوجوبه مستدلاً بما في حديث عتاب بن أسيد عند أبي داود والنسائي وغيرهما من أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أمر أن يخرص العنب كما يخرص النخل. إلخ. قال الأمير اليماني: قول الراوي "أمر" يفهم منه أنه أتى صلى الله عليه وسلم بصيغة تفيد الأمر والأصل فيه الوجوب. وقال الجمهور هو مستحب (وهي رواية عن الشافعي) إلا أن تعلق به حق لمحجور مثلاً أو كان شركاءه غير مؤتمنين فيجب لحفظ مال الغير. وروى عن الشافعي أيضاً أنه جائز فقط. قال العيني: وقال الشعبي والثوري وأبوحنيفة وأبويوسف ومحمد: الخرص مكروه. وقال الشعبي: الخرص بدعة. وقال الثوري: خرص الثمار لا يجوز. وقال ابن رشد قال أبوحنيفة وصاحباه: الخرص باطل وعلى رب المال أن يؤدي عشر ما تحصل بيده زاد على الخراص أو نقص منه. وقال في المسوى قالت الحنفية: الخرص ليس بشئ، وأوّلوا ما روى من ذلك بأنه كان تخويفاً للأكرة لئلا يخونوا، فأما أن يكون به حكم فلا - انتهى. قال صاحب العرف الشذي: اعتبر الخرص الحنفية أيضاً إلا أنهم لم يجعلوه حجة ملزمة وأمراً فاصلاً، فإن وقع الاختلاف بين الخارص والمالك لا يقضى عليه بقول الخارص فقط، ومن سوء بعض عبارات أصحابنا نسب إلينا عدم اعتباره مطلقاً وليس بصواب. فإن الأحاديث قد وردت به صراحة - انتهى. وقال صاحب الكوكب الدري: الخرص بالمعنى الذي بينه الترمذي جوزه الإمام أبوحنيفة في العشر والخراج - انتهى. وهذا كما ترى مخالف لما نسبه شراح الحديث وغيرهم إلى الحنفية من أنهم انكروا الخرص مطلقاً. وقالوا ببطلانه وكراهته. ووجه بعضهم هذا الاختلاف بأن محمل قول من حكى عن الحنفية بأن الخرص باطل أو ليس بشئ هو إلزام مقدار معين من العشر بذلك الخرص فإنه باطل، لأنه تخمين وليس بحجة ملزمة، ومن حكى الكراهة أراد أخذ التمر بدل الرطب بالخرص، فإنه من البيوع المنهية في الأحاديث. ومن حكى الجواز والاعتبار أراد جواز الخرص لمجرد التخمين والطمأنينة بغلبة الظن لتخويف الأكرة، ولئلا يتجاسروا على إضاعة العشر والخراج - انتهى. قلت: إعتلال الحنفية عن أحاديث الخرص بما روى من النهى عن الخرص وبأنه من المزابنة المنهي عنها وبأن جوازه منسوخ بنسخ الرباء، وبأنه كان قبل تحريم القمار، وبأنه تخمين وغرور صريح في أن مذهب الحنفية هو عدم جواز الخرص وعدم اعتباره مطلقاً، وهذا مستلزم للقول ببطلانه وإنه ليس بشئ. وأما ما نسب إليهم صاحب العرف الشذي وغيره من القول بجوازه فلا أثر له في شئ من كتب فروعهم، والظاهر إن هؤلاء لما رأو قول الكراهة والبطلان مخالفاً للسنة الثابتة الصريحة، ذهبوا إلى جوازه وإعتباره ثم نسبوه إلى الحنفية وجعلوه مذهباً لهم، فراراً من إلزام مخالفة السنة ومنابذته قلت: واستدل الجهور لمشروعية الخرص بأحاديث منها حديث عتاب وهو حديث حسن كما ستعرف.

................................ ـــــــــــــــــــــــــــــ ومنها حديث أبي حميد الساعدي الطويل عند الشيخين في خرصه - صلى الله عليه وسلم - على امرأة بوادي القرى حديقة لها. ومنها حديث عائشة الآتي قال الماروردي: الدليل على جواز الخرص ورود السنة قولاً وفعلاً وامتثالاً, أما القول فحديث عتاب. وأما الفعل فحديث البخاري يعني حديث أبي حميد الساعدي الذي أشرنا إليه. وأما الإمتثال فما روى إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان له خراصون، يعني حديث عائشة وما في معناه. ومنها حديث ابن عمر في صحيح ابن حبان، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غلب أهل خيبر على الأرض والزرع والنخل فصالحوه وفيه، فكان ابن رواحة يأتيهم فيخرصها عليهم ثم يضمنهم الشطر ذكره العيني. قلت: ولابن عمر حديث آخر عند أحمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث ابن رواحة إلى خيبر يخرص عليهم، ثم خيرهم أن يأخذوا أو يردوا إلخ. وفيه العمري وفيه كلام. ومنها: حديث جابر في المصنف. قال العيني: بسند صحيح. قال: خرصها عليهم ابن رواحة يعني خيبر أربعين ألف وسق وله حديث آخر بمعناه عند الدارقطني (ص217) والبيهقي (ج4:ص123) . ومنها: حديث ابن عباس عند أبي داود وابن ماجه إن النبي صلى الله عليه وسلم: حين افتتح خيبر الحديث. وفيه فلما كان حين يصرم النخل بعث إليهم ابن رواحة فحزر النخل وهو الذي يسميه أهل المدينة الخرص. ومنها: حديث الصلت ابن زبيد عن أبيه عن جده عند البيهقي (ج4:ص123، 124) وأبي نعيم وابن مندة في الصحابة وفيه محمد بن مغيث. قال العلائي: لا أعرفه. وقال البيهقي: هذا إسناد مجهول. ومنها: حديث جابر عند ابن عبد البر مرفوعاً، خففوا في الخرص الحديث. وفيه ابن لهيعة. ومنها حديث سهل بن أبي حثمة الآتي وهو حديث صحيح وله حديث آخر عند الدارقطني (ص217-218) والطبراني، وفيه محمد بن صدقة وهو ضعيف. ومنها: حديث عمر عند البيهقي وغيره في أمره بالخرص. وأجاب الحنفية عن هذه الأحاديث بوجوه. الأول: الكلام في أسانيدها. قال ابن العربي: ليس في الخرص حديث صحيح، إلا حديث أبي حميد الساعدي عند الشيخين، ويليه ما روى في خرص ابن رواحة على أهل خيبر. وتعقب بأن حديث عتاب حسن وحديث سهل صحيح كما ستعرف، قالوا: والجواب عن حديث أبي حميد أنه - صلى الله عليه وسلم - أراد بذلك الخرص معرفة مقدار ما في نخل تلك المرأة خاصة، ثم يأخذ منها الزكاة وقت الصرام على حسب ما تجب فيها، وأيضاً فقد خرص حديقتها وأمرها أن تحصى، وليس فيه أنه جعل زكاتها في ذمتها وأمرها أن تتصرف في ثمرها كيف شاءت. وفيه إن الظاهر أنه - صلى الله عليه وسلم - خرص عليها حديقتها، وأمرها أن تحصى كيلها ليأخذ منها الزكاة حسب خرصه، ولتنتفع هي بالتناول كيف شاءت فتكون الزكاة في ذمتها. قالوا: والجواب عن الخرص على أهل خيبر إنه لم يكن للزكاة، إذ كانوا ليسوا بأهل زكاة فكان تخميناً ليعلم ما

........................... ـــــــــــــــــــــــــــــ بأيدي كل قوم من الثمار فيؤخذ مثله بقدره في وقت الصرام لا أنهم يملكون منه شيئاً مما يجب لله فيه ببدل لا يزول ذلك البدل. ويرده ما في حديث ابن عمر عند ابن حبان إن ابن رواحة كان يضمن أهل خيبر الشطر، وما في عامة الروايات من تخيير إياهم فإنه يدل على أنهم لو دفعوها إلى المسلمين كان يجب عليهم أن يضمنوا الشطر ويتصرفوا فيها كيف شاءوا. ثم يعطوا اليهود حقهم بحسب خرص ابن رواحة ويؤدوا ما يجب عليهم من الزكاة إلى بيت المال بحسب ذلك الخرص، فكان هذا الخرص في الظاهر لأخذ الحق على اليهود، وفي الحقيقة عليهم وعلى المسلمين جميعاً. الثاني: الكلام في معناها وهو إن الخرص لم يكن على وجه تضمين رب المال بقدر الصدقة، لأنه غير جائز لكونه من باب بيع الرطب بالتمر، وإنما وجهه إنهم فعلوا ذلك تخويفاً للمزارعين لئلا يخونوا، لا ليلزم به الحكم لأنه تخمين وغرور. الثالث: إنه منسوخ بنسخ الرباء. قال الخطابي: قال بعض: أصحاب الرأي إنما كان جوازه قبل تحريم الرباء والقمار. وتعقبه في المعالم (ج2:ص44) بأن تحريم الربا والقمار والميسر متقدم، والخرص عمل به في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى مات، ثم أبوبكر وعمر فمن بعدهم، ولم ينقل عن أحد منهم ولا عن التابعين خلاف فيه إلا عن الشعبي - انتهى. وقال ابن القيم في إعلام الموقعين: المثال التاسع والعشرون رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في خرص الثمار في الزكاة والعرايا وغيرها إذا بدا صلاحها، ثم ذكر أحاديث الخرص ثم قال: فردت هذه السنن كلها بقوله تعالى: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه} [المائدة: 90] قالوا: والخرص من باب القمار والميسر فيكون تحريمه نسخاً لهذه الآثار، وهذا من أبطل الباطل. فإن الفرق بين القمار والميسر والخرص المشروع كالفرق بين البيع والرباء والميتة والمذكي، وقد نزه الله رسوله وأصحابة عن تعاطي القمار وعن شرعه وإدخاله في الدين، ويا لله العجب! أكان المسلمون يقامرون إلى زمن خيبر ثم استمروا على ذلك إلى عهد الخلفاء الراشدين. ثم انقضى عصر الصحابة وعصر التابعين على القمار، ولا يعرفون إن الخرص قمار حتى بينه بعض فقهاء الكوفة، هذا والله الباطل حقاً والله الموفق - انتهى كلام ابن القيم. قال العيني: قول الخطابي تحريم الربا والميسر متقدم، يحتاج إلى معرفة التاريخ، وعندنا ما يدل على صحة النسخ، وهو ما رواه الطحاوي من حديث جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نهى عن الخرص. وقال: أرأيتم إن هلك التمر أيجب أحدكم أن يأكل مال أخيه بالباطل؟ والحظر بعد الإباحة علامة النسخ - انتهى كلام العيني. قلت تقدم تحريم الربا والميسر واضح جداً ظاهر معلوم، لكل من له فهم وعقل صحيح. فإن الخرص قد عمل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طول عمره وعمل به أبوبكر وعمر في زمانها، ولو كان الخرص قماراً أو رباً أو كان ذلك قبل تحريم القمار والربا لما خفي عليهم ذلك ولم يعملوا به قط، وعملهم بالخرص طول أعمارهم دليل على أن الخرص ليس بقمار ولا رباً، وأما

.............................. ـــــــــــــــــــــــــــــ حديث جابر فالمراد بالخرص فيه الخرص في المزارعة والمساقاة والبيع لا في الصدقة والعرايا، قال الخطابي: وأما قول أصحاب الرأي: إنه تخمين وغرور فليس كذلك، بل هو اجتهاد في معرفة مقدار الثمار وأدراكه بالخرص الذي هو نوع من المقادير والمعايير كما يعلم ذلك بالمكاييل والموازين، وإن كان بعضها أحصر من بعض. وإنما هذا كإباحته الحكم بالاجتهاد عند عدم النص مع كونه معرضاً للخطأ، وفي معناه تقويم المتلفات من طريق الاجتهاد وباب الحكم بالظاهر باب واسع لا ينكره عالم - انتهى. الرابع: إنه من باب المزابنة المنهي عنها، وهو بيع الثمر في رؤس النخل بالتمر كيلاً، وهو أيضاً من باب بيع الرطب بالتمر نسيئة فيدخله المنع من التفاضل، ومن النسيئة وكلاهما من أصول الربا. وأجيب عن هذا بأن الخرص مستثنى من تلك الأصول كالعرايا بل هو أصل مستقل بنفسه يدل على ذلك ورود السنة به قولاً وعملاً وتعامل المسلمين من عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلى زمن الخلفاء الراشدين ومن بعدهم. الخامس: إنه كيف يجوز ذلك وقد يجوز أن يحصل للثمرة آفة تتلفها فيكون ما يؤخذ من صاحبها مأخوذ، بدلاً مما لا يسلم له أعتل به الطحاوي. وأجيب بأن القائلين بالخرص لا يضمنون أرباب الأموال ما تلف بعد الخرص. قال ابن المنذر: اجمع من يحفظ عنه العلم إن المخروص إذا أصابته جائحة، قبل الجذاذ فلا ضمان بخلاف ما إذا أتلفه المالك، فإنه يضمن نصيب الفقراء أي تؤخذ منه الزكاة بحساب ما خرص، والفرق بين الإتلاف والتلف مما لا ينكره عالم. السادس: إن الخرص كان خاصاً بالنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه كان يوفق من الصواب ما لا يوافق له غيره ذكره أبوعبيد (ص492) ثم تعقبه (ص493) بأنه لا يلزم من كون غيره لا يسدد لما كان يسدد له، سواء أن يثبت بذلك الخصوصية، وإن كان المرأ لا يجب عليه الإتباع إلا فيما يعلم أنه يسدد فيه، كتسديد الأنبياء لسقط الإتباع: قال الحافظ: وترد هذه الحجة أيضاً بإرسال النبي - صلى الله عليه وسلم - الخراص في زمانه والله أعلم - انتهى. قال الماوردي: واحتج أبوحنيفة بما رواه جابر مرفوعاً نهى عن الخرص. وبما رواه جابر بن سمرة إن رسول الله نهى بيع كل ثمرة يخرص وبأنه تخمين، وقد يخطىء وبأنه تضمين رب المال بقدر الصدقة، وذلك غير جائز؛ لأنه بيع رطب بتمر وأنه بيع حاضر بغائب. وأجيب عن الحديثين بأن المراد من الخرص فيهما الخرص في المزارعة والمساقاة لا في الصدقة كما تقدم. وأما القول بأنه تخمين وقد يخطىء، وبأنه بيع رطب بتمر الخ. فقد تقدم جوابه أيضاً فتذكر. وأعلم أنه اختلف القائلون بالخرص هل يختص أو يلحق به العنب أو يعم كل ما ينتفع به رطباً وجافاً؟. وبالأول قال شريح القاضي وبعض الظاهرية. (قال ابن رشد: لأنه لم يصح عندهم حديث عتاب) والثاني قول الجمهور. وإلى الثالث نحا البخاري. وهل يمضي قول الخارص أو يرجع ما آل إليه الحال بعد الجفاف الأول

............................ ـــــــــــــــــــــــــــــ قول مالك وطائفة. والثاني: قول الشافعي. ومن تبعه وهل يكفي خارص واحد عارف ثقة أو لابد من اثنين وهما قولان الشافعي والجمهور على الأول، واختلف أيضاً هل هو إعتبار أو تضمين وهما قولان للشافعي أظهرهما الثاني: وفائدته جواز التصرف في جميع الثمرة، ولو اتلف المالك الثمرة بعد الخرص أخذت منه الزكاة بحساب ما خرص كذا في الفتح. واختلفوا أيضاً هل يحاسب أصحاب النخيل والثمار بما أكلوا قبل الجذاذ أم لا؟، وكذلك اختلفوا هل يؤخذ قدر العرايا والضيف وما في معناه أم لا؟. وسيأتي بيانه في شرح حديث سهل. واختلفوا أيضاً إذا غلط الخارص. قال ابن قدامة: (ج2 ص706، 710) وينبغي أن يبعث الإمام ساعيه إذا بدا صلاح الثمار ليخرصهما ويقدر الزكاة، ويعرف المالك ذلك، قال: ويجزئ خارص واحد لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -: كان يبعث ابن رواحة فيخرص ولم يذكر معه غيره، ولأن الخارص يفعل ما يؤديه اجتهاد إليه فهو كالحاكم ويعتبر في الخارص أن يكون أميناً غير متهم (لأن الفاسق لا يقبل خبره) . وصفة الخرص أن يطيف بكل نخلة أو شجرة وينظر كم في الجميع رطباً أو عنباً ثم يقدر ما يجيء منها تمراً، فإذا خرص على المالك وعرفه قدر الزكاة خيره بين أن يضمن قدر الزكاة ويتصرف فيها بما شاء من أكل وغيره، وبين حفظها إلى وقت الجذاذ والجفاف، فإن اختار حفظها ثم أتلفها أو تلفت بتفريطة فعليه ضمان نصيب الفقراء بالخرص، وإن تلفت بجائحة من السماء سقط عنهم الخرص. وإن ادعى تلفها بغير تفريطه فالقول قوله بغير يمين (وقال الأمير اليماني إذا أدعي المخروص عليه النقص بسبب يمكن إقامة البينة عليه وجب إقامتها وإلا صدق بيمينه) . وإن حفظها إلى وقت الإخراج فعليه زكاة الموجود لا غير، سواء إختار الضمان أو حفظها على سبيل الأمانة وسواء كانت أكثر مما خرصه الخارص أو أقل وبهذا قال الشافعي، وقال مالك: يلزمه ما قال الخارص زاد أو نقص، إذا كانت الزكاة متقاربة؛ لأن الحكم انتقل إلى ما قال الساعي بدليل وجوب ما قال عند تلف المال. ولنا إن الزكاة أمانة فلا تصير مضمونة بالشرط كالوديعة، ولا نسلم أن الحكم إنتقل إلى ما قاله الساعي، وإنما يعمل بقوله: إذا تصرف في الثمرة ولم يعلم قدرها؛ لأن الظاهر أصابته، وإن أدعى رب المال غلط الخارص وكان ما ادعاه محتملاً قبلاً قوله بغير يمين، وإن لم يكن محتملاً مثل أن يدعى غلط النصف ونحوه لم يقبل قوله؛ لأنه لا يحتمل فيعلم كذبه، وإن قال لم يحصل في يدي غير هذا قبل منه بغير يمين، لأنه قد يتلف بعضها بآفة لا نعلمها (وفيه ما قيل: إن هذا ما يليق بحال المؤمنين الصادقين. وقد قل عددهم في أكثر الأمصار فلو قبل السلطان قولهم لكذب أكثرهم) ويخرص النخل والكرم لما روينا من الأثر فيهما ولم يسمع بالخرص في غيرهما فلا يخرص الزرع في سنبله، وبهذا قال عطاء والزهري ومالك. لأن الشرع لم يرد بالخرص فيه ولا هو في معنى المنصوص عليه. لأن ثمرة النخل والكرم تؤكل رطباً فيخرص على أهله للتوسعة عليهم ليخلي بينهم وبين أكل الثمرة والتصرف فيها ثم يؤدون الزكاة منها على ما خرص، ولأن ثمرة النخل والكرم ظاهرة

رواه الترمذي وأبوداود. 1820- (12) وعن سهل بن أبي حثمة، حدث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: ((إذا خرصتم ـــــــــــــــــــــــــــــ مجتمعه، فخرصها أسهل من خرص غيرهما وما عداهما فلا يخرص. وإنما على أهله فيه الأمانة إذا صار مصفي يابساً ولا بأس أن يأكلوا منه ما جرت العادة بأكله ولا يحتسب عليهم - انتهى كلام ابن قدامة مختصراً ملتقطاً. (رواه الترمذي وأبوداود) واللفظ للترمذي وأخرجه أيضاً الدارقطني (ص217) ولفظ أبي داود: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن يخرص العنب كما يخرص النخل وتؤخذ زكاته زبيباً كما تؤخذ صدقة النخل تمراً. وأخرجه بهذا اللفظ النسائي والدارقطني وابن حبان أيضاً، وفي رواية للترمذي وابن ماجه والدارقطني والبيهقي إن النبي - صلى الله عليه وسلم -: كان يبعث على الناس من يخرص كرومهم وثمارهم. ومدار الحديث على سعيد بن المسيب عن عتاب، وقد تقدم قول أبي داود وأبي حاتم إن سعيد بن المسيب لم يسمع من عتاب وابن قانع، أنه لم يدركه، والمنذري إن انقطاعه ظاهر وقال الحافظ في بلوغ المرام: فيه انقطاع. وقال ابن السكن: لم يرو عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وجه غير هذا. وقد رواه الدارقطني بسند فيه الواقدي. فقال: عن سعيد بن المسيب عن المسور بن مخرمة عن عتاب. وقال أبوحاتم: الصحيح عن سعيد بن المسيب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عتاباً مرسل. وهذه رواية عبد الرحمن بن إسحاق الزهري - انتهى. قلت: اختلف أصحاب الزهري عليه، فرواه الواقدي عن محمد بن عبد الله بن مسلم وعبد الرحمن ابن عبد العزيز عن الزهري عن سعيد عن المسور بن مخرمة عن عتاب، وهذا عند الدارقطني. ورواه محمد بن صالح الثمار عن الزهري عن سعيد عن عتاب، وهو عند الترمذي وابن ماجه والدارقطني والبيهقي. وكذا رواه عبد الرحمن ابن إسحاق عن الزهري عند أبي داود والدارقطني والبيهقي. وروى عبد الرحمن بن إسحاق أيضاً عن الزهري عن سعيد، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمر عتاباً مرسل وهذا عند النسائي والبيهقي، ولم يظهر لي وجه كون المرسل صحيحاً والموصول خطأ، والحديث قد حسنه الترمذي. وسماع سعيد بن المسيب من عتاب ممكن على ما حققه الحافظ في تهذيب التهذيب والإصابة، وقد سبق كلامه. فالظاهر إن هذا الحديث موصول حسن والله تعالى أعلم. وقال النووي: وهو وإن كان مرسلاً فهو يعتضد بقول الأئمة ثم رأيت الزرقاني. قال في شرح الموطأ: ودعوى الإرسال بمعنى الانقطاع مبني على قول الواقدي، إن عتاباً مات يوم مات أبو بكر الصديق لكن ذكر ابن جرير الطبري إنه كان عاملاً لعمر على مكة سنة إحدى وعشرين، وقد ولد سعيد لسنتين مضتا من خلافة عمر على الأصح فسماعه من عتاب ممكن فلا انقطاع، وأما عبد الرحمن ببن إسحاق فصدوق احتج به مسلم وأصحاب السنن- انتهى. 1820- قوله: (وعن سهل بن أبي حثمة) بفتح الحاء المهملة وسكون المثلثة (إذا خرصتم) أي قدرتم

فخذوا، ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث، فدعوا الربع)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ وحزرتم أيها السعاة والمصدقون (فخذوا) أي زكاة المخروص إن سلم من الآفة وهو بضم الخاء والذال المعجمتين أمر من الأخذ، وفي بعض نسخ أبي داود فجذوا بالجيم والدال من الجذ، أي فقطعوا، وفي بعضها فجدوا بالدال المهملة وهو القطع أيضاً وعلى هاتين النسختين جزاء الشرط محذوف، أي إذا خرصتم. ثم قطع أرباب النخل ثمرها فخذوا زكاة المخروص. وقيل: جذوا بضم الجيم صيغة أمر وهو جزاء الشرط، أي رخصوا لهم في الجذاذ وذلك لأن الجذر ليس إلى المصدقين (ودعوا) أي أتركوا (الثلث) بضم اللام. قال الطيبي: "فخذوا" جواب الشرط "ودعوا" عطف عليه أي إذا خرصتم فبينوا مقدار الزكاة، ثم خذوا ثلثي ذلك المقدار واتركوا الثلث لصاحب المال، حتى يتصدق به أي على جيرانه ومن يطلب منه. قال القاضي: الخطاب مع المصدقين أمرهم أن يتركوا للمالك ثلث ما خرصوا عليه أو ربعة توسعة عليه حتى يتصدق به هو على جيرانه، ومن يمر به ويطلب منه فلا يحتاج إلى أن يغرم ذلك من ماله- انتهى. قال الأمير اليماني: قد اختلف في معنى الحديث على قولين أحدهما: أن يترك الثلث أو الربع من العشر. وثانيهما: أن يترك ذلك من نفس الثمر قبل أن يعشر. وقال الشافعي: معناه أن يدع ثلث الزكاة أو ربعها ليفرقها هو على أقاربه وجيرانه. وقيل: يدع له ولأهله قدرما يأكلون ولا يخرص. قال في الشرح: والأولى الرجوع إلى ما صرحت به رواية جابر وهو التخفيف في الخرص ويترك من العشر قدر الثلث أو الربع، فإن الأمور المذكورة قد لا تدرك الحصاد فلا تجب فيها الزكاة- انتهى. قلت: حديث جابر رواه ابن عبد البر من طريق ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر مرفوعاً. قال: خففوا في الخرص فإن في المال العرية والوطئة والآكلة- الحديث. كذا في التلخيص، ويؤيده ما روى الدارقطني (ص218) والطبراني عن سهل ابن أبي حثمة إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بعث أباه أباحثمة خارصاً فجاءه رجل فقال: يا رسول الله إن أباحثمة زاد علي، فدعا أباحثمة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن ابن عمك يزعم أنك قد زدت عليه فقال: يا رسول الله! قد تركت عرية أهله وما تطعمه المساكين وما يصيب الريح. فقال: قد زادك ابن عمك وأنصف- انتهى. وفيه محمد بن صدقة وهو ضعيف. واختلف العلماء في العمل بحديث الباب، فذهب مالك وسفيان وأبوحنيفة إلى أنه لا يترك لرب المال شيء، بل يحسب عليه ما أكل من ثمرة قبل الجذاذ في النصاب. قال الحافظ: وهو المشهور عن الشافعي. وقال ابن الملك وابن حجر: هو قول الشافعي في الجديد. قيل والجواب عن هذا الحديث إنه كان في حق يهود خيبر، وكانت قصتهم مخصوصة لأن الأرض أرضه والعبيد عبيده، فأمر - صلى الله عليه وسلم -: أن يترك لهم منها قدر نفقاتهم. وأجاب بعضهم بأن معنى الحديث أن يترك لهم ذلك من العشر الواجب ليتصدقوا منه بأنفسهم على الفقراء من أقاربهم وجيرانهم كما سبق عن الشافعي، وليس المعنى أنه لا زكاة عليهم في

رواه الترمذي وأبوداود، والنسائي. ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك أو لا يحسب لهم ما أكلوه في النصاب، وأجيب أيضاً بأن المراد به مؤنة الزرع أو مؤنة الأرض فيوضع ذلك ولا يحسب في النصاب. قال ابن العربي: والمتحصل من صحيح النظر أن يعمل بالحديث وهو قدر المؤنة، ولقد جربناه فوجدناه كذلك في الأغلب مما يؤكل رطباً. وذهب أحمد والليث وإسحاق والشافعي أيضاً على ما قال ابن رشد (ج1 ص241) وابن حزم إلى ظاهر الحديث. فقالوا: يترك لهم في الخرص من عرض المال الثلث أو الربع ولا يحسب ذلك في النصاب. قال الخطابي: ذهب بعض العلماء في تأويل الحديث إلى أنه متروك لهم من عرض المال توسعة عليهم، فلو أخذوا بإستيفاء الحق كله لا ضر ذلك بهم، وقد يكون منها السقاطة وبنتابها الطير ويخترفها الناس للأكل فترك لهم الربع توسعة عليهم. وكان عمر بن الخطاب يأمر الخراص بذلك، وبقول عمر قال أحمد وإسحاق. وذهب غير هؤلاء إلى أنه لا يترك لهم شيئاً شائعاً في جملة النخل بل يفرد لهم نخلات معدودة، قد علم مقدار ثمرها بالخرص- انتهى. قال الحافظ: قال بظاهر الحديث الليث وأحمد وإسحاق وغيرهم، وفهم منه أبوعبيد في كتاب الأموال أنه القدر الذي يأكلونه بحسب احتياجهم إليه: فقال يترك قدر احتياجهم- انتهى. وقال ابن قدامة: (ج2 ص706) وعلى الخارص أن يترك في الخرص الثلث أو الربع توسعة على أرباب الأموال. لأنهم يحتاجون إلى الأكل هم وأضيافهم ويطعمون جيرانهم وأهلهم وأصدقائهم وسؤالهم، ويكون في الثمرة السقاطة وينتابها الطير، وتأكل منه المارة فلو استوفى الكل منهم أضر بهم، وبهذا قال إسحاق ونحوه. قال الليث وأبوعبيد: والمرجع في تقدير المتروك إلى الساعي باجتهاد فإن رأي الآكلة كثيراً ترك الثلث وإن كانوا قليلاً ترك الربع، لحديث سهل بن أبي حثمة. وروى أبوعبيد (ص487) بإسناده عن مكحول قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا بعث الخراص قال: "خففوا فإن المال العرية والوطئة" وروى عن عمر أنه قال: خففوا على الناس في الخرص فإن المال العرية والواطئة والآكلة. قال أبوعبيد: الواطئة السابلة سموا بذلك، لوطئهم بلاد الثمار مجتازين والآكلة أرباب الثمار وأهلوهم ومن لصق بهم، ومنه حديث سهل بن أبي حثمة في مال سعد بن أبي سعد حين قال: لولا إني وجدت فيه أربعين عريشاً الخرصة تسعمأة وسق، وكانت تلك العرش لهؤلاء الآكلة والعرية النخلة أو النخلات يهب إنسانا ثمرتها فجاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ليس في العرايا صدقة. وروى ابن المنذر (وأبوعبيد والحاكم والبيهقي) عن عمر أنه قال لسهل بن أبي حثمة: إذا أتيت على نخل قد حضرها قوم فدع لهم ما يأكلون، والحكم في العنب كالحكم في النخيل سواء، فإن لم يترك لهم الخارص شيئاً فلهم الآكل قدر ذلك، ولا يحتسب عليهم به؛ لأنه حق عليهم- انتهى. (رواه الترمذي وأبوداود والنسائي) وأخرجه أيضاً أحمد (ج4 ص2، 3) و (ج3 ص448) والنسائي وابن حبان والحاكم (ج1 ص402) والبيهقي (ج4 ص123)

1821- (13) وعن عائشة، قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يبعث عبد الله بن رواحة إلى يهود، فيخرص النخل، حين يطيب قبل أن يؤكل منه)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأبوعبيد (ص485) وابن حزم (ج5 ص255) وقد سكت عنه أبوداود والمنذري، وصححه ابن حبان والحاكم والذهبي. قال الحاكم: وله شاهد بإسناد متفق على صحته إن عمر بن الخطاب أمر به- انتهى. وقد تقدم لفظه، ولم يحكم الترمذي على حديث سهل بشيء، نعم قال بعد روايته والعمل على حديث سهل عند أكثر أهل العلم وبحديث سهل يقول إسحاق وأحمد- انتهى. وفي سنده عبد الرحمن بن مسعود بن نيار الراوي عن سهل. وقد قال البزار: إنه تفرد وهو معروف. وقال ابن القطان: لا يعرف حاله.؟ قلت: عبد الرحمن هذا ذكره ابن حبان في الثقات وقال الحافظ: في التقريب: إنه مقبول. 1821-قوله: (يبعث) أي يرسل (إلى يهود) أي في خيبر (فيخرص النخل) بضم الراء يحزرها (حين يطيب) بالتذكير والتأنيث أي يظهر في الثمار الحلاوة قاله القاري. (قبل أن يؤكل منه) هذه رواية أبي داود في الزكاة من طريق حجاج عن ابن جريج، أخبرت عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة، وفيه واسطة بين ابن جريج والزهري ولم يعرف، ومن هذا الطريق أخرجه في آخر كتاب البيوع وزاد ثم يخير اليهود يأخذونه بذلك الخرص أم يدفعونه إليهم بذلك الخرص لكي تحصى الزكاة قبل أن تؤكل الثمار وتفرق" ومن طريق أبي داود، أخرجه البيهقي (ج45 ص123) قال الطيبي: وهذه زكاة أموال المسلمين الذين تركوها في أيدي اليهود ويعملون فيها- انتهى. قال القاري: وفيه إشارة إلى دفع ما يرد عليه من أن الكافر لا زكاة عليه، فبينه بأن ابن رواحة لم يخرص عليهم إلا حصة الغانمين دفعوا إليها نخلها ليعملوا فيه بحصته من التمر- انتهى كلام القاري. وقال في عون المعبود: (ج3 ص274) مراد عائشة إن بعث ابن رواحة للخرص إنما كان لإحصاء الزكاة؛ لأن المساكين ليسوا شركاء معينين، فلو ترك اليهود وأكلها رطباً والتصرف فيها أضر ذلك سهم المسلمين. قال الزرقاني في شرح الموطأ قال ابن مزين: سألت عيسى عن فعل ابن رواحة يجوز للمستاقيين أو للشريكين فقال لا، ولا يصلح قسمه إلا كيلاً إلا أن تختلف حاجتهما إليه فيقتسمانه بالخرص فتأول خرص ابن رواحة للقسمة خاصة. وقال الباجي: يحتمل أنه خرصها لتميز حق الزكاة لأن مصرفها غير مصرف أرض العنوة؛ لأنه يعطيها الإمام للمستحق من غني وفقير، فيسلم مما خافه عيسى. وأنكره وقوله في رواية مالك ن شئتم فلكم، وإن شئتم فلي، حمله عيسى على أنه أسلم إليهم جميع الثمرة بعد الخرص ليضمنوا حصة المسلمين. ولو كان هذا معناه لم يجز، لأنه بيع الثمر بالثمر بالخرص في غير العرية. وإنما معناه خرص الزكاة فكأنه قال: إن شئتم أن تأخذوا الثمرة على أن تؤدوا زكاتها على ما خرصته، وإلا فأنا اشتريها من الفيء بما يشتري به، فيخرج بهذا الخرص، وذلك معروف لمعرفتهم بسعر

رواه أبوداود. 1822- (14) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((في العسل، في كل عشرة أزق زق)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثمر. وأن حمل على خرص القسمة لاختلاف الحاجة فمعناه، إن شئتم هذا النصيب فلكم، وإن شئتم فلي يبين ذلك إن الثمرة ما دامت في رؤس النخل ليس بوقت قسمة ثمر المساقاة، لأن على العامل جذها والقيام عليها حتى يجرى فيها الكيل أو الوزن. فثبت بهذا أن الخرص قبل ذلك لم يكن للقسمة إلا بمعنى اختلاف الأغراض. وقال ابن البر: الخرص في المساقاة لا يجوز عند جميع العلماء، لأن المساقيين شريكان لا يقتسمان إلا بما يجوز به بيع الثمار بعضها ببعض، وإلا دختله المزابنة. قالوا وإنما بعث - صلى الله عليه وسلم - من يخرص على اليهود لإحصاء الزكاة، لأن المساكين ليسوا شركاء معينين، فلو ترك اليهود وأكلها رطباً والتصرف فيها أضر ذلك سهم المسلمين. قالت: عائشة: إنما أمر - صلى الله عليه وسلم -: بالخرص لكي تحصى الزكاة قبل أن تؤكل الثمار- انتهى كلام ابن عبد البر. وهذا الحديث المطول قد رواه عبد الرزاق ومن طريقه الدارقطني (ص217) وابن حزم (ج5 ص255) عن ابن جريج عن الزهري ولم يذكر واسطة، وابن جريج مدلس فلعله تركها تدليساً، وذكر الدارقطني الاختلاف فيه. قال: فرواه صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة. وأرسله معمر ومالك وعقيل ولم يذكروا أباهريرة. وقال صاحب الاستذكار قوله "في رواية عبد الرزاق "وإنما كان أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخرص لكي تحصى الزكاة الخ. من قول عائشة. وقال الترمذي: بعد رواية حديث عتاب بن أسيد المتقدم. قد روى ابن جريج هذا الحديث عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة وسألت محمداً عن هذا فقال: حديث ابن جريج غير محفوظ، وحديث سعيد عن عتاب أصح - انتهى. لكن أخرج أبوداود في كتاب البيوع من طريق ابن جريج أخبرني أبوالزبير أنه سمع جابراً يقول: خرصها ابن رواحة أربعين ألف وسق، وزعم إن اليهود لما خيرهم ابن رواحة، أخذوا الثمر وعليهم عشرون ألف وسق- انتهى. وهذا يؤيد حديث ابن جريج عن الزهري المتقدم، وكذا يؤيده ما رواه أبوداود أيضاً من طريق إبراهيم بن طهمان عن أبي الزبير عن جابر أنه قال: لما أفاء الله رسوله خيبر فأقرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما كانوا، وجعلها بينه وبينهم. فبعث عبد الله بن رواحة فخرصها قال الزرقاني: أي لتميز حق الزكاة من غيرها لاختلاف المصرفين أو للقسمة لاختلاف الحاجة كما مر، وفيه جواز التخريص لذلك. (رواه أبوداود) أي في كتاب الزكاة وفي إسناده رجل مجهول لكن أخرج هو أيضاً في آخر البيوع شاهداً له، من حديث جابر برجال ثقات وقد ذكرنا لفظه. 1822- قوله: (في العسل) بفتح العين والسين المهملتين لعاب النحل. قال في مختار الصحاح: العسل يذكر ويؤنث (في كل عشرة أزق) بفتح الهمزة وضم الزاي وتشديد القاف أفعل جمع قله (زق) بكسر الزاي

............................ ـــــــــــــــــــــــــــــ مفرده وهو ظرف من جلد يجعل فيه السمن والعسل وغيرهما. وفيه دليل على وجوب العشر في العسل. واختلف العلماء فيه، فذهب مالك والشافعي وابن أبي ليلى والحسن بن صالح وابن المنذر والثوري وأبوثور وداود وابن حزم إلى أنه لا زكاة في العسل، وبه قال من الصحابة علي رضي الله عنه أخرجه يحيى بن آدم في الخراج (ص31) والبيهقي (ج4 ص127) من طريقه، وفيه انقطاع، وعبد الله بن عمر رضي الله عنه. أخرجه أبوعبيد (ص499) بإسناد فيه ضعف، ومعاذ كما سيأتي. ومن التابعين المغيرة بن حكيم وعمر بن عبد العزيز، أخرجه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق بإسناد صحيح. قال ابن المنذر: ليس في العسل خبر يثبت ولا إجماع فلا زكاة. وهو قول الجمهور. وقال أحمد وأبوحنيفة وأبويوسف، ومحمد وإسحاق ومكحول والزهري وسليمان بن موسى وربيعة ويحيى بن سعيد وابن وهب بوجوب كل العشر فيه. ويروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز، أخرجه عبد الرزاق ولكنه بإسناد ضعيف كما بينه الحافظ في الفتح، وابن حزم في المحلى (ج5 ص232) وأخرج أبوعبيد (ص498) عن خصيف أن عمر بن عبد العزيز رأى في العسل العشر. وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم. وأشار العراقي في شرح الترمذي إلى أن الذي نقله ابن المنذر عن الجمهور أقوى من نقل الترمذي. واحتج هؤلاء بحديث الباب وهو كما ستعرف، وبما روى عبد الرزاق والبيهقي من طريقه (ص126) من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: كتب إلى أهل اليمن أن يؤخذ من أهل العسل العشور، وفيه عبد الله بن محرر وهو متروك وبما روى الشافعي في الأم (ج2 ص33) وأبوعبيد (ص496) والبيهقي (ج4 ص127) وابن أبي شيبة (ج3 ص20) والطبراني في الكبير والبزار عن سعد بن أبي ذباب، أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -: فأسلمت فذكر الحديث، وفيه أنه أخذ من قومه زكاة العسل العشر، فأتى به عمر فأخذه. قال الهيثمي: فيه منير بن عبد الله وهو ضعيف. وقال الحافظ في التلخيص: ضعفه البخاري والازدي وغيرهما، وقال البخاري: وعبد الله الذي رواه عنه ابنه منير عن سعد بن أبي ذباب لم يصح حديثه. وقال ابن عبد البر: لا يقوم بهذا حجة. قلت: وفي سنده عند الشافعي عبد الرحمن بن أبي ذباب ولم أقف على ترجمته. وقال الشافعي: وسعد بن ذباب يحكى ما يدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لم يأمره بأخذ الصدقة من العسل، وإنه شيء رأه هو فتطوع له به أهله، وبما روى أحمد (ج4 ص336) وابن ماجه والطيالسي (ص169) والبيهقي (ج4 ص126) وأبويعلى وعبد الرزاق وأبوعبيد (ص497) والطبراني من طريق سليمان بن يسار عن أبي سيارة المتعى. قال: قلت يا رسول الله! إن لي نحلا. قال: أد العشر. قلت: أحم لي جبلها فحماه لي. قال البيهقي: هذا أصح ما روى في وجوب العشر في العسل وهو منقطع. قال الترمذي في علله: سألت محمداً عن هذا الحديث. فقال: مرسل لأن سليمان لم يدرك أحداً من الصحابة، وليس في زكاة العسل شيء يصح. وبما روى أبوداود والنسائي من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال:

................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ جاء هلال أحد بني متعان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بعشور نحل له وكان سأله أن يحمي له وادياً يقال له سلبة فحماه له فلما ولي عمر كتب إلى عامله سفيان بن وهب، إن أدى إليك ما كان يؤدي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عشور نحلة فاحم له سلبة وإلا فلا. ورواه ابن ماجه من هذا الوجه بلفظ: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ من العسل العشر. وروى الطبراني من هذا الوجه إن بني شبابه بطن من فهم كانوا يؤدون عن نحل لهم العشر من كل عشر قرب قربة- الحديث. ولأبي عبيد في الأموال (ص497) والبيهقي (ج4 ص127) من هذا الوجه إن النبي - صلى الله عليه وسلم -: كان يؤخذ في زمانه من العسل في كل عشر قرب قربة من أوسطها، وفي إسناده ابن لهيعة. قال الحافظ في الفتح: بعد ذكر رواية أبي داود والنسائي إسناده صحيح إلى عمرو، وترجمة عمرو قوية على المختار، لكن حيث لا تعارض. وقد ورد ما يدل على أن هلالاً أعطى ذلك تطوعاً، فعند عبد الرزاق عن صالح بن دينار إن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عثمان بن محمد ينهاه، أن يأخذ من العسل صدقة. إلا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذها فجمع عثمان أهل العسل فشهدوا إن هلال بن سعد قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - بعسل. فقال ما هذا، قال: صدقة فأمر برفعها ولم يذكر عشوراً لكن الإسناد الأول أقوى، إلا أنه محمول على أنه في مقابلة الحمى، كما يدل عليه كتاب عمر بن الخطاب- انتهى. وقال الخطابي في المعالم: (ج2 ص43) في هذا الحديث دليل على أن الصدقة غير واجبة في العسل. وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أخذ العشر من هلال المتعى، إذ كان قد جاء بها متطوعاً وحمى له الوادي رفاقاً ومعونة له بدل ما أخذ منه. وعقل عمر بن الخطاب المعنى في ذلك فكتب إلى عامله يأمره بأن يحمى له الواديان إن أدى إليه العشر وإلا فلا، ولو كان سبيله سبيل الصدقات الواجبة في الأموال لم يخيره في ذلك- انتهى. وقال الشوكاني: وأعلم أن حديث أبي سيارة وحديث هلال إن كان غير أبي سيارة لا يدلان على وجوب الزكاة في العسل، لأنهما تطوعاً بها وحمى لهما يدل ما أخذ وعقل عمر العلة فأمر بمثل ذلك، ولو كان سبيله سبيل الصدقات لم يخير في ذلك. وبقية أحاديث الباب لا تنتهض للاحتجاج بها- انتهى. ويؤيده ما رواه الحميدي بإسناده إلى معاذ بن جبل أنه أتى بوقص البقر والعسل فقال معاذ كلاهما لم يأمرني فيه - صلى الله عليه وسلم - بشيء- انتهى. قلت: حديث معاذ هذا أخرجه أيضاً أبوداود في المراسيل، وعبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي " (ج4 ص127) وابن حزم (ج5 ص233) من طريق طاووس عنه. وفيه انقطاع بين طاووس ومعاذ. لكن قال البيهقي: هو قوى لأن طاوساً كان عارفاً بقضايا معاذ. وقال الشافعي: الحديث في أن في العسل العشر ضعيف، وفي أن لا يؤخذ منه العشر ضعيف، إلا عن عمر بن عبد العزيز، واختياري أن لا يؤخذ منه؛ لأن السنن والآثار ثابتة فيما يؤخذ منه، وليست فيه ثابتة فكأنه عفو- انتهى. وتقدم قول ابن المنذر أنه ليس في وجوب الصدقة في العسل خبر يثبت ولا إجماع، فلا زكاة فيه، وقول البخاري أنه لا يصح فيه شيء- انتهى. قلت: واستدل الجصاص على وجوب الزكاة في العسل بقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} [التوبة: 103] إذ قال ظاهر قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} يوجب الصدقة في العسل إذ هو من

رواه الترمذي، وقال: في إسناده مقال، ـــــــــــــــــــــــــــــ ماله- انتهى. قال ابن حزم: إن الله تعالى قال: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [البقر: 188] وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، فلا يجوز إيجاب فرض زكاة في مال لم يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه إيجابها، فإن احتجوا بعموم قول الله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} قيل: لهم فأوجبوها فيما خرج من معادن الذهب والفضة، وفي القصب وفي ذكور الخيل، فكل ذلك أموال المسلمين بل أوجبوها حيث لم يوجبها الله تعالى، وأسقطوا مما خرج من النخل والبر والشعير في أرض الخراج، وفي الأرض المستأجرة. ولكنهم قوم يجهلون - انتهى. وقد ظهر بما ذكرنا أنه لم يثبت في زكاة العسل شيء، إلا حديث عمرو بن شعيب عند أبي داود والنسائي وابن ماجه، وهو محمول على أنه كان في مقابلة الحمى، كما قال الخطابي والحافظ والشوكاني: فالقول الراجح المعول عليه هو ما ذهب إليه مالك والشافعي من عدم وجوب الزكاة في العسل والله تعالى اعلم. واعلم إن أباحنيفة فرق بين أن يكون العسل في أرض العشر ففيه الزكاة وبين أن يكون في أرض الخراج فلا زكاة فيه، لأن مذهبه إن العشر والخراج لا يجتمعان في أرض، وسوى الإمام أحمد بين الأرضين، وأوجبه بما أخذه من ملكه أو وات. ثم اختلف الموجبون له هل له نصاب أم لا، على قولين. أحدهما: أنه يجب في قليله وكثيره، وهذا قول أبي حنيفة. قال ابن الهمام: بعد ذكر حديث عمرو بن شعيب المتقدم، من رواية الطبراني وأبي عبيد غاية ما في حديث القرب، أنه كان أداءهم من كل عشر قرب قربة وهو فرع بلوغ عسلهم هذا المبلغ؛ أما النفي عما هو أقل من عشر قرب فلا دليل فيه عليه. وأما حديث الترمذي فضعيف - انتهى. والثاني: إن له نصاباً معيناً، ثم اختلف في قدره. فقال أبويوسف: يجب إذا بلغت قيمته خمسة أوساق، وعنه أنه قدره بعشرة أرطال قال في المبسوط: وهي رواية الأمالي وهي خمسة أمناء وعنه أنه اعتبر فيه عشر قرب. وعن محمد؛ ثلاث روايات. إحداها: خمس قرب والقربة خمسون منا ذكره في الينابيع. وفي المغني القربة مائة رطل. والثانية: خمسة أمناء، والثالثة خمسة أواق. قال السرخسي: وهي تسعون منا. وقال أحمد: نصابه عشرة أفراق، لما روى الجوزجاني إن عمر قال: إن أديتم صدقتها من كل عشرة أفراق فرقاً حميناها لكم. قال الزهري: والفرق ستة عشر رطلاً فيكون نصابه مائة وستون رطلاً. وقال ابن حامد: الفرق ستون رطلا، فيكون النصاب ستمائة رطل. وقيل: الفرق ستة وثلاثون رطلاً فيكون النصاب ثلاث مائة رطل وستون رطلاً، والأول: هو ظاهر كلام الإمام أحمد وهو الذي رجحه ابن قدامة في المغني (ج2 ص715) (رواه الترمذي وقال إسناده مقال) ؛لأنه قد تفرد به صدقة بن عبد الله السمين وهو ضعيف، وأخرجه أيضاً ابن عدي في الكامل في ترجمة صدقة بن عبد الله، وأعله به وضعفه عن أحمد والنسائي وابن معين. ورواه البيهقي (ج4 ص126) وقال: تفرد به صدقة وهو ضعيف، ضعفه أحمد وابن معين وغيرهما. ورواه ابن حبان في الضعفاء. وقال: في صدقة يروي الموضوعات عن الثقات. ورواه الطبراني في الأوسط من هذا الوجه. وقال: إنه تفرد به. ولفظه وقال: في العسل العشر في كل قرب قربة، وليس فيما

ولا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب كثير شيء. 1823- (15) وعن زينب امرأة عبد الله، قالت: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((يا معشر النساء! تصدقن ولو من حليكن، فإنكن أكثر أهل جهنم يوم القيامة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ دون ذلك شيء كذا في نصب الراية. وقال الحافظ في التلخيص: في سنده صدقة السمين وهو ضعيف الحفظ وقد خولف. وقال النسائي: هذا حديث منكر. وقال البيهقي: تفرد به صدقة وهو ضعيف. وقد تابعه طلحة بن زيد عن موسى بن يسار ذكره المروزي. ونقل عن أحمد تضعيفه، وذكر الترمذي أنه سأل البخاري عنه. فقال: هو عن نافع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسل. (ولا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب) أب باب زكاة العسل (كثير شيء) قال الطيبي: أي ما يعول عليه. وقال البخاري: ليس في زكاة العسل شيء يصح. 1823- قوله: (وعن زينب) بنت معاوية ويقال بنت عبد الله بن معاوية بن عتاب الثقفية وتسمى أيضاً برائطة (امرأة عبد الله) بن مسعود (تصدقن) أي أخرجن زكاة أموالكن (ولو من حليكن) بضم الحاء وكسرها فكسر اللام وتشديد التحية جمع الحلي بفتح فسكون. قال في القاموس: الحلي بالفتح ما يزين به من مصوغ المعدنيات أو الحجارة جمعه حلي بالضم والكسر كدلي، أو هو جمع والواحد حلية كظبية، والحلية بالكسر الحلي جمع حليً وحليً- انتهى. وقال في النهاية: الحلي اسم لكل ما يتزين به مصاغ الذهب والفضة، والجمع حُليٍّ بالضم والكسر، والجمع الحِلية حليً مثل لحية ولحي، وربما تضم وتطلق الحلية على الصفة أيضاً وانتهى. (فإنكن أكثر أهل جهنم يوم القيامة) أي لمحبة الدنيا الباعثة على ترك الزكاة والصدقة للعقبى. والحديث بظاهرة يدل على وجوب الزكاة في الحلي، وهو الذي فهمه الترمذي حيث أورده في باب ما جاء في الزكاة الحلي. قال أبوالطيب السندي في شرح الترمذي: مناسبته بالترجمة باعتبار إن الأمر فيه للوجوب؛ لأن الأصل فيه ذلك أي تصدقن وجوباً، ولو كانت الصدقة من حليكن وهو الذي فهمه المصنف. وأما القول: بأنه أمر ندب بالصدقة النافلة، لأنه خطاب بالحاضرات ولم تكن كلهم ممن فرضت عليهن الزكاة. والظاهر إن معنى قوله "ولو من حليكن" أي ولو تيسر من حليكن وهذا لا يدل على أنه يجب في الحلي إذ يجوز أن يكون واجباً على الإنسان في أمواله الأخر. ويؤديه من الحلي فذكر المصنف أي الترمذي الحديث في هذا الباب لا يخلو عن خفاء فعدول عن الأصل الذي هو الوجوب وتغيير للمعنى الذي هو الظاهر، لأن معناه تصدقن من جميع الأموال التي تجب فيها الزكاة عليكن، ولو كانت الصدقة الواجبة من حليكن. وإنما ذكر لدفع توهم من يتوهم إن الحلي من الحوائج الأصلية، ولا تجب فيها الزكاة ويؤيد هذا المعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -، فإنكن أكثر أهل جهنم لترك الواجبات. وأما كون الخطاب

................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ للحاضرات خصوصاً، فممنوع بل الخطاب، لكل من يصلح للخطاب نعم، فيه تلميح إلى حسن الصدقة في حق غير الغنيات، فلا يرد إن كون الأمر للوجوب لا يستقيم ويؤيده ما في آخر هذا الحديث في البخاري. قالت زينب لعبد الله قد أمرنا بصدقة فأته فَسَله، فإن كان ذلك يجزيء عنى وإلا صرفتها إلى غيركم الحديث، لأن الصدقات من النوافل لا كلام في جوازها لو صرفت إلى الزوج انتهى كلام أبي الطيب. قال شيخنا في شرح الترمذي: (ج2 ص10) قلت: في الاستدلال بهذا الحديث على وجوب الزكاة في الحلي نظر، فإنه ليس بنص صريح فيه لاحتمال أن يكون معنى قوله " ولو من حليكن" أي ولو تيسر من حليكن كما قيل. وهذا لا يدل على وجوب الزكاة في الحلي، إذ يجوز أن يكون واجباً على الإنسان في أمواله الأخر ويؤديه من الحلي، وقد ذكر أبوالطيب: هذا الاحتمال، ولم يجب عن هذا جواباً شافياً فتفكر انتهى كلام الشيخ. قلت: حمل الحنفية القائلون بوجوب الزكاة في الحلي، وعدم جواز دفع المرأة زكاتها إلى زوجها الفقير هذا الحديث على صدقة التطوع، وبه جزم النووي من الشافعية، واستدل الطحاوي (ج1 ص308) لذلك بما روى من طريق رائطة امرأة ابن مسعود، إنها كانت امرأة صنعاء اليدين تصنع بيديها فتبيع من ذلك فكانت تنفق على عبد الله وعلى ولده، قال فهذا يدل على أنها صدقة التطوع. واستدل أيضاً بقولها في حديث أبي هريرة عنده فأخذت حَلي، أتقرب به إلى الله عزوجل رجاء أن لا يجعلني الله من أهل النار؛ لأن الزكاة لا توجب الصدقة بكل المال، وإنما توجب الصدقة بجزء منه. واستدل لذلك أيضاً بما وقع في حديث أبي سعيد عند البخاري "زوجك وولدك أحق من أن تصدقت به عليهم" لأن الولد لا يعطي من الزكاة الواجبة بالإجماع كما نقله ابن المنذر وغيره، والأم يلزمها نفقة ولدها إذا كان أبوه فقيراً عاجزاً عن التكسب جداً عند الحنفية. ويمتنع إعطاء الصدقة الواجبة من يلزم المعطي نفقته وسيأتي الكلام على إعطاء الزكاة للزوج والولد. وما مسألة الحلي ففيها خلاف بين العلماء. فقال أبوحنيفة وأصحابه والثوري وعبد الله بن المبارك: تجب فيها الزكاة، وروى ذلك عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو وعبد الله عباس وابن عمر وعائشة، وبه قال عبد الله بن شداد وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وعطاء وابن سيرين، وجابر بن زيد ومجاهد والزهري وطاووس وميمون بن مهران والضحاك وعلقمة والأسود، وعمر بن عبد العزيز وإبراهيم النخعي وذر الهمداني والأوزاعي وابن شبرمة، والحسن بن حي وابن المنذر وابن حزم وهي رواية عن أحمد كما في المغني، وهو أحد أقوال الشافعي. وذهب مالك وأحمد وإسحاق والشافعي في أظهر قوليه إلى أنها لا تجب الزكاة فيها، وروي ذلك عن ابن عمر وجابر وأنس وعائشة وأسماء رضي الله عنهم، وبه قال القاسم ابن محمد والشعبي وقتادة ومحمد بن علي وعمرة وأبوعبيد وأبوثور، قال ابن المنذر: وقد كان الشافعي قال بهذا إذا هو

................................ ـــــــــــــــــــــــــــــ بالعراق، ثم وقف عنه بمصر وقال: هذا مما استخير الله تعالى فيه ذكر المنذري في الترغيب. وقال الليث: ما كان من حلي يلبس ويعار فلا زكاة فيه، وإن اتخذ للتحرز من الزكاة ففيه الزكاة. وقال أنس بن مالك: يزكي عاماً واحداً لا غير. قال الأمير اليماني: في المسألة أربعة أقوال. الأول: وجوب الزكاة وهو مذهب الهادوية وجماعة من السلف وأحد أقوال الشافعي، عملاً بما روى في ذلك من الأحاديث. والثاني: لا تجب الزكاة في الحلية وهو مذهب مالك وأحمد والشافعي في أحد أقواله، لآثار وردت عن السلف قاضية بعدم وجوبها في الحلية، ولكن بعد صحة الحديث لا أثر للآثار. والثالث: إن زكاة الحلية عاريتها. والرابع: إنها تجب فيها الزكاة مرة واحدة، رواه البيهقي عن أنس وأظهر الأقوال دليلاً وجوبها لصحة الحديث وقوته- انتهى. قلت: القول بوجوب الزكاة في حلي الذهب والفضة هو الظاهر الراجح المعول عليه عندي، لعموم قوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة} الآية ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم: في الرقة ربع العشر. قال ابن قتيبة: الرقة الفضة سواء كانت الدراهم أو غيرها، نقله ابن الجوزي في التحقيق، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: ليس فيما دون خمسة أواق من الورق صدقة، والورق يطلق على الفضة مضروبة كانت أو غير مضروبة يدل على ذلك ما جاء في الحديث إن عرفجة اتخذ أنفاً من ورق، وفي حديث عائشة عند أبي داود وغيره فرأى في يدي فتخات من ورق. قال الخطابي في المعالم: (ج3:ص17) الطاهر من الكتاب يشهد لقول من أوجبها والأثر يؤيده، ومن أسقطها ذهب إلى النظر، ومعه طرف من الأثر والاحتياط أداءها- انتهى. وقال ابن حزم في المحلي: (ج6:ص80) لما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الرقة ربع العشر وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة، فإذا بلغ مائتي درهم ففيها خمسة دراهم وكان الحلي ورقاً وجب فيه حق الزكاة لعموم هذين الأثرين الصحيحين. وأما الذهب فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من صاحب ذهب لا يؤدي ما فيها إلا جعل له يوم القيامة صفائح من نار يكوي بها، فوجبت الزكاة في كل ذهب بهذا النص، ولم يأت إجماع قط بأنه عليه السلام لم يرد إلا بعض أحوال الذهب وصفاته، فلم يجز تخصيص شيء من ذلك بغير نص ولا إجماع. وقال: قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إيجاب الزكاة في الذهب عموماً، ولم يخص الحلي منه بسقوط الزكاة فيه، لا بنص ولا بإجماع فوجبت الزكاة بالنص في كل ذهب وفضة، ولم يجز تخصيص شيء منهما إذ قد عمهما النص، فوجب أن لا يفرق بين أحوال الذهب بغير نص، ولا إجماع. والحلي فضة أو ذهب فلا يجوز أن يقال إلا الحلي بغير نص في ذلك ولا إجماع انتهى مختصراً. وقال الرازي في تفسيره: الصحيح عندنا وجوب الزكاة في الحلي، والدليل عليه قوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة} الآية وأيضاً العمومات الواردة في إيجاب الزكاة في الحلي المباح، قال عليه السلام: في الرقة ربع العشر وغير ذلك من

............................ ـــــــــــــــــــــــــــــ الأخبار فهذه الآية مع جميع هذه الأخبار توجب الزكاة في الحلي المباح، ثم نقول: ولم يوجد لهذا الدليل معارض من الكتاب وهو ظاهر؛ لأنه ليس في القرآن ما يدل أنه لا زكاة في الحلي المباح ولم يوجد في الأخبار أيضاً معارض إلا أن أصحابنا نقلوا فيه خبراً وهو قوله عليه السلام: لا زكاة في الحلي المباح، إلا إن أباعيسى الترمذي قال: لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلي خبر صحيح. وأيضاً بتقدير أن يصح هذا الخبر فنحمله على اللآلي؛ لأن الحلي في الحديث مفرد محلي بالألف واللام، وقد دللنا على أنه لو كان هناك معهود سابق وجب إنصرافه إليه، والمعهود في القرآن في لفظ الحلي اللآلي قال تعالى: {وتستخرجوا منه حلية تلبسونها} وإذا كان كذلك انصرف لفظ الحلي إلى اللآلي فسقطت دلالته، وأيضاً الاحتياط في القول بوجوب الزكاة، وأيضاً لا يمكن معارضة هذا النص بالقياس؛ لأن النص خير من القياس، فثبت إن الحق ما ذكرنا- انتهى. قلت: حديث لا زكاة في الحلي رواه ابن الجوزي في التحقيق بسنده عن عافية بن أيوب عن ليث بن سعد عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس في الحلي زكاة. وعافية هذا قال الذهبي في الميزان: في ترجمته تكلم فيه ما هو بحجة وفيه جهالة- انتهى. وقال ابن عبد الهادي: الصواب وقفه. وقال الزيلعي (ج2:ص374) قال البيهقي في المعرفة: هو حديث باطل، لا أصل له إنما يروي عن جابر من قوله: وعافية بن أيوب مجهول، فمن احتج به مرفوعاً كان مغرراً بدينه داخلاً فيما يعيب المخالفين من الاحتجاج برواية الكذابين - انتهى. وقال الشيخ في الإمام: رأيت بخط شيخنا المنذري وعافية بن أيوب لم يبلغني فيه ما يوجب تضعيفه. قال الشيخ: ويحتاج من يحتج به إلى ذكر ما يوجب تعديله - انتهى. وقال الحافظ في التخليص (ص183) وعافية. قيل: ضعيف. وقال ابن الجوزي: ما نعلم فيه جرحاً. وقال البيهقي: مجهول. ونقل ابن أبي حاتم توثيقه عن أبي زرعة - انتهى. قلت: وفي وجوب الزكاة في الحلي أحاديث خاصة أيضاً فمنها: حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده إن امرأة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعها ابنة لها، وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب، فقال لها: أتعطين زكاة هذا. قالت لا، قال أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سواراً من نار. قال: فخلعتهما فألهتهما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقالت: هما لله ولرسوله أخرجه أبوداود والنسائي وأبوعبيد (ص439) والدارقطني (207) والبيهقي (ج4:ص140) كلهم من طريق حسين بن ذكوان المعلم عن عمرو بن شعيب وسكت عنه أبوداود. وقال الزيلعي (ج2:ص370) قال ابن القطان إسناده صحيح. وقال المنذري في مختصره. إسناده لا مقال فيه ثم بينه رجلاً رجلاً، وقال في آخر كلامه: وهذا إسناده تقوم به الحجة إنشاءالله انتهى. وقال ابن الملقن: رواه أبوداود بإسناد صحيح ذكره ميرك. وقال الحافظ في بلوغ المرام: إسناده قوي - انتهى. ورواه الترمذي بسند فيه مقال كما سيأتي. ومنها

.............................. ـــــــــــــــــــــــــــــ حديث أم سلمة الآتي وهو حديث صحيح أو حسن كما ستعرف. ومنها: حديث أسماء بنت يزيد قالت: دخلت أنا وخالتي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلينا أسورة من ذهب، فقال لنا: أتعطيان زكاته، فقلنا لا، قال: أما تخافان أن يسوركما الله أسورة من نار أديا زكاته، أخرجه أحمد (ج6:ص461) قال المنذري في الترغيب: بإسناد حسن. وقال الهيثمي: في مجمع الزوائد (ج3:ص67) إسناده حسن وذكره الحافظ في التلخيص وسكت عنه، وقال في الدراية في إسناده مقال- انتهى. قلت: في سنده علي بن عاصم وهو متكلم فيه، قال البخاري: ليس بالقوى عندهم. وقال مرة يتكلمون فيه، وقال الحافظ في التقريب: صدوق يخطيء ويصر، وفيه أيضاً شهر بن حوشب وهو صدوق كثير الإرسال والأوهام. والحق إن حديث أسماء هذا إن قصر عن درجة الحسن فلا يقصر عن أن يكون صالحاً للإستشهاد. ومنها: حديث عائشة قالت: دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم: فرأى في يدي فتخات من ورق، فقال ما هذا يا عائشة! فقلت صنعتهن أتزين لك بهن يا رسول الله! قال أفتؤدين زكاتهن، فقلت لا، قال هن حسبك من النار، أخرجه أبوداود والدارقطني (ص205) والحاكم (ج1:ص389-390) والبيهقي (ج4:ص139) قال الخطابي في المعالم (ج2:ص17) والغالب إن الفتخات لا تبلغ نصاباً تجب فيها بمفردها الزكاة، وإنما معناه أن تضم إلى سائر ما عندها من الحلي فتؤدي زكاتها منه - انتهى. والحديث سكت عنه أبوداود والمنذري، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. وقال ابن دقيق العيد: هو على شرط مسلم. ومنها: حديث فاطمة بنت قيس، قالت: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم: بطوق فيه سبعون مثقالاً من ذهب، فقلت يا رسول الله! خذ منه الفريضة فأخذ منه مثقالاً وثلاثة أرباع مثقال. أخرجه الدارقطني (ص205) وفي إسناده أبوبكر الهذلي وهو ضعيف، ونصر بن مزاحم وهو أضعف منه، وتابعه عباد بن كثير أخرجه أبونعيم في ترجمة شيبان بن زكريا من تاريخه كذا في الدراية، وبسط الكلام فيه الزيلعي (ج2:ص373) ومنها: حديث عبد الله بن مسعود قال: قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن لامرأتي حلياً من ذهب عشرين مثقالاً. قال: فأد زكاته نصف مثقال أخرجه الدارقطني (ص205) قال الحافظ: في الدراية إسناده ضعيف جداً. وأجاب القائلون: بعدم وجوب الزكاة في الحلي عن هذه الأحاديث بأجوبة كلها مردودة، فمنها إن الزكاة في هذه الأحاديث محمولة على أنه كان حين كان التحلي بالذهب حراماً على النساء، فلما أبيح لهن سقطت منه الزكاة بالاستعمال كما تسقط زكاة الماشية بالاستعمال، وهذا الجواب باطل. قال البيهقي في المعرفة، كيف يصح هذا القول من حديث أم سلمة، وحديث فاطمة بنت قيس، وحديث أسماء بنت يزيد، وفيها التصريح بلبسه مع الأمر بالزكاة، ذكره الزيلعي (ج2:ص374) ومنها إن الزكاة المذكورة في هذه الأحاديث. إنما كانت للزيادة على قدر الحاجة، وهذا إدعاء محض لا دليل عليه

رواه الترمذي. 1824- (16) وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، إن امرأتين أتتا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وفي أيديهما سوران من ذهب، فقال: لهما تؤديان زكاته، قالتا: لا، فقال لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أتحبان أن يسور كما الله بسوارين من نار، قالتا: لا، قال فأديا زكاته)) . رواه الترمذي. وقال هذا حديث قد روى المثنى بن الصباح، عن عمر بن شعيب نحو هذا ـــــــــــــــــــــــــــــ بل في بعض الروايات ما يرده. قال الزيلعي: (ج2 ص374) بعد ذكر حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، من رواية أحمد وابن أبي شيبة وإسحاق بن راهوية بلفظ: فأديا زكاة هذا الذي في أيديكما، ما نصه وهذا اللفظ يرفع تأويل من يحمله على أن الزكاة المذكورة فيه، شرعت للزيادة فيه على قدر الحاجة - انتهى. ومنها إن المراد بالزكاة في هذه الأحاديث التطوع لا الفريضة أو المراد بالزكاة العارية. قال القاري: وهما في غاية البعد إذ لا وعيد في ترك التطوع والإعارة مع أنه لا يصح إطلاق الزكاة على العارية لا حقيقة ولا مجازاً (رواه الترمذي) قال ميرك: ورجاله موثقون. قلت أصل الحديث في الصحيحين كما سيأتي في باب أفضل الصدقة. 1284- قوله: (وفي أيديهما سواران) تثنية سوار ككتاب وغراب القلب كالأسوار بالضم، وجمعه أسورة وأساور وأساورة كذا في القاموس. ويقال له بالفارسية، دست برنجن، وفي الهندية كنكن. قال الطيبي: الظاهر أسورة لجمع اليد، والمعنى إن في يدي كل واحدة منهما سوارين. قلت: وقع في رواية لأحمد والدارقطني وعليهما أسورة وفي أخرى لأحمد وفي أيديهما أساور (تؤديان) أي أتؤديان (زكاته) أي الذهب أو ما ذكر من السوارين. قال الطيبي: الضمير فيه بمعنى اسم الإشارة كما في قوله تعالى: {لا فارضٌ ولا بكرٌ عوانٌ بين ذلك} [البقرة: 68] (أن يسوركما الله بسوارين من نار) وعند أحمد في رواية: أن يسور كما الله يوم القيامة أساور من نار وفي أخرى: إن سور كما الله سوارين من نار، يقال سورت المرأة بالتشديد أي ألبستها سواراً. (فأديا زكاته) وفي رواية لأحمد: فأديا حق هذا الذي في أيديكما، وفي أخرى له: فأديا حق الله عليكما في هذا. وفي هذا الحديث أيضاً دليل على وجوب الزكاة في الحلي. قال شيخنا: وهو الحق (رواه الترمذي) من طريق ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأخرجه أحمد (ج2 ص178- 204- 208) والدارقطني (ص206) وابن أبي شيبة في مصنفه (ج3 ص27) الثلاثة من طريق الحجاج بن إرطاة عن عمرو بن شعيب نحوه (وقال) أي الترمذي (هذا الحديث قد روى المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب نحو هذا) قد تقدم أنه رواه عنه

والمثنى بن الصباح وابن لهيعة يضعفان الحديث، ولا يصح في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحجاج بن أرطاة أيضاً عند أحمد والدارقطني وابن أبي شيبة وحسين بن ذكوان المعلم عند أبي داود والنسائي وأبي عبيد والدارقطني والبيهقي، ولم أقف على من أخرجه من طريق المثنى بن الصباح. وأما قول الزيلعي وبسند الترمذي رواه أحمد وابن أبي شيبة واسحاق بن راهوية في مسانيدهم. وقوله: "طريق آخر أخرجه أحمد رضي الله عنه في مسنده عن المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب به وهي الطريق التي أشار إليها الترمذي" ففيه نظر. قال الشيخ أحمد شاكر في شرحه الترمذي للمسند: (ج10 ص200) بعد ذكر قولي الزيلعي المذكورين "لست أدري كيف كان هذان النقلان" أما مسند ابن راهوية فإني لم أراه ولكن مصنف ابن أبي شيبة أمامي وليس فيه إلا روايته من طريق الحجاج بن أرطاة، وكذلك مسند الإمام أحمد بين يدي وأستطيع أن أجزم بالاستقراء التام إنه لم يروه إلا من طريق الحجاج، فمن أين جاء بنسبة روايتي ابن لهيعة والمثنى بن الصباح لمسند أحمد؟ وهو أعنى الزيلعي لا يريد بإشارته إليهما رواية الحجاج بن أرطاة يقيناً، لأن كلامه صريح في الرواية من طريق ابن لهيعة والمثنى. ثم هو قد ذكر بعد ذلك رواية الحجاج بن أرطاة (ج3 ص371) ونسبها لأحمد والدارقطني فإن كان هذان النقلان سهواً منه يكن سهواً عجيباً، وإلا فإني عاجز أن أجد لشيء منه توجيهاً أو تأويلاً - انتهى. (والمثنى بن الصباح وابن لهيعة يضعفان) بصيغة المجهول (في الحديث) اعلم أنه روى الترمذي في جامعه هذا الحديث أولاً عن قتيبة نا ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. ثم قال: هذا حديث قد روى المثنى ابن الصباح عن عمرو بن شعيب الخ. وبهذا يظهر وجه تقريب ذكر ابن لهيعة وتضعيفه. وإنما وقع الإجمال والإغلاق في نقل صاحب المشكاة، وابن لهيعة هو عبد الله بفتح اللام وكسر الهاء ابن عقبة الحضرمي أبوعبد الرحمن المصري القاضي. قال في التقريب هو صدوق خلط بعد احتراق كتبه، ورواية ابن المبارك وابن وهب عنه أعدل من غيرهما، وله في مسلم بعض شيء مقرون مات سنة أربع وسبعين ومائة، وقد ناف على الثمانين - انتهى. وارجع للبسط إلى تهذيب التهذيب (ولا يصح في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء) قال ابن الملقن: بل رواه أبوداود بإسناد صحيح، ذكره ميرك كذا في المرقاة، وقال الزيلعي في نصب الراية: (ج2 ص370) قال المنذري: لعل الترمذي قصد الطريقين الذي ذكرهما، وإلا فطريق أبي داود لا مقال فيها وقال ابن القطان: بعد تصحيحه لحديث أبي داود، وإنما ضعف الترمذي هذا الحديث؛ لأن عنده فيه ضعيفين ابن لهيعة والمثنى بن الصباح - انتهى. وقال الحافظ في الدراية: (ص161) بعد نقل كلام الترمذي هذا ما لفظه كذا قال، وغفل عن طريق خالد بن الحارث - انتهى. وأراد الحافظ بطريق خالد، هذا ما روى أبوداود عن أبي كامل

1825- (17) وعن أم سلمة، قالت: كنت ألبس أوضاحاً من ذهب، فقلت يا رسول الله! أكنز هو؟ فقال: ((ما بلغ أن تؤدي زكاته فزكي، فليس بكنز)) . رواه مالك، وأبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ الجحدري، وحميد بن مسعدة والنسائي عن إسماعيل بن مسعود، كلهم عن خالد بن الحارث عن حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، إن امرأة أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث. وقد ذكرنا سياقه. وقال في التلخيص: (ص183) بعد ذكر سياق أبي داود أخرجه من حديث حسين المعلم، وهو ثقة عن عمرو، وفيه رد على الترمذي حيث جزم بأنه لا يعرف إلا من حديث ابن لهيعة، والمثنى بن الصباح عن عمرو، وقد تابعهم حجاج بن أرطاة أيضاً. وقال الشيخ أحمد شاكر في شرحه لمسند الإمام أحمد: (ج10 ص197) بعد نقل كلام الترمذي المتقدم ما لفظه، والعجب من الترمذي كيف خفي عليه رواية الحجاج بن أرطاة هذا الحديث، عن عمرو بن شعيب مع كثرة من رووه عن الحجاج والثقة بهم. ثم إن أكثر ما يؤخذ على هؤلاء الثلاثة الحجاج ابن أرطاة وابن لهيعة والمثنى بن الصباح، خشية الغلط أو الاضطراب مع ما رمى به الحجاج من التدليس، ولم يجرح واحد منهم في صدقة وأمانته فإذا اتفق هؤلاء الثلاثة، أو اثنان منهم على رواية حديث كان احتمال الخطأ مرفوعاً أو بعيداً على الأقل. فإني يكون هذا الحديث ضعيفاً، وقد جاء نحو معناه بإسناد صحيح لا خلاف في صحته، فذكر رواية أبي داود والنسائي من طريق خالد بن الحارث، ولم ينفرد بذلك خالد بل تابعه محمد بن أبي عدي عند أبي عبيد، وأبوأسامة عند الدارقطني، فظهر بهذا أن قول الترمذي "ولا يصح في هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء" غير صحيح والله تعالى أعلم. 1825- قوله: (كنت ألبس) بفتح الموحدة من باب سمع (أوضاحاً) في النهاية هو جمع وضح بفتحتين نوع من الحلي يعمل من الفضة سمي به لبياضه. وفي جامع الأصول (ج5 ص480) الأوضاح حلي من الدراهم الصحاح، هكذا قال الجوهري، وقال الأزهري: الأوضاح حلي من الفضة - انتهى. وفي منتهى الأرب بالفارسية وضح بمعنى خلخال أي حلقة طلا، ونقره كه در بائي كنند، وآنرا بفارسي بائي برنجن نامند (من ذهب) هذا يدل على أنها تسمى إذا كانت من ذهب أوضاحاً (أكنز هو) يعني استعمال الحلي كنز من الكنوز الذي بشر صاحبه بالنار في قوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم} [التوبة: 34] (ما بلغ) أي الذي بلغ (أن تؤدي) بصيغة المجهول (زكاته) أي بلغ نصاباً (فزكى) بصيغة المجهول أي أدى زكاته (فليس بكنز) فيه دليل كما في الحديث الذي قبله على وجوب زكاة الحلية، وإن كل مال أخرجت زكاته فليس بكنز، فلا يشمله الوعيد في الآية (رواه مالك وأبوداود) ونسبه الجزري في جامع الأصول (ج5 ص331) إلى مالك فقط. حيث قال (ط عطاء بن أبي رباح) قال بلغني إن أم سلمة قالت: كنت ألبس

1826- (18) وعن سمرة بن جندب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كان يأمرنا أن نخرج الصدقة، من الذي نعد للبيع)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ أوضاحاً من الذهب فذكر مثل سياق الكتاب سواء. ثم قال: أخرجه الموطأ ولم أجد حديث أم سلمة هذا في النسخ الموجودة عندنا من الموطأ، ولم يعزه إليه أحد غير صاحب المشكاة وصاحب جامع الأصول فقد أورده الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص371، 372) والحافظ في الفتح، والتلخيص والدراية، وبلوغ المرام، والعيني في شرح البخاري (ج9 ص34) والشوكاني في السيل الجرار، والنابلسي في ذخائر المواريث، ولكنه لم ينسبه أحد منهم إلى الموطأ، ولا أدري كيف كانت نسبة المصنف، والجزري هذه الرواية إلى الموطأ ولعل هذا سهو منهما. ويمكن أن يأول أن يوجه بأنها كانت موجودة في رواية غير يحيى المصمودي للموطأ والله تعالى اعلم - والحديث. أخرجه أبوداود من طريق عتاب بن بشير عن ثابت بن عجلان عن عطاء عن أم سلمة، وأخرجه الحاكم (ج1 ص390) عن محمد بن مهاجر عن ثابت به. ولفظه: إذا أديت زكاته فليس بكنز، وكذلك رواه الدارقطني (ص204) والبيهقي (ج4 ص83) وصححه الحاكم والذهبي على شرط البخاري. وقال الحافظ في الدراية: قواه ابن دقيق العيد: وقال في الفتح: بعد عزوه إلى الحاكم وصححه ابن القطان أيضاً، وأخرجه أبوداود. وقال ابن عبد البر في سنده مقال. وذكر شيخنا في شرح الترمذي إن سنده جيد - انتهى. قلت: تكلم في هذا الحديث البيهقي وابن الجوزي، وقد رد عليهما الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص372) والحق عندي: أن هذا الحديث لا ينحط عن درجة الحسن بل هو صحيح، كما قال الحاكم والذهبي وابن القطان والله تعالى أعلم. فائدة يعتبر في النصاب في الحلي الذي تجب فيه الزكاة بالوزن، فلو ملك حلياً قيمته مائتا درهم ووزنه دون المائتين، لم يكن عليه زكاة، وإن بلغ مائتين وزناً ففيه الزكاة. وإن نقص في القيمة لقوله عليه السلام "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة" اللهم إلا أن يكون الحلي للتجارة فيقوم، فإذا بلغت قيمته بالذهب والفضة نصاباً ففيه الزكاة؛ لأن الزكاة متعلقة بالقيمة، وما لم يكن للتجارة فالزكاة في عينه فيعتبر أن يبلغ بقيمته ووزنه نصاباً وهو، مخير بين إخراج ربع العشر حلية مشاعاً أو دفع ما يساوي ربع عشرها من جنسها. وإن زاد في الوزن على ربع العشر؛ لأن الربا لا يجري ههنا، لأن المخرج حق لله ولا ربوا بين العبد وسيده، ولو أراد كسرها ودفع ربع عشرها لم يكن منه لأنه ينقص قيمتها، وهذا مذهب الشافعي. وإن أراد إخراج الفضة عن حلي الذهب أو الذهب عن الفضة أخرج على الوجهين كما قدمنا في إخراج أحد النقدين عن الآخر كذا في المغنى (ج3 ص12) . 1826- قوله: (كان يأمرنا أن نخرج الصدقة) أي الزكاة الواجبة (من الذي) أي المال الذي (نعده) بضم النون وكسر العين المهملة من الأعداد أي نهيئه (للبيع) أي للتجارة وخص لأنه الأغلب. قال الطيبي: وفيه

................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ دليل على أن ما ينوي به القنية لا زكاة فيه - انتهى. قلت: الحديث دليل ظاهر على وجوب الزكاة في مال التجارة، لأن قول الراوي يأمرنا يفهم أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يأتي بصيغة تفيد الأمر، والأصل فيه الوجوب وهي قرينة على حمل الصدقة على الزكاة الواجبة. واختلف العلماء في ذلك: قال ابن رشد في البداية: (ص230) اتفقوا على أن لا زكاة في العروض التي لم يقصد بها التجارة، واختلفوا في إيجاب الزكاة فيما اتخذ منها للتجارة. فذهب فقهاء الأمصار إلى وجوب ذلك ومنع ذلك أهل الظاهر - انتهى. وقال ابن قدامة: (ج3 ص29) تجب الزكاة في قيمة عروض التجارة في قول أكثر أهل العلم، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن في العروض التي يراد بها التجارة الزكاة، إذا حال عليها الحول. روى ذلك عن ابن عمر وابنه وابن عباس، وبه قال الفقهاء السبعة والحسن وجابر ابن زيد وميمون بن مهران، وطاووس والنخعي والثوري والأوزاعي والشافعي وأبوعبيد وإسحاق وأصحاب الرأي، وحكى عن مالك وداود لا زكاة فيها - انتهى. قلت: ما حكى عن مالك هو سهو من ابن قدامة؛ لأن الموطأ صريح في إيجاب الزكاة في مال التجارة، واتفقت فروع المالكية على إثباتها، ولم يحك أحد من نقله المذاهب خلاف مالك، في ذلك ويمكن أن تكون المسألة اشتبهت على ابن قدامة بالتاجر المحتكر، فإن الإمام مالكاً لم يقل بوجوب الزكاة عليه في كل سنة، خلافاً للجمهور. بل قال: إنما يجب الزكاة عليه في ثمنه إذا نض بالبيع لسنة واحدة فقط. وإن أقام عنده أحوالاً. قلت: واستدل للجمهور على وجوب الزكاة في مال التجارة بحديث الباب وفي سنده مقال. واختلف العلماء في تصحيحه وتضعيفه كما ستعرف. وبقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقةً} [التوبة: 103] قال ابن العربي: وهذا عام في كل مال على اختلاف أصنافه وتباين أسماءه واختلاف أغراضه، فمن أراد أن يخصه في شيء فعليه الدليل وبقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم} [البقرة: 267] قال مجاهد: نزلت في التجارة. وبما روى عن أبي ذر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: في الإبل صدقتها، وفي البَزِّ صدقته. أخرجه أحمد والدارقطني والحاكم والبيهقي. قال الحافظ في الدراية: وإسناده حسن - انتهى. وفسروا البز بالثياب المعدة للبيع عند البزارين. قلت: للحديث أربعة طرق إحداها: عن عاصم عن موسى بن عبيدة الربذي عن عمران بن أبي أنس عن مالك بن أوس أبي الحدثان عن أبي ذر. والثانية: عن سعيد بن سلمة بن أبي الحسام عن موسى بن عبيدة عن عمران بن أبي أنس، وهاتان الطريقتان عند الدارقطني (ص203) والبيهقي (ج4 ص147) قال الدارقطني: في آخر الطريق الأولى، وفي البز صدقته قالها بالزاي، وفي آخر الثانية كتبته من الأصل العتيق، وفي البز مقيداً - انتهى. وموسى بن عبيدة ضعيف. والثالثة: من رواية ابن جريج عن عمران بن أبي أنس وهي عند أحمد (ج6 ص179) والدارقطني (ص203) والحاكم (ج1 ص388) والبيهقي (ج4 ص147) رواها الدارقطني والبيهقي بلفظ: وفي البز

.................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ صدقته أي بالزاي المعجمة، ولفظ أحمد والحاكم في النسختين المطبوعتين من المسند والمستدرك وفي البر صدقته أي بالراء المهملة. وقال ابن دقيق العيد: الأصل الذي نقلت منه هذا الحديث من المستدرك، ليس فيه البز بالزاي المعجمة وفيه ضم الباء في الموضعين أي في هذا الطريق، وفي الطريق الآتي فيحتاج إلى كشفه من أصل آخر معتبر، فإن اتفقت الأصول على ضم الباء فلا يكون فيه دليل على مسألة زكاة التجارة - انتهى. قال الزيلعي: وهذا فيه نظر، فقد صرح به في مسند الدارقطني، قالها بالزاي كما تقدم (ولكن طريقة ضعيفة كما عرفت) . وقال النووي في تهذيب اللغات: هو بالباء والزاي، ومن الناس من صحفه بضم الباء وبالراء المهملة وهو غلط - انتهى. وهذا الطريق الثالث معلول، وإن صححه الحاكم والذهبي على شرط الشيخين، لأن ابن جريج رواه عن عمران أنه بلغه عنه كما في مسند الإمام أحمد ورواه الترمذي في العلل من هذا الوجه. وقال: سألت البخاري عنه، فقال لم يسمعه ابن جريج من عمران، هو يقول حُدِّثْتُ عن عمران. وقال ابن القطان: ابن جريج مدلس، لم يقل حدثنا عمران، فالحديث منقطع ثم نقل كلام الترمذي. والطريقة الرابعة: عن سعيد بن سلمة بن أبي الحسام، ثنا عمران بن أبي أنس أخرجها الحاكم أيضاً وصححها على شرط الشيخين. وقال الحافظ في التلخيص: وهذا إسناد لا بأس به. قلت: فالحديث بمجوع طرقه حسن صالح للاحتجاج هذا مما لا شك فيه عندنا. واستدل للجمهور أيضاً بما روى الشافعي في الأم (ج2 ص39) وعبد الرزاق والدارقطني (ص213) وابن أبي شيبة وسعيد بن منصور والبيهقي (ج4 ص147) وأبوعبيد (ص425) عن أبي عمرو بن حماس عن أبيه إن عمر قال له: قومها يعني الأدرم والجعاب ثم أد زكاتها. قال ابن قدامة: هذه قصة يشتهر مثلها ولم تنكر فيكون إجماعاً. وبما روى محمد بن الحسن في كتاب الآثار (ص48) وأبوعبيد (ص533) عن زيادة بن جدير. قال: بعثني عمر مصدقاً فأمرني أن آخذ من المسلمين من أموالهم إذا اختلفوا بها للتجارة ربع العشر الحديث. وبما روى البيهقي (ص147) بإسناد صحيح والشافعي (ج2 ص39) عن ابن عمر قال: ليس في العروض زكاة إلا ما كان للتجارة. وبما روى عبد الرزاق من وجه آخر صحيح عن ابن عمر أنه كان يقول: في كل مال يدار في عبيد أو دواب أو بز للتجارة تدار الزكاة فيه كل عام. قال الزرقاني قال الطحاوي: ثبت عن عمر وابنه زكاة عروض التجارة ولا مخالف لهما من الصحابة وهذا يشهد إن قول ابن عباس وعائشة، لا زكاة في العروض إنما هو في عروض القنية. وقال البيهقي: بعد رواية أثر ابن عمر المتقدم وهذا قول عامة أهل العلم، فالذي روى عن ابن عباس أنه قال: لا زكاة في العروض. فقد قال الشافعي: في كتابة القديم إسناد الحديث عن ابن عباس ضعيف، فكان إتباع حديث ابن عمر لصحته والاحتياط في الزكاة أحب إلي والله أعلم. قال البيهقي: وقد حكى ابن المنذر عن عائشة وابن عباس مثل ما روينا عن ابن عمر ولم يحك خلافهم عن أحد، فيحتمل أن يكون معنى قوله إن صح لا زكاة في العرض أي إذا لم يرد به التجارة - انتهى. وبما روى

رواه أبو داود ـــــــــــــــــــــــــــــ مالك في الموطأ إن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامل:انظر من مر بك من المسلمين فخذ مما ظهر من أموالهم مما يريدون من التجارة، من كل أربعين دينارا دينارا. قال ابن العربي: إن عمر بن عبد العزيز كتب بأخذ الزكاة من العروض والملأ الملأ والوقت الوقت، بعد أن استشار واستخار، وحكم بذلك وقضى به على الأمة. فارتفع الخلاف بحكمه، وقد أخذها عمر إلا على قبله وهو صحيح من رواية أنس- انتهى. وبأن العروض المتخذة للتجارة مال مقصود به التنمية فأشبه الأجناس الثلاثة التي فيها الزكاة باتفاق، أعني الحرث والماشية والذهب والفضة. واستُدل للظاهرية بما تقدم من قوله عليه السلام: ليس على المسلم صدقة في عبده ولا في فرسه فإنه لم يقل إلا أن ينوي بهما التجارة. وأجيب عنه بأن المراد به زكاة العين لا زكاة القيمة بدليل ما تقدم على أن هذا الحديث عام وما استدل به الجمهور من الأحاديث والآثار خاص فيجب تقديمه هذا. ومال الشوكاني إلى عدم وجوب الزكاة فى عروض التجارة حيث قال في السيل الجرار بعد الكلام في حديثي سمرة وأبي ذر. والحاصل أنه (ليس في المقام ما تقوم به الحجة. وإن كان مذهب الجمهور كما حكاه البيهقي فى سننه. فإنه قال إنه قول عامة أهل العلم والدين- انتهى. قلت: والحق عندي: هو ما ذهب إليه الجمهور لما قدمنا من الدلائل وهي بمجموعها تنتهض للاستدلال على مسلك الجمهور، وتقوم بها الحجة في المقام والله تعالى أعلم. ثم رأيت صاحب تفسيرالمنار قد قوى قول الجمهور بوجه آخر حسن فأحببت إيراده. قال: وجمهور علماء الملة يقولون بوجوب زكاة عروض التجارة، وليس فيها نص قطعي من الكتاب أو السنة. وإنما ورد فيها روايات يقوي بعضها بعضا مع الاعتبار المستند إلى النصوص، وهو إن عروض التجارة المتداولة للاستغلال نقود، لا فرق بينها وبين الدراهم والدنانير التى هي أثمانها، إلا في كون النصاب يتقلب ويتردد بين الثمن وهو النقد والمثمن وهو العروض، فلو لم تجب الزكاة فى التجارة لأمكن لجميع الأغنياء. أو أكثرهم أن يتجروا بنقودهم ويتحروا أن لا يحول الحول على نصاب من النقدين أبدا. وبذلك تبطل الزكاة فيهما عندهم، ورأس الاعتبار في المسئلة إن الله تعالى فرض في أموال الأغنياء صدقة لمواساة الفقراء، وإقامة المصالح العامة التي تقدم بيانها. وإن الفائدة فى ذلك للأغنياء تطهير أنفسهم من رذيلة البخل وتزكيتها بفضائل الرحمة بالفقراء، وسائر أصناف المستحقين ومساعدة الدولة والأمة فى إقامة المصالح العامة الأخرى التي يأتى ذكرها. والفائدة للفقراء وغيرهم إعانتهم على نوائب الدهر، مع ما في ذلك من سد ذريعة المفاسد، في تضخم الأموال وحصرها في أناس معدودين. وهو المشار إليه بقوله تعالى حكمه قسمة الفىء (كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم) فهل يعقل أن يخرج من هذه المقاصد الشرعية كلها التجار الذين ربما تكون معظم ثروة الأمة في أيديهم- انتهى. (رواه أبو داود) وأخرجه أيضا الدارقطني (ص 214) والطبراني في الكبير والبزار والبيهقي

1827- (19) وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ـــــــــــــــــــــــــــــ (ج4 ص146) جميعهم من رواية جعفر بن سعد عن خبيب بن سليمان عن أبيه سليمان بن سمرة عن جده سمرة. قال الحافظ في بلوغ المرام: إسناده لين وفي الدراية فيه ضعف، وفي التلخيص في إسناده جهالة وقال الهيثمي: في إسناده ضعف. وقال ابن حزم: رواته يعني من جعفر إلى سمرة مجهولون لا يعرف من هم، وتبعه ابن القطان. فقال: ما من هؤلاء من يعرف حاله، وقد جهد المحدثون فيهم جهدهم وهو إسناد يروي به جملة أحاديث قد ذكر البزار منها نحو المائة وقال عبد الحق: خبيب هذا ضعيف وجعفر ليس ممن يعتمد عليه. وقال الذهبي في الميزان: خبيب لا يعرف، وقد ضعف، قال: وبكل حال هذا إسناد مظلم لا ينهض بحكم - انتهى. قلت: الحديث سكت عنه أبوداود ثم المنذري بعده وهذا تحسين منهما. وقال ابن عبد البر: وقد ذكر هذا الحديث رواه أبوداود وغيره بإسناد حسن - انتهى. وقال ابن القطان: متعقباً على عبد الحق فذكر في كتاب الجهاد حديث من كتم غالاً فهو مثله، وسكت عنه من رواية جعفر بن سعد هذا، عن خبيب بن سليمان عن أبيه فهو منه تصحيح. ذكره الزيلعي (ج2 ص376) والرواة الثلاثة أي جعفر وخبيب وأبوه سليمان ذكرهم ابن حبان في ثقاته. فائدة قال ابن قدامة: (ج3 ص30) من ملك عرضاً للتجارة فحال عليه الحول وهو نصاب قومه في آخر الحول، فما بلغ أخرج زكاته وهو ربع عشر قيمته، ولا نعلم بين أهل العلم خلافاً في اعتبار الحول، وقد دل عليه قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" إذا ثبت هذا فإن الزكاة تجب فيه في كل حول، وبهذا قال الثوري والشافعي وإسحاق وأبوعبيد وأصحاب الرأي. وقال مالك: لا يزكيه إلا لحول واحد إلا أن يكون مديراً أي غير محتكر - انتهى. قلت: حاصل مذهب مالك ما ذكره الزرقاني من أن إدارة التجارة ضربان. أحدهما: التقلب فيها وإرتصاد الأسواق بالعروض فلا زكاة، وإن أقام أعواماً حتى يبيع فيزكي لعام واحد. والثاني: البيع في كل وقت بلا انتظار سوق كفعل أرباب الحوانيت فيزكي كل عام بشروط أشار إليها الباجي وذهب الأئمة الثلاثة وغيرهم إلى أن التاجر يقوم كل عام ويزكي مديراً كان أو محتكراً - انتهى. قلت: ظاهر الأحاديث والآثار المذكورة التي فيها الأمر بالزكاة، مما يعد للبيع يعم المدير والمحتكر من غير فرق، بين ما ينض وبين ما لا ينض، فالقول الراجح هو ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة ثم ههنا مسائل تتعلق بالزكاة في عروض التجارة، لا يستغني عنها الطالب فعليه أن يرجع إلى المغني. 1827- قوله: (وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن) التيمي مولاهم أبوعثمان المدني المعروف بربيعة الرأي واسم أبيه فروخ ثقة فقيه مشهور من صغار التابعين، أدرك بعض الصحابة والأكابر من التابعين، وكان أحد مفتى المدينة، وكان يجلس إليه وجوه الناس بالمدينة، وعنه أخذ مالك روى عن أنس والسائب بن يزيد وابن

عن غير واحد، ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقطع لبلال بن الحارث المزني، معادن القبلية ـــــــــــــــــــــــــــــ المسيب والقاسم بن محمد ومكحول وغيرهم، وعنه يحيى بن سعيد الأنصاري، ومالك وشعبة والسفيانان، وحماد ابن سلمة والليث والدراوردي وغيرهم. قال ابن سعد: كانوا يتقونه لموضع الرأي مات سنة (136) على الصحيح وقيل سنة (133) وقال الباجي: في رجال البخاري سنة (142) قال مالك: ذهبت حلاوة الفقه منذ مات ربيعة. وقال الذهبي: كان ربيعة إماماً حافظاً فقيهاً مجتهداً بصيراً بالرأي، ولذلك يقال له ربيعة الرأي أخباره مستوفاة في تاريخ دمشق وتاريخ بغداد قال الخطيب: كان فقيهاً عالماً حافظاً للفقه والحديث - انتهى. (عن غير واحد) زاد رواية أبي والبيهقي من علماءهم (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال المنذري: هذا مرسل، وهكذا رواه مالك في الموطأ مرسلاً ولفظه عن غير واحد من علماءهم. وقال أبوعمر بن عبد البر: هكذا في الموطأ عند جميع الرواة مرسل، ولم يختلف فيه عن مالك، وذكر إن الدراوردي رواه عن ربيعة عن الحارث بن بلال بن الحارث المزني عن أبيه وقال أيضاً: وإسناد ربيعة فيه صالح حسن كذا في عون المعبود. قلت: وصله البزار وأبوعبيد (ص290) والحاكم (ج1 ص404) ومن طريقة البيهقي (ج4 ص152) من رواية عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن ربيعة عن الحارث بن بلال بن الحارث عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ابن عبد البر: ورواه أبوسبرة المديني عن مطرف عن مالك عن محمد بن عمرو بن علقمة عن أبيه عن بلال موصولاً، لكن لم يتابع عليه، قال ورواه أبوأويس عن كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده وعن ثور بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس. قلت: أخرجه من الوجهين الآخرين أحمد (ج1 ص306) وأبوداود وكثير بن عبد الله حسن حديثه البخاري والترمذي وتكلم فيه غيرهما، وأبوأويس عبد الله ابن عبد الله أخرج له مسلم الشواهد وضعفه غير واحد (أقطع) من الإقطاع وهذه رواية أبي داود، وفي الموطأ قطع بدون الهمزة، وكذا عند أبي عبيد (ص338) والبيهقي (ج4 ص152) والمعروف عند أهل اللغة، وفي الأحاديث والآثار هو الإقطاع. قال الحافظ في الفتح. تقول أقطعته أرضاً جعلتها له قطيعة، والمراد به ما يخص به الإمام بعض الرعية من الأرض الموات، فيختص به ويصير أولى بإحياءه ممن لم يسبق إلى أحياءه. واختصاص الإقطاع بالموات متفق في كلام الشافعية - انتهى. وقال الطيبي: الإقطاع ما يجعله الإمام لبعض الأجناد والمرتزقة من قطعة أرض ليرتزق من ريعها في النهاية، الإقطاع يكون تمليكاً وغير تمليك. وقال العيني: الإقطاع هو تسويغ الإمام من مال الله تعالى لمن يراه أهلاً لذلك، وأكثرها ما يستعمل في إقطاع الأرض، وهو أن يخرج منها شيئاً يجوزه، إما أن يملكه إياه فيعمره، أو يجعل له غلته ففي صورة التمليك الذي أقطع له، وهو الذي يسمى المقطع له رقبة الأرض فيصير ملكاً له، يتصرف فيه تصرف الملاك في أملاكهم، وفي صورة جعل الغلة لا يملك إلا منفعة الأرض دون رقبتها. فعلى هذا لا يجوز للجندي الذي يقطع له أن يوجر ما اقطع له، لأنه يملك منافعها وإن لم يملك رقبته (معادن القبيلة) بفتح القاف وفتح الموحدة وكسر اللام وبالياء المشددة المفتوحة

وهي من ناحية الفرع، فتلك المعادن لا تؤخذ منها، إلا الزكاة إلى اليوم. ـــــــــــــــــــــــــــــ مجرورة بالإضافة، وهي منسوبة إلى قبل بفتحِ القاف والباء، وهي ناحية من ساحل البحر، بينها وبين المدينة خمسة أيام. وقيل هو بكسر قاف ثم لام مفتوحة ثم باء. قال في النهاية: نسبة إلى قبل بفتح القاف والباء هذا هو المحفوظ في الحديث. وفي كتاب الأمكنة القلبة بكسر القاف وبعدها لام مفتوحة ثم باء- انتهى. قال ابن الملك: يعني أعطاه ليعمل فيها ويخرج الذهب والفضة لنفسه، وهذا يدل عل جواز إقطاع المعادن ولعلها كانت باطنة، فإن الظاهرة لا يجوز إقطاعها- انتهى. والمراد بالظاهرة ما يبدو جوهرها بلا عمل، وإنما السعي والعمل لتحصيله، وذلك كالنفطة الكبريت والقار والقطران، وأحجار الرحى وشبهها، وهذه لا يملكها أحد بالإحياء والعمارة، إن أراد بها النيل، ولا يختص بها المحتجر. وليس للإمام إقطاعها بل هي مشتركة بين الناس كالماء والحطب، وبالباطنة ما لا يظهر جوهرها إلا بكدوح واعتمال واستخراج، كالذهب والفضة والرصاص والنحاس والحديد وسائر الجواهر المبثوثة في الأرض. واختلفوا فيها هل يملكها بالإحياء؟ وفيه وجهان للشافعية: أظهرهما إنها كالظاهرة، والحق أنه يملكها بالإحياء ويجوز للإمام إقطاعها (وهي من ناحية الفرع) قال النووي في تهذيبه: بضم الفاء واسكان الراء قربة ذات نخل وزرع ومياه، جامعة بين مكة والمدينة على نحو أربع مراحل من المدينة وقال الزرقاني: بضم الفاء والراء كما جزم به السهيلي وعياض في المشارق، وقال في كتابه التنبيهات: هكذا قيده الناس، وكذا رويناه. وحكى عبد الحق عن الأحول إسكان الراء ولم يذكره غيره انتهى. فاقتصار النهاية والنووي في تهذيبه على الإسكان مرجوح. قال في الروض: بضمتين من ناحية المدينة فيها عينان، يقال لهما الربض والنجف يسقيان، عشرين ألف نخلة- انتهى. وقال في معجم البلدان: والفرع قرية من نواحي الربذة عن يسار السقياء بينها وبين المدينة ثمانية برد عل طريق مكة. وقيل: أربع ليال وبها منبر ونخل ومياه كثيرة (فتلك المعادن لا تؤخذ) بالتأنيث وفي الموطأ وسنن أبى داود والبيهقي والأموال لا يؤخذ بالتذكير (منها إلا الزكاة إلى اليوم) أي لا يؤخذ منها الخمس كالركاز. قال المظهر: أي الأربع العشر كزكاة النقدين، قال الباجى: هذا دليل واضح على أن المعدن يجب فيما يخرج منه الزكاة- انتهى. وإليه ذهب مالك وأحمد وإسحاق وهو أحد أقوال الشافعي، واستدل لهم بحديث الباب. وبما تقدم من قوله عليه السلام في الرقة ربع العشر ويقاس عليها غيرها، وبما ثبت عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى عامله بأخذ ربع العشر من المعدن، وذهب أبو حنيفة والثورى ومكحول وأبو عبيد والزهري إلى أن الواجب في المعدن الخمس، لأنه يصدق عليه اسم الركاز. وقد تقدم الخلاف وتحقيق الحق في ذلك. قال في تحفة المنهاج: وهو قول للشافعي قياسا على الركاز يجامع الإخفاء. والقول الثالث للشافعي: إن وجد بتعب ومؤنة كطحن ومعالجة بنار فربع العشر وإلا فالخمس. وأجاب

رواه مالك، وأبو داود. ـــــــــــــــــــــــــــــ القائلون بوجوب الخمس في المعدن عن حديث الباب بوجوه. منها: ما قال أبو عبيد وابن حزم أنه حديث منقطع. ومنها: إن قوله فتلك المعادن تؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم لا يوجد في الطرق الموصولة. ومنها: ما قال الشافعي ليس هذا مما يثبته أهل الحديث، ولو ثبتوه لم تكن فيه رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا إقطاعه. فأما الزكاة في المعادن دون الخمس فليست مروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال أبو عبيد: ومع كون الحديث لا إسناد له لم يذكر فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بذلك، إنما قال: فهي تؤخذ منها الصدقة إلى اليوم. قال ابن الهمام: يعني فيجوز كون ذلك من أهل الولايات اجتهاداً منهم. وتعقب بما تقدم من أنه رواه البزار والطبراني وأبو عبيد والحاكم والبيهقي موصولا من طريق الدراوردى، وقد صرح في رواية الحاكم برفع الزيادة المذكورة ولفظه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ من المعادن القبلية الصدقة، وأنه أقطع بلال بن الحارث العقيق أجمع، فلما كان عمر رضى الله عنه، قال لبلال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقطعك لتحتجره عن الناس، لم يقطعك إلا لتعمل. قال: فاقطع عمر للناس العقيق قال الحاكم: قد احتج مسلم بالدراوردي، وهذا حديث صحيح، ووافقه الذهبي. وقال البيهقي: بعد ذكر قول الشافعي المتقدم هو كما قال الشافعي في رواية مالك، وقد روى عبد العزيز الدراوردي عن ربيعة موصولا، ثم رواه البيهقي عن الحاكم باللفظ المتقدم، وتعقب العيني في البناية علي رفعه بما لا يلتفت إليه. ومنها: ما قال صاحب البدائع: انه يحتمل أنه إنما لم يأخذ منه ما زاد على ربع العشر لما علم من حاجته وذلك جائز عندنا- انتهى. وفى ذكر هذا غنى عن الرد فإنه لا دليل على هذا الاحتمال، وأيضا يبطله الحصر المذكور في الحديث والاستمرار علي أخذ الزكاة فقط، على مرور الأزمان. ومنها: ما أجاب به الشاه ولى الله الدهلوى في المسوى حيث قال، بعد حكاية كلام الإمام الشافعي المتقدم، أقول ولو كانت الزكاة مروية عن النبى - صلى الله عليه وسلم -، فليس ذلك نصا في ربع العشر بل يحتمل معنيين آخرين أحدهما يؤخذ منه الخمس، وهو زكاة وهو قول للشافعي، والحصر بالنسبة إلى الكل. والثاني إذا ملكه وحال عليه الحول تؤخذ منه الزكاة وهو قول جمع من المحدثين- انتهى. قلت: الظاهر المتبادر من لفظ الزكاة هو ربع العشر وإطلاق الزكاة على الخمس غير معروف، وأما الاحتمال الثاني فغير بعيد. (رواه مالك) عن ربيعة الرأى (وأبو داود) عن عبد الله بن مسلمة عن مالك به وتقدم ذكر من أخرجه غيرهما مع بيان ما فيه من الكلام. فوائد: الأولى: إن ما يخرج من المعدن ثلاثة أنواع الأول ما يذوب بالنار وينطبع بالحلية كالذهب والفضة والحديد والرصاص ونحو ذلك. والثاني: ما لا يذوب بالإذابة كالياقوت والبلور والعقيق والزمرد والفير وزج والكحل والمغرة والزرنيخ والجص والنورة ونحوها. والثالث: ما يكون مائعا كالنفط والقار،

................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ واختلف الأئمة في حكم هذه الأنواع، فذهب الحنفية كما تقدم إلى أن وجوب الخمس يختص بالنوع الأول دون النوعين الأخيرين. قال الكاساني: أما ما لا يذوب بالإذابة فلا خمس فيه ويكون كله للواجد، لأن الجص والنورة ونحوهما من أجزاء الأرض، فكان كالتراب والياقوت والفص من جنس الأحجار غير أنها أحجار مضيئة، ولا خمس في الحجر. وقال مالك والشافعي وابن حزم وداود يجب الزكاة في الذهب والفضة خاصة. وأوجب أحمد الزكاة في الأنواع الثلاثة. قال في الرواض المربع: المعدن إن كان ذهباً أو فضة ففيه ربع عشره إن بلغ نصاباً، وإن كان غيرهما ففيه ربع عشر قيمته، إن بلغت نصاباً بعد سبك وتصفية - انتهى. واستدل ابن قدامة لذلك بعموم قوله تعالى: {ومما أخرجنا لكم من الأرض} [البقرة: 267] وقال الشاه ولي الله الدهلوي في المصفى شرح الموطأ بالفارسية: الظاهر إن المعادن القبلية لم تكن من الذهب والفضة، فإنها لم يذكرها أهل التاريخ، ومن البعيد سكوت جميعهم عن ذكرها، وإهمالهم إياها أو خفاءها عليهم، مع كونها بقرب المدينة. فالظاهر إنها كانت من بقية المنطبعات أو من غير ما ينطبع كالمغرة والنورة وهذا الأخير أقرب، فالظاهر هو ما قال به أحمد: من أن الزكاة تجب في كل ما يخرج من المعدن، منطبعاً كان أو غير منطبع - انتهى معرباً. الثانية: اختلفوا هل يشترط النصاب في الوجوب فيما يخرج من المعدن أم لا، قال العيني: يجب الخمس في قليله وكثيره ولا يشترط فيه النصاب عندنا واشترط مالك والشافعي وأحمد لوجوب الزكاة فيه أن يكون الموجود نصاباً ولنا أن النصوص خالية عن اشتراط النصاب فلا يجوز اشتراطه بغير دليل شرعي - انتهى. وقال ابن قدامة: (ج3 ص25) وهو أي نصاب المعادن ما يبلغ من الذهب عشرين مثقالاً، ومن الفضة مائتي درهم، أو قيمة ذلك من غيرهما، وهذا مذهب الشافعي. وأوجب أبوحنيفة الخمس في قليله وتكثيره من غير اعتبار نصاب، بناء على أنه ركاز لعموم الأحاديث التي احتجوا بها عليه؛ ولأنه لا يعتبر له حول فلم يعتبر له نصاب كالركاز. ولنا عموم قوله السلام: ليس فيما دون خمس أواق صدقة. وقوله: ليس في تسعين ومائة شيء، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ليس عليكم في الذهب شيء، حتى يبلغ عشرين مثقالا. وقد تقدم إن هذا ليس بركاز، وأنه مفارق للركاز، حيث إن الركاز مال كافر أخذ في الإسلام فأشبه الغنيمة، وهذا وجب مواساة وشكر النعمة الغني فاعتبر له النصاب كسائر الزكوات، وإنما لم يعتبر له الحول لحصوله دفعة واحدة فأشبه الزروع والثمار - انتهى. الثالثة: قال ابن قدامة: (ج3 ص26) تجب الزكاة في ما يخرج من المعدن حين يتناوله ويكمل نصابه ولا يعتبر له حول، وهذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي. وقال إسحاق وابن المنذر: لا شيء في المعدن، حتى يحول عليه الحول لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول, ولنا أنه مال مستفاد من الأرض فلا يعتبر في وجوب حقه حول، كالزروع والثمار والركاز، ولأن الحول إنما يعتبر في غير هذا لتكميل النماء، وهو يتكامل نماءه دفعة واحدة، فلا يعتبر له

{الفصل الثالث}

{الفصل الثالث} 1828- (20) عن علي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس صدقة، ـــــــــــــــــــــــــــــ حول كالزروع - انتهى. قال ابن رشد (ج1:ص243) وسبب اختلافهم تردد شبهه بين ما تخرجه الأرض مما تجب فيه الزكاة، وبين التبر والفضة المقتنيين، فمن شبهه بما تخرجه الأرض لم يعتبر الحول فيه، ومن شبهه بالتبر والفضة المقتنيين أوجب الحول، وتشبيهه بالتبر والفضة أبين - انتهى. وقد اعترض أيضاً أبوعبيد (ص341-342) على تشبيهه المعدن بالزرع، وابن حزم (ج6:ص110) على قياسه على الزرع والركاز، ووافق في ذلك إسحاق حيث قال (ج6:ص111) : لا زكاة في مال غير الزرع إلا بعد الحول، والمعدن من جملة الذهب والفضة فلا شئ فيها إلا بعد الحول، وهذا قول الليث بن سعد وأحد أقوال الشافعي وقول أبي سليمان - انتهى. 1828- قوله: (ليس في الخضروات) بفتح الخاء المعجمة جمع خضراء والمراد بها الرياحين والأوراد والبقول والخيار والقثاء والبطيخ والباذنجان وأشباه ذلك. قال يحيى بن آدم في الخراج: (ص146) الخضر عندنا الرطاب والرياحين والبقول والفاكهة مثل الكمثري والسفرجل والخوخ والتفاح والتين والأجاص والمشمش والرمان والخيار والقثاء والنبق والباقلي والجزر والموز والمقل والجوز واللوز والبطيخ وأشباهه - انتهى. وقال الأمير اليماني: الخضروات ما لا يكال ولا يقتات (صدقة) لأنها لا تقتات، والزكاة تختص بالقوت، وحكمته أن القوت ما يقوم به بدن الإنسان، لأن الأقتيات من الضروريات التي لا حياة بدونها، فوجب فيها حق لأرباب الضرورات قاله القاري. والحديث يدل على ما ذهب إليه الجمهور من عدم وجوب الزكاة في الخضروات، وقد ورد في هذا أحاديث أخرى مرفوعة عن عائشة ومحمد بن جحش وأنس ومعاذ وطلحة، لكنها كلها ضعيفة كحديث على هذا، وقد ذكرها مع بيان ضعفها الزيلعي في نصب الراية (ج2:ص386-389) وقال الترمذي: ليس يصح في هذا الباب أي في نفي زكاة الخضروات عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء- انتهى. وأقوى ما استدل به للجمهور إن الخضر كانت بالمدينة في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - بحيث لا يخفى ذلك، ولم ينقل أنه أمر بإخراج شئ منها، ولا أن أحد أخذ منها زكاة ولا أنهم يؤدونها اليه، ولو كان ذلك لنقل كما نقل زكاة سائر ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فثبت أنه لا زكاة فيها. وذهب أبوحنيفة إلى أنه تجب الزكاة في كل ما تخرجه الأرض سواء كان من الحبوب أو الثمار أو الفواكه أو البقول أو غير ذلك بعد ما كان المقصود به استغلال الأرض، وروى ذلك عن عمر بن عبد العزيز وأبي بردة بن أبي موسى وحماد والنخعي، وهو قول داود الظاهري وقواه ابن العربي، واليه يظهر ميل الفخر الرازي وهو مختار شيخ مشائخنا العلامة الغازي فوري. واستدل لهم بعموم قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} [التوبة:103] وقوله: {ومما أخرجنا لكم من الأرض} [البقرة:267] وقوله: {وآتوا حقه

ولا في العرايا ـــــــــــــــــــــــــــــ يوم حصاده} الأنعام:141 قال الباجى: والحق ههنا هو الزكاة، لأنه لا خلاف إنه ليس فيه حق واجب غيره، والأمر يقتضى الوجوب- انتهى. وبعموم حديث فيما سقت السماء العشر ونحوه. قالوا: وحديث الخضراوات إن صح لم يصلح لتخصيص هذه العمومات لكونه من أخبار الآحاد فكيف، وهو ضعيف بجميع طرقه. قالوا وهو محمول على صدقه يأخذها العاشر لأنه، إنما يأخذ من مال التجارة، إذا حال عليه الحول وهذا بخلافه ظاهرا أو على أنه لا يأخذ من عينها بل يأخذ من قيمتها، لأنه يتضرر بأخذ العين في البراري حيث لم يجد من يشتريها، أو على أنه لا يأخذها الساعي بل يؤديها المالك بنفسه هذا، وقد تقدم شىء من البسط في زكاة المعشرات في شرح حدث الأوساق مع ببان القول الراجح في ذلك. (ولا في العرايا) جمع عرية وهو عطية ثمر النخل دون الرقبة كان العرب في الجدب يتطوع أهل النخل بذلك على من لا ثمر له كما يتطوع صاحب الشاة أو الإبل بالمنيحة، وهي عطية اللبن دون الرقبة. قال في القاموس واعراه النخلة وذهب ثمرتها عاما، والعرية النخلة المعراة التي يؤكل ما عليها وما عزل عن المسومة عد بيع النخل- انتهى. والعرية فعلية بمعنى مفعولة أو فاعلة، يقال عرى النخل بفتح العين والراء بالتعدية يعروها إذا أفردها عن غيرها بأن أعطاها لآخر على سبيل المنحة ليأكل ثمرها، وتبقى رقبتها لمعطيها ويقال: عريت النخل بفتح العين وكسر الراء تعرى على أنه قاصر فكأنها عريت عن حكم أخواتها واستثبتت بالعطية واختلف في المراد بها شرعا. قال الحافظ في الفتح: تحت باب تفسير العرايا من كتاب البيوع إن صور العرية كثيرة منها أن يقول الرجل لصاحب حائط بمعنى ثمر نخلات بأعيانها يخرصها من التمر، فيخرصها ويبيعه ويقبض منه التمر ويسلم إليه النخلات بالنخلية فينتفع برطبها. ومنها أن يهب صاحب الحائط الرجل نخلات أو ثمر نخلات معلومة من حائطه، ثم يتضرر بدخوله عليه فيخرصها، ويشتري منه رطبها بقدر خرصه بتمر يعجله له. ومنها أن يهبه إياها فيضرر الموهوب له بانتظار صيرورة الرطب تمرا، ولا يجب أكلها رطبا لاحتياجة إلى التمر فيبيع ذلك الرطب بخرصه من الواهب، أو من غيره بتمر يأخذه معجلا. ومنها أن يبيع الرجل ثمر حائطه بعد بدو صلاحه ويستثنى منه نخلات معلومة يبقيها لنفسه أو لعياله وهي التي عفى له عن. خرصها في الصدقة. وسميت عرايا لأنها اعريت من أن تخرص في الصدقة فرخص لأهل الحاجة الذين لا نقد لهم، وعندهم فضول من تمر قوتهم أن يبتاعوا بذلك التمر من رطب تلك النخلات بخرصها. ومما يطلق عليه اسم عرية أن يعرى رجلا تمر نخلات يبيع له أكلها والتصرف فيها وهذه هبة مخصوصة. ومنها أن يعرى عامل الصدقة لصاحب الحائط من حائطه نخلات معلومة لا يخرصها في الصدقة،وهاتان الصورتان من العرايا لابيع فيهما، وجميع هذه الصور صحيحة عند الشافعي والجمهور. وقصر مالك العرية في البيع على الصورة الثانية وقصرها أبو عبيد على الصورة الأخيرة من صور البيع

صدقة، ولا في أقل من خمسة أوسق صدقة، ولا في العوامل صدقة، ولا في الجبهة صدقة، قال: الصقر الجبهة الخيل والبغل والعبيد)) رواه الدارقطني. ـــــــــــــــــــــــــــــ وزاد أنه رخص لهم أن يأكلوا الرطب ولا يشتروه لتجارة ولا ادخار، ومنع أبوحنيفة صور البيع كلها وقصر العرية على الهبة، وهو أن يعرى الرجل تمر نخلة من نخلة ولا يسلم ذلك، ثم يبدو له في ارتجاع تلك الهبة، فرخص له أن يحتبس ذلك، ويعطيه بقدر ما وهبه له من الرطب بخرصه تمراً وحمله ذلك أخذه بعموم النهى عن بيع الثمر بالتمر. وتعقب: بالتصريح باستثناء العرايا في حديث ابن عمر وفي حديث غيره انتهى كلام الحافظ. وسيأتي مزيد الكلام في ذلك في كتاب البيوع إنشاءالله تعالى (صدقة) ؛ لأنها تكون دون النصاب أو؛ لأنها خرجت عن ملك مالكها قبل الوجوب بطريق صحيح (ولا في أقل من خمسة أوسق صدقة) فيه بيان نصاب المعشرات، وإنه لا تجب الزكاة فيها حتى تبلغ خمسة أوسق. قال القاري: لأنه قليل فلا تتشرف الفقراء إلى المواساة منه (ولا في) الإبل أو البقر (العوامل) للمالك أو لغيره (صدقة) ؛ لأنها بالعمل صارت غير مقتناة للنماء (ولا في الجبهة) قال أبو عبيد: الجبهة الخيل (صدقة قال الصقر) أي أحد رواة الحديث وهو بفتح المهملة وسكون القاف ابن حبيب. ويقال: الصعق روى عن أبي رجاء العطاردي تكلم فيه ابن حبان. فقال: يأتي عن الثقات بالمقلوبات، وغمزه الدارقطني في الزكاة، ولا يكاد يعرف كذا في الميزان. قال الحافظ في اللسان: وبقية كلام ابن حبان يخالف الثقات. وقال إنه شيخ من أهل البصرة سلولي - انتهى. (الجبهة الخيل والبغال والعبيد) والذي في القاموس وغيره أنها الخيل. قال في الفائق: سميت بذلك؛ لأنها خيار البهائم كما يقال وجه السلعة لخيارها ووجه القوم وجبهتهم لسيدهم. وقال بعضهم: هي خيار الخيل ثم رأيت صاحب النهاية أشار إلى أن ما قاله الصقر فيه بعد وتكلف قاله القاري. قلت: روى البيهقي بسند ضعيف عن أبي هريرة مرفوعاً، عفوت لكم عن صدقة الجبهة والكسعة والنخة. قال بقية (أحد رواته) الجبهة الخيل والكسعة البغال والحمير والنخة المربيات في البيوت، ثم رواه البيهقي عن عبد الرحمن بن سمرة مرفوعاً. بلفظ: لا صدقة في الكسعة والجبهة والنخة فسره أبوعمر وعبد الله بن يزيد (راوي الحديث) الكسعة الحمير والجبهة الخيل والنخة العبيد. ثم ذكر تفصيل ذلك عن أبي عبيدة حيث قال: قال أبوعبيد قال عبيدة: الجبهة الخيل والنخة الرقيق والكسعة الحمير. قال الكسائي وغيره: في الجبهة والكسعة مثله. وقال الكسائي: والنخة برفع النون وفسره هو وغيره في مجلسه البقر العوامل - انتهى. (رواه الدارقطني) (ص200) من حديث أحمد بن الحارث البصري ثنا الصقر بن حبيب. قال: سمعت أبارجاء العطاردي يحدث عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب. قال الزيلعي (ج2:ص357-388) ومن طريق الدارقطني رواه ابن الجوزي في العلل المتناهية والصقر ضعيف. قال ابن حبان في الضعفاء: ليس هو من كلام

1829- (21) وعن طاووس، إن معاذ بن جبل أتى بوقص البقر فقال: لم يأمرني فيه النبي صلى الله عليه وسلم بشيء. رواه الدارقطني والشافعي. ـــــــــــــــــــــــــــــ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما يعرف بإسناد منقطع فقلبه الصقر على أبي رجاء وهو يأتي بالمقلوبات - انتهى. وأحمد بن الحارث الراوي عن الصقر. قال أبوحاتم الرازي: هو متروك الحديث - انتهى. 1829- قوله: (وعن طاووس) هو طاووس بن كيسان اليماني أبوعبد الرحمن الحميري مولاهم الفارسي يقال اسمه ذكوان وطاووس لقب ثقة ثبت فقيه فاضل من أوساط التابعين مات سنة ست ومائة. وقيل: بعد ذلك (أتى) بصيغة المجهول (بوقص) بفتح الواو والقاف ويجوز إسكانها وإبدال الصاد سيناً وهو ما بين الفرضين عند الجمهور واستعمله الشافعي فيما دون النصاب الأول (البقر فقال لم يأمرني فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بشيء) أي بأخذ شيء ويؤيد هذا ما روى مالك في الموطأ عن حميد بن قيس عن طاووس، إن معاذاً أخذ من ثلاثين بقرة تبيعاً، ومن أربعين بقرة مسنة، وأتى بما دون ذلك فأبى أن يأخذ منه شيئاً. وقال: لم أسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيئاً حتى ألقاه فأسأله فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يقدم معاذ: وقد ورد ما يدل على رفع ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فروى البزار والدارقطني (ص202) والبيهقي (ج4:ص98) وابن حزم من طريق المسعودي عن الحكم عن طاووس عن ابن عباس قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن - الحديث. فلما رجع سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه يعني الوقص. فقال: ليس فيها شيء. قال المسعودي: والأوقاص ما بين الثلاثين إلى الأربعين والأربعين إلى الستين. وأخرج أحمد (ج5:ص240) والطبراني من رواية سلمة بن أسامة عن يحيى بن الحكم أن معاذاً قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصدق أهل اليمن فذكر الحديث قال: فأمرني أن لا آخذ فيما بين ذلك شيئاً وزعم أن الأوقاص لا فريضة فيها ورواه أبوعبيد (ص383) من طريق سلمة بن أسامة، إن معاذاً قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر مثله. وروى أبو عبيد (ص384) أيضاً من طريق سلمة بن أسامة عن يحيى بن الحكم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الأوقاص لا صدقة فيها. وقد تقدم الكلام في رواية سلمة بن أسامة ورواية المسعودي عن الحكم عن طاووس عن ابن عباس، وروى الطبراني من طريق ابن أبي ليلى عن الحكم عن رجل عن معاذ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ليس في الأوقاص شيء ووقفه ابن أبي شيبة (ج3:ص13) من طريق ليث عن طاووس عن معاذ قال: ليس في الأوقاص شيء، وروى الدارقطني في المؤتلف والمختلف عن عبيد بن صخر بن لوذان الأنصاري قال: عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمالة على اليمن في البقر في كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة وليس في الأوقاص شيء. قال الدارقطني: والأوقاص ما بين السنين اللذين يجب فيها الزكاة - انتهى. (رواه الدارقطني) (ص202) (والشافعي) في الأم (ج2:ص7) كلاهما من حديث سفيان عن عمرو بن دينار

(2) باب صدقة الفطر

وقال: الوقص ما لم يبلغ الفريضة. (2) باب صدقة الفطر ـــــــــــــــــــــــــــــ عن طاووس إن معاذ بن جبل إلخ. ورواه أبوعبيد (ص383-384) عن حجاج عن ابن جريج وحماد بن سلمة عن عمرو بن دينار عن طاووس. إن معاذ بن جبل قال باليمن: لست بآخذ من أوقاص البقر شيئاً حتى آتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرني فيها بشيء - انتهى. وروى ابن حزم (ج6:ص12) من طريق الحجاج بن منهال عن سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة عن طاووس، إن معاذ أتى بوقص البقر والعسل فلم يأخذه فقال: كلاهما لم يأمرني فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء. ومن طريق الشافعي رواه البيهقي (ج4:ص98) وقد سبق إن رواية طاووس عن معاذ منقطعة. قال عبد الحق: طاووس لم يدرك معاذ- انتهى. وقال الشافعي: طاووس عالم بأمر معاذ، وإن كان لم يلقه لكثرة من لقيه ممن أدرك معاذاً، وهذا مما لا أعلم عن أحد فيه خلافاً - انتهى. وقال البيهقي: طاووس وإن لم يلق معاذاً، إلا أنه يماني وسيرة معاذ بينهم مشهورة (وقال) أي الشافعي (الوقص ما لم يبلغ الفريضة) أي ما لم يجب فيه شيء ابتداء كأربع الإبل ودون ثلاثين البقر وأربعين الغنم، وعند الجمهور هو ما بين السنين اللذين يجب فيهما الزكاة كما بين الخمس والعشر في الأول، والثلاثين والأربعين في الثاني، والأربعين والمائة والإحدى والعشرين في الثالث، قال القاري: والأشهر إطلاقه على المعنى الثاني. وقيل: الوقص في البقر خاصة - انتهى. (باب صدقة الفطر) أي هذا باب في ذكر الأحاديث التي تؤخذ منها أحكام صدقة الفطر. قال الله تعالى: {قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى} [الأعلى:14-15] روى عن ابن عمر وعمرو بن عوف زكاة الفطر، وروى عن أبي العالية وابن المسيب وابن سيرين وغيرهم. قالوا: يعطي صدقة الفطر. ثم يصلي، رواه البيهقي وغيره. والمراد بصدقة الفطر أي من رمضان فأضيفت الصدقة للفطر لكونها تجب بالفطر منه. وقيل: إضافة الصدقة إلى الفطر من إضافة الشيء إلى شرطه كحجة الإسلام. وقال ابن قتيبة المراد بصدقة الفطر صدقة النفوس مأخوذ من الفطرة التي هي الخلقة المرادة بقوله تعالى: {فطرة الله التي فطر الناس عليها} [الروم:30] والمعنى إنها وجبت على الخلقة تزكية للنفس أي تطهيراً لها. قال الحافظ: والأول أظهر ويؤيده قوله في بعض طرق الحديث زكاة الفطر من رمضان - انتهى. وقوله "باب صدقة الفطر، هكذا في كتب الحديث وأكثر كتب الفروع من المذهب المتبوعة، ووقع في بعض كتب فروع الحنفية كالوقاية والنقاية والدرر باب صدقة الفطرة بزيادة التاء في آخره وهكذا وقع في كلام الفقهاء، الفطرة نصف صاع من بر فقيل: لفظ الفطرة الواقع في كلامهم اسم مولد حتى عده بعضهم من لحن العوام أي إن الفطرة المراد بها الصدقة غير لغوية؛ لأنها لم تأت بهذا المعني.

.............................. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقيل قول الفقهاء على حذف المضاف أي صدقة الفطر فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه واستغنى به في الاستعمال لفهم المعنى. وقيل: حذف المضاف وأقيمت الهاء في المضاف اليه لتدل على ذلك. وقال: ابن عابدين بعد بسط الكلام في اشتقاقه من الفطرة بمعنى الخلقة. والحاصل إن لفظ الفطرة بالتاء لا شك في لغويته. ومعناه الخلقة، وإنما الكلام في إطلاقه مراداً به المخرج فإن أطلق عليه بدون تقدير فهو إصطلاح شرعي (للفقهاء) مولد. وأما مع تقدير المضاف فالمراد بها المعنى اللغوي (كما تقدم في كلام ابن قتيبة) وأما لفظ الفطر بدون تاء فلا كلام في أنه معنى لغوي (مستعمل قبل الشرع؛ لأنه ضد الصوم) ويقال لها أيضاً زكاة الفطر وزكاة رمضان، وزكاة الصوم وصدقة رمضان، وصدقة الصوم، وتسمى أيضاً صدقة الرؤوس، وزكاة الأبدان سماها الإمام مالك رحمه الله. وكان فرضها في السنة الثانية من الهجرة في شهر رمضان قبل العيد بيومين. واختلف في حكمها فقالت: طائفة هي فرض، وهم الشافعي ومالك وأحمد لقول ابن عمر وأبي سعيد وابن عباس. فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر. وقال الحنفية: هي واجبة بناء على قاعدتهم في التفرقة بين الفرض والواجب. قال العيني: والنزاع لفظي؛ لأن الفريضة عند الشافعي (ومن وافقه) نوعان، مقطوع حتى يكفر جاحده، وغير مقطوع حتى لا يكفر جاحده، ومن جحد صدقة الفطر لا يكفر بالإجماع ولذا لا يكفر من قال إنها مستحبة، وأجاب ابن الهمام بأن الثابت بظني يفيد الوجوب وإنه لا خلاف في المعنى، لأن الافتراض الذي يثبته الشافعية ليس على وجه يكفر جاحده، فهو معنى الوجوب عندنا. وقد يجاب بأن قول الصحابي فرض، يراد به المعنى المصطلح عندنا للقطع به بالنسبة إلى من سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف غيره ما لم يصل إليه بطريق قطعي فيكون مثله، ولذا قالوا إن الواجب لم يكن في عصره - صلى الله عليه وسلم - انتهى. وقالت طائفة: هي سنة مؤكدة نقله المالكية عن أشهب وهو قول بعض أهل الظاهر وابن اللبان من الشافعية، وأولوا قوله "فرض" في الحديث بمعنى "قدر" قال ابن دقيق العيد: (ج2:ص197) هو أصله في اللغة لكنه نقل في عرف الاستعمال إلى الوجوب فالحمل عليه أولى، لأن ما اشتهر في الاستعمال فالقصد إليه هو الغالب - انتهى. قال الحافظ: ويؤيده تسميتها زكاة، وقوله في الحديث "على كل حر وعبد" والتصريح بالأمر بها في حديث قيس بن سعد الآتي ولدخوله في عموم قوله تعالى: {وآتوا الزكاة} [البقرة:43] فبين - صلى الله عليه وسلم - تفاصيل ذلك، ومن جملتها زكاة الفطر- انتهى. وقالت طائفة: هي فعل خير مندوب إليه، كانت واجبة، ثم نسخت، قال به إبراهيم بن علية وأبوبكر بن كيسان الأصم. لما روى عن قيس بن سعد بن عبادة قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة، فلما نزلت الزكاة لم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله، أخرجه النسائي وابن ماجه والحاكم والبيهقي. قال الحافظ: وتعقب بأن في إسناده راوياً مجهولاً وعلى تقدير الصحة، فلا دليل فيه على النسخ الإحتمال الاكتفاء بالأمر الأول، لأن نزول فرض لا يوجب سقوط

{الفصل الأول}

{الفصل الأول} 1830- (1) عن ابن عمر، قال: ((فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر ـــــــــــــــــــــــــــــ فرض آخر قلت: حديث قيس هذا سنده صحيح رواته ثقات، وقد صححه الحاكم والذهبي، والقول بأن في سنده راوياً مجهولاً خطأ فليس فيه مجهول قط. وقال الخطابي: حديث قيس هذا لا يدل على زوال وجوبها، وذلك أن الزيادة في جنس العبادة لا توجب نسخ الأصل المزيد عليه، غير أن محل سائر الزكوات الأموال، ومحل زكاة الفطر الرقاب - انتهى. وقال البيهقي: هذا لا يدل على سقوط فرضها، لأن نزول فرض لا يوجب سقوط آخر. وقد أجمع أهل العلم على وجوب زكاة الفطر، وإن اختلفوا في تسميتها فرضاً فلا يجوز تركها، وقد نقل ابن المنذر الإجماع على فرضية صدقة الفطر. قلت: فيه نظر لما تقدم من الإختلاف في ذلك. 1830- قوله: (فرض) أي أوجب وألزم (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وما أوجبه فبأمر الله {وما ينطق عن الهوى} [النجم:3] قال الطيبي: دل قوله "فرض" على أن صدقة الفطر فريضة، والحنفية على أنها واجبة. قال القاري: لعدم ثبوتها بدليل قطعي فهو فرض عملي لا اعتقادي. وقال السندي: الحديث من أخبار الآحاد فمؤداه الظن فلذلك قال بوجوبه دون افتراضه، من خص الفرض بالقطع والواجب بالظن - انتهى. وقال ابن حجر: في الحديث دليل لمذهبنا، ولما رأى الحنفية الفرق بين الفرض والواجب بأن الأول ما ثبت بدليل قطعي. والثاني: ما ثبت بظني. قالوا: إن الفرض هنا بمعنى الواجب. وفيه نظر؛ لأن هذا قطعي لمعا علمت أنه مجمع عليه فالفرض فيه باق على حاله حتى على قواعدهم فلا يحتاج لتأويلهم الفرض هنا بالواجب - انتهى. قال القاري: وفيه أن الإجماع على تقدير ثبوته إنما هو في لزوم هذا الفعل، وأما أنه على طريق الفرض أو الواجب بناء على إصطلاح الفقهاء المتأخرين فغير مسلم، وأما قوله: ووجوبها مجمع عليه كما حكاه المنذري والبيهقي فمنقوض بأن جمعاً حكوا الخلاف فيها (كما تقدم) . قلت: حمل اللفظ في كلام الشارع على الحقيقة الشرعية متعين، لكن حمله على المصطلح الحادث غير صحيح، والصحابة رضي الله عنهم ما كانوا يعرفون هذا الاصطلاح الحادث. والفرق الذي قال به الحنفية فالظاهر هو ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة من أن صدقة الفطر فريضة (زكاة الفطر) زاد مسلم في رواية "من رمضان" ونصبها على المفعولية "وصاعاً" بدل منها أو حال أو تميز أو على نزع الخافض أي في زكاة رمضان والمفعول "صاعاً" وقيل: نصب "صاعاً" على أنه مفعول ثان. واستدل بقوله "زكاة الفطر" على أن وجوبها غروب الشمس ليلة الفطر؛ لأنه وقت الفطر من رمضان. وقيل: وقت وجوبها طلوع الفجر من يوم العيد؛ لأن الليل ليس محلاً للصوم، وإنما يتبين الفطر الحقيقي بالأكل بعد طلوع الفجر، والأول: قول الثوري وأحمد وإسحاق والشافعي في الجديد وإحدى الراويتين عن مالك. والثاني: قول أبي حنيفة والليث والشافعي في

صاعاً من تمر، ـــــــــــــــــــــــــــــ القديم، والرواية الثانية عن مالك. قال الحافظ: ويقويه قوله في الحديث وأمر بها أن تؤدي قبل خروج الناس إلى الصلاة. قال المازري قيل: إن الخلاف ينبني على أن قوله: الفطر من رمضان الفطر المعتاد في سائر الشهر، فيكون الوجوب بالغروب أو الفطر الطاريء بعد فيكون بطلوع الفجر. وقال ابن دقيق العيد (ج2 ص198) ما محصله الاستدلال بذلك لهذا الحكم ضعيف، لأن إضافتها إلى الفطر من رمضان، لا يستلزم أنه وقت الوجوب بل يقتضي إضافة هذه الزكاة إلى الفطر من رمضان. وأما وقت وجوب فيؤخذ من أمر آخر. وقال ابن قدامة: (ج3 ص67) أما وقت وجوب زكاة الفطر فهو وقت غروب الشمس من آخر يوم من رمضان، فإنها تجب بغروب الشمس من آخر شهر رمضان، فمن تزوج أو ملك عبداً أو ولد له ولدا أو أسلم قبل غروب الشمس فعليه الفطرة، وإن كان بعد الغروب لم تلزمه، ولو كان حين الوجوب معسراً ثم أيسر في ليلته تلك أو فييومه لم يجب عليه شيء، ولو كان في وقت الوجوب موسراً ثم أعسر لم تسقط عنه اعتباراً بحالة الوجوب. ومن مات بعد غروب الشمس ليلة الفطر فعليه صدقة الفطر، نص عليه أحمد وبما ذكرنا في وقت الوجوب. قال الثوري وإسحاق ومالك في إحدى الروايتين عنه والشافعي في أحد قوليه. وقال الليث وأبوثور وأصحاب الرأي: تجب بطلوع الفجر يوم العيد وهو رواية عن مالك (صاعاً من تمر) وهو خمسة أرطال وثلث رطل بالبغدادي، ويقال له: الصاع الحجازي؛ لأنه كان مستعملا في بلاد الحجاز، وهو الصاع الذي كان مستعملاً في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبه كانوا يخرجون صدقة الفطر. وزكاة المعشرات وغيرهما من الحقوق الواجبة المقدرة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبه قال مالك والشافعي وأحمد وأبويوسف وعلماء الحجاز. وقال أبوحنيفة ومحمد. بالصاع العراقي، وهو ثمانية أرطال بالرطل المذكور. وإنما قيل له العراقي، لأنه كان مستعملاً في بلاد العراق، وهو الذي يقال له الصاع الحجاجي؛ لأنه أبرزة الحجاج الوالي، وكان أبويوسف يقول كقول أبي حنيفة ثم رجع إلى قول الجمهور، لما تناظر مع مالك بالمدينة فأراه الصيعان التي توراثها أهل المدينة عن إسلافهم من زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فائدة قال القسطلاني: الرطل البغدادي مائة وثلاثون درهماً على الأصح عند الرافعي ومائة وثمانية وعشرون درهماً، وأربعة أسباع درهم على الأصح عند النووي، فالصاع على الأول ستمائة درهم وثلاثون وتسعون درهماً وثلث درهم، وعلى الثاني: ستمائة درهم وخمسة وثمانون درهماً وخمسة أسباع درهم والأصل الكيل. وإنما قدر بالوزن استظهاراً. قال في الروضة: وقد يشكل ضبط الصاع بالأرطال فإن الصاع المخرج به في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - مكيال معروف، ويختلف قدره وزناً باختلاف جنس ما يخرج كالذرة والحمص وغيرهما. والصواب ما قاله أبوالفرج الدارمي من الشافعية، إن الاعتماد على الكيل بصاع معاير بالصاع الذي كان يخرج به في عصره - صلى الله عليه وسلم -، ومن لم يجده لزمه إخراج قدر يتيقن أنه لا ينقص عنه وعلى هذا فالتقدير بخمسة أرطال وثلاث رطل تقريب - انتهى. وقد سبق شيء من الكلام فيه في شرح حديث الأوساق ومن أراد

أو صاعاً من شعير، ـــــــــــــــــــــــــــــ مزيد التفصيل فليرجع إلى طرح التثريب (ج4 ص53- 54- 55) . (أو صاعاً من شعير) قال الباجي: لفظة أو ههنا على قول جماعة أصحابنا لا يصح أن تكون للتخيير، وإنما هي للتقسيم، ولو كانت للتخيير لاقتصى أن يخرج الشعير من قوته غيره من التمر مع وجوده، ولا يقول هذا أحد منهم فتقديره صاعاً من تمر على من كان ذلك قوته، أو صاعا من شعير على من كان ذلك قوته - انتهى. وقال القاري: أو للتخيير بين النوعين وما في معناهما فليس ذكرهما لحصر إلا عطاء منها - انتهى. قلت: الظاهر إن "أو" للتخيير وإنه يخرج من أيهما شاء صاعاً وسيأتي مزيد الكلام عليه في شرح حديث أبي سعيد. قال الحافظ: لم تختلف الطرق عن ابن عمر في الاقتصار على هذين الشيئين إلا ما أخرجه أبوداود والنسائي وغيرهما من طريق عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع، فزاد فيه السلت والزبيب. فأما السلت فهو نوع من الشعير. وأما الزبيب فسيأتي ذكره في حديث أبي سعيد. وأما حديث ابن عمر فقد حكم مسلم في كتاب التمييز على عبد العزيز فيه بالوهم - انتهى. قلت: ظاهر رواية الكتاب إنه لا يجزيء غير التمر والشعير. وبذلك قال ابن حزم ومن وافقه: لكن ورد في روايات أخرى ذكر أجناس أخرى وسيأتي بيانها إن شاء الله تعالى. قال العيني: يستفاد من الحديث إن صدقة الفطر من التمر والشعير صاع، ومذهب داود ومن تبعه أنه لا يجوز إلا من التمر والشعير، ولا يجزيء عنده قمح ولا دقيقة ولا دقيق شعير ولا سويق ولا خبز ولا زبيب ولا غير ذلك. واحتج في ذلك بهذا الحديث قال: لأنه ذكر فيه ابن عمر التمر والشعير ولم يذكر غيرهما - انتهى. وقال القسطلاني: يجب من غالب قوت بلده "فأو" ليست للتخيير بل لبيان الأنواع التي يخرج منها، وذكراً لأنهما الغالب في قوت أهل المدينة، وجاءت أحاديث أخرى بأجناس أخرى وسيأتي مزيد الكلام في هذه المسألة. واستدل بإطلاق الحديث على وجوب صدقة الفطر على أهل البادية والعمود والقرى، وعلى أن النصاب ليس بشرط، ويدل عليه أيضاً رواية مالك بلفظ: فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس. واختلف العلماء في ذلك. قال ابن رشد: (ج1 ص250) أجمعوا على أن المسلمين مخاطبون بها ذكراناً كانوا أو إناثاً صغاراً أو كباراً عبيداً أو أحراراً لحديث ابن عمر إلا ما شذ فيه الليث. فقال: ليس على أهل العمود زكاة الفطر، وإنما هي على أهل القرى ولا حجة له. قال وليس من شرط هذه الزكاة الغناء عند أكثرهم ولا نصاب بل أن تكون فضلاً عن قوته وقوت عياله. وقال أبوحنيفة وأصحابه: لا يجب على من تجوز له الصدقة؛ لأنه لا يجتمع أنه تجوز له، وإن تجب عليه وذلك بين - انتهى. وقال ابن قدامة: (ج3 ص60) أكثر أهل العلم يوجبون صدقة الفطر على أهل البادية، روى ذلك عن ابن الزبير، وبه قال ابن النسيب والحسن ومالك والشافعي وابن المنذر وأصحاب الرأي. وقال عطاء والزهري وربيعة: لا صدقة عليهم، ولنا عموم الحديث. ولأنها زكاة فوجبت عليهم كزكاة المال، ولأنهم مسلمون فيجب عليهم صدقة الفطر كغيرهم. وقال (ج3 ص73) تحت قول الخرقي إذا كان عنده فضل عن قوت يومه

على العبد والحر ـــــــــــــــــــــــــــــ وليلته. صدقة الفطر واجبة على من قدر عليها، ولا يعتبر في وجوبها نصاب، وبهذا قال أبوهريرة وأبوالعالية والشعبي وعطاء وابن سيرين والزهري ومالك وابن المبارك والشافعي وأبوثور. وقال أصحاب الرأي: لا تجب إلا على من يملك مائتي درهم أو ما قيمته نصاب فاضل عن مسكنه لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا صدقة إلا عن ظهر غني (أخرجه أحمد من حديث أبي هريرة مرفوعاً) والفقير لا غنى له فلا تجب عليه كمن لا يقدر عليها، ولنا ما روى ثعلبة بن أبي صعير عن أبيه إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أدوا صدقة الفطر- الحديث. وفيه غنى أو فقير. أما غنيكم فيزكيه الله. وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطى. والذي قاسوا عليه عاجز فلا يصح القياس عليه وحديثهم محمول على زكاة المال - انتهى. وقال الشوكاني في النيل: قد اختلف في القدر الذي يعتبر ملكه لمن تلزمه الفطرة فقال أبوحنيفة وأصحابة: أنه يعبر أن يكون المخرج غنياً غنى شرعياً، واستدل لهم بقوله - صلى الله عليه وسلم -: إنما الصدقة ما كان عن ظهر غنى (أخرجه أحمد من حديث أبي هريرة مرفوعاً) وبالقياس على زكاة المال. ويجاب بأن الحديث لا يفيد المطلوب؛ لأنه بلفظ: خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى كما أخرجه أبوداود - انتهى. قلت: وأخرجه البخاري أيضاً بهذا اللفظ وهو مشعر، بأن النفي في رواية أحمد للكمال، لا للحقيقة. فالمعنى لا صدقة كاملة إلا عن ظهر غني. قال الشوكاني: وأما الاستدلال بالقياس فغير صحيح؛ لأنه قياس مع الفارق، إذ وجوب الفطرة متعلق بالأبدان. والزكاة بالأموال. وقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق: إنه يعتبر أن يكون مخرج الفطرة مالكاً لقوت يوم وليلة. لما روى أنه طهرة للصائم ولا فرق بين الغني والفقير في ذلك. ويؤيد ذلك ما روى من تفسيره صلى الله عليه وسلم من لا يحل له السؤال بمن يملك ما يغديه ويعشيه وهذا هو الحق، لأن النصوص أطلقت ولم يخص غنياً ولا فقيراً ولا مجال للاجتهاد في تعيين المقدار الذي يعتبر أن يكون مخرج الفطرة مالكاً له ولاسيما والعلة التي شرعت لها الفطرة موجودة في الغني والفقير وهي التطهرة من اللغو والرفث واعتبار كونه وأجد القوت يوم وليلة أمر لابد منه، لأن المقصود من شرع الفطرة إغناء الفقراء في ذلك اليوم كما أخرجه البيهقي والدارقطني عن ابن عمر مرفوعاً وفيه: أغنوهم في هذا اليوم وفي رواية للبيهقي: أغنوهم عن طواف هذا اليوم، وأخرجه أيضاً ابن سعد في الطبقات من حديث عائشة وأبي سعيد فلو لم يعتبر في حق المخرج ذلك لكان ممن أمرنا بإغناءه في ذلك اليوم، لا من المأمورين بإخراج الفطرة وإغناء غيره. وبهذا يندفع ما اعترض به صاحب البحر عن أهل هذه المقالة من أنه يلزمهم إيجاب الفطرة على من لم يملك إلا دون قوت اليوم ولا قائل به - انتهى كلام الشوكاني. (على العبد) ظاهره إخراج العبد عن نفسه ولم يقل به إلا داود. فقال يجب على السيد إن يمكن العبد من الاكتساب لها كما يجب عليه أن يمكنه من الصلاة وخالفه أصحابة والناس. واحتجوا بحديث أبي هريرة مرفوعاً: ليس على المسلم في عبده صدقة إلا صدقة الفطر أخرجه، مسلم ومقتضاه إنها ليست عليه بل على سيده. ثم افترقوا

والذكر والأنثى ـــــــــــــــــــــــــــــ فرقتين فقالت طائفة: تجب على السيد ابتداء، وكلمة "على" بمعنى عن وحروف الجر يقوم بعضها مقام بعض وقال آخرون: تجب على العبد ثم يحملها سيده عنه فكلمة الاستعلاء جارية على ظاهرها وقال القاضي البيضاوي: جعل وجوب زكاة الفطر على السيد كالوجوب على العبد مجازاً، إذ ليس هو أهلاً، لأن يكلف بالواجبات المالية، ويؤيد ذلك عطف الصغير عليه. ولفظ "العبد" يعم عبد التجارة وغيره فتجب على السيد عن عبيده سواء كانوا لتجارة أو لغير تجارة، وإليه ذهب الأئمة الثلاثة خلافا لأبي حنيفة والنخعي وعطاء. قال ابن قدامة: فأما العبيد فإن كانوا لغير التجارة فعلى سيدهم فطرتهم لا نعلم فيه خلافاً، وإن كانوا للتجارة فعليه أيضاً فطرتهم، وبهذا قال مالك والليث والأوزاعي والشافعي وإسحاق وابن المنذر. وقال عطاء والنخعي والثوري وأصحاب الرأي: لا تلزمه فطرتهم؛ لأنها زكاة ولا تجب في مال واحد زكاتان وقد وجبت فيهم زكاة التجارة، فيمتنع وجوب الزكاة الأخرى. ولنا عموم الأحاديث. ولأن نفقتهم واجبة فوجبت فطرتهم كعبيد القنية، أو نقول مسلم تجب مؤنته فوجبت فطرته كالأصل وزكاة الفطر تجب على البدن، ولهذا تجب على الأحرار وزكاة التجارة عن القيمة وهي المال - انتهى. (والذكر والأنثى) ظاهر وجوبها على المرأة سواء كان لها زوج أم لا، وبه قال الثوري وأبوحنيفة وابن المنذر. وقال مالك والشافعي والليث وأحمد وإسحاق تجب على زوجها إلحاقاً بالنفقة، وفيه نظر، لأنهم قالوا: إن أعسر وكانت الزوجة أمة وجبت فطرتها على السيد بخلاف النفقة فافترقا. واتفقوا على أن المسلم لا يخرج عن زوجته الكافرة مع أن نفقتها تلزمه. وإنما احتج الشافعي بما رواه من طريق محمد بن علي بن الباقر مرسلاً نحو حديث ابن عمر، وزاد فيه ممن تمونون. وأخرجه البيهقي من هذا الوجه فزاد في سنده ذكر على وهو منقطع أيضاً. وأخرجه من حديث ابن عمر وإسناده ضعيف كذا في الفتح. وقال ابن قدامة: (ج3 ص69) في شرح قول الخرقي "ويلزمه أن يخرج عن نفسه وعن عياله" عيال الإنسان من يعوله أي يمونه فتلزمه فطرتهم كما تلزمه مؤنتهم، ذا وجد ما يؤدي عنهم لحديث ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرض صدقة الفطر عن كل صغير وكبير وحر وعبد ممن تمونون. والذين يلزم الإنسان نفقتهم وفطرتهم ثلاثة أصناف. الزوجات، والعبيد، والأقارب. فأما الزوجات: فعليه فطرتهن، وبهذا قال مالك والشافعي وإسحاق. وقال أبوحنيفة والثوري وابن المنذر لا تجب عليه فطرة امرأته وعلى المرأة فطرة نفسها لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: صدقة الفطر على كل ذكر وأنثى، ولأنها زكاة فوجبت عليها كزكاة مالها. ولنا الخير ولأن النكاح سبب تجب به النفقة فوجبت به الفطرة كالملك والقرابة بخلاف زكاة المال فإنها لا تتحمل بالملك والقرابة قال: وإن نشزت المرأة في وقت الوجوب ففطرتها على نفسها دون زوجها، لأن نفقتها لا تلزمه. واختار أبوالخطاب: إن عليه فطرتها لأن الزوجية ثابتة عليها فلزمته فطرتها والأول أصح، لأن هذه ممن لا تلزمه مؤنته فلا تلزمه فطرته كالأجنبية، وكذلك كل امرأة لا يلزمه نفقتها كغير المدخول بها إذا لم تسلم إليه. والصغيرة التي لا يمكن

والصغير والكبير من المسلمين. ـــــــــــــــــــــــــــــ الاستمتاع بها فإنه لا تلزمه نفقتها ولا فطرتها؛ لأنها ليست من يمون - انتهى. قال ابن رشد: (ج1 ص251) اتفق الجمهور على أن هذه الزكاة ليست بلازمة لمكلف مكلف في ذاته فقط، كالحال في سائر العبادات، بل ومن قبل غيره لإيجابها على الصغير والعبيد، فمن فهم من هذا علة الحكم الولاية. قال الولي: يلزمه إخراج الصدقة عن كل ما يليه، ومن فهم من هذه النفقة قال المنفق يجب أن يخرج الزكاة عن كل من ينفق عليه بالشرع، وإنما عرض هذا الاختلاف لأنه اتفق في الصغير والعبد وهما اللذان نبها على أن هذه الزكاة ليست معلقة بذات المكلف فقط، بل ومن قبل غيره إن وجدت الولاية فيها. ووجوب النفقة فذهب مالك (ومن وافقه) إلى أن العلة في ذلك وجوب النفقة، وذهب أبوحنيفة إلى أن العلة في ذلك الولاية ولذلك اختلفوا في الزوجة - انتهى. (والصغير والكبير) ظاهره وجوبها على الصغير لكن المخاطب عنه وليه فوجوبها على هذا في مال الصغير فيخرج عنه وليه من ماله. وإن لم يكن له مال فعلى من تلزمه نفقته من أب وغيره، وهذا قول الجمهور. وقال محمد بن الحسن: هي على الأب مطلقاً، ولو كان للصغير مال لم تخرج عنه. فإن لم يكن له أب فلا شيء عليه، وقال ابن حزم: هي في مال الصغير إن كان له مال. وإلا سقطت عنه، قال ابن قدامة: وعموم قوله الصغير والكبير يقتضي وجوبها على اليتيم، ولأنه مسلم فوجبت فطرته كما لو كان له أب. وقال الحسن وابن المسيب والشعبي: لا تجب إلا على من صام. لحديث ابن عباس الآتي صدقة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث. وأجيب بأن ذكر التطهير خرج على الغالب كما أنها تجب على من لم يذنب كمتحقق الصلاح، أو من أسلم قبل غروب الشمس بلحظة (من المسلمين) لأئمة الحديث كلام طويل في هذه اللفظة، لأنه لم يتفق عليها الرواة لهذا الحديث إلا أنها زيادة من عدل ثقة حافظ فتقبل، وهي تدل على اشتراط الإسلام في وجوب صدقة الفطر، وإنها لا تجب على الكافر عن نفسه وهذا متفق عليه. وهل يخرجها المسلم عن عبده الكافر؟ فقال الجمهور: لا خلافاً لعطاء والنخعي وإسحاق ومجاهد وعمر بن عبد العزيز وسعيد بن جبير والثوري وأبي حنيفة وأصحابة. واستدلوا بعموم قوله: ليس على المسلم في عبده إلا صدقة الفطر. وأجاب الآخرون بأن الخاص يقضي على العام. فعموم قوله: في عبده مخصوص بقوله: من المسلمين وفيه ما قال الشوكاني إن قوله من المسلمين أعم من قوله في عبده من وجه، وأخص من وجه فتخصيص أحدهما بالآخر تحكم ولكنه يؤيد اعتبار الإسلام ما عند مسلم بلفظ: على كل نفس من المسلمين حر أو عبد واحتج بعضهم على وجوب إخراجها عن العبد الكافر بما روى الدارقطني وغيره عن ابن عمر أنه كان يخرج عن عبده الكافر، وهو أعرف بمراد الحديث وتعقب بأنه لو صح حمل على أنه كان يخرج عنهم تطوعاً ولا مانع واحتج بعضهم أيضاً بما

وأمر بها أن تؤدي قبل خروج الناس إلى الصلاة)) . متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ روى الدارقطني عن ابن عباس مرفوعاً، أدوا صدقة الفطر عن كل صغير أو كبير ذكر أو أنثى يهودي أو نصراني حر أو مملوك - انتهى. وأجيب عنه بأنه حديث ضعيف جداً، فإن مسنده سلاماً الطويل وهو متروك وأجاب الطحاوي عن قوله من المسلمين بأنه صفة للمخرجين لا للمخرج عنهم. ورُدّ بأنه يأباه ظاهر الحديث؛ لأن فيه العبد وكذا الصغير، وهما ممن يخرج عنه فدل على أن الصفة الإسلام لا تختص بالمخرجين ويؤيده رواية مسلم بلفظ: على كل نفس من المسلمين حر أو عبد - الحديث. وقال في المصابيح: هو نص ظاهر في أن قوله من المسلمين صفة لما قبله من المنكرات المتعاطفات بأو فيندفع قول الطحاوي بأنه خطاب متوجه، معناه إلى السادة يقصد بذلك الاحتجاج لمن ذهب إلى إخراج زكاة الفطر عن العبد الكافر - انتهى. وأجاب بعض الحنفية بجواب آخر وهو أن قوله: من المسلمين لا يعتبر مفهومه المخالف عند الحنفية. قالوا: والنكتة في ذكر هذا القيد هي التنبيه على الأهم والأشراف حيث نص عليه بعد دخوله تحت الاسم المطلق. وفيه إن مسألة مفهوم المخالفة مبحث لغوي، واستعمال أهل اللغة والشرع لمفهوم الصفة وعلمهم به معلوم لكل من له علم بذلك. وأما النكنة المذكورة فلا تتمشي ههنا لما وقع في رواية لمسلم: فرض زكاة الفطر من رمضان على كل نفس من المسلمين حر أو عبد أو رجل أو امرأة صغير أو كبير.. الخ فافهم (وأمر) أي رسول الله ` - صلى الله عليه وسلم - (بها) أي بصدقة الفطر (أن تؤدي قبل خروج الناس إلى الصلاة) أي صلاة العيد. قال الطيبي: هذا أمر استجاب لجواز التأخير عن الخروج عند الجمهور إلى الغروب وحكى الخطابي الإجماع على هذا الاستحباب، وقال العيني: لم يحك الترمذي فيه خلافاً. وقال ابن حزم: الأمر فيه للوجوب فيحرم تأخيرها عن ذلك الوقت- انتهى. وقال الحافظ: استدل به على كراهة تأخيرها عن ذلك، وحمله ابن حزم على التحريم - انتهى. قلت: يدل الحديث على أن المادرة بها هي المطلوب المأمور بها فلو أخرها عن الصلاة أثم وخرجت عن كونها صدقة فطر، وصارت صدقة من الصدقات. وقد ورد ذلك مصرحاً عند أبي داود من حديث ابن عباس. قال: فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر طهرة للصيام من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات - انتهى. قال القاري: هذا الخبر يفيد الوجوب إلا أن جماعة إدعوا إن إخراجه قبل صلاة العيد أفضل إجماعاً - انتهى. قلت ويؤكد كون الأمر للوجوب ما روى ابن عدي والدارقطني وغيرهما من حديث ابن عمر، أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم - انتهى. فإنه لا يحصل الغني للفقراء في هذا اليوم والاستراحة عن الطواف، إلا بإعطاءهم صدقة الفطر أول اليوم. فالحق عندي: هو إن الأمر في حديث الباب للوجوب لا للاستجاب والله تعالى أعلم. (متفق عليه)

1831- (2) وعن أبي سعيد، قال: ((كنا نخرج زكاة الفطر صاعاً من طعام، ـــــــــــــــــــــــــــــ وأخرجه أيضاً أحمد ومالك والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم مطولاً ومختصراً، من أحب الوقوف على اختلاف ألفاظه رجع إلى جامع الأصول (ج5 ص347- 348- 349) والتقريب مع طرح التثريب (ج4 ص43، 48) . 1831- قوله: (كنا نخرج زكاة الفطر) وفي رواية للبخاري كنا نعطيتها في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي أخرى له أيضاً كنا نخرج في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. وعند مسلم كنا نخرج إذ كان فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر. قال الحافظ: هذا حكمه الرفع لإضافته إلى زمنه - صلى الله عليه وسلم -، ففيه إشعار بإطلاعه - صلى الله عليه وسلم - على ذلك وتقريره له، ولاسيما في هذه الصورة التي كانت توضع عنده وتجمع بأمره وهو الآمر بقبضها وتفريقها - انتهى. وفي هذا رد على ابن حزم في زعمه إن حديث أبي سعيد ليس مسنداً، لأنه ليس فيه إن رسول الله علم بذلك وأقره، وهذا لأن ألفاظ الحديث تدل على أن ذلك كان معلوماً معروفاً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يخفي مثل ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (صاعاً من طعام) قال السندي في حاشية ابن ماجه: يحتمل إن صاعاً من طعام أريد به صاع من الحنطة فإن الطعام وإن كان يعم الحنطة وغيرها لغة لكن اشتهر في العرف إطلاقه على الحنطة، ويؤيده المقابلة بما بعده، ويحتمل أن يكون صاعاً من طعام مجملاً ويكون ما بعده بياناً له كأنه بين إن الطعام الذي كانوا يعطون منه الصاع، كان تمراً وشعيراً وإقطاً لا حنطة. ويؤيده ما روى البخاري عن أبي سعيد كنا نخرج في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفطر صاعاً من طعام وكان طعامنا يومئذ الشعير والزبيب والأقط والتمر، وكذا ما رواه ابن خزيمة عن ابن عمر قال: لم تكن الصدقة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا التمر والزبيب والشعير ولم تكن الحنطة فينبغي أن يتعين الحمل على هذا المعنى، بل يستعبد أن يكون المعلوم عندهم المعلوم فيما بينهم صاعاً من الحنطة فيتركونه إلى نصفه بكلام معاوية، بل لا يبقى لقول معاوية، إن النصف يعدل الصاع حينئذ وجه إلا بتكلف. وبالجملة فمعنى هذا الحديث أنه ما كان عندهم نص منه - صلى الله عليه وسلم - في البر بصاع أو بنصفه، وإلا فلو كان عندهم حديث بالصاع، لما خالفوه، أو بنصفه لما احتاجوا إلى القياس، بل حكموا بذلك ويدل على هذا حديث ابن عمر في هذا الباب المروي في الصحاح - انتهى كلام السندي. قلت: اختلفوا في تعيين المراد من الطعام في هذا الحديث، قال الخطابي في المعالم (ج2 ص50- 51) : زعم بعض أهل العلم إن المراد بالطعام هنا الحنطة، وأنه عندهم اسم خاص للبر. قال: ويدل على صحة ذلك أنه ذكر في الخبر الشعير والأقط والتمر والزبيب وهي أقواتهم التي كانوا يقتاتونها في الحضر والبدو، ولم يذكر الحنطة وكانت أغلاها وأفضلها كلها، فلولا أنه أرادها بقوله"صاعاً من طعام" لكان يجري ذكرها عند التفصيل كما جرى ذكر غيرها من سائر الأقوات، ولاسيما حيث عطفت عليها بحرف

.......................... ـــــــــــــــــــــــــــــ أو الفاصلة. وقال ابن دقيق العيد (ج2 ص200) : قد كانت لفظة الطعام تستعمل في البر عند الإطلاق حتى إذا قيل: أذهب إلى سوق الطعام فهم منه سوق البر، وإذا غلب العرف بذلك نزل اللفظ عليه، لأن ما غلب إطلاق اللفظ عليه فحطورة عند الإطلاق أقرب فينزل اللفظ عليه. قال الخطابي: وزعم الآخرون إن هذا جملة قد فصلت، والتفصيل لا يخالف الجملة. وإنما قال. في أول الحديث صاعاً من طعام، ثم فصله. فقال: صاعاً من أقط أو صاعاً من شعير أو كذا أو كذا، واسم الطعام شامل لجميع ذلك - انتهى. وقال القاري: قال علماءنا: إن المراد بالطعام المعنى الأعم لا الحنطة بخصوصها، فيكون عطف ما بعده عليه من باب عطف الخاص على العام، واستدركه الكرماني فقال: لكن هذا العطف إنما هو فيما إذا كان الخاص أشرف وهذا بعكس ذلك. قال الحافظ: وقد رد ذلك أي حمل الطعام على البر ابن المنذر. وقال: ظن أصحابنا إن قوله في حديث أبي سعيد صاعاً من طعام حجة لمن قال صاعاً من حنطة وهذا غلط منه، وذلك إن أباسعيد أجمل الطعام ثم فسره، ثم أورد طريق حفص ابن ميسرة عند البخاري وغيره، إن أباسعيد قال: كنا نخرج في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الفطر صاعاً من طعام. قال أبوسعيد: وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر وهي ظاهرة فيما قال. وأخرج الطحاوي نحوه من طريق أخرى. وقال: فيه "ولا يخرج غيره" وفيه قوله فلما جاء معاوية وجاءت السمراء دليل على أنها لم تكن قوتاً لهم قبل هذا، فدل على أنها لم تكن كثيرة ولا قوتاً فكيف يتوهم أنهم أخرجوا ما لم يكن موجوداً - انتهى كلامه. وأخرج ابن خزيمة من طريق فضيل بن غزوان عن نافع عن ابن عمر قال: لم تكن الصدقة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا التمر والزبيب والشعير ولم تكن الحنطة، ولمسلم من وجه آخر عن عياض عن أبي سعيد كنا نخرج من ثلاثة أصناف صاعاً من تمر، أو صاعاً من أقط، أو صاعاً من شعير، وكأنه سكت عن الزبيب في هذه الرواية لقلته بالنسبة إلى الثلاثة المذكورة. وهذه الطرق كلها تدل على أن المراد بالطعام في حديث أبي سعيد غير الحنطة، فيتحمل أن تكون الذرة فإنه المعروف عند أهل الحجاز الآن وهي قوت غالب لهم، وقد روى الجوزقي من طريق ابن عجلان عن عياض في حديث أبي سعيد صاعاً من تمر، صاعاً من سلت أو ذرة - انتهى كلام الحافظ. وأجاب البرماوي عن رواية حفص بن ميسرة بأن الطعام فيها محمول على معناه اللغوي الشامل لكل مطعوم. قال: فلا ينافي تخصيص الطعام فيما سبق بالبر؛ لأنه قد عطف عليه الشعير وغيره فدل على التغاير، وهذا كالوعد فإنه عام في الخير والشر، وإذا عطف عليه الوعيد خص بالخير وليس هو من عطف الخاص على العام، نحو فاكهة ونخل ورمان وملائكته وجبريل. فإن ذلك إنما هو فيما إذا كان الخاص أشرف وهنا بالعكس. وقال الكرماني: فإن قلت قوله قال أبوسعيد: وكان طعامنا. الخ مناف لما تقدم من قولك إن الطعام هو الحنطة ثم أجاب بقوله: لا نزاع في أن الطعام بحسب اللغة عام لكل إنما البحث فيما يعطف عليه الشعير وسائر الأطعمة

......................... ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن العطف قرينة لإرادة المعنى العرفي منه وهو البر بخصوصه - انتهى. ولا يخفى ما فيه من التكلف والظاهر عندي: هو قول من قال إن الطعام في قوله صاعاً من طعام مجمل، وما ذكره بعده بيان له كما يدل عليه طريق حفص ابن ميسرة وحديث ابن عمر عندي ابن خزيمة، وأن الصحابة ما كانوا يخرجون البر في عهده - صلى الله عليه وسلم - كما يدل عليه رواية النسائي والطحاوي، كنا نخرج في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير أو صاعاً من أقط لا نخرج غيره. وإن أباسعيد ما أخرج البر في صدقة الفطر قط، لا في زمانه - صلى الله عليه وسلم -، ولا فيما بعده، لا صاعاً ولا نصفه، كما يدل عليه رواية مسلم إن معاوية لما جعل نصف الصاع من الحنطة عدل صاع من تمر، أنكر ذلك أبوسعيد. وقال: لا أخرج فيها إلا الذي كنت أخرج في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاعاً من تمر أو صاعاً من زبيب أو صاعاً من شعير أو صاعاً سن أقط وفي رواية. قال أبوسعيد: فأما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه أبداً ما عشت وإن أباسعيد لما تحقق عنده إن الصحابة أخرجوا في زمنه - صلى الله عليه وسلم - صاعاً من جميع ما أخرجوا من الشعير والأقط والتمر والزبيب. وغيرها ذهب إلى أن المقدار الواجب من كل شيء صاع، أو لما رأى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرع لهم صاعا من غير البر، ولم يبين لهم حال البر، فقاس عليه أبوسعيد حال البر، ورأى أن الواجب في البر أيضاً صاع. وقد روى أبوداود عن عياض قال سمعت أباسعيد يقول: لا أخرج أبداً إلا صاعاً (أي من كل شيء) إنا كنا نخرج على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاع تمر أو شعير أو أقط أو زبيب وأخرج الطحاوي (ج1 ص319) عن عياض قال: سمعت أباسعيد وهو يسئل عن صدقة الفطر. قال: لا أخرج إلا ما كنت أخرج على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير أو صاعاً من زبيب أو صاعا ًمن أقط فقال، له رجل أو مدين من قمح فقال لا، تلك قيمة معاوية لا أقبلها، ولا أعمل بها. وأخرجه أيضاً الدارقطني (ص222) والحاكم (ص411) وابن خزيمة والبيهقي (ج4 ص166) وزاد فيه أو صاعاً من حنطة بعد قوله: صاعاً من تمر وقد صرح ابن خزيمة وأبوداود إن ذكر الحنطة فيه غير محفوظ. وأما ما روى الطحاوي بسنده (ص319) عن أبي سعيد أنه قال: إنما علينا أن نعطي لكل رأس عند كل فطر صاعاً من تمر أو نصف صاع من بر، فلا يوازي الروايات المتقدمة فلا يلتفت إليه، والقول بأن حديث الباب يدل على أنهم كانوا يعطون من البر صاعاً، لكن على سبيل التبرع، يعني إن أباسعيد وغيره من الصحابة إنما كانوا يخرجون النصف الآخر تطوعاً واختياراً وفضلاً تأويل بعيد لا يخفى تكلفه وأما ما يذكر من الأحاديث المرفوعة في الصاع من القمح أو في نصفه فكلها مدخولة. قال البيهقي (ج4 ص170) بعد إيراد أحاديث نصف الصاع من القمح. وقد وردت أخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صاع من بر، ووردت أخبار في نصف صاع، ولا يصح شيء من ذلك قد بينت علة كل واحد منها الخلافيات وروينا في حديث أبي سعيد وفي حديث أبي سعيد وفي حديث ابن عمر، إن تعديل نصف صاع من بر بصاع من شعير وقع بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -

............................. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأما ما روى أبوداود وغيره من طريق عبد العزيز بن أبي داود عن نافع عن ابن عمر قال كان الناس يخرجون صدقة الفطر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاعاً من شعير، أو صاعاً من تمر أو زبيب فلما كان عمر وكثرت الحنطة فجعل عمر نصف صاع من حنطة مكان صاع من تلك الأشياء. فقال الحافظ: قد حكم مسلم في كتاب التمييز على عبد العزيز فيه بالوهم وأوضح الرد عليه. وقال ابن عبد البر: قول ابن عيينة: (أي في جعل معاوية نصف الصاع من الحنطة عدل صاع من تلك الأشياء) عندي أولى. وقال ابن المنذر: لا نعلم في القمح خبراً ثابتاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتمد عليه، ولم يكن البر بالمدينة في ذلك الوقت إلا الشيء اليسير منه، فلما كثر في زمن الصحابة رأوا إن نصف صاع منه يقوم مقام صاع من شعير، وهم الأئمة فغير جائز أن يعدل عن قولهم إلا إلى قول مثلهم، ثم أسند عن عثمان وعلي وأبي هريرة وجابر وابن عباس وابن الزبير وأمه أسماء بنت أبي بكر بأسانيد صحيحة، إنهم رأوا إن في زكاة الفطر نصف صاع من قمح - انتهى. قال الحافظ: وهذا مصير منه إلى اختيار ما ذهب إليه الحنفية لكن حديث أبي سعيد دال على أنه لم يوافق على ذلك. وكذلك ابن عمر فلا إجماع في المسألة خلافا للطحاوي - انتهى. وتعقبه العيني فقال: أما أبوسعيد فإنه لم يكن يعرف في الفطرة إلا التمر والشعير والأقط والزبيب، والدليل عليه ما روى عنه في رواية، كنا نخرج على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير. الحديث - لا نخرج غيره. وأما روايته الأخرى كنا نخرج زكاة الفطر صاعاً من طعام، فقد بينت إن الطعام اسم لما يطعم مما يؤكل ويقتات فيتناول الأصناف التي ذكرها في حديثه، وجواب آخر إن أباسعيد إنما أنكر على معاوية على إخراجه المدين من القمح، لأنه ما كان يعرف القمح في الفطرة وكذلك ما نقل عن ابن عمر - انتهى. قلت: قد عرفت مما قدمنا إن أباسعيد كان يرى إن الواجب من كل شيء صاع خلافاً لمعاوية، ومن وافقه، ولكنه لم يخرج من البر قط لا صاعاً ولا نصفه لا؛ لأنه ما كان يعرف القمح في الفطرة بل إتباعاً لما كان يفعله الصحابة في زمانه - صلى الله عليه وسلم - من إخراج غير البر، وكذا ابن عمر. فدعوى الإجماع على النصف من البر مع مخالفته أبي سعيد وابن عمر مردودة. وأعلم أن الواجب في صدقة الفطر عند مالك والشافعي وأحمد وإسحاق صاع عن كل إنسان لا يجزي أقل من ذلك من جميع الأجناس المخرج، وروى ذلك عن أبي سعيد الخدري والحسن وأبي العالية. وقال أبوحنيفة والثوري أنه يجزيء نصف صاع من البر خاصة. وروى ذلك عن عثمان وابن الزبير ومعاوية، وهو مذهب ابن المسيب وعطاء وطاووس ومجاهد وعمر بن عبد العزيز وعروة بن الزبير وأبي سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن جبير وابن المبارك وغيرهم. واحتج لقول الأئمة الثلاثة بحديث أبي سعيد هذا، وذلك بوجوه. الأول إن الطعام في عرف أهل الحجاز اسم للحنطة خاصة لاسيما، وقد قرنه بباقي المذكورات قاله النووي. وقد تقدم الكلام على

........................ ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا الاستدلال. والثاني: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - فرض صدقة الفطر صاعاً من طعام والبر مما يطلق عليه اسم الطعام إن لم يكن غالباً فيه، وتفسيره بغير البر إنما هو؛ لأنه لم يكن معهوداً عندهم، فلا يجزيء دون الصاع منه، قاله الشوكاني: وهذا إنما يتمشى لوورد الحديث بلفظ: فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاعاً من طعام، ولكنه لم يقع في رواية أصلاً. ولو سلمنا فيمكن أن يقال إن البر على تسليم دخوله تحت لفظ الطعام مخصص، والأحاديث المرفوعة التي جاءت بنصف الصاع من البر. قال الشوكاني في النيل وفي السيل الجرار: وهي تنتهض بمجموعها للتخصيص- انتهى. والثالث: إن الأشياء التي ثبت ذكرها في حديث أبي سعيد لما كانت متساوية في مقدار ما يخرج منها مع اختلافها في القيمة، دل ذلك على أن المراد إخراج هذا المقدار أي الصاع من أي جنس كان، ولا نظر إلى قيمته فلا فرق بين الحنطة وغيرها واستدل لمن قال بنصف الصاع من البر بأحاديث مرفوعة ذكرها الزيلعي (ج2 ص418 و423) والعيني (ج9 ص114، 115) وسيأتي بعضها في هذا الباب وكلها مدخولة ضعفها أهل العلم بالحديث واستدل لهم أيضاً بأنه صار الإجماع على نصف الصاع من البر في زمن الصحابة. ففي رواية لمسلم: قال أبو سعيد كنا نخرج إذا كان فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر عن كل صغير وكبير، حر أو مملوك صاعاً من طعام، أو صاعاً من أقط أو صاعاً من شعير أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من زبيب فلم نزل نخرجه حتى قدم علينا معاوية حاجاً أو معتمراً فكلم الناس على المنبر، فكان فيما كلم به الناس: أن قال إني أرى مدين من سمراء الشام تعدل صاعا من تمر، فأخذ الناس بذلك الحديث. قال النووي: هذا الحديث هو الذي اعتمده أبوحنيفة وموافقوه. والجمهور يجيبون عنه بأنه قول صحابي، وقد خالفه أبوسعيد وغيره ممن هو أطول صحبة وأعلم بأحوال النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد صرح معاوية بأنه رأى رأه لا أنه سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان عند أحد من حاضري مجلسه مع كثرتهم في تلك اللحظة علم في موافقته معاوية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لذكره كما جرى لهم في غير هذه القضية - انتهى. وأجاب الزيلعي عن هذا بأنه قد وافق معاوية غيره من الصحابة الجم الغفير بدليل قوله "فأخذ الناس" بذلك ولفظ "الناس" للعموم فكان إجماعاً وكذلك قول ابن عمر فعدل الناس به مدين من حنطة ولا يضر مخالفة أبي سعيد لذلك؛ لأنه لا يقدح في الإجماع - انتهى. قلت: هذا عجيب فإن الأصوليين قد صرحوا بأن مخالفة الواحد تمنع انعقاد لإجماع فكيف تصح دعوى انعقاد الإجماع من مخالفة أبي سعيد. وقد تقدم قول الحافظ إن حديث أبي سعيد دال على أنه لم يوافق على ذلك، وكذلك ابن عمر فلا إجماع في المسألة قال: ومن جعله نصف صاع منها بدل صاع من شعير فعل ذلك بالاجتهاد بناء منه على أن قيم ماعدا الحنطة متساوية، وكانت الحنطة إذ ذاك غالية الثمن، لكن يلزم على قولهم إن تعتبر القيمة في كل زمان فيختلف الحال، ولا ينضبط

أو صاًعا من شعير، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من أقط، ـــــــــــــــــــــــــــــ وربما لزم في بعض الأحيان إخراج آصع من حنطة ويدل على أنهم لحظوا ذلك ما روى جعفر الفريابي في كتاب صدقة الفطر إن ابن عباس لما كان أمير البصرة أمرهم بإخراج زكاة الفطر، ويبين لهم إنها صاع من تمر إلى أن قال أو نصف صاع من بر. قال: فلما جاء على ورأى رخص أسعارهم قال اجعلوها صاعاً من كل. فدل على أنه كان ينظر إلى القيمة في ذلك، ونظر أبوسعيد إلى الكيل - انتهى. قلت: الأحوط عندي هو أن يخرج صاع من البر أيضاً ولو أخرج أحد نصف صاع منه أجزأه إنشاء الله نظراً إلى الأحاديث الضعيفة وآثار الصحابة في ذلك (أو صاعاً من شعير أو صاعاً من تمر) اختلفوا في أن "أو" للتقسيم أو للتخيير. قال ابن رشد (ج1 ص2) وأما مما ذا تجب فإن قوماً ذهبوا إلى أنها تجب من البر أو التمر أو الشعير أو الزبيب أو الأقط على التخيير. وقوم ذهبوا إلى أن الواجب عليه هو غالب قوت البلد، أو قوت المكلف إذا لم يقدر على قوت البلد وهو الذي حكاه عبد الوهاب عن المذهب. والسبب في اختلافهم واختلافهم في مفهوم حديث أبي سعيد الخدري فمن فهم من هذا الحديث التخيير قال أي أخرج من هذه أجزأ عنه، ومن فهم منه إن اختلاف المخرج ليس سببه الإباحة. وإنما سببه اعتبار قوت المخرج أو قوت غالب البلد قال بالقول الثاني - انتهى. وقال القاري قال ميرك: نقلاً عن الأزهار اختلف العلماء في أن "أو" في هذا الحديث لتخيير المؤدي من هذه الأشياء أو لتعيين واحد منها وهو الغالب فيه قولان. أحدهما: إنه للتخيير وبه قال أبوحنيفة: والثاني: إنه لتعيين أحد هذه الأشياء بالغلبة وهو غالب قوت البلد على الأصح وبه قال الأكثرون. ومعناه كنا نخرج هذه الأنواع بحسب أقواتنا ومقتضي أحوالنا - انتهى. وقال ابن الملك: أو هذه للتنويع لا للتخيير فإن القوت الغالب لا يعدل عنه إلى ما دونه في الشرف - انتهى. وقال ابن قدامة (ج3 ص64) ومن أي الأصناف المنصوص عليها أخرج جاز، وإن لم يكن قوتاً له. وقال مالك: يخرج من غالب قوت البلد. وقال الشافعي: أي قوت كان الأغلب على الرجل أدى الرجل زكاة الفطر منه يعني إن الاعتبار بغالب قوت المخرج. ولنا إن خبر الصدقة ورد بحرف التخيير بين هذه الأصناف فوجب التخيير فيه؛ ولأنه عدل إلى منصوص عليه فجاز كما لو عدل إلى الأعلى والغني يحصل بدفع قوت من الأجناس، ويدل على ما ذكرنا إنه خير بين التمر والزبيب والأقط ولم يكن الزبيب والأقط قوتاً لأهل المدينة، فدل على أنه لا يعتبر أن يكون قوتاً للمخرج - انتهى. وقال ولي الدين العراقي من قال بالتخيير فقد أخذ بظاهر الحديث، ومن قال بتعيين غالب قوت البلد فإنه حمل الحديث على ذلك - انتهى. قلت: الراجح عندي: في ذلك قول من ذهب إلى التخيير وهو ظاهر الحديث فلا يعدل عنه (أو صاعاً من أقط) بفتح الهمزة مع كسر القاف أو ضمها أو فتحها أو إسكانها وبكسر الهمزة مع كسر القاف وإسكانها وبضم الهمزة مع إسكان القاف فقط، وهو الشيء يتخذ من اللبن المخيض كأنه نوع من اللبن

أو صاعاً من زبيب)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الجاف. وقيل: هو لبن مجفف يابس جامد مستحجر غير منزوع الزبد يطبخ به، وفيه دليل على أجزاء الأقط في صدقة الفطر كغيره مما قرن به. واختلف العلماء فيه: فقال مالك بالأجزاء: إذا كان من أغلب القوت. وللشافعي فيه قولان أحدهما: كقول مالك. والثاني أنه لا يجزىء قال الحافظ: وعند الشافعية فيه خلاف، وزعم الماوردي أنه يختص بأهل البادية. وأما الحاضرة فلا يجزىء عنهم بلا خلاف. وتعقبه النووي في شرح المهذب. وقال قطع الجمهور بأن الخلاف في الجميع - انتهى. والمذكور في فروع الشافعية الأجزاء إذا كان غالب أقوات المخرج. قال النووي في شرح مسلم: يجزىء الأقط على المذهب - انتهى. وقال الحنفية: لا يجزىء إلا بدلاً عن القيمة. قال الكاساني في البدائع: أما الأقط فتعتبر فيه القيمة لا يجزىء إلا باعتبار القيمة؛ لأنه غير منصوص عليه من وجه يؤثق به، وجواز ما ليس بمنصوص عليه لا يكون إلا بالقيمة - انتهى. قلت: هذا عجيب فإن الأقط منصوص عليه ثابت في حديث أبي سعيد عند الشيخين وغيرهما. فإعتبار القيمة فيه مردود قال الخرقي: إن أعطى أهل البادية الأقط صاعاً أجزأ إذا كان قوتهم. قال ابن قدامة: (ج2:ص60) يجزىء أهل البادية اخراج الأقط إذا كان قوتهم وكذلك من لم يجد من الأصناف المنصوص عليها سواه فأما من وجد سواه فهل يجزىء على روايتين، إحداهما: يجزئه أيضاً لحديث أبي سعيد وفي بعض ألفاظه. قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعاً من طعام، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من أقط أخرجه النسائي. والثانية: لا يجزئه لأنه جنس لا تجب الزكاة فيه فلا يجزىء إخراجه لمن يقدر على غيره من الأجناس المنصوص عليها كاللحم. ويحمل الحديث على من هو قوت له أو لم يقدر على غيره، فإن قدر على غيره، مع كونه قوتاً له فظاهر كلام الخرقي جواز إخراجه سواء كان من أهل البادية أو لم يكن، لأن الحديث لم يفرق، وقول أبي سعيد كنا نخرج صاعاً من أقط وهم أهل الأمصار وإنما خص أهل البادية بالذكر لأن الغالب أنه لا يقتاته غيرهم - انتهى. قلت: الظاهر عندي أنه يجزىء إخراجه لأهل الأمصار ولمن قدر على غيره من الأشياء المنصوص عليها، وإن لم يكن قوتاً له، لأن الحديث لم يفرق ولم يفصل. قال الحافظ: أراد البخاري بتفريق التراجم على هذه الأشياء، الإشارة إلى ترجيح التخيير في هذه الأنواع. إلا أنه لم يذكر الأقط، وهو ثابت في حديث أبي سعيد، وكأنه لا يراه مجزئاً في حال وجدان غيره كقوله أحمد. وحملوا الحديث على أن من كان يخرجه كان قوته إذ ذاك، أو لم يقدر على غيره وظاهر الحديث يخالفه - انتهى. (أو صاعاً من زبيب) فيه وفي الأقط خلاف الظاهرية حيث لا يجوز عندهم إلا من التمر. والشعير وأجمع غيرهم على جواز الزبيب إلا أن الأئمة الثلاثة قالوا: إن الواجب منه صاع. وإليه ذهب أبويوسف ومحمد وهي رواية عن أبي حنيفة. قال بعض الحنفية وعليه الفتوى. وفي رواية أخرى عنه نصف صاع كالقمح، وهي خلاف نص الحديث، وأجاب ابن حزم عن هذا الحديث بوجهين. أحدهما: أنه غير

......................... ـــــــــــــــــــــــــــــ مسند لأنه ليس في شيء من طرقه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم بذلك فأقره. والثاني: أنه مضطرب فيه فإن في بعض طرقه إثبات الزبيب وفي بعضها نفيه، وفي بعضها ذكر الدقيق. والسلت، وقد تقدم الجواب عن الوجه الأول. وأما الثاني: فقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المحلي (ج6:ص125) ليس هذا من الاضطراب في شيء بل إن بعض الرواة يطيل وبعضهم يختصر، ومنهم من يذكر شيئاً ويسهو عن غيره وزيادة الثقة مقبولة، فالواجب جمع كل ما روى في الروايات الصحيحة إذ لا تعارض بينهما أصلاً فائدة اختلفوا في الأفضل من الأجناس المنصوص عليها. فقال القسطلاني: مذهب الشافعية إن البر خير من التمر والأرز، والشعير خير من التمر؛ لأنه أبلغ في الأقتيات. التمر خير من الزبيب - انتهى. وقال الخرقي: اختيار أبي عبد الله (أحمد بن حنبل) اخراج التمر. قال ابن قدامة (ج3:ص61 وبهذا قال مالك: قال ابن المنذر. واستحب مالك اخراج العجوة منه، وأختار الشافعي وأبوعبيد إخراج البر، وقال بعض أصحاب الشافعي: يحتمل أن يكون الشافعي قال ذلك؛ لأن البر كان أعلى في وقته ومكانه، لأن المستحب أن يخرج أغلاها ثمناً وأنفسها. وإنما اختار أحمد إخراج التمر إقتداء بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فروى بإسناده عن أبي مجلز. قال: قلت لابن عمر إن الله قد أوسع والبر أفضل من التمر. قال: إن أصحابي سلكوا طريقاً وأنا أحب أن أسلكه، وظاهر هذا إن جماعة من الصحابة كانوا يخرجون التمر فأحب ابن عمر موافقتهم وسلوك طريقتهم، وأحب أحمد أيضاً الإقتداء بهم إتباعهم. وروى البخاري عن ابن عمر قال: فرض النبي صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر - الحديث. وفيه كان ابن عمر يعطي التمر فأعوز أهل المدينة من التمر، فأعطى شعيراً، قال الحافظ: فيه دلالة على أن التمر أفضل ما يخرج في صدقة الفطر. وقد روى جعفر الفريابي من طريق أبي مجلز قال: قلت لابن عمر قد أوسع الله والبر أفضل من التمر أفلا تعطي البر. قال: لا أعطي إلا كما كان يعطي أصحابي. ويستنبط من ذلك أنهم كانوا يخرجون من أعلى الأصناف التي يقتات بها؛ لأن التمر أعلى من غيره، مما ذكر في حديث أبي سعيد، وإن كان ابن عمر فهم منه خصوصية التمر بذلك - انتهى. قال ابن قدامة. والأفضل بعد التمر البر، وقال بعض أصحابنا الأفضل بعده الزبيب، لأنه أقرب تناولاً، وأقل كلفة فأشبه التمر. ولنا إن البر أنفع في الأقتيات وأبلغ في دفع حاجة الفقير إلى آخر ما قال. فائدة أخرى اختلفوا في الإخراج عن غير هذه الأصناف مع القدرة عليها. قال الخرقي: ومن قدر على التمر أو الزبيب أو البر أو الشعير أو الأقط فأخرج غيره لم يجزه، قال ابن قدامة: (ج3:ص62) ظاهر المذهب أنه لا يجوز له العدول عن هذه الأصناف مع القدرة عليها سواء كان المعدول إليه قوت بلده أو لم يكن. وقال مالك: يخرج من غالب قوت البلد. وقال الشافعي: أي قوت كان الأغلب على الرجل أدى الرجل زكاة الفطر منه. واختلف أصحابه فمنهم من قال بقول مالك، ومنهم من قال الاعتبار بغالب قوت المخرج، ثم إن

متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ عدل عن الواجب إلى أعلى منه جاز، وإن عدل إلى ما دونه ففيه قولان. (أي للشافعي) أحدهما: يجوز لقوله عليه السلام أغنوهم عن الطلب، والغني يحصل بالقوت. الثاني: لا يجوز؛ لأنه عدل عن الواجب إلى أدنى منه فلم يجزئه ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض صدقة الفطر أجناساً معدودة فلم يجز العدول عنها كما لو اخراج القيمة وذلك؛ لأن ذكر الأجناس بعد ذكره الفرض تفسير للمفروض فما أضيف إلى المفسر يتعلق بالتفسير فتكون هذه الأجناس مفروضة فيتعين الإخراج منها. قال: والسلت نوع من الشعير فيجوز إخراجه لدخوله في المنصوص عليه، وقد صرح بذكره في بعض ألفاظ حديث ابن عمر، وحديث أبي سعيد عند النسائي، ويجوز إخراج الدقيق نص عليه أحمد، وكذلك السويق وقال مالك والشافعي: لا يجزىء إخراجهما لحديث ابن عمر، ولأن منافعه نقصت فهو كالخبر، ولنا حديث أبي سعيد وقوله فيه أو صاعاً من دقيق - انتهى. قلت: حديث أبي سعيد هذا أخرجه أبوداود والنسائي والدارقطني والبيهقي. قال أبوداود زاد سفيان بن عيينة فيه أو صاعاً من دقيق. قال حامد: (شيخ أبي داود) فأنكروا عليه فتركه سفيان. قال: أبوداود فهذه الزيادة وهم من ابن عيينة. وقال الدارقطني: قال أبوالفضل: فقال له علي بن المدينى يعني لسفيان وهو معنا يا أبامحمد أحد لا يذكر في هذا الدقيق. قال: بلى هو فيه - انتهى. ولعل سفيان ذكر الدقيق أولا وتيقن به ثم شك فيه فتركه والله أعلم. وإذا عجز عن الأجناس المنصوص فقال الخرقي. أجزأه كل مقتات من كل حبة وتمرة. قال ابن قدامة: ظاهر هذا أنه لا يجزئه من غيرها كاللحم واللبن وقال أبوبكر يعطي ما قام مقام الأجناس المنصوص عليها عند عدمها الإخراج مما يقتتاته كالذرة والدخن ولحوم الحيتان والأنعام، ولا يردون إلى أقرب قوت الأمصار - انتهى. ويجوز إخراج اللبن واللحم والجبن ممن هو قوته عند الشافعية والمالكية على المشهور (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد ومالك والشافعي والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم مطولاً ومختصراً بألفاظ، من شاء الإطلاع عليها رجع إلى جامع الأصول (ج5:ص349-350-351) . تنبيه اختلفوا في جواز إعطاء القيمة في صدقة الفطر، فمنعه الأئمة الثلاثة. وأجازه أبوحنيفة وأصحابه. قال الخرقي: من أعطى القيمة لم تجزئه. قال ابن قدامة: (ص65) قال أبوداود: قيل لأحمد وأنا أسمع أعطى دراهم يعني في صدقة الفطر. قال: أخاف أن لا يجزئه خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أبوطالب قال لي أحمد: لا يعطي قيمته، قيل له قوم يقولون عمر بن عبد العزيز كان يأخذ القيمته، قال يدعون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون قال فلان. قال ابن عمر: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الله تعالى: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول} [المائدة:92] وقال قوم يردون السنن قال فلان، قال فلان، وظاهر مذهبه أنه لا يجزئه إخراج القيمة في شيء من الزكوات، وبه قال مالك والشافعي، وقال الثوري وأبوحنيفة يجوز. وقد روى ذلك عن عمر بن عبد العزيز والحسن، وروى عن أحمد مثل قولهم فيما عدا الفطرة، وقال

{الفصل الثاني}

{الفصل الثاني} 1832- (3) عن ابن عباس، قال: ((في آخر رمضان أخرجوا صدقة صومكم، فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه الصدقة صاعاً من تمر، أو شعير، أو نصف صاع من قمح ـــــــــــــــــــــــــــــ أبوداود: سئل أحمد عن رجل باع ثمر نخلته قال عشرة على الذي باعه قيل له فيخرج ثمراً أو ثمنه. قال إن شاء أخرج تمراً وإن شاء أخرج من الثمن، وهذا دليل على جواز إخراج القيم. ووجهه قول معاذ لأهل اليمن إيتوني بخميس أو لبيس آخذه منكم فإنه أيسر عليكم وأنفع للمهاجرين بالمدينة. وقال سعيد: حدثنا سفيان عن عمرو عن طاووس قال لما قدم معاذ اليمن. قال ائتوني بعرض الثياب آخذه منكم مكان الذرة والشعير فإنه أهون عليكم وخير للمهاجرين بالمدينة. قال: وحدثنا جرير عن ليث عن عطاء. قال: كان عمر بن الخطاب يأخذ العروض في الصدقة من الدراهم، ولأن المقصود دفع الحاجة ولا يختلف ذلك بعد اتحاد قدر المالية باختلاف صور المال، ولنا قول ابن عمر فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدقة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير، فإذا عدل عن ذلك فقد ترك المفروض وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: في أربعين شاة، شاة. وفي مائتي درهم، خمسة دراهم، وهو وارد لبيان مجمل قوله تعالى: {وآتوا الزكاة} [البقرة: 43] فتكون الشاة المذكورة هي الزكاة المأمور بها والأمر للوجوب إلى آخر ما بسطه ووافق البخاري في ذلك الحنفية فقال بجواز إخراج العروض في الزكاة، إذا كانت بقيمتها إذ ترجم بقوله باب العرض في الزكاة وذكر فيه أثر طاووس المتقدم وغيره من الأحاديث. وقد أجاب الجمهور عن جميع ذلك كما بسطه الحافظ في الفتح. والراجح عندي: أنه لا يجوز القيمة في صدقة الفطر، وزكاة الأموال بل يتعين إخراج ما سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا عند العذر. قال الشوكاني: في السيل الجرار في شرح قول صاحب حدائق الأزهار، إنما تجزيء القيمة للعذر. أقول هذا صحيح لأن ظاهر الأحاديث الواردة بتعين قدر الفطرة من الأطعمة إن إخراج ذلك مما سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - متعين، وإذا عرض مانع من إخراج العين كانت القيمة مجزئة لأن ذلك هو الذي يمكن من عليه الفطرة، ولا يجب عليه ما لا يدخل تحت إمكانه- انتهى. 1832- قوله: (قال) أي ابن عباس والمعنى أنه قال للناس (أخرجوا) أي أدوا (صدقة صومكم) أي صدقة الفطر. والحديث رواه أبوداود والنسائي وغيرهما من طريق حميد الطويل عن الحسن البصري. قال: خطب ابن عباس في آخر رمضان على منبر البصرة. فقال: أخرجوا صدقة صومكم لفظ أبي داود، وللنسائي في رواية عن الحسن، قال: قال ابن عباس وهو أمير البصرة في آخر الشهر أخرجوا زكاة صومكم وفي أخرى له عن الحسن إن ابن عباس، خطب بالبصرة فقال: أدوا زكاة صومكم. ورواه البيهقي (ج4 ص168) بلفظ، قال: أي الحسن خطبنا ابن عباس بالبصرة في آخر رمضان، فقال: "أدوا صدقة صومكم (أو نصف صاع من قمح)

على كل حر أو مملوك ذكر أو أنثى صغير أو كبير)) . رواه أبوداود، والنسائي. ـــــــــــــــــــــــــــــ بفتح القاف وسكون الميم أي بر وبه قال أبوحنيفة، خلافاً للأئمة الثلاثة. والحديث منقطع كما اعترف به ابن التركماني (رواه أبوداود والنسائي) وأخرجه أيضاً أحمد (ج1 ص228) مختصراً و (ج1 ص351) مطولاً والدارقطني (ص225) والبيهقي (ج4 ص168) كلهم من رواية الحسن عن ابن عباس. وقد تكلموا في سماعه من عباس، وجزم كثير من أئمة الحديث كالنسائي وأحمد بن حنبل وابن المديني وأبي حاتم وبهز بن أسد والبزار، بأنه لم يسمع منه أنظر مختصر السنن للمنذري (ج2 ص221) ونصب الراية (ج1 ص90، ج2 ص418) والتهذيب في ترجمة الحسن، والمراسيل لابن أبي حاتم (ص12، 13) والسنن الكبرى للبيهقي (ج4 ص168) قال ابن المديني: لم يسمع الحسن من ابن عباس وما رآه قط كان الحسن بالمدينة أيام ابن عباس بالبصرة وقال أيضاً: في قول الحسن خطبنا ابن عباس بالبصرة قال إنما أراد خطب أهل البصرة كقول ثابت قدم علينا عمران بن حصين ومثل قول مجاهد، خرج علينا علي وكقول الحسن إن سراقة بن مالك حدثهم، وإنما حدث من حدثه وكذا قال أبوحاتم. وقال البزار: في مسنده بعد أن رواه لا يعلم روى الحسن عن ابن عباس غير هذا الحديث ولم يسمع الحسن من ابن عباس، وقوله "خطبنا" أي خطب أهل البصرة ولم يكن الحسن شاهد لخطبته ولا دخل البصرة بعد لأن ابن عباس خطب يوم الجمل، والحسن دخل أيام صفين - انتهى. وقال البزار: أيضاً في مسنده في آخر ترجمة ابن المسيب، أما قول الحسن خطبنا ابن عباس بالبصرة فقد أنكر عليه، لأن ابن عباس كان بالبصرة أيام الجمل، وقدم الحسن أيام صفين فلم يدركه بالبصرة، وتأول قوله خطبنا أي خطب أهل البصرة - انتهى. وقال ابن القيم في تهذيب السنن قال الترمذي: سألت البخاري عن حديث الحسن خطبنا ابن عباس فقال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فرض صدقة الفطر، فقال روى غير يزيد بن هارون عن حميد عن الحسن، خطب ابن عباس فكأنه رأى هذا أصح. قال الترمذي: وإنما قال البخاري هذا لأن ابن عباس كان بالبصرة في أيام علي والحسن البصري في أيام عثمان وعلي كان بالمدينة- انتهى. وقال البيهقي كذا قال محمد بن أبي بكر في روايته عن سهل بن يوسف عن حميد خطبنا. ورواه محمد بن المثنى عن سهل بن يوسف. فقال: خطب وهو أصح- انتهى. قلت: وكذا رواه يزيد بن هارون عند الدارقطني (ص225) وخالفهم العلامة الشيخ أحمد شاكر حيث قال في تعليقه على المنذري، القول بعدم سماع الحسن من ابن عباس وعدم رويته إياه وهم، فإن الحسن عاصر ابن عباس يقيناً ولا يمنع كونه بالمدينة أيام ابن عباس على البصرة سماعه من ابن عباس قبل ذلك أو بعده ويقطع بسماعه منه ولقائه إياه، ما رواه أحمد في مسنده بإسناد صحيح (ج1 ص337) عن ابن سيرين إن جنازة مرت بالحسن وابن عباس، فقام الحسن ولم يقم ابن عباس، فقال الحسن لابن عباس أقام لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: قام وقعد. وقال في شرح هذا الحديث (ج5 ص49، 50) إسناده

1833- (4) وعنه، قال: ((فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم: زكاة الفطر طهراًً لصيام من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ صحيح وهو قاطع في صحة سماع الحسن من ابن عباس فإنه صريح في أنه لقي ابن عباس وسأله وسمع منه - انتهى. قلت: ويدل أيضاً على سماع الحسن منه ما جاء في مسند أبي يعلى الموصلي في حديث عن الحسن. قال: أخبرني ابن عباس. قال صاحب التنقيح: هذا إن ثبت دل على سماعه منه - انتهى. قلت: طرق حديث ابن عباس تدل على أن ابن عباس إنما يريد يبن حكم صدقة الفطر حين ما كان أميراً على البصرة من جهة على، وكان الحسن إذ ذاك بالمدينة لا بالبصرة كما تقدم ابن المديني، إن الحسن كان بالمدينة أيام ابن عباس بالبصرة، وهذا ظاهر في أن الحسن لم يسمع هذا الحديث من ابن عباس وثبوت سماعه منه في الجملة لا يستلزم سماع هذا الحديث منه، وإليه أشار الشيخ أحمد شاكر في شرحه للمسند (ج3 ص318) بقوله نعم قد يمنع الرواية التي يعللونها في قوله خطبنا ابن عباس بالبصرة - انتهى. فالراجح عندي: إن هذا الحديث مرسل وقد اعترف بذلك ابن التركماني (ص169) والقاري وغيرهما من الحنفية. والحديث أخرجه الدارقطني من وجه آخر (ص221) وفيه الواقدي وهو مكشوف الحال ومن وجه أخر فيه سلام الطويل وهو متروك، ومن وجه آخر وفيه يحيى بن عباد وهو منكر الحديث جداً. قال الذهبي في تلخيصه: خبر منكر جداً. قال العقيلي: يحيى بن عباد عن ابن جريج حديثه يدل على الكذب. وقال الدارقطني: ضعيف - انتهى. هذا وقد صحح الشيخ أحمد شاكر سماع ابن سيرين من ابن عباس ورد على من زعم أنه لن يسمع منه أنظر شرحه للمسند (ج3 ص257) . 1833- قوله: (طهراً لصيام) بضم الطاء وسكون الهاء أي تطهير الصوم. وقيل: الصيام جمع صائم كالقيام جمع قائم، وفي المصابيح طهرة للصائم بضم الطاء وبزيادة التاء في آخره، وكذا في ابن ماجه والدارقطني وكذا نقله الحافظ في الفتح والتلخيص والدراية وبلوغ المرام والزيلعي في نصب الراية (ج2 ص411- 416) والمجد في المنتقى والخطابي في المعالم (ج2 ص47) وهكذا وقع في بعض نسخ أبي داود، ووقع في بعضها طهرة للصيام وهكذا عند الحاكم والبيهقي وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج5 ص354) أي تطهيراً لنفس من صام (من اللغو) هو ما لا يعقد عليه القلب من القول قاله ابن الأثير. وقال الطيبي المراد به القبيح (والرفث) الواقع منه في صومه وهو بفتح الراء والفاء. قال ابن الأثير: الرفث ههنا هو الفحش من الكلام. وقال الطيبي: هو في الأصل ما يجري من الكلام بين الرجل والمرأة تحت اللحاف ثم استعمل في كل كلام قبيح - انتهى. فيحمل قوله في تفسير اللغو على القبيح الفعلي أو العطف تفسيري (وطعمة) بضم الطاء وسكون العين وهو الطعام الذي يؤكل (للمساكين) استدل به على أن الفطرة تصرف في المساكين دون غيرهم من مصارف الزكاة وقيل: هي كالزكاة ...

رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ فتصرف في الأصناف الثمانية لعموم قوله تعالى: {إنما الصدقات} [التوبة:60] والتنصيص على بعض الأصناف لا يلزم منه التنصيص، فإنه قد وقع ذلك في الزكاة ولم يقل أحد بتخصيص مصرفها، ففي حديث معاذ أمرت أن آخذها من أغنياءكم وأردها في فقرائكم. قال الخرقي: ويعطي صدقة الفطر لمن يجوز أن يعطى صدقة الأموال. قال ابن قدامة: (ج3 ص78) إنما كانت كذلك لأن صدقة الفطر زكاة فكان مصرفها مصرف سائر الزكات ولأنها صدقة فتدخل في عموم قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} ولا يجوز دفعها إلى من لا يجوز دفع زكاة المال إليه، ولا يجوز دفعها إلى ذمي وبهذا قال مالك والليث والشافعي وأبوثور. وقال أبوحنيفة: يجوز، وعن عمرو بن ميمون وعمرو بن شرحبيل ومرة الهمداني إنهم كانوا يعطون منها الرهبان. ولنا إنها زكاة فلم يجز دفعها لغير المسلمين كزكاة المال، ولا خلاف في أن زكاة المال لا يجوز دفعها إلى غير المسلمين. وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن لا يجزيء أن يعطي من زكاة المال أحد من أهل الذمة - انتهى. واستدل بقوله "طهرة للصائم" على أنها تجب على الفقير كما تجب على الغني. قال الخطابي في المعالم: (ج2 ص47) قد عللت بأنها طهرة للصائم من الرفث واللغو فهي واجبة على كل صائم غني ذي جدة ويسر أو فقير يجدها فضلاً عن قوته إذ كان وجوبها عليه بعلة التطهير وكل من الصائمين محتاجون إليها فإذا اشتركوا في العلة اشتركوا في الوجوب - انتهى. واستدل به من ذهب إلى إسقاطها عن الأطفال لأنهم إذا كانوا لا يلزمهم الصيام فلا يلزمهم طهرة الصيام وقد تقدم الجواب عن هذا. واستدل البيهقي به على أنه لا يؤدي صدقة الفطر عن العبد الكافر الذي يمونه. ووجه الاستدلال أنه عليه السلام جعل صدقة الفطر طهرة وزكاة، والكافر لا يتزكى، ولا يخفى ما في هذا الاستدلال (رواه أبوداود) أخرجه أيضاً ابن ماجه والدارقطني (ص219) والحاكم (ج1 ص409) والبيهقي (ج4 ص163) وسكت عنه أبوداود والمنذري وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وقال الدارقطني: ليس في رواته مجروح - انتهى. وتمام الحديث عندهم من أداها قبل الصلاة (أي صلاة العيد) فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات. قال الشوكاني: يعني التي يتصدق بها في سائر الأوقات وأمر القبول فيها موقوف على مشيئة الله تعالى. والظاهر أن من أخرج الفطرة بعد الصلاة العيد كان كمن لم يخرجها باعتبار اشتراكهما في ترك هذه الصدقة الواجبة. وقد ذهب الجمهور: إلى أن إخراجها قبل الصلاة العيد إنما هو مستحب فقط، وجزموا بأنها تجزيء إلى آخر يوم الفطر، والحديث يرد عليهم - انتهى. وقال ابن القيم بعد ذكر هذا الحديث: وحديث ابن عمر المتقدم بلفظ: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بزكاة الفطر أن تؤدي قبل خروج الناس إلى الصلاة ما لفظه، ومقتضى هذين الحديثين أنه لا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد وإنها

............................. ـــــــــــــــــــــــــــــ تفوت بالفراغ من الصلاة وهذا هو الصواب، فإنه لا معارض لهذين الحديثين ولا ناسخ ولا إجماع يدفع القول بهما، وكان شيخنا يقوي ذلك وينصره. ونظيره ترتيب الأضحية على صلاة الإمام لا على وقتها. وإن من ذبح قبل الصلاة الإمام لم تكن ذبيحته أضحية بل شاة لحم- انتهى. وتقدم عن العيني والحافظ إن ابن حزم ذهب إلى تحريم تأخيرها عن الخروج إلى الصلاة، وحمل الأمر على الوجوب وهذا هو الراجح عندنا واعلم إن لصدقة الفطر خمسة أوقات عند الجمهور. وقت جواز، ووقت وجوب، ووقت فضيلة واستحباب، ووقت كراهة، ووقت حرمة. وأما وقت الجواز: فهو أول شهر رمضان عند الشافعي وأول السنة عند الحنفية على ما هو المشهور عنهم، ويومان قبل العيد عند الملكية، على ما هو المعتمد عندهم وإليه ذهب أكثر الحنابلة. وقال بعضهم: بجواز تقديمها من بعد نصف الشهر. وقال ابن حزم: (ج6 ص143) لا يجوز تقديمها قبل وقتها أصلاً. قال ابن قدامة: (ج3 ص68) يجوز تقديم الفطرة قبل العيد بيومين لا يجوز أكثر من ذلك. وقال ابن عمر: كانوا يعطونها قبل الفطر بيوم أو بيومين. وقال بعض أصحابنا: يجوز تعجيلها من بعد نصف الشهر كما يجوز تعجيل أذان الفجر، والدفع من مزدلفة بعد نصف الليل. وقال أبوحنيفة يجوز تعجيلها من أول الحول لأنها زكاة فأشبهت زكاة المال. وقال الشافعي: يجوز من أول شهر رمضان لأن سبب الصدقة الصوم والفطر عنه، فإذا وجد أحد السببين جاز تعجيلهما كزكاة المال بعد ملك النصاب. ولنا ما روى الجوزجاني عن يزيد بن هارون عن أبي معشر عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم والأمر للوجوب، ومتى قدمها بالزمان الكثير لم يحصل إغناءهم بها يوم العيد. وسبب وجوبها الفطر بدليل إضافتها إليه وزكاة المال سببها ملك النصاب، والمقصود إغناء الفقير بها في الحول كله فجاز إخراجها في جميعه، وهذه المقصود منها في وقت مخصوص فلم يجز تقديمها قبل الوقت. فأما تقديمها بيوم أو بيومين فجائز لما روى البخاري بسنده عن ابن عمر كانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو بيومين، وهذا إشارة إلى جميعهم فيكون إجماعاً، ولأن تعجيلها بهذا القدر لا يخل بالمقصود منها فإن الظاهر إنها تبقى أو بعضها إلى يوم العيد، فيستغني بها عن الطواف والطلب فيه - انتهى. قلت: قال البخاري بعد ذكر قول ابن عمر كانوا يعطون ليجمع لا للفقراء، وروى مالك عن نافع إن ابن عمر كان يبعث بزكاة الفطر إلى الذي تجمع عنده قبل الفطر بيومين أو ثلاثة. قال الحافظ: وأخرجه الشافعي عنه. وقال هذا حسن وأنا استحبه يعني تعجيلها قبل يوم الفطر- انتهى. قال شيخنا في شرح الترمذي: أثر ابن عمر إنما يدل على جواز إعطاء صدقة الفطر قبل الفطر بيوم أو يومين ليجمع لا للفقراء كما قال البخاري. وأما إعطاءها بيوم أو يومين للفقراء فلم يقم عليه دليل- انتهى. قال الحافظ: وبدل على ذلك أي تعجيلها قبل الفطر أيضاً ما أخرجه البخاري في الوكالة وغيرها عن أبي هريرة قال: وكلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظ زكاة رمضان الحديث

{الفصل الثالث}

{الفصل الثالث} 1834- (4) عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((بعث منادياً في فجاج مكة. ـــــــــــــــــــــــــــــ وفيه أنه أمسك الشيطان ثلاث ليال وهو يأخذ من التمر، فدل على أنهم كانوا يعجلونها، وعكسه الجوزقي فاستدل به على جواز تأخيرها عن يوم الفطر وهو محتمل للأمرين- انتهى. وهذا إن دل على التقديم فإنما يدل على جواز تقديمها للجمع لا على الأعطاء للفقراء قبل يوم الفطر. وقال في البدائع: بعد ذكر أقوال الحنفية المختلفة وجوهها، والصحيح أنه لا يجوز التعجيل مطلقاً، وذكر السنة والسنتين في رواية الحسن عن أبي حنيفة ليس على التقدير بل هو لبيان استكثار المدة، أي يجوز وإن كثرت المدة. ووجهه إن الوجوب إن لم يثبت فقد وجب سبب الوجوب، وهو رأس يمونه ويلي عليه، والتعجيل بعد وجوب السبب جائز كتعجيل الزكاة والعشور- انتهى. قلت: القول الراجح عندي هو ما ذهب إليه المالكية وأكثر الحنابلة من جواز تقديمها قبل الفطر بيوم أو يومين لا قبل ذلك والله تعالى اعلم. وأما وقت الوجوب فقد تقدم الكلام عليه وأما وقت الفضيلة. فقبل الخروج لصلاة العيد وهذا عند الأئمة الأربعة وأما وقت الكراهة فتأخيرها عن صلاة العيد إلا لعذر وهذا عند الشافعية والحنابلة. وقال مالك: وذلك واسع إن شاؤا أن يؤدوا قبل الغد ومن يوم الفطر وبعده (أي بعد الغدو) وقد تقدم عن الشوكاني وابن القيم وابن حزم أنه يجب أداءها قبل الخروج إلى الصلاة ويحرم تأخيرها عن الخروج فقبل الصلاة هو وقت وجوب الأداء عندهم لا وقت الفضيلة فقط، وبعد صلاة العيد هو وقت تحريم لا وقت كراهة فقط, وهذا هو الصواب. وأما وقت الحرمة: فتأخيرها عن يوم العيد وهذا عند المالكية والشافعية والحنابلة قال في شرح الإقناع: وهامشه ويحرم تأخيرها عن يوم العيد بلا عذر كغيبة ماله أو المستحقين، فلو أخرها بلا عذر عصى وصارت قضاء فيقضيها وجوباً فوراً- انتهى. وقال ابن قدامة: فإن أخرها عن يوم العيد إثم ولزمه القضاء وحكى عن ابن سيرين والنخعي الرخصة في تأخيرها عن يوم العيد، وروى محمد بن يحيى الكحال قال: قلت لأبي عبد الله فإن أخرج الزكاة ولم يعطها قال نعم، إذا أعدها لقوم. وحكاه ابن المنذر عن أحمد وإتباع السنة أولى- انتهى. وقال في البدائع: أما وقت أداءها: فجميعه العمر عند عامة أصحابنا، ولا تسقط بالتأخير عن يوم الفطر لأن الأمر بأداءها مطلق عن الوقت فيجب في مطلق الوقت غير معين، وإنما يتعين بتعيينه فعلاً أو بآخر العمر كالأمر بالزكاة والعشر والكفارات وغير ذلك، وفي أي وقت أدى كان مؤدياً لا قاضياً كما في سائر الوجبات الموسعة غير أن المستحب أن يخرج قبل الخروج إلى المصلى- انتهى. 1834-قوله: (بعث منادياً) زاد في رواية الدارقطني بعده ينادي (في فجاج مكة) بكسر الفاء جمع فج

ألا أن صدقة الفطر واجبة، على كل مسلم، ذكر أو أنثى، حر أو عبد، صغير أو كبير، مدان من قمح، أو سواه، أو صاع من طعام)) . رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو الطريق الواسع (مدان من قمح) أي هي مدان من حنطة فهو مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف (أو سواه) أي من غير القمح وأو للتخيير وقيل: للتنويع (أو صاع من طعام) كذا في جميع النسخ الموجودة الحاضرة عندنا. قال القاري: قوله أو صاع شك من الراوي وقوله"من طعام" أي سوى القمح وهو يؤيد التأويل الذي قدمناه من أن الطعام يراد به المعنى الأعم. وقال ابن حجر: شك في أي اللفظين سمع - انتهى. وهو يحتمل أن يكون بدلاً من قوله "مدان أو سواه" انتهى كلام القاري. وقال الشيخ الدهلوي: في أشعة اللمعات: (أو سواه) أي أو سوى القمح من الزبيب كما هو مذهب الإمام أبي حنيفة (أو صاع من طعام) أو للشك من الراوي إن كان المراد بالطعام القمح وللتنويع إن كان المراد به غير القمح- انتهى كلامه معرباً. قلت: كل هذا وهم وتكلف والحق إن لفظة أو قبل قوله "صاع" خطأ من النساخ، والدليل عليه أن نسخ الترمذي كلها متفقة على إسقاطها ولفظها أو سواه صاع من طعام ومعناه واضح جداً، وقوله "من طعام" بيان لقوله سواه كما يدل عليه رواية الدارقطني مدان من قمح أو صاع مما سواه من الطعام (رواه الترمذي) وأخرجه أيضاً الدارقطني (ص220) كلاهما من طريق سالم بن نوح عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب، قال الترمذي: حديث حسن غريب، وأعله ابن الجوزي في التحقيق بسالم بن نوح قال. قال ابن المعين: ليس بشيء وتعقبه صاحب التنقيح فقال هو صدوق روى له مسلم في صحيحه. وقال أبوزرعة: صدوق ثقة وثقة ابن حبان. وقال النسائي: ليس بالقوى. وقال الدارقطني: فيه شيء. وقال ابن عدي: عند غرائب وأفراد وأحاديثه مقاربة مختلفة ذكره الزيلعي (ج2 ص420) . وقال الحافظ في الدراية: (ص169) ورواه الدارقطني من وجه أخر عن عمرو بن شعيب. وقد اختلف فيه على عمرو فقيل: عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: عنه بلغني إن النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى. قلت: وله طريق رابع أخرجه الدارقطني والبيهقي (ج4 ص173) من رواية المعتمر بن سليمان عن علي بن صالح عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ومدار هذه الطرق الأربعة على ابن جريج وهو مدلس وصفه بالتدليس ابن حبان والنسائي وغيرهما. قال الدارقطني: تجنب تدليس ابن جريج فإنه قبيح التدليس لا يدلس إلا فيما سمعه من مجروح وذكره الحافظ في المرتبة الثالثة في طبقات المدلسين، ولم يصرح ابن جريج هنا بالسماع. وقال الترمذي. قال محمد ابن إسماعيل: لم يسمع ابن جريج من عمرو بن شعيب كذا في تهذيب التهذيب (ج6 ص405) وقال البيهقي (ج4 ص173) بعد الإشارة إلى طريق سالم بن نوح. قال أبوعيسى الترمذي: سألت محمداً يعني البخاري عن هذا الحديث فقال: ابن جريج لم يسمع من عمرو بن شعيب - انتهى.

1835- (5) وعن عبد الله بن ثعلبة، أو ثعلبة بن عبد الله بن أبي صعير عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صاع من بر، أو قمح عن كل اثنين ـــــــــــــــــــــــــــــ 1835- قوله: (وعن عبد الله بن ثعلبة أو ثعلبة بن عبد الله بن أبي صعير) بمهملتين مصغراً (عن أبيه) قال الحافظ في تهذيب التهذيب: في حرف العين المهملة عبد الله بن ثعلبة بن صعير، ويقال ابن أبي صعير مسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجهه ورأسه زمن الفتح ودعا له، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أبيه (أي ثعلبة بن صعير) وعمر وعلي وسعد وأبي هريرة وجابر، وروى عنه الزهري وأخوه عبد الله بن مسلم وسعد بن إبراهيم وغيرهم. قال ابن سعد: كان أبوثعلبة بن صعير شاعراً وكان حليفاً لبني زهرة، وقال الحاكم: أبوأحمد، أبومحمد عبد الله بن ثعلبة بن صعير. قيل: إنه ولد قبل الهجرة (بأربع سنين) وقيل بعدها وتوفي سنة سبع. وقيل: سنة تسع وثمانين وهو ابن (83) سنة. وقيل: ابن (93) سنة. وقيل: غير ذلك في تاريخ وفاته ومبلغ سنة. وقال ابن السكن: يقال له صحبة وحديثه في صدقة الفطر مختلف فيه وصوابه مرسل، وليس يذكر في شيء من الروايات الصحيحة سماع عبد الله من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا حضوره إياه. وقال أبوحاتم: قد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو صغير. وقال البخاري في التاريخ: عبد الله بن ثعلبة بن صعير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسل، إلا أن يكون عن أبيه وهو أشبه وزعم ابن حزم إن عبد الله بن ثعلبة مجهول - انتهى مختصراً. وقال في التقريب. عبد الله بن ثعلبة بن صعير بمهملتين مصغراًَََََََ، ويقال ابن أبي صعير له رؤية، ولم يثبت له سماع، مات سنة سبع أو تسع وثمانين وقد قارب التسعين. وقال: في حرف المثلثة من تهذيبه ثعلبة بن صعير، ويقال ابن عبد الله بن صعير ويقال ابن أبي صعير، ويقال عبد الله بن ثعلبة بن صعير العذري له حديث واحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صدقة الفطر. وروى عنه ابنه عبد الله وفيه خلاف كثير أخرجه أبوداود على الاختلاف فيه. قال يحيى بن معين: ثعلبة بن عبد الله بن أبي صعير، وثعلبة بن أبي مالك (القرظي) جميعاً قد رأيا النبي - صلى الله عليه وسلم -. قلت: (قائله الحافظ) . وقال الدارقطني: الصواب فيه عبد الله بن ثعلبة بن أبي صعير لثعلبة صحبة ولعبد الله رؤية والله أعلم- انتهى. وقال في التقريب: ثعلبة بن صعير أو ابن أبي صعير العذري بضم المهملة وسكون المعجمة. ويقال ثعلبة بن عبد الله بن صعير، ويقال عبد الله بن ثعلبة بن صعير مختلفي صحبته (صاع من بر) أي صدقة الفطر صاع موصوف بأنه من بر (أو قمح) أو للشك من روايه حماد بن زيد كما في مسند الإمام أحمد (ج5 ص432) (عن كل اثنين) كذا في جميع النسخ وكذا نقله الخطابي في المعالم، وفي نسخ أبي داود على كل اثنين. وكذا نقله الزيلعي في نصب الراية يعني مجزيء عن كل اثنين، وفيه حجة لمذهب من أجاز نصف الصاع ممن البر، لكن الحديث مضطرب، فقد وقع في بعض الروايات عند الدارقطني وغيره صاع من قمح عن كل رأس،

صغير أو كبير، حر أو عبد، ذكر أو أنثى، أما أغنيكم فيزكيه الله. وأما فقيركم فيرد عليه أكثر مما أعطاه)) . رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ وفي بعضها عن كل إنسان وفي بعضها نصف صاع من قمح (صغير أو كبير حراً أو عبد ذكر أو أنثى) زاد في رواية غني أو فقير (أما غنيكم) تفصيل لعلة وجوب صدقة الفطر (فيزكيه الله) التزكية بمعنى التطهير أو التنمية فالمناسب لحال الغني التطهير من الإمساك وبحال الفقير التنمية فيما أبقاه من القوت وهذا على أن يكون الفقير ممن يملك قوته قاله الطيبي: (وأما فقيركم) المراد به من يكملك صدقة الفطر زيادة على قوت نفسه وعياله ليوم العيد، وليلته (فيرد) أي الله (عليه أكثر مما أعطاه) أي هو المساكين. قال القاري: وفي نسخة بصيغة المجهول في فيرد وبرفع أكثر والأول أكثر - انتهى. قلت: في سنن أبي داود فيرد الله وكذا وقع عند الدارقطني والبيهقي وغيرهما، وكذا نقله الجزري والزيلعي. قال الخطابي في المعالم (ج2 ص52) : وفيه بيان أنها تلزم الفقير إذا وجد ما يؤديه ألا تراه يقول "وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطاه" فقد أوجب عليه أن يؤديها عن نفسه مع إجازته له أن يأخذ صدقة غيره - انتهى. وأجاب القاري عنه بأن المراد بالفقير الفقير بالإضافة إلى أكابر الأغنياء. وقال بعضهم: أو يقال إن الفقير إذا أعطى متطوعاً من غير أن يجب عليه يرد الله عليه أكثر مما أعطى ولا يخفى ما فيه من التكلف (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً أحمد (ج5 ص432) والدارقطني (ص223) والطحاوي (ج1 ص320) والبيهقي (ج4 ص163، 164) وسكت عنه أبوداود. وقال المنذري في إسناده، النعمان بن راشد، ولا يحتج بحديثه - انتهى. قلت النعمان بن راشد هذا ضعفه يحيى بن القطان وابن معين وأبوداود والنسائي. وقال أحمد: مضطرب الحديث روى أحاديث مناكير. وقال: مهنأ ذكرت لأحمد حديث ثعلبة بن أبي صعير في صدقة الفطر نصف الصاع من بر، فقال ليس بصحيح. إنما هو مرسل يرويه معمر وابن جريج عن الزهري مرسلاً. قلت من قِبَل من هذا. قال: من قبل النعمان بن راشد وليس بالقوى في الحديث وضعف حديث ابن أبي صعير- انتهى. وقال البخاري: وأبوحاتم في حديثه وهم كثيرون وهو في الأصل صدوق. وقال ابن أبي حاتم: أدخله البخاري في الضعفاء فسمعت أبي يقول يحول عنه وذكره ابن حبان في الثقات. وقال النسائي: مرة صدوق فيه ضعف، وقال ابن معين: ضعيف مضطرب الحديث. وقال: مرة ثقة. وقال العقيلي: ليس بالقوى يعرف فيه الضعف. وقال ابن عدي: قد احتمله الناس روى عنه الثقات وله نسخة عن الزهري لا بأس به. وقال الحافظ في التقريب: صدوق سيء الحفظ- انتهى. وللحديث طرق أخرى عند أحمد وأبي داود والدارقطني وعبد الرزاق والطبراني والحاكم والبيهقي ذكرها الزيلعي (ج2 ص407) ومدار جميع طرق هذا الحديث على الزهري عن عبد الله بن ثعلبة. وقد اختلف عليه في إسناده ومتنه، وقد أوضح هذا الاختلاف الدارقطني في علله. ونقله عنه في نصب الراية. وقال ابن التركماني

(3) باب من لا تحل له الصدقة

(3) باب من لا تحل له الصدقة {الفصل الأول} 1836- (2) عن أنس، قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتمرة في الطريق، فقال: ((لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ في الجوهر: النقي هو حديث اضطراب إسناداً ومتناً وقد بين البيهقي بعض ذلك، وقال ابن عبد البر: هذا حديث مضطرب لا يثبت وليس دون الزهري في هذا الحديث من تقوم به حجة، واختلف عليه فيه أيضاً - انتهى. فإن قلت: روى عبد الرزاق ومن طريقه الدارقطني (ص224) والطبراني عن ابن جريج عن الزهري عن عبد الله ابن ثعلبة. قال: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس قبل الفطرة بيوم أو يومين، فقال أدوا صاعاً من بر أو قمح بين اثنين- الحديث. وهذا سند صحيح قوي كما قال الزيلعي (ج2 ص407) قلت: قد تقدم إن حديث عبد الله بن ثعلبة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسل، وفيه أيضاً ابن جريج وهو مدلس وقد عنعن، وعارضه رواية بكر بن وائل عن الزهري عند الدارقطني (ص223) بلفظ: صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير عن كل واحد أو عن كل رأس أو صاع قمح ففي صحة طريق عبد الرزاق نظر. (باب من لا تحل له الصدقة) قال في اللمعات: الظاهر إن معناه من لا يحلله أكل الصدقات وقد يجعل العنوان"باب من لا يجوز دفع الزكاة إليه" والمآل واحد، لكنه يختلف المعنى في مادة الكافر، فإنه لا يجوز دفع الزكاة إليه يعني لا يبرأ الذمة بأدائها إليه، ولا يبحث من عدم حلها له ويصدق المعنيان في مثل بني هاشم فافهم. 1836- قوله: (مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتمرة) أي ملقاة (في الطريق فقال: لولا إني أخاف أن تكون من الصدقة) أي من تمرها (لأكلتها) فتركها تنزها لأجل الشبهة وهو احتمال كونها من الصدقة. والحديث ظاهر في جواز أكل ما يوجد من المحقرات ملقي في الطرقات، لأنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر أنه لم يمتنع من أكلها إلا تورعاً لخشية أن تكون من الصدقة التي حرمت عليه لا لكونها مرمية في الطريق فقط. وقد أوضح ذلك ما روى البخاري عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي، فأرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها، فإنه ظاهر في أنه ترك أخذها تورعاً لخشية أن تكون صدقة فلو لم يخش ذلك لأكلها ولم يذكر تعريفاً. فدل على أن مثل ذلك يملك بالأخذ ولا يحتاج إلى تعريف وفيه تحريم قليل الصدقة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويؤخذ منه تحريم كثيرها من باب الأولى. قال النووي: فيه تحريم الصدقة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه لا فرق بين صدقة الفرض

متفق عليه. 1837- (2) وعن أبي هريرة، قال أخذ الحسن بن علي، تمرة من تمر الصدقة، فجعلها في فيه. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((كخ كخ ـــــــــــــــــــــــــــــ والتطوع لقوله - صلى الله عليه وسلم -: الصدقة بالألف واللام وهي تعم النوعين ولم يقل الزكاة وفيه استعمال الورع لأن هذه التمرة لا تحرم بمجرد الاحتمال لكن للورع تركها. قال الخطابي: هذا أصل في الورع وفي أن كل ما لا يستبينه الإنسان من شئ طلقاً لنفسه فإنه يجتنبه ويتركه وفيه إن التمرة ونحوها من محقرات الأموال لا يجب تعريفها بل يباح أكلها، والتصرف فيها في الحال لأنه صلى الله عليه وسلم: إنما تركها خشية أن تكون من الصدقة لا لكونها لقطة، وهذا الحكم متفق عليه وعللوه بأن صاحبها في العادة لا يطلبها ولا يبقى له فيها مطمع وقد استشكل بعضهم تركه - صلى الله عليه وسلم - التمرة في الطريق مع أن الإمام يأخذ المال الضائع للحفظ وأجيب باحتمال أن يكون أخذها كذلك لأنه ليس في الحديث ما ينفيه لو تركها عمداً لينتفع بها من يجدها ممن تحل له الصدقة. وإنما يجب على الإمام حفظ المال الذي يعلم تطلع صاحبه له، لا ما جرت به العادة بالإعراض عنه لحقارته. هذا وقد روى أحمد من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. قال: تضرر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فقيل له ما أسهرك قال: إني وجدت تمرة ساقطة فأكلتها ثم ذكرت تمراً كان عندنا من تمر الصدقة، فما أدري أمن ذلك كانت التمرة أو من تمر أهلي فذلك أسهرني. قال الحافظ هو محمول على التعدد وأنه لما اتفق له أكل التمرة كما في هذا الحديث وأقلقه ذلك صار بعد ذلك إذا وجد مثلها مما يدخل التردد تركه إحتياطاً، ويحتمل أن يكون في حالة أكله إياها كان في مقام التشريع، وفي حال تركه كان في خاصة نفسه. وقال المهلب: إنما تركها - صلى الله عليه وسلم - تورعاً وليس بواجب، لأن الأصل إن كل شئ في بيت الإنسان على الإباحة حتى يقوم دليل على التحريم. (متفق عليه) أخرجه البخاري في أوائل البيوع وفي اللقطة، ومسلم في الزكاة وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود في الزكاة والبيهقي في قسم الصدقات. 1837- قوله: (وعن أبي هريرة قال أخذ الحسن) وفي رواية لأحمد قال (أي أبوهريرة) كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقسم تمراً من الصدقة والحسن في حجره (فجعلها في فيه) أي فمه زاد أبومسلم الكجي فلم يفطن له النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى قام ولعابه يسيل، فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - شدقه، وفي رواية أحمد المتقدمة. فلما فرغ حمله على عاتقه فسال لعابه فرفع رأسه فإذا تمرة في فيه (كخ كخ) بفتح الكاف وكسرها وسكون الخاء المعجمة وبكسرها منونة وغير منونة فتصير ست لغات والثانية تأكيد للأولى، وهي كلمة تقال لردع الصبي وزجره عند تناوله ما يستقذر، بمعنى أتركه وأرم به، قال ابن مالك: إنها من أسماء الأفعال، وفي التحفة إنها من أسماء الأصوات وبه قطع ابن هشام

ليطرحها، ثم قال: أما شعرت؟ إنا لا نأكل الصدقة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ في حواشيه على التسهيل. قيل: هي عربية. وقيل: أعجمية. وزعم الدوادي أنها معربة بمعنى بئس. وقد أشار إلى هذا البخاري بقوله في ترجمة باب من تكلم بالفارسية والرطانة (ليطرحها) أي التمرة من فيه زاد مسلم إرم بها وفي رواية عند أحمد فنظر إليه فإذا هو يلوك تمرة فحرك خده. وقال: القها يا بني ويجمع بين هذا وبين قوله كخ كخ بأنه كلمة أولاً بهذا، فلما تمادى قاله له: كخ كخ إشارة إلى استقذار ذلك له، ويحتمل العكس بأن يكون كلمه أولاً بذلك فلما تمادى نزعها من فيه (ثم قال أما شعرت) أي أما علمت كما في رواية مسلم، وفي رواية للبخاري أما تعرف، وهذا يقال عند الأمر الواضح التحريم وإن لم يكن المخاطب بذلك عالماً أي كيف خفى عليك هذا مع ظهور تحريمه وهو أبلغ في الزجر من قوله لا تفعله (إنا لا نأكل الصدقة) في رواية لمسلم إنا لا تحل لنا الصدقة، وفي رواية لأحمد إن الصدقة لا تحل لآل محمد وكذا عند أحمد والطحاوي من حديث الحسن بن علي نفسه، قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فمر علي جرين من تمر الصدقة فأخذت منه تمرة فألقيتها في فأخذها بلعابها فقال: إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة قال الحافظ: وإسناده قوي والحديث يدل على أن الطفل يجنب الحرام كالكبير ويعرف لأي شيء نهى عنه لينشأ على العلم فيأتي عليه وقت التكليف وهو على علم من الشريعة وفيه دليل على تحريم لصدقة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله. واختلف في المراد بالآل هنا. فقال الشافعي وجماعة من العلماء: إنهم بنو هاشم بن عبد مناف بن قصي وبنو المطلب بن عبدمناف. وقال أبوحنيفة ومالك: هم بنو هاشم خاصة. وأما بنو المطلب فيجوز لهم الأخذ من الزكاة، وعن أحمد روايتان كالمذهبين. وقيل: هم قريش كلها. وقال أصبغ المالكي: هم بنو قصي والمراد ببني هاشم آل علي وعقيل وجعفر أولاد أبي طالب عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وآل العباس. والحارث ابني عبد المطلب جد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يدخل في ذلك آل أبي لهب لأن حرمة الصدقة أولاً في الآباء إكراماً لهم، حيث نصروه صلى الله عليه وسلم في جاهليتهم وإسلامهم ثم سرت إلى الأولاد ولا إكرام لأبي لهب. واستدل الشافعي لمذهبه بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشرك بني المطلب مع بني هاشم في سهم ذوى القربى ولم يعط أحداً من قبائل قريش غيرهم، كما يدل عليه حديث جبير بن مطعم الآتي، وتلك العطية عوض عوضوه بدلاً عما حرموه من الصدقة. وأجيب عن ذلك بأنه إنما أعطاهم ذلك لموالاتهم لا عوضاً عن الصدقة، قال الأمير اليماني: الأقرب في المراد بالآل ما فسرهم به زيد بن أرقم (عند مسلم في المناقب في قصة طويلة) بأنه آل علي وآل العباس وآل جعفر وآل عقيل-انتهى. قال: ويزيد آل الحرث بن عبد المطلب لحديث عبد المطلب بن ربيعة الذي يأتي بعد هذا، فهذا تفسير الراوي وهو مقدم على تفسير غيره فالرجوع إليه في تفسير آل محمد هنا هو الظاهر. لأن لفظ الآل مشترك، وتفسير رواية دليل على المراد منه وكذلك يدخل في تحريم الزكاة عليهم بنو المطلب بن عبد مناف كما

.................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ يدخلون معهم في قسمة الخمس، كما يفيده حديث جبير بن مطعم. قال مشيت أنا وعثمان بن عفان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: يا رسول الله! أعطيت بني المطلب من خمس خيبر، وتركتنا ونحن وهم بمنزلة واحدة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد أخرجه البخاري. قال الأمير: هذا الحديث دليل على أن بني المطلب يشاركون بني هاشم في سهم ذوى القربى وتحريم الزكاة أيضاً دون من عداهم، وإن كانوا في النسب سواء. وعلله - صلى الله عليه وسلم - بإستمرارهم على الموالاة كما في لفظ آخر تعليله "بأنه لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام" فصاروا كالشيء الواحد في الأحكام وهو دليل واضح في ذلك، وإليه ذهب الشافعي وخالفه الجمهور (أبوحنيفة ومالك وأحمد في رواية) وقالوا: إنه - صلى الله عليه وسلم - أعطا بني المطلب على جهة التفضل لا الاستحقاق وهو خلاف الظاهر. بل قوله شيء واحد دليل على أنهم يشاركونهم في استحقاق الخمس وتحريم الزكاة-انتهى. واعلم أن ظاهر قوله "لا تحل لنا الصدقة" إنه يحرم على النبي - صلى الله عليه وسلم - صدقة الفرض والتطوع وهو الحق، وقد نقل فيه غير واحد منهم الخطابي الإجماع، لكن حكى غير واحد عن الشافعي في التطوع قولاً، وكذا في رواية عن أحمد لكن قال ابن قدامة: ليس ما نقل عنه من ذلك بواضح الدلالة. واختلف هل كان تحريم الصدقة من خصائصه دون الأنبياء أو كلهم سواء في ذلك وأما آل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال ابن قدامة: لا نعلم خلافاً في أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة وكذا حكى الإجماع ابن رسلان، وروى أبوعصمة عن أبي حنيفة جواز دفعها إلى الهاشمي في زمانه. قال الطحاوي: هذه الرواية عن أبي حنيفة ليست بالمشهورة، وروى عنه وعن أبي يوسف يحل من بعضهم لبعض لا من غيرهم. قال الحافظ: وعند المالكية في ذلك أربعة أقوال مشهورة، الجواز، المنع، جواز التطوع دون الفرض، عكسه والأحاديث الدالة على التحريم على العموم ترد على الجميع. وقد قيل: إنها متواترة تواتراً معنوياً ويؤيده قوله تعالى {قل ما أسألكم عليه من أجر} [الفرقان:57] وقوله {قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى} [الشورى:23] ولو أحلها لآله، لأوشك أن يطعنوا فيه ولقوله تعالى {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} [التوبة:103] وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - الصدقة أوساخ الناس كما سيأتي ويؤخذ من هذا جواز التطوع دون الفرض وهو قول أكثر الحنفية والمصحح عند الشافعية والحنابلة، لأن المحرم عليهم إنما هو أوساخ الناس وذلك هو الزكاة لا صدقة التطوع. وقال أبويوسف: أنها تحرم عليه كصدقة الفرض لأن الدليل لم يفصل. وقال الطحاوي في شرح معاني الآثار: والنظر أيضاً يدل على استواء حكم الفرائض والتطوع في ذلك أي في التحريم، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وقد اختلف في ذلك عن أبي حنيفة فروى عنه أنه قال: لا بأس بالصدقات كلها على بني هاشم ثم بين الطحاوي وجه هذه الرواية ثم قال: وقد حدثني سلمان بن شعيب عن أبيه عن محمد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة في ذلك

متفق عليه. 1838- (3) وعن عبد المطلب بن ربيعة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس، ـــــــــــــــــــــــــــــ مثل قول أبي يوسف، فبهذا نأخذ – انتهى. وهذا صريح في أن الطحاوي ما اختار رواية الحل عن أبي حنيفة بل أخذ بالرواية التي وافقت قول أبي يوسف وهي ظاهر الرواية التي ذكرها أولاً من استواء حكم التحريم في الفريضة والتطوع (متفق عليه) وأخرجه أحمد والبيهقي أيضاً. 1838- قوله: (وعن عبد المطلب) بضم الميم وفتح الطاء المهملة المشددة وكسر اللام المخففة (بن ربيعة) ابن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي صحابي. قال ابن عبد البر: كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: رجلاً ولم يغير رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه فيما علمت سكن المدينة. ثم انتقل إلى الشام في خلافة عمر ومات في أمرة يزيد بن معاوية بدمشق سنة (62) قال الحافظ قال العسكري: هو المطلب بن ربيعة هكذا يقول أهل البيت، وأصحاب الحديث يختلفون فمنهم، من يقول المطلب بن ربيعة ومنهم من يقول، عبد المطلب. وقال البغوي: عبد المطلب. ويقال المطلب. وقال الطبراني: الصواب المطلب وذكر أنه توفي سنة (61) -انتهى. (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي حينما أتى إليه عبد المطلب يطلب منه أن يجعله عاملاً على بعض الزكاة. فقال: له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث. وفيه قصة (إن هذه الصدقات) أي أنواع الزكاة وأصناف الصدقات (إنما هي أوساخ الناس) الجملة خبر لقوله "هذه" كما في قوله تعالى {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجراً من أحسن عملاً} [الكهف:30] قال النووي: هو تنبيه على العلة في تحريمها على بني هاشم وبني المطلب، وأنه لكرامتهم وتنزيههم من الأوساخ ومعنى أوساخ الناس إنها تطهير لأموالهم ونفوسهم كما قال الله تعالى {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} [التوبة:103] فهي كغسالة الأوساخ. وقال الشاه ولي الله الدهلوي: إنما كانت أوساخاً لأنها تكفر الخطايا وتدفع البلاء وتقع فداء عن العبد في ذلك، فيتمثل في مدارك الملأ الأعلى إنها هي وهذا يسمى عندنا بالوجود التشبيهي فتدرك بعض النفوس العالية، إن فيها ظلمة وأيضاً فإن المال الذي يأخذه الإنسان من غير مبادلة عين أو نفع ولا يراد به احترام وجهه فيه ذلة ومهانة، ويكون لصاحب المال عليه فضل ومنة وهو قوله صلى الله عليه وسلم، اليد العليا خير من اليد السفلى، فلا جرم إن التكسب بهذا النوع شر وجوه المكاسب لا يليق بالمطهرين والمنوه بهم في الملة - انتهى. وقال السنوسي: لما كانت الصدقات أوساخ الناس ولهذا حرمت عليه - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله فيكف أباحها لبعض أمته. ومن كمال إيمان المرء أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه. قلت: ما أباحها لهم عزيمة بل

وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد)) . رواه مسلم. 1839- (4) وعن أبي هريرة قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى بطعام سأل عنه "أهدية أم صدقة" فإن قيل: صدقة، قال لأصحابه: "كلوا" ولم يأكل، وإن قيل: هدية، ضرب بيده فأكل معهم)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ اضطراراً وكم أحاديث تراها ناهية عن السؤال فعلى الحازم أنيراها كالميتة {فمن اضطر عير باغ ولا عاد فلا إثم عليه} [البقرة:173] (وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد) فيه أيضاً دليل على تحريم الزكاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وإنها كانت محرمة عليهم سواء كانت بسبب العمل أو بسبب الفقر، والمسكنة وغيرها من الأسباب الثمانية وهذا هو الصحيح عندنا، وإليه ذهب الجمهور وجوز بعض الشافعية لبني هاشم ولبني المطلب العمل عليها بسهم العامل لأنه إجازة. قال النووي: وهذا ضعيف أو باطل وهذا الحديث صريح في رده (رواه مسلم) في الزكاة في قصة طويلة، وأخرجه أيضاً أحمد (ج4:ص166) وأبوداود في الخراج والنسائي في الزكاة مطولاً ومختصراً، ورواه الطبراني في الكبير بسند فيه كلام عن ابن عباس فذكر القصة مختصرة وفي آخره فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه لا يحل لكم أهل البيت من الصدقات شيء، إنما هي غسالة الأيدي إن لكم في خمس الخمس لما يغنيكم - انتهى. 1839- قوله: (إذا أتى بطعام) أي جيء به زاد أحمد وابن حبان من غير أهله (سأل عنه) أي عن الطعام (أهدية أم صدقة) بالرفع أي هو صدقة (قال لأصحابه) أي من غير آله (كلوا ولم يأكل) لأنها حرام عليه (وإن قيل هدية) بالرفع (ضرب بيده) أي شرع في الأكل مسرعاً، ومثله ضرب في الأرض إذا أسرع فيها قاله الحافظ: وقيل أي مد يده إليه من غير تحام عنه تشبيهاً للمد بالذهاب سريعاً في الأرض فعداه بالباء كما يقال ذهب به (فأكل معهم) فارقت الصدقة الهدية حيث حرمت عليه تلك، وحلت له هذه بأن الصدقة ما ينفق على الفقراء، ويراد به ثواب الآخرة ولا يكافيء في الدنيا فيبقى المنة عليه، وفيه عز للمعطى وذل للمعطى له والهدية يراد بها إكرام المهدي إليه والتقرب إليه، وتنفق على الأغنياء. وفيها غاية العزة والرفعة ويثاب عليها في الدنيا فيزول المنة البتة. وأيضاً لما كان صلى الله عليه وسلم آمراً بالصدقات ومرغباً في المبرات فتنزه عن الأخذ منها براءة لساحته عن الطمع فيها، وعن التهمة بالحث عليها، ولذا قال: تؤخذ من أغيناءهم وترد على فقراءهم إيماء إلى أن المصلحة راجعة إليهم وأنه سفير محض مشفق عليهم، وفي الحديث استعمال الورع والفحص عن أصل المآكل والمشارب

متفق عليه. 1840- (5) وعن عائشة، قال: كان في بريرة ثلاث سنن: ـــــــــــــــــــــــــــــ (متفق عليه) أخرجه البخاري في الهبة ومسلم في الزكاة، واللفظ للبخاري وأخرجه أحمد وابن حبان والبيهقي أيضاً وأخرجه الترمذي والنسائي والبيهقي أيضاً من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده. 1840- قوله: (كان في بريرة) أي حصل بسببها وهي مولاة عائشة أم المؤمنين صحابية مشهورة وبريرة بفتح الموحدة وكسر الراء الأولى بوزن كريمة مشتقة من البرير وهو ثمر الأراك. وقيل: إنها فعيلة من البر بمعنى مفعولة كمبرورة، أو بمعنى فاعلة كرحيمة هكذا وجهه القرطبي. والأول أولى لأنه صلى الله عليه وسلم غير إسم جويرية، وكان إسمها برة. وقال: لا تزكوا أنفسكم فلو كانت بريرة من البر لشاركتها في ذلك، وكانت بريرة لقوم من الأنصار. وقيل لناس: من بني هلال فكاتبوها ثم باعوها فاشترتها عائشة ثم أعتقتها وكانت تخدم عائشة قبل أن تشتريها، وكانت حال عتقها متزوجة عبداً، اسمه مغيث كما في البخاري، عاشت إلى زمن يزيد بن معاوية وتفرست في عبد الملك بن مروان أنه يلي الخلافة فبشرته بذلك وروى هو ذلك عنها (ثلاث سنن) بضم السين وفتح النون الأولى أي علم بسببها ثلاثة أحكام من الشريعة. وهذا لفظ البخاري ولمسلم ثلاث قضيات، وفي حديث ابن عباس عند أحمد وأبي داود قضى فيها النبي صلى الله عليه وسلم أربع قضيات فذكر نحو حديث عائشة وزاد، وأمرها أن تعتد عدة الحرة أخرجه الدارقطني وهذه الزيادة لم تقع في حديث عائشة فلذلك اقتصرت على ثلاث لكن أخرج ابن ماجه بسند على شرط الشيخين عن عائشة قالت: أمرت بريرة أن تعتد بثلاث حيض وهذا مثل حديث ابن عباس في قوله: "تعتد عدة الحرة" ولا يخالف قول عائشة ثلاث سنن، ما قال ابن بطال أنه أكثر الناس في تخريج الوجوه في حديث بريرة حتى بلغوها نحو مائة، وما قال النووي أنه صنف فيه ابن خزيمة وابن جرير تصنيفين كبيرين أكثرا فيهما من استنباطاً لفوائد منها، وما قال الحافظ إن بعض المتأخرين أوصل فوائد حديث بريرة إلى أربع مائة لأن مراد عائشة، ما وقع من الأحكام فيها مقصوداً خاصة لكن لما كان كل حكم منها يشتمل على تقعيد قاعدة يستنبط العالم الفطن منها فوائد جمة، وقع التكثر من هذه الحيثية وانضم إلى ذلك ما وقع في سياق القصة غير مقصود، فإن في ذلك أيضاً فوائد تؤخذ بطريق التنصيص أو الإستنباط أو اقتصر على الثلاث أو الأربع لكونها أظهر ما فيها وما عداها إنما يؤخذ بطريق الاستنباط أو لأنها أهم، والحاجة إليها أمس. قال القاضي عياض: حديث بريرة كثيرة السنن والعلم والآداب ومعنى ثلاث أو أربع إنها شرعت في قصتها وعند وقوع قضيتها وما يظهر فيها مما سوى ذلك، فكان قد علم قبل ذلك من غير قصتها، وهذا أولى من قول من قال ليس في كلام عائشة حصر، ومفهوم العدد ليس بحجة، وما أشبه ذلك من الاعتذارات التي لا تدفع

إحدى السنن إنها عتقت فخيرت في زوجها، ـــــــــــــــــــــــــــــ سؤال ما الحكمة في الاقتصار على ذلك قاله الحافظ (إحدى السنن) الثلاث (إنها عتقت) بفتح العين والتاء، وفي رواية أعتقت بضم الهمزة وكسر التاء من الاعتاق وأعتقتها عائشة (فخيرت) بضم الخاء المعجمة مبنياً للمفعول (في زوجها) مغيث أي صارت مخيرة بين أن تفارق زوجها وأن تدوم وتبق تحت نكاحه. وكان عبداً يوم أعتقت فاختارت نفسها، وفي رواية للبخاري فدعاها النبي صلى الله عليه وسلم فخيرها من زوجها فاختارت نفسها، وفي رواية للدارقطني إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبريرة: اذهبي فقد عتق معك بضعك، زاد ابن سعد من طريق الشعبي مرسلاًً فأختارى. فالمرأة إذا كانت أمة وزوجها عبد فعتقت تكون مخيرة إن شاءت فسخت، وإن شاءت لا، وهذا أمر مجمع عليه. وأما إذا كانت الأمة تحت حر فعتقت ففيه خلاف بين العلماء. فقال الجمهور: لا يكون لها خيار إلا إذا كان زوجها عبداً عندما عتقت لتضررها بالمقام تحته من جهة أنها توقير به. وإن لسيده منعه عنها وإنه لا ولاية له على ولده وغير ذلك بخلاف ما إذا أعتقت تحت حر، لأن الكمال الحادث لها حاصل له فأشبه ما إذا أسلمت كتابية تحت مسلم. وذهب الحنفية إلى أن الأمة إذا أعتقت لها الخيار في نفسها سواء كانت تحت حر، أو عبد، لأن اعتبار عدد الطلاق عندهم بالنساء. فالأمة تبين بطلقتين سواء كان زوجها حراً، أو عبداً والحرة تبين بثلاث تطليقات، حراً كان زوجها أو عبداً، فبعد ما عتقت الأمة تخير في الصورتين حذراً عن ثبوت الملك الزائد عليها. وعند الجمهور الاعتبار في الطلاق بالرجال فزوجة الحر تبين عندهم بثلاث، وإن كانت أمة وزوجة العبد بإثنين، وإن كانت حرة فإذا عتقت تحت الحر لم توجد علة الفسخ وهو العار أو زيادة الملك، والأصل في ذلك قصة بريرة. واختلفت الروايات في أن زوجها حراً كان أو عبداً عندما عتقت فرجحت الحنفية رواية كونه حراً. وقالوا: لم يخيرها صلى الله عليه وسلم لكونه عبداً ولا لأنه حراً. وإنما خيرها للعتق ورجح الجمهور كونه عبداً. قال الشوكاني: قد ثبت من طريق ابن عباس (عند البخاري والترمذي) وابن عمر (عند الدارقطني والبيهقي) وصفية بنت أبي عبيد (عند النسائي والبيهقي) إنه كان عبداً ولم يرو عنهم ما يخالف ذلك، وثبت عن عائشة من طريق القاسم وعروة أنه كان عبداً، ومن طريق الأسود أنه كان حراً، ورواية اثنين أرجح من رواية واحد على فرض صحة الجميع، فكيف إذا كانت رواية الواحد (يعني رواية الأسود) معلولة بالانقطاع كما قال البخاري. وقال الحافظ: وعلى تقدير إن رواية الأسود موصولة فيرجح رواية من قال عبداً بالكثرة، وأيضاً قال المرأ أعرف بحديثه فإن القاسم ابن أخي عائشة، وعروة ابن أختها وتابعهما غيرهما، فروايتهما أولى من رواية الأسود فإنهما أقعد بعائشة واعلم بحديثها والله أعلم. ويترجح أيضاً بأن عائشة كانت تذهب إلى أن الأمة إذا عتقت تحت الحر لا خيار لها، وهذا بخلاف ما روى العراقيون عنها فكان

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الولاء لمن اعتق ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم والبرمة تفور بلحم فقرب إليه خبز وأدم من أدم البيت، فقال: ـــــــــــــــــــــــــــــ يلزم على أصل مذهبهم أن يأخذوا بقولها ويدعوا ما روى عنها لاسيما. وقد اختلف عنها فيه، وأدى بعضهم إنه يمكن الجمع بين الروايتين بحمل قول من قال، كان عبداً على اعتبار ما كان عليه، ثم اعتق فلذلك قال من قال كان حراً يعني كان حراً في الوقت الذي خيرت فيه. وعبداً قبل ذلك، ويرد هذا الجمع قول عروة كان عبداً ولو كان حراً لم تخير. وأخرج الترمذي عن ابن عباس إن زوج بريرة كان عبداً أسود يوم عتقت فهذا يعارض رواية الأسود إنه كان حراً، ويعارض الاحتمال المذكور احتمال أن يكون من قال كان حراً أراد ما آل إليه أمره وإذا تعارضاً إسناداً وإحتمالاً أحتيج إلى الترجيح، ورواية الأكثر يرجح بها وكذلك الأحفظ وكذلك الألزم، وكل ذلك موجود في جانب من قال كان عبداً -انتهى كلام الحافظ. ويأتي مزيد الكلام في هذه المسألة في كتاب النكاح إنشاءالله تعالى: (وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي في شأن بريرة لما أرادت عائشة أن تشتريها وتعتقها وشرط مواليها الولاء لهم أن يكون (الولاء لمن اعتق) أي لمن باع ولو شرط إن الولاء له فمن اعتق عبداً أو أمة كان ولاءه له، وهذه هي المسألة الثانية، والولاء بفتح الواو مع المد مأخوذ من الولي بفتح الواو وسكون اللام. وهو القرب. والمراد به هنا وصف حكمي ينشأ عنه ثبوت حق الإرث من العتيق الذي لا وارث له من جهة نسب أو زوجية أو الفاضل عن ذلك، وحق العقل عنه إذا جنى. قال الحافظ: الولاء بالفتح والمد، حق ميراث المعِتق من المعتق بالفتح، ووقع في كثير من الروايات إنما الولاء لمن اعتق وكلمة إنما هنا للحصر لأنها لو لم تكن للحصر لما لزم من إثبات الولاء لمن اعتق نفيه عمن لم يعتق العبد وهو الذي أريد من الخبر ويأتي مزيد الكلام في ذلك في باب قبل باب السلم من كتاب البيوع واستدل بمفهومه على أنه لا ولاء لمن أسلم على يديه رجل أو وقع بينه، وبينه مخالفة خلافاً للحنفية ولا للملتقط خلافاً لإسحاق وسيأتي البسط لذلك في الفرائض إنشاءالله تعالى (ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي بيت عائشة (والبرمة) بضم الموحدة وسكون الراء القدر من الحجر ويستعمل بمعنى القدر مطلقاً والواو للحال. قال ابن الأثير: البرمة هي القدر مطلقاً وجمعها برام وهي في الأصل المتخذة من الحجر المعروف بالحجاز (تفور) بالفاء أي تغلى متلبسة (بلحم فقرب) بضم القاف وتشديد الراء على صيغة المجهول (إليه خبز) مفعول ناب عن الفاعل (وأدم) بضم الهمزة وسكون الدال ويضم بمعنى الأدام وهو ما يؤتدم به الخبز أي يطيب أكله به ويتلذذ الأكل بسببه (من أدم البيت) بضمتين جمع أدام، والمراد بأدم البيت الأدم التي توجد في البيوت غالباً كالخل والعسل والتمر. وفي رواية فدعا بالغداء فأتى بخبز وأدم (فقال)

"ألم أر برمة فيها لحم"؟ قالوا: بلى، ولكن ذلك لحم تصدق به على بريرة، وأنت لا تأكل الصدقة. قال: "هو عليها صدقة ولنا هدية")) . ـــــــــــــــــــــــــــــ صلى الله عليه وسلم (ألم أر برمة فيها لحم) الاستفهام للتقرير (قالوا بلى ولكن ذلك لحم تصدق) بضم التاء والصاد وكسر الدال المشددة مبنياً لما لم يسم فاعله جملة في محل رفع صفة للحم (به على بريرة وأنت لا تأكل الصدقة) وفي رواية للبخاري أتى النبي صلى الله عليه وسلم بلحم فقالوا: هذا ما تصدق به على بريرة، وكذا في حديث أنس عند البخاري ويجمع بينهما بأنه لما سأل عنه أتى به. وقيل: له ذلك وفي رواية لعائشة عند أحمد وابن ماجه دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم والمرجل يفور بلحم. فقال من أين لك هذا قلت: أهدته لنا بريرة وتصدق به عليها، وعند أحمد ومسلم وكان الناس يتصدقون عليها فتهدى لنا منه (قال) - صلى الله عليه وسلم - (هو) أي اللحم (عليها) أي بريرة (صدقة ولنا هدية) أي حيث أهدته بريره لنا. لأن الفقير يملك ما تصدق به عليه فيسوغ له التصرف فيه بالبيع وغيره كتصرف سائر الملاك في إملاكهم وهذه هي المسألة الثالثة. وفي الحديث دليل على أن الصدقة إذا أهداها من تصدق عليه بها إلى من لا تحل له الصدقة ابتداء من هاشمي أو غني صرف عنها حكم الصدقة، وجاز للمهدي إليه استعمالها وحل له أكلها فيؤخذ منه إن التحريم إنما هو على الصفة لا على العين، وإن العين الواحدة يختلف حكمها باختلاف جهات الملك. قال الأبي: لا يقال كون الصدقة أوساخ الناس وإنها مطهرة للمال هو وصف لا يزيله عنها الهدية بها لأنا نقول كونها وسخاً ليس وصفاً ذاتياً لها حتى يقال أنه لا يزول، وإنما هو وصف حكمي جعل بالشرع، والشرع قد حكم بزواله عنها -انتهى. واستنبط، منه بعضهم جواز استرجاع صاحب الدين عين ما دفعه إلى الفقير بنية الزكاة في دين له عليه. وفيه دليل على أن الصدقة لا تحل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لو حلت له لما كان لعائشة مانع من إحضار لحم بريرة بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيه دليل على أن الصدقة لم تحرم على موالي أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبه ترجم البخاري في صحيحه فقال باب الصدقة على موالي أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأورد فيه حديث بريرة وحديث ابن عباس وجد النبي صلى الله عليه وسلم شأة أعطيتها مولاة لميمونة من الصدقة فقال: هلا انتفعتم بجلدها قالوا: إنها ميتة قال. إنما حرم أكلها. وأما أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فنقل ابن بطال إنهن لا يدخلن في ذلك أي لا يحرم عليهن الصدقة بإتفاق الفقهاء. قال الحافظ: وفيه نظر فقد ذكر ابن قدامة إن الخلال أخرج من طريق ابن أبي مليكة عن عائشة قالت: إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة قال: وهذا يدل على تحريمها. قال الحافظ: وإسناده إلى عائشة حسن. وأخرجه ابن أبي شيبة وهذا لا يقدح فيما نقله ابن بطال يعني لأنه لما رأى إن الفقهاء لم يذهبوا إلى هذا نقل اتفاقهم على ذلك. ولم يتعرض للدليل في ذلك. وفي قصة بريرة

متفق عليه. 1841- (6) وعنها، قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل الهدية، ويثيب عليها)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ فوائد كثيرة غير ما تقدم. ذكرها الحافظ في كتاب العتق وفي كتاب الطلاق والنووي في العتق (متفق عليه) أخرجه البخاري مطولاً أي بذكر السنن الثلاث في باب الحرة تحت العبد من كتاب النكاح، وفي باب لا يكون بيع الأمة طلاقاً من كتاب الطلاق، وفي باب الأدم من كتاب الأطعمة. وأخرجه مفرقاً ومقطعاً في المساجد والزكاة والبيوع والعتق والمكاتب والهبة والشروط والطلاق والنذور والفرائض. وأخرجه مسلم مطولاً في الزكاة والعتق، واللفظ المذكور في الكتاب للبخاري في باب لا يكون بيع الأمة طلاقاً وأخرجه هكذا مالك في الطلاق والنسائي في آخر الزكاة، وفي الطلاق، وأخرجه الترمذي في أبواب الولاء والهبة، وأبوداود في الطلاق والفرائض والعتق كلاهما مختصراً، وأخرجه ابن ماجه في الطلاق مطولاً وفي العتق مختصراً. 1841- قوله: (يقبل الهدية) قال الخطابي في المعالم (ج3 ص168) قبول النبي - صلى الله عليه وسلم - الهدية نوع من الكرم، وباب من حسن الخلق يتألف به القلوب. وقد روى عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال تهادوا تحابوا وكان أكل الهدية شعاراً له، وأمارة من أماراته ووصف في الكتب المتقدمة بأنه يقبل الهدية، ولا يأكل الصدقة لأنها أوساخ الناس. وكان إذا قبل الهدية أثاب عليها لئلا يكون لأحد عليه يد، ولا يلزمه لأحد منة - انتهى. وقال البيجوري: فيسن قبول الهدية حيث لا شبهة في مال المهدي وإلا فلا يقبلها، وكذلك إذا ظن المهدي إليه إن المهدي أهداه حياء. قال الغزالي مثال من يهدي حياء من يقدم من سفره ويفرق الهدايا خوفاً من العار فلا يجوز قبول هديته إجماعاً لأنه لا يحل مال امرىء مسلم إلا عن طيب نفس، وإذا ظن المهدي إليه إن المهدي إنما أهدى له هديته لطلب المقابل فلا يجوز له قبولها إلا إذا إعطاءه ما في ظنه بالقرائن- انتهى. (ويثيب عليها) من أثاب يثيب إذا أعطى الثواب وهو العوض أي يجازي ويكافىء عليها بأن يعطي الذي يهدي له بدلها، والمراد بالثواب المجازاة وأقله ما يساوي قيمة الهدية، ولفظ ابن أبي شيبة "ويثيب ما هو خير منها" وقد استدل بعض المالكية بهذا الحديث على وجوب المكافأة على الهدية إذا أطلق المهدي وكان ممن مثله يطلب الثواب كالفقير للغني بخلاف ما يهبه إلا على للأدنى، ووجه الدلالة منه مواظبته - صلى الله عليه وسلم - وبه قال الشافعي في القديم، قال الشوكاني: ويجاب بأن مجرد الفعل لا يدل على الوجوب ولو وقعت المواظبة كما تقرر في الأصول. قال الحافظ: وقال الشافعي في الجديد: كالحنفية الهبة للثواب باطلة لا تنعقد لأنها بيع بثمن مجهول لأن موضوع الهبة التبرع، فلو أبطلناه لكان في معنى المعاوضة. وقد فرق الشرع والعرف بين البيع والهبة فما استحق العوض أطلق عليه لفظ البيع بخلاف الهبة. وأجاب بعض المالكية بأن الهبة لو لم تقتض الثواب أصلاً لكانت بمعنى الصدقة وليس كذلك، فإن الأغلب

رواه البخاري. 1842- (7) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو دعيت إلى كراع لأجبت ـــــــــــــــــــــــــــــ من حال الذي يهدي أنه يطلب الثواب ولاسيما إذا كان فقيراً - انتهى. وقال القسطلاني ومذهب الشافعية: لا يجب الثواب بمطلق الهبة والهدية إذ لا يقتضيه اللفظ ولا العادة ولو وقع ذلك من الأدنى إلى الأعلى كما في إعارته له إلحاقاً للأعيان بالمنافع، فإن أثابه المتهب على ذلك فهبة مبتدأ، وإذا قيدها المتعاقدان بثواب معلوم لا مجهول صح العقد بيعاً نظراً للمعنى فإنه معاوضة مال بمال معلوم كالبيع بخلاف ما إذا قيداها بمجهول لا يصح لتعذره بيعاً وهبة نعم المكافأة على الهبة، والهدية مستحبة إقتداء به - صلى الله عليه وسلم - انتهى. قلت ما ذكره القسطلاني من مذهب الشافعية هو مذهب الحنابلة أيضاً كما بسط ذلك ابن قدامة في المغنى (ج5 ص622) وهو القول الراجح عندنا والله تعالى اعلم (رواه البخاري) في الهبة وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود في أواخر البيوع والترمذي في البر والصلة من الجامع وفي الشمائل، كلهم من طريق عيسى بن يونس عن هشام بن عروة عن عائشة، وذكر البخاري إن وكيعاً ومحاضراً أرسلاه، حيث قال لم يذكر وكيع ومحاضر عن هشام عن أبيه عن عائشة قال الحافظ: فيه إشارة إلى أن عيسى بن يونس تفرد بوصله عن هشام، وقد قال الترمذي: والبزار لا نعرفه موصولاً إلا من حديث عيسى بن يونس. وقال الآجري سألت أباداود عنه فقال: تفرد بوصله عيسى بن يونس وهو عند الناس مرسل ورواية وكيع وصلها ابن أبي شيبة عنه بلفظ: "ويثيب ما هو خير منها" ورواية محاضر لم أقف عليها بعد- انتهى. 1842- قوله: (لو دعيت) بضم الدال وكسر العين (إلى كراع) بضم الكاف وتخفيف الراء، بعدها ألف ثم عين مهملة وهو من الدواب ما دون الكعب. وقيل: مستدق الساق من البقر والغنم بمنزلة الوظيف من الفرس يذكر ويؤنث وأمرع من الإنسان ما دون الركبة من مقدم الساق، والجمع أكرع وأكارع. وقال ابن فارس: كراع كل شيء طرفه وقال في الصراح: كراع بالضم بارجه كوسفند وكاؤو جزآن، وفي المثل أعطى العبد كراعاً فطلب ذراعاً لأن الذراع في اليد، والكراع في الرجل. والأول خير من الثاني، ويقال أيضاً كان كراعاً فصار ذراعاً إذا صار الضعيف الذليل قوياً عزيزاً (لأجبت) أي التأليف الداعي وزيادة المحبة فإن عدم الإجابة يقتضي النفرة وعدم المحبة فيندب إجابة الدعوة ولو شيء قليل. قال الحافظ: قد زعم بعض السراح وكذا وقع للغزالي إن المراد بالكراع في هذا الحديث المكان المعروف بكراع الغيم بفتح المعجمة وهو موضع بين مكة والمدينة، وزعم أنه أطلق ذلك على ذلك على سبيل المبالغة في الإجابة ولو بعد المكان لكن المبالغة في الإجابة مع

ولو أهدي إلى ذراع لقبلت)) . رواه البخاري. 1843- (8) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس المسكين الذي يطوف على الناس، ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ حقارة الشيء أوضح في المراد، ولذا ذهب الجمهور إلى أن المراد بالكراع هنا كراع الشأة. وأغرب الغزالي في الأحياء فذكر الحديث بلفظ: ولو دعيت إلى كراع الغميم ولا أصل لهذه الزيادة. وقد أخرج الترمذي (في الأحكام من الجامع وفي الشمائل) من حديث أنس وصححه مرفوعاً لو أهدى إلى كراع لقلبت ولو دعيت عليه لأجبت، وأخرج الطبراني من حديث أم حكيم بنت وادع الخزاعية إنها قالت يا رسول الله! تكره رد الظلف قال ما أقبحه لو أهدى إلى كراع لقلبت الحديث ويستفاد سببه من هذه الرواية (ولو أهدى) بضم الهمزة وكسر الدال (إلي) بتشديد الياء (ذراع) بكسر الذال المعجمة وهو الساعد وكان - صلى الله عليه وسلم - يحب أكله لأنه مبادي الشاة وأبعد عن الأذى ولسرعة نضجه. قال القسطلاني: ولأبي ذر كراع أي بدل ذراع (لقلبت) أي ليحصل التحابب والتألف فإن الرد يحدث النفور والعداوة فيندب قبول الهدية ولو لشيء قليل. قال الحافظ: خص الذراع والكراع بالذكر ليجمع بين الحقير والخطير لأن الذراع كاتب أحب إليه من غيرها، والكراع لا قيمة له. وفي الحديث دليل على حسن خلقه - صلى الله عليه وسلم - وتواضعه وجبره القلوب الناس وعلى قبول الهدية وإجابة من يدعو الرجل إلى منزله، ولو علم أن الذي يدعوه إليه شيء قليل (رواه البخاري) في الهبة وفي الوليمة من كتاب النكاح وأخرجه الترمذي من حديث أنس. 1843- قوله: (ليس المسكين) أي المذكور في قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} [التوبة:60] والمسكين مفعيل بكسر الميم من السكون فكأنه من قلة المال سكنت حركاته. ولذا قال تعالى: {أو مسكيناً ذا متربة} [البلد: 16] أي لاصق بالتراب قاله القرطبي: (الذي يطوف) أي يدور ويتردد (على الناس) ليسألهم صدقة عليه (ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان) جملة حالية أي يرد هو على الأبواب لأجل اللقمة أو إنه إذا أخذ لقمة رجع إلى باب آخر، فكان اللقمة ردته من باب إلى باب. والمراد ليس المسكين الكامل الذي هو أحق بالصدقة وأحوج إليها المردود على الأبواب لأجل اللقمة، ولكن الكامل الذي لا يجد الخ فليس المراد نفي المسكنة عن الطواف بل نفي كمالها لأنهم أجمعوا على أن السائل الطواف المحتاج مسكين. قال النووي: معناه المسكين الكامل المسكنة الذي هو أحق بالصدقة وأحوج إليها ليس هو هذا الطواف بل هو الذي

ولكن المسكين الذي لا يجد غني يغنيه، ولا يفطن به فيتصدق عليه، ولا يقم فسأل الناس)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يجد غني الخ وليس معناه نفي أصل المسكنة عن الطواف بل معناه نفي كمال المسكنة كقوله تعالى: {ليس البر} [البقرة: 177] الآية وكقوله - صلى الله عليه وسلم - أتدرون من المفلس - الحديث انتهى. ويقرب منه ما قيل: ليس المراد نفي استحقاق الطواف الزكاة بل إثبات المسكنة لغير هذا المتعارف بالمسكنة وإثبات استحقاقه أيضاً لأن كلا منهما مصرف الزكاة حيث لا غنى لهما لكن الثاني أفضل. وقال السندي: المراد ليس المسكين المعدود في مصارف الزكاة هذا المسكين بل هذا داخل في الفقير، وإنما المسكين المستور الحال الذي لا يعرفه أحد إلا بالتفتيش، وبه يتبين الفرق بين الفقير والمسكين في المصارف (ولكن المسكين) أي الكامل في المسكنة بتخفيف نون لكن، فالمسكين مرفوع وبتشديدها فالمسكين منصوب (الذي لا يجد غني) بكسر الغين مقصوراً أي يسار، وفي رواية قالوا: فما المسكين يا رسول الله! قال: الذي لا يجد غني، وفي رواية إنما المسكين الذي يتعفف اقرؤا إن شئتم {لا يسألون الناس إلحافاً} (يغنيه) أي عن غيره ويكفيه وهي صفة لقوله "غنى" وهو قدر زائد على اليسار إذ لا يلزم من حصول اليسار للمرأة أن يغني به بحيث لا يحتاج إلى شيء آخر، واللفظ محتمل لأن يكون المراد نفي أصل اليسار، ولأن يكون المراد نفي اليسار المقيد بأنه يغنيه مع وجود أصل اليسار، وعلى الاحتمال الثاني، ففيه إن المسكين هو الذي يقدر على مال أو كسب يقع موقعاً من حاجته ولا يكفيه كثمانية من عشرة وهو حينئذ أحسن حالاً من الفقير فإنه الذي لا مال له أصلاً، أو يملك ما لا يقع موقعاً من حاجته كثلاثة من عشرة. واحتج لذلك بقوله تعالى: {أما السفينة فكانت لمساكين} [الكهف: 79] فسماهم مساكين مع أن لهم سفينة لكنها لا تقوم بجميع حاجاتهم (ولا يفطن به) بصيغة المجهول مخففاً أي لا يعلم باحتياجه، وفي رواية له أي باللام بدل الباء الموحدة (فيتصدق عليه) بضم الياء مجهولاً (ولا يقوم فيسأل الناس) برفع المضارع الواقع بعد الفاء في الموضعين عطفاً على المنفي المرفوع فينسحب النفي عليه أي لا يفطن له فلا يتصدق عليه ولا يقوم فلا يسأل الناس، وبالنصب فيهما بأن مضمرة وجوباً لوقوعه في جواب النفي بعد الفاء. وقد يستدل بقوله ولا يقوم فيسأل الناس على أحد محملي قوله تعالى: {لا يسألون الناس إلحافاً} [البقرة:273] إن معناه نفي السؤال أصلاً. وقد يقال لفظة يقوم تدل على التأكيد في السؤال فليس فيه نفي أصل السؤال. والتأكيد في السؤال هو الإلحاف وفي الحديث إن المسكنة إنما تحمد مع العفة عن السؤال والصبر على الحاجة وفيه حسن الإرشاد لوضع الصدقة، وأن يتحري وضعها فيمن صفته التعفف دون الإلحاح وفيه إن المسكين هو الجامع بين عدم الغنى وعدم تفطن الناس له لما يظن به لأجل تعففه وتظهره بصورة الغنى من عدم الحاجة، ومع هذا فهو مستعفف عن السؤال لكن قد تقدم إن معناه المسكين الكامل،

متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وليس المراد نفي أصل المسكنة (متفق عليه) أخرجه البخاري في الزكاة والتفسير، ومسلم في الزكاة وأخرجه أيضاً أحمد، ومالك في الجامع من الموطأ، وأبوداود والنسائي في الزكاة والبيهقي في قسم الصدقات. وفائدة اختلف العلماء في الفرق بين الفقير والمسكين في آية المصارف. فقال الشافعي: الفقير من لا شيء له أي لا مال له ولا حرفة تقع موقعاً. وقال أبوحنيفة: هو من له مال دون النصاب أو قدر نصاب غير تام وهو مستغرق في الحاجة. وأما المسكين فهو عند الشافعي من له شيء أي مال أو حرفة لكن لا يكفيه، وعند أبي حنيفة من لا شيء له فيحتاج إلى المسألة لقوته، فالفقير أسوأ حالاً من المسكين عند الشافعي. وبه قال الأصمعي. قال الحافظ: وهو قول جمهور أهل الحديث والفقه. وعند أبي حنيفة المسكين أسوأ حالاً من الفقير، وإليه ذهب ابن السكيت ويونس بن حبيب من أهل اللغة. وقيل: هما سواء. قال الحافظ: وهذا قول ابن القاسم وأصحاب مالك. وقال ابن الهمام: الفقير من له مال دون نصاب، أو قدر نصاب غير تام وهو مستغرق في الحاجة والمسكين من لا شيء له فيحتاج للمسألة لقوته، أو ما يواري بدنه. ويحل له ذلك بخلاف الأول فإنه لا يحل لمن يملك قوت يومه بعد ستره بدنه. وعند بعضهم لا يحل لمن كان كسوباً أو يملك خمسين درهماً. ويجوز صرف الزكاة لمن لا تحل له المسألة بعد كونه فقيراً، ولا يخرجه عن الفقر ملك نصب كثيرة غير نامية إذا كانت مستغرقة بالحاجة، ولذا قلنا يجوز للعالم، وإن كانت له كتب تساوي نصباً كثيرة على تفصيل ما ذكرنا فيما إذا كان محتاجاً إليها للتدريس، أو الحفظ أو التصحيح ولو كانت ملك عامي وليس له نصاب تام لا يحل دفع الزكاة له، لأنها غير مستغرقة في حاجته فلم تكن كثياب البذلة، وعلى هذا جميع آلات المحترفين إذا ملكها صاحب تلك الخرفة. والحاصل إن النصب ثلاثة نصاب: يوجب الزكاة على مالكه وهو النامي خلقه أو إعداد وهو سالم من الدين. ونصاب لا يوجبها: وهو ما ليس أحدهما فإن كان مستغرقاً لحاجة مالكه حل له أخذها وإلا حرمت عليه كثياب تساوي نصاباً لا يحتاج إلى ملكها، أو أثاث، لا يحتاج إلى استعماله كله في بيته وفرس لا يحتاج إلى خدمته وركوبه، ودار، لا يحتاج إلى سكناها فإن كان محتاجاً إلى ما ذكرنا حاجة أصلية فهو فقير يحل دفع الزكاة له وتحرم عليه المسألة. ونصاب يحرم المسألة: وهو ملك قوت يومه أو لا يملك لكنه يقدر على الكسب أو يملك خمسين درهماً على الخلاف في ذلك - انتهى. وإن شئت البسط للفرق بين الفقير والمسكين فارجع إلى تفسير روح المعاني (ج10 ص107- 108) للعلامة الآلوسي ومعالم السنن (ج6 ص61- 62) للخطابي وإتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين (ج4 ص142، 143) للعلامة الزبيدي والمغنى لابن قدامة (ج6: ص420- 421) وتفسير المنار للعلامة السيد محمد رشيد رضا تحت مصارف الزكاة.

{الفصل الثاني}

{الفصل الثاني} 1844- (9) عن أبي رافع، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بعث رجلاً من بني مخزوم على الصدقة، فقال لأبي رافع: أصحبني كيما تصيب منها. فقال: لا، حتى آتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسأله فانطلق إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1844- قوله: (عن أبي رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - واسمه أسلم (بعث رجلاً من بني مخزوم على الصدقة) أي أرسله ساعياً ليجمع الزكاة ويأتي بها إليه. قال المنذري: وهذا الرجل هو الأرقم بن الأرقم القرشي المخزومي بين ذلك الخطيب والنسائي وكان من المهاجرين الأولين. وكنيته أبوعبد الله وهو الذي استخفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في داره بمكة في أسفل الصفا، حتى كملوا الأربعين رجلاً، آخرهم عمر بن الخطاب -انتهى. وقيل: هذا الرجل المبعوث هو الأرقم بن أبي الأرقم الزهري لما روى أحمد (ج6:ص8) من طريق الثوري عن ابن أبي ليلى عن الحكم بن عتيبة عن ابن أبي رافع عن أبي رافع. قال: مر على الأرقم الزهري أو ابن أبي الأرقم، واستعمل على الصدقات قال فاستتبعني الحديث. وروى أبويعلى والطبراني في الكبير، والبيهقي من طريق الثوري عن ابن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس. قال: استعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - الأرقم بن أبي الأرقم الزهري على السعاية فاستتبع أبارافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له. فقال: يا أبارافع! إن الصدقة حرام على محمد وآل محمد وإن مولى القوم منهم أو من أنفسهم. ففي الروايتين دليل على أن الرجل المبعوث على السعاية في هذه القصة هو الأرقم الزهري. قلت: فيه نظر لأنه قد صرح في رواية شعبة عن الحكم عن ابن أبي رافع عن أبي رافع عند أحمد (ج6:ص10) والترمذي وأبي داود والنسائي والحاكم والبيهقي، إن الرجل المبعوث على الصدقة من بني مخزوم، وهذا الطريق أصح من طريقي أحمد، والطبراني المتقدمين. قال البيهقي: رواية شعبة عن الحكم عن ابن أبي رافع عن أبي رافع أولى من رواية ابن أبي ليلى، وابن أبي ليلى هذا كان سيء الحفظ. وقال الحافظ في الإصابة: بعد ذكر طريق الطبراني لكن رواه شعبة عن الحكم عن مقسم. فقال: استعمل رجلاً من بني مخزوم وكذلك أخرجه أبوداود وغيره وإسناده أصح من الأول -انتهى. وهذا لأن في طريق الطبراني (وكذا طريق أحمد) محمد بن أبي ليلى وفيه كلام. قال أحمد: وشعبة وأبوحاتم وابن المديني والساجي إنه سيء الحفظ. وقال الدارقطني كان رديء الحفظ كثير الوهم. وقال ابن حبان: كان فاحش الخطأ ردي الحفظ (فقال) أي الرجل المخزومي (أصحبني) بفتح الحاء المهملة أمر من باب سمع أي رافقني وصاحبني في هذا السفر (كيما تصيب) نصب بكى و"ما" زائدة أي لتأخذ (منها) أي من الصدقة (فقال لا) أي لا أصحبك (فأسأله) أي أستأذنه أو أسأله هل يجوز لي أم لا

فانطلق إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله، فقال: إن الصدقة لا تحل لنا، وإن موالي القوم من أنفسهم)) . رواه الترمذي، وأبوداود، والنسائي. ـــــــــــــــــــــــــــــ (فانطلق) أبورافع (إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله) عن ذلك (إن الصدقة لا تحل لنا) تقدم الكلام عليه (وإن موالي القوم) أي عتقاءهم (من أنفسهم) بضم الفاء أي فحكمهم كحكمهم يعني فلا تحل لك لكونك مولانا، وفيه دليل على تحريم الصدقة على موالي بني هاشم ولو كان الأخذ على جهة العمالة. قال الحافظ في الفتح: وبه قال أحمد وأبوحنيفة وبعض المالكية كابن الماجشون وهو الصحيح عند الشافعية. وقال الجمهور: يجوز لهم لأنهم ليسوا منهم حقيقة ولذلك لم يعوضوا بخمس الخمس ومنشئو الخلاف قوله منهم أو أنفسهم، هل يتناول المساواة في حكم تحريم الصدقة أم لا، وحجة الجمهور أنه لا يتناول جميع الأحكام فلا دليل فيه على تحريم الصدقة، لكنه ورد على سبب الصدقة وقد اتفقوا على أنه لا يخرج السبب، وان اختلفوا هل يخص به أم لا-انتهى. وقال الأمير اليماني: الحديث دليل على أن حكم مولى آل محمد - صلى الله عليه وسلم - حكمهم في تحريم الصدقة. قال: وذهبت جماعة إلى عدم تحريمها عليهم لعدم المشاركة في النسب ولأنه ليس لهم في الخمس سهم. وأجيب بأن النص لا تقدم عليه هذه العلل فهي مردودة فإنها ترفع النص. قال ابن عبد البر: هذا خلاف الثابت من النص ثم هذا الحديث نص على تحريم العمالة على الموالي، وبالأولى على آل محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنه أراد الرجل الذي عرض على أبي رافع أن يوليه على بعض عمله الذي ولاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فينال عمالة، لا أنه أراد أن يعطيه من أجرته جائز فإنه جائز لأبي رافع أخذه إذ هو داخل تحت الخمسة الذين تحل لهم، لأنه قد ملك ذلك الرجل أجرته فيعطيه من ملكه فهو حلال لأبي رافع فهو نظير قوله عليه السلام، ورجل تصدق عليه منها فأهدى منها -انتهى. وقال الخطابي في المعالم: (ج2:ص71) أما موالي بني هاشم فانه لا حظ لهم في سهم ذي القربى فلا يجوز أن يحرموا الصدقة، ويشبه أن يكون إنما نهاه عن ذلك تنزيهاً له. وقال: مولى القوم من أنفسهم على سبيل التشبيه في الاستنان بهم، والإقتداء بسيرتهم في اجتناب مال الصدقة التي هي أوساخ الناس، ويشبه أن يكون - صلى الله عليه وسلم - قد كان يكفيه المؤنة ويزيح له العلة، إذ كان أبورافع مولى له وكان يتصرف له في الحاجة والخدمة، فقال له على هذا المعنى، إذا كنت تستغنى بما أعطيت فلا تطلب أوساخ الناس فإنك مولانا ومنا -انتهى. ولا يخفى ما فيه من التكلف ومخالفة ظاهر الحديث. والحق عندنا ما ذهب إليه أحمد وأبوحنيفة ومن وافقها والله تعالى أعلم (رواه الترمذي وأبوداود والنسائي) واللفظ للترمذي وأخرجه أحمد وابن حبان والحاكم والبيهقي وسكت عنه أبوداود والمنذري وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم. وروى البخاري من حديث أنس مرفوعاً مولى القوم من أنفسهم، وروى أحمد وابن أبي شيبة وغيرهما من حديث أم كلثوم بنت علي، قالت حدثني مولى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرفوعاً إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة ومولى القوم منهم.

1845- (10) وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوى)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1845- قوله: (لا تحل الصدقة لغني) هذا مما لا خلاف فيه بين أهل العلم لكنهم، اختلفوا في حد الغنى المانع من الصدقة، وفي المحيط من كتب الحنفية الغنى على ثلاثة أنواع. غني: يوجب الزكاة وهو ملك نصاب حولي تام. وغني: يحرم الصدقة ويوجب صدقة الفطر والأضحية. وهو ملك ما يبلغ قيمة نصاب من الأموال الفاضلة عن حاجته الأصلية. وغني: يحرم السؤال، دون الصدقة وهو أن يكون له قوت يومه وما يستر عورته -انتهى. وبسط الكلام فيه ابن قدامة في المغني كما سيأتي (ولا لذى مرة) بكسر الميم وتشديد الراء أي قوة. قال الخطابي: معنى المرة القوة وأصلها من شدة قتل الحبل يقال أمررت الحبل إذا أحكمت فتله فمعنى المرة في الحديث شدة اسر الخلق وصحة البدن التي يكون معها احتمال الكد والتعب - انتهى. وقال الشوكاني: قال الجوهري: المرة القوة وشدة العقل ورجل مرير أي قوي ذو مرة. وقال غيره: المرة القوة على الكسب والعمل (سوى) أي سليم الخلق تام الأعضاء. قال الجوهري: السوى مستوى الخلق والمراد استواء الأعضاء وسلامتها قال ابن الملك: أي لا تحل الزكاة لمن أعضاءه صحيحة، وهو قوي يقدر على الاكتساب بقدر ما يكفيه وعياله، وبه قال الشافعي. قال الطيبي وقيل: المعنى ولا لذى عقل وشدة وهو كناية عن القادر على الكسب، وهو مذهب الشافعي والحنفية على أنه إن لم يكن له نصاب حلت الصدقة. قال القاري: في هذا الحديث نفي كمال الحل لا نفس الحل أو لا تحل له بالسؤال -انتهى. وقال السندي: لا تحل الصدقة أي سؤالها وإلا فهي تحل للفقير وإن كان صحيحاً سوى الأعضاء إذا أعطاءه أحد بلا سؤال وقال الترمذي: قد روى في غير هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تحل المسألة لغني. ولا لذى مرة سوى، وإذا كان الرجل قوياً محتاجاً، ولم يكن عنده شيء فتصدق عليه أجزأ عن المتصدق عند أهل العلم. ووجه هذا الحديث عند بعض أهل العلم على المسألة -انتهى. يعني إن هذا الحديث محمول على المسألة، والمراد بقوله لا تحل الصدقة لا تحل المسألة، والدليل عليه حديث حبشي بن جنادة الآتي في الفصل الثاني من الباب الذي يليه، قال الخطابي: اختلف الناس في جواز أخذ الصدقة لمن يجد قوة يقدر بها على الكسب، فقال الشافعي: لا تحل له الصدقة. وكذلك قال إسحاق بن راهوية وأبوعبيد، وقال أصحاب الرأي: يجوز له أخذ الصدقة إذا لم يملك مائتي درهم فصاعداً -انتهى. وقال ابن قدامة (ج2:ص166) اختلف العلماء في الغنى المانع من أخذها ونقل عن أحمد فيه روايتان أظهرهما أنه ملك خمسين درهماً أو قيمتها من الذهب أو وجود ما تحصل به الكفاية على الدوام من كسب، أو تجارة أو عقار أو نحو ذلك ولو ملك من العروض، أو الحبوب أو السائمة أو العقار ما لا تحصل به الكفاية لم يكن غنياً وإن ملك نصاباً هذا هو الظاهر من مذهبه، وهو قول الثوري

................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ والنخعي وابن المبارك وإسحاق. وروي عن علي وعبد الله إنهما قالا: لا تحل الصدقة لمن له خمسون درهماً أو عدلها أو قيمتها من الذهب وذلك لما روى عبد الله بن مسعود مرفوعاً من سأل وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خموشاً أو خدوشاً أو كدوحاً في وجهه. فقيل يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! وما الغنى؟ قال خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب (وسيجيء هذا الحديث في الباب الذي يليه) والرواية الثانية إن الغنى ما تحصل به الكفاية فإذا لم يكن محتاجاً حرمت عليه الصدقة وإن لم يملك شيئاً، وإن كان محتاجاً حلت له الصدقة، وإن ملك نصاباًً والأثمان وغيرها في هذا سواء وهذا اختيار أبي الخطاب، وقول مالك والشافعي لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا تحل المسألة إلا لأحد ثلاثة: رجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوى الحجى من قومه الحديث (وسيجيء في الباب الآتي) فمد إباحة المسألة إلى وجود إصابة القوام أو السداد، ولأن الحاجة هي الفقر والغنى ضدها فمن كان محتاجاً فهو فقير يدخل في عموم النص، ومن استغنى دخل في عموم النصوص المحرمة. والحديث الأول فيه ضعف ثم يجوز إن تحرم المسألة ولا يحرم أخذ الصدقة إذا جاءته عن غير المسألة، فإن المذكور فيه تحريم المسألة فنقتصر عليه. وقال الحسن وأبوعبيد: الغنى ملك أوقية وهي أربعون درهماً لما روى أبوسعيد الخدري مرفوعاً من سأل، وله قيمة أوقية فقد الحف رواه أبوداود، وكانت الأوقية على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين درهماً وقال أصحاب الرأي الغنى: الموجب للزكاة هو المانع من أخذها وهو ملك نصاب تجب فيه الزكاة من الأثمان والعروض المعد للتجارة أو السائمة أو غيرها لحديث "تؤخذ من أغنياءهم وترد في فقراءهم" فجعل الأغنياء من تجب عليهم الزكاة، فيدل ذلك على أن من تجب عليه غنى، ومن لا تجب عليه ليس بغنى فيكون فقيراً، فتدفع الزكاة إليه لقوله فترد في فقراءهم فيحصل الخلاف بيننا وبينهم في أمور ثلاثة. أحدها إن الغنى المانع من الزكاة غير الموجب لها عندنا، ودليل ذلك حديث ابن مسعود وهو أخص من حديثهم فيجب تقديمه، ولأن حديثهم دل على الغنى الموجب، وحديثنا دل على الغنى المانع ولا تعارض بينهما فيجب الجمع بينهما. الثاني إن من له ما يكفيه من مال غير زكائي أو مكسبه أو أجرة عقارات أو غيره ليس له الأخذ من الزكاة وبهذا. قال الشافعي وإسحاق وأبوعبيدة وابن المنذر وقال أبويوسف: إن دفع الزكاة إليه فهو قبيح وأرجو أن يجزئه وقال أبوحنيفة وسائر أصحابه: يجوز دفع الزكاة إليه لأنه ليس بغنى لما ذكروه في حجتهم. ولنا ما روى الإمام أحمد من حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار، يعني الذي يأتي بعد هذا. ثم ذكر حديث عبد الله بن عمر والذي نحن في شرحه. ثم قال: ولأن له ما يغنيه عن الزكاة فلم يجز الدفع إليه كمالك النصاب. الثالث إن من ملك نصاباً زكائياً لا تتم به الكفاية من غير الأثمان فله الأخذ من الزكاة. قال

رواه الترمذي وأبوداود والدارمي. ـــــــــــــــــــــــــــــ الميموني: ذاكرت أباعبد الله. فقلت: قد يكون للرجل الإبل والغنم تجب فيها الزكاة، وهو فقير ويكون له أربعون شأة وتكون له الضيعة لا تكفيه فيعطى من الصدقة؟ قال نعم وذكر قول عمر أعطوهم وإن راحت عليهم من الإبل كذا وكذا وقال في رواية محمد بن الحكم: إذا كان له عقار يشغله أو ضيعة تساوي عشرة آلاف أو أقل أو أكثر لا تقيمه يأخذ من الزكاة وهذا قول الشافعي وقال أصحاب الرأي: ليس له أن يأخذ منها إذا ملك نصاباً زكوياً لأنه تجب عليه الزكاة فلم تجز له للخبر، ولنا أنه لا يملك ما يغنيه ولا يقدر على كسب ما يكفيه فجاز له الأخذ من الزكاة ولأن الفقر عبارة عن الحاجة. قال الله تعالى: {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله} [فاطر:15] أي المحتاجون إليه وهذا محتاج فيكون فقيراً غير غنى، وقد بينا إن الغنى يختلف مسماه فيقع على ما يوجب الزكاة وعلى ما يمنع منها فلا يلزم من وجود أحدهما وجود الآخر، ولا من عدمه عدم الآخر. فمن قال: إن الغنى هو الكفاية سوى بين الأثمان وغيرها، وجوز الأخذ لكل من لا كفاية له، وإن ملك نصباً من جميع الأموال. ومن قال بالرواية الأخرى فرق بين الأثمان وغيرها لخبر ابن مسعود إلى آخر ما بسطه. وقال الأمير اليماني في شرح بلوغ المرام: قد اختلفت الأقوال في حد الغنى الذي يحرم به قبض الصدقة على أقوال، وليس عليها ما تسكن له النفس من الاستدلال لأن المبحث ليس لغوياً حتى يرجع فيه إلى تفسير لغة، ولأنه في اللغة أمر نسبي لا يتعين في قدر ووردت أحاديث معينة لقدر الغنى الذي يحرم به السؤال كحديث أبي سعيد عند النسائي من سأل وله أوقية فقد الحف، وعند أبي داود من سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد سأل الحافاً، وأخرج أيضاً من سأل وله ما يغنيه فإنما يستكثر من النار. قالوا: وما يغينيه؟ قال: قدر ما يعشيه ويغديه صححه ابن حبان، فهذا قدر الغنى الذي يحرم معه السؤال. وأما الغنى الذي يحرم معه قبض الزكاة فالظاهر أنه من تجب عليه الزكاة وهو من يملك مائتي درهم لقوله - صلى الله عليه وسلم - أمرت أن آخذها من أغنياءكم وأردها في فقراءكم فقابل بين الغنى، وأفاد أنه من تجب عليه الصدقة وبين الفقير، وأخبر أنه من ترد فيه الصدقة هذا أقرب ما يقال فيه -انتهى. قلت: وبه قال الحنفية كما تقدم وهو الراجح عندي والله تعالى أعلم (رواه الترمذي وأبوداود والدارمي) وأخرجه أيضاً أحمد (ج2:ص164-192) وأبوعبيد (ص549) والطيالسي وابن الجارود في المنتقى (ص186) والبخاري في التاريخ الكبير (ج2،1:ص301) والدارقطني (ص211) والحاكم (ج1:ص407) والطحاوي (ج1:ص303) كلهم من حديث سعد بن إبراهيم عن ريحان بن يزيد العامري عن عبد الله بن عمرو، قال الترمذي: حديث حسن وذكر إن شعبة رواه عن سعد بن إبراهيم بهذا الإسناد ولم يرفعه. وقال أبوداود وقال عطاء بن زهير: إنه لقى عبد الله بن عمرو، فقال إن الصدقة لا تحل لقوى، ولا لذى مرة سوى. وقال الإمام أحمد قال عبد الرحمن بن مهدي: ولم يرفعه سعد ولا ابنه يعني إبراهيم بن سعد. وقال البخاري في التاريخ الكبير: وروى إبراهيم بن سعد

............................ ـــــــــــــــــــــــــــــ عن أبيه ولم يرفعه. وقال المنذري بعد ذكر كلام الترمذي: في إسناده ريحان بن يزيد. قال ابن معين ثقة. وقال أبوحاتم الرازي: شيخ مجهول. وقال بعضهم: لم يصح إسناده وإنما هو موقوف على عبد الله بن عمرو -انتهى. قلت: ريحان بن يزيد قد عرفه غير أبي حاتم ووثقه، وقد تقدم أنه وثقه يحيى بن معين. وقال: حجاج عن شعبة عن سعد بن إبراهيم سمع ريحان بن يزيد وكان أعرابياً صدوقاً وذكره ابن حبان في الثقات، وترجمة البخاري في التاريخ الكبير، فلم يذكر فيه جرحاً، ومن عرف حجة على من لم يعرف. وأما التعليل بأن شعبة وإبراهيم بن سعد روياه عن سعد فلم يرفعاه فليس بشيء، فإن الحديث رواه عن سعد ثلاثة من الحفاظ الثقات، سفيان الثوري وشعبة وإبراهيم بن سعد. أما الثوري فرواه عن سعد مرفوعاً عند أحمد في الموضعين، وعند الطيالسي وأبي عبيد والبخاري في الكبير والدارمي والترمذي وابن الجارود والحاكم والدارقطني والطحاوي لم تختلف الرواية عنه في رفعه. وأما شعبة فاختلف عليه، فروى عنه الحجاج بن منهال عند الطحاوي (ص 303) موقوفاً. وروى عنه آدم بن أبي أياس عند الحاكم، وحجاج عند البخاري في الكبير مرفوعاً. وأما إبراهيم بن سعد فاختلف عليه أيضاً فروى عنه عباد بن موسى الختلي عند أبي داود وأبوبكر بن أبي العوام عند الحاكم مرفوعاً، ويشير كلام الإمام أحمد المتقدم إلى أن عبد الرحمن بن مهدي الذي روى الحديث عن الثوري قد سمعه من إبراهيم بن سعد عن أبيه موقوفاً كما سمعه من الثوري عن سعد مرفوعاً، فيكون إبراهيم رواه مرة مرفوعاً، ومرة موقوفاً، ولا يضر هذا الاختلاف فإن الراوي قد يرفع الحديث مرة، ويقفه أخرى، والرفع زيادة من الثقة فهي مقبولة. بل ههنا الرفع أرجح لأن سفيان أحفظ من شعبة وإبراهيم بن سعد. ولأنه إذا خالف شعبة سفيان فالقول قول سفيان ولأن سفيان لم تختلف الرواية عنه في رفعه بخلاف شعبة وإبراهيم، فإنه قد روى عنهما مرفوعاً موافقاً لسفيان كما عرفت. وأما ما قال أبوداود إن عطاء بن زهير قال: أنه لقى عبد الله بن عمرو الخ. فهو خطأ من جهة الإسناد والمتن جميعاً كما بينه العلامة الشيخ أحمد شاكر في شرحه للمسند (ج10:ص51-52-53-54) قلت: ويدل على وقوع الخطأ في رواية أبي داود المعلقة هذه ما رواه البيهقي (ج7:ص13) من طريق عبيد الله بن الشميط ثنا أبي والأخضر بن عجلان عن عطاء بن زهير العامري عن أبيه قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص أخبرني عن الصدقة أي مال هي؟ قال: هي شر مال للعميان والعرجان والكسحان واليتامى وكل منقطع به. فقلت: إن للعاملين عليها حقاً وللمجاهدين. فقال للعاملين عليها بقدر عمالتهم وللمجاهدين في سبيل الله قدر حاجتهم، أو قال حالهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الصدقة لا تحل لغني ولا لذى مرة سوى -انتهى. هذا وقد بسط العلامة الشيخ أحمد شاكر القول في تصحيح حديث عبد الله بن عمرو المرفوع فعليك أن تراجعه.

1846- (11) ورواه أحمد، والنسائي، وابن ماجه عن أبي هريرة. 1847- (12) وعن عبيد الله بن عدي بن الخيار، ((قال أخبرني رجلان أنهما أتيا النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في حجة الوداع، وهو يقسم الصدقة، فسألاه منها فرفع فينا النظر وخفضه فرآنا جلدين، فقال: "إن شئتما أعطيتكما، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1846- قوله: (ورواه أحمد) (ج2:ص377-389) (والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة) وأخرجه عنه ابن حبان والبزار والطحاوي والطبراني والحاكم أيضاً واختلفوا في تسمية الراوي عن أبي هريرة، فعند أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان والطحاوي والبزار والبيهقي، عن سالم بن أبي الجعد عن أبي هريرة. قال صاحب التنقيح: رواته ثقات، إلا أن أحمد بن حنبل قال: سالم بن أبي الجعد لم يسمع من أبي هريرة - انتهى. ورواه الطحاوي من حديث أبي صالح عن أبي هريرة والحاكم والبيهقي من حديث أبي حازم عنه قال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين وشاهده حديث عبد الله بن عمرو. ثم رواه بسند السنن وسكت عنه. وحديث أبي هريرة عزاه الهيثمي للطبراني، وقال: رجاله رجال الصحيح، وفي الباب عن رجل من بني هلال عند أحمد والطحاوي. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح وعن حبشي بن جنازة وسيأتي. وعن جابر عند الدارقطني بسند ضعيف، وعن طلحة عند أبي يعلى وابن عدي بسند فيه ضعف، وعن عبد الرحمن بن أبي بكر عند الطبراني في الكبير، وفيه ابن لهيعة وعن ابن عمر عند ابن عدي بسند ضعيف. تنبيه كلام المصنف يدل على أن الإمام أحمد لم يرو هذا الحديث عن عبد الله بن عمرو، وهو ذهول منه فإنه أحمد رواه عن أبي هريرة، وعبد الله بن عمرو وكليهما كما عرفت. 1847- قوله: (وعن عبيد الله بن عدي بن الخيار) بكسر الحاء المعجمة فمثناة تحتية آخره راء (أخبرني رجلان) زاد الطحاوي في شرح الآثار (ص303) من قومي ولم أقف على تسميتهما (وهو في حجة الوداع) بفتح الواو (وهو يقسم) بفتح الياء وكسر السين (الصدقة) أي أموالها (فسألاه منها) أي طالباه أن يعطيهما شيئاً من تلك الصدقة (فرفع فينا النظر) في نسختي العون والبذل من نسخ السنن لأبي داود البصر بدل النظر. وكذا وقع عند أبي عبيد والطحاوي والدارقطني والبيهقي من طريق أبي داود. وكذا نقله الزيلعي والحافظ في تخريجهما. ووقع في نسخة معالم السنن النظر كما في الكتاب، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول. ولفظ أحمد والنسائي فقلب فيهما البصر، وفي رواية لأحمد فصعد فيهما البصر، وللبيهقي في رواية فصعد فينا النظر، وصوب. وفي رواية فصعد البصر (جلدين) بفتح الجيم وسكون اللام أي قويين (إن شئتما أعطيتكما) أي منها ووكلت الأمر إلى أمانتكما لكن تكونان في خطر الأخذ

ولا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب)) . رواه أبوداود والنسائي. 1848- (13) وعن عطاء بن يسار، مرسلاً، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تحل الصدقة لغني، إلا لخمسة. ـــــــــــــــــــــــــــــ بغير حق إن كنتما قويين كما دل عليه حالكما أو غنيين (ولا حظ) أي نصيب (فيها لغني ولا لقوي مكتسب) بصيغة الفاعل أي قادر على الكسب. قال الطيبي: أي لا أعطيكما؛ لأن في الصدقة ذلاً وهواناً. فإن رضيتما بذلك أعطيتكما أو لا أعطيكما لأنها حرام على القوي المكتسب، فإرضيتما بأكل الحرام أعطيكما قاله توبيخاً وتغليظاً، أي كقوله تعالى: {ومن شاء فليكفر} [الكهف:29] وقال السندي: قوله "إن شئتما" الخ يدل على أنه لو أدى أحد إليهما يحل لهما أخذه ويجزيء عنه، وإلا لم يصح له أن يؤدي إليهما بمشيئتهما فقوله "ولا حظ فيها" الضمير للصدقة على تقدير المضاف، أي في سؤالها أو للمسألة المعلومة من المقام - انتهى. وقال ابن الهمام: الحديث دل على أن المراد حرمة سؤالهما لقوله "وإن شئتما أعطيتكما" فلو كان الأخذ محرماً غير مسقط عن صاحب المال لم يفعله - انتهى. والحديث من أدلة تحريم الصدقة على الغني، وهو تصريح بمفهوم الآية وإن اختلف في تحقيق الغني بما سلف وعلى القوي المكتسب، لأن حرفته صيرتة في حكم الغني. ومن أجاز له تأول بما تقدم في أول كلام الطيبي وفي كلام السندي وابن الهمام (رواه أبوداود والنسائي) وأخرجه أيضاً الشافعي وأحمد (ج4 ص224) وأبوعبيد (ص549) والدارقطني (ص211) والطحاوي (ص303) والطبراني والبيهقي (ج7 ص14) كلهم من حديث هشام بن عروة عن أبي عبيد الله بن عدي بن الخيار، وقد سكت عنه أبوداود والمنذري. وقال الحافظ في بلوغ المرام: قواه أبوداود. وقال أحمد: ما أجوده من حديث، وقال هو أحسنها إسناداً. وقال صاحب التنقيح: حديث صحيح ورواته ثقات. وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. 1848- قوله: (وعن عطاء بن يسار) بفتح الياء تابعي جليل (مرسلاً) أي بحذف الصحابي وهو أبوسعيد الخدري كما سيأتي (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة) فتحل لهم وهم أغنياء؛ لأنهم أخذوها بوصف آخر قاله الزرقاني: وقال ابن رشد: الجمهور على أنه لا تجوز الصدقة للأغنياء بأجمعهم، إلا للخمس الذي نص عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث. روى عن ابن القاسم أنه لا يجوز أخذ الصدقة لغني أصلاً مجاهداً كان أو عاملاً. قال: وسبب اختلافهم هو هل العلة في إيجاب الصدقة للأصناف المذكورين هو الحاجة فقط أو الحاجة والمنفعة العامة إلى آخر ما قال. وعند الحنفية: سبب استحقاق الزكاة في الكل واحد وهو الفقر والحاجة إلا العاملين عليها والمؤلفة، واختلاف الأسماء إنما هو لبيان أسباب الحاجة. قال أبوبكر الجصاص الرازي في أحكام القرآن: وجميع من يأخذ

لغاز في سبيل الله، ـــــــــــــــــــــــــــــ الصدقة من هذه الأصناف فإنما يأخذها صدقة بالفقر، والمؤلفة قلوبهم والعاملون عليها لا يأخذونها صدقة. وإنما تحصل الصدقة في يد الإمام للفقراء ثم يعطي الإمام المؤلفة لدفع أذيتهم عن الفقراء وسائر المسلمين، ويعطيها العاملين عوضاً من أعمالهم لا على أنها صدقة عليهم. وإنما قلنا ذلك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: أمرت أن آخذ الصدقة من أغنياءكم وأوردها في فقراءكم، فبين إن الصدقة مصروفة إلى الفقراء فدل ذلك على أن أحداً لا يأخذها صدقة إلا بالفقر، وإن الأصناف المذكورين إنما ذكروا بياناً لأسباب الفقر- انتهى. قلت: اعتبار الفقر في جميع الأصناف غير العامل والمؤلف وجعله مناطاً للاستحقاق ليس بصحيح، فإن الله تعالى قد فرق بين هذه الأصناف بالتسمية وعطف بعضها على بعض، وجعل العامل وما بعده صنفاً غير الفقراء والمساكين، فلا يشترط وجودها معناهما فيما ذكر بعدهما كما لا يشترط معناه فيهما، ولا يجب وجود صفة هذين الصنفين في بقية الأصناف كما لا يلزم وجود صفة تلك الأصناف فيهما. وأما حديث معاذ ففيه بيان صنف واحد فقط، ولذا احتج به من ذهب إلى جواز صرف الزكاة إلى صنف واحد. قال القاري: ظاهر حديث معاذ إن دفع المال إلى صنف واحد جائز كما هو مذهبنا - انتهى. وهكذا استدل به لذلك ابن الجوزي وأبوعبيد والكاساني في البدائع، والقرطبي المالكي في المفهم، وابن قدامة في المغنى، وغيرهم من الشراح. وخص هذا الصنف بالذكر مع كون المقام مقام إرسال البيان لأهل اليمن وتعليمهم لمقابلة الأغنياء، ويحتمل أن يكون ذلك لكون الفقراء هم الأغلب أو لبيان أنهم الأحق والأهم. وكانت آية مصارف الزكاة معلومة معروفة فلم تكن حاجة إلى تعديد جميع مصارفها، وحديث الباب نص في الرد على الحنفية وعلى ابن القاسم، وقد تكلف ابن الهمام وغيره للجواب عنه كما سيأتي مع الرد عليه وقال الشوكاني في السيل الجرار: لا ينافي ما صرحت به الآية من المصارف الثمانية ما ورد من أن الزكاة تؤخذ من الأغنياء وترد في الفقراء، فإن ذلك محمول على أنه لم يوجد في المحل الذي أخذت منه إلا الفقراء. أما إذا وجد غيرهم فله حق فيها كحق الفقراء، فيجمع بين الأدلة بهذا، وأما من اشترط الفقر في جميع الأصناف فلا يحتاج إلى الجمع بهذا ولكن هذا الاشتراط خلاف ظاهر القرآن، وخلاف ما ثبت في السنة كقوله - صلى الله عليه وسلم -: لا تحل الصدقة لغني إلا لغاز في سبيل الله - الحديث. (لغاز في سبيل الله) أي يجوز له أخذ الزكاة والاستعانة بها في غزوه، وإن كان غنياً، وإليه ذهب الأئمة الثلاثة وإسحاق بن راهوية وأبوثور وأبوعبيد وابن المنذر وقال أبوحنيفة لا يحل للغازي إلا أن يكون منقطعاً به أو فقيراً ورُدّ بأن الأول داخل في الآية في ابن السبيل، والثاني في الفقراء وقد فرق الله تعالى بين سهم السبيل وابن السبيل والفقراء بالواو، والقول بأن منقطع الغزاة فقيراً، لا أنه زاد بالانقطاع في عبادة الله فكان مغايراً للفقير المطلق الخالي عن هذا القيد، لا يجدي شيئاً فإنه بقيد الفقر يبطل كون سبيل الله صنفاً مستقلاً، إذ يرجع حينئذ إلى الصنف الأول وهو الفقراء والمساكين. والحديث تفسير لقوله تعالى: {في سبيل

...................... ـــــــــــــــــــــــــــــ الله} [التوبة:60] إن المراد به الغزاة، وعليه الجمهور، قال أبوعبيد (ص610) بعد ذكر هذا الحديث فأرخص - صلى الله عليه وسلم - للغازي أن يأخذ من الصدقة وإن كان غنياً، ونراها تأويل هذه الآية قوله "وفي سبيل الله" وقال الخطابي: في الحديث بيان إن للغازي وإن كان غنياً أن يأخذ الصدقة، ويستعين بها في غزوة وهو من سهم سبيل الله وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق. وقال أصحاب الرأي لا يجوز أن يعطي الغازي من الصدقة إلا أن يكون منقطعاً به. قلت (قائله الخطابي) : سهم السبيل غير سهم ابن السبيل. وقد فرق الله بينهما بالتسمية وعطف أحدهما على الآخر بالواو والذي هو حرف الفرق بين المذكورين المنسوق أحدهما على الآخر، فقال وفي سبيل الله وابن السبيل والمنقطع به هو ابن السبيل، فأما سهم السبيل فهو على عمومه وظاهره في الكتاب. وقد جاء في هذا الحديث ما بينه ووكد أمره فلا وجه للذهاب عنه - انتهى. وقال الباجي: لا بأس أن يعطى من الزكاة للغازي وإن كان معه ما يغنيه وإن لم يأخذ فهو أفضل هذا قول مالك وبه قال الشافعي: وقال أبوحنيفة: لا يعطي الغازي الغني شيء من الصدقة ولا يحل له أخذها. وقال ابن المنذر: وأما قول أبي حنيفة لا يعطي الغازي من الزكاة إلا أن يكون محتاجاً فهو خلاف ظاهر الكتاب والسنة، فأما الكتاب فقوله تعالى: {وفي سبيل الله} وأما السنة فحديث أبي سعيد يعني الذي نحن في شرحه. وقال الشوكاني في السيل الجرار: تحت قول صاحب حدائق الأزهار وسبيل الله هو المجاهد الفقير ما لفظه، أقول قد عرفناك إن حديث أبي سعيد فيه التصريح بعدم اشتراط الفقر فيمن اشتمل عليه ومن جملتهم الغازي، فالسنة قد دلت على أنه يصرف إلى هذا الصنف مع الغنى. والقرآن لم يشترط فيه الفقر فلم يبق ما يوجب هذا الاشتراط، بل هو مجرد رأي بحت فيصرف إليه ما يحتاجه في الجهاد من سلاح ونفقة وراحلة وإن بلغ أنصباً كثيرة قلت: واستدل لأبي حنيفة بحديث معاذ: أمرت أن آخذ الصدقة من أغنياءكم وأردها في فقرائكم. قال الكاساني: جعل الناس قسمين. قسم، يؤخذ منهم. وقسم، يصرف إليهم. فلو جاز صرف الصدقة إلى الغني لبطلت القسمة وهذا لا يجوز، وبحديث عبد الله بن عمرو المتقدم بلفظ: لا تحل الصدقة لغني، قال ابن الهمام حديث: لا تحل الصدقة لغني مع حديث معاذ يفيد منع غنى الغزاة والغارمين عنها، فهو حجة على الشافعي في تجويزه لغني الغزاة إذا لم يكن له شيء في الديوان ولم يأخذ من الفيء وأجيب عن ذلك بأنه لو صح ما قال الكاساني للزم اشتراط الفقر في العامل والمؤلف أيضاً، ولما جاز دفع الزكاة إلى غنى العاملين والمؤلفة قلوبهم وإلا لبطلت القسمة، وأيضاً لزم تقييد إطلاق القرآن بخبر الواحد وهذا لا يجوز عند الحنيفة. وقدمنا إن حديث معاذ فيه بيان للصنف الواحد فقط من الأصناف الثمانية وهم الفقراء وذلك لمقابلة الأغنياء أو لكونهم إذ ذاك هم الأغلب لا، لأن هذا الصنف هو المصرف فقط. ولا لأن الفقر شرط في الأصناف الآخر، والمفهوم من الآية إن المعتبر في المصارف المذكورة. أما حاجتهم إلى الصدقة وهذا في الفقير والمسكين والرقبة والغارم لقضاء دينه وابن السبيل أو حاجة المسلمين إليهم والمنفعة العامة، وهذا في

............................. ـــــــــــــــــــــــــــــ العامل والمؤلف والغازي والغارم لا صلاح ذات البين. قال ابن العربي في أحكام القرآن: قال أبوحنيفة: لا يعطي الغازي إلا إذا كان فقيراً وهذه زيادة على النص وعنده إن الزيادة على النص نسخ ولا نسخ في القرآن إلا بقرآن مثله أو بخبر متواتر - انتهى. وأما حديث عبد الله بن عمرو فهو مجمل يفسره حديث عطاء بن يسار هذا وهو حديث موصول صحيح كما ستعرف. قال ابن عبد البر: هذا الحديث مفسر لمجمل قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوى وإنه ليس على عمومه، وأجمعوا على أن الصدقة المفروضة لا تحل لغير الخمسة المذكورين - انتهى. وأجاب الحنفية عن هذا الحديث بوجوه. منها: ما قال العيني: المراد من قوله: لغاز في سبيل الله هو الغازي الغني بقوة البدن والقدرة على الكسب، لا الغني بالنصاب الشرعي بدليل حديث معاذ وفي ذكر هذا غنى عن الرد، ويدل على بطلانه أيضاً حديث عبد الله بن عمرو وحديث عبيد الله بن عدي بن الخيار المتقدمين كما لا يخفي. ومنها: ما قيل إن المستثنى مقيد بالفقر وإطلاق الغني عليه مجاز باعتبار ما كان. قال الكاساني في البدائع: وأما استثناء الغازي فمحمول على حال حدوث الحاجة وسماه غنياً على اعتبار ما كان قبل حدوث الحاجة وهو أن يكون غنياً، ثم تحدث له الحاجة بأن كان له دار يسكنها، ومتاع يمتهنه، وثياب يلبسها وله مع ذلك فضل مائتي درهم حتى لا تحل له الصدقة، ثم يعزم على الخروج في سفر غزو فيحتاج إلى آلات السفر والسلاح والمركب، فيجوز أن يعطي من الصدقة ما يستعين به في حاجته التي تحدث له في سفره، وهو في مقامه غني بما يملكه، لأنه غير محتاج في حال الإقامة. فيحمل قوله: لا تحل الصدقة لغني إلا لغاز في سبيل الله على من كان غنياً في حال مقامه، فيعطي بعض ما يحتاج لسفره لما أحدث له السفر من الحاجة إلا أنه يعطي حين يعطي وهو غني - انتهى ملخصاً. وفيه إن هذا يدل على أن المراد من الغازي هو الغني الذي تحدث له الحاجة إلى جهز الجهاد عند إرادة الغزو وإنشاء سفره، وهذا مخالف لما صرح به الحنفية في كتب فروعهم من أن المراد من سبيل الله في الآية منقطع الغزاة. ثم فسروه بالذي عجز عن اللحوق بجيش الإسلام لفقره بهلاك النفقة والدابة أو غيرها وإن كان في بيته مال وافر، فتحل له الصدقة وإن كان كاسباً - انتهى. وقال في شرح الأحياء قال أبوحنيفة: هذا السهم مخصوص بجنس خاص من الغزاة وهو الفقير المنقطع، وبه فسر في سبيل الله وبه قال أبويوسف وهو المفهوم من اللفظ عند الإطلاق فلا يصرف إلى أغنياء الغزاة - انتهى. وفيه أيضاً تقييد المستثنى بالفقر مع كون المستثنى منه مطلقاً، وارتكاب المجاز من غير دليل وهذا لا يجوز: وأما حديث معاذ فقد تقدم توجيهه. ومنها ما ذكر ابن الهمام قيل: لم يثبت هذا الحديث يعني الذي استدل به الشافعي ومن وافقه، وهو حديث عطاء بن يسار ولو ثبت لم يقو قوة حديث معاذ، فإنه رواه أصحاب الكتب الستة مع قرينة حديث عبد الله بن

........................... ـــــــــــــــــــــــــــــ عمرو ولو قوي قوته، ترجح حديث معاذ بأنه مانع وما رواه مبيع ذكره القاري. قلت: حديث عطاء بن يسار هذا موصول صحيح ثابت قوي لا مطعن فيه كما ستعرف، ولا مخالفة بينه وبين حديثي عبد الله بن عمرو ومعاذ حتى يصار إلى الترجيح وقد تقدم بيان معناهما فائدة اختلفوا في المراد من سبيل الله في آية المصارف فقيل: المراد به الغزاة وعليه الجمهور. قال الباجي: هو الغزو والجهاد قاله مالك وجمهور الفقهاء. وقال الخرقي وسهم في سبيل الله وهم الغزاة. قال ابن قدامة: هذا الصنف السابع من أهل الزكاة ولا خلاف في استحقاقهم ولا خلاف في أنهم الغزاة في سبيل الله عند الإطلاق هو الغزو - انتهى. ثم اختلف أهل هذا القول. فقال الأكثر: إنهم يعطون ما ينفقون في غزوهم وإن كانوا أغنياء. وقال أبوحنيفة وأبويوسف: لا يعطي الغازي إلا إذا كان فقيراً منقطعاً به. قال الحافظ: أما سبيل الله فالأكثر على أنه يختص بالغازي غنياً كان أو فقيراً، إلا أن أباحنيفة قال يختص بالغازي المحتاج. وقيل: المراد منه منقطع الحاج وبه قال محمد وروى عن أحمد وإسحاق إن الحج أيضاً من سبيل الله يعني إن الحج من جملة السبل مع الغزو ولأنه طريق بر. قال ابن قدامة: وعن أحمد رحمه الله رواية أخرى لا يصرف منها في الحج وبه قال مالك والليث وأبوحنيفة والثوري والشافعي وأبوثور وابن المنذر. وقيل: اللفظ عام فلا يجوز قصره على نوع خاص ويدخل فيه جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الجسور والحصون وعمارة المساجد وغير ذلك، نقل ذلك القفال عن بعض الفقهاء من غير أن يسميه كما في حاشية تفسير البيضاوي لشيخزادة، وإليه مال الكاساني إذ فسره بجميع القرب. قال في البدائع سبيل الله عبارة عن جميع القرب ويدخل فيه كل من سعى في طاعة الله وسبيل الخيرات إذا كان محتاجاً. وقال النووي في شرح مسلم: وحكى القاضي عياض عن بعض العلماء أنه يجوز صرف الزكاة في المصالح العامة، وتأول عليه هذا الحديث، أي ما روى البخاري في القسامة أنه صلى الله عليه وسلم وداه الذي قتل بخيبر مائة من إبل الصدقة. قلت واحتج للقول الثاني بما روى أبوداود عن ابن عباس إن امرأة قالت لزوجها أحججني مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جملك فلان قال ذاك حبيس في سبيل الله - الحديث. وفيه إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أما أنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله. وبما روى عن أم معقل الاسدية إن زوجها بكراً في سبيل الله وإنها أرادت الحج - الحديث. وفيه فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعطيها البكر، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الحج من سبيل الله أخرجه أحمد وغيره. وبما روى عن أبي لاس قال حملنا النبي - صلى الله عليه وسلم - على إبل من الصدقة للحج ذكره البخاري تعليقاً بصيغة التمريض، ووصله أحمد وابن خزيمة والحاكم. قال الشوكاني: حديث أم معقل وحديث

................................ ـــــــــــــــــــــــــــــ أبي لاس يدلان على أن الحج من سبيل الله، وإن من جعل شيئاً من ماله في سبيل الله جاز له صرفه في تجهيز الحجاج، وإذا كان شيئاً مركوباً جاز حمل الحاج عليه، ويدلان أيضاً على أنه يجوز صرف شيء من سهم سبيل الله من الزكاة إلى قاصدين الحج - انتهى. وبما روى ابن عبيد في الأموال عن أبي معاوية وابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي جعفر كلاهما عن الأعمش عن حسن إلى الأشرس عن مجاهد عن ابن عباس، أنه كان لا يرى بأساً أن يعطى الرجل من زكاة ماله في الحج وأن يعتق منها الرقبة. وبما روى عن ابن عمر أنه سئل عن امرأة أوصت بثلاثين درهماً في سبيل الله فقيل له أتجعل في الحج؟ فقال أما أنه من سبل الله أخرجه أبوعبيد بإسناد صحيح عنه. والقول الراجح عندي: هو ما ذهب إليه الجمهور من أن المراد به الغزو والجهاد خاصة، لأن سبيل الله إذا أطلق في عرف الشرع فهو في الغالب واقع على الجهاد حتى كأنه مقصور عليه. قال ابن العربي في أحكام القرآن: قوله: "في سبيل الله " قال مالك سبل الله كثيرة، ولكني لا أعلم خلافاً في أن المراد بسبيل الله ههنا الغزو. ولحديث عطاء بن يسار الذي نحن في شرحه وهو حديث صحيح مفسر لقوله: في سبيل الله في الآية فيجب حمله عليه، ولم أر عنه جواباً شافياً من أحد، وإليه ذهب ابن حزم إذ قال، وأما سبيل الله فهو الجهاد بحق. ثم ذكر حديث عطاء بن يسار عن أبي سعيد من طريق أبي داود وهو الذي رجحه ابن قدامة حيث قال: وهذا أصح لأن سبيل الله عند الإطلاق إنما ينصرف إلى الجهاد فإن كل ما في القرآن من ذكر سبيل الله إنما أريد به الجهاد إلا اليسير، فيجب أن يحمل ما في هذه الآية على ذلك لأن الظاهر أرادته به - انتهى. وهو الذي صححه الخازن في تفسيره حيث قال: والقول الأول هو الصحيح لإجماع الجمهور عليه، ورجحه أيضاً العلامة القنوجي البوفالي في تفسيره إذ قال: والأول أولى لإجماع الجمهور عليه وبه فسر الشوكاني في فتح القدير (ج2:ص356) ورجحه، واختاره أيضاً غيرهم من المفسرين. وأما الأحاديث التي استدل بها أهل القول الثاني فقد أجيب عنها بوجهين. الأول الكلام فيها إسناداً فإن حديث ابن عباس في إسناده عامر بن عبد الواحد الأحول وقد تكلم فيه أحمد والنسائي. وقال الحافظ: صدوق يخطيء. وقد روى الشيخان عن ابن عباس نحو هذه القصة وليس عندهما إنه جعل جملة حبيساً في سبيل الله ولا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لو احججتها عليه كان في سبيل الله. وأما حديث أم معقل ففيه اضطراب كثير واختلاف شديد في سنده ومتنه حتى تعذر الجمع والترجيح مع ما في بعض طرقه من راو ضعيف ومجهول ومدلس قد عنعن، وهذا مما يوجب التوقف فيه وذلك لا يشك فيه من ينظر في طرق هذا الحديث في مسند الإمام أحمد وفي السنن مع حديث ابن عباس عند الشيخين وأبي داود وابن أبي شيبة، ومع قصة أم طليق عند ابن السكن وابن مندة والدولابي. وقد حمل ذلك بعضهم على

.......................... ـــــــــــــــــــــــــــــ وقائع متعددة ولا يخفى بعده. وأما حديث أبي لاس، فقال الحافظ في الفتح: رجاله ثقات، إلا أن فيه عنعنة ابن إسحاق، ولهذا توقف ابن المنذر في ثبوته - انتهى. ويشير بذلك إلى ما حكى عنه أنه قال إن ثبت حديث ابن لاس قلت بذلك، قال الحافظ: وتعقب بأنه يحتمل أنهم كانوا فقراء وحملوا عليها خاصة ولم يتملكوها - انتهى. وأما أثر ابن عباس فهو أيضاً مضطرب صرح به أحمد كما في الفتح، وقد بين اضطرابه الحافظ، ولذلك كف أحمد عن القول بالإعتاق من الزكاة تورعاً وقيل بل رجح عن هذا القول. والثاني أنه لا ينكر إن الحج من سبيل الله بل كل فعل خير من سبل الله، لكن لا يلزم من هذا أن يكون السبيل المذكور في هذه الأحاديث هو المذكور في الآية، فإن المراد في هذه الأحاديث المعنى الأعم وفي الآية نوع خاص منه، وهو الغزو والجهاد، لحديث أبي سعيد. وإلا فجميع الأصناف من سبيل الله بذلك المعنى. قال ابن حزم: فإن قيل قد روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الحج من سبيل الله، وصح عن ابن عباس أن يعطى منها في الحج، قلنا نعم، وكل فعل خير فهو من سبيل الله تعالى، إلا أنه لا خلاف في أنه تعالى لم يرد كل وجه من وجوه البر في قسمة الصدقات، فلم يجز أن توضع إلا حيث بين النص وهو الذي ذكرنا - انتهى. وقال ابن قدامة: هذا أي عدم صرف الزكاة في الحج أصح، لأن الزكاة إنما تصرف إلى أحد رجلين محتاج إليها كالفقراء والمساكين، وفي الرقاب والغارمين لقضاء ديونهم وابن السبيل، أو من يحتاج إليه المسلمون كالعامل والغازي والمؤلف والغارم لإصلاح ذات البين والحج من الفقير لا، نفع للمسلمين فيه ولا حاجة بهم إليه ولا حاجة به أيضاً إليه، لأن الفقير لا فرض عليه فيسقطه ولا مصلحة له في إيجابه عليه وتكليفه مشقة قدر فهه الله منها، وخفف عنه إيجابها. وأما الخير (يعني حديث إن الحج في سبيل الله) فلا يمنع أن يكون الحج من سبيل الله، والمراد بالآية غيره لما ذكرنا - انتهى. وقال ابن الهمام: متعقباً على الاستدلال المذكور، ثم فيه نظر لأن المقصود ما هو المراد بسبيل الله المذكور في الآية، والمذكور في الحديث لا يلزم كونه إياه لجواز أنه أراد الأمر الأعم وليس ذلك المراد في الآية بل نوع مخصوص، وإلا فكل الأصناف في سبيل الله بذلك المعنى - انتهى. وقال صاحب تفسير المنار: بعد الكلام في سند حديث أم معقل ما لفظه، وأقول من جهة المعنى. أولاً إن جعل أبي معقل جمله في سبيل الله أو وصيته به صدقة تطوع، وهي لا يشترط فيها إن تصرف في هذه الأصناف التي قصرتها عليها الآية، وثانياً: إن حج امرأته عليه ليس تمليكاً لها يخرج الجمل عن إبقاءه على ما أوصى به أبومعقل، ويقال مثل هذا في حديث أبي لاس. وثالثاً: إن الحج من سبيل الله بالمعنى العام للفظ، والراجح المختار أنه غير مراد في الآية - انتهى. وأما القول الثالث: فهو أبعد الأقوال لأنه لا دليل عليه لا من كتاب ولا من سنة صحيحة أو سقيمة ولا من إجماع، ولا من رأى صحابي

...................... ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا من قياس صحيح أو فاسد، بل هو مخالف للحديث الصحيح الثابت، وهو حديث أبي سعيد. ولم يذهب إلى هذا التعميم أحد من السلف إلا ما حكى القفال في تفسيره عن بعض الفقهاء المجاهيل، والقاضي عياض عن بعض العلماء الغير المعروفين. قال صاحب تفسير المنار: أما عموم مدلول هذا اللفظ فهو يشمل كل أمر مشروع أريد به مرضاة الله تعالى بإعلاء كلمته وإقامة دينه وحسن عبادته ومنفعة عباده ولا يدخل فيه الجهاد بالمال والنفس إذا كان لأجل الرياء والسمعة، وهذا العموم لم يقل له أحد من السلف ولا الخلف، ولا يمكن أن يكون مراداً هنا. لأن الإخلاص الذي يكون به العمل في سبيل الله أمر باطني لا يعلمه إلا الله تعالى، فلا يمكن أن تناط به حقوق مالية دولية. وإذا قيل إن الأصل في كل طاعة من المؤمن أن تكون لوجه الله تعالى: فيراعي هذا في الحقوق عملاً بالظاهر، اقتضى هذا أن يكون كل مصل وصائم ومتصدق. وقال: للقرآن وذاكر لله تعالى ومميط للأذى عن الطريق مستحقاً بعمله هذا للزكاة الشرعية، فيجب أن يعطى منها. ويجوز له أن يأخذ منها وإن كان غنياً، وهذا ممنوع بالإجماع أيضاً وإرادته تنافي حصر المستحقين في الأصناف المنصوصة. لأن هذا الصنف لأحد لجماعاته فضلاً عن أفراده، وإذا وكل أمره إلى السلاطين والأمراء تصرفوا فيه بأهوائهم تصرفاً، تذهب حكمة فرضية الصدقة من أهلها - انتهى. وأما ما يذكر للاحتجاج لذلك من رواية البخاري في دية الأنصارى الذي قتل بخيبر مائة من غبل صدقة، فهو مخالف لما روى البخاري أيضاً في قصته إنه وداه من عنده. وجمع بين الروايتين، بأنه اشتراه من أهل الصدقة بعد أن ملكوها ثم دفعها تبرعاً إلى أهل القتيل، حكاه النووي عن الجمهور، وعلى هذا فلا حجة فيه لمن ذهب إلى التعميم. وإذا تقرر هذا فلا يجوز صرف الزكاة في عمارة المساجد والمعاهد الدينية وبناء الجسور، وإصلاح الطرق والشوارع وتكفين الموتى وقضاء ديونهم وغير ذلك من أنواع البر. لأنه ليس هذا في شيء من المصارف المنصوصة. وهو مذهب أحمد كما يظهر من المغنى (ج2 ص667) ومالك كما في المدونة (ج2 ص59) وسفيان وأهل العراق وغيرهم من العلماء كما في الأموال لأبي عبيد (ص610) هذا وقد ألحق بعض العلماء بالغازي من كان قائماً بمصلحة من مصالح المسلمين كالقضاء والإفتاء والتدريس وإن كان غنياً، وأدخله بعضهم في العالمين فأجاز له الأخذ من الزكاة فيما يقوم به مدة القيام بالمصلحة وإن كان غنياً، ولا يخفى ما فيه. وقال صاحب المنار: إن سبيل الله هنا مصالح المسلمين الشرعية التي بها قوام أمر الدين والدولة دون الأفراد والأشخاص، وان الحج ليس منها. وقال: وأولها وأولاها بالتقديم الاستعداد للحرب بشراء السلاح، وأغذية الجند وأدوات التنقل وتجهيز، قال ويدخل في عمومه إنشاء المستشفيات العسكرية والخيرية، وأشراع الطرق وتعبيدها ومد الخطوط الحديدية العسكرية لا التجارية. ومنها بناء البوارج المدرعة والمنطادات والطيارات الحربية

أو لعامل عليها، ـــــــــــــــــــــــــــــ والحصون والخنادق، قال: ويدخل فيه النفقة على المدارس للعلوم الشرعية وغيرها مما تقوم به المصلحة العامة، وفي هذه الحالة يعطى منها معلمو هذه المدارس ماداموا يؤدون وظائفهم المشروعة التي ينقطعون بها عن كسب آخر ولا يعطي عالم غني لأجل علمه وإن كان يفيد الناس به - انتهى. قلت: حديث أبي سعيد ينافي هذا التعميم لكونه كالنص، في أن المراد بسبيل الله المطلق في الآية هم الغزاة والمجاهدون خاصة فيجب الوقوف عنده (أو لعامل عليها) أي على الصدقة قال تعالى {والعاملين عليها} [التوبة:60] أي الذين يوليهم الامام أو نائبه العمل على جمعها من الأغنياء وهم الجباة والسعاة وعلى حفظها وهم الخزنة وكذا الرعاة للإنعام منها والكتبة لديوانها. قال ابن قدامة: هم السعاة الذين يبعثهم الامام لأخذها من أربابها وجمعها وحفظها ونقلها وممن يعينها ممن يسوقها ويرعاها ويحملها، وكذلك الحاسب والكاتب والكيال والوزان والعداد وكل من يحتاج إليه فيها - انتهى. وفي الحديث دليل على أنه تحل الصدقة للعامل وإن كان غنياً، والمراد بذلك ما يعطى بطريق العمالة، بضم المهملة وخفة الميم، أي رزقه على عمله. ولا خلاف في هذا بين أهل العلم، لأن ما يستحقه العامل إنما يستحقه بطريق العمالة لا بطريق الصدقة، فلا يشترط أن يكون فقيراً. قال الخطابي: أما العامل فإنه يعطى منها عمالة على قدر عمله وأجرة مثله فسواء كان غنياً أو فقيراً فإنه يستحق العمالة إذا لم يفعله متطوعاً - انتهى. فإن كان العامل عمالته على عمله لا على فقره فإن لم تكفه كان له أن يأخذ بفقره ما يأخذ أمثاله. ثم اختلف العلماء: هل يستحق العامل على عمله جزاء منها معلوماً معيناً سبعاً أو ثمناً أو يعطى قدر عمله على حسب اجتهاد الإمام، فحكى عن الشافعي إنه يعطى الثمن لكن في فروع الشافعية إنه يعطى قدر أجرة عمله، وهكذا عند المالكية الحنابلة والحنفية إنه يعطى بقدر أجره وعمله، روى أبوعبيد عن مالك أنه قال: ليس للعامل على الصدقة فريضة مسماة، إنما ذلك إلى نظر الإمام وإجتهاده. قال أبوعبيد: وكذلك قول سفيان وأهل العراق، وهذا عندنا هو المعمول به لا قول من يذهب إلى توقيت الثمن. ولو كان ذلك محدوداً لكانت حال الأصناف الثمانية كلهم كحالهم، أي كحال العاملين، لكنهم عندنا إنما هم ولاة من ولاة المسلمين كسائر العمال من الأمراء والحكام وجباة الفيء وغير ذلك فإنما لهم من المال بقدر سعيهم وعمالتهم ولا يبخسون منه شيئاً ولا يزادون عليه - انتهى. ثم إنه يبدأ بإعطاء العامل عند المالكية والحنابلة. لأنه يأخذه على طريق المعاوضة فكان إستحقاقه أقوى ولذلك يعطى جميعها إن كانت قدر عمله وإذا عجزت عن أجره تمم له من بيت المال. ولا يزاد على نصف ما يجمعه عند الحنفية، وعلى الثمن عند الشافعية. قال في الأحياء: إن فضل شيء من الثمن عن أجر مثله رد على بقية الأصناف، وإن نقص كمل من مال المصالح - انتهى. ثم اختلفوا: في أن الاستحقاق العامل بعمله هل على سبيل الكفاية له ولا عوانه أو على سبيل

أو لغارم ـــــــــــــــــــــــــــــ الأجرة. فقال الحنفية: كما في البدائع على سبيل الكفاية لا على طريق الأجرة، لأن مجهولة. لأن قدر الكفاية له ولا عوانه غير معلوم. ولأن الأجرة لا تكون إلا على عمل معلوم ومدة معينة. وقال غيرهم: بطريق الأجرة لكن عند الشافعية يستحق أجرة المثل. وقال ابن قدامة: (ج6:ص426) الامام مخير بين أن يستأجر العامل إجارة صحيحة بأجر معلوم إما على مدة معلومة وإما على عمل معلوم، وبين أن يجعل له جعلاً معلوماً على عمله فإذا عمله استحق المشروط وإن شاء بعثه من غير تسمية ثم أعطاه، فإن عمر رضي الله عنه قد عمله رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما رجع من عمله فقال عمر: أعطه أحوج مني - الحديث. فإن تلفت الصدقة بيده قبل وصولها إلى أربابها من غير تفريط فلا ضمان عليه، ويستحق أجرة من بيت المال وإن لم تتلف أعطى أجر عمله منها، وإن كان أكثر من ثمنها أو أقل. ثم قسم الباقي على أربابها لأن ذلك من مؤنتها فجرى مجرى علفها ومداومتها، وإن رأى الامام أعطاه أجرة من بيت المال أو يجعل له رزقاً في بيت المال ولا يعطيه منها شيئاً فعل -انتهى. قلت: الظاهر عندي إن العامل يستحقه على سبيل الأجرة، لأن سبب الاستحقاق إنما هو عمله فيكون المأخوذ في مقابلته أجرة، فيعطى عمالة بقدر عمله وأجرة مثله، فإن كانت زائدة على حاجته أو كان غير محتاج فله أن يأكل منها ويتصدق، كما يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: كل وتصدق، وقد يجب عليه الزكاة فيما يأخذ منها بشروطها من النصاب والحول، وقد يستغنى عنه فيسقط سهمه. ثم هذا مخصص بما تقدم من حديث المطلب بن ربيعة وحديث أبي رافع فلا يعطى العامل الهاشمي ومولاه عمالته منها (أو لغارم) هو من غرم لا لنفسه بل لغيره كإصلاح ذات البين بأن يخاف وقوع فتنة بين شيخين أو قبيلتين فيستدين من يطلب صلاح الحال بينهما مالاً لتسكين الثائرة فيجوز له أن يقضى ذلك من الزكاة وإن كان غنياً، هذا فسره الشافعي والجمهور. قال ابن تيمية في المنتقى يحمل هذا الغارم على من تحمل حمالة لإصلاح ذات البين كما في حديث قبيصة الآتي لا لمصلحة نفسه لقوله في حديث أنس، أو لذي غرم مفظع - انتهى. وقال الخطابي: أما الغارم الغني فهو الرجل يتحمل الحمالة ويدان في المعروف وإصلاح ذات البين، وله مال إن بيع فيها افتقر فيوفر عليه ماله، ويعطى من الصدقة ما يقضي به دينه. وأما الغارم الذي يدان نفسه وهو معسر فلا يدخل في هذا المعنى، لأنه من جملة الفقراء - انتهى. وقال أبوحنيفة: الغارم مديون استغرق دينه ماله، وفي الهداية الغارم من لزمه دين ولا يملك نصاباً فاضلاً عن دينه. ورد بأنه من جملة الفقراء، والحاصل إن الغارم يحل له أخذ الزكاة لقضاء ما تحمل وإن كان غنياً فهو كالغازي والمؤلف عند الشافعي وأحمد والجمهور. قال أبوحنيفة: لا تحل له إلا إذا كان فقيراً لعموم حديث عبد الله بن عمرو المتقدم مع حديث معاذ. قال الشوكاني: لا وجه لاشتراط الفقر فيه فإن القرآن لم يشترط ذلك، والسنة المطهرة مصرحة بعدم اشتراط الفقر فيه، كما في حديث أبي سعيد فذكره، ثم قال فهذا الحديث فيه التصريح بعدم اشتراط الفقر في الغارم. ومن ذكر معه بل

أو لرجل اشتراها بماله، ـــــــــــــــــــــــــــــ يعطى الغارم من الزكاة ما يقضى دينه. وإن كان أنصباً كثيرة، وأجاب الكاساني عن هذا الحديث بمثل ما أجاب به في مسألة الغازي، فقال تسمية الغارم غنياً على اعتبار ما كان قبل حلول الغرم به، وقد حدثت له الحاجة بسبب الغرم وقد تقدم الجواب عن هذا (أو لرجل) أي غني (اشتراها) أي الزكاة من الفقير (بماله) وهذا بعمومه يقتضى جواز شراء المتصدق صدقته ممن دفعها إليه، وهو قول أبي حنيفة والشافعي ومن وافقهما، وحمل هؤلاء قوله - صلى الله عليه وسلم - لا تبتعه ولا تعد في صدقتك على كراهة التنزيه. وذهب قوم إلى عدم جواز شراء صدقة نفسه، وحملوا النهى على التحريم، وقالوا المراد بالرجل الغني في حديث أبي سعيد غير المتصدق، فيجوز له شراء صدقة غيره. قال ابن قدامة (ج2:ص651) وليس لمخرج الزكاة شراءها ممن صارت إليه، وروى ذلك عن الحسن وهو قول قتادة ومالك. قال أصحاب مالك: فإن اشتراها لم ينقض البيع. وقال الشافعي وغيره: يجوز لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة، رجل ابتاعها بماله. وروى سعيد في سننه إن رجلاً تصدق على أمه بصدقة ثم ماتت، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: قد قبل الله صدقتك وردها إليك الميراث وهذا في معنى شراءها. ولأن ما صح أن يملك إرثاً صح أن يملك ابتياعاً كسائر الأموال. ولنا ما روى عمر أنه قال حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه الذي كان عنده وظننت أنه بائعه برخص، فأردت أن أشتريه، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: لا تبتعه ولا تعد في صدقتك ولو أعطاكه بدرهم - الحديث متفق عليه. فإن قيل يحتمل إنها كانت حبسا في سبيل الله فمنعه لذلك، قلنا لو كان حبساً لما باعها الذي هي في يده، ولا هم عمر بشراءها. ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أنكر بيعها إنما أنكر على عمر الشراء معللاً بكونه عائداً في الصدقة الثاني إننا نحتج بعموم اللفظ من غير نظر إلى خصوص السبب. فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تعد في صدقتك أي بالشراء، والأخذ بعموم اللفظ أولى من التمسك بخصوص السبب، فإن قيل: إن اللفظ لا يتناول الشراء فإن العود في الصدقة استرجاعها بغير عوض وفسخ للعقد كالعود في الهبة، ولو وهب إنساناً شيئاً ثم اشتراه منه جاز. قلنا: النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر ذلك جواباً لعمر حين ٍسأله عن شراء الفرس، فلو لم يكن اللفظ متناولاً للشراء المسئول عنه لم يكن مجيباً له، ولا يجوز إخراج خصوص السبب من عموم اللفظ، لئلا يخلو السؤال عن الجواب. وقد روى عن جابر وابن عمر النهى عن اشتراء المتصدق صدقته، ولأن في شراءه لها وسيلة إلى استرجاع شيء منها. لأن الفقير يستحي منه فلا يماكسه في ثمنها، وربما رخصها له طمعاً في أن يدفع إليه صدقة أخرى. أما حديثهم فنقول به وإنها ترجع إليه بالميراث وليس هذا محل النزاع. قال ابن عبد البر: كل العلماء يقولون إذا رجعت إليه بالميراث طابت له إلا ابن عمر والحسن بن حي، وليس البيع في معنى الميراث لأن الملك ثبت بالميراث حكماً بغير اختياره، وحديث أبي سعيد

أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق على المسكين، فأهدى المسكين للغنى)) . رواه مالك وأبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ عام وحديثنا خاص فالعمل به أولى - انتهى. وقال الشوكاني: لا معارضة بين الحديثين، لأن حديث عمر في صدقة التطوع وحديث أبي سعيد في صدقة الفريضة، فيكون الشراء جائزاً في صدقة الفريضة إلى آخر ما قال (أو لرجل) أي غني (كان له جار) ذكره تمثيلاً لا إحترازاً فلا مفهوم له (مسكين) المراد به ما يعم الفقير أيضاً (فتصدق) بصيغة المجهول (على المسكين) بشيء (فأهدى) أي ذلك الشيء (المسكين) بالرفع (للغني) أي فيحل له كما تقدم في قصة بريرة، وفي هذا والذي قبله دليل على أن الزكاة، والصدقة إذا بلغت محلها ملكها الآخذ فيجوز له التصرف فيها بالبيع والصدقة والهدية، وتغيرت صفتها وزال عنها اسم الزكاة وتغيرت الأحكام المتعلقة بها. والحكم المذكور في الحديث إنما هو صدقة الفريضة. وأما التطوع فيحل للغني والفقير مطلقاً (رواه مالك) أي عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار مرسلاً (وأبوداود) وأخرجه أيضاً الحاكم (ج1:ص408) كلاهما من طريق مالك ورواه البيهقي من طريق أبي داود (ج7:ص15) قال أبوداود: ورواه ابن عيينة عن زيد بن أسلم كما قال مالك أي مرسلاً، ورواه الثوري عن زيد فقال: حدثني الثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى. وأخرجها أبوعبيد في الأموال (ص549-610) قال حدثنا يحيى بن سعيد عن سفيان عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار مرسلاً. قال ابن عبد البر: قد وصل هذا الحديث جماعة من رواية زيد بن أسلم - انتهى. قلت اختلف في هذا الحديث على زيد بن أسلم عن عطاء. فقال مالك وابن عيينة وغيرهما: من أصحابه عنه، هكذا مرسلاً. ورواه الثوري. فقيل عنه هكذا، وقيل عن عطاء حدثني الثبت كما أشار إليه أبوداود. وقيل عن عطاء عن أبي سعيد الخدري أخرجه الدارقطني (ص211) والبيهقي (ج7:ص15) من طريق عبد الرزاق عن معمر والثوري كلاهما عن زيد بن أسلم عن عطاء عن أبي سعيد. ورواه معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء عن أبي سعيد من غير خلاف فيه، أخرجه أبوداود وابن ماجه وأحمد (ج3:ص56) والبزار والحاكم (ج1:ص407) والبيهقي (ج7:ص15-22) والوصل زيادة من الثقة العدل لا يحل تركها، فلا يلتفت إلى قول من أعله بإرسال من أرسله كائناً من كان، وقد صححه جماعة كما قال الحافظ في التلخيص. ومنهم الحاكم حيث قال: حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. قال الحاكم: ولم يخرجه الشيخان لإرسال مالك إياه عن زيد بن أسلم، ثم رواه من طريقه مرسلاً، وقال هذا من شرط في خطبة الكتاب إنه صحيح فقد يرسل مالك في الحديث ويصله ويسنده ثقة، والقول قول الثقة الذي يصله ويسنده.

1849- (14) وفي رواية لأبي داود عن أبي سعيد: أو ابن السبيل. 1850- (15) وعن زياد بن الحارث الصدائي، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته، فذكر حديثاً طويلاً، فأتاه رجل فقال: أعطني من الصدقة. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات، حتى حكم فيها هو ـــــــــــــــــــــــــــــ 1849- قوله: (وفي رواية داود عن أبي سعيد) هذه الرواية من رواية عطية بن سعد العوفي عن أبي سعيد، وقد أخرجها البيهقي (ج7:ص22-23) والطحاوي (ج1:ص206) أيضاً. قال المنذري: وعطية هو ابن سعد أبوالحسن العوفي الكوفي ولا يحتج بحديثه (أو ابن السبيل) هو الغريب المنقطع عن ماله، وإن كان غنياً في وطنه. قال ابن قدامة: (ج6:ص438) هو المسافر الذي ليس له ما يرجع به إلى بلده وله اليسار في بلده فيعطى ما يرجع به، وهذا قول قتادة، ونحوه قال مالك وأصحاب الرأي. وقال الشافعي: هو المجتاز، ومن يريد إنشاء السفر إلى بلد أيضاً فيدفع إليهما ما يحتاجان إليه لذهابهما وعودهما، لأنه يريد السفر لغير معصية، فأشبه المجتاز. ولنا أن ابن السبيل هو الملازم للطريق الكائن فيها كما يقال "ولد الليل" للذي يكثر الخروج فيه، والقاطن في بلده ليس في طريق، ولا يثبت له حكم الكائن فيها ولهذا لا يثبت له حكم السفر بهمه به دون فعله، ولأنه لا يفهم من ابن السبيل إلا الغريب دون من هو في وطنه ومنزله، وإن انتهت به الحاجة منتهاها فوجب أن يحمل المذكور في الآية (وكذا في الحديث) على الغريب دون غير إلى آخر ما بسطه. قال البيهقي: (ج7:ص23) هذا الحديث إن صح قائماً أراد والله أعلم. ابن سبيل غني في بلده، محتاج في سفره. وحديث عطاء بن يسار عن أبي سعيد أصح طريقاً، وليس فيه ذكر ابن السبيل - انتهى. قلت مدار هذه الرواية على عطية العوفي، وقد تقدم كلام المنذري فيه. وقال أبوداود: ليس بالذي يعتمد عليه، وضعفه أحمد وأبوحاتم والنسائي، وذكره ابن حبان في الضعفاء. وقال أبوزرعة لين. وقال الحافظ: صدوق يخطيء كثيراً كان شيعياً مدلساً. 1850- قوله: (الصدائي) بضم صاد وخفة دال مهملة فألف فهمزة نسبة إلى صداء (فذكر) أي زياد بن الحارث (حديثاً طويلاً) رواه المزي في تهذيبه بسنده عن زياد بن نعيم الحضرمي عن زياد بن الحارث، ونقله عنه في حاشية تهذيب التهذيب تحت ترجمة زياد بن الحارث (فأتاه) أي أتى النبي صلى الله عليه وسلم (رجل) لم يعرف اسمه (فقال) أي الرجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات) أي في مصارفها (حتى حكم فيها هو) بنفسه. قال الخطابي: فيه دليل على أن بيان الشريعة قد يقع من وجهين أحدهما

فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ ما تولى الله بيانه في الكتاب، وأحكم فرضه فليس به حاجة إلى زيادة من بيان النبي صلى الله عليه وسلم، وبيان شهادات الأصول والوجه الآخر ما ورد ذكره في الكتاب مجملاً، ووكل بيانه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو يفسره قولاً وفعلاً. أو يتركه على إجماله ليتنبه فقهاء الأمة ويستدركوه استنباطاً وإعتباراً بدلائل الأصول، وكل ذلك بيان مصدره عن الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - (فجزأها) بتشديد الزاي فهمز من التجزئة أي قسم أصحابها (ثمانية أجزاء) أي أصناف أو قسم مصارفها ثمانية أنواع (فإن كنت من تلك الأجزاء) أي من أصحاب تلك الأجزاء (أعطيتك) كذا في جميع النسخ، وكذا نقله المجد بن تيمية في المنتقى، ووقع في سنن أبي داود أعطيتك حقك، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول، والبغوي في المصابيح، والخطابي في المعالم. وكذا وقع عند البيهقي. والظاهر أنه سقط لفظ حقك من نسخ المشكاة من النساخ، أو قلد المصنف في ذلك صاحب المنتقى. قال الخطابي (ج2:ص56) : في قوله "فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك" دليل على أنه لا يجوز جمع الصدقة كلها في صنف واحد، وإن الواجب تفرقتها على أهل السهمان بحصصهم، ولو كان معنى الآية بيان المحل دون الحصص لم يكن للتجزئة معنى، ويدل على صحة ذلك قوله "أعطيتك حقك" فبين إن لأهل كل جزء على حدة حقاً، وإلى هذا ذهب عكرمة وهو قول الشافعي قلت: اختلف الأئمة في أنه هل يجوز إن تصرف جميع الصدقة إلى صنف واحد من الأصناف المنصوصة مع وجود جميعها، أم هم شركاء في الصدقة، لا يجوز أن يخص بها صنف دون صنف. فذهب مالك وأبوحنيفة وأصحابه وأحمد إلى أنه يجوز للإمام أن يصرفها في صنف واحد، ويجوز أن يعطيها شخصاً واحداً، وهو قول حذيفة وابن عباس وعمر. وبه قال سعيد بن جبير، والحسن والنخعي وعطاء. واليه ذهب الثوري وأبوعبيد والشعبي. وقال الشافعي وأصحابه: لا يجوز ترك صنف منهم مع وجوده بل يجب التعميم في القسمة، واستيعاب الأصناف والتسوية بينها، وروى عن النخعي أنه قال إن كان المال كثيراً يحتمل الأصناف قسمه عليهم، وإن كان قليلاً جاز وضعه في صنف واحد. وقال مالك: يتحرى موضع الحاجة منهم، ويقدم الأولى فالأولى. وقال أحمد: تفريقها وتعميمها أولى ويجزئه أن يضعه في صنف واحد. وقال الحنفية: صاحب المال مخير إن شاء أعطى جميعهم، وإن شاء اقتصر على صنف واحد، وكذا يجوز أن يقتصر على شخص واحد من أي صنف شاء. قال ابن رشد: وسبب اختلافهم معارضة اللفظ للمعنى فإن اللفظ يقتضى القسمة بين جميعها، والمعنى يقتضى أن يؤثر بها أهل الحاجة إذ كان المقصود بها سد الخلة فكان تعديدهم في الآية عند هؤلاء، إنما ورد لتمييز الجنس أعنى أهل الصدقات لا تشريكهم في الصدقة، فالأول أظهر من جهة اللفظ، وهذا أظهر من المعنى. ومن الحجة للشافعي ما رواه أبوداود عن الصدائي - انتهى. قلت: المشهور إن اللام في الآية للصيرورة عند المالكية وللملك عند

......................... ـــــــــــــــــــــــــــــ الشافعية وهو الذي يقتضيه مذهبهم، وعند الحنفية للاختصاص لا للملك يعني إنهم مختصون بالزكاة، ولا تكون لغيرهم كقولهم الخلافة لقريش، والسقاية لبني هاشم أي لا يوجد ذلك في غيرهم فتكون اللام لبيان محل صرفها أي المقصود من الآية بيان الأصناف التي يجوز الدفع إليهم لا تعيين الدفع لهم. قال الطيبي: إنما سمي الله تعالى الأصناف الثمانية في آية الصدقات إعلاماً منه إن الصدقة لا تخرج عن هذه الأصناف، لا إيجاب التقسيم فيما بينهم جميعاً، يدل عليه إيراد الآية بأداة الحصر. أي إنما الصدقات لهؤلاء الأصناف، لا لغيرهم - انتهى. والتمليك ركن من أركان الزكاة عند الحنفية، واستدلوا لذلك بوجوه بسطها ابن الهمام وغيره. منها: إن الله تعالى سماها صدقة وحقيقة الصدقة تمليك المال من الفقير. ومنها: قوله تعالى: {وآتوا الزكاة} [البقرة:43] والإيتاء هو التمليك. ومنها: قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء} [التوبة:60] الآية. وقوله تعالى: {وفي أموالهم حقٌ للسائل والمحروم} [الذاريات:19] قال في البدائع: والإضافة بحرف اللام تقتضي الاختصاص بجهة الملك إذا كان المضاف إليه من أهل الملك. وقال بعضهم: اللام في الآية للعاقبة. قال في العناية: معناه إن المقبوض يصير ملكاً لهم في العاقبة فهم مصاريف ابتداء لا مستحقون ثم يحصل لهم الملك في العاقبة بدلالة اللام واعترض عليه بأنه لا يدل لام العاقبة على التمليك، كما في قوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً} [الكهف:8] وكما قال الشاعر: لدوا للموت وابنوا للخراب ومنها: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث معاذ: تؤخذ من أغنياءهم وترد على فقراءهم. قالوا: الرد على الفقراء لا يكون إلا بتمليكهم إياها، وأجاب الحنفية عن حديث الصدائي بأنه ضعيف وعلى تسليم صحته ليس فيه دلالة إلا على أن الزكاة لا تصرف إلا إلى هذه الأجزاء الثمانية، لا إنها تصرف إلى جميع هذه الأجزاء، وإنما جزأ الله ثمانية لئلا تخرج الصدقة عن تلك الأجزاء. وقال الشوكاني في وبل الغمام: بعد الإشارة إلى تضعيف هذا الحديث ما نصه وعلى فرض صلاحيته للاحتجاج فالمراد بتجزئة الصدقة تجزئة مصارفها كما هو ظاهر الآية التي قصدها - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان المراد تجزئة الصدقة نفسها. وإن كل جز لا يجوز صرفه في غير الصنف المقابل له لما جاز صرف نصيب ما هو معدوم من الأصناف إلى غيره وهو خلاف الإجماع، وأيضاً لو سلم ذلك لكان باعتبار مجموع الصدقات التي تجتمع عند الإمام لا باعتبار صدقة كل فرد، فلم يبق ما يدل على وجوب التقسيط بل يجوز إعطاء بعض المستحقين بعض الصدقات، وإعطاء بعضهم بعضاً، نعم إذا جمع الإمام جميع صدقات أهل قطر من الأقطار وحضر عنده جميع الأصناف الثمانية كان لكل صنف حق في مطالبته، بما فرضه الله تعالى له، وليس عليه تقسيط ذلك بينهم بالسوية ولا تعميمهم بالعطاء، بل له أن يعطى بعض الأصناف أكثر من البعض الآخر، وله أن يعطى بعضهم

{الفصل الثالث}

رواه أبوداود. {الفصل الثالث} 1851- (16) عن زيد بن أسلم، قال: ((شرب عمر بن الخطاب رضي الله عنه لبناً فأعجبه، فسأل الذي سقاه، من أين هذا اللبن؟ فأخبره إنه ورد ـــــــــــــــــــــــــــــ دون بعض، إذا رأى في ذلك صلاحاً عائداً على الإسلام وأهل مثلاً إذا جمعت لديه الصدقات وحضر الجهاد وحقت المدافعة على حوزة الإسلام من الكفار أو البغاة، فإن له تأثير صنف المجاهدين بالصرف إليهم، وإن استغرق جميع الحاصل من الصدقات، وهكذا إذا اقتضت المصلحة تأثير غير المجاهدين - انتهى. قلت: واستدل للأئمة الثلاثة بقوله تعالى: {إن تبدو الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} [البقرة:271] وقد تناول جنس الصدقات. والضمير عائد إلى الصدقات وهو عام يتناول جميع الصدقات وبقوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ حين بعثه إلى اليمن أعلمهم صدقة تؤخذ من أغنياءهم فترد في فقراءهم فلم يذكر في الآية ولا في الحديث، إلا صنفاً واحداً. وبقوله - صلى الله عليه وسلم - لقبيصة حين تحمل حمالة أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها، فذكر دفعها إلى صنف واحد وهو من الغارمين، وأمر بني زريق بدفع صدقتهم إلى سلمة بن صخر وهو شخص واحد، وقسم الذهبية التي بعث بها إليه علي من اليمن بين المؤلفة قلوبهم، وهم صنف واحد. وإنما يؤخذ من أهل اليمن الصدقة، وبما روى في ذلك من آثار الصحابة كحذيفة وابن عباس وعمر وعلي رضي الله عنهم. قلت: أقرب أقوال الأئمة في هذه المسألة وأرجحها عندي قول مالك وإبراهيم النخعي وهو مختار الشوكاني، كما يدل عليه كلامه الذي نقلنا من وبل الغمام (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً الدارقطني (ص218) والطحاوي (ج1:ص304) والبيهقي (ج7:ص6) وسكت عنه أبوداود والبيهقي. وقال المنذري: في إسناده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي وقد تكلم فيه غير واحد - انتهى. قلت: تفرد به عبد الرحمن وقد ضعفه القطان وابن مهدي وابن معين وابن حنبل وغيرهم وضعفه أيضاً البيهقي. وقال الترمذي: رأيت البخاري يقوى أمره. وقال هو مقارب الحديث. وقال الحافظ في التقريب: ضعيف في الحفظ وكان رجلاً صالحاً. 1851- قوله: (فأعجبه) قال القاري: أي وافق هوى نفسه فأنكره بالاستدلال القلبي أو الالهمام الغيبي (فسأل الذي سقاه من أين) حصل لك (هذا اللبن) قال الغزالي: سأل عمر رضي الله عنه اذرابه فانه أعجبه طعمه ولم يكن على ما كان يألفه كل ليلة، وهذا من أسباب الريبة وحمله على الورع ذكره القاري (ورد) أي مر

عل ماء قد سماه، فإذا نعم من نعم الصدقة وهم يسقون، فحلبوا من ألبانها فجعلته في سقائى فهو هذا. فأدخل عمر يده، فاستقاء)) . رواه مالك والبيهقي في شعب الإيمان. ـــــــــــــــــــــــــــــ (على ماء قد سماه) أي عينه باسمه (فإذا) المفاجأة (نعم) بفتحتين (من نعم الصدقة) وردت هذا الماء (وهم) أي الرعاة (يسقون) أي النعم من ذلك الماء (فحلبوا) وفي نسخ الموطأ الموجودة عندنا فحلبوا لي أي بزيادة لفظه لي بعد حلبوا وكذا وقع عند البيهقي من رواية مالك لكن رقم عليها في نسخ الموطأ علامة النسخة، ونقله في جامع الأصول كما في المشكاة (فجعلته) أي اللبن (في سقائى) بكسر السين (فأدخل عمر يده) أي في فمه أو حلقه (فاستقاءه) أي فتقيأه حتى أخرجه من جوفه. قال الطيبي: هذا غاية الورع والتنزه من الشبه. وقال ابن عبد البر: محمله عند أهل العلم إن الذي سقاه ليس ممن تحل له الصدقة إذ لعله غني أو مملوك فاستقاءه لئلا ينتفع به، وأصله محظور وإن لم يأته قصداً، وهذا نهاية الورع، ولعله أعطى مثل ذلك أو قيمته للمساكين. ولو كان الذي حلب له هذا اللبن مستحقاً للصدقة لما حرم على عمر قصد شربه كما لم يحرم على النبي صلى الله عليه وسلم أكل اللحم الذي تصدق به على بريرة، وقال هو عليها صدقة. ولنا هدية، وما فعله عمر ليس بواجب؛ لأنه استهلكه بالشرب ولا فائدة في قذفه إلا المبالغة في الورع. قلت: وجاء مثل هذا عن أبي بكر أيضاً. قال سعيد بن منصور: حدثنا سفيان عن ابن المنكدر إن أبابكر شرب لبناً فقيل له إنه من الصدقة فتقيأه. وروى البخاري في باب أيام الجاهلية من حديث عائشة قالت: كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج وكان أبوبكر يأكل من خراجه فجاءه يوماً بشيء فأكل منه أبوبكر فقال له الغلام تدري ما هذا؟ فقال أبوبكر: وما هو. قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية، وما أحسن الكهانة إلا إني خدعته فلقيني فأعطاني بذلك فهذا الذي أكلت منه، فأدخل أبوبكر يده فقاء كل شيء في بطنه. وذكر الحافظ في الفتح له عدة قصص نحو هذا وهو من كمال ورعه رضي الله عنه (رواه مالك) أي عن زيد بن أسلم إنه قال: شرب عمر بن الخطاب لبناً الخ. وهذا منقطع. ورواه الشافعي عن مالك عن زيد بن أسلم (والبيهقي في شعب الإيمان) وأخرجه أيضاً في السنن الكبرى (ج7:ص14) من طريق مالك وترجم له باب الخليفة ووالي الإقليم العظيم الذي لا يلي قبض الصدقة ليس لهما في سهم العاملين عليها حق وذكر فيه أيضاً ما روى هو وسعيد ابن منصور وأبوعبيد (ص605) من طريق سليمان بن يسار إن ابن أبي ربيعة قدم بصدقات سعى عليها، فلما قدم الحرة خرج عمر بن الخطاب فقرب إليه تمراً ولبناً وزبداً، فأكلوا وأبى عمر أن يأكل. فقال ابن ربيعة: والله أصلحك الله إنا نشرب ألبانها ونصيب منها، فقال: يا ابن أبي ربيعة! لست كهيئتك إنك تتبع أذنابها - انتهى.

(4) باب من لا تحل له المسألة ومن تحل له

(4) باب من لا تحل له المسألة ومن تحل له {الفصل الأول} 1852- (1) عن قبيصة بن مخارق، قال: تحملت حمالة. فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أسأله فيها، فقال: ((أقم حتى تأتينا الصدقة، فنأمر لك بها ثم قال: يا قبيصة! إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة، فحلت له المسألة يصيبها ثم يمسك. ورجل أصابته جائحة ـــــــــــــــــــــــــــــ (باب من لا تحل له المسألة ومن تحله له) 1852- قوله: (عن قبيصة) بفتح القاف وكسر الموحدة فمثناة تحتية فصاد مهملة (بن مخارق) بضم الميم وتخفيف المعجمة بعدها راء مكسورة ثم قاف، هو قبيصة بن مخارق بن عبد الله أبوبشر الهلالي صحابي، وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - وروى عنه سكن البصرة (تحملت حمالة) بفتح الحاء وتخفيف الميم وهو المال يتحمله الإنسان عن غيره من دية أو غرامة كان يقع حرب بين فريقين، ويسفك فيها الدماء فيدخل بينهم رجل يتحمل ديات القتلي ليصلح ذات البين. والتحمل أن يحملها عنهم على نفسه أي يتكفلها ويلتزمها في ذمته. قال الخطابي: تفسير الحمالة، أن يقع بين القوم التشاجر في الدماء والأموال ويحدث بسببهما العدواة والشحناء ويخاف من ذلك الفتق العظيم فيتوسط الرجل فيما بينهم، ويسعى في إصلاح ذات البين ويتضمن مالاً لأصحاب الطوائل يترضاهم بذلك حتى تسكن الثائرة وتعود بينهم الألفة - انتهى. قال الشوكاني: قد كانت العرب إذا وقعت بينهم فتنة اقتضت غرامة في دية أو غيرها قام أحدهم فتبرع بالتزام ذلك، والقيام به حتى ترتفع تلك الفتنة الثائرة، ولا شك إن هذا من مكارم الأخلاق، وكانوا إذا علموا إن احدهم تحمل حمالة بادروا إلى معونته وأعطوه ما تبرأ به ذمته، وإذا سأل لذلك لم يعد نقصاً في قدره بل فخراً - انتهى. (أسأله فيها) أي في الحمالة بمعنى لأجلها (أقم) أمر من الإقامة بمعنى اثبت واصبر. وقال السندي: أي كن في المدينة مقيماً (حتى تأتينا الصدقة) أي يحضرنا مالها (فنأمر لك) بنصب الراء (بها) أي بالصدقة أو بالحمالة (إن المسألة) أي السؤال (لا تحل إلا لأحد ثلاثة) أي لا تحل إلا لصاحب ضرورة ملجئة إلى السؤال كأصحاب هذه الضرورات (رجل) بدل "من أحد". وقال ابن الملك: بدل من "ثلاثة" وبالرفع خبر مبتدأ محذوف أي أحدهم (فحلت له المسألة) أي جازت (حتى يصيبها) أي الحمالة (ثم يمسك) أي عن السؤال؛ لأن السؤال حل له لأجل الحمالة فلما أصابها إرتفعت الإباحة فيجب أن يمسك عنه (ورجل) بالوجهين (أصابته جائحة)

اجتاحت ماله، فحلت له المسألة، حتى يصيب قواماً من عيش، أو قال سداداً من عيش. ورجل أصابته فاقة، حتى يقوم ثلاثة من ذوى الحجى من قومه لقد أصابت فلاناً فاقة فحلت له المسألة، حتى يصيب قواماً من عيش، أو قال سداداً من عيش. فما سواهن من المسألة يا قبيصة؟ سحت يأكلها صاحبها سحتاً)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ هي الآفة التي تهلك الثمار والأموال وتستأصلها كالغرق والحرق والبرد للزرع والثمار، من جاحه يجوحه إذا استأصله (إجتاحت) أي استأصلت وأتلفت (ماله) من ثمار بستانه أو غيرها من الأموال (قواماً) بكسر القاف أي ما يقوم به حاجته ويسد به خلته (من عيش) أي معيشة من قوة ولباس (أو قال) شك من الراوي (سداد) بكسر السين ما تسد به حاجته وخلته. قال النووي: القوام والسداد بكسر القاف والسين وهما بمعنى، وهو ما يغنى من شيء وما تسد به الحاجة. وقال المنذري: القوام بفتح القاف وكسرها أفصح هو ما يقوم به حال الإنسان من مال غيره، والسداد بكسر السين هو ما يسد حاجته المعوذ ويكفيه (ورجل) بالوجهين (فاقة) أي حاجة أي كان غنياً موسراً ثم افتقر وأصابته فاقة ولم يعرف حاله (حتى يقوم) أي على رؤس الأشهاد (ثلاثة من ذوي الحجي) بكسر الحاء المهملة وفتح الجيم بعدها ألف مقصورة، أي العقل والفطنة (من قومه لقد أصابت فلاناً فاقة) أي يقوم ثلاثة قائلين هذا القول. قال النووي: هكذا هو في جميع النسخ أي من صحيح مسلم حتى يقوم ثلاثة وهو صحيح، أي يقومون بهذا الأمر فيقولون لقد أصابته فاقة - انتهى. وقال الصغاني: هكذا وقع في كتاب مسلم يقوم، والصحيح يقول باللام، وكذا أخرجه أبوداود وكذا في المصابيح. وأجيب بأن تقدير القول مع القيام آكد. قال السندي: وهذا كناية عن كون تلك الفاقة محققة لا مخيلة حتى لو استشهد عقلاء قومه بتلك الفاقة لشهدوا بها، والفرق بين هذا القسم والقسم السابق، إن الفاقة في القسم الأول ظاهرة بين غالب الناس وفي هذا القسم خفية عنهم (وما سواهن) أي هذه الأقسام الثلاثة من المسألة (سحت) بضم السين وسكون الحاء المهملتين وروى بضم الحاء وهو الحرام. وسمي سحتاً؛ لأنه يسحت البركة أي يذهبها ويمحقها (يأكلها) أي يأكل ما يحصل له بالمسألة قاله الطيبي: والحاصل يأكل حاصلها. وقال في سبل السلام: يأكلها أي الصدقة، أنث لأنه جعل السحت عبارة عنها وإلا فالضمير له (صاحبها) أي المسألة (سحتاً) نصب على التمييز أو بدل من ضمير يأكلها وجعله ابن حجر حالاً. قال ابن الملك: وتأنيث الضمير بمعنى الصدقة والمسألة - انتهى. والحديث دليل على أنها تحرم المسألة من الزكاة إلا لثلاثة الأول لمن تحمل حمالة، وظاهره وإن كان غنياً فإنه

..................... ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يلزمه تسليمه من ماله، وهذا هو أحد الخمسة الذين يحل لهم أخذ الصدقة وإن كانوا أغنياء كما سلف في حديث عطاء بن يسار عن أبي سعيد. والثاني: من أصاب ماله آفة سماوية أو أرضية كالبرد والغرق ونحوه بحيث لم يبق له ما يقوم بعيشه حلت له المسألة، حتى يحصل له ما يقوم بحالة ويسد خلته. والثالث: من أصابته فاقة ولكن لا تحل له إلا بشرط أن يشهد له من قومه؛ لأنهم أخبر بحاله ثلاثة من ذوي العقول، لا من غلب عليه البغاوة والتغفيل هو محمول على من كان معروفاً بالغنى ثم افتقر. أما إذا لم يكن كذلك فإنه يحل له السؤال وإن لم يشهدوا له بالفاقة، ويقبل قوله وظاهره إعتبار شهادة ثلاثة على الإعسار، وقد ذهب إلى ذلك ابن خزيمة وبعض أصحاب الشافعي. وقال الجمهور: تقبل شهادة عدلين كسائر الشهادات غير الزنا، وحملوا الحديث على الاستحباب. قال الخطابي: في هذا الحديث علم كثير وفوائد جمة، وذلك إنه قد جعل من تحل له المسألة من الناس أقساماً ثلاثة غنياً وفقيرين، وجعل الفقر على ضربين، فقراً ظاهراً، وباطناً، فالغنى الذي تحل له المسألة، هو صاحب الحمالة، وهي الكفالة والحميل الضمين والكفيل، ثم ذكر تفسير الحمالة كما نقلنا عنه. ثم قال فهذا الرجل صنع معروفاً وابتغى بما أتاه صلاحاً فليس من المعروف أن تورك الغرامة عليه في ماله، ولكن يعان على أداء ما تحمله منه ويعطى من الصدقة قدر ما يبرأ به ذمته ويخرج من عهدة ما تضمنه منه: وأما النوع الأول من نوعي أهل الحاجة فهو رجل أصابته جائحة في ماله فأهلكته، والجائحة في غالب العرف هي ما ظهر أمره من الآفات كالسيل يغرق متاعه، والنار تحرقه، والبرد يفسد زرعه وثماره في نحو ذلك من الأمور، وهذه الأشياء لا تخفى آثارها عند وقوعها، فإذا أصاب الرجل شيء منها فذهب ماله وافتقر حلت له المسألة. ووجب على الناس أن يعطوه الصدقة من غير بينة يطالبونه بها على ثبوت فقره وإستحقاقه إياها. وأما النوع الآخر: فإنما هو فيمن كان له ملك ثابت وعرف له يسار ظاهر فأدعى تلف ماله من لص طرقه أو خيانة ممن أودعه أو نحو ذلك من الأمور التي لا يبين لها أثر ظاهر في المشاهدة والعيان. فإذا كان ذلك، ووقعت في أمره الريبة في النفوس لم يعط شيئاً من الصدقة إلا بعد إستبراء حاله، والكشف عنه بالمسألة عن أهل الاختصاص به والمعرفة بشأنه، وذلك معنى قوله "حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجي من قومه" الخ. واشتراطه "الحجي" تأكيد لهذا المعنى أي لا يكونوا من أهل الغباوة والغفلة ممن يخفى عليهم بواطن الأمور، وليس هذا من باب الشهادة، ولكن من باب التبين والتعريف. وذلك أنه لا مدخل لعدد الثلاثة في شيء من الشهادات، فإذا قال نفر من قومه، أو جيرانه أو ذوى الخبرة بشأنه إنه صادق فيما يدعيه أعطى الصدقة. قال الخطابي: وفي قوله "أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها" دليل على جواز نقل الصدقة من بلد إلى أهل بلد آخر، وفيه إن الحد الذي ينتهي إليه العطاء في الصدقة هو الكفاية التي يكون بها قوام العيش وسداد الخلة، وذلك يعتبر في كل إنسان بقدر حاله ومعيشته ليس في حد معلوم يحمل عليه الناس كلهم مع اختلاف

رواه مسلم. 1853- وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل الناس أموالهم تكثراً، فإنما يسأل جمراً، فليستقل أو ليستكثر)) رواه مسلم. 1854- وعن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم)) ـــــــــــــــــــــــــــــ أحوالهم - انتهى. والظاهر من الأحاديث تحريم السؤال إلا للثلاثة المذكورين أو أن يكون المسئول السلطان كما سيأتي (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد (ج3:ص477) و (ج5:ص60) والشافعي (ج2:ص62) وأبوداود والنسائي والدارقطني وابن خزيمة وابن حبان والبيهقي (ج7:ص21-23) وأبوعبيد (ص230-547) . 1853- قوله: (من سأل الناس أموالهم) أي شيئاً من أموالهم يقال، سألته الشيء وعن الشيء. قال الطيبي: قوله "أموالهم" بدل اشتمال "من الناس" وقد تقرر عند العلماء إن البدل هو المقصود بالذات، وإن الكلام سبق لأجله فيكون القصد من سؤال هذا السائل نفس المال والإكثار منه لا دفع الحاجة، فيكون مثل هذا المال كنز يترتب عليه فإنما يسأل جمراً - انتهى. (تكثراً) مفعول له أي ليكثر به ماله لا للاحتجاج. وقيل: أي بطريق الإلحاح والمبالغة في السؤال (فإنما يسأل جمراً) أي قطعة من نار جهنم يعني ما أخذ سبب للعقاب بالنار، وجعله جمراً للمبالغة فهذا كقوله تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً، إنما يأكلون في بطونهم ناراً} [النساء:10] أي ما يوجب ناراً في العقبى، ويجوز أن يكون على ظاهره، وإن الذي يأخذه يصير جمراً حقيقة يعذب ويكوى به كما ثبت في مانعى الزكاة (فليستقل) من السؤال أو الجمر (أو ليستكثر) أي ليطلب قليلاً أو كثيراً ولينظر في عاقبته وهذا توبيخ له وتهديد كما في قوله تعالى: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف:29] لا إلاذن والتخيير. قال في السبل قوله "فليستقل" أمر للتهكم ومثله ما عطف عليه، أو للتهديد من باب اعملوا ما شئتم وهو مشعر بتحريم السؤال للاستكثار (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وابن ماجه والبيهقي. 1854- قوله: (ما يزال الرجل) والمرأة (يسأل الناس) أموالهم أي تكثراً وهو غنى كما سيأتي (مزعة لحم) مزعة بضم الميم وحكى كسرها وسكون الزاى بعدها مهملة أي قطعة من لحم أو نتفة منه. وقال ابن التين: ضبطه بعضهم بفتح الميم والزاي. والذي أحفظه من المحدثين الضم. قال الخطابي: يحتمل وجوهاً. أن يأتي

متفق عليه. 1855 - (4) وعن معاوية، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تلحفوا في المسألة، فوالله لا يسألني أحد منكم شيئاً فتخرج له مسألة مني شيئاً، وأنا كاره، فيبارك له فيما أعطيته)) ـــــــــــــــــــــــــــــ ذليلاً ساقطاً لا جاه له ولا قدر، كما يقال لفلان وجه عند الناس فهو كناية. وأن يكون قد نالته العقوبة في وجهه فعذب حتى سقط لحمه على معنى مشاكلة عقوبة الذنب مواضع الجناية من الأعضاء كقوله صلى الله عليه وسلم: رأيت ليلة أسرى بي قوماً تقرض سفاههم فقلت: يا جبريل! من هؤلاء؟ قال: هم الذين يقولون ما لا يفعلون. وأن يبعث ووجهة عظم كله فيكون ذلك علامة له وشعاراً يعرف به، وإن لم يكن من عقوبة مسته في وجهه -انتهى. قال الحافظ: الأول صرف للحديث عن ظاهره وقد يؤيده ما أخرجه الطبراني والبزار من حديث مسعود بن عمر. ومرفوعاً، لا يزال العبد يسأل وهو غني حتى يخلق وجهه فلا يكون له عند الله وجه. ومال المهلب إلى حمله على ظاهره، وإلى أن السر فيه إن الشمس تدنو يوم القيامة، فإذا جاء لا لحم بوجهه كانت أذية الشمس له أكثر من غيره قال. والمراد به من سأل تكثراً وهو غني لا تحل له الصدقة، وأما من سأل وهو مضطر فذلك مباح له فلا يعاقب عليه - انتهى. قلت: ظاهر الحديث يدل على ذم تكثير السؤال وقبحه، وإن كل مسألة تذهب من وجهه قطعة لحم حتى لا يبقى فيه شيء لقوله "لا يزال" وفهم البخاري إنه وعيد لمن يسأل تكثراً، يعني سأل ليجمع الكثير من غير احتياج إليه، فإنه ترجم له بباب من سأل تكثراً، والفرق بينهما ظاهر فقد يسأل الرجل دائماً، وليس متكثراً لدوام افتقاره واحتياجه لكن لما كان المتوعد عليه على ما تشهد به القوائد هو السائل عن غني وكثرة، وإن سؤال ذي الحاجة مباح نزل البخاري - الحديث. على من يسأل ليكثر ماله (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد (ج2:ص15-88) والنسائي والبيهقي (ج4:ص196) . 1855- قوله: (وعن معاوية) أي ابن أبي سفيان (لا تلحفوا في المسألة) مصدر بمعنى السؤال أي لا تبالغوا ولا تلحوا من الحف في المسألة إذا ألح فيها. قال تعالى: {لا يسألون الناس إلحافاً} [البقرة: 273] واشتقاق الحف من اللحاف؛ لأنه يشتمل على وجوه الطلب كإشتمال اللحاف في التغطية (فوالله لا يسألني) أي بالإلحاف (فتخرج) بالتأنيث منصوباً ومرفوعاً والنسبة مجازية سببية في الإخراج (وأنا له) أي لذلك الشيء يعني لإعطائه أو لذلك الإخراج الدال عليه تخرج والواو للحال (فيبارك) بالنصب مجهولاً (له فيما أعطيته) أي على تقدير الإلحاف. قال الطيبي: بالنصب بعد الفاء على معنى الجمعية أي لا يجتمع إعطائي كارهاً مع البركة - انتهى. وسره إن النفوس اللاحقة بالملاء الأعلى تكون الصورة الذهنية فيها من الكراهة والرضا بمنزلة الدعاء المستجاب

رواه مسلم. 1856 - (5) وعن الزبير بن العوام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة حطب على ظهره، فيبيعها. ـــــــــــــــــــــــــــــ والله أعلم، كذا في حجة الله البالغة. قال القاري: وفي نسخة بالرفع فيقدر هو فيكون كقوله تعالى: {ولا يؤذن لهم فيعتذرون} [المرسلات:36] انتهى. وفي رواية لمسلم قال: أي معاوية سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنما أنا خازن فمن أعطيته عن طيب نفس فمبارك له فيه، ومن أعطيته عن مسألة وشره نفس كان كالذي يأكل ولا يشبع. قال النووي في شرح مسلم: اتفق العلماء على النهى عن السؤال لغير ضرورة، واختلف أصحابنا في مسألة القادر على الكسب على وجهين: أصحهما أنها حرام لظاهر الأحاديث. والثاني: حلال مع الكراهة بثلاثة شروط أن لا يذل نفسه، ولا يلح في السؤال، ولا يؤذي المسئول فان فقد أحد هذه الشروط فهي حرام بالاتفاق - انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد (ج4:ص98) والنسائي والدارمي والبيهقي (ج4:ص196) وفي الباب عن ابن عمر عند أبي يعلى ذكره المنذري في الترغيب، وقال رواته محتج بهم في الصحيح. 1856- قوله: (وعن الزبير بن العوام) بفتح العين المهملة وتشديد الواو وهو الزبير بن العوام بن خويلد ابن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب أبوعبد الله الأسدي القرشي حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته صفية بنت عبد المطلب وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى أسلم وله اثنتا عشر سنة. وقيل: ثمان سنين. وكان عم الزبير وهو نوفل بن خويلد يعلق الزبير في حصير ويدخن عليه بالنار ليرجع إلى الكفر فيقول: لا أكفر أبداً، شهد بدراً وما بعدها، وهاجر الهجرتين. وهو أول من سل سيفاً في سبيل الله وذلك إن الشيطان نفخ نفخة فقال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل الزبير يشق الناس بسيفه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بأعلى مكة. وفي رواية فقيل: قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج الزبير متجرداً بالسيف صلتاً روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه إبناه عبد الله وعروة والأحنف وغيرهم، وكان في صدره أمثال العيون من الطعن والرمي أصابه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سبيل الله، قتل في جمادى الآخرة سنة (36) بعد منصرفة من وقعة الجمل، وله ست أو سبع وستون سنة. وكان الذي قتله عمرو بن جرموز التميمي قتله غدراً بوادي السباع ناحية البصرة ودفن فيه، وقال علي رضي الله عنه لمن آذنه بقتله: بشر قائل ابن صفية بالنار (لأن يأخذ) بفتح اللام (أحدكم حبله) أي فيجمع حطباً ثم يربط به (فيأتي بحزمة حطب على ظهره) قال ابن الملك: الحزمة بضم الحاء قدر ما يحمل بين العضدين والصدر، ويستعمل فيما يحمل على الظهر من الحطب. وقال في الصراح: حزمة بالضم بند هيزم (فبيعها) قيل:

فيكف الله بها وجهه، فيكف الله بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه)) . رواه البخاري. 1857- (6) وعن حكيم بن حزام، قال: ((سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأعطاني، ثم سألته فأعطاني ثم قال لي: يا حكيم! إن هذا المال خضر حلو. ـــــــــــــــــــــــــــــ منصوب بتقدير"إن" أي فإن يبيع تلك الحزمة (فكيف) بالنصب أيضاً (الله بها) أي فيمنع الله بسبب الحزمة وثمنها (وجهه) أي من أن يريق ماءه بالسؤال (خير له) قال الحافظ: ليست "خير" هنا بمعنى التفضيل إذ لا خير في السؤال مع القدرة على الاكتساب، والأصح عند الشافعية إن سؤال من هذا حاله حرام. ويحتمل أن يكون المراد بالخير فيه بحسب اعتقاد السائل وتسميته الذي يعطاه خيراً، وهو في الحقيقة شر - انتهى. وقال السندي في حاشية مسلم: قوله "خير له" الخ. أي لو فرض في السؤال خيريه لكان هذا خبراً منه، إلا فمعلوم أنه لا خيرية في السؤال. وقال في حاشية ابن ماجه: الكلام من قبيل "وإن تصوموا خيراً لكم" والمراد إن ما يلحق الإنسان بالاحتزام من التعب الدنيوي خير له مما يلحقه بالسؤال من التعب الأخروي، فعند الحاجة ينبغي له أن يختار الأول ويترك الثاني (من أن يسأل الناس) أي من سؤال الناس، ولو كان الاكتساب بعمل شاق كالاحتطاب. وقد روى عن عمر فيما ذكره ابن عبد البر مكسبة فيها بعض الدناءة خير من مسألة الناس (أعطوه) فحملوه ثقل المنة مع ذل السؤال (أو منعوه) فاكتسب الذل والخيبة والحرمان يعني يستوي الأمر إن في أنه خير له. وفي الحديث الحض على التعفف عن المسألة والتنزه عنها ولو أمتهن المرأ نفسه في طلب الرزق، وارتكب المشقة في ذلك ولولا قبح المسألة في نظر الشرع لم يفضل ذلك عليها، وذلك لما يدخل على السائل من ذل السؤال ومن ذل الرد، إذا لم يعط. ولما يدخل على المسؤل من الضيق في ماله أن أعطى كل سائل، وفيه فضيلة الاكتساب بعمل اليد (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً أحمد (ج1:ص146-168) وابن ماجه والبيهقي (ج4:ص195) وفي الباب عن أبي هريرة عند مالك والشيخين والترمذي والنسائي. 1857- قوله: (وعن حكيم بن حزام) بفتح المهملة في الأول وكسرها في الثاني، وتخفيف الزاي المعجمة (سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاني ثم سألته فأعطاني) كذا وقع في هذه الرواية بتكرير الإعطاء مرتين وفي سائر الروايات بتكرير السؤال والإعطاء ثلاثاً (ثم قال لي) أي بعد الإعطاء الثالث كما في سائر الروايات (إن هذا المال خضر) بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين، أي طرى ناعم مرغوب فيه غاية الرغبة (حلو) بضم الحاء المهملة وسكون اللام، أي لذيذ عند النفس تميل إليه بالطبع غاية الميل. وقيل: الخضر في العين طيب، والحلو يكون في الفم طيباً: إذ لا تمل العين من النظر إلى الخضر، ولا يمل الفم من أكل الحلو فكذلك النفس حريصة بجمع المال

فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، ـــــــــــــــــــــــــــــ لا تمل عنه. والمعنى إن هذا المال في الرغبة فيه، والميل إليه وحرص النفوس عليه كالفاكهة خضر في المنظر حلو في الذوق، ففيه تشبيه المال في الرغبة والميل إليه بالفاكهة الخضرة المستلذة المستحلاة الطعم. فان الأخضر مرغوب فيه على انفراده بالنسبة إلى اليابس والحلو كذلك على انفراده بالنسبة إلى الحامض، فالإعجاب بهما إذا اجتمعا أشد. وفيه إشارة إلى عدم بقاءه، لأن الخضروات لا تبقى ولا تراد للبقاء وذكر الخبر في هذه الرواية، ووقع في سائر الروايات إن هذا المال خضرة حلوة. قيل: أنث الخبر لأن المراد الدنيا. وقيل: لأن التقدير إن صورة هذا المال أو يكون التأنيث للمعنى؛ لأنه اسم جامع لأشياء كثيرة، والمراد بالخضرة الروضة الخضراء، أو الشجرة الناعمة والحلوة المستحلاة الطعم. قال في المصابيح: إذا كان قوله "خضرة" صفة للروضة أو المراد بها نفس الروضة الخضرة لم يكن ثم إشكال البتة، وذلك أن توافق المبتدأ والخبر في التأنيث. إنما يجب إذا كان الخبر صفة مشقة غير سببية نحو هند حسنة أو حكمها كالمنسوب. أما في الجوامد فيجوز نحو هذه الدار مكان طيب وزيد نسمة عجيبة - انتهى. وقال الحافظ: معناه إن صورة حسنة مونقة، والعرب تسمى كل شيء مشرق ناضر أخضر. وقال ابن الأنباري: قوله "خضرة حلوة" ليس هو صفة المال وإنما هو للتشبيه كأنه قال المال كالبقلة الخضراء الحلوة أو التاء فيه باعتبار ما يشتمل عليه المال من زهرة الدنيا. أو على معنى فائدة المال أي إن الحياة به أو العيشة أو إن المراد بالمال هنا الدنيا؛ لأنه من زينتها. قال الله تعالى: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا} [الكهف:46] وقد وقع في حديث أبي سعيد في السنن الدنيا خضرة حلوة فيتوافق الحديثان، ويحتمل أن تكون التاء فيهما للمبالغة (فمن أخذه) أي المال أخذاً متلبساً (بسخاوة) بفتح السين المهملة (نفس) أي من غير حرص عليه أو بغير شره ولا إلحاح أي من أخذه بغير سؤال ولا إشراف ولا تطلع ولا طمع وهذا بالنسبة إلى الآخذ، ويحتمل أن يكون بالنسبة إلى المعطى أي بسخاوة نفس المعطى أي انشراح صدره بما يعطيه يعني من أخذه ممن يعطى منشرحاً باعطاءه إياه طيب النفس لا بسؤال اضطره إليه أو نحوه مما لا تطيب معه نفس المعطى، والظاهر هو الأول (ومن أخذه بإشراف نفس) أي مكتسباً له بطلب النفس وحرصها عليه وتعرضها له وطعمها فيه وتطلعها اليه وهذا بالنسبة إلى الآخذ، ويحتمل أن يكون بالنسبة إلى المعطى أي بكراهيته من غير طيب نفس بالاعطاء كذا قيل: والظاهر هو الأول (لم يبارك له) أي الآخذ (فيه) أي في المعطى (وكان) أي السائل الآخذ الصدقة في هذه الصورة لما يسلط عليه من عدم البركة وكثرة الشره والنهمة (كالذي يأكل ولا يشبع) أي كذى الجوع الكاذب بسبب سقم من غلبة خلط سوداوي أو آفة ويسمى جوع

واليد العليا خير من اليد السفلى. واليد العليا خير من اليد السفلى. قال حكيم. فقلت: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً، حتى أفارق الدنيا)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الكلب كلما أزداد جوعاً فلا يجد شبعاً ولا ينجع فيه الطعام، والمراد أنه لا ينقطع شهاءه فيبقى في حيرة الطلب على الدوام ولا ينقضي شهواته التي لأجلها طلبه. وفي الحديث على التعفف والرضا بما تيسر في عفاف، وإن كان قليلاً، وإنه لا يغتر الإنسان بكثرة ما يحصل له بإشراف ونحوه فإنه لا يبارك له فيه (واليد العليا) أي المنفقة (خير من اليد السفلى) أي السائلة. قال السندي: المشهور تفسير اليد العليا بالمنفقة وهو الموافق للأحاديث. وقيل: عليه كثيراً ما يكون السائل خيراً من المعطى فكيف يستقيم هذا التفسير وليس بشيء إذا الترجيح من جهة الإعطاء والسؤال، السؤال لا من جميع الوجوه والمطلوب الترغيب في التصدق والتزهيد في السؤال، ومنهم من فسر العليا بالمتعففة عن السؤال حتى صفحوا المنفقة في الحديث (يعني حديث ابن عمر الآتي) بالمتعففة والمراد بالعلو قدر أو على الوجهين فالسفلى هي السائلة. إما لأنها تكون تحت يد المعطى وقت الإعطاء أو لكونها ذليلة بذل السؤال والله أعلم. بحقيقة الحال - انتهى. قلت: القول الراجح المعول عليه هو أن المراد بالعليا هي المنفقة وبالسفلى السائلة. لما روى أحمد والطبراني بإسناد صحيح عن حكيم بن خزام مرفوعاً: يد الله فوق يد المعطى، ويد المعطى فوق يد المعطى، ويد المعطى أسفل الأيدي، وللطبراني من حديث عدي الجذامي مرفوعاً مثله. وروى النسائي وابن حبان والدارقطني من حديث طارق المحاربي. قال: قدمنا المدينة فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب الناس وهو يقول: يد المعطى العليا. ولابن أبي شيبة والبزار من طريق ثعلبة بن زهدم مثله، ولأبي داود وابن خزيمة والحاكم من حديث أبي الأحوض عوف بن مالك عن أبيه مرفوعاً الأيدي ثلاثة. فيد الله: العليا. ويد المعطى: التي تليها. ويد السائل: السفلى. ولأحمد والبزار من حديث عطية السعدي اليد المعطية هي العليا، والسائلة هي السفلى. قال الحافظ بعد ذكر هذه الأحاديث: فهذه الأحاديث متضافرة على أن اليد العليا هي المنفقة المعطية وإن السفلى هي السائلة وهذا هو المعتمد وهو قول الجمهور - انتهى. وفي تفسير ذلك أقوال أخرى ذكرها الحافظ في الفتح. ثم قال وكل هذه التأويلات تضمحل عند الأحاديث المتقدمة المصرحة بالمراد فأولى ما فسر الحديث بالحديث - انتهى. (لا أزرأ) بفتح الهمزة وإسكان الراء وفتح الزاي بعدها همزة أي لا انقص (أحداً) أي مال أحد بالسؤال عنه والأخذ منه (بعدك) أي بعد سؤالك هذا أو بعد قولك هذا (شيئاً) مفعول ثان "لأرزأ" بمعنى أنقص أي لا آخذ من أحد شيئاً بعدك، وفي رواية قلت: فواالله لا تكون يدي بعدك تحت يد من أيدي العرب (حتى أفارق الدنيا) أي إلى أن أموت ولم يرزأ حكيم أحداً من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي لعشر سنين من إمارة معاوية مبالغة في الاحتراز، إذا مقتضى الجبلة الإشراف والحرص والنفس سراقة، ومن حام حول الحمى

متفق عليه. 1858- (8) وعن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال وهو على المنبر وهو يذكر الصدقة والتعفف عن المسألة: ((اليد العليا خير من اليد السفلى" واليد العليا هي المنفقة والسفلى هي السائلة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ يوشك أن يقع فيه. وفي الحديث فوائد، ذكرها الحافظ في الفتح نقلاً عن ابن أبي جمرة فارجع إليه (متفق عليه) أخرجه البخاري في الزكاة والوصايا والخمس والرقاق، ومسلم في الزكاة. واللفظ للبخاري في الوصايا، وأخرجه أيضاً أحمد (ج3:ص434) والترمذي والنسائي والبيهقي وغيرهم. 1858- قوله: (وهو على المنبر) جملة إسمية وقعت حالاً (وهو) أي والحال أنه (يذكر الصدقة) أي فضلها والحث عليها (والتعفف عن المسألة) أي الكف عن السؤال وهذا لفظ مسلم عن قتيبة عن مالك عن نافع ابن عمر، وكذا رواه النسائي عن قتيبة، وكذا وقع في الموطأ. ولفظ البخاري من طريق القعنبي عن مالك، وذكر الصدقة والتعفف. والمسألة أي بالواو بدل عن قبل المسألة، ولأبي داود من هذا الطريق، وهو يذكر الصدقة والتعفف منها والمسألة، والضمير في "منها" عائد على "الصدقة" المتقدم ذكرها أي والتعفف من أخذ الصدقة، والمعنى أنه كان يحض الغنى على الصدقة والفقير على التعفف عن المسألة أو يحضة على التعفف ويذم المسألة (واليد العليا) قال النووي: المراد بالعلو علو الفضل والمد ونيل الثواب. وقال الباجي: هو بمعنى أنه أرفع درجة ومحلاً في الدنيا والآخرة، (هي المنفقة) اسم فاعل من انفق يعني المعطية (والسفلى هي السائلة) هذا التفسير مدرج في الحديث فروى أحمد (ج2:ص152) بإسناد صحيح عن ابن عمر إنه كتب إلى عبد العزيز بن مروان إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ابدأ بمن تعول واليد العليا خير من اليد السفلى، وإني لأحسب اليد العليا المعطية والسفلى السائلة. فهذا يشعر بأن التفسير من كلام ابن عمر، ويؤيده ما رواه ابن أبي شيبة والبيهقي (ج4:ص198) من طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: كنا نتحدث إن اليد العليا هي المنفقة. واعلم إنه اتفق الرواة عن مالك على قوله: المنفقة، والحديث رواه البخاري أيضاً عن عارم عن حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن لم يسق متن هذا الطريق وأشار أبوداود إلى الاختلاف فيه على أيوب عن نافع، ثم على حماد بن زيد عن أيوب. وحاصل هذا الاختلاف أنه قال: أكثر الرواة عن حماد ابن زيد عن أيوب اليد العليا المنفقة. وقال مسدد عن حماد عند ابن عبد البر في التمهيد. وأبوالربيع الزهراني عن حماد عند يوسف بن يعقوب القاضي في كتاب الزكاة المتعففة، يعني بالعين والفائيين وكذا قال عبد الوارث عن

متفق عليه. 1859- (9) وعن أبي سعيد الخدري، قال: ((إن أناساً من الأنصار، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ـــــــــــــــــــــــــــــ أيوب "المتعففة" بدل المنفقة قال الحافظ: لم أقف على رواية عبد الوارث موصولة، وقد أخرجه أبونعيم في المستخرج من طريق سليمان بن حرب عن حماد بلفظ: واليد العليا يد المعطى، وهذا يدل على أن من رواه عن نافع بلفظ: المتعففة فقد صحف، قلت: ويدل عليه أيضاً ما روى أحمد (ج2:ص98) عن يونس عن حماد بلفظ: اليد العليا المعطية، ورواه موسى بن عقبة عن نافع فاختلف عليه أيضاً فقال عبد الله بن المبارك: عند أحمد (ج2:ص67) وحفص بن ميسرة عند البيهقي (ج4:ص198) وفضيل بن سليمان عند ابن حبان كلهم عن موسى بن عقبة المنفقة. وقال إبراهيم بن طهمان عنه: عند البيهقي (ج4:ص198) المتعففة يعني بعين وفاءيين، ورجح الخطابي في المعالم (ج2:ص70) رواية المتعففة فقال: إنها أشبه وأصح في المعنى، وذلك إن ابن عمر ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذا الكلام، وهو يذكر الصدقة والتعفف منها فعطف الكلام على سببه الذي خرج عليه وعلى ما يطابقه في معناه أولى. ورجح ابن عبد البر في التمهيد رواية المنفقة فقال: إنها أولى وأشبه بالصواب من قول من قال المتعففة. وقال النووي في شرح مسلم: إنها الصحيح قال: ويحتمل صحة الروايتين فالمنفقة أعلى من السائلة والمتعففة أولى من السائلة - انتهى. قلت: قد سبق ما يدل على أنه لفظة المتعففة بالعين والفاءيين مصحفة عن المنفقة وتقدم أيضاً إن الأحاديث متظافرة على أن اليد العليا هي المنفقة المعطية، فالصحيح هي رواية المنفقة لا المتعففة والله تعالى أعلم. وفي الحديث الحث على الصدقة والإنفاق في وجوه الطاعة وفيه كراهة السؤال والتنفير عنه، ومحله إذا لم تدع إليه ضرورة من خوف هلاك ونحوه (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد مختصراً (ج2:ص67-98) ومالك في الجامع من الموطأ وأبوداود والنسائي والبيهقي وغيرهم. 1859- قوله: (إن أناساً) وفي بعض النسخ ناساً أي بترك الهمزة (من الأنصار) لم يعرف أسماءهم ولكن قال الحافظ: روى النسائي من طريق عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه ما يدل على أن أباسعيد راوي هذا الحديث خوطب بشيء من ذلك ولفظه في حديثه (في باب من الملحف) سرحتني أمي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعني لأسأله من حاجة شديدة فأتيته فقعدت فاستقبلني وقال من استغنى أغناه الله - الحديث. وزاد فيه ومن سأل وله قيمة أوقية فقد الحف فقلت: ناقتي الياقوتة خير من أوقية فرجعت ولم أسأله - انتهى. واعترضه العيني بأنه ليس فيه شيء يدل على كونه مع الأنصار في حالة سؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم (سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم) كذا في عامة النسخ

فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى نفد ما عنده. فقال: "ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر، ـــــــــــــــــــــــــــــ وكذا في المصابيح وهكذا وقع في الصحيحين والموطأ وجامع الترمذي وسنن أبي داود والنسائي، ووقع في بعض نسخ المشكاة سألوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والظاهر إنه غلط من الناسخ (فأعطاهم ثم سألوه فأعطاهم) بتكرير السؤال والإعطاء مرتين ووقع ذلك في بعض النسخ من صحيحي البخاري ومسلم ثلاث مرات (حتى نفد) بكسر الفاء وبالدال المهملة أي فرغ وفني (ما عنده) من المال (ما يكون عندي من خير) أي مال ومن بيان لما "وما" موصولة لا شرطية وإلا لوجب "يكن" بحذف الواو والفاء في قوله (فلن أدخره عنكم) لتضمن المبتدأ معنى الشرط، وأدخره بتشديد الدال المهملة، أي كل شيء من المال موجود عندي فلن أحبسه وأخبأه وأمنعكم إياه منفرداً به عنكم أو لن أجعله ذخيرة لغيركم معرضاً عنكم (ومن يسعف) بفاء واحدة مشددة. قال القاري: وفي بعض النسخ بالفك، ويظهر من كلام الحافظ والقسطلاني إن في رواية الكشمهيني يستعفف أي بفاءيين، للحموي والمستملى يستعف أي بفاء واحدة مشددة، يعني من يطلب من نفسه العفة عن السؤال. قال الطيبي: أويطلب العفة من الله تعالى فليس السين لمجرد التأكيد. قال الجزري: الاستعفاف طلب العفاف، والتعفف، وهو الكف من الحرام والسؤال من الناس أي من طلب العفة وتكلفها أعطاه الله إياها. وقيل: الاستعفاف، الصبر والنزاهة عن الشيء يقال: عف يعف عفة فهو عفيف - انتهى. (يعفه الله) بضم التحتية وكسر المهملة ونصب الفاء المشددة أي يرزقه الله العفة أي الكف عن السؤال والحرام ولأبي ذر، يعفه الله برفع الفاء قاله القسطلاني. وقال في المجمع: يعفه من الاعفاف وبفتح فاء مشددة، وضمه بعضهم إتباعهم بضم الهاء - انتهى. قال القاري: يعفه الله أي يجعله عفيفاً من الاعفاف وهو إعطاء العفة، وهي الحفظ عن المناهي يعني من قنع بأدنى قوت وترك السؤال تسهل عليه القناعة وهي كنز لا يفنى. وقال ابن التين: معناه إما أن يرزقه من المال ما يستغنى به عن السؤال، وإما أن يرزقه القناعة (ومن يستغن) أي بالله عمن سواه أو يظهر للغنى بالاستغناء عن أموال الناس والتعفف عن السؤال حتى يحسبه الجاهل غنياً من التعفف (يغنه الله) أي يجعله غنياً أي بالقلب ففي الحديث ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غني النفس. ولو حمل على غنى المال لم يبعد أي يعطيه ما يغنيه عن الخلق (ومن يتصبر) بفتح الفوقية وتشديد الموحدة المفتوحة أي يعالج الصبر على ضيق العيش وغيره من مكاره الدنيا. وقال السندي: أي يتكلف في تحمل مشاق الصبر وفي التعبير بباب التكلف إشارة إلى أنه ملكة الصبر تحتاج في الحصول إلى الاعتبار، وتحمل المشاق من الإنسان. وقال القاري: أي يطلب توفيق الصبر من الله لأنه قال تعالى: {واصبر وما صبرك إلا بالله}

يصبره الله. وما أعطى أحد عطاء، هو خير وأوسع من الصبر)) . متفق عليه. 1860 - (10) وعن عمر بن الخطاب، قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء ـــــــــــــــــــــــــــــ [النحل:127] أو يأمر نفسه بالصبر، ويتكلف في التحمل عن مشاقة، وهو تعميم بعد تخصيص؛ لأن الصبر يشتمل على صبر الطاعة والمعصية والبليلة أو من يتصبر عن السؤال والتطلع إلى ما في أيدي الناس بأن يتجرع مرارة ذلك ولا يشكو حاله لغير ربه (يصبره الله) بضم أوله وتشديد الموحدة المكسورة من التصبير أي يسهل عليه الصبر فتكون الجمل مؤكدات، ويؤيد إرادة معنى العموم قوله الآتي وما أعطى أحد الخ. وقال الباجي: معناه من يتصد للصبر ويؤثره يعينه الله تعالى عليه ويوفقه (وما أعطى) بضم الهمزة مبنياً للمفعول (أحد) بالرفع نائب عن الفاعل (عطاء) بالنصب مفعول ثان "لأعطى" وفي الترمذي ما أعطى أحد شيئاً وفي رواية مسلم وأبي داود من عطاء (هو خير) أي أفضل كذا في جميع نسخ المشكاة الحاضرة ووقع في صحيح مسلم "خير" بلا لفظ هو، وهو مقدر. وهكذا وقع في بعض نسخ البخاري، ووقع في بعضها "خيراً" بالنصب على أنه صفة عطاء، وهكذا في المصابيح. قال العيني: قوله "خيراً" بالنصب صفة عطاء" ويروي خير بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو خير انتهى. (وأوسع) عطف على خير (من الصبر) لجمعه مكارم الأخلاق؛ ولأنه كما قال الباجي: أمر يدوم له الغنى به بما يعطي وإن كان قليلاً ولا يفنى، ومع عدمه لا يدوم له الغنى وإن كثر. وربما يغنى ويمتد إلى أكثر منه مع عدم الصبر. وقال ابن الجوزي: إنما جعل الصبر خير العطاء؛ لأنه حبس النفس عن فعل ما تحبه والزامها بفعل ما تكره في العاجل مما لو فعله أو تركه لتأذى به في الآجل. وقال القاري: وذلك لأن مقام الصبر أعلى المقامات؛ لأنه جامع لمكارم الصفات والحالات، ولذا قدم على الصلاة في قوله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة:45] ومعنى كونه أوسع أنه تتسع به المعارف والمشاهد والأعمال والمقاصد - انتهى. وفي الحديث إعطاء السائل مرتين أو ثلاثاً والاعتذار إليه والحض على التعفف، وفيه جواز السؤال للحاجة وإن كان الأولى تركه والصبر حتى يأتيه رزقه بغير مسألة، وفيه الحث على الصبر على ضيق العيش وغيره من مكاره الدنيا وإن الصبر أفضل ما يعطاه المرأ لكون الجزاء عليه غير مقدر ولا محدود، وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من السخاء وإنفاذ أمر الله (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد ومالك في كتاب الجامع من الموطأ. والترمذي في البر والصلة وأبوداود والنسائي والبيهقي في الزكاة. 1860- قوله: (يعطيني العطاء) قيل كان ذلك أجر عمله في الصدقة كما يدل عليه حديث ابن الساعدي في الفصل الثالث. وقال الحافظ: قوله: "يعطيني العطاء أي من المال الذي يقسمه في المصالح" قال وفي حديث ابن

فأقول: ((أعطه أفقر إليه مني فقال: خذه فتموله وتصدق به، فما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف، ولا سائل، فخذه، ومالا، فلا تتبعه نفسك)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ السعدي عند مسلم إن عطية النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بسبب العمالة. ولهذا قال الطحاوي: ليس معنى هذا الحديث في الصدقات، وإنما هو في الأموال التي يقسمها الإمام وليست هي من جهة الفقر، ولكن شيء من الحقوق، فلما قال عمر: أعطه من هو أفقر إليه مني، لم يرض بذلك. لأنه إنما أعطاه لمعنى غير الفقر، قال ويؤيده قوله: خذه فتموله فدل ذلك على أنه ليس من الصدقات (فأقول أعطه) بقطع الهمزة والضمير للعطاء أو للسكت (أفقر) أي أحوج (إليه مني) قال الكرماني: جاز الفصل بين أفعل التفضيل وبين كلمة "من" لأن الفاصل ليس أجنبياً بل هو الصق به من الصلة. لأنه محتاج إليه بحسب جوهر اللفظ، والصلة محتاج إليه بحسب الصيغة (خذه) أي بالشرط المذكور بعد (فتموله) بتشديد الواو أي أقبله وأدخله في ملكك ومالك أي اجعله مالاً لك يعني إن كنت محتاجاً (وتصدق به) أي على أفقر منك إن كان فاضلاً عنك عما لابد لك منه قاله القاري. وفي رواية لمسلم أو تصدق به بلفظ "أو" بدل الواو. وقال السندي: أي إذا أخذت فان شئت أبقه عنك مالاً، وإن شئت تصدق به - انتهى. وهو أمر إرشاد على الصحيح. قال ابن بطال: أشار صلى الله عليه وسلم على عمر بالأفضل؛ لأنه وإن كان مأجوراً بإيثاره لعطائه عن نفسه من هو أفقر إليه منه، فإن أخذه للعطاء ومباشرته للصدقة بنفسه أعظم لأجره، وهذا يدل على عظيم فضل الصدقة بعد التمول لما في النفوس من الشح على المال (فما جاءك من هذا المال) إشارة إلى جنس المال أو المال الذي أعطاه وفي رواية إذا جاءك من هذا المال شيء (وأنت غير مشرف) بضم الميم وسكون المعجمة وبعدها راء مكسورة ففاء من الإشراف، وهو التعرض للشيء والحرص عليه والتطلع اليه من قولهم: أشرف على كذا إذا تطاول له. وقيل: للمكان المرتفع شرف لذلك أي والحال إنك غير طامع ولا ناظر له. قال أبوداود: سألت أحمد عن إشراف النفس فقال: بالقلب. وقال يعقوب بن محمد: سألت أحمد عنه فقال: هو أن يقول مع نفسه يبعث إلى فلان بكذا. وقال الأثرم: يضيق عليه أن يرده إذا كان كذلك (ولا سائل) أي ولا طالب له (فخذه) ولا ترده. وأطلق الأخذ أولاً وعلقه ثانياً بالشرط فحمل المطلق على المقيد وهو مقيد أيضاً بكونه حلالاً، فلو شك فيه فالاحتياط الرد وهو الورع نعم يجوز أخذه عملاً بالأصل (ومالاً) يكون على هذه الصفة بأن لم يجيء إليك ومالت نفسك إليه (فلا تتبعه نفسك) في الطلب واتركه وقوله: لا تتبعه بضم الفوقية الأولى وسكون الثانية وكسر الموحدة وسكون العين من الإتباع مخففاً، أي فلا تجعل نفسك تابعة له ناظرة إليه لأجل أن

{الفصل الثاني}

متفق عليه. {الفصل الثاني} 1861- (11) عن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المسائل كدوح، يكدح بها الرجل وجهه، ـــــــــــــــــــــــــــــ يحصل عندك، أشار إلى أن المدار على عدم تعلق النفس بالمال، لا على عدم أخذه ورده على المعطى قاله السندي. واختلف العلماء فيمن جاءه مال هل يجب قبوله أم يندب على ثلاثة مذاهب حكاها الطبري بعد إجماعهم على أن قوله خذه أمر ندب. قال النووي: الصحيح المشهور الذي عليه الجمهور إنه مستحب في غير عطية السلطان، وأما عطية السلطان يعني الجائز فحرمها قوم، وأباحها آخرون، وكرهها قوم. والصحيح أنه إن غلب الحرام فيما في يد السلطان حرمت، وكذا إن أعطى من لا يستحق وإن لم يغلب الحرام فمباح، إن لم يكن في القابض مانع يمنعه من استحقاق الأخذ. وقالت طائفة الأخذ واجب من السلطان وغيره وقال آخرون هو مندوب في عطية السلطان دون غيره، ويرد هذا حديث خالد بن عدي عند أحمد وغيره مرفوعاً بلفظ: من بلغه معروف عن أخيه عن غير مسألة ولا إشراف نفس فليقبله، ولا يرده الحديث. وقد بسط الكلام في ذلك العيني (ج9:ص55-56) فليرجع إليه، وفي حديث الباب إن للإمام أن يعطى بعض رعيته إذا رأى لذلك وجهاً، وإن كان غيره أحوج إليه منه، وإن رد عطية الإمام ليس من الأدب ولاسيما من الرسول صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه} [الحشر:7] وفيه منقبة لعمر، وبيان فضله وزهده وإيثاره (متفق عليه) أخرجه البخاري في الزكاة وفي الأحكام، ومسلم في الزكاة واللفظ للبخاري في الأحكام وأخرجه النسائي والبيهقي أيضاً. 1861- قوله: (المسائل) جمع المسألة وجمعت لاختلاف أنواعها والمراد هنا سؤال الرجل أموال الناس (كدوح) بضم الكاف جمع كدح، أي خدوش وجروح يعني آثار القشر (يكدح) بفتح الدال أي يجرح ويخدش (بها) أي بالمسائل (وجهه) يوم القيامة. قيل: هي كناية عن الذلة والهون، وهذا لفظ أبي داود والنسائي، ولفظ الترمذي والنسائي في رواية المسألة كد يكد بها الرجل وجهه قال الجزري: الكد الاتعاب، يقال: كد يكد في عمله، إذا أستعجل وتعب. وأراد بالوجه ماءه ورونقه - انتهى. وقال السيوطي في قوت المغتذي: كد بفتح الكاف وتشديد الدال المهملة، وفي رواية أبي داود: كدوح بضم الكاف والدال وحاء مهملة. وقد ذكر اللفظين معاً أبو موسى المديني في ذيله على الغريبين، وفسر الكدوح بالخدوش في الوجه،

فمن شاء أبقى على وجهه، ومن شاء تركه، إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان، أو في أمر لا يجد منه بدا)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ والكد بالتعب والنصب. قال العراقي ويجوز أن يكون الكدح بمعنى الكد من قوله تعالى: {إنك كادح} [الانشقاق:6] وهو السعي والحرص- انتهى. ما في قوت المغتذي (فمن شاء أبقى) أي الكدح (على وجهه) أي بالسؤال (ومن شاء تركه) أي الكدح بترك السؤال. وقال القاري: (فمن شاء) أي الإبقاء (أبقى على وجهه) أي ماء وجهه من الحياء بترك السؤال والتعفف (ومن شاء) أي عدم الإبقاء (تركه) أي ذلك الإبقاء - انتهى. وقوله "تركه" هكذا في جميع النسخ، وفي أبي داود ترك، أي بدون الضمير المنصوب. ولفظ النسائي فمن شاء كدح وجهه ومن شاء ترك. قال السندي أي الكدوح أو السؤال وهذا ليس بتخيير بل هو توبيخ مثل قوله تعالى: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف:29] (إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان) أي ذا حكم وسلطة بيده بيت المال فيسأل حقه أي ولو منع الغناء، لأن السؤال مع الحاجة دخل في قوله: أو في أمر لابد منه قال الخطابي في المعالم (ج2:ص66) قوله: إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان، هو أن يسأله حقه من بيت المال الذي في يده، وليس هذا على معنى استباحة الأموال التي تحويها أيدي بعض السلاطين من غصب أملاك المسلمين - انتهى. وقال الأمير اليماني في السبل: أما سؤال الرجل من السلطان فإنه لا مذمة فيه لأنه إنما يسأل مما هو حق له في بيت المال، ولا منة للسلطان على السائل. لأنه وكيل فهو كسؤال الإنسان وكيله أن يعطيه من حقه الذي لديه، وظاهره وإن سأل السلطان تكثراً فإنه لا بأس فيه ولا إثم، لأنه جعله قسيماً للأمر الذي لا بد منه. وقد فسر الأمر الذي لا بد منه حديث قبيصة وحديث أنس، وفيه لا يحل السؤال إلا لثلاثة ذي فقر مدقع أو دم موجع أو غرم مفظع - انتهى. (أو في أمر) أي أو يسأل في أمر (لا يجد منه) أي من أجله (بدا) أي علاجاً آخر غير السؤال. وفيه دليل على جواز المسألة عند الضرورة والحاجة التي لابد عندها من السؤال كما في الحمالة والجائحة والفاقة، بل يجب حال الاضطرار في العرى والجوع. وهذا لفظ أبي داود، وعند الترمذي والنسائي في رواية أو في أمر لابد منه. قال الأمير اليماني: أي لا يتم له حصوله مع ضرورته إلا بالسؤال وحديث قبيصة مبين ومفسر للأمر الذي لابد منه - انتهى ولفظ النسائي في رواية أخرى أو شيئاً لا يجد منه بدا. قال السندي. وظاهره إنه عطف على "ذا سلطان" ولا يستقيم إذا السؤال يتعدى إلى مفعولين الشخص والمطلوب المحتاج إليه، وذا سلطان هو الأول، وترك الثاني للعموم، وشيئاً ههنا لا يصلح أن يكون الأول بل هو الثاني، إلا أن يراد بشيئاً شخصا ومعنى، لا يجد منه أي من سؤاله بدا وهو تكلف بعيد. فالأقرب أن يقال تقديره أو يسأل شيئاً الخ. وحذف ههنا المفعول الأول لقصد العموم أو يقدر يسأل ذا سلطان أي شيء كان أو غيره شيئاً لا يحدث منه بدا،

رواه أبوداود والترمذي والنسائي. 1862- (12) وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل الناس وله ما يغنيه، جاء يوم القيامة، ومسألته في وجهه خموش أو خدش أو كدح. قيل: يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب)) ـــــــــــــــــــــــــــــ فهو من عطف شيئين على شيئين إلا أنه حذف من كل منهما ما ذكر مماثله في الآخر من صنعة الاحتباك - انتهى. قال العراقي في شرح الترمذي: ورد التخصيص في السؤال في أربعة أماكن، وهي أن يسأل سلطاناً أو في أمر لابد منه أو ذا رحم في حاجة، أو الصالحين. فأما السلطان فهو الذي بيده أموال المصالح، وأما الأمر الذي لابد منه فهو الحاجة التي لابد منها، وأما ذو الرحم، فلما ورد في الصدقة على ذي الرحم من الفضل ولذهاب بعض العلماء إلى وجوب النفقة عليه مع وصف الفقر والعجز، فرخص في سؤاله. وأما سؤال الصالحين فهو في حديث ابن الفراسي (يعني أول أحاديث الفصل الثالث من هذا الباب) قال: ثم يحتمل أن يراد بالصالحين الصالحون من أرباب الأموال الذين لا يمنعون ما عليهم من الحق، وقد لا يعلمون المستحق من غيره، فإذا عرفوا بالسؤال المحتاج أعطوه مما عليهم من حقوق الله تعالى، ويحتمل أن يراد بهم من يتبرك بدعاءه وترجى إجابته إذا دعا الله له، ويحتمل أن يراد الساعون في مصالح الخلق بسؤالهم لمن علموا استحقاقه ممن عليه حق فيعطيهم أرباب الأموال بوثوقهم بصلاحهم كذا في شرح التقريب (ج4:ص79-80) (رواه أبوداود والترمذي والنسائي) وأخرجه أيضاً أحمد (ج5:ص10-19) وابن حبان والبيهقي (ج4:ص197) وصححه الترمذي وسكت عنه أبوداود ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره. 1862- قوله: (وله ما يغنيه) أي عن السؤال (ومسألته) أي أثرها (في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح) بضم أوائلها ألفاظ متقاربة المعاني جمع خمش وخدش وكدح "فأو" هنا لشك الراوي إذا لكل يعرب عن أثر ما يظهر على الجلد واللحم من ملاقاة الجسد ما يقشر أو يجرح، ولعل المراد بها آثار مستنكرة في وجهه حقيقة أو أمارات ليعرف، ويشهر بذلك بين أهل الموقف. أو لتقسيم منازل السائل فإنه معقل أو مكثر أو مفرط في المسألة، فذكر الأقسام على حسب ذلك. والخمش أبلغ في معناه من الخدش وهو أبلغ من الكدح إذا لخمش في الوجه، والخدش في الجلد، والكدح فوق الجلد وقيل: الخدش قشر الجلد يعودوا لخمش قشرة بالأظفار. والكدح العض وهي في أصلها مصادر لكنها لما جعلت أسماء الآثار جمعت كذا في المرقاة (وما يغنيه) أي ما الغنى المانع عن السؤال، وليس المراد بيان الغنى الموجب للزكاة أو المحرم لأخذها من غير سؤال (خمسون درهماً أو قيمتها)

رواه أبوداود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي. ـــــــــــــــــــــــــــــ أي قيمة الخمسين من الذهب. وفيه دليل على أن من ملك خمسين درهماًً أو قيمتها من الذهب يحرم عليه السؤال، وهذا فرد من أفراد الغنى المانع عن السؤال إذ لا عبرة للمفهوم، فلا دليل فيه على إباحة السؤال لمن كان عنده أقل من خمسين درهماً مما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث آخر. وقيل هذا الحديث منسوخ بحديث الأوقية وهو منسوخ ما يغديه ويعشيه. وقيل يجمع بين هذه الأحاديث بأن القدر الذي يحرم السؤال عنده هو أكثرها وهي الخمسون عملاً بالزيادة. وقال في حجة الله البالغة (ج2: ص34-35) جاء في تقدير الغنية المانعة من السؤال إنها أوقية أو خمسون درهماً، وجاء أيضاً إنها ما يغديه ويعشيه، وهذه الأحاديث ليست متخالفة عندنا. لأن الناس على منازل شتى، ولكل واحد كسب، لا يمكن أن يتحول عنه أعنى الامكان المأخوذ في العلوم الباحثة عن سياسة المدن، لا المأخوذ في علم تهذيب النفس. فمن كان كاسباً بالحرفة فهو معذور حتى يجد آلات الحرفة، ومن كان زارعاً حتى يجد الزرع، ومن كان تاجراً حتى يجد البضاعة، ومن كان على الجهاد مسترزقاً بما يروح ويغدو من الغنائم، كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فالضابط فيه أوقية أو خمسون درهماً، ومن كان كاسباً بحمل الأثقال في الأسواق أو احتطاب الحطب وبيعه وأمثال ذلك فالضابط فيه ما يغديه ويعشيه والله أعلم-انتهى. وقد استدل بهذا الحديث لأحمد وإسحاق ومن وافقهما على أن الغناء المانع من أخذ الصدقة هو ملك خمسين درهماً وتعقب بأنه ليس في الحديث إن من ملك خمسين درهماً لم تحل له الصدقة، إنما فيه أنه كره المسألة فقط، فلا يحل له أخذ الزكاة بالسؤال. وأما الأخذ من غير سؤال فلا دليل فيه على منعه، وقد تقدم بسط الكلام في ذلك فتذكر (رواه أبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي) وأخرجه أيضاً أحمد (ج1: ص388-441) وأبوعبيد (ص550) والحاكم (ج1:ص407) والدارقطني (ص 212) والبيهقي (ج7:ص24) كلهم من حديث حكيم بن جبير عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه عن ابن مسعود، وحكيم بن جبير ضعيف. قال الدارقطني: متروك. وقال الجوزجاني: كذاب. وقال ابن معين وأبوداود: ليس بشيء. وقال أحمد وأبوحاتم: ضعيف منكر الحديث. وقال النسائي: ليس بالقوى. وقال البخاري في التاريخ: كان يحيى وعبد الرحمن لا يحدثان عنه، وتكلم فيه شعبة وتركه من أجل هذا الحديث ببني لأنه مخالف للأصول والروايات المعتبر في تحديد الغنى لكن لم ينفرد به حكيم بن جبير فقد تابعه على ذلك زبيد بن الحارث الأيامي عند الترمذي وأبي داود والنسائي وابن ماجه والحاكم والبيهقي. فرواه الترمذي من طريق شريك عن حكيم بن جبير، ثم قال حديث حسن. وقد تكلم شعبة في حكيم بن جبير من أجل هذا الحديث، ثم روى من طريق يحيى بن آدم، حدثنا سفيان عن حكيم بن جبير بهذا الحديث، فقال له عبد الله بن عثمان صاحب شعبة لو غير حكيم حدث بهذا، فقال له سفيان

1863- (13) وعن سهل بن الحنظلية، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل، وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار. قال النفيلي: ـــــــــــــــــــــــــــــ وما لحكيم؟ لا يحدث عنه شعبة؟ قال نعم قال سفيان سمعت زبيداً يحدث بهذا عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد-انتهى. ورواه أبوداود والنسائي وابن ماجه والحاكم والبيهقي من طريق يحيى بن آدم عن سفيان الثوري عن حكيم بن جبير. وزاد أبوداود والحاكم والبيهقي في آخرة. قال يحيى (هو ابن آدم) فقال عبد الله بن عثمان لسفيان حفظي إن شعبة لا يروي عن حكيم، فقال سفيان فقد حدثناه زبيد عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد-انتهى. وعند النسائي قال يحيى قال سفيان، وسمعت زبيداً يحدث عن محمد بن عبد الرحمن، وعند ابن ماجه فقال رجل لسفيان إن شعبة لا يحدث عن حكيم، فقال سفيان فقد حدثنا، زبيد عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد فقد ظهر من هذا كله إن الحديث صحيح من جهة زبيد اليامي، لم ينفرد به حكيم بن جبير. وقد تكلف بعضهم في تضعيفه مع هذا بما لا يطمئن به القلب. فقال الحافظ في الفتح: بعد ذكر رواية سفيان عن زبيد نقلاً عن الترمذي ما لفظه، ونص أحمد في علل الخلال وغيرها على أن رواية زبيد موقوفة -انتهى. وقال ابن معين: يرويه سفيان عن زبيد، ولا أعلم أحداً يرويه عنه غير يحيى بن آدم وهذا وهم. لو كان كذا لحدث به الناس عن سفيان ولكنه حديث منكر يعني، وإنما المعروف بروايته حكيم ذكره الذهبي والمنذري. وذكر البيهقي (بعد حكاية متابعة زبيد لحكيم بن جبير) عن يعقوب بن سفيان. قال هي حكاية بعيدة، لو كان حديث حكيم بن جبير عند زبيد، ما خفي على أهل العلم -انتهى. ولا يخفى ما فيه من التكلف. والظاهر إن الحديث صحيح من طريق زبيد الأيامي ولا مخالفة بينه وبين الأحاديث الأخرى كما أسلفنا. وسيأتي أيضاً والله تعالى أعلم. 1863- قوله: (وعن سهل بن الحنظلية) صحابي أنصاري أوسي، كان ممن بايع تحت الشجرة، وشهد أحد أو الخندق والمشاهد كلها ما خلا بدراً وكان فاضلاً عالماً معتزلاً عن الناس، كثير الصلاة والذكر لا يجالس أحداً. سكن الشام ومات بدمشق في أول خلافة معاوية ولا عقب له. قال سعيد بن عبد العزيز: كان لا يولد له فكان يقول لي لأن يكون لي سقط في الإسلام أحب إلي مما طلعت عليه الشمس. والحنظلية أمه، وقيل أم أبيه، وقيل أم جده. واختلف في إسم أبيه فقيل الربيع، وقيل عبيد، وقيل عمرو، وقيل عقيب بن عمرو بن عدي بن زيد بن جشم بن حارثة بن الحارث بن الخررج بن عمرو بن مالك بن الأوس. (من سأل وعنده) الواو للحال (ما يغنيه) أي عن السؤال (فإنما يستكثر من النار) يعني من جمع أموال الناس بالسؤال من غير ضرورة. فكأنه جمع لنفسه نار جهنم (قال النفيلي) بضم النون وفتح الفاء وهو عبد الله بن محمد بن علي بن نفيل، بنو وفاء مصغراً أبوجعفر النفيلي الحراني ثقة حافظ، وهو شيخ أبي داود السجستاني صاحب السنن. قال الحافظ: روى عنه

وهو أحد رواته، في موضع آخر، وما الغنى الذي لا ينبغي معه المسألة؟ قال: قدر ما يغديه ويعشيه. وقال: في موضع آخر أن يكون له شبع يوم، أو ليلة يوم)) . رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ أبوداود فأكثر وروى له الباقون سوى مسلم بواسطة الذهلي مات سنة (234) (وهو أحد رواته) أي الحديث (في موضع آخر) أي في رواية أخرى يعني مرة أخرى (وما الغنى الذي لا ينبغي) أي لا يحل (معه المسألة) أي مكان قوله وما يغنيه. ففي أبي داود بعد قوله من النار. وقال النفيلي في موضع آخر: من جمر جهنم فقالوا يا رسول الله! وما يغنيه. وقال النفيلي في موضع آخر وما الغنى الخ (قال) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم (قدر ما يغديه) بفتح الغين المعجمة وتشديد الدال المهملة (ويعشيه) بفتح العين المهملة وتشديد الشين المعجمة أي ما يكفي غداءه وعشاءه، وفي رواية ابن حبان وأحمد أو يعشيه بحرف التخيير، والتغدية إطعام طعام الغدوة. والتعشية إطعام طعام العشاء يعني من كان له قوت هذين الوقتين لا يجوز له أن يسأل في ذلك اليوم. قال الخطابي في المعالم (ج2:ص58) : اختلف الناس في تأويل قوله ما يغديه ويعشيه. فقال بعضهم: من وجد غداء يومه وعشاءه لم تحل له المسألة على ظاهر الحديث. وقال بعضهم: إنما هو فيمن وجد غداء وعشاء على دائم الأوقات، فإذا كان عنده ما يكفيه لقوته المدة الطويلة فقد حرمت عليه المسألة. وقال آخرون: هذا منسوخ بحديث الخمسين وحديث الأوقية -انتهى. قال المنذري: إدعاء النسخ مشترك بينهما، ولا أعلم مرجحاً لأحدهما على الآخر. وقال البيهقي (ج7:ص28) وليس شيء من هذه الأحاديث، بمختلف، فكان النبي صلى الله عليه وسلم علم ما يغنى كل واحد منهم فجعل غناه به، وذلك لأن الناس يختلفون في قدر كفاياتهم فمنهم من يغنيه خمسون درهماً لا يغنيه أقل منها، ومنهم من له كسب يدر عليه كل يوم ما يغديه ويعشيه ولا عيال له مستغن به -انتهى. وهذا مما تقدم عن حجة الله. وحمل أبوعبيد حديث سهل هذا على من سأل مسألة ليكتثر بها (وقال) أي النفيلي (في موضع آخر) أي في الجواب عما يغنيه (أن يكون له شبع يوم) بكسر الشين وسكون الموحدة وفتحها وهو الأكثر، أي ما يشبعه من الطعام أول يومه وآخره. قال ابن الملك: بسكون الباء ما يشبع وبفتح الباء المصدر (أو ليلة ويوم) شك من الراوي وقوله "شبع يوم أو ليلة ويوم" هكذا في جميع النسخ الحاضرة. ووقع في أبي داود شبع يوم أو ليلة أو ليلة ويوم، وهكذا في رواية البيهقي، والظاهر إنه سقط لفظ "ليلة" في الموضع الأول في نسخ المشكاة من الناسخ. وحاصل الاختلاف الذي وقع في رواية النفيلي إنه حدث أباداود بهذا الحديث مرتين، فمرة قال من سأل وعنده ما تغنيه، فإنما يستكثر من النار، فقالوا يا رسول الله! وما يغنيه قال: قدر ما يغديه ويعشيه ومرة قال (أي النفيلي) من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمرة جهنم فقالوا يا رسول الله! وما الغنى الذي لا ينبغي معه المسألة، قال قدر أن يكون له شبع يوم وليلة أو ليلة ويوم (رواه أبوداود) وفيه قصة، وأخرجه، أيضاً أحمد

1864- (14) وعن عطاء بن يسار، عن رجل من بني أسد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل منكم، وله أوقية أو عدلها، فقد سأل إلحافاً)) رواه مالك، وأبوداود، والنسائي. 1865- (15) وعن حبشي بن جنادة، ـــــــــــــــــــــــــــــ (ج4:ص180-181) وأبوعبيد (ص 551-552) والبيهقي (ج7:ص25) وابن حبان وابن خزيمة وسكت عنه أبوداود والمنذري. 1864- قوله: (عن رجل من بني أسد) له صحبة كما يدل عليه سياق الحديث عند مخرجيه ولم يعرف اسمه ولا يضر ذلك، لأن الصحابة كلهم عدول (وله أوقية) بضم الهمزة وكسر القاف وتشديد التحتية أي أربعون درهماً من الفضة (أو عدلها) بكسر العين وبفتح أي ما يساويها من ذهب عرض. وقال الخطابي: قوله "أو عدلها" يريد قيمتها، يقال هذا عدل الشيء أي ما يساويه في القيمة، وهذا عدله بكسر العين أي نظيره ومثله في الصورة والهيئة -انتهى. قال السندي: هذا يدل على أن التحديد بخمسين درهماً ليس مذكوراً على وجه التحديد، بل هو مذكور على وجه التمثيل (فقد سأل إلحافاً) أي ملحفاً أو سؤالاً إلحافاً، وهو أن يلازم المسؤل حتى يعطيه. والمراد أنه خالف ثناء الله تعالى بقوله تعالى {لا يسألون الناس إلحافاً} [البقرة: 273] وقال القاري: أي سأل إلحاحاً وإسرافاً من غير إضطرار. وقال الباجي: يقال الحف في المسألة إلح فيها، وذلك يقتضى أنه ورد على أمر قد تقرر فيه، إن الإلحاف في المسألة ممنوع، فجعل من الإلحاف الممنوع سؤال من له أوقية -انتهى. قلت: قد تقدم حديث معاوية لا تلحفوا في المسألة وهو صريح في النهى عن الإلحاح في السؤال. واستدل أبوعبيد بحديث الأسدي وما في معناه على ما ذهب إليه من تحديد الغنى المحرم للصدقة يملك أربعين درهماً ولا يخفى ما فيه (رواه مالك) في أواخر الموطأ عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد (وأبوداود والنسائي) كلاهما من طريق مالك، وأخرجه البيهقي (ج7:ص24) من طريق أبي داود وأحمد (ج5،4ص:36-430) من حديث سفيان عن زيد بن أسلم، وأبوعبيد (ص 550) من حديث سفيان وهشام بن سعد عن زيد بن أسلم. وفي الحديث قصة عند مالك وأبي داود والنسائي وأبي عبيد، وقد سكت عنه أبوداود والمنذري، وله شاهد من حديث أبي سعيد عند أحمد وأبي داود والنسائي وغيرهم بلفظ: من سأل وله قيمة أوقية فقد الحف. 1865- قوله: (وعن حبشي) بضم الحاء المهملة وسكون الموحدة بعدها معجمة ثم تحتية ثقيلة، وهو اسم بلفظ النسب (بن جنادة) بضم الجيم ابن نصر السلولي صحابي، شهد حجة الوداع، ثم نزل الكوفة يكنى

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المسألة لا تحل لغنى، ولا لذى مرة سوى، إلا لذى فقر مدقع، أو غرم مفظع. ومن سأل الناس ليثرى به ماله، كان خموشاً في وجهه يوم القيامة، ورضفاً يأكله من جهنم، فمن شاء فليقل، ومن شاء فليكثر)) . رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ أباالجنوب بفتح الجيم. قال العسكري: شهد مع علي مشاهده، وروى في فضله أحاديث (ولا لذى مرة) بكسر الميم وتشديد الراء هي الشدة والقوة أي لذي قوة وقدرة على الكسب (سوى) بفتح السين المهملة وتشديد الياء هو التام الخلق السالم من موانع الاكتساب (إلا لذى فقر مدقع) بضم الميم وسكون المهملة وكسر القاف، وهو الفقر الشديد الملصق صاحبه بالدقعاء، وهي الأرض التي لا نبات بها يقال ادقع الرجل أي لصق بالدقعاء أي الأرض والتراب، وجوع مدقع أي شديد (أو غرم) بضم الغين المعجمة وسكون الراء، هو ما يلزم أداءه تكلفاً، لا في مقابلة عوض (مفظع) بضم الميم وسكون الفاء وكسر الظاء المعجمة هو الشديد الشنيع قاله المنذري. وقال القاري: غرم مفظع أي دين شنيع مثقل. قال الطيبي: والمراد ما استدان لنفسه وعياله في مباح، قال ويمكن أن المراد به ما لزمه من الغرامة بنحو دية وكفارة (ليثرى) أي يكثر ويزيد (به) أي بسبب السؤال أو بالمأخوذ (ماله) برفع اللام ويثرى بفتح الياء وسكون الثاء المثلثة وفتح الراء من ثرى كرضى، أو بضم الياء وسكون الثاء وكسر الراء من الأثراء. قال في القاموس: الثروة كثرة العدد من الناس والمال، وثرى القوم كثروا ونموا. والمال كذلك، وثرى كرضى كثر ماله كاثرى - انتهى. وفي النهاية: الثرى المال، وأثرى القوم كثروا وكثروا أموالهم- انتهى. (كان) أي السؤال أو المال (خموشاً) أي عبساً (ورضفاً) بفتح الراء وسكون الضاد المعجمة بعدها فاء هو الحجارة المحماة (يأكله من جهنم) أي فيها (فمن شاء فليقل) بكسر القاف وتشديد اللام المفتوحة من الأقلال أي ليقلل هذا السؤال، أو ما يترتب عليه من النكال (من شاء فليقل) بكسر القاف وتشديد اللام المفتوحة من الأقلال أي ليقلل هذا السؤال، أو ما يترتب عليه من النكال (ومن شاء فليكثر) من الإكثار وهما أمر تهديد، ونظيره قوله تعالى {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين ناراً} [الكهف:29] (رواه الترمذي) من حديث مجالد بن سعيد عن عامر الشعبي عن حبشي، وقال حديث غريب من هذا الوجه، قال شيخنا: لم يحكم الترمذي على هذا الحديث بشيء من الصحة أو الضعف، والحديث ضعيف. لأن في سنده مجالداً وهو ضعيف -انتهى. قلت: مجالد هذا ضعفه يحيى بن سعيد وابن معين والدارقطني وابن سعد، وقال أحمد ليس بشيء. وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به وكان ابن مهدي لا يروي عنه. وقال أبوحاتم والنسائي: ليس بالقوي. ووثقه النسائي مرة. وقال ابن عدي: له عن الشعبي عن جابر أحاديث صالحة وعن غير جابر، وعامة ما يرويه غير محفوظة. وقال العجلي: جائز الحديث. وقال البخاري: صدوق. وقال محمد بن المثنى: يحتمل حديثه للصدق كذا

1866- (16) وعن أنس، أن رجلاً من الأنصار، أتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله، فقال: ((أما في بيتك شيء؟ بلى حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقعب نشرب فيه من الماء، قال ائتني بهما، فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وقال: من يشتري هذين؟ قال رجل: أنا آخذهما بدرهم، قال: "من يزيد على درهم"؟ مرتين أو ثلاثاً، قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه فأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري، وقال: "أشتر بأحدهما طعاماً فأنبذه إلى أهلك، وأشتر بالآخر قدوماً، فائتني به" فأتاه به، ـــــــــــــــــــــــــــــ في تهذيب التهذيب. وقال في التقريب: ليس بالقوى، وقد تغيير في آخر عمره - انتهى. والحديث أخرجه أحمد (ج4:ص165) وأبوعبيد (ص553) من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق عن حبشي مختصراً بلفظ: من سأل من غير فقر فكأنهما يأكل الجمرة، وعزاه المنذري في الترغيب للطبراني في الكبير وابن خزيمة، وقال رجال الطبراني رجال الصحيح، ورواه البيهقي بلفظ: الذي يسأل من غير حاجة كمثل الذي يلتقط الجمر. 1866- قوله: (إن رجلاً من الأنصار) لم يعرف اسمه (يسأله) حال أو استئناف بيان (أما في بيتك شيء) بهمزة إستفهام تقرير "وما نافية" (بلى حلس) أي في حلس بكسر الحاء المهملة وسكون اللام، بعدها سين مهملة كساء يلي ظهر البعير يفرش تحت القتب. قال المنذري: وسمي به غيره مما يداس ويمتهن من الأكسية ونحوها (نلبس) بفتح الباء (بعضه) أي بالتغطية لدفع البرد و (نبسط) بضم السين (بعضه) أي بالفرش (وقعب) بفتح القاف وسكون العين المهملة قدح من خشب (نشرب فيه من الماء) من تبعيضية أو زائدة على مذهب الأخفش، وفي رواية ابن ماجه. وقدح نشرب فيه الماء أي بحذف من (ائتني بهما) أي بالحلس والقعب (أنا آخذهما) بضم الخاء ويحتمل كسرها (قال من يزيد على درهم مرتين) ظرف لقال (أو ثلاثاً) شك من الراوي (قال رجل) أي آخر (فأعطاهما إياه) أي فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم الحلس، والقعب الرجل الآخر (فأخذ الدرهمين) كذا في جميع النسخ الحاضرة والذي في سنن أبي داود وأخذ أي بالواو بدل الفاء، وكذا وقع في رواية ابن ماجه، وكذا نقله الخطابي والمنذري (فأعطاهما) أي الدرهمين (اشتر) بكسر الراء (بأحدهما) أي أحد الدرهمين (فأنبذه) بكسر الباء أي أطرحه وألقه (قدوماً) بفتح القاف وتخفيف الدال المهملة المضمومة وجوز تشديدها آلة النجر والنحت أي فأساً (فأتاه به) أي بالقدوم بعدما

فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عوداً بيده ثم قال:"اذهب فاحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يوماً" فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاءه وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوباً وببعضها طعاماً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في يوم وجهك يوم القيامة. إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع، أو لذى غرم مفظع، أو لذى دم موجع)) . رواه أبوداود، وروى ابن ماجه إلى قوله "يوم القيامة". ـــــــــــــــــــــــــــــ اشتراه (فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عوداً) أي أدخل في ذلك القدوم عوداً وأحكمه (بيده) الكريمة تفضلا، وإمتناعاً عليه (احتطب) أي اطلب الحطب وأجمع (ولا أرينك خمسة عشر يوماً) أي لا تكن هنا هذه المدة حتى لا أراك وهذا مما أقيم فيه المسبب مقام السبب، والمراد نهى الرجل عن ترك الاكتساب في هذه المدة، لا نهى نفسه عن الرؤية (نكتة) بضم النون وسكون الكاف أثر كالنقطة أي حال كونها علامة قبيحة أو أثراً من العيب (في وجهك يوم القيامة) أي على رؤس الأشهاد (إن المسألة لا تصلح) أي لا تحل ولا تجوز (لذي فقر مدقع) أي شديد يفضي بصاحبه إلى التراب لا يكون عنده ما بقي به من التراب (أو لذى غرم مفظع) أي فظيع شنيع ثقيل (أو لذي دم موجع) بكسر الجيم أي مؤلم وهو أن يتحمل دية فيسعى فيها حتى يؤديها إلى أولياء المقتول، فإن لم يؤديها قتل المحتمل عنه فيوجعه قتله. قال المنذري: ذو الدم الموجع هو الذي يتحمل دية عن قريبه أو حميمه أو نسيبه القاتل يدفعها إلى أولياء المقتول، ولو لم يفعل قتل قريبه أو حميمه الذي يتوجع لقتله -انتهى. وفي الحديث من الفقة جواز بيع المزايدة وهذا ليس بالسوم على سوم أخيه لأن السوم، هو أن يقف الراغب والبائع على البيع ولم يعقداه، فيقول الآخر للمبائع أنا أشتريه وهذا حرام بعد استقرار الثمن، وأما السوم بالسلعة التي تباع لمن يزيد فليس بحرام. وفيه الأكل من عمل يده، والأمر بالاكتساب بالمباحات كالحطب والحشيش النابتين في موات. وفيه جواز المسألة لهؤلاء الثلاثة (رواه أبوداود) في الزكاة. وأخرجه أيضاً أحمد والبيهقي (ج7:ص25) و (روى ابن ماجه) أي في باب المزايدة من أبواب النجارات (إلى يوم القيامة) هذا سهو من المصنف، فإن ابن ماجه روى الحديث بطوله إلى قوله دم موجع، وأخرج الترمذي والنسائي في البيوع من هذا الحديث قصة بيع القدح فقط. والحديث سكت عنه أبوداود وحسنه الترمذي، وقال لا نعرفه إلا من حديث الأخضر بن عجلان عن أبي بكر عبد الله الحنفي عن أنس، وعله ابن القطان بجهل حال أبي بكر الحنفي ونقل عن البخاري أنه قال: لا يصح حديثه كذا في التلخيص (ص237) .

{الفصل الثالث}

1867- (17) وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن أنزلها بالله، أوشك الله له بالغنى، إما بموت عاجل، أو غنى آجل)) . رواه أبوداود، والترمذي. {الفصل الثالث} 1868- عن ابن الفراسي، أن الفراسي، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1867- قوله: (من أصابته فاقة) أي حاجة شديدة وأكثر استعمالها في الفقر وضيق المعيشة (فأنزلها بالناس) أي عرضها عليهم وأظهرها بطريق الشكاية لهم وطلب إزالة فاقته منهم. قال الطيبي: نزل بالمكان ونزل من علو ومن المجاز نزل به مكروه وأنزلت حاجتي على كريم، وخلاصته إن من اعتمد في سدها على سؤالهم (لم تسد) بصيغة المجهول (فاقته) أي لم تقض حاجته ولم تزل فاقته وكلما تسد حاجة أصابته أخرى أشد منها (ومن أنزلها بالله) بأن اعتمد في إزالتها على مولاه (أوشك الله له) أي أسرع له وعجل (بالغنى) بكسر الغين مقصوراً. قال في القاموس: الغنى كالى ضد الفقر وإذا فتح مد (إما بموت عاجل) قيل يموت قريب له فيرثه. وقيل: معناه أن يميته الله فيستغنى عن المال (أو غنى) بكسر وقصر (آجل) كذا وقع في جميع النسخ الحاضرة بموت عاجل، أو غنى آجل بالعين في الأول، وبالهمزة في الثاني، وفي نسخ السنن لأبي داود بالعين في الموضين، وكذا وقع في نسخ مختصر السنن للمنذري كما في العون. ولفظ الترمذي برزق عاجل أو آجل. وقال الطيبي: هو هكذا أي بالعين في الموضعين في أكثر نسخ المصابيح وجامع الأصول، وفي سنن أبي داود والترمذي أو غنى آجل بهمزة ممدودة وهو أصح دراية لقوله تعالى {إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله} [النور:32] انتهى. قلت: في نسخ أبي داود الحاضرة عندنا غنى عاجل بالعين كما تقدم (رواه أبوداود) في الزكاة (والترمذي) في الزهد. وأخرجه أحمد (ج1:ص389-442) بلفظ: برزق عاجل أو موت آجل (ج1:ص407) بلفظ: آجل عاجل أو غنى عاجل والحاكم (ج1:ص408) والبيهقي من طريق الحاكم (ج4:ص196) وصححه الترمذي والحاكم والذهبي، وسكت عنه أبوداود. ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره. 1868- قوله: (عن ابن الفراسي) بكسر الفاء وخفة الراء بعدها ألف ثم سين مهملة ثم ياء مشددة. قال في التقريب: ابن الفراسي عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف اسمه (إن الفراسي) قال ابن

قال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أسأل يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، وإن كنت لا بد فسل الصالحين)) . رواه أبوداود، والنسائي. 1869- (19) وعن ابن الساعدي، ـــــــــــــــــــــــــــــ عبد البر، ويقال فراس أي بغير ياء النسبة، وهو من بني فراس بن مالك بن كنانة، حديثه عند أهل مصر فذكر هذا الحديث. قال: وله حديث آخر مثل حديث أبي هريرة في البحر هو الطهور ماءه والحل ميتته، كلاهما يرويه الليث بن سعد عن جعفر بن ربيعة عن بكر بن سوادة عن مسلم بن مخشى عن الفراسى. ومنهم من يقول عن مسلم ابن مخشى عن ابن الفراسي عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: يعد في أهل مصر وحديثه عنهم -انتهى. وقال الحافظ في الإصابة: فراس (بغير ياء في آخره) له صحبة قاله البخاري. ثم ذكر هذا الحديث من روايته ثم قال هكذا رأيت في نسخة قديمة من تاريخ البخاري في حرف الفاء، وكذا ذكر ابن السكن إن البخاري سماه فراساً. قال: وقال غيره الفراسي من بني فراس بن مالك بن كنانة ولا يوقف على اسمه، ومخرج حديثه عن أهل مصر، وذكره البغوي وابن حبان بلفظ: النسب كما هو المشهور لكن صنيعه تقتضى إنه اسم بلفظ: النسب. والمعروف إنه نسبه وإن اسمه لا يعرف، والمعروف في الحديث عن ابن الفراسي عن أبيه. وقيل: عن ابن الفراسي فقط، وهو مرسل -انتهى. (قال قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي بعض النسخ قال لرسول الله أي بحذف "قلت" وهكذا وقع في السنن لأبي داود والنسائي والبيهقي، ومسند الإمام أحمد (أسأل) على تقدير حرف الإستفهام، والمراد أسأل المال من غير الله المتعال وإلا فلا منع للسؤال من الله تعالى بل هو المطلوب (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا) أي لا تسأل من غير الله شيئاً فإن السؤال ذل (وإن كنت لا بد) كذا في جميع النسخ الحاضرة وفي أبي داود والنسائي والبيهقي ومسند الإمام أحمد، وإن كنت سائلاً لا بد أي لا بد لك منه ولا غنى لك عنه (فسل الصالحين) أي القادرين على قضاء الحاجة أو أخيار الناس لأنهم لا يحرمون السائلين ويعطون ما يعطون عن طيب نفس، ولأنهم لا يعطون إلا من الحلال ولا يكونون إلا كرماء رحماء ولا يهتكون العرض، ولأنهم يدعون لك فيستجاب، وقد سلف شيء من الكلام في معناه في شرح حديث سمرة بن جندب (رواه أبوداود والنسائي) وأخرجه أحمد (ج4:ص334) والبيهقي (ج4:ص197) والبخاري في تاريخه (ج4:ص137-138) وسكت عنه أبوداود. 1869- قوله: (وعن ابن الساعدي) بالألف بعد السين وبكسر العين وبياء النسبة، وهو عبد الله بن السعدي، واسم السعدي، وقدان. وقيل: عمرو، ووقدان جده، وقيل: اسمه قدامة بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي بن غالب. وإنما قيل له: ابن السعدي لأن أباه كان مسترضعاً في بني

قال استعملني عمر على الصدقة، فلما فرغت منها وأديتها إليه، أمرني بعمالة، فقلت: إنما عملت لله وأجري على الله، قال خذ ما أعطيت، فإني قد عملت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلمني، فقلت: مثل قولك، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أعطيتك شيئاً من غير أن تسأله فكل وتصدق)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ سعد بن بكر بن هوازن، وفد عبد الله بن سعدي على النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه قديماً. وسكن الأردن روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن عمر بن الخطاب حديث العمالة، وروى عنه حويطب بن عبد العزى وبسر بن سعيد وغيرهما. قال الحافظ في الفتح: ومات عبد الله بن السعدي بالمدينة سنة سبع وخمسين، ويقال بل مات في خلافة عمر والأول أقوى. قلت: الأول قول الواقدي. والثاني قول ابن حبان. وقال ابن عساكر: لا أراه محفوظاً وقوله ابن الساعدي هكذا وقع في رواية الليث بن سعد عن بكير بن الأشج عن بسر بن سعيد عند أبي داود والنسائي ومسلم، وخالفه عمرو بن الحارث عن بكير عند مسلم. فقال ابن السعدي قال الحافظ: وهو المحفوظ. وقال عياض: الصواب ابن السعدي كما في الرواية الأخرى. وإنما قيل: له السعدي لأنه استرضع في بني سعد بن بكر. وأما الساعدي فلا يعرف له وجه. وابنه عبد الله من الصحابة وهو قرشي عامري مالكي. وقال النووي: أما قوله الساعدي فأنكروه قالوا وصوابه السعدي كما رواه الجمهور منسوب إلى بني سعد بن بكر كما سبق. قلت: وهكذا وقع في رواية السائب بن يزيد عن حويطب بن عبد العزى عن عبد الله بن السعدي عند البخاري والنسائي (إستعملني عمر) أي جعلني عاملاً (على الصدقة) أي على أخذها وجمعها (فلما فرغت منها) أي من أخذها وجبابتها (وأديتها إليه) أي إلى عمر (أمر لي بعمالة) بضم العين المهملة وتخفيف الميم أي أجرة العمل. قال الجوهري: العمالة بالضم رزق العامل على عمله، وذكر الحافظ في الفتح رواية من فوائد أبي بكر النيشابوري، تدل على أن العمالة المذكورة كانت ألف دينار والله تعالى أعلم. (قال) أي عمر (خذ ما أعطيت) على بناء المفعول والأمر للاستحباب عند الجمهور (فعملني) بتشديد الميم أي أعطاني أجرة عملي، والمعنى أراد إعطاءها وأمر لي بالعطاء (فقلت مثل قولك) فيه منقبة لعمر وبيان فضله وزهده وإيثاره، وكذا لإبن السعدي فقد وافق فعله فعل عمر سواء (إذا أعطيت) بصيغة المجهول (شيئاً من غير أن تسأله فكل وتصدق) أي خذه ولا ترده، واصنع ما شئت من الأكل والتصدق. وقيل: أي كل حال كونك فقيراً وتصدق حال كونك غنياً. قال الشوكاني: في الحديث دليل على أن عمل الساعي سبب لإستحقاقه الأجرة كما أن وصف الفقر والمسكنة هو السبب في ذلك، وإذا كان العمل هو السبب اقتضى قياس قواعد الشرع إن المأخوذ في مقابلته أجرة، ولهذا قال أصحاب الشافعي تبعاً له إنه يستحق أجرة المثل. وفيه أيضاً دليل على أن من نوع التبرع يجوز له أخذة الأجر بعد ذلك، ولهذا قال المصنف

رواه أبوداود. 1870- (20) وعن علي، أنه سمع يوم عرفة رجلاً يسأل الناس. فقال: ((أفي هذا اليوم، وفي هذا المكان تسأل من غير الله؟ فخفقه بالدرة)) . رواه رزين. ـــــــــــــــــــــــــــــ يعني المجد بن تيمية صاحب المنتقى. وفيه دليل على أن نصيب العامل يطيب له وإن نوى التبرع أو لم يكن مشروطاً - انتهى. وقال المنذري: في الحديث جواز أخذ الأجرة على إعمال المسلمين وولاياتهم الدينية والدنيوية، قيل: وليس معنى الحديث في الصدقات وإنما هو في الأموال التي يقسمها الإمام على أغنياء الناس وفقراءهم، واستشهد بقوله في بعض طرقه فتموله. وقال الفقير: لا ينبغي أن يأخذ من الصدقة ما يتخذه مالاً كان عن مسألة أو غير مسألة -انتهى. قال ابن المنذر حديث ابن السعدي حجة في جواز أرزاق القضاة عن وجوهها. وقال الطبري: في حديث عمر الدليل الواضح على أن لمن شغل بشيء من إعمال المسلمين أخذ الرزق على عمله ذلك، كالولاة والقضاة وجباة الفيء وعمال الصدقة. وشبههم لإعطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر العمالة على عمله، وذكر ابن المنذر إن زيد بن ثابت كان يأخذ الأجر على القضاء. واحتج أبوعبيد في ذلك بما فرض الله للعاملين على الصدقة. وجعل لهم منها حقاً لقيامهم وسعيهم فيها (رواه أبوداود) فيه تساهل فإن الحديث أخرجه مسلم والنسائي بهذا اللفظ، والبخاري في الأحكام بنحوه فكان على المصنف أن يقول رواه مسلم وأبوداود والنسائي أو يقول متفق عليه. 1870- قوله: (فقال) أي علي (أفي هذا اليوم وفي هذا المكان) أي أفي زمان إجابة الدعاء ومكان قبول الثناء وحصول الرجاء (تسأل من غير الله) أي شيئاً حقيراً مثل الغداء أو العشاء. قال الطيبي: أي هذا المكان وهذا اليوم، ينافيان السؤال من غير الله، ويلحق بذلك السؤال في المساجد إذ لم تبن إلا للعبادة - انتهى. قلت قد روى أبوداود والبيهقي في باب المسألة في المساجد، والحاكم من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل فيكم أحد أطعم اليوم مسكيناً. فقال أبوبكر: دخلت المسجد فإذا أنا بسائل يسأل فوجدت كسرة خبز في يد عبد الرحمن فأخذتها منه فدفعتها إليه - انتهى. وهذا بظاهره يدل على جواز السؤال في المساجد والإعطاء فيها، خلافاً لمن ذهب إلى تحريم السؤال فيها، وكراهة الإعطاء مطلقاً (فخفقه) أي ضربه وهو من باب ضرب ونصر يقال: خفقه بالسيف أي ضربه به ضرباً خفيفاً، والمخفق السيف العريض، والمخفقة الدرة يضرب بها. وقال الطيبي: الخفق الضرب بالشيء العريض (بالدرة) بكسر الدال وتشديد الراء في القاموس هي التي يضرب بها (رواه رزين) .

1871- (21) وعن عمر، قال: ((تعلمن أيها الناس! إن الطمع فقر، وإن الإياس غنى، وإن المرأ إذا يئس عن شيء استغنى عنه)) . رواه رزين. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1871- قوله: (تعلمن) بضم الميم. قال الطيبي: أي لتعلمن وفيه شذوذان إيراد اللام في أمر المخاطب وحذفها مع كونها مرادة. وقيل: يحتمل أن يكون تعلمن جواب قسم مقدر، واللام المقدرة هي المفتوحة أي والله لتعلمن ذكره القاري، وفي بعض النسخ تعلمون وهو خبر بمعنى الأمر (إن الطمع) أي في الخلق (فقر) أي حاضر أو يجر إليه (وإن الإياس) بكسر الهمزة بمعنى اليأس من الناس (وإن المرأ) تفسير لما تقدم (إذا يئس) وفي نسخة صحيحة إذا أيس (عن شيء استغنى عنه) ولذا قيل اليأس إحدى الراحتين (رواه رزين) ذكر هذا الأثر والذي قبله رزين في تجريده من غير سند ولم أقف على من أخرج أثر علي، وأما أثر عمر فأخرجه أبونعيم في الحلية كما سيأتي. وقد ذكره أيضاً ابن رجب في شرح الأربعين (ص217) والغزالي في الإحياء (ج4:ص195) من غير أن يذكرا مخرجه وسكت العراقي أيضاً عن تخريجه في المغنى، ولفظ الإحياء "إن الطمع فقر" واليأس غنى وأنه من يئس عما في أيدي الناس وقنع استغنى عنهم، ورواه أبونعيم في الحلية (ج1:ص50) قال: حدثنا أبوبكر بن همدان ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي ثنا أبومعاوية ووكيع عن هشام بن عروة عن أبيه قال: قال عمر. في خطبة: تعلمون أن الطمع فقر وأن اليأس غنى وأن الرجل إذا يئس عن شيء "استغنى عنه" رواه ابن وهب عن الثوري عن هشام عن أبيه عن زبيد (بضم الزاي بعدها ياء معجمة باثنتين من تحتها مكررة) ابن الصلت (بمهملة وبمثناة فوق في آخره) عن عمر: حدثنا أبي ثنا إبراهيم بن محمد ثنا أحمد بن سعيد ثنا ابن وهب به. انتهى ما في الحلية. قلت: عروة عن عمر منقطع لأن عروة ولد في آخر خلافة عمر (أي لست سنين خلت من خلافة عمر) كما في تهذيب التهذيب للحافظ والتذكرة للذهبي. وقيل: ولد في خلافة عثمان، وأما زبيد بن الصلت عن عمر فهو متصل لأن زبيداً قد أدرك عمر، قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (ج1/ق2/ص622) زبيد بن الصلت المديني روى عن أبي بكر رضي الله عنه مرسل، وعن عمر وقد أدركه، روى عنه عروة بن الزبير

1872- (22) وعن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يكفل لي أن لا يسأل الناس شيئاً، فأتكفل له بالجنة؟ فقال ثوبان: أنا: فكان لا يسأل أحداً شيئاً)) . رواه أبوداود، والنسائي. ـــــــــــــــــــــــــــــ والزهري وعبد الله بن إبراهيم بن قارظ ثم ذكر عن يحيى بن معين أنه قال زبيد بن الصلت ثقة. انتهى. وأثر عمر من طريق هشام عن أبيه أخرجه أيضاً وكيع بن الجراح في الزهد (ج2:ص426) وأحمد في الزهد (117) وأبونعيم في الحلية (ج6:ص328) وابن المبارك في الزهد (223) والمروزي في زيادات زهد ابن المبارك (354) وابن الجوزي في مناقب عمر في مختصره (181) وروى أحمد في الزهد والبيهقي والحاكم في المستدرك (ج4:ص326) عن سعد بن أبي وقاص قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أوصني وأوجز فقال له: عليك بالإياس مما في أيدي الناس وإياك والطمع فإنه الفقر الحاضر- الحديث. قال الحاكم: حديث صحيح الإسناد. وقال الذهبي: صحيح. وأما ما روى الطبراني من حديث ابن مسعود قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الغنى؟ قال: اليأس مما في أيدي الناس، ففي إسناده إبراهيم بن زياد العجلي وهو متروك. 1872- قوله: (من يكفل) بفتح الياء وضم الفاء مرفوعاً في بعض النسخ بصيغة الماضي من التكفل، وكذا وقع في سنن أبي داود ولفظ النسائي من يضمن و"من" استفهامية أي أيكم يضمن ويلتزم ويتقبل (لي أن لا يسأل الناس شيئاً) أي من مالهم وإلا فطلب ماله عليهم لا يضر، والمراد من يديم على ذلك (فأتكفل) بالنصب والرفع أي أتضمن وأتقبل (له بالجنة) أي أولاً من غير سابقة عقوبة، وفيه إشارة إلى بشارة حسن الخاتمة (فقال ثوبان أنا) أي تضمنت أو أتضمن (فكان) أي ثوبان بعد ذلك (لا يسأل أحداً شيئاً) وفي رواية عند أحمد وابن ماجه، فكان ثوبان يقح سوطه وهو راكب أي على بعيره فلا يقول لأحد ناولنيه حتى ينزل فيأخذه (رواه أبوداود والنسائي) واللفظ لأبي داود، ولفظ النسائي من يضمن لي واحدة وله الجنة. قال يحيى: (أحد

((5)) باب الإنفاق وكراهية الإمساك

1873- (23) وعن أبي ذر، قال دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وهو يشترط على أن لا تسأل الناس شيئاً قلت نعم. قال: ولا سوطك إن سقط منك حتى تنزل إليه فتأخذه)) . رواه أحمد. ((5)) باب الإنفاق وكراهية الإمساك {الفصل الأول} 1874- (1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو كان لي مثل أحد ذهباً ـــــــــــــــــــــــــــــ رواته) ههنا كلمة معناها أن لا يسأل الناس شيئاً -انتهى. والحديث أخرجه أحمد (ج5: ص275-276-277-279-281) وابن ماجه والحاكم (ج1:ص412) والبيهقي (ج4:ص197) وسكت عنه أبوداود والمنذري في مختصر السنن. وقال في الترغيب: إسناده صحيح وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي. 1873- قوله: (دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي إلى المبايعة الخاصة كما يدل عليه أو الحديث قال أي أبوذر بايعني رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً، وأوثقني سبعاً وأشهد الله على تسعاً أن لا أخاف في الله لومة لائم. قال أبوالمثنى: أحد رواته. قال أبوذر: فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هل لك إلى بيعة ولك الجنة قلت نعم وبسطت يدي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهو يشترط علي الخ، (وهو يشترط علي) أي والحال أنه يقول لي على جهة الاشتراط أبايعك على (أن لا تسأل الناس شيئاً) بفتح اللام وكسرها وعلى الأول أكثر النسخ. قال الطيبي: إن مفسرة داخلة على النهى لما في يشترط من معنى القول. قيل: ويحتمل أن تكون مصدرية كذا في المرقاة (قلت نعم) أي بايعتك على ذلك (قال) أي النبي صلى الله عليه وسلم للمبالغة (ولا سوطك) أي ولا تسأل أحداً أن يناوله لك (إن سقط منك حتى تنزل إليه فتأخذه) أي بنفسك وهذا مبالغة في النهى عن السؤال وحسم لمادته وإن لم يكن من السؤال المحرم (رواه أحمد) (ج5:ص172) وفي رواية له (ج5:ص181) إن النبي صلى الله عليه وسلم قال ستة أيام ثم أعقل يا أباذر ما أقول لك بعد. فلما كان اليوم السابع، قال أوصيك بتقوى الله في سر أمرك وعلانيته وإذا أسات فأحسن ولا تسألن أحداً شيئاً وإن سقط سوطك، ولا تقبض أمانة. قال المنذري في الترغيب والهيثمي في مجمع الزوائد (ج3:ص93) رجاله ثقات. (باب الإنفاق وكراهية الإمساك) الإنفاق إخراج المال من اليد، يقال أنفق المال أي صرفه وأنفده وكل ما فاءه نون وعينه فاء، فهو دال على معنى الذهاب والخروج نحو نفر، ونفس ونفح ونفث ونفي ونفع وأمثالها والإمساك البخل. 1874- قوله: (لو كان لي مثل أحد) بضمتين جبل معروف بالمدينة (ذهباً) تمييز لمثل وفي رواية مسلم

لسرني أن لا يمر على ثلاث ليال، وعندي منه شيء، إلا شيء أرصده لدين)) . رواه البخاري. 1875- (2) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من يوم يصبح ـــــــــــــــــــــــــــــ ما يسرني أن لي أحداً ذهباً، وفي رواية للبخاري فلما أبصر أحداً قال ما أحب أنه تحول لي ذهباً يمكث عندي منه دينار فوق ثلاث. قال الحافظ: ويمكن الجمع بين قوله مثل أحد وبين قوله تحول لي أحد بحمل المثلية على شيء يكون وزنه من الذهب وزن أحد، والتحويل على أنه إذا انقلب ذهباً كان قدر وزنه أيضاً (لسرني) باللام قبل السين جواب لو أي أعجبني وجعلني في سرور (أن لا يمر علي) وفي رواية أن لا تمر بي (ثلاث ليال) قيل قيد بالثلاث لأنه لا يتهيأ تفريق قدر أحد من الذهب في أقل منها غالباً ويعكر عليه رواية يوم وليلة، فالأولى أن يقال الثلاثة أقصى ما يحتاج إليه في تفرقة مثل ذلك والواحدة أقل ما يمكن (وعندي منه شيء) قال ابن الملك الواو فيه للحال يعني لسرني عدم مرور ثلاث ليال والحال أن يكون فيها شيء منه عندي، والنفي في الحقيقة راجع إلى الحال (إلا شيء) وفي رواية إلا شيئاً بالنصب، قال الطيبي: وجه الرفع إن قوله "شيء" في حيز النفي أي لسرني أن لا يبقى منه شيء إلا شيء - انتهى. ووجه النصب إن المستثنى منه مطلق عام، والمستثنى مقيد خاص ووقع تفسير شيء في رواية بدينار (أرصده) بضم الهمزة وكسر الصاد أي أعده وأحفظه (لدين) بفتح الراء أي لأداء دين لأن قضاء الدين واجب فهو مقدم على الصدقة المندوبة، وهذا الإرصاد أعم من أن يكون لصاحب دين غائب حتى يحضر فيأخذه أو لأجل وفاء دين مؤجل حتى يحل فيوفى. قال القاري: قوله "لدين" أي لأداء دين كان على لأن أداء الدين مقدم على الصدقة، وكثير من جهلة العوام وظلمة الطغام يعملون الخيرات والمبرات، وعليهم حقوق الخلق ولم يلتفتوا إليها، وكثير من المتصوفة غير العارفة يجتهدون في الرياضات وتكثير الطاعات والعبادات وما يقومون بما يجب عليهم من الديانات -انتهى. وفي الحديث الحث على الإنفاق في وجوه الخيرات وأنه صلى الله عليه وسلم كان في أعلى درجات الزهد في الدنيا بحيث أنه لا يحب أن يبقى في يده شيء من الدنيا إلا لإنفاقه فيمن يستحقه. وأما لإرصاده لمن له حق، وإما لتعذر من يقبل ذلك من لتقييده في رواية بقوله أجد من يقبله ويؤخذ منه جواز تأخير الزكاة الواجبة عن الإعطاء إذا لم يوجد من يستحق أخذها، وينبغي لمن وقع له ذلك أن يعزل القدر الواجب من ماله، ويجتهد في حصول من يأخذه، فإن لم يجد فلا حرج عليه، ولا ينسب إلى تقصير في حبسه. وفيه تقديم وفاء الدين على صدقة التطوع، وفيه جواز الاستقراض، وفيه الحث على وفاء الديون، وأداء الأمانات (رواه البخاري) في الرقاق بهذا اللفظ، وأخرجه أيضاً في الاستقراض وفي التمنى نحوه، وأخرجه أحمد (ج2: ص256-316) ومسلم أيضاً فكان على المصنف أن يقول متفق عليه. 1875- قوله: (ما من يوم) "ما" نافية و"من" زائدة لتأكيد الإستغراق والمعنى ليس يوم (يصبح

العباد فيه، إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً. ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً)) . متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ العباد فيه) صفة يوم (إلا ملكان) مبتدأ خبره (ينزلان) أي فيه وهذه الجملة مع ما يتعلق بها في محل الخبر وهو مستثنى من محذوف أي على وجه إلا هذا الوجه كذا في المرقاة. وقال القسطلاني: "ما" بمعنى ليس و"يوم" اسمه و"من" زائدة و"يصبح العباد" صفة "يوم" وملكان مستثنى من محذوف وهو خبر ما أي ليس يوم موصوف بهذا الوصف ينزل فيه أحد إلا ملكان، فحذف المستثنى منه ودل عليه بوصف الملكين ينزلان (فيقول أحدهما) الخ قال السندي: لا فائدة في هذا القول على تقدير عدم سماع الناس ذلك، إذ لا يحصل به ترغيب ولا ترهيب بدون السماع، لأنا نقول تبليغ الصادق يقوم مقام السماع فينبغي للعاقل أن يلاحظ كل يوم هذا الدعاء بحيث كأنه يسمعه من الملكين فيفعل بسبب ذلك ما لو سمع من الملكين لفعل. وهذا هو فائدة أخبار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك على أن المقصود بالذات الدعاء لهذا، وعلى هذا سواء علموا به أم لا، والله تعالى أعلم (اللهم أعط) بقطع همزة أعط (منفقاً) أي منفق مال. وقيل: أي من ينفق من محله في محله (خلفاً) بفتح اللام أي عوضاً عظيماً وهو العوض الصالح أو عوضاً في الدنيا وبدلاً في العقبى لقوله تعالى {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه} [سبأ: 39] وقوله ابن آدم أنفق أنفق عليك، قيل أبهم الخلف لتتناول المال والثواب وغيرهما، فكم من منفق مات قبل أن يقع له الخلف المالي، فيكون خلفه الثواب المعدله في الآخرة، أو يدفع عنه من السوء ما يقابل ذلك (ويقول) الملك (الآخر اللهم أعط ممسكاً) أي من يمسك عن خيره لغيره (تلفاً) بفتح اللام أي هلاكاً وضياعاً زاد ابن أبي حاتم من حديث أبي الدرداء فأنزل الله تعالى في ذلك {فأما من أعطى واتقى إلى قوله العسرى} [الليل:5] وقوله اللهم أعط ممسكاً تلفاً هو من قبيل المشاكلة لأن التلف ليس بعطية. قال الحافظ: تضمنت الآية الوعيد بالتيسير لمن ينفق في وجوه البر، والوعيد بالتعسير لعكسه والتيسير المذكور أعم من أن يكون لأحوال الدنيا وأحوال الآخرة، وكذا دعاء الملك بالخلف يحتمل الأمرين، وأما الدعاء بالتلف فيحتمل تلف ذلك المال بعينه، أو تلف نفس صاحب المال أو المراد به فوات أعمال البر بالتشاغل بغيرها. قال النووي: الإنفاق الممدوح ما كان في الطاعات، وعلى العيال والضيفان والصدقات ونحو ذلك بحيث لا يذم ولا يسمى سرفاً والإمساك المذموم الإمساك عن هذا. وقال القرطبي: هو يعم الواجبات والمندوبات لكن الممسك عند المندوبات لا يستحق هذا الدعاء إلا أن يغلب عليه البخل المذموم بحيث لا تطيب نفسه بإخراج الحق الذي عليه ولو أخرجه (متفق عليه) وأخرجه ابن حبان والطبراني بنحوه كما في الترغيب. وفي الباب عن أبي الدرداء عند أحمد وابن حبان والحاكم والبيهقي.

1876- (3) وعن أسماء، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((انفقي ولا تحصى فيحصى الله عليك، ولا توعي، فيوعي الله عليك ارضخي ما استطعت)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1876- قوله: (وعن أسماء) بنت الصديق الأكبر (قالت قال) لي (رسول الله صلى الله عليه وسلم انفقي) بهمزة قطع وكسر فاء (ولا تحصى) بضم أوله وكسر الصاد صيغة نهى المؤنث من الإحصاء، أي لا تعدي ما أنفقته فتستكثريه (فيحصى الله عليك) بنصب فيحصى مع كسر صاده جواب النهى أي حتى يعطيك الله أيضاً بحساب ولا يرزقك من غير حساب. والمراد التعليل، وقيل معناه ولا تبقى شيئاً للإدخار فإن من أبقى شيئاً إحصاه وقوله "فيحصى الله عليك" أي فيقل الرزق عليك بقطع البركة ومنع الزيادة ويجعله كالشيء المعدود أو فيحاسبك عليه في الآخرة. قال الطيبي: أصل "الإحصاء" الإحاطة بالشيء حصراً وتعداد أي معرفة قدره وزناً أو عدداً والمراد به ههنا عد الشيء للتبقية والقنية وإدخاره للإعتداد به وترك الإنفاق منه في سبيل الله، وإحصاء الله تعالى يحتمل وجهين، أحدهما أنه يحبس عنك مادة الرزق ويقلله بقطع البركة حتى يصير كالشيء المعدود، والآخر أنه يحاسبك ويناقشك عليه في الآخرة. وقال النووي: هذا من مقابلة اللفظ باللفظ للتجنيس كما قال تعالى {ومكروا ومكر الله} [آل عمران: 54] ومعناه يمنعك كما منعت ويفتر عليك كما فترت ويمسك فضله عنك كما أمسكته (ولا توعى) بعين مهملة من أوعبت المتاع في الوعاء أوعية إذا جعلته فيه ووعيت الشيء حفظته والمراد لازم الايعاء وهو الإمساك (فيوعي الله عليك) بضم التحتية وكسر العين والنصب لكونه جواباً للنهى مقروناً بالفاء، وإسناده إلى الله مجاز عن الإمساك أي لا تجمعي في الوعاء وتبخلي بالنفقة فتجازى بمثل ذلك. وقال الخطابي: لا توعي أي لا تخبئي الشيء في الوعاء أي لأن مادة الرزق متصلة بإتصال النفقة منقطعة بانقطاعها فلا تمنعي فضلها فتحرمي مادتها وفي رواية لا توكي فيوكي الله عليك بالكاف بدل العين فيهما، والإيكاء شد رأس الوعاء بالوكاء، وهو الرباط الذي يربط به، يقال أوكى ما في سقاءه إذا شده بالوكاء، وهو الخيط الذي يشد به رأس القربة، وأوكى علينا أي بخل أي لا توكى مالك عن الصدقة خشية نفاده ولا تمنعي ما في يدك، وتدخري فتنقطع مادة الرزق عنك. وفيه أن السخاء يفتح أبواب الرزق والبخل بخلافه قال النووي: معنى الحديث الحث على النفقة في الطاعة والنهى عن الإمساك والبخل (إرضخي) من باب فتح والرضخ براء وضاد معجمة وخاء كذلك العطية القليلة أي أعطى وأنفقي من غير أحجاف. وقيل أي أعطى شيئاً وإن كان يسيراً، يقال رضخه أعطاه عطاء غير كثير أو قليلاً من كثير (ما استطعت) أي ما دمت مستطيعة قادرة على الرضخ فما ظرفية أي مدة إستطاعتك، أو موصولة أي الذي استطعته، أو نكرة موصوفة أي شيئاً إسطعته. قال النووي: معناه مما يرضى به الزبير، وتقديره إن لك في الرضخ مراتب مباحة بعضها فوق بعض وكلها يرضاها الزبير فافعلي أعلاها أو يكون معناه ما استطعت مما هو ملك لك. وقال ابن الملك: وإنما أمرها

متفق عليه. 1877- (4) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال تعالى أنفق يا ابن آدم! أنفق عليك)) . 1878- (5) وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا ابن آدم! إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك. ـــــــــــــــــــــــــــــ صلى الله عليه وسلم بالرضخ لما عرف من حالها إنها لا تقدر تتصرف في مالها ولا في مال زوجها بغير إذنه إلا في الشيء اليسير الذي جرت العادة فيها بالتسامح من قبل الأزواج كالكسرة والتمرة والطعام الذي يفضل في البيت ولا يصلح للإدخار لتسارع الفساد إليه أو فيما سبق إليها من نفقتها وحصتها، ولهذا كانت تستفتيه فيما ادخل عليها الزبير وفي صحيح مسلم إن أسماء جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا نبي الله! ليس لي شيء إلا ما ادخل على الزبير فهل علي جناح إن أرضخ مما يدخل علي، فقال: أرضخي ما استطعت ولا توعي فيوعي الله عليك. قال النووي: هذا محمول على ما أعطاها الزبير لنفسها بسبب نفقة وغيرها أو مما هو ملك الزبير ولا يكره الصدقة منه بل يرضى بها على عادة غالب الناس (متفق عليه) أخرجه البخاري في الزكاة والهبة، ومسلم في الزكاة واللفظ للبخاري، وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي والبيهقي. 1877- قوله: (أنفق) بفتح الهمزة وكسر الفاء مجزوم على الأمر أي على عباد الله، وفي ترك تقييد النفقة بشيء معين ما يرشد إلى أن الحث على الإنفاق يشمل جميع أنواع الخير (أنفق عليك) بضم الهمزة وكسر الفاء مجزوم جواباً بصيغة المضارع أي أعطك خلفه بل أكثر من أضعافاً مضاعفة وهو معنى قوله تعالى {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه} [سبا:39] فيتضمن الحث على الإنفاق يعني في وجوه الخير والتبشير بالخلف من فضل الله تعالى (متفق عليه) هذا طرف من حديث طويل أخرجه البخاري في تفسير سورة هود، ومسلم في الزكاة وأخرجه البخاري أيضاً مقتصراً على هذا القدر، في باب {يريدون أن يبدلوا كلام الله} من كتاب التوحيد، وهو من الأحاديث القدسية وقد أخرجه أحمد (ج2:ص314) والبيهقي أيضاً. 1878- قوله: (يا ابن آدم إن تبذل) بضم الذال المعجمة وفي مسلم يا ابن آدم إنك إن تبذل (الفضل) هو ما زاد على قدر الحاجة، "وإن" مصدرية مع مدخولها مبتدأ خبره (خير لك) أي بذل الزيادة على قدر الحاجة خير لك في الدنيا والآخرة (وإن تمسكه) أي إمساك ذلك الفضل ومنعه (شر لك) أي عندالله وعند

ولا تلام على كفاف، وابدأ بمن تعول)) . رواه مسلم. 1879- (6) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين، عليهما جنتان من حديد. ـــــــــــــــــــــــــــــ الناس. قال النووي: قوله "إنك إن تبذل الفضل" الخ هو بفتح همزة أن ومعناه إن بذلك الفاضل عن حاجتك وحاجة عيالك فهو خير لك لبقاء ثوابه، وإن أمسكته فهو شر لك لأنه إن أمسك عن الواجب استحق العقاب عليه، وإن أمساك عن المندوب فقد نقص ثوابه وفوت مصلحة نفسه في آخرته وهذا كله شر (ولا تلام على كفاف) بفتح الكاف وهو من الرزق القوت وهو ما كف عن الناس وأغنى عنهم. وقيل: الكفاف ما كف عن الحاجة إلى الناس مع القناعة، لا يزيد على قدر الحاجة أي لا تذم على إمساك كفاف، وحفظه يعني إن حفظت من مالك قدر حاجتك لا لوم عليك وإن حفظت ما فضل على قدر حاجتك فأنت بخيل، والبخيل ملوم، قال النووي: معنى قوله "لا تلام على كفاف" إن قدر الحاجة لا لوم على صاحبه في حفظه وإمساكه، وهذا إذا لم يتوجه في الكفاف حق شرعي كمن كان له نصاب زكوى، ووجبت الزكاة بشروطها وهو محتاج إلى ذلك النصاب لكفافه، وجب عليه إخراج الزكاة ويحصل كفايته من جهة مباحة (وأبدأ) أي ابتدأ في إعطاء الزائد على الكفاف (بمن تعول) أي بمن تمونه ويلزمك نفقته. يقال عال الرجل عياله يعولهم إذا قام بما يحتاجون إليه من قوت كسوة أي إبداء في إنفاق الفضل (أي ما يزيد على ما يحصل منه الكفاف) بعيالك ووسع عليهم أولاً زيادة على نفقتهم الواجبة والمقصود إن العيال والقرابة أحق من غيرهم؟ وفيه الإبتداء بالأهم فالأهم (رواه مسلم) في الزكاة وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي في الزهد والبيهقي (ج4:ص182) . 1879- قوله: (مثل البخيل والمتصدق) وفي رواية المنفق أي صفتهما (جنتان) بضم الجيم وتشديد النون تثنية جنة، وهو كل ما وقى الإنسان واجنه وأحصنه، والمراد به هنا الدرع. وقيل: الجنة في الأصل الحصن، وسميت بها الدرع لأنها تجن صاحبها أي تحصنه، وقوله "جنتان: هكذا وقع في جميع النسخ الحاضرة بالنون، وكذا في المصابيع، وكذا في جامع الأصول، وكذا نقله المنذري في الترغيب، وهكذا في صحيح مسلم، وهي رواية إبراهيم بن نافع عن الحسن بن مسلم عن طاووس عن أبي هريرة. ووقع عند البخاري في هذه الرواية جبتان بالباء المؤحدة تثنية جبة، وهو اللباس المعروف. ويظهر من كلام الحافظ في الزكاة إن المحفوظ في هذه الرواية بالموحدة ومن رواه فيها بالنون فقد صحف. ورجحت رواية النون لقوله من حديد ولقوله قلصت وأخذت كل حلقة بمكانها. قال الحافظ: ولا مانع من إطلاع الجبة بالباء على الدرع. وقال السندي: إطلاق الجبة بالباء

قد أضطرت أيديهما إلى ثديهما وتراقيهما، فجعل المتصدق كلما تصدق بصدقة، إنبسطت عنه. وجعل البخيل كلما هم بصدقة، قلصت وأخذت، كل حلقة بمكانها)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ على الجنة بالنون مجازاً غير بعيد، فينبغي أن يكون الجنة بالنون هو المراد في الروايتين (قد اضطرت أيديهما) قال القسطلاني: بفتح الطاء ونصب التحتية الثانية من أيديهما عند أبي ذر على المفعولية ولغيره بضم الطاء وسكون التحتية مرفوع نائب عن الفاعل. وقال القاري: بضم الطاء أي شدت وضمت والصقت، وفي نسخة بفتح الطاء ونصب أيديهما على أن ضمير الفعل إلى جنس الجنة المفهوم من التثنية (إلى ثديهما) بضم المثلثة وكسر الدال المهملة وتشديد المثناة التحتية جمع ثدى بفتح فسكون (وتراقيهما) بفتح مثناة فوق وكسر قاف جمع ترقوة بفتح التاء المثناة وسكون الراء وضم القاف وفتح الواو، وهما العظمان المشرفان في أعلى الصدر من رأس المنكبين إلى طرف ثغرة النحر (فجعل) أي طفق (المتصدق كلما تصدق) أي هم يتصدق بصدقة (إنبسطت) أي انتشرت الجنة واتسعت وسبغت (عنه) أي عن المتصدق زاد في رواية حتى تغشى أنامله (بفتح الشين المعجمة أي تسترها) وتعفو أثره (بنصب الراء أي تستر أثره، ويقال عفا الشيء وعفوته أنا، لازم ومتعد، ويقال عفت الدار إذا غطاها التراب. والمعنى إن الصدقة تستر خطاياه كما يغطي الثوب الذي يجر على الأرض أثر صاحبه إذا مشى بمرور الذيل عليه) . (هم بصدقة) أي قصد إليها (قلصت) بالقاف واللام المخففة والصاد المهملة المفتوحات أي انضمت وانجمعت وانقبضت جنته عليه (وأخذت كل حلقة) بسكون اللام من الجنة (بمكانها) يعني اشتدت والتصقت الحلق بعضها ببعض، والباء زائدة. قال التوربشتي: معنى الحديث إن الجواد الموفق إذا هم بالصدقة اتسع لذلك صدره وطاوعته نفسه انبسطت بالبذل والعطاء يداه كالذي لبس درعاً فاسترسلت عليه، وأخرج منها يديه فانبسطت حتى خلصت إلى ظهور قدميه فاجنته وحصنته، وإن البخيل إذا أراد الإنفاق حرج به صدره واشمأزت عنه نفسه، وانقبضت عنه يداه كالذي أراد أن يستجن بالدرع وقد غلت يداه إلى عنقه فحال ما ابتلى به بينه وبين ما يبتغيه فلا يزيده لبسها إلا ثقلاً، ووبالاً والتزاماً في العنق والتواء وأخذاً بالترقوة -انتهى. وقال الحافظ في الفتح: قال الخطابي وغيره: وهذا مثل ضرب النبي صلى الله عليه وسلم للبخيل والمتصدق فشبهما برجلين أراد كل واحد منهما أن يلبس درعاً يستتر به من سلاح عدوه فصبها على رأسه ليلبسها، والدروع أول ما تقع على الصدر والثديين إلى أن يدخل الإنسان يديه في كميها، فجعل المنفق كمن لبس درعاً سابغة فاسترسلت عليه حتى سترت جميع بدنه، وهو معنى قوله حتى تعفو أثره أي تستر جميع بدنه. وجعل البخيل كمثل رجل غلت يداه إلى عنقه كلما أراد لبسها اجتمعت في عنقه فلزمت ترقوته، وهو معنى قوله قلصت أي تضامت واجتمعت. والمراد إن الجواد إذا هم بالصدقة إنفسخ لها صدره وطابت نفسه فتوسعت في الإنفاق أي وطاوعت يداه بالإنفاق فامتدتا بالعطاء، والبخيل

متفق عليه. 1880- (7) وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا حدث نفسه بالصدقة شحت نفسه فضاق صدره وانقبضت يداه {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} [الحشر:9]- انتهى. وقال الطيبي: أوقع المتصدق مقابل البخيل، والمقابل الحقيقي السخي إيذاناً بأن السخاء ما أمر به الشرع وندب إليه من الإنفاق لا ما يتعافاه المبذرون، وخص المشبه بهما بلبس الجبتين من الحديد إعلاماً بأن الشح والقبض من جبلة الإنسان وخلقته، وإن السخاء من عطاء الله وتوفيقه يمنحه من يشاء من عباده المفلحين. وخص اليد بالذكر لأن السخي والبخيل يرصفان ببسط اليد وقبضها، فإذا أريد المبالغة في البخل قيل مغلولة يده إلى عنقه وثديه وترقيه. وإنما عدل عن الغل إلى الدرع لتصور معنى الإنبساط والتقلص والأسلوب من التشبيه المفرق شبه السخي الموفق، إذا قصد التصدق يسهل عليه ويطاوعه قلبه بمن عليه الدرع، ويده تحت الدرع. فإذا أراد أن يخرجها منها وينزعها يسهل عليه والبخيل على عكسه -انتهى. وقال المنذري: شبه نعم الله تعالى ورزقه بالجنة وفي رواية بالجبة فالمنفق كلما انفق إتسعت عليه النعم وسبغت ووفرت حتى تستره ستراً كاملاً شاملاً. والبخل كلما أراد أن ينفق منعه الشح والحرص وخوف النقص فهو بمنعه يطلب أن يزيد ما عنده، وإن تتسع عليه النعم فلا تتسع ولا تستر منه ما يروم ستره والله سبحانه أعلم -انتهى. وزاد في رواية بعد قوله كل حلقة بمكانها "قال أي أبوهريرة: فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بأصبعه في جيبه فلو رأيته يوسعها ولا تتوسع". قال النووي: وفي هذا دليل على لباس القميص وكذا ترجم عليه البخاري باب جيب القميص من عند الصدر لأنه المفهوم من لباس النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه القصة مع أحاديث أخرى صحيحة وردت في ذلك. قال الحافظ نقلاً عن ابن بطال: وموضع الدلالة منه إن البخيل إذا أراد إخراج يده أمسكت في الموضع الذي ضاق عليها وهو الثدي والتراقى وذلك في الصدر، قال فبان إن جيبه كان في صدره لأنه لم كان في يده لم تضطر يداه إلى ثدييه وتراقيه. (متفق عليه) أخرجه البخاري بهذا اللفظ في باب جيب القميص من عند الصدر وغيره من كتاب اللباس، ومسلم في الزكاة وأخرجه البخاري أيضاً في الزكاة وفي الجهاد وفي الطلاق، وأحمد في مواضع منها في (ج2:ص245-246) والنسائي والبيهقي في الزكاة. 1880- قوله: (اتقوا الظلم) الذي هو مجاوزة الحد والتعدي على الخلق (فإن الظلم) في الدنيا (ظلمات) على صاحبه (يوم القيامة) فلا يهتدي بسببها يوم يسعى نور المؤمنين بين أيديهم وبأيمانهم فالظلمة حسية محمولة على

واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم)) . رواه مسلم. 1881- (8) وعن حارثة بن وهب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تصدقوا، فإنه يأتي عليكم زمان ـــــــــــــــــــــــــــــ ظاهرها. وقيل: معنوية يعني إن المراد بالظلمات الشدائد وبه فسروا قوله تعالى {قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر} [الأنعام:63] أي شدائدهما، ويحتمل أنها عبارة عن الأنكال والعقوبات (واتقوا الشح) مثلث الشين قيل: الشح أشد البخل وأبلغ في المنع من البخل. وقيل: هو البخل مع الحرص لكنز المال وإدخاره. الشح بخل الرجل بما في يد غيره كأن رأى إنساناً يتصدق فقال له لا تفعل ذلك فإنه يذهب مالك فتصير فقيراً أحرص على حفظ مالك ينفعك، والبخل هو المنع من مال نفسه. وقيل: البخل يكون في المال والشح يكون فيه وفي غيره من معروف أو طاعة. وقيل: الشح الحرص على ما ليس عنده والبخل بما عنده (فإن الشح أهلك من كان قبلكم) من الأمم فداءه قديم وبلاءه عظيم. قال القاضي: يحتمل أن هذا الهلاك، هو الهلاك الذي أخبر عنهم به في الدنيا بأنهم سفكوا دماءهم، ويحتمل أنه هلاك الآخرة، وهذا الثاني أظهر، ويحتمل أنه أهلكهم في الدنيا والآخرة (حملهم على أن سفكوا دماءهم) أي إسألوها بقتل بعضهم بعضاً حرصاً على استئثار المال (واستحلوا محارمهم) أي ما حرم الله من أموالهم وغيرها. وقال الطيبي: إنما كان الشح سبباً لذلك لأن في بذل المال ومؤاساة الأخوان التحاب والتواصل، وفي الإمساك والشح التهاجر والتقاطع وذلك يؤدي إلى التشاجر والتعادي من سفك الدماء، واستباحة المحارم من الفروج والإعراض والأموال وغيرها -انتهى. (رواه مسلم) في البر والصلة وأخرجه أيضاً أحمد والبخاري في الأدب المفرد. 1881- قوله: (وعن حارثة) بالحاء المهملة والمثلثة (بن وهب) بفتح الواو وسكون الهاء الخزاعي أخي عبد الله بن الخطاب لأمه (تصدقوا) أي اغتنموا التصدق عند وجود المال وعند حصول من يقبله وأقبلوا منة الفقير في أخذه منكم، فالمعنى تصدقوا قبل أن لا تتصدقوا على سنن حجوا قبل أن لا تحجوا. قاله القاري. فإن قيل: إن من أخرج صدقته مثاب على نيته، وإن لم يجد من يقبلها، فالجواب إن الواجد يثاب ثواب المجازاة والفضل والناوي يثاب ثواب الفضل فقط. والأول أرجح (فإنه يأتي عليكم) وفي رواية، فسيأتي والخطاب لجنس الأمة والمراد بعضهم (زمان) أي قرب الساعة وهو زمان المهدي ونزول عيسى عليه السلام، وقيل: هو زمان ظهور أشراط الساعة كما ورد لا تقوم الساعة حتى يكثر فيكم المال فيفيض حتى يهم رب المال من يقبل صدقة وحتى

يمشي الرجل بصدقته، فلا يجد من يقبلها، يقول الرجل: لو جئت بها بالأمس لقبلتها، فأما اليوم فلا حاجة لي بها)) . متفق عليه. 1882- (9) وعن أبي هريرة، قال: قال رجل: يا رسول الله! أي الصدقة أعظم أجراً. قال: ((إن تصدق ـــــــــــــــــــــــــــــ يعرضه، فيقول الذي يعرضه عليه لا إرب لي فيه (يمشي الرجل) أي الإنسان فيه. (بصدقته) أي يذهب بها وجملة "يمشي" في محل رفع على أنها صفة لزمان، والعائد محذوف أي فيه (فلا يجد من يقبلها) قال النووي: سبب عدم قبولهم الصدقة في آخر الزمان لكثرة الأموال وظهور كنوز الأرض ووضع البركات فيها كما ثبت في الصحيح بعد هلاك يأجوج ومأجوج (وهو زمان المهدي ونزول عيسى عليه السلام) وقتله آمالهم وقرب الساعة وعدم إدخارهم المال وكثرة الصدقات. وقال القسطلاني: وهذا إنما يكون في الوقت الذي يستغنى الناس عن المال فيه لاشتغالهم بأنفسهم عند الفتنة فلا يلوون على الأهل فضلاً عن المال، وهذا في زمن الدجال، أو يكون ذلك لفرط الأمن والعدل البالغ بحيث يستغنى كل أحد بما عنده عما عند غيره. وهذا يكون في زمن المهدي وعيسى، ويحتمل أن يكون إشارة إلى ما وقع في زمن عمر بن عبد العزيز وبه جزم البيهقي، فلا يكون من أشراط الساعة وفي تاريخ يعقوب بن سفيان من طريق يحيى بن أسيد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب بسند جيد قال لا، والله ما مات عمر بن عبد العزيز حتى قعد الرجل يأتينا بالمال العظيم، فيقول اجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء فما يبرح حتى يرجع بماله فنتذكر من نضعه فيه فلا نجده فيرجع فقد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس. وسبب ذلك بسط عمر بن عبد العزيز العدل وإيصال الحقوق إلى أهلها حتى استغنوا، كذا ذكره في السراج المنير، ورجح الحافظ هذا الأخير إذ قال وهذا أرجح. لأن الذي رواه عدي بن حاتم ثلاثة أشياء أمن الطريق والاستيلاء على كنوز كسرى وفقد من يقبل الصدقة من الفقراء. فذكر عدي إن الأوليين وقعا وشاهد هما، وإن الثالث سيقع فكان كذلك لكن بعد موت عدي في زمن عمر بن عبد العزيز وسببه بسط العدل وإيصال الحقوق لأهلها، حتى استغنوا. وأما فيض المال الذي يقع في زمن عيسى عليه السلام، فسببه كثرة المال وقلة الناس واستشعارهم بقيام الساعة -انتهى. (يقول الرجل) أي الذي يريد المتصدق أن يعطيه إياها (لو جئت بها) أي بالصدقة (بالأمس) أي قبل ذلك من الزمن الماضي حال فقري (لقبلتها فأما اليوم) أي الآن (فلا حاجة لي بها) وفي رواية فيها. وفي الحديث الحث على الصدقة والمبادرة والإسراع بها وإغتنام إمكانها قبل تعذرها (متفق عليه) أخرجه البخاري في الزكاة وفي الفتن، ومسلم في الزكاة، واللفظ للبخاري وأخرجه أيضاً أحمد (ج4:ص306) والنسائي. 1882- قوله: (قال رجل) قال الحافظ: لم أقف على تسميته (إن تصدق) بتخفيف الصاد أي تتصدق

وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى. ولا تمهل، حتى إذا بلغت الحلقوم. قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالتاءيين فحذفت إحداهما تخفيفاً، ويحتمل أن يكون بتشديد الصاد والدال جميعاً، وأصله تتصدق فأبدلت إحدى التائيين صاداً، وأدغمت الصاد في الصاد، وهي في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف أي هي تصدقك أو أعظم الصدقة أجراً إن تصدق (وأنت صحيح) جملة اسمية وقعت حالاً. والمراد بالصحيح في هذا الحديث من لم يدخل في مرض مخوف كذا قيل (شحيح) خبر بعد خبر أي من شأنه الشح للحاجة إلى المال. وقال ابن الملك: قوله "شحيح" تأكيد وبيان للصحيح لأن الرجل في حال صحته يكون شحيحاً، وفي رواية: وأنت صحيح حريص (تخشى الفقر) أي بصرف المال خبر بعد خبر أو حال بعد حال أو استئناف بيان قاله القاري: والمراد أن تقول في نفسك لا تتلف مالك كيلا تصير فقيراً فتحتاج إلى الناس (وتأمل) بضم الميم من نصر (الغنى) أي ترجوه وتطمع فيه يعني وتقول أترك مالك في بيتك لتكون غنياً ويكون لك عز عند الناس بسبب غناك (ولا تمهل) من الإمهال وهو بالنصب عطفاً على تصدق أو بالجزم على النهى أو بالرفع على أنه خبر أي ولا تؤخر الصدقة أي ولا تمهل نفسك (حتى إذا بلغت) أي الروح (الحلقوم) بضم الحاء المهملة مجرى النفس، والمراد قاربت بلوغه إذ لو بلغته حقيقة لم تصح وصيته ولا صدقته ولا شيء من تصرفاته بإتفاق الفقهاء، ولم يجر للروح ذكر إغتناء بدلالة السياق (لفلان) كناية عن الموصى له (كذا) كناية عن الموصى به، والجملة مبتدأ وخبر (وقد كان لفلان) أي الوارث قيل: جملة حالية أي وقد صار المال الذي تتصرف فيه في هذه الحالة ثلثاه حقاً للوارث وأنت تتصدق بجميعه فكيف يقبل منك. وقال القسطلاني: أي وقد صار ما أوصى به للوارث فيبطله إن شاء إذا زاد على الثلث، أو أوصى به لوارث آخر. وقيل: المعنى أنه قد خرج عن تصرفه وكمال ملكه واستقلاله بما شاء من التصرف، فليس له في وصيته كبير ثواب وكثير فضل بالنسبة إلى صدقة الصحيح الشحيح، وحاصل معنى الحديث أفضل الصدقة إن تتصدق في حال صحتك، واختصاص المال بك وشح نفسك، بأن تقول لا تتلف مالك كيلا تصير فقيراً لا في حال سقمك وسياق موتك، لأن المال حينئذ خرج عنك وتعلق بغيرك يعني أعظم الصدقة أجراً إن تصدق حال حياتك مع احتياجك إليه، فإن الصدقة في هذه الحالة أشد مراغمة للنفس، لأن فيه مجاهدة النفس على إخراج المال الذي هو شقيق الروح مع قيام مانع الشح، وليس هذا إلا من قوة الرغبة في القربة وصحة العقد فكان أفضل وأعظم أجراً من غيره. وقال الخطابي: معنى الحديث إن الشح غالب في حال الصحة فإذا سمح فيها وتصدق كان أصدق في نيته وأعظم لأجره بخلاف من أشرف على الموت وأيس من الحياة، ورأى مصير المال لغيره فإن صدقته حينئذ ناقصة بالنسبة إلى حالة الصحة والشح، ورجاء البقاء وخوف الفقر. قال: وفيه دليل على أن المرض يقصر

متفق عليه. 1883- (10) وعن أبي ذر، قال: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة فلما رآني قال: ((هم الأخسرون ورب الكعبة، فقلت: فداك أبي وأمي من هم الأكثرون أموالاً، إلا من قال ـــــــــــــــــــــــــــــ يد المالك عن بعض ملكه، وإن سخاوته بالمال في مرضه لا تمحو عنه سمة البخل، ولذلك شرط أن يكون صحيح البدن شحيحاً بالمال يجد له وقعاً في قلبه لما يأمله من طول العمر، ويخالف من حدوث الفقر. قال الحافظ: وفي الحديث أن تنجيز وفاء الدين والتصدق في الحياة وفي الصحة أفضل منه بعد الموت وفي المرض، وأشار - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك بقوله وأنت صحيح حريص تأمل الغنا إلى آخره، لأنه في حال الصحة يصعب عليه إخراج المال غالباً لما يخوفه به الشيطان ويزين له من إمكان طول العمر. والحاجة إلى المال كما قال تعالى: {الشيطان يعدكم الفقر} [البقرة:268] الآية وأيضاً فإن الشيطان ربما زين له الحيف في الوصية أو الرجوع عن الوصية فتيحمض تفضيل الصدقة الناجزة. قال بعض السلف عن بعض أهل الترف يعصون الله تعالى في أموالهم مرتين يبخلون بها وهي في أيديهم، يعني في الحياة ويسرفون فيها إذا خرجت عن أيديهم يعني بعد الموت، وأخرج الترمذي بإسناد حسن وصححه ابن حبان عن أبي الدرادء مرفوعاً قال مثل الذي يعتق ويتصدق عند موته مثل الذي يهدي إذا شبع وهو يرجع إلى معنى حديث الباب. وروى أبوداود وصححه ابن حبان من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً لأن يتصدق الرجل في حياته وصحته بدرهم خير له، من أن يتصدق عند موته بمائة - انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الزكاة وفي الوصايا، ومسلم في الزكاة، وأخرجه أيضاً أحمد (ج2 ص231، 250) وابن ماجه في الوصايا، والنسائي فيه وفي الزكاة والبيهقي وغيرهم. 1883- قوله: (هم الأخسرون) هم ضمير عن غير مذكور لكن يأتي تفسيره وهو قوله هم الأكثرون وفيه أنه يصح رجع الضمير إلى الحاضر في الذهن ثم تفسيره للمخاطب إذا سأل عنه (ورب الكعبة) الواو للقسم (فداك أبي وأمي) بفتح الفاء لأنه ماض خبر بمضى الدعاء، ويحتمل كسر الفاء والقصر لكثرة الاستعمال أي يفديك أبي وأمي وهما أعز الأشياء عندي قاله القاري. قال العراقي الرواية المشهورة بفتح الفاء والقصر على أنها جملة فعليه, وروى بكسر الفاء والمد على الجملة الاسمية - انتهى. (من هم) أي من الأخسرون الذين أجملتهم (هم الأكثرون أموالاً) قال القاري: لعل جمع التمييز لإرادة الأنواع أو المقابلة الجمع بالجمع أي الأخسرون مالاً هم الأكثرون مالاً. قال ابن الملك: يعني من كان ماله أكثر خسرانه أكثر (إلا من قال) أي فعل بماله. والقول

{الفصل الثاني}

هكذا وهكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، وقليل ما هم)) . متفق عليه. {الفصل الثاني} 1884- (11) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((السخي قريب من الله قريب من الجنة، قريب من الناس، ـــــــــــــــــــــــــــــ يطلق في لسان العرب على الأفعال كلها. قال الطيبي: يقال قال بيده أي أشار، وقال بيده أي أخذ، وقال برجله أي ضرب، وقال بالماء على يده أي صبه، وقال بثوبه أي رفعه فيطلقون القول على جميع الأفعال أتساعاً (هكذا وهكذا وهكذا) أي إلا من صدق بماله وبذله ونثره في كل جانب فقوله: "قال هكذا" الخ كناية عن التصدق العام في جميع جهات الخير (من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله) هو بيان لقوله هكذا وهكذا وهكذا واكتفي في الإشارة بثلاثة مع أن الجوانب المذكورة أربعة اكتفاء. وقيل المراد بالثلاث الجمع لأنه أقل مراتب الجمع، ولذا قال ابن الملك أي الأمن تصدق به من جوانبه الأربع على المحاتجين، أي فليس من الخاسرين بل من الفائزين، ويمكن أن يراد بالثلاث القدام والخلف وأحد الجانبين وهذه رواية مسلم، وفي رواية البخاري وقع هكذا وهكذا مرتين. فالمراد بها التكرار والتكثير. قال القاري. وقال في الحديث بمعنى أشار بيده إشارة مثل هذه الإشارة ومن بيان الإشارة، والأظهر أن يتعلق من بالفعل لمجيء عن، والتقدير مبتدأ من بين يديه، ومن خلفه ومجاوزاً عن يمينه وشماله (وقليل ما هم) جملة اسمية "فهم" مبتدأ مؤخر، "وقليل" خبره. وما زائدة مؤكدة للقلة أو صفة يعني ومن يفعل ذلك قليل. قال النووي: في حديث الحث على الصدقة في وجوه الخير وأنه لا يقصر على نوع من وجوه البر، بل ينفق في كل وجه من وجوه الخير يحضر، وهو المراد بإشاراته - صلى الله عليه وسلم - إلى قدام ووراء والجانبين، وفيه جواز الحلف بغير تحليف بل هو مستحب إذا كان فيه مصلحة كتوكيد أمر مهم وتحقيقه ونفي المجاز عنه. (متفق عليه) واللفظ لمسلم أخرجه من طريق المعرور بن سويد عن أبي ذر وأخرجه البخاري من طريق زيد بن وهب عن أبي ذر في الاستقراض والاستئذان والرقاق. بلفظ الأكثرون هم الأقلون إلا من قال بالمال هكذا وهكذا، وأشار أبوشهاب (أحد رواته عند البخاري) بين يديه وعن يمينه وعن شماله وقليل ما هم رواه بهذا اللفظ في الاستقراض في أثناء حديث، وروى مسلم أيضاً من طريق ابن وهب بنحوه، وأخرجه أحمد من الطريقتين، والترمذي والنسائي من طريق المعرور بن سويد. 1884- قوله: (السخي) هو الذي اختار رضا المولى في بذله على الغني (قريب من الله) أي من رحمته (قريب من الجنة) بصرف المال وإنفاقه فيما ينبغي فالسخاء سبب موصل إلى الجنة (قريب من الناس) لأن السخي

بعيد من النار. والبخيل بعيد من الله، بعيد من الجنة، بعيد من الناس، قريب من النار. ولجاهل سخي أحب إلى الله من عابد بخيل)) . رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ يحبه جميع الناس، ولو لم يحصل لبعضهم نفع من سخاوته كمحبة العادل (بعيد من النار) هو لازم لما قبله من قوله قريب من الجنة (والبخيل) هو الذي لا يؤدي الواجب عليه. وقيل: المراد بالسخاوة والبخل هنا أداء الزكاة ومنعها. وقيل: المراد الاتصاف بهذين الخلقين مطلقاً (بعيد من الله بعيد من الجنة بعيد من الناس قريب من النار) معنى هذه الجملة ظاهر مما قبلها، والأشياء تتبين بأضدادها. قال العلقمي: من أدى زكاة ماله فقد امتثل أمر الله وعظمه وأظهر الشفقة على خلق الله تعالى، وواساهم بماله، فهو قريب من الله وقريب من الناس فلا تكون منزلته إلا الجنة، ومن لم يؤدها فأمره إلى عكس ذلك ولذا كان جاهل سخي أحب إلى الله تعالى من عابد بخيل- انتهى. (ولجاهل سخي أحب إلى الله من عابد بخيل) يريد بالجاهل ههنا ضد العابد، لأنه ذكره بازاءه يعني رجلاً يؤدي الفرائض ولا يؤدي النوافل، وهو سخي أحب إلى الله تعالى من رجل يكثر النوافل وهو بخيل، لأن حب الدنيا رأس كل خطيئة، والمراد بحب الدنيا حب المال (رواه الترمذي) في البر والصلة من طريق سعيد بن محمد الوراق عن يحيى بن سعيد عن الأعرج عن أبي هريرة. قال: هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث يحيى بن سعيد عن الأعرج عن أبي هريرة إلا من حديث سعيد بن محمد، وقد خولف سعيد بن محمد في رواية هذا الحديث إنما يروي عن يحيى بن سعيد عن عائشة شيء مرسل - انتهى. قلت: حديث أبي هريرة أخرجه العقيلي، وقال ليس لهذا الحديث أصل وسعيد الوراق. قال ابن معين: ليس بشيء. قال السيوطي في اللآلي (ج2 ص48) أخرجه الترمذي وابن حبان في الروضة والبيهقي في الشعب والخطيب في ذم البخلاء من طرق عن سعيد الوراق به. قال ابن حبان: غريب. وقال البيهقي تفرد به الوراق وهو ضعيف. وقال السيوطي: في التعقبات لم ينفرد به الوراق، بل تابعه عبد العزيز بن أبي حازم أخرجه الديلمي. وحديث عائشة أخرجه البيهقي في الشعب، وفيه تليد بن سليمان وسعيد بن مسلمة وكلاهما ضعيفان، والطبراني في الأوسط وفيه سعيد الوراق، والخطيب في ذم البخلاء وفيه خالد بن يحيى القاضي عن غريب بن عبد الواحد وهما مجهولان. وروى أيضاً من حديث أنس وفيه محمد بن تميم يضع ومن حديث جابر أخرجه البيهقي في الشعب، وفيه سعيد بن مسلمة، ومن حديث ابن عباس أخرجه تمام في فوائده ذكر هذه الأحاديث السيوطي في اللآلى (ج2 ص48، 49) مع الكلام فيها وقال الشوكاني في الفوائد المجموعة: وقد روى هذا الحديث من طرق لا تقوم بها الحجة عن أنس وابن عباس وعائشة، وجابر بألفاظ مختلفة وقال الدارقطني لهذا الحديث طرق لا يثبت منها شيء.

1885- (12) وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لأن يتصدق المرأ في حياته بدرهم خير له، من أن يتصدق بمائة عند موته)) . رواه أبوداود. 1886- (13) وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مثل الذي يتصدق عند موته، أو يعتق كالذي يهدي إذا شبع)) . رواه أحمد، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1885- قوله: (لأن يتصدق المرأ في حياته) وصحته أي في الحالة التي يكون فيها شحيحاً (بدرهم) أي مثلاً. وقال الطيبي: المراد التقليل (خير له من أن يتصدق بمائة) أي مثلاً: وقال الطيبي: جاء في بعض الروايات بماله بدل بمائة" والمراد التكثير، والمعنى بماله كله وهو أبلغ (عند موته) أي احتضار موته فكأنه ميت قاله الطيبي: وإنما كان ذلك خيراً من هذا لأنه يشق عليه إخراج ماله لما يخوفه به الشيطان من الفقر، وطول العمر فالصدقة فيها مزيد قهر للنفس والشيطان وقصر الأمل والوثوق بما عند الله تعالى (رواه أبوداود) في الوصايا وسكت عنه، وقال المنذري: في إسناده شرحبيل بن سعد الأنصاري الخطمي مولاهم المدني كنيته أبوسعيد ولا يحتج به - انتهى. قلت: شرحبيل هذا ضعفه النسائي والدارقطني، ولينه أبوزرعة واختلف فيه قول ابن معين وذكره ابن حبان في الثقات وخرج ابن خزيمة وابن حبان حديثه في صحيحيهما. وقال ابن سعد: كان شيخاً قديماً روى عن زيد بن ثابت وعامة الصحابة، وبقي حتى اختلط واحتاج، وله أحاديث وليس يحتج به. وقال في التقريب: صدوق اختلط بآخره مات سنة (123) وقد قارب المائة - انتهى. والحديث عزاه السيوطي في جامع الصغير لابن حبان أيضاً. 1886- قوله: (عند موته) أي احتضاره (أو يعتق) أي عند موته (كالذي يهدي) من أهدى (إذا شبع) كسَمِن أي كالذي يعطي بعد ما قضي حاجته وهو قليل الجدوى ولا يعتاده إلا دنيء الهمة، وإنما مثل بذلك لأن الثاني أشهر وإلا فالعكس أولى، فإن الذي شبع ربما يتوقع حاجته إلى ذلك الشيء بخلاف الذي يعتق أو يتصدق عند موته إلا أن يقال قد لا يصبر عند موته فيحتاج إلى ذلك الشيء فلذلك يعد إعتاقه وتصدقه فضلية ما لكن هذا إذا لم يكن بطريق الوصية قاله السندي. وقال الطيبي: شبه تأخير الصدقة عن أوانه ثم تداركه في غير أوانه بمن تفرد بالأكل واستأثر بنفسه، ثم إذا شبع يعطيه غيره. وإنما يحمد إذا كان عن إيثار كما قال الله تعالى: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} [الحشر- 9] وما أحسن موقع يهدي في هذا المقام ودلالتها على الاستهزاء والسخرية بالمهدي إليه - انتهى. قال القاري: والأظهر إن المراد أنه مرتبة ناقصة، لأن التصدق والاعتاق حال الصحة أفضل كما إن السخاوة عند المجاعة أكمل (رواه أحمد) (ج5 ص197)

والنسائي، والدارمي، والترمذي. وصححه. 1887- (14) وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خصلتان لا تجتمعان في مؤمن، البخل وسوء الخلق)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ (والنسائي والدارمي والترمذي) في الوصايا، واللفظ للدارمي إلا قوله:إذا شبع" فإنه للترمذي ولأحمد في رواية ولفظ الدارمي بعد ما شبع وللنسائي وأحمد في رواية بعد ما شبع (وصححه) أي الترمذي وأخرجه أيضاً البيهقي (ج4 ص910) والحاكم (ج2 ص213) وصححه وأقره الذهبي. 1887- قوله: (خصلتان لا تجتمعان في مؤمن) أي كامل الإيمان (البخل وسوء الخلق) قيل أي لا ينبغي أن يجتمعا فيه. وقال التوربشتي: تأويل هذا الحديث أن نقول أراد به اجتماع الخصلتين فيه مع بلوغ النهاية منهما بحيث لا ينفك عنهما، ولا ينفكان عنه، ويوجد منه الرضاء بهما، فأما الذي يؤنس عنه شيء من ذلك بحيث يبخل حيناً ويقلع عنه حيناً أو يسوء خلقه وقتاً دون وقت، أو في أمر دون أمر أو يندر منه فيندم عليه أو يلوم نفسه أو تدعوه النفس إلى ذلك فينازعها فإنه بمعزل عن ذلك، ومنه الحديث الآخر لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبداً على نحو ما ذكرنا في معنى هذا الحديث. وأرى له وجهاً آخر وهو أن نقول الشح خلة غريزية جبل عليها الإنسان فهو كالوصف اللازم له ومركزها النفس قال تعالى: {وأحضرت الأنفس الشح} [النساء: 328] فإذا انتهى سلطانه إلى القلب واستولى عليه عرى القلب عن الإيمان لأنه يشح بالطاعة فلا يسمح به، ولا يبذل الانقياد لأمر الله تعالى، والشح بخل مع حرص فهو أبلغ في المنع من البخل، فالبخل يستعمل في الفتنة بالمال والشح في سائر ما يمتنع النفس عن الاسترسال فيه من بذل مال، أو طاعة أو معروف ووجود الشح في نفس الإنسان ليس بمذموم، لأنه طبعية خلقها الله تعالى في النفوس كالشهوة والحرص للابتلاء ولمصلحة عمار والعالم، وإنما المذموم أن يستولي سلطانه على القلب والله تعالى أعلم - انتهى كلام التوربشتي. وقال الطيبي: يمكن أن يحمل سوء الخلق على ما يخالف الإيمان فإن الخلق الحسن، هو ما به امتثال الأوامر واجتناب النواهي لا ما يتعارف بين الناس لما ورد عن عائشة رضي الله عنها وكان خلقه القرآن، وأفراد البخل من سوء الخلق وهو بعضه وجعله معطوفاً عليه، يدل على أنه أسوأها وأشنعها ويؤيد هذا التأويل حديث أبي هريرة رضي الله عنه لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبداً والله أعلم- انتهى. وقوله خصلتان لا تجتمعان في مؤمن خبر موصوف والمبتدأ البخل وسوء الخلق، قاله ابن الملك. وقال ابن حجر: "خصلتان" مبتدأ سوّغه إبدال المعرفة منه في قوله البخل وسوء الخلق والخبر لا تجتمعان" وقال القاري: الظاهر إن "لا تجتمعان" صفة مخصصة مسوغة لكون المبتدأ

رواه الترمذي. 1888- (15) وعن أبي بكر الصديق، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يدخل الجنة خب ولا بخيل ولا منان)) . رواه الترمذي. 1889- (16) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((شرما في الرجل ـــــــــــــــــــــــــــــ نكرة، والخبر قوله البخل وسوء الخلق (رواه الترمذي) في البر والصلة، وأخرجه البخاري في لأدب المفرد. وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث صدقة ابن موسى- انتهى. وصدقة ابن موسى ضعفه ابن معين، وأبوداود والنسائي والدولابي والساجي، وقال الترمذي: ليس عندهم بذلك القوى. وقال في التقريب: صدوق له أوهام. 1888- قوله: (لا يدخل الجنة) أي دخولاً أولياً (خب) بفتح الخاء المعجمة وتكسر أي لئيم، يسعى بين الناس بالفساد. قال المنذري: هو الخداع الساعي بين الناس بالشر والفساد (ولا بخيل) يمنع الواجب من المال. وقيل: أي مانع الزكاة أو مانع للقيام بمؤنة ممونة (ولا منان) من المنة أي يمن على الفقراء بعد العطاء، أو من المن بمعنى القطع لما يحب أن يوصل. وقيل: لا يدخل الجنة مع هذه الصفة حتى يجعل طاهراً منها. إما بالتوبة عنها في الدنيا أو بالعقوبة بقدرها تمحيصها في العقبى، أو بالعفو عنه تفضيلاً وإحساناً، ويؤيده قوله تعالى: {ونزعنا ما في صدروهم من غل} [الأعراف: 43] كذا في المرقاة. وقال التوربشتي معنى قوله "لا يدخل الجنة" أي لا يدخلها مع الداخلين في العريل من غير ما بأس، بل يصاب منه بالعذاب ويمحص حتى يذهب عنه آثار تلك الخصال، هذا هو السبيل في تأويل أمثال هذا الحديث ليوافق أصول الدين. قال ومما ينبغي للفطن أن يقدمه في هذا الباب ليكون من التأويل على بصيرة أن يعلم أن للشارع - صلى الله عليه وسلم - أن يقتصر في مثل هذه المواطن على القول المجل إبقاء للخوف في نفوس المكلفين وتحذيراً لهم عما فيه المنقصة في الدين بأبلغ ما يكون من الرجز. ثم يرده العلماء الراسخون إلى أصول الدين- انتهى. (رواه الترمذي) في البر والصلة، وأخرجه أيضاً أحمد (ج1 ص4، 7) وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب- انتهى. والظاهر إن إسناده ضعيف لأن فيه صدقة بن موسى المتقدم ورواه عن فرقد السبخي عن مرة عن أبي بكر وفرقد صدوق عابد لكنه لين الحديث كثير الخطاء قال أحمد: رجل صالح يقوي في الحديث لم يكن صاحب حديث، وقال أيضاً يروي عن مرة منكرات. 1889- قوله: (شرما في الرجل) أي من خصال الذميمة وقوله "ما في الرجل" هكذا وقع في جميع النسخ الحاضرة، وكذا في المصابيح وكذا نقله المنذري في الترغيب، ووقع في سنن أبي داود ما في رجل،

{الفصل الثالث}

شح هالع، وجبن خالع)) . رواه أبوداود، وسنذكر حديث أبي هريرة: لا يجتمع الشح والإيمان، في كتاب الجهاد إنشاء الله تعالى. {الفصل الثالث} 1890- (17) عن عائشة، إن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - قلن ـــــــــــــــــــــــــــــ وهكذا نقله الخطابي في المعالم، والسيوطي في الجامع الصغير (شح هالع) أي مخزن جازع والهلع أشد الجزع والضجر أي شح يحمل على الحرص على تحصيل المال والجزع على ذهابه. كما قال الله تعالى: {إن الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً} [المعارج: 19-21] وقال الخطابي في المعالم (ج2 ص241) أصل "الهلع" الجزع والهالع هنا الهلع. ويقال إن الشح أشد من البخل، ومعناه البخل الذي يمنعه من إخراج الحق الواجب عليه، فإذا استخرج منه هلع وجزع منه (وجبن) بضم الجيم وسكون الباء (خالع) أي شديد كأنه يخلع قلبه من شدة تمكنه منه، والمعنى خوف شديد متمكن يترتب عليه خلع قلبه فلا يستطيع القتال والمحاربة مع الكفار والإقدام عليه. وهاتان الخصلتان وإن وجدتا في النساء إلا أن الغالب وجودهما في الرجال. ولذا قال في صدر الحديث شرما في رجل، ولم يقل والمرأة مع أنها مثله في ذلك قاله الحفني. وقال التوربشتي: خص الرجل إما لأنهما ممدوحان للنساء في نوع منهما أو لأن مذمة الرجال بهما فوق مذمة النساء بهما والله أعلم. (رواه أبوداود) في الجهاد من طريق موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن عبد العزيز بن مروان عن أبي هريرة. وأخرجه أيضاً البخاري في تاريخه، وابن حبان في صحيحه، وسكت عنه أبوداود. وقال محمد بن طاهر: وهو إسناد متصل، وقد احتج مسلم بموسى بن علي عن أبيه (وسنذكر حديث أبي هريرة) الذي رواه النسائي في الجهاد وابن حبان والحاكم (لا يجتمع الشح والإيمان) أي في قلب عبد وقد تقدم معناه في كلام التوربشتي. وقال السندي: أي لا ينبغي للمؤمن أن يجمع بينهما إذ الشح أبعد شيء من الإيمان، أو المراد بالإيمان كماله أو المراد قلما يجتمع الشح والإيمان، واعتبر ذلك بمنزلة العدم وأخبر بأنهما لا يجتمعان. ويؤيد الوجهين الأخيرين ما وقع في رواية لا يجمع الله تعالى الإيمان والشح في قلب مسلم - انتهى. (في كتاب الجهاد) لأن أول الحديث وصدره يليق بكتاب الجهاد ولذا أورده النسائي والحاكم فيه ولفظه عند النسائي لا يجمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبداً. وفي رواية وجه الرجل، وفي أخرى في منخري مسلم، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدأ. 1890- قوله: (إن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - قلن) الضمير للبعض الغير المعين، لكن عند

للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أينا أسرع بك لحوقاً؟ قال: ((أطولكن يداً، فأخذوا قصبة يذرعونها، وكانت سودة أطولهن يداً، فعلمنا بعد إنما كان طول يدها الصدقة، وكانت أسرعنا لحوقاً به زينب ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن حبان من طريق يحيى بن حماد عن أبي عوانة عن فراس عن الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت: فقلت وهو يفيد إن عائشة هي السائلة (أينا) بضم التحتية المشددة بغير علامة التأنيث لأن سيبوية يشبه تأنيث أي بتأنيث كل في قولهم كلتهن، يعني ليست بفصيحة ذكره الزمخشري في سورة لقمان. وفي رواية النسائي أتينا بالتاء وأينا مبتدأ خبره (أسرع بك لحوقاً) نصب على التمييز أي من حيث اللحوق بك يعنى يدركك بالموت، والمقصود استكشاف أنه من يموت بعده - صلى الله عليه وسلم - من أزواجه بلا واسطة (قال) - صلى الله عليه وسلم - (أطولكن) بالرفع خبر مبتدأ محذوف دل عليه السؤال أي أسرعكن لحوقاً بي أطولكن (يداً) نصب على التمييز وإنما لم يقل طولاكن بلفظ: فعلى مع أن القياس هذا، لأن في مثله يجوز الإفراد. والمطابقة لمن أفعل التفضيل له يعني أكثركن صدقة فإن اليد تطلق ويراد بها المنة والنعمة مجازاً (فأخذوا قصبة) بفتح القاف والصاد (يذرعونها) بالذال المعجمة أي يقدرونها بذراع كل واحدة كي يعلمن أيهن أطول جارحة يعني يقيسون أيديهن بها بناء على فهمهن، إن المراد باليد الجارحة. وإنما ذكر بلفظ: جمع المذكر والقياس ذكر لفظ جمع المؤنث اعتبار لمعنى الجمع، لا للفظ جماعة النساء أو عدل إليه تعظيماً لشأنهن كقول الشاعر: وإن شئت حرمت النساء سواكم (وكانت) كذا وقع في جميع النسخ الحاضرة، وفي البخاري "فكانت" أي بالفاء بدل "الواو" وكذا عند النسائي (سودة) بفتح السين بنت زمعة (أطولهن يداً) أي من طريق المساحة (فعلمنا بعد) مبني على الضم أي بعد هذا حين ماتت أو نساءه لحوقاً به. وقال القسطلاني: أي بعد إن تقرر كون سودة أطولهن يداً بالمساحة (إنما) بفتح الهمزة لكونه في موضع المفعول لعلمنا (كان طول يدها) كلام إضافي مرفوع لأنه اسم كان (الصدقة) بالنصب وقوله "كان" كذا في جميع النسخ، وفي البخاري كانت بالتأنيث. قال الحافظ: الصدقة بالرفع، وطول يدها بالنصب لأنه الخبر- انتهى. أي علمنا أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يرد باليد العضو وبالطول طولها بل أراد العطاء وكثرته فاليد ههنا استعارة للصدقة، والطول ترشيح لها لأنه ملائم للمستعارة منة (وكانت أسرعنا لحوقاً به زينب) كذا في النسخ الحاضرة عندنا بذكر زينب هنا، وفي البخاري وقع بدون ذكرها كما صرح به الحافظ والعيني وغيرهما. قال ميرك: وقع في بعض نسخ المشكاة هنا بعد قوله لحوقاً به زيادة لفظ زينب ملحقاً وليس بصحيح، لأن في عامة نسخ البخاري وقع بحذفها كما صرح به الحافظ ابن حجر في شرحه - انتهى. ورواية البخاري توهم

................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ إن سودة كانت أسرع لحوقاً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - قال النووي وقع هذا الحديث في كتاب الزكاة من البخاري بلفظ: منعقد يوهم إن أسرعهن لحاقاً سودة وهذا الوهم باطل بالإجماع، يعني لأن أول نساءه لحوقاً به زينب، لا سودة، وإن كانت سودة أطولهن جارحة. والصواب ما ذكره مسلم في صحيحه وهو المعروف عند أهل الحديث، إنها زينب فالصحيح تقدير زينب أو وجوده وقال الحافظ أبوعلي الصيرفي: ظاهر هذا اللفظ إن سودة كانت أسرع لحوقاً وهو خلاف المعروف عند أهل العلم، إن زينب أول من مات من الأزواج، ثم نقله عن مالك والواقدي. وقال ابن بطال هذا الحديث سقط منه ذكر زينب لاتفاق أهل السير على أن زينب أول من مات من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني إن الصواب وكانت زينب أسرعنا لحوقاً به وقال ابن الجوزي: هذا الحديث غلط من بعض الرواة والعجب من البخاري كيف لم ينبه عليه ولا أصحاب التعاليق ولا علم بفساد ذلك الخطابي فإنه فسره، وقال لحوق سودة من إعلام النبوة وكل ذلك وهم، وإنما هي زينب فإنها كانت أطولهن يداً بالعطاء كما رواه مسلم. وأجاب ابن رشيد بأن عائشة لا تعني سودة بقولها فعلمنا بعد أي بعد أن أخبرت عن سودة بالطول الحقيقي، ولم تذكر سبباً للرجوع عن الحقيقة إلى المجاز إلا الموت، فتعين الحمل على المجاز- انتهى. وحينئذ فالضمير "في" وكانت في الموضعين عائد على الزوجة التي عناها - صلى الله عليه وسلم - بقوله أطولكن يداً، وإن كانت لم تذكر إذ هو متعين لقيام الدليل على أنها زينب كما في مسلم، مع اتفاقهم على أنها أولهن موتاً فتعين أن تكون هي المرادة، وهذا من إضمار ما لا يصلح غيره كقوله حتى توارت بالحجاب، وعلى هذا فلم يكن سودة مرادة قطعاً وليس الضمير عائداً عليها. وقال الزين بن المنير: وجه الجمع إن قولها فعلمنا بعد يشعر إشعاراً قوياً إنهن حملن طول اليد على ظاهره، ثم علمن بعد ذلك خلافه، وإنه كناية عن كثرة الصدقة والذي علمنه آخراً خلاف ما اعتقدنه أولاَ. وقد انحصر الثاني في زينب للاتفاق على أنها أولهن موتاً فتعين أن تكون هي المرادة، وكذلك بقية الضمائر بعد قوله فكانت واستغنى عن تسميتها لشهرتها بذلك- انتهى. وقال الكرماني: يحتمل أن يقال إن في الحديث اختصاراً أو إكتفاء بشهرة القصة لزينب، أو يؤل الكلام بأن الضمير راجح إلى المرأة التي علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إنها أول من يلحق به وكانت كثيرة الصدقة. قلت: ولكن وقع في رواية النسائي تعيين سودة ولفظه: فكانت سودة أسرعهن لحوقاً به، وكذا وقع التصريح بذلك في رواية أحمد وابن سعد والبخاري في التاريخ الصغير، والبيهقي في الدلائل وابن حبان في صحيحه قال ابن سعد: قال لنا محمد بن عمر يعني الواقدي هذا الحديث، وهل في سودة وإنما هو زينب هو في زينب بنت جحش فهي أول نساءه لحوقاً به، وتوفيت في خلافة عمر، وبقيت سودة إلى أن توفيت

وكانت تحب الصدقة)) . رواه البخاري وفي رواية مسلم، ـــــــــــــــــــــــــــــ في خلافة معاوية في شوال سنة أربع وخمسين. وأجاب الحافظ عن هذه الروايات المصرحة بسودة بأنه يمكن أن يكون تفسيره بسودة من بعض الرواة لكون غيرها لم يتقدم له ذكر، فلما لم يطلع على قصة زينب وكونها أول الأزواج لحوقاً به جعل الضمائر كلها السودة، وهذا عندي من أبي عوانة فقد خالفه في ذلك ابن عيينة عن فراس. وروى يونس بن بكير في زيادة المغازي والبيهقي في الدلائل بإسناده عنه عن زكريا بن أبي زائدة عن الشعبي التصريح بأن ذلك لزينب لكن قصر زكريا في إسناده فلم يذكر مسروقاً، ولا عائشة، ولفظه: فلما توفيت زينب علمن إنها كانت أطولهن يداً في الخير والصدقة. ويؤيده ما رواه الحاكم في المناقب من مستدركه من طريق يحيى بن سعيد عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لأزواجه أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يداً قالت: عائشة: فكنا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: نمد أيدينا في الجدار نتطاول، فلم نزل نفعل ذلك حتى توفيت زينب بنت جحش، وكانت امرأة قصيرة ولم تكن أطولنا فعرفنا حينئذ إن النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما أراد بطول اليد الصدقة. وكانت زينب امرأة صناعة باليد، وكانت تدبغ وتخرز وتتصدق في سبيل الله. قال الحاكم: على شرط مسلم. وهي رواية مفسرة مبينة مرحجة لرواية عائشة بنت طلحة عن عائشة في أمر زينب عند مسلم. وروى ابن أبي خيثمة من طريق القاسم بن معن قال: كانت زينب أول نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - لحوقاً به وكذا روى البخاري في التاريخ من طريق الشعبي عن عبد الرحمن بن أبزي وابن سعد، من طريق برزة بنت رافع ما يدل على أن زينب توفيت في خلافة عمر، وإنها كانت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - لحوقاً به. فهذه روايات يعضد بعضها بعضاً ويحصل من مجموعها إن في رواية أبي عوانة وهماً- انتهى كلام الحافظ مخلصاً. وقد جمع بعضهم بين الروايتين. فقال الطيبي: يمكن أن يقال فيما رواه البخاري، ومن صرح بتسمية سودة المراد الحاضرات من أزواجه دون زينب فكانت سودة أولهن موتاً، يعني أن يكون خطابه - صلى الله عليه وسلم -. في رواية البخاري لمن كان حاضراً عنده إذ ذاك من الزوجات وإن سودة وعائشة كانتا ثمة، وزينب غائبة لم تكن حاضرة، فالألية لسودة باعتبار من حضر ويرد هذا ما رواه ابن حبان إن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - اجتمعن عنده لم تغادر منهن واحدة (وكانت) أي زينب (تحب الصدقة) أي إعطاءها وكانت لها صناعة كما تقدم (رواه البخاري) في الزكاة من حديث موسى بن إسماعيل عن أبي عوانة عن فراس عن الشعبي عن مسروق عن عائشة، وأخرجه أيضاً في التاريخ الصغير بهذا الإسناد، وكذا ابن حبان في صحيحه والبيهقي في الدلائل. وأخرجه أحمد وابن سعد عن عفان عن أبي عوانة، والنسائي وابن حبان أيضاً من طريق يحيى بن حماد عن أبي عوانة (وفي رواية لمسلم) أخرجها في

قالت: وكانت يتطاولن قالت: أيتهن أطول يداً، فكانت أطولنا يداً زينب، لأنها كانت تعمل بيدها تتصدق)) . 1891- (18) وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قال: رجل ـــــــــــــــــــــــــــــ الفضائل من طريق عائشة بنت طلحة عن عائشة (قالت) أي عائشة (وكانت) أي جماعة النساء وفي بعض النسخ فكانت، وفي مسلم فكن (يتطاولن) يتقايسن طول أيديهن (أيتهن) بالضم (أطول يداً) قال الطيبي: محله النصب على أنه حال أو مفعول به أي يتطاولن ناظرات أيتهن (قالت) عائشة (فكانت أطولنا يداً) أي بالصدقة (زينب) وكانت امرأة قصيرة. قال النووي: معنى الحديث إنهن ظنن إن المراد بطول اليد الحقيقة وهي الجارحة فكن يذرعن أيديهن بقصبة، فكانت سودة أطولهن جارحة. وكانت زينب أطولهن يداً في الصدقة، وفعل الخير فماتت زينب أولهن، فعلموا أن المراد طول اليد في الصدقة والجود. وقال أهل اللغة يقال فلان طويل الباع إذا كان سمحاً ًجواداً، وضده قصير اليد والباع (لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدق) أي تدبغ الجلود بيدها ثم تبيعها وتتصدق بثمنها. قال الطيبي: تعليل بمنزلة البيان لقولها يتطاولن، وإن المراد المعنوي لا الصوري - انتهى. وفي الحديث علم من أعلام النبوة ظاهر وفيه إطلاق اللفظ المشترك بين الحقيقة والمجاز بغير قرينة، وهو لفظ أطولكن إذا لم يكن محذور. قال الزين بن المنير: لما كان السؤال عن آجال مقدرة لا تعلم إلا بالوحي أجابهن بلفظ غير صريح وأحالهن على ما لا يتبين إلا بآخره، وساغ ذلك لكونه ليس من الأحكام التكليفية. وفيه إن من حمل الكلام على ظاهره وحقيقته لم يلم، وإن كان مراد المتكلم مجازه، لأن نسوة النبي - صلى الله عليه وسلم - حملن طول اليد على الحقيقة فلم ينكر عليهن. وزينب هذه هي ابنة جحش ابن أرباب بن يعمر الأسدية أم المؤمنين، وأمها أميمة بنت عبد المطلب عمة النبي - صلى الله عليه وسلم -. تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة ثلاث. وقيل سنة خمس. ونزلت بسببها آية الحجاب وكانت قبله عند مولاه زيد بن حارثة وفيها نزلت. {فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها} وكان إسمها برة فسماها زينب، وقد وصف عائشة زينب بالوصف الجميل في قصة الأفك، وإن الله عصمها بالورع، وإنها كانت صالحة صوامة قوامة صناعاً تصدق بذلك على المساكين. وكان عطاءها اثنى عشر ألفاً لم تأخذه إلا عاماً واحداً، وقسمه في أهل رحمها. قال الواقدي: تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي بنت خمس وثلاثين سنة وماتت سنة عشرين، وهي بنت خمسين وصلى عليها عمر بن الخطاب. روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث، وروى عنها ابن أخيها محمد بن عبد الله بن جحش، وأم حبيبة بنت أبي سفيان وزينب بنت أبي سلمة، ولهم صحبة ومذكور مولاها وغيرهم. 1891- قوله: (قال رجل) أي من بني إسرائيل كما عند أحمد من طريق ابن لهيعة عن الأعرج عن أبي هريرة

لا تصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على سارق، فقال: اللهم لك الحمد، على سارق؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ ولم يعرف اسمه، والاستدلال به مبني على أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يظهر النسخ والإنكار (لا تصدقن) زاد في رواية الليلة وكررها في المواضع الثلاثة، وهذا من باب الالتزام كالنذر، والقسم فيه مقدر. كأنه قال: والله لا تصدقن، وعلى هذا فصار الصدقة واجبة فصح الاستدلال به في صدقة الفرض (فخرج) من بيته (بصدقته) أي التي نوى بها ليضعها في يد مستحق (فوضعها في يد سارق) أي وهو لا يعلم إنه سارق فأذاع السارق إنه تصدق عليه الليلة (فأصبحوا) أي القوم الذين كان فيهم ذلك المتصدق (يتحدثون) في موضع نصب خبر أصبح (تصدق) بضم التاء والصاد على البناء للمفعول (الليلة) كذا في جميع النسخ بذكر الليلة في المواضع الثلاثة، وهكذا وقع في جامع الأصول (ج7 ص301) للجزري، وكذا نقله المنذري في الترغيب، وقد صرحا كالمصنف بعد ذكر الحديث بأنه لفظ البخاري. ولكن لم يقع ذكر الليلة في نسخ البخاري الموجودة عندنا إلا في موضع واحد، وهو قوله الآتي: فأصبحوا يتحدثون تصدق الليلة على زانية، وهكذا في المنتقي للمجد بن تيمية، وكذا وقع عند مسلم. والظاهر إن صاحب المشكاة قلد في ذلك جامع الأصول والله أعلم. قال الحافظ: قوله: تصدق على سارق في رواية أبي عوانة عن أبي أمية عن أبي اليمان: تصدق الليلة على سارق، وفي رواية ابن لهيعة عند أحمد: تصدق الليلة على فلان السارق، ولم أر في شيء من الطرق تسمية أحد من الثلاثة المتصدق عليهم- انتهى. وهو إخبار بمعنى التعجب والإنكار (فقال) المتصدق (اللهم لك الحمد على سارق) أي على تصدقي على سارق لا، لي لأن صدقتي وقعت بيد من لا يستحقها فلك الحمد حيث كان ذلك بإرادتك لا بإرادتي، فإن إرادتك كلها جميلة، ولا يحمد على المكروه سواك. وقدم الخبر على المبتدأ في قوله "لك الحمد" للاختصاص. وقال الطيبي: لما جزم بوضعها في موضعها بدلالة التنكير في بصدقة، وأبرز كلامه في معرض القسم تأكيداً أو قطعاً للقبول بها جوزي بوضعها في يد سارق فحمد الله وشكره، على أنه لم يقدر أن يتصدق على من هو أسوأ حالاً منه أي لك الحمد لأجل وقوع الصدقة في يده دون من هو أشد حالاً منه أو أجرى الحمد مجرى التبيع في استعماله عند مشاهدة ما يتعجب منه تعظيماً لله يعني ذكر الحمد في موضع التعجب كما يذكر التسبيح في موضعه. فلما تعجلوا من فعله تعجب هو أيضاً فقال: اللهم لك الحمد على سارق - انتهى. قال الحافظ: لا يخفي بعد هذا الوجه. وأما الذي قبله فأبعد عنه والذي يظهر الأول وأنه سلم وفوض ورضي بقضاء الله فحمد الله على تلك الحال لأنه المحمود على جميع الحال لا يحمد على المكروه سواه. وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رأى ما لا يعجبه، قال اللهم لك الحمد على كل حال،

لا تصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على زانية. فقال: اللهم لك الحمد، على زانية، لا تصدقن بصدقة، فخرج بصدقته، فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على غني، فقال: اللهم لك الحمد، على سارق وزانية وغني؟ فأتى، فقيل له، أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما الغني فلعله يعتبر فينفق مما أعطاه الله)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ (لا تصدقن) أي الليلة وكما في رواية مسلم، وفيه فضل صدقة السر وفضل الإخلاص (بصدقة) أخرى على مستحق (فخرج بصدقته) ليضعها في يد مستحق (فوضعها في يد) امرأة (زانية فأصبحوا) أي بنو إسرائيل (يتحدثون) تعجبا أو إنكارا (تصدق) بصيغة المجهول أيضاً وكذلك تصدق الثالث (الليلة على زانية فقال) المتصدق (اللهم لك الحمد على) تصدقي (على زانية) حيث كان بإرادتك لا بإرادتي (فأتى) في رواية الطبراني في مسند الشاميين فساءه ذلك فأتى في منامه، وكذلك أخرجه أبونعيم والإسماعيلي ورؤيا غير الأنبياء وإن كان لا حجة فيها لكن هذا الرؤيا قد قررها النبي - صلى الله عليه وسلم -. فحصل الاحتجاج بتقريره - صلى الله عليه وسلم - (فقيل له أما صدقتك على سارق) زاد في رواية أبي عوانة: قد قبلت، وفي رواية مسلم وأحمد: أما صدقتك فقد قبلت، وفي رواية الطبراني: إن الله قد فبل صدقتك (فلعله أن يستعف عن سرقته) بفتح السين وكسر الراء أي إما مطلقاً أو مدة الاكتفاء (وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها بالقصر وفيه إيماءؤ إلى أن الغالب في السارق والزانية إنهما يرتكبان المعصية للحاجة. (وأما الغني فلعله يعتبر) أي يتعظ ويتذكر (فينفق) بالرفع فيه وفي يعتبر وفي رواية أي يعتبر فينفق (مما أعطاه الله) في الحديث دلالة على أن الصدقة كانت عندهم مختصة بأهل الحاجة من أهل الخير، ولهذا تعجبوا من الصدقة على الأصناف الثلاثة. وفيه إن نية المتصدق إذا كانت صالحة قبلت صدقته، ولو لم تقع الموقع وهذا في صدقة التطوع. واختلف الفقهاء في الأجزاء إذا كان ذلك في زكاة الفرض. قال الحافظ: ولا دلالة في الحديث على الأجزاء ولا على المنع، ومن ثم ترجم البخاري على هذا الحديث بلفظ: الاستفهام فقال "باب إذا تصدق على غني وهو لا يعلم" ولم يجزم بالحكم. قلت: قد تقدم وجه الاستدلال به على الأجزاء في الصدقة الواجبة بأن قوله "لا تصدقن" من باب الالتزام كالنذر فصار الصدقة واجبة عليه. وقد قرر النبي - صلى الله عليه وسلم - رؤيا المتصدق في قبول صدقته، فصح الاستدلال به في زكاة الفرض والله تعالى أعلم. قال ابن قدامة (ج2

متفق عليه. ولفظه للبخاري. 1892- (19) وعنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((بينا رجل بفلاة من الأرض فسمع صوتاً في سحابة: أسق حديقة فلان، ـــــــــــــــــــــــــــــ ص667) إذا عطي من يظنه فقيراً فبان غنياً فعن أحمد فيه روايتان إحداهما يجزئه أي تسقط عنه الزكاة ولا تجب عليه الإعادة، أختارها أبوبكر، وهذا قول الحسن وأبي عبيد وأبي حنيفة. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى الرجلين الجلدين وقال: إن شئتما أعطيتكما ولاحظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب. وقال للرجل الذي سأله الصدقة: إن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك ولو اعتبر حقيقة لما أكتفى بقولهم. ثم ذكر ابن قدامة حديث أبي هريرة هذا الذي نحن في شرحه. ثم قال: والرواية الثانية لا يجزئه، وعليه الإعادة، لأنه دفع الواجب إلى غير مستحقه فلم يخرج من عهدته كما لو دفعها إلى كافر، وهذا قول الثوري والحسن بن صالح وأبي يوسف وابن المنذر وللشافعي قولان كالروايتين - انتهى. قلت: المسألة عند الحنفية إنه لو دفع الزكاة بتحر لمن يظنه مصرفاً فبان إنه غني وأبوه أو ابنه لا يعيد؛ لأنه أتى بما وسعه حتى لو دفع بلا تحر لم يحزان اخطأ. واستدل ابن الهمام لذلك بما روى البخاري عن معن بن يزيد. قال كان أبي يزيد أخرج دنانير يتصدق بها فوضعها عند رجل في المسجد، فجئت فأخذتها فأتيته بها فقال: والله ما إياك أردت فخاصمته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فقال لك ما نويت يا يزيد! ولك ما أخذت يا معن - انتهى. قال ابن الهمام: وهو وإن كان واقعة حال يجوز فيها كون تلك الصدقة كانت نفلاً، لكن عموم لفظ ما في قوله عليه الصلاة والسلام: لك ما نويت يفيد المطلوب ذكره القاري فتأمل. قال الحافظ: فإن قيل: إن الخبر يعني حديث الباب إنما تضمن قصة خاصة وقع الإطلاع فيها على قبول الصدقة، برؤيا صادقة اتفاقية فمن أين يقع تعميم الحكم وتعدية إلى غيرها، فالجواب إن التنصيص في هذا الخبر على رجاء الاستعفاف هو الدال على تعدية الحكم، فيقتضي ارتباط القبول بهذه الأسباب. وفي الحديث استحباب إعادة الصدقة إذا لم تقع الموقع، وإن الحكم للظاهر حتى يتبين سواه، وبركة التسليم والرضا وذم التضجر بالقضاء كما قال بعض السلف: لا تقطع الخدمة ولو ظهر لك عدم القبول (متفق عليه) أخرجاه في الزكاة وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي في الزكاة، والبيهقي (ج4 ص192وج7 ص34) (ولفظه للبخاري) أي ولمسلم معناه، وقد تقدم الإشارة إلى ما فيه من التسامح. 1892-قوله: (بينا) بإشباع الفتحة ألفاً أي بين أوقات (رجل بفلاة) بفتح الفاء أي بصحراء واسعة (أسق) بقطع همزة ووصله (حديقة فلان) الحديقة بفتح الحاء المهملة بستان إذا كان عليه حائط، وقال

فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة، فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله، فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته، يحول الماء بمسحاته، فقال له: يا عبد الله ما اسمك قال: فلان، الاسم الذي سمع في السحابة، فقال له: يا عبد الله! لم تسألني عن اسمي فقال: إني سمعت صوتاً في السحاب الذي هذا ماؤه، يقول اسق حديقة فلان لإسمك، فما تصنع فيها، قال: أما إذا قلت هذا، ـــــــــــــــــــــــــــــ النووي: الحديقة، القطعة من النخيل. وتطلق على الأرض ذات الشجر- انتهى. وفلان كناية منه عليه الصلاة والسلام عن اسم صاحب الحديقة كما سيأتي بيانه (فتنحى ذلك السحاب) أي ذهب إلى حديقته. قال النووي: معنى تنحا قصد يقال: تنحيت الشيء موانتحيته ونحوته إذا قصدته (فأفرغ ماءه) أي صبه (في حرة) بفتح الحاء وتشديد الراء وهي أرض ذات حجارة سود (فإذا شرجة) بفتح الشين المعجمة وإسكان الراء بعدها جيم وتاء تأنيث مسيل الماء إلى الأرض السهلة، وقال النووي جمعها شراج بكسر الشين، وهي مسائل الماء في الحرار (من تلك الشراج) أي الواقعة في تلك الحرة (قد استوعبت) أي بالأخذ يقال: استوعب الشيء أي أخذه بأجمعه واستوفاه (ذلك الماء) أي النازل من السحاب الواقع في الحرة (فتتبع) أي ذلك الرجل (الماء) أي أثره (يحول) بتشديد الواو (الماء) أي من مكان إلى مكان من حديقته (بمسحائة) بكسر الميم وبالسين والحاء المهملتين ما يسحي به أي يجرف ويقشر ويكسح كالمجرفة من الحديد أو غيره (فقال) أي الرجل (له) أي لصاحب الحديقة (ما اسمك) أي المخصوص (قال فلان الإسم) قال القاري: بالرفع وقيل بالنصب. قال الطيبي: هو صرح بإسمه لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنى عنه بفلان، ثم فسر بقوله: الاسم الذي سمع في السحابة) ولعل العدول عن التصريح إلى الكناية للإشارة إلى أن معرفة الأسماء في بعض المواضع ليست من الأمور المهمة. وقوله. الإسم كذا وقع في جميع النسخ الحاضرة عندنا، وفي مسلم للإسم بزيادة لام الجر في أوله، وكذا وقع في الترغيب للمنذري (لم) بكسر اللام (تسألني) كذا في جميع النسخ، وهكذا في بعض النسخ من صحيح مسلك وفي بعضها لم سألتني (هذا ماءه يقول) أي ذلك الصوت يعني صاحبه للسحاب وفي بعض النسخ، ويقول بزيادة الواو قبل يقول، وهو خلاف ما في مسلم (اسق حديقة فلان لاسمك) قال الطيبي: أي قلت أنا فلان لاسمك المخصوص وبدله فإن الهاتف صرح بالإسم والكناية من السامع (فما تصنع فيها) أي في حديقتك من الخير حتى تستحق هذه الكرامة (قال أما) بتشديد الميم (إذا قلت) وفي بعض النسخ إذ قلت كما في مسلم

فأني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثة وآكل أنا وعيالي ثلثاً، وأرد فيها ثلثة)) . رواه مسلم. 1893 - (20) وعنه، إنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن ثلاثة من بني إسرائيل: أبرص وأقرع، وأعمى، فأراد الله أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكاً، فأتى الأبرص، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن، وجلد حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس، قال: فمسحه فذهب عنه قذره، وأعطى لوناً حسناً وجلداً حسناً. قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الإبل، أو قال: البقر، شك إسحاق ـــــــــــــــــــــــــــــ (إلى ما يخرج منها) أي من زرع الحديقة وثمرها (وأورد فيها) أي وأصرف في الحديقة للزرعة والعمارة (ثلثة) في الحديث ضل الصدقة والإحسان إلى المساكين وأبناء السبيل وفضل أكل الإنسان من كسبه، والإنفاق على العيال (رواه مسلم) في الزهد في أواخر من صحيحه وأخرجه أيضاً أحمد (ج2 ص296) وأبوداود الطيالسي. 1893- قوله: (إن ثلاثة من بني إسرائيل) كذا في جميع النسخ الحاضرة والذي في الصحيحين: إن ثلاثة في بني إسرائيل (أبرص) هو الذي أبيض ظاهر بدنه أي جلده لفساد مزاجه (وأقرع) وهو الذي ذهب شعر رأسه لآفة (وأعمى) هو الذي ذهب بصره. قال القاري: منصوبات على البدلية من الثلاثة ولم يعرف أسماءهم (فأراد الله) هذا لفظ مسلم، وفي البخاري بدأ الله بفتح الموحدة والمهملة المخففة بغير همز، ومعناه سبق في علم الله فأراد إظهاره لا إن ظهر له بعد أن كان خافياً إذ أن ذلك محال في حق الله تعالى، وخطأ هذا الكرماني في شرحه تبعاً لابن قرقول، ولفظه في مطالعه ضبطناه عن مقتنى شيوخنا بالهمز أي ابتدأ الله أن يبتليهم قال ورواه كثير من الشيوخ بغير همز وهو خطأ، وقد سبقه إلى التخطئة الخطابي وليس كذلك، فقد ثبتت الرواية به ووجه، وأولى ما يحمل عليه كما في الفتح. إن المراد قضى الله أن يبتليهم. وأما البدء الذي يراد به تغير الأمر عما كان عليه فلا (أن يبتليهم) أي يمتحنهم ليعرفوا أنفسهم أي ليعرفهم الناس. قال الطيبي: قوله: "فأراد الله" خبر إن عند من يجوز دخول الفاء في خبرها، ومن لم يجوز قدر الخبر أي فيما أقص عليكم فقوله: "فأراد تفسير للمجمل، ولو رفع أبرص وما عطف عليه بالخبرية تعين للتفسير - انتهى. يعني إن رفعها بتقدير أحدهم أبرص أو منهم أبرص (فبعث إليهم ملكاً) أي في صورة رجل مسكين (ويذهب عني) بالرفع أي يزول عني (الذي قد قذرني الناس) بفتح القاف وكسر الذال المعجمة أي اشمأزوا من رؤيتي وعدوني مستقذراً وكرهوني من أجله وهو البرص (فمسحه) أي مسح على جسمه (فذهب عنه قذره) بفتحتين يعني برصه (وأعطى) بضم الهمزة (شك إسحاق) أحد

إلا أن الأبرص أو الأقرع، قال أحدهما: الإبل، وقال الآخر: البقر. قال: فأعطي ناقة عشراء، فقال: بارك الله لك فيها. قال: فأتى الأقرع، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن، ويذهب عني هذا الذي قد قذرني الناس. قال: فمسحه فذهب عنه، قال: وأعطي شعراً حسناً. قال فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر. فأعطي بقرة حاملاً، قال: بارك الله لك فيها، قال: فأتى الأعمى، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يرد الله إلي بصري، فأبصر به الناس، قال: فمسحه، فرد الله إليه بصره. قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطي شأة والداً، فأنتج هذان، وولد هذا، فكان لهذا ـــــــــــــــــــــــــــــ رواته وهو إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة زيد بن سهل الأنصاري المدني أبويحيى ثقة حجة من الطبقة الوسطى من التابعين، روى عن أبيه وأنس وعبد الرحمن بن أبي عمرة وغيرهم، وعنه همام ومالك والأوزاعي وغيرهم مات سنة (132) وقيل: بعدها (إلا أن الأبرص والأقرع) استثناء من الشك (قال أحدهما الإبل وقال الآخر البقر) أي لم يشك إسحاق في هذا بل في التعيين. قاله الطيبي: ولفظ البخاري هو شك في ذلك إن الأبرص أو الأقرع. قال أحدهما الإبل، وقال الآخر البقر (فأعطي) بضم الهمزة أي الذي تمنى الإبل (ناقة عشراء) بضم العين وفتح الشين المعجمة والراء ممدوداً الحامل التي أتى عليها في حملها عشرة أشهر من يوم طرقها الفحل، وهي من أنفس المال، وقد يطلق على الحامل مطلقاً. وقال النووي: العشراء الحامل القريبة الولادة (ويذهب عنى هذا) أي القرع (الذي قد قذرني الناس) أي كرهوا مخالطتي من أجله (فمسحه) أي الملك على رأسه (فذهب عني) أي قرعه (فأبصر) بالنصب والرفع من الأبصار (فمسحه) أي على عينيه (شأة والداً) أي وضعت ولدها وهو معها وقيل: الحامل. وقيل: التي عرف منها كثرة النتاج (فأنتج) بصيغة الفاعل من الإنتاج أي تولى الولادة. وقال ابن حجر: أي استولد الناقة والبقرة (هذان) أي صاحبا الإبل والبقر وهما الأبرص والأقرع (وولد) فعل ماض معلوم من التوليد بمعنى الإنتاج (هذا) أي صاحب الشأة وهو الأعمى. قال النووي: قوله: "فأنتج" هذان وولدا هذا، هكذا الرواية فأنتج رباعي وهي لغة قليلة الاستعمال، والمشهور نتج ثلاثي. وممن حكى اللغتين الأخفش ومعناه تولى الولادة وهي النتج والإنتاج. ومعنى ولد هذا بتشديد اللام معنى أنتج والناتج للإبل، والمولد للغنم وغيرها هو كالقابلة للنساء - انتهى. وقال الكرماني: قد راعى عرف الاستعمال حيث قال فيهما أنتج وفي الشأة ولد (فكان لهذا)

وادٍ من الإبل، ولهذا وادٍ من البقر، ولهذا وادٍ من الغنم. قال: ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك. أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال، بعيراً أتبلغ به في سفري. فقال: الحقوق كثيرة. فقال: إنه كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيراً فأعطاك الله مالاً؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ أي الذي اختار الإبل (وادٍ) قد امتلأ (من الإبل ولهذا) الذي اختار البقر (وادٍ) قد امتلأ (من البقر ولهذا) الذي اختار الغنم وهو الأعمى (وادٍ من الغنم) (قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (ثم إنه) أي الملك (أتى الأبرص) الذي كان مسحه فذهب برصه (في صورته) أي في صورة التي كان عليها لما اجتمع به وهو أبرص ليكون ذلك أبلغ في إقامة الحجة عليه قاله الحافظ. وقال الطيبي: أي في الصورة التي جاء الأبرص عليها أول مرة ولا يبعد أن يكون الضمير راجعاً إلى الأبرص لعله يتذكر حاله ويرحم عليه بماله، والأول أظهر في الحجة عليه، حيث جاء في صورته التي تسبب في جماله وحصول كثرة ماله (فقال) له إني (رجل مسكين) زاد في رواية: وابن السبيل (قد انقطعت بي الحبال في سفري) قال السيد: الباء بمعنى من كما في قوله تعالى: {يشرب بها عباد الله} [الدهر: 6] قال القاري: الأظهر إن الباء للسبيية والملابسة كما في قوله: {وتقطعت بهم الأسباب} [البقرة: 166] والحبال بكسر المهملة بعدها موحدة خفيفة جمع حبل، أي الأسباب التي يقطعها في طلب الرزق. وقيل: العقبات. وقيل: الحبل هو المستطيل من الرمل، ولبعض رواة مسلم الجبال بالمهملة والتحتانية جمع حيلة، أي لم يبق لي حيلة. ولبعض رواة البخاري الجبال بالجيم والموحدة وهو تصحيف قاله الحافظ: أي طال سفري وقعدت عن بلوغ حاجتي (فلا بلاغ) أي كفاية (لي اليوم إلا بالله) أي إيجاد يعني ليس لي ما أبلغ به غرضي إلا بالله (ثم بك) أي بطريق التنزل على وجه التسبب والمجاز فثم هنا لتراخي الرتبة والتنزل في المرتبة لا للترقي وهذا ونحوه من الملائكة معاريض لا أخبار والمراد به ضرب المثل ليتيقظ المخاطب (أسألك) أي مقسماً عليك (بالذي) أي بالله الذي (أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال) أي الإبل (بعيراً) مفعول أسألك أي أطلب منك بعيراً (أتبلغ به في سفري) بهمزة فوقية وموحدة ولام مشددة مفتوحات، ثم معجمة من البلغة وهي الكفاية والمعنى أتوصل به إلى مرادي (الحقوق كثيرة) أي حقوق المال كثيرة علي ولم أقدر على أدائها أو حقوق المستحقين كثيرة فلم يحصل لك البعير، وقد أراد به دفعة وهو غير صادق فيه (فقال إنه) أي الشأن (يقذرك الناس) بفتح التحتية والذال المعجمة من باب علم أي يكرهونك ويقذرونك (فقيراً) حال (فأعطاك الله مالاً)

فقال: إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر. فقال: إن كنت كاذباً، فصيرك الله إلى ما كنت. قال: وأتى الأقرع في صورته. فقال: له مثل ما قال لهذا، ورد عليه مثل ما رد على هذا، فقال: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت. قال: وأتى الأعمى في صورته وهيأته. فقال: رجل مسكين وابن سبيل، انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك، شأة أتبلغ بها في سفري. فقال: قد كنت أعمى فرد الله إلي بصري، فخذ ما شئت ودع ما شئت. فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله. ـــــــــــــــــــــــــــــ كذا في جميع النسخ الحاضرة بزيادة لفظ مالاً، ووقع في الصحيحين بحذفه وهو الصواب، فيعم إعطاء المال والجمال (إنما ورثت) بفتح الواو وكسر الراء المخففة، وقيل: بضم الواو وتشديد الراء المكسورة (كابراً) حال (عن كابر) أي كبيراً عن كبير في العز والشرف والثروة أي ورثته عن آبائي الذين ورثوه من أجداد الذين ورثوه من آباءهم، حال كون كل واحد منهم كبيراً ورث عن كبير في العز والشرف. وقال القاري: والمعنى حال كوني أكبر قومي سناً ورياسة ونسباً وآخذاً عن آبائي الذين هم كذلك حساً، وهذا من باب الإكتفاء في الجواب، فإنه يلزم عرفاً من التكذيب في شيء تكذيبه في آخر (فقال) له الملك (إن كنت كاذباً) في مقالتك هذه (فيصيرك الله إلى ما كنت) من البرص والفقر، والجملة جواب الشرط، وأدخل الفاء في الفعل الماضي، لأنه دعاء وعبر بالماضي لقصد المبالغة في الدعاء عليه، والشرط ليس على حقيقته، لأن الملك لم يشك في كذبه، بل هو مثل قول العامل إذا سوف في عمالته إن كنت عملت فأعطني حقي (وأتى الأقرع في صورته) زاد في رواية البخاري وهيئته (وابن السبيل) أي مسافر (لا أجهدك) قال القاري: بفتح الهمزة والهاء وفي نسخة: بضم الهمزة وكسر الهاء (اليوم بشيء) كذا في جميع النسخ بشيء، وكذا وقع في البخاري ووقع في مسلم شيئاً (أخذته لله) قال النووي: قوله: "لا أجهدك اليوم شيئاً" الخ هكذا هو في رواية الجمهور أجهدك بالجيم والهاء، وفي رواية ابن ماهان أحمدك بالحاء المهملة والميم، ووقع في البخاري بالوجهين لكن الأشهر في مسلم بالجيم. وفي البخاري بالحاء ومعنى الجيم لا أشق عليك برد شيء تأخذه أو تطلبه من مالي. والجهد المشقة، ومعناه بالحاء لا أحمدك بترك شيء تحتاج إليه أو تريده، فتكون لفظة الترك محذوفة مرادة كما قال الشاعر: ليس على طول الحياة تندم أي فوات طول الحياة- انتهى. وقال الحافظ: في رواية كريمة وأكثر روايات مسلم لا أجهدك بالجيم والهاء

فقال: أمسك مالك، فإنما ابتليتم، فقد رضي عنك، وسخط على صاحبيك)) . متفق عليه. 1894- (21) وعن أم بجيد، قالت، قلت: يا رسول الله! إن المسكين ليقف على بابي حتى استحي فلا أجد في بيتي ما أدفع في يده، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ادفعي في يده ولو ظلفاً محرقاً)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال القسطلاني: ولأبي ذر لا أحمدك بالحاء المهملة، والميم بدل الجيم والهاء لشيء باللام بدل الموحدة أي لا أحمدك على ترك شيء تحتاج إليه من مالي (فإنما ابتليتم) أي أنت ورفيقاك. والمعنى أختبركم الله هل تذكرون سوء حالتكم وشدة حاجتكم أولاً وتشكرون نعمة ربكم عليكم آخراً (فقد رضي عنك) بضم أوله على البناء للمفعول في رضي وسخط، وفي رواية البخاري فقد رضي الله عنك بإظهار الفاعل. وفي الحديث جواز ذكر ما اتفق لمن مضى ليتعظ به من سمعه، ولا يكون ذلك غيبة فيهم ولعل هذا هو السر في ترك تسميتهم وفيه التحذير من كفران النعم والترغيب في شكرها، والاعتراف بها وحمد الله عليها وفيه فضل الصدقة والحث على الرفق بالضعفاء وإكرامهم وتبليغهم مآربهم وفيه الزجر عن البخل لأنه حمل صاحبه على الكذب وعلى جحد نعمة الله تعالى (متفق عليه) أخرجه البخاري في ذكر بني إسرائيل من كتاب الأنبياء ومسلم واللفظ لمسلم. 1894- قوله: (وعن أم بجيد) بضم الموحدة وفتح الجيم الأنصارية الحارثية. قيل: اسمها حواء صحابية، وكانت من المبايعات. روى حديثها عبد الرحمن ومحمد ابنا بجيد الأنصاريان عن جدتهما أم بجيد الأنصارية. قال ابن عبد البر: في الكنى أم بجيد الأنصارية الحارثية. قيل: اسمها حواء وفي ذلك اضطراب وهي مشهورة بكنيتها، وقال في ترجمة حواء الأنصارية جدة ابن بجيد، حدثنا عبد الوارث حدثنا أحمد بن زهير حدثنا سعيد بن منصور حدثنا حفص بن ميسرة حدثنا زيد بن أسلم عن عمرو بن معاذ الأنصاري عن جدته حوار قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ردوا السائل ولو بظلف محرق، وروى المقبري عن عبد الرحمن بن بجيد الأنصاري عن جدته قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا نساء المؤمنات لا تحقرن إحداكن لجارتها ولو فرسن شأة، وقد ذكرنا الاضطراب في هذا الإسناد في كتاب التمهيد (ليقف على بابي) أي سائلاً، وهذا لفظ أحمد وفي رواية له: فيقوم على بابي (ما أدفع في يده) أي شيئاً أضع في يده (ولو ظلفا) بكسر الظاء المعجمة وإسكان اللام، وبالفاء وهو للبقر والغنم كالحافر للفرس. وقال في القاموس: الظلف بالكسر للبقر والشأة والظبي وشبهة بمنزلة القدم لنا. وقال الباجي: هو ظفر كل ما اجتر و"لو" للتقليل أي أعطوا السائل ولو كان شيئاً قليلا كالظلف (محرقاً) اسم مفعول من الإحراق وقيداً لإحراق مبالغة في رد السائلي بأدنى ما تيسر أي تصدقي بما تيسر

رواه أحمد، وأبوداود، والترمذي. وقال: هذا حديث حسن صحيح. 1895- (22) وعن مولى لعثمان رضي الله تعالى عنه، قال: ((أهدي لأم سلمة بضعة من لحم، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه اللحم، فقالت لخادم: ضعيه في البيت لعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يأكله، فوضعته في كوة البيت. وجاء سائل فقام على الباب، فقال: تصدقوا، بارك الله فيكم. فقالوا: بارك الله فيك، فذهب السائل، فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا أم سلمة! هل عندكم شيء أطعمه؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن قل، ولا ترديه محروماً بلا شيء مهما أمكن حتى إن وجدت شيئاً حقيراً مثل الظلف المحرق أعطيه إياه. وقال أبوبكر بن العربي في شرح الترمذي: اختلف في تأويله. فقيل: ضربه مثلاً للمبالغة كما جاء من بنى لله مسجداً ولو مثل مفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة. وقيل: إن الظلف المحرق كان له عندهم قدر، بأنهم يسحقونه ويسفونه- انتهى. وقال الزرقاني: قيد بالإحراق أي الشيء كما هو عادتهم فيه لأن النيئ قد لا يؤخذ، وقد يرميه آخذه فلا ينتفع بخلاف المشوي- انتهى. قال الباجي: حض بذلك - صلى الله عليه وسلم - على أن يعطي المسكين شيئاً ولا يرده خائباً وإن كان ما يعطاه ظلفاً محرقاً، وهو أقل ما يمكن أن يعطي ولا يكاد أن يقبله المسكين ولا ينتفع به إلا في وقت المجاعة والشدة (رواه أحمد) (ج6 ص382- 383) (وأبوداود والترمذي) واللفظ لأحمد وأخرجه أيضاً النسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم (ج1 ص417) والبيهقي (ج4 ص177) وأبونعيم وابن سعد، وأخرجه مالك في كتاب الجامع من الموطأ عن زيد بن أسلم عن ابن بجيد الأنصاري، ثم الحارثي عن جدته إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ردوا المسكين ولو بظلف محرق، وأخرجه أيضاً أحمد (ج6 ص435) والنسائي من طريق مالك، وسيأتي في باب أفضل الصدقة (وقال) أي الترمذي (هذا حديث حسن صحيح) وسكت عنه أبوداود ونقل المنذري تصحيح الترمذي، وأقره وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. 1895- قوله: (وعن مولى لعثمان) بن عفان رضي الله عنه وكان له عدة موالي حمران بن إبان وهانيء البرري وأبوصالح وأبوسهلة ويوسف، ولا أدري من هذا الذي روى هذه القصة (أهدى) بضم الهمزة (لأم سلمة) أم المؤمنين زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - (بضعة) بكسر الباء وفتحها أي قطعة (من لحم) وهو مطبوخة (وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه اللحم) بضم التحتية جملة معترضة (فقالت للخادم) واحد الدم يقع على الذكر والأنثى لجرية مجرى الأسماء، وهو هنا أنثى لقوله (ضعيه) أي اللحم (في كوة البيت) بفتح الكاف وضمه أي في ثقبه (فقال) أي السائل (تصدقوا) أي يا أهل البيت (يا أم سلمة هل عندكم) فيه تعظيم أو تغليب (شيء أطعمه) بفتح الهمزة

فقالت: نعم، قالت للخادم: إذهبي فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك اللحم. فذهبت، فلم تجد في الكوة إلا قطعة مروة. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فإن ذلك اللحم عاد مروة لما لم تعطوه السائل)) . رواه البيهقي "في دلائل النبوة". 1896- (23) وعن ابن عباس، رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أخبركم بشر الناس منزلاً؟ قيل: نعم، قال: الذي يسأل بالله ولا يعطى به)) . رواه أحمد. ـــــــــــــــــــــــــــــ والعين المهملة بينهما طاء ساكنة أي آكله (فأتى) أي فهاتي (إلا قطعة مروة) بفتح الميم وسكون الراء أي حجر أبيض (عاد) أي صار (لما) بكسر اللام وتخفيف الميم وبفتح اللام وتشديد (لم تعطوه) أي منه (السائل) في الحديث الزجر عن البخل والإمساك (رواه البيهقي لم أقف على سنده، والظاهر إنه منقطع، لأن مولى عثمان المذكور لم يحضر القصة ولم يسم من حدثه بها. 1896- قوله: (الذي يسأل بالله ولا يعطى به) على بناء الفاعل فيهما أي يسأل غيره بحق الله ثم إذا سئل هو به لا يعطي بل ينكص ويبخل، ويحتمل أن يكون قوله يسئل مبنياً للمفعول أي يسأله غيره بالله فلا يجيب يعني يسأله صاحب حاجة بأن يقول أعطني لله وهو يقدر، ولا يعطي شيئاً بل يرده خائباً. قال الطيبي: الباء كالباء في كتبت بالقلم أي يسأل بواسطة ذكر الله، أو للقسم والاستعطاف أي يقول السائل أعطوني شيئاً بحق الله. وقال ابن حجر: أي مقسماً عليه بالله استعطافاً إليه وحملاً له على الإعطاء بأن يقال له بحق الله أعطني كذا لله. ولا يعطي مع ذلك شيئاً أي والصورة إنه مع قدرة علم اضطرار السائل إلى ما سأله، وعلى هذا حمل قول الحليمي أخذاً من هذا الحديث وغيره، إن رد السائل بوجه الله كبيرة- انتهى. واختار السندي الاحتمال الأول واستبعد الثاني إذ قال، قوله الذي يسأل بالله بناء على الفاعل أي الذي يجمع بين القبيحين أحدهما السؤال بالله، والثاني: عدم الإعطاء لمن يسأل به تعالى فما يراعي حرمة اسمه تعالى في الوقتين جميعاً، وأما جعله مبنياً للمفعول فبعيد إذ لا صنع للعبد في أن يسأله السائل بالله فلا وجه للجمع بينه وبين ترك الإعطاء في هذا المحمل، والوجه في إفادة ذلك المعنى أن يقال الذي لا يعطي إذا سئل بالله ونحوه، والله تعالى أعلم- انتهى. فتأمل (رواه أحمد) (ج1 ص237، 319و 322) وأخرجه أيضاً الترمذي في فضائل الجهاد، وحسنه، والنسائي في الزكاة، وابن حبان في صحيحه كلهم من حديث عطاء بن يسار عن ابن عباس بأتم من هذا، وسيأتي مطولاً في باب أفضل الصدقة، وأخرجه أيضاً أحمد من حديث أبي هريرة. وفي الباب أيضاً عن أبي موسى الأشعري بلفظ: ملعون من سأل بوجه الله وملعون من

1897- (24) وعن أبي ذر رضي الله تعالى عنه، ((أنه استأذن على عثمان، فأذن له وبيده عصاه، فقال عثمان: يا كعب! إن عبد الرحمن توفي وترك مالاً، فما ترى فيه. فقال: إن كان يصل فيه حق الله فلا بأس عليه. فرفع أبوذر عصاه فضرب كعباً. وقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ما أحب لو أن لي هذا الجبل ذهباً أنفقه ويتقبل مني أذر خلفي منه ست أواقي، أنشدك بالله يا عثمان! سمعته؟ ثلاث مرات، قال: نعم)) . رواه أحمد. ـــــــــــــــــــــــــــــ سئل بوجه الله ثم منع سائله ما لم يسئل هجراً، رواه الطبراني في الكبير بإسناد حسن أورد المنذري الأحاديث الثلاثة في باب ترهيب السائل أن يسأل بوجه الله غير الجنة، وترهيب المسؤل بوجه الله أن يمنع. 1897 - قوله: (استأذن على عثمان) أي للدخول عليه (وبيده عصا) الواو للحال والضمير لأبي ذر (يا كعب) أي كعب الأحبار (إن عبد الرحمن) أي ابن عوف (وترك مالاً) أي كثيراً بحيث جاء ربع ثمنه ثمانين ألف دينار (فما ترى فيه) أي فما تقول في حق المال أو صاحبه وهو الأظهر، والمعنى هل تضر كثرة ماله في نقص كماله (فقال) أي كعب (إن كان) شرطية، ويحتمل أن تكون مخففة (يصل فيه) أي ماله (حق الله فلا بأس عليه) أي لا كراهة فيه ولا نقص له (فضرب) أي بعصاه (كعباً) قال الطيبي: فإن قيل كيف يضربه وقد علم أنه ليس بكنز بعد إخراج حق الله منه، قلت: إنما ضربه لأنه نفى البأس على سبيل الاستغراق حيث جعله مدخولاً. للا التي النفي الجنس، وكم من بأس فإنه يحاسب ويدخل الجنة بعد فقراء المهاجرين بزمان طويل أي بخمسة مائة سنة- انتهى. وقال في اللمعات: كان أبوذر من فقراء الصحابة وزهادهم، وكان مذهبه ترك الكل والاختيار التجريد وعدم الادخار أي ولذلك ضرب كعباً، وإلا فما أدى زكاته فليس بكنز ولا وعيد عليه، لاسيما إذا وصلت فيه الحقوق من الصدقات النافلة. واختلاف أبي ذر مع معاوية في هذه المسألة في زمن عثمان مشهور (هذا الجبل) إشارة إلى الجبل المستحضر في الذهن مثلاً أو يكون إشارة إلى جبل أحد، وقد وقع ذكره صريحاً (أنفقه) حال (ويتقبل مني) فيه مبالغة أي مع أنه يتقبل ويترتب عليه الثواب (أذر) مفعول أحب بتقدير إن بالرفع بعد حذفها كقوله وتسمع بالمعيدي أي ما أحب أن أترك (ست أواقي) بتشديد الياء ويجوز تخفيفها، وفي المسند ست أواق بحذف الياء، وكذا في مجمع الزوائد (أسمعته) بفتح الهمزة وضم المعجمة (بالله) أي أقسم به عليك، وفي المسند أنشدك الله وكذا نقله في مجمع الزوائد (أسمعته) أي هذا الحديث (ثلاث مرات) ظرف لأنشدك أو لا سمعته (رواه أحمد) في مسند عثمان (ج1 ص63) من طريق ابن لهيعة عن أبي قبيل عن مالك

1898- (25) وعن عقبة بن الحارث، قال: ((صليت وراء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة العصر، فسلم، ثم قام مسرعاً، فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نساءه، ففزع الناس من سرعته، فخرج عليهم، فرأى أنهم قد عجبوا من سرعته. قال: ذكرت شيئاً من تبر عندنا فكرهت أن يحبسني، فأمرت بقسمته)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن عبد الله الزيادي عن أبي ذر وابن لهيعة قد ضعفه غير واحد ومالك بن عبد الله مستور، وأخرجه أيضاً ابن عبد الحكم في فتوح مصر (ص286) كما قال الحافظ في التعجيل (ص389) : ولأبي ذر حديث آخر في معناه أخرجه أحمد (ج5 ص145) . 1898- قوله: (وعن عقبة) بضم عين وسكون قاف (بن الحارث) بن عامر بن نوفل بن عبدمناف بن قصي القرشي النوفلي المكي، صحابي من مسلمة الفتح وهو أبوسِروعة الذي قتل خبيب بن عدي في قول أهل الحديث ويقال إن أباسروعة أخوه، وإنهما أسلما جميعاً يوم الفتح، وهو قول أهل النسب وصوبه العسكري. وقيل: إن أباسروعة أخو عقبة لأمه وجزم به مصعب الزبيري. قال الحافظ: قد أطبق أهل الحديث على أن أباسروعة هو عقبة هذا، وقولهم أو لا إن شاء الله تعالى بقي عقبة إلى بعد الخمسين (فسلم ثم قام) وفي رواية: فسلم فقام (مسرعاً فتخطى) بغير همز أي تجاوز (رقاب الناس) أي متوجهاً (إلى بعض حجر نسائه) بضم الحاء وفتح الجيم جمع حجرة (ففزع الناس) بكسر الزاي أي خافوا (من سرعته) أي من أجل إسراعه وكانت تلك عادتهم إذا رأوا منه غير ما يعهدونه خشية أن ينزل فيهم شيء يسؤهم (فخرج) - صلى الله عليه وسلم - من الحجرة (عليهم) وفي رواية إليهم (فرأى أنهم قد عجبوا من سرعته) وفي رواية فقلت أو قيل له أي عن سبب سرعته. وهو شك من الراوي (قال) وفي البخاري فقال (ذكرت) بفتح الذال والكاف أي تفكرت وأنا في الصلاة (شيئاً من تبر) وفي رواية تبراً من الصدقة، والتبر، بكسر المثناة وسكون الموحدة ذهب غير مضروب. وقيل: ذهب أو فضة غير مضروب (فكرهت أن يحبسني) أي يمنعني ويشغلني التفكر فيه عن التوجه والإقبال على الله تعالى، وفهم منه ابن بطال معنى آخر. فقال فيه: إن تأخير الصدقة يحبس صاحبها يوم القيامة في الموقف (فأمرت) أي أهل البيت (بقسمته) بكسر القاف والمثناة الفوقية بعد الميم وفي رواية بقسمة بفتح القاف من غير مثناة وفي الحديث إن المكث بعد الصلاة ليس بواجب وإن للإمام أن ينصرف متى شاء وإن التخطي لما لا غنى عنه مباح، وإن عروض الذكر في الصلاة في أجنبي عنها من وجوه الخير وتذكر ما لا يتعلق بالصلاة فيها لا يفسدها، ولا ينافي خشوعها ولا يقدح في كمالها، وإن إنشاء العزم في أثناءها على الأمور المحمودة لا يضر، وفيه إن الخير ينبغي أن

رواه البخاري. وفي رواية له، قال: ((كنت خلفت في البيت تبراً من الصدقة، فكرهت أن أبيته) . 1899- (26) وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندي في مرضه ستة دنانير أو سبعة، فأمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أفرقها، فشغلني وجع نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم سألني عنها ما فعلت الستة والسبعة؟ قلت: لا والله، لقد كان شغلني وجعك. فدعا بها، ثم وضعها في كفه. فقال: ما ظن نبي الله لو لقي الله عزوجل وهذه عنده)) . رواه أحمد. ـــــــــــــــــــــــــــــ يبادر به فإن الآفات تعرض والموانع تمنع والموت لا يؤمن، والتسويف غير محمود والتعجيل به أخلص للذمة وأنفى للحاجة وأبعد من المطل المذموم وأرضى للرب وأمحى للذنب، وفيه جواز الاستنابة مع القدرة على المباشرة (رواه البخاري) أي بهذا اللفظ في باب من صلى بالناس فذكر حاجته فتخطاهم قبيل كتاب الجمعة (وفي رواية له) أوردها في باب من أحب تعجيل الصدقة من يومها من كتاب الزكاة (كنت خلفت) بتشديد اللام أي تركت خلفي (أن أبيته) بضم الهمزة وفتح الموحدة وتشديد المثناة التحتية أي أتركه حتى يدخل عليه الليل، يقال بات الرجل دخل في الليل، وبيته تركه حتى دخل الليل. والحديث أخرجه البخاري أيضاً في باب يفكر الرجل الشيء في الصلاة من أواخر الصلاة، وفي باب من أسرع في مشيه لحاجة أو قصد من كتاب الاستئذان. وأخرجه أحمد (ج4 ص384) والنسائي في الصلاة. 1899- قوله: (أو سبعة) بالتنوين وتركه (أن أفرقها) بتشديد الراء (فشغلني وجع نبي الله - صلى الله عليه وسلم -) أي مرضه عن تفريقها (ما فعلت الستة أو السبعة) شك من الراوي وهو بالرفع. قال الطيبي: وإذا روى بالنصب كان فعلت على خطاب عائشة- انتهى. والتقدير ما فعلت بالستة أو السبعة يعني هل فرقتها أم لا (قالت لا والله) أي ما فرقتها، ولعل وجه القسم تحقيق التقصير ليكون سبباً لقبول العذر (ما ظن نبي الله) بالإضافة (وهذه) أي الدنانير (عنده) أي ثابتة وباقية. قال الطيبي: في وضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدنانير. في كفه، ووضع المظهر موضع المضمر، وتخصيص ذكر نبي الله، ثم الإشارة بقوله هذه تصوير لتلك الحالة الشنيعة واستهجان بها وإيذان بأن حال النبوة منافية، لأن يلقي الله ومعه هذا الدنيء الحقير- انتهى. (رواه أحمد) ولعائشة رواية أخرى بمعناه رواها أحمد أيضاً قالت: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أتصدق بذهب كان عندها في مرضه. قالت: فأفاق قال ما فعلت، قلت ما رأيت منك. قال فهلم بها فجاءت بها إليه سبعة أو تسعة، أبوحازم يشك دنانير، فقال حين جاءت بها ما ظن محمد لو لقي الله وهذه عنده، وما تنفى هذه من محمد - صلى الله عليه وسلم - لو لقي الله وهذه عنده. قال الهيثمي: رواه

1900- (27) وعن أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على بلال، وعنده صبرة من تمر، فقال: ((ما هذا يا بلال؟ قال: شيء أدخرته لغد. فقال: أما تخشى أن ترى له غداً بخاراً في نار جهنم يوم القيامة. أنفق بلال! ولا تخش من ذي العرش إقلالاً)) . 1901- (28) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((السخاء شجرة في الجنة، ـــــــــــــــــــــــــــــ أحمد بأسانيد ورجال أحدها الصحيح - انتهى. وروى الطبراني في الكبير نحوه من حديث سهل بن سعد بسند، رجاله ثقات ذكره الهيثمي (ج3 ص124) والمنذري في باب الإنفاق والترهيب من الإمساك، وروى أحمد وأبويعلى نحواً من هذا من حديث أم سلمة ذكره الهيثمي في باب الإنفاق من الزهد. 1900- قوله: (صبرة) بضم الصاد وسكون الموحدة أي تمر مجتمع كالكومة (ما هذا) أي التمر (إن ترى له) أي لهذا الشيء أو التمر (غداً) أي يوم القيامة (بخاراً في نار جهنم) أي أثراً يصل إليك فهو كناية عن قربة منها (يوم القيامة) أي جميع زمانها أو هو تأكيد لغد (أنفق بلال) أي يا بلال (ولا تخش من ذي العرش إقلالاً) أي فقراً أو إعداماً، وهذا أمر بتحصيل مقام الكمال، وإلا فقد جوز ادخار المال سنة للعيال، وكذا الضعفاء الأحوال. وما أحسن موقع ذي العرش في هذا المقام أي أتخشى أن يضيع مثلك من يدبر الأمر من السماء إلى الأرض قاله الطيبي. وقيل: إن هذا الحديث ونحوه كان في صدر الإسلام حين كان الادخار ممنوعاً ثم نسخ النهي وأبيح الادخار. وإنما دخل الدخيل على كثير من الناس لعدم علمهم بالنسخ كذا قاله السيوطي: والحديث نسبه المصنف إلى البيهقي كما سيأتي، وأخرجه أيضاً البزار وأبويعلى والطبراني في الكبير والأوسط. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10 ص 241) : والمنذري في الترغيب بإسناد حسن. وقال السيوطي. قال الحافظ ابن حجر في زوائد: إسناده حسن - انتهى. وروى نحوه من حديث ابن مسعود أخرجه البزار بإسناد حسن والطبراني في الكبير ذكره المنذري والهيثمي (ج3 ص126 وج10 ص241) ومن حديث بلال أخرجه الطبراني في الكبير والبزار، وفي أسناديهما محمد بن الحسن بن زبالة وهو ضعيف، وللطبراني طريق آخر وفيه طلحة ابن زيد القرشي وهو أيضاً ضعيف. ومن حديث عائشة أخرجه الحكيم في نوارده والبيهقي في الشعب، ذكر طرق هذه الأحاديث السيوطي في اللآلي. وقال في هامش مجمع الزوائد: بسط الكلام على الحديث على الحديث ومخرجيه في كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على السنة الناس للعجلوني. 1901- قوله: (شجرة) أي كشجرة (في الجنة) لعله شبه السخاء بها في عظمها وكونها ذات أغصان وشعب كثيرة قاله الطيبي. قال القاري: ويمكن أن يكون صفة السخاء مصورة بشجرة في الجنة. قال الطيبي: جنس الشجرة الدنيوية نوعان: متعارف، وغير متعارف. وهي شجرة السخاء الثابت أصلها في الجنة وفرعها في الدنيا فمن أخذ

فمن كان سخياً أخذ بغصن منها فلم يتركه الغصن حتى يدخله الجنة، والشح شجرة في النار، فمن كان شحيحاً أخذ بغصن منها، فلم يتركه حتى يدخله النار)) . رواهما البيهقي في شعب الإيمان. 1902- (29) وعن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بادروا بالصدقة ـــــــــــــــــــــــــــــ بغصن منها في الدنيا أوصله إلى أصل الجنة في العقبى كما أشار بقوله (فمن كان سخياً) أي في علم الله أو في الدنيا (أخذ بغصن منها) أي بنوع من أنواع السخاء (فلم يتركه الغصن) أي ولو آخر الأمر (حتى يدخله الجنة والشح) أي البخل (حتى يدخله النار) أي أولاً. وقيل: معنى الحديث أي السخاء يدل على قوة الإيمان لاعتقاد إن الله تعالى ضمن الرزق فمن تمسك بهذا الأصل أوصله إلى الجنة. والبخل يدل على ضعف الإيمان لعدم وثوقه بضمان الرحمن، وذلك يجره إلى دار الهوان. وفي الحديث فضل السخاء والجود وذم البخل والشح (رواهما) أي هذا الحديث والذي قبله (البيهقي) قد تقدم الكلام على الحديث الأول ومن أخرجه، وأما هذا الحديث فأخرجه أيضاً ابن عدي، وفيه داود ابن الحصين روى عن الأعرج عن أبي هريرة. قال ابن الجوزي: داود حدث عن الثقات بما لا يشبه حديث الإثبات قلت: داود هذا من رجال الستة ثقة إلا في عكرمة، ورمى برأي الخوارج قيل والبلاء هنا ممن دونه. وللحديث شواهد، منها حديث الحسن أخرجه البيهقي من طريق سعيد بن مسلمة عن جعفر بن محمد عن جده مرفوعاً. قال ابن الجوزي: سعيد بن مسلمة الأموي ليس بشيء. قال السيوطي في التعقبات: قال البيهقي إسناده ضعيف وسعيد ابن مسلمة لم يتهم بكذب، بل قال البخاري ضعيف، ووثقه ابن عدي فقال: أرجو أنه ممن لا يترك حديثه، وقد أخرج له الترمذي وابن ماجه ومثل هذا يحسن حديثه إذا توبع، وداود بن الحصين وإن كان فيه كلام إلا أنه محدث مشهور، ووثقه الجمهور. وأخرج له الأئمة الستة وأكثر ما عيب عليه الابتداع، وأنكر ابن المديني وأبوداود أحاديثه عن عكرمة خاصة. قال أبوداود: أحاديثه عن عكرمة مناكير وأحاديثه عن شيوخه مستقيمة، فهذه الطريق على انفرادها جيدة، فكيف وطريق الحسن شاهدة لها. ومنها حديث أبي سعيد أخرجه الخطيب، وفيه محمد بن مسلمة وهو ضعيف جداً، ومنها حديث جابر أخرجه الخطيب وفيه عاصم بن عبد الله وهو ضعيف، وشيخه عبد العزيز بن خالد كذاب، ومنها حديث عائشة أخرجه ابن حبان وفيه إسماعيل بن عباد متروك، وشيخه الحسين ابن علوان وضاع. ومنها حديث عبد الله بن جراد أخرجه البيهقي والخطيب وابن عساكر. قال البيهقي: ضعيف الإسناد. ومنها حديث أنس أخرجه ابن عساكر. ومنها حديث معاوية أخرجه الديلمي ذكر هذه الأحاديث السيوطي في اللآلي (ج2 ص49- 50) وبسط طرقها. 1902- قوله: (بادروا) أي بالموت أو المرض أو غيركم (بالصدقة) أي بإعطائها للمستحقين وفي

(6) باب فضل الصدقة

فإن البلاء لا يتخطاها)) رواه رزين. (6) باب فضل الصدقة {الفصل الأول} 1903- (1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من تصدق بعدل تمرة ـــــــــــــــــــــــــــــ مجمع الزوائد (ج3 ص110) والترغيب للمنذري واللآلي للسيوطي عزوا للطبراني. باكروا بالصدقة مكان بادروا أي سارعوا بها (فإن البلاء لا يتخطاها) أي لا يجاوزها يعني لا يلحق صاحبها. قال القاري: أي لا يتجاوزها بل يقف دونها أو يرجع عنها. قال الطيبي: تعليل للأمر بالمبادرة وهو تمثيل. قيل: جعلت الصدقة والبلاء كفرسي رهان، فأيهما سبق لم يلحقه الآخر ولم يخطه، والتخطي تفعل من الخطو- انتهى. قال الطيبي: والأولى إنه جعل الصدقة ستراً وحجاباً بين يدي المتصدق، ولا يتخطاها البلاء حتى يصل إليه (رواه رزين) قد تقدم إن هذا الحديث عزاه الهيثمي والمنذري والسيوطي للطبراني في الأوسط. قال الهيثمي: فيه عيسى بن عبد الله بن محمد وهو ضعيف. وقال المنذري: رواه الطبراني وذكره رزين في جامعه وليس في شيء من الأصول وكذا قال الشيخ محمد طاهر الفتني في تذكرة الموضوعات (ص64) وللحديث طريق آخر أخرجه ابن أبي الدنيا وابن عدي وأبوالشيخ في الثواب، والبيهقي من حديث أنس. قال ابن الجوزي في موضوعاته فيه أبويوسف لا يعرف وبشر بن عبيد منكر الحديث وتعقبه السيوطي. فقال أبويوسف: هو القاضي المشهور صاحب أبي حنيفة، وبشر ابن عبيد ذكره ابن حبان في الثقات، وله شاهد من حديث على أخرجه الطبراني في الأوسط بسند ضعيف. وقال البيهقي في السنن الكبرى: (ج4 ص189) بعد روايته من طريق يحيى بن سعيد عن المختار ابن فلفل عن أنس هذا موقوف، وكان في كتاب شيخنا أبي نصر أحمد علي الفامي مرفوعاً، وهو وهم وروى عن أبي يوسف القاضي عن المختار بن فلفل عن أنس مرفوعاً - انتهى. (باب فضل الصدقة) هي ما يخرجه الإنسان من ماله على وجه القربة، واجباً كان أو تطوعاً. سميت بذلك؛ لأنها تنبيء عن صدق رغبة صاحبها في مراتب الجنان أو تدل على تحقيق تصديق صاحبها في إظهار الإيمان. 1903- قوله: (من تصدق بعد تمرة) بسكون الميم والعدل عند الجمهور بفتح العين المثل، وبالكسر الحمل بكسر الحاء أي بقيمة تمرة. وقال الفراء: العدل بالفتح المثل من غير جنسه، وبالكسر من جنسه. وقيل: بالعكس وقيل: بالفتح مثله في القيمة وبالكسر في النظر وأنكر البصريون هذه التفرقة. وقال الكسائي: هما بمعنى كما إن لفظ

من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها ـــــــــــــــــــــــــــــ المثل لا يختلف وضبط في هذه الرواية للأكثر بالفتح قاله الحافظ (من كسب) أي صناعة أو تجارة أو زراعة أو غيرها ولو إرثاً وهبة. قال الحافظ: معنى الكسب المكسوب، والمراد به ما هو أعم من تعاطى التكسب أو حصول المكسوب بغير تعاط كالميراث، وكأنه ذكر الكسب لكونه الغالب في تحصيل المال (طيب) أي حلال، وقد يطلق على المستلذ بالطبع، والمراد هنا هو الحلال. وقال القرطبي: أصل الطيب المستلذ بالطبع، ثم أطلق على المطلق بالشرع وهو الحلال (ولا يقبل الله إلا الطيب) جملة معترضة بين الشرط والجزاء لتقرير ما قبله، وفيه دليل على أن غير الحلال مقبول. قال السندي: هذه جملة معترضة لبيان أنه لا ثواب في غير الطيب لا أن ثوابه دون هذا الثواب إذ قد يتوهم من التقييد إنه شرط لهذا الثواب بخصوصه، لا لمطلق الثواب، فمطلق الثواب يكون بدونه أيضاً فذكرت هذه الجملة دفعاً لهذا التوهم، ومعنى عدم قبوله إنه لا يثيب عليه ولا يرضى به انتهى. قال القرطبي: وإنما لا يقبل الله الصدقة بالحرام؛ لأنه غير مملوك للمصدق وهو ممنوع من التصرف فيه، والمتصدق به متصرف فيه. فلو قبل منه لزم أن يكون الشيء مأموراً ومنهياً من وجه واحد، وهو محال - انتهى. (فإن الله يتقبلها بيمينه) قيل: هو كناية عن حسن القبول ووقوعها منه عزوجل موقع الرضا، وذكر اليمين للتشريف والتعظيم وكلتا يدي الرحمن يمين. قال المازري: هذا الحديث وشبهه إنما عبر به على ما اعتادوا في خطابهم ليفهموا عنه فكنى عن قبول الصدقة بأخذها باليمين وعن تضعيف أجرها بالتربية. وقال عياض: لما كان الشيء الذي يرتضي ويعز يتلقى باليمين ويؤخذ بها استعمل في مثل هذا واستعير للقبول والرضا كما قال الشاعر: إذا ما رأية رفعت لمجد تلقاه عرابة باليمين وقال الزين بن المنير: الكناية عن الرضا والقبول بالتلقي باليمين لتثبيت المعاني المعقولة من الأذهان، وتحقيقها في النفوس تحقيق المحسوسات أي لا يتشكك في القبول كما لا يتشكك من عاين التلقي للشيء بيمينه، لا أن التناول كالتناول المعهود ولا أن المتناول به جارحة - انتهى. قلت: الحق في هذا وأمثاله من أحاديث الصفات هو ما روى عن السلف أن يؤمن المرأ به كما جاء ويجزيه على ظاهره، ولا يتعرض له، بتأويل وتفسير ولا تحريف ولا تمثيل ولا تعطيل، بل يكل علمه ويفوض كيفه إلى العليم الخبير. قال الترمذي في جامعه: قال أهل العلم من أهل السنة والجماعة: نؤمن بهذه الأحاديث ولا نتوهم فيها تشبيهاً، ولا نقول كيف هكذا. روى عن مالك وابن عيينة وابن المبارك وغيرهم أنهم قالوا: في هذه الأحاديث أمروها بلا كيف، وأنكرت الجهمية هذه الروايات - انتهى. (ثم يربيها) التربية كناية عن الزيادة أي يزيدها ويعظمها حتى تثقل في الميزان (لصاحبها) أي لصاحب الصدقة أو تلك التمرة

كما يربي أحدكم فلوه، حتى تكون مثل الجبل)) . متفق عليه. 1904 - (2) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله ـــــــــــــــــــــــــــــ وفي رواية لصاحبه أي لصاحب المال، والأول أنسب بما قبلها (كما يربي أحدكم فلوه) بفتح الفاء وضم اللام وفتح الواو المشددة المهر، وهو ولد الفرس حين يفلي أي يفطم، وهو حينئذٍ يحتاج إلى تربية غير الأم. وقيل: هو كل فطيم من ذات حافر، والجمع أفلاء كعدو وأعداء، وقال أبوزيد: إذا فتحت الفاء شددت الواو، وإذا كسرتها سكنت اللام كجرو، وضرب به المثل لأنه يزيد زيادة بينة. فإن صاحب النتاج لا يزال يتعاهده ويتولى تربيته، ولأن الصدقة نتاج عمله وأحوج ما يكون النتاج إلى التربية إذا كان فطيماً، فإذا أحسن القيام والعناية به انتهى إلى حد الكمال وكذلك عمل ابن آدم لاسيما الصدقة التي يجاذبها الشح، ويتشبث بها الهوى ويقتفيها الرياء ويكدرها الطبع فلا تكاد تخلص إلى الله إلا موسومة بنقايص لا يجبرها إلا نظر الرحمن. فإذا تصدق العبد من كسب طيب مستعد للقبول فتح دونها باب الرحمة فلا يزال نظر الله يكسبها نعت الكمال ويوفيها حصة الثواب حتى ينتهي بالتضعيف إلى نصاب يقع المناسبة بينه وبين ما قدم من العمل، وقوع المناسبة بين التمرة والجبل كذا قال التوربشتي. (حتى تكون) بالتأنيث أي الصدقة أو ثوابها أو تلك التمرة (مثل الجبل) أي في الثقل وفي رواية لمسلم: حتى تكون أعظم من الجبل، ولابن جرير: حتى يوافي بها يوم القيامة وهي أعظم من أحد يعني التمرة، وهي عند الترمذي بلفظ: حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد. قال الحافظ: والظاهر إن المراد بعظمها إن عينها تعظم لتثقل في الميزان، ويحتمل أن يكون ذلك معبراً به عن ثوابها (متفق عليه) وأخرجه أحمد في عشرة مواضع والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة والبيهقي وأبوعوانة، ورواه مالك عن سعيد بن يسار مرسلاً لم يذكر أباهريرة. 1904- قوله: (ما نقصت صدقة) "ما" نافية و "من" في قوله (من مال) زائدة أو تبعيضية أو بيانه أي ما نقصت صدقة مالاً أو بعض مال أو شيئاً من مال، بل تزيد إضعاف ما يعطي منه، بأن ينجبر نقص الصورة بالبركة الخفية أو بالعطية الجلية في الدنيا أو بالمثوبة العلية المرتبة عليه في الآخرة. (وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً) يعني لو ظلم أحد أحداً، ويقدر المظلوم على الانتقام عن الظالم فيعفو عنه يزيد الله عزاه في الدنيا، بسبب هذا العفو. فإن من عرف بالعفو والصفح ساد وعظم في القلوب وزاد عزه وإكرامه. أو المراد يزيد عزه في الآخرة بأن يعظم ثوابة وأجره هناك، أو المراد في الدنيا والآخرة جميعاً (وما تواضع أحد لله) بأن أنزل نفسه

إلا رفعه الله)) . رواه مسلم. 1905 - (3) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله، دعي من أبواب الجنة، ـــــــــــــــــــــــــــــ عن مرتبة يستحقها لرجاء التقرب إلى الله دون غرض غيره (إلا رفعه الله) أما في الدنيا بأن يثبت له بتواضعه في القلوب منزلة، ويرفعه عند الناس ويجل مكانه أو في الآخرة بأن يرفع درجته وثوابه فيها بتواضعه في الدنيا أو المراد رفعه في الدنيا والآخرة جميعاً. قال الطيبي: من جبلة الإنسان الشح ومتابعة السبعية من إيثار الغضب والانتقام والاسترسال في الكبر الذي هو من نتائج الشيطانية، فأراد الله تعالى أن يقلعها من سنخها فحث أولاً على الصدقة ليتحلى بالسخاء والكرم، وثانياً على العفو ليتعزز بعزم الحلم والوقار، وثالثاً على التواضع ليرفع درجته في الدارين - انتهى. (رواه مسلم) في البر والصلة والأدب وأخرجه أيضاً أحمد (ج2 ص235) والترمذي في البر والصلة، والبيهقي في الزكاة وأخرجه مالك مرسلاً. 1905- قوله: (من أنفق زوجين) أي شيئين (من شيء من الأشياء) أي من أي صنف من أصناف المال من نوع واحد، وقد جاء مفسراً مرفوعاً بعيرين شاتين حمارين درهمين. قال الحافظ: الزوج يطلق على الواحد وعلى الاثنين وهو ههنا على الواحد جزماً. وقال في مجمع البحار: الزوج خلاف الفرد، وأراد أن يشفع كل ما يشفع من شيء بمثله إن كان دراهم فدرهمين أو دنانير فدينارين وكذا سلاحاً وغيره. قيل: ويحتمل أن يراد ي به تكرار الإنفاق مرة بعد مرة ففسر الإنفاق بما ينفقه، لأنه إذا أنفق درهماً في سبيل الله ثم عاد فأنفق آخر يصير زوجين. ومعنى كلام الإنفاق بعد الإنفاق أي يتعود ذلك ويتخذه دأباً. وقال القاضي قال الهروي: في تفسير هذا الحديث قيل: وما زوجان قال: فرسان أو عبدان أو بعيران. وقال ابن عرفة: كل شيء قرن بصاحبه فهو زوج يقال: زوجت بين الإبل إذا قرنت بعيراً ببعير. وقيل: درهم ودينار أو درهم وثوب. قال: والزوج يقع على الإثنين ويقع على الواحد وقيل: إنما يقع على الواحد إذا كان معه آخر، ويقع الزوج أيضاً على الصنف. وفسر بقوله تعالى: {وكنتم أزواجاً ثلاثة} [الواقعة: 7] والمطلوب تشفيع صدقة بأخرى والتنبيه على فضل الصدقة والنفقة في الطاعة الاستكثار منها وقال ابن الأثير: الأصل في الزوج الصنف والنوع من كل شيء، وكل شيئين مقترنين شكلين كانا أو صنفين فهما زوجان، وكل واحد منهما زوج، يريد من أنفق صنفين من ماله في سبيل الله (في سبيل الله) أي في طلب ثواب الله، وهو أعم من الجهاد وغيره من العبادات. وقيل: المراد به الجهاد خاصة وأول أصح وأظهر كذا قال القاضي عياض. (دعي) بضم الدال أي نودي، وقد ورد بيان الداعي من وجه آخر ولفظه دعاه خزنة الجنة، كل خزنة باب أي قل هلم أي خزنة كل باب فهو من المقلوب (من أبواب الجنة) كذا في جميع

وللجنة أبواب، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ـــــــــــــــــــــــــــــ النسخ مقتصراً عليه، وهكذا وقع في المصابيح. وفي الصحيحين بعد هذا يا عبد الله! هذا خير. قيل معناه: لك هنا خير وثواب وغبطة. وقيل: معناه هذا الباب فيما نعتقده خير لك من غيره من الأبواب لكثرة ثوابه ونعيمه فتعال فادخل منه ولابد من تقدير ما ذكرناه إن كل مناد يعتقد ذلك الباب أفضل من غيره قاله النووي. وقال الحافظ: قوله هذا خير ليس اسم التفضيل بل المعنى هذا أخير من الخيرات والتنوين فيه للتعظيم وبه تظهر الفائدة، يعني إن لفظ "خير" بمعنى فاضل لا بمعنى أفضل، وإن كان اللفظ قد يوهم ذلك ففائدته ترغيب السامع في طلب الدخول من ذلك الباب (وللجنة أبواب) أي ثمانية كما في الأحاديث الصحيحة (فمن كان من أهل الصلاة) أي المؤدين للفرائض المكثرين من النوافل وكذا ما يأتي فيما بعد (دعي من باب الصلاة) أي قيل يا عبد الله! أدخل الجنة من هذا الباب. قال الحافظ: ومعنى الحديث إن كان عامل يدعى من باب ذلك العمل وقد جاء ذلك صريحاً من وجه آخر، عن أبي هريرة لكل عامل باب من أبواب الجنة يدعى منه بذلك العمل. أخرجه أحمد وابن أبي شيبة بإسناد صحيح - انتهى. والحاصل إن من أكثر نوعاً من العبادة خص بباب يناسبها ينادي منها جزاء وفاقاً. وقال السندي: في حاشية مسلم قوله: فمن كان من أهل الصلاة الخ الظاهر من هذه الرواية إن من أنفق زوجين ينادي في الجنة من باب واحد، وهو الباب الذي غلب على المنفق عمل أهله، ففائدة الإنفاق هو تكريمه بالمناداة وإلا فهو يدخل الجنة من ذلك الباب بناء على أنه من أهله، وهذا هو الذي عليه التفضيل، وهو قوله: "فمن كان من أهل الصلاة" الخ وهو الذي يوافقه سؤال أبي بكر رضي الله عنه على الوجه المذكور في هذه الرواية. وأما حمل قوله: نودي على النداء من جميع الأبواب، وجعل قوله: فمن كان من أهل الصلاة الخ منقطعاً عن ذكر المنفق زوجين، بل هو بيان لأبواب الجنة وأهليها فذاك بعيد جداً في نفسه، ومع ذلك لا يناسبه سؤال أبي بكر على الوجه المذكور في هذه الرواية إلا أن يتكلف فيه. ويقال معنى وهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها أي غير المنفق زوجين، وهو مع بعده يستلزم بمقتضى قوله - صلى الله عليه وسلم -: وأرجو أن تكون منهم، إن أبابكر ليس من المنفقين زوجين بل من غيرهم، فوجب حمل هذه الرواية على المناداة من باب واحد وحينئذٍ يظهر التنافي بحسب الظاهر بين هذه الرواية وبين الآية (يعني حديث أبي هريرة عند الشيخين بلفظ: من أنفق زوجين في سبيل الله دعاه خزنة الجنة كل خزنة باب أي قل هلم: فقال أبوبكر: يا رسول الله! ذاك الذي لا توى عليه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني لأرجو أن تكون منهم) فإنها تفيد إن المناداة من جميع الأبواب، وتفيد إن أبابكر ما سأل إن أحداً ينادي من تمام الأبواب أو لا، بل مدح الذي ينادي من تمام الأبواب. وهذه الرواية تخالف تلك في الأمرين كما لا يخفي فالخلاف إما لسهو وقع من بعض الرواة وهو الظاهر

ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، فقال أبوبكر: ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة، ـــــــــــــــــــــــــــــ في مثل هذا، وإما لحمله على أنهما واقعتان في المجلسين أنه - صلى الله عليه وسلم - أوحي إليه أولاً بالمناداة من باب واحد، وثانياً بالمناداة من تمام الأبواب فأخبر في كل مجلس بما أوحي إليه، وسأل أبوبكر في المجلس الأول عمن ينادي من تمام الأبواب، وفي المجلس مدح ذلك المنادي على ما اللائق بكل مجلس، وبشره النبي - صلى الله عليه وسلم - في المجلسين بأن ينادي من تلك الأبواب والله تعالى أعلم بالصواب - انتهى كلام السندي. (ومن كان من أهل الجهاد) أي ممن يغلب عليه الجهاد (ومن كان من أهل الصدقة) أي المكثرين منها (ومن كان من أهل الصيام) أي الذي الغالب عليه الصيام، وإلا فكل المؤمنين أهل للكل (دعي من باب الريان) بفتح الراء وتشديد التحتانية، وزن فعلان. من الري. اسم علم لباب من أبواب الجنة يختص بدخول الصائمين منه، وهو مما وقعت المناسبة فيه بين لفظه ومعناه، لأنه مشتق من الري وهو مناسب لحال الصائمين، لأنهم بتعطيشهم أنفسهم في الدنيا يدخلون من باب الريان ليأمنوا من العطش. قال الحافظ: وقع في الحديث ذكر أربعة أبواب من أبواب الجنة وقد ثبت إن أبواب الجنة ثمانية وبقي من الأركان الحج فله باب بلا شك. وأما الثلاثة الأخرى فمنها، باب الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس. رواه أحمد بن حنبل عن أشعث عن الحسن مرسلاً: إن لله باباً في الجنة لا يدخله إلا من عفا عن مظلمة. ومنها الباب الأيمن وهو باب المتوكلين الذي يدخل منه من لا حساب عليه ولا عذاب. وأما الثالث فلعله باب الذكر عند الترمذي ما يؤميء إليه، ويحتمل أن يكون باب العلم، ويحتمل أن يكون المراد بالأبواب التي يدعي منها أبواب من داخل أبواب الجنة الأصلية، لأن الأعمال الصالحة أكثر عدداً من ثمانية - انتهى. وقال القاضي: قد جاء ذكر بقية أبواب الجنة الثمانية في حديث آخر في باب التوبة وباب الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، وباب الراضين. فهذه سبعة أبواب جاءت في الأحاديث وجاء في حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب إنهم يدخلون من الباب الأيمن فلعله باب الثامن - انتهى. وروى الحاكم بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن للجنة باباً يقال له باب الضحى، فإذا كان يوم القيامة نادى مناد أين الذين كانوا يدامون على صلاة الضحى، هذا بابكم فادخلوه برحمة الله، ذكره ابن القيم في زاد المعاد (ج1 ص93) (ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة) بفتح الضاد وكلمة "ما" للنفي و "من" زائدة وهي اسم "ما" أي ليس ضرورة واحتياج على من دعي من باب واحد من تلك الأبواب إن لم يدع من سائرها لحصول

فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ المقصود وهو دخول الجنة، وهذا نوع تمهيد قاعدة السؤال في قوله (فهل يدعي أحد من تلك الأبواب كلها) أي سألت عن ذلك بعد معرفتي بأن لا ضرورة ولا احتياج لمن يدعي من باب واحد إلى الدعاء من سائر الأبواب إذ يحصل مراده بدخول الجنة (قال نعم) أي يكون جماعة يدعون من جميع تلك الأبواب تعظيماً وتكريماً لهم لكثرة صلاتهم وجهادهم وصيامهم وغير ذلك من أبواب الخير. قال الحافظ: في الحديث إشعار بقلة من يدعي من تلك الأبواب كلها، وفيه إشارة إلى أن المراد ما يتطوع به من الأعمال المذكورة لا واجباتها، لكثرة من يجتمع له العمل بالواجبات كلها بخلاف التطوعات فقل من يجتمع له العمل بجميع أنواع التطوعات. ثم من يجتمع له ذلك إنما يدعي من جميع الأبواب على سبيل التكريم له، وإلا فدخوله إنما يكون من باب واحد وهو باب العمل الذي يكون أغلب عليه والله أعلم. وأما ما أخرجه مسلم عن عمر من توضأ ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله - الحديث. وفيه فتحت له أبواب الجنة يدخل من أيها شاء فلا ينافي ما تقدم، وإن كان ظاهره إنه يعارضه؛ لأنه يحمل على أنها تفتح له على التكريم ثم عند دخوله لا يدخل إلا من باب العمل الذي يكون أغلب عليه كما تقدم - انتهى. (وأرجو أن تكون منهم) الرجاء من الله ومن نبيه - صلى الله عليه وسلم - واقع محقق ففيه إن الصديق من أهل هذه الأعمال كلها، ووقع في حديث ابن عباس عند ابن حبان في نحو هذا الحديث التصريح بالوقوع لأبي بكر ولفظه: قال أجل وأنت هو يا أبابكر: أي لأنه رضي الله عنه كان جامعاً لهذه الخيرات كلها. أما التعبير بعنوان الرجاء في حديث الباب فقيل: إنه خرج مخرج الأدب مع الله تعالى إذ لا يجب عليه سبحانه شيء وهو سبحانه أكرم من أن يخلف رجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. تنبيه الإنفاق في الصلاة والجهاد والعلم والحج ظاهر. وأما الإنفاق في غيرها فمشكل، ويمكن أن يكون المراد بالإنفاق في الصلاة فيما يتعلق بوسائلها من تحصيل آلاتها من طهارة وتطهير ثوب وبدن ومكان. والإنفاق في الصيام بما يقويه على فعله وخلوص القصد فيه. والإنفاق في العفو عن الناس يمكن أن يقع بترك ما يجب له من حق والإنفاق في التوكل بما ينفقه على نفسه في مرضه المانع له من التصرف في طلب المعاش مع الصبر على المعصية، أو ينفق على من أصابه مثل ذلك طلباً للثواب. والإنفاق في الذكر على نحو من ذلك. وقيل: المراد بالإنفاق في الصلاة والصيام بذل النفس والبدن فيهما فإن العرب تسمى ما يبذله المرأ من نفسه نفقة. كما يقال أنفقت في طلب العلم عمري وبذلت فيه نفسي، وهذا معنى حسن، وأبعد من قال المراد بقوله زوجين النفس والمال لأن المال في الصلاة والصيام ونحوهما ليس بظاهر إلا بالتأويل المتقدم وكذلك من قال النفقة في الصيام تقع بتفطير الصائم والإنفاق عليه، لأن ذلك يرجع إلى باب الصدقة كذا في

متفق عليه. 1906- (4) وعنه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبوبكر: أنا. قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبوبكر: أنا. قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟ قال أبوبكر: أنا. قال: فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبوبكر: أنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اجتمعن في امرء إلا دخل الجنة)) . رواه مسلم. 1907- (5) وعنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا نساء المسلمات ـــــــــــــــــــــــــــــ الفتح: (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصيام وفي فضائل أبي بكر، وأخرجه في الجهاد وبدء الخلق مختصراً. وأخرجه مسلم في الزكاة وأخرجه أيضاً أحمد (ج2 ص268) ومالك والنسائي في الجهاد والترمذي في مناقب أبي بكر. 1906 – قوله: (من أصبح منكم اليوم صائماً) من استفهامية "وأصبح" بمعنى صار وخبره "صائماً" أو بمعنى دخل في الصباح فتكون تامة، وصائماً حال من ضميره (قال أبو بكر أنا) قال الطيبي: ذكر "أنا" هنا للتعيين في الأخبار لا للاعتداء بنفسه كما يذكر في مقام المفاخرة، وهذا هو الذي كرهه الصوفية، وقد ورد: {قل إنما أنا بشرٌ مثلكم} [الكهف:110] وما أنا من المتكلفين إلى غير ذلك وأما رده عليه الصلاة والسلام على جابر حيث أجاب بعد دق الباب بأنا، قائلاً أنا، أنا فلعدم العتيين في مقام الأخبار يعني سبب كراهة له الاقتصار عليه المؤدي إلى عدم تعريفه نفسه، ثم لو عرفه بصوته لما استفهمه. (ما اجتمن) أي ما وجدت هذه الخصال الأربعة وحصلت في يوم واحد (في امريء إلا دخل الجنة) أي بلا محاسبة وإلا فمجرد الإيمان يكفي لمطلق الدخول، أو معناه دخل الجنة من أي باب شاء كما تقدم والله تعالى أعلم. (رواه مسلم) في الزكاة وأخرجه أيضاً ابن خزيمة كما في الترغيب والبيهقي في الزكاة. 1907- قوله: (يا نساء المسلمات) قال عياض: في إعرابه ثلاثة أوجه أصححها وأشهرها نصب النساء وجر المسلمات على الإضافة وهي رواية المشارقة من إضافة الشيء إلى صفته كمسجد الجامع، وهو عند الكوفيين جائزة على ظاهره. وعند البصريين يقدرون فيه موصوفاً أي مسجد المكان الجامع، وتقدر هنا يا نساء الأنفس المسلمات أو الجماعات المسلمات. وقال السهيلي: وغيره جاء برفع الهمزة على أنه منادى مفرد ويجوز في المسلمات الرفع صفة على اللفظ على معنى يا أيها النساء المسلمات، والنصب صفة على الموضع كما يقال يا زيد العاقل برفع زيد ونصب

لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شأة)) متفق عليه. 1908-1909- (6-7) وعن جابر وحذيفة، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل معروف صدقة)) ـــــــــــــــــــــــــــــ العاقل، وكسر التاء هنا علامة النصب. وروى بنصب الهمزة على أنه منادى مضاف وكسر التاء للخفض بالإضافة كقولهم مسجد الجامع وهو مما أضيف فيه الموصوف إلى الصفة في اللفظ فالبصريون يتأولونه على حذف الموصوف وإقامة صفته مقامه نحو يا نساء الأنفس المسلمات أو يا نساء الطوائف المؤمنات، أي لا الكافرات. وقيل: تقديره يا فاضلات المسلمات كما يقال هؤلاء رجال القوم أي أفاضلهم. والكوفيون يدعون أن لا حذف فيه ويكتفون باختلاف الألفاظ في المغايرة. (لا تحقرن) بفتح حرف المضارعة وكسر القاف وبالنون الثقيلة أي لا تستحقرن إهداء شيء (جارة) مؤنث الجار (لجارتها) متعلق بمحذوف أي لا تحقرن جارة هدية مهداة لجارتها (ولو فرسن شأة) بكسر الفاء والسين المهملة بينهما راء ساكنة وآخره نون هو عظم قليل اللحم، وهو للبعير موضع الحافر للفرس. ويطلق على الشاة مجازاً ونونه زائدة. وقيل: أصلية وأشير بذلك إلى المبالغة في إهداء الشيء اليسير وقبوله لا إلى حقيقة الفرسن، لأنه لم يجر العادة بإهداءه أي لا تمتنع جارة من الهدية لجارتها لاستقلالها وإحتقارها الموجود عندها، بل ينبغي أن تجود لها بما تيسر، وإن كان قليلاً فهو خير من العدم، وذكر الفرسن على سبيل المبالغة. ويحتمل أن يكون النهى للمهدي إليها وإنها لا تحتقر ما يهدى إليها ولو كان قليلاً، وحمله على الأعم من ذلك أولى. قال الطيبي: ويمكن أن يقال هو من باب النهى عن الشيء والأمر بضده وهو كناية عن التحابب والتوادد، كأنه قيل: لتحاب جارة جارتها بإرسال هدية ولو كانت حقيرة، ويتساوى فيه الفقير والغنى. وخص النهى بالنساء، لأنهن موارد الشنأن والمحبة ولأنهن أسرع إنفعالاً في كل منهما. وفي الحديث الحض على التهادي ولو باليسير لما فيه من استجلاب المودة وإذهاب الشحناء، ولما فيه من التعاون على أمر المعيشة والهدية إذا كانت يسيرة فهي أول على المحبة وأسقط للمؤنة وأسهل على المهدي لاطراح التكلف والكثير قد لا يتيسر كل وقت والمواصلة باليسير تكون كالكثير. وفي حديث عائشة يا نساء المؤمنين! تهادوا ولو فرسن شأة فإنه ينبت المودة ويذهب الضغائن (متفق عليه) أخرجه البخاري في أول الهبة وفي الأدب ومسلم في الزكاة، وأخرجه أيضاً أحمد في مواضع منها في (ج2:ص264-307) والترمذي في الهبة. 1908-1909- قوله: (كل معروف صدقة) أي له حكمها في الثواب يعني ثوابه كثواب الصدقة بالمال، قال الراغب: المعروف اسم كل فعل يعرف حسنه بالشرع والعقل معاً، ويطلق على الاقتصاد لثبوت النهى عن

متفق عليه 1910- (8) وعن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق)) . رواه مسلم. 1911- (9) وعن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((على كل مسلم صدقة، ـــــــــــــــــــــــــــــ السرف. وقال ابن أبي جمرة: يطلق اسم المعروف على ما عرف بأدلة الشرع إنه من أعمال البر سواء جرت به العادة أم لا. قال: والمراد بالصدقة الثواب فإن قارنته النية أجر صاحبه جزماً وإلا ففيه احتمال. قال: وفي هذا الكلام إشارة إلى أن الصدقة لا تنحصر في الأمر المحسوس منه فلا تختص بأهل اليسار مثلاً، بل كل واحد قادر على أن يفعلها في أكثر الأحوال بغير مشقة. وقال ابن بطال: دل هذا الحديث على أن كل شيء يفعله المرأ أو يقوله من الخير يكتب له به صدقة، وقد فسر ذلك في حديث أبي موسى الأشعري المذكور بعد حديث أبي ذر، وزاد عليه إن الإمساك عن الشر صدقة وفي الحديث بيان إن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، وفيه إنه لا يحتقر شيئاً من المعروف وإنه ينبغي أن لا يبخل به بل ينبغي أن يحضره (متفق عليه) ظاهره يقتضى إلا كلاً من البخاري ومسلم أخرجه من حديث جابر، وحذيفة معاً. وليس كذلك فقد أخرجه البخاري في الهبة من حديث جابر ومسلم في الزكاة من حديث حذيفة، فحديث جابر من أفراد البخاري، وحديث حذيفة من أفراد مسلم. وأصل الحديث مع قطع النظر عن الروايتين متفق عليه. وأخرجه أبوداود في الأدب والبيهقي في الزكاة من حديث حذيفة. وأخرجه أحمد والترمذي في البر والصلة من حديث جابر مثله وزاد في آخره. ومن المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق، وإن تفرغ من دلوك في إناء أخيك، وأخرجه أيضاً الدارقطني والحاكم من حديث جابر، وزاد وما انفق الرجل على أهله كتب له به صدقة وما وقى به المرأ عرضه فهو صدقة، ذكره الحافظ في الفتح. 1910- قوله: (لا تحقرن) أي أنت يا أباذر (من المعروف) تقدم بيان معناه (شيئاً ولو إن تلقى أخاك بوجه طليق) الوجه الطليق الذي فيه بشاشة وفرح أي إفعل الخيرات كلها قليلها وكثيرها، ومن الخيرات أن يكون وجهك ذابشاشة وفرح إذا رأيت مسلماً، فإنه يوصل إلى قلبه سروراً إذا تركت العبوس وتطلقت عليه ولا شك إن إيصال السرور إلى قلوب المسلمين حسنه، وقوله "طليق" كذا وقع في جميع النسخ الحاضرة وهكذا في المصابيح ووقع في نسخ مسلم طلق أي بحذف الياء. قال النووي روى طلق على ثلاثة أوجه إسكان اللام وكسرها وطليق بزيادة ياء ومعناه سهل منبسط وفيه الحث على فعل المعروف وما تيسر منه وإن قل حتى طلاقه الوجه عند اللقاء (رواه مسلم) في البر والصلة وأخرجه أيضاً أحمد (ج5:ص173) والبيهقي (ج4:ص188) . 1911- قوله: (على كل مسلم صدقة) أي كل يوم كما في حديث أبي هريرة الآتي والمراد على سبيل

قالوا: فإن لم يجد؟ قال: فليعمل بيديه فينفع نفسه، ويتصدق. قالوا: فإن لم يستطع أو لم يفعل؟ قال: فيعين ذا الحاجة الملهوف، قالوا: فإن لم يفعله؟ قال: فيأمر بالخير. ـــــــــــــــــــــــــــــ الاستحباب المتأكد ولا حق في المال سوى الزكاة إلا على سبيل الندب ومكارم الأخلاق كما قاله الجمهور ذكره القسطلاني. وقال النووي: قال العلماء المراد صدقة ندب وترغيب لا إيجاب وإلزام. وقال الحافظ: قوله على كل مسلم صدقة أي على سبيل الاستحباب المتأكد أو على ما هو أعم من ذلك. والعبارة صالحة للإيجاب والاستحباب كقوله عليه السلام "على المسلم ست خصال" فذكر منها ما هو مستحب إنفاقاً. كذا قال في الزكاة وقال في الأدب: قوله على كل مسلم صدقة أي في مكارم الأخلاق، وليس ذلك بفرض إجماعاً. قال ابن بطال: وأصل الصدقة ما يخرجه المرأ من ماله متطوعاً به، وقد يطلق على الواجب لتحرى صاحبه الصدق بفعله: ويقال: لكل ما يحابى به المرأ من حقه صدقة، لأنه تصدق بذلك على نفسه. (قالوا فإن لم يجد) أي ما يتصدق به كأنهم فهموا من لفظ الصدقة العطية فسألوا عمن ليس عنده شيء، فبين لهم أن المراد بالصدقة ما هو أعم من ذلك ولو بإغاثة الملهوف والأمر بالمعروف، وهل تلتحق هذه الصدقة؟ بصدقة التطوع التي تحسب يوم القيامة من الفرض الذي أخل به. فيه نظر، الذي يظهر أنها غيرها لما تبين من حديث عائشة الآتي إنها شرعت بسبب عتق المفاصل، حيث قال في آخر هذا الحديث فإنه يمسى يومئذ. وقد زحزح نفسه عن النار قاله الحافظ (فليعمل) كذا في جميع النسخ الحاضرة والذي في البخاري في الزكاة يعمل وفي الأدب فيعمل وفي مسلم يعتمل (بيديه) بالتثنية (فينفع نفسه) بما يكسبه من صناعة وتجارة ونحوهما بإنفاقه عليها، ومن تلزمه نفقته ويستغنى بذلك عن السؤال لغيره (ويتصدق) فينفع غيره ويؤجر. قال القسطلاني: وقوله فيعمل فينفع ويتصدق، بالرفع في الثلاثة خبر بمعنى الأمر قاله ابن مالك قال ابن بطال: فيه التنبيه على العمل والتكسب ليجد المرأ ما ينفق على نفسه ويتصدق به ويغنيه عن ذل السؤال، وفيه الحث على فعل الخير مهما أمكن وإن من قصد شيئاً منها فتعسر فلينتقل إلى غيره (فإن لم يستطع) أي بأن عجز عن العمل (أو لم يفعل) ذلك عجزاً أو كسلاً والشك من الراوي (فيعين) أي بالفعل أو بالقول أو بهما (ذاالحاجة الملهوف) بالنصب صفة لذا الحاجة المنصوب على المفعولية، والملهوف، عند أهل اللغة يطلق على المتحسر وعلى المضطر وعلى المظلوم. يقال: لهف بكسر الهاء يلهف بفتحها لهفاً بإسكانها أي حزن وتحسر، وكذلك التلهف ذكره النووي. وقال الحافظ: الملهوف، المستغيث وأعم من أن يكون مظلوماً أو عاجزاً. وقيل: هو المكروب المحتاج (فإن لم يفعله) أي عجزاً أو كسلاً، وفي البخاري فإن لم يفعل. أي يحذف الضمير المنصوب (فيأمر بالخير) وهو يشمل الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والإفادة العلمية والنصيحة العملية وفي البخاري في الأدب فيأمر بالخير أو قال بالمعروف، وفي مسلم يأمر بالمعروف أو الخير، وهذا شك من الراوي، وللبخاري في الزكاة فليعمل بالمعروف.

قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: فيمسك عن الشر، فإنه له صدقة)) . متفق عليه. 1912- (10) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل سلامي ـــــــــــــــــــــــــــــ وزاد أبوداود الطيالسي في مسنده وينهى عن المنكر (فيمسك عن الشر) وفي رواية فليمسك أي نفسه أو الناس (فإنه) أي الإمساك عن الشر (له) أي للمسك (صدقة) أي على نفسه لأنه إذا أمسك عن الشر لله تعالى كان له أجر على ذلك كالتصدق بالمال. وحاصل الحديث إن الشفقة على خلق الله متأكدة وهي إما بمال حاصل، وهو الشق الأول: أو بمقدور التحصيل. وهو الثاني: أو بغير مال وهو إما فعل وهو الإعانة والإغاثة أو ترك وهو الإمساك عن الشر. لكن قال الزين بن المنير: إن حصول ذلك للمسك إنما يكون مع نية القربة به بخلاف محض الترك، وقضية الحديث ترتيب الأمور الأربعة وليس مراداً، وإنما هو للتسهيل على من عجز عن واحد منها، وإلا فمن أمكنه فعل جميعها أو عدد منها معاً فليفعل. ومقصود الحديث إن إعمال الخير تنزل منزل الصدقات في الأجر ولاسيما في حق من لا يقدر عليها ويفهم منه إن الصدقة في حق القادر عليها أفضل من الأعمال القاصرة. وقال ابن أبي جمرة: ترتيب هذا الحديث إنه ندب إلى الصدقة وعند العجز عنها ندب إلى ما يقرب منها، أو يقوم مقامها وهو العمل ولانتفاع، وعند العجز عن ذلك ندب إلى ما يقوم مقامه وهو الإغاثة، وعند عدم ذلك ندب إلى فعل المعروف أي من سوى ما تقدم كإماطة الأذى، وعند عدم ذلك ندب إلى الصلاة فإن لم يطق فترك الشر وذلك آخر المراتب. قال: ومعنى "الشر" هنا ما منعه الشرع ففيه تسلية للعاجز عن فعل المندوبات إذا كان عجزه عن ذلك عن غير إختيار. قال الحافظ: وأشار بالصلاة إلى ما وقع آخر حديث أبي ذر عند مسلم ويجزى عن ذلك كله ركعتا الضحى، وهو يؤيد ما قدمناه إن هذه الصدقة لا يكمل منها ما يختل من الفرض، لأن الزكاة لا تكمل الصلاة ولا العكس. فدل على افتراق الصدقتين، واستشكل الحديث مع ما تقدم ذكر الأمر بالمعروف وهو من فروض الكفاية فكيف تجزيء عنه صلاة الضحى وهي من التطوعات، والذي يظهر في الجواب أن المراد إن صلاة الضحى تقوم مقام الثلثمائة وستين حسنة التي يستحب للمرأ أن يسعى في تحصيلها كل يوم ليعتق مفاصله التي هي بعددها، لا إن المراد إن صلاة الضحى تغنى عن الأمر بالمعروف وما ذكر معه وإنما كان كذلك لأن الصلاة عمل بجميع الجسد فتتحرك المفاصل كلها فيها بالعبادة، وكأن صلاة الضحى خصت بالذكر لكونها أول تطوعات النهار بعد الفرض وراتبته. وقد أشار في حديث أبي ذر، وكذا في حديثي أبي هريرة وعائشة الآتيين إلى أن صدقة السلامي نهارية (متفق عليه) أخرجه البخاري في الزكاة وفي الأدب، ومسلم في الزكاة وأخرجه أيضاً أحمد (ج4:ص395-411) والنسائي في الزكاة والبيهقي فيه (ج4:ص188) . 1912- قوله: (كل سلامي) بضم السين المهملة وتخفيف اللام وفتح الميم مقصوراً، أي أنملة من أنامل

من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس: يعدل بين الإثنين صدقة، ويعين الرجل على دابته فيحمل ـــــــــــــــــــــــــــــ الأصابع أو مفصل من المفاصل الثلاثمائة وستين التي في كل أحد. وقيل: هي ما بين كل مفصلين من أصابع الإنسان. وقيل: كل عظم مجوف من صغاراً العظام مثل عظام الأصابع وقيل: كل عظم في البدن واحدة وجمعه سواء. وقيل: جمعه سلاميات وقوله كل سلامي مبتدأ مضاف وقوله (من الناس) أي من كل واحد منهم صفة لسلامي (عليه صدقة) جملة من المبتدأ والخبر خبر للمبتدأ الأول: وقوله عليه مشكل. قال ابن مالك: المعهود في كل إذا أضيف إلى نكرة من خبر وتمييز وغيرهما أن يجيء على وفق المضاف إليه، نحو قوله تعالى {كل نفس ذائقة الموت} [الأنبياء:35] وهنا جاء على وفق كل سلامي عليه صدقة، وكان القياس أن يقول عليها صدقة. لأن السلامي مؤنثة لكن دل مجيئها في هذا الحديث على الجواز، أي جواز مطابقة المضاف، ويحتمل أن يكون ضمن السلامي معنى العظم أو المفصل فأعاد الضمير عليه كذلك. والمعنى على كل مسلم مكلف بعدد كل مفصل من عظامه صدقة لله تعالى على سبيل الشكر له، بأن جعل في عظامه مفاصل يتمكن بها من قبض أصابعه ويديه ورجليه وغير ذلك، وبسطها فإن هذه نعمة عظيمة. فإنه لو جعل أعضاءه بغير مفصل يكون كلوح أو خشب لا يقدر على القبض والبسط والقيام والقعود والاضطجاع. وأوجب الصدقة على السلامي مجازاً، وفي الحقيقة على صاحبها قال الطيبي: ولعل تخصيص السلامي وهي المفاصل من الأصابع بالذكر لما في أعمالها من دقائق الصنائع التي تتحير الأوهام فيها، ولذلك قال تعالى {بلى قادرين على أن نسوي بنانه} [القيامة:4] أي نجعل أصابع يديه ورجليه مستوية شيئاً واحداً، كخف البعير وحافر الحمار، فلا يمكن أن يعمل بها شيئاً مما يعمل بأصابعه المفرقة ذات المفاصل من فنون الأعمال دقتها وجلها، ولهذا السر غلب الصغار من العظام على الكبار-انتهى. (كل يوم) بالنصب على الظرفية أي في كل يوم (تطلع فيه الشمس) على صاحب السلامي وهي صفة تخصص اليوم عن مطلق الوقت بمعنى النهار. وقال السندي: وصف اليوم بذلك لإفادة التنصيص كما قالوا في قوله تعالى {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه} [الأنعام:38] والحاصل إن الشيء إذا وصف بوصف يعم جميع أفراده يصير نصاً في التعميم. قال المنادي: وليس المراد هنا بالصدقة المالية فقط، بل كنى بها عن نوافل الطاعة كما يفيده قوله (يعدل) فأعله الشخص المسلم المكلف وهو في تأويل المصدر مبتدأ خبره صدقة، تقديره أن يعدل مثل قوله تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. وقد قال تعالى {ومن آيته يريكم البرق} [الروم:24] (بين الإثنين) متحاكمين أو متخاصمين أو متهاجرين. وقيل: يعدل بين الإثنين أي يصلح بينهما بالعدل (صدقة) أي أجره كأجر الصدقة (ويعين) المسلم المكلف (الرجل) أي يساعده (على دابته) أي دابة الرجل أو المعين (فيحمل)

عليها أو يرفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة يخطوها إلى الصلاة صدقة ويميط الأذى عن الطريق صدقة)) . متفق عليه. 1913- (11) وعن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل. فمن كبرالله، وحمدالله، وهلل الله، وسبح الله، واستغفرالله، وعزل حجراً عن طريق الناس، أو شوكة، أو عظماً، أو أمر بمعروف، أو نهى عن المنكر، عدد تلك الستين والثلاثمائة، فإنه يمشي يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار)) . رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ بفتح التحتية وسكون المهملة وكسر الميم (عليها) المتاع أو نفس الرجل بأن يعينه في الركوب أو يحمله كما هو (أو يرفع عليها متاعه) شك من الراوي أو تنويع (والكلمة الطيبة) أي مطلقاً أو مع الناس (وكل خطوة) بفتح الخاء المرة الواحدة وبالضم ما بين القدمين (يخطوها إلى الصلاة) ذاهباً وراجعاً (ويميط) بضم أوله أي يزيل وينحى (الأذى) أي ما يؤذى المارة من نحو شوك وعظم وحجر (متفق عليه) رواه البخاري بهذا اللفظ في باب من أخذ بالركاب من الجهاد، وأخرج في باب فضل من حمل متاع صاحبه في السفر بنحوه، وفي الصلح مختصراً وأخرجه مسلم في الزكاة أيضاً أحمد والبيهقي في الزكاة. 1913- قوله: (من بنى آدم) بيان لإفادة التعميم (على ستين وثلاثمائة مفصل) بالإضافة وهو بفتح الميم وكسر الصاد، ملتقى العظمين في البدن (فمن كبرالله) أي عظمه أو قال الله أكبر قاله القاري: (وهلل الله) أي وحده أو قال لا إله إلا الله (وسبح الله) أي نزهه عما لا يليق به من الصفات، أو قال سبحان الله (وعزل) أي بعد ونحى (أو شوكة أو عظماً) أو للتنويع (أو أمر) وفي رواية، وأمر بالواو مكان أو (عدد تلك الستين) أي بعددها نصب بنزع الخافض متعلق بالأذكار وما بعدها أو بفعل مقدر، يعني من فعل الخيرات المذكورة ونحوها عدد تلك الستين. (الثلاث مائة) بإضافة ثلاث إلى مائة مع تعريف الأول وتنكير الثاني، والمعروف لأهل العربية عكسه، وهو تنكير الأول وتعريف الثاني. وأجيب بأن الألف واللام زائدتان، فلا اعتداد بدخولهما قال الطيبي: ولو ذهب إلى أن التعريف بعد الإضافة كما في الخمسة عشر بعد التركيب لكان وجهاً حسناً. وقيل: مائة منصوب على التمييز على قول بعض أهل العربية. (فإنه يمشي) بفتح الياء وبالشين المعجمة من المشى، وفي رواية يمسى بضمها وبالسين المهملة من الإمساء وكلاهما صحيح قاله النووي: (يؤمئذ) أي وقت إذ فعل ذلك (وقد زحزح نفسه) أي بعدها ونحاها (رواه مسلم) في الزكاة، وأخرجه أيضاً البيهقي (ج4:ص188) .

1914- (12) وعن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهى عن المنكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله! يأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه فيه وزر؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ 1914- قوله: (وكل تكبيرة) بالرفع على المبتدأ والخبر (صدقة) قال النووي: رويناه بوجهين رفع صدقة ونصبه، فالرفع على الاستيناف، والنصب عطف على اسم إن وعلى النصب، يكون كل تكبيرة مجروراً فيكون من العطف على عاملين مختلفين، فإن الواو قامت مقام الباء وكذا قوله (وكل تحميده صدقة وكل تهليلة صدقة) الخ. قال القاضي: يحتمل تسميتها صدقة إن لها أجراً كما للصدقة أجر، وإن هذه الطاعات تماثل الصدقات في الأجود وسماها صدقة على طريق المقابلة وتجنيس الكلام. وقيل: معناه إنها صدقة على نفسه (وأمر بالمعروف صدقة) أسقط المضاف هنا إعتماداً على ما سبق ذكره الطيبي. وقال النووي: فيه إشارة إلى ثبوت حكم الصدقة في كل فرد من أفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أكثر منه في التسبيح والتحميد والتهليل، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية. وقد يتعين ولا يتصور وقوعه نفلاً، والتسبيح والتحميد والتهليل نوافل، ومعلوم إن أجر الفرض أكثر من أجر النفل لقوله عزوجل وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلى مما افترضته عليه أخرجه البخاري (وفي بضع أحدكم صدقة) بضم الموحدة يطلق على الجماع ويطلق على الفرج نفسه، وكلاهما تصح إرادته هنا قاله النووي: وإدخال في إشارة إلى أن ذاته ليست صدقة. بل ما ضمنه من التحصين، وأداء حق الزوجة وطلب الولد الصالح والأمور المذكورة ذواتها صدقة. لأنها إذكار وقربات كذا في اللمعات، وقال الطيبي: الباء في قوله: "إن بكل تسبيحة صدقة" بمعنى "في " وإنما أعيدت في قوله وفي بضع أحدكم لأن هذا النوع من الصدقة أغرب. قال النووي: في هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقات، فالجماع يكون عبادة إذا نوى به قضاء حق الزوجة ومعاشرتها بالمعروف الذي أمر الله تعالى به، أو طلب ولد صالح أو إعفاف نفسه أو إعفاف الزوجة ومنعهما جميعاً من النظر إلى حرام، أو الفكر فيه أوالهم به أو غير ذلك من المقاصد الصالحة (أيأتي أحدنا شهوته) أي أيقضيها ويفعلها (ويكون له فيها أجر) والأجر غير معروف في المباح (أرأيتم) أي أخبروني (لو وضعها) أي شهوة بضعه (أكان عليه فيه) أي في الوضع (وزر) قال الطيبي: أقحم همزة الإستفهام على سبيل التقرير بين "لو" وجوابها تأكيداً للإستخبار في أرأيتم. (فكذلك) أي فعلى

فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)) . رواه مسلم. 1915- (13) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعم الصدقة اللحقة ـــــــــــــــــــــــــــــ القياس (إذا وضعها في الحلال) وعدل عن الحرام مع أن النفس تميل إليه وتستلذ به أكثر من الحلال. فإن لكل جديد لذة، والنفس بالطبع إليها أميل، والشيطان إلى مساعدتها أقبل، والمؤنة فيها عادة أقل (كان له أجر) وفي بعض النسخ أجراً بالنصب. قال النووي: ضبطنا أجراً بالنصب والرفع وهما ظاهران. قال القاري فالأجر ليس في نفس قضاء الشهوة بل في وضعها موضعها كالمبادرة إلى الأفطار في العيد وكأكل السحور وغيرهما من الشهوات النفسية الموافقة للأمور الشرعية. ولذا قيل الهوى إذا صادف الهدى فهو كالزبد مع العسل ويشير إليه قوله تعالى {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله} [القصص:50] انتهى. (رواه مسلم) في الزكاة في حديث أوله أن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: للنبي صلى الله عليه وسلم ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم. قال أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به إن بكل تسبيحة صدقة الخ. وأخرجه في كتاب الصلاة بلفظ: يصبح على كل سلامي من أحدكم صدقة فكل تسبيحة صدقة وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهى عن المنكر صدقة، وبجزيء من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى. وقد تقدم في باب صلاة الضحى، وحديث الباب أخرجه أحمد والبيهقي أيضاً. 1915- قوله: (نعم الصدقة) بالرفع فاعل نعم وهذا لفظ البخاري في الأشربة، ووقع في الهبة بلفظ: نعم المنيحة بدل نعم الصدقة. قال: أهل اللغة. المنحة بكسر الميم، المنحية بفتحها مع زيادة الياء على وزن عظيمة هي العطية، وتكون في الحيوان وفي الثمار وهي قد تكون عطية للرقبة بمنافعها فيملكها المعطي له وهي الهبة وقد تكون عطية اللبن أو التمرة مدة، وتكون الرقبة باقية على ملك صاحبها ويردها إذا انقضى اللبن أو التمر الماذون فيه. قال أبوعبيدة المنحية. عند العرب على وجهين أحدهما أن يعطي الرجل صاحبه صلة فتكون له، والآخر أن يعطيه ناقة أو شاة ينتفع بحلبها ووبرها زمناً، ثم يردها. والمراد بها في هذا الحديث عارية ذوات الألبان ليؤخذ لبنها ثم ترد هي لصاحبها قال ابن التين: من روى نعم الصدقة روى بالمعنى لأن المنحة العطية. والصدقة أيضاً عطية. قال الحافظ لا تلازم بينهما فكل صدقة عطية وليس كل عطية صدقة، وإطلاق الصدقة على المنيحة مجاز، ولو كانت المنحة صدقة لما حلت للنبي صلى الله عليه وسلم، بل هي من جنس الهبة والهدية -انتهى. (اللقحة) بكسر اللام وسكون القاف بمعنى الملقوحة وهي الناقة ذات اللبن القريبة العهد بالولادة. قال أهل اللغة اللقحة بكسر اللام وبفتحها، واللقوح الناقة الحلوب الغزيرة اللبن. قال العيني: اللقحة مرفوع لأنه صفة صدقة، وقال أبوالبقاء: هي المخصوصة

الصفى منحة، والشأة الصفي منحة تغدو بإناء وتروح بآخر)) . متفق عليه. 1916- (14) وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يغرس غرساً، ـــــــــــــــــــــــــــــ بالمدح (الصفي) بفتح الصاد وكسر الفاء وتشديد التحتية أي الكريمة الغزيرة اللبن بمعنى مفعول أي مصطفاة مختارة وهي صفة ثانية للصدقة أو صفة للقحة واستعملت بغير هاء على الأشهر في الرواية، لأن الفعيل إذا كان بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث. وقال العيني: روى أيضاً الصفية بناء التأنيث (منحة) منصوب على التميز. قال ابن مالك: في التوضيح فيه وقوع التميز بعد فاعل نعم ظاهراً، وقد منعه سيبوية إلا مع إضمار الفاعل نحو بئس للظالمين بدلاً وجوزه المبرد وهو الصحيح -انتهى. وقال في المصابيح: يحتمل أن يقال إن فاعل نعم في الحديث مضمر، والمنيحة الموصوفة بما ذكر هي المخصوصة بالمدح ومنحة تمييز تأخر عن المخصوص فلا شاهد فيه على ما قال، ولا يرد على سيبوية حينئذٍ. قيل: هذا صحيح لكن يؤيد قول المبرد قول الشاعر: تزود مثل أبيك زاداً فنعم الزاد زاد أبيك زاداً فذلك جائز وإن كان قليلاً. والشاة الصفى صفة وموصوف عطف على ما قبله أي ونعم الصدقة الشاة الصفى (تغدو بإناء) أي من اللبن (وتروح بآخر) بالمد أي يحلب من لبنها ملء إناء وقت الغدوة وملء إناء آخر وقت الرواح وهو المساء، والجملة صفة مادحة لمنحة أو استئناف جواب عمن سأل عن سبب كونها ممدوحة. وفيه إشارة إلى أن المستعير لا يستأصل لبنها قاله الحافظ. (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب شرب اللبن من الأشربة، ورواه مسلم في الزكاة بلفظ: إلا رجل يمنح أهل بيت ناقة تغد ويعس وتروح بعس، إن أجرها لعظيم، وأخرجه أيضاً أحمد والبيهقي (ج4 ص184) . 1916- قوله: (ما من مسلم) أخرج الكافر لأنه رتب على ذلك، كون ما أكل منه يكون له صدقة، والمراد بالصدقة الثواب في الآخرة، وذلك يختص بالمسلم دون الكافر، لأن القرب إنما تصح من المسلم فإن تصدق الكافر أو فعل شيئاً من وجوه البر لم يكن له أجر في الآخرة، نعم ما أكل من زرع الكافر يثاب عليه في الدنيا كما ثبت دليله. وأما من قال يخفف عنه بذلك من عذاب الآخرة فيحتاج إلى دليل. ونقل عياض الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم ولا يثابون عليها بنعيم ولا تخفيف عذاب، لكن بعضهم أشد عذاباً من بعضهم بحسب جرائمهم. وأما حديث أبي أيوب عند أحمد مرفوعاً ما من رجل يغرس، وحديث ما من عبد فظاهرهما يتناول المسلم والكافر لكن يحمل المطلق على المقيد، والمراد بالمسلم الجنس فتدخل المرأة المسلمة (يغرس) بكسر الراء (غرساً) يقال غَرس الشجر يغرسه غَرساً وغِراسة وَغرسه أي أثبته في الأرض والغرس، بفتح المعجمة وسكون الراء

أو يزرع زرعاً فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة، إلا كانت له صدقة)) . متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ مصدر وبمعنى المغروس (أو يزرع) أو للتنويع لأن الزرع غير الغرس (زرعاً) نصبه، كذا نصب غرساً على المصدرية، أو على المفعولية (فيأكل منه) أي مما ذكر من المغروس أو المزروع (إنسان) ولو بالتعدي (أو طير أو بهيمة) أي ولو بإختياره (إلا كانت له صدقة) قال الطيبي: الرواية برفع الصدقة على أن كانت تامة - انتهى. قال القاري: وفي نسخة بالنصب على أن الضمير راجع إلى المأكول وأنث لتأنيث الخبر- انتهى. ولفظ الصحيحين: إلا كان له به صدقة. قال القسطلاني: بالرفع اسم كان وفي الحديث فضل الغرس والزرع والحض على عمارة الأرض ويستنبط منه اتخاذ الضيعة والقيام عليها، ويحمل ما ورد من التنفير عن ذلك على ما إذا شغل عن أمر الدين، ويحمل حديث الباب على اتخاذها للكفاف أو نفع المسلمين بها، وتحصيل ثوابها، وفي رواية لمسلم إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة. ومقتضاه إن أجر ذلك يستمر ما دام الغرس أو الزرع مأكولاً منه، ولو مات زارعه أو غارسه ولو انتقل ملكه إلى غيره. وظاهر الحديث إن الأجر يحصل لمتعاطي الزرع أو الغرس، ولو كان ملكه لغيره. لأنه أضاف إلى أم مبشر كما في رواية مسلم ثم سألها عمن غرسه. قال الطيبي: نكر مسلماً وأوقعه في سياق النفي، وزاد من الاستغراقية وعم الحيوان ليدل على سبيل الكناية على أن أي مسلم كان حراً أو عبداً، مطيعاً، أو عاصياً يعمل أي عمل من المباح ينتفع بما عمله أي حيوان كان يرجع نفعه إليه ويثاب عليه وفيه جواز نسبة الزرع إلى الآدمي وما ورد في المنع منه حديث غير قوى أخرجه ابن أبي حاتم من حديث أبي هريرة مرفوعاً، لا يقل أحدكم زرعت، ولكن ليقل حرثت ألم تسمع لقول الله تعالى: {أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون} [الواقعة: 64] ورجاله ثقات إلا أن مسلم بن أبي مسلم الجرمي. قال فيه ابن حبان: ربما أخطأ وروى عبد بن حميد من طريق أبي عبد الرحمن السلمي بمثله من قوله غير مرفوع كذا في الفتح واستدل به على أن الزراعة أفضل المكاسب وقال به كثيرون وقيل: الكسب باليد. وقيل: التجارة. وقد يقال كسب اليد أفضل من حيث الحل والزرع من حيث عموم الانتفاع، وحينئذٍ فينبغي أن يختلف ذلك باختلاف الحال فحيث أحتيج إلى الأقوات أكثر تكون الزراعة أفضل للتوسعة على الناس، وحيث احتيج إلى المتجر لانقطاع الطرق تكون التجارة أفضل، وحيث أحتيج إلى الصنائع تكون أفضل قاله القسطلاني (متفق عليه) أخرجه البخاري في المزارعة وفي الأدب، ومسلم في المزارعة. وأخرجه أيضاً أحمد، والترمذي في الأحكام. وفي الباب أحاديث أخرة عن جماعة من الصحابة ذكرها المنذري، في باب الترغيب في الزرع وغرس الأشجار للثمرة، والهيثمي في أواخر الزكاة، وفي أوائل البيوع.

1917- (15) وفي رواية لمسلم عن جابر، ((وما سرق منه له صدقة)) . 1918- (16) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((غفر لامرأة مومسة مرت بكلب على رأس ركي، يلهث كاد يقتله العطش، فنزعت خفها فأوثقته بخمارها، فنزعت له من الماء فغفر لها بذلك، قيل: إن لنا في البهائم أجراً، قال: في كل ذات كبد رطبة أجر)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1917- قوله: (وفي رواية لمسلم عن جابر وما سرق منه له صدقة) أي يحصل له مثل ثواب تصدق المسروق، والحاصل أنه بأي سبب يؤكل مال المسلم له الثواب، وفيه تسلية له بالصبر على نقصان المال. 1918- قوله: (غفر) بضم أوله مبنياً للمفعول أي غفر الله (لامرأة) لم تسم وفي رواية للبخاري ومسلم إن الذي سقى الكلب رجل، وهذا يقتضي تعدد القصة (مومسة) أي مومسات بني إسرائيل، وهي بميم مضمومة فواو ساكنة، فميم مكسورة فسين مهملة، أي زانية من الومس، وهو الاحتكاك. والمومسة المرأة الفاجرة المجاهرة بالفجور (مرت بكلب) أي على كلب كائن (على رأس ركي) بفتح الراء وكسر الكاف وتشديد التحتية أي بئر. وقيل: بئر لم تطو. وقال الحافظ: الركي البئر مطوية أو غير مطوية، وغير المطوية يقال لها جب وقليب ولا يقال لها بئر حتى تطوى. وقيل: الركي البئر قبل أن تطوي فإذا طويت فهي الطوى- انتهى. (يلهث) بفتح الهاء وبالمثلثة أي يخرج لسانه عطشاً. يقال: لهث بفتح الهاء وكسرها يلهث بفتح الهاء لا غير لهثاً بإسكانها إذا أخرج لسانه من شدة العطش والحر والتعب وكذلك الطائر ولهث الرجل إذا أعيا. ويقال: إذا بحث بيده ورجليه. وقيل: اللهث إرتفاع النفس من الأعياء (كاد يقتله العطش) أي قارب أن يهلكه (فنزعت خفها) أي خلعته من رجلها (فأوثقته) أي شدته (بخمارها) بكسر الخاء المعجمة أي بنصفيها بدلا من الحبل (فنزعت) بهما (له) أي للكلب (من الماء) أي من ماء البئر يعني استقت للكلب بخفها من الركية (فغفر لها بذلك) أي بسبب سقيها للكلب وهذا تأكيد للخبر وفيه إن الله تعالى قد يتجاوز عن الكبيرة بالفعل اليسير من غير توبة تفضلاً منه (قيل إن) أي أأن (لنا في البهائم) أي في سقيها أو الإحسان إليها (أجراً) أتى بالاستفهام المؤكد للتعجب (في كل ذات كبد) بفتح الكاف وكسر الموحدة، ويجوز سكون الكاف وسكون الموحدة يذكر ويؤنث (رطبة) أي حية. والمراد رطوبة الحياة، أو لأن الرطوبة لازمة للحياة فهو كناية. وقيل: هو من باب وصف الشيء بما يؤل إليه أي كبد يرطبها السقي ويصيرها رطبة. والمعنى في كل كبد حري لمن سقاها حتى تصير رطبة

متفق عليه. 1919، 1920- (17، 18) وعن ابن عمر، وأبي هريرة قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عذبت امرأة في هرة أمسكتها حتى ماتت من الجوع، فلم تكن تطعمها ولا ترسلها فتأكل من خشاش الأرض)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ (أجر) بالرفع مبتدأ قدم خبره. والتقدير أجر حاصل أو كائن أو ثابت في أرواء كل ذات كبد حية من جميع الحيوانات. وقيل: يحتمل أن تكون في سببية كقولك في النفس الدية. قال الداودي: المعنى في كل كبد حي أجر وهو عام في جميع الحيوانات. وقال أبوعبد الملك: قوله: " في كل كبد" مخصوص ببعض البهائم مما لا ضرر فيه، لأن المأمور بقتله كالخنزير لا يجوز أن يقوى ليزداد ضرره. وكذا قال النووي: إن عمومه مخصوص بالحيوان المحترم وهو ما لم يؤمر بقتله، فيحصل الثواب بسقيه ويلتحق به إطعامه وغير ذلك من وجوه الإحسان إليه. وقال ابن التين: لا يمتنع إجراءه على عمومه يعني فيسقي ثم يقتل، لأنا أمرنا بأن نحسن القتلة ونهيا عن المثلة وفي الحديث الحث على الإحسان إلى الناس لأنه إذا حصلت المغفرة بسبب سقي الكلب فسقى المسلم، أعظم أجراً وأستدل به على جواز صدقة التطوع للمشركين، وينبغي أن يكون محله ما إذا لم يوجد هناك مسلم، فالمسلم أحق وكذا إذا دار الأمر بين البهيمة والآدمي المحترم واستويا في الحاجة، فالآدمي أحق كذا في الفتح (متفق عليه) واللفظ للبخاري في آخر بدأ الخلق قبل كتاب الأنبياء إلا أن قوله قيل إن لنا في البهائم الخ. ليس في هذه الرواية بل هو في قصة الرجل الذي سقى الكلب. والحديث أخرجه البخاري في ذكر بني إسرائيل بلفظ: بينهما كلب يطيف بركية كاد يقتله العطش إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها فسقته فغفر لها به، وأخرجه مسلم في كتاب قتل الحيات. 1919- 1920- قوله: (عذبت) بضم العين وكسر المعجمة مبنياً للمفعول (إمرأة) قال الحافظ: لم أقف على اسمها، ووقع في رواية أنها حميرية، وفي أخرى أنها من بني إسرائيل، ولا تضاد بينهما لأن طائفة من حمير كانوا قد دخلوا في اليهودية فيكون نسبتها إلى بني إسرائيل. لأنهم أهل دينها وإلى حمير، لأنهم قبيلتها يعني نسبت إلى دينها تارة وإلى قبيلتها أخرى (في هرة) أي في شأنها وبسببها ولأجلها ففي تعليلية سببية، والهرة أنثى السنور والهر الذكر (أمسكتها) أي ربطتها المرأة وحبستها ومنعتها من الصيد (حتى ماتت) أي الهرة (من الجوع) فيه دليل على تحريم قبل الهرة وتحريم حبسها بغير طعام وشراب (فلم تكن تطعمها) من الإطعام (فتأكل) بالنصب على جواب النفي (من خشاش الأرض) بفتح الخاء المعجمة ويجوز ضمها وكسرها وبمعجمتين بينهما ألف الأولى

متفق عليه. 1921- (19) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مر رجل بغصن شجرة ـــــــــــــــــــــــــــــ خفيفة. والمراد حشرات الأرض وهو أمها من فارة ونحوها قال الطيبي: وذكر الأرض هنا كذكرها في قوله تعالى: {وما من دابة في الأرض} [الأنعام-38] للاحاطة والشمول ثم ظاهر هذا الحديث إن المرأة عذبت بسبب قتل هذه الهرة بالحبس وأختلف في أنها مؤمنة كانت أو كافرة. قال القرطبي وعياض: يحتمل أن تكون المرأة كافرة فعذبت بكفرها وزيدت عذاباً بسبب ظلمها على الهرة، واستحقت ذلك لكونها ليست مؤمنة تغفر صغائرها باجتناب الكبائر، ويحتمل أن تكون مسلمة وعذبت بسبب الهرة. وقال النووي: الصواب إنها كانت مسلمة وإنها دخلت النار بسببها كما هو ظاهر الحديث، وهذه المعصية ليست صغيرة، بل صارت بإصرارها كبيرة. وليس في الحديث أن تخلد في النار- انتهى. وهذا يدل على أنهم لم يطلعوا على نقل في ذلك. قال الحافظ: ويؤيد كونها كافرة ما أخرجه البيهقي في البعث والنشور وأبونعيم في تاريخ أصبهان من حديث عائشة. وفيه قصة لها مع أبي هريرة وهو بتمامة عند أحمد- انتهى. وقال الديرمي: كانت هذه المرأة كافرة كما رواه البزار في مسنده، وأبونعيم في تاريخ أصبهان، والبيهقي في البعث والنشور عن عائشة، فاستحقت التعذيب بكفرها وظلمها. وقال القاري: ليس في الحديث دلالة على إصرار هذه المرأة، ويجوز التعذيب على الصغيرة كما في العقائد سواء اجتنب مرتكبها الكبيرة أم لا، لدخولها تحت قوله تعالى: {ويفغر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء- 48] خلافاً لبعض المعتزلة فيما إذا اجتنب الكبائر لظاهر قوله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} [النساء-31] وعنه أجوبة عند أهل السنة ليس هذا محلها- انتهى. (متفق عليه) رواه البخاري عن ابن عمر بمعناه في باب فضل السقي من كتاب الشرب، وفي أواخر بدء الخلق، وفي ذكر بني إسرائيل. ورواه من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة في بدء الخلق نحوه، ولم يذكر لفظه بل أحال على حديث ابن عمر قبله بمعناه. وأما مسلم فرواه في كتاب قتل الحياة وغيرها، وفي الأدب عنهما من طرق بألفاظ مختلفة متقاربة، ليس اللفظ المذكور هنا واحداً منها كما لا يخفى على من نظر في طرق هذا الحديث، وألفاظها، فالمذكور هنا هو معنى ما رواه الشيخان، وقد أخرجه أحمد من حديث أبي هريرة من ثمانية أوجه، منها في (ج2 ص261 و269 و286) ونسبه الشيخ أحمد شاكر في شرح المسند لابن ماجه أيضاً، وقال: حديث عبد الله بن عمر في هذا ليس في المسند فيما رأيت مع أنه في الصحيحين. 1921- قوله: (مر رجل بغصن شجرة) وفي رواية البخاري، غصن شوك والغصن بضم المعجمة مفرد

على ظهر طريق، فقال: لأنحين هذا عن طريق المسلمين لا يؤذيهم، فأدخلهم الجنة)) . متفق عليه. 1922- (20) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس)) . رواه مسلم. 1923- (21) وعن أبي برزة، قال: يا نبي الله! علمن شيئاً أنتفع به. قال: ((أعزل الأذى عن طريق المسلمين)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأغصان، والغصون وهي أطراف الشجرة ما دامت فيها ثابتة قاله ابن الأثير: (على ظهر طريق) أي ظاهره لا في جنبيه (لأنحين) بتشديد الحاء أي لأبعدن (لا يؤذيهم) بالرفع على أنه استئناف فيه معنى التعليل أي لكيلا يؤذيهم (فأدخل) ماض مجهول (الجنة) بالنصب على أنه مفعول ثان أي فنحاه فأدخل الجنة بهذا الخير. وقال الطيبي: يمكن إن إدخاله الجنة بمجرد النية الصالحة، وإن لم ينحه وأن يكون قذ نحاه- انتهى. وفي الحديث فضل إماطة ما يؤذي الناس عن طريقهم. وفيه إن قليل الخير يحصل به كثير الأجر. وفيه التنبيه على فضيلة كل ما نفع المسلمين وأزال عنهم ضرراً (متفق عليه) واللفظ لمسلم وقد أخرجه في الأدب وأخرجه في الأدب وأخرجه البخاري في المظالم في باب من أخذ الغصن وما يؤذي الناس في الطريق فرمى به بلفظ بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخره فشكر الله له فغفر له. قال ابن المنير: وإنما ترجم به لئلا يتخيل إن الرمي بالغصن وغيره ما يؤذي تصرف في ملك الغير بغير إذنه فيمتنع، فأراد أن يبين إن ذلك لا يمتنع لما فيه من الندب إليه. ثم ذكر حديث أبي برزة الآتي، والحديث أخرجه أيضاً أحمد في ستة مواضع، والترمذي في البر والصلة، وأبوداود وابن ماجه في الأدب، ورواه مالك بمعناه ضمن حديث مطول. 1922- قوله: (لقد رأيت رجلاً يتقلب) أي يتردد ويتنعم في الجنة (في شجرة) أي لأجلها وبسببها (قطعها من ظهر الطريق) قال النووي: أي يتنعم في الجنة بملاذها بسبب قطعة الشجرة من الطريق وإبعادها عنه (كانت تؤذي الناس) أي كانوا يتأذون بها. قال القاري: وفيه مبالغة على قتل المؤذي وإزالته بأي وجه يكون (رواه مسلم) في الأدب. 1923- قوله: (علمني شيئاً) وفي رواية ابن ماجه دلني على عمل (انتفع به) قال القاري: روى مجزوماً جواباً للأمر، ومرفوعاً صفة لشيء أي انتفع بعمله (إعزل) بكسر الهمزة والزاي المعجمة بينهما عين مهملة ساكنة أي أبعد ونح (الأذى عن طريق المسلمين) أي إذا رأيت في ممرهم ما يؤذيهم كشوك وحجر فنحه عنهم، فإن

{الفصل الثاني}

رواه مسلم. وسنذكر حديث عدي بن حاتم: اتقوا النار في باب علامات النبوة إن شاء الله تعالى. {الفصل الثاني} 1924- (22) عن عبد الله بن السلام، قال: لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، جئت، فلما تبينت وجهه، ـــــــــــــــــــــــــــــ فذلك من شعب الإيمان. قيل أبوبرزة من كبار الصحابة فنبه بأدنى شعب الإيمان على أعلاها أي لا تترك باباً من الخير. وروى مسلم هذا الحديث من وجه آخر. قال أبوبرزة: قلت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله! إني لا أدري لعسى أن تمضي وأبقى بعدك فزودني شيئاً ينفعني الله به. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إفعل كذا إفعل كذا أبوبكر بن شعيب (راوي الحديث) نسيه وأمر الأذى عن الطريق (رواه مسلم) في الأدب، كذا ابن ماجه ونسبه في التنقيح إلى البخاري في الأدب المفرد وابن سعد والطبراني في الكبير. (وسنذكر حديث عدي بن حاتم) هو عدي بن حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج الطائي أبوطريف ولد الجواد المشهور صحابي شهير، أسلم في سنة تسع. وقيل: سنة عشر. وكان نصرانياً قبل ذلك. وثبت على إسلامه في الردة وأحضر صدقة قومه إلى أبي بكر، وحضر فتوح العراق وشهد مع علي الجمل وفقعت عينه يومئذ ثم شهد أيضاً مع علي صفين والنهروان، ثم سكن الكوفة ومات بها سنة (68) وهو ابن مائة وعشرين سنة. وقيل: مات وهو ابن مائة وثمانين سنة، وكان سيداً شريفاً في قومه خطيباً، حاضر الجواب فاضلاً كريماً. روى عنه أنه قال ما أقيمت الصلاة منذ أسلمت إلا وأنا على وضوء، وما دخل وقت صلاة قط إلا وأنا أشتاق إليها. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن عمر وروى عنه جماعة من البصريين والكوفيين (إتقو النار) تمامه ولو بشق تمرة بكسر المعجمة أي بنصفها أو جانبها. والمعنى إدفعوها عن أنفسكم بالخيرات. ولو كان الإتقاء بالتصدق ببعض تمرة يعني لا تستقلوا شيئاً من الصدقة فإن لم تجدوا فبكلمة أي يطيب بها قلب المسلم، أو بكلمة من كلمات الأذكار فإنها بمنزلة صدقة الفقير (في باب علامات النبوة) أي ضمن حديث طويل لعدي مذكور في الباب، وكان صاحب المصابيح أتى ببعض الحديث أو بحديث مستقل هنا مناسبة لهذا الباب، فعده المؤلف من باب التكرار فأسقطه وأكتفى بذكره في ذلك الباب والله أعلم بالصواب. 1924- قوله: (لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة جئت) في الناس لأنظر إليه (فلما تبينت وجهه) أي عرفته. قال في الصراح: استبنته أنا عرفته وتبينته أنا كذلك - انتهى. وقيل أي تأملته وتفرست بأمارات لائحة في سيماه وهذا

عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول ما قال: ((يا أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام)) . رواه الترمذي وابن ماجه، والدارمي. 1925- (23) وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أعبدوا الرحمن، وأطعموا الطعام، وأفشوا السلام، تدخلوا الجنة بسلام)) . رواه الترمذي، ـــــــــــــــــــــــــــــ لفظ ابن ماجه في الأطعمة، وللدارمي فلما رأيت وجهه، ولفظ الترمذي في صلاة الليل، فلما استبنت وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب) بالإضافة وينون أي بوجه ذي كذب لما لاح عليه من سواطع أنوار النبوة (فكان أول ما قال) بالرفع وينصب قاله القاري. ولفظ الترمذي وابن ماجه "فكان أول شيء تكلم به أن قال" قال السندي: أول شيء بالنصب على أنه خبر كان واسمها أن قال الخ وللدارمي، فكان أول ما سمعته يقول (يا أيها الناس) خطاب العام بكلمات جامعة للمعاملة مع الخلق والحق (أفشوا) من الإفشاء (السلام) أي أكثروه وبينوه فيما بينكم وقيل أي أظهروه وعموا به الناس ولا تخصوا المعارف (وأطعموا) من الإطعام (الطعام) أراد به قدراً زائداً على الواجب في الزكاة سواء فيه الصدقة والهدية والضيافة. (وصلوا) بكسر المهملة من وصل يصل وصلاً وصلة (الأرحام) جمع رحم بفتح أوله وكسر ثانية، وبكسر أوله وسكون ثانية. وهي القرابة يقال: وصل رحمه أي أحسنه إلى الأقربين إليه من ذوي النسب، وعطف عليهم ورفق بهم (وصلوا) بتشديد اللام (بالليل والناس نيام) بكسر النون جمع نائم أو مصدر بمعنى اسم فاعل أي لأنه وقت الغفلة فلأرباب الحضور مزيد المثوبة أو لبعده عن الرياء والسمعة. (تدخلوا الجنة بسلام) أي سالمين من المكروه أو التعب والمشقة أو يسلم عليكم الملائكة (رواه الترمذي) في الزهد وصححه (وابن ماجه) في صلاة الليل وفي الأطعمة واللفظ له (والدارمي) في صلاة الليل، وفي الاستئذان. ونسبه المنذري في الترغيب للترمذي، والحاكم، ونقله عن الترمذي أنه قال: حديث حسن صحيح، وعن الحاكم أنه قال: صحيح على شرط الشيخين. وفي الباب عن أبي هريرة عند الحاكم من وجهين. وقال في كل منهما حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي في الأول بأن عبيد الله ابن أبي حميد قال أحمد: ترك حديثه. وقال المنذري: عبيد الله بن أبي حميد متروك ووافقه الذهبي في الثاني. 1925- قوله: (أعبدوا الرحمن) أي أفردوه بالعبادة (تدخلوا الجنة بسلام) أي فإنكم إذا فعلتم ذلك ومتم عليه دخلتم الجنة آمنين، لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون (رواه الترمذي) في الأطعمة وصححه

وابن ماجه. 1926- (24) وعن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الصدقة لتطفئ غضب الرب، وتدفع ميتة السوء)) . رواه الترمذي. 1927- (25) وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل معروف صدقة، ـــــــــــــــــــــــــــــ (وابن ماجه) في الأدب، وأخرجه ابن حبان في صحيحه بلفظ: أعبدوا الرحمن وأفشو السلام، وأطعموا الطعام تدخلوا الجنان. 1926- قوله: (إن الصدقة لتطفئ غضب الرب) أي سخطه على من عصاه (وتدفع ميتة السوء) بكسر الميم وسكون الياء، أصلها موته مصدر للنوع، كالجلسة أبدلت واوه ياء لسكونها وكسرة ما قبلها وهي الحالة التي يكون عليها الإنسان في الموت. والسوء بفتح السين ويضم. والمراد بميتة السوء الحالة السيئة التي يكون عليها عند الموت، مما يؤدي إلى كفران النعمة من الآلام والأوجاع المفضية إلى الفزع والجزع والغفلة عن ذكر الله. ومنها موت الفجاءة وسائر ما يشغله عن الله مما يؤدي إلى سوء الخاتمة. وقيل: إن المراد إنها تقية من الفتانات عند الموت، أو أنه يوفق للتوبة فلا يموت، وهو عاص مصر على ذنب. أو أنه يموت ميتة سالمة من نحو هدم وغرق وحرق ولا مانع من إرادة الجميع. وقال العراقي: الظاهر إن المراد بها ما استعاذ منه النبي - صلى الله عليه وسلم - من الهدم والتردي والغرق والحرق، وأن يتخبطه الشيطان عند الموت، وأن يقتل في سبيل الله مدبراً. وقال بعضهم: هي موت الفجاءة. وقيل: ميتة الشهرة كالمصلوب- انتهى. (رواه الترمذي) في الزكاة. وقال: هذا حديث حسن غريب، وأخرجه ابن حبان في صحيحه، وروى ابن المبارك في كتاب البر شطره الأخير، ولفظه إن الله ليدرأ بالصدقة سبعين باباً من ميتة السوء كذا في الترغيب للمنذري. 1927- قوله: (كل معروف صدقة) قد سبق بيان معناه. وقال التوربشتي: المعروف اسم لكل فعل يعرف حسنه بالشرع، أو يعرف بالعقل من غير أن ينازع فيه الشرع. وكذلك القول المعروف. وقد قيل: للأقتصاد في الجود معروف، لأنه مستحسن بالشرع والعقل. والصدقة ما يخرجه الإنسان من ماله على وجه القربة، وذلك لأن عليه أن يتحرى الصدق فيها. وقد استعمل في الواجبات وأكثر ما يستعمل في التطوع به، ويستعمل أيضاً في الحقوق التي تجافي عنها الإنسان. قال تعالى: {والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له} [المائدة-45] أي تجافى عن القصاص الذي هو حقه وقد أجرى في التنزيل ما يسامح به المعسر مجرى الصدقة قال تعالى: {وأن تصدقوا خير لكم} [البقرة- 27] فقوله "كل معروف صدقة" أي محل فعل المعروف محل

وإن من المعروف أن تلقي أخاك بوجه طلق، وأن تفرغ من دلوك في إناء أخيك)) . رواه أحمد والترمذي. 1928- (26) وعن أبي ذر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تبسمك في وجه أخيك صدقة وأمرك بالمعروف صدقة، ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة ونصرك الرجل الردي البصر ـــــــــــــــــــــــــــــ التصدق بالمال ويقع التبرع بذلك موقعه في القربة، فالمعروف والصدقة. وإن اختلفا في اللفظ والصيغة فإنهما يتقاربان في المعنى، ويتفقان في الأمر المطلوب منهما وقد عرفنا الاختلاف بينهما من الكتاب. قال تعالى: {إلا من أمر بصدقة أو معروف} [النساء:114] وعرفنا الاتفاق بينهما في المعنى من السنة- انتهى. (وإن من المعروف) أي من جملة أفراده (إن تلقى أخاك) أي المسلم (بوجه) بالتنوين (طلق) تقدم ضبطه، ومعناه يعني تلقاه منبسط الوجه متهللة (وإن تفرغ) من الإفراغ أي تصب (من دلوك) أي عند استقاءك (في إناء أخيك) لئلا يحتاج إلى الاستقاء، أو لاحتياجه إلى الدلو (رواه أحمد) (ج3 ص244) (والترمذي) في البر والصلة من طريق المنكدر بن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جابر. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. قال القاري: وفي كثير من نسخ الترمذي حسن، فقط. وليس في سنده غير المنكدر بن محمد المنكدر. قال الذهبي: فيه لين وقد وثقه أحمد كذا ذكره ميرك- انتهى. قلت: صدر الحديث متفق عليه، كما سبق، والمنكدر بن محمد بن المنكدر لين الحديث كما قال الحافظ في التقريب: وقد تفرد بتوثيقه أحمد، ولينه غيره وتكلموا فيه من جهة حفظه. 1928-قوله: (تبسمك) هو أن تظهر الأسنان بدون صوت، فإن كان بصوت لطيف يسمعه من يقربه فقط. كان ضحكاً. فإن كان الصوت قوياً يسمعه البعيد سمي قهقهة (في وجه أخيك) في الدين (صدقة) كذا في جميع النسخ الحاضرة، وكذا نقله المنذري في الترغيب، وعليه بني القاري شرحه كما سيأتي. ووقع في نسخ الترمذي لك صدقة، وهكذا نقله السيوطي في الجامع الصغير، يعني إظهارك البشاشة. والبشر إذا لقيته تؤجر عليه كما تؤجر على الصدقة (وأمرك بالمعروف) أي بما عرفه الشرع والعقل بالحسن (ونهيك عن المنكر) أي ما أنكره وقبحه (صدقة) كذلك (وإرشادك الرجل) أي الإنسان (في أرض الضلال) أضيفت إلى الضلال كأنها خلقت له، وهي التي لا علامة فيها للطريق فيضل فيها الرجل. (لك صدقة) بالمعنى المقرر قال القاري: زيد لك في هذه القرينة والتي بعدها لمزيد الاختصاص (ونصرك) أي أعانتك (الرجل الردي البصر) بالهمز ويدغم أي الذي

لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة)) . رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. 1929- (27) وعن سعد بن عبادة، قال: يا رسول الله! إن أم سعد ماتت، فأي الصدقة أفضل؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يبصر أصلاً أو يبصر قليلاً. قال القاري: وضع النصر موضع القياد مبالغة في الإعانة كأنه ينصره على كل شيء يؤذيه- انتهى. قلت: وقع في نسخ الترمذي بصرك للرجل بالباء الموحدة، وكذا نقله العزيزي، والحفني في شرح الجامع الصغير، والجزري في جامع الأصول (ج10 ص342) وهكذا وقع في صحيح ابن حبان كما في الترغيب، والبصر محركة حس العين والعلم والرؤية. والمراد تبصيرك الرجل الردي البصر لك صدقة. وقيل: المعنى إذا بصرت رجلاً ردي البصر فأعنته كان ذلك لك صدقة (وإماطتك) أي إزالتك وتنحيتك (الحجر والشوك والعظم) أي ونحوها (عن الطريق) أي طريق المسلمين المسلوك أو المتوقع السلوك (وإفراغك) أي صبك (من دلوك في دلو أخيك) في الدين (لك صدقة) فكيف إذا لم يكن لأخيك دلو (رواه الترمذي) في البر والصلة (وقال هذا حديث غريب) في نسخ الترمذي الحاضرة عندنا حديث حسن غريب، ويؤيده قول المنذري في الترغيب "رواه الترمذي وحسنه" والحديث أخرجه أيضاً البخاري في الأدب المفرد، وابن حبان في صحيحه. 1929- قوله: (إن أم سعد) أراد به نفسه، واسم أمه عمرة بنت مسعود بن قيس بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار صحابية، وكانت من المبايعات توفيت في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - في سنة خمس من الهجرة. قال ابن سعد: ماتت والنبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة دومة الجندل في شهر ربيع الأول، وابنها سعد بن عبادة معه، قال: فلما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة أتى قبرها فصلى عليها. قال الحافظ: وثبت أنها لما ماتت سأل والدها النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصدقة عنها ولها أربع أخوات اسم كل منهن أيضاً عمرة أسلمن وبايعن. قال الحافظ: في الإصابة عمرة بنت مسعود بن قيس بن عمرو بن زيد مناة والدة سعد بن عبادة ماتت في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة خمس. وعمرة بنت مسعود الصغرى خالة سعد بن عبادة، كانت زوج أوس بن زيد بن أصرم ثم تزوجها سهل بن ثعلبة. وعمرة بنت مسعود بن قيس الأنصارية أخت اللتين قبلها. قال ابن سعد كن خمس أخوات اسم كل منهن عمرة أسلمن وبايعن، وهذه هي الثالثة أمها عميرة بنت عمرو بن حزام تزوجها ثابت بن المنذر والد حسان وعمرة بنت مسعود الرابعة شقيقة التي قبلها تزوجها زيد بن مالك وعمرة بنت مسعود الخامسة شقيقة اللتين قبلها وهي والدة قيس بن عمرو من بني النجار (فأي الصدقة أفضل) أي لها بوصول ثوابها إليها، وفي رواية لأبي داود

((قال الماء فحفر بئراً وقال: هذه لأم سعد)) . رواه أبوداود، والنسائي. 1930- (28) وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أيما مسلم كسا مسلماً ثوباً على عرى، كساه الله من خضر الجنة. وأيما مسلم أطعم مسلماً على جوع، ـــــــــــــــــــــــــــــ أي الصدقة أعجب إليك (قال الماء) وفي رواية أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان. قال: سقى الماء أي في ذلك الوقت لقلته بالمدينة يومئذ، أو على الدوام، لأنه أحوج الأشياء عادة قال القاري: إنما كان الماء أفضل، لأنه أعم نفعاً في الأمور الدينية والدنيوية خصوصاً في تلك البلاد الحارة ولذلك من الله تعالى: {وأنزل من السماء ماءً طهوراً لنحيي به بلدةً ميتةً ونسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسي كثيراً} [الفرقان: 48، 49] كذا ذكره الطيبي. وفي الأزهار الأفضلية من الأمور النسبية، وكان هناك أفضل لشدة الحر والحاجة وقلة الماء (فحفر) أي سعد وفي بعض النسخ. قال: أي الراوي عن سعد فحفر، وهكذا وقع في أبي داود (بئر) بالهمز ويبذل (وقال) أي سعد (هذه لأم سعد) أي هذا البئر صدقة لها أو ثواب هذه البئر لها، وفيه فضيلة سقى الماء، وفضيلة الصدقة عن الميت، وإن ثواب الصدقة المالية يصل إلى الميت وهو أمر مجمع عليه، لاختلاف فيه عند أهل السنة (رواه أبوداود) في أواخر الزكاة (والنسائي) في الوصايا. واللفظ لأبي داود، وأخرجه أيضاً أحمد (ج5 ص285وج7 ص6) وابن ماجه في الأدب، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما. والحاكم (ج1 ص414) والبيهقي (ج4 ص185) وقد سكت عنه أبوداود. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. وتعقبه الذهبي في تلخيصه، والمنذري في ترغيبه. قال الذهبي بعد ذكر كلام الحاكم قلت: لا، فإنه غير متصل. وقال المنذري: بل هو منقطع الإسناد عند الكل فإنهم كلهم رووه عن سعيد بن المسيب عن سعد ولم يدركه سعيد، فإن سعداً توفي بالشام سنة خمس عشرة. وقيل سنة إحدى عشرة ومولد سعيد بن المسيب سنة خمس عشرة، ورواه أبوداود والنسائي والحاكم أيضاً. وأحمد عن الحسن البصري عن سعد ولم يدركه أيضاً، فإن مولد الحسن سنة إحدى وعشرين، ورواه أبوداود أيضاً وغيره عن أبي إسحاق السبيعي عن رجل عن سعد- انتهى كلام المنذري. وقد ذكر نحو ذلك في مختصر السنن. 1930- قوله: (أيما مسلم) "ما" زائدة وأي مرفوع على الابتداء (كسا) أي ألبس (على عرى) بضم فسكون أي على حالة عرى أو لأجل عرى أو لدفع عرى، وهو يشمل عرى العورة وسائر الأعضاء (كساه الله من خضر الجنة (بضم الخاء وسكون الضاد المعجمتين، جمع أخضر أي من الثياب الخضر فيها من باب إقامة الصفة مقام الموصوف، وخصها لأنها أحسن ألواناً (أطعم مسلماً) متصفاً بكونه (على جوع) يعني مسلماً جائعاً

أطعمه الله من ثمار الجنة، وأيما مسلم سقى على ظمأ، سقاه الله من الرحيق المختوم)) . رواه أبوداود والترمذي. 1931- (29) وعن فاطمة بنت قيس، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن في المال لحقاً سوى الزكاة، ـــــــــــــــــــــــــــــ (أطعمه الله) يوم القيامة (من ثمار الجنة) فيه إشارة إلى أن ثمارها أفضل أطعمتها (على ظمأ) بفتحتين مقصوراً وقد يمد أي عطش (من الرحيق المختوم) أي يسقيه من خمر الجنة الذي ختم عليه بمسك جزاء وفاقاً، إذ الجزاء من جنس العمل. قال القاري الرحيق صفوة لخمر، والشراب الخالص الذي لا غش فيه، والمختوم هو المصون الذي لم ينبذل لأجل ختامه ولم يصل إليه غير أصحابه، وهو عبارة عن نفاسته- انتهى. قال المناوي: والمراد أنه يخص بنوع من ذلك أعلى وإلا فكل من دخل الجنة كساه الله من ثيابها، وأطعمه وسقاه من ثمارها وخمرها. وفي الحديث الحث على أنواع البر وإعطاءها من هو مفتقر إليها وكون الجزاء عليها من جنس العمل (رواه أبوداود) في أواخر الزكاة (والترمذي) في أواخر الزهد وأخرجه أيضاً البيهقي من طريق أبي داود (ج4 ص185) قال الترمذي: هذا حديث غريب، وقد روى هذا عن عطية عن أبي سعيد الخدري موقوفاً، وهو أصح عندنا وأشبه- انتهى. قلت: في سند المرفوع عند الترمذي أبوالجارود الأعمى الكوفي. ورواه عن عطية العوفي عن أبي سعيد وأبوالجارود. قال الحافظ: فيه رافضي كذبه يحيى بن معين وعطية العوفي صدوق، لكنه يخطيء كثيراً شيعي مدلس، والحديث رواه أبوداود أيضاً بسند آخر أي من طريق أبي خالد الدالاني عن نبيح عن أبي سعيد. وقد سكت عنه هو، وقال المنذري: في مختصر السنن في إسناده أبوخالد يزيد بن عبد الرحمن المعروف. بالدالاني، وقد أثنى عليه غير واحد وتكلم فيه غير واحد، وقال في الترغيب حديثه حسن- انتهى. 1931-قوله: (وعن فاطمة بنت قيس) هي فاطمة ابنة قيس بن خالد القرشية الفهرية أخت الضحاك بن قيس الأمير يقال: كانت أكبر منه بعشر سنين صحابية مشهورة، وكانت من المهاجرات الأول، وكانت ذات جمال وعقل وكمال، وفي بيتها اجتمع أصحاب الشورى عند قتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وخطبوا خطبتهم المأثورة، وكانت عند أبي عمر بن حفص المخزومي، وطلقها فتزوجت بعده أسامة بن زيد. وهي التي روت قصة الجساسة بطولها فانفردت بها مطولة رواها عنها الشعبي، لما قدمت الكوفة على أخيها، وهو أميرها وفي طلاقها ونكاحها بعد سنن كثيرة مستعملة، روى عنها جماعة منهم الشعبي والنخعي وأبوسلمة (إن في المال لحقاً سوى الزكاة) عند الترمذي عن فاطمة قالت: سألت أو سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الزكاة فقال: إن في المال الخ

ثم تلا الآية {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب} ـــــــــــــــــــــــــــــ وفي رواية الدارقطني قلت: يا رسول الله في المال حق سوى الزكاة قال نعم ثم قرأ {وآتى المال على حبه} [البقرة:177] وفي رواية البيهقي عن فاطمة بنت قيس أنها سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أو قالت: سئل عن هذه الآية: {وفي أموالهم حق معلوم} [المعارج:24] قال إن في هذا المال حقاً سوى الزكاة وتلا هذه الآية {ليس البر أن تولوا وجوهكم} [البقرة:177] قال المناوي: قوله إن في المال لحقاً سوى الزكاة كفكاك أسير وإطعام مضطر وإنقاذ محترم فهذه حقوق واجبة غيرها، لكن وجوبها عارض فلا تدافع بينه وبين خبر "ليس" في المال حق سوى الزكاة- انتهى. وقال القاري: وذلك مثل أن لا يحرم السائل والمستقرض وأن لا يمنع متاع بيته من المستعير كالقدر والقصة وغيرهما ولا يمنع أحد الماء والملح والنار وكذا ذكره الطيبي وغيره- انتهى. قلت: حديث ليس في المال حق سوى الزكاة لا يعرف له إسناد يثبت. قال البيهقي: والذي يرويه أصحابنا في التعاليق ليس في المال حق سوى الزكاة، فلست أحفظ فيه إسناداً- انتهى. نعم روى في معناه عن أبي هريرة مرفوعاً إذا أديت الزكاة فقد قضيت ما عليك أخرجه الترمذي وحسنه، وابن ماجه والحاكم، وصححه والبيهقي: ورواه أبوداود في المراسيل، عن الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً. وروى الحاكم وصححه، والبيهقي من طريقة عن جابر مرفوعاً إذا أديت زكاة مالك فقد أذهبت عنك شره. ورجح أبوزرعة والبيهقي، وغيرهما وقفه كما عند البزار. وأما ما وقع في سنن ابن ماجه في باب ما أدى زكاته فليس بكنز، من حديث فاطمة بنت قيس إنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ليس في المال حق سوى الزكاة. فالظاهر إنه خطأ من الناسخ، أو من الراوي كما سيأتي وقال أبوالطيب السندي في شرح الترمذي: قوله فقد قضيت ما عليك أي من حقوق المال. وهذا يقتضي أنه ليس عليه واجب مالي غير الزكاة، وباقي الصدقات كلها تطوع. وهو يشكل بصدقة الفطر والنفقات الواجبة إلا أن يقال الكلام في حقوق المال، وليس شيء من هذه الأشياء من حقوق المال، بمعنى أنه يوجبه المال، بل يوجبه أسباب أخر كالفطر والقرابة والزوجية وغير ذلك. فالحقوق التي يوجبها المال فقط، تقتضي بالزكاة- انتهى. وقيل المراد بقوله فقد قضيت ما عليك أي قضيت أعظم ما عليك من الحق. وقيل: المراد بقوله ليس "في المال حق سوى الزكاة أي ليس في المال حق مثل الزكاة سواها (ثم تلا) أي قرأ استشهاداً (ليس البر) بالرفع والنصب {أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب} [الآية] أي {ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبّين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة} [البقرة:177] قال الطيبي وجه الاستشهاد أنه تعالى ذكر إيتاء المال في هذه الوجوه، ثم قفاه بإيتاء الزكاة فدل ذلك على أن في المال حقاً سوى الزكاة. قيل: الحق حقان: حق يوجبه الله تعالى على عباده. وحق

رواه الترمذي، وابن ماجه، والدارمي. ـــــــــــــــــــــــــــــ يلتزمه العبد على نفسه الزكية الموقاة من الشح، الذي جبلت عليه. وعليه إشارة بقوله: على حبه أي حب الله أو حب رسوله الإيتاء - انتهى. وقال السندي في حاشية ابن ماجه: وحاصل الاستدلال إن الآية قد جمع فيها بين إيتاء المال على حبه وبين إيتاء الزكاة بالعطف المقتضى للمغايرة. وهذا دليل على أن في المال حقاً سوى الزكاة لتصح المغايرة (رواه الترمذي) الخ وأخرجه أيضاً البيهقي كلهم من طريق شريك عن أبي حمزة عن الشعبي عن فاطمة. قال الترمذي: هذا حديث إسناده ليس بذلك. وأبوحمزة ميمون الأعور يضعف، وروى بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي هذا الحديث قوله، وهذا أصح - انتهى. وقال البيهقي: هذا حديث يعرف بأبي حمزة وميمون الأعور، وقد جرحه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، فمن بعدهما من حفاظ الحديث- انتهى. ونسب الشوكاني هذا الحديث في فتح القدير (ج1 ص151) لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عدي والدارقطني وابن مردويه أيضاً، وفي سنده عند الدارقطني نصر بن مزاحم وأبوبكر الهذلي وكلاهما متروك الحديث. تنبيه عزا المصنف حديث فاطمة باللفظ الذي ذكره إلى ابن ماجه أيضاً، وكذا صنع المزي في الأطراف كما قال المناوي في الكشف، ونسبه الشوكاني أيضاً في فتح القدير (ج1 ص151) لابن ماجه وهذا مبني على ما وقع في أكثر نسخ ابن ماجه أو في كثير منها بلفظ: في المال حق سوى الزكاة. وقد وقع في بعض نسخة في الباب المذكور مكانه بلفظ: ليس في المال حق سوى الزكاة. قال الولي العراقي في طرح التثريب (ج1 ص11) في شرح قوله "ومن حقها حلبها يوم وردها" في هذا دليل لمن يرى في المال حقوقاً غير الزكاة وهو مذهب أبي ذر غير واحد من التابعين. وفي جامع الترمذي عن فاطمة بنت قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في المال حقاً سوى الزكاة) وهو عند ابن ماجه بلفظ: في المال حق سوى الزكاة، وفي بعض نسخه ليس في المال حق سوى الزكاة. واقتصر والدي يعني الزين العراقي رحمه الله في شرح الترمذي على نقل هذا اللفظ الثاني. وقال: قال البيهقي في السنن الكبرى (ج4 ص84) إن هذا الحديث يرويه أصحابنا في التعاليق ولست أحفظ فيه إسناداً، ثم اعترض عليه والدي رواية ابن ماجه له، وقد عوفت ما في ذلك - انتهى. قلت: وكذا أعترض عليه الحافظ في التلخيص (ص173) هذه الرواية وهذا كله كما ترى يدل على اختلاف نسخ ابن ماجه في ذلك، ويدل على ذلك أيضاً إن الجزري ذكر في جامع الأصول (ج7 ص298) اللفظ الأول. واقتصر في تخريجه على ذكر الترمذي، ولم يذكر ابن ماجه، وبين اللفظين تخالف وتباين ظاهر. والصواب عندي ما وقع في أكثر نسخ ابن ماجه بلفظ: في المال حق سوى الزكاة لأن هذا موافق لرواية الترمذي والدارمي والدارقطني وابن جرير وغيرهم. وأما ما وقع في بعض نسخه بلفظ، ليس في المال حق سوى الزكاة فهو خطأ من الناسخ، وجنح من لم يقف على اختلاف النسخ في

1932- (30) وعن بهيسة، عن أبيها، قالت: قال: يا رسول الله! ما الشيء الذي يحل منعه؟ قال: ((الماء، ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك وقد رأى في نسخته اللفظ الثاني إلى أن رواية ابن ماجه خطأ من الراوي ووهم منه، وأن المحفوظ هي رواية الترمذي والدارمي وغيرهما، لأن مدار رواية ابن ماجه على يحيى بن آدم عن شريك، وقد خالفه الأسود ابن عامر المعروف بشاذ أن عند الترمذي والبيهقي ومحمد بن الطفيل عند الدارمي والترمذي كلاهما روياه عن شريك بلفظ إن في المال حقاً سوى الزكاة. وتطرق الوهم إلى الواحد. أقرب منه إلى الاثنين، ويدل على ذلك أيضاً الاستشهاد بالآية في رواية الترمذي والدارقطني والبيهقي كما لا يخفى على المتأمل. قال السندي في حاشية ابن ماجه من نظر بين روايتين يرى أن رواية المصنف يعني ابن ماجه أقرب إلى الخطأ من رواية الترمذي لقوة رواية الترمذي بالدليل الموافق لها فيتأمل - انتهى. 1933- قوله: (وعن بهيسة) بضم الموحدة وفتح الهاء وسكون الياء التحتية بعدها سين مهملة. قال في التقريب: بهيسة بالمهملة مصغراً الفزارية لا تعرف من الثالثة (وهي الطبقة الوسطى من التابعين) ويقال لها إن صحبة. وقال في تهذيب التهذيب: بهيسة الفزارية عن أبيها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ابن حبان لها صحبة. وقال ابن القطان قال عبد الحق: مجهولة، وهي كذلك. وقال في الإصابة: في ترجمة بهيسة لولا قول ابن حبان إن لها صحبة لما كان في الخبر ما يدل على صحبتها لأن سياق ابن مندة إن أباها استأذن النبي صلى الله عليه وسلم فأدخل يده في قميصه، وسياق أبي داود والنسائي عن أبيها إنه استأذن وهو المعتمد - انتهى. وقال الذهبي: في التجريد، بهيسة أدركت النبي - صلى الله عليه وسلم - وروت عن أبيها، روى سيار بن منظور عن أبيه عنها، وعلم عليها د، ع وذكرها ابن الأثير في أسد الغابة. وقال أدركت النبي صلى الله عليه وسلم وروت عن أبيها ثم ذكر حديث الباب (عن أبيها) اسمه عمير بالتصغير صحابي، قال الحافظ: في تهذيب التهذيب أبوبهيسة الفزاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: وعنه بنته بهيسة، ترجم له ابن مندة وغيره في الكنى، وسماه ابن عبد البر في الاستيعاب عميراً. وقال في الأسماء من الإصابة: عمير الفزاري والد بهيسة ذكره أبوعمر فسماه عميراً، ولم أره لغيره ويأتي في الكنى- انتهى. وقال في الكنى أبوبهيسة الفزاري ذكره أبوالبشر الدولابي في الكنى، وأورد له من طريق كهمس عن سيار بن منظور عن أبيه هذا الحديث. ثم قال بعد بيان الاختلاف فيه، وذكر ابن عبد البر اسم والد بهيسة عمير- انتهى. وذكره الذهبي في تجريده في الأسماء والكنى. وقال لم يصح حديثه (قالت قال) أي أبوها (ما الشيء الذي لا يحل منعه: قال الماء) أي عند عدم احتياج صاحب الماء إليه وإنما أطلق بناء على وسعه عادة. وقيل: المراد إن الماء من الأشياء المحقرة التي لا ينبغي للإنسان منعها من المحتاج والجار، وسيأتي بسط الكلام عليه في باب المنهي عنها من

قال يا نبي الله! ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: الملح، قال: يا نبي الله! ما الشيء الذي لا يحل منعه، قال: أن تفعل الخير لك)) رواه أبوداود. 1933- (31) وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحيا أرضاً ميتة فله فيها أجر، وما أكلت العافية ـــــــــــــــــــــــــــــ البيوع، وفي باب إحياء الموات والشرب. (قال يا نبي الله) تفنن في العبارة (قال الملح) لكثرة احتياج الناس إليه وبذله عرفاً. قال الشوكاني: ظاهر الحديث عدم الفرق بين ما كان في معدنه أو قد انفصل عنه ولا فرق بين جميع أنواعه الصالحة للانتفاع بها. وقال الخطابي: معنى هذا الحديث الملح إذا كان في معدنه في أرض أو جبل غير مملوك، فإن أحداً لا يمنع من أخذه. وأما إذا صار في حيز مالكه فهو أولى به، وله منعه ويبعه والتصرف فيه كسائر أملاكه - انتهى. (إن تفعل الخير) مصدرية أي فعل الخير جميعه (خير لك) يعنى فعل الخير الذي تدعو إليه نفسك الزكية خير لك لا يحل لك منعه، فهذه القرينة أعم من الأوليين فهي كالتذييل لهما. قال القاري: قوله إن تفعل الخير لك لقوله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره} [الزلزال: 7] والخير لا يحل منعه فهذا تعميم بعد تخصيص وإيماء إلى أن قوله لا يحل بمعنى لا ينبغي (رواه أبوداود) في الزكاة وفي البيوع وأخرجه أيضاً الدارمي في البيوع بلفظ: ما الشيء الذي لا يحل منعه. فقال: الملح والماء فقال ما الشيء الذي لا يحل منعه قال إن تفعل الخير خير لك قال ما الشيء الذي لا يحل منعه. قال إن تفعل الخير خير لك_ وانتهى إلى الملح والماء - انتهى. ونسبه المجد بن تيمية في المنتقى لأحمد وأبي داود والحديث سكت عنه أبوداود والمنذري وأعله عبد الحق وابن قطان بأن بهيسة لا تعرف. قال الشوكاني وتعقب: بأنه ذكرها ابن حبان وغيره في الصحابة، ولحديثها شواهد يريد بها، ما روى في الباب من حديث أبي هريرة عند ابن ماجه بسند صحيح، ثلاث لا يمنعن. الماء والكلأ، والنار. ومن حديث عائشة عند ابن ماجه أيضاً قالت: يا رسول الله: ما الشيء الذي لا يحل منعه قال الماء، والملح، والنار- الحديث. وإسناده ضعيف، ومن حديث أنس عند الطبراني. في الصغير خصلتان لا يحل منعهما. الماء والنار، قال أبوحاتم في العلل هذا حديث منكر ومن حديث عبد الله بن سرجس عند العقيلي في الضعفاء نحو حديث بهيسة. ومن حديث ابن عباس عند ابن ماجه. ومن حديث ابن عمر عند الطبراني بلفظ: المسلمون شركاء في ثلاث. في الماء، والكلأ، والنار. 1933- قوله: (من أحياء أرضاً ميتة) أي زرع أرضاً يابسة شبهها بالميت بجامع عدم النفع، وشبه تعميرها بالسقي والزرع أو الغرس بالإحياء بجامع النفع (فله فيها) أي في نفس أحيائها (أجر وما أكلت العافية)

منة فهو له صدقة)) رواه الدارمي. 1934- (32) وعن البراء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من منح منحة لبن أو ورق، أو هدى زقاقاً، كان له مثل عتق رقبة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ أي كل طالب رزق من إنسان أو بهيمة أو طائر من عفوته أي أتيته أطلب معروفة وعافية الماء واردته. وفي بعض الروايات العوافي أي طلاب الرزق (منه) أي من حاصل الأرض وريعها أو من المأكول أو من النبات وفي سنن الدارمي منها (فهو له صدقة) أي إذا كان له راضياً أو متحملاً صابراً (رواه الدارمي) في البيوع. وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي في الكبرى، وابن حبان والضياء في المختارة، كلهم من رواية هشام بن عروة عن عبد الله بن عبد الرحمن بن رافع عن جابر، وهذا إسناد صحيح. قال الحافظ في التلخيص: صرح عند ابن حبان بسماع هشام من عبيد الله وبسماعه من جابر، ورواه أيضاً من طريق وهب بن كيسان عن جابر الجملة الأولى. واستدل به ابن حبان على أن الذمي لا يملك الموات. لأن لأجر إنما يكون للمسلم وتعقبه المحب الطبري بأن الكافر يتصدق ويجازي عليه في الدنيا كما ورد به الحديث: قلت (قائلة الحافظ) وقول ابن حبان أقرب للصواب، وظاهر الحديث معه، والمتبادر إلى الفهم منه، إن إطلاق الأجر إنما يراد به الأخروي. 1934-قوله: (وعن البراء) أي ابن عازب (من منح) أي أعطى (منحة لبن) في الترمذي منيحة لبن، وقد سبق معناهما، والإضافة فيها بيانية. قال القاري: والأظهر إن في المنحة تجريداً بمعنى مطلق العطية ليصح العطف بقوله (أو ورق) بكسر الراء وسكونها، وهي قرض الدراهم. لأن المنحة مردودة- انتهى. وقال في اللمعات: المنحة العطية فإضافته إلى اللبن ظاهر، ثم ذكر المراد من منحة اللبن. ثم قال: وعطف الورق على اللبن، إن كان المنحة بمعنى العطية، فظاهر. وإن كان بمعنى الناقة أو الشاة المعطاة فمجاز، ومشاكلة. والمراد من منحة الورق، قرض الدراهم، وإنما فسروه به، لأن المنحة من شأنها إن ترد على صاحبها. وقال الجزري: منحة الورق القرض، ومنحة اللبن أن يعطيه ناقة، أو شأة ينتفع بلبنها ويعيدها، وكذلك إذا أعطاه لينتفع بوبرها وصوفها زماناً، ثم يردها. ومنه الحديث المنحة مردودة- انتهى. (أو هدى زقاقاً) قال الجزري: الزقاق بالضم الطريق، يريد من دل الضال أو الأعمى على طريقة. وقيل: أراد من تصدق بزقاق من النخل وهي السكة منها. والأول أشبه لأن هدى من الهداية لا من الهدية- انتهى. قلت: وقع في حديث النعمان بن بشير عند أحمد أهدى زقاقاً من الإهداء، فالمراد بالزقاق في هذا الحديث هو السكة أي الصف والسطر من النخل، وبالإهداء التصدق (كان له) أي ثبت له (مثل عتق رقبة) أي كان ما ذكر له مثل إعتاق رقبة، ووجه الشبه نفع الخلق والإحسان إليهم

رواه الترمذي. 1935- (33) وعن أبي جرى جابر بن سليم، قال: ((أتيت المدينة، فرأيت رجلاً يصدر الناس عن رأيه، لا يقول شيئاً إلا صدوراً عنه. قلت: من هذا؟ قالوا: هذا رسول الله. قال: قلت: عليك السلام يا رسول الله! مرتين. قال لا تقل عليك السلام. عليك السلام تحية الميت، ـــــــــــــــــــــــــــــ (رواه الترمذي) في البر والصلة. وقال: هذا حديث صحيح غريب. وأخرجه أيضاً أحمد وابن حبان في صحيحه، والبغوي في شرح السنة، وفي الباب عن النعمان بن بشير عند أحمد (ج4 ص272) بلفظ: من منح منيحة ورقاً أو ذهباً أو سقي لبناً أو أهدى زقاقاً فهو كعدل رقبة. 1935- قوله: (وعن أبي جرى) بضم الجيم وفتح الراء وتشديد الياء (جابر بن سليم) بالتصغير. ويقال: سليم بن جابر الهجيمي بالتصغير التميمي من بلهجيم ابن عمرو بن تميم صحابي معروف، روى عنه جماعة. منهم أبوتميمة الهجيمى ومحمد بن سيرين. قال الحافظ: قال البخاري جابر بن سليم أصح، وكذا ذكر البغوي والترمذي وابن حبان وغيرهم (يصدر الناس) أي يرجعون (عن رأية) يعني يعملون بقوله ورأيه والصدور الرجوع عن المنهل بعد الري قال الطيبي وغيره: أي ينصرفون عما رآه ويستصوبونه شبه المنصرفين عن حضرته بعد توجههم إليه ليسألوا عن مصالح معادهم ومعاشهم وأمور دينهم. واغترافهم من بحار علمه وفضله بالصادرين عن ورودهم على المنهل وارتوائهم (لا يقول شيئاً إلا صدرواً عنه) أي يأخذون منه كل ما حكم به ويقبلون حكمه وقوله (لا تقل عليك السلام) أي ابتداء وهو نهي تنزيه قاله القاري (عليك السلام) في أبي داود فإن عليك السلام (تحية الميت) أي في زمان الجاهلية. قال الخطابي: هذا يوهم إن السنة في تحية الميت أن يقال له عليك السلام كما يفعله كثير من العامة. وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه دخل المقبرة فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، فقدم الدعاء على اسم المدعو له كهو في تحية الإحياء، وإنما كان ذلك القول منه إشارة إلى ما جرت به العادة، منهم في تحية الأموات إذ كانوا يقدمون اسم الميت على الدعاء، وهو مذكور في إشعارهم كقول الشاعر: عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته إن شاء أن يترحما وكقول الشماخ: عليك سلام من أمير وباركت يد الله في ذاك الأديم الممزق والسنة لا تختلف في تحية الإحياء والأموات بدليل حديث أبي هريرة الذي ذكرناه والله أعلم- انتهى. وقال ابن القيم في زاد المعاد: وكان هديه في ابتداء السلام، أن يقول السلام عليكم ورحمة الله وكان يكره أن يقول

قل: السلام عليك. قلت: أنت رسول الله، فقال: أنا رسول الله، الذي إن أصابك ضر فدعوته كشفه عنك. وإن أصابك عام سنة، فدعوته أنبتها لك، وإذا كنت بأرض قفر أو فلاة فضلت راحلتك فدعوته ردها عليك. قلت: أعهد إلي. قال: لا تسبن أحداً. قال: فما سببت بعده ـــــــــــــــــــــــــــــ المبتدي عليك السلام، ثم ذكر ابن القيم حديث أبي جرى هذا. ثم قال: وقد أشكل هذا الحديث على طائفة وظنوه معارضاً لما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في السلام على الأموات بلفظ: السلام عليكم بتقديم السلام فظنوا إن قوله فإن عليك السلام تحية الموتى إخبار عن المشروع وغلطوا في ذلك غلطاً أوجب لهم ذلك ظن التعارض، وإنما معنى قوله فإن عليك السلام تحية الموتى إخبار عن الواقع لا المشروع أي إن الشعراء وغيرهم يحيون الموتى بهذه اللفظة كقول قائلهم: عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته ما شاء أن يترحما فما كان هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدما فكره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحي بتحية الأموات ومن كراهته لذلك لم يرد على المسلم، وكان يرد على المسلم، وعليك السلام بالواو. وبتقديم عليك على لفظ السلام - انتهى. قال شيخنا في شرح الترمذي: في قوله ومن كراهته لذلك لم يرد على المسلم نظر. فإنه قد وقع في رواية الترمذي، ثم رد على النبي - صلى الله عليه وسلم - قال وعليك ورحمة الله انتهى. (الذي) صفة لله تعالى يدل عليه رواية أحمد قلت: يا رسول الله! إلى ما تدعو قال أدعو إلى الله وحده الذي إن مسك ضر فدعوته كشف عنك، والذي إن ضللت بأرض قفر فدعوته رد عليك، والذي إن أصابتك سنة فدعوته أنبت عليك (إن أصابك) وفي أبي داود الذي إذا أصابك (ضر) بضم الضاد ويفتح (فدعوته) بصيغة الخطاب (كشفه عنك) أي دفع ذلك الضر وإزالة عنك (عام سنة) أي قحط وجدب. قال المنذري: السنة هي العام المقحط الذي لم تنبت فيه الأرض شيئاً، سواء نزل غيث، أو لم ينزل (أنبتها لك) أي صيرها ذات نبات لك أي بدلها خصباً (بأرض قفر) قال القاري: وفي نسخة بالإضافة والقفر بفتح القاف وسكون الفاء، أي خالية عن الشجر، والماء. قال أهل اللغة القفر الخلاء من الأرض لا ماء فيه ولا ناس ولا كلأ يقال: أرض قَفر وأرض قِفار (أو فلاة) بفتح الفاء وهي المفازة والصحراء الواسعة، وأو للشك. وقيل: للتنويع على أن المراد بالقفر المفازة المهلكة، وبالفلاة المفازة الخطرة (فضلت راحلتك) أي غابت عنك (أعهد إلي) بفتح الهاء أي أوصني بما ينفعني (لا تسبن أحداً) بضم السين أي لا تشمته (فما سبب بعده) أي بعد عهده أحداً

حراً ولا عبداً ولا بعيراً ولا شأة، قال: ولا تحقرن شيئاً من المعروف، وأن تكلم أخاك وأنت منبسط إليه وجهك، إن ذلك من المعروف، وارفع إزارك إلى نصف الساق، فإن أبيت فإلى الكعبين، وإياك وإسبال الإزار، فإنها من المخيلة، وإن الله لا يحب المخيلة، وإن امرؤ شتمك وعيرك بما يعلم فيك، فلا تعيره بما تعلم فيه، فإنما وبال ذلك عليه)) . رواه أبوداود، وروى الترمذي منه حديث السلام. وفي رواية: فيكون لك أجر ذلك ووباله عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ (حراً ولا عبداً ولا بعيراً ولا شأة) أي لا إنساناً ولا حيواناً (وإن تكلم أخاك) قيل: أي وكلم أخاك تكليماً فحذف الفعل العامل، وأضيف المصدر إلى الفاعل أي تكليمك أخاك ثم وضع الفعل، مع أن موضع المصدر وهو معطوف على النهي كذا في الشرح، وهو تكلف ذكره الطيبي. وقال غيره: قوله "وإن تكلم أخاك" إما عطف على شيء وإن ذلك من المعروف مستأنف علة له، أو مبتدأ وإن ذلك خبره (وأنت منبسط إليه وجهك) بالرفع على أنه فاعل منبسط والجملة حال (إن ذلك) بكسر الهمزة على الاستئناف التغليبي، وفي بعض النسخ بفتحها للعلة. والمعنى إن ما ذكر من التكليم مع انبساط الوجه وطلاقته (من) جملة (المعروف) وفي رواية لأحمد ولا تحقرن من المعروف شيئاً ولو إن تكلم أخاك ووجهك إليه منبسط (فإن أبيت) رفع إزارك إلى نصف الساق (فإلى الكعبين) أي فأرفعه إليهما ولا تتجاوز عنهما (وإياك وإسبال الإزار) أي اجتنب وأحذر إرسال الإزار وإرخاءه نازلاً عن الكعبين (فإنها) أي أي هذه الفعلة أو الخصلة التي هي تسبيل الإزار (من المخيلة) بفتح الميم وكسر الخاء وسكون الياء من الاختيال، وهو الكبر واستحقار الناس (وإن امرأ شتمك) أي سبك (وعيرك) أي وبخك عيبك (بما يعلم فيك) أي لأمك وعذلك لما يعلم فيك من عيبك (فلا تعيره بما تعلم فيه) أي فضلاً عما لا تعلم فيه (فإنما وبال ذلك) أي آثم ما ذكر من الشتم والتعيير (عليه) أي على ذلك المرء ولا يضرك شيء وفي رواية لأحمد فإن أجر ذلك لك ووباله عليه (رواه أبوداود) في اللباس (وروى الترمذي) في الاستئذان (منه) أي من الحديث (حديث السلام) أي صدر الحديث وهو ما يتعلق بالسلام (وفي رواية فيكون لك أجر ذلك ووباله عليه) لم أقف على هذه الرواية وروى أحمد بنحوها، والحديث أخرجه أحمد (ج3 ص482- 483) (وج5 ص63- 64) وابن حبان في صحيحه، وابن عبد البر في الاستيعاب مطولاً، والنسائي في الكبرى مختصراً وسكت عنه أبوداود وصححه الترمذي، والنووي، ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره.

1936- (34) وعن عائشة، أنهم ذبحوا شأة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما بقي منها؟ قالت: ما بقي منها إلا كتفها، قال: بقي كلها غير كتفها)) . رواه الترمذي، وصححه. 1937- (35) وعن ابن عباس، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما من مسلم كسا مسلماً ثوباً إلا كان في حفظ من الله مادام عليه منه خرقة)) . رواه أحمد، والترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1936- قوله: (إنهم ذبحوا) أي أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أهل بيت رضي الله عنهم وهو الظاهر (ما بقي منها) على الاستفهام أي أي شيء بقي من الشاة (قالت ما بقي منها إلا كتفها) أي التي لم يتصدق بها (قال بقي كلها غير كتفها) بالنصب والرفع أي ما تصدقت به فهو باق، وما بقي عندك فهو غير باق. إشارة إلى قوله تعالى: {ما عندكم ينفد وما عند الله باق} [النحل:96] وقال المنذري: معناه إنهم تصدقوا بها إلا كتفها (رواه الترمذي) في الزهد (وصححه) نقل المنذري في الترغيب تصيح الترمذي وأقره، وفي الباب عن أبي هريرة عند البزار ذكره الهيثمي (ج3 ص109) وقال: رجاله ثقات. 1937-قوله: (إلا كان في حفظ) قال الطيبي: أي في حفظ أيّ حفظ (من الله) قال ابن الملك: وإنما لم يقل في حفظ الله ليدل التنكير على نوع تفخيم وشيوع، وهذا في الدنيا، وأما في الآخرة فلا حصر ولا عدل لثوابه- انتهى. قلت: قوله "في حفظ من الله" هكذا في جميع النسخ، وكذا وقع في المصابيح والذي في جامع الترمذي في حفظ الله أي بالإضافة، وهكذا نقله المنذري في الترغيب والسيوطي في الجامع الصغير، والجزري في جامع الأصول (ج10ص 319) (ما دام عليه) أي على من كساه (منه) أي من الثوب (خرقة) أي قطعة. قال المناوي: يعني حتى يبلي. وقال: ومفهوم هذا الحديث إنه لو كسا ذمياً لا يكون له هذا الوعد (رواه أحمد) لم أجده في مسنده عبد الله بن عباس ولعله ذكره في أثناء مسند غيره من الصحابة، أو هذا سهو من المصنف ويقوى ذلك إنه لم ينسبه المنذري في الترغيب والسيوطي في الجامع الصغير لأحمد والله أعلم (والترمذي) في الزهد وأخرجه الحاكم (ج4 ص196) بلفظ: من كسا مسلماً ثوباً لم يزل في ستر الله ما دام عليه منه خيط أو سلك، والحديث حسنه الترمذي. وقال الحاكم: صحيح الإسناد وتعقبه الذهبي. فقال خالد ضعيف- انتهى. قلت: في سند هذا الحديث خالد بن طهمان أبوالعلاء الخفاف الكوفي. قال في تهذيب التهذيب. قال ابن معين: ضعيف خلط قبل موته بعشر سنين، وكان قبل ذلك ثقة وكان في تخليطه كلما جاؤا به يقر به. وقال أبوحاتم: هو من عتق الشيعة محله الصدق وذكره ابن حبان في الثقات وقال يخطئ ويهم. وقال في التقريب: صدوق رمى بالتشيع ثم اختلط.

1938- (36) وعن عبد الله بن مسعود، يرفعه، قال: ((ثلاثة يحبهم الله: رجل قام من الليل يتلو كتاب الله، ورجل يتصدق بصدقة بيمينه يخفيها أراه قال: من شماله، ورجل كان في سرية فانهزم أصحابه، فاستقبل العدو)) . رواه الترمذي. وقال: هذا حديث غير محفوظ، أحد رواته أبوبكر بن عياش، كثير الغلط. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1938- قوله: (يرفعه) أي يرفع الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو لم يقل هذا لأوهم أن يكون الحديث موقرفاً على ابن مسعود لقوله بعده (قال ثلاثة) ولم ينسبه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (رجل قام من الليل) أي للتهجد فيه (يتلو كتاب الله) أي القرآن في صلاته وخارجها (بيمينه) فيه إيماء إلى الأدب في العطاء بأن يكون باليمين، رعاية للأدب وتفاؤلاً باليمين والبركة (يخفيها) أي يخفى تلك الصدقة غاية الإخفاء خوفاً من السمعة والرياء مبالغة في قصد المحبة والرضاء (أراه) بضم الهمزة من الإراءة أي أظنه (من شماله) أي يخفيها من شماله أريد به كمال المبالغة (ورجل كان في سرية) أي جيش صغير (فانهزم أصحابه) دونه (فاستقبل العدو) وحده أي وقاتلهم لتكون كلمة الله هي العليا (رواه الترمذي) في آخر صفة الجنة من حديث أبي بكر بن عياش عن منصور بن المعتمر عن ربعى بن حراش عن عبد الله بن مسعود (هذا حديث غير محفوظ) في نسخ الترمذي الموجودة عندنا، هذا حديث غريب غير محفوظ وقال الترمذي: بعده هذا، والصحيح ما روى شعبة وغيره عن منصور عن ربعي بن حراش عن زيد بن ظبيان عن أبي ذر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (وأبوبكر بن عياش) بتحتانية مشددة وشين معجمة (كثير الغلط) أي في الحديث مع كونه إماماً في القراءة. قال في التقريب: أبوبكر بن عياش بن سالم الأسدي الكوفي المقري الحناط بمهملة ونون مشهور بكنيته، والأصح إنها اسمه يعنى أنه مختلف في اسمه (على عشرة أقوال) والصحيح إنه لا اسم له إلا كنيته، ثقة عابد إلا أنه لما كبر ساء حفظه وكتابه صحيح. وقال في مقدمة الفتح: قال أحمد ثقة وربما غلط وقال أبو نعيم: لم يكن في شيوخنا أكثر غلطاً منه، وسئل أبو حاتم عنه وعن شريك فقال: هما في الحفظ سواء، غير أن أبا بكر بن عياش أصح كتاباً منه. وقال ابن حبان: كان يحيى القطان وعلي بن المديني يسيئان الرأي فيه وذلك أنه لما كبر ساء حفظه فكان يهم، وقال ابن سعد: كان ثقة صدوقاً عالماً بالحديث، إلا أنه كثير الغلط. وقال يعقوب بن شيبة: كان له علم وفقه، ورواية. وفي حديثه اضطراب. قلت: لم يرو له مسلم إلا في مقدمة صحيحة، وروى له البخاري أحاديث أكثرها بمتابعة غيره. وأعلم أن مقصود الترمذي أن أبا بكر بن عياش غلط في شيخ منصور، واسم الصحابي أيضاً. وأراد بحديث شعبة بإسناده عن أبي ذر- الحديث، الذي بعده. وهو حديث صحيح أخرجه الترمذي وغيره. ...

1939- (37) وعن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة يحبهم الله، وثلاثة يبغضهم الله، فأما الذين يحبهم الله: فرجل أتى قوماً فسآلهم بالله ولم يسألهم لقرابة بينه وبينهم فمنعوه، فتخلف رجل بأعيانهم، فأعطاه سراً، لا يعلم بعطيته إلا الله والذي أعطاه. وقوم ساروا ليلتهم حتى إذا كان النوم أحب إليهم مما يعدل به، فوضعوا رؤوسهم، فقام يتملقنى ويتلو آياتي. ورجل كان في سرية، فلقي العدو، فهزموا، فأقبل بصدره ـــــــــــــــــــــــــــــ 1939- قوله: (ثلاثة يحبهم الله) أي أكثر من غيرهم (فأما الذين يحبهم الله فرجل) ظاهره إن السائل أحد الثلاثة الذين يحبهم الله وليس كذلك بل معطيه، فلا بد من تقدير مضاف أي فأحدهم معطى رجل، وكذا قوله "وقوم" بتقدير مضاف أي والثاني عابد قوم (أتى قوماً فسألهم بالله) أي مستعطفاً بالله قائلا أنشدكم بالله أعطوني (ولم يسألهم لقرابة) أي ولم يقل أسألكم أو أعطوني بحق قرابة بيني وبينكم، قال في المفاتيح: يعنى إذا سأل بالله وجب إجابته تعظيماً لاسم الله تعالى فإذا منعوه فقد اجترموا جرماً عظيماً فإذا أعطاه واحد سراً فله فضيلتان إحداهما أنه أعظم اسم الله تعالى. والثانية إنه تصدق سراً وصدقة السر له فضيلة (فمنعوه) أي الرجل العطاء (فتخلف رجل بأعيانهم) قال القاري: الباء للتعدية أي بأشخاصهم وتقدم. وقيل: أي تأخر رجل من بينهم إلى جانب حتى لا يروه بأعيانهم من أشخاصهم. وقال الطيبي أي ترك القوم المسؤول عنهم خلفه فتقدم فأعطاه سراً، والمراد من الأعيان الأشخاص. ويحتمل أن يكون المراد أنه سبقهم بهذا الخير فجعلهم خلفه، وفي رواية الطبراني فتخلف رجل عن أعيانهم وهذا أشبه وأسد من طريق المعنى، وإن كانت الرواية الأولى أوثق من طريق السند. والمعنى أنه تخلف أي تأخر عن أصحابه حتى خلا بالسائل فأعطاه سراً، وفي رواية للنسائي فتخلفهم رجل بأعقابهم. قال السندي: أي فخرج من بينهم بحيث صار خلفهم في ظهورهم فقوله "بأعقابهم" بمعنى في ظهورهم بمنزلة التأكيد لما يدل عليه تخلفهم (لا يعلم بعطيته إلا الله والذي أعطاه) تقرير لمعنى السر (وقوم) أي الثاني قائم قوم أو قاري قوم (أحب إليهم) أي ألذ وأطيب (مما يعدل به) على بناء المفعول أي من كل شيء يقابل ويساوي بالنوم. وقيل: أي مما يجعل عديلاً له، ومثلاً ومساوياً في العادة (فوضعوا رؤوسهم) أي فناموا وفي رواية نزلوا فوضعوا رؤوسهم (فقام) وفي بعض نسخ الترمذي قام رجل أي منهم (يتملقني) هذا على حكاية كلام الله تعالى في شأن ذلك الرجل لا على الالتفات والملق بفتحتين الزيادة في التودد، والدعاء والتضرع أي يتواضع لدى ويتضرع إلى (ويتلوا آياتي) أي يقرأ ألفاظها ويتبعها بالتأمل في معانيها (ورجل) أي والثالث رجل (فهزموا) أي أصحابه (فأقبل بصدره) أي خلاف من ولى

حتى يقتل أو يفتح أو يفتح له، والثلاثة الذين يبغضهم الله: الشيخ الزاني، والفقير المختال، والغني الظلوم)) . رواه الترمذي. والنسائي. 1940- (38) وعن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لما خلق الله الأرض، جعلت تميد، فخلق الجبال، فقال: بها علليها، فاستقرت، فعجبت الملائكة من شدة الجبال. فقالوا يا رب! هل من خلقك ـــــــــــــــــــــــــــــ دبره بتوليه ظهره، وقوله "بصدره" تأكيد الإقبال فإنه لا يكون إلا بالصدر وقيل: هذا أبلغ في الإقبال والجرأة من أن يقابل بوجهه (حتى يقتل أو يفتح له) على بناء المفعول فيهما أي حتى يفوز بإحدى الحسنين، وفي رواية أحمد والنسائي حتى يقتل أو يفتح الله له (الشيخ الزاني) قال القاري: يحتمل أن يراد بالشيخ الشيبة ضد الشاب، وأن يراد به المحصن ضد البكر كما في الآية المنسوخة التلاوة الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما (والفقير المختال) أي المكبر (والغني الظلوم) أي كثير الظلم في المطل وغيره، وفي رواية لأحمد والمكثر البخيل، بدل والغني الظلوم وإنما خص الشيخ وأخويه بالذكر لأن هذه الخصال فيهم أشد مذمة وأكثر نكرة (رواه الترمذي) في آخر صفة الجنة. وقال: هذا حديث صحيح، وهذا أصح من حديث أبي بكر بن عياش عن منصور عن ربعي عن ابن مسعود (والنسائي) في صلاة الليل، وفي الزكاة، وأخرجه أيضاً أحمد (ج5 ص153) وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم (ج1 ص416) وصححه ووافقه الذهبي. 1940-قوله: (لما خلق الله الأرض) أي أرض الكعبة ودحيت وبسطت من جوانبها وبقيت كلوحة على وجه الماء (جعلت تميد) بالدال المهملة أي شرعت تميل وتتحرك وتضطرب شديدة ولا تستقر حتى قالت الملائكة لا ينتفع الإنس بها (فخلق الجبال) قيل: أولها أبوقيس (فقال بها عليها) أي امرؤ أشار يكون الجبال واستقرارها على الأرض (فاستقرت) أي الجبال عليها أو فثبتت الأرض في مكانها أو ما مادت ولا مالت من حالها ومحلها. قال الطيبي: قد مر مراراً أن القول يعبر به عن كل فعل وقرينة اختصاصه اقتضاء المقام، فالتقدير ألقى بالجبال على الأرض. كما قال تعالى: {وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم} [النحل: 15] فالباء زائدة على المفعول كما في قوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة:195] وإيثار القول على الإلقاء والإرسال لبيان العظمة والكبرياء، وإن مثل هذا الأمر العظيم يتأتي من عظيم قدرته بمجرد القول. وقيل: ضمن القول معنى الأمر أي أمر الجبال قائلاً أرسى عليها. وقيل: أي ضرب بالجبال على الأرض حتى استقرت (هل من خلقك) أي من

{الفصل الثالث}

شيء أشد من الجبال؟ قال: نعم الحديد. فقالوا: يا رب! هل من خلقك شيء أشد من الحديد؟ قال: نعم، النار. فقالوا: يا رب! هل من خلقك شيء أشد من النار؟ قال نعم؟ ألماء. فقالوا: يا رب! هل من خلقك شيء أشد من الماء؟ قال: نعم، الريح. فقالوا: يا رب! هل من خلقك شيء أشد من الريح؟ قال: نعم، ابن آدم تصدق صدقة بيمينه يخفيها من شماله)) . رواه الترمذي وقال هذا حديث غريب. وذكر حديث معاذ: الصدقة تطفئ الخطيئة، في كتاب الإيمان. {الفصل الثالث} 1941- (39) عن أبي ذر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من عبد مسلم ينفق من كل مال له زوجين ... ـــــــــــــــــــــــــــــ مخلوقاتك (قال نعم الحديد) فإنه يكسر به الحجر ويقلع به الجبال (قال نعم النار) فإنها تلين الحديد وتذيبه (قال نعم الماء) لأنه يطفىء النار (قال نعم الريح) من أجل أنها تفرق الماء وتنشفه. وقال الطيبي: فإن الريح تسوق السحاب الحامل للماء (نعم ابن آدم تصدق صدقة الخ) أي التصدق من بني آدم أشد من الريح ومن كل ما ذكر وذلك. لأن فيه مخالفة النفس وقهر الطبيعة والشيطان، ولا يحصل ذلك من شيء مما ذكر، أو لأن صدقته تطفئ غضب الرب وغضب الله تعالى لا يقابله شيء في الصعوبة والشدة وإذا فرض نزول عذاب الله بالريح على أحد، وتصدق في السر على أحد تدفع العذاب المذكور. فكان أشد من الريح قاله في اللمعات. وقال الطيبي: فإن من جبلة ابن آدم والقبض البخل الذي هو من طبيعة الأرض، ومن جبلته الإستعلاء وطلب انتشار الصيت، وهما من طبيعتي النار والريح، فإذا راغم بالإعطاء جبلته الأرضية وبالإخفاء جبلته النارية، والريحية كان أشد من الكل - انتهى. (رواه الترمذي) في آخر أبواب التفسير من طريق العوام بن حوشب عن سليمان بن أبي سليمان عن أنس وسليمان هذا قال الذهبي فيه لا يكاد يعرف وقال ابن معين لا أعرفه والحديث ذكره المنذري في باب الترغيب في صدقة السر. وقال: رواه الترمذي والبيهقي وغيرهما (وقال: هذا حديث غريب) وتمام كلامه لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه (وذكر) بصيغة المجهول (حديث معاذ الصدقة تطفئ الخطيئة) أي تزيل الذنوب وتمحوها كما قال إن الحسنات يذهبن السيئات (في كتاب الإيمان) أي في حديث طويل هناك فيكون من باب إسقاط المكرر. 1941- قوله: (ينفق) أي يتصدق (من كل مال له) أي من أي مال له كان (زوجين) أي اثنين

في سبيل الله، إلا استقبلته حجبة الجنة، كلهم يدعوه إلى ما عنده. قلت: وكيف ذلك؟ قال: إن كانت إبلاً فبعيرين، وإن كانت بقرة فبقرتين)) . رواه النسائي. 1942- (40) وعن مرثد بن عبد الله قال حدثني بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن ظل المؤمن يوم القيامة صدقته)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ (في سبيل الله) أي ابتغاء وجهه ومرضاة ربه (حجبة الجنة) بفتحتين جمع حاجب أي بوابو أبوابها (كلهم يدعوه) أي كل واحد منهم. وقال القاري: أفرد الضمير للفظ كل، أو المعنى كل واحد منهم يدعوه (إلى ما عنده) أي من النعم العظام والمنح الفخام أو إلى باب هو واقف عنده بالاستدعاء والعرض والغرض أن يتشرف بدخوله منه (وكيف ذلك) أي كيف ينفق زوجين مما يتملكه بالعدد المخصوص (إن كانت إبلاً) الضمير راجع إلى كل مال باعتبار الجماعة أو باعتبار الخبر فإن الإبل مؤنث. وزاد في رواية لأحمد قبله إن كانت رجلان فرجلان وإن كانت خيلاً ففرسان (وإن كانت بقرة) كذا في النسخ الموجودة عندنا، والذي في النسائي، وإن كانت بقراً. وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج10 ص320) وهكذا وقع عند أحمد (ج5 ص151) والحاكم (ج2 ص86) (فبقرتين) زاد في رواية حتى عد أصناف المال كله (رواه النسائي) في باب فضل النفقة في سبيل الله من كتاب الجهاد وأخرجه أيضاً أحمد (ج5 ص151، 153، 159) وابن حبان والحاكم (ج2 ص86) وصححه ووافقه الذهبي. 1942-قوله: (بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) لعله عقبة بن عامر رضي الله عنه فإن الحديث روى أحمد وغيره نحوه من رواية مرثد بن عبد الله عن عقبة بن عامر أيضاً (إن ظل المؤمن يوم القيامة صدقته) قال الطيبي: هذا من التشبيه المقلوب المحذوف الأداة، لأن الأصل إن الصدقة كالظل في أنها تحميه عن أذى الحر يوم القيامة، فجعل المشبه مشبهاً به مبالغة كقول الشاعر: وبدا الصباح كأن غرته وجه الخليفة حين يمتدح قال القاري: والأظهر إن معناه ظل المؤمن يوم القيامة صدقته، الكائنة في الدنيا أي إحسانه إلى الناس، وهو إما بأن تجسد صدقته أو يجسم ثوابها. وقد تخص الصدقة بمالها ظل حقيقي كثوب وخيمة كما ورد في بعض الأخبار- انتهى. قلت: ويؤيد هذا المعنى ما روى عن عقبة بن عامر عند أحمد (ج4 ص147) وابن خزيمة وابن حبان والحاكم (ج1 ص416) كل امرىء في ظل صدقته حتى يقضي بين الناس، أو قال يحكم بين الناس. قال الأمير اليماني: كون الرجل في ظل صدقته يحتمل الحقيقة، وأنها تأتي أعيان الصدقة فتدفع عنه حر الشمس،

رواه أحمد. 1943 - (41) وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من وسع على عياله في النفقة يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته)) . قال سفيان: إنا قد جربناه فوجدناه كذلك. رواه رزين. 1944، 1945، 1946، - (42، 43، 44) وروى البيهقي، في شعب الإيمان عنه، وعن أبي هريرة، ـــــــــــــــــــــــــــــ أو المراد في كنفها وحمايتها - انتهى. قلت الحمل على الحقيقة هو المعتمد (رواه أحمد) وأخرجه أيضاً ابن خزيمة كما في الترغيب. 1943- قوله: (من وسع) بتشديد السين (على عياله) أي أهل بيته الذين تجب نفقتهم عليه (يوم عاشوراء) بالمد عاشر المحرم (وسع الله عليه) دعاء أو خبر (سائر سنته) أي باقيها أو جميعها. وفي رواية جابر عند البيهقي طول سنته، وفي حديث أبي سعيد عند الطبراني سنته كلها، وفي حديث ابن عمر عند الخطيب إلى رأس السنة المقبلة (قال سفيان) أي الثوري فإنه المراد عند الإطلاق في الاصطلاح المحدثين (أنا) أي نحن وأصحابنا (قد جربناه) أي الحديث لنعلم صحته أو جربنا الوسع (فوجدناه) أي جزاءه (كذلك) أي على توسيع الطعام. والحديث رواه ابن عبد البر في الاستذكار من طريق شعبة عن أبي الزبير عن جابر وزاد في آخره قال جابر جربناه فوجدناه كذلك. وقال أبو الزبير: مثله وقال شعبة مثله (رواه رزين) أي عن ابن مسعود وحده قال في التنقيح: الحديث ذكره رزين في جامعة وليس في شيء من أصوله. 1944- 1945- 1946- قوله: (وروى البيهقي في شعب الإيمان عنه) أي عن ابن مسعود، وأخرجه أيضاً الطبراني في الكبير، كلاهما من حديث الهيصم بن شداخ عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله ابن مسعود. قال البيهقي في الشعب تفرد به الهيصم عن الأعمش. وقال العقيلي: الهيصم مجهول، والحديث غير محفوظ. وقال ابن حبان: الهيصم يروي الطامات لا يجوز أن يحتج به. وقال الهيثمي: هو ضعيف جداً. وقال الحافظ ابن حجر: في أمالية: اتفقوا على ضعف الهيصم وعلى تفرد به (وعن أبي هريرة) وأخرجه أيضاً ابن عدي وفي سنده عندهما سليمان بن أبي عبد الله التابعي الراوي عن أبي هريرة. قال العقيلي: سليمان مجهول. والحديث غير محفوظ قال السيوطي في التعقبات: واللآلى بعد ذكر كلام العقيلي قال الحافظ أبوالفضل العراقي في أمالية: حديث أبي هريرة قد ورد من طرق صحح بعضها الحافظ أبوالفضل بن ناصر وسليمان الذكور ذكره ابن حبان في الثقات، فالحديث حسن على رأيه - انتهى. قلت: سليمان هذا من رجال أبي داود روى له هو حديثاً في حرم

وأبي سعيد، وجابر وضعفه. ـــــــــــــــــــــــــــــ المدينة. قال أبوحاتم: ليس بالمشهور فيعتبر بحديثه. وقال البخاري: وأبوحاتم أدرك المهاجرين والأنصار. وقال في التقريب: هو مقبول. قلت: وفي سنده أيضاً عند ابن عدي حجاج بن نصير عن محمد بن ذكوان الأزدي الجهضمي وهما ضعيفان. قال البخاري وأبوحاتم والنسائي: محمد بن ذكوان منكر الحديث. ولأبي هريرة حديث آخر نحوه ذكره السيوطي في اللآلئ (ج2 ص62- 63) روى من وجه آخر ضمن حديث طويل. قال السيوطي: بعد ذكره موضوع ورجاله ثقات. والظاهر إن بعض المتأخرين وضعه وركبه على هذا الإسناد (وأبي سعيد) وأخرجه أيضاً إسحاق بن راهويه في مسنده كلاهما من طريق عبد الله بن نافع عن أيوب بن سليمان ابن ميناء عن رجل عن أبي سعيد الخدري. قال الحافظ ابن حجر في أماليه: لولا الرجل المبهم لكان إسناداً جيداً لكنه يقوي بما أخرجه الطبراني في الأوسط، من طريق محمد بن إسماعيل الجعفري عن عبد الله بن سلمة الربعي عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن أبي صعصعة عن أبيه عن أبي سعيد. قال الحافظ ابن حجر: الجعفري ضعفه أبوحاتم وشيخه، ضعفه أبوزرعة ورجال الإسناد كلهم مدنيون معروفون - انتهى. قلت: محمد بن إسماعيل الجعفري قال أبوحاتم إنه منكر الحديث، يتكلمون فيه. وقال أبونعيم الأصبهاني: متروك. وذكره ابن حبان في الثقات، وشيخه عبد الله بن سلمة الربعي. قال العقيلي وأبوزرعة: منكر الحديث. وقال أبوزرعة مرة متروك. (وجابر) أخرجه من طريق محمد بن يونس عن عبد الله بن إبراهيم الغفاري عن عبد الله بن أبي بكر ابن أخي محمد بن المنكدر عن محمد بن المنكدر عن جابر. قال البيهقي: هذا إسناد ضعيف. وقال العراقي: ولحديث جابر طريق آخر على شرط مسلم أخرجها ابن عبد البر في الاستذكار، من رواية محمد بن معاوية عن الفضل بن الحباب عن هشام ابن عبد الملك الطيالسي، عن شعبة عن أبي الزبير عن جابر. قال العراقي: هذا أصح طرق الحديث. وقال الحافظ في لسان الميزان (ج4 ص439- 440) هذا الحديث منكر جداً. ما أدري من الآفة فيه. وشيوخ ابن عبد البر الثلاثة موثوقون، وشيخهم محمد بن معاوية هو ابن الأحمر راوي السنن عن النسائي وثقه ابن حزم وغيره والظاهر إن الغلط فيه من أبي خليفة الفضل بن الحباب فلعل ابن الأحمر سمعه منه بعد احتراق كتبه - انتهى. وقد روى أيضاً هذا من حديث ابن عمر عند الدارقطني في الأفراد. وقد ورد أيضاً موقوفاً على عمر أخرجه ابن عبد البر بسند رجاله ثقات، لكنه من رواية ابن المسيب عنه. وقد اختلف في سماعه منه، ورواه البيهقي في الشعب من رواية إبراهيم بن محمد بن المنتشر. قال كان يقال من وسع على عياله - الحديث (وضعفه) أي البيهقي هذا الحديث. قلت: اختلفت العلماء في حديث التوسعة على العيال يوم عاشوراء فحكم جمع بالوضع، ومنهم ابن الجوزي وابن تيمية والعقيلي والزكشي، وحسنه بعضهم بكثرة طرقه مع القول بضعف أفرادها. ومنهم البيهقي ومن حذا حذوه. قال البيهقي في الشعب: بعد ذكر الحديث من رواية ابن مسعود وأبي هريرة وأبي سعيد وجابر

(7) باب أفضل الصدقة

1947- (45) وعن أبي أمامة: قال: قال أبو ذر: يا نبي الله! أرأيت الصدقة ماذا هي؟ قال: ((أضعاف مضاعفة، وعند الله المزيد)) . رواه أحمد. (7) باب أفضل الصدقة {الفصل الأول} 1948، 1949- (1، 2) عن أبي هريرة، وحكيم بن حزام، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير الصدقة ما كان عن ظهر غني، ـــــــــــــــــــــــــــــ فهذه الأسانيد وإن كانت ضعيفة، فهي إذا ضم بعضها إلى بعض أحدثت قوة- انتهى. وقد تقدم إن العراقي قد حسن حديث أبي هريرة من طريق سليمان بن أبي عبد الله، وصحح بعض طرقه أبوالفض بن ناصر وسبق أيضاً إن العراقي قال: في حديث جابر عند ابن عبد البر أنه على شرط مسلم. وإنه أصح طرقه، وحكم الحافظ ابن حجر بكوه منكراً. ومال السخاوي في المقاصد الحسنة إلى تحسين هذا الحديث. والسيوطي إلى أنه ثابت صحيح كما صرح به القاري في موضوعاته الكبير. والمعتمد عندي هو ما ذهب إليه البيهقي إن له طرقاً بعضها بعضاً، إن أسانيده الضعيفة أحدثت قوة بإلتضام والله تعالى أعلم. 1947- قوله: (أرأيت) أي أخبرني (الصدقة) بالرفع مبتدأ والخبر جملة (ماذا هي) أي أي شيء ثوابها (أضعاف) أي هي يعني ثوابها أضعاف أي من عشرة (مضاعفة) أي إلى سبعمائة (وعند الله المزيد) أي الزيادة تفضلاً كما قال تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} [يونس: 26] ونظيره قوله تعالى: {وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيما} [النساء:40] فقوله "من لدنه" أي من عنده تفضلاً على تفضل. قال الطيبي: الجملة الاستفهامية خبر بالتأويل أي الصدقة أقول فيها ماذا هي، والسؤال عن حقيقة الصدقة لا يطابق الجواب بقوله أضعاف. لكنه وارد على أسلوب الحكيم أي لا تسأل عن حقيقتها، فإنها معلومة. وأسأل عن ثوابها ليرغبك فيها- انتهى. (رواه أحمد) (ج5 ص265) في حديث طويل وأخرجه أيضًا الطبراني في الكبير، وفي إسناده عندهما علي بن يزيد الإلهاني. وفيه كلام وثقه أحمد وابن حبان. قال البخاري: منكر الحديث. وقال الدارقطني: متروك. وقال أبوزرعة: ليس بقوى. ورواه أحمد أيضاً عن أبي ذر نفسه (ج5 ص178- 179) وفيه أبوعمر الدمشقي وهو متروك. قاله الهيثمي. (باب أفضل الصدقة) 1948- 1949-قوله: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غني) أي ما كان عفواً قد فضل عن غني والظهر

............................... ـــــــــــــــــــــــــــــ قد يزاد في مثل هذا تمكيناً وأشباعاً للكلام كأن صدقته مستندة إلى ظهر قوى من المال. والمعنى أفضل الصدقة ما أبقت بعدها غني يعتمده صاحبها ويستظهر به على مصالحه ونوائبه التي تنوبه لقوله في رواية أخرى أفضل الصدقة، ما ترك غني. وفي أخرى خير الصدقة ما أبقت غني، ونحوه قولهم ركب متن السلامة والتنكير في قوله غني للتعظيم. وقيل المعنى أفضل الصدقة ما أخرجه الإنسان من ماله بعد أن يستبقي منه قدر الكفاية، ولذلك قال بعده وأبدأ بمن تعول، والمقصود إن خير الصدقة ما وقع من غير محتاج إلى ما يتصدق به لنفسه أو لمن تلزمه نفقته. وقال القرطبي في المفهم: المختار إن معنى الحديث أفضل الصدقة ما وقع بعد القيام بحقوق النفس والعيال، بحيث لا يصير المتصدق محتاجاً بعد صدقته إلى أحد. فمعنى الغني في هذا الحديث، حصول ما تدفع به الحاجة الضرورية كالأكل عند الجوع المشوش الذي لا صبر عليه، وستر العورة والحاجة إلى ما يدفع به عن نفسه الأذى وما هذا سبيله، فلا يجوز الإيثار به، بل يحرم وذلك إنه إذا آثر غيره به أدى إلى إهلاك نفسه أو الإضرار بها، أو كشف عورته، فمراعاة حقه أولى على كل حال، فإذا سقطت هذه الواجبات صح الإيثار، وكانت صدقته هي الأفضل لأجل ما يتحمله من مضض الفقر، وشدة مشقته فهذا تندفع به التعارض بين الأدلة - انتهى. وقيل ظهر غنى عبارة عن تمكن المتصدق عن غنى ما مثل قولهم هو على ظهر سير أي متمكن منه، وتنكير غنى ليفيد أن لا بد للمتصدق من غنى ما، أما غنى النفس وهو الاستغناء عما بذل بسخاوة النفس ثقة بالله تعالى كما كان من أبي بكر رضي الله عنه. وأما غنى المال الحاصل في يده، والأول أفضل اليسارين لقوله عليه الصلاة والسلام ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس. وإلا لا يستحب له أن يتصدق بجميع ماله، ويترك نفسه وعياله في الجوع والشدة. وقيل من للسببية والظهر زائد أي خير الصدقة ما كان سببها غنى في المتصدق. وقيل المراد خير الصدقة ما أغنيت به من أعطيته عن المسألة أي أفضل الصدقة ما ترك غنى في المتصدق عليه بأن تجزل له العطية. وأعلم أنه أختلف العلماء في الصدقة بجميع المال. قال النووي: مذهبنا أنه مستحب لمن لا دين عليه ولا له عيال، لا يصبرون بشرط أن يكون ممن يصبر على الإضاقة والفقر، فإن لم يجتمع هذه الشروط فهو مكروه قال الطبري وغيره: قال الجمهور من تصدق بماله كله في صحة بدنه وعقله حيث لا دين عليه، وكان صبوراً على الإضافة ولا عيال له، أو له عيال يصبرون أيضاً فهو جائز فإن فقد شيء من هذه الشروط كره. وقال بعضهم: هو مردود، وروى عن عمر حيث رد على غيلان الثقفي قسمة ماله، ويمكن أن يحتج له بقصة المدبر فإنه صلى الله عليه وسلم باعه وأرسل ثمنه إلى الذي دبره لكونه كان محتاجاً، وقال آخرون: يجوز من الثلث، ويرد عليه الثلثان، وهو قول الأوزاعي ومكحول. وعن مكحول أيضاً يرد ما زاد على النصف. قال الطبري: والصواب

وأبدأ بمن تعول)) . رواه البخاري، ورواه مسلم عن حكيم وحده. 1950- (3) وعن أبي مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أنفق المسلم نفقة على أهله، وهو يحتسبها كانت له صدقة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ عندنا الأول من حيث الجواز، والمختار من حيث الاستحباب أن يجعل ذلك من الثلث جمعاً بين قصة أبي بكر حيث تصدق بماله كله. وحديث كعب بن مالك حيث قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك (وأبدأ بمن تعول) أي ابتدئ في الإنفاق والإعطاء بمن يلزمك نفقته من العيال، فإن فضل شيء فليكن للأجانب. يقال عال الرجل أهله إذا مانهم أي قام بما يحتاجون إليه من قوت وكسوة، وهو أمر بتقديم ما يجب على ما لا يجب. قال الحافظ: فيه تقديم نفقة نفسه وعياله لأنها منحصرة فيه بخلاف نفقة غيرهم وفيه الابتداء بالأهم فالأهم في الأمور الشرعية. وقال ابن المنذر: اختلف في نفقة من بلغ من الأولاد، ولا مال له ولا كسب، فأوجبت طائفة النفقة لجميع الأولاد، أطفالاً كانوا، أو بالغين، إناثاً وذكراناً. إذا لم يكن لهم أموال يستغنون بها. وذهب الجمهور إلى أن الواجب أن ينفق عليهم حتى يبلغ الذكر أو تتزوج الأنثى ثم لا نفقة على الأب إلا أن كانوا زمني. فإن كانت لهم أموال فلا وجوب على الأب. والحق الشافعي ولد الولد، وإن سفل بالولد في ذلك- انتهى. (رواه البخاري) أي عنهما في الزكاة وروى عن أبي هريرة أيضاً في النفقات، وأخرجه عنه أيضاً أحمد وأبوداود، والنسائي والدارمي (ورواه مسلم) في الزكاة (عن حكيم وحده) وأخرجه أيضاً أحمد (ج3 ص402- 434) والنسائي والدارمي. 1950- قوله: (إذا أنفق المسلم نفقة) حذف المقدار ليفيد التعميم أي أيّ نفقة كانت كبيرة أو صغيرة (على أهله) أي زوجته وولده، وأقاربه أو زوجته فقط. قال الحافظ: قوله "على أهله" يحتمل أن يشمل الزوجة والأقارب، ويحتمل أن يختص بالزوجة، ويلحق به من عداها بطريق الأولى، لأن الثواب إذا ثبت فيما هو واجب فثبوته فيما ليس بواجب أولى (وهو) أي والحال أنه (يحتسبها) أي يريد بها وجه الله تعالى بأن يتذكر أنه يجب عليه الإنفاق فينفق بنية أداء ما أمر به. قال الحافظ: المراد بالاحتساب القصد إلى طلب الأجر. وقال القرطبي: قوله "يحتسبها" أفاد بمنطوقه إن الأجر في الإنفاق إنما يحصل بقصد القربة، سواء كانت واجبة، أو مباحة. وأفاد بمفهومه إن من لم يقصد القربة لم يؤجر لكن تبرأ ذمته من النفقة الواجبة. لأنها معقولة المعنى (كانت) أي النفقة (له صدقة) أي كالصدقة في الثواب لا حقيقة قال الحافظ: المراد بالصدقة الثواب، وإطلاقها على النفقة مجاز، وقرينته الإجماع على جواز الإنفاق على الزوجة الهاشمية مثلاً، وهو من مجاز التشبيه. والمراد

متفق عليه. 1951- (4) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك)) . رواه مسلم. 1952- (5) وعن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله، ـــــــــــــــــــــــــــــ به أصل الثواب لا في كميته ولا كيفيته، ويستفاد منه إن الأجر لا يحصل بالعمل إلا مقروناً بالنية. وقال الطبري: ما ملخصه الإنفاق على الأهل واجب، والذي يعطيه يؤجر على ذلك بحسب قصده، ولا منافاة بين كونها واجبة، وبين تسميتها صدقة، بل هي أفضل من صدقة التطوع. وقال المهلب: النفقة على الأهل واجبة بالإجماع، وإنما سماها الشارع صدقة خشية أن يظنوا إن قيامهم بالواجب لا أجر لهم فيه، وقد عرفوا ما في الصدقة من الأجر فعرفهم أنها لهم صدقة، حتى لا يخرجوها إلى غير الأهل إلا بعد أن يكفرهم المؤنة ترغيباً لهم في تقديم الصدقة الواجبة قبل صدقة التطوع. وقال ابن المنير: تسمية النفقة صدقة من جنس تسمية الصداق نحلة، فلما كان احتياج المرأة إلى الرجل كاحتياجه إليها في اللذة والتأنيس والتحصن، وطلب الولد كان الأصل أن لا يجب لها عليه شيء إلا أن الله تعالى خص الرجل بالفضل على المرأة وبالقيام عليها ورفعه عليها بذلك درجة، فمن ثم جاز إطلاق النحلة على الصداق والصدقة على النفقة (متفق عليه) أخرجه البخاري في الإيمان والمغازي والنفقات، ومسلم في الزكاة، واللفظ للبخاري في النفقات، وأخرجه أيضاً أحمد (ج4 ص120، 122، وج 5 ص273) والترمذي في البر، والنسائي في الزكاة، والدارمي في الاستئذان. 1951- قوله: (دينار) مبتدأ صفته (أنفقته) بصيغة الخطاب (في سبيل الله) أي في الغزو أو المراد به العموم يعني في سبيل الخير (في رقبة) أي في فكها أو إعتاقها. قال الطيبي: دينار وما عطف عليه مبتدأ، وخبره الجملة التي هي (أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك) فيه دليل على أن إنفاق الرجل على أهله أفضله من الإنفاق في سبيل الله، ومن الإنفاق في الرقاب ومن التصدق على المساكين. وإنما كان الإنفاق على الأهل، أفضل، لأنه فرض، والفرض أفضل من النفل، أو لأنه صدقة وصلة (رواه مسلم) في الزكاة وأخرجه أيضاً أحمد. 1952- قوله: (أفضل دينار) يراد به العموم أي أكثر الدنانير ثواباً إذا أنفقت (دينار بنفقة على عياله) ...

ودينار ينفقه على دابته في سبيل الله ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله)) . رواه مسلم. 1953- (6) وعن أم سلمة، قالت: قلت: يا رسول الله! إلي أجران أنفق على بني أبي سلمة، إنما بني. فقال: ((أنفقي عليهم فلك أجر ما أنفقت عليهم)) . متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ أي من يعوله وتلزمه مؤنته من نحو زوجة وولد وخادم، وهذا إذا نوى به وجه الله كما تقدم (على دابته) أي دابة مرطوبة (في سبيل الله) يعني التي أعدها للغزو عليها، وفي رواية ابن ماجه على فرس في سبيل الله (على أصحابه) أي حال كونهم مجاهدين (في سبيل الله) يعني على رفقته الغزاة. وقيل: المراد بسبيله كل طاعة. قال القاري: يعني الإنفاق على هؤلاء الثلاثة على الترتيب أفضل من الإنفاق على غيرهم ذكره ابن الملك. ولا دلالة في الحديث على الترتيب، لأن الواو لمطلق الجمع، إلا أن يقال الترتيب الذكرى الصادر من الحكيم لا يخلو عن حكمة، فالأفضل ذلك إلا أن يوجد مخصص. ولذا قال عليه الصلاة والسلام: إبدؤا بما بدأ الله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} [البقرة:158]- انتهى. (رواه مسلم) في الزكاة، وفي آخره. قال أبوقلابة: (أي راوي الحديث) بدأ بالعيال، ثم قال أبوقلابة: وأي رجل أعظم أجراً من رجل ينفق على عيال صغار يعفهم الله به ويغنيهم، وأخرجه أيضاً أحمد (ج5 ص277، 279، 284) والترمذي في البر وابن ماجه في الجهاد. 1953- قوله: (وعن أم سلمة) بفتح السين واللام أم المؤمنين زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - (إلى) بسكون الياء وفتحها أي هل لي (أجر إن أنفق) بفتح الهمزة أي في إنفاقي (على بني أبي سلمة) أبوسلمة هذا هو عبد الله بن عبد الأسد، وكان زوج أم سلمة قبل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فتزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعده، ولها من أبي سلمة أولاد سلمة، وعمر، ومحمد، وزينب، ودرة (إنما هم بني) منه بفتح الموحدة وكسر النون وتشديد الياء، وأصله بنون، فلما أضيف إلى ياء المتكلم سقطت نون الجمع فصار بنوى، فاجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بسكون فأدغمت الواو بعد قلبها ياء في الياء، فصار بني بضم النون وتشديد الياء، ثم أبدلت الضمة كسرة لأجل الياء فصار بني (أنفقي عليهم) بفتح الهمزة وكسر الفاء (فلك أجر ما أنفقت عليهم) قال الحافظ: رواه الأكثر بالإضافة على أن تكون "ما" موصولة وجوز أبوجعفر الغزناطي نزيل حلب تنوين أجر على أن تكون "ما" ظرفية – انتهى. والحديث ترجم له البخاري باب الزكاة على الزوج، والأيتام في الحجر. قال الحافظ: ليس في حديث أم سلمة تصريح بأن الذي كانت تنفقه عليهم من الزكاة، فكان القدر المشترك من الحديث حصول الإنفاق على الأيتام- انتهى. (متفق عليه) أخرجاه في الزكاة واللفظ للبخاري، وأخرجه أيضاً أحمد (ج6 ص292، 310، 314) .

1954- (7) وعن زينب امرأة عبد الله بن مسعود، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تصدقن يا معشر النساء! ولو من حليكن. قالت: فرجعت إلى عبد الله فقلت: إنك رجل خفيف ذات اليد، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا بالصدقة. فأته فأسأله، فإن كان ذلك يجزئ عني وإلا صرفتها إلى غيركم؟ قالت: فقال لي عبد الله: بل إئتيه أنتِ. قالت: فانطلقت، فإذا امرأة من الأنصار بباب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حاجتي حاجتها قالت: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ألقيت عليه المهابة، فقالت: فخرج علينا بلال، فقلنا له: إئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره أن أمرأتين بالباب تسألانك: أتجزيء الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ 1954- قوله: (يا معشر النساء) أي جماعتهن (ولو من حليكن) بضم الحاء وكسر اللام وتشديد الياء جمعاً ويجوز فتح الحاء وسكون اللام مفرداً (فرجعت إلى) زوجي (عبد الله) بن مسعود (إنك رجل خفيف ذات اليد) كناية عن الفقر أي قليل المال (قد أمرنا بالصدقة) أي بإعطاءها أو بالتصدق (فأته) أي فأحضره (فأسأله) وفي بعض النسخ فسله، وفي رواية للبخاري، وكانت زينب تنفق على عبد الله، وأيتام في حجرها. فقالت: لعبد الله سل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيجزئ عني أن أنفق عليك، وعلى أيتام في حجري من الصدقة. قال الحافظ: لم أقف على تسمية الأيتام الذين كانوا في حجرها (فإن كان ذلك) أي التصدق عليك (يجزئ) بضم الياء وآخره همزة أي يكفي، وفي بعض النسخ يجزي بفتح الياء وكسر الزاي وسكون الياء أي يغني ويقضي (عني) أي تصدقت عليكم (وإلا) أي وإن لم تجزئني (صرفتها) أي عنكم (إلى غيركم) من المستحقين (بل إئتيه أنتِ) قيل: لعل امتناعه لأن سؤاله ينبئ عن الطمع (فإذا امرأة من الأنصار) أي واقفة وحاضرة (بباب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قيل: اسم هذه المرأة الأنصارية زينب امرأة أبي مسعود يعني عقبة بن عمرو الأنصاري كما عند ابن الأثير في أسد الغابة، وفي رواية النسائي فإذا امرأة من الأنصار يقال لها زينب (حاجتي حاجتها) مبتدأ وخبر أي عينها أو تشبيه بليغ وفي رواية للبخاري حاجتها مثل حاجتي (قالت) أي زينب (وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ألقيت) بصيغة المجهول (عليه المهابة) بفتح الميم أي أعطى الله رسوله هيبة وعظمة يهابه الناس ويعظمونه، ولذا ما كان أحد يجترئ على الدخول عليه. قال الطيبي: كان دل على الاستمرار، ومن ثم كان أصحابه في مجلسه كأن على رؤوسهم الطير، وذلك عزة منه عليه الصلاة والسلام لأكبر وسوء خلقه، وإن تلك العزة ألبسها الله تعالى إياه - صلى الله عليه وسلم - لا من تلقاء نفسه (فخرج علينا بلال) المؤذن (في حجورهما) بضم الحاء حجر بالفتح والكسر

ولا تخبره من نحن. قالت: فدخل بلال على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من هما؟ قال: امرأة من الأنصار وزينب. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الزيانب؟ قال امرأة عبد الله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لهما أجران أجر القرابة، وأجر الصدقة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ يقال فلان في حجر فلان أي في كنفه ومنعه، والمعنى في تربيتهما. وفي رواية الطيالسي أنهم بنو أخيها وبنو أختها (ولا تخبره) بجزم الراء (من نحن) أي لا تعين اسمنا بل قل تسألك امرأتان إرادة الإخفاء مبالغة في نفي الرياء أو رعاية للأفضل، وهذا أيضاً يصلح أن يكون وجهاً لعدم دخولهما. وقيل: المعنى لا تخبره أي بلا سؤال وإلا فعند السؤال يجب الإخبار فلا يمكن المنع عنه ولذلك أخبر بلال بعد السؤال (من هما) أي المرأتان (قال) أي بلال مخبراً عنهما ومعيناً لإحداهما لوجوبه عليه بطلب الرسول، واستخباره عليه الصلاة والسلام (امرأة من الأنصار وزينب فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الزيانب) أي أي زينب منهن فعرف باللام مع كونه علماً لما نكر حتى جمع. قال ابن الملك: وإنما لم يقل آية لأنه يجوز التذكير والتأنيث. قال الله تعالى: {وما تدري نفس بأي أرض تموت} [لقمان:34] انتهى. (قال) بلال زينب (امرأة عبد الله) بن مسعود ولم يذكر بلال في الجواب معها زينب امرأة أبي مسعود الأنصاري اكتفاء باسم من هي أكبر وأعظم (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) نعم يجزيْ عنهما (لهما) أي لكل منهما (أجران أجر القرابة) أي أجر، وصلها (وأجر الصدقة) أي أجر منفعة الصدقة وهذا ظاهره إن زينب امرأة عبد الله لم تشافهه بالسؤال ولا شافهها بالجواب، وحديث أبي سعيد عند البخاري في باب الزكاة على الأقارب يدل على أنها شافهته وشافهها لقولها فيه يا نبي الله!! إنك أمرت، وقوله فيه صدق زوجك. فقيل: تحمل هذه المراجعة على المجاز، وإنما كانت على لسان بلال، ويحتمل أن تكونا قضيتين إحداهما في سؤالهما عن تصدقها بحيلها على زوجها وولده، والأخرى في سؤالها عن النفقة واستدل بهذا الحديث على جواز دفع المرأة زكاتها إلى زوجها وهو قول الشافعي والثوري وصاحبي أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن مالك وعن أحمد، ومنعه أبوحنيفة ومالك وأحمد في رواية. والحديث إنما يتم دليلاً للقول الأول بعد تسليم إن هذه الصدقة صدقة واجبة. وبذلك جزم المازري، ويؤيد ذلك قولها أيجزئ عني، وعليه يدل تبويب البخاري بلفظ: باب الزكاة على الزوج والأيتام وقد تعقب القاضي عياض المازري بأن قوله ولو من حليكن، وقوله فيما ورد في بعض الروايات عند الطحاوي وغيره إنها كانت امرأة صنعاء اليدين فكانت تنفق عليه وعلى ولده، يدلان على أنها صدقة

متفق عليه، واللفظ لمسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ تطوع، وبه جزم النووي وغيره وتألوا قوله أيجزئ عني أي في الوقاية من النار كأنها خافت إن صدقتها على زوجها لا تحصل لها المقصود. قال ابن الهمام: الأجزاء وإن كان في عرف الفقهاء الحادث لا يستعمل غالباً إلا في الواجب لكن كان في ألفاظهم لما هو أعم من النفل لأنه لغة الكفاية فالمعنى، هل يكفي التصدق عليه في تحقيق مسمى الصدقة، وتحقيق مقصودها من التقرب إلى الله تعالى. واحتجوا أيضاً على أنها صدقة تطوع بما في البخاري من حديث أبي سعيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: لها زوجك وولدك أحق من تصدقت عليهم. قالوا: لأن الولد لا يعطي من الزكاة الواجبة بالإجماع كما نقله ابن المنذر وغيره فعلم أنها صدقة تطوع وتعقب هذا بأن الذي يمتنع إعطاءه من الصدقة الواجبة من تلزم المعطى نفقته والأم لا يلزمها نفقة ابنها مع وجود أبيه. وبأن قوله وولدك محمول على أن الإضافة للتربية لا للولادة فكأنه ولدها من غيرها كما يشعر به ما وقع في رواية أخرى على زوجها وأيتام في حجرها وسموا أيتاماً، باعتبار اليتم من الأم وأجيب عن الأول بأن الأم يلزمها نفقة ولدها إذا كان أبوه فقيراً عاجزاً عن التكسب جداً عند الحنفية، وعن الثاني بأنه خلاف الظاهر وأما الرواية الأخرى فالظاهر إنها قضية أخرى كما تقدم واحتج لأبي حنيفة على منع إعطاءها زكاتها لزوجها بأنها تعود إليها بالنفقة فكأنها ما خرجت عنها ورُدَّ هذا بأنه يلزمه منع صرفها صدقة التطوع في زوجها الاحتمال الرجوع مع أنه يجوز صرفها فيه اتفاقاً. والظاهر عندي أنه يجوز لها دفع زكاتها إلى زوجها لدخول الزوج في عموم الأصناف المسلمين في الزكاة، وليس في المنع نص، ولا إجماع ولا قياس صحيح. قال الشوكاني: الظاهر أنه يجوز صرف زكاتها إلى زوجها. وأما أولاً، فلعدم المانع من ذلك ومن قال أنه لا يجوز فعليه الدليل. وأما ثانياً، فلأن ترك استفصاله - صلى الله عليه وسلم - لها ينزل منزلة العموم فلما لم يستفصلها عن الصدقة هل هي تطوع أو واجب، فكأنه قال يجزئ عنك فرضاً كان أو تطوعاً- انتهى. وهكذا ذكر الحافظ في الفتح. ثم قال: وأما ولدها فليس في الحديث تصريح بأنها تعطي ولدها من زكاتها بل معناه إنها إذا أعطت زوجها فأنفقه على ولدها كانوا أحق من الأجانب فالإجزاء يقع بالإعطاء للزوج، والوصول إلى الولد بعد بلوغ الزكاة محلها- انتهى. وأما الزوج فاتفقوا على أنه لا يجوز له صرف صدقة واجبة في زوجته. قالوا: لأن نفقتها واجبة عليه فتستغني بها عن الزكاة ذكره ابن المنذر كما في المغني والفتح. قال الأمير اليماني: وعندي فيه توقف لأن غنى المرأة بوجوب النفقة على زوجها لا يصيرها غنية الغني الذي يمنع من الزكاة لها- انتهى. وقوله وولدك في حديث أبي سعيد يدل على أجزاء الزكاة في الولد إلا أنه أدعي ابن المنذر الإجماع على عدم جواز صرفها إلى الولد. وحملوا الحديث على أنه في غير الواجبة أو إن الصرف إلى الزوج وهو المنفق على الأولاد أو أنهم لم يكونوا منها من غيرها، والإضافة إليها للتربية (متفق عليه) أخرجاه في الزكاة وأخرجه

1955- (8) وعن ميمونة بنت الحارث: أنها أعتقت وليدة في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ((أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك)) . متفق عليه. 1956- (9) وعن عائشة، قالت: يا رسول الله! إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: ((إلى أقربهما منك ـــــــــــــــــــــــــــــ أيضاً أحمد (ج6 ص363) والنسائي في الزكاة، وأخرجه ابن ماجه فيه مختصراً جداً. 1955- قوله: (وعن ميمونة بنت الحارث) أم المؤمنين الهلالية (إنها أعتقت وليدة) أي أمة وللنسائي إنها كانت لها جارية سوداء. قال الحافظ: ولم أقف على إسمها (في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي ولم تستأذنه (فذكرت ذلك) أي الاعتقاق (لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -) هذا لفظ مسلم، وفي رواية البخاري فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه قالت أشعرت يا رسول الله! إني أعتقت وليدتي قال أو فعلت قالت نعم (لو أعطيتها) بكسر التاء (أخوالك) باللام جمع الخال وأخوالها كانوا من بني هلال أيضاً وإسم أمها هند بنت عوف بن زهير بن الحارث. قال العيني: وقع في رواية الأصيلي للبخاري أخواتك بالتاء بدل اللام. قال عياض: ولعله أصح من رواية أخوالك بدليل رواية مالك في المؤطا فلو أعطيتها أختيك ولا تعارض فيحتمل أنه عليه الصلاة والسلام. قال: ذلك كله (كان) إعطائك لهم (أعظم لأجرك) من عتقها ومفهومه إن الهبة لذوي الرحم أفضل من العتق كما قاله ابن بطال، ويؤيده حديث سلمان بن عامر الآتي لكن ليس ذلك على إطلاقه بل يختلف باختلاف الأحوال. وقد وقع في رواية النسائي بيان وجه الأفضلية في إعطاء الأخوال، وهو احتياجهم إلى من يخدمهم. ولفظه أفلا فديت بها بنت أختك من رعاية الغنم على أنه ليس في حديث الباب نص على أن صلة الرحم أفضل من العتق؛ لأنها واقعة عين فالحق إن ذلك يختلف باختلاف الأحوال كما قررنا. وفي الحديث فضيلة صلة الأرحام والإحسان إلى الأقارب وفيه الإعتناء بالأقارب الأم إكراماً لحقها، وهو زيادة في برها، وفيه جواز تبرع المرأة بمالها بغير إذن زوجها إذا كانت رشيدة (متفق عليه) أخرجه البخاري في الهبة ومسلم في الزكاة، واللفظ لمسلم وأخرجه أيضاً أحمد (ج6 ص332) وأبوداود في الزكاة والحاكم (ج1 ص415) والنسائي في الكبرى. 1956- قوله: (فإلى أيهما أهدي) بضم الهمزة من الإهداء يعني أولاً، وفي رواية أبي داود بأيهما ابدأ (إلى أفقربهما منك) من متعلقة بالقرب في أقرب لا صلة التفضيل؛ لأن أفعل التفضيل قد أضيف فلا يجمع بين الإضافة،

باباً)) . رواه البخاري. 1957 - (10) وعن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها، وتعاهد جيرانك)) . رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ و"من" المتعلقة بأفعل التفضيل (باباً) نصب على التمييز أي أشدهما قرباً. قيل: الحكمة فيه إن الأقرب يرى ما يدخل في بيت جاره من هدية وغيرها يعني أنه أكثر اختلاطاً أو أظهر إطلاعاً فيتشوف لها بخلاف إلا بعد، وإن الأقرب أسرع إجابة لما يقع لجاره من المهمات وينوبه من النوائب، ولاسيما في أوقات الغفلة بديء به على من بعد. وفي الحديث الاعتبار في الجوار بقرب الباب لأقرب الجدار. قال ابن أبي جمرة: الإهداء إلى الأقرب مندوب، لأن الهدية في الأصل ليست واجبة، فلا يكون الترتيب فيها واجباً. ويؤخذ منه إن العمل بما هو أعلى أولى. قلت: ليس المراد من الحديث إنحصار الإهداء إلى الأقرب كما هو ظاهر الحديث، بل المراد إن الجار الأقرب أنسب بالإبتداء أو بمزيد الإحسان، لقوله تعالى: {والجار ذي القربى والجار الجنب} [النساء:36] ولحديث أبي ذر الآتي واختلف في حد الجوار فجاء عن علي رضي الله عنه: من سمع النداء فهو جار، وعن عائشة: حد الجوار أربعون داراً من كل جانب، وعن كعب بن مالك عند الطبراني بسند ضعيف مرفوعاً إلا أن الأربعين داراً جار، وأخرج ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب أربعون داراً عن يمينه وعن يساره ومن خلفه ومن بين يديه. وهذا يحتمل كالأولى ويحتمل أن يريد التوزيع فيكون من كل جانب عشرة (رواه البخاري) في الشفعة وفي الهبة وفي الأدب، وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود في الأدب. 1957- قوله: (إذا طبخت) بفتح الباء (مرقة) أي فيها لحم أو لا والمرقة بالتحريك وكذا المرق الماء الذي أغلي فيه اللحم أو غيره كالسلق وغيره (فأكثر) أمر من الإكثار (ماءها) أي على المعتاد لنفسك (وتعاهد جيرانك) بكسر الجيم وسكون الياء جمع الجار يعني أعط جيرانك من ذلك الطبيخ نصيباً يعني لا تجعل ماء قدرك قليلاً فإنك حينئذٍ لا تقدر على تعهد جيرانك بل اجعل ماء قدرك كثير التبلغ نصيباً منه إلى جيرانك، وإن لم يكن لذيذاً قاله المظهر. وقال التوربشتي: قوله تعهد جيرانك أي تفقدهم بزيادة طعامك وجدد عهدك بذلك، وتحفظ به حق الجوار. والتعهد التحفظ بالشيء وتجديد العهد به، والتعاهد ما كان بين اثنين من ذلك، يقال تعاهد الشيء وتعهده واعتهده، أي تحفظ به وتفقده وجدد العهد به (رواه مسلم) في البر وأخرجه أيضاً أحمد (ج5 ص149) والترمذي وابن ماجه في الأطعمة وابن حبان بألفاظ مختلفة متقاربة.

{الفصل الثاني}

{الفصل الثاني} 1958- (11) عن أبي هريرة، قال: يا رسول الله! أي الصدقة أفضل؟ قال: ((جهد المقل، وابدأ بمن تعول)) . رواه أبوداود. 1959- (12) وعن سليمان بن عامر، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1958- قوله: (أي الصدقة أفضل قال جهد المقل) بضم الميم وكسر القاف من الإقلال أي قليل المال يقال أقل الرجل أي قل ماله وافتقر. قال في النهاية: الجهد بالضم الوسع والطاقة، وبالفتح المشقة. وقيل: المبالغة والغاية. وقيل: هما لغتان في الوسع والطاقة. فأما في المشقة والغاية فالفتح لا غير، ومن المضموم حديث الصدقة أي الصدقة أفضل. قال: جهد المقل أي قدر ما يحتمله حال القليل المال - انتهى. والجمع بينه وبين ما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم - خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، إن الفضيلة متفاوتة بحسب الأشخاص وقوة التوكل وضعف اليقين. قال البيهقي (ج4 ص180) يختلف ذلك باختلاف أحوال الناس في الصبر على الشدة والفاقة والاكتفاء بأقل الكفاية، وساق أحاديث تدل على ذلك. وقال ابن الملك: أي أفضل الصدقة ما قدر عليه الفقير الصابر على الجوع أن يعطيه، والمراد بالغني في قوله خير الصدقة ما كان عن ظهر عني من لا يصبر على الجوع والشدة توفيقاً بينهما، فمن يصبر فالإعطاء في حقه أفضل، ومن لا يصبر فالأفضل في حقه أن يمسك قوته، ثم يتصدق بما فضل - انتهى. وقال الشوكاني: بعد ذكر المعارضة بين الحديثين، ويؤيد هذا المعنى أي حديث جهد المقل قوله تعالى: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} [الحشر:9] ويؤيد الأول حديث الظهر قوله تعالى: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط} [الإسراء:29] ويمكن الجمع بأن الأفضل لمن كان يتكفف الناس إذا تصدق بجميع ماله أن يتصدق عن ظهر غني، والأفضل لمن يصبر على الفاقة أن يكون متصدقاً بما يبلغ إليه جهده، وإن لم يكن مستغنياً عنه. ويمكن أن يكون المراد بالغني غني النفس، كما في حديث أبي هريرة عند الشيخين ليس الغني عن كثرة العرض ولكن الغني عن النفس - انتهى. (رواه أبوداود) في الزكاة وسكت عنه هو والمنذري، وأخرجه أيضاً أحمد، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والذهبي، وأخرجه البيهقي (ج4 ص180) من طريق الحاكم. 1959- قوله: (وعن سليمان بن عامر) كذا في جميع النسخ الحاضرة مصغراً وهو خطأ من النساخ، والصواب سلمان مكبراً، هكذا وقع في جميع الأصول وكتب الرجال وليس في الصحابة أحد اسمه سليمان بن عامر بالتصغير، وسلمان هذا هو سلمان بن عامر بن أوس بن حجر بن عمرو بن الحارث الضبي صحابي، سكن البصرة،

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة)) . رواه أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي. 1960- (13) وعن أبي هريرة، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: عندي دينار قال: ((أنفقه على نفسك، قال عندي آخر. قال: أنفقه على ولدك، ـــــــــــــــــــــــــــــ وكان في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - شيخاً عاش إلى خلافة معاوية. قال الدولابي: قتل يوم الجمل وهو ابن مائة سنة، روى عنه محمد وحفصة ابنا سيرين وابنة أخيه الرباب أم الرائح بنت صليع بن عامر، وحفيده عبد العزيز بن بشر بن سلمان. قال مسلم: ليس في الصحابة ضبي غيره كذا نقله ابن الأثير وأقره هو ومن تبعه، وقد وجد في الصحابة جماعة ممن لهم صحبة، أو اختلف في صحتهم من بني ضبة، منهم يزيد بن نعامة الضبي جزم البخاري بأن له صحبة وكدير الضبي مختلف في صحبته وحنظلة بن ضرار الضبي. قال ميرك: قوله سليمان بن عامر صوابه سلمان مكبراً، بلا ياء، وسليمان سهو من الكتاب أو من صاحب الكتاب والله أعلم بالصواب - انتهى. قلت: الظاهر إن الخطأ من الكتاب فإن المؤلف قال في الصحابة: سلمان بن عامر هو سلمان بن عامر الضبي عداده في البصريين. قال بعض أهل العلم: ليس في الصحابة من الرواة ضبي غيره - انتهى كلامه. وقد ذكره بعد سلمان الفارسي فدل على أن السهو ههنا من الكتاب، لأنه لو كان من صاحب الكتاب لذكره في عداد سليمان قبل سلمة بن الأكوع (الصدقة على المسكين الخ) إطلاقه يشمل الفرض والندب فيدل على جواز أداء الزكاة إلى القرابة مطلقاً. قال الشوكاني: قد استدل بالحديث على جواز صرف الزكاة إلى الأقارب سواء كان ممن تلزم لهم النفقة أم لا، لأن الصدقة المذكورة فيد لم تقيد بصدقة التطوع، ولكنه قد تقدم عن ابن المنذر أنه حكى الإجماع على عدم جواز صرف الزكاة إلى الأولاد - انتهى. (صدقة) أي واحدة (وهي على ذي الرحم) أي ذي القرابة (ثنتان) أي صدقتان اثنتان يعني ففيهما أجران فهذا حث على التصدق على الرحم والاهتمام به. (صدقة وصلة) يعني إن الصدقة على الأقارب أفضل؛ لأنه خيران، ولا شك أنهما أفضل من واحد. قال العزيزي: لكن هذا غالبي، وقد يقتضي الحال العكس (رواه أحمد) (ج4 ص17، 18، 214) (والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي) أخرجوه في الزكاة (ج3 ص116، 117) . 1960- قوله: (جاء رجل) لم يعرف اسمه (عندي دينار) أي وأريد أن أنفقه (أنفقه على نفسك) وفي رواية: تصدق بدل أنفق، وكذا فيما بعده أي أقض به حوائج نفسك (قال عندي آخر قال أنفقه على ولدك) فيه دليل على أنه يلزم الأب نفقة ولده المعسر، فإن كان الولد صغيراً فذلك إجماع، وإن كان كبيراً ففيه اختلاف

قال عندي آخر، قال: أنفقه على أهلك، قال عندي آخر، قال: أنفقه على خادمك، قال: عندي آخر، قال: أنت أعلم)) . رواه أبوداود، والنسائي. 1961- (14) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم ـــــــــــــــــــــــــــــ كما تقدم (قال عندي آخر قال أنفقه على أهلك) أي زوجتك كما في رواية قال الطيبي: إنما قدم الولد على الزوجة لشدة افتقاره إلى النفقة بخلافها، فإنه لو طلقها لأمكنها أن تتزوج بآخر. وقال الخطابي في المعالم (ج2 ص81) هذا الترتيب إذا تأملته علمت أنه - صلى الله عليه وسلم - قدم الأولى فالأولى والأقرب. وهو أنه أمره بأن يبدأ بنفسه ثم بولده؛ لأن ولده كبعضه فإذا ضيعه هلك، ولم يجد من ينوب عنه في الإنفاق عليه، ثم ثلث بالزوجة وأخرها عن درجة الولد؛ لأنه إذ لم يجد ما ينفق عليها فرق بينهما، وكان لها من يمونها من زوج أو ذي رحم تجب نفقتها عليه. ثم ذكر الخادم؛ لأنه يباع عليه إذا عجز عن نفقته فتكون النفقة على من يبتاعه ويملكه. ثم قال له فيما بعد أنت أبصر أي أن شئت تصدقت وإن شئت أمسكت - انتهى. قلت: اختلفت الرواية في تقديم الولد على الزوجة فقدمه عليها في رواية الشافعي، وأبي داود والحاكم، وقدم الزوجة على الولد في رواية أحمد والنسائي وابن حبان قال ابن حزم: اختلف يحيى القطان والثوري (عن ابن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة) فقدم يحيى الزوجة على الولد، وقدم سفيان الولد على الزوجة فينبغي أن لا يقدم أحدهما على الأخر بل يكونان سواء، لأنه قدم صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا تكلم تكلم ثلاثاً، فيحتمل أن يكون في إعادته إياه، مرة قدم الولد، ومرة قدم الزوجة، فسار سواء. قال الحافظ في التلخيص: (ص334) بعد ذكر كلام ابن حزم. قلت: وفي صحيح مسلم من رواية جابر تقديم الأهل على الولد من غير تردد فيمكن أن ترجح به إحدى الروايتين - انتهى. ولفظ حديث جابر عند مسلم قال: إبدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلا هلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك الخ. قال الشوكاني: يمكن ترجيح تقديم الزوجة على الولد بما وقع من تقديمها. في حديث جابر (أنت أعلم) بحال من يستحق الصدقة من أقاربك وجيرانك وأصحابك (رواه أبوداود والنسائي) في الزكاة لكن اللفظ المذكور ليس لواحد منهما ولم أجد هذا اللفظ في مسند الإمام أحمد والمستدرك للحاكم أيضاً، نعم ذكره بهذا اللفظ البغوي في المصابيح، وتبعه المصنف في ذلك. والحديث أخرجه أيضاً أحمد (ج2 ص251، 471) والشافعي وابن حبان والحاكم (ج1 ص451) وسكت عنه أبوداود. وقال المنذري: في إسناده محمد بن عجلان، وقد تقدم الكلام عليه وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي وسكت عليه الحافظ في التلخيص وبلوغ المرام. 1961- قوله: (ألا) حرف تنبيه (أخبركم) استئناف ويحتمل أن يكون "ألا" مركباً من "لا"

بخير الناس؟ رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله، ألا أخبركم بالذي يتلوه؟ رجل معتزل في غنيمة له يؤدي حق الله فيها. ـــــــــــــــــــــــــــــ النافية واستفهام التقرير، ويكون لفظ بلى مقدراً. قال الباجي: وقد علن أنهم يوردون ذلك على سبيل التنبيه لهم على الإصغاء إليه والإقبال على ما يخبر به والتفرغ لفهمه (بخير الناس) أي بمن هو من خير الناس، وكذلك قوله "بشر الناس" أي بمن هو من شر الناس. وقيل: أطلق للمبالغة في الحث على الأول والتحذير الثاني، وفي الموطأ ألا أخبركم بخير الناس منزلاً. قال الباجي: أي أكثرهم ثواباً وأرفعهم درجة. قال عياض: وهذا عام مخصوص وتقديره من خير الناس، وإلا فالعلماء الذين حملوا الناس على الشرائع والسنن وقادوهم إلى الخير أفضل وكذا الصديقون كما جاءت به الأحاديث ويؤيده إن في رواية للنسائي: إن من خير الناس رجلاً عمل في سبيل الله على ظهر فرسه بمن التي للتبعيض - انتهى. قال الحافظ وفي رواية للحاكم (ج2 ص71) سئل أي المؤمنين أكمل إيماناً، قال: الذي يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله الخ. وكأن المراد بالمؤمن من قام بما تعين عليه القيام به، ثم حصل هذه الفضيلة، وليس المراد من اقتصر على الجهاد وأهمل الواجبات العينية، وحينئذٍ فيظهر فضل المجاهد لما فيه من بذل نفسه وماله لله تعالى، ولما فيه من النفع المتعدي (رجل) بالرفع على تقدير هو وبالجر على البدلية (ممسك) صفة رجل (بعنان) بكسر العين لجام (فرسه) وفي رواية آخذ برأس فرسه (في سبيل الله) وفي الموطأ رجل آخذ بعنان فرسه يجاهد في سبيل الله. قال الباجي: يريد والله أعلم أنه مواظب على ذلك ووصفه بأنه آخذ بعنان فرسه يجاهد في سبيل الله بمعنى أنه لا يخلو في الأغلب من ذلك راكباً له، أو قائداً معظم أمره ومقصوده من تصرفه فوصف بذلك جميع أحواله، وإن لم يكن آخذاً بعنان فرسه في كثير منها - انتهى. (بالذي يتلوه) أي يتبعه ويقربه في الخيرية، وفي رواية بالذي يليه، وفي الموطأ ألا أخبركم بخير الناس منزلاً بعده. قال الباجي وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل المنازل ونص عليها ورغب فيها من قوى عليها وأخبر بعد ذلك من قصر عن هذه الفضيلة وضعف عنها، فليس كل الناس يستطيع الجهاد ولا يقدر على أن يكون آخذاً بعنان فرسه فيه، ففي الناس ضعيف والكبير وذو الحاجة والفقير (رجل معتزل) أي متباعد عن الناس منفرد عنهم إلى موضع خال من البوادي والصحاري (في غنيمة له) أي مثلاً وهو تصغير غنم وهو مؤنث سماعي ولذلك صغرت بالتاء، والمراد قطعة غنم (يؤدي حق الله فيها) وفي رواية مالك: يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً. وللدارمي والنسائي: معتزل في شعب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعتزل شرور الناس. قال الباجي: فمنزلة هذا منزلة بعد منزلة المجاهد من أفضل المنازل لأداء الفرائض وإخلاصه لله تعالى العبادة وبعده عن الرياء والسمعة. إذا خفي ولم يكن ذلك شهرة له، ولأنه لا يؤذي أحداً ولا يذكره ولا تبلغ درجته درجة المجاهد، لأن المجاهد يذب عن المسلمين

ألا أخبركم بشر الناس؟ يسأل بالله ولا يعطي به)) . رواه الترمذي، والنسائي، والدارمي. 1962- (15) وعن أم بجيد، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ردوا السائل ولو بظلف محرق ـــــــــــــــــــــــــــــ ويجاهد الكافرين حتى يدخلهم في الدين فيتعدى فضله إلى غيره ويكثر الانتفاع به، وهذا المعتزل لا يتعدى نفعه إلى غيره. وفي حديث أبي سعيد عند البخاري. قيل: يا رسول الله! أي الناس أفضل فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله، قالوا: ثم من؟ قال مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله، ويدع الناس من شره قال الحافظ: وإنما كان المؤمن المعتزل يتلوه في الفضيلة، لأن الذي يخالط الناس لا يسلم من ارتكاب الآثام فقد لا يفي هذا بهذا، ففيه فضل العزلة والإنفراد لما فيه من السلامة من الغيبة واللغو ونحو ذلك. لكن قال الجمهور محل ذلك عند وقوع الفتن، لحديث الترمذي مرفوعاً: المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجراً من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم. ويؤيده قوله - صلى الله عليه وسلم -: يأتي الناس زمان يكون خير الناس فيه منزلة من أخذ بعنان فرسه في سبيل الله يطلب الموت في مظانه، ورجل في شعب من هذه الشعاب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويدع الناس إلا من خير، رواه مسلم، وللترمذي وحسنه، والحاكم وصححه عن أبي هريرة، إن رجلاً مر بشعب فيه عيينة من ماء عذبة أعجبته فقال: لو أعتزلت ثم استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم -: فقال لا تفعل فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاماً. وقال النووي: في الحديث دليل لمن قال بتفضيل العزلة على الخلة، وفي ذلك خلاف مشهور، فمذهب الشافعي وأكثر العلماء إن الاختلاط أفضل بشرط رجاء السلامة من الفتن، ومذهب طوائف من الزهاد إن إلاعتزال أفضل. واستدلوا بالحديث. وأجاب الجمهور بأنه محمول على زمان الفتن والحروب أو فيمن لا يسلم الناس منه ولا يصبر على أذاهم، وقد كانت الأنبياء صلوات الله عليهم. وجماهير الصحابة والتابعين، والعلماء والزهاد، مختلطين، ويحصلون منافع الاختلاط بشهود الجمعة والجماعة والجنائز وعيادة المريض وحلق الذكر وغير ذلك - انتهى. قال ابن عبد البر: إنما وردت الأحاديث بذكر الشعب والجبل؛ لأن ذلك في الأغلب يكون خالياً من الناس، فكل موضع يبعد عن الناس فهو داخل في المعنى (رجل يسأل بالله ولا يعطي به) سبق بيان معناه في الفصل الثالث من باب الإنفاق (رواه الترمذي) أخرجه الترمذي في فضائل الجهاد وحسنه والنسائي في الزكاة والدارمي في الجهاد. واللفظ للترمذي وأخرجه أيضاً أحمد (ج2 ص237، 319، 322) وابن حبان في صحيحه، كلهم من حديث عطاء بن يسار عن ابن عباس، ورواه مالك في الجهاد عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر الأنصاري عن عطاء بن يسار مرسلاً. 1962- قوله: (ردوا) بضم الراء أمر من الرد أي أعطوا (السائل) هذا لفظ النسائي، وفي الموطأ ردوا المسكين (ولو بظلف محرق) أي لا تجعلوا السائل محروماً بل أعطوه ولو كان ظلفاً محرقاً يعني تصدقوا

رواه مالك، والنسائي، وروى الترمذي، وأبوداود معناه. 1963- (16) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من استعاذ منكم بالله فأعيذوه، ومن سأل بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوا فادعوها له حتى تروا ـــــــــــــــــــــــــــــ بما تيسر وإن قل (رواه مالك) في باب المساكين من كتاب الجامع من الموطأ، عن زيد بن أسلم عن ابن بجيد الأنصاري ثم الحارثي (اسمه محمد) عن جدته (والنسائي) في باب رد السائل من كتاب الزكاة من طريق مالك، وكذا أحمد (ج6 ص435) (وروى الترمذي وأبوداود معناه) وكذا الإمام أحمد وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبيهقي، وقد تقدم في الفصل الثالث من باب الإنفاق. 1963- قوله: (من استعاذ منكم بالله) كذا في جميع النسخ الحاضرة، ووقع في المصابيح من استعاذكم بالله، وهكذا في مسند الإمام أحمد (ج2 ص99) وسنن أبي داود في الأدب والمستدرك للحاكم (ج1 ص412) والبيهقي في الزكاة (ج4 ص199) ولأبي داود فيه وللنسائي من استعاذ بالله، وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج10 ص318) وكذا وقع في المسند (ج1 ص68، 127) (فأعيذوه) أي إذا طلب أحد منكم أن تدفعوا عنه شركم أو غيركم بالله، مثل أن يقول يا فلان بالله عليك، أو أسألك بالله أن تدفعني شر فلان أو أحفظني من فلان، فأجيبوه واحفظوه لتعظيم اسم الله. قال الطيبي: أي من استعاذ بكم وطلب منكم دفع شركم أو شر غيركم عنه قائلاً بالله أن تدفع عني شرك، فأجيبوه وادفعوا عنه الشر تعظيماً لاسم الله تعالى، فالتقدير من استعاذ منكم متوسلاً بالله مستعطفاً به، ويحتمل أن تكون الباء صلة استعاذ أي من استعاذ بالله فلا تتعرضوا له، بل أعيذوه وادفعوا عنه الشر فوضع أعيذوا موضع أدفعوا ولا تتعرضوا مبالغة (ومن سأل) هذا لفظ أبي داود وفي رواية أحمد والنسائي والحاكم ومن سألكم (بالله فأعطوه) أي إن وجدتم يعني تعظيماً لاسم الله وشفقة على خلق الله، وزاد النسائي ومن استجار بالله فأجيروه (ومن دعاكم فأجيبوه) وجوباً إن كان لوليمة عرس، وندباً في غيرها. وقيل: يجب الإجابة مطلقاً، وهذا إن لم يكن مانع شرعي (ومن صنع إليكم معروفاً) أي أحسن إليكم إحساناً قولياً أو فعلياً (فكافئوه) بمثله أو خير منه من المكافأة مهموز اللام وهي المجازاة أي أحسنوا إليه مثل ما أحسن إليكم أو خيراً منه (فإن لم تجدوا ما تكافئوه) أي بالمال، والأصل تكافئون فسقط النون بلا ناصب وجازم تخفيفاً (فأدعوا له) أي للمحسن يعني فكافئوه بالدعاء له (حتى تروا) بضم التاء أي تظنوا وبفتحها أي

أن قد كافأتموه)) . رواه أحمد وأبوداود، والنسائي. 4196- (17) وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يسأل بوجه الله إلا الجنة)) . رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ تعلموا. وتحسبوا، قلت: وقع في رواية أحمد حتى تعلموا (أن قد كافأتموه) أي كرروا الدعاء وبالغوا له فيه جهدكم حتى تعلموا قد أديتم حقه. وقد جاء من حديث أسامة مرفوعاً من صنع إليه معروفاً فقال لفاعله جزاك الله خيراً، فقد أبلغ في الثناء، أخرجه الترمذي وغيره، فدل هذا الحديث على أن من قال لأحد جزاك الله خيراً مرة واحدة فقد أدى العوض وإن كان حقه كثيراً (رواه أحمد) (ج2 ص68، 96، 99، 127) (وأبوداود) في الزكاة وفي الأدب (والنسائي) في الزكاة واللفظ لأبي داود وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه والحاكم (ج1 ص412- 413) والبيهقي (ج4 ص199) وسكت عنه أبوداود والمنذري وصححه الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. وقال النووي: في رياضة حديث صحيح وفي الباب عن ابن عباس أخرجه أبوداود,. 1964- قوله: (لا يسأل بوجه الله إلا الجنة) والجنة لا يسأل عن الناس فلزم أن يكون. فيه وجهان: أحدهما: المنع عن السؤال لوجه الله؛ لأنه لما قال لا يسأل الخ فلا يسأل عنهم شيء لوجه الله تعالى. وثانيهما: لا يسأل من الله تعالى من متاع الدنيا لحقارتها، وإنما يسأل الجنة، والمقصود المبالغة قاله في اللمعات. وقال الطيبي: أي لا تسألوا من الناس شيئاً بوجه الله، مثل أن تقولوا أعطني شيئاً بوجه الله تعالى أو بالله، فإن اسم الله أعظم من أن يسأل به متاع الدنيا بل أسألوا به الجنة أو لا تسألوا الله متاع الدنيا بل رضاه، والجنة والوجه يعبر به عن الذات - انتهى. وقال في فتح الودود: قوله "لا يسأل بوجه الله إلا الجنة" إذ كل شيء حقير دون عظمته تعالى والتوسل بالعظيم في الحقير تحقير له نعم الجنة أعظم مطلب للإنسان فصار التوسل به تعالى فيها مناسباً- انتهى. وأرجع إلى فتح القدير للمناوي. قال القاري: قوله "إلا الجنة" بالرفع أي لا يسأل بوجه الله شيء إلا الجنة مثل أن يقال: اللهم إنا نسألك بوجه الكريم أن تدخلنا جنة نعيم، ولا يسأل روى غائباً نفيا ونهياً مجهولاً ورفع الجنة، ونهيا مخاطباً معلوماً مفرداً ونصب الجنة (رواه أبوداود) في الزكاة وسكت عنه. وقال المنذري: في إسناده سليمان بن معاذ. قال الدارقطني: سليمان بن معاذ هو سليمان بن قرم، وذكر ابن عدي هذا الحديث في ترجمة سليمان بن قرم. هذا الحديث لا أعرفه إلا من طريق أبي العباس القلوري أحمد بن عمرو (الذي روى عنه أبوداود) عن يعقوب بن إسحاق الحضرمي عن سليمان بن قرم عن محمد بن المنكدر عن جابر، هذا آخر كلامه. وسليمان بن قرم

{الفصل الثالث}

{الفصل الثالث} 1965- (18) عن أنس، قال: ((كان أبوطلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، ـــــــــــــــــــــــــــــ تكلم فيه غير واحد - انتهى. قلت: قد فرق بين سليمان بن قرم وسليمان بن معاذ الضبي ابن حبان تبعاً للبخاري ثم ابن قطان وابن عدي، وقال غير واحد إن سليمان بن معاذ هو سليمان بن قرم، منهم أبوحاتم والدارقطني والطبراني وعبد الغني بن سعيد. قال أحمد: سليمان بن قرم ثقة، وقال مرة: لا أرى به بأساً لكنه كان يفرط في التشيع، وضعفه النسائي وابن معين. وقال أبوزرعة: ليس بذلك. وقال أبوحاتم: ليس بالمتين، وقال ابن عدي: له أحاديث حسان إفراد. وقال ابن حبان: كان رافضياً غالياً في الرفض ويقلب الأخبار مع ذلك، وذكره الحاكم في باب من عيب على مسلم إخراج حديثهم. وقال: غمزوه في التشيع وسوء الحفظ جميعاً. وقال الحافظ: سيء الحفظ يتشيع، والحديث أخرجه أيضاً البيهقي (ج4 ص199) والضياء المقدسي في المختار كما في الجامع الصغير. 1965- قوله: (كان أبوطلحة) زيد بن سهل الخزرجي زوج أم سليم أم أنس (أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل) بنصب أكثر خبر كان ومالاً تميز أي من حيث المال والجار للبيان. قال الباجي: هذا يقتضي أنه يجوز للرجل الصالح الاستكثار من المال الحلال (وكان أحب أمواله إليه) بنصب أحب خبر كان وبيرحاء اسمه ويجوز العكس، والمراد بأمواله الحوائط. قال ابن عبد البر: كانت دار أبي جعفر والدار التي تلها إلى قصر بني حديلة حوائط لأبي طلحة. قال: وكان قصر بني حديلة حائطاً لأبي طلحة يقال لها بيرحاء فذكر الحديث. ومراده بدار أبي جعفر التي صارت إليه بعد ذلك وعرفت به، وهو أبوجعفر المنصور الخليفة المشهور العباسي. وأما قصر بني حديلة فنسب إليهم بسبب المجاورة، وإلا فالذي بناه هو معاوية بن أبي سفيان وبنو حديلة بطن من الأنصار، وكانوا بتلك البقعة فعرفت بهم. فلما اشترى معاوية حصة حسان، بنى فيها هذا قصر فعرف بقصر بني حديلة. وفيه جواز إضافة حب المال إلى الرجل العالم الفاضل ولا نقص عليه في ذلك، وقد أخبر تعالى عن الإنسان {وإنه لحب الخير لشديد} [العاديات:8] والخير هنا المال اتفاقاً كذا في الفتح. وقال الباجي: هذا يقتضي جواز حب الرجل الصالح المال. قال عز اسمه: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين} [آل عمران:14] الآية. قال عمر رضي الله عنه: اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نحب ما زينت لنا فاجعلنا ممن يأخذه بحقه فينفقه في وجهه (بيرحاء) بفتح الموحدة وسكون التحتية وفتح الراء وبالمهملة والمد وفي ضبطه اضطراب كثير. فنقل الحافظ في

وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب. قال أنس: فلما نزلت هذه الآية {لن تنالوا البر ـــــــــــــــــــــــــــــ الفتح وتبعه العيني عن نهاية ابن الأثير الجزري فتح الموحدة وكسرها، وفتح الراء وضمها مع المد، والقصر. قال: فهذه ثمان لغات - انتهى. والذي في النهاية بيرحاء بفتح الفاء وكسرها، وبفتح الراء وضمها والمد فيهما، وبفتحهما والقصر، هذا نصه بحروفه، ونقله عنه الطيبي كذلك بلفظه. وعلى هذا فتكون خمسة لا ثمانية. قال الحافظ: وفي رواية حماد بن سلمة يعني عند مسلم بريحا بفتح أوله وكسر الراء وتقديمها على التحتانية، وفي سنن أبي داود بأريحا مثله لكن بزيادة ألف. وقال الباجي: أفصحها بفتح الباء وسكون الياء، وفتح الراء مقصوراً وكذا جزم به الصنعاني. وقال: إنه اسم أرض كانت لأبي طلحة، وهي فيعلى من البراح، وهو المكان المتسع الظاهر. قال: ومن ذكره بكسر الموحدة وظن أنها بئر من آبار المدينة فقد صحف، وكذا قال الزمخشري في الفائق والمجد في القاموس وقال في اللامع: لا تنافي بين ذلك فإن الأرض أو البستان تسمى باسم البئر التي فيه. وقال الحافظ: أيضاً وقع عند مسلم بريحا بفتح الموحدة وكسر الراء وتقديمها على التحتانية الساكنة ثم حاء مهملة ورجحها صاحب الفائق. وقال: هي وزن فعيلاء من البراح وهي الأرض الظاهرة المنكشفة، وعند أبي داود بأريحاء وهو بإشباع الموحدة والباقي مثله. ووهم من ضبطه بكسر الموحدة وفتح الهمزة فإن أريحاء من الأرض المقدسة، ويحتمل إن كان محفوظاً أن تكون سميت بإسمها. قال عياض: رواية المغاربة إعراب الراء والقصر في حاء، وخطأ هذا الصوري. وقال الباجي: أدركت أهل العلم بالمشرق، ومنهم أبوذر يفتحون الراء في كل حال، أي في الرفع والنصب والخفض زاد الصوري، وكذلك الباء أي أوله. قال: واتفق أبوذر وغيره من الحفاظ على أن من رفع الراء حال الرفع فقد غلط، ونقل أبوعلي الصدفي عن أبي ذر الهروي أنه جزم إنها مركبة من كلمتين. بير كلمة وحاء كلمة ثم صارت كلمة واحدة، واختلف في حاء هل هي اسم رجل أو امرأة أو مكان أضيفت إليه البئر أو هي كلمة زجر للإبل، لأن الإبل كانت ترعى هناك وتزجر بهذه اللفظة، فأضيفت البئر إلى اللفظة المذكورة - انتهى. (وكانت) أي بيرحاء (مستقبلة المسجد) أي مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعناه إن المسجد في جهة قبلتها، فلا ينافي بعدها عنه على هذه المسافة الموجودة اليوم (يدخلها) زاد في رواية ويستظل بها (ويشرب من ماء فيها) أي بيرحاء (طيب) بالجر صفة للمجرور السابق أي حلو الماء. قال الباجي: يريد عذباً. وهذا يقتضى تبسط الرجل في مال من يعرف رضاه بذلك، وإن لم يستأمره. وقال الحافظ: فيه استعذاب الماء وتفضيل بعضه على بعض، وإباحة الشرب من دار الصديق، ولو لم يكن حاضراً إذا علم طيب نفسه واتخاذ الحوائط والبساتين، ودخول أهل العلم والفضل فيها والاستظلال بظلها. والراحة والتنزه فيها. وقد يكون ذلك مستحباً يثاب عليه إذا قصد به إجمام النفس من تعب العبادة وتنشيطها في الطاعة (لن تنالوا البر) أي لن تبلغوا حقيقة البر الذي هو كمال الخير، أو لن تنالوا بر الله الذي هو الرحمة والرضا

حتى تنفقوا مما تحبون} قام أبوطلحة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! إن الله تعالى يقول: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} وإن أحب مالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله تعالى، أرجوا برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله! حيث أراك الله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بخ بخ، ذلك مال رابح، ـــــــــــــــــــــــــــــ والجنة (حتى تنفقوا مما تحبون) أي من بعض ما تحبون من أموالكم (قام أبوطلحة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) زاد في رواية عند ابن عبد البر ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر (وإن أحب أموالي إلي) بتشديد الياء (بيرحاء) بالرفع خبران (وإنها صدقة لله تعالى) وفي رواية لمسلم: لما نزلت الآية: قال أبوطلحة: أرى ربنا يسألنا عن أموالنا فاستشهدك يا رسول الله! إني جعلت أرضي بيرحاء لله. قال الحافظ: في قوله: إن أحب أموالي إلي بيرحاء لله تعالى الخ فضيلة لأبي طلحة؛ لأن الآية تضمنت الحث على الإنفاق من المحبوب فترقى هو إلى إنفاق أحب المحبوب فصوب - صلى الله عليه وسلم - رأيه وشكر عن ربه فعله، ثم أمره أن يخص بها أهله وكنى عن رضاه بذلك بقوله بخ. وقال الباجي: هذا يدل على أن أباطلحة تأول هذه الآية على أنها تقتضي أنه إنما ينال البر بصدقة ما يحب الإنسان من ماله، وقد فعل ذلك زيد بن حارثة جاء بفرسه. وقال: هذا أحب أموالي إلي فتصدق به، وكان الربيع بن خثيم إذا سمع سائلاً يقول: أعطوه سكراً فإن الربيع يحب السكر (أرجو برها) أي خيرها (وذخرها) بضم الذال المعجمة أي أجرها يعني أقدمها فادخرها لأجدها (عند الله) يعني لا أريد ثمرتها العاجلة الدنيوية الفانية، بل أطلب مثوبتها الآجلة الأخروية الباقية (فضعها) أمر من وضع يصنع أي أصرفها (حيث أراك الله) أي في مصرف علمك الله إياه ففوض أبوطلحة تعيين مصرفها إليه عليه الصلاة والسلام لا وقفيتها (بخ بخ) بفتح الباء وسكون المعجمة فيهما كهل وبل وكسرها مع التنوين فيهما وبالتنوين في الأول والسكون في الثاني وهو الاختيار. وبالضم مع التنوين فيهما، وبالتشديد مع كسر وضم فيهما لغات، كرر للمبالغة وهي كلمة تقال لتفخيم الأمر والتعجب من حسنه وعند مدحه والرضاء به. قال في القاموس: قل في الأفراد بخ ساكنة وبخ مكسورة وبخ منونة وبخ منونة مضمومة، وتكرر بخ بخ للمبالغة، الأولى منون، والثاني مسكن. ويقال: بخ بخ مسكنين، وبخ بخ منونين، وبخ بخ مشددين، كلمة تقال عند الرضا والإعجاب بالشيء أو الفخر والمدح - انتهى. فمن نونه شبهه بأسماء الأفعال كصه ومه (ذلك) أي ما ذكرته أو التذكير لأجل الخبر وهو قوله (مال رابح) بالموحدة من الربح أي ذو ربح كلا بن وتامر أي يربح صاحبة في الآخرة. وقيل: هو فاعل بمعنى مفعول أي هو مال مربوح فيه. ويروى رائح بالياء التحتية من الرواح نقيض الغدو، أي رائح عليك أجره ونفعه في الآخرة يعني أنه قريب الفائدة يصل نفعه إليك كل رواح لا تحتاج

وقد سمعت ما قلت: وإني أرى تجعلها في الأقربين. فقال أبوطلحة: أفعل يا رسول الله! فقسما أبوطلحة في أقاربه وبني عمه)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ أن تتكلف فيه إلى مشقة وسير. وقيل: معناه يروح بالأجر ويغدو به. واكتفى بالرواح عن الغدو لعلم السامع أو من شأنه الرواح، وهو الذهاب والفوات فإذا ذهب في الخير فهو أولى. وأدعى الإسماعيلي إن رواية التحتية تصحيف. (وقد سمعت) بصيغة المتكلم (ما قلت) بصيغة الخطاب (وإني أرى) زيادة الفضل والأجر (في أن تجعلها) صدقة (في الأقربين) وفي رواية أجعله لفقراء أقاربك أي ليكون جمعاً بين الصلة والصدقة (أفعل) برفع اللام فعلاً مستقبلاً (فقسمها) أي بيرحاء (في أقاربه وبني عمه) من عطف الخاص على العام. والمراد أقارب أبي طلحة، وفي رواية فقسمها بين حسان بن ثابت وأبي بن كعب، وفي رواية فجعلها أبوطلحة في ذي رحمه، وكان منهم حسان وأبي بن كعب. وهذا يدل على أنه أعطى غيرهما معهما. وفي مرسل أبي بكر بن حزم عند ابن أبي زبالة فرده على أقاربه أبي بن كعب وحسان بن ثابت وأخيه، أو ابن أخيه شداد بن أوس ونبيط بن جابر، فتقاوموه فباع حسان حصته من معاوية بمائة ألف درهم. قال النووي: فيه إن القرابة يراعى حقها في صلة الأرحام وإن لم يجتمعوا إلا في أب بعيد لأنه - صلى الله عليه وسلم - أمر أباطلحة أن يجعل صدقته في الأقربين فجعلها في أبي بن كعب وحسان بن ثابت، وإنما يجتمعان معه في الجد السابع - انتهى. قلت: يجتمع حسان مع أبي طلحة في الأب الثالث وهو حرام، وأما أبي فيجتمع معه في الأب السادس وهو عمرو بن مالك بن النجار فعمرو هذا يجمع حسان وأباطلحة وأبيا. قال الحافظ: هذا أي بيع حسان حصته منه من معاوية يدل على أن أباطلحة ملكهم الحديقة المذكورة ولم يقفها عليهم، إذ لو وقف لما ساغ لحسان أن يبيعها فيعكر على من استدل بشيء من قصة أبي طلحة في مسائل الوقف، إلا فيما لا تخالف فيه الصدقة الوقف، ويحتمل أن يقال شرط أبوطلحة عليهم لما وقفها عليهم أن من احتاج إلى بيع حصته منهم جاز له بيعها، وقد قال بجواز هذا بعض أهل العلم كعلي رضي الله عنه وغيره - انتهى. وفي المحلى شرح الموطأ: ظاهره جواز بيع الوقف، وقد أجمعوا على خلافه وأجاب عنه الكرماني بأن التصدق على معين تمليك له. وقال العسقلاني: وتبعه العيني أنه يجوز أن يقال إن أباطلحة شرط عند وقفه عليهم أنه يجوز لمن أحتاج أن يبيع حصته وذلك جائز عند بعضهم - انتهى. قال الحافظ: وفي الحديث أنه لا يعتبر في القرابة من يجمعه، والواقف أب معين لا رابع ولا غيره؛ لأن أبياً إنما يجتمع مع أبي طلحة في الأب السادس، وأنه لا يجب تقديم القريب على القريب إلا بعد. لأن حساناً وأخاه إلى أبي طلحة من أبي ونبيط، ومع ذلك فقد أشرك معهما أبيا ونبيط بن جابر. وفيه أنه لا يجب الاستيعاب؛ لأن بني حرام الذي اجتمع فيه أبوطلحة وحسان كانوا بالمدينة كثيراً فضلا عن عمرو بن مالك الذي يجمع أباطلحة وأبياً - انتهى. وفي الحديث فوائد غير

متفق عليه. 1966- (19) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الصدقة أن تشبع كبداً جائعاً)) . رواه البيهقي، في شعب الإيمان. ـــــــــــــــــــــــــــــ تقدم ذكرها الحافظ وغيره، منها زيادة صدقة التطوع على نصاب الزكاة خلافاً لمن قيدها به، وصدقة الصحيح بأكثر من ثلثة؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يستفصل أباطلحة عن قدر ما تصدق به. وقال لسعد بن أبي وقاص: الثلث والثلث كثير، وإن الآية تعم الإنفاق الواجب والمستحب. ومنها مشاورة أهل الفضل في كيفية الصدقة والطاعة، ومنها أنه إذا تصدق بأرض مشهورة متميزة ولم يبين حدودها جاز. ومنها أنه تتم الصدقة قبل تعيين جهة مصرفها ثم يعين بعد ذلك فيما شاء إلى غير ذلك من الفوائد. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الزكاة والوصايا والوكالة والأشربة والتفسير، ومسلم في الزكاة وأخرجه أيضاً أحمد، ومالك في الجامع من الموطأ وأبوداود في الزكاة والنسائي في الوقف والطيالسي وابن خزيمة والطحاوي والدارقطني والبيهقي وأبوحاتم وغيرهم مطولاً ومختصراً بألفاظ متقاربة ذكر بعضها الجزري في جامع الأصول (ج7 ص306- 307- 308) . 1966- قوله: (أفضل الصدقة أن تشبع) بضم التاء (كبداً جائعاً) قال الطيبي: وصف الكبد بصفة صاحبة على الإسناد المجازي، وهو من جعل الوصف المناسبة علة للحكم، وفائدته العموم ليتناول أنواع الحيوان سواء كان مؤمناً أو كافراً ناطقاً أو غير ناطق، والله تعالى أعلم - انتهى. وتقدم المستثنى (رواه البيهقي) وأخرجه أيضاً أبوالشيخ في الثواب والأصبهاني كلهم من رواية زربي (بفتح أوله وسكون الراء بعدها موحدة ثم تحتانية مشددة) ابن عبد الله الأزدي البصري إمام مسجد هشام بن حسان عن أنس. ولفظ أبي الشيخ والأصبهاني قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ما من عمل أفضل من إشباع كبد جائعة. والحديث. أدخله ابن الجوزي في الموضوعات. وقال الصغاني: موضوع. قال ابن حبان: فيه زربي منكر الحديث على قلته. ويروي عن أنس ما لا أصل له فلا يحتج به. قلت زربي هذا روى له الترمذي وابن ماجه وأخرج له ابن خزيمة في صحيحه، لكن قال إن ثبت الخبر. وقال الترمذي: له أحاديث مناكير عن أنس وغيره. وقال ابن عدي: أحاديثه وبعض متونها منكرة وذكره العقيلي في الضعفاء. وقال البخاري: فيه نظر. وقال السيوطي في تعقباته على ابن الجوزي: للحديث شواهد كثيرة تقتضي تحسينه، منها حديث جابر إن من موجبات المغفرة إطعام المسلم الشبعان أخرجه البيهقي في الشعب - انتهى. وقال العزيزي في شرح الجامع الصغير: رمز المصنف يعني السيوطي أي لحسن حديث أنس ولعله لاعتضاده.

(8) باب صدقة المرأة من مال الزوج

(8) باب صدقة المرأة من مال الزوج {الفصل الأول} 1967- (1) عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة. كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره بما كسب، وللخازن مثل ذلك، ـــــــــــــــــــــــــــــ (باب صدقة المرأة من مال الزوج) وفي بعض النسخ باب ما تنفقه المرأة من مال زوجها ووقع في بعضها لفظ باب فقط. 1967- قوله: (إذا أنفقت المرأة) أي تصدقت كما في رواية (من طعام بيتها) أي من طعام زوجها الذي في بيتها المتصرفة فيه (غير مفسدة) نصب على الحال أي غير مسروفة في التصدق بأن لا تتعدى إلى الكثرة المؤدية إلى النقص الظاهر، وهذا محمول على إذن الزوج لها بذلك صريحاً أو دلالة. وقيل: هذا جار على عادة أهل الحجاز، فإن عادتهم أن يأذنوا لزوجاتهم وخدمهم بأن يضيفوا الأضياف ويطعموا السائل والمسكين والجيران، فحرض رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته على هذه العادة الحسنة والخصلة المستحسنة. وهذا الحديث ليس فيه دلالة صريحاً على جواز تصدق المرأة من مال الزوج بغير إذنه. قال البغوي: عامة العلماء على أنه لا يجوز لها التصدق من مال زوجها بغير إذنه، وكذلك الخادم. والحديث الدال على الجواز أخرج على مادة أهل الحجاز أنهم يطلقون الأمر للأهل والخادم في التصدق والإنفاق مما حضر في البيت عند حضور السائل ونزول الضيف، كما قال عليه الصلاة والسلام: لا توعى فيوعى الله عليك - انتهى. وكذلك قال الخطابي في المعالم: (ج2 ص78) وخص الطعام بالذكر لغلبة المسامحة به عادة وإلا فغيره مثله إذا الغرض إن المالك إذن في ذلك صريحاً أو دلالة (كان لها أجرها بما أنفقت) أي بسبب إنفاقها (ولزوجها أجره بما كسب) أي بسبب كسبه وتحصيله (وللخازن) أي الذي يكون بيده حفظ الطعام المتصدق منه من خادم وقهرمان وقيم لأهل المنزل (مثل ذلك) أي الأجر أي بالشروط المذكورة في حديث أبي الآتي، وفي رواية للبخاري لها أجرها وله مثله (أي مثله أجرها) وللخازن مثل ذلك. قال الحافظ: ظاهره يقتضي تساويهم في الأجر، ويحتمل أن يكون المراد بالمثل حصول الأجر في الجملة وإن كان أجر الكاسب، أوفر لكن التعبير في حديث أبي هريرة الآتي بقوله: فلها نصف أجره يشعر بالتساوي. قال: والمراد بقوله: لا ينقص بعضهم أجر بعض، عدم المساهمة والمزاحمة في الأجر. ويحتمل أن يراد مساواة بعضهم بعضاً والله أعلم - انتهى. وقال النووي: معنى هذه الأحاديث (يعني حديث عائشة هذا وحديث

لا ينقص بعضهم أجر بعض شيئاً)) . متفق عليه. 1968- (2) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها من غير أمره. فلها نصف أجره)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبي هريرة وحديث أبي موسى الآتيين) إن المشارك في الطاعة مشارك في الأجر، ومعنى المشاركة إن له أجراً كما لصاحبه أجر ـ وليس معناه أن يزاحمه في أجره. والمراد المشاركة في أصل الثواب فيكون لهذا ثواب، ولهذا ثواب، وإن كان أحدهما أكثر. ولا يلزم أن يكون مقدار ثوابهما سواء. بل قد يكون ثواب هذا أكثر وقد يكون عكسه - انتهى. (لا ينقص بعضهم أجر بعض) أي من أجر بعض (شيئاً) نصب مفعول ينقص أو ينقص كيزيد يتعدى إلى مفعولين الأول أجر والثاني شيئاً كزادهم الله مرضاً. قاله القسطلاني، وقال القاري: شيئاً أي من النقص أو من الأجر، والمراد أنهم في أصل الأجر سواء. وإن اختلف قدره. قال الحافظ قال ابن العربي: اختلف السلف فيما إذا تصدقت المرأة من بيت زوجها فمنهم من أجازه لكن في الشيء اليسير الذي لا يؤبه به ولا يظهر به النقصان، ومنهم من حمله على ما إذا أذن الزوج ولو بطريق الإجمال وهو اختيار البخاري. ويحتمل أن يكون ذلك محمولاً على العادة. وأما النقييد بغير الإفساد فمتفق عليه، ومنهم من قال المراد بنفقة المرأة والعبد والخازن، النفقة على عيال صاحب المال في مصالحه وليس ذلك بأن يفتاتوا على رب البيت بالإنفاق على الفقراء بغير إذن، ومنهم من فرق بين المرأة والخادم. فقال: المرأة لها حق في مال الزوج والنظر في بيتها فجاز لها أن تتصدق بخلاف الخادم فليس به تصرف في متاع مولاه، فيشترط الإذن فيه وهو متعقب بأن المرأة إذا استوفت حقها فتصدقت منه فقد تخصصت به وإن تصدقت من غير حقها رجعت المسألة كما كانت والله أعلم. ويأتي مزيد الكلام في شرح الحديث الذي يليه (متفق عليه) أخرجه البخاري في الزكاة وفي البيوع، ومسلم في الزكاة وأخرجه أيضاً أحمد، والترمذي وأبوداود والنسائي في الزكاة، وابن ماجه في النجارات وابن حبان والبيهقي وغيرهم. 1968- قوله: (إذا أنفقت المرأة) أي تصدقت (من كسب زوجها) أي من ماله (من غير أمره) أي الصريح في ذلك القدر المعين (فلها نصف أجره) قيل: هذا مفسر بما إذا أخذت من مال زوجها أكثر من نفقتها وتصدقت به، فعليها غرم ما أخذت أكثر منها، فإذا علم الزوج ورضي بذلك فلها نصف أجره بما تصدقت من نفقتها ونصف أجره له بما تصدقت به أكثر من نفقتها، لأن الأكثر حق الزوج كذا ذكره القاري: وقال الحافظ: الأولى أن يحمل على ما إذا أنفقت من الذي يخصها به إذا تصدقت به بغير استئذانه، فإنه يصدق كونه من كسبه فيؤجر عليه، وكونه بغير أمره يعني يحمل التصنيف على المال الذي يعطيه الرجل في نفقة المرأة، فإذا

متفق عليه. 1969- (3) وعن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الخازن المسلم الأمين الذي يعطي ما أمر به كاملاً مؤفراً طيبة به نفسه، فيدفعه إلى الذي أمر له به، ـــــــــــــــــــــــــــــ أنفقت منه بغير علمه كان الأجر بينهما للرجل لكونه الأصل في إكتسابه، ولكونه يؤجر على ما ينفقه على أهله وللمرأة لكونه من النفقة التي تختص بها. قال: ويحتمل أن يكون إذن لها بطريق الإجمال، لكن المنفي ما كان بطريق التفصيل، ولابد من الحمل على أحد هذين المعنيين، وإلا فحيث كان من ماله بغير إذنه لا إجمالاً ولا تفصيلاً فهي مأزورة بذلك لا مأجورة. قال النووي: قوله من غير أمره معناه من غير أمره الصريح في ذلك القدر المعين ولا ينفي ذلك وجود إذن سابق عام يتناول هذا القدر وغيره، إما بالصريح، وإما بالعرف. قال: ويتعين هذا التأويل لجمل الأجر بينهما نصفين، ومعلوم إنها إذا أنفقت من ماله بغير إذنه لا الصريح ولا المأخوذ من العرف لا يكون لها أجر بل عليها وزر فيتعين تأويله - انتهى. وقيل: في الجمع بين هذا وبين حديث عائشة إنه إذا أنفقت المرأة مع إذنه تستحق به الأجر كاملاً، ومع عدم الإذن نصف الأجر، يعني إذا عرفت منه السماحة بذلك والرضا به جاز لها الإنفاق من غير إذنه ولها نصف أجره وقيل: معنى النصف إن أجره وأجرها إذا جمعا كان لها النصف من ذلك، فلكل منهما أجر كامل، وهما اثنان فكأنهما نصفان. وقيل: إنه بمعنى الجزء، والمراد المشاركة في أصل الثواب وإن كان أحدهما أكثر بحسب الحقيقة (متفق عليه) أخرجه البخاري في البيوع وفي أواخر النكاح وفي النفقات، ومسلم في الزكاة وأخرجه أيضاً فيه أبوداود والبيهقي. 1969- قوله: (الخازن) أي خادم المالك في الخزن (المسلم الأمين الذي يعطي ما أمر به) من الصدقة من غير زيادة ونقصان فيه بهوى (كاملاً) حال من المفعول أو صفة لمصدر محذوف (موفراً) بفتح الفاء المشددة أي تاماً فهو تأكيد وبكسرها حال من الفاعل أي مكملاً عطاءه (طيبة) أي راضية غير شحيحة (به) أي بالعطاء (نفسه) مرفوع على الفاعلية وطيبة بالنصب على الحال. وقال: ذلك إذ كثيراً مالا يرضي الإنسان بخروج شيء من يده، وإن كان ملكاً لغيره. قال الحافظ: قيد الخازن بكونه مسلماً فأخرج الكافر لأنه لا نية له وبكونه أميناً فأخرج الخائن لأنه مأزور، ورتب الأجر على إعطاءه ما يؤمر به غير ناقص لكونه خائناً أيضاً، ويكون نفسه طيبة بذلك، لئلا يعدم النية فيفقد الأجر وهي قيود لابد منها (فيدفعه) عطف على يعطي (إلى الذي أمر له) بضم الهمزة مبنياً للمفعول أي إلى الشخص الذي أمر ذلك الخازن له (به) أي بالدفع والإعطاء، وفيه شروط أربعة: شرط الإذن لقوله ما أمر به وعدم نقصان ما أمر به لقوله كاملاً موفراً وطيب النفس

أحد المتصدقين)) . متفق عليه. 1970- (4) وعن عائشة، قالت: إن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ((إن أمي أفتلتت نفسها وأظنها لو تكلمت تصدقت، ـــــــــــــــــــــــــــــ بالتصدق، لأن بعض الخزان والخدان لا يرضون بما أمروا به من التصدق وإعطاء من أمر له لا إلى مسكين آخر. فالخازن مبتدأ وما بعده صفات له وخبره (أحد المتصدقين) أي يشارك صاحب المال في الصدقة فيصير إن متصدقين، ويكون هو أحدهما هذا على أن الرواية بفتح القاف وهو الذي صرحوا به، نعم جوز الكسر على أن اللفظ جمع أي هو متصدق من المتصدقين قال الحافظ: ضبط في جميع الروايات الصحيحين بفتح القاف على التثنية. قال القرطبي: ويجوز الكسر على الجمع أي هو متصدق من المتصدقين - انتهى. وقال الشيخ زكريا الأنصاري: بفتح القاف أي هو ورب الصدقة في أصل الأجر سواء وإن اختلف مقداره فيهما فلو أعطي المالك خادمة مائة دينار ليدفعها إلى فقير على باب داره فأجر المالك أكثر، ولو أعطاه رغيفاً ليدفعه إلى الفقير في مكان بعيد، فإن كانت أجرة مشي الخادم تزيد على قيمة الرغيف فأجر الخادم أكثر وإن كانت تساويها فمقدار أجرهما سواء (متفق عليه) أخرجه البخاري في الزكاة والوكالة والإجارة، ومسلم في الزكاة وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي والبيهقي في الزكاة. 1970- قوله: (إن رجلاً) قيل: هو سعد بن عبادة. قال الزرقاني: وجزم به غير واحد. وقيل: هو رجل آخر غير سعد بن عبادة وإليه مال العيني (إن أمي) عمرة بنت مسعود (أفتلتت) بالفاء الساكنة والمثناة المضمومة وكسر اللام بعد فوفيتان، أولاهما مفتوحة مبنياً للمفعول افتعال من فلت، يقال، أفتلت فلان أي ماتت فجأة، وأفْتُلِتَ بأمر كذا إذا فوجيء به قبل إن يستعد له، وأفتلت الشيء إذا أخذ منه فلته أي بغتة، قال الباجي: تقول العرب رأيت الهلال فلته إذا رأيته من غير قصد إليه (نفسها) بالنصب بمعنى أفتلتها الله نفسها أي روحها يعدي إلى مفعولين كاختلسه الشيء واستلبه إياه فبني الفعل للمفعول فصار الأول مضمراً وبقي الثاني منصوباً. وقيل: نفسها منصوب على التمييز. وقيل: بإسقاط حرف الجر أي من نفسها، ويروي بالرفع على أنه متعد إلى واحد ناب عن الفاعل أي أخذت نفسها فلتة يعني ماتت بغتة دون تقدم مرض ولا سبب (وأظنها) أي لعلمي بحرصها على الخير (لو تكلمت) أي لو قدرت على الكلام (تصدقت) أي من مالها بشيء أو أوصت بتصدق شيء من مالها. قال الحافظ: وظاهره إنها لم تتكلم فلم تتصدق لكن في الموطأ والنسائي والحاكم عن سعيد ابن عمرو بن شرحبيل بن سعيد بن سعد عبادة عن أبيه عن جده. قال: خرج سعد بن عبادة مع النبي - صلى الله عليه وسلم -

فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم)) . متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ في بعض مغازيه وحضرت أمه الوفاة بالمدينة فقيل لها أوصي: فقالت: فبم أووصي المال، مال سعد فتوفيت قبل أن يقدم سعد فلما قدم سعد بن عبادة ذكر ذلك له فقال سعد: يا رسول الله! هل ينفعها أن أتصدق عنها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم. فقال سعد: حائط كذا وكذا صدقة عنها لحائط سماه، وهذا نص في التكلم فيمكن أن يأول رواية الكتابة بأن المراد إنها لم تتكلم أي بالصدقة، ولو تكلمت تصدقت أي فكيف أمضى ذلك. أو يحمل على أن سعداً ما عرف بما وقع منها فإن الذي روى هذا الكلام في الموطأ هو سعيد بن عبادة. أو ولده شرحبيل مرسلاً، فعلى التقديرين لم يتحد راوي الإثبات، وراوي النفي. فيمكن الجمع بينهما بذلك - انتهى. وبسط العيني في إثبات المنافاة بين الراويتين، وبنى على ذلك إن الرجل المبهم في حديث عائشة رجل آخر غير سعد بن عبادة فلا حاجة على هذا إلى الجمع (فهل لها أجر إن تصدقت عنها) بكسر الهمزة إن على أنها شرطية. قال الزركشي: وهي الرواية الصحيحة ولا يصح قول من فتحها؛ لأنه إنما سأل عما لم يفعل، لكن قال البدر الدماميني: إن ثبتت لنا رواية بفتح الهمزة من أن أمكن تخريجها على مذهب الكوفيين في صحة مجيء إن المفتوحة الهمزة شرطية كان المكسورة ورجحه ابن هشام، والمعنى حينئذٍ صحيح بلا شك ذكره القسطلاني (قال نعم) لها أجر إن تصدقت عنها، وقد بين النسائي من وجه آخر جهة الصدقة المذكورة فأخرج من طريق سعيد بن المسيب عن سعد بن عبادة. قال: قلت يا رسول الله! إن أمي ماتت أفاتصدق عنها. قال: نعم. قلت: فأي الصدقة أفضل؟ قال: سقي الماء. وقد سبق هذا الحديث في فضل الصدقة ومر قريباً إنه تصدق عنها بحائط، وطريق الجمع إنه تصدق عنها بالحائط من تلقاء نفسه، وبالماء بأمره - صلى الله عليه وسلم - بعد سؤاله عنه والله تعالى أعلم. وفي الحديث جواز الصدقة عن الميت وإن ذلك ينفعه بوصول الثواب الصدقة إليه، ولاسيما إن كان من الولد وكذا حكم الدعاء وهو مخصص لعموم قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} [النجم:39] وقد اختلف في غير الصدقة من أعمال البر هل تصل إلى الميت كالصلاة وتلاوة القرآن؟ والمختار عند الحنفية نعم قياساً على الدعاء، وعندي فيه تأمل. وفيه أنه يستحب لمن يتوفى فجأة. أن يتصدق عنه أهله وترجم البخاري على هذا الحديث باب موت الفجاءة. قيل أشار بهذا إلى أن موت الفجاءة ليس بمكروه؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يظهر منه كراهة حين أخبره الرجل بانفلات نفس أمه وهو محمول على المتهيئ للموت والمتأهب والمراقب له دون غيره، وعلى ذلك يحمل خبر ابن أبي شيبة عن عائشة وابن مسعود موت الفجاءة راحة للمؤمن وأسف على الفاجر، وخبر أبي داود موت الفجاءة أخذة أسف. ولأحمد من حديث أبي هريرة أنه - صلى الله عليه وسلم - مر بجدار مائل فأسرع. وقال: أكره موت الفوات. قال ابن بطال: وكان ذلك والله أعلم لما في موت الفجاءة من خوف حرمان الوصية، وترك الاستعداد للمعاد بالتوبة

{الفصل الثاني}

{الفصل الثاني} 1971- (5) عن أبي أمامة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع: ((لا تنفق امرأة شيئاً من بيت زوجها إلا بإذن زوجها! قيل: يا رسول الله! ولا طعام؟ قال: ذلك أفضل أموالنا)) . رواه الترمذي. 1972- (6) وعن سعد، قال: لما بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء قامت امرأة جليلة كأنها من نساء مضر، فقالت: ((يا نبي الله؟ إنا كل على آبائنا وأبنائنا وأزواجنا، ـــــــــــــــــــــــــــــ وغيرها من الأعمال الصالحة. وقال ابن المنير: لعل البخاري أراد بهذه الترجمة إن من مات فجاءة فليستدرك ولده من أعمال البر ما أمكنه مما يقبل النيابة كما وقع في الحديث - انتهى. وقد مر الكلام في ذلك في الجنائز فليراجع (متفق عليه) أخرجه البخاري في أواخر الجنائز وفي الوصايا، ومسلم في الزكاة وأخرجه أيضاً أحمد ومالك في أواخر الأقضية والنسائي في الوصايا. 1971- قوله: (لا تنفق) نفي، وقيل نهي (امرأة شيئاً من بيت زوجها إلا بإذن زوجها) أي صريحاً أو دلالة كما سبق، وللبيهقي: ألا لا يحل لامرأة أن تعطى من مال زوجها شيئاً إلا بإذنه (ذلك أفضل أموالنا) ولابن ماجه: من أفضل أموالنا يعني فإذا لم تجز الصدقة بما هو أقل قدراً من الطعام بغير إذن الزوج، فكيف تجوز بالطعام الذي هو أفضل (رواه الترمذي) في الزكاة وأخرجه أيضاً ابن ماجه في التجارات والبيهقي في الزكاة جميعهم من طريق إسماعيل بن عياش الحمصي وهو صدوق في روايته عن أهل بلده عن شرحبيل بن مسلم الخولاني الشامي عن أبي أمامة، وحسنه الترمذي وسكت عليه الحافظ في الفتح. 1972- قوله: (وعن سعد) بن أبي وقاص (جليلة) أي عظيمة القدر كبيرة، وقيل: أو طويلة القامة. وقال الخطابي: الجليلة تكون بمعنيين أحدهما تكون خليقة جسيمة. يقال: امرأة خليقة وخليقاء، كذلك والآخر أن تكون بمعنى المسنة. يقال: جل الرجل إذا كبر وأسن، وجلت المرأة إذا عجزت (كأنها من نساء مضر) وهو أبوقبيلة (إنا كل) بفتح الكاف وتشديد اللام أي ثقل وعيال (على أبائنا وأبنائنا وأزواجنا) كذا في جميع النسخ من المشكاة، وهكذا في المصابيح، والذي في أبي داود يدل على عدم الجزم بلفظ: الأزواج ولفظه على أبائنا وأبنائنا. قال أبوداود: وأرى فيه وأزواجنا، والحديث رواه البيهقي من طريق أبي داود، هكذا رواه أيضاً من طريقين آخرين. قال: في أحدهما على آبائنا وأزواجنا وفي الآخر على آبنائنا وإخواننا ونقل الخطابي في المعالم (ج2

{الفصل الثالث}

فما يحل لنا من أموالهم! قال: الرطب تأكلنه وتهدينه)) . رواه أبوداود. {الفصل الثالث} 1973- (7) عن عمير مولى آبى الحم، قال: ((أمرني مولاي أن أقدد لحماً، فجاءني مسكين، فأطعمته منه، ـــــــــــــــــــــــــــــ ص79) بدون لفظ الأزواج وبني عليه شرحه ففرق بين الآباء والأبناء وبين الأزواج في الحكم المذكور (فما يحل لنا من أموالهم) أي من غير أمرهم (قال الرطب) بفتح الراء وسكون الطاء المهملة أراد به اللبن والفاكهة والبقول والمرق ونحو ذلك مما يسرع إليه الفساد من الأطعمة ولا يتقوى على الخزن، وقع فيها المسامحة بترك الاستئذان جرياً على العادة المستحسنة بخلاف اليابس من الطعام؛ لأنه يبقى على الخزن والادخار ذكره الطيبي أخذاً عن التوربشتي. وكذا قال الخطابي في المعالم (ج2 ص79) (تأكلنه وتهدينه) أي ترسلنه هدية. قال الحافظ: بعد ذكر حديث أبي أمامة المتقدم، وحديث سعد هذا ما لفظه وظاهرهما التعارض، ويمكن الجمع بأن المراد بالرطب ما يتسارع إليه الفساد فأذن فيه بخلاف غيره، ولو كان طعاماً - انتهى. وقال العيني: أخذاً عن شرح الترمذي للعراقي: فإن قلت: أحاديث هذا الباب جاءت مختلفة فمنها ما يدل على منع المرأة عن أن تنفق من بيت زوجها إلا بإذنه وهو حديث أبي أمامة، ومنها ما يدل على الإباحة بحصول الأجر لها في ذلك، وهو حديث عائشة السابق في أول الباب، ومنها ما قيد الترغيب في الإنفاق بكونه بطيب نفس منها، وبكونها غير مفسدة وهو عائشة أيضاً، ومنها ما مقيد بكونها غير مفسدة وإن كان من غير أمره وهو حديث أبي هريرة المتقدم وفيه وعد نصف الأجر، ومنها ما قيد الحكم فيه بكونه رطباً وهو حديث سعد بن أبي وقاص. قلت: كيفية الجمع بينها إن ذلك يختلف عادات باختلاف عادات البلاد وباختلاف حال الزوج من مسامحته ورضاه بذلك أو كراهته لذلك وباختلاف الحال في الشيء المنفق بين أن يكون شيئاً يسيراً يتسامح به، وبين أن يكون له خطر في نفس الزوج يبخل بمثله، وبين أن يكون ذلك رطباً يخشى فساده أن تأخر وبين أن يكون يدخر ولا يخشى عليه الفساد (رواه أبوداود) في الزكاة، وسكت عليه هو والمنذري، وأخرجه أيضاً ابن خزيمة في صحيحه والبغوي في شرح السنة والبيهقي في الزكاة (ج4 ص193) . 1973- قوله: (عن عمير) بالتصغير (مولى آبى اللحم) بهمزة ممدودة وكسر الباء أي مملوكه وقد تقدم ترجمتهما (أقدد لحماً) أي أقطعه بضم الهمزة وكسر الدال المشددة من القد وهو الشق طولاً (فأطعمته) أي أعطيته

فعلم بذلك مولاي، فضربني، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فدعاه، فقال: لم ضربته؟ قال: يعطي طعامي بغير أن آمره. فقال: الأجر بينكما)) . وفي رواية قال: كنت مملوكاً، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتصدق من مال موالي بشيء؟ قال: نعم، والأجر بينكما نصفان)) . رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ (يعطي طعامي من غير أن آمره) أي بغير إذني إياه (فقال الأجر بينكما) أي إن رضيت بذلك يحل له إعطاء مثل هذا مما يجري فيه المسامحة، وليس المراد تقرير العبد على أن يعطي بغير رضى المولى. قال الطيبي: أخذاً من التوربشتي لم يرد به إطلاق بد العبد بل كره صنيع مولاه في ضربه على أمر تبين رشده فيه، فحث السيد على اغتنام الأجر والصفح عنه، فهذا تعليم وإرشاد لآبى اللحم لا تقرير لفعل العبد - انتهى. وقال النووي: هذا محمول على أن عمير تصدق بشيء ظن إن مولاه يرضي به ولم يرض به مولاه فلعمير أجر؛ لأنه فعل شيئاً يعتقده طاعة بنية الطاعة ولمولاه أجر، لأن ماله أتلف عليه وقوله: "الأجر بينكما" ليس معناه إن الأجر الذي لأحدهما يزدحمان فيه، وإن أجر نفس المال يتقاسمانه بل معناه أي لكل منكما أجر يعني إن هذه الصدقة التي أخرجها المملوك بإذن المالك يترتب على جملتها ثواب على قدر المال والعمل، فيكون ذلك مقسوماً بينهما لهذا نصيب بماله، ولهذا نصيب بعمله، فلا يزاحم صاحب المال العامل في نصيب عمله ولا يزاحم العامل صاحب المال في نصيب ماله (وفي رواية) أي لمسلم (قال) أي عمير (كنت مملوكاً فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتصدق) كذا في جميع النسخ وكذا نقله الجزري في جامع الأصول وفي صحيح مسلم، أأتصدق بزيادة همزة الاستفهام (من مال موالي) بتشديد الياء وفي بعض النسخ من صحيح مسلم مولاي بفتح الياء وبلفظ: الأفراد وكذا وقع في جامع الأصول (بشيء) أي تافه أو مأذون فيه عادة. قال النووي: هذا محمول على أنه استأذن في الصدقة بقدر يعلم رضا سيده به (قال نعم والأجر بينكما نصفان) قال النووي: معناه قسمان وإن كان أحدهما أكثر كما قال الشاعر: إذا مت كان الناس نصفان شامت وآخر مثن بالذي كنت أصنع وأشار القاضي إلى أنه يحتمل أيضاً أن يكون سواء؛ لأن الأجر فضل من الله تعالى ولا يدرك بالقياس ولا هو بحسب الأعمال وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والمختار الأول - انتهى (رواه مسلم) في الزكاة والرواية الأولى أخرجها النسائي أيضاً في الزكاة، وأخرج البيهقي فيه الروايتين.

(9) باب من لا يعود في الصدقة

(9) باب من لا يعود في الصدقة {الفصل الأول} 1974- (1) عن عمر بن الخطاب، قال: ((حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه الذي كان عنده، فأردت أن أشتريه، وظننت أنه يبيعه برخص، ـــــــــــــــــــــــــــــ (باب من لا يعود في الصدقة) أي لا حقيقة ولا صورة. 1974- قوله: (حملت) بتخفيف الميم أي أركبت رجلاً (على فرس) يعني تصدقت به عليه ليغزو عليه (في سبيل الله) قال الطيبي: أي جعلت فرساً حمولة من لم يكن المجاهدين وتصدقت بها عليه. وقال الباجي: الحمل عليها في سبيل الله على وجهين، أحدهما: أن يعلم من فيه النجدة والفروسية فيهبه له ويملكه إياده لما يعلم من نجدته ونكايته للعدو، فهذا يملكه الموهوب له ويتصرف فيه بنا يشاء من بيع وغيره، والوجه الثاني: وهو الأظهر أن يكون دفعه إلى من يعلم من حاله مواظبة الجهاد في سبيل الله التحبيس له فهذا ليس للموهوب له أن يبيعه - انتهى. وفي رواية ابن عمر عند البخاري وغيره: إن عمر تصدق بفرس في سبيل الله. قال الحافظ: أي حمل عليه رجلاً في سبيل الله كما في الراوية الأخرى، والمعنى أنه ملكه له ولذلك ساغ له بيعه، ومنهم من كان عمر قد حبسه، وإنما ساغ للرجل بيعه؛ لأنه حصل فيه هزال عجز لآجله عن اللحاق وضعف عن ذلك وانتهى إلى حالة الانتفاع به، وأجاز ذلك ابن القاسم ويدل على أنه حمل تمليك قوله: ولا تعد في صدقتك ولو كان حبساً لعلله به. وقال ابن عبد البر: أي حمله على فرس حمل تمليك فله أن يفعل فيه ما شاء في سائر أمواله - انتهى. وكان اسم هذا الفرس فيما ذكره ابن سعد في الطبقات الورد، وكان لتميم الداري فأهداه للنبي - صلى الله عليه وسلم - فأعطاه لعمر، ولم يعرف الحافظ اسم الرجل الذي حمله عليه (فأضاعه) أي الفرس الرجل (الذي كان عنده) بترك القيام عليه بالخدمة والعلف والسقي وإرساله للرعي حتى صار كالشيء الضائع الهالك. قال الباجي: قوله "أضاعه" يحتمل أمرين أحدهما: أنه أضاعه بأن لم يحسن القيام عليه وقصر في مؤنته وخدمته ويبعد مثل هذا في أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلا أن يوجب هذا أمر، ويحتمل أن يريد به صيره ضائعاً من الهزال لفرط مباشرة الجهاد ولا تعابه له في سبيل الله تعالى. قال الحافظ: وقيل: لم يعرف مقداره فأراد بيعه بدون قيمته. وقيل: معناه استعمله في غير ما جعل له، والأول أظهر لرواية مسلم، فوجده قد أضاعه وكان قليل المال (وظننت أنه يبيعه برخص) بضم الراء وسكون الخاء مصدر رخص الشيء من كرم ضد غلا فهو رخيص، وهذا إما لتغير الفرس وضياعه أو؛ لأنه حان الرخص في سوق

فسألت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لا تشتره ولا تعد في صدقتك وإن أعطاكه بدرهم، فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الفرس أو لكونه منعماً عليه (فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي عن ذلك (لا تشتره) بهاء الضمير أو السكت وظاهر النهي التحريم، لكن الجمهور على أنه للتنزيه وأشار عليه الصلاة والسلام إلى العلة في نهيه عن الابتياع بقوله (ولا تعد في صدقتك) أي لا تعد فيها لا بشراء ولا بغيره من سائر التملكات كالهبة فهو من عطف العام على الخاص (وإن أعطاكه بدرهم) هو مبالغة في رخصة وهو الحامل له على شراءه وهذا متعلق بقوله: لا تشتره أي ى ترغب فيه البتة ولا تنظر إلى رخصه، ولكن أنظر إلى أنه صدقتك. قال ابن الملك: ذهب بعض العلماء إلى أن شراء المتصدق صدقته حرام لظاهر الحديث، والأكثرون على أنها كراهة تنزيه لكون القبح فيه لغيره وهو أن المتصدق عليه ربما يسامح المتصدق في الثمن بسبب تقدم إحسانه فيكون كالعائد في صدقته في ذلك المقدار الذي سومح فيه. وقال الحافظ: سمي شراءه برخص عوداً في الصدقة من حيث إن الغرض منها ثواب الآخرة فإذا اشتراها برخص فكأنه اختار عرض الدنيا على الآخرة مع أن العادة تقتضي بيع مثل ذلك برخص لغير المتصدق فكيف بالمتصدق فيصير راجعاً في ذلك المقدار الذي سومح فيه - انتهى. قال النووي: قوله "لا تشتره ولا تعد في صدقتك" هذا نهي تنزيه لا تحريم فيكره لمن تصدق بشيء، أو أخرجه في زكاة أو كفارة أو نذر أو نحو ذلك من القربات أن يشتريه ممن دفعه هو إليه، أو يتهبه أو يتملكه باختياره منه. فأما إذا ورثه منه فلا كراهة فيه، وكذا لو انتقل إلى ثالث ثم اشتراه منه المتصدق فلا كراهة، هذا مذهبنا ومذهب الجمهور. وقال جماعة من العلماء: النهي عن شراء صدقته للتحريم - انتهى. قلت: قد حكى العراقي في شرح الترمذي كراهة شراءه من ثالث انتقل إليه من المتصدق به عليه عن بعضهم لرجوعه فيما تركه لله كما حرم على المهاجرين سكنى مكة بعد هجرتهم منها لله تعالى. وقال ابن قدامة (ج2 ص651) : ليس لمخرج الزكاة شراءها ممن نقض البيع صارت إليه، وروى ذلك عن الحسن وهو قول قتادة ومالك. قال أصحاب مالك: فإن اشتراها لم ينقض البيع. وقال الشافعي وغيره: يجوز لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة رجل ابتاعها بماله، ولنا ما روى عمر أنه قال حملت على فرس في سبيل الله - الحديث. وحديثهم عام، وحديثنا خاص صحيح فالعمل به. أولى من كل وجه - انتهى. مختصراً، وقد تقدم كلامه بتمامة في شرح حديث عطاء بن يسار في الفصل الثاني، من باب من لا تحل له الصدقة (فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئة) شبه العائد في صدقته باخس الحيدان في أخس أحواله تصويراً للتهجين وتنفيراً منه، قال في المصابيح: وفي ذلك دليل على المنع من الرجوع في الصدقة لما أشتمل عليه من التنفير الشديد من حيث شبه الراجع بالكلب والمرجوع فيه بالقيء والرجوع في الصدقة برجوع الكلب في

وفي رواية: ((لا تعد في صدقتك، فإن العائد في صدقته كالعائد في قيئة)) . متفق عليه. 1975- (2) عن بريدة، قال: كنت جاساً عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذا أتته امرأة، فقالت: يا رسول الله! إني تصدقت على أمي بجارية، وإنها ماتت. قال: ((وجب أجرك، وردها عليك الميراث. ـــــــــــــــــــــــــــــ قيئة - انتهى. وجزم بعضهم بالمحرمة: قال قتادة: لا نعلم القيء إلا حراماً. قال القسطلاني: والصحيح إنه للتنزيه؛ لأن فعل الكلب لا يوصف بتحريم إذا لا تكليف عليه فالمراد التنفير من العود بتشبيه بهذا المستقذر - انتهى. قلت: القول الراجح عندي هو ما ذهب إليه بعض العلماء من تحريم الرجوع في الصدقة، لأن الحديث ظاهر في التحريم، والتأويل المذكور بعيد جداً منافر لسياق الحديث. لاسيما الرواية الثانية وعرف الشرع في مثل هذه العبارة الزجر الشديد كما ورد النهي في الصلاة عن إقعاء الكلب ونقر الغراب والتفات الثعلب ونحو ذلك ولا يفهم من المقام إلا التحريم والتأويل البعيد مما لا يلتفت إليه (وفي رواية لا تعد في صدقتك فإن العائد في صدقته كالعائد في قيئة) الفاء للتعليل أي كما يقبح أن يقيء ثم يأكل كذلك يقبح أن يتصدق بشيء ثم يجره إلى نفسه. قال الحافظ: استدل به على تحريم ذلك؛ لأن القيء حرام. قال القرطبي: وهذا هو الظاهر من سياق الحديث ويحتمل أن يكون التشبيه للتنفير خاصة لكون القيء مما يستقذر وهو قول الأكثر. وقال في موضع آخر: حمل الجمهور هذا النهي في صورة الشراء على التنزيه، وحمله قوم على التحريم. قال القرطبي وغيره: وهو الظاهر ثم الزجر المذكور مخصوص بالصورة المذكورة وما أشبهها لا ما إذا رده إليه الميراث مثلاً كما سيأتي (متفق عليه) ظاهره إن الروايتين عند الشيخين وليس الأمر كذلك فإن الرواية الثانية من أفراد البخاري لم يخرجها مسلم، والحديث أخرجه البخاري في الزكاة والهبة والجهاد، ومسلم في الهبة وأخرجه أيضاً أحمد (ج1 ص25، 37، 40، 54) ومالك والترمذي والنسائي في الزكاة، وابن ماجه في الهبة كلهم من حديث زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر وأخرج هذه القصة الجماعة من حديث ابن عمر أيضاً. 1975- قوله: (إذا أتته امرأة) لم يعرف اسمها (تصدقت على أمي بجارية) أي ملكتها لها صدقة (وإنها) أي أمي (ماتت) وتركت تلك الجارية فهل أخذها وتعود في ملكي بالميراث، أم لا؟ (وجب أجرك) أي ثبت أجرك عند الله بالصلة (وردها) أي الجارية (عليك الميراث) أي رجع عليك بسبب لا دخل لك فيه فلا يكون سبباً لنقصان الأجر في الصدقة. وقال القاري: النسبة مجازية أي ردها الله عليك بالميراث وصارت الجارية ملكاً بالإرث وعادت لك بالوجه الحلال، والمعنى إن ليس هذا من باب العود في الصدقة، لأنه ليس أمراً اختيارياً. قال النووي: في الحديث إن من تصدق بشيء ثم ورثه لم يكره له أخذه والتصرف فيه بخلاف ما إذا

قالت: يا رسول الله! إنه كان عليها صوم شهر، أفاصوم عنها؟ قال: صومي عنها. قالت: إنها لم تحج قط، أفاحج عنها؟ قال: نعم. حجي عنها)) . رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ أراد شراءه، فإنه يكره لحديث فرس عمر رضي الله عنه - انتهى. وقال ابن الملك أكثر العلماء على أن الشخص إذا تصدق بصدقة على قريبة ثم ورثها حلت له وقيل: يجب صرفها إلى فقير؛ لأنها صارت حقاً لله تعالى انتهى وتعليل في معرض النص فلا يقبل ولا يعقل (إنه) الشأن (كان عليها صوم شهر) لم يبين إنه صوم رمضان أو نذر أو كفارة (أفاصوم عنها) وفي رواية لأحمد فيجزئ إن أصوم عنها (قال صومي عنها) فيه دليل على أنه يصوم الولي عن الميت إذا مات، وعليه صوم كان، وبه قال أصحاب الحديث وجماعة من محدثي الشافعية وأبوثور خلافاً للجمهور. قال السندي: قوله "وعليها صوم" إطلاقه يشمل الفرض والنذر وخصه الإمام أحمد بالنذر، وقد أخذ بعض أهل العلم بإطلاقه، منهم طاووس وقتادة والحسن والزهري وأبوثور في رواية داود، وهو قول الشافعي القديم. قال النووي: وهو المختار ورجحه البيهقي، وقال لو أطلع الشافعي على جميع الطرق الحديث لم يخالف إنشاء الله تعالى ومن يقول به يدعي النسخ بأدلة غير تامة، ومنهم من يقول معنى أفأصوم عنها أم أفدي عنها تسمية الفداء صوماً لكونه بدلاً عن الصوم وكل ذلك غير تام والله أعلم - انتهى. وسيأتي بسط الكلام في هذه المسألة في باب القضاء من كتاب الصوم (قال نعم حجي عنها) أي سواء وجب عليها أم لا، أوصت به أم لا، قال ابن الملك: يجوز أن يحج أحد عن الميت بالاتفاق. وقال النووي: فيه دلالة ظاهرة لمذهب الشافعي والجمهور إن النيابة في الحج جائزة عن الميت وسيجيء مزيد الكلام في أوائل كتاب المناسك (رواه مسلم) في الصيام وأخرجه أيضاً أحمد (ج5 ص349- 351- 359- 361) والترمذي في الزكاة وأبوداود فيه وفي الوصايا وابن ماجه في الصوم وفي الصدقات مقطعاً. هذا آخر كتاب الزكاة.

(7) كتاب الصوم

(7) كتاب الصوم ـــــــــــــــــــــــــــــ (كتاب الصوم) الصوم والصيام في اللغة: الإمساك مطلقاً، قال أهل اللغة: صام صوم وصياماً واصطام أي أمسك عن الطعام والشراب والكلام والنكاح والسير وغير ذلك. ويقال: صام النهار إذا وقف سير الشمس، وصامت الريح إذا ركدت، وماء صائم أي ساكن راكد. وقال الله تعالى: إخبار عن مريم: {إني نذرت للرحمن صوماً} [مريم:26] أي صمتاً وإمساكاً عن الكلام وكان مشروعاً عندهم ألا ترى إلى قولها: {فلن أكلم اليوم إنسيا} وقال النابغة الذبياني: خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاح وأخرى تعلك اللجما يعني بالصائمة الممسكة عن السير قاله ابن فارس. وقيل: الممسكة عن الاعتلاف أي القائمة على غير علف. وقيل: الممسكة عن الصهيل. وفي الشرع على ما قاله النووي والحافظ إمساك مخصوص في زمن مخصوص عن شيء مخصوص بشرائط مخصوصة. وقال الراغب: هو إمساك المكلف بالنية من الخيط الأبيض أي الفجر الثاني إلى المغرب عن تناول الأطيبين، والاستمناء والاستسقاء. قال الطيبي: فهو مصف سلبي وإطلاق العمل عليه تجوز. وقيل: هو إمساك عن المفطرات حقيقة أو حكماً في وقت مخصوص من شخص مخصوص مع النية. وقال الأمير اليماني: الصوم في الشرع، إمساك مخصوص، وهو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع وغيرهما، مما ورد به الشرع في النهار على الوجه المشروع، ويتبع ذلك الإمساك عن اللغو والرفث وغيرهما من الكلام المحرم والمكروه لورود الأحاديث بالنهي عنها في الصوم، زيادة على غيره في وقت مخصوص بشروط مخصوصة تفصلها الأحاديث انتهى. وللصوم فوائد كثيرة ومصالح معقولة جليلة، لا تخفى على العاقل البصير وقد بسطها العلماء حسب ما سنح لهم من شاء الوقف عليها رجع إلى حجة الله، والحصون الحميدية وشرح الموطأ للزرقاني وغير ذلك من الكتب التي ذكرت فيها أسرار الأحكام الشرعية ومصالحها. وقال في حجة الله (ج2 ص37) بعد ذكر أسرار الصوم وحكمة تقدير مدته بالشهر وإذا وقع التصدي لتشريع عام وإصلاح جماهير الناس وطوائف العرب والعجم، أن لا يخير في ذلك الشهر ليختار كل واحداً شهراً يسهل عليه صومه، لأن في ذلك فتحاً لباب الاعتذار والتسلل وسداً لباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإخمالاً لما هو من أعظم طاعات الإسلام، وأيضاً فإن اجتماع طوائف عظيمة من المسلمين على شيء واحد في زمان واحد، يرى بعضهم بعضاً معونة لهم على الفعل ميسر لهم ومشجع إياهم، وأيضاً فإن اجتماعهم هذا سبب لنزول البركات الملكية على خاصتهم وعامتهم، وأدنى أن ينعكس أنوار كملهم على من دونهم وتحيط دعوتهم من ورائهم وإذا وجب تعيين ذلك الشهر فلا أحق من شهر نزل فيه

{الفصل الأول}

{الفصل الأول} 1976- (1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخل رمضان فتحت أبواب السماء ـــــــــــــــــــــــــــــ القرآن وأرتسخت فيه الملة المصطفوية وهو مظنة ليلة القدر - انتهى. وكان مبدأ فرض صوم رمضان بعد ما صرفت القبلة إلى الكعبة بشهر في شعبان وفي رأس ثمانية عشر شهراً من الهجرة. 1976 - قوله: (إذا دخل رمضان) أي في شهر رمضان، وهو مأخوذ من الرمضاء، يقال: رمض النهار كفرح اشتد حره وقدمه احترقت من الرمضاء للأرض الشديد الحرارة وسمي شهر رمضان به، إما لارتماض الصائمين فيه من حر الجوع والعطش، أو لارتماض الذنوب فيه، أو لرمض الحر وشدة وقوعه فيه حال التسمية، لأنهم لما نقلوا أسماء الشهور من اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها. فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر أي شدته، أو من رمض الطائر إذا جوفه من شدة العطش وقيل: سمي بذلك لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها، وهو لا ينصرف للعلمية والألف والنون وفيه دليل لما ذهب إليه الجمهور من أنه يجوز أن يقال رمضان بدون إضافة لفظ الشهر إليه، ومنعه أصحاب مالك لحديث لا تقولوا رمضان. فإن رمضان اسم من أسماء الله ولكن قولوا شهر رمضان، أخرجه ابن عدي في الكامل عن أبي هريرة مرفوعاً، وضعفه بأبي معشر نجيح المدني: وذهب كثير من الشافعية إلى أنه إن كان هناك قرينة تصرفه إلى الشهر فلا كراهة، وإلا فيكره فلا يقال: جاء رمضان. ويجوز أن يقال صمت رمضان، وإلى هذا الفرق مال ابن قدامة في المغنى. وقد رد النووي هذين القولين في شرح مسلم، وفي المجموع بأن الصواب ما ذهب إليه المحققون أن لا كراهة في إطلاق رمضان بقرينة وبلا قرينة لعدم ثبوت نهي فيه، وصوابه الباجي أيضاً وبوب البخاري في صحيحه هل يقال رمضان أو شهر رمضان؟، ومن رأى كله واسعاً واحتج للجواز بعده أحاديث، وترجم النسائي لذلك أيضاً فقال باب الرخصة في أن يقال لشهر رمضان رمضان (فتحت) بضم الفاء وتخفيف التاء وروى بتشديد التاء. وقال الزرقاني: بتشديد الفوقية ويجوز تخفيفها. وقال القاري: بالخفيف وهو أكثر كما في التنزيل وبالتشديد لتكثير المفعول (أبواب السماء) قيل: هذا من تصرف الرواة وكذا قوله أبواب الرحمة. والأصل أبواب الجنة بدليل ما يقابله وهو غلق أبواب النار. وقال ابن بطال: المراد من السماء الجنة بقرينة ذكر جهنم في مقابلة. وقال العيني: أخذا من ابن العربي لا تعارض في ذلك فأبواب السماء يصعد منها إلى الجنة؛ لأنها فوق السماء وسقفها عرش الرحمن، كما ثبت في الصحيح. وأبواب الرحمة تطلق على أبواب الجنة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح احتجت الجنة والنار - الحديث. وفيه

وفي رواية فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال الله للجنة أنت رحمتي أرحم من أشاء من عبادي - الحديث. وقال التوربشتي: كلا الروايتين متقاربان في المعنى (وفي رواية فتحت أبواب الجنة) أي حقيقة لمن مات في رمضان أو عمل عملاً لا يفسد عليه أو مجازاً؛ لأن العمل فيه يؤدي إلى ذلك أو لكثرة الثواب والمغفرة والرحمة، بدليل رواية أبواب الرحمة، قال السندي: قوله: فتحت أبواب الجنة أي تقريباً للرحمة إلى العباد ولهذا جاء في بعض الروايات أبواب الرحمة، وفي بعضها أبواب السماء، وهذا يدل على أن أبواب الجنة كانت مغلقة ولا ينافيه قوله تعالى: {جنات عدن} [الرعد:23] مفتحة لهم الأبواب إذ ذلك لا يقتضى دوام كونها مفتحة (وغلقت) بالشديد أكثر قاله القاري (أبواب جهنم) حقيقة أو مجازاً نظير ما مر. وقال السندي: أي تبعيداً للعقاب عن العباد، وهذا يقتضي إن أبواب النار كانت مفتوحة ولا ينافيه قوله تعالى: {حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها} [الزمر:71] لجواز أن يكون هناك غلق قبيل ذلك، وغلق أبواب النار لا ينافي موت الكفرة في رمضان وتعذيبهم بالنار فيه، إذ يكفي في تعذيبهم فتح باب صغير من القبر إلى النار غير الأبواب المعهودة الكبار - انتهى. (وسلسلت الشياطين) أي شدت بالسلاسل حقيقة، والمراد مسترقوا السمع منهم أو هو مجاز على العموم أي يقل إغواءهم فيصيرون كالمسلسلين أو المراد بالشياطين بعضهم وهم المردة منهم كما سيأتي قال الحافظ. قال عياض: يحتمل أنه (أي تفتيح أبواب الجنة وتغليق أبواب جهنم وسلسلة الشياطين) على ظاهره وحقيقته وإن ذلك كله علامة الملائكة لدخول الشهر وتعظيم لحرمته ولمنع الشياطين من إيذاء المؤمنين، ويحتمل أن يكون المراد المجاز ويكون إشارة إلى كثرة الثواب والعفو، وإن الشياطين يقل إغواءهم وإيذاءهم فيصيرون كالمصفدين ويكون تصفيدهم عن أشياء دون أشياء ولناس دون ناس. قال ويؤيد هذا الاحتمال الثاني قوله في رواية عند مسلم: فتحت أبواب الرحمة، وجاء في حديث صفدت مردة الشياطين. قال ويحتمل أن يكون فتح أبواب الجنة عبارة عما يفحته الله لعباده من الطاعات في هذا الشهر التي لا تقع في غيره عموماً، وذلك أسباب لدخول الجنة وأبواب لها، وغلق أبواب النار عبارة عن صرف الهمم عن المعاصي الآيلة بأصحابها إلى النار وتصفيد الشياطين عبارة عن تعجيزهم عن الإغواء وتزيين الشهوات. قال الزين بن المنير: والأول أوجه ولا ضرورة تدعوا إلى صرف اللفظ عن ظاهره. وأما الرواية التي فيها أبواب الرحمة وأبواب السماء فمن تصرف الرواة، والأصل أبواب الجنة بدليل ما يقابله وهو غلق أبواب النار. وجزم التوربشتي شارح المصابيح بالاحتمال الأخير، وعبارته فتح أبواب السماء كناية عن تنزيل الرحمة وإزالة الغلق عن مصاعد أعمال العباد تارة ببذل التوفيق، وأخرى بحسن القبول والمن عليهم بتضعيف الثواب وغلق أبواب جهنم كناية عن تنزه أنفس الصوام عن رجس الفواحش، والتخلص

...................... ـــــــــــــــــــــــــــــ من البواعث على المعاصي بقمع الشهوات. وقال القرطبي: يصح حمله على الحقيقة ويكون معناه إن الجنة قد فتحت وزخرفت لمن مات في رمضان لفضل هذه العبادة الواقعة فيه، وغلقت أبواب النار فلا يدخلها منهم أحد مات فيه، وصفدت الشياطين لئلا تفسد على الصائمين. قال الطيبي: فائدة فتح أبواب السماء توقيف الملائكة على استحماد فعل الصائمين، وإن ذلك من الله بمنزلة عظيمة، وأيضاً فيه إنه إذا علم المكلف المعتقد ذلك بإخبار الصادق يزيد في نشاطه ويتلقاه بإربحته - انتهى. وقال الشاه ولي الله الدهلوي: أعلم أن هذا الفضل إنما هو بالنسبة إلى جماعة المسلمين فإن الكفار في رمضان أشد عمها وأكثر ضلالاً منهم في غيره لتماديهم في هتك شعائر الله ولكن المسلمين إذا صاموا وقاموا وغاص، كملهم في لجة الأنوار وأحاطت دعوتهم من رواتهم وانعكست أضوائهم على من دونهم وشملت بركاتهم جميعهم فئتهم، وتقرب كل حسب استعداده من المنجيات، وتباعد من المهلكات. صدق إن أبواب الجنة تفتح عليهم وإن أبواب جهنم تغلق عنهم، لأن أصلهما الرحمة واللعنة ولأن اتفاق أهل الأرض في صفة تجلب ما يناسبها من جود الله كما ذكرنا في الاستسقاء والحج، وصدق إن الشياطين تسلسل عنهم، وإن الملائكة تنشر فيهم، لأن الشياطين لا يؤثر إلا فيمن استعدت نفسه لأثر، وإنما استعدادها له لغلواء البهيمة، وقد انقهرت. وإن الملك لا يقرب إلا ممن استعد له، وإنما استعداده بظهور الملكية. وقد ظهرت، وأيضاً فرمضان مظنة الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم فلا جرم إن الأنوار المثالية والملكية تنتشر حينئذٍ، وإن أضدادها تنقبض - انتهى. قال القرطبي: بعد أن رجح حمله ظاهره. فإن قيل كيف نرى الشرور والمعاصي واقعه في رمضان كثيراً فلو صفدت الشياطين لم يقع ذلك فالجواب أنها إنما تقل عن الصائمين الصوم الذي حوفظ على شروطه وروعيت آدابه يعني إن ذلك في حق الصائمين الذين حافظوا على شروط الصوم وراعوا آدبه. أو المصفد بعض الشياطين وهو المردة لأكلهم. وترجم لذلك ابن خزيمة في صحيحه، وأورد حديث أبي هريرة الآتي في الفصل الثاني. أو المقصود تقليل الشرور فيه وهذا أمر محسوس فإن وقوع ذلك فيه أقل من غيره إذ لا يلزم من تصفيد جميعهم أن لا يقع شر ولا معصية، لأن لذلك أسباباً الشياطين كالنفوس الخبيثة والعادات القبيصة والشياطين الأنسية، وقريب من هذا المعنى ما قيل إن صدور المعاصي في رمضان ليس من أثر الشيطان بل من أثر النفس الإمارة التي تشربت من أثر الشيطان في سائر السنة، فإن النفس لما تصبغت بلونه تصدر منها أفعاله، والفائدة إذ ذاك في تصفيد الشيطان ضعف التأثير في ارتكاب المعاصي فمن أراد التجنب عن ذلك يسهل عليه. وقال السندي: لا ينافيه وقوع المعاصي إذ يكفي في وجود المعاصي شرار النفس وخباثتها، ولا يلزم أن تكون كل معصية بواسطة شيطان وإلا لكان لكل شيطان شيطان ويتسلسل، وأيضاً

وفي رواية فتحت أبواب الرحمة)) . متفق عليه. 1977- (2) وعن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((في الجنة ثمانية أبواب، منها: ـــــــــــــــــــــــــــــ معلوم أنه ما سبق إبليس شيطان آخر فمعصيته ما كانت إلا من قبل نفسه - انتهى. وقيل المراد من الشياطين مسترق السمع منهم فإنهم كانوا منعوا زمن نزل القرآن من استراق السمع فزيدوا التسلسل مبالغة في الحفظ. وقيل يستثنى منهم في التصفيد صاحب دعوتهم وزعيم زمرتهم لمكان الأنظار الذي سأله من الله فأجيب إليه فيقع ما يقع من المعاصي بتسويلة وإغراءه، فائدة التصفيد فض جموحه وكسر شوكته وتسكين نائرته ولو لم يكن الأمر على ذلك لم يكن لإستظهارة بالأعوان والجنود معنى. وقال ابن العربي: لا يتعين في المعاصي والمخالفة أن تكون من وسوسة الشيطان إذ يكون من النفس وشهواتها سلمنا أنه من الشيطان فليس من شرط وسوسته التي يجدها الإنسان في نفسه إتصالها بالنفس، إذ قد يكون مع بعده عنها لأنها من فعل الله فكما يوجد الألم في جسد المسحور والمعيون عند تكلم الساحر أو العاين فكذلك يوجد وسوسة من خارج، وقريب منه ما قال الباجي أنه يحتمل إن الشياطين تصفد حقيقة فتمتنع من بعض الأفعال التي لا تطيقها إلا مع الإنطلاق، وليس في ذلك دليل على امتناع تصرفها جملة، لأن المصفد هو المغلول اليد إلى العنق يتصرف بالكلام والرأي وكثير من السعي - انتهى. وقيل في تصفيد الشياطين في رمضان إشارة إلى رفع عذر المكلف كأنه يقال له قد كفت الشياطين عنك، فلا تعتل بهم في ترك الطاعة ولا فعل المعصية (وفي رواية فتحت أبواب الرحمة) أي وغلقت أبواب جهنم إلى آخره (متفق عليه) إلا رواية أبواب السماء فإنها من أفراد البخاري رواها في الصيام ورواها أيضاً في صفة إبليس في رواية أبي ذر، وأخرجها أيضاً الدارمي وإلا رواية أبواب الرحمة فإنها من أفراد مسلم، وأخرجها النسائي والرواية المتفق عليها فتحت أبواب الجنة أخرجها البخاري في الصيام، وفي صفة إبليس في رواية غير أبي ذر. ورواها أيضاً مالك والنسائي والبيهقي (ج4 ص202، 303) فكان حق المصنف إن يجعل الرواية المتفق عليها أصلاً. ثم يقول: وفي رواية فتحت أبواب السماء وفي رواية فتحت أبواب الرحمة ثم يذكر وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين لكنه قلد البغوي، والجزري، ونقل من غير تصرف، والحديث أخرجه أحمد (ج2 ص281) أيضاً. 1977- قوله: (في الجنة ثمانية أبواب) أي في سور الجنة ثمانية أبواب، وقد سبق بيان الأبواب الثمانية في شرح حديث إنفاق الزوجين في أوائل باب فضل الصدقة (منها باب) كذا في جميع النسخ، وهكذا في المصابيح والذي في البخاري "فيها باب" وهكذا نقله السيوطي في الجامع الصغير ورواه الجوزقي والبيهقي (ج4

باب يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون)) . متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ص305) بلفظ: إن للجنة ثمانية أبواب. منها باب يسمى الريان - الحديث. ورواية البخاري أصح وأصوب (يسمى الريان) إما لأنه بنفسه ريان لكثرة الأنهار الجارية إليه والأزهار والأثمار الطرية لديه، أو لأن وصل إليه يزول عنه عطش يوم القيامة ويدوم له الطراوة في دار المقامة. قال الزركشي: الريان، فعلان كثير الري ضد العطش سمي به لأنه جزاء الصائمين على عطشهم وجوعهم، وأكتفى بذكر الري عن الشبع لأنه يدل عليه من حيث أنه يسلتزمه. وقيل لأنه أشق على الصائم من الجوع إذ كثيراً ما يصبر على الجوع دون العطش، والريان أصله الرويان اجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون فأبدلت الواو ياء، ثم أدغمت في الياء من رويت من الماء بالكسر أروى رِيا ورَيا ورِوى مثل رضي (لا يدخله) أي لا يدخل منه أي من ذلك الباب (إلا الصائمون) مجازاة لهم لما كان يصيبهم من العطش في صيامهم، والمراد بهم من غلب عليهم الصوم من بين العبادات. قال القاري: قيل: المراد به المقتصر على شهر رمضان بل ملازمة النوافل من ذلك وكثرتها قال السندي: قوله الصائمون، أي المكثرون الصيام كالعادل والظالم يقال لمن يعتاد ذلك لا لمن يفعل مرة، والظاهر إن الإكثار لا يحصل بصوم رمضان وحده بل بأن يزيد عليه ما جاء فيه إنه صيام الدهر والله أعلم - انتهى. قال العراقي: وقد استشكل بعضهم الجمع بين حديث الريان وبين الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم من حديث عمر مرفوعاً، ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو يسبغ الوضوء، ثم يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء قالوا فقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه يدخل من أيها شاء، وقد لا يكون فاعل هذا الفعل من أهل الصيام بأن لا يبلغ وقت الصيام الواجب أو لا يتطوع بالصيام، والجواب عنه بوجهين أحدهما أنه يصرف عن أن يشاء باب الصيام فلا يشاء الدخول منه ويدخل من أي باب شاء غير الصيام فيكون قد دخل من الباب الذي شاءه. والثاني إن حديث عمر قد اختلفت ألفاظه فعند الترمذي فتحت له ثمانية أبواب من الجنة، يدخل من أيها شاء فهذه الرواية تدل على أن أبواب الجنة أكثر من ثمانية. منها وقد لا يكون باب الصيام من هذه الثمانية ولا تعارض حينئذٍ ذكره العيني. وقال السندي: لا ينافيه ما جاء في بعض الأعمال أن صاحبه يفتح له تمام أبواب الجنة إذ يجوز أن لا يدخل من هذا الباب إن لم يكن من الصائمين ويجوز أن لا يفعل أحد ذلك العمل إلا وفقه الله لإكثار الصوم بحيث يصير من الصائمين - انتهى. (متفق عليه) الحديث بهذا اللفظ من أفراد البخاري أورده في باب صفة أبواب الجنة من بدأ الخلق، ولفظ مسلم إن في الجنة باباً يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة، ولا يدخل معهم أحد غيرهم. يقال: أين الصائمون فيدخلون منه، فإذا دخل آخرهم أغلق، فلم يدخل منه أحد. وهذه الرواية أخرجها البخاري في الصيام،

1978- (3) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه. ـــــــــــــــــــــــــــــ فكان حق المصنف أن يقول رواه البخاري، ثم يشير إلى الرواية المتفق عليها، وهذه الرواية أخرجها أيضاً أحمد (ج5 ص333، 335) والترمذي والنسائي وابن خزيمة وابن ماجه والبيهقي وغيرهم بألفاظ متقاربة، وزاد بعضهم ومن دخله لم يظمأ أبداً. 1978 – قوله: (من صام رمضان) بنصبه على الظرفية أي فيه بأن صامه كله عند القدرة عليه أو بعضه عند عجزة ونيته الصوم لولا العجز (إيماناً) تصديقاً بأنه فرض عليه حق وأنه من أركان الإسلام ومما وعدالله عليه من الأجر والثواب قاله السيوطي. قيل نصبه على أنه مفعول لأجله أي لأجل الإيمان بالله ورسوله، والإيمان بما جاء به في فضل رمضان والأمر بصيامه أي الحامل له على ذلك، والداعي إليه هو الإيمان بالله، أو بما ورد في فضله وفرضية صومه. وقيل: نصبه على الحال بأن يكون المصدر بمعنى اسم الفاعل أي مؤمناً يعني مصدقاً بأنه حق وطاعة، أو مصدقاً بما ورد في فضله وقيل: نصبه على التمييز أو على المصدرية أي صوم إيمان أو صوم مؤمن وكذا قوله (واحتساباً) أي طلباً للثواب منه تعالى في الآخرة أو إخلاصاً أي باعثه على الصوم ما ذكر لا الخوف من الناس ولا الإستحياء منهم ولا قصد السمعة والرياء عنهم. وقال الخطابي: احتساباً أي نية وعزيمة وهو أن يصومه على معنى الرغبة في ثوابه طيبة نفسه بذلك غير كاره له ولا مستثقل لصيامه ولا مستطيل لأيامه ولكن يغتنم طول أيامه لعظم الثواب. وقال البغوي: قوله: احتساباً أي طلباً لوجه الله تعالى وثوابه، يقال فلان يحتسب الأخبار ويتحسسها أي يتطلبها - انتهى. وفي العباب أحتسبت بكذا أجراً عند الله أي أعتددته أنوى به وجه الله تعالى ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: من صام رمضان إيماناً واحتساباً (غفر له ما تقدم من ذنبه) اسم جنس مضاف فيتناول جميع الذنوب إلا أنه مخصوص عند الجمهور بالصغائر، وقد تقدم البحث في ذلك في كتاب الطهارة، وقوله " من ذنبه" يتعلق بقوله غفر أي غفر من ذنبه ما تقدم، ويجوز أن تكون من البيانية لما تقدم وهو منصوب المحل على المفعولية على الوجه الأول، ومرفوع المحل على أنه مفعول لما يسم فاعله على الوجه الثاني وزاد النسائي في السنن الكبرى من طريق قتيبة بن سفيان وما تأخر، وقد تابع قتيبة على هذه الزيادة جماعة ذكرها الحافظ في أوائل الصيام وأواخره من الفتح، وفيه رد على من أدعى تفرد قتيبة بهذه الزيادة كالمنذري أو استنكرها كابن عبد البر. وقد استشكلت هذه الزيادة بأن المغفرة تستدعى سبق ذنب والمتأخر من الذنوب لم يأت بعد فكيف يغفر. وأجيب بأن معناه إن ذنوبهم تقع مغفورة. وقيل هو كناية عن حفظ الله إياهم في المستقبل من الكبائر

ومن قام إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه. ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له من تقدم من ذنبه)) . متفق عليه. 1979- (4) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، ـــــــــــــــــــــــــــــ فلا تقع منهم كبيرة بعد ذلك (ومن قام رمضان) أي لياليه أو معظمها أو بعض كل ليلة بصلاة التراويح وغيرها من التلاوة والذكر والطواف ونحوها. وقال ابن الملك: غير ليلة القدر تقديراً أي لما سيأتي التصريح بها تحريراً أو معناه أدى التراويح فيها ذكره القاري. وقال الحافظ: قام رمضان أي قام لياليه مصلياً، والمراد من قيام الليل ما يحصل به مطلق القيام. وذكر النووي إن المراد بقيام رمضان صلاة التراويح يعني أنه يحصل بها المطلوب من القيام لا أن قيام رمضان لا يكون إلا بها. وأغرب الكرماني فقال: اتفقوا على أن المراد قيام رمضان صلاة التراويح (ومن قام ليلة القدر) أي أحياها سواء علم بها أو لا، وليلة القدر منصوب على أنه مفعول به، لا فيه إذ المعنى من أحيي ليلة القدر. ويجوز نصبه بأنه مفعول فيه أي من أطاع الله فيها. قيل: ويكفي في ذلك ما يسمى قياماً حتى أن من أدى العشاء بجماعة فقد قام لكن الظاهر من الحديث عرفاً، كما قال الكرماني أنه لا يقال قام الليلة إلا إذا قام جميعها أو أكثرها (غفر له ما تقدم من ذنبه) قد سبق في كتاب الطهارة إن المكفرات إن صادفت السيئات تمحوها إذا كانت صغائر وتخففها إذا كانت كبائر وألا تكون موجبة لرفع الدرجات في الجنات. وقال الطيبي: رتب على كل من الأمور الثلاثة أمراً واحداً وهو الغفران، تنبيهاً على أنه نتيجة الفتوحات الإلهية ومستتبع للعواطف الربانية وذكر الولي العراقي توجيهاً آخر لذلك، وأرجع إلى شرح التقريب (ج4 ص164) (متفق عليه) أخرجه البخاري في الإيمان والصوم، ومسلم في باب الترغيب في قيام رمضان من كتاب الصلاة، وأخرجه أيضاً أحمد، ومالك في الصلاة. والترمذي في الصوم، وأبوداود في الصلاة. والنسائي في الصوم، وابن ماجه فيه وفي الصلاة، والدارمي والبيهقي وغيرهم مختصراً ومطولاً. 1979- قوله: (كل عمل ابن آدم) قال القاري: أي كل عمل صالح لابن آدم (يضاعف) أي ثوابه فضلاً منه تعالى (الحسنة) مبتدأ وخبر جنس الحسنات الشامل لأنواع الطاعات مضاف ومقابل (بعشر أمثالها) لقوله تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} [الأنعام:161] وهذا أقل المضاعفة وإلا فقد يزاد (إلى سبع مأة ضعف) بكسر الضاد أي مثل بل إلى أضعاف كثيرة كما في التنزيل: {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً} [البقرة:245] وكما وقع في رواية بعد ذلك زيادة قوله إلى ما شاء الله تعالى. وقال بعضهم: التقدير حسنة

قال الله تعالى: إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، ـــــــــــــــــــــــــــــ واللام عوض عن العائد إلى المبتدأ، وهو كل أو العائد محذوف أي الحسنة منه، وقال القاضي البيضاوي: أراد بكل عمل الحسنات من الأعمال فلذلك وضع الحسنة في الخبر موضع الضمير الراجع إلى المبتدأ وقوله (إلا الصوم) مستثنى من كلام غير محكى دل عليه ما قبله، والمعنى إن الحسنات يضاعف أجرها من عشر أمثالها إلى سبع مأة ضعف إلا الصوم فلا يضاعف إلى هذا القدر بل ثوابه لا يقدر قدره، ولا يحصيه إلا الله تعالى. ولذلك يتولى الله جزاءه بنفسه ولا يكله إلى غيره - انتهى. وفيه أنه يحتمل أن يكون أول الكلام حكاية إلا أنه لم يصرح بذلك في صدره بل في وسطه قال الحافظ: أما قول البيضاوي إن الاستثناء من كلام غير محكى، ففيه نظر. فقد يقال هو مستثنى من كل عمل وهو مروي عن الله لقوله في أثناء الحديث قال الله تعالى، ولما لم يذكره في صدر الكلام أورده في أثناءه بياناً وفائدته تفخيم شأن الكلام وأنه - صلى الله عليه وسلم - لا ينطق عن الهوى - انتهى. (فإنه لي وأنا أجزي به) بفتح الهمزة وكسر الزاي يعني إن الصوم سر بيني وبين عبدي يفعله خالصاً لوجهي لا يطلع عليه العباد؛ لأن الصوم لا صورة له في الوجود بخلاف سائر العبادات وأنا العالم بجزاءه أتولى بنفسي إعطاء جزاءه لا أكله إلى غيري، وفيه إشارة إلى تفخيم العطاء وتعظيم الجزاء وإن مضاعفة جزاء الصوم من غير عدد ولا حساب. قال السندي: قد ذكروا لقوله: فإنه لي وأنا أجزي به معاني (بلغها أبوالخير الطالقاني في حظائر القدس له إلى خمسة وخمسين قولاً) لكن الموافق للأحاديث أنه كناية عن تعظيم جزاءه وأنه لا حد له، وهذا هو الذي تفيده المقابلة بما قبله في هذا الحديث وهو الموافق لقوله تعالى: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} [الزمر:15] وذلك لأن اختصاصه من بين سائر الأعمال بأنه مخصوص بعظيم لا نهاية لعظمته ولا حد لها، وإن ذلك العظم هو المستولى لجزاءه مما ينساق الذهن منه إلى أن جزاءه مما لا حد له. ويمكن أن يقال على هذا معنى قوله "لي أي أنا منفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيفه، وبه تظهر المقابلة بينه وبين ما جاء في بعض الأحاديث من قوله كل عمل ابن آدم له إلا الصيام هو لي أي كل عمله له بإعتبار أنه عالم بجزاءه ومقدار تضعيفه إجمالاً لما بين الله تعالى فيه إلا الصوم، فإنه الصبر الذي ما حد لجزاءه حداً. بل قال: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} [الزمر:10] انتهى. وقال الحافظ: قد اختلف العلماء في المراد بهذا مع أن الأعمال كلها الله تعالى وهو الذي يجزي بها على أقوال، ثم ذكر الحافظ عشرة أقوال. أحدها إن الصوم لا يقع فيه الرياء كما يقع في غيره حكاه المأزري ونقله عياض عن أبي عبيد. قال أبوعبيد: في غريبة إن أعمال البر كلها لله وهو الذي يجزي بها فنرى والله أعلم. إنه إنما خص الصيام لأنه ليس يظهر من ابن آدم بفعله، وإنما هو شيء في القبل. ويؤيد هذا التأويل قوله - صلى الله عليه وسلم -: ليس في الصيام رياء حدثنية شبابة عن عقيل عن الزهري فذكره مرسلاً. قال: وذلك لأن الأعمال لا تكون إلا

......................... ـــــــــــــــــــــــــــــ بالحركات إلا الصوم فإنما هو بالنية التي تخفي عن الناس هذا وجه الحديث عندي - انتهى. قال الحافظ: وقد روى الحديث المذكور البيهقي في الشعب من وجه آخر عن الزهري موصولاً عن أبي سلمة عن أبي هريرة وإسناده ضعيف، ولفظه الصيام لا رياء فيه قال الله عزوجل هو لي وأنا أجزي به. قال الحافظ: وهذا لو صح لكان قاطعاً للنزاع. وقال القرطبي: لما كانت الأعمال يدخلها الرياء والصوم لا يطلع عليه بمجرد فعله إلا الله فإضافة الله إلى نفسه، ولهذا قال في الحديث يدع شهوته من أجلي. وقال ابن الجوزي: جميع العبادات تظهر بفعلها وقل أن يسلم ما يظهر من شوب بخلاف الصوم وارتضى هذا الجواب المازري وقرره القرطبي، بأن أعمال بني آدم لما كانت يمكن دخول الرياء فيها أضيفت إليهم بخلاف الصوم فإن حال الممسك شبعاً مثل حال الممسك تقرباً يعني في الصورة الظاهرة. قلت: (قائله الحافظ) معنى النفي في قوله لا رياء في الصوم أنه لا يدخله الرياء بفعله، وإن كان قد يدخله الرياء بالقول كمن يصوم ثم يخبر بأنه صائم فقد يدخله الرياء من هذه الحيثية فدخول الرياء في الصوم، إنما يقع من جهة الإخبار بخلاف بقية الأعمال فإن الرياء قد يدخلها بمجرد فعلها. ثانيها إن المراد بقوله: وأنا أجزي به إني أنفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته. وأما غيره من العبادات فقد أطلع عليها بعض الناس. قال القرطبي: معناه إن الأعمال قد كشفت مقادير ثوابها للناس، وإنها تضاعف من عشرة إلى سبع مأة إلى ما شاء الله إلا الصيام، فإن الله يثيب عليه بغير تقدير ويشهد لهذا المعنى رواية الموطأ وكذلك رواية الأعمش عن أبي صالح (عند ابن ماجه) حيث قال: كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمأة ضعف إلى ما شاء الله قال الله إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به أي أجازي عليه جزاء كثيراً من غير تعيين لمقداره وهذا كقوله تعالى: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} [الزمر:10]- انتهى: والصابرون الصائمون في أكثر الأقوال. وسبق إلى هذا أبوعبيد في غريبة، فقال بلغني عن ابن عيينة أنه قال: ذلك واستدل له بأن الصوم هو الصبر؛ لأن الصائم يصبر نفسه عن الشهوات: وقد قال تعالى: { (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} انتهى. ثم أورد الحافظ روايات تشهد لهذا المعنى ثم ذكر باقي الأقوال وقال واتفقوا على أن المراد بالصيام صيام من سلم صيامه عن المعاصي قولاً وفعلاً، ونقل ابن العربي عن بعض الزهاد إنه مخصوص بصيام خواص الخواص. فقال: إن الصوم على أربعة أنواع: صيام العوام: وهو الصوم عن الأكل والشرب والجماع. وصيام خواص العوام: وهو هذا مع اجتناب المحرمات من قول وفعل. وصيام الخواص: وهو الصوم عن غير ذكر الله وعبادته. وصيام خواص الخواص: وهو الصوم عن غير الله فلا فطر لهم إلى يوم القيامة يعني لا يفطرون إلا برؤيته ولقائه. قال الحافظ: وهذا مقام عال لكن في حصر المراد من الحديث في هذا النوع نظر لا يخفى

يدع شهوته وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم ـــــــــــــــــــــــــــــ وأقرب الأقوال التي ذكرتها إلى الصواب الأول والثاني - انتهى. (يدع شهوته) أي يترك ما اشتهته نفسه من محظورات الصوم وهو تعليل لاختصاصه بعظم الجزاء. قال الطيبي: جملة مستأنفة وقعت موقع البيان لموجب الحكم المذكور (وطعامه) تخصيص بعد تعميم أو الشهوة كناية عن الجماع، والطعام عبارة عن سائر المفطرات، وفي رواية قدم الطعام على الشهوة ولابن خزيمة يدع الطعام والشراب من أجلي ويدع لذته من أجلي ويدع زوجته من أجلي وهذا صريح في أن المراد بالشهوة شهوة الجماع. وأصرح منه ما وقع عند الحافظ سموية يترك شهوته من الطعام والشراب والجماع (من أجلي) أي من جهة امتثال أمري وقصد رضائي وأجري. وفي الموطأ: إنما يذر شهوته وطعامه وشرابه من أجلي. قال الحافظ: قد يفهم من الإنيان بصيغة الحصر التنبيه على الجهة التي بها يستحق الصائم ذلك وهو الإخلاص الخاص به، حتى لو كان ترك المذكورات لغرض آخر كالتخمة لا يحصل الصائم الفضل المذكور (للصائم فرحتان) أي مرتان من الفرح عظيمان إحداهما في الدنيا والأخرى في الأخرى (فرحة عند فطره) أي إفطاره بالخروج عن عهدة المأمورة أو بوجدان التوفيق لإتمام الصوم أو بخلوص الصوم وسلامته من المفسدات والرفث واللغو، أو بما يرجوه من حصول الثواب أو بالأكل والشرب بعد الجوع والعطش. قال القرطبي: معناه يفرح بزوال جوعه وعطشه حيث أبيح له الفطر وهذا الفرح طبيعي وهو السابق للفهم. وقيل: إن فرحه بفطره إنما هو من حيث أنه تمام صومه وخاتمة عبادته وتخفيف من ربه ومعونة على مستقبل صومه. قال الحافظ: ولا مانع من الحمل على ما هو أعم مما ذكر ففرح كل أحد بحسبه لاختلاف مقامات الناس في ذلك، فمنهم من يكون فرحة مباحاً وهو الطبيعي، ومنهم من يكون مستحباً وهو من يكون سببه شيئاً مما ذكر (وفرحة عند لقاء ربه) أي بنيل الجزاء أو الفوز باللقاء. وقيل: هو السرور بقبول صومه وترتب الجزاء الوافر عليه (ولخلوف فم الصائم) بفتح لام الابتداء تأكيداً، وبضم الخاء المعجمة واللام وسكون الواو وبعدها فاء، من خلف فمه إذا تغيرت رائحة فمه يخلف خلوفاً بالضم لا غير. قال عياض: هذه الرواية الصحيحة وبعض الشيوخ يقوله بفتح الخاء. قال الخطابي: وهو خطأ وحكى الفارسي: الوجهين، وصوب الضم. وبالغ النووي في شرح المهذب. فقال لا يجوز فتح الخاء. واحتج غيره لذلك بأن المصادر التي جاءت على فعول بفتح أوله قليلة ذكرها سيبوية وغيره وليس هذا منها. واتفقوا على أن المراد به تغير رائحة فم الصائم بسبب الصيام كذا في الفتح. قال الباجي: الخلوف تغير رائحة فم الصائم وإنما يحدث من خلو المعدة بترك الأكل ولا يذهب بالسواك؛ لأنها رائحة النفس الخارج من المعدة. وإنما يذهب بالسواك

أطيب عند الله من ريح المسك، ـــــــــــــــــــــــــــــ ما كان في الأسنان من التغير. وقال البرقي: هو تغير طعم الفم وريحه لتأخر الطعام. وقال عياض: هو ما يخلف بعد الطعام في الفم من ريحه كريهة لخلاء المعدة من الطعام (أطيب عند الله من ريح المسك) أي صاحب الخلوف عند الله أطيب وأكثر قبولاً ووجاهة وأزيد قرباً منه تعالى من صاحب المسك بسبب ريحه عندكم وهو تعالى أكثر إقبالاً عليه بسببه من إقبالكم على صاحب المسك بسببه. وفي لفظ لمسلم والنسائي أطيب عند الله يوم القيامة، وقد وقع خلاف بين ابن الصلاح وابن عبد السلام في أن أطيب رائحة الخلوف هل هو في الدنيا والآخرة أو في الآخرة فقط. فذهب ابن عبد السلام إلى أنه في الآخرة كما في دم الشهيد. واستدل برواية مسلم والنسائي هذه. وروى أبوالشيخ بإسناد فيه ضعف عن أنس مرفوعاً يخرج الصائمون من قبورهم يعرفون بريح أفواههم أفواههم أطيب عندالله من ريح المسك وذهب ابن الصلاح إلى أن ذلك في الدنيا والآخرة جميعاً، واستدل بحديث ولخلوف فم الصائم حين يخلف من الطعام أطيب عند الله من ريح المسك. قال الولي العراقي: هذه الرواية ظاهرة في أن طيبة في تلك الحالة، وحمله على أنه سبب للطيب في حالة مستقبلة تأويل مخالف للظاهر، ويؤيده ما روى الحسن بن سفيان في مسنده والبيهقي في الشعب من حديث جابر في أثناء حديث مرفوع في فضل هذه الأمة في رمضان. وأما الثانية فإن خلوف أفواههم حين يمسون أطيب عند الله من ريح المسك. قال المنذري: إسناده مقارب وحسنه أبوبكر السمعاني في أمالية قال وذهب جمهور العلماء إلى ذلك كالخطابي وابن عبد البر والبغوي في شرح السنة والقدوري من الحنفية، والداودي من قدماء المالكية وأبي عثمان الصابوني وأبي بكر السمعاني وأبي حفص الصفار الشافعيين في أماليهم وأبي بكر بن العربي. قال فهؤلاء أئمة المسلمين شرقاً وغرباً لم يذكروا سوى ما ذكرته ولم يذكر أحد وجهاً تخصيصاً بالآخرة بل جزموا بأنه عبارة عن الرضا والقبول ونحوهما مما هو ثابت في الدنيا والآخرة. قال: وأما ذكر يوم القيامة في تلك الرواية فلأنه يوم الجزاء. وفيه يظهر رجحان الخلوف في الميزان على المسك المستعمل لدفع الرائحة الكريهة طلباً لرضا الله تعالى حيث يؤمر بإجتنابها فقيده بيوم القيامة في رواية، وأطلق في باقي الروايات نظراً إلى أن أصل أفضليته ثابت في الدارين وهو كقوله إن ربهم بهم يومئذٍ لخبير وهو خير بهم في كل يوم - انتهى. واستشكل كون الخلوف أطيب عندالله من ريح المسك من جهة أن الله تعالى منزه عن استطابة الروائح الطيبة واستقذار الروائح الخبيثة فإن ذلك من صفات الحيوان مع أن الله يعلم الأشياء على ما هي عليه وأجيب عن ذلك بوجوه منها إنه مجاز واستعارة؛ لأنه جرت عادتنا بتقريب الروائح الطيبة منا، فاستعير ذلك في الصوم لتقريبه من الله. قال المازري: فيكون المعنى إن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك عندكم أي يقرب إليه أكثر من تقريب المسك إليكم وذكر ابن عبد البر نحوه ومنها إن المراد الله تعالى يجزيه في الآخرة فتكون نكهته أطيب

والصيام جنة، ـــــــــــــــــــــــــــــ من ريح المسك كما سيأتي المكلوم وريح جرحه تفوحه مسكاً. ومنها أن المراد أن صاحب الخلوف ينال من الثواب ما هو أفضل من ريح المسك عندنا لاسيما بالإضافة إلى الخلوف وهما ضدان حكى القولين عياض. ومنها أن ذلك في حق الملائكة وأنهم يستطيبون ريح الخلوف أكثر مما يستطيبون ريح المسك فالمراد بعند الله عند ملائكته ومنها أنه يعتد برائحة الخلوف ويدخر على ما هي عليه أكثر مما يعتد بريح المسك وإن كانت عندنا نحن بخلافه حكاه عياض أيضاً. ومنها أن الخلوف أكثر ثواباً من المسك المندوب إليه في الجمع والأعياد ومجالس الحديث والذكر وسائر مجامع الخير قاله الداودي وأبوبكر بن العربي والقرطبي. وقال النووي: هو الأصح وحاصله حمل معنى الطيب على القبول والرضا ومنها إن الغرض نهي الناس عن تقذر مكالمة الصائمين بسبب الخلوف هذا، وإنما كان أثر الصوم أطيب من أثر الجهاد حيث وصف خلوف فم الصائم بأنه أطيب من ريح المسك، ودم الشهيد شبه ريحه بريح المسك مع ما فيه من المخاطرة بالنفس وبذل الروح، لأن الصوم أحد أركان الإسلام بخلاف الجهاد، ولأن الجهاد فرض كفاية، والصوم فرض عين، وفرض العين أفضل من فرض الكفاية، كما نص عليه الشافعي ذكره القسطلاني، واستدل به على كراهة السواك للصائم بعد الزوال لما فيه من إزالة الخلوف المشهود له بأنه أطيب من ريح المسك، وسيأتي الكلام فيه في شرح حديث عامر بن ربيعة في باب تنزيه الصوم (والصيام جنة) بضم الجيم وتشديد النون وهي الوقاية والستر. قال المنذري: هو ما يجنك أي يسترك ويقيك مما تخاف ومعنى الحديث إن الصوم يستر صاحبه ويحفظه من الوقوع في المعاصي - انتهى. قلت: زاد الترمذي وسعيد بن منصور جنة من النار وللنسائي من حديث عثمان بن أبي العاص جنة من النار كجنة أحدكم من القتال، ولأحمد من حديث أبي هريرة جنة وحصين حصين من النار، ولأحمد والنسائي والبيهقي من حديث أبي عبيدة بن الجراح الصيام جنة ما لم يخرقها زاد الدارمي بالغيبة. قال الحافظ: بعد ذكر هذه الروايات قد تبن بها متعلق هذا الستر وإنه من النار وبهذا جزم ابن عبد البر. وأما صاحب النهاية فقال معنى كونه جنة أي يقي صاحبه ما يؤذيه من الشهوات. وقال القرطبي: جنة أي سترة بحسب مشروعيته فينبغي للصائم أن يصونه مما يفسده وينقص ثوابه، وإليه الإشارة بقوله: فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث إلى آخره، ويصح أن يراد أنه سترة بحسب فائدته وهو أضعاف شهوات النفس. وإليه الإشارة بقوله: يدع شهوته إلى آخره، ويصح أن يراد أنه سترة بحسب ما يحصل من الثواب وتضعيف الحسنات. وقال عياض: في الإكمال معناه سترة من الآثام أو من النار من جميع ذلك وبالأخير جزم النووي. وقال ابن العربي: إنما كان الصوم جنة من النار؛ لأنه إمساك عن الشهوات والنار محفوفة بالشهوات، فالحاصل إنه إذا كف نفسه عن الشهوات في الدنيا كان ذلك ساتراً له من النار في الآخرة. وقال الشاه ولي الله الدهلوي:

وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله. ـــــــــــــــــــــــــــــ "الصيام جنة، لأنه يقى شر الشيطان والنفس ويبعد الإنسان من تأثيرهما ويخالفه عليهما فلذلك كان من حقه تكميل معنى الجنة بتنزيه لسانه عن الأقوال والأفعال الشهوية، وإليه أشار بقوله: فلا يرفث والسبعية وإليه الإشارة في قوله: ولا يصخب وإلى الأقوال بقوله سابه وإلى الأفعال بقوله قاتله - انتهى. قال الحافظ: وفي زيادة أبي عبيدة إشارة إلى أن الغيبة تضر بالصوم، وقد حكى عن عائشة وبه قال الأوزاعي إن الغيبة تفطر الصائم وتوجب عليه قضاء ذلك اليوم وأفرط ابن حزم فقال يبطله كل معصية متعمد لها ذاكر لصومه سواء كانت فعلاً أو قولاً لعموم قوله "فلا يرفث ولا يجهل" ولقوله في الحديث الآتي (في باب تنزيه الصوم) من لم يدع قول الزور والعمل به الخ. والجمهور وإن حملوا النهي على التحريم إلا أنهم خصوا الفطر بالأكل والشرب والجماع - انتهى. كلام الحافظ (وإذا) وفي بعض النسخ فإذا كما في صحيح مسلم أي إذا عرفت ما في الصوم من الفضائل الكاملة والفوائد الشاملة (كان يوم صوم أحدكم) برفع يوم على أن كان تامة. وقيل: بالنصب فالتقدير إذا كان الوقت يوم صوم أحدكم (فلا يرفث) بالمثلثة وبتثليث الفاء قاله الزركشي والقسطلاني والعيني وكذلك في القاموس. والرفث، بفتح الراء، والفاء يطلق، ويراد به الجماع. ومقدماته، ويطلق. ويراد به الفحش. ويطلق ويراد به خطاب الرجل والمرأة، فيما يتعلق بالجماع. وقال كثير من العلماء: إن المراد به في هذا الحديث الفحش وردى الكلام وقبيحه. وقيل: يحتمل أن يكون النهي لما هو أعم من ذلك (ولا يصخب) بالصاد المهملة والخاء المعجمة المفتوحة أي لا يصيح ولا يخاصم. وقيل: أي لا يرفع صوته بالهذيان وفي رواية للشيخين ولا يجهل مكان قوله ولا يصخب أي لا يفعل شيئاً من أفعال أهل الجهل كالصياح والسفه والسخرية ونحو ذلك، وفي رواية سعيد بن منصور ولا يجادل وهذا كله ممنوع على الإطلاق لكنه يتأكد بالصوم. ولذا قال القرطبي: لا يفهم من هذا إن غير يوم الصوم يباح فيه ما ذكر وإنما المراد إن المنع من ذلك يتأكد بالصوم (فإن سابه أحد) وفي رواية للشيخين شاتمة أي خاصمة باللسان (أو قاتله) قال عياض: قاتله أي دافعه ونازعه ويكون بمعنى شاتمة ولاعنه وقد جاء القتل بمعنى اللعن وفي رواية سعيد بن منصور أو ما رأه أي جادله ولأبي قرة وإن شتمه إنسان فلا يكلمه وقد استشكل ظاهر لفظ الكتاب؛ لأن المفاعلة تقتضي وقوع الفعل من الجانبين والصائم مأمور. بأن يكف نفسه عن ذلك، ولا تصدر منه الأفعال التي رتب عليها الجواب خصوصاً المقاتلة والجواب عن ذلك إن المراد بالمفاعلة التهيؤ لها أي إن تهيأ أحد لمقاتلته أو مشاتمته فليقل إني صائم فإنه إذا قال ذلك أمكن أن يكف عنه، فإن أصر دفعه بالأخف فالأخف كالصائل هذا فيمن يروم مقاتلته حقيقة، فإن كان المراد بقوله قاتله لاعنه، فالمراد بالحديث إنه لا يعامله بمثل

{الفصل الثاني}

فليقل: إني امرؤ صائم)) . متفق عليه. {الفصل الثاني} 1980- (5) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان أول ليلة من شهر رمضان ـــــــــــــــــــــــــــــ عمله بل يقتصر على قوله إني صائم كذا في الفتح. وقال الباجي: يحتمل هذا ثلاثة أوجه يحتمل أنه يريد إن أراد أن يشاتمه أو يقاتله فليمتنع من ذلك، وليقل إني صائم. والثاني: إن لفظ المفاعلة وإن كانت أظهر في فعل الإثنين إلا أنها قد تستعمل في فعل الواحد، فيقال: سافر الرجل وعالج الطبيب المريض وعافاه الله وبارك له. والثالث: أن يريد إن وجدت المشاتمة منهما جميعاً فليذكر الصائم نفسه بصومه ولا يستديم المشاتمة والمقاتلة واستبعده الحافظ لما تقدم من رواية فإن شتمه (فليقل إني امرؤ صائم) أي فليعتذر عنده من عدم المقابلة بأن حاله لا يساعد المقابلة بمثله أو فليذكر في نفسه أنه صائم ليمنعه ذلك عن المقابلة بمثله. قال الحافظ: اتفق الروايات كلها على أنه يقول إني صائم فمنهم من ذكرها مرتين، ومنهم من اقتصر على واحدة. واختلف في المراد بهذا القول هل يخاطب بها الذي يكلمه أو يقولها في نفسه وبالثاني جزم المتولي ونقله الرافعي عن الأئمة، ورجح النووي الأول في الأذكار. وقال في شرح المهذب: كل منهما حسن والقول باللسان أقوى ولو جمعهما لكان حسناً. وقال الرؤياتي أن كان رمضان فليقل بلسانه وإن كان غيره فليقله في نفسه وأدعى ابن العربي إن موضع الخلاف في التطوع. وأما في الفرض فيقول بلسانه قطعاً. وفائدة قوله إني صائم أنه يمكن أن يكف عنه بذلك فإن أصر دفعه بالأخف فالأخف كالصائل هذا فيمن يروم مقاتلته حقيقة، فإن كان المراد بقاتله لاعنه فالمراد من الحديث أنه لا يعامله بمثل عمله بل يقتصر على قوله إني صائم. وأما تكرير قوله إني صائم فليتأكد الانزجار منه ممن يخاطبه بذلك. ونقل الزركشي إن المراد بقوله مرتين في بعض الروايات يقوله مرة بقلبه ومرة بلسانه فيستفيد بقوله بقلبه كف لسانه عن خصمه وبقوله بلسانه كف خصمه عنه. وتعقب بأن القول حقيقة باللسان، وأجيب بأنه لا يمنع المجاز (متفق عليه) والسياق المذكور لمسلم. والحديث أخرجه البخاري في الصيام واللباس والتوحيد مختصراً ومطولاً ومسلم في الصوم. وأخرجه أيضاً أحمد ومالك والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي وابن خزيمة وابن حبان والبيهقي وغيرهم بألفاظ متقاربة مختصراً ومطولاً, قد ذكر الجزري في جامع الأصول والمنذري في الترغيب شيئاً من اختلاف ألفاظه. 1980- قوله: (إذا كان) أي وجد وتحقق على أن الكون تام وإذا كان الزمان أول ليلة على أن

صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة يغلق منها باب، وينادى مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ? ـــــــــــــــــــــــــــــ الكون ناقص (صفدت) بضم الصاد المهملة وكسر الفاء المشددة أي شدت وأوثقت بالأصفاد وهي الأغلال وهو بمعنى سلسلت (الشياطين) وفي الحديث الذي يليه وتغل فيه مردة الشياطين، وفي حديث رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عند أحمد والنسائي ويصفد فيه كل شيطان مريد (ومردة الجن) جمع مارد كطلبة وجهلة وهو العاتي الشديد وقال القاري: هو المتجرد للشر ومنه إلا مرد لتجرده عن الشعر وهو تخصيص بعد تعميم أو عطف تفسير وبيان كالتتميم. وقال المنذري في الترغيب: ولابن خزيمة صفدت الشياطين مردة الجن بغير واو (فلم يفتح منها باب) هو كالتأكيد لما قبله (وينادى مناد) قيل: يحتمل أنه ملك أو المراد أنه يلقي في قلوب من يريد الله إقباله على الخير كذا في قوت المغتدى. قال السندي: إن قلت أيّ فائدة في هذا النداء مع أنه غير مسموع للناس. قلت: قد علم الناس به بإخبار الصادق وبه يحصل المطلوب بأن يتذكر الإنسان كل ليلة بأنها ليلة المناداة فيتعظ بها (يا باغي الخير) أي طالب الخير (أقبل) أي على فعل الخير فهذا أو إنك فإنك تعطي جزيلاً بعمل قليل، وذلك لشرف الشهر. قال القاري: أي طالب العمل والثواب أقبل إلى الله تعالى وطاعته بزيادة الاجتهاد في عبادته، وهو أمر من الإقبال أي تعال فإن هذا أو إنك فإنك تعطى الثواب الجزيل بالعمل القليل أو معناه يا طالب الخير المعرض عنا وعن طاعتنا أقبل إلينا وعلى عبادتنا فإن الخير كله تحت قدرتنا وإرادتنا. قال العراقي: ظن ابن العربي إن قوله في الشقين يا باغي من البغي فنقل عن أهل العربية إن أصل البغي في الشر وأقله ما جاء في طلب الخير. ثم ذكر قوله تعالى: {غير باغٍ ولا عاد} [البقرة:173] وقوله: {يبغون في الأرض بغير الحق} [يونس:23] والذي وقع في الآيتين هو بمعنى التعدي، وأما في هذا الحديث فمعناه الطلب، والمصدر منه بغي وبغاية بضم الباء فيهما قال الجوهري: بغيته أي طلبته - انتهى. قال شيخنا في شرح الترمذي: بعد ذكره قلت الأمر كما قال العراقي وكذلك في قوله تعالى: {ذلك ما كنا نبغ} [الكهف:64] معناه الطلب (ويا باغي الشر أقصر) بفتح الهمزة وكسر الصاد من الإقصار وهو الكف عن الشيء مع القدرة عليه، فإن عجز عنه يقول قصرت عنه بلا آلف أي يأمن يسرع ويسعى في المعاصي. وقال القاري: أي يأمر يد المعصية أمسك عن المعاصي وأرجع إلى الله تعالى فهذا أو إن قبول التوبة وزمان الاستعداد للمغفرة ولعل طاعة المطيعين وتوبة المذنبين ورجوع المقصرين في رمضان من أثر الندائين ونتيجة إقبال الله تعالى على الطالبين، ولهذا ترى أكثر المسلمين صائمين حتى الصغار والجوار بل غالبهم الذين يتركون الصلاة يكونون حينئذٍ مصلين مع أن الصوم أصعب من الصلاة، وهو يوجب ضعف البدن الذي يقتضي الكسل عن العبادة وكثرة النوم عادة ومع ذلك ترى المساجد معمورة وبإحياء الليل مغمورة والحمد لله

ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة)) . رواه الترمذي، وابن ماجه. 1981- (6) ورواه أحمد عن رجل، ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا حول ولا قوة إلا بالله - انتهى. (ولله عتقاء من النار) أي ولله عتقاء كثيرون من النار فلعلك تكون من زمرتهم (وذلك) أي المذكور من النداء والعتق. وقال الطيبي: الإشارة إما للنداء لبعده أو للعتق وهو القريب. وقال السيوطي: قلت الثاني أرجح بدليل الحديث وأما ونادى (هكذا وقع بلفظ الماضي عند ابن ماجه والحاكم والبيهقي في هذا الحديث) فإنه معطوف على صفدت الذي هو جواب إذا كان أول ليلة - انتهى. يريد أن النداء يكون ليلة واحدة لا في كل ليلة وحديث الرجل عند أحمد والنسائي فيه تصريح بوقوع النداء في كل ليلة كما سيأتي (كل ليلة) أي في كل ليلة من ليالي رمضان (رواه الترمذي وابن ماجه) وأخرجه أيضاً ابن خزيمة والحاكم (ج1 ص421) والبيهقي (ج4 ص303) كلهم من رواية أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، والحديث صحه الحاكم عن شرط الشيخين وسكت عليه الذهبي في تلخيصه. وقال الجزري: هذا إسناد صحيح. قال ميرك: بعد نقل كلام الجزري وهذا لا يخلو عن تأمل فإن أبابكر بن عياش مختلف فيه والأكثر على أنه كثير الغلط وهو ضعيف عن الأعمش. ولذا قال الترمذي غريب لا نعرفه إلا من رواية أبي بكر وسألت محمد بن إسماعيل يعني البخاري عن هذا الحديث. فقال نا الحسن بن الربيع نا أبوالأحوص عن الأعمش عن مجاهد قوله قال إذا كان أول ليلة من شهر رمضان فذكر الحديث. قال محمد: وهذا أصح عندي من حديث أبي بكر بن عياش يعني كونه موقوفاً عن مجاهد انتهى كلام الترمذي. لكن يفهم من كلام الشيخ ابن حجر العسقلاني إن الحديث المرفوع أخرجه ابن خزيمة والترمذي والنسائي (لعله في الكبرى) وابن ماجه والحاكم. قال ونحوه للبيهقي من حديث ابن مسعود. وقال فيه فتحت أبواب الجنة فلم يغلق باب منها الشهر كله - انتهى كلامه. قال ميرك: ويقوي رفع الحديث إن مثل هذا لا يقال بالرأي فهو مرفوع حكماً والله أعلم تم كلام ميرك كذا نقل القاري كلام الجزري وكلام ميرك. ثم تعقب على ميرك بوجوه لا يخلو بعضها عن كلام. وقال العيني: بعد ذكر ما حكى الترمذي عن البخاري، وقال شيخنا يعني الحافظ العراقي لم يحكم الترمذي على حديث أبي هريرة المذكور بصحة ولا حسن مع كون رجاله رجال الصحيح وكأن ذلك لتفرد أبي بكر بن عياش به، وإن كان احتج به البخاري فإنه ربما غلط كما قال أحمد ولمخالفة أبي الأحوص له في روايته عن الأعمش فإنه جعله مقطوعاً من قول مجاهد، ولذلك أدخله الترمذي في كتاب العلل وذكر أنه سأل البخاري عنه وذكر إن كونه عن مجاهد أصح عنده. وأما الحاكم فأخرجه في المستدرك وصححه وكذلك صححه ابن حبان - انتهى. 1981- قوله: (ورواه أحمد) (ج4 ص311- 312) (عن رجل) أي من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -

{الفصل الثالث}

وقال الترمذي: هذا حديث غريب. {الفصل الثالث} 1982- (7) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتاكم رمضان شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يسم، ورواه النسائي أيضاً كلاهما من رواية عطاء بن السائب عن عرفجة. قال كنت في بيت فيه عتبة بن فرقد فأردت أن أحدث بحديث. قال: فكان رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأنه أولى بالحديث فحدث الرجل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في رمضان تفتح أبواب السماء وتغلق أبواب النار، ويصفد فيه كل شيطان مريد، وينادى مناد كل ليلة يا طالب الخير هلم ويا طالب الشر أمسك (وقال الترمذي هذا حديث غريب) أي إسناداً كما تقدم. 1982- قوله: (أتاكم) أي جاءكم (رمضان) أي زمانه وفي رواية أحمد لما حضر رمضان. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد جاءكم رمضان (شهر مبارك) بدل أو بيان والتقدير هو شهر مبارك وظاهره الأخبار أي كثر خيره الحسي والمعنوي كما هو مشاهد فيه (تفتح فيه) استئناف بيان وهو بصيغة المجهول وبالتأنيث في الأفعال الثلاثة وبتخفيف الفعلين ويشددان (أبواب السماء) وفي رواية أحمد المذكورة أبواب الجنة (وتغل) بتشديد اللام من الأغلال. قال في القاموس: أغل فلاناً أدخل في عنقه أو يده الغُلّ وهو مفرد جمعه أغلال (فيه مردة الشياطين) يفهم من هذا الحديث إن المقيدين هم المردة فقط، فيكون عطف المردة على الشياطين في الحديث المتقدم عطف تفسير وبيان، ويحتمل أن يكون تقييد عامة الشياطين بغير الأغلال والله أعلم. (لله فيه) أي في ليالي رمضان على حذف مضاف أو في العشر الأخير منه (ليلة خير من ألف شهر) أي العمل فيها أفضل من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر (من حرم) بتخفيف الراء على بناء المفعول (خيرها) بالنصب وهو يتعدى إلى مفعولين يقال حرمة الشيء كضربه وعمله حرماناً أي منعه إياه والمحروم الممنوع أي من منع خيرها بأن لم يوفق لا حياء والعبادة فيها (فقد حرم) أي منع الخير كله كما سيجيء صريحاً ففيه مبالغة عظيمة. والمراد حرمان الثواب الكامل أو الغفران الشامل الذي يفوز به القائم في أحياء ليلها. قال الطيبي: إتحد الشرط والجزاء دلالة على فخامة الجزاء

رواه أحمد، والنسائي. 1983- (8) وعن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد، يقول الصيام: أي رب إني منعته الطعام والشهوات بالنهار، فشفعني فيه. ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيشفعان)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ أي فقد حرم خيراً لا يقادر قدره (رواه أحمد) (ج2 ص230) (والنسائي) كلاهما من طريق أبي قلابة عن أبي هريرة. قال الشيخ أحمد شاكر في شرح المسند (ج12 ص134) : إسناده صحيح. وقال المنذري في الترغيب: ولم يسمع أبوقلابة منه فيما أعلم، وفي تهذيب التهذيب يقال أنه لم يسمع من أبي هريرة، وتعقب هذا الشيخ أحمد شاكر فقال لم أجد ما يؤيد هذا أي القول بعدم سماعه منه، وأبوقلابة لم يعرف بتدليس والمعاصرة كافية في الحكم بوصل الإسناد- انتهى. 1983- قوله: (وعن عبد الله بن عمرو) بالواو رضي الله عنهما (الصيام) أي صيام رمضان. وقيل: مطلقاً (والقرآن) أي قراءة القرآن. قال الطيبي: القرآن ههنا عبارة عن التهجد والقيام بالليل كما عبر به عن الصلاة في قوله تعالى: {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً} [الإسراء:78] وإليه الإشارة بقوله: "ويقول القرآن منعته النوم بالليل- انتهى. (يشفعان) بفتح الياء وسكون المعجمة وفتح الفاء. قيل: يحتمل تجسيدهما وخلق النطق فيهما فإن المعاني والأعمال تتجسم يوم القيامة، ويحتمل إرسال ملك ينطق على لسانهما، ويحتمل المجاز والتمثيل أي يشفعان بلسان الحال. قال الطيبي: الشفاعة والقول من الصيام والقرآن إما أن يؤل أو يجري على ما عليه النص وهذا هو المنهج القويم والصراط المستقيم، فإن العقول البشرية تتلاشى وتضمحل عن إدراك العوالم الإلهية. ولا سبيل لنا إلا الأذعان له والإيمان به، ومن تأول ذهب إلى أنه استعيرت الشفاعة والقول للصيام والقرآن لإطفاء غضب الله وإعطاء الكرامة ورفع الدرجات والزلفى عند الله - انتهى. قلت: من تأول الحديث وحمله على المجاز والاستعارة والتمثيل إنما ذهب إلى ذلك لما زعم إن الأعمال أعراض، والعرض لا يكون قائماً بالذات بل بالغير وهو أمرآني لا يبقى بل يفنى فلا يمكن أن يؤذن أو يكال وهذا شيء قد أبطله الفسلفة الحديثة اليوم، وحققت إن الأعمال والأصوات والأنوار تبقى، ويمكن أن تحفظ وتخزن وتوزن وتكال فالحق والصواب، أن يحمل الحديث ظاهره. ويقال: إن الصيام والقرآن يشفعان بالقول حقيقة (أي رب) أي يا رب! (والشهوات) من عطف الأعم (بالنهار) كله (فشفعني) بالتشديد أي أقبل شفاعتي (فيه) أي في حقه (ويقول القرآن) لما كان القرآن كلامه تعالى غير مخلوق لم يقل أي رب (فيشفعان) بضم أوله وشدة الفاء المفتوحة مجهولاً أي يشفعهما الله

رواه البيهقي في شعب الإيمان. 1984- (9) وعن أنس بن مالك قال: دخل رمضان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن هذا الشهر قد حضركم، وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حرمها فقد حرم الخير كله، ولا يحرم خيرها إلا كل محروم)) . رواه ابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه أي يقبل شفاعتهما ويدخله الجنة. وقال القاري: ولعل شفاعة رمضان في محو السيئات وشفاعة القرآن في علو الدرجات (رواه البيهقي في شعب الإيمان) وأخرجه أحمد (ج2 ص174) وفي سنده ابن لهيعة والحاكم (ج1 ص554) وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي والطبراني في الكبير. قال الهيثمي (ج3 ص181) : رجاله رجال الصحيح. وقال المنذري: رجاله محتج بهم في الصحيح وأبونعيم في الحلية (ج8 ص161) وفيه رشدين بن سعد وابن أبي الدنيا في كتاب الجوع وغيره بإسناد حسن كما في الترغيب. 1984- قوله: (إن هذا الشهر) الإشارة للتعظيم (قد حضركم) أي فاغتنموا حضوره بالصيام في نهاره والقيام في ليلة (وفيه ليلة) أي واحدة مبهمة من لياليه العشر الأواخر (خير من ألف شهر) أي فالتمسوه في كل ليلة رجاء أن تدركوها (من حرمها) على بناء المفعول وكذا الأفعال الباقية. قيل: المراد إنه حرم لطف الله وتوفيقه ومنع من الطاعة فيها. والقيام بها ولعل هذا هو الذي فأته العشاء تلك الليلة أيضاً قاله السندي. وقال القاري: أي حرم خيرها وتوفيق العبادة فيها ومنع عن القيام ببعضها (ولا يحرم خيرها إلا كل محروم) قال القاري: برفع كل على البدلية ويجوز نصبه على الاستثناء أي كل ممنوع من الخير لا حظ من السعادة ولا ذوق له من العبادة. قلت: قوله "إلا كل محروم" هكذا وقع في جميع وفي السنن لابن ماجه إلا محروم أي بإسقاط لفظ كل، وكذا نقله المنذري في الترغيب. قال السندي: وهو الذي لاحظ له في السعادة (رواه ابن ماجه) قال في الزوائد: في إسناده عمران ابن داور أبوالعوام القطان فيه ومشاه الإمام أحمد، ووثقه عفان والعجلي وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به وباقي رجال الإسناد ثقات - انتهى. قلت: عمران هذا قال البخاري صدوق يهم. وقال المنذري: في الترغيب إسناده إن شاء الله تعالى، وروى الطبراني في الأوسط عنه أي عن أنس قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول هذا رمضان قد جاء تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب النار وتغل فيه الشياطين بعداً لمن أدرك رمضان فلم يغفر له إذا لم يغفر له فمتى؟ - انتهى. قال الهيثمي: فيه الفضل بن عيسى الرقاشي وهو ضعيف.

1985- (10) وعن سلمان الفارسي، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر من شعبان فقال: ((يا أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم، شهر مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليلة تطوعاً، من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة فيه كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزاد فيه رزق المؤمن، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1985- قوله: (الفارسي) بكسر الراء (خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) يحتمل خطبة الجمعة وخطبة الموعظة (فقال) أي بعد أن حمد الله وأثنى عليه كما هو المعهود من حاله في خطبة وكأن سلمان حذف ذلك اختصاراً. قلت: ما اختصره بل اقتصره وبينه وأظهره بقوله خطبنا فإن الخطبة هي الحمد والثناء كما هو مشهور عند العلماء كذا في المرقاة (يا أيها الناس) وفي بعض النسخ أيها الناس (قد أظلكم) بالظاء المشالة أي أشرف عليكم وقرب منكم. قال في النهاية: أظلكم رمضان بالمعجمة أي أقبل عليكم ودنا منكم كأنه ألقى عليكم ظله (شهر عظيم) أي قدره لأنه سيد الشهور (صيامه) أي صيام نهاره (فريضة) أي فرضاً قطعياً (وقيام ليلة) أي أحياءه بالتراويح ونحوها (تطوعاً) أس سنة مؤكدة فمن فعله فاز بعظيم ثوابه ومن تركه حرم الخير وعوقب بعتابه قاله القاري: (من تقرب) أي إلى الله (فيه) أي في نهاره أو ليلة (بخصلة من الخير) أي من أنواع النفل (كان كمن) أي ثوابه كثواب من (أدى فريضة فيما سواه) أي من الأشهر (وهو شهر الصبر) لأن صيامه بالصبر عن المأكول والمشروب ونحوهما، وقيامه بالصبر على محنة السهر، ولذا أطلق الصبر على الصوم في قوله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة:153] (الصبر) أي كماله المتضمن للشكر كما حرره الغزالي من أن وجوهما على وجه الكمال متلازمان، وبكل طاعة وخصلة حميدة متعلقان، فإن الإيمان نصفان، نصفه صبر، ونصفه شكر. فترك المعصية صبر وامتثال الطاعة شكر (ثوابه الجنة) أو يقال الصبر على الطاعة وعن المعصية جزاءه الجنة لمن قام به مع الناجين: وقال ابن حجر: أي من غير مقاساة لشدائد الموقف (وشهر المواساة) أي المساهمة والمشاركة في المعاش والرزق، وأصله الهمزة فقلبت واواً تخفيفاً يقال آسى الرجل في ماله أي جعله أسوته فيه، وفيه تنبيه على الجود والإحسان على جميع أفراد الإنسان لاسيما على الفقراء والجيران (وشهر يزاد فيه رزق المؤمن) وفي بعض النسخ يزاد في رزق المؤمن فيه أي سواء كان غنياً أو فقيراً وهذا أمر مشاهد فيه، ويحتمل تعميم الرزق بالحسي والمعنوي

من فطر فيه صائماً كان له مغفرة لذنوبه، وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير إن ينتقص من أجره شيء قلنا: يا رسول الله! ليس كلنا نجد ما نفطر به الصائم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يعطي الله هذا الثواب من فطر صائماً على مذقة لبن، أو تمرة أو شربة من ماء ومن أشبع صائماً. سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ حتى يدخل الجنة. وهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار. ـــــــــــــــــــــــــــــ (من فطر) بتشديد الطاء (فيه صائماً) أي أطعمه أو سقاه عند إفطاره من كسب حلال كما سيجيء (كان) أي التفطير (له) أي للمفطر (مغفرة لذنوبه وعتق رقبته) أي المفطر (من النار) أي سبباً لحصولهما وفي نسخة برفع المغفرة والعتق فالمعنى حصل له مغفرة وعتق (وكان له مثل أجره) أي حصل للمفطر مثل ثواب الصائم (من غير أن ينتقص) من باب الافتعال وفي الترغيب ينقص، وكذا نقله العيني (من أجره) أي من أجر الصائم (شيء) وهو زيادة إيضاح وإفادة تأكيد للعلم بعدم النقص من لفظ مثل أجره أولاً (ليس كلنا نجد ما نفطر) بالتكلم في الفعلين وفي نسخة بالغيبة فيهما قاله القاري، وذكره المنذري والعيني بالتكلم في الأول وبالغيبة في الثاني (به الصائم) كذا في بعض النسخ ووقع في بعضها بدون لفظة به وهكذا في الترغيب والعيني: قال القاري: أي لا يجد كلنا ما يشبعه وإنما الذي يجد ذلك بعضها فما حكم من لا يجد ذلك (يعطي الله هذا الثواب) أي من جنس هذا الثواب أو هذا الثواب كاملاً عند العجز عن الإشباع (على مذقة لبن) بفتح الميم وسكون الذال المعجمة أي شربة لبن يخلط بالماء يقال مذق اللبن من باب نصر أي مزجه بالماء والمذق والمذقة اللبن الممزوج بالماء (أو تمرة أو شربة من ماء) أو للتنويع في الموضعين (من حوضي) أي الكوثر في القيامة (شربة لا يظمأ) أي بعدها (حتى يدخل الجنة) أي إلى أن يدخلها، ومن المعلوم أن لا ظمأ في الجنة لقوله تعالى: {وأنك لا تظمؤ فيها} [طه:119] فكأنه قال لا يظمأ أبداً (وهو) أي رمضان (شهر أوله رحمة) أي وقت رحمة نازلة من عند الله عامة ولولا حصول رحمته ما صام ولا قام أحد من خليقته، لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا وقيل أي أول الشهر سبب لنزول رحمة الله التي يكون بها مستعد لظهور الأنوار الإلهية والأسرار الربانية ويخرج من ظلمات الذنوب والمعاصي (وأوسطه مغفرة) أي زمان مغفرته المترتبة على رحمته فإن الأجير قد يتعجل بعض أجره قرب فراغه منه (وآخره) وهو وقت الأجر الكامل (عتق) أي لرقابهم (من النار) والكل

ومن خفف عن مملوكه فيه. غفر الله له وأعتقه من النار)) . 1986- (11) وعن ابن عباس، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل شهر رمضان أطلق كل أسير ـــــــــــــــــــــــــــــ بفضل الجبار وتوفيق الغفار للمؤمنين الأبرار للأعمال الموجبة للرحمة والمغفرة والعتق من النار، ولما وفقوا للطاعات وغفر ذنوبهم واعتقوا من النار صاروا أهلاً لدخول الجنة (ومن خفف) أي في الخدمة (عن مملوكه فيه) أي في رمضان رحمة عليه وإعانة له بتيسير الصيام إليه (غفر الله) أي لما فعله قبل ذلك من الأوزار (وأعتقه من النار) جزاء لاعتاقه المملوك من شدة العمل، والحديث ذكره العيني في شرح البخاري (ج10 ص278- 279) وقال رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده عن سلمان الفارسي ولا يصح إسناده وفي سنده إياس. قال شيخنا (يعني العراقي) الظاهر إنه ابن أبي إياس. قال صاحب الميزان: إياس بن أبي إياس عن سعيد بن المسيب لا يعرف والخبر منكر- انتهى. قلت: وقال الحافظ في اللسان (ج1 ص475) في ترجمته وذكره العقيلي فقال مجهول، وحديثه غير محفوظ وساق له الحديث بطوله في فضل شهر رمضان. وقال: ليس يروي هذا من وجه يثبت- انتهى. وقال المنذري في الترغيب: رواه ابن خزيمة في صحيحه ثم قال إن صح الخبر، ورواه من طريقه البيهقي: ورواه أبوالشيخ ابن حبان في الثواب باختصار عنهما وفي رواية لأبي الشيخ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فطر صائماً في شهر رمضان من كسب حلال صلت عليه الملائكة ليالي رمضان كلها، وصافحه جبريل ليلة القدر، ومن صافحه جبريل عليه السلام يرق قلبه وتكثر دموعه. قال: فقلت يا رسول الله! أفرأيت من لم يكن عنده، قال فقبضة من طعام قلت: أفرأيت إن لم يكن عنده لقمة خبز قال: فمذقة لبن قلت أفرأيت إن لم يكن عنده قال فشربة من ماء. قال المنذري، وفي أسانيدهم علي بن زيد بن جدعان. ورواه ابن خزيمة أيضاً والبيهقي باختصار عنه من حديث أبي هريرة وفي إسناده كثير بن زيد- انتهى. قلت: ابن جدعان هذا ضعيف سيء الحفظ. وقال الترمذي: صدوق. وكثير بن زيد مختلف فيه. وقال في التقريب: صدوق يخطىء. وحديث سلمان ذكره علي المتقي في كنز العمال وقال: أخرجه ابن خزيمة وقال إن صح الخبر والبيهقي والأصبهاني في الترغيب وابن النجار. وقال الحافظ ابن حجر في أطرافه، مداره على علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف ويوسف بن زياد الراوي عنه ضعيف جداً، وتابعه إياس عن علي بن زيد عند البيهقي. قال ابن حجر وإياس ما عرفنه- انتهى. 1986- قوله: (أطلق كل أسير) أي محبوس ممن يستحق الحبس لحق الله أو لحق العبد بتخليصه منه قاله القاري. وقال ابن حجر: أي محبوس على كفره بعد أسره ليختار فيه - صلى الله عليه وسلم - المن أو القتل مثلاً.

وأعطى كل سائل)) . 1987- (12) وعن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الجنة تزخرف لرمضان من رأس الحول إلى حول قابل، قال إذا كان أول يوم من رمضان هبت ريح تحت العرش من ورق الجنة على الحور العين، فيقلن: يا رب. اجعل لنا من عبادك ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال في اللمعات: فإن قلت كيف يجوز إطلاق كل أسير، وقد يكون على بعض الأسرار حق لأحد قلنا لم يكن إسراءه - صلى الله عليه وسلم - إلا الكفار أسراء الغزوات وهو مخير فيهم بعد الأسر بين المن والإطلاق، وأخذ الفداء والاسترقاق عند أكثر الأئمة وتعين القتل أو الاسترقاق عند الحنفية ولم يكن بينهم من عليه حقوق الناس من الديون ونحوها ولو كانت فلعله صلى الله عليه وسلم كان يرضي أهلها ويطلق والله أعلم (وأعطى كل سائل) أي زيادة على معتاده فإنه حينئذٍ أجود من الريح المرسلة، وفيه ندب العتق في رمضان والتوسعة على الفقراء فيه والحديث ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص150) ونسبه إلى البزار وقال فيه أبوبكر الهذلي وهو ضعيف- انتهى. وقال السيوطي في الجامع الصغير: رواه البيهقي في الشعب عن ابن عباس وابن سعد عن عائشة. قال العزيزي: وهو حديث ضعيف- انتهى. قلت أبوبكر الهذلي هذا من رجال ابن ماجه. قيل: اسمه سلمى بن عبد الله. وقيل: روح أخباري منكر الحديث متروك. 1987- قوله: (تزخرف) أي تزين بالذهب ونحوه (لرمضان) أي لأجل قدومه (من رأس الحول إلى الحول قابل) أي يبتدأ التزين من أول السنة منتهياً إلى سنة آتية أول الحول غرة المحرم، وحاصله إن الجنة في جميع السنة من أولها إلى آخرها مزينة لأجل رمضان وما يترتب عليه من كثرة الغفران ورفع درجات الجنان ما قبله وما بعده من الزمان، ولا يبعد أن يجعل رأس الحول مما بعد رمضان ولعله إصطلاح أهل الجنة ويناسبه كونه يوم عيد وسرور. ووقت زينة وحبور قاله القاري. قال ابن حجر: لعل المراد هنا بالحول بأن تبديء الملائكة في تزيينها أول شوال وتستمر إلى أول رمضان فتفتح أبوابها حينئذٍ ليطلع الملائكة على ما لا يطلعون عليه قبل، إعلاماً لهم بعظم شرف رمضان وشرف هذه الأمة ومجازاتهم على صومهم بمثل هذا النعيم المقيم الظاهر الباهر- انتهى. (قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (هبت) أي هاجت (ريح تحت العرش) أي من تحت العرش فنثرت رائحة عطرة طيبة. قال ابن حجر: تحت العرش أي في الجنة لأن سقف الجنة عرش الرحمن كما في الحديث. وقيل: الظاهر إن الريح تنزل من تحت العرش مبتدأ باعتبار ظهورها في الجنة (من ورق الجنة) أي من ورق شجرها مبتدأ (على الحور العين) أي منتشرة على رؤسهن. والحور جمع حوراء من الحور بفتحتين شدة بياض العين في شدة سوادها، والعين بكسر العين جمع عيناء بفتحها من عَيِنَ يَعْيَن عيناً أي عظم سواد عينه في سعة (من عبادك) أي

أزواجاً تقر بهم أعيننا، وتقر أعينهم بنا)) . روى البيهقي الأحاديث الثلاثة. في شعب الإيمان. 1988- (13) وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يغفر لأمته في آخر ليلة في رمضان، ـــــــــــــــــــــــــــــ الصالحين الصائمين القائمين (تقر) بفتح القاف وتشديد الراء أي تتلذذ (بهم) أي بطلعتهم وصحبتهم (أعيننا) أي أبصارنا قال الطيبي: هو من القر بمعنى البرد، وحقيقة قولك قر الله عينه جعل دمع عينه بارداً وهو كناية عن السرور فإن دمعته باردة. أو من القرار فيكون كناية عن الفوز بالبغيبة، فإن من فاز بها قر نفسه ولا يستشرف عينه إلى مطلوبه لحصوله. والحديث ذكره العيني (ج10 ص269) والهيثمي (ج3 ص142) نسباه إلى الطبراني في الكبير. وقالا: فيه الوليد بن الوليد القلانسي الدمشقي ضعفه الدارقطني وغيره ووثقه أبوحاتم بقوله صدوق، ونسبه على المتقي في الكنز إلى الطبراني وأبي نعيم في الحلية، والدارقطني في الأفراد. والبيهقي في الشعب، وتمام في فوائده. وابن عساكر، وقال فيه الوليد بن الوليد الدمشقي. قال أبوحاتم: صدوق. وقال الدارقطني وغيره: متروك- انتهى. وله شاهد من حديث أبي مسعود الغفاري أخرجه ابن خزيمة: في صحيحه، وأشار إلى ضعفه كما سيأتي والبيهقي من طريقه وضعفه، وأبوالشيخ في الثواب وأبويعلى والطبراني، وفي سنده جرير بن أيوب البجلي. قال ابن خزيمة: في القلب من جرير بن أيوب شيء. وقال المنذري: جرير بن أيوب هذا واه - انتهى. وقال العيني (ج10 ص268) بعد ذكر هذا الحديث: هذا حديث منكر وباطل، وفي سنده جرير بن أيوب البجلي كوفي كان يضع الحديث، قاله وكيع وأبونعيم الفضل بن دكين. وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال البخاري وأبوزرعة: منكر الحديث. وقال النسائي: متروك الحديث - انتهى. قلت: أورد هذا الحديث ابن الجوزي في الموضوعات، وقال هو موضوع آفته جرير بن أيوب، واستدرك عليه السيوطي. وقال صاحب الكنز: لم يصب ابن الجوزي، وقال الشوكاني: بعد ذكر كلام ابن الجوزي المتقدم: وسياقه مما يشهد العقل بأنه موضوع فلا معنى لاستدراك السيوطي له على ابن الجوزي، بأنه قد رواه غير من رواه عنه ابن الجوزي، فإن الموضوع لا يخرج عن كونه موضوعاً برواية الرواة - انتهى. ولحديث الباب شاهد آخر من حديث ابن عباس ذكره المنذري ونسبه للبيهقي، وأبي الشيخ ابن حبان، وقال: ليس في إسناده من أجمع على ضعفه. 1988- قوله: (يغفر لأمته) أي لجميع الصائمين منهم. قال الطيبي: هذا حكاية معنى ما تلفظ به - صلى الله عليه وسلم - لا لفظه أي الذي هو يغفر لأمتي. قلت: الذي في مسند الإمام أحمد يغفر لهم، وهكذا وقع عند غيره ممن خرج هذا الحديث، فقوله لأمته من تصرف المصنف. والأولى أن يقول لأمتي كما يدل عليه أول الحديث (في آخر ليلة في رمضان) قال القاري: وفي نسخة "من رمضان". قلت: هذا اللفظ ههنا من زيادة المصنف زادها لتعيين الليلة.

(1) باب رؤية الهلال

قيل يا رسول الله! أهي ليلة القدر؟ قال: لا، ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله)) . رواه أحمد. (1) باب رؤية الهلال {الفصل الأول} 1989- (1) عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصوموا ـــــــــــــــــــــــــــــ ولدلالة السياق عليها والمراد مغفرته الكاملة ورحمته الشاملة فلا ينافي ما سبق من أن أوسطه مغفرة (قيل يا رسول الله! أهي ليلة القدر؟ قال لا) أي ليس سبب المغفرة كونها ليلة القدر بل سببها كونها آخر ليلة، ويمكن أن تكون غيرها من بقية ليالي العشر الأخير (ولكن) بالتشديد ويخفف (العامل) أي ولكن سببها إن العامل (إنما يوفى) من التوفية أي يعطي وافياً (أجره) بالنصب على أنه مفعول ثان وفي نسخة بالرفع على أنه نائب الفاعل والمفعول الثاني مقدر أي إياه (إذا قضى عمله) أي فرغ منه. وقال الطيبي: قوله ولكن العامل الخ. استدرك لسؤالهم عن سبب المغفرة كأنهم ظنوا أن الليلة الأخيرة هي ليلة القدر سبب للغفران فبيين - صلى الله عليه وسلم - إن سببها فراغ العبد من العمل وهو مطرد في كل عمل والله أعلم - انتهى. (رواه أحمد) هو طرف من حديث طويل أخرجه أحمد (ج2 ص292) والبزار والبيهقي ومحمد بن نصر في قيام الليل (ص108) وأبوالشيخ بن حبان في كتاب الثواب من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعطيت أمتي خمس خصال في رمضان لم تعطها أمة قبلهم. خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا ويزين الله عزوجل كل يوم جنته ثم يقول يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤنة والأذى ويصيروا إليك ويصفد فيه مردة الشياطين فلا يخلصوا إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره ويغفر لهم في آخر ليلة - الحديث. قال الهيثمي (ج3 ص140) : فيه هشام بن أبوالمقدام وهو ضعيف وأشار المنذري إلى ضعف إسناده بتصديره بلفظة: روى، وإهمال الكلام عليه في آخره. وله شاهد من حديث جابر عند البيهقي ذكره المنذري بعد حديث أبي هريرة هذا. وقال إسناده مقارب أصلح مما قبله. (باب رؤية الهلال) أي الأحكام المتعلقة بها. قال الزرقاني الأكثر على أن الهلال القمر في حالة خاصة. قال الأزهري: يسمى القمر لليلتين من أول الشهر هلالاً، وفي ليلة ست وسبع وعشرين أيضاً هلالاً وما بين ذلك يسمى قمراً وقال الجوهري: الهلال لثلاث ليال من أول الشهر ثم هو قمر بعد ذلك. وقيل: الهلال هو الشهر بعينه. قال الراغب: الهلال القمر في أول ليلة، والثانية، ثم يقال له القمر ولا يقال له هلال - انتهى. 1989- قوله: (لا تصوموا) أي في ثلاثي شعبان عن رمضان ففي رؤية إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ذكر رمضان

حتى تروا الهلال، ـــــــــــــــــــــــــــــ فقال لا تصوموا (حتى تروا الهلال) أي هلال رمضان وهذا إذا لم يكمل شعبان ثلاثين يوماً فيجب الصوم عن رمضان، وإن لم يروا هلاله، ثم إنه يتعلق بالحديث أمور يجب التنبيه عليها. الأول إن ظاهره اشتراط رؤية الجميع من المخاطبين، لكن قام الإجماع على عدم وجوب ذلك، بل المراد رؤية بعضهم وهو من يتحقق به الرؤية ويثبت. والمعنى حتى يثبت عندكم رؤية الهلال. قال الحافظ: ليس المراد تعليق الصوم بالرؤية بعضهم، وهو من يثبت به ذلك. أما واحد على رأي الجمهور أو اثنان على رأي أخرين، ووافق الحنفية على الأول إلا أنهم خصوا ذلك بما إذا كان في السماء علة من غيم وغيره، وإلا متى كان صحو لم يقبل إلا من جميع كثير يقع العلم بخبرهم - انتهى. وسيأتي بسط الكلام فيه. الثاني إن ظاهره الصوم من وقت الرؤية لكن ليس ذلك بمراد كما أنه ليس المراد الإفطار من وقت الرؤية، حتى يلزم أن يفطر قبل الغروب، إذا رأى الهلال في ذلك الوقت. بل المراد الإفطار والصوم على الوجه المشروع، فلا بد في كل منهما من معرفة ذلك الوقت. قال الحافظ: ظاهر الحديث إيجاب الصوم حين الرؤية متى وجدت ليلاً أو نهاراً، لكنه محمول على صوم اليوم المستقبل. وبعض العلماء، فرق بين ما قبل الزوال أو بعده، خالف الشيعة الإجماع فأوجبوه مطلقاً - انتهى. قلت: فرق بين ما قبل الزوال وبعده الثوري وأبويوسف وروى ذلك عن عمر. قال الباجي: لا خلاف بين الناس إنه إذا رؤى بعد الزوال فإنه لليلة القادمة. وأما إذا رؤى قبل الزوال فإن مالكاً والشافعي وأباحنيفة وجمهور الفقهاء يقولون: إنه لليلة القادمة لحديث أبي وائل أتانا كتاب عمر أن الأهلة بعضها أكبر من بعض، فإذا رأيتم الهلال نهاراً فلا تفطروا حتى يشهدو رجلان أنهما أهلاه بالأمس. وقال الثوري وابن وهب وأبويوسف وابن حبيب للماضية لما رواه النخعي عن عمر إذا رأيتم الهلال قبل الزوال فافطروا، وإذا رأيتموه بعده فلا تفطروا وهذا مفصل والأول مجمل لأنه قال نهاراً، لكن قال ابن عبد البر والأول أصح لأنه متصل والثاني منقطع فالنخعي لم يدرك عمر. قال الباجي: قال أبوبكر بن الجهم هذا لا يثبت عن عمر رواه شباك وهو مجهول قال وهذا الخلاف إنما هو إذا رؤي في يوم ثلاثين ولا يصح أن يصح أن يكون قبل ذلك - انتهى. وبسط الكلام في ذلك الشامي في رد المختار (ج2 ص130) وابن رشد في البداية (ج1 ص194) وابن قدامة في المغنى (ج3 ص168) . الثالث إنه جعل تحقق الرؤية غاية لعدم الصوم فلو ثبتت الرؤية لليلة الماضية وجبت الصوم من حين ثبوتها. قال ابن قدامة (ج3 ص133) إذا أصبح مفطراً يعتقد أنه من شعبان فقامت البينة بالرؤية لزمه الإمساك والقضاء في قول عامة الفقهاء، إلا ما روى

............................... ـــــــــــــــــــــــــــــ عن عطاء أنه يأكل بقية يومه. قال ابن عبد البر: لا نعلم أحداً قاله غير عطاء، الرابع إن الحديث ظاهر في النهي عن ابتداء صوم رمضان قبل رؤية الهلال أي إذا لم يكمل عدد الشعبان ثلاثين يوماً فيدخل فيه صورة الغيم وغيرها قال الحافظ: ولو وقع الاقتصار على هذه الجملة لكفى ذلك لمن تمسك به أي على منع الصوم في كل صورة لم ير فيها الهلال لكن اللفظ الذي رواه أكثر الرواة أوقع للمخالف شبهة وهو قوله "فإن غم عليكم فاقدروا له" فاحتمل أن يكون المراد التفرقة بين حكم الصحو والغيم فيكون التعليق على الرؤية متعلقاً بالصحو. وأما الغيم فله حكم آخر ويحتمل أن لا تفرقة ويكون الثاني مؤكداً للأول وإلى الأول، ذهب أكثر الحنابلة وإلى الثاني ذهب الجمهور. فقالوا: المراد بقوله فاقدروا له قدوراً له تمام العدد ثلاثين يوماً أي أنظروا في أول الشهر وأحسبوه تمام الثلاثين ويرجح هذا التأويل الروايات الأخر المصرحة بالمراد، وهي ما سيأتي من قوله فأكملوا العدة ثلاثين ونحوها، وأولى ما فسر الحديث بالحديث - انتهى. وحاصل ذلك أن النهي عن الصوم في ثلاثي شعبان حتى يروا الهلال عند الجمهور مطلق يعم الصحو والغيم وعند الحنابلة مقيد بحال الصحو. قال ابن قدامة (ج3 ص90) النهي عن صوم الشك محمول على حال الصحو وفي الجملة لا يجب الصوم إلا برؤية الهلال أو كمال شعبان ثلاثين يوماً أو يحول دون منظر الهلال غيم أو قتر - انتهى. وقد أشبع الكلام في ذلك الولي العراقي في طرح التثريب (ج4 ص107، 110) وسيأتي البسط منافي صوم يوم الشك في شرح حديث عمار. الخامس قد استدل بهذا الحديث من ذهب إلى أنه إذا رأى الهلال أهل بلد لزم جميع البلاد الصوم، لأنه ليس المراد رؤية جميع المسلمين بحيث يحتاج كل فرد إلى رؤيته بل المعتبر رؤية بعضهم كما تقدم، والمعنى لا تصوموا حتى توجد فيما بينكم الرؤية وتتحقق، فيدل هذا على أن رؤية بلد رؤية لجميع أهل البلاد فيلزم الحكم. قال الحافظ: قد تمسك بتعليق الصوم بالرؤية من ذهب إلى إلزام أهل البلد برؤية أهل بلد غيرها، ومن لم يذهب إلى ذلك قال: لأن قوله حتى تروه خطاب لأناس مخصوصين فلا يلزم غيرهم ولكنه مصروف عن ظاهره فلا يتوقف الحال على رؤية كل واحد فلا يتقيد بالبلد. وقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب. أحدها لأهل كل بلده رؤيتهم وفي صحيح مسلم من حديث كريب عن ابن عباس ما يشهد له، وحكاه ابن المنذر عن عكرمة والقاسم وسالم وإسحاق وحكاه الترمذي عن أهل العلم ولم يحك سواه وحكاه الماوردى وجهاً للشافعية. ثانيها مقابلة إذا رؤى ببلدة لزم أهل البلاد كلها وهو المشهور عند المالكية، لكن حكى ابن عبد البر الإجماع على خلافة وقال: أجمعوا على أنه لا ترعى الرؤية فيما بعد من البلاد كخراسان والأندلس. قال القرطبي: قد قال شيوخنا إذا كانت رؤية الهلال ظاهرة قاطعة بموضع ثم نقل إلى غيرهم بشهادة اثنين لزمهم الصوم. وقال ابن الماجشون: لا يلزمهم بالشهادة إلا لأهل البلد الذي يثبت

................................ ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه الشهادة إلا أن يثبت عند الإمام الأعظم فيلزم الناس كلهم، لأن البلاد في حقه كالبلد الواحد إذ حكمه نافذ في الجميع. وقال بعض الشافعية إن تقاربت البلاد كان الحكم واحداً وإن تباعدت فوجهان لا يجب عند الأكثر واختار أبوالطيب وطائفة الوجوب وحكاه البغوي عن الشافعي وفي ضبط البعد أوجه أحدها: اختلاف المطالع قطع به العراقيون والصيدلاني وصححه النوي في الروضة وشرح المهذب. ثانيها: مسافة القصر قطع به الإمام والبغوي وصححه الرافعي في الصغير والنووي في شرح مسلم. ثالثها: الاختلاف الأقاليم. رابعها حكاه السرخسي فقال: يلزم كل بلد لا يتصور خفاءه عنهم بلا عارض دون غيرهم. خامسها: قول ابن الماجشون المتقدم انتهى كلام الحافظ. قلت الإجماع الذي حكاه ابن عبد البر غير مسلم كيف، وقد ذهبت الحنابلة وأكثر الحنفية والمالكية وبعض الشافعية إلى إلزام جميع البلاد الصوم والإفطار برؤية أهل البلد وإلى عدم اعتبار القرب والبعد بينها في ذلك، وإلى عدم اعتبار اختلاف المطالع فيلزم أهل المشرق الصوم والإفطار برؤية أهل المغرب إذا ثبت عندهم رؤية أولئك بطريق موجب. وقال المحققون من الحنفية والمالكية وعامة الشافعية: إن كان بين البلدين مسافة قريبة لا تختلف المطالع لأجلها كبغداد والبصرة مثلاً لزم أهلهما الصوم برؤية الهلال في أحدهما وإن كان بينهما بعد كالعراق والحجاز والشام فلكل أهل بلد رؤيتهم. قال في الدر المختار: اختلاف المطالع غير معتبر على ظاهر المذهب وعليه أكثر المشائخ وعليه الفتوى فيلزم أهل المشرق برؤية أهل المغرب إذاً ثبت عندهم رؤية أولئك بطريق موجب (كأن يتحمل اثنان الشهادة أو يشهدا على حكم القاضي أو يستفيض الخبر) وقال الزيلعي (شارح الكنز) الأشبه أنه يعتبر لكن قال الكمال، الأخذ بظاهر الرواية أحوط - انتهى. وهكذا في النهر الفائق. وقال في مراقي الفلاح: إذا ثبت الهلال في بلدة لزم سائر الناس في ظاهر المذهب وعليه الفتوى وهو قول أكثر المشائخ فيلزم قضاء يوم على أهل بلدة صاموا تسعة وعشرين يوماً لعموم الخطاب وهو صوموا لرؤيته. وقيل: يختلف (أي الحكم) باختلاف المطالع واختاره صاحب التجريد وغيره كما إذا زالت الشمس عند قوم وغربت عند غيرهم فالظهر على الأولين لا المغرب لعدم انعقاد السبب في حقهم- انتهى ملخصاً. وقال المفتي أبوالسعود في شرح مراقي الفلاح: قوله كما ذهب إليه صاحب التجريد وهو الأشبه لأن انفصال الهلال من شعاع الشمس يختلف باختلاف الأقطار كما في دخول الوقت وخروجه، وهذا مثبت في علمك الأفلاك والهيئات، وأقل ما تختلف به المطالع مسيرة شهر كما في الجواهر- انتهى ملخصاً. وفي التتار خانية: الأهل بلدة إذا رأوا الهلال هل يلزم في حق كل بلدة؟ اختلف المشائخ في فبعضهم قالوا: لا يلزمه. فإنما المعتبر في حق أهل بلدة رؤيتهم وفي الخانية لا عبرة باختلاف المطالع في ظاهر الرواية وفي القدوري إن كان بين البلدتين تفاوت تختلف

.............................. ـــــــــــــــــــــــــــــ به المطالع لا يلزمه وذكر الشيخ شمس الأئمة الحلواني أنه الصحيح من مذهب أصحابنا - انتهى. وقال الزيلعي في شرح الكنز: أكثر المشائخ على أنه لا يعتبر باختلاف المطالع. والأشبه أن يعتبر لأن كل قوم مخاطبون بما عندهم. وانفصال الهلال عن شعاع الشمس يختلف باختلاف الأقطار. والدليل على اعتباره ما روى عن كريب أن أم الفضل بعثته إلى معاوية - الحديث انتهى. وقال في مختارات النوازل أهل بلدة صاموا تسعة وعشرين يوماً بالرؤية وأهل بلدة أخرى صاموا ثلاثين يوماً بالرؤية، فعلى الأولين قضاء يوم إذا لم تختلف المطالع بينهما. وأما إذا اختلفت لا يجب القضاء- انتهى. وقال ابن عابدين: أعلم أن نفس اختلاف المطلع لا نزاع فيه بمعنى أنه قد يكون بين البلدتين بعد بحيث يطلع الهلال ليلة كذا في إحدى البلدتين دون الأخرى وكذا مطالع الشمس، لأن انفصال الهلال عن شعاع الشمس يختلف باختلاف الأقطار حتى إذا زالت الشمس في المشرق لا يلزم أن تزول في المغرب وكذا طلوع الفجر وغروب الشمس بل كلما تحركت الشمس درجة فتلك طلوع فجر لقوم وطلوع شمس لآخرين وغروب لبعض، ونصف ليل لغيرهم كما في الزيلعي. وقدر البعد الذي تختلف فيه المطالع مسيرة شهر فأكثر على ما في القهستاني عن الجواهر، وإنما الخلاف في اعتبار المطالع بمعنى أنه هل يجب على كل قوم مطلعهم ولا يلزم أحداً العمل بمطلع غيره أم لا يعتبر اختلافها، بل يجب العمل بالأسبق رؤية حتى لو رؤى في المغرب ليلة الجمعة، وفي المشرق ليلة السبت، وجب على أهل المشرق العمل بما رآه أهل المغرب. فقيل: بالأول واعتمده الزيلعي وصاحب الفيض وهو الصحيح عند الشافعية، لأن كل قوم مخاطبون بما عندهم كما في أوقات الصلاة وأيده في الدرر بما مر من عدم وجوب العشاء والوتر على فاقد وقتهما، وظاهر الرواية الثاني وهو المعتمد عندنا وعند المالكية والحنابلة لتعلق الخطاب عاماً بمطلق الرؤية في حديث صوموا لرؤيته بخلاف أوقات الصلاة - انتهى. قلت: لا مناص من اعتبار اختلاف المطالع في باب الصوم أيضاً وقد أضطر إلى الاعتراف به صاحب فتح الملهم حيث قال: بعد تقوية مذهب عامة الحنفية أي القول بعدم اعتباره ما لفظه، نعم! ينبغي أن يعتبر اختلافها إن لزم منه التفاوت بين البلدتين بأكثر من يوم واحد، لأن النصوص مصرحة بكون الشهر تسعة وعشرين أو ثلاثين فلا تقبل الشهادة ولا يعمل بها فيما دون أقل العدد ولا في أزيد من أكثره - انتهى. وقال صاحب العرف الشذى: في عامة كتبنا أنه لا عبرة لاختلاف المطالع في الصوم. وأما في فطر كل يوم والصلوات الخمس (وكذا الحج والأضحية) فيعتبر اختلاف المطالع. وقال الزيلعي. شارح الكنز. إن عدم عبرة اختلاف المطالع إنما هو في البلاد المتقاربة لا النائية. وقال كذلك في تجريد القدوري وقال به الجرجاني. أقول لا بد من تسليم قول الزيلعي وإلا فيلزم وقوع العيد يوم السابع والعشرين، أو الثامن والعشرين، أو الحادي والثلاثين أو الثاني والثلاثين. فإن هلال بلاد قسطنطينية ربما يتقدم على هلالنا بيومين فإذا صمنا على هلالنا ثم بلغنا رؤية هلال بلاد قسطنطينة يلزم تقديم العيد،

................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ أو يلزم تأخير العيد. إذا صام رجل من بلاد قسطنطينية ثم جاءنا قبل العيد- انتهى. وقال في حاشية شرح الإقناع من فروع الشافعية: وتثبت رؤيته في حق من لم يره ممن مطلعه موافق مطلع محل الرؤية بأن يكون غروب الشمس والكواكب وطلوعها في البلدين في وقت واحد، فإن غرب شيء من ذلك أو طلع في أحد البلدين قبله في الآخر لم يجب على من لم يره برؤية البلد الآخر وهذا أمر مرجعه إلى طول البلد وعرضها، سواء قربت المسافة أو بعدت. نعم! متى حصلت الرؤية للبلد الشرقي لزم رؤيته في البلد الغربي دون عكسه. كما في مكة المشرفة ومصر، فيلزم من رؤيته بمكة في مصر لا عكسه. لأن رؤية الهلال من أفراد الغروب - انتهى. قلت: قد استدل من اعتبر اختلاف المطالع في باب الصوم بما روى أحمد ومسلم والترمذي وأبوداود والنسائي وغيرهم عن كريب إن أم الفضل بعثته إلى معاوية بالشام قال: فقدمت الشام فقضيت حاجتها واستهل على رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر، فسألني عبد الله بن عباس، ثم ذكر الهلال فقال متى رأيتم الهلال فقال رأيناه ليلة الجمعة فقال: أنت رأيته فقلت: نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين، أو نراه فقلت: ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال النووي: هذا الحديث ظاهر الدلالة على أنهم إذا رأوا، الهلال ببلد لا يثبت حكمه لما بعد عنهم. قال: وقال بعض أصحابنا تعم الرؤية في موضع جميع أهل الأرض، وعلى هذا إنما لم يعمل ابن عباس بخبر كريب لأنه شهادة فلا تثبت بواحد لكن ظاهر حديثه إنه لم يرده لهذا أو إنما رده، لأن الرؤية لا يثبت حكمها في حق البعيد - انتهى. وقال السندي في حاشية النسائي: قوله هكذا أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحتمل أن المراد به أنه أمرنا أن لا نقبل شهادة الواحد في حق الإفطار أو أمرنا أن نعتمد على رؤية أهل بلدنا ولا نعتمد على رؤية غيرهم، وإلى المعنى الثاني تميل ترجمة المصنف "اختلاف أهل الآفاق في الرؤية" وغيره (كالترمذي وأبي داود والمجد بن تيمية) لكن المعنى الأول محتمل فلا يستقيم الاستدلال وكأنهم رأوا أن المتبادر هو الاحتمال الثاني فبنوا عليه الاستدلال والله تعالى أعلم. وأطال الشوكاني الكلام في الجواب عن هذا الاستدلال، وتعقبه بوجوه من شاء الوقوف عليها رجع إلى النيل، وقد ذكر كلامه شيخنا في شرح الترمذي وسكت عليه، وعندي كلام الشوكاني مبني على التحامل يرده ظاهر سياق الحديث. والشام في جهة الشمالية من المدينة مائلاً إلى المشرق وبينهما قريب من سبعمائة ميل، فالظاهر إن ابن عباس رضي الله عنه إنما لم يعتمد على رؤية أهل الشام، واعتبر اختلاف المطالع لأجل هذا البعد الشاسع. واختلف القائلون باعتبار اختلاف المطالع في تحديد المسافة التي يعتبر فيها اختلاف المطالع وأكثر الفقهاء على أنها مسيرة شهر كما تقدم، وفي تحديد هذه المسافة بالميل إشكال لا يخفى وينبغي أن يرجع لذلك إلى علم الهيئة الجديدة ويعتمد على الجغرافيا الحديثة. وقد قالوا: إن كان الهلال في بلد على ارتفاع ثمان درجات من الأفق عند الغروب

ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم ـــــــــــــــــــــــــــــ الشمس يعني إن كان ارتفاعه من الأفق عند غروبها بحيث أنه لا يغرب إلا في اثنتين وثلاثين دقيقة فلا بد أن يكون فوق الأفق في جميع البلاد الشرقية إلى خمس مائة ميل وستين ميلاً من ذلك البلد، ويرى في جميع هذه البلاد الشرقية الكائنة في هذه المسافة الطويلة لولا المانع من الغيم والقتر ونحوهما قالوا: يزيد أو ينقص درجة واحدة على كل سبعين ميلاً فيكون الهلال على ارتفاع سبع درجات في موضع هو على سبعين ميلاً في المشرق من بلد الرؤية، وعلى تسع درجات في موضع هو على سبعين ميلاً في المغرب من بلد الرؤية، فإذا حصلت رؤية الهلال في بلد وثبتت يكون تحقق الرؤية في البلاد الواقعة في المغرب من ذلك البلد من مسلمات علم الهيئة. وقد ظهر بهذا أن الهلال إذا رؤى في بلد عربي ينبغي أن تعتبر هذه الرؤية إلى خمس مائة ميل وستين ميلاً في جهة المشرق من ذلك البلد، وأما في البلاد الغربية منه فتعتبر مطلقاً أي من غير تقييد بمسافة معينة والله تعالى أعلم (ولا تفطروا) أي من صومه (حتى تروه) أي هلال شوال. قال الحافظ: استدل بالحديث على وجوب الصوم والفطر على من رأى الهلال وحده وإن لم يثبت بقوله وهو قول الأئمة الأربعة في الصوم. واختلفوا في الفطر. فقال الشافعي: يفطر ويخفيه أي لئلا يتهم. وقال الأكثر يستمر صائماً احتياطاً - انتهى. وقال في المغنى: (ج3 ص160) ولا يفطر إذ رآه وحده، وروى هذا عن مالك والليث. وقال الشافعي: يحل له أن يأكل حيث لا يراه أحد لأنه تيقنه من شوال فجاز له الأكل كما لو قامت به بينة. ولنا ما روى أبورجاء عن أبي قلابة أن رجلين قدما المدينة، وقد رأيا الهلال وقد أصبح الناس صياماً فأتيا عمر فذكرا ذلك له فقال: لأحدهما أصائم أنت؟ قال: بل مفطر، قال ما حملك على هذا قال لم أكن لأصوم، وقد رأيت الهلال. وقال: للآخر، قال أنا صائم ما حملك على هذا. قال: لم أكن لأفطر والناس صيام فقال للذي أفطر لولا مكان هذا لأوجعت رأسك ثم نودي في الناس أن أخرجوا، أخرجه سعيد بن منصور عن ابن علية عن أيوب عن أبي رجاء. وإنما أراد ضربه لإفطاره برؤيته، ودفع عنه الضرب لكمال الشهادة به وبصاحبه ولو جاز له الفطر لما أنكر عليه ولا توعده. وقالت عائشة: إنما يفطر يوم يفطر الإمام وجماعة المسلمين ولم يعرف لهما مخالف في عصرهما فكان إجماعاً، ولأنه يوم محكوم به رمضان فلم يجز الفطر فيه كاليوم الذي قبله، وفارق ما إذا قامت البينة فإنه محكوم به من شوال بخلاف مسألتنا، وقولهم إنه تيقن أنه من شوال. قلنا لا يثبت اليقين لأنه يحتمل أن يكون الرائي خيل إليه. كما روى أن رجلاً في زمن عمر قال لقد رأيت الهلال فقال له أمسح عينك فمسحها ثم قال له تراه قال لا، قال لعل شعرة من حاجبتك تقوست على عينك فظننتها هلالاً أو ما هذا معناه - انتهى. وقال الحنفية: يصوم في الصورتين احتياطاً كما في الهداية. قلت: يؤيد قول الجمهور ما روى عن عائشة مرفوعاً الفطر يوم يفطر الناس والأضحى يوم يضحي الناس أخرجه الترمذي وصححه والدارقطني. وقال الصواب وقفه (فإن غم عليكم) بضم المعجمة وتشديد الميم أي غطى الهلال في ليلة الثلاثين. قال الجزري في النهاية: يقال

فاقدروا له، ـــــــــــــــــــــــــــــ غم علينا الهلال إذا حال دون رؤيته غيم أو نحوه من غممت الشيء إذا غطيته وفي غم ضمير الهلال، ويجوز أن يكون غم مسنداً إلى الظروف أي الجار والمجرور أي فإن كنتم مغموماً فأكملوا العدة - انتهى. وهذا لفظ البخاري، وعند مسلم أغمي عليكم. قال الحافظ: أغمى وغم وغمي بتشديد الميم وتخفيفها فهو مغموم الكل بمعنى. وقال الجزري في جامع الأصول (ج7 ص538) يقال غُمَّ الهلال واُغمِيّ وغُمِّيَ إذ أغطاه شيء من غيم أو غيره فلم يظهر- انتهى. وقال ابن العربي: بناء غم للستر والتغطية ومنه الغم فإنه يغطى القلب عن استرساله في آماله ومنه الغمام وهي السحابة (فاقدروا له) بهمزة الوصل وضم الدال وكسرها. قال الشوكاني قال أهل اللغة: يقال قدرت الشيء أقدره وأقُدره بكسر الدال وضمها وقدرته وأقدرته كلها بمعنى واحد وهي من التقدير. وقال الجزري في جامع الأصول. يقال: قَدَرْتُ الأمر أقُدره وأُقَدِّره إذا نظرت فيه ودبرته، والمعنى قدروا عدد الشهر حتى تكملوه ثلاثين يوماً. وقال الخطابي في المعالم: معناه التقدير له بإكمال العدد ثلاثين يقال قدرت الشيء أقدره قدراً بمعنى قدّرته تقديراً ومنه قوله تعالى: {فقدرنا فنعم القادرون} [المرسلات:23]- انتهى. واختلف في معنى هذا اللفظ على ثلاثة أقوال. الأول إن معناه قدروا له تمام العدد ثلاثين يوماً أي أقدروا عدد الشهر الذي كنتم فيه ثلاثين يوماً يعني أنظروا في أول الشهر واحسبوا ثلاثين يوماً كما جاء مفسراً في الرواية اللاحقة، وفي حديث أبي هريرة الذي يليها، ولذا أخرهما المؤلف لأنهما مفسران وأولى ما فسر الحديث بالحديث. وهذا مذهب الجمهور كما تقدم في كلام الحافظ. وقال العيني: وهو مذهب جمهور فقهاء الأمصار بالحجاز والعراق والشام والمغرب، منهم مالك والشافعي والأوزاعي والثوري وأبوحنيفة وأصحابه وعامة أهل الحديث إلا أحمد ومن قاله بقوله – انتهى. الثاني إن معناه ضيقوا له وقدروه تحت السحاب. قال ابن قدامة: (ج3 ص90) معنى قوله أقدروا له أي ضيقوا له العدد من قوله تعالى: {ومن قدر عليه رزقه} [الطلاق:7] أي ضيق عليه وقوله ويبسط الرزق لمن يشاء ويقدر. والتضييق له أن يجعل شعبان تسعة وعشرين يوماً. وقد فسره ابن عمر بفعله (يعني لأنه كان يصوم ذلك اليوم) وهو راويه. وأعلم بمعناه - انتهى. واختار هذا التفسير أكثر الحنابلة وغيرهم ممن يجوز الصوم يوم ليلة الغيم عن رمضان كما في المغنى (ج3 ص89) ويكفي في رد ذلك الأحاديث المفسرة المبينة والروايات المصرحة بالثلاثين وقد سردها الولي العراقي (ج4 ص106، 109) والعيني (ج10 ص272) وأشار إلى بعضها الحافظ كما سيأتي وفعل ابن عمر اجتهاد منه مخالف لأحاديث إكمال العدة ثلاثين يوماً. الثالث معناه فاقدروه بحساب المنازل قاله أبوالعباس بن سريج من الشافعية ومطرف بن عبد الله من التابعين وابن قتيبة. قال ابن عبد البر: لا يصح عن مطرف، وأو صح ما وجب إتباعه عليه لشذوذه فيه ولمخالفة الحجة له وأما ابن قتيبة فلا يعرج إليه في مثل هذا. ونقل

وفي رواية قال: ((الشهر تسع وعشرون ليلة، فلا تصوموا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) . متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن العربي عن ابن سريج إن قوله فاقدروا له خطاب لمن خصه الله تعالى بهذا العلم وإن قوله فأكملوا العدة خطاب للعامة. قال ابن العربي: فصار وجوب رمضان عنده مختلف الحال يجب على قوم بحساب الشمس والقمر وعلى آخرين بحساب العدد قال وهذا بعيد عن النبلاء وبسط الكلام في الرد على هذا القول. قال المازري: احتج من قال معناه بحساب المنجمين بقوله تعالى: {وبالنجم هم يهتدون} [النحل:17] والآية عند الجمهور محمولة على الاهتداء في السير في البر والبحر. قال النووي: عدم البناء على حساب المنجمين لأنه حدس وتخمين وإنما يعتبر منه ما يعرف به القبلة والوقت - انتهى. قلت: ويرد هذا القول حديث ابن عمر الآتي إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب وقوله - صلى الله عليه وسلم - بالخطاب العام صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وقوله في نفس الحديث لا تصوموا حتى تروه (وفي رواية قال الشهر تسع وعشرون ليلة) ظاهره حصر الشهر في تسع وعشرين مع أنه لا ينحصر فيه بل قد يكون ثلاثين. وأجيب بما قال الخطابي في المعالم: (ج2 ص93) يريد أن الشهر قد يكون تسعاً وعشرين وليس يريد أن كل شهر تسعة وعشرون. وإنما احتاج إلى بيان ما كان موهوماً أن يخفى عليهم لأن الشهر في العرف وغالب العادة ثلاثون، فوجب أن يكون البيان فيه مصروفاً إلى النادر دون المعروف منه - انتهى. وقال الحافظ: واللام للعهد والمراد شهر بعينه أو هو محمول على الأكثر الأغلب لقول ابن مسعود ما صمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم تسعاً وعشرين أكثر مما صمنا ثلاثين أخرجه أبوداود والترمذي ومثله عن عائشة عند أحمد بإسناد جيد. ويؤيد قول الخطابي قوله في حديث أم سلمة في الإيلاء إن الشهر يكون تسعة وعشرين يوماً. وقال ابن العربي: قوله الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا معناه حصره من جهة أحد طرفيه أي أنه يكون تسعة وعشرين وهو أقلة ويكون ثلاثين وهو أكثره فلا تأخذوا أنفسكم بصوم الأكثر احتياطاً ولا تقتصروا على الأقل تخفيفاً ولكن اجعلوا عبادتكم مرتبطة ابتداء وانتهاء باستهلاله - انتهى. وفيه حث على طلب الهلال ليلة الثلاثين وتنبيه على ترائية لتسع وعشرين (فلا تصوموا) أي على قصد رمضان (حتى تروه) أي هلاله (فإن غم) أي هلاله (عليكم) بغيم ونحوه (فأكملوا) أي أتموا (العدة) مفعول به أي عدة شعبان كما في حديث أبي هريرة الآتي (ثلاثين) أي يوماً وهو منصوب على الظرف. وقيل: التقدير أكملوا هذه العدة وثلاثين بدل منه بدل الكل كذا في المرقاة (متفق عليه) الرواية الأولى أخرجها الشيخان وأخرجها أيضاً أحمد (ج2 ص63) ومالك والنسائي والدارمي والبيهقي والرواية الثانية تفرد بها البخاري وأخرجها مسلم وأحمد (ج2 ص5، 13) ومالك أيضاً وأبوداود والبيهقي والدارمي. وقالوا: فإن غم عليكم فاقدروا له. ورواها الدارقطني وقال: فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين. والحديث أخرجه

1990- (2) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن ماجه والحاكم أيضاً. قال الحافظ: حديث ابن عمر اتفق الرواة عن مالك عن نافع فيه على قوله فاقدروا له، وجاء من وجه آخر عن نافع بلفظ: فاقدروا ثلاثين كذلك أخرجه مسلم من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع، وهكذا أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع. قال عبد الرزاق: وأخبرنا عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع. وقال: فعدوا ثلاثين واتفق الرواة عن مالك عن عبد الله بن دينار أيضاً فيه على قوله فاقدروا له، وكذلك رواه الزعفراني وغيره عن الشافعي وكذا رواه إسحاق الحربي وغيره في الموطأ عن القعنبي، وأخرجه الربيع بن سليمان والمزني عن الشافعي فقال فيه كما قاله البخاري هنا عن القعنبي، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين. قال البيهقي في المعرفة: (وفي السنن الكبرى ج4 ص205) إن كانت رواية الشافعي والقعنبي من هذين الوجهين محفوظة فيكون مالك، قد رواه على الوجهين. قلت: (قائلة الحافظ) ومع غرابة هذا اللفظ من هذا الوجه فله متابعات منها ما رواه الشافعي أيضاً من طريق سالم عن ابن عمر بتعيين الثلاثين، ومنها ما رواه ابن خزيمة من طريق عاصم ابن محمد بن زيد عن أبيه عن ابن عمر بلفظ: فإن غم عليكم فكملوا ثلاثين، وله شواهد من حديث حذيفة عند ابن خزيمة، وأبي هريرة وابن عباس عند أبي داود والنسائي وغيرهما، وعن أبي بكر وطلق بن علي عند البيهقي وأخرجه من طرق عنهم وعن غيرهم- انتهى كلام الحافظ. 1990- قوله: (صوموا) أي أنووا الصيام وبيتوا على ذلك أو صوموا إذا دخل وقت الصوم وهو من فجر الغد (لرؤيته) أي لأجل رؤية الهلال فاللام للتعليل ولا يلزم تقديم الصوم على الرؤية كما زعمت الروافض كما لا يقتضي قوله أكرم زيداً لدخوله تقديم الإكرام على الدخول، والضمير للهلال وإن لم يسبق له ذكر لدلالة السياق عليه على حد قوله حتى توارت بالحجاب. وقيل: اللام للتوقيت كهي في قوله: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} [الإسراء:78] أي وقت دلوكها. وفيه أن الصوم بعد الرؤية بزمان طويل يتحقق، وأن الإقامة بعد تحقق الدلوك فلا جامع بينهما وفيه أيضاً إنه لا بد حينئذٍ من احتمال تجوز، وخروج عن الحقيقة لأن وقت الرؤية وهو الليل ليس محلاً للصوم. وأجيب عن هذا بأن المراد بقوله صوموا أي أنووا الصيام والليل كله ظرف للنية - انتهى. وفيه نظر لأن فيه المجاز الذي فر منه لأن الناوي ليس صائماً حقيقة بدليل أنه يجوز له الأكل والشرب بعد النية إلى أن يطلع الفجر. وقال ابن مالك وابن هشام: اللام في الآية والحديث بمعنى بعد أي بعد زوالها وبعد رؤية الهلال (وأفطروا) أي اجعلوا عيد الفطر (لرؤيته) أي لأجلها أو بعدها أو وقتها (فإن غم عليكم) قال الحافظ: وقع في حديث أبي هريرة من طريق المستملى فإن غم أي بضم المعجمة

فأكملوا عدة شعبان ثلاثين)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ وتشديد الميم ومن طريق الكشمهيني أغمى ومن رواية السرخسي غبي بفتح الغين المعجمة وتخفيف الموحدة وأغمى وغم وغمى بتشديد الميم وتخفيفها وبضم المعجمة فيهما الكل بمعنى. وأما غبي فمأخوذ من الغباوة وهي عدم الفطنة وهي استعارة لخفاء الهلال. ونقل ابن العربي أنه روى عمى بالعين المهملة من العمى. قال وهو بمعناه لأنه ذهاب البصر عن المشاهدات أو ذهاب البصيرة عن المعقولات- انتهى. وقال القسطلاني: غبى بضم المعجمة وتشديد الموحدة المكسورة مبنياً للمفعول وللحموي فإن غبي بفتح المعجمة وكسر الموحدة كعلم. وقال عياض: غبي بفتح الغين وتخفيف الباء لأبي ذر وعند القابسي بضم الغين وشد الباء المكسورة وكذا قيده الأصيلي والأول أبين، ومعناه خفي عليكم وهو من الغباوة وهو عدم الفطنة استعارة لخفاء الهلال وللكشمهيني أغمى بضم الهمزة مبنياً للمفعول من الإغماء يقال أغمي عليه الخبر إذا استعجم وللمستملي غم بضم المعجمة وتشديد الميم - انتهى. (فأكملوا عدة شعبان) أي أتموا عدده (ثلاثين) أي فكذا رمضان بطريق الأولى وفيه تصريح بأن عدة الثلاثين المأمور بها في حديث ابن عمر المتقدم تكون من شعبان، لكن قد وقع الاختلاف في هذه الزيادة فرواها البخاري كما ترى بلفظ: فأكملوا عدة شعبان ثلاثين، وهذا أصرح ما ورد في ذلك. وقد قيل: إن آدم شيخه انفرد بذلك. قال الإسماعيلي في صحيحه الذي أخرجه على البخاري تفرد به البخاري عن آدم عن شعبة فقال: فيه فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً، وقد رويناه عن غندر وعبد الرحمن بن مهدي وابن علية وعيسى بن يونس وشبابة وعاصم بن علي والنضر ابن شميل ويزيد بن هارون كلهم عن شعبة لم يذكر أحد منهم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً. وإنما قالوا فيه فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين. قال الإسماعيلي: فيجوز أن يكون آدم رواه على التفسير من عنده وإلا فليس لانفراد البخاري عنه بهذا اللفظ من رواه عنه وجه - انتهى. قال الحافظ في الفتح: الذي ظنه الإسماعيلي صحيح فقد رواه البيهقي (ج4 ص205) من طريق إبراهيم بن يزيد عن آدم بلفظ: فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوماً يعني عدوا شعباً ثلاثين (وكذا رواه الدارقطني من طريق علي بن داود عن آدم ص230) فوقع للبخاري إدراج التفسير في نفس الخبر ويؤيده رواية أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ: لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين فإنه يشعر بأن المأمور بعدده هو شعبان. وقد رواه مسلم من طريق الربيع بن مسلم عن محمد بن زياد بلفظ: فأكملوا العدد وهو يتناول كل شهر فدخل فيه شعبان وروى الدارقطني وصححه وابن خزيمة في صحيحه من حديث عائشة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره ثم يصوم لرؤية رمضان فإن غم عليه عد ثلاثين يوماً، ثم صام وأخرجه أبوداود وغيره أيضاً. وروى أبوداود والنسائي وابن خزيمة من طريق ربعى عن حذيفة مرفوعاً لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ثم صوموا حتى تروا الهلال أو

متفق عليه. 1991- (3) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنا أمة أمية، ـــــــــــــــــــــــــــــ تكملوا العدة- انتهى. وقال صاحب التنقيح: أي ابن عبد الهادي المقدسي الحنبلي ما ذكره الإسماعيلي من أن آدم ابن أبي أياس يجوز أن يكون رواه على التفسير من عنده للخير فغير قادح في صحة الحديث لأن النبي صلى الله عليه وسلم، أما أن يكون قال اللفظين هو ظاهر اللفظ، وأما أن يكون قال: أحدهما وذكر الراوي اللفظ الآخر بالمعنى فإن اللام في قوله"فأكملوا العدة" للعهد أي عدة الشهر والنبي عليه الصلاة والسلام لم يخص بالإكمال شهراً دون شهر، إذا غم فلا فرق بين شعبان وغيره إذ لو كان شعبان غير مراد من هذا الإكمال لبينه، لأن ذكر الإكمال عقيب قوله صوموا وأفطروا فشعبان وغيره مراد من قوله فأكملوا العدة فلا تكون رواية فأكملوا عدة شعبان مخالفة لرواية فأكملوا العدة بل مبينة لها. أحدهما: أطلق لفظاً يقتضي العموم في الشهر، والثاني ذكر فرداً من الأفراد قال ويشهد له حديث أخرجه أبوداود والترمذي (وأحمد والطحاوي والنسائي) عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس لا تصوموا قبل رمضان صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن حال بينكم وبينه سحاب فكملوا العدة ثلاثين ولا تستقبلوا الشهر استقبالاً قال الترمذي: حديث حسن صحيح ورواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما ورواه الطيالسي (ومن طريقه البيهقي) حدثنا أبوعوانة عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن حال بينكم وبينه غمامة أو ضبابة فأكملوا شهر شعبان ثلاثين ولا تستقبلوا رمضان بصوم يوم من شعبان. قال: وبالجملة فهذا الحديث نص في المسألة وهو صحيح كما قال الترمذي. قال: والذي دلت عليه الأحاديث في هذه المسألة وهو مقتضى القواعد إن كل شهر غم أكمل ثلاثين سواء في ذلك شعبان ورمضان وغيرهما وعلى هذا فقوله، فأكملوا العدة يرجع إلى الجملتين وهما قوله صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة أي غم عليكم في صومكم أو فطركم هذا هو الظاهر من اللفظ وباقي الأحاديث تدل على ذلك كقوله فإن غم عليكم فاقدروا له- انتهى. وذكر نحو ذلك الولي العراقي في طرح التثريب (ج4 ص108- 109) (متفق عليه) واللفظ للبخاري كما عرفت، ورواه مسلم بلفظ: فصوموا ثلاثين يوماً وفي رواية له فأكملوا العدد وفي أخرى فعدوا ثلاثين والحديث أخرجه أيضاً أحمد والنسائي وابن ماجه والدارمي والدارقطني والبيهقي. 1991- قوله: (إنا) أي معاشر العرب. وقيل: أراد نفسه القدسية (أمة) أي جماعة. قال الجوهري: الأمة الجماعة. وقال الجزري: في جامع الأصول (ج7 ص539) الأمة الجيل من الناس (أمية) أي التي لا تكتب ولا تقرأ. قيل: هو منسوب إلى أمة العرب فإنهم غالباً لا يكتبون ولا يقرءون والكاتب فيهم نادر وقيل: منسوب إلى الأم لأن هذه صفة النساء غالباً أو باقون على الحالة التي ولدتنا عليها الأمهات لم نتعلم قراءة

لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا وعقد الإبهام في الثالثة. ثم قال: الشهر هكذا وهكذا وهكذا وهكذا يعني تمام الثلاثين. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا كتابة أي فلذلك ما كلفنا الله تعالى بحساب أهل النجوم ولا بالشهور الشمسية الخفية بل كلفنا بالشهور القمرية الجلية لكنها مختلفة كما بين بالإشارة مرتين فالعبرة حينئذٍ للرؤية. وقيل: منسوب إلى أم القرى وهي مكة أي أنا أمة مكية (لا نكتب ولا نحسب) بضم السين من باب نصر، وهذا تفسير وبيان لكونهم أمة أمية أي لا نعرف حساب النجوم وتسييرها فلم نكلف في تعريف مواقيت صومنا ولا عبادتنا ما نحتاج فيه إلى معرفة حساب ولا كتابة إنما ربطت عبادتنا بأعلام واضحة وأمور ظاهرة لائحة يستوي في معرفة الحُسّاب وغيرهم. قال الحافظ: قيل للعرب أميون لأن الكتابة كانت فيهم عزيزة قال الله تعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم} [الجمعة:2] ولا يرد على ذلك أنه كان فيهم من يكتب ويحسب لأن الكتابة كانت فيهم قليلة نادرة. والمراد بالحساب هنا حساب النجوم وتسييرها، ولم يكونوا يعرفون من ذلك أيضاً إلا النذر اليسير فعلق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية لرفع الحرج عنهم في معاناة حساب التيسير، واستمر الحكم في الصوم ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك بل ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلاً، ويوضحه قوله في الحديث الماضي فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين ولم يقل فسلوا أهل الحساب. والحكمة فيه كون العدد عند الإغماء يستوي فيه المكلفون فيرتفع الاختلاف والنزاع عنهم، وقد ذهب قوم إلى الرجوع إلى أهل التسيير في ذلك وهم الروافض، ونقل عن بعض الفقهاء موافقتهم. قال الباجي: وإجماع السلف الصالح حجة عليهم. وقال ابن بزيزة: هو مذهب باطل فقد نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم لأنها حدس وتخمين ليس فيها قطع ولا ظن غالب مع أنه لو أربط الأمر بها لضاق إذ لا يعرفها إلا القليل - انتهى. ثم تمم عليه الصلاة والسلام المعنى المذكور بإشارته بيده من غير لفظ إشارة يفهمها الأخرس والأعجمي (الشهر) مبتدأ (هكذا) مشار بها إلى نشر الأصابع العشر (وهكذا) ثانياً (وهكذا) ثالثاً خبره بالربط بعد العطف (وعقد الإبهام) أي أحد الإبهامين أو التقدير من إحدى اليدين أو إبهام اليمين على أن اللام عوض عن المضاف إليه (في الثالثة) أي في المرة الثالثة من فعله هكذا فصار الجملة تسعة وعشرين (ثم قال الشهر) أي تارة أخرى (هكذا وهكذا وهكذا) قال الطيبي: أي عقد الإبهام في المرة الأولى في الثالثة ليكون العدد تسعاً وعشرين، ولم يعقد الإبهام في المرة الثانية ليكون العدد ثلاثين. وقال الحافظ: أي أشار أولاً بأصابع يديه العشر جميعاً مرتين وقبض الإبهام في المرة الثالثة، وهذا المعبر عنه بقوله (وفي الرواية الأخرى) تسع وعشرون. وأشار مرة أخرى بهما ثلاث مرات وهو المعبر عنه بقوله ثلاثون (يعني تمام الثلاثين) تفسير من الراوي لفعله عليه الصلاة والسلام هكذا وهكذا وهكذا في المرة الأخيرة. والتقدير قال الراوي يعني أي يريد - صلى الله عليه وسلم - بكونه هنا لم يعقد

يعني مرة تسعاً وعشرين، ومرة ثلاثين)) . متفق عليه. 1992- (4) وعن أبي بكرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((شهرا عيد لا ينقصان ـــــــــــــــــــــــــــــ الإبهام تمام الثلاثين، ثم زاد البيان فبين الكيفية في المرتين جميعاً والتقدير قال الراوي أيضاً زيادة في الإيضاح تأسّياً به - صلى الله عليه وسلم -. (يعني) أي يريد صلى الله عليه وسلم بمجموع ما ذكره أن الشهر يكون (مرة تسعاً وعشرين ومرة ثلاثين) قال ابن حجر: وإنما بالغ في البيان بما ذكر مع الإشارة المذكورة ليبطل الرجوع إلى ما عليه الحساب والمنجمون وبه يبطل ما مر عن ابن سريج ومن وافقه - انتهى. قال ابن بطال: في الحديث رفع لمراعاة النجوم بقوانين التعديل، وإنما المعول رؤية الأهلة وقد نهينا عن التكلف ولا شك إن مراعاة ما غمض حتى لا يدرك إلا بالظنون غاية التكلف. وفي الحديث مستدل لمن رأى الحكم بالإشارة المفهمة وأعمال أدلة الإيماء في النكاح والطلاق ونحوهما (متفق عليه) أي على أصل الحديث وإلا فقوله الشهر هكذا وهكذا إلى قوله تمام ثلاثين لفظ مسلم، ولفظ البخاري الشهر هكذا وهكذا يعني مرة تسعاً وعشرين ومرة ثلاثين. قال الحافظ: هكذا ذكره آدم شيخ البخاري مختصراً، وفيه اختصار عما رواه غندر عن شعبة أخرجه مسلم عن ابن المثنى وغيره عن غندر ثم ذكر اللفظ المذكور عن مسلم وفي رواية للبخاري الشهر هكذا وهكذا وخنس الإبهام في الثالثة والمصنف تبع في ذلك البغوي فإنه ذكر في المصابيح كذلك ولا يخفى ما فيه والحديث أخرجه أيضاً أحمد (ج2 ص23، 52، 122و 129) وأبوداود والنسائي والبيهقي. 1992- قوله: (شهرا عيد) أي شهر رمضان وشهر ذي الحجة وإنما سمي شهر رمضان شهر عيد بطريق المجاورة. قال السندي: عد شهر رمضان شهر عيد مع أن العيد بعده، والجواب أن المقارنة مجوزة للإضافة. وقال الحافظ: أطلق على رمضان أنه شهر عيد لقربه من العيد ونظيره قوله - صلى الله عليه وسلم -: المغرب وتر النهار. أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر وصلاة المغرب ليلية جهرية وأطلق كونها وتر النهار لقربها (لا ينقصان) اختلف في معناه على أقوال فقيل: أي لا ينقصان في الفضيلة إن كانا تسعة وعشرين أو ثلاثين قاله إسحاق بن راهويه. والمراد أنه لا يكونان ناقصين في الثواب وإن وجدا ناقصين في عدد الحساب. فثواب تسع وعشرين كثواب ثلاثين منهما، وحاصله أنه لا يتفاوت أجر ثلاثين وتسعة عشرين كأنه أراد سد أن يخطر ذلك في قلب أحد. قال النووي: الأصح إن معناه لا ينقص أجرهما والثواب المرتب عليها وإن نقص عددهما هذا هو الصواب المعتمد، والمعنى إن كل ما ورد عنهما من الفضائل والأحكام حاصل، سواء كان رمضان ثلاثين أو تسعاً وعشرين، سواء صادف الوقوف اليوم التاسع أو غيره. قال الحافظ: ولا يخفى أن محل ذلك إذا لم يحصل تقصير في ابتغاء الهلال، وفائدة

.................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث رفع ما يقع في القلوب من شك لمن صام تسعاً وعشرين أو وقف في غير يوم عرفة، وقد استشكل بعض العلماء إمكان الوقوف في الثاني اجتهاداً وليس مشكلاً لأنه ربما ثبتت الرؤية بشاهدين لأن أول ذي الحجة الخميس مثلا فوقفوا يوم الجمعة ثم تبين أنهما شهدا زوراً - انتهى. وقال الكرماني: استشكل ذكر ذي الحجة لأنه إنما يقع الحج في العشر الأول منه فلا دخل لنقصان الشهر وتمامه، وأجيب بأنه مؤول بأن الزيادة والنقص إذا وقعا في ذي القعدة يلزم منهما نقص عشر ذي الحجة الأول أو زيادته فيقفون الثامن أو العشر فلا ينقص أجر وقوفهم عما لا غلط فيه ذكره القسطلاني. وقال الطيبي: ظاهر سياق الحديث في بيان اختصاص الشهرين بمزية ليست في سائرها ليس المراد أن ثواب الطاعة في سائرها قد ينقص دونهما فينبغي أن يحمل على الحكم ورفع الحرج والجناح عما عسى أن يقع فيه خطأ في الحكم لاختصاصهما بالعيدين وجواز احتمال وقوع الخطأ فيها، ومن ثم لم يقتصر على قوله رمضان وذو الحجة بل قال: شهرا عيد- انتهى. وقال الزين بن المنير: أقرب الأقوال إن المراد أن النقص الحسي باعتبار العدد ينجبر بأن كلا منهما شهر عيد عظيم فلا ينبغي وصفهما بالنقصان بخلاف غيرهما من الشهور. قال الحافظ: وحاصله يرجع إلى تأييد قول إسحاق وقيل: معناه لا ينقصان معاً في سنة واحدة على طريق الأكثر الأغلب، وإن ندر وقوع ذلك. وحاصله إنهما غالباً لا يجتمعان في سنة واحدة على النقص، بل إن كان أحدهما ناقصاً كان الآخر وافياً، وهذا أكثري لا كلي فقد جاء وجودهما ناقصين معاً وقيل: معناه لا ينقصان في نفس الأمر لكن ربما حال دون رؤية الهلال مانع وهذا أشار إليه ابن حبان ولا يخفى بعده وقيل معناه لا ينقصان في عام بعينه وهو العام الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم تلك المقالة، وهذا حكاه ابن بزيزة ومن قبله أبوالوليد بن رشد، ونقله المحب الطبري عن أبي بكر بن فورك وقيل: المعنى لا ينقصان في الأحكام وبهذا جزم البيهقي وقبله الطحاوي، فقال: معنى لا ينقصان إن الأحكام فيهما وإن كانا تسعة وعشرين متكاملة غير ناقصة عن حكمها إذا كانا ثلاثين وقيل: المراد أنهما في الفضل سواء لقوله في الحديث الآخر: (ما من أيام العمل فيها أفضل من عشر ذي الحجة) ، فالمعنى أنه لا ينقص ثواب العمل في أحدهما عن العمل في الآخر ويقرب منه ما ذكره الخطابي والتوربشتي من أنه أراد تفضيل العمل في عشر ذي الحجة وأنه لا ينقص في الأجر والثواب عن شهر رمضان لأن فيه المناسك والعشر وقيل: المراد إن شهرا عيد لا ينقصان عند الله أجراً وثواباً بل الأجر والثواب فيهما على الأعمال دائماً على حد واحد لا يتفاوت ذلك بالسنين والأعوام مثلاً لأن رمضان أحياناً يكون في الشتاء، وأحياناً يكون في الصيف، وكذا الحجة الخ. فبين إن الأجر في الكل سواء، وفي الحديث حجة لمن قال أن الثواب ليس مرتباً

رمضان وذو الحجة)) . متفق عليه. 1993- (5) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا أن يكون رجل كان يصوم صوماً، فليصم ذلك اليوم)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ على وجود المشقة دائماً بل لله أن يتفضل بالحق الناقص بالتام في الثواب (رمضان وذوالحجة) بدلان أو بيانان أو هما خبر مبتدأ محذوف أي أحدهما رمضان، والآخر ذوالحجة (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد (ج5 ص38و47- 48، 51) وأبوداود والترمذي وابن ماجه والطحاوي والبيهقي. 1993- قوله: (لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم) الخ وعند الإسماعيلي (لا تقدموا بين يدي رمضان بصوم) وفي رواية لأحمد (لا تقدموا قبل رمضان بصوم) ، وللترمذي في رواية (لا تقدموا شهر رمضان بصيام قبله) . قال الحافظ: أي لا يتقدم رمضان بصوم يوم يعد منه بقصد الاحتياط له فإن صومه مرتبط بالرؤية فلا حاجة إلى التكلف. قال العلماء: معنى الحديث لا تستقبلوا رمضان بصيام على نية الاحتياط لرمضان. قال الترمذي: لما أخرجه العمل على هذا عند أهل العلم كرهوا أن يتعجل الرجل بصيام قبل دخول شهر رمضان لمعنى رمضان - انتهى. وقال السيوطي: في قوت المغتذي إنما نهى عن فعل ذلك لئلا يصوم احتياطاً لاحتمال أن يكون من رمضان وهو معنى قول الترمذي لمعنى رمضان وإنما ذكر اليومين لأنه قد يحصل الشك في يومين بحصول الغيم والظلمة في شهرين أو ثلاثة فلذا عقب ذكر اليوم باليومين - انتهى. قلت: وعندي في تقييد هذا النهي بنية الاحتياط لرمضان نظر كما سيأتي (إلا أن يكون رجل) كان تامة أي إلا أن يوجد رجل قاله الحافظ (كان يصوم صوماً) أي نفلاً معتاداً كذا لأبي ذر عن الحموي والمستملي وفي رواية الكشمهيني يصوم صومه (فليصم ذلك اليوم) أي ذلك الوقت فإنه مأذون له فيه وللترمذي، وفي رواية إلا أن يوافق ذلك صوماً كان يصومه أحدكم وفي رواية للنسائي إن رجل كان يصوم صياماً أتى ذلك اليوم على صيامه، يعني آتى يوم عادته مع صيام رمضان متصلاً به وفي رواية لأحمد إلا رجل كان يصوم صياماً فليصله به. قال الخطابي: معنى الاستثناء أن يكون قد اعتاد صوم الاثنين والخميس (مثلاً) فيوافق صوم اليوم المعتاد فيصومه ولا يتعمد صومه إن لم تكن له عادة قال السندي: قوله (لا يتقدمن أحدكم رمضان) الخ أي لا يستقبلنه بصوم يوم أو يومين (يعني تعظيم لرمضان) وحمله كثير من العلماء على أن بنية رمضان أو لتكثير عدد صيامه أو لزيادة احتياطه بأمر رمضان أو على صوم يوم الشك ولا يخفى إن قوله أو يومين لا يناسب الحمل على صوم الشك إذ لا يقع الشك عادة في يومين والاستثناء بقوله (إلا أن يكون رجل) الخ لا يناسب التأويلات الأول إذ لازمه جواز صوم يوم أو يومين قبل رمضان لمن يعتاده بنية رمضان مثلاً وهذا فاسد. والوجه أن يحمل النهي

...................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ على الدوام أي لا تداوموا على التقدم لما فيه من إبهام لحوق هذا الصوم برمضان إلا لمن يعتاد المداومة على صوم آخر الشهر مثلاً فإنه لو داوم عليه لا يتوهم في صومه اللحوق برمضان والله تعالى أعلم. انتهى كلام السندي. وقال الأمير اليماني: الحديث دليل على تحريم صوم يوم أو يومين قبل رمضان. ثم ذكر كلام الترمذي المتقدم ثم قال وقوله لمعنى رمضان تقييد للنهي بأنه مشروط بكون الصوم احتياطاً، لا، لو كان الصوم صوماً مطلقاً كالنفل المطلق والنذر ونحوه، قلت: (قائله الأمير اليماني) ولا يخفى أنه بعد هذا التقييد يلزم منه جواز تقدم رمضان بأي صوم كان وهو خلاف ظاهر النهي فإنه عام لم يستثن منه إلا صوم من اعتاد صوم أيام معلومة ووافق ذلك آخر يوم من شعبان، ولو أراد صلى الله عليه وسلم الصوم المقيد بما ذكر لقال إلا متنفلاً أو نحوه هذا اللفظ، وإنما نهى عن تقدم رمضان لأن الشارع قد علق الدخول في صوم رمضان برؤية هلاله فالمتقدم عليه مخالف للنص أمراً ونهياً _ انتهى. وقال الحافظ: وفي الحديث رد على من قال بجواز صوم النفل المطلق وأبعد من قال المراد بالنهي التقدم بنية رمضان واستدل بلفظ التقدم لأن التقدم على الشيء بالشيء إنما يتحقق إذا كان من جنسه فعلى هذا يجوز الصيام بنية النفل المطلق لكن السياق يأبى هذا التأويل ويدفعه - انتهى. وقد اختلف في الحكمة في النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين فقيل: هي الخوف من أن يزاد في رمضان ما ليس منه كما نهى عن صيام يوم العيد لذلك حذراً مما وقع فيه أهل الكتاب في صيامهم، فزادوا فيه بآرائهم وأهوائهم وقيل: هي التقوى على صيام رمضان ليدخل فيه بقوة ونشاط فإن مواصله الصيام تضعف عن صيام الفرض، وفيه نظر لأن مقتضى الحديث إنه لو تقدمه بصوم ثلاثة أيام فصاعداً جاز وسنذكر ما فيه. وقيل: الحكمة فيه خشية اختلاط النفل بالفرض، وفيه نظر أيضاً لأنه يجوز لمن له عادة كما في الحديث. وقيل لزوم التقدم بين يدي الله ورسوله، فإنه عليه الصلاة والسلام قد علق الصوم بالرؤية فهو كالعلة للحكم فمن تقدمه بصوم يوم أو يومين فقد حاول الطعن في ذلك الحكم. قال الحافظ: وهذا هو المعتمد. ومعنى الاستثناء إن من كان له ورد فقد أذن له فيه لأنه اعتاده وألفه، وترك المألوف شديد وليس ذلك من استقبال رمضان في شيء ويلتحق بذلك القضاء والنذر لوجوبهما. قال بعض العلماء يستثنى القضاء والنذر بالأدلة القطعية على وجوب الوفاء بهما فلا يبطل القطعي بالظني. وفي الحديث إبطال لما يفعله الرافضة والباطنية من تقدم الصوم بيوم أو يومين قبل رؤية هلال رمضان، وزعمهم إن اللام في قوله (صوموا لرؤيته) في معنى مستقبلين لها، وذلك لأن الحديث يفيد أن اللام لا يصح حملها على هذا المعنى وإن وردت له في مواضع. ومفهوم الحديث جواز الصوم إذا كان التقدم بأكثر من يومين. وقيل: يمتد المنع لما قبل ذلك، وبه قطع

{الفصل الثاني}

متفق عليه. {الفصل الثاني} 1994- (6) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا انتصف شعبان فلا تصوموا)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ كثير من الشافعية. وأجابوا عن الحديث بأن المراد منه التقدم بالصوم، فحيث وجد منع. وإما اقتصر على يوم أو يومين لأنه الغالب ممن يقصد ذلك. وقالوا: ابتداء المنع من أول السادس عشر من شعبان لحديث أبي هريرة التالي وقال الرؤياني من الشافعية: يحرم التقدم بيوم أو يومين للحديث الذي نحن في شرحه، ويكره التقدم من نصف شعبان للحديث الآخر. وقيل: يجوز من بعد انتصافه ويحرم قبل رمضان بيوم أو يومين. أما جواز الأول فلأنه الأصل، وحديث أبي هريرة الآتي ضعيف. قال أحمد وابن معين: إنه منكر. وأما تحريم الثاني فلحديث الباب. قال الأمير اليماني: وهو جمع حسن، وقال جمهور العلماء: يجوز الصوم تطوعاً بعد النصف من شعبان وضعفوا الحديث الوارد فيه. واستدل البيهقي بحديث الباب على ضعفه. فقال الرخصة في ذلك بما هو أصح من حديث الانتصاف. وكذا صنع قبله الطحاوي واستظهر بحديث ثابت عن أنس مرفوعاً أفضل الصيام بعد رمضان شعبان، لكن إسناده ضعيف. واستظهر أيضاً بحديث عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: (هل صمت من سرر شعبان شيئاً، قال: لا، قال: فإذا أفطرت من رمضان فصم يومين) . والمراد بالسرر (بفتحتين) عند الجمهور هنا آخر الشهر سميت بذلك لاستسرار القمر فيها. وهي ليلة ثمانية وعشرين وتسع وعشرين وثلاثين. ثم جمع الطحاوى بين حديث الانتصاف وحديث التقدم بيوم أو يومين بأن حديث الانتصاف محمول على من يضعفه الصوم، وحديث التقدم مخصوص بمن يحتاط بزعمه لرمضان. قال الحافظ: وهو جمع حسن. قلت: الظاهر عندي أنه يحرم التقدم بيوم أو يومين مطلقاً إلا لمن يكون له الصوم معتاد فيأتي ذلك على صيامه فيجوز له أن يصوم ذلك، ويتقدم قبل رمضان بيوم أو يومين، وفي حكم المعتاد النذر والقضاء كما تقدم، وعلى هذا يحمل حديث السرر كما سيأتي في باب صوم التطوع. وأما حديث الانتصاف وهو حديث صحيح كما ستعرف فهو محمول على من يضعفه الصوم، أو على من صامه بلا سبب، أو على من لم يصله بما قبله أي لم يصم قبل نصف الشهر والله تعالى أعلم. وسيأتي مزيد الكلام فيه عند شرحه (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد (ج2 ص224- 281) والترمذي، وأبوداود والنسائي، وابن ماجه، والدارمي، والدارقطني والبيهقي، والطحاوي وغيرهم. 1994- قوله: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا) هذا لفظ أبي داود، وللترمذي إذا بقي نصف من

رواه أبوداود، والترمذي، وابن ماجه، والدارمي. ـــــــــــــــــــــــــــــ شعبان فلا تصوموا، وللدارمي إذا كان النصف من شعبان فامسكوا عن الصوم، وعند ابن ماجه (فلا صوم حتى يجيء رمضان) . قال ابن القطان في كتابه: روى فأمسكوا كما تقدم، وروى فكفوا (عند النسائي في الكبرى) وبين هذين اللفظين ولفظ الترمذي وأبي داود فرق، فإن هذين اللفظين لمن كان صائماً عن التمادي في الصوم. ولفظ الترمذي نهى لمن كان صائماً ولمن لم يكن صائماً عن الصوم بعد النصف ذكره الزيلعي. قال القاري: والنهي للتنزيه رحمة على الأمة أن يضعفوا عن حق القيام بصيام رمضان على وجه النشاط، وأما من صام شعبان كله فيتعود بالصوم ويزول عنه الكلفة. ولذا قيد بالإنتصاف أو نهي عنه لأنه نوع من التقدم والله أعلم. قال القاضي: المقصود استجمام من لا يقوى على تتابع الصيام فاستجب الإفطار كما استحب إفطار عرفة ليتقوى على الدعاء. فأما من قدر فلا نهي له ولذا جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الشهرين في الصوم - انتهى. قال القاري: وهو كلام حسن لكن يخالف مشهور مذهبه أن الصيام بلا سبب بعد نصف شعبان مكروه. وقال المنذري: من قال إن النهي عن الصيام بعد النصف من شعبان لأجل التقوى على صيام رمضان والاستجمام له، فقد أبعد. فإن نصف شعبان إذا أضعف كان كل شعبان أحرى أن يضعف، وقد جوز العلماء صيام جميع شعبان. وفي شرح ابن حجر المكي. قال بعض أئمتنا: يجوز بلا كراهة الصوم بعد النصف مطلقاً تمسكاً بأن الحديث غير ثابت أو محمول على من يخاف الضعف بالصوم ورده المحققون بما تقرر بأن الحديث ثابت بل صحيح، وبأنه مظنة للضعف وما نيط بالمظنة لا يشترط فيه تحققها - انتهى. (رواه أبوداود) الخ وأخرجه أيضاً أحمد والبيهقي كلهم من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة. قال الترمذي: حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه على هذا اللفظ - انتهى. وصححه ابن حبان أيضاً. وقال أحمد وابن معين: إنه منكر كما تقدم. وقال أبوداود، في سننه: وكان عبد الرحمن يعني ابن مهدي لا يحدث به. قلت: لأحمد لم قال لأنه كان عنده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصل شعبان برمضان، وقال عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلافة. قال أبوداود: وليس هذا عندي خلافة ولم يجيء به غير العلاء عن أبيه - انتهى. وقال المنذري في تلخيصه: حكى أبوداود عن الإمام أحمد أنه قال هذا حديث منكر. قال: وكان عبد الرحمن يعني ابن المهدي لا يحدث به، ويحتمل أن يكون الإمام أحمد إنما أنكره من جهة العلاء بن عبد الرحمن فإن فيه مقالاً لائمة هذا الشأن قال، والعلاء بن عبد الرحمن وإن كان فيه مقال فقد حدث عنه الإمام مالك مع شدة انتقاده للرجال وتحريه في ذلك، وقد احتج به مسلم في صحيحه، وذكر له أحاديث انفرد بها رواتها. وكذلك فعل البخاري أيضاً وللحفاظ في الرجال مذاهب فعل كل منهم ما أدى إليه اجتهاده من القبول والرد رضي الله عنهم انتهى كلام المنذري. قال شيخنا في شرح الترمذي: الحق عندي إن الحديث صحيح والله تعالى أعلم.

1995- (7) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحصوا هلال شعبان لرمضان)) رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1995- قوله: (أحصوا) بفتح الهمزة وضم الصاد المهملة أمر من الإحصاء. قال تعالى: {وأحصوا العدة} [الطلاق:1] قال القاري: والإحصاء، في الأصل العد بالحصا، أي عدوا (هلال شعبان) أي أيامه (لرمضان) أي لأجل رمضان أو للمحافظة على صوم رمضان. وقال في المفاتيح: يقال أحصى الرجل إذا علم وعد عدداً، يعني أطلبوا هلال شعبان وأعلموه وعدوا أيامه لتعلموا دخول رمضان، وقال الطيبي: الإحصاء أبلغ من العد في الضبط لما فيه من أنواع الجهد في العد. ومن ثم كنى عنه بالطاقة في قوله استقيموا ولن تحصوا- انتهى. وقال ابن حجر: أي اجتهدوا في إحصاءه وضبطه بأن تتحروا مطالعه وتتراؤا منازله لأجل تكونوا على بصيرة في إدراك هلال رمضان على حقيقة حتى لا يفوتكم منه شيء. وقال العراقي: يحتمل أن المراد أحصوا استهلاله حتى تكملوا العدة إن غم عليكم، أو المراد تحروا هلال شعبان وأحصوه لرمضان ليترتب عليه الاستكمال أو بالرؤية - انتهى. وهذا الحديث مختصر من حديث، وقد رواه الدارقطني بتمامه (ص230) فزاد ولا تخلطوا برمضان إلا أن يوافق ذلك صياماً كان يصومه أحدكم وصوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فإنها ليست تغمى عليكم العدة- انتهى. (رواه الترمذي) قال: حدثنا مسلم بن حجاج نا يحيى بن يحيى نا أبومعاوية عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة، ومسلم بن حجاج هذا هو صاحب الصحيح. قال العراقي: لم يرو الترمذي في كتابه شيئاً عن مسلم صاحب الصحيح إلا هذا الحديث وهو من رواية الأقران فإنهما اشتركا في كثير من شيوخهما - انتهى. والحديث أخرجه الحاكم (ج1 ص25) عن أبي بكر بن إسحاق الفقيه عن إسماعيل بن قتيبة عن يحيى عن أبي معاوية مختصراً. بلفظ الترمذي وأخرجه الدارقطني عن محمد بن مخلد عن مسلم بن حجاج مطولاً كما تقدم، وأخرجه البيهقي (ج4 ص206) من طريق الحاكم مختصراً، ومن طريق الدارقطني مطولاً، وصححه الحاكم ثم الذهبي على شرط مسلم. وقال الترمذي: حديث أبي هريرة لا نعرفه مثل هذا إلا من حديث أبي معادية والصحيح ما روى عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تقوموا شهر رمضان بيوم ولا يومين، وهكذا روى عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة نحو الحديث محمد بن عمرو - انتهى. وقد تعقبه شيخنا في شرح الترمذي بأن حديث أبي معاوية عن محمد بن عمرو. بلفظ أحصوا هلال شعبان. وما روى عن محمد بن عمرو بلفظ: لا تقوموا شهر رمضان الخ. حديثان يدلان على معنيين فالأول يدل على إحصاء هلال شعبان والتحفظ به. وقد روى أبوداود عن عائشة قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره- الحديث. والحديث الآخر يدل على النهي عن تقدم رمضان بيوم أو بيومين. فالظاهر أن محمد

1996- (8) وعن أم سلمة، قالت: ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان)) . رواه أبوداود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه. 1997- (9) وعن عمار بن ياسر، قال: ((من صام اليوم الذي يشك فيه ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن عمرو يروي هذين الحديثين عن أبي سلمة عن أبي هريرة فروى عنه أبومعاوية الحديث الأول، وروى عنه غيره الحديث الآخر فعلى هذا يكون الحديثان صحيحين فتفكر والله تعالى أعلم. 1996- قوله: (وعن أم سلمة) بفتح اللام أم المؤمنين (ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان) أي فإنه كان يصوم شعبان كله أو معظمه أي أكثره، وهذا لفظ الترمذي. ولأبي داود لم يكن يصوم من السنة شهراً تاماً إلا شعبان يصله برمضان. وعند النسائي في رواية ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم شهرين متتابعين إلا أنه كان يصل شعبان برمضان وله في أخرى ولابن ماجه كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصل شعبان برمضان. قال السندي: أي فيصومهما جميعاً ظاهره أنه يصوم شعبان كله كما في حديث عائشة (عند الشيخين وغيرهما) إنه كان يصوم شعبان كله لكن قد جاء من حديث عائشة أيضاً ما يدل على خلافه، فلذلك حمل على أنه كان يصوم غالبه فكأنه يصوم كله وإنه يصله برمضان - انتهى. وسيأتي بسط معنى هذا الحديث في باب صيام التطوع إن شاءالله تعالى، وسبب إيراده ههنا أنه يوهم بظاهره التعارض بينه وبين ما روى من النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، ومن النهي عن الصوم بعد نصف شعبان الأول وهذا الوهم ليس بشيء. قال الشوكاني: لا تعارض بين ما روى عنه - صلى الله عليه وسلم - من صوم كل شعبان أو أكثره، ووصله برمضان وبين أحاديث النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين. وكذا ما جاء من النهي عن صوم نصف شعبان الثاني فإن الجمع بينها ظاهر بأن يحمل النهي على من يدخل تلك الأيام في صيام يعتاده، وقد تقدم تقييد أحاديث النهي عن التقدم بقوله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يكون شيئاً يصومه أحدكم- انتهى. (رواه أبوداود الخ.) قد تقدم بيان ألفاظهم وقد أخرجه أيضاً الترمذي في شمائله والدارمي والطحاوي والبيهقي، وحسنه الترمذي وسكت عنه أبوداود والمنذري. 1997- قوله: (من صام اليوم الذي يشك) على بناء المجهول مسنداً إلى (فيه) قال الطيبي: إنما أتى بالموصول ولم يقل يوم الشك للمبالغة تنبيهاً على أن صوم يوم فيه أدنى شك سبب لعصيان صاحب الشرع فكيف بمن صام يوم أشك فيه قائم وثابت ونحوه قوله تعالى: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا} [هود:113] أي الذين أونس منهم أدنى ظلم فكيف بالظالم المستمر عليه - انتهى. قلت: الحديث رواه الحاكم ومن طريقه البيهقي بلفظ من صام يوم الشك وكذا ذكره البخاري في صحيحه تعليقاً. وقال الحافظ بعد ذكر كلام الطيبي: قلت: قد وقع في

فقد عصى أباالقاسم صلى الله عليه وسلم)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ كثير من الطريق بلفظ: يوم الشك- انتهى. والمراد من اليوم الذي يشك فيه يوم الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال في ليلته بغيم ساتر أو نحوه فيجوز كونه من رمضان وكونه من شعبان وهذا عندنا وسيأتي بيان الاختلاف في تعريفه (فقد عصى أباالقاسم - صلى الله عليه وسلم -) هو كنيته رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قيل: فائدة تخصيص ذكر هذه الكنية الإشارة إلى أنه هو الذي يقسم بين عباد الله أحكامه زماناً ومكاناً وغير ذلك. قال الحافظ: استدل به على تحريم صوم يوم الشك لأن الصحابي لا يقول ذلك من قبل رأيه فيكون من قبيل المرفوع. قال ابن عبد البر: هو مسند عندهم لا يختلفون في ذلك، وخالفهم أبوالقاسم الجوهري المالكي فقال: هو موقوف. والجواب إنه موقوف لفظاً مرفوع حكماً - انتهى. قال الخطابي في المعالم (ج2 ص99) اختلف الناس في معنى النهي عن صيام يوم الشك. فقال قوم إنما نهي عن صيامه إذا نوى به أن يكون عن رمضان. فأما من نوى به صوم يوم من شعبان فهو جائز، هذا قول مالك بن أنس والأوزاعي وأصحاب الرأي ورخص فيه على هذا الوجه أحمد وإسحاق وقالت طائفة لا يصام ذلك اليوم عن فرض ولا تطوع للنهي فيه وليقع الفصل بذلك بين شعبان ورمضان هكذا. قال عكرمة: وروى معناه عن أبي هريرة وابن عباس وكانت عائشة وأسماء تصومان ذلك اليوم وكانت عائشة تقول لأن أصوم يوماً من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوماً من رمضان. وكان مذهب عبد الله بن عمر بن الخطاب صوم يوم الشك إذا كان من ليلة في السماء سحاب أو قترة فإن كان صحواً ولم ير الناس الهلال أفطر مع الناس وإليه ذهب أحمد بن حنبل. وقال الشافعي: إن وافق يوم الشك يوماً كان يصومه صامه، وإلا لم يصمه- انتهى. وقال ابن الجوزي في التحقيق لأحمد في هذه المسألة: وهي ما إذا حال دون مطلع الهلال غيم أو قتر ليلة الثلاثين من شعبان ثلاثة أقوال: أحدها: يجب صومه على أنه من رمضان، ثانيها: لا يجوز فرضاً ولا نفلاً مطلقاً بل قضاء وكفارة ونذراً ونفلاً يوافق عادة وبه قال الشافعي. وقال مالك وأبوحنيفة: لا يجوز عن فرض رمضان ويجوز عما سوى ذلك. ثالثها: المرجع إلى رأي الإمام في الصوم والفطر كذا ذكر الحافظ في الفتح قلت: اختلف الأئمة في تعريف يوم الشك وحكم صومه وفيما إذا صامه بنية رمضان أو واجب آخر أو نية التطوع وتوضيح المقام أن السماء إذا كانت مُصْحِيةً ليلة الثلاثين من شعبان ولم يروا الهلال فصبيحة هذه الليلة هي مصداق يوم الشك في المشهور عن الإمام أحمد ولا يجوز صومه: قال ابن قدامة (ج3 ص86) إن لم يروا الهلال ليلة الثلاثين من شعبان وكانت السماء مصحية لم يكن لهم صيام ذلك اليوم إلا أن يوافق صوماً كانوا يصومونه لما روى عن أبي هريرة من النهي عن تقدم صوم رمضان بيوم أو يومين. وقال عمار: من صام اليوم الذي يشك

..................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه فقد عصى أباالقاسم - صلى الله عليه وسلم -: قال ابن قدامة: والنهي عن صوم يوم الشك محمول على حال الصحو- انتهى. وقال الحافظ في الفتح: المشهور عن أحمد إنه خص يوم الشك بما إذا تقاعد الناس عن رؤية الهلال أو شهد برؤيته من لا يقبل الحاكم شهادته، فأما إذا حال دون منظره شيء فلا يسمى شكاً- انتهى. وإن كانت السماء في ليلة الثلاثين مغيمة فعن أحمد في ذلك ثلاث روايات. قال الخرقي: إن حال دون منظره غيم أو قتر وجب صيامه، وقد أجزأ إذا كان من شهر رمضان. قال ابن قدامة: (ج3 ص89) اختلف الرواية عن أحمد في هذه المسألة فروى عنه مثل ما نقل الخرقي اختارها أكثر شيوخ أصحابنا وروى عنه أن الناس تبع للإمام، فإن صام صاموا، وإن أفطر أفطروا. وعن أحمد رواية ثالثة لا يجب صومه ولا يجزئه عن رمضان إن صامه، وهو قول أكثر أهل العلم - انتهى مختصراً. وفي الروض المربع من فروع الحنابلة إن لم ير الهلال مع الصحو ليلة الثلاثين من شعبان أصبحوا مفطرين، وكره الصوم لأنه يوم الشك المنهي عنه وإن حال دونه غيم أو قتر، فظاهر المذهب يجب صومه حكماً ظنياً احتياطاً بنية رمضان. قال في الأنصاف: وهو المذهب عند الأصحاب ونصروه وصنفوا فيه التصانيف وردواً حجج المخالف. قالوا نصوص أحمد تدل عليه - انتهى. وفي شرح الإقناع للشافعية ويكره صوم يوم الشك كراهة تنزيه. قال الأسنوي: وهو المعروف المنصوص الذي عليه الأكثرون والمعتمد في المذهب تحريمه كما في الروضة والمنهاج والمجموع إلا أن يوافق عادة له في تطوعه وله صومه عن قضاء أو نذر فلو صامه بلا سبب لم يصح كيوم العيد بجامع التحريم، فإن قيل: هلا استحب صوم يوم الشك إذا أطبق الغيم خروجاً من خلاف الإمام أحمد حيث قال بوجوب صومه حينئذٍ. أجيب بأنا لا نراعي الخلاف إذا خالف سنة صريحة، وهي ههنا خبر، إذا غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين ويوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان إذا تحدث الناس برؤيته (أي بلا ثبت) أو شهد بها عدد ترد شهادتهم كصبيان أو نساء أو عبيد أو فسقة وظن صدقهم. وإنما لم يصح صومه عن رمضان لأنه لم يثبت كونه منهم- انتهى. وقال الدردير من المالكية: وإن غيمت السماء ليلة الثلاثين ولم ير الهلال فصبيحته يوم الشك الذي نهي عن صومه على أنه من رمضان. وأما لو كانت السماء مصحية لم يكن يوم الشك لأنه إن لم ير كان من شعبان جزماً وصيم يوم الشك عادة وتطوعاً أي ابتداء بلا عادة وقضاء ولنذر صادف لا أحتياطاً على أنه إن كان من رمضان احتسب به وإلا كان تطوعاً فلا يجوز. قال الدسوقي وإذا صامه وصادف أنه من رمضان فلا يجزئه لتزلزل النية - انتهى. وعند الحنفية على المشهور في مذهبهم يوم الشك هو الثلاثين من شعبان وإن لم يكن في السماء علة من الغيم، ونحوه لعدم اعتبار اختلاف المطالع ظاهر المذهب، وجواز تحقق الرؤية في بلدة أخرى هكذا في الدر المختار وشرحه. وقال في الهداية: لا يصومون

..................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ يوم الشك إلا تطوعاً، وهذه المسألة على وجوه. أحدها: أن ينوي صوم رمضان وهو مكروه (أي تحريماً وهذا هو محمل النهي عن صوم يوم الشك عندهم) ثم إن ظهر أن اليوم من رمضان يجزئه وإن ظهر أنه من شعبان كان تطوعاً، وإن أفطر (أي أفسده) لم يقضه. والثاني: أن ينوي عن واجب آخر (كنذر وكفارة وقضاء) وهو مكروه أيضاً إلا أن هذا دون الأول في الكراهة (يعني أنه مكروه تنزيهاً) ثم إن ظهر أنه من رمضان يجزيه لأصل النية، وإن ظهر أنه من شعبان فقد قيل يكون تطوعاً، وقيل: يجزيه عن الذي نواه وهو الأصح. والثالث: أن ينوي التطوع وهو غير مكروه، والمراد بقوله - صلى الله عليه وسلم - لا تتقدموا رمضان بصوم يوم ولا بصوم يومين نهي التقدم بصوم رمضان، لأنه يؤديه قبل أوانه. ثم إن وافق صوماً كان يصومه فالصوم أفضل بالإجماع، وكذا إذا صام ثلاثة أيام من آخر الشهر فصاعداً وإن افرده، فقيل الفطر أفضل احترازاً عن ظاهر النهي. وقيل: الصوم أفضل إقتداء بعلي وعائشة فإنهما كان يصومانه. والمختار أن يصوم المفتي بنفسه أخذاً بالإحتياط ويفتي العامة بالتلوم إلى وقت الزوال ثم بالإفطار نفياً للتهمة - انتهى مختصراً. وقال السندي: حمل حديث عمار هذا علماءنا الحنفية على أن يصوم بنية رمضان شكاً أو جزماً. وأما إذا جزم بأنه نفل فلا كراهة، وبعضهم قال بالكراهة مطلقاً، والحكم بأنه عصى تغليظ على تقدير القول بالكراهة - انتهى. قلت والراجح عندي: إن يوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان إذا كانت السماء مغيمة في ليلته ولم ير الهلال أو تحدث الناس برؤيته بلا ثبت أو شهد بها من لم تقبل شهادته، ولا يجوز صومه لا بنية رمضان شكاً أو جزماً ولا بنية النفل إلا أن يوافق صوماً كان يصومه وله صومه عن قضاء أو كفارة أو نذر، وإذا صامه بنية رمضان وصادف أنه من رمضان لم يجزئه وكذا إذا صامه عن واجب آخر أو تطوعاً والله تعالى أعلم. قال الشوكاني في النيل: قد استدل بهذه الأحاديث (أي بحديث عمار، وبأحاديث الأمر بالصوم برؤية الهلال، وبأحاديث النهي عن استقبال رمضان بالصوم، وبأحاديث النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين) على المنع من صوم يوم الشك. قال: وذهب جماعة من الصحابة إلى صومه، منهم علي وعائشة وعمر وابن عمر وأنس بن مالك وأسماء بنت أبي بكر وأبوهريرة ومعاوية وعمرو بن العاص وغيرهم. وجماعة من التابعين، فذكر أسماءهم وذكر أدلة المجوزين لصومه وتكلم عليها، وليس فيها ما يفيد مطلوبهم ثم قال: قال ابن عبد البر: وممن روى عن كراهة صوم يوم الشك عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعمار بن ياسر وابن مسعود وحذيفة وابن عباس وأبوهريرة وأنس بن مالك. ثم قال والحاصل أن الصحابة مختلفون في ذلك. وليس قول بعضهم بحجة على أحد، والحجة ما جاءنا عن الشارع وقد استوفيت الكلام على هذه المسألة في الأبحاث التي كتبتها على رسالة الجلال. وقال

رواه أبوداود، والترمذي، والنسائي وابن ماجه والدارمي. ـــــــــــــــــــــــــــــ في السيل الجرار: الوارد في هذه الشريعة المطهرة الصوم للرؤية أو لكمال العدة ثم زاد الشارع هذا أيضاحاً وبياناً، فقال فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً، فهذا بمجرده يدل على المنع من صوم يوم الشك فكيف، وقد انضم إلى ذلك ما هو ثابت في الصحيحين وغيرهما من نهيه - صلى الله عليه وسلم - لأمته عن أن يتقدموا رمضان بيوم أو يومين فإذا لم يكن هذا نهياً عن صوم يوم الشك فلسنا ممن يفهم كلام العرب ولا ممن يدري بواضحة فضلاً عن غامضة: ثم انضم إلى ذلك حديث عمار فذكره وذكر تصحيحه عن الترمذي وابن خزيمة وابن حبان قلت: ولابن الجوزي تصنيف مستقل في هذه المسألة سماه "درء اللوم والضيم في صوم يوم الغيم" حكى فيه عن الصحابة الذين تقدم ذكرهم في كلام الشوكاني القول بصوم يوم الشك. قال الولي العراقي في طرح التثريب (ج4 ص110) قد رد والدي رحمه الله يعني الزين العراقي على ابن الجوزي في حكايته هذا القول عن هؤلاء الصحابة فذكره مفصلاً ثم قال: قال والدي فلم يقل به أحد من العشرة الذين ذكرهم ابن الجوزي ألا ابن عمر وأسماء وعائشة. واختلف عن أبي هريرة. قال البيهقي: ومتابعه السنة الثابتة وما عليه أكثر الصحابة وعوام أهل العلم أولى بنا - انتهى. (رواه أبوداود الخ) وأخرجه أيضاً ابن حبان وابن خزيمة والحاكم والدارقطني والطحاوي والبيهقي من طريق الحاكم وذكره البخاري في صحيحه تعليقاً بصيغة الجزم أخرجوه من رواية عمرو بن قيس الملائي عن أبي إسحاق السبيعي عن صلة بن زفر، قال: كنا عند عمار في اليوم الذي يشك فيه فأتى بشأة مصلية، فقال كلوا فتنحى بعض القوم فقال إني صائم، فقال عمار من صام الخ وقد صححه الترمذي وسكت عليه أبوداود ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره. وصححه ابن حبان وابن خزيمة. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. وقال الدارقطني: حديث صحيح ورواته كلهم ثقات. وقال العراقي في شرح الترمذي: جمع الصاعاني في تصنيف له الأحاديث الموضوعة فذكر فيه حديث عمار المذكور، وما أدري ما وجه الحكم عليه بالوضع وليس في إسناده من يتهم بالكذب وكلهم ثقات. وقال: قد كتبت على الكتاب المذكور كراسة في الرد عليه في أحاديث، منها هذا الحديث قال نعم في اتصاله نظر. فقد ذكر المزي في الأطراف أنه روى عن أبي إسحاق السبيعي أنه قال حدثت عن صلة بن زفر، لكن جزم البخاري بصحته إلى صلة، فقال في صحيحه. وقال صلة وهذا يقتضي صحته عنده. وقال البيهقي في المعرفة: إن إسناده صحيح - انتهى. وفي الباب عن أبي هريرة أخرجه البزار وفي سنده عبد الله بن سعيد المقبري وهو ضعيف. وأخرجه أيضاً الدارقطني وفي سنده الواقدي والبيهقي (ج4 ص208) وفي سنده أبوعباد وهو عبد الله بن سعيد المقبري المتقدم، وعن ابن عباس أخرجه الخطيب في تاريخه ورواه إسحاق بن راهويه فلم يجاوز به عكرمة.

1998- (10) وعن ابن عباس، قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني رأيت الهلال- يعني هلال رمضان - فقال: ((أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد أن محمداً رسول الله قال: نعم، قال: يا بلال أذن في الناس أن يصوموا غداً)) . رواه أبوداود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه والدارمي. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1998- قوله: (جاء أعرابي) أي واحد من الأعراب، وهم سكان البادية. وجاء الأعرابي من الحرة كما في رواية لأبي داود والدارقطني والحاكم (إني رأيت الهلال) وفي رواية ابن خزيمة وابن حبان إني رأيت الهلال الليلة ولابن ماجه وأبي يعلى الموصلي أبصرت الهلال الليلة، وللدارقطني والحاكم جاء ليلة هلال رمضان. وفيه دليل على أن الأخبار كاف ولا يحتاج إلى لفظ الشهادة ولا إلى الدعوى (يعني هلال رمضان) أي قال الحسن بن علي الخلال شيخ أبي داود في حديثه يعني هلال رمضان (فقال أتشهد أن لا إله إلا الله الخ.) قال ابن الملك: دل على أن الإسلام شرط في الشهادة (أذن في الناس) من الإيذان أو التأذين، والمراد مطلق النداء والأعلام أي ناد فيهم وأعلمهم (أن يصوموا غداً) وفي رواية فليصوموا غداً، وفيه دليل على العمل بخبر الواحد وقبوله في الصوم دخولا فيه. قال السندي: قبول خبر الواحد محمول على ما إذا كان بالسماء علة تمنع أبصار الهلال وقوله - صلى الله عليه وسلم - له أتشهد أن لا إلا الله تحقيق لإسلامه. وفيه أنه إذا تحقق إسلامه وفي السماء غيم يقبل خبره في هلال رمضان مطلقاً سواء كان عدلاً أم لا، حراً أم لا، وقد يقال كان المسلمون يومئذ كلهم عدولاً فلا يلزم قبول شهادة غير العدول إلا أن يمنع ذلك قوله تعالى: {وإن جاءكم فاسق بنبأ} [الحجرات:6ٍ] الآية والله تعالى أعلم. وقال المظهر: دل الحديث على أن من لم يعرف منه فسق تقبل شهادته - انتهى. وأنت تعلم إن الصحابة كلهم عدول. وقال ابن الهمام: قد يتمسك بهذا الحديث لقبول شهادة المستور لكن الحق أن لا يتمسك به بالنسبة إلى هذا الزمان لأن ذكره الإسلام بحضرته عليه الصلاة والسلام حين سأله عن الشهادتين إن كان هذا أول إسلامه فلا شك في ثبوت عدالته، لأن الكافر إذا أسلم أسلم عدلاً إلى أن يظهر خلافه منه، وإن كان أخباراً عن حاله السابق فكذلك لأن عدالته قد ثبتت بإسلامه فيجب الحكم ببيقاءها ما لم يظهر الخلاف ولم يكن الفسق غالباً على أهل الإسلام في زمانه عليه الصلاة والسلام فتعارض الغلبة ذلك الأصل، فيجب التوقف إلى ظهورها كذا في المرقاة. وقال الشوكاني: أجيب عن الاستدلال بحديث الأعرابي على عدم اشتراط العدالة بأنه أسلم في ذلك الوقت والإسلام يجب ما قبله فهو عدل بمجرد تكلمه بكلمة الإسلام، وإن لم ينضم إليها عمل في تلك الحال (رواه أبوداود الخ) وأخرجه أيضاً ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني والطبراني وأبويعلى الموصلي والبيهقي

1999- (11) وعن ابن عمر، قال: ((ترأي الناس الهلال، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم إني رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ كلهم من حديث سماك ابن حرب عن عكرمة عن ابن عباس. قال الترمذي: هذا حديث فيه اختلاف وأكثر أصحاب سماك يروونه عن عكرمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً، ورواه النسائي مسنداً ومرسلاً وذكر أن المرسل أولى بالصواب وإن سماكاً إذا تفرد بشيء لم يكن حجة، لأنه كان يلقن فليتلقن- انتهى. وقال في المرقاة: وذكر البيهقي أن الحديث جاء من طرق موصولاً، ومن طرق مرسلاً، وإن كانت طرق الاتصال صحيحة- انتهى. وقال الحافظ في بلوغ المرام: صححه ابن خزيمة وابن حبان- انتهى. وقال الحاكم: هذا الحديث صحيح قد احتج البخاري بأحاديث عكرمة، واحتج مسلم بأحاديث سماك. وقال ابن حبان: ومن زعم أن هذا الخبر تفرد به سماك وإن رفعه غير محفوظ فهو مردود بحديث ابن عمر يعني الذي يلي هذا. 1999- قوله: (تراأي الناس الهلال) قال المظهر في المفاتيح. الترائي أن يرى بعض القوم بعضاً، والمراد به ههنا إنه اجتمع الناس لطلب الهلال ورؤيته لقوله (فأخبرت) أي وحدي (إني رأيته) أي الهلال (فصام) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (وأمر الناس بصيامه) أي بصيام رمضان. وفيه دليل كحديث ابن عباس على قبول خبر الواحد في رؤية هلال شهر رمضان. قال الخطابي: وإليه ذهب الشافعي في أحد قوليه (قال النووي وهو الأصح وقال الولي العراقي: هو أشهر قولي الشافعي عند أصحابه وأصححهما لكن آخر قوليه إنه لا بد من عدلين. ففي الأم، قال الربيع قال الشافعي: بعد لا يجوز على رمضان إلا شاهدان) هو قول أحمد بن حنبل، وكان أبوحنيفة وأبويوسف يجيزان على هلال شهر رمضان شهادة الرجل الواحد العدل وإن كان عبداً، وكذلك المرأة الواحد وإن كانت أمة، ولا يجيزان في هلال الفطر إلا رجلين أو رجلاً وامرأتين وكان الشافعي لا يجيز في ذلك شهادة النساء، وكان مالك والأوزاعي وإسحاق بن راهويه (والليث والثوري والشافعي في أحد قولية) يقولان لا يقبل على هلال شهر رمضان ولا على هلال الفطر أقل من شاهدين عدلين - انتهى. قلت: مذهب الحنفية في هذه المسألة ما في الدر المختار قيل بلا دعوى وبلا لفظ أشهد وبلا حكم ومجلس قضاء. لأنه خبر لا شهادة للصوم مع علة كغيم وغبار خبر عدل ومستور لا فاسق، ولو كان العدل قنا أو أنثى أو محدوداً في قذف تاب وشرط للفطر مع العدالة والعلة نصاب الشهادة. ولفظ أشهد وعدم الحد في قذف لتعلق نفع العبد لكن لا تشترط الدعوى، وقبل بلا علة جمع عظيم يقع العلم بخبرهم (لعبد خفاءه عما سوى الواحد) وهو مفوض إلى رأي الإمام من غير تقدير بعدد- انتهى. واستدل للجمهور على قبول خبر الواحد في هلال رمضان بحديث ابن عباس المتقدم، وحديث ابن عمر ولأنه خبر عن وقت الفريضة فيما طريقة المشاهدة فقبل من واحد كالخبر بدخول وقت الصلاة، ولأنه خبر

............................... ـــــــــــــــــــــــــــــ ديني يشترك فيه المخبر. والمخبر فقبل من واحد عدل كالرواية: واستدل لمالك ومن وافقه على أنه لا يقبل في هلال رمضان إلا شهادة اثنين بما روى عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، أنه خطب في اليوم الذي شك فيه، فقال ألا إني جالست أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسألتهم، وأنهم حدثوني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وانسكوا لها فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين يوماً، فإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا أخرجه أحمد، وأخرجه النسائي ولم يقل فيه مسلمان، وأخرجه أيضاً الدارقطني وذكره الحافظ في التلخيص (ص187) ولم يذكر فيه قدحاً وقال الشوكاني في النيل والسيل: إسناده لا بأس به. واستدل لهم أيضاً بحديث أمير مكة الحارث بن حاطب قال عهد إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ننسك للرؤية فإن لم نره، وشهد شاهداً عدل نسكنا بشهادتهما أخرجه أبوداود والدارقطني. وقال هذا إسناد متصل صحيح وأجاب الجمهور عن هذين الحديثين، بأن التصريح بالاثنين غاية ما فيه المنع من قبول الواحد بالمفهوم، وحديث ابن عباس وحديث ابن عمر المذكوران يدلان على قبوله بالمنطوق، ودلالة المنطوق أرجح من دلالة المفهوم، فيجب تقديمهما. كذا قال الشيخ في شرح الترمذي. والشوكاني في السيل الجرار. وابن قدامة في المغنى (ج3 ص158) : وأما هلال شوال فلا يقبل فيه إلا شهادة اثنين عدلين في قول الفقهاء جميعهم إلا أباثور فإنه قال يقبل قول واحد وإليه ذهب ابن حزم ورجحه الشوكاني في النيل وغيره واحتج الجمهور بحديث عبد الرحمن بن زيد وحديث الحارث بن حاطب أمير مكة المتقدمين وبحديث ربعى بن حراش عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال اختلف الناس: في آخر يوم من رمضان فقدم أعرابيان فشهدا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بالله أنها رأيا الهلال أمس عشية فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس أن يفطروا. أخرجه أحمد وأبوداود وسكت عنه هو والمنذري وأخرجه الدارقطني. وقال: إسناده حسن ثابت. وقال الشوكاني: رجاله رجال الصحيح - انتهى. قالوا: هذه الأحاديث تدل على أن الأصل في أمر الهلال شهادة عدلين، وإن المدار فيه على شاهدي عدل، لكن استثنى منه هلال رمضان لحديثي ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم، فإنهما نصان في قبول شهادة العدل الواحد في رؤية هلال رمضان. واحتج لهم أيضاً بما روى الدارقطني والطبراني في الأوسط والبيهقي من طريق طاووس. قال: شهدت المدينة وبها ابن عمر وابن عباس فجاء رجل إلى واليها فشهد عنده على رؤية هلال شهر رمضان فسأل ابن عمر وابن عباس عن شهادته، فأمراه أن يجيزه. قالا: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجاز شهادة واحد على رؤية الهلال رمضان، وكان لا يجيز شهادة الإفطار إلا بشهادة رجلين. قال الدارقطني: تفرد به حفص بن عمر الأيلي وهو ضعيف الحديث - انتهى. وأما ما ذهب إليه الحنفية من الفرق بين الغيم والصحو أي باشتراط الجم الغفير في الصحو ففيه نظر، لأنه لا دليل على هذا، لا من كتاب الله ولا من سنة رسوله ولا من قول صحابي. قال السندي في حاشية النسائي: قوله فإن شهد شاهدان (في حديث

{الفصل الثالث}

رواه أبوداود، والدارمي. {الفصل الثالث} 2000- (12) عن عائشة، قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحفظ من شعبان مالا يتحفظ من غيره. ثم يصوم لرؤية رمضان، فإن غم عليه عد ثلاثين يوماً ثم صام)) . رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب) أي ولو بلا علة وإلا فمع العلة يكفي الواحد في رمضان كما تقدم (أي من حديث ابن عباس) وقد قال بهذا الإطلاق بعض المتأخرين من أصحابنا كالجمهور وهو الوجه، واشتراط الجم الغفير بلا غيم لا يخلو عن خفاء من حيث الدليل والله تعالى أعلم - انتهى. وبسط في الرد عليهم الخطابي في المعالم (ج2 ص103) وابن قدامة في المغنى (ج3 ص158) فارجع إليهما (رواه أبوداود والدارمي) وأخرجه أيضاً ابن حبان والدارقطني والحاكم والبيهقي وابن حزم، وسكت عنه أبوداود وصححه ابن حبان وابن حزم. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم وسكت عنه الذهبي. وقال النووي: إسناده على شرط مسلم. 2000- قوله: (يتحفظ من شعبان) أي يتكلف في عد أيامه لمحافظة صوم رمضان ويحصيها ولا يهملها (ما لا يتحفظ من غيره) لعدم تعلق أمر شرعي لغيره إلا شهر الحج وهو لا يحتاج إليه كل أحد في كل سنة قاله القاري (ثم يصوم لرؤية رمضان) أي إذا رؤى الهلال ليلة ثلاثين من شعبان (فإن غم عليه الهلال ليلة الثلاثين من شعبان (عد) أي شعبان (ثلاثين يوماً ثم صام) أي بعد إكمال شعبان ثلاثين يوماً (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً الحاكم والدارقطني والبيهقي كلهم من طريق معاوية بن صالح عن عبد الله بن أبي قيس عن عائشة، وقد سكت عنه أبوداود وصححه الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. وقال الحافظ في تلخيص: إسناده صحيح وفي الدراية هو على شرط مسلم. وقال الدارقطني: إسناده حسن صحيح. وقال المنذري: بعد نقل كلام الدارقطني ما لفظه، ورجال إسناده كلهم محتج بهم في الصحيحين على الاتفاق والإنفراد، ومعاوية بن صالح الحضرمي الحمصي قاضي الأندلس، وإن كان قد تكلم فيه بعضهم فقد احتج به مسلم في صحيحه. وقال البخاري: قال علي بن المديني كان عبد الرحمن بن مهدي يوثقه. وقال أحمد بن حنبل: كان ثقة. وقال أبوزرعة الرازي ثقة- انتهى. وقال ابن الجوزي: هذه عصبية من الدارقطني كان يحيى بن سعيد لا يرضى معاوية بن صالح. وقال أبوحاتم: لا يحتج به. قال في التنقيح: ليست العصبية من الدارقطني، وإنما العصبية منه فإن معاوية بن صالح ثقة صدوق وثقه أحمد وابن مهدي وأبوزرعة، واحتج به مسلم في صحيحه ولم يرو شيئاً خالف فيه الثقات وكون يحيى بن سعيد

2001- (13) وعن أبي البختري، قال: ((خرجنا للعمرة فلما نزلنا ببطن نخلة، ترآينا الهلال. فقال بعض القوم: هو ابن ثلاث، وقال بعض القوم: هو ابن ليلتين، فلقينا ابن عباس، فقلنا: إنا رأينا الهلال فقال بعض القوم: هو ابن ثلاث، وقال بعض القوم: هو ابن ليلتين، فقال: أي ليلة رأيتموه؟ قلنا: ليلة كذا وكذا. فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مدة للرؤية فهو لليلة رأيتموه)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يرضاه غير قادح فيه، فإن يحيى شرطه في الرجال، وكذلك قال لو لم أرو إلا عمن أرضى ما رويت إلا عن خمسة وقول أبي حاتم لا يحتج به غير قادح أيضاً فإنه لم يذكر السبب وقد تكررت هذه اللفظة منه في رجال كثيرين من أصحاب الصحاح الثقات الإثبات من غير بيان السبب كخالد الحذاء وغيره والله تعالى أعلم. ذكره الزيلعي (ج2 ص439) . 2001- قوله: (وعن أبي البختري) بفتح الموحدة والتاء المثناة بينهما خاء معجمة ساكنة، واسمه سعيد ابن فيروز، وهو ابن أبي عمران الطائي مولاهم الكوفي، ثقة ثبت فيه تشيع قليل، كثير الإرسال من أوساط التابعين. قال أبونعيم: مات في الجماجم سنة (83) وقال ابن سعد: قتل بُدجَيْل مع ابن الأشعث سنة (83) (ببطن نخلة) بفتح نون وسكون المعجمة غير منصرف. قال ابن حجر: قرية مشهورة شرقية مكة تسمى الآن بالمضيق (ترأينا الهلال) أي اجتمعنا لرؤيته. وقال النووي: أي تكلفنا النظر إلى جهته لنراه (هو ابن ثلاث) أي صاحب ثلاث ليال لعلوم درجته. قال السندي: وهذا بعيد إلا وأن يكون أول الشهر مشتبهاً فافهم (فلقينا) أي نحن (ابن عباس) بالنصب. قال السندي: يحتمل أن يكون مجازاً عن لقاء رسولهم. ويحتمل أنهم لقوه بعد أن أرسلوا إليه الرسول وعلى الوجهين لا منافاة بين هذه الرواية الآتية والله تعالى (أنا) أي معشر القوم (رأينا الهلال) أي مرتفعاً جداً (أي ليلة) قال القاري: بالرفع وفي نسخة صحيحة بالنصب وهو أفصح من أيّة ليلة (رأيتموه) أي الهلال فيها (ليلة كذا) أي رأيناه ليلة كذا وهو الاثنين مثلاً (وكذا) يعني عينوا الليلة التي رأوه فيها ولم يظهر لي وجه تكرير كذا (فقال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مده) . قال النووي: هكذا هو في بعض النسخ من صحيح مسلم وفي بعضها فقال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله مده (للرؤية) قال النووي: جميع النسخ من صحيح مسلم متفقة على مده من غير ألف في هذه الرواية. قال الطيبي: أي جعل مدة رمضان رؤية الهلال (فهو) أي رمضان (لليلة رأيتموه) قال ابن حجر: بإضافة ليلة إلى الجملة. قال القاري: وفي النسخ المصححة بالتنوين، ويدل عليه ما سبق من قوله،

(2) باب

وفي رواية عنه. قال: ((أهللنا رمضان ونحن بذات عرق، فأرسلنا رجلاً إلى ابن عباس يسأله، فقال ابن عباس: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تعالى قد أمده لرؤيته، فإن أغمى عليكم فأكملوا العدة)) . رواه مسلم. (2) باب ـــــــــــــــــــــــــــــ أي ليلة رأيتموه غايته أنه يقدر فيها فيهما. والمعنى رمضان حاصل لأجل رؤية الهلال في تلك الليلة ولا عبرة بكبره. وأما قول ابن حجر فهو حاصل فهو حاصل وقت ليلة الرؤية فغير صحيح لإضافة الوقت إلى الليلة وهي الوقت أيضاً - انتهى. فتأمل (وفي رواية عنه) أي عن أبي البختري (أهللنا هلال رمضان) في النهاية أهل المحرم بالحج إذ لبى ورفع صوته ومنه إهلال الهلال واستهلاله إذا رفع الصوت بالتكبير عند رؤيته - انتهى. فمعناه رأيناه هلال رمضان (ونحن بذات عرق) بكسر العين وسكون الراء. قال ابن حجر: فوق بطن نخلة بنحو يوم إذ هي على مرحلتين من مكة وبطن نخلة على مرحلة (يسأله) أي عما وقع بيننا مما تقدم (قد أمده لرؤيته) قال النووي: هكذا هو في جميع النسخ أمده بألف في أوله. قال القاضي: قال بعضهم الوجه أن يكون أّمَده بتشديد الميم من الأمَد أو أَمدَّه من الإمداد. قال القاضي والصواب عندي: بقاء الرواية على وجهها ومعناه أطال مدته إلى الرؤية (أي أطال مدة شعبان إلى رؤية هلال رمضان) يقال منه مد وأمد قال الله تعالى: {وإخوانهم يمدونهم في الغي} [الأعراف:202] قرئ بالوجهين أي يطيلون لهم. قال: وقد يكون أمده من المدة التي جعلت له. قال صاحب الأفعال: أمددتك مدة أي أعطيتكما - انتهى. قال الأبي الهاء في أمده عائد على الشهر بمعنى أن الله قد حكم بمد الشهر الأول إلى رؤية هلال الشهر الثاني (فإن أغمى عليكم) أي أخفى عليكم بنحو غيم (فأكملوا العدة) أي عدة شعبان ثلاثين يوماً كما في رواية للدارقطني. فيه أنه لا اعتبار بكبر الهلال وصغره وإنما العبرة بالرؤية أو بالكمال العدة ثلاثين. قال ابن حجر: لا ينافي هذه الرواية ما قبلها لاحتمال أنهم تراءوه بذات عرق وتنازعوا فيه فأرسلوا يسألونه فأجابهم بذلك. فلما وصلوا بطن نخلة رأوه فسألوه شفاها، فأجابهم بما يطابق الجواب الأول. وحاصلهما أنه لا بد في الحكم بدخول رمضان ليلة ثلاثي شعبان من رؤية هلاله ذكره القاري (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً الدارقطني وأخرج البيهقي الرواية الثانية. (باب) : أي في مسائل متفرقة من كتاب الصوم.

{الفصل الأول}

{الفصل الأول} 2002- (1) عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تسحروا فإن في السحور بركة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2002- قوله: (تسحروا) تفعل من السحر بفتحتين وهو قبيل الصبح والمراد الأكل في ذلك الوقت أي تناولوا شيئاً ما وقت السحر لما روى عن أنس مرفوعاً تسحروا ولو بجرعة من ماء أخرجه أبويعلى بسند ضعيف. قال الحافظ: يحصل السحور بأكل ما يتناوله المرأ من مأكول ومشروب. وقد أخرج أحمد (ج3 ص12، 44) من حديث أبي سعيد الخدري بلفظ: السحور بركة فلا تدعوه، ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء فإن الله وملائكة يصلون على المتسحرين، ولسعيد بن منصور من طريق أخرى مرسلة تسحروا ولو بلقمة- انتهى. وظاهر الأمر وجوب التسحر ولكنه صرفه عنه إلى الندب ما من مواصلته - صلى الله عليه وسلم - ومواصلة أصحابه ونقل ابن المنذر الإجماع على أن التسحر مندوب (فإن في السحور بركة) بالنصب اسم "إن" والسحور بفتح السين اسم ما يتسحر به من الطعام والشراب، وبالضم أكله أي المصدر والفعل نفسه. قال السندي: الوجهان جائزان ههنا, والبركة في الطعام باعتبار ما في أكله من الأجر والثواب والتقوية على الصوم وما يتضمنه من الذكر والدعاء في ذلك الوقت والفتح هو المشهور رواية. وقال الجزري: في النهاية أكثر ما يروي بالفتح. وقيل: الصواب بالضم لأنه المصدر والأجر في الفعل لا في الطعام يعني إن الأكل هو محل البركة لا نفس الطعام والحق جواز الوجهين كما عرفت. قال ابن دقيق العيد: البركة محتملة لأن تضاف إلى كل واحد من الفعل والمتسحر به معاً. وقال الحافظ: السحور بفتح السين وبضمها لأن المراد بالبركة الأجر والثواب فيناسب الضم لأنه مصدر بمعنى التسحر أو البركة لكونه يقوي على الصوم وينشط له ويخفف المشقة فيه فيناسب الفتح لأنه ما يتسحر به. وقيل: البركة ما يتضمن من الاستيقاظ والدعاء في السحر والأولى أن البركة في السحور تحصل بجهات متعددة وهي إتباع السنة ومخالفة أهل الكتاب والتقوى به على العبادة، والزيادة في النشاط ومدافعة سوء الخلق الذي يثيره الجوع، والتسبب بالصدقة على من يسأل إذ ذاك أو يجتمع معه على الأكل والتسبب للذكر والدعاء وقت مظنة الإجابة وتدارك نية الصوم لمن أغفلها قبل أن ينام. قال ابن دقيق العيد (ج2 ص208) هذه البركة يجوز أن تعود إلى الأمور الأخروية فإن إقامة السنة توجب الأجر وزيادته، ويحتمل أن تعود إلى الأمر الدنيوية كقوة البدن على الصوم وتيسيره من غير إضرار بالصائم. قال: ومما يعلل به استحباب السحور المخالفة لأهل الكتاب فإنه يمتنع عندهم السحور وهذا أحد الوجوه المقتضية للزيادة في الأجور الأخروية وقال (ج2 ص209- 210)

متفق عليه. 2003- (2) وعن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر)) . رواه مسلم. 2004- (3) وعن سهل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال الناس بخير ـــــــــــــــــــــــــــــ أيضاً، وللمتصوفة في هذا يعني مسألة السحور كلام من جهة اعتبار معنى الصوم. وحكمته وهي كسر شهوة البطن والفرج والسحور قد يباين ذلك. قال والصواب: أن يقال ما زاد في المقدار حتى تنعدم هذه الحكمة بالكلية لا يستحب كعادة المترفين في التأنق في المآكل والمشارب وكثرة الاستعداد لها وما لا ينتهي إلى ذلك فهو مستحب على وجه الإطلاق. وقد يختلف مراتب هذا الاستحباب باختلاف مقاصد الناس وأحوالهم واختلاف مقدار ما يستعملون- انتهى. (متفق عليه) وأخرجه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي والبيهقي. وفي الباب عن ابن مسعود وأبي هريرة عند النسائي وأبي سعيد أحمد والطبراني في الأوسط بنحو حديث أنس. 2003- قوله: (فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب) "ما" زائدة أضيف إليها الفصل بمعنى الفرق قاله القاري وقال السندي: الفصل بمعنى الفاصل و"ما" موصولة وإضافته من إضافة الموصوف إلى الصفة، أي الفارق الذي بين صيامنا وصيام أهل الكتاب (أكلة السحر) قال النووي: الأكلة بفتح الهمزة هكذا ضبطناه وهكذا ضبطه الجمهور وهو المشهور في روايات بلادنا، وهي عبارة عن المرة الواحدة من الأكل كالغدوة والعشوة، وإن كثر المأكول فيها. وأما الأكلة بالضم فهي اللقمة الواحدة، وادعى القاضي عياض أن الرواية فيه بالضم، ولعله أراد رواية فيها بالضم. قال: والصواب الفتح لأنه المقصود هنا - انتهى كلام النووي. وقال القرطبي في ضبطه: بالضم بعد لأن الأكلة بالضم هي اللقمة وليس المراد إن المتسحر يأكل لقمة واحدة. قال: ويصح أن يقال عبر عما يتسحر به باللقمة لقلته- انتهى. وقال السندي: الأكلة بالضم لا تخلوا عن إشارة إلى أنه يكفي اللقمة في حصول الفرق- انتهى. والسحر بفتحتين آخر الليل. قال التوربشتي: والمعنى إن السحور هو الفارق بين صيامنا وصيام أهل الكتاب لأن الله تعالى أباحه لنا إلى الصبح بعد ما كان حراماً علينا أيضاً في بدء الإسلام وحرمه عليهم بعد أن يناموا، أو مطلقاً، ومخالفتنا إياهم في ذلك تقع موقع الشكر لتلك النعمة (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد (ج4 ص202) والترمذي وأبوداود والنسائي والدارمي والبيهقي. 2004- قوله: (لا يزال الناس بخير) قال الحافظ: في حديث أبي هريرة يعني الآتي في الفصل الثالث لا يزال الدين ظاهراً وظهور الدين مستلزم لدوام الخير. وقال الشاه ولي الله الدهلوي: هذا إشارة إلى أن هذه المسألة

ما عجلوا الفطر)) . متفق عليه. 2005- (4) وعن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس ـــــــــــــــــــــــــــــ دخل فيها التحريف من أهل الكتاب فبمخالفتهم ورد تحريفهم قيام الملة (ما عجلوا الفطر) أي ما داموا على هذه السنة. قال السندي: أي مدة تعجيلهم "فما" ظرفية والمراد ما لم يؤخروا عن أول وقته بعد تحقق الوقت - انتهى. قال النووي: معناه لا يزال أمر الأمة منتظماً وهم بخير ماداموا محافظين على هذه السنة وإذا أخروه كان ذلك علامة على فساد يقعون فيه - انتهى. وقال الحافظ: زاد أبوذر في حديثه وأخروا السحور أخرجه أحمد "وما" ظرفية أي مدة فعلهم ذلك إمتثالاً للسنة واقفين عند حدها غير متنطعين بعقولهم ما يغير قواعدها، زاد أبوهريرة في حديثه لأن اليهود والنصارى يؤخرون أخرجه أبوداود وغيره. وتأخير أهل الكتاب له أمد وهو ظهر النجم. وقد روى ابن حبان والحاكم من حديث سهل أيضاً بلفظ: لا تزال أمتي على سنتي ما لم تنتظر بفطرها النجوم، وفيه بيان العلة في ذلك. قال المهلب: والحكمة في ذلك أن لا يزاد في النهار من الليل ولأنه أرفق بالصائم وأقوى له على العبادة. واتفق العلماء على أن محل ذلك إذا تحقق غروب الشمس بالرؤية أو بإخبار عدلين وكذا عدل واحد في الأرجح - انتهى كلام الحافظ. قال التوربشتي: ولو أن بعض الناس أخر الفطر وقصده في ذلك تأديب النفس ودفع جماحها أو مواصلة العشاءين بالنوافل غير معتقد وجوب التأخير لم يضره ذلك. قال القاري: بل يضره حيث يفوته السنة وتعجيل الإفطار بشربة ماء لا ينافي في التأديب. والمواصلة مع أن في التعجيل إظهار العجز المناسب للعبودية ومبادرة إلى قبول الرخصة من الحضرة الربوبية- انتهى. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد (ج5:ص231-234- 246-237-239) والترمذي ومالك وابن ماجه والدارمي والبيهقي، وأخرج ابن حبان وابن خزيمة والحاكم بنحوه. 2005- قوله: (إذا أقبل الليل) أي ظلامه (من ههنا) أي من جهة المشرق ففي حديث عبد الله بن أبي أوفى عند البخاري إذا رأيتم الليل أقبل من ههنا وأشارة بأصبعه قبل المشرق (وأدبر النهار) أي ضياءه فكل على حذف مضاف (من ههنا) أي من جهة المغرب (وغربت) بفتح الراء أي غابت (الشمس) أي كلها. قال الطيبي: وإنما قال غربت الشمس مع الاستغناء عنه لبيان كمال الغروب، كيلا يظن أنه يجوز الإفطار لغروب بعضها- انتهى. وقال الحافظ: ذكر في هذا الحديث ثلاثة أمور، لأنها وإن كانت متلازمة في الأصل لكنها قد تكون في الظاهر غير متلازمة، فقد يظن إقبال الليل من جهة المشرق ولا يكون إقباله حقيقة، بل لوجود أمر يغطي ضوء

فقد أفطر الصائم)) . متفق عليه. 2006 - (5) وعن أبي هريرة، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عن الوصال في الصوم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الشمس، وكذلك إدبار النهار. فمن ثم قيد بقوله "وغربت الشمس" إشارة إلى تحقق الإقبال والابادر وإنهما بواسطة غروب الشمس لا بسبب آخر (فقد أفطر الصائم) أي أنقضى صومه شرعاً وتم ولا يوصف الآن بأنه صائم فإن بغروب الشمس خرج النهار ودخل الليل والليل ليس محلاً للصوم قاله النووي. وقال الحافظ: أي دخل في وقت الفطر وجاز له أن يفطر كما يقال أنجد إذا أقام بنجد وأتهم إذا أقام بتهامة (وأصبح إذا دخل في وقت الصبح وأمسى وأظهر كذلك) . ويحتمل أن يكون معناه فقد صار مفطراً في الحكم (وإن لم يفطر حساً) لكون الليل ليس ظرفاً للصيام الشرعي. وقد رد هذا الإحتمال ابن خزيمة. وأومأ إلى ترجيح الأول (من المعنيين اللذين ذكرهما الحافظ) فقال قوله فقد "أفطر الصائم" لفظ خبر ومعناه الأمر أي فليفطر الصائم ولو كان المراد فقد صار مفطراً كان فطر جميع الصوام واحداً ولم يكن للترغيب في تعجيل الافطار معنى - انتهى. ورجح الحافظ المعنى الأول بما وقع في حديث عبد الله بن أبي أوفى عند أحمد (ج4:ص382) من طريق شعبة عن سليمان الشيباني بلفظ: إذا جاء الليل من ههنا فقد حل الافطار. وقال الطيبي: ويمكن أن يحمل الأخبار على الإنشاء إظهاراً للحرص على وقوع المأمور به. قال ابن حجر: أي إذا أقبل الليل فليفطر الصائم وذلك إن الخيرية منوطة بتعجيل الافطار فكأنه قد وقع وحصل وهو يخبر عنه (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد (ج1:ص28-35-48-54) والترمذي وأبوداود والدارمي وابن خزيمة والبيهقي (ج4:ص216-237) . 2006- قوله: (نهى عن الوصال في الصوم) هو تتابع الصوم من غير فطر بالليل. وقال الحافظ: هو الترك في ليالي الصيام لما يفطر بالنهار بالقصد فيخرج من أمسك اتفاقاً ويدخل من أمسك جميع الليل أو بعضه- انتهى. وقال الطحاوي: هو أن يصوم ولا يفطر بعد الغروب أصلاً حتى يتصل صوم الغد بالأمس والفرق بين صيام الوصال وصيام الدهر، إن من صام يومين أو أكثر ولم يفطر ليلتهما فهو مواصل، وليس هذا صوم الدهر ومن صام عمره وأفطر جميع لياله هو صائم الدهر، وليس بمواصل. فهما حقيقتان مختلفان متغائرتان. والحديث دليل على تحريم الوصال لأنه الأصل في النهى. واختلف العلماء في ذلك على أقوال كما ستعرف، وقد أبيح الوصال إلى السحر لحديث أبي سعيد عند البخاري ومسلم لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر، وفي حديث أبي سعيد هذا دليل على أن إمساك بعض الليل مواصلة واختلف العلماء في حكم الوصال بترك الافطار مطلقاً

.................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ فذهب أهل الظاهر إلى القول بتحريمه صرح به ابن حزم وصححه ابن العربي من المالكية، وللشافعية فيه وجهان، التحريم والكراهة التنزيهه، والراجح الأصح عندهم التحريم. قال ابن قدامة: ظاهر قول الشافعي أنه محرم تقريراً لظاهر النهى - انتهى. وذهب مالك وأحمد وأبوحنيفة وإتباعهم إلى أنه غير محرم بل مكروه تنزيهاً وذهب جماعة من السلف إلى جوازه مطلقاً وقيل محرم في حق من يشق عليه ويباح لمن لا يشق عليه. قال الحافظ: اختلف في المنع المذكور في أحاديث النهى عن الوصال. فقيل على سبيل التحريم. وقيل: على سبيل الكراهة. وقيل: يحرم على من شق عليه ويباح لمن لا يشق عليه، وقد اختلف السلف (أي الصحابة والتابعون) في ذلك فنقل التفصيل عن عبد الله بن الزبير وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عنه أنه كان يواصل خمسة عشر يوماً، وذهب إليه من الصحابة أيضاً أخت أبي سعيد الخدري، ومن التابعين عبد الرحمن بن أبي نعم وعامر بن الزبير وإبراهيم بن يزيد التيمي وأبوالجوزاء كما نقله أبونعيم في ترجمته في الحلية وغيرهم رواه الطبري وغيره من حجتهم في ذلك ما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه واصل بأصحابه بعد النهى لما أبو أن ينتهوا عن الوصال فواصل بهم يوماً ثم يوماً ثم رأوا الهلال. فقال: لو تأخر لزدتكم كالتنكيل لهم حين أبو أن ينتهوا، فلو كان النهى للتحريم لما أقرهم على فعله، فعلم أنه أراد بالنهى الرحمة لهم والتخفيف عنهم كما صرحت به عائشة في حديثها عند الشيخين، حيث قالت نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال رحمة لهم، وهذا مثل ما نهاهم عن قيام الليل خشية أن يفرض عليهم ولم ينكر على من بلغه أنه فعله ممن لم يشق عليه فمن لم يشق عليه ولم يقصد موافقة أهل الكتاب ولا رغب عن السنة في تعجيل الفطر لم يمنع من الوصال ويدل على أنه ليس بمحرم حديث أبي داود عن رجل من الصحابة، قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجامة والمواصلة ولم يحرمهما أبقاء على أصحابه إسناده صحيح كما قال الحافظ: وأبقاءه متعلق بقوله نهى وروى البزار والطبراني من حديث سمرة نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال وليس بالعزيمة وإسناده ضعيف كما قال الهيثمي: لكنه يصلح شاهداً للحديث السابق ومن أدلة الجواز إقدام الصحابة على الوصال بعد النهى فإن ذلك يدل على أنهم فهموا أن النهى للتنزيه لا للتحريم وإلا لما لقدموا عليه ويؤيد أنه ليس بمحرم أيضاً ما روى أحمد والطبراني وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم في تفسيريهما بإسناد صحيح إلى ليلى امرأة بشير بن الخصاصية، قالت أردت أن أصوم يومين مواصلة فمنعني بشير. وقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن هذا، وقال يفعل ذلك النصارى ولكن صوموا كما أمركم الله تعالى: {أتموا الصيام إلى الليل} [البقرة: 187] فإذا كان الليل فأفطروا لفظ ابن أبي حاتم قال الحافظ: فيه أنه - صلى الله عليه وسلم - سوى في علة النهى بين الوصال وبين تأخير الفطر حيث قال في كل منهما أنه فعل أهل الكتاب ولم يقل أحد بتحريم تأخير الفطر سوى بعض من لا يعتد به من أهل

.................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ الظاهر- انتهى. قال الشوكاني: فلا أقل من أن تكون هذه الأدلة التي ذكروها صارفة للنهى عن الوصال عن حقيقته- انتهى. قال الحافظ: ويدل على أنه ليس بمحرم من حيث المعنى ما فيه من فطم النفس عن شهواتها وقمعها عن ملذاتها فلهذا استمر على القول بجوازه مطلقاً أو مقيداً بمن لم يشق عليه من تقدم ذكره - انتهى. واحتج من ذهب إلى تحريم الوصال بما ثبت من النهى عنه في حديث أبي هريرة وحديث أنس وحديث ابن عمر وحديث عائشة متفق عليهن، فإن النهى حقيقة في التحريم. وقد تقدم الجواب عن هذا في كلام الشوكاني فتفكر. واحتجوا أيضاً بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عمر المتقدم إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا فقد أفطر الصائم إذ لم يجعل الليل محلاً لسوى الفطر، فالصوم فيه مخالفة لوضعه كيوم الفطر وأجاب هؤلاء عن قول عائشة رحمة لهم بأن هذا لا يمنع التحريم فإن من رحمته لهم إن حرمه عليهم. وأما مواصلته بأصحابه بعد نهيه فلم يكن تقريراً بل تقريعاً وتنكيلاً فاحتمل منهم ذلك لأجل مصلحة النهى في تأكيد زجرهم، لأنهم إذا باشروه ظهرت لهم حكمة النهى. وكان ذلك ادعى إلى قلوبهم لما يترتب عليهم من الملل في العبادة، والتقصير فيما هو أهم منه وأرجح من وظائف الصلاة والقراءة وغير ذلك والجوع الشديد ينافي ذلك، وقد صرح بأن الوصال يختص به لقوله: "لست في ذلك مثلكم" وقوله:"لست كهيئتكم" هذا مع ما انضم إلى ذلك من استحباب تعجيل الفطر كما تقدم كذا في الفتح والأقرب من الأقوال المذكورة عندي هو التفصيل والله تعالى أعلم. وأما الوصال إلى السحر فاختلفوا فيه أيضاً. قال مالك: أنه مكروه لعموم النهى. وقال أحمد: لا يكره بل يجوز لكن تعجيل الفطر أفضل أي ترك الوصال إلى السحر أولى ولم يتعرض له فقهاء الحنفية، والذي يظهر من كلامهم وكلام الشافعية أن الوصال إلى السحر ليس بشيء. قال الحافظ: ذهب أحمد وإسحاق وابن المنذر وابن خزيمة وجماعة من المالكية (والبخاري وطائفة من أهل الحديث) إلى جواز الوصال إلى السحر لحديث أبي سعيد المذكور، وهذا الوصال لا يترتب عليه شيء مما يترتب على غيره (أي الوصال بعدم الافطار مطلقاً) لأنه في الحقيقة بمنزلة عشاءه إلا أنه يؤخره لأن الصائم له في اليوم والليلة، أكلة فإذا أكلها في السحر كان قد نقلها من أول الليل إلى آخره وكان أخف لجسمه في قيام الليل، ولا يخفى إن محل ذلك ما لم يشق على الصائم وإلا فلا يكون قربة وانفصل أكثر الشافعية عن ذلك بأن الإمساك إلى السحر ليس وصالاً بل الوصال أن يمسك في الليل جميعه كما يمسك في النهار، وإنما أطلق على الإمساك إلى السحر وصالاً لمشابهته الوصال في الصورة. ويحتاج إلى ثبوت الدعوى بأن الوصال إنما هو حقيقة في إمساك جميع الليل. وقد ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يواصل من سحر إلى سحر أخرجه أحمد وعبد الرزاق من حديث علي، والطبراني من حديث جابر، وأخرجه سعيد بن منصور مرسلاً - انتهى. والقول الراجح عندي هو

فقال له رجل إنك تواصل يا رسول الله! قال: وأيكم مثلي إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ ما ذهب إليه أحمد والله تعالى أعلم (فقال له رجل) كذا في هذه الرواية وفي أكثر الأحاديث قالوا: بالجمع. قال الحافظ: وكأن القائل واحد، ونسب القول إلى الجميع لرضاهم به ولم أقف على تسمية القائل في شيء من الطرق (إنك تواصل يا رسول الله) أي ووصلك دال على إباحته فأجابهم صلى الله عليه وسلم بأن ذ لك من خصائصه حيث (قال وأيكم مثلي) بكسر الميم، وفي رواية لمسلم لستم في ذلك مثلي، وفي حديث أنس لست كأحد منكم، وفي حديث ابن عمر لست مثلكم، وفي حديث أبي سعيد لست كهيئتكم، قال الحافظ: بعد ذكر رواية الكتاب وهذا الاستفهام يفيد التوبيخ المشعر بالاستبعاد وقوله: "مثلي" أي على صفتي أو منزلتي من ربي (إني) استيناف مبين لنفي المساواة بعد نفيها بالاستفهام الإنكاري (أبيت) وفي حديث أنس عند البخاري في التمنى إني أظل، وهو محمول على مطلق الكون لا على حقيقة اللفظ، لأن المتحدث عنه هو الإمساك ليلاً لا، نهاراً، وأكثر الروايات إنما هو بلفظ: أبيت فكأن بعض الرواة عبر عنها بلفظ: أظل نظراً إلى اشتراكهما في مطلق الكون يقولون كثيراً أضحى فلان كذا مثلا، ولا يريدون تخصيص ذلك بوقت الضحى ومنه قوله تعالى: {وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً} [النحل:58] فإن المراد به مطلق الوقت ولا اختصاص لذلك بنهار دون ليل (يطعمني ربي) قال الطيبي: إما خبر وإما حال إن كان تامة وفي التعبير بالرب إشارة إلى خصيصة المقام بشأن الربوبية (ويسقيني) بفتح الياء ويضم، واختلف في معنى قوله: "يطعمني ويسقيني" على قولين الأول أنه على ظاهره وحقيقته وأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يؤتى بطعام وشراب من عند الله كرامة له يتناولهما في ليالي صيامه وتعقبه ابن بطال والقرطبي وابن قدامة ومن تبعهم بأنه لو كان كذلك لم يكن مواصلاً لأنه حينئذٍ يكون مفطراً وقد أقرهم على قولهم إنك تواصل وأجيب بأن ما يؤتى به الرسول على سبيل الكرامة من طعام الجنة وشرابها لا تجري عليه أحكام المكلفين فيه كما غسل صدره - صلى الله عليه وسلم - في طست الذهب، مع أن استعمال أواني الذهب الدينيوية حرام. وقال ابن المنير: الذي يفطر شرعاً إنما هو الطعام المعتاد وأما الخارق للعادة كالمحضر من الجنة فعلى غير هذا المعنى وليس تعاطيه من جنس الأعمال، وإنما هو من جنس الثواب كأكل أهل الجنة، والكرامة لا تبطل العبادة وثانيهما وهو قول الجمهور إنه مجاز واختلفوا في توجيهه على أقوال. أحدها أنه مجاز عن لازم الطعام والشراب وهو القوة فكأنه قال يعطيني قوة الآكل والشارب ويفيض علي ما يسد مسد الطعام والشراب ويقوي على أنواع الطاعات من غير ضعف في القوة ولإكلال في الأعضاء والثاني إن الله يخلق فيه من الشبع والرى ما يغنيه عن الطعام والشراب فلا يحس بجوع ولا عطش والفرق بينه وبين الأول أنه على الأول يعطى القوة من غير شبع ولا ري مع الجوع

{الفصل الثاني}

متفق عليه. {الفصل الثاني} 2007- (6) عن حفصة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يجمع الصيام ـــــــــــــــــــــــــــــ والظمأ. وعلى الثاني يعطي القوة مع الشبع والري، ورجح الأول بأن الثاني ينافي حال الصائم ويفوت المقصود من الصيام والوصال لأن الجوع هو روح هذه العبادة بخصوصها. قال القرطبي: ويبعده أيضاً النظر إلى حاله - صلى الله عليه وسلم - فإنه كان يجوع أكثر مما يشبع ويربط على بطنه الحجارة من الجوع والثالث إن المراد أنه يشغلني بالتفكر في عظمته والتملى بمشاهدته والتغذى بمعارفه وقرة العين بمحبته والاستغراق في مناجاته والإقبال عليه عن الطعام والشراب وإلى هذا جنح ابن القيم حيث قال المراد به ما يغذيه الله به من المعارف وما يفيض على قلبه من لذة مناجاته وقرة عينه بقربه وتنعمه بحبه والشوق إليه وتوابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلوب ونعيم الأرواح وقرة العين وبهجة النفوس وللروح والقلب بها أعظم غذاء وأجوده وأنفعه. وقد يقوى هذا الغذاء حتى يغنى عن غذاء الأجسام مرة من الزمان كما قيل: لها أحاديث من ذكراك تشغلها ... عن الشراب وتلهيها عن الزاد لها بوجهك نور يستضاء به ... ومن حديثك في أعقابها حاد إذا اشتكت من كلال السير أوعدها ... روح القدوم فتحيا عند ميعاد ومن له أدنى تجربة وشوق يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح عن كثير من الغذاء الحيواني، ولاسيما المسرور الفرحان الظافر بمطلوبه الذي قد قرت عينه بمحبوبه وتنعم بقربه والرضا عنه وألطف محبوبه وهداياه وتحفه تصل إليه كل وقت ومحبوبه حفى به معتز بأمره مكرم له غاية الإكرام مع المحبة التامة له أفليس في هذا أعظم غذاء لهذا المحب فكيف بالحبيب الذي لا شيء أجل منه ولا أعظم ولا أجمل ولا أكمل ولا أعظم إحساناً إذا امتلأ قلب المحب بحبه وملك حبه جميع أجزاء قلبه وجوارحه وتمكن منه حبه أعظم تمكن وهذا حاله مع حبيبه أفليس هذا المحب عند حبيبه يطعمه ويسقيه ليلاً ونهاراً- انتهى. وفي الحديث دليل على أن الوصال من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - وعلى أن غيره ممنوع منه إلا ما وقع فيه الترخيص من الإذن فيه إلى السحر. واختلف في المنع المذكور على أقوال تقدم ذكرها وبيان ما هو الراجح منها (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصيام وفي التغرير من كتاب المحاربين وفي التمنى والاعتصام ومسلم في الصيام، وأخرجه أيضاً أحمد ومالك والدارمي والبيهقي (ج4:ص282) . 2007- قوله: (من لم يجمع الصيام) بضم الياء وسكون الجيم من الإجماع. قال الخطابي، والمنذري

قبل الفجر فلا صيام له)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ والجزري: الإجماع أحكام النية والعزيمة يقال أجمعت الرأي وأزمعته وعزمت عليه بمعنى- انتهى. وهذا يدل على أن الإجماع والإزماع والعزم بمعنى واحد وهو أحكام النية. قال القاري: وقيل: الإجماع هو العزم التام وحقيقته جمع رأيه عليه- انتهى. وقال الطيبي: يقال أجمع الأمر وعلى الأمر وأزمع على الأمر وأزمعه أيضاً إذا صمم عزمه ومنه قوله تعالى: {وما كنت لديهم إذا أجمعوا أمرهم} [يوسف:112] أي أحكموه بالعزيمة حتى اجتعمت أراءهم عليه. والمعنى من لم يصمم العزم على الصوم (قبل الفجر) أي قبل الصبح الصادق وفي رواية من لم يبيت الصيام من الليل من التبييت وهو أن ينوي الصيام من الليل (فلا صيام له) فيه دليل على عدم صحة صوم من لا يبيت النية لأن الظاهر إن النفي متوجه إلى الصحة لأنها أقرب المجازين إلى الذات أو متوجه إلى نفي الذات الشرعية. قال الأمير اليماني: الحديث يدل على أنه لا يصح الصيام، إلا بتبييت النية وهو أن ينوي الصيام في أي جزء من الليل وأول وقتها الغروب وذلك لأن الصوم عمل والأعمال بالنيات وأجزاء النهار غير منفصلة من الليل بفاصل يتحقق فلا يتحقق إلا إذا كانت النية واقعة في جزء من الليل- انتهى. والحديث عام للفرض والنفل والقضاء والكفارة والنذر معيناً ومطلقاً: وفيه خلاف وتفاصيل. قال القاري: ظاهر الحديث أنه لا يصح الصوم بلا نية قبل الفجر فرضاً كان أو نفلاً، وإليه ذهب ابن عمر وجابر بن زيد ومالك والمزني وداود. وذهب الباقون إلى جواز النفل بنية من النهار وخصصوا هذا الحديث بما روى عن عائشة أنها قالت كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتيني فيقول أعندك غداء؟ فأقول لا فيقول إني صائم. وفي رواية إني أذن لصائم وإذن للاستقبال وهو جواب وجزاء- انتهى. والغداء اسم لما يؤكل قبل الزوال ومن ثمة لم تجز النية بعد الزوال ولا معه. والصحيح أن توجد النية في أكثر النهار الشرعي فيكون قبل الضحوة الكبرى. قال ابن حجر: وفي قول الشافعي وغيره إن نية صوم النفل تصح قبل الغروب لما صح عن فعل حذيفة- انتهى. قلت: هذا أحد القولين للشافعي والذي نص عليه في معظم كتبه التفرقة بين أن ينوي قبل منتصف النهار فيجزئه وبين أن ينوي بعد الزوال فلا يجزئه، وهذا هو الأصح عند الشافعية. قاله الحافظ: واتفقوا على اشتراط التبييت في فرض لم يتعلق بزمان معين كالقضاء والكفارة والنذر المطلق واختلفوا فيما له زمان معين كرمضان والنذر المعين فكذا عند الشافعي وأحمد، وعند أبي حنيفة يجوز بنية قبل نصف النهار الشرعي كذا في المرقاة. وقال ابن رشد في البداية (ج1 ص201- 202) أما اختلافهم في وقت النية فإن مالكاً رآى أنه لا يجزي الصيام إلا بنية قبل الفجر وذلك في جميع أنواع الصوم وقال الشافعي (وأحمد) : تجزي النية بعد الفجر في النافلة ولا تجزي في الفروض وقال أبوحنيفة: تجزي النية بعد الفجر في الصيام المتعلق وجوبه بوقت معين كرمضان ونذر أيام محدودة وكذلك في النافلة ولا تجزي في الواجب من الذمة. والسبب في

.................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ اختلافهم تعارض الآثار. أحدها: ما روى عن حفصة أنه قال عليه الصلاة والسلام: من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له، ورواه مالك موقوفاً. قال أبوعمر بن عبد البر: حديث حفصة في إسناده اضطراب. والثاني: ما رواه مسلم عن عائشة قالت: قال لي: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم يا عائشة! هل عندكم شيء قلت: يا رسول الله! ما عندنا شيء قال فإني صائم. فمن ذهب مذهب الترجيح أخذ بحديث حفصة ومن ذهب مذهب الجمع فرق بين الفرض والنفل أعنى حمل حديث حفصة على الفرض وحديث عائشة على النفل وإنما فرق أبوحنيفة بين الواجب المعين والواجب في الذمة لأن الواجب المعين له وقت مخصوص يقوم مقام النية في التعيين بخلاف ما ليس له وقت مخصوص فوجب التعيين بالنية - انتهى. بتغيير يسير. قلت: احتج مالك ومن وافقه بحديث حفصة فإنه عام يشمل الفرض والنافلة ورجحه المالكية بحديث إنما الأعمال بالنيات، وبالقياس على الصلاة إذ فرضها ونفلها في وقت النية سواء واحتج الجمهور لعدم وجوب التثبييت في التطوع أي لجواز النافلة بنية من النهار بحديث عائشة المتقدم، وبما روى في ذلك من آثار الصحابة والتابعين كعائشة وابن عمر وابن عباس وأنس وأبي طلحة وأبي أيوب ومعاذ بن جبل وأبي الدرداء وابن مسعود وحذيفة وابن المسيب وعطاء بن أبي باح ومجاهد والشعبي والحسن البصري. قالوا: فحديث حفصة يحمل على الفرض ويخص عموم فلا صيام له بحديث عائشة. قال ابن قدامة (ج3 ص96) صوم التطوع يجوز بنية من النهار عند إمامنا (الإمام أحمد) وأبي حنيفة والشافعي. وروى ذلك عن أبي الدرداء وأبي طلحة وابن مسعود وحذيفة وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وأصحاب الرأي. وقال مالك وداود: لا يجوز إلا بنية من الليل لحديث حفصة. ولأن الصلاة يتفق وقت النية لفرضها ونفلها وكذلك الصوم ولنا حديث عائشة (المتقدم ذكره في كلام القاري وابن رشد) وحديثهم نخصه بحديثنا على أن حديثنا أصح من حديثهم. والصلاة يتفق وقت النية لنفلها وفرضها لأن اشتراط النية في أول الصلاة لا يفضي إلى تقليلها بخلاف الصوم فإنه يعين له الصوم في النهار فعفي عنه كما لو جوزنا التنفل قاعداً وعلى الراحلة لهذه العلة - انتهى مختصراً. وأجاب المالكية ومن وافقهم عن حديث عائشة بأنه - صلى الله عليه وسلم - قد كان نوى الصوم من الليل. وإنما أراد الفطر لما ضعف عن الصوم وهو محتمل لاسيما على رواية فلقد أصبحت صائماً. وقال الأمير اليماني: حديث عائشة أعم من أن يكون بيت الصوم أولاً فيحمل على التبييت لأن المحتمل يرد إلى العام ونحوه على أن في روايات حديثها إني كنت قد أصبحت صائماً. وقال ابن حزم (ج6 ص172) ليس في هذا الحديث أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن نوى الصيام من الليل وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام لا صيام لمن لم يبيته من الليل فلم يجز أن نترك هذا اليقين لظن كاذب وأما ما روى الدارقطني (ص236) عن عائشة قالت: ربما دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغدائه فلا يجده فيفرض

.......................... ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه صوم ذلك اليوم وما روى الجصاص في أحكام القرآن (ج1 ص199) عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصبح ولم يجمع الصوم ثم يبدو له فيصوم ففيه إن في حديث عائشة ليث بن أبي سليم عن عبد الله وليث هذا اختلط بآخره ولم يتميز حديثه وعبد الله. قال الدارقطني: ليس بمعروف وفي حديث ابن عباس عمر بن هارون وهو ضعيف جداً هذا. وقال ابن قدامة: وأي وقت من النهار نوى أجزأه سواء في ذلك ما قبل الزوال وبعده هذا ظاهر كلام أحمد والخرقي وهو ظاهر قول ابن مسعود. وروى عن ابن عباس عند الطحاوي وعن حذيفة عند عبد الرزاق وابن أبي شيبة والطحاوي. واختار القاضي في المحرر أنه لا تجزئه النية بعد الزوال وهذا مذهب أبي حنيفة والمشهور من قولي الشافعي لأن معظم النهار مضى من غير نية بخلاف الناوي قبل الزوال فإنه قد أدرك معظم العبادة ولهذا تأثير في الأصول. ولنا أنه نوى في جزء من النهار فأشبه ما لو نوى في أوله إذا ثبت هذا فإنه يحكم له بالصوم الشرعي المثاب عليه من وقت النية في المنصوص عن أحمد وهو قول بعض أصحاب الشافعي. وقال أبوالخطاب في الهداية: يحكم له بذلك من أول النهار لأن الصوم لا يتبعض في اليوم - انتهى مختصراً. واحتج الحنفية لما ذهبوا إليه من أن الصوم الواجب المتعين يكفي فيه النية نهاراً بقوله تعالى: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نساءكم} إلى قوله: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} [البقرة:187] قال الكاساني: أباح للمؤمنين الأكل والشرب والجماع في ليالي رمضان إلى طلوع الفجر وأمر بالصيام عنها بعد طلوع الفجر متأخراً عنه، لأن كلمة ثم للتعقيب مع التراخي فكان هذا أمراً بالصوم متراخياً عن أول النهار. والأمر بالصوم أمر بالنية إذ لا قيمة للصوم شرعاً بدون النية فكان هذا أمراً بالصوم بنية متأخرة عن أول النهار وقد أتى به فقد أتى بالمأمور به فيخرج عن العهدة - انتهى. وقال في التلويح: (ص187) في بحث إشارة النص ومن أمثلة الإشارة قوله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} قالوا: فيه إشارة إلى جواز النية بالنهار لأن كلمة "ثم" للتراخي فإذا ابتديء الصوم بعد تبين الفجر حصلت النية بعد مضى جزء من النهار، لأن الأصل اقتران النية بالعبادة فكان موجب ذلك وجوب النية بالنهار إلا أنه جاز بالليل إجماعاً عملاً بالسنة، وصار أفضل لما فيه من المسارعة والأخذ بالاحتياط. قال الشيخ أبوالمعين إن أبا جعفر الخباز السمرقندي هو الذي استدل بالآية على الوجه المذكور أي على جواز النية بالنهار: لكن للخصم أن يقول أمر الله تعالى بالصيام بعد الانفجار، وهو أي الصوم اسم للركن لا لشرط (وهو النية فينبغي كون الركن بعد الانفجار والشرط يكون متقدماً على المشروط) وأيضاً ينبغي أن يوجد الإمساك الذي هو الصوم الشرعي عقيب آخر جزء من الليل متصلاً ليصير المأمور ممتثلاً ولا يكون الإمساك صوماً شرعياً بدون النية فلا بد منها في أول جزء من أجزاء النهار حقيقة بأن تتصل به، أو حكماً بأن تحصل في الليل وتجعل باقية إلى الآن

...................... ـــــــــــــــــــــــــــــ واحتجوا أيضاً بحديث سلمة بن الأكوع والربيع عند الشيخين إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر رجلاً، من أسلم يوم عاشوراء إن أذن في الناس من أكل فليمسك أو فليصم بقية يومه ومن لم يأكل فليصم. قالوا: فيه أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بصوم عاشوراء في أثناء النهار وكان فرضاً في يوم بعينه فدل على أن النية لا تشترط في الليل في الصوم المفروض في يوم معين، وإن من تعين عليه صوم يوم ولم ينوه ليلاً أنه يجزيه نهاراً. ومن ذلك شهر رمضان فهو فرض في أيام معينة كصوم عاشوراء إذ كان فرضاً في يوم بعينه، ومن ذلك أيضاً صوم النذر في أيام معينة. قالوا: ونسخ وجوب صوم عاشوراء لا يرفع سائر الأحكام، فبقي حكم الأجزاء بنية من النهار غير منسوخ لأن الحديث دل على شيئين. أحدهما: وجوب صوم عاشوراء. والثاني: إن الصوم الواجب في يوم بعينه يصح بنية من نهار، والمنسوخ هو الأول ولا يلزم من نسخه نسخ الثاني ولا دليل على نسخه أيضاً. وأجيب عن هذا بأنه إنما صحت النية في نهار عاشوراء لكون الرجوع إلى الليل غير مقدور. والنزاع فيما كان مقدوراً، فيخص الجواز بمثل هذه الصورة أعنى من أنكشف له في النهار إن ذلك اليوم من رمضان وكمن ظهر له وجوب الصوم عليه من النهار كالمجنون يفيق والصبي يحتلم والكافر يسلم قاله الشوكاني، وقال السندي: الحديث يقتضي أن وجوب الصوم عليهم ما كان معلوماً من الليل، وإنما علم من النهار وحينئذٍ صار إعتبار النية من النهار في حقهم ضرورياً كما إذا شهد الشهود بالهلال يوم الشك فلا يلزم جواز الصوم بنية من النهار بلا ضرورة وهو المطلوب - انتهى. قلت: وأصل هذا الجواب لابن حزم ذكره في المحلى (ج6 ص164، 166) ولابن القيم ذكره في زاد المعاد (ج1 ص171) وقيل في الجواب أيضاً إن أجزاء صوم عاشوراء بنية من النهار كان قبل فرض رمضان وقبل فرض التبييت من الليل ثم نسخ وجوب صومه برمضان وتجدد حكم وجوب التبييت وأجاب الحنفية عن حديث حفصة بوجوه أحدها: أنه اختلف في رفعه ووقفه واضطراب إسناده إضطراباً شديداً وفيه إن الرفع زيادة والزيادة من الثقة مقبولة ومجرد الاختلاف لا يوجب الاضطراب القادح كما لا يخفي. ثانيها: أنه مخصوص بالصوم الواجب الغير المتعين كقضاء رمضان والكفارة والنذر المطلق لحديث سلمة والربيع المتقدم، ولأنه لو لم يخص بذلك يلزم منه النسخ لمطلق الكتاب بخبر الواحد، فلا يجوز ذلك وقد تقدم بيانه. ثالثها: أنه محمول على نفي الكمال. قال الكاساني: أما حديث حفصة فهو من الآحاد فلا يصلح ناسخاً للكتاب لكنه يصلح مكملاً له فيحمل على نفي الكمال ليكون عملاً بالدليلين بقدر الإمكان وفيه أن حمله على نفي الكمال خلاف الظاهر فإن الظاهر أن النفي متوجه إلى نفي الصحة أو إلى نفي الذات الشرعية، ولا دليل في قوله تعالى: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث} [البقرة:187] الآية، على أجزاء صوم رمضان بنية من النهار كما تقدم. وأما حديث سلمة والربيع في صوم عاشوراء

رواه الترمذي، وأبوداود، والنسائي، والدارمي، وقال: أبوداود وقفه على حفصة معمر، ـــــــــــــــــــــــــــــ فهو وارد في صورة خاصة، أي فيمن لم ينكشف له أن اليوم يوم صوم واجب إلا في النهار فلا معارضة بين الحديثين، وقد أتضح بهذا أنه لا دليل في حديث عاشوراء على كون حديث حفصة خاصاً بالصوم الواجب الغير المتعين ولا وجه لتخصيص القضاء والنذر المطلق والكفارات بوجوب التبييت بل هو واجب في كل صوم إلا في تلك الصورة التي ذكرناها، أعنى فيمن لم ينكشف له أن اليوم من رمضان إلا في النهار وفي صوم التطوع لحديث عائشة المتقدم وهذا هو القول الراجح عندنا. ورابعها: إن معناه لا صيام لمن لم ينو أنه صائم من الليل يعني أنه نفي لصوم من نوى أنه صائم نصف اليوم مثلاً. قال صاحب الهداية: ما رواه محمول على نفي الفضيلة والكمال أو معناه لم ينو أنه صوم من الليل - انتهى. وهذا تأويل فاسد وتكلف بعيد يرده ألفاظ الحديث. وأعلم أنه في أي جزء من الليل نوى أجزأه وسواء فعل بعد النية ما ينافي الصوم من الأكل والشرب والجماع أم لم يفعل لعموم حديث حفصة وإطلاقه. واشترط بعض أصحاب الشافعي أن لا يأتي بعد النية بمناف للصوم. واشترط بعضهم وجود النية في النصف الأخير من الليل وهذا كله تحكم من غير دليل، وإن نوى من النهار صوم الغد لم تجزئه تلك النية إلا أن يستصحبها إلى جزء من الليل لظاهر حديث حفصة. ولا بد من التبييت لكل يوم لظاهر حديثها أيضاً ولأن صوم كل يوم عبادة مستقلة مسقطة لفرض يومها ويتخلل بين يومين ما ينافي الصوم ويناقضه. وبه قال أحمد والشافعي وأبوحنيفة. وقال مالك وإسحاق. تجزئه نية واحدة في أول ليلة من رمضان لجميع الشهر في حق الحاضر الصحيح ولا بدمن كون النية جازمة معينة في كل صوم واجب، وهو أن يعتقد أنه يصوم غداً من رمضان أو من قضاءه أو من كفارة أو نذر وإليه ذهب أحمد ومالك والشافعي. وقال الحنفية: لا يشترط التعيين. (رواه الترمذي وأبوداود والنسائي والدارمي) واللفظ للترمذي وأبي داود ولفظ النسائي والدارمي من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له، وفي رواية للنسائي من لم يجمع الصيام قبل طلوع الفجر فلا يصوم والحديث أخرجه أيضا ًأحمد (ج6 ص287) وابن ماجه ولفظه لا صيام لمن لم يفرضه من الليل وابن خزيمة وابن حبان والدارقطني (ص234) والبخاري في التاريخ الصغير (ص67) والطبراني والحاكم في الأربعين وابن حزم (ج6 ص162) والبيهقي (ج4 ص202) والحاوي (ج1 ص325) (وقال أبوداود) أي بعد ما رواه من طريق ابن وهب عن ابن لهيعة ويحي بن أيوب عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن الزهري عن سالم عن أبيه عن حفصة مرفوعاً. وبعد ما قال رواه الليث وإسحاق بن حازم أيضاً جميعاً عن عبد الله بن أبي بكر مثله يعني مرفوعاً كما رواه عنه ابن لهيعة ويحيى بن أيوب (وقفه على حفصة معمر) بسكون العين فتحتي الميمين وهو معمر بن راشد يكنى أبا عروة البصري الأزدي مولاهم نزيل اليمن شهد جنازة الحسن البصري روى عن الزهري وقتادة وهمام بن منبه وغيرهم، وروى عنه الثوري وابن عيينة وشعبة وغيرهم. قال الحافظ في التقريب: ثقة ثبت فاضل إلا أن في

والزبيدي، وابن عيينة، ويونس الأبلي كلهم عن الزهري. ـــــــــــــــــــــــــــــ روايته عن ثابت البناني والأعمش وهشام بن عروة شيئاً وكذا فيما حدث به بالبصرة. مات سنة (154) وهو ابن ثمان وخمسين سنة وبسط في ترجمته في تهذيب التهذيب (والزبيدي) بالزاي والموحدة مصغراً وهو محمد بن الوليد بن عامر الزبيدي أبوالهذيل الحمصي القاضي ثقة ثبت من كبار أصحاب الزهري أقام معه عشر سنين حتى احتوى على علمه وهو من الطبقة الأولى من أصحاب الزهري، وكان الأوزاعي يفضله على جميع من سمع من الزهري مات سنة ست أو سبع أو تسع وأربعين ومائة (وابن عيينة) بضم العين مصغراً وهو سفيان بن عيينة وقد تقدم ترجمته (ويونس الأبلي) بفتح الهمزة وسكون التحتانية بعدها لام منسوب إلى أيلة بلد من الشام، وهو يونس بن يزيد بن أبي النجاد يكنى أبا يزيد مولى آل أبي سفيان من رواه الستة. قال في التقريب: ثقة إلا أن في روايته عن الزهري وهماً قليلاً، وفي غير الزهري خطأ مات سنة (159) على الصحيح وقيل: سنة (160) وبسط في ترجمته في تهذيب التهذيب. وقال في مقدمة الفتح: بعد ذكر كلمات القوم فيه. قلت: وثقه الجمهور مطلقاً، وإنما ضعفوا بعض روايته حيث يخالف أقرانه ويحدث من حفظه فإذا حدث من كتابه فهو حجة. قال ابن البرقي: سمعت ابن المديني يقول أثبت الناس في الزهري مالك وابن عيينة ومعمر وزياد بن سعد ويونس من كتابه وقد وثقه أحمد مطلقاً وابن معين والعجلي والنسائي ويعقوب بن شيبة والجمهور واحتج به الجماعة - انتهى. (كلهم عن الزهري) بضم الزاي هو محمد بن مسلم بن شهاب وتقدم ترجمته. قلت: رواية الليث عند الطبراني ورواية إسحاق بن حازم عند ابن ماجه والدارقطني وروايات معمر وابن عيينة ويونس عند النسائي، وروى الدارقطني أيضاً من طريق ابن عيينة ولم أقف على من أخرجه من رواية الزبيدي. وقد بسط في ذكر الاختلاف في رفعه ووقفه وفي ذكر الاختلاف في إسناده الدارقطني في سننه والنسائي في الكبرى والمجتبى والبيهقي في سننه. وقد نقله الزيلعي في نصب الراية عن السنن الكبرى للنسائي. قال الحافظ في الفتح: اختلف في رفعه ووقفه ورجح الترمذي والنسائي الموقوف بعد أن أطنب النسائي في تخريجه وحكى الترمذي في العلل عن البخاري ترجيح وقفه وعمل بظاهر الإسناد جماعة من الأئمة فصححوا الحديث المذكور أي مرفوعاً، منهم ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وابن حزم - انتهى. وقال في الدراية (ص171) : إسناده صحيح إلا أنه اختلف في رفعه ووقفه وصوب النسائي وقفه ومنهم من لم يذكر فيه حفصة، وقد أخرجه مالك عن نافع عن ابن عمر موقوفاً وعن الزهري عن حفصة (وعائشة) موقوفاً. وقال أبوحاتم: روى عن حفصة قولها وهو عندي أشبه - انتهى. وقال في التلخيص (ص188) اختلف الأئمة في رفعه ووقفه، فقال ابن أبي حاتم عن أبيه: لا أدري أيهما أصح يعني رواية يحيى بن أيوب عن عبد الله بن أبي بكر عن الزهري عن سالم، أو رواية إسحاق بن حازم عن عبد الله بن أبي بكر عن الزهري بغير وساطة الزهري لكن الوقف أشبه. وقال أبوداود: لا يصح رفعه. وقال الترمذي: الموقوف أصح ونقل في العلل

2008- (7) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سمع النداء أحدكم والإناء في يده، ـــــــــــــــــــــــــــــ عن البخاري أنه قال هو خطأ وهو حديث فيه اضطراب والصحيح عن ابن عمر موقوف. وقال النسائي: (في الكبرى) الصواب عندي موقوف ولم يصح رفعه. وقال أحمد: ماله عندي ذلك الإسناد. وقال الحاكم في الأربعين: صحيح على شرط الشيخين. وقال في المستدرك صحيح على شرط البخاري: وقال البيهقي: رواته ثقات إلا أنه روى موقوفاً. وقال الخطابي في المعالم (ج2 ص133) أسنده عبد الله بن أبي بكر وزيادة الثقة مقبولة. وقال ابن حزم: الاختلاف فيه يزيد الخبر قوة. وقال الدارقطني. كلهم ثقات- انتهى. قلت: قال الدارقطني (ص234) رفعه عبد لله بن أبي بكر وهو من الثقات الرفعاء. وقال البيهقي (ج4 ص202) اختلف على الزهري في إسناده وفي رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وعبد الله بن أبي بكر أقام إسناده ورفعه وهو من الثقات الإثبات - انتهى. وقال ابن حزم (ج6 ص16) بعد روايته من طريق النسائي عن أحمد بن الأزهر عبد الرزاق عن ابن جريج عن الزهري عن سالم عن أبيه عن حفصة مرفوعاً ما لفظه، وهذا إسناد صحيح ولا يضر إسناد ابن جريج له، إن أوقفه معمر ومالك وعبيد الله ويونس وابن عيينة فابن جريج لا يتأخر عن أحد من هؤلاء في الثقة والحفظ والزهري واسع الرواية، فمرة يرويه عن سالم عن أبيه، ومرة عن حمزة عن أبيه وكلاهما ثقة، وابن عمر كذلك مرة رواه مسنداً ومرة روى إن حفصة أفتت به، ومرة أفتى هو به وكل هذا قوة للخبر - انتهى. وقال النووي: الحديث صحيح قال: ورواه أصحاب السنن وغيرهم بأسانيد كثيرة رفعاً ووقفاً وصحة وضعفاً لكن كثير منها صحيح معتمد عليه لأن معها زيادة علم برفعه فوجب قبوله. وقد قال الدارقطني: في بعض طرقه الموصولة رجال إسناده كلهم أجلة ثقات كذا في المرقاة. وقال الشوكاني في السيل الجرار: بعد حكاية تصحيح ابن خزيمة وابن حبان والحاكم ليس فيه علة قادحة إلا ما قيل: من الاختلاف في الرفع والوقف، والرفع زيادة. وقد صحح المرفوع هؤلاء الأئمة الثلاثة. وقال في النيل بعد ذكر كلام الحافظ السابق عن التلخيص: وقد تقرر في الأصول إن الرفع من الثقة زيادة مقبولة. وفي الباب عن عائشة عند الدارقطني وفيه عبد الله بن عباد وهو مجهول وذكره ابن حبان في الضعفاء، وعن ميمونة بنت سعد عند الدارقطني أيضاً، وفيه الواقدي كذا في التلخيص. 2008- قوله: (إذا سمع النداء) أي أذان الفجر (أحدكم) كذا في جميع النسخ الحاضرة وكذا وقع في المصابيح، وفي أبي داود إذا سمع أحدكم النداء، وهكذا وقع عند الدارقطني والحاكم والبيهقي وكذا نقله الخطابي في المعالم والجزري في جامع الأصول (ج7 ص244) والسيوطي في الجامع الصغير (والإناء) أي الذي يأكل منه أو يشرب منه يعني إناء الطعام أو الشراب وهو مبتدأ وخبره قوله (في يده) كذا في بعض النسخ من سنن

فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبي داود وفي بعضها على يده، وهكذا عند الدارقطني والحاكم والبيهقي وكذا نقله الخطابي والسيوطي والجزري والجملة حالية (فلا يضعه) أي الإناء قيل هو بالجزم نهي (حتى يقضي حاجته منه) أي بالأكل والشرب، وفيه إباحة الأكل والشرب من الإناء الذي في يده عند سماع الأذان للفجر وأن لا يضعه حتى يقضي حاجته قيل المراد بالنداء الأذان الأول أي أذان بلال قبل الفجر لقوله - صلى الله عليه وسلم - إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا وأشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم. قال البيهقي (ج4 ص218) هذا الحديث إن صح فهو محمول عند عوام أهل العلم على أنه - صلى الله عليه وسلم - علم أن المنادي كان ينادي قبل طلوع الفجر بحيث يقع شربه قبيل طلوع الفجر وقوله هذا خبر عن النداء الأول. وقال الخطابي (ج2 ص106) هذا على قوله إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا وأشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم - انتهى. وفيه أنه لا يظهر حينئذٍ فائدة التقييد بقوله والإناء في يده وقيل هو محمول على من سمع الأذان وهو يشك في طلوع الفجر وبقاء الليل ويتردد فيهما فيجوز له الأكل والشرب، لأن الأصل بقاء الليل حتى يتبين له طلوع الفجر الصادق باليقين أو بالظن الغالب وهذا عند الشافعية. قال الخطابي: أو يكون معناه أن يسمع الأذان وهو يشك في الصبح مثل أن تكون السماء متغيمة فلا يقع له العلم بأذانه إن الفجر قد طلع لعلمه إن دلائل الفجر معدومة ولو ظهرت للمؤذن لظهرت له أيضاً، فأما إذا علم إنفجار الصبح فلا حاجة به إلى أذان الصارخ: لأنه مأمور بأن يمسك عن الطعام والشراب إذا تبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر - انتهى. وقيل المقصود من الحديث إن تحريم الأكل والشرب إنما يتعلق بالفجر لا بالأذان، فإن المؤذن قد يبادر بالأذان قبل الفجر لضعف في بصره أو لشيء آخر، فلا عبرة بالأذان إذا لم يعلم بطلوع الفجر. وإنما العبرة في تحريم الأكل بالفجر لكن هذا الحكم للخواص الذين يعرفون الفجر، وأما العوام الذين لا يعرفونه فعليهم الاحتياط وقيل الحديث وارد على وفق من يقول من العلماء إن المعتبر في تحريم الأكل والشرب في الصوم هو تبين الفجر لا طلوعه، فالأذان مشروع في أول طلوع الفجر وهو ليس بمانع من الأكل والشرب. وإنما المانع تبين الفجر خلافاً لجمهور العلماء فإن المعتبر عندهم أول طلوع الفجر، ولا شك إن القول الأول أوفق والحديث مبني على الرفق، قال في فتح الودود: من يتأمل في هذا الحديث، وكذا حديث "وكلوا وأشربوا حتى يؤذن" ابن أم مكتوم، وكذا ظاهر قوله تعالى: {حتى يتبن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} [البقرة:187] يرى أن المدار هو تبين الفجر وهو يتأخر عن أوائل الفجر بشيء والمؤذن لانتظاره يصادف أوائل الفجر أي فيؤذن، فيجوز الشرب حينئذٍ إلى أن يتبن لكن هذا خلاف المشهور بين العلماء فلا اعتماد عليه عندهم - انتهى.

رواه أبوداود. 2009- (8) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله تعالى أحب عبادي إلي أعجلهم فطراً)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقيل المراد بالنداء أذان المغرب والمقصود من الحديث طلب تعجيل الفطر، أي إذا سمع أحدكم نداء المغرب، وصادف ذلك إن الإناء في يده لحاجة أخرى فليبادر بالفطر منه ولا يؤخر إلى وضعه، وبهذا يندفع قول الطيبي يشعر دليل الخطاب بأنه لا يفطر إذا لم يكن الإناء في يده، وقد سبق إن تعجيل الفطر مسنون لكن هذا من مفهوم اللقب فلا يعمل به ووجه إندفاعه إن قوله والإناء في يده ليس للتقييد بل للمبالغة في السرعة كذا نقله القاري عن ابن حجر ثم تعقبه. وقال: فالصواب إنه قيد احترازي في وقت الصبح إلى آخر ما قال وأبعد من قال إن الحديث محمول على غير حالة الصوم ولا تعلق له بالفجر ولا بالمغرب خاصة، بل هو وارد في أمر الصلاة مطلقاً كقوله - صلى الله عليه وسلم - " إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤا بالعشاء" فقد وردا على نمط واحد والمرعى فيهما قطع الشغل بغير أمر الصلاة عن بال المصلي ودفع التشويش المفضي إلى ترك الخشوع. والراجح عندي هو المعنى الثالث ثم الرابع ثم الثاني والله تعالى أعلم (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً أحمد والدارقطني (ص231) والحاكم (ج1 ص426) والبيهقي (ج4 ص218) وسكت عنه أبوداود والمنذري وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي. وفي الباب عن أبي الزبير قال سألت جابراً عن الرجل يريد الصيام، والإناء في يده يشرب منه فيسمع النداء فقال جابر: كنا نتحدث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يشرب، رواه أحمد قال الهيثمي: إسناده حسن. 2009- قوله: (أحب عبادي إلي أعجلهم فطراً) أي أكثرهم تعجيلاً في الإفطار وأسرعهم مبادرة إلى الفطر بعد تحقق غروب الشمس بالرؤية أو بإخبار من يجوز العمل بقوله. قال الطيبي: لعل السبب في هذه الأحبية المتابعة للسنة والمباعدة عن البدعة والمخالفة لأهل الكتاب - انتهى. قال القاري: وفيه إيماء إلى أن أفضلية هذه الأمة لأن متابعة الحديث توجب محبة الله تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران:31] وإليه الإشارة بالحديث الآتي: لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر الخ. وقال ابن الملك: ولأنه إذا أفطر قبل الصلاة يؤديها عن حضور القلب وطمأنينة النفس ومن كان بهذه الصفة فهو أحب إلى الله ممن لم يكن كذلك - انتهى. قال الأمير اليماني: الحديث دال على أن تعجيل الإفطار أحب إلى الله من تأخيره وإن إباحة المواصلة إلى السحر لا تكون أفضل من تعجيل الإفطار أو يراد بعبادي الذين يفطرون ولا يواصلون إلى السحر. وأما

رواه الترمذي. 2010- (9) وعن سلمان بن عامر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر، فإنه بركة، فإن لم يجد فليفطر على ماء، فإنه طهور)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه خارج عن عموم هذا الحديث لتصريحه - صلى الله عليه وسلم - بأنه ليس مثلهم كما تقدم، فهو أحب الصائمين إلى الله تعالى وإن لم يكن أعجلهم فطراً لأنه قد أذن له في الوصال ولو أياماً متصلة كما سبق (رواه الترمذي) وحسنه، وأخرجه أيضاً أحمد، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والبيهقي (ج4 ص237) . 2010 – قوله: (إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر) أي على تمرة اكتفاء بأصل السنة وإلا فأدنى كمالها ثلث كما روى أبويعلى عن أنس قال كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب أن يفطر على ثلاث تمرات أو شيء لم تصبه النار، وفيه عبد الواحد بن ثابت وهو ضعيف. وقيل: المراد جنس التمر فيصدق بالواحدة وهذا عند فقد الرطب فإن وجد فهو أفضل كما يدل عليه حديث أنس التالي. قال الشوكاني: حديثا أنس وسلمان يدلان على مشروعية الإفطار بالتمر، فإن عدم فبالماء ولكن حديث أنس فيه دليل على أن الرطب من التمر أولى من اليابس فيقدم عليه إن وجد - انتهى. والأمر للندب. قال البخاري في صحيحه: باب يفطر بما يتسير من الماء وغيره ثم ذكر حديث عبد الله بن أبي أوفى قال سرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو صائم فلما غربت الشمس قال أنزل فاجدح لنا الخ. قال الحافظ: لعل البخاري أشار إلى أن الأمر في قوله من وجد تمراً فليفطر عليه ومن لا فليفطر على الماء ليس على الوجوب وقد شذ ابن حزم فأوجب الفطر على التمر وإلا فعلى الماء - انتهى. وإنما شرع الإفطار بالتمر لأنه حلو وقوت والنفس قد تعبت بمرارة الجوع والبصر قد ضعف بالصوم والحلاء يسرع النفوذ إلى القوى لاسيما قوة الباصرة، فأمر بإزالة هذا التعب والضعف بما هو قوت وحلو. قال الشوكاني: وإذا كانت العلة كونه حلواً والحلو له ذلك التأثير فليحق به الحلويات كلها، أما ما كان أشد منه في الحلاوة فبفحوى الخطاب وما كان مساوياً له فبلحنه (فإنه بركة) أي فإن التمر ذو بركة وخير كثير أو أريد به المبالغة قاله القاري وقال الطيبي: أي فإن الإفطار على التمر فيه ثواب كثير وبركة (فإن لم يجد) أي التمر ونحوه من الحلويات (فليفطر على ماء) قراح (فإنه طهور) بفتح الطاء أي مطهر محصل للمقصود. وقال القاري: أي بالغ في الطهارة فيبتدئ به تفاؤلاً بطهارة الظاهر والباطن. وقال الطيبي أي لأنه مزيل المانع من أداء العبادة ولذا من الله تعالى على عباده {وأنزلنا من السماء ماء طهوراً} [الفرقان:48] قال ابن القيم: هذا أي الأمر بالإفطار بالتمر والماء من

رواه أحمد، والترمذي، وأبوداود وابن ماجه، والدارمي. ولم يذكر فإنه بركة غير الترمذي. في رواية أخرى. 2011- (10) وعن أنس، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفطر قبل أن يصلي على رطبات، فإن لم تكن رطبات فتميرات، فإن لم تكن تميرات ـــــــــــــــــــــــــــــ كمال شفقته - صلى الله عليه وسلم - على أمته ونصحهم، فإن إعطاء الطبيعة الشيء الحلو مع خلو المعدة إدعى إلى قبوله وانتفاع القوى به لاسيما قوة الباصرة فإنها تقوى به. وأما الماء فإن الكبد يحصل لها بالصوم نوع يبس فإن رطبت بالماء كما انتفاعها بالغذاء بعده، هذا مع ما في التمر، والماء من الخاصية التي لها تأثير في صلاح القلب لا يعلمها إلا أطباء القلوب (رواه أحمد) (ج4 ص17- 18-213- 214) (والترمذي) في الزكاة لزيادة في آخره وهي قوله، وقال الصدقة على المسكين صدقة وهي على ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة. وقد تقدم هذا في باب أفضل الصدقة والجزء الأول أخرجه أيضاً الترمذي في الصيام بدون قوله فإنه بركة (وأبوداود) الخ. وأخرجه أيضاً ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والحاكم (ج1 ص431، 432) وابن حزم (ج7 ص31) والبيهقي (ج4 ص238، 239) وحسنه الترمذي في الزكاة وصححه في الصيام وصححه أيضاً ابن خزيمة وابن حبان، وأبوحاتم الرازي، والحاكم على شرط البخاري ووافقه الذهبي وسكت عنه أبوداود. ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره، وروى ابن عدي عن عمران بن حصين بمعناه وإسناده ضعيف، وروى الترمذي والحاكم ابن خزيمة والبيهقي عن أنس مثل حديث سلمان وتكلم فيه الترمذي والبيهقي. قال الترمذي: هو حديث غير محفوظ، والصحيح حديث حفصة بنت سيرين عن الرباب عن سلمان بن عامر - انتهى. وصححه الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي (ولم يذكر) أي أحد قوله (فإنه بركة غير الترمذي) قال القاري: وفي نسخة ولم يذكروا بصيغة الجمع فغير منصوب على الاستثناء (في رواية أخرى) يعني في كتاب الزكاة. وأما في الصيام فأخرجه بدون هذه الزيادة مثل الآخرين. قال القاري: وهذا أي قوله في رواية أخرى غير موجود في أكثر النسخ. 2011- قوله: (يفطر) أي من صومه (قبل أن يصلي) أي المغرب وفيه إشارة إلى كمال المبالغة في استحباب تعجيل الفطر. وأما ما صح أن عمر وعثمان رضي الله عنهما كانا برمضان يصليان المغرب حين ينظران إلى الليل الأسود ثم يفطران بعد الصلاة، فهو لبيان جواز التأخير لئلا يظن وجوب التعجيل (على رطبات) بضم الراء وفتح الطاء (فإن لم تكن رطبات) بالرفع أي موجودة أو إن لم تحصل ولم تتيسر (فتميرات) بالتصغير وبالجر أي فيفطر على تميرات وفي نسخة بالرفع أي فتميرات عوضها قاله القاري. وهذا لفظ الترمذي،

حساً حسوات من ماء)) . رواه الترمذي، وأبوداود، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. 2012- (11) وعن زيد بن خالد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من فطر صائماً، أو جهز غازياً، فله مثل أجره)) . رواه البيهقي في شعب الإيمان، ومحي السنة في شرح السنة. وقال: صحيح. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأبي داود فعلى تمرات وكذا عند الدارقطني والحاكم (حسا) أي شرب (حسوات) بفتحتين أي شربات (من ماء) قال العلقمي: حسوات، بحاء وسين مهملتين جمع حسوة بالفتح، وهي المرة من الشرب. والحسوة بالضم الجرعة من الشراب بقدر ما يحسي - انتهى. وقال في لسان العرب: الحَسْوة، المرة الواحدة. وقيل: الحسْوة والحسُوة لغتان. قال ابن السكيت: حَسَوْت شربت حسواً وحساء والحسوة ملء الفم - انتهى. والحديث دليل على استحباب الافطار بالرطب فإن عدم فبالتمر فإن عدم فبالماء، قال: وقول من قال السنة بمكة تقديم ماء زمزم على التمر أو خلطه به فمردود بأنه خلاف الإتباع، وبأنه - صلى الله عليه وسلم - صام عام الفتح أياماً كثيرة ولم ينقل أنه خالف عادته التي هي تقديم التمر على الماء. ولو كان لنقل - انتهى. (رواه الترمذي وأبوداود) وأخرجه أيضاً أحمد والدارقطني (ص240) والحاكم (ج1 ص432) وابن حزم (ج7 ص31) من طريق أبي داود والبيهقي (ج4 ص239) (وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب) وسكت عليه أبوداود والحاكم والذهبي وصححه الدارقطني. وقال المنذري: بعد نقل كلام الترمذي. وقال أبوبكر البزار: وهذا حديث لا يعلم رواه عن ثابت عن أنس إلا جعفر بن سليمان وذكره ابن عدي أيضاً في أفراد جعفر عن ثابت - انتهى. قلت: جعفر هذا صدوق زاهد حسن الحديث لكنه كان يتشيع. 2012- قوله: (وعن زيد بن خالد) أي الجهني (من فطر صائماً) من التفطير وهو جعل أحد مفطراً أي من أطعم صائماً عند إفطاره (أو جهز غازياً) من التجهيز أي هيأ أسباب سفره وأعطاه ما يحتاج إليه في غزوه من السلاح والفرس والنفقة. قال السندي: تجهيز الغازي تحميله وإعداد ما يحتاج إليه في غزوه (فله) أي لمن فطر أو جهز (مثل أجره) أي الصائم أو الغازي، و"أو" للتنويع وهذا الثواب لأنه من باب التعاون على البر والتقوى. قال الطيبي: نظم الصائم في سلك الغازي لانخراطهما في معنى المجاهدة مع أعداء الله. وقدم الجهاد الأكبر - انتهى. قيل: والمراد مثل أجره كماً، لا كيفاً وزاد في رواية غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئاً (رواه البيهقي في شعب الإيمان ومحي السنة) أي صاحب المصابيح (في شرح السنة وقال صحيح) قال الجزري: ورواه النسائي بلفظه جملة والترمذي وابن ماجه مقطعاً. وقال الترمذي: في كل منهما حسن صحيح كذا في المرقاة وقال المنذري في الترغيب: عن زيد بن خالد الجهني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من فطر صائماً كان له مثل

2013- (12) وعن ابن عمر، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أفطر قال: ((ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله)) . رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء، رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما. وقال الترمذي: حديث صحيح، ولفظ ابن خزيمة والنسائي من جهز غازياً أو جهز حاجاً أو خلفه في أهله أو فطر صائماً كان له مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء - انتهى. قلت: الحديث أخرجه أيضاً أحمد (ج4 ص114- 115- 116 وج5 ص192) والبيهقي (ج4 ص240) مطولاً ومختصراً بألفاظ، وأخرجه الدارمي مقطعاً في الصيام والجهاد، وكذا الترمذي وابن ماجه. وأخرج النسائي في الجهاد من المجتبى تجهيز الغازي فقط، ولم يخرج في الصيام أصلاً ولعله أخرجه في الكبرى. قال ميرك: بعد نقل السياقين المذكورين عن الترغيب وكأن المصنف أي صاحب المشكاة لم يقف على هذين الطريقين فعزا الحديث إلى البيهقي وشرح السنة والعزو إلى أصحاب السنن أولى وأصوب والله أعلم - انتهى. وتعقبه القاري فقال: وفيه أنه إنما نسب إليهما لأن لفظهما مغاير للفظ الطريقين فإن الأول مختصر، والثاني مطول مع قطع النظر عن ومخالفة بقية الألفاظ - انتهى. فتأمل. 2013 – قوله: (إذا أفطر) من صومه (قال) أي بعد الإفطار (ذهب الظمأ) بفتحتين فهمز أي العطش أو شدته. قال النووي: في الأذكار الظمأ مهموز الآخر مقصور وهو العطش، وإنما ذكرت هذا وإن كان ظاهراً لأني رأيت من اشتبه عليه فتوهمه ممدوداً - انتهى. وفيه أنه قريء لا يصيبهم ظمأ بالمد والقصر. وفي القاموس ظمى، كفرح ظمأ وظماءً وظماءةً عطش أو أشد العطش ولعل كلام النووي محمول على أنه خلاف الرواية لا أنه غير موجود في اللغة قاله القاري (وابتلت العروق) أي صارت رطبة بزوال اليبوسة الحاصلة بالعطش، قيل: لم يقل وذهب الجوع لأن أرض الحجاز حارة فكانوا يصبرون على قلة الطعام لا العطش (وثبت الأجر) أي زال التعب وحصل الثواب. قال الطيبي: ذكر ثبوت الأجر بعد زوال التعب استلذاذ أي استلذاذ ونظيره قوله تعالى حكاية عن أهل الجنة {الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور} [فاطر:34] – انتهى. (إن شاء الله) ثبوته بأن تقبل الصوم وتولى جزاءه بنفسه كما وعد. وقال القاري: قوله: "إن شاء الله" متعلق بالأخير على سبيل التبرك ويصح التعليق لعدم وجوب الأجر عليه تعالى رداً على المعتزلة، ويمكن أن يكون إن بمعنى إذ فتتعلق بجميع ما سبق (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً الدارقطني (ص240) والحاكم (ج1 ص422) وابن السني (ص153) والبيهقي (ج4 ص239) وسكت عنه أبوداود والمنذري وحسنه الدارقطني وصححه الحاكم وأقره الذهبي: قال الجزري في جامع الأصول: (ج7 ص248) زاد رزين الحمد لله في أول الحديث.

2014- (13) وعن معاذ بن زهرة، قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم -: كان إذا أفطر قال: ((اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت)) . رواه أبوداود مرسلاً. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2014- قوله: (وعن معاذ) بضم الميم (بن زهرة) بضم الزاي وسكون الهاء ويقال معاذ أبوزهرة. قال في التقريب: مقبول من أوساط التابعين أرسل حديثاً فوهم من ذكره في الصحابة. وقال في تهذيب التهذيب معاذ بن زهرة ويقال معاذ أبوزهرة الضبى تابعي أرسل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في القول عند الإفطار، وعنه حصين بن عبد الرحمن وذكره ابن حبان في الثقات، قلت (قائله الحافظ) والذي ذكره بلفظ الكنية البخاري في التاريخ وتبعه ابن أبي حاتم، والذي ذكر أن زهرة اسم والده هو الذي وقع في السنن لأبي داود، وفي المراسيل لكن وقع عنده عن معاذ بن زهرة أنه بلغه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد أخرج ابن السني - الحديث. (ص153) من وجه آخر عن حصين بلفظ آخر. ولم يقل في سياقه أنه بلغه (قال إن النبي - صلى الله عليه وسلم -) كذا في جميع النسخ الحاضرة وفي السنن لأبي داود عن معاذ بن زهرة أنه بلغه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (كان إذا أفطر قال) أي دعا. وقال ابن الملك: أي قرأ بعد الإفطار (اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت) قال المظهر. يعني لم يكن صومي رياء بل كان خالصاً لك لأنك الرازق فإذا أكلت رزقك ولا رازق غيرك فلا ينبغي العبادة لغيرك. وقال الطيبي: قدم الجار والمجرور في القرينتين على العامل دلالة على الاختصاص إظهار للاختصاص في الافتتاح، وإبداء لشكر الصنيع المختص به في الاختتام (رواه أبوداود مرسلاً) في السنن وفي المراسيل لكن وقع عنده هكذا عن معاذ ابن زهرة أنه بلغه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - الخ وتسميته مرسلاً لا يخلو عن خفاء لأن قول معاذ التابعي بلغه يقتضي ثبوت مبلغ، ويحتمل أن يكون واحداً فهو حينئذٍ متصل في إسناده مجهول فتأمل، وأخرجه ابن السني (ص53) بلفظ كان إذا أفطر قال الحمد لله الذي أعانني فصمت ورزقني فأفطرت وليس في سياقه قوله إنه بلغه. وأخرجه البيهقي (ج4 ص239) من طريق أبي داود بسياقه سواء. قال ابن حجر: وهو مع إرساله حجة في مثل ذلك على أن الدارقطني والطبراني روياه عن ابن عباس بسند متصل لكنه ضعيف وهو حجة أيضاً. قال القاري: وأما ما اشتهر على الألسنة اللهم لك صمت وبك آمنت وعلى رزقك أفطرت فزيادة. "وبك آمنت" لا أصل لها وإن كان معناها صحيحاً، وكذا زيادة "وعليك توكلت لصوم غد نويت" بل النية باللسان من البدعة الحسنة - انتهى. قلت لا أصل للنية باللسان للصوم وكذا للصلاة لا من كتاب ولا من سنة ولا من صحابي بل هو مجرد رأي، فهي بدعة شرعية، وكل بدعة شرعية سيئة فيتعين تركها، وحديث ابن عباس أخرجه ابن السني أيضاً وفي الباب عن أنس أخرجه الطبراني في الأوسط، وهو أيضاً ضعيف. ويكون هو وحديث ابن عباس شاهداً لحديث معاذ يقوى بهما.

{الفصل الثالث}

{الفصل الثالث} 2015- (14) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر. لأن اليهود والنصارى يؤخرون)) . رواه أبوداود، وابن ماجه. 2016- (15) وعن أبي عطية، قال: دخلت أنا ومسروق على عائشة، فقلنا: يا أم المؤمنين! رجلان ـــــــــــــــــــــــــــــ 2015- قوله: (لا يزال الدين ظاهراً) أي غالباً وعالياً ولابن ماجه لا يزال الناس بخير (ما عجل الناس الفطر) أي مدة تعجيلهم الفطر. قال القاري: وسببه والله تعالى أعلم إن هذه الملة الحنيفية سمحاء سهلة ليس فيها حرج فيسهل قيامهم بها والمداومة عليها بخلاف أهل الكتاب فإنهم شدوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فغلبوا ولم يقدروا أن يقيموا الدين- انتهى. (لأن اليهود والنصارى يؤخرون) أي الفطر إلى اشتباك النجوم وتبعهم الرافضة في زماننا. قال السندي: هذا تعليل لما ذكر بأن فيه مخالفة لأعداء الله فما داموا يراعون مخالفة أعداء الله تعالى ينصرهم الله ويظهر دينهم. وقال الطيبي: في هذا التعليل دليل على أن قوام الدين الحنيف على مخالفة الأعداء من أهل الكتاب، وإن في موافقتهم تلفاً للدين قال تعالى: {يآيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم} [المائدة:51] (رواه أبوداود وابن ماجه) واللفظ لأبي داود وأخرجه أيضاً ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم (ج1 ص431) والبيهقي (ج4 ص237) وسكت عنه أبوداود والمنذري. وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم وأقره الذهبي ونقل السندي عن الزوائد إن إسناده صحيح على شرط الشيخين. وقال المنذري: وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث سهل بمن سعد بنحوه - انتهى. 2016- قوله: (وعن أبي عطية) بفتح العين وكسر طاء وشدة ياء، هو أبوعطية الوادعي الهمداني الكوفي واسمه مالك بن عامر أو ابن أبي عامر أو ابن عوف. وقيل: ابن حمزة. وقيل: ابن أبي حمزة. وقيل: اسمه عمرو بن جندب. ويقال: ابن أبي جندب. وقيل: إنهما اثنان روى عن ابن مسعود وأبي موسى وعائشة ومسروق بن الأجدع وعنه عمارة بن عمير والأعمش وآخرون ثقة من كبار التابعين وثقة ابن معين وأبوداود وابن سعد وابن حبان شهد مشاهد على ومات في ولاية عبد الملك. وقيل: في ولاية مصعب على الكوفة. وقال في التقريب: مات في حدود السبعين (ومسروق) أي ابن الأجدع وتقدم (رجلان) مبتدأ

من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: أحدهما: يعجل الإفطار ويعجل الصلاة، والآخر: يؤخر الإفطار ويؤخر الصلاة. قالت: أيهما يعجل الإفطار ويعجل الصلاة؟ قلنا: عبد الله بن مسعود، قالت: هكذا صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والآخر أبوموسى)) . رواه مسلم. 2017- (16) وعن العرباض بن سارية، قال: دعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السحور في رمضان، فقال: ((هلم إلى الغداء المبارك)) . رواه أبوداود، والنسائي. ـــــــــــــــــــــــــــــ (من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -) صفة وهي مسوغة لكون المبتدأ نكرة والخبر جملة قوله (أحدهما يعجل الإفطار ويعجل الصلاة) أي صلاة المغرب (والآخر يؤخر الإفطار ويؤخر الصلاة) أي يختار تأخيرهما والظاهر إن الترتيب الذكرى يفيد الترتيب الفعلى في العملين (والآخر أبوموسى) قال الطيبي: الأول عمل بالعزيمة والسنة والثاني بالرخصة - انتهى. قال القاري: وهذا إنما يصح لو كان الاختلاف في الفعل فقط. أما إذا كان الاختلاف قولياً فيحمل على أن ابن مسعود اختار المبالغة في التعجيل وأبوموسى اختار عدم المبالغة فيه، وإلا فالرخصة متفق عليها عند الكل والأحسن أن يحمل عمل ابن مسعود على السنة وعمل أبي موسى على بيان الجواز كما سبق من عمل عمر وعثمان رضي الله عنهما - انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً الترمذي وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج4 ص237) . 2017- قوله: (وعن العرباض) بكسر العين المهملة وسكون الراء وبالموحدة والضاد المعجمة (إلى السحور) بفتح السين ويجوز ضمها (فقال) عطف أو تفسير وبيان (هلم) أي تعالى وفيه لغتان فأهل الحجاز يطلقونه على الواحد. والجمع والاثنين بلفظ: واحد مبني على الفتح وبنو تميم تثني وتجمع وتؤنث فتقول هلم وهلمي وهلما وهلموا قاله الجزري في النهاية. ونزل القرآن بلغة الحجاز {قل لهم هلم شهداءكم الذين يشهدون إن الله حرم هذا} أي أحضروهم وقال: {والقائلين لإخوانهم هلم إلينا} (إلى الغداء المبارك) بفتح الغين المعجمة والدال المهملة والمد وهو طعام يؤكل أول النهار سمي به السحور لأنه للصائم بمنزلته للمفطر. وقال الخطابي (ج2 ص104) إنما غداء لأن الصائم يتقوى به على صيام النهار فكأنه قد تغدي. والعرب تقول غدا فلان لحاجته إذا بكر فيها وذلك من لدن وقت السحر إلى طلوع الشمس (رواه أبوداود والنسائي) واللفظ لأبي داود ولفظ النسائي عن العرباض قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يدعو إلى السحور في شهر رمضان قال: هلموا إلى الغداء المبارك والحديث أخرجه أيضاً أحمد (ج4 ص126) وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والبيهقي

(3) باب تنزيه الصوم

2018- (17) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نعم سحور المؤمن التمر)) . رواه أبوداود. (3) باب تنزيه الصوم ((الفصل الأول)) 2019- (1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يدع قول الزور ـــــــــــــــــــــــــــــ (ج4 ص236) كلهم عن الحارث بن زياد عن أبي رهم عن العرباض والحارث لم يرو عنه غير يونس بن سيف الكلاعي. وقال أبوعمر النمري: الحارث هذا مجهول يروي عن أبي رهم حديثه منكر كذا ذكره المنذري في مختصر السنن وفي الترغيب. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب: الحارث بن زياد شامي أخرج له أبوداود والنسائي حديثاً واحداً في الصوم ذكره ابن حبان في ثقات التابعين. وقال أدرك أباأمامة. قال الحافظ: وقرأت بخط الذهبي في الميزان مجهول وشرطه أن لا يطلق هذه اللفظة إلا إذا كان أبوحاتم الرازي قالها والذي قال أبوحاتم أنه مجهول آخر غيره فيما يظهر لي. نعم، قال أبوعمر بن عبد البر: في صاحب هذه الترجمة مجهول حديثه منكر - انتهى. وقال في التقريب: الحارث بن زياد الشامي لين الحديث. 2018- قوله: (نعم سحور المؤمن) بفتح السين لا غير (التمر) أي فإن التسحر به بركة عظيمة وثواباً كثيراً فيطلب تقديمه في السحور وكذا في الفطور إن لم يوجد رطب وإلا فهو أفضل في زمنه. قال الطيبي: وإنما مدح التمر في هذا الوقت؛ لأن في نفس السحور ببركة وتخصيصه بالتمر بركة على بركة كما سبق: إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر فإنه بركة ليكون المبدوء به والمنتهي إليه البركة والله تعالى أعلم (رواه أبوداود) قال المزي: هذا الحديث في رواية أبي بكر بن داسة ولم يذكره أبوالقاسم ذكره في عون المعبود نقلاً عن غاية المقصود. والحديث أخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه والبيهقي (ج4 ص237) ورواه البزار وأبونعيم في الحلية عن جابر قال الهيثمي بعد عزوه إلى البزار: رجاله رجال الصحيح، ورواه الطبراني في الكبير بسند ضعيف عن السائب بن يزيد وزاد وقال: يرحم الله المتسحرين ذكره المنذري والهيثمي. (باب تنزيه الصوم) أي في بيان ما يدل على ما يجب تبعيد الصوم عنه مما يبطله من أصله أو يبطل ثوابه أو ينقصه. 2019- قوله: (من لم يدع) بفتح التحتية والدال المهملة أي لم يترك (قول الزور) أي الباطل وهو ما فيه إثم والإضافة بيانية قاله القاري. وقال الطيبي: الزور الكذب والبهتان أي من لم يترك القول الباطل من

والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ قول الكفر وشهادة الزور والإفتراء والغيبة والبهتان والقذف والسب والشتم واللعن وأمثالها مما يجب على الإنسان إجتنابها ويحرم عليه ارتكابها (والعمل) بالنصب (به) أي بالزور يعني الفواحش من الأعمال لأنها في الإثم كالزور. وقال الطيبي: هو العمل بمقتضاه من الفواحش وما نهى الله عنه، وزاد في رواية البخاري في الأدب والجهل، ولابن ماجه من لم يدع قول الزور، والجهل والعمل به فالضمير في "به" يعود على الجهل لكونه أقرب مذكور أو على الزور فقط وإن بعد لإتفاق الروايات عليه أو عليهما، وأفرد الضمير لاشتراكهما في تنقيص الصوم قاله العراقي. وقال الحافظ: الضمير في رواية ابن ماجه يعود على الجهل، وفي رواية البخاري يعود على قول الزور والمعنى متقارب. والمراد بالجهل السفة. وقيل: أي صفات الجهل أو أحوال الجهل والمعاصي كلها عمل بالجهل فيدخل الغيبة فيها، وفي الأوسط للطبراني بسند رجاله ثقات من حديث أنس من لم يدع الخنى والكذب. قال السندي: قيل يحتمل أن المراد من لم يدع ذلك مطلقاً غير مقيد بصوم أي من لم يترك المعاصي ماذا يصنع بطاعته، ويحتمل أن المراد من لم يترك حالة الصوم وهو الموافق لبعض الروايات - انتهى. ويشير بذلك إلى ما وقع في رواية للنسائي والجهل في الصوم (فليس لله حاجة) أي التفات ومبالاة وهو مجاز عن عدم القبول بنفي السبب وإرادة نفي المسبب وإلا فلا حاجة لله تعالى إلى عبادة أحد (في أن يدع طعامه وشرابه) فإنهما مباحان في الجملة فإذا تركهما وارتكب أمراً حراماً من أصله استحق المقت وعدم القبول طاعته في وقت فإن المطلوب منه ترك المعاصي مطلقاً لا تركاً دون ترك. قال القاضي البيضاوي: ليس المقصود من شرعية الصوم نفس الجوع والعطش بل ما يتبعه من كسر الشهوات وتطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة، فإذا لم يحصل ذلك لا ينظر الله إليه نظر القبول، فقوله "ليس لله حاجة" مجاز عن عدم قبول فنفي السبب وأرادة المسبب وإلا فالله تعالى لا يحتاج إلى شيء. وقال ابن بطال: ليس معناه يؤمر بأن يدع صيامه وإنما معناه التحذير من قول الزور، وما ذكر معه وهو مثل قوله من باع الخمر فليشقص الخنازير أي يذبحها ولم يأمره بذبحها ولكنه على التحذير والتعظيم لإثم بائع الخمر، وكذلك حذر الصائم من قول الزور والعمل به ليتم له أجر صيامه - انتهى. وأعلم أن الجمهور على أن الكذب والغيبة والنميمة لا تفسد الصوم، وعن الثوري والأوزاعي إن الغيبة تفسده والراجح الأول. نعم هذه الأفعال تنقص الصوم وقول بعضهم أنها صغائر تكفر باجتناب الكبائر أجاب عنه الشيخ تقي الدين السبكي بأن في حديث الباب والذي مضى في أول الصوم دلالة قوية لذلك أي لقول الجمهور، لأن الرفث والصخب وقول الزور والعمل به مما علم النهي عنه مطلقاً. والصوم مأمور به مطلقاً فلو كانت هذه الأمور إذا حصلت فيه لم يتأثر بها لم يكن لذكرها فيه مشروطة به معنى نفهمه، فلما ذكرت في هذين الحديثين نبهتنا على أمرين

رواه البخاري. 2020- (2) وعن عائشة، قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل ويباشر وهو صائم، وكان أملككم لإربه)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحدهما زيادة قبحها في الصوم على غيره، والثاني الحث على سلامة الصوم عنها، وإن سلامته منها صفة كمال فيه وقوة الكلام تقتضي أن يقبح ذلك لأجل الصوم. فمقتضى ذلك أن الصوم يكمل بالسلامة عنها فإذا لم يسلم عنها نقص. ثم قال: ولا شك إن التكاليف قد ترد بأشياء وينبه على أخرى بطريق الإشارة وليس المقصود من الصوم العدم المحض كما في المنهيات، لأنه يشترط له النية بالإجماع. ولعل القصد به في الأصل الإمساك عن جميع المخالفات، لكن لما كان ذلك يشق خفف الله وأمر بالإمساك عن المفطرات ونبه العاقل بلك على الإمساك عن المخالفات، وأرشد إلى ما تضمنته أحاديث المبين عن الله مراده فيكون اجتناب المفطرات واجباً واجتناب ما عداها من المخالفات هم المكملات كذا نقله الحافظ في الفتح (رواه البخاري) في الصوم والأدب وأخرجه أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي في الكبرى وابن ماجه، وأخرجه البيهقي (ج4ص270) من طريق أبي داود وابن حزم من طريق البخاري. 2020- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل) من التقبيل أي نفسها كما في بعض الروايات أو بعض أزواجه كما في روايات أخرى (ويباشر) أي بعض نسائه يعني يلصق ويمس بشرتها ببشرته كوضع الخد على الخد ونحوه. وليس المراد المباشرة الفاحشة. قال ابن الملك: أي يلمس نساءه بيده. وأصل المباشرة التقاء البشرتين سواء أولج أو لم يولج، وقد يستعمل في الجماع وليس بمراد هنا. قال الشوكاني: المراد بالمباشرة المذكورة في الحديث ما هو أعم من التقبيل ما لم يبلغ إلى حد الجماع فيكون قوله: كان يقبل ويباشر من ذكر العام بعد الخاص، لأن المباشرة في الأصل التقاء البشرتين (وهو صائم) وفي رواية عمرو بن ميمون عن عائشة: كان يقبل في شهر الصوم، أخرجه مسلم والترمذي والنسائي وغيرهم. وفي رواية لمسلم: كان يقبل في رمضان وهو صائم فأشارت بذلك إلى عدم التفرقة بين الصوم الفرض والنفل قاله الحافظ (وكان أملككم) أي أغلبكم وأقدركم (لإربه) أكثرهم يرويه بفتحتين بمعنى الحاجة، أي حاجة النفس ووطرها تريد حاجة الجماع، وبعضهم يرويه بكسر فسكون وهو يحتمل معنى الحاجة والعضو أي الذكر. قال الحافظ: قوله "لأربه" بفتح الهمزة والراء وبالموحدة أي حاجته، ويروى بكسر الهمزة وسكون أي عضوه والأول أشهر وإلى ترجيحه أشار البخاري بما أورده من التفسير- انتهى. قلت: قال البخاري بعد رواية هذا الحديث. قال ابن عباس: أرب حاجة وقال طاووس: غير أولى

................................ ـــــــــــــــــــــــــــــ الأربة الأحمق لا حاجة له في النساء. وقال الجزري في النهاية: لأربه أي لحاجته تعنى إنه كان غالباً لهواه. وأكثر المحدثين يروونه بفتح الهمزة والراء يعنون الحاجة، وبعضهم يرويه بكسر الهمزة وسكون الراء وله تأويلان، أحدهما أنه الحاجة. والثاني: أرادت به العضو وعنت به من الأعضاء الذكر خاصة - انتهى. ورُدَّ تفسيره بالعضو بأنه خارج عن سنن الأدب. قال التوربشتي: حمل الأرب ساكن الراء على العضو في هذا الحديث غير سديد لا يغتربه إلا جاهل بوجوه حسن الخطاب مائل عن سنن الأدب ونهج الصواب وأجاب الطيبي بأنها ذكرت أنواع الشهوة مترقية من الأدنى إلى الأعلى فبدأت بمقدمتها التي هي القبلة ثم ثنت بالمباشرة التي هي المداعبة والمعانقة وأرادت أن تعبر عن المجامعة فكنت عنها بالإرب وأي عبارة أحسن منها - انتهى. وفيه أن المستحسن إذا إن الأرب بمعنى الحاجة كناية عن المجامعة. وأما ذكر الذكر فغير ملائم للأنثى كما لا يخفى لاسيما في حضور الرجال قاله القاري. وفي الموطأ أيكم أملك لنفسه، وبذلك فسر الترمذي في جامعه فقال ومعنى لإربه يعني لنفسه. قال العراقي: وهو أولى الأقوال بالصواب لأن أولى ما فسر به الغريب ما ورد في بعض طرق الحديث - انتهى. وقال شيخنا بعد ذكر كلام الترمذي: المذكور هذا بيان حاصل المعنى وقد عرفت أصل معنى لإربه- انتهى. واختلف في بيان معنى قول عائشة ومقصودها. فقيل أرادت أنه مع هذه المباشرة كان يأمن من الإنزال والوقاع فليس لغيره ذلك فهذا إشارة إلى علة عدم إلحاق الغير به في ذلك وعلى هذا فيكره لغيره القبلة والمباشرة وقيل المعنى أنه كان قادراً على حفظ نفسه عن القبلة والمباشرة لأنه كان أغلب الناس على هواة، ومع ذلك كان يقبل ويباشر وغيره قلما يصبر على تركهما، لأن غيره قلما يملك هواه فكيف لا يباح لغيره ففي قولها إشارة إلى أن غيره له ذلك بالأولى فسره بذلك من يجيزها للغير، ويجعل قولها علة في إلحاق الغير به - صلى الله عليه وسلم - ويؤيد هذا المعنى ما ذكره البخاري في صحيحه تعليقاً قالت عائشة: يحرم عليها فرجها. قال الحافظ: وصله الطحاوي عن حكيم بن عقال، قال سألت عائشة: ما يحرم علي من امرأتي وأنا صائم قالت فرجها وإسناده إلى حكيم صحيح، ويؤدي معناه ما رواه عبد الرزاق بإسناد صحيح عن مسروق سألت عائشة ما يحل للرجل من امرأته صائماً قالت كل شيء إلا الجماع - انتهى ويؤيده أيضاً ما روى مالك عن أبي النضر عن عائشة بنت طلحة أخبرته أنها كانت عند عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - فدخل عليها زوجها، وهو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر وهو صائم فقالت له عائشة ما يمنعك أن تدنو من أهلك فتلاعبها وتقبلها. قال: أقبلها وأنا صائم قالت نعم. ولا يخفى أن محل هذا الأمن من الوقوع في الجماع أو الإنزال. وأما ما روى النسائي والبيهقي (ج3

.............................. ـــــــــــــــــــــــــــــ ص232) عن الأسود قال: قلت لعائشة أيباشر الصائم قالت لا: قلت أليس كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يباشر، وهو صائم قالت: أنه كان أملككم لإربه. وظاهر هذا أنها اعتقدت خصوصية النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال القرطبي: هذا اجتهاد من عائشة، وقول أم سلمة كان يقبلها وهو صائم أولى أن يؤخذ به لأنه نص في الواقعة وقال الحافظ: قد ثبت عن عائشة صريحاً إباحة ذلك فيجمع بين هذا وبين قولها المتقدم أنه يحل له كل شيء إلا الجماع بحمل النهي على كراهة التنزيه، فإنها لا تنافي الإباحة وفي كتاب الصيام ليوسف القاضي من طريق حماد بن سلمة عن حماد سألت عائشة عن المباشرة للصائم فكرهتها. قال الحافظ: ويدل على أنها كانت لا ترى بتحريمها ولا بكونها من الخصائص ما رواه مالك في الموطأ عن أبي النضر فذكر الأثر المتقدم. وقال ابن حزم: بعد ذكر هذا الأثر وقول عائشة يحل له كل شيء إلا الجماع ما لفظه فهذان الخيران يكذبان قول من يقول إنها أرادت بقولها، وأيكم أملك لإربه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النهي عن القبلة والمباشرة للصائم - انتهى. وقد اختلف في القبلة والمباشرة بغير الجماع على أقوال الأول إنها مكروهة مطلقاً، وهو مشهور عند المالكية، ورواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن عمر الثاني إنها محرمة واستدل لذلك بقوله تعالى: {فالآن باشروهن} [البقرة:187] قيل قد منع من المباشرة في هذه الآية نهاراً، وأجيب عن ذلك بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو المبين عن الله تعالى، وقد أباح المباشرة نهاراً بفعله كما أفاده حديث الباب فدل على أن المراد بالمباشرة في الآية الجماع لا ما دونه من قبله ونحوها. قال الحافظ: وممن أفتى بإفطار من قبل صائم وهو عبد الله بن شبرمة أحد فقهاء الكوفة ونقله الطحاوي عن قوم لم يسمهم - انتهى. قلت: وروى ذلك أيضاً عن ابن مسعود كما في مجمع الزوائد (ج3 ص166) والبيهقي (ج4 ص234) الثالث إنها مباحة مطلقاً. قال الحافظ: وهو المنقول صحيحاً عن أبي هريرة وبه قال سعيد وسعد بن أبي وقاص وطائفة بل بالغ بعض أهل الظاهر (لعله أراد به ابن حزم، فإنه قال إنها حسنة مستحبة سنة من السنن وقربة من القرب إلى الله تعالى) فاستحبها - انتهى. ويدل لإباحة القبلة مطلقاً، ما روى عن عمر رضي الله عنه قال هَشهَشْت. يوماً فقبلت وأنا صائم فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت صنعت اليوم أمراً عظيماً قبلت وأنا صائم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم قلت: لا بأس بذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففيم. أخرجه أحمد (ج1 ص21- 52) وأبوداود والنسائي والحاكم (ج1 ص431) والدارمي وابن حزم (ج6 ص209) وسكت عنه أبوداود وابن حزم. وقال النسائي إنه منكر وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. قال المازري: فيه إشارة إلى فقه بديع وهو إن المضمضة لا تنقض الصوم وهو أول الشرب ومفتاحه كما إن القبلة من دواعي الجماع ومفتاحه والشرب يفسد

........................... ـــــــــــــــــــــــــــــ الصوم كما يفسده الجماع وكما ثبت عندهم إن أوائل الشرب لا يفسد الصيام فكذلك أوائل الجماع كذا في الفتح. الرابع التفصيل فتكره للشاب وتباح للشيخ وهو مشهور عن ابن عباس أخرجه مالك وسعيد بن منصور وغيرهما وجاء فيه ثلاثة أحاديث مرفوعة، أخرج أحدها أبوداود من حديث أبي هريرة. وسيأتي في الفصل الثاني. والثاني أحمد (ج2 ص185) والطبراني من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، قال كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء شاب. فقال: أقبل يا رسول الله: وأنا صائم قال لا، قال فجاء شيخ فقال أقبل وأنا صائم قال نعم فنظر بعضنا إلى بعض فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: قد علمت لم نظر بعضكم إلى بعض إن الشيخ يملك نفسه، وفي إسناده ابن لهيعة مختلف في الاحتجاج. والثالث البيهقي (ج4 ص232) من حديث عائشة. قال الزرقاني والقسطلاني: بإسناد صحيح إن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص في القبلة للشيخ وهو صائم ونهى عنها الشاب. وقال: الشيخ يملك إربه، والشاب يفسد صومه والخامس إن ملك نفسه جازت له وإلا فلا كما أشارت إليه عائشة في حديث الباب. قال الترمذي: ورأى بعض أهل العلم إن للصائم إذا ملك نفسه أن يقبل وإلا فلا، ليسلم له صومه وهو قول سفيان الثوري والشافعي - انتهى. قلت: وهو قول أبي حنيفة. قال محمد بن الحسن في موطأه: لا بأس بالقبلة للصائم إذا ملك نفسه بالجماع فإن خاف أن لا يملك نفسه فالكف أفضل وهو قول أبي حنيفة والعامة قبلنا - انتهى. وهو قول أحمد أيضاً قال ابن قدامة (ج3 ص112) المقبل إذا كان ذا شهوة مفرطة بحيث يغلب على ظنه أنه إذا قبل أنزل لم تحل له القبلة؛ لأنها مفسدة لصومه فحرمت كالأكل وإن كان ذا شهوة لكن لا يغلب على ظنه ذلك كره له التقبيل لأنه يعرض صومه للفطر ولا يأمن عليه الفساد ولا تحرم القبلة في هذه الحال لحديث عطاء بن يسار الآتي. ولأن إفضاءه إلى إفساد الصوم مشكوك فيه، ولا يثبت التحريم بالشك. فأما إن كان ممن لا تحرك القبلة شهوته كالشيخ الهرم ففيه روايتان أحدهما لا يكره له ذلك وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل وهو صائم لما كان مالكاً لإربه وغير ذي الشهوة في معناه. والثانية يكره لأنه لا يأمن حدوث الشهوة، فأما اللمس لغير شهوة كلمس يدها ليعرف مرضها فليس بمكروه بحال، لأن ذلك لا يكره في الإحرام فلا يكره في الصيام كلمس ثوبها - انتهى مختصراً. وفي الروض المربع تكره القبلة ودواعي الوطى لمن تحرك شهوته، لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عنها شاباً. ورخص لشيخ وغير ذي الشهوة في معنى الشيخ - انتهى مختصراً. قلت: واستدل لهذا القول بما رواه مسلم من طريق عمر بن أبي سلمة وهو ربيب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيقبل الصائم؟ فقال: سل هذه لأم سلمة فأخبرته أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع ذلك فقال: يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: أما والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له. قال الحافظ بعد ذكره: دل ذلك على أن الشاب والشيخ سواء، لأن عمر حينئذٍ كان

متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ شاباً ولعله كان أول ما بلغ، وفيه دلالة على أنه ليس من الخصائص، وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن عطاء بن يسار عن رجل من الأنصار أنه قبل امرأته وهو صائم فأمر امرأته أن تسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فسألته فقال إني أفعل ذلك فقال زوجها يرخص الله لنبيه فيما شاء فرجعت فقال أنا أعلمكم بحدود الله وأتقاكم وأخرجه مالك لكنه أرسله. قال عن عطاء إن رجلاً فذكر نحوه مطولاً - انتهى. السادس إنها مباحة في النفل مكروهة في الفرض وهي رواية ابن وهب عن مالك. وقد ظهر مما ذكرنا إن أعدل الأقوال وأقواها هو ما ذهب إليه الشافعي ومن وافقه من التفريق بين من يملك نفسه ومن لا يملك وبه يحصل الجمع بين الأحاديث المختلفة ويفهم من التعليل المذكور في حديثي عبد الله بن عمرو بن العاص وعائشة المذكورين في القول الرابع، إن الإباحة والكراهة دائرة مع ملك النفس وعدمه وعلى هذا فليس كبير فرق بين القول الرابع والخامس فالتعبير بالشيخ والشاب جرى على الغالب من أحوال الشيوخ في انكسار شهوتهم ومن أحوال الشباب في قوة شهوتهم فلو انعكس الأمر انعكس الحكم، لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً وروى النسائي من طريق طلحة بن عبد الله التميمي عن عائشة. قالت: أهوى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليقبلني فقلت إني صائمة فقال وأنا صائم فقبلني، وهذا يؤيد ما تقدم إن النظر في ذلك لمن لا يتأثر بالمباشرة والتقبيل لا للتفرقة بين الشاب والشيخ، لأن عائشة كانت شابة. نعم لما كان الشباب مظنة لهيجان الشهوة فرق من فرق. وقال المازري: ينبغي أن يعتبر حال المقبل فإن أثارت منه القبلة الإنزال حرمت عليه؛ لأن الإنزال يمنع منه الصائم فكذلك ما أدى إليه وإن كان عنها المذي. فمن رأى القضاء منه قال يحرم في حقه، ومن رأى أن لا قضاء. قال: يكره وإن لم تؤد القبلة إلى شيء فلا معنى للمنع منها إلا على القول بسد الذريعة. وقال النووي: القبلة في الصوم ليست محرمة على من لم تحرك شهوته لكن الأولى له تركها، وأما من حركت شهوته فهي حرام في حقه على الأصح وقيل: مكروهة - انتهى. واختلف فيما إذا باشر أو قبل أو نظر فأنزل أو أمذى فقال الكوفيون والشافعي: يقضي إذا أنزل في غير النظر ولا قضاء في الإمذاء. وقال مالك وإسحاق: يقضي في كل ذلك ويكفر إلا في الإمذاء فيقضي فقط. وروى عيسى بن دينار عن ابن القاسم عن مالك وجوب القضاء فيمن باشر أو قبل فانعظ ولم يمذ ولا أنزل، وأنكره غيره عن مالك. وقال ابن قدامة: إن قبل فأنزل أفطر بلا خلاف كذا قال وفيه نظر. فقد حكى ابن حزم أنه لا يفطر ولو أنزل وقوى ذلك وذهب إليه كذا في الفتح (متفق عليه) وأخرجه أحمد ومالك والترمذي وأبوداود والنسائي في الكبرى والدارمي والطحاوي والبيهقي والدارقطني بألفاظ. وفي الباب عن حفصة عند مسلم وأم سلمة عند الشيخين.

2021- (3) وعنها، قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يدركه الفجر في رمضان وهو جنب من غير حلم، فيغسل ويصوم)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2021- قوله: (يدركه الفجر) أي الصبح (في رمضان) أي في بعض الأحيان (وهو) أي والحال أنه (جنب) بضمتين (من غير حلم) بضمتين ويجوز سكون اللام. قال القاري: وهو صفة مميزة أي من غير احتلام بل من جماع فإن الثاني أمر اختياري فيعرف حكم الأول بطريق الأولى، بل ولو وقع الاحتلام في حال الصيام لا يضر - انتهى. وهذا لفظ مسلم. وللبخاري يدركه الفجر جنباً في رمضان من غير حلم. قال القسطلاني: أي من جنابة غير حلم فاسقط الموصوف وهو جنابة اكتفاء بالصفة عند لظهوره - انتهى. وفي رواية لمسلم والموطأ كان يصبح جنباً من جماع غير احتلام في رمضان. وفي حديث أم سلمة عند النسائي كان يصبح جنباً منى فيصوم ويأمرني بالصيام. قال الحافظ: أرادت بالتقييد بالجماع المبالغة في الرد على من زعم أن فاعل ذلك عمداً يفطر. وإذا كان فاعل ذلك عمداً لا يفطر، فالذي ينسي الاغتسال أو ينام عنه أولى بذلك. قال ابن دقيق العيد: لما كان الاحتلام يأتي للمرأ على غير اختياره فقد يتمسك به من يرخص لغير المتعمد الجماع، فيبن في هذا الحديث إن ذلك كان من جماع لإزالة هذا الاحتمال. وقال القرطبي: في هذا فائدتان: إحداهما: أنه كان يجامع في رمضان ويؤخر الغسل إلى بعد طلوع الفجر بياناً للجواز. والثاني: إن ذلك كان من جماع لا من احتلام، لأنه كان لا يحتلم إذا الاحتلام من الشيطان وهو معصوم منه. وقال غيره: في قولها من غير احتلام إشارة إلى جواز الاحتلام عليه وإلا لما كان للاستثناء معنىً ورّد بأن الاحتلام من الشيطان وهو معصوم منه. وأجيب بأن الاحتلام يطلق على الإنزال، وقد يقع الإنزال بغير رؤية شيء في المنام - انتهى. وقال النووي: احتج به من أجاز الاحتلام على الأنبياء، وفيه خلاف والأشهر امتناعه؛ لأنه من تلاعب الشيطان. وتألوا الحديث على أن المعنى يصبح جنباً من جماع ولا يجنب من احتلام لإمتناعه منه وهو قريب من قوله تعالى: {ويقتلون النبيين بغير حق} [آل عمران:21] ومعلوم إن قتلهم لا يكون بحق - انتهى. وقال ابن حجر: النفي في قولهم الأنبياء لا يحتلمون ليس على إطلاقه، بل المراد أنهم لا يحتلمون برؤية جماع؛ لأن ذلك من تلاعب الشيطان بالنائم وهم معصومون عن ذلك. وأما الاحتلام بمعنى نزول المني في النوم من غير رؤية وقاع فهو غير مستجيل عليهم لأنه ينشأ عن نحو امتلاء البدن فهو من الأمور الخلقية والعادية التي يستوي فيها الأنبياء وغيرهم - انتهى. (فيغتسل) أي بعد طلوع الفجر (ويصوم) أي يتم صومه. وفيه دليل على صحة صوم من دخل في الصباح وهو جنب من احتلام أو من جماع أهله وإلى هذا ذهب الجمهور. قال ابن عبد البر: عليه جماعة فقهاء الأمصار بالعراق والحجاز وأئمة الفتوى بالأمصار مالك وأبوحنيفة والشافعي والثوري والأوزاعي والليث وأصحابهم وأحمد وإسحاق وأبوثور وابن علية وأبوعبيد وداود وابن جرير الطبري وجماعة

...................... ـــــــــــــــــــــــــــــ من أهل الحديث. وقال ابن قدامة: هو قول عامة أهل العلم، منهم علي وابن مسعود وزيد وأبوالدرداء وأبوذر وابن عمر وابن عباس وعائشة وأم سلمة، وبه قال مالك والشافعي في أهل الحجاز، وأبوحنيفة والثوري في أهل العراق، والأوزاعي في أهل الشام، في أهل الشام، والليث في أهل مصر، وإسحاق وأبوعبيد في أهل الحديث، وداود في أهل الظاهر، وكان أبوهريرة يقول لا صوم له. ويروي ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم رجع عنه. قال سعيد بن المسيب: رجع أبوهريرة عن فتياه، وحكى عن حسن وسالم بن عبد الله قالا يتم صومه ويقضي. وعن النخعي في رواية يقضي في الفرض دون التطوع، وعن عروة وطاووس إن علم بجنابته في رمضان فلم يغتسل حتى أصبح فهو مفطر، وإن لم يعلم فهو صائم - انتهى. وقال الحافظ: قد بقي على مقالة أبي هريرة بعض التابعين كما نقله الترمذي (من غير ذكر أسماءهم) ثم ارتفع ذلك الخلاف واستقر الإجماع على خلافه كما جزم به النووي. (والأبي في شرح مسلم) وأما ابن دقيق العيد فقال صار ذلك إجماعاً أو كالإجماع - انتهى. قلت: وذهب ابن حزم إلى أنه لا يبطل صومه إلا أن تطلع عليه الشمس. وقيل: أن يغتسل ويصلي فيبطل صومه. قال: ذلك بناء على مذهبه في أن المعصية عمداً تبطل الصوم واحتج من قال بفساد صيام الجنب، بما روى أحمد وابن حبان عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا نودي للصلاة صلاة الصبح، وأحدكم جنب، فلا يصم حينئذٍ. وأخرجه النسائي والطبراني وعبد الرزاق بلفظ: قال أبوهريرة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا بالفطر إذا أصبح الرجل جنباً، وقد بين أبوهريرة كما فغي رواية البخاري والنسائي وغيرهما أنه لم يسمع ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما سمعه بواسطة الفضل بن عباس وأسامة وكأنه كان لشدة وثوقه بخبرهما يرويه من غير واسطة. وحمل هؤلاء حديث عائشة وأم سلمة على أنه من الخصائص النبوية، وإن حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما ذكرت عائشة وأم سلمة، وحكم الناس على ما حكى أبوهريرة. ورُدَّ هذا بأن الخصائص لا تثبت إلا بدليل، وبأنه قد ورد صريحاً ما يدل على عدمها، وهو ما أخرجه مالك ومسلم وأبوداود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان وغيرهم عن عائشة، إن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، يستفتيه، وهي تسمع من وراء الباب فقال: يا رسول الله! تدركني الصلاة أي صلاة الصبح وأنا جنب أفأصوم؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم فقال: لست مثلنا يا رسول الله! قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال: والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلم بما أتقى. وأجاب الجمهور عن حديث أبي هريرة بأنه منسوخ وإن أباهريرة رجع عنه لما روى له حديث عائشة وأم سلمة وأفتى بقولهما، قال ابن خزيمة إن الخبر منسوخ، لأن الله تعالى عند ابتداء فرض الصوم كان منع في ليل الصوم من الأكل والشرب والجماع بعد النوم. قال فيحتمل أن يكون خبر الفضل حينئذٍ، ثم أباح الله ذلك

................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ كله إلى طلوع الفجر، فكان للمجامع أن يستمر إلى طلوعه فيلزم أن يقع اغتساله بعد طلوع الفجر. فدل على أن حديث عائشة ناسخ لحديث الفضل، ولم يبلغ الفضل ولا أباهريرة الناسخ فاستمر أبوهريرة على الفتيا به، ثم رجع عند بعد ذلك لما بلغه. قال الحافظ: ويقويه إن في حديث عائشة المتقدم في الرد على دعوى الخصوصية ما يشعر بأن ذلك كان بعد الحديبية، لقوله فيها: قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، وأشار إلى آية الفتح، وهي إنما نزلت بعد عام الحديبية سنة ست، وابتداء فرض الصيام كان في السنة الثانية. وإلى دعوى النسخ فيه ذهب ابن المنذر والخطابي وغير واحد، وقرره ابن دقيق العيد بأن قوله تعالى: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نساءكم} [البقرة:187] يقتضى إباحة الوطى في ليلة الصوم، ومن جملتها الوقت المقارن لطلوع الفجر فيلزم إباحة الجماع فيه. ومن ضرورته أن يصبح فاعل ذلك جنباً ولا يفسد صومه، فإن إباحة التسبب للشيء إباحة لذلك الشيء، ورَدَّ البخاري حديث أبي هريرة بأن حديث عائشة أقوى إسناداً. قال الحافظ: وهو من حديث الرجحان كذلك، لأن حديث عائشة وأم سلمة في ذلك جاءا عنهما من طرق كثيرة جداً بمعنى واحد، حتى قال ابن عبد البر أنه صح وتواتر. وأما حديث أبي هريرة فأكثر الروايات أنه كان يفتى به، ورواية الرفع أقل، وعند تعارض الترجيح بكثرة الطرق وقوتها. وقال بعضهم: إن حديث عائشة أرجح لموافقة أم سلمة لها على ذلك، ورواية اثنين تقدم على رواية واحد، ولاسيما وهما زوجتان وهما أعلم بذلك من الرجال، ولأنهما ترويان ذلك عن مشاهدة بخلاف غيرهما، ولأن روايتهما توافق المنقول وهو ما تقدم من مدلول الآية والمعقول، وهو أن الغسل شيء وجب بالإنزال، وليس في فعله شيء يحرم على صائم فقد يحتلم بالنهار فيجب عليه الغسل ولا يحرم عليه بل يتم صومه إجماعاً، فكذلك إذا احتلم ليلاً بل هو من باب الأولى. وإنما يمنع الصائم من تعمد الجماع نهاراً. قال الحافظ: القول بالنسخ أولى من سلوك الترجيح بين الخبرين. وجمع بعضهم بينهما بأن الأمر في حديث أبي هريرة إرشاد إلى الأفضل، فإن الأفضل أن يغتسل قبل الفجر، فلو خالف جاز ويحمل حديث عائشة على بيان الجواز. ويعكر عليه التصريح في كثير من طرق حديث أبي هريرة بالأمر بالفطر وبالنهي عن الصيام فكيف يصح الحمل على الإرشاد إذا وقع ذلك في رمضان. وقيل: هو محمول على من أدركه الفجر مجامعاً فاستدام بعد طلوعه عالماً بذلك ويعكر عليه ما رواه النسائي إن أباهريرة كان يقول: من احتلم وعلم باحتلامه ولم يغتسل حتى أصبح فلا يصوم. فائدة في معنى الجنب الحائض والنفساء إذا انقطع دمها ليلاً ثم طلع الفجر قبل اغتسالها. وهو مذهب العلماء كافة، إلا ما حكى عن بعض السلف أنه لا يصح صومها. قال ابن قدامة (ج3 ص138) الحكم في المرأة إذا انقطع حيضها من الليل كالحكم في الجنب سواء، ويشترط أن ينقطع حيضها قبل طلوع الفجر؛ لأنه إن وجد جزء منه في النهار

متفق عليه. 2022 - (4) وعن ابن عباس، قال: ((إن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم)) . متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ أفسد الصوم، ويشترط أن تنوى الصوم أيضاً من الليل بعد انقطاعه؛ لأنه لا صيام لمن يبيت الصيام من الليل. وقال الأوزاعي والحسن بن حي وعبد الملك بن الماجشون والعنبري: تقضي فرطت في الاغتسال أو لم تفرط، لأن حدث الحيض يمنع الصوم بخلاف الجنابة. ولنا أنه حديث يوجب الغسل فتأخير الغسل منه إلى أن يصبح لا يمنع صحة الصوم كالجنابة وما ذكروه لا يصح، فإن من طهرت من الحيض ليست حائضاً. وإنما عليها حدث موجب الغسل، فهي كالجنب فإن الجماع الموجب للغسل لو وجد في الصوم أفسده كالحيض، وبقاء وجوب الغسل منه كبقاء وجوب الغسل من الحيض - انتهى. (متفق عليه) واللفظ لمسلم، وأخرجه أيضاً أحمد ومالك والترمذي وأبوداود والنسائي في الكبرى والدارمي والطحاوي والبيهقي وغيرهم. 2022- قوله: (احتجم) أي طلب الحجامة بالكسر ككتابة من الحجم وهو المص، يقال حجم الصبي ثدي أمه أي مصه، يحجُم ويحجِم حجماً، والحجام والحاجم من يتعاطى الحجامة، وهي المداواة والمعالجة بالمحجم بكسر الميم. قال ابن الأثير: هي الآلة التي يجمع فيها دم الحجامة عند المص، وحرفته وفعله الحجامة. وقال المجد: المحجم والمحجمة ما يحجم به، وحرفته الحجامة ككتابة واحتج طلبها (وهو محرم) جملة حالية فيه جواز الحجامة للمحرم كما سيأتى الكلام فيه إنشاء الله في باب ما يجتنبه المحرم من كتاب الحج (واحتج) أيضاً (وهو صائم) حكى القاري عن الجزري أنه قال: مراد ابن عباس أنه احتجم في حال اجتماع الصوم مع الإحرام، لما رواه أبوداود حديثه أيضاً أنه عليه الصلاة والسلام احتجم صائماً محرماً. ورواه الترمذي بلفظ: وهو محرم صائم - انتهى. وقال الأمير اليماني: قيل ظاهره أي ظاهر حديث الباب أنه وقع منه الأمران المذكوران مفترقين، وأنه احتجم وهو صائم واحتجم وهو محرم، ولكنه لم يقع ذلك في وقت واحد؛ لأنه لم يكن صائماً في إحرامه إذا أريد إحرامه وهو في حجة الوداع، إذ ليس في رمضان، ولا كان محرماً في سفره في رمضان عام الفتح، ولا في شيء من عمره التي اعتمرها، وإن احتمل أنه صام نفلاً إلا أنه لم يعرف ذلك. قال والحديث إخبار عن كل جملة عليحدة، وإن المراد احتجم وهو محرم في وقت واحتجم وهو صائم في وقت آخر والقرينة على هذا معرفة أنه لم يتفق له اجتماع الإحرام والصيام - انتهى. قلت: حديث ابن عباس روى على أربعة أوجه كما حكاه الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص278) عن صاحب التنقيح الأول احتجم وهو محرم، الثاني احتجم وهو صائم،

......................... ـــــــــــــــــــــــــــــ الثالث احتجم وهو صائم واحتجم وهو محرم، الرابع احتجم وهو صائم محرم، فالأول، روى من طرق شتى عن ابن عباس عند أحمد والشيخين وغيرهم، واتفقا عليه من حديث عبد الله بن بحينة، وفي النسائي وغيره من حديث أنس وجابر. والثاني: رواه البخاري وأصحاب السنن. والثالث رواه البخاري. قال الحافظ: والظاهر إن الراوي جمع بين الحديثين. والرابع رواه أحمد وأبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم وصححه الترمذي، وأعله أحمد وعلي بن المديني وغيرهما. فقال أحمد: إن أصحاب ابن عباس لا يذكرون صياماً يعني ليس عندهم صائم، وإنما هو محرم. وقال أبوحاتم: هذا خطأ أخطأ فيه شريك، إنما هو احتجم وأعطى الحجمام أجرته، كذلك رواه جماعة عن عاصم. وشريك حدث من حفظه وقد ساء حفظه فغلط فيه. وقال الحميدي: هذا ريح لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن صائماً محرماً لأنه خرج في رمضان في غزوة الفتح ولم يكن محرماً. وقال الحافظ: استشكل النسائي كونه - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الصيام والإحرام لأنه لم يكن من شأنه التطوع بالصيام في السفر ولم يكن محرماً إلا وهو مسافر، ولم يسافر في رمضان إلى جهة الإحرام إلا في غزاة الفتح، ولم يكن حينئذٍ محرماً قلت (فقائله الحافظ) وفي الجملة الأولى نظر، فما المانع من ذلك فلعله فعل مرة لبيان الجواز، وبمثل هذا لا ترد الإخبار الصحيصة، ثم ظهر لي إن بعض الرواة جمع بين الأمرين في الذكر، فأولهم أنهما وقعا معاً والأصوب رواية البخاري احتجم وهو صائم، واحتجم وهو محرما، فيحمل على أن كل واحد منهما وقع في حالة مستقله، وهذا لا مانع منه، فقد صح أنه - صلى الله عليه وسلم - صام في رمضان وهو مسافر، وهو في الصحيحين بلفظ: وما فينا صائم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعبد الله بن رواحة، ويقوى ذلك إن غالب الأحاديث ورد مفصلاً كما تقدم. وقد اختلف في الحجامة للصائم: فذهب الجمهور منهم مالك والشافعي وأبوحنيفة إلى أنه لا بأس بها عند الأمن وإنها لا تفطر الصوم مطلقاً، وحجتهم حديث ابن عباس وما وافقه. وقال: عطاء والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبوثور وابن خزيمة وابن المنذر وأبولبيد النيسابوري وابن حبان: أنه يفطر الحاجم والمحجوم ويجب عليهما القضاء وشذ عطاء فأوجب الكفارة أيضاً، واحتج هؤلاء بحديث أفطر الحاجم والمحجوم وقال قوم: منهم مسروق والحسن وابن سيرين يكره الحجامة للصائم مطلقاً، ولا يفسد الصوم بها، نعم ينقص أجر صيامهما بإرتكاب هذا المكروه وأجاب القائلون بعدم الفطر عن حديث أفطر الحاجم والمحجوم بوجهين أحدهما ادعاء النسخ قال ابن عبد البر: أنه منسوخ لحديث ابن عباس، لأن في حديث شداد وغيره أنه - صلى الله عليه وسلم - مر عام الفتح على من يحتجم لثمان عشرة ليلة خلت من رمضان، فقال أفطر الحاجم والمحجوم. وابن عباس شهد معه حجة الوداع سنة عشر، وشهد حجامته حينئذٍ وهو محرم صائم. وحديث ابن عباس لا مدفع فيه عند أهل الحديث فهو ناسخ لا محالة

........................ ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنه لم يدرك بعد ذلك رمضان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى. وسبق إلى ذلك الشافعي كما حكاه البيهقي عنه في المعرفة وفي السنن الكبرى (ج4 ص268) واعترض بأنه قد اختلف التوقيت في حديث شداد ففي رواية عند البيهقي أنه كان عام الفتح والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان حينئذٍ بمكة، وفي حديثه عند أبي داود والبيهقي أيضاً إن ذلك كان بالبقيع وهو بالمدينة، وكذا وقع في حديث ثوبان عند البيهقي (ج4 ص266) ففي دعوى النسخ على هذا نظر. وأيضاً في حديث ابن عباس إنه احتجم صائماً محرماً ولم يكن محرماً وهو مقيم، وإنما كان محرماً وهو ومسافر وللمسافر أن يفطر على ما شاء من طعام وجماع وحجامة، وكذا للمتطوع بالصوم أن يفطر متى شاء بالحجامة وغيرها. قال ابن حبان: لا يعارض حديث ابن عباس حديث أفطر الحاجم والمحجوم؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن قط محرماً إلا وهو مسافر والمسافر يباح له الإفطار. وقال ابن خزيمة في هذا الحديث: أنه كان صائماً محرماً، قال: ولم يكن قط محرماً. وهو مقيم ببلده، إنما كان محرماً وهو مسافر، والمسافر إن كان ناوياً للصوم فمضى عليه بعض النهار وهو صائم أبيح له الأكل والشرب على الصحيح، فإذا جاز له ذلك جاز له أن يحتجم وهو مسافر في بعض نهار الصوم. وإن كانت الحجامة تفطره - انتهى. قال الزيلعي (ج2 ص478) لفظ البخاري ربما يدفع هذا التأويل؛ لأنه فرق بين الخبرين فقال احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم فلينظر في ذلك. وقال الحافظ في الفتح بعد ذكر تأويل ابن خزيمة. وتعقب بأن الحديث ما ورد هكذا لا لفائدة، فالظاهر أنه وجدت من الحجامة وهو صائم لم يتحلل من صومه واستمر. وقال الخطابي في المعالم (ج2 ص111) متعقباً على ابن خزيمة هذا التأويل غير صحيح، لأنه قد أثبته حين احتجم صائماً، ولو كان يفسد صومه بالحجامة لكان يقال أنه أفطر بالحجامة، كما يقال أفطر الصائم بشرب الماء وبأكل التمر وما أشبههما، ولا يقال شرب ماء صائماً ولا أكل تمراً وهو صائم - انتهى وحاصله إن قوله "وهو صائم" دال على بقاء الصوم. قال الحافظ في التلخيص (ص190) بعد ذكره قلت: ولا مانع من إطلاق ذلك باعتبار ما كان حالة الاحتجام لأنه على هذا التأويل إنما أفطر بالاحتجام والله أعلم- انتهى. وقال ابن حزم في المحلى (ج6 ص204) صح حديث أفطر الحاجم والمحجوم، فوجب الأخذ به إلا أن يصح نسخة ثم رد على من ادعى نسخة بحديث ابن عباس. ثم قال لكن وجدنا من حديث أبي سعيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرخص في الحجامة للصائم، وإسنادة صحيح. فوجب الأخذ به لأن الرخصة لا تكون إلا بعد العزيمة، فدل على نسخ الفطر بالحجامة سواء كان حاجماً أو محجوماً - انتهى مختصراً. والحديث المذكور أخرجه النسائي وابن خزيمة والدارقطني والبزار والطبراني في الأوسط والبيهقي. قال الحافظ في الفتح: رجاله ثقات. ولكن اختلف في رفعه ووقفه وله شاهد من حديث أنس أخرجه الدارقطني، ولفظه أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم فمر به

...................... ـــــــــــــــــــــــــــــ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أفطر هذان. ثم رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك في الحجامة للصائم. وكان أنس يحتجم وهو صائم، ورواته كلهم من رجال البخاري إلا أن في المتن ما ينكر، لأن فيه إن ذلك في الفتح وجعفر كان قتل قبل ذلك، ومن أحسن ما ورد في ذلك ما رواه عبد الرزاق وأبوداود عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى عن رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحجامة للصائم، وعن المواصلة ولم يحرمهما إبقاء على أصحابه إسناده صحيح. والجهالة بالصحابي لا تضر، وقوله "إبقاء على أصحابه" يتعلق بقوله نهي، وقد رواه ابن أبي شيبة بلفظ: عن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - قالوا: إنما نهى النبي عن الحجامة للصائم وكرهها للضعيف أي لئلا يضعف- انتهى كلام الحافظ. الوجه الثاني الجمع والتأويل. قال الخطابي (ج2 ص110) وتأول بعضهم حديث أفطر الحاجم والمحجوم. فقال: معناه تعرضاً للإفطار. أما المحجوم فللضعف الذي يلحقه من ذلك فيؤديه إلى أن يعجز من الصوم. وأما الحاجم فلأنه لا يؤمن أن يصل إلى جوفه من طعم الدم أو من بعض إجراحه إذا ضم شفتيه على قصب الملازم، وهذا كما يقال للرجل يتعرض للمهالك قد هلك فلان وإن كان باقياً سالماً. وإنما يراد أنه قد أشرف على الهلاك، وكقوله - صلى الله عليه وسلم -: من جعل قاضياً فقد ذبح بغير سكين، يريد أنه قد تعرض للذبح - انتهى. وبنحوه قال البغوي كما سيأتي في الفصل الثاني. ورده ابن تيمية بأن قوله - صلى الله عليه وسلم -: أفطر الحاجم والمحجوم له نص في حصول الفطر لهما فلا يجوز أن يعتقد بقاء صومهما، والنبي - صلى الله عليه وسلم - مخبر عنهما بالفطر لاسيما، وقد أطلق هذا القول إطلاقاً من غير أن يقرنه بقرينة تدل على أن ظاهره غير مراد، فلو جاز أن يريد مقاربة الفطر دون حقيقته، لكان ذلك تلبيساً لا تبييناً للحكم - انتهى. قال الأمير اليماني: بعد ذكر هذا قلت: ولا ريب في أن هذا هو الذي دل له قوله في حديث أنس في قصة احتجام جعفر أفطر هذان ثم رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد في الحجامة، وتقدم أنه من أدلة نسخ حديث أفطر الحاجم والمحجوم. وقيل في تأويله بأن المراد بذلك رجلان بعينهما كان مشتغيلين بالغيبة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أفطر الحاجم والمحجوم أي للغيبة لا للحجامة، أخرجه الطحاوي وعثمان الدارمي والبزار والبيهقي في المعرفة، وفي السنن وغيرهم. وفيه يزيد بن أبي ربيعة وهو متروك. وحكم علي بن المديني بأنه حديث باطل. وقال ابن خزيمة: في هذا التأويل إنه أعجوبة لأن القائل به لا يقول إن الغيبة تفطر الصائم. وقال أحمد: ومن سلم من الغيبة ولو كانت الغيبة تفطر ما كان لنا صوم، وقد وجه الشافعي هذا القول وحمل الإفطار بالغيبة على سقوط أجر الصوم مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - للمتكلم، والخطيب يخطب لا جمعة له ولم يأمره بالإعادة، فدل على أنه أراد سقوط الأجر، وحينئذٍ فلا وجه لجعله أحجوبة كما قال ابن خزيمة. وقيل في تأويله أيضاً إن الحجامة كانت مع الغروب أي مر بهما - صلى الله عليه وسلم - مساء، فقال: أفطر الحاجم والمحجوم كأنه عذرهما

متفق عليه. 2023- (5) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من نسي وهو صائم فأكل أو شرب ـــــــــــــــــــــــــــــ بهذا القول إذ كانا قد أمسيا ودخلا في وقت الإفطار، كما يقال أصبح الرجل وأظهر وأمسى إذا دخل في هذه الأوقات. ويدل عليه ما روى ابن حبان والطبراني في الأوسط عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أباطيبة فوضع المحاجم مع غيبوبة الشمس، ثم أمره مع إفطار الصائم فحجم- الحديث. قال الهيثمي بعد عزوه إلى الطبراني: رجاله رجال الصحيح. وقيل معنى أفطرا فعلاً مكروهاً، وهو الحجامة فصار كأنهما غير متلبسين بالعبادة. قال الخطابي: قال بعضهم: هذا على التغليظ لهما والدعاء عليهما كقوله فيمن صام الدهر، لا صام ولا أفطر فمعنى قوله أفطر الحاجم والمحجوم على هذا التأويل أي بطل أجر صيامهما فكأنهما صارا مفطرين غير صائمين. وقيل معناه حان لهما أن يفطرا كقوله أحصد الزرع إذا حان له أن يحصد وأركب المهر إذا حان له أن يركب ذكره الخطابي أيضاً. وقال الشوكاني: حديث ابن عباس لا يصلح لنسخ أحاديث الإفطار؛ لأنه لم يعلم تأخره نعم حديث ابن أبي ليلى وأنس وأبي سعيد يدل على أن الحجامة غير محرمة ولا موجبة لإفطار الحاجم ولا المحجوم، فيجمع بين الأحاديث بأن الحجامة مكروهة (بكراهة التنزيه) في حق من كان يضعف بها وتزداد الكراهة إذا كان الضعف يبلغ إلى حد يكون سبباً للإفطار، ولا تكره في حق من كان لا يضعف بها وعلى كل تجنب الحجامة للصائم أولى فيتعين حمل قوله أفطر الحاجم والمحجوم على المجاز لهذه الأدلة الصارفة له عن معناه الحقيقي - انتهى. (متفق عليه) فيه نظر، فإن الحديث من أفراد البخاري وليس عند مسلم ذكر الاحتجام في حالة الصوم أصلاً، ولذلك نسبة المجد في المنتقى والحافظ في بلوغ المرام والتلخيص والنابلسي في الذخائر إلى البخاري فقط. والظاهر إن المنصف قلد في ذلك ابن الأثير الجزري إذ عزاه في جامع الأصول (ج7 ص191) إلى البخاري ومسلم وكليهما ولا شك في أن هذا وهم منه. وقد تقدم ذكر من أخرجه غير البخاري. وفي جواز الحجامة للصائم أحاديث عن جماعة من الصحابة ذكرها العيني في شرح البخاري (ج11 ص40) والهيثمي في مجمع الزوائد (ج3 ص170) . 2023- قوله: (من نسي) أي أنه في الصوم (وهو صائم فأكل أو شرب) سواء كان قليلا أو كثيراً كما رجحه النووي لظاهر إطلاق الحديث. قال العيني: لا فرق عندنا وعند الشافعي بين القليل والكثير. وقال الرافعي فيه وجهان، كالوجهين. في بطلان الصلاة بالكلام الكثير - انتهى. وقد روى أحمد من حديث أم إسحاق إنها كانت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتى بقصعة من ثريد فأكلت معه ثم تذكرت إنما كانت صائمة. فقال: لها ذو اليدين الآن بعد ما

فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ شبعت؟ فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: أتمي صومك فإنما هو رزق ساقه الله إليك: قال الحافظ: بعد ذكره وفي هذا رد على من فرق بين قليل الأكل وكثيرة- انتهى. ويروي وشرب واقتصر عليهما دون باقي المفطرات؛ لأنهما الغالب في النسيان (فليتم صومه) وفي رواية الترمذي فلا يفطر، قال العراقي يجوز أن يكون "لا" في جواب الشرط للنهي ويفطر مجزوماً، ويجوز أن تكون "لا" نافية ويفطر مرفوعاً، وهو أولى فإنه لم يرد به النهي عن الأفطار، وإنما المراد أنه لم يحصل إفطار الناسي بالأكل ويكون تقديره من أكل أو شرب ناسياً لم يفطر - انتهى. ثم لما لم يكن أكله وشربه باختياره المقتضي لفساد صومه بل لأجل إنساءه تعالى له لطفاً به وتيسيراً عليه بدفع الحرج عن نفسه علله - صلى الله عليه وسلم - بقوله (فإنما أطعمه الله وسقاه) أي ليس له فيه مدخل قال السندي: كأن المراد قطع نسبة ذلك الفعل إلى العبد بواسطة النسيان، فلا يعد فعله جناية منه على صومه مفسداً له وإلا فهذا القدر موجود في كل طعام وشراب يأكله الإنسان أكله عمداً أو سهواً وقال الخطابي: النسيان من باب الضرورة، والأفعال الضرورية غير مضافة في الحكم إلى فاعلها، ولا يؤاخذ بها. وفي رواية الترمذي فإنما هو رزق رزقه الله. قال العيني: قوله فإنما تعليل لكون الناسي لا يفطر، ووجه ذلك إلى الرزق لما كان من الله ليس فيه للعبد تحيل فلا ينسب إليه شبه الأكل ناسياً به، لأنه لا صنع للعبد فيه وإلا فالأكل متعمداً حيث جاز له الفطر رزق من الله تعالى بإجماع العلماء وكذلك هو رزق وإن لم يجز له الفطر على مذهب أهل السنة - انتهى. والحديث دليل على أن من أكل أو شرب ناسياً لصومه فإنه لا يفطره ولا يوجب القضاء، وإليه ذهب الجمهور الشافعي وأحمد وأبوحنيفة وإسحاق والأوزاعي والثوري وعطاء وطاووس. وقال مالك: يبطل صومه ويجب عليه القضاء وهو قوله شيخه ربيعة وجميع أصحاب مالك لكن فرقوا بين الفرض والنفل واحتج الجمهور لقولهم بحديث الباب؛ لأنه أمر بالإتمام وسمي الذي يتمه صوماً، وظاهره حمله على الحقيقة الشرعية فيتمسك به حتى يدل دليل على أن المراد بالصوم هنا حقيقته اللغوية، وإذا كان صوماً وقع مجزئاً ويلزم من ذلك عدم وجوب القضاء كذا قرره ابن دقيق العيد (ج2 ص212) قال وقوله "إنما أطعمه الله وسقاه" يستدل به على صحة الصوم، فإن فيه إشعاراً بأن الفعل الصادر منه مسلوب الإضافة إليه، والحكم بالفطر يلزمه الإضافة إليه - انتهى. واستدل لمن ذهب إلى الفطر وإيجاب القضاء بأن ركن الصوم هو الإمساك عن المفطرات فإذا فات ركنه يفسد الصوم كيف ما كان. قال ابن دقيق العيد (ج2ص 211) ذهب مالك إلى إيجاب القضاء وهو القياس، فإن الصوم قد فات ركنه وهو من باب المأمورات. والقاعدة تقتضي أن النسيان لا يؤثر في باب المأمورات. وقال ابن العربي: تمسك جميع الفقهاء بظاهر هذا الحديث وتطلع مالك

............................ ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى مسألة من طريقها فأشرف عليه، لأن الفطر ضد الصوم والإمساك ركن الصوم، فأشبه ما لو نسي ركعة من الصلاة وسيأتي الجواب عن هذا الاستدلال. واعتذر المالكية عن حديث الباب بوجوه. منها إن المراد فليتم إمساكه عن المفطرات يعني إن الصوم محمول على معناه اللغوي فيكون أمراً بالإمساك بقية يومه كالحائض إذا طهرت في أثناء اليوم وهو مدفوع أولاً، بأن الاتفاق على أن الحمل على المفهوم الشرعي حيث أمكن في لفظ الشارع واجب، فإن قيل يجب ذلك الدليل على البطلان وهو القياس الذي تقدم ذكره، قلنا حقيقة النص مقدم على القياس لو تم فكيف وهو لا يتم، فإنه لا يلزم من البطلان مع النسيان فيما له هيئة مذكرة البطلان معه فيما لا مذكر له وهيئة الإحرام والاعتكاف والصلاة مذكرة فإنها تخالف الهيئة العادية ولا كذلك الصوم والنسيان غالب للإنسان، فلا يلزم من عدم عذره بالنسيان مع تلك عدم عذره به مع الصوم. وثانياً، بأن نفس اللفظ يدفعه وهو قوله "فليتم صومه" وصومه إنما كان الشرعي فإتمام ذلك إنما يكون بالشرعي. وثالثاً: بما ورد من نفي القضاء صريحاً كما سيأتي. ومنها إنه محمول على التطوع حكاه ابن التين عن ابن شعبان، وكذا قال ابن القصار: واعتل بأنه لم يقع في الحديث تعيين رمضان فيحمل على التطوع. ومنها أنه محمول على رفع الإثم وسقوط المؤاخذة. قال القرطبي: احتج بالحديث من أسقط القضاء، وأجيب بأنه لم يتعرض فيه للقضاء فيحمل على سقوط المؤاخذة لأن المطلوب صيام يوم لا خرم فيه. ومنها إن المراد منه سقوط الكفارة عنه. قال المهلب وغيره: لم يذكر في الحديث إسقاط القضاء فيحمل على سقوط الكفارة عنه وإثبات عذره ورفع الإثم عنه وبقاء نيته التي بيتها - انتهى. والجواب عن ذلك كله بما أخرجه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم (ج1 ص430) وصححه والدارقطني (ص237) والطبراني في الأوسط والبيهقي (ج4 ص229) من طريق محمد بن عبد الله الأنصاري عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ: من أفطر في شهر رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة فعين رمضان وصرح بإسقاط القضاء، وقد انفرد بذكر إسقاط القضاء الأنصاري وهو ثقة. وأخرجه النسائي من طريق علي بن بكار عن محمد بن عمرو، ولفظه في الرجل يأكل في شهر رمضان ناسياً فقال الله أطعمه وسقاه. وقد ورد إسقاط القضاء من وجه آخر عن أبي هريرة، أخرجه الدارقطني من رواية محمد بن عيسى بن الطباع عن ابن علية عن هشام عن ابن سيرين ولفظه فإنما هو رزق ساقه الله إليه ولا قضاء عليه. وقال: بعد تخريجه هذا إسناد صحيح وكلهم ثقات. قال الحافظ: ولكن الحديث عند مسلم وغيره من طريق ابن علية وليس فيه هذه الزيادة، وروى الدارقطني أيضاً إسقاط القضاء من رواية أبي رافع وأبي سعيد المقبري والوليد بن عبد الرحمن وعطاء بن يسار كلهم عن أبي هريرة وأخرج (ص237) أيضاً (وكذا الطبراني في الأوسط) من حديث أبي سعيد رفعه من أكل

............................ ـــــــــــــــــــــــــــــ في شهر رمضان ناسياً فلا قضاء عليه، وإسناده، وإن كلن ضعيفاً (لأن فيه محمد بن عبيد الله العزرمي الفزاري وهو ضعيف) لكنه صالح للمتابعة فأقل درجات الحديث بهذه الزيادة أن يكون حسناً فيصلح للاحتجاج به. وقد وقع الاحتجاج في كثير من المسائل بما دونه في القوة ويعتضد أيضاً بأنه قد أفتى به جماعة من الصحابة من غير مخالفة لهم منهم، كما قاله ابن المنذر وابن حزم وغيرهما علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأبوهريرة وابن عمر. ثم هو موافق لقوله تعالى: {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} [البقرة:225] فالنسيان ليس من كسب القلب وموافق للقياس في إبطال الصلاة بعمد الأكل لا بنسيانه فكذلك الصيام. وأما القياس الذي ذكره ابن العربي فهو في مقابلة النص فلا يقبل – انتهى كلام الحافظ. وتأول المالكية حديث سقوط القضاء على أن معناه لا قضاء عليه الآن وهذا تعسف ظاهر وأجاب عنه ابن العربي بأن خبر الواحد إذا جاء بخلاف القواعد لم يعمل به، فلما جاء الحديث الأول الموافق للقاعدة في رفع الإثم عملنا به، وأما الثاني فلا يوافقها فلم نعمل به. وتعقبه الحافظ بأن رد الحديث مع صحته بكونه خبر واحد. خالف القاعدة ليس بمسلم. لأنه قاعدة مستقلة بالصيام، فمن عارضه بالقياس على الصلاة أدخل قاعدة في قاعدة، ولو فتح باب رد الأحاديث الصحيحة بمثل هذا لما بقي من الحديث إلا القليل ولرد من شاء ما شاء. قال الشوكاني: وأما اعتذار ابن دقيق العيد فيجاب عنه بأن غاية هذه القاعدة المدعاة أن تكون بمنزلة الدليل، فيكون حديث الباب مخصصاً لها - انتهى. وفي الحديث لطف الله بعباده والتيسير عليهم ورفع المشقة والحرج عنهم واختلفوا فيما إذا جامع ناسياً في نهار رمضان فقال الثوري وأصحاب الرأي والشافعي وإسحاق: مثل قولهم فيمن أكل أو شرب ناسياً، وإليه ذهب الحسن ومجاهد، واستدل لهم بأن الحديث وإن ورد في الأكل والشرب لكنه معلول بمعنى يوجد في الكل أي الأكل والشرب والجماع، وهو أنه فعل مضاف إلى الله تعالى على طريق التمحيض بقوله: فإنما أطعمه الله وسقاه قطع إضافته عن العبد بوقوعه فيه من غير قصده واختياره. وهذا المعنى يوجد في الكل والعلة إذا كانت منصوصاً عليها كان الحكم منصوصاً عليه، ويتعمم الحكم بعموم العلة، وكذا معنى الحرج يوجد في الكل. واستدل لهم أيضاً بما تقدم في رواية ابن خزيمة وغيره من قوله "من أفطر في شهر رمضان" لأن الفطر أعم من أن يكون بأكل أو شرب أو جماع. وإنما خص الأكل والشرب بالذكر في الطريق الأخرى لكونهما أغلب وقوعاً ولعدم الاستغناء عنهما غالباً. قال ابن دقيق العيد: تعليق الحكم بالأكل والشرب للغالب لأن نسيان الجماع نادر بالنسبة إليهما وذكر الغالب لا يقتضي مفهوماً - انتهى. وقال عطاء والأوزاعي ومالك والليث بن سعد: عليه القضاء أي بدون الكفارة وقال أحمد عليه القضاء والكفارة، واحتج له بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسأل الذي وقع على أهله أنسيت أم

متفق عليه. 2024- (6) وعنه، قال بينما نحن جلوس عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله! هلكت. ـــــــــــــــــــــــــــــ عمدت، ولو افترق الحال لسأل واستفصل. وتعقبه الخطابي (ج2 ص121) بأن معناه في هذا اقتضاء العموم من الفعل، والعموم إنما يقتضي من القول دون الفعل. وإنما جاء الحديث بذكر حال وحكاية فعل فلا يجوز وقوعه على العمد والنسيان معاً فبطل أن يكون له عموم. ومن مذهب أبي عبد الله يعني الإمام أحمد أنه إذا أكل ناسياً لم يفسد صومه لأن الأكل لم يحصل منه على وجه المعصية، فكذلك إذا جامع ناسياً. فإما المتعمد لذلك فقد حصل منه الفعل على وجه المعصية فلذلك وجبت عليه الكفارة - انتهى. وأجيب أيضاً بأن الأصل في الأفعال أن تكون عن عمد، وإن الناسي لابد أن يذكر النسيان إذا استفتى؛ لأنه عذر ولا يحتاج إلى السؤال عنه (متفق عليه) واللفظ لمسلم، وأخرجه أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي في الكبرى وابن ماجه والدارمي وغيرهم. 2024- قوله: (بينما) أصله بين فأشبعت فتحة النون وصار بينا ثم زيد فيه الميم فصار بي بينما ويضاف إلى جملة اسمية وفعلية، ويحتاج إلى جواب يتم به المعنى والأفصح في جوابها أن لا يكون فيه "إذ وإذا" ولكن كثير مجيئها كذلك ومنه قوله هنا (إذ جاءه رجل) قيل الرجل هو سلمة بن صخر البياضي جزم به عبد الغني في المبهمات، وتبعه ابن بشكوال واستند إلى ما أخرجه ابن أبي شيبة وغيره من طريق سيلمان بن يسار عن سلمة ابن صخر أنه ظاهر من امرأته في رمضان وإنه وطئها. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: حرر رقبة - الحديث. وانتقد بأن ذلك هو المظاهر في رمضان أتى أهله في الليل رأى خلخالها في القمر، وفي تمهيد ابن عبد البر عن سعيد بن المسيب إن الرجل الذي وقع على امرأته في رمضان سلمان بن صخر أحد بني بياضة. قال وأظن هذا وهما أتى من الراوي أي؛ لأن ذلك إنما هو في المظاهر وقع على امرأته في الليل. وأما المجامع فإعرابي فهما واقعتان فإن في قصة المجامع في حديث الباب إنه كان صائماً كما سيأتي وفي قصة سلمة بن صخر أنه كان ذلك ليلاً كما عند الترمذي فافترقا، ولا يلزم من اجتماعهما في كونهما من بني بياضة وفي صفة الكفارة، وكونها مرتبة، وفي كون كل منهما كان لا يقدر على شيء من خصالها إتحاد القصتين. (فقال يا رسول الله هلكت) وقع في رواية البيهقي (ج4 ص226) وأبي عوانة والجوزقي جاء رجل وهو ينتف شهره ويدق صدره ويقول هلك الأبعد. ولأحمد (ج2 ص516) والدارقطني في العلل يلطم وجه وللبيهقي (ج4 ص226) وأحمد (ج2 ص208) يدعو ويله وفي مرسل ابن المسيب عند مالك في الموطأ يضرب نحره وعند الدارقطني ويحثى على رأسه التراب. واستدل

قال: مالك؟ قال: وقعت علي امرأتي ـــــــــــــــــــــــــــــ بهذا على جواز هذا الفعل، والقول ممن وقعت له معصية، ويفرق بذلك بين مصيبة الدين والدنيا، فيجوز في مصيبة الدين لما يشعر به الحال من شدة الندم. وصحة الإقلاع، ويحتمل أن تكون هذه الواقعة قبل النهي عن لطم الخدود وحلق الشعر عند المصيبة قاله الحافظ. ووقع في حديث عائشة عند البخاري وغيره احترقت واستدل به على أنه كان عامداً؛ لأن الهلاك والاحتراق مجاز عن العصيان المؤدى إلى ذلك فكأنه جعل المتوقع كالواقع وبالغ فعبر عنه بلفظ الماضي، وإذا تقرر ذلك فليس فيه حجة على وجوب الكفارة على الناسي وهو مشهور قول مالك والجمهور، وعن أحمد وبعض المالكية يجب على الناسي وتمسكوا بترك استفساره عن جماعة هل كان عن عمدٍ أو نسيان وترك الاستفصال في الفعل ينزل منزلة العموم في القول كما اشتهر. وقد تقدم جوابه عن الخطابي في شرح الحديث السابق، وأجاب الحافظ عنه بأنه قد تبين حاله بقوله هلكت واحترقت فدل على أنه كان عامداً عارفاً بالتحريم، وأيضاً فدخول النسيان في الجماع في نهار رمضان في غاية البعد - انتهى. قال ابن دقيق العيد (ج2 ص214) إن حالة النسيان بالنسبة إلى الجماع ومحاولة مقدماته وطول زمانه وعدم إعتياده في كل وقت مما يبعد في حالة النسيان، فلا يحتاج إلى الاستفصال على الظاهر. لاسيما وقد قال الأعرابي هلكت فإنه يشعر بتعمده ظاهراً ومعرفته بالتحريم - انتهى قال الحافظ. واستدل بهذا على أن من ارتكب معصية، لا حد فيها وجاء مستفتياً إنه لا يعزر لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعاقبه مع اعترافه بالمعصية. وقد ترجم لذلك البخاري في الحدود. وأشار إلى هذه القصة وتوجيهه إن مجيئة مستفتياً يقتضي الندم والتوبة والتعزير إنما جعل الاستصلاح ولا استصلاح مع الصلاح، وأيضاً فلو عوقب المستفتي لكان سبباً لترك الاستفتاء وهي مفسدة عظيمة، فاقتضى ذلك أن لا يعاقب هكذا قرره ابن دقيق العيد. لكن وقع في شرح السنة للبغوي إن من جامع متعمداً في رمضان فسد صومه وعليه القضاء والكفارة، ويعزر على سوء صنيعه وهو محمول على من لم يقع منه ما وقع من صاحب هذه القصة من الندم والتوبة - انتهى (قال مالك) بفتح اللام "وما" استفهامية محلها بالابتداء أي أي شيء حصل أو وقع لك ولابن خزيمة ويحك ما شأنك ولأحمد (ج2 ص516) وما الذي أهلكك وفي الأدب عند البخاري ويحك ما صنعت (وقعت على امرأتي) وعند البزار أصبت أهلي، وفي حديث عائشة وطئت امرأتي، ووقع في رواية مالك وابن جريج وغيرهما عند مسلم وغيره إن رجلاً أفطر في رمضان فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - الحديث. واستدل به على إيجاب الكفارة على من أفسد صيامه مطلقاً بأي شيء كان، وهو قول المالكية والحنيفة. واختلف الأئمة فيه، فحكى عن عطاء والحسن والثوري والزهري والأوزاعي وإسحاق، إن الفطر بالأكل والشرب عمداً، يوجب ما يوجبه الجماع من القضاء والكفارة، وبه قال مالك وأبوحنيفة وأصحابهما. وذهب سعيد بن

وأنا صائم ـــــــــــــــــــــــــــــ جبير والنخعي وابن سيرين وحماد والشافعي وأحمد وأهل الظاهر، إلى أن الكفارة إنما تلزم في الإفطار بالجماع فقط. فحملوا قوله "أفطر" ههنا على المقيد في الرواية الأخرى، وهو قوله وقعت علي امرأتي وكأنه قال أفطر بجماع واحتج من أوجب الكفارة مطلقاً بقياس الآكل على المجامع بجامع ما بينهما من انتهاك حرمة الصوم، وبأن من أكره على الأكل فسد صومه كما يفسد صوم من أكره على الجماع بجامع ما بينهما. وتعقب بأن الفرق بين الانتهاك بالجماع والأكل ظاهر فلا يصح هذا القياس. قال ابن قدامة: لا يصح قياسه على الجماع؛ لأن الحاجة إلى الزجر عنه أمس والحكم في التعدي به آكد، ولهذا يجب به الحد إذا كان محرماً. ويختص بإفساد الحج دون سائر محظوراته، ووجوب البدنة. ولأنه في الغالب يفسد صوم اثنين بخلاف غيره - انتهى. وقد وقع في حديث عائشة نظير ما وقع في حديث أبي هريرة، فمعظم الروايات فيها وطئت امرأتي ونحو ذلك، وفي رواية ساق مسلم إسنادها وساق أبوعوانة في مستخرجة متنها أنه قال أفطرت في رمضان، والقصة واحدة ومخرجها متحد، فيحمل على أنه أراد أفطرت في رمضان بجماع. وقد وقع في مرسل سعيد بن المسيب عند سعيد بن منصور أصبت امرأتي ظهراً في رمضان وبتعين رمضان، يفهم الفرق في وجوب كفارة الجماع في الصوم بين رمضان وغيره من الواجبات كالنذر هذا. وقد استدل لمذهب الحنفية ابن الهمام بقوله أفطر في بعض الروايات والكاساني بالمواقعة المذكورة في أكثر الروايات وبالقياس عليها، وأطالا الكلام في تقرير ذلك من شاء الوقوف عليه رجع إلى فتح القدير والبدائع. وقال صاحب فتح الملهم: بعد ذكر تقرير ابن الهمام. والحق إن هذه الأدلة لا تخلو عن ضعف إسناد وضعف دلالة على المطلوب فلا تصلح أن تكون دعامة لإثبات المسألة وأساساً له نعم، تعتبر في معرض الاستشهاد والتأئيد بعد ثبوت أصل المسألة ثم ذكر تقرير صاحب البدائع وابن الهمام لإثبات أصل المسألة بالجماع المذكور في الروايات وبالقياس عليه ثم قال: ولكن يختلج في قلب العبد الضعيف إن الوصف المؤثر الذي هو مناط الحكم في المنصوص هل هو إفساد الصوم بالجماع خاصة أو إفساده بالمفطر الكامل مطلقاً والظاهر من إيجاب التكفير بكفارة الظهار هو الأول، فإن المظاهر يحرم إمراته على نفسه تحريماً غليظاً بإفحاش القول فيه، ثم يعود لما قاله فيجب عليه كفارة الظهار. وهكذا الصائم في رمضان لما حرم على نفسه الجماع تحريماً غليظاً بنيته ومصادفته ذلك الوقت الشريف المبارك، ثم وقع فيه صار مثل المظاهر وصار حكمهما واحداً، وليس كل من حرم على نفسه أكل شيء أو شربه بأغلظ الأقوال وأفحشها ثم حنث فيه يجب عليه ما يجب على المظاهر، فافترق الجماع، والأكل ضرورة فكيف يكون المفطر بالأكل ملحقاً بالمظاهر في وجوب الكفارة والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب - انتهى. (وأنا صائم) جملة حالية من قوله: " وقعت" فيؤخذ منه إنه لا يشترط في إطلاق اسم المشتق بقاء المعنى المشتق منه حقيقة لاستحالة كونه صائماً مجامعاً في حالة واحدة، فعلى هذا قوله وطئت أي شرعت في الوطء

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا، قال فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: هل تجد إطعام ستين مسكيناً قال: لا، ـــــــــــــــــــــــــــــ أو أراد جامعت بعد إذ أنا صائم قاله الحافظ (هل تجد رقبة تعتقها) أي تقدر فالمراد الوجود الشرعي ليدخل فيه القدرة بالشراء ونحوه، ويخرج عنه مالك الرقبة المحتاج إليها بطريق معتبر شرعاً. وفي رواية لأحمد أتستطيع أن تعتق رقبة (قال) الرجل (لا) أجد رقبة، وفي حديث ابن عمر عند أبي يعلى والطبراني. فقال: والذي بعثك بالحق ما ملكت رقبة قط. واستدل به من أجاز إعتاق الرقبة الكافرة في الكفارة لأجل الإطلاق وهم الحنفية وابن حزم، ومن يشترط الإيمان وهم الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد، يقيد الإطلاق ههنا بالتقييد في كفارة القتل، وهو ينبني على أن السبب إذا اختلف واتحد الحكم، هل يقيد المطلق أم لا؟ وإذا قيد فهل هو بالقياس أم لا؟ والمسألة مشهورة في أصول الفقه. والأقرب أنه إن قيد فبالقياس، ويؤيده التقييد في مواضع أخرى (فهل تستطيع) أي تقوى وتقدر (أن تصوم شهرين متتابعين) وفي رواية للبخاري قال: فصم شهرين متتابعين، وفيه اشتراط التتابع، وعلى هذا جمهور الفقهاء. وقال ابن أبي ليلى: ليس التتابع بلازم في ذلك، والحديث حجة عليه (قال لا) وفي رواية لا أقدر عليه، وللبزار وهل لقيت ما لقيت إلا من الصيام. قال ابن دقيق العيد: لا إشكال في الانتقال عن الصوم إلى الإطعام، لكن رواية البزار هذه افتضت إن عدم استطاعته لشدة شبقه وعدم صبره عن الوقاع، فنشأ للشافعية نظر هل يكون ذلك أي شدة الشبق عذراً، حتى يعد صاحبه غير مستطيع للصوم أو لا؟ والصحيح عندهم اعتبار ذلك. ويلتحق به من يجد رقبة لا غنى به عنها فإنه يسوغ له الانتقال إلى الصوم مع وجودها لكونه في حكم غير الواجد كذا في الفتح (قال هل) وفي البخاري قال فهل (تجد إطعام ستين مسكيناً قال لا) وفي رواية فهل تستطيع إطعام وفي أخرى فتطعم ستين مسكيناً. قال: لا أجد. ولأحمد أفتستطيع أن تطعم ستين مسكيناً قال لا، وذكر الحاجة. وفي حديث ابن عمر قال والذي بعثك بالحق ما أشبع أهلي، والمراد بالمسكين هنا أعم من الفقير، لأن كلا منهما حيث أفرد يشمل الآخر. وإنما يفترقان عند اجتماعهما نحو {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} [التوبة:60] والخلاف في معناهما حينئذٍ معروف. قال ابن دقيق العيد: قوله: "إطعام ستين مسكيناً، يدل على وجوب إطعام هذ العدد؛ لأنه أضاف الإطعام الذي هو مصدر أطعم إلى ستين، فلا يكون ذلك موجوداً في حق من أطعم عشرين مسكيناً ثلاثة أيام مثلاً. ومن أجاز ذلك فكأنه استنبط من النص معنى يعود بالإبطال، والمشهور عن الحنفية الإجزاء حتى لو أطعم الجميع مسكيناً واحداً في ستين يوماً كفى. قال الحافظ: والمراد بالإطعام الإعطاء لا اشتراط حقيقة

....................... ـــــــــــــــــــــــــــــ الإطعام من وضع المطعوم في الفم. بل يكفي الوضع بين يديه بلا خلاف، وفي إطلاق الإطعام ما يدل على الاكتفاء بوجود الإطعام من غير اشتراط مناولة بخلاف زكاة الفرض، فإن فيها النص على الإيتاء. وصدقة الفطر فإن فيها النص على الأداء، وفي ذكر الإطعام ما يدل على وجود طاعمين فيخرج الطفل الذي لم يطعم كقول الحنفية، ونظر الشافعي إلى النوع فقال: يسلم لوليه وذكر الستين ليفهم أنه لا يجب ما زاد عليها، ومن لم يقل بالمفهوم تمسك بالإجماع على ذلك. والحكمة في هذه الخصال الثلاث في الكفارة على ما ذكر إن من انتهك حرمة الصوم بالجماع فقد أهلك نفسه بالمعصية، فناسب أن يعتق رقبة فيفدى نفسه. وقد صح أن من اعتق رقبة اعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار. وأما الصيام فمناسبته ظاهرة؛ لأنه كالمقاصة بجنس الجناية. وأما كونه شهرين فلأنه لما أمر بمصابرة النفس في حفظ كل يوم من شهر رمضان على الولاء، فلما أفسد منه يوماً كان كمن أفسد الشهر كله من حيث أنه عبادة واحدة بالنوع، فكلف بشهرين مضاعفة على سبيل المقابلة لنقيض قصده. وأما الإطعام فمناسبته ظاهرة؛ لأنه مقابلة كل يوم بإطعام مسكين. وفي الحديث دليل على جريان الخصال الثلاث المذكورة، في الكفارة وإليه ذهب جمهور العلماء، واختلفت الرواية عن مالك في ذلك، فالمشهور عنه الجزم في كفارة الجماع في رمضان بالإطعام دون غيره من الصيام والعتق، وعنه يكفر بالأكل بالتخيير، وفي الجماع بالإطعام فقط. وعنه التخيير مطلقاً، وفي المدونة. ولا يعرف مالك غير الإطعام ولا يأخذ بعتق ولا صيام. قال ابن دقيق العيد: وهي معضلة لا يهتدي إلى توجيهها مع مصادمة الحديث الثابت غير أن بعض المحققين من أصحابه حمل هذا اللفظ وتأوله على الاستحباب في تقديم الطعام على غيره من الخصال، ووجهوا ترجيح الطعام على غيره بوجوه فذكرها ثم قال: وكل هذه الوجوه لا تقاوم ما ورد في الحديث من تقديم العتق على الصيام، ثم الإطعام سواء، قلنا الكفارة على الترتيب أو التخيير فإن هذه البداءة إن لم تقتض وجوب الترتيب فلا أقل من أن تقتضي استحبابه، واحتج لمالك أيضاً بأن حديث عائشة لم يقع فيه سوى الإطعام، وجوابه أنه اختصار من بعض الرواة، وقد ورد فيه من وجه آخر ذكر العتيق أيضاً، ووقع في حديث أبي هريرة ذكر العتق وصيام شهرين أيضاً، والقصة واحدة. ومن حفظ حجة على من لم يحفظ. ومن المالكية من وافق على هذا الاستحباب، ومنهم من قال إن الكفارة تختلف باختلاف الأوقات، ففي وقت الشدة تكون بالإطعام، وفي غيرها تكون بالعتق والصوم، ونقلوه عن محققي المتأخرين. ومنهم من قال الإفطار بالجماع يكفر بالخصال الثلاث وبغيره لا يكفر إلا بالإطعام وهو قول أبي مصعب. وقال ابن جرير الطبري: هو مخير بين العتيق والصوم، ولا يطعم إلا عند العجز عنهما. وفي الحديث أنه لا مدخل لغير هذه الثلاث في الكفارة وجاء عن بعض المتقدمين إهداء البدنة عند تعذر الرقبة، وربما أيده بعضهم بإلحاق إفساد

قال "أجلس" ومكث النبي صلى الله عليه وسلم، فبينا نحن على ذلك، أتى النبي صلى الله عليه وسلم ـــــــــــــــــــــــــــــ الصيام بإفساد الحج. وورد ذكر البدنة في مرسل سعيد بن المسيب عند مالك في الموطأ وهو مع إرساله قد رده سعيد بن المسيب، وكذب من نقله عنه كما روى سعيد بن منصور. ورواه ابن عبد البر من طريق مجاهد عن أبي هريرة موصولاً، لكنه من رواية ليث بن أبي سليم عن مجاهد، وليث ضعيف، وقد اضطرب في روايته سنداً ومتناً فلا حجة فيه. واختلف في أن الكفارة بالخصال الثلاث على الترتيب أو على التخيير، والمراد بالترتيب أن لا ينتقل المكلف إلى المؤخر في الذكر إلا بعد العجز عن الذي قبله، وبالتخيير أن يفعل منها ما شاء ابتداء من غير عجز، فذهب مالك إلى أنها على التخيير. وقال الشافعي وأحمد وأبوحنيفة: هي مرتبة فالعتق أولاً، فإن لم يجد فالصيام، فإن لم يستطع فالإطعام، واحتجوا بحديث الباب. قال ابن العربي: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نقله من أمر بعد عدمه لأمر آخر، وليس هذا شأن التخيير، ونازع عياض في ظهور دلالة الترتيب في السؤال عن ذلك. فقال: إن مثل هذا السؤال قد يستعمل فيما هو على التخيير، وقرره ابن المنير بأن شخصاً لو حنث فاستفتى. فقال المفتى: أعتق رقبة فقال: لا أجد فقال: صم ثلاثة أيام إلى آخره، لم يكن مخالفاً لحقيقة التخيير بل يحمل على أن إرشاده إلى العتق لكونه أقرب لتنجيز الكفارة. وقال البيضاوي: ترتيب الثاني بالفاء على فقد الأول، ثم الثالث بالفاء على فقد الثاني، يدل على عدم التخيير مع كونها في معرض البيان، وجواب السؤال فينزل منزلة الشرط للحكم. قال الحافظ: وسلك الجمهور في ذلك مسلك الترجيح، بأن الذين رَوَوا الترتيب عن الزهري أكثر ممن روى التخيير فإن الذين رووا الترتيب عنه هم تمام ثلاثين نفساً أو أزيد، ورجح الترتيب أيضاً بأن راويه حكى لفظ القصة على وجهها فمعه زيادة علم من صورة الواقعة، وراوي التخيير حكى لفظ راوي الحديث، فدل على أنه من تصرف بعض الرواة، إما لقصد الاختصار أو لغير ذلك، ويترجح الترتيب أيضاً بأنه أحوط لأن الأخذ به مجزيء سواء قلنا بالتخيير أولاً بخلاف العكس. وقيل: أو في الرواية الأخرى ليست للتخيير، وإنما هي للتفسير والتقدير أمر رجلاً أن يعتق رقبة أو يصوم إن عجز عن العتق أو يطعم إن عجز عنهما (قال: إجلس) قيل: إنما أمره بالجلوس لانتظار الوحي في حقه أو كان عرف أنه سيؤتي بشيء يعينه به (ومكث) بضم الكاف وفتحها (النبي - صلى الله عليه وسلم -) لفظ البخاري في هذه الرواية التي ساقها في الصيام في باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق عليه فليكفر قال (أي أبوهريرة) فمكث النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي بعض النسخ فمكث عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي رواية ابن عيينة عند البخاري في النذور. قال: اجلس فجلس، فجمع المصنف هنا بين الروايتين تقليداً لما في جامع الأصول للجزري (ج7 ص278) (فبينا) بغير ميم (نحن على ذلك) أي ما ذكر من الجلوس والمكث وجواب بينا قوله (أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -) بضم الهمزة مبنياً للمفعول ولم يسم الآتي وعند البخاري في

بعرق فيه تمر- والعرق: المكتل الضخم- ـــــــــــــــــــــــــــــ الكفارات فجاء رجل من الأنصار (بعرق) بفتح العين والراء بعدها قاف. قال ابن التين: كذا لأكثر الرواة، وفي رواية أبي الحسن القابسي بإسكان الراء. قال عياض: والصواب الفتح. وقال ابن التين: أنكر بعضهم الإسكان لأن الذي بالإسكان هو العظم الذي عليه اللحم. قال الحافظ: إن كان الإنكار من جهة الاشتراك مع العظم فلينكر الفتح؛ لأنه يشترك مع الماء يتحلب من الجسد، نعم الراجح من حيث الرواية الفتح، ومن حيث اللغة أيضاً، إلا أن الإسكان ليس بمنكر، بل أثبته بعض أهل اللغة كالقزاز - انتهى. قال الجزري في جامع الأصول (ج7 ص547) العرق بفتح الراء خوص منسوج مضفور يعمل منه الزنبيل عرقاً فسمي الزنبيل؛ لأنه يعمل منه (فيه تمر) أي من تمر الصدقة ويروي فيها بالتأنيث على معنى القفة. قال عياض: المكتل والقفة والزنبيل سواء (والعرق المكتل) بكسر الميم وسكون الكاف وفتح المثناة بعدها لام الزنبيل الكبير (الضخم) بفتح الضاد وسكون الخاء أي العظيم وهذا لفظ البخاري في النذور. ووقع في الصيام في هذه الرواية، والعرق المكتل، أي بحذف لفظ الضخم، وههنا أيضاً تقلد المصنف الجزري. قال الحافظ: وهو تفسير من أحد رواته وظاهر هذا الرواية إنه الصحابي لكن في رواية ابن عيينة ما يشعر بأنه الزهري، وفي رواية فأتى بمكتل يدعى العرق، وفي أخرى فأتى بعرق فيه تمر، وهو الزبيل، ولأحمد فأتى بزبيل وهو المكتل. قال الأخفش: سمي المكتل عرقاً لأنه يضفر عرقه عرقة، فالعرق جمع عرقة كعلق وعلقه، والعرقة الضفيرة من الخوص، بضم الخاء ورق النخل. والزبيل بوزن رغيف هو المكتل سمي زبيلاً لحمل الزبل فيه. وفيه لغة أخرى زنبيل بكسر الزاي أوله وزيادة نون ساكنة. وقد تدغم النون فتشدد الباء مع بقاء وزنه، وجمعه على اللغات الثلاث زنابيل قال الحافظ: ووقع في بعض طرق حديث عائشة عند مسلم فجاءه عرقان، والمشهور في غيرها عرق، ورجحه البيهقي (في السنن ج4 ص225) وجمع غيره بينهما بتعدد الواقعة وهو جمع لا نرضاه لاتحاد مخرج الحديث، والأصل عدد التعدد. والذي يظهر أن التمر كان قدر عرق، لكنه كان في عرقين في حال التحميل على الدابة ليكون أسهل في الحمل فيتحمل أن الآتي به لما وصل أفرغ أحدهما في الآخر فمن قال عرقان أراد ابتداء الحال: ومن قال عرق أراد ما آل إليه والله أعلم. قال ولم يعين في هذه الرواية مقدار ما في المكتل من التمر بل ولا في شيء من طرق الصحيحين في حديث أبي هريرة، ووقع في رواية ابن أبي حفصة (عند أحمد ج2 ص516) والدارقطني (ص252) والبيهقي (ج4 ص222) فيه خمسة عشر صاعاً، وفي رواية مؤمل عن سفيان فيه خمسة عشر أو نحو ذلك، وفي رواية مهران بن أبي عمر عن الثوري عند ابن خزيمة فيه خمسة عشر أو عشرون، وكذا هو عند مالك وعبد الرزاق في مرسل سعيد بن المسيب، وفي مرسله عند

قال: أين السائل؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ الدارقطني الجزم بعشرين صاعاً. ووقع في حديث عائشة عند ابن خزيمة (والبيهقي ج4 ص223) فأتى بعرق فيه عشرون صاعاً. قال البيهقي: قوله: عشرون صاعاً بلاغ بلغ به محمد بن جعفر يعني بعض رواته وقد بين ذلك محمد بن إسحاق عنه فذكر الحديث، وقال في آخره قال محمد بن جعفر: فحدثت بعد أن تلك الصدقة كانت عشرين صاعاً من تمر قلت (قائله الحافظ) ووقع في مرسل عطاء بن أبي رباح وغيره عند مسدد فأمر له ببعضه، وهذا يجمع الروايات فمن قال أنه كان عشرين أراد أصل ما كان فيه، ومن قال خمسة عشر أراد ما تقع به الكفارة ويبين ذلك حديث على عند الدارقطني (ص251) تطعم ستين مسكيناً لكل مسكين مد. وفيه فأتى بخمسة عشر صاعاً فقال أطعمه ستين مسكيناً، وكذا في رواية حجاج عن الزهري عند الدارقطني (ص242) والبيهقي (ج4 ص226) في حديث أبي هريرة. وفيه رد على الكوفيين (أي أبوحنيفة وأصحابه) في قولهم إن واجبه من القمح ثلاثون صاعاً ومن غيره ستون صاعاً، ولقول عطاء إن أفطر بالأكل أطعم عشرين صاعاً أو بالجماع أطعم خمسة عشر وعلى أشهب في قوله لو غداهم أو عشاهم كفى لصدق الإطعام ولقول الحسن يطعم أربعين مسكيناً عشرين صاعاً - انتهى. واحتج الكوفيون بما وقع في بعض طرق حديث عائشة عند مسلم والبيهقي (ج4 ص224) فجاءه عرقان فيهما طعام فأمره أن يتصدق به فإن العرق إذا كان خمسة عشر صاعاً، فالعرقان ثلاثون صاعاً على ستين مسكيناً لكل مسكين نصف صاع، وتعقبه العيني فقال ليت شعري كيف فيه رد على الكوفيين. وهم قد احتجوا بما رواه مسلم فجاءه عرقان فيهما طعام وقد ذكرنا أن العرقيين يكون ثلاثين صاعاً فيعطى لكل مسكين نصف صاع بل الرد على أئمتهم حيث احتجوا فيما ذهبوا إليه بالروايات المضطربة وفي بعضها الشك فالعجب أنه يرد على الكوفيين مع علمه إن احتجاجهم قوي صحيح – انتهى. قال صاحب فتح الملهم، بعد ذكره قلت: والإنصاف إن الاحتجاج بحديث العرقيين يتوقف على إثبات إن المراد بلفظ: الطعام الوارد فيه القمح وهو غير ظاهر بل الظاهر أنه التمر، كما صرح به في حديث أبي هريرة ولا يكفي منه ثلاثون صاعاً عند الكوفيين أيضاً اللهم إلا أن يقال بتعدد القصة في حديثي أبي هريرة وعائشة، نعم وقع في قصة المظاهر عند أبوداود قوله - صلى الله عليه وسلم -: فأطعم وسقاً من تمر بين ستين مسكيناً والوسق ستون صاعاً وكفارة الظهار هي كفارة الصوم، فبهذا ينتهض الاستدلال للكوفيين والله تعالى أعلم - انتهى. قلت: دعوى التعدد مخدوشة لكونها خلاف الظاهر والأصل. وأما رواية أبي داود في قصة المظاهر ففي إسنادها محمد بن إسحاق وقد عنعن وفيه أيضاً سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر. قال البخاري: هو مرسل سليمان بن يسار لم يدرك سلمة بن صخر ودعوى الاضطراب في حديث أبي هريرة مدفوعة كما رأيت في كلام الحافظ (أين السائل) أطلق عليه ذلك لأن كلامه متضمن للسؤال فإن مراده هلكت فما ينجيني وما

قال: أنا، قال: خذ هذا فتصدق به، ـــــــــــــــــــــــــــــ يخلصني مثلاً وفي حديث عائشة أين المحترق وقد سبق توجيهه (قال أنا) أي أنا هو أو أنا السائل (خذ هذا فتصدق به) أي بالتمر الذي فيه على المساكين. وفيه دليل لما ذهب إليه الجمهور من أن الإعسار لا يسقط الكفارة وسيأتي الكلام في هذه المسألة. قال الحافظ: وزاد ابن إسحاق (عند البزار) فتصدق به عن نفسك ويؤيده رواية منصور في الصيام عند البخاري بلفظ: أطعم هذا عنك ونحوه في مرسل سعيد بن المسيب عند الدارقطني. واستدل بأفراده بذلك على أن الكفارة عليه وحده دون الموطوءة، وكذا قوله في المراجعة هل تستطيع وهل تجد وغير ذلك وهو الأصح من قولي الشافعية وبه قال الأوزاعي. وقال الجمهور: (مالك وأبوحنيفة وأحمد في الروايتين عنه) وأبوثور وابن المنذر تجب الكفارة على المرأة أيضاً على الاختلاف وتفاصيل لهم في الحرة والأمة والمطاوعة والمكرهة وهل هي عليها أو على الرجل عنها واستدل الشافعية بسكوته عليه الصلاة والسلام عن إعلام المرأة بوجوب الكفارة مع الحاجة. وأجيب بمنع وجود الحاجة إذ ذاك؛ لأنها لم تعترف ولم تسأل، واعتراف الزوج عليها لا يوجب عليها حكماً ما لم تعترف وبأنها قضية حال فالسكوت عنها لا يدل على الحكم لاحتمال أن تكون المرأة لم تكن صائمة لعذر من الأعذار. ثم إن بيان الحكم للرجل بيان في حقها لاشتراكهما في تحريم الفطر وانتهاك حرمة الصوم كما لم يأمره بالغسل والتنصيص على الحكم في حق بعض المكلفين كاف عن ذكره في حق الباقين، ويحتمل أن يكون سبب السكوت عن حكم المرأة ما عرفه من كلام زوجها بأنها لا قدرة لها على شيء - انتهى كلام الحافظ. وبنحو هذا ذكر ابن دقيق العيد (ج2 ص219- 220) وقال الخطابي (ج2 ص117) في أمره الرجل بالكفارة لما كان منه من الجناية دليل على أن على المرأة كفارة مثلها، لأن الشريعة قد سوت بين الناس في الأحكام إلا في مواضع قام عليها دليل التخصيص وإذا لزمها القضاء؛ لأنها أفطرت بجماع متعمد كما وجب على الرجل وجبت عليها الكفارة لهذه العلة كالرجل سواء وهذا مذهب أكثر العلماء. وقال الشافعي: يجزيهما كفارة واحدة وهي على الرجل دونها وكذلك قال الأوزاعي إلا أنه قال: إن كانت الكفارة بالصيام كان على كل واحد منهما صوم شهرين واحتجوا بأن قول الرجل أصبت أهلي سؤال عن حكمه وحكمها؛ لأن الإصابة معناها إنه واقعها وجامعها وإذا كان هذا الفعل قد حصل منه، ومنه معاً. ثم أجاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المسألة فأوجب فيها كفارة واحدة على الرجل ولم يعرض لها بذكر دل على أنه لا شيء عليها وإنها مجزئة في الأمرين معاً ألا ترى أنه بعث أنيساً إلى المرأة التي رميت بالزنا وقال إن اعترفت فارجمها فلم يهمل حكمها لغيبتها عن حضرته. فدل هذا على أنه لو رأى عليها كفارة لألزمها ذلك ولم يسكت عنها قلت (قائله الخطابي) وهذا غير لازم

.................. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأن هذا حكاية حال لا عموم لها وقد يمكن أن تكون المرأة مفطرة بعد زمن مرض أو سفر أو تكون مكرهة أو ناسية لصومها أو نحو ذلك من الأمور وإذا كان كذلك لم يكن ما ذكروه حجة يلزم الحكم بها. واحتجوا أيضاً في هذا بحرف يروونه في هذا الحديث وهو قوله: هلكت وأهلكت، قالوا: دل قوله: "وأهلكت" على مشاركة المرأة إياه في الجناية لأن الإهلاك يقتضي الهلاك ضرورة، كما أن القطع يقتضي الانقطاع قلت (قائله الخطابي) وهذه اللفظة غير محفوظة والمعلى بن منصور الذي روى هذا الحديث بهذا الحرف ليس بذاك في الحفظ والإتقان - انتهى. قلت: حكى العيني (ج11 ص30) عن شيخه العراقي أنه قال وردت هذه اللفظة مسندة من طرق ثلاثة. أحدها، ذكره الخطابي وقد رواها الدارقطني (ص251) من رواية أبي ثور. قال حدثنا معلى بن منصور حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري فذكره. قال الدارقطني: تفرد به أبوثور عن معلى بن منصور عن ابن عيينة بقوله "وأهلكت" وكلهم ثقات. الطريق الثاني، من رواية الأوزاعي عن الزهري، وقد رواها البيهقي بسنده (ج4 ص227) ثم نقل عن الحاكم إنه ضعف هذه اللفظة وحملها على أنها أدخلت على محمد بن المسيب الأرغياني، ثم استدل على ذلك. والطريق الثالث، من رواية عقيل عن الزهري رواها الدارقطني في غير السنن، قال حدثنا النيسابوري حدثنا محمد بن عزيز حدثني سلامه بن روح عن عقيل عن الزهري فذكره، وقد تكلم في سماع محمد بن عزيز من سلامة، وفي سماع سلامة من عقيل وتكلم فيهما. ثم ذكر الكلام فيهما، ثم قال وأجود طرق هذه اللفظة طريق المعلى بن منصور على أن المعلى بن منصور على أن المعلى وإن اتفق الشيخان على إخراج حديثه فقد تركه أحمد. وقال لم أكتب عنه كان يحدث بما وافق الرأي، وكان كل يوم يخطىء في حديثين أو ثلاثة - انتهى. قلت: معلى بن منصور هذا وثقة ابن معين والعجلي ويعقوب بن شيبة وابن سعد لكن قال اختلف فيه أصحاب الحديث فمنهم من يروي عنه. ومنهم من لا يروي عنه. وقال أبوحاتم الرازي: كان صدوقاً في الحديث. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به لأني لم أجد له حديثاً منكراً وذكره ابن حبان في الثقات، وروى له البخاري حديثين. وأما محمد بن عزيز فضعفه النسائي مرة، وقال مرة: لا بأس به، ووثقه العقيلي وسعيد بن عثمان ومسلمة. وقال أبوأحمد الحاكم. فيه نظر. وقال الذهبي: صدوق إنشاء الله. وقال الحافظ في التقريب: فيه ضعف، وقد تكلموا في صحة سماعة من عمه سلامة - انتهى. وأما سلامة فقال أبوزرعة: ضعيف منكر الحديث يكتب حديثه على الاعتبار. وقال أبوحاتم: ليس بالقوى محله عندي محل الغفلة. وقال ابن قانع: ضعيف. وقال مسلمة بن قاسم: لا بأس به. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال مستقيم الحديث. وقال في التقريب: صدوق له أوهام. وقيل لم يسمع من عمه عقيل، وإنما يحدث من كتبه - انتهى. وقال الحافظ في الفتح لا يلزم من قوله "وأهلكت" إيجاب الكفارة على المرأة

فقال الرجل: أعلي أفقر مني يا رسول الله! فوالله، ما بين لابيتها- يريد الحرتين- أهل بيت أفقر من أهل بيتي، ـــــــــــــــــــــــــــــ بل يحتمل أن يريد بقوله "هلكت" أثمت وأهلكت أي كنت سبباً في تأثيم من طاوعتني فواقعتها إذ لا ريب في حصول الإثم على المطاوعة ولا يلزم من ذلك إثبات الكفارة ولا نفيها أو المعنى هلكت، أي حيث وقعت في شيء لا أقدر على كفارته "وأهلكت" أي نفسي بفعل الذي جر عليّ الإثم، وهذا كله بعد ثبوت الزيادة المذكورة وقد ذكر البيهقي إن للحاكم في بطلانها ثلاثة أجزاء، ومحصل القول فيها إنها وردت من طريق الأوزاعي، ومن طريق ابن عيينة. أما الأوزاعي فتفرد بها محمد بن المسيب عن عبد السلام بن عبد الحميد عن عمر بن عبد الواحد والوليد ابن مسلم وعن محمد بن عقبة بن علقمة عن أبيه ثلاثتهم عن الأوزاعي. قال البيهقي: رواه جميع أصحاب الأوزاعي بدونها وكذلك جميع الرواة عن الوليد وعقبة وعمرو محمد بن المسيب كان حافظاً مكثراً إلا أنه كان في آخر أمره عمي فلعل هذه اللفظة أدخلت عليه وقد رواه أبوعلي النيسابوري عنه بدونها، ويدل على بطلانها ما رواه العباس بن الوليد عن أبيه. قال سئل عن رجل جامع امرأته في رمضان قال: عليهما كفارة واحدة إلا الصيام. قيل له فإن استكرهها قال: عليه الصيام وحده. وأما ابن عيينة فتفرد بها أبوثور عن معلى بن منصور عنه. قال الخطابي: المعلى ليس بذاك الحافظ، وتعقبه ابن الجوزي بأنه لا يعرف أحد طعن في المعلى، وغفل عن قول الإمام أحمد أنه كان يخطىء كل يوم في حديثين أو ثلاثة فلعله حدث من حفظه بهذا فوهم. وقد قال الحاكم: وقفت على كتاب الصيام للمعلى بحظ موثوق به وليست هذه اللفظة فيه، وزعم ابن الجوزي إن الدارقطني أخرجه من طريق عقيل أيضاً وهو غلط منه، فإن الدارقطني لم يخرج طريق عقيل في السنن، وقد ساقه في العلل بالإسناد الذي ذكره عنه ابن الجوزي بدونها - انتهى. كلام الحافظ. وراجع السنن الكبرى للبيهقي (ج4 ص227) مع الجوهر النقي (أعلى أفقر مني) بهمزة الاستفهام والمجرور متعلق بمحذوف، أي أأتصدق على شخص أكثر حاجة مني. وقال الشيخ زكريا الأنصاري في شرح البخاري: هو بتقدير همزة الاستفهام التعجبي الداخلة على فعل حذف للعلم به من قوله "فتصدق به" قال الحافظ: وهذا يشعر بأنه فهم الإذن له في التصدق على من يتصف بالفقر وقد بين ابن عمر في حديثه ذلك فزاد فيه إلى من ادفعه قال إلى أفقر من تعلم أخرجه البزار والطبراني في الأوسط. وفي رواية إبراهيم بن سعد أعلى أفقر من أهلي ولابن مسافر عند الطحاوي أعلى أهل بيت أفقر مني، ولمنصور أعلى أحوج منا (ما بين لابيتها) بغير همزة تثنية لابة، بالباء الموحدة المفتوحة، ثم التاء المثناة من فوق، والضمير للمدينة. قال الجزري في جامع الأصول (ج7 ص547) اللابة، الأرض ذات الحجارة السود الكثيرة، وهي الحرة ولابتا المدينة حرتاها من جانبيها - انتهى. (يريد) أي الرجل باللابتين وهذا من كلام بعض رواته (الحرتين) بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء تثنية حرة وهي الأرض ذات الحجارة السود، والمدينة بين حرتين (أهل بيت أفقر من أهل بيتي) برفع أهل اسم "ما"

فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: أطعمه أهلك)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ النافية وأفقر بالنصب على أنه خبرها إن أجعلت "ما" حجازية، وبالرفع إن جعلتها تميمية قاله الزركشي وغيره. وقال البدر الدماميني: وكذا إن جعلتها حجازية ملغاة من عمل النصب بناء على أن قوله "ما بين لابيتها" خير مقدم، وأهل بيت مبتدأ مؤخر، وأفقر صفة له، وفي رواية عقيل: ما أحد أحق به من أهلي ما أحد أحوج إليه مني، وفي مرسل سعيد: والله ما لعيالي من طعام، وفي حديث عائشة عند ابن خزيمة: ما لنا عشاء ليلة (فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت) أي ظهرت (أنيابه) جمع ناب، وهو السن الذي بعد الرباعية، وهي أربعة. وفي رواية ابن إسحاق حتى بدت نواجذه. قيل: إن ضحكة - صلى الله عليه وسلم - كان تعجباً من تباين حال الرجال حيث جاء خائفاً على نفسه، راغباً في فداءهما مهما أمكنه، فلما وجد الرخصة طمع في أن يأكل ما أعطيه من الكفارة. وقيل: ضحك من حال الرجل في مقاطع كلامه وحسن تأنيه وتلطفه في الخطاب، وحسن توسله في توصله إلى مقصوده. قيل: وقد يكون من رحمة الله تعالى وتوسعة عليه وإطعامه له هذا الطعام، وإحلاله له بعد أن كلف إخراجه، والضحك، غير التبسم. وقد ورد إن ضحكه كان تبسماً أي في غالب أحواله (أطعمه) أي ما في العرق من التمر (أهلك) أي من تلزمك نفقته أو مطلق أقاربك، ولابن عيينة عند البخاري في الكفارات أطعمه عيالك، ولأبي قرة عن ابن جريج ثم قال كله. ولابن إسحاق خذها وكلها وأنفقها على عيالك، ونحوه في رواية عبد الجبار ابن عمر وحجاج بن أرطاة وهشام بن سعد كلهم عن الزهري عند البيهقي (ج4 ص226) وغيره. واستدل به على سقوط الكفارة عن المعسر وهو أحد قولي الشافعية وإحدى الروايتين عن أحمد وبه جزم عيسى بن دينار من المالكية وهو قول الأوزاعي. قال ابن قدامة (ج3 ص132) وإن عجز عن العتق والصيام والإطعام سقطت الكفارة عنه في إحدى الروايتين (عن أحمد) بدليل إن الأعرابي لما دفع إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - التمر وأخبره بحاجته إليه قال أطعمه أهلك ولم يأمره بكفارة أخرى، وهذا قول الأوزاعي. وقال الزهري: لابد من التكفير وهذا خاص لذلك الأعرابي لا يتعداه بدليل أنه أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإعساره قبل أن يدفع إليه العرق، ولم يسقط عنه؛ ولأنها كفارة واجبة فلم تسقط بالعجز عنها كسائر الكفارات، وهذا رواية ثانية عن أحمد، وهو قياس قول أبي حنيفة والثوري وأبي ثور وعن الشافعي كالمذهبين. ولنا الحديث المذكور ودعوى التخصيص لا تسمع بغير دليل، وقولهم إنه أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعجزه فلم يسقطها، قلنا قد أسقطها عنه بعد ذلك وهذا آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يصح القياس على سائر الكفارات. لأنه إطراح للنص بالقياس والنص أولى - انتهى. قلت آخر الحديث ليس نصاً في إسقاط الكفارة عند الإعسار بل هو محتمل لوجوه أخرى كما سيأتي، وأول

..................... ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث نص في عدم سقوط الكفارة بالإعسار فلا يترك بالمحتمل. وقال ابن دقيق العيد (ج2 ص218) تباينت المذاهب فيه أي في قوله أطعمه أهلك. فقيل: إنه دليل على سقوط الكفارة بالإعسار المقارن لسبب وجوبها؛ لأن الكفارة لا تصرف إلى النفس ولا إلى العيال ولم يبين النبي - صلى الله عليه وسلم - استقرارها في ذمته إلى حين يساره ويتأيد ذلك بصدقة الفطر حيث تسقط بالإعسار المقارن بسبب وجوبها وهو هلال الفطر لكن الفرق بينهما إن صدقة الفطر لها أمد تنتهي إليه، وكفارة الجماع لا أمد لها فتستقر في الذمة. وليس في الخبر ما يدل على إسقاطها بل فيه ما يدل على استمرارها على العاجز. وقيل لا تسقط الكفارة بالإعسار المقارن وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والصحيح من مذهب الشافعي أيضاً، وبعد قول بهذا المذهب. ففيه طريقان، أحدهما منع أن لا تكون الكفارة أخرجت في هذه الواقعة، يعني إن الذي أذن له في التصرف فيه كان على سبيل الكفارة. ثم اختلفوا فقال بعضهم: هذا خاص بهذا الرجل أي كونه أكله من صدقة نفسه وإطعام أهله منها مجزئاً عن كفارته مخصوص بهذا الرجل لا يتعداه. ورد بأن الأصل عدم الخصوصية. وقال بعضهم: هو منسوخ وهذا أيضاً مردود. لأنه لا دليل على النسخ. وقال بعضهم: المراد بالأهل الذين أمر بصرفها إليهم من لا تلزمه نفقته من أقاربه، وضعف بالرواية التي فيها عيالك. وبالرواية المصرحة بالإذن له في الأكل من ذلك. وقال بعضهم: لما كان فقيراً عاجزاً لا يجب عليه النفقة لغيره وكان أهله فقراء أيضاً جاز أعطاء الكفارة عن نفسه لهم. وقد جوز بعض الشافعية لمن لزمته الكفارة مع الفقر أن يصرفها إلى أهله وأولاده. وضعف أيضاً بالرواية التي فيها تصريح بالإذن له في الأكل من ذلك. الطريق الثاني، وهو الأقرب الأقوى أن يجعل إعطاءه إياها لا على جهة الكفارة بل على جهة التصدق عليه وعلى أهله بتلك الصدقة لما ظهر من حاجتهم. وأما الكفارة فلم تسقط بذلك ولكن ليس استقرارها في ذمته مأخوذاً من هذا الحديث. وأما ما اعتلوا به من تأخير البيان فلا دلالة فيه لأن العلم بالوجوب قد تقدم، ولم يرد في الحديث ما يدل على الإسقاط، لأنه لما أخبره بعجزه ثم أمره بإخراج العرق دل على أن لا سقوط عن العاجز ولعله أخر البيان إلى وقت الحاجة: وهو القدرة كذا في الفتح. وقد ورد ما يدل على إسقاط الكفارة أو على أجزاءها عنه بإنفاقه إياها على عياله وهو قوله في حديث علي، وكله أنت وعيالك فقد كفر الله عنك، ولكنه حديث ضعيف لا يحتج بما انفرد به. قال القسطلاني: ولابن إسحاق خذها وكلها وأنفقها على عيالك أي لا عن الكفارة بل هو تمليك مطلق بالنسبة إليه وإلى عياله وأخذهم إياه بصفة الفقر، وذلك لأنه لما عجز عن العتق لإعساره وعن الصيام لضعفه، فلما حضر ما يتصدق به ذكر أنه وعياله محتاجون فتصدق به عليه الصلاة والسلام عليه، وأذن له في أكله وإطعام عياله وكان من مال الصدقة. وبقيت الكفارة في ذمته - انتهى. وحكى عن الشعبي والنخعي وسعيد

متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن جبير أن الكفارة غير واجبة أصلاً لا على موسر ولا معسر. قالوا: لأنه أباح له أن يأكل منها ولو كانت واجبة لما جاز ذلك وهو استدلال غير ناهض، لأن الحديث ظاهر في الوجوب وإباحة الأكل لا تدل على أنها كفارة، بل فيها الاحتمالات التي سلفت. وأعلم أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمره في هذه الرواية بقضاء اليوم الذي جامع فيه إلا أنه ورد الأمر بالقضاء في حديث أبي هريرة عند أبي داود والبيهقي والدارقطني وفي حديث عمرو بن شعيب عند البيهقي وابن أبي شيبة، وإليه ذهب أكثر العلماء. قال الزرقاني: إيجاب الكفارة القضاء مع الكفارة هو قول الأئمة الأربعة والجمهور، وأسقطه بعضهم. لأنه لم يرد في خبر أبي هريرة ولا خبر عائشة ولا في نقل الحفاظ لهما ذكر القضاء. وأجيب بأنه جاء من طرق يعرف بمجموعها إن لهذه الزيادة أصلاً يصلح للاحتجاج وعن الأوزاعي إن كفر بعتق أو إطعام قضى اليوم، وإن صام شهرين دخل فيهما قضاء ذلك اليوم - انتهى. وقال الحافظ في الفتح: استدل بالحديث على سقوط قضاء اليوم الذي أفسده المجامع إكتفاء بالكفارة إذ لم يقع التصريح في الصحيحين بقضاءه وهو محكى في مذهب الشافعي. وعن الأوزاعي يقضي إن كفر بغير الصوم وهو وجه للشافعية أيضاً. قال ابن العربي: إسقاط القضاء لا يشبه منصب الشافعي إذ لا كلام في القضاء لكونه أفسد العبادة. وأما الكفارة فإنما هي لما اقترف من الإثم. قال: وأما كلام الأوزاعي فليس بشيء. قال الحافظ: وقد ورد الأمر بالقضاء في هذا الحديث في رواية أبي أويس وعبد الجبار بن عمر وهشام بن سعد كلهم عن الزهري (عند البيهقي ج4 ص226) وأخرجه البيهقي من طريق إبراهيم بن سعد عن الليث عن الزهري. وحديث إبراهيم بن سعد في الصحيح عن الزهري نفسه بغير هذه الزيادة، وحديث الليث عن الزهري في الصحيحين بدونها، ووقعت الزيادة أيضاً في مرسل سعيد بن المسيب ونافع ابن جبير، والحسن ومحمد بن كعب. وبمجموع هذه الطرق يعرف أن لهذه الزيادة أصلاً. ويؤخذ من قوله صم يوماً عدم اشتراط الفورية للتنكير في قوله يوماً - انتهى. وهذا الخلاف في الرجل، فأما المرأة فيجب عليها القضاء من غير خلاف عندهم. وأعلم أن هذا الحديث جليل كثير الفوائد. قال الحافظ في الفتح: قد اعتنى بعض المتأخرين ممن أدركه شيوخنا بهذا الحديث فتكلم عليه في مجلدين جمع فيهما ألف فائدة وفائدة - انتهى. وما ذكرناه فيه كفاية (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق عليه فليكفر من كتاب الصيام إلا قوله إجلس وقوله الضخم. وقد سبق التنبيه على هذا، والحديث أخرجه البخاري أيضاً في الهبة والنفقات والأدب والنذور والمحاربين، وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي في الكبرى وابن ماجه والدارمي والدارقطني وابن خزيمة وأبوعوانة والبيهقي والطحاوي والبزار وغيرهم.

{الفصل الثاني}

{الفصل الثاني} 2025- (7) عن عائشة، ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم، ويمص لسانها)) . رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2025- قوله: (كان يقبلها وهو صائم) أي في رمضان وغيره (ويمص) بفتح الميم ويجوز ضمه (لسانها) قال ميرك: قيل إن ابتلاع ريق الغير يفطر إجماعاً، وأجيب على تقدير صحة الحديث إنه واقعة حال فعلية محتملة أنه عليه الصلاة والسلام كان يبصقه ولا يبتلعه وكان يمصه ويلقي جميع ما في فمه في فمها، والواقعة فعلية إذا احتملت لا دليل فيها - انتهى. قال القاري: ولا يخفى أن الوجه الثاني مع بعده إنما يتصور فيما إذا كانت غير صائمة - انتهى. وقال الحافظ في الفتح: إسناده ضعيف ولو صح فهو محمول على من يبتلع ريقه الذي خالط ريقها والله أعلم. وقال في فتح الودود: إن صح يحمل على غير حالة الصوم (إذ ليس فيه تصريح بأنه كان يفعل ذلك وهو صائم) أو على أنه يخرج ذلك الريق. قال ابن قدامة (ج3 ص106- 107) إن بلع ريق غيره أفطر. وأما حديث عائشة إن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبلها وهو صائم، ويمص لسانها. فقد روى عن أبي داود أنه قال، هذا إسناد ليس بصحيح، ويجوز أنه كان يقبل في الصوم ويمص لسانها في غيره ويجوز أن يمصه ثم لا يبتلعه، ولأنه لم يتحقق إنفصال ما على لسانها من البلل إلى فمه فأشبه ما لوترك حصاة مبلولة في فيه أو لو تمضمض بماء ثم مجه (رواه أبوداود) قال الحافظ في الفتح: رواه أبوداود وحده وإسناده ضعيف. وقال في تهذيب التهذيب: (ج9 ص156) قال النسائي: في حديث عائشة كان يقبلها ويمص لسانها هذه اللفظة لا توجد إلا في رواية محمد بن دينار - انتهى. والحديث عند أحمد وأبي داود - انتهى كلام الحافظ. وكتب على هامش عون المعبود (ج2 ص285) إنه وجدت العبارة الآتية بعد هذا الحديث في نسخة "قال ابن الأعرابي: بلغني عن أبي داود أنه قال هذا الإسناد ليس بصحيح" وقال المنذري: في إسناده محمد بن دينار الطاحي البصري. قال يحيى بن معين: ضعيف. وفي رواية ليس به بأس ولم يكن له كتاب. وقال غيره صدوق. وقال ابن عدي: قوله يمص لسانها في المتن لا يقوله إلا محمد بن دينار وهو الذي رواه وفي إسناده أيضاً سعد بن أوس. قال ابن معين: بصري ضعيف - انتهى. قلت: محمد بن دينار هذا. قال في التقريب ترجمته: إنه صدوق سيء الحفظ رمى بالقدر وتغير قبل موته. وأما سعد بن أوس وهو العدوي، ويقال العبدي البصري فذكره ابن حبان في الثقات. وقال الساجي: صدوق، ذكره في تهذيب التهذيب. وقال في التقريب: صدوق. له أغاليط والحديث أخرجه أيضاً البيهقي (ج4 ص234) .

2026- (89 وعن أبي هريرة، ((أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المباشرة للصائم، فرخص له. وأتاه آخر فسأله فنهاه، فإذا الذي رخص له شيخ، وإذا الذي نهاه شاب)) . رواه أبوداود. 2027- (9) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ذرعه القيء وهو صائم، فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمداً فليقض)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2026- قوله: (عن المباشرة) قيل: هي مس الزوج المرأة فيما دون الفرج. وقيل: هي القبلة واللمس باليد (فسأله) أي عن المباشرة (فنهاه) أي عنها (فإذا الذي رخص) أي فيها (شيخ وإذا الذي نهاه) عنها (شاب) فيه إشارة إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - أجابهما بمقتضى الحكمة، إذا الغالب على الشيخ سكون الشهوة وأمن الفتنة فأجاز له بخلاف الشاب فنهاه إهتماماً له، وفيه حجة لمن فرق بين الشيخ والشاب في المباشرة، والقبلة. وقد تقدم البسط في هذه المسألة (رواه أبوداود) وكذا البيهقي (ج4 ص231) وسكت عنه أبوداود والمنذري والحافظ في التلخيص (ص191) وقال في الفتح: فيه ضعف قلت: في سنده أبوالعنبس الكوفي العدوي الحارث بن عبيد ذكره ابن حبان في الثقات. وقال في التقريب: مقبول وقد أخرجه ابن ماجه عن ابن عباس ولم يصرح برفعه والبيهقي من حديث عائشة وأحمد والطبراني من حديث عبد الله بن عمرو وقد تقدم لفظهما. 2027- قوله: (من ذرعه القيء) بالذال المعجمة أي غلب عليه القيء فخرج بغير اختيار منه (فليس عليه قضاء) لأنه لا تقصير منه (ومن استقاء عمداً) أي تسبب لخروجه قصداً يعني طلب القيء وأخرجه باختياره. قال ابن قدامة: معنى استقاء تقيأ مستدعياً للقيء وذرعه خرج من غير اختيار منه (فليقض) وفي رواية فعليه القضاء. والحديث دليل على أنه لا يبطل صوم من غلبه القيء لقوله فلا قضاء عليه إذ عدم القضاء فرع الصحة. وعلى أنه يبطل صوم من تعمد إخراجه ولم يغلبه لأمره بالقضاء وإليه ذهب الجمهور، منهم الشافعي وأحمد ومالك وإسحاق، وحكى ابن المنذر الإجماع على بطلان الصوم بتعمد القيء، لكن روى عن ابن عباس وابن مسعود وربيعة وعكرمة إن القيء لا يفطر مطلقاً، سواء كان غالباً أو مستخرجاً ما لم يرجع منه شيء باختياره وهي إحدى الروايتين عن مالك. ونقل ابن المنذر الإجماع على ترك القضاء على من ذرعه القيء، وذهب قوم إلى أن القيء يفطر مطلقاً سواء كان غالباً أو مستخرجاً واستدلوا لذلك بحديث أبي الدرداء التالي وسيأتي الكلام فيه. قال ابن قدامة (ص117) من استقاء فعليه القضاء؛ لأن صومه يفسد به ومن ذرعه فلا شيء عليه، وهذا قول عامة أهل العلم. قال الخطابي: (ج2 ص112) لا أعلم خلافاً بين أهل العلم فيه، ولكن اختلفوا في الكفارة على من استقاء عامداً. فقال عامة أهل العلم ليس عليه غير

رواه الترمذي، وأبوداود، وابن ماجه، والدارمي. ـــــــــــــــــــــــــــــ القضاء. وقال عطاء: عليه القضاء والكفارة، وحكى عن الأوزاعي وهو قول أبي ثور. وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على إبطال صوم من استقاء عامداً، وحكى عن ابن مسعود وابن عباس إن القيء لا يفطر لما روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ثلاث لا يفطرن الصائم الحجامة والقيء والاحتلام، ولأن الفطر مما دخل لا مما خرج. ولنا ما روى أبوهريرة مرفوعاً من ذرعه القيء فليس عليه قضاء - الحديث، وحديثهم غير محفوظ (كما ستعرف) والمعنى الذي ذكر لهم يبطل بالحيض والمنى - انتهى. قلت: ويجاب عن حديث الثلاث بعد تسليم صلاحيته للاستدلال بأنه محمول على من ذرعه القيء جمعاً بين الأدلة وحملاً للعام على الخاص. قال ابن قدامة: وقليل القيء وكثيرة سواء في ظاهر قول الخرقي وهو إحدى الروايات عن أحمد، والرواية الثانية لا يفطر إلا بملء الفم، والثالثة نصف الفم والأولى أولى لظاهر حديث أبي ظاهر، ولأن سائر المفطرات لا فرق بين قليلها وكثيرها انتهى مختصراً. وقال الباجي (ج2 ص64) من استقاء يلزمه القضاء هذا قول مالك واختلف أصحابه في ذلك فقال الأبهري: هو على الاستحباب. وقال أبويعقوب الرازي: هو على الوجوب وبه قال الشافعي وأبوحنيفة، والدليل على وجوب ذلك إن المتعمد للقيء والمكروه لنفسه عليه لا يسلم في الغالب من رجوع شيء إلى حلقة فيقع به فطره، فلما كان ذلك الغالب من حاله حمل سائره على ذلك كالنوم في الحدث فإذا قلنا بوجوب القضاء فهل تلزمه الكفارة. قال أبوبكر عن ابن الماجشون عليه الكفارة. وقال القاضي أبومحمد: من قال من أصحابنا إن القضاء على الوجوب فإنه تلزمه الكفارة. وقال أبوالفرج: لو سئل عنه مالك لأوجب عليه الكفارة. قال الباجي: وفيه نظر. ويبطل عندي من وجهين أحدهما، أننا نوجب عليه القضاء لأننا لا نتيقن سلامة صومه فلابد له من القضاء لتبرأ ذمته من الصوم الذي لزمها، ونحن لا نتيقين فساد صومه فتوجب عليه الكفارة، والكفارة لم تثبت في ذمته قبل ذلك بأمر واجب. والثاني إن الكفارة إنما تجب إذا كان الفطر نفسه باختيار الصائم، فأما إذا فعل فعلاً يؤدي إلى وقوع الفطر منه بغير اختيار فلا تجب به عليه الكفارة - انتهى. وقيل: الجمع بين ما روى عن ابن عباس وابن مسعود وعلى من أن الفطر مما دخل لا مما خرج، وبين حديث الباب إن في الاستقاء يتحقق رجوع شيء مما يخرج، وإن قل حتى لا يحس به فلاعتباره يفطر، وفيما إذا ذرعه إن تحقق ذلك أيضاً لكن لا صنع له فيه، ولغيره من العباد فكان كالنسيان والخطأ (رواه الترمذي وأبوداود) الخ واللفظ للترمذي وأخرجه أيضاً أحمد (ج2 ص498) والنسائي في الكبرى وابن حبان والدارقطني (ص240) والحاكم (ج1 ص427) والبيهقي (ج4 ص219) وابن الجارود في المنتقى (ص198) والطحاوي (ج1 ص347) وابن حزم في المحلى (ج6 ص175) وإسحاق بن راهويه في مسنده جميعاً من طريق عيسى بن يونس عن هشام بن

وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عيسى بن يونس. وقال محمد- يعني البخاري- لا أراه محفوظاً. ـــــــــــــــــــــــــــــ حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة (وقال الترمذي هذا حديث غريب) كذا في جميع النسخ الحاضرة عندنا وكذا ذكره الحافظ في الفتح. ووقع في نسخ الترمذي الموجودة عندنا حديث حسن غريب، وكذا وقع في نقل المنذري في مختصر السنن، والزيلعي في نصب الراية (ج2 ص448) والعيني في شرح البخاري (ج11 ص35) وابن الهمام في فتح القدير، وهذا يدل على اختلاف نسخ الترمذي في ذلك. ولعل الصواب وجود لفظ الحسن فإن الظاهر إن الحديث لا ينحط عن درجة الحسن كما ستعرف (لا نعرفه) أي من حديث هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (إلا من حديث عيسى بن يونس) هو عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي الكوفي أخو إسرائيل نزل الشام مرابطاً ثقة مأمون من رجال الستة وثقة أحمد، وأبوحاتم ويعقوب بن شيبة وابن خراش وابن عمار والعجلي وأبوهمام وأبوزرعة وابن سعد وابن حبان والحاكم أبوأحمد والدارقطني وآخرون مات سنة (187) وقيل سنة (191) ودعوى تفرد عيسى بن يونس بهذا الحديث خطأ، لأنه قد تابعه عن هشام حفص بن غياث عند ابن ماجه والحاكم. قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المحلى: (ج1 ص175- 176) قد غلط الترمذي في دعوى انفراد عيسى به فقد رواه ابن ماجه من طريق الحكم بن موسى عن عيسى بن يونس ومن طريق أبي الشعثاء عن حفص بن غياث كلاهما عن هشام بن حسان به. وكذا رواه الحاكم (ج1 ص426 - 227) من طريق علي بن حجر عن عيسى، ومن طريق يحيى بن سليمان الجعفي عن حفص. وقال أبوداود: بعد حديث عيسى "ورواه أيضاً حفص بن غياث عن هشام مثله" فسقطت دعوى تفرد عيسى بروايته بل نقل الدارمي (وكذا إسحاق بن راهويه في مسنده كما في تخريج الهداية للزيلعي (ج2 ص449) عن عيسى أنه قال "زعم أهل البصرة أن هشاماً أوهم فيه فموضع الخلاف ههنا" وهشام ثقة حجة (من أثبت الناس في ابن سيرين) قال ابن أبي عروبة: ما رأيت أحفظ عن ابن سيرين من هشام. وقال أبوداود: إنما تكلموا في حديثه عن الحسن وعطاء، لأنه كان يرسل عنهما والذي هنا من رواية ابن سيرين وليس الحكم بالوهم على الراوي الثقة بالهين ولذلك صححه الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي وهو الحق - انتهى. قلت: وسكت عنه أبوداود وقواه الدارقطني وابن حزم حيث قال الدارقطني: بعد روايته طريق من عيسى بن يونس رواته ثقات كلهم. وقال ابن حزم: عيسى ابن يونس ثقة. (وقال محمد يعني البخاري: لا أراه) بضم الهمزة أي لا أظنه (محفوظاً) قال الطيبي: الضمير راجع إلى الحديث وهو عبارة عن كونه منكراً - انتهى. وحكى الحافظ في الفتح عن البخاري أنه قال بعد رواية الحديث من طريق عيسى "لم يصح" وإنما يروي عن عبد الله بن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة وعبد الله ضعيف جداً

2028- (10) وعن معدان بن طلحة، أنا أباالدرداء، حدثه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاء فأفطر. ـــــــــــــــــــــــــــــ – انتهى. وقال البيهقي (ج4 ص219) بعد روايته من طريق عيسى وحفص تفرد به هشام بن حسان، وقد أخرجه أبوداود وبعض الحفاظ لا يراه محفوظاً. قال أبوداود سمعت أحمد بن حنبل يقول: ليس من ذا شيء. قال الخطابي (ج2 ص112) يريد أن الحديث غير محفوظ. وقال الحافظ في بلوغ المرام: أعله أحمد. وقال في التلخيص (ص188) وأنكره أحمد. وقال في رواية ليس من ذا شيء وقال مهنأ عن أحمد حدث به عيسى وليس هو في كتابه غلط فيه وليس هو من حديثه. وقال الحاكم: صحيح على شرطهما، وأخرجه من حديث حفص بن غياث أيضاً - انتهى. وقال النسائي: وقفه عطاء عن أبي هريرة. وقال ابن عبد البر: الأصح إنه موقوف على أبي هريرة: قلت: لم يظهر لي وجه كون الوقف أرجح ولا وجه كون رواية عيسى غلطاً. وقد ثبت أنه تابعه حفص بن غياث وهما من ثقات الرواة ومن رجال الستة وكذا هشام بن حسان فلا يضر تفرده، فالظاهر إن الحديث حسن كما قال الترمذي أو صحيح كما قال الحاكم والذهبي. قال الترمذي: قد روى هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة مرفوعاً ولا يصح إسناده. وقال البيهقي: قد روى من وجه آخر ضعيف عن أبي هريرة مرفوعاً - انتهى. قلت يشير أن بذلك إلى ما أشار إليه البخاري من رواية عبد الله بن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة، ومن هذا الطريق أخرجه أبويعلى في مسنده وابن أبي شيبة في مصنفه كما في نصب الراية والدارقطني (ص240) ولا شك أن هذا الطريق ضعيف. وفي الباب عن ابن عمر موقوفاً عند مالك في الموطأ والشافعي، وأخرجه البيهقي من طريق الشافعي وعن على موقوفاً أخرجه عبد الرزاق والبيهقي. 2028- قوله: (وعن معدان) بفتح الميم (بن طلحة) كذا وقع في رواية أبي داود، ووقع عند الترمذي والدارمي "ابن أبي طلحة" ورجحه الترمذي ورجح ابن معين "معدان بن طلحة" (إن أباالدرداء حدثه) أي أخبره كما في رواية لأحمد (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاء فأفطر) قد استدل به على أن القيء يفطر مطلقاً، سواء كان غالباً أو مستخرجاً. ووجه الاستدلال إن "الفاء" تدل على أن الإفطار كان مرتباً على القيء، وبسببه وهو المطلوب فتكون هي للسببية وأجيب عن هذا بوجوه منها إن في سنده إضطراباً لا يصلح لذلك للاحتجاج. قال البيهقي: (ج1 ص144) إسناد هذا الحديث مضطرب، واختلفوا فيه اختلافاً شديداً، وحكى الحافظ عنه في التلخيص (ص188) أنه قال إسناده مضطرب، ولا تقوم به حجة - انتهى. وتعقب بأن وجوه الاختلاف ههنا ليست بمستوية كما لا يخفى على من نظر في طرقها ولا تعذر الجمع بينهما، فدعوى الاضطراب مردودة. وقد صححه ابن منده. وقال الترمذي: هو أصح شيء في هذا الباب. وكذا قال أحمد ومنها إن قوله "قاء فأفطر" ليس نصاً صريحاً، في أن القيء مفطر للصوم لاحتمال أن تكون "الفاء" للتعقيب من دون أن تكون للسببية. قال

قال: ((فلقيت ثوبان في مسجد دمشق، فقلت: إن أباالدرداء حدثني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاء فأفطر. قال: صدق، وأنا صببت له وضوءه)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الطحاوي (ص348) ليس فيه دليل على أن القيء كان مفطراً له، إنما فيه أنه قاء فأفطر بعد ذلك. قال: يجوز أن يكون قوله: "قاء فأفطر" أي قاء فضعف فأفطر. وقال الترمذي: معناه إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان صائماً متطوعاً فقاء فضعف، فأفطر لذلك هكذا روى في بعض الحديث مفسراً - انتهى. وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي: (ج1 ص146) لو كانت الفاء للسببية لم تدل أيضاً على نقض الصوم بالقيء؛ لأنه قد يفطر الإنسان لما ينوبه من الضعف والتراخي مما لا يستطيع معه إحتمال مشقة الصوم أو خشية الضرر والمرض، فالقيء سبب له. ولكنه سبب عادي طبيعي، ولا يكون سبباً شرعياً إلا بنص صريح من الشارع - انتهى. وبهذا يندفع ما قال ابن المنير متعقباً على الطحاوي، من أن الحكم إذا عقب بالفاء دل على أنه العلة كقولهم سها فسجد. ومنها إن قوله قاء أي عمداً لما تقدم من أن من ذرعه ليس عليه قضاء. قال البيهقي (ج4 ص220) هذا حديث مختلف في إسناده فإن صح فهو محمول على أنه تقيأ عامداً. وكأنه - صلى الله عليه وسلم - كان متطوعاً بصومه - انتهى. وقال الحافظ في التلخيص (ص188) حديث أبي درداء إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاء فأفطر أي استقاء. وقال في الفتح: ويمكن الجمع بين قول أبي هريرة إذا قاء لا يفطر وبين قوله أنه يفطر بما فصل في حديثه المرفوع المتقدم، فيحتمل قوله إذا قاء يفطر أنه تعمد القيء. واستدعى به وبهذا أيضاً يتأول قوله في حديث أبي الدرداء الذي أخرجه أصحاب السنن مصححاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاء فأفطر أي استقاء عمداً وهو أولى من تأويل من أوله بأن المعنى قاء فضعف فأفطر والله أعلم - انتهى. قلت: ويؤيد حمل قوله قاء على القيء عامداً رواية أحمد (ج6 ص449) بلفظ: عن أبي الدرداء قال استقاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأفطر فأتى بماء فتوضأ (فلقيت ثوبان) مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (صدق) أي أبو الدرداء (وأنا صببت له) أي للنبي - صلى الله عليه وسلم - (وضوءه) بالفتح أي ماء وضوءه، وهذا يدل على أن الوضوء وإن لم يذكر في اللفظ بعد قوله قاء لكنه ثابت في المعنى لأن قول ثوبان تصديقاً لأبي الدرداء "صدق وأنا صببت له وضوءه" دليل على أن الوضوء مذكور في أصل الحديث، وإن اختصر في الرواية لأن ثوبان يؤكد الرواية بأنه هو الذي صب له الوضوء بعد القيء، وأما رواية الترمذي في الطهارة بلفظ: قاء فتوضأ ففي كون لفظ فتوضأ فيها محفوظاً نظر، فإن حديث أبي الدرداء هذا ذكره الترمذي في الصيام بلفظ: قاء فأفطر وبهذا اللفظ رواه أحمد (ج5 ص195- 277وج6 ص443- 449) وأبوداود والنسائي في الكبرى وابن حبان والطبراني وابن منده كما في التلخيص (ص188) والحاكم (ج1 ص226) والطحاوي (ج1 ص347- 348) والدارقطني (ص57- 58- و238) وابن الجارود (ص15) والبيهقي (ج1 ص144وج4 ص220) واختلفت نسخ الترمذي في رواية كتاب الطهارة

رواه أبوداود، والترمذي، والدارمي. 2029- (11) وعن عامر بن ربيعة، قال: ((رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لا أحصى يتسوك ـــــــــــــــــــــــــــــ كما ذكره الشيخ شاكر في تعليقه على الترمذي (ج1 ص143- 145) ففي بعضها قاء فتوضأ وفي بعضها قاء فأفطر فتوضأ، ويؤيد هذه النسخة رواية أحمد في (ج6 ص449) بلفظ: استقاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأفطر فأتى بماء فتوضأ وفي بعضها قاء فأفطر. ويؤيده سائر الروايات المذكورة، ويؤيده أيضاً أن أصل الحديث ورد عن ثوبان من وجه آخر بلفظ: قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر أخرجه أحمد (ج5:ص276) والطيالسي والطحاوي (ج1:ص348) والبيهقي (ج4:ص220) بسند جيد. وهذا كله يورث الشك والتردد في كون لفظ فتوضأ محفوظاً. واستدل الحنفية بهذا على كون القيء ناقضاً للوضوء وقد ذكرنا جوابه في الطهارة وإن شئت البسط في الجواب فارجع إلى تعليق الترمذي للعلامة الشيخ أحمد شاكر وشرحه لشيخنا الأجل المباركفوري رحمهما الله تعالى. (رواه أبوداود والترمذي والدارمي) واللفظ لأبي داود ورواه الثلاثة من طريق حسين المعلم عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الرحمن بن عمرو والأوزاعي عن يعيش بن الوليد عن أبيه عن معدان بن طلحة ومن هذا الطريق رواه أحمد (ج6:ص443) والطحاوي (ج1:ص147-148) والحاكم (ج1:ص426) والدارقطني (ص57-58-238) والبيهقي (ج1:ص144 وج4: ص220) وابن الجارود (ص15) وابن مندة وابن حبان وله طرق أخرى عند بعضهم. وقد سكت عنه أبوداود. وقال الترمذي: في كتاب الطهارة: قد جود حسين المعلم هذا الحديث وحديث حسين أصح شيء في هذا الباب. ونقل المنذري كلام الترمذي هذا وأقره وزاد. وقال الإمام أحمد بن حنبل: حسين المعلم يجوده. وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين. ولم يخرجاه لخلاف في سنده ووافقه الذهبي. وقال الحافظ في التلخيص (ص188) قال ابن منده: إسناده صحيح متصل وتركه الشيخان لاختلاف في إسناده. ثم قال الحافظ بعد ذكر كلام الترمذي: المتقدم. وكذا قال أحمد، وفيه اختلاف كثير قد ذكره الطبراني وغيره. ثم ذكر كلام البيهقي السابق فيما يتعلق باضطراب إسناده. وأجاب عنه ابن التركماني (ج1:ص143) بأن الترمذي قال قد جوده حسين المعلم عن يحيى بن أبي كثير وحديث حسين أصح شيء في هذا الباب. وقال ابن منده هذا إسناد متصل صحيح. قال ابن التركماني: وإذا أقام إسناداً ثقة اعتمد ولم يبال بالاختلاف، وكثير من أحاديث الصحيحين لم تسلم من مثل هذا الاختلاف، وقد فعل البيهقي مثل هذا في حديث "هو الطهور ماؤه" حيث بين الاختلاف الواقع فيه. ثم قال: إلا أن الذي أقام إسناده ثقة، أودعه مالك في الموطأ وأخرجه أبوداود في السنن - انتهى. 2029- قوله: (ما لا أحصى) أي مقداراً لا أقدر على إحصائه وعده لكثرته (يتسوك) مفعول ثان.

وهو صائم)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنه خبر على الحقيقة و"ما" موصوفة ولا أحصى صفتها وهي ظرف ليتسوك أي يتسوك مرات لا أقدر على عدها قاله الطيبي. قال ميرك: ولعله حمل الرؤية على معنى العلم فجعل يتسوك مفعولاً ثانياً، ويحتمل أن تكون بمعنى الأبصار ويتسوك حينئذٍ حال وقوله (وهو صائم) حال أيضاً إما مترادفة وإما متداخلة كذا في المرقاة وهذا لفظ الترمذي، ولأبي داود رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك وهو صائم مالا أعد ولا أحصى. والحديث يدل بعمومه على جواز الاستياك للصائم مطلقاً، سواء كان الاستياك بالسواك الرطب أو اليابس. وسواء كان صائما فرضاً أو تطوعاً، وسواء كان في أول النهار أو في آخره. وإليه ذهب الثوري والأوزاعي وابن علية وأبوحنيفة وأصحابه وسعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وإبراهيم النخعي، وروى عن ابن عمر كما في ابن أبي شيبة وحكاه الترمذي عن الشافعي وهو اختيار أبي شامة وابن عبد السلام والنووي والمزني، وإليه ذهب البخاري حيث قال باب السواك الرطب اليابس للصائم، ويذكر عن عامر بن ربيعة قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك وهو صائم مالا أحصى أو أعد. وقال أبوهريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء. ويروي نحوه عن جابر وزيد بن خالد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يخص الصائم من غيره. وقالت عائشة: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - السواك مطهرة للفم مرضاة للرب. وقال عطاء وقتادة: يبتلع ريقه - انتهى. قال الحافظ: أشار بهذه الترجمة إلى الرد على من كره للصائم الاستياك بالسواك الرطب كالمالكية والشعبي، وقد تقدم في باب اغتسال الصائم قياس ابن سيرين السواك الرطب على الماء الذي يتمضمض به، ومنه تظهر النكتة في إيراد حديث عثمان في صفة الوضوء في هذا الباب فإن فيه أنه تمضمض واستنشق. وقال فيه: من توضأ وضوئي هذا، ولم يفرق بين صائم ومفطر ويتأيد ذلك بما ذكر في حديث أبي هريرة في الباب. قال ومناسبة حديث عامر للترجمة إشعاره بملازمة السواك، ولم يخص رطباً من يابس، وهذا على طريقة المصنف يعني البخاري في أن المطلق يسلك به مسلك العموم أو إن العام في الأشخاص عام في الأحوال. وقد أشار إلى ذلك بقوله في أواخر الترجمة المذكورة ولم يخص صائماً من غيره أي ولم يخص أيضاً رطباً من يابس وبهذا التقرير يظهر مناسبة جميع ما أورده في هذا الباب للترجمة، والجامع لذلك كله قوله في حديث أبي هريرة لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء فإنه يقتضى إباحته في كل وقت وعلى كل حال. قال ابن المنير: أخذ البخاري شرعية السواك للصائم بالدليل الخاص، ثم انتزعه من الأدلة العامة التي تناولت أحوال متناول السواك وأحوال ما يستاك به، ثم انتزع ذلك من أعم من السواك وهو المضمضة إذ هي أبلغ من السواك الرطب. قال الحافظ: ومناسبة أثر عطاء وقتادة للترجمة من جهة أن أقصى ما يخشى من السواك الرطب أن يتحلل منه شيء في الفم وذلك الشيء كماء المضمضة فإذا قذفه من فيه لا يضره بعد ذلك

................... ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يبتلع ريقه - انتهى. واستدل لهذا القول أيضاً بما رواه ابن ماجه والدارقطني (ص248) والبيهقي (ج4:ص272) من حديث عائشة مرفوعاً من خير خصال الصائم السواك. قال في التلخيص (ص24) هو ضعيف ورواه أبونعيم من طريقين آخرين عنها. قلت: في سنده عند الثلاثة مجالد بن سعيد وضعفه الجمهور، وواثقه النسائي. وروى له مسلم مقروناً بغيره، واستشهد لهذا القول بما رواه النسائي في الكنى والعقيلي وابن حبان في الضعفاء، والدارقطني (ص248) والبيهقي (ج4:ص272) من طريق عاصم الأحول عن أنس يستاك الصائم أول النهار وآخره برطب السواك ويابسه ورفعه، وفيه أبوإسحاق إبراهيم بن بيطار. قال الدارقطني: ضعيف. وقال البيهقي: تفرد به إبراهيم بن بيطار، ويقال إبراهيم بن عبد الرحمن قاضي خوارزم. وقد حدث عن عاصم بالمناكير لا يحتج به، وقد روى عنه من وجه آخر ليس فيه ذكر أول النهار وآخره ثم ساقه من طريق ابن عدي كذلك. وقال ابن حبان: لا يصح ولا أصل له من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا من حديث أنس وذكره ابن الجوزي في الموضوعات. قلت وله شاهد من حديث معاذ عند الطبراني في الكبير وسيأتي. وبما روى ابن حبان في الضعفاء عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك آخر النهار وهو صائم، وأعله بأحمد بن عبد الله بن ميسرة الحراني، وقال لا يحتج به ورفعه باطل. والصحيح عن ابن عمر من فعله كذا في نصب الراية (ج2:ص460) واللسان (ج1:ص195) وبما روى أحمد بن منيع بسنده عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تسوك وهو صائم ذكره الحافظ في التلخيص (ص24) وسكت عنه. وذهب أبوثور والشافعي في المشهور من مذهبه وفي أصح قوليه أنه يكره السواك رطباً كان أو يابساً للصائم بعد الزوال، ويستحب قبله برطب أو يابس. وقد روى عن علي قال: إذا صمتم فاستاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشى فإنه ليس من صائم تيبس شفتاه بالعشى إلا كانت نوراً بين عينيه يوم القيامة أخرجه الدارقطني (ص249) والبيهقي (ج4:ص274) والطبراني والبزار. قال في التلخيص (ص193) ضعفه الدارقطني والبيهقي. وقال في (ص22) إسناده ضعيف. قلت: في سنده كيسان أبوعمر القصار ضعفه أحمد والساجي. وقال الدارقطني: ليس بالقوى. ووثقه ابن معين، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال في التقريب أنه ضعيف، وفيه أيضاً يزيد بن بلال. قال البخاري: فيه نظر، وقال ابن حبان: لا يحتج به. وقال الأزدى: منكر الحديث. وقال الذهبي: حديثه منكر. وقال الدارقطني: يزيد بن بلال غير معروف، وقال في التقريب إنه ضعيف. وذهب أحمد وإسحاق بن راهويه إلى كراهة السواك للصائم بعد الزوال مطلقاً، وكراهة الرطب للصائم مطلقاً. قال ابن قدامة (ج3:ص110) : لم ير أهل العلم بالسواك أول النهار بأساً إذا كان العود يابساً، واستحب أحمد وإسحاق ترك السواك بعد العشى. واختلفت الرواية عنه في التسوك بالعود الرطب فرويت عنه الكراهة وهو قول قتادة والشعبي والحكم وإسحاق ومالك وفي رواية، وروى عنه أنه لا يكره، وبه

..................... ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الثوري والأوزاعي وأبوحنيفة - انتهى مختصراً. والمشهور من مذهب مالك وأصحابه أنه يكره بالرطب دون غيره سواء كان أول النهار أو آخره، واستدل لهم بما روى البيهقي (ج4:ص272) عن زياد بن حدير قال: ما رأيت أحداً آداب سواكاً وهو صائم من عمر أراه قال بعود قد ذوى. قال أبوعبيد: يعني يبس ولأنه مغرر بصومه لاحتمال أن يتحلل منه أجزاء إلى حلقه فيفطره وفيه ما قال ابن سيرين لا بأس بالسواك الرطب. قيل: له طعم قال والماء له طعم وأنت تمضمض به ذكره البخاري واستدل لكراهة السواك بعد الزوال بما رواه الدارقطني (ص249) والبيهقي (ج4:ص274) والطبراني من حديث جناب مرفوعاً مثل قول علي المتقدم. قال الحافظ في التلخيص: ضعفه الدارقطني والبيهقي. قلت: فيه كيسان أبوعمر القصار المذكور وقد عرفت حاله. واستدل لذلك أيضاً بحديث الخلوف المتقدم في أوائل الصوم، لأن في الاستياك بعد الزوال إزالة الخلوف المحمود. وأجيب عنه بوجوه. منها ما قاله ابن العربي من أن الخلوف تغير رائحة فم الصائم وإنما يحدث من خلو المعدة يترك الأكل ولا يذهب بالسواك؛ لأنها رائحة النفس الخارجة من المعدة. وإنما يذهب بالسواك ما كان في الأسنان من التغيير أي الوسخ: وقال ابن الهمام: إنما يزيل السواك أثره الظاهر عن السن من الاصفرار وهذا؛ لأن سبب الخلوف خلو المعدة من الطعام والسواك لا يفيد شغلها بطعام ليرتفع السبب، ولهذا روى عن معاذ مثل ما قلنا روى الطبراني في الكبير عن عبد الرحمن بن غنم قال: سألت معاذ بن جبل أتسوك وأنا صائم قال نعم قلت أي النهار أتسوك قال أي النهار شئت غدوة أو عشية، قلت إن الناس يكرهونه عشية، ويقولون إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، فقال سبحان الله لقد أمرهم بالسواك وهو يعلم أنه لابد أن يكون بقي الصائم خلوف وإن أستاك، وما كان بالذي يأمرهم أن ينتنوا أفواههم عمداً ما في ذلك من الخير شيء بل فيه شر إلا من ابتلى بلاء لا يجد منه بداً - انتهى. قال الحافظ في التلخيص: (ص193) إسناده جيد وقال الهيثمي (ج3:ص165) : فيه بكر بن خنيس وهو ضعيف، وقد وثقه ابن معين في رواية. قلت: ووثقه أيضاً العجلي وضعفه غيرهما. وقال في التقريب: هو كوفي عابد سكن بغداد صدوق، له أغلاط - انتهى. وقد تعقب الحافظ في التلخيص (ص22) على هذا الجواب فقال في قول ابن العربي السواك لا يزيل الخلوف، وإنما يزيل وسخ الأسنان نظر، لأنه يزيل المتصعد إلى الأسنان الناشيء عن خلو المعدة ولا يخفى ما فيه؛ لأن المضمضة أيضاً تزيل هذا وهم لا يكرهونها. ومنها ما قاله ابن العربي أيضاً إن الحديث لم يسق لكراهية السواك، وإنما سيق لترك كراهة مخاطبة الصائم. وقال الزرقاني: إنما مدح الخلوف نهياً للناس عن تقذر مكالمة الصائم بسبب الخلوف لا نهياً للصائم عن السواك والله غني عن وصول الروائح الطيبة إليه، فعلمنا يقيناً أنه

................... ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يرد استبقاء الرائحة، وإنما أراد نهى الناس عن كراهتها وهذا التأويل أولى، لأن فيه إكراماً للصائم ولا تعرض فيه للسواك فيذكر أو يتأول - انتهى. وقد تعقب الحافظ على هذا الجواب أيضاً فقال بعد ذكر كلام ابن العربي: فيه نظر، لما رواه الدارقطني (ص248) والبيهقي (ج4:ص274) عن أبي هريرة راوي حديث الخلوف أنه قال لك السواك إلى العصر فإذا صليت العصر فالقه فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: خلوف الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. وفيه إن هذا الأثر ضعيف جداً، فإن في سنده عمر بن قيس المعروف بسنده وهو واه. قال أحمد والنسائي والفلاس وغيرهم: متروك. وقال أحمد: أحاديثه بواطيل لا تساوي شيئاً. وقال البيهقي: ضعيف، لا يحتج به، ومع ضعفه فقد عارضه ما هو أقوى منه من أثر معاذ بن جبل عند الطبراني وقد تقدم لفظه. ومنها إن في السواك تطهيراً وإجلالاً للرب حال مناجاته في الصلاة، لأن مخاطبة العظماء مع طهارة الفم تعظيم وليس في الخلوف تعظيم ولا إجلال، وهذه المسألة من قاعدة إزدحام المصالح التي يتعذر الجمع بينها، ويدل على أن مصلحة تطهير الفم بالسواك أعظم من مصلحة الخلوف قوله - صلى الله عليه وسلم -: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة، فيقدم السواك. وما ذكره الشافعي ومن وافقه هو تخصيص للعمومات بمجرد كونه مزيلاً للخلوف، وهذا معارض بالمعنى الذي ذكرناه. وقال العز بن عبد السلام في قواعده الكبرى (ج1:ص36-37) قد فضل الشافعي تحمل الصائم مشقة رائحة الخلوف على إزالته بالسواك مستدلاً بأن ثوابه أطيب من ريح المسك، ولم يوافق الشافعي على ذلك، إذ لا يلزم من ذكر ثواب العمل أن يكون أفضل من غيره، لأنه لا يلزم من ذكر الفضيلة حصول الرجحان بالأفضلية. ألا ترى الوتر عند الشافعي في قوله الجديد أفضل من ركعتي الفجر، مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها، وكم من عبادة قد أثنى الشارع عليها وذكر فضيلتها مع أن غيرها أفضل منها وهذا من باب تزاحم المصلحتين اللتين لا يمكن الجمع بينهما فإن السواك نوع من التطهر المشروع لإجلال الرب سبحانه وتعالى، لأن مخاطبة العظماء مع طهارة الأفواه تعظيم، لا شك فيه، ولأجله شرع السواك. وليس في الخلوف تعظيم ولا إجلال فكيف يقال إن فضيلة الخلوف تربى على تعظيم ذي الجلال بتطييب الأفواه إلى أن قال والذي ذكره الشافعي تخصيص للعام بمجرد الاستدلال المذكور المعارض لما ذكرناه كذا في النيل. وقال ابن دقيق العيد: من يكره السواك بعد الزوال يحتاج إلى دليل خاص بهذا الوقت يخص به عموم عند كل صلاة، وفي تخصيصه بحديث الخلوف بحث - انتهى. وقال القاري: إذا ورد عن الشارع أحاديث مطلقة شاملة لما قبل الزوال وما بعده، وعن الصحابة فعلهم وإفتاءهم على جوازه بعد الزوال، فكيف يصلح بعد هذا كله أن يكون حديث الخلوف دليلاً للشافعي، ومن تبعه على منع السواك بعد الزوال وصرف الإطلاق إلى ما قبل الزوال من غير دليل صريح أو تعليل صحيح - انتهى. وقد ظهر بما ذكرنا أن القول الراجح المعول عليه هو ما ذهب إليه

رواه الترمذي، وأبوداود. 2030- (12) وعن أنس، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اشتكيت عيني، أفأكتحل وأنا صائم؟ قال: نعم)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبوحنيفة ومن وافقه (رواه الترمذي وأبوداود) واللفظ للترمذي وأخرجه أحمد (ج3:ص445) وابن خزيمة في صحيحه والدارقطني (ص248) والبيهقي (ج4:ص272) وإسحاق بن راهويه وأبويعلى والبزار والطبراني، وعلقه البخاري بصيغة التمريض كما تقدم. وقد سكت عنه أبوداود وحسنه الترمذي. وقال المنذري: بعد نقل تحسين الترمذي: في إسناده عاصم بن عبيد الله، وقد تكلم فيه غير واحد. وذكر البخاري هذا الحديث في صحيحه معلقاً في الترجمة فقال: ويذكر عن عامر بن ربيعة. وقال الحافظ في التلخيص في (ص22) إسناده حسن وفي (ص24) فيه عاصم بن عبيد الله وهو ضعيف. فقال ابن خزيمة: أنا ابرأ من عهدته لكن حسن الحديث غيره -انتهى. وحكى في الفتح عن ابن خزيمة أنه قال كنت لا أخرج حديث عاصم ثم نظرت فإذا شعبة والثوري قد رويا عنه، وروى يحيى وعبد الرحمن عن الثوري، وروى مالك عنه خبراً في غير الموطأ. قال الحافظ: وضعفه ابن معين والذهلي والبخاري وغير واحد - انتهى. وقال ابن القطان: لم يمنع من صحة هذا الحديث إلا اختلافهم في عاصم بن عبيد الله. وقال النووي في الخلاصة: بعد أن حكى عن الترمذي أنه حسنه لكن مداره على عاصم بن عبيد الله وقد ضعفه الجمهور فلعله اعتضد - انتهى. قلت: تكلم فيه أحمد وابن معين وابن سعد وأبوحاتم والجوزجاني وابن خراش والبيهقي والساجي وابن نمير. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال الدارقطني: متروك وهو مغفل. وقال ابن خزيمة: لست احتج به لسوء حفظه. وقال ابن حبان: كان سيء الحفظ كثير الوهم فاحش الخطأ فترك من أجل كثرة خطأه. وقال المزي: وأحسن ما قيل فيه قول العجلي لا بأس به، وقول ابن عدي قد روى عنه ثقات الناس واحتملوه وهو مع ضعفه يكتب حديثه - انتهى. قلت: الظاهر أن الترمذي إنما حسن هذا الحديث لما اعتضد به من شواهده التي قدمنا ذكرها، والله تعالى أعلم. 2030- قوله: (اشتكيت عيني) قال القاري: بالتشديد، وفي نسخة بالتخفيف، أي أشكو من وجع عيني (قال نعم) فيه جواز الإكتحال بلا كراهة للصائم، وبه قال الأكثرون، وذكر العيني (ج11:ص15) في مسألة الكحل للصائم أقوالاً، فقال لم ير الشافعي به بأساً وجد طعم الكحل في الحلق أم لا، واختلف قول مالك فيه في الجواز والكراهة، قال في المدونة: يفطر ما وصل إلى الحلق من العين. وقال أبومصعب: لا يفطر، وذهب الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق إلى كراهة الكحل للصائم، وحكى عن أحمد أنه إذا وجد طعمه في

............................... ـــــــــــــــــــــــــــــ الحلق أفطر، وعن عطاء والحسن البصري والنخعي والأوزاعي وأبي حنيفة وأبي ثور يجوز بلا كراهة، وأنه لا يفطر به سواء وجد طعمه أم لا، وحكى ابن المنذر عن سليمان التيمي ومنصور بن المعتمر وابن شيرمة وابن أبي ليلى إنهم قالوا: يبطل صومه. وقال ابن قتادة: يجوز بالأثمد ويكره بالصبر. وفي سنن أبي داود عن الأعمش قال: ما رأيت أحداً من أصحابنا يكره الكحل للصائم - انتهى كلام العيني. وقال ابن قدامة (ج3:ص105-106) أما الكحل فما وجد طعمه في حلقه أو علم وصوله إليه فطره وإلا لم يفطره نص عليه أحمد. وقال ابن أبي موسى: ما يجد طعمه كالذرور والصبر والقطور أفطر، وإن اكتحل باليسير من الأثمد غير المطيب كالميل ونحوه لم يفطر نص عليه أحمد. وقال ابن أبي عقيل إن كان الكحل حاداً فطره وإلا فلا، ونحو ما ذكرناه. قال أصحاب مالك وعن ابن أبي ليلى وابن شبرمة: إن الكحل يفطر الصائم. وقال أبوحنيفة والشافعي، لا يفطره لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اكتحل في رمضان وهو صائم، ولأن العين ليست منفذاً، فلم يفطر بالداخل منها كما لو دهن رأسه- انتهى. قلت: قد استدل من ذهب إلى كراهة الكحل للصائم أو إلى كونه مفسداً للصوم بما رواه أبوداود والبخاري في تاريخه (ج4:ص398) والبيهقي (ج4:ص262) من طريق عبد الرحمن بن النعمان بن معبد بن هوذة عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بالأثمد المروح عند النوم وقال ليتقه الصائم. وأجيب عن هذا الحديث بأنه ضعيف. لا يصلح للإستدلال. قال أبوداود: قال لي يحيى بن معين هو حديث منكر - انتهى. وقال الأثرم: عن أحمد هذا حديث منكر - انتهى. وعبد الرحمن بن النعمان، قال ابن المديني فيه مجهول، وقال ابن معين: ضعيف. وقال أبوحاتم صدوق. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال في التقريب صدوق، وربما غلط وأبوالنعمان بن معبد ذكره ابن حبان في الثقات. وقال في التقريب: هو مجهول. وقال صاحب التنقيح هو كالمجهول. واستدلوا أيضاً بما علقه البخاري ووصله البيهقي والدارقطني وابن أبي شيبة من حديث ابن عباس بلفظ: الفطر مما دخل، والوضوء مما خرج، قالوا وإذا وجد طعمه فقد دخل وأجيب بأن هذا الحديث موقوف ثم المراد بالدخول دخول شيء بعينه من منفذ إلى جوف البطن أي المعدة لا وصول أثر شيء من المسامات إلى الباطن، ولذا لا يفطر تدهين الرأس وشم العطر، وليس للعين منفذ إلى جوف البطن، كذا قيل. واحتج لأبي حنيفة والشافعي ومن وافقهما على جواز الاكتحال للصائم بحديث الباب وهو حديث ضعيف كما ستعرف، لكن له شواهد يقوي بعضها بعضاً وتصلح بمجموعها للإستدل، فمنها ما رواه ابن ماجه والبيهقي (ج4:ص262) عن عائشة قالت: اكتحل النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم، وفيه سعيد بن أبي سعيد عبد الجبار الزبيدي الحمصي وهو ضعيف. قاله الحافظ في التلخيص (ص189) وقال الزيلعي (ج2:ص456) قال في

رواه الترمذي، وقال: ليس إسناده بالقوى، وأبوعاتكة الراوي يضعف. 2031 - (13) وعن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم بالعرج يصب على رأسه الماء وهو صائم من العطش أو من الحر)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ التنقيح: هو مجمع على ضعفه - انتهى. قال صاحب الإمام: ذكر الحافظ أبوبكر الخطيب سعيد بن أبي سعيد هذا فقال إسم أبيه عبد الجبار وكان ثقة وذكره ابن حبان في الثقات كذا في الجوهر النقي (ج1:ص253 وج4:ص262) ومنها ما رواه ابن عدي في الكامل والبيهقي من طريقه (ج4:ص262) والطبراني في الكبير من طريق محمد بن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكتحل وهو صائم. قال أبوحاتم: هذا حديث منكر. وقال في محمد أنه منكر الحديث وكذا قال البخاري، ورواه ابن حبان في الضعفاء من حديث ابن عمر. قال في التلخيص وسنده مقارب. ومنها ما روى عن بريرة مولاة عائشة قالت رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يكتحل بالأثمد وهو صائم أخرجه الطبراني في الأوسط. قال الهيثمي (ج3:ص167) : فيه جماعة لم أعرفهم- انتهى. فهذه الأحاديث وإن كان لا يخلو واحد منها من كلام، لكنها يقوي بعضها بعضاً. وتنتهض بمجموعها للاحتجاج على جواز الاكتحال للصائم، وليس في كراهته حديث صحيح أو حسن، فالراجح هو القول بالجواز من غير كراهة والله تعالى أعلم، (رواه الترمذي وقال ليس إسناده بالقوى) وقال ولا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب شيء. وقال في التنقيح حديث واه جداً وأشار البيهقي (ج4:ص262) إلى هذا الحديث فقال روى عن أنس بن مالك مرفوعاً بإسناد ضعيف بمرة أنه لم ير به (أي بالكحل للصائم) بأساً (وأبوعاتكة الراوي يضعف) قال في التنقيح: هو مجمع على ضعفه وإسمه طريف بن سليمان ويقال سليمان بن طريف. قال البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال الرازي: ذاهب الحديث- انتهى. ورواه أبوداود من فعل أنس وسكت عنه هو والمنذري. وقال في التنقيح: إسناده مقارب وكذا قال الحافظ في التلخيص (ص189) . 2031- قوله: (وعن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) إبهام الصحابي والجهالة به لا تضر لأنهم كلهم عدول بالإتفاق (بالعرج) بفتح العين وسكون الراء المهملتين، وبالجيم موضع بين مكة والمدينة. وقيل: موضع بالمدينة. وقال ابن حجر: محل قريب من المدينة كذا في المرقاة. وقال في العون: قرية جامعة من أعمال الفرع على أيام من المدينة- انتهى. وقيل: على نحو ثلاث مراحل من المدينة (يصب) بصيغة المعلوم والمجهول (على رأسه الماء وهو صائم من العطش أو من الحر) أي ليتقوى به على صومه وليدفع به ألم الحر أو العطش. و"أو" للشك من الراوي، وفي رواية للبيهقي (ج4:ص263) من العطش أو قال من الحر أي قال هذا اللفظ

......................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ أو ذاك. قال الباجي: هذا أصل في استعمال ما يتقوى به الصائم على صومه مما لا يقع به الفطر من التبرد بالماء والمضمضة به، لأن ذلك يعينه على الصوم ولا يقع به الفطر. وقال ابن الملك: هذا يدل على أن لا يكره للصائم أن يصب على رأسه الماء وأن ينغمس فيه وإن ظهرت برودته في باطنه. وقال الشوكاني: فيه دليل على أنه يجوز للصائم أن يكسر الحر يصب الماء على بعض بدنه أو كله. وقد ذهب إلى ذلك الجمهور ولم يفرقوا بين الاغتسال الواجبة والمسنونة والمباحة. وقالت الحنفية: يكره الاغتسال للصائم. واستدلوا بما أخرجه عبد الرزاق عن علي من النهى عن دخول الصائم الحمام وفي إسناده ضعف. كما قال الحافظ في الفتح - انتهى. وقال ابن الهمام: ولو اكتحل لم يفطر سواء وجد طعمه في حلقه. أو لا، لأن الموجود في حلقه أثره داخلاً من المسام، والمفطر الداخل من المنافذ كالمدخل والمخرج، لا من المسام الذي هو جميع البدن للاتفاق فيمن شرع في الماء يجد برده في باطنه أنه لا يفطر. وإنما كره أبوحنيفة ذلك أعنى الدخول في الماء والتلفف بالثوب المبلول، لما فيه من إظهار الضجر في إقامة العبادة لا لأنه قريب من الافطار- انتهى. قال القاري: كلام الإمام أبي حنيفة محمول على كراهة التنزيه، وخلاف الأولى، وهو عليه السلام فعل ذلك لبيان الجواز- انتهى. قلت: الكراهة حكم شرعي لا يثبت إلا بدليل من الكتاب أو السنة، ولم يقم دليل على كراهة الدخول في الماء أو التلفف بالثوب المبلول، بل ثبت خلافه فالقول بكراهته مردود على قائله. وقال الكاساني في البدائع: أما الاستنشاق والاغتسال وصب الماء على الرأس والتلفف بالثوب المبلول فقد قال أبوحنيفة أنه يكره. وقال أبويوسف: لا يكره، واحتج بما روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صب على رأسه ماء من شدة الحر وهو صائم وعن ابن عمر (عند البخاري في صحيحه معلقاً وفي تاريخه موصولاً وكذا عند ابن أبي شيبة) أنه كان يبل الثوب ويتلفف به وهو صائم ولأنه ليس فيه إلا دفع أذى الحر فلا يكره كما لو استظل، ولأبي حنيفة إن فيه إظهار الضجر من العبادة والإمتناع عن تحمل مشقتها، وفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محمول على حال مخصوصة، وهي حال خوف الافطار من شدة الحر، وكذا فعل ابن عمر محمول على مثل هذه الحالة ولا كلام في هذه الحالة - انتهى. قلت: يحتاج هذا الحمل إلى قرينة وليس شيء هنا يدل على ذلك إلا قول أبي حنيفة بالكراهة مع أنها رواية عنه غير معتبرة، والفتوى عند الحنفية على قول أبي يوسف ففي الدر المختار لا تكره حجامة وتلفف بثوب مبتل، واستنشاق واغتسال للتبرد عند الثاني. وبه يفتي شرنبلالية عن البرهان. قال ابن عابدين لرواية أبي داود (يعني التي نحن في شرحها) ولفعل ابن عمر ولأن هذه الأشياء فيها عون على العبادة ودفع الضجر الطبيعي، وكذا حكى عليه الفتوى صاحب مراقى الفلاح وغيره. وقال العيني: كراهة الاغتسال للصائم رواية عن أبي حنيفة غير معتمد عليها، والمذهب المختار أنه لا يكره ذكره الحسن عن أبي حنيفة نبه عليه صاحب الواقعات، وذكر في الروضة وجوامع الفقة لا يكره الاغتسال وبل الثوب وصب الماء

رواه مالك، وأبوداود. 2032- (14) وعن شداد بن أوس، ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى رجلاً بالبقيع، وهو يحتجم، وهو آخذ بيدي لثماني عشرة خلت من رمضان، فقال: أفطر الحاجم والمحجوم)) . رواه أبوداود، وابن ماجه، والدارمي. ـــــــــــــــــــــــــــــ على الرأس بالحر، ثم ذكر العيني حديث أبي داود هذا (رواه مالك) عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن بعض أصحاب للنبي صلى الله عليه وسلم (وأبوداود) وأخرجه أحمد (ج3:ص475) والطحاوي (ج1:ص331) والحاكم (ج1:ص432) والبيهقي (ج4: ص246-363) كلهم من طريق مالك، وهو مختصر من حديث طويل عندهم. وقد سكت عنه أبوداود والمنذري. وقال الشوكاني: رجال إسناده رجال الصحيح. وقال العيني: رواه أبوداود بسند صحيح ورواه الحاكم من طريق محمد بن نعيم السعدي عن مالك عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعرج يصب على رأسه الماء من الحر وهو صائم. قال الحاكم: هذا حديث له أصل في الموطأ، فإن كان محمد بن نعيم السعدي حفظه هكذا فإنه صحيح على شرط الشيخين، ثم روى حديث الباب من طريق مالك ووافقه الذهبي. 2032- قوله: (أتى رجلاً) أي مر عليه وهكذا وقع في جميع الروايات بغير تسمية الرجل، ووقع عند أحمد (ج4:ص124) من طريق داود بن أبي هند عن أبي قلابة عن أبي الأشعث عن أبي أسماء الرحبي عن شداد ابن أوس قال: مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليّ وأنا أحتجم في ثمان عشرة خلون من رمضان فقال أفطر الحاجم والمحجوم. (بالبقيع) أي بمقبرة المدينة وفي رواية لأحمد في بعض طرق المدينة (وهو) الرجل (يحتجم وهو) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (آخذ) بصيغة الفاعل (بيدي) إشارة إلى كمال قربه منه - صلى الله عليه وسلم - (لثماني عشر خلت) أي مضت (من رمضان) وهذا يدل على كمال حفظ الراوي وضبطه بذكر المكان والزمان وحاله (أفطر الحاجم والمحجوم) استدل بظاهر هذا الحديث من قال بحرمة الحجامة للصائم. وقد تقدم ذكرهم مع بسط الكلام في هذه المسألة (رواه أبوداود وابن ماجه والدارمي) وأخرجه أيضاً أحمد (ج4: ص122-123-124-125) والنسائي في السنن الكبرى وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم (ج1: ص428-429) والطحاوي (ج1: ص349) والبيهقي (ج4:ص265-268) وقد سكت عنه أبوداود. وقال المنذري: روى هذا الحديث بضع عشر صحابياً إلا أن أكثر الأحاديث ضعاف. وقال إسحاق بن راهويه: حديث شداد إسناده صحيح تقوم به الحجة، وذكر أبوداود بعد هذا حديث ثوبان من طريقين، الطريق المتقدم أجود منهما. وقال أحمد أحاديث أفطر الحاجم والمحجوم يشد بعضها

.................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ بعضاً، وأنا أذهب إليها - انتهى. وقال الزيلعي (ج2:ص473) قال الحاكم: حديث شداد ظاهر الصحة، وصححه أحمد وابن المديني وإسحاق بن راهويه واستقصى النسائي طرقه. والاختلاف فيه في سننه الكبرى. وقد روى مسلم في صحيحه بهذا الإسناد (أي من طريق أبي قلابة عن أبي الأشعث عن شداد) حديث إن الله كتب الإحسان على كل شيء ونقل الحاكم في المستدرك (ج1:ص428) عن ابن راهويه أنه قال إسناده صحيح تقوم به الحجة- انتهى كلام الزيلعي. قلت: وصححه أيضاً البخاري وابن خزيمة وابن حبان وعثمان الدارمي كما قال الحافظ في الفتح، وعقد البيهقي في السنن الكبرى (ج4:ص266) باباً ذكر فيه بعض ما بلغه عن حفاظ الحديث في تصحيح حديث أفطر الحاجم والمحجوم. وقد رواه أئمة الحديث عن ثمانية عشر من الصحابة. وقال السيوطي في الجامع الصغير: إنه متواتر، وكذا حكاه صاحب التنقيح عن بعض الحفاظ كما في نصب الراية (ج2:ص472) قال وليس ما قاله ببعيد ومن أراد ذلك فلينظر مسند أحمد ومعجم الطبراني والسنن الكبير للنسائي قال. وقال إسحاق بن راهويه: هو ثابت من خمسة أوجه - انتهى كلامه. وقد ذكر الزيلعي (ج2:ص472-473-474-475-476-477) هذه الأحاديث مع الكلام عليها، وذكرها أيضاً العيني في شرح البخاري (ج11:ص37-38-39) وذكر شيئاً منها الحافظ في التلخيص (ص190) من شاء الوقوف عليها فليرجع إلى هذه الكتب. قلت: وحديث شداد بن أوس وإن صححه الأئمة لكن في سنده ومتنه إضطراب شديد، ولم أر أحداً إلتفت إلى رفعه. وأما ما حكاه الترمذي في العلل عن البخاري والحاكم (ج1:ص429) والبيهقي (ج4:ص267) عن علي بن المديني من وجه الجمع لرفع الإضطراب، فهو مما لا يتعلق بالاختلاف الذي سنذكره كما لا يخفى على من تأمل في طرق هذا الحديث، ثم في كلام البخاري وابن المديني. فأما الإضطراب في سنده على ما وقفت عليه فهو أنه اختلف أصحاب أبي قلابة عليه. فقال أيوب في رواية معمر عنه عن أبي قلابة عن أبي الأشعث عن أبي أسماء عن شداد وهي عند أحمد (ج4:ص123) وهكذا قال عاصم الأحول في رواية يزيد بن هارون عنه عن أبي قلابة عند أحمد أيضاً (ج4:ص123) والدارمي والبيهقي (ج4:ص265) وفي رواية سعيد بن أبي عروبة عنه عن أبي قلابة عند أحمد (ج4:ص124) وكذا قال داود بن أبي هند عن أبي قلابة وهذه أيضاً عند أحمد (ج4:ص124) وقال أيوب في رواية حماد بن زيد ووهيب عنه عن أبي قلابة عن أبي الأشعث عن شداد، ورواية حماد عند أحمد (ج4:ص124) ورواية وهيب عند أبي داود والحاكم (ج1:ص428) والبيهقي (ج4:ص265) وهكذا قال خالد الخداء عن أبي قلابة عند أحمد (ج4:ص122) والبيهقي (ج4:ص268) وخالد ومنصور جميعاً عند الطحاوي (ج1:ص349) وقد وافق الثلاثة أي أيوب وخالداً ومنصوراً على ذلك

قال الشيخ الإمام محي السنة رحمة الله عليه: وتأوله بعض من رخص في الحجامة، أي تعرضاً للإفطار المحجوم للضعف، والحاجم، لأنه لا يأمن من أن يصل شيء إلى جوفه بمص الملازم. 2033- (15) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أفطر يوماً من رمضان من غير رخصة ولا مرض لم يقض عنه صوم الدهر كله وإن صامه)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ عاصم الأحول في رواية شعبة عنه عن أبي قلابة عند أحمد (ج4:ص124) والحاكم (ج1:ص429) وفي رواية أبي سفيان عنه عند الحاكم (ج1:ص428-429) والطحاوي (ج1:ص349) وقال أيوب أيضاً في رواية إسماعيل عنه عن أبي قلابة عمن حدثه عن شداد وهذه عند أحمد (ج4:ص125) وقال قتادة عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن شداد وهي عند أحمد أيضاً (ج4:ص124) وقال يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة أنه أخبره إن شداد بينما هو يمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه عند أبي داود وابن ماجه. وأما الاضطراب في متنه ففي أكثر الروايات إن شداداً كان يمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمر على رجل يحتجم، وفي رواية داود بن أبي هند عن أبي قلابة عند أحمد (ج4:ص124) أنه قال مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليّ وأنا أحتجم في ثمان عشرة - الحديث. وفي رواية للحاكم في سبع عشرة (قال الشيخ الإمام محي السنة) أي صاحب المصابيح وشرح السنة (رحمة الله عليه) قال القاري: وفي نسخة صحيحة رحمه الله (وتأوله) أي هذه الحديث (بعض من رخص في الحجامة) للصائم وهم الجمهور فبعضهم قالوا (أي تعرضاً للإفطار) كما يقال هلك فلان أي تعرض للهلاك (المحجوم للضعف) أي لحصول الضعف له بالحجامة فيحمله على الفطر (والحاجم لأنه لا يأمن من أن يصل شيء) أي من الدم (إلى جوفه بمص الملازم) بإضافة المصدر إلى مفعولة وهو بفتح الميم جمع الملزمة بكسر الميم قارورة الحجام التي يجتمع فيها الدم، وسميت بذلك لأنها تلزم على المحل وتقبضه. وقد ذكرنا مثل هذا التأويل عن الخطابي مع ما فيه من الخدشة، وذكرنا أيضاً وجوهاً آخر في تأويل هذا الحديث. 2033- قوله: (من أفطر يوماً من رمضان) أطلق الإفطار وهو لا يخلو إما أن يكون بجماع أو غيره ناسياً أو عامداً لكن المراد منه الإفطار بالأكل أو الشرب عامداً، وأما ناسياً أو بالجماع فقد تقدم ذكرهما (من غير رخصة) كسفر (ولا مرض) أي مبيح للإفطار من عطف الخاص على العام لأن المرض داخل في الرخصة (لم يقض عنه) أي عن ثواب ذلك اليوم وفضله وبركته (صوم الدهر كله) أي صومه فيه فالإضافة فيه بمعنى في نحو مكر الليل وكله للتأكيد (وإن صامه) أي ولو صام الدهر كله. قال المظهر: أي لم يجد فضيلة الصوم

...................... ـــــــــــــــــــــــــــــ المفروض بصوم النافلة، وليس معناه لو صام الدهر بنية قضاء يوم من رمضان لا يسقط عنه قضاء ذلك اليوم بل يجزيه قضاء يوم بدلاً من يوم. وقال الطيبي: هو من باب التشديد والتغليظ ولذا أكده بقوله وإن صامه، أي وإن صامه حق الصيام ولم يقصر فيه وبذل جهده وطاقته. وزاد في المبالغة حيث أسند القضاء إلى الصوم إسناداً مجازياً، وأضاف الصوم إلى الدهر أجزاء للظرف مجرى المفعول به إذ الأصل لم يقض هو في الدهر كله إذا صامه وقال ابن المنير: يعني إن القضاء لا يقوم مقام الأداء ولو صام عوض اليوم دهراً ويقال بموجبه، فإن الإثم لا يسقط بالقضاء ولا سبيل إلى اشتراك القضاء والأداء في كمال الفضيلة فقوله لم يقضه صيام الدهر أي في وصفه الخاص به وهو الكمال، وإن كان يقضى عنه وصفه العام المنحط عن كمال الأداء هذا هو اللائق بمعنى الحديث ولا يحمل على نفي القضاء بالكلية ولا نعهد عبادة واجبة مؤقتة لا تقبل القضاء إلا الجمعة، لأنها لا تجتمع بشروطها إلا في يومها وقد فات، أو في مثله. وقد اشتعلت بالحاضرة فلا تسع الماضية - انتهى. قال الحافظ: ولا يخفى تكلفة وسياق أثر ابن مسعود الآتي يرد هذا التأويل- انتهى. وفي رواية ابن ماجه لم يجزه صيام الدهر. قال السندي: أي لم يكف عنه، ولا يكون مثلاً له من كل وجه البقاء إثم التعمد ولا يحصل به فضيلة صوم يوم رمضان ولا يلزم منه عند الجمهور إنه لا قضاء عليه - انتهى. قلت: ظاهر الحديث يقوي قول من ذهب إلى عدم القضاء في الفطر بالأكل بل يبقى ذلك في ذمته زيادة في عقوبته لأن مشروعية القضاء تقتضي رفع الإثم، وبه قال ابن مسعود وعلي. وروى نحوه عن أبي هريرة كما سيأتي وإليه ذهب ابن حزم. قال ابن حجر: وما اقتضاه ظاهره أن صوم الدهر كله بنية القضاء عما أفطره من رمضان لا يجزئه قال به علي وابن مسعود، والذي عليه أكثر العلماء إنه يجزئه يوم بدل يوم، وإن كان ما أفطره في غاية الطول والحر وما صامه بدله في غاية القصر والبرد - انتهى. وذكر البخاري حديث أبي هريرة هذا تعليقاً غير مجزوم فقال: ويذكر عن أبي هريرة رفعه من أفطر يوماً في رمضان من غير عذر ولا مرض لم يقضه صيام الدهر وإن صامه وبه قال ابن مسعود. وقال سعيد بن المسيب والشعبي وابن جبير وإبراهيم وقتادة وحماد: يقتضى يوماً مكانه - انتهى. قلت: أثر ابن مسعود وصله البيهقي (ج4:ص228) من طريق منصور عن واصل عن المغيرة بن عبد الله اليشكري. قال: حدثت أن عبد الله بن مسعود قال من أفطر يوماً من رمضان من غير علة لم يجزه صيام الدهر، حتى يلقى الله عزوجل، فإن شاء غفر له وإن شاء عذبه، والمغيرة هذا من ثقات التابعين، ولكنه منقطع. فإنه قال حدثت عنه، ووصله عبد الرزاق وابن أبي شيبة من وجه آخر عن واصل عن المغيرة عن فلان بن الحارث عن بن مسعود، ووصله الطبراني والبيهقي أيضاً من طريق عبد الملك عن أبي المغيرة الثقفي عن عرفجة قال: قال عبد الله بن مسعود من أفطر يوماً في رمضان متعمداً من غير علة، ثم قضى طول الدهر لم يقبل منه. وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي معاوية عن عمر بن يعلى الثقفي عن عرفجة عن علي مثله

رواه أحمد: والترمذي، وأبوداود، وابن ماجه، والدارمي، والبخاري في ترجمة باب. وقال الترمذي: سمعت محمداً – يعني البخاري – يقول: أبوالمطوس الراوي لا أعرف له غير هذا الحديث. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال البيهقي: عبد الملك هذا أظنه ابن حسين النخعي ليس بالقوى. قلت: بل هو متروك، وعن عمر بن يعلى هو عمر بن عبد الله بن يعلى الثقفي وهو أيضاً ضعيف متروك. (رواه أحمد) (والترمذي) واللفظ له (وأبوداود وابن ماجه والدارمي) وأخرجه أيضاً النسائي في السنن الكبرى وأبوداود الطيالسي (ص331) وابن خزيمة في صحيحه والبيهقي (ج4 ص228) والدارقطني (ص252) وابن حزم (ج6 ص182- 183) كلهم من رواية ابن المطوس. وقيل: أبي المطوس عن أبيه عن أبي هريرة (والبخاري) أي تعليقاً بصيغة التمريض كما عرفت (في ترجمة باب) أي في تفسيره كما يقال باب الصلاة الصوم ذكره الطيبي كذا في المرقاة، والمراد أنه لم يورده. مسنداً بطريق التحديث، والرواية كما يورد الأحاديث المسندة في الأصول المترجمة لها بل جعله مترجماً به. قال الترمذي: حديث أبي هريرة لا نعرفه إلا من هذا الوجه. قال العراقي: يريد الحديث المرفوع، ومع هذا فقد روى مرفوعاً من غير طريق أبي المطوس رواه الدارقطني (ص252) من طريق عمار بن مطر عن قيس عن عمرو ابن مرة عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن مالك عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أفطر يوماً من رمضان من غير مرض ولا رخصة لم يقض عنه صيام وإن صام الدهر كله. قلت عمار بن مطر هالك. قال أبوحاتم الرازي: كان يكذب. وقال ابن عدي: أحاديثه بواطيل. وقال الدارقطني: ضعيف، ووثقه بعضهم كذا في اللسان (ج4 ص275- 276) وقد روى موقوفاً على أبي هريرة من غير طريق أبي المطوس رواه النسائي من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة مثله موقوفاً من قوله (وقال الترمذي سمعت محمداً يعني البخاري يقول أبوالمطوس) بتشديد الواو المكسورة كذا ضبطه في التقريب والخلاصة. وقال الذهبي والعيني والقسطلاني: بتشديد الواو المفتوحة وهو من أفراد الكنى ويقال ابن المطوس وكل صحيح فهو أبوالمطوس وأبوه اسمه المطوس أيضاً. قال الحافظ في تهذيبه (ج12 ص239) وقال يزيد بن أبي أنيسة عن حبيب عن أبي المطوس عن المطوس عن أبي هريرة، فعلى هذا من قال أبوالمطوس أو ابن المطوس فقد أصاب - انتهى. وقد اختلف في اسم أبي المطوس: فقال البخاري وابن حبان: اسمه يزيد. وقال يحيى بن معين: اسمه عبد الله. وقال أبوحاتم وأبوداود: لا يسمى. وقد اختلف فيه، فقال ابن معين: ثقة. وقال أحمد: لا أعرفه، ولا أعرف حديثه عن غيره. وقال الذهبي في الميزان: ضعف، قال ولا يعرف هو ولا أبوه. وقال في التقريب: إنه لين الحديث وقال ابن حبان: يروي عن أبيه ما لا يتابع عليه لا يجوز الاحتجاج بأفراده - انتهى. قال الحافظ في تهذيبه: إذا لم يكن له إلا هذا الحديث فلا معنى لهذا الكلام (لا أعرف له غير هذا الحديث) وقال البخاري في التاريخ

2034- (16) وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كم من صائم ليس له من صيامه إلا الظمأ. وكم من قائم، ليس من قيامه إلا السهر)) . رواه الدارمي، وذكر ـــــــــــــــــــــــــــــ أيضاً، تفرد أبوالمطوس بهذا الحديث ولا أدري سمع أبوه من أبي هريرة أم لا- انتهى. قلت: أبوه المطوس ذكره ابن حبان في الثقات. وقال أحمد: لا أعرف المطوس ولا ابن المطوس، وتقدم قول الذهبي لا يعرف هو (أي أبوالمطوس) ولا أبوه. وقال في التقريب: مجهول. وقال ابن عبد البر: حديث ضعيف، لا يحتج به، وضعفه أيضاً ابن حزم. وقال لا نعتمد عليه، لأن أباالمطوس غير مشهور بالعدالة. وقد نقل الحافظ في الفتح عن ابن خزيمة تصحيحه، ثم ذكر كلام البخاري المتقدم ثم قال: واختلف فيه على حبيب بن أبي ثابت اختلافاً كثيراً فحصلت فيه ثلاث علل، الاضطراب، والجهل بحال أبي المطوس، والشك في سماع أبيه من أبي هريرة، وهذه الثالثة تختص بطريقة البخاري في اشتراط اللقاء - انتهى. قلت: ومثل هذا الحديث لا يكفى مع انفراده للاحتجاج به، ويحمل إن ثبت على التشديد والتغليظ كما سبق والله تعالى أعلم. 2034- قوله: (كم من صائم ليس له) أي حاصل أو حظ (من صيامه) أي من أجله (إلا الظمأ) بالرفع أي العطش ونحوه من الجوع يعني ليس لصومه قبول عند الله فلا ثواب له، نعم سقوط التكليف عن الذمة حاصل عند العلماء (وكم من قائم) أي في الليل (ليس له من قيامه) إلا أثر (إلا السهر) بفتحتين أي ونحوه من تعب الرجل وصفار الوجه وضعف البدن، يعني أنه لا ثواب له لفقد شرط حصوله من نحو إخلاص أو خشوع. قال الطيبي: إن الصائم إذا لم يكن محتسباً أو لم يكن مجتنباً عن الفواحش من الزور والبهتان والغيبة ونحوها من المناهي، فلا حاصل له إلا الجوع والعطش، وإن سقط القضاء، وكذا جميع العبادات إذا لم تكن خالصة، بل رياء وسمعة فإنها تسقط القضاء ولا يترتب عليها الثواب. (رواه الدارمي) في الرقاق من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد عن عمرو بن أبي عمر وميسرة عن سعيد المقبري عن أبي هريرة وهذا إسناد جيد. وأخرجه أيضاً أحمد (ج2 ص373و 441) والنسائي في السنن الكبرى وابن خزيمة في صحيحه كما في الترغيب، والبغوي في شرح السنة كما في التنقيح وابن ماجه، ولفظه رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر. ونقل السندي عن البوصيري أنه قال في الزوائد إسناده ضعيف. وقال العزيزي في شرح الجامع الصغير: هو حديث حسن. ورواه الحاكم (ج1 ص431) ولفظه رب صائم حظة من الصيام الجوع، ورب قائم حظه من قيامه السهر قال الحاكم: حديث صحيح على شرط البخاري، ووافقه الذهبي. ورواه البيهقي (ج4 ص270) ولفظه رب قائم حظه من قيامه السهر، ورب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورواه الطبراني في الكبير عن ابن عمر. قال الهيثمي (ج3 ص202) : رجاله موثقون. وقال المنذري: إسناده لا بأس به (وذكر) بصيغة

{الفصل الثالث}

حديث لقيط بن صبرة في باب سنن الوضوء. {الفصل الثالث} 2035- (17) عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث لا يفطرن الصائم: الحجامة، والقيء، ـــــــــــــــــــــــــــــ المجهول (حديث لقيط بن صبرة) بفتح الصاد وكسر الموحدة (في باب السنن الوضوء) والحديث قوله بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً، وهذا اعتراض من صاحب المشكاة على صاحب المصابيح، وهو في محله كما لا يخفى، لأن إيراد الحديث في الباب الموضوع للحكم السابق منه أولى، كذا قال القاري. واختلف في المضمضة والاستنشاق إذا غلبه الماء، فدخل حلقه عن غير تعمد. فقال أبوحنيفة: إن كان ذاكراً لصومه فقد أفطر وعليه القضاء، وإن كان ناسياً فلا شيء عليه وهو قول إبراهيم. وقال مالك: عليه القضاء في كل ذلك. وقال ابن أبي ليلى: لا قضاء عليه ذاكراً كان أو غير ذاكر. وروى عن الشعبي وحماد والحسن بن حي إن كان ذلك في وضوء لصلاة فلا شيء عليه، وإن كان لغير وضوء فعليه القضاء، كذا في المحلى. وقال الشوكاني: يكره للصائم المبالغة في المضمضة والاستنشاق لحديث لقيط بن صبرة واختلف إذا دخل من ماء المضمضة والاستنشاق إلى جوفه خطأ. فقالت الحنفية ومالك والشافعي: في أحد قوليه، والمزني أنه يفسد الصوم. وقال أحمد وإسحاق والأوزاعي وأصحاب الشافعي: إنه لا يفسد الصوم كالناسي. وقيل: يفسد الصوم بعد الثلاث المرات. وقيل: يفسد إذا كان التمضمض لغير قربة. وقيل: يفسد إن لم يكن لفريضة- انتهى. وقال ابن قدامة (ج3 ص108) : ولنا أي لأحمد ومن وافقه أنه وصل إلى حلقة من غير إسراف ولا قصد، فأشبه ما لو طارت ذبابة إلى حلقة، وبهذا فارق المتعمد فأما إن أسرف فزاد على الثلاث أو بالغ في الاستنشاق فقد فعل مكروها لحديث لقيط بن صبرة، ولأنه يتعرض بذلك لإيصال المال إلى حلقه، فإن وصل إلى حلقه فقال أحمد يعجبني أن يعيد الصوم، وهل يفطر بذلك؟ على وجهين أحدهما، يفطر لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المبالغة حفظاً للصوم، فدل ذلك على أنه يفطر به، ولأنه وصل بفعل منهي عنه فأشبهه التعمد. والثاني لا يفطر به لأنه وصل من غير قصد فأشبه غبار الدقيق إذا نخله - انتهى. قلت: الراجح عندي هو الوجه الأول فيجب عليه القضاء والله تعالى أعلم. 2035- قوله: (عن أبي سعيد) أي الخدري (ثلاث) أي خصال (لا يفطرن) بتشديد الطاء (الصائم) بالنصب على المفعولية (الحجامة) بكسر الحاء أي الاحتجام وقد عرفت الخلاف في ذلك فيما سبق من الكلام (والقيء) أي إذا ذرعه لما تقدم في الحديث. قال البيهقي في المعرفة: هو محمول على ما لو ذرعه القيء جمعاً بين

والاحتلام)) . رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غير محفوظ، وعبد الرحمن بن زيد الراوي يضعف في الحديث. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأخبار (والاحتلام) أي ولو تذكر الجماع ورأى المني، لأنه وإن كان في معنى الجماع. لكن حيث إنه ليس باختياره لا يضره بالإجماع، فمن احتلم في منامه نهاراً في رمضان فأنزل فلا فطر ولا قضاء (رواه الترمذي) وكذا البيهقي في المعرفة وفي السنن (ج4 ص264) وابن حبان في الضعفاء كلهم من رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري (وقال: هذا حديث غير محفوظ) وقال: أيضاً قد رواه عبد الله بن زيد بن أسلم وعبد العزيز بن محمد الدراوردي، وغير واحد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار مرسلاً. ولم يذكروا فيه عن أبي سعيد. قلت: رواه مرسلاً ابن أبي شيبة من طريق يحيى بن سعيد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (وعبد الرحمن بن زيد) بن أسلم (يضعف في الحديث) وقال الترمذي أيضاً: سمعت محمداً يذكر عن علي بن المديني. قال: عبد الله بن زيد بن أسلم ثقة. وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف. قال محمد: ولا أروى عنه شيئاً - انتهى. وقال البيهقي في السنن (ج4 ص264) : هكذا رواه عبد الرحمن بن زيد وليس بالقوى. وقال في (ج4 ص220) عبد الرحمن ضعيف. وقال في المعرفة: عبد الرحمن ضعيف في الحديث، لا يحتج بما يتفرد به وقال ابن حبان: عبد الرحمن كان يقلب الأخبار، وهو لا يعلم حتى كثر ذلك في روايته من رفع الموقوفات وإسناد المرسلات، فاستحق الترك - انتهى. ورواه البزار من طريق أسامة بن زيد بن أسلم عن أبيه به مسنداً موصولاً. قال البزار: هذا الحديث إنما يعرف عن عبد الرحمن بن زيد عن أبيه وعبد الرحمن ضعيف جداً فذكرناه عن أخيه أسامة لأنه أحد الأخوة (الذين حدثوا بهذا الحديث) وهم عبد الله وعبد الرحمن وأسامة - انتهى. قلت: وأسامة هذا ضعيف من قبل حفظه، وسأل ابن أبي حاتم أباه وأبازرعة عن حديث أبي سعيد رواه عبد الرحمن وأسامة إبناً زيد عن أبيهما موصولاً فقالا هذا خطأ ورواه الدارقطني في سننه (ص239) من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء به موصولاً، وهشام صدوق، وقد تكلموا في حفظه. وقد قال الدارقطني في العلل: إنه لا يصح عن هشام بن سعد كذا في التلخيص (ص190) وقال الزيلعي (ج2 ص447) وهشام بن سعد وإن تكلم فيه غير واحد فقد احتج به مسلم، واستشهد به البخاري، ورواه ابن عدي في الكامل وأسند تضعيف هشام بن سعد عن النسائي وأحمد وابن معين ولينه هو، وقال ومع ضعفه يكتب حديثه - وقال عبد الحق في أحكامه: هشام بن سعد يكتب حديثه ولا يحتج به - انتهى. قال الدارقطني ورواه كامل بن طلحة عن مالك عن زيد موصولاً، ثم رجع عنه وليس هو من حديث مالك ورواه أبوداود من حديث الثوري

2036- (18) وعن ثابت البناني، قال: ((سأل أنس بن مالك، كنتم تكرهون الحجامة للصائم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، إلا من أجل الضعف)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن زيد بن أسلم عن رجل من أصحابه عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يفطر من قاء ولا من احتجم ولا من احتلم، ورجحه أبوحاتم وأبوزرعة. وقالا: أنه أصح وأشبه بالصواب وتبعهما البيهقي، ثم قال هو محمول إن صح على من ذرعه القيء، وصوب أيضاً الدارقطني رواية الثوري كما في نصب الراية (ج2 ص448) والتلخيص (ص190) وقال صاحب التنقيح: المحفوظ فيه ما رواه أبوداود. وقال المنذري: هذا لا يثبت أي لأن في سنده رجلاً لا يعرف. وقد روى من وجه آخر ولا يثبت أيضاً. وفي الباب عن ابن عباس أخرجه البزار وابن عدي من حديث هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس. قال الحافظ في التلخيص (ص190) هو حديث معلول. وقال الهيثمي (ج3 ص170) : رواه البزار بإسنادين، وصحح أحدهما وظاهرة الصحة - انتهى. وفي الباب أيضاً عن ثوبان أخرجه الطبراني في الأوسط. قال الحافظ في التلخيص: بسند ضعيف في ترجمة محمد بن الحسن بن قتيبة. وقال الهيثمي: إسناده ضعيف. 2036- قوله: (وعن ثابت البناني) بضم الموحدة وخفة النون الأولى وكسر الثانية، نسبة إلى بنانة بضم الباء ونونين مخفيفين، وهي إسم أم سعد بن لوى، وثابت هذا هو ثابت بن أسلم أبومحمد البصري ثقة تابعي مشهور من أعبد أهل البصرة وأعلامها، حكى عنه أنه قال صحبت أنس بن مالك أربعين سنة، مات سنة (127) وقيل سنة (123) (قال سأل أنس بن مالك) السائل هو ثابت نفسه يدل عليه رواية الإسماعيلي وأبي نعيم والبيهقي (ج4 ص264) من طريق جعفر بن محمد القلانسي وأبي قرصافة محمد بن عبد الوهاب وإبراهيم بن الحسين بن دريد كلهم عن آدم بن أبي إياس شيخ البخاري فيه فقال عن شعبة عن حميد. قال: سمعت ثابتاً وهو يسأل عن أنس بن مالك فذكر الحديث (كنتم) كذا في جميع النسخ الحاضرة وهكذا وقع في جامع الأصول (ج7 ص192) ووقع في البخاري أكنتم (على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) ذكره تأكيداً لرفعه وهذا اللفظ أورده البخاري تعليقاً، فقال بعد رواية الحديث عن آدم بن أبي إياس عن شعبة، وزاد شبابة ثنا شعبة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الحافظ والعيني: وهذه الزيادة أخرجها ابن منده في غرائب شعبة (قال لا) أي ما كنا نكرهها (إلا من أجل الضعف) أي لأن بدن المحجوم وحينئذٍ فيندب تركها كالفصد ونحوه تحرزاً عن أضعاف البدن، ويؤيده ما رواه البيهقي (ج4 ص264) بسنده عن أبي سعيد قال: إنما كرهت الحجامة للصائم مخافة الضعف، وما رواه عبد الرزاق وأبوداود من طريق عبد الرحمن بن عابس عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رجل من أصحاب

رواه البخاري. 2037- (19) وعن البخاري تعليقاً، قال: ((كان ابن عمر يحتجم وهو صائم ثم تركه فكان يحتجم بالليل)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحجامة للصائم وعن المواصلة ولم يحرمهما إبقاء على أصحابه إسناده صحيح، وقوله إبقاء على أصحابه يتعلق بقوله نهى. وقد رواه ابن أبي شيبة عن وكيع عن الثوري بإسناده هذا ولفظه عن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - قالوا: إنما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحجامة للصائم وكرهها للضعيف أي لئلا يضعف كذا في الفتح (رواه البخاري) عن آدم بن أبي أياس عن شعبة قال: سمعت ثابتاً البناني قال سأل أنس بن مالك. قال الحافظ كذا في أكثر أصول البخاري: سأل بضم أوله على البناء للمجهول. وفي رواية أبي الوقت سمعت ثابتاً البناني يسأل أنس بن مالك وهذا غلط، فإن شعبة ما حضر سؤال ثابت لأنس. وقد سقط منه رجل بين شعبة وثابت كما يدل عليه رواية الإسماعيلي وأبي نعيم والبيهقي على ما تقدمت قال: وأشار الإسماعيلي والبيهقي إلى أن الرواية التي وقعت للبخاري خطأ وأنه سقط منه حميد قال الإسماعيلي: وكذلك رواه علي بن سهل عن أبي النضر عن شعبة عن حميد. قال الحافظ: والخلل فيه من غير البخاري وبين وجه ذلك. قال القاري: والحديث موقوف لكنه في حكم المرفوع كما هو في الأصول على أن هذه الصيغة ظاهرة في إجماع الصحابة وهو لا يكون إلا عن سند فيكون حجة لما ذهب إليه أكثر العلماء على ما تقدم - انتهى. وحديث أنس هذا رواه أبوداود بلفظ: قال ما كنا ندع الحجامة للصائم إلا كراهية الجهد. 2037- قوله: (وعن البخاري تعليقاً قال كان ابن عمر يحتجم وهو صائم) لما يرى من جوازه (ثم تركه) أي الاحتجام صائماً إحتياطاً وكان من الورع بمكان أو تركه خوفاً من الضعف (فكان يحتجم بالليل) قال الباجي: يريد أنه لما كبر وضعف كان يخاف على نفسه أن يفطر بالضعف من الحجامة ولذا يكره لكل من خاف الضعف على نفسه أن يحتجم حتى يفطر، لأن الحجامة ربما أدته إلى فساد صومه - انتهى. وهذا التعليق وصله مالك في الموطأ عن نافع عن ابن عمر أنه كان يحتجم وهو صائم. قال ثم ترك ذلك بعد فكان إذا صام لم يحتجم حتى يفطر قال الحافظ: ورويناه في نسخة أحمد بن شبيب عن أبيه عن يونس عن الزهري كان ابن عمر يحتجم وهو صائم في رمضان وغيره، ثم تركه لأجل الضعف هكذا وجدته منقطعاً، ووصله عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه وكان ابن عمر كثير الإحتياط فكأنه ترك الحجامة نهاراً لذلك - انتهى. قلت وروى البيهقي (ج4 ص269) من طريق أبي اليمان عن شعيب. قال: قال نافع: كان ابن عمر يحتجم وهو صائم ثم تركه بعد فكان

2038- (20) وعن عطاء، قال: ((إن مضمض ثم أفرغ ما في فيه من الماء، لا يضيره أن يزدرد ريقه وما بقي في فيه، ـــــــــــــــــــــــــــــ يحتجم بالليل فلا أدري عن شيء ذكره أو شيء سمعه. وروى ابن أبي شيبة من طريق يزيد عن عبد الله عن نافع وقال في آخره فلا أدري لأي شيء تركه كرهه أو للضعف. وهذا التعليق أورده البخاري في باب الحجامة والقيء للصائم وكان حق إيراده ههنا على ما اصطلح عليه المصنف أن يقول أولاً، وعن ابن عمر أنه كان يحتجم الخ، ثم يقول أورده أو ذكره البخاري تعليقاً وأما على صنيع المصنف فيكون المعنى، رواه البخاري عن البخاري تعليقاً ولا يخفى ما فيه. 2038- قوله: (وعن عطاء) هو ابن أبي رباح (إن مضمض) أي الصائم وفي بعض نسخ البخاري تمضمض (ثم أفرغ ما في فيه) أي صب جميع ما في فمه (من الماء) بيان لما الموصولة (لا يضيره) بمثناة تحتية بعد الضاد المعجمة المكسورة من ضاره يضيره ضيراً بمعنى ضره، وهذا رواية المستملي. وفي رواية غيره لا يضره من ضره بالتشديد أي لا يضر صومه (أن يزدرد ريقه) أي يبتلعه (وما بقي في فيه) أي فمه وكلمة "ما" موصولة عطف على "ريقه" قال ابن بطال: ظاهره إباحة إلإزدراد لما بقي في الفم من ماء المضمضة، وليس كذلك. لأن عبد الرزاق رواه بلفظ: وماذا بقي في فيه وكأن ذا سقطت من رواية البخاري - انتهى. قلت: وقع في نسختي القسطلاني والعيني وماذا بقي في فيه. قال القسطلاني: أي وأي شيء بقي في فمه بعد أن يمج الماء إلا أثر الماء فإذا بلغ ريقه لم يضره، ولأبي ذر وابن عساكر كما في الفرع وما بقي، فأسقط لفظة "ذا" وحينئذٍ "فما" موصولة. ثم ذكر كلام ابن بطال ثم قال ولعله لم يقف على الرواية المثبتة لها - انتهى. قال الحافظ: هذا التعليق وصله سعيد ابن منصور عن ابن المبارك عن ابن جريج. قلت: لعطاء الصائم يمضمض ثم يزدرد ريقه وهو صائم قال لا يضره وماذا بقي في فيه، وكذا أخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج. ووقع في أصل البخاري وما بقي في فيه ثم ذكر الحافظ كلام ابن بطال المتقدم، ثم قال وما على ما أورده البخاري موصولة، وعلى ما وقع من رواية ابن جريج استفهامية، وكأنه قال وأي شيء يبقى في فيه بعد أن يمج الماء إلا أثر الماء فإذا بلغ ريقه لا يضره - انتهى. وقيل: يجوز أن تكون كلمة "ما" على ما في أصل البخاري أيضاً استفهامية، استفهام إنكار، وإن لم يكن معها "ذا" ويتم المعنى كما لا يخفى. وقيل: "ما" نافية والجملة حالية. قال ابن قدامة: ومالا يمكن التحرز منه كابتلاع الريق لا يفطره لأن اتقاء ذلك يشق فأشبه غبار الطريق وغربلة الدقيق فإن جمعه ثم ابتلعه قصداً لم يفطره. وقال ابن الهمام وغيره من علماء الحنفية: لا يضر الصائم إن دخل غبار أو دخان أو ذباب حلقه لأنه لا يمكن الاحتراز عن

ولا يمضغ العلك، فإن ازدرد ريق العلك لا أقول: إنه يفطر، ولكن ينهى عنه)) . رواه البخاري في ترجمة باب. ـــــــــــــــــــــــــــــ هذه الأشياء كما لا يمكن الاحتراز عن البلل الباقي في المضمضة كذا في المرقاة: (ولا يمضغ) أي لا يلوك الصائم يقال مضغ الطعام يمضغه بفتح الضاد وضمها أي لاكه بلسانه أو سنه و"لا" نافية أو ناهية (العلك) بكسر المهملة وسكون اللام بعدها كاف كل ما يمضغ ويبقى في الفم كالمصطكى. قال القاري: العلك صمغ الصنوبر والأرزة والفستق والسَّرد والينبوت والبطم وهو أجودها مسخن مدر باهي، وفي نسخة ويمضغ بحذف كلمة لا - انتهى. قلت: كذا وقع في رواية المستملى بإسقاط كلمة لا، ورواية الأكثرين لا يمضغ بإثبات كلمة لا، وهي أولى وكذلك أخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج قلت: لعطاء يمضغ الصائم قال لا، قلت أنه يمج ريق العلك ولا يزدرده ولا يمصه قال نعم، قلت له أيتسوك الصائم قال نعم، قلت أيزدرد ريقه؟ قال لا، قلت ففعل أيضره قال لا: ولكن ينهي عن ذلك (فإن ازدرد ريق العلك) قال ابن حجر: يصح هنا كسر العين وفتحها أي الريق المتولد من العلوك أو من مضغه (لا أقول أنه يفطر) بالتشديد فالضمير راجع إلى الإزدراد وفي نسخة بالتخفيف فالضمير إلى الصائم. قال ابن حجر: وإنما لم يفطر لأنه لم ينزل إلى الجوف عين أجنبية. وإنما النازل إليه محض الريق لا غير (ولكن ينهى) نهي تنزيه (عنه) أي عن الإزداراد. قال ابن المنذر: رخص في مضغ العلك أكثر العلماء إن كان لا يتحلب منه شيء فإن تحلب منه شيء فازدراد فالجمهور على أنه يفطر - انتهى. قال الحافظ: والعلك كل ما يمضغ ويبقى في الفم كالمصطكى واللبان، فإن كان يتحلب منه شيء في الفم فيدخل الجوف فهو مفطر، وإلا فهو مجفف ومعطش فيكره من هذه الحيثية - انتهى. قلت: وكرهه الشافعي من هذه الجهة وكرهه أيضاً إبراهيم والشعبي وروى عنه أنه لم ير به بأساً. قال ابن حزم: وروى من طريق لا يصح عن أم حبيبة أم المؤمنين إنها كرهت العلك للصائم. قلت: روى البيهقي (ج4 ص269) من طريق سعيد بن عيسى عن جدته إنها سمعت أم حبيبة تقول لا يمضغ العلك الصائم. قال البيهقي: جدته أم الربيع والحديث موقوف - انتهى. وقال ابن قدامة: (ج3 ص109) قال إسحاق بن منصور: قلت لأحمد الصائم يمضغ العلك قال لا، قال أصحابنا العلك ضربان أحدهما، ما يتحلل منه أجزاء وهو الرديء الذي إذا مضغه يتحلل فلا يجوز مضغه، إلا أن لا يبلع ريقه فإن ريقه فإن فعل فنزل إلى حلقه منه شيء أفطر به كما لو تعمد أكله. والثاني، العلك الذي كلما مضغه صلب وقوي فهذا يكره مضغه ولا يحرم، وممن كرهه الشعبي والنخعي ومحمد بن علي وقتادة والشافعي وأصحاب الرأي. وذلك لأنه لا يحلب الفم ويجمع الريق ويورث العطش، ورخصت عائشة في مضغه. لأنه لا يصل إلى الجوف فهو كالحصاة يمضغها في فيه- انتهى. (رواه البخاري في ترجمة) أثر عطاء هذا ذكره البخاري

.............................. ـــــــــــــــــــــــــــــ في باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ فليستنشق بمنخره الماء ولم يميز بين الصائم وغيره. قال الحافظ: قول المصنف يعني البخاري ولم يميز بين الصائم وغيره قاله تفقهاً وهو كذلك في أصل الاستنشاق، لكن ورد تميز الصائم من غيره في المبالغة في ذلك، كما رواه أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة وغيره من طريق عاصم عن لقيط بن صبرة عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له، بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً. انتهى. ............................ بعون الله وحسن توفيقه تم الجزء السادس من مشكاة المصابيح مع شرحه مرعاة المفاتيح. ويليه الجزء السابع إنشاء الله تعالى، وأوله "باب صوم المسافر".

(4) باب صوم المسافر

بسم الله الرحمن الرحيم (4) باب صوم المسافر {الفصل الأول} 2039- (1) عن عائشة، قالت: ((إن حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أصوم في السفر وكان كثير الصيام. فقال: إن شئت فصم، وإن شئت فافطر)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ (باب المسافر) أي في بيان حكم الصوم للمسافر، من جواز فعله وتركه وبيان الأفضل منهما قال الله تعالى {فمن كان منكم مريضاً أو على سفرٍ فعدةٌ من أيام أخر} [البقرة: 184] 2039- قوله: (إن حمزة بن عمرو) بفتح العين وسكون الميم وبالواو في آخره ابن عويمر (الأسلمي) من ولد أسلم بن أفصى بن حارثة بن عمر يكنى أبا صالح، ويقال أبومحمد المدني صحابي جليل، له تسعة أحاديث استنارت أصابعه في ليلة ظلماء مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان يسرد الصوم. مات سنة إحدى وستين، وله إحدى وسبعون، وقيل: ثمانون. (أصوم في السفر) أي أأصوم بتقدير همزة الاستفهام. وقال القاري: أي فما حكمه؟ أي فهل على جناح في الصوم أو ضده أو يقدر الاستفهام-انتهى. قلت: كذا وقع في بعض نسخ البخاري أصوم، وهي رواية النسائي أيضاً، ووقع في نسخ القسطلاني والعيني والحافظ أأصوم بهمزتين، الأولى همزة الاستفهام، والأخرى همزة المتكلم. وهكذا وقع في جامع الأصول (ج7ص261) وشرح العمدة لابن دقيق العيد (ج2ص223) وفي رواية لمسلم إني رجل أصوم (أي من عادتي ذلك) أفأصوم في السفر، وفي أخرى لهما إني أسرد الصوم، بضم الراء أي اتابعه. واستدل به على أن لا كراهية في صيام الدهر لأنه أخبره بسرده فلم ينكر عليه بل أقره عليه وهو في السفر ففي الحضر بالأولى، قال الحافظ: ولا دلالة فيه لأن التتابع يصدق بدون صوم الدهر، فإن ثبت النهي عن صوم الدهر لم يعارضه هذا الإذن بالسرد، بل الجمع بينهما واضح-انتهى. وقال شيخنا في شرح الترمذي: في الاستدلال بقوله أسرد على عدم كراهة صوم الدهر نظر، لأنه يحتمل أن يكون المراد به أي أكثر الصيام كما يدل عليه قوله "وكان كثير الصيام" فما لم ينتف هذا الاحتمال لا يتم الاستدلال-انتهى. (وكان) أي حمزة (كثير الصيام) الجملة معترضة لبيان الحال الحامل له على هذا السؤال (فقال إن شئت فصم وإن شئت فافطر) بهمزة قطع. وفيه دليل على التخيير بين الصوم والفطر واستوائهما في السفر. قال الخطابي: هذا نص في إثبات الخيار للمسافر في الصوم والإفطار، وفيه بيان جواز صوم الفرض للمسافر إذا صامه، وهو قول عامة أهل العلم إلا ما روى عن ابن عمر أنه قال إن صام في السفر قضى في الحضر. وقد روى عن ابن عباس أنه قال لا يجزيه، وذهب إلى هذا داود بن علي-انتهى.

قلت: قال ابن حزم (ج6ص253) حديث حمزة بيان جلي في أنه إنما سأله عليه السلام عن التطوع لقوله في الخبر "إني امرؤ أسرد الصوم" قال الحافظ في التلخيص (ص194) لكن ينتقض عليه بأن عند أبي داود في رواية صحيحة من طريق حمزة بن محمد عن أبيه عن جده ما يقتضي أنه سأله عن الفرض وصححها الحاكم-انتهى. وقال ابن دقيق العيد (ج2ص223) ليس في حديث الباب تصريح بأنه صوم رمضان، فلا يكون فيه حجة على من منع صيام رمضان في السفر. قال الحافظ في الفتح: هو كما قال بالنسبة إلى سياق حديث الباب، لكن في رواية أبي مرواح عن حمزة عند مسلم أنه قال: يا رسول الله! أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل على جناح فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي رخصة من الله-الحديث (وسيأتي في الفصل الثالث) وهذا يشعر بأنه سأل عن صيام الفريضة، وذلك إن الرخصة إنما تطلق في مقابلة ما هو واجب، وأصرح من ذلك ما أخرجه أبوداود والحاكم من طريق محمد بن عمرو عن أبيه أنه قال يا رسول الله! إني صاحب ظهور أعالجه أسافر عليه وأكريه، وأنه ربما صادفني هذا الشهر يعني رمضان، وأنا أجد القوة وأجدني أن أصوم أهون على من أن أؤخره فيكون ديناً علي فقال: أي ذلك شئت يا حمزة-انتهى. وقيل: الظاهر إن حمزة سأله - صلى الله عليه وسلم - مرتين: مرة عن صيام التطوع، وهو مذكور في حديث عائشة عند الشيخين. ومرة عن صوم رمضان، وهذا مذكور في رواية أبي مرواح عن حمزة عند مسلم، وفي رواية محمد بن حمزة بن عمرو عن أبيه عند أبي داود. وقال الباجي (ج2ص50) سؤال حمزة عام فإذا خرج الجواب مطلقاً حمل على عمومه فحمل على جواز الصوم للفرض والنفل في السفر، ولا يخص صوم إلا بدليل. وذهب بعض أهل الظاهر إلى أن ذلك محمول على التطوع وهذا تخصيص بغير دليل فوجب أن يكون باطلاً-انتهى. واختلف السلف في صوم رمضان في السفر. فقالت طائفة لا يجزئ الصوم عن الفرض، بل من صام في السفر وجب عليه قضاءه في الحضر وهو يقول بعض الظاهرية. قال في الفتح: وحكى عن عمر وابن عمر وأبي هريرة والزهري وإبراهيم النخعي وغيرهم. واحتجوا بقوله تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر} قالوا ظاهره فعليه عدة أو فالواجب عدة وتأوله الجمهور بأن التقدير فأفطر فعدة واحتجوا أيضاً بما في حديث ابن عباس عند الشيخين إن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج من المدينة على رأس ثمان سنين ونصف، ومعه عشرة آلاف إلى مكة يصوم ويصومون، حتى إذا بلغ الكديد أفطر وأفطروا. وإنما يؤخذ من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالآخر فالآخر، ففيه أن الإفطار في السفر كان آخر الأمرين، وإن الصحابة كانوا يأخذون بالآخر فالآخر من فعله فدل على أن صومه - صلى الله عليه وسلم - في السفر منسوخ.

وأجاب الجمهور عن ذلك بأن هذه الزيادة مدرجة من قول الزهري كما جزم بذلك البخاري في الجهاد، وكذلك وقعت عند مسلم مدرجة، وبأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صام بعد هذه القصة كما في حديث أبي سعيد عند أحمد ومسلم. أنه - صلى الله عليه وسلم - صام بعد هذه القصة في السفر، ولفظه سافرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة ونحن صيام فنزلنا منزلا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم فافطروا، فكانت رخصة فمنا من صام، ومنا من أفطر فنزلنا منزلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكم مصبحو عدوكم فالفطر أقوى لكم فافطروا، فكانت عزيمة فافطرنا، ثم لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك في السفر. واحتجوا أيضاً بقوله - صلى الله عليه وسلم - ليس من البر الصوم في السفر ومقابل البر الإثم وإذا كان آثما بصومه وأجاب عنه الجمهور بأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما قال ذلك: في حق من شق عليه الصوم كما سيأتي بيانه ولا شك إن الإفطار مع المشقة الزائدة أفضل، وأيضا نفي البر لا يستلزم عدم صحة الصوم. وقال الشافعي: يحتمل أن يكون المراد ليس من البر المفروض الذي من خالفه إثم. وقال الطحاوي: المراد بالبر هنا البر الكامل الذي هو أعلى المراتب، وليس المراد به إخراج الصوم في السفر عن أن يكون برا، لأن الإفطار قد يكون أبّر من الصوم إذا كان للتقوى على لقاء العدو. وقال الشافعي أيضاً: نفي البر المذكور في الحديث محمول على من أبى قبول الرخصة، وقد روى النسائي الحديث بلفظ ليس البر أن تصوموا في السفر وعليكم برخصة الله التي رخص لكم فاقبلوا. قال ابن القطان: إسنادها حسن متصل يعني الزيادة ورجح ابن خزيمة الأول. واحتجوا أيضاً بقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث جابر في الفصل الثالث: أولئك العصاة أولئك العصاة. وأجاب عنه الجمهور بأنه إنما نسبهم إلى العصيان لأنه عزم عليه فخالفوا واحتجوا أيضاً بحديث عبد الرحمن بن عوف الآتي في الفصل الثالث وأجيب عنه بأنه حديث ضعيف، والراجح إنه موقوف كما سيأتي وعلى تقدير صحته فهو محمول على الحالة التي يكون الفطر فيها أولى من الصوم كحالة المشقة جمعاً بين الأدلة واحتجوا أيضاً بحديث أنس بن مالك الكعبي الآتي في الفصل الثاني. وأجيب عنه بأنه مختلف فيه كما سيأتي، وعلى تسليم صحته، فالوضع لا يستلزم عدم صحة الصوم في السفر وهو محل النزاع. وذهب أكثر العلماء منهم مالك والشافعي وأبوحنيفة إلى أن الصوم أفضل لمن قوي عليه ولم يشق به، ويروي ذلك عن أنس وعثمان بن أبي العاص واحتجوا بحديث سلمة بن المحبق الآتي، ولأن الصوم تعلق بالذمة فالمبادرة إلى إبرائها أولى فربما طرأ من الموانع والاشتغال بخلاف القصر فإن الذمة تبرأ فيه بما يؤتي. وقال كثير منهم الفطر أفضل عملاً بالرخصة، وهو قول الأوزاعي وأحمد وإسحاق. وقال آخرون هو مخير مطلقاً وروى عن ابن عباس وأبي سعيد وسعيد ابن المسيب وعطاء والحسن ومجاهد والليث.

2040- (2) وعن أبي سعيد الخدري، قال: ((غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لست عشرة مضت من شهر رمضان، فمنا من صام ومنا من أفطر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال آخرون أفضلهما أيسرهما لقوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر} [البقرة: 185] فإن كان الفطر أيسر عليه فهو أفضل في حقه، وإن كان الصيام أيسر كمن يسهل عليه حينئذٍ ويشق عليه قضاءه بعد ذلك فالصوم في حقه أفضل، وهو قول عمر بن عبد العزيز واختاره ابن المنذر. قال الشوكاني والأولى أن يقال من كان يشق عليه الصوم ويضره، وكذلك من كان معرضاً عن قبول الرخصة فالفطر أفضل له. أما الطرف الأول فلما تقدم من الأدلة في حجج القائلين بالمنع من الصوم. وأما الطرف الثاني فلحديث: إن الله يحب أن تؤتى رخصه، وقد تقدم. ولحديث: من رغب عن سنتي فليس مني، وكذلك يكون الفطر أفضل في حق من خاف على نفسه العجب أو الرياء إذا صام في السفر، وقد أشار إلى ذلك ابن عمر، فروى الطبري عن ابن عمر أنه قال: إذا سافرت فلا تصم، فإنك إن تصم. قال أصحابك: اكفوا الصائم ارفعوا للصائم وقاموا بأمرك، وقالوا فلان صائم، فلا تزال كذلك حتى يذهب أجرك. وأخرج نحوه عن أبي ذر، ومثل ذلك حديث أنس الآتي بعد حديثين وما كان من الصيام خاليا عن هذه الأمور أفضل من الإفطار-انتهى. (متفق عليه) واللفظ للبخاري، وأخرجه أيضاً أحمد، ومالك والترمذي وأبوداود، والنسائي وابن ماجه والدارمي والبيهقي وغيرهم. 2040- قوله: (غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) فيه تجريد أو تأكيد لأن الغزوة لا تكون إلا معه بخلاف السرية والمراد غزوة فتح مكة (لست عشرة) أي ليلة (مضت من شهر رمضان) كذا في جميع النسخ، وفي مسلم من رمضان أي بإسقاط لفظ شهر، وهكذا وقع في جمع الأصول (ج7ص262) والمصابيح، واختلفت الروايات في تعيين التأريخ ففي رواية لمسلم لثمان عشرة خلت وفي رواية ثنتي عشرة، وفي رواية لسبع عشرة أو تسع عشرة، والمشهور في كتب المغارى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في غزوة الفتح من المدينة لعشر خلون من رمضان، ودخلها لتسع عشرة خلت. قال الحافظ: في الصيام من الفتح بعد الإشارة إلى اختلاف الرواة في ضبط ذلك في حديث أبي سعيد ما لفظه، والذي اتفق عليه أهل السير أنه خرج في عاشر رمضان، ودخل مكة لتسع عشرة ليلة خلت منه. وقال في المغازى: أخرج البيهقي من طريق ابن أبي حفصة عن الزهري قال: صبح رسول الله صلى الله عليه مكة لثلاث عشرة خلت من رمضان، وروى أحمد بإسناد صحيح من طريق قزعة بن يحيى عن أبي سعيد قال: خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح لليلتين خلتا من شهر رمان، هذا يعين يوم الخروج. وقول الزهري يعين يوم الدخول. ويعطي أنه أقام في الطريق اثني عشر يوماً.

2041- (3) وعن جابر، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى زحاماً ورجلاً قد ظُلِّلَ عليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: صائم. فقال: ليس من البر الصوم في السفر)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأما ما قال الواقدي: أنه خرج لعشر خلون من رمضان، فليس بقوى لمخالفته ما هو أصح منه، وفي تعيين هذا التأريخ أقوال أخرى. منها عند مسلم لست عشرة، ولأحمد لثماني عشرة وفي أخرى لثنتي عشرة، والجمع بين هاتين بحمل إحداهما على ما مضى، والأخرى على ما بقي والذي في المغازى دخل لتسع عشرة مضت وهو محمول على الاختلاف في أول الشهر، ووقع في أخرى بالشك في تسع عشرة، أو سبع عشرة. وروى يعقوب بن سفيان من رواية ابن إسحاق عن جماعة من مشائخه، إن الفتح كان في عشر بقين من رمضان، فإن ثبت حمل على أن مراده أنه وقع في العشر الأوسط قبل أن يدخل العشر الأخير-انتهى. فتأمل. قال ابن الملك: في الحديث دلالة على غلط من قال إن أحداً إذا أنشأ السفر في أثناء رمضان لم يجز له أن يفطر (فمنا من صام) وهم الأقوياء (ومنا من أفطر) وهم الضعفاء (فلم يعب) بفتح الياء وكسر العين أي لم يلم، وفي رواية فلا يجد أي لا يغضب (الصائم على المفطر) لأنه عمل بالرخصة (ولا المفطر على الصائم) لعمله بالعزيمة يعني لم ينكر الصائم على المفطر إفطاره دينا ولا المفطر على الصائم صومه، فهما جائزان وزاد في رواية يرون إن من وجد قوة فصام، فإن ذلك حسن ويرون إن من وجد ضعفاً فافطر فإن ذلك حسن. قال النووي: هذا صريح بترجيح مذهب الأكثرين وهو تفصيل الصوم لمن اطاقه بلا ضرر ولا مشقه ظاهرة. وقال بعض العلماء: الفطر والصوم سواء، لتعادل الأحاديث. والصحيح قول الأكثرين-انتهى. وقال الحافظ في الفتح: بعد ذكر هذا الحديث ما لفظه، وهذا التفصيل هو المعتمد وهو رافع للنزاع-انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً الترمذي والنسائي والطحاوي (ج1ص333) والبيهقي (ج4ص244، 245) وفي الباب عن أنس عند الشيخين وأبي داود والطحاوي والبيهقي وعن جابر عند مسلم والنسائي والطحاوي والبيهقي. 2041- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر) في غزوة الفتح كما في حديث جابر الآتي في الفصل الثالث. قال الحافظ: تبين من رواية جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر إنها غزوة الفتح-انتهى. يريد بذلك حديث جابر الآتي فإنه رواه مسلم والترمذي والنسائي وغيرهم، من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر (فرأى زحاما) بكسر الزاي اسم للزحمة، والمراد هنا الوصف لمحذوف أي فرأى قوما مزدحمين. وقيل: أي رأى مزاحمة في الاجتماع على غرض الاطلاع (ورجلا) قال الحافظ: لم أقف على اسم هذا الرجل ولولا ما قدمته من أن عبد الله بن رواحة استشهد قبل غزوة الفتح لأمكن أن يفسر به لقول أبي الدرداء أن لم يكن من الصحابة في تلك السفرة صائماً غيره-انتهى. وقيل: أنه أبوإسرائيل القرشي العامري واسمه قيس، وفيه نظر. فإن بين القصتين مغايرات ظاهرة، أظهرها إن أبا إسرائيل كان في الحضر في المسجد،

ففي مسند أحمد إن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل المسجد وأبوإسرائيل يصلي فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم هو ذا يا رسول الله؟ لا يقعد ولا يكلم الناس ولا يستظل ولا يفطر، فقال ليقعد وليتكلم وليستظل وليفطر. وروى الخطيب عن ابن عباس كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة فنظر إلى رجل من قريش يقال له أبوإسرائيل، فقالوا: نذر أن يصوم ويقوم في الشمس-الحديث. وأما صاحب القصة في حديث جابر فكان في السفر تحت الظل والله أعلم (قد ظلل عليه) بتشديد اللام الأولى على بناء المفعول أي جعل عليه شيء يظله من الشمس لغلبة العطش عليه وحر الصوم، وفي رواية للنسائي رأى ناسا مجتمعين على رجل فسأل فقالوا: رجل أجهده الصوم، وفي أخرى مر برجل في ظل شجرة يرش عليه الماء. قال ما بال صاحبكم (فقال ما هذا) أي ما حال صاحبكم هذا، وقيل أي ما هذا الزحام أو التظليل (قالوا) أي من حضر من الصحابة (صائم) أي وقد أجهده الصوم وشق عليه (ليس من البر) بكسر الباء أي ليس من الطاعة والعبادة (الصوم في السفر) قال الزركشي: "من" زائدة لتأكيد النفي. وقيل: للتبعيض وليس بشيء، وتعقبه البدر الدماميني، فقال: هذا عجيب لأنه أجاز ما المانع منه قائم، ومنع ما لا مانع منه، وذلك إن من شروط زيادة من أن يكون مجرورها نكرة، وهو في الحديث معرفة. وهذا هو المذهب المعول عليه وهو مذهب البصريين خلافاً للاخفش والكوفيين، وأما كونها للتبعيص فلا لمنعه وجه إذا المعنى إن الصوم في السفر ليس معدودا من أنواع البر كذا ذكره القسطلاني، وقد تقدم إن بعض الظاهرية تمسكوا به على عدم انعقاد صوم الفرض في السفر وسلك المجيزون، وهم عامة أهل العلم فيه طرقا. فقال الخطابي (ج2ص124) هذا الكلام خرج على سبب فهو مقصور عليه وعلى من كان في مثل حاله كأنه قال ليس من البر أن يصوم المسافر، إذا كان الصوم يؤديه إلى مثل هذه الحال بدليل صيام النبي صلى الله عليه وسلم في سفره عام الفتح، وبدليل خبر حمزة الأسلمي وتخييره بين الصوم والإفطار، ولو لم يكن الصوم برا لم يخيره فيه، ولو كان إثما لكان أبعد الناس منه، وإلى هذا جنح البخاري حيث بوب على هذا الحديث بلفظ: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن ظلل عليه واشتد الحر ليس من البر الصوم في السفر. قال الحافظ: أشار بهذه الترجمة إلى أن سبب قوله - صلى الله عليه وسلم - ذلك ما ذكر من المشقة، وإن كمن روى الحديث مجردا. فقد اختصر القصة، وبما أشار إليه من اعتبار المشقة يجمع بين حديث الباب، والذي يدل على صومه في السفر-انتهى. وقال ابن دقيق العيد (ج2ص225) أخذ من هذا إن كراهة الصوم في السفر لمن هو في مثل هذه الحالة ممن يجهده الصوم ويشق عليه أو يؤدي به إلى ترك ما هو أولى من الصوم من وجوه القرب، فينزل قوله ليس من البر الصوم في السفر على مثل هذه الحالة. قال: والظاهرية المانعون من الصوم في السفر يقولون إن اللفظ عام والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب،

قال: ويجب أن يتنبه للفرق بين دلالة السبب والسياق والقرائن على تخصيص العام، وعلى مراد المتكلم وبين مجرد ورود العام على سبب، فإن بين العامين فرقا واضحا ومن أجراهما مجرى واحدا لم يصب، فإن مجرد ورود العام على سبب لا يقتضي التخصيص به كنزول آية السرقة في قصة سرقة رداء صفوان. وأما السياق والقرائن فإنها الدالة على مراد المتكلم، وهي المرشدة إلى بيان المجملات وتعيين المحتملات كما في حديث الباب. وقال ابن المنير: هذه القصة تشعر بأن من اتفق له مثل ما اتفق لذلك الرجل أنه يساويه في الحكم، وأما من سلم من ذلك ونحوه فهو في جواز الصوم على أصله. وقال الطحاوي: المراد بالبر هنا البر الذي هو إبر البر وأعلى مراتب البر، وليس المراد بذلك إخراج الصوم في السفر من أن يكون برا، لأنه قد يكون برا، لأنه قد يكون الإفطار إبر منه، إذا كان للتقوى على لقاء العدو، مثلا والمعنى ليس من البر الذي هو إبر البر وأعلى مراتب البر الصوم في السفر، وإن كان الصوم في السفر برا إلا أن غيره من البر وهو الإفطار قد يكون إبر منه إذا كان يراد به القوة للقاء العدو. قال وهو نظير قوله صلى الله عليه وسلم ليس المسكين بالطواف-الحديث. فإنه لم يرد به إخراجه إياه من أسباب المسكنة كلها، ولكنه أراد بذلك ليس هو المسكين المتكامل المسكنة، ولكن المسكين الكامل المسكنة الذي لا يسأل الناس ولا يعرف فيتصدق عليه وحمل الشافعي نفي البر المذكور في الحديث على من أبي قبول الرخصة فقال معنى قوله ليس من البر أن يبلغ رجل هذا بنفسه في فريضة صوم ولا نافلة، وقد أرخص الله تعالى له أن يفطر وهو صحيح. قال ويحتمل أن يكون معناه ليس من البر المفروض الذي من خالفه إثم، كذا في الفتح. وقال السندي: ظاهر إن ترك الصوم أولى ضرورة إن الصوم مشروع طاعة فإذا حرج عن كونه طاعة فينبغي أن لا يجوز ولا أقل من كون الأولى تركه ومن يقول إن الصوم هو الأولى في السفر يستعمل الحديث في مورده أي ليس من البر، إذا بلغ الصائم هذا المبلغ من المشقة، وكأنه مبني على تعريف الصوم للعهد، والإشارة إلى مثل صوم ذلك الصائم، نعم الأصل هو عموم اللفظ لا خصوص المورد. لكن إذا أدى عموم اللفظ إلى تعارض الأدلة يحمل خصوص المورد كما هنا. وقيل: من في قوله "ليس من البر" زائدة، والمعنى ليس هو البر بل قد يكون الإفطار إبر منه إذا كان في حج أو جهاد ليقوى عليه. والحاصل إن المعنى على القصر لتعريف الطرفين. وقيل: محمل الحديث على من يصوم ولا يقبل الرخصة-انتهى. (متفق عليه) واللفظ للبخاري وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي والدارمي والطحاوي (ج1ص329) والبيهقي (ج4ص242) وفي الباب عن ابن عمر عند ابن ماجه والطحاوي وعن كعب بن عاصم الأشعري عند أحمد (ج5ص434) والنسائي وابن ماجه والدارمي وعبد الرزاق والطبراني في الكبير والطحاوي والبيهقي: وعن أبي برزة الأسلمي عند أحمد والبزار والطبراني في الأوسط،

2042- (4) وعن أنس، قال: ((كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم: في السفر، فمنا الصائم ومنا المفطر، فنزلنا منزلا في يوم حار. فسقط الصوامون، وقام المفطرون فضربوا الأبنية وسقوا الركاب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ذهب المفطرون اليوم بالأجر)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وعن ابن عباس عند البزار والطبراني في الكبير وابن عدي وعن عبد الله بن عمر وعند الطبراني في الكبير، وعن عمار بن ياسر عند الطبراني أيضاً، وعن أبي هريرة عند ابن عدي. ذكر هذه الأحاديث الهيثمي (ج3ص161) والعيني (ج11ص48) مع الكلام عليها وروى بلفظ: ليس من أمبِرٍ اْمصيامٌ في اْمسَفَرٍٍ أخرجه أحمد (ج5ص434) وعبد الرزاق في مصنفه، والطبراني في معجمه من حديث كعب بن عاصم الأشعري. قال الزمخشري: هي لغة طي فإنهم يبدلون اللام ميما. وقال الجزري في جامع الأصول: (ج7ص546) الميم بدل من لام التعريف في لغة قوم من اليمن فلا ينطقون بلام التعريف ويجعلون مكانها الميم-انتهى. ورواه النسائي وابن ماجه والدارمي والطحاوي والبيهقي (ج4ص242) بلفظ: ليس من البر الصوم في السفر. 2042- قوله: (فمنا الصائم) أريد به الجنس (ومنا المفطر) وفي رواية فصام بعض وأفطر بعض. وفيه دليل على جواز الصوم في السفر لتقرير النبي صلى الله عليه وسلم للصائمين على صومهم (فنزلنا منزلا في يوم حار) وقع بعد هذا أكثر ناظلا صاحب الكساء ومنا من يتقي الشمس بيده (فسقط الصوامون) جمع صوام بفتح المهملة بصيغة المبالغة كذا في جميع النسخ من المشكاة، وهكذا وقع في المصابيح، والذي في صحيح مسلم فسقط الصُوام، وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7ص259) والمنذري في الترغيب والحافظ في الفتح وكذا وقع في عمدة الأحكام، وكذا عند النسائي والطحاوي والبيهقي. والصوام بضم المهملة كحكام جميع صائم، أي عجزوا عن العمل، وما قدروا على قضاء حاجتهم. وقال القاري: أي ضعفوا عن الحركة ومباشرة حوائجهم لأجل ضعفهم (وقام المفطرون) أي بالخدمة (فضربوا الأبنية) أي نصبوا الخيام جمع بناء. والمراد البيوت التي يسكنها العرب في الصحراء كالخباء والقبة (وسقوا الركاب) بكسر الراء أي الإبل التي يسار عليها واحدها راحلة، ولا واحد لها من لفظها (ذهب المفطرون اليوم بالأجر) الوافر وهو أجر ما فعلوه من خدمة الصائمين بضرب الأبنية والسقي وغير ذلك لما حصل منهم من النفع المتعدي، ومثل أجر الصوام لتعاطيهم إشغالهم وإشغال الصوام. وأما الصائمون فحصل لهم أجر صومهم القاصر عليهم ولم يحصل لهم من الأجر ما حصل للمفطرين من ذلك. قال الحافظ: قوله بالأجر، أي الوافر وليس المراد نقص أجر الصوام بل المراد أن المفطرين حصل لهم أجر عملهم ومثل أجر الصوام لتعاطيهم إشغالهم.

2043- (5) وعن ابن عباس، قال: ((خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، فصام حتى بلغ عسفان، ثم دعا بماء فرفعه إلى يده ليراء الناس فأفطر حتى قدم مكة، ـــــــــــــــــــــــــــــ وإشغال الصوام، فلذلك قال بالأجر كله لوجود الصفات المقتضية لتحصيل الأجر منهم. وقال القاري: أي بالثواب الأكمل لأن الإفطار كان في حقهم حينئذٍ أفضل. وفي ذكر اليوم إشارة إلى عدم إطلاق هذا الحكم. وقال الطيبي: أي إنهم مضوا واستصحبوا الأجر ولم يتركوا لغيرهم شيئاً منه على طريقة المبالغة، يقال ذهب به إذا استصحبه ومضى به معه-انتهى. يعني بالأجر كله أو بكل الأجر مبالغة-انتهى كلام القاري. وقال ابن دقيق العيد: فيه وجهان: أحدهما، أن يراد بالأجر أجر تلك الأفعال التي فعلوها والمصالح التي جرت على أيديهم ولا يراد مطلق الأجر على سبيل العموم. والثاني أن يكون أجرهم قد بلغ في الكثرة بالنسبة إلى أجر الصوم مبلغا ينغمر فيه أجر الصوم، فتحصل المبالغة بسبب ذلك ويجعل كأن الأجر كله للمفطر-انتهى. وفي الحديث إنه إذا تعارضت المصالح قدم أولالها وأقواها. قال الحافظ: وفيه الحض على المعاونة في الجهاد، وإن الفطر في السفر أولى عن الصيام وإن الصيام في السفر جائز خلافاً لمن قال لا ينعقد وليس في الحديث بيان كونه إذ ذاك كان صوم فرض أو تطوع (متفق عليه) أخرجه البخاري في باب فضل الخدمة في الغزو من كتاب الجهاد، وهو من الأحاديث التي أوردها في غير مظنتها لكونه لم يذكره في الصيام، واقتصر على إيراده هنا، وأخرجه مسلم في الصيام وكذا النسائي والطحاوي (ص333) والبيهقي (ج4ص243) واللفظ المذكور لمسلم. ولفظ البخاري قال أنس كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم أكثرنا ظلاً الذي يستظل بكساءه. وأما الذين صاموا فلم يعملوا شيئاً. وأما الذين أفطروا فبعثوا الركاب وامتهنوا وعالجوا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ذهب المفطرون اليوم بالأجر. 2043- قوله: (عن ابن عباس) قال أبوالحسن القابسي: هذه الحديث من مرسلات الصحابة لأن ابن عباس كان في هذه السفرة مقيماً مع أبويه بمكة فلم يشاهد هذا القصة فكأنه سمعها من غيره من الصحابة (خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى مكة) أي في غزوة الفتح في رمضان كما في رواية (فصام حتى بلغ عسفان) بضم العين وسكون السين المهملتين. قيل: هو موضع على مرحلتين من مكة. وقال عياض: هي قرية جامعه بها منبر على ستة وثلاثين ميلاً من مكة. قال النووي بعد ذكره: والمشهور أنها على أربعة برد من مكة وكل بريد أربعة فراسخ وكل فرسخ ثلاثة أميال، فالجملة ثمانية وأربعون ميلاً هذا هو الصواب المعروف الذي قاله الجمهور-انتهى.

ووقع في رواية للشيخين حتى بلغ الكديد بفتح الكاف وكسر الدال الأولى وهو موضع بينه وبين المدينة سبع مراحل أو نحوها وبينه وبين مكة قريب من مرحلتين قاله النووي. وقال عياض: هي عين جارية على اثنين وأربعين ميلاً من مكة. وقال الحافظ: وقع في رواية حتى بلغ عسفان بدل الكديد، وفيه مجاز القرب لأن الكديد أقرب إلى المدينة من عسفان، وبين الكديد ومكة مرحلتان. قال البكري: هو بين أمج بفتحتين وجيم وعسفان وهو ماء عليه نخل كثير-انتهى. ووقع في رواية لأحمد والنسائي حتى أتى قديداً بضم القاف على التصغير، وهو موضع قرب عسفان. ووقع حديث جابر الآتي. فلما بلغ كراع الغميم هو بضم الكاف والغمم بفتح المعجمة، وهو اسم واد أمام عسفان بثمانية أميال يضاف إليه هذا الكراع، وهو جبل أسود متصل به. وقال في المجمع: كراع الغميم اسم موضع بين مكة والمدينة، والكراع جانب مستطيل من الحرة تشبيها بكراع الغنم، وهو ما دون الركبة من الساق، والغميم بالفتح واد بالحجاز. قال عياض: اختلفت الروايات في الموضع الذي أفطر صلى الله عليه وسلم فيه والكل في سفر واحد في غزاة الفتح. قال وسميت هذه المواضع في هذه الأحاديث لتقاربها وإن كانت عسفان متباعدة شيئاً عن هذه المواضع. لكنها كلها مضافة إليها ومن عملها فاشتمل اسم عسفان عليها. قال وقد يكون علم حال الناس ومشقتهم في بعضها فافطروا في بعضها-انتهى. (ثم دعا بماء) وفي رواية للبخاري دعا بإناء من لبن أو ماء بالشك، وفي رواية لأحمد والنسائي ثم أتى بقدح من لبن وكذا وقع عند الطحاوي. قال الداودي: يحتمل أن يكون دعا بهذا أي الماء مرة وبهذا أي اللبن مرة، وتعقبه الحافظ بأنه لا دليل على التعدد فإن الحديث واحد والقصة واحدة. وإنما وقع الشك من الراوي فتقدم عليه رواية من جزم، وأبعد ابن التين فقال: كانت قصتان إحداهما في الفتح والأخرى في حنين-انتهى. ولم يجب الحافظ عن روايات الجزم باللبن. وقيل: في توجيهها أنه شرب الماء في موضع أو في مواضع وشرب اللبن في موضع آخر وأراهم الفطر مرتين أو مرات لكثرة الناس والله اعلم (فرفعه) أي الماء منتهيا (إلى) أقصى حد (يده) بالأفراد وفي رواية يديه بالتثنية. قال القاري: الجار والمجرور حال أي رفع الماء منتهيا إلى أقصى مديده أي إلى غاية طولها. قال الزركشي والبرماوي: كذا للأكثرين وفي رواية ابن السكن إلى فيه وهو الأظهر إلا أن تؤول لفظة إلى في رواية الأكثرين بمعنى على ليستقيم الكلام، وتعقبه في المصابيح بأنه لا يعرف أحداً ذكر "إلى" بمعنى على قال، والكلام مستقيم بدون هذا التأويل. وذلك إن إلى لانتهاء الغاية على بابها، والمعنى فرفع الماء ممن أتى به رفعاً قصد به رؤية الناس له، فلا بد أن يقع ذلك على وجه يتمكن فيه الناس من رؤيته ولا حاجة مع ذلك إلى إخراج إلى عن بابها. وقال الكرماني: كالطيبي أو فيه تضمين، أي-انتهى.

وذلك في رمضان. فكان ابن عباس يقول: قد صام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفطر. فمن شاء صام ومن شاء أفطر)) . متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الرفع إلى أقصى غايتها، ويمكن أن يكون بمعنى "في" للظرفية كقوله تعالى: {ليجمعنكم إلى يوم القيامة} [النساء: 87] أي فرفعه حال كونه في يده (ليراه الناس) بفتح التحتية والراء والناس بالرفع، لأنه فاعله، والضمير المنصوب فيه مفعوله. قال الحافظ: كذا للأكثر وفي رواية المستملى ليريه بضم أوله وكسر الراء وفتح التحتانية، والناس نصب على أنه مفعول ثان، ليريه لأنه من الإراءة وهي تستدعى مفعولين، واللام للتعليل في الوجهين. والمعنى رفع الماء حتى ينظر الناس إليه فيقتدوا به في الإفطار لأن الصيام أضّر بهم، وكان لا يأمن الضعف عن القتال عند لقاء عدوهم، يفهم منه إن أفضلية الفطر لا تختص بمن أجهده الصوم أو خشي العجب والرياء، أو ظن به الرغبة عن الرخصة بل يلحق بذلك من يقتدي به ليتابعه من وقع له شيء من الأمور الثلاثة ويكون الفطر في حقه في تلك الحالة أفضل البيان (فافطر) أي بعد العصر كما في حديث جابر واستمر مفطراً (حتى قدم مكة وذلك) أي ما ذكر من الصوم والإفطار كان (في رمضان) سنة ثمان (فكان ابن عباس يقول قد صام رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي في رمضان سنة ثمان حال السفر (فمن شاء صام ومن شاء أفطر) أي لا حرج على أحدهما، وفيه دلالة لمذهب الجمهور في جواز الصوم والفطر جميعا. قال الحافظ: فهم ابن عباس من فعله - صلى الله عليه وسلم - ذلك إنه لبيان الجواز لا للأولوية. وقد تقدم في حديث أبي سعيد عند مسلم ما يوضح المراد، وسيأتي أيضاً في حديث جابر. قال في شرح السنة: لا فرق عند عامة أهل العلم بين من ينشيء السفر في شهر رمضان، وبين من يدخل عليه شهر رمضان وهو مسافر. وقال عبيدة السلماني: إذا أنشأ السفر في شهر رمضان لا يجوز له الإفطار لظاهر قوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [البقرة: 185] وهذا الحديث حجة على القائل. ومعنى الآية الشهر كله، فأما من شهد بعضه فلم يشهد الشهر-انتهى. قال القاري: والأظهر إن معنى الآية فمن شهد منكم شيئاً منه من غير مرض وسفر-انتهى. وقال الحافظ: استدل بالحديث على أن للمسافر أن يفطر في أثناء النهار، ولو استهل رمضان في الحضر. والحديث نص في الجواز إذ لا خلاف في أنه صلى الله عليه وسلم استهل رمضان في عام غزوة الفتح وهو بالمدينة ثم سافر في أثنائه، وقد ترجم عليه البخاري بلفظ: باب إذا صام أياماً من رمضان ثم سافر. قال الحافظ: كأنه أشار إلى تضعيف ما روى عن علي وإلى رد ما روى عن غيره في ذلك. قال ابن المنذر: روى عن علي بإسناد ضعيف، وقال به عبيده بن عمر وأبومجلز وغيرهما إن من استهل عليه رمضان في الحضر ثم سافر بعد ذلك فليس له أن يفطر لقوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} قال: وقال أكثر أهل العلم لا فرق بينه وبين من استهل رمضان في السفر، ثم ساق ابن المنذر بإسناد صحيح عن ابن عمر قال: قوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} نسخها قوله،

ومن كان مريضاً أو على سفر الآية ثم احتج للجمهور بحديث ابن عباس هذا-انتهى. واستدل به على أن للمرء أن يفطر ولو نوى الصوم من الليل وأصبح صائماً فله أن يفطر في أثناء النهار وهو قول الجمهور، وقطع به أكثر الشافعية، وفي وجه ليس له أن يفطر وكأن مستند قائله ما وقع في البويطي من تعليق القول به على صحة حديث ابن عباس هذا، وهذا كله فيما لو نوى الصوم في السفر. قال ابن قدامة (ج3ص101) إن نوى المسافر الصوم في سفره ثم بدأ له أن يفطر فله ذلك. واختلف قول الشافعي فيه فقال مرة: لا يجوز له الفطر. وقال مرة أخرى، إن صح حديث الكديد لم أر به بأساً أن يفطر. وقال مالك: إن أفطر فعليه القضاء والكفارة، ولنا حديث ابن عباس وهو حديث صحيح متفق عليه. ثم ذكر حديث جابر في إفطاره بعد العصر ثم قال: وهذا نص صريح فلا يعرج على من خالفه-انتهى. وأجاب المانعون من الفطر عن حديث ابن عباس بأنه ليس بنص في أنه صلى الله عليه وسلم بيت الصيام في ليلة اليوم الذي أفطر فيه، فيحتمل أن يكون لم ينو الصيام في ذلك اليوم، لما كان من قصده أن يظل مفطراً وشرب الماء بعد العصر ليريهم كونه غير صائم. قال الحافظ: واعترض بعض المانعين في أصل المسألة فقال ليس في الحديث دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم نوى الصيام في ليلة اليوم الذي أفطر فيه، فيحتمل أن يكون نوى أن يصبح مفطراً ثم أظهر الإفطار ليفطر الناس، لكن سياق الأحاديث ظاهر في أنه كان أصبح صائماً أفطر. وقد روى ابن خزيمة وغيره عن أبي هريرة قال كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بمر الظهران فأتى بطعام، فقال لأبي بكر وعمر ادنوا فكلا، فقالا اعملوا لصاحبيكم ارحلوا لصاحبيكم ادنوا فكلا. قال ابن خزيمة: فيه دليل على أن للصائم في السفر الفطر بعد مضى بعض النهار-انتهى. وأجاب بعض المالكية عن حديث عباس بأنه إنما أفطر بعد أن بيت الصيام للضرورة كالتقوى للعدو والمشقة الحاصلة له ولهم. ولو نوى الصوم من الليل وهو مقيم ثم سافر في أثناء النهار فهل له أن يفطر في ذلك النهار، منعه الجمهور. وقال أحمد وإسحاق: بالجواز، واختاره المزني محتجا بهذا الحديث، ظنا منه أنه - صلى الله عليه وسلم - أفطر في اليوم الذي خرج فيه من المدينة وليس كذلك، فإن بين المدينة والكديد عدة أيام. قال النووي: قد غلط بعض العلماء في فهم هذا الحديث، فتوهم أن الكديد وكراع الغميم قريب من المدينة، وإن كان بلوغه الكديد الغميم كان في اليوم الذي خرج فيه من المدينة، فزعم أنه خرج من المدينة صائما، فلما بلغ كراع الغميم في يومه أفطر من نهاره. واستدل به على أنه إذا سافر بعد طلوع الفجر صائماً له أن يفطر في يومه، ومذهب الشافعي والجمهور أنه لا يجوز الفطر في ذلك اليوم، وإنما يجوز لمن طلع عليه الفجر في السفر، واستدلاله بهذا الحديث من العجائب الغريبة. لأن الكديد وكراع الغميم على سبع مراحل أو أكثر من المدينة-انتهى.

2044- (6) وفي رواية لمسلم عن جابر، أنه شرب بعد العصر. ـــــــــــــــــــــــــــــ قلت: لأحمد روايتان، فيما إذا نوى الصوم من الليل وهو مقيم، ثم سافر في أثناء النهار. قال ابن قدامة (ج3ص100) في إباحة فطر اليوم الذي سافر فيه عن أحمد روايتان، إحداهما له أن يفطر، وهو قول عمرو بن شرحبيل والشعبي وإسحاق وداود وابن المنذر لحديث أبي بصرة الغفاري، إذ أكل الغداء في السفينة حين رفع من الفسطاط في شهر رمضان، وكان يرى البيوت أخرجه أبوداود، والرواية الثانية لا يباح له الفطر ذلك اليوم، وهو قول مكحول والزهري ومالك والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي، لأن الصوم عبادة تختلف بالسفر والحضر، فإذا اجتمعا فيها غلب حكم الحضر. قال ابن قدامة: والأول أصح للخبر-انتهى. ووافق الحنفية والمالكية في المسئلتين لكن لا كفارة عند الحنفية. قال ابن عابدين: لو سافر بعد الفجر لا يحل الفطر، وكذا لو نوى المسافر الصوم لا يحل فطره في ذلك اليوم، فلو أفطر لا كفارة عليه-انتهى. وقال صاحب فتح الملهم: وذهب الحنفية إلى عدم الجواز في الصورتين، ولهذا استشكل ابن الهمام أحاديث الباب، ثم أجاب عنها بما لا يقبله الوجدان السليم، نعم نقل الشيخ الأنور رحمه الله عن التتار خانية أنه يحل الفطر للغزاة عند مسيس الحاجة إليه مطلقاً للتقوى على الجهاد والتأهب له، وحمل حديث الباب على تلك الحالة، وكذا حققه الحافظ بن القيم في الهدي-انتهى. قلت: والراجح عندي في المسئلتين هو ما ذهب إليه أحمد ومن وافقه والله تعالى أعلم. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصيام وفي الجهاد وفي المغازي، ومسلم في الصيام واللفظ المذكور للبخاري في الصيام، وأخرجه أحمد سبع عشرة مرة، ومالك وأبوداود والنسائي والدارمي والطحاوي (ج1ص331) والبيهقي (ج4ص240- 243) بألفاظ مطولا ومختصرا. 2044- قوله: (وفي رواية لمسلم عن جابر) أي في هذه القصة (إنه) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (شرب بعد العصر) يعني كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً إلى وقت العصر، ثم أفطر ليعلم الناس إن الإفطار في السفر جائز بل أولى عند المشقة. وأخرج هذه الرواية مسلم من طريق عبد العزيز الدراوردي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بلفظ: فقيل إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإنما ينظرون فيما فعلت فدعا بقدح من ماء بعد العصر. وأخرجها أيضاً الترمذي والنسائي والبيهقي (ج4ص241) وذكر المصنف هذه الرواية لأنها أقرب بل أصرح في الدلالة، على أن من أصبح صائماً في السفر جاز له أن يفطر خلافاً للحنفية والمالكية وبعض الشافعية.

{الفصل الثاني}

{الفصل الثاني} 2045- (7) عن أنس بن مالك الكعبي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة، والصوم عن المسافر وعن المرضع والحبلى)) رواه أبوداود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2045- قوله: (عن أنس بن مالك الكعبي) صحابي نزل البصرة له ثلاثة أحاديث وله عند الأربعة هذا الحديث فقط. روى عنه عبد الله بن سوادة وأبوقلابة. قال الحافظ في الإصابة: أنس بن مالك الكعبي القشيري أبوأمية: وقيل أبوأميمة. وقيل: أبومية (بحذف الألف وتشديد التحتانية) نزل البصرة، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا في وضع الصيام عن المسافر وله معه فيه قصه أخرجه أصحاب السنن وأحمد وصححه الترمذي وغيره، ووقع فيه عند ابن ماجه (وكذا عند البيهقي) أنس بن مالك رجل من بني عبد الأشهل وهو غلط، وفي رواية أبي داود عن أنس بن مالك رجل من بني عبد الله بن كعب إخوة قشير، وهذا هو الصواب. وبذلك جزم البخاري في ترجمته، وعلى هذا فهو كعبي لا قشيري لأن قشيرا هو ابن كعب، ولكعب ابن اسمه عبد الله فهو من إخوة قشير، لا من قشير نفسه. وقد تعقب الرشاطي قول ابن عبد البر فيه "القشيري، ويقال الكعبي، وكعب أخو قشير" بأن كعبا والد قشير، لا أخوه-انتهى. قال المنذري: من يسمى بأنس بن مالك من رواة الحديث خمسة اثنان صحا بيان هذا، وأبوحمزة أنس بن مالك الأنصاري خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنس بن مالك والد الإمام مالك بن أنس بن مالك، روى عنه حديث في إسناده نظر. والرابع، شيخ حمصي حدث، والخامس كوفي حدث عن حماد بن أبي سليمان والأعمش وغيرهما-انتهى. (إن الله وضع عن المسافر) أي رفع ابتداء عنه قاله القاري. وقال ابن حجر: وضع بمعنى أسقط، وإسقاط الشيء يقتضى إسقاط وجوبه الأخص لا جوازه الأعم، ففيه حجة لما عليه الشافعي إن القصر جائز لا واجب-انتهى. وقد رد عليه القاري بأن موضوع وضع ليس بمعنى الذي ذكر لا لغة ولا اصطلاحا. أما لغة فظاهر. وأما الاصطلاح الشرعي فقد ورد أن الله تعالى وضع عن أمتي الخطأ والنسيان، أي كلفتهما وما يترتب عليهما من الحرج والإثم وكذا قوله تعالى: {ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} [الأعراف: 157]-انتهى. (شطر الصلاة) أي نصف الصلاة الرباعية لا إلى بدل بخلاف الصوم (والصوم) بالنصب عطف على قوله شطر الصلاة (عن المسافر) أي وضع عنه لزومه في تلك الأيام وخيره بين أن يصوم تل الأيام وبين عدة من أيام آخر. قال الطيبي: وإنما ذكر عن المسافر بعد الصوم ليصح عطف عن المرضع عليه لأن شطر الصلاة ليس موضوعا عن المرضع-انتهى. ورواه أحمد بلفظ: إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة وعن المسافر والحامل والمرضع الصوم أو الصيام: قال التوربشتي: الصوم منصوب والعامل فيه وضع، وشتان بين الوضعين، فإن الموضوع عن الصلاة ساقط لا إلى قضاء، ولا كذلك الصوم.

وإنما ورد البيان على تقرير الرخصة فأتى بقضايا منسوقة في الذكر مختلفة في الحكم، وذلك لا تكاله على بيان التنزيل من قوله فعدة من أيام أخر ثم على علم المخاطبين بذلك-انتهى. (وعن المرضع) لم تدخله التاء للاختصاص مثل الحائض (والحبلى) أي إذا خافتا على الحمل والرضيع أو على أنفسهما ثم هل هو وضع إلى قضاء أو فداء أولا، إلى قضاء ولا فداء-الحديث. ساكت عنه فكل من يقول ببعضه لا بد له من دليل قاله السندي: قلت: حكى ابن قدامة والزرقاني اتفاق العلماء على وجوب القضاء من غير فدية، فيما إذا خافت الحامل والمرضع على أنفسهما. قال ابن قدامة (ج3ص139) إن الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما فلهما الفطر. وعليهما القضاء فحسب، لا نعلم فيه بين أهل العلم اختلافا لأنهما بمنزلة المريض الخائف على نفسه. وقال الزرقاني: إذا خافتا على أنفسهما فلا فدية باتفاق أهل المذهب وهو إجماع، إلا عند من أوجب الفدية على المريض-انتهى. وأما إذا خافتا على ولديهما فقط. وأفطرتا فاختلفوا فيه على خمسة أقوال: أحدها يطعمان ولا قضاء عليهما وهو مروي عن ابن عمر وابن عباس، رواه أبوداود والبزار والدارقطني والبيهقي عن ابن عباس ومالك وابن أبي حاتم والدارقطني والبيهقي عن ابن عمر وهو أحد أقوال مالك. والثاني: أنهما يقضيان فقط ولا إطعام عليهما. وبه قال عطاء والزهري والحسن وسعيد بن جبير والنخعي وأبوعبيد وأبوثور وأبوحنيفة وأصحابه والأوزاعي والثوري، واستدل لهم بحديث الباب. قال الجصاص: ووجه الدلالة على هذا إخباره عليه الصلاة والسلام بأن وضع الصوم عن الحامل والمرضع هو كوضعه عن المسافر، ألا ترى إن وضع الصوم الذي جعله من حكم المسافر هو بعينه جعله من حكم المرضع والحامل، لأنه عطفهما عليه من غير استئناف ذكر شيء غيره، فثبت بذلك إن حكم وضع الصوم عن الحامل والمرضع هو في حكم وضعه عن المسافر، لا فرق بينهما، ومعلوم إن وضع الصوم عن المسافر إنما هو على جهة إيجاب قضاءه بالإفطار من غير فدية، فوجب أن يكون ذلك حكم الحامل والمرضع، وفيه دلالة على أنه لا فرق بين الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما، إذ لم يفصل النبي صلى الله عليه وسلم بينهما، وأيضا لما كانت الحامل والمرضع يرجى لهما القضاء، وإنما أبيح لهما الإفطار للخوف على النفس أو الولد مع إمكان القضاء وجب أن تكونا كالمريض والمسافر-انتهى. والثالث: إنهما يقضيان ويطعمان وهو المشهور من مذهب الشافعي وهو ثاني أقوال مالك، وإليه ذهب أحمد. والرابع: إن الحامل تقضي وتطعم، وبه قال الليث وهو المشهور من أقوال مالك لأن المرضع يمكن أن تسترضع لولدها بخلاف الحامل، ولأن الحمل متصل بالحامل فالخوف عليه كالخوف على بعض أعضاءها. والخامس: إنهما يطعمان ولا قضاء عليهما وإن شائتا ولا إطعام حكاه الترمذي عن إسحاق بن راهويه، فعنده لا يجمع بين القضاء والإطعام، فإذا أفطرت الحامل والمرضع قضتا ولا إطعام أو أطعمتا ولا قضاء.

2046- (8) وعن سلمة بن المحبق، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كان له حمولة تأوي إلى شبع فليصم رمضان حيث أدركه)) رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الشاه ولي الله في المصفى بعد ذكر قول إسحاق: هذا ما لفظه: أين قول بتطبيق أدله مناسب ترمي نمايد-انتهى. وقال ابن رشد بعد ذكر سبب اختلاف الأئمة: ومن أفرد لهما أحد الحكمين أولى ممن حمل كما أن من أفردهما بالقضاء ممن أفردهما بالإطعام فقط-انتهى. قلت: وكذا أولى الأقوال عندي في ذلك هو قول من أفردهما بالقضاء دون الإطعام، فهما في حكم المريض فليزمهما القضاء فقط والله تعالى أعلم (رواه أبوداود والترمذي) واللفظ لأبي داود وأخرجه أيضاً أحمد (ج4ص347) والبخاري في تاريخه 2/1/30والطبراني والطحاوي (ج1ص246) والبيهقي (ج4ص231) ومنهم من ذكر فيه قصة، وسكت عنه أبوداود وحسنه الترمذي، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره. قلت: قد تقدم قول الحافظ عن الإصابة أن الترمذي صححه. وكذا قال في تهذيب التهذيب (ج1ص379) وهذا يدل على اختلاف نسخ الترمذي في ذلك وفي إسناد هذا الحديث اختلاف بينه البيهقي (ج4ص231) والنسائي والجزري في جامع الأصول (ج7ص268) . 2046- قوله: (وعن سلمة) بفتح اللام (بن المحبق) بمهملة ثم موحدة مشددة كمعظم أو محدث (من كان له حمولة) بفتح الحاء ما يحمل عليه من الدواب كانت عليه الإحمال أولا كالركوبة، والمراد مركب، وضبطه الجزري في النهاية وجامع الأصول (ج7ص547) بضم الحاء. قال حمولة بالضم، الإحمال يعني أنه يكون صاحب إحمال يسافر بها يأوى إلى شبع وأما الحمول بلا هاء فهي الإبل التي عليها الهوادج كان فيها نساء أو لم يكن-انتهى. (تأوى) أي تأويه فإن أوى لازم ومتعد على لفظ واحد يقال، أوى البيت وإلى البيت نزل فيه، وأواه البيت وإلى البيت أنزله فيه، وفي الحديث يجوز الوجهان، والمعنى من كانت له دابة تؤوي صاحبها أو تأوى بصاحبها، وقوله تأوى كذا في جميع النسخ من المشكاة وكذا في المصابيح وبعض نسخ أبي داود، وهكذا وقع عند أحمد (ج3ص476) ووقع في بعض نسخ أبي داود يأوى، وكذا نقله في جامع الأصول (ج7ص273) وهكذا وقع عند أحمد (ج5ص7) والبيهقي (ج4ص245) وكذا نقله ابن حزم في المحلى (ج6ص247) وابن قدامة (ج3ص150) أي من كانت له حمولة يأوى صاحبها (إلى شبع) بكسر الشين وسكون الموحدة ما أشبعك وبفتح الباء المصدر،

{الفصل الثالث}

{الفصل الثالث} 2047- (9) عن جابر، ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ كراع الغميم، فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه، حتى نظر الناس إليه، ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام. فقال: أولئك العصاة أولئك العصاة)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ والمعنى الأول هنا أظهر والثاني يحتاج إلى تقدير مضاف وهو في الرواية أكثر يعني من كان له حمولة تأويه إلى حال الشبع ورفاهية أو إلى مقام يقدر على الشبع فيه، ولم يلحقه في سفره وعثاء ومشقة وعناء (فليصم رمضان حيث أدركه) أي رمضان يعني من كان له مركب يوصله إلى منزله في حال الشبع والرفاهية ولا يلحقه في سفره جهد ومشقة فليصم، والأمر محمول على الندب، والحث على الأولى والأفضل للنصوص الدالة على جواز الإفطار في السفر مطلقا، أي وإن لم يلحقه مشقة. وقيل: المعنى من كان راكبا وسفره قصير بحيث يبلغ إلى المنزل قفي يومه فليصم رمضان، والأمر على هذا محمول على الوجوب لأنه لا يباح الفطر عند الجمهور إلا في السفر الطويل الذي يبيح القصر، وقد تقدم ذكر قدره في الصلاة. وقال داود: يجوز الإفطار في السفر أي قدر كان (رواه أبوداود) وأخرجه أحمد والبيهقي (ج4ص245) وسكت عنه أبوداود. وقال المنذري: في إسناده عبد الصمد بن حبيب الأزدي العوذي البصري. قال ابن معين: ليس به بأس. وقال أبوحاتم الرازي: يكتب حديثه بالمتروك. وقال يحول من كتاب الضعفاء. وقال البخاري: لين الحديث ضعفه أحمد وقال البخاري أيضاً: عبد الصمد بن حبيب منكر الحديث ذاهب الحديث ولم يعد البخاري هذا الحديث شيئاً. وقال أبوحاتم الرازي: لين الحديث ضعفه أحمد وذكر له أبوجعفر العقيلي هذا الحديث، وقال لا يتابع عليه ولا يعرف إلا به-انتهى. 2047- قوله: (حتى بلغ كراع الغميم) بضم الكاف والغميم بفتح الغين المعجمة واد بالحجاز منتهاه قريب من عسفان سمي ذلك المنتهى كراعا، لأنه يشبه كراع الغنم وهو ما دون الركبة من الساق، ذكره ابن حجر، وقال في النهاية: هو اسم موضع بين مكة والمدينة، والكراع جانب مستطيل من الحرة تشبيها بالكراع، والغميم بالفتح واد بالحجاز-انتهى. وقال الحافظ: هو اسم واد أمام عسفان (فصام الناس) عطف على فصام أي صام هو وأصحابه (ثم دعا بقدح من ماء) أي بعد العصر كما تقدم. قال السندي: فيه دليل على جواز الفطر للمسافر بعد الشروع في الصوم، ومن يقول بخلافه فلا يخلو قوله عن أشكال-انتهى. (ثم شرب) أي ليتابعوه في الإفطار (إن بعض الناس)

2048- (10) وعن عبد الرحمن بن عوف، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صائم رمضان في السفر كالمفطر في الحضر)) رواه ابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ظنا منهم أن إفطاره كان لبيان الجواز (قد صام) أفرد الضمير للفظ البعض ثم رجع لمنعاه (فقال أولئك العصاة أولئك العصاة) جمع العاصي، كذا وقع مكررا مرتين تأكيدا أو تشديدا، ورواه الترمذي والنسائي والبيهقي والطحاوي، وقالوا: أولئك العصاة مرة واحدة، وسياق الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح حتى بلغ كراع الغميم وصام الناس معه، فقيل له أن الناس قد شق عليهم الصيام، وإن الناس ينظرون فيما فعلت فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب والناس ينظرون إليه فأفطر بعضهم وصام بعضهم، فبلغه أن ناسا صاموا فقال أولئك العصاة-انتهى. وإنما نسب الصائمين إلى العصيان لأنهم خالفوا فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يمتثلوا ما أراده - صلى الله عليه وسلم - برفع قدح الماء وشربه من إتباعه في الإفطار مع وجود المشقة. قال الحافظ: نسب الصائمين إلى العصيان لأنه عزم عليهم فخالفوا. وقال النووي: هذا محمول على من تضرر بالصوم أو أنهم أمروا بالفطر أمرا جازما لمصلحة بيان جوازه فخالفوا الواجب، وعلى التقديرين لا يكون الصائم اليوم في السفر عاصيا إذا لم يتضرر به، ويؤيد التأويل الأول قوله في الرواية الثانية إن الناس قد شق عليهم الصيام-انتهى. وقال الطيبي: التعريف في الخبر للجنس أي أولئك الكاملون في العصيان، لأنه - صلى الله عليه وسلم - بالغ في الإفطار حتى رفع قدح الماء بحيث يراه كل الناس ثم شرب لكي يتبعوه ويقبلوا رخصة الله فمن أبى فقد بالغ في العصيان والله أعلم-انتهى. (رواه مسلم) من طريق عبد الوهاب عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر، ورواه أيضاً من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن جعفر، وزاد فقيل له أن الناس قد شق عليهم الصيام، وإنما ينظرون فيما فعلت فدعا بقدح من ماء بعد العصر، ومن طريق الدراوردي رواه الترمذي والبيهقي ورواه النسائي والطحاوي من طريق ابن الهاد عن جعفر بن محمد. 2048- قوله: (صائم رمضان في السفر كالمفطر في الحضر) فيه مبالغة في المنع عن الصوم في السفر وهو محمول على حال عدم القدرة ولحوق الضرر والاستنكاف عن العمل برخصة الله. وقال ميرك: يفهم من الحديث منع الصوم في السفر كمنع الإفطار في الحضر. قلت: هذا ظاهر الحديث ومشى عليه الظاهرية كما تقدم، وإنما أولناه بما سبق جمعاً بينه وبين الأحاديث التي وردت على خلاف ذلك صريحاً، وذهب إليها جمهور العلماء. وقال السندي: قوله "كالمفطر" في الحضر أي في غير رمضان فمرجعه إلى أن الصوم خلاف الأولى، أو كالمفطر في رمضان، فمدلوله أنه حرام، والأول هو أقرب ومع ذلك لا بد عند الجمهور من حمله على حالة مخصوصة كما إذا أجهده الصوم-انتهى.

وقال الشوكاني: هو محمول على الحالة التي يكون الفطر فيها أولى من الصوم كحالة المشقة جمعاً بين الأدلة. وقال الحافظ: هو محمول على ما تقدم أولا حيث يكون الفطر أولى من الصوم (رواه ابن ماجه) وكذا البزار وابن حزم في المحلى (ج6ص258) كلهم من طريق أسامة بن زيد عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه. قال في الزوائد: في إسناده انقطاع، وأسامة بن زيد متفق على تضعيفه، وأبوسلمة ابن عبد الرحمن لم يسمع من أبيه شيئاً. قاله ابن معين والبخاري-انتهى. وقال ابن حزم: قد صح سماع أبي سلمة عن أبي قال، ولا نحتج بأسامة بن زيد الليثي ولا نراه حجة لنا ولا علينا. وقال البزار: أسنده أسامة وتابعه يونس، ورواه ابن أبي ذئب وغيره عن الزهري عن أبي سلمة عن أبيه موقوفا، ولو ثبت مرفوعا لكان منسوخاً بحديث الكديد. وقال الحافظ في الفتح: رواه الأثرم من طريق أبي سلمة مرفوعا، والمحفوظ عن أبي سلمة عن أبيه موقوفاً كذلك أخرجه النسائي وابن المنذر، ومع وقفه فهو منقطع. لأن أبا سلمة لم يسمع من أبيه. وقال في التلخيص (ص195) أخرجه ابن ماجه والبزار من حديث عبد الرحمن بن عوف (أي مرفوعا) والنسائي من حديثه بلفظ: قال كان يقال الصيام في السفر كالإفطار في الحضر، وصوب وقفه على عبد الرحمن، وأخرجه ابن عدي من وجه آخر وضعفه، وكذا صحح كونه موقوفاً ابن أبي حاتم عن أبيه في العلل (ج1ص239) والدارقطني في العلل والبيهقي (ج4ص244) -انتهى. قلت: أسامة بن زيد الليثي قد تكلم فيه يحيى القطان وأحمد وأبوحاتم والنسائي، ووثقه ابن معين والعجلي، وقال ابن عدي ليس به بأس. وقال أبوداود: صالح، وروى له مسلم استشهاداً أو مقروناً به في الإسناد فهو من الرجال الذين اختلفوا فيهم، لا ممن اتفقوا على تضعيفهم ثم أنه وإن تكلم فيه، لكن الحق إنه ثقة صالح للاحتجاج، ولذلك ذكره الذهبي في كتابه، ذكر أسماء من تكلم فيه وهو موثق حيث قال أسامة بن زيد الليثي لا العدوى صدوق، قوى الحديث أكثر مسلم في إخراج حديث ابن وهب عنه، ولكن أكثرها شواهد أو متابعات. والظاهر أنه ثقة. وقال النسائي وغيره ليس بالقوي-انتهى. فتضعيف المرفوع من جهة أسامة هذا ليس بصحيح عندي، على أنه قد تابعه يونس كما قال البزار، نعم تضعيفه من جهة كونه منقطعا حق، لا شك فيه. فإن أبا سلمة بن عبد الرحمن لم يسمع من أبيه. قال في تهذيب التهذيب (ج12ص117) قال علي بن المدني وأحمد وابن معين وأبوحاتم ويعقوب بن شيبة وأبوداود: حديثه عن أبيه مرسل، قال مات وهو صغير. وقال أبوحاتم: لا يصح عندي، وصرح الباقون بكونه لم يسمع منه. وقال ابن عبد البر: لم يسمع من أبيه، وحديث النضر بن شيبان في سماع أبي سلمة عن أبيه لا يصححونه-انتهى.

2049- (11) وعن حمزة بن عمرو الأسلمي، ((أنه قال يا رسول الله! إني أجد بي قوة على الصيام في السفر، فهل علي جناح؟ قال: هي رخصة من الله عزوجل فمن أخ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2049- قوله: (إني أجد) كذا في جميع النسخ وهكذا في جامع الأصول (ج7ص264) وكذا وقع في رواية الدارقطني والذي في صحيح مسلم أجد أي بحذف كلمة إني وهكذا نقله المجد بن تيمية في المنتقى (بي قوة) أي زائدة (على الصيام في السفر فهل علي جناح) أي إثم أو بأس بالصوم أو الفطر (قال هي) أي الإفطار والتأنيث بإعتبار الخبر (رخصة من الله عزوجل) فإن الصوم عزيمة منه تعالى. وقال الطيبي: قوله "هي رخصة" الضمير راجع إلى معنى السؤال، أي هل على إثم إن أفطر، فأنثه بإعتبار الخبر كما في قوله من كانت أمك ويحتمل أن السائل قد سمع أن الصوم في السفر عصيان، كما في حديث جابر أولئك العصاة، فسأل هل علي جناح أن أصوم لأني قوي عليه، فقال لا، لأن الإفطار رخصة، ولفظ الحسن يقوي الوجه الأول. وقال ابن حجر: يحتمل أن مراده فهل علي جناح في الفطر. لأني قوي، والرخصة للضعيف، أو في الصوم لأن الفطر رخصة، وقد تكون واجبة. وقوله "هي" أي تلك الفعلة أو الخصلة المذكورة وهي الإفطار في السفر، وأنث ضميره وهو رخصة أي تسهيل من الله عزوجل لعباده دفعا للمشقة عليهم ما جعل عليكم في الدين من حرج، وتأنيث الضمير لتأنيث الخبر (فمن أخذ بها) أي بالرخصة (فحسن) أي فعله حسن مرضي لا جناح عليه للحديث الآخر إن الله يحب أن يؤتى رخصة كما يحب أن يؤتى عزائمه (ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه) قال القاري: كان ظاهر المقابلة أن يقول فحسن أو فأحسن بل مقتضى كون أول رخصة، والثاني عزيمة أن يعكس في الجزاء بأن يقال في الأول فلا جناح عليه، وفي الثاني فحسن لكن أريد المبالغة، لأن الرخصة إذا كانت حسنا فالعزيمة أولى بذلك، ولعله عليه السلام علم بنور النبوة إن مراد السائل بقوله فهل علي جناح أي في الصوم ويدل عليه المقدمة المتقدمة من قوله إني أجدبي قوة على الصيام، وكذا ما سبق من حديثه أول الباب-انتهى باختصار. قلت ظاهر الحديث ترجيح الإفطار في السفر مطلقاً كما هو مذهب أحمد خلافاً للجمهور لقوله فحسن. قال الشوكاني: قوله أجد بي قوة ظاهره إن الصوم لا يشق عليه ولا يفوت به حق، وفي رواية لمسلم إني أسرد الصوم وقد جعل المصنف (يعني صاحب المنتقى) هذا الحديث قوى الدلالة على فضيلة الفطر لقوله - صلى الله عليه وسلم - فمن أخذ بها ومن أحب أن يصوم فلا جناح. فاثبت للأخذ بالرخصة الحسن وهو أرفع من رفع الجناح. وأجاب الجمهور بأن هذا فيمن يخاف ضررا أو يجد مشقة كما هو صريح الأحاديث. وقد أسلفنا تحقيق ذلك. وقال الأبي في شرحه لمسلم: احتج بالحديث من جعل الفطر أفضل لقوله فيه فحسن، وقال في الصوم فلا جناح، ولا حجة فيه لأن قوله لا جناح إنما هو جواب لقوله هل علي جناح، ولا يدل على أن الصوم ليس بحسن وقد وصفهما معا في الآخر بالحسن.

(5) باب القضاء

(5) باب القضاء {الفصل الأول} 2050- (1) عن عائشة، قالت: ((كان يكون عليّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضي إلا في شعبان.) قال يحيى بن سعيد: (تعني الشغل من النبي أو بالنبي صلى اله عليه وسلم) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وإنما لم يدل على أن الصوم ليس بحسن لأن نفي الجناح أعم من الوجوب والندب والإباحة والكراهة (رواه مسلم) من طريق عروة بن الزبير عن أبي مرواح عن حمزة، وأخرجه أيضاً النسائي والدارقطني (ص242) والطحاوي (ج1:ص433) والبيهقي (ج4:243) . (باب القضاء) أي حكمه وآدابه. 2050- قوله: (قالت كان) أي الشأن (يكون على) بتشديد التحتانية (الصوم) أي قضاءه (من رمضان) تريد أياماً من رمضان فاتتها بحيض أو مرض أو غير ذلك من الأعذار المبيحة للفطر، وتكرير الكون لتحقيق القضية وتعظيمها، والتقدير كان الشأن يكون كذا، والتعبير بلفظ الماضي أولاً. والمضارع ثانياً. لإرادة الإستمرار وتكرار الفعل قاله القسطلاني: وقيل: لفظه "يكون" زائدة كما قال الشاعر: وجيران لنا كانوا كرام وقال الطيبي: "الصوم" إسم كان وعلي خبره ويكون زائدة (فما أستطيع) أي ما أقدر (أن أقضى) أي ما فاتني من رمضان (إلا في شعبان قال يحيى بن سعيد) أي الراوي المذكور في سند هذا الحديث، وهو يحيى بن سعيد الأنصاري نص عليه الحافظ المزي عند ذكر هذا الحديث. وقال الحافظ: هو يحيى بن سعيد الأنصاري ولا جائز أن يكون يحيى بن سعيد القطان، لأنه لم يدرك أبا سلمة بن عبد الرحمن، وليست لزهير بن معاوية عنه رواية، وإنما هو يروي عن زهير (تعني الشغل) كذا في أكثر النسخ بزيادة كلمة تعني، وهكذا وقع في المصابيح، والشغل بضم الأولى وسكون الثانية مرفوع على أنه فاعل فعل محذوف أي قال يحيى تريد عائشة يمنعني الشغل أو أوجب ذلك الشغل ووقع في نسخة القاري. قال يحيى بن سعيد: الشغل أي بإسقاط كلمة "تعني" وكذا نقله الجزري في جامع الأصول وهكذا وقع في البخاري. قال الحافظ: قوله "الشغل" هو خبر مبتدأ محذوف تقديره المانع لها هو الشغل أو هو مبتدأ محذوف الخبر تقديره الشغل هو المانع (من النبي) أي من أجله (أو بالنبي صلى الله عليه وسلم) قال القاري: "من" للتعليل أي لأجله والباء للسببية، وأو للشك من أحد الرواة عن يحيى على ما هو الظاهر،

ويمكن أن يكون للتنويع. والشغل مبتدأ والتقدير الشغل المانع لقضاء الصوم كان ثابتاً من جهته، أو اشتغالها بخدمته صلى الله عليه وسلم هو المانع من القضاء-انتهى. والمراد من الشغل إنها كانت مهيئة نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم مترصدة لاستمتاعه في جميع أوقاتها إن أراد ذلك ولا نعلم متى يريده. وأما في شعبان فإنه صلى الله عليه وسلم كان يصومه فتفرغ عائشة فيه لقضاء صومها، وفي هذا التعليل إشكال كما ستعرف. قال الحافظ: وفي قوله "قال يحيى" الخ. تفصيل لكلام عائشة من كلام غيرها أي فيه بيان من البخاري إن هذا ليس من قول عائشة. بل مدرج من قول غيرها، ووقع في رواية أحمد بن يونس عند مسلم مدرجاً لم يقل فيه. قال يحيى: فصار كأنه من كلام عائشة أو من روي عنها. وأخرجه مسلم من طريق سليمان بن بلال عن يحيى مدرجاً أيضاً ولفظه، وذلك لمكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخرجه من طريق ابن جريج عن يحيى فبين إدراجه، ولفظه فظننت إن ذلك لمكانها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحيى بقوله. وأخرجه أبوداود من طريق مالك، والنسائي من طريق يحيى القطان وسعيد بن منصور عن ابن شهاب وسفيان كلهم عن يحيى بدون هذه الزيادة. وأخرجه مسلم من طريق محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة بدون الزيادة لكن فيه ما يشعر بها فإن لفظه قالت: إن كانت إحدانا لتفطر في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما تقدر على أن تقضيه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يأتي شعبان. قال الحافظ: ويحتمل أن يكون المراد بالمعية الزمان أي إن ذلك كان خاصاً بزمانه، وللترمذي وابن خزيمة من طريق عبد الله البهي عن عائشة ما كنت أقضي ما يكون علي من رمضان إلا في شعبان حتى قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهى. قلت قد اعترض على التعليل المذكور. فقال ابن عبد البر: هذا التعليل ليس بشيء لأن شغل سائر أزواجه كشغلها أو قريب منه لأنه أعدل الناس حتى قال اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك وإما أخرت ذلك للرخصة والتوسعة. وقال في اللامع: قد كان - صلى الله عليه وسلم - له تسع نسوة يقسم لهن ويعدل فما تأتي نوبة الواحدة إلا بعد ثمانية أيام فكان يمكنها أن تقضي في تلك الأيام. وأجاب عنه القرطبي بأن القسم لم يكن واجباً عليه فهن يتوقعن حاجته في كل الأوقات-انتهى. قال القسطلاني: والصحيح عند الشافعية وجوبه عليه فيحتمل أن يقال كانت لا تصوم إلا بإذنه، ولم يكن يأذن لاحتمال إحتياجه إليها فإذا ضاق الوقت أذن لها-انتهى. وقيل إن القسم إنما هو في المبيت في الليل دون النهار. وقال الحافظ: ومما يدل على ضعف الزيادة المذكورة إنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقسم لنساءه فيعدل، وكان يدنو من المرأة في غير نوبتها فيقبل ويلمس من غير جماع، فليس في شغلها بشيء من ذلك ما يمنع الصوم، اللهم إلا أن يقال أنها كانت لا تصوم إلا بإذنه ولم يكن يأذن لاحتمال إحتياجه إليها، فإذا ضاق الوقت أذن لها، وكان هو - صلى الله عليه وسلم - يكثر الصوم في شعبان فلذلك كانت لا يتهيأ إلا في شعبان – انتهى

وقال النووي: كانت كل واحدة منهن مهيأة نفسها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مترصدة لاستمتاعه في جميع أوقاتها إن أراد ذلك، ولا تدري متى تريده ولا تستأذنه في الصوم مخافة أن يأذن، وقد يكون له حاجة فيها فيفوتها عليه، وهذا من الأدب، وإنما كانت تصومه في شعبان لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم معظم شعبان، فلا حاجة له فيهن حينئذٍ في النهار، ولأنه إذا جاء شعبان يضيق قضاء رمضان فإنه لا يجوز تأخيره عنه-انتهى. وقال الباجي: والظاهر أنه ليس للزوج جبر المرأة على تأخير القضاء إلى شعبان إلا باختيارها لأن لها حقاً في إبراء ذمتها من الفرض الذي لزمها، وأما التنفل فإن له منعها لحاجة إليها لحديث أبي هريرة لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه. وفي الحديث حجة للجمهور إن القضاء لا يجب على الفور إذ لو منع التأخير لم يقرها - صلى الله عليه وسلم -، نعم يندب التعجيل لأن المبادرة إلى الطاعة والمسارعة إلى الخير أولى. وأوجب داود القضاء من ثاني شوال فإن أخره أثم. وحديث عائشة يرد عليه. وقال الشوكاني: في الحديث دلالة على جواز تأخير قضاء رمضان مطلقاً، سواء كان لعذر أو لغير عذر، لأن للزيادة المذكورة مدرجة، ولكن الظاهر إطلاع النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك لا سيما مع توفر دواعي أزواجه إلى سؤاله عن الأحكام الشرعية فيكون ذلك أعنى جواز التأخير مقيداً بالعذر المسوغ لذلك. قلت: واحتج الجمهور أيضاً بقوله تعالى {فعدة من أيام أخر} [البقرة:185] فإنه أمر بالقضاء مطلقاً عن وقت معين فلا يجوز تقييده ببعض الأوقات إلا بدليل فيكون وجوب القضاء موسعاً على التراخي لا على الفور. ويؤخذ من حرص عائشة على القضاء في شعبان أنه لا يجوز تأخير القضاء حتى يدخل رمضان آخر فإن دخل فالقضاء واجب أيضاً فلا يسقط، وأما الإطعام فليس له في الحديث ذكر لا بالنفي ولا بالإثبات. واختلف العلماء فيه. فذهب الجمهور مالك والشافعي وأحمد إلى وجوب الإطعام مع القضاء. وروى ذلك عن ابن عباس وأبي هريرة وعمر، ونقل الطحاوي عن يحيى بن أكثم قال وجدته عن ستة من الصحابة لا أعلم لهم فيه مخالفاً-انتهى. وخالف في ذلك إبراهيم النخعي وأبوحنيفة وأصحابه، ومال الطحاوي إلى قول الجمهور في ذلك، ومال البخاري إلى أنه يقضى ولا كفارة عليه حيث قال بعد ذكر قول أبي هريرة وابن عباس في الإطعام ما لفظه ولم يذكر الله الإطعام، إنما قال: {فعدة من أيام أخر} أي وسكت عن الإطعام وهو الفدية لتأخير القضاء ولم يثبت فيه شيء مرفوع. وفي الحديث إن حق الزوج من العشرة والخدمة يقدم على سائر الحقوق ما لم يكن فرضاً محصوراً في الوقت. وقيل: قول عائشة فما أستطيع أن أقضي إلا في شعبان يدل على أنها كانت لا تتطوع بشيء من الصيام لا في عشر ذي الحجة ولا في عاشوراء ولا في غيرهما، وهو مبني على أنها كانت لا ترى جواز صيام التطوع لمن عليه دين من رمضان، ولكن من أين ذلك لمن يقول به. والحديث ساكت عن هذا (متفق عليه) واللفظ للبخاري، وأخرجه أيضاً أحمد ومالك والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي وابن خزيمة.

2051- (2) وعن أبي هريرة: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه)) . رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2051- قوله: (لا يحل للمرأة) أي المزوجة (أن تصوم) أي نفلاً أو واجباً على التراخي قاله القسطلاني وخصه البخاري بالتطوع وكأنه تلقاه من رواية الحسن بن علي عن عبد الرزاق، فإن فيها لا تصوم المرأة غير رمضان. وأخرج الطبراني من حديث ابن عباس مرفوعاً في أثناء حديث، ومن حق الزوج على زوجته أن لا تصوم تطوعاً إلا بإذنه. فإن فعلت لم يقبل منها (وزوجها شاهد) أي حاضر عندها مقيم في بلدها وفي رواية وبعلمها شاهد قال الحافظ: رواية بعلها أفيد، لأن ابن حزم نقل عن أهل اللغة أن البعل اسم للزوج والسيد، فإن ثبت وإلا الحق السيد بالزوج للإشتراك في المعنى يعني يلتحق به السيد بالنسبة لأمته التي يحل له وطيها (إلا بإذنه) أي تصريحاً أو تلويحاً، فيه دليل على تحريم الصوم المذكور عليها، وهو قول الجمهور. قال النووي: وسبب هذا التحريم إن للزوج حق الإستمتاع بها في كل الأيام وحقه فيه واجب على الفور فلا يفوته بتطوع ولا بواجب على التراخي، فإن قيل فينبغي أن يجوز لها الصوم بغير إذنه فإن أراد الإستمتاع بها كان له ذلك ويفسد صومها، فالجواب إن صومها يمنعه من الاستمتاع في العادة فإن المسلم يهاب إنتهاك الصوم بالإفساد، ولا شك أن الأولى له خلاف ذلك إن لم يثبت دليل كراهة، نعم لو كان مسافراً فمفهوم الحديث في تقييده بالشاهد يقتضي جواز التطوع لها، إذا كان زوجها مسافراً، لأنه لا يتأتى منه الاستمتاع إذا لم تكن معه وفي معنى الغيبة أن يكون مريضاً بحيث لا يستطيع الجماع. قال القاري: ظاهر الحديث إطلاق منع صوم النفل فهو حجة على الشافعية في إستثناء نحو عرفة وعاشوراء. قال شيخنا: الأمر كما قال القاري: وإنما لم يلحق بالصوم صلاة التطوع لقصر زمنها وفي معنى الصوم الاعتكاف لا سيما على القول بأن الاعتكاف لا يصح بدون الصوم، قال ولا يبعد أن يحمل قوله "لا يحل على معنى" لا ينبغي أن تصوم قضاء رمضان أو قضاء صوم النفل إذا كان الوقت متسعاً ليكون مناسباً لعنوان الباب-انتهى. قلت: عدم حل الصوم ظاهر في حرمته وهو يشمل ابتداء الصوم وقضاءه، فلا يجوز لها صوم النفل ولا قضاء الواجب إذا كان الوقت متسعاً إلا بإذن زوجها، وفي الحديث إن حق الزوج آكد على المرأة من التطوع بالخير لأن حقه واجب، والقيام بالواجب مقدم على القيام بالتطوع. (ولا تأذن) قال القاري: بالنصب في النسخ المصححة عطفاً على تصوم أي ولا يحل لها أن تأذن أحداً من الأجانب أو الأقارب حتى النساء ولا مزيدة للتأكيد.

2052- (3) وعن معاذة العدوية، إنها قالت لعائشة: ((ما بال الحائض تقضى الصوم ولا تقضى الصلاة؟ قالت: عائشة كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال ابن حجر: يصح رفعه خبراً يردا به النهى وجزمه على النهى (في بيته) أي دخول بيته والمراد ببيت زوجها مسكنه سواء كان ملكه أو، لا (إلا بإذنه) وفي معناه العلم برضاه، وفي رواية مسلم وهو شاهد إلا بإذنه. قال الحافظ: هذا القيد لا مفهوم له بل خرج مخرج الغالب وإلا فغيبة الزوج لا تقتضي الإباحة للمرأة أن تأذن لمن يدخل بيته، بل يتأكد حينئذٍ عليها المنع لثبوت الأحاديث الواردة في النهى عن الدخول على المغيبات، أي من غاب عنها زوجها. ويحتمل أن يكون له مفهوم، وذلك أنه إذا حضر تيسر استئذانه وإذا غاب تعذر، فلو دعت الضرورة إلى الدخول عليها لم تفتقر إلى استئذانه لتعذره. وقال النووي: في هذا الحديث إشارة إلى أنه لا يفتات على الزوج بالإذن في بيته إلا بإذنه وهو محمول على ما لا تعلم رضا الزوج به، أما لو علمت رضا الزوج بذلك فلا حرج عليها كمن جرت عادته بإدخال الضيفان موضعاً معداً لهم. سواء كان حاضراً، أم غائباً، فلا يفتقر إدخالهم إلى إذن خاص لذلك، وحاصله أنه لا بد من إعتبار إذنه تفصيلاً أو إجمالاً (رواه مسلم) هذا يوهم أن الحديث من أفراد مسلم وأنه رواه بهذا اللفظ وليس كذلك فإن الحديث متفق عليه، واللفظ المذكور للبخاري، أخرجه في أثناء حديث في كتاب النكاح من رواية أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة. وذكره مسلم كذلك في كتاب الزكاة من رواية همام بن منبه عن أبي هريرة بلفظ: لا تصم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه ولا تأذن في بيته وهو شاهد إلا بإذنه. ورواه البخاري أيضاً من هذا الطريق مقتصراً على الجملة الأولى، فكان حق المصنف أن يقول متفق عليه، واللفظ للبخاري. والحديث أخرجه أيضاً أحمد (ج2:ص216) من طريق همام بن منبه، والترمذي وابن ماجه من طريق أبي الزناد عن الأعرج بلفظ: لا تصوم المرأة وزوجها شاهد من غير شهر رمضان إلا بإذنه، وأبوداود من طريق همام وزاد غير رمضان، وأخرجه أيضاً الدارمي والبيهقي (ج4:ص303) وفي الباب عن أبي سعيد عند أبي داود والدارمي وابن ماجه وعن ابن عباس عند الطبراني. 2052- قوله: (وعن معاذة) بميم مضمومة وعين مهملة وذال معجمة بنت عبد الله (العدوية) بعين ودال مفتوحتين منسوبة إلى عدي بن كعب بطن من قريش (إنها قالت لعائشة) وفي رواية البخاري وكذا في رواية لمسلم عن معاذة إن امرأة قالت لعائشة. قال الحافظ: كذا أبهمها همام، وبين شعبة في روايته عن قتادة إنها هي معاذة الرواية أخرجه الإسماعيلي، وكذا لمسلم من طريق عاصم وغيره عن معاذة. (ما بال الحائض) أي ما شأنها وإنما لم يدخله التاء للإختصاص (تقضى الصوم) أي الذي فاتها أيام حيضها (ولا تقضى الصلاة) مع أنها فرضان تركاً لعلة واحدة وهي الحيض، وفي معناه النفاس تعنى أن مقتضى الرأى أن يكون الصوم والصلاة متساويان في الحكم،

لأن كلاً منهما عبادة تركت لعذر (كان) أي الشأن (يصيبنا ذلك) بكسر الكاف وبفتح أي الحيض (فنؤمر) أي نحن معاشر النساء (بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة) في شرح الطيبي: قيل: الجواب من الأسلوب الحكيم أي دعى السؤال عن العلة إلى ما هو أهم منها من متابعة النص والانقياد للشارع، وذكر البخاري في كتاب الصيام من صحيحه عن أبي الزناد أنه قال إن السنن ووجوه الحق لتأتي كثيراً على خلاف الرأي فما يجد المسلمون بدا من إتباعها من ذلك، إن الحائض تقضى الصيام ولا تقضى الصلاة-انتهى. يعني أن الأمور الشرعية التي تأتي على خلاف الرأي والقياس ولا يعلم وجه الحكمة فيها يجب الإتباع بها ولا يعترض، ولا يقال لم كان كذا ولا يطلب وجه الحكمة فيها بل يتعبد بها ويؤكل أمرها إلى الله تعالى لأن أفعال الله لا تخلوا عن حكمة ولكن غالبها تخفى على الناس ولا تدركها العقول: قال الحافظ قال الزين بن المنير: نظر أبوالزناد إلى الحيض فوجده مانعاً من هاتين العبادتين وما سلب الأهلية استحال أن يتوجه به خطاب الاقتضاء وما يمنع صحة الفعل يمنع الوجوب فلذلك استبعد الفرق بين الصلاة والصوم فأحال بذلك على إتباع السنة والتعبد المحض. وقد تقدم في كتاب الحيض سؤال معاذة من عائشة عن الفرق المذكور وانكرت عليها عائشة السؤال وخشيت عليها أن تكون تلقنته من الخوارج الذين جرت عادتهم باعتراض السنن بآرائهم، ولم تزدها على الحوالة على النص، وكأنها قالت دعى السؤال عن العلة إلى ما هو أهم من معرفتها وهو الانقياد إلى الشارع. وقد تكلم الفقهاء في الفرق بين الصلاة والصوم، واعتمد كثير منهم على أن الحكمة فيه أن الصلاة تتكرر فيشق قضاءها، بخلاف الصوم الذي لا يقع في السنة إلا مرة. واختار إمام الحرمين أن المتبع في ذلك هو النص وإن كل شيء ذكروه من الفرق ضعيف-انتهى. قال ابن دقيق العيد: (ج1:ص128) اكتفاء عائشة في الاستدلال على إسقاط القضاء بكونه لم يؤمر به يحتمل وجهين أحدهما أن تكون أخذت إسقاط القضاء من إسقاط الأداء ويكون مجرد سقوط الأداء دليلاً على سقوط القضاء، فيتمسك به حتى يوجد المعارض وهو الأمر بالقضاء كما في الصوم. والثاني قال: وهو الأقرب إن الحاجة داعية إلى بيان هذا الحكم لتكرر الحيض منهن عنده صلى الله عليه وسلم، فلو وجب قضاء الصلاة فيه لوجب بيانه، وحيث لم يبين دل على عدم الوجوب لا سيما، وقد اقترن بذلك قرينة أخرى وهي الأمر بقضاء الصوم وتخصيص الحكم به قال: وفي الحديث دليل لما يقوله الأصوليون من أن قول الصحابي كنا نؤمر وننهى في حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلا لم تقم الحجة به-انتهى. ووقع في رواية البخاري كنا نحيض عند النبي صلى الله عليه وسلم فلا يأمرنا به أو قالت: فلا نفعله. قال الحافظ: في هذه الرواية بالشك وعند الإسماعيلي من وجه آخر فلم نكن نقضى ولم نؤمر به والاستدلال بقولها فلم نكن نقضى أوضح من الاستدلال بقولها فلم نؤمر به،

2053- (4) وعن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من مات وعليه صوم صام عنه وليه)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأن عدم الأمر بالقضاء هنا قد ينازع في الاستدلال به على عدم الوجوب لاحتمال الاكتفاء بالدليل العام على وجوب القضاء والله أعلم. قال الشوكاني: نقل ابن المنذر والنووي وغيرهما إجماع المسلمين على أنه لا يجب على الحائض قضاء الصلاة ويجب عليها قضاء الصيام، وروى عبد الرزاق عن معمر أنه سأل الزهري عنه، فقال اجتمع الناس عليه، وحكى ابن عبد البر عن طائفة من الخوارج أنهم كانوا يوجبون على الحائض قضاء الصلاة، وعن سمرة بن جندب أنه كان يأمر به فانكرت عليه أم سلمة. قال الحافظ: لكن استقر الإجماع على عدم الوجوب كما قاله الزهري وغيره. وقال النووي: قال الجمهور من أصحابنا وغيرهم: وليست الحائض مخاطبة بالصيام في زمن الحيض، وإنما يجب عليها القضاء بأمر جديد (رواه مسلم) في كتاب الطهارة، وأخرجه البخاري في كتاب الحيض، وقد تقدم لفظه فالحديث متفق عليه فكان الأولى للمصنف أن يقول متفق عليه. واللفظ لمسلم وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود وابن ماجه والدارمي في الطهارة والنسائي فيه وفي الصيام، والبيهقي في كتاب الحيض (ج1:ص308) وفي الصيام (ج4:ص236) . 2053-قوله (من مات) أي من المكلفين بقرينة قوله (وعليه صوم) لأن كلمة على للإيجاب والواو فيه للحال (صام عنه) أي عن الميت (وليه) قال ابن دقيق العيد: هذا الحديث دليل لعمومه على أن الولي يصوم عن الميت وإن النيابة تدخل الصوم، وذهب إليه قوم والذي عليه الأكثرون عدم دخول النيابة في الصوم لأنها عبادة بدنية. قال: وقوله "صام عنه وليه" ليس المراد أنه يلزمه ذلك، وإنما يجوز ذلك له إن أراد، هكذا ذكره صاحب التهذيب من الشافعية، وحكاه إمام الحرمين عن الشيخ أبي محمد أبيه، وفيه بحث وهو إن الصيغة صيغة خبر أعنى صام ويمتنع الحمل على ظاهره، فينصرف إلى الأمر ويبقى النظر في أن الوجوب يتوقف على صيغة الأمر المتعينة وهي أفعل مثلاً أو يعمها مع ما يقوم مقامها-انتهى. وقال الحافظ: قوله صام عنه وليه خبر بمعنى الأمر تقديره فليصم عنه وليه، وليس هذا الأمر للوجوب عند الجمهور، وبالغ إمام الحرمين ومن تبعه فادعوا الإجماع على ذلك وفيه نظر، لأن بعض أهل الظاهر أوجبه فلعله لم يعتد بخلافهم على قاعدته-انتهى. وقال العيني: أطلق ابن حزم (ج7:ص2) النقل عن الليث بن سعد وأبي ثور وداود أنه فرض على أوليائه أن يصوموه عنه هم أو بعضهم، وبه صرح القاضي أبوالطيب الطبري في تعليقه بأن المراد منه الوجوب، وجزم به النووي في الروضة من غير أن يعزوه إلى أحد. وزاد في شرح المهذب فقال أنه بلا خلاف.

وقال شيخنا العراقي: هذا عجيب منه ثم قال: وحكى النووي في شرح مسلم عن أحد قولي الشافعي أنه يستحب لوليه أن يصوم عنه، ثم قال ولا يجب عليه-انتهى كلام العيني. قلت الحديث رواه البزار بلفظ: من مات فليصم عنه وليه إن شاء. قال الهيثمي: (ج3:ص179) إسناده حسن-انتهى. واحتج به من ذهب إلى عدم وجوب الصوم من المجيزين له لكن في سنده ابن لهيعة وهو صدوق خلط بعد احتراق كتبه ولم يعرف إن هذا الحديث حدث به قبل احتراق كتبه أو بعده فلا يصح الاحتجاج به. قال الحافظ في التلخيص: (ج1:ص197) وفي رواية للبزار فليصم عنه وليه إن شاء. وهي ضعيفة لأنها من طريق ابن لهيعة-انتهى. والراجح عندي هو الوجوب والله تعالى أعلم. وقد اختلف السلف في هذه المسألة أي في مشروعية الصوم عن الميت فأجاز الصيام عن الميت أي صوم كان أصحاب الحديث، وعلق الشافعي في القديم القول به على صحة الحديث كما نقله البيهقي في المعرفة، وهو قول أبي ثور وجماعة من محدثي الشافعية. وقال البيهقي في الخلافيات: هذه المسألة ثابتة لا أعلم خلافاً بين أهل الحديث في صحتها، فوجب العمل بها، ثم ساق بسنده إلى الشافعي قال كل ما قلت: وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه فخذوا بالحديث ولا تقلدوني. قلت: واحتج لهذا القول بحديث عائشة هذا، وبما روى عن ابن عباس إن امرأة قالت: يا رسول الله: إن أمي ماتت وعليها صوم نذر. أفأصوم عنها؟ فقال أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان يؤدي ذلك عنها. قالت نعم، قال فصومي عن أمك. وبما روى أحمد ومسلم وأبوداود وابن ماجه والبيهقي عن بريدة. قال: بينا أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتته امرأة فقالت إني تصدقت على أمي بجارية، وإنها ماتت فقال وجب أجرك وردها عليك الميراث قالت يا رسول الله! إنه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها؟ قال صومي عنها. وقال الشافعي في الجديد ومالك وأبوحنيفة: لا يصام عن الميت. وقال الليث وأحمد وإسحاق وأبوعبيد لا يصام عنه إلا النذر. واستدل الحنفية ومن وافقهم بحديث ابن عمر الآتي. وفيه إن المحفوظ أنه موقوف كما ستعرف وللاجتهاد فيه مسرح فلا يصح للاستدلال ثم ليس فيه ما يمنع الصيام وأما ما ذكره المصنف في الفصل الثالث من رواية مالك عنه بلاغاً مما يدل على منع الصيام عن الميت. ففيه أنه قد جاء عن ابن عمر خلاف ذلك كما ذكره البخاري تعليقاً في باب من مات وعليه نذر، وسيجيء، فاختلف قوله فلا يقوم به حجة لأحد، على أنه موقوف أيضاً والحديث أولى بالإتباع وفيه غنية عن كل قول واستدلوا أيضاً بما رواه النسائي في الكبرى بسند صحيح عن ابن عباس قال: لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، وبما روى الطحاوي عن روح بن الفرج حدثنا يوسف بن عدي حدثنا عبيدة ابن حميد عن عبد العزيز بن رفيع عن عمرة بنت عبد الرحمن،

قلت: لعائشة إن أمي توفيت وعليها صيام رمضان أيصلح أن أقضي عنها؟ فقالت. لا. ولكن تصدقي عنها مكان كل يوم على مسكين خير من صيامك، كذا ذكره ابن التركماني (ج4:ص257) وقال هذا سند صحيح، وذكره ابن حزم في المحلي (ج7:ص403) من رواية ابن أبي شيبة عن جرير بن عبد الحميد عن عبد العزيز بن رفيع عن امرأة منهم اسمها عمرة إن أمها ماتت، وعليها من رمضان فقالت: لعائشة أقضيه عنها؟ قالت لا، بل تصدقي عنها مكان كل يوم نصف صاع على كل مسكين. وفيه إن هذا الاستدلال أيضاً مخدوش، أما أولاً فلأنه جاء عن ابن عباس خلاف ذلك، فروى ابن أبي شيبة بسند صحيح كما في المحلي (ج7:ص7) سئل ابن عباس عن رجل مات وعليه رمضان وصوم شهر، فقال يطعم عنه لرمضان ويصام عنه النذر. وفي صحيح البخاري تعليقاً أمر ابن عمر امرأة جعلت أمها على نفسها صلاة بقباء، فقال صلى عنها. وقال ابن عباس نحو، قال ابن عبد البر: النقل في هذا عن ابن عباس مضطرب. قال الحافظ: ويمكن الجمع يحمل الإثبات في حق من مات والنفي في حق الحي-انتهى. وقال العيني: النقل عنه في هذا مضطرب فلا يقوم به حجة لأحد. وأما أثر عائشة الذي نقله ابن التركماني عن الطحاوي، ففيه إن بعض ألفاظه مخالف لما في مشكل الآثار المطبوع ففيه (ج3:ص142) عن عبد العزيز ابن رفيع عن عمرة قالت: توفيت أمي وعليها صيام من رمضان فسألت عائشة عن ذلك فقالت أقضيه عنها، ثم قالت: بل تصدقي مكان كل يوم على مسكين نصف صاع، وهذا كما ترى ليس فيه ما يمنع الصيام. وأما أثرها الذي ذكره ابن حزم فسيأتي الجواب عنه، وأما ثانياً فلأن فتيا الصحابي لا تقاوم الحديث المرفوع الصحيح السنة، الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بالإتباع وفيها غنية عن كل قول. واستدلوا أيضاً بالقياس على الصلاة ونظائرها من أعمال البدن التي لا مدخل للمال فيها. قال العيني: قد اجمعوا على أنه لا يصلي أحد عن أحد فكذلك الصوم لأن كلاً منهما عبادة بدنية، وحكى ابن القصار عن المهلب أنه قال لو جاز أن يصوم أحد عن أحد في الصوم، لجاز أن يصلي الناس عن الناس فلو كان ذلك سائغاً لجاز أن يؤمن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عمه أبي طالب لحرصه على إيمانه، وقد اجمعت الأمة على أنه لا يؤمن أحد عن أحد ولا يصلي أحد عن أحد فوجب أن يرد ما اختلف فيه إلى ما اجمع عليه. وفيه أولاً أن هذا قياس في مقابلة النص، وثانياً إن دعوى الإجماع على القول بأن لا يصلي أحد عن أحد باطلة لما تقدم عن ابن عمر، أنه أمر بالصلاة عن الميت، ولأن الظاهرية قالوا يجب قضاء صلاة النذر وصلاة الفرض عن الميت، وثالثاً: أنهم اجمعوا على أن تصلي الركعتان أثر الطواف عن الميت الذي يحج عنه. ورابعاً: إن في كلام المهلب غضاضة وترك محاسن الأدب في حق الشارع ومصادمة الأخبار الثابتة فيه قاله العيني (ج11:ص60) وأجاب بعض الحنفية عن حديث الباب بأن في سنده عبيد الله بن أبي جعفر،

ونقل صحاب الميزان عن أحمد أنه قال ليس بقوى وعن حديث ابن عباس بأنه مضطرب متنا وأجيب عن الأول بأن عبيد الله هذا من رجال السنة، ووثقه أحمد في رواية عبد الله ابنه عنه وأبوحاتم والنسائي وابن سعد: وقال ابن يونس: كان عالماً زاهداً، وإن صح ما نقل صحاب الميزان عن أحمد فلعله في شيء مخصوص، وقد احتج به الجماعة قاله الحافظ في مقدمه الفتح. فالحديث صحيح جداً، ولذلك اتفق الشيخان على تخريجه في صحيحهما، ولم ينتقده أحد ممن انتقدهما، بل اتفقوا على صحته وقبوله، وأجيب عن الثاني بعدم تسليم الاضطراب فيه كما بين ذلك الحافظ في الفتح. وأجابوا أيضاً بأنه روى عن عائشة وابن عباس وهما رويا حديث الصيام عن الميت أنهما لم يريا الصيام عنه كما تقدم، وفتوى الراوي على خلاف مرويه بمنزلة روايته للناسخ. وتعقبه ابن حزم بوجوه، أحدها إن الله تعالى إنما افترض علينا إتباع رواية الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يفترض علينا قط إتباع رأى أحدهم. والثاني: أن قد يترك الصحابي إتباع ما روى لوجوه، وهي أن يتأول فيما روى تأويلاً ما اجتهد فيه فاخطأ فاخبر مرة أو أن يكون نسي ما روى، فافتى بخلافه أو أن تكون الرواية عنه بخلافه وهما، ممن روى ذلك عن الصحابي، فإذ كل ذلك ممكن فلا يحل ترك ما افترض عليها إتباعه من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما لم يأمرنا بإتباعه لو لم يكن فيه هذه العلل فكيف وكلها ممكن فيه، ولا معنى لقول من قال هذا دليل على نسخ الخبر، لأنه يعارض بأن يقال كون ذلك الخبر عند ذلك الصحابي دليل على ضعف الرواية عنه بخلافه أو لعله قد رجع عن ذلك. والثالث، أن نقول لعل الذي روى فيه عن عائشة فيه الإطعام كان لم يصح حتى ماتت فلا صوم عليها. والرابع، أنه قد روى عن ابن عباس الفتيا بما روى من الصوم عن الميت كما تقدم، فصح أنه قد نسى أو غير ذلك مما الله تعالى أعلم به-انتهى مختصراً، وقال الحافظ: بعد ذكر اعتلال الحنفية بنحو ما تقدم ما لفظه، والراجح أن المعتبر ما رواه الصحابي لا ما رآه لاحتمال أن يخالف ذلك لاجتهاد ومستنده فيه لم يتحقق، ولا يلزم من ذلك ضعف الحديث عنده، وإذا تحقق صحة الحديث لم يترك المحقق للمظنون وتعقبه العيني كعادته بما لا يلتفت إليه. وأجابوا أيضاً عن حديث عائشة بأن المراد بقوله صام عنه وليه، أي فعل عنه وليه ما يقوم مقام الصوم وهو الإطعام، قال الماوردي: وهو نظير قوله التراب وضوء المسلم إذا لم يجد الماء، قال فسمي البدل باسم المبدل فكذلك هنا. وقال الخطابي (ج2:ص122) تأوله بعض أهل العلم فقال معناه أطعم عنه وليه، فإذا فعل ذلك فكأنه قد صام عنه سمي الإطعام صياما على سبيل المجاز والاتساع إذ كان الطعام قد ينوب عنه، وقد قال سبحانه أو عدل ذلك صياماً فدل على أنهما يتناوبان-انتهى. وتعقب بأنه صرف للفظ عن ظاهره بغير دليل، بل يدل على ما ذكرنا من آثار ابن عمر وابن عباس وعائشة على كون الصوم في حديث عائشة المرفوع في معناه الحقيقي. قال السندي: من لا يقول بالصيام عن الميت يدعى النسخ بأدلة غير تامة،

ومنهم من يقول معنى قوله في حديث بريدة أفأصوم عنها أفأفدي عنها على تسمية الفداء صوماً لكونه بدلاً عن الصوم وكل ذلك غير تام-انتهى. وقال صاحب فتح الملهم: قوله صلى الله عليه وسلم فصومي عن أمك في حديث ابن عباس وقوله صلى الله عليه وسلم صومي عنها في حديث بريدة، قد صدر في معرض الجواب عن قولها أفأصوم عنها فكأنه صلى الله عليه وسلم قررها على ما سألته، والظاهر أنهما ما أرادت بسؤالها إلا الصوم الحقيقي لا الإطعام، وحمل كلامها على الإطعام لا يخلو عن تعسف فالوجدان السليم يحكم بأن التأويل المذكور في حديث عائشة لا يجري في حديثي ابن عباس وبريدة إلا بتكلف بارد والله تعالى أعلم-انتهى. وقال الشيخ محمد أنور: لا حاجة إلى تأويل أحاديث الباب وصرف لفظ الصوم فيها عن ظاهره بل المراد بقوله صام عنه وليه، وقول "صومي عنها" هو الصوم الحقيقي لكن لا بطريق النيابة بل بطريق التبرع لإيصال الثواب وقد أجاب صلى الله عليه وسلم عن قولها أفأصوم عنها بقوله صومي عنها لما رأى من حرصها على إيصال الخير والثواب لأمها ولا شك في أنه ينفع لها في الجملة فأما أنه يقع قضاء عما عليها ويبرأ ذمتها عن الواجب فليس في الحديث دلالة على هذا-انتهى. قلت هذا التوجيه أيضاً سخيف جداً يدل على سخافته تمام حديث ابن عباس. قال صاحب فتح الملهم بعد ذكر التوجيه المذكور: هذا توجيه لطيف لولا ما ورد في حديث ابن عباس من التشبيه بقضاء الدين، ولا سيما قوله في رواية زيد بن أبي أنيسة عن الحكم (عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عند مسلم) قال أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته، أكان ذلك يؤدي عنها قالت نعم قال فصومي عن أمك وهذا كالصريح في أن صومها عن أمها يؤدي ما على أمها من دين الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب. وأجاب المالكية عن حديث عائشة بأن عمل أهل المدينة بخلافه. وهذا مبني على أن تركهم العمل بالحديث حجة ودليل على نسخه وليس كذلك كما عرف في الأصول. واستدل القائلون بجواز الصيام عن الميت في النذر دون غيره، بأن حديث عائشة مطلق وحديث ابن عباس مقيد بالنذر كما تقدم، فيحمل عليه ويكون المراد بالصيام صيام النذر. وفيه أنه ليس بين الحديثين تعارض حتى يجمع بينهما، فحديث ابن عباس صورة مستقلة سأل عنها من وقعت له. وأما حديث عائشة فهو تقرير قاعدة عامة، وقد وقعت الإشارة في حديث ابن عباس إلى نحو هذا العموم حيث قيل في آخره فدين الله أحق أن يقضى قاله الحافظ: قال الشوكاني: وإنما قال إن حديث ابن عباس صورة مستقلة يعني أنه من التنصيص على بعض أفراد العام فلا يصلح لتخصيصه ولا لتقييده كما تقرر في الأصول. واختلف في المراد بقوله "وليه" فقيل كل قريب سواء كان وارثاً أو عصبة أو غيرهما. وقيل: الوارث خاصة. وقيل: عصبة قال الحافظ: والأول أرجح والثاني قريب ويرد الثالث قصة المرأة التي سألت عن نذر أمها. وقال الكرماني والنووي: الصحيح الأول واختلفوا أيضاً هل يختص ذلك بالولي لأن الأصل عدم النيابة في العبادة البدنية ولأنها عبادة لا تدخلها النيابة في الحياة، فكذلك في الموت إلا ما ورد فيه الدليل، فيقتصر على ما ورد فيه ويبقى الباقي على الأصل.

{الفصل الثاني}

{الفصل الثاني} 2054- (5) عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((من مات وعليه صيام شهر رمضان فليطعم عنه مكان كل يوم مسكن)) رواه الترمذي، وقال: الصحيح أنه موقوف على ابن عمر. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الحافظ: وهذا هو الراجح. وقيل: لا يختص بالولي، فلو أمر أجنبياً بأن يصوم عنه أجزأ كما في الحج. وقيل: يصح استقلال الأجنبي بذلك وذكر الولي لكونه الغالب وظاهر صنيع البخاري اختيار هذا الأخير، وبه جزم أبوالطيب الطبري وقواه بتشبيهه صلى الله عليه وسلم ذلك بالدين، والدين لا يختص بالقريب-انتهى. وقال الشوكاني: وظاهر الأحاديث أنه يصوم عنه وليه وإن لم يوص بذلك وإن من صدق عليه إسم الولي لغة أو شرعاً أو عرفاً صام عنه ولا يصوم عنه من ليس بولي، ومجرد التمثيل بالدين لا يدل على أن حكم الصوم كحكمه في جميع الأمور-انتهى. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي في السنن الكبرى والدارقطني (ص245) والبيهقي (ج4:ص255) والطحاوي في مشكل الآثار (ج2:ص139-140) . 2054- قوله: (فليطعم عنه) على بناء المفعول (مكان كل يوم) من أيام الصيام الفائتة (مسكن) كذا وقع في الرفع في جميع النسخ من المشكاة الموجودة عندنا، وكذا وقع في المصابيح، وفي التلخيص (ص196) ونصب الراية (ج2:ص464) والدراية (ص177) والمنتقى، وهكذا وقع في رواية ابن ماجه والبيهقي، ووقع في جامع الترمذي مسكيناً بالنصب، وهكذا نقله الجوزي في جامع الأصول (ج7:ص282) وابن قدامة في المغني (ج3:ص143) وعلى هذا يكون قوله فليطعم على بناء الفاعل أي فليطعم ولي من مات، وبهذا الحديث تمسك الحنفية والمالكية لكن بقيد إن أوصى، وبدون الوصية لا يلزم خلافاً للشافعي، فإنه يطعم عنده أوصى به أو لم يوص. قال القاري: لا بد من الإيصاء عندنا في لزوم الإطعام على الوارث خلافاً للشافعي، وإن أوصى فإنما يلزم الوارث إخراجه، إذا كان يخرج من الثلث، فإن زاد على الثلث لا يجب على الوارث، فإن أخرج كان متطوعاً عن الميت، ويحكم بجواز أجزاءه كذا قاله ابن الهمام. ولم يبين في هذه الرواية مقدار الطعام، وقد جاء عند البيهقي (ج4:ص254) من رواية شريك عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً أنه نصف صاع من بر، وبه أخذ الحنفية قالوا: أو صاع من غير البر أو قيمة أحداهما، لكن قال البيهقي هذه الرواية خطأ. وإنما قال ابن عمر مداً من حنطة، وروى من وجه آخر عن ابن أبي ليلى ليس فيه ذكر الصاع-انتهى. قلت: وبقول ابن عمر مداً من حنطة أخذ مالك والشافعي وأحمد، وحديث ابن عمر الذي نحن في شرحه ضعيف،

والمحفوظ أنه موقوف على ابن عمر كما ستعرف، فلا يصح الإستدل به ولو صح، لا يقاوم حديث عائشة المتفق عليه (رواه الترمذي) من طريق عبثر عن أشعث عن محمد عن نافع عن ابن عمر وأخرجه ابن ماجه والبيهقي أيضاً من هذا الطريق، لكن وقع عند ابن ماجه عن محمد بن سيرين منسوباً وهو وهم كما سيأتي (وقال والصحيح أنه موقوف على ابن عمر) أي من قوله. وقال الترمذي أيضاً: لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه، قال وأشعث هو ابن سوار ومحمد هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى-انتهى. قال الحافظ في التلخيص (ص197) رواه ابن ماجه من هذا الوجه (أي من طريق عبثر عن أشعث عن محمد) ووقع عنده عن محمد بن سيرين بدل محمد بن عبد الرحمن وهو وهم منه أو من شيخه. وقال الدارقطني: المحفوظ وقفه على ابن عمر وتابعه البيهقي على ذلك-انتهى. وقال ابن الملقن هذا الحديث رواه الترمذي وابن ماجه بإسناد ضعيف، والمحفوظ وقفه على ابن عمر قاله الترمذي والدارقطني والبيهقي كذا في المرقاة. وقال الزيلعي (ج2:ص464) وضعفه عبد الحق في أحكامه بأشعث وابن أبي ليلى. وقال الدارقطني: في علله المحفوظ موقوف، هكذا رواه عبد الوهاب بن بخت عن نافع عن ابن عمر-انتهى. وقال البيهقي في المعرفة: لا يصح هذا الحديث فإن محمد بن أبي ليلى كثير الوهم، ورواه أصحاب نافع عن نافع عن ابن عمر قوله، ثم أخرجه عن عبد الله بن الأخنس عن نافع عن ابن عمر قال: من مات وعليه صيام رمضان فليطعم عنه كل يوم مسكيناً مداً من حنطة، وأخرجه البيهقي في سننه (ج4:ص254) من طريق شريك عن محمد ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى به مرفوعاً. قال: في الذي يموت وعليه رمضان ولم يقضه قال يطعم عنه لكل يوم نصف صاع من بر. قال البيهقي: هذا خطأ من وجهين، أحدهما رفعه. وإنما هو موقوف من قول ابن عمر. والثاني، قوله فيه نصف صاع. وإنما قال ابن عمر مداً من حنطة-انتهى. فإن قلت قال ابن التركماني (ج4:ص254) قد أخرج ابن ماجه هذا الحديث في سننه صحيح عن أشعث عن محمد بن سيرين عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً، فإن صح هذا فقد تابع أن سيرين ابن أبي ليلى على رفعه فالقائل أن يمنع الوقف. وقال العيني (ج11:ص60) قد تابع ابن سيرين ابن أبي ليلى على رفعه فالقائل أن يمنع الوقف. قلت: قد تقدم عن الحافظ إن ما وقع في سند ابن ماجه من قوله عن محمد بن سيرين وهم، منه أو من شيخه. وقال المزي في الأطراف: قوله (أي في سند ابن ماجه) عن محمد بن سيرين وهم، فإن الترمذي رواه ولم ينسبه، ثم قال الترمذي وهو عندي محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى نقله السندي عن البوصير. وقال العيني (ج11:ص59) قال الحافظ المزي وهو (أي قوله عن محمد بن سيرين) وهم، وقال ابن عدي في الكامل: ومحمد هذا هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى-انتهى. فقد ثبت بهذا كله إن محمداً هذا هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى لا محمد بن سيرين وأنه قد تفرد بحديث الإطعام المرفوع ولم يتابعه أحد عليه وهو وإن كان فقيهاً عالماً لكنه سيء الحفظ فاحش الخطأ كثير الوهم فلا يحتج بما تفرد به.

{الفصل الثالث}

{الفصل الثالث} 2055- (6) عن مالك، بلغه، أن ابن عمر كان يسئل: ((هل يصوم أحد عن أحد، أو يصلي أحد عن أحد؟ فيقول: لا يصوم أحد عن أحد، ولا يصلي أحد عن أحد)) رواه في "الموطأ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2055- قوله: (عن مالك بلغه) وفي الموطأ أنه بلغه (كان يسئل) بصيغة المجهول (لا يصوم أحد عن أحد ولا يصلي أحد عن أحد) في شرح السنة هذا مذهب الشافعي (في الجديد) وأصحاب أبي حنيفة، وذهب قوم إلى أنه يصوم عنه وليه. وقال الحسن: إن صام عنه ثلاثون رجلاً كل واحد يوماً جاز، واتفق أهل العلم على أنه لا كفارة للصلاة وهو قول الشافعي. وقال أصحاب أبي حنيفة: أنه يطعم عنه، وقال قوم يصلي عنه-انتهى. قلت: واحتج بقول ابن عمر هذا من ذهب إلى منع الصوم والصلاة عن الميت، وقد تقدم أن البخاري ذكر في باب من مات وعليه نذر عن ابن عمر تعليقاً الأمر بالصلاة، فاختلف قوله والحديث الصحيح أولى بالإتباع (رواه) أي مالك (في الموطأ) قد تقدم بيان ما يرد على المصنف في هذه العبارة، وبلاغ مالك هذا وصله عبد الرزاق في مصنفه في كتاب الوصايا من طريق عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر. قال لا يصلين أحد عن أحد ولا يصومون أحد عن أحد، ولكن إن كنت فاعلاً تصدقت عنه أو أهديت، ورواه أبوبكر بن الجهم في كتابه من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن نافع والبيهقي (ج2:ص254) من طريق يحيى بن سعيد عن نافع تنبيه هذا الاختلاف والتفصيل الذي سبق في الصوم عن الميت إذا فاته شيء بعد إمكان قضاءه. وأما من فاته شيء من رمضان قبل إمكان القضاء فلا تدارك ولا إثم. وأجمع العلماء على ذلك إلا طاوساً وقتادة فإنهما يوجبان التدارك بالصوم أو الكفارة، ولو مات قبل إمكان القضاء ذكره القاري: وقال الخطابي (ج2:ص122-123) اتفق عامة أهل العلم على أنه إذا أفطر في المرض أو السفر ثم لم يفرط في القضاء حتى مات، فإنه لا شيء عليه ولا يجب الإطعام عنه غير قتادة فإنه قال يطعم عنه. وقد حكى ذلك عن طاوس أيضاً-انتهى. وقال ابن قدامة (ج3:ص142) من مات وعليه صيام من رمضان لكن قبل إمكان الصيام إما لضيق الوقت أو لعذر من مرض أو سفر أو عجز عن الصوم، فهذا لا شيء عليه في قول أكثر أهل العلم. وحكى عن طاوس وقتادة إنهما قالا: يجب الإطعام عنه، لأنه صوم واجب سقط بالعجز عنه فوجب الإطعام عنه، كالشيخ إلهم إذا ترك الصيام لعجزه عنه. ولنا أنه حق الله تعالى وجب بالشرع، مات من يجب عليه قبل إمكان فعله فسقط إلى غير بدل كالحج، ويفارق الشيخ إلهم فإنه يجوز ابتداء، الوجوب عليه بخلاف الميت-انتهى.

(6) باب صيام التطوع

(6) باب صيام التطوع {الفصل الأول} 2056- (1) عن عائشة، قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: يصوم حتى نقول: لا يفطر ويفطر حتى نقول: لا يصوم، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط، إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان. ـــــــــــــــــــــــــــــ (باب صيام التطوع) 2056- قوله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم) أي النفل متتابعاً (حتى نقول لا يفطر) أي ينتهي صومه إلى غاية نقول أنه لا يفطر في هذا الشهر (ويفطر) أي يستمر على الإفطار (حتى نقول لا يصوم) أي ينتهي إفطاره إلى غاية نقول أنه لا يصوم من هذا الشهر، وذلك لأن الأعمال التي يتطوع بها ليست منوطة بأوقات معلومة. وإنما هي على قدر الإرادة لها والنشاط فيها قاله العيني. وقال الباجي: وإنما كان كذلك. والله أعلم. لأن هذا أفضل الصوم وأشده لمن استطاع عليه. وقال الغزالي في الأحياء: الفقيه بدقائق الباطن ينظر إلى أحواله فقد يقتضى حاله دوام الصوم، وقد يقتضى دوام الفطر، وقد يقتضى مزج الإفطار بالصوم وإذا فهم المعنى وتحقق حده في سلوك طريق الآخرة بمراقبة القلب لم يخف عليه صلاح قلبه. وذلك لا يوجب ترتيباً مستمراً ولذلك روي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم حتى يقال لا يفطر، ويفطر حتى يقال لا يصوم وكان ذلك بحسب ما ينكشف له بنور النبوة من القيام بحقوق الأوقات-انتهى. قال الأمير اليماني: في الحديث دليل على أن صومه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن مختصاً بشهر دون شهر، وإنه كان صلى الله عليه وسلم يسرد الصيام أحياناً ويسرد الفطر أحياناً، ولعله كان يفعل ما يقتضيه الحال من تجرده عن الأشغال فيتابع الصوم ومن عكس ذلك فيتابع الإفطار-انتهى. ولا يعارض هذا ما روى عن عائشة عند البخاري وغيره كان عمله ديمة، لأن المراد بذلك ما اتخذه راتباً لا مطلق النفل والله تعالى أعلم (وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صيام شهر قط إلا رمضان) إنما لم يستكمل شهراً غير رمضان لئلا يظن وجوبه (وما رأيته) صلى الله عليه وسلم (في شهر أكثر) بالنصب ثاني مفعول رأيت والضمير "في" (منه) له عليه الصلاة والسلام (صياماً) تمييز (في شعبان) سمي بذلك لتشعبهم في طلب المياه أو في الغارات بعد أن يخرج شهر رجب الحرام، وهذا أولى من الذي قبله. وقيل: فيه غير ذلك والجار متعلق بصياماً، والمعنى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم في شعبان وفي غيره من الشهور سوى رمضان، وكان صيامه في شعبان أكثر من صيامه فيما سواه كذا ذكره الطيبي.

وقيل: قوله في شهر يعني به غير شعبان وهو حال من المستكن في أكثر، وفي شعبان حال من المجرور في منه، العائدة إلى الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي ما رأيته كائناً في غير شعبان أكثر صياماً منه كائناً في شعبان مثل زيد قائماً أحسن منه قاعداً. أو كلاهما ظرف أكثر الأول باعتبار الزيادة والثاني باعتبار أصل المعنى، ولا تعلق له برؤيته وإلا يلزم تفضيل الشيء على نفسه باعتبار حالة واحدة كذا في المرقاة. وفيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يخص شعبان بالصوم أكثر من غيره. واختلف في وجه تخصيص شعبان بكثرة الصوم. فقيل كان يشتغل عن صوم الثلاثة أيام من كل شهر لسفر أو غيره فتجتمع فيقضيها في شعبان يدل على هذا ما رواه الطبراني عن عائشة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر فربما أخر ذلك حتى يجتمع عليه صوم السنة فيصوم شعبان، وفيه ابن أبي ليلى وهو ضعيف. وقيل كان يصنع ذلك لتعظيم رمضان كما أخرجه للترمذي من حديث أنس قال سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - أي الصوم أفضل بعد رمضان، قال شعبان لتعظيم رمضان، وفيه صدقة بن موسى. قال الترمذي: هو عندهم ليس بذاك التقوى. قال الحافظ: ويعارضه حديث أبي هريرة أفضل الصوم بعد رمضان صوم المحرم. وقيل وجه تخصيص شعبان بكثرة الصوم إن نساءه كن يقضين ما عليهن من رمضان في شعبان وهذا عكس ما تقدم في الحكمة في كونهن يؤخرن قضاء رمضان إلى شعبان، لأنه ورد فيه إن ذلك لكونهن يشتغلن معه - صلى الله عليه وسلم - عن الصوم. وقيل الحكمة في ذلك أنه يعقبه رمضان وصومه مفترض وكان يكثر من الصوم في شعبان قدر ما يصوم في شهرين غيره لما يفوته من التطوع بذلك في أيام رمضان. قال الحافظ: والأولى في ذلك ما جاء في حديث أصح مما مضى، أخرجه النسائي وصححه ابن خزيمة عن أسامة بن زيد قال قلت: يا رسول الله! لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان، قال ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم. ونحوه من حديث عائشة عند أبي يعلى لكن قال فيه إن الله يكتب كل نفس ميتة تلك السنة، فأحب أن يأتيني أجلي وأنا صائم- انتهى. قيل: ويحتمل أنه كان يكثر من صومه لهذه الحكم كلها. قلت: والمراد برفع الأعمال في حديث أسامة الرفع الخاص لا الرفع العام الذي يكون صباحاً ومساءً، أو المراد الرفع الإجمالي لا التفصيلي. قال في المواهب وشرحه: (بين صلى الله عليه وسلم وجه صيامه لشعبان دون غيره من الشهور بقوله إنه شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، يشير إلى أنه لما اكتتفه) أحاط به (شهران عظيمان الشهر الحرام) رجب (وشهر الصيام إشتغل الناس بهما فصار مغفولاً عنه) مع رفع الأعمال فيه إلى الله (وكثير من الناس يظن أن صيام أفضل من صيامه) أي شعبان (لأنه) أي رجب (شهر حرام وليس كذلك)

فقد روى ابن وهب بسنده عن عائشة قالت ذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - ناس يصومون شهر رجب فقال فأين هم من شعبان (وفي إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فوائد منها إن تكون) أي الطاعة (أخفى وإخفاء النوافل وإسرارها أفضل لا سيما الصيام فإنه سر بين العبد وربه، ومنها إنه أشق على النفوس لأن النفوس تناسي بما تشاهد من أحوال بني الجنس فإذا كثرت يقظة الناس وطاعتهم سهلت الطاعات، وإذ أكثرت، الغفلات وأهلها نأسي بهم عموم الناس فيشق على النفوس المستيقظين طاعاتهم لقلة من يقتدي بهم) وأفضل العمل أشقة، ومنها أن المنفرد بالطاعة بين الغافلين قد يرفع به البلاء عن الناس. وقد روى في صيامه صلى الله عليه وسلم شعبان معنى آخر وهو أنه ننسخ فيه الآجال) أي تنقل وتفرد أسماء من يموت في تلك الليلة إلى مثلها من العام القابل عن أسماء من لم يمت من أم الكتاب فيكتب في صحيفة، ويسلم إلى ملك الموت (فروى) عند أبي يعلى والخطيب وغيرهما (بإسناد فيه ضعف عن عائشة قالت كان أكثر صيام النبي - صلى الله عليه وسلم - في شعبان فقلت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! أرى أكثر صيامك في شعبان) وفي رواية أرى أحب الشهر إليك أن تصومه شعبان. (قال أن هذا الشهر يكتب فيه لملك الموت أسماء من يقبض فأحب أن لا ينسخ إسمي إلا وأنا صائم (وفي رواية أبي يعلى إن الله يكتب كل نفس ميتة تلك السنة فأحب أن يأتيني أجلي وأنا صائم أي يأتيني كتابة أجلي، وفيه إن كتابته في زمن عبادة يرجى لصاحبها الموت على الخير وإن من أولى تلك العبادة الصوم، لأنه يروض النفوس وينور الباطن ويفرغ القلب للحضور مع الله (وقد روى مرسلاً) عن التابعي بدون ذكر عائشة (وقيل إنه أصح) من وصله بذكرها (وقد قيل في صوم شعبان معنى آخر وهو إن صيامه كالتمرين على صيام رمضان لئلا يدخل في صيامه على مشقة وكلفة بل يكون قد تمرن الصيام وأعتاده، ووجد بصيام شعبان قبل رمضان حلاوة الصوم ولذته، فيدخل في رمضان بقوة ونشاط-انتهى. وأجاب النووي عن كونه لم يكثر من الصوم في المحرم مع قوله إن أفضل الصيام ما يقع فيه بأنه يحتمل أن يكون ما علم ذلك إلا في آخر عمره فلم يتمكن من كثرة الصوم في المحرم، أو اتفق له فيه من الاعذار بالسفر والمرض، مثلاً ما منعه من كثرة الصوم فيه. وأما حديث أنس المتقدم عند الترمذي فهو ضعيف كما سبق، فلا يقاوم حديث أفضيلة المحرم المخرج في صحيح مسلم. وقال ابن رجب في اللطائف بعد ذكر فضل صوم شعبان ما ملخصه: أفضل التطوع ما كان قريباً من رمضان قبله وبعد، وذلك يلتحق بصيام رمضان لقربه منه، وتكون منزلته من صوم رمضان بمنزلة السنن الرواتب مع الفرائض قبلها وبعدها، فليتحق بالفرائض في الفضل، وهي تكملة للفرائض. وكذلك صيام ما قبل رمضان وبعده فكما إن السنن الرواتب أفضل من التطوع المطلق بالصلاة، فكذلك صيام ما قبل رمضان وبعده أفضل من صيام ما بعد منه، ويكون قوله: "أفضل الصيام بعد رمضان المحرم" محمولاً على التطوع المطلق بالصيام-انتهى. فتأمل. وسيأتي شيء من الكلام في ذلك في شرح الحديث الرابع من هذا الباب هذا، وزاد في رواية يحيى بن كثير في حديث الباب عند البخاري فإنه يصوم شعبان كله.

واستشكل هذا مع قوله في رواية الباب ما رأيته في شهر أكثر منه صياما في شعبان. وأجيب بأن رواية الباب مفسرة لرواية يحيى بن أبي كثير، ومبينة بأن المراد بكله غالبه أي يصوم شعبان بحيث يصح أن يقال فيه أنه يصوم كله لغاية قلة المتروك، بحيث يمكن أن لا يعتد به من غاية قلته. وقيل كان يصوم شعبان كله تارة أي في سنة ويصوم معظمه أخرى أي في سنة أخرى لئلا يتوهم أنه واجب كله كرمضان. وقيل المراد بقولها كله أنه كان يصوم من أوله تارة ومن آخره أخرى ومن أثناءه طورا، فلا يخلى شيئاً منه من صيام، لكن في أكثر من سنة. قال السندي: معنى كله أنه لا يخص أوله بالصيام أو وسطه أو آخره بل يعم أطرافه، وإن كان بلا اتصال الصيام بعضه ببعض وتعقبه في المصابيح بأن الثلاثة كلها ضعيفة، فأما الأول فلأن إطلاق الكل على الأكثر مع الإتيان به توكيد غير معهود انتهى. وقد نقل الترمذي عن ابن المبارك أنه قال جائز في كلام العرب إذا صام أكثر الشهر أن يقال صام الشهر كله، ويقال قام فلان ليلته أجمع ولعله قد تعشى واشتغل ببعض أمره. قال الترمذي: كأن ابن المبارك جمع بين الحديثين بذلك، وحاصله إن رواية الباب مفسرة لرواية يحيى بن أبي كثير ومبينة لها، وإن المراد بالكل الأكثر وهو مجاز قليل الاستعمال. واستبعده أيضاً فقال كل تأكيد لإرادة الشمول ورفع التجوز من احتمال البعض فتفسيره بالبعض مناف له-انتهى. قال الزرقاني في شرح المواهب: لكن الاستبعاد لا يمنع الوقوع، لأن الحديث يفسر بعضه بعضاً لا سيما والمخرج متحد وهو عائشة وهي من الفصحاء. وقد نقله ابن المبارك عن العرب ومن حفظ حجة. قال في المصابيح: وأما الثاني فلأن قولها كان يصوم شعبان كله يقتضى تكرار الفعل وإن ذلك عادة له على ما هو المعروف في مثل هذه العبارة-انتهى. واختلف في دلالة كان على التكرار، وصحح ابن الحاجب أنها تقتضيه قال، وهذا استفدناه من قولهم كان حاتم يقري الضعيف، وصحح الإمام فخر الدين في المحصول أنها لا تقتضيه لا لغة ولا عرفا. وقال النووي في شرح مسلم أنه المختار الذي عليه الأكثرون والمحققون من الأصوليين. وذكر ابن دقيق العيد أنها تقتضيه عرفا-انتهى. قال في المصابيح: وأما الثالث فلأن أسماء الشهور إذا ذكرت غير مضاف إليها لفظ "شهر" كان العمل عاما لجميعها لا تقول سرت المحرم وقد سرت بعضاً منه، ولا تقول صمت رمضان، وإنما صمت بعضه فإن أضفت الشهر إليه لم يلزم التعميم، هذا مذهب سيبويه وتبعه عليه غير واحد. قال الصفار: ولم يخالف في ذلك إلا الزجاج. ويمكن أن يقال إن قولها وما رأيته في شهر أكثر منه صياما في شعبان، لا ينفي صيامه لجميعه، فإن المراد أكثرية صيامه فيه على صيامه في غيره من الشهور التي لم يفرض فيها الصوم، وذلك صادق بصومه كله، لأنه إذا صامه جميعه صدق أن الصوم الذي أوقعه فيه أكثر من الصوم الذي أوقعه في غيره ضرورة إنه لم يصم غيره مما عدا رمضان كاملاً.

وفي رواية، قالت: (كان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلاً) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأما قولها لم يستكمل صيام شهر إلا رمضان فيحمل على الحذف أي إلا رمضان وشعبان. بدليل قولها في الطريق الأخرى، فإنه يصوم شعبان كله، وحذف المعطوف والعاطف جميعا ليس بعزيز في كلامهم، ففي التنزيل لا يستوي منكم من انفق من قبل الفتح وقاتل أي ومن انفق بعده. ويمكن الجمع بطريق أخرى وهي أن يكون قولها وكان يصوم شعبان كله محمولا على حذف أداة الاستثناء والمستثنى، أي إلا قليلاً منه، ويدل عليه حديث عبد الرزاق بلفظ. ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر صياما منه في شعبان. فإنه كان يصومه إلا قليلاً: وقيل في الجمع إن قولها الثاني متأخر عن قولها الأول فأخبرت عن أول أمره أنه كان يصوم أكثر شعبان، وأخبرت ثانيا عن آخر أمره أنه كان يصومه كله. وقيل بالعكس ولا يخفي ما في ذلك. وقال الباجي: يحتمل أن تريد بقولها ما استكمل صيام شهر قط غير رمضان أنه استكمله على وجه التعيين والتخصيص له، وما روى أنه كان يصوم شعبان كله لم يكن على وجه التعيين له، وقد روى عن عبد الله بن شقيق قلت لعائشة هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم شهراً معلوما سوى رمضان قالت لا، والله، إن صام شهراً معلوما سوى رمضان حتى مضى لوجهه الحديث. فقولها شهراً معلوما يقتضى أن يكون معلوما بصومه وهذا لا يمنع أن يكون صامه على غير هذا الوجه-انتهى. قال الحافظ: والأول (من وجوه الجمع الثلاثة الأول) هو الصواب، ويؤيده رواية عبد الله ابن شقيق عن عائشة عند مسلم، وسعد بن هشام عنها عند النسائي ولفظه، ولا صام شهراً كاملاً قط منذ قدم المدينة غير رمضان، وهو مثل حديث عبد الله عند البخاري، قال ما صام النبي - صلى الله عليه وسلم - شهراً كاملاً قط غير رمضان-انتهى. واختاره النووي كما سيأتي وابن القيم كما في الهدي. ومال الطيبي إلى الوجه الثاني وقال القاري: وهو أقرب لظاهر اللفظ. وقال العيني بعد الكلام: في الوجه الأول من وجوه الجمع، والأحسن أن يقال فيه أنه باعتبار عامين فأكثر فكان يصومه كله في بعض السنين وكان يصوم أكثره في بعض السنين-انتهى. قال الحافظ: ولا تعارض بين هذا وبين ما تقدم من الأحاديث في النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، وكذا ما جاء من النهي عن صوم نصف شعبان الثاني. فإن الجمع بينهما ظاهر بأن يحمل النهي على من لم يدخل تلك الأيام في صيام اعتاده. وقد تقدم إن أحاديث النهي عن التقدم مقيدة بقوله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يكون رجل يصوم يوماً، وفي الحديث دليل على فضل الصوم في شعبان. (وفي رواية) أي لمسلم فإنه قد تفرد بها، وأخرجها أيضاً النسائي وابن ماجه والبيهقي (كان يصوم شعبان كله) أي غالبه ولذلك ذكرت قولها كان يصوم شعبان إلا قليلاً تفسيراً له (كان) كذا في أكثر النسخ، وهكذا وقع في صحيح مسلم وسنن ابن ماجه والبيهقي والمحلى (ج7ص14) لابن حزم وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7ص207) قال القاري: وفي نسخة وكان-انتهى.

2057- (2) وعن عبد الله بن شقيق، قال: قلت لعائشة: ((أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهراً كله، قالت: ما علمته صام شهراً كله إلا رمضان، ولا أفطره كله حتى يصوم منه، حتى مضى لسبيله)) رواه مسلم. 2058- (3) وعن عمران بن حصين، (عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه سأله، أو سأل رجلاً ـــــــــــــــــــــــــــــ والظاهر أنه خطأ من الناسخ (يصوم شعبان إلا قليلا) قال النووي: الثاني تفسير للأول وبيان إن قولها كله أي غالبه-انتهى. وقال الحافظ: هذا يبين أن المراد بقوله في حديث أم سلمة عند أبي داود وغيره أنه كان لا يصوم من السنة شهراً تاما إلا شعبان يصله برمضان أي كان يصوم معظمه-انتهى. وقيل: كان يصوم كله أي في أول الأمر. وقولها كان يصوم شعبان إلا قليلا" اخبار عن آخر الأمر. وقيل: المراد أنه كان يصومه كله في سنة وأكثره في سنة أخرى (متفق عليه) واللفظ لمسلم، وأخرجه أحمد ومالك وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي وابن حزم (ج7ص14) وأخرجه الترمذي مختصرا. 2057- قوله: (ما علمته صام شهراً كله إلا رمضان) وفي رواية ما رأيته صام شهراً كاملاً منذ قدم المدينة إلا أن يكون رمضان، وهذا يؤيد قول من تأول قول عائشة كان يصوم شعبان كله بأن المراد معظمه وغالبه (ولا أفطره) أي شهراً (كله) تأكيد له (حتى يصوم منه) أي بعضه (حتى مضى لسبيله) وفي رواية حتى مضى لوجهه، وهو كناية عن الموت حتى مات. قال القاري: واللام في "لسبيله" مثلها في قولك لقيته لثلاث بقين من الشهر، تريد مستقبلا الثلاث، أي كان حاله ما ذكر إلى أن مات. قال الطيبي: حتى الأولى بمعنى كي كقولك سرت حتى أدخل البلد بالنصب إذا كان دخولك مترقبا لما يوجد كأنك قلت: سرت كي أدخلها، وكان منقضيا إلا أنه في حكم المستقبل من حيث أنه في وقت وجود السير المفعول من أجله كان مترقباً وتحريره، إن حتى "الأولى" غاية عدم الصوم باستمرار الإفطار، استعقب للصوم، والثانية غاية لعدم علمه بالحالتين من الصيام والإفطار والاستمرار هو مستفاد من النفي الداخل على الماضي. والحديث وارد على هذا لأنه عليه الصلاة والسلام حين عزم أن لا يصوم الشهر كله كان مترقباً أن يصوم بعضه، "وحتى الثانية" غاية لما تقدمه من الجمل كلها-انتهى. وفي الحديث أنه يستحب أن لا يخلى شهراً من صيام (رواه مسلم) وأخرجه النسائي والترمذي. 2058- قوله: (أنه) أي النبي صلى الله عليه وسلم (سأله) أي عمران (أو سأل رجلاً) قال الحافظ: هذا شك من مطرف، أي راوي الحديث عن عمران، فإن ثابتا رواه عنه بنحوه على الشك أيضاً، أخرجه مسلم،

وعمران يسمع، فقال: يا أبا فلان! أما صمت من سرر شعبان. قال: لا قال: فإذا أفطرت فصم يومين) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأخرجه من وجهين آخرين عن مطرف بدون شك على الإبهام أنه قال لرجل، زاد أبوعوانة في مستخرجه من أصحابه، ورواه أحمد من طريق سليمان التيمي به قال لعمران بغير شك-انتهى. (وعمران يسمع) جملة حالية (فقال) أي النبي صلى الله عليه وسلم (يا أبا فلان) قال الحافظ: كذا في نسخة من رواية أبي ذر للبخاري بأداة الكنية وللأكثر يا فلان بإسقاطها (أما) الهمزة للاستفهام "وما" نافية (صمت من سرر شعبان) بفتح السين المهملة ويجوز كسرها وضمها والراء مفتوحة في الجميع، جمع سرة بضم السين وتشديد الراء، قال النووي: ضبطوا السرر بفتح السين وكسرها، وحكى القاضي ضمها، قال: وهو جمع سرة، ويقال أيضاً سَرار وسِرار بفتح السين وكسرها، ذكره ابن السكيت وغيره. قال الفراء: والفتح أفصح وكله من الاستسرار. واختلف في تفسيره، والمشهور أن المراد به هنا آخر الشهر وهو قول الجمهور من أهل اللغة والغريب. فالحديث وسمي بذلك لاستسرار القمر يعني استتاره فيه وهي ليلة ثمان وعشرين وتسع وعشرين وثلاثين، وهذا موافق لما ترجم له البخاري بقوله باب الصوم آخر الشهر واستشكل بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة السابق لا تقدموا رمضان بيوم أو يومين وأجيب بأن الرجل كان معتادا لصيام سرر الشهر أو كان قد نذره فلذلك أمره بقضاءه. قال المجد ابن تيمية في المنتقى: يحمل حديث السرر على أن الرجل كانت له عادة بصيام الشهر أو قد نذره. وقال الزين المنير: يحتمل أن يكون الرجل كانت له عادة بصيام آخر الشهر فلما سمع نهيه - صلى الله عليه وسلم - أن يتقدم أحد رمضان بصوم يوم أو يومين ولم يبلغه الاستثناء بقوله. إلا أن يكون شيء يصومه أحدكم فليصم ترك صيام ما كان اعتاده من ذلك، فأمره بقضاءها لتستمر محافظته على ما وظف على نفسه من العبادة، لأن أحب العمل إلى الله ما دام عليه صاحبه قال: وأطلق البخاري في ترجمته الشهر وإن كان المذكور في الحديث شهراً مقيدا وهو شهر شعبان إشارة منه إلى أن ذلك لا يختص بشعبان بل يؤخذ من الحديث الندب إلى صيام أواخر كل شهر ليكون عادة للمكلف، فلا يعارضه النهي عن تقدم رمضان بيوم أو يومين لقوله فيه إلا رجل كان يصومه فليصمه-انتهى. وقال الخطابي في المعالم (ج2ص96) هذان الحديثان متعارضان في الظاهر، ووجه الجمع أن يكون حديث السرر إنما هو شيء كان الرجل قد أوجبه على نفسه بنذره فأمره بالوفاء أو كان ذلك عادة قد اعتادها في صيام أواخر الشهور فتركه لاستقبال الشهر فاستحب له - صلى الله عليه وسلم - أن يقضيه. وأما المنهي عنه في حديث ابن عباس وأبي هريرة فهو أن يبتدئ المرء متبرعاً به من غير إيجاب نذر ولا عادة قد كان تعودها فيما مضى-انتهى. وكذا قال المازري والقرطبي وغيرهما.

وقالت طائفة سرر الشهر أوله، وبه قال الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز فيما حكاه أبوداود وتعقب بأنه لا يصح أن يفسر سرر الشهر وسراره بأوله، لأن أول الشهر يشتهر فيه الهلال، ويرى من أول الليل، ولذلك سمي الشهر شهراً لاشتهاره وظهوره عند دخوله فتسمية ليالي الاشتهار ليالي السرار قلب اللغة والعرف وقد أنكر العلماء ما رواه أبوداود عن الأوزاعي، منهم الخطابي حيث قال أنا أنكر هذا التفسير وأراه غلطاً في النقل ولا أعرف له وجها في اللغة. ثم حكى عن الأوزاعي بسنده مثل قول الجمهور ثم قال وهذا هو الصواب. وقال البيهقي (ج4ص211) وروى غير أبي داود عن الأوزاعي أنه قال سره آخره وهو الصحيح. وقيل: سرر الشهر وسطه ورجحه بعضهم ووجهه بأن السرر جمع سرة، وسرة الشيء وسطه، وسرار كل شيء وسطه وأفضله، وسرارة الوادي وسطه وخياره. وقال ابن السكيت: سرار الأرض أكرمها ووسطها، ويؤيده ما ورد من استحباب صوم أيام البيض وأنه لم يرد في صيام آخر الشهر ندب. بل ورد فيه نهي خاص وهو آخر شعبان لمن صامه لأجل رمضان. ورجحه النووي بأن مسلماً أفرد الرواية التي فيها سرة هذا الشهر عن بقية الروايات وأردف بها الروايات التي فيها الحض على صيام البيض وهي وسط الشهر. قال الحافظ: لكن لم أر في جميع طرق الحديث باللفظ الذي ذكره وهو سرة بل هو عند أحمد من وجهين بلفظ: سرار، وأخرجه من طرق عن سليمان التيمي في بعضها سرر وفي بعضها سرار، وهذا يدل على أن المراد آخر الشهر-انتهى، وتقدم وجه الجمع بين هذا وبين النهي عن صوم آخر شعبان أي عن تقدم رمضان بيوم أو يومين. وروى أبوداود من طريقه البيهقي عن معاوية مرفوعا صوموا الشهر وسره. قال في النهاية: أراد صوموا أول الشهر وآخره يعني أول كل شهر وآخره والمقصود بيان الإباحة. قال الخطابي: والعرب تسمى الهلال الشهر تقول رأيت الشهر أي الهلال. قال الشاعر: والشهر مثل قلامة الظفر أي الهلال. وقيل: المراد بالشهر شعبان أي صوموا شعبان ثم أكد بقوله وسره بأن آخر شعبان أولى بالصيام وقيل: المراد بالشهر رمضان وبسره آخر شعبان، وإضافته إلى رمضان للاتصال والخطاب لمن تعود (قال لا) أي قال الرجل ما صمته (قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (فإذا أفطرت) أي من رمضان كما في أحمد ومسلم أي فرغت من رمضان (فصم يومين) بعد العيد عوضاً عن سرر شعبان، ففي رواية لأحمد ومسلم فصم يومين مكانه، أي مكان سرر شعبان، وفيه مشروعية قضاء التطوع، وقد يؤخذ منه قضاء الفرض بطريق الأولى خلافاً لمن منع ذلك (متفق عليه) واللفظ للبخاري وأخرجه أحمد (ج4ص428- 432- 434- 439- 442- 444- 446) وأبوداود والدارمي والبيهقي (ج4ص210) .

2059- (4) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2059- قوله: (أفضل الصيام بعد رمضان) وفي رواية الترمذي بعد صيام شهر رمضان (شهر الله) أي صيام شهر الله، والإضافة إلى الله للتشريف والتعظيم. وقال العراقي في شرح الترمذي: لما كان المحرم من الأشهر الحرم التي حرم فيها القتال، وكان أول شهور السنة أضيف إليه إضافة تخصيص، ولم يصح إضافة شهر من الشهور إلى الله تعالى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا شهر الله المحرم-انتهى. (المحرم) بالرفع صفة المضاف. قال الطيبي: أراد بصيام شهر الله صيام يوم عاشوراء-انتهى. فيكون من باب ذكر الكل وإرادة البعض، لكن الظاهر أن المراد جميع شهر المحرم وتمامه. ويؤيده ما رواه الترمذي والدارمي عن النعمان بن سعد عن علي قال سأله رجل، فقال أي شهر تأمرني أن أصوم بعد شهر رمضان فقال له، ما سمعت أحداً يسأل عن هذا إلا رجلاً سمعته يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا قاعد عنده فقال يا رسول الله! أي شهر تأمرني أن أصوم بعد شهر رمضان قال إن كنت صائماً بعد شهر رمضان فصم المحرم فإنه شهر الله-الحديث. قال السندي: في حاشية أبي داود وابن ماجه، بعد الإشارة إلى حديث علي هذا يفيد أن المراد تمام الشهر-انتهى. وحديث الباب صريح إن شهر المحرم أفضل الشهور للصوم، وقد سبق الجواب عن إكثار النبي - صلى الله عليه وسلم - من صوم شعبان دون المحرم بوجهين. أحدهما لعله إنما علم فضله في آخر حياته والثاني: لعله كان يعرض فيه إعذار من سفر أو مرض أو غيرهما تمنع من إكثار الصوم فيه. وقال بعض الشافعية والحنابلة: أفضل الصيام بعد شهر رمضان صيام شعبان لمحافظته - صلى الله عليه وسلم - على صومه أو صوم أكثره فحملوا قوله - صلى الله عليه وسلم - أفضل الصيام بعد رمضان المحرم على التطوع المطلق ولا يخفى ما فيه (وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل) قال النووي: فيه دليل لما اتفق العلماء عليه إن تطوع الليل أفضل من تطوع النهار، وفيه حجة لأبي إسحاق المروزي من أصحابنا ومن وافقه على أن صلاة الليل أفضل من سنن الرواتب. وقال أكثر العلماء: الرواتب أفضل لأنها تشبه الفرائض، والأول أقوى وأوفق للحديث والله تعالى أعلم. قال الطيبي: ولعمري إن صلاة التهجد لو لم يكن فيها فضل سوى قوله تعالى: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداًَ} [الإسراء: 79] وقوله {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} إلى قوله {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} [السجدة: 16، 17] وغيرهما من الآيات لكفاه مزية-انتهى. وتأول الحديث من ذهب إلى أفضلية الرواتب بأنه إنما أريد به تفضيل قيام الليل على التطوع المطلق دون السنن الرواتب التي قبل الفرض وبعده. قالوا: وقوله "بعد الفريضة" أي وتوابعها من السنن المؤكدة. وقال بعضهم: المراد صلاة الليل أفضل من الرواتب من حيثية المشقة والكلفة، والبعد من الرياء والسمعة مطلقاً. والراجح عندي: ما ذهب إليه أبوإسحاق المروزي لموافقته لنص حديث الباب (رواه مسلم) في الصيام وأخرجه أحمد والترمذي في أواخر الصلاة وفي الصيام والنسائي في قيام الليل وأبوداود وابن ماجه والدارمي والبيهقي (ج4ص291) في الصيام.

2060- (5) وعن ابن عباس، قال: ((ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم: يوم عاشوراء، وهذا الشهر، يعني شهر رمضان)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2060- قوله: (يتحرى) من التحري أي يقصد قاله الحافظ. وقال العيني: التحري المبالغة في طلب الشيء (صيام يوم) قال القاري: منصوب بنزع الخافض أي ما رأيته يبالغ في الطلب ويجتهد في صيام يوم-انتهى. وفي رواية أحمد (ص222) والنسائي ما علمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صام يوماً يتحرى فضله على الأيام. قال السندي: أي يراه ويعتقده. وعند أحمد (ج1ص367) ما علمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحرى صيام يوم يبتغي فضله على غيره (فضله على غيره) أي وصيام شهر فضله على غيره بتشديد الضاد المعجمة جملة في موضع جر صفة ليوم (إلا هذا اليوم) أي صيامه (يوم عاشوراء) بدل أو منصوب بتقدير أعنى وهو اليوم العاشر من المحرم (وهذا الشهر) بالنصب عطف على قوله هذا اليوم وهذا من اللف التقديري، لأن المعطوف لم يدخل في لفظ المستثنى منه إلا بتقدير، وصيام شهر فضله على غيره كما مر، أو يعتبر في الشهر أيامه يوماً، فيوما موصوفا بهذا الوصف، وحينئذٍ فلا يحتاج إلى تقدير وصيام شهر. قال الطيبي: قوله "فضله" بتشديد الضاد. قيل: بدل من يتحرى، والحمل على الصفة أولى لأن هذا اليوم مستثنى، ولا بد من مستثنى منه، وليس ههنا إلا قوله يوم وهو نكرة في سياق النفي يفيد العموم، والمعنى ما رأيته عليه الصلاة والسلام يتحرى في صيام يوم من الأيام صفته أنه مفضل على غيره إلا صيام هذا اليوم، فإنه كان يتحرى في تفضيل صيامه ما لم يتحر في تفضيل غيره، وهذا الشهر عطف على هذا اليوم، ولا يستقيم إلا بالتأويل إما أن يقدر في المستثنى منه فصيام شهر فضله على غيره، وهو من اللف التقديري، وإما أن يعتبر في الشهر أيامه يوماً فيوماً موصوفا بهذا الوصف-انتهى. قلت: اللفظ المذكور هنا للبخاري. ولفظ مسلم سئل ابن عباس عن صيام يوم عاشوراء فقال: ما علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صام يوماً يطلب فضله على الأيام إلا هذا اليوم ولا شهراً إلا هذا الشهر يعني رمضان (يعني شهر رمضان) تفسير من الراوي عن ابن عباس. قال الحافظ: وكان ابن عباس اقتصر على قوله وهذا الشهر، وأشار بذلك إلى شيء مذكور كأنه تقدم ذكر رمضان وذكر عاشوراء أو كانت المقالة في أحد الزمانين وذكر الآخر، فلهذا قال الراوي عنه يعني رمضان أو أخذه الراوي من جهة الحصر في أن لا شهر يصام إلا رمضان لما تقدم له عن ابن عباس أنه كان يقول: لم أر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صام شهراً كاملاً إلا رمضان-انتهى. وهذا من باب الترقي أو تقديم عاشوراء للاهتمام به أو لتقدمه في أصل وجوب الصوم أو لكونه من أول السنة. وإنما جمع ابن عباس بينهما وإن كان أحدهما واجباً والآخر مندوبا لإشتراكهما في حصول الثواب لأن معنى يتحرى أي يقصد صومه لتحصيل ثوابه والرغبة فيه.

2061- (6) وعنه، قال: ((حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الشوكاني: هذا الحديث يقتضي أن يوم عاشوراء أفضل الأيام للصيام بعد رمضان، ولكن ابن عباس أسند ذلك إلى علمه فليس فيه ما يرد علم غيره. وقد تقدم أن أفضل الصوم بعد رمضان على الإطلاق صوم المحرم، وسيأتي إن صوم عرفة يكفر سنتين وصوم يوم عاشوراء يكفر سنة وظاهره إن صيام يوم عرفة أفضل من صيام يوم عاشوراء (متفق عليه) واللفظ للبخاري وأخرجه أحمد (ج1ص222، 313، 367) والنسائي والبيهقي (ج4ص286) . 2061- قوله: (حين صام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي في المدينة موافقة لموسى عليه السلام وكان يصومه أيضاً في الجاهلية قبل الهجرة موافقة لقريش فإنهم كانوا يصومونه تعظيماً له وكانوا يكسون فيه الكعبة (يوم عاشوراء) أي اليوم العاشر من المحرم. قال في القاموس: العاشوراء والعشوراء ويقصران، والعاشور عاشر أو تاسعه-انتهى. والأول هو قول الخليل وغيره، والاشتقاق يدل عليه، وهو مذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. وذهب ابن عباس رضي الله عنهما إلى الثاني، وفي المصنف عن الضحاك عاشوراء اليوم التاسع قيل: لأنه مأخوذ من العشر بالكسر في أوراد الإبل، تقول العرب وردت الإبل عشراً، إذا وردت اليوم التاسع فالعشر عندهم تسعة أيام، وذلك لأنهم يحسبون في الاظماء يوم الورد فإذا وردت يوماً وقامت في الرعي يومين، ثم وردت في اليوم الثالث قالوا وردت رِبعا، وإنما هو اليوم الثالث في الاظماء وإن رعت ثلاثا، وفي الرابع وردت قالوا وردت خمسا لأنهم حسبوا في كل هذا بقية اليوم الذي وردت فيه قبل الرعي، وأول اليوم الذي ترد فيه بعده وعلى هذا القول يكون التاسع عاشوراء. قال النووي: ما ذهب إليه الجمهور هو ظاهر الأحاديث، ومقتضى اللفظ. وأما تقدير أخذه من الاظماء فبعد. وقال الحافظ: اختلف أهل الشرع في تعيينه أي مصداقه وإشقاقه فقال الأكثر هو اليوم العاشر. قال القرطبي: عاشوراء معدول عن عاشرة للمبالغة والتعظيم وهو في الأصل صفة لليلة العاشرة لأنه مأخوذ من العشر الذي هو اسم العقد واليوم مضاف إليها فإذا قيل يوم عاشوراء فكأنه قيل يوم الليلة العاشرة إلا أنهم لما عدلوا به عن الصفة غلبت عليه الإسمية فاستغنوا عن الموصوف فحذفوا الليلة، فصار هذا اللفظ علما على اليوم العاشر، وذكر أبومنصور الجواليقى أنه لم يسمع فاعولاء إلا هذا، وضاروراء وساروراء ودالولاء من الضار والسار والدال، وعلى هذا فيوم عاشوراء هو العاشر وهذا قول الخليل وغيره. وقال الزين بن المنير الأكثر على أن عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر الله المحرم، وهو مقتضى الاشتقاق والتسمية وقيل هو اليوم التاسع فعلى الأول فاليوم مضاف لليلة الماضية، وعلى الثاني هو مضاف لليلة الآتية،.

وقيل إنما سمي يوم التاسع عاشوراء أخذاً من أوراد الإبل كانوا إذا رعوا الإبل ثمانية أيام، ثم أوردوها في التاسع، قالوا وردنا عشراً بكسر العين وكذلك إلى الثلاثة. وروى مسلم من طريق الحكم بن الأعرج إنتهيت إلى ابن عباس فقلت أخبرني عن يوم عاشوراء، قال إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائماً، قلت أهكذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصومه قال نعم، وهذا ظاهره أن يوم عاشوراء هو اليوم التاسع لكن قال الزين بن المنير قوله (أي في رواية البيهقي) إذا أصبحت من تاسعه فأصبح صائماً يشعر بأنه أراد العاشر لأنه لا يصبح صائماً بعد أن أصبح من تاسعه إلا إذا نوى الصوم من الليلة المقبلة وهو الليلة العاشرة. قال الحافظ: ويقوي هذا الاحتمال ما رواه مسلم أيضاً من وجه آخر عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع فمات قبل ذلك، فإنه ظاهر في أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم العاشر وهم بصوم التاسع فمات قبل ذلك-انتهى. قلت وقع في رواية الترمذي أخبرني عن يوم عاشوراء أي يوم أصومه. وللبيهقي أخبرني عن صيام عاشوراء أي يوم هو ووقع في رواية الترمذي، وكذا البيهقي ثم أصبح من يوم التاسع صائماً، وفيه تنبيه على أن من أراد صوم عاشوراء ابتدأ من يوم التاسع، ولا ينبغي أن يقتصر على صوم العاشر فقط. وقد ورد عن ابن عباس ما يدل على ذلك، فقد روى الطحاوي والبيهقي عنه قال خالفوا اليهود وصوموا التاسع والعاشر، فقد تبين بهذا مراد ابن عباس من رواية مسلم، وإلى هذا الجواب نحا البيهقي حيث قال بعد رواية حديث الحكم بن الأعرج (ج4:ص287) وكان ابن عباس رضي الله عنه أراد صوم التاسع مع العاشر وأراد بقوله في الجواب، نعم ما روى من عزمه - صلى الله عليه وسلم - على صومه، والذي يبين هذا ما روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء أنه سمع ابن عباس يقول: صوموا التاسع والعاشر وخالفوا اليهود، وما روينا من طريق سفيان عن ابن أبي ليلى عن داود بن علي عن أبيه عن جده ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، لئن بقيت لآمرن بصيام يوم قبله أو يوم بعده يوم عاشوراء، وما روينا من طريق هشيم عن ابن أبي ليلى عن داود بن علي عن أبيه عن جده ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صوموا يوم عاشوراء وخالفوا فيه اليهود صوموا قبله يوماً أو بعده يوماً-انتهى ملخصاً. وقال الشوكاني: الأولى أني يقال أن ابن عباس أرشد السائل له إلى اليوم الذي يصام فيه وهو التاسع، ولم يجب عليه بتعين يوم عاشوراء أنه اليوم العاشر، لأن ذلك مما لا يسئل عنه ولا يتعلق بالسؤال عنه فائدة، فابن عباس لما فهم من السائل إن مقصوده تعيين اليوم الذي يصام فيه أجاب عليه بأنه التاسع، وقوله "نعم" بعد قول السائل أهكذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصوم، بمعنى نعم هكذا كان يصوم، لو بقي لأنه قد أخبرنا بذلك. ولا بد من هذا لأنه - صلى الله عليه وسلم - مات قبل صوم التاسع-انتهى. وقال ابن القيم في الهدي (ج1:ص72) لم يجعل ابن عباس عاشوراء هو اليوم التاسع،

وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! إنه يوم يعظمه اليهود والنصارى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لئن بقيت إلى قابل، لأصومن التاسع)) . رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ بل قائل للسائل صم اليوم التاسع، واكتفى بمعرفة السائل إن يوم عاشوراء هو اليوم العاشر الذي يعده الناس كلهم يوم عاشوراء، فأرشد السائل إلى صيام التاسع معه وأخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصومه، كذلك بأن يكون حمل فعله على الأمر وعزمه عليه في المستقبل. ويدل على ذلك أنه هو الذي روى صوموا يوماً قبله ويوماً بعده. وهو الذي روى أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيام يوم عاشوراء يوم العاشر. وكل هذه الآثار يصدق بعضها بعضاً ويؤيد بعضها بعضاً. فمراتب صومه ثلاثة، أكملها أن يصام قبله يوم وبعده يوم، ويلي ذلك أن يصام التاسع والعاشر. وعليه أكثر الأحاديث، ويلي ذلك أفراد العاشر وحده. وأما أفراد التاسع فمن نقص فهم الآثار وعدم تتبع ألفاظها وطرقها وهو بعيد من اللغة والشرع-انتهى. قلت وهكذا جعل الشوكاني والحافظ والشيخ عبد الحق الدهلوي مراتب صوم عاشوراء ثلاثة، وجعلوا صوم العاشر وقبله يوماً وبعده يوماً أكمل المراتب وأفضلها. قال الشيخ عبد الحق في اللمعات: الأفضل أن يصوم العاشر ويوماً قبله ويوماً بعده، وقد جاء ذلك في حديث أحمد-انتهى. قلت: يريد بذلك ما أشار إليه ابن القيم من حديث ابن عباس المرفوع بلفظ: صوموا يوماً قبله ويوماً بعده، لكن الذي وقع في مسند الإمام أحمد (ج1:ص241) طبعة الحلبي صوموا قبله يوماً أو بعده يوماً أي بحرف أو، لا بالواو، وهكذا وقع في طبعة دار المعارف بشرح الشيخ أحمد شاكر (ج4:ص21) وكذا نقله الحافظ في الفتح كما سيأتي، وكذا وقع عند البيهقي (ج4:ص287) من رواية علي بن محمد المقرئي عن الحسن بن محمد عن يوسف بن يعقوب القاضي عن أبي الربيع عن هشيم عن ابن أبي ليلى، وكذا رواه الطحاوي (ج1:ص338) من وجه آخر وذكر الهيثمي (ج3:ص188) بلفظ: صوموا يوماً قبله ويوماً بعده وعزاه إلى أحمد والبزرا، وهكذا ذكره المجد في المنتقى وابن القيم في الهدي والقاري في المرقاة، وكذا وقع عند البيهقي من رواية ابن عبدان عن أحمد بن عبيد الصفار عن إسماعيل بن إسحاق عن مسدد عن هشيم. وقال القاري: وظاهر أن الواو بمعنى "أو" لأن المخالفة تحصل بأحدهما-انتهى. فالاستدلال برواية أحمد على كون الصوم في التاسع والحادي عشر مع العاشر أي الجمع بين الثلاثة فيه نظر، وعندي مراتب صوم عاشوراء الثلاث هكذا أدناها أن يصوم العاشر فقط، وفوقه أن يصوم الحادي عشر معه وفوقه أن يصوم التاسع والعاشر، وإنما جعلت هذه فوق الموتيتين الأوليين لكثرة الأحاديث فيها والله تعالى أعلم (وأمر بصيامه) أي أصحابه تطوعاً بعد نسخ وجوبه. وقال القاري: أمر بصيامه أي أولاً بالوجوب ثم بعد النسخ بالندب فلما كانت السنة العاشرة من الهجرة (قالوا يا رسول الله!) أي يوم عاشوراء يوم (يعظمه) كذا في جميع النسخ من المشكاة، والذي في صحيح مسلم تعظمه بالتأنيث، وكذا نقله المجد بن تيمية في المنتقى والجزري في جامع الأصول والزيلعي في نصب الراية، وكذا وقع في رواية البيهقي (اليهود والنصارى) أي وقد أمرنا بمخالفتهم فكيف نوافقهم على تعظيمه بالصوم فيه،

وقد استشكل ذكر النصارى بأن التعليل بنجاة موسى وغرق فرعون المذكور في حديث ابن عباس الآتي في الفصل الثالث يختص بموسى واليهود، وأجيب باحتمام أن يكون عيسى كان يصومه، وهو مما لم ينسخ من شريعة موسى لأن كثيراً منها ما نسخ بشريعة عيسى لقوله تعالى {ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم} [آل عمران:50] ويقال إن أكثر الأحكام الفرعية إنما تتلقاها النصارى من التوراة (لئن بقيت) أي في الدنيا أو لئن عشت (إلى قابل) أي إلى عام قابل وهو السنة الآتية (لأصومن التاسع) وفي رواية فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع قال فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى لأصومن التاسع مع العاشر لأجل مخالفة أهل الكتاب. قال الحافظ في الفتح: ما هم به - صلى الله عليه وسلم - من صوم التاسع يحتمل معناه أنه لا يقتصر عليه بل يضيفه إلى اليوم العاشر إما إحتياطاً وإما مخالفة لليهود والنصارى وهو الأرجح، وبه يشعر بعض روايات مسلم ولأحمد من وجه آخر عن ابن عباس مرفوعاً صوموا يوم عاشوراء وخالفوا اليهود، وصوموا يوماً قبله أو يوماً بعده، وهذا كان في آخر الأمر وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يجب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ولا سيما إذا كان فيما يخالف فيه أهل الأوثان، فلما فتحت مكة واشتهر أمر الإسلام أحب مخالفة أهل الكتاب أيضاً كما ثبت في الصحيح فهذا من ذلك فوافقهم أولا وقال نحن أحق بموسى منكم ثم أحب مخالفتهم، فأمر بأن يضاف إليه يوم قبله ويوما بعده خلافاً لهم. ويؤيده رواية الترمذي من طريق أخرى بلفظ: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيام عاشوراء يوم العاشر-انتهى. وقال الرافعي في صوم التاسع معنيان منقولان عن ابن عباس أحدهما، الإحتياط فإنه ربما وقع في الهلال غلط فيظن العاشر التاسع، وثانيهما، مخالفة اليهود فإنهم لا يصومون إلا يوماً واحداً، فعلى هذا لو لم يصم التاسع استحب له صوم الحادي عشر-انتهى. قال الحافظ في التلخيص (199) والمعنيان كما قال عن ابن عباس منقولان، وكذا القياس الذي ذكره، منقول عنه بل مرفوع من روايته. وقد روى البيهقي من طريق ابن أبي ذئب عن شعبة مولى ابن عباس قال كان ابن عباس يصوم عاشوراء يومين ويوالي بينهما مخافة أن يفوته فهذا المعنى الأول. وأما المعنى الثاني، فقال الشافعي أنا سفيان أنه سمع عبيد الله بن أبي يزيد يقول سمعت ابن عباس يقول: صوموا التاسع والعاشر ولا تشبهوا باليهود. وفي رواية للبيهقي عن ابن عباس مرفوعاً لئن بقيت لآمرن بصيام يوم قبله أو بعده كما تقدم، وفي رواية له صوموا عاشوراء وخالفوا اليهود، صوموا قبله يوماً أو بعده يوماً-انتهى. وقال بعض أهل العلم: قد ظهر أن القصد مخالفة أهل الكتاب في هذه العبادة مع الإتيان بها، وذلك يحصل بأحد أمرين إما بنقل العاشر إلى التاسع أو بصيامهما معاً، وقوله "لئن بقيت لأصومن التاسع" يحتمل الأمرين فلما توفي صلى الله عليه وسلم قبل بيان ذلك كان الإحتياط صوم اليومين معاً-انتهى. ورجح ابن القيم المعنى الذي ذكره الحافظ في الفتح إحتمالاً قال: هو أصوب إن شاء الله تعالى،

2062- (7) وعن أم الفضل بنت الحارث، ((إن ناساً تماروا عندها يوم عرفة في صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: هو صائم، وقال بعضهم: ليس بصائم، فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره بعرفة، فشربه)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ومجموع أحاديث ابن عباس عليها تدل وتبين صحة هذا المعنى والله أعلم (رواه مسلم) أعلم أن الحديث رواه مسلم من طريقين سياق الأولى مطول والأخرى مختصر، وحذف المصنف تبعاً للبغوي عجز الطريق الأولى، وجعل مكانه لفظه الطريق الثاني، وكان الأولى له أن يذكر سياق الطريق الأولى بتمامه ثم يقول، وفي رواية لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع، والرواية الأولى رواها أيضاً أبوداود والبيهقي (ج4:ص287) والرواية الأخرى المختصرة أخرجها أحمد (ج1:ص2240236-242) وكذا البيهقي والطحاوي (ج1:ص338) . 2062- قوله: (وعن أم الفضل) اسمها لبابة وهي امرأة العباس وأخت ميمونة أم المؤمنين (إن ناساً) أي من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (تماروا) أي اختلفوا كما في رواية، أوشكوا كما في رواية أخرى، وقع عند الدارقطني في الموطآت اختلف ناس من أصحاب رسول - صلى الله عليه وسلم - (عند ها يوم عرفة) أي بعرفات (في صيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي ذلك اليوم (فقال بعضهم هو صائم وقال بعضهم ليس بصائم) قال الحافظ: قوله "في صيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " هذا يشعر بأن صوم يوم عرفة كان معروفاً عندهم معتاداً لهم في الحضر، وكان من جزم بأنه صائم استند إلى ما ألفه من العبادة، ومن جزم بأنه غير صائم قامت عنده قرينة كونه مسافر أو قد عرف نهيه عن صوم الفرض في السفر فضلاً عن النفل (فأرسلت) بلفظ: المتكلم والغيبة، وفي رواية البخاري في الصيام على ما في بعض النسخ، فأرسلت أم الفضل فتتعين الغيبة. وفي حديث كريب عن ميمونة عند البخاري إن الناس شكوا في صيام النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة، فأرسلت إليه بحلاب (وفي رواية مسلم فأرسلت إليه ميمونة بحلاب اللبن) وهو واقف في الموقف فشرب منه، والناس ينظرون، وهذا صريح في أن ميمونة هي المرسلة، فيحتمل التعدد، ويحتمل أنهما أرسلنا معاً، فنسب ذلك إلى كل منهما، لأنهما كانتا أختين، وتكون ميمونة أرسلت بسؤال أم الفضل لها في ذلك لكشف الحال في ذلك، ويحتمل العكس. ولم يسم الرسول في طرق حديث أم الفضل، لكن روى النسائي من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس ما يدل على أنه كان الرسول بذلك، ويقوي ذلك أنه كان ممن جاء عنه أنه أرسل إما أمه وإما خالته كذا في الفتح (إليه) صلى الله عليه وسلم (بقدح لين) لعلمها بمحبته عليه الصلاة والسلام له حيث يقوم مقام الأكل والشرب ولذا كان إذا أكل طعاماً قال اللهم بارك لي فيه وأطعمني خيراً منه، وإذا كان لبناً قال اللهم بارك لي فيه وزدني منه،

أو لمناسبة الزمان والمكان، قاله القاري. قال الباجي: أرادت أن تختبر بذلك صومه وتعلم الصحيح من قول المختلفين وهذا وجه صحيح في معرفة أحد القسمين، وهو أن يشربه، فيعلم بذلك فطره. وأما لو امتنع من شربه فليس في ذلك دليل على صومه لجواز أن يمتنع من ذلك لشبع، وروى وغير ذلك، ولعله أن يكون في رده ما يدل على صومه أو يتسبب به إلى سؤاله (وهو واقف) أي راكب (على بعيره بعرفة) وفي المستخرج لأبي نعيم وهو يخطب الناس بعرفة، والحديث نص في أنه - صلى الله عليه وسلم - كان بعرفة على بعير، وكذا وقع في حديث خالد بن العداء، وحديث نبيط عند أبي داود. وهذا يخالف ما في حديث جابر الطويل عند مسلم وغيره حتى إذا زاغت الشمس، أمر بالقصواء فرحلت له فركب حتى أتى بطن الوادي فخطب الناس. وأجيب بأن البعير يطلق على الأنثى أيضاً. قال في مجمع البحار: البعير، يقع على الذكر والأنثى. وقال الراغب: يقع على الذكر والأنثى كالإنسان في وقوعه عليهما. وقال في القاموس: البعير، الجمل البازل. أو الجذع، وقد يكون للأنثى، فالمراد بالبعير في حديث الباب. وكذا في حديثي خالد ونبيط هي الناقة لا الجمل. وأما ما وقع عند أحمد والنسائي في حديث نبيط من لفظ الجمل فهي رواية شاذة، أو أطلق لفظ الجمل على الناقة على طريق الشذوذ. وقد بوب عليه النسائي بلفظ. الخطبة بعرفة على الناقة أو يقال أنه رآه من بعيد فظنها جملاً فروى على ما ظنه، والصواب أنه كان على ناقته القصواء حين وقف في الموقف، وخطب كما وقع في حديث جابر. واستدل به على أن الوقوف على ظهر الدواب مباح، وإن النهى الوارد في ذلك بقوله إياكم أن تتخذوا ظهور دوابكم منابر-الحديث. أخرجه أبوداود من حديث أبي هريرة مرفوعاً، محمول على ما إذا حصل للدابة مشقة، أو أن هذا الموضع مستثنى عما نهى عنه. قال الخطابي: قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم خطب على راحلته فدل ذلك على أن الوقوف عليها لا لمعنى يوجبه بأن يستوطنه الإنسان ويتخذه مقعداً فيتعب الدابة ويضربها من غير طائل-انتهى. واختلف أهل العلم في أيهما أفضل الركوب أو تركه بعرفة، فذهب الجمهور إلى أن الأفضل الركوب لكونه - صلى الله عليه وسلم - وقف راكباً. ومن حيث النظر فإن في الركوب عوناً على الإجتهاد في الدعاء والتضرع المطلوب حينئذٍ كما ذكروا مثله في الفطر. وذهب آخرون إلى أن استحباب الركوب يختص بمن يحتاج الناس إلى التعليم منه، وعن الشافعي قول إنهما سواء كذا في الفتح (فشربه) زاد في حديث ميمون، والناس ينظرون إليه ولأحمد والنسائي من طريق عبد الله بن عباس عن أمه أم الفضل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفطر بعرفة. قال الباجي: وشرب النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الموقف ليبين للناس فطره ولعله قد علم بتمارى أصحابه في ذلك الوقت فأراد تبين الشرع، وإيضاح الحق ورفع اللبس - صلى الله عليه وسلم -. ومقتضى حديث الباب وكذا حديث ميمونة إن صوم يوم عرفة غير مستحب لكن في حديث أبي قتادة الآتي إن صومه يكفر سنة آتية وسنة ماضية.

فالجمع بينه وبين حديثهما أن يحمل حديث أبي قتادة على غير الحاج، أو على من لم يضعفه صيامه عن الذكر والدعاء المطلوب للحاج كما سيأتي تفصيل ذلك. قال الزرقاني: فطر يوم عرفة للحاج أفضل من صومه لأنه الذي أختاره - صلى الله عليه وسلم - لنفسه، وللتقوى على حمل الحج، ولما فيه من العون على الإجتهاد في الدعاء والتضرع المطلوب في ذلك الموضع، ولذا قال الجمهور يستحب فطره للحاج، وإن كان قوياً، ثم اختلفوا هل صومه مكروه وصححه المالكية أو خلاف الأولى وصححه الشافعية، وتعقب بأن فعله المجرد لا يدل على عدم استحباب صومه إذ قد يتركه لبيان الجواز ويكون في حقه أفضل لمصلحة التبليغ. وأجيب بأنه قد روى أبوداود والنسائي وصححه ابن خزيمة والحاكم عن أبي هريرة قال: نهى - صلى الله عليه وسلم - عن صوم عرفة بعرفة. وأخذ بظاهره قوم منهم يحيى بن سعيد الأنصاري فقال: يجب فطره للحاج، والجمهور على استحبابه حتى قال عطاء كل من أفطره ليتقوى به على الذكر كان له مثل أجر الصائم-انتهى. وقال الحافظ: روى عن ابن الزبير وأسامة بن زيد وعائشة أنهم كانوا يصومونه أي بعرفة، وكان ذلك يعجب الحسن، ويحكيه عن عثمان وعن قتادة مذهب آخر قال لا بأس به إذا لم يضعف عن الدعاء، ونقله البيهقي في المعرفة عن الشافعي في القديم، واختاره الخطابي والمتولى من الشافعية-انتهى. قلت: قال الخطابي في المعالم (ج2:ص131) بعد ذكر حديث أبي هريرة في النهى عن الصوم بعرفة ما لفظه: هذا نهى إستحباب لا نهى إيجاب، وإنما نهى المحرم عن ذلك خوفاً عليه أني يضعف عن الدعاء والإبتهال في ذلك المقام، فأما من وجد قوة ولا يخاف معها ضعفاً فصوم ذلك اليوم أفضل له إن شاء الله، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - صيام يوم عرفة يكفر سنتين سنة قبلها وسنة بعدها-انتهى. وقال ابن قدامة (ج3:ص176) أكثر أهل العلم يستحبون الفطر يوم عرفة بعرفة وكانت عائشة وابن الزبير يصومانه. وقال قتادة: لا بأس به إذا لم يضعف عن الدعاء. وقال عطاء: أصوم في الشتاء ولا أصوم في الصيف، لأن كراهة صومه إنما هي معللة بالضعف عن الدعاء. فإذا قوى عليه أو كان في الشتاء لم يضعف فتزول الكراهة، ولنا ما روى عن أم الفضل يعني حديث الباب. وقال ابن عمر: حججت مع النبي فلم يصمه يعني يوم عرفة ومع أبي بكر فلم يصمه، ومع عمر فلم يصمه، ومع عثمان فلم يصمه، وأنا لا أصومه ولا آمر به ولا أنهى عنه، أخرجه الترمذي وحسنه. وروى أبوداود عن أبي هريرة النهى عنه، ولأن الصوم يضعفه ويمنعه الدعاء في هذا المعظم الذي يستجاب فيه الدعاء في ذلك الموقف الشريف فكان تركه أفضل-انتهى. وسيأتي شيء من الكلام في هذه المسألة في شرح حديث أبي هريرة في الفصل الثاني وقد ذكر لفطره - صلى الله عليه وسلم - بعرفة عدة حكم. منها أنه أقوى على الدعاء، ومنها إن الفطر في السفر أفضل في فرض الصوم فكيف بنفله، ومنها إن ذلك اليوم كان يوم الجمعة وقد نهى عن أفراده بالصوم، فأحب أن يرى الناس فطره فيه تأكيداً لنهيه عن تخصيصه بالصوم وإن كان صومه لكونه يوم عرفة لا يوم جمعة.

2063- (8) وعن عائشة، قالت: ((ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً في العشر قط)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الحافظ: ويبعد هذا سياق أول الحديث، ومنها أنه يوم عيد لأهل الموقف لإجتماعهم فيه كإجتماع الناس يوم العيد، وهذا الإجتماع يختص بمن بعرفة دون أهل الآفاق ويؤيده ما رواه أصحاب السنن عن عقبة بن عامر مرفوعاً يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام، ومعلوم إن كونه عيداً هو لأهل ذلك المجمع لإجتماعهم فيه وفي الحديث من الفوائد إن الأكل والشرب في المحافل مباح ولا كراهة فيه للضرورة، وفيه التحليل على الإطلاع على الحكم بغير سؤال وفيه فطنة أم الفضل لإستكشافها عن الحكم الشرعي بهذه الوسيلة اللطيفة اللائقة بالحال، لأن ذلك كان في يوم حر بعد الظهيرة (متفق عليه) واللفظ لمسلم، والحديث أخرجه البخاري في الحج والصيام والأشربة، ومسلم في الصيام وأخرجه أيضاً أحمد (ج6:ص338-339-340) ومالك في الحج وأبوداود في الصيام والبيهقي (ج4:ص283) . 2063- قوله: (ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صائماً في العشر قط) وفي رواية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصم العشر وفي رواية ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صام العشر قط يعني العشر الأول من ذي الحجة، وهذا بظاهره يخالف ما تقدم في باب الأضحية من فضيلة مطلق العمل المتضمن للصيام في عشر ذي الحجة، ومن فضيلة خصوص للصيام فيها، وما في حديث أبي قتادة الذي يليه من استحباب الصوم في التاسع منها، وهو يوم عرفة. وما في حديث حفصة في الفصل الثالث من عدم تركه - صلى الله عليه وسلم - صيام العشر، وما في حديث هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم تسع ذي الحجة-الحديث. أخرجه أحمد وأبوداود والنسائي والجواب عنه إن المراد من قولها لم يصم العشر أنه لم يصمها لعارض مرض أو سفر أو غيرهما أو أنها لم تره صائماً فيها ولا يلزم من ذلك عدم صيامه في نفس الأمر، وإذا تعارض النفي والإثبات فالإثبات أولى بالقبول. قال البيهقي: بعد رواية حديث هنيدة وحديث عائشة ما لفظه، والمثبت أولى من النافي، مع ما مضى من حديث ابن عباس في فضيلة العمل الصالح في عشر ذي الحجة. وقيل المراد نفي جميع العشر وفيها يوم العيد وهذا لا ينافي صوم بعضها وقيل يحتمل أن يكون ذلك لكونه كان يترك العمل في بعض الأحيان وهو يحب أن يعمله خشية أن يظن وجوبه (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً الترمذي وأبوداود وابن ماجه والبيهقي (ج4:ص285) .

2064- (9) وعن أبي قتادة، ((أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: كيف تصوم؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله، فلما رأى عمر غضبه، قال: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، فجعل عمر يردد هذا الكلام حتى سكن غضبه. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2064- قوله: (إن رجلاً أتى) لم أقف على إسمه، وفي رواية البيهقي إن أعرابياً وقوله: إن رجلاً أتى، هكذا هو في جميع النسخ من المشكاة وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7:ص221) وهكذا وقع في بعض النسخ من صحيح مسلم، ووقع في أكثر النسخ منه "رجل أتى" قال النووي: هكذا هو في معظم النسخ أي من صحيح مسلم عن أبي قتادة "رجل أتى" وعلى هذا يقرأ رجل بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الشأن والأمر رجل أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: وقد أصلح في بعض النسخ "إن رجلاً أتى" وكان موجب هذا الإصلاح جهالة انتظام الأول، وهو منتظم كما ذكرته فلا يجوز تغييره والله أعلم. (فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي ظهر أثر الغضب على وجهه (من قوله) أي من قول الرجل وسؤاله، يحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - ما أراد إظهار ما خفى من عبادته بنفسه، فكره لذلك سؤاله، أو أنه خاف على السائل في أن يتكلف في الإقتداء، بحيث لا يبقى له الإخلاص في النية، أو أنه يعجز بعد ذلك. قال الخطابي: يشبه أن يكون غضبه صلى الله عليه وسلم من مسألته إياه عن صومه كراهة أن يقتدي به السائل في صومه فيتكلفه ثم يعجز عنه فعلاً أو يسأمه ويمله بقلبه، فيكون صياماً عن غير إخلاص وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يواصل وهو محرم على أمته، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يترك بعض النوافل خوفاً من أن يفرض على أمته إذا فعلوه إقتداء به كما ترك القيام في شهر رمضان بعد أن قام بهم ليلة أو ليلتين، ثم لم يخرج إليهم-انتهى. وقال النووي: سبب غضبه أنه كره مسألته لأنه خشي من جوابه مفسدة وهي أنه ربما يعتقد السائل وجوبه أو يستقله أو يقتصر عليه وكان يقتضى حاله أكثر منه. وإنما اقتصر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - لشغله بمصالح المسلمين، وحقوقهم وحقوق أزواجه وأضيافه والوافدين عليه، ولئلا يقتدي به كل أحد فيؤدي إلى الضرر في حق بعضهم، وكان حق السائل أن يقول كم أصوم أو كيف أصوم، فيخص السؤال بنفسه ليجيبه بما يقتضيه حاله كما أجاب غيره بمقتضى أحوالهم-انتهى. (فلما رأى عمر (بن الخطاب (غضبه) - صلى الله عليه وسلم - على السائل، وخاف أن يكون سؤاله سبباً لأذيته صلى الله عليه وسلم فيدخل تحت قوله تعالى: {إن الذين يؤذون الله ورسوله} [الأحزاب:57] (قال) أي أدباً وإكراماً له - صلى الله عليه وسلم - وشفقة على السائل واعتذاراً منه واسترضاء (رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً) المنصوبات الثلاث تمييزات، ويمكن أن تكون حالات مؤكدة (نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله) ذكر غضب الله تزيين للكلام وتعيين بأن غضبه تعالى يوافق غضبه عليه الصلاة والسلام قاله القاري (يردد) أي يكرر (كيف من)

فقال عمر: يا رسول الله! كيف من يصوم الدهر كله، لا صام ولا أفطر، قال ويطبق ذلك أحد؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ أي حال من (يصوم الدهر كله) أي هل هو محمود أو مذموم، أنظر حسن الأدب حيث بدأه بالتعظيم ثم سأله على وجه التعميم، ولذا قيل حسن السؤال نصف العلم (لا صام ولا أفطر) قال الخطابي في المعالم (ج2:ص129) معناه لم يصم ولم يفطر. وقد يوضع "لا" بمعنى "لم" كقوله تعالى {فلا صدق ولا صلى} [القيامة:31] أي لم يصدق. ولم يصل وقد يحتمل أن يكون معناه الدعاء عليه كراهة فصنيعه وزجراً له عن ذلك (لكونه مظنة لتفويت الحقوق الواجبة) وقال الجزري في النهاية: قوله "لا صام ولا أفطر" أي لم يصم ولم يفطر وهو إحباط لأجره على صومه حيث خالف السنة. وقيل: هو دعاء عليه كراهية لصنيعه. وقال التوربشتي: فسر هذا من وجهين أحدهما، على معنى الدعاء عليه زجراً له على صنيعه والآخر على سبيل الإخبار، والمعنى لم يكابد سورة الجوع وحر الظمأ لاعتياده الصوم حتى خف عليه، ولم يفتقر إلى الصبر على الجهد الذي يتعلق به الثواب، فصار كأنه لم يصم-انتهى. وحيث أنه لم ينل راحة المفطرين ولذتهم فكأنه لم يفطر (أو قال لم يصم ولم يفطر) وفي رواية "أو" ما صام وما أفطر، قال الحافظ بعد ذكر رواية الباب: هو شك من أحد رواته، ومقتضاه أنهما بمعنى واحد. والمعنى بالنفي أنه لم يحصل أجر الصوم لمخالفته ولم يفطر لأنه أمسك. وقال الشوكاني في السيل الجرار: حديث لا صام من صام الأبد في الصحيحين في حديث عبد الله بن عمرو، وكذلك حديث لا صام ولا أفطر أو لم يصم ولم يفطر في حديث أبي قتادة معناهما أنه لما خالف الهدى النبوى الذي رغب فيه صلى الله عليه وسلم كان بمنزلة من لم يصم صوماً مشروعاً يؤجر عليه ولا أفطر فطراً ينتفع به. ويؤيد أن هذا المعنى هو المراد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعبد الله بن عمرو، وقد كان أراد أن يصوم الدهر فقال له صم من كل شهر ثلاثة أيام فقال، إني أقوى من ذلك فلم يزل يرفعني حتى قام صم يوماً وأفطر يوماً، فإنه أفضل الصيام وهو صوم أخي داود. فقلت: إني أطبق أفضل من ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا أفضل من ذلك؟ هكذا في الصحيحين وغيرهما من حديثه. وقد ثبت في الصحيح من حديث أنس أنه - صلى الله عليه وسلم - قال للثلاثة الذين قال أحدهم أنه يصوم ولا يفطر. وقال الثاني أنه يقوم الليل ولا ينام. وقال الثالث أنه لا يأتي النساء، فقال - صلى الله عليه وسلم -: أما أنا فأصوم وأفطر وأقوم وأنام وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني. فهذا الحديث الصحيح يدل على أن صيام الدهر من المرغوب عن سننه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فليستحق فاعله ما رتبه عليه من الوعيد بقوله فمن رغب عن سنتي فليس مني. وقد أخرج أحمد وأبوداود وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي أخبره أنه يصوم الدهر من أمرك أن تعذب نفسك-انتهى كلام الشوكاني:

قلت اختلف العلماء في صيام الدهر فذهب إسحاق وأهل الظاهر إلى كراهته مطلقا، أي وإن أفطر الأيام الخمسة المنهي عنها، وهي رواية عن أحمد. قال الأثرم: قيل وأهل لأبي عبد الله يعني الإمام أحمد، فسر مسدد قول أبي موسى من صام الدهر ضيقت عليه جهنم، أي فلا يدخلها فضحك وقال من قال هذا؟ فأين حديث عبد الله بن عمرو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كره ذلك، وما فيه من الأحاديث كذا في المغنى (ج3ص67) وقال ابن حزم: لا يحل صوم الدهر أصلاً يعني أنه يحرم، وإلى الكراهة مطلقاً ذهب ابن العربي من المالكية فقال قوله "لا صام من صام الأبد" (في حديث عبد الله بن عمرو) إن كان معناه الدعاء فياويح من أصحابه دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان معناه الخير فياويح من أخبر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يصم وإذا لم يصم شرعاً لم يكتب له الثواب، لوجوب صدق قوله صلى الله عليه وسلم لأنه نفي عنه الصوم، وقد نفي عنه الفضل كما تقدم، فكيف يطلب الفضل فيما نفاه النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى. وإلى الكراهة ذهب أيضاً ابن قدامة كما سيأتي، وابن القيم كما في الهدي (ج1ص174) والحنفية كما في مراقي الفلاح حيث قال يكره صوم الدهر لأنه يضعفه أو يصير طبعا له، ومبني العبادة على خلاف العادة-انتهى. وهكذا في البرهان وفتح القدير وغيرهما. وقال في البدائع قال بعض الفقهاء: من صام سائر الأيام وأفطر يوم الفطر والأضحى وأيام التشريق لا يدخل تحت النهي، ورد عليه أبويوسف فقال: ليس هذا عندي كما قال والله أعلم. هذا قد صام الدهر كأنه أشار إلى أن النهي عن صوم الدهر ليس لمكان صوم هذه الأيام بل لما يضعفه عن الفرائض والواجبات ويقعده عن الكسب، ويؤدي إلى التبتل المنهي عنه والله أعلم-انتهى. واستدل للكراهة والمنع بقوله صلى الله عليه وسلم "لا صام ولا أفطر" وقد تقدم وجه الاستدلال به في كلام الشوكاني وابن العربي والجزري وغيرهم. وقد روى مثل هذا مرفوعا عن جماعة من الصحابة، منهم عبد الله ابن الشيخر عند أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وعمران بن حصين عند النسائي والحاكم، وابن عمر عند النسائي واستدل أيضاً لذلك بقصة عبد الله بن عمرو التي أشار إليها الشوكاني. قال ابن التين: استدل على كراهة صوم الدهر من هذه القصة من أوجه نهيه صلى الله عليه وسلم عن الزيادة على صوم نصف الدهر، وأمره بأن يصوم ويفطر وقوله: لا أفضل من ذلك" ودعاءه على من صام الأبد-انتهى. وبحديث أنس الذي أشار إليه الشوكاني مع وجه الاستدلال منه. وبحديث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال قيل: للنبي - صلى الله عليه وسلم - رجل يصوم الدهر، قال وددت أنه لم يطعم الدهر شيئا-الحديث. أخرجه النسائي. قال السندي: أي وددت أنه ما أكل ليلا ولا نهارا حتى مات جوعا، والمقصود بيان كراهة عمله وأنه مذموم العمل حتى يتمنى له الموت بالجوع. وبحديث أبي موسى رفعه من صام الدهر ضيقت عليه جهنم هكذا وقبض كفه، أخرجه أحمد والنسائي وابن خزيمة وابن حبان والبيهقي (ج4ص300) وابن أبي شيبة والبزار ولفظ ابن حبان والبزار والبيهقي ضيقت عليه جهنم هكذا وعقد تسعين، وأخرجه أيضاً الطبراني. قال الهيثمي (ج3ص193) رجاله رجال الصحيح.

قال الحافظ: ظاهره أنها تضيق عليه حصرا له فيها لتشديده على نفسه وحمله عليها، ورغبته عن سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - واعتقاده إن غير سنته أفضل منها، وهذا يقتضي الوعيد الشديد فيكون حراماً-انتهى. وقال ابن التركماني: ظاهر هذا لا الحديث يقتضى المنع من صوم الدهر. وقد أورده ابن أبي شيبة في باب من كره صوم الدهر. واستدل به ابن حزم على المنع، وقال إنما أورده رواته كلهم على التشديد والنهي عن صومه. وقال ابن حبان: ذكر الإخبار عن نفي جواز سرد المسلم صوم الدهر وذكر هذا الحديث-انتهى. واستدل للمنع أيضاً بما روى ابن أبي شيبة بسند صحيح عن أبي عمر والشيباني: قال بلغ عمر رجلاً يصوم الدهر فأتاه فعلاه بالدرة وجعل يقول كل يا دهري قال ابن حزم: قد صح عن عمر تحريم صيام الدهر كما رويناه فذكر هذا الأثر ثم قال، هذا في غاية الصحة عنه فصح أن تحريم صوم الدهر كان من مذهبه ولو كان عنده مباحاً لما ضرب فيه ولا أمر بالفطر-انتهى. وبما روى ابن أبي شيبة أيضاً من طريق أبي إسحاق إن عبد الرحمن بن أبي نُعيم كان يصوم الدهر، فقال عمرو بن ميمون لو رآى هذا أصحاب محمد لرجموه. وبما روى الطبراني عن عمرو بن سلمة قال سئل ابن مسعود عن صوم الدهر فكرهه. قال الهيثمي: إسناده حسن وذهب آخرون إلى استحباب صيام الدهر لمن قوى عليه ولم يفوت فيه حقا وأفطر الأيام المنهية عنها، وإلى ذلك ذهب الجمهور منهم مالك والشافعي وأحمد في رواية: قال مالك في الموطأ: أنه سمع أهل العلم يقولون لا بأس بصيام الدهر إذا أفطر الأيام التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامها وذلك أحب ما سمعت إلى في ذلك-انتهى. وصرح الزرقاني وغيره من المالكية باستحبابه بالشروط المذكورة. قال النووي: مذهب الشافعي وأصحابه إن سرد الصيام إذا أفطر العيدين والتشريق لا كراهة فيه بل هو مستحب بشرط أن لا يلحقه به ضرر ولا يفوت حقاً فإن تضرر أو فوت حقا فمكروه-انتهى. وقال ابن قدامة (ج3ص167) قال أبوالخطاب: إنما يكره إذا أدخل فيه يومي العيدين وأيام التشريق لأن أحمد قال، إذا يومي العيدين وأيام التشريق رجوت أن لا يكون بذلك بأس. وروى نحو هذا عن مالك وهو قول الشافعي لأن جماعة من الصحابة كانوا يسردون الصوم منهم أبوطلحة. قال ابن قدامة: والذي يقوى عندي إن صوم الدهر مكروه وإن لم يصم هذه الأيام فإن صامها فقد فعل محرما، وإنما كره صوم الدهر لما فيه من المشقة والضعف وشبه التبتل المنهي عنه، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عمرو إنك تصوم الدهر وتقوم الليل فقلت نعم، قال إنك إذا فعلت ذلك هجمت له عينك ونفهت له النفس لا صام من صام الدهر-الحديث. واحتج الجمهور على الاستحباب بما وقع في حديث حمزة بن عمرو عند مسلم أنه قال، يا رسول الله! إني أسرد الصوم أفأصوم في السفر فقال إن شئت فصم فأقره صلى الله عليه وسلم على سرد الصيام ولو كان مكروها لم يقره وأجيب عن هذا أولا بأن سؤال حمزة إنما كان عن صوم الفرض في السفر لا عن صوم الدهر كما سبق.

وثانيا، بأن سرد الصوم لا يستلزم صوم الدهر لأن التتابع يصدق بدون صوم الدهر، بل المراد إني أكثر الصوم وكان هو كثير الصوم كما ورد في بعض الروايات، ويؤيد عدم الاستلزام ما أخرجه أحمد من حديث أسامة بن زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسرد الصوم مع ما ثبت أنه لم يصم الدهر، وإنه لم يصم شهراً كاملاً إلا رمضان، وبهذا يجاب عما روى عن عمر وعائشة إنهما كانا يسردان الصوم. واحتجوا أيضاً بما وقع في بعض طرق حديث عبد الله بن عمرو الآتي صم من الشهر ثلاثة أيام فإن الحسنة بعشر أمثالها وذلك مثل صيام الدهر: وقوله في حديث أبي أيوب الآتي من صام رمضان ثم اتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر قالوا، والمشبه به يكون أفضل من المشبه فدل ذلك على أن صوم الدهر أفضل من هذه المشبهات فيكون مستحبا وهو المطلوب. وتعقب بأن التشبيه في الأمر المقدر لا يقتضى جوازه فضلا عن استحبابه. وإنما المراد حصول الثواب على تقدير مشروعية صيام ثلاثمائة وستين يوما. ومن المعلوم إن المكلف لا يجوز له صيام جميع السنة فلا يدل التشبيه على أفضلية المشبه به من كل وجه كذا ذكره الحافظ. وقد بسط هذا الجواب ابن القيم في الهدي فأجاد. وأجاب الجمهور عن حديث لا صام من صام الأبد، وحديث لا صام ولا أفطر بأجوبة. أحدها أنه محمول على حقيقته بأن يصوم معه العيدين وأيام التشريق. وفيه نظر لأنه صلى الله عليه وسلم قد قال جوابا لمن سأله عن صوم الدهر لا صام ولا أفطر وهو يؤذن بأنه ما أجر ولا إثم، ومن صام الأيام المحرمة لا يقال فيه ذلك لأنه عند من أجاز صوم الدهر إلا الأيام المحرمة يكون قد فعل مستحبا وحراما، وأيضا فإن أيام التحريم مستثناة بالشرع غير قابلة للصوم شرعاً، فهي بمنزلة الليل وأيام الحيض، فلم تدخل في السؤال عند من علم تحريمها، ولا يصلح الجواب بقوله "لا صام ولا أفطر" لمن لم يعلم تحريمها، كذا ذكره الحافظ في الفتح وهو ملخص كلام ابن القيم في الهدي. وقد تعقب ابن دقيق العيد تأويل الجمهور هذا بوجه آخر من شاء الوقوف عليه رجع إلى شرح العمدة (ج2ص236- 237) الثاني إنه محمول على من تضرر به أو فوت به حقاً، قالوا ويؤيده أن النهي كان خطابا لعبد الله بن عمرو بن العاص، وقد ذكر مسلم عنه أنه عجز في آخر عمره وندم على كونه لم يقبل الرخصة قالوا، فنهي ابن عمر ولعلمه بأنه سيعجز عنه ويضعف وأقر حمزة لعلمه بقدرته بلا ضرر. وفيه إن هذا التأويل أيضاً مردود لما سبق من قوله صلى الله عليه وسلم في أنس من رغب عن سنتي فليس مني، ويرده أيضاً قوله لا أفضل من ذلك، ويرده أيضاً ورود قوله "لا صام ولا أفطر" وقوله: لا صام من صام الأبد عن غير واحد من الصحابة سوى عبد الله بن عمرو كما تقدم، ويرده أيضاً حديث أبي موسى المتقدم.

وكل ذلك يدل على أن هذا الحكم ليس خاصا بابن عمرو بل هو عام لجميع المسلمين وأما أقراره لحمزة على سرد الصوم فلا حجة فيه كما سبق. الثالث إن معنى لا صام أنه لا يجد من مشقته ما يجدها غيره فيكون خبرا، لا دعاء. وتعقبه الطيبي بأنه مخالف لسياق الحديث ألا تراه كيف نهاه أولا عن صيام الدهر كله ثم حثه على صوم داود، والأولى أن يكون خبرا عن أنه لم يمتثل أمر الشرع أو دعاء كما تقدم. وأجابوا عن حديث أبي موسى المتقدم ذكره بأن معناه ضيقت عليه فلا يدخلها، فعلى هذا تكون على بمعنى عن، أي ضيقت عنه، وهذا التأويل حكاه الأثرم عن مُسَدَّد، وحكى رده عن أحمد كما سبق. وقال ابن خزيمة: سألت المزني عن هذا الحديث. فقال: يشبه أن يكون معناه ضيقت عنه فلا يدخلها ولا يشبه أن يكون على ظاهره، لأن من ازداد عملاً وطاعة ازداد عند الله رفعة وعلنه كرامة. ورجح هذا التأويل جماعة منهم الغزالي. فقالوا له مناسبة من جهة أن الصائم لما ضيق على نفسه مسالك الشهوات بالصوم ضيق الله عليه النار فلا يبقى له فيها مكان لأنه ضيق طرقها بالعبادة. وتعقب بأنه ليس كل عمل صالح إذا ازداد العبد منه ازداد من الله تقربا بل رب عمل صالح إذا ازداد منه بعداً كالصلاة في الأوقات المكروهة، وأيضا لو كان المراد ما ذكروه لقال ضيقت عنه. وأما التضييق عليه فلا يكون إلا وهو فيها. قال ابن حزم (ج7ص16) بعد ذكر التأويل المذكور ما لفظه: هذه لكنه وكذب. أما اللكنة فإنه لو أراد هذا فقال ضيقت عنه ولم يقل عليه. وأما الكذب فإنما أورده رواته كلهم على التشديد والنهي عن صومه-انتهى. فالصواب أجراء الحديث على ظاهره والقول بكراهة صيام الدهر مطلقاً أو منعه. قال الشوكاني في السيل الجرار بعد ذكر حديث أبي موسى: هذا وعيد ظاهر، وتأويله بما يخلف هذا المعنى تعسف وتكلف، والعجب ذهاب الجمهور إلى استحباب صوم الدهر وهو مخالف للهدى النبوي، وهو أيضاً أمر لم يكن عليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد، وهو أيضاً من المرغوب عن سنة رسول الله صلى اله عليه وسلم، ومن رغب عن سنته فليس منه كما تقدم، وهو أيضاً من التعسير والتشديد المخالف لما استقرت عليه هذه الشريعة المطهرة. قال الله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185] وقال صلى الله عليه وسلم: يسروا ولا تعسروا ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، وقال: أمرت بالشريعة السمحة السهلة، فالحاصل إن صوم الدهر إذا لم يكن محرماً تحريماً بحتافاقل أحواله أن يكون مكروها كراهة شديدة هذا لمن لا يضعف به الصوم من شيء من الواجبات، أما من كان يضعف بالصوم عن بعض الواجبات الشرعية فلا شك في تحريمه من هذه الحيثية بمجردها من غير نظر إلى ما قدمنا من الأدلة-انتهى.

قال: كيف من يصوم يوماً ويفطر يوما؟ قال: "ذلك صوم داود" قال: كيف من يصوم يوماً ويفطر يومين؟ قال: وددت أني طُوِّقت ذلك. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رمضان إلى رمضان، فهذا صيام الدهر كله. ـــــــــــــــــــــــــــــ واختلف المجيزون لصيام الدهر بالشرط المتقدم هل هو أفضل أو صيام يوم وإفطار يوم أفضل، فذهب جماعة منهم إلى أن صوم الدهر أفضل. واستدلوا على ذلك بأنه أكثر عملاً فيكون أكثر أجرا، وتعقبه ابن دقيق العيد بأن زيادة الأجر بزيادة العمل ههنا معارضة باقتضاء العادة التقصير في حقوق أخرى، فالأولى التفويض إلى حكم الشارع، وقد حكم بأن صوم يوم، وإفطار يوم أفضل الصيام، هذا معنى كلامه محصلا. وذهب جماعة منهم المتولي من الشافعية إلى أن صيام داود أفضل، وهو ظاهر الحديث بل صريحه وارجع للبسط والتفصيل إلى الفتح وشرح العمدة (ويطيق ذلك أحد) بحذف حرف الإنكار، وقد ثبت في رواية أبي داود والنسائي، ووقع في رواية لمسلم، ومن يطيق ذلك وكأنه كرهه لأنه مما يعجز عنه في الغالب فلا يرغب فيه في دين سهل سمح، وهو عطف على محذوف أي أتقول ذلك ويطيق ذلك أحد (قال ذلك صوم داود) أي وصوم داود أفضل الصيام وأحبه إلى الله وكأنه تركه لتقرير ذلك مرارا (وددت) بكسر الدال أي أحببت (إني طوقت) بتشديد الواو على بناء المفعول أي جعلني الله مطيقا (ذلك) أي الصيام المذكور يعني تمنيت أن يجعل ذلك داخلا في قدرتي وكان قادرا، ولكن خاف فوات حقوق نساءه فإن إدامة الصوم يخل بحظوظهن منه إلا فكان يطيق أكثر منه فإنه كان يواصل وعلى هذا معنى قوله "وددت إني طوقت" أي مع أداء حقوق النساء. قال الخطابي: يحتمل أن يكون إنما خاف العجز عن ذلك للحقوق التي تلزمه لنساءه لأن ذلك يخل بحظوظهن منه لا لضعف جبلته عن احتمال الصيام أو قلة صبره عن الطعام في هذه المدة-انتهى. وقيل: معناه وددت إن أمتي تطيقه لأنه صلى الله عليه وسلم كان يطيقه وأكثر منه وكان يواصل، ويقول إني لست كأحدكم إني أبيت، يطعمني ربي ويسقيني. قال النووي: ويؤيد هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الثانية ليت إن الله قوانا لذلك أو يقال إنما قاله لحقوق نسائه وغيرهن من المسلمين المتعلقين والقاصدين إليه-انتهى. وقيل: يمكن أن يكون الإطعام والسقي من الرب تبارك وتعالى مختصاً بصوم الوصال دون غيره من الصيام (ثلاث من كل شهر) أي صوم الإنسان ثلاثة أيام من كل شهر، قيل هو أيام البيض، وقيل أي ثلاث كان وأيام البيض أولى، وثلاث بحذف التاء ولو قال ثلاثة بالهاء لكان صحيحاً لأن المعدود المميز إذا كان غير مذكور لفظا جاز تذكير مميزه وتأنيثه، يقال صمنا ستاً وستة وخمساً وخمسة. وإنما يلزم إثبات الهاء مع المذكر إذا كان مذكورا لفظا. وحذفها من المؤنث إذا كان كذلك وهذه قاعدة مسلوكة صرح بها أهل اللغة وأئمة الإعراب كذا في النيل. وقال القاري: حذف التاء منها نظرا إلى لفظ المميز فإنه مؤنث.

وقيل: بحذف المعدود. وقيل: كان الظاهر أن يقال ثلاثة لأنه عبارة عن الأيام أي صيام ثلاثة أيام، ولكنهم يعتبرون في مثل ذلك الليالي والأيام داخلة معها. قال صاحب الكشاف: تقول صمت عشرا ولو قلت عشرة لخرجت من كلامهم-انتهى. (رمضان إلى رمضان) أي وصوم رمضان من كل سنة منتهيا إلى رمضان (فهذا صيام الدهر كله) أي حكما لقوله تعالى {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} [الأنعام: 160] وهذا إنما هو في غير رمضان، وإنما ذكر رمضان لدفع توهم دخوله في كل شهر. ومن المعلوم إن صوم رمضان فرض فلا بد منه، والمعنى إن صيام ثلاثة أيام من كل شهر كصيام الدهر في الفضيلة واكتساب الأجر لكنه من غير تضعيف على حد {قل هو الله أحد} [الإخلاص: 1] تعدل ثلث القرآن. وقيل: المعنى عن كل واحد من صوم ثلاثة أيام من كل شهر، ومن صوم رمضان كل واحد منهما صيام الدهر. أما صيام ثلاثة أيام من كل شهر فكأنه صام الشهر، ومن صام ثلاثة أيام من شهور السنة فقد صام السنة فهذا صيام الدهر، وأما صيام رمضان إلى رمضان فيحتمل أن يكون المراد إن صيام رمضان مع ست من شوال صيام الدهر كما وقع في حديث أبي أيوب الآتي، أو يقال إن صيام رمضان من حيث كونه صوم فرض يزيد على النفل فيكون صيامه مساويا لصيام الدهر بل زايدا عليه، ويقال أنه أخبر أولا بأن صيام رمضان مع ست من شوال صيام الدهر. ثم أخبر بأن صيام رمضان فقط بدون صوم ست من شوال يساوي صيام الدهر في الأجر والثواب كذا قيل، ولا يخفى ما فيه. ووقع في رواية من حديث عبد الله ابن عمرو الآتي صم من كل شهر ثلاثة أيام فإن الحسنة بعشر أمثالها وذلك مثل صيام الدهر. قال ابن دقيق العيد هو مأول عندهم على أنه مثل أصل صيام الدهر من غير تضعيف للحسنات، فإن ذلك التضعيف مرتب على الفعل الحسى الواقع في الخارج والحامل على هذا التأويل، إن القواعد تقتضى إن المقدر لا يكون كالمحقق، وإن الأجور تتفاوت بحسب تفاوت المصالح أو المشقة فكيف يستوي من فعل الشيء بمن قدر فعله له فلأجل ذلك قيل إن المراد أصل الفعل في التقدير لا الفعل المرتب عليه التضعيف في التحقيق-انتهى. ثم قوله "ثلاث" قيل إنه مبتدأ خبره قوله "فهذا صيام الدهر" والفاء زائدة أو ما دل عليه هذه الجملة. وقال الطيبي: أدخل الفاء في الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط، وذلك إن ثلاث مبتدأ، ومن كل شهر صفة، أي صوم ثلاثة أيام يصومها الرجل من كل شهر صيام الدهر كله-انتهى. وقيل: الأولى أن يكون ثلاث خبر مبتدأ محذوف أي الأولى والأليق ثلاث من كل شهر، وقوله "فهذا" تعليل له. وذكر إلى رمضان إفادة لدوام الصوم واستمراره وإيماء إلى أن الصوم كأنه متصل مستمر دائما كما أشار إليه بقوله "فهذا صيام الدهر كله" قلت: وقع في رواية للنسائي "ثلاث من كل شهر ورمضان إلى رمضان هذا صيام الدهر كله" وهذا يؤيد كون "ثلاث" مبتدأ وكون قوله "فهذا صيام الدهر" خبرا له (صيام يوم عرفة أحتسب على الله) أي أرجو منه.

صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)) رواه مسلم. 2065- (10) وعنه، قال: ((سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم الاثنين. فقال: فيه ولدت، وفيه أنزل عليّ)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال في النهاية: الاحتساب في الأعمال الصالحة هو البدار إلى طلب الأجر وتحصيله باستعمال أنواع البر والقيام بها على الوجه المرسوم فيها طلباً للثواب المرجو فيها. قال الطيبي كان الأصل أن يقال أرجو من الله أن يكفر فوضع موضعه أحتسب وعداه بعلى الذي للوجوب على سبيل الوعد مبالغة لحصول الثواب كذا في المرقاة. (أن يكفر) أي الله أو الصيام (السنة التي قبله) أي ذنوبها (والسنة التي بعده) قال إمام الحرمين: والمكفر الصغائر. قال عياض: وهو مذهب أهل السنة والجماعة. وأما الكبائر فلا يكفرها إلا التوبة أو رحمة الله. وقال النووي: قالوا المراد بالذنوب الصغائر، وإن لم تكن الصغائر يرجى تخفيف الكبائر فإن لم تكن رفعت الدرجات-انتهى. قال في المفاتيح: أي يستر ويزيل ذنوب صائم ذلك اليوم ذنوبه التي اكتسبها في السنة الماضية والسنة الآتية. ومعنى تكفير السنة الآتية أن يحفظه الله من الذنوب أو يعطيه من الرحمة، والثواب بقدر ما يكون كفارة للسنة الماضية والقابلة. إذا جاءت واتفق له فيها ذنوب-انتهى. وقال الشوكاني: المراد يكفره بعد وقوعه أو المراد أنه يلطف به فلا يأتي بذنب فيها بسبب صيامه ذلك اليوم، وظاهر الحديث أنه يستحب صوم يوم عرفة مطلقا، وظاهر حديث أبي هريرة الآتي في الفصل الثاني أنه لا يجوز صومه بعرفات، فيجمع بينهما بأن صوم هذا اليوم مستحب لكل أحد مكروه لمن كان بعرفات حاجاً. وقد تقدم الكلام في هذا فتذكر (وصيام عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله) قيل: وجه فضيلة صوم يوم عرفة ومزيته على صوم عاشوراء، إن صوم يوم عرفة من شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وصوم عاشوراء من شريعة موسى عليه الصلاة والسلام. قال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث: ظاهره إن صيام يوم عرفة أفضل من صوم عاشوراء وقد قيل في الحكمة في ذلك إن يوم عاشوراء منسوب إلى موسى عليه السلام، ويوم عرفة منسوب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فلذلك كان أفضل-انتهى. وقيل: لأن يوم عرفة تجمع فضيلة العشر إلى فضيلة اليوم ويشتركان في كونهما شهر حرام، والله أعلم بحقيقة الحكمة في ذلك (رواه مسلم) وأخرجه أحمد (ج5ص297، 311) وأبوداود والبيهقي (ج4ص286، 300) وأخرجه أحمد (ج5ص296، 304، 307، 308) والترمذي والنسائي وابن ماجه مختصراً ومفرقاً. 2065- قوله: (سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صوم الاثنين) وفي بعض النسخ من صحيح مسلم "صوم يوم الاثنين" قال القاري: وهو أي الاثنين بهمزة الوصل. وإنما نبهت عليه وإن كان ظاهراً، لأن كثيرا من أهل الفضل يقرؤنه بقطع الوصل ولا يعرف الفصل بين الوقف والوصل بل ولا يدري كيفية الإبتداء،

2066- (11) وعن معاذة العدوية، أنها سألت عائشة أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام؟ قالت: نعم. فقلت لها؟ من أي أيام الشهر كان يصوم؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم السؤال يحتمل احتمالين أن يكون من كثرة صيامه عليه السلام فيه، وأن يكون من مطلق الصيام وخصوص فضله من بين الأيام (فقال فيه ولدت وفيه أنزل) أي الوحي (على) أي فأصوم شكراً لهاتين النعمتين. قال القاري: يعني حصل لي فيه بدأ الكمال الصوري وطلوع الصبح المعنوي المقصود والباطني والتفضل الابتدائي والانتهائي، فوقت يكون منشأ للنعم الدنيوية والأخروية حقيق بأن يوجد فيه الطاعة الظاهرية فيجب شكره تعالى عليّ والقيام بالصيام لديّ لما أولى من تمام النعمة إليّ. وقال الطيبي اختياراً للاحتمال الثاني: أي فيه وجود نبيكم وفيه نزول كتابكم وثبوت نبوته فأي يوم أولى بالصوم منه فاقتصر على العلة أي سئل عن فضيلته لأنه لا مقال في صيامه فهو من الأسلوب الحكيم-انتهى. وفيه أن الظاهر إن السؤال عن العلة فيطابق الجواب السؤال. وعلى تقدير أن يكون السؤال عن نفس الصوم فالمعنى هل فيه فضل، فحينئذٍ ما ذكره أيضاً فصل الخطاب لا من الأسلوب الحكيم في الحوادث. قلت: وقع في رواية للبيهقي قال أي عمر أرأيت من صام يوم الاثنين، قال ذاك يوم ولدت فيه ويوم أنزلت علي فيه النبوة، وهذا يؤيد أن السؤال كان عن نفس الصوم فيه لا عن كثرة صيامه - صلى الله عليه وسلم - فيه وقال في شرح المواهب: والمتبادر أن السؤال عن فضيلته فالجواب طبق السؤال إذ لا يليق سؤال الصحابي عن جواز صيامه، لا سيما إن رأى أو علم أنه - صلى الله عليه وسلم - صامه. وحاصل التنزل أنه لا بد من تقدير مضاف وهو إما فضل وإما جواز إذ لا معنى للسؤال عن نفس الصوم، فدل الجواب على أن التقدير فضل-انتهى. وفي الحديث دلالة على أن الزمان قد يتشرف بما يقع فيه وكذا المكان وعلى أنه يستحب صوم يوم الاثنين، وأنه ينبغي تعظيم اليوم الذي أحدث الله فيه على عبده نعمة بصومه والتقرب فيه. وقد ورد في حديث أبي هريرة الآتي تعليل صومه - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين والخميس، بأنه يوم تعرض فيه الأعمال، وأنه يحب أن يعرض عمله وهو صائم، ولا منافاة بين التعليلين. (رواه مسلم) في الصوم وأخرجه أحمد (ج5ص297، 299) وأبوداود والبيهقي (ج4ص286، 300) والحاكم (ج2ص602) وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وهذا يدل على أنهما ظنا أن الحديث ليس في واحد من الصحيحين مع أنه رواه مسلم في صحيحه من طرق. 2066- قوله: (أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم من كل شهر ثلاثة أيام قالت نعم) أي وهذا أقل ما كان يقتصر عليه (من أي أيام الشهر كان يصوم)

قالت: لم يكن يبالي من أي أيام الشهر يصوم. رواه مسلم. 2067- (12) وعن أبي أيوب الأنصاري، أنه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من صام رمضان، ثم أتبعه ستا من شوال، كان كصيام الدهر. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ أي هذه الثلاثة من أولها أو أوسطها أو آخرها متصلة أو منفصلة (لم يكن يبالي من أي أيام الشهر يصوم) أي لم يكن يهتم للتعيين بل كان يصومها بحسب ما يقتضي رأيه الشريف وبهذا جمع البيهقي بين الأحاديث الأخر المعينة المختلفة التعيين، كحديث ابن مسعود أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم من غرة كل شهر ثلاثة أيام، وحديث عائشة أنه كان يصوم من الشهر السبت، والأحد، والاثنين-الحديث. وحديث ابن عباس أنه كان لا يفطر أيام البيض في حضر ولا سفر، وحديث حفصة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم من كل شهر ثلاثة أيام الاثنين، والخميس، والاثنين من الجمعة الأخرى. أخرجه أبوداود والنسائي. قال البيهقي: فكل من رآه فعل نوعا ذكره، وعائشة رأت جميع ذلك وغيره فأطلقت في حديث الباب. قال بعضهم: ولعله - صلى الله عليه وسلم - لم يواظب على ثلاثة معينة لئلا يظن تعيينها. قال الحافظ: والذي يظهر أن الذي أمر به وحث عليه ووصى به أولى من غيره. وأما هو فلعله كان يعرض له ما يشغله عن مراعاة ذلك أو كان يفعل ذلك لبيان الجواز وكل ذلك في حقه أفضل وتترجح البيض بكونها وسط الشيء أعدله، وسيأتي مزيد الكلام في هذا (رواه مسلم) وأخرجه الترمذي وأبوداود وابن ماجه والبيهقي (ج2ص295) . 2067- قوله: (وعن أبي أيوب الأنصاري أنه حدثه) أي أن أبا أيوب حدث الراوي عنه وهو عمر بن ثابت بن الحارث الأنصاري الخزرجي المدني من ثقات التابعين. قال القاري: وفي نسخة "وعن عمر بن ثابت عن أبي أيوب" الخ، (ثم أتبعه) بهمزة قطع أي جعل عقبه في الصيام (ستا) أي ستة أيام وحذف الهاء لأن اسم العدد إذا لم يذكر مميزه جاز فيه الوجهان كما صرح به النحاة. وإنما يلزم إثبات الهاء في المذكر إذا ذكروه بلفظه وكذا حذفها في المؤنث إذا كان كذلك (من شوال) وهي يصدق على التوالي والتفريق (كان كصيام الدهر) وفي رواية الترمذي فذلك صيام الدهر. ولأبي داود فكأنما صام الدهر يعني إذا صام مدة عمره وإلا ففي أي سنة صام كان كصيام تلك السنة، وفي حديث ثوبان عند ابن ماجه وغيره كان تمام السنة، أي كان صومه تمام السنة إذا الستة بمنزلة شهرين بحساب {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} [الأنعام: 160] وشهر رمضان بمنزلة عشرة أشهر. وقد جاء ذلك مصرحا عند النسائي من حديث ثوبان ولفظه جعل الله الحسنة بعشر أمثالها، فشهر بعشرة أشهر، وصيام ستة أيام بعد الفطر تمام السنة، ولابن خزيمة صيام شهر رمضان بعشرة اشهر، وصيام ستة أيام بشهرين فذلك صيام السنة.

وفي الحديث دليل بين على استحباب صوم ستة أيام من شوال، وهو مذهب الشافعي وأحمد وداود، وبه قال عامة المتأخرين من الحنفية. وقال مالك وأبوحنيفة: يكره صومها. قال في البحر الزائق: ومن المكروه صوم ستة من شوال عند أبي حنيفة متفرقا كان أو متتابعا، وعن أبي يوسف كراهته متتابعاً لا متفرقاً، لكن عامة المتأخرين لم يروا به بأساً-انتهى. وقال ابن الهمام: صوم ست من شوال عن أبي حنيفة وأبي يوسف كراهته، وعامة المشائخ لم يروا به بأساً-انتهى. قال السندي: ولعل القائل بالكراهة يؤول هذا الحديث بأن المراد هو كصوم الدهر في الكراهة، فقد جاء لا صيام لمن صام الأبد ونحوه، مما يفيد كراهة صوم الدهر، لكن هذا التأويل مردود بما ورد في صوم ثلاث من كل شهر أنه صوم الدهر ونحوه. والظاهر أن صوم الدهر تحقيقاً مكروه، وما ليس بصوم الدهر إذا ورد فيه أنه صوم الدهر فهو محبوب-انتهى. قلت: واستدل للكراهة بأنه ربما ظن وجوبها. قال ابن الهمام: وجه الكراهة أنه قد يفضى إلى اعتقاد لزومها من العوام لكثرة المداومة-انتهى. وأجيب بأنه لا معنى لهذا التعليل بعد ثبوت النص بذلك وورود السنة الصحيحة الصريحة فيه، وأيضاً يلزم مثل هذا في سائر أنواع الصوم المندوب المرغب فيها ولا قائل به. قال النووي: قولهم قد يظن وجوبهن تقتضي بصوم عرفة وعاشوراء وغيرهما من الصوم المندوب. واستدل مالك بما قال في الموطأ من أنه لم ير أحداً من أهل العلم يصومها، ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف وإن أهل العلم يكرهون ذلك. ولا يخفى أن الناس إذا تركوا العمل بسنة ثابتة لم يكن تركهم دليلا ترد به السنة. قال النووي: إذا ثبتت السنة لا تترك لترك بعض الناس أو أكثرهم أو كلهم وما أحسن ما قاله ابن عبد البر أنه لم يبلغ مالكاً هذا الحديث. وقيل: لعله لم يصح هذا الحديث عنده. قال ابن رشد: وهو الأظهر. قلت: الحديث صحيح جداً. قال الشيخ الجزري: حديث أبي أيوب هذا لا يشك في صحته ولا يلتفت إلى كون الترمذي جعله حسناً ولم يصححه (على ما في بعض النسخ) . وقوله في سعد بن سعيد راوية عن عمر بن ثابت، وقد جمع الحافظ أبومحمد عبد المؤمن بن خلف المياطي طرقه، وأسنده عن قريب ثلاثين رجلاً رووه عن سعد بن سعيد أكثرهم ثقات حفاظ، وتابع سعداً في روايته أخواه عبدربه ويحيى وصفوان بن سليم وغيرهم. ورواه أيضاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبوهريرة وجابر وثوبان والبراء بن عازب وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم أجمعين كذا حكاه القاري عن الجزري. ثم نقل تخريج أحاديث هؤلاء الصحابة عن يارك وسنذكره أيضاً إن شاء الله. واعلم أن أجر صومها يحصل لمن صامها متفرقة أو متوالية، ومن صامها عقب العيد متصلاً أو في أثناء الشهر، وفي جامع الترمذي عن ابن المبارك أنه اختار أن يكون ستة أيام من أول شوال، وقد روى عنه أنه قال إن صام ستة أيام من شوال متفرقا فهو جائز. وقال النووي قال أصحابنا: والأفضل إن تصام الستة متوالية عقب يوم الفطر، فإن فرقها أواخرها عن أوائل الشهر إلى أواخره حصلت فضيلة المتابعة، لأنه يصدق أنه اتبعه ستا من شوال-انتهى.

2068- (13) وعن أبي سعيد الخدري، قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الفطر والنحر)) . متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال ابن قدامة (ج3ص173) لا فرق بين كونها متتابعة أو مفرقة في أول الشهر، أو في آخره لأن الحديث ورد بها مطلقاً من غير تقييد، ولأن فضيلتها لكونها تصير مع الشهر ستة وثلاثين يوما، والحسنة بعشر أمثالها فيكون ذلك كثلاثمائة وستين يوماً وهو السنة كلها، فإذا وجد ذلك في كل سنة صار كصيام الدهر كله، وهذا المعنى يحصل مع التفريق-انتهى. قال في حجة الله: والسِّرٌّ في مشروعيتها أنها بمنزلة السنن الرواتب في الصلاة تكمل فائدتها بالنسبة إلى أمزجة لم تتامّ فائدتها بهم. وإنما خص في بيان فضله التشبه بصوم الدهر، لأن من القواعد المقررة أن الحسنة بعشر أمثالها وبهذه الستة يتم الحساب. تنبيه ادعى بعض الحنفية إن ما روى عن أبي حنيفة من كراهة صوم ستة من شوال هو غير رواية الأصول أو إن مراده بذلك أن يصوم الفطر وخمسة بعده، فأما إذا أفطر يوم العيد ثم صام بعده ستة أيام فليس بمكروه بل هو مستحب وسنة. قال في الدار المختار: الإتباع المكروه، أن يصوم الفطر وخمسة بعده، فلو أفطر الفطر لم يكره بل يستحب ويسن-انتهى. وكذا قال صاحب البدائع. قال ابن عابدين بعد البسط: في نصوص أصحاب الحنفية في عدم الكراهة ما لفظه، وتمام ذلك في رسالة "تحريم الأقوال في صوم الست من شوال" للعلامة قاسم، وقد رد فيها على ما في منظومه التباني وشرحها من عزوة الكراهة مطلقاً إلى أبي حنيفة وأنه الأصح بأنه على غير رواية الأصول وأنه صحح ما لم يسبقه أحد إلى تصحيحه وأنه صحح الضعيف وعمد إلى تعطيل ما فيه الثواب الجزيل بدعوى كاذبة بلا دليل، ثم ساق كثيراً من نصوص كتب المذهب فراجعها-انتهى. وهذا يدل على أن الراجح عند الحنفية على ما ادعاه العلامة قاسم وغيره هو عدم الكراهة بل استحبابه. وما حكى عنهم خلاف ذلك فهو إما مرجوح وخلاف رواية، الأصول أو مؤول بصوم يوم الفطر كما قال صاحب البدائع وصاحب الدار المختار وغيرهما. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وصححه، وأبوداود وابن ماجه والدارمي والبيهقي (ج4ص292) والطبراني، وفي الباب عن ثوبان عند أحمد والنسائي في الكبرى وابن ماجه والدارمي والبزار وابن خزيمة وابن حبان، وعن جابر عند أحمد وعبد بن حميد والبزار والطبراني في الأوسط وعن أبي هريرة عند البزار وأبي نعيم والطبراني، وعن ابن عباس عند الطبراني أيضاً، وعن البراء بن عازب عند الدارقطني، وعن ابن عمر عند الطبراني من أحب الوقوف على ألفاظها وحال أسانيدها رجع إلى التلخيص (ص199) والترغيب (ج2ص27) ومجمع الزوائد (ج3ص183، 184) . 2068- قوله: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي نهي تحريم (عن صوم يوم الفطر) وهو أول يوم من شوال (والنحر) أي وعن صوم يوم النحر. قال الطيبي: هذا الحديث مروي من حيث المعنى والذي يتلوه مروي من حيث اللفظ وما نص عليه.

قال: ولعل العدول عن قوله نهى عن صوم العيدين إلى ذكر الفطر والنحر للأشعار بأن علة الحرمة هي الوصف بكونه يوم فطر ويوم نحر والصيام ينافيهما-انتهى. قلت: روى مسلم من حديث عمر أنه صلى العيد ثم انصرف فخطب الناس فقال إن هذين يومان نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامهما يوم فطركم من صيامكم والآخر يوم تأكلون فيه نسككم، وفائدة وصنف اليومين على ما قيل: الإشارة إلى العلة في وجوب فطرهما وهو الفصل من الصوم وإظهار تمامه وحده بفطر ما بعده والآخر لأجل النسك المتقرب يذبحه ليؤكل منه ولو شرع صومه لم يكن لمشروعية الذبح فيه معنى فعبر عن علة التحريم بالأكل من النسك، لأنه يستلزم النحر ويزيد فائدة التنبيه على التعليل. والمراد بالنسك هنا الذبيحة المتقرب بها قطعاً. والحديث دليل على تحريم صوم هذين اليومين، لأن أصل النهي التحريم، وإليه ذهب العلماء كافة. قال ابن قدامة (ج3ص163) أجمعه أهل العلم على أن صومي العيدين منهي عنه محرم في التطوع والنذر المطلق والقضاء والكفارة، ذلك لما روى أبوعبيد مولى ابن أزهر قال شهدت العيد مع عمر بن الخطاب فجاء فصلى ثم انصرف فخطب الناس. فقال: إن هذين يومان نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامهما يوم فطركم من صيامكم، والآخر يوم تأكلون فيه من نسككم، وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن صيام يومين يوم فطر ويوم أضحى، وعن أبي سعيد مثله متفق عليهما، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه وتحريمه-انتهى. وكذا حكى الإجماع على هذا النووي والحافظ والزرقاني والعيني وابن رشد وغيرهم. وههنا مسئلتان اختلف الأئمة فيهما إحداهما أن ينذر صوم الفطر والنحر متعمداً لعينهما. فقال مالك والشافعي: لا ينعقد نذره ولا يلزمه قضاءهما، وإليه ذهب أحمد في الصحيح عنه. قال ابن قدامة. إن قال لله عليَّ صوم يوم العيد فهذا نذر معصية على ناذره الكفارة لا غير، نقلها حنبل عن أحمد وفيه رواية أخرى إن عليه القضاء مع الكفارة، والأولى هي الصحيحة قاله القاضي. لأن هذا نذر معصية فلم يوجب قضاءها كسائر المعاصي وفارق المسألة التي قبلها (وهي المسألة الثانية التي سنذكرها) لأنه لم يقصد بنذره المعصية. وإنما وقع اتفاقا وههنا تعمدها بالنذر فلم ينعقد نذره، ويدخل في قوله عليه الصلاة والسلام لا نذر في معصية، ويتخرج إلا يلزمه شيء بناء على نذر المعصية-انتهى. والمسألة الثانية أن ينذر صوم يوم فيوافق العيد. قال النووي: أما الذي نذر صوم يوم الاثنين مثلا فوافق يوم العيد فلا يجوز له صيام يوم العيد بالإجماع، وهل يلزمه قضاءه فيه خلاف للعلماء؟ وفيه للشافعي قولان: أصحهما لا يحب قضاءه، لأن لفظه لم يتناول القضاء. وإنما يجب قضاء الفرائض بأمر جديد على المختار عند الأصولين-انتهى. واختلفت الرواية فيه أيضاً عن مالك. قال العيني قال مالك: لو نذر صوم يوم فوافق يوم فطر أو يوم نحر يقضيه في رواية ابن القاسم وابن وهب عنه وهو قول الأوزاعي.

وقال الحافظ: وعن مالك في رواية يقضي إن نوى القضاء وإلا فلا. وقال الأبي في الإكمال: اختلف قول مالك وأصحابه إذا لم يقصد تعيينهما، وإنما نذر نذراً اشتمل عليهما أو نذر يوم يقدم فلان فقدم يوم عيد هل يقضي أو لا يقضي، أو يقضي إلا أن ينوي أن لا يقضي أو لا يقضي إلا أن ينوي أن يقضي-انتهى. وقال في المدونة: قلت لمالك: فرمضان ويوم الفطر وأيام النحر الثلاثة كيف يصنع فيها، وإنما نذر سنة بعينها أعليه قضاء أم ليس عليه قضاءها إذا كانت لا يصلح الصيام فيها؟ فقال أولا لا قضاء عليه إلا أن يكون نوى أن يصومهن قال، ثم سئل عن ذي الحجة من نذر صيامه أترى عليه أن يقضي أيام الذبح؟ فقال: نعم عليه القضاء، إلا أن يكون نوى حين نذر أن لا قضاء عليه-انتهى. وقال ابن قدامة (ج9ص21، 22) من نذر أن يصوم يوم يقدم فلان، فإن نذره صحيح، فإن قدم يوم فطر أو أضحى. فاختلفت الرواية عن أحمد فيه فعنه لا يصومه ويقضي ويكفر، نقله عن أحمد جماعة وهو قول أكثر أصحابنا، ومذهب الحكم وحماد. والرواية الثانية يقضي ولا كفارة عليه وهو قول الحسن والأوزاعي وأبي عبيد وقتادة وأبي ثور وأحد قولي الشافعي، فإنه فاته الصوم الواجب بالنذر فلزمه قضاءه ولم تلزمه كفارة لأن الشرع منعه من صومه فهو كالمكره وعن أحمد رواية ثالثة إن صامه صح صومه، وهو مذهب أبي حنيفة لأنه وفي بما نذر ويتخرج أن يكفر من غير قضاء لأنه وافق يوماً صومه حرام فكان موجبه الكفارة كما لو نذرت المرأة صوم يوم حيضها ويتخرج أن لا يلزمه شيء من كفارة ولا قضاء بناء على من نذر المعصية، وهذا قول مالك والشافعي في أحد قوليه بناء على نذر المعصية-انتهى. وقد ظهر بهذا أن مذهب الحنابلة في هذه المسألة هو انعقاد النذر وصحته، ووجوب القضاء مع الكفارة. وأما أبوحنيفة فذكر العيني (ج11ص109، 110) ثلاث روايات عنه. إحداها صحة النذر في المسئلتين ووجوب القضاء، والثانية عدم صحة النذر مطلقاً وعدم وجوب القضاء، وهي رواية أبي يوسف وابن المبارك عنه. والثالثة: إن نذر صوم يوم النحر لا يصح، وإن نذر صوم غد وهو يوم النحر صح وهي رواية الحسن عنه، وظاهر الرواية هي الرواية الأولى أي صحة النذر مطلقاً من غير فرق بين أن يذكر المنهي عنه صريحاً كيوم النحر مثلا أو تبعاً كصوم غد، فإذا هو يوم النحر. قال في الهداية: إذا قال لله عليّ صوم يوم النحر، أفطر وقضى، فهذا النذر صحيح عندنا خلافاً لزفر والشافعي، هما يقولان: أنه نذر بما هو معصية لورود النهي عن صوم هذه الأيام، ولنا أنه نذر بصوم مشروع (لأن الدليل الدال على مشروعية الصوم لا يفصل بين يوم ويوم، فكان من حيث حقيقته حسناً مشروعا والنذر بما هو مشروع جائز) والنهي لغيره وهو ترك إجابة دعوة الله (لأن الناس أضياف الله في هذه الأيام) فيصح نذره لكنه يفطر احترازاً عن المعصية المجاوزة ثم يقضي إسقاطا للواجب وإن صام فيه يخرج عن العهدة مع الحرمة لأنه أداه كما التزمه-انتهى. وقال في الدار المختار: ولو نذر صوم الأيام المنهية أو صوم هذه السنة صح مطلقاً على المختار، وفرقوا النذر والشروع فيها، بأن نفس الشروع معصية، ونفس النذر طاعة فصح-انتهى.

قال العيني: والأصل عندنا أن النهي لا ينفي مشروعية الأصل وعلى هذا الأصل مشى أصحابنا فيما ذهبوا إليه، ويؤيد هذا ما رواه البخاري عن زياد بن جبير قال: جاء رجل إلى ابن عمر فقال: نذر رجل صوم الاثنين فوافق يوم عيد. فقال ابن عمر أمر الله بوفاء النذر، ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صوم هذا اليوم. قال ابن عبد الملك: لو كان صومه ممنوعا منه لعينه ما توقف ابن عمر في الفتيا-انتهى. قلت أمر ابن عمر رضي الله عنه في التورع عن بتّ الحكم، ولا سيما عند تعارض الأدلة مشهور، ويحتمل أن يكون ابن عمر أشار إلى قاعدة إن الأمر والنهي إذا التقيا في محل واحداً أيهما يقدم والراجح يقدم النهي، فكأنه قال لا تصم، وقيل: نبه ابن عمر على أن الوفاء بالنذر عام. والمنع من صوم العيد خاص، فكأنه أفهمه أنه يقضي بالخاص على العام. وتعقب هذا بأن النهي عن صوم يوم العيد أيضاً عموم للمخاطبين، ولكل عيد فلا يكون من قضاء الخاص على العام. وقال الداودي: المفهوم من كلام ابن عمر تقديم النهي، لأنه قد روى أمر من نذر أن يمشي في الحج بالركوب، فلو كان يجب الوفاء به لم يأمره بالركوب-انتهى. قال الحافظ: وأصل الخلاف في هذه المسألة أن النهي هل يقتضي صحة المنهي عنه قال الأكثر لا، وعن محمد بن الحسن نعم، واحتج بأنه لا يقال للأعمى لا يبصر، لأنه تحصيل الحاصل. فدل على أن صوم يوم العيد ممكن، وإذا أمكن ثبت الصحة، وأجيب بأن الإمكان المذكور عقلي والنزاع في الشرعي والمنهي عنه شرعاً غير ممكن فعله شرعاً، ومن حجج المانعين أن النفل المطلق إذا نهى عن فعله لم ينعقد، لأن المنهي مطلوب الترك سواء كان للتحريم أو التنزيه، والنفل مطلوب الفعل، فلا يجتمع الضدان، والفرق بينه وبين الأمر ذي الوجهين كالصلاة في الدار المغصوبة (أي على القول بصحتها وإلا فقد ذهب أحمد في أشهر القولين عنه إلى عدم صحتها كما في المغنى (ج2ص74) وروضة الناظر (ج1ص127) أن النهي عن الإقامة المغصوبة ليست لذات الصلاة بل للإقامة وطلب الفعل لذات العبادة بخلاف صوم يوم النحر مثلا، فإن النهي فيه لذات الصوم فافترقا-انتهى. وفي آخر كلام الحافظ نظر فتأمل وارجع لبسط الكلام في مسألة النهي إلى كتب الأصول كأصول البزدوي مع شرحه كشف الأسرار، وإلى إرشاد الفحول وغيرهما. والراجح عندي في المسألة الأولى هو ما ذهب إليه مالك والشافعي وأحمد من عدم انعقاد النذر وعدم صحته، لأنه نذر معصية. والنذر إنما يكون في الطاعة دون المعصية فلا ينعقد هذا النذر، ولا يصح، كما لا يصح من الحائض لو نذرت أن تصوم أيام حيضها، ولم يأمر الله تعالى قط بالوفاء بنذر معصية فلا يلزم قضاءه. وقد وقع في رواية لمسلم لا يصلح الصيام في يومين يوم الأضحى ويوم الفطر من رمضان، وهذا كالنص على بطلان صوم العيدين، وإن يومي العيد ليسا بمحل للصوم شرعاً، لأن حقيقة ذلك الخبر، فهو يحمل على حقيقته ما لم يصرف عنها صارف فاقتضي ذلك إخباراً من النبي صلى الله عليه وسلم بأن هذين اليومين لا يصلح فيهما الصيام،

2069- (14) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا صوم في يومين الفطر والأضحى)) . متفق عليه. 2070- (15) وعن نبيشة الهذلي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيام التشريق، أيام أكل وشرب وذكر الله)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ فلو بقي صائماً مع إيقاعه الإمساك فيهما لكان قد صلح الصيام فيهما من وجه، فثبت بذلك ما وقع من الإمساك ولو بنية الصوم من العبد في اليومين المذكورين فليس بصيام عند الشرع، ليكون مخبره خبراً موجوداً في سائر ما أخبر به، وهذا كله يبطل القول بصحة نذر صوم العيد وأجزاءه لو صام. وأما المسألة الثانية فالأشبه فيهما أن ينعقد نذره ويصح ويجب قضاءه، لأنه نذر نذراً يمكن الوفاء به غالباً ولم يقصد بنذره المعصية. وإنما وقع اتفاقا فينعقد كما لو وافق غير يوم العيد، ولا يجوز أن يصوم يوم العيد لأن الشرع حرم صومه فأشبه زمن الحيض ولزمه القضاء، لأنه نذر منعقد وقد فاته الصيام بالعذر (متفق عليه) واللفظ للبخاري في الصيام، والحديث أخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود وابن ماجه والبيهقي (ج4ص297) . 2069- قوله: (لا صوم) أي جائز (الفطر والأضحى) بدل أي أنهما غير قابلين للصوم لحرمته فيهما فلا يصح نذر صومهما وكذا حكم أيام التشريق كما سيأتي بيانه، وخصهما بالذكر لكونهما الأصل، وأيام التشريق من توابع الأضحى (متفق عليه) واللفظ للبخاري في الصلاة وفي الحج وفي الصوم، وأخرجه بهذا اللفظ الدارمي. 2070- قوله: (وعن نبيشة) بضم النون وفتح الموحدة بعدها ياء ساكنة فشين معجمة فهاء (الهذلي) بضم الهاء وفتح الذال هو نبيشة بن عبد الله بن عمرو بن عتاب بن الحارث بن نصير بن حصن وقيل: في نسبه غير ذلك. ويقال له: نبيشة الخير، ويكنى أبا طريف صحابي قليل الحديث. قال ابن عبد البر: سكن البصرة، ويقال أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أساري فقال يا رسول الله! إما أن تفاديهم وإما أن تمن عليهم، فقال أمرت بخير أنت نبيشة الخير (أيام التشريق) وهي ثلاثة أيم بعد يوم النحر وهذا قول ابن عمر وأكثر العلماء منهم الأئمة الأربعة وأتباعهم. وروى عن ابن عباس وعطاء أنها أربعة أيام يوم النحر وثلاثة أيام بعده، وسماها عطاء أيام التشريق، والأول أظهر. ويدل عليه ما رواه الطحاوي (ج1ص429) عن أنس ابن مالك قال نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صوم أيام التشريق الثلاثة بعد يوم النحر، وأخرجه أبويعلى بلفظ: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صوم خمسة أيام من السنة يوم الفطر ويوم النحر وأيام التشريق.

وسميت أيام التشريق لأن لحوم الأضاحي تشرق فيها أي تنشر وتبسط في الشمس لتجف. وقيل: لأن الهدى والضحايا لا تنحر حتى تشرق الشمس أي تطلع. وقيل: لأن صلاة العيد تقع عند شروق الشمس أول يوم منها فصارت هذه الأيام تبعا ليوم النحر، وهذا يعضد قول من يقول يوم النحر منها. وقيل: التشريق التكبير دبر كل صلاة. (أيام أكل وشرب) وكذا يوم النحر يوم أكل وشرب بل هو الأصل والبقية أتباعه (وذكر الله) بالجر وهذا إشارة إلى قوله تعالى: {واذكروا الله في أيام معدودات} [البقرة: 203] يعني أنهاكم عن صومها وآمركم بذكر الله فيها صيانة عن التلهي والتشهي كالبهائم. قال الاشرف: وإنما عقب الأكل والشرب بذكر الله لئلا يستغرق العبد في حظوظ نفسه وينسى في هذه الأيام حق الله تعالى-انتهى. وهل يلتحق أيام التشريق بيوم النحر في حرمة الصيام كما تلتحق به في النحر وغيره من أعمال الحج، أو يجوز صيامها مطلقاً أو للمتمتع خاصة أوله ولمن هو في معناه؟ وفي كل ذلك اختلاف للعلماء. وقد استدل بحديث نبيشة على النهي عن صوم أيام التشريق، وقد ورد النهي عن ذلك صريحا. من حديث سعد بن أبي وقاص عند أحمد (ج1ص169، 174) والطحاوي (ج1ص428) والبزار، وفيه عند أحمد والطحاوي محمد بن أبي حميد المدني وهو ضعيف. ومن حديث يونس بن شداد رواه عبد الله بن أحمد (ج4ص77) والبزار، وفيه سعيد بن بشير وهو ثقة ولكنه اختلط. ومن حديث حبيبة بنت شريق عند أحمد (ج1ص92) والنسائي والطبراني في الأوسط والطحاوي (ج1ص429) ومن حديث أنس وقد تقدم. ومن حديث ابن عباس عند الطبراني في الكبير بإسناد ضعيف. ومن حديث أبي هريرة عند الطحاوي (ج1ص428) والبزار، وفي سند البزار عبد الله بن سعيد المقبري وهو ضعيف قاله الهيثمي. ومن حديث معمر بن عبد الله العدوي عند الطحاوي (ج1ص429) والطبراني في الكبير. ومن حديث عمرو بن العاص عند أبي داود وابن المنذر والدارمي والبيهقي (ج4ص297) والطحاوي (ج1ص428) وابن حزم (ج7ص28) وصححه ابن خزيمة والحاكم. ومن حديث ابن عمر عند أحمد (ج2ص39) قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. ومن حديث أسامة الهذلي عند الطبراني في الأوسط وسنده ضعيف. ومن حديث عمر بن خلدة الزرقي عن أمه أبي يعلى وعبد بن حميد وإسحاق بن راهويه والطحاوي (ج1ص429) وابن أبي شيبة، وفيه موسى بن عبيدة الربذى وهو ضعيف. ومن حديث عقبة بن عامر عند الترمذي وأبي داود والنسائي وابن حبان والحاكم والبزار. ومن حديث مسعود ابن الحكم الزرقي عن أمه عند الطحاوي (ج1ص429) ومن حديث أم الحارث بنت عياش عند الطبراني في الكبير بإسناد ضعيف. ومن حديث عبد الله بن حذافة عند الدارقطني والطبراني وفيه الواقدي. ومن حديث مسعود بن الحكم عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الطحاوي (ج1ص429) وقد ذهب إلى منع الصوم في هذه الأيام وتحريمه مطلقاً جماعة من السلف منهم علي ابن أبي طالب وعبد الله بن عمرو بن العاص والحسن وعطاء وهو قول الشافعي في الجديد وعليه العمل والفتوى عند أصحابه وهو قول الليث بن سعد وابن عليه وأبي حنيفة وابن المنذر وهي رواية عن أحمد.

وإليه ذهب ابن حزم، وهؤلاء قالوا: لا يجوز صيامها مطلقا، وإنها ليست قابلة للصوم لا للمتمتع الذي لم يجد الهدى ولا لغيره، وجعلوا هذه الأحاديث مخصصة لقوله تعالى: {ثلاثة أيام في الحج} [البقرة: 196] لأن الآية عامة فيما قبل يوم النحر وما بعده، والأحاديث المذكورة خاصة بأيام التشريق وإن كان فيها عموم بالنظر إلى الحج وغيره، فيرجح خصوصها لكونه مقصوداً بالدلالة على أنها ليست محلا للصوم، وإن ذاتها بإعتبار ما هي غير مؤهلة له كأنها منافية للصوم. وقال الطحاوي بعد أن أخرج أحاديث النهي عن ستة عشر صحابيا: فلما ثبت بهذه الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عن صيام أيام التشريق، وكان نهيه عن ذلك بمعنى، والحاج مقيمون بها وفيهم المتمتعون والقارنون، ولم يستثن منهم متمتعا ولا قارناً دخل المتمتعون والقارنون في ذلك-انتهى. وذهب جماعة إلى جواز الصيام فيها مطلقاً، وبه قال أبوإسحاق المروزي من الشافعية والأسود بن يزيد. وحكاه ابن عبد البر في التمهيد عن بعض أهل العلم، وحكاه ابن المنذر وغيره عن الزبير بن العوام وأبي طلحة من الصحابة. قال ابن قدامة (ج3ص64) بعد حكاية هذا القول عن الأسود بن يزيد وابن الزبير وأبي طلحة ما لفظه: والظاهر أن هؤلاء لم يبلغهم نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامها ولو بلغهم لم يعدوه إلى غيره-انتهى. وقيل: يمكن أنهم حملوا النهي على التنزيه. قال الأمير اليماني: وهو قول لا ينهض عليه دليل. وقال الشوكاني: أحاديث الباب جميعها ترد عليه. وذهب إلى منعه إلا للمتمتع الذي لم يجد الهدي ولم يصم الثلاث في أيام العشر وهو قول عائشة وابن عمر وعروة بن الزبير وإسحاق بن راهويه وعبيد بن عمير والزهري، وهو قول مالك والشافعي في القديم، وأحمد في الرواية المشهورة عنه. قال الزركشي الحنبلي: وهي التي ذهب إليها أحمد أخيراً. قال في المبهج: وهي الصحيحة وهو مختار البخاري فإنه ذكر في باب صيام أيام التشريق حديثي عائشة وابن عمر في جواز ذلك ولم يورد غيره، واستدل لهذا القول بقوله تعالى: {فصيام ثلاثة أيام في الحج} وبحديث عائشة وابن عمر الآتي وسيأتي الجواب عنه. وذهب آخرون ومنهم الأوزاعي إلى أنه يصومها المتمتع ومن تعذر عليه الهدي من المحصر والقارن لعوم الآية، ولما روى البخاري وغيره عن عائشة وابن عمر قالا: لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي، فإنه أفاد أن صوم أيام التشريق جائز رخصة لمن لم يجد الهدي وكان متمتعاً أو قارناً أو محصراً لإطلاق الحديث، بناء على أن الفاعل قوله يرخص المجهول هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه مرفوع حكماً، وإن لم يضيفاه إلى عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال الحاكم أبوعبد الله في نحوه.

وقال النووي في شرح المهذب وهو القوي يعني من حيث المعنى وهو ظاهر استعمال كثير من المحدثين، واعتمده الشيخان في صحيحيهما وأكثر منه البخاري. وقال التاج بن السبكي: أنه الأظهر وإليه ذهب الإمام فخر الدين. قلت: وقد ورد التصريح بالفاعل في رواية للدارقطني والطحاوي إلا أن في إسنادها يحيى بن سلام، وقد ضعفه الدارقطني والطحاوي ولفظها عند الدارقطني، رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمتمتع إذا لم يجد الهدي أن يصوم أيام التشريق، ولم يذكر الطحاوي طريق عائشة ولفظها عنده من رواية ابن عمر، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في المتمتع: إذا لم يجد الهدي ولم يصم في العشر أنه يصوم أيام التشريق، وهذا كما ترى قد خص المتمتع بذلك فلا يكون حجة لأهل هذا القول وأما الآية وحديث عائشة وابن عمر عند البخاري. فأجاب المانعون عنه مطلقاً بأنا لا نسلم إن أيام التشريق من أيام الحج. ولو سلمنا فهي مخصوصة بأحاديث النهي كما سبق، قال الجصاص: قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عن صوم يوم الفطر ويوم النحر وأيام التشريق في أخبار متواترة مستفيضة. واتفق الفقهاء على استعمالها وأنه غير جائز لأحد أن يصوم هذه الأيام عن غير صوم المتعة لا من فرض ولا من نفل فلم يجز صومها عن المتعة لعموم النهي عن الجميع. ولما اتفقوا على أنه لا يجوز أن يصوم يوم النحر وهو من أيام الحج للنهي الوارد فيه كذلك لا يجوز الصوم أيام منى ولما لم يجز أن يصومهن عن قضاء رمضان لقوله تعالى: {فعدة من أيام أخر} [البقرة:184] وكان الحظر المذكور في هذه الأخبار قاضيا على إطلاق الآية موجبا لتخصيص القضاء في غيرها، وجب أن يكون ذلك حكم صوم التمتع وأن يكون قوله تعالى {فصيام ثلاثة أيام في الحج} [البقرة: 196] في غير هذه الأيام قال الجصاص: وأيضا لما قال {فصيام ثلاثة أيام في الحج} ولم يكن صوم هذه الأيام في الحج، لأن الحج فائت في هذا الوقت لم يجز أن يصومها فإن قيل لما قال {فصيام ثلاثة أيام في الحج} وهذه من أيام الحج وجب أن يجوز صومهن فيها، قيل له: لا يجب ذلك من وجوه، أحدها أن نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صوم هذه الأيام قاض عليه ومخصص له كما خص قوله تعالى: {فعدة من أيام أخر} نهيه عن صيام هذه الأيام. والثاني أنه لو كان جائزاً لأنه من أيام الحج لوجب أن يكون صوم يوم النحر أجوز لأنه أخص بأفعال الحج من هذه الأيام. والثالث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خص يوم عرفة بالحج بقوله الحج عرفة فقوله: {فصيام ثلاثة أيام في الحج} يقتضي أن يكون آخرها يوم عرفة. والرابع أنه روى أن يوم الحج الأكبر يوم عرفة، وروى أنه يوم النحر: وقد اتفقوا أنه لا يصوم يوم النحر مع أنه يوم الحج، فما لم يسم يوم الحج من الأيام المنهي عن صومها أحرى أن لا يصوم فيها، وأيضاً فإن الذي يبقى بعد يوم النحر إنما هو من توابع الحج، وهو رمي الجمار فلا إعتبار به في ذلك فليس هو إذاً من أيام الحج فلا يكون صومها صوماً في الحج-انتهى. قال المانعون: وحديث عائشة وابن عمر موقوف لأنهما لم يضيفاه إلى الزمن النبوي فيكون موقوفاً على ما جزم به ابن الصلاح في نحوه مما لم يضف،

2071- (16) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يصوم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله أو بعده)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ والمعنى حينئذٍ لم يرخص من له مقام الفتوى، ويؤيد ذلك ما روى عنهما موقوفاً عليهما على سبيل الجزم، وروى أيضاً من فعل أبي بكر وفتيا لعلي رضي الله عنه. وقال الطحاوي (ج1ص430) قولهما ذلك يجوز أن يكونا عنيا بهذه الرخصة ما قال الله عزوجل في كتابه {فصيام ثلاثة أيام في الحج} فعدا أيام التشريق من أيام الحج فقالا: رخص للحاج المتمتع والمحصر في صوم أيام التشريق لهذه الآية، ولأن هذه الأيام عندهما من أيام الحج وخفي عليهما ما كان من توقيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس بعده على أن هذه الأيام ليست بداخلة فيما أباح الله صومه من ذلك-انتهى. هذا وقد جعل الشوكاني القول بجوازه للمتمتع أقوى المذاهب ورجححه أيضاً الحافظ، وذكر شيخنا في شرح الترمذي كلام الشوكاني وسكت عليه. والراجح عندي هو المنع مطلقا، لأحاديث النهي وهي مخصصة للآية، ولم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الرخصة للمتمتع صريحاً بسند صحيح. وأما حديث ابن عمر وعائشة عند البخاري ففي كونه مرفوعا كلام والله تعالى أعلم (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد (ج5ص75، 76) والنسائي في الكبرى والطحاوي (ج1ص428) والبيهقي (ج4ص297) وفي الباب عن جماعة من الصحابة غير من تقدم ذكرهم منهم عليّ عند أحمد (ج1ص76) والطحاوي وبشر بن سحم عند النسائي والطحاوي والبيهقي وابن حزم وعبد الله بن عمر وعند البزار، وزيد بن خالد عند أبي يعلى وكعب بن مالك عند أحمد، ومسلم وحمزة ابن عمر والأسلمي عند الطبراني، وعائشة عند الطحاوي وأم الفضل عند الطحاوي، وقد بسط العيني والطحاوي والحافظ في التلخيص (ص191) والهيثمي طرق هذه الأحاديث. 2071- قوله: (لا يصوم) كذا في جميع النسخ، وهكذا وقع في المصابيح وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7ص237) عن مسلم بلفظ النفي: والمراد به النهي والذي في صحيح مسلم لا يصم بلفظ النهي وكذا نقله الحافظ في الفتح والبيهقي في السنن (ج4ص302) ولفظ البخاري لا يصوم. قال الحافظ: كذا للأكثر وهو بلفظ النفي والمراد به النهي، وفي رواية الكشميهني لا يصومن بلفظ النهي المؤكد (أحدكم يوم الجمعة) أي مفرداً (إلا أن يصوم قبله) أي يوماً (أو يصوم بعده) أي يوماً كما في رواية النسائي وللبخاري إلا يوماً قبله أو بعده، أي إلا أن يصوم يوماً قبله، أو يصوم يوماً بعده، وللإسماعيلي إلا أن تصوموا يوماً قبله أو بعده و"أو" لمنع الخلو، والمعنى انه يكفي صوم أحدهما ولو صامهما جاز أيضاً والحديث دليل على تحريم النفل بصوم يوم الجمعة منفرداً، وعلى جواز صوم يومها لمن صام قبله أو بعده، فلو أفرده بالصوم وجب فطره كما يفيده،

ما أخرجه أحمد وأبوداود من حديث جويرية أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها في يوم جمعة وهي صائمة. فقال لها: أصمت أمس؟ قالت: لا، قال: تصومين غدا؟ قالت: لا، قال: فأفطري، والأصل في الأمر الوجوب، والرواية تدل على جواز صومه لمن اتفق وقوعه في أيام له عادة بصومها كمن يصوم أيام البيض، أو من له عادة بصوم يوم معين كيوم عرفة فوافق يوم الجمعة أو، له عادة بصوم يوم وفطر يوم فوافق صومه يوم الجمعة. واختلف الأئمة في إفراد يوم الجمعة بالصيام فذهب ابن حزم إلى تحريمه لظواهر الأحاديث الواردة في النهي عن تخصيصه بالصوم، ونقله أبوالطيب الطبري عن أحمد وابن المنذر وبعض الشافعية وكأنه أخذه من قول ابن المنذر ثبت النهي عن صوم يوم الجمعة كما ثبت عن صوم يوم العيد وزاد يوم الجمعة الأمر بفطر من أراد أفراده بالصوم، فهذا يشعر بأنه يرى بتحريمه. ونقل ابن المنذر وابن حزم منع صومه عن علي وأبي هريرة وسلمان وأبي ذر. قال ابن حزم: لا نعلم لهم مخالفاً من الصحابة. وذهب الجمهور ومنهم الشافعي وأحمد وأبويوسف وبعض الحنفية إلى أن النهي فيها للتنزيه. وقال مالك وأبوحنيفة ومحمد: بالإباحة مطلقاً من غير كراهة، ذكره العيني وابن قدامة والحافظ وابن الهمام. قال مالك: لم أسمع أحداً من أهل العلم والفقه، ومن يقتدي به نهي عن صيام يوم الجمعة وصيامه حسن، وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه وأراه كان يتحراه. قال النووي: السنة مقدمة على ما رآه مالك وغيره، وقد ثبت النهي عن صوم يوم الجمعة فيتعين القول به، ومالك معذور. فإنه لم يبلغه، قال الداودي من أصحاب مالك: لم يبلغ مالكاً هذا الحديث ولو بلغه لم يخالفه-انتهى. قلت: ونص فروع المالكية كالشرح الكبير للدردير وغيره أنه يندب إفراد يوم الجمعة بالصوم، وبه قال عامة الحنفية. وقال بعضهم: بالكراهة كما في البدايع والنهر والبحر والدر المختار وحاشية رد المختار. قال عبد الوهاب المالكي: يوم الجمعة يوم لا يكره صومه مع غيره فلا يكره وحده، وردّ بأن هذا قياس فاسد الإعتبار لأنه منصوب في مقابلة النصوص الصحيحة. قال الحافظ والمشهور عند الشافعية وجهان أحدهما ونقله المزني عن الشافعي أنه لا يكره إلا لمن أضعفه صومه عن العبادة التي تقع فيه من الصلاة والدعاء والذكر. قلت: وإليه ذهب البيهقي والماوردي وابن الصباغ والعمراني. والثاني وهو الذي صححه المتأخرون كقول الجمهور. قلت: وبه جزم الرافعي والنووي في الروضة. وقال في شرح مسلم: أنه قال به جمهور أصحاب الشافعي وممن صححه من المالكية ابن العربي إذ قال وبكراهته بقول الشافعي وهو الصحيح. واستدل لمن قال بندبه عما سيأتي من حديث ابن مسعود، وفيه قلما كان يفطر يوم الجمعة، وبما رواه ابن أبي شيبة من حديث ابن عمر قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مفطراً يوم الجمعة قط.

وبما رواه أيضاً من حديث ابن عباس قال: ما رأيته مفطراً يوم جمعة قط، وفي سندهما ليث بن أبي سليم. وقد تقدم الكلام فيه. وأما حديث ابن مسعود فقال الحافظ في الفتح: ليس فيه حجة، لأنه يحتمل أن يريد كان لا يتعمد فطره إذا وقع في الأيام التي كان يصومها ولا يضاد ذلك كراهة أفراده بالصوم، جمعاً بين الحديثين. وقال في التلخيص (ص199) قال ابن عبد البر: لا مخالفة بينه وبين أحاديث النهي، فإنه محمول على أنه كان يصله بيوم الخميس. وقال العيني: لا دلالة في حديث ابن مسعود وما في معناه أنه صلى الله عليه وسلم صام يوم الجمعة وحده فنهيه عن صوم يوم الجمعة في أحاديث النهي يدل على أن صومه يوم الجمعة لم يكن في يوم الجمعة وحده بل إنما كان بيوم قبله أو بيوم بعده، وذلك لأنه لا يجوز أن يحمل فعله على مخالفة أمره إلا بنص صحيح صريح فحينئذٍ يكون نسخا أو تخصيصاً وكل واحد منهما منتف-انتهى. وقال ابن القيم يتعين حمل حديث ابن مسعود إن كان صحيحا على صومه مع ما قبله أو بعده. قلت وأرجح الأقوال عندي: قول من ذهب إلى تحريم إفراد يوم الجمعة بالصيام لما قد صح النهي عنه، والأصل في النهي التحريم والله تعالى أعلم. واختلف في وجه تحريم تخصيصه بالصوم. قال الشاه ولي الله: السر فيه. أي في النهي عن شيئان، أحدهما سد التعمق، لأن الشارع لما خصه أي من بين الأيام بطاعات وبين فضله، كان مظنة أن يتعمق المتعمقون فيلحقون بها صوم ذلك اليوم أي ابتداعا من عند أنفسهم فمنعوا سد اللباب. قال وثانيهما تحقيق معنى العيد فإن العيد يشعر بالفرح واستيفاء اللذة، والسر في جعله عيدا أن يتصور عندهم أنها من الاجتماعات التي يرغبون فيها من طبائعهم من غير قسر-انتهى. وقال الحافظ: اختلف في سبب النهي عن إفراده على أقوال أحدها لكونه يوم عيد، والعيد لا يصام ففي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن هذا يوم جعله الله عيدا، وروى النسائي من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا صيام يوم عيد. واستشكل التعليل بذلك بوقوع الإذن من الشارع بصومه مع غيره. وأجاب ابن القيم وغيره بأن شبهه بالعيد لا يستلزم استواءه معه من كل جهة، ومن صام معه غيره انتفت عنه صورة التحري بالصوم. ثانيها لئلا يضعف عن إقامة وظائف الجمعة من الغسل والتبكير إلى الصلاة وانتظارها واستماع الخطبة وإكثار الذكر بعدها وهذا اختاره النووي. وتعقب ببقاء المعنى المذكور مع صوم غيره معه. وأجاب بأنه يحصل له بفضيلة الصوم الذي قبله أو بعده ما يجبر ما قد يحصل من فتور أو تقصير في وظائف يوم الجمعة بسبب صومه قال الحافظ: وفيه نظر فإن الجبر لا ينحصر في الصوم، بل يحصل بجميع أفعال الخير فيلزم منه جواز إفراده لمن عمل فيه خيرا كثيرا يقوم مقام صيام يوم قبله أو بعده كمن اعتق فيه رقبة مثلا ولا قائل بذلك، وأيضاً فكان النهي يختص بمن يخشى عليه الضعف، لا من يتحقق القوة ويمكن الجواب عن هذا بأن المظنة أقيمت مقام المئنة كما في جواز الفطر في السفر لمن لم يشق عليه.

2072- (17) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تختصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ ثالثها خوف المبالغة في تعظيمه فيفتتن به كما افتتن اليهود بالسبت قال الحافظ: وهو منتقض بثبوت تعظيمه بغير الصيام، وأيضا فاليهود لا يعظمون السبت بالصيام فلو كان الملحوظ ترك موافقتهم لتحتم صومه، لأنهم يصومونه، وقد روى النسائي وأبوداود وصححه ابن حبان من حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم من الأيام السبت والأحد وكان يقول أنهما يوماً عيد للمشركين فأحب أن أخالفهم. رابعها خوف اعتقاد وجوبه. قال الحافظ: وهو منتقض بصوم الاثنين والخميس وسيأتي ذكر ما ورد فيهما. خامسها خشية أن يفرض عليهم كما خشي صلى الله عليه وسلم من قيامهم الليل ذلك. قال المهلب: وهو منتقض بإجازة صومه مع غيره، وبأنه لو كان كذلك لجاز بعده - صلى الله عليه وسلم - لارتفاع السبب. سادسها مخالفة النصارى لأنه يجب عليهم صومه، ونحن مأمورون بمخالفتهم. قال الحافظ: وهو ضعيف ولم يبين وجه الضعف قال. وأقوى الأقوال وأولاها بالصواب أولها، وورد فيه صريحاً حديثان، أحدهما رواه أحمد (ج2ص203) وابن خزيمة والبخاري في التاريخ الكبير والبزار والحاكم (ج1ص437) من طريق عامر بن لدين عن أبي هريرة مرفوعا يوم الجمعة يوم عيد، فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا قبله أو بعده. والثاني رواه ابن أبي شيبة بإسناد حسن عن عليَّ قال من كان منكم متطوعا من الشهر فليصم يوم الخميس، ولا يصم يوم الجمعة فإنه يوم طعام وشراب وذكر-انتهى. (متفق عليه) واللفظ لمسلم وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي في الكبرى وابن ماجه وابن خزيمة والحاكم (ج1ص437) والبيهقي (ج4ص302) وفي الباب عن جابر عند الشيخين والنسائي وابن ماجه وعن ابن عباس عند أحمد وعن بشير بن الخصاصية عند أحمد والطبراني وعن جنادة الأزدي عند أحمد والنسائي والحاكم، وعن أبي الدرداء عند النسائي والطبراني وعن عبد الله بن عمرو، عند النسائي وعن جويرية عند أحمد والبخاري وأبي داود. 2072- قوله: (لا تختصوا) من الاختصاص (ليلة الجمعة) "ليلة" منصوب على أنه مفعول به. قال الطيبي: الاختصاص لازم ومتعد، وفي الحديث متعد. قال المالكي: المشهور في اختص أن يكون موافقاً لخص في التعدي إلى مفعول وبذلك جاء قوله تعالى: {يختص برحمته من يشاء} [البقرة: 105] وقول عمر بن عبد العزيز ولا يختص قوما، وقد يكون اختص مطاوع خص فلا يتعدى كقولك خصصتك بالشيء فاختصصت به-انتهى.

2073- (18) وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صام يوماً في سبيل الله بعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ (بقيام) قال ابن حجر: أي بصلاة والظاهر أن القيام أعم في المعنى المراد (من بين الليالي) فيه دليل على تحريم تخصيص ليلة الجمعة بعبادة بصلاة وتلاوة غير معتادة إلا ما ورد به النص الصحيح كقراءة سورة الكهف، فإنه ورد تخصيص ليلة الجمعة بقراءتها، وقد دل هذا بعمومه على عدم مشروعية صلاة الرغائب في أول ليلة الجمعة من رجب. قال النووي: في هذا الحديث النهي الصريح عن تخصيص ليلة الجمعة بصلاة من بين الليالي، وهذا متفق على كراهته، واحتج به العلماء على كراهة هذه الصلاة المبتدعة التي تسمى الرغائب قاتل الله واضعها ومخترعها فإنها بدعة منكرة، من البدع التي هي ضلالة وجهالة، وفيها منكرات ظاهرة. وقد صنف جماعة من الأئمة مصنفات نفسية في تقبيحها وتضليل مصليها ومبتدعها، ودلالة قبحها وبطلانها وتضليل فاعلها أكثر من أن تحصر-انتهى. (ولا تختصوا) كذا في جميع النسخ وهكذا في المصابيح والمنتقى للمجد بن تيمية والسنن للبيهقي، والذي في صحيح مسلم ولا تخصوا. قال النووي: هكذا وقع في الأصول "لا تختصوا ليلة الجمعة ولا تخصوا يوم الجمعة" بإثبات تاء في الأول بين الخاء والصاد وبحذفها في الثاني وهما صحيحان-انتهى. وذكره المنذري في الترغيب والجزري في جامع الأصول (ج7ص237) والحافظ في الفتح: وفي بلوغ المرام بحذف التاء في الموضعين (يوم الجمعة) مفعول به كقوله ويوم شهدناه (بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم) تقديره إلا أن يكون يوم الجمعة واقعا في يوم صوم (يصومه أحدكم) أي من نذر أو ورد وعادة، والظاهر أن الاستثناء من ليلة الجمعة كذلك، ولعل ترك ذكره للمقايسة قاله القاري. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً النسائي والبيهقي (ج4ص302) . 2073- قوله: (من صام يوماً في سبيل الله) قال في النهاية: سبيل الله عام يقع على كل عمل خالص سلك به طريق التقرب إلى الله تعالى بأداء الفرائض والنوافل وأنواع التطوعات، وإذا أطلق فهو في الغالب واقع على الجهاد حتى صار لكثرة الاستعمال كأنه مقصور عليه-انتهى. قيل: المراد به ههنا مجرد إخلاص النية أي من صام يوماً ابتغاء لوجه الله تعالى، وذلك لئلا يعارض أولوية الفطر في الجهاد عن الصوم لأنه يضعف عن اللقاء وقيل: المراد به الغزو والجهاد أي من صام يوماً حال كونه غازياً. قلت: والثاني هو المتبادر، ويؤيده ما في فوائد أبي الطاهر الذهلي من طريق عبد الله بن عبد العزيز الليثي عن المقبري عن أبي هريرة بلفظ: ما من مرابط يرابط في سبيل الله فيصوم يوماً في سبيل الله-الحديث.

وحينئذٍ فالأولوية المذكورة محمولة على من يضعفه الصوم عن الجهاد. أما من لم يضعفه فالصوم في حقه أفضل لأنه يجمع بين الفضيلتين. قال ابن دقيق العيد: العرف الأكثر استعماله في الجهاد، فإن حمل عليه كانت الفضيلة لاجتماع العبادتين. قال: ويحتمل أن يراد بسبيل الله طاعته كيف كانت، والمراد من صام قاصداً وجه الله، والأول أقرب، ولا يعارض ذلك أن الفطر في الجهاد أولى، لأن الصائم يضعف عن اللقاء، لأن الفضل المذكور محمول على من لم يخش ضعفا، ولا سيما من اعتاد به فصار ذلك من الأمور النسبية فمن لم يضعفه الصوم عن الجهاد فالصوم في حقه أفضل ليجمع بين الفضيلتين (بعد الله) بتشديد العين هذا لفظ البخاري وفي مسلم باعد أي من المباعدة (وجهه) أي ذاته كلها (عن النار سبعين خريفاً) أي مقدار مسافة سبعين عاماً يعني أنها مسافة لا تقع إلا بسير سبعين عاماً، وهو كناية عن حصول البعد العظيم. قال في النهاية: الخريف الزمان المعروف ما بين الصيف والشتاء، ويراد به السنة، لأن الخريف لا يكون في السنة إلا مرة واحدة، فإذا انقضى الخريف انقضى السنة. قال الطيبي: وإنما خص بالذكر دون سائر الفصول لأنه زمان بلوغ حصول الثمار وحصاد الزرع وسعة العيش. وقال الحافظ: الخريف، زمان معلوم من السنة، والمراد به هنا العام وتخصيص الخريف بالذكر دون بقية الفصول الصيف والشتاء والربيع، لأن الخريف أزكى الفصول لكونه يجنى فيه الثمار-انتهى. وعند أبي يعلى من طريق زبان بن فائد عن معاذ بن أنس بعد من النار مائة عام سير المضمر الجواد، وعند الطبراني في الكبير والأوسط بإسناد لا بأس به عن عمرو بن عبسة بعدت منه النار مسيرة مائة عام، ورواه في الكبير من حديث أبي أمامة إلا أنه قال فيه بعد الله وجهه عن النار مسيرة مائة عام ركض الفرس الجواد المضمر، ورواه النسائي من حديث عقبة لم يقل فيه ركض الفرس إلى آخره وفي كامل ابن عدي عن أنس تباعدت منه جهنم خمسمائة عام، وفي حديث أبي أمامة عند الترمذي جعل الله بينه وبين النار خندقاً كما بين السماء والأرض. وفي حديث سلامة بن قيصر عند الطبراني في الكبير كبعد غراب طار، وهو فرخ حتى مات هرما. قيل: ظاهر هذه الأحاديث التعارض، وأجيب بأن الاعتماد على رواية سبعين فإنها أصح الروايات لاتفاق الشيخين عليها فما في الصحيح أولى، أو أن الله تعالى أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم بالأدنى ثم بما بعده على التدريج أو أن ذلك بحسب إختلاف أحوال الصائمين في كمال الصوم ونقصانه، أو ورد ذكر السبعين لإرادة التكثير أو المراد بالتبعيد كما قال النووي وغيره المعافاة عن النار وسلامته من عذابها، لا البعد بهذه المسافة. وفي الحديث دلالة على فضيلة الصوم في الجهاد ما لم يضعف بسببه عن قتال عدوه وكأن فضيلة ذلك لأنه جمع بين جهاد نفسه في طعامه وشرابه وشهوته وجهاد عدوه (متفق عليه) واللفظ للبخاري أخرجه في الجهاد وأخرجه مسلم في الصوم، وفي رواية له ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً، وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي في الجهاد والنسائي وابن ماجه والبيهقي في الصوم.

2074- (19) وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عبد الله! ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ فقلت: بلى يا رسول الله! قال: فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزورك عليك حقاً، لا صام من صام الدهر، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2074- قوله: (ألم أخبر) بضم الهمزة وسكون المعجمة وفتح الموحدة مبنياً للمفعول، وهمزة "ألم" للاستفهام ولكنه خرج عن الاستفهام الحقيقي، فمعنا هنا حمل المخاطب على الإقرار بأمر قد استقر عنده ثبوته والذي أخبره هو والده عمرو بن العاص كما يدل عليه رواية البخاري في فضائل القرآن (إنك تصوم النهار) أي ولا تفطر، وفي رواية تصوم الدهر (وتقوم الليل) أي جميعه ولا تنام وفي رواية وتقرأ القرآن كل ليلة (فقلت: بلى يا رسول الله!) زاد مسلم ولم أرد بذلك إلا الخير، وفي رواية للبخاري أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أقول، والله لأصومن النهار ولأقومن الليل ماعشت، وللنسائي من طريق أبي سلمة. قال: قال لي عبد الله بن عمرو: يا ابن أخي، إني قد كنت أجمعت على أن أجتهد إجتهاداً شديداً حتى قلت: لأصومن الدهر ولأقرأن القرآن في كل ليلة (قال فلا تفعل) زاد في رواية للبخاري، فإنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين (أي غارت ودخلت في نقرتها من الضعف) ونفهت له النفس (أي أعيت وتعبت وكلت) وزاد في رواية ابن خزيمة إن لكل عامل شرة ولكل شرة فترة فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك. (صم) أي في بعض الأيام (وأفطر) بهمزة قطع أي في بعضها (وقم ونم) بفتح النون أي أجمع بين القيام والنوم في الليل (فإن لجسدك عليك حقاً) بأن ترعاه وترفق به ولا تضره حتى تقعد عن القيام بالفرائض ونحوها، وقد ذم الله قوماً أكثروا من العبادة، ثم تركوا بقوله: {ورهبانية ابتدعوها} إلى قوله: {فما رعوها حق رعايتها} [الحديد:27] (وإن لعينك) بالأفراد، وفي رواية لعينيك بالتثنية (عليك حقاً) في الموطأ فإذا سرد الزوج الصوم ووالى قيام الليل ضعف عن حقها أي فلا ينبغي لأحد أن يجهد بنفسه في العبادة حتى يضعف عن القيام بحقها من جماع واكتساب (وإن لزورك) بفتح الزاي وسكون الواو أي لضيفك، والزور في الأصل مصدر وضع موضع الإسم، كصوم في موضع صائم، ونوم في موضع نائم، وعدل في موضع عادل، والواحد والاثنان والثلاثة والمذكورة والمؤنث في ذلك بلفظ واحد: يقول هذا رجل زور، ورجلان زور، وقوم زور، وامرأة زور، ويحتمل أن يكون زور، جمع زائر، كركب جمع راكب، وتجر جمع تاجر (عليك حقاً) أي في البسط والمؤانسة وغيرهما فيفطر لأجله إيناساً له وبسطاً،

صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله. صم كل شهر ثلاثة أيام، واقرأ القرآن في كل شهر. ـــــــــــــــــــــــــــــ وفيه إن رب المنزل إذا نزل به ضعيف يفطر لأجله. وقال القاري: أي وتعجز بالصيام والقيام عن حسن معاشرته، والقيام بخدمته ومجالسته إما لضعف البدن أو لقوة سوء الخلق-انتهى. وزاد مسلم "وإن لولدك عليك حقاً" أي ومن حق الأولاد الرفق بهم والانفاق عليهم وشبه ذلك من التأديب والتعليم، وزاد النسائي وإنه عسى أن يطول بك عمر، وفيه إشارة إلى ما وقع لعبد الله بن عمرو بعد ذلك من الكبر والضعف والعجز عن المحافظة على ما التزمه ووظفه على نفسه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن دقيق العيد: كره جماعة قيام كل الليل لرد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك على من أراده، ولما يتعلق به من الاجحاف بوظائف عديدة وفعله جماعة من المتعبدين من السلف وغيرهم، ولعلهم حملوا الرد على طلب الرفق بالخلق لا غير، وهذا الاستدلال على الكراهة بالرد المذكور عليه سؤال هو أنه يقال إن الرد لمجموع أمرين، وهو صيام النهار وقيام الليل، فلا يلزمه ترتبه على أحدهما-انتهى. وقال النووي: نهيه صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل كله هو على إطلاقه غير مختص بعبد الله بن عمرو بل قال أصحابنا: يكره صلاة كل الليل دائماً لكل أحد، لأن صلاة الليل كله لا بد فيها من الإضرار بنفسه وتفويت بعض الحقوق، فإنه إن لم ينم بالنهار فهو ضرر ظاهر، وإن نام نوماً ينجبره سهره وفوت بعض الحقوق بخلاف من يصلي بعض الليل، فإنه يستغنى بنوم باقيه، وإن نام معه شيئاً في النهار كان يسيراً لا يفوت به حق، وكذا من قام ليلة كاملة كليلة العيد أو غيرها لا دائماً لا كراهة فيه لعدم الضرر والله أعلم (لا صام من صام الدهر) يحتمل أن يكون خبرا وأن يكون دعاء كما مر، والأول هو الأظهر وقد تقدم البسط في مسألة صوم الدهر في شرح حديث أبي قتادة (صوم ثلاثة أيام من كل شهر) مبتدأ خبره (صوم الدهر) لأن الحسنة بعشر أمثالها (كله) بالجر تأكيد للدهر، وفيه دليل على استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر. واختلف في تعيينها من الشهر اختلافاً في تعيين الأحب والأفضل لا غير، وليس في الحديث ما يدل على شيء من ذلك (صم) أي أنت بالخصوص ومن هو في المعنى مثلك، وبهذا يندفع توهم التكرار المستفاد مما قبله قاله القاري. قلت: وقع في رواية بعد قوله "صم وأفطر وقم ونم" صم من الشهر ثلاثة أيام، فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر، وهذا يدل أيضاً على هذا ما وقع في رواية أخرى بعد قوله "وإن لزورك عليك حقاً" وإن بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها فإذا ذلك صيام الدهر كله (كل شهر) منصوب بنزع الخافض أي من كل شهر (ثلاثة أيام) ظرف قيل هي أيام البيض وقيل غير ذلك (واقرأ القرآن) أي جميعه (في كل شهر) أي مرة

قلت: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: صم، أفضل الصوم صوم داود: صيام يوم، وإفطار يوم، واقرأ في كل سبع ليال مرة، ولا ترد على ذلك)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ (إني أطيق أكثر من ذلك) أي مما ذكر صيام الثلاثة وختم الشهر (قال: صم أفضل الصوم صوم داود) نصبه على البدل أو البيان أو بتقدير أعنى، ويجوز رفعه دون جره لفساد المعنى (صيام يوم وإفطار يوم) برفعهما على أنهما خبر مبتدأ محذوف هو هو. قال القاري: وفي نسخة بالنصب، وهو ظاهر، وزاد في رواية "ولا تزد عليه " وفي أخرى "قلت إني أطيق أفضل من ذلك" فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا أفضل من ذلك. وفي الرواية المذكورة هنا اختصار فإن للبخاري في الأدب "فصم من كل جمعة ثلاثة أيام" وفي رواية له. في الصوم "فصم يوماً وأفطر يومين" وفي أخرى له أما يكفيك من كل شهر ثلاثة أيام. قلت: يا رسول الله! قال خمساً. قلت: يا رسول الله! قال سبعا. ً قلت: يا رسول الله! قال تسعاً. قلت: يا رسول الله! قال: إحدى عشرة. وفي رواية لمسلم "صم يوماً" يعني من كل عشر أيام ولك أجر ما بقي. قال: إني أطيق أكثر من ذلك قال صم يومين ولك أجر ما بقي. قال: إني أطيق أكثر من ذلك قال صم ثلاثة أيام ولك أجر ما بقي. قال إني أطيق أكثر من ذلك قال صم أربعة أيام ولك أجر ما بقي. قال إني أطيق أكثر من ذلك قال صم صوم داود. وهذا يقتضى أنه صلى الله عليه وسلم أمره بصيام ثلاثة أيام من كل شهر ثم بستة ثم بتسعة ثم باثني عشر ثم بخمسة عشر فالظاهر من مجموع الروايات الواردة في الباب أنه أمره بالاقتصار على ثلاثة أيام من كل شهر فلما قال أنه يطيق أكثر من ذلك زاده بالتدريج إلى أنه وصله إلى خمسة عشر يوماً فذكر بعض الرواة عنه ما لم يذكر الآخر، ويدل على ذلك رواية عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمر وعند أبي داود فلم يزل يناقصني وأناقصه. ووقع للنسائي في رواية محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة صم الاثنين والخميس من كل جمعة وهو فرد من أفراد ما تقدم ذكره. وقد استشكل قوله "صم من كل عشرة أيام ولك أجر ما بقي" مع قوله "صم من كل عشرة أيام يومين ولك أجر ما بقي" الخ. لأنه يقتضى الزيادة في العمل والنقص في الأجر وبذلك ترجم له النسائي وأجيب بأن المراد لك أجر ما بقي بالنسبة إلى التضعيف قال عياض قال بعضهم معنى "صم يوماً ولك أجر ما بقي" أي من العشرة وقوله صم يومين ولك أجر ما بقي" أي من العشرين وفي الثلاثة ما بقي من الشهر وحمله على ذلك استبعاد كثرة العمل وقلة الأجر. وتعقبه عياض بأن الأجر إنما اتحد في كل ذلك لأنه كان نيته أن يصوم جميع الشهر فلما منعه صلى الله عليه وسلم من ذلك إبقاء عليه لما ذكر بقي أجر نيته على حاله، سواء صام منه قليلاً أو كثيراً كما تأولوه في حديث نية المؤمن خير من عمله أي إن أجره في نيته أكثر من أجر عمله لامتداد نيته بما لا يقدر على عمله-انتهى. والحديث المذكور ضعيف، وهو في مسند الشهاب والتأويل المذكور لا بأس به. ويحتمل أيضاً إجراء الحديث على ظاهره، والسبب فيه إنه كلما ازداد من الصوم إزداد من المشقة الحاصلة بسببه المقتضية لتفويت بعض الأجر الحاصل من العبادات التي قد يفوتها مشقة الصوم فينقص الأجر بإعتبار ذلك على أن قوله في نفس الخبر

"صم أربعة أيام ولك أجر ما بقي" يرد الحمل الأول فإنه يلزم منه على سياق التأويل المذكور أن يكون التقدير ولك أجر أربعين. وقد قيده في نفس الحديث بالشهر، والشهر لا يكون أربعين. وكذلك قوله في رواية أخرى للنسائي بلفظ: صم من كل عشرة أيام يوماً ولك أجر تلك التسعة ثم قال فيه من كل تسعة أيام يوماً ولك أجر تلك الثمانية، ثم قال من كل ثمانية أيام يوماً ولك أجر السبعة، فلم يزل حتى قال صم يوماً وأفطر يوماً. وله من طريق آخر بلفظ: صم يوماً ولك أجر عشرة. قلت: زدني قال صم يومين لك أجر تسعة. قلت: زدني قال صم ثلاثة ولك أجر ثمانية، فهذا يدفع في صدر ذلك التأويل الأول كذا في الفتح (واقرأ) أي كل القرآن. قال القسطلاني: أي ما نزل منه إذ ذاك وما سينزل (في كل سبع ليال مرة) أي مرة من الختم (ولا تزد على ذلك) أي على ما ذكر من الصوم والختم، أو المراد لا تزد على ما ذكر من السبع. قال الحافظ: أي لا تغير الحال المذكورة إلى حالة أخرى فأطلق الزيادة، والمراد النقص والزيادة هنا بطريق التدلى أي لا تقرأه في أقل من سبع، ولمسلم قال اقرأ القرآن في كل شهر قال، قلت: يا نبي الله! إني أطيق أفضل من ذلك قال فاقرأه في كل عشرين. قال قلت: يا نبي الله! إني أطيق أفضل من ذلك قال فاقرأه في كل عشر، قلت: يا نبي الله! إني أطيق أفضل من ذلك قال فاقرأه في سبع. ولا تزد على ذلك. ولأبي داود والترمذي والنسائي من طريق وهب بن منبه عن عبد الله بن عمرو. أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في كم يقرأ القرآن قال: في أربعين يوماً، ثم قال: في شهر ثم قال: في عشرين، ثم قال: في خمس عشرة، ثم قال: في عشرة، ثم قال: في سبع، ثم لم ينزل عن سبع. قال الحافظ: وهذا إن كان محفوظاً احتمل في الجمع بينه وبين رواية أبي فروة الآتية تعدد القصة، فلا مانع أن يتعدد قول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر، وفي ذلك تأكيداً، ويؤيده الاختلاف الواقع في السياق. وفي مسند الدارمي من طريق أبي فروة عروة بن الحارث الجهني عن عبد الله بن عمرو قال قلت يا رسول الله! في كم أختم القرآن. قال: أختمه في شهر، قلت: إني أطيق قال أختمه في خمس وعشرين، قلت: إني أطيق قال أختمه في عشرين، قلت: إني أطيق قال أختمه في خمس عشرة، قلت: إني أطيق قال أختمه في خمس، قلت: إني أطيق قال لا. وفي رواية هشيم عن مغيرة وحصين عن مجاهد عن عبد الله بن عمر. وعند أحمد (ج2:ص158) قال فأقرأه في كل شهر قلت: إني أجدني أقوى من ذلك، قال فأقرأه في كل عشرة أيام، قلت إني أجدني أقوى من ذلك، قال أحدهما إما حصين وإما مغيرة. وقال فأقرأه في كل ثلاث. وفي رواية للبخاري في الصوم قال إقرأ القرآن في كل شهر، قال أي عبد الله إني مصححاً من طريق يزيد ابن عبد الله بن الشخير عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً، لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث. ولفظ ابن ماجه لم يفقه الخ. قال السندي: إخبار بأنه لا يحصل الفهم والفقه المقصود من قراءة القرآن فيما دون ثلاث أو دعاء بأن لا يعطيه الله تعالى الفهم،

وعلى التقديرين فظاهر الحديث كراهة الختم فيما دون ثلاث-انتهى. وعند سعيد بن منصور بإسناد صحيح من وجه آخر عن ابن مسعود إقرؤا القرآن في سبع ولا تقرؤه في أقل من ثلاث، ولأبي عبيد في فضائل القرآن من طريق عمرة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يختم القرآن في أقل من ثلاث، وهذا اختيار أحمد كما في المغني (ج2:ص174) وأبي عبيد وإسحاق بن راهويه، وثبت عن كثير من السلف إنهم قرأوا القرآن في دون ذلك. قال الحافظ: وكأن النهى عن الزيادة ليس على التحريم كما أن الأمر في جميع ما مر في الحديث ليس للوجوب، وعرف ذلك من قرائن الحال التي أرشد إليها السياق، وهو النظر إلى عجزه عن سوى ذلك في الحال أو في المآل. وأغرب بعض الظاهرية فقال: يحرم أن يقرأ القرآن. في أقل من ثلاث. وقال النووي: أكثر العلماء على أنه لا تقدير في ذلك، وإنما هو بحسب النشاط والقوة. قال والاختيار إن ذلك يختلف بالأشخاص فمن كان من أهل الفهم وتدقيق الفكر استحب له أن يقتصر على القدر الذي لا يختل به المقصود من التدبير، واستخراج المعاني. وكذا من كان له شغل بالعلم أو غيره من مهمات الدين ومصالح المسلمين العامة يستحب له أن يقتصر على القدر الذي لا يخل بما هو فيه، ومن لم يكن كذلك فالأولى له الاستكثار ما أمكنه من غير خروج إلى الملل ولا يقرؤه هذرمة. قلت: والراجح عندنا هو ما ذهب إليه أحمد أنه يكره أن يقرأه في اقل من ثلاث لما مر من حديث يزيد بن عبد الله بن الشخير عن عبد الله بن عمرو، عند أبي داود والترمذي، ومن حديث ابن مسعود عند سعيد بن منصور ومن حديث عائشة عند أبي عبيده فهذه الأحاديث ظاهرة في التقدير والتحديد، فالصواب أن يتوقف عندها ولا يلتفت إلى ما يخالف ظاهرها من أقوال العلماء وعملهم والله تعالى أعلم. تنبيه المراد بالقرآن في حديث الباب جميعه ولا يرد على هذا أن القصة وقعت قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بمدة، وذلك قل أن ينزل بعض القرآن الذي تأخر نزوله، لأنا نقول سلمنا ذلك لكن العبرة بما دل عليه الإطلاق، وهو الذي فهم الصحابي فكان يقول ليتني لو قبلت الرخصة، ولا شك أنه بعد النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أضاف الذي نزل آخراً إلى ما نزل أولاً فالمراد بالقرآن جميع ما كان نزل إذ ذاك وهو معظمه، ووقعت الإشارة إلى أن ما نزل بعد ذلك يوزع بقسطه قاله الحافظ: (متفق عليه) أخرجه البخاري في التهجد والصوم والأنبياء وفضائل القرآن والنكاح والأدب والاستيذان، ومسلم في الصوم بألفاظ متقاربة، والسياق المذكور ههنا ليس لأحد منهما ولا لغيرهما ممن خرجه من الأئمة كما لا يخفى على من نظر في طرق هذا الحديث وألفاظه. وأخرجه أحمد اثنتين وعشرين مرة مطولاً ومختصراً، وأبوداود والنسائي والبيهقي في الصوم، وقد أطال النسائي في تخريجه طرقه، قال الحافظ في الفتح: رواه جماعة من الكوفيين والبصريين والشاميين عن عبد الله بن عمرو مطولاً ومختصراً. فمنهم من اقتصر على قصة الصلاة، ومنهم من اقتصر على قصة الصيام، ومنهم من ساق القصة كلها، ولم أره من رواية أحد من المصريين عنه مع كثرة روايتهم عنه.

{الفصل الثاني}

{الفصل الثاني} 2075- (20) عن عائشة، قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم الاثنين والخميس)) رواه الترمذي، والنسائي. 2076- (21) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم)) رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2075- قوله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم الاثنين) قال المناوي: بكسر النون على أن إعرابه بالحرف وهو القياس من حيث العربية، قال القسطلاني: وهي الرواية المعتبرة ويجوز فتح النون على أن لفظ المثنى علم لذلك اليوم فأعرب بالحركة لا بالحرف (والخميس) بالنصب، وهذا لفظ النسائي في رواية وله في أخرى كان يتحرى صيام الاثنين والخميس، وهكذا وقع عند الترمذي وابن ماجه أي يقصد صومهما، ويراهما أحرى وأولى. وزاد في حديث أبي هريرة عند ابن ماجه كما سيأتي في الفصل الثالث فقيل يا رسول الله! إنك تصوم الاثنين والخميس فقال إن يوم الاثنين والخميس يغفر الله فيهما لكل مسلم إلا مهتجرين يقول دعهما حتى يصطلحا-انتهى. وسيأتي التعليل بأنه يعرض فيهما الأعمال فكأنه يغفر للمسلمين حين يعرض عليه أعمالهم (رواه الترمذي) وحسنه (والنسائي) وأخرجه أحمد وابن ماجه وابن حبان وصححه وأعله ابن القطان بالراوي عن عائشة وهو ربيعة الجرشي وأنه مجهول. قال الحافظ في التلخيص (ص199) قد أخطأ في ذلك فهو صحابي وفي الباب عن حفصة عند أبي داود وعن أبي هريرة وأم سلمة وسيأتيان. وعن أسامة بن زيد عند أحمد وأبي داود والنسائي وعن واثلة وعبد الله بن مسعود وأبي رافع روى الثلاثة الطبراني في الكبيرة والأول فيه محمد بن عبد الرحمن القشيري وهو متروك، وفي الثاني أبوبلال الأشعري وهو ضعيف، والثالث فيه الحماني وفي كلام. 2076- قوله: (تعرض الأعمال) أي على الله تعالى (يوم الاثنين والخميس) بالجر أي تعرضها الملائكة عليه فيهما. قال الحليمي: يحتمل أن ملائكته الأعمال يتناوبون فيقيم فريق من الاثنين إلى الخميس فيعرج، وفريق من الخميس إلى الاثنين، فيعرج كلما عرج فريق قرأ ما كتب في موضعه من السماء فيكون ذلك عرضاً في الصورة وأما للباري في نفسه فغنى عن نسخهم وعرضهم وهو أعلم باكتساب عبادة منهم. وقال البيجوري: وحكمة العرض أن الله تعالى يباهي بالطائعين الملائكة،

2077- (22) وعن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا ذر! إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام، فصم ثلاثة عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة)) رواه الترمذي، والنسائي. ـــــــــــــــــــــــــــــ وإلا فهو غني عن العرض لأنه أعلم بعبادة من الملائكة (فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم) أي طلباً لزيادة رفع الدرجات. قال في اللمعات: لعله إنما اختار الصوم لفضله، ولأنه لا يدري في أية ساعة تعرض، والصوم يستوعب النهار، ولأنه يجتمع مع الأعمال الأخر بخلاف ماعداه من الأعمال-انتهى. قال ابن الملك: وهذا لا ينافي قوله عليه السلام يرفع عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل للفرق بين الرفع والعرض، لأن الأعمال تجمع في الأسبوع، وتعرض في هذين اليومين. وفي حديث مسلم تعرض أعمال الناس في كل جمعة مرتين يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل مؤمن إلا عبداً بينه وبين أخيه شحناء فيقال أنظروا هذين حتى يصطلحا. قال ابن حجر: ولا ينافي هذا رفعها في شعبان فقال إنه شهر ترفع فيه الأعمال، وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم لجواز رفع أعمال الأسبوع مفصلة وأعمال العام مجملة، كذا في المرقاة. قلت: حديث رفع الأعمال في شعبان، أخرجه النسائي من حديث أسامة بن زيد قال قلت يا رسول الله! لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان قال ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم (رواه الترمذي) وحسنه، وأورده الحافظ في التلخيص وسكت عنه، وأخرجه أيضاً أحمد والدارمي ولابن ماجه معناه كما تقدم. 2077- قوله: (إذا صمت) أي أردت الصوم (من الشهر ثلاثة أيام) هذا الفظ الترمذي، وللنسائي إذا صمت شيئاً من الشهر (فصم ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة) هي أيام الليالي البيض، ففي رواية للنسائي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصوم من الشهر ثلاثة أيام البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة. وفيه دليل على استحباب صوم أيام البيض وهي الثلاثة المعينة في الحديث. وقد وقع الاتفاق بين العلماء على أنه يستحب أن تكون الثلاث المذكورة في وسط الشهر، كما حكاه النووي: واختلفوا في تعيينها، فذهب الجمهور إلى أنها ثالث عشر ورابع عشر وخامس عشر. وقيل هي الثاني عشر. والثالث عشر. والرابع عشر. وحديث أبي ذر هذا وما في معناه يرد ذلك قيل: الحكمة في صوم أيام الليالي البيض أي المقمرة إنه لما عم النور لياليها ناسب أن تعم العبادة نهارها. وقيل الحكمة في ذلك إن الكسوف يكون فيها غالباً، ولا يكون في غيرها وقد أمرنا بالتقرب إلى الله تعالى، بأعمال البر عند الكسوف (رواه الترمذي) وحسنه (والنسائي) وأخرجه أيضاً أحمد وابن حبان وصححه والبيهقي (ج4:ص294) وفي الباب عن أبي هريرة عند أحمد والنسائي وابن حبان،

2078- (23) وعن عبد الله بن مسعود، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم غرة كل شهر ثلاثة أيام، وقلما كان يفطر يوم الجمعة)) . رواه الترمذي. والنسائي. ورواه أبوداود إلى ثلاثة أيام. 2079- (24) وعن عائشة، قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين. ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس)) . رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأرنب قد شواها: فأمرهم أن يأكلوا وأمسك الأعرابي فقال: ما منعك أن تأكل فقال إني أصوم ثلاثة أيام من كل شهر، قال: إن كنت صائماً فصم الغر، أي البيض الليالي بوجود القمر طول الليل. قال الحافظ: وفي بعض طرقه عند النسائي إن كنت صائماً ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة. وفي الباب أيضاً عن قتادة بن ملحان عند أبي داود والنسائي وابن ماجه والبيهقي بلفظ: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا أن نصوم البيض ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة. وقال: هي كهيئة الدهر. وعن جرير عند النسائي والبيهقي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر أيام البيض صبيحة، ثلاث عشرة وأربع عشرة، وخمس عشرة، قال الحافظ: إسناده صحيح. 2078- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم من غرة كل شهر) بضم الغين المعجمة. قال العراقي: يحتمل أن يراد بغرة الشهر أوله وأن يراد بها الأيام الغر، وهي البيض. كذا في قوت المغتذي. وقال في القاموس الغرة من الشهر ليلة استهلال القمر، يعني أول الشهر (ثلاثة أيام) قيل لا منافاة بين هذا الحديث وحديث عائشة وهو أنه لم يكن يبالي من أي أيام الشهر يصوم لأن هذا الراوي وجد المر على ذلك في غالب ما اطلع عليه من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم فحدث بما كان يعرف من ذلك، وعائشة رضي الله عنها اطلعت من ذلك على مالم يطلع عليه الراوي فحدثت بما علمت، فلا تنافي بين الأمرين كذا ذكره القاري. (وقلما كان يفطر يوم الجمعة) أي قل إفطاره يوم الجمعة بل كان كثيراً ما يصومه، وهذا محمول على أنه كان يصومه منضما إلى ما قبله أو إلى ما بعده لا أنه يصومه وحده فلا ينافي ما تقدم من النهي عن أفراده بالصيام، وقد سبق البسط فيه (رواه الترمذي والنسائي) أي تمام الحديث، وكذا أخرجه أحمد (ج1ص406) والبيهقي (ج4ص294) وصححه ابن خزيمة وابن حبان وابن عبد البر وابن حزم (ج7ص21) وحسنه الترمذي (ورواه أبوداود إلى ثلاثة أيام) وروى ابن ماجه صوم الجمعة فقط أي قوله قلما رأيته يفطر يوم الجمعة. 2079- قوله: (يصوم من الشهر) أي من أحد الشهور (السبت والأحد والاثنين) بكسر النون وفتحها بناء على أن أعرابه بالحرف أو الحركة (ومن الشهر الآخر الثلاثاء) بفتح المثلثة وبضم (والأربعاء) بكسر الموحدة ويفتح ويضم وكلاهما ممدود (والخميس)

2080- (25) وعن أم سلمة، قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني أن أصوم ثلاثة أيام من كل شهر، أولها الاثنين والخميس)) . رواه أبوداود والنسائي. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الحافظ: وكان الغرض به أن يستوعب غالباً أيام الأسبوع بالصيام-انتهى. وقال القاري: مراعاة للعدالة بين الأيام فلنها أيام الله تعالى، ولا ينبغي هجران بعضها لانتفاعنا بكلها. قال الطيبي: وقد ذكر الجمعة في الحديث السابق فكان يستوفي أيام الأسبوع بالصيام. قال ابن الملك: أراد عليه الصلاة والسلام أن يبين سنة صوم جميع الأسبوع، وإنما لم يصم صلى الله عليه وسلم الستة متوالية كيلا يشق على الأمة الإقتداء به رحمة لهم وشفقة عليهم (رواه الترمذي) من طريق سفيان عن منصور عن خيثمة عن عائشة وقال هذا حديث حسن، ورواه عبد الرحمن بن مهدي هذا الحديث عن سفيان ولم يرفعه. قال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث: وروى موقوفاً وهو أشبه. 2080- قوله: (أولها) بالرفع (الاثنين) الظاهر الاثنان بالألف لكونه خبراً، فقيل في توجيهه إن الاثنين صار علما، والأعلام لا تتغير عن أصل وضعها بإختلاف العوامل فأعرب بالحركة برفع النون لا بالحرف أو إن التقدير أولها يوم الاثنين، فحذف المضاف وأبقى المضاف إليه على حاله على قراءة، وأسأل القرية وإن كانت شاذة. وقال الطيبي: أولها منصوب لكن بفعل مضمر أي اجعل أولها الاثنين والخميس يعني و"الواو" بمعنى "أو" وعليه ظاهر كلام الشيخ التوربشتي حيث قال صوابه أو الخميس، والمعنى أنها تجعل أول الأيام الثلاثة الاثنين أو الخميس، وذلك لأن الشهر إما أن يكون افتتاحه من الأسبوع في القسم الذي بعد الخميس، ففتح صومها في شهرها ذلك بالاثنين وإما أن يكون بالقسم الذي بعد الاثنين ففتح صوم شهرها ذلك بالخميس، وكذلك وجدت الحديث فيما يرويه من كتاب الطبراني كذا ذكره القاري: وقيل أولها بدل من كل شهر بحذف الجر أي يأمرني أن أصوم ثلاثة أيام من كل شهر من أولها، ولفظ الاثنين والخميس بدل من ثلاثة أيام أي أصوم ثلاثة أيام الاثنين والخميس من أول كل شهر، واللفظ المذكور لأبي داود، وكذا نقله عنه الجزري في جامع الأصول (ج7ص212) وهو ساكت عن تعيين اليوم الثالث، ولفظ النسائي كان يأمر بصيام ثلاثة أول خميس والاثنين والاثنين، ورواه البيهقي (ج4ص295) بلفظ: كان يأمرني أن أصوم ثلاثة أيام من الشهر الاثنين والخميس والخميس، ويؤيد رواية النسائي في تكرار الاثنين، ما رواه أحمد (ج6ص287- 288) والنسائي والبيهقي (ج4ص295) من حديث حفصة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر يوم الاثنين ويوم الخميس ويوم الاثنين من الجمعة الأخرى.

2081- (26) وعن مسلم القرشي، قال: ((سألت – أو سئل – رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام الدهر فقال: إن لأهلك عليك حقا، صم رمضان والذي يليه، ـــــــــــــــــــــــــــــ وما رواه النسائي من حديث أم سلمة قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم من كل شهر ثلاثة أيام الاثنين، والخميس من هذه الجمعة، والاثنين من المقبلة، ويؤيد رواية البيهقي ما رواه أحمد (ج6ص288، 423) والنسائي عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم تسعة من ذي الحجة، ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر أول اثنين من الشهر وخميسين، وما رواه النسائي من حديث ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر يوم الاثنين. من أول الشهر، والخميس الذي يليه، ثم الخميس الذي يليه. قال السندي في حاشية النسائي: حديث أم سلمة يدل على أنه كان يأمر بتكرار الاثنين، وقد سبق من فعله أنه كان يكرر الخميس فدل المجموع على أن المطلوب إيقاع صيام الثلاثة في هذين اليومين. إما بتكرار الخميس أو بتكرار الاثنين والوجهان جائزان-انتهى. قلت: وقد ورد ما يدل على أن اليوم الثالث من الأيام الثلاثة هو يوم الجمعة لا الاثنان أو الخميس، فروى أحمد (ج6ص289، 310) عن أم سلمة قالت كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمرني أن أصوم ثلاثة أيام من كل شهر أولها الاثنين والجمعة والخميس، فهذا يخالف ما تقدم من تكرار الاثنين أو الخميس، ومدار حديث أم سلمة عند أحمد، وكذا النسائي وأبي داود والبيهقي على والدة هنيدة بن خالد الخزاعي، أو امرأته وكلتاهما مجهولة (رواه أبوداود والنسائي) وأخرجه أيضاً أحمد، والبيهقي على اختلاف فيه، كلهم من طريق هنيدة بن الخزاعي عن أمه عن أم سلمة، وقد سكت عنه أبوداود والمنذري. وقال الهيثمي (ج3ص193) بعد ذكر الحديث من مسند الإمام أحمد. قلت: رواه النسائي خلا والجمعة، وأم هنيدة لم أعرفها-انتهى. 2081- قوله: (وعن مسلم القرشي) بضم القاف وفتح الراء نسبة إلى قريش. قال الحافظ في الإصابة: (ج3ص415- 416) مسلم بن عبيد الله القرشي. وقيل: عبيد الله بن مسلم. وقيل: إنه مسلم بن مسلم حديثه في صيام الدهر يدور على هارون بن سلمان الفراء. أخرجه أبوداود والترمذي من طريق عبيد الله بن موسى عن هارون عن عبيد الله بن مسلم القرشي عن أبيه قال: سألت أو سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صيام الدهر-الحديث. وأخرجه النسائي عن أحمد بن يحيى عن أبي نعيم عن هارون به، وعن إبراهيم بن يعقوب عن أبي نعيم عن هارون عن مسلم عن أبيه كذا قال، وأشار الترمذي إلى هذه الرواية فقال، وروى بعضهم عن هارون به،

وكل أربعاء وخميس، فإذا أنت قد صمت الدهر كله)) . رواه أبوداود، والترمذي. 2082- (27) وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة. رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقد وافق زيد بن الحباب عبيد الله بن موسى. وأخرجه النسائي من طريقه وصوب غير واحد إن اسم الصحابي مسلم. وقال البغوي: سكن الكوفة-انتهى. وقال ابن عبد البر في الإستيعاب: مسلم بن عبيد الله القرشي، وليس بوالد ريطة بنت مسلم الأزدي، ولا أدري من أي قريش هو، واختلف فيه فقيل مسلم بن عبيد الله. وقيل: عبيد الله بن مسلم. ومن قال عبيد الله عندي احفظ له حديث واحد في صوم رمضان والذي يليه الخ. وقد قيل إن الصحبة لأبيه عبيد الله القرشي. (فقال إن لأهلك عليك حقاً) أي وصوم الدهر يضعف عن أداء حق الأهل، وفيه إشعار بأن صوم الدهر من شأنه أن يفتر الهمة عن القيام بحقوق الله وحقوق عباده فلذاكره (صم رمضان والذي يليه) قيل أراد الست من شوال، وقيل أراد به شعبان. (وكل أربعاء) بالمد وعدم الانصراف (وخميس) بالجر والتنوين أي من كل جمعة (فإذا) بالتنوين (أنت قد صمت الدهر) قال الطيبي: "الفاء" جزاء شرط محذوف أي إن فعلت ما قلت لك فقد صمت، وإذن جواب جيء لتأكيد الربط (كله) قال القاري: لعل هذا الحديث متقدم على ما سبق من حصول صوم الدهر بثلاثة من كل شهر، لأنه عليه الصلاة والسلام كان يخبر أولاً بالجزا القليل ثم بالثواب الجزيل إعظاماً للمنة عليه وعلى الأمة، وإلا فيقارب مقتضي هذا الحديث أن يصير صوم الدهر مرتين حكما-انتهى. وذلك لأن صوم رمضان وست مما يليه من شوال يساوي صوم الدهر كما تقدم في حديث أبي أيوب وكذلك كل أربعاء وخميس بل هذا يزيد على صوم الدهر، فإن الشهر لا يخلو عن أربعة أربعاء وأربعة خميس، فإذا صام أربعة أربعاء وأربعة خميس فقد صام في الشهر ثمانية أيام فإذا ساوى صوم ثلاثة أيام صوم جميع الشهر فيزيد صوم ثمانية أيام على صوم الشهر فتدبر (رواه أبوداود) وسكت عليه (والترمذي) وقال حديث غريب، ولم يحكم عليه بشيء من الحسن والصحة. وقال المنذري في الترغيب: رواته ثقات وقال العزيزي: إسناده صحيح. 2082- قوله: (نهى) نهي تحريم أو تنزيه (عن صوم يوم عرفة بعرفة) أي في عرفات، وأما في غيرها فمندوب كما سبق في حديث أبي قتادة. قال الأمير اليماني: الحديث ظاهر في تحريم صوم عرفة بعرفة، وإليه ذهب يحيى بن سعيد الأنصاري. وقال يجب إفطاره على الحاج. وقيل: لا بأس به إذا لم يضعف عن الدعاء، ونقل عن الشافعي واختاره الخطابي، والجمهور على أنه يستحب إفطاره،

2083- (28) وعن عبد الله بن بسر، عن أخته الصماء، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، ـــــــــــــــــــــــــــــ وأما هو - صلى الله عليه وسلم - فقد صح أنه كان يوم عرفة بعرفة مفطراً في حجته كما تقدم، ولكن لا يدل تركه الصوم على تحريمه، نعم يدل لأن الإفطار هو الأفضل لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يفعل إلا الأفضل إلا أنه قد يفعل المفضول لبيان الجواز، فيكون في حقه أفضل لما فيه من التشريع والتبليغ بالفعل، ولكن الأظهر التحريم لأنه أصل النهي-انتهى. وقد سبق بسط الكلام في هذه المسألة في شرح حديث أم الفضل (رواه أبوداود) وكذا أحمد (ج2ص304) والنسائي في الكبرى وابن ماجه وابن خزيمة والبخاري في التأريخ الكبير (ج4ص424) والحافظ المزي في تهذيب الكلام (ج1ص379) والحاكم (ج1ص434) والبيهقي (ج4ص284) كلهم من طريق حوشب بن عقيل عن مهدي الهجري عن عكرمة عن أبي هريرة وقد سكت عنه أبوداود وصححه ابن خزيمة. وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري، ووافقه الذهبي واستنكره العقيلي لأن مهدياً الهجري مجهول، ورواه العقيلي في الضعفاء من طريقه، وقال لا يتابع عليه. قال المناري: قول الحاكم على شرط البخاري مردود، فإن مهدياً الهجري ليس من رجال البخاري ولا مسلم. وقال المنذري: في إسناده مهدي الهجري. قال ابن معين: لا أعرفه. وقال العقيلي: لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عن صيام يوم عرفة بعرفة. قال الحافظ في التلخيص (ص199) : قد صححه ابن خزيمة، ووثق مهديا المذكور ابن حبان وترجمة البخاري في التأريخ الكبير وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ولم يذكرا فيه جرحا. 2082- قوله: (وعن عبد الله بن بسر) بضم الموحدة وسكون المهملة هو عبد الله بن بسر أبوبسر المازني ويقال أبوصفوان صحابي صغير ولأبويه وأخويه عطية والصماء صحبة سكن حمص، وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أبيه إن كان محفوظا وأخته الصماء. وقيل: عمته. وقيل: خالته مات بالشام. وقيل: بحمص، منها سنة ثمان وثمانين، وهو ابن أربع وتسعين، وهو آخر من مات بالشام من الصحابة. وقال أبوالقاسم بن سعد: مات سنة ست وتسعين وهو ابن مائة سنة، وكذا ذكره أبونعيم في معرفة الصحابة، وساق في ترجمته حديث وضع النبي - صلى الله عليه وسلم - يده على رأسه، فقال يعيش هذا الغلام قرنا فعاش مائة سنة. (عن أخته الصماء) بالصاد المهملة المفتوحة والميم المشددة وبالمد، وهي بنت بسر المازنية واسمها بهية بضم الموحدة وفتح الهاء وتشديد المثناة التحتية. وقيل: اسمها بهيمة بزيادة الميم. قال الحافظ: هي أخت عبد الله بن بسر. وقيل: عمته. وقيل: خالته روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: عن عائشة عنه في النهي عن صوم يوم السبت وعنها عبد الله بن بسر وأبوزيادة عبيد الله بن زياد، ورجح دحيم الأول. قال أبوزرعة: قال لي دحيم أهل بيت أربعة صحبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بسر وابناه عبد الله وعطية وأختهما الصماء (لا تصوموا يوم السبت) أي وحده (إلا فيما افترض عليكم) بصيغة المجهول.

فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبه، أو عود شجرة فليمضغه. رواه أحمد، وأبوداود، والترمذي، وابن ماجه، والدارمي. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال المنذري في الترغيب: هذا النهي إنما هو عن إفراده بالصوم لما تقدم من حديث أبي هريرة، لا يصوم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوماً قبله أو يوماً بعده، فجاز إذاً صومه. قال الطيبي: قالوا النهي عن الإفراد كما في الجمعة، والمقصود مخالفة اليهود فيهما، والنهي فيهما للتنزيه عند الجمهور، وما افترض يتناول المكتوب والمنذور وقضاء الفوائت وصوم الكفارة، وفي معناه ما وافق سنة مؤكدة كعرفة وعاشوراء أو وافق وردا، وزاد ابن الملك وعشر ذي الحجة أو في خير الصيام صيام داود، فإن المنهي عنه شدة الاهتمام والعناية به حتى كأنه يراه واجبا كما تفعله اليهود. وقال القاري: فعلى هذا يكون النهي للتحريم، وأما على غير هذا الوجه فهو للتنزيه بمجرد المشابهة (إلا لحاء عنبه) بكسر اللام بعدها حاء مهملة ممدوداً قشر الشجر، والعنبة بكسر المهملة وفتح النون هي الحبة من العنب الفاكهة المعروفة، والمراد قشر حبة واحدة من العنب (أو عود شجرة) عطف على لحاء (فليمضغه) قال في القاموس: مضغه كمنعه ونصره لاكه بأسنانه وهذا تأكيد بالإفطار لنفي الصوم، وإلا فشرط الصوم النية فإذا لم توجد لم يوجد ولو لم يأكل (رواه أحمد) (ج6ص368) (وأبو داود والترمذي) الخ. وأخرجه أيضاً النسائي في الكبرى وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم (ج1ص435) والطبراني والبيهقي (ج4ص302) وحسنه الترمذي وصححه ابن السكن وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري. وقال النووي: صححه الأئمة. وقال الحافظ في بلوغ المرام: رجاله ثقات إلا أنه مضطرب، وقد أنكره مالك. وقال أبوداود: هو منسوخ-انتهى. قلت: أما الاضطراب فلأنه روى كما ذكره المصنف، وروى عن عبد الله بن بسر عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس فيه عن أخته الصماء، وهذه رواية ابن حبان، وهكذا وقع في رواية لابن ماجه. قال الحافظ في التلخيص (ص200) وليست هذه بعلة قادحة فإنه أيضاً صحابي. وقيل: عنه عن أبيه بسر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: عنه عن الصماء عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال النسائي: هذا حديث مضطرب. قال الحافظ: ويحتمل أن يكون عند عبد الله عن أبيه وعن أخته بواسطة، وهذه طريقة من صححه. ورجح عبد الحق الرواية الأولى وتبع في ذلك الدارقطني لكن هذا التلون في الحديث الواحد بالإسناد مع اتحاد المخرج يوهن راوية وينبئ لقلة ضبطه إلا أن يكون من الحفاظ المكثرين المعروفين بجمع طرق الحديث فلا يكون ذلك دالا على قلة ضبطه وليس الأمر هنا كذا، بل اختلف فيه على الراوي عن عبد الله بن بسر أيضاً، وأما إنكار مالك له فإنه قال أبوداود عن مالك أنه قال هذا حديث كذب-انتهى.

2084- (29) وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صام يوماً في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقاً، كما بين السماء والأرض)) . رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ روى أبوداود عن الأوزاعي أنه قال ما زلت لحديث عبد الله بن بسر كاتماً حتى رأيته انتشر، وروى عن الزهري أنه كان إذا ذكر له قال هذا حديث حمصي إلى أنه ضعيف. وقول مالك المذكور أصرح في ذلك وأبلغ. وأما قول أبي داود أنه منسوخ فلعله أراد ما سيأتي في الفصل الثالث من حديث أم سلمة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم يوم السبت ويوم الأحد أكثر ما يصوم من الأيام-الحديث، فالنهي عن صومه كان أول الأمر حيث كان - صلى الله عليه وسلم - يحب موافقة أهل الكتاب، ثم كان آخر أمره - صلى الله عليه وسلم - مخالفتهم كما صرح به حديث أم سلمة نفسه. وقيل بل النهي كان عن إفراده بالصوم إلا إذا صام ما قبله أو ما بعده كما تقدم عن المنذري والطيبي. قال الشوكاني: وقد جمع صاحب البدر المنير بين هذه الأحاديث يعني حديث الصماء وحديث أم سلمة وحديث عائشة السابق في صومه - صلى الله عليه وسلم - في السبت والأحد بأن النهي متوجه إلى الإفراد، والصوم بإعتبار انضمام ما قبله أو بعده إليه، ويؤيد هذا ما تقدم من إذنه - صلى الله عليه وسلم - لمن صام الجمعة أن يصوم السبت بعدها، والجمع مهما أمكن أولى من النسخ-انتهى. 2084- قوله: (جعل الله بينه وبين النار خندقاً) الخندق، بوزن جعفر، حفير حول أسوار المدن، وحول الحصون معرب كندة (كما بين السماء والأرض) أي مسيرة خمسمائة عام. قال الطيبي: استعارة تمثيلية الحاجز المانع شبه الصوم بالحصن وجعل له خندقاً حاجزاً بينه وبين النار التي شبهت بالعدو، ثم شبه الخندق في بعد غوره بما بين السماء والأرض، (رواه الترمذي) في فضائل الجهاد من رواية الوليد بن جميل عن القاسم عن أبي أمامة وقال هذا حديث غريب: ونقله المنذري في الترغيب عن الترمذي وسكت عنه. قال ورواه الطبراني إلا أنه قال من صام يوماً في سبيل الله بعد الله وجهه عن النار مسيرة عام، ركض الفرس الجواد المضمر. وقد ذهب طوائف من العلماء إلى أن هذه الأحاديث جاءت في فضل الصوم في الجهاد، وبوب على هذه الترمذي وغيره، وذهبت طائفة إلى أن كل الصوم في سبيل الله إذا كان خالصاً لوجه الله تعالى-انتهى. قلت: والراجح عندنا هو القول الأول، وقد تقدم البسط في ذلك وحديث أبي أمامة هذا رواه الطبراني في الأوسط والصغير من حديث أبي الدرداء قال المنذري والهيثمي (ج3ص194) إسناده حسن ورواه في الأوسط من حديث جابر. قال الهيثمي: وفيه عيسى بن سليمان الجرجاني وهو ضعيف.

2085- (30) وعن عامر بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الغنيمة البادرة الصوم في الشتاء)) رواه أحمد، والترمذي، وقال: هذا حديث مرسل. وذكر حديث أبي هريرة: ما من أيام إلى الله في "باب الأضحية". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2085- قوله: (وعن عامر بن مسعود) أي ابن أمية بن خلف الجُمّحى مختلف في صحبته ذكره المؤلف وابن مندة وابن عبد البر في الصحابة. وقال الدوري: عن ابن معين له صحبة. وقال أبوداود: سمعت مصعباً يقول: له صحبة كان عاملا لابن الزبير على الكوفة، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وقال: يروي المراسيل، ومن زعم أن له صحبة بلا دلالة فقد وهم. وقال أبوزرعة: هو من التابعين. وقال ابن السكن: ويعقوب بن سفيان: ليست له صحبة. وقال الترمذي في جامعه: حديثه مرسل، لأنه لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم. وقال في العلل الكبير قال البخاري: لا صحبة له ولا سماع من النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال أحمد: ما أرى له صحبة، وسأله أبوداود أله صحبة؟ فقال لا أدري كذا ذكره الحافظ في تهذيب التهذيب (ج5ص81) وفي القسم الأول من حرف العين من الإصابة (ج2ص260) وقال في القسم الأول من حرف الميم في ترجمة والده مسعود بن أمية بن خلف، قتل أبوه أميه يوم بدر، ولولده عامر بن مسعود رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم والأكثرون قالوا: إن حديثه مرسل فتكون الصحبة لأبيه وكان من مسلمة الفتح أو مات على كفره قبيل الفتح، وولد له عامر قبل الفتح بقليل، فلذلك لم يثبت له صحبة السماع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان معدوداً في الصحابة لأن له رؤية-انتهى. (الغنيمة الباردة الصوم في الشتاء) لوجود الثواب بلا تعب كثير و"في الفائق" الغنيمة الباردة التي تجيء عفواً من غير أن يصطلي دونها بنار الحرب ويباشر حر القتال في البلاء. وقيل: هي الهيئة الطيبة مأخوذة من العيش البارد، والأصل في وقوع البرد عبارة عن الطيب والهنأة أن الماء والهواء لما كان طيبهما يبردهما خصوصاً في البلاد الحارة. قيل: ماء بارد، وهواء بارد، على طريق الاستطابة، ثم كثر حتى قيل عيش بارد وغنيمة باردة وبرد أمرنا. قال التوربشتي: الغنيمة الباردة، هي التي يحوزها صاحبها عفواً صفواً لا يمسه فيها نصب، والمعنى أن الصائم في الشتاء يحوز الأجر من غير أن يمسه حر العطش، أو يصيبه لذعة الجوع. وإنما قال الغنيمة الباردة الصوم في الشتاء، ولم يقل الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة، تنبيهاً على معنى الاختصاص أي يبلغ الصوم في هذا المعنى مالا يبلغ غيره. وقال الطيبي: التركيب من قلب التشبيه لأنه الأصل الصوم في الشتاء كالغنيمة الباردة، وفيه من المبالغة أن يلحق الناقص بالكامل كما يقال زيد كالأسد فإذا عكس. وقيل: الأسد كزيد يجعل الأصل كالفرع، والفرع كأصل يبلغ التشبيه إلى الدرجة القصوى في المبالغة، والمعنى أن الصائم يحوز الأجر من غير أن يمسه حر العطش أو يصيبه ألم الجوع من طول اليوم-انتهى. قلت: السياق المذكور للترمذي، ورواه أحمد والبيهقي وغيرهما بلفظ: الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة، وكذا وقع في حديث أنس عند الطبراني، وفي حديث جابر عند ابن عدي وغيره كما في الجامع الصغير (رواه أحمد) (ج4ص335)

{الفصل الثالث}

{الفصل الثالث} 2086- (31) عن ابن عباس، ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود صياماً يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا اليوم الذي تصومونه فقالوا: هذا يوم عظيم: أنجى الله فيه موسى وقومه، ـــــــــــــــــــــــــــــ (والترمذي) وأخرجه أيضاً البيهقي (ج4ص296) وأبويعلى والطبراني في الكبير كلهم من طريق سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن نمير بن عريب عن عامر بن مسعود (وقال هذا حديث مرسل) وكذا قال البيهقي وابن حبان وابن السكن وغيرهم، لأن عامر بن مسعود لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم كما سبق، وفي الباب عن أنس عند الطبراني في الأوسط وابن عدي والبيهقي في شعب الإيمان وعن جابر عند ابن عدي والبيهقي في الشعب، وعن أبي سعيد عند البيهقي في السنن (ج4ص297) الشتاء ربيع المؤمن قصر نهاره فصام وطال ليلة فقام، واقتصر أحمد على قوله الشتاء ربيع المؤمن (وذكر حديث أبي هريرة ما من أيام أحب إلى الله) تمامه أن يتعبد فيها من عشر ذي الحجة يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة وقيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر (في باب الأضحية) لبيان فضيلة العمل في عشر ذي الحجة. قال القاري: إن كان مراده إن صاحب المصابيح ذكره في باب الأضحية، وإنه أسقطه لتكراره فهذا اعتذار حسن منه، إلا أنه كان الأولى أن يعكس الأمر فيه، وإن كان مراده إنه حق لأنه أولى بذلك الباب فلا يخفى أنه غير صواب-انتهى. قلت: ذكر البغوي حديث أبي هريرة هذا في باب الأضحية، وفي باب صيام التطوع، فأسقطه المصنف ههنا لتكراره، لكن كان الأولى أن يسقطه في باب الأضحية لأنه أنسب وأولى بباب الصيام. 2086- قوله: (قدم المدينة) أي بعد الهجرة من مكة (فوجد اليهود) أي في السنة الثانية. لأن قدومه في الأولى كان بعد عاشوراء في ربيع الأول (صياماً) أي ذوي صيام أو صائمين (يوم عاشوراء فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هذا اليوم الذي تصومونه) أي ما سبب صومه وقد استشكل ظاهر الخبر لاقتضائه أنه - صلى الله عليه وسلم - حين قدومه المدينة وجد اليهود صياماً يوم عاشوراء، وإنما قدم المدينة في ربيع الأول وأجيب بأن المراد إن أول علمه بذلك وسؤاله عنه كان بعد أن قدم المدينة، أو يكون في الكلام حذف، وتقديره قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فأقام إلى يوم عاشوراء فوجد اليهود فيه صياماً، ويحتمل أن يكون أولئك اليهود كانوا يحسبون يوم عاشوراء بحساب السنين الشمسية،

وغرق فرعون وقومه. فصامه موسى شكراً، فنحن نصومه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فنحن أحق وأولى بموسى منكم، فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بصيامه)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصادف يوم عاشوراء بحسابهم اليوم الذي قدم فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة لكن لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بصيام عاشوراء رده إلى حكم شرعه، وهو الاعتبار بالأشهر الهلالية والسنين القمرية فأخذ أهل الإسلام بذلك (هذا يوم عظيم) أي وقع فيه أمور عظيمة توجب تعظيم مثل ذلك اليوم (وغرق) بالتشديد (فرعون وقومه) بالنصب فيهما. قال الطيبي: غرقه وأغرقه بمعنى، وفي نسخة أغرق، وفي أخرى بكسر الراء المخففة ورفع المنصوبين (فصامه موسى شكراً) لله تعالى (فنحن نصومه) أي شكراً أيضاً أو متابعة لموسى، وللبخاري في الهجرة، ونحن نصومه تعظيماً. وزاد أحمد (ج2ص360) من حديث أبي هريرة وهو اليوم الذي استوت فيه السفينة على الجودي فصامه نوح شكراً (فنحن) أي إذا كان الأمر كذلك فنحن (أحق وأولى بموسى) أي بمتابعته (منكم) فإنا موافقون له في أصول الدين ومصدقون لكتابه، وأنتم مخالفون لها بالتغيير والتحريف. قال السندي: قوله "أحق بموسى منكم" يدل على أنه قصد موافقة موسى لقوله تعالى: {فبهداهم اقتده} [الأنعام: 90] لا موافقة اليهود حتى يقال اللائق مخالفتهم وكأنه لهذا عزم في آخر الأمر على ضم اليوم التاسع إلى يوم عاشوراء تحقيقاً لمخالفة. وقال الطيبي: وافقهم في صوم يوم عاشوراء مع أن مخالفتهم مطلوبة، والجواب عنه أن المخالفة مطلوبة فيما أخطأوا فيه كما في يوم السبت لا في كل أمر. قال القاري: الأظهر في الجواب أنه صلى الله عليه وسلم أول الهجرة لم يكن مأموراً بالمخالفة، بل كان يتألفهم في كثير من الأمور، ومنها أمر القبلة. ثم لما ثبت عليهم الحجة ولم يمنعهم الملائمة، وظهر منهم العناد والمكابرة اختار مخالفتهم وترك مؤالفتهم انتهى. واستشكل رجوعه صلى الله عليه وسلم إلى اليهود في ذلك لأنهم كفرة، وخبر الكافر في الديانات مردود وأجاب المازري باحتمال أن يكون أوحى إليه بصدقهم أو تواتر عنده الخبر بذلك، ولا يشترط الإسلام في التواتر، زاد عياض أو أخبره به من أسلم منهم كابن سلام وغيره، ثم قال ليس في الخبر أنه ابتداء الأمر بصيامه بل في حديث عائشة التصريح بأنه كان يصومه قبل ذلك، فغاية ما في القصة أنه لم يحدث له بقول اليهود تجديد حكم. وإنما هي صفة حال وجواب سؤال. قلت: أراد بحديث عائشة ما رواه الشيخان عنها قالت كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية (أي قبل أن يهاجر إلى المدينة) فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك يوم عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه. ولا مخالفة بين هذا وبين حديث ابن عباس، إذ لا مانع من توارد الفريقين على صيامه مع اختلاف السبب في ذلك.

قال الحافظ: أما صيام قريش لعاشوراء فلعلهم تلقوه من الشرع السالف ولهذا كانوا يعظمونه بكسوة الكعبة فيه وغير ذلك، وإليه جنح ابن القيم حيث قال في الهدي: لا ريب إن قريشاً تعظم هذا اليوم، وكانوا يكسون الكعبة وصومه من تمام تعظيمه. وقال القرطبي: لعل قريشاً كانوا يستندون في صومه إلى شرع من مضى كإبراهيم عليه السلام وفي المجلس الثالث من مجالس الباغندي الكبير عن عكرمة، أنه سئل عن ذلك فقال إذ نبت قريش ذنباً فعظم في صدورهم فقيل لهم صوموا عاشوراء يكفر ذلك: قال القرطبي: وصوم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة يحتمل أن يكون بحكم الموافقة لهم كما في الحج أو أذن الله له في صيامه على أنه فعل خير فلما هاجر ووجد اليهود يصومونه وسألهم وصامه وأمر بصيامه احتمل أن يكون ذلك استئلافاً لليهود باستقبال قبلتهم، ويحتمل غير ذلك وعلى كل حال فلم يصمه إقتداء بهم فإنه كان يصومه قبل ذلك، وكان ذلك في الوقت الذي يحب فيه موافقة أهل الكتاب فيما لم ينه عنه كذا في الفتح (فصامه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) كما كان يصومه قبل ذلك (وأمر) أصحابه (بصيامه) الظاهر أنه أمر إيجاب ففيه دليل لمن قال كان قبل النسخ واجباً، ومن لا يقول به يقول أنه أكد ندبه، ثم نسخ تأكيد ندبه فبقي مندوباً في الجملة. وسيأتي البسط في ذلك في شرح حديث جابر بن سمرة. فإن قيل يخالف حديث ابن عباس هذا ما رواه البخاري من حديث أبي موسى قال: كان يوم عاشوراء تعده اليهود عيداً، وفي رواية مسلم كان يوم عاشوراء تعظمه اليهود، فإنه يشعر بأن الصوم كان لمخالفتهم وحديث ابن عباس يدل على أنه كان لموافقتهم قلنا لا منافاة بينهما إذ اليهود ثم غير اليهود هنا وأولئك كانوا يصومونه وهؤلاء لا يصومونه، فوافق أولئك في الصوم لمعرفته أنه الحق بوحي وخالف هؤلاء فيه لمعرفته خلاف ذلك. وقال الحافظ: ظاهر حديث أبي موسى إن الباعث على الأمر بصومه محبة مخالفة اليهود حتى يصام ما يفطرون فيه، لأن يوم العيد لا يصام، وحديث ابن عباس يدل على أن الباعث على صوم موافقتهم على السبب وهو شكراً لله تعالى على نجاة موسى مع موافقة عادته، لكن لا يلزم من تعظيمهم واعتقادهم بأنه عيد، إنهم كانوا لا يصومونه فلعلهم كان من جملة تعظيمهم في شرعهم أن يصوموه. وقد ورد ذلك صريحاً في حديث أبي موسى هذا فيما أخرجه البخاري في الهجرة بلفظ: فإذا أناس من اليهود يعظمون عاشوراء ويصومونه ولمسلم من وجه آخر قال: كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء يتخذونه عيداً ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشارتهم-انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصوم وذكر الأنبياء والهجرة والتفسير، ومسلم في الصوم واللفظ له، وأخرجه أيضاً أحمد (ج1ص291- 320- 336- 340) وأبوداود وابن ماجه والدارمي والبيهقي (ج4ص286- 289) والنسائي في الكبرى والطحاوي (ج1ص337) .

2087- (32) وعن أم سلمة، قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم يوم السبت ويوم الأحد أكثر ما يصوم من الأيام، ويقول: "إنهما يوماً عيد للمشركين فأنا أحب أن أخالفهم)) . رواه أحمد. 2088- (33) وعن جابر بن سمرة، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بصيام يوم عاشوراء ويحثنا عليه ويتعاهدنا عنده فلما فرض رمضان لم يأمرنا، ولم ينهنا عنه، ولم يتعاهدنا عنده)) . رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2087- قوله: (وعن أم سلمة) بفتح اللام أم المؤمنين (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم يوم السبت ويوم الأحد أكثر ما يصوم) وفي المسند أكثر مما يصوم (من الأيام) أي الأخر (ويقول أنهما يوماً عيد للمشركين) وفي المسند أنهما عيد المشركين السبت لليهود، والأحد للنصارى، وإنما سموا مشركين لقولهم عزير ابن الله والمسيح ابن الله، وإما للتغليب، وأراد من يخالف دين الإسلام ذكره الطيبي (فأنا أحب أن أخالفهم) أي مجموع الفريقين، وفيه دليل على استحباب صوم السبت والأحد مخالفة لأهل الكتاب، وظاهره صوم كل على الإنفراد والاجتماع، لكن يحمل على صومهما جميعاً متواليين لئلا يخالف ما تقدم من النهي عن صوم يوم السبت، فالمنهي عنه إفراد السبت وفي معناه إفراد الأحد، والمستحب صومهما جميعاً تحقيقاً لمخالفة الفريقين (رواه أحمد) (ج6ص324) وأخرجه أيضاً ابن خزيمة وابن حبان والحاكم (ج1ص436) والبيهقي (ج4ص303) بلفظ: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما كان يصوم من الأيام يوم السبت ويوم الأحد وكان يقول إنهما يوماً عيد للمشركين فأنا أريد أن أخالفهم، وعزاه الحافظ في التلخيص (ص200) وبلوغ المرام وللنسائي أيضاً ولعله في الكبرى. 2088- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بصيام يوم عاشوراء) أي يأمرنا أمراً مؤكداً (ويحثنا عليه) أي يرغبنا إليه (ويتعاهدنا) أي يحفظنا ويراعي حالنا ويتفحص عم صومنا أو بتخولنا بالموعظة (فلما فرض) بصيغة المجهول (رمضان لم يأمرنا) أي به (ولم ينهنا عنه ولم يتعاهدنا) أي لم يتفقدنا، وفي الحديث دليل على أن صوم عاشوراء كان واجباً، ثم نسخ ورد إلى التطوع وإليه ذهب أبوحنيفة وهي رواية عن أحمد واختاره الحافظ وابن القيم كما سيأتي، وبه جزم الباجي من المالكية حيث قال: أول ما فرض من الصيام صوم يوم عاشوراء، فلما فرض رمضان نسخ وجوبه-انتهى. والأصح عند الشافعي إنه لم يجب أصلا. قال العيني: ج11ص118) اتفق العلماء على أن صوم عاشوراء الآن سنة وليس بواجب واختلفوا في حكمه أول الإسلام،

فقال أبوحنيفة: كان واجباً. واختلف أصحاب الشافعي على وجهين، أشهرهما، أنه لم يزل سنة من حين شرع ولم يك واجباً قط في هذه الأمة، ولكنه كان يتأكد الاستحباب، فلما نزل صوم رمضان صار مستحباً دون ذلك الاستحباب. والثاني، كان واجباً كقول أبي حنيفة، ونقل عياض عن بعض السلف أنه كان يقول كان فرضاً وهو باق على فرضيته لم ينسخ، لكن انقرض القائلون بهذا وكان ابن عمر يكره قصده بالصوم، ثم انقرض القول بهذا ونقل عياض وابن عبد البر والنووي وغيرهم الإجماع على أنه الآن ليس بفرض والإجماع على أنه مستحب. وقال ابن قدامة (ج3ص74) اختلف في صوم عاشوراء هل كان واجباً، فذهب القاضي إلى أنه لم يكن واجباً وقال هذا قياس المذهب. واستدل بشيئين أحدهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من لم يأكل بالصوم، والنية في الليل شرط في الواجب. والثاني، أنه لم يأمر من أكل بالقضاء، ويشهد لهذا ما روى معاوية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن هذا يوم عاشوراء ولم يكتب الله عليكم صيامه فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر، وهو حديث صحيح، وروى عن أحمد أنه كان مفروضاً لما روت عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صامه وأمر بصيامه، فلما افترض رمضان كان هو الفريضة وترك عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه، وهو حديث صحيح وحديث معاوية محمول على أنه أراد ليس هو مكتوباً عليكم الآن. وأما تصحيحه بنية من النهار وترك الأمر لقضاءه، ففيه أنه قد روى أبوداود إن أسلم أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال صمتم يومكم هذا قالوا لا، قال: فأتموا بقية يومكم وأقضوه-انتهى. قلت: قد سبق الجواب عن صحة النية في نهار عاشوراء في شرح حديث حفصة، من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له. وأما حديث معاوية فقال الحافظ قد استدل به على أنه لم يكن فرضاً قط، ولا دلالة فيه لاحتمال أن يريد ولم يكتب الله عليكم صيامه على الدوام كصيام رمضان، وغايته أنه عام خص بالأدلة الدالة على تقدم وجوبه، أو المراد أنه لم يدخل في قوله تعالى: {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم} [البقرة: 183] ثم فسره بأنه شهر رمضان، ولا يناقض هذا الأمر السابق بصيامه الذي صار منسوخاً، ويؤيد ذلك إن معاوية إنما صحب النبي صلى الله عليه وسلم من سنة الفتح، والذين شهدوا أمره بصيام عاشوراء والنداء بذلك شهدوه في السنة الأولى أوائل العام الثاني-انتهى كلام الحافظ. وهو تلخيص كلام الإمام ابن القيم في الهدي (ج1ص171) ومن أحب التفصيل رجع إليه. قلت: واستدل من قال بوجوب صوم عاشوراء في أول الإسلام بأحاديث كثيرة ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد، والعيني في شرح البخاري، والطحاوي في شرح معاني الآثار من شاء الوقوف عليها رجع إلى هذه الكتب، وهذا القول هو الراجح عندنا. قال الحافظ: ويؤخذ من مجموع الأحاديث أنه كان واجباً لثبوت الأمر بصومه ثم تأكد الأمر بذلك ثم زيادة التأكيد بالنداء العام، ثم زيادته بأمر من أكل بالإمساك، ثم زيادته بأمر الأمهات أن لا يرضعن فيه الأطفال،

2089- (34) وعن حفصة، قالت: ((أربع لم تكن يدعهن النبي صلى الله عليه وسلم: صيام عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر، وركعتان قبل الفجر)) . رواه النسائي. 2090- (35) وعن ابن عباس، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفطر أيام البيض في حضر ولا في سفر)) رواه النسائي. ـــــــــــــــــــــــــــــ وبقول ابن مسعود الثابت في مسلم لما فرض رمضان ترك عاشوراء مع العلم بأنه ما ترك استحبابه، بل هو باق. فدل على أن المتروك وجوبه وأما قول بعضهم المتروك تأكد استحبابه والباقي مطلق استحبابه فلا يخفي ضعفه بل تأكد استحبابه باق، ولا سيما مع استمرار الاهتمام به حتى في عام وفاته صلى الله عليه وسلم حيث يقول: لئن عشت لأصومن التاسع والعاشر ولترغيبه في صومه وأنه يكفر سنة وأي تأكيد أبلغ من هذا-انتهى. وقد ذكر نحو هذا ابن القيم في الهدي (ج1ص116) (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد (ج5ص96) والطحاوي (ج1ص336) والبيهقي (ج4ص289) . 2089- قوله: (وعن حفصة) أم المؤمنين (قالت أربع) أي خصال (لم تكن يدعهن) أي يتركهن (النبي - صلى الله عليه وسلم -) فاعل تنازع فيه فعلان (صيام عاشوراء والعشر) بالجر. وقيل: بالرفع أي صيام عشر ذي الحجة، والمراد من العشر تسعة أيام مجازاً، وقد روى أحمد (ج6ص288- 423) وأبوداود والنسائي عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء-الحديث. وهذا يبين المراد من قوله العشر في حديث حفصة (وثلاثة أيام) بالوجهين (من كل شهر) وهي الاثنان والخميس، والاثنان من الجمعة الأخرى. كما في حديث سواء الخزاعي عن حفصة عند أحمد (ج6ص287) وأبي داود والبيهقي (ج4ص295) (وركعتان قبل الفجر) كذا في جميع النسخ من المشكاة وهكذا وقع في جامع الأصول (ج7ص206) والذي في سنن النسائي وركعتين قبل الغداة، وهكذا في مسند الإمام أحمد (ج7ص287) وكذا ذكره المجد بن تيمية في المنتقى وعزاه لأحمد والنسائي، والظاهر إن المصنف تبع في ذلك الجزري، ولم يراجع سنن النسائي وأرادت حفصة بذلك ركعتي سنة الصبح. والحديث يدل على استحباب صوم ما ذكره فيه من الأيام، وقد سبق وجه الجمع بينه وبين ما تقدم من حديث عائشة، ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً في العشر (رواه النسائي) وأخرجه أيضاً أحمد. 2090- قوله: (لا يفطر أيام البيض) هذا على حذف المضاف يريد أيام الليالي البيض، وهي الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر،

2091- (36) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكل شيء زكاة وزكاة الجسد الصوم)) . رواه ابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وسميت لياليها بيضاً لأنها المقمرات من أوائلها على آخرها فناسب صيامها شكراً لله تعالى (في حضر ولا سفر) أي ولا في سفر ولا مزيدة للتأكيد، وفيه دليل على استحباب صيام أيام البيض في السفر، ويلحق بها صوم سائر التطوعات المرغب فيها (رواه النسائي) من طريق يعقوب بن عبد الله بن سعد القُمِّي عن جعفر بن أبي مغيرة الخزاعي القمى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. قال الشوكاني: وفي يعقوب وجعفر مقال، قلت: قال الدارقطني في يعقوب: ليس بالقوي. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال أبوالقاسم الطبراني: كان ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال أبونعيم الأصبهاني: كان جرير بن عبد الحميد إذا رآه قال: هذا مؤمن آل فرعون. وقال محمد بن حميد الرازي: دخلت بغداد فاستقبلني أحمد وابن معين فسألاني عن أحاديث يعقوب القمى. وأما جعفر بن أبي مغيرة فذكره أيضاً ابن حبان في الثقات. ونقل عن أحمد بن حنبل توثيقه. وقال ابن مندة ليس بالقوي في سعيد بن جبير. وقال الحافظ في التقريب ترجمتها: صدوق بهم، فالحق إن حديثهما لا ينزل عن درجة الحسن. 2091- قوله: (لكل شيء زكاة) أي صدقة. وقال السندي: أي نماء يعطي بعضه أو طهارة يطهر به (وزكاة الجسد الصوم) فإنه يذاب بعض البدن منه وينقص وتطهر الذنوب به وتمحص. قال الطيبي: أي وصدقة الجسد ما يخلصه من النار بجنة الصوم وقال الحفني: لكل شيء زكاة أي شيء يطهره ومطهر الجسد الصوم فهو كزكاة المال من حيث إن كلا منهما ينقص في الحس ويزيد في المعنى. وقال الدميري: وإنما كان الصوم زكاة البدن لأنه سر من أسرار الله تعالى، وسبب لنحول الجسد وزيادة بركته وخيره المعنوي، فأشبه الزكاة المالية فإنها وإن نقصته حسا زادته بركة ونمواً فكذلك الصوم. وقال السندي: قوله "لكل شيء زكاة" أي ينبغي للإنسان أن يخرج من كل شيء قدر الله فيكون ذلك زكاة له، وزكاة الجسد الصوم، فإنه ينتقص به الجسد في سبيل الله فصار ذلك الذي نقص منه كأنه خرج منه لله على أنه زكاة له (رواه ابن ماجه) وفيه موسى بن عبيدة الربذي. قال البوصيري: وهو متفق على تضعيفه، وذكره المنذري في الترغيب مصدراً بلفظه: روى، ثم أهمل الكلام في آخره وقد جعل ذلك دليلاً على ضعف إسناد الحديث عنده، والحديث رواه الطبراني في الكبير عن سهل بن سعد. قال الهيثمي (ج3ص182) وفيه حماد بن الوليد وهو ضعيف.

2092- (37) وعنه، ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم الاثنين والخميس. فقيل: يا رسول الله! إنك تصوم يوم الاثنين والخميس. فقال:"إن يوم الاثنين والخميس يغفر الله فيهما لكل مسلم إلا ذا هاجرين، يقول: دعهما حتى يصطلحا)) . رواه أحمد، وابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2092- قوله: (كان يصوم يوم الاثنين والخميس) بالنصب، وقيل بالجر واللام بدل عن المضاف، أي يوم الخميس، وفي نسخة بالجر عطفاً على الاثنين (إنك تصوم) أي كثيراً (يوم الاثنين) بكسر النون ويفتح (والخميس) بالنصب أي فما الحكمة في صومهما (إن يوم الاثنين والخميس) بالنصب والجر (يغفر الله فيهما لكل مسلم) قد تقدم أنه يعرض فيهما الأعمال فكأنه يغفر للمسلمين حين يعرض عليه أعمالهم (إلا ذا) ذا مزيدة (هاجرين) بالتثنية أي قاطعين أي ولو كانا صائمين وقوله "إلا ذا هاجرين" كذا وقع في جميع النسخ من المشكاة، والذي في مسند أحمد (ج2ص326) إلا المتهاجرين أي من التهاجر، وفي ابن ماجه "إلا متهجرين" أي من الاهتجار. قال السندي: أي متقاطعين لأمر لا يقتضى ذلك وإلا فالتقاطع للدين ولتأديب الأهل جائز (يقول) أي الله للملك الموكل على محو السيئة عند ظهور آثار المغفرة (دعهما) أي أتركهما (حتى يصطلحا) أي إلى أن يقع الصلح بينهما فحينئذٍ يغفر لهما. وقال السندي: قوله دعهما كأنه خطاب للملك الذي يعرض الأعمال فمعنى دعهما أي تعرض عملهما أو لعله إذا غفر لأحد يضرب الملك على سيئآته أو يمحوها من الصحيفة بوجوده فمعنى دعهما لا تمح سيئاتهما (رواه أحمد) (ج2ص329) بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما يصوم الاثنين والخميس فقيل له فقال، إن الأعمال تعرض كل اثنين وخميس فيغفر الله لكل مسلم إلا المتهاجرين فيقول أخرهما (وابن ماجه) قال السندي في حاشية ابن ماجه وفي الزوائد: إسناده صحيح غريب، ومحمد بن رفاعة ذكره ابن حبان في الثقات، تفرد بالرواية عنه الضحاك بن مخلد، وباقي رجال إسناده على شرط الشيخين، وله شاهد من حديث أسامة بن زيد، رواه أبوداود والنسائي، وروى الترمذي بعضه في الجامع. وقال: حسن غريب-انتهى. وذكر المنذري هذا الحديث في ترغيبه، وعزاه لابن ماجه فقط. وقال رواته ثقات، ورواه مالك ومسلم وأبوداود والترمذي باختصار ذكر الصوم، ولفظ مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرض الأعمال في اثنين وخميس فيغفر الله عزوجل في ذلك اليوم لكل امرىء لا يشرك بالله شيئاً إلا امرأ كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقول: أتركوا هذين حتى يصطلحا، وفي رواية له (أي لمسلم وأخرجها أيضاً أحمد) (ج2ص268، 389، 400، 465) تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين والخميس فيغفر لكل عبدلا يشرك بالله شيئاً إلا رجل كان بينه وبين أخيه شحناء-الحديث.

2093- (38) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صام يوماً ابتغاء وجه الله، بعده الله من جهنم كبعد غراب طائر وهو فرخ حتى مات هرماً)) رواه أحمد. 2094- (39) وروى البيهقي في "شعب الإيمان" عن سلمة بن قيس. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2093- قوله: (ابتغاء وجه الله) نصب على العلة أي ذاته وطلب قربة ورضاه (كبعد غراب) أي بعداً مثل بعد غراب (طائر) كذا في جميع النسخ الحاضرة من المشكاة، والذي في مسند الإمام أحمد (ج2ص526) طار أي بلفظ الماضي وكذا نقله الهيثمي في مجمع الزوائد (ج3ص181) عن مسندي أحمد والبزار (وهو فرخ) بفتح فسكون أي صغير (حتى مات هرماً) بفتح فكسر أي كبيراً قال الطيبي: طائر صفة غراب "وهو فرخ" حال الضمير في طائر "وحتى مات" غاية الطيران و"هرماً" حال من فاعل مات، مقابل لقوله وهو فرخ. وقيل: يضرب الغراب مثلاً في طول العمر شبه بعد الصائم عن النار ببعد غراب طار من أول عمره إلى آخره-انتهى. قيل: يعيش الغراب ألف عام كذا في المرقاة (رواه أحمد) (ج2ص526) قال حدثنا عبد الله بن يزيد أي المقري ثنا ابن لهيعة عن خالد بن يزيد عن لهيعة (أي ابن عقبة) أبي عبد الله عن رجل قد سماه ثنى سلمة بن قيصر (في النسخة المطبوعة قيس وهو غلط كما ستعرف) عن أبي هريرة وهذا إسناد ضعيف، لأن عبد الله بن لهيعة بن عقبة الحضرمي فيه كلام معروف، والراوي عن سلمة بن قيصر مجهول، والحديث عزاه المنذري والهيثمي إلى أحمد والبزار جميعاً. وقالا: في إسناده رجل لم يسم، وسيأتي مزيد الكلام على إسناده. 2094- قوله: (وروى البيهقي) أي الحديث المذكور (في شعب الإيمان عن سلمة بن قيس) كذا في جميع النسخ من المشكاة، وكذا ذكره المؤلف في أسماء رجاله في الصحابة وهذا غلط ووهم منه، والصواب سلمة ابن قيصر بفتح قاف وسكون ياء وفتح صاد مهملة وترك صرف. قال المنذري: وعن سلمة بن قيصر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من صام يوماً ابتغاء وجه الله باعده الله من جهنم كبعد غراب طار، وهو فرخ حتى مات هرماً. رواه أبويعلى والبيهقي، ورواه الطبراني فسماه سلامة بزيادة ألف، وفي إسناده عبد الله بن لهيعة. ورواه أحمد والبزار من حديث أبي هريرة، وفي إسناده رجل لم يسم. وقال الهيثمي بعد ذكر هذا الحديث: من رواية سلمة بن قيصر، رواه أبويعلى والطبراني في الكبير والأوسط إلا أنه قال سلامة بن قيصر، وفيه ابن لهيعة وفيه كلام-انتهى. قلت: وفيه أيضاً عمرو بن ربيعة الحضرمي وهو لا يعرف كما في الميزان (ج1ص402) واللسان (ج3ص59) في ترجمة سلام بن قيس. وأما سلمة بن قيصر، فاختلف فيه أنه صحابي، فحديثه هذا مسند، أو تابعي أرسل حديثه، فقال أحمد بن صالح المصري له صحبة، وذكره الحسن بن سفيان وأبويعلى والطبراني وابن حبان وابن مندة في الصحابة. وقال ابن يونس المصري: سلمة بن قيصر الحضرمي وأهل الشام يقولون سلامة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم روى عنه مرثد بن عبد الله اليزني وأبوالشعثاء عمرو بن ربيعة الحضرمي،

(7) باب

(7) باب {الفصل الأول} 2095- (1) عن عائشة، قالت: ((دخل عليّ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: هل عندكم شيء، فقلنا: لا، قال: فإني إذاً صائم، ـــــــــــــــــــــــــــــ قال ابن صالح وسلمة عندنا أصح، وذكره البخاري فيمن اسمه سلامة. وقال روى عمرو بن ربيعة ولا يصح حديثه. وقال الذهبي في الميزان: (ج1ص403) سلامة بن قيصر تابعي أرسل لم يصح حديثه. وقال الحافظ في الإصابة: سلامة بن قيصر، ويقال سلمة نزل مصر، قال أحمد بن صالح: له صحبة، ونفاها أبوزرعة. وأخرج حديثه مطين، والحسن بن سفيان والطبراني من طريق عمرو بن ربيعة، سمعت سلامة بن قيصر يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من صام الخ. ومداره على ابن لهيعة، وقال عبد الله بن يزيد المقري عند أحمد (كما تقدم) عن سلمة بن قيصر عن أبي هريرة، ورجح أبوزرعة هذه الزيادة وأنكرها أحمد بن صالح فقال هو خطأ من المقري-انتهى مختصراً. وقال في تعجيل المنفعة (ص160، 161) قال ابن يونس: حديث سلمة بن قيصر المسند معلول، ثم ذكر الاختلاف فيه، وصوب أحمد بن صالح المصري أنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم بغير واسطة أبي هريرة وإن عبد الله بن يزيد المقري، وهو شيخ أحمد فيه وهم فيه، حيث زاد في السند أبا هريرة، وقد وقع التصريح بسماع سلمة بن قيصر من النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسند أبي يعلى وغيره، ثم ذكر الحافظ قول الذهبي المتقدم. وقال والعمدة في هذا على ابن يونس فإنه أعرف بأهل مصر-انتهى. وقال الذهبي في تجريده (ج1ص250) سلمة بن قيصر يقال له سلامة حديثه في مسند أبي يعلى من رواية عمرو بن ربيعة-انتهى. وقد ظهر بما ذكرنا أن الراجح في اسمه سلمة بن قيصر وأنه صحابي وإن حديثه هذا مسند لا مرسل. وأما سلمة بن قيس وهو الأشجعي فهو صحابي أيضاً روى عنه هلال بن يساف وأبوإسحاق السبيعي. قال الغوي: روى ثلاثة أحاديث-انتهى. وهذا الحديث ليس منها فما وقع في نسخ المشكاة سلمة بن قيس غلط، والصواب سلمة بن قيصر والله تعالى أعلم. (باب) بالتنوين وقيل بالسكون. قال القاري: وفي نسخة في توابع لصوم التطوع. 2095- قوله: (ذات يوم) أي يوماً من الأيام (هل عندكم شيء) ولأبي داود هل عندكم طعام، وفي رواية للنسائي غداء بفتح المعجمة والدال المهملة وهو ما يؤكل قبل الزوال، وفي رواية الترمذي هل عندك غداء (فإني إذاً) بالتنوين (صائم) وفي رواية للنسائي إذاً أصوم، وفيه دليل على جواز نية النفل في النهار، وبه قال الأكثرون،

ثم أتانا يوماً آخر، فقلنا: يارسول الله! أهدي لنا حيس، فقال: أرينيه فلقد أصبحت صائماً فأكل)) . رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقد تقدم البسط في هذه المسألة في شرح حديث حفصة لا صيام لمن يجمع الصيام من الليل (أهدي لنا) أي أرسل إلينا بطريق الهدية (حيس) بفتح الحاء المهملة وسكون التحتية بعدها سين مهملة تمر مخلوط بسمن وقط. وقيل: طعام يتخذ من الزبد والتمر والإقط، وقد يبدل الإقط بالدقيق، والزبد بالسمن، وقد يبدل السمن بالزيت قاله القاري. وقال في القاموس: الحيس الخلط، وتمر يخلط بسمن وأقط فيعجن شديداً، ثم يندر منه نواه وربما جعل فيه سويق-انتهى. (أرينيه) أمر من إلا راءة، ورواية أبي داود أدنيه من الإدناء، وكذا وقع في رواية للنسائي "وأرينيه" كناية عنها لأن ما يكون قريباً يكون مرئياً ذكره الطيبي، وفي رواية لمسلم هاتيه (فلقد أصبحت صائماً) وفي رواية للنسائي إني قد أصبحت أريد الصوم. (فأكل) وفي رواية أخرى لمسلم فأكل، ثم قال قد كنت أصبحت صائماً، وفي رواية للنسائي فأفطر. قال السندي: هذا يدل على جواز الفطر للصائم تطوعاً بلا عذر وعليه كثير من محققي علماءنا الحنفية، لكنهم أوجبوا القضاء. وقال ابن الهمام: لا خلاف بين أصحابنا في وجوب القضاء إذا أفسد عن قصد أو غير قصد بأن عرض الحيض للصائمة المطوعة خلافاً للشافعي. وإنما اختلاف الرواية في نفس الإفساد هل يباح أولاً، فظاهر الرواية لا إلا بعذر ورواية المنتقى يباح بلا عذر، قال وعندي إن رواية المنتقى أوجه-انتهى. وقال الخطابي (ج2ص124) في الحديث من الفقه جواز إفطار الصائم قبل الليل إذا كان متطوعاً به، ولم يذكر فيه إيجاب القضاء وكان غير واحد من الصحابة يفعل ذلك، منهم ابن مسعود وحذيفة وأبوالدرداء وأبوأيوب الأنصاري، وبه قال الشافعي وأحمد. وقال ابن قدامة: (ج3ص151) من دخل في صيام تطوع استحب له إتمامه ولم يجب فإن خرج منه فلا قضاء عليه، روى عن ابن عمر وابن عباس أنهما أصبحا صائمين ثم أفطراً. وقال ابن عمر: لا بأس به مالم يكن نذراً أو قضاء رمضان. وقال ابن عباس: إذا صام الرجل تطوعاً ثم شاء أن يقطعه قطعة، وإذا دخل في صلاة تطوعاً ثم شاء أن يقطعها قطعها وقال ابن مسعود: متى أصبحت تريد الصوم فأنت على آخر النظرين إن شئت صمت وإن شئت أفطرت، فهذا مذهب أحمد والثوري والشافعي وإسحاق. وقد روى حنبل عن أحمد إذا أجمع على الصيام فأوجبه على نفسه فأفطر من غير عذر أعاد يوماً مكان ذلك اليوم، وهذا محمول على أنه استحب له ذلك أو نذره ليكون موافقاً لسائر الروايات عنه، وقال النخعي وأبوحنيفة ومالك: يلزم بالشروع فيه، ولا يخرج منه إلا لعذر، فإن خرج قضى، وعن مالك لا قضاء عليه (أي إذا أفطر بعذر) واحتج من أوجب القضاء بما روى عن عائشة إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالقضاء يعني ما سيأتي في الفصل الثالث من حديث الزهري عن عروة عن عائشة، وسيأتي الجواب عنه.

قال ابن قدامة: ولنا ما روى مسلم وأبوداود والنسائي عن عائشة قالت دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً فقال هل عندكم شيء فقلت لا-الحديث. وقال الحافظ: جواز الفطر من صوم التطوع هو قول الجمهور، ولم يجعلوا عليه قضاء إلا أنه يستحب له ذلك، وروى عبد الرزاق عن ابن عباس أنه ضرب لذلك مثلاً كمن ذهب بمال ليتصدق به ثم رجع ولم يتصدق به أو تصدق ببعضه وأمسك بعضه. وعن مالك الجواز وعدم القضاء بعذر، والمنع، وإثبات القضاء بغير عذر، وعن أبي حنيفة يلزمه القضاء مطلقاً ذكره الطحاوي وغيره. وأغرب ابن عبد البر فنقل الإجماع على عدم وجوب القضاء عمن أفسد صومه بعذر. قلت ويدل على ما ذهب إليه الجمهور من جواز الإفطار، وعدم وجوب القضاء حديث أبي جحيفة الذي رواه البخاري والترمذي في قصة زيارة سلمان أبا الدرداء، وإفطار أبي الدرداء لقسم سلمان لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرر ذلك، ولم يبين لأبي الدرداء وجوب القضاء عليه، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. وأجاب القرطبي عنه بأن إفطار أبي الدرداء كان لقسم سلمان ولعذر الضيافة. وفيه إن هذا يتوقف على أن هذا العذر من الأعذار التي تبيح الإفطار، وقد نقل ابن التين عن مذهب مالك إنه لا يفطر لضيف نزل به ولا لمن حلف عليه بالطلاق والعتاق. واستدل للجمهور أيضاً بحديث عائشة الذي نحن في شرحه لأنه لم يذكر فيه القضاء. وأجيب عنه بأنه زاد فيه بعضهم فأكل ثم قال أصوم يوماً مكانه، أخرجه النسائي في السنن الكبرى، والدارقطني والشافعي والبيهقي في المعرفة، وفي السنن الكبرى (ج4ص275) والطحاوي (ص355) كلهم من رواية ابن عيينة عن طلحة بن يحيى عن عمته عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين. وقد صحح هذه الزيادة أبومحمد عبد الحق كما في البناية (ج2ص356) والمرقاة (ج2ص554) وقال ابن التركماني: هذه الزيادة من ثقة أصر عليها فهي مقبولة. قلت في كون هذه الزيادة محفوظة صحيحة نظر، فإنها قد ضعفها الأئمة الحفاظ كالنسائي والدارقطني والشافعي والبيهقي. قال النسائي: هذا خطأ يعني من ابن عيينة. ونسب الدارقطني الوهم فيها لمحمد بن عمرو الباهلي الراوي عنده ابن عيينة، لكن رواها النسائي عن محمد بن منصور عن ابن عيينة، وكذا رواها الشافعي عن ابن عيينة لكن قال سمعت سفيان بن عيينة عامة مجالسه لا يذكر فيه، سأصوم يوماً مكانه ثم عرضته عليه قبل موته بسنة فذكره فيه. وقال الحافظ في التلخيص: (ص197) ذكر الشافعي إن ابن عيينة زادها قبل موته بسنة-انتهى. وابن عيينة كان في الآخر قد تغير. وقال في تهذيب التهذيب قال ابن عمار: سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول اشهدوا إن سفيان بن عيينة اختلط سنة سبع وتسعين ومائة، فمن سمع منه في هذه السنة وبعدها فسماعه لا شيء. قال الحافظ: وقد وجدت عن يحيى بن سعيد شيئاً يصلح أن يكون سبباً لما نقله عنه ابن عمار في حق ابن عيينة،

وذلك ما أورده أبوسعد بن السمعاني في ترجمة إسماعيل بن أبي صالح المؤذن من ذيل تاريخ بغداد بسند له قوى إلى عبد الرحمن بن بشر بن الحكم. قال سمعت يحيى بن سعيد يقول قلت لابن عيينة كنت تكتب الحديث، وتحدث اليوم وتزيد في إسناده أو تنقص منه، فقال عليك بالسماع الأول فإني قد سمعت. وقد ذكر أبومعين الرازي في زيادة كتاب الإيمان لأحمد إن هارون بن معروف قال له إن ابن عيينة تغير أمره بآخره-انتهى. وهذا كله يدل على أن الشافعي قد بين علة الحديث بقوله سمعت سفيان بن عيينة عامة مجالسه لا يذكر فيه الخ. وقال البيهقي في المعرفة: وقد رواه جماعة عن سفيان دون هذه اللفظة، ورواه جماعة عن طلحة بن يحيى دون هذه اللفظة، منهم سفيان الثوري وشعبة ووكيع ويحيى القطان وغيرهم. وقال في السنن بعد ذكر كلام الشافعي المذكور: ورواية ابن عيينة عامة دهره لهذا الحديث لا يذكر فيه هذا اللفظ مع رواية الجماعة عن طلحة لا يذكره أحد، منهم الثوري وشعبة وعبد الواحد ابن زياد ووكيع ويحيى القطان ويعلى بن عبيد وغيرهم، تدل على خطأ هذه اللفظة. وقد روى من وجه آخر عن عائشة ليس فيه هذه اللفظة-انتهى. واجتماع هؤلاء الأئمة الحفاظ على تضعيف هـ1ذه الزيادة مقدم على تصحيح عبد الحق، وليس كل زيادة من الثقة تقبل بل لكل زيادة حكم يخصها، كما ذكر الزيلعي (ج1ص336، 337) وههنا قد وجدت قرينة تدل على كون هذه الزيادة وهماً ومدرجة، فالحكم مقبولة مردود. وعلى تقدير أن تكون محفوظة يحمل القضاء على الندب. قال البيهقي: وحمل الشافعي قوله سأصوم يوماً مكانه أي تطوعاً وجعله بمثابة قضاءه عليه السلام الركعتين اللتين بعد الظهر حين شغله عنهما الوفد. واستدل للجمهور أيضاً بما روى البخاري وغيره من أمره صلى الله عليه وسلم جويرية بالإفطار من صوم يوم الجمعة. وبحديث أم هانىء الآتي. وقد وقع في رواية لأحمد (ج6ص343، 344) والنسائي في الكبرى والدارقطني (ص235) والدارمي والطحاوي (ج1ص353) والبيهقي (ج4ص278، 279) إن كان قضاء من رمضان فصومي يوماً مكانه، وإن كان تطوعاً فإن شئت فاقضي وإن شئت فلا تقضي. وبما رواه البيهقي (ج4ص279) عن أبي سعيد قال صنعت للنبي صلى الله عليه وسلم طعاماً فلما وضع قال رجل أنا صائم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاك أخوك وتكلف لك أفطر وصم مكانه يوماً إن شئت، رواه إسماعيل بن أبي أويس عن أبيه عن ابن المنكدر عنه. قال الحافظ في الفتح: وإسناده حسن وهو دال على عدم الإيجاب. واحتج من أوجب القضاء بما سيأتي من حديث الزهري عن عروة أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر عائشة وحفصة بالقضاء حين أفطرتا من صوم التطوع. والجواب عنه بأنه حديث ضعيف غير صالح للاستدلال كما ستعرف. وعلى تقدير الصحة يحمل الأمر بالقضاء على الاستحباب، لتجتمع الأحاديث الواردة في الباب.

واحتجوا أيضاً لذلك ولتحريم الأكل من غير عذر بقوله تعالى: {ثم أتموا الصيام على الليل} [البقرة: 187] فإنه يعم الفرض والنفل. وبقوله تعالى: {أوفوا بالعقود} [المائدة: 1] وهذا قد عقد الصوم فوجب أن يفيء به. وبقوله تعالى: {ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه} [الحج: 30] وليس من تعمد الفطر بمعظم لحرمة الصوم. وبقوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} [محمد: 33] وبقوله تعالى: {ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها} [الحديد: 27] الآية سيقت في معرض ذمهم على عدم رعاية ما التزموه من القرب التي لم تكتب عليهم، والقدر المؤدي عمل كذلك، فوجب صيانته عن الأبطال بهذين النصين فإذا أفطر وجب قضاءه تفادياً أي تبعداً عن الأبطال. وأجيب بأن هذه النصوص كلها من الأدلة العامة، وقد تقرر في موضعه إن الخاص يقدم على العام. قال ابن المنير المالكي: ليس في تحريم الأكل في صوم النفل من غير عذر إلا الأدلة العامة كقوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} إلا أن الخاص يقدم على العام كحديث سلمان ونحوه. وقال ابن عبد البر المالكي: من احتج في هذا بقوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} فهو جاهل بأقوال أهل العلم فإن الأكثر على أن المراد بذلك النهي عن الرياء كأنه قال لا تبطلوا أعمالكم بالرياء بل اخلصوها لله وقال آخرون: {لا تبطلوا أعمالكم} بارتكاب الكبائر (أو بالكفر والنفاق أو بالمن والأذى ونحوها) ولو كان المراد بذلك النهي عن إبطال مالم يفرضه الله عليه ولا أوجب على نفسه بنذر وغيره لأمتنع عليه الإفطار إلا بما يبيح الفطر من الصوم الواجب وهم لا يقولون بذلك والله أعلم. وحديث الباب رواه ابن ماجه من طريق طلحة بن يحيى عن مجاهد عن عائشة وزاد قالت، وربما صام وأفطر. قلت: كيف ذا قالت إنما مثل هذا مثل الذي يخرج بصدقة فيعطي بعضاً ويمسك بعضاً، وروى النسائي هذا المثل من هذا الوجه مرفوعاً. قال السندي في حاشية ابن ماجه: قوله"صام وأفطر" أي جمع بينهما. وفيه إن من عزم على الصوم ثم أفطر له أجر القدر الذي مضى فيه على صومه، وهو بمنزله إعطاءه بعض ما قصد التصدق به، وعلى هذا لا ينتهض الاستدلال بقوله: {ولا تبطلوا أعمالكم} على عدم جواز إفطار الصوم أصلاً فافهم والله أعلم-انتهى. واحتجوا أيضاً لوجوب القضاء بما روى الدارقطني (ص237) عن جابر قال. صنع رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طعاماً فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحاباً له، فلما أتى بالطعام تنحى أحدهم، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - مالك قال غني صائم فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلف لك أخوك وصنع، ثم تقول إني صائم كل وصم يوماً مكانه. ورواه أبوداود الطيالسي (ص293) والدارقطني أيضاً من حديث أبي سعيد. قال الدارقطني: هذا أي حديث أبي سعيد مرسل. وأجيب بأن الأمر فيهما محمول على الندب كما يدل عليه رواية أبي سعيد عند البيهقي بلفظ: صم مكانه يوماً إن شئت، فعلق القضاء على المشيئة وهذا ليس من شأن الواجب.

2096- (2) وعن أنس، قال: ((دخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم سليم فأتته بتمر وسمن، فقال: أعيدوا سمنكم في سقاءه، وتمركم في وعائه، فإني صائم. ثم قام إلى ناحية من البيت فصلى غير المكتوبة فدعا لأم سليم وأهل بيتها)) . رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ واحتجوا أيضاً بالقياس على الحج والعمرة النفلين حيث يجب قضاءهما إذا أفسدا اتفاقاً. وأجيب عنه بأن الحج امتاز بأحكام لا يقاس غيره عليه فيها، فمن ذلك إن الحج يؤمر مفسده بالمضي في فاسده، والصيام لا يؤمر مفسده بالمضي فيه فافترقا، ولأنه قياس في مقابلة النص فلا يعتد به (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والشافعي وابن حبان والطيالسي والدارقطني (ص236) والطحاوي (ج1ص355) والبيهقي (ج4ص275) وغيرهم. 2096- قوله: (دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - على أم سليم) هي والدة أنس المذكور واسمها الغميصاء بالغين المعجمة والصاد المهملة أو الرميصاء بالراء بدل المعجمة. وقيل: اسمها سهلة. وعند أحمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على أم حرام وهي خالة أنس، لكن في بقية الحديث ما يدل على أنهما كانتا مجتمعتين (فأتته) أم سليم (بتمر وسمن) أي على سبيل الضيافة (في سقاءه) بكسر السين ظرف الماء من الجلد، والجمع أسقية، وربما يجعل فيه السمن والعسل. (فإني صائم) فيه دليل على أن من صام تطوعاً لا يجب عليه الإفطار إذا قرب إليه الطعام، وإن أفطر يجوز للحديث السابق. وقد ترجم البخاري لحديث أنس هذا بلفظ: باب من زار قوماً فلم يفطر عندهم. قال الحافظ: أي في صوم التطوع، وهذه الترجمة تقابل الترجمة الماضية، وهي من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع وموقعها أن لا يظن إن فطر المرء من صيام التطوع لتطييب خاطر أخيه حتم عليه، بل المرجع في ذلك إلى من علم من حاله من كل منهما أنه يشق عليه الصيام فمتى عرف أنه لا يشق عليه كان الأولى أن يستمر على صومه-انتهى. قال القاري: حديث أنس هذا بظاهره يؤيد من قال إن الضيافة غير عذر، والأظهر أنها عذر، ولكنه مخير لقوله عليه الصلاة والسلام إذا دعى أحدكم إلى طعام فليجب فإن شاء طعم وإن شاء لم يطعم. رواه مسلم، وأبوداود عن جابر-انتهى. قلت: وأخرجه ابن ماجه أيضاً ولفظه "من دعى إلى طعام وهو صائم فليجب، فإن شاء طعم وإن شاء ترك" (فصلى غير المكتوبة) يعني التطوع، وفي رواية أحمد عن ابن أبي عدي عن حميد عن أنس فصلى ركعتين، وصلينا معه وهذه القصة غير القصة التي رواها في البخاري باب الصلاة على الحصير حيث صرح هناك بأنه أكل وههنا لم يأكل (فدعا لأم سليم وأهل بيتها) في الحديث من الفوائد، جواز تحفة الزائر بما حضر بغير تكلف، وجواز رد الهدية إذا لم يشق ذلك على المهدي، وإن أخذ من رد عليه ذلك له ليس من العود في الهبة،

2097- (3) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دعى أحدكم إلى طعام وهو صائم فليقل: إني صائم)) . 2098- (4) وفي رواية، قال: ((إذا دعى أحدكم فليجب، فإن كان صائماً فليصل، وإن كان مفطراً فليطعم)) . رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ وفيه حفظ الطعام وترك التفريط فيه، وجبر خاطر المزور إذا لم يؤكل عنده بالدعاء له، ومشروعية الدعاء عقب الصلاة، وتقديم الصلاة أمام طلب الحاجة وزيارة الإمام بعض رعيته (رواه البخاري) في الصيام وفي الدعوات وهو من أفراده وأخرجه أيضاً أحمد (ج3ص108، 188) . 2097- قوله: (إذا دعى أحدكم إلى طعام) عرساً كان أو نحوه (وهو صائم) نفلاً أو قضاء أو نذراً (فليقل إني صائم) أي اعتذاراً للداعي وإعلاماً بحاله فإن سمح له ولم يطالبه بالحضور فله التخلف، وإلا حضر الدعوة، وليس الصوم عذراً في التخلف، لكن إذا حضر لا يلزمه الأكل ويكون الصوم عذراً في ترك الأكل إلا أن يشق على صاحب الطعام ترك إفطاره، فيستحب له حينئذٍ الفطر وإلا فلا هذا إذا كان صوم تطوع فإن كان صوماً واجباً حرم الفطر، وفي الحديث أنه لا بأس بإظهار العبادة النافلة كالصلاة والصوم وغيرهما إذا دعت إليه حاجة، والمستحب إخفاءها إذا لم تكن حاجة، وفيه الإرشاد إلى حسن المعاشرة وإصلاح ذات البين وتأليف القلوب بحسن الإعتذار عند سببه. 2098- قوله: (إذا دعى أحدكم) أي إلى طعام عرساً كان أو غيره (فليجب) أي فليحضر الدعوة. قيل: وجوباً. وقيل: ندباً. وقيل: وجوباً في وليمة العرس، وندباً في غيرها. قال: بالأول الظاهرية. وبالثاني، المالكية والحنابلة والحنفية. وبالثالث الشافعية. (فإن كان صائماً فليصل) بضم المثناة التحتية وفتح الصاد المهملة وتشديد اللام المكسورة أي فليدع لأهل الطعام بالبركة كما في حديث ابن مسعود. عند الطبراني، وإن كان صائماً فليدع بالبركة، وقد روى إن أبي بن كعب لما حضر الوليمة وهو صائم أثنى ودعا، وعند أبي عوانة عن نافع كان ابن عمر إذا دعى أجاب فإن كان مفطراً أكل، وإن كان صائماً دعا لهم وبرك، ثم انصرف. وحمله الطيبي على ظاهره فقال أي ركعتين في ناحية البيت (ليحصل له فضلها وليتبرك أهل المنزل والحاضرون) كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيت أم سليم-انتهى. قال القاري: ظاهر حديث أم سليم أن يجمع بين الصلاة والدعاء-انتهى. والجمع بين هذه الرواية وبين الرواية الأولى أنه يعتذر المدعو أولاً فيقول إني صائم فإن أبى فليحضر وليدع له بالبركة، ويداوم على صومه إن لم يتأذ الداعي بترك أكله ولم يشق عليه صومه، وإلا فيفطر،

{الفصل الثاني}

{الفصل الثاني} 2099- (5) وعن أم هانىء، قالت: ((لما كان يوم الفتح فتح مكة، جاءت فاطمة فجلست على يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأم هانىء عن يمينه، فجاءت الوليدة بإناء فيه شراب، فناولته، فشرب منه، ثم ناوله أم هانىء فشربت منه، فقالت: يا رسول الله! لقد أفطرت وكنت صائمة، فقال لها: أكنت تقضين شيئاً؟ قالت: لا، قال: فلا يضرك إن كان تطوعاً)) . رواه أبوداود، والترمذي، والدارمي. ـــــــــــــــــــــــــــــ ومما يدل على عدم لزوم الأكل للصائم عند الإجابة ما ذكرنا من حديث جابر عند ابن ماجه بلفظ: من دعى على طعام وهو صائم فليجب فإن شاء طعم وإن شاء ترك (وإن كان مفطراً فليطعم) أي فليأكل ندباً. وقيل: وجوباً إن خاف المعاداة (رواه مسلم) الرواية الأولى أخرجها مسلم في الصوم من طريق ابن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة وأخرجها من هذا الوجه أحمد (ج2ص242) والترمذي وأبوداود وابن ماجه والدارمي أيضاً، والرواية الثانية أخرجها مسلم في النكاح من رواية هشام عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة وأخرجها أحمد (ج2ص279) والترمذي وأبوداود، وهذا ظاهر في أنهما حديثان لا حديث واحد له روايتان فكان الأولى للمصنف أن يصدر الحديث الثاني بلفظه وعنه والله أعلم. 2099- قوله: (عن أم هانىء) بهمزة بعد نون مكسورة بنت أبي طالب (لما كان يوم الفتح) أي زمن الفتح أو عام الفتح (فتح مكة) بالجر بدل أو بيان (جاءت فاطمة) بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (وأم هانىء عن يمينه) وفي رواية لأحمد، وجاءت أم هانىء فقعدت عن يمينه. قال الطيبي: قوله "وأم هانىء عن يمينه" إما حال أي جاءت فاطمة وجلست على يساره، والحال إن أم هانىء عن يمينه. وإما عطف على تقديره وجاءت أم هانىء فجلست عن يمينه، وعلى التقديرين الكلام على خلاف مقتضى الظاهر، لأن الظاهر أن يقال وأنا جالسة عن يمينه أو جلست عن يمينه، فأما أن يحمل على التجريد كأنها تحكي عن نفسها بذلك، أو إن الراوي وضع كلامه مكان كلامها يعني به أنه نقله بالمعنى (فجاءت الوليدة) أي الأمة ولم أقف على تسميتها (بإناء فيه شراب) أي من ماء فإنه المراد عند الإطلاق (فناولته) أي الجارية والضمير المنصوب له عليه الصلاة والسلام، والمفعول الثاني مقدر وهو الإناء (ثم ناوله) أي الإناء (أم هانىء) إما لكونها عن اليمين أو لكبر سنها (لقد أفطرت وكنت) الواو للحال (صائمة) أي فما الحكم في إفطاري، وإنما لم تسأل قبل تناولها إيثار لسؤره - صلى الله عليه وسلم - على صوم التطوع أو خوفاً عن فوت سؤره،

وفي رواية لأحمد (ج6ص424) ثم قالت (أي بعد شربها فضله صلى الله عليه وسلم) يا رسول الله لقد فعلت شيئاً ما أدري يوافقك أم لا، قال وما ذاك يا أم هانىء قالت: كنت صائمة فكرهت أن أرد فضلك فشربته (أكنت تقضين) أي بهذا الصوم (شيئاً) أي من الواجبات عليك (فلا يضرك) أي الإفطار، وفي رواية لأحمد فلا بأس عليك (إن كان) أي صومك (تطوعاً) وهو للتأكيد لأن المتطوع له أن يفطر ولو بلا عذر. قال الخطابي: في هذا بيان أن القضاء غير واجب إذا أفطر في تطوع، يعني لأنه لم يذكر فيه القضاء، والأصل عدمه، ولو كان القضاء واجباً لبينه لها مع حاجتها على البيان كذا قيل. وقد تقدم أنه وقع في رواية أحمد والنسائي والدارقطني والدارمي والطحاوي والبيهقي التصريح منه - صلى الله عليه وسلم - بالتخيير في القضاء في صوم التطوع. قال الترمذي بعد رواية حديث الباب: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم أن الصائم المتطوع إذا أفطر فلا قضاء عليه، إلا أن يحب أن يقضيه، وهو قول سفيان الثوري وأحمد وإسحاق والشافعي-انتهى. قلت: وهو مذهب مجاهد وطاؤس وهو قول ابن عباس، وروى عن سلمان وأبي الدرداء وغيرهم (رواه أبوداود والترمذي والدارمي) أخرجه أبوداود والدارمي من طريق من جرير بن عبد الحميد عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله ابن الحارث عن أم هانىء، ومن طريق أبي داود أخرجه البيهقي (ج4ص277) وأخرجه الترمذي من طريق أبي الأحوص عن سماك بن حرب عن أم هانىء، والحديث أخرجه أيضاً أحمد (ج6ص342- 343- 424) والنسائي في الكبرى والدارقطني (ص235) والطحاوي (ج1ص353- 354) والبيهقي (ج4ص276، 278، 279) والطبراني وسعيد بن منصور والأثرم وللحديث طرق وألفاظ عندهم. وقد سكت عنه أبوداود. وقال المنذري: في إسناده مقال، ولا يثبت، وفي إسناده اختلاف كثير أشار إليه النسائي. وقال الترمذي: في إسناده مقال-انتهى. وحاصل ما ذكروه من الاضطراب في إسناده إنه اختلف على سماك بن حرب فيه، فإنه رواه تارة عن أبي صالح، وتارة عن جعدة، وتارة عن هارون. أما أبوصالح فهو باذان، ويقال باذام، ضعفوه. قال البيهقي: ضعيف لا يحتج بخبره، وفي السنن الكبرى للنسائي هو ضعيف الحديث وقال أبوأحمد الحاكم: ليس بالقوي عندهم. وقال الحافظ في التقريب: ضعيف مدلس. قلت: قد وثقه العجلي. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين ليس به بأس. وقال ابن المديني. عن القطان: لم أر أحداً من أصحابنا تركه وما سمعنا أحداً من الناس يقول فيه شيئاً،

وفي رواية لأحمد، والترمذي نحوه، وفيه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولما قال عبد الحق في أحكامه إن أبا صالح ضعيف جداً أنكر عليه ذلك ابن القطان في كتابه كذا في تهذيب التهذيب (ج1ص416- 417) قالوا: وأما جعدة فمجهول، قال البخاري في تاريخه: لا يعرف إلا بحديث فيه نظر. وقال النسائي: لم يسمعه جعدة من أم هانىء بل سمعه من أبي صالح مولى أم هانىء وأهله عن أم هانىء. قلت: ذكر جعدة هذا ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، ونقل عن أبيه أنه قال هو شيخ وقال الحافظ في التقريب: جعدة المخزومي من ولد أم هانىء. قيل: هو ابن يحيى بن جعدة بن هبيرة وهو مقبول-انتهى. قالوا: وأما هارون فمجهول الحال قاله ابن القطان: واختلف في نسبة فقيل ابن أم هانىء، وقيل ابن ابن أم هانىء، وقيل ابن ابنة أم هانىء، وقيل هذا وهم لأنه لا يعرف لها بنت. وقال النسائي: اختلف على سماك فيه وسماك لا يعتمد عليه إذا انفرد بالحديث. قلت: سماك بن حرب هذا ضعفه الثوري وابن المبارك وشعبة. وقال ابن حبان: في الثقات يخطىء كثيراً. وقال يعقوب: روايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وهو في غير عكرمة صالح، وليس من المثبتين ومن سمع منه قديماً مثل شعبة وسفيان فحديثهم عنه صحيح مستقيم، والذي قاله ابن المبارك إنما نرى أنه فيمن سمع منه بآخره أي لأنه كان قد تغير قبل موته وعليه يحمل كلام النسائي المتقدم وقد وثقه ابن معين وأبوحاتم. وقال العجلي: جائز الحديث. وقال النسائي: ليس به بأس، وفي حديثه شيء. وقال ابن عدي: أحاديثه حسان وهو صدوق لا بأس به. وقال الحافظ في التقريب: صدوق وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وقد تغير بآخره فكان ربما يلقن-انتهى. تنبيه قال الحافظ في التلخيص (ص197) : ومما يدل على غلط سماك فيه أنه قال في الرواية المذكورة إن ذلك كان يوم الفتح، ويوم الفتح كان في رمضان فكيف يتصور قضاء رمضان في رمضان-انتهى. وقال غيره: ومما يوهن هذا الخبر أنها أسلمت يوم الفتح فلا يجوز لها أن تكون متطوعة لأنها كانت في شهر رمضان قطعاً. وقال الذهبي: قد غلط سماك في هذا الحديث لأن يوم الفتح كان في رمضان فكيف يتصور أن تكون صائمة قضاء أو تطوعاً كذا ذكره الشوكاني والعيني (ج11ص79) وابن التركماني (ج4ص278) وصاحب بذل المجهود. ثم رد عليه صاحب البذل فقال هذا الاستدلال في توهين الحديث فاسد، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في فتح مكة من المدينة لعاشر رمضان، وكان الفتح لعشرين من رمضان، وأقام بمكة خمس عشرة ليلة بعد الفتح، ثم خرج إلى حنين لعاشر شوال صرح بهذا أهل التاريخ، فظهر بهذا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقام بمكة بعد رمضان عدة أيام فعلى هذا ما وقع في الحديث من قولها لما كان يوم فتح مكة يشمل جميع الأيام التي أقام بمكة فيها زمن الفتح كما هو ظاهر، وليس المراد من يوم فتح مكة اليوم الخاص الذي كان يوم الفتح-انتهى. (وفي رواية لأحمد والترمذي نحوه) بالرفع أي معناه (وفيه) أي في الحديث الذي نحوه (أما) بالتخفيف للتنبيه (الصائم) أريد به الجنس (المتطوع) احتراز من المفترض أداء وقضاء (أمير نفسه)

فقالت: ((يا رسول الله! أما إني كنت صائمة فقال: الصائم المتطوع أمير على نفسه. إن شاء صام، وإن شاء أفطر)) . 2100- (6) وعن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: ((كنت أنا وحفصة صائمتين، فعرض لنا طعام اشتهيناه، فأكلنا منه، فقالت حفصة: يا رسول الله! إنا كنا صائمتين، فعرض لنا طعام اشتهيناه، فأكلنا منه. قال: أقضيا يوماً آخر مكانه)) . رواه الترمذي. وذكر جماعة من الحفاظ رووا عن الزهري عن عائشة مرسلاً، ولم يذكروا فيه عن عروة، وهذا أصح. ـــــــــــــــــــــــــــــ أي أمير لنفسه بعد دخوله في الصوم، وهذا لفظ أحمد (ج6ص341، 343) وكذا وقع في رواية للبيهقي ولفظ الترمذي أمين نفسه بالنون بدلاً من الراء. قال في المجمع: معناه إنه إذا كان أمين نفسه فله أن يتصرف في أمانة نفسه على ما يشاء، وفي رواية للترمذي أمبير أو أمين نفسه بالشك، وكذا وقع عند الدارقطني (ص235) والبيهقي (ج4ص276) وفي رواية لأحمد (ج6ص424) والدارقطني والبيهقي المتطوع بالخيار إن شاء صام وإن شاء أفطر (إن شاء صام) أي أتم صومه (وإن شاء أفطر) إما بعذر، أو بغيره ويفهم منه أن الصائم غير المتطوع لا تخيير له لأنه مأمور مجبور عليه، وهذه الرواية أخرجها أحمد والترمذي وكذا الدارقطني والبيهقي من طريق شعبة عن جعدة عن أم هانىء وأخرجها أيضاً الدارقطني والبيهقي من طريق سماك عن أبي صالح عن أم هانىء. 2100- قوله: (كنت أنا وحفصة) بالرفع (صائمتين) أي متطوعتين كما في رواية الموطأ والبيهقي وابن حبان (فعرض لنا طعام) بصيغة المجهول أي عرضه لنا أحد بطريق الهدية وفي رواة الموطأ والبيهقي فاهدي لنا طعام (أقضيا يوماً آخر مكانه) أي بدله، وفي رواية أبي داود لا عليكما صوماً مكانه يوماً آخر، وقد استدل به على أن من أفطر في التطوع يلزمه القضاء مكانه، لكن الحديث ضعيف كما ستعرف، وعلى تقدير الصحة فيحمل الأمر بالقضاء على الندب للجمع بينه وبين حديث أم هانىء. قال الخطابي في المعالم (ج2ص13) لو ثبت الحديث أشبه أن يكون إنما أمرهما بذلك استحباباً لأن بدل الشيء في أكثر أحكام الأصول يحل محل أصله وهو في الأصل مخير فكذلك في البدل-انتهى. (رواه الترمذي) وكذا أحمد والنسائي والبيهقي (ج4ص280) كلهم من رواية جعفر بن برقان عن الزهري عن عروة عن عائشة متصلاً (وذكر) أي الترمذي (جماعة من الحفاظ) أنهم (رووا عن الزهري عن عائشة مرسلاً) أي منقطعاً لأن الزهري لم يدركها فالمرسل في قول الترمذي هذا بمعنى المنقطع وهذه الرواية المنقطعة عند عبد الرزاق في مصنفه، ومالك في موطأه، والطحاوي والبيهقي وغيرهم.

(ولم يذكوا) أي جماعة الحفاظ (فيه) أي في إسناد الحديث (عن عروة) بين الزهري وعائشة (وهذا) أي كونه مرسلاً (أصح) قلت أعل الترمذي هذا الحديث بأن الزهري لم يسمعه من عروة، فقال ورواه محمد بن أبي حفصة وصالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن عروة عن عائشة مثل هذا. وروى مالك بن أنس ومعمر وعبيد الله ابن عمر وزياد بن سعد وغير واحد من الحفاظ (كيونس بن يزيد وابن جريج ويحيى بن سعيد وابن عيينة ومحمد ابن الوليد الزبيدي وبكر بن وائل) عن الزهري عن عائشة مرسلاً، ولم يذكروا فيه عن عروة، وهذا أصح لأمنه روى عن ابن جريج قال سألت الزهري فقلت أحدثك عروة عن عائشة قال لم أسمع من عروة في هذا شيئاً، ولكن سمعت في خلافة سليمان بن عبد الملك من ناس عن بعض من سأل عن عائشة عن هذا الحديث، ثم أسنده كذلك. وقال ابن عيينة: في روايته سئل الزهري عنه أهو عن عروة فقال: لا، وقال أبوبكر الحميدي: أخبرني غير واحد عن معمر أنه قال في هذا الحديث لو كان من حديث عروة ما نسيته. قال البيهقي: فهذان ابن جريج وابن عيينة شهدا على الزهري وهما شاهدا عدل، بأنه لم يسمعه من عروة فكيف يصح وصل من وصله. وقال الترمذي في العلل: سألت البخاري عن هذا الحديث فقال لا يصح حديث الزهري عن عروة عن عائشة في هذا قال وجعفر ابن برقان ثقة، وربما يخطىء في الشيء، وكذا قال محمد بن يحيى الذهلي لا يصح عن عروة، واحتج بحكاية ابن جريج وابن عيينة وبإرسال من أرسل الحديث عن الزهري من الأئمة. وقال النسائي في سننه الكبرى: بعد أن رواه موصولاً هذا خطأ. وقال الخلال: اتفق الثقات على إرساله وشذ من وصله وتوارد الحفاظ على الحكم بضعف حديث عائشة هذا، وقد رواه من لا يوثق به عن مالك موصولاً ذكره الدارقطني في غرائب مالك. قلت: رواه ابن عبد البر من طريق عبد العزيز بن يحيى عن مالك موصولاً. وقال لا يصح عن مالك غلا المرسل-انتهى. ورواه أيضاً متصلاً عن الزهري وسفيان بن حسين وصالح بن كيسان وحجاج بن أرطاة وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة وعبيد الله بن عمر ويحيى بن سعيد كلهم عن الزهري عن عروة عن عائشة. أما حديث صالح بن أبي الأخضر فأخرجه البيهقي (ج4ص280) من رواية ابن عيينة عنه عن الزهري، ثم حكى البيهقي عن ابن عيينة أنه قال فسألوا الزهري وأنا شاهد فقالوا هو عن عروة قال لا، وقال ابن عبد البر صالح ابن أبي الأخضر في حديثه خطأ كثير. وقال في التقريب: ضعيف يعتبر به. وقال ابن حبان: يروي عن الزهري أشياء مقلوبة. وأما حديث ابن أرطاة وعبيد الله بن عمر ويحيى بن سعيد فأخرجه ابن عبد البر من طريق أبي خالد الأحمر عنهم، وأبوخالد هذا هو سليمان بن حيان الأزدي صدوق يغلط ويخطىء لسوء حفظه، وحجاج بن أرطاة صدوق كثير الخطأ والتدليس وجعفر بن برقان وسفيان بن حسين ليسا في حديث الزهري بشيء، ومحمد بن أبي حفصة صدوق، لكنه يخطىء، ومدار حديث صالح بن كيسان على يحيى بن أيوب وهو صدوق، وربما أخطأ.

ورواه أبوداود، عن زميل مولى عروة، عن عروة عن عائشة. 2101- (7) وعن أم عمارة بنت كعب، ((أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها، فدعت له بطعام، ـــــــــــــــــــــــــــــ وقد ظهر بهذا كله إن رواية من رواه عن الزهري موصولاً لا توازي رواية الثقات الحفاظ الذين رووه منقطعاً، ولذلك توارد الأئمة الحفاظ على الحكم بضعف حديث عائشة هذا كما تقدم عن الخلال. فإن قلت رواه النسائي وابن حبان في صحيحه والطحاوي (ج1ص355) وابن حزم في المحلة (ج6ص270) من حديث جرير بن حازم عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة كذلك، وهذا سند جيد وهو يقوي رواية من رواه عن الزهري متصلاً. قلت: قال البيهقي: جرير ابن حازم وإن كان من الثقات فهو واهم فيه، وقد خطأه في ذلك أحمد بن حنبل وعلي بن المديني. والمحفوظ عن يحيى بن سعيد عن الزهري عن عائشة مرسلاً، ثم أسنده كذلك عن أحمد وابن المديني. وللحديث شواهد من حديث ابن عباس عند النسائي والطبراني، وفيه خصيف وهو صدوق سيء الحفظ خلط بآخره رواه عن عكرمة عنه قال النسائي وابن عبد البر: هذا الحديث منكر، وقد أخرجه ابن أبي شيبة من طريق خصيف عن سعيد بن جبير مرسلاً. ومن حديث ابن عمر عند البزار والطبراني، وفيه حماد بن الوليد وهو لين الحديث. ومن حديث أبي هريرة عند الطبراني والعقيلي في الضعفاء وفيه محمد بن أبي سلمة المكي. قال الهيثمي وقد ضعف بهذا الحديث. (ورواه أبوداود) وكذا النسائي والبيهقي (ج4ص281) كلهم من حديث يزيد بن الهاد (عن زميل) بالتصغير ابن عباس المدني الأسدي قال مهناً عن أحمد لا أدري من هو. وقال الخطابي والحافظ في التقريب: مجهول. وقال النسائي: ليس بالمشهور. وذكره ابن حبان في الثقات وهذا على ما اصطلح من ذكر المستورين في ثقاته (مولى عروة عن عروة عن عائشة) قال ابن عدي: هذا الحديث يعرف بزميل هذا وإسناده لا بأس به. وقال الحافظ في الفتح: ضعفه أحمد والبخاري والنسائي بجهالة حال زميل. وقال الخطابي: إسناده ضعيف وزميل مجهول، ولو ثبت الحديث أشبه أن يكون إنما أمرهما بالقضاء استحباباً-انتهى. وبهذا يجمع بين الأحاديث الواردة في هذا الباب. 2101- قوله: (وعن أم عمارة) بضم العين المهملة وتخفيف الميم واسمها نسيبة بفتح النون (بنت كعب) ابن عمرو الأنصارية النجارية غلبت عليها كنيتها، وهي والدة عبد الله بن زيد بن عاصم المازني صحابية مشهورة شهدت أحداً هي وابنها وزوجها زيد بن عاصم، وشهدت بيعة الرضوان واليمامة وقطعت يدها فيها. قال ابن عبد البر: شهدت بيعة العقبة وشهدت أحداً مع زوجها زيد بن عاصم وولدها منه في قول ابن إسحاق، وشهدت بيعة الرضوان ثم شهدت قتال مسيلمة باليمامة وجرحت يومئذ اثنتى عشرة جراحة من بين طعنة وضربة وقطعت يدها.

{الفصل الثالث}

فقال لها: كلي فقالت إني صائمة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الصائم إذا أكل عنده، صلت عليه الملائكة حتى يفرغوا)) . رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، والدارمي. {الفصل الثالث} 2102- (8) عن بريدة، قال: دخل بلال على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتغدى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الغداء يا بلال! قال: إني صائم يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نأكل رزقنا، وفضل رزق بلال في الجنة، ـــــــــــــــــــــــــــــ وذكر ابن هشام من طريق أم سعد بنت سعد بن الربيع قالت دخلت على أم عمارة فقلت حدثيني خبرك يوم أحد فقالت خرجت أول النهار ومعي سقاء فيه ماء فانتهيت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في أصحابه والريح والدولة للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعلت أباشر القتال وأذب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسيف وأرمي بالقوس حتى خلصت إلى الجراحة قالت فرأيت على عاتقها جرحاً له غوراً جوف فقلت من أصابك بهذا، قالت ابن قمئة، وأخرج الواقدي عن عمر قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ما التفت يوم أحد يميناً وشمالاً إلا وأراها تقاتل دوني وروى أنها قتلت يومئذ فارساً من المشركين (فدعت) أي طلبت (له بطعام) وفي رواية لأحمد فقربت إليه طعاماً، وللترمذي فقدمت (إن الصائم إذا أكل) بالبناء المفعول (عنده) أي نهاراً بحضرته. وفي رواية للترمذي إذا أكل عنده المفاطير بفتح الميم جمع المفطر أي المفطرون (صلت عليه الملائكة) أي استغفرت ودعت له الملائكة بما صبر مع وجود المرغب (حتى يفرغوا) أي الآكلون من أكل الطعام عنده لأن حضور الطعام عنده يهيج شهوته للأكل فلما كف شهوته وحبس نفسه امتثالاً لأمر الشارع استغفرت له الملائكة وعظم له الأجر، وفي الحديث ترغيب الصائمين في أكل المفطرين عنده (رواه أحمد) (ج6ص365) (والترمذي) وصححه (وابن ماجه والدارمي) واللفظ لأحمد والدارمي، ولفظ الترمذي إن الصائم تصلي عليه الملائكة إذا أكل عنده حتى يفرغوا. وربما قال حتى يشبعوا، والحديث أخرجه أيضاً ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والنسائي في الكبرى والبيهقي في شعب الإيمان. 2102- قوله: (وعن بريدة) بالتصغير (وهو يتغدى) أي يأكل الغداء وهو طعام أول النهار (الغداء) بالنصب لفعل مقدر أي أحضر الغداء أوائته أو بالرفع على الابتداء أي حاضر (نأكل رزقنا) أي رزق الله الذي أعطانا الآن هكذا في جميع النسخ من المشكاة رزقنا،

(8) باب ليلة القدر

أشعرت يا بلال أن الصائم يسبح عظامه، ويستغفر له الملائكة ما أكل عنده)) . رواه البيهقي "في شعب الإيمان". (8) باب ليلة القدر ـــــــــــــــــــــــــــــ وفي ابن ماجه أرزاقنا وكذا نقله المنذري في الترغيب وعزاه لابن ماجه والبيهقي (وفضل رزق بلال) مبتدأ أي الرزق الفاضل على ما نأكل (في الجنة) أي جزاء له على صومه المانع من أكله. قال الطيبي: الظاهر أن يقال ورزق بلال في الجنة إلا أنه ذكر لفظ فضل تنبيهاً على أن رزقه الذي هو بدل من هذا الرزق زائد عليه، ودل على آخر كلامه على أن أمره الأول لم يكن للوجوب-انتهى. ثم زاد عليه الصلاة والسلام في ترغيب بلال في الصوم بقوله (أشعرت) أي أما علمت (عظامه) لا مانع من حمله على حقيقته، وإن الله تعالى بفضله يكتب له ثواب ذلك التسبيح. (ويستغفر له الملائكة) وفي بعض النسخ بتأنيث الفعلين كما في ابن ماجه والترغيب للمنذري. (ما أكل) ظرف ليسبح ويستغفر (عنده) أي ما دام يؤكل عند الصائم جزاء على صبره حال جوعه (رواه البيهقي في شعب الإيمان) وكذا ابن ماجه كلاهما من رواية بقية حدثنا محمد بن عبد الرحمن عن سليمان بن بريدة عن أبيه. قال المنذري: ومحمد بن عبد الرحمن هذا مجهول. وبقية مدلس، وتصريحه بالتحديث لا يفيد مع الجهالة-انتهى. وقال البوصيري في الزوائد على ما نقله السندي في حاشية ابن ماجه في إسناده: محمد بن عبد الرحمن متفق على تضعيفه، وكذبه أبوحاتم والأزدي-انتهى. قلت: الذي كذبه أبوحاتم والأزدي هو محمد بن عبد الرحمن المقدسي الذي سكن بيت المقدس. وأما شيخ بقية فقال أبوحاتم والأزدي مجهول، وزاد الأزدي منكر الحديث، وفرق بينه وبين الشيخ المقدسي. وقال الذهبي في الميزان (ج3ص89) محمد بن عبد الرحمن البيروتي عن سليمان بن بريدة وعنه بقية لا يدري من هو-انتهى. والحديث يؤيده حديث أم عمارة السابق وحديث ابن عباس مرفوعاً بلفظ: إن الرجل الصائم إذا جالس القوم وهم يطعمون صلت عليه الملائكة حتى يفطر الصائم رواه الطبراني في الأوسط وفيه أبان بن أبي عياش وهو متروك كذا في مجمع الزوائد (ج3ص201) . (باب ليلة القدر) بفتح القاف وإسكان الدال أي باب فضلها وبيان أرجى أوقاتها، واختلف في وجه تسميتها بذلك. فقيل لعظم قدرها وشرفها، فالقدر بمعنى التعظيم كقوله تعالى: {وما قدروا الله حق قدره} [الأنعام: 91] والمعنى أنها ذات قدر عظيم لنزول القرآن فيها ووصفها بأنها خير من ألف شهر، أو لما يقع فيها من تنزل الملائكة، أو لما ينزل فيها من البركة والرحمة والمغفرة، أو لما يحصل لمحييها بالعبادة من القدر الجسيم، أو لأن الطاعات لها قدر زائد فيها. وقيل القدر، هنا بمعنى التضييق كقوله تعالى: {ومن قدر عليه رزقه} [الطلاق: 7] ومعنى التضييق، فيها إخفاءها عن العلم بتعيينها أو لأن الأرض تضيق فيها عن الملائكة.

وقيل القدر هنا بمعنى القدر بفتح الدال الذي هو مؤاخى القضاء، والمعنى أنه يقدر فيها أحكام تلك السنة لقوله تعالى: {فيها يفرق كل أمر حكيم} [الدخان: 4] وبه صدر النووي كلامه فقال قال العلماء: سميت ليلة القدر لما يكتب فيها الملائكة من الأقدار التي تكون في تلك السنة لقوله تعالى: {فيها يفرق كل أمر حكيم} وتقدير الله تعالى سابق فهي ليلة إظهار الله تعالى ذلك التقدير للملائكة. وقال التوربشتي: إنما جاء القدر بتسكين الدال وإن كان الشائع في القدر الذي هو مؤاخى القضاء وقرينه فتح الدال ليعلم أنه لم يرد به ذلك فإن القضاء سبق الزمان. وإنما أريد به تفصيل ما جرى به القضاء وتبيينه، وتحديده في المدة التي بعدها إلى مثلها من القابل ليحصل ما يلقي إليهم فيها مقدار بمقدار. ثم الجمهور على أنها مختصة بهذه الأمة ولم تكن لمن قبلهم. قال الحافظ: وجزم به ابن حبيب وغيره من المالكية (كالباجي وابن عبد البر) ونقله الجمهور صاحب العدة من الشافعية ورجحه. وقال النووي إنه الصحيح المشهور الذي قطع به أصحابنا كلهم وجماهير العلماء. قال الحافظ: وهو معترض بحديث أبي ذر عند النسائي حيث قال فيه قلت يا رسول الله! أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رفعت قال لا، بل هي باقية وعمدتهم قول مالك في الموطأ، بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تقاصر أعمار أمته من أعمار الأمم الماضية فأعطاه الله ليلة القدر، وهذا يحتمل التأويل فلا يدفع الصريح في حديث أبي ذر-انتهى. قلت: حديث أبي ذر ذكره ابن قدامة (ج3ص179) من غير أن يعزوه لأحد بلفظ: قال قلت يا رسول الله ليلة القدر رفعت مع الأنبياء أو هي باقية إلى يوم القيامة قال باقية إلى يوم القيامة-الحديث. وأخرجه البزار بنحوه كما في مجمع الزوائد (ج3ص177) ورواه البيهقي (ج4ص307) بلفظ: قلت يا نبي الله أتكون مع الأنبياء ما كانوا فإذا قبضت الأنبياء ورفعوا رفعت معهم أو هي إلى يوم القيامة قال لا، بل هي إلى يوم القيامة. وأما أثر الموطأ فقال مالك فيه إنه سمع من يثق به من أهل العلم يقول إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرى أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل مثل الذي بلغ غيرهم في طول العمر فأعطاه الله ليلة القدر خير من ألف شهر. قال ابن عبد البر: هذا أحد الأحاديث التي أنفرد بها مالك لا يوجد مسنداً ولا مرسلاً فيما علمت إلا من الموطأ، وهذا أحد الأحاديث الأربعة التي لا توجد مسندة ولا مرسلة من إرسال تابعي ثقة قال، وليس منها حديث منكر ولا ما يدفعه أصل-انتهى. قلت: وأثر الموطأ المذكور يدل على أن إعطاء ليلة القدر كان تسلية لهذه الأمة القصيرة الأعمار ويشهد لذلك روايات أخرى مرسلة ذكرها العيني في العمدة (ج11ص129، 130) والسيوطي في الدر والقسطلاني (ج5ص7، 8) وقد اختلف العلماء في تعيينها على أقوال كثيرة بلغها الحافظ في الفتح إلى أكثر من أربعين قولاً وأكثرها يتداخل وفي الحقيقة يقرب من خمسة وعشرين نقتصر منها على ذكر الأقوال المشهورة سيما ما نسب إلى الأئمة الأربعة.

فقيل إنها ممكنة في جميع السنة. قال الحافظ: وهو قول مشهور عن الحنفية حكاه قاضي خان وأبوبكر الرازي منهم، وروى مثله عن ابن مسعود وابن عباس وعكرمة وغيرهم وزيف المهلب هذا القول. قال الحافظ: ومأخذ ابن مسعود كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي بن كعب أنه أراد أن لا يتكل الناس-انتهى. وقال الزرقاني: كونها في جميع السنة قول مشهور للمالكية والحنفية، وجزم ابن الحاجب كونها مختصة برمضان رواية عن مالك-انتهى. وقال في الشرح الكبير للدردير: وفي كونها دائرة بالعام كله أو برمضان خاصة خلاف، وانتقلت على كل من القولين فلا تختص بليلة معينة في العام معينة في العام على الأول ولا في رمضان على الثاني، وقيل تختص بالعشر الأواخر من رمضان وتنتقل أيضاً. قال الدسوقي: قوله "في كونها دائرة بالعام" هو ما صححه في المقدمات حيث قال وإلى هذا ذهب مالك وأكثر أهل العلم وهو أولى الأقاويل، وقوله أو دائرة في رمضان هو الذي شهره ابن غلاب-انتهى. وقال ابن عابدين: ذكر في البحر عن الخانية أن المشهور عن الإمام (أبي حنيفة) أنها تدور في السنة كلها قد تكون في رمضان، وقد تكون في غيره، وكونها في رمضان خاصة هو قول له-انتهى. قال الشوكاني: القول بأنها ممكنة في جميع السنة مردود بكثير من الأحاديث المصرحة باختصاصها برمضان وقيل إنها مختصة برمضان ممكنة في جميع لياليه. قال الحافظ: وهو قول ابن عمر رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عنه وروى مرفوعاً عنه أخرجه أبوداود وفي شرح الهداية الجزم به عن أبي حنيفة. وقال ابن المنذر والمحاملي وبعض الشافعية، ورجحه السبكي في شرح المنهاج وحكاه ابن الحاجب رواية-انتهى. قلت وهو مقتضى كلام الحنابلة. قال ابن قدامة (ج3ص179) يستحب طلبها في جميع ليالي رمضان، وفي العشر الأواخر آكد وفي ليالي الوتر منه آكد، وقال أحمد هي في العشر الأواخر، وفي وتر من الليالي لا يخطىء إنشاء الله-انتهى. ومقتضاه الاختصاص بالعشر الأواخر. وقيل إنها مختصة برمضان في ليلة معينة منه مبهمة ذهب إليه صاحباً أبي حنيفة. قال السروجي في شرح الهداية قول أبي حنيفة أنها تنتقل في جميع رمضان، وقال صاحباه أنها في ليلة معينة مبهمة، وكذا قال النسفي في المنظومة: وليلة القدر بكل الشهر دائرة وعيناها فادر قال في الدار المختار: ليلة القدر دائرة في رمضان اتفاقاً إلا أنها تتقدم وتتأخر خلافاً لهما وثمرته فيمن قال بعد ليلة منه أنت حر أو أنت طالق ليلة القدر فعنده لا يقع حتى ينسلخ شهر رمضان الآتي لجواز كونها في الأول في الأولى. وفي الآتي في الأخيرة، وقالا يقع إذا مضى مثل تلك الليلة في الآتي ولا خلاف انه لو قال قبل دخول رمضان وقع بمضيه.

وقيل إنها منحصرة في العشر الأخير من رمضان، واختلف القائلون به فمنهم من قال إنها في ليلة معينة منه، ومنهم من قال إنها تنتقل في العشر الأواخر كلها قاله أبوقلابة ونص عليه مالك والثوري وأحمد وإسحاق، وزعم الماوردي أنه متفق عليه وكأنه أخذه من حديث ابن عباس أن الصحابة اتفقوا على أنها في العشر الأخير، ويؤيد كونها في العشر الأخير حديث أبي سعيد إن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما اعتكف العشر الأوسط إن الذي تطلب أمامك. واختلف أصحاب القول الأول في تعيينها. فقيل إنها أول ليلة من العشر الأخير قال الحافظ: وإليه مال الشافعي وجزم به جماعة من الشافعية، ولكن قال السبكي: أنه ليس مجزوماً به عندهم لاتفاقهم على عدم حنث من علق يوم العشرين عتق عبده في ليلة القدر أنه لا يعتق تلك الليلة، بل بانقضاء الشهر على الصحيح بناء على أنها في العشر الأخير. وقيل بانقضاء السنة بناء على أنها لا تختص بالعشر الأخير بل هي في رمضان وفي شرح الإقناع من فروع الشافعية هي منحصرة في العشر الأخير كما نص عليه الإمام الشافعي وعليه الجمهور، وإنها تلزم بعينها. وقال المزني وابن خزيمة: إنها منتقلة في ليالي العشر جمعاً بين الأحاديث، واختاره في المجموع والمذهب الأول وميل الشافعي إلى أنها ليلة الحادي والعشرين أو الثالث والعشرين-انتهى. وقال ابن حزم (ج7ص33) ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان خاصة في ليلة واحدة بعينها لا تنتقل أبداً إلا أنها في وتر منه ولا بد فإن كان الشهر تسعاً وعشرين فأول العشر الأواخر بلا شك ليلة عشرين منه، فهي إما ليلة عشرين وإما ليلة اثنين وعشرين وإما ليلة أربع وعشرين وإما ليلة ست وعشرين وإما ليلة ثمان وعشرين لأن هذه هي الأوتار من العشر الأواخر، وإن كان الشهر ثلاثين فأول العشر الأواخر بلا شك ليلة إحدى وعشرين فهي إما ليلة إحدى وعشرين وإما ليلة ثلاث وعشرين وإما ليلة خمس وعشرين وإما ليلة سبع وعشرين وإما ليلة تسع وعشرين، لأن هذه هي الأوتار العشر بلا شك-انتهى. وقيل إنها ليلة اثنين وعشرين، وقيل إنها ليلة ثلاث وعشرين ودليله حديث عبد اله بن أنيس الآتي. وقد ذهب إلى هذا جماعة من الصحابة والتابعين. وقيل إنها ليلة أربع وعشرين ودليله ما رواه الطيالسي عن أبي سعيد مرفوعاً ليلة القدر ليلة أربع وعشرين، وما رواه أحمد من حديث بلال نحوه وفيه ابن لهيعة وروى ذلك عن ابن مسعود والشعبي والحسن وقتادة. وقيل ليلة خمس وعشرين. وقيل ليلة ست وعشرين. وقيل إنها ليلة سبع وعشرين. قال الحافظ: وهو الجادة من مذهب أحمد ورواية عن أبي حنيفة وبه جزم أبي بن كعب وحلف عليه كما أخرجه مسلم، وروى مسلم أيضاً من طريق أبي حازم عن أبي هريرة قال تذاكرنا ليلة القدر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيكم يذكر حين طلع القمر كأنه شق جفنة. قال أبوالحسن الفارسي: أي ليلة سبع وعشرين، فإن القمر يطلع فيها بتلك الصفة، وروى الطبراني من حديث ابن مسعود سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر، فقال أيكم يذكر ليلة الصهباوات، قلت أنا وذلك ليلة سبع وعشرين، ورواه ابن أبي شيبة عن عمر وحذيفة وناس من الصحابة.

وفي الباب عن ابن عمر عند مسلم وأحمد عن جابر بن سمرة عند الطبراني وعن معاوية عند أبي داود وحكاه صاحب الحلية عن أكثر العلماء. وقيل: إنها ليلة ثمان وعشرين. وقيل: ليلة تسع وعشرين. وقيل: ليلة ثلاثين، واختلف أهل القول الثاني أيضاً وهم الذين ذهبوا إلى أنها تنتقل في العشر الأخير كله فمنهم من قال هي فيه محتملة على حد سواء نقله الرافعي عن مالك، وضعفه ابن الحاجب. ومنهم من قال بعض لياليه أرجى من بعض: فقال الشافعي أرجاه ليلة إحدى وعشرين وقيل أرجاء ليلة ثلاث وعشرين وقيل إرجاء ليلة سبع وعشرين. وقال أبوثور المزني وابن خزيمة وجماعة من علماء المذهب: أنها في أوتار العشر الأخير وإنها تنتقل، وعليه يدل حديث عائشة الآتي وغيرها وهو. أرجح الأقوال قال الحافظ بعد ذكر الأقوال: وأرجحها كلها إنها في وتر من العشر الأخير، وإنها تنتقل كما يفهم من أحاديث هذا الباب وأرجاها أوتار العشر وأرجى أوتار العشر عند الشافعية ليلة إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين، وأرجاها عند الجمهور ليلة سبع وعشرين-انتهى. وقد ترجم البخاري لحديث عائشة وغيرها باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر. قال الحافظ: في هذه الترجمة إشارة إلى رجحان كون ليلة القدر منحصرة في رمضان ثم في العشر الأخير منه، ثم في أوتاره لا في ليلة منه بعينها، وهذا هو الذي يدل عليه مجموع الأخبار الواردة فيها-انتهى. والحكمة في إخفاءها على ما قال العلماء ليحصل الاجتهاد في التماسك بخلاف ما لو عينت لها ليلة لاقتصر عليها كما تقدم نحوه في ساعة الجمعة، وهذه الحكمة مطردة عند من يقول إنها في جميع السنة أو في رمضان أو في جميع العشر الأخير أو في أوتاره خاصة إلا أن الأول ثم الثاني أليق به قاله الحافظ. وقال الرازي: إنه تعالى أخفى هذه الليلة لوجوه، أحدها أنه تعالى أخفاها كما أخفى سائر الأشياء فإنه أخفى رضاه في الطاعات حتى يرغبوا في الكل ويجتهدوا في الجميع وأخفى سخطه في المعاصي ليحترزوا عن الكل وأخفى الإجابة في الدعاء ليبالغوا في كل الدعوات، وأخفى الاسم الأعظم ليعظموا كل الأسماء، وأخفى قبول التوبة ليواظب المكلف على جميع أقسام التوبة، وأخفى وقت الموت ليخاف المكلف فكذا أخفى هذه الليلة ليعظموا جميع ليالي رمضان وثانيها كأنه تعالى يقول لو عينت هذه الليلة وأنا أعلم بتجاسركم على المعصية فربما دعتك الشهوة في تلك الليالي إلى المعصية فوقعت في الذنب فكانت معصيتك مع علمك أشد من معصيتك لا مع علمك، يعني كأنه تعالى يقول إذا علمت ليلة القدر فإن أطعت فيها اكتسبت ثواب ألف شهر، وإن عصيت فيها اكتسبت عقاب ألف شهر، ورفع العقاب أولى من جلب الثواب. وثالثها أخفيت هذه الليلة حتى يجتهد المكلف في طلبها فيكتسب ثواب الاجتهاد ورابعها إن العبد إذا لم يتيقن فإنه يجتهد في الطاعة في جميع ليالي رمضان على رجاء أنه ربما كانت هذه الليلة هي ليلة القدر فيباهي الله تعالى بهم ملائكته ويقول كنتم تقولون فيهم يفسدون ويسفكون فهذا جده واجتهاده في الليلة المظنونة فكيف لو جعلتها معلومة-انتهى.

{الفصل الأول}

{الفصل الأول} 2103- (1) عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان)) . رواه البخاري. 2104- (2) وعن ابن عمر، قال: ((إن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، ـــــــــــــــــــــــــــــ واختلفوا هل يحصل الثواب المرتب عليها لمن اتفق له أنه قامها وإن لم يظهر له شيء أو يتوقف ذلك على كشفها له وإلى الأول ذهب الطبري والمهلب وابن العربي وجماعة وإلى الثاني ذهب الأكثر قيل، ويدل له ما وقع عند مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ: من يقم ليلة القدر فيوافقها، وفي حديث عبادة عند أحمد والطبراني من قامها إيماناً واحتساباً ثم وفقت له. قال النووي: معنى يوافقها أي يعلم أنها ليلة القدر فيوافقها وقال في شرح التقريب: معنى توفيقها له أو موافقته لها أن يكون الواقع إن تلك الليلة التي قامها بقصد ليلة القدر هي ليلة القدر في نفس الأمر وإن لم يعلم هو ذلك، وما ذكر النووي من أن معنى الموافقة العلم بأنها ليلة القدر مردود، وليس في اللفظ ما يقتضي هذا ولا المعنى يساعده-انتهى. وقال الحافظ: الذي يترجح في نظري ما قاله النووي ولا أنكر حصول الثواب الجزيل لمن قام لابتغاء ليلة القدر، وإن لم يعلم بها ولم توفق له، وإنما الكلام على حصول الثواب المعين الموعود به فليتأمل، وقد فرعوا على القول باشتراط العلم بها أنه يختص بها شخص دون شخص فتكشف لواحد ولا تكشف لآخر ولو كانا معاً في بيت واحد كذا ذكره القسطلاني: واختلفوا أيضاً هل لها علامة تظهر لمن وفقت له أم لا وسيأتي بسط القول في ذلك في شرح حديث زِرّ بن حبيش. 2103- قوله: (تحروا) بفتح التاء والحاء والراء المهملتين أمر من التحري وفي رواية التمسوا وكل منهما بمعنى الطلب والقصد لكن معنى التحري أبلغ لكونه يقتضي الطلب بالجد والاجتهاد (ليلة القدر) قال في النهاية أي تعمدوا طلبها، والتحري القصد والاجتهاد في الطلب، والعزم على تخصيص الشيء بالفعل والقول-انتهى. (في الوتر) أي في ليالي الوتر (من العشر الأواخر من رمضان) فيه دليل على أن ليلة القدر منحصرة في رمضان، ثم في العشر الأخير منه، ثم في أوتاره لا في ليلة منه بعينها. وقد تقدم أنه القول الراجح (رواه البخاري) أخرجه أيضاً مسلم لكن ليس عنده لفظ الوتر، وهكذا أخرجه أحمد والترمذي، وأخرجه مالك في الموطأ مرسلاً فكان حق المصنف أن يقول متفق عليه، واللفظ للبخاري فإن قوله في الوتر لم يخرجه مسلم بل انفرد به البخاري، وأخرج البيهقي الروايتين (ج4ص307- 308) . 2104- قوله: (إن رجالاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -) قال الحافظ: لم أقف على تسمية أحد من هؤلاء (أروا) بضم الهمزة على بناء المفعول من الإرادة وأصله اُرِيُوا (ليلة القدر) أي أراهم الله ذلك في المنام (في السبع الأواخر) جمع آخره بكسر الخاء. قال الحافظ: أي قيل لهم في المنام إنها في السبع الأواخر.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرى رؤياكم، قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر)) . متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال القسطلاني: ظاهر الحديث إن رؤياهم كانت قبل دخول السبع الأواخر لقوله فليتحرها في السبع الأواخر، ثم يحتمل أنهم رأوا ليلة القدر وعظمتها وأنوارها ونزول الملائكة فيها، وإن ذلك كان في ليلة من السبع الأواخر ويحتمل إن قائلاً قال لهم هي في كذا وعين ليلة من السبع الأواخر ونسيت أو قال إن ليلة القدر في السبع فهي ثلاث احتمالات. (أرى) بفتحتين أي أعلم (رؤياكم) كذا جاء بالأفراد، والمراد الجمع أي رؤاكم لأنها لم تكن رؤيا واحدة، فهو مما عاقب الأفراد فيه الجمع لا من اللبس، وقول السفاقسي إن المحدثين يروونه بالتوحيد وهو جائز، وأفصح منه رؤاكم جمع رؤيا ليكون جمعاً في مقابلة جمع، فيه نظر لأنه بإضافته إلى ضمير الجمع علم منه التعدد بالضرورة وإنما عبر بأرى لتجانس رؤياكم، ومفعول أرى الأول رؤياكم والثاني قوله (قد تواطأت) بالهمزة أي توافقت وزناً ومعنى. قال القاري: وفي نسخة صحيحة قد تواطت بلا همزة. قيل أصله توطأت بالهمزة فقلبت الفا وحذفت. وقال ابن التين روى بغير همز، والصواب بالهمز وأصله أن يطأ الرجل برجله مكان وطأ صاحبه. وقد رواه بعضهم بالهمزة وهو الأصل. وقال النووي: قوله "تواطت" أي توافقت وهكذا هو في النسخ بطاء ثم تاء وهو مهموز، وكان ينبغي أن يكتب بألف بين الطاء والتاء صورة للهمزة ولا بد من قراءته مهموزاً. قال الله تعالى: {ليواطئوا عدة ما حرم الله} [والتوبة: 37]-انتهى. وقال في المصابيح، يجوز ترك الهمز (في) رؤيتها في ليالي (السبع الأواخر فمن كان متحريها) أي طالبها وقاصدها (فليتحرها في السبع الأواخر) من رمضان من غير تعيين يحتمل أن يكون المراد بها أواخر الشهر أي السبع التي تلي آخر الشهر فيكون مبدأها من ليلة أربع وعشرين على كون الشهر ثلاثين وهو الأصل، ويحتمل أن يكون المراد السبع بعد العشرين. قيل: وهذا أولى وأمثل لتناوله إحدى وعشرين وثلاثاً وعشرين ولتحقق هذا السبع يقيناً وابتداء بخلاف الأول وإن كان بحسب الظاهر هو المتبادر، ولا يدخل ليلة التاسع والعشرين على الثاني، وتدخل على الأول. وقيل: المراد بها السبع الرابع من الشهر فيكون أولها ليلة الثانية والعشرين، وآخرها ليلة الثامن والعشرين فإن الحادية والعشرين آخر السبع الثالث من الشهر، وأول السبع الرابع إنما هو الثانية والعشرون، وعلى هذا فتدخل ليلة الثالث والعشرين، ولا تدخل ليلة التاسع والعشرين. وقيل: المراد بها السبع التي أولها ليلة الثالث والعشرين لكون المحقق في الشهر تسعاً وعشرين يوماً. وقد رواه البخاري في كتاب التعبير من صحيحه من طريق آخر إن ناساً أروا ليلة القدر في السبع الأواخر، وإن ناساً أروا أنها في العشر الأواخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم التمسوها في السبع الأواخر.

قال الحافظ في الصوم: كأنه - صلى الله عليه وسلم - نظر إلى المتفق عليه من الرؤيتين فأمر به، وقال في التعبير إفراد السبع داخلة في إفراد العشر فلما رأى قوم أنها في العشر وقوم أنها في السبع كانوا كأنهم توافقوا على السبع، فأمرهم بالتماسها في السبع لتوافق الطائفتين عليها، ولأنه أيسر عليهم. وقد رواه أحمد عن ابن عيينة عن الزهري عن سالم بلفظ: رأى رجل إن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين أو كذا وكذا فقال النبي صلى الله عليه وسلم التمسوها في العشر البواقي في الوتر منها ولمسلم عن جبلة بن سحيم عن ابن عمر بلفظ: من كان يلتمسها فليلتمسها في العشر الأواخر، وجمع بين روايتي العشر والسبع بأن العشر للاحتياط منها، أو يحمل على تعدد الأمرين في عامين بأنه أعلم أنها في العشر. ثم اعلم أنها في السبع أو حض على العشر من به بعض القوة، وعلى السبع من لا يقدر على العشر، ويؤيد هذا ما روى أحمد من حديث علي مرفوعاً إن غلبتم فلا تغلبوا في السبع البواقي، ولمسلم من طريق عقبة بن حريث عن ابن عمر التمسوها في العشر الأواخر فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي. قال الحافظ: وهذا السياق يرجح الاحتمال الأول من تفسير السبع الأواخر أي كون المراد به أواخر الشهر، وفي هذا الحديث دلالة على عظم قدر الرؤيا، وجواز الاستناد إليها في الاستدلال على الأمور الوجودية بشرط أن لا يخالف القواعد الشرعية ويستفاد منه أن توافق جماعة على رؤيا واحدة دال على صدقها وصحتها كما تستفاد قوة الخبر من التوارد على الإخبار من جماعة. قال القسطلاني: ظاهر الحديث إن طلبها في السبع مستنده الرؤيا، وهو مشكل لأنه إن كان المعنى إنه قيل لكل واحد هي في السبع فشرط التحمل التمييز، وهم كانوا نياماً، وإن كان معناه إن كل واحد رأى الحوادث التي تكون فيها في منامه في السبع فلا يلزم منه أن تكون هي في السبع كما لو رؤيت حوادث القيامة في المنام في ليلة، فإنه لا تكون تلك الليلة محلاً لقيامها. وأجيب بأن الاستناد إلى الرؤيا إنما هو من حيث الاستدلال بها على أمر وجودي غير مخالف لقاعدة الاستدلال. والحاصل إن الاستناد إلى الرؤيا هنا في أمر ثبت استحبابه مطلقاً، وهو طلب ليلة القدر. وإنما ترجح السبع الأواخر بسبب الرؤى الدالة على كونها في السبع الأواخر، وهو الاستدلال على أمر وجودي لزمه استحباب شرعي مخصوص بالتأكيد بالنسبة إلى هذه الليالي لا أنها ثبت بها حكم أو أن الاستناد إلى الرؤيا إنما هو من حيث إقراره صلى الله عليه وسلم كأحد ما قيل في رؤيا الأذان-انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصوم وفي التعبير ومسلم في الصوم، وأخرجه أيضاً أحمد مطولاً ومختصراً في مواضع، ومالك بلاغاً مطولاً ومسنداً مختصراً والبيهقي (ج4ص311) مطولاً وأبوداود والدارمي مختصراًُ.

2105- (3) وعن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، ليلة القدر: في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى)) . رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2105- قوله: (التمسوها) الضمير المنصوب مبهم يفسره قوله "ليلة القدر" كقوله تعالى: {فسواهن سبع سموات} [البقرة: 29] وهو غير ضمير الشأن إذ مفسره لا بد أن يكون جملة وهذا مفرد (ليلة القدر) بالنصب على البدل من الضمير في قوله التمسوها ويجوز رفعه خبر مبتدأ محذوف أي هي ليلة القدر (في تاسعة) بدل من قوله في العشر الأواخر (تبقى) صفة لتاسعة (في سابعة تبقى في خامسة تبقى) اختلف في معناه على أقوال فقال القاري: قوله "تبقى" أي يرجى بقاءها أي بعد العشرين والظاهر أنه أراد بالتاسعة التاسعة والعشرين وبالسابعة السابعة والعشرين، وبالخامسة الخامسة والعشرين-انتهى. قال الحافظ: يرجح هذا قوله في رواية البخاري في كتاب الإيمان بلفظ التمسوها في التسع والسبع والخمس، أي في تسع وعشرين وسبع وعشرين وخمس وعشرين-انتهى. وقال الطيبي: قوله في"تاسعة" تبقى الليلة الثانية والعشرون تاسعة من الأعداد الباقية، والرابعة والعشرون سابعة منها، والسادسة والعشرون خامسة منها-انتهى. وهذا مبنى على كون الشهر ثلاثين يوماً، وعلى كون العدد من آخره فتكون الليالي الثلاثة كلها إشفاعاً لا أوتاراً، ويكون معنى الحديث التمسوها في ليلة تاسعة من الليالي الباقية، ويؤيد هذا ما رواه مسلم وأبوداود عن أبي نضرة عن أبي سعيد التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة. قال قلت يا أبا سعيد إنكم اعلم بالعدد منا قال أجل نحن أحق بذلك منكم، قال قلت ما التاسعة والسابعة والخامسة، قال إذا مضت واحدة وعشرون فالتي تليها ثنتين وعشرين فهي التاسعة، فإذا مضى ثلاث وعشرون فالتي تليها السابعة، فإذا مضى خمس وعشرون فالتي تليها الخامسة-انتهى. لكن هذا مخالف للأحاديث الصحيحة الدالة على كونها منحصرة في الأوتار، ومخالف لرواية نفسه أيضاً كما سيأتي فلا بد من تأويله. قال السندي: هذا التفسير أي المروي عن أبي سعيد لا يناسب ما ورد من التماسها في الأوتار وكذا ما ظهر أنها كانت في تلك السنة ليلة إحدى وعشرين وما سيجيء إنها في سنة ليلة ثلاث وعشرين، وما سيجيء من قول أبي أنها ليلة سبع وعشرين وهذا ظاهر: قال الأبي التاسعة لما احتملت ههنا أن تكون تاسعة ما مضى أو تاسعة ما بقي سأله، وقال أنتم أعلم بهذا العدد، ثم قال: قال في المدونة التاسعة ليلة إحدى وعشرين والسابعة ليلة ثلاث وعشرين، والخامسة ليلة خمس وعشرين، والمعنى على هذا تسع بقين أو سبع بقين وإن ذلك على اعتبار شهر رمضان ناقصاً كما سيأتي. وذكر الباجي (ج2ص89) أن ابن القاسم حكى عن مالك أنه رجع عن هذا، وقال هو حديث مشرقي لا أعلمه-انتهى. وقيل المعنى التمسوها في الليلة التي تبقى التاسعة بعدها، وفي الليلة التي تبقى السابعة بعدها وفي ليلة التي تبقى الخامسة بعدها، على اعتبار كون الشهر ثلاثين فتأمل. وقال الزركشي: قوله "في تاسعة" تبقى ليلة إحدى وعشرين، لأن المحقق المقطوع بوجوده بعد العشرين تسعة أيام لاحتمال أن يكون الشهر تسعة وعشرين يوماً،

2106- (4) وعن أبي سعيد الخدري، ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر الأوسط في قبة تركية، ثم أطلع رأسه فقال: إني اعتكفت العشر الأول، التمس هذه الليلة، ثم اعتكف العشر الأوسط، ـــــــــــــــــــــــــــــ وليوافق الأحاديث الدالة على أنها في الأوتار وقوله سابعة تبقى ليلة ثلاث وعشرين وفي خامسة تبقى ليلة خمس وعشرين. وإنما يصح معنى الحديث ويوافق ليلة القدر وتراً من الليالي على ما ذكر في الأحاديث إذا كان الشهر ناقصاً. فأما إذا كان كاملاً فلا تكون إلا في شفع لأن الذي يبقى بعدها ثمان فتكون التاسعة الباقية ليلة ثنتين وعشرين، والسابعة الباقية بعد ست ليلة أربع وعشرين، والخامسة الباقية بعد أربع ليالي ليلة السادس والعشرين، فلا يصادف واحدة منهن وتراً، وهذا على طريقة العرب في التاريخ إذا جاوزوا نصف الشهر فإنما يؤرخون بالباقي منه لا بالماضي منه. والظاهر أنه خاطبهم النبي صلة الله عليه وسلم بنقص الشهر وذلك لأنه ليس على تمام شهر على يقين والله اعلم. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً أحمد (ج1ص231، 279، 360، 365) وأبوداود في الصلاة والبيهقي (ج4ص308- 309) . 2106- قوله: (اعتكف العشر الأول) بتشديد الواو كذا في النسخ، والظاهر بضم الهمزة وتخفيف الواو، ولعل إفراده باعتبار لفظ العشر قاله القاري (ثم اعتكف العشر الأوسط) هكذا وقع في أكثر الروايات والمراد من العشر الليالي وكان من حقها أن توصف بلفظ التأنيث، ويقال العشر الوسطى لأن المشهور في الاستعمال تأنيث العشر كما قال في أكثر الأحاديث العشر الأواخر لكن وصفت هنا بالمذكر إما باعتبار لفظ العشر فإنه لفظ مذكر فيصح وصفه بالأوسط، وإما باعتبار إرادة الوقت أو الزمان أو التقدير الثلث، كأنه قال الليالي العشر التي هي الثلث الأوسط من الشهر ووقع في الموطأ العشر الوسط بضم الواو والسين جمع واسط، كبازل وبزل، قال صاحب العين: واسط الرحل ما بين قادمته وآخرته. وقال أبوعبيد: وسط البيوت يسطها إذا نزل وسطها واسم الفاعل من ذلك واسط ويقال في جمعه وُسُط كنازل ونزل، وبازل وبزل، ورواه بعضهم بضم الواو وفتح السين جمع وسطي ككبر وكبرى (في قبة تركية) أي قبة صغيرة من لبود قاله النووي ضربت في المسجد يقال لها بالفارسية خركاه، وكان على سدة القبة حصير فأخذ الحصير بيده فنحاها في ناحية القبة (ثم أطلع رأسه) بفتح الهمزة وسكون الطاء أي أخرجه من القبة (اعتكفت) بصيغة المتكلم الماضي (التمس) حال أي أطلب (هذه الليلة) يعني ليلة القدر (ثم اعتكفت) بصيغة الماضي المتكلم أيضاً (العشر الأوسط) قال النووي: هكذا هو في جميع نسخ مسلم،

ثم أتيت فقيل لي: إنها في العشر الأواخر، فمن كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر، فقد أريت هذه الليلة، ثم أنسيتها، وقد رأيتني اسجد في ماء وطين من صبيحتها، فالتمسوها في العشر الأواخر والتمسوها في كل وتر، ـــــــــــــــــــــــــــــ والمشهور في الاستعمال تأنيث العشر وتذكيره أيضاً لغة صحيحه باعتبار الوقت. والزمان، ويكفي في صحتها ثبوت استعمالها في هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم (ثم أتيت) على بناء المجهول، وفي رواية البخاري في كتاب الصلاة إن جبريل أتاه في المرتين فقال له أن الذي تطلب أمامك بفتح الهمزة أي قدامك (فقيل لي) أي قال لي الملك (إنها) أي ليلة القدر (في العشر الأواخر) قال الطيبي: وصف العشر الأول والأوسط بالمفرد، والأخير بالجمع إشارة إلى تصور ليلة القدر في كل ليلة من ليالي العشر الأخير دون الأولين (فمن كان اعتكف) أي أراد الاعتكاف (معي) وقال ابن الملك: أي من أراد موافقتي. وقال الطيبي: وإنما أمر بالاعتكاف من كان معه في العشر الأول والأوسط لئلا يضيع سعيهم في الاعتكاف والتحري. وقال ابن حجر: ليس للتقييد بل لإفهامه إن من لم يكن معه معتكفاً أولى. قلت هذا لفظ البخاري ولمسلم في الرواية التي ذكرها المصنف فمن أحب منكم أن يعتكف (فليعتكف العشر الأواخر) قال الطيبي: الأمر بالاعتكاف للدوام والثبات، وفي رواية فليثبت في معتكفة من الثبات، وفي أخرى فليلبث من اللبث، وفي رواية لمسلم فليبت من المبيت، وكله صحيح (فقد أريت) بضم الهمزة على بناء المجهول المتكلم أي أعلمت (هذه الليلة) مفعول به لا ظرف أي أرأيت ليلة القدر معينة (ثم أنسيتها) بضم الهمزة من الإنساء، والمراد أنه أنسى علم تعيينها في تلك السنة لا رفع وجودها لأنه أمر بالتماسها حيث قال فالتمسوها في العشر الأواخر. قال ابن حجر: المراد أنه أخبر بأنها ليلة كذا ثم أنسى ما أخبر به والمخبر بذلك جبريل. وقال القفال في العدة فيما حكاه الطبري: ليس معناه أنه رأى الليلة أو الأنوار عياناً، ثم نسي في أي ليلة رأى ذلك لأن مثل هذا قل أن ينسى أي في صبيحتها وإنما رأى أنه قيل له: ليلة القدر، ليلة كذا وكذا ثم نسي كيف قيل له، وسيأتي سبب النسيان في هذه القصة في حديث عبادة بن الصامت في الفصل الثالث من هذا الباب. وفي الحديث إن النسيان جائز على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا نقص في ذلك، لا سيما في ما لم يؤذن له في تبليغه، وقد يكون في ذلك مصلحة تتعلق بالتشريع كما في قصة السهو في الصلاة أو بالاجتهاد في العبادة كما في هذه القصة، لأنه لو عينت ليلة القدر في ليلة بعينها اقتصر الناس على العبادة فيها ففاتت العبادة في غيرها وكأن هذا هو المراد بقوله عسى أن يكون خيرا لكم كما سيأتي في حديث عبادة (وقد رأيتني) بضم التاء للمتكلم، وفيه عمل الفعل في ضميري الفاعل والمفعول، وهو المتكلم وهو من خصائص أفعال القلوب أي رأيت نفسي (أسجد) بالرفع حال وقيل تقديره أن أسجد

قال: فمطرت السماء تلك الليلة، وكان المسجد على عريش، فوكف المسجد، فبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى جبهته أثر الماء والطين من صبيحة إحدى وعشرين)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ (في ماء وطين) علامة جعلت له يستدل بها عليها والمراد بذلك الأرض الرطبة ولعل أصله في ماء وتراب طيناً لمخالطته به مآلاً وللإيماء إلى غلبة الماء عليه (من صبيحتها) من بمعنى في كما في قوله {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} [الجمعة: 9] أو هي لابتداء الغاية الزمانية (فالتمسوها في العشر الأواخر) أي من رمضان (والتمسوها في كل وتر) أي من ذلك العشر يعني في أوتار ليالي العشر وأولها ليلة الحادي والعشرين إلى آخر ليلة التاسع والعشرين لا ليلة أشفاعها، ولا منافاة بينه وبين قوله التمسوها في السبع الأواخر، إذ ليس في أحدهما حصر بل في خبر الوتر زيادة تقييد السبع بالوتر (فمطرت) بفتحات (تلك الليلة) أي التي أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال القسطلاني: يقال في الليلة الماضية الليلة إلى أن تزول الشمس فيقال حينئذٍ البارحة، وفي رواية وما نرى في السماء قزعة فجاءت سحابة فمطرت حتى سال سقف المسجد (وكان المسجد على عريش) بفتح العين وسكون الياء بعد الراء المهملة المكسورة سقف من خشب وحشيش ونحو ذلك مما يستظل به "وعلى" بمعنى الباء كما في قوله تعالى: {حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق} [الأعراف: 105] أو بمعنى "من" كما في رواية نحو قوله تعالى: {إذا اكتالوا على الناس يستوفون} [المطففين: 2] قال الحافظ: كان على عريش أي مثل العريش، وإلا فالعريش هو نفس سقفه، والمراد أنه كان مظللاً بالجريد والخوص ولم يكن محكم البناء بحيث يكن من المطر الكثير يعني أنه لم يكن له سقف يكن من المطر ويمنعه. وقيل: أي بني على صوغ عريش وهيئته، وفي رواية للبخاري وكان (أي السقف) من جريد النخل (فوكف المسجد) أي قطر وسال ماء المطر من سقف المسجد فهو من باب ذكر المحل وإرادة الحال (فبصرت) بفتح الموحدة وضم الصاد المهملة (عيناي) زاده تأكيداً كقوله أخذت بيدي. وإنما يقال ذلك في أمر مستغرب إظهاراً للتعجب من حصوله (وعلى جبهته أثر الماء والطين) جملة حالية وفي رواية للبخاري انصرف من الصبح ووجهه ممتلىء طيناً وماء، وهذا يشعر بأن قوله أثر الماء والطين لم يرد به محض الأثر وهو ما يبقى بعد إزالة العين. قال الطيبي: قوله فبصرت عيناي مثل قولك أخذت بيدي ونظرت بعيني، وإنما يقال في أمر يعز الوصول إليه إظهاراً للتعجب من حصول تلك الحال الغريبة، ومن ثم أوقع رسول الله صلى الله عليه وسلم مفعولاً وعلى جبهته حالاً منه، وكان الظاهر أن يقال رأيت على جبهة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أثر الماء والطين-انتهى. قال الحافظ فيه استحباب ترك الإسراع إلى إزالة ما يصيب جبهة الساجد من غبار الأرض، وقال أيضاً فيه ترك مسح جبهة المصلي والسجود على الحائل،

متفق عليه في المعنى. واللفظ لمسلم إلى قوله: فقيل لي: إنها في العشر الأواخر والباقي للبخاري. 2107- (5) وفي رواية عبد الله بن أنيس، قال: ((ليلة ثلاث وعشرين)) . رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ وحمله الجمهور على الأثر الخفيف لكن يعكر عليه قوله في بعض طرقه ووجهه ممتلىء طيناً وماء، أو أجاب النووي بأن الامتلاء المذكور لا يستلزم ستر جميع الجبهة، وفيه جواز السجود في الطين-انتهى. قال الزين بن المنير: ويحتمل أن يكون ترك مسح الجبهة عامداً لتصديق رؤياه. وقال العيني والقاري وغيرهما: هذا محمول على أنه كان شيئاً يسيراً لا يمنع مباشرة بشرة الجبهة للأرض ولو كان كثيراً لم تصح صلاته، وهذا قول الجمهور. وفي شرح السنة، فيه دليل على وجوب السجود على الجبهة ولولا ذلك لصانها عن الطين (من صبيحة إحدى وعشرين) أي تصديق رؤياه كما في رواية البخاري في الصلاة ومن بمعنى في وهي متعلقة بقوله فبصرت وقوله من صبيحة كذا في جميع النسخ من المشكاة، والذي في البخاري من صبح، والحديث ظاهر في أن خطبته كانت صبح اليوم العشرين ووقوع المطر كان في ليلة إحدى وعشرين، وهو الموافق لأكثر الطرق، ووقع في رواية عند البخاري وغيره ما يقتضي أن الخطبة وقعت في أول اليوم الحادي والعشرين. وعلى هذا يكون أول ليالي اعتكافه الأخير ليلة اثنتين وعشرين، وهذا مخالف لما وقع في بقية الطرق. وقد تأوله الحافظ بحيث يزول الإشكال وتتفق الروايات من أحب الوقوف عليه فليرجع إلى الفتح. وفي الحديث إن ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم في المنام قد يكون تأويله أنه يرى مثله في اليقظة. واستدل به من ذهب إلى أن ليلة القدر إحدى وعشرين دائماً، ولا حجة لهم فيه لأنه محمول على تلك السنة، وقد تقرر أنها تنتقل وتتقدم، وتتأخر في أوتار ليالي العشر في السنين المختلفة. (متفق عليه في المعنى) للحديث طرق وألفاظ، والمذكور أحدها. وأخرجه البخاري في الصلاة في ثلاثة أبواب، وفي الصوم في خمسة أبواب. وأخرجه مسلم في الصوم من طرق، أخرجه أيضاً أحمد بألفاظ وطرق ومالك وأبوداود وابن ماجه والبيهقي (ج4ص308، 309، 315) (والباقي) أي من قوله فمن كان اعتكف معي الخ. (للبخاري) أي لفظاً في باب الاعتكاف في العشر الأواخر والاعتكاف في المساجد كلها. 2107- قوله وفي رواية عبد الله بن أنيس) مصغراً كذا في الأصول الصحيحة في رواية عبد الله. ووقع في أصل الطيبي في حديث عبد الله ولذا قال، ولو قال في رواته لكان أولى، لأنه ليس بحديث آخر بل رواية أخرى، والاختلاف في زيادة ليلة، واختلاف العدد بأنه ثلاث أو إحدى وعشرون ذكره القاري. قلت: وعندي إن ما وقع في أصل الطيبي هو الأولى، لأن الظاهر إنهما واقعتان رواهما صحابيان، ولو سلم أنهما قصة واحدة فالحديث يتعدد، ويختلف باختلاف المخرج أي الصحابي كما لا يخفى،

وهذا هو الذي راعيناه في رقم أحاديث المشكاة وحصرها. وعبد الله بن أنيس هو أبويحيى الجهني المدني حليف بني سلمة من الأنصار. وقال ابن الكلبي والواقدي: هو من ولد البرك بن وبرة من قضاعة، وقد دخل ولد البرك في جهينة فقيل له الجهني والقضاعي والأنصاري والسلمي بفتحتين صحابي، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه أبناءه ضمرة وعبد الله وعطية وعمرو وبسر بن سعيد وجابر بن عبد الله رحل إليه إلى مصر في حديث واحد وشهد العقبة الثانية واحداً، وما بعدهما. وكان أحد من يكسر أصنام بني سلمة من الأنصار. وهو الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى خالد بن نبيح العنزي وحده فقتله. وقال ابن يونس: صلى القبلتين ودخل مصر وخرج إلى أفريقية له أربعة وعشرون حديثاً إنفرد له مسلم بحديث، وأخرج له البخاري تعليقاً مات بالشام في خلافة معاوية سنة (54) ووهم من قال سنة (80) فرق علي بن المديني وخليفة وغيرهما بينه وبين عبد الله بن أنيس الأنصاري الذي روى عنه ابنه عيسى، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا يوم أحد بأداوة فقال أخنث، فم الإرادة-الحديث. وجزم البغوي وابن السكن وغيرهما بأنهما واحد. قال في الإصابة. وهو الراجح بأنه جهني حليف بني سلمة من الأنصار. وقال في تهذيب التهذيب: وهو (أي جعلهما واحداً) المعتمد فإن كونه أنصارياً لا ينافي كونه جهنياً لما تقدم أن الجهني حليف الأنصار. (قال ليلة ثلاث وعشرين) يعني روى عبد الله بن أنيس نحو حديث أبي سعيد لكنه قال فيه ليلة ثلاث وعشرين بدل إحدى وعشرين ولفظه عند مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أريت ليلة القدر ثم أنسيتها وأراني صبيحتها أسجد في ماء وطين، قال فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين فصلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانصرف، وإن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه قال، وكان عبد الله بن أنيس يقول ثلاث وعشرين-انتهى. قال النووي: هكذا في معظم النسخ من صحيح مسلم وفي بعضها ثلاث وعشرون، وهذا ظاهر والأول جاء على لغة شاذة أنه يجوز حذف المضاف، ويبقى المضاف إليه مجروراً أي ليلة ثلاث وعشرين-انتهى. ولا يخفى أن حديث عبد الله بن أنيس مخالف لحديث أبي سعيد في تعيين الليلة، فقيل الترجيح لحديث أبي سعيد لأنه متفق عليه. وقيل: يحتمل على تعدد القصة واستدل بحديث عبد الله بن أنيس هذا، وبحديثه الآتي في الفصل الثاني، من قال إن ليلة القدر ليلة ثلاث وعشرين، والظاهر إن هذا كان لتلك السنة خاصة فحمله عبد الله بن أنيس ومن وافقه من الصحابة والتابعين على العموم. (رواه مسلم) أي تلك الرواية وأخرجها أحمد (ج3ص495) والبيهقي (ج4ص309) أيضاً كلهم من رواية بسر بن سعيد عن عبد الله بن أنيس.

2108- (6) وعن زر بن حبيش، قال: ((سألت أبي بن كعب فقلت: إن أخاك ابن مسعود يقول: من يقم الحول يصب ليلة القدر، فقال رحمه الله: أراد أن لا يتكل الناس أما إنه قد علم أنها في رمضان، وأنها في العشر الأواخر، وأنها ليلة سبع وعشرين، ثم حلف لا يستثنى أنها ليلة سبع وعشرين. فقلت: بأي شيء تقول ذلك: يا أبا المنذر! قال: بالعلامة-أو بالآية- التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تطلع يومئذ لا شعاع لها)) . رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2108- قوله: (وعن زر) بكسر الزاي وتشديد الراء (بن حبيش) بضم حاء مهملة وفتح موحدة وسكون تحتية وبشين معجمة ابن حباشة بضم مهملة وخفة موحدة، واعجام شين الأسدي الكوفي أبومريم ثقة جليل مخضرم أدرك الجاهلية كان من أصحاب علي وعبد الله بن مسعود. قال عاصم: كان زر من أعراب الناس وكان عبد الله يسأله عن العربية. وقال ابن عبد البر: كان عالماً بالقرآن قارئاً فاضلاً مات سنة إحدى أو اثنتين أو ثلاث وثمانين، وهو ابن مائة وسبع وعشرين سنة (سألت أبي بن كعب) أي أردت أن أسأله قاله الطيبي أو يفسره قوله (فقلت ن أخاك) أي في الدين والصحبة (ابن مسعود) بدل أو بيان (من يقم الحول) أي جميع ليالي السنة (يصب ليلة القدر) أي يدركها يقيناً للإبهام في تبيينها وللاختلاف في تعيينها، أو لأنها تدور في تمام السنة، وهذا يؤيد الرواية المشهورة عن أبي حنيفة إذ قضيته إنها لا تختص برمضان (فقال) أي أبي (رحمه الله) دعا لابن مسعود. وفي رواية يغفر الله له (أراد أن يتكل الناس) أي لا يعتمدوا على قول واحد، وإن كان هو الصحيح الغالب على الظن الذي مبني الفتوى عليه، فلا يقوموا إلا في تلك الليلة ويتركوا قيام سائر الليالي فيفوت حكمة الإبهام الذي نسي بسببها عليه الصلاة والسلام (أما) بالتخفيف للتنبيه (أنه) أي ابن مسعود (قد علم أنها) أي ليلة القدر (في رمضان وإنها في العشر الأواخر) وفي رواية لقد علم أنها في العشر الأواخر من رمضان (ثم حلف) أي أبي بن كعب بناء على غلبة الظن (لا يستثنى) حال أي حلف حلفاً جازماً من غير أن يقول عقيبه إن شاء الله تعالى. قال الطيبي: هو قول الرجل إن شاء الله يقال حلف فلان يميناً ليس فيها ثنى ولا ثنو ولا ثنية ولا استثناء كلها واحد، وأصله من الثني، وهو الكف والرد، وذلك إن الحالف إذا قال والله لأفعلن كذا إلا أن يشاء الله غيره فقد رد انعقاد ذلك اليمين-انتهى. (إنها) مفعول حلف أي حلف إن ليلة القدر (ليلة سبع وعشرين فقلت) أي لأبي بن كعب (بأي شيء) من الأدلة (تقول ذلك) أي القول (يا أبا المن1ذر) كنية أبي بن كعب (أو بالآية) كلمة "أو" للشك أي بالإمارة (أنها) بفتح الهمزة ويحتمل الكسر أي أن الشمس (تطلع يومئذ) أي يوم إذ تكون تلك الليلة ليلة القدر،

2109- (7) وعن عائشة، قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره)) . رواه مسلم, ـــــــــــــــــــــــــــــ وفي رواية تطلع الشمس في صبيحة يومها، وفي أخرى صبح ليلة القدر (لا شعاع لها) زاد في رواية كأنها طست حتى ترتفع. قال القاري: هذا دليل على أن علمه ظني لا قطعي حيث بنى اجتهاده على هذا الاستدلال. قال ابن حجر: أي لا شعاع لها، وقد رأيتها صبيحة ليلة سبع وعشرين طلعت كذلك إذ لا يكون ذلك دليلاً إلا بانضمامه إلى كلامه-انتهى. والشعاع، بضم الشين. قال أهل اللغة: هو ما يرى من ضوء الشمس عند ذرورها أي طلوعها مثل الحبال، والقضبان مقبلة إليك إذا نظرت إليها، وجمعه أشعة وشعع بضم الشين والعين أشعت الشمس نشرت شعاعها. قال القاضي عياض: قيل معنى لا شعاع لها أنها علامة جعلها الله تعالى لها قال، وقيل بل لكثرة اختلاف الملائكة وترددها في ليلتها ونزولها إلى الأرض وصعودها بما تنزل به سترت بأجنحتها وأجسامها اللطيفة ضوء الشمس وشعاعها-انتهى. قيل فائدة كونه علامة مع أنه إنما يوجد بعد انقضاء الليلة أن يشكر على حصول تلك النعمة إن قام بخدمة الليلة وإلا فيتأسف على ما فاته من الكرامة ويتدارك في السنة الآتية. وإنما لم يجعل علامة في أول ليلها إبقاء لها على إبهامها. وقد ورد لليلة القدر علامات أخرى أكثرها لا تظهر إلا بعد أن تمضي ذكرها العيني (ج11ص34) وغيره. وقال الحافظ: اختلفوا هل لها علامة تظهر لمن وفقت له أم لا؟ فقيل: يرى كل شيء ساجداً، وقيل يرى الأنوار في كل مكان ساطعة حتى في المواضع المظلمة. وقيل يسمع سلاماً أو خطاباً من الملائكة. وقيل علامتها استجابة دعاء من وفقت له، واختيار الطبري إن جميع ذلك غير لازم، وأنه لا يشترط لحصولها رؤية شيء ولا سماعه-انتهى. (رواه مسلم) في أواخر الصلاة وفي الصوم، وأخرجه أيضاً أحمد (ج5ص130، 131) والترمذي في الصوم والتفسير، وأبوداود في أواخر الصلاة والبيهقي (ج4ص312) وذكر صاحب التنقيح النسائي وابن خزيمة وابن حبان وأبا عوانة وابن الجارود والطحاوي والدارقطني والحميدي أيضاً فيمن أخرج هذا الحديث. 2109- قوله: (يجتهد في العشر الأواخر) قيل أي يبالغ في طلب ليلة القدر فيها. قال القاري: والأظهر أنه يجتهد في زيادة الطاعة والعبادة يعني يبالغ في أنواع الخيرات وأصناف المبرات والعبادات. (ما لا يجتهد في غيره) أي في غير العشير الأخير. فيه استحباب الاجتهاد في العبادة والحرص على مداومة القيام في العشر الأخير من رمضان، إشارة إلى تحسين الخاتمة وتجويدها (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وابن ماجه،

2110- (8) وعنها، قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد ميزره، وأحي ليله، وأيقظ أهله)) . متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ والحديث ذكره الجزري في جامع الأصول (ج7ص78) عزو المسلم بلفظ: قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره، وفي العشر الأخير منه مالا يجتهد في غيره، ولم أجده بهذا السياق في صحيح مسلم، ورواه البيهقي (ج4ص314) بلفظ: كان يجتهد في العشر الأواخر من رمضان مالا يجتهد في غيرها. 2110- قوله: (إذا دخل العشر) وفي رواية للبيهقي، إذا دخلت العشر الأواخر من رمضان. قال الحافظ: قوله "إذا دخل العشر" أي الأخير وصرح به في حديث علي عند ابن أبي شيبة والبيهقي (شد منزره) ولمسلم و"شد المئزر" بكسر الميم وسكون الهمزة أي إزاره كقولهم ملحفة ولحاف. قال في التلويح "المئزر" والإزار، ما يأتزر به الرجل من أسفله وهو يذكر ويؤنث. واختلفوا في معنى شد مئزره، فقيل هو كناية عن شدة جده واجتهاده في العبادة زيادة على عادته صلى الله عليه وسلم في غيره، ومعناه التشمير في العبادة يقال شددت لهذا الأمر مئزري أي تشمرت له وتفرغت. قال القسطلاني: وفي هذا نظر، فإنها قالت جد وشد المئزر فعطفت شد المئزر على الجد، والعطف يقتضي التغاير، والصحيح أن المراد به اعتزاله للنساء للإشتغال بالعبادات، وبذلك فسره السلف والأئمة المتقدمون، وجزم به الثوري واستشهد بقول الشاعر: قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم عن النساء ولو باتت بأطهار ويحتمل أن يراد التشمير للعبادة والاعتزال عن النساء معاً ويحتمل أن يراد الحقيقة والمجاز كمن يقول طويل النجاد لطويل القامة، وهو طويل النجاد حقيقة فيكون المراد شد مئزره حقيقة فلم يحلله، واعتزل النساء وشمر للعبادة قال الطيبي: قد تقرر عند علماء البيان إن الكناية لا تنافي إرادة الحقيقة كما إذا قلت فلان طويل النجاد، وأردت طول نجاده مع طول قامته كذلك صلى الله عليه وسلم لا يستبعد أن يكون قد شد مئزره ظاهراً وتفرغ للعبادة واشتغل بها عن غيرها-انتهى. قلت: وقع عند ابن أبي عاصم بإسناد مقارب عن عائشة شد المئزر واجتنب النساء، وفي حديث علي المذكور شد مئزره واعتزل النساء فعطفه بالواو، وهذا يقوي الاحتمال الأول (وأحي ليله) أي استغرقه بالسهر في الصلاة وغيرها أو أحي معظمه لقولها في الصحيح ما علمته قام ليلة حتى الصباح، وقوله "أحيا ليله" أي بالقيام والقراءة والذكر كأن الزمان الخالي عن العبادة بمنزلة الميت، وبالعبادة فيه يصير حياً.

{الفصل الثاني}

{الفصل الثاني} 2111- (9) عن عائشة، قالت: قلت: ((يا رسول الله! أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر، ما أقول فيها: قال قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)) . رواه أحمد، وابن ماجه والترمذي وصححه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال القسطلاني: هو من باب الاستعارة شبه القيام فيه بالحياة في حصول الانتفاع التام أي أحيا ليله بالطاعة. أو أحيا نفسه بالسهر فيه، لأن النوم أخو الموت وإضافه إلى الليل إتساعاً لأن النائم إذا حي باليقظة حي ليله بحياته وهو نحو قوله لا تجعلوا بيوتكم قبوراً أي لا تناموا فتكونوا كالأموات فتكون بيوتكم كالقبور-انتهى. وقال الطيبي في أحياء الليل: وجهان. أحدهما: راجع إلى نفس العابد، فإن العابد إذا اشتغل بالعبادة عن النوم الذي هو بمنزلة الموت فكأنما أحي نفسه كما قال تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها} [الزمر: 42] والتي لم تمت في منامها. وثانيهما: أنه راجع إلى نفس الليل فإن ليله لما صار بمنزلة نهاره في القيام فيه كان أحياه وزينه بالطاعة والعبادة، ومنه قوله تعالى: {فانظر إلى آثار رحمت الله كيف يحيى الأرض بعد موتها} [الروم: 50] فمن اجتهد فيه وأحياه كله وفر نصيبه منها، ومن قام في بعضه أخذ نصيبه بقدر ما قام منها (وأيقظ أهله) أي للصلاة والعبادة. وإنما خص بذلك - صلى الله عليه وسلم - آخر رمضان لقرب خروج وقت العبادة فيجتهد فيه لأنه خاتمة العمل، والأعمال بخواتيمها. وروى الترمذي ومحمد بن نصر من حديث زينب بنت أم سلمة لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحداً من أهله يطيق القيام إلا أقامه (متفق عليه) واللفظ للبخاري وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود وابن ماجه والبيهقي (ج4ص313) . 2111- قوله: (أرأيت) أي أخبرني (إن علمت) جوابه محذوف يدل عليه ما قبله (أي ليلة) مبتدأ خبره (ليلة القدر) والجملة سدت مسد المفعولين لعلمت تعليقاً. قيل: القياس أية ليلة فذكر باعتبار الزمان كما ذكر في قوله صلى الله عليه وسلم أي أية من كتاب الله معك أعظم باعتبار الكلام واللفظ (ما أقول) متعلق بأرأيت (فيها) أي في تلك الليلة. وقال الطيبي: ما أقول فيها جواب الشرط وكان حق الجواب أن يؤتى بالفاء، ولعله سقط من قلم الناسخ وتعقب عليه القاري بأن دعوى السقوط من قلم الناسخ ليست بصحيحة. وقد جاء حذف الفاء على القلة (إنك عفو) بفتح العين المهملة وضم الفاء، وتشديد الواو صيغة مبالغة أي كثير العفو (تحب العفو) أي ظهور هذه الصفة (فاعف عني) فإني كثير التقصير وأنت أولى بالعفو الكثير، وفيه دليل على استحباب الدعاء في هذه الليلة بهذه الكلمات

2112- (10) وعن أبي بكرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((التمسوها – يعني ليلة القدر – في تسع يبقين، أو في سبع يبقين، أو في خمس يبقين، أو ثلاث، أو آخر ليلة)) . رواه الترمذي. 2113- (11) وعن ابن عمر، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر، فقال: ((هي في كل رمضان)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ (رواه أحمد وابن ماجه والترمذي) في الدعوات وأخرجه أيضاً النسائي في الكبرى والحاكم (ج1ص530) والبزار وفي رواية أحمد وابن ماجه والحاكم إن وافقت ليلة القدر (وصححه) أي الترمذي. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. 2112- قوله: (التمسوها يعني ليلة القدر) تفسير للضمير من الراوي (في تسع) أي تسع ليال (يبقين) بفتح الياء والقاف وهي التاسعة والعشرون (أو في سبع يبقين) وهي السابعة والعشرون (أو في خمس يبقين) وهي الخامسة والعشرون (أو ثلاث) أي يبقين وهي الثالثة والعشرون (أو آخر ليلة) من رمضان أي سلخ الشهر. قال الطيبي: يحتمل التسع أو السلخ، رجحنا الأول بقرينة الأوتار كذا في المرقاة. وقال في اللمعات: قيل: قوله في "تسع يبقين" محمول على الثانية والعشرين، وفي سبع يبقين محمول على الرابعة والعشرين، وفي خمس يبقين على السادسة والعشرين وأو ثلاث على الثامن والعشرين وأو آخر ليلة محمول على التاسع والعشرون. وقيل: على السلخ أقول هذا إذا كان الشهر ثلاثين يوماً. وأما إذا كان تسعاً وعشرين فالأولى على الحادية والعشرين، والثانية على الثالثة والعشرين، والثالثة على الخامسة والعشرين، والرابعة على السابعة والعشرين، وهذا أولى لكثرة الأحاديث الواردة في الأوتار، بل نقول لا دليل على كونها أولى هذه الإعداد، فالظاهر أن المراد من كونها في تسع يبقين الخ. ترديد ما في الليالي الخمس أو الأربع أو الثلاث أو الاثنين أو الواحدة-انتهى ما في اللمعات. (رواه الترمذي) وصححه وأخرجه أيضاً أحمد (ج5ص36- 39) والحاكم (ج1ص438) وصححه ووافقه الذهبي وأخرجه الطبراني في الكبير وأحمد من حديث عبادة بن الصامت (ج5ص318- 321- 324) . 2113- قوله: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر) أي هي في كل السنة أو في رمضان خاصة أو أهي في كل رمضان أو في هذا بخصوصه. قال القاري: ويؤيده (فقال هي في كل رمضان) قال ابن الملك أي ليست مختصة بالعشر الأواخر بل كل ليلة من رمضان، يمكن أن يكون ليلة الدر، ولهذا لو قال أحد لامرأته في نصف رمضان أو أقل أنت طالق في ليلة القدر لا تطلق حتى يأتي رمضان السنة القابلة فتطلق في الليلة التي علق فيها الطلاق-انتهى.

رواه أبوداود، وقال: رواه سفيان وشعبة، عن أبي إسحاق موقوفاً على ابن عمر. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال القاري: وكان حقه أن يصور المسألة بقوله في رمضان فقط أو يزيد بعد قوله أو أقل قوله أو أكثر، ثم هذا التفريع مسألة خلافية في المذهب كما تقدم تحقيقه (في أول الباب) وليس أصل الحديث نصاً في المقصود للاحتمالات المتقدمة. وللاختلاف في رفع الحديث ووقفه. قال الطيبي: الحديث يحتمل وجهين. أحدهما أنها واقعة في كل رمضان من الأعوام فتختص به، فلا تتعدى إلى سائر الشهور. وثانيهما: أنها واقعة في كل أيام رمضان فلا تختص بالبعض الذي هو العشر الأخير، لأن البعض في مقابلة الكل فلا ينافي وقوعها في سائر الأشهر اللهم إلا أن يختص بدليل خارجي، ويتفرع على الوجه الثاني ما إذا علق الطلاق بدخول ليلة القدر في الليلة الثانية من شهر رمضان، فما دونها إلى السلخ فلا يقع الطلاق إلا في السنة القابلة في ذلك الوقت الذي علق الطلاق فيه، بخلاف غرة الليلة الأولى، فإن الطلاق يقع في السلخ كذا في المرقاة. قلت: استدل بهذا الحديث لما روى عن أبي حنيفة من أن ليلة القدر ممكنة في جميع ليالي رمضان، لكن الحديث ليس بنص في ذلك كما قال القاري مع أنه اختلف في رفعه ووقفه، ولو كان الموقوف مروياً بهذا اللفظ لم يكن نصاً أيضاً، والراجح عندي: هو الوجه الأول من الوجهين اللذين ذكرهما الطيبي في معنى الحديث لكثرة الأحاديث الصحيحة الصريحة في كونها مختصة بالعشر الأواخر من رمضان، وتأويل ابن الهمام لهذه الأحاديث بأن المراد في ذلك رمضان الذي كان عليه الصلاة والسلام التمسها فيه بعيد جداً، بل هو باطل، لأنه لا دليل على ذلك. وليس في سياقاتها ما يدل على ذلك. كما لا يخفى على من تأمل طرقها وألفاظها، ولم أر حديثاً مرفوعاً صحيحاً أو ضعيفاً صريحاً في ما روى عن أبي حنيفة من إمكانها في جميع ليالي رمضان، ولا فيما هو المشهور عنه من امكانها في جميع السنة (رواه أبوداود) أي مرفوعاً وكذا البيهقي (ج4ص307) كلاهما من طريق موسى بن عقبة عن أبي إسحاق الهمداني عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عمر (وقال) أي أبوداود وكذا البيهقي (رواه سفيان) أي ابن عيينة أو الثوري (وشعبة) أي ابن الحجاج بن الورد العتكي مولاهم أبوبسطام الواسطي ثم البصري ثقة حافظ متقن، كان الثوري يقول هو أمير المؤمنين في الحديث، وهو أول من فتش بالعراق عن الرجال وذب عن السنة وكان عابداً مات سنة (160) (عن أبي إسحاق) اسمه عمرو بن عبد الله السبيعي الكوفي، والسبيع بفتح المهملة وكسر الموحدة همدان، ولد لسنتين بقيتاً من خلافة عثمان مكثر ثقة عابد من أوساط التابعين اختلط بآخره. وقال ابن حبان: كان مدلساً، وكذا كره في المدلسين حسين الكرابسي، وأبوجعفر الطبري والجوزجاني مات سنة (129) وقيل: قبل ذلك قال المصنف: رأى علياً وابن عباس وغيرهما من الصحابة،

2114- (12) وعن عبد الله بن أنيس، قال: قلت: ((يا رسول الله! إن لي بادية أكون فيها، وأنا أصلي فيها بحمد الله، فمرني بليلة أنزلها إلى هذه المسجد. فقال: أنزل ليلة ثلاث وعشرين. قيل: لابنه: كيف كان أبوك يصنع؟ قال: كان يدخل المسجد إذا صلى العصر، فلا يخرج منه لحاجة حتى يصلي الصبح، ـــــــــــــــــــــــــــــ وسمع البراء بن عازب وزيد بن أرقم روى عنه الأعمش والثوري وشعبة وهو تابعي مشهور كثير الرواية (موقوفاً على ابن عمر) أي من قوله ولم يرفعاه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأشار أبوداود، وكذا البيهقي بهذا الكلام إلى ترجيح وقفه، وهذا الموقوف رواه ابن أبي شيبة قال الحافظ في الفتح: بإسناد صحيح. 2114- قوله: (وعن عبد الله بن أنيس) بالتصغير مخففاً (إن لي بادية أكون) أي ساكناً (فيها) قال ميرك: المراد بالبادية دار إقامة بها، فقوله إن لي بادية أي إن لي داراً ببادية أو بيتاً أو خيمة هناك، واسم تلك البادية الوطاءة كذا في المرقاة (وأنا أصلي فيها بحمد الله) أي ولكن أريد إن اعتكف أو أريد عن أدرك ليلة القدر (فمرني) أمر من أمر مخففاً (بليلة) زاد في المصابيح من هذا الشهر يعني شهر رمضان (أنزلها) بالرفع على أنه صفة. وقيل: بالجزم على جواب الأمر أي أنزل تلك الليلة من النزول بمعنى الحلول. وقال الطيبي: أي أنزل فيها قاصداً أو منتهياً (إلى هذا المسجد) إشارة إلى المسجد النبوي وقصد إلى حيازة فضيلتي الزمان والمكان (أنزل ليلة ثلاث وعشرين) فتدرك ليلة القدر، وقد سبق منا إن الظاهر أن هذا الأمر كان لتلك السنة خاصة لكنه رضي الله عنه حمله على العموم (قيل لابنه) أي ضمرة وقيل عمرو. قال الحافظ في التقريب وتهذيب التهذيب: ابن عبد الله بن أنيس عن أبيه في التماس ليلة القدر هو ضمرة، وقيل عمرو. وقال في الإصابة في القسم الرابع من حرف الجيم في ترجمة جحش الجهني بعد الإشارة إلى هذا الحديث ما لفظه وابن عبد الله اسمه ضمرة سماه الزهري في روايته لهذا الحديث. وقال في ترجمة ضمرة هذا من تهذيبه ذكره ابن حبان في الثقات أخرج له أبوداود والنسائي حديثاً واحداً في ذكر ليلة القدر. وال في التقريب في ترجمة ضمرة وعمرو: كليهما مقبول من أوساط التابعين والقائل له هو محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي التابعي الثقة شيخ محمد بن إسحاق صاحب المغازي (كيف) في سنن أبي داود فكيف عند البيهقي (كان أبوك) أي عبد الله بن أنيس (يصنع) أي في نزوله (إذا صلى العصر) أي يوم الثاني والعشرين من رمضان (فلا يخرج منه لحاجة) أي من الحاجات الدنيوية اغتناماً للخيرات الأخروية أو لحاجة غير ضرورية. قال الطيبي: كذا في سنن أبي داود وجامع الأصول، وفي شرح السنة والمصابيح فلم يخرج إلا في حاجة والتنكير في حاجة للتنويع فعلى الأول لا يخرج لحاجة منافية للإعتكاف كما سيجيء في باب الإعتكاف في حديث عائشة، وعلى الثاني فلا يخرج إلا في حاجة يضطر إليها المعتكف-انتهى.

{الفصل الثالث}

فإذا صلى الصبح وجد دابته على باب المسجد، فجلس عليها ولحق بباديته)) . رواه أبوداود. {الفصل الثالث} 2115- (13) عن عبادة بن الصامت، قال: ((خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين، ـــــــــــــــــــــــــــــ (حتى يصلي الصبح) يشير إلى أنها ليلة القدر (ولحق) في سنن أبي داود والبيهقي فلحق. وقد روى مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله بن أنيس الجهني قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا رسول الله! إني رجل شاشع الدار فمرني ليلة أنزل لها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل ليلة ثلاث وعشرين من رمضان. قال ابن عبد البر: يقال ليلة الجهني معروفة بالمدينة ليلة ثلاث وعشرين وحديثه، هذا مشهور عند عامتهم وخاصتهم. وروى ابن جريج هذا الخبر لعبد الله بن أنيس. وقال في آخره فكان الجهني يمسى تلك الليلة يعني ثلاث وعشرين في المسجد فلا يخرج منه حتى يصبح ولا يشهد شيئاً من رمضان قبلها ولا بعدها ولا يوم فطر-انتهى. وقد ذهب إلى كون ليلة القدر ليلة ثلاث وعشرين جماعة من الصحابة والتابعين. قال الحافظ: روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن معاوية، قال: ليلة القدر ليلة ثلاث وعشرين، ورواه إسحاق في مسنده من طريق أبي حازم عن رجل من بني بياضة له صحبة مرفوعاً، وروى عبد الزراق عن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً من كان متحريها فليتحرها ليلة سابعة قال، وكان أيوب يغتسل ليلة ثلاث وعشرين، ويمس الطيب وعن ابن جريج عن عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس أنه كان يوقظ أهله ليلة ثلاث وعشرين، وروى عبد الرزاق من طريق يونس بن سيف سمع سعيد بن المسيب يقول: استقام قول القوم على أنها ليلة ثلاث وعشرين ومن طريق إبراهيم عن الأسود عن عائشة ومن طريق مكحول أنه كان يراها ليلة ثلاث وعشرين-انتهى. (رواه أبوداود) وكذا البيهقي (ج4ص309، 310) كلاهما من طريق محمد بن إسحاق حدثني محمد بن إبراهيم عن ابن عبد الله بن أنيس الجهني عن أبيه. وقد صرح محمد بن إسحاق بالتحديث فحديثه هذا صحيح، ورواه أيضاً الطبراني في الكبير لكنه قال عن عبد الله بن جحش عن أبيه. قال الحافظ في الإصابة: (ج1ص267) هو خطأ سقط عن الإسناد ابن وأبدل جحش بأنيس-انتهى. ورواه البيهقي (ج4ص309) أيضاً من طريق عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن عبد الله بن أنيس، وأصل هذا الحديث في مسلم من طريق بسر بن سعيد عن عبد الله بن أنيس كما تقدم في الفصل الأول وأخرجه أبويعلى من حديث أنس كما في مجمع الزوائد (ج3ص176) . 2115- قوله: (خرج النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي من حجرته (ليخبرنا) بنصب الراء بأن مقدرة بعد لام التعليل (بليلة القدر) أي بتعيينها (فتلاحى) بفتح الحاء المهملة أي تنازع وتخاصم، وفي حديث أبي سعيد مسلم فجاء رجلان يختصمان معهما الشيطان، ونحوه في حديث الفلتان عند ابن إسحاق، وزاد أنه لقيهما عند سدة المسجد بينهما فاتفقت هذه الأحاديث على سبب النسيان،

فقال: خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيراً لكم، فالتمسوها في التاسعة، والسابعة، والخامسة)) . رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ وروى مسلم أيضاً عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أريت ليلة القدر ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها، وهذا سبب آخر. فأما أن يحمل على التعدد بأن تكون الرؤيا في حديث أبي هريرة مناماً فيكون سبب النسيان الإيقاظ وأن تكون الرؤيا في حديث غيره في اليقظة فيكون سبب النسيان ما ذكر من المخاصمة، أو يحمل على إتحاد القصة، ويكون النسيان وقع مرتين عن سببين، ويحتمل أن يكون المعنى أيقظني بعض أهلي فسمعت تلاحى الرجلين فقمت لأحجز بينهما فنسيتها للاشتغال بهما. وقد روى عبد الرزاق من مرسل سعيد بن المسيب أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ألا أخبر بليلة القدر قالوا: بلى فسكت ساعة ثم قال لقد قلت لكم وأنا أعلم ثم أنسيتها فلم يذكر سبب النسيان وهو مما يقوى الحمل على التعدد-انتهى كلام الحافظ. (رجلان) قيل: هما عبد الله ابن أبي حدرد، وكعب بن مالك أي وقعت بينهما منازعة ومخاصمة، والظاهر إنها التي كانت في الدين الذي للأول على الثاني فأمره عليه الصلاة والسلام بوضع شطر دينه عنه فوضعه ذكره ابن حجر. وقال الحافظ: قيل الرجلان هما عبد الله بن أبي حدرد وكعب بن مالك ذكره ابن دحية ولم يذكر له مستنداً (فرفعت) بصيغة المجهول، أي رفع بيانها أو علمها من قلبي فنسيت تعيينها للاشتغال بالمتخاصمين. وقيل: المعنى رفعت بركتها في تلك السنة. وقيل: التاء في رفعت للملائكة لا لليلة. وقال الطيبي قال بعضهم: رفعت أي معرفتها لتلاحى الناس، والحامل له على ذلك إن رفعها مسبوق بوقوعها وحصولها فإذا حصلت لم يكن لرفعها معنى قال، ويمكن أن يقال المراد برفعها إنها شرعت أن تقع فلما تخاصما رفعت بعد فنزل الشروع منزلة الوقوع وإذا تقرر أن الذي ارتفع علم تعيينها تلك السنة فهل أعلم النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بتعيينها فيه احتمال. وقد روى عن ابن عيينة أنه أعلم وروى محمد بن نصر من طريق وهب المغافري أنه سأل زينب بنت أم سلمة هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلم ليلة القدر فقالت لا، لو علمها لما أقام الناس غيرها. قال الحافظ: وهذا قالته احتمالاً وليس بلازم لاحتمال أن يكون التعبد وقع بذلك أيضاً فيحصل الاجتهاد في جميع العشر كما تقدم، وقال العيني: الذي قالته زينب إنما قالته احتمالاً وهذا لا ينافي علمه بذلك، واستنبط السبكي الكبير من هذه القصة استحباب كتمان ليلة القدر لمن رآها لأن الله قدر لنبيه أنه لم يخبر بها، والخير كله فيما قدره له فيستحب إتباعه في ذلك-انتهى. قال الباجي: قد يذنب البعض فتتعدى عقوبته إلى غيره فيجزى به من لا سبب له في الدنيا وأما في الآخرة {ولا تزروا وازرة وزر أخرى} [الإسراء: 15]-انتهى. وقد روى في هذا أحاديث كثير لا تخفى على طالب الحديث (وعسى أن يكون) أي رفع تعيينها (خيراً لكم) حيث يحثكم على الاجتهاد في جميع ليالي العشر الأواخر.

2116- (14) وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان ليلة القدر نزل جبريل عليه السلام في كبكبة من الملائكة، يصلون على كل عبدقائم أو قاعد يذكر الله عزوجل، فإذا كان يوم عيدهم – يعني يوم فطرهم – باهى بهم ملائكته، فقال: يا ملائكتي! ما جزاء أجير وفي عمله؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ قال ابن بطال: يريد أن البحث عنها والطلب لها بكثير من العمل هو خير من هذه الجهة. وقال ابن التين: لعله يريد أنه لو أخبرهم بعينها لأقلوا من العمل في غيرها وأكثروه فيها، وإذا غيبت عنهم أكثروا العمل في سائر الليالي رجاء موافقتها. وقال الحافظ: أي وإن كان عدم الرفع أزيد خيراً وأولى منه لأنه متحقق فيه لكن في الرفع خير مرجو لاستلزامه مزيد الثواب لكونه سبباً لزيادة الاجتهاد في التماسها، وإنما حصل ذلك ببركة الرسول صلى الله عليه وسلم (فالتمسوها) أي اطلبوا ليلة القدر (في التاسعة) أي الباقية وهي التاسعة والعشرون. وقال ابن حجر: أي في التاسعة من آخر الشهر، وهي الليلة الحادية والعشرون (والسابعة والخامسة) على ما تقدم. وقال الحافظ: يحتمل أن يريد بالتاسعة تاسع ليلة من العشر الأخير فتكون ليلة تسع وعشرين، ويحتمل أن يريد بها تاسع ليلة تبقى من الشهر فتكون ليلة إحدى أو اثنين بحسب تمام الشهر ونقصانه، ويرجح الأول قوله في الرواية الماضية في كتاب الإيمان. بلفظ: التمسوها في التسع والسبع والخمس أي في تسع وعشرين وسبع وعشرين وخمس وعشرين، وفي رواية لأحمد (ج5ص319) في تاسعة تبقى-انتهى. (رواه البخاري) في الصوم وفي الإيمان وأخرجه أيضاً أحمد (ج5ص313، 319) والدارمي والبيهقي (ج4ص311) كلهم من رواية حميد عن أنس عن عبادة، ورواه مالك فقال عن حميد عن أنس قال خرج علينا، ولم يقل عن عبادة فجعل الحديث من مسند أنس، قال ابن عبد البر والصواب إثبات عبادة وإن الحديث من مسنده. 2116- قوله: (إذا كان ليلة القدر نزل جبريل عليه السلام في كبكبة) بضمتين. وقيل بفتحتين جماعة متضامة من الناس وغيرهم على ما في النهاية (من الملائكة) فيه إشارة إلى قوله تعالى: {تنزل الملائكة والروح} [القدر: 4] وإيماء إلى تفسير الروح بجبريل فيكون من باب التخصيص المشعر بتعظيمه (يصلون على كل عبد) أي يدعون لكل عبدبالمغفرة أو يثنون على كل عبدبالثناء الجميل (قائم) كمصل وطائف وغيرها (أو قاعد يذكر الله عزوجل) صفة لكل (يعني يوم فطرهم) احتراز من عيد الأضحى (باهى) أي الله تعالى (بهم ملائكته) في النهاية، المباهاة المفاخرة. والسبب فيها اختصاص الإنسان بهذه العبادات التي هي الصوم.

قالوا: ربنا جزاءه أن يوفى أجره. قال: ملائكتي! عبيدي وإمائي قضوا فريضتي عليهم، ثم خرجوا يعجون إلى الدعاء، وعزتي وجلالي وكرمي وعلوي وارتفاع مكاني لأجيبنهم. فيقول: ارجعوا قد غفرت لكم، وبدلت سيئاتكم حسنات. قال: فيرجعون مغفوراً لهم)) . رواه البيهقي في شعب الإيمان. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقيام الليل وإحياءه بالذكر وغيره من العبادات، وهي غبطة الملائكة، ثم الأظهر إن هذه المباهاة مع الملائكة الذين طعنوا في بني آدم فيكون بياناً لإظهار قدرته إحاطة علمه قاله القاري (يا ملائكتي) إضافة تشريف (وفي) بالتشديد وتخفف (ربنا) بالنصب على النداء (جزاءه أن يوفى) بصيغة المجهول مشدداً ومخففاً (أجره) أي أجر عمله بالنصب، وقيل بالرفع قال ملائكتي) بحذف حرف النداء (عبيدي وإمائي) بكسر الهمزة جمع أمة، بمعنى الجارية (قضوا) أي أدوا (فريضتي) أي المختصة المخصومة بي، وهي الصوم الشاق (عليهم ثم خرجوا) من بيوتهم إلى مصلى عيدهم (يعجون) يضم العين وتكسر وبالجيم المشددة من عَجّ يَعُجِّ عَجّا وعجيِجا، صاح ورفع صوته (إلى الدعاء) أي يرفعون أصواتهم بالذكر والثناء متوجهين أو منتهين إلى الدعاء بالمغفرة لذنوبهم. وقيل: أي يرفعون أصواتهم وأيديهم إلى الدعاء (وعزتي) ذاتا (وجلالي) صفة (وكرمي) فعلاً (وعلوي) في الجميع (وراتفاع مكاني) أي مكانتي ومرتبتي من قدرتي وإرادتي عن شوائب النقصان، وحوادث الزمان والمكان فهو تسبيح بعد تحميد وتقديس بعد تمجيد قاله القاري، وقال الطيبي: إرتفاع المكان كناية عن عظمة شأنه وعلو سلطانه وإلا فالله تعالى منزه عن المكان وما ينسب إليه من العلو والسفل-انتهى. قلت: قد اتفق أهل السنة والجماعة على أن الله تعالى مستو على عرشه وعرشه فوق السماوات السبع، والاستواء هو الارتفاع والعلو فالله تعالى عال على عرشه بائن من خلقه وعلمه وقدرته في كل مكان، وكيفية استواءه مجهولة، ليس كمثله شيء وارجع إلى كتاب العلو للذهبي وكتاب الأسماء والصفات للبيهقي وإلى ما كتب في مسألة الاستواء على العرش شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية (لأجيبنهم) أي لأقبلن دعوتهم (فيقول) أي الله تعالى حينئذٍ (ارجعوا) أي من مصلاكم إلى مساكنكم (قد غفرت لكم) أي التقصيرات (وبدلت سيآتكم حسنات) بأن يكتب بدل كل سيئة حسنة في صحائف الأعمال فضلاً من الله الملك المتعال، وهو يحتمل أن يعم الصائمين، ويحتمل أن يكون الغفران للعاصين والتبديل للمطيعين التائبين، وهو أظهر لقوله تعالى: {إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً فأولئك يبدل الله سيآتهم حسنات} [الفرقان: 70] (قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (فيرجعون) أي جميعهم حال كونهم (مغفوراً لهم رواه البيهقي في شعب الإيمان) وأخرجه ابن حبان في الضعفاء مطولاً، وفيه أصرم بن حوشب قاضي همدان. قال يحي: كذاب خبيث.

(9) باب الإعتكاف

(9) باب الإعتكاف ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال البخاري ومسلم والنسائي. متروك الحديث. وقال الدارقطني: منكر الحديث. وقال ابن حبان: كان يضع الحديث على الثقات. وقال الحاكم والنقاش: يروي الموضوعات، وأخرجه ابن شاهين في الترغيب، والعقيلي في الضعفاء من طريق عباد بن عبد الصمد عن أنس وعباد هذا. قال الذهبي: إنه واه. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال أبوحاتم: عباد ضعيف جداً. وقال العقيلي: يروي عن أنس نسخة عامتها مناكير. وقال الذهبي: بعد الاشارة إلى هذا الحديث من رواية العقيلي، هذا حديث طويل يشبه وضع القصاص، واخرجه أيضاً الديلمي من طريق أبان عن انس. قال السيوطي: وأبان متروك وله شاهد من حديث ابن عباس ذكره المنذري في الترغيب. وقال رواه أبوالشيخ بن حبان في كتاب الثواب والبيهقي. قال المنذري: وليس في إسناده من أجمع على ضعفه. (باب الاعتكاف) هو في اللغة، لزوم الشيء وحبس النفس عليه، والاقامة والاقبال عليه، والبث والمكث مطلقا، أي في أي موضع كان، وفي الشرع عبارة عن المكث في المسجد، ولزومه على وجه مخصوص، وهو افتعال من عكف على الأمر أي لزمه مواظباً عليه وعكفه على الأمر أي حبسه عليه وألزمه به. قال الراغب: العكوف الإقبال على الشيء وملازمته على سبيل التعظيم له، وفي الشرع هو الاحتباس في المسجد على سبيل القربة، ويقال عكفته على كذا أي حسبته عليه. وقال الجوهري: عكفه أي حبسه يعكفه بضم عينها وكسرها عكفا وعكف على الشيء يعكف عكوفاً أي أقبل عليه مواظباً يستعمل لازماً فمصدره عكوف، ومتعدياً فمصدره عكف. وقال ابن قدامة: الاعتكاف في اللغة، لزوم الشيء وحبس النفس عليه برا كان أو غيره ومنه قوله تعالى: {ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون} [الأنبياء:52] وقال: يعكفون على أصنام لهم. قال الخليل: عكف يعكف ويعكف وهو في الشرع الإقامة في المسجد على صفة يأتي ذكرها. وقال القسطلاني: هو لغة اللبث والحبس والملازمة على الشيء خيراً أو كان شراً. قال تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} [البقرة: 187] وقال فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، وشرعا اللبث في المسجد من شخص مخصوص بنيته- انتهى. قال الحافظ: وليس بواجب إلا على من نذره وكذا من شرع فيه فقطعه عامدا عند قوم. وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الاعتكاف سنة لا يجب على الناس فرضاً إلا أن يوجب المرء على نفسه الاعتكاف نذرا فيجب عليه. وقال ابن رشد: الاعتكاف مندوب إليه بالشرع واجب بالنذر، ولا خلاف في ذلك إلا ما روى عن مالك أنه كره الدخول فيه مخافة أن يوفى شرطه_ قلت: حكى الحافظ في الفتح عن ابن نافع عن مالك أنه قال: فكرت في الاعتكاف وترك الصحابة له مع شدة إتباعهم للأثر، فوقع في نفسي أنه كالوصال وأراهم تركوه لشدته، ولم يبلغني عن أحد السلف أنه اعتكف إلا عن أبي بكر بن عبد الرحمن- انتهى ومن كلام مالك أخذ بعض الصحابة إن الاعتكاف جائز وأنكر ذلك عليهم ابن العربي وقال: إنه سنة مؤكدة، وكذا قال ابن بطال في

{الفصل الأول}

{الفصل الأول} 2117- (1) عن عائشة، ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على تأكده. وقال أبوداود عن أحمد: لا أعلم عن أحد من العلماء خلافاً أنه مسنون. وقد تعقب الحافظ قول مالك أنه لم يعتكف من السلف إلا أبوبكر بن عبد الرحمن، وقال لعله أراد صفة مخصوصة وإلا فقد حكى عن غير واحد من الصحابة أنه اعتكف- انتهى. وقال القدوري من الحنفية: الاعتكاف مستحب. وقال صاحب الهداية: والصحيح أنه سنة مؤكدة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - واظب عليه في العشر الأواخر من رمضان. قال ابن الهما: والحق خلاف كل من الاطلاقين وهو أن يقال الاعتكاف ينقسم إلى واجب وهو المنذور نتجيزا أو تعليقا وإلى سنة مؤكدة أي سنة كفاية لاقترانها بعدم الإنكار على من لم يفعله من الصحابة وهو اعتكاف العشر الأواخر من رمضان وإلى مستحب وهو ما سواهما. 2117- قوله: (كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله) وفي رواية، حتى قبضه الله. قال السندي: يمكن أن يكون ذلك بعد ما أرى ليلة القدر في العشر الأخير وهو لا ينافي اعتكاف العشر الأوسط قبل ذلك فلا ينافي ما سبق من حديث أبي سعيد- انتهى. ويؤيد هذا الجمع ما روى عن أم سلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتكف أول سنة العشر الأول، ثم اعتكف العشر الوسطى ثم اعتكف العشر الأواخر، وقال: إني رأيت ليلة القدر فيها فأنسيتها فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتكف فيهن حتى توفي - صلى الله عليه وسلم - ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص73) وعزاه للطبراني في الكبير وقال إسناده حسن. وفي الحديث دليل على أن الاعتكاف لم ينسخ وأنه من السنن المؤكدة في العشر الأواخر من رمضان لتخصيصه - صلى الله عليه وسلم - ذلك الوقت بالمواظبة على اعتكافه. قال ابن الهمام: هذه المواظبة المقرونة بعدم الترك مرة لما اقترنت بعدم الإنكار على من لم يفعله من الصحابة كانت دليل السنية وإلا كانت دليل الوجوب أو نقول اللفظ وإن دل على عدم الترك ظاهراً لكن وجدنا صريحاً يدل على الترك وهو ما في الصحيحين وغيرهما، كان - صلى الله عليه وسلم - يعتكف في كل رمضان فإذا صلى الغداة حل مكانه الذي اعتكف فيه فاستأذنته عائشة أن تعتكف فأذن لها فضربت فيه قبة فسمعت بها حفصة فضربت فيه قبة فسمعت زينب فضربت فيه قبةٌ أخرى، فلما انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - من الغداة أبصر أربع قباب فقال: ما هذا فأخبر خبرهن فقال: ما حملهن على هذا البر؟ أنزعوها فنزعت فلم يعتكف في رمضان حتى اعتكف في آخر من شوال وفي رواية حتى اعتكف العشر الأول من شوال (ثم اعتكف أزواجه من بعده) أي من بعد موته إحياء لسنته وإبقاء لطريقته.

فيه دليل على أن الاعتكاف ليس من الخصائص وإن النساء كالرجال في الاعتكاف وقد كان عليه السلام إذن لبعضهن كما تقدم. وأما إنكاره عليهن الاعتكاف بعد الإذن فلمعنى آخر. فقيل: خوف أن يكن غير مخلصات في الاعتكاف بل أردن القرب منه لغيرتهن عليه أو ذهاب المقصود من الاعتكاف بكونهن معه في المعتكف أو لتضييقهن المسجد بأبنيتهن. قال النووي: في هذا الحديث دليل لصحة اعتكاف النساء لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان أذن لهن ولكن عند أبي حنيفة إنما يصح اعتكاف المرأة في مسجد بيتها وهو الموضع المهيأ في بيتها لصلاتها، قال. ولا يجوز للرجل في مسجد بيته. ومذهب أبي حنيفة قول قديم للشافعي ضعيف عند أصحابه- انتهى وقال العيني قال أصحابنا المرأة تعتكف في مسجد بيتها وبه قال النخعي والثوري وابن عليه، ولا تعتكف في مسجد جماعة ذكره في الأصل، وفي منية المفتى لو اعتكفت في المسجد جاز، وفي المحيط روى الحسن عن أبي حنيفة جوازه وكراهته في المسجد وفي البدائع لها أن تعتكف في مسجد الجماعة في رواية الحسن عن أبي حنيفة، ومسجد بيتها أفضل لها من مسجد حيها، ومسجد حيها أفضل لها من المسجد الأعظم- انتهى. وقال الحافظ: قد أطلق الشافعي كراهته لهن في المسجد الذي تصلي فيه الجماعة، واحتج بحديث الباب يعني حديث عائشة الذي تقدم في كلام ابن الهمام فانه دال على كراهة الاعتكاف للمرأة إلا في مسجد بيتها لأنها تتعرض لكثرة من يراها، وشرط الحنفية لصحة اعتكاف المرأة أن تكون في مسجد بيتها. وفي رواية لهم إن لها الاعتكاف في المسجد مع زوجها وبه قال أحمد- انتهى. وقال ابن قدامة (ج3 ص190) وللمرأة أن تعتكف في كل مسجد، ولا يشترط إقامة الجماعة فيه لأنها غير واجبة عليها، وبهذا قال الشافعي: وليس لها الاعتكاف في بيتها. وقال أبوحنيفة والثوري: لها اعتكاف في مسجد بيتها، واعتكافها فيه أفضل لأن صلاتها فيه أفضل وحكى عن أبي حنيفة أنها لا يصح اعتكافها في مسجد الجماعة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك الاعتكاف في المسجد لما رأى أبنية أزواجه فيه، ولأن مسجد بيتها موضع فضيلة صلاتها، فكان موضع اعتكافها كالمسجد في حق الرجل. ولنا قوله تعالى: {وأنتم عاكفون في المساجد} [البقرة:187] والمراد به المواضع التي بنيت للصلاة فيها وموضع صلاتها في بيتها ليس بمسجد لأنه لم يبن للصلاة فيه وإن سمى مسجداً كان مجازاً، فلا يثبت له أحكام المساجد الحقيقية، ولأن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - استأذنه في الاعتكاف في المسجد فأذن لهن ولو لم يكن موضعاً لاعتكافهن لما أذن فيه، ولو كان الاعتكاف في غيره أفضل لدلهن عليه ونبهن عليه ولأن الاعتكاف قربة يشترط لها المسجد في حق الرجل فيشترط في حق المرأة كالطواف. وحديث عائشة حجة لنا لما ذكرنا وإنما كره اعتكافهن في تلك الحال حيث كثرن أبنيتهن لما رأى من منافستهن فكرهه منهن خشية عليهن من فساد نيتهن ولذلك ترك الاعتكاف لظنه إنهن يتنافسن في الكون معه ولو كان للمعنى الذي ذكروه لأمرهن بالاعتكاف في بيوتهن، ولم يأذن لهن في المسجد. وأما الصلاة فلا يصح إعتبار الاعتكاف بها، فإن صلاة الرجل في بيته أفضل ولا يصح اعتكافه فيه- انتهى.

2118- (2) وعن ابن عباس، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان، كان جبريل يلقاه كل ليلة في رمضان، ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال ابن رشد: أما سبب اختلافهم في اعتكاف المرأة فمعارضة القياس للأثر، وذلك أنه ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أذن لبعض أزواجه في الاعتكاف في المسجد، فكان هذا دليلاً على جواز اعتكاف المرأة في المسجد. وأما القياس المعارض لهذا فهو قياس الاعتكاف على الصلاة، وذلك أنه لما كانت صلاة المرأة في بيتها أفضل منها في المسجد على ما جاء الخبر وجب أن يكون الاعتكاف في بيتها أفضل قالوا: وإنما يجوز للمرأة أن تعتكف في المسجد مع زوجها فقط على نحو ما جاء في الأثر من إذنه - صلى الله عليه وسلم - لعائشة في الاعتكاف معه وكأنه نحو من الجمع بين القياس والأثر انتهى بتغيير يسير. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي في الكبرى والدارقطني (ص247) والبيهقي (ج4 ص315) . 2118- قوله: (أجود الناس) بنصب أجود لأنه خبر كان، وقدم ابن عباس هذه الجملة على ما بعدها وغنة كانت لا تتعلق بالقرآن على سبيل الاحتراس من مفهوم ما بعدها أي لئلا يتخيل من قوله: وأجود ما يكون في رمضان أن الأجودية منه خاصة برمضان. وأجود مشتق من الجود، وهو الكرم والسخاء وهو من الصفات المحمودة أي كان إسخاهم على الإطلاق. وقد أخرج الترمذي من حديث سعد (إن الله جواد يحب الجود) - الحديث. وله في حديث أنس رفعة أنا أجود ولد آدم وأجودهم بعدي رجل علم علماً فنشر علمه. ورجل جاد بنفسه في سبيل الله وفي سنده مقال، وفي الصحيح من وجه آخر عن أنس كان النبي صلى الله عليه وسلم أشجع الناس وأجود الناس- الحديث. (بالخير) اسم جامع لكل ما ينتفع به أي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حد ذاته بقطع النظر عن أوقاته الكريمة وأحواله الكريمة أشد الناس جوداً بكل خير من خيري الدنيا والآخرة لله وفي الله من بذل العلم، والمال وبذل نفسه لإظهار الدين، وهداية العباد وإيصال النفع غليهم بكل طريق وقضاء حوائجهم وتحمل أثقالهم (وكان أجود ما يكون) "ما" مصدرية، وهو جمع لأن أفعل التفضيل إنما يضاف إلى جمع، والتقدير كان أجود أكوانه ويجوز في أجود الرفع والنصب، أما الرفع فهو أكثر الروايات وأشهرها ووجهه أن يكون اسم كان وخبره محذوف وقوله (في رمضان) في محل نصب على الحال قائم مقام الخبر المحذوف الذي هو حاصل أو واقع على ما تقرر في باب أخطب ما يكون الأمير قائماً، والتقدير كان أجود أكوانه - صلى الله عليه وسلم - حاصلاً حال كونه في رمضان،

وإن شئت جعلت في رمضان هو الخبر كقولهم ضربي في الدار، لأن المعنى كان أجود أكوانه أي الكون الذي هو أجود الأكوان حاصلاً في هذا الوقت فلا يتعين أن يكون من باب أخطب ما يكون الأمير قائماً ووجه آخر أن يكون في كان ضمير الشأن وأجود ما يكون مبتدأ، وخبره في رمضان والتقدير كان الشأن أجود أكوان الرسول - صلى الله عليه وسلم - في رمضان أي حاصل في رمضان. ووجه آخر في كان ضمير يعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ويجعل أجود ما يكون إما مبتدأ خبره قوله في رمضان من باب قولهم أكثر شربي السويق في يوم الجمعة، والجملة بكمالها خبر كان كقولك كان زيد أحسن ما يكون في يوم الجمعة، وأما بدلاً من الضمير في كان فيكون من بدل الاشتمال كما تقول كان زيد علمه حسنا. ووجه آخر أن يكون أجود اسم كان ويكون الوقت مقداراً كما في مقدم الحاج، والتقدير كان أجود أوقات كونه في رمضان وإسناد الجود إلى أوقاته عليه الصلاة والسلام على سبيل المبالغة كإسناد الصوم إلى النهار والقيام إلى الليل في قولهم نهاره صائم وليله قائم وأما النصب فهو رواية الأصيلي ووجهه أن يجعل اسم كان ضمير النبي صلى الله عليه وسلم وأجود خبرها "وما" حينئذٍ مصدرية ظرفية، والتقدير كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مدة كونه في رمضان أجود منه في غيره. وقال البدر الدماميني في المصابيح: ولك مع نصب أجود أن تجعل "ما" نكرة موصوفة فيكون في رمضان متعلقاً "بكان" مع أنها ناقصة بناء على القول بدلالتها على الحدث، وهو صحيح عند جماعة واسم "كان" ضمير عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى جوده المفهوم مما سبق أي وكان - صلى الله عليه وسلم - في رمضان أجود شيء يكون، أو وكان جوده في رمضان أجود شيء يكون فجعل الجود متصفاً بالأجودية مجازاً كقولهم شعر شاعر- انتهى. قلت: ويؤيد الرفع ويرجحه وروده بدون كان عند البخاري في المناقب في باب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي فضائل القرآن. وإنما كان - صلى الله عليه وسلم - أجود ما يكون في رمضان لنه موسم الخيرات وتزايد الخيرات فإن الله تعالى يتفضل على عباده في هذا الشهر ما لا يتفضل عليهم في غيره فأراد صلى الله عليه وسلم متابعة سنة الله عزوجل (كان جبريل يلقاه) أي ينزل عليه، وفي رواية مسلم (إن جبريل كان يلقاه) وللبخاري (وكان جبريل يلقاه) وفي رواية له أيضاً (لأن جبريل كان يلقاه) (كل ليلة) وفي رواية (في كل ليلة) (في رمضان) زاد في رواية حتى ينسلخ أي رمضان وهذا ظاهر في أنه كان يلقاه في كل رمضان منذ أنزل عليه القرآن إلى رمضان الذي توفى بعده وليس بمقيد برمضانات الهجرة وإن كان أيام شهر رمضان إنما فرض بعد الهجرة إذ أنه كان يسمى به قبل فرض صومه، نعم يحتمل أنه لم يعارضه في رمضان من السنة الأولى لوقوع ابتداء النزول فيها ثم فتر الوحي

يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم تتابع (يعرض) بفتح الياء وكسر الراء أي يقرأ (عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن) أي بعضه أو معظمه. قال ابن حجر: يعني على جهة المدارسة كما في رواية للبخاري فيدارسه القرآن، وهي أن تقرأ على غيرك مقداراً معلوماً ثم يقرأ عليك أو يقرأ قدره مما بعده وهكذا- انتهى. قيل: الحكمة فيه إن مدارسة القرآن تجدد له العهد بمزيد غنى النفس. والغنى سبب الجود والجود في الشرع إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي، وهو أعم من الصدقة، وأيضاً فرمضان موسم الخيرات لأن نعم الله على عباده فيه زائدة على غيره فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤثر متابعة سنة الله في عباده، فبمجموع ما ذكر من الوقت والمنزول به والنازل والمذاكرة حصل المزيد في الجود والعلم عند الله. وفي الحد إطلاق القرآن على بعضه وعلى معظمه لأن أول رمضان من البعثة لم يكن نزل من القرآن إلا بعضه، ثم كذلك كل رمضان بعده إلى رمضان الأخير فكان قد نزل كله إلا ما تأخر نزوله بعد رمضان المذكور وكان في سنة عشر إلى أن توفي - صلى الله عليه وسلم - في ربيع الأول سنة إحدى عشرة، ومما نزل في تلك المدة {اليومَ أكملتُ لكُم دينكم} [المائدة:3] فإنها نزلت يوم عرفة بالاتفاق، ولما كان ما نزل في تلك الأيام قليلاً اغتفروا أمر معارضته فاستفيد منه إطلاق القرآن على بعضه مجازاً، ومن ثم لا يحنث من حلف ليقرأ القرآن فقرأ بعضه إلا أن قصد الجميع كذا في الفتح. وإنما خص الليل المذكور بمعارضة القرآن لأن المقصود من التلاوة الحضور والفهم والليل مظنة ذلك بخلاف النهار، فإن فيه الشواغل والعوارض على ما لا يخفى، ولعله صلى الله عليه وسلم كان يقسم ما نزل من القرآن في كل سنة على ليالي رمضان أجزاء فيقرأ كل ليلة جزأ في جزء من الليلة، وبقية ليلته لما سوى ذلك من تهجد وراحة وتعهد أهله، ويحتمل انه كان يعيد ذلك الجزء مراراً بحسب تعدد الحروف المنزل بها القرآن (فإذا لقيه جبريل كان) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (أجود بالخير من الريح المرسلة) بفتح السين أي المطلقة يعني أنه في الإسراع بالجود أسرع من الريح وعبر بالمرسلة إشارة إلى دوام هبوبها بالرحمة وإلى عموم النفح بجوده كما تعم الريح المرسلة جميع ما تهب عليه. قال ابن المنير: وجه التشبيه بين أجوديته صلى الله عليه وسلم بالخير، وبين أجودية الريح المرسلة إن المراد بالريح، ريح الرحمة التي يرسلها الله تعالى: لإنزال الغيث العام الذي يكون سبباً لإصابة الأرض الميتة وغير الميتة، أي فيعم خيره وبره من هو بصفة الفقر والحاجة، ومن هو بصفة الغنى والكفاية أكثر مما يعم الغيث الناشئة عن الريح المرسلة - صلى الله عليه وسلم -. وقال الطيبي: يحتمل أنه أراد بها التي أرسلت بالبشرى بين يدي رحمة الله تعالى، وذلك لشمول روحها وعموم نفعها قال تعالى: {والمرسلات عرفاً} [المرسلات-1] فاحد الوجوه في الآية أنه أراد بها الرياح المرسلات للإحسان والمعروف، ويكون انتصاب عرفا بالمفعول له يعني هو أجود من تلك الريح في عموم النفع والإسراع فيه،

متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولفظ الخير شامل لجميع أنواعه بحسب إختلاف ما جاءت الناس به، وكان عليه الصلاة والسلام يجود على كل أ؛ د منهم بما يسد خلته ويشفى علته. قال الحافظ: في الحديث جوازاً لمبالغة في التشبيه، وجواز تشبيه المعنوي بالمحسوس ليقرب لفهم سامعه وذلك أنه أثبت له أولاً وصف الأجودية، ثم أراد أن يصفه بأزيد من ذلك فشبه جوده بالريح المرسلة بل جعله أبلغ في ذلك، منها، لأن الريح قد تسكن. وفيه الاحتراس لأن الريح منها العقيم الضار، ومنها المبشر بالخير فوصفها بالمرسلة ليعين الثاني قال تعالى: {هو الذي يرسل الرياح بشراً} [الأعراف:57] فالريح المرسلة تستمر مدة إرسالها، وكذا كان عمله صلى الله عليه وسلم في رمضان ديمة لا تنقطع، وفيه استعمال أفعل التفضيل في الإسناد الحقيقي والمجازي لأن الجود منه - صلى الله عليه وسلم - حقيقة ومن الريح مجاز-انتهى. وقيل: وتعبيره بأفضل نص في كونه أعظم جوداً منها لأن الغالب عليها أن تأتي بالمطر، وربما خلت عنه وهو لا ينفك عن العطاء والجود. قال الطيبي: شبه نشر جوده بالخير في العباد بنشر الريح القطر في البلاد وشتان ما بين الأثرين، فإن أحدهما يحيى القلوب بعد موتها، والأخر يحيى الأرض بعد موتها. وقال بعضهم: فضل جوده على جود الناس، ثم فضل جوده في رمضان على جود في غيره، ثم فضل جوده في ليالي رمضان وعند لقاء جبريل على جوده في سائر أوقات رمضان، ثم شبه بالريح المرسلة في التعميم والسرعة. قال ابن الملك: لأن الوقت إذا كان أشرف يكون الجود فيه أفضل-انتهى. وفي الحديث فوائد، منها الحث على الجود في كل وقت ومنها الزيادة في رمضان وعند الاجتماع بأهل الصلاح، وفيه زيارة الصلحاء وأهل الخير وتكرار ذلك إذا كان المزور لا يكرهه، واستحباب الإكتثار من القراءة في رمضان، وكونها أفضل من سائر الأذكار إذ لو كان الذكر أفضل أو مساوياً لفعلاه. فإن قيل: المقصود تجويده الحفظ. قلنا: الحفظ كان حاصلاً والزيادة فيه تحصل ببعض هذه المجالس (متفق عليه) أخرجه البخاري في بدأ الوحي والصوم وصفة النبي صلى الله عليه وسلم وبدأ الخلق وفضائل القرآن، ومسلم في فضائل النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجه أيضاً أحمد (ج1:ص231-288-326-363-366-373) وزاد في رواية لا يسئل عن شيء إلا أعطاه، وأخرجه الترمذي في الشمائل والبيهقي (ج4:ص305) قال ابن حجر: فإن قلت ما وجه مناسبة ذكر هذا الحديث لهذا الباب: لأن غاية الأجودية فيه إنما حصلت في حال الاعتكاف لأن أفضل أوقات مدارسة جبريل له العشر الأخير، وهو فيه معتكف كما مر في الحديث الأول فكأن المصنف وأصله يقولان بتأكد الاعتكاف في العشر الأخير لأن له غايات علية إلا أرى إن غاية جوده عليه الصلاة والسلام إنما كانت تحصل وهو معتكف وأبدى شارح لذلك مناسبة بعيدة جداً فقال قلت من حيث إتيان أفضل الملائكة إلى أفضل خليقة بأفضل كلام من أفضل متكلم في أفضل أوقات، فالمناسب أن يكون في أفضل بقاع-انتهى.

2119- (3) وعن أبي هريرة، قال: ((كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم: القرآن كل عام مرة، فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض، وكان يعتكف كل عام عشراً، فاعتكف عشرين في العام الذي قبض)) ـــــــــــــــــــــــــــــ 2119- قوله: (كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم) هو فعل لم يسم فاعله للعلم به أي كان جبريل يعرض عليه. قال الحافظ: كذا لهم بضم أوله على البناء للمجهول وفي بعضها بفتح أوله بحذف الفاعل، فالمحذوف هو جبريل صرح به في رواية الإسماعيلي، ولفظه كان جبريل يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في كل رمضان، ولا منافاة بين هذا وبين ما تقدم من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعرض على جبريل، لأنه يحمل على أن كلاً منهما كان يعرض على الآخر على سبيل المدارسة. (القرآن) أي معظمه أو بعضه (كل عام مرة) أي ليالي رمضان من زمن البعثة أو من بعد فترة الوحي إلى رمضان الذي توفي بعده. (فعرض) أي القرآن (عليه) أي على النبي (مرتين) في رواية إسماعيلي عرضتين (في العام الذي قبض) زاد في رواية فيه، واختلف هل كانت العرضة الأخيرة بجميع الأحرف السبعة المأذون في قراءتها أو بحرف واحد منها، وعلى الثاني فهل هو الحرف الذي جمع عليه عثمان الناس أو غيره. وقد روى أحمد وابن أبي داود والطبري من طريق عبيدة السلماني أن الذي جمع عليه عثمان الناس يوافق العرضة الأخيرة، ونحوه عند الحاكم من حديث سمره وإسناده حسن وقد صححه هو ولفظه عرض القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضات، ويقولون إن قراءتنا هي العرضة الأخيرة. وأخرج أبوعبيد من طريق داود بن أبي هند قال قلت للشعبي قوله تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} [البقرة:185] أما كان ينزل عليه سائر السنة؟ قال: بلى، ولكن جبريل كان يعارض النبي - صلى الله عليه وسلم - في رمضان ما أنزل عليه فيحكم الله ما يشاء وينسخ ما يشاء، فكان السر في عرضه مرتين في سنة الوفاة استقراره على ما كتب في المصحف العثماني، والاقتصار عليه وترك ما عداه، ويحتمل أن يكون لأن رمضان في السنة الأولى من نزول القرآن لم يقع فيه مدارسة لوقوع ابتداء النزول في رمضان ثم فتر الوحي فوقعت المدارسة في السنة الأخيرة في رمضان مرتين ليستوي عدد السنين والعرض (وكان يعتكف كل عام عشراً) وفي رواية يعتكف في كل رمضان عشرة أيامٍ وفي رواية النسائي يعتكف العشر الأواخر من رمضان، وهذا محمول على الغالب لأنه قد جاء أنه فاته سنة فقضى (فاعتكف عشرين) بكسر العين والراء العقد الذي بعد العشر أي عشرين يوماً من رمضان، ويحتمل أن يكون بفتحهما على التثنية، والمراد العشر الأوسط والأخير لأن الظاهر من إطلاق العشرين إنها متوالية، والعشر الأخير منها فيلزم منه دخول العشر الأوسط فيها، وفيه دليل على أن الاعتكاف لا يختص بالعشر الأخير وإن كان هو فيه أفضل (في العام الذي قبض) أي توفي فيه قيل: وجه التضعيف في العام الأخير من

رواه البخاري. 2120 - (4) وعن عائشة، قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف أدنى إلى رأسه وفي المسجد فأرجله، ـــــــــــــــــــــــــــــ الاعتكاف أنه صلى الله عليه وسلم علن بانقضاء أجله فأراد أن يستكثر من أعمال الخير ليبين لأمته الاجتهاد في العمل إذا بلغوا أقصى العمر ليلقوا الله على خير أحوالهم. وقيل: السبب فيه إن جبريل كان يعارضه بالقرآن في كل رمضان مرة فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه به مرتين فلذلك اعتكف قدر ما كان يعتكف مرتين. والحاصل أنه فعل ذلك مناسبة لعرض القرآن مرتين، ولعله وقع كل عرض في عشر. وقال ابن العربي: يحتمل أن يكون سبب ذلك أنه لما ترك الاعتكاف في العشر الأخير بسبب ما وقع من أزواجه واعتكف بدله عشراً من شوال اعتكف في العام الذي يليه عشرين ليتحقق قضاء العشر في رمضان- انتهى. قال الحافظ: وأقوى من ذلك أنه إنما اعتكف في ذلك العام عشرين لأنه كان في العام الذي قبله مسافراً، ويدل لذلك ما أخرجه النسائي واللفظ له وأبوداود وصححه ابن حبان وغيره من حديث أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان فسافر عاماً فلم يعتكف، فلما كان العام القابل اعتكف عشرين، ويحتمل تعدد هذه القصة بتعدد السبب فيكون مرة بسبب ترك الاعتكاف لعذر السفر ومرة بسبب عرض القرآن مرتين- انتهى. (رواه البخاري) أي بتمامه في فضائل القرآن وكذا النسائي في الكبرى، ورواه ابن ماجه في الصوم وأخرج البخاري أيضاً وأبوداود والدارمي والبيهقي في الصوم قصة الاعتكاف. 2120- قوله: (أدنى) من الإدناء أي قرب (إليّ) بتشديد الياء (رأسه بالنصب يعني أخرج إلى رأسه من المسجد وأنا في حجرتي، ففي رواية للبخاري إنها كانت ترجل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي حائض وهو معتكف في المسجد وهي في حجرتها يناولها رأسه وفي رواية أحمد والنسائي كان يأتيني وهو معتكف في المسجد فيتكئ على باب حجرتي فاغسل رأسه وسائره في المسجد (وهو في المسجد) حال مؤكده) (فأرجله) من الترجيل بالجيم وهو تسريح الشعر أي استعمال المشط في الرأس وتنظيفه وتحسينه أي أصلح شعر رأسه بالمشط وأنظفه وأحسنه فهو من مجاز الحذف، لأن الترجيل للشعر لا للرأس، أو من إطلاق اسم المحل على الحال وفيه دليل على استحباب تسريح شعر الرأس، وإذا لم يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك في زمن اعتكافه مع قصره واشتغاله بالعبادة ففي غيره أولى، وفيه أنه يجوز للمعتكف التنظيف والتطيب والغسل والحلق والتزين إلحاقاً بالترجل. قال الخطابي في الحديث من الفقه: إن ترجيل الشعر يجوز للمعتكف وفي معناه حلق الرأس وتقليم الأظفار وتنظيف البدن من الشعث والدرن. وقال الحافظ: والجمهور على أنه لا يكره فيه إلا ما يكره في المسجد وعن مالك تكره فيه الصنائع والحرف حتى طلب العلم- انتهى. وفيه إن المعتكف إذا

وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ أخرج بعضه عن المسجد كيده ورجله ورأسه لم يبطل اعتكافه، لأن إخراج البعض لا يجري مجرى الكل، وإن من حلف أن لا يدخل داراً أو لا يخرج منها فأدخل أو أخرج بعضه لا يحنث حتى يخرج رجليه ويعتمد عليها، وفيه إن الاعتكاف لا يصح في غير المسجد وإلا لكان يخرج منه لترجيل الرأس، وفيه إن بدن الحائض طاهر إلا موضع الدم إذ لو كان نجساً لما أمكنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ترجيل رأسه وغسله وفيه استخدام الزوجة في الغسل والطبخ والخبز وغيرها برضاها. قال النووي: وعلى هذا تظاهرت دلائل السنة وعمل السلف وإجماع الأمة. وأما بغير رضاها فلا يجوز لأن الواجب عليها تمكين زوجها من نفسها وملازمة بيته فقط- انتهى. قال الولي العراقي في شرح التقريب: (ج4 ص176) وهذا الذي ذكره إنما هو بطريق القياس فإنه ليس منصوصاً، وشرط القياس مساواة الفرع للأصل، وفي الفرع هنا زيادة مانعة من الإلحاق وهي المشقة الحاصلة من الغسل والطبخ ونحوهما فلا يلزم من استخدامها في الأمر الخفيف احتمال ذلك في الثقيل الشديد، ولسنا ننكر هذا الحكم فإنه متفق عليه، وإنما الكلام في الاستدلال من الحديث والله أعلم. (وكان لا يدخل البيت) أي بيته وهو معتكف (إلا لحاجة الإنسان) قال الجزري في جامع الأصول (ج1 ص324) حوائج الإنسان كثيرة والمراد منها ههنا كل ما يضطر إليه مما لا يجوز له فعله في معتكفة- انتهى. وفسرها الزهري بالبول والغائط، وقد وقع الإجماع على استثناءهما واختلفوا في غيرهما من الحاجات كالأكل والشرب وعيادة المريض وشهود الجنازة والجمعة ويلتحق بالبول والغائط والقيء والفصد والحجامة وغسل الجنابة لمن احتاج إلى ذلك. قال الباجي: تريد عائشة لا يدخل بيته إلا لضرورة قضاء الحاجة وأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - على الوجوب، وهذا يقتضي أن المعتكف لا يدخل بيته إلا لضرورة حاجة الإنسان وما يجري مجراه من طهارة الحدث وغسل الجنابة والجمعة مما تدعوا لضرورة إليه ولا يفعل في المسجد ولا يدخله لأكل أو نوم ولا غيره من الأفعال التي يباح فعلها في المسجد- انتهى. وقال ابن قدامة: (ج3 ص191) إن المعتكف ليس له الخروج من معتكفه إلا لما لابد منه ثم ذكر حديث عائشة هذا وحديثها الآتي في الفصل الثاني بلفظ: السنة للمعتكف أن لا يخرج إلا لما لابد منه ثم قال ولا خلاف في أن له الخروج لما لابد منه. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن للمعتكف أن يخرج من معتكفه للغائط والبول، ولأن هذا مما لابد منه ولا يمكن فعله في المسجد قال: والمراد بحاجة الإنسان البول والغائط كنى بذلك عنهما لأن كل إنسان يحتاج إلى فعلهما وفي معناه الحاجة إلى المأكول والمشروب إذا لم يكن من يأتيه به فله الخروج إليه إذا احتاج إليه وإن بغتة القيء فله أن يخرج ليتقيأ خارج المسجد وكل ما لابد منه، ولا يمكن فعله في المسجد فله الخروج إليه، ولا يفسد اعتكافه، وكذلك له الخروج إلى ما أوجبه الله تعالى عليه مثل من يعتكف في مسجد لا جمعة فيه، فيحتاج إلى خروجه ليصلي الجمعة. ويلزم السعي إليها فله الخروج إليها ولا يبطل اعتكافه، وبهذا

متفق عليه. 2121 - (5) وعن ابن عمر، أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كنت نذرت في الجاهلية أن اعتكف ليلة ـــــــــــــــــــــــــــــ قال أبوحنيفة. وقال الشافعي: لا يعتكف في غير الجامع إذا كان اعتكافه يتخلله جمعة نذر اعتكافاً فخرج منه لصلاة الجمعة بطل اعتكافه، وعليه الاستئناف. ولنا أنه خرج لواجب فلم يبطل اعتكافه كالمعتدة تخرج لقضاء العدة وكالخارج لإنقاذ غريقٍ أو إطفاء حريقٍ أو أداء شهادة تعينت عليه- انتهى. وسيأتي مزيد الكلام على ذلك في الفصل الثاني (متفق عليه) أخرجه البخاري في كتاب الحيض، وفي الصوم وفي اللباس، ومسلم في الطهارة واللفظ له إلا قوله "أدنى" فإنه للترمذي، والذي في صحيح مسلم يدنى أي بلفظ " المضارع" وكذا وقع عند مالك وأبي داود وابن ماجه، والبيهقي (ج4 ص315) . 2121- قوله: (أن عمر سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي بالجعرانه لما رجعوا من حنين كما في رواية البخاري في النذر، ويستفاد منه الرد على من زعم أن اعتكاف عمر كان قبل المنع من الصيام في الليل، لأن غزوة حنين متأخرة عن ذلك (كنت نذرت في الجاهلية) زاد مسلم (فلما أسلمت وسألت) وفيه ردّ على من زعم أن المراد بالجاهلية ما قبل فتح مكة وأنه إنما نذر في الإسلام، وأصرح من ذلك ما أخرجه الدارقطني ثم البيهقي من طريق سعيد بن بشير عن عبيد الله بلفظ: نذر عمر في الشرك أن يعتكف (أن اعتكف ليلة) استدل به على جواز الاعتكاف بغير صوم لأن الليل ليس بوقت صوم وقد أمره صلى الله عليه وسلم أن يفيء بنذره على الصفة التي أوجبها. قال الحافظ: لو كان الصوم شرطاً لصحة الاعتكاف لأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - به وتعقب بأن في رواية للشيخين يوماً بدل "ليلة" وقد جمع ابن حبان وغيره بين الروايتين بأنه نذر اعتكاف يوم وليلة، فمن أطلق ليلة أراد بيومها ومن أطلق يوماً أراد بليلته وأجاب ابن الجوزي عن رواية اليوم بجوابين. أحدهما: احتمال أن يكون نذر نذرين فيكون كل لفظ منهما حديثاً مستقلاً والثاني: أنه ليس فيه حجة إذ لا ذكر للصوم فيه- انتهى. قيل: قد ورد الأمر بالصوم برواية الثقة وهو عبد الله بن بديل عند أبي داود والنسائي صريحاً بلفظ: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: اعتكف وصم، وابن بديل قال فيه ابن معين مكي صالح، وذكره ابن حبان وابن شاهين في الثقات، وزيادة الثقة مقبولة، ومن لم يذكر الشي ليس بحجة على من ذكره كذا قال ابن التركماني. قلت: هذه الرواية أخرجها أبوداود والنسائي والدارقطني (ص247) والبيهقي (ج4 ص316) والحاكم (ج1 ص439) كلهم من طريق عبد الله ابن بديل بن ورقاء المكي الخزاعي. قال الحافظ: وهو ضعيف وذكر ابن عدي والدارقطني أنه تفرد بذلك عن عمرو بن دينار- انتهى. قلت: قال الدارقطني: تفرد به عبد الله بن بديل الخزاعي عن عمرو، وهو ضعيف

الحديث، وقال سمعت أبا بكر النيسابوري يقول هذا حديث منكر لأن الثقات من أصحاب عمر ولم يذكروا فيه الصوم، منهم ابن جريج وابن عيينة وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وغيرهم، وابن بديل ضعيف الحديث- انتهى. وقال ابن عدي: له أحاديث تنكر عليه فيها زيادة في المتن أو في الإسناد ثم يروي له هذا الحديث، وقال لا أعلم ذكر فيه الصوم مع الاعتكاف إلا من روايته- انتهى. وقال في التقريب في ترجمته: صدوق يخطئ- انتهى. فالظاهر إن زيادة الأمر بالصوم في روايته من خطأه. قال الحافظ: ورواية من روى يوماً شاذة. وقد وقع في رواية سليمان بن بلال عن عبيد الله بن عمر عند البخاري في الاعتكاف فاعتكف ليلة، فدل على أنه لم يزد على نذره شيئاً وإن الاعتكاف لا صوم فيه وأنه لا يشترط له حدٍ معين. قال وباشتراط الصيام. قال ابن عمر وابن عباس أخرجه عبد الرزاق عنهما بإسناد صحيح وعن عائشة نحوه، وبه قال مالك والأوزاعي والحنفية. واختلف عن أحمد وإسحاق- انتهى. وقال القسطلاني: هذا أي عدم اشتراط الصوم مذهب الشافعية والحنابلة، وعن أحمد أيضاً لا يصح إلا بصوم، والأول هو الصحيح عندهم وعليه أصحابهم. وقالت المالكية والحنفية: لا يصح إلا بصوم انتهى. قلت: ذهبت الشافعية إلى عدم اشتراط الصوم مطلقاً، سواءً كان الاعتكاف واجباً أو نفلاً، وهو مذهب الحنابلة إلا أن يكون نذر الاعتكاف بصوم فيجب حينئذٍ بالنذر لا بالاعتكاف. قال الخرقى: ويجوز بلا صوم إلا أن يقول في نذره بصوم. قال ابن قدامة: المشهور في المذهب إن الاعتكاف يصح بغير صوم روى ذلك عن علي وابن مسعود وسعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز والحسن وعطاء وطاووس والشافعي وإسحاق، وعن أحمد رواية أخرى إن الصوم شرط في الاعتكاف، قال: إذا اعتكف يجب عليه الصوم، وروى ذلك عن ابن عمر وابن عباس وعائشة وبه قال الزهري ومالك وأبوحنيفة والليث والثوري والحسن بن حيى- انتهى. قلت: وذهبت المالكية إلى اشتراط الصوم مطلقاً سواءً كان الاعتكاف مندوباً أو واجباً فالكل عندهم سواء في ذلك، وعند الحنفية فيه تفصيل. قال الشمني: الصوم شرطٌ لصحة الاعتكاف الواجب روايةً واحدة، ولصحة التطوع (أي المندوب) رواية الحسن عن أبي حنيفة (لأن التطوع في رويته مقدر بيوم) وأما في رواية الأصل وهو قول محمد بل قيل إنه ظاهر الرواية عن الفقهاء الثلاثة فليس بشرط (بناءً على أن التطوع غير مقدر بيوم في رواية الأصل) لأن مبنى النفل على المساهلة- انتهى. وهذا هو المرجح عندهم. وأما القسم الثالث من الاعتكاف وهو المسنون المؤكد فالمتون ساكتة عن بيان حكمه، ومال ابن عابدين إلى اشتراط الصوم فيه قال: لأنه مقدر بالعشر الأخير حتى لو اعتكفه بلا صوم لمرضٍ أو سفرٍ ينبغي أن لا يصح عنه بل يكون نفلاً فلا تحصل به إقامة سنة الكفاية، ورجح ابن نجيم في البحر عدم اشتراط الصوم في هذا القسم، قلت: واحتج من ذهب إلى اشتراط الصوم لصحة الاعتكاف مطلقاً بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يعتكف إلا يصوم وفيه نظر لما صح عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتكف في

العشر الأول من شوال ومن جملتها يوم الفطر، قال الإسماعيلي: فيه دليل على جواز الاعتكاف بغير صوم لأن أول شوال هو يوم الفطر وصومه حرام، وأجاب العيني عن ذلك بأنه ليس فيه دليل لما قاله، لأن المراد من قوله: اعتكف في العشر الأول أي كان ابتداءه في العشر الأول فإذا اعتكف من اليوم الثاني من شوال يصدق عليه أنه ابتدأ في العشر الأول واليوم الأول منه يوم أكلٍ وشربٍ وبعال كما ورد في الحديث، والاعتكاف هو التخلي للعبادة فلا يكون اليوم الأول محلاّ له بالحديث. وقال ابن التركماني: من اعتكف الأيام التسعة من شوال يصدق عليه أنه اعتكف في العشر، وفي الصحيحين أنه عليه السلام كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان ولم يكن يستغرق العشر كلها- انتهى. ولا يخفى ما في كلامهما من التكلف وارتكاب المجاز. واحتجوا أيضاً لذلك بحديث عائشة آخر أحاديث الفصل الثاني وسيأتي الجواب عنه هناك. واحتج بعض المالكية لذلك بقوله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون بالمساجد} [البقرة:187] قال فذكر الاعتكاف عقب الصوم وتعقب بأنه ليس فيه ما يدل على تلازمهما وإلا لزم أن لا صوم إلا بالاعتكاف ولا قائل به كذا قال الحافظ: وتبعه الشوكاني ورُدّ ذلك بأنهم لم يدعوا التلازم بل مفاد كلامهم ملزومية الاعتكاف للصائم واللازم إذا كان أعم كالصوم هنا ينفرد عن الملزوم أي يوجد بدونه فسقط قوله، وإلا لزم أن لا صوم إلا باعتكاف بخلاف الملزوم الذي هو الاعتكاف لا يوجد إلا بلازمه وهو الصوم. وفيه إن مجرد ذكر الاعتكاف مع الصوم أو خطاب الصائمين في قوله: {ولا تباشروهن} لا يدل على أن الصوم لازم للاعتكاف وإن الاعتكاف لا يصح بغير صوم، فعدم اشتراط الصوم هو الحق لا، كما قال ابن القيم: إن الراجح الذي عليه جمهور السلف إن الصوم شرط في الاعتكاف. وقد روى عن علي وابن مسعود انه ليس على المعتكف صوم إلا أن يوجبه على نفسه، ويدل على ذلك حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه) رواه الدارقطني. وقال رفعه أبوبكر السوسى وغيره لا يرفعه، وأخرجه الحاكم مرفوعاً وقال صحيح الإسناد. وفي الحديث رد على من قال أقل الاعتكاف عشرة أيام أو أكثر من يوم. قال الحافظ: اتفقوا على أنه لا حَدّ لأكثره واختلفوا في أقلِّه فمن شرط فيه الصيام قال: أقله يوم، ومنهم من قال: يصح مع شرط الصيام في دون اليوم حكاه ابن قدامة (ج3 ص187) وعن مالك يشترط عشرة أيام وعنه يوم أو يومان ومن لم يشترط الصوم، قالوا: أقله ما يطلق عليه اسم لبث ولا يشترط القعود. وقيل: يكفي المرور مع النية كوقوع عرفة، وروى عبد الرزاق عن يعلى بن أمية الصحابي إني لأمكث في المسجد الساعة، وما أمكث إلا لاعتكف- انتهى. وقال العيني: أقل الاعتكاف نفلاً

{الفصل الثاني}

في المسجد الحرام؟ قال: فأوف بنذرك)) متفق عليه. {الفصل الثاني} 2122- (6) عن أنس، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، ـــــــــــــــــــــــــــــ يوم عند أبي حنيفة، وبه قال مالك: وعند أبي يوسف أكثر اليوم، وعند محمد ساعة وبه قال الشافعي: وأحمد في رواية، وحكى أبوبكر الرازي عن مالك إن مدة الاعتكاف عشرة أيام فيلزم بالشروع ذلك وفي الجلاب أقله يوم والاختيار عشرة أيام، وفي الإكمال استحب مالك أن يكون أكثره عشرة أيام وهذا يرد نقل الرازي عنه- انتهى. وقال في الدر المختار: وأقله نفلاً ساعة من ليلٍ أو نهارٍ عند محمد وهو ظاهر الرواية عن الإمام لبناء النفل على المسامحة وبه يفتي، والساعة في عرف الفقهاء جزء من الزمان لا جزء من أربعة وعشرين كما يقوله المنجمون- انتهى. (في المسجد الحرام) أي حول الكعبة ففي رواية عمرو بن دينار عند الكعبة، ولم يكن في عهده صلى الله عليه وسلم ولا أبي بكر جدار بل الدور حول البيت وبينها أبواب لدخول الناس فوسعه عمر رضي الله عنه بدور اشتراها وهدمها، واتخذ للمسجد جداراً قصيراً دون القامة، ثم تتابع الناس على عمارته وتوسيعه. (قال) صلى الله عليه وسلم (فأوف بنذرك) قال الشوكاني في حديث عمر: دليل على أنه يجب الوفاء بالنذر من الكافر متى أسلم. وقد ذهب إلى هذا بعض أصحاب الشافعي وعند الجمهور لا ينعقد نذر الكافر، وحديث عمر حجة عليهم. وقد أجابوا عنه بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما عرف بأن عمر قد تبرع بفعل ذلك أذن له به لأن الاعتكاف طاعة، ولا يخفى ما في هذا الجواب من المخالفة للصواب. وأجاب بعضهم بأنه صلى الله عليه وسلم أمره بالوفاء استحباباً لا وجوباً، ويرد بأن هذا الجواب لا يصلح لمن أدعى عدم الانعقاد- انتهى. وقال السندي: لا مانع من القول بأن نذر الكافر ينعقد موقوفاً على إسلامه فإن أسلم لزمه الوفاء به في الخير والكفر، وإن كان يمنع عن انعقاده منجزاً لكن لا نسلم أن يمنع عنه موقوفاً، وحديث الإسلام يجب ما قبله من الخطايا لا ينافيه لأنه في الخطايا لا في النذور وليس النذر منها- انتهى. وقال القسطلاني: وعند الحنابلة يصح نذر الكافر وعبارة المرداوي في تنقيح المقنع النذر مكروه، وهو إلزام مكلف مختار ولو كافراً بعبادة نصاً نفسه لله تعالى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الاعتكاف والخمس والمغازي والنذور ومسلم في النذور وأخرجه أيضاً أحمد (ج1 ص37 وج2 ص10- 20- 35- 82) وأخرجه مالك في الصيام والترمذي وأبوداود والنسائي في النذور وابن ماجه في الصيام وفي الكفارات والبيهقي في الصيام. 2122- قوله: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتكف في العشر الأواخر من رمضان) أي يديم على الاعتكاف فيها

فلم يعتكف عاماً، فلما كان العام المقبل اعتكف عشرين)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ (فلم يعتكف عاماً) أي لعذر السفر يدل عليه رواية البيهقي بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان مقيماً اعتكف العشر الأواخر وإذا سافر اعتكف العام المقبل عشرين يوماً، ويدل عليه أيضاً حديث أبي بن كعب الذي أشار إليه المصنف كما سيأتي (فلما كان العام المقبل) اسم فاعل، من الإقبال (اعتكف عشرين) بكسر العين والراء. وقيل: بفتحهما على التثنية. قال في اللمعات. أي اهتماماً ودلالة على التأكيد، لا. لأن ما فات من النوافل المؤقتة يقضى- انتهى. وقال الطيبي: دل الحديث على أن النوافل المؤقتة تقضى إذا فاتت كما تقضي الفرائض- انتهى. قال القاري: والظاهر إن التشبيه لمجرد القضاء بعد الفوت وإلا فقضاء الفرائض فرض وقضاء النوافل نفل- انتهى. قلت في الحديث دليل على أن من اعتاد اعتكاف أيام ثم لم يمكنه أن يعتكفها أنه يستحب له قضاءها فكان قضاءه صلى الله عليه وسلم له على طريق الاستحباب، وقد بوب الترمذي على هذا الحديث باب ما جاء في الاعتكاف إذا خرج منه. قيل: وجه المناسبة بالترجمة أنه صلى الله عليه وسلم لما قضى الاعتكاف لمجرد النية، وكان لم يشرع فيه بعد فقضاءه بعد الشروع أولى بالثبوت- انتهى. قال الترمذي بعد إخراج هذا الحديث: واختلف أهل العلم في المعتكف إذا قطع اعتكافه قبل أن يتمه على ما نوى. فقال بعض أهل العلم إذا نقض اعتكافه وجب عليه القضاء، واحتجوا بالحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من اعتكافه فاعتكف عشراً من شوال، وهو قول مالك (وبه قال الحنفية) وقال بعضهم: إن لم يكن نذراً اعتكاف أو شي أوجبه على نفسه وكان متطوعاً فخرج فليس عليه شي أن يقضى إلا أن يحب ذلك اختياراً منه ولا يجب ذلك عليه وهو قول الشافعي (وبه قال أحمد كما سيأتي) قال الشافعي: وكل عمل لك أن لا تدخل فيه فإذا دخلت فيه فخرجت منه فليس عليك أن تقضي إلا الحج والعمرة- انتهى. قلت: أراد الترمذي بالحديث الذي أشار إليه في قوله، واحتجوا بالحديث إلخ حديث إلا خبية وقد تقدم لفظه في شرح الحديث الأول من هذا الباب وفيه رواية للبخاري، فترك الاعتكاف ذلك الشهر ثم اعتكف عشراً من شوال. وأما لفظ "خرج من اعتكافه" فلم أجده في الكتب الستة ولا ذكره الجزري في جامع الأصول ولم أقف على من أخرج الحديث بهذا اللفظ. قال ابن قدامة: (ج3ص184) وإن نوى اعتكاف مدة لم تلزمه، فإن شرع فيها فله إتمامها وله الخروج منها متى شاء، وبهذا قال الشافعي، وقال مالك: تلزمه بالنية مع الدخول فيه، فإن قطعه لزمه قضاءه. قال ابن عبد البر: وإن لم يدخل فيه فالقضاء مستحب، ومن العلماء من أوجبه وإن لم يدخل فيه، واحتج بحديث إلا خبية. قال ابن قدامة: الحديث حجة عليه لا له فإن النبي صلى الله عليه وسلم ترك اعتكافه ولو كان واجباً لما تركه، وأزواجه تركن الاعتكاف بعد نيته وضرب اخبيتهن له، ولم يوجد عذر يمنع فعل الواجب ولا أمرن بالقضاء وقضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن واجباً عليه، وإنما فعله تطوعاً لأنه

رواه الترمذي. 2123 - (7) وروى أبوداود، وابن ماجه ـــــــــــــــــــــــــــــ كان إذا عمل عملاً أثبته وكان فعله لقضاءه كفعله لأداءه على سبيل التطوع به، لا على سبيل الإيجاد كما قضى السنة التي فاتته بعد الظهر وقبل الفجر فتركه دليل على عدم الوجوب لتحريم ترك الواجب، وفعله للقضاء لا يدل على الوجوب، لأن قضاء السنن مشروع. فإن قيل: إنما جاز تركه ولم يؤمر تركه من النساء بقضاءه لتركهن إياه قبل الشروع، قلنا فقد سقط الاحتجاج لاتفاقنا على أنه لا يلزم قبل شروعه فيه، فلم يكن القضاء دليلاً على الوجوب مع الاتفاق على انتفاءه، قال: وليس في ترك الاعتكاف بعد الشروع فيه عمل يبطل فإن ما مضى من اعتكافه لا يبطل بترك اعتكاف المستقبل- انتهى مختصراً. وقال الحافظ تحت حديث الأخبية: فيه جواز الخروج من الاعتكاف بعد الدخول فيه، وإنه لا يلزم بالنية ولا بالشروع فيه، ويستنبط منه سائر التطوعات خلافاً لمن قال باللزوم، وفيه إن أول الوقت الذي يدخل فيه المعتكف بعد صلاة الصبح (لما وقع في رواية للبخاري فإذا صلى الغداة حل مكانه الذي اعتكف فيه) وهو قول الأوزاعي والليث والثوري. وقال الأئمة الأربعة وطائفة: يدخل قبيل غروب الشمس وأولوا الحديث على أنه دخل من أول الليل ولكن إنما تخلى بنفسه في المكان الذي أعده لنفسه بعد صلاة الصبح، وهذا الجواب يشكل على من منع الخروج من العبادة بعد الدخول فيها، وأجاب عن هذا الحديث بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يدخل المعتكف ولا شرع في الاعتكاف، وإنما هم به ثم عرض له المانع المذكور فتركه فعلى هذا فاللازم أحد الأمرين إما أن يكون شرع في الاعتكاف، فيدخل على جواز الخروج منه، وإما أن لا يكون شرع فيدل على أن أول وقته بعد صلاة الصبح، قال وفيه إن الاعتكاف لا يجب بالنية. وأما قضاءه - صلى الله عليه وسلم - فعلى طريق الاستحباب، لأنه كان إذا عمل عملاً أثبته، ولهذا لم ينقل إن نساءه اعتكفن معه في شوال- انتهى. قال بعض الحنفية بعد ذكر الإشكال المذكور: إن الحنفية صرحوا بأن من شرع في الاعتكاف النفل ثم تركه لا يلزم قضاءه، لأنه لا يشترط له الصوم على الظاهر من المذهب- انتهى. وفيه إن البحث ههنا إنما هو في الاعتكاف في العشر الأخير من رمضان وهي سنة مؤكدة، والصوم شرط فيه عندهم فيلزم قضاءه إذا خرج منه، ولا يجوز الخروج منه بعد الشروع فيه، وسيأتي مزيد الكلام في ذلك في شرح الحديث الذي يليه (رواه الترمذي) وأخرجه أيضاً أحمد والحاكم (ج1ص439) والبيهقي (ج4ص314) وصححه الترمذي. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. 2123- قوله: (وروى) وفي بعض النسخ: ورواه (أبوداود وابن ماجه) وكذا أحمد (ج5ص141)

عن أبي بن كعب. 2124 - (8) وعن عائشة، قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل في معتكفه)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ والحاكم (ج1ص439) والبيهقي (ج4ص413) والنسائي وابن حبان وغيرهم (عن أبي بن كعب) إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان فسافر عاماً فلم يعتكف فلما كان من العام المقبل اعتكف عشرين يوماً لفظ ابن ماجه. قال السندي: قوله فسافر عاماً الظاهر إنه عام الفتح وكان صلى الله عليه وسلم يهتم بأمر الاعتكاف فيقضي إن فاته. وقال الخطابي: فيه من الفقه إن النوافل المعتادة تقضي إذا فاتت كما تقضي الفرائض ومن هذا قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد العصر الركعتين الليلتين فاتتاه لقدوم الوفد عليه واشتغاله بهم- انتهى. والحديث سكت عليه أبوداود والمنذري وصححه ابن حبان والحاكم والذهبي. 2124- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل في معتكفه) هذا لفظ الترمذي، ولمسلم وأبي داود ثم دخل معتكفه أي بحذف لفظة "في" ولابن ماجه ثم دخل المكان الذي يريد أن يعتكف فيه، وللبخاري فإذا صلى الغداة حل مكانه الذي اعتكف فيه وقوله "معتكفه" بصيغة المفعول أي مكان اعتكافه وقوله "دخل في معكتفه" أي انقطع فيه وتخلى بنفسه بعد صلاة الصبح لا إن ذلك وقت ابتداء اعتكافه بل كان يعتكف من الغروب ليلة الحادي والعشرين، وإلا لما كان معتكفاً العشر بتمامه الذي ورد في عدة أخبار أنه كان يعتكف العشر بتمامه، وهذا هو المعتبر عند الجمهور لمريد اعتكاف عشر أو شهر، وبه قال الأئمة الأربعة ذكره الحافظ العراقي كذا في شرح الجامع الصغير للمناوي. قلت تأول الجمهور حديث عائشة هذا كما تقدم على أنه دخل المسجد بنية الاعتكاف من أول الليل ولكن إنما تخلى بنفسه في المكان الذي أعده لنفسه بعد صلاة الصبح فكان يطلع الفجر وهو صلى الله عليه وسلم في المسجد، ومن بعد صلاة الفجر يخلو بنفسه في المحل الذي أعده لاعتكافه. قال أبوطيب السندي في شرح الترمذي: وإنما جنح لجمهور إلى التأويل المذكور للعمل بالحديثين الأول، ما روى البخاري عن عائشة قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان. والثاني، ما رواه عن أبي هريرة قال كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتكف في كل رمضان عشرة أيام- الحديث. فاستفيد من الحديث الأول عشر ليال، ومن الآخر عشرة أيام فأولوا بما تقدم جمعاً بين الحديثين- انتهى. وقال أبوالحسن السندي في حاشية ابن ماجه: ظاهر الحديث إن المعتكف يشرع في الاعتكاف بعد صلاة الصبح، ومذهب الجمهور أنه يشرع من ليلة الحادي والعشرين، وقد أخذ بظاهر الحديث قوم إلا أنهم حملوه على أنه يشرع من صبح الحادي والعشرين فرد عليه الجمهور بأن المعلوم إنه كان يعتكف العشر الأواخر، ويحث الصحابة عليه وعدد العشر عدد

الليالي فتدخل فيه الليلة الأولى وإلا لا يتم هذا العدد أصلاً وأيضاً من أعظم ما يطلب بالاعتكاف إدراك ليلة القدر وهي قد تكون ليلة الحادي والعشرين كما جاء في حديث أبي داود فينبغي له أن يكون معتكفاً فيها لا أن يعتكف بعدها. وأجاب النووي عن الجمهور بتأويل الحديث إنه دخل معتكفه وانقطع فيه وتخلى بنفسه بعد صلاة الصبح، لا إن ذلك وقت ابتداء الاعتكاف بل كان قبل المغرب معتكفاً لابثاً في جملة المسجد فلما أصبح انفرد-انتهى. ولا يخفى إن قولها "كان إذا أراد أن يعتكف" يفيد أنه كان يدخل المعتكف حين يريد الاعتكاف لا أنه يدخل في الشروع في الاعتكاف في الليل، وأيضاً المتبادر من لفظ الحديث إنه بيان لكيفية الشروع. ثم لازم هذا التأويل أن يقال السنة للمعتكف أن يلبث أول ليلة في المسجد ولا يدخل في المعتكف. وإنما يدخل فيه من الصبح وإلا يلزم ترك العمل بالحديث، وعند تركه لا حاجة إلى التأويل والجمهور لا يقول بهذه السنة فيلزم عليهم ترك العمل بالحديث. وأجاب القاضي أبويعلى من الحنابلة بحمل الحديث على أنه كان يفعل ذلك في يوم العشرين ليستظهروا ببياض يوم زيادة قبل العشر. (قلت: قائله السندي) وهذا الجواب هو الذي يفيده النظر في أحاديث الباب فهو أولى، وبالاعتماد أحرى، بقي أنه يلزم منه أن تكون السنة الشروع في الاعتكاف من صبح العشرين استظهاراً باليوم الأول ولا بعد في التزامه، وكلام الجمهور لا ينافيه فإنهم ما تعرضوا له لا إثباتاً ولا نفياً. وإنما تعرضوا لدخوله ليلة الحادي والعشرين وهو حاصل غاية الأمر إن قواعدهم تقتضي أن يكون هذا الأمر سنة عندهم، فلنقل وعدم التعرض ليس دليلاً على العدم، ومثل هذا الإيراد يرد على جواب النووي مع ظهور مخالفة الحديث- انتهى. كلام السندي: اعلم أن القول بدخول المسجد قبيل غروب الشمس لمريد الاعتكاف عشر أو شهر هو المشهور من مذهب الإمام أحمد وقد حكى عنه رواية أخرى أنه يدخل معتكفه بعد صلاة الفجر في اعتكاف التطوع، وقبل طلوع الفجر في اعتكاف النذر. قال الخرقي: من نذر أن يعتكف شهراً بعينه دخل المسجد قبل غروب الشمس. قال ابن قدامة: وهذا قول مالك والشافعي، وحكى ابن أبي موسى عن أحمد رواية أخرى أنه يدخل معتكفه قبل طلوع الفجر من أوله وهو قول الليث وزفر لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يعتكف صلى الصبح ثم دخل معتكفه، ولنا أنه نذر الشهر وأوله غروب الشمس، ووجب أن يدخل قبل الغروب ليستوفي جميع الشهر فإنه لا يمكن إلا بذلك وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وأما الحديث فقال ابن عبد البر: لا أعلم أحداً من الفقهاء قال به على أن الخبر إنما في التطوع فمتى شاء دخل وفي مسألتنا نذر شهراً فيلزمه اعتكاف شهر كامل ولا يحصل إلا أن يدخل فيه قبل غروب الشمس من أوله، ويخرج بعد غروبها من آخره فأشبه ما لو نذر اعتكاف يوم فإنه يلزمه الدخول فيه قبل طلوع فجره ويخرج بعد غروب شمسه. قال ابن قدامة: وإن أحب اعتكاف العشر الأواخر من رمضان تطوعاً، ففيه روايتان. إحداهما: يدخل قبل غروب الشمس

رواه أبوداود، وابن ماجه. 2125 - (9) وعنها، قالت: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يعود المريض وهو معتكف، فيمر كما هو فلا يعرج يسأل عنه)) . رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ من ليلة إحدى وعشرين، لأن العشر بغير هاء عدد الليالي، فإنها عدد المؤنث قال الله تعالى: {وليال عشر} وأول الليالي العشر ليلة إحدى وعشرين، والرواية الثانية يدخل بعد صلاة الصبح، قال حنبل قال أحمد: أحب إلى أن يدخل قبل الليل ولكن حديث عائشة إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الفجر ثم يدخل معتكفه، وبهذا قال الأوزاعي وإسحاق وإن نذر اعتكاف العشر ففي وقت دخوله الروايتان جميعاً- انتهى ملخصاً مختصراً. (رواه أبوداود وابن ماجه) كلاهما في حديث طويل وكذا البخاري ومسلم وأحمد والبيهقي (ج4ص315) بألفاظ متقاربة وأخرجه الترمذي مختصراً فكان حق المصنف أن يذكره في الفصل الأول ويقول متفق عليه. قال الجزري: متفق عليه. ورواه الأربعة أيضاً مطولاً فكان ينبغي أن يذكر في الصحاح. وقال ميرك: رواه الشيخان والترمذي والنسائي أيضاً وفات هذا الاعتراض من صاحب المشكاة. قلت: بل وقع هذا الاعتراض على صاحب المشكاة. حيث عزا الحديث أبي داود وابن ماجه وذكره في الفصل الثاني مع أنه متفق عليه. 2125- قوله: (كان النبي صلى الله عليه وسلم) أي إذا خرج لحاجة الإنسان كما يدل عليه بقية الحديث (يعود المريض وهو معتكف) أي والمريض خارج عن المسجد لقوله (فيمر كما هو) قال الطيبي: الكاف صفة لمصدر محذوف "وما" موصولة ولفظ "هو" مبتدأ والخبر محذوف والجملة صلة "ما" أي يمر مروراً مثل الهيئة التي هو عليها فلا يلتفت ولا يميل إلى الجوانب ولا يقف وقولها (فلا يعرج) أي لا يمكث بيان للمجمل لأن التعريج الإقامة، والميل عن الطريق إلى جانب وقولها (يسأل عنه) بيان لقوله يعود على سبيل الاستيناف، وفيه دليل على أنه إذا خرج المعتكف لوجه مباح كحاجة الإنسان فعاد مريضاً أو صلى على جنازة من غير إن كان خروجه لذلك قصداً لم يضره ذلك ولم يبطل اعتكافه وهذا مما اتفق عليه الأئمة الأربعة. واختلفوا فيما إذا خرج لذلك قصداً وسيأتي الكلام فيه في شرح الحديث التالي (رواه أبوداود) وأخرجه من طريقه البيهقي (ج4ص321) وفيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف والصحيح عن عائشة من فعلها وكذلك أخرجه مسلم وغيره. وقال ابن حزم: صح ذلك عن علي ذكره الحافظ في التلخيص (ص201) والحديث سكت عنه أبوداود. وقال المنذري: في إسناده ليث بن أبي سليم، وفيه مقال. وقال ابن حجر: في سنده من اختلفوا في توثيقه وبتقدير ضعفه هو منجبر بما في مسلم (في كتاب الطهارة) عن عائشة إن كنت لأدخل البيت للحاجة والمريض فيه فما

2126- (10) وعنها، قالت: ((السنة على المعتكف أن لا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة، ـــــــــــــــــــــــــــــ أسأل عنه إلا وأنا مارة- انتهى. وأعلم أن الحديث رواه أبوداود عن شيخين أحدهما عبد الله بن محمد النفيلي ولفظه قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بالمريض وهو معتكف فيمر كما هو ولا يعرج يسأل عنه. والثاني محمد ابن عيسى وقال هو في روايته قالت: إن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعود المريض وهو معتكف، هكذا بين أبوداود لفظهما والبغوي ذكر في المصابيح لفظ ابن عيسى، وهكذا فعل الخطابي في المعالم وتبعهما المصنف. وأعلم أيضاً أنه وقع في بعض النسخ من المشكاة لفظ ابن ماجه بعد قوله أبوداود وهو خطأ من النسخ، فإن النسخ الصحيحة خالية عن ذلك ولم يعزه الحافظ في التلخيص والمجد بن تيمية في المنتقى والمنذري في مختصر السنن والجزري في جامع الأصول إلى غير أبي داود. 2126- قوله: (السنة على المعتكف أن لا يعود مريضاً) أي بالقصد والوقوف. قال الخطابي: (ج2ص141) قولها السنة إن كانت أرادت بذلك إضافة هذه الأمور إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قولاً أو فعلاً فهي نصوص لا يجوز خلافها وإن كانت أرادت به الفتيا على معاني ما عقلت من السنة فقد خالفها بعض الصحابة في بعض هذه الأمور، والصحابة إذا اختلفوا في مسألة كان سبيلها النظر على أن أبا داود قد ذكر على أثر هذا الحديث إن غير عبد الرحمن بن إسحاق لا يقول فيه أنها قالت السنة، فدل ذلك على احتمال أن يكون ما قالته فتوى منها، وليس برواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويشبه أن يكون أرادت بقولها لا يعود مريضاً أي لا يخرج من معتكفه قاصداً عيادته، وأنه لا يضيق عليه أن يمر به فيسأله غير معرج عليه كما ذكرته عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق- انتهى. قلت: القاعدة المقررة عند المحدثين تأبى الاحتمال الثاني، لأن مذهبهم إن قول الصحابي السنة كذا في حكم المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن الظاهر أنه أراد بذلك سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا سنة غيره، وعلى هذا فحديث عائشة هذا مرفوع حكماً. قال ابن التركماني: مذهب المحدثين عن الصحابي إذا قال السنة كذا فهو مرفوع، والسنة، السيرة والطريقة، وذلك قدر مشترك بين الواجب والسنة المصطلح عليها، ومثله حديث سُنُّوا بهم سنة أهل الكتاب، ولم تكن السنة المصطلح عليها معروفة في ذلك الوقت، وذكر سنة الصوم للمعتكف مع ترك المس، والخروج دليل على أن المراد الوجوب لا السنة المصطلح عليها- انتهى. (ولا يشهد جنازة) أي خارج مسجده. فيه دليل على أنه لا يخرج المعتكف لعيادة المريض وشهود الجنازة، وفيه خلاف بين العلماء قال الخرقي: ولا يعود مريضاً ولا يشهد جنازة إلا أن يشترط ذلك. قال ابن قدامة: (ج3ص195) الكلام في هذه المسألة في فصلين أحدهما، في الخروج لعيادة المريض وشهود الجنازة مع عدم الاشتراط، واختلفت الرواية عن أحمد في ذلك فروى عنه ليس له فعله، وهو قول عروة وعطاء ومجاهد والزهري ومالك والشافعي وأصحاب الرأي

وروى عنه الأثرم ومحمد بن عبد الحكم إن له أن يعود المريض ويشهد الجنازة، ويعود إلى معتكفه وهو قول علي رضي الله عنه، وبه قال سعيد بن جبير والنخعي والحسن لما روى عاصم بن ضمرة عن علي قال: إذا اعتكف الرجل فليشهد الجمعة وليعد المريض وليحضر الجنازة وليأت أهله وليأمرهم بالحاجة وهو قائم رواه الإمام أحمد والأثرم وقال أحمد: عاصم بن ضمرة عندي حجة. قال أحمد: يشهد الجنازة ويعود المريض ولا يجلس ويقضي الحاجة ويعود إلى معتكفه، وجه الأول ما روى عن عائشة قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان)) متفق عليه. ثم ذكر حديثها الذي نحن في شرحه وحديثها الذي قبل هذا، ثم قال ولأن هذا ليس بواجب فلا يجوز ترك الاعتكاف الواجب لأجله كالمشي مع أخيه في حاجة ليقضيها له وإن تعينت عليه صلاة الجنازة وأمكنه فعلها في المسجد لم يجز الخروج إليها فإن لم يمكنه ذلك فله الخروج إليها، وإن تعين عليه دفن الميت أو تغسيله جاز أن يخرج له، لأن هذا واجب متعين فيقدم على الاعتكاف كصلاة الجمعة، فأما إن كان الاعتكاف تطوعاً. وأحب الخروج منه لعيادة مريض أو شهود جنازة جاز، لأن كل واحد منهما تطوع فلا يتحتم واحد منهما لكن الأفضل المقام على اعتكافه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرج المريض ولم يكن واجباً عليه. فأما إن خرج لما لا بد منه فسأل عن المريض في طريقه ولم يعرج جاز، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك الفصل الثاني إذا اشترط فعل ذلك في اعتكافه فله فعله واجباً كان الاعتكاف أو غير واجب، وكذلك ما كان قربة كزيارة أهله أو رجل صالح أو عالم أو شهود جنازة، وكذلك ما كان مباحاً مما يحتاج إليه كالعشاء في منزله والمبيت فيه فله فعله قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن المعتكف يشترط أن يأكل في أهله فقال: إذا اشترط نعم. قيل: له وتجيز الشرط في الاعتكاف قال نعم. قلت: له فيبيت في أهله قال إذا كان تطوعاً جاز، وممن أجاز أن يشترط العشاء في أهله الحسن والعلاء بن زياد والنخعي وقتادة، ومنع منه أبومجلز ومالك والأوزاعي وإن شرط الوطأ في اعتكافه أو الفرجة والنزهة أو البيع للتجارة أو التكسب بالصناعة في المسجد لم يجز، لأن الله تعالى قال: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} فاشترط ذلك اشتراط لمعصية الله تعالى، والصناعة في المسجد منهي عنها في غير الاعتكاف، ففي الاعتكاف أولى وسائر ما ذكرناه يشبه ذلك ولا حاجة إليه فإن احتاج إليه فلا يعتكف لأن ترك الاعتكاف أولى من فعل المنهي عنه. قال أبوطالب: سألت أحمد عن المعتكف يعمل عمله من الخياطة وغيرها، قال ما يعجبني أن يعمل. قلت: إن كان يحتاج قال إن كان يحتاج لا يعتكف. قال ابن قدامة: إذا خرج لماله منه بد عامداً بطل اعتكافه إلا أن يكون اشترط وإن خرج ناسياً. فقال القاضي: لا يفسد اعتكافه وقال ابن عقيل: يفسد فإن أخرج بعض جسده لم يفسد اعتكافه عمداً كان أو سهواً- انتهى مختصراً. وقال ابن رشد: اختلفوا هل للمعتكف أن يشترط فعل شي مما يمنعه

ولا يمس المرأة ولا يباشرها، ـــــــــــــــــــــــــــــ الاعتكاف فينفعه شرطه في الإباحة أم ليس ينفعه ذلك، مثل أن يشترط شهود جنازة أو غير ذلك، فأكثر الفقهاء على أنه شرط لا ينفعه وإنه إن فعل بطل اعتكافه. وقال الشافعي: ينفعه شرطه، والسبب في اختلافهم تشبيههم الاعتكاف بالحج في أن كليهما عبادة مانعة لكثير من المباحات، والاشتراط في الحج إنما صار إليه من رآه لحديث ضباعة، لكن هذا الأصل مختلف فيه في الحج، فالقياس عليه ضعيف عند الخصم المخالف له- انتهى. قلت: الظاهر عندنا هو قول من لم يقل بالاشتراط في الاعتكاف، لأنه لا دليل عليه من سنة صحيحة أو ضعيفة ولا من أثر صحابي ولا من قياس صحيح. والراجح عندنا: إنه لا يجوز الخروج لعيادة المريض وصلاة الجنازة وإلا كل واجباً كان الاعتكاف أو غير واجب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يخرج لذلك وكان اعتكافه غير واجب. قال النووي في شرح المهذب: في الاعتكاف الواجب لا يعود مريضاً، ولا يخرج لجنازة سواءً تعينت عليه أم لا، في الصحيح، وفي التطوع يجوز لعيادة المريض وصلاة الجنائز. قال صاحب الشامل: هذا يخالف السنة فإنه صلى الله عليه وسلم كان لا يخرج من الاعتكاف لعيادة المريض وكان اعتكافه نفلاً لا نذراً ذكره العيني (ج11ص145) (ولا يمس المرأة) كذا وقع في جميع نسخ المشكاة والمصابيح والذي في سنن أبي داود امرأة وهكذا وقع في السنن للبيهقي والمعالم للخطابي وكذا ذكره الحافظ في الفتح وبلوغ المرام والمجد في المنتقى والجزري في جامع الأصول والزيلعي في نصب الراية، والظاهر إن ما في المصابيح خطأ من الناسخ ولم يتنبه لذلك المصنف بل تبعه فيه. قال الخطابي: تريد عائشة بالمس الجماع وهذا لا خلاف فيه إنه إذا جامع امرأته بطل اعتكافه (ولا يباشرها) أي فيما دون الفرج بشهوة. وقال القاري: لا يمس المرأة أي جنسها بشهوة ولا يباشرها أي لا يجامعها ولو حكماً. وقال الشوكاني: المراد بالمباشرة هنا الجماع بقرينة ذكر المس قبلها، وقد نقل ابن المنذر الإجماع على ذلك، ويؤيده ما روى الطبري وغيره من طريق قتادة في سبب نزول الآية يعني قوله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} [البقرة: 187] إنهم كانوا إذا اعتكفوا فخرج رجل لحاجته فلقي امرأته جامعها إن شاء فنزلت- انتهى. قال الحافظ: اتفقوا على فساده بالجماع حتى قال الحسن والزهري: من جامع فيه لزمته الكفارة وعن مجاهد يتصدق بدينارين، واختلفوا في غير الجماع ففي المباشرة أقوال ثالثها إن أنزل بطل وإلا فلا. وقال ابن قدامة: الوطأ في الاعتكاف محرم بالإجماع، والأصل فيه قول الله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد] فإن وطيء في الفرج متعمداً أفسد اعتكافه بإجماع أهل العلم حكاه ابن المنذر عنهم، وإن كان ناسياً فكذلك عند إمامنا (الإمام أحمد) وأبي حنيفة ومالك. وقال الشافعي: لا يفسد اعتكافه. قال ابن قدامة: ولا كفارة بالوطأ في ظاهر المذهب وهو ظاهر كلام

ولا يخرج لحاجة، إلا لما لا بد منه، ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الخرقي، وقول عطاء والنخعي وأهل المدينة ومالك وأهل العراق والثوري وأهل الشام والأوزاعي. ونقل حنبل عن أحمد إن عليه كفارة، وهو قول الحسن والزهري واختيار القاضي. قال واختلف هؤلاء في الكفارة: فقال القاضي يجب كفارة الظهار وهو قول الحسن والزهري وظاهر كلام أحمد في رواية حنبل، وحكى عن أبي بكر إن عليه كفارة يمين، فأما المباشرة دون الفرج، فإن كانت لغير شهوة فلا بأس بها مثل أن تغسل رأسه أو تفليه أو تناوله شيئاً لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدني رأسه إلى عائشة وهو معتكف فترجله وإن كانت عن شهوة فهي محرمة لقول الله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} [البقرة: 187] ولقول عائشة السنة على المعتكف أن لا يعود مريضاً ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها، ولأنه لا يأمن إفضاءها إلى إفساد الاعتكاف، وما أفضى إلى الحرام كان حرماً فإن فعل فأنزل فسد اعتكافه وإن لم ينزل لم يفسد، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه. وقال في الآخر يفسد في الحالين وهو قول مالك لأنها مباشرة محرمة فأفسدت الاعتكاف كما لو أنزل، ولنا أنها مباشرة لا تفسد صوماً ولا حجاً فلم تفسد كالمباشرة لغير شهوة، وفارق التي أنزل بها لأنها تفسد الصوم ولا كفارة عليه- انتهى. (ولا يخرج لحاجة) دنيوية أو أخروية (إلا لما لا بد منه) أي إلا لحاجة لا فراق ولا محيص من الخروج لها وهو البول والغائط إذ لا يتصور فعلهما في المسجد، ولذا أجمعوا عليه بخلاف الأكل والشرب أو لأمر لا بد من ذلك الأمر وهو كناية عن قضاء الحاجة وما يتبعه من الاستنجاء والطهارة (ولا اعتكاف إلا بصوم) فيه دليل على أنه لا يصح الاعتكاف إلا بصوم وأنه شرط فيه، وقد تقدم بيان الاختلاف في ذلك. وأجاب من لم يقل باشتراط الصوم عن هذا الحديث بما سيأتي من الكلام عليه، وبأن المراد لا اعتكاف كاملاً أو فاضلاً إلا بصوم ذكره الطيبي (ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع) أي يجمع الناس للجماعة، وفيه دليل على أن المسجد شرط في الاعتكاف، واتفق العلماء على ذلك إلا ما روى عن بعض العلماء أنه أجازه في كل مكان. قال الحافظ: وذهب أبوحنيفة وأحمد إلى اختصاصه بالمساجد التي تقام فيها الصلوات، وخصه أبويوسف بالواجب منه. وأما النفل ففي كل مسجد. وقال الجمهور: بعمومه في كل مسجد إلا لمن تلزمه الجمعة، فاستحب له الشافعي في الجامع، وشرطه مالك لأن الاعتكاف عندهما ينقطع بالجمعة، ويجب بالشروع عند مالك وخصه طائفة من السلف كالزهري بالجامع مطلقاً، وأومأ إليه الشافعي في القديم، وخصه حذيفة بن اليمان بالمساجد الثلاثة وعطاء بمسجد مكة والمدينة ابن المسيب بمسجد المدينة- انتهى. وقال العيني: ذهب هؤلاء أي من خص الاعتكاف بالمساجد الثلاثة مسجد مكة والمدينة والأقصى أو بمسجد مكة والمدينة إلى أن الآية خرجت على نوع من المساجد وهو ما بناه نبي لأن الآية نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو معتكف في مسجده فكان القصد والإشارة إلى نوع تلك المساجد مما بناه نبي،

وذهبت طائفة إلى أنه لا يصح الاعتكاف إلا في مسجد تقام فيه الجمعة روى ذلك عن علي وابن مسعود وعروة وعطاء والحسن والزهري وهو قول مالك في المدونة، قال أما من تلزمه الجمعة فلا يعتكف إلا في الجامع. وقالت طائفة: الاعتكاف يصح في كل مسجد، روى ذلك عن النخعي وأبي سلمة والشعبي وهو قول أبي حنيفة والثوري والشافعي في الجديد، وأحمد وإسحاق وأبي ثور وداود وهو قول الجمهور والبخاري أيضاً، حيث استدل بعموم الآية في سائر المساجد، فقال باب الاعتكاف في المساجد كلها لقوله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} قال العيني: جمع (أي البخاري) المساجد وأكدها بلفظ: كلها إشارة إلى أن الاعتكاف لا يختص بمسجد دون مسجد. وقال صاحب الهداية: الاعتكاف لا يصح إلا في مسجد الجماعة (وهو الذي له مؤذن وإمام ويصلي فيه الصلوات الخمس أو بعضها بجماعة) وعن أبي حنيفة أنه لا يصح إلا في مسجد يصلي فيه الصلوات الخمس أي بجماعة قلت: وهذا رواية الحسن عن أبي حنيفة وصححه بعض مشائخ الحنفية وهو قول أحمد. قال الخرقي: لا يجوز الاعتكاف إلا في مسجد يجمع فيه. قال ابن قدامة (ج3ص87) يعني تقام الجماعة فيه، وإنما اشترط ذلك لأن الجماعة واجبة واعتكاف الرجل في مسجد لا تقام فيه الجماعة يفضي إلى أحد أمرين، إما ترك الجماعة الواجبة وإما خروجه إليها فيتكرر ذلك منه كثيراً مع إمكان التحرز منه، وذلك مناف للاعتكاف إذ هو لزوم المعتكف والإقامة على طاعة الله فيه ولا يصح الاعتكاف في غير مسجد إذا كان المعتكف رجلاً لا نعلم في هذا بين أهل العلم خلافاً. والأصل في ذلك قوله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} فخصها بذلك فلو صح الاعتكاف في غيرها لم يختص تحريم المباشرة فيها، فإن المباشرة محرمة في الاعتكاف مطلقاً، وروى الدارقطني بإسناده عن الزهري عن عروة وسعيد بن المسيب عن عائشة في حديث، وإن السنة للمعتكف أن لا يخرج إلا لحاجة الإنسان ولا اعتكاف إلا في مسجد جماعة. فذهب أحمد إلى أن كل مسجد تقام فيه الجماعة يجوز الاعتكاف فيه، ولا يجوز في غيره. وقال الشافعي: يصح الاعتكاف في كل مسجد إذا لم يكن اعتكافه يتخلله جمعة، ولنا حديث عائشة المتقدم. وقد قيل إن هذا من قول الزهري وهو ينصرف إلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيفما كان. وروى سعيد من طريق الضحاك عن حذيفة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل مسجد له إمام ومؤذن فالاعتكاف فيه يصلح، ولأن قوله تعالى: {وأنتم عاكفون في المساجد} يقتضي إباحة الاعتكاف في كل مسجد إلا أنه يقيد بما تقام فيه الجماعة بالأخبار، ففيما عداه يبقى على العموم، وقول الشافعي في اشتراطه موضعاً تقام فيه الجمعة لا يصح للأخبار، ولأن الجمعة لا تتكرر فلا يضر وجوب الخروج إليها ولو كان الجامع تقام فيه الجمعة وحدها، ولا يصلي فيه غيرها لم يجز الاعتكاف فيه، ويصح عند مالك والشافعي. ومبني الخلاف على أن الجماعة واجبة عندنا فيلتزم الخروج من معتكفه إليها فيفسد اعتكافه وعندهم ليست بواجبة وإن كان اعتكافه مدة غير وقت الصلاة كليلة أو بعض يوم،

رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ جاز في كل مسجد لعدم المانع، وإن كانت تقام فيه في بعض الزمان جاز الاعتكاف فيه في ذلك الزمان دون غيره، وإن اعتكف اثنان في مسجد لا تقام فيه جماعة فأقاما الجماعة فيه صح اعتكافهما لأنهما أقاما الجماعة فأشبه ما لو أقامهما فيه غيرهما- انتهى مختصراً. وقال الباجي: أما المساجد التي لا يصلي فيها الجمعة فإنما يكره الاعتكاف فيها إذا كان الاعتكاف يتصل إلى وقت صلاة الجمعة، لأنه يقتضى أحد أمرين ممنوعين. أحدهما: التخلف عن الجمعة. والثاني: الخروج عن الاعتكاف إلى الجمعة، وذلك يبطل اعتكافه في المشهور من مذهب مالك. وقد روى ابن الجهم عن مالك الخروج إلى الجمعة ولا ينتقص اعتكافه- انتهى. قلت الراجح عندي هو ما ذهب إليه أحمد لحديث الباب وأجاب عنه من خالفه بأن ذكر الجامع للأولوية يعني إن النفي فيه محمول على نفي الفضيلة والكمال ولا يخفى ما فيه. ولحديث حذيفة وقد أخرجه الدارقطني أيضاً. وقال الضحاك: لم يسمع من حذيفة ولقول على قال لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة أخرجه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق في مصنفيهما. ولقول ابن عباس لا اعتكاف إلا في مسجد تقام فيه الصلاة أخرجه البيهقي فيصح الاعتكاف في كل مسجد تقام فيه الجماعة، ولا يجوز في غيره، ولا يشترط مسجد الجمعة، وإن كان هو أفضل، ويجب الخروج إلى الجمعة ولا يبطل اعتكافه بالخروج إليها (رواه أبوداود) من طريق عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة وأخرجه البيهقي (ج4ص321) من طريق أبي داود في (ج4ص315، 320) من طريق عقيل عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة وأخرجه أيضاً من هذا الطريق في الشعب والمعرفة وأخرجه الدارقطني (ص247- 248) من رواية ابن جريج عن الزهري عن سعيد بن المسيب وعروة عن عائشة. قال أبوداود: غير عبد الرحمن بن إسحاق لا يقول فيه. قالت: السنة. قال أبوداود: جعله قول عائشة- انتهى. وقال المنذري: وأخرجه النسائي من حديث يونس ابن زيد وليس فيه قالت السنة، وأخرجه من حديث مالك وليس فيه أيضاً ذلك وعبد الرحمن بن إسحاق هذا هو القرشي المدني يقال له عباد وقد أخرج له مسلم في صحيحه ووثقه ابن معين وأثنى عليه غيره وتكلم فيه بعضهم- انتهى. وقال الحافظ في بلوغ المرام: لا بأس برجاله إلا أن الراجح وقف آخره أي من قولها ولا اعتكاف إلا بصيام. وقال في الفتح بعد ذكر كلام أبي داود: وجزم الدارقطني بأن القدر الذي من حديث عائشة قولها لا يخرج إلا لحاجة وما عداه ممن دونها- انتهى. وقال البيهقي في السنن (ج4ص321) : قد ذهب كثير من الحفاظ إلى أن هذا الكلام من قول من دون عائشة وإن من أدرجه في الحديث وهم فيه فقد رواه الثوري عن هشام عن أبيه عروة، قال المعتكف لا يشهد جنازة ولا يعود مريضاً ولا يجيب دعوة ولا اعتكاف إلا بصيام ولا اعتكاف إلا في مسجد جماعة وعن ابن جريج عن الزهري عن سعيد بن المسيب أنه قال المعتكف لا يعود مريضاً ولا يشهد جنازة- انتهى. وقال في المعرفة: وإنما لم يخرجاه في الصحيح لاختلاف الحفاظ فيه، منهم من زعم أنه قول

{الفصل الثالث}

{الفصل الثالث} 2127- (11) عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنه كان إذا اعتكف طرح له فراشه، أو يوضع له سريره وراء أسطوانة التوبة)) . رواه ابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ عائشة، ومنهم من زعم أنه قول الزهري، ويشبه أن يكون من قول من دون عائشة، فقد رواه الثوري عن هشام عن عروة، قال المعتكف لا يشهد جنازة ولا يعود مريضاً- انتهى. ورد عليه ابن التركماني فقال: جعل هذا الكلام من قول من دون عائشة دعوى بل هو معطوف على ما تقدم من قولها السنة كذا وكذا. وقد تقدم إن هذا عند المحدثين في حكم المرفوع رواه عروة عن عائشة مرة، وأفتى به مرة أخرى، وقد أخرجه الدارقطني من طريق ابن جريج عن الزهري بسنده- انتهى. 2127- قوله: (طرح) بصيغة المجهول أي وضع وفرش (أو يوضع له سريره) الظاهر إن "أو" للتنويع (وراء اسطوانة التوبة) هي من اسطوانات المسجد النبوي سميت بذلك لأن أبا لبابة بن عبد المنذر ربط بها نفسه حتى تاب الله عليه عندها، روى ابن وهب عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر إن أبا لبابة ارتبط بسلسلة ربوض، والربوض الضخمة الثقيلة اللازقة بصاحبها بضع عشرة ليلة، حتى ذهب سمعه فما كاد يسمع، وكاد أن يذهب بصره وكانت ابنته تحله إذا حضرت الصلاة أو أراد أن يذهب لحاجة وإذا فرغ أعادته إلى الرباط. قال ابن عبد البر: اختلف في الحال التي أوجبت فعل أبي لبابة هذا بنفسه. وأحسن ما قيل في ذلك ما رواه معمر عن الزهري قال: كان أبولبابة ممن تخلف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك، فربط نفسه بسارية وقال والله لا أحل نفسي منها ولا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى يتوب الله علي أو أموت فمكث سبعة أيام لا يذوق طعاماً ولا شراباً حتى خر مغشياً عليه ثم تاب الله عليه فقيل له قد تاب الله عليك، يا أبا لبابة! فقال والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يحلني، قال فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحله بيده، ثم قال أبو لبابة يا رسول الله! إن من توبتي إن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وإن انخلع من مالي كله صدقة إلى الله وإلى رسوله، قال يحزئك يا أبا لبابة الثلاث قال ابن عبد البر: وقد قيل إن الذنب الذي أتاه أبو لبابة كان إشارته إلى حلفاءه من بني قريظة إن الذبح إن نزلتم على حكم سعد بن معاذ وأشار إلى حلقه فنزلت {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} [الأنفال: 27] انتهى. وارجع للبسط إلى وفاء الوفاء للسمهودي (ج2ص442، 447) وفي الحديث دليل على جواز طرح الفراش ووضع السرير للمعتكف في المسجد، وعلى جواز الوقوف في مكان معين من المسجد في الاعتكاف فيكون مخصصاً للنهي عن إيطان المكان في المسجد يعني ملازمته (رواه ابن ماجه) قال في الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله موثقون. وقال الشوكاني: رجال إسناده ثقات، وقد ذكره الحافظ في الفتح عن

2128- (12) وعن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في المعتكف: ((هو يعتكف الذنوب ويجري له من الحسنات كعامل الحسنات كلها)) . رواه ابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ نافع إن ابن عمر كان إذا اعتكف إلخ، وعزاه لابن ماجه ولم يذكر أنه مرفوع وفي صحيح مسلم عن نافع أنه قال وقد أراني عبد الله بن عمر المكان الذي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتكف فيه من المسجد. وقال السمهودي: (ج2ص447) أسند ابن زبالة ويحيى في بيان معتكف النبي صلى الله عليه وسلم عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اعتكف طرح له فراشه ووضع له سريره وراء إسطوانة التوبة. ثم ذكر السمهودي هذا الحديث من رواية ابن ماجه. وقال قال البدر بن فرحون: ونقل الطبراني في معجمه عن ابن عمر إن ذلك مما يلي القبلة يستند إليها. قال السمهودي: رواه البيهقي بسند حسن ولفظه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اعتكف يطرح له فراشه أو سريره إلى إسطوانة التوبة مما يلي القبلة يستند إليها. ونقل عياض عن ابن المنذر أن مالك بن أنس كان له موضع في المسجد، قال وهو مكان عمر بن الخطاب، وهو المكان الذي يوضع فيه فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اعتكف كذا قال الأويسي. 2128- قوله: (قال في المعتكف) أي في حقه وشأنه (هو يعتكف) من الاعتكاف (الذنوب) منصوب بنزع الخافض أي يحتبس عن الذنوب بين بذلك إن شأن المحتبس في المسجد الانجاس عن تعاطي أكثر الذنوب قاله القاري، قلت: قوله "يعتكف" كذا في أكثر النسخ من المشكاة، ووقع في بعضها يعكف من العكف وهو الذي في سنن ابن ماجه، وهكذا نقله الولي العراقي في شرح التقريب. قال السندي: قوله "هو يعكف الذنوب من عكفه" كنصر وضرب أي حبس، وضمير هو للمعتكف أو الاعتكاف وهو الظاهر أي هو يمنع الذنوب ولا يتأتي فيه وإن أريد المنع على الدوام، فيمكن من آثار الاعتكاف أن يقي الله تعالى صاحبه من المعاصي (ويجري) بالجيم والراء مجهولاً. وقيل معلوماً أي يمضي ويستمر (له من الحسنات) أي من ثوابها (كعامل الحسنات) أي كأجور عاملها. قال القاري: وفي نسخة صحيحة يعني من المشكاة بالجيم والزاي مجهولاً، أي يعطي له من الحسنات التي يمتنع عنها باعتكاف كعيادة المريض وتشييع الجنازة وزيارة الإخوان وغيرها، فاللام في الحسنات للعهد- انتهى. (رواه ابن ماجه) من طريق عيسى بن موسى غنجار عن عبيدة العمي عن فرقد السبخي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وهذا إسناد ضعيف لأن عيسى قال فيه في تقريب: صدوق ربما أخطأ، وربما دلس مكثر من الحديث عن المتروكين، وعبيدة العمي مجهول الحال وفرقد السبخي البصري الحائك. قال الترمذي: تكلم فيه يحيى بن سعيد وروى عنه الناس. قلت: وثقه ابن معين وتكلم فيه غيره. وقال الساجي: قد اختلف فيه وليس بحجة في الأحكام والسنن. وقال في التقريب: صدوق عابد لكنه لين الحديث كثير الخطأ.

(8) كتاب فضائل القرآن

(8) كتاب فضائل القرآن ـــــــــــــــــــــــــــــ (كتاب فضائل القرآن) عموماً وبعض سوره وآياته خصوصاً، والفضائل. جمع فضيلة. قال الجوهري: الفضل والفضيلة خلاف النقص والنقيصة، واختلف هل في القرآن شي أفضل من شي، فذهب أبوالحسن الأشعري والقاضي أبوبكر الباقلاني إلى أنه لا فضل لبعضه على بعض لأن الأفضل يشعر بنقص المفضول وكلام الله حقيقة واحدة لا نقص فيه، وقال قوم: وهم الجمهور بالتفضيل لظواهر الأحاديث كحديث ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن، وحديث إن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، قال القرطبي: إنه الحق، وقال ابن الحصار: العجب ممن يذكر الاختلاف في ذلك مع النصوص الواردة في التفضيل، وقال الغزالي، في جواهر القرآن: لعلك أن تقول قد أشرت إلى تفضيل بعض آيات القرآن على بعض، والكلام كلام الله فكيف يكون بعضها أشرت من بعض فاعلم أن نور البصيرة إن كان لا يرشدك إلى الفرق بين آية الكرسي وآية المداينة، وبين سورة الإخلاص وسورة تبت، وترتاع على اعتقاد الفرق نفسك الخوارة المستغرقة بالتقليد فقلد صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم فهو الذي أنزل عليه القرآن، وقال يس، قلب القرآن، وفاتحة الكتاب أفضل سورة القرآن، وآية الكرسي سيدة آي القرآن، وقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، وغير ذلك مما لا يحصى- انتهى. ثم اختلفوا فقال قوم الفضل راجع إلى عظم الأجر ومضاعفة الثواب بحسب إنفعالات النفس وخشيتها وتدبرها وتفكرها عند ورود أوصاف العلى. وقال آخرون: بل يرجع إلى ذات اللفظ وإن ما تضمنه قوله تعالى: {وإلهكم إله واحد} الآية، [البقرة: 163] وآية الكرسي وآخر سورة الحشر وسورة الإخلاص من الدلالة على وحدانيته وصفاته ليس موجوداً، مثلاً في تبت يدا أبي لهب، وما كان مثلها فالتفضيل إنما هو بالمعاني العجيبة وكثرتها لا من حيث الصفة. قال القسطلاني: ولعل الخلاف في هذه المسألة أي مسألة التفضيل يلتفت إلى الخلاف المشهور إن كلام الله شي واحد أم لا، وعند الأشعري أنه لا يتنوع في ذاته بل بحسب متعلقاته، وليس لكلام الله الذي هو صفة ذاته بعض لكن بالتأويل والتعبير وفهم السامعين اشتمل على أنواع المخاطبات ولولا تنزله في هذه المواقع لما وصلنا إلى فهم شي منه-انتهى. وقيل: التحقيق إنه لا خلاف في المعنى بل الأول محمول على ذات القرآن وحقيقته، والثاني على غيرهما كما علم وارجع للبسط إلى الإتقان (ج2ص156، 157) للسيوطي ولشيخ الإسلام ابن تيمية كتاب نفيس في هذا الموضوع سماه "جواب أهل العلم والإيمان بتحقيق ما أخبر به رسول الرحمان من أن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن" بين فيه حكمة الله في تفاضل بعض السورة والآيات مع أنها

{الفصل الأول}

{الفصل الأول} 2129- (1) عن عثمان، قال: قال رسول الله صلى اله عليه وسلم: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) ـــــــــــــــــــــــــــــ كلها من كلام الله عزوجل. وقد استطرد فيه إلى دقائق من علوم اللغة وأسرار العربية وبيان مذاهب العلماء، فيما اختلفوا فيه من مسائل أصول الدين والانتصار لمذهب السلف في الصفات، ومنها صفة الكلام، وفيه من حقائق التفسير ولطائف البحث مالا تجده في كتاب غيره فعليك أن تطالعه. ثم المعتمد إن القرآن بمعنى القراءة مصدر بمعنى المفعول أو فعلان من القراءة بمعنى الجمع لجمعه السور وأنواع العلوم، وإنه مهموز وقراءة ابن كثير إنما هي بالنقل كما قال الشافعي: ونقل قرآن والقرآن دواءنا خلافاً لمن قال إنه من قرنت الشيء بالشيء لقرن السور والآيات فيه. 2129- قوله: (خيركم) وفي رواية إن أفضلكم ولا فرق بينهما في المعنى لأن قوله "خيركم" تقديره أخيركم ولا شك إن أخيرهم هو أفضلهم (من تعلم القرآن وعلمه) كذا للأكثر وللسرخسي أو علمه وهي للتنويع لا للشك وكذا لأحمد عن غندر وعفان عن شعبة، وزاد غندر في أوله إن وأكثر الرواة عن شعبه يقولونه بالواو وكذا وقع عند أحمد عن بهز وعند أبي داود عن حفص بن عمر كلاهما عن شعبة وكذا أخرجه أحمد والترمذي من حديث علي. قال الحافظ: وهي أظهر من حيث المعنى لأن التي "بأو" تقتضي إثبات الخيرية المذكورة لمن فعل أحد الأمرين فيلزم أن من تعلم القرآن ولو لم يعلمه غيره أن يكون خيراً ممن عمل بما فيه مثلاً، وإن لم يتعلمه، ولا يقال يلزم على رواية الواو أيضاً إن من تعلمه وعلمه غيره أن يكون أفضل ممن عمل بما فيه من غير أن يتعلمه ولم يعلمه غيره، لأنا نقول يحتمل أن يكون المراد بالخيرية من جهة حصول التعليم بعد العلم، والذي يعلم غيره يحصل له النفع المتعدي بخلاف من يعمل فقط، والقرآن أشرف العلوم فيكون من تعلمه وعلمه لغيره أشرف ممن تعلم غير القرآن، وإن علمه ولا شك إن الجامع بين تعلم القرآن وتعليمه مكمل لنفسه ولغيره جامع بين النفع القاصر والنفع المتعدي ولهذا كان أفضل. فإن قيل: فيلزم على هذا أن يكون المقري أفضل من الفقيه قلنا: لا لأن المخاطبين بذلك كانوا فقهاء النفوس لأنهم كانوا أهل اللسان فكانوا يدرون معاني القرآن بالسليقة أكثر مما يدريها من بعدهم بالاكتساب فكان الفقه لهم سجية فمن كان في مثل شأنهم شاركهم في ذلك لا من كان قارئاً أو مقرئاً محضاً لا يفهم شيئاً من معاني ما يقرؤه أو يقرئه. فإن قيل: فيلزم أن يكون المقري أفضل ممن هو أفضل غناء في الإسلام بالمجاهدة والرباط والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلاً. قلنا: حرف المسألة يدور على النفع المتعدي فمن كان حصوله عنده أكثر كان أفضل فلعل من مضمرة في الحديث، ولا بد مع ذلك من مراعاة

رواه البخاري. 2130 - (2) وعن عقبة بن عامر، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم: ونحن في الصفة، فقال: ((أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان ـــــــــــــــــــــــــــــ الإخلاص في كل صنف منهم، ويحتمل أن تكون الخيرية وإن أطلقت لكنها مقيدة بناس مخصوصين خوطبوا بذلك كان اللائق بحالهم ذلك أو المراد خير المتعلمين من يعلم غيره لا من يقتصر على نفسه، أو المراد مراعاة الحيثية لأن القرآن خير الكلام فمتعلمه خير من متعلم غيره بالنسبة إلى خيرية القرآن، وكيف ما كان فهو مخصوص بمن علم وتعلم بحيث يكون قد علم ما يجب عليه عيناً- انتهى كلام الحافظ. باختصار يسير. وقال الطيبي: أي خير الناس باعتبار التعلم والتعليم من تعلم القرآن وعلمه. وقال ميرك: أي من خيركم. قال القاري: ولا يتوهم إن العمل خارج عنهما لأن العلم إذا لم يكن مورثاً للعمل فليس علماً في الشريعة إذا جمعوا على أن من عصى الله فهو جاهل قال إذا كان خير الكلام كلام الله فكذلك خير الناس بعد النبيين من يتعلم القرآن ويعلمه، لكن لا بد من تقييد التعلم والتعليم بالإخلاص- انتهى. وقال السندي: قوله "خيركم" الخ يراد بمثله أنه من جملة الأخيار لا أنه أفضل من الكل، وبه يندفع التدافع بين الأحاديث الواردة بهذه العنوان. ثم المقصود في مثله بيان إن وصف تعلم القرآن وتعليمه من جملة خيار الأوصاف فالموصوف به يكون خيراً من هذه الجهة أو يكون خيراً إن لم يعارض هذا الوصف معارض فلا يرد أنه كثيراً ما يكون المرأ متعلماً أو معلماً القرآن ويأتي بالمنكرات فكيف يكون خيراً. وقد يقال المراد من تعلم القرآن وعلمه مع مراعاته عملاً وإلا فغير المراعي يعد جاهلاً (رواه البخاري) في فضائل القرآن وأخرجه أيضاً أحمد (ج1ص57، 58، 68) والترمذي في فضائل القرآن. وأبوداود في أواخر الصلاة وابن ماجه في السنة، والدارمي وابن حبان (ج1ص281، 282) وأخرجه النسائي في الكبرى وفي الباب عن علي عند أحمد والترمذي والدارمي وعن سعد عند الدارمي وعن ابن مسعود عند ابن أبي داود. 2130- قوله: (ونحن في الصفة) بضم الصاد المهملة وتشديد الفاء مكان مضلل في مؤخر المسجد، أعد لنزول الغرباء فيه ممن لا مأوى له ولا أهل. قال ابن حجر: كانت هي في مؤخر المسجد معدة لفقراء أصحابه الغير المتأهلين وكانوا يكثرون تارة حتى يبلغوا نحو المائتين، ويقلون أخرى لإرسالهم في الجهاد وتعليم القرآن. وقال الجزري: أهل الصفة فقراء المهاجرين ومن لم يكن له منهم منزل يسكنه فكانوا يأوون إلى موضع مظلل في مسجد المدينة، قال الكرماني: وكانوا سبعين ويقلون حيناً ويكثرون. وقال السيوطي: عدهم أبونعيم في الحلية أكثر من مائة (أيكم يحب أن يغدو) أي يذهب في الغدوة وهي أول النهار (إلى بطحان) بضم الباء الموحدة وسكون

أو العقيق فيأتي بناقتين كوماوين في غير إثم ولا قطع رحم؟ فقلنا: يا رسول الله! كلنا نحب ذلك قال: أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين، وثلث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهن ـــــــــــــــــــــــــــــ الطاء المهملة، اسم واد بقرب المدينة، سمي بذلك لسعته وانبساطه من البطح وهو البسط (أو العقيق) بفتح العين المهملة وبقافين الأولى مكسورة بينهما ياء تحتية ساكنة، قيل: أراد العقيق الأصغر وهو على ثلاثة أميال أو ميلين من المدينة، وفيه بئر رومة، وهناك عقيق أكبر، وإنما خصهما بالذكر لأنهما من أقرب الأودية التي كانوا يقيمون فيها أسواق الإبل إلى المدينة. والظاهر إن "أو" للتنويع لكن في جامع الأصول (ج9ص375) أو قال إلى العقيق فدل على أنه شك من الراوي قاله القاري. (فيأتي بناقتين كوماوين) تثنية كوماء، بفتح الكاف وسكون الواو، وبالمد قلبت الهمزة واواً وهي الناقة العظيمة السنام، وأصل الكوم العلو أي فيحصل ناقتين مشرفتي السنام عاليتيه عظيمتيه. وإنما ضرب المثل بها لأنها كانت من أحب الأموال إليهم وأنفس المتأجر لديهم (في غير إثم) أي في غير ما يوجب إثماً كسرقة وغصب سمي موجب الإثم إثماً مجازاً (ولا قطع رحم) أي في غير ما يوجبه وهو تخصيص بعد تعيم (كلنا نحب ذلك) بالنون وفي جامع الأصول كلنا يحب ذلك بالياء قاله القاري. قلت: وهكذا وقع في المصابيح والترغيب بالياء، والذي في صحيح مسلم نحب بالنون كما في المشكاة وكذا في جامع الأصول المطبوعة (ج9ص375) (أفلا يغدو) أي ألا يترك ذلك فلا يغدو (أحدكم إلى المسجد فيعلم) بالتشديد وفي نسخة صحيحة بالتخفيف قاله القاري. قلت: وقع في بعض النسخ من صحيح مسلم فيتعلم، وهكذا في المصابيح (أو يقرأ) بالرفع والنصب فيهما. قال القاري قال ميرك: هذه الكلمة يحتمل أن تكون عرضاً أو نفياً، وفيه إن الفاء مانعة من كونها للعرض ثم قال، وقوله فيعلم أو يقرأ منصوبان على التقدير الأول، مرفوعان على الثاني. قلت: ويجوز نصبهما على الثاني أيضاً، لأنه جواب النفي، ثم قال ويعلم من التعليم في أكثر نسخ المشكاة وصحح في جامع الأصول من العلم، وكلمة "أو" يحتمل الشك والتنويع- انتهى. وفي شرح أنه صحح في جامع الأصول فيعلم بفتح الياء وسكون العين فأوشك من الراوي دفعاً لتوهم كونه من التعليم فيكون "أو" للتنويع كذا ذكره الطيبي وعلى التنويع قوله (آيتين من كتاب الله) تنازع فيه الفعلان وقوله (خير) خبر مبتدأ محذوف أي هما أو الغدو (خير له من ناقتين وثلاث) أي من الآيات (خير له من ثلاث) أي من الإبل. قال ابن حبان: هذا الخبر أضمر فيه كلمة وهي "لو تصدق بها" يريد بقوله "فيتعلم آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين وثلاث" لو تصدق بها لأن فضل تعلم آيتين من كتاب الله أكبر من فضل ناقتين وثلاث وعدادهن من الإبل لو تصدق بها إذ محال أن يشبه من تعلم آيتين من كتاب الله في الأجر بمن نال بعض حطام الدنيا (ومن إعدادهن) جمع

من الإبل)) . رواه مسلم. 2131 - (3) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيحب أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد فيه ثلث خلفات عظام سمان؟ قلنا: نعم، قال: فثلاث آيات يقرؤ بهن أحدكم ـــــــــــــــــــــــــــــ عدد (من الإبل) بيان للإعداد. قيل: من إعدادهن متعلق بمحذوف تقديره وأكثر من أربع آيات خير من إعدادهن من الإبل فخمس آيات خير من خمس إبل وعلى هذا القياس. وقيل: يحتمل أن يراد أن آيتين خير من ناقتين ومن إعدادهما من الإبل، وثلاث خير له من ثلاث. ومن إعدادهن من الإبل، وكذا أربع. والحاصل إن الآيات تفضل على إعدادهن من النوق وعلى إعدادهن من الإبل كذا ذكره الطيبي ويوضحه ما قيل إنه متعلق بقوله آيتين وثلاث وأربع، ومجرور إعدادهن عائد إلى الإعداد التي سبق ذكرها، "ومن الإبل" بدل من إعدادهن، أو بيان له يعني آيتان خير من عدد كثير من الإبل، وكذلك ثلاث وأربع آيات منه، لأن قراءة القرآن تنفع في الدنيا والآخرة نفعاً عظيماً بخلاف الإبل- انتهى. والحاصل إنه - صلى الله عليه وسلم - أراد ترغيبهم في الباقيات وتزهيدهم عن الفانيات فذكر هذا على سبيل التمثيل والتقريب إلى فهم العليل، وإلا فجميع الدنيا أحقر من أن يقابل بمعرفة آية من كتاب الله تعالى أو ثوابها من الدرجات العلى، كذا في المرقاة، وفي الحديث الحث على تعلم القرآن وتعليمه وتلاوته. (رواه مسلم) في فضائل القرآن من الصلاة، وأخرجه أيضاً أحمد وابن حبان (ج1ص179) وأبوداود في أواخر الصلاة وعنده كوماوين زهراوين (أي سمينتين مائلتين إلى البياض من كثرة السمن) بغير إثم بالله ولا قطع رحم، قالوا كلنا يا رسول الله! قال: فلان يغدو أحدكم كل يوم إلى المسجد فيتعلم آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين، وإن ثلاث فثلاث مثل إعدادهن من الإبل، وفي صحيح ابن حبان وثلاث خير من ثلاث وأربع خير من عدادهن من الإبل. 2131- قوله: (إن يجد فيه) أي في أهله يعني في محلهم. وقيل: أي في رجوعه إليهم. وقيل: أي في طريقه (ثلث خلفات) بفتح الخاء المعجمة وكسر اللام جمع خلفة وهي الحامل من النوق وهي من أعز أموال العرب من خلفت الناقة أي حملت. وقيل: الخلفة الحامل من النوق إلى أن يمضي عليها نصف أمدها، ثم هي عشراء جمعها عشار (عظام) في الكمية (سمان) في الكيفية جمع سمينة، أي كثيرة الشحم والدسم (قلنا نعم) أي بمقتضى الطبيعة أو على وفق الشريعة ليكون للآخرة ذريعة (قال) أي فإذا قلتم ذلك وغفلتم عما هو أولى (فثلث آيات) أي فاعلموا أن قراءة ثلث آيات خير من ثلث خلفات. وقال الطيبي: الفاء في "فثلث آيات" جزاء شرط محذوف، فالمعنى إذا تقرر ما زعمتم أنكم تحبون ما ذكرت لكم، فقد صح أن يفضل عليها ما أذكره لكم من قراءة ثلث آيات لأن هذا من الباقيات الصالحات وتلك من الزائدات الفانيات (يقرأ بهن أحدكم) قال الطيبي: الباء

في صلاته خير له من ثلاث خلفات عظام سمان)) رواه مسلم. 2132 - (4) وعن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام ـــــــــــــــــــــــــــــ زائدة أو للإلصاق (في صلاته) بيان للأكمل وتقييد للأفضل (خير له من ثلاث خلفات عظام سمان) قال الطيبي: التنكير للتعظيم والتفخيم، وفي الأول للشيوع في الأجناس فلذلك لم يعرف الثاني (رواه مسلم) في فضائل القرآن وأخرجه أيضاً ابن ماجه في باب ثواب القرآن. 2132- قوله: (الماهر بالقرآن) أي الحاذق من المهارة، وهي الحذق، جاز أن يريد به جودة الحفظ أو جودة اللفظ، وأن يريد به كليهما وأن يريد به ما هو أعم منهما قاله القاري. وقال النووي: الماهر الحاذق الكامل، الحفظ الذي لا يتوقف ولا يشق عليه القراءة لجودة حفظه وإتقانه. (مع السفرة) جمع سافر ككاتب وكتبة والسافر الرسول والسفرة الرسل، لأنهم يسفرون إلى الناس برسالات الله! وقيل: السفرة الكتبة قاله النووي. وقال ميرك: أي الكتبة جمع سافر من السفر وأصله الكشف فإن الكاتب يبين ما يكتب ويوضحه ومنه قيل للكتاب سفر بكسر السين لأنه يكشف الحقائق ويسفر عنها، والمراد بها الملائكة الذين هم حملة اللوح المحفوظ كما قال تعالى: {بأيدي سفرة كرام بررة} [عبس: 15] سموا بذلك لأنهم ينقلون الكتب الإلهية المنزلة إلى الأنبياء فكأنهم يستنسخونها. وقيل: السفرة الملائكة الكاتبون لأعمال العباد. وقيل: مشتق من السفارة بمعنى الإصلاح، والسافر بمعنى السفير، والسفرة بمعنى السفراء والمراد بهم حينئذٍ الملائكة النازلون بأمر الله بما فيه مصلحة العباد من حفظهم عن الآفات والمعاصي وإلهامهم الخير في قلوبهم أو المراد الملائكة النازلون بالوحي إلى الأنبياء، لأنهم كالسفراء بين الله وبين رسله يسفرون بالوحي إليهم. والمعية في التقرب إلى الله تعالى. وقيل: يريد أنه يكون في الآخرة رفيقاً في منازلهم أو هو عامل بعملهم. قال القاضي عياض: يحتمل أن يكون المراد بكونه مع الملائكة أن يكون له في الآخرة منازل يكون فيها رفيقاً للملائكة لاتصافه بصفتهم من حمل كتاب الله تعالى، ويحتمل أن يراد أنه عامل بعملهم وسالك مسلكهم من كونهم يحفظونه ويؤدونه إلى المؤمنين ويكشفون لهم ما يلتبس عليهم فكذلك الماهر. وقال التوربشتي: المعنى الجامع بين الماهر بالقرآن وبين الملأ المكرمين إن الماهر بالقرآن تعلم التنزيل واستظهره حتى صار من خزنة الوحي وأمناء الكتاب وحفظة السِفر الكريم، ليسفر عن الأمة بما استبهم عليهم من ذلك، ويبين لهم حقائقه كما أن السفرة يردونه إلى أنبياء الله المرسلين ويكشفون به الغطاء مما التبس عليهم من الأمور المكنونة حقائقها (الكرام) جمع الكريم، أي المكرمين على الله المقربين عنده لعصمتهم ونزاهتهم عن دنس المعصية

البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه، وهو عليه شاق، له أجران)) متفق عليه. 2133 - (5) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا حسد ـــــــــــــــــــــــــــــ والمخالفة. (البررة) جمع البار أي المطيعين من البر وهو الطاعة (ويتتعتع فيه) أي يتردد في تلاوته لضعف حفظه. وقال القاري: أي يتردد ويتبلد عليه لسانه ويقف في قراءته لعدم مهارته، والتعتعة في الكلام التردد فيه من حصر أوعى يقال تعتع لسانه إذا توقف في الكلام ولم يطعه لسانه (وهو) أي القرآن أي حصوله (عليه) أي على ذلك القاري (شاق) أي شديد يصيبه مشقة جملة حالية (له أجران) أي أجر لقراءته وأجر لتحمل مشقته، وهذا تحريض على تحصيل القراءة. قال النووي: له أجران أجر بالقراءة، وأجر بتعتعته في تلاوته ومشقته، وليس معناه أن الذي يتتعتع عليه له من الأجر أكثر من الماهر به، بل الماهر أفضل وأكثر أجراً، لأنه مع السفرة وله أجور كثيرة، ولم يذكر هذه المنزلة لغيره، وكيف يلحق به من لم يعتن بكتاب الله تعالى وحفظه وإتقانه وكثرة تلاوته ودرايته كاعتناءه حتى مهر فيه- انتهى. قلت: اختلف هل له ضعف أجر الماهر أو يضاعف له أجره وأجر الماهر أعظم وأكثر. قال ابن التين، وغيره: هذا أظهر لأن المضاعفة للماهر لا تحصى فإن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف، وأكثر والأجر شي مقدر وهذا له أجران من تلك المضاعفات. قال القسطلاني: ولمن رجح القول الأول أن يقول الأجر على قدر التعب والمشقة لكن لا نسلم أن الحافظ الماهر خال من مشقة لأنه لا يصير كذلك إلا بعد عناء كثير ومشقة شديدة غالباً (متفق عليه) أخرجه البخاري في تفسير سورة عبس ومسلم في فضال القرآن واللفظ له، وأخرجه أيضاً الترمذي في فضائل القرآن وأبوداود في أواخر الصلاة وابن ماجه في ثواب القرآن والدارمي. 2133- قوله: (لا حسد) أي لا غبطة. قال الحافظ: الحسد تمني زوال النعمة عن المنعم عليه، وخصه بعضهم بأن يتمنى ذلك لنفسه، والحق إنه أعم وصاحبه مذموم إذا عمل بمقتضى ذلك من تصميم أو قول أو فعل وينبغي لمن خطر له ذلك أن يكرهه كما يكره ما وضع في طبعه من حب المنهيات واستثنوا من ذلك ما إذا كانت النعمة لكافر أو فاسق يستعين بها على معاصي الله تعالى، فهذا حكم الحسد بحسب حقيقته. وأما الحسد المذكور في الحديث فهو الغبطة وأطلق الحسد عليها مجازاً، وهي أن يتمنى أن يكون له مثل ما لغيره من غير أن يزول عنه، والحرص على هذا يسمى منافسة فإن كان في الطاعة فهو محمود، ومنه {فليتنافس المتنافسون} [المطففين: 26] وإن كان في المعصية فهو مذموم ومنه (ولا تنافسوا) ، وإن كان في الجائزات فهو مباح، فكأنه قال في الحديث لا غبطة أعظم أو أفضل من الغبطة في هذين الأمرين- انتهى. وقال النووي قال العلماء: الحسد قسمان: حقيقي. ومجازي. فالحقيقي؟ تمني زوال النعمة عن صاحبها وهذا حرام باجماع الأمة مع النصوص الصحيحة. وأما

إلا على اثنين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله مالاً، فهو ينفق منه آناء الليل وآناء النهار)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ المجازي فهو الغبطة وهو أن يتمنى مثل النعمة التي على غيره من غير زوالها عن صاحبها، فإن كانت من أمور الدنيا كانت مباحة وإن كانت طاعة فهي مستحبة، والمراد بالحسد في هذا الحديث معناه المجازي أي لا غبطة محبوبة إلا في هاتين الخصلتين، وما في معناهما، وحاصله أنه لا تنبغي الغبطة في الأمور الخسيسة. وإنما تنبغي في الأمور الجليلة كالقيام بالقرآن والجود، قلت: ويؤيد إرادة الغبطة ما عند البخاري في فضائل القرآن من حديث أبي هريرة بلفظ: فسمعه جار له فقال ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل فلان فلم يتمن الزوال والسلب بل أن يكون مثله (إلا على اثنين) أي إلا على وجود شيئين أو في أمرين. وفي رواية إلا في اثنتين وكذا في حديث ابن مسعود عند الشيخين وغيرهما، وحديث أبي هريرة عند البخاري. قال الحافظ: تقول حسدته على كذا أي على وجود ذلك له. وأما حسدته في كذا فمعناه حسدته في شأن كذا وكأنها سببية. وقال العيني بعد ذكر الروايتين: كلمة" على" تأتي بمعنى "في" كما في قوله تعالى: {ودخل المدينة على حين غفلة} [القصص: 15] وقوله {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان} [البقرة: 102] أي في ملكه- انتهى. ومعنى إلا في اثنتين أي لا حسد محموداً إلا في شأن خصلتين (رجل) بالجر على البدلية. وقيل: بالرفع على تقديرهما أو أحدهما أمر رجل أو خصلة رجل فلما حذف المضاف اكتسب إليه إعرابه (آتاه الله) بالمد في أوله أي أعطاه من الإيتاء، وهو الإعطاء (القرآن) أي من عليه بحفظه له كما ينبغي وبتعليمه (فهو يقوم به) المراد بالقيام به العمل مطلقاً أعم من تلاوته داخل الصلاة أو خارجها، ومن تعليمه والحكم والفتوى بمقتضاه. ولأحمد من حديث يزيد بن الأخنس السلمي رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ويتبع ما فيه، ولفظ حديث ابن مسعود رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها، واللام في "الحكمة" للعهد لأن المراد بها القرآن فلا تخالف بين لفظي الحديثين (آناء الليل وآناء النهار) قال النووي: أي ساعاتهما وواحده إناً وأناً وإني وإنو أربع لغات- انتهى. وقال في الصراح: آناء الليل ساعاته واحدها إني مثل مِعي وإمعاء وإني وإنو أيضاً. يقال: مضى إنوان وأنيان من الليل-انتهى. (ورجل) بالوجهين (آتاه الله مالاً) نكرة ليشمل القليل والكثير (فهو ينفق) أي لله في وجوه الخير ففي رواية لأحمد فهو ينفقه في الحق وفي رواية لمسلم فتصدق به، وكذا عند ابن حبان (ج1ص290) قال فيه بيان إن قوله - صلى الله عليه وسلم - "فهو ينفق منه آناء الليل وآناء النهار أراد به فهو يتصدق به (منه) كذا في جميع النسخ، وكذا في المصابيح وهي رواية أحمد (ج2ص36- 88) والترمذي وابن حبان، والذي في صحيحي البخاري ومسلم فهو ينفقه (آناء الليل وآناء النهار) أي أوقاتهما سراً وعلانية (متفق عليه) أخرجه البخاري في

2134- (6) وعن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة، ـــــــــــــــــــــــــــــ فضائل القرآن وفي التوحيد، ومسلم في فضائل القرآن وأخرجه أيضاً أحمد (ج2ص9، 36، 88، 133) والترمذي في فضائل القرآن وابن ماجه في الزهد، وابن حبان (ج1ص289، 290) . 2134- قوله: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن) أي ويعمل به كما في الرواية الآتية وهي زيادة مفسرة للمراد، وإن التمثيل وقع للذي يقرأ القرآن ولا يخالف ما اشتمل عليه من أمر ونهي لا مطلق التلاوة. وعبر بالمضارع لإفادة تكريره لها ومداومته عليها حتى صارت دأبه وعادته، كفلان يقري الضيف ويحمي الحريم ويعطي اليتيم. قال القسطلاني: إثبات القراءة في قوله يقرأ القرآن على صيغة المضارع ونفيها في قوله لا يقرأ ليس المراد منها حصولها مرة ونفيها بالكلية، بل المراد منهما الاستمرار والدوام عليها، وإن القراءة دأبه وعادته أو ليس ذلك من هجيراه كقولك فلان يقري الضيف ويحمي الحريم (مثل الأترجة) بضم الهمزة والراء بينهما مثناة ساكنة وآخره جيم مشددة مفتوحة، وفيه لغات. قال في القاموس: الأترج والأترجة والترنج والترنجة معروف، وهي أحسن الثمار الشجرية وأنفسها عند العرب انتهى. قال التوربشتي: المثل عبارة عن المشابهة بغيره في معنى من المعاني لإدناء المتوهم عن المشاهد، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخاطب بذلك العرب ويحاورهم ولم يكن ليأتي في الأمثال بما لم تشاهده فيجعل ما أورده للتبيان مزيداً للإبهام، بل يأتيهم بما شاهدوه وعرفوه ليبلغ ما انتحاه من كشف الغطاء ورفع الحجاب، ولم يوجد فيما أخرجته الأرض من بركات السماء. لا سيما من الثمار الشجرية التي آنستها العرب في بلادهم أبلغ في هذا المعنى من الأترجة بل هي أفضل ما يوجد من الثمار في سائر البلدان الأخرى وأجدى لأسباب كثيرة جامعة للصفات المطلوبة منها والخواص الموجودة فيها، فمن ذلك كبر جرمها وحسن منظرها وطيب طعمها ولين ملمسها وذكاء أرجها تملأ الأكف بكبر جرمها ويكسيها لينا، وتفعم الخياشيهم طيباً، ويأخذ بالأبصار صبغة ولوناً فاقع لونها تسر الناظرين تتوق إليها النفس قبل التناول تفيد آكلها بعد الالتذاذ بذواقها طيب نكهة، ودباغ معدة، وقوة هضم، اشتركت الحواس الأربع دون الاحتظاء بها البصر والذوق والشم واللمس، وهذه الغاية القصوى في انتهاء الثمرات إليها وتدخل أجزاءها الأربع في الأدوية الصالحة للأدواء المزمنة. والأوجاع المقلقة والأسقام الخبيثة والأمراض الردية كالفالج واللقوة والبرص واليرقان واسترخاء العصب والبواسير (إلى آخر ما قال) . وقال الحافظ: قيل الحكمة في تخصيص الأترجة بالتمثيل دون غيرها من الفاكهة التي يجمع طيب الطعم والريح كالتفاحة، لأنه يتداوى بقشرها وهو مفرح بالخاصية، ويستخرج من حبهادهن له منافع وقيل: إن الجن لا تقرب البيت الذي فيه الأترج، فناسب أن يمثل به القرآن الذي لا تقربه الشياطين، وغلاف

ريحها طيب. وطعمها طيب. ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة، لا ريح لها وطعمها حلو. ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة، ليس لها ريح وطعمها مر. ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة، ـــــــــــــــــــــــــــــ حبة أبيض فيناسب قلب المؤمن، وفيها أيضاً من المزايا كبر جرمها وحسن منظرها وتفريح لونها ولين ملمسها وفي أكلها مع الالتذاذ طيب نكهة ودباغ معدة وجودة هضم، ولها منافع أخرى مذكورة في المفردات- انتهى. (ريحها طيب وطعمها طيب) قيل: خص صفة الإيمان بالطعم وصفة التلاوة بالريح لأن الإيمان ألزم للمؤمن من القرآن، إذ يمكن حصول الإيمان بدون القراءة، وكذلك الطعم ألزم للجوهر من الريح. فقد يذهب ريح الجوهر ويبقى طعمه. وقيل: شبه الإيمان بالطعم الطيب لكونه خيراً باطنياً لا يظهر لكل أحد، والقرآن بالريح الطيب ينتفع بسماعه كل أحد ويظهر بمحاسنه لكل سامع. وقال المظهري: فالمؤمن الذي يقرأ القرآن هكذا من حيث أن الإيمان في قلبه ثابت طيب الباطن، ومن حيث أنه يقرأ القرآن ويستريح الناس بصوته ويثابون بالاستماع إليه ويتعلمون منه طيب الريح مثل الأترجة يستريح الناس بريحها (ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن) أي ويعمل به كما في الرواية الآتية (مثل التمرة) بالمثناة الفوقية وسكون الميم (وطعمها حلو) بضم الحاء وسكون اللام (كمثل الحنظلة) الحنظل، نبات يمتد على الأرض كالبطيخ، وثمره يشبه ثمر البطيخ، لكنه أصغر منه جداً، ويضرب المثل بمرارته. (مثل الريحانة) هي كل نبت طيب الريح من أنواع المشموم. قال الطيبي: إن هذا التشبيه والتمثيل في الحقيقة وصف لموصوف اشتمل على معنى معقول صرف لا يبزره عن مكنونه إلا تصويره بالمحسوس المشاهد، ثم إن كلام الله المجيد له تأثير في باطن العبد وظاهره، وإن العباد متفاوتون في ذلك، فمنهم من له النصيب الأوفر من ذلك التأثير وهو المؤمن القاريء، ومنهم من لا نصيب له البتة وهو المنافق الحقيقي، ومنهم من تأثر ظاهره دون باطنه وهو المرائي أو بالعكس، وهو المؤمن الذي لا يقرؤه. وإبراز هذه المعاني وتصويرها إلى المحسوسات ما هو مذكور في الحديث ولم يجد ما يوافقها ويلائمها أقرب ولا أحسن ولا أجمع من ذلك، لأن المشبهات والمشبه بها واردة على التقسيم الحاصر لأن الناس إما مؤمن أو غير مؤمن، والثاني إما منافق صرف أو ملحق به، والأول إما مواظب على القراءة أو غير مواظب عليها فعلى هذا قس الأثمار المشبه بها، ووجه الشبه في المذكورات منتزع من أمرين محسوسين طعم وريح وليس بمفرق كما في قول إمرىء القيس: كان قلوب الطير رطباً ويابساً لدى وكرها العناب والحشف البالي -انتهى. وقال التوربشتي: إن الشارع صلى الله عليه وسلم أشار في ضرب هذا المثل إلى معان لا يهتدي إليها إلا

ريحها طيب وطعمها مر)) متفق عليه. وفي رواية: ((المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به كالأترجة، والمؤمن الذي لا يقرأ القرآن ويعمل به كالتمرة)) . 2135- (7) وعن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ من أيد بالتوفيق، فمنها أنه ضرب المثل بما يتنبه الأرض ويخرجه الشجر للمشابهة التي بينها وبين الأعمال، فإنها من ثمرات النفوس، والمثل، وإن ضرب المؤمن نفسه فإن العبرة فيه بالعمل الذي يصدر منه، لأن الأعمال هي الكاشفة عن حقيقة الحال. ومنها أنه ضرب مثل المؤمن بالأترجة والتمرة وهما مما يخرجه الشجر، وضرب مثل المنافق بما تنبته الأرض تنبيهاً على علو شأن المؤمن وارتفاع عمله، ودوام ذلك وبقاءه ما لم ييبس الشجرة، وتوقيفاً على ضعة شأن المنافق وإحباط عمله وقلة جدواه وسقوط منزلته. ومنها إن الأشجار المثمرة لا تخلو عمن يغرسها فيسقيها ويصلح أودها ويربيها، وكذلك المؤمن يقيض له من يؤد به ويعلمه ويهذبه ويلم شعثه ويسويه، ولا كذلك الحنظلة المهملة المتروكة بالعراء أذل من نقع الفلذ، والمنافق الذي وكل إلى شيطانه وطيعه وهواه والله أعلم- انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في فضائل القرآن والأطعمة، والتوحيد، ومسلم في فضائل القرآن، والسياق المذكور للبخاري في الأطعمة وأخرجه أيضاً أحمد (ج4ص397، 403- 404، 408) والترمذي في الأمثال والنسائي في الإيمان وابن ماجه في السنة والدارمي في فضائل القرآن وابن حبان في صحيحه (ج1ص285) وأخرجه أبوداود في الأدب من حديث أنس (وفي رواية الخ) هذه الرواية من أفراد البخاري أوردها في آخر فضائل القرآن (المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به) فيه دليل على أن المقصود من تلاوة القرآن العمل بما دل عليه لا مطلق التلاوة، وهي زيادة مفسرة للمراد من الرواية السابقة التي لم يقل فيها ويعمل به، وفي الحديث فضيلة حامل القرآن وقارئه وضرب المثل للتقريب للفهم. 2135- قوله: (إن الله يرفع بهذا الكتب) أي بالإيمان به وتعظيم شأنه والعمل به، والمراد بالكتاب القرآن البالغ في الشرف وظهور البرهان مبلغاً، لم يبلغه غيره من الكتب المنزلة على الرسل المتقدمة. قال الطيبي: أطلق الكتب على القرآن ليثبت له الكمال، لأن اسم الجنس إذا أطلق على فرد من أفراده يكون محمولاً على كماله. وبلوغة إلى حد هو الجنس كله كأن غيره ليس منه (أقواماً) أي درجة أقوام ويكرمهم في الدارين بأن يحييهم حياة طيبة في الدنيا، ويجعلهم من الذين أنعم الله عليهم في العقبى (ويضع) أي يذل (به) أي بالإعراض عنه وترك العمل بمقتضاه (آخرين) وهم من لم يؤمن به أو من آمن به ولم يعمل به قال تعالى: {يضل به كثيراً

رواه مسلم. 2136 - (8) وعن أبي سعيد الخدري، إن أسيد بن حضير، قال: ((بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة، وفرسه مربوطة عنده إذا جالت الفرس، فسكت فسكنت فقرأ فجالت، فسكت فسكنت، ثم قرأ فجالت الفرس، ـــــــــــــــــــــــــــــ ويهدي به كثيراً} [البقرة: 26] وقال: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً} [الإسراء: 82] قال الطيبي: فمن قرأه وعمل بمقتضاه مخلصاً رفعه الله، ومن قرأه مرائياً غير عامل به وضعه الله أسفل السافلين (رواه مسلم) في فضائل القرآن من رواية عامر بن واثلة إن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بعسفان وكان عمر يستعمله على مكة فقال من استعملت على أهل الوادي. فقال ابن أبزى: فقال ومن ابن أبزى قال: مولى من موالينا قال فاستخلف عليهم مولى قال: إنه قاريء لكتاب الله عزوجل وإنه عالم بالفرائض. قال عمر: أما إن نبيكم - صلى الله عليه وسلم - قد قال إن الله يرفع بهذا الكتاب إلخ. قال الأبي: المعنى إن هذا الأمير رفعه الله عزوجل على هؤلاء المؤمر عليهم. وقال بعضهم: إن الله سبحانه وتعالى يرفع من عمل بالعلم ويضع من لم يعمل به، والعلم من حيث أنه علم لا يضع، والحديث أخرجه أيضاً أحمد (ج1ص35) وابن ماجه في السنة والدارمي في فضائل القرآن. 2136- قوله: (إن أسيد بن حضير) بالتصغير فيهما والحاء المهملة والضاد المعجمة (قال) أي يحكي عن نفسه (بينما) بالميم (هو) أي أسيد (يقرأ من الليل) أي في الليل. وقال القاري: أي في بعض أجزاء الليل وساعاته، وفي رواية مسلم بينما هو ليلة يقرأ في مربده بكسر الميم وفتح الباء الموحدة، هو الموضع الذي ييبس فيه التمر كالبيدر للحنطة ونحوها. (سورة البقرة) وفي حديث البراء الآتي إنه كان يقرأ سورة الكهف. وقد قيل: إن الرجل الذي كان يقرأها هو أسيد بن حضير. قال الكرماني: لعله قرأهما يعني السورتين الكهف والبقرة أو كان ذلك الرجل هو غير أسيد بن حضير، هذا هو الظاهر (وفرسه مربوطة) وفي رواية مربوط بالتذكير وهما صحيحان لأن الفرس يقع على الذكر والأنثى (إذا جالت) كذا في رواية مسلم، وفي البخاري إذ جالت قال العيني: هو جواب لقوله بينما هو يقرأ. وقال القاري: هو ظرف ليقرأ وجالت من الجولان أي وثبت واضطربت شديداً. وقيل: أي دارت وتحركت كالمضطرب المنزعج من مخوف نزل به (فسكت) أي أسيد عن القراءة (فسكنت) أي الفرس عن الاضطراب. قيل: تحرك الفرس كان لنزول الملائكة لاستماع القرآن خوفاً منهم، وسكونها لعروجهم إلى السماء أو لعدم ظهورهم أو تحرك الفرس لوجدان الذوق بالقراءة، وسكونها لذهاب ذلك

فانصرف، وكان ابنه يحيى قريباً منها، فأشفق أن تصيبه، ولما أخره رفع رأسه إلى السماء، فإذا مثل الظلة فيها، أمثال المصابيح، فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إقرأ يا ابن حضير! إقرأ يا ابن حضير! ـــــــــــــــــــــــــــــ الذوق منها بترك القراءة ذكره القاري (فانصرف) أي أسيد من الصلاة (وكان ابنه) أي ابن أسيد (يحيى) قال الحافظ: يحيى بن أسيد بن حضير الأنصاري ذكر ابن القداح أنه شهد الحديبية مع أبيه. وقال أبوعمر: كان في سن من يحفظ ولا أعلم له رواية وبه كان يكنى أبوه أسيد بن حضير (قريباً منها) أي من الفرس في ذلك الوقت (فأشفق) أي خاف أسيد (أن تصيبه) أي الفرس ابنه يحيى في جولانها فذهب أسيد إلى ابنه ليؤخره عن الفرس. (ولما أخره) بخاء معجمة مشددة وراء من التأخير أي أخر أسيد ابنه يحيى عن الموضع الذي كان به خشية عليه، يعني أخره عن قرب الفرس، وهذه رواية القابسى. ووقع عند غيره فلما اجتره بجيم وتاء مثناة من فوق وراء مشددة من الاجترار، أي فلما جر أسيد ابنه من المكان الذي هو فيه حتى لا تطأه الفرس (رفع رأسه إلى السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح) كذا في جميع النسخ من المشكاة وهكذا في جامع الأصول (ج9ص279) والذي في البخاري رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها. قال الحافظ: كذا فيه باختصار، وقد أورده أبوعبيد (في فضائل القرآن) كاملاً ولفظه رفع رأسه إلى السماء فإذا هو بمثل الظلة فيها أمثال المصابيح عرجت إلى السماء حتى ما يراها، وفي رواية إبراهيم بن سعد (عند مسلم والنسائي) فقمت إليها فإذا مثل الظلة فوق رأسي فيها أمثال السرج فعرجت في الجو حتى ما أراها- انتهى. ولم أجد السياق الذي ذكره المصنف عند البخاري، والظاهر أنه تبع في ذلك الجزري، وقوله "إذا" للمفاجأة، والظلة بضم الظاء المعجمة وتشديد اللام هي الغاشية. وقيل السحابة ذكره المنذري. وقال العيني: هي شي مثل الصفة فأول بسحابة تظلل. وقال القاري: هي ما يقي الرجل من الشمس كالسحاب والسقف وغير ذلك أي شي مثل السحاب على رأسه بين السماء والأرض. وقال ابن بطال: هي السحابة كانت فيها الملائكة ومعها السكينة فإنها تنزل أبداً مع الملائكة- انتهى. والضمير في فيها للظلة، والمصابيح جمع مصباح أي أمثال السرج (فلما أصبح) أي أسيد (حدث النبي صلى الله عليه وسلم) أي حكاه بما رآه لفزعه منه (فقال إقرأ يا ابن حضير إقرأ يا ابن حضير) مرتين، وفي رواية مسلم ثلاث مرات، ومعناه كان ينبغي لك أن تستمر على قراءتك وتغتنم ما حصل لك من نزول السكينة والملائكة، وتسكثر من القراءة التي هي سبب بقاءها قاله النووي. قال الطيبي: يريد أن أقرأ لفظ أمر وطلب للقراءة في الحال، ومعناه تحضيض وطلب للاستزادة في الزمان الماضي أي هلا زدت وكأنه صلى الله عليه وسلم استحضر تلك الحالة العجيبة الشأن فأمره تحريضاً عليه

قال: فأشفقت يا رسول الله! أن تطأ يحيى، وكان منها قريباً، فانصرفت إليه ورفعت رأسي إلى السماء، فإذا مثل الظلة، فيها أمثال المصابيح، فخرجت حتى لا أراها. قال: وتدري ما ذاك؟ قال: لا تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تثوارى منهم. متفق عليه)) . واللفظ للبخاري، وفي مسلم: عرجت ـــــــــــــــــــــــــــــ والدليل على أن المراد من الأمر الاستزادة وطلب دوام القراءة والنهى عن قطعها قوله "فأشفقت" إلخ. وقال الحافظ: قوله "إقرأ يا ابن حضير" أي كان ينبغي أن تستمر على قراءتك وليس أمراً له بالقراءة في حالة التحديث وكأن استحضر صورة الحال، فصار كأنه حاضر عنده لما رآى ما رآى فكأنه يقول استمر على قراءتك لتستمر لك البركة بنزول الملائكة واستماعها لقراءتك، وفهم أسيد ذلك فأجاب بعذره في قطع القراءة وهو قوله (فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى) أي خشيت أن استمريت على القراءة أن تطأ الفرس ولدى، ودل سياق الحديث على محافظة أسيد على خشوعه في صلاته لأنه كان يمكنه أول ما جالت الفرس أن يرفع رأسه وكأنه كان بلغه حديث النهي عن رفع المصلي رأسه إلى السماء فلم يرفعه حتى اشتد به الخطب. ويحتمل أن يكون رفع رأسه بعد انقضاء صلاته، فلهذا تمادى به الحال ثلاث مرات- انتهى كلام الحافظ. وقال السندي علم من أول الأمر إن ما حصل لفرسه من علامات إن قراءته مقبولة محضورة فأمره بالقراءة فيما بعد لما ظهر فيها من البركات أو هذا الأمر منه لبيان إنك لا تجعل مثله مانعاً من القراءة فيما بعد بل امض على قراءتك فيما بعد والله أعلم. (فانصرفت) وفي رواية وانصرفت (إليه) أي انصرفت عن الصلاة إلى يحيى ترحما عليه (ورفعت) وفي البخاري فرفعت (فخرجت) أي من بيتي (حتى لا أراها) أي الظلة أو المصابيح. قال القسطلاني: قوله "فخرجت" بالخاء والجيم كذا لجميعهم. قال عياض: وصوابه فعرجت بالعين- انتهى. قلت: وهكذا وقع عند مسلم، والنسائي وأبي عبيد (دنت) أي نزلت وقربت (لصوتك) أي بالقراءة، وفي رواية مسلم كانت تستمع لك، وعند أبي عبيد وكان أسيد بن حضير حسن الصوت، وعند الإسماعيلي إقرأ أسيد فقد أوتيت من مزامير آل داود. وفيه إشارة إلى الباعث على استماع الملائكة لقراءته (ولو قرأت) أي ولو دمت على قراءتك، وعند أبي عبيد أما إنك لو مضيت (لأصبحت) أي الملائكة (لا تتوارى منهم) أي لا تخفى ولا تستتر الملائكة من الناس، وعند أبي عبيد لرأيت الأعاجيب (متفق عليه) أخرجاه في فضائل القرآن وأخرجه الحاكم (ج1ص554) بنحوه باختصار، وقال فيه فالتفت فإذا أمثال المصابيح مدلاة بين السماء والأرض فقال يا رسول الله! ما استطعت أن أمضي فقال تلك الملائكة نزلت لقراءة القرآن أما إنك لو مضيت لرأيت العجائب. وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي. (عرجت)

في الجو، بدل: فخرجت على صيغة المتكلم. 2137 - (9) وعن البراء، قال: ((كان رجل يقرأ سورة الكهف، وإلى جانبه حصان مربوط بشطنين، فتغشته سحابة، فجعلت تدنو وتدنو، وجعل فرسه ينفر، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له فقال: ـــــــــــــــــــــــــــــ من العروج على صيغة المؤنث الغائبة أي صعدت الملائكة وارتفعت فيه لكونه قطع القراءة التي نزلت لسماعها. (في الجو) بفتح وتشديد الواو ما بين السماء والأرض (بدل فخرجت) أي مكان هذه الكلمة (على صيغة المتكلم) أي في هذه وعلى صيغة الغائبة في تلك. قال الحافظ قال النووي: في هذا الحديث جواز رؤية آحاد الأمة للملائكة كذا أطلق وهو صحيح لكن الذي يظهر التقييد بالصالح مثلاً والحسن الصوت. قال، وفيه فضيلة قراءة القرآن وإنها سبب نزول الرحمة وحضور الملائكة. قلت: (قائلة الحافظ) الحكم المذكور أعم من الدليل فالذي في الرواية إنما نشأ عن قراءة خاصة من سورة خاصة بصفة خاصة، ويحتمل من الخصوصية مالم يذكر وإلا لو كان على الإطلاق لحصل ذلك لكل قاريء، وقد أشار في آخر الحديث بقوله لا تتوارى منهم إلى أن الملائكة لاستغراقهم في الاستماع كانوا يستمرون على عدم الاختفاء الذي هو من شأنهم، وفيه منقبة لأسيد بن حضير وفضل قراءة سورة البقرة في صلاة الليل، وفضل الخشوع في الصلاة وإن التشاغل بشي من أمور الدنيا ولو كان من المباح قد يفوت الخير الكثير فكيف لو كان بغير المباح- انتهى. 2137-قوله: (كان رجل) قيل هو أسيد بن حضير كما تقدم من حديثه نفسه لكن فيه أنه كان يقرأ سورة البقرة، وفي هذا أنه كان يقرأ سورة الكهف. قال الحافظ: وهذا ظاهره التعدد. وقد وقع قريب من القصة التي لأسيد لثابت بن قيس بن شماس لكن في سورة البقرة أيضاً، وأخرج أبوداود من طريق مرسلة. قال قيل: للنبي - صلى الله عليه وسلم - ألم تر ثابت بن قيس لم تزل داره البارحة تزهر بمصابيح قال، فلعله قرأ سورة البقرة فسئل قال قرأت سورة البقرة، ويحتمل أن يكون قرأ سورة البقرة وسورة الكهف جميعاً أو من كل منهما- انتهى كلام الحفظ. (حصان) بكسر الحاء وفتح الصاد المهملتين فحل كريم من الخيل. قال القاري: هو الكريم من فحل الخيل من التحصن أو التحصين، لأنهم يحصونه صيانه لماءه فلا ينزونه إلا على كريمة ثم كثر ذلك حتى سموا به كل ذكر من الخيل والجملة حالية. (بشطنين) تثنية شطن بفتح الشين المعجمة والطاء المهملة آخره نون وهو الحبل الطويل الشديد الفتل ولعله ربط باثنين لأجل جموحه وشدة صعوبته (فتغشته) أي الرجل (سحابة) أي سترته ظلة كسحابة فوق رأسه (فجعلت) أي شرعت السحابة (تدنو وتدنو) مرتين أي تقرب منه قليلاً قليلاً (وجعل) أي شرع (فرسه) المربوط بشطنين (ينفر) بفتح أوله وكسر الفاء من النفور. وقد وقع في رواية لمسلم تنقز بقاف وزاي وخطأه عياض. قال

تلك السكينة تنزلت بالقرآن)) . متفق عليه. 2138 - (10) وعن أبي سعيد بن المعلى. قال: ((كنت أصلي في المسجد فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم فلم أجبه ـــــــــــــــــــــــــــــ الحافظ: فإن كان من حيث الرواية فذاك وإلا فمعناها واضح- انتهى. وقال النووي: معنى ينقز بالقاف والزاي يثب (تلك السكينة) قال القاري: أي السكون والطمأنينة التي يطمئن إليها القلب ويسكن بها عن الرعب. قال الطيبي: فإن المؤمن تزداد طمأنينة بأمثال هذه الآيات إذا كوشف بها. وقيل: هي الرحمة. وقيل: الوقار. وقيل: ملائكة الرحمة- انتهى. وقال النووي: قد قيل في معنى السكينة هنا أشياء المختار منها إنها شي من مخلوقات الله تعالى فيه طمأنينة ورحمة ومعه الملائكة (تنزلت) بتاء ونون وتشديد الزاي وبعد اللام تاء تأنيث، وفي رواية الكشمهيني تتنزل بتائين بلا تاء تأنيث بعد اللام (بالقرآن) أي بسببه ولأجله وفي رواية الترمذي نزلت مع القرآن أو على القرآن. قال التوربشتي: وإظهار هذه الأمثال للعباد من باب التائيد الإلهي يؤيد به المؤمن، فيزداد يقيناً ويطمئن قلبه بالإيمان إذا كوشف بها (متفق عليه) أخرجه البخاري في تفسير سورة الفتح وفي فضائل القرآن، وأخرجه مسلم فيه وكذا الترمذي، وأخرجه أحمد (ج4ص281، 284، 293، 298) . 2138- قوله: (وعن أبي سعيد بن المعلى) بضم الميم وفتح العين واللام المشددة على لفظ اسم مفعول من التعلية. واختلف في اسم أبي سعيد. فقيل: اسمه رافع بن المعلى. وقيل: الحارث بن المعلى. وقيل: أوس بن المعلى. وقيل: الحارث بن أوس بن المعلى. وقيل: الحارث بن نفيع بن المعلى. قال ابن عبد البر: من قال فيه رافع بن المعلى فقد أخطأ لأن رافع بن المعلى قتل ببدر، وأصح ما قيل فيه الحارث بن نفيع بن المعلى بن لوذان بن حارثة بن زيد بن ثعلبة من بني زريق الأنصاري الزرقي أمه أميمة بنت قرط بن خنساء من بني سلمة له صحبة يعد في أهل الحجاز مات سنة (73) وقيل (74) وهو ابن أربع وثمانين سنة. قال ابن عبد البر: لا يعرف في الصحابة إلا بحديثين. أحدهما: هذا يعني الذي نحن في شرحه، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث. والثاني: عند الليث بن سعد. قال أبوسعيد بن المعلى: كنا نغدو إلى السوق على عهد رسول الله صلى الله عليه فنمر على المسجد فنصلي فيه فمررنا يوماً ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر: فقلت لقد حدث أمر فجلست فقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية {قد نرى تقلب وجهك في السماء} [البقرة: 144] حتى فرغ من الآية فقلت لصاحبي تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول - صلى الله عليه وسلم - فنكون أول من صلى فتوارينا بعماد فصليناهما، ثم نزل رسول - صلى الله عليه وسلم - فصلى للناس الظهر يؤمئذ (كنت أصلي في المسجد) أي سجد النبي صلى الله عليه وسلم (فلم أجبه) لأنه صلى الله عليه وسلم منعهم من الكلام في الصلاة ومن قطعها، وظن

ثم أتيته. فقلت: يا رسول الله! إني كنت أصلي قال: ألم يقل الله "استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم" ثم قال: ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد؟ فأخذ بيدي، فلما أردنا أن نخرج قلت: يا رسول الله! إنك قلت لأعلمنك أعظم سورة من القرآن)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبوسعيد أن الخطاب في الآية لمن هو خارج عن الصلاة، وزاد في تفسير سورة الأنفال حتى صليت وكذا وقعت هذه الزيادة في المصابيح وبعض نسخ المشكاة (استجيبوا) أي أجيبوا فالسين زائدة للتأكيد (لله وللرسول إذا دعاكم) قال صاحب المدارك: المراد بالاستجابة الطاعة والامتثال وبالدعوة البعث والتحريض، ووحد الضمير ولم يثنه لأن استجابة الرسول كاستجابة الباري جل وعلا. وإنما يذكر أحدهما مع الآخر للتوكيد. وقيل: وحد الضمير لأن دعوة الله تسمع من الرسول. وقوله تعالى {لما يحيكم} [الأنفال: 24] أي من علوم الديانات والشرائع، لأن العلم حياة كما أن الجهل موت، وفيه دليل على أن إجابة النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة فرض يعصي المرأ بتركه، وأنه حكم يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم. واختلف في أن إجابة الرسول تبطل الصلاة أم لا، فقال بعض الشافعية لا تبطلها، لأن الصلاة أيضاً إجابة. قال الطيبي والبيضاوي: ظاهر الحديث يدل على هذا. وقيل: كان دعاه لأمر لا يحتمل التأخير وللمصلي أن يقطع الصلاة بمثله- انتهى. والأظهر من الحديث إن الإجابة واجبة مطلقاً في حقه - صلى الله عليه وسلم - كما يفهم من إطلاق الآية أيضاً، ولا دلالة في الحديث على البطلان وعدمه، وسيأتي مزيد الكلام في ذلك (ألا) بالتخفيف (أعلمك) من التعليم (أعظم سورة في القرآن) أي أفضل. وقيل: أكثر أجراً ومضاعفة في الثواب بحسب انفعالات النفس وخشيتها وتدبرها. قال ابن التين: معناه إن ثوابها أعظم من غيرها. وقال الطيبي: إنما قال أعظم سورة اعتباراً بعظيم قدرها وتفردها بالخاصية التي لم يشاركها فيها غيرها من السور ولاشتمالها على فوائد ومعان كثيرة مع وجازة ألفاظها- انتهى. واستدل به على جواز تفضيل بعض القرآن على بعض وقد سبق الكلام فيه (قبل أن تخرج) بالفوقية (من المسجد) قيل لم يعلمه بها ابتداء ليكون ذلك ادعى لتفريغ ذهنه وإقباله عليها بكليته (فأخذ بيدي) بالإفراد (فلما أردنا أن نخرج) من المسجد (إنك قلت لأعلمنك أعظم سورة من القرآن) قال القسطلاني: ولأبي ذر والأصيلي في القرآن. قال القاري: سميت سورة الفاتحة أعظم، لاشتمالها على المعاني التي في القرآن من الثناء على الله بما هو أهله والتعبد بالأمر والنهي وذكر الوعد، لأن فيه ذكر رحمة الله على الوجه الأبلغ الأشمل. وذكر الوعيد لدلالة يوم الدين أي الجزاء ولإشارة المغضوب عليهم عليه، وذكر تفرده بالملك وعبادة عباده إياه واستعانتهم بولاه وسؤالهم منه، وذكر السعداء والأشقياء وغير ذلك مما اشتمل عليه جميع منازل السائرين ومقامات السالكين ولا سورة بهذه المثابة في القرآن فهي أعظم

قال: الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ كيفية وإن كان في القرآن أعظم منها كمية (قال الحمد لله رب العالمين) خبر مبتدأ محذوف أي هي كما صرح بها في تفسير الأنفال عند البخاري. قال القاري: أي هي سورة الحمد لله رب العالمين فلا دلالة على كون البسملة منها أم لا- انتهى. وسيأتي مزيد الكلام في ذلك (هي السبع المثاني) اللام للعهد من قوله تعالى: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم} الآية [الحجر: 87] وفي هذا تصريح بأن المراد بالسبع المثاني في الآية الكريمة هو الفاتحة وهذا هو الحق، فإن قيل في الحديث السبع المثاني وفي القرآن سبعاً من المثاني. أجيب بأنه لا اختلاف بين الصيغتين إذا جعلنا من للبيان، وإنما سميت السبع لأنها سبع آيات بلا خلاف إلا أن منهم من عد أنعمت عليهم دون التسمية ومنهم من مذهبه على العكس قاله الزمخشري. قلت: الأول قول الحنفية والعكس قول الشافعي، فإنهم يعدون التسمية من الفاتحة ولا يعدون أنعمت عليهم آية. قال الطيبي: وعد التسمية أولى لأن أنعمت لا يناسب وزانه وزان فواصل السور، ولحديث ابن عباس بسم الله الرحمن الرحيم الآية السابعة. واختلف في تسميتها مثاني، فقيل لأنها تثنى على مرور الأوقات أي تكرر فلا تنقطع وتدرس فلا تندرس. وقيل: لأنها تثنى في كل ركعة أي تعاد. وقيل: لأنها تثنى بسورة أخرى أو لأنها نزلت مرة بمكة، ومرة بالمدينة تعظيماً واهتماماً بشأنها. وقيل: لأنها يثنى بها على الله تعالى. وقيل: لأنها استثنيت لهذه الأمة لم تنزل على من قبلها. والمثاني صيغة جمع، واحده مثناة، والمثناة كل شي يثنى، من قولك ثنيت الشيء ثنيا أي عطفته وضمت إليه آخر قاله القسطلاني. وقال العيني: هو جمع مثنى الذي هو معدول عن اثنين اثنين. وقيل: مثنى بمعنى الثناء كالمحمدة بمعنى الحمد. وقيل غير ذلك (والقرآن العظيم) عطف على السبع عطف صفة على صفة. وقيل: هو عطف عام على خاص. قال التوربشتي: إن قيل كيف صح عطف القرآن على السبع المثاني، وعطف الشيء على نفسه مما لا يجوز. قلت: ليس كذلك وإنما هو من باب ذكر الشيء بوصفين، أحدهما معطوف على الآخر والتقدير آتيناك ما يقال له السبع المثاني والقرآن العظيم، أي الجامع لهذين النعتين. وقال الطيبي: عطف القرآن على السبع المثاني المراد منه الفاتحة وهو من باب عطف العام على الخاص تنزيلاً للتغاير في الوصف منزلة التغاير في الذات، وإليه أومأ صلى الله عليه وسلم بقوله ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن حيث نكر السورة وأفردها ليدل على أنك إذا تقصيت سورة في القرآن وجدتها أعظم منها، ونظيره في النسق لكن من عطف الخاص على العام من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال- انتهى. وهو معنى قول الخطابي. قال الحافظ: وفيه بحث لاحتمال أن يكون قوله والقرآن العظيم محذوف الخبر، والتقدير ما بعد الفاتحة مثلاً فيكون وصف الفاتحة- انتهى. بقوله هي "السبع المثاني" ثم عطف قوله والقرآن العظيم أي ما زاد على الفاتحة وذكر ذلك رعاية لنظم الآية ويكون التقدير والقرآن العظيم هو الذي أوتيته زيادة على الفاتحة- انتهى: (الذي أوتيته) إشارة إلى قوله تعالى: {ولقد آتيناك}

رواه البخاري. 2139 - (11) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر ـــــــــــــــــــــــــــــ الآية [الحجر: 87] أو خصصته بالإعطاء، وفيه دليل على جواز إطلاق القرآن على بعضه، ويدل له قوله تعالى: {بما أوحينا إليك هذا القرآن} [يوسف: 3] يعني سورة يوسف. قال ابن التين: في قوله قال: {الحمد لله رب العالمين} [الفاتحة: 1] دليل على أن بسم الله الرحمن الرحيم ليست آية من القرآن كذا قال وعكس غيره لأنه السورة ويؤيده أنه لو أراد الحمد لله العالمين الآية لم يقل هي السبع المثاني، لأن الآية الواحدة لا يقال لها سبع فدل على أنه أراد بها السورة والحمد لله رب العالمين من أسمائها، وفيه قوة لتأويل الشافعي في حديث أنس، قال كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين. قال الشافعي: أراد السورة وتعقب بأن هذه السورة تسمى سورة الحمد لله ولا تسمى الحمد لله رب العالمين، وهذا الحديث يرد هذا التعقيب. قال الحافظ: وفي الحديث إن إجابة أراد المصلي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لا تفسد الصلاة هكذا صرح به جماعة من الشافعية وغيرهم، وفيه بحث لاحتمال أن تكون إجابته واجبة مطلقاً سواء كان المخطاب مصلياً أو غير مصل، إما كونه يخرج بالإجابة من الصلاة أولاً يخرج فليس من الحديث ما يستلزمه، فيحتمل أن تجب الإجابة ولو خرج المجيب من الصلاة إلى ذلك جنح بعض الشافعية، وهل يختص هذا الحكم بالنداء ويشمل ما هو أعم حتى تجب إجابته إذا سأل فيه بحث. وقد جزم ابن حبان بأن إجابة الصحابة في قصة ذي اليدين كان كذلك- انتهى. (رواه البخاري) أي بهذا اللفظ في فضائل القرآن وأخرجه أيضاً في تفسير الفاتحة والأنفال والحجر، وأخرجه أبوداود في أواخر الصلاة وابن ماجه في ثواب القرآن، والدارمي في فضائل القرآن، وأخرج أحمد والترمذي وابن خزيمة، والحاكم نحوه من حديث أبي هريرة لكن جعل القصة لأبي بن كعب كما سيأتي في الفصل الثاني. وجمع البيهقي بأن القصة وقعت لأبي بن كعب ولأبي سعيد بن المعلى. قال الحافظ: ويتعين المصير على ذلك لاختلاف مخرج الحديثين واختلاف سياقهما. 2139-قوله: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر) أي خالية عن الذكر والطاعة فتكون كالمقابر وتكونون كالموتى فيها قال التوربشتي: أي اجعلوا لبيوتكم حصة من الذكر والتلاوة والصلاة لئلا تكون كالمقابر التي تورط أهلها في مهاوي الفناء فقصرت مقدرتهم عن العمل، وذلك نظير قوله - صلى الله عليه وسلم - صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً، وقد مر الحديث مبين المعنى فيما تقدم من الكتاب- انتهى. وقيل: المعنى لا تدفنوا موتاكم فيها، ويدل على المعنى الأول قوله (إن الشيطان) استئناف كالتعليل (ينفر) بكسر الفاء أي يتباعد ويخرج ويشرد. قال النووي: هكذا

من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة)) . رواه مسلم. 2140 - (12) وعن أبي أمامة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اقرؤا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه، اقرؤا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو غيايتان ـــــــــــــــــــــــــــــ ضبطه الجمهور ينفر، ورواه بعض رواة مسلم يفر (أي من الفرار) وكلاهما صحيح. (من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة) وفي رواية الترمذي وإن البيت الذي تقرأ البقرة فيه لا يدخله الشيطان، وفي حديث سهل بن سعد عند ابن حبان من قرأها (يعني سورة البقرة) ليلاً لم يدخل الشيطان بيته ثلاث ليال، ومن قرأها نهاراً لم يدخل الشيطان ثلاثة أيام. وخص سورة البقرة بذلك لطولها وكثرة أسماء الله تعالى والأحكام فيها. وقد قيل: فيها ألف أمر، وألف نهى وألف حكم وألف خبر كذا في المرقاة. (رواه مسلم) في باب استحباب صلاة النافلة في بيته قبيل فضائل القرآن، وأخرجه أيضاً الترمذي في فضائل القرآن. 2140- قوله: (إقرؤا القرآن) أي اغتنموا قراءته وداوموا عليه (فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه) أي لقارئيه بأن يتمثل بصورة يراه الناس كما يجعل الله لأعمال العباد صورة ووزناً لتوضع في الميزان والله على كل شيء قدير، فليقبل المؤمن هذا وأمثاله ويعتقد بإيمانه أنه ليس للعقل في مثل هذا سبيل قاله العزيزي. (إقرؤا) أي على الخصوص (الزهراوين) تثنية الزهراء، تأنيث الأزهر، وهو المضيء الشديد الضوء أي المنيرتين لنورهما وهدايتهما وعظم أجرهما لقارئهما، فكأنهما بالنسبة إلى ما عداهما عند الله مكان القمرين من سائر الكواكب. قال في المفاتيح: سميتا الزهراوين لأنهما نوران: ولا شك إن نور كلام الله أشد وأكثر ضياء وكل سورة من سور القرآن زهراء لما فيها من نور بيان الأحكام والمواعظ وغير ذلك من الفوائد، ولما فيها من شفاء الصدور وتنوير القلوب وتكثر الأجر لقاريها. (البقرة وسورة آل عمران) بالنصب على البدلية أو بتقدير أعنى ويجوز رفعهما وسميتا زهروان لكثرة أنوار الأحكام الشرعية والأسماء الحسنى الإلهية فيهما، وذكر السورة في الثانية دون الأولى لبيان جواز كل منهما. (فإنهما) أي ثوابهما الذي استحقه التالي العامل بهما أوهما يتصوران ويتشكلان ويتجسدان (تأتيان) أي تحضران (كأنهما غمامتان) بفتح المعجمة وتخفيف الميمين أي سحابتان تظلان صاحبهما عن حر الموقف، وإنما سمي غماماً لأنه يغم السماء أي يسترها (أو غيايتان) مثنى غياية بفتح غين معجمة وتخفيف يائين مثناتين تحت، وهي كل شي أظل الإنسان فوق رأسه من سحابة وغيره وغيرهما قاله الجزري. وقال المناوي: هي ما أظل الإنسان فوقه وأراد به ماله صفاء وضوء إذا لغياية ضوء شعاع الشمس. وقال

أو فرقان من طير صوافَ تحاجّان عن أصحابهما، اقرؤا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ القاري: قيل الغمامة ما يغم الضوء ويمحوه لشدة كثافته، والغيابة ما يكون أدون من الغمامة في الكثافة وأقرب إلى رأس صاحبه كما يفعل بالملوك فيحصل عنده الظل والضوء جميعا وقال الحفني: غيايتان أي لهما نور وضياء زيادة على حصول الاستظلال بهما فهو أبلغ مما قبله لأن غايته إنهما يظلان كالسحابتين وليس فيهما نور (أو فرقان) تثنية فرق بكسر الفاء وسكون الراء أي قطيعان يعني طائفتان وجماعتان (من طير) جمع طائر (صواف) جمع صافة، وهي الجماعة الوافقة على الصف تقول صففت القوم إذا أقمتهم في الحرب، وغيرها على خط مستو، وصف الإبل قوائمها أي وضعتها صفاً فهي صافة وصوافّ، وصفّ الطائر جناحيه أي بسطهما ولم يحركهما، والمعنى باسطات أجنحتها متصلاً بعضها ببعض بحيث لا يكون بينهما فرجة، والمراد أنهما يقيان قارئهما من حر الموقف وكرب يوم القيامة، وليست "أو" للشك ولا للتخيير في تشبيه السورتين ولا للترديد بل للتنويع، وتقسيم القارئين فالأول لمن يقرؤهما ولا يفهم المعنى، والثاني للجامع بين التلاوة ودراية المعنى والثالث لمن ضم إليهما التعليم والإرشاد (تحاجان) أي السورتان تدافعان الجحيم والزبانية أو تجادلان وتخاصمان الرب (عن أصحابهما) وهو كناية عن المبالغة في الشفاعة قاله القاري. وقال التوربشتي: الأصل في المحاجة أن يطلب كل واحد من المتخاصمين أن يرد صاحبه عن حجته ومحجته، وأريد به ههنا مدافعة السورتين عن صاحبهما والذب عنه. وقال الشوكاني: يحاجان أن يقيمان الحجة لصاحبه ويجادلان عنه وصاحبهما هو المستكثر من قراءتهما، وظاهر الحديث أنهما يتجسمان حتى يكونا كأحد هذه الثلاثة التي شبههما بها - صلى الله عليه وسلم - ثم يقدرهما الله تعالى على النطق بالحجة وذلك غير مستعبد من قدرة القادر القوي الذي يقول للشي كن فيكون. (إقرؤا سورة البقرة) قال الطيبي: تخصيص بعد تخصيص بعد تعميم أمر أولاً بقراءة القرآن وعلق بها الشفاعة ثم خص الزهراوين وأناط بهما التخليص من حر يوم القيامة بالمحاجة وأفرد ثالثاً البقرة وأناط بها الأمور الثلاثة الآتية إيماء إلى أن لكل خاصة يعرفها الشارع (فإن أخذها) أي في المواظبة على تلاوتها والتدبر في معانيها والعمل بما فيها (بركة) أي زيادة ونماء وقيل أي منفعة عظيمة (وتركها) بالنصب ويجوز الرفع (حسرة) أي تلهف وتأسف على ما فات من الثواب وقيل: أي ندامة يوم القيام (ولا يستطيعها) أي لا يقدر على تحصيلها (البطلة) بفتح الباء والطاء المهملة أي أصحاب أي أصحاب البطالة والكسالة لطولها ولتعودهم الكسل. وقال معاوية بن سلام أحد رواة هذا الحديث: بلغني أن البطلة السحرة يعني لزيغهم عن الحق وإنهماكهم في الباطل قال القاري: وقيل البطلة السحرة لأن ما يأتون به باطل سماهم باسم فعلهم الباطل أي لا يؤهلون لذلك ولا يوفقون له لطمس قلوبهم بالمعاصي، ويمكن أن يقال معناه لا تقدر

رواه مسلم. 2141 - (13) وعن النواس بن سمعان، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((يؤتي بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدمه سورة البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق، أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما)) . رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ على إبطالها أو على صاحبها السحرة لقوله تعالى فيها {وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله} الآية [البقرة: 102] (رواه مسلم) في فضائل القرآن وأخرجه أيضاً أحمد (ج5ص249، 251، 255، 257) وابن حبان (ج1ص280) والحاكم (ج1ص564) . 2141- قوله: (وعن النواس) بفتح النون وتشديد الواو (بن سمعان) بكسر السين وفتحها (يؤتي بالقرآن) أي متصوراً أو بثوابه، وفي رواية الترمذي يأتي القرآن (وأهله) عطف على القرآن (الذين كانوا يعملون به) دل على أن من قرأ ولم يعمل به لم يكن من أهل القرآن ولا يكون شفيعاً لهم بل يكون القرآن حجة عليهم. (تقدمه) بضم الدال أي تتقدم أهله أو القرآن (سورة البقرة وآل عمران) بالجر. وقيل: بالرفع، قال الطيبي: الضمير في تقدمه للقرآن أي يقدم ثوابهما ثواب القرآن. وقيل: يصور الكل بحيث يراه الناس كما يصور الأعمال للوزن في الميزان، ومثل ذلك يجب إعتقاده إيماناً فإن العقل يعجز عن أمثاله (كأنهما غمامتان أو ظلتان) بضم الظاء أي سحابتان (سوداوان) لكثافتهما وارتكام البعض منهما على بعض وذلك من المطلوب في الظلال (بينهما شرق) بفتح الشين المعجمة وسكون الراء بعدها قاف، وقد روى بفتح الراء والأول أشهر كما قال النووي أي ضوء ونور الشرق هو الشمس تنبيهاً على أنهما مع الكثافة لا يستران الضوء. وقيل: أراد بالشرق الشق وهو الإنفراج أي بينهما فرجة وفصل كتميزهما بالبسملة في المصحف، والأول أشبه وهو أنه أراد به الضوء لاستغناءه بقوله ظلتان عن بيان البينونة فإنهما لا تسميان ظلتين إلا وبينهما فاصلة اللهم إلا أن يقال فيه تبيان أنه ليست ظلة فوق ظلة بل متقابلتان بينهما بينونة. وقال المنذري: قوله بينهما شرق هو بفتح المعجمة وقد تكسر وبسكون الراء بعدهما قاف أي بينهما فرق يضيء (وكأنهما فرقان) أي طائفتان (تحاجان) وفي رواية الترمذي تجادلان (رواه مسلم) في فضائل القرآن، وأخرجه أيضاً أحمد (ج4ص183) والترمذي في فضائل القرآن وفي الباب عن بريدة أخرجه أحمد والدارمي مطولاً والحاكم مختصراً (ج1ص560) وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي.

2142- (14) وعن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا المنذر! أتدري أي آية من كتاب الله تعالى معك أعظم؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: يا أبا المنذر! أتدري أي آية من كتاب الله تعالى معك أعظم. قلت: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} قال: فضرب في صدري وقال: ليهنك العلم يا أبا المنذر)) ـــــــــــــــــــــــــــــ 2142- قوله: (يا أبا المنذر) بصيغة الفاعل كنية أبي بن كعب (أي آية) اسم إستفهام معرب لازم الإضافة، ويجوز تذكيره وتأنيثه عند إضافته إلى المؤنث (من كتاب الله تعالى معك) أي حال كونه مصاحباً لك قال الطيبي: وقع موقع البيان لما كان يحفظه من كتاب الله، لأن مع كلمة تدل على المصاحبة- انتهى. وكان رضي الله عنه ممن حفظ القرآن كله في زمنه - صلى الله عليه وسلم -، وكذا ثلاثة من بني عمه، (أعظم) قال إسحاق بن راهوية وغيره: هذا راجع إلى عظم أجر قاري ذلك وجزيل ثوابه أي أعظم أجراً وأكثر ثواباً (قلت الله ورسوله أعلم) فرض الجواب أولاً وأجاب ثانياً، لأنه جوز أن يكون حدث أفضلية شي من الآيات غير التي كان يعلمها، فلما كرر عليه السؤال ظن أن مراده عليه الصلاة والسلام طلب الإخبار عما عنده فأخبره بقوله (قلت الله لا إله إلا هو الحي القيوم) إلى آخر الآية كذا ذكره ابن حجر. قال القاري: والأولى أن يقال فرض أولاً أدباً وأجاب ثانياً طلباً، فجمع بين الأدب والإمتثال كما هو دأب أرباب الكمال، قال الطيبي: سؤاله عليه الصلاة والسلام من الصحابي قد يكون للحث على الاستماع، وقد يكون للكشف عن مقدار علمه وفهمه، فلما راعى الأدب أولاً ورآى أنه لا يكتفي به علم أن المقصود استخراج ما عنده من مكنون العلم، فأجاب. وقيل انكشف له العلم من الله تعالى ببركة تفويضه وحسن أدبه في جواب مسألته، وقال النووي قال العلماء إنما تميزت آية الكرسي بكونها أعظم لما جمعت من أصول الأسماء والصفات من الإلهية والوحدانية والحياة والعلم والملك والقدرة والإرادة وهذه السبعة أصول الأسماء والصفات والله أعلم. (قال) أي أبي (فضرب) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (في صدري) أي محبة وتعديته بفي نظير قوله تعالى {وأصلح لي في ذريتي} [الأحقاف: 15] أي أوقع الصلاح فيهم حتى يكونوا محلاً له، وفيه إشارة إلى امتلاء صدره علماً وحكمة (ليهنك العلم) بلفظ الأمر الغائب بفتح التحتية وسكون الهاء وكسر النون، وفي بعض النسخ بهمزة بعد النون وهي الأصل فحذفت تخفيفاً أي ليكن العلم هنيئاً لك، يقال هنأني الطعام يهنئني ويهنأني ويهنوني، أي صار هنيئا وساغ، وتقول العرب في الدعاء ليهنئك الولد أي ليسرك، ويقال هنئي الطعام أي تهنأ به وكل أمر أتاك من غير تعب ومشقة فهو هنيء، وهذا دعاء له بتيسير العلم ورسوخه فيه، ويلزمه الإخبار بكونه عالماً وهو المقصود، وفيه منقبة عظيمة لأبي، ودليل على كثرة علمه. وفيه تبجيل العالم

رواه مسلم. 2143 - (15) وعن أبي هريرة، قال: ((وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته، وقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: إني محتاج، وعليّ عيال، ولي حاجه شديدة، قال: فخليت عنه فأصبحت، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة! ما فعل أسيرك ـــــــــــــــــــــــــــــ فضلاء أصحابه وتكنيتهم وجواز مدح الإنسان في وجهه إذا كان فيه مصلحة، ولم يخف عليه الإعجاب ونحوه لكمال نفسه ورسوخه في التقوى. (رواه مسلم) في فضائل القرآن، وأخرجه أيضاً أحمد (ج5ص142) وأبوداود في أواخر الصلاة وابن أبي شيبة وزاد أحمد وابن أبي شيبة والذي نفسي بيده إن لهذه الآية {ولساناً وشفتين} [البلد: 9] تقدس الملك عند ساق العرش. 2143- قوله: (وكلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظ زكاة رمضان) أي في حفظ زكاة الفطر من رمضان أي فوض إلى ذلك فالوكالة بمعناها اللغوي وهو مطلق تفويض أمر للخير. وقال الطيبي: الإضافة لأدنى ملابسة، لأنها شرعت لجبر ما عسى أن يقع في صومه تفريط فهي بمعنى اللام (فأتاني آت) كقاض (فجعل) أي طفق وشرع (يحثو) بإسكان الحاء المهملة بعدها مثلثة أي يغرف ويأخذ بكفيه، يقال حثاً يحثو وحثي يحثي (من الطعام) وكان تمراً كما في رواية النسائي وغيره (فأخذته) أي الذي حثاً من الطعام (لأرفعنك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي لأذهبن بك أشكوك إليه يقال رفعه إلى الحاكم، إذا أحضره للشكوى (قال إني محتاج) لما آخذه. وقيل: أي إني فقير في نفسي (وعليّ عيال) أي أنفقتهم إظهاراً لزيادة الاحتياج أو "على" بمعنى لي (ولي) وللكشمهيني وبي بالموحدة بدل اللام وكذا في جامع الأصول (حاجة) أي حاجة زائدة (شديدة) أي صعبة كموت أو نفاس أو مطالبة دين أو جوع مهلك وأمثالها مما اشتد الحاجة إلى ما أخذته، وهو تأكيد بعد تأكيد. قال الطيبي: إشارة إلى أنه في نفسه فقير وقد اضطر الآن إلى ما فعل لأجل العيال وهذا للمحتاجين. وفي رواية النسائي، فقال إنما أخذته لأهل بيت فقراء من الجن، وفي رواية الإسماعيلي ولا أعود. وفيه دلالة على جواز رؤية الجن، وأما قوله تعالى {إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم} [الأعراف: 27] فالمعنى إنا لا نراهم على صورهم الأصلية التي خلقوا عليها لبعد التباين بيننا وبينهم في ذلك، لأنهم أجسام نارية في غاية الخفاء والاشتباه بخلاف ما إذا تمثلوا بصور أخرى كثيفة (فخليت عنه) أي تركت يقال خلى الأمر وعنه تركه وخلى سبيله أطلقه (فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -) لما أتيته (ما فعل) على بناء الفاعل (أسيرك) أي

البارحة؟ قلت: يا رسول الله! شكا حاجة شديدة وعيالاً فرحمته، فخليت سبيله. قال: أما إنه قد كذبك، وسيعود. فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه سيعود فرصدته، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: دعني فإني محتاج وعلى عيال، لا أعود، فرحمته فخليت سبيله. فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة! ما فعل أسيرك؟ قلت: يا رسول الله! شكا حاجة شديدة، وعيالاً فرحمته، فخليت سبيله. فقال: أما أنه قد كذبك، وسيعود، فرصدته، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا آخر ثلاث مرات إنك تزعم لا تعود ثم تعود. قال: دعني ـــــــــــــــــــــــــــــ مأخوذك (البارحة) أي الليلة الماضية. قال الطيبي: فيه أخباره عليه الصلاة والسلام بالغيب. وتمكن من أبي هريرة من أخذه الشيطان، ورده خاسئاً وهو كرامة ببركة متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، يعلم منه إعلاء حال المتبوع. قلت: وفي حديث معاذ بن جبل عند الطبراني إن جبريل جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بذلك أي بمجيء الشيطان لأخذ ذلك الطعام (إما) بالتخفيف للتنبيه (إنه) بكسر الهمزة (قد كذبك) بتخفيف الذال أي في إظهار الحاجة (وسيعود) أي في الأخذ فكن على حذر منه (فرصدته) أي ترقبته وانتظرته (فجاء يحثو) حال مقدرة لأن الحثو عقب المجيء لا معه، ويحتمل أن يكون التقدير فجاء فجعل يحثوا اعتماداً على ما سبق قاله القاري. قلت: هذه رواية اللكشمهيني والمستملي ووقع عند أبي ذر عن الحموي فجعل بدل فجاء (فرصدته) أي المرة الثالثة (وهذا آخر ثلاث مرات إنك) قال ابن حجر: أي هذا المجيء الذم جئته آخر ثلاث مرات إنك تعليل لما تضمنه كلامه أنه لا يطلقه انتهى. قال القاري: والظاهر إن هذا مبتدأ وآخر بدل منه والخبر أنك (تزعم) أي تظن أو تقول (لا تعود ثم تعود) وفي نسخة تزعم أن لا تعود ثم تعود. وقال الطيبي: قوله "أنك تزعم" بفتح الهمزة صفة لثلاث مرات على أن كل مرة موصوفة بهذا القول الباطل، والضمير مقدر أي فيها- انتهى. فقوله هذا آخر ثلاث مرات يدل على أنه في المرة الأولى أيضاً وعد بعدم العود وهو ساقط اختصاراً. قال القسطلاني: ولأبي ذر إنك بكسر الهمزة، وفي نسخة مقروأة على الميدومي إنك تزعم أنك لا تعود (دعني) وفي

أعلمك كلمات ينفعك الله بها: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل أسيرك؟ قلت: زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها. قال: أما إنه صدقك، وهو كذوب، ـــــــــــــــــــــــــــــ رواية النسائي خل عني (أعلمك) بالجزم جواب دعني وبالرفع خبر مبتدأ محذوف والجملة جواب دعني (ينفعك الله بها) صفة لكلمات. قال الطيبي: وهو مطلق لم يعلم منه أي النفع فيحمل على المقيد في حديث علي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قرأها يعني آية الكرسي حين يأخذ مضجعه آمنه الله تعالى على داره، ودار جاره وأهل دويرات حوله، رواه البيهقي في شعب الإيمان- انتهى. قلت: الظاهر إن المراد بالنفع هو ما يأتي في الحديث من قوله لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان، وفي رواية النسائي أعلمك كلمات إذا قلتهن لم يقربك ذكر ولا أنثى من الجن (إذا أويت) بالقصر على المشهور أي أتيت (إلى فراشك) للنوم وأخذت مضجعك، وفي البخاري قلت ما هن (أي الكلمات) قال إذا أويت إلى فراشك حتى تختم الآية) أي إلى {وهو العلي العظيم} وزاد معاذ بن جبل في روايته عند الطبراني وخاتمة سورة البقرة (آمن الرسول) إلى آخرها (فإنك) أي إذا فعلت ذلك (لن يزال عليك من الله) متعلق بقوله (حافظ) بمعنى حافظ من عند الله أو من جهة أمر الله وقدره أو من بأس الله ونقمته كقوله تعالى: {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله} [الرعد: 11] (ولا يقربك) بفتح الراء والموحدة. وقال الحافظ: بفتح الراء وضم الموحدة، وفي رواية ولا يقربنك. قال القسطلاني: بفتح الراء والموحدة ونون التوكيد الثقيلة، كذا في اليونينية، وفي غيرها ولا يقربك بإسقاط النون، ونصب الموحدة عطفاً على السابق المنصوب بـ"لن" و"لا" زائدة لتأكيد النفي (شيطان) قال القسطلاني: وفي نسخة أي للبخاري الشيطان (حتى تصبح) غاية لما بعد لن (قلت زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها) وفي رواية البخاري بعده فخليت سبيله. قال: ما هي! قلت: قال لي إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} وقال لي لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح وكانوا أحرص شي على الخير فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (إما) بالتخفيف (إنه) بكسر الهمزة (صدقك) بتخفيف الدال أي فيما قاله في آية الكرسي (وهو كذوب) هو من التتميم البليغ الغاية في الحسن لأنه لما أوهم مدحه بوصفه

وتعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال. قلت: لا. قال: ذاك شيطان)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الصدق في قوله صدقك استدرك ففي الصدق عنه بصيغة مبالغة والمعنى صدقك في هذا القول مع أن عادته الكذب المستمر وهو كقولهم قد يصدق الكذوب (وتعلم) كذا في أكثر النسخ من المشكاة، وفي بعضها تعلم بإسقاط الواو كما في البخاري أي أتعلم (من تخاطب) أي بالتعيين الشخصي (منذ) بالنون وللحموي والمستملي منذ (ثلاث ليال قلت لا) أعلم (ذاك شيطان) من الشياطين. قال الطيبي: نكر لفظ الشيطان بعد سبقه منكراً في قوله لا يقربك شيطان ليؤذن بأن الثاني غير الأول على ما هو المشهور إن النكرة إذا أعيدت بلفظها كانت غير الأولى ووجه تغايرهما إن الأول مطلق شائع في جنسه، لأن القصد منه نفي قربان تلك الماهية له، والثاني فرد من أفراد ذلك الجنس أي شيطان من الشياطين فلو عرف لأوهم خلاف المقصود لأنه إما أن يشار إلى السابق أو إلى المعروف، والمشهور بين الناس وكلاهما غير مراد. وكان من الظاهر أن يقال شيطاناً بالنصب لأن السؤال في قوله من تخاطب عن المفعول فعدل إلى الجملة الاسمية وشخصه باسم الإشارة لمزيد التعيين ودوام الإحتراز عن كيده ومكره فإن قلت قد وقع عند البخاري فيما روى عن أبي هريرة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: إن شيطاناً تفلت على البارحة-الحديث. وفيه لولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطاً بسارية، وهذا يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - امتنع من إمساكه من أجل دعوة سليمان عليه السلام حيث قال: وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي، قال الله تعالى: {فسخرنا له الريح} [ص:36] ثم قال {والشياطين} وفي حديث الباب أن أبا هريرة أمسك الشيطان الذي رآه أجيب باحتمال أن الذي هم النبي صلى الله عليه وسلم أن يوثقه هو رأس الشياطين الذي يلزم من التمكن منه التمكن من الشياطين فيضاهي حينئذٍ سليمان في تسخيرهم والتوثق منهم، والمراد بالشيطان في حديث أبي هريرة هذا شيطانه بخصوصه أو آخر في الجملة فلا يلزم من تمكنه منه استتباع غيره من الشياطين في ذلك التمكن أو الشيطان الذي هم به النبي - صلى الله عليه وسلم - تبدي له في صفته التي خلق عليها، وكذلك كانوا في خدمة سليمان عليه السلام على هيئتهم، والذي تبدي لأبي هريرة في حديث الباب كان على هيئة الآدميين فلم يكن في إمساكه مضاهاة لملك سليمان والعلم عند الله تعالى. وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم إن الشيطان قد يعلم ما ينتفع به المؤمن وإن الحكمة قد يتلقاها الفاجر فلا ينتفع بها وتؤخذ عنه فينتفع بها وإن الكافر قد يصدق ببعض ما يصدق به المؤمن: ولا يكون بذلك مؤمناً، وإن الكذاب قد يصدق، وإن الشيطان من شأنه أن يكذب، وإنه قد يتصور ببعض الصور فتمكن رؤيته، وإن من أقيم في حفظ شي سمي وكيلا، وإن الجن يأكلون من طعام الإنس وإنهم يظهرون للإنس، لكن بالشرط المذكور وإنهم يتكلون بكلام الإنس وإنهم يسرقون ويخدعون. وفيه فضل آية الكرسي، وفيه جواز جمع زكاة الفطر قبل ليلة الفطر وتوكيل البعض لحفظها وتفرقتها كذا في الفتح

رواه البخاري. 2144 - (16) وعن ابن عباس، قال: بينما جبريل عليه السلام قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضاً من فوقه، فرفع رأسه، فقال: ((هذا من باب السماء فتح اليوم، لم يفتح قط إلا اليوم فنزل منه ملك، فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم، ـــــــــــــــــــــــــــــ (رواه البخاري) أي في الوكالة وأخرجه في صفة إبليس من بدأ الخلق وفي فضائل القرآن مختصراً، وأخرجه أيضاً النسائي والإسماعيلي وأبونعيم كما في الفتح، وقد وقع لأبي بن كعب عند النسائي وأبي أيوب الأنصاري عند الترمذي وأبي أسيد الأنصاري عند الطبراني، وزيد بن ثابت عند أبي الدنيا قصص في ذلك إلا أنه ليس فيها ما يشبه قصة أبي هريرة إلا قصة معاذ بن جبل عند الطبراني وهو محمول على التعدد. 2144- قوله: (بينما) كذا في جميع النسخ من المشكاة والذي في صحيح مسلم بينا، وكذا نقله في جامع الأصول (جبريل عليه السلام قاعد عند النبي - صلى الله عليه وسلم -) قال ابن الملك تبعاً للطيبي: أي بين أوقات وحالات هو عنده - صلى الله عليه وسلم -، وقال ميرك: بينا وبينما وبين معناها الوسط وبين ظرف إما للمكان كقولك جلست بين القوم وبين الدار أو للزمان كما هنا، أي الزمان الذي كان جبريل قاعداً عند النبي - صلى الله عليه وسلم - (سمع) وفي رواية الحاكم إذ سمع (نقيضاً) بالنون والقاف والضاد المعجمة أي صوتاً شديداً كصوت نقض خشب البناء عند كسره قاله القاري. وقال النووي: أي صوتاً كصوت الباب إذا فتح (من فوقه) وفي رواية الحاكم من السماء أي من جهة السماء (فرفع) أي جبريل (رأسه فقال) أي جبريل. قال الطيبي: الضمائر الثلاثة في سمع ورفع، وقال راجعة إلى جبريل لأنه أكثر إطلاعاً على أحوال السماء. وقيل: للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقيل الأولان راجعان للنبي - صلى الله عليه وسلم - والضمير في قال لجبريل عليه السلام لأنه حضر عنده للأخبار عن أمر غريب. ووقف عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن حجر: هو المختار واختاره غير واحد ذكره القاري، وفي رواية الحاكم ثم قال موضع فقال وهذا يؤيد ما قاله الطيبي: (هذا أي هذا الصوت (باب) أي صوت باب (من السماء) أي من سماء الدنيا (فتح اليوم) أي الآن (فنزل منه ملك) هذا من قول الراوي في حكايته لحال سمعه من رسول الله عليه وسلم أو بلغه منه (فقال) أي جبريل (هذا) أي النازل (ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم) هذا يدل على أنه نزل بالفاتحة وخواتيم سورة البقرة ملك غير جبريل. وقيل: إن جبريل نزل قبل هذا الملك معلماً ومخبراً بنزول الملك فهو مشارك له في إنزالها. وقال القرطبي: إن جبريل نزل بها أولاً بمكة ثم أنزل هذا الملك ثانياً بثوابها (فسلم) أي الملك النازل

فقال: أبشر بنورين أؤتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته)) . رواه مسلم. 2145- (17) وعن أبي مسعود، قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الآيتان من آخر سورة البقرة، من قرأ بهما ـــــــــــــــــــــــــــــ (فقال) وفي بعض النسخ وقال: وهكذا في مسلم أي الملك (أبشر) بفتح الهمزة وكسر الشين أي أفرح (بنورين) سماهما نورين لأن كلا منهما يكون لصاحبه نوراً يسعى أمامه أو لأنه يرشده ويهديه بالتأمل فيه إلى الطريق القويم والمنهج المستقيم (أؤتيتهما لم يؤتهما) بصيغة المجهول أي لم يعطهما (فاتحة الكتاب) بالجر وجوز الوجهان الآخران (وخواتيم سورة البقرة) وهي من آمن الرسول إلى آخر السورة كذا قيل: والأظهر بصيغة الجمع أن يكون من قوله {لله ما في السماوات وما في الأرض} [البقرة: 284] (لن تقرأ) الخطاب له عليه الصلاة والسلام، والمراد هو وأمته إذ الأصل مشاركتهم له في كل ما أنزل عليه إلا ما اختص به (بحرف منهما) أي بكل حرف من الفاتحة وخواتيم البقرة. قال التوربشتي: الباء زائدة يقال أخذت بزمام الناقة وأخذت زمامها، ويجوز أن يكون لإلصاق القراءة به، وأراد بالحرف الطرف منها، فإن حرف الشيء طرفه وكني به عن كل جملة مستقلة بنفسها (إلا أعطيته) أي أعطيت ما اشتملت عليه تلك الجملة من المسألة كقوله: {اهدنا الصراط المستقيم} وكقوله: {غفرانك} وكقوله: {ربنا لا تؤاخذنا} ونظائر ذلك، ويكون التأويل في غير المسألة فيما هو حمد وثناء أعطيت ثوابه (رواه مسلم) في فضائل القرآن والحاكم (ج1ص585) وقال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه هكذا، إنما أخرج مسلم هذا الحديث مختصراً ووافقه الذهبي. وقال وأخرج مسلم بعضه وفيه إن الحديث عند مسلم والحاكم سواء ليس بين سياقيهما فرق إلا في بعض الألفاظ والمعنى واحد فاستدراك الحاكم ليس بشي، والحديث عزاه المنذري في الترغيب والجزري في جامع الأصول للنسائي أيضاً. 2145- قوله: (وعن أبي مسعود) هو عقبة بن عمرو الأنصاري البدري (الآيتان) أي الكائنتان (من آخر سورة البقرة) أي آمن الرسول إلى آخر السورة وآخر الآية الأولى المصير، ومن ثم إلى آخر السورة آية واحدة، وأما ما اكتسبت فليست رأس آية بإتفاق العادين (من قرأ بهما) هذا لفظ البخاري في باب من لم ير بأسا أن يقول سورة البقرة من فضائل القرآن. وفي رواية له من قرأهما أي بدون الباء، وكذا وقع عند

في ليلة كفتاه)) . متفق عليه. 2146- (18) وعن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ مسلم وابن ماجه، وفي رواية أخرى للبخاري من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة. قال في المصابيح: فإن قلت ما هذه الباء التي في قوله بالآيتين. قلت: ذهب بعضهم إلى أنها زائدة. وقيل: ضمن الفعل معنى التبرك فعدي بالباء، وعلى هذا تقول قرأت بالسورة ولا تقول قرأت بكتابك لفوات معنى التبرك. قاله السهيلي: ولأبي الوقت قرأ الآيتين بحذف الباء (في ليلة) وأخرجه علي بن سعيد العسكري في ثواب القرآن بلفظ: من قرأهما بعد العشاء الآخرة أجزأتا آمن الرسول إلى آخر السورة ذكره الحافظ (كفتاه) بالتخفيف أي اغتناه عن قيام تلك الليلة بالقرآن وأجزأتا عنه من ذلك. وقيل: أجزأتا عنه عن قراءة القرآن مطلقاً، سواء كان داخل الصلاة أم خارجها. وقيل: معناه كفتاه كل سوء ووقتاه من كل مكروه. وقيل كفتاه شر الشياطين. وقيل: دفعتا عنه شر الثقلين الإنس والجن أو شر آفات تلك الليلة. وقيل معناه كفتاه ما حصل له بسببهما من الثواب عن طلب ثواب شي آخر وكأنهما اختصتا بذلك لما تضمنتاه من الثناء على الصحابة بجميل إنقيادهم إلى الله وابتهالهم ورجوعهم إليه وما حصل لهم من الإجابة إلى مطلوبهم. قلت: ويؤيد الوجه الأول ما ورد عن أبي مسعود رفعه من قرأ خاتمة البقرة أجزأت عنه قيام ليلة ويؤيد الوجه الرابع حديث النعمان بن بشير رفعه إن الله كتب كتاباً وأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة لا بقرآن في دار فيقربها الشيطان ثلاث ليال، أخرجه الحاكم (ج1ص562) وصححه كذا في الفتح. وقال الشوكاني في تحفة الذاكرين بعد ذكر هذه الوجوه: ولا مانع من إرادة هذه الأمور جميعها ويؤيد ذلك ما تقرر في علم المعاني والبيان من أن حذف المتعلق مشعر بالتعميم فكأنه قال كفتاه من كل شر أو من كل ما يخاف وفضل الله واسع (متفق عليه) أخرجه البخاري في المغازي، وفي فضائل القرآن ومسلم فيه، واللفظ للبخاري وأخرجه أيضاً أحمد (ج4ص118-121-122) والترمذي في فضائل القرآن وأبوداود في أواخر الصلاة وابن ماجه في صلاة الليل والدارمي. 2146- قوله: (من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم) أي حفظ (من الدجال) أي من شره وفي رواية أبي داود والترمذي والنسائي من فتنة الدجال، وهو كذا في بعض نسخ مسلم. قال النووي: قيل سبب ذلك ما في أولها من العجائب والآيات فمن تدبرها لم يفتتن بالدجال، وكذا في آخرها قوله تعالى: {أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا} [الكهف: 102] قال الطيبي: ويمكن أن يقال إن أولائك الفتية كما عصموا من ذلك الجبار كذلك يعصم الله القاري من الجبارين. قيل: ولا مانع من الجمع واللام فيه للعهد، وهو

رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الذي في آخر الزمان يدعي الألوهية، ويحتمل أن يكون للجنس فإن الدجال من يكثر منه الكذب والتلبيس، ومنه الحديث يكون في آخر الزمان دجالون أي كذابون مموهون. وقال السيوطي في حاشية أبي داود: قال القرطبي اختلف المتأولون في سبب ذلك، فقيل لما في قصة أصحاب الكهف من العجائب والآيات فمن وقف عليها لم يستغرب أمر الدجال ولم يهله ذلك فلم يفتتن به. وقيل: لقوله تعالى: {لينذر بأساً شديداً من لدنه} [الكهف: 2] تمسكاً بتخصيص البأس بالشدة واللدنية وهو مناسب لما يكون من الدجال من دعوى الآلهية واستيلاءه وعظم فتنته ولذلك عظم صلى الله عليه وسلم أمره وحذر عنه وتعوذ من فتنته، فيكون معنى الحديث إن من قرأ هذه الآيات وتدبرها، ووقف على معناها حذره فأمن منه. وقيل: ذلك من خصائص هذه السورة كلها، فقد روى من حفظ سورة الكهف ثم أدركه الدجال لم يسلط عليه، وعلى هذا يجتمع رواية من روى أول سورة الكهف مع رواية من روى من آخرها ويكون ذكر العشر على جهة الاستدراج في حفظها كلها- انتهى كلام السيوطي. واعلم أنه وقع في رواية مسلم وأبي داود من حفظ عشر آيات، وفي رواية الترمذي من قرأ ثلاث آيات كما سيأتي. فقيل: وجه الجمع بين العشر وبين الثلاث إن حديث العشر متأخر ومن عمل بالعشر فقد عمل بالثلاث، وقيل حديث الثلاث متأخر ومن عصم بالثلاث فلا حاجة إلى العشر، وهذا أقرب إلى أحكام النسخ. قال ميرك: بمجرد الاحتمال لا يحكم بالنسخ. وقال القاري: النسخ لا يدخل في الأخبار. وقيل: حديث العشر في الحفظ، وحديث الثلاث في القراءة فمن حفظ العشر وقرأ الثلاث كفى وعصم من فتنة الدجال، وفيه أنه وقع في رواية للنسائي من قرأ العشر وهي تنافي هذا الجمع. وقال الشوكاني: لا منافاة بين رواية الثلاث الآيات والعشر الآيات لأن الواجب العمل بالزيادة فيقرأ عشر آيات من أولها- انتهى. واعلم أيضاً أنه أخلف الرواة في أن العشر من أولها أو من آخرها فقال شعبة عن قتادة عند أحمد والترمذي من أول الكهف، وكذا قال هشام عنه عند مسلم وهمام عنه عند أحمد، ومسلم وأبي داود والنسائي وسعيد عنه عند أحمد وقال شعبة: عند أحمد ومسلم وأبي داود والنسائي في اليوم والليلة من آخر الكهف، وهكذا قال هشام في روايته عند أبي داود، وقد تقدم وجه الجمع في كلام السيوطي المذكور. وقال الشوكاني: وأما اختلاف الروايات بين أن تكون العشر من أولها أو من آخرها فينبغي الجمع بينهما بقراءة العشر الأوائل والعشر الأواخر، ومن أراد أن يحصل على الكمال ويتم له ما تضمنته هذه الأحاديث كلها فليقرأ سورة الكهف كلها يوم الجمعة ويقرا كلها ليلة الجمعة- انتهى. (رواه مسلم) في فضائل القرآن وأخرجه أيضاً أحمد (ج5ص196وج6ص446- 449) وأبوداود في الملاحم، والنسائي في السنن الكبرى وفي اليوم والليلة، وفي الباب عن أبي سعيد أخرجه الطبراني في الأوسط. قال الهيثمي رجاله رجال الصحيح.

2147- (19) وعنه. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن، قالوا: وكيف يقرأ ثلث القرآن؟ قال: {قل هو الله أحد} تعدل ثلث القرآن)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2147- قوله: (أيعجز أحدكم) بكسر الجيم من باب ضرب يضرب والهمزة للإستفهام الإستخباري (قالوا وكيف يقرأ) أي أحد (ثلث القرآن) لأنه يصعب على الدوام عادة، وفي حديث أبي سعيد عند البخاري فشق ذلك عليهم. وقالوا أينا يطيق ذلك يا رسول الله (قال قل هو الله أحد) أي إلى آخره أو سورته (تعدل) بالتأنيث ويجوز التذكير أي تساوي (ثلث القرآن) اختلفوا في معنى كون سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن فقال قوم هي ثلث باعتبار معاني القرآن لأنه أحكام وأخبار وتوحيد وقد اشتملت هي على القسم الثالث فكانت ثلثاً بهذا الاعتبار ويستأنس لهذا بما وقع في رواية لمسلم، إن الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاء فجعل قل هو الله أحد جزأ من أجزاء القرآن. واعترض بأنه يلزم منه أن تكون آية الكرسي وآخر الحشر كل منهما ثلث القرآن ولم يرد ذلك لكن قال أبوالعباس القرطبي: إنها اشتملت على اسمين من أسماء الله تعالى متضمنين جميع أوصاف الكمال لم يوجدا في غيرها من السور وهما الأحد الصمد لأنهما يدلان على أحدية الذات المقدسة الموصوفة بجميع أوصاف الكمال، وبيان ذلك إن الأحد يشعر بوجوده الخاص الذي لا يشاركه فيه غيره والصمد يشعر بجميع أوصاف الكمال لأنه الذي انتهى سودده، فكان يرجع الطلب منه وإليه ولا يتم ذلك على وجه التحقيق إلا لمن حاز جميع فضائل الكمال، وذلك لا يصلح إلا لله تعالى فلما اشتملت هذه السورة على معرفة الذات المقدسة كانت بالنسبة إلى تمام المعرفة بصفات الذات وصفات الفعل ثلثاً- انتهى. وقال قوم المثلية محمولة على تحصيل الثواب ومعنى كونها تعدل ثلث القرآن إن ثواب قراءتها يحصل للقاري مثل ثواب من قرأ ثلث القرآن وضعفه ابن عقيل فقال لا يجوز أن يكون المعنى فله أجر ثلث القرآن. واحتج بحديث من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات، واستدل ابن عبد البر لذلك بقول ابن راهوية ليس معناه إن من قرأها ثلاث مرات كان كمن قرأ القرآن كله هذا لا يستقيم ولو قرأها مائتي مرة. وقيل المراد ثواب قراءة قل هو الله أحد يضاعف بقدر ثواب ثلث القرآن بغير تضعيف وهي دعوى بغير دليل ويؤيد الإطلاق حديث أبي الدرداء هذا وغيره مما ورد في معناه. وقيل المراد من عمل بما تضمنته من الإخلاص والتوحيد كان كمن قرأ ثلث القرآن وادعى بعضهم إن قوله "تعدل ثلث القرآن" يختص بصاحب الواقعة لأنه لما رددها في ليلته كان كمن قرأ ثلث القرآن بغير ترديد. قال القابسي: ولعل الرجل الذي جرى له ذلك لم يكن يحفظ غيرها فلذلك استقل عمله فقال له الشارع ذلك ترغيباً له في عمل الخير وإن قل. ولا يخفى ما في هذه الدعوى وقال ابن عبد البر: من لم يتأول هذا الحديث أخلص ممن أجاب فيه بالرأي.

رواه مسلم. 2148 - (20) ورواه البخاري عن أبي سعيد 2149- (21) وعن عائشة، ((أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على سرية، ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال الزرقاني: السكوت في هذه المسألة وشبهها أفضل من الكلام فيها وأسلم. قال السيوطي: وإن هذا نحا جماعة كابن حنبل وإسحاق بن راهوية وإنه من المتشابه الذي لا يدري معناه وإياه اختار- انتهى. قلت ظاهر أحاديث الباب ناطق بتحصيل الثواب مثل من قرأ ثلث القرآن، وحديث أبي أيوب عند أحمد والترمذي بلفظ: من قرأ قل هو الله أحد فقد قرأ ثلث القرآن. وحديث أبي بن كعب عند أبي عبيد من قرأ قل هو الله أحد فكأنما قرأ ثلث القرآن، صريح كل منهما في أن قراءة قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن. وكذا يدل عليه حديث أبي هريرة عند مسلم، والترمذي، احشدوا فسأقرأ عليكم ثلث القرآن، فخرج يقرأ قل هو الله أحد، ثم قال إلا أنها تعدل ثلث القرآن فقوله صلى الله عليه وسلم قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن يحمل على أن قراءتها تعدل قراءة ثلث القرآن. ويحصل لقائها ثواب قراءة ثلث القرآن فإن الروايات يفسر بعضها بعضاً، وإذا حمل ذلك على ظاهره فهل ذلك الثلث من القرآن معين أو أي ثلث كان منه فيه نظر. وعلى الثاني فمن قرأها ثلاثاً كان كمن قرأ ختمة كاملة ولله عزوجل أن يجازي عبده على اليسير بأفضل مما يجازي على الكثير، ونقول بما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم -، ولكل ما جهلناه من وجهه وتعليله فنرده إليه صلى الله عليه وسلم، ولا ندري لم تعدل قراءة هذه قراءة ثلث القرآن قال الشوكاني: قد علل كونها تعدل ثلث القرآن بعلل ضعيفة واهية، والأحسن أن يقال إن ذلك لسر لم نطلع عليه، وليس لنا الكشف عن وجهه- انتهى. هذا وقد بسط الكلام في معنى هذه المعادلة شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته التي أشرنا إليها ونصر القول الأول وزيف، وضعف ما عداه فعليك أن تراجعها (رواه مسلم) أي عن أبي الدرداء وأخرجه أيضاً أحمد (ج5ص195وج6ص443) والدارمي. 2148- قوله: (ورواه البخاري) في فضائل القرآن (عن أبي سعيد) وأخرجه أيضاً أحمد (ج3ص8) ولأبي سعيد حديث آخر أخرجه أحمد والبخاري في فضائل القرآن والنذور والتوحيد ومالك وأبوداود والنسائي عنه، إن رجلاً سمع رجلاً يقرأ قل هو الله أحد يرددها فلما أصبح جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له وكأن الرجل يتقالها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن، وفي الباب عن أبي أيوب عند أحمد والترمذي والنسائي وأبي هريرة عند مسلم والترمذي وقتادة بن النعمان عند البخاري تعليقاً والنسائي والإسماعيلي موصولاً وأنس عند الترمذي وأبي مسعود عند أحمد والنسائي. 2149- قوله: (بعث رجلاً على سرية) أي أرسله أميراً عليها وقوله على "سرية" متعلق ببعث ولا يصح

وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بـ {قل هو الله أحد} فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: سلوه لأي شي يصنع ذلك، فسألوه، فقال: لأنها صفة للرحمان، وأنا أحب أن أقرأها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أخبروه إن الله يحبه)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يتعلق بصفة لرجل لفساد المعنى ولا بحال لأن رجلاً نكرة ولم يقل في سرية، لأن على تفيد معنى الاستعلاء والرجل. قيل: هو كلثوم بن الهدم، وفيه نظر لأنهم ذكروا إنه مات في أول الهجرة قبل نزول القتال. وقيل: هو كرز بن زهدم الأنصاري وسماه بعضهم كلثوم بن زهدم، وأما من فسره بأنه قتادة بن النعمان فأبعد جداً وهذا ظاهر. (وكان يقرأ لأصحابه) لأنه كان إمامهم (في صلاتهم) أي التي يصليها بهم (فيختم) لهم أي قراءته (بقل هو الله أحد) السورة إلى آخرها. وهذا يدل على أنه كان يقرأ بغيرها ثم يقرؤها في كل ركعة وهذا هو الظاهر، ويحتمل أنه يختم بها آخر قراءته فيختص بالركعة الأخيرة وعلى الأول فيؤخذ منه جواز الجمع بين السورتين غير الفاتحة في كل ركعة (فلما رجعوا) أي من السرية (ذكروا ذلك) أي فعله، هذا يدل على أن صنيعه ذلك لم يكن موافقاً لما ألفوه من النبي - صلى الله عليه وسلم - (سلوه لأي شي يصنع ذلك فسألوه) لم تختم بقل هو الله أحد (فقال) الرجل أختم بها (لأنها صفة الرحمن) قال ابن التين: إنما قال إنها صفة الرحمن لأن فيها أسماءه وصفاته أسماءه مشتقة من صفاته. وقال غيره: يحتمل أن يكون الصحابي المذكور قال ذلك مستنداً لشي سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - إما بطريق النصوصية وإما بطريق الاستنباط. وقد أخرج البيهقي في كتاب الأسماء والصفات بسند حسن عن ابن عباس إن اليهود أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا صف لنا ربك الذي تعبد، فأنزل الله عزوجل قل هو الله أحد إلى آخرها فقال هذه صفة ربي عزوجل، وعن أبي كعب قال، قال المشركون للنبي - صلى الله عليه وسلم - انسب لنا ربك فنزلت سورة الإخلاص- الحديث. وهو عند ابن خزيمة في كتاب التوحيد وصححه الحاكم. قال ابن دقيق العيد: قوله: لأنها صفة الرحمن يحتمل أن يكون مراده إن فيها ذكر صفة الرحمن كما لو ذكر وصف فعبر عن الذكر بأنه الوصف وإن لم يكن نفس الوصف، ويحتمل غير ذلك إلا أنه لا يختص ذلك بهذه السورة لكن لعل تخصيصها بذلك لأنه ليس فيها إلا صفات الله سبحانه وتعالى فاختصت بذلك دون غيرها (وأنا أحب أن أقرأها) أي لذلك دائماً فإن من أحب شيئاً أكثر من ذكره فجاؤا فأخبروا النبي - صلى الله عليه وسلم - (فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبروه إن الله يحبه) قال ابن دقيق العيد: يحتمل أن يكون سبب محبة الله له محبته لهذه السورة، ويحتمل أن يكون لما دل عليه كلامه لأن محبته لذكر صفات الرب دالة على صحة اعتقاده. قال المازري: ومن تبعه محبة الله لعباده إرادته ثوابهم وتنعيمهم. وقيل: هي نفس الإثابة والتنعيم لا الإرادة، فعلى الأول هي من صفات الذات (وهي ما استحقه فيما لم يزل ولا يزال) وعلى الثاني من صفات الفعل (وهي ما استحقه فما لا يزال دون الأزل) وأما محبة العباد له تعالى فلا يبعد فيها الميل منهم إليه تعالى وهو متقدس

متفق عليه. 2150 - (22) وعن أنس، قال: ((إن رجلاً قال يا رسول الله! إني أحب هذه السورة: {قل هو الله أحد} قال: إن حبك إياها أدخلك الجنة)) . رواه الترمذي، وروى البخاري معناه. ـــــــــــــــــــــــــــــ عن الميل، وقيل محبتهم له تعالى استقامتهم على طاعته. وقيل الإستقامة ثمرة المحبة وحقيقة المحبة له ميلهم إليه تعالى لاستحقاقه سبحانه وتعالى المحبة من جميع وجوهها. قال الطيبي: وتحريره إن حقيقة المحبة ميل النفس إلى ما يلائمها من اللذات وهي في حقه تعالى محال فيحمل محبته لهم إما على إرادة الإثابة أو على الإثابة نفسها. وأما محبة العباد له تعالى فيحتمل أن يراد بها الميل إليه تعالى وصفاته لاستحقاقه تعالى إياها من جميع وجوهها وأن يراد بها نفس الاستقامة على طاعته تعالى فيرجع حاصل هذا الوجه إلى الأول لأن الاستقامة ثمرة المحبة- انتهى. وفيه دليل على جواز تخصيص بعض القرآن جميل النفس إليه والاستكثار منه ولا يعد ذلك هجراناً لغيره (متفق عليه) أخرجه البخاري في أول كتاب التوحيد، ومسلم في فضائل القرآن وأخرجه أيضاً النسائي في الكبرى كما في الترغيب. 2150-قوله: (إن رجلاً) هو كلثوم بن الهدم على أن هذه القصة غير القصة التي وقعت في حديث عائشة المتقدم (قل هو الله أحد) تفسير لقوله هذه السورة أو بدل (قال إن حبك إياها) أي حبك لسورة قل هو الله أحد، والحب مصدر مضاف إلى فاعله، وارتفاعه بالابتداء وخبره قوله (أدخلك الجنة) لأنها صفة الرحمن فحبها يدل على حسن اعتقاده في الدين ومعناه يدخلك الجنة، لأن الدخول في المستقبل، ولكنه لما كان محقق الوقوع فكأنه قد وقع فأخبر بلفظ الماضي. قال الحافظ: دل تبشيره له بالجنة على الرضا بفعله، وعبر بالماضي في قوله أدخلك وإن كان دخول الجنة مستقبلاً تحقيقاً لوقوع ذلك- انتهى. قال الطيبي: فإن قلت ما التوفيق بين هذا الجواب وبين الجواب في الحديث السابق أخبروه إن الله يحبه. قلت: هذا الجواب ثمرة ذلك الجواب لأن الله تعالى إذا أحبه أدخله الجنة وهذا من وجيز الكلام وبليغه فإنه اقتصر في الأول على السبب عن المسبب، وفي الثاني عكسه (رواه الترمذي) في فضائل القرآن (وروى البخاري) في باب الجمع بين السورتين في ركعة من كتاب الصلاة (معناه) فيه اعتراض على المصنف ودفع عنه كما لا يخفى. وأعلم أن السياق المذكور رواه الترمذي معلقاً من رواية مبارك ابن فضالة عن ثابت البناني عن أنس. ووصله الدارمي عن يزيد بن هارون عن مبارك بن فضالة وهو طرف من حديث طويل أخرجه الترمذي أيضاً موصولاً من طريق عبد العزيز بن محمد الداوردي عن عبيد الله بن عمر عن ثابت عن أنس قال: كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء فكان كلما افتتح سورة يقرأ لهم في الصلاة يقرأ بها افتتح بقل هو الله أحد حتى يفرغ منها. ثم يقرأ سورة أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعة فكلمة أصحابه فقالوا إنك تقرأ بهذه السورة، ثم لا ترى إنها تجزئك حتى تقرأ بسورة أخرى، فإما أن تقرأ بها وإما أن

2151- (23) وعن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألم تر آيات أنزلت الليلة لم ير مثلهن ـــــــــــــــــــــــــــــ تدعها وتقرأ بسور أخرى. قال، ما أنا بتاركها إن أحببتم أن أؤمكم بها فعلت، وإن كرهتم تركتكتم، وكانوا يرونه أفضلهم ويكرهون أن يؤمهم غيره، فلما أتاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبروه الخبر، فقال يا فلان! ما يمنعك مما يأمر به أصحابك وما يحملك أن تقرأ هذه السورة في كل ركعة قال: يا رسول الله! إني أحبها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن حبها أدخلك الجنة. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث عبيد الله بن عمر عن ثابت، وقد روى مبارك بن فضالة عن ثابت عن أنس إن رجلاً قال يا رسول الله! إني أحب هذه السورة قل هو الله أحد قال إن حبك إياها أدخلك الجنة- انتهى. وأورده البخاري مطولاً تعليقاً بصيغة التصحيح أي بلفظ الجزم حيث قال: وقال عبيد الله بن عمر عن ثابت عن أنس كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء، وكان كلما افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به افتتح بقل هو الله أحد حتى يفرغ منها، ثم يقرأ بسورة أخرى معها الحديث. قال الحافظ: هذا التعليق وصله الترمذي والبزار عن البخاري عن إسماعيل بن أبي أوس والبيهقي (ج2ص61) من رواية محزر بن سلمة كلاهما عن عبد العزيز الداوردي عن عبيد الله بطوله. قال الترمذي: حسن صحيح غريب من حديث عبيد الله عن ثابت قال. وقد روى مبارك بن فضالة عن ثابت فذكر طرفاً من آخره وذكر الطبراني في الأوسط إن الداوردي تفرد به عن عبيد الله. وذكر الدارقطني في العلل إن حماد بن سلمة خالف عبيد الله في إسناده فرواه عن ثابت عن حبيب بن سبيعة مرسلاً قال وهو أشبه بالصواب. وإنما رجحه لأن حماد بن سلمة يقدم في حديث ثابت لكن عبيد الله بن عمر حافظ حجة، وقد وافقه مبارك في إسناده فيتحمل أن يكون لثابت فيه شيخان-انتهى. قلت وأخرجه الحاكم (ج1ص240) من رواية إبراهيم بن حمزة الزبيري عن الدراوردي وقال صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. وقال وأورده البخاري تعليقاً. وأعلم أن الظاهر إن قصة حديث عائشة عند الشيخين، وقصة حديث أنس عند الترمذي والبخاري قصتان متغائرتان لا أنهما قصة واحدة، ويدل على تغايرهما إن في حديث أنس إنه كان يبدأ بقل هو الله أحد، وفي حديث عائشة إن أمير السرية كان يختم بها، وفي هذا أنه كان يصنع ذلك في كل ركعة ولم يصرح بذلك في قصة الآخر، وفي هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأله وفي حديث عائشة أنه - صلى الله عليه وسلم - أمرهم أن يسألوا أميرهم، وفي هذا أنه قال إنه يحبها فبشره بالجنة، وأمير السرية قال إنه صفة الرحمن فبشره بأن الله يحبه. 2151- قوله: (ألم تر) بصيغة المعلوم أي ألم تعلم (أنزلت) صفة للآيات (الليلة) نصب على الظرفية قال الطيبي: ألم تر كلمة تعجب وتعجيب وأشار إلى سبب التعجب بقوله (لم ير مثلهن) أي في باب التعوذ وهو

قط {قل أعوذ برب الفلق} و {قل أعوذ برب الناس} . رواه مسلم. 2152 - (24) وعن عائشة، ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة، جمع كفيه ثم نفث فيهما، فقراء فيهما ـــــــــــــــــــــــــــــ بصيغة المجهول، ورفع مثلهن (قط) لتأكيد النفي في الماضي يعني لم تكن آيات سورة كلهن تعويذاً للقاري من شر الأشرار مثل هاتين السورتين، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من عين الجان وعين الإنسان فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما وترك ما سواهما ولما سحر استشفى بهما وإنما كان كذلك لأنهما من الجوامع في هذا الباب {قل أعوذ برب الفلق إلخ} خبر مبتدأ محذوف أي هي قل أعوذ برب الفلق الخ وفي الحديث بيان عظم فضل هاتين السورتين، وفيه دليل واضح على كونهما من القرآن، وفيه إن لفظة قل من القرآن ثابتة من أول السورتين بعد البسملة، وقد أجمعت الأمة على هذا كله قاله النووي. وأما ما نسب إلى ابن مسعود من إنكار قرآنية المعوذتين. فقيل: إن هذا النقل عن ابن مسعود كذب باطل، قاله ابن حزم في أوائل المحلى والنووي في شرح المهذب وشرح مسلم والفخر الرازي في أوائل تفسيره. وقيل: بل النقل عنه صحيح وكونهما من القرآن، قد ثبت القطع بذلك في عصره لكن لم يثبت عنده القطع بذلك أي إنه كان متواتراً في عصر ابن مسعود لكن لم يتواتر عند ابن مسعود. وقيل: غير ذلك في تأويل ما حكى عن ابن مسعود (رواه مسلم) في فضائل القرآن وكذا الترمذي والدارمي ورواه النسائي في الاستعاذة وأخرجه أحمد (ج4ص144، 150، 151، 152) . 2152- قوله: (كان إذا أوى) بالقصر ويمد (إلى فراشه) بكسر الفاء أي أتاه للنوم وأخذ مضجعه واستقر فيه (جمع كفيه ثم نفث فيهما) من النفس بفتح النون وسكون الفاء بعدها مثلثة قيل النفث إخراج ريح من الفم مع شي من الريق. وقال الجزري في النهاية: النفث شيبة بالنفح، وهو أقل من التفل لأن التفل لا يكون إلا ومعه شي من الريق (فقرأ فيهما) اختلفوا في توجيه الفاء فإنه يدل على تأخير القراءة من النفث، والظاهر العكس. فقيل: المراد ثم أراد النفث فقرأ. وقيل: الفاء بمعنى الواو. وقيل: تقديم النفث على القراءة مخالفة للسحرة البطلة. وقيل: هي سهو من الراوي أو الكاتب والله تعالى أعلم. قال المظهر: الفاء للتعقيب، وظاهره يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - نفث في كفيه أولاً ثم قرأ، وهذا لم يقل به أحد وليس فيه فائدة ولعل هذا سهو من الكاتب أو الراوي لأن النفث ينبغي أن يكون بعد التلاوة ليوصل بركة القرآن واسم الله تعالى إلى بشرة القاري أو المقرؤ له- انتهى. وتعقبه الطيبي فقال من ذهب إلى تخطئة الرواة الثقات العدول، ومن اتفقت الأمة على صحة روايته وضبطه وإتقانه بما سنح له من الرأي الذي هو أوهن من بيت العنكبوت فقد خطأ نفسه وخاض فيما لا يعنيه هلا قاس هذه الفاء على ما في قوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله} [النحل: 98] وقوله {فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم}

{قل هو الله أحد} {وقل أعوذ برب الفلق} و {قل أعوذ برب الناس} ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات)) . متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ [البقرة: 54] على أن التوبة عين القتل ونظائره في كتاب الله العزيز غير عزيز، والمعنى جمع كفيه، ثم عزم على النفث فيهما فقرأ فيهما أو لعل السر في تقديم النفث على القراءة مخالفة السحرة البطلة على أن أسرار الكلام النبوي جلت عن أن تكون مشروع كل وارد. وبعض من لا يدله في علم المعاني لما أراد التفصي عن الشبهة تشبث أنه جاء في صحيح البخاري بالواو، وهي تقتضي الجمعية لا الترتيب وهو زور وبهتان حيث لم أجد فيه وفي كتاب الحميدي، وجامع الأصول (ج5ص73) إلا بالفاء- انتهى. وقد ثبت في رواية أبي ذر عن الكشمهيني يقرأ (بلا فاء ولا واو) فيهما وفي رواية إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بقل هو الله أحد وبالمعوذتين جميعاً. قال الحافظ: أي يقرأها وينفث حالة القراءة (يبدأ بهما) أي يبدأ بالمسح بيديه (على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده) قال في شرح المشكاة: قوله "يبدأ" بيان لجملة قوله "يمسح بهما ما استطاع" لكن قوله "ما استطاع من جسده" وقوله "يبدأ" يقتضيان أن يقدر يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده ثم ينتهي إلى ما أدبر من جسده. وفي رواية ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسده (متفق عليه) فيه نظر فإن الحديث من أفراد البخاري أخرجه في فضائل القرآن من رواية عقيل عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة بالسياق المذكور، وفي الدعوات مختصراً، وأخرج في الطب من رواية يونس عن ابن شهاب بنحوه، ولابن شهاب حديث آخر أخرجه البخاري في الوفاة النبوية من رواية يونس وفي فضائل القرآن من رواية مالك وفي الطب من رواية معمر كلهم عن الزهري عن عروة عن عائشة إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح بيده رجاء بركتها، وأخرجه أيضاً مسلم في الطب من رواية مالك ومعمر ويونس وزياد بن سعد، وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي وابن ماجه في الطب. قال الحافظ: رواية عقيل عن ابن شهاب، وإن اتحد سندها بالسابق (أي بحديث مالك ومن وافقه) لكن فيها أنه كان يقرأ بالمعوذات عند النوم (وفي رواية مالك إن ذلك كان عند الوجع) فهي مغايرة لحديث مالك المذكور فالذي يترجع إنهما حديثان عن ابن شهاب بسند واحد عند بعض الرواة عنه ما ليس عند بعض قال، وقد جعلهما أبومسعود الدمشقي حديثاً واحداً، فعقبه أبوالعباس الطرقي، وفرق بينهما خلف الواسطي وتبعه المزي والله اعلم- انتهى. ولعل صاحب المشكاة قلد الجزري حيث عز رواية عقيل عن ابن شهاب في جامع الأصول (ج5ص74) إلى البخاري ومسلم أو تبع في ذلك أبا مسعود الدمشقي ومن وافقه فمعنى قوله متفق عليه، أي على أصل الحديث ولا يخفى ما فيه،

{الفصل الثاني}

وسنذكر حديث ابن مسعود: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم في باب المعراج إن شاء الله تعالى. {الفصل الثاني} 2153- (25) عن عبد الرحمن بن عوف، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثة تحت العرش يوم القيامة: القرآن يحاج العباد، له ظهر وبطن، والأمانة، والرحم تنادي: ـــــــــــــــــــــــــــــ ورواية الكتاب أخرجها الترمذي في الدعوات وأبوداود في الأدب وابن ماجه في الدعاء (وسنذكر حديث ابن مسعود لما أسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وبعده على ما في المصابيح انتهى به إلى سدرة المنتهى فأعطى ثلاثاً أعطى الصلوات الخمس وخواتيم سورة البقرة وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته شيئاً المقحمات (في باب المعراج) وهو إما لتكرره حوله إليه أو لكونه أنسب بذلك الباب والله أعلم. 2153- قوله: (ثلاثة) أي أشياء تكون (تحت العرش) المراد أنها تجسم ويكون لها قرب مكانة عنده تعالى بحيث تشفع لمن قام بحدود القرآن كان سبباً لنجاته، وإلا كان سبباً لهلاكه. قال المناوي: قوله "ثلاثة تحت العرش" عبارة عن اختصاص الثلاثة من الله بمكان بحيث لا يضيع أجر من حافظ عليها ولا يهمل مجازاة من ضيعها وأعرض عنها (القرآن يحاج العباد) أي يحاجج عن العباد العاملين دون غيرهم. وقال القاري: أي يخاصمهم فيما ضيعوه وأعرضوا عنه من أحكامه وحدوده أو يحاج لهم ويخاصم عنهم بسبب محافظتهم حقوقه كما تقدم يحاجان عن أصحابهما، وكما ورد القرآن حجة لك أو عليك فنصب العباد بنزع الخافض (له) أي للقرآن (ظهر وبطن) قيل: ظهره لفظه، وبطنه معناه، وقيل: ظهره ما ظهر تأويله وبطنه ما بطن تفسيره. وقيل: ظهره ما يظهر بيانه وبطنه ما احتيج إلى تفسيره. وقيل: ظهره تلاوته كما أنزل وبطنه التدبر له والتفكر فيه. وقيل: الظهر صورة القصة مما أخبر الله سبحانه من غضبه على قوم وعقابه إياهم فظاهر ذلك أخبار عنهم وباطنه عظة وتنبيه لمن يقرأ ويسمع من الأمة وهذا وجه حسن لولا اختصاصه ببعض دون بعض، فإن القرآن متناول لجملة التنزيل وفي حمل قوله له ظهر وبطن على هذا الوجه تعطيل لما عداه. وقيل: ظهره ما استوى المكلفون فيه من الإيمان به والعمل بمقتضاه وموجبه وبطنه ما وقع التفاوت في فهمه بين العباد على حسب مراتبهم في الأفهام والعقول وتباين منازلهم في المعارف والعلوم، وإنما أردف قوله يحاج العباد بقوله له ظهر وبطن لينبه على أن كلا منهم إنما يطالب بقدر ما انتهى إليه من علم الكتاب وفهمه (والأمانة) وهي كل حق لله أو الخلق لزم أداءه وفسرت في قوله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة} [الأحزاب: 72] بأنها الواجب من حقوق الله لأنه الأهم (والرحم) استعيرت للقرابة بين الناس (تنادي) بالتأنيث. قال في المرقاة: أي قرابة الرحم أو كل واحدة من

ألا من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله)) . رواه في شرح السنة. 2154 - (26) وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقال لصاحب القرآن إقرأ وارتق، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية تقرأها)) ـــــــــــــــــــــــــــــ الأمانة والرحم. وقيل: كل من الثلاثة- انتهى. وفي حاشية المشكاة عن الطيبي فالقرآن يحاج والأمانة كذا والرحم تنادي ولم يذكر للثاني ما هو له من البيان اعتماداً على الأول أو على الثاني أي والأمانة تحاج أو تنادي- انتهى. (ألا) حرف تنبيه (من وصلني وصله الله) أي بالرحمة (ومن قطعني قطعه الله) أي بالإعراض عنه وهو يحتمل إخباراً ودعاءاً. قال القاضي: إنما خص هذه الثلاثة بالذكر لأن ما يحاوله الإنسان إما أن يكون دائراً بينه وبين الله تعالى لا يتعلق بغيره، وإما أن يكون بينه وبين عامة الناس أو بينه وبين أقاربه وأهله، فالقرآن وصله إلى أداء حقوق الربوبية والأمانة تعم الناس، فإن دماءهم وأموالهم وأعراضهم وسائر حقوقهم أمانات فيما بينهم، فمن قام بها فقد أقام العدل ومن واصل الرحم وراعى الأقارب بدفع المخاوف والإحسان إليهم في أمور الدين والدنيا، فقد أدى حقها، وقدم القرآن لأن حقوق الله أعظم ولإشتماله على القيام بالأخيرين، وعقبه بالأمانة لأنها أعظم من الرحم ولإشتمالها على أداء حق الرحم، وصرح بالرحم مع اشتمال الأمرين الأولين محافظتها تنبيهاً على أنها أحق حقوق العباد بالحفظ كذا ذكره القاري. والحديث نقله السيوطي في الجامع الصغير عن الحكيم الترمذي، ومحمد بن نصر بلفظ: ثلاثة تحت العرش يوم القيامة، القرآن له ظهر وبطن يحاج العباد، والرحم تنادي صل وصلني واقطع من قطعني، والأمانة- انتهى. أي تنادي بأن أحفظ من حفظني واقطع من خان فِيّ (رواه) المصنف أي البغوي (في شرح السنة) قال الجزري: وفي إسناده كثير بن عبد الله وهو واهٍ ذكره القاري، وقد تقدم أن الحديث ذكره السيوطي في الجامع الصغير وعزاه للحكيم الترمذي ومحمد بن نصر. قال العزيزي: بإسناد ضعيف. 2154- قوله: (وعن عبد الله بن عمرو) بالواو (يقال) أي في الآخرة عند دخول الجنة (لصاحب القرآن) أي من يلازمه بالتلاوة والعمل (اقرأ وارتق) أمر من الإرتقاء أي اصعد، وفي رواية أحمد والترمذي اقرأ وارق، وهو أمر من رَقِيَ يرقي رقياً، أي إصعد إلى درجات الجنة وارتفع فيها يقال رقِيَ الجبلَ، وفيه وإليه رَقْياً ورُقيّاً أي صعد (ورتل) أي إقرأ بالترتيل ولا تستعجل في قراءتك (كما كنت ترتل في الدنيا) من تجويد الحروف ومعرفة الوقوف (فإن منزلك) وفي رواية أحمد والترمذي، فإن منزلتك وكذا وقع في بعض النسخ من سنن أبي داود (عند آخر آية تقرأها) قال الخطابي في المعالم: (ج1ص289) قد جاء في الأثر إن عدد آي

رواه أحمد والترمذي، وأبو داود، والنسائي. 2155 - (27) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ القرآن على قدر درج الجنة، يقال للقاري إرق في الدرج على قدر ما كنت تقرأ من آي القرآن فمن استوفى قراءة جميع القرآن استولى على أقصى درج الجنة، ومن قرأ جزءاً منها كان رقية في الدرج على قدر ذلك، فيكون منتهى الثواب عند منتهى القراءة- انتهى. وقال التوربشتي: الصحبة الملازمة للشي إنساناً كان أو حيواناً، أو مكاناً أو زماناً ويكون بالبدن هو الأصل والأكثر، ويكون بالعناية والهمة وصاحب القرآن هو الملازم له بالهمة والعناية، ويكون ذلك تارة بالحفظ والتلاوة، وتارة بالتدبر له. والعمل به. فإن ذهبنا فيه إلى الأول فالمراد من الدرجات بعضها دون بعض والمنزلة التي في الحديث هي ما يناله العبد من الكرامة على حسب منزلته في الحفظ والتلاوة لا غير، وذلك لما عرفنا من أصل الدين إن العامل بكتاب الله المتدبر له أفضل من الحافظ والتالي له إذا لم ينل شأوه في العمل والتدبر، وقد كان في الصحابة من هو أحفظ لكتاب الله من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأكثر تلاوة منه وكان هو أفضلهم على الإطلاق لسبقه عليهم في العلم بالله وبكتابه وتدبره وعمله به. وإن ذهبنا إلى الثاني وهو أحق الوجهين وأتمهما، فالمراد من الدرجات التي يستحقها بالآيات سائرها. وحينئذٍ يقدر التلاوة في القيامة على مقدار العمل، فلا يستطيع أحد أن يتلو آية إلا وقد أقام ما يجب عليه فيها، واستكمال ذلك إنما يكون للنبي صلى الله عليه وسلم ثم الأمة بعده على مراتبهم ومنازلهم في الدين، كل منهم يقرأ على مقدار ملازمته إياه تدبراً وعملاً. وقد ورد في الحديث (رواه ابن مردوية والبيهقي عن عائشة) إن درجات الجنة على عدد آيات القرآن، وفي هذا دليل على صحة ما ذهبنا إليه- انتهى. وقيل: المراد إن الترقي يكون دائماً فكما إن قراءته في حال الإختتام استدعت الإفتتاح الذي لا انقطاع له، كذلك هذه القراءة والترقي في المنازل التي لا تتناهى وهذه القراءة لهم كالتسبيح للملائكة لا تشغلهم من مستلذاتهم بل هي أعظم مستلذاتهم. (رواه أحمد) (ج2ص191) (والترمذي) وصححه (وأبوداود) وسكت عنه ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره (والنسائي) وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه كما في الترغيب والكنز، والحاكم (ج1ص553) وسكت عنه. وقال الذهبي: صحيح. والبيهقي (ج2ص53) وأخرجه أحمد وابن ماجه من حديث أبي سعيد بلفظ: يقال لصاحب القرآن إذا دخل الجنة إقرأ واصعد فيقرأ ويصعد بكل آية درجة حتى يقرأ آخر شي معه، هذا لفظ ابن ماجه وقوله معه صريح في أن المراد بصاحب القرآن حافظ دون الملازم للقراءة في المصحف. 2155- قوله: (إن الذي ليس في جوفه) أي قلبه (شي من القرآن كالبيت الخرب) بفتح الخاء المعجمة

رواه الترمذي، والدارمي. وقال الترمذي: هذا حديث صحيح. 2156 - (28) وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الرب تبارك وتعالى من شغله القرآن عن ذكري ومسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ وكسر الراء المهملة أي الخراب، لأن عمارة القلوب بإيمان وقراءة القرآن وزينة الباطن بالاعتقادات الحقة والتفكر في نعماء الله تعالى. وقال الطيبي: أطلق الجوف وأريد به القلب إطلاقاً لاسم المحل على الحال، وقد استعمل على حقيقته في قوله تعالى: {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه} [الأحزاب: 33] واحتيج لذكره ليتم التشبيه له بالبيت الخرب بجامع إن القرآن إذا كان في الجوف يكون عامراً مزيناً بحسب قلة ما فيه وكثرته، وإذا خلى عما لا بد فيه من التصديق والاعتقاد الحق والتفكر في آلاء الله ومحبته وصفاته يكون كالبيت الخرب الخالي عما يعمره من الأثاث والتجمل- انتهى. قال القاري بعد نقل كلام الطيبي هذا ما لفظه: وكأنه عدل عن ظاهر المقابلة المتبادر إلى الفهم، وإذا خلى عن القرآن لعدم ظهور إطلاق الخراب عليه- انتهى. (رواه الترمذي والدارمي) في فضائل القرآن وأخرجه أيضاً أحمد (ج1ص232) والحاكم (ج1ص554) كلهم من طريق قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس (وقال الترمذي هذا حديث صحيح) وفي نسخ الترمذي الموجودة عندنا حديث حسن صحيح، والحديث صححه الحاكم أيضاً، وتعقبه الذهبي. فقال قابوس: لين. قلت: قابوس هذا كان ابن معين شديد الحط عليه على أنه وثقه في رواية، ووثقه أيضاً يعقوب بن سفيان. وقال ابن غدي: أرجو أنه لا بأس به وكذا قال العجلي وضعفه النسائي والدارقطني وأبوحاتم. وقال أحمد: ليس بذاك لم يكن من النقد الجيد. وقال ابن سعد: فيه ضعف ولا يحتج به. وقال ابن حبان كان روى الحفظ ينفرد عن أبيه بما لا أصل له فربما رفع المراسيل وأسند الموقوف- انتهى. وقال الحافظ في التقريب: فيه لين، والحديث عزاه في الكنز لابن منيع وابن الضريس والطبراني وابن مردوية والبيهقي وسعيد بن منصور أيضاً. 2156- قوله: (من شغله القرآن) هذا لفظ الترمذي، وللدارمي من شغله قراءة القرآن (عن ذكري ومسألتي) وفي رواية الدارمي عن مسألتي وذكرى. قيل: المراد بالذكر والمسألة اللذان ليسا في القرآن كالدعوات بقرينة قوله وفضل كلام الله الخ (أعطيته أفضل ما أعطى) على صيغة المضارع المتكلم المعلوم الواحد أي أفضل ما أعطيته (السائلين) أي والذاكرين فهو من باب الاكتفاء والمراد بالسائلين الطالبون في ضمن الذكر أو الدعاء بلسان القال أو ببيان الحال. وقال في اللمعات: اكتفى بالسؤال لأن الذكر أيضاً سؤال تعريضاً، يعني من اشتغل بقراءة القرآن ولم يفرغ إلى الذكر والدعاء أعطاه الله مقصوده ومراده أحسن، وأكثر مما يعطي الذين يطلبون من

وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه)) رواه الترمذي، والدارمي، والبيهقي في شعب الإيمان. وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب. ـــــــــــــــــــــــــــــ الله حوائجهم يعني لا يظن القاري إنه إذا لم يتطلب من الله حوائجه لا يعطيه، بل يعطيه أكمل الإعطاء فإنه من كان لله كان الله له. قال الشوكاني: في الحديث دليل على أن المشتغل بالقرآن تلاوة وتفكراً يجازيه الله أفضل جزاء ويثيبه بأعظم إثابة (وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه) جملة استئنافية قائمة مقام العلة للجملة السابقة سواء يكون من تتمة كلام الله عزوجل، على أنه حينئذٍ فيه التفات أو على أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وهو الأظهر، لئلا يحتاج إلى ارتكاب الالتفات أو على أنه من كلام بعض الرواة على ما نقل عن البخاري أنه قال، هذا من كلام أبي سعيد الخدري الراوي أدرجه في الحديث، ولم يثبت رفعه لكن فيه نظر، فإن هذه الجملة بإنفرادها ذكرها السيوطي في الجامع الصغير برواية البيهقي وأبي يعلى عن أبي هريرة مرفوعاً، ولفظه فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الرحمن على سائر خلقه، كذا قال القاري في شرح الحصن. وقال الشوكاني في تحفة الذاكرين: (ص262) هذه الكلمة لعلها خارجة مخرج التعليل لما تقدمها من أنه يعطي المشتغل بالقرآن أفضل ما يعطي الله السائلين، ووجه التعليل إنه لما كان كلام الرب سبحانه وتعالى فائقاً على كل كلام كان أجر المشتغل به فوق كل أجر، والحديث لولا أن فيه ضعفاً لكان دليلاً على أن الاشتغال بالتلاوة عن الذكر وعن الدعاء يكون لصاحبه هذا الأجر العظيم- انتهى. قلت: حديث أبي هريرة الذي ذكره السيوطي أخرجه أيضاً ابن عدي من رواية شهر بن حوشب عنه مرفوعاً. قال الحافظ: وفي إسناده عمر بن سعيد الأشج وهو ضعيف، وأخرجه ابن الضريس (وكذا الدارمي) من وجه آخر عن شهر بن حوشب مرسلاً، ورجاله لا بأس بهم، وأخرجه يحيى بن عبد الحميد الحماني في مسنده من حديث عمر بن الخطاب، وفي إسناده صفوان بن أبي الصهباء مختلف فيه، وأخرجه ابن الضريس أيضاً من طريق الجراح ابن الضحاك عن علقمة بن مرثد عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان رفعه خيركم من تعلم القرآن وعلمه، ثم قال: وفضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله تعالى على خلقه. وذلك أنه منه، وحديث عثمان هذا تقدم بدون هذه الزيادة وقد بين العسكري إنها من قول أبي عبد الرحمن السلمي. وقال المصنف يعني البخاري: في خلق أفعال العباد. وقال أبوعبد الرحمن السلمي: فذكره وأشار في خلق أفعال العباد إلى أنه لا يصح مرفوعاً، وأخرجه العسكري أيضاً عن طاووس والحسن من قولهما- انتهى كلام الحافظ: (رواه الترمذي والدارمي) في فضائل القرآن (والبيهقي في شعب الإيمان) من طريق محمد بن الحسن الهمداني عن عمرو بن قيس عن عطية العوفي عن أبي سعيد (وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب) ذكر الحافظ هذا الحديث في الفتح وعزاه للترمذي، وقال رجاله ثقات إلا عطة العوفي ففيه ضعف-انتهى. قلت: ومحمد بن الحسن الهمداني أيضاً ضعيف ولم يخرج له

2157- (29) وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول {الم} حرف، ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)) رواه الترمذي، والدارمي. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، غريب إسناداً. ـــــــــــــــــــــــــــــ من الستة إلا الترمذي وذكر الذهبي في الميزان هذا الحديث في ترجمة محمد بن الحسن هذا. ثم قال: حسنه الترمذي فلم يحسن، ونقل الحافظ كلام الذهبي هذا في تهذيبه وسكت عنه. وقال الصغاني: إنه موضوع كما في الفوائد المجموعة للشوكاني وتذكرة الموضوعات للفتنى، وعندي في الحكم بكونه موضوعاً نظر. 2157- قوله: (من قرأ حرفاً) المراد بالحرف حرف البناء المعبر عنه بحرف الهجاء (من كتاب الله) أي القرآن (فله به) أي بسبب ذلك الحرف أو بدله (حسنة والحسنة بعشر أمثالها) أي مضاعفة بالعشر وهو أقل التضاعف الموعود بقوله تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} [الأنعام: 161] {والله يضاعف لمن يشاء} [البقرة: 261] والحرف يطلق على حرف الهجاء والمعاني والجملة المفيدة والكلمة المختلف في قراءتها وعلى مطلق الكلمة، ولذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لا أقول الم حرف ألف حرف ولام حرف وميم حرف) قال الشوكاني: والحديث فيه التصريح بأن قاري القرآن له بكل حرف منه حسنة، والحسنة بعشر أمثالها. ولما كان الحرف فيه يطلق على الكلمة المتركبة من حرف أوضح النبي - صلى الله عليه وسلم -، إن المراد هنا الحرف البسيط المنفرد لا الكلمة، وهذا أجر عظيم وثواب كبير ولله الحمد (رواه الترمذي) من طريق أيوب بن موسى عن محمد بن كعب القرظي عن عبد الله بن مسعود (والدارمي) فيه نظر، فإن الدارمي لم يروه مرفوعاً، بل رواه موقوفاً من طريق عطاء بن السائب عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود، قال: تعلموا هذا القرآن فإنكم تؤجرون بتلاوته بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول لكم بألم، ولكن بألف ولام وميم بكل حرف عشر حسنات (وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب إسناداً) أي لا متنا، تمييز عن نسبة غريب، وفي نسخ الترمذي حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وقد تقدم معنى الغريب والتنبيه على أنواع الغريب، وارجع إلى شرح الزرقاني على منظومة البيقونية (ص51) وشرح الألفية للسخاوي (ص345) وتدريب الراوي للسيوطي (ص192) قال الترمذي: ويروي هذا الحديث من غير هذا الوجه عن ابن مسعود رواه أبوالأحوص عن عبد الله بن مسعود، ورفعه بعضهم ووقفه بعضهم- انتهى. قلت: وقفه عطاء بن السائب عن أبي الأحوص كما تقدم، ورفعه صالح بن عمر عن إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عند الحاكم (ج1ص555) والطبراني. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بصالح

2158- (30) وعن الحارث الأعور، قال: مررت في المسجد، فإذا الناس يخوضون في الأحاديث فدخلت على علي رضي الله عنه فأخبرته، فقال: أوَ قد فعلوها؟ قلت: نعم. قال: ((أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ألا إنها ستكون فتنة. قلت: ما المخرج منها يا رسول الله! قال: كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخير ما بعدكم، وحكم ما بينكم، ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن عمر وتعقبه الذهبي، فقال صالح ثقة خرج له مسلم، لكن إبراهيم بن مسلم ضعيف- انتهى. قلت: وخالف الدارمي صالح بن عمر فرواه عن إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن ابن مسعود موقوفاً. 2158- قوله: (وعن الحارث الأعور) تابعي من أصحاب علي رضي الله عنه وقد سبق ترجمته (مررت في المسجد) وفي الدارمي، دخلت المسجد. قال الطيبي: في المسجد ظرف، والممرور به محذوف، يدل عليه قوله (فإذا الناس يخوضون في الأحاديث) أي أحاديث الناس وأباطيلهم من الأخبار والحكايات والقصص ويتركون تلاوة القرآن وما يقتضيه من الأذكار. والآثار والخوض أصله الشروع في الماء والمرور فيه، ويستعار للشروع في الأمور، وأكثر ما ورد في القرآن ورد فيما يذم الشروع فيه نحو قوله تعالى: {ثم ذرهم في خوضهم يلعبون} [الأنعام: 91] (فأخبرته) أي الخبر كذا في جميع النسخ من المشكاة، وهكذا في جامع الأصول (ج9ص252) والذي في جامع الترمذي "فقلت يا أمير المؤمنين! ألا ترى الناس قد خاضوا في الأحاديث" وللدارمي "فقلت ألا ترى إن أناساً يخوضون في الأحاديث في المسجد" (أوَ قد فعلوها) قال الطيبي: أي ارتكبوا هذه الشنيعة وخاضوا في الأباطيل، فإن الهمزة والواو العاطفة يستدعيان فعلاً منكراً معطوفاً عليه، أي فعلوا هذه الفعلة الشنيعة وقال القاري: أي أتركوا القرآن وقد فعلوها أي وخاضوا في الأحاديث (أما) للتنبيه (ألا) للتنبيه أيضاً (إنها) الضمير للقصة (ستكون فتنة) أي عظيمة، وفي الدارمي ستكون فتن. قال ابن الملك: يريد بالفتنة ما وقع بين الصحابة، أو خروج التتار أو الدجال أو دابة الأرض- انتهى. قال القاري: وغير الأول لا يناسب المقام كما لا يخفى (قلت ما المخرج منها) بفتح الميم اسم ظرف، أو مصدر ميمي، أي ما طريق الخروج والخلاص من تلك الفتنة يا رسول الله! قال الطيبي: أي موضع الخروج أو السبب الذي يتوصل به إلى الخروج عن الفتنة (قال كتاب الله) أي طريق الخروج منها تمسك كتاب الله على تقدير مضاف (فيه نبأ ما قبلكم) أي من أحوال الأمم الماضية (وخبر ما بعدكم) وهي الأمور الآتية من أشراط الساعة وأحوال القيامة وفي العبارة تفنن (وحكم ما بينكم) بضم الحاء وسكون الكاف أي ما يقع بينكم من الوقائع والحوادث. قال القاري: أي حاكم ما وقع

هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به اللسنة، ـــــــــــــــــــــــــــــ أو يقع بينكم من الكفر والإيمان والطاعة والعصيان والحلال والحرام وسائر شرائع الإسلام ومباني الأحكام (هو الفصل) كذا وقع في الدارمي، وهكذا في جامع الأصول، وعند الترمذي وهو الفصل أي الفاصل بين الحق والباطل أو المفصول والمميز فيه الخطأ والصواب، وما يترتب عليه الثواب والعذاب وصف بالمصدر مبالغة (ليس بالهزل) أي جد كله وحق جميعه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والهزل في الأصل القول المعرى عن المعنى المرضي، واشتقاقه من الهزال ضد السمن، والحديث مقتبس من قوله تعالى: {إنه لقول فصل وما هو بالهزل} [الطارق: 13- 14] (من تركه) أي القرآن إيماناً وعملاً (من جبار) أي متكبر بين التارك بمن جبار ليدل على أن الحامل له على الترك إنما هو التجبر والحماقة. قال الطيبي: من ترك العمل بآية أو بكلمة من القرآن مما يجب العمل به أو ترك قراءتها من التكبر كفر، ومن ترك عجزاً أو كسلاً أو ضعفاً مع اعتقاد تعظيمه فلا إثم عليه، أي بترك القراءة، ولكنه محروم ذكره القاري (قصمه) أي أهلكه أو كسر عنقه وأصل القصم الكسر والإبانة (ومن ابتغى الهدى) أي طلب الهداية من الضلالة (في غيره) من الكتب والعلوم التي غير مأخوذة منه ولا موافقة معه (أضله الله) أي عن طريق الهدى وأوقعه في سبيل الردى (وهو) أي القرآن (حبل الله المتين) أي المحكم القوي، والحبل مستعار للوصل، ولكل ما يتوصل به إلى شي أي الوسيلة القوية إلى معرفة ربه وسعادة قربه (وهو الذكر) أي ما يذكر به الحق تعالى أو ما يتذكر به الخلق أي يتعظ (الحكيم) أي ذو الحكمة (هو الذي لا تزيغ) بالتأنيث والتذكير أي لا تميل عن الحق (به) أي بإتباعه (الأهواء) أي الهواء إذا وافق هذا الهدى حفظ من الردى. وقيل: معناه لا يصير به مبتدعاً وضالاً، يعني لا يميل بسببه أهل الأهواء والآراء، وإنما زاغ من اتبع المتشابهات وترك المحكمات والأحاديث النبوية التي هي مبينة للمقاصد القرآنية. وقال الطيبي: أي لا يقدر أهل الأهواء على تبديله وتغييره وإمالته، وذلك إشارة إلى وقوع تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، فالباء للتعدية. وقيل: الرواية من الإزاغة بمعنى الإمالة، والباء لتأكيد التعدية أي لا يميله الأهواء المضلة عن نهج الإستقامة إلى الأعوجاج وعدم الإقامة كفعل اليهود بالتوراة حين حرفوا الكلم عن مواضعه، لأنه تعالى تكفل بحفظه قال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9] (ولا تلتبس به الألسنة) أي لا تتعسر عليه ألسنة المؤمنين ولو كانوا من غير العرب قال تعالى: {فإنما يسرناه بلسانك} [الدخان: 58] {ولقد يسرنا القرآن للذكر} [القمر:17] وقيل: لا يختلط به غير

ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا ينقضي عجائبه. هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: {إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به} من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم)) . رواه الترمذي، والدارمي. ـــــــــــــــــــــــــــــ بحيث يشتبه الأمر ويلتبس الحق بالباطل فإن الله تعالى يحفظه أو يشتبه كلام الرب بكلام غيره لكونه كلاماً معصوماً دالاً على الإعجاز (ولا يشبع منه العلماء) أي لا يصلون إلى الإحاطة بكنهه حتى يقفوا عن طلبه وقوف من يشبع من مطعوم، بل كلما اطلعوا على شي من حقائقه اشتاقوا إلى آخر، أكثر من الأول، وهكذا فلا شبع ولا سآمة (ولا يخلق) بفتح الياء وضم اللام، وبضم الياء وكسر اللام من خلق الثوب إذا بلى وكذلك أخلق (عن كثرة الرد) أي لا تزول لذة قراءته وطراوة تلاوته واستماع أذكاره وأخباره من كثرة تكراره وترداده. قال القاري: و"عن" على بابها أي لا يصدر الخلق من كثرة تكراره كما هو شأن كلام غيره تعالى، وهذا أولى مما قاله ابن حجر من أن "عن" بمعنى "مع"- انتهى. قلت: قد وقع في بعض نسخ الترمذي "على" مكان "عن" وهو يؤيد ما قاله ابن حجر: (ولا ينقضي) بالتأنيث والتذكير (عجائبه) أي لا تنتهي لطائفة ودقائقه وغرائبه التي يتعجب منها. قيل: كالعطف التفسيري للقرينتين السابقتين ذكره الطيبي (هو الذي لم تنته الجن) أي لم يقفوا ولم يلبثوا (إذ سمعته) أي القرآن (حتى قالوا) أي لم يتوقفوا ولم يمكثوا وقت سماعهم له عنه بل اقبلوا عليه لما بهرهم من شأنه فبادروا إلى الإيمان على سبيل البداهة لحصول العلم الضروري وبالغوا في مدحه حتى قالوا (إنا سمعنا قرآناً عجباً) أي شأنه من حيثية جزالة المبني وغزارة المعنى (يهدي إلى الرشد) أي يدل على الصواب أو يهدي الله به الناس إلى طريق الحق (فآمنا به) أي بأنه من عند الله ويلزم منه الإيمان برسول الله (من قال به) أي من أخبر به (صدق) أي في خبره أو من قال قولاً ملتبساً به بأن يكون على قواعده ووفق قوانينه وضوابطه صدق (ومن عمل به) أي بما دل عليه (أجر) بضم الهمزة أي أثيب في عمله أجراً عظيماً وثواباً جسيماً، لأنه لا يحث إلا على مكارم الأخلاق والأعمال ومحاسن الآداب (ومن حكم به) أي بين الناس (عدل) أي في حكمه لأنه لا يكون إلا بالحق (ومن دعا إليه) أي من دعا الخلق إلى الإيمان به والعمل بموجبه (هدى إلى صراط مستقيم) روى مجهولاً أي من دعا الناس إلى القرآن وفق للهداية، وروى معروفاً كأن المعنى من دعا الناس إليه هداهم (رواه الترمذي والدارمي) من طريق حمزة الزيات عن أبي المختار الطائي عن ابن أخي الحارث عن الحارث عن علي وأبوالمختار الطائي وابن أخي الحارث كلاهما

وقال الترمذي: هذا حديث إسناده مجهول، وفي الحارث مقال. 2159- (31) وعن معاذ الجهني: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ القرآن وعمل بما فيه، ألبس والداه تاجاً يوم القيامة، ضوءه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا لو كانت فيكم فما ظنكم بالذي عمل بهذا)) رواه أحمد وأبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ مجهول، ورواه الدارمي أيضاً من طريق عمرو بن مرة عن أبي البختري عن الحارث (وقال الترمذي هذا حديث إسناده مجهول) الذي في الترمذي هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حمزة الزيات، وإسناده مجهول أي لجهالة أبي المختار الطائي وابن أخي الحارث (وفي الحارث) أي الراوي للحديث عن علي (مقال) أي مطعن والذي في الترمذي وفي حديث الحارث مقال- انتهى. وقال الصنعاني: هذا حديث موضوع كما في الفوائد المجموعة والتذكرة، وعندي في الحكم بكونه موضوعاً نظر فإن ما ذكروه من الكلام في هذا الحديث وفي الحارث الأعور لا يقتضي أن يكون الحديث موضوعاً وله شاهد ضعيف من حديث معاذ بن جبل عند الطبراني ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج7ص164) وقال وفيه عمرو بن واقد وهو متروك. 2159- قوله: (وعن معاذ) بضم الميم ابن أنس (الجهني) بضم الجيم وفتح الهاء (من قرأ القرآن) أي فأحكمه كما في رواية أي فاتقنه قاله القاري. وقال ابن حجر: أي حفظه عن ظهر قلب، وفي رواية أحمد من قرأ القرآن فأكمله (ضوءه أحسن) اختاره على أنور وأشرق إعلاماً بأن تشبيه التاج مع ما فيه من نفائس الجواهر بالشمس ليس بمجرد الإشراق والضوء بل مع رعاية من الزينة والحسن (من ضوء الشمس) حال كونها (في بيوت الدنيا) فيه تتميم صيانة من الإحراق وكلال النظر بسبب أشعتها كما أن قوله (لو كانت) أي الشمس على الفرض والتقدير (فيكم) أي في بيوتكم تتميم للمبالغة فإن الشمس مع ضوئها وحسنها لو كانت داخلة في بيوتنا كانت آنس وأتم مما لو كانت خارجة عنها. وقال الطيبي: أي في داخل بيوتكم. وقال ابن الملك: أي في بيت أحدكم. وعند أحمد في بيت من بيوت الدنيا لو كانت فيه (فما ظنكم) أي إذا كان هذا جزاء والديه لكونهما سبباً لوجوده (بالذي عمل بهذا) وفي رواية أحمد والحاكم عمل به. قال الطيبي: استقصار للظن عن كنه معرفة ما يعطي للقاري العامل به من الكرامة والملك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر كما أفادته "ما الاستفهامية المؤكدة لمعنى تحير الظان" (رواه أحمد) (ج3ص440) (وأبوداود) والحاكم (ج1ص567) كلهم من طريق زبان بن فائد عن سهل بن معاذ عن أبيه. وقد سكت عنه أبوداود. وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد

2160- (32) وعن عقبة بن عامر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لو جعل القرآن في إهاب ثم ألقى في النار ما احترق)) . رواه الدارمي. ـــــــــــــــــــــــــــــ وتعقبه الذهبي فقال قلت زبان ليس بالقوي. وقال المنذري: سهل بن معاذ ضعيف، ورواه عنه زبان ابن فائد وهو ضعيف أيضاً- انتهى. 2160 – قوله: (لو جعل القرآن في إهاب) أي جلد لم يدبغ، وقيل المراد به مطلق الجلد، إما على التجريد أو على أنه يطلق عليه وعلى ما لم يدبغ كما في القاموس (ثم ألقى في النار) قال الطيبي: "ثم" ليست لتراخي الزمان بل لتراخي الرتبة بين الجعل في الإهاب والإلقاء في النار، وإنهما أمران متنافيان لرتبة القرآن وإن الثاني أعظم من الأول. قال القاري: والأظهر أنها بمعنى الفاء (ما احترق) أي الإهاب ببركة القرآن. قيل: كان هذا في عصر - صلى الله عليه وسلم - لو ألقى المصحف في عهده في النار، لا تحركه النار وهذا كان معجزة له كسائر معجزاته. وقيل: معناه من كان القرآن في قبله لا تحرقه نار هكذا حكى عن أحمد بن حنبل وأبي عبيد. وقيل: هذا على سبيل الفرض. والتقدير مبالغة في بيان شرف القرآن وعظمته أي من شأنه ذلك على وتيرة قوله تعالى: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل} الآية [الحشر: 21] وقال التوربشتي: المعنى لو قدر أن يكون القرآن في إهاب ما مست النار ذلك الإهاب ببركة مجاورته للقرآن، فكيف بالمؤمن الذي تولى حفظه وقطع في تلاوته ليله ونهاره. والإهاب الجلد الذي لم يدبغ، وإنما ضرب المثل به والله أعلم، لأن الفساد إليه أسرع ولفح النار فيه أنفذ ليبسه وجفافه بخلاف المدبوغ للينة، وقد رأينا في الشاهد أن الجلد الذي لم يدبغ يفسده وهج الشمس بأدنى ساعة وتخرجه عن طبعه، ورأينا المدبوغ يقوى على ذلك للينة. والمراد بالنار المذكورة في الحديث نار الله الموقدة المميزة بين الحق والباطل التي لا تطعم إلا الجنس الذي بعد عن رحمة الله، دون النار التي تشاهد، فهي وإن كانت محرقة بأمر الله أو تقديره أيضاً فإنها مسلطة على الذرات القابلة للحرق لا ينفك عنه إلا في الأمر النادر الذي ينزع الله عنها الحرارة، كما كان من أمر خليل الرحمن صلوات الله عليه وسلامه والله أعلم- انتهى كلام التوربشتي. (رواه الدرامي) وأخرجه أيضاً أحمد (ج4ص151- 155) وأبويعلى والطبراني من طريق ابن لهيعة عن مِشْرَع بن هاعان عن عقبة بن عامر وعزاه في الكنز (ج1ص477) للبيهقي في الشعب، وابن الضريس والحكيم الترمذي أيضاً، وله شواهد من حديث عصمة بن مالك عند الطبراني، وفيه الفضل بن المختار وهو ضعيف ومن حديث سهل بن سعد عند الطبراني أيضاً، وفيه عبد الوهاب بن الضحاك وهو متروك ومن حديث أبي هريرة عند ابن حبان كما في الكنز (ج1ص461) .

2161- (33) وعن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ القرآن فاستظهره فأحل حلاله. وحرم حرامه. أدخله الله الجنة. وشفعه في عشرة من أهل بيته كلهم قد وجبت له النار)) . رواه أحمد. والترمذي، وابن ماجه، والدارمي. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وحفص بن سليمان الراوي ـــــــــــــــــــــــــــــ 2161- قوله: (من قرأ القرآن فاستظهره) أي حفظه تقول قرأت القرآن عن ظهر قلبي أي قرأته من حفظي قاله الجزري. وقال في المفاتيح: استظهر إذا حفظ القرآن واستظهر إذا طلب المظاهرة، وهي المعاونة، واستظهر إذا احتاط في الأمر وبالغ في حفظه وإصلاحه، وهذه المعاني الثلثة جائزة في هذا الحديث، يعني من حفظ القرآن وطلب القوة والمعاونة في الدين واحتاط في حفظ حرمته واتباع أوامره ونواهيه والله اعلم- انتهى. واللفظ المذكور لأحمد والترمذي، وفي رواية لأحمد من تعلم القرآن فاستظهره وحفظه، ولابن ماجه من قرأ القرآن وحفظه. قال السندي: من قرأ القرآن أي غيباً ولو بالنظر وقوله "حفظه" أي بمراعاة بالعمل به والقيام بموجبه، أو المراد بالحفظ قراءته غيباً ولا يتركه، ويحتمل أن من داوم على قراءته حتى حفظه، وعلى الوجهين ينبغي أن يعتبر مع ذلك العمل به أيضاً إذ غير العامل يعد جاهلاً، ورواية الترمذي صريحة في اعتبار أنه يقرأ بالغيب وإتيانه به-انتهى. (فأحل حلاله وحرم حرامه) أي اعتقد حلاله حلالاً وحرامه حراماً، وليست هذه الكلمة عند أحمد وابن ماجه (أدخله الله الجنة) أي ابتداء وإلا فكل مؤمن يدخلها (وشفعه) بتشديد الفاء أي قبل شفاعته (كلهم) أي كل العشرة (قد وجبت له النار) أي بالذنوب لا بالكفر نعوذ بالله منه وأفراد الضمير للفظ الكل. قال الطيبي: فيه رد على من زعم أن الشفاعة إنما تكون في رفع المنزلة دون خط الوزر بناء على ما افتروه إن مرتكب الكبيرة يجب خلوده في النار، ولا يمكن العفو عنه والوجوب هنا على سبيل المواعدة (رواه أحمد) (ج1ص148- 149) (والترمذي) في فضائل القرآن (وابن ماجه) في السنة كلهم من طريق حفص بن سليمان عن كثير بن زاذان عن عاصم بن ضمرة عن علي (والدارمي) كذا في جميع النسخ المطبوعة بالهند، وكذا وقع في النسخة التي على هامش المرقاة، ولم يقع في النسخ التي اعتمد عليها القاري في شرحه إلا في نسخة واحدة حيث قال بعد ذكر قول المصنف "رواه أحمد والترمذي وابن ماجه" ما لفظه، وفي نسخة صحيحة والدارمي- انتهى. والظاهر إن ما وقع في تلك النسخة وفي النسخ المطبوعة من زيادة "والدارمي" خطأ من الناسخ فإني لم أجد هذا الحديث في مسند الدارمي (وقال الترمذي: هذا حديث غريب) وبعده لا نعرفه إلا من هذا الوجه وليس له إسناد صحيح (وحفص بن سليمان الراوي) بإسكان الياء

ليس هو بالقوي، يضعف في الحديث. 2162 - (34) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب: ((كيف تقرأ في الصلاة؟ فقرأ أم القرآن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، ما أنزلت في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها، وإنها سبع من المثاني ـــــــــــــــــــــــــــــ (ليس هو بالقوي) ليست هذه الجملة في نسخ الترمذي الموجودة عندنا (يضعف) بالتشديد أي ينسب إلى الضعف (في الحديث) أي في رواية الحديث. قلت: حفص بن سليمان هذا هو حفص بن أبي داود الأسدي أبوعمر البزار الكوفي الغاضرى القاري صاحب عاصم بن أبي النجود وصاحب قرأة حفص المعروفة التي يقرأ لها الناس بمصر والهند. قال الحافظ في التقريب: متروك الحديث مع إمامته في القراءة- انتهى. وقال البخاري في الضعفاء تركوه، وقال مسلم وأحمد والنسائي وأبوحاتم: متروك الحديث. وقال ابن المديني وأبوزرعة وأبوحاتم: أيضاً ضعيف الحديث. وقال ابن خراش: كذاب متروك. وقال أبوأحمد الحاكم: ذاهب الحديث. وقال يحيى بن سعيد عن شعبة: أخذ مني حفص بن سليمان كتاباً فلم يروه وكان يأخذ كتب الناس فينسخها يعني أنه ينسخ كتباً لم يسمعها فيحدث بها كأنها من سماعه، ولذلك قال ابن معين: كان حفص وأبوبكر يعني ابن عياش من أعلم الناس بقراءة عاصم، وكان حفص أقرأ من أبي بكر وكان كذاباً، وكان أبوبكر صدوقاً- انتهى. وفي سنده أيضاً كثير بن زاذان وهو مجهول. قال ابن معين: لا نعرفه، وقال أبوزرعة وأبوحاتم: شيخ مجهول. فالحديث ضعيف جداً لضعف حفص القاري وجهالة كثير بن زاذان، وله شاهد ضعيف من حديث جابر رواه الطبراني في الأوسط ذكره الهيثمي (ج7ص162) وقال فيه جعفر بن الحارث وهو ضعيف. 2162- قوله: (كيف تقرأ في الصلاة فقرأ أم القرآن) يعني الفاتحة وسميت بها لاحتوائها واشتمالها على ما في القرآن إجمالاً أو المراد بالأم الأصل فهي أصل قواعد القرآن ويدور عليها أحكام الإيمان. قال الطيبي: فإن قلت كيف طابق هذا جواباً عن السؤال بقوله " كيف تقرأ" لأنه سؤال عن حالة القراءة لأنفسها. قلت: يحتمل أن يقدر فقرأ القرآن مرتلاً ومجوداً أو يحتمل أنه عليه الصلاة والسلام سأل عن حال ما يقرأه في الصلاة، أهي سورة جامعه حاوية لمعاني القرآن أم لا؟ فلذلك جاء بأم القرآن وخصها بالذكر أي هي جامعه لمعاني القرآن وأصل لها كذا في المرقاة. قلت: ويؤيد الاحتمال الثاني صدر الحديث الذي حذفه المصنف (ولا في الفرقان) أي في بقية القرآن (مثلها) بالرفع أي سورة مثلها (وإنها سبع) أي سبع آيات (من المثاني) أي هي المثاني

والقرآن العظيم الذي أعطيته)) . رواه الترمذي، وروى الدارمي من قوله: ما أنزلت ولم يذكر أبي بن كعب. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. 2163- (35) وعنه، قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعلموا القرآن ـــــــــــــــــــــــــــــ "فمن" بيانية ويحتمل أن تكون تبعيضية (والقرآن العظيم) قيل: هو من إطلاق الكل على الجزء للمبالغة (الذي أعطيته) أي ولم يعطه نبي غيري (رواه الترمذي) أي من أوله إلى آخره في فضائل القرآن من طريق العلاء ابن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أبي بن كعب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا أبي! وهو يصلي فالتفت أبي فلم يجبه وصلى أبي فخفف. ثم انصرف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال السلام عليك يا رسول الله! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليك السلام، ما منعك يا أبي أن تجيبني إذ دعوتك فقال يا رسول الله! إني كنت في الصلاة قال، أفلم تجد فيما أوحى الله إلى أن {استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحيكم} [الأنفال: 24] قال بلى، ولا أعود إن شاء الله قال أتحب أن أعلمك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها، قال نعم يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تقرأ في الصلاة إلخ. قال الحافظ في الفتح: قد اختلف فيه على العلاء أخرجه الترمذي من طريق الدراوردي، والنسائي من طريق روح بن القاسم، وأحمد من طريق عبد الرحمن بن إبراهيم، وابن خزيمة من طريق حفص بن ميسرة كلهم عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بن كعب فذكر- الحديث. وأخرجه الترمذي يعني في سورة الحجر وابن خزيمة والحاكم (ج1ص557) من طريق عبد الحميد ابن جعفر عن العلاء مثله لكن قال عن أبي هريرة عن أبي بن كعب رضي الله عنه، وأخرجه الحاكم (ج1ص558) من طريق شعبة عن العلاء نحوه لكن قال عن أبيه عن أبي بن كعب، ورجح الترمذي كونه من مسند أبي هريرة. وقد أخرجه الحاكم أيضاً (ج1ص558) من طريق الأعرج عن أبي هريرة إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نادى أبي بن كعب، وهو مما يقوي ما رجحه الترمذي- انتهى كلام الحافظ بتغيير يسير. (وروى الدارمي) أي من طريق الدراوردي عن العلاء (ولم يذكر أبي بن كعب) أي قصته الكائنة في صدر الحديث. 2163- قوله: (تعلموا القرآن) أي لفظه ومعناه قال أبومحمد الجويني: تعلم القرآن وتعليمه فرض كفاية لئلا ينقطع عدد التواتر فيه فلا يتطرق إليه تبديل وتحريف. قال الزركشي: وإذا لم يكن في البلد أو القرية من يتلو القرآن أثموا بأسرهم. قال ابن حجر: وفيه وقفة إذا المخاطب به جميع الأمة، فحيث كان فيهم عدد التواتر ممن يحفظ فلا إثم على أحد، نعم يتعين في عدد التوتر المذكور أن يكونوا متفرقين في بلاد الإسلام بحيث لو أراد

فاقرأوه، فإن مثل القرآن لمن تعلم فقرأ وقام به كمثل جراب محشو مسكاً، تفوح ريحه كل مكان، ومثل من تعلمه فرقد وهو في جوفه كمثل جراب، أوكي على مسك)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحد أن يغير أو يحرف شيئاً منعوه- انتهى. وظاهر كلام الزركشي إن كل بلد لا بد فيه أن يكون ممن يتلو القرآن في الجملة، لأن تعلم بعض القرآن فرض عين على الكل، فإذا لم يوجد هناك أحد يقرأ أثموا جميعاً كذا في المرقاة (فاقرأوه) أي بعد التعلم لو عقيبة، وفي الترمذي واقرأوه أي بالواو، وكذا وقع في بعض نسخ المشكاة، وهكذا نقله المنذري في الترغيب، والجزري في جامع الأصول، والحصن وعلى المتقى في الكنز. قال الطيبي: الفاء في قوله "فاقرؤه" كما في قوله تعالى: {وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه} [هود: 30] أي تعلموا القرآن وداوموا على تلاوته، والعمل بمقتضاه يدل عليه التعليل بقوله (فإن مثل القرآن لمن تعلم فقرأ) وفي الترمذي تعلمه فقرأه، وهكذا نقله في الترغيب والحصن (وقام به) أي داوم على قراءته وعمل به (كمثل جراب) بكسر الجيم وعاء معروف، وفي الصحاح والعامة تفتحها، وفي القاموس ولا يفتح أو هي لغية، وفي القسط من باب اللطف قول من قال لا تكسر القصعة ولا تفتح الجراب، وخص الجراب هنا بالذكر احتراماً لأنه من أوعية المسك. قال الطيبي: التقدير فإن ضرب المثل لأجل من تعلمه كضرب المثل للجراب، فمثل مبتدأ والمضاف محذوف، واللام "في لمن تعلم" متعلق بمحذوف، والخبر قوله "كمثل" على تقدير المضاف أيضاً، والتشبيه إما مفرد وإما مركب (محشو) بتشديد الواو كمدعو أي مملو (مسكاً) نصبه على التمييز (تفوح) وفي الترمذي يفوح بالتذكير، وكذا في الترغيب والكنز والحصن (ريحه) أي تظهر وتصل رائحته من فاح المسك يفوح فوحاً انتشرت رائحته ولا يقال في الكريهة أو عام (كل مكان) وفي الترمذي، في كل مكان. قال ابن الملك: يعني صدر القاري كجراب، والقرآن فيه كالمسك فإنه إذا قرأ وصلت بركته إلى تاليه وسامعيه. قال القاري: ولعل إطلاق المكان للمبالغة، ونظيره قوله تعالى: {تدمر كل شيء} [الأحقاف: 25] {وأوتينا من كل شيء} [النمل: 16] مع أن التدمير والإيتاء خاص (ومثل من تعلمه) بالرفع والنصب (فرقد) وفي الترمذي، فيرقد بصيغة المضارع، وهكذا في الترغيب والكنز والحصن وجامع الأصول أي ينام ويغفل عنه، ولا يشتغل به على الوجه المذكور لأنه من كان كذلك كأنه نائم، وذلك بقرينة مقابلته بقوله "فقرأ" وقام به. وقيل: رقد أي نام عن القيام بالقرآن في الليل وقام به أي في الليل (وهو) أي القرآن (في جوفه) أي في قلبه وهي جملة حالية (أوكي) بصيغة المجهول من أوكيت السقاء إذا ربطت فمه بالوكاء، والوكاء بالكسر الخيط الذي يشد به الأوعية (على مسك) المعنى أنه ملأه مسكاً وربط فمه على المسك أي لأجله يعني القرآن في صدره كالمسك في الجراب، فإن قرأ تصل البركة إلى بيته وإلى السامعين ويحصل منه استراحة

رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه. 2164 - (36) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ {حم المؤمن} {إلى إليه المصير} وآية الكرسي حين يصبح بهما حتى يمسي، ومن قرأ بهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح)) رواه الترمذي، والدارمي. وقال الترمذي: هذا حديث غريب. ـــــــــــــــــــــــــــــ وثواب إلى حيث يصل إليه صوته، فهو كجراب مملو من مسك إذا فتح رأسه تصل رائحته المسك إلى كل مكان حوله. ومن تعلم القرآن ولم يقرأه لم تصل بركته منه لا إلى نفسه ولا إلى غيره فيكون كجراب مشدود رأسه، وفيه مسك فلا تصل رائحته إلى أحد (رواه الترمذي) في فضائل القرآن (والنسائي) في الكبرى (وابن ماجه) في السنة وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه كلهم من طريق عطاء مولى أبي أحمد عن أبي هريرة، والحديث رواه الترمذي مطولاً بذكر السبب وحسَّنه، وابن ماجه مختصراً. وصدر الحديث عند الترمذي. قال أبوهريرة: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً وهم ذوو عدد فاستقرأهم فاستقرأ كل رجل منهم، يعني ما معه من القرآن فأتى على رجل من أحدثهم سناً، فقال ما معك يا فلان: فقال معي كذا وكذا وسورة البقرة، فقال أمعك سورة البقرة؟ قال نعم! قال إذهب فأنت أميرهم، فقال رجل من أشرافهم والله ما منعني أن أتعلم البقرة إلا خشية أن لا أقوم بها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعلموا القرآن- الحديث. 2164- قوله: (من قرأ حم المؤمن) بفتح الميم وكسرها وجر المؤمن ونصبه قاله القاري. وفي رواية الدارمي فاتحه حم المؤمن أي من قرأ سورة حم التي يقال لها المؤمن (إلى إليه المصير) يعني {حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير} (وآية الكرسي) الواو لمطلق الجمع فيجوز تقديمها وتأخيرها، ويدل على ذلك تقديم آية الكرسي في رواية الدارمي وابن السني (حين يصبح) أي قبل صلاة الصبح أو بعدها وهو ظرف قرأ (حفظ بهما) أي بقراءتهما وبركتهما (حتى يمسي) أي يدخل الليل لأن الإمساء ضد الإصباح كما أن المساء ضد الصباح على ما في القاموس والصحاح، وفي رواية ابن السيني عصم ذلك اليوم من كل سوء، وللدارمي لم ير شيئاً يكرهه حتى يمسي (رواه الترمذي والدارمي) وأخرجه أيضاً أحمد وابن حبان كما في الحصن وابن السني (ص220) (وقال الترمذي هذا حديث غريب) تفرد به عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبيد الله بن أبي مليكه المدني عن زرارة بن مصعب عن أبي سلمة عن أبي هريرة وعبد الرحمن هذا ضعيف. قال البخاري وأحمد: منكر الحديث. وقال الترمذي: قد تكلم بعض أهل العلم في عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي مليكة المليكي من قبل حفظه.

2165- (37) وعن النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام، أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة، ولا تقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها ـــــــــــــــــــــــــــــ 2165- قوله: (إن الله كتب كتاباً) أي أجرى القلم على اللوح وأثبت فيه مقادير الخلائق على وفق ما تعلقت به الإرادة (قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام) كنى به عن طول المدة وتمادى ما بين التقدير والخلق من الزمن، فلا ينافي عدم تحقق الأعوام قبل السماء، والمراد مجرد الكثرة، فلا ينافي ما روى مسلم في صحيحه عن ابن عمر مرفوعاً كتب الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، إذ المراد طول الأمد بين التقدير والخلق. وقيل وجه الجمع بين الحديثين إنه من الجنائز أن لا يكون كتابة الكوائن في اللوح المحفوظ دفعة واحدة، بل ثبتها الله فيه شيئاً فشيئاً فيكون كتابة هذا الكتاب في اللوح قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام والمقادير الأخر بخمسين ألف عام. قال الطيبي: كتابة مقادير الخلائق قبل خلقها بخمسين ألف سنة لا تنافي كتابة الكتاب المذكور بألفي عام لجواز اختلاف أوقات الكتابة في اللوح، ولجواز أن لا يراد به التحديد بل مجرد السبق الدال على الشرف- انتهى. وقيل يجوز أن يكون المقادير كلها مكتوباً قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف عام ويكون الكتاب المذكور أيضاً مثبتاً فيه إذ ذاك. ثم أمر الله تعالى ملائكته بأفراد كتابة هذا الكتاب على حدة في الزمان الذي بعده قبل خلق السماوات والأرض بألفي عام تشريفاً وتكريماً، كما ينتخب ويفرد من الكتاب الكبير بعض أبوابه وفوائده وأنزل من هذا المفرد المنتخب الآيتين المذكورتين مختوماً بهما سورة البقرة. وقيل الكتابة بمعنى إظهار الكتابة والمراد إنه أظهر كتابة هذا الكتاب على طائفة من الملائكة. قبل خلق السماوات والأرض بألفي عام. قال الطيبي: لعل الخلاصة أن الكوائن كتبت في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات بخمسين ألف عام، ومن جملتها كتابة القرآن ثم خلق الله خلقاً من الملائكة وغيرهم فاظهر كتابة القرآن عليهم قبل أن يخلق السماوات والأرض بألف عام. وخص من ذلك هاتان الآيتان وأنزلهما مختوماً بهما أولى الزهراوين (أنزل) أي الله تعالى (منه) أي من جملة ما في ذلك الكتاب المذكور (آيتين) هما آمن الرسول إلى آخره (ختم بهما سورة البقرة) أي جعلهما خاتمتها (ولا تقرآن في دار) أي في مكان من بيت وغيره (ثلاث ليال) أي في كل ليلة منها (فيقربها) بفتح الموحدة على أنه منصوب في جواب النفي. وقيل: بالرفع والراء مفتوحة لأن قرب المتعدي بالكسر، ومضارعه بالفتح بخلاف قرب اللازم، فإنه يضم فيهما. ففي القاموس قرب ككرم دني وقربه كسمع- انتهى. ومنه قوله تعالى: {ولا تقربوا الزنى} [الإسراء: 32] {ولا تقربوا مال اليتيم} [الأنفال:

الشيطان)) رواه الترمذي، والدارمي. وقال الترمذي: هذا حديث غريب. 2166 - (38) وعن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ ثلاث آيات من أول الكهف عصم من فتنة الدجال)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح. 2167- (39) وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لكل شي قلباً، وقلب القرآن (يس) ومن قرأ (يس) كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات)) رواه الترمذي، والدرامي. ـــــــــــــــــــــــــــــ 153] ونحوهما (الشيطان) هذا لفظ الدارمي، وللترمذي شيطان أي فضلاً عن أن يدخلها فعبر بنفي القرب ليفيد نفي الدخول بالأولى. قال الطيبي: أي توجد قراءة يعقبها قربان، يعني أن الفاء للتعقيب عطفاً على المنفي، والنفي سلط على المجموع. وقيل: يحتمل أن تكون للجمعية أي لا تجتمع القراءة وقرب الشيطان (رواه الترمذي والدارمي) وأخرجه أيضاً النسائي في اليوم والليلة، وابن حبان في صحيحه والحاكم (ج1ص562) إلا أن عنده ولا بقرآن في بيت فيقربه شيطان ثلاث ليال وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي (وقال الترمذي هذا حديث غريب) كذا في النسخ الحاضرة من المشكاة، وهكذا وقع في النسخ الحاضرة من جامع الترمذي، لكن قال المنذري في الترغيب والشوكاني في تحفة الذاكرين بعد ذكر هذا الحديث: رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب. 2166- قوله: (من قرأ ثلث آيات من أول الكهف عصم من فتنة الدجال) تقدم الكلام عليه (رواه الترمذي) في فضائل القرآن (وقال هذا حديث حسن صحيح) أصل الحديث عند مسلم كما سبق. 2167- قوله: (وقلب القرآن يس) أي لبه وخالصه سورة يس. قال الطيبي: لاحتوائها مع قصرها على البراهين الساطعة والآيات القاطعة والعلوم المكنونة والمعاني الدقيقة والمواعيد الفائقة والزواجر البالغة. وقال الغزالي: إن الإيمان صحته بالاعتراف بالحشر والنشر وهو مقرر فيها بأبلغ وجه، فكانت قلب القرآن لذلك واستحسن هذا الفخر الرازي. وقال في اللمعات: قلب الشيء زبدته وقد اشتملت هذه السورة الشريفة على زبدة مقاصد القرآن على وجه أتم وأكمل مع قصر نظمها وصغر حجمها، وذكر النسفي وجهاً آخر من شاء الوقوف عليه رجع إلى الإتقان والمرقاة (كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن) أي ثوابها (عشر مرات) أي من غيرها ولله تعالى أن يخص ما شاء من الأشياء بما أراد من مزيد الفضل كليلة القدر من الأزمنة والحرم من الأمكنة (رواه الترمذي والدارمي) وأخرجه أيضاً محمد بن نصر، والبيهقي في الشعب كلهم من طريق هارون أبي محمد عن

وقال الترمذي: هذا حديث غريب. 2168 - (40) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى قرأ طه ويس قبل أن يخلق السماوات والأرض بألف عام، فلما سمعت الملائكة القرآن ـــــــــــــــــــــــــــــ مقاتل بن حيان عن قتادة عن أنس، وهارون هذا مجهول. وفي الباب عن أبي هريرة أخرجه أبوبكر البزار كما في تفسير الحافظ ابن كثير وعزاه في الكنز للبيهقي في الشعب (وقال الترمذي هذا حديث غريب) كذا في جميع النسخ من المشكاة، وكذا نقله المنذري في الترغيب والشوكاني في تحفة الذاكرين. ووقع في نسخ الترمذي الموجودة عندنا "هذا حديث حسن غريب" وقال بعد هذا لا نعرفه إلا من حديث حميد بن عبد الرحمن أي عن الحسن بن صالح عن هارون أبي محمد، قال وهارون أبومحمد شيخ مجهول. 2168- قوله: (إن الله تعالى قرأ طه ويس) قال القاري: أي أظهر قراءتهما وبين ثواب تلاوتهما وقال ابن الملك: أي أفهمهما ملائكته وألهمهم معناهما. وقال ابن حجر: أمر بعضهم بقراءتهما على البقية إعلاماً لهم بشرفهما، ويحتمل بقاءه على ظاهره وأنه تعالى أسمعهم كلامه النفسي بهما إجلالاً لهما بذلك، وهذا الإسماع يسمى قراءة كما أن الكلام النفسي يسمى قرآناً حقيقة- انتهى كلام القاري. قلت: لا حاجة إلى تأويل الحديث، وصرفه عن ظاهره إلى ما ذكروه بل تبقيته وإمراره على ظاهره هو المتعين، فسورة طه ويس من القرآن، والقرآن كلام الله غير مخلوق، والله تعالى لم يزل متكلماً إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء وكما شاء ليس كمثله شي، وحمل ذلك على الكلام النفسي والقول بأنه أسمعهم كلامه النفسي مما لا دليل عليه لا من كتاب ولا من سنة، ولا من قول صحابي فحمله على ظاهره هو الصواب المتعين (قبل أن يخلق السماوات والأرض بألف عام) الكلام فيه مثل الكلام في ما ذكر في حديث النعمان بن بشير من كتابة الكتاب قبل خلق السماوات والأرض بألفي عام المخصوص منه بالإنزال الآيتان من آخر سورة البقرة (فلما سمعت الملائكة القرآن) ظاهر الحديث، إن الملائكة خلقوا قبل خلق السماوات والأرض بزمان كثير. قيل: المراد بالقرآن المصدر أي القراءة كما في قوله تعالى: {إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} [القيامة: 17- 18] وقال أهل العربية: يقال قرأت الكتاب قراءة وقرآناً منه قول حسان: ضحوا باشمط عنوان السجود به يقطع الليل تسبيحاً وقرآناً وقيل المراد به القرآن أي الكلام نفسه لا مسمى المصدر كما في قوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النحل: 98] وفي قوله {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} [الأعراف: 204] وغالب

قالت: طوبى لأمة ينزل هذا عليها، وطوبى لأجوف تحمل هذا، وطوبى لألسنة تتكلم بهذا)) رواه الدرامي. 2169- (41) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ حم الدخان في ليلة، ـــــــــــــــــــــــــــــ ما يذكر لفظ القرآن إنما يراد به نفس الكلام لا يراد به التكلم بالكلام والقراءة به، وعلى هذا فإنما أطلق القرآن على طه ويس تفخيماً لشأنهما. وقيل: إنه يطلق حقيقة على البعض لأنه موضوع للمقدار المشترك بين الكل والأجزاء. وقيل: المراد القرآن كله فلما وجدوا فيه طه ويس قالوا (طوبى) فعلى من الطيب يعني الراحة والطيب حاصل (لأمة ينزل) بصيغة المجهول أو المعلوم (هذا) أي القرآن فإنه أقرب مذكور أو ما ذكر من طه ويس خصوصاً وهو ظاهر من السياق. وقيل: المراد بطوبي شجرة في الجنة في كل بيت من بيوت الجنة منها غصن (تحمل هذا) أي بالحفظ والمحافظة (تتكلم بهذا) أي تقرأه غيباً أو نظراً (رواه الدارمي) عن إبراهيم ابن المنذر عن إبراهيم بن المهاجر بن المسمار عن عمر بن حفص بن ذكران عن مولى الحرقة (عبد الرحمن بن يعقوب) عن أبي هريرة وإبراهيم بن المهاجر هذا ضعيف، وشيخه عمر بن حفص. قال أحمد: تركنا حديثه وحرقناه. وقال علي: ليس بثقة. وقال النسائي متروك. وقال الدارقطني: ضعيف. فالحديث ضعيف جداً، والحديث زاد نسبته في الكنز إلى ابن خزيمة وابن أبي عاصم والعقيلي في الضعفاء والطبراني في الأوسط وابن عدي في الكامل وابن مردوية والبيهقي في الشعب وغيره. وقال: قال العقيلي: فيه إبراهيم بن المهاجر بن مسمار منكر الحديث، وأورده ابن الجوزي في الموضوعات، ونقل عن ابن حبان أنه موضوع وتعقبه ابن حجر- انتهى. قلت قال الذهبي في الميزان: (ج1ص32) في ترجمة إبراهيم بن المهاجر بعد ذكر هذا الحديث: قال البخاري إنه منكر الحديث. وقال النسائي: ضعيف. وروى عن عثمان بن سعيد عن يحيى ليس به بأس وانفرد عنه بهذا الحديث إبراهيم بن المنذر الحزامي وقال الحافظ في اللسان: (ج1ص115) قال ابن حبان: في هذا الحديث إنه متن موضوع. وقال في الضعفاء إبراهيم بن المهاجر بن مسمار منكر الحديث جداً، لا يعجبني الاحتجاج به إذا انفرد، وكان ابن معين عرض القول فيه- انتهى. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: (ج7ص56) بعد عزو الحديث إلى الطبراني، فيه إبراهيم بن مهاجر بن مسمار، وضعفه البخاري بهذا الحديث ووثقه ابن معين. 2169- قوله: (من قرأ حم الدخان في ليلة) أي ليلة كانت. وقال في الأزهار المراد بالليلة المبهمة ليلة الجمعة المبينة في الحديث الآتي، والدليل على ذلك قوله عليه السلام في الحديث الأول يعني هذا الحديث يستغفر له سبعون ألف ملك، وفي الحديث الثاني يعني الآتي غفر له، والظاهر إن هذا مبين- انتهى. قال شيخنا: ليس في قوله "ليلة"

أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب، وعمر بن أبي خثعم الراوي يضعف، وقال محمد- يعني البخاري- هو منكر الحديث. 2170 - (42) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ حم الدخان في ليلة الجمعة غفر له)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب ضعيف. ـــــــــــــــــــــــــــــ في هذا الحديث إبهام حتى يقال إن قوله في ليلة الجمعة في الحديث الآتي مبين له فتفكر- انتهى. وقال في أشعة اللمعات: وقع في الحديث الثاني التخصيص بليلة الجمعة، وفي الحديث الأول التعميم فقراءتها في ليلة الجمعة أولى لتحصل الفضيلة المذكورة قطعاً (أصبح) أي دخل في الصباح أو صار بعد القراءة (يستغفر له سبعون ألف ملك) أي يطلبون له من الله المغفرة (رواه الترمذي) من طريق عمر بن أبي خثعم عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وأخرجه أيضاً محمد بن نصر في كتاب الصلاة والأصبهاني ورواه الدارقطني كما في اللآلي (ج1ص121) من طريق عمر بن راشد عن يحيى بن أبي كثير قال وعمر يضع الحديث (وقال هذا حديث غريب) وبعده لا نعرفه إلا من هذا الوجه (وعمر بن أبي خثعم) بفتح خاء معجمة وسكون مثلثة وفتح مهملة هو عمر بن عبد الله بن أبي خثعم نسب ههنا إلى جده (الراوي) لهذا الحديث (يضعف) أي في الحديث قلت. قال أبوزرعة: هو واهي الحديث حدث عن يحيى بن أبي كثير ثلاثة أحاديث لو كانت في خمسمائة حديث لأفسدتها. وقال ابن عدي: منكر الحديث. وبعض حديثه لا يتابع عليه (وقال محمد) أي ابن إسماعيل (يعني) أي يريد الترمذي بمحمد (البخاري) وهذا من كلام المصنف (هو) أي عمر ابن أبي خثعم (منكر الحديث) وقد تقدم في (ص152) في باب السنن وفضائلها من الجزء الثاني إن البخاري يطلق هذا اللفظ على من لا تحل الرواية عنه كما في التدريب (ص127) واعلم أن ابن الجوزي أورد هذا الحديث في موضوعاته، وقال إن عمر هذا هو عمر بن راشد تبع فيه ابن حبان. وقد رد ذلك الدارقطني فقال خلط أبوحاتم أي جعلها واحداً، وإنهما اثنان. وقال الذهبي: عمر ابن راشد غير عمر بن خثعم ذاك عمر بن عبد الله وهو صاحب حديث سورة الدخان- انتهى. قال السيوطي: ولم يجرح بكذب فلا يلزم أن يكون حديثه موضوعاً. 2170- قوله: (غفر له) ذنوبه أي الصغائر (رواه الترمذي) من طريق زيد بن حباب عن هشام أبي المقدام عن الحسن عن أبي هريرة، وأخرجه أيضاً ابن السني في عمل اليوم والليلة (ص218) وابن أبي داود والبيهقي وغيره كما في الآلي (ج1ص121، 122) (وقال هذا حديث غريب ضعيف) وفي بعض النسخ غريب

وهشام أبوالمقدام الراوي يضعف. 2171 - (43) وعن العرباض بن سارية، ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد، يقول: إن فيهن آية خير من ألف آية)) . رواه الترمذي، ـــــــــــــــــــــــــــــ فقط، وفي بعضها "ضعيف" فقط والذي في الترمذي هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه (وهشام أبوالمقدام الراوي يضعف) قال الحافظ في التقريب: هشام بن زياد بن أبي يزيد وهو هشام بن أبي هشام أبوالمقدام ويقال له أيضاً هشام بن أبي الوليد المدني متروك- انتهى. قلت: ضعفه عبد الله بن أحمد والنسائي وأبوزرعة وأبوحاتم والدارقطني وابن سعد والعجلي ويعقوب بن سفيان. وقال الدوري عن ابن معين: ليس بثقة. وقال في موضع آخر: ضعيف ليس بشي: وقال البخاري: يتكلمون فيه. وقال أبوداود": غير ثقة. وقال النسائي وعلى بن الجنيد الأزدي: متروك الحديث. وقال النسائي: أيضاً ليس بثقة ومرة ليس بشي، ويقال أنه أخذ كتاب حفص المنقري عن الحسن، فروى عن الحسن وعنده عن الحسن أحاديث منكرة. وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الثقات لا يجوز الاحتجاج به، وترك ابن المبارك حديثه. وقال أبوبكر بن خزيمة لا يحتج بحديثه كذا في تهذيب التهذيب، قال الترمذي: ولم يسمع الحسن من أبي هريرة- انتهى. فالحديث ضعيف من وجهين. وقد أورده ابن الجوزي في الموضوعات. وقال باطل. فيه محمد بن زكريا (عند ابن أبي داود) وهو وضاع وتعقبه السيوطي فقال الحديث له طرق كثيرة عن أبي هريرة بعضها على شرط الصحيح أخرجه الترمذي والبيهقي في الشعب من عدة طرق. 2171- قوله: (كان يقرأ المسبحات) بكسر الباء نسبة مجازية وهي السور التي في أوائلها سبحان أو سبح بالماضي أو يسبح أو سبح بالأمر، وهي سبعة {سبحان الذي أسرى بعبده} [الإسراء: 1] والحديد والحشر والصف والجمعة والتغابن والأعلى (قبل أن يرقد) بضم القاف من نصر أي ينام (يقول) استئناف لبيان الحامل له على قراءة تلك السور كل ليلة قبل أن ينام (إن فيهن) أي في السور المسبحات (آية) أي عظيمة (خير) أي هي خير (من ألف آية) قيل: هي لو أنزلنا هذا القرآن وهذا مثل اسم الله الأعظم من بين سائر الأسماء في الفضيلة فعلى هذا "فيهن" أي في مجموعهن وعن الحافظ ابن كثير إنها {هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم} [الحديد: 3]- انتهى. قال القاري: والأظهر إنها هي الآية التي صدرت بالتسبيح "وفيهن" بمعنى جميعهن والخيرية لمعنى الصفة التنزيهية الملتزمة للنعوت الإثباتية. وقال الطيبي: أخفى الآية فيها كإخفاء ليلة القدر في الليالي وإخفاء ساعة الإجابة في يوم الجمعة محافظة على قراءة الكل لئلا تشذ تلك الآية (رواه الترمذي) في فضائل القرآن

وأبوداود. ورواه الدارمي عن خالد بن معدان مرسلاً. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. 2172- (44) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن سورة في القرآن، ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له، وهي تبارك الذي بيده الملك)) رواه أحمد، ـــــــــــــــــــــــــــــ والدعوات (وأبوداود) في الأدب وأخرجه النسائي في الكبرى وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص219) كلهم من طريق بقية بن الوليد عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن عبد الله بن أبي بلال عن العرباض بن سارية (ورواه الدارمي) أي من طريق معاوية بن صالح عن بحير بن سعد (عن خالد بن معدان) بفتح الميم وسكون العين وخفة الدال المهملتين الكلاعي أبوعبد الله الشامي الحمصي ثقة عابد يرسل كثيراً من أوساط التابعي. قال: أدركت سبعين رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مات سنة ثلاث ومائة، وقيل بعد ذلك. (مرسلاً) أي بحذف الصحابي (وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب) قال المنذري في مختصر السنن بعد نقل تحسين الترمذي: وفي إسناده بقية بن الوليد عن بحير بن سعد، وبقية فيه مقال وأخرجه النسائي من حديث معاوية بن صالح عن بحير بن سعد مرسلاً- انتهى. قلت: بقية كثير التدليس وروى هذا الحديث عن بحير بالعنعنة. 2172- قوله: (إن سورة) أي عظمية (في القرآن) أي كائنة فيه، وفي الترمذي من القرآن (ثلاثون آية) خبر مبتدأ محذوف أي هي ثلاثون، والجملة صفة لاسم إن (شفعت) بالتخفيف خبر إن قاله الطيبي. وقيل: خبر إن هو "ثلاثون" وقوله "شفعت" خبر ثان (لرجل حتى غفر له) متعلق بشفعت وهو يحتمل أن يكون بمعنى المضِيّ في الخبر يعني كان رجل يقرؤها ويعظم قدرها، فلما مات شفعت له حتى دفع عنه عذابه. ويحتمل أن يكون الماضي بمعنى المستقبل أي تشفع لمن يقرؤها في القبر أو يوم القيامة كذا في المرقاة. وقال في اللمعات: إن حمل قوله "شفعت لرجل" على معنى المضي كما هو ظاهر كان إخباراً عن الغيب، وأن يجعل بمعنى تشفع (كما في قوله تعالى) : {ونادى أصحاب الجنة} [الأعراف: 44] كان تحريضاً على المواظبة عليها، ويحمل رجل على العموم كما في تمرة خير من جرادة (وهي تبارك الذي بيده الملك) أي إلى آخرها وفي سوق الكلام على الإبهام ثم التفسير تفخيم للسورة، إذ لو قيل: إن سورة تبارك شفعت لم تكن بهذه المنزلة. وقد استدل بهذا الحديث من قال البسملة ليست من السورة وآية تامة منها، لأن كونها ثلاثين آية إنما يصح على تقدير كونها آية تامة منها، والحال إنها ثلاثون من غير كونها آية تامة منها فهي إما ليست بآية منها كمذهب أبي حنيفة ومالك والأكثرين، وإما ليست بآية تامة بل هي جزء من الآية الأولى كرواية في مذهب الشافعي (رواه أحمد) (ج2ص298)

والترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه. 2173 - (45) وعن ابن عباس، قال: ضرب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر، ـــــــــــــــــــــــــــــ (والترمذي وأبوداود والنسائي) في الكبرى (وابن ماجه) في باب ثواب القرآن وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه والحاكم (ج1ص565) وابن الضريس وابن مردوية والبيهقي في شعب الإيمان. قال الترمذي: هذا حديث حسن. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقد سقط لي في سماعي هذا الحرف، وهي سورة الملك ووافقه الذهبي على تصحيحه. واعلم أنه اختلف في اسم راوي هذا الحديث عباس الجشمي عن أبي هريرة أهو عباس بالموحدة والسين المهملة أم عياش بالياء التحتية والشين المعجمة، ورجح الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على المسند (ج15ص128) بعد البحث عن ذلك أنه عياش بالتحتية والشين المعجمة. وقال بعد ذكر تخريج الحديث وتصحيحه: والعجب للحافظ المنذري لم يعترض في الترغيب على تحسين الترمذي وتصحيح ابن حبان، والحاكم، ولم يعقب عليهم. ثم جاء في تهذيب السنن بعد أن خرج الحديث وأشار إلى تحسين الترمذي فنقل شيئاً لا ندري من أين جاء به فقال "وقد ذكره البخاري في التاريخ الكبير من رواية عياش الجشمي عن أبي هريرة كما أخرجه أبوداود ومن ذكر معه. وقال لم يذكر سماعاً عن أبي هريرة" يريد أن عياشاً الجشمي روى هذا الحديث عن أبي هريرة ولم يذكر فيه أنه سمعه من أبي هريرة، فهذا الكلام الذي نسبه للتاريخ الكبير لم نجده فيه (أي في ترجمة عباس الجشمي من باب عباس وترجمة عياش من باب عياش) ثم هو لم يترجم له في الصغير ولا ذكره في الضعفاء فلا ندري أنى له هذا الكلام عن البخاري؟ إلا أن يكون في الكبير في موضع آخر غير مظنته والله اعلم. 2173- قوله: (ضرب بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - خباءه) بكسر الخاء المعجمة والمد أي خيمته. قال الطيبي: الخباء، أحد بيوت العرب من وبر أو صوف ولا يكون من شعر ويكون على عمودين أو ثلاثة (على قبر) أي موضع قبر (وهو) أي الصحابي (لا يحسب) بفتح السين وكسرها أي لا يظن (أنه قبر) أي إن ذلك الموضع موضع قبر قد تقدم أن البناء والجلوس على القبور والمشي والوطأ عليها ممنوع، سواء كانت القبور ظاهرة بحدبتها أو مندرسة مستوية بالأرض بحيث لا يظهر لها أثر فقوله، وهو لا يحسب أنه قبر محمول على الاعتذار من ضرب الخباء على القبر، وأما عدم ذكر تقويض خيمته وتنحيه عن ذلك الموضع بعد العلم، فهو لا يستلزم عدم وقوعه في نفس الأمر. وأما من ذهب إلى جواز ذلك بعد إندراس القبور فحمل قوله "وهو لا يحسب" أنه قبر على مجرد بيان الحال، ولا يخفي ما فيه. وهذه القراءة المسموعة كالتسبيح للملائكة على وجه الالتذاذ لا على سبيل التكليف

فإذا فيه إنسان يقرأ سورة تبارك الذي بيده الملك، حتى ختمها، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هي المانعة، هي المنجية، تنجيه من عذاب الله)) . رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. 2174- (46) وعن جابر، ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ ألم تنزيل، وتبارك الذي بيده الملك)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ لتحصيل الأجر والثواب، فإن البرزخ أمر غيبي وليس بعالم التكليف. وأما قوله عليه السلام هي "المنجية" فمعناه إن تلاوة هذه السورة في الحياة الدنيا تكون سبباً لنجاة تاليها من عذاب القبر والله أعلم (فإذا) للمفاجأة (فيه) أي في ذلك المكان (إنسان يقرأ سورة تبارك الذي بيده الملك حتى ختمها) وفي الترمذي فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها (فأتى النبي صلى الله عليه وسلم) أي صاحب الخيمة (فأخبره) أي بما سمعه، وفي الترمذي فقال يا رسول الله! ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر فإذا فيه إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها (فقال النبي صلى الله عليه وسلم) أي سورة الملك (المانعة) أي تمنع من عذاب القبر أو من المعاصي التي توجب عذاب القبر. وقال في المفاتيح: أي هذه السورة تمنع من قارئها العذاب (هي المنجية) يحتمل أن تكون مؤكدة لقوله هي المانعة وأن تكون مفسرة ومن ثمة عقبه بقوله "تنجيه من عذاب القبر" (من عذاب الله) كذا في جميع النسخ الحاضرة من المشكاة، وفي الترمذي من عذاب القبر، وهكذا نقله المنذري في الترغيب وابن القيم في كتاب الروح (ص128) والجزري في جامع الأصول (ج9ص365) والشوكاني في تحفة الذاكرين (ص272) (وقال هذا حديث غريب) في سنده يحيى بن عمرو بن مالك النكري بضم النون وهو ضعيف، ويقال إن حماد بن زيد كذبه كذا في التقريب فالحديث ضعيف، وفي الباب عن أبي هريرة وأنس وابن مسعود ذكر أحاديثهم في الكنز (ج1ص517، 528، 526) . 2174- قوله: (كان لا ينام حتى يقرأ ألم تنزيل) بالرفع على الحكاية وفي رواية حتى يقرأ تنزيل السجدة والمراد سورة السجدة (وتبارك الذي بيده الملك) أي سورة الملك. قال الطيبي: حتى غاية لا ينام ويحتمل أن يكون المعنى إذا دخل وقت النوم لا ينام حتى يقرأهما وأن يكون لا ينام مطلقاً حتى يقرأهما، والمعنى لم يكن من عادته النوم قبل القراءة فتقع القراءة قبل دخول وقت النوم أي وقت كان، ولو قيل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرؤهما بالليل لم يفد هذه الفائدة- انتهى. قال القاري: والفائدة هي إفادة القبلية ولا يشك إن الاحتمال الثاني

رواه أحمد، والترمذي، والدارمي. وقال الترمذي: هذا حديث صحيح. وكذا في شرح السنة، وفي المصابيح غريب. 2175- 2176- (47- 48) وعن ابن عباس، وأنس بن مالك، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا زلزلت تعدل نصف القرآن، ـــــــــــــــــــــــــــــ أظهر لعدم احتياجه إلى تقدير يفضي إلى تضييق (رواه أحمد) (ج3ص340) (والترمذي) في فضائل القرآن وفي الدعوات (والدارمي) وأخرجه أيضاً البخاري في الأدب المفرد والنسائي وابن السني في اليوم والليلة (ص217) كلهم من حديث أبي الزبير عن جابر. وذكر السيوطي هذا الحديث في الدر. وقال أخرجه أبوعبيد في فضائله وأحمد وعبد بن حميد والدارمي والترمذي والنسائي والحاكم وصححه وابن مردوية (وقال الترمذي هذا حديث صحيح) كذا وقع في جميع النسخ من المشكاة لكن ليس في جامع الترمذي تصحيح هذا الحديث ولا تحسينه، بل كلام الترمذي يدل على أنه حديث مضطرب الإسناد ولذا قال المناوي بعد تخريجه وفيه اضطرب انتهى. قلت قال الترمذي: هكذا روى الثوري وغير واحد هذا الحديث عن ليث (بن أبي سليم) عن أبي الزبير عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه، وروى زهير هذا الحديث عن أبي الزبير قال قلت له أسمعته من جابر قال لم أسمعه من جابر، إنما سمعته من صفوان أو ابن صفوان، وكأن زهيراً أنكر أن يكون هذا الحديث عن أبي الزبير عن جابر. قال الترمذي: وقد روى شبابة عن مغيرة بن مسلم عن أبي الزبير عن جابر نحو حديث ليث- انتهى. قلت: روايته زهير أخرجه الحاكم (ج2ص412) قال حدثنا جعفر بن محمد نا الحارث بن أبي أسامة نا أبوالنصر نا أبوخيثمة زهير بن معاوية. قال: قلت: لأبي الزبير أسمعت إن جابراً يذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا ينام حتى يقرأ ألم تنزيل السجدة وتبارك الذي بيده الملك. فقال أبوالزبير: حدثنيه صفوان أو أبوصفوان هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه لأن مداره على حديث ليث بن أبي سليم عن أبي الزبير (وكذا) أي هو (في شرح السنة وفي المصابيح غريب) أي هو غريب. قال الطيبي: هذا لا ينافي كونه صحيحاً لأن الغريب قد يكون صحيحاً- انتهى. قلت: نعم الغرابة لا تنافي الصحة لكن في كون هذا الحديث صحيحاً نظر، لأن مداره على ليث بن أبي سليم ولا يبعد أن يكون صحيحاً لغيره أي لتعدد طرقه. 2175- 2176- قوله: (إذ زلزلت) أي سورة إذا زلزلت (تعدل) أي تساوي وتماثل (نصف القرآن إلخ) قيل: يحتمل إن سورة الزلزلة تعدل نصف القرآن لأن أحكام القرآن تنقسم إلى أحكام الدنيا وأحكام الآخرة وهذه السورة تشمل على أحكام الآخرة كلها إجمالاً وزادت على القارعة بإخراج الأثقال وتحديث

وقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، وقل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن)) رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأخبار. وأما تسميتها في حديث أنس عند الترمذي وابن أبي شيبة وأبي الشيخ ربع القرآن، فلأن الإيمان بالبعث ربع الإيمان في الحديث الذي رواه الترمذي لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع، يشهد أن لا إله إلا الله وإني رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالموت، ويؤمن بالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر فاقتضى هذا الحديث إن الإيمان بالبعث الذي قررته هذه السورة ربع الإيمان الكامل الذي دعا إليه القرآن فهي ربع من وجه ونصف من وجه. وقال الطيبي: يحتمل أن يقال المقصود الأعظم بالذات من القرآن بيان المبدأ والمعاد. وإذا زلزلت مقصورة على ذكر المعاد مستقلة ببيان أحواله فيعادل من طريق المعنى نصفه، وما جاء إنها ربع القرآن فتقريره أن يقال القرآن يشتمل على تقرير التوحيد والنبوات وبيان أحكام المعاش وأحوال المعاد، وذلك إتمام أربعة. وهذه السورة إجمالاً مشتملة على القسم الأخير من الأربع، وقل يا أيها الكافرون محتوية على القسم الأول منها، لأن البراءة عن الشرك والتدين بدين الحق إثبات للتوحيد، فتكون كل واحدة منها كأنها ربع القرآن. وهذا تلخيص كلام التوربشتي. فإن قلت هلا حملوا المعادلة على التسوية في الثواب على المقدار المنصوص عليه؟ قلت: منعهم من ذلك لزوم فضل إذا زلزلت على سورة إخلاص والقول الجامع ما ذكره الشيخ التوربشتي من قوله "ونحن وإن سلكنا هذا المسلك بمبلغ علمنا نعتقد ونعترف إن بيان ذلك على الحقيقة إنما يتلقى من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه هو الذي ينتهي إليه في معرفة حقائق الأشياء والكشف عن خفيات العلوم. فأما القول الذي نحن بصدده ونحوم حوله على مقدار فهمنا وإن سلم من الخلل والزلل لا يتعدى عن ضرب من الاحتمال- انتهى. (وقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن) لأن علوم القرآن. ثلاثة علم التوحيد، وعلم الشرائع والأحكام، وعلم الأخبار والقصص. وهذه السورة مشتملة على القسم الأول فكانت ثلاثاً بهذا الاعتبار، وقيل في بيان وجهه غير ذلك (وقل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن) قيل: السر في كون سورة الكافرون ربعاً، وسورة الإخلاص ثلاثاً، مع أن كلام منهما يسمى الإخلاص إن سورة الإخلاص اشتملت من صفات الله ما لم تشتمل عليه الكافرون، وأيضاً فالتوحيد إثبات إلهية المعبود وتقديسه ونفي إلهية ما سواه. وقد صرحت الإخلاص بالإثبات والتقديس ولوحت إلى نفي عبادة غيره، والكافرون صرحت بالنفي ولوحت بالإثبات والتقديس، فكان بين الرتبتين من التصريحتين والتلويحين ما بين الثلث والربع (رواه الترمذي) في فضائل القرآن واللفظ المذكور لحديث ابن عباس رواه الترمذي وكذا ابن الضريس ومحمد بن نصر والحاكم (ج1ص566) وأبوالشيخ والبيهقي في الشعب كلهم من رواية يمان بن المغيرة العنزي عن عطاء عن ابن عباس. قال الحاكم: صحيح الإسناد. وتعقبه المناوي فقال ليس كذلك فإن مداره على يمان ويمان ضعيف. وقال الذهبي في تلخيصه بعد نقل تصحيح الحاكم: بل يمان ضعفوه. وقال الشوكاني بعد ذكر جروح الأئمة في يمان: فالعجب من الحاكم حيث صحح حديثه. وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه

2177- (49) وعن معقل بن يسار، ((عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: من قال حين يصبح ثلاث مرات: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، فقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي، وإن مات في ذلك اليوم مات شهيداً. ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلا من حديث يمان بن المغيرة- انتهى. قلت قال البخاري وأبو حاتم عن يمان: هذا هو منكر الحديث يروي المناكير التي لا أصول لها فاستحق الترك. وقال ابن معين: ليس حديثه بشي. وقال أبوزرعة وأبوحاتم: ضعيف الحديث. وأما ابن عدي فقال لا أرى به بأساً كذا في تهذيب التهذيب والميزان. وأما حديث أنس فأخرجه الترمذي وكذا ابن مردوية والبيهقي من طريق الحسن بن سلم بن صالح العجلي عن ثابت البناني عنه بلفظ من قرأ إذا زلزلت عدلت له بنصف القرآن ومن قرأ قل يا أيها الكافرون عدلت له ربع القرآن ومن قرأ قل هو الله أحد عدلت له بثلث القرآن. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الحسن بن سلم- انتهى. والحسن هذا مجهول. قال في تهذيب التهذيب: هو شيخ مجهول له حديث واحد في فضل إذا زلزلت، رواه عن ثابت وعنه محمد بن موسى الحرشي أخرجه الترمذي واستغربه وكذا فعله الحاكم أبوأحمد-انتهى. وفي الباب عن أبي هريرة أخرجه ابن السني. 2177- قوله: (من قال حين يصبح) أي يدخل في الصباح (ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم) التكرار للإلحاح في الدعاء فإنه خبر لفظاً دعاء معنى أو التثليث لمناسبة الآيات الثلاث حتى لا يمنع القاري عن قراءتها والتدبر في معانيها والتخلق بأخلاق ما فيها (فقرأ) قال القاري: أي بعد التعوذ المذكور وبه يندفع أخذ الظاهرية بظاهر قوله: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله} [النحل: 98] قال الطيبي هذه الفاء مقابلة لما في قوله تعالى: {فاستعذ بالله} لأن الآية توجب تقديم القراءة على الاستعاذة ظاهراً، والحديث بخلافه فاقتضى ذلك أن يقال فإذا أردت القراءة فاستعذ، ولا يحسن هذا التأويل في الحديث- انتهى. قلت قوله "فقرأ" كذا في جميع النسخ الحاضرة من المشكاة بالفاء، والذي في جامع الترمذي، وقرأ بالواو وهكذا في جامع الأصول (ج9ص356) وتحفة الذاكرين (ص60) نقلاً عن الترمذي وكذا وقع عند أحمد (ج5ص26) وابن السني (ص218) (ثلاث آيات من آخر سورة الحشر) أي من قوله: {هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب} [الحشر: 22] إلى آخر السورة فإنها مشتملة على الاسم الأعظم عند كثيرين (يصلون عليه) أي يدعون له بتوفيق الخير ودفع الشرار يستغفرون له (ومن قاله) أي الكلمات المذكورة (كان بتلك المنزلة) أي

رواه الترمذي والدارمي، وقال الترمذي: هذا حديث غريب. 2178- (50) وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((من قرأ كل يوم مائتي مرة قل هو الله أحد محي عنه ذنوب خمسين سنة، إلا أن يكون عليه دين)) . رواه الترمذي، والدارمي، وفي روايته: خمسين مرة، ولم يذكر إلا أن يكون عليه دين. ـــــــــــــــــــــــــــــ بالمرتبة المسطورة والظاهر أن هذا نقل بالمعنى اقتصاراً من بعض الرواة، وهذا لفظ الترمذي، وللدارمي وإن قالها مساء فمثل ذلك حتى يصبح (رواه الترمذي والدارمي) في فضائل القرآن وأخرجه أيضاً أحمد (ج5ص26) وابن السني (ص218) كلهم من طريق خالد بن طهمان عن نافع بن أبي نافع عن معقل بن يسار وخالد ابن طهمان صدوق وكان قد خلط قبل موته بعشر سنين (وقال الترمذي هذا حديث غريب) كذا في جميع النسخ الحاضرة ووقع في نسخ الترمذي الموجودة عندنا هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وكذا نقله الشوكاني في تحفة الذاكرين. وقال وأخرجه أيضاً الدارمي وابن السني، قال النووي في الأذكار: بإسناد فيه ضعف. وقال المنذري في الترغيب: رواه الترمذي من رواية خالد بن طهمان وقال: حديث غريب وفي بعض النسخ حسن غريب. 2178- قوله: (من قرأ كل يوم مائتي مرة قل هو الله أحد) أي إلى آخره أو هذه السورة (محي عنه) أي عن كتاب أعماله (إلا أن يكون عليه دين) قال الشيخ عبد الحق الدهلوي في أشعة اللمعات ما محصله: إن لهذا الاستثناء معنيين. أحدهما، إن هذا الذنب أي الدين لا يمحى عنه ولا يغفر، وجعل الدين من جنس الذنوب تهويلاً لأمره وتشديداً. والثاني، إنه لا يمحى عنه ذنوبه إذا كان عليه الدين ولا توثر قراءة هذه السورة في محوها والله أعلم (رواه الترمذي) في فضائل القرآن عن محمد بن مرزوق البصري عن حاتم بن ميمون أبي سهل عن ثابت البناني عن أنس، وأخرجه أيضاً محمد بن نصر من هذا الطريق كما في اللآلئ (ج1ص124) قال الترمذي: هذا حديث غريب. قلت: حاتم بن ميمون ضعيف. قال البخاري: روى منكراً كانوا يتقون مثل هؤلاء المشائخ. وقال ابن حبان: منكر الحديث، على قلته يروي عن ثابت ما لا يشبه حديثه، لا يجوز الاحتجاج به كذا في تهذيب التهذيب. (والدارمي) من طريق أم كثير الأنصارية عن أنس وأخرجه أيضاً أبويعلى ومحمد بن نصر كما في اللآلي (ج1ص124) وابن السني (ص221) (وفي روايته) أي الدارمي وكذا في رواية ابن السني (خمسين مرة) أي بدل "مائتي مرة" قال القاري: وهي أظهر في المناسبة بين الثواب والعمل المترتب عليه، ووجه الرواية الأولى مفوض إليه صلى الله عليه وسلم (ولم يذكر) أي الدارمي في روايته (إلا أن يكون عليه دين) للحديث طرق وألفاظ

2179- (51) وعنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: ((من أراد أن ينام على فراشه، فنام على يمينه، ثم قرأ مائة مرة {قل هو الله أحد} إذا كان يوم القيامة يقول له الرب: يا عبدي! أدخل على يمينك الجنة)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب. 2180- (52) وعن أبي هريرة، ((أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقرأ {قل هو الله أحد} فقال: وجبت. قلت: وما وجبت. قال الجنة)) ـــــــــــــــــــــــــــــ عند ابن عدي وابن عساكر والإسماعيلي والخطيب وابن الضريس والبيهقي والبزار وغيرهم ذكرها على المتقى في الكنز والسيوطي في اللآلي وفي تعقباته على ابن الجوزي وفي كلها مقال من شاء الوقوف عليها رجع إلى اللآلي. 2179- قوله: (فنام) عطف على أراد والفاء للتعقيب (على يمينه) أي على وجه السنة (ثم قرأ مائة مرة) ثم للتراخي في الرتبة (إذا كان) كذا في جميع النسخ من المشكاة، وكذا نقله الجزري في الحصن وفي الترمذي فإذا كان (يوم القيامة يقول له الرب) الشرط مع جزاءه الذي هو يقول جزاء للشرط الأول الذي هو من، ولم يعمل الشرط الثاني في جزاءه أعني يقول، لأن الشرط ماض فلم يعمل فيه إذا فلا يعمل في الجزاء كما في قول الشاعر: وإن أتاه خليل يوم مسغبة يقول لا غائب مالي ولا حرم (أدخل على يمينك الجنة) قال الطيبي: قوله "على يمينك" حال من فاعل أدخل فطابق هذا قوله "فنام على يمينه" يعني إذا أطعت رسولي واضطجعت على يمينك وقرأت السورة التي فيها صفاتي فأنت اليوم من أصحاب اليمين فاذهب من جانب يمينك إلى الجنة (رواه الترمذي) في فضائل القرآن بإسناد الحديث السابق فهو ضعيف أيضاً كالأول (وقال هذا حديث حسن غريب) كذا في أكثر النسخ من المشكاة وفي بعضها حديث غريب كما في نسخ الترمذي الحاضرة، ويمكن أن يوجه ما في أكثر نسخ المشكاة إن كان صواباً بأنه حسنه لتعدد طرقه فقد قال الترمذي بعد ذلك: وقد روى هذا الحديث من غير هذا الوجه أيضاً عن ثابت. 2180- قوله: (سمع رجلاً) لم يعرف اسمه (يقرأ قل هو الله أحد) أي السورة بتمامها (وجبت) أي له (قلت وما وجبت) أي وما معنى قولك جزاء لقراءته وجبت أو ما فاعل وجبت وفي رواية مالك والحاكم فسألته ماذا يا رسول الله! أي ماذا أردت بقولك وجبت (قال الجنة) أي بمقتضى وعد الله وفضله الذي لا يخلفه كما قال تعالى: {إن الله لا يخلف الميعاد} [آل عمران: 9] قال الباجي: يحتمل أن يريد بذلك تنبيه أبي هريرة ومن كان

رواه مالك، والترمذي، والنسائي. 2181 - (53) وعن فروة بن نوفل، عن أبيه، أنه قال: ((يا رسول الله! علمني شيئاً أقوله إذا أويت إلى فراشي. فقال إقرأ {قل يا أيها الكافرون} فإنها براءة من الشرك)) . رواه الترمذي، وأبوداود، والدارمي. ـــــــــــــــــــــــــــــ معه على كثرة فضل هذه السورة وكثرة الثواب لقاريها، وزاد في رواية مالك قال أبوهريرة: فأردت أن أذهب إلى الرجل فأبشره ثم فرقت أن يفوتني الغداء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فآثرت الغداء مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ذهبت إلى الرجل فوجدته قد ذهب (رواه مالك) في أواخر الصلاة عن عبيد الله بن عبد الرحمن عن عبيد بن حنين عن أبي هريرة قال: أقبلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمع رجلاً الخ (والترمذي) في فضائل القرآن (والنسائي) في عمل اليوم والليلة وأخرجه أيضاً ابن السني (ص221) والحاكم (ج1ص566) كلهم من طريق مالك بن أنس. قال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث مالك بن أنس يعني وهو إمام حافظ فلا يضره التفرد. 2181- قوله: (وعن فروة بن نوفل) الأشجعي الكوفي مختلف في صحبته والصواب إن الصحبة لأبيه وهو من الطبقة الواسطى من التابعين قاله في التقريب. وقال في تهذيب التهذيب: ذكره ابن حبان في ثقات التابعين قتل في خلافة معاوية سنة خمس وأربعين (عن أبيه) نوفل بن فروة الأشجعي صحابي نزل الكوفة روى عنه بنوه فروة وعبد الرحمن وسحيم (إذا أويت) بالقصر (إلى فراشي) بكسر الفاء وهذا لفظ الترمذي وفي رواية الدارمي وكذا أحمد وابن السني والحاكم عند منامى (إقرأ) أي إذا أخذت مضجعك كما في رواية الدارمي (قل يأيها الكافرون) أي إلى آخرها، زاد في رواية أبي داود وأحمد والدارمي وابن السني ثم نم على خاتمتها (فإنها) أي هذه السورة (براءة من الشرك) أي ومفيدة للتوحيد. قال الشوكاني: وإنما كانت براءة من الشرك لما فيها من التبري من عبادة ما يعبده المشركون (رواه الترمذي) في فضائل القرآن (وأبوداود) في أواخر الأدب (والدارمي) وأخرجه أيضاً أحمد (ج5ص456) وابن حبان والحاكم (ج1ص565وج2ص538) وابن السني (ص220) كلهم من طريق أبي إسحاق عن فروة بن نوفل عن أبيه. واختلف فيه على أبي إسحاق في وصله وإرساله، فروى بعض أصحابه عنه عن فروة بن نوفل أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم كما عند الترمذي وابن حبان والنسائي، وروى بعضهم عنه عن فروة بن نوفل عن أبيه أي موصولاً. قال ابن عبد البر في الاستيعاب: حديث نوفل في قل يا أيها الكافرون مختلف فيه مضطرب الإسناد لا يثبت، وتعقبه الحافظ في الإصابة. فقال في ترجمته: نوفل زعم ابن

2182- (54) وعن عقبة بن عامر، قال: ((بينما أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الجحفة والأبواء، إذ غشيتنا ريح وظلمة شديدة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ {بأعوذ برب الفلق} ـــــــــــــــــــــــــــــ عبد البر بأنه حديث مضطرب وليس كما قال، بل الرواية التي فيها عن أبيه أرجح وهي الموصولة رواته ثقات فلا يضره مخالفة من أرسله، وشرط الاضطراب أن تتساوى الوجوه في الاختلاف، وأما إذا تفاوتت فالحكم للراجح بلا خلاف. وقد أخرجه ابن أبي شيبة من طريق أبي مالك الأشجعي عن عبد الرحمن بن نوفل الأشجعي عن أبيه-انتهى. وقد ذكر الترمذي هذا الاختلاف ثم رجح الرواية الموصولة حيث قال هذا أي الموصول يعني بذكر عن أبيه أشبه وأصح، وفي الباب أحاديث ذكرها الشوكاني في تحفة الذاكرين (ص86) والهيثمي مجمع الزوائد (ج10ص121) . 2182- قوله: (بين الجحفة) بضم الجيم وسكون الحاء المهملة قرية خربة قريبة من البحر بينها وبين مكة خمس مراحل أو ستة، وفي وفاء الوفاء هي قرية كانت كبيرة ذات منبر على نحو خمس مراحل وثلثي مرحلة من المدينة وعلى نحو أربع مراحل ونصف من مكة، وفي المحلى قرية جامعة على اثنين وثمانين ميلاً من مكة، وكان اسمها مهيعة (كمرحلة وقيل كمعيشة) فاجحف السيل بأهلها فسميت الجحفة. قال ابن الكلبي: كان العماليق يسكنون يثرب فوقع بينهم وبين بني عبيل وهم إخوة عاد حرب فأخرجوهم من يثرب فنزلوا الجحفة وكان اسمها يومئذ مهيعة فجاءهم سيل واجتحفهم أي استأصلهم فسميت الجحفة كذا في الفتح، وهي التي دعا النبي صلى الله عليه وسلم بنقل حمى المدينة إليها فانتقلت إليها فلا يمر بها أحد إلا حم وهي ميقات أهل الشام قديماً ومصر والمغرب، والموضع الذي يحرم المصريون الآن، رابغ بوزن فاعل، قريب من الجحفة. قيل: بينها وبينه نحو ستة أميال (والأبواء) بفتح الهمزة وسكون الموحدة والمد كحلواء جبل بين مكة والمدينة وعنده بلد ينسب إليه. وقيل: قرية من أعمال الفرع وبه توفيت أم النبي صلى الله عليه وسلم بينها وبين الجحفة عشرون أو ثلاثون ميلاً. قيل: سميت بذلك لأن السيول تتبوؤها أي تحلها. وقيل: لما كان فيها من الوباء وهي على القلب وإلا لقيل الوباء وأرجع إلى وفاء الوفاء (ص1016، 1017- 1118، 1119) (فجعل) أي طفق وشرع (يتعوذ بأعوذ برب الفلق) أي الصبح. وقيل: الخلق. وقيل: سجن أو واد أو جبٌّ في جهنم. وقيل الفلق كل ما أنفلق أي انشق عن شي من الحيوان والصبح والحب والنوى وكل شي من نبات وغيره. قيل: تفسيره بالصبح أولى لأن مقصود العائذ من الاستعاذة أن يتغير حاله بالخروج من الخوف إلى الأمن وبالتخلص عن وحشة الهم والحزن إلى الفرح والسرور والصبح أدل على هذا لما فيه من زوال الظلمة بإشراق أنوار الصبح وتغير وحشة الليل وثقله بسرور الصبح وخفته

و {أعوذ برب الناس} ويقول! يا عقبة: تعوذ بهما، فما تعوذ متعوذ بمثلهما)) رواه أبوداود. 2183- (55) وعن عبد الله بن خبيب، قال: خرجنا في ليلة مطر وظلمة شديدة نطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأدركناه، فقال: (قل) قلت: ما أقول؟ قال: {قل هو الله أحد} والمعوذتين حين تصبح وحين تمسي ثلث مرات تكفيك من كل شي)) . رواه الترمذي، وأبوداود، والنسائي. ـــــــــــــــــــــــــــــ (وأعوذ برب الناس) أي بهاتين السورتين المشتملتين على ذلك (فما تعوذ متعوذ بمثلهما) أي بل هما أفضل التعاويذ ومن ثم لما سحر عليه الصلاة والسلام مكث مسحوراً سنة حتى أنزل الله عليه ملكين يعلمانه أنه يتعوذ بهما ففعل فزال ما يجده من السحر (رواه أبوداود) في أواخر الصلاة وفيه محمد بن إسحاق وهو مدلس وقد عنعن. 2183- قوله: (وعن عبد الله بن خبيب) بمعجمة وموحدتين مصغراً الجهني حليف الأنصار صحابي (في ليلة مطر) وفي رواية، في ليلة مطيرة أو ذات مطر (وظلمة) أي وفي ظلمة (فطلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي ليصلي لنا كما في رواية أبي داود والترمذي وعند عبد الله بن أحمد والنسائي قال أي عبد الله بن خبيب أصابنا طش وظلمة فانتظرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي بنا، وللنسائي أيضاً قال كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طريق مكة فأصبت خلوة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فدنوت منه فقال، قل (فأدركناه) أي لحقناه (فقال قل) أي إقرأ (قلت ما أقول) أي ما أقرأ؟ (قال قل هو الله أحد) محل قل هو الله أحد نصب بإقرأ مقدراً وقوله (والمعوذتين) بكسر الواو وتفتح عطف عليه، والمراد بهما قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس السورتان. قال السندي: جملة قل هو الله أحد أريد بها السورة المعهودة على أنها مفعول لفعل مقدر مثل قل أي قل هذه السورة المصدرة بقل هو الله أحد المعوذتين عطف عليها (حين تصبح) من الإصباح ظرف للفعل المقدر (وحين تمسي) من الإمساء (تكفيك) بالتأنيث أي السور الثلاث (من كل شي) قال الطيبي: أي تدفع عنك كل سوء "فمن" زائدة في الإثبات على مذهب جماعة وعلى مذهب الجمهور أيضاً لأن تكفيك متضمنة للنفي كما يعلم من تفسيرها بتدفع. ويصح أن تكون لابتداء الغاية أي تدفع عنك من أول مراتب السوء إلى آخرها، أو تبعيضية أي بعض كل نوع من أنواع السوء، ويحتمل أن يكون المعنى تغنيك عما سواها أي مما يتعلق بالتعوذ من الأوراد. قلت: وقع في رواية النسائي تكفيك كل شي أي بحذف من. وفي الحديث دليل على أن تلاوة هذه السور عند المساء وعند الصباح تكفي التالي من كل شي يخشى منه كائناً ما كان (رواه الترمذي) في الدعوات (وأبوداود) في أواخر الأدب (والنسائي) في الاستعاذة وأخرجه أيضاً عبد الله بن أحمد في زياداته على المسند (ج5ص362) كلهم من طريق أبي سعيد أسيد بن أبي أسيد البراد عن معاذ بن عبد الله عن أبيه، وأخرجه البخاري

{الفصل الثالث}

2184- (56) وعن عقبة بن عامر، قال: قلت: يا رسول الله! إقرأ سورة هود أو سورة يوسف قال: ((لن تقرأ شيئاً أبلغ عند الله من قل أعوذ برب الفلق)) . رواه أحمد والنسائي، والدارمي {الفصل الثالث} 2185- (57) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعربوا القرآن، ـــــــــــــــــــــــــــــ في التاريخ والنسائي أيضاً من طريق زيد بن أسلم عن معاذ. وأورده من وجهين عن معاذ بن عبد الله عن أبيه عن عقبة بن عامر وله عن عقبة طرق أخرى عند النسائي وغيره مطولاً ومختصراً. قال الحافظ في الإصابة: (ج2ص303) ولا يبعد أن يكون الحديث محفوظاً من الوجهين فإنه جاء أيضاً من حديث ابن عابس الجهني، ومن حديث جابر ابن عبد الله الأنصاري- انتهى. والحديث صححه الترمذي ونقل المنذري في مختصر السنن والترغيب تصحيح الترمذي وأقره. 2184- قوله: (اقرأ) بحذف همزة الاستفهام أي أأقرأ ويحتمل أن يقرأ المرسوم بالمد فيفيد الاستفهام من غير حذف (سورة هود أو سورة يوسف) أي إقرأ إحداهما لدفع السوء عني وقوله "إقرأ" كذا في النسخ الحاضرة وهكذا هو في رواية الحاكم، لكن الذي عند أحمد والنسائي والدارمي إقرئني سورة هود وسورة يوسف وكذا عند ابن حبان وابن السني وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج9ص370) (لن تقرأ شيئاً أبلغ عند الله) أي أتم وأعظم في باب التعوذ لدفع السوء وغيره وهذا لفظ النسائي وأحمد في رواية، وللدارمي وأحمد في رواية أخرى لن تقرأ من القرآن سورة أحب إلى الله ولا أبلغ عنده وكذا عند ابن حبان والحاكم (من قل أعوذ برب الفلق) أي من هذه السورة. وقال الطيبي: أي من هاتين السورتين على طريقة قوله تعوذ بهما الخ وقال ابن الملك: والمراد التحريض على التعوذ بهاتين السورتين- انتهى. وكأنهما أراد إن الحديث من باب الاكتفاء بإحدى القرينتين عن الأخرى وليتفق الحديثان ويطابقاً ما في حديث مسلم في المعوذتين لم ير مثلهن (روه أحمد) (ج4ص149، 155) (والنسائي) في الاستعاذة (والدارمي) وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه وابن السني (ص222) والحاكم (ج2ص540) وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي والحديث عزاه في الكنز للبيهقي والطبراني أيضاً. 2185- قوله: (أعربوا) بفتح الهمزة وسكون العين المهملة وكسر الراء (القرآن) المراد بأعراب القرآن معرفة معاني ألفاظه وتبيينها، وليس المراد الإعراب المصطلح عليه عند النحاة وهو ما يقابل اللحن. قال في اللمعات:

واتبعوا غرائبه، وغرائبه فرائضه وحدوده)) . 2176- (58) وعن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قراءة القرآن في الصلاة أفضل من قراءة القرآن في غير الصلاة، وقراءة القرآن في غير الصلاة أفضل من التسبيح والتكبير، والتسبيح أفضل من الصدقة، ـــــــــــــــــــــــــــــ أي بينوا معانيه وأظهروها، والإعراب الإبانة والإفصاح وهذا يشترك فيه جميع من يعرف لسان العرب ثم ذكر ما يخص بأهل الشريعة من المسلمين بقوله (واتبعوا غرائبه) وفسر الغرائب بالفرائض من الأحكام الواجبة والحدود الشاملة لها ولغيرها حتى السنن والآداب وسماها غرائب لاختصاصها بأهل الدين أو لأن الإيمان غريب فأحكامه تكون غرائب- انتهى. وقيل المعنى أعربوا القرآن أي بينوا ما في القرآن من غرائب اللغة وبدائع الإعراب وقوله "واتبعوا غرائبه" لم يرد به غرائب اللغة لئلا يلزم التكرار ولهذا فسره بقوله وغرائبه فرائضه وحدوده، والمراد بالفرائض المأمورات وبالحدود المنهيات. وقال الطيبي: يجوز أن يراد بالفرائض فرائض المواريث بالحدود حدود الأحكام، أو يراد بالفرائض ما يجب على المكلف إتباعه وبالحدود ما يطلع به على الأسرار الخفية والرموز الدقيقة. قال وهذا التأويل قريب من معنى خبر أنزل القرآن على سبعة أحرف لكل آية منها ظهر وبطن، الحديث فقوله أعربوا القرآن إشارة إلى ما ظهر منه وفرائضه وحدوده إلى ما بطن منه- انتهى. وقال القاري: وحاصل المعنى بينوا ما دلت عليه آياته من غرائب الأحكام وبدائع الحكم وخوارق المعجزات ومحاسن الآداب وأماكن المواعظ من الوعد والوعيد وما يترتب عليه من الترغيب والترهيب، أو بينوا إعراب مشكل ألفاظه وعباراته ومحامل مجملاته ومكنونات إشاراته وما يرتبط بتلك الإعرابات من المعاني المختلفة باختلافها لأن المعنى تبع للإعراب. 2186- قوله: (قراءة القرآن في الصلاة) فرضاً كانت أو نفلاً (أفضل من قراءة القرآن في غير الصلاة) لكونها منضمنة إلى عبادة أخرى ولأن الصلاة محل مناجاة الرب وأفضل عبادات البدن الظاهرة، ولكون القراءة فيها بالحضور أقرب وأحرى (وقراءة القرآن في غير الصلاة أفضل من التسبيح والتكبير) أي وإن كانا في الصلاة والمراد التسبيح والتكبير وأمثالهما من سائر الأذكار لكون القرآن كلام الله وفيه حكمة وأحكامه. وقيل لأن التسبيح والتكبير والتحميد والتهليل بعض القرآن، ولذلك فضلوا القيام في الصلاة على الركوع والسجود من جهة أن القيام فيها محل قراءة القرآن وهذه الأفضلية إنما هي فيما لم يرد فيه ذكر بخصوصه أي هذا الحكم إنما هو في غير الأوقات التي يطلب فيها التسبيح ونحوه فهو عقب الصلاة أفضل من قراءة القرآن، وأما ذات القرآن فهي أفضل من غيرها مطلقاً والكلام إنما هو في الاشتغال (والتسبيح) أي ونحوه وترك التكبير اكتفاء (أفضل من الصدقة) وقد اشتهر

والصدقة أفضل من الصوم، والصوم جنة من النار)) . 2187- (59) وعن عثمان بن عبد الله بن أوس الثقفي عن جده، قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ـــــــــــــــــــــــــــــ إن العبادة المتعدية أفضل من اللازمة لكن ينبغي أن يخص هذا الحكم بما عدا ذكر الله فيستثنى الذكر منه قاله في اللمعات. وقال القاري: قوله "من الصدقة" أي من الصدقة المالية المجردة عن الذكر لأن المقصود من جميع العبادات والخير ذكر الله (والصدقة أفضل من الصوم) أي صوم التطوع قيل: أي في بعض الأحيان وإلا فصدقة بتمرة على غير مضطر لا تساوي صوم يوم لما يترتب عليه من المشقة. وقيل: لأن الصدقة نفع متعد والصوم قاصر. وقال في اللمعات: جعلها أفضل منه من جهة أن الصوم إمساك المال عن نفسه ثم إنفاقه عليها وفي الصدقة إنفاق على الغير وجهة أفضلية الصوم المشار إليها بقوله صلى الله عليه وسلم (كل عمل بني آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها. إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به باقية) . ولا شك إن اختلاف الجهات يعتبر في أمثال هذه السائل وإلى هذا أشار بقوله والصوم جنة- انتهى. وقال الطيبي: قيل ما تقدم من أن كل عمل بني آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها. الحديث يدل على أن الصوم أفضل، ووجه الجمع أنه إذا نظر إلى نفس العبادة كانت الصلاة أفضل من الصدقة، والصدقة أفضل من الصوم. وإذا نظر إلى كل واحد منها وما يؤل إليه من الخاصة التي لم يشاركها غيره فيها كان الصوم أفضل- انتهى. (والصوم جنة) أي وقاية من النار أي مما يجر إليها في الدنيا ومن عذاب الله في العقبى، وإذا كان هذا من فوائد الصوم للفضول فما بالك بالصدقة التي هي أفضل منه. 2187- قوله: (وعن عثمان بن عبد الله بن أوس) بن أبي أوس الثقفي الطائفي. قال في التقريب: مقبول من أوساط التابعين. وقال في تهذيب التهذيب: ذكره ابن حبان في الثقات (عن جده) أي أوس بن أبي أوس الثقفي الصحابي وهو غير أوس بن أوس الثقفي الصحابي الذي تقدم حديثه في الفصل الثاني من باب الجمعة (ج2ص280) قال في التقريب: أوس بن أبي أوس واسم أبي أوس حذيفة الثقفي صحابي وهو غير الذي قبله (يعني أوس بن أوس) على الصحيح. وقال في تهذيب التهذيب (ج1ص381) والإصابة (ج1ص89) في ترجمة أوس بن أوس الثقفي نقل عباس الدوري عن ابن معين أن أوس بن أوس الثقفي وأوس بن أبي أوس واحد. وقيل: إن ابن معين أخطأ في ذلك وإن الصواب إنهما اثنان وقد تبع ابن معين جماعة على ذلك منهم أبوداود، والتحقيق إنهما اثنان، ومن قال في أوس بن أوس، أوس بن أبي أوس أخطأ كما قيل في أوس بن أبي أوس، أوس بن أوس وهو خطأ. وأما أوس بن أبي أوس فاسم والده حذيفة كما سيأتي. وقال في (ج1ص82) من الإصابة أوس بن حذيفة بن ربيعة الثقفي هو أوس بن أبي أوس وهو والد عمر بن أوس وجد عثمان بن عبد الله بن أوس. قال أحمد في مسنده: (ج4ص8) أوس بن أبي

((قراءة الرجل القرآن في غير المصحف ألف درجة، وقراءته في المصحف تضعف على ذلك إلى ألفي درجة)) . 2188- (60) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد إذا أصابه الماء. قيل يا رسول الله! وما جلاؤها؟ قال: ـــــــــــــــــــــــــــــ أوس هو أوس بن حذيفة. وقال البخاري في تاريخه: (ج1ص16، 17) أوس بن حذيفة الثقفي والد عمرو بن أوس ويقال أوس بن أبي أوس ويقال أوس بن أوس له صحبة وكذا قال ابن حبان في الصحابة. وقال أبونعيم في معرفة الصحابة: اختلف المتقدمون في أوس هذا، فمنهم من قال أوس بن حذيفة، ومنهم من قال أوس بن أبي أوس، وكنى أباه، ومنهم من قال أوس بن أوس. وأما أوس بن أوس الثقفي (الذي تقدم حديثه في الجمعة) فروى عنه الشاميون. وقيل: فيه أوس بن أبي أوس أيضاً قال، وتوفي أوس بن حذيفة سنة تسع وخمسين- انتهى. (قراءة الرجل) المراد بالرجل الشخص فيشمل الأنثى والخنثى فهو وصف طردي (القرآن في غير المصحف) أي من حفظه (ألف درجة) أي ذات ألف درجة. قال الطيبي: ألف درجة خبر لقوله قراءة الرجل على تقدير مضاف أي ذات ألف درجة ليصح الحمل كما في قوله تعالى هم درجات أي ذوو درجات (تضعف) بتشديد العين أي تزاد، وفي الجامع الصغير ومجمع الزوائد تضاعف أي تتضاعف في الثواب (على ذلك) أي على ما ذكر من القراءة في غير المصحف (إلى ألفي درجة) لحظ النظر في المصحف وحمله ومسه. قيل: ومحل ذلك إذا كانت قراءته في المصحف إخشع كما هو الغالب فإن كان عن ظهر قلب إخشع كان أفضل. قال النووي في الأذكار قال أصحابنا: قراءة القرآن في المصحف أفضل من القراءة من حفظه وهو المشهور عن السلف رضي الله عنهم، وهذا ليس على إطلاقه بل إن كان القاري من حفظه يحصل له من التدبر والتفكر وجمع القلب والبصر أكبر مما يحصل من المصحف، فالقراءة من الحفظ أفضل وإن استويا فمن المصحف أفضل أي لأنه ضم إلى عبادة القراءة عبادة النظر في المصحف فلاشتمال هذه على عبادتين كان أفضل، قال وهذا مراد السلف. وقيل: إن زاد خشوعه وتدبره وإخلاصه في أحدهما فهو الأفضل وإلا فالنظر، ويدل كلام الطيبي على أن التمكن من التفكر والتدبر واستنباط المعاني في صورة القراءة من المصحف أكثر. قال في اللمعات وفي كليته نظر. 2188- قوله: (تصدأ) بالهمز أي يعرض لها دنس ووسخ بتراكم الغفلات وتزاحم الشهوات (كما يصدأ) أي يتوسخ من صدى الحديد كسمع وصدؤككرم علاه الصدأ، وهو مادة لونها يأخذ من الحمرة والشقرة تتكون على وجه الحديد ونحوه بسبب رطوبة الهواء (وما جلاءها) بكسر الجيم أي آلة جلاء صدأ القلوب

كثرة ذكر الموت، وتلاوة القرآن)) روى البيهقي الأحاديث الأربعة في شعب الإيمان. 2189- (61) وعن أيفع بن عبد الكلاعي، قال: ((قال رجل يا رسول الله! ـــــــــــــــــــــــــــــ من وسخ العيوب (كثرة ذكر الموت) وهو الواعظ الصامت ويوافقه الحديث المشهور أكثر ذكر هادم اللذات بالمهملة والمعجمة أي قاطعها أو مزيلها من أصلها (وتلاوة القرآن) بالرفع ويجوز جره وهو الواعظ الناطق فهما بلسان الحال وبيان القال يبردان عن قلوب الرجال أوساخ محبة الغير من الجاه والمال (روى البيهقي الأحاديث الأربعة الخ) الحديث الأول أي حديث أبي هريرة أخرجه الحاكم أيضاً (ج2ص439) بلفظ: أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه، وفي سنده عبد الله بن سعيد المقبري، ونسبه السيوطي في الجامع الصغير، وعلى المتقى في كنز العمال لابن أبي شيبة أيضاً، ونسبه الهيثمي في مجمع الزوائد (ج7ص163) إلى أبي يعلى وقال فيه عبد الله ابن سعيد بن أبي سعيد المقبري وهو متروك. وقد ذكره الثلاثة بلفظ: التمسوا غرائبه بدل قوله اتبعوا غرائبه ورواه أيضاً البيهقي في الشعب والديلمي بأطول من هذا كما في الكنز. وفي الباب عن ابن مسعود عند الطبراني في الأوسط ذكره الهيثمي وقال فيه نهشل وهو متروك. والحديث الثاني أي حديث عائشة عزاه في الجامع الصغير وكنز العمال إلى الدارقطني في الإفراد والبيهقي في الشعب، ولا يدري حال سنده. والحديث الثالث أي حديث عثمان بن عبد الله بن أوس عن جده، أخرجه أيضاً ابن عدي والطبراني في الكبير كما في الجامع الصغير والكنز ومجمع الزوائد قال الهيثمي: وفيه أبوسعيد بن عوذ وثقه ابن معين في رواية وضعفه في أخرى وبقية رجاله ثقات. قلت: قال الذهبي في الميزان (ج2ص163) والحافظ في اللسان (ج6ص383) أبوسعيد بن عوذ المكتب حدث عن بعض التابعين اسمه رجاء بن الحارث ضعيف، روى أحمد أبي مريم عن يحيى بن معين ليس به بأس وروى غيره عن ابن معين ضعيف. ثم ذكرا هذا الحديث ونقلاً عن ابن عدي أنه قال مقدار ما يرويه أبوسعيد بن عوذ غير محفوظ وفي الباب عن أبي سعيد أخرجه الحكيم الترمذي والبيهقي في الشعب بإسناد ضعيف، وعن عمرو بن أوس أخرجه ابن مردوية، وعن ابن مسعود أخرجه أبونعيم في الحلية والبيهقي في الشعب، وعن عبادة بن الصامت أخرجه الحكيم الترمذي كما في الجامع الصغير. والحديث الرابع أي حديث ابن عمر رواه أيضاً محمد بن نصر وأبونعيم في الحلية والخرائطي في اعتلال القلوب والخطيب في التاريخ كما في الكنز ولم أقف على حال سنده. 2189- قوله: (وعن أيفع) بفتح الهمزة وسكون التحتانية وفتح الفاء بعدها عين مهملة بوزن أحمد (ابن عبد) بالتنوين (الكلاعي) بفتح الكاف وخففة اللام وبالعين المهملة منسوب إلى ذي الكلاع قبيلة في اليمن. وقيل: موضع منه وأيفع هذا ذكره الحافظ في الإصابة في القسم الرابع من حرف الألف وهو مخصوص

أي سورة القرآن أعظم؟ قال: (قل هو الله أحد) ـــــــــــــــــــــــــــــ يمن ذكر في الكتب المؤلفة في الصحابة على سبيل الوهم والغلط. قال في (ج1ص135) أيفع بن عبد الكلاعي تابعي صغير استدركه أبوموسى المديني. وقال أخرجه الإسماعيلي في الصحابة. قال الإسماعيلي: حدثنا أحمد بن الحسن حدثنا الحكم بن موسى عن الوليد بن مسلم عن صفوان بن عمرو السكسكي الحمصي، قال سمعت أيفع بن عبد الكلاعي على منبر حمص يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أدخل الله أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. قال: يا أهل الجنة كم لبثتم في الأرض عدد سنين - الحديث. وقد تابعه أبويعلى عن الهيثم بن خارجة عن الوليد رجال إسناده ثقات إلا أنه مرسل أو معضل ولا يصح لأيفع سماع من صحابي، وإنما ذكر ابن أبي حاتم روايته عن راشد بن سعد (المقرئي الحمصي من ثقات أوساط التابعين) وقال عبدان سمعت محمد ابن المثنى يقول مات أيفع سنة ست ومائة. وقال الدارمي في مسنده: أخبرنا يزيد بن هارون عن حريز بن عثمان عن أيفع بن عبد عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل آية الكرسي وهو مرسل أيضاً أو معضل- انتهى كلام الحافظ. هذا وقد ظن المصنف والجزري وغيرهما إن أيفع بن عبد هذا هو أيفع بن ناكورا (بالنون وضم الكاف) المعرف بذي الكلاع الحميري وهذا خطأ والصواب أنه غيره الأول متأخر وهذا زمنه متقدم عليه، واختلف في اسمه واسم أبيه فقيل أسْميفع سميفع، ويقال أيفع بن ناكورا. وقيل ابن حوشب بن عمرو بن يعفر بن يزيد الحميري وكان يكنى أبا شرحبيل ويقال أبا شراحيل بعث إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - جريراً فأسلم. قال ابن عبد البر: كان يعني أيفع بن ناكورا المعروف بذي الكلاع رئيساً في قومه مطاعاً متبوعاً نكتب إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في التعاون على الأسود ومسيلمة وطليحة وكان الرسول إليه جرير بن عبد الله البجلي فأسلم وخرج مع جرير (وذي عمر) إلى النبي صلى الله عليه وسلم فمات النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يصلا إليه. قال ابن عبد البر: ولا أعلم لذي الكلاع صحبة أكثر من إسلامه وإتباعه النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وقدم في زمن عمر فروى عنه وشهد صفين مع معاوية وقتل بها سنة سبع وثلاثين قتله الأشتر النخعي، وقيل غيره. قال ولا أعلم له رواية إلا عن عمر وعوف بن مالك، ونقل الحافظ عن معجم الشعراء للمرزباني أنه قال أسميفع بن الأكور ذو الكلاع الأصغر مخضرم له مع عمر أخبار ثم بقي إلى أيام معاوية (أي سورة القرآن أعظم) أي في شأن التوحيد فلا ينافي ما مر في الفاتحة إنها أعظم سورة القرآن. وقيل إنها أعظم بعد الفاتحة. وقال ابن حجر: حديث الفاتحة طرقه كلها صحيحة بخلاف هذا الحديث. وقال في اللمعات: قد سبق إن أعظم سورة في القرآن فاتحة الكتاب فيعتبر تعدد الجهات ففاتحة الكتاب أعظم من جهة جامعيتها المقاصد القرآن ووجوب قراءتها في الصلاة، وقل هو الله أحد لبيان توحيد الحق سبحانه وآية الكرسي لجامعية صفاته الثبوتية والسلبية وعظمته وجلالته وخواتيم سورة البقرة لاشتمالها على الدعاء

قال: فأي آية في القرآن أعظم؟ قال: آية الكرسي (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) قال: فبآي آية يا نبي الله! تحب أن تصيبك وأمتك؟ قال: خاتمة سورة البقرة، فإنها من خزائن رحمة الله تعالى من تحت عرشه، أعطاها هذه الأمة، لم تترك خيراً من خير الدنيا والآخرة إلا اشتملت عليه)) رواه الدارمي. 2190- (62) وعن عبد الملك بن عمير مرسلاً، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((في فاتحة الكتاب شفاء من كل داء)) ـــــــــــــــــــــــــــــ الجامع لخير الدنيا والآخرة والله تعالى أعلم (فأي آية في القرآن أعظم) أي في بيان صفاته تعالى (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) أي إلى آخرها (تحب أن تصيبك وأمتك) أي خيرها وبركتها وقيل: ثوابها وفائدتها (قال خاتمة سورة البقرة) أي من آمن الرسول أي هي التي أحب أن تنالني وأمتي فائدتها قبل بقية القرآن (من تحت عرشه) خبر بعد خبر أي نزولها من تحت عرشه أو التقدير من خزائن رحمة الله الكائنة أو كائنة من تحت عرشه وهذا بحسب الإعراب، وأما معناه فأنا على حقيقة إدراكه في حجاب (أعطاها هذه الأمة) أي بخصوصها (إلا اشتملت) أي تلك الخاتمة (عليه) أي على ذلك الخير عبارة وإشارة. قال الطيبي: أما خير الآخرة فإن قوله: {آمن الرسول} إلى قوله {لا نفرق بين أحد من رسله} إشارة إلى الإيمان والتصديق وقوله: {سمعنا وأطعنا} إلى الإسلام والانقياد والأعمال الظاهرة وقوله: {إليك المصير} إشارة إلى جزاء العمل في الآخرة وقوله: {لا يكلف الله نفساً} إلى قوله: {وانصرنا على القوم الكافرين} إشارة إلى المنافع الدنيوية والله أعلم (رواه الدارمي) في فضائل القرآن. قال حدثنا أبوالمغيرة (عبد القدوس بن الحجاج الحمصي) ثنا صفوان ابن عمرو (السكسكي) حدثني أيفع بن عبد الكلاعي قال، قال رجل يا رسول الله! الخ ورجاله ثقات إلا أنه مرسل أو معضل كما تقدم ولم أقف على من خرجه غيره. 2190- قوله: (وعن عبد الملك بن عمير) بضم عين مهملة وفتح ميم مصغراً ابن سويد اللخمي حليف بني عدي الكوفي، ويقال الفرسي بفتح الفاء والراء ثم مهملة نسبة إلى فرس له سابق كان يقال القبطي بكسر القاف وسكون الموحدة، وربما قيل ذلك لعبد الملك ثقة فقيه تغير حفظه، وربما دلس من أوساط التابعين مات سنة ست وثلاثين وله مائة وثلاث سنين كذا في التقريب. (شفاء من كل داء) أي جسماني وروحاني بأن تقرأ وتتلى ثم يتفل في المريض أو تكتب وتمحي وتسقي وتخلف الشفاء لسوء الطوية وضعف الإيمان واليقين وعدم الإخلاص

رواه الدارمي، والبيهقي في شعب الإيمان. 2191- (63) وعن عثمان بن عفان، قال: ((من قرأ آخر آل عمران في ليلة كتب له قيام ليلة)) . 2192- (64) وعن مكحول، قال: ((من قرأ سورة آل عمران يوم الجمعة صلت عليه الملائكة إلى الليل)) . رواهما الدارمي. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الطيبي: يشمل داء الجهل والكفر والمعاصي والأمراض الظاهرة. ولقد بين ابن القيم في كتابه الطب النبوي وجه كون الفاتحة شفاء من الأدواء سيما من السم فعليك أن تراجع ما كتب فيه في رقية اللديغ بالفاتحة. وأما مسألة شرب المريض ما كتب في الإناء من القرآن بعد غسله للاستشفاء فراجع لذلك (الإتقان ج2ص166) (رواه الدارمي) عن قبيصة بن عقبة السواءي عن الثوري عن عبد الملك بن عمير ورجاله ثقات إلا أنه مرسل (والبيهقي إلخ) قال السيوطي في الإتقان (ج2ص163) أخرج البيهقي وغيره من حديث عبد الله بن جابر في فاتحة الكتاب شفاء من كل داء، وأخرج الخلعي في فوائده من حديث جابر بن عبد الله فاتحة الكتاب شفاء من كل شي إلا السام والسام الموت. وأخرج سعيد بن منصور في سننه والبيهقي في الشعب عن أبي سعيد وأبوالشيخ في الثواب عن أبي هريرة وأبي سعيد معاً فاتحة الكتاب شفاء من السم. 2191- قوله: (من قرأ آخر آل عمران) أي من قوله تعالى: {إن في خلق السموات والأرض} [آل عمران: 19] إلى آخر السورة (في ليلة) أي أولها أو آخرها، وقد ثبت قرائته عليه الصلاة والسلام أول ما استيقظ من نومه من الليل لصلاة التهجد (كتب له قيام ليلة) أي ثواب صلاة التهجد. وقال القاري: أي كتب من القائمين بالليل. 2192- قوله: (وعن مكحول) الشامي التابعي المشهور (صلت عليه الملائكة) أي دعت له واستغفرت (رواهما الدارمي) أما أثر عثمان فرواه عن إسحاق بن عيسى عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عثمان وابن لهيعة قد تقدم الكلام فيه. وأما أثر مكحول فرواه عن محمد بن المبارك عن صدقة بن خالد عن يحيى بن الحارث (الِذماري الغساني الشامي) عن مكحول وهو مقطوع، والمقطوع في اصطلاحهم ما جاء عن التابعي أو من دونه من قوله أو فعله موقوفاً عليه وهو ليس بحجة كالموقوف (وهو المروي عن الصحابي قولاً له أو فعلاً أو تقريراً) إلا إذا كان ذلك مما لا مجال للاجتهاد فيه فيكون في حكم المرفوع كالأخبار عما يحصل بفعله ثواب مخصوص مثلاً والأمر ههنا كذلك وهكذا يقال في أثر عثمان.

2193- (65) وعن جبير بن نفير، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله ختم سورة البقرة بآيتين أعطيتهما من كنزه الذي تحت العرش، فتعلموهن وعلموهن نساءكم، فإنها صلاة وقربان ودعاء)) . رواه الدارمي مرسلاً. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2193- قوله: (وعن جبير) بضم الجيم وفتح الموحدة وسكون التحتية وبالراء مصغراً (بن نفير) بضم النون وفتح الفاء وسكون التحتانية وبالراء ابن مالك بن عامر الحضرمي الحمصي ثقة جليل من كبار تابعي أهل الشام مخضرم، ولأبيه صحبة فكأنه ما وفد إلا في عهد عمر مات سنة ثمانين، وقيل بعدها قاله في التقريب. وقال في التهذيب: أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه وعن أبي بكر الصديق مرسلاً وعن عمر بن الخطاب وفي سماعه منه نظر، وعن أبيه وأبي ذر وخلق وعنه ابنه عبد الرحمن ومكحول وأبوالزاهرية وغيرهم (أعطيتهما) بصيغة المجهول وفي رواية الحاكم أعطانيهما (من كنزه) أي المعنوي أو الحسي (فتعلموهن) أي كلماتهما (وعلموهن نساءكم) لعل تخصصهن لكونهن أولى بتعليمهن من غيرهن لا لأن غيرهن لا يعلمهن، وزاد في رواية الحاكم وأبناءكم (فإنها) أي كلماتهما أو كل واحدة من الآيتين وفي بعض النسخ من السنن للدارمي فإنهما أي بضمير التثنية (صلاة) أي رحمة خاصة لقائلها أو رحمة عظيمة لما فيها من النص على رفع الاصر عن هذه الأمة أو استغفار أو ما يصلي بها. قال القاري: وهو الأظهر لأن الاستغفار دعاء فيتكرر (وقربان) بضم القاف وكسرها أي ما يتقرب به إلى الله تعالى وقوله "قربان" كذا في النسخ الحاضرة من المشكاة وهكذا في بعض النسخ من سنن الدارمي، ووقع في بعضها "قرآن" بدل "قربان" وهكذا وقع في رواية الحاكم، والمعنى إنها صلاة أي جملة الآيتين يصلي بهما يعني يقرأ بهما المصلى في صلاته وقرآن أي يتلى بهما قرآناً يعني يتلو بهما التالي في تلاوته. والحاصل إنهما لفظ منزل عليه صلى الله عليه وسلم متعبد بتلاوته كغيرهما (ودعاء) أي ويدعى بهما يعني يدعو بهما الداعي في دعاءه، والمراد إنهما مشتملتان على الدعاء وهذا لا ينافي إن غيرهما منه ما هو مشتمل على الدعاء. قال الطيبي: الضمير في أنها راجع إلى معنى الجماعة من الكلمات والحروف في قوله بآيتين على طريقة قوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات:9] ولم يرد بالصلاة الأركان لأنها غيرها ولا الدعاء للتكرار بل أراد الاستغفار نحو غفرانك واغفر لنا. وأما القربان فإما إلى الله كقوله {وإليك المصير} وإما إلى الرسول كقوله {آمن الرسول} (رواه الدارمي مرسلاً) وكذا الحاكم (ج1ص562) وأبوداود فسي مراسيله، وأخرجه الحاكم أيضاً مسنداً موصولاً عن جبير بن نفير عن أبي ذر ومدار المرسل والموصول على معاوية بن صالح الراوي عن أبي الزاهرية عن جبير. قال الحاكم بعد روايته عن أبي ذر: هذا حديث

2194- (66) وعن كعب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اقرؤا سورة هود يوم الجمعة)) . رواه الدارمي. 2195- (67) وعن أبي سعيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له النور ما بين الجمعتين)) رواه البيهقي في الدعوات الكبير. ـــــــــــــــــــــــــــــ صحيح على شرط البخاري. قال الذهبي: كذا قال: ومعاوية لم يحتج به البخاري. وقال المنذري في الترغيب معاوية بن صالح لم يحتج به البخاري، إنما احتج به مسلم. قلت: قال أبوحاتم لا يحتج به، وكان يحيى بن سعيد لا يرضاه. وقال أبوإسحاق الفزاري: ما كان بأهل أن يروي عنه. ووثقه أحمد وابن معين وعبد الرحمن بن مهدي وأبوزرعة والنسائي والعجلي والبزار وابن حبان، وأخرج له مسلم في صحيحه والتعديل مقدم على الجرح المبهم سيما إذا كان من متعنت فحديثه صحيح أو حسن لذاته. 2194- قوله: (وعن كعب) هو كعب بن ماقع الحميري المعروف بكعب الأحبار من ثقات كبار التابعين مخضرم قد سبق ترجمته (إقرؤا سورة هود) يصرف ولا يصرف (يوم الجمعة) لم يذكر ثواب قراءتها لظهوره أو أشار إلى كثرته وعدم إحصاءه والله أعلم (رواه الدارمي) من طريق عبد الله بن رباح عن كعب وهو مرسل ونسبه السيوطي في الجامع الصغير إلى البيهقي في الشعب. وقال أخرجه عن كعب الأحبار مرسلاً. قال العزيزي: قال الحافظ ابن حجر مرسل صحيح الإسناد. 2195- قوله: (أضاء له) أي في قلبه أو قبره أو يوم حشره في الجمع الأكبر قاله القاري (النور) قيل أي نور السورة أو نور أجرها. وقيل أي نور الهداية والإيمان والحمل على ظاهره أولى لعدم ما ينافيه عقلاً وشرعاً كما لا يخفى (ما بين الجمعتين) أي مقدار ما بينهما من الزمان. قال الطيبي: قوله "أضاء" له يجوز أن يكون لازماً وقوله "ما بين الجمعتين" ظرف فيكون إشراق ضوء النور فيما بين الجمعتين بمنزلة إشراق النور نفسه مبالغة ويجوز أن يكون متعدياً فيكون ما بين مفعولاً به وعلى الوجهين فسرت الآية فلما أضاءت ما حوله- انتهى. وقوله أضاء له النور كذا في النسخ الحاضرة من المشكاة ووقع عند الحاكم (ج2ص368) والبيهقي في سننه (ج3ص249) أضاء له من النور وهكذا نقله الجزري في الحصن والسيوطي في الجامع الصغير والشوكاني في تحفة الذاكرين وعلى المتقى في الكنز فالظاهر في نسخ المشكاة إن "ما بين" فاعل لأضاء على كونه لازماً ومفعول على كونه متعدياً. قال الشوكاني: معنى إضاءة النور له ما بين الجمعتين إنه لا يزال عليه أثرها وثوابها في جميع الأسبوع (رواه البيهقي في الدعوات الكبير) وأخرجه أيضاً الحاكم (ج2ص368) من رواية نعيم بن حماد الخزاعي المروزي عن

2196- (68) وعن خالد بن معدان، قال: ((اقرؤا المنجية وهي ألم تنزيل، فإنه بلغني أن رجلاً كان يقرأها ما يقرأ شيئاً غيرها، وكان كثير الخطايا، فنشرت ـــــــــــــــــــــــــــــ هشيم عن أبي هاشم يحيى بن دينار الرماني عن أبي مجلز عن قيس بن عباد عن أبي سعيد الخدري ومن طريق الحاكم أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (ج3ص249) قال الحاكم: صحيح الإسناد. وقال الذهبي: نعيم ذو مناكير. قلت: نعيم بن حماد هذا من الحفاظ الكبار كان أحمد يوثقه وقال ابن معين: كان من أهل الصدق إلا أنه يتوهم الشيء فيخطئ فيه. وقال العجلي: ثقة. وقال أبوحاتم: صدوق. روى عنه البخاري مقروناً، وروى له مسلم في المقدمة موضعاً واحداً، وأصحاب السنن إلا النسائي. وقال النسائي: ضعيف. ونسبه أبوبشر الدولابي إلى الوضع وتعقب ذلك ابن عدي بأن الدولابي كان متعصباً عليه لأنه كان شديداً على أهل الرأي. قال الحافظ: هذا هو الصواب. وقال في التقريب: صدوق يخطئ كثيراً فقيه عارف بالفرائض. وقد تتبع ابن عدي ما أخطأ فيه. وقال باقي حديثه مستقيم والحديث عزاه المنذري في الترغيب للنسائي أيضاً ورواه الدارمي وسعيد بن منصور عن هشيم عن أبي هاشم بإسناده موقوفاً على أبي سعيد بلفظ: من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق، ورواه البيهقي في الشعب عن أبي سعيد بهذا اللفظ مرفوعاً. وروى النسائي في اليوم والليلة والطبراني في الأوسط والحاكم أيضاً (ج1ص564) من طريق يحيى بن أبي كثير عن شعبه عن أبي هاشم بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من قرأ سورة الكهف كما أنزلت كانت له نوراً يوم القيامة من مقامه إلى مكة ومن قرأ عشر آيات من آخرها ثم خرج الدجال لم يسلط عليه الحديث. قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم وأقره الذهبي وقال الهيثمي (ج7ص53) بعد عزوه للطبراني ورجاله رجال الصحيح. قال الحاكم والبيهقي: وبمعناه رواه سفيان الثوري عن أبي هاشم فأوقفه. وقال النسائي بعد تخريجه: رفعه خطأ والصواب موقوفاً، ثم رواه من رواية الثوري وغندر عن شعبة موقوفاً ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج1ص239) وفي أسانيدهم كلها كما ترى أبوهاشم يحيى بن دينار الرماني والأكثرون بل كلهم على توثيقه. قال ابن عبد البر: اجمعوا على أنه ثقة. وروى أحمد (ج3ص439) وابن السني (ص217) والطبراني من حديث معاذ بن أنس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قرأ أول سورة الكهف وآخرها كانت له نوراً من قدمه إلى رأسه، ومن قرأها كلها كانت له نوراً ما بين السماء والأرض وفي إسناده ابن لهيعة، وقد سبق الكلام فيه واختلف أيضاً في رفعه ووقفه. 2196- قوله: (وعن خالد بن معدان) تقدم أنه تابعي (اقرؤا) أي في أول الليل كما يشعر به صنيع خالد وعمله (المنجية) أي من عذاب القبر وعقاب الحشر وقيل من عذاب الدنيا والآخرة (وهي ألم تنزيل) التي فيها آية السجدة (فإنه) أي الشأن (بلغني) قيل أي عن الصحابة فإنه لقي سبعين منهم (إن رجلاً) أي من هذه الأمة (كان يقرأها ما يقرأ شيئاً غيرها) أي لم يجعل لنفسه ورداً غيرها (فنشرت) أي بعد ما تصورت السورة أو

جناحها عليه، قالت: رب اغفر له فإنه كان يكثر قرأتي، فشفعها الرب تعالى فيه، وقال: اكتبوا له بكل خطيئة حسنة، وارفعوا له درجة. 2197- (69) وقال أيضاً إنها تجادل عن صاحبها في القبر، تقول: ((اللهم إن كنت من كتابك فشفعني فيه، وإن لم أكن من كتابك فامحني عنه، وإنها تكون كالطير تجعل جناحها عليه فتشفع له، فتمنعه من عذاب القبر. وقال في تبارك مثله. وكان خالد لا يبيت حتى يقرأهما)) . 2198- (70) وقال طاووس: فضلتا ـــــــــــــــــــــــــــــ ثوابها على صورة طير (جناحها عليه) أي لتظله أو جناح رحمتها على الرجل القاري حماية له (قالت) بلسان القال وهو بدل بعض أو اشتمال من نشرت، لأن النشر مشتمل على الشفاعة الحاصلة بقولها رب اغفرلي (يكثر) من الإكثار (فشفعها) بالتشديد أي قبل شفاعتها (فيه) أي في حقه (بكل خطيئة) أي بدلها (حسنة) أي فضلاً وإحساناً وكرماً وإمتناناً. 2197- قوله: (وقال) أي خالد (أيضاً) أي مثل قوله الأول موقوفاً (إنها) أي السورة ألم تنزيل (تجادل) أي تخاصم وتدفع غضب الرب وعذاب القبر (عن صاحبها) أي من يكثر قراءتها فإن صاحب الشيء ملازم له (تقول) بيان المجادلة (اللهم إن كنت) أي إذ كنت (من كتابك) أي القرآن المكتوب في اللوح المحفوظ (فشفعني فيه) بالتشديد أي فاقبل شفاعتي في حقه (وإن لم أكن من كتابك) أي على الفرض والتقدير (فامحني) بضم الحاء (عنه) أي عن كتابك فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب. قال ابن حجر: ونظير ذلك تدلل بعض خواص الملك عليه بقوله إن كنت عبدك فشفعني في كذا وإلا فبعني. وقال الطيبي: هو كما يقول الأب لابنه الذي لم يراع حقه إن كنت لك أبا فراع حقي وإن لم أكن لك أباً فلن تراعي حقي- انتهى. ومراده إن المراعاة لازمة واقعة البتة فلا ترديد في الحقيقة، ولما كانت مراعاة حق الأب ألزم من مراعاة الابن لم يقل كما يقول الابن لأبيه مع أنه كان أظهر في المناسبة قاله القاري (وإنها) أي وقال خالد إنها (تكون) أي في القبر (كالطير تجعل جناحها عليه) حماية له وقيل لتظله (فتشفع) بسكون الشين وفتح الفاء (وقال) أي خالد (في تبارك) أي في فضيلة سورته (مثله) أي مثل ما قال في سورة السجدة (وكان) في سنن الدارمي فكان (لا يبيت) أي لا يرقد. 2198- قوله: (وقال طاووس) أي ابن كيسان التابعي المشهور (فضلتا) بالتشديد أي سورة ألم تنزل

على كل في سورة القرآن بستين حسنة)) . رواه الدارمي. ـــــــــــــــــــــــــــــ وسورة تبارك (على كل سورة في القرآن بستين حسنة) قال القاري: هذا لا ينافي الخبر الصحيح إن البقرة أفضل سور القرآن بعد الفاتحة، إذ قد يكون في المفضول مزية لا توجد في الفاضل أوله خصوصية بزمان أو حال كما لا يخفى على أرباب الكمال، أما ترى إن قراءة سبح والكافرون والإخلاص في الوتر أفضل من غيرها، وكذا سورة السجدة والدهر بخصوص فجر الجمعة أفضل من غيرهما، فلا يحتاج في الجواب إلى ما قاله ابن حجر إن ذاك حديث صحيح وهذا ليس كذلك انتهى كلام القاري. قال شيخنا في شرح الترمذي (ج4ص48) ما ذكره القاري من وجه الجمع بين هذين الحديثين لا ينفي الاحتياج إلى ما ذكر ابن حجر فتفكر- انتهى. وقيل: المراد تفضيلهما في الانجاء من عذاب القبر والمنع منه (رواه الدارمي) أي مقطوعاً يعني موقوفاً على التابعي من قوله ولكنه في حكم المرفوع المرسل فإن مثله لا يقال بالرأي. واعلم أن ما ذكره المصنف عن خالد بن معدان إنما هو حديثان، أحدهما قد تم على قوله درجة، ورواه الدارمي عن أبي المغيرة عن عبدة عن خالد بن معدان ورجاله لا بأس بهم، والثاني تم على قوله حتى يقرأهما، رواه الدارمي عن عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح الحضرمي عن أبي خالد عامر بن جشيب وبحير بن سعد عن خالد بن معدان به وعبد الله بن صالح المصري كاتب الليث صدوق كثير الغلط ثبت في كتابه وكانت فيه غفلة قاله في التقريب، وقول طاووس أثر ثالث رواه الدارمي وكذا ابن السني (ص217) من طريق ليث بن أبي سليم عن طاووس، وأخرجه الترمذي من هذا الطريق بلفظ: تفضلان على كل سورة من القرآن بسبعين حسنة. وليث بن أبي سليم. قال الحافظ: إنه صدوق اختلط أخيراً ولم يتميز حديثه فترك، وكان الأولى أن يفصل المصنف بين الآثار الثلاثة ويقول في الآخر روى الأحاديث أو الآثار الثلاثة الدارمي كعادته في مثل هذا. وأما ما وقع في رواية الترمذي بسبعين فالظاهر أنه من تصحيف الناسخ والله أعلم يدل على ذلك إنه ذكره السيوطي في الدر بلفظ: بستين كما في المشكاة وعزاه للترمذي والدارمي وابن مردوية ويدل عليه أيضاً رواية ابن السني. وفي الباب عن ابن مسعود أخرجه الحاكم (ج2ص498) وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي قال يؤتي الرجل في قبره فتوتي رجلاه ليس لكم على ما قبلي سبيل كان يقوم يقرأ بي سورة الملك ثم يؤتي من قبل صدره أو قال بطنه فيقول ليس لكم على ما قبلي سبيل كان يقرأ بي سورة الملك ثم يؤتي رأسه فيقول ليس لكم على ما قبلي سبيل كان يقرأ بي سورة الملك قال فهي المانعة تمنع من عذاب القبر وهي في التوراة سورة الملك من قرأها في ليلة، فقد أكثر وأطاب. وأخرجه النسائي مختصراً بلفظ: من قرأ {تبارك الذي بيده الملك} [الملك:1] كل ليلة منعه الله عزوجل بها من عذاب القبر، وكنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نسميها المانعة لأنها في كتاب الله عزوجل سورة المانعة من قرأها في كل ليلة فقد أكثر وأطاب.

2199- (71) وعن عطاء بن أبي رباح، قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قرأ يس في صدر النهار قضيت حوائجه)) . رواه الدارمي مرسلاً. 2200- (72) وعن معقل بن يسار المزني، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قرأ يس ابتغاء وجه الله تعالى غفر له ما تقدم من ذنبه، فاقرأوها عند موتاكم)) . رواه البيهقي في شعب الإيمان. 2201- (73) وعن عبد الله بن مسعود، أنه قال: ((إن لكل شي سناماً، وإن سنام القرآن سورة البقرة، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2199- قوله: (وعن عطاء بن أبي رباح) بفتح الراء والموحدة وعطاء هذا من مشاهير التابعين تقدم ترجمته (من قرأ يس) بالسكون (في صدر النهار) أي أوله (قضيت حوائجه) أي دينية ودنيوية أو آخرة أو مطلقاً وهو الأظهر (رواه الدارمي مرسلاً) رجال إسناده ثقات إلا شجاع بن الوليد بن قيس السكوني وهو صدوق ورع له أوهام كذا في التقريب وفي الباب عن ابن عباس عند أبي الشيخ بلفظ: من قرأ يس ليلة ضعف على غيرها من القرآن عشراً، ومن قرأها في صدر النهار وقدمها بين يدي حاجته قضيت. 2200- قوله: (وعن معقل) بفتح الميم وسكون المهملة وكسر القاف (بن يسار) بفتح التحتية (المزني) بضم الميم وفتح الزاي (ابتغاء وجه الله) أي طلباً لرضاه لا غرضاً سواه. وقال المناوي أي ابتغاء النظر إلى وجه الله تعالى في الآخرة أي لا للنجاة من النار ولا للفوز بالجنة، ويؤيد الأول رواية أحمد والنسائي وغيرهما بلفظ: يس قلب القرآن ولا يقرأها رجل يريد بها الله والدار الآخرة إلا غفر له فاقرؤها على موتاكم (غفر له ما تقدم من ذنبه) أي الصغائر وكذا الكبائر إن شاء قاله القاري (فاقرؤها عند موتاكم) أي من حضره الموت قال الطيبي: الفاء جواب شرط محذوف أي إذا كانت قراءة يس بالإخلاص تمحو الذنوب فاقرؤها عند من شارف الموت حتى يسمعها ويجريها على القلب فيغفر له ما قد سلف (رواه البيهقي في شعب الإيمان) وأخرجه نحوه أحمد والنسائي وغيرهما كما تقدم، وفي الباب عن جندب بن عبد الله عند ابن حبان وغيره وعن أبي هريرة عند الدارمي وابن السني (ص217) والطبراني والبيهقي والعقيلي وغيرهم. 2201- قوله: (إن لكل شي سناماً) بفتح السين أي علواً ورفعة مستعار من سنام البعير، ثم كثر استعماله فيها حتى صار مثلاً (وإن سنام القرآن سورة البقرة) إما لطولها واحتوائها على أحكام كثيرة أو لما فيها

وإن لكل شي لباباً، وإن لباب القرآن المفصل)) . رواه الدارمي. 2202- (74) وعن علي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لكل شي عروس، وعروس القرآن الرحمن)) . 2203- (75) وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة لم تصبه فاقة أبداً)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ من الأمر بالجهاد وبه الرفعة الكبيرة قاله القاري. وقال الشوكاني: سنام الشيء أعلاه فالمعنى إن سورة البقرة أعلى القرآن وأرفعه قيل: والمراد بكونها سناماً للقرآن إنها جمعت من الأحكام ما لم يجمعه غيرها. وقيل لطولها طولاً يزيد على كل سورة من سور القرآن. والظاهر أن هذه الفضيلة لها ثابتة من غير نظر إلى طولها أو جمعها لكثير من الأحكام ولهذا كان أخذها بركة وكان الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه (وإن لكل شي) أي مما يصح أن يكون له لب (لباباً) بضم اللام أي خلاصة هي المقصودة منه. قال الدارمي اللباب الخالص (وإن لباب القرآن المفصل) لأنه فصل فيها ما أجمل في غيره وهو من الحجرات إلى آخر القرآن على المشهور (رواه الدارمي) أي موقوفاً وأخرجه أيضاً الطبراني وفي سندهما عاصم بن بهدلة المقريء وهو صدوق له أوهام حجة في القراءة وحديثه في الصحيحين مقرون قاله الحافظ في التقريب. وقال الهيثمي بعد عزو الحديث للطبراني: وفيه عاصم ابن بهدلة وهو ثقة وفيه ضعف وبقية رجاله رجال الصحيح- انتهى. وأخرجه الحاكم (ج1ص561) وفيه أيضاً عاصم بن بهدلة وليس فيه ذكر لباب القرآن وفي الباب عن أبي هريرة عند الترمذي والحاكم (ج1ص560) وليس فيه أيضاً ذكر لباب القرآن وعن معقل بن يسار عند أحمد والطبراني كما في الكنز وليس فيه أيضاً ذكر تلك الجملة. 2022- قوله: (لكل شي) أي مما يصح أن يكون له عروس (عروس) أي جمال وزينة وحسن وبهاء (وعروس القرآن الرحمن) وذلك لتكرر قوله {فبأي آلاء ربكما تكذبان} [الرحمن: 13] قاله في اللمعات. وقال القاري: لاشتمالها على النعماء الدنيوية والآلاء الأخروية ولاحتوائها على أوصاف الحور العين التي من عرائس أهل الجنة ونعوت حليهن وحللهن. وقال الطيبي: العروس يطلق على الرجل والمرأة عند دخول أحدهما على الآخر وأراد الزينة فإن العروس تحلى بالحلي وتزين بالثياب أو أراد الزلفى إلى المحبوب والوصول إلى المطلوب. وقال الحفني: العروس مما يستوي فيه المذكر والمؤنث فشبه سورة الرحمن بالعروس بجامع الحسن والميل والطرب بكل فإن العارف إذا قرأ سورة الرحمن وتذكر النعم المكررة فيها حصل له الطرب بقدر مقامه وصفاء باله. 2203- قوله: (لم تصبه فاقة) أي حاجة وفقر (أبدأ) قال القاري: أي لم يضره فقر لما يعطي من

وكان ابن مسعود يأمر بناته يقرأن بها في كل ليلة)) رواهما البيهقي في شعب الإيمان. 2204- (76) وعن علي، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب هذه السورة {سبح اسم ربك الأعلى} )) . رواه أحمد. ـــــــــــــــــــــــــــــ الصبر الجميل والوعد الجزيل أو لم يصبه فقر قلبي لما يعطي من سعة القلب والمعرفة بالرب والتوكل والاعتماد عليه وتسليم النفس وتفويض الأمر إليه لما يستفيد من آيات هذه السورة سيما ما يتعلق فيها بخصوص ذكر الرزق من قوله تعالى: {أفرأيتم ما تحرثون} [الواقعة: 63] وقوله عزوجل: {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} [الواقعة:82]- انتهى. وقال في اللمعات: قد حض الشارع على بعض العبادات المؤثرة في الأمور الدنيوية التي حصولها ممد ومعين على الدين وأمور الآخرة وليكونوا مشغولين بالعبادة على أي وجه كان فذلك يورث المحبة بها ومحبتها تفضى إلى محبة من أتى بها لأن محبة المنعم جبلية، ومن هذه الجهة إمتنانه تعالى بقوله: {أمدكم بأنعامٍ وبنين وجناتٍ وعيون} [الشعراء: 133- 134] وأمثال ذلك (في كل ليلة) وفي بعض النسخ كل ليلة أي بإسقاط في (رواهما) أي الحديثين (البيهقي) حديث على لم أقف على سنده ولا على من خرجه غير البيهقي. وقال العزيزي: إسناده حسن وحديث ابن مسعود أخرجه أيضاً ابن السني (ص218) ونسبه السيوطي في الإتقان (ج2ص165) للبيهقي والحارث ابن أبي أسامة وأبي عبيد وإسناد ابن السني حسن. 2204- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب هذه السورة) سورة {سبح اسم ربك الأعلى} قال القاري أي محبة زائدة وهي نظير ما ورد في سورة الفتح هي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس رواه البخاري وغيره عن عمر مرفوعاً فزيادة المحبة في الفتح لما فيها من البشارة بالفتح والإشارة بالمغفرة، وفي هذه السورة لاشتمالها على تيسير الأمور في كل معسور بقوله {ونيسرك لليسرى} وكان صلى الله عليه وسلم يواظب على قراءتها في أول ركعات الوتر وقراءة الإخلاصين في الركعتين الأخريين، ويمكن أن يكون محبته صلى الله عليه وسلم لها لما فيها من قوله: {إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى} [الأعلى: 18- 19] وهو شاهد على كون القرآن حقاً وحجة على المشركين وأهل الكتاب (رواه أحمد) (ج1ص96) من طريق ثوير بالمثلثة مصغراً ابن أبي فاختة عن أبيه عن على وثوير ضعيف متروك، فالحديث ضعيف الإسناد جداً. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج7ص36) بعد ذكره رواه أحمد وفيه ثوير بن أبي فاختة وهو متروك وذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره وقال تفرد به أحمد ولم يعله وعلى المتقى في كنز العمال ونسبه أيضاً للبزار والدورقي وابن مردويه وأعله بثوير بن أبي فاختة.

2205- (77) وعن عبد الله بن عمرو، قال: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال أقرؤني يا رسول الله! فقال: ((اقرأ ثلاثاً من ذوات (الرا) فقال: كبرت سني، واشتد قلبي، وغلظ لساني: فقال: فاقرأ ثلاثاً من ذوات (حم) فقال مثل مقالته، قال الرجل: يا رسول الله! اقرءني سورة جامعة، فاقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم {إذا زلزلت} ـــــــــــــــــــــــــــــ 2205- قوله: (أتى رجل) لم يسم وفي رواية مختصرة من حديث أنس ذكره الجزري في جامع الأصول وعزاه لرزين. قال أي أنس بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءه إعرابي (أقرئني) بفتح الهمزة وكسر الراء من الإقراء أي علمني (إقرأ ثلاثاً) أي ثلاث سور (من ذوات الرا) بغير المد وهي رواية أحمد لكن بإفراد لفظه ذات بدل ذوات، وفي بعض النسخ من المشكاة من ذوات الراء بالمد والهمزة وهي رواية أبي داود والحاكم وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج5ص366) أي من السورة التي تبدأ بهذه الحروف الثلاثة التي تقرأ مقطعة ألف، لام، را، والذي في القرآن منها خمس سور هي مع أرقام ترتيبها في المصحف 10يونس، 11هود، 12يوسف، 14إبراهيم، 15الحجر (كبرت) بضم الباء وتكسر (سني) أي كثر عمري (واشتد قلبي) أي غلب عليه قلة الحفظ وكثرة النسيان (وغلظ) بضم اللام (لساني) أي ثقل بحيث لم يطاوعني في تعلم القرآن لا تعلم السور الطوال (قال) فإن كنت لا تستطيع قراءتهن (فاقرأ ثلثاً من ذوات حم) فإن اقصر ذوات حم اقصر من ذوات الرا وفي المسند من ذات حم أي من السور التي تبدأ بهذين الحرفين حا، ميم، وهي في القرآن سبع سور، 40 غافر، 41 فصلت، 42 الشورى، 43 الزخرف، 44 الدخان، 45 الجاثية، 46 الأحقاف، (فقال) الرجل (مثل مقالته) الأولى ووقع عند أحمد وأبي داود وغيرهما بعد ذلك، فقال إقرأ ثلثاً من المسبحات فقال مثل مقالته، والمراد من المسبحات السورة التي تبدأ بمادة التسبيح وهي سبع سور، 17 الإسراء 57 الحديد 59الحشر، 61 الصف، 62 الجمعة، 64 التغابن، 87الأعلى، (أقرئني سورة جامعة) أي بين وجازة المباني وغزارة المعاني أو للمطالب الدنيوية والأخروية والثواب والعقاب على سبيل الإيجاز (فاقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زلزلت) كأنه طلبه لما يحصل به الفلاح إذا عمل به فلذلك قال سورة جامعة، وفي هذه السورة آية زائدة لا مزيد عليها {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره} [الزلزال: 8] والآية ولأجل هذا الجمع الذي لا حد له قال صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الحمر الأهلية لم ينزل على فيها شي إلا هذه الآية الجامعة الفاذة {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} وبيان ذلك

حتى فرغ منها، فقال الرجل: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليه أبداً ثم أدبر الرجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلح الرويجل مرتين)) . رواه أحمد، وأبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ إنها وردت لبيان الاستقصاء في عرض الأعمال والجزاء عليها كقوله تعالى: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبةٍ من خردلٍ أتينا بها وكفى بنا حاسبين} [الأنبياء: 47] (حتى فرغ منها) أي النبي أو الرجل (فقال الرجل) هذا لفظ أبي داود وعند أحمد حتى إذا فرغ منها قال الرجل (والذي بعثك بالحق لا أزيد عليه أبداً) أي على العمل بما دل عليه ما أقرأتينه من فعل الخير وترك الشر ولعل القصد بالحلف تأكيد العزم لا سيما بحضوره صلى الله عليه وسلم الذي بمنزلة للبايعة والعهد. قال الطيبي: فكأنه قال حسبي ما سمعت ولا أبالي أن لا أسمع غيرها وقوله: "لا أزيد عليه" كذا في النسخ الحاضرة من المشكاة والذي في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود "لا أزيد عليها" وهكذا وقع في رواية الحاكم وابن السني وكذا نقله الجزري في جامع الأصول وفي الحصن والحافظ ابن كثير في تفسيره والشوكاني في فتح القدير (ثم أدبر الرجل) أي ولى دبره وذهب (أفلح) أي فاز وظفر بالمطلوب (الرويجل) تصغير رجل. قال في اللسان: وتصغيره رجيل ورويجل على غير قياس حكاه سيبويه، وفي التهذيب تصغير الرجل رجيل وعامتهم يقولون رويجل صدق ورويجل سوء على غير قياس يرجعون أي الراجل كذا حكاه الشيخ أحمد محمد شاكر في شرح مسند الإمام أحمد. قال الطيبي: هو تصغير تعظيم لعبد غوره وقوة إدراكه وهو تصغير شاذ إذ قياسه رجيل (مرتين) إما للتأكيد أو مرة للدنيا ومرة للآخرة. وقيل: لشدة إعجابه عليه الصلاة والسلام منه وقوله: "قال أفلح الرويجل مرتين كذا في سنن أبي داود وعند أحمد وكذا ابن السني قال أفلح الرويجل أفلح الرويجل أي وقع مكرراً وهكذا ذكره الشوكاني (رواه أحمد) (ج2ص169) (وأبو داود) في أواخر الصلاة وأخرجه أيضاً الحاكم (ج2ص536) وابن السني (ص219) وابن عبد الحكم في فتوح مصر (ص258- 259) وابن حبان في صحيحه كما ذكره الشيخ أحمد محمد شاكر في شرح المسند ونسبه المنذري في مختصر السنن والحافظ ابن كثير في تفسيره والجزري في الحصن والشوكاني في فتح القدير (ج5ص465) للنسائي أيضاً ونسبه أيضاً الشوكاني لمحمد بن نصر والطبراني وابن مردويه والبيهقي، والحديث إسناده صحيح سكت عليه أبوداود والمنذري. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين واستدرك عليه الذهبي فقال "بل صحيح" قال الشيخ أحمد شاكر: يريد أنه صحيح ولكن ليس على شرطهما، وهو كما قال فإن عياش بن عباس روى له مسلم فقط وعيسى بن هلال (راوي الحديث عن عبد الله بن عمرو) لم يرو له واحد منهما.

2206- (78) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا يستطيع أحدكم أن يقرأ ألف آية في كل يوم؟ قالوا: ومن يستطيع أن يقرأ ألف آية في كل يوم؟ قال: أما يستطيع أحدكم أن يقرأ ألهكم التكاثر؟)) رواه البيهقي في شعب الإيمان. 2207- (79) وعن سعيد بن المسيب، مرسلاً، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قرأ {قل هو الله أحد} عشر مرات بنى له بها قصر في الجنة، ومن قرأ عشرين مرة بنى له بها قصران في الجنة، ومن قرأها ثلثين مرة بنى له بها ثلاثة قصور في الجنة. فقال عمر بن الخطاب: والله يا رسول الله إذاً لنكثرن قصورنا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2206- قوله: (قالوا ومن يستطيع أن يقرأ ألف آية في كل يوم) أي لا يستطيع كل أحد هذه القراءة على طريق المواظبة (قال أما يستطيع أحدكم أن يقرأ ألهكم التكاثر) أي إلى آخرها، أو هذه السورة فإنها كقراءة ألف آية في الثواب أو في التزهيد عن الدنيا والترغيب في علم اليقين بالعقبى (رواه البيهقي في شعب الإيمان) وأخرجه أيضاً الحاكم (ج1ص566- 567) من طريق حفص بن ميسرة عن عقبة بن محمد بن عقبة عن نافع عن ابن عمر. قال الحاكم: رواة هذا الحديث كلهم ثقات وعقبة هذا غير مشهور وذكر الذهبي في تلخيص المستدرك والحافظ في اللسان (ج4ص179) كلام الحاكم، هذا وأقواه والحديث ذكره المنذري في الترغيب ونسبه للحاكم وقال رجال إسناده ثقات إلا أن عقبة لا أعرفه. 2207- قوله: (وعن سعيد بن المسيب) التابعي الكبير المشهور (مرسلاً) بحذف الصحابي، وقد تقدم أن مراسيل سعيد بن المسيب أصح المرسلات على ما ذكره عن السيوطي الإمام أحمد. وقال الحاكم في علوم الحديث (ص25- 26) أصح المراسيل كما قال ابن معين مراسيل ابن المسيب، لأنه من أولاد الصحابة وأدرك العشرة وفقيه أهل الحجاز وأول الفقهاء السبعة الذين يعتد مالك بإجماعهم كإجماع كافة الناس، وقد تأمل الأئمة المتقدمون مراسيله فوجدوها بأسانيد صحيحة وهذه الشرائط لم توجد في مراسيل غيره. (ومن قرأها) أي السورة (ثلاثين مرة بنى له ثلاثة قصور في الجنة) لعله كور ليعلم إن كل ما زاد من الأعداد زيد له من الإمداد (إذاً) بالتنوين جواب وجزاء فيه معنى التعجب (لنكثرن) من الإكثار (قصورنا) قال الطيبي: أي إذا كان الأمر على ما ذكرت من أن جزاء عشر مرات قصر في الجنة فأنا نكثر قصورنا بكثرة قراءة هذه السورة فلا حد للقصور

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أوسع من ذلك)) . رواه الدارمي. 2208- (80) وعن الحسن، مرسلاً، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قرأ في ليلة مائة آية لم يحاجه القرآن تلك الليلة، ومن قرأ في ليلة مائتي آية كتب له قنوت ليلة، ومن قرأ في ليلة خمسمائة إلى الألف أصبح وله قنطار من الأجر. ـــــــــــــــــــــــــــــ حينئذٍ ولا أوسع من الجنة شي (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أوسع) أي أكثر عطاء (من ذلك) أو قدرته ورحمته أوسع فلا تعجب. وقال في اللمعات: الظاهر أن يكون غرض عمر رضي الله عنه إظهار الميل والرغبة في تكثير الثواب كما يظهر من قوله إذا لنكثرن مع تضمنه شيئاً من الاستبعاد فيكون الجواب إن ثواب الله وفضله ورحمته أوسع فارغبوا فيه ولا تستعبدوه. وكلام الطيبي منحصر في التعجب والاستبعاد وما ذكرنا أظهر فتدبر- انتهى. (رواه الدارمي) عن عبد الله بن يزيد عن حيوة عن أبي عقيل زهرة بن معبد. قال الدارمي: وكان من الإبدال أنه سمع سعيد بن المسيب يقول إن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال من قرأ إلخ. قال الحافظ ابن كثير بعد ذكره: وهذا مرسل جيد- انتهى. وروى الإمام أحمد (ج3ص437) وابن السني (ص221) من طريق ابن لهيعة عن زبان بن فائد عن سهل بن معاذ عن أبيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ {قل هو الله أحد} حتى يختمها عشر مرات بنى الله له قصراً في الجنة، فقال عمر إذا نستكثر يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر وأطيب، وابن لهيعة فيه كلام وزبان ضعيف فالحديث ضعيف ولهذا صدره المنذري في الترغيب بلفظه روى. 2208- قوله: (وعن الحسن) أي البصري (مرسلاً) لأنه تابعي حذف الصحابي (من قرأ في ليلة مائة آية يحاجه القرآن) بتشديد الجيم من المحاجة وهي المخاصمة أي لم يخاصمه في تقصيره (تلك الليلة) أي من جهتها. وقال في اللمعات: أي لم يأخذه الله ولم يسأله عن أداء حق القرآن في تلك الليلة يعني إن قراءة هذا القدر من القرآن في ليلة تكفي في دفع مخاصمة القرآن وأداء حقه في تلك الليلة. وقيل: المراد به الحث على قيام الليل. وعليه يدل صنيع المنذري في الترغيب والهيثمي في مجمع الزوائد حيث أوردا أمثال هذا الحديث في باب صلاة الليل وتقدم حديث عبد الله بن عمرو مختصراً بنحو ذلك في الفصل الثاني من باب صلاة الليل (قنوت ليلة) أي طاعتها أو قيامها (أصبح وله قنطار) أي ثواب بعدده أو بوزنه (من الأجر) قال في اللمعات: القنطار وزن أربعين أوقية من ذهب أو ألف ومائتا دينار أو ملأ مسك الثور ذهباً أو فضة كذا في القاموس، والمقصود المبالغة في كثرة الثواب والمناسب حمله على المعنى الأخير. قلت: ويؤيده ما وقع في حديث أبي سعيد الخدري عند الدارمي من قوله

(1) باب

قالوا: وما القنطار؟ قال: اثنا عشر ألفاً)) . رواه الدارمي. (1) باب {الفصل الأول} 2209- (1) عن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تعاهدوا القرآن ـــــــــــــــــــــــــــــ القنطار ملء مسك الثور ذهباً (قالوا) أي الصحابة (وما القنطار قال) أي النبي صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يكون ضمير قالوا لأصحاب الحسن وضمير قال للحسن (اثنا عشر ألفاً) أي ديناراً، وروى ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة مرفوعاً القنطار اثنا عشر ألف أوقية، والأوقية خير مما بين السماء والأرض، وروى الطبراني عن أبي أمامة مثله. (رواه الدارمي) عن أبي النعمان عن وهب عن يونس عن الحسن أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال من قرأ في ليلة إلخ. وقد سبق الكلام في مراسيل الحسن البصري وذكرنا هناك أن الإمام أحمد قال: إنها من أضعف المراسيل. وقال العراقي: مراسيل الحسن عندهم شبه الريح. وقال ابن المديني: مرسلات الحسن البصري التي رواها عنه الثقات صحاح ما أقل ما يسقط منها. وقال أبوزرعة: كل شي. قال الحسن: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجدت له أصلاً ثابتاً ما خلا أربعة أحاديث. وقال يحيى بن سعيد القطان: ما قال الحسن في حديثه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إلا وجدنا له أصلاً إلا حديثاً أو حديثين. قال الحافظ: ولعله أراد ما جزم به الحسن. قلت: والحديث المذكور ههنا مما رواه عنه الثقة وأيضاً قد جزم به الحسن حيث قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم فالظاهر إن مرسله هذا ليس من مراسيله التي لا أصل لها. ويؤيده ما ورد في الباب عن عبد الله بن عمرو بن العاص وأبي أمامة وأبي هريرة وأنس وأبي الدرداء وتميم الداري وفضالة بن عبيد وعبد الله بن مسعود مرفوعاً وموقوفاً بنحو ذلك بألفاظ وطرق مختصراً ومطولاً من شاء الوقوف عليها رجع إلى الترغيب للمنذري ومجمع الزوائد وعمل اليوم والليلة لابن السني والسنن للدارمي. (باب) بالتنوين ويسكن وهو في توابع فضائل القرآن من الأحكام التي مراعاتها من الفواضل وغير ذلك، ووقع في بعض النسخ باب آداب التلاوة ودروس القرآن. 2209- قوله: (تعاهدوا القرآن) مثل تعهدوه أي تفقدوه وراعوه بالمحافظة وواظبوا على قراءته وداوموا على تكرار دراسته لئلا ينسى. قال التوربشتي: العهد والتعاهد هو التحفظ بالشيء وتجديد العهد به، ومعناه

فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفصياً من الإبل في عقلها)) متفق عليه. 2210- (2) وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بئس ما لأحدهم ـــــــــــــــــــــــــــــ ههنا التوصية بتجديد العهد بقراءته لئلا يذهب عنه (لهو) اللام لتوكيد القسم أي القرآن (أشد تفصياً) بفتح الفاء وكسر الصاد المهملة المشددة وتخفيف التحتية بعدها منصوب على التمييز أي أسرع تفلتاً وتخلصاً وذهاباً وخروجاً. قال التوربشتي: التفصى من الشيء التخلص منه تقول تَفَصَّيت من الديون إذا خرجت منها (من الإبل في عقلها) وفي رواية بعقلها وفي أخرى من عقلها وهي بضمتين ويجوز سكون القاف جمع عقال بكسر أوله ككتب وكتاب وهو الحبل الذي يشد به ذراع البعير، يقال عقلت البعير أعقله عقلاً إذا ثنيت وظيفة إلى ذراعه فتشدهما جميعاً في وسط الذراع وذلك الحبل هو العقال، والمعنى إن صاحب القرآن إذا لم يتعهده بتلاوته والتحفظ به والتذكر حالاً فحالاً كان أشد ذهاباً من الإبل إذا تخلصت من العقال فإنها تنفلت حتى لا تكاد تلحق. قال القرطبي: من رواه من عقلها فهو على الأصل الذي يقتضيه التعدي من لفظ التفصي ومن رواه بالباء أو بكلمة "في" يحتمل أن يكون بمعنى "من" أو بمعنى الظرف أو بمعنى المصاحبة يعني مع عقلها. والحاصل تشبيه من يتفلت منه القرآن بالناقة التي تفلتت من عقالها وبقيت متعلقة به كذا قال، والتحرير إن التشبيه وقع بين ثلاثة بثلاثة فحامل القرآن شبه بصاحب الناقة، والقرآن بالناقة والحفظ بالربط. قال الطيبي: ليس بين القرآن والناقة مناسبة لأنه قديم وهي حادثة لكن وقع التشبيه في المعنى. وفي هذا الحديث وكذا في الحديث الذي يليه زيادة على حديث ابن عمر الآتي بعدهما، لأن في حديث ابن عمر تشبيه أحد الأمرين بالآخر وفي هذا إن هذا أبلغ في النفور من الإبل لأن من شأن الإبل تطلب التفلت ما أمكنها فمتى لم يتعاهدها صاحبها برباطها تفلتت فكذلك حافظ القرآن إذا لم يتعاهده تفلت بل هو أشد في ذلك. وقال ابن بطال: هذا الحديث يوافق الآيتين قوله تعالى: {إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً} [المزمل: 5] وقوله: {ولقد يسرنا القرآن للذكر} [القمر: 17] فمن أقبل عليه بالمحافظة والتعاهد يسر له ومن أعرض عنه تفلت منه. قال الطيبي: وإنما كان كذلك لأن القرآن ليس من كلام البشر بل هو من كلام خالق القوي والقدر وليس بينه وبين البشر مناسبة قريبة لأنه حادث وهو قديم لكن الله سبحانه وتعالى بلطفه العميم وكرمه القديم من عليهم ومنحهم هذه النعمة العظيمة فينبغي له أن يتعاهده بالحفظ والمواظبة عليه ما أمكنه فقد يسره تعالى للذكر وإلا فالطاقة البشرية تعجز قواها عن حفظه. وفيه وفي حديثي ابن مسعود وابن عمر الحض على محافظة القرآن بدوام دراسته وتكرار تلاوته وضرب الأمثال لإيضاح المقاصد (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد (ج4ص397، 411) . 2210- قوله: (بئس ما) "ما" نكرة موصوفة مفسرة لفاعل بئس (لأحدهم) أي لأحد الناس

أن يقول نسيت آية كيت وكيت. بل نسي، ـــــــــــــــــــــــــــــ (أن يقول) هو المخصوص بالذم كقوله تعالى: {بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله} [البقرة: 90] أي بئس الشيء شيئاً كائناً لأحدهم قوله (نسيت) بفتح النون وكسر السين مخففة (آية كيت وكيت) أي آية كذا وكذا وهو بفتح التاء على المشهور وحكى الجوهري فتحها وكسرها عن أبي عبيدة. قال القرطبي: كيت وكيت يعبر بهما عن الجمل الكثيرة، والحديث الطويل. وأطلق ههنا باعتبار كون الآية مشتملة على مضمون جملة وإلا فالظاهر آية كذا وكذا (بل نسى) بضم النون وتشديد المهملة المكسورة. قال القرطبي: رواه بعض رواة مسلم مخففاً. قال الحافظ: وكذا هو في مسند أبي يعلى وكذا أخرجه ابن أبي داود في كتاب الشريعة من طرق متعددة مضبوطة بخط موثوق به على كل سين علامة التخفيف. قلت: (قائله الحافظ) والتثقيل هو الذي وقع في جميع الروايات في البخاري وكذا في أكثر الروايات في غيره ويؤيده ما وقع في رواية أبي عبيد في الغريب بعد قوله كيت وكيت ليس هو نسى ولكنه نسى الأول بفتح النون وتخفيف السين، والثاني بضم النون وتثقيل السين. قال الخطابي: نُسيّ يعني عوقب بالنسيان على ذنب كان منه أو على سوء تعهده بالقرآن حتى نسيه. وقال القرطبي: التثقيل معناه إنه عوقب بوقوع النسيان عليه لتفريطه في معاهدته واستذكاره قال: ومعنى التخفيف إن الرجل ترك غير ملتفت إليه وهو كقوله: {نسوا الله فنسيهم} [التوبة: 67] أي تركهم في العذاب أو تركهم من الرحمة. وقال في اللمعات: بئس ما لأحدهم الخ أي بئس شيئاً كائناً لأحدهم قوله نسيت آية "كيت وكيت" فإنه يشعر بتركه وعدم مبالاته بها بل يقول نسي بلفظ المجهول من التفعيل تحسُّراً أو إظهاراً للخذلان على تقصيره في إحراز هذه السعادة وحفظها أو تحرزاً عن التصريح بارتكاب المعصية وتأدباً مع القرآن العظيم- انتهى. وأعلم أنه اختلف في متعلق الذم من قوله بئس على أوجه ذكرها الحافظ في الفتح وأرجحها عنده إن سبب الذم ما فيه من الأشعار بعدم الاعتناء بالقرآن إذ لا يقع النسيان إلا بترك التعاهد وكثرة الغفلة، فلو تعاهده بالتلاوة والقيام به في الصلاة لدام حفظه وتذكره، فإذا قال الإنسان نسيت الآية الفلانية فكأنه شهد على نفسه بالتفريط فيكون متعلق الذم ترك الاستذكار والتعاهد لأنه الذي يورث النسيان. وقال عياض: أولى ما يتأول عليه الحديث ذم الحال لا ذم القول أي بئست الحالة حالة من حفظ القرآن فغفل عنه حتى نسيه. وقد عقد البخاري في صحيحه باب نسيان القرآن وهل يقول نسيت آية كذا وكذا، ثم أورد فيه حديث عائشة قالت: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يقرأ في سورة بالليل فقال يرحمه الله لقد أذكرني كذا وكذا آية كنت أنسيتها من سورة كذا وكذا. قال الحافظ: وفي رواية معمر عن هشام عند الإسماعيلي كنت نسيتها بفتح النون ليس قبلها همزة. ثم ذكر البخاري حديث ابن مسعود هذا الذي نحن في شرحه. قال الحافظ: كأنه يريد أي بهذه الترجمة إن النهي عن قول نسيت آية كذا وكذا ليس للزجر عن هذا اللفظ بل للزجر عن تعاطي أسباب النسيان المقتضية لقول هذا اللفظ. ويحتمل أن ينزل المنع

واستذكروا القرآن فإنه أشد تفصياً من صدور الرجال من النعم)) . متفق عليه، وزاد مسلم بعقلها. 2211- (3) وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما مثل صاحب القرآن ـــــــــــــــــــــــــــــ والإباحة عن حالتين فمن نشأ نسيانه عن اشتغاله بأمر ديني كالجهاد لم يمتنع عليه قول ذلك، لأن النسيان لم ينشأ عن إهمال أمر ديني وعلى ذلك يحمل ما ورد من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من نسبة النسيان إلى نفسه ومن نشأ نسيانه عن اشتغاله بأمر دنيوي ولا سيما إن كان محظوراً امتنع عليه لتعاطيه أسباب النسيان- انتهى. وقال النووي: في حديث ابن مسعود كراهة قوله "نسيت" آية كذا، وهي كراهة تنزيه وإنه لا يكره قوله "أنسيتها" وإنما نهى عن نسيتها لأنه يتضمن التساهل فيها والتغافل عنها وقال الله تعالى: {أتتك آياتنا فنسيتها} [طه: 126] (واستذكروا القرآن) السين للمبالغة أي واظبوا على تلاوته واطلبوا من أنفسكم المذاكرة والمحافظة به. قال الطيبي: وهو عطف من حيث المعنى على قوله بئس ما لأحدهم أي لا تقصروا في معاهدته واستذكروه وفي رواية مسلم استذكروا بغير واو (فإنه) وفي رواية مسلم فهو (أشد تفصياً) أي تفلُّتاً وتشرُّداً (من صدور الرجال) من متعلق بتفصياً وتخصيص الرجال بالذكر لأن حفظ القرآن من شأنهم (من النعم) بفتحتين. قال النووي: النعم أصلها الإبل والبقرة والغنم والمراد هنا الإبل خاصة لأنها التي تعقل- انتهى. وهو متعلق "بأشد" أي أشد من تفصي النعم المعقلة (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد (ج1ص381- 417- 423- 429، 438- 449- 463) والترمذي في القراءات والنسائي وغيرهم (وزاد مسلم بعقلها) بضمتين ووقعت هذه الزيادة عند أحمد والترمذي أيضاً لكن عند الترمذي بلفظ: من عقله، وكذا عند مسلم في الموقوف، ولأحمد في رواية من عقلها وفي أخرى بعقله أو من عقله. قال النووي: المراد برواية الباء من كما في قوله تعالى: {عيناً يشرب بها عباد الله} [الإنسان: 6] على أحد القولين في معناها، وقوله "عقله" صحيح أيضاً أي لأن النعم تذكر وتؤنث. 2211- قوله: (إنما مثل صاحب القرآن) أي مع القرآن والمراد بالصاحب الذي ألفه. قال عياض: المؤالفة المصاحبة وهو كقوله أصحاب الجنة وقوله "ألفه" أي ألف تلاوته وهو أعم من أن يألفها نظراً من المصحف أو عن ظهر قلب فإن الذي يداوم على ذلك يذل له لسانه ويسهل عليه قراءته فإذا هجره ثقلت عليه القراءة وشقت عليه وقوله "إنما" يقتضي الحصر على الراجح لكنه حصر مخصوص بالنسبة إلى الحفظ والنسيان بالتلاوة والترك (كمثل صاحب الإبل المعقلة) أي مع إبله المعقلة. والمعقلة بضم الميم وفتح العين المهملة وتشديد القاف المفتوحة أي المشدودة بالعقال شبه درس القرآن واستمرار تلاوته بربط البعير الذي يخشى منه الشراد والهروب فما زال التعاهد موجوداً فالحفظ موجود كما أن البعير ما دام مشدوداً بالعقال فهو محفوظ، وخص الإبل بالذكر

كمثل صاحب الإبل المعلقة، إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت)) . متفق عليه. 2212 - (4) وعن جندب بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اقرؤا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا عنه)) . متفق عليه. 2213- (5) وعن قتادة، قال: سئل أنس ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنها أشد الحيوان الأنسي نفوراً وفي تحصيلها بعد استمكان نفورها صعوبة (إن عاهد عليها) أي تعهدها ولازمها (أمسكها) أي استمر إمساكه لها يعني أبقاها على نفسه (وإن أطلقها) أي أرسلها وحلها من عقلها (ذهبت) أي انفلتت، وفي رواية ابن ماجه إن تعاهدها صاحبها بعقلها أمسكها عليه، وإن أطلق عقلها ذهبت. وفي رواية لمسلم وإذا قام صاحب القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكره وإن لم يقم به نسيه. وفي الحديث حض على درس القرآن وتعاهده (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد (ج1ص17- 23- 30- 36- 64- 112) ومالك في أواخر الصلاة والنسائي وابن ماجه في ثواب القرآن. 2212- قوله: (اقرؤا القرآن) أي داوموا على قراءته (ما ائتلفت) أي اجتمعت (عليه قلوبكم) أي ما دامت قلوبكم تألف القراءة (فإذا اختلفتم) بأن صارت قلوبكم في فكرة شيء سوى قراءتكم وصارت القراءة باللسان مع غيبة الجنان يعنى صار القلب مخالفاً للسان (فقوموا عنه) أي أتركوا قراءته حتى ترجع قلوبكم. قال الطيبي: قوله "اقرؤا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم إلخ" يعني اقرؤا على نشاط منكم وخواطركم مجموعة فإذا حصل لكم ملالة وتفرق القلوب فاتركوه فإنه أسلم من أن يقرأ أحد من غير حضور القلب يقال. قام بالأمر إذا جد فيه وداوم عليه وقام عن الأمر إذا تركه وتجاوز عنه. ويحتمل كما في الفتح أن يكون المعنى اقرؤا وألزموا الائتلاف على ما دل عليه وقاد إليه، فإذا وقع الاختلاف أي أو عرض عارض شبهة يقتضي المنازعة الداعية إلى الافتراق فاتركوا القراءة وتمسكوا بالمحكم الموجب للألفة وأعرضوا عن المتشابه المؤدي إلى الفرقة، قال: وهو كقوله - صلى الله عليه وسلم - فإذا رأيتم الذين يتبعون المتشابه منه فاحذروهم، قال ويحتمل أنه نهى عن القراءة إذا وقع الاختلاف في كيفية الأداء بأن يتفرقوا عند الاختلاف ويستمر كل منهم على قراءته، ومثله ما تقدم عن ابن مسعود لما وقع بينه وبين الصحابيين الأخرين الاختلاف في الأداء فترافعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كلكم محسن- انتهى. قال ابن الجوزي: كان اختلاف الصحابة يقع في القراءات واللغات فأمروا بالقيام عند الاختلاف لئلا يجحد أحدهم ما يقرأه الآخر فيكون جاحدا لما أنزل الله عزوجل (متفق عليه) أخرجه البخاري في فضائل القرآن وفي الاعتصام، ومسلم في القدر وأخرجه أيضاً أحمد (ج4ص313) والنسائي. 2213- قوله: (وعن قتادة قال سئل أنس) بضم السين مبنياً للمفعول والسائل هو قتادة كما يدل عليه

كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كانت مداً مداً، ـــــــــــــــــــــــــــــ رواية البخاري عن قتادة قال سألت أنس بن مالك عن قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال كان يمد مداً أي يمد الحرف الذي يستحق المد (كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم) أي على أي صفته كانت هل كانت ممدودة أو مقصورة أو متوسطة (فقال كانت مداً) بالتنوين من غير همز أي ممدودة أو ذات مد لكن لما يستحق المد، والمراد بالمد هنا المد الطبيعي الذي يقال له المد الذاتي والأصلي لكونه لازماً لذوات حروف المد وطبائعها، وهو أشباع الحروف الذي بعد ألف أو واو أو ياء كالألف والواو في قالوا، والياء في قيل. ويحصل هذا المد بإتمام الحركة أو أشباع الحروف بقدر ألف لأنه إن لم يقرأ كذلك لم يتم النطق بذلك الحرف. وأما المد المعروف الذي يبحث عنه أصحاب علم التجويد فهو المد الفرعي، وله سببان، وقوع السكون والهمزة بعد حروف المد، والسكون إما أن يكون لازمياً سواء كان من جهة الإدغام كما في دابة ولا الضالين، أو من غير إدغام كما في حروف المد التي وقعت في أوائل السور مثل ألف، لام، ميم، كاف، صاد، نون، قاف، أو يكون السكون عارضياً كما في نستعين والمفلحون وأولي الألباب. وأما الهمزة فهي إما أن تكون في نفس الكلمة مثل السماء والسوء وجيء أو في كلمة أخرى نحو ما أنزل وقالوا آمنا وفي أنفسهم. واختلف القراء في مقدار هذا المد، فقال بعضهم: يمد بقدر ألف ونصف وقال بعضهم: يمد بقدر ألفين ونصف ألف إلى ثلاث ألفات أو أربع ألفات وتفصيل ذلك في كتب التجويد كذا في أشعة اللمعات. وقال الحافظ: المد عند القراء على ضربين أصلي، وهو إشباع الحرف الذي بعده ألف أو واو أو ياء، وغير أصلي وهو ما إذا أعقب الحرف الذي هذه صفته همزة وهو متصل ومنفصل، فالمتصل ما كان من نفس الكلمة، والمنفصل ما كان بكلمة أخرى فالأول يؤتي فيه بالألف والواو والياء ممكنات من غير زيادة، والثاني يزاد في تمكين الألف. والواو والياء زيادة على المد الذي لا يمكن النطق بها إلا به من غير إسراف والمذهب الأعدل أنه يمد كل حرف منها ضعفي ما كان يمده أولاً. وقد يزاد على ذلك قليلاً وما أفرط فهو غير محمود، والمراد هنا الضرب الأول- انتهى. وقال القاري: إذا وجد حرف المد الذي هو شرط المد ولم يوجد أحد السببين الموجبين للزيادة وهما الهمز والسكون فلا بد من المد بقدر ألف اتفاقاً وقدر بمقدار قولك أو كتابتك ألف أو عقد أصبع ويسمى طبيعياً وذاتياً وأصلياً، وإذا وجد أحد السببين فلا بد من الزيادة ويسمى فرعياً، ثم إن كان السبب الهمز ففي مقدار الزيادة على الأصل خلاف كثير بين القراء في مراتب المتصل والمنفصل مع اتفاقهم على مطلق المد هو في المتصل وخلاف بعضهم في المنفصل، وأقل الزيادة ألف ونصف وأكثرها أربع وإن كان السبب هو السكون فإن كان لازمياً سواء كان يكون مشدداً أو مخففاً نحو دابة وصاد فكلهم يقرؤن على نهج واحد وهو مقدار ثلاث ألفات، وإن كان عارضياً نحو يعملون فيجوز فيه القصر وهو قدر ألف والتوسط وهو ألفان والمد وهو ثلاثة

ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم، يمد ببسم الله، ويمد بالرحمن، ويمد بالرحيم)) . رواه البخاري. 2214- (6) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أذن الله لشي ما أذن لنبي ـــــــــــــــــــــــــــــ وللمسألة تفصيل طويل يجر بسطها إلى ملالة وتثقيل (ثم قرأ) أي أنس (يمد ببسم الله) أي اللام التي قبل الهاء من الجلالة الشريفة. وقال القاري: أي في ألف الجلالة مداً أصلياً بقدر ألف (ويمد بالرحمن) أي بالميم التي قبل النون (ويمد بالرحيم) أي بالحاء المد الطبيعي الذي لا يمكن النطق بالحرف إلا به من غير زيادة عليه لا كما يفعله بعضهم من الزيادة عليه نعم إذا كان بعد حرف المد همز متصل بكلمته أو سكون لازم كاولائك والحاقة وجب زيادة المد أو منفصل عنها أو سكون عارض كياأيها أو الوقف على الرحيم جاز قاله القسطلاني. وقال القاري: قوله "ويمد بالرحيم" أي في ياءه مداً أصلياً أو عارضياً فإنه يجوز في نحوه حالة الوقف ثلاثة أوجه الطول والتوسط والقصر مع الإسكان، ووجه آخر بالقصر والروم وهو إتيان بعض الحركة بصوت خفي، وقوله "ببسم الله" بموحدة قبل الموحدة التي في بسم الله كأنه حكى لفظ بسم الله كما حكى لفظ الرحمن في قوله ويمد بالرحمن أو جعله كالكلمة الواحدة علماً لذلك، ووقع عند أبي نعيم يمد بسم الله ويمد الرحمن ويمد الرحمن ويمد الرحيم من غير موحدة في الثلاثة (رواه البخاري) في فضائل القرآن، وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي وابن ماجه في الصلاة، والترمذي في الشمائل. وأخرج ابن أبي داود من طريق قطبة بن مالك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الفجر ق فمر بهذا الحرف لها طلع نضيد فمد نضيد وهو شاهد جيداً حديث أنس. 2214- قوله: (ما أذن الله) بكسر الذال المعجمة من الأذن بفتحتين ومعناه الاستماع والاصغاء ومنه قوله تعالى: {وأذنت لربها} [الانشقاق:2] وقال الشاعر: صم إذا سمعوا خيراً ذكرت به وإن ذكرت بشر عندهم أذنوا وأما الأذن بمعنى الإطلاق والإباحة فهو بكسر الهمزة وسكون الذال وليس ذلك مراداً هنا، وكلاهما مشترك في أن الماضي بكسر الذال المضارع بفتحها كفرح يفرح (لشي) بالشين المعجمة (ما أذن لنبي) "ما" الأولى نافية والثانية مصدرية أي ما استمع لشي كاستماعه لصوت نبي. قال السندي: ما أذن الله الخ أي ما استمع لشي مسموع كاستماعه لنبي والمراد جنس النبي والقرآن القراءة أو كلام الله مطلقاً. ولما كان الاستماع بمعنى الإصغاء على الله تعالى محالاً، لأنه من شأن من يختلف سماعه بكثرة التوجه وقلته وسماعه تعالى لا يختلف. قالوا: هذا كناية عن تقريبه القاري وإجزال ثوابه أي لأن ذلك ثمرة الإصغاء- انتهى. قلت: لا حاجة إلى هذا التأويل فإنه يفضي ويؤدي

يتغنى بالقرآن)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى نفي صفة الاستماع بل نحمله على ظاهره ونفوض حقيقة معناه إلى الله تعالى (يتغنى بالقرآن) هو من التغني بمعنى الترنم والتطريب أي يحسن صوته ويرتقه ويحزنه. قال في اللمعات: المراد بالتغني تحسين الصوت وتطييبه وتزيينه وترقيقة وتحزينة بحيث يورث الخشية ويجمع الهم ويزيد الحضور ويبعث الشوق ويرق القلب ويؤثر في السامعين مع رعاية قوانين التجويد ومراعاة النظم في الكلمات والحروف كما جاء في الحديث أي الناس أحسن صوتاً للقرآن قال من إذا سمعته يقرأ أريت أنه يخشى وهو الصوت الطبيعي للعرب بحسن غاية الطبيعية المراد بلحن العرب، وإليه الإشارة بقول أبي موسى الأشعري لحبرته تحبيراً. وأما التكلف برعاية قوانين الموسيقي فمكروه، وإذا أدى إلى تغير القرآن فحرام بلا شبهة وسيأتي من الأحاديث ما يدل على ذلك- انتهى. قلت: اختلف في معنى التغني على أقوال كما سيأتي، ومعناه عند الشافعي وأصحابه وأكثر العلماء هو تحسين الصوت به. قال ابن بطال: وبذلك فسره ابن أبي مليكة وعبد الله بن المبارك والنضر بن شميل ويؤيده في الرواية الأخرى قوله يجهر به. قال الطيبي: لأنها جملة مبينة لقوله بيان يتغنى بالقرآن فلم يكن المبين على خلاف البيان كذلك يتغنى بالقرآن في هذه الرواية بيان لقوله ما أذن الله لنبي أي صوته فكيف يحمل على غير حسن الصوت. وقال الحافظ: ظواهر الإخبار ترجح أن المراد تحسين الصوت ويؤيده قوله "يجهر" به فإنها إن كانت مرفوعة قامت الحجة وإن كانت غير مرفوعة فالرواي أعرف بمعنى الخبر من غيره، ولا سيما إذا كان فقيهاً. وقد جزم الحليمي بأنها من قول أبي هريرة والعرب تقول سمعت فلاناً يتغنى بكذا أي يجهر به ويشهد أيضاً لما قال الشافعي الحديث الآخر زينوا القرآن بأصواتكم، ويؤيده أيضاً رواية الطبراني لحديث الباب بلفظ: ما أذن الله لنبي في الترنم في القرآن وعنده في رواية أخرى ما أذن الله لنبي حسن الصوت، وهذا اللفظ عند مسلم أيضاً كما سيأتي. وعند ابن أبي داود والطحاوي حسن الترنم بالقرآن قال الطبري: والترنم لا يكون إلا بالصوت إذا حسنه القاري وطرب به قال، ولو كان معناه الاستغناء كما قيل لما كان لذكر الصوت ولا لذكر الجهر معنى، وأخرج ابن ماجه والكجى وصححه ابن حبان والحاكم من حديث فضالة بن عبيد مرفوعاً الله أشد أذناً أي استماعاً للرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينتة، والقينة المغنية. وروى عمر بن شبة عن عبيد بن عمير قال: كان داود عليه السلام يتغنى يعني حين يقرأ يبكي ويبكي، وعن ابن عباس إن داود كان يقرأ الزبور بسبعين لحناً ويقرأ قراءة يطرب منها المحموم، وكان إذا أراد أن يبكي نفسه لم يبق دابة في بر ولا بحر إلا انصتت له واستمعت وبكت (متفق عليه) أخرجه البخاري في فضائل القرآن وفي التوحيد ومسلم في فضائل القرآن وأخرجه أيضاً أحمد في مواضع وأبو داود والنسائي في الصلاة والدارمي وغيرهم.

2215- (7) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أذن الله لشي ما أذن لنبي حسن الصوت بالقرآن، يجهر به)) . متفق عليه. 2216- (8) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من لم يتغن بالقرآن)) ـــــــــــــــــــــــــــــ 2215- قوله: (ما أذن الله لشي) أي ما استمع الله لشي (ما أذن) أي ما استمع (لنبي حسن الصوت) صفة كاشفة قاله القاري. وقال التوربشتي: لا أرى هذه الزيادة وردت مورد الاشتراط لإذن الله بل ورد مورد البيان لكون كل نبي حسن الصوت ومنه الحديث ما بعث الله نبياً إلا حسن الوجه حسن الصوت (بالقرآن) حال كونه (يجهر به) أي في صلاته أو تلاوته أو حين تبليغ رسالته ولا بد من تقدير مضاف عند قوله لنبي أي لصوت نبي والنبي جنس شائع في كل نبي فالمراد بالقرآن القراءة قاله القسطلاني واللفظ المذكور للبخاري في باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة) ورواه مسلم بلفظ: ما أذن الله لشي ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به، وفي رواية للبخاري ما أذن الله لنبي ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن. وقال صاحب له يريد يجهر به والضمير في "له" لأبي هريرة، والصاحب المذكور هو أبوسلمة الراوي عن أبي هريرة كما يدل عليه ما رواه ابن أبي داود عن محمد بن يحيى الذهلي في الزهريات بلفظ: ما أذن الله لشي ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن. قال ابن شهاب وأخبرني عبد الحميد بن عبد الرحمن عن أبي سلمة يتغنى بالقرآن يجهر به، فالظاهر إن التفسير المذكور في تلك الرواية مدرج من قول أبي سلمة. وقد تقدم في كلام الحافظ إن الحليمي جزم بأنه من قول أبي هريرة وظاهر الرواية التي نحن في شرحها إن قوله "يجهر به" من أصل الحديث أي مرفوع من قول النبي صلى الله عليه وسلم لا مدرج من قول الراوي والله أعلم (متفق عليه) واللفظ للبخاري كما تقدم وأخرجه أبوداود والنسائي بلفظ مسلم. 2216- قوله: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) أي لم يحسن صوته به فسر بذلك الشافعي كما تقدم. وقيل أي لم يجهر به فسر بذلك راوي الحديث كما سبق أيضاً وقيل أي لم يستغن به عن الناس أو عن غيره من أخبار الأمم الماضية والكتب المتقدمة فسر به وكيع وابن عيينة واختاره ابن حبان حيث ترجم في صحيحه (ج1ص283) لحديث سعد بن وقاص المروي بلفظ: الحديث الذي نحن في شرحه "ذكر الزجر عن أن لا يستغنى المرأ بما أوتي من كتاب الله جل وعلا وارتضاه أبوعبيد، وقال إنه جائز في كلام العرب واستشهد لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم في الخيل ورجل ربطها تغنياً وتعففاً، ولا خلاف في هذا أنه مصدر تغني بمعنى استغنى يعني طلب الغنى بها عن الناس بقرينة قوله تعففاً، ورجحه التوربشتي أيضاً. وقال المعنى ليس من أهل سنتنا وممن تبعنا في أمرنا وهو وعيد، ولا خلاف بين الأمة إن قاريء القرآن مثاب على قراءته مأجور من غير تحسين

صوته، فكيف يحمل على كونه مستحقاً للوعيد وهو مثاب مأجور- انتهى. وقيل أي لم يترنم به وقيل أي لم يتحزن ويؤيده ما رواه أبويعلى والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الحلية بسند ضعيف عن بريدة مرفوعاً إقرؤا القرآن بالحزن فإنه نزل بالحزن. وقيل المراد بالتغني التلذذ والاستحلاء له كما يستلذ أهل الطرب بالغناء فاطلق عليه تغنياً من حيث أنه يفعل عنده ما يفعل عند الغناء قاله ابن الأنباري في الزاهر. وقيل: معناه التشاغل به تقول العرب تغني بالمكان أقام به ويؤيده بيت الأعشى: وكنت أمرأ زمناً بالعراق خفيف المناخ طويل التغني أي طويل الإقامة فيكون معنى الحديث الحث على ملازمة القرآن وأن لا يتعدى إلى غيره وقيل هو أن يجعله هجيراه كما يجعل المسافر والفارغ هجيراه الغناء. قال ابن الأعرابي: كانت العرب إذا ركبت الإبل تتغنى وإذا جلست في أفيتها، وفي أكثر أحوالها فلما نزل القرآن أحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون هجيراهم القراءة مكان التغني وقيل المراد من لم يغنه القرآن ولم ينفعه في إيمانه ولم يصدق بما فيه من وعد ووعيد وقيل معناه من لم يرتح لقراءته وسماعه وقيل المعنى من لم يطلب غنى النفس وهو الغنى المعنوي لا المحسوس الذي هو ضد الفقر وقيل معناه من لم يتطلب غنى اليد ولم يرجه بملازمة تلاوته. قال الحافظ بعد بسط الكلام في سرد هذه الأقوال التأويلات: وفي الجملة ما فسر به ابن عيينة ليس بمدفوع وإن كانت ظواهر الأخبار ترجح إن المراد تحسين الصوت، ويؤيده قوله يجهر به إلى آخر ما ذكرنا من كلامه في شرح الرواية الأولى. ثم قال الحافظ والحاصل أنه يمكن الجمع بين أكثر هذه التأويلات المذكورة وهو أنه يحسن به صوته جاهراً به مترنماً على طريق التحزن مستغنياً به عن غيره من الأخبار طالباً به غنى النفس راجياً به غنى اليد، ولا شك أن النفوس تميل إلى سماع القراءة بالترنم أكثر من ميلها لمن لا يترنم لأن للتطريب تأثيراً في رقة القلب وإجراء الدمع وكان بين السلف اختلاف في جواز القرآن بالإلحان إما تحسين الصوت وتقديم حسن الصوت على غيره فلا نزاع في ذلك، قال والذي يتحصل من الأدلة إن حسن الصوت بالقرآن مطلوب فإن لم يكن حسناً فليحسنه ما استطاع، كما قال ابن مليكة أحد رواة حديث سعد بن أبي وقاص. وقد أخرج ذلك عنه أبوداود بإسناد صحيح. ومن جملة تحسينه أن يراعي فيه قوانين النغم فإن الصوت الحسن يزداد حسناً بذلك وإن خرج عنها أثر ذلك في حسنه وغير الحسن ربما انجبر بمراعاتها ما لم يخرج عن شرط الأداء المعتبر عند أهل القراءات فإن خرج عنها لم يقف تحسين الصوت بقبح الأداء. ولعل هذا مستند من كرة القراءة بالأنغام لأن الغالب على من راعي الأنغام أن لا يراعي الأداء فإن وجد من يراعيهما معاً فلا شك أنه أرجح من غيره، لأنه يأتي بالمطلوب من تحسين الصوت ويجتنب الممنوع من حرمة

رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأداء والله أعلم- انتهى. وقال ابن القيم بعد ذكر الاختلاف في تفسير التغني بالقرآن: وفي مسألة تحسين الصوت به وقراءته بالإلحان، وذكر احتجاج كل فريق ما لفظه، وفصل النزاع أن يقال التطريب والتغني على وجهين. أحدهما ما اقتضته الطبيعة وسمحت به من غير تكلف ولا تمرين وتعليم بل إذا خلى وطبعه واسترسلت طبيعتة جاءت بذلك التطريب والتلحين فذلك جائز، وإن أعان طبيعته فضل تزيين وتحسين كما قال أبوموسى للنبي - صلى الله عليه وسلم - وعلمت إنك تسمع لحبرته تحبيراً والحزين، ومن هاجه الطرب والحب والشوق لا يملك من نفسه دفع التحزين والتطريب في القراءة، ولكن النفوس تقلبه وتستحليه لموافقته الطبع وعدم التكلف والتصنع فهو مطبوع لا متطبع وكلف لا متكلف، فهذا هو الذي كان السلف يفعلونه ويستمعونه وهو التغني الممدوح المحمود، وهو الذي يتأثر به السامع والتالي وعلى هذا الوجه تحمل أدلة أرباب هذا القول كلها. والوجه الثاني ما كان من ذلك صناعة من الصنائع وليس في الطبع السماحة به بل لا يحصل إلا بتكلف وتصنع وتمرن كما يتعلم أصوات الغناء بأنواع الإلحان البسيطة، والمركبة على إيقاعات مخصوصة وأوزان مخترعة لا تحصل إلا بتعليم والتكلف فهذه هي التي كرهها السلف وعابوها وذموها ومنعوا القراءة بها وأدلة أرباب هذا القول إنما تتناول هذا الوجه، وبهذا التفصيل يزول الاشتباه ويتبين الصواب من غيره، وكل من له علم بأحوال السلف يعلم قطعاً أنهم براء من القراءة بإلحان الموسيقية المتكلفة التي هي إيقاع وحركات موزونة معدودة محدودة، وإنهم اتقى لله من أن يقرؤا بها ويسوغوها ويعلم قطعاً أنهم كانوا يقرؤن بالتحزين والتطريب، ويحسنون أصواتهم بالقرآن ويقرؤنه بشجي تارةً وبطرب تارةً وبشوق تارة، وهذا أمر في الطبائع تقاضيه ولم ينه عنه الشارع مع شدة تقاضي الطبائع له بل أرشد إليه وندب إليه وأخبر عن استماع الله لمن قرأ به. وقال ليس منا من لم يتغن بالقرآن وفيه وجهان، أحدهما أنه إخبار بالواقع الذي كلنا نفعله، والثاني أنه نفي لهدى من لم يفعله عن هديه وطريقته صلى الله عليه وسلم- انتهى. (رواه البخاري) في باب قول الله تعالى: {وأسروا قولكم أو اجهروا به} [الملك: 13] من كتاب التوحيد. قال الحافظ في شرح هذا الحديث بعد ذكر الروايتين المتقدمتين: الحديث واحد إلا أن بعضهم رواه بلفظ: ما أذن الله، بعضهم رواه بلفظ ليس منا- انتهى. وروى بلفظ: ليس منا عن سعد بن أبي وقاص وأخرجه أحمد (ج1ص172- 175) وأبوداود وابن ماجه والدارمي وابن حبان (ج1ص483) والحاكم (ج1ص569 570) وغيرهم وعن أبي لبابة بن عبد المنذر أخرجه أبوداود من طريقه البيهقي (ج2ص54) وعن ابن عباس أخرجه الحاكم (ج1ص570) والبزار والطبراني، قال الهيثمي: رجال البزار رجال الصحيح، وعن عائشة أخرجه أبويعلى والبزار بسند ضعيف وعن ابن الزبير أخرجه البزار أيضاً.

2217- (9) وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على المنبر: ((اقرأ علي. قال: اقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال إني أحب أن أسمعه من غيري. فقرأت النساء حتى أتيت إلى هذه الآية {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيدٍ وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} ـــــــــــــــــــــــــــــ 2217- قوله: (وهو على المنبر) جملة حالية (اقرأ عليك) أي اقرأ عليك (وعليك أنزل) بضم الهمزة أي القرآن والجملة حالية، أي جريان الحكمة على لسان الحكيم أحلى، وكلام المحبوب على لسان الحبيب أولى (إني أحب) أي في بعض الأحوال (أن أسمعه من غيري) قال ابن بطال: يحتمل أن يكون أحب أن يسمعه من غيره ليكون عرض القرآن سنة. ويحتمل أن يكون لكي يتدبره ويتفهمه وذلك إن المستمع أقوى على التدبر ونفسه أخلى وانشط لذلك من القاري لاشتغاله بالقراءة وأحكامها، وهذا بخلاف قراءته هو صلى الله عليه وسلم على أبي بن كعب فإنه أراد أن يعلمه كيفية أداء القراءة، ومخارج الحروف ونحو ذلك (فقرأت) عليه (سورة النساء) أي من أولها كما في رواية لمسلم (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد) أي أحضرنا منهم شهيداً يشهد عليهم بما فعلوا وهو نبيهم وهو استفهام توبيخ أي فكيف حال هؤلاء الكفار أو صنيعهم إذا جئنا من كل أمة بنبيهم يشهد على كفرهم كقوله تعالى: {وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم} [المائدة: 117] فكيف في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف، والعامل في إذا هو هذا المقدار، أو في محل نصب بفعل محذوف أي فكيف يكونون، أو يصنعون ويجري فيها الوجهان النصب على التشبيه بالحال كما هو مذهب سيبويه، أو على التشبيه بالظرفية كما هو مذهب الأخفش وهو العامل في إذا أيضاً "ومن كل أمة" متعلق بجئنا والمعنى أنه يوتي بنبي كل أمة يشهد عليها ولها (وجئنا بك) يا محمد (على هؤلاء) أي أمتك (شهيداً) حال أي شاهداً على من آمن بالإيمان وعلى من كفر بالكفر وعلى من نافق بالنفاق. وقيل: أي تشهد على صدق هؤلاء الشهداء لحصول علمك بعقائدهم لدلالة كتابك وشرعك على قواعدهم. قال أبوحيان: الأظهر إن هذه الجملة في موضع جر عطفاً على جئنا الأول أي فكيف يصنعون في وقت المجيئين. قال الحافظ: وقع في رواية محمد بن فضالة الظفري إن ذلك كان وهو صلى الله عليه وسلم في بني ظفر، أخرجه ابن أبي حاتم والطبراني وغيرهما من طريق يونس بن محمد بن فضالة عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتاهم في بني ظفر ومعه ابن مسعود وناس من أصحابه فأمر قارئاً فقرأ فأتى على هذه الآية فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيدٍ وجئنا بك على هؤلاء شهيداً فبكى حتى ضرب لحياة وجنتاه فقال: يا رب! هذا على من أنا بين ظهريه فكيف بمن لم أره. وأخرج ابن المبارك في الزهد من طريق سعيد بن المسيب قال: ليس من يوم إلا يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم أمته غدوة وعشية فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم فلذلك يشهد عليهم ففي هذا المرسل ما يرفع

قال: حسبك الآن فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان)) متفق عليه. 2218- (10) وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأبي بن كعب: (( ـــــــــــــــــــــــــــــ الأشكال الذي تضمنه حديث ابن فضالة- انتهى كلام الحافظ. (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم (حسبك) أي يكفيك ما قرأته. قال الجزري: حسبك بمعنى أسكت وحقيقته كافيك (الآن) أي إذا وصلت إلى هذه الآية فلا تقرأ شيئاً آخر فإني مشغول بالتفكر في هذه الآية وجاءني البكاء والحالة المانعة من استماع القرآن. وفي رواية للبخاري أمسك وفي أخرى قال لي كف أو أمسك على الشك (فإذا عيناه تذرفان) بسكون الذال المعجمة وكسر الراء أي تطلقان دمعهما يعني تسيلان دمعاً، يقال ذرفت العين تذرف إذا جرى دمعها وهو خبر المبتدأ وهو عيناه "وإذا" للمفاجأة وهذا لفظ البخاري. ولمسلم فرأيت دموعه تسيل وبكاءه صلى الله عليه وسلم لفرط رحمته على المفرطين أو لعظم ما تضمنته الآية من هول المطع وشدة الأمر. وقال في فتوح الغيب عن الزمخشري: إن هذا كان بكاء فرح لا بكاء جزع لأنه تعالى جعل أمته شهداء على سائر الأمم كما قال الشاعر: طفح السرور على حتى أنه من عظم ما قد سرني أبكاني وقال ابن بطال إنما بكى - صلى الله عليه وسلم - عند تلاوة هذه الآية لأنه مثل لنفسه أهوال يوم القيامة وشدة الحال الداعية له إلى شهادته لأمته بالتصديق وسؤاله الشفاعة لأهل الموقف وهو أمر يحق له طول البكاء- انتهى. قال الحافظ: والذي يظهر أنه أبكى رحمة لأمته لأنه علم أنه لا بد أن يشهد عليهم بعلمهم وعملهم قد لا يكون مستقيماً فقد يفضى إلى تعذيبهم- انتهى. وفي الحديث استحباب استماع القراءة والإصغاء إليها والبكاء عندها والتدبر فيها. قال النووي: البكاء عند قراءة القرآن صفة العارفين وشعار الصالحين قال الله تعالى: {يخرون للأذقان يبكون} [الإسراء: 109] {خروا سجداً وبكيا} [مريم: 58] والأحاديث فيه كثيرة قال: فإن عز عليه البكاء تباكى لخبر أحمد والبيهقي إن هذا القرآن نزل بحزن وكأبة فإذا قرأتموه فابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا - الحديث. وقال الغزالي يستحب البكاء مع القراءة وعندها. وطريق تحصيله أن يحضر قلبه الحزن والخوف بتأمل ما فيه من التهديد والوعيد الشديد والوثائق والعهود ثم ينظر تقصيره في ذلك، فإن لم يحضره حزن فليبك على فقد ذلك وإنه من أعظم المصائب (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب قول المقري للقاري حسبك من فضائل القرآن إلا قوله "فإني أحب أن أسمعه من غيري" فإنه وقع عنده في رواية أخرى وإلا قوله وهو على المنبر فإنه لمسلم وحده. والحديث أخرجه أيضاً البخاري في التفسير وأحمد (ج1ص374- 380) والترمذي في التفسير وأبو داود في آخر العلم وابن ماجه في الزهد. 2218- قوله: (قال لأبي بن كعب) الأنصاري الخزرجي النجاري الصحابي الجليل رضي الله عنه

إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن، قال: آلله سماني لك؟ قال: نعم قال: وقد ذكرت عند رب العالمين؟ قال: نعم. فذرفت عيناه، وفي رواية إن الله أمرني أن أقرأ عليك {لم يكن الذين كفروا} ـــــــــــــــــــــــــــــ (إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن) مطلق فيتناول {لم يكن الذين كفروا} [البينة: 1] وغيرها قوله "اقرأ عليك"كذا وقع في عامة الروايات والسياق المذكور هنا للبخاري في التفسير من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس لكن فيها إن الله أمرني أن أقرئك القرآن أي أعلمك بقراءتي عليك كيف تقرأ فلا منافاة بين قوله إقرأ عليك وأقرئك. قال أبوعبيد: المراد بالعرض على أبٍّي ليتعلم أبيٌ منه القراءة ويتثبت فيها وليكون عرض القرآن سنة وللتنبيه على فضيلة أبي بن كعب وتقدمه في حفظ القرآن وليس المراد أن يستذكر منه النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً بذلك العرض. قال القاري: ووجه تخصيصه بذلك إنه بذل جهده في حفظ القرآن وما ينبغي له حتى قال - صلى الله عليه وسلم - أقرؤكم أبي، ولما قيض له من الإمامة في هذا الشأن أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقرأ عليه ليأخذ عنه رسم التلاوة كما أخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن جبريل ثم يأخذه على هذا النمط الآخر عن الأول والخلف عن السلف وقد أخذ عن أبٍّي بشر كثيرون من التابعين ثم عنهم من بعدهم، وهكذا فسرى سر تلك القراءة عليه حتى سرى سره في الأمة إلى الساعة (قال آلله) بمد الهمزة وكان في الأصل أألله بهمزتين وكان الأولى للإستفهام وقلبت الثانية الفاً ويجوز حذفها للعلم بها وهذا معنى قول الطيبي بالمد بلا حذف وبالحذف بلا مد (سماني لك) أي ذكرني باسمي لك. قال الحافظ: أي هل نص على باسمي أو قال إقرأ على واحد من أصحابك فأخترتني أنت. قال القرطبي: تعجب أبي من ذلك لأن تسمية الله له ونصه عليه ليقرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم تشريف عظيم فلذلك بكى إما فرحاً وإما خشوعاً. وقال الطيبي: والمقصود التعجب إما هضماً أي أنى لي هذه المرتبة وإما استلذاذاً بهذه المنزلة الرفيعة (قال نعم) وفي رواية لهما قال الله سماك لي. قال الحافظ: وفي رواية للطبراني من وجه آخر عن أبي بن كعب قال نعم باسمك ونسبك في الملأ الأعلى (قال وقد ذكرت) بصيغة المجهول أي أوقع ذلك والحال إني قد ذكرت على الخصوص وبهذا الوجه المخصوص. قال الطيبي: تقريب للتعجب (عند رب العالمين) أي مع عظمته وحقارتي (فذرفت عيناه) بفتح المعجمة والراء أي تساقطتا بالدموع إما فرحاً وسروراً بذلك وإما خشوعاً وخوفاً من التقصير في شكر تلك النعمة. وفي الحديث استحباب القراءة على أهل العلم وإن كان القاري أفضل من المقروء عليه (وفي رواية) للشيخين (إن الله أمرني أن أقرأ عليك لم يكن الذين كفروا) كذا في هذه الرواية وهي رواية شعبة عن قتادة عن أنس وبين في رواية همام عن قتادة عند البخاري إن تسمية السورة لم يحمله قتادة عن أنس فإنه قال في آخر الحديث (بعد روايته بلفظ إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن قال الله سماني

قال: وسماني؟ قال: نعم. فبكى)) . متفق عليه. 2219- (11) وعن ابن عمر، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو)) ـــــــــــــــــــــــــــــ لك قال الله سماك فجعل أبي يبكي) "قال قتادة: فانبئت أنه قرأ عليه لم يكن الذين كفروا" وسقط بيان ذلك من رواية سعيد بن أبي عروبة عند البخاري. قال الحافظ: وقد أخرجه الحاكم وأحمد والترمذي من طريق زر بن حبش عن أبي نفسه مطولاً، ولفظه إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن قال فقرأ عليه لم يكن الذين كفروا والجمع بين الروايتين حمل المطلق على المقيد لقراءته لم يكن دون غيرها- انتهى. وقال القاري: يحتمل إن هذه الرواية مبينة للقرآن في الرواية الأولى ويحتمل أن يكون قضية أخرى- انتهى. قلت: الاحتمال الأول هو الظاهر. قال القرطبي: خص هذه السورة بالذكر لما اشتملت عليه من التوحيد والرسالة والإخلاص والصحف والكتب المنزلة على الأنبياء وذكر الصلاة والزكاة والمعاد وبيان أهل الجنة والنار مع وجازتها ولتحقيق قوله تعالى فيها: {رسول من الله يتلوا صحفاً مطهرة} [البينة: 2] قال الحافظ في تخصيص أبي بن كعب: الننوية به في أنه أقرأ لصحابة فإذا قرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم مع عظيم منزلته كان غيره بطريق التبع له (قال وسماني) أي لك كما في رواية (فبكى) سروراً وفرحاً بتسمية الله إياه في أمر القراءة أو خوفاً من العجز عن قيام شكر تلك النعمة (متفق عليه) سياق الرواية الأولى للبخاري كما تقدم وسياق الرواية الثانية لكليهما. والحديث أخرجه البخاري في المناقب وفي التفسير ومسلم في فضائل القرآن وفي كتاب الفضائل وفي كتاب الفضائل أي المناقب وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي في المناقب والنسائي وغيرهم وفي الباب عن أبي حبة البدري أخرجه أحمد (ج3ص489) وابن قانع في معجم الصحابة والطبراني وابن مردوية ذكره الشوكاني في فتح القدير. 2219- قوله: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يسافر) بفتح الفاء أي يسافر أحد والسفر اسم واقع للغزو وغيره (بالقرآن) قال الطيبي: الباء زائدة لأنها دخلت على المفعول به الذي ناب عن الفاعل وليست هي كما في قوله لا تسافروا فإنها حال أي حال كونكم مصاحبين له ذكره القاري. وقال في اللمعات: قوله بالقرآن أي في الرواية الأولى حال والباء للمصاحبة أي مصاحباً بالقرآن (إلى أرض العدو) أي الكفار يعني دار الحرب خوفاً من الاستهانة به. قيل المراد بالقرآن بعض ما نسخ وكتب في عهده وقد كان يكتب بعض الصحابة لنفسه للحفظ أو للتلاوة، وإن لم يكن مجموعاً كله في مصحف واحد، فالمراد بالقرآن الصحف التي كتب عليها أو كان هذا إخباراً عن الغيب. وقال الباجي. يريد المصحف لما كان القرآن مكتوباً فيه سماه قرآناً ولم يرد ما كان منه محفوظاً في

متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الصدور لأنه لا خلاف أنه يجوز لحافظ القرآن الغزو وإنما كان ذلك لأنه لا إهانة للقرآن في قتل الغازي. وإنما الإهانة للقرآن بالعبث بالمصحف والاستخفاف به وقد روى مفسراً نهى أن يسافر بالمصحف رواه عبد الرحمن ابن مهدي عن مالك عن نافع عن ابن عمر- انتهى. قال الأبي لم يكن المصحف مكتوباً حينئذٍ فلعله من الأخبار عن مغيب أو لعله كان مكتوباً في رقاع فيصح، ويتقرر النهي عن السفر بالقليل والكثير منه لا سيما على القول إن القرآن اسم جنس يصدق على القليل والكثير. وأما على القول بأنه اسم للجمع فيتعلق النهي بالقليل لمشاركته الكل في العلة فإن حرمة القليل منه كالكثير- انتهى. قلت: روى مفسراً أي بلفظ: المصحف محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عند أحمد (ج2ص76) وعقد البخاري في صحيحه باب كراهة السفر بالمصاحف إلى أرض العدو وقد سافر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى أرض العدو وهم يعلمون القرآن. قال الحافظ: أشار البخاري بذلك إلى أن المراد بالنهي عن السفر بالقرآن السفر بالمصحف خشية أن يناله العدو ولا السفر بالقرآن نفسه، قال وادعى المهلب أن مراد البخاري بذلك تقوية القول بالتفرقة بين العسكر الكثير والطائفة القليلة فيجوز في تلك دون هذه والله أعلم. قال النووي: في الحديث النهي عن المسافرة بالمصحف إلى أرض الكفار للعلة المذكورة في الحديث (الآتي) وهي خوف أن ينالوه فينتهكوا حرمته فإن أمنت هذه العلة بأن يدخل في جيش المسلمين الظاهر عليهم فلا كراهة ولا منع عنه حينئذٍ لعدم العلة هذا هو الصحيح وبه قال أبوحنيفة والبخاري وآخرون: وقال مالك وجماعة من أصحابنا: بالنهي مطلقاً. وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة الجواز مطلقاً والصحيح عنه ما سبق. واتفق العلماء على أنه يجوز أن يكتب إليهم كتاب فيه آية أو آيات والحجة فيه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل- انتهى. وقال ابن عبد البر: اجمع الفقهاء أن لا يسافر بالمصحف في السرايا والعسكر الصغير المخوف عليه، واختلفوا في الكبير المأمون عليه فمنع مالك أيضاً مطلقاً وفصل أبوحنيفة وأدار الشافعية الكراهة مع الخوف وجوداً وعدماً. وقال بعضهم: كالمالكية واستدل به على منع بيع المصحف من الكافر لوجود المعنى المذكور فيه، وهو التمكن من الاستهانة به ولا خلاف في تحريم ذلك وإنما وقع الاختلاف هل يصح لو وقع ويؤمر بإزالة ملكه عنه أم لا. واستدل به على منع تعليم الكافر القرآن وبه قال مالك مطلقاً وأجاز الحنفية مطلقاً، وعن الشافعي قولان وفصل بعض المالكية بين القليل لأجل مصلحة قيام الحجة عليهم فأجازه وبين الكثير فمنعه، ويؤيده قصة هرقل حيث كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم بعض الآيات. ونقل النووي الاتفاق على جواز الكتابة إليهم بمثل ذلك كذا في الفتح. قال الباجي: لا يجوز أن يعلم أحداً من ذراري الكفار القرآن لأن ذلك سبب لتمكنهم منه ولا بأس أن يقرأ عليهم احتجاجاً عليهم به ولا بأس أن يكتب إليهم بالآية ونحوها على سبيل الوعظ كما كتب - صلى الله عليه وسلم - إلى ملك الروم {يا أهل الكتاب! تعالوا إلى كلمة} الآية [آل عمران: 64]- انتهى. (متفق عليه)

{الفصل الثاني}

وفي رواية لمسلم لا تسافروا بالقرآن فإني لا آمن أن يناله العدو. {الفصل الثاني} 2220- (12) عن أبي سعيد الخدري، قال: ((جلست في عصابة ـــــــــــــــــــــــــــــ رواه البخاري عن القعنبي عن مالك عن نافع عن ابن عمر ومسلم من طريق يحيى بن يحيى عن مالك به وأخرجه أحمد (ج2ص7- 63) وابن ماجه من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن مالك وزاد مخافة أن يناله العدو ورواه ابن وهب عن مالك فقال: خشية أن يناله العدو. وأخرجه أبوداود عن القعنبي عن مالك فقال قال مالك: أراه مخافة فذكره قال أبوعمر كذا قال يحيى بن يحيى الأندلسي ويحيي بن بكير وأكثر الرواة عن مالك جعلوا التعليل من كلامه ولم يرفعوه. وأشار إلى أن ابن وهب تفرد برفعها وليس كذلك لما تقدم من رواية أحمد وابن ماجه وهذه الزيادة رفعها أيضاً عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أخرجها إسحاق بن راهوية في مسنده عن محمد بن بشر وأحمد في مسنده (ج2ص55) عن يحيى بن سعيد عن عبيد الله وكذلك أخرجها مسلم والنسائي وابن ماجه من طريق الليث عن نافع ومسلم من طريق حماد عن أيوب عن نافع بلفظ: فإني لا آمن أن يناله العدو وأحمد (ج2ص6) من طريق ابن علية و (ج2ص10) من طريق سفيان عن أيوب بلفظ فإني أخاف أن يناله العدو، وكذا رواها مسلم من طريق ابن علية والثقفي عن أيوب ورفعها أيضاً عبد الله بن دينار عن ابن عمر أخرجها أحمد (ج2ص128) من طريق سليمان بن بلال عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو. قال الحافظ بعد ذكر جملة من هذه الروايات: فصح أنه مرفوع وليس بمدرج ولعل مالكاً كان يجزم به ثم صار يشك في رفعه فجعله من تفسير نفسه- انتهى. قيل: ولم يذكر البخاري ومسلم التعليل المذكور في روايتهما عن مالك للاختلاف عليه في رفعه ووقفه. وقد تقدم إن الحفاظ غير مالك اثبتوا رفعه فيكون هو الراجح المعتمد (وفي رواية لمسلم) رواها من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر (لا تسافروا بالقرآن) أي المصحف لا القرآن نفسه والمراد بالمصحف ما كتب فيه القرآن كله أو بعضه متميز إلا في ضمن كلام آخر، فلا ينافيه ما كتبه صلى الله عليه وسلم في كتابه إلى هرقل من قوله (يا أهل الكتاب) الآية (فإني لا آمن أن يناله العدو) أي من أن يصيبه الكافر فلا يراعي حرمته بل يحقره أو يحرقه أو يلقيه في مكان غير لائق به وهذه الرواية أخرجها أيضاً أحمد (ج2ص6، 10) . 2220- قوله: (جلست في عصابة) بالكسر أي جماعة. قال الجزري: العصابة الجماعة من الناس

من ضعفاء المهاجرين، وإن بعضهم ليستتر ببعض من العرى، وقاري يقرأ علينا إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام علينا، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت القاري فسلم، ثم قال: ما كنتم تصنعون. قلنا: كنا نستمع إلى كتاب الله فقال: الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم قال فجلس وسطنا ليعدل بنفسه فينا. ثم قال: بيده هكذا فتحلقوا ـــــــــــــــــــــــــــــ وكذلك من الخيل والطير (من ضعفاء المهاجرين) يعني أصحاب الصفة (ليستتر) بلام التأكيد المفتوحة من الاستتار (من العرى) أي من أجله بضم العين وسكون الراء أي من كان ثوبه أقل من ثوب صاحبه كان يجلس خلف صاحبه تستراً به، والمقصود بيان فقرهم واحتياجهم وإنه لم يكن على أبدانهم ثياب تكفي للتستر ومن أجل ذلك كان يجلس بعضهم خلف بعض ليحصل الاستتار. وقيل: المراد العرى مما عدا العورة فالتستر لمكان المروءة فإنها لا تسمح بانكشاف ما لا يعتاد كشفه (وقاري يقرأ علينا) القرآن لنستمع ونتعلم (إذ جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) إذ للمفاجأة (فقام علينا) أي وقف يعني كنا غافلين عن مجيئه فنظرنا فإذا هو قائم فوق رؤسنا يستمع إلى كتاب الله (سكت القاري) أي تأدباً لحضوره وانتظاراً لما يقع من أموره (فسلم) أي فلما سكت القاري سلم الرسول واستدل بذلك على كراهة السلام على قاري القرآن لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يسلم عليهم إلا إذا سكت القاري فتأمل, (ما كنتم تصنعون) إنما سألهم مع علمه بهم ليجيبهم بما أجابهم مرتباً على حالهم (قلنا كنا نستمع إلى كتاب الله) في أبي داود. قلنا: يا رسول الله! أنه كان قاري لنا يقرأ علينا فكنا نستمع إلى كتاب الله أي إلى قراءته أو إلى قارئه (جعل من أمتي من أمرت) بصيغة المجهول (أن أصبر نفسي معهم) أي أحبس نفسي معهم إشارة إلى قوله تعالى: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداوة والعشي يريدون وجهه} [الكهف: 28] أراد به زمرة الفقراء الملازمين لكتاب الله المتوكلين على الله المقربين عند الله (قال) أي أبوسعيد (فجلس) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (وسطنا) بسكون السين وقد يفتح أي بيننا لا بجنب أحدنا (ليعدل) بكسر الدال أي ليسوى (بنفسه) أي نفسه الكريمة بجلوسه (فينا) أي يسوى نفسه ويجعلها عديلة مماثلة لنا بجلوسه فينا تواضعاً ورغبة فيما نحن فيه. قال الطيبي: أي ليجعل نفسه عديلاً ممن جلس إليهم ويسوى بينه وبين أولئك الزمرة رغبة فيما كانوا فيه وتواضعاً لربه سبحانه وتعالى- انتهى. وقيل: معناه جلس النبي - صلى الله عليه وسلم - وسط الحلقة ليسوى بنفسه الشريفة جماعتنا ليكون القرب من النبي صلى الله عليه وسلم لكل رجل منا سواءً أو قريباً من السواء يقال عدل فلان بفلان سوى بينهما (ثم قال) أي أشار (بيده هكذا) أي أجلسوا حلقاً (فتحلقوا) أي قبالة وجهه عليه الصلاة والسلام دل عليه قوله

وبرزت وجوههم له، فقال: أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين: بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم وذلك خمسمائة سنة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ (وبرزت) أي ظهرت (وجوههم له) بحيث يرى عليه الصلاة والسلام وجه كل أحد منهم قاله القاري. وقال الجزري: تحلقوا أي صاروا حلقة مستديرة (أبشروا) أمر من الابشار أي افرحوا (يا معشر صعاليك المهاجرين) بفتح الصاد المهملة أي جماعة الفقراء من المهاجرين الصابرين جمع صعلوك بضم الصاد وهو الفقير (بالنور التام يوم القيامة) تلميح إلى قوله تعالى: {نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا} [التحريم: 8] (تدخلون الجنة) استئناف فيه معنى التعليل (قبل أغنياء الناس) أي الشاكرين المؤدين حقوق أموالهم بعد تحصيلها مما أحل الله لهم فإنهم يوقفون في العرصات للحساب من أين حصلوا المال وفي أين صرفوه (وذلك) أي نصف يوم القيامة (خمس مائة سنة) لقوله تعالى: {وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون} [الحج: 47] وإما في قوله تعالى: {في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة} [المعارج: 3] فمخصوص بالكافرين {فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير} [المدثر: 9] وروى أحمد ومسلم عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفاً أي سنة. ووجه الجمع بينه وبين حديث أبي سعيد أن يقال المراد بكل من العددين إنما هو التكثير لا التحديد فتارة عبر به وأخرى بغيره تفنناً ومألهما واحداً أو أخبر أو لا بأربعين كما أوحى إليه ثم أخبر بخمس مائة عام زيادة من فضله على الفقراء ببركته - صلى الله عليه وسلم - أو التقدير بأربعين خريفاً إشارة إلى أقل المراتب وبخمسمائة عام إلى أكثرها. ويدل عليه ما رواه الطبراني عن مسلمة بن مخلد ولفظه سبق المهاجرون الناس بأربعين خريفاً إلى الجنة ثم يكون الزمرة الثانية مائة خريف، فالمعنى أن يكون الزمرة الثالثة مائتين وهلم جراً، وكأنهم محصورون في خمس زمر أو الاختلاف باختلاف مراتب أشخاص الفقراء في حال صبرهم ورضاهم وشكرهم وهو الأظهر المطابق لما في جامع الأصول (ج5ص486) حيث قال وجه الجمع بينهما إن الأربعين أراد به تقدم الفقير الحريص على الغني الحريص وأراد بخمسمائة تقدم الفقير الزاهد على الغني الرغب فكان الفقير الحريص على درجتين من خمس وعشرين درجة من الفقير الزاهد. وهذه نسبة الأربعين إلى الخمسمائة ولا تظنن إن هذا التقدير وأمثاله يجري على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم جزافاً ولا بالاتفاق بل لسر أدركه ونسبة أحاط بها علمه فإنه لا ينطق عن الهوى، فإن فطن أحد من العلماء إلى شي من هذه المناسبات وإلا فليس طعناً في صحتها- انتهى. وقال العلقمي: ويمكن الجمع بينهما بأن سباق الفقراء يسبقون سباق الأغنياء بأربعين عاماً وغير سباق الأغنياء بخمسمائة عام إذ في كل صنف من الفريقين سباق. وقال بعض المتأخرين: يجمع بأن هذا السبق يختلف بحسب أحوال الفقراء والأغنياء فمنهم من يسبق بأربع، ومنهم من يسبق بخمسمائة كما يتأخر مكث

رواه أبوداود. 2221- (13) وعن البراء بن عازب، قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: زينوا القرآن بأصواتكم)) ـــــــــــــــــــــــــــــ العصاة من الموحدين في النار بحسب جرائمهم، ولا يلزم من سبقهم في الدخول ارتفاع منازلهم بل قد يكون المتأخر أعلى منزلة وإن سبقه غيره في الدخول، فالمزية مزيتان. مزية سبق، ومزية رفعة. قد تجتمعان وقد تنفردان- انتهى. (رواه أبوداود) في أواخر العلم وفي إسناده المعلى بن زياد القردوسي البصري. قال المنذري في مختصر السنن: فيه مقال. قلت قال الحافظ في التقريب: هو صدوق قليل الحديث زاهد اختلف قول ابن معين فيه. وقال في التهذيب (ج10ص237) قال إسحاق بن منصور عن ابن معين وأبو حاتم ثقة. وقال أحمد بن سعيد بن مريم: سألت ابن معين عن معلى بن زياد فقال ليس بشي ولا يكتسب حديثه. وقال ابن عدي: هو معدود من زهاد أهل البصرة ولا أرى برواياته بأساً ولا أدري من أين. قال ابن معين: لا يكتسب حديثه- انتهى. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال أبوبكر البزار: ثقة- انتهى. والحديث أخرج الترمذي وابن ماجه منه، آخره من طريق عطية عن أبي سعيد قال (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام) ، وفي الباب عن أبي هريرة عند الترمذي وابن ماجه وابن حبان يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام نصف يوم لفظ الترمذي، ولفظ ابن ماجه فقراء المؤمنين. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال المنذري في الترغيب بعد ذكر تصحيح الترمذي: رواته محتج بهم في الصحيح. 2221- قوله (زينوا القرآن بأصواتكم) أي بتحسين أصواتكم عند القراءة فإن الكلام الحسن يزيد حسناً وزينة بالصوت الحسن، وهذا أمر مشاهد ولما رأى بعضهم إن القرآن أعظم من أن يحسن بالصوت بل لصوت أحق بأن يحسن بالقرآن قال معناه زينوا أصواتكم بالقرآن. قال الخطابي: هكذا فسره غير واحد من أئمة الحديث وزعموا إنه من باب المقلوب كما يقال عرضت الناقة على الحوض وإنما هو عرضت الحوض على الناقة وكقولهم إذا طلعت الشعري واستوى العود على الحرباء أي استوى الحرباء على العود. ثم روى بإسناده عن شعبة قال نهاني أيوب أن أحدث زينوا القرآن بأصواتكم، قال ورواه معمر عن منصور عن طلحة عن البراء فقدم الأصوات على القرآن وهو الصحيح ثم أسنده الخطابي من طريق عبد الرزاق عن معمر بلفظ: زينوا أصواتكم بالقرآن. وأخرج بهذا اللفظ الحاكم (ج1ص571، 572) أيضاً. قال الخطابي: والمعنى أشغلوا أصواتكم بالقرآن والهجوا به واتخذوه شعاراً وزينة، يعنى ارفعوا به أصواتكم واجعلوا ذلك هجيراكم ليكون ذلك زينة لها قلت: لا حاجة إلى حمله على القلب بل هو محمول على ظاهره لما يأتي من قوله - صلى الله عليه وسلم - فإن الصوت الحسن يزيد

رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والدارمي. 2222- (14) وعن سعد بن عبادة، قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من إمرىء يقرأ القرآن ثم ينساه إلا لقي الله يوم القيامة أجذم)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ القرآن حسناً. قال في اللمعات: ولا محذور في ذلك لأن ما يزين الشيء يكون تابعاً له وملحقاً به كالحلي بالنسبة إلى العروس، وأيضاً المراد بالقرآن قراءته وهو فعل العبد. وفيه دليل على أن تحسين الصوت بالقرآن مستحب وذلك مقيد برعاية التجويد وعدم التغيير- انتهى. وقال المناوي: قيل معنى الحديث الحث على الترتيل الذي أمر به في قوله تعالى: {ورتل القرآن ترتيلا} [المزمل: 4] والمعنى زينوا القرآن بالترتيل والتجويد وتلين الصوت وتحزينه. وقيل أراد بالقرآن القراءة والمعنى زينوا قراءة القرآن بأصواتكم الحسنة ويشهد لصحة هذا وإن القلب لا وجه له حديث أبي موسى إن النبي - صلى الله عليه وسلم - استمع قراءته فقال لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود فقال لو علمت إنك تسمع لحبرته لك تحبيراً أي حسنت قرأته تحسيناً وزينتها، ويؤيد ذلك تأييداً لا شبهة فيه حديث ابن مسعود مرفوعاً إن حسن الصوت يزين القرآن أخرجه البزار بسند ضعيف، ورواه الطبراني بلفظ: حسن الصوت زينة القرآن ويؤيده أيضاً حديث ابن عباس عند الطبراني بسند ضعيف لكل شي حلية وحلية القرآن حسن الصوت حديث أنس لكل شي حلية وحلية القرآن الصوت الحسن أخرجه البزار بإسناد ضعيف. قال القاري: يعني كما إن الحلل والحلي يزيد الحسناء حسناً وهو أمر مشاهد فدل على أن رواية العكس محمولة على القلب لا العكس فتدبر ولا منع من الجمع- انتهى. (رواه أحمد) (ج4ص283، 285، 296، 304) (وأبو داود) والنسائي (وابن ماجه) في الصلاة (والدارمي) في فضائل القرآن كلهم من طريق طلحة عن عبد الرحمن بن عوسجة عن البراء وعلقه البخاري في باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة من كتاب التوحيد ووصله في خلق أفعال العباد وأخرجه أيضاً ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، والحاكم وبسط طرقه، والبيهقي (ج2ص53) وفي الباب عن ابن عباس أخرجه الطبراني في الكبير والدارقطني في الإفراد، وعن أبي هريرة أخرجه أبونصر السخبري في الإبانة وعن عائشة عند أبي نعيم في الحلية. 2222- قوله (ما من إمريء يقرأ القرآن) أي بالنظر أو بالغيب يعني يحفظه على ظهر قلبه (ثم ينساه) أي بالنظر أو بالغيب أو المعنى ثم يترك قراءته نسي أو ما نسي. قال في اللمعات: ظاهر الحديث نسيانه بعد حفظه فقد عد ذلك من الكبائر. وقيل: المراد به جهله بحيث لا يعرف القراءة. وقيل: النسيان يكون بمعنى الذهول وبمعنى الترك وهو ههنا بمعنى الترك أي ترك العمل وقراءته. قلت: المتبادر من النسيان الواقع في هذا الحديث وأمثاله هو النسيان بعد الحفظ عن ظهر القلب فهو المراد منه (إلا لقي الله يوم القيامة أجذم) من الجزم بمعنى القطع وذكر

رواه أبوداود، والدارمي. ـــــــــــــــــــــــــــــ في تفسيره أقوال. فقيل مقطوع اليد قاله أبوعبيد. وقيل الأجذم ههنا بمعنى المجذوم أي مقطوع الأعضاء يعني الذي ذهبت أعضاءه كلها إذ ليست يد القاري أولى من سائر أعضاءه يقال رجل أجذم إذا تساقطت أعضاءه من الجذام. وقيل المراد به أجذم الحجة أي لا حجة له ولا لسان يتكلم به يقال ليس له يد أي لا حجة له. وقيل: خالي اليد من الخير صفرها من الثواب كني بالنيه عما تحويه اليد. قال الحافظ: في معنى أجذم فقيل مقطوع اليد. وقيل مقطوع الحجة. وقيل مقطوع السبب من الخير. وقيل خالي اليد من الخير وهي متقاربة. وقيل: يحشر مجذوماً حقيقة ويؤيده إن في رواية زائدة بن قدامة عند عبد بن حميد أتى الله يوم القيامة وهو مجذوم- انتهى. والحديث فيه وعيد شديد لمن حفظ القرآن ثم نسيه وقد عد الرافعي وغيره نسيان القرآن من الكبائر. قال الحافظ: اختلف السلف في نسيان القرآن فمنهم من جعل ذلك من الكبائر وأخرج أبوعبيد من طريق الضحاك بن مزاحم موقوفاً. قال ما من أحد تعلم القرآن ثم نسيه إلا بذنب أحدثه لأن الله يقول {ما أصابك من مصيبة فبما كسبت أيديكم} [الشورى: 30] ونسيان القرآن من أعظم المصائب واحتجوا أيضاً بما أخرجه أبوداود والترمذي من حديث أنس مرفوعاً عرضت على ذنوب أمتي فلم أر ذنباً أعظم من سورة القرآن أويتها رجل ثم نسيها وفي إسناده ضعف. وقد أخرج ابن أبي داود من وجه آخر مرسل نحوه ولفظه أعظم من حامل القرآن وتاركه (أي بعد ما كان حامله ثم نسيه) ومن طريق أبي العالية موقوفاً كنا نعد من أعظم الذنوب أن يتعلم الرجل القرآن ثم ينام عنه حتى ينساه وإسناده جيد ومن طريق ابن سيرين بإسناد صحيح في الذي ينسى القرآن كانوا يكرهونه ويقولون فيه قولاً شديداً ولأبي داود عن سعد بن عبادة مرفوعاً من قرأ القرآن ثم نسيه لقي الله وهو أجذم، وفي إسناده أيضاً مقال، وقد قال به من الشافعية أبوالمكارم والرؤياني. واحتج بأن الأعراض عن التلاوة يتسبب عنه نسيان القرآن ونسيانه يدل على عدم الاعتناء به والتهاون بأمره. وقال القرطبي: من حفظ القرآن أو بعضه فقد علت رتبته بالنسبة إلى من لم يحفظه فإذا أخل بهذه الرتبة الدينية حتى تزحزح عنها ناسب أن يعاقب على ذلك فإن ترك معاهدة القرآن يفضي إلى الجهل والرجوع إلى الجهل بعد العلم شديد- انتهى. قلت: حديث أنس عند أبي داود والترمذي قد تقدم في باب المساجد. وقد بينا هناك ما فيه من الكلام وتزيد ههنا إن الدارقطني بين أن فيه انقطاعاً آخر، وهو إن ابن جريج رواية عن المطلب بن عبد الله لم يسمع من المطلب كما إن المطلب لم يسمع من أنس شيئاً فلم يثبت الحديث بسبب ذلك ذكره ابن حجر المكي في الزواجر (ج1ص111) (رواه أبوداود) في أواخر الصلاة من طريق ابن إدريس عن يزيد بن أبي زياد عن عيسى ابن فائد عن سعد بن عبادة (والدارمي) في فضائل القرآن من طريق شعبة عن يزيد عن عيسى عن رجل عن سعد ابن عبادة، وكذا أخرجه أحمد (ج5ص284- 285) وقد سكت عليه أبوداود. وتقدم عن الحافظ أنه قال أن في إسناده مقالاً. وقال المنذري في إسناده. يزيد بن أبي زياد الهاشمي. مولاهم الكوفي ولا يحتج بحديثه.

2223- (15) وعن عبد الله بن عمرو، ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لم يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم. عيسى بن فائد رواه عن من سمع سعد بن عبادة ففي سند أبي داود انقطاع، وفي سند أحمد والدارمي جهالة لكون الواسطة بين عيسى وسعد رجلاً مبهماً لا يدري من هو وأيضاً، عيسى هذا مجهول. قال الحافظ في التقريب: عيسى بن فائد أمير الرقة مجهول وروايته عن الصحابة مرسلة وقال في تهذيب التهذيب عيسى: بن فائد عن سعد بن عبادة في الذي ينسى القرآن. وقيل عن رجل عن سعد. وقيل: عن عبادة ابن الصامت. وقيل غير ذلك. قال ابن المديني: لم يرو عنه غير يزيد بن أبي زياد وقال ابن عبد البر هذا إسناد روى في هذا المعنى وعيسى بن فائد لم يسمع من سعد بن عبادة ولا أدركه قلت (قائله الحافظ) وقال ابن المديني مجهول- انتهى. وقال في الميزان: عيسى بن فائد لا يدري من هو عن سعد بن عبادة حديث من قرأ القرآن ونسيه لقي الله وهو أجذم رواه ابن إدريس عن يزيد بن أبي زياد عنه وهذا منقطع وعيسى يتأمل حاله. ثم قد رواه شعبة وجرير وخالد بن عبد الله وابن فضيل عن يزيد فادخلوا رجلاً بين ابن فائد وبين سعد. وقيل غير ذلك- انتهى. وعلى هذا فسكوت أبي داود على هذا الحديث معترض، ورواية يزيد عن عيسى عن عبادة بن الصامت أخرجها عبد الله بن أحمد (ج5ص322- 327- 328) . 2223- قوله (لم يفقه) بفتح القاف وهذا لفظ الترمذي وابن ماجه ورواه أبوداود والدارمي بلفظ: لا يفقه (من قرأ القرآن في أقل من ثلاث) لأن من قرأ في دون هذه المدة لا بد أن يسرع في التلاوة فيغفل عن التدبر فيه ولا يكون له هم إلا أداء الألفاظ. قال في المجمع: لم يفقه الخ أي لم يفهم ظاهر معانيه من قرأه في أقل من هذه المدة، وأما فهم مقائقة فلا يفي به الأعمار والمراد نفي الفهم لا نفي الثواب- انتهى. قال السندي: قوله "لم يفقه" أخبار بأنه لا يحصل الفهم والفقه المقصود من قراءة القرآن فيما دون ثلاث أو دعاء عليه، بأن لا يعطيه الله تعالى الفهم وعلى التقديرين فظاهر الحديث كراهة الختم في ما دون ثلاث وكثير منهم أراد ذلك في الأعم الأغلب. وأما من غلبه الشغل فيجوز له ذلك- انتهى. قلت: لا شك في أن الظاهر الحديث كراهة ختم القرآن في أقل من الثلاث، ويؤيده ما روى عن عائشة إنها قالت ولا أعلم نبي الله قرأ القرآن كله في ليلة رواه مسلم. قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يختم القرآن في أقل من ثلاث رواه أبوعبيد في فضائل القرآن، ويؤيده أيضاً ما روى ابن أبي داود وسعيد بن منصور عن عبد الله بن مسعود موقوفاً لا تقرؤا القرآن في أقل من ثلاث. ورواه الطبراني في الكبير بلفظ: لا يقرأ القرآن في أقل من ثلاث اقرؤه في سبع. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، وروى أبوعبيد عن معاذ بن جبل إنه كان يكره أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث وقد اختلف السلف

رواه الترمذي، وأبوداود، والدارمي. ـــــــــــــــــــــــــــــ في مدة الختم. قال الترمذي قال بعض أهل العلم: لا يقرأ القرآن في أقل من ثلاث للحديث الذي روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورخص فيه بعض أهل العلم وروى عن عثمان بن عفان إنه كان يقرأ القرآن في ركعة يوتر بها، وروى عن سعيد بن جبير أنه قرأ القرآن في ركعة في الكعبة- انتهى. قلت: ذهب أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة إلى كراهة ختم القرآن فيما دون الثلاث. وذهب جماعة على جواز ذلك منهم عثمان وتميم الداري وعبد الله بن الزبير وسعيد بن المسيب وثابت البناني وسعيد بن جبير وعطاء بن السائب وغيرهم ذكرهم محمد بن نصر في قيام الليل. قال الحافظ بعد ذكر حديث عبد الله بن عمر: والذي نحن في شرحه وشاهده عند سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن ابن مسعود اقرؤا القرآن في سبع ولا تقرؤه في أقل من ثلث، ولأبي عبيد من طريق الطيب بن سليمان عن عمرة عن عائشة إن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يختم القرآن في أقل من ثلث وهذا اختيار أحمد وأبي عبيد وإسحاق ابن راهوية وغيرهم. وثبت عن كثير من السلف إقرؤا القرآن في دون ذلك قال وأغرب بعض الظاهرية فقال يحرم أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث. وقال النووي: أكثر العلماء على أنه لا تقدير في ذلك، وإنما هو بحسب النشاط والقوة فعلى هذا يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص والله أعلم- انتهى كلام الحافظ. قلت: قال النووي في الأذكار بعد ذكر عادات السلف: المختلفة في القدر الذي كانوا يختمون فيه القرآن والمختار إن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فمن كان يظهر له بدقيق الفكر لطائف ومعارف فليقتصر على قدر يحصل له معه كمال فهم ما يقرؤه وكذا من كان مشغولاً بنشر العلم أو فصل الحكومات ما بين المسلمين أو غير ذلك من مهمات الدين والمصالح العامة للمسلمين فليقتصر على قدر لا يحصل بسببه إخلال بما هو مرصد له ولا فوات كماله، من لم يكن من هؤلاء المذكورين فليستكثر ما أمكنه من غير خروج إلى حد الملل أو الهذرمة في القراءة. وقد كره جماعة من المتقدمين الختم في يوم وليلة، ويدل عليه ما روينا بالأسانيد الصحيحة في سنن أبي داود والترمذي والنسائي وغيرها عن عبد الله ابن عمرو بن العاص مرفوعاً لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث- انتهى. وقال القاري: جرى على ظاهر الحديث جماعة من السلف فكانوا يختمون القرآن في ثلاث دائماً. وكرهوا الختم في أقل من ثلاث ولم يأخذ به آخرون نظراً إلى أن مفهوم العدد ليس بحجة فختمة جماعة في يوم وليلة مرة وآخرون مرتين وآخرون ثلاث مرات وختمه في ركعة من لا يحصون كثرة وزاد آخرون على الثلاث- انتهى. قلت: والمختار عندي ما اختاره الإمام أحمد وإسحاق بن راهوية وأبو عبيد وغيرهم وذلك لحديث عبد الله بن عمرو وحديث عائشة والنبي - صلى الله عليه وسلم - أحق أن يتبع (رواه الترمذي) في أواخر القراءات (وأبوداود والدارمي) في الصلاة وكذا ابن ماجه وأخرجه أحمد (ج2ص164- 165- 189، 193، 195) وأبوداود الطيالسي والنسائي في فضائل القرآن وصححه الترمذي، ونقل المنذري والحافظ والنووي تصحيح الترمذي وسكتوا عليه.

2224- (16) وعن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة. والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2224- قوله: (الجاهر بالقرآن) أي بقراءته (كالجاهر بالصدقة) أي كالمعلن بإعطاءها (والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة) وقد قال الله تعالى: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} [البقرة: 271] فالظاهر من الحديث إن السر أفضل من الجهر كما أشار إليه النسائي حيث عقد على هذا الحديث باب فضل السر على الجهر لكن الذي يقتضيه أمره صلى الله عليه وسلم لأبي بكر ارفع من صوتك إن الاعتدال في القراءة أفضل، فإما أن يحمل الجهر في الحديث على المبالغة والسر على الاعتدال أو على أن هذا الحديث محمول على ما إذا كان الحال تقتضي السر وإلا فالاعتدال في ذاته أفضل قاله السندي. وقال الترمذي: معنى هذا الحديث إن الذي يسر بالقراءة القرآن أفضل من الذي يجهر بقراءة القرآن لأن صدقة السر أفضل عند أهل العلم من صدقة العلانية، وإنما معنى هذا عند أهل العلم لكي يأمن الرجل من العجب لأن الذي يُيسرُّ بالعمل لا يخاف عليه بالعجب ما يخاف عليه في العلانية- انتهى. قلت: وردت أحاديث تقتضي استحباب رفع الصوت بالقراءة وأحاديث تقتضي الأسرار وخفض الصوت فمن الأول ما تقدم من حديث أبي هريرة عند الشيخين ما أذن الله لشي ما أذن لنبي حسن الصوت بالقرآن يجهر به، ومن الثاني حديث عقبة هذا وحديث معاذ بن جبل أخرجه الحاكم (ج1ص555) بلفظ: حديث عقبة وصححه على شرط البخاري ووافقه الذهبي. قال النووي في الأذكار: والجمع بينهما إن الأسرار أبعد من الرياء فهو أفضل في حق من يخاف ذلك، فإن لم يخف الرياء فالجهر أفضل بشرط أن لا يؤذي غيره من مصل أو نائم أو غيرهما يعني إن الإخفاء أفضل حيث خاف الرياء أو تأذى مصلون أو نيام بجهره، والجهر أفضل في غير ذلك لأن العمل فيه أكبر ولأنه يتعدى نفعه إلى غيره أي من استماع أو تعلم أو إقتداء أو انزجار أو كونه شعاراً للدين، ولأنه يوقظ قلب القاري ويجمع همه إلى الفكر ويصرف سمعه إليه ولأنه يطرد النوم عنه ويزيد في النشاط ويوقظ غيره من نائم وغافل وينشطه فمتى حضره شي من هذه النيات فالجهر أفضل- انتهى. قال السيوطي: ويدل لهذا الجمع حديث أبي داود بسند صحيح عن أبي سعيد اعتكف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر. وقال ألا أن كلكم مناج لربه فلا يؤذين بعضكم بعضاً ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة. قلت: ويدل له أيضاً ما روى الديلمي في مسند الفردوس عن ابن عمر مرفوعاً السر أفضل من العلانية والعلانية أفضل لمن أراد الإقتداء به ذكره الذهبي في ترجمة عبد الملك بن مهران عن عثمان بن زائدة عن نافع عن ابن عمر. قال السيوطي: وقال بعضهم يستحب الجهر ببعض القراءة والأسرار وببعضها لأن المسر قد يميل فيأنس بالجهر والجاهر قد

رواه الترمذي، وأبوداود، والنسائي. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. 2225- (17) وعن صهيب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما آمن بالقرآن من استحل محارمه)) رواه الترمذي. وقال: هذا حديث ليس إسناده بالقوي. ـــــــــــــــــــــــــــــ بكل فيستريح بالأسرار (رواه الترمذي وأبوداود والنسائي وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب) الحديث أخرجه الترمذي في فضائل القرآن وأبوداود في الصلاة كلاهما من طريق إسماعيل بن عياش عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن كثير بن مرة الحضرمي عن عقبة وحسنه الترمذي وسكت عنه أبوداود. وقال المنذري: في إسناده إسماعيل بن عياش، وفيه مقال، ومنهم من يصحح حديثه عن الشاميين وهذا الحديث شامي الإسناد- انتهى. وأخرجه النسائي في الزكاة من طريق معاوية بن صالح عن بحير بن سعد وكذا عبد الله بن أحمد (ج4ص151- 158) وأخرجه النسائي أيضاً في الصلاة من طريق زيد بن واقد عن كثير بن مرة وعبد الله بن أحمد (ج4ص201) من طريق زيد بن واقد عن سليمان بن موسى عن كثير بن مرة،، فالحديث حسن بل صحيح، وفي الباب عن معاذ بن جبل أخرجه الحاكم وصححه، وعن أبي أمامة رواه الطبراني في الكبير من طريقين في أحدهما بشير بن نمير وهو متروك وفي الأخرى إسحاق بن مالك ضعفه الأزدي كذا في مجمع الزوائد. 2225- قوله: (وعن صهيب) بالتصغير (ما آمن بالقرآن من استحل محارمه) جمع محرم بمعنى الحرام الذي هو المحرم والضمير للقرآن والمراد فرداً من هذا الجنس يعني هو كافر لاستحلاله الحرام المنصوص عليه في القرآن وخص القرآن لعظمته وإلا فمن استحل المجمع على تحريمه المعلوم ضرورة كافر أيضاً. قال الطيبي: من استحل ما حرمه الله فقد كفر مطلقاً وخص ذكر القرآن لعظمته وجلالته (رواه الترمذي) في فضائل القرآن عن محمد بن إسماعيل الواسطي نا وكيع نا أبوفروة يزيد بن سنان عن أبي المبارك عن صهيب (وقال: هذا حديث ليس إسناده بالقوي) في نسخ الترمذي الموجودة عندنا "ليس إسناده بذاك" يعني ليس بالقوي فكأن المصنف ذكره بالمعنى. وقال الترمذي أيضاً بعد ذكر الاختلاف في سنده. وأبو المبارك رجل مجهول. قلت: ولم يدرك صهيباً فالحديث منقطع أيضاً. قال الحافظ في التقريب: أبوالمبارك عن عطاء مجهول، وروايته عن صهيب مرسلة. وقال في التهذيب: أبوالمبارك روى عن عطاء بن أبي رباح وأرسل عن صهيب. قال الترمذي: مجهول. وذكره ابن حبان في الثقات وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه فقال هو شبيه بالمجهول. وقال الذهبي في الميزان في أبي المبارك: هذا لا يدري من هو وخبره منكر. وقال بعد ذكر الحديث من طريق الترمذي المذكورة هو منقطع. قال الترمذي: ليس إسناده بالقوي. قال الذهبي وأبو المبارك: لا تقوم به حجة لجهالته- انتهى. قال الترمذي: وقد خولف وكيع في روايته فروى محمد بن يزيد بن سنان عن أبيه فزاد في الإسناد عن مجاهد عن سعيد المسيب عن

2226- (18) وعن الليث بن سعد، عن ابن أبي مليكة، عن يعلى بن مملك، أنه سأل أم سلمة عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفاً حرفاً. ـــــــــــــــــــــــــــــ صهيب ولا يتابع محمد بن يزيد على روايته. وقال البخاري: يزيد بن سنان ليس بحديثه بأس إلا رواية ابنه محمد عنه فإنه يروي عنه مناكير- انتهى. قلت: رواه من هذا الطريق الذهبي في الميزان والبيهقي في شعب الإيمان. قال الذهبي: محمد بن يزيد الذي جود سنده ليس بعمدة كأبيه- انتهى. قلت: يزيد بن سنان والد محمد بن يزيد ضعفه أحمد وابن المديني وأبو داود والدارقطني والنسائي وقال ابن معين: ليس بشي. وقال أبوحاتم: محله الصدق وكان الغالب عليه الغفلة يكتب حديثه ولا يحتج به فالحديث بطريقيه ضعيف. قال في تنقيع الرواة وفي الباب عن أنس عند أبي نعيم وعن جابر عند الخطيب في تاريخه. 2226- قوله: (وعن الليث بن سعد) بن عبد الرحمن الفهمي يكنى أبا الحارث فقيه أهل مصر. قال في التقريب: ثقة ثبت فقيه إمام مشهور ولد في قرية في أسفل مصر يوم الخميس لأربع عشرة من شعبان سنة أربع وتسعين روى عن ابن أبي مليكة وعطاء والزهري وغيرهم وحدث عنه خلق كثير، منهم ابن المبارك، قدم بغداد سنة إحدى وستين ومائة وعرض عليه المنصور ولاية مصر فأبى واستعفاه. قال يحيى بن بكير: رأيت من رأيت فلم أر مثل الليث، وفي رواية ما رأيت أكمل من الليث وقال أيضاً الليث أفقه من مالك ولكن كانت الحظوة لمالك، وقال نحو ذلك الشافعي، قال ابن حبان في الثقات: كان من سادات أهل زمانه فقهاً وورعاً وعلماً وفضلاً وسخاء، كان دخله كل سنة ثمانين ألف دينار ما وجبت عليه زكاة مات في يوم الجمعة نصف شعبان سنة خمس وسبعين ومائة وقد أفرد الحافظ ترجمة رسالة سماها الرحمة الغيثية بالترجمة الليثية، طبعت ببولاق مصر مع الخلاصة في أسماء الرجال للخزرجي (عن ابن أبي مليكة) بالتصغير (عن يعلى) بفتح التحتية وسكون المهملة وفتح اللام والقصر كيرضى (بن مملك) بفتح الميم الأولى واللام بعدها كاف عن قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي عن صفتها (فإذا هي تنعت) أي تصف وتبين بالقول أو بالفعل بأن تقرأ كقراءته صلى الله عليه وسلم (قراءة مفسرة) بفتح السين المشددة من الفسر وهو البيان أي مبينة (حرفاً حرفاً) أي مرتلة مجردة مميزة غير مخالطة بل كان يقرأ بحيث يمكن عد حروف ما يقرأ، والمراد حسن الترتيل والتلاوة على نعت التجويد "وحرفاً حرفاً" حال أي حال كونها مفصولة الحروف نحو أدخلتهم رجلاً رجلاً أي منفردين. قال الطيبي: نعتها لقراءته صلى الله عليه وسلم يحتمل وجهين. أحدهما أن تقول كانت قراءته كيت وكيت. والثاني أن تقرأ قراءة مرتلة مبينة وتقول كان النبي يقرأ مثل هذه القراءة. والحديث يدل على استحباب قراءة القرآن مرتلة مبينة. قال في شرح المهذب: قد اتفقوا على كراهة الإفراط في الإسراع. قالوا: وقراءة جزع بترتيل أفضل من قراء جزءين في قدر ذلك الزمان

رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي. 2227- (19) وعن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة عن أم سلمة، قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته، يقول: {الحمد لله رب العالمين} ثم يقف، ثم يقول: {الرحمن الرحيم} ثم يقف. ـــــــــــــــــــــــــــــ بلا ترتيل، قالوا: واستحباب الترتيل للتدبر لأنه أقرب إلى الإجلال والتوقير وأشد تأثيراً في القلب، ولهذا يستحب للأعجمي الذي لا يفهم معناه. وقال الجزري في النشر: اختلف هل الأفضل الترتيل وقلة القراءة لو السرعة مع كثرتها وأحسن بعض أئمتنا. فقال إن ثواب قراءة الترتيل أجل قدراً وثواب الكثرة أكثر عدداً لأن بكل حرف عشر حسنات- انتهى. قال القاري: ولا شك إن اعتبار الكيفية أولى من اعتبار الكمية وقد بسط الكلام في ذلك ابن القيم في زاد المعاد (ج1ص90) فأجاد فعليك أن تراجعه (رواه الترمذي) في أواخر فضائل القرآن وأخرجه أيضاً في الشمائل (وأبو داود والنسائي) في الصلاة وأخرجه أيضاً عبد الله بن أحمد (ج6ص294-300) والحاكم (ج1ص310) والحديث سكت عنه أبوداود. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، ونقل المنذري كلام الترمذي هذا وأقره. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، وأقره الذهبي والحديث قطعة من حديث طويل تقدم في آخر باب صلاة الليل. 2227- قوله: (وعن ابن جريج) بالتصغير (يقطع) من التقطيع وهو جعل الشيء قطعاً قطعاً (قراءته) زاد في رواية أحمد وأبي داود والحاكم آية آية يقف عند رأس كل آية وإن تعلقت بما بعدها فيسن الوقف على رؤس الآي وإن تعلقت بما بعدها كما صرح به البيهقي وغيره خلافاً لبعض القراء حيث منع الوقف إذا تعلقت بما بعدها وجعله بعضهم خلاف الأولى. وقال القاري: قوله "يقطع قراءته" أي يقرأ بالوقف على رؤس الآيات (يقول الحمد لله رب العالمين ثم يقف ثم يقول الرحمن الرحيم ثم يقف) كذا في جميع النسخ الحاضرة، وهكذا وقع في الشمائل للترمذي ولفظه في جامعه "يقرأ الحمد لله رب العالمين ثم يقف الرحمن الرحيم ثم يقف" وذكر في جامع الأصول (ج3ص17) بلفظ: يقول بدل يقرأ وقوله "ثم يقف" أي يمسك عن القراءة قليلاً ثم يقرأ الآية التي بعدها وهكذا إلى آخر السورة، وهذا بيان لقوله "يقطع" بدل أو حال أو استئناف واعلم أن الوقف عند القراء عبارة عن قطع الصوت عن الكلمة زمناً يتنفس فيه عادة بنية استئناف القراءة لا بنية الأعراض ويكون في رؤس الآي وأوسطها ولا يأتي في وسط الكلمة ولا فيما اتصل رسماً. ثم إنهم اختلفوا في أنواع الوقف والابتداء. فقال ابن الأنباري: الوقف على ثلاثة أوجه تام وحسن وقبيح، وقال غيره الوقف

ينقسم إلى أربعة أقسام تام مختار، وكاف جائز، وحسن مفهوم، وقبيح متروك. وقال السجاوندي: الوقف على خمس مراتب. لازم، ومطلق، وجائز، ومجوز بوجه، ومرخص ضرورة. وقال ابن الجزري: أكثر ما ذكر الناس في أقسام الوقف غير منضبط ولا منحصر ثم بين ما هو أقرب إلى الضبط عنده وقال في ما ذكر لضبطه وإن كان التعلق بما بعده من جهة اللفظ أي لا من جهة المعنى فهو المسمى بالحسن لأنه في نفسه حسن مفيد يجوز الوقف عليه دون الابتداء مما بعده للتعلق اللفظي إلا أن يكون رأس آية فإنه يجوز في اختيار أكثر أهل الأداء لمجيئة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أم سلمة يعني الذي نحن في شرحه. وقال القاري: الوقف المستحسن على أنواع ثلاثة، الحسن، والكافي، والتام. فيجوز الوقف على كل نوع عند القراء. وقد أشار إليها الجزري بقوله: وهي لما تم فإن لم يوجد تعلق أو كان معنى فابتد فالتام فالكافي ولفظاً فامنعن إلا رؤس الآي جوز فالحسن وشرحه يطول قال. وهذا الوقف يعني المذكور في حديث أم سلمة يسمى حسناً- انتهى. ومن أحب الوقوف على تعريفات أنواع الوقف والابتداء وما فيها من الاختلاف رجع إلى الإتقان وغيره من كتب هذا الفن. قال القاري: اختلف أرباب الفن في الوقف على رأس الآية إذا كان هناك تعلق لفظي كما نحن فيه (من تعلق الصفة والموصوف) واستدل له بهذا الحديث وعليه الشافعي، وأجاب الجمهور عنه بأن وقفه كان لبيان للسامعين رؤس الآي، فالجمهور على أن الوصل أولى فيها والجزري على أنه يستحب الوقف عليها بالانفصال- انتهى. قلت: وإليه ذهب أبوعمرو من القراء. قال السيوطي في الاتقان (ص87) بعد ذكر مذاهب القراء في الوقف، والابتداء: وكان أبوعمرو يتعمد رؤس الآي ويقول هو أحب إلى فقد قال بعضهم إن الوقف عليه سنة. وقال البيهقي في الشعب وآخرون: الأفضل الوقف على رؤس الآيات وإن تعلقت بما بعدها اتباعاً لهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته. ثم ذكر السيوطي حديث أم سلمة. وقال ابن القيم في زاد المعاد: (ج1ص90) كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف عند كل آية وذكر الزهري إن قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت آية آية وهذا هو الأفضل الوقوف على رؤس الآيات وإن تعلقت بما بعدها. وذهب بعض القراء إلى تتبع الأغراض والمقاصد والوقوف عند انتهاءها واتباع هدى النبي - صلى الله عليه وسلم - وسنته أولى، وممن ذكر البيهقي في شعب الإيمان وغيره. ورجح الوقوف على رؤس الآي وإن تعلقت بما بعدها- انتهى. وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي في أشعة اللمعات (ج2ص164) وعلى القواعد المقررة عند أرباب القراءة الوصل في أمثال هذه الآيات أرجح، لكن إذا كان على رؤس الآي فالوقف عليها والابتداء بما بعدها سنة- انتهى. قلت: لا شك في كون هذا سنه فيكون هو الأرجح

{الفصل الثالث}

رواه الترمذي. وقال: ليس إسناده بمتصل، لأن الليث روى هذا الحديث عن ابن أبي مليكة، عن يعلى بن مملك، عن أم سلمة. وحديث الليث أصح. {الفصل الثالث} 2228- (20) عن جابر، قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقرأ القرآن، وفينا ـــــــــــــــــــــــــــــ والأولى لأن الفضل والكمال في متابعة في كل حال، وما تفوه به التوربشتي والطيبي ههنا ليس مما يلتفت إليه (رواه الترمذي) في أول القراءات من جامعة، ورواه أيضاً في شمائله وأخرجه أيضاً عبد الله بن أحمد (ج6ص302) وأبوداود في الحروف والحاكم (ج2ص231- 232) كلهم من طريق يحيى بن سعيد الأموي وهو ثقة عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن أم سلمة (لأن الليث) بن سعد (روى هذا الحديث عن ابن أبي مليكة عن يعلى بن مملك عن أم سلمة) إنها وصفت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم حرفاً حرفاً، يعني فزاد الليث بين ابن أبي مليكة وأم سلمة يعلى بن مملك، فعلم إن إسناد حديث يحيى بن سعيد الأموي بدون ذكر يعلى بن مملك بينهما منقطع (وحديث الليث أصح) أي من حديث يحيى بن سعيد الأموي عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن أم سلمة يعني فيحمل على أن يحيى بن سعيد الأموي، أو ابن جريج ترك ذكر يعلى بن مملك فصار سند حديثه منقطعاً. قلت: الحديث سكت عنه أبوداود. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، وأقره الذهبي ونقل المنذري كلام الترمذي وأقره، وقد تعقبه الشيخ في شرح الترمذي بما توضيحه إن في البخاري "قال ابن أبي مليكة أدركت ثلاثين من الصحابة" وقال ابن حبان في الثقات: رأى ثمانين من الصحابة، وتوفي سنة سبع عشرة ومائة وتوفيت أم سلمة اثنتين وستين أو في آخر إحدى وستين. وصرح الحافظ في تهذيبه إن ابن أبي مليكة روى عن أسماء وعائشة وأم سلمة وعلى هذا فلا يبعد سماعه من أم سلمة فيجوز أن يكون ابن أبي مليكة سمع حديث التقطيع من أم سلمة مباشرة بلا واسطة، وحدث به ابن جريج كما سمعه وسمع حديث وصف القراءة حرفاً حرفاً بواسطة يعلى بن مملك، وحدث به الليث بن سعد كما سمعه. والحاصل إنهما حديثان مختلفاً السياق، والمعنى مرويان عن أم سلمة، أحدهما حديث نعت القراءة حرفاً حرفاً حدثت به أم سلمة يعلى بن مملك وهو حدث به ابن أبي مليكة ورواه عنه الليث، والثاني حديث التقطيع حدثت به ابن أبي مليكة وهو حدث به ابن جريج، وعلى هذا فالحديثان متصلان صحيحان ثابتان. وقيل: رواية الليث بن سعد من المزيد في متصل الأسانيد لتحقق سماع ابن أبي مليكة من أم سلمة عند علماء الرجال. وقيل: رواية ابن جريج أصح لأنه تابعه على إسناده نافع ابن عمر الجمعحي وهو ثقة ثبت. وقد صحح حديث ابن جريج الدارقطني وغيره والله أعلم. 2228- قوله: (ونحن نقرأ) جملة حالية (وفينا) أي معشر القراء أو في جماعة الصحابة الموجودين

الأعرابي والعجمي. فقال: إقرؤا فكل حسن. وسيجيء أقوام يقيمونه كما يقام القدح، ـــــــــــــــــــــــــــــ (الأعرابي) بفتح الهمزة أي البدوي ويجمع على الأعراب والأعاريب والنسبة إلى الأعراب أعرابي. وإنما قيل في النسب إلى الأعراب أعرابي لأنه لا واحد له على هذا المعنى ألا ترى إنك تقول العرب فلا يكون على هذا المعنى، وحكى الأزهري رجل عربي إذا كان نسبه في العرب ثابتاً، وإن لم يكن فصيحاً وجمعه العرب كما تقول رجل موسى ويهودي، والجمع بحذف ياء النسبة المجوس واليهود ورجل معرب إذا كان فصيحاً وإن كان عجمي النسب ورجل أعرابي بالألف إذا كان بدوياً سواء كان من العرب أو من مواليهم، والأعرابي إذا قيل له يا عربي هش له، والعربي إذا قيل يا أعرابي غضب له، فمن نزل البادية أو جاور البادين وظعن بظعنهم وانتوى بانتوائهم فهم أعراب، ومن نزل بلاد الريف واستوطن المدن والقرى العربية وغيرها ممن ينتمي إلى العرب فهم عرب وإن لم يكونوا فصحاء (والعجمي) نسبة إلى العجم أي غير العربي من الفارسي والرومي والحبشي كسلمان وصهيب وبلال قاله الطيبي. قال الطيبي: وقوله: "فينا" يحتمل احتمالين أحدهما إن كلهم منحصرون في هذين الصنفين، وثانيهما إن فينا معشر العرب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو فيما بيننا تانك الطائفتان وهذا الوجه أظهر لأنه عليه الصلاة والسلام فرق بين الأعرابي والعربي بمثل ما في خطبته مهاجر ليس بأعرابي حيث جعل المهاجر ضد الأعرابي، والأعراب ساكن البادية من العرب الذين لا يقيمون في الأمصار ولا يدخلونها إلا لحاجة، والعرب اسم لهذا الجيل المعروف من الناس ولا واحد له من لفظه سواء أقام بالبادية أو المدن- انتهى. وحاصله إن العرب أعم من الأعراب وهم أخص ومنه قوله تعالى: {الأعراب أشد كفراً ونفاقاً} [التوبة: 97] {وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله} (فقال اقرؤا) أي القرآن كما تقرؤن، وفي رواية أحمد (ج3ص397) قال (أي جابر) فاستمع فقال اقرؤا (فكل حسن) أي فكل قراءة من قراءتكم حسنة مرجوة أو محصلة للثواب إذا آثرتم الآجلة على العاجلة ولا عليكم أن لا تقيموا ألسنتكم إقامة القدح وهو السهم قبل أن يعمل له ريش ولا نصل، والمقصود إن قراءة الأعرابي والعجمي وإن كانت بالنظر إلى خروج الألفاظ عن مخارجها ورعاية صفاتها وقواعد لسان العرب غير مستقيمة، ولكن باعتبار ترتب الثواب عليها والقبول عند الله معتبرة (وسيجيء أقوام يقيمونه) أي حروفه وألفاظه ويجودونها بتفخيم المخارج وتمطيط الأصوات. وقال القاري: أي يصلحون ألفاظه وكلماته ويتكلفون في مراعاة مخارجه وصفاته (كما يقام القدح) بكسر القاف وسكون الدال أي يبالغون في عمل القراءة كمال المبالغة لأجل الرياء والسمعة والمباهاة والشهرة. والحاصل إنهم يبالغون في التحسين والتطريب ويجهدون غاية جهدهم في إصلاح الألفاظ ومراعاة صفاتها ومراعاة قواعد الفن رياء وسمعة ومباهاة وشهرة فليس غرضهم بهذا إلا طلب الدنيا. وفي الحديث رفع الحرج وبناء الآمر على المساهلة فيما يتعلق بقراءة الألفاظ

يتعجلونه ولا يتأجلونه)) . رواه أبوداود، والبيهقي في شعب الإيمان. 2229- (21) وعن حذيفة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إقرؤا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل العشق، ـــــــــــــــــــــــــــــ والحروف على السجية والفطرة والحرص كل الحرص على فهم المعاني والعلم بالمقاصد والإتباع لشرائعه وأحكامه. قال الطيبي: فيه رفع الجرح وبناء الأمر على المساهلة في الظاهر وتحري الحسبة والإخلاص في العمل والتفكر في معاني القرآن والغوص في عجائب أمره (يتعجلونه) أي يطلبون جزاءه وثوابه في الدنيا فهو على حذف مضاف وقيل: أي يشترون بآياته ثمناً قليلاً (ولا يتأجلونه) قال الجزري: التأجل تفعل من الأجل أي لا يؤخرونه إلى أجل والأجل مدة معينة- انتهى. قال القاري: لا يتأجلونه أي بطلب الأجر في العقبي بل يؤثرون العاجلة على الآجلة ويتأكلونه ولا يتوكلون. والحديث رواه عبد الله بن أحمد (ج3ص357) بلفظ: دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا فيه قوم يقرؤن القرآن قال إقرؤا القرآن وابتغوا به الله عزوجل) قال العزيزي: أي إقرؤه على الكيفية التي يسهل على ألسنتكم النطق بها مع اختلاف ألسنتكم فصاحة ولثغة ولكنة من غير تكلف ولا مشقة في مخارج الحروف ولا مبالغة ولا إفراط في المد والهمز والإشباع فقد كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين له سهلة (من قبل أن يأتي قوم يقيمونه إقامة القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه) أي يطلبون بقراءته العاجلة أي عرض الدنيا والرفعة فيها ولا يلتفتون إلى الأجر في الدار الآخرة وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم فإنه أخبار عن غيب قبل مجيئه (رواه أبوداود) في الصلاة (والبيهقي) وأخرجه أيضاً عبد الله بن أحمد (ج3ص357- 397) وسكت عنه أبوداود والمنذري وفي الباب عن هل بن سعد عند أحمد (ج5ص338) وأبي داود وغيرهما. 2229- قوله: (اقرؤا القرآن بلحون العرب) قال الجزري: اللحون والإلحان جمع لحن، وهو التطريب وترجيع الصوت وتحسين قراءة القرآن أو الشعر أو الغناء (وأصواتها) أي ترنماتها الحسنة التي لا يختل معها شي من الحروف عن مخرجه لأن ذلك يضاعف النشاط قال القاري: وأصواتها عطف تفسيري أي بلا تكلف النغمات من المدات والحركات الطبيعة الساذجة عن التكلفات (وإياكم ولحون أهل العشق) أي أصحاب الفسق من المسلمين الذين يخرجون القرآن عن موضعه بالتمطيط بحيث يزيد أو ينقص حرفاً فإنه حرام إجماعاً وراجع الفتح من باب من لم يتغن بالقرآن. وزاد المعاد (ص137) فإنهما بسطا الكلام في ذكر اختلاف العلماء في القراءة بالألحان. قيل: المراد بلحون أهل العشق ما يقرأ بها الرجل في مغازلة النساء في الأشعار برعاية القواعد الموسيقية والتكلف

ولحون أهل الكتابين، وسيجيء بعدي قوم يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والنوح، لا يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ بها، ووقع في مجمع الزوائد والجامع الصغير والإتقان والكنز أهل الفسق أي بالفاء ثم السين المهملة بدل العشق وهو تصحيف والصحيح أهل العشق (ولحون أهل الكتابين) أي التوراة والإنجيل وهم اليهود والنصارى وكانوا يقرؤن كتبهم نحواً من ذلك ويتكلفون لذلك ومن تشبه بقوم فهو منهم. قال في جامع الأصول (ج3ص164) ويشبه أن يكون ما يفعله القراء في زماننا بين يدي الوعاظ وفي المجالس من اللحون الأعجمية التي يقرؤن بها نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم (يرجعون) بالتشديد أي يرددون أصواتهم (بالقرآن) قال الجزري: الترجيع ترديد الحروف كقراءة النصارى (ترجيع الغناء) بالكسر والمد بمعنى النغمة أي كترجيع أهل الغناء (والنوح) بفتح النون أي وأهل النياحة. قال القاري: المراد ترديداً مخرجاً لها عن موضوعها إذ لم يتأت تلحينهم على أصول النغمات إلا بذلك. وقد عقد البخاري في صحيحه باب الترجيع، وذكر فيه حديث عبد الله بن مغفل قال رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ وهو على ناقته أو جمله وهي تسير به وهو يقرأ سورة الفتح قراءة لينة يقرأ وهو يرجع. قال الحافظ: الترجيع هو تقارب ضروب الحركات في القراءة وأصله الترديد وترجيع الصوت ترديده في الحلق، وقد فسره في حديث عبد الله بن مغفل في كتاب التوحيد بقوله أاأ بهمزة مفتوحة بعدها ألف ساكنة ثم همزة أخرى وهو محمول على إشباع المد في محله، وكان هذا الترجيع منه صلى الله عليه وسلم اختياراً لا اضطراراً لهز الناقة له فإنه لو كان لهز الناقة لما كان داخلاً تحت الاختيار فلم يكن عبد الله بن مغفل يفعله ويحكيه اختياراً ليتأسى به وهو يراه من هز الناقة له، ثم يقول كان يرجع في قراءته فنسب الترجيع إلى فعله. وقد ثبت في رواية الإسماعيلي فقال لولا أن يجتمع الناس علينا لقرأت ذلك اللحن أي النغم وفي حديث أم هانيء المروي في شمائل الترمذي وسنن النسائي وابن ماجه وابن أبي داود واللفظ له كنت أسمع صوت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ وأنا نائمة على فراشي يرجع القرآن. وقال ابن أبي جمرة: معنى الترجيع تحسين التلاوة لا ترجيع الغناء لأن القراءة بترجيع الغناء تنافي الخشوع الذي هو مقصود التلاوة (لا يجاوز) أي قراءتهم (حناجرهم) جمع حنجرة وهي الحلقوم مجرى النفس وهو كناية عن عدم القبول. قال الطيبي: التجاوز يحتمل الصعود والحدور أي لا يصعد عنها إلى السماء ولا يرفعها الله بالقبول أو لا يصل ولا ينحدر قراءتهم إلى قلوبهم ليدبروا آياته ويتفكروا فيها ويعملوا بمقتضاه (مفتونة) بالنصب على الحالية ويرفع على أنه صفة أخرى لقوم أي مبتلى بحب الدنيا وتحسين الناس لهم (قلوبهم) بالرفع على الفاعلية وعطف عليه قوله (وقلوب الذين يعجبهم شأنهم) أي يستحسنون قراءتهم ويستمعون تلاوتهم

رواه البيهقي في شعب الإيمان. 2230- (22) وعن البراء بن عازب، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((حسنوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً)) . رواه الدارمي. 2231- (23) وعن طاووس، مرسلا، قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس أحسن صوتاً للقرآن؟ وأحسن قراءة؟ قال: ((من إذا سمعته يقرأ أريت أنه يخشى الله)) . قال طاووس: وكان طلق كذلك. ـــــــــــــــــــــــــــــ (رواه البيهقي في شعب الإيمان) وكذا الطبراني في الأوسط. قال الهيثمي: وفيه راو لم يسم (ورزين في كتابه) أي بلا سند ولا يوجد في شيء من أصوله. 2230- قوله: (حسنوا القرآن) أي زينوه ففي رواية الحاكم زينوا القرآن (بأصواتكم) قال الطيبي. وذلك بالترتيل وتحسين الصوت بالتليين والتحزين وهذا الحديث لا يحتمل القلب كما احتمله الحديث السابق لقوله (فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً) وفيه طلب الجهر بالقراءة وتحسين الصوت ومحله فيمن أمن من الرياء ولم يؤذ نحو مصل أو نائم (رواه الدارمي) من طريق محمد بن بكر عن صدقة بن أبي عمران عن علقمة بن مرثد عن زاذان عن البراء، وكذا الحاكم (ج1 575) ونسبه في الجامع الصغير والكنز لمحمد بن نصر أيضاً. 2231- قوله: (من إذا سمعته يقرأ أريت) بصيغة المجهول من الإراءة أي حسبته وظننته (إنه يخشى الله) أي إذا قرأ حصل له الخوف لما يتدبره من المواعظ ولما فيه من الوعيد. قال السندي: أي المطلوب من تحسين الصوت بالقرآن أن تنتج قراءته خشية الله فمن رأيتم فيه الخشية فقد حسن الصوت بالقرآن المطلوب شرعاً فيعد من أحسن الناس صوتاً- انتهى. وقال في اللمعات: حاصل الجواب إنه يظهر في حسن صوته آثار الخشية والتحزن فالخشية إنما يفهم من صوته وقراءته على الصفة المخصوصة فمن يوجد في صوته هذه الصفة فهو أحسن صوتاً، فليس الجواب على الأسلوب الحكيم، كما قال الطيبي حيث اشتغل بالجواب عن الصوت الحسن بما يظهر الخشية في القاري والمستمع (وكان طلق) بسكون اللام (كذلك) أي بهذا الوصف وطلق هذا هو طلق بن حييب العنزي البصري صدوق من أوساط التابعين روى عن ابن عباس وابن الزبير وابن عمرو بن العاص وجابر وأنس وغيرهم وعنه طاووس وهو من أقرانه والأعمش ومنصور وغيرهم. قال مالك بن أنس: بلغني إن طلق بن حبيب كان من العباد وإنه هو وسعيد بن جبير وقراء كانوا معهم طلبهم الحجاج وقتلهم وذكره ابن حبان

رواه الدارمي. 2232- (24) وعن عبيدة المليكي، وكانت له صحبة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أهل القرآن! لا تتوسدوا القرآن)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ في الثقات وقال كان مرجياً عابداً. وقال العجلي: مكي تابعي ثقة كان من أعبد أهل زمانه. وقال طاووس: كان طلق ممن يخشى الله تعالى كذا في تهذيب التهذيب (رواه الدارمي) من طريق جعفر بن عون عن مسعر عن عبد الكريم عن طاووس قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم، قال في تنقيح الرواة: وأخرجه أيضاً عبد الرزاق مرسلاً. قال: وأخرجه محمد بن نصر في كتاب الصلاة والبيهقي في الشعب والخطيب متصلاً عن ابن عباس، وقال: أي الخطيب تفرد بوصله عن مسعر إسمعيل بن عمرو البجلي نزيل أصبهان، ورواه غيره عن مسعر عن طاووس مرسلاً لم يذكر فيه ابن عباس- انتهى. وإسمعيل المذكور ضعفه أبوحاتم والدارقطني وابن عقدة والعقيلي والأزدي. وقال الخطيب صاحب غرائب ومناكير عن الثوري وذكره ابن حبان في الثقات فقال يغرب كثيراً. وقال أبوالشيخ في طبقات الأصبهانيين: غرائب حديثه تكثره وذكره إبراهيم بن أرومة فأثنى عليه كذا في تهذيب التهذيب واللسان. وفي الباب عن جابر عند ابن ماجه، قال في الزوائد: إسناده ضعيف لضعف إبراهيم بن اسمعيل بن مجمع والراوي عنه، وعن ابن عمر عند السجزي والخطيب كما في جامع الصغير والكنز ونسبه الهيثمي للطبراني في الأوسط. وقال: فيه حميد بن حماد وثقه ابن حبان وربما أخطأ، وعن عائشة عند الديلمي في مسند الفردوس فالحديث حسن لشواهده. 2232- قوله: (وعن عبيدة) بفتح المهملة وكسر الموحدة وبعدها ياء تحتها نقطتان وآخرها هاء (المليكي) بالتصغير (وكانت له صحبة) أي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والجملة معترضة من كلام البيهقي أو غيره ولم يذكره المصنف في أسماءه. قال الحافظ في الإصابة: (ج2ص450) عبيدة بفتح أوله الأملوكي. وقيل: المليكي روى عنه المهاجر بن حبيب. قال ابن السكن: يقال له صحبة وأخرج البخاري في التاريخ (ج3ص83) من طريق أبي بكر بن أبي مريم عن المهاجر عن عبيدة عن عبيدة المليكي صاحب النبي صلى الله عليه وسلم قال لا توسدوا القرآن لم يرفعه، وأخرجه الطبراني من هذا الوجه فقال عن عبيدة المليكي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنه كان يقول مر أهل القرآن لا توسدوا القرآن فرفعه، ولم يقل صاحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بن أبي مريم ضعيف- انتهى. (يا أهل القرآن) خصوا بالخطاب لأنهم يجب عليهم المبالغة في أداء حقوقه أكثر من غيرهم لاختلاطه بلحمهم ودمهم، ويحتمل أن يراد بهم المؤمنون كلهم لأنهم ما يخلوا عن بعض القرآن، أو المراد بأهل القرآن المؤمنون به كما في قوله "يا أهل البقرة" (لا تتوسدوا القرآن) يقال توسد فلان ذراعه إذا نام عليها وجعلها كالوسادة له، وهو كناية عن التكاسل والنوم

(2) باب

واتلوه حق تلاوته، من آناء الليل والنهار، وافشوه وتغنوه وتدبروا ما فيعه لعلكم تفلحون ولا تعجلوا، ثوابه، فإن له ثواباً)) . رواه البيهقي "في شعب الإيمان" (2) باب {الفصل الأول} 2233- (1) عن عمر بن الخطاب، قال: ((سمعت هشام بن حكيم بن حزام ـــــــــــــــــــــــــــــ عن تلاوة القرآن والتغافل عن القيام بحقوقه أي لا تهملوا تلاوة القرآن والانتفاع بهداه فإن الذي يجعل القرآن وسادة أو يضعه تحت وسادته للنوم فإنما يعرض عن الانتفاع بمعانيه وعن الاهتداء بهداه فإن الوسادة ممتهنة جعلت للاتكاء عليها ووضع الرأس في النوم عليها. قال القاري: أي لا تجعلوه وسادة لكم تنامون عليه وتغفلون عنه وعن القيام بحقوقه وتتكاسلون في ذلك بل قوموا بحقه لفظاً وفهماً وعملاً وعلماً (واتلوه حق تلاوته) أي إقرؤه حق قراءته واتبعوه حق متابعته (من آناء الليل والنهار) أي اتلوه تلاوة كثيرة مستوفية لحقوقها في ساعات الليل والنهار أو اتلوه حق تلاوته حال كونها في ساعات هذا وهذا: قال الطيبي: "لا تتوسدوا" يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون كناية رمزية عن التكاسل أي لا تجعلوه وسادة تنامون عنه بل قوموا به واتلوه آناء الليل وأطراف النهار. وثانيهما أن يكون كناية تلويحية عن التغافل فإن من جعل القرآن وسادة يلزم منه النوم فيلزم منه لغفلة يعني لا تغفلوا عن تدبر معانيه وكشف أسراره ولا تتوانوا في العمل بمقتضاه والإخلاص فيه (وافشوه) أي بالاسماع والتعليم والكتابة والتفسير والمدارسة والعمل (وتغنوه) كذا في جميع النسخ الحاضرة وذكره في الكنز بلفظ: تغنوا به أي حسنوا الصوت وترنموا به أو استغنوا به عن غيره (تدبروا ما فيه) أي من الآيات الباهرة والزواجر البالغة والمواعيد الكاملة (ولا تعجلوا) قال القاري: بتشديد الجيم المكسورة وفي نسخة بفتح التاء والجيم المشددة المفتوحة أي لا تستعجلوا (ثوابه) قال الطيبي: أي لا تجعلوه من الحظوظ العاجلة (فإن له ثواباً) أي مثوبة عظيمة آجلة (رواه البيهقي) أي مرفوعاً ورواه موقوفاً أيضاً كما في الإتقان وقد تقدم أنه أخرجه البخاري في التاريخ الكبير موقوفاً والطبراني مرفوعاً وسنده ضعيف وعزاه في الكنز لأبي نعيم وابن عساكر أيضاً. (باب) بالرفع والوقف أي في توابع أخرى كاختلاف القراءات وجمع القرآن. 2233- قوله: (سمعت هشام بن حكيم بن حزام) بكسر الحاء المهملة وتخفيف الزاي المعجمة ابن خويلد

يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها، فكدت أن أعجل عليه، ثم أمهلته حتى انصرف، ثم لببته بردائه ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن أسد القرشي الأسدي صحابي ابن صحابي وكان إسلامهما يوم الفتح وكان هشام من فضلاء الصحابة وخيارهم ممن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ذكر الزهري أن عمر بن الخطاب كان يقول إذا بلغه أمر ينكره أما ما بقيت أنا وهشام بن حكيم فلا يكون ذلك، قال كان هشام بن حكيم في نفر من أهل الشام يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ليس لأحد عليهم إمارة. قال مالك: كانوا يمشون في الأرض بالإصلاح والنصيحة، قال وكان هشام بن حكيم كالسائح لم يتخذ أهلاً ولا ولداً. قال ابن سعد: وكان رجلاً مهيباً مات قبل أبيه، ووهم من زعم أنه استشهد باجنادين. قال الحافظ ليس له في البخاري رواية وأخرج له مسلم حديثاً واحداً مرفوعاً من رواية عروة عنه وهذا يدل على أنه تأخر إلى خلافة عثمان وعلي، ووهم من زعم أنه استشهد في خلافة أبي بكر أو عمر (يقرأ سورة الفرقان) أي في الصلاة كما في رواية أحمد (ج1ص40) (على غير ما أقرأها) أي من القراءة (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم) هو الذي (أقرأنيها) أي سورة الفرقان، وهذه رواية مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عبد الرحمن بن عبد القاري عن عمر بن الخطاب، وفي رواية عقيل عن ابن شهاب يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن البر: في هذه الرواية بيان أن اختلافهما كان في حروف من السورة لا في السورة كلها، وهي تفسير لرواية مالك لأن سورة واحدة لا تقرأ حروفها كلها على سبعة بل لا يوجد في القرآن كلمة تقرأ على سبعة أوجه إلا قليل (فكدت أن أعجل عليه) بفتح الهمزة وسكون العين وفتح الجيم. قال القسطلاني: ولأبي ذر في نسخة بضم الهمزة وفتح العين وتشديد الجيم المكسورة أي أن أخاصمه وأظهر بوادر غضبي عليه، وقيل كدت أن أعجل عليه أي في الإنكار عليه والتعرض له. قال ابن البر: فيه دليل على تشددهم في أمر القرآن واهتمامهم بحفظ حروفه ولغاته وضبطهم لقراءته المنسوبة حتى بلغ ذلك لهم إن كاد عمر يعجل على هشام بن حكيم في صلاته (ثم أمهلته حتى انصرف) قال العيني: كالكرماني أي من القراءة وفيه نظر، فإن في رواية عقيل عن ابن شهاب "فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم" فيكون المراد هنا حتى انصرف من الصلاة (ثم لببته) بفتح اللام وموحدتين الأولى مشددة، والثانية ساكنة مأخوذ من اللبة بفتح اللام وهي المنحر يقال لببت الرجل بالتشديد تلبيباً إذا جمعت ثيابه عند نحره في الخصومة ثم جررته (برداءه) أي جمعته في موضع لبته أي عنقه وأمسكته وجذبته به، ووقع في سنن أبي داود "فلببته بردائي" فيمكن الجمع بأن التلبيب وقع بالردائين جميعاً وكان هذا من عمر على عادته في الشدة بالأمر بالمعروف وفعل ذلك عن اجتهاد منه

فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت يا رسول الله! إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتينها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسله اقرأ، فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هكذا أنزلت ثم قال لي اقرأ، فقرأت. فقال: هكذا أنزلت. ـــــــــــــــــــــــــــــ لظنه أن هشاماً خالف الصواب ولهذا لم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم بل قال له أرسله (فجئت به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) في رواية عقيل فلببته برداءه فقلت من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ قال إقرأنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت كذبت، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أقرأنيها على غير ما قرأت فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الحافظ: قوله: "كذبت" فيه إطلاق ذلك على غلبة الظن أو المراد بقوله: "كذبت أي أخطأت لأن أهل الحجاز يطلقون الكذب في موضع الخطأ، وقوله: "فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقرأنيها" إلخ. هذا قاله عمر استدلالاً على ما ذهب إليه من تخطئه هشام. وإنما ساغ له ذلك لرسوخ قدمه في الإسلام وسابقته بخلاف هشام فإنه كان قريب العهد بالإسلام فخشى عمر أن لا يكون أتقن القراءة بخلاف نفسه فإنه قد كان أتقن ما سمع وكأن سبب اختلاف قراءتهما إن عمر حفظ هذه السورة من رسول الله صلى الله عليه وسلم قديماً ثم لم يسمح ما نزل فيها بخلاف ما حفظه وشاهده، ولأن هشاماً من مسلمة الفتح فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرأه على ما نزل أخيراً فنشأ اختلافهما من ذلك ومبادرة عمر للإنكار محمولة على أنه لم يكن سمع حديث أنزل القرآن على سبعة أحرف إلا في هذه الواقعة (أرسله) بهمزة قطع وهو خطاب لعمر أي أطلق هشاماً لأنه كان ممسوكاً بيده، وإنما أمره بإرسال قبل أن يقرأ لتسكن نفسه ويثبت جاشه ويتمكن من إيراد القراءة التي قرأ لئلا يدركه من الانزعاج ما يمنعه من ذلك قاله الباجي: قال القاري: وإنما سومح عمر في فعله لأنه ما فعل لحظ نفسه بل غضباً لله بناء على ظنه (اقرأ) يا هشام (فقرأ) أي هشام (القراءة التي سمعته) أي سمعت هشاماً إياها على حذف المفعول الثاني قاله القاري (يقرأ) أي يقرؤها (هكذا أنزلت) أي السورة وهذا تصويب منه - صلى الله عليه وسلم - لقراءة هشام (ثم قال لي إقرأ) أنت يا عمر أمره بالقراءة لأنه يحتمل أن يكون الخطأ والتغيير من جهته (فقرأت) وفي رواية فقرأتها وفي رواية عقيل فقرأت القراءة التي أقرأني (فقال هكذا أنزلت) قال الزرقاني: لم يقع في شي من الطرق تفسير الأحرف التي اختلف فيها عمر وهشام من سورة الفرقان. نعم اختلف الصحابة فمن دونهم في أحرف كثيرة من هذه السورة كما بينه ابن عبد البر في التمهيد بما يطول. وقال الحافظ: لم أقف في شيء من طرق حديث عمر على تعيين الأحرف التي اختلف فيها عمر وهشام من سورة الفرقان وقد تتبع أبوعمر ابن عبد البر ما اختلف

إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف. ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه من القراء من ذلك من لدن الصحابة ومن بعدهم من هذه السورة، ثم أورده الحافظ ملخصاً في شرح باب أنزل القرآن على سبعة أحرف من فضائل القرآن، وزاد عليه زيادة كثيرة حتى بلغ جملة ما ذكر مما اختلف فيه من المتواتر والشاذ على نحو من مائة وثلاثين موضعاً. قال ابن عبد البر بعد ذكر ما ذكر من الاختلاف في حروف هذه السورة: والله أعلم بما أنكر منها عمر على هشام وما قرأ به عمر (إن هذا القرآن أنزل إلخ) هذا أورده النبي - صلى الله عليه وسلم - تطمينا لعمر وتطييباً لقلبه وتبييناً لوجه تصويب الأمرين المختلفين. قال الحافظ: وقد وقع عند الطبري من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه عن جده قال قرأ رجل فغير عليه عمر فاختصماً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال الرجل ألم تقرئني يا رسول الله! قال بلى، قال فوقع في صدر عمر شي عرفه النبي - صلى الله عليه وسلم - في وجهه قال فضرب في صدره وقال: أبعد شيطاناً قالها ثلاثاً ثم قال يا عمر القرآن كله صواب ما لم تجعل رحمة عذاباً أو عذاباً رحمة. ومن طريق ابن عمر سمع عمر رجلاً يقرأ فذكر نحوه ولم يذكر فوقع في صدر عمر لكن قال في آخره أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها كاف شاف، ووقع لجماعة من الصحابة نظير ما وقع لعمر مع هشام كأبي بن كعب مع ابن مسعود في سورة النحل عند الطبري وعمرو بن العاص مع رجل في آية من الفرقان عند أحمد وابن مسعود مع رجل في سورة من آل حم رواه ابن حبان والحاكم- انتهى. ملخصاً (على سبعة أحرف) قد تواترت الأحاديث بلفظ: سبعة أحرف إلا في حديث الحسن عن سمرة رفعه أنزل القرآن على ثلاثة أحرف رواه الحاكم (ج2ص223) وقال حديث صحيح وليس له علة وأقره الذهبي. قال أبوشامة: يحتمل أن يكون بعضه أنزل على ثلاثة أحرف كجذوة والرهب، أو أراد أنزل ابتداء على ثلاثة أحرف ثم زيد إلى سبعة توسعة على العباد قال القسطلاني والزرقاني والأبي: الأكثر على أن لفظ السبع للحصر. وقيل: ليس المراد حقيقة العدد بل التسهيل والتوسعة والتيسير والشرف والرحمة، وإلى هذا جنح عياض ومن تبعه. ويرده ما يأتي من حديث ابن عباس وحديث أبي بن كعب. قال الزرقاني: وفي حديث أبي بكرة عند أحمد فنظرت إلى ميكائيل فسكت فعلمت أنه قد انتهت العدة فهذا يدل على أراد حقيقة العدد وانحصاره- انتهى. قلت: ليس هذا اللفظ في حديث أبي بكرة عند أحمد في مسنده (ص41- 51) ولا ذكره الهيثمي (ج7ص151) هذا وقد تقدم شي من الكلام في بيان معناه وما هو الراجح عندنا في كتاب العلم ولا بأس لو توسع القول ههنا ليزداد بصيرة وطمأنينة من يريد البسط والله الموفق فنقول قد اختلف العلماء في المراد بالأحرف السبعة على أقوال كثيرة بلغها أبوحاتم بن حبان البستي إلى خمسة وثلاثين قولاً حكاها ابن النقيب في مقدمة تفسيره عنه بواسطة الشرف المزني المرسى كما في الإتقان. قال المنذري: وأكثرها غير مختار. وقال ابن العربي: لم يأت في ذلك نص ولا أثر. وقال المرسى

بعد ذكرها: هذه الوجوه أكثرها متداخلة ولا أدري مستندها ولا عمن نقلت ومنها أشياء لا أفهم معناها على الحقيقة وأكثرها معارضة حديث عمر وهشام بن حكيم الذي في الصحيح. وقال السيوطي في الإتقان: اختلف في معنى الحديث على نحو أربعين قولاً. وقال القاري: قيل اختلف في معناه على أحد وأربعين قولاً منها إنه من المشكل الذي لا يدري معناه لأن الحرف يصدق لغة على حرف الهجاء وعلى الكلمة وعلى المعنى وعلى الجهة. قلت: وهذا قول أبي جعفر محمد بن سعد إن النحوي ورجحه السيوطي أيضاً حيث قال المختار إن هذا من المتشابه الذي لا يدري تأويله ومن جملة هذه الأقوال إن المراد بسبعة أحرف سبع لغات مشهورة بالفصاحة من لغات العرب وليس المراد إن كل كلمة تقرأ على سبع لغات بل اللغات السبع مفرقة في القرآن، وإلى هذا ذهب أبوعبيد وآخرون منهم ثعلب وأبوحاتم السجستاني واختاره ابن عطية وصححه البيهقي في الشعب. وقال الأزهري وابن حبان: إنه المختار واختاره أيضاً التوربشتي والسندي ثم اختلف من ذهب إلى ذلك فقال بعضهم سبع لغات منها خمس في هوازن واثنتان لسائر العرب. وقيل سبع لغات متفرقة لجميع العرب كل حرف منها لقبيلة مشهورة. وقيل سبع لغات أربع لعجز هوازن سعد بن بكر وجشم بن بكر ونصر بن معاوية وثقيف وثلاث لقريش وقيل سبع لغات لغة لقريش ولغة لليمن ولغة لحرهم ولغة لهوازن ولغة لقضاعة ولغة لتميم ولغة لطي وقيل لغة الكعبين كعب بن عمرو وكعب بن لوي ولهما سبع لغات وقيل نزل بلغة قريش وهذيل وتيم الرباب والأزد وربيعة وهوازن وسعد بن بكر واستنكر ذلك ابن قتيبة وقال لم ينزل القرآن إلا بلغة قريش واحتج بقوله تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه} [إبراهيم: 4] فعلى هذا تكون اللغات السبع في بطون قريش وبذلك جزم أبوعلي الأهوازي وأجيب بأنه لا يلزم من هذه الآية أن يكون أرسل بلسان قريش فقط لكونهم قومه بل أرسل بلسان جميع العرب ولا يرد عليه كونه بعث إلى الناس كافة عرباً وعجماً لأن القرآن أنزل باللغة العربية وهو بلغه إلى طوائف العرب وهم يترجمونه لغير العرب بألسنتهم وقيل نزل بلغة مضر خاصة لقول عمر نزل القرآن بلغة مضر. وعين بعضهم فيما حكاه ابن عبد البر السبع من مضر أنهم هذيل وكنانة وقيس وضبة وتيم الرباب وأسد بن خزيمة وقريش فهذه قبائل مضر تستوعب سبع لغات ونقل أبوشامة عن بعض الشيوخ إنه قال أنزل القرآن أولاً بلسان قريش ومن جاورهم من العرب الفصحاء ثم أبيح للعرب أن يقرؤه بلغاتهم التي جرت عادتهم باستعمالها على اختلافهم في الألفاظ والأعراب ولم يكلف أحد منهم الانتقال من لغته إلى لغة أخرى للمشقة. ولما كان فيهم من الحمية ولطلب تسهيل فهم المراد كل ذلك مع اتفاق

المعنى وزاد غيره إن الإباحة المذكورة لم تقع بالتشهي بأن يغير كل أحد الكلمة بمرادفها في لغته بل المراعي في ذلك السماع من النبي - صلى الله عليه وسلم - ويشير إلى ذلك قول كل من عمر وهشام في حديث الباب أقرأني النبي - صلى الله عليه وسلم - ولئن سلم إطلاق الإباحة بقراءة المرادف ولو لم يسمع لكن الإجماع من الصحابة في زمن عثمان الموافق للعرضة الأخيرة يمنع ذلك. قال الحافظ: ثبت عن غير واحد من الصحابة إنه كان يقرأ بالمرادف ولو لم يكن مسموعاً له ومن ثم أنكر عمر على ابن مسعود قراءته عتى حين، أي حتى حين، وكتب إليه إن القرآن لم ينزل بلغة هذيل فأقريء الناس بلغة قريش ولا تقرئهم بلغة هذيل وكان ذلك قبل أن يجمع عثمان الناس على قراءة واحدة. قال ابن عبد البر بعد أن أخرجه من طريق أبي داود بسنده: يحتمل أن يكون هذا من عمر على سبيل الاختيار لا أن الذي قرأ به ابن مسعود لا يجوز قال، وإذا أبيحت قراءته على سبعة أوجه أنزلت جاز الاختيار فيما أنزل. قال أبوشامة: ويحتمل أن يكون مراد عمر ثم عثمان بقولهما نزل بلسان قريش، إن ذلك كان أول نزوله ثم إن الله تعالى سهله على الناس فجوز لهم أن يقرؤه على لغاتهم على أن لا يخرج ذلك عن لغات العرب لكونه بلسان عربي مبين فأما من أراد قراءته من غير العرب فالاختيار له أن يقرأه بلسان قريش لأنه الأولى، وعلى هذا يحمل ما كتب عمر إلى ابن مسعود، لأن جميع اللغات بالنسبة لغير العربي مستوية في التعبير، فإذا لا بد من واحدة فلتكن بلغة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما العربي المجبول على لغته فلو كلف قراءته قريش لعسر عليه التحول مع إباحة الله له أن يقرأه بلغته. ويشير إلى هذا قوله في حديث أبي هّون على أمتي وقوله "إن أمتك لا تطيق ذلك" وكأنه انتهى عند السبع لعلمه أنه لا تحتاج لفظة من ألفاظه إلى أكثر من ذلك العدد غالباً، وليس المراد إن كل لفظة منه تقرأ على سبعة أوجه. قال ابن عبد البر: وهذا مجمع عليه بل هو غير ممكن بل لا يوجد في القرآن كلمة على سبعة أوجه إلا الشيء القليل مثل عبد الطاغوت. قال الحافظ: وحاصل ما ذهب هؤلاء أي الذين قالوا إن المراد بالأحرف اللغات إن معنى قوله أنزل على سبعة أحرف أي أنزل موسعاً على القاري أن يقرأه على سبعة أوجه، أي يقرأ بأي حرف أراد منها على البدل من صاحبه كأنه قال أنزل على هذا الشرط أو على هذه التوسعة، وذلك لتسهيل قراءته إذ لو أخذوا بأن يقرؤه على حرف واحد لشق عليهم كما تقدم. قال ابن قتيبة: في أول تفسير المشكل له كان من تيسير الله إن أمر نبيه أن يقرأ كل قوم بلغتهم فالهذلي يقرأ عتى حين يريد حتى حين، والأسدي يقرأ تعلمون بكسر أوله، والتميمي يهمز والقرشي لا يهمز، قال ولو أراد كل فريق منهم أن يزول عن لغته وما جرى عليه لسانه طفلاً وناشئاً وكهلاً لشق عليه غاية المشقة فيسر عليهم ذلك بمنة. ولو كان المراد إن كل كلمة منه تقرأ على سبعة أوجه لقال مثلاً أنزل سبعة أحرف. وإنما المراد أن يأتي في الكلمة وجه أو وجهان أو ثلاثة أو أكثر إلى سبعة-انتهى. وبعد هذا كله رد هذا القول بأن عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم كلاهما قرشي من لغة واحدة - وقبيلة

واحدة - وقد اختلفت قراءتهما، ومحال أن ينكر عليه عمر لغته فدل على أن المراد بالأحرف السبعة غير اللغات ومن جملة الأقوال المحكية في معنى الأحرف إن المراد بها سبعة أوجه من المعاني المتفقة بألفاظ مختلفة نحو أقبل وتعالى وهلم وعجل وأسرع، وإلى هذا ذهب سفيان بن عيينة وابن جرير وابن وهب وخلائق، ونسبه ابن عبد البر لأكثر العلماء لكن الإباحة المذكورة لم تقع بالتشهي بل ذلك مقصور على السماع. قال ابن عبد البر: أنكر أكثر أهل العلم أن يكون معنى الأحرف اللغات لما تقدم من اختلاف هشام وعمر ولغتهما واحدة، قالوا وإنما المعنى سبعة أوجه من المعاني المتفقة بالألفاظ المختلفة نحو أقبل وتعالى وهلم، ثم ساق الأحاديث الدالة على هذا، وقد ذكرها السيوطي في الإتقان (ج1ص46، 47) والحافظ في شرح حديث ابن عباس الآتي قال الحافظ: ويمكن الجمع بين القولين بأن يكون المراد بالأحرف تغاير الألفاظ مع اتفاق المعنى مع انحصار ذلك في سبع لغات- انتهى. ومنها إن المراد بها الأوجه التي يقع التغاير في سبعة أشياء ذكره ابن قتيبة. قال: فأولها ما تتغير حركته ولا يزول معناه ولا صورته مثل ولا يضار كاتب بنصب الراء ورفعها. وثانيها ما يتغير بتغير الفعل مثل بعد بين أسفارنا وباعد بلفظ الطلب والماضي. وثالثها ما يتغير بنقط بعض الحروف المهملة مثل ثم ننشرها بالراء والزاي. ورابعها ما يتغير بإبدال حرف قريب من مخرج الآخر مثل طلح منضود في قراءة على وطلع منضود. وخامسها ما يتغير بالتقديم والتأخير مثل {وجاءت سكرة الموت بالحق} [ق: 19] وجاءت سكرة الحق بالموت. وسادسها ما يتغير بزيادة أو نقصان مثل والذكر والأنثى وما خلق الذكر والأنثى. وسابعها ما يتغير بإبدال كلمة بكلمة ترادفها مثل {كالعهن المنفوش} [القارعة: 5] والصوف المنفوش. وقال أبوالفضل الرازي في اللوائح: الكلام لا يخرج عن سبعة أوجه في الاختلاف: الأول الاختلاف الأسماء من إفراد وتثنية وجمع أو تذكير وتأنيث: الثاني اختلاف تصريف الأفعال من ماض ومضارع وأمر. الثالث وجوه الإعراب. الرابع. النقص والزيادة. الخامس التقديم والتأخير. السادس الإبدال. السابع اختلاف اللغات كالفتح والإمالة والتفخيم والترقيق والإدغام والإظهار ونحو ذلك. قال الحافظ بعد ذكر ذلك: قد أخذ أبوالفضل كلام ابن قتيبة ونقحه. قلت: وقريب من ذلك ما ذكره ابن الجزري حيث قال قد تتبعت القراءات صحيحها وشاذها وضعيفها ومنكرها فإذا هي يرجع اختلافها إلى سبعة أوجه لا يخرج عنها، وذلك إما في الحركات بلا تغير في المعنى والصورة نحو البخل بأربعة أوجه ويحسب بوجهين أو بتغير في المعنى فقط نحو {فتلقى آدم من ربه كلمات} [البقرة: 37] وأما في الحروف بتغير المعنى لا الصورة نحوه تبلو وتتلو أو عكس ذلك نحو الصراط والسراط أو بتغيرهما نحو فامضوا فاسعوا. وأما في التقديم والتأخير نحو جاءت سكرة الحق بالموت أو في الزيادة والنقصان نحو أوصى ووصى والذكر والأنثى فهذه سبعة لا يخرج الاختلاف عنها قال. وأما نحو اختلاف الإظهار والإدغام

والروم والإشمام والتسهيل والنقل والإبدال مما يعبر عنه بالأصول فهذا ليس من الاختلاف الذي يتنوع فيه اللفظ والمعنى، لأن هذه الصفات المتنوعة في أداءه لا تخرجه عن أن يكون لفظاً واحداً ولئن فرض فيكون من الأول - انتهى. ومنها إن المراد بها سبعة أصناف من الكلام أي سبعة أنواع كل نوع منها جزء من أجزاء القرآن. والقائلون به اختلفوا في تعيين السبعة. فقيل أمر ونهى ووعد ووعيد وقصص وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال، واحتجوا بما أخرجه أبوعبيد والحاكم والطحاوي والبيهقي من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف زاجر وآمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال فأحلوا حلاله وحرموا حرامه وافعلوا ما أمرتم به وانتهوا عما نهيتم عنه واعتبروا بأمثاله واعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه وقولوا {آمنا به كل من عند ربنا} [آل عمران: 7] وقد صححه ابن حبان والحاكم وفي تصحيحه نظر لانقطاعه بين أبي سلمة وابن مسعود. قال الذهبي بعد ذكر تصحيح الحاكم: قلت منقطع. وقال الطحاوي: كان أهل العلم يدفعون هذا الإسناد بانقطاعه، لأن أبا سلمة لا يتهيأ في سنه لقاء عبد الله ابن مسعود ولا أخذه إياه عنه، وقال ابن عبد البر: هذا حديث لا يثبت لأنه لم يلق أبوسلمة بن عبد الرحمن ابن مسعود، فالحديث ضعيف والقول المبني عليه فاسد. وقد رده قوم من أهل النظر منهم أبوجعفر أحمد بن أبي عمران وابن عطية والماوردي والمازري وأطنب الطبري في مقدمة تفسيره في الرد على من قال به، وحاصله إنه يستحيل أن يجتمع في الحرف الواحد هذه الأوجه السبعة، ومن أراد البسط فليرجع إليه وإلى الفتح والإتقان وسنذكر شيئاً منه في شرح حديث ابن عباس من هذا الفصل. ومنها إن المراد بها سبع قراءات روى ذلك عن الخليل بن أحمد وتعقب بأنه لا يوجد في القرآن كلمة تقرأ على سبعة أوجه إلا القليل مثل عبد الطاغوت {فلا تقل لهما أف} [الإسراء: 23] وأجيب بأن المراد إن كل كلمة تقرأ بوجه أو وجهين أو ثلاثة أو أكثر إلى سبعة، ويشكل على هذا إن في الكلمات ما قري على أكثر كذا في الإتقان. وقال القسطلاني: هذا القول أضعف الوجوه فقد بين الطبري وغيره إن اختلاف القراء إنما هو حرف واحد من الأحرف السبعة. ومنها إن المراد بها الاختلاف في كيفية النطق بكلماتها من إدغام وإظهار وتفخيم وترقيق وإمالة وإشباع ومد وقصر وتليين وتحقيق وتشديد وتخفيف، لأن العرب كانت مختلفة اللغات في هذه الوجوه فيسر الله تعالى عليهم ليقرأ كل إنسان بما يوافق لغته ويسهل عليه، ذكره النووي في شرح مسلم. وقال الطيبي: هو أصح الأقوال وأقربها إلى معنى الحديث- انتهى. قال القاري بعد ذكره عن شرح مسلم: وفيه إن هذا ليس على إطلاقه فإن الإدغام مثلاً في مواضع لا يجوز الإظهار فيها، وفي مواضع لا يجوز الإدغام فيها، وكذلك البواقي- انتهى. ومن شاء الوقوف على بقية الأقوال رجع إلى الإتقان. تنبيهات الأول قد تقدم في بيان

القول الأول إن أول نزول القرآن كان بلسان قريش ثم سهله الله تعالى على الناس فجوز لهم أن يقرؤه على لغاتهم. قال الحافظ: وذلك بعد أن كثر دخول العرب في الإسلام فقد ثبت إن ورود التخفيف بذلك كان بعد الهجرة كما في حديث أبي كعب، إن جبريل لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو عند إضاءة بني غفار فقال الله يأمرك أن تقرأ على أمتك القرآن على حرف، فقال أسأل الله معافاته ومغفرته فإن أمتي لا تطيق ذلك- الحديث. أخرجه مسلم وإضاءة بني غفار بفتح الهمزة والضاد المعجمة بغير همز وآخره تاء تأنيث هو مستنقع الماء كالغدير، وجمعه إضاً كعصا. وقيل: بالمد والهمز مثل إناء وهو موضع بالمدينة النبوية ينسب إلى بني غفار بكسر المعجمة وتخفيف الفاء لأنهم نزلوا عنده. الثاني قد اختلفوا إن الأحرف السبعة المذكورة في الحديث هل هي باقية إلى الآن يقرأ بها أم كان ذلك ثم استقر الأمر على بعضها. قال القسطلاني: وإلى الثاني ذهب الأكثر كسفيان بن عيينة وابن وهب والطبري والطحاوي- انتهى. قلت قال الطحاوي. وإنما كان ذلك رخصة لما كان يتعسر على كثير منهم التلاوة بلفظ واحد لعدم علمهم بالكتابة والضبط وإتقان الحفظ ثم نسخ بزوال العذر وتيسر الكتابة والحفظ وكذا قال ابن عبد البر والباقلاني وآخرون كذا في المرقاة والإتقان. قلت: وإلى الأول ذهب الباجي حيث قال فإن قيل هل تقولون إن جميع هذه السبعة الأحرف ثابتة في المصحف فالقراءة بجميعها جائزة قيل لهم كذلك، نقول والدليل على صحة ذلك قول الله عزوجل {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9] ولا يصح انفصال الذكر المنزل من قراءته فيمكن حفظه دونها، ومما يدل على صحته ما ذهبنا إليه إن ظاهر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - يدل على أن القرآن أنزل على سبعة أحرف تيسيراً على من أراد قراءته ليقرأ كل رجل منهم بما تيسر عليه وبما هو أخف على طبعه وأقرب إلى لغته، ونحن اليوم مع عجمة ألسنتنا وبعدنا عن فصاحة العرب أحوج إلى ذلك- انتهى بتغيير يسير. وقال العيني: اختلف الأصوليون هل يقرأ اليوم على سبعة أحرف فمنعه الطبري وغيره، وقال إنما يجوز بحرف واحد اليوم وهو حرف زيد ونحى إليه القاضي أبوبكر. وقال الشيخ أبوالحسن الأشعري: اجمع المسلمون على أنه لا يجوز حظر ما وسعه الله تعالى من القراءات بالأحرف التي أنزلها الله، ولا يسوغ للأمة أن تمنع ما أطلقه الله بل هي موجودة في قراءتنا وهي مفرقة في القرآن غير معلومة بأعيانها فيجوز على هذا، وبه قال القاضي أن يقرأ بكل من نقله أهل التواتر من غير تمييز حرف من حرف فيحفظ حرف نافع بحرف الكسائي وحمزة ولا حرج في ذلك، لأن الله تعالى أنزلها تيسيراً على عبده ورفقاً وقال الخطابي: الأشبه فيه ما قيل إن القرآن أنزل مرخصاً للقاري بأن يقرأ بسبعة أحرف على ما تيسر وذلك إنما هو فيما اتفق فيه المعنى أو تقارب، وهذا قبل إجماع الصحابة رضي الله عنهم، فأما الآن فلا يسعهم أن يقرؤه على خلاف ما أجمعوا عليه. الثالث اختلف القائلون باستقرار الأمر على بعض الأحرف السبعة هل استقر ذلك في زمن النبوي أم بعده. قال القسطلاني:

والزرقاني: الأكثر على الأول واختاره أبوبكر الباقلاني وابن عبد البر وابن العربي وغيرهم، لأن ضرورة اختلاف اللغات ومشقة نطقهم بغير لغتهم اقتضت التوسعة عليهم في أول الأمر فإذن. لكل أن يقرأ على حرفه أي طريقته في اللغة إلى أن انضبط الأمر وقد ربت الألسن وتمكن الناس من الاقتصار على لغة واحدة فعارض جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن مرتين في السنة الأخيرة، واستقر ما هو عليه الآن فنسخ الله تعالى تلك القراءة الماذون فيها بما أوجبه من الاقتصار على هذه القراءة التي تلقاها الناس- انتهى. قلت: وهو اختيار الطحاوي كما يدل عليه كلامه الذي ذكرنا في التنبيه الثاني، وحكى السيوطي في الإتقان عن الطبري أنه قال: القراءة على الأحرف السعة لم تكن واجبة على الأمة، وإنما كان جائزاً لهم ومرخصاً لهم فيهم، فلما رأى الصحابة إن الأمة تفترق وتختلف إذا لم يجمعوا على حرف واحد اجتمعوا على ذلك إجماعاً شائعاً وهم معصومون من الضلالة ولم يكن في ذلك ترك واجب ولا فعل حرام. ولا شك أن القرآن نسخ منه في العرضة الأخيرة فاتفق رأى الصحابة على أن كتبوا ما تحققوا إنه قرآن مستقر في العرضة الأخيرة وتركوا ما سوى ذلك- انتهى. وقال البغوي في شرح السنة كما في الفتح المصحف الذي استقر عليه الأمر هو آخر العرضات على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر عثمان بنسخة في المصاحف وجمع الناس عليه وأذهب ما سوى ذلك قطعاً لمادة الخلاف فصار ما يخالف خط المصحف في حكم المنسوخ والمرفوع كسائر ما نسخ ورفع فليس لأحد أن يعد وفي اللفظ إلى ما هو خارج عن الرسم- انتهى. الرابع اختلف في أن القراءات السبعة التي يقرأها الناس اليوم هل هذه الأحرف السبعة المذكورة في الحديث أو هي حرف واحد منها؟ قال الأبي في الإكمال: الأول ظاهر قول الباقلاني والثاني نص قول ابن أبي صفرة وهو ظاهر قول الطحاوي، والأظهر في المسألة مختار أبي عبد الله بن عرفة إن المراد بالأحرف المذكورة في الحديث أحرف قراءات السبع اليوم، وقراءة يعقوب داخلة في ذلك، لأنه أخذها عن أبي عمرو ولأن بذلك يظهر التسهيل والتيسير الذي هو سبب نزوله عليها وبه أيضاً معجزة قوله {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9] لأنها محفوظة مع مرور مئين من السنين وبه أيضاً تعرف ضعف قول ابن أبي صفرة لأنها لو كانت واحدة من تلك الأحرف لزم أن توجد بقيتها وإن لم تحفظ لاقتضاء الآية ذلك- انتهى. وقال الحافظ قال أبوشامة: ظن قوم إن قراءات السبع الموجودة الآن هي التي أريدت في الحديث وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة، وإنما يظن ذلك بعض أهل الجهل قال وقد بالغ أبوطاهر بن أبي هاشم في الرد على من نسب إلى ابن مجاهد أن مراده بالقراءات السبع الأحرف السبعة المذكورة في الحديث، قال ابن أبي هاشم: إن السبب في اختلاف القراءات السبع وغيرها إن الجهات التي وجهت إليها المصاحف كان بها من الصحابة من حمل عنه أهل تلك الجهة، وكانت المصاحف خالية من النقط والشكل قال، فثبت أهل كل ناحية على ما كانوا تلقوه سماعاً عن الصحابة بشرط موافقة الخط وتركوا

{فاقرؤا ما تيسر منه} )) . متفق عليه واللفظ لمسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ ما يخالف الخط امتثالاً لأمر عثمان الذي وافقه عليه الصحابة لما رأو في ذلك من الاحتياط للقرآن. فمن ثم نشأ الاختلاف بين قراء الأمصار مع كونهم متمسكين بحرف واحد من السبعة. وقال مكي بن أبي طالب: هذه القراءات التي يقرأ بها اليوم وصحت رواياتها عن الأئمة جزء من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ثم ساق نحو ما تقدم قال، وأما من ظن أن قراءة هؤلاء القراء كنافع وعاصم هي الأحرف السبعة التي في الحديث فقد غلط غلطاً عظيماً قال، ويلزم من هذا إن ما خرج من قراءة هؤلاء السبعة مما ثبت عن الأئمة غيرهم ووافق خط المصحف أن لا يكون قرآناً وهذا غلط عظيم- انتهى. وقد بسط الحافظ الكلام في هذا في الفتح (ج2ص431، 432) فعليك أن تراجعه فإنه مفيد جداً الخامس وهو تتمة الرابع قال أبوشامة المقدسي: قد اختلف السلف في الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن هل مجموعة في المصحف الذي بأيدي الناس اليوم أو ليس فيها الأحرف واحد منها، مال ابن الباقلاني إلى الأول وصرح الطبري، وجماعة بالثاني: قال الحافظ وهو المعتمد قال: والحق أن الذي جمع في المصحف هو المتفق على إنزاله المقطوع به المكتوب بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه بعض ما اختلف فيه الأحرف السبعة لا جميعها قال، وما عدا ذلك من القراءات مما لا يوافق الرسم فهو مما كانت القراءة جوزت به توسعه على الناس وتسهيلاً، فلما آل الحال إلى ما وقع من الاختلاف في زمن عثمان وكفر بعضهم بعضاً اختار الاقتصار على المأذون في كتابته وتركوا الباقي. قال الطبري: وصار ما اتفق عليه الصحابة من الاقتصار كمن اقتصر مما خير فيه على خصلة واحدة لأن أمرهم بالقراءة على الأوجه المذكورة لم يكن على سبيل الإيجاب بل على سبيل الرخصة، قال الحافظ: ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الباب {فاقرؤا ما تيسر منه} [المزمل: 20] وقد قرر الطبري ذلك تقريراً أطنب فيه ووهّى من قال بخلافه ووافقه على ذلك جماعة، منهم أبوالعباس بن عمار في شرح الهداية، وقال أصح ما عليه الحذاق إن الذي يقرأ الآن بعض الحروف السبعة المأذون في قراءتها لا كلها إلى آخر ما قال (فاقرؤا ما تيسر منه) أي من أنواع القراءات بخلاف قوله تعالى {فاقرؤا ما تيسر منه} فإن المراد به الأعم من المقدار والجنس والنوع قاله القاري. وقال القسطلاني: أي من الأحرف المنزل بها فالمراد بالتيسير في الآية غير المراد به في الحديث، لأن الذي في الآية المراد به القلة والكثرة، والذي في الحديث ما يستحضره القاري من القراءات فالأول من الكمية والثاني من الكيفية. وقال الحافظ: قوله" منه" أي من المنزل (بالسبعة) وفيه إشارة إلى الحكمة في التعدد المذكور، وإنه للتيسير على القاري وهذا يقوى قول من قال المراد بالأحرف تأدية المعنى باللفظ المرادف، ولو كان من لغة واحدة، لأن لغة هشام بلسان قريش، وكذلك عمرو، مع ذلك فقد اختلف قراءتهما نبه على ذلك ابن عبد البر- انتهى (متفق عليه) أي معنى (واللفظ لمسلم) أخرجه مسلم بهذا اللفظ في فضائل القرآن عن يحيى بن يحيى عن مالك عن ابن شهاب، وأخرجه البخاري في

2234- (2) وعن ابن مسعود، قال: سمعت رجلاً قرأ، وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها، فجئت به النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فعرفت في وجهه الكراهية، فقال: ـــــــــــــــــــــــــــــ الخصومات عن عبد الله بن يوسف التنيسي عن مالك بنحوه، وأخرجه أيضاً في فضائل القرآن والتوحيد من طريق عقيل عن ابن شهاب، وفي فضائل القرآن أيضاً من طريق شعيب عنه وفي استتابة المرتدين من طريق يونس عنه وأخرجه أيضاً أحمد (ج1ص24، 40، 43) ومالك في أواخر الصلاة والترمذي في القراءة، وأبوداود والنسائي في الصلاة، والطيالسي وأبوعوانة وابن حبان وابن جرير والبيهقي (ج2ص383) قال السيوطي في الإتقان: ورد حديث نزل القرآن على سبعة أحرف من رواية جمع من الصحابة فسرد أسمائهم ثم قال فهؤلاء أحد وعشرون صحابياً، وقد نص أبوعبيدة على تواترة. وقال القاري: حديث نزل القرآن على سبعة أحرف ادعى أبوعبيدة تواتره لأنه ورد من أحد وعشرين صحابياً، ومراده التواتر اللفظي، وإما تواتره المعنوي فلا خلاف فيه- انتهى. قلت: ذكر الهيثمي في أواخر التفسير أحاديث ثلاثة عشر صحابياً منهم مع الكلام فيها من أراد الوقوف عليها فليرجع إلى مجمع الزوائد (ج7ص150- 154) . 2234- قوله: (سمعت رجلاً قرأ) أي آية كما في رواية وفي أخرى يقرأ آية. قال الحافظ. هذا الرجل يحتمل أن يكون هو أبي بن كعب فقد أخرج الطبري من حديث أبي بن كعب أنه سمع ابن مسعود يقرأ آية قرأ خلافها، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كلا كما محسن- انتهى. قلت: لكن بين الطبري من هذه الطريق إن السورة المذكورة سورة النحل ويظهر من روايات أحمد إن الاختلاف كان في سورة من آل حم يعني الأحقاف فقد روى هو (ج1ص421، 452) من طريق زر بن حبيش عن ابن مسعود في هذه القصة. قال أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الأحقاف وأقرأها رجلاً آخر فخالفني في آية منها وعنده (ج1ص419) من طريق زر أيضاً اقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة من الثلاثين من آل حم يعني الأحقاف. قال: وكانت السورة إذا كانت أكثر من ثلاثين آية سميت الثلاثين- الحديث. وعنده أيضاً (ج1ص401) من طريق أبي وائل عن عبد الله قال: سمعت رجلاً يقرأ حم الثلاثين يعني الأحقاف إلخ، وذكر العيني رواية لابن مسعود من صحيح ابن حبان تدل على أن تلك الآية من سورة الرحمن والله أعلم (يقرأ خلافها) أي غير قراءة ذلك الرجل والضمير راجع إلى المصدر المفهوم من قرأ (فجئت به) أي أحضرته وفي رواية فأخذت بيده فأتيت به (فأخبرته) أي بما سمعت من الخلاف (فعرفت في وجهه الكراهية) بتخفيف الياء أي آثار الكراهة خوفاً من الاختلاف المتشابه باختلاف أهل الكتاب لأن الصحابة كلهم عدول، ونقلهم صحيح فلا وجه للخلاف قاله القاري.

((كلا كما محسن، فلا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا)) . رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال الطيبي: أي للجدال الواقع بينهما، وفي رواية زر المذكورة فغضب وتمعر وجهه (كلا كما محسن) قال القاري: أي في رواية القراءة وأفراد الخبر باعتبار لفظ كلا. وقال القسطلاني فإن قلت: كيف يستقيم هذا القول مع إظهار الكراهية، أجيب بأن معنى الإحسان راجع إلى ذلك لقراءته وإلة ابن مسعود لسماعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم تحريه الاحتياط، والكراهية راجعة إلى جداله مع ذلك الرجل كما فعل عمر بهشام، كما تقدم، لأن ذلك مسبوق بالاختلاف. وكان الواجب عليه أن يقره على قراءته ثم يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن وجهها. وقال المظهري: الاختلاف في القرآن غير جائز لأن كل لفظ منه إذا جاز قراءته على وجهين أو أكثر فلو أنكر واحد أحداً من ذينك الوجهين أو الوجوه فقد أنكر القرآن ولا يجوز في القرآن القول بالرأي، لأن القرآن سنة متبعة بل عليهما أن يسألا عن ذلك ممن هو أعلم منهما- انتهى. وقال ابن الملك: إنما كره اختلاف ابن مسعود مع ذلك الرجل في القرآن، لأن قراءته على وجوه مختلفة جائزة فإنكار بعض تلك الوجوه إنكار للقرآن وهو غير جائز. قال القاري: هذا وقع من ابن مسعود قبل العلم بجواز الوجوه المختلفة وإلا فحاشاه أن ينكر بعد العلم ما يوجب إنكاره وإنكار القرآن وهو من أجل الصحابة بعلم القرآن وافقهم بأحكامه، ولعل وجه ظهور الكراهية في وجهه عليه الصلاة والسلام إحضاره الرجل، فإنه كان حقه أن يحسن الظن به ويسأل النبي صلى الله عليه وسلم عما وقع له، ويمكن أنه ظهرت الكراهية في وجهه عليه الصلاة والسلام عندما صنع عمر أيضاً لكن عمر لشدة غضبه ما شعر أو حلم عليه الصلاة والسلام لما رأى به من الشدة. (فلا تختلفوا) أي أيها الصحابة أو أيها الأمة وصدقوا بعضكم بعضاً في الرواية بشروطها المعتبرة قاله القاري، وقال القسطلاني: أي لا تختلفوا اختلافاً يؤدي إلى الكفر أو البدعة كالاختلاف في نفس القرآن، وفيما جازت قراءته بوجهين وفيما يوقع في الفتنة أو الشبهة. (فإن من كان قبلكم) أي من بني إسرائيل (اختلفوا) بتكذيب بعضهم بعضاً (فهلكوا) أي باختلافهم وفي رواية فأهلكوا بضم أوله وفي أخرى فأهلكهم أي الله بسبب الاختلاف. قال الحافظ: وعند ابن حبان والحاكم (ج2ص224) من طريق زر بن حبيش عن ابن مسعود في هذه القصة فإنما أهلك من كان قبلكم الاختلاف-انتهى. وكذا وقع عند أحمد (ج1ص419) وفي رواية أخرى له (ج1ص421، 542) فإنما هلك أو أهلك من كان قبلكم بالاختلاف. قال الحافظ: وفي الحديث الحض على الجماعة والتحذير من الفرقة والاختلاف والنهي عن المراء في القرآن بغير حق، ومن شر ذلك أن يظهر دلالة الآية على شيء يخالف الرأي فبتوسل بالنظر وتدقيقه إلى تأويلها وحملها على ذلك الرأي ويقع اللجاج في ذلك والمناضلة عليه- انتهى. (رواه البخاري) في أول الخصومات وفي ذكر بني إسرائيل وفي آخر فضائل القرآن من طريق عبد الملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة عن عبد الله بن مسعود،

2235- (3) وعن أبي بن كعب، قال: ((كنت في المسجد، فدخل رجل يصلي، فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه، فلما قضينا الصلاة، دخلنا جميعاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه. فأمرهما النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ، فحسن شأنهما فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية، ـــــــــــــــــــــــــــــ واللفظ المذكور له في الخصومات وأخرجه أيضاً أحمد من هذا الطريق (ج1ص393، 411- 412، 456) قال العيني: وأخرجه النسائي في فضائل القرآن. 2235- قوله: (كنت في المسجد) أي النبوي (فدخل رجل) وعند أحمد (ج5ص124) والطبري والبيهقي (ج2ص385) من وجه آخر إن هذا الرجل هو عبد الله بن مسعود والله أعلم (يصلي) استئناف أو حال (فقرأ قراءة أنكرتها عليه) أي بالجنان أو باللسان (ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه) أي فانكرتها عليه أيضاً. وقيل: الظاهر إنه لم تكن قراءة هذا الآخر منكرة عند أبي وإلا لذكر الإنكار عليه أيضاً (فلما قضينا الصلاة) دل على أن أبيا أيضاً كان في الصلاة، والظاهر إنها صلاة الضحى أو نحوها من النوافل قاله القاري (دخلنا جميعاً) أي كلنا أو مجتمعون (على رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي في حجرة من حجراته (فقرأ) بلفظ التثنية أي كلاهما (فحسن) من التحسين (شأنهما) أي قال كلا كما محسن أو قال لكل واحد منهما أحسنت وعند البيهقي فقال أحسنتما أو أصبتما، وفي رواية لعبد الله بن أحمد قال: قد أحسنتم (فسقط في نفسي من التكذيب) أي خطر في قلبي من التكذيب من جهة تحسينه صلى الله عليه وسلم قراءتهما ظناً مني إن كلام الله الواحد يكون على وجه واحد ولا يجوز أن يقرأه كل رجل كيفما شاء (ولا إذ كنت في الجاهلية) أي ولا وقع في نفسي التكذيب والوسوسة إذ كنت في الجاهلية وهذا مبالغة "لأنه كان في الجاهلية جاهلاً فلا يستبعد وقوع التكذيب والوسوسة إذ ذاك. وأما بعد حصول اليقين والمعرفة فهو بعيد وأمر عظيم. قال النووي: معناه وسوس لي الشيطان تكذيباً للنبوة أشد مما كنت عليه في الجاهلية، لأنه في الجاهلية كان غافلاً أو متشككاً فوسوس له الشيطان الجزم بالتكذيب. وقال القاضي عياض: معنى قوله "سقط في نفسي" إنه اعترته حيرة ودهشة قال: وقوله: "ولا إذ كنت في الجاهلية" معناه إن الشيطان نزغ في نفسه تكذيباً لم يعتقده قال: وهذه الخواطر إذا لم يستمر عليها لا يواخذ بها. قال القاضي قال المازري: معنى هذا إنه وقع في نفس أبي بن كعب نزغة من الشيطان غير مستقرة ثم زالت في الحال حين ضرب

فلما رآى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد غشبني، ضرب في صدري، ففضت عرقاً، وكأنما أنظر إلى الله فرقاً، فقال لي: يا أبي: أرسل إلى: أن أقرأ القرآن على حرف. فرددت إليه: أن هون على أمتي، ـــــــــــــــــــــــــــــ النبي صلى الله عليه وسلم بيده في صدره ففاض عرقاً- انتهى. وقال الطيبي: يعني وقع في خاطري من تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم لتحسينه بشأنهما تكذيباً أكثر من تكذيبي إياه قبل الإسلام لأنه كان قبل الإسلام غافلاً أو مشككاً. وإنما استعظم هذه الحالة لأن الشك الذي داخله في أمر الدين إنما ورد على مورد اليقين. وقيل: فاعل سقط محذوف أي وقع في نفسي من التكذيب ما لم أقدر على وصفه ولم أعهد بمثله ولا وجدت مثله إذ كنت في الجاهلية وكان أبي من أكابر الصحابة وكان ما وقع له نزغة من نزغات الشيطان، فلما ناله بركة يد النبي صلى الله عليه وسلم زال عنه الغفلة والإنكار وصار في مقام الحضور والمشاهدة-انتهى. قلت: وفي رواية عند أحمد ما تخلج في نفسي من الإسلام ما تخلج يومئذ، وفي أخرى ما حك في صدري شيء منذ أسلمت إلا إني قرأت آية وقرأها رجل آخر غير قراءتي-الحديث. وفي رواية عند الطبري فوجدت في نفسي وسوسة الشيطان حتى أحمر وجهي فضرب في صدري فقال اللهم اخسأ عنه الشيطان (فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد غشيني) أي اعترافي وحصل لي من وسوسة الشيطان ونزغته (ضرب في صدري) قال القاضي: ضربه صلى الله عليه وسلم في صدره تثبيتاً له حين رآه قد غشيه ذلك الخاطر المذموم (ففضت) بكسر الفاء الثانية وسكون الضاد المعجمة (عرقاً) بالتحريك تمييز أي فجري وسأل عرقي من جميع بدني من فاض الماء يفيض فيضاً إذا كثر حتى سأل وهذا أبلغ من فاض عرقي، فإن في الأول إشارة إلى أن العرق فاض منه حتى كأن النفس فاضت منه، ومثله قول القائل سألت عيني دمعاً (وكأنما أنظر إلى الله فوقاً) أي خوفاً. قيل: تمييز والأظهر إن نصبه على المفعول له قاله القاري. قال التوربشتي. الفرق بالتحريك الخوف أي أصابني من خشية الله والهيبة فيما قد غشيني ما أوقفني موقف الناظر إلى الله إجلالاً وحياء. وقال الطيبي: كان أبي رضي الله عنه من أفضل الصحابة ومن الموقنين وإنما طرأ عليه ذلك التلويث بسبب الاختلاف نزغة من الشيطان، فلما أصابته بركة ضربه صلى الله عليه وسلم بيده على صدره ذهبت تلك الهاجسة وخرجت مع العرق فرجع إلى اليقين، فنظر إلى الله تعالى خوفاً وخجلاً مما غشيه من الشيطان (فقال لي) أي تسكيناً وتبييناً (أرسل إلى) على بناء المجهول أي أرسل الله جبريل، وفي بعض النسخ من المشكاة على بناء المعلوم أي أرسل الله إلى قاله القاري قلت: وعند أحمد إن ربي تبارك وتعالى أرسل إلى (أن أقرأ القرآن) بلفظ الأمر أو المتكلم المعلوم. قال الطيبي: "إن" مفسرة وجوز كونها مصدرية على مذهب سيبويه وإن كانت داخلة على الأمر (فرددت إليه) أي جبريل إلى الله تعالى (أن هون) أي سهل ويسر. قال

فرد إلى الثانية: أقرأه على حرفين: فرددت إليه: أن هون على أمتي، فرد إلى الثالثة: أقرأه على سبعة أحرف، ولك بكل ردة رددتكها مسألة تسألينها، فقلت: اللهم اغفر لأمتي، اللهم اغفر لأمتي، ـــــــــــــــــــــــــــــ القاري "أن" مصدرية ولا يضر كون مدخولها أمراً، لأنها تدخل عليه عند سيبويه، أو مفسرة لما في رددت من معنى القول يقال رد إليه إذا رجع قلت قال الأبي: إن مفسرة لأن رددت في معنى القول وهو رجع أي فرجعت إليه القول إن هوّن من معنى قوله في الحديث الآخر (عند مسلم) فقلت اسأل الله معافاته ومغفرته (فرد إلى الثانية) ماض مجهول أو معلوم أي رد الله إلى إلإرسالة الثانية (اقرأه) بصيغة الأمر أو المتكلم وهو بدون إن في جميع النسخ الحاضرة من المشكاة، وفي مسلم إن أقرأه أي بإثبات أن وكذا نقله في جامع الأصول (ج3ص34) وهكذا وقع في مسند الإمام أحمد والسنن للبيهقي. (فرد إلى الثالثة أقرأه على سبعة أحرف) كذا في هذه الرواية، وهي رواية عبد الله بن عيسى عن عبد الرحمن بن أبي ليلي عن أبي بن كعب، ووقع في طريق مجاهد عن ابن أبي ليلي عند مسلم أيضاً بعده ثم جاءه الرابعة، فقال إن الله يأمرك أن تقرأ أن أمتك القرآن على سبعة أحرف. قال النووي: هذا مما يشكل معناه. وأقرب ما يقال في الجمع بين الروايتين إن قوله في الرواية الأولى "فرد إلى الثالثة" المراد بالثالثة الأخيرة وهي الرابعة فسماها ثالثة مجازاً، وحملنا على هذا التأويل تصريحه في الرواية الثانية إن الأحرف السبعة إنما كانت في المرة الرابعة وهي الأخيرة ويكون قد حذف في الرواية الأولى أيضاً بعض المرات- انتهى (ولك بكل ردة رددتكها) قال النووي: هذا يدل على سقط في الرواية الأولى ذكر بعض الرواة الثلاث وقد جاءت مبينة في الرواية الثانية- انتهى. أي لك بمقابلة كل دفعة رجعت إلى ورودتكها بمعنى أرجعتك إليها بحيث ما هونت على أمتك من أول الأمر (مسألة تسألنيها) أي إجابة مسألة أي مسألة كانت. وقال النووي: معناه مسألة مجابة قطعاً. وأما باقي الدعوات فمرجوة ليست قطعية الإجابة. وقال الأبي تقدم (أي في كتاب الإيمان) ما في حديث لكل نبي دعوة إن معناه إن تلك الدعوة محققة الإجابة وإن غيرها على الرجاء وإن كونها محققة الإجابة لا يمنع من قبول غيرها ومن قبول غيرها هذا الحديث، لأنه لو لم تكن الأولى والثانية هنا مقبولتين لم يكن لقوله لك بكل ردة مسألة فائدة. وقال الطيبي: أي ينبغي لك أن تسألنيها فأجيبك إليها (اللهم اغفر لأمتي اللهم اغفر لأمتي) قالها مرتين قيل: الأولى لأهل الكبائر والأخرى لأهل الصغائر. وقيل: بالعكس. وقيل: لما انقسم المحتاج إلى المغفرة من أمته إلى مُفَرِّط ومُفْرِط استغفر صلى الله عليه وسلم للمقتصد المَفّرِّط في الطاعة وأخرى للظالم المفرط في المعصية، أو الأولى للخواص لأن كل أحد لا يخلو عن تقصير ما في حقه تعالى كما قال تعالى: {كلا لما يقض ما أمره}

وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلى الخلق كلهم حتى إبراهيم عليه السلام)) . رواه مسلم. 2236- (4) وعن ابن عباس، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((أقرأني جبريل على حرف، فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني: حتى انتهت إلى سبعة أحرف. قال ابن شهاب، ـــــــــــــــــــــــــــــ [عبس:23] والثانية للعوام، أو الأولى في الدنيا، والأخرى في العقبي. (وأخرت الثالثة) أي المسألة الثالثة وهي الشفاعة الكبرى (ليوم) أي لأجل يوم أو إلى يوم (يرغب إلى) بتشديد الياء أي يحتاج إلى شفاعتي (الخلق كلهم) حين يقولون نفسي نفسي (حتى إبراهيم عليه السلام) بالرفع معطوف على الخلق، وفيه دليل على رفعة إبراهيم على سائر الأنبياء وتفضيل نبينا على الكل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين (رواه مسلم) من طريق عبد الله بن عيسى عن ابن أبي ليلي عن أبي بن كعب، وأخرجه أيضاً أحمد (ج5ص127، 128، 129) والبيهقي (ج2ص383) وأخرجه أبوداود والنسائي في الصلاة والطحاوي في مشكله (ج4ص191) ومسلم وأحمد (ج5ص127) أيضاً من طريق مجاهد عن ابن أبي ليلي نحوه. 2236- قوله: (وعن ابن عباس قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال) قال الحافظ: هذا مما لم يصرح ابن عباس بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه سمعه من أبي بن كعب فقد أخرج النسائي من طريق عكرمة بن خالد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب نحوه، والحديث مشهور عن أبي أخرجه مسلم وغيره من حديثه كما تقدم وسيأتي أيضاً (أقرأني جبريل) عليه السلام القرآن (على حرف) واحد أي أولاً (فراجعته) أي الله أو جبريل، وفي رواية أبي التقدمة فرددت عليه أن هون على أمتي، وفي رواية له عند مسلم أيضاً إن أمتي لا تطيق ذالك (فلم أزل أستزيده) أي أطلب من الله الزيادة أو أطلب من جبريل أن يطلب من الله الزيادة في الأحرف للتوسعة والتخفيف (ويزيدني) أي ويسأل جبرئيل ربه تعالى فيزيدني (حتى انتهي) أي طلب الزيادة والإجابة أو أمر القرآن (إلى سبعة أحرف) أي أوجه يجوز أن يقرأ بكل وجه منها. وقد تقدم الكلام في المراد منه وتحقيق ما هو الراجح منه، وفي رواية سليمان بن صرد عن أبي عند عبد الله بن أحمد (ج5ص124) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبي إن ملكين أتياني فقال أحدهما أقرأ على حرف فقال الآخر زده فقلت زدني قال اقرأ على حرفين فقال الآخر زده قال اقرأ على ثلاثة فقال الآخر زده فقلت زدني قال اقرأ على أربعة أحرف قال الآخر زده قلت زدني، قال اقرأ على خمسة أحرف، قال الآخر زده قلت زدني، قال اقرأ على ستة، قال الآخر زده قال اقرأ على سبعة أحرف، فالقرآن أنزل على سبعة أحرف (قال ابن شهاب) أي الزهري راوي الحديث (عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس)

بلغني أن تلك السبعة الأحرف إنما هي في الأمر تكون واحداً لا تختلف في حلال ولا حرام. ـــــــــــــــــــــــــــــ (بلغني) وجعل في رواية أحمد والبيهقي القول الآتي من كلام الزهري نفسه حيث وقع فيها عقب الحديث. قال الزهري: وإنما هذه الأحرف الخ (إن تلك سبعة الأحرف) بالنصب على الوصفية. وقيل: بالجر على الإضافة (في الأمر تكون واحداً لا تختلف في حلال ولا حرام) كذا في جميع النسخ الحاضرة من المشكاة والذي في صحيح مسلم "في الأمر الذي يكون واحداً لا يختلف في حلال ولا حرام" وهكذا وقع في جامع الأصول (ج3ص38) والفتح، وعند الطحاوي "إن تلك السبعة الأحرف إنما تكون في الأمر الذي يكون واحداً لا يختلف في حلال ولا حرام" ولأحمد والبيهقي "وإنما هذه الأحرف في الأمر الواحد وليس يختلف في حلال ولا حرام" ومعنى هذا الكلام إن مرجع الجميع واحد في المعنى، وإن اختلف اللفظ في هيأته، وأما الإختلاف بأن يصير المثبت منفياً والحلال حراماً فذلك لا يجوز في القرآن. قال تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} [النساء: 82] وهذا لما كان من عند الله فلم يجدوا فيه اختلافاً يسيراً، وكأن ابن شهاب قصد بذلك رد ما سبق في شرح حديث عمر من قول طائفة في بيان معنى الحديث، إن المراد بالأحرف السبعة إن القرآن أنزل على سبعة أصناف من الكلام. واختلف القائلون به فقيل أمر ونهى وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال، واحتجوا بما ذكرنا هناك من حديث ابن مسعود، وعند أبي عبيد وغيره مرفوعاً. قال كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف زاجر وآمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال-الحديث. وقد تقدم إن هذا الحديث منقطع وأجاب عنه آخرون من جهة النظر فقال البيهقي: إن صح فمعنى قوله في هذا الحديث سبعة أحرف أي سبعة أوجه كما فسرت في الحديث، وليس المراد الأحرف السبعة التي تقدم ذكرها في الأحاديث الأخرى، لأن سياق تلك الأحاديث يأبى حملها على هذا، بل هي ظاهرة في أن المراد إن الكلمة الواحدة تقرأ على الوجهين وثلاثة وأربعة إلى سبعة تهوينا وتيسيراً، والشيء الواحد لا يكون حراماً وحلالاً في حالة واحدة. وقال ابن أبي عمر: إن من أول السبعة الأحرف بهذا فهو عندي فاسد، وممن ضعف هذا القول ابن عطية، فقال الإجماع على أن التوسعة لم تقع في تحليل حرام ولا تحريم حلال ولا في تغيير شيء من المعاني المذكورة، وبه صرح الماوردي حيث قال هذا القول خطأ لأنه صلى الله عليه وسلم أشار إلى جواز القراءة بكل واحد من الحروف وإبدال حرف بحرف. وقد اجمع المسلمون على تحريم إبدال آية أمثال بآية أحكام. وقال أبوعلي الأهوازي وأبوالعلاء الهمداني: قوله في الحديث زاجر وآمر الخ. استئناف كلام آخر أي هو زاجر أي القرآن ولم يرد به تفسير الأحرف السبعة، وإنما توهم ذلك من توهمه من جهة الاتفاق في العدد، ويؤيده أنه جاء في بعض طرقه زاجراً وآمراً بالنصب أي نزل من سبعة أبواب على سبعة أحرف حال كونه زاجراً الخ. وقال أبوشامة: يحتمل أن التفسير المذكور للأبواب لا للأحرف أي هي سبعة أبواب من

{الفصل الثاني}

متفق عليه. {الفصل الثاني} 2237- (5) عن أبي بن كعب، قال: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبرئيل، فقال: ((يا جبرئيل! إني بعثت إلى أمة أميين، منهم العجوز، والشيخ الكبير، والغلام، والجارية، والرجل الذي لم يقرأ كتاباً قط. قال: يا محمد! إن القرآن أنزل على سبعة أحرف)) . رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ أبواب الكلام وأقسامه أي أنزله الله على هذه الأصناف لم يقتصر منها على صنف واحد كغيره من الكتب-انتهى. قال القاري: وهو الظاهر المتبادر. وقال الحافظ: ومما يوضح أن قوله زاجر وآمر الخ ليس تفسير للأحرف السبعة ما وقع في مسلم من طريق يونس عن ابن شهاب عقب حديث ابن عباس، قال ابن شهاب: بلغني أن تلك الأحرف السبعة الخ (متفق عليه) أخرجه البخاري في ذكر الملائكة من بدء الخلق وفي فضائل القرآن ومسلم في فضائل القرآن وبلاغ الزهري من أفراد مسلم، والحديث مع هذه الزيادة أخرجه أحمد (ج1ص313) والطحاوي في مشكله (ج4ص190) والبيهقي (ج2ص384) وأخرجه أيضاً أحمد (ج1ص263، 264، 299) بدون ذلك. 2237- قوله: (لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبرئيل) أي عند أحجار المراء كما في رواية أحمد (ج5ص132) وكذا وقع في حديث حذيفة عند أحمد (ج5ص385، 400، 405) والبزار كما في مجمع الزوائد (ج7) (ص50) وأحجار المراء موضع بقباء قاله المجد. وقال في النهاية: فيه إنه صلى الله عليه وسلم كان يلقي جبرئيل بأحجار المراء. قال مجاهد: هي قباء، وقد تقدم أنه وقع في رواية مجاهد عن ابن أبي ليلي عن أبي بن كعب عند مسلم وغيره إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عند إضاءة بني غفار، فأتاه جبريل- الحديث. (إني بعثت) بصيغة المجهول (إلى أمة أميين) أي لا يحسنون القراءة للمكتوب. قال تعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم} [الجمعة: 2] والأمي من لا يكتب ولا يقرأ كتاباً، وقال - صلى الله عليه وسلم -: إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، أراد أنهم على أصل ولادة أمهم لم يتعلموا الكتابة والحساب فهم على جبلتهم الأولى (منهم العجوز) بفتح المهملة وهي المرأة المسنة (والشيخ الكبير) وهما عاجزان عن التعلم للكبر (والغلام والجارية) وهما غير متمكنين من القراءة للصغر (والرجل الذي لم يقرأ كتاباً قط) المعنى إني بعثت إلى أمة أميين منهم هؤلاء المذكورون فلو اقرأتهم على قراءة واحدة لا يقدرون عليها (قال يا محمد إن القرآن انزل على سبعة أحرف) أي فليقرأ كل بما يسهل عليه (رواه الترمذي) في القراءات

وفي رواية لأحمد، وأبي داود قال: ليس منها إلا شاف كاف وفي رواية للنسائي، قال: إن جبرئيل وميكائيل أتياني، فقعد جبرئيل عن يميني وميكائيل عن يساري، فقال جبرئيل: اقرأ القرآن على حرف، قال ميكائيل: استزده حتى بلغ سبعة أحرف، فكل حرف شاف كاف. 2238- (6) وعن عمران بن حصين، إنه مر على قاص يقرأ ثم يسأل. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأخرجه أيضاً أحمد (ج5ص132) كلاهما من رواية عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. قلت: عاصم هذا. قال في التقريب إنه صدوق له أوهام وحديثه في الصحيحين مقرون. وقال العجلي: كان يختلف عليه في زر وأبي وائل. قلت: قد اختلف هنا على عاصم. فقال شيبان النحوي وزائدة عن عاصم عن زر عن أبي بن كعب. وقال حماد بن سلمة: عنه عن زر عن حذيفة، أخرجه احمد (ج5ص400، 405) والطحاوي في مشكله (ج4ص183) والبزار، والحديث مشهور عن أبي. قال القاري: الظاهر إن رواية أبي عن جبرئيل هذا الإجمال رواية عنه بالمعنى والظاهر إن أبياً سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - يحكي عن جبريل ما مر عنه من التفصيل إنه لم يزل يستزيده حتى انتهى إلى السبعة فروى هنا حاصل ذلك فهو إنه بعد الاستزادة نزل على سبعة أحرف (وفي رواية لأحمد) (ج5ص124) أخرجاها من طريق سليمان بن صرد عن أبي بن كعب وأخرجها أيضاً الطحاوي (ج4ص189) وقد سكت عنها أبوداود والمنذري (قال) أي جبريل بعد قوله سبعة أحرف (ليس منها) أي ليس حرف من تلك الأحرف (إلا شاف) أي لأمراض الجهل (كاف) في أجزاء الصلاة أو شاف للعليل في فهم المقصود كاف للإعجاز في إظهار البلاغة. وقيل: أي شاف لصدور المؤمنين للاتفاق في المعنى وكاف في الحجة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم كذا في المرقاة (وفي رواية للنسائي) أخرجها من طريق أنس عن أبي بن كعب، وأخرجها أيضاً أحمد (ج5ص122) (فقال) لي (جبريل اقرأ القرآن على حرف) واحد (قال ميكائيل استزده) أي اطلب زيادة قراءة القرآن على حرف واحد من الله، أو من جبريل ليعرض على الله بناء على أنه واسطة ثم لا يزال يقول له ذلك. وهو يطلب الزيادة ويجاب. (حتى بلغ سبعة أحرف فكل حرف شاف) أي في إثبات المطلوب للمؤمنين (كاف) في الحجة على الكافرين. 2238- قوله: (مر على قاص) بتشديد الصاد وهذا لفظ أحمد، وعند الترمذي مر على قاري، والقاص من يحكي القصص والأخبار، ويطلق القصاص على الوعاظ أيضاً. والمراد به هنا الواعظ بالقرآن بقرينة ما بعده (يقرأ) أي القرآن على قوم وهو حال (ثم يسأل) أي يطلب منهم شيئاً من مال الدنيا بالقرآن وقوله

{الفصل الثالث}

فاسترجع ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من قرأ القرآن فليسأل الله به، فإنه سيجيء أقوام يقرؤن القرآن يسألون به الناس)) . رواه أحمد والترمذي. {الفصل الثالث} 2239- (7) عن بريدة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ القرآن يتأكل به الناس، جاء يوم القيامة ووجهه عظم ليس عليه لحم)) . رواه البيهقي "في شعب الإيمان" ـــــــــــــــــــــــــــــ يسأل بلفظ: المضارع في جميع النسخ الحاضرة من المشكاة، وكذا نقله الجزري عن الترمذي والذي في نسخ الترمذي الموجودة عندنا، ثم سأل أي بلفظ الماضي، وهكذا وقع عند أحمد (فاسترجع) أي قال عمران {إنا لله وإنا إليه راجعون} [البقرة: 156] لابتلاء القاص بهذا المصيبة التي هي السؤال من أموال الناس بالقرآن، لأنه بدعة ومعصية، وظهور البدعة والمعصية بين المسلمين مصيبة. أو لابتلاء عمران بمشاهدة هذه الحالة الشنيعة وهي مصيبة. (من قرأ القرآن فليسأل الله به) أي فليطلب من الله تعالى بالقرآن ما شاء من أمور الدنيا والآخرة، لا من الناس. أو المراد أنه إذا مر بآية رحمة فليسألها من الله تعالى، أو بآية عقوبة فيتعوذ إليه بها منها. وإما أن يدعوا الله عقيب القراءة بالأدعية الماثورة، وينبغي أن يكون الدعاء في أمر الآخرة وإصلاح المسلمين في معاشهم ومعادهم. (فإنه) أي الشأن (سيجيء أقوام يقرؤن القرآن يسألون به الناس) أي بلسان القال أو ببيان الحال (رواه أحمد) (ج4ص432، 436، 439، 445) (والترمذي) في فضائل القرآن كلاهما عن خيثمة بن أبي خيثمة البصري عن الحسن البصري عن عمران بن حصين، وخيثمة هذا قال في التقريب عنه لين الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الترمذي: هذا حديث حسن. وقد أخرجه أيضاً الطبراني في الكبير والبيهقي في شعب الإيمان كما في الكنز. 2239- قوله: (من قرأ القرآن يتأكل به الناس) أي يطلب به الأكل من الناس. قال الطيبي: يعني يستأكل كتعجل بمعنى استعجل، والباء في "به" للآلة أي أموالهم (جاء يوم القيامة ووجهه عظم) بفتح العين وسكون الظاء (ليس عليه لحم) أي من جعل القرآن وسيلة إلى حطام الدنيا جاء يوم القيامة على أقبح صورة وأسوأ حالة حيث عكس، وجعل أشرف الأشياء وأعزها واسطة إلى أذل الأشياء وأحقرها، وذريعة إلى أردئها وأدونها، وفي الحديث وعيد شديد لمن يستأكل بالقرآن (رواه البيهقي في شعب الإيمان) قال العزيزي: بإسناد ضعيف وقد أخرج أبوعبيد في فضائل القرآن عن أبي سعيد وصححه الحاكم رفعه تعلموا القرآن وأسألوا الله به،

2240- (8) وعن ابن عباس، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه {بسم الله الرحمن الرحيم} رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ قبل أن يتعلمه قوم يسألون به الدنيا، فإن القرآن يتعلمه ثلاث نفر، رجل يباهي به، ورجل يستأكل به، ورجل يأكله لله. وأخرجه أحمد وأبو يعلى والبزار عن عبد الرحمن بن شبل رفعه إقرؤه القرآن ولا تغلوا فيه ولا تجفوا عنه ولا تأكلوا به- الحديث. قال الحافظ: سنده قوى. وقال الهيثمي: رجال أحمد ثقات. وأخرج أبوعبيد عن عبد الله بن مسعود سيجيء زمان يسئل فيه بالقرآن فإذا سألوكم فلا تعطوهم. وأخرج الطبراني في الأوسط (عن شيخة المقدام بن داود وهو ضعيف) عن أبي هريرة رفعه إقرؤا القرآن ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به ولا تخفوا عنه-الحديث. وهذه الأحاديث شواهد لحديث بريدة وحديث عمران بن حصين المتقدم في الفصل الثاني. 2240- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يعرف فصل السورة) بالصاد المهملة أي انفصالها وانقضاءها أو فصلها عن سورة أخرى (حتى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم) ورواه الحاكم بلفظ: كان لا يعلم ختم السورة حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم، ورواه البزار بلفظ: كان لا يعرف خاتمة السورة حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم فإذا نزل بسم الله الرحمن الرحيم علم أن السورة قد ختمت واستقبلت وابتدئت سورة أخرى. واستدل به الحنفية لما هو المختار عندهم في هذه المسئلة من أن البسملة آية مستقلة في القرآن وليست آية من الفاتحة ولا من غيرها من السور، وإنما أنزلت لافتتاح القراءة بها، وللفصل بين السورتين. قال الطيبي: هذا الحديث وما سرد في آخر هذا الباب دليلان ظاهر أن على أن البسملة آية من كل سورة أنزلت مكررة للفصل. قال صاحب اللمعات: في دلالتهما على أنها جزء من كل سورة كما هو مذهب الشافعي خفاء ظاهر نعم يدلان على أنها من القرآن أنزلت للفصل كما هو مذهبنا والله أعلم. قلت: ويدل على كونها آية من القرآن في كل موضع كتبت فيه إجماع المسلمين على أن ما بين الدفتين كلام الله تعالى والوفاق على إثباتها في المصاحف بخط القرآن مع المبالغة في تجريد القرآن عما ليس منه أسماء السور وأعداد الآي ولفظة آمين، واتفاق أئمة القراءات على قراءة البسملة في ابتداء كل سورة سواء الفاتحة أو غيرها من السور سوى براءة هذا. وقد تقدم الكلام في ذلك في باب القراءة في الصلاة فراجعة (رواه أبوداود) في الصلاة من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس وسكت عنه، ورواه أيضاً في مراسيله عن سعيد بن جبير أي مرسلاً. وقال المرسل أصح وأخرجه أيضا الحاكم (ج1ص231) والبيهقي (ج2ص42) قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. وقال الذهبي في تلخيصه: قلت: أما هذا فثابت، ورواه البزار أيضاً. قال الهيثمي (ج60ص310) بإسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيح.

2241- (9) وعن علقمة، قال كنا بحمص، فقرأ ابن مسعود سورة يوسف، فقال رجل: ما هكذا أنزلت. فقال عبد الله: ((والله لقرأتها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أحسنت فبينا هو يكلمه إذا وجد منه ريح الخمر. فقال: أتشرب الخمر. وتكذب بالكتاب؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ 2241- قوله: (وعن علقمة) بن قيس النخعي أنه (قال كنا بحمص) بكسر الحاء وسكون الميم وهو غير منصرف، وقد ينصرف بلدة من بلاد الشام مشهورة (فقرأ ابن مسعود سورة يوسف) قال الحافظ: قوله "كنا بحمص" فقرأ ابن مسعود الخ هذا ظاهره إن علقمة حضر القصة، وكذا أخرجه الإسماعيلي، وأخرجه أبونعيم فقال فيه عن علقمة قال كان عبد الله بحمص. وقد أخرجه مسلم بلفظ: عن علقمة عن عبد الله قال كنت بحمص فقرأت فذكر الحديث، وهذا يقتضي إن علقمة لم يحضر القصة وإنما نقلها عن ابن مسعود وكذا أخرجه أبوعوانة ولفظه كنت جالساً بحمص. وعند أحمد (ج1ص378) عن عبد الله أنه قرأ سورة يوسف بحمص (فقال رجل ما هكذا أنزلت) أي السورة ولم يعرف الحافظ اسم هذا الرجل المبهم نعم، قيل أنه نهيك بن سنان. قال الحافظ: ولم أر ذلك صريحاً، وفي رواية مسلم فقال لي بعض القوم إقرأ علينا فقرأت عليهم سورة يوسف، فقال رجل من القوم والله ما هكذا أنزلت وعند أحمد (ج1ص425) عن علقمة قال أتى عبد الله الشام فقال له ناس من أهل حمص إقرأ علينا فقرأ عليهم سورة يوسف فقال رجل من القوم والله ما هكذا أنزلت، وفيه مبهم آخر وهو السائل ولم يعرف اسمه أيضاً (فقال عبد الله والله لقرأتها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي في حضرته وهو يسمع وهذا السياق هكذا وقع في جميع نسخ المشكاة الحاضرة عندنا، والذي في صحيح البخاري قال "قرأت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وفي رواية مسلم "قال قلت: ويحك والله لقد قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم" وعند أحمد (ج1ص425) "فقال عبد الله ويحك والله لقد قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا" وله أيضاً (ج1ص378) "قال: والله لكهذا أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم" (فقال) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم لي (أحسنت) هذه منقبة عظيمة لم يذكرها افتخاراً بل تحديثاً بنعمة الله واحتجاجاً على عدو الله (فبينا هو) أي ابن مسعود (يكلمه) أي ذلك الرجل ويحتمل العكس قاله القاري (إذ وجد) أي ابن مسعود (منه) أي من ذلك الرجل (ريح الخمر) قوله فبينا هو يكلمه الخ، كذا وقع في جميع النسخ من المشكاة وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج3ص40) والمجد بن تيمية في المنتقى ولفظ البخاري "فقال أحسنت ووجد منه ريح الخمر" ولمسلم "فبينما أنا أكلمه إذ وجدت منه ريح الخمر" والظاهر إن المصنف تبع في ذلك الجزري (فقال) في رواية مسلم قال فقلت (أتشرب الخمر وتكذب بالكتاب) هذا لفظ مسلم، وللبخاري "فقال: أتجمع أن تكذب بكتاب الله وتشرب الخمر" قال في اللمعات. لا شك إن ما ثبت كونه من كتاب الله

فضربه الحد)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ يقيناً تكذيبه كفر، وكان ذلك معلوماًُ قطعاً عند الصحابة، خصوصاً لأمثال ابن مسعود وبعدهم يثبت ذلك بالتواتر. وقد ادعى الجمهور ذلك في القراءات السبع، وبعضهم في العشرة وإن لم يكن ما قرأ ابن مسعود في هذه القصة من هذا القبيل، فإطلاق تكذيب الكتاب المستلزم للكفر تغليظ وتشديد، ولذا لم يحكم بارتداده والله أعلم – انتهى. وسيأتي مزيد الكلام في ذلك (فضربه الحد) أي فضربه ابن مسعود حد شرب الخمر وهذا لفظ البخاري، وفي رواية مسلم "لا تبرح حتى أجلدك قال فجلدته الحد" وفي رواية لأحمد "لا أدعك حتى أجلدك حداً قال فضربه الحد" قال النووي: هذا محمول على أن ابن مسعود كانت له ولاية إقامة الحدود نيابة عن الإمام إما عموماً وإما خصوصاً. وعلى أن الرجل اعترف بشربها بلا عذر وإلا فلا يجب الحد بمجرد ريحها. وعلى أن التكذيب كان بإنكار بعضه جاهلاً إذ لو كذب به حقيقة لكفر فقد أجمعوا على أن من جحد حرفاً مجمعاً عليه من القرآن كفر – انتهى. قال الحافظ: الاحتمال الأول جيد ويحتمل أيضاً أن يكون قوله فضربه الحد أي رفعه إلى الأمير فضربه فأسند الضرب إلى نفسه مجازاً لكونه كان سبباً فيه. وقال القرطبي: إنما أقام عليه الحد لأنه جعل له ذلك من له الولاية أو لأنه رأى أنه قال عن الإمام بواجب أو لأنه كان ذلك في زمان ولايته الكوفة فإنه وليها في زمن عمر وصدراً من خلافة عثمان – انتهى. والاحتمال الثاني موجه وفي الأخير غفلة عما في أول الخبر إن ذلك كان بحمص ولم يلها ابن مسعود وإنما دخلها غازياً وكان ذلك في خلافة عمر. وأما الجواب الثاني عن الرائحة فيرده النقل عن ابن مسعود إنه كان يرى وجوب الحد بمجرد وجود الرائحة، وقد وقع مثل ذلك لعثمان في قصة الوليد بن عقبة، ووقع عند الإسماعيلي أثر هذا الحديث النقل عن علي أنه أنكر على ابن مسعود جلده الرجل بالرائحة وحدها إذ لم يقر ولم يشهد عليه. وقال القرطبي: في الحديث حجة على من يمنع وجوب الحد بالرائحة كالحنفية وقد قال به مالك وأصحابه وجماعة من أهل الحجاز. قلت: (قائله الحافظ) والمسئلة خلافية شهيرة وللمانع أن يقول إذا احتمل أن يكون أقر سقط الاستدلال بذلك، ولما حكى الموفق في المغنى (ج8ص309) الخلاف في وجوب الحد بمجرد الرائحة اختار أن لا يحد بالرائحة وحدها، بل لا بد معها من قرينة كان يوجد سكران أو يتقيأها ونحوه أن يوجد جماعة شهر وبالفسق ويوجد معهم خمر، ويوجد من أحدهم رائحة الخمر. وحكى ابن المنذر عن بعض السلف أن الذي يجب عليه الحد بمجرد الرائحة من يكون مشهوراً بإدمان شرب الخمر. وأما الجواب عن الثالث فجيد أيضاً لكن يحتمل أن يكون ابن مسعود كان لا يرى بمؤاخذة السكران بما يصدر منه من الكلام في حال سكره. وقال القرطبي: يحتمل أن يكون الرجل كذب ابن مسعود ولم يكذب بالقرآن وهو الذي يظهر من قوله ما هكذا أنزلت فإن ظاهره إنه أثبت إنزالها ونفي الكيفية التي أوردها ابن مسعود. وقال الرجل ذلك إما جهلاً منه أو قلة حفظ أو عدم تثبت بعثه عليه السكر – انتهى. وقال القاري: ظاهر الحديث

متفق عليه. 2242- (10) وعن زيد بن ثابت، قال: ((أرسل إلى أبوبكر مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبوبكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى إن استحر القتل ـــــــــــــــــــــــــــــ إنه ضربه حد الخمر بناء على ثبوت شربه بالرائحة وهو مذهب جماعة ومذهبنا ومذهب الشافعي خلافة لأن الريح نحوه التفاح الحامض، وكذا السفرجل يشبه رائحة الخمر ولاحتمال إنه شربها إكراهاً أو اضطراراً، وقد صح الخبر ادرؤا الحد بالشبهات ولعله حصل منه اقراراً أو قام عليه بينة – انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في فضائل القرآن، ومسلم في الصلاة وقد عرفت ما وقع من التصرف من المصنف في ألفاظ الحديث فإن السياق المذكور بتمامه ليس لهما ولا لأحدهما بل بعضه للبخاري وبعضه لمسلم، إلا قوله على عهد رسول الله فإنه ليس لأحد منهما ولم أجد زيادة لفظ "عهد" عند أحد ممن أورد هذا الحديث في كتابه، وقد أخرجه أحمد (ج1ص378، 425) وأبوعوانة وغيرهما. 2242- قوله: (أرسل إلى) بتشديد الياء أي رجلاً. قال الحافظ: لم أقف على اسم الرسول إليه بذلك (أبوبكر) الصديق في خلافته (مقتل أهل اليمامة) هو مفعل من القتل ونصب على أنه ظرف زمان بمعنى أو إن قتلهم، والمراد عقب زمان قتل أهل اليمامة، واليمامة بفتح التحتية وتخفيف الميم اسم مدينة باليمن وسميت باسم المصلوبة على بابها، وهي التي كانت تبصر من مسيرة ثلاثة أيام وتعرف بالزرقاء لزرقة عينها، واسمها عنزة. وقال في النهاية، اليمامة هي الصقع المعروف شرقي الحجاز ومدينتها العظمى حجر اليمامة، والمراد بأهل اليمامة هنا من قتل بها من الصحابة في الوقعة مع مسيلمة ادعى النبوة وقوى أمره بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - بارتداد كثير من العرب فجهز إليه أبوبكر الصديق خالد بن الوليد في جمع كثير من الصحابة فحاربوه أشد محاربة إلى أن خذله الله وقتله وقتل في غضون ذلك من الصحابة جماعة كثيرة. قيل سبع مائة، وقيل أكثر. (فإذا عمر) كلمة "إذا" للمفاجأة أي قال زيد فجئته فإذا عمر (عنده) أي عند أبي بكر (قد استحر) بسين مهملة ساكنة ومثناة مفتوحة بعدها حاء مهملة مفتوحة ثم راء ثقيلة أي اشتد وكثر استفعل من الحر، لأن المكروه غالباً يضاف إلى الحر، كما أن المحبوب يضاف إلى البرد يقولون أسخن الله عينه وأقر عينه ومنه المثل تولى حارها من تولى قارها (يوم اليمامة) أي وقعة اليمامة أو يوم القتال الواقع في اليمامة (بقراءة القرآن) سمى منهم في رواية سفيان عن الزهري عن عبيد عن زيد بن ثابت في فوائد لدعا قولي سالماً مولى أبي حذيفة (وإني أخشى أن استحر القتل) بفتح همزة أن وتكسر وفي البخاري أن يستحر القتل. قال القسطلاني: بلفظ المضارع أي يشتد ولأبي ذر

بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن قلت لعمر: كيف تفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ أن استحر (بالقراء) متعلق بالفعل أو القتل (بالمواطن) أي في المواطن أي الأماكن التي يقع فيها القتال مع الكفار، وفي رواية سفيان وأنا أخشى أن لا يلقى المسلمون زحفاً آخر إلا استحر القتل بأهل القرآن. قال الطيبي قوله " أخشى أن استحر القتل" أي أخشى استحراره. والمراد الزيادة على ما كان يوم اليمامة، لأن الخشية إنما تكون مما لم يوجد من المكاره فقوله (إن استحر" مفعول أخشى، والفاء في "فيذهب" للتعقيب، ويحتمل أن يكون إن بالكسر، والجملة الشرطية دالة على مفعول أخشى (فيذهب كثير من القرآن) بقتل حفظته أي إلا أن يجمعوه قبل أن يقتل الباقون. قال القاري: قوله "فيذهب" في بعض النسخ بالنصب، وهو ظاهر لفظاً ومعنى عطفاً على استحر على أن إن مصدرية وهي الرواية الصحيحة، وفي أكثر النسخ المصححة المقروءة على المشائخ بالرفع مع فتح الهمزة في أن، فقيل رفعه على أنه جواب شرط محذوف أي فإذا استحر فيذهب، أو عطف على محل إني أخشى أي فيذهب حينئذ كثير من القرآن بذهاب كثير من قراء الزمان – انتهى. قال الحافظ: هذا يدل على أن كثيراً ممن قتل في وقعة اليمامة كان قد حفظ القرآن لكن يمكن أن يكون المراد إن مجموعهم جمعة لا أنه كل فرد فرد جمعه (وإن أرى أن تأمر) من الرأي أي أذهب إلى أن تأمر كتبه الوحي (بجمع القرآن) قبل تفرق القراء (قلت) خطاب أبي بكر لعمر حكاه ثانياً لزيد بن ثابت لما أرسل إليه وهو كلام من يؤثر الإتباع وينفر من الابتداع أي قال أبوبكر قلت (لعمر كيف تفعل) بصيغة الخطاب، وقيل بالتكلم أي أنت أو نحن، وفي رواية كيف أفعل (شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم) هذا لا ينافي ما ذكره الحاكم في مستدركه جمع القرآن ثلاث مرات، إحداها بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أخرج بسند على شرط الشيخين عن زيد كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - نؤلف القرآن في الرقاع – الحديث. لأن ذلك الجمع غير الجمع الذي نحن فيه، ولذا قال البيهقي: يشبه أن يكون المراد تأليف ما نزل من الآيات المفرقة في سورها وجمعها فيها بإشارة النبي صلى الله عليه وسلم كذا في المرقاة. قال الحافظ في الفتح قال الخطابي وغيره: يحتمل أن يكون - صلى الله عليه وسلم - إنما لم يجمع القرآن في المصحف لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته، فلما انقضى نزوله بوفاته - صلى الله عليه وسلم - ألهم الله الخلفاء الراشدين ذلك وفاء لوعده الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة المحمدية زادها الله شرفاً، فكان ابتداء ذلك على يد الصديق رضي الله عنه بمشورة عمر. ويؤيده ما أخرجه ابن أبي داود في المصاحف بإسناد حسن عن عبد خير قال سمعت علياً يقول: أعظم الناس في المصاحف أجراً أبوبكر رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع كتاب الله. وأما ما أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد قال: ((قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تكتبوا عني شيئاً غير القرآن)) – الحديث.

قال: فقال عمر: هذا والله خير. فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر، قال زيد قال أبوبكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، ـــــــــــــــــــــــــــــ فلا ينافي ذلك، لأن الكلام في كتابة مخصوصة على صفة مخصوصة. وقد كان القرآن كله كتب في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لكن غير مجموع في موضع واحد ولا مرتب السور. وأما ما أخرجه ابن أبي داود في المصاحف من طريق ابن سيرين قال قال علي: لما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آليت أن لا أخذ على ردائي إلا لصلاة جمعة حتى أجمع القرآن فجمعه فإسناده ضعيف لانقطاعه وعلى تقدير أن يكون محفوظاً، فمراده بجمعه حفظه في صدره قال، والذي وقع في بعض طرقه حتى جمعته بين اللوحين وهم من رواته. وقال الحافظ: ورواية عبد خير يعني التي تقدمت آنفاً أصح فهو المعتمد ووقع عند ابن أبي داود أيضاً بيان السبب في إشارة عمر بن الخطاب بذلك فأخرج من طريق الحسن إن عمر سأل عن آية من كتاب الله قيل كانت مع فلان فقتل يوم اليمامة فقال إنا لله وأمر بجمع القرآن فكان أول من جمعه في المصحف، وهذا منقطع فإن كان محفوظاً حمل على أن المراد بقوله، فكان أول من جمعه أي أشار بجمعه في خلافة أبي بكر فنسب الجمع إليه لذلك – انتهى. (هذا) أي جمع القرآن في مصحف واحد (خير) من تركه فإن قلت كيف ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما هو خير؟ قلت هذا خير في هذا الزمان وتركه كان خيراً في زمانه - صلى الله عليه وسلم - لعدم تمام النزول واحتمال النسخ كما تقدم الإشارة إليه (فلم يزل عمر يراجعني) في ذلك أي في جمع القرآن (حتى شرح الله صدري لذلك) الذي شرح له صدر عمر (ورأيت في ذلك الذي رأى عمر) اذهوا من النصح لله ولرسوله ولكتابه ولعامة المسلمين وإذن فيه عليه الصلاة والسلام بقوله في حديث أبي سعيد عند مسلم لا تكتبوا عني شيئاً غير القرآن، وقد أعلم الله في القرآن بأنه مجموع في الصحف في قوله {يتلوا صحفاً مطهرة} الآية [البينة: 2] وكان القرآن مكتوباً في الصحف لكن كانت مفرقة فجمعها أبوبكر في مكان واحد، فغاية ما فعله أبوبكر جمع ما كان مكتوباً قبل في مصحف، فلا يتوجه اعتراض الرافضة على الصديق. قال الحارث المحاسبي في كتاب فهم السنن: كتابة القرآن ليست بمحدثة فإنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابته ولكنه كان مفرقا في الرقاع وإلاكتاف والعسب، فإنما أمر الصديق بنسخها من مكان إلى مكان مجتمعاً وكان ذلك بمنزلة أوراق. وجدت في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها القرآن منتشراً فجمعها جامع وربطها بخيط حتى لا يضيع منها شي كذا في الإتقان (ج1ص58) (قال زيد) أي ابن ثابت (قال أبوبكر) أي لي بعد أن ذكر الأمر الذي هو توطئة للأمر بالجمع (إنك رجل شاب) أشار إلى نشاطه وقوته وضبطه وإتقانه وحدة نظره وبعده عن النسيان، وإنما قال شاب لأن عمره كان حينئذ ما دون خمس وعشرين سنة، وهي أيام الشاب (عاقل) تعني المراد أشار به إلى غزارة علمه وشدة تحقيقه (لا نتهمك) بتشديد التاء أي لا ندخل عليك التهمة لعدالتك في شي مما تنقله، يقال إتهمه بكذا كافتعله

وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه. فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن. قال: قلت: كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال! هو والله خير. فلم يزل أبوبكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر. فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف ـــــــــــــــــــــــــــــ أدخل عليه التهمة وظنه به، والتهمة بفتح الهاء وسكونها اسم من الاتهام وما يتهم عليه، وأشار به إلى عدم كذبه وإنه صدوق (وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم) قال الحافظ: ذكر له أربع صفات مقتضية خصوصيته بذلك كونه شاباً فيكون أنشط لما يطلب منه، وكونه عاقلاً فيكون أوعى له، وكونه لا يتهم فتركن النفس إليه، وكونه كان يكتب الوحي فكون أكثر ممارسة له، وهذه الصفات التي اجتمعت له قد توجد في غيره لكن مفرقة. (فتتبع القرآن) أمر من باب التفعل (فأجمعه) بصيغة الأمر أي جمعاً كلياً في مصحف واحد، وقد كان القرآن كله كتب في العهد النبوي لكن غير مجموع في موضع واحد. (فو الله) أي قال زيد فو الله (لو كلفوني) أي أبوبكر وعمر ومن تبعهما أو بناء على أن أقل الجمع اثنان، أو المراد به أبوبكر والجمع للتعظيم (نقل جبل من الجبال ما كان) نقله (أثقل علي مما أمرني به) قال الحافظ: كأنه جمع أولاً باعتبار أبي بكر ومن وافقه وأفرد باعتبار أنه الآمر وحده بذلك، ووقع في رواية لو كلفني بالإفراد أيضاً. وإنما قال زيد بن ثابت ذلك لما خشية من التقصير في إحصاء ما أمر بجمعه لكن الله تعالى يسر له ذلك. (قال) أي زيد (قلت) لهم (كيف تفعلون) وفي رواية كيف تفعلان (فلم يزل أبوبكر يراجعني) أي يذكر أبوبكر السبب وأنا أدفعه (فتتبعت القرآن أجمعه) حال من الفاعل أو المفعول أي حال كوني اجمعه وقت التتبع من الأشياء التي عندي وعند غيري (من العسب) بضم المهملتين ثم موحدة جمع عسيب وهو جريد النخل كانوا يكشطون الخوص ويكتبون في الطرف العريض وقيل: العسيب طرف الجريدة العريض الذي لم ينبت عليه الخوص والذي ينبت عليه الخوص هو السعف، ووقع في رواية ابن عيينة عن الزهري القصب والعسب والكرانيف وجرائد النخل، والكرانيف جمع كرناف، وهي أصول سعف النخل تبقى في الجذع بعد قطع السعف من النخلة، ووقع في رواية للبخاري من الرقاع والأكتاف، والرقاع بكسر الراء جمع رقعة، وقد يكون من جلد أو ورق أو كاغذ، والأكتاف جمع كتف وهو العظم العريض الذي يكون في أصل كتف الحيوان كانوا إذا جف كتبوا فيه، وفي رواية وقطع الأديم، وفي رواية ابن أبي داود والصحف (واللخاف) بكسر اللام ثم خاء معجمة خفيفة وأخره فاء جمع لخفة بفتح اللام وسكون الخاء المعجمة وهي الحجر الأبيض الرقيق. وقيل: الخزف. وقال

وصدور الرجال، ـــــــــــــــــــــــــــــ الخطابي: اللخاف صفائح الحجارة الرقاق، وفي رواية ابن أبي داود والأضلاع وعنده من وجه آخر، والأقتاب بقاف ومثناة وآخره موحدة جمع قتب بفتحتين، وهو الخشب الذي يوضع على ظهر البعير ليركب عليه، وعند ابن أبي داود أيضاً في المصاحف من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: قام عمر فقال من كان تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من القرآن فليأت به وكانوا يكتبون ذلك في الصحف والألواح والعسب. قال وكان لا يقبل من أحد شيئاً حتى يشهد شاهدان، وهذا يدل على أن زيداً كان لا يكتفي بمجرد وجدانه مكتوباً حتى يشهد به من تلقاه سماعاً مع كون زيد كان يحفظه وكان يفعل ذلك مبالغة في الاحتياط. وعند ابن أبي داود أيضا من طريق هشام بن عروة عن أبيه إن أبا بكر قال لعمر ولزيد: اقعدا على باب المسجد فمن جاءكم بشاهدين على شي من كتاب الله فاكتباه ورجاله ثقات مع انقطاعه. وكأن المراد بالشاهدين الحفظ والكتاب، أو المراد إنهما يشهدان على أن ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو المراد إنهما يشهدان على أن ذلك من الوجوه التي نزل بها القرآن وكان غرضهم أن لا يكتب إلا من عين ما كتب بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - لا من مجرد الحفظ، ولذلك قال في آخر سورة التوبة كما سيأتي لم أجدها مع غيره، لأنه كان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة. قال السيوطي: أو المراد إنهما يشهدان على أن ذلك مما عرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - عام وفاته كما يستفاد مما أخرجه ابن اشته في المصاحف وابن أبي شيبة في فضائله من طريق ابن سيرين عن عبيدة السلماني. قال القراءة التي عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم في العام الذي قبض فيه هي القراءة التي يقرأها الناس اليوم، وأخرج ابن اشته أيضاً عن ابن سيرين قال كان جبريل يعارض النبي - صلى الله عليه وسلم - كل سنة في شهر رمضان مرة، فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه مرتين فيرون أن تكون قراءتنا هذه العرضة الأخيرة. قال البغوي: يقال إن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة. التي بين فيها ما نسخ وما بقي وكتبها للرسول - صلى الله عليه وسلم - وقرأها عليه وكان يقري الناس بها حتى مات ولذلك اعتمده أبوبكر وعمر وجمعه وولاه عثمان كتب المصاحف - انتهى. (وصدور الرجال) أي الحفاظ منهم "والواو" بمعنى مع أي اكتبه من المكتوب الموافق للمحفوظ في الصدور. قال القسطلاني: المراد بصدور الرجال الذين جمعوا القرآن وحفظوه في صدورهم كاملاً في حياته صلى الله عليه وسلم كأبي بن كعب ومعاذ بن جبل، فيكون ما في الرقاع والأكتاف وغيرها تقريراً على تقرير - انتهى. وقال في اللمعات: قوله "وصدور الرجال" هذا هو الأصل المعتمد ووجدانه من العسب واللخاف وغيرها تقرير على تقرير، وقوله "لم أجدها مع غيره" يعني مكتوبة لا محفوظة، وكذا ما ورد في بعض الروايات إنهم يحلفون من عنده آية من القرآن أو قام على ذلك شاهد إن المراد به التأكيد والتحقيق والمبالغة في الاحتياط

حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع أحد غيره. ـــــــــــــــــــــــــــــ وإلا فقد كان زيد وعدة من الأصحاب كأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وأبي الدرداء وغيرهم حافظين له في حياته صلى الله عليه وسلم، أقول لا شبهة إن القرآن كان معلوماً بالقطع ومعروفاً عندهم ومتميزاً عما سواه وكان مجمعاً عليه ومقطوعاً به، لا أنه كان مشتبهاً وكان بعضه عند أحد ولا يعرفه آخر أو ينكر كونه قرآناً ويثبت بالحلف والشهادة حاشاً من ذلك وكانوا يبدون عن تأليف معجز ونظم معروف، وقد شاهدوا تلاوته من النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث وعشرين سنة فكان عن تزوير ما ليس منه مأموناً، وإنما كان الخوف من ذهاب شي من صحفه – انتهى. (حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة) بضم الخاء وفتح الزاء (الأنصاري) النجاري. قال الحافظ: وقع في رواية عبد الرحمن بن مهدي عن إبراهيم بن سعد عن الزهري (عن عبيد عن زيد بن ثابت) "مع خزيمة بن ثابت" أخرجه أحمد والترمذي، ووقع في رواية شعيب عن الزهري كما تقدم في سورة التوبة (عند البخاري) "مع خزيمة الأنصاري". وقد أخرجه الطبراني في مسند الشاميين من طريق أبي اليمان عن شعيب فقال فيه "خزيمة بن ثابت الأنصاري". وكذا أخرجه ابن أبي داود من طريق يونس بن يزيد عن ابن شهاب وقول من قال عن إبراهيم بن سعد "مع أبي خزيمة" أصح، وقد تقدم البحث فيه في تفسير سورة التوبة وإن الذي وجد معه آخر سورة التوبة غير الذي وجد معه الآية التي في الأحزاب، فالأول اختلف الرواة فيه على الزهري، فمن قائل "مع خزيمة" ومن قائل "مع أبي خزيمة" ومن شاك فيه يقول "خزيمة أو أبي خزيمة" والأرجح إن الذي وجد معه آخر سورة التوبة أبوخزيمة بالكنية، والذي وجد معه الآية من الأحزاب خزيمة. وأبو خزيمة هذا هو ابن أوس بن زيد بن أصرم بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار مشهور بكنيته لا يعرف اسمه شهد بدراً وما بعدها من المشاهد، وتوفي في خلافة عثمان رضي الله عنه وهو أخو مسعود بن أوس. وقيل: هو الحارث ابن خزيمة وفيه نظر وأما خزيمة فهو ابن ثابت بن الفاكه الخطمي الأنصاري الأوسي يعرف بذي الشهادتين جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته كشهادة رجلين يكنى أبا عمارة شهد بدراً وما بعدها من المشاهد، وكانت راية خطمة بيده يوم الفتح شهد صفين مع علي رضي الله عنه وقتل يومئذ سنة سبع وثلاثين، روى عنه ابناه عبد الله وعمارة وجابر بن عبد الله (لم أجدها مع أحد غيره) بالجر على البدلية أي لم أجدها مكتوبة مع غيره لما تقدم من أنه كان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة، ولا يلزم من عدم وجدانه إياها حينئذ أن لا تكون تواترت عند من لم يتلقها من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان زيد يطلب التثبت عمن تلقاها بغير واسطة، ولعلهم لما وجدها زيد عند أبي خزيمة تذكروها كما تذكرها زيد، وفائدة التتبع المبالغة في الاستظهار والوقوف عند ما كتب بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولقد اجتمع في هذه الآية زيد بن ثابت وعمر وأبو خزيمة وأبي بن كعب كما ورد ذلك في

{لقد جاءكم رسول من أنفسكم} حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حبوته، ثم عند حفصة بنت عمر)) . رواه البخاري. 2243- (11) وعن أنس بن مالك، ((إن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وآذر بيجان مع أهل العراق، ـــــــــــــــــــــــــــــ الروايات (لقد جاءكم) بدل من آخر (فكانت الصحف) أي التي جمع فيها زيد بن ثابت القرآن (عند أبي بكر حتى توفاه الله) في موطأ ابن وهب عن مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر قال جمع أبوبكر القرآن في قراطيس، وكان سأل زيد بن ثابت في ذلك فأبى حتى استعان عليه بعمر ففعل (ثم عند عمر حياته) أي ثم كانت عند عمر بن الخطاب مدة حياته (ثم عند حفصة بنت عمر) أي ثم بعد عمر كانت عند حفصة بنت عمر في خلافة عثمان إلى أن شرع في كتابة المصحف. وإنما كانت عند حفصة لأن عمر أوصى بذلك فاستمر ما كان عنده عندها إلى أن طلبه منها من له طلب ذلك (رواه البخاري) في تفسير سورة براءة وفضائل القرآن والأحكام والتوحيد. وأخرجه أيضاً أحمد (ج1ص10- 13) والترمذي في تفسير سورة التوبة، وعزاه في التنقيح للنسائي والطيالسي وابن سعد وابن أبي داود وابن المنذر وابن حبان والطبراني والبيهقي أيضاً. 2243- قوله: (قدم على عثمان) أي المدينة في خلافته (وكان) أي عثمان (يغازي) أي يغزى (أهل الشام) بالنصب على المفعولية (في فتح أرمينية وآذر بيجان مع أهل العراق) أي كان عثمان يجهز أهل الشام وأهل العراق لغزو أرمينية وآذر بيجان وفتحهما. قال الحافظ: إن أرمينية فتحت في خلافة عثمان وكان أمير العسكر من أهل العراق سلمان بن ربيعة الباهلي، وكان عثمان أمر أهل الشام وأهل العراق أن يجتمعوا على ذلك وكان أمير أهل الشام على ذلك العسكر حبيب بن مسلمة الفهري، وكان حذيفة من جملة من غزا معهم وكان هو على أهل المدائن وهي من جملة أعمال العراق. وأرمينية بكسر الهمزة وسكون الراء وكسر الميم بعدها تحتانية ساكنة ثم نون مكسورة ثم تحتانية مفتوحة خفيفة، وقد تثقل. وقال ابن السمعاني: بفتح الهمزة. قال أبوعبيد هي بلد معروف يضم كوراً كثيرة. وقيل: مدينة عظيمة بين بلاد الروم وخلاط. وقال ابن السمعاني: هي من جهة بلاد الروم يضرب بحسنها وطيب هوائها وكثرة مياهها وشجرها المثل. وقيل: إنها من بنا أرمين من ولد يافث بن نوح والنسبة إليها أرمني بفتح الهمزة. قال الرشاطي: افتتحت سنة أربع وعشرين في خلافة عثمان رضي الله عنه على يد سلمان بن ربيعة. وآذر بيجان قال الحافظ: بفتح الهمزة والذال المعجمة وسكون الراء. وقيل: بسكون الذال وفتح الراء وبكسر الموحدة بعدها تحتانية ساكنة ثم جيم خفيفة وبعد الألف نون، وحكى ابن مكي كسر أوله

فافرغ حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان! يا أمير المؤمنين! أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف، ـــــــــــــــــــــــــــــ وضبطها صاحب المطالع ونقله عن ابن الأعرابي بسكون الذال وفتح الراء بلد كبير من نواحي جبال العراق وهي الآن تبريز وقصباتها وهي تلي أرمينية من جهة غربيها واتفق غزوهما في سنة واحدة واجتمع في غزوة كل منهما أهل الشام وأهل العراق والذي ذكرته الأشهر في ضبطها، وقد تمد الهمزة وقد تحذف، وقد تفتح الموحدة، وقد يزاد بعدها ألف مع مد الأولى حكاه الهجري وأنكره الجواليقي – انتهى. وقال الكرماني: الأشهر عند العجم آذر بيجان بالمد والألف بين الموحدة والتحتانية هو بلدة تبريز وقصباتها. وقال القسطلاني: هو اسم اجتمعت فيه خمس موانع من الصرف العجمة والتعريف والتأنيث والتركيب ولحاق الألف والنون وهو إقليم واسع، ومن مشهور مدنه تبريز وهو صقع جليل ومملكة عظيمة (فافزغ) من الافزاغ (حذيفة) بالنصب مفعوله (اختلافهم) بالرفع فاعله أي أوقعه في الفزع والخوف اختلاف أهل العراق وأهل الشام (في القراءة) أي قراءة القرآن وذكر الحافظ هنا روايات توضح ما كان فيهم من الاختلاف حيث قال وقع في رواية فيتنازعون في القرآن حتى سمع حذيفة من اختلافهم ما ذعره. وفي رواية فتذاكروا القرآن فاختلفوا فيه حتى كاد يكون بينهم فتنة، وفي رواية إن حذيفة قدم من غزوة فلم يدخل بيته حتى أتى عثمان فقال يا أمير المؤمنين! أدرك الناس قال وما ذاك؟ قال غزوت فرج أرمينية فإذا أهل الشام يقرؤن بقراءة أبي بن كعب فيأتون بما لم يسمع أهل العراق، وإذا أهل العراق يقرؤن بقراءة عبد الله بن مسعود فيأتون بما لم يسمع أهل الشام فيكفر بعضهم بعضاً. وفي رواية إنه سمع رجلاً يقول قراءة عبد الله بن مسعود وسمع آخر يقول قراءة أبي موسى الأشعري فغضب ثم قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: هكذا كان من قبلكم اختلفوا والله لأركبن إلى أمير المؤمنين. وفي رواية إن اثنين اختلفا في آية من سورة البقرة قرأ هذا {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة: 196] وقرأ هذا وأتموا الحج والعمرة للبيت فغضب حذيفة وأحمرت عيناه. وفي رواية قال حذيفة يقول أهل الكوفة قراءة ابن مسعود، ويقول أهل البصرة قراءة أبي موسى، والله لئن قدمت على أمير المؤمنين لامرته أن يجعلها قراءة واحدة (أدرك هذه الأمة) أمر من الإدراك بمعنى التدارك، ومعناه بالفارسية درياب أمت راودستكيري كن (قبل أن يختلفوا في الكتاب) أي القرآن (اختلاف اليهود والنصارى) بالنصب أي كاختلافهم في التوراة والإنجيل إلى أن حرفوا وزادوا ونقصوا (فأرسل عثمان إلى حفصة) بنت عمر بن الخطاب (أن أرسلي إلينا بالصحف) التي كان أبوبكر أمر زيداً بجمعها وكانت بعد ما جمعه عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة

ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، ـــــــــــــــــــــــــــــ بنت عمر كما تقدم (ننسخها) بالجزم ويرفع أي ننقلها في المصاحف ثم نردها) بضم الدال وفتحها (إليك) والمصاحف جمع مصحف. قيل: الفرق بين الصحف والمصحف إن الصحف هي الأوراق المجردة التي جمع فيها القرآن في عهد أبي بكر وكانت سوراً مفرقة كل سورة مرتبة بآياتها على حدة لكن لم يرتب بعضها أثر بعض فلما نسخت ورتب بعضها أثر بعض صارت مصحفاً. وقد جاء عن عثمان إنه إنما فعل ذلك بعد أن استشار الصحابة فأخرج ابن أبي داود بإسناد صحيح من طريق سويد بن غفلة قال: قال علي لا تقولوا في عثمان إلا خيراً فو الله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأمنا. قال: ما تقولون في هذه القراءة فقد بلغني إن بعضهم يقول إن قراءتي خير من قراءتك، وهذا يكاد أن يكون كفراً قلنا: فما ترى قال نرى أن نجمع الناس على مصحف واحد فلا تكون فرقة ولا اختلاف قلنا فنعم ما رأيت (فأمر) عثمان (زيد بن ثابت) هو الأنصاري والبقية قرشيون وتقدم ترجمة زيد ابن ثابت في (ص125) من الجزء الأول (وعبد الله بن الزبير) تقدم ترجمته في (ص662) من الجزء الأول (وسعيد بن العاص) سبق ترجمته في (ص343) من الجزء الثاني (وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام) بن المغيرة المخزومي المدني له رؤية وكان من كبار ثقات التابعين روى عن أبيه وعمر وعثمان وعلي وأبي هريرة وحفصة وعائشة وأم سلمة وآخرين وروى عنه أولاده أبوبكر وعكرمة والمغيرة والشعبي وآخرون ذكره ابن سعد فيمن أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ورآه ولم يحفظ عنه شيئاً. قال الواقدي: أحسبه كان ابن عشر سنين حين قبض النبي - صلى الله عليه وسلم - وجزم بذلك مصعب الزبيري. قالت عائشة: كان عبد الرحمن رجلاً سرياً. وقال ابن سعد: كان من أشراف قريش مات أبوه في طاعون عمواس، فخلف عمر بن الخطاب على امرأته فاطمة بنت الوليد بن المغيرة فكان عبد الرحمن في حجره مات سنة ثلاث وأربعين، ووقع في النسخ الحاضرة من المشكاة عبد الله بدل عبد الرحمن وهو غلط (فنسخوها) أي الصحف أي ما في الصحف التي أرسلتها حفصة إلى عثمان (في المصاحف) أي المتعددة في كتاب المصاحف لابن أبي داود من طريق محمد بن سيرين. قال: جمع عثمان اثنى عشر رجلاً من قريش والأنصار منهم أبي بن كعب، وفي رواية مصعب بن سعد فقال: عثمان من اكتب الناس قالوا: كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت. قال: فأي الناس أعرب، وفي رواية أفصح قالوا: سعيد بن العاص قال عثمان: فليمل سعيد. وليكتب زيد. ووقع عند أبي داود تسمية جماعة ممن كتب أو أملى، منهم مالك بن أبي عامر جد مالك بن أنس وكثير بن أفلح وأبي بن كعب وأنس بن مالك وعبد الله بن عباس. قال الحافظ بعد ذكرهم: فهؤلاء تسعة عرفنا تسميتهم من الاثنى عشر، وكأن ابتداء الأمر كان لزيد وسعيد للمعنى المذكور

وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شي من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، ـــــــــــــــــــــــــــــ فيهما في رواية مصعب، ثم احتاجوا إلى من يساعد في الكتابة بحسب الحاجة إلى عدد المصاحف التي ترسل إلى الآفاق فأضافوا إلى زيد من ذكر ثم استظهروا، بأبي بن كعب في الإملاء، وقد شق على ابن مسعود صرفه عن كتابة المصحف حتى قال ما أخرجه الترمذي في آخر هذا الحديث، إن عبد الله بن مسعود كره لزيد بن ثابت نسخ المصاحف، وقال: يا معشر المسلمين: أعزل عن ننسخ كتابة المصاحف ويتولاها رجل، والله لقد أسلمت وإنه لفي صلب رجل كافر يريد زيد بن ثابت. وأخرج ابن أبي داود من طريق خمير بن مالك سمعت ابن مسعود يقول: لقد أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة وإن زيد بن ثابت لصبي من الصبيان، ومن طريق أبي وائل عن ابن مسعود بضعاً وسبعين سورة، والعذر لعثمان في ذلك إنه فعله بالمدينة وعبد الله بالكوفة ولم يؤخر ما عزم عليه من ذلك إلى أن يرسل إليه ويحضر، وأيضاً فإن عثمان إنما أراد نسخ الصحف التي كانت جمعت في عهد أبي بكر وأن يجعلها مصحفاً واحدا، وكان الذي نسخ ذلك في عهد أبي بكر هو زيد بن ثابت كما تقدم لكونه كان كاتب الوحي، فكانت له في ذلك أولية ليست لغيره. وقد أخرج الترمذي في آخر الحديث المذكور عن ابن شهاب قال بلغني إنه كره ذلك من مقالة عبد الله بن مسعود رجال من أفاضل الصحابة – انتهى كلام الحافظ. (وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة) يعني عبد الله وسعيد أو عبد الرحمن لأن الأول أسدى، والثاني أموي، والثالث مخزومي، وكلها من بطون قريش (في شي من القرآن) وفي رواية في عربية من عربية القرآن، وزاد الترمذي في روايته. قال ابن شهاب: فاختلفوا يومئذ في التابوت، والتابوه، فقال القرشييون التابوت وقال زيد التابوه، فرفع اختلافهم إلى عثمان فقال اكتبوه التابوت، فإنه نزل بلسان قريش (فإنما نزل بلسانهم) أي لغة قريش. قال القاضي أبوبكر بن الباقلاني: معنى قول عثمان نزل القرآن بلسان قريش أي معظمه وإنه لم تقم دلالة قاطعة إن جميعه بلسان قريش فإن ظاهر قوله تعالى: {إن جعلناه قرآناً عربياً} [الزخرف: 3] إنه نزل بجميع السنة العرب، ومن زعم أنه أراد مضر دون ربيعة أو هما دون اليمن أو قريشاً دون غيرهم فعليه البيان، لأن اسم العرب يتناول الجميع تناولاً واحداً ولو ساغت هذه الدعوى لساغ للآخر أن يقول نزل بلسان بني هاشم مثلاً، لأنهم أقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم نسباً من سائر قريش. وقال أبوشامة: يحتمل أن يكون قوله: "نزل بلسان قريش" أي ابتداء نزوله ثم أبيح أن يقرأ بلغة غيرهم. كما تقدم تقريره في شرح حديث نزل القرآن على سبعة أحرف – انتهى. وتكملته أن يقال إنه نزل أولاً بلسان قريش أحد الحروف السبعة، ثم نزل بالأحرف السبعة المأذون في قراءتها تسهيلاً وتيسيراً كما سبق بيانه، فلما جمع عثمان الناس على حرف واحد رأى

ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق. ـــــــــــــــــــــــــــــ أن الحرف الذي نزل القرآن أولاً بلسانه أولى الأحرف فحمل الناس عليه لكونه لسان النبي صلى الله عليه وسلم ولما له من الألوية المذكورة (ففعلوا) ذلك كما أمرهم. قال القاري: فإن قيل فلم أضاف عثمان هؤلاء النفر إلى زيد ولم يفعل ذلك أبوبكر قلت كان غرض الصديق جمع القرآن بجميع أحرفه ووجوهه التي نزل بها، وذلك على لغة قريش وغيرها، وكان غرض عثمان تجريد لغة قريش من تلك القراءات فجمع أبي بكر غير جمع عثمان، فإن قيل فما قصد بإحضار تلك الصحف؟ وقد كان زيد ومن أضيف إليه حفظة قلت: الغرض بذلك سد باب المقال وأن يزعم زاعم إن في المصحف قرآناً لم يكتب ولئلا يرى إنسان فيما كتبوه شيئاً مما لم يقرأ به فينكره فالصحف شاهدة بصحة جميع ما كتبوه (حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة) فكانت عندها حتى توفيت فأخذها مروان حين كان أميراً على المدينة من قبل معاوية فأمر بها فشققت. وقال إنما فعلت هذا لأني خشيت إن طال بالناس زمان أن يرتاب في شأن هذه الصحف مرتاب، رواه ابن أبي داود وغيره، ووقع في رواية فشقها وحرقها، وفي أخرى فغسلها غسلاً. قال الحافظ: ويجمع بأنه صنع بالصحف جميع ذلك من تشقيق ثم غسل ثم تحريق، ويحتمل أن يكون خرقها بالخاء المعجمة فيكون مزقها ثم غسلها (وأرسل إلى كل أفق) بضمتين أي ناحية ويجمع على آفاق (بمصحف مما نسخوا) وفي رواية فأرسل إلى كل جند من أجناد المسلمين بمصحف، واختلف في عدة المصاحف التي اكتبتها عثمان، فالمشهور إنها خمسة أرسل منها أربعة وأمسك واحداً. وقال الداني في المقنع: أكثر العلماء إنها أربعة أرسل واحداً للكوفة، وآخر للبصرة. وآخر للشام، وترك واحداً عنده. وقال أبوحاتم السجستاني: فيما رواه عنه ابن أبي داود كتبت سبعة مصاحف إلى مكة والشام واليمن والبحرين والبصرة والكوفة وحبس بالمدينة واحداً (وأمر بما سواه) أي بما سوى المصحف الذي استكبته والمصاحف التي نقلت منه وسوى الصحف التي كانت عند حفصة وردها إليها، ولهذا استدرك مروان الأمر بعدها وأعدمها أيضاً خشية أن يقع لأحد منهم توهم أن فيها ما يخالف المصحف الذي استقر الأمر عليه كما تقدم (من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق) بسكون الحاء المهملة وفتح الراء، ولأبي ذر عن الحموي والمستلي يحرق بفتح المهملة وتشديد الراء مبالغة في إذهابها وسداً لمادة الاختلاف. ووقع في رواية سويد ابن غفلة عن علي قال لا تقولوا لعثمان في إحراق المصاحف إلا خيراً، ومن طريق مصعب بن سعد قال أدركت الناس متوافرين حين حرق عثمان المصاحف فأعجبهم ذلك، أو قال لم ينكر ذلك منهم أحد. قال ابن بطال: في هذا الحديث جواز تحريق الكتب التي فيها اسم الله بالنار، وإن ذلك إكرام لها وصون عن وطئها بالأقدام. وقد

قال ابن شهاب: فأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت: أنه سمع زيد بن ثابت قال: فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف، ـــــــــــــــــــــــــــــ أخرج عبد الرزاق من طريق طاوس إنه كان يحرق الرسائل التي فيها البسملة إذا اجتمعت، وكذا فعل عروة وكرهه إبراهيم. وقال ابن عطية: هذا أي التحريق كان في ذلك الوقت وأما الآن فالغسل أولى إذا دعت الحاجة إلى إزالته. قال العيني: وقال أصحابنا الحنفية إن المصحف إذا بلى بحيث لا ينتفع به يدفن في مكان طاهر بعيد عن وطء الناس. وقال القاري: يتعين الغسل بل ينبغي أن يشرب ماءه. قال شيخنا في شرح الترمذي بعد نقل كلام العيني: لو تأملت عرفت أن الاحتياط هو في الإحراق دون الدفن ولهذا اختار عثمان رضي الله عنه ذلك دون هذا والله تعالى أعلم. قلت: وإحراقه بقصد صيانته بالكلية لا امتهان فيه بوجه بل فيه دفع سائر صور الإهانة فهو الأولى بل المتعين، وأما القول بتعين الغسل ففساده ظاهر مع أنه لا يمكن في الأوراق المطبوعة كما لا يخفى. قال البغوي في شرح السنة: في هذا الحديث البيان الواضح إن الصحابة رضي الله عنهم جمعوا بين الدفتين القرآن المنزل من غير أن يكونوا زادوا أو نقصوا منه شيئاً باتفاق منهم من غير أن يقدموا شيئاً أو يؤخروه بل كتبوه في المصاحف على الترتيب المكتوب في اللوح المحفوظ بتوقيف جبريل عليه السلام على ذلك، وإعلامه عند نزول كل آية بموضعها وأين تكتب. وقال أبوعبد الرحمن السلمي: كان قراءة أبي بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت والمهاجرين والأنصار واحدة، وهي التي قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل مرتين في العام الذي قبض فيه، وكان زيد شهد العرضة الأخيرة وكان يقري الناس بها حتى مات، ولذلك اعتمده الصديق في جمعه وولاه عثمان كتبة المصاحف. قال السفاقسي: فكان جمع أبي بكر خوف ذهاب شي من القرآن بذهاب حملته إذ أنه لم يكن مجموعاً في موضع واحد وجمع عثمان لما كثر الاختلاف في وجوه قراءته حين قرؤا بلغاتهم حتى أدى ذلك إلى تخطيئة بعضهم بعضاً، فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد مقتصراً من اللغات على لغة قريش إذ هي أرجحها كذا في شرح البخاري للقسطلاني (قال ابن شهاب) أي الزهري وهذه القصة موصولة بالإسناد الذي روى به الحديث الأول أي قصة جمع عثمان ونسخه القرآن في المصاحف. وقد رواها البخاري موصولة مفردة في الجهاد، وفي المغازي في باب غزوة أحد وفي تفسير سورة الأحزاب (فأخبرني) هذا لأبي ذر ولغيره وأخبرني بالواو (خارجة بن زيد بن ثابت) الأنصاري النجاري أبوزيد المدني من كبار ثقات التابعين أدرك زمن عثمان وسمع أباه وغيره من الصحابة وهو أحد فقهاء المدينة السبعة روى عنه الزهري وغيره مات سنة مائة وقيل: سنة تسع وتسعين (إنه سمع) أباه (زيد بن ثابت قال فقدت) بفتح القاف (آية من الأحزاب حين نسخنا) أي أنا والقرشيون الثلاثة (المصحف) أي المصاحف في زمن عثمان

قد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، فالتمسناها، فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} فألحقناها في سورتها في المصحف. ـــــــــــــــــــــــــــــ لا في زمن أبي بكر لأن الذي فقده في خلافة أبي بكر الآيتان من آخر سورة براءة (قد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها) قال الحافظ: هذا يدل على أن زيداً لم يكن يعتمد في جمع القرآن على علمه ولا يقتصر على حفظه لكن فيه إشكال لأن ظاهره إنه اكتفى مع ذلك بخزيمة وحده، والقرآن إنما يثبت بالتواتر والذي يظهر في الجواب إن الذي أشار إليه أن فقده فقد وجودها مكتوبة لا فقد وجودها محفوظة عنده وعند غيره. ويدل على هذا قوله في حديث جمع القرآن فأخذت اتتبعه من الرقاع والعسب - انتهى. (فالتمسناها) أي طلبناها (مع خزيمة) بضم الخاء وفتح الزاي المعجمتين (بن ثابت) بن الفاكه (الأنصاري) الخطمي الأوسي المعروف بذي الشهادتين من كبار الصحابة شهد بدراً مع علي يوم صفين، فلما قتل عمار بن ياسر جرد سيفه فقاتل حتى قتل، وتقدم شي من ترجمته في شرح حديث زيد بن ثابت، وهو غير أبي خزيمة بالكنية الذي وجد معه آخر التوبة كما بين هناك. {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} [الزخرف: 23] من الثبات مع النبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد إلى آخر الآية (فألحقناها في سورتها في المصحف) قال القاري: فيه إشكال وهو إنه بظاهره يدل على أن تلك الآية ما كانت موجودة في الصحف (أي الأولى التي كتبت في الجمع الأول جمع أبي بكر) وإنما كتبت في المصحف بعد ذلك (أي زمن في عثمان) وهذا مستبعد جداً، فالصواب أن يراد بالمصحف الصحف التي كتبت في الجمع الأول ويكون ضمير المتكلم بالنون تعظيماً – انتهى. قلت: قد وقع في نسخة القسطلاني من صحيح البخاري الصحف بدل المصحف. قال القسطلاني: قوله "في الصحف" بضم الصاد من غير ميم في الفرع، والذي في اليونينة بالميم انتهى. ويؤيد ذلك ما وقع في رواية إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع عن ابن شهاب إن فقده آية الأحزاب إنما كان في خلافة أبي بكر، وقد جزم بذلك ابن كثير لكن هذا كله يخالف ما حققه الحافظ في الفتح، حيث قال تحت هذا الحديث: ظاهر حديث زيد بن ثابت هذا إنه فقد آية الأحزاب من الصحف التي كان نسخها في خلافة أبي بكر حتى وجدها مع خزيمة بن ثابت. ووقع في رواية إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع إن فقده إياها إنما كان في خلافة أبي بكر وهو وهم منه، والصحيح ما في الصحيح وإن الذي فقده في خلافة أبي بكر الآيتان من آخر براءة. وأما التي في الأحزاب ففقدها لما كتب المصحف في خلافة عثمان، وجزم ابن كثير بما وقع في رواية ابن مجمع وليس كذلك والله أعلم – انتهى. وتأول الحديث بعضهم بوجه يرتفع به الإشكال الذي أبداه القاري إذ قال إن زيد بن ثابت قد التزم في كتابته الأولى أي في جمعه القرآن وكتابته في الصحف في عهد أبي بكر أن يسمع الآية من جماعة من الحفاظ ويجدها مكتوبة عند اثنين، ولا يكتفي

رواه البخاري. 2244- (12) وعن ابن عباس، قال: قلت لعثمان: ((ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال، وهي من المثاني، ـــــــــــــــــــــــــــــ بمجرد الحفظ دون الكتابة ولا بمجرد وجدانها مكتوبة عند واحد إلا أنه لم يجد آخر سورة براءة مكتوباً إلا عند أبي خزيمة وإن كان قد سمعه من جماعة من الحفاظ وكان يحفظه بنفسه أيضاً، ووقع مثل هذا التفرد حين كتبت الصحف في المصاحف في عهد عثمان، وكان هذا التفرد في آية {من المؤمنين رجال} الآية وكان زيد قد التزم في كتابته الثانية أيضاً مثل ما التزمه في الأولى مع أمر زائد، وهو العرض والمقابلة مع الصحف التي كتبت أولاً أي في عهد أبي بكر فاتفق أنه لم يجد آية {من المؤمنين رجال} مكتوبة عند اثنين وإن كانت مكتوبة في المصحف ومحفوظة في صدور الرجال والله أعلم (رواه البخاري) في باب جمع القرآن من فضائل القرآن. وأخرجه أيضاً الترمذي في تفسير سورة التوبة والبيهقي (ج2ص41، 42) ونسبه في التنقيح للنسائي وابن سعد وابن أبي داود وابن الأنباري والبيهقي وابن حبان أيضاً، تنبيه قال ابن التين وغيره: الفرق بين جمع أبي بكر وبين جمع عثمان: إن جمع أبي بكر كان لخشية أن يذهب من القرآن شيء بذهاب من القرآن شي بذهاب حملته، لأنه لم يكن مجموعاً في موضع واحد فجمعه في صحائف مرتباً لآيات سوره على ما وقفهم عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -. وجمع عثمان كان لما كثر الاختلاف في وجوه القرآن حين قرؤه بلغاتهم على اتساع اللغات فأدى ذلك بعضهم إلى تخطئة بعض، فخشي من تفاقم الأمر في ذلك فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد مرتباً لسوره، واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش محتجاً بأنه نزل بلغتهم، وإن كان قد وسع في قراءته بلغة غيرهم رفعاً للحرج والمشقة في ابتداء الأمر فرأى إن الحاجة إلى ذلك انتهت فاقتصر على لغة واحدة، وكانت لغة قريش أرجح اللغات فاقتصر عليها. وقال الحارث المحاسبي: المشهور عند الناس إن جامع القرآن عثمان وليس كذلك إنما حمل عثمان الناس على القراءة بوجه واحد على اختيار وقع بينة وبين من شهده من المهاجرين والأنصار لما خشي الفتنة عند اختلاف أهل العراق والشام في حروف القراءات، فأما قبل ذلك فقد كانت المصاحف بوجوه من القراءات المطلقات على الحروف السبعة التي أنزل بها القرآن، فأما السابق إلى جمع الجملة فهو الصديق وقد قال علي لو وليت لعملت بالمصاحف التي عمل بها عثمان كذا في الإتقان. 2244- قوله: (قلت لعثمان) بن عفان (ما حملكم) أي ما الباعث لكم (على أن عمدتم) بفتح الميم أي قصدتم، وهذا لفظ أحمد، وعند الترمذي وأبي داود ما حملكم إن عمدتم أي بدون علي (إلا الأنفال) أي سورة الأنفال (وهي من المثاني) المثاني من القرآن ما كان من سوره أقل من المئين، فإنهم قسموا القرآن إلى أربعة

وإلى براءة، وهي من المائين، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا سطر {بسم الله الرحمن الرحيم} ووضعتموها في السبع الطول؟ ما حملكم على ذلك؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ أقسام وجعلوا لكل قسم منه اسماً، فقالوا أول القرآن السبع الطول، ثم ذوات المئين أي ذوات مائة آية ونحوها، ثم المثاني ثم المفصل. والسبع الطول هي من البقرة إلى الأعراف ست سور، واختلف في السابعة فقيل الفاتحة عدت منها مع قصرها لكثرة معانيها. وقيل: مجموع الأنفال وبراءة فهما كالسورة الواحدة، ولذا لم يفصل بينهما ببسملة وسيأتي مزيد الكلام في ذلك، ويقال للقسم الثاني المئون أيضاً، وسميت بذلك لأن كل سورة منها تزيد على مائة آية أو تقاربها وهي إحدى عشرة سورة، والمثاني ما لم يبلغ مائة آية وهي عشرون سورة سميت بذلك لأنها ثنت المئين أي كانت بعدها فهي لها ثوان والمئون لها أوائل. قال في النهاية: المثاني السورة التي تقصر عن المئين وتزيد على المفصل كان المئين جعلت مبادى والتي تليها مثاني – انتهى. ويسمى جميع القرآن مثاني لاقتران آية الرحمة بآية العذاب. وقيل لأن فيه بيان القصص الماضية فهو ثان لما تقدمه. وقيل: لتكرار القصص والمواعظ فيه. وقيل: لغير ذلك وتسمى الفاتحة مثاني أي لأنها تثني في الصلاة. وقيل لغير ذلك وقد بسطه في الإتقان (ج1ص53) فراجعه إن شئت وأما المفصل فسمي بذلك لكثرة الفصول التي بين السور بالبسملة. وقيل: لقلة المنسوخ منه، ولهذا يسمى بالمحكم أيضاً (وإلى براءة) هي سورة التوبة وهي أشهر أسماءها، ولها أسماء أخرى تزيد على العشرة ذكرها السيوطي في الإتقان (ج1ص54) (وهي من المئين) لكونها مائة وثلاثين آية والمئين جمع المائة، وأصل المائة مائي كمعي والهاء عوض عن الياء، وإذا جمعت المائة قلت مئون ولو قلت مآت جاز (فقرنتم بينهما) أي جمعتموهما (ووضعتموها) كذا وقع في رواية أحمد والترمذي، ولأبي داود فجعلتموهما بضمير التثنية وفي بعض النسخ من سنن أبي داود فجعلتموها أي بضمير الوحدة، فضمير التثنية بإعتبار إنهما سورتان وضمير الوحدة بإعتبار أنهما سورة واحدة من حيث المعنى والقصة (في السبع الطول) بضم ففتح قال ابن الأثير: جمع الطولي مثل الكبر في الكبرى وهذا البناء يلزمه الألف واللام والإضافة وهذا عند الترمذي وأبي داود وفي رواية أحمد الطوال أي بكسر الطاء وبالألف بعد الواو (ما حملكم على ذلك) تكرير للتأكيد. قال القاري: توجيه السؤال إن الأنفال ليست من السبع الطول لقصرها عن المئين، لأنها سبع وسبعون آية وليست غيرها لعدم الفصل بينها وبين براءة. قلت: المراد بقول ابن عباس إن الأنفال سورة قصيرة من المثاني أي السورة التي لا تبلغ آيها مائة لأنها سبع وسبعون آية فجعلتموها داخلة السبع الطول، وبراءة سورة طويلة لأنها مائة وثلاثون آية فينبغي لها أن تكون من الطول فجعلتموها من المئين، ثم بعد تقدير هذا الجعل لم تكتبوا بينهما سطر {بسم الله الرحمن الرحيم} فكأنه سأل سؤالين وأجاب عثمان بما حاصله إنه وقع الاشتباه في أمر هاتين

قال عثمان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان، وهو ينزل عليه السور ذوات العدد، وكان إذا نزل عليه شي دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا. فإذا نزلت عليه الآية فيقول: ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا. ـــــــــــــــــــــــــــــ السورتين، فإنه يحتمل أن تكونا سورة واحدة، وعلى هذا فيصح وضعها في السبع الطول، وعدم كتابة البسملة بينهما ويحتمل أن تكونا سورتين فصح وضع الفاصلة بينهما بالبياض لمكان الاشتباه والاحتمال لعدم القطع بكونهما سورة واحدة فافهم (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما يأتي عليه الزمان) أي الزمان الطويل ولا ينزل عليه شي وربما يأتي عليه الزمان (وهو) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - والواو للحال (ينزل عليه) بصيغة المجهول وذكره الجزري بلفظ التأنيث فيكون معلوماً (السور) كذا للترمذي وعند أحمد من السور (ذوات العدد) صفة للسور على الروايتين أي السور للتعددة أو ذوات الآيات المتعددة (وكان إذا نزل عليه شي) في جامع الترمذي فكان إذا نزل عليه الشي، ولأحمد وكان إذا أنزل عليه الشي أي من القرآن (دعا بعض من كان يكتب) أي الوحي وهذا لفظ الترمذي، وعند أحمد يدعوا بعض من يكتب عنده، ولفظ أبي داود كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مما تنزل عليه الآيات فيدعوا بعض من كان يكتب له (فيقول ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا فإذا نزلت عليه الآية فيقول ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا) هذا لفظ الترمذي، ووقع عند أحمد ذكر الأمر بالوضع ثلاث مرات. وهذا زيادة جواب تبرع به رضي الله عنه للدلالة على أن ترتيب الآيات توقيفي وعليه الإجماع والنصوص المترادفة. أما الإجماع فنقله غير واحد منهم الزركشي في البرهان وأبو جعفر بن الزبير في مناسبته، وعبارته ترتيب الآيات في سورها واقع بتوقيفه - صلى الله عليه وسلم -، وأمره من غير خلاف في هذا بين المسلمين – انتهى. وأما النصوص الدالة على ذلك تفصيلاً أو إجمالاً فقد سردها السيوطي في الإتقان (ج1ص60، 61) وأما ترتيب السورة على ما هو عليه الآن فهل هو توقيفي أيضاً أو هو باجتهاد من الصحابة ففيه خلاف فذهب طائفة من العلماء إلى الثاني منهم مالك والقاضي أبوبكر في أحد قوليه وابن فارس وذهب جماعة إلى الأول منهم القاضي في أحد قوليه وأبو بكر بن الأنباري والبغوي وأبو جعفر النحاس وابن الحصار والكرماني والطيبي إن شئت الوقوف على أقوال هؤلاء وعلى النصوص التي احتجوا لما ذهبوا إليه فارجع إلى الإتقان (ج1ص62، 63) قال الزركشي في البرهان: والخلاف بين الفريقين لفظي، لأن القائل بالثاني يقول إنه رمز إليهم ذلك لعلمهم بأسباب نزوله ومواقع كلماته ولهذا قال مالك: إنما الفوا القرآن على ما كانوا يسمعونه من النبي

وكانت الأنفال من أوائل ما نزلت بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن نزولاً، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى الله عليه وسلم - مع قوله بأن ترتيب السور باجتهاد منهم فآل الخلاف إلى أنه هل هو بتوقيف قولي أو بمجرد إسناد فعلي بحيث يبقى لهم فيه مجال للنظر وسبقه إلى ذلك أبوجعفر بن الزبير. وقال البيهقي في المدخل: كان القرآن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتباً سوره وآياته على هذا الترتيب إلا الأنفال وبراءة لحديث عثمان يعني الذي نحن في شرحه ومال السيوطي إلى قول البيهقي حيث قال في الإتقان (ج1ص63) بعد بسط الخلاف وسرد أقوال العلماء في ذلك والذي ينشرح له الصدر ما ذهب إليه البيهقي، وهو أن جميع السور ترتيبها توقيفي إلا براءة والأنفال – انتهى. والقول الراجح المعول عليه عندنا هو ما ذهب إليه البغوي وابن الأنباري والكرماني وغيرهم إن ترتيب المصحف على ما هو عليه الآن تولاه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أخبر به جبرئيل عن أمر ربه فجميع السور ترتيبها توقيفي، وكل ما يدل على خلاف هذا فهو مدفوع، وحديث ابن عباس الذي نحن في شرحه مدخول أيضاً كما ستعرف (وكانت الأنفال من أوائل ما نزلت) كذا عند الترمذي، ولأحمد ما أنزل أي من الإنزال ولأبي داود من أول ما نزل عليه (بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن نزولاً) كذا في جميع النسخ الحاضرة من المشكاة بزيادة نزولاً بعد لفظ القرآن، وهكذا ذكره الجزري في جامع الأصول (ج2ص232) والسيوطي في الإتقان (ج1ص60) والشوكاني في فتح القدير (ج2ص316) وكذا وقع في رواية البيهقي (ج2ص42) ولم يقع هذا اللفظ عند أحمد والترمذي ولا ذكره الحافظ في الفتح، ولفظ أبي داود وكانت براءة من آخر ما نزل من القرآن. قال القاري: أي فهي مدنية أيضاً وبينهما النسبة الترتيبية بالأولية والآخرية، فهذا أحد وجوه الجمع بينهما، ويؤيده ما وقع في رواية بعد ذلك فظننت أنها منها، وكأن هذا مستند من قال إنهما سورة واحدة وهو ما أخرجه أبوالشيخ عن دوق وأبويعلى عن مجاهد وابن أبي حاتم عن سفيان وابن لهيعة كانوا يقولون: إن براءة من الأنفال ولهذا لم تكتب البسملة بينهما مع اشتباه طرقها، ورد بتسمية النبي صلى الله عليه وسلم لكل منها باسم مستقل قال القشيري: الصحيح إن التسمية لم تكن فيها لأن جبريل عليه السلام لم ينزل بها فيها، وعن ابن عباس لم تكتب البسملة في براءة لأنها أمان وبراءة نزلت بالسيف وعن مالك إن أولها لما سقط سقطت معه البسملة، فقد ثبت إنها كانت تعدل البقرة لطولها. وقيل: إنها ثابتة أولها في مصحف ابن مسعود ولا يعول على ذلك - انتهى. قلت: قوله "فظننت أنها منها" ثابت في هذه الرواية عند الثلاثة الذين عزى إليهم – الحديث. وكذا عند الحاكم والبيهقي، والظاهر إن المصنف تبع في ذلك الجزري حيث ذكر هذا الحديث في جامع الأصول بدون تلك الجملة (وكانت قصتها) أي الأنفال (شبيهة بقصتها)

فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم اكتب السطر {بسم الله الرحمن الرحيم} ووضعتها في السبع الطول)) . رواه أحمد، والترمذي، وأبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ أي براءة ويجوز العكس قاله القاري. قلت: في رواية ابن حبان فوجدت قصتها شبيهاً بقصة الأنفال وهذا وجه آخر معنوي، ولعل وجه كون قصتها شبيهة بقصتها إن في الأنفال ذكر العهود، وفي البراءة نبذها فضمت إليها (ولم يبين لنا أنها منها) أي لم يبين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن التوبة من الأنفال أو ليست منها (فمن أجل ذلك) أي لما ذكر من عدم تبيينه ووجود ما ظهر لنا من المناسبة بينهما (قرنت بينهما ولم اكتب) أي بينهما وسقط هذا اللفظ في جميع النسخ من المشكاة وهو ثابت عند الثلاثة، والمصنف تبع في ذلك الجزري (سطر بسم الله الرحمن الرحيم) أي لعدم العلم بأنها سورة مستقلة لأن البسملة كانت تنزل عليه صلى الله عليه وسلم للفصل ولم تنزل ولم اكتب (ووضعتها في السبع الطول) أي ولكن فصلت بينهما بسطر لا كتابة فيه للاشتباه في أمرهما. قال الطيبي: دل هذا الكلام على أنهما نزلتا منزلة سورة واحدة وكمل السبع الطول بها. قلت: حاصل الكلام هنا إن ترك البسملة لعدم الجزم بكونهما سورتين، وجعل الفرجة والفصل بينهما بالبياض لعدم الجزم بكونهما سورة واحدة، وأما الوضع في الطول فلأنهما إن كانتا سورتين فلا بأس في وضعهما هناك. فقد تخلل بعض المئين في المثاني كسورة الرعد وسورة إبراهيم، وإن كانتا سورة واحدة فهي في محلها بخلاف ما لو وضعتها في المثاني، فإن وضعها ثمة لم يكن مناسباً فلذلك أخرتها عن الست الطوال وقدمتها على المئين لأجل الاشتباه. ثم قيل: السبع الطول هي البقرة وبراءة وما بينهما وهو المشهور، ولكن روى النسائي والحاكم عن ابن عباس إنها البقرة والأعراف وما بينهما. قال الراوي: وذكر السابعة فنسيتها وهو يحتمل أن تكون الفاتحة فإنها من السبع المثاني أو هي السبع المثاني ونزلت سبعتها منزلة المئين، ويحتمل أن تكون الأنفال بإنفرادها أو بانضمام ما بعدها إليها، وصح عن ابن جبير إنها يونس، وجاء مثله عن ابن عباس ولعل وجهه إن الأنفال وما بعدها مختلف في كونها من المثاني، وإن كلا منهما سورة أو هما سورتان كذا في المرقاة. قال الحافظ: هذا الحديث يدل على أن ترتيب الآيات في كل سورة كان توقيفاً، ولما لم يفصح النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمر براءة أضافها عثمان إلى الأنفال اجتهاداً منه رضي الله تعالى عنه. يعني فيكون دليلا على أن ترتيب بعض السور كان من اجتهاد الصحابة، لا بتوقيف النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكن الحديث ليس مما يصلح أن يؤخذ به في ترتيب القرآن الذي يطلب فيه التواتر (رواه أحمد) (ج1ص57) (والترمذي) في تفسير سورة التوبة (وأبوداود) في باب من جهر ببسم الله الرحمن الرحيم من كتاب الصلاة، وأخرجه أيضاً الحاكم (ج2ص221- 330) والبيهقي (ج2ص42) وابن حبان (ج1ص186، 187) وابن أبي داود في كتاب المصاحف (ص31، 32) كلهم من طريق عوف بن أبي جميلة عن يزيد الفارسي عن ابن

عباس ونسبه السيوطي أيضاً في الدر المنثور (ج3ص70) لابن أبي شيبة والنسائي وابن المنذر وابن الأنباري وأبي عبيد وغيرهم. والحديث قد حسنه الترمذي. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي وسكت عليه أبوداود. وقال المنذري في مختصر السنن: أخرجه الترمذي. وقال هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث عوف عن يزيد الفارسي عن ابن عباس، ويزيد الفارسي قد روى عن ابن عباس غير حديث. ويقال هو يزيد بن هرمز وهذا الذي حكاه الترمذي هو الذي قاله عبد الرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل وذكر غيرهما إنهما اثنان، وإن الفارسي غير ابن هرمز، وإن ابن هرمز ثقة، والفارسي لا بأس به - انتهى كلام المنذري. قلت: يزيد بن هرمز من رجال مسلم متفق على توثيقه، ويزيد الفارسي من رجال السنن، قال أبوحاتم عنه: لا بأس به كما في التهذيب (ج11ص374) وقال في التقريب: إنه مقبول. ونقل الحافظ حديث ابن عباس هذا في الفتح (ج20ص437) في معرض الاحتجاج به على كون ترتيب الآيات في كل سورة توقيفاً وكون ترتيب بعض سور القرآن من اجتهاد الصحابة، وهذا يدل على أن الحديث حسن أو صحيح عنده، وعليه يدل صنيع البيهقي في المدخل والسيوطي في الإتقان كما سبق، وذكره الحافظ ابن كثير في التفسير وفي فضائل القرآن ولم يتكلم فيه، وكذا نقله الشوكاني في تفسيره من غير كلام فيه، ولم أجد أحداً من العلماء المتقدمين والمتأخرين إنه ضعفه أو أشار إلى ضعفه غير أن البخاري ذكر يزيد الفارسي، هذا في كتاب الضعفاء الصغير (ص37) وضعف الحديث جداً العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر وبسط الكلام في ذلك، ولنورد كلامه فإنه مهم جداً. والمسألة تحتاج إلى عناية كبيرة فإن هذا الحديث مما يتطرق به المستشرقون وعبيدهم المتفرنجون إلى الطعن والتشكيك في ثبوت القرآن وترتيبه، فإن التواتر المعلوم من الدين بالضرورة إن القرآن بلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته سوراً معروفة مفصلة مبينة مواضعها، يفصل بين كل سورتين منها بالبسملة إلا في أول براءة، لأن جبريل لم ينزل بها فيها ليس لعثمان رضي الله عنه ولا لغيره أن يرتب فيه شيئاً، ولا أن يبين موضع سورة أو يثبت البسملة ويتركها برأيه. قال العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر في شرح المسند (ج1ص329، 330) تحت هذا الحديث: "في إسناده نظر كثير بل هو عندي ضعيف جداً بل هو حديث لا أصل له يدور إسناده في كل رواياته على يزيد الفارسي الذي رواه عن ابن عباس تفرد به عنه عوف بن أبي جميلة وهو ثقة، قال: ويزيد الفارسي هذا اختلف فيه أهو يزيد بن هرمز أم غيره؟ قال البخاري في التاريخ الكبير: قال لي علي قال عبد الرحمن: يزيد الفارسي هو ابن هرمز، قال: فذكرته ليحيي فلم يعرفه قال وكان يكون مع الأمراء" وفي تهذيب التهذيب" قال ابن أبي حاتم: اختلفوا هل هو يعني ابن هرمز يزيد الفارسي أو غيره، فقال ابن مهدي وأحمد: هو ابن هرمز وأنكر يحيى بن سعيد القطان أن يكونا واحداً، وسمعت أبي يقول يزيد بن هرمز هذا ليس بيزيد الفارسي هو سواه" وذكر البخاري أيضاً في كتاب الضعفاء الصغير (ص37) وقال نحواً من قوله في التاريخ الكبير: فهذا يزيد الفارسي الذي انفرد

برواية هذا الحديث يكاد يكون مجهولاً حتى شبه على مثل ابن مهدي وأحمد والبخاري أن يكون هو ابن هرمز أو غيره، ويذكره البخاري في الضعفاء فلا يقبل منه مثل هذا الحديث ينفرد به، وفيه تشكيك في معرفة سور القرآن الثابتة بالتواتر القطعي قراءة وسماعاً وكتابة في المصاحف، وفيه تشكيك في إثبات البسملة في أوائل السور، كأن عثمان كان يثبتها برأيه وينفيها برأيه وحاشاه من ذلك فلا علينا إذا قلنا إنه "حديث لا أصل له" تطبيقاً للقواعد الصحيحة التي لا خلاف فيها بين أئمة الحديث. قال السيوطي في تدريب الراوي (ص99) في الكلام على إمارات الحديث الموضوع أن "يكون منافياً لدلالة الكتاب القطعية أو السنة المتواترة أو الإجماع القطعي". وقال الحافظ في شرح النخبة": ومنها ما يؤخذ من حال المروي كأن يكون مناقضاً لنص القرآن أو السنة المتواترة أو الإجماع القطعي". وقال الخطيب في كتاب الكفاية: (ص432) "ولا يقبل خبر الواحد في منافاة حكم العقل وحكم القرآن الثابت المحكم والسنة المعلومة والفعل الجاري مجرى السنة وكل دليل مقطوع به" وكثيراً يضعف أئمة الحديث راوياً لإنفراده برواية حديث منكر يخالف المعلوم من الدين بالضرورة، أو يخالف المشهور من الروايات فأولى أن نضعف يزيد الفارسي هذا بروايته هذا الحديث منفرداً به إلى أن البخاري ذكره في الضعفاء، وينقل عن يحيى القطان أنه كان يكون مع الأمراء ثم بعد كتابة ما تقدم وجدت الحافظ ابن كثير نقل هذا الحديث في التفسير، وفي كتاب فضائل القرآن المطبوع آخر التفسير، ووجدت أستاذنا العلامة السيد محمد رشيد رضا رحمة الله عليه علق عليه في الموضعين. فقال في الموضع الأول بعد الكلام على يزيد الفارسي": فلا يصح أن يكون ما انفرد به معتبراً في ترتيب القرآن الذي يطلب فيه التواتر". وقال في الموضع الثاني: "فمثل هذا الرجل لا يصح أن تكون روايته التي انفرد بها مما يؤخذ به في ترتيب القرآن المتواتر" وهذا يكاد يوافق ما ذهبنا إليه فلا عبرة بعد هذا كله في هذا الموضع بتحسين الترمذي، ولا بتصحيح الحاكم، ولا بموافقة الذهبي، وإنما العبرة للحجة والدليل والحمد لله على التوفيق – انتهى كلامه باختصار يسير.

(9) كتاب الدعوات

(9) كتاب الدعوات ـــــــــــــــــــــــــــــ (9) (كتاب الدعوات) بفتح الدال والعين المهملتين، جمع دعوة بفتح أوله، وهو مصدر يراد به الدعاء وهو هنا السؤال، يقال دعوت الله أي سألته. قال القاري: الدعوة بمعنى الدعاء وهو طلب الأدنى بالقول من الأعلى شيئاً على جهة الاستكانة - انتهى. وقال الشيخ أبوالقاسم القشيري في شرح الأسماء الحسنى ما ملخصه: جاء الدعاء في القرآن على وجوه، منها العبادة {ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك} [يونس: 10] ومنها الاستغاثة {وادعوا شهداءكم} [البقرة: 23] ومنها السؤال {ادعوني أستجب لكم} [غافر: 60] ومنها، القول دعواهم فيها {سبحانك اللهم} [يونس: 10] والنداء {يوم يدعوكم} [الإسراء: 52] والثناء {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن} [الإسراء: 110] اعلم أن الدعاء والتضرع من أشرف أنواع الطاعات وأفضل العبادات أمر الله تعالى به عباده فضلاً وكرماً وتكفل لهم بالإجابة، وحكى القشيري في الرسالة، الخلاف في المسألة فقال: اختلف الناس في أن الأفضل الدعاء أم السكوت والرضا؟ فمنهم من قال الدعاء في نفسه عبادة قال صلى الله عليه وسلم الدعاء هو العبادة، وقال الدعاء مخ العبادة، فالإتيان بما هو عبادة أولى من تركها ثم هو حق الحق سبحانه وتعالى فإن لم يستحب للعبد ولم يصل إلى حظ نفسه فلقد قام بحق ربه، لأن الدعاء إظهار فاقة العبودية. قال الحافظ: وهذا القول هو الذي ينبغي ترجيحه لكثرة الأدلة الواردة في الحث عليه ولما فيه من إظهار الخضوع والافتقار وقالت طائفة: السكوت والخمود تحت جريان الحكم أتم والرضا بما سبق به القدر أولى لما في التسليم من الفضل. قال الحافظ: وشبهتهم أن الداعي لا يعرف ما قدر له فدعاءه إن كان على وقف المقدور فهو تحصيل الحاصل، وإن كان على خلافه فهو معاندة. والجواب عن الأول إن الدعاء من جملة العبادة لما فيه من الخضوع والافتقار، وعن الثاني إنه إذا اعتقد إنه لا يقع إلا ما قدر الله تعالى كان إذعاناً لا معاندة، وفائدة الدعاء تحصيل الثواب بامتثال الأمر ولاحتمال أن يكون المدعو به موقوفاً على الدعاء، لأن الله خالق الأسباب ومسبباتها. قال القشيري: وقالت طائفة: ينبغي أن يكون صاحب دعاء بلسانه وصاحب رضي بقلبه ليأتي بالأمرين جميعاً. قال الأولى: أن يقال الأوقات مختلفة ففي بعض الأحوال الدعاء أفضل من السكوت وهو الأدب، وفي بعض الأحوال السكوت أفضل من الدعاء وهو الأدب. وإنما يعرف ذلك بالوقت فإذا وجد في قلبه إلى الدعاء فالدعاء أولى به، وإذا وجد إشارة إلى السكوت فالسكوت أتم. قال الحافظ: القول الأول

أعلى المقامات أن يدعو بلسانه ويرضي بقلبه، والثاني لا يتأتي من كل أحد بل ينبغي أن يختص به الكمل قال القشيري ويصح أن يقال ما كان للمسلمين فيه نصيب أو لله سبحانه وتعالى فيه حق فالدعاء أولى لكونه عبادة وإن كان لنفسك فيه حظ فالسكوت أتم، وعبر ابن بطال عن هذا القول لما حكاه بقوله يستحب أن يدعوا لغيره وبترك لنفسه يعني إن دعا لغيره من المسلمين فحسن وإن دعا لنفسه فالأولى تركه. قال النووي في شرح مسلم: القول باستحباب الدعاء مطلقاً هو القول الصحيح الذي أجمع عليه العلماء وأهل الفتاوى في الأمصار في كل الأعصار، ودليلهم ظواهر القرآن والسنة في الأمر بالدعاء وفعله، والأخبار عن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين بفعله. وقال في الأذكار: المذهب المختار الذي عليه الفقهاء والمحدثون وجماهير العلماء من الطوائف كلها من السلف والخلف إن الدعاء مستحب. قال الله تعالى وقال ربكم {ادعوني استجب لكم} وقال تعالى {ادعوا ربكم تضرعاً وخفية} [الأعراف: 55] والآيات في ذلك كثير مشهورة. وأما الأحاديث الصحيحة فهي أشهر من أن تشهر، وأظهر من أن تذكر واعلم أن للدعاء آداباً يجب على الداعي مراعاتها، وقد ذكرها الجزري في الحصن والنووي في الأذكار وبسط الكلام عليها مع البحث عن أدلتها الشوكاني في تحفة الذاكرين، وكذا الغزالي في الإحياء والزبيدي في شرحه فعليك أن تراجع هذه الكتب، وسيأتي التنبيه على بعض آداب الدعاء وشرائطه في شرح أحاديث الباب. قال الغزالي في الإحياء (ج1ص198) فإن قلت فما فائدة الدعاء مع أن القضاء لا مرد له، فاعلم أن من جملة القضاء رد البلاء بالدعاء، فالدعاء سبب لرد البلاء واستجلاب الرحمة، كما أن الترس سبب لرد السهم، والماء سبب لخروج النبات من الأرض، فكما أن الترس يدفع السهم فيتدافعان، فكذلك الدعاء والبلاء يتعالجان، وليس من شرط الاعتراف بقضاء الله تعالى أن لا يجعل السلاح. وقد قال تعالى: {خذوا حذركم} [النساء: 71] ولا أن لا يسقى الأرض بعد بث البذر، فيقال إن سبق القضاء بالنبات نبت البذر وإن لم يسبق لم ينبت، بل ربط الأسباب بالمسببات هو القضاء الأول الذي هو كلمح البصر، وترتيب تفصيل المسببات على تفاصيل الأسباب على التدريج، والتقدير هو القدر والذي قدر الخير قدره بسبب، والذي قدر الشر قدر لدفعه سبباً، فلا تناقض بين هذه الأمور عند من انفتحت بصيرته. ثم في الدعاء من الفائدة (أي زيادة على الفائدة التي هي الإتيان بالسبب في رد البلاء) ما ذكرناه في الذكر وهو حضور القلب مع الله تعالى وهو منتهى العبادات، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: الدعاء مخ العبادة، والغالب على الخلق إنه لا تنصرف قلوبهم إلى ذكر الله إلا عند إلمام حاجة وإرهاق ملمة، فإن الإنسان إذا مسه الشر فذو دعاء عريض فالحاجة تحوج إلى الدعاء، والدعاء يرد القلب إلى الله عزوجل بالتضرع والاستكانة، فيحصل به الذكر الذي هو أشرف العبادات، ولذلك صار البلاء موكلاً بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل، لأنه يرد القلب بالافتقار والتضرع إلى الله وتمنع من نسيانه ويذكر بنعمته وإحسانه.

{الفصل الأول}

{الفصل الأول} 2245- (1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي إلى يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2245- قوله: (لكل نبي دعوة مستجابة) قال النووي: معناه إن كل نبي له دعوة متيقنة الإجابة، وهو على يقين من إجابتها. وأما باقي دعواتهم فهم على طمع من إجابتها، وبعضها يجاب وبعضها لا يجاب، وذكر القاضي عياض أنه يحتمل أن يكون المراد لكل نبي دعوة لأمته كما في الروايتين الأخيريتين يعني من روايات مسلم بلفظ: لكل نبي دعوة دعا بها في أمته، وبلفظ: لكل نبي دعوة دعاها لأمته. والمراد إن لكل منهم دعوة عامة مستجابة في حق الأمة إما بإهلاكهم وإما بنجاتهم. وأما الدعوات الخاصة فمنها ما يستجاب، ومنها ما لا يستجاب. وقيل معناه إن لكل منهم دعوة تخصه لدنياه أو لنفسه كقول نوح {رب لا تذر على الأرض} [نوح: 26] وقول زكريا {فهب لي من لدنك ولياً يرثني} [مريم: 5] وقول سليمان {رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي} [ص35] حكاه ابن التين (فتجعل كل نبي دعوته) أي استعجل في دعوته المقطوع بإجابتها وإني اختبأت دعوتي) أي ادخرت دعوتي المقطوع بالإجابة وجعلتها خبيئة من الاختباء وهو الستر. ووقع في رواية للشيخين، وإني أريد أن اختبىء، وفي حديث أنس عند البخاري فجعلت دعوتي. قال الحافظ: وكأنه - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يؤخرها ثم عزم ففعل ورجا وقوع ذلك فأعلمه الله به فجزم به (شفاعة لأمتي) أي أمة الإجابة يعني لأجل أن أصرفها لهم خاصة بعد العامة وفي جهة الشفاعة أو حال كونها شفاعة (إلى يوم القيامة) أي مؤخرة إلى ذلك اليوم وفي نسخة يوم القيامة على أنه ظرف للشفاعة قاله القاري. قلت: وفي صحيح مسلم يوم القيامة أي بدون إلى وكذا وقع في المصابيح، وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج11ص 122) فالظاهر إن ما وقع في أكثر نسخ المشكاة بذكر إلى غلط من النساخ فهي) أي الشفاعة (نائلة) أي واصلة حاصلة (إن شاء الله) قاله - صلى الله عليه وسلم - على جهة التبرك والامتثال لقوله تعالى: {ولا تقولن لشي إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله} [الكهف: 23] (من مات) في محل نصب على أنه مفعول به لنائلة (لا يشرك بالله) حال من فاعل مات (شيئاً) أي من الأشياء أو من الإشراك وهي أقسام. عدم دخول قوم النار. وتخفيف لبثهم فيها. وتعجيل دخولهم الجنة. ورفع درجات فيها. قال ابن بطال: في هذا الحديث بيان فضل نبينا - صلى الله عليه وسلم - على سائر الأنبياء حيث آثر أمته على نفسه وأهل بيته بدعوته المجابة، ولم يجعلها أيضاً دعاء عليهم بالهلاك، كما وقع لغيره ممن تقدم. وقال ابن الجوزي:

رواه مسلم وللبخاري أقصر منه. 2246- (2) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إني اتخذت عندك عهداً لن تخلفينه، ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا من حسن تصرفه - صلى الله عليه وسلم - لأنه جعل الدعوة فيما ينبغي ومن كثرة كرمه لأنه آثر أمته على نفسه ومن صحة نظره، لأنه جعلها للمذنبين من أمته لكونهم أحوج إليها من الطائعين. وقال النووي: فيه كمال شفقة النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته ورأفته بهم واعتناءه بالنظر في مصالحهم المهمة فأخر دعوته لأمته إلى أهم أوقات حاجتهم. وأما قوله فهي نائلة" الخ ففيه دليل لمذهب أهل الحق أهل السنة إن كل من مات غير مشرك بالله تعالى لا يخلد في النار ولو مات مصراً على الكبائر، يعني ففيه رد على من أنكر ذلك، ويرى أن الشفاعة لرفع الدرجات وغيره، ولا شفاعة لأهل الكبائر بل هم مخلدون في النار (رواه مسلم) في أواخر الإيمان (وللبخاري أقصر منه) فقد رواه في أول الدعوات بلفظ: لكل نبي دعوة يدعوا بها، وأريد أن أختبىء دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة، وفي باب المشيئة والإرادة من كتاب التوحيد بلفظ: لكل نبي دعوة فأريد إن شاء الله أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة. وأخرجه مسلم مطولاً كما في المشكاة ومقتصراً أيضاً كما عند البخاري. وأخرجه أحمد في مواضع منها في (ج2ص275) ومنها في صحيفة همام بن منبه (ج2ص313) ومالك في أواخر الصلاة والترمذي في الدعوات وابن ماجه في ذكر الشفاعة والخطيب في تاريخ بغداد (ج3ص424، ج11ص 141) وفي الباب عن أنس عند الشيخين وجابر عند مسلم، وابن عباس ضمن حديث مطول عند أبي يعلى وأحمد (ج1ص281- 295) وعبد الله بن عمرو بن العاص ضمن حديث أيضاً عند أحمد (ج2ص222) وعبادة بن الصامت عند أحمد والطبراني وعبد الرحمن بن أبي عقيل الثقفي عند الحاكم، والطبراني والبزار، وأبي سعيد عند أحمد والبزار وأبي يعلى والطبراني وأبي ذر عند البزار، وأبي موسى عند أحمد والطبراني وابن عمر عند الطبراني. 2246- قوله: (اللهم إني اتخذت) وقع في رواية لمسلم في أول الحديث، اللهم إنما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر، وإني قد اتخذت عند الله الخ. وأخرج مسلم من حديث عائشة بيان سبب هذا الحديث قالت: دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان فكلماه بشي لا أدري ما هو، فأغضباه فسبهما ولعنهما فلما خرجا قلت له: فقال أو ما علمت ما شارطت عليه ربي. قلت: اللهم إنما أنا بشر فأي المسلمين لعنته أو سببته فاجعله له زكاة وأجراً، وقوله "اتخذت" كذا في جميع النسخ بلفظ الماضي، وفي المصابيح اتخذ أي بصيغة المضارع كما في صحيح مسلم، وهكذا نقله الجزري (ج11ص330) نعم وقع في روايات أخرى لمسلم اتخذت أي بصيغة الماضي (عندك عهداً) أي أخذت منك وعداً أو أماناًَ (لن تخلفنيه) من الإخلاف لأن الكريم لا يخلف وعده قيل

فإنما أنا بشر، فأي المؤمنين آذيته: شتمته لعنته جلدته فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ أصل الكلام إني طلبت منك حاجة اسعفني بها ولا تخيبني فيها، فوضع العهد موضع الحاجة مبالغة في كونها مقضية ووضع لن تخلفنيه موضع لا تخيبني. وقيل وضع العهد موضع الوعد مبالغة وإشعاراً بأنه وعد لا يتطرق إليه الخلف كالعهد ولذلك استعمل فيه الخلف لا النقض لزيادة التأكيد. وقيل أراد بالعهد الأمان، والمعنى أسألك أماناً لن تجعله خلاف ما أترقبه وأرتجيه بأن تجعل ما بدر مني مما يناسب ضعف البشرية إلى مؤمن من أذية أنحوها نحوه أو دعوة أدعوا بها عليه قربة تقربه بها إليك، فإنما أنا بشر أتكلم في الرضا والغضب فلا آمن أن أدعوا على مسلم فيستضر به، وهذه الرأفة التي أكرم الله بها وجهه حتى حظي بها المسيء فما ظنك بالمحسن، وإنما وضع الاتخاذ موضع السؤال تحقيقاً للرجاء بأنه حاصل إذ كان موعوداً بإجابة الدعاء، ولهذا قال لن تخلفنيه أحل العهد المسؤل محل الشيء الموعود. ثم أشار إلى أن وعد الله لا يتأتي فيه الخلف فإن الألوهية تنافيه (فإنما أنا بشر) تمهيد لمعذرته فيما يندر عنه صلوات الله وسلامه عليه، يعني فيصدر مني ما يصدر من البشر، فأغضب نادراً في بعض الأحيان بحكم البشرية (فأي المؤمنين) وفي رواية فأي رجل من المسلمين وهو بيان وتفصيل لما كان يلتمسه - صلى الله عليه وسلم - بقوله اتخذت عندك عهداً (آذيته) أي بأي نوع من أنواع الأذى (شتمته إلخ) بيان لقوله آذيته وتفصيل له، ولذا لم يعطف. ومن ثم أفرد الضمير في فاجعلها رداً إلى الأذية. (لعنته جلدته) أي ضربته. قال الطيبي: ذكر هذه الأمور أي أنواع الإيذاء الثلاثة على سبيل التعداد من غير عاطف كقولك واحد اثنان ثلاثة، وقابلها بما يقابلها من أنواع التعطف والألطاف متناسقة أي بإثبات العاطف ليجمعها بإزاء كل واحد من تلك الأمور على سبيل الاستقلال، وليس من باب اللف والنشر - انتهى. قلت: وقع في الروايات الأخرى ذكر هذه الأمور بلفظ: "أو" ففي رواية لمسلم فأيما مؤمن آذيته أو سببته أو جلدته فاجعلها له كفارة وقربة، وفي أخرى له فأيما رجل من المسلمين سببته أو لعنته أو جلدته فاجعلها زكاة ورحمة، وفي حديث عائشة فأي المسلمين لعنته أو سببته فاجعله زكاة وأجراً (فاجعلها) أي تلك الأذية التي صدرت بمقتضى ضعف البشرية. وقيل: أي الكلمات المفهمة شتماً أو نحو لعنة (له) أي لمن آذيته من المؤمنين (صلاة) أي رحمة ورأفة تخصه بها وإكراماً وتلطفاً وتعطفاً توصله به إلى المقامات العلية (وزكاة) أي طهارة له من الذنوب ونماء وبركة في الأعمال والأموال (وقربة تقربه) أي تجعل ذلك المؤمن مقرباً (بها) أي بتلك القربة أو بكل واحدة من الصلاة وأختيها (إليك يوم القيامة) أي ولا تعاقبه بها في العقبى. ووقع في حديث أنس عند مسلم تقييد المدعو عليه بأن يكون ليس لذلك بأهل، ولفظه إنما أنا بشر أرضى كما يرضي البشر وأغضب كما يغضب البشر فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن تجعلها

له طهوراً وزكاة وقربة تقربه بها منه يوم القيامة، وفيه قصة لأم سليم. قال النووي: في الحديث بيان ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - من الشفقة على أمته والاعتناء بمصالحهم والاحتياط لهم والرغبة في كل ما ينفعهم. ورواية أنس تبين المراد بباقي الروايات المطلقة وإنما يكون دعاءه عليه رحمة وكفارة وزكاة، ونحو ذلك إذا لم يكن أهلا للدعاء عليه والسب واللعن ونحوه وما كان مسلماً وإلا فقد دعا - صلى الله عليه وسلم - على الكفار والمنافقين ولم يكن ذلك رحمة لهم. قلت: وهذا هو الجواب عما استشكل بأنه لعن جماعة كثيرة منها المصور والعشار ومن ادعى إلى غير أبيه والمحلل والسارق وشارب الخمر وآكل الربا وغيرهم. فيلزم أن يكون لهم رحمة وطهوراً، فالمراد في الحديث من لم يكن أهلا لذلك ومن لعنه في حال غضبه على مقتضى ضعف البشرية، فمن فعل منهياً عنه فلا يدخل في ذلك. فإن قيل كيف يدعوا - صلى الله عليه وسلم - بدعوة على من ليس لها بأهل أو يسبه أو يلعنه أو نحو ذلك أجيب بأن المراد بقوله ليس لها بأهل عندك في باطن أمره لا على ما يظهر مما يقتضيه حاله وجنايته حين دعائي عليه، يعني إن المراد ليس بأهل لذلك عند الله وفي باطن الأمر ولكنه في الظاهر مستوجب له فيظهر له صلى الله عليه وسلم استحقاقه لذلك بإمارة شرعية ويكون في باطن الأمر ليس أهلا لذلك فكأنه يقول من كان باطن أمره عندك إنه ممن ترضي عنه فاجعل دعوتي التي اقتضاها ما ظهر لي من مقتضى حاله حينئذ طهوراً وزكاة، وهذا معنى صحيح لا إحالة فيه لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان متعبداً ومأموراً بالحكم بالظواهر وحساب الناس في البواطن على الله فإنه هو المتولي للسرائر. فإن قيل فما معنى قوله "وأغضب كما يغضب البشر" فإن هذا يشير إلى أن تلك الدعوة وقعت بحكم سورة الغضب لا أنها على مقتضى الشرع فيعود السؤال. فالجواب إنه يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن دعوته عليه أو سبه أو جلده كان مما خير فيه بين أمرين عقوبة للجاني أحدهما هذا فعله والثاني تركه والزجر له بأمر آخر سوى ذلك فيكون الغضب لله تعالى حمله وبعثه على أحد الأمرين المخير فيهما وهو سبه أو لعنه أو جلده ونحو ذلك وليس ذلك خارجاً من حكم الشرع. ويحتمل أن يكون اللعن والسب يقع منه من غير قصد إليه فلا يكون في ذلك كاللعنة الواقعة رغبة إلى الله وطلباً للاستجابة. وأشار عياض إلى ترجيح هذا الاحتمال فقال: يحتمل أن يكون ما ذكره من سب ودعاء غير مقصود ولا منوي، لكن جرى على عادة العرب في دعم كلامها وصلة خطابها عند الحرج والتأكيد للعتب لا على نية وقوع ذلك كقولهم "عقري حلقي" و "تربت يمينك" وفي قصة أم سليم المذكورة في حديث أنس عند مسلم الذي أشرنا إليه "لا كبرت سنك" وفي حديث معاوية عند مسلم أيضاً "لا أشبع الله بطنه" ونحو ذلك لا يقصدون بشي من ذلك حقيقة الدعاء فخاف - صلى الله عليه وسلم - أن يصادف شيء من ذلك الإجابة وأشفق من موافقة أمثالها القدر فعاهد ربه ورغب إليه وسأله أن يجعل ذلك القول رحمة وكفارة وقربة وطهوراً وأجراً. وإنما كان يقع هذا منه في النادر والشاذ من الأزمان ولم يكن - صلى الله عليه وسلم - فاحشاً ولا متفشحاً ولا لعاناً ولا منتقماً لنفسه. قال الحافظ: وهذا الاحتمال الذي أشار عياض إلى

متفق عليه. 2247- (3) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دعا أحدكم فلا يقل: اللهم اغفر لي إن شئت، ـــــــــــــــــــــــــــــ ترجيحه حسن إلا أنه يرد عليه قوله جلدته فإن هذا الجواب لا يتمشى فيه إذ لا يقع الجلد عن غير قصد، وقد ساق الجمع مساقاً واحداً إلا أن حمل على الجلدة الواحدة فيتجه. ويحتمل أن يقال إنه كان لا يقول ولا يفعل - صلى الله عليه وسلم - في حال غضبه إلا الحق لكن غضبه الله قد يحمله على تعجيل معاقبة مخالفة وترك الاغضاء والصفح، ويؤيده حديث عائشة ما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمات الله وهو في الصحيح. قال الحافظ: فعلى هذا فمعنى قوله ليس لها بأهل أي من جهة تعين التعجيل قال. وفي الحديث كمال شفقته - صلى الله عليه وسلم - على أمته وجميل خلقه وكرم ذاته حيث قصد مقابلة ما وقع منه بالجبر والتكريم، وهذا كله في حق المعين في زمنه واضح. وأما ما وقع منه بطريق التعميم لغير معين حتى يتناول من لم يدرك زمنه - صلى الله عليه وسلم - فما أظنه يشمله والله اعلم - انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الدعوات، ومسلم في الأدب واللفظ المذكور لمسلم، وأخرجه أيضاً أحمد (ج2ص243) وأبويعلى وقد جاء هذا الحديث من طرق مختلفة اللفظ باتفاق المعنى، فقد ورد عن عائشة وجابر وأنس عند مسلم وعن أبي سعيد عند أبي يعلى وسمرة بن جندب عند الطبراني وأبي الطفيل عامر بن واثلة عند الطبراني أيضاً وأنس وعائشة أيضاً عند أحمد بغير السياق الذي في صحيح مسلم. 2247- قوله: (إذا دعا أحدكم) أي طلب من الله وسأله شيئاً (فلا يقل اللهم اغفر لي إن شئت إلخ) قال في المفاتيح: نهى عن قول إن شئت في الدعاء لأن هذا شك في قبول الدعاء، ولأن لفظ إن شئت إذا قلته لأحد معناه إني جعلت الخيرة إليك يعني لم يكن قبل قولك إن شئت مختاراً، بل لو لم تقل إن شئت كان يلزم عليه قبول الدعاء شاء أو لم يشأ فإذا قلت إن شئت جعلته مخيراً وهذا لا يجوز في حق الله سبحانه وتعالى فإنه لا حكم لأحد عليه وليس لأحد أن يكرهه بل هو فعال لما يريد. فكيف يجوز أن يقال له إن شئت بل يعزم السائل مسألته وليسأل من غير شك وتردد بل ليكن متيقناً في قبول الدعاء، فإن الله كريم لا بخل عنده وقدير لا يعجز عن شيء – انتهى. وقال الباجي: معنى الحديث لا يشترط مشيئة باللفظ، فإن ذلك أمر معلوم متيقن إنه لا يغفر إلا أن يشاء ولا يصح غير هذا، فلا معنى لاشتراط المشيئة لأنها إنما تشترط فيمن يصح منه أن يفعل دون أن يشاء بالإكراه وغيره مما تنزه الله سبحانه عنه. وقد بين ذلك صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث بقوله "فإنه لا مكره له" - انتهى. مع أنه يتضمن إيهام الاستغناء الغير اللائق بمقام الدعاء والسؤال فاللائق بالمقام تركه، والنهي للتحريم أو للتنزيه فيه خلاف. قال الحافظ قال ابن عبد البر: لا يجوز لأحد أن يقول اللهم أعطني إن شئت وغير ذلك من أمور الدين والدنيا، لأنه كلام مستحيل لا وجه له، لأنه لا يفعل إلا ما شاءه وظاهره إنه

ارحمني إن شئت، ارزقني إن شئت، وليعزم مسئلته إنه يفعل ما يشاء، ولا مكره له)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ حمل النهي على التحريم وهو الظاهر. وحمل النووي النهي في ذلك على كراهة التنزيه وهو أولى يؤيده حديث الاستخارة. قال وقال الداودي: لا يقل إن شئت كالمستثنى ولكن دعاء البائس الفقير. قلت: وكأنه أشار بقوله كالمستثنى إلى أنه إذا قالها على سبيل التبرك لا للاستثناء لا يكره وهو جيد – انتهى. (ارحمني إن شئت ارزقني إن شئت) أي ونحو ذلك فالمذكور كله أمثلة (وليعزم) بكسر الزاء (مسئلته) أي ليطلب جازماً من غير شك وتردد، والمراد بالمسألة الدعاء. وقد وقع في رواية لأحمد ومسلم الدعاء، يقال عزم الأمر وعليه عقد ضميره على فعله وصمم عليه وعزم الرجل جدّ في الأمر. قال الجزري: عزمت على الأمر إذا عقدت قلبك عليه وجددت في فعله، والعزم الجد والقطع، على فعل الشيء ونفي التردد عنه، والمعنى لا تكن في دعائك متردداً بل أجزم المسألة – انتهى. وقال غيره: عزم المسألة الشدة في طلبها، والجزم بها من غير ضعف في الطلب ولا تعليق على مشيئة ونحوها، يعني هو أن يجزم بوقوع مطلوبة ولا يعلق ذلك بمشيئة الله تعالى. وقيل هو حسن الظن بالله تعالى في الإجابة. وقال الداودي: ليعزم المسألة أي يجتهد ويلح ولا يقل إن شئت كالمستثنى ولكن دعاء البائس الفقير. قلت: وأخرج الطبراني في الدعاء قال الحافظ: بسند رجاله ثقات إلا أن فيه عنعنة بقية عن عائشة مرفوعاً (إن الله يحب الملحين في الدعاء) قال ابن بطال: في الحديث أنه ينبغي للداعي أن يجتهد في الدعاء ويكون على رجاء الإجابة ولا يقنط من الرحمة فإنه يدعوا كريماً: وقال ابن عيينة: لا يمنعن أحداً الدعاء ما يعلم في نفسه يعني من التقصير فإن الله تعالى قد أجاب دعاء شر خلقه وهو إبليس حين قال {رب أنظرني إلى يوم يبعثون} [الأعراف: 14] (إنه يفعل ما يشاء) استئناف فيه معنى التعليل، وفي رواية لمسلم فإن الله صانع ما شاء (ولا مكره) بكسر الراء وفي حديث أنس عند الشيخين لا مستكره من الاستكراه، وهما بمعنى وقوله "ولا مكره" كذا وقع في أكثر النسخ بذكر العاطف، وفي بعضها لا مكره أي بحذفه، وهكذا في البخاري وكذا في المصابيح وجامع الأصول (له) أي لله على الفعل أو لا يقدر أحد أن يكرهه على فعل أمر أراد تركه ولا حكم لأحد عليه بل يفعل ما يشاء فلا معنى لقوله "إن شئت" لأنه أمر معلوم من الدين بالضرورة فلا حاجة إلى التقييد به مع أنه موهم لعدم الاعتناء بوقوع ذلك الفعل أو لاستعظامه على الفاعل على المتعارف بين الناس. وقال الحافظ: المراد أن الذي يحتاج إلى التعليق بالمشيئة ما إذا كان المطلوب منه يتأتي إكراهه على الشيء فيخفف الأمر عليه ويعلم بأنه لا يطلب منه ذلك الشيء إلا برضاه. وأما الله سبحانه فهو منزه عن ذلك فليس للتعليق فائدة. وقيل: المعنى أي سبب المنع إن فيه صورة الاستغناء عن المطلوب والمطلوب منه والأول أولى – انتهى. وقد تقدم إن للدعاء شروطاً وآداباً كثيرة، وقد ذكر في هذا الحديث ما هو من أهم آدابه وأفرده بالذكر

رواه البخاري. 2248- (4) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دعا أحدكم فلا يقل اللهم اغفر لي إن شئت، ولكن ليعزم وليعظم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه)) . رواه مسلم. 2249- (5) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة، ـــــــــــــــــــــــــــــ اهتماماً بشأنه (رواه البخاري) في باب المشيئة والإرادة من كتاب التوحيد إلا أنه ليس فيه قوله إذا دعا أحدكم بل أول الحديث لا يقل أحدكم "اللهم اغفر لي الخ" وأخرجه في الدعوات مختصراً بلفظ: لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت ليعزم المسئلة فإنه لا مكره له، وأخرج مسلم نحوه وكذا أحمد ومالك والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وابن أبي شيبة، وفي الباب عن أنس عند أحمد والشيخين والنسائي وأبي سعيد عند ابن أبي شيبة والبخاري في الأدب المفرد. 2248- قوله: (إذا دعا أحدكم فلا يقل اللهم اغفر لي إن شئت) أي مثلا (ولكن ليعزم) أي ليجزم بالمسئلة (وليعظم) بالتشديد (الرغبة) أي الميل فيه بالإلحاح. قال الحافظ: معنى قوله "ليعظم الرغبة" أي يبالغ في ذلك بتكرار الدعاء والإلحاح فيه، ويحتمل أن يراد به الأمر بطلب الشيء العظيم الكثير ويؤيده ما في آخر هذه الرواية، فإن الله لا يتعاظمه شيء – انتهى. (فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه) الضمير المنصوب في "أعطاه" يرجع إلى شيء يعني لا يعظم عليه إعطاء شيء بل جميع الموجودات في أمره يسير وهو على كل شيء قدير، يقال تعاظم زيداً هذا الأمر أي كبر وعظم عليه وعسر عليه (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً البخاري في الأدب المفرد وابن حبان وأبوعوانة. 2249- قوله: (يستجاب) بصيغة المجهول من الاستجابة بمعنى الإجابة. قال الشاعر: فلم يستجبه عند ذاك مجيب (للعبد) أي بعد شروط الإجابة وقوله "يستجاب" كذا وقع في جميع النسخ الحاضرة من المشكاة وكذا في المصابيح، ولمسلم لا يزال يستجاب، وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول والحافظ والقسطلاني في شرحيهما (ما) ظرف ليستجاب بمعنى المدة أي مدة كونه (لم يدع بإثم) أي بمعصية مثل أن يقول اللهم قدرني على قتل فلان وهو مسلم ليس مستوجباً للقتل، أو اللهم ارزقني الخمر أو الفلانة وهي محرمة عليه ويريد زناها. (أو قطيعة رحم) أي بالقطع بينه وبين أقاربه مثل أن يقول اللهم بعد بيني وبين أبي وأمي أو أخي وما أشبه ذلك فهو تخصيص بعد تعميم. قال الجزري: القطيعة الهجر والصّد والرحم والأقارب والأهلون، والمراد أن

ما لم يستعجل. قيل: يا رسول الله! ما الاستعجال! قال: يقول: قد دعوت، وقد دعوت. فلم أر يستجاب لي، ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يصل أهله ويبرّهم ويحسن إليهم (ما لم يستعجل) وفي رواية ما لم يعجل بفتح التحتية، والجيم بينهما عين ساكنة من سمع يعني يقبل دعاءه بشرط أن لا يستعجل. قال الطيبي: الظاهر ذكر العاطف في قوله "ما لم يستعجل" لكنه ترك تنبيها على استقلال كل من القيدين أي يستجاب ما لم يدع بإثم يستجاب ما لم يستعجل (قال) أي النبي صلى الله عليه وسلم (يقول) أي الدعي (قد دعوت وقد دعوت) أي مرة بعد أخرى يعني مرات كثيرة فتكرار "دعوت" للاستمرار أي دعوت مراراً كثيراً (فلم أر يستجاب لي) قال القاري: أي لم أر آثار استجابة دعائي وهو إما استبطاء أو إظهار يأس وكلاهما مذموم، أما الأول فلأن الإجابة لها وقت معين كما ورد إن بين دعاء موسى وهارون على فرعون وبين الإجابة أربعين سنة. وأما القنوط فلا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون مع أن الإجابة على أنواع: منها تحصيل عين المطلوب في الوقت المطلوب ومنها وجوده في وقت آخر لحكمة اقتضت تأخيره ومنها دفع شر بدله أو إعطاء خير آخر خير من مطلوبه ومنها ادخاره ليوم يكون أحوج إلى ثوابه – انتهى. قلت: المراد بالاستجابة في الحديث وفي قوله تعالى: {ادعواني استجب لكم} [غافر: 60] وقوله {أجيب دعوة الداع إذا دعان} [البقرة: 186] ما هو أعم من تحصيل المطلوب بعينه، أو ما يقوم مقامه ويزيد عليه، فكل داع يستجاب له بشروط الإجابة لكن تتنوع الإجابة فتارة تقع بعين ما دعا به وتارة بعوضه. وقد ورد في ذلك حديث صحيح أخرجه الترمذي والحاكم من حديث عبادة بن الصامت رفعه ما على الأرض مسلم يدعوا بدعوة إلا آتاه الله إياها أو صرف عنه السوء مثلها، ولأحمد من حديث أبي هريرة إما أن يعجلها له وإما أن يدخرها له، وسيأتي حديث أبي سعيد في الفصل الثالث ما من مسلم يدعوا بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث، إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها وإلى ذلك أشار القاري، وأشار إليه أيضاً ابن الجوزي بقوله اعلم أن دعاء المؤمن لا يرد غير أنه قد يكون الأولى له تأخير الإجابة أو يعوض بما هو أولى له عاجلاً أو آجلاً، فينبغي للمؤمن أن لا يترك الطلب من ربه فإنه متعبد بالدعاء كما هو متعبد بالتسليم والتفويض، وفي رواية للشيخين وغيرهما يستجاب لأحدكم (أي يجاب دعاء كل واحد منكم إذا سم الجنس المضاف يفيد العموم على الأصح) ما لم يعجل بقول (بيان لقوله يعجل) دعوت فلم يستجب لي (بضم المثناة التحتية وفتح الجيم) قال الباجي: قوله "يستجاب لأحدكم" الخ يحتمل معنيين أن يكون بمعنى الإخبار عن وجوب وقوع الإجابة. والثاني: الإخبار عن

فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء)) . رواه مسلم. 2250- (6) وعن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعوة المرء المسلم لأخيه، ـــــــــــــــــــــــــــــ جواز وقوعها فإذا كانت بمعنى الإخبار عن الوجوب فالإجابة تكون لأحد الثلاثة أشياء إما أن يعجل ما سأل فيه وإما أن يكفر عنه به، وإما أن يدخر له فإذا قال دعوت فلم يستجب لي بطل وجوب أحد هذه الثلاثة الأشياء وعري الدعاء من جميعها. وإذا كان بمعنى جواز الإجابة فالإجابة تكون حينئذ بفعل ما دعا به خاصة، ويمنع من ذلك قول الداعي قد دعوت فلم يستجب لي لأن ذلك من باب القنوط وضعف اليقين والسخط – انتهى. (فيستحسر) أي ينقطح ويمل ويفتر وهو بمهملات استفعال من حسر إذا أعي وتعب وانقطع عن الشي. وقال الجزري: الاستحسار الاستنكاف عن السؤال وأصله من حسر الطرف إذا كل وضعف نظره يعني أن الداعي إذا تأخرت إجابته تضجر ومل فترك الدعاء واستنكف – انتهى. (عند ذلك) أي عندْ رؤيته عدم الاستجابة في الحال (ويدع) بفتح الدال المهلة (الدعاء) أي يتركه مطلقاً أو ذلك الدعاء. قال المظهري: من كان له ملالة من الدعاء لا يقبل دعاءه، لأن الدعاء عبادة حصلت الإجابة أو لم تحصل فلا ينبغي للمؤمن أن يمل من العبادة وتأخير الإجابة إما لأنه لم يأت وقتها فإن لكل شيء وقتا مقدارا في الأزل فما لم يأت وقته لا يكون ذلك الشي، وإما لأنه لم يقدر في الأزل قبول دعاءه في الدنيا وإذا لم يقبل دعاءه يعطيه الله في الآخرة من الثواب عوضه، وإما أن يؤخر قبول دعاءه ليلح ويبالغ في الدعاء فإن الله تعالى يحب الإلحاح في الدعاء مع ما في ذلك من الانقياد والاستسلام وإظهار الافتقار، ومن يكثر قرع الباب يوشك أن يفتح له، ومن يكثر الدعاء يوشك أن يستجاب له فلا ينبغي أن يترك الدعاء. وقال ابن بطال: المعنى إنه يسأم فيترك الدعاء كالمانّ بدعاءه أو إنه أتى من الدعاء ما يستحق به الإجابة فيصير كالمبخل للرب الكريم الذي لا تعجزه الإجابة ولا ينقصه العطاء. وفي هذا الحديث أدب من آداب الدعاء وهو أنه يلازم الطلب ويديم الدعاء ولا يستبطىء الإجابة ولا ييأس منها، لما في ذلك من الانقياد والاستسلام وإظهار الافتقار حتى قال بعض السلف لأنا أشد خشية أن أحرم الدعاء من أحرم الإجابة وكأنه أشار إلى حديث ابن عمر الآتي في الفصل الثاني من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة – الحديث. (رواه مسلم) وأخرج أيضاً مالك والبخاري والترمذي وأبوداود وابن ماجه نحوه مختصراً ومطولاً بألفاظ، وفي الباب عن أنس عند أحمد وأبي يعلى والبزار والطبراني، وفيه أبوهلال الراسبي وهو ثقة، وفيه خلاف وبقية رجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح، وعن عبادة الصامت أخرجه الطبراني في الأوسط، وفيه مسلمة بن علي وهو ضعيف كذا في مجمع الزوائد. 2250- قوله: (دعوة المرء المسلم) أي الشخص الشامل للرجل والمرأة (لأخيه) في الدين أي المسلم

بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك مؤكل، كلما دعا لأخيه بخير. قال الملك المؤكل به: آمين، ولك بمثل)) . رواه مسلم. 2251- (7) وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، ـــــــــــــــــــــــــــــ (بظهر الغيب) أي في غيبة المدعو له وفي السر. قال القاري: الظهر مقحم للتأكيد أي في غيبة المدعو له عنه وإن كان حاضراً معه بأن دعا له بقلبه حينئذ أو بلسانه ولم يسمعه. (مستجابة) يعني إذا دعا مسلم لمسلم بخير في غيبة أي بحيث لا يشعر ولو كان حاضراً في المجلس يستجاب دعاءه، لأن هذا الدعاء أبلغ في الإخلاص لله تعالى، وليس للرياء ولا لطمع عوض وما كان كذلك يكون مقبولاً. قال الطيبي: موضع بظهر الغيب نصب على الحال من المضاف إليه، لأن الدعوة مصدر أضيف إلى فاعله، ويجوز أن يكون ظرفاً للمصدر وقوله "مستجابة" خبر لها (عند رأسه) أي الداعي (ملك) جملة مستأنفة مبينة لسبب استجابة دعا الشخص بالغيب. وتخلف الإجابة لعائق من عدم أكل الحلال أو عدم صدق نية مثلاً (مؤكل) أي بتأمين دعاءه أو بالدعاء له عند دعاءه لأخيه (كلما دعا لأخيه بخير) أي أو دفع شر (آمين) أي استجب له يا رب دعاءه لأخيه فقوله (ولك) فيه التفات أو استجباب الله دعاءك في حق أخيك ولك أيها الداعي (بمثل) بكسر الميم وإسكان المثلثة وتنوين اللام يقال هو مثله ومثيله بزيادة الياء أي عديلة سواء يعني ولك مثل ما دعوت به لأخيك، قال الطيبي: الباء زائدة في المبتدأ كما في بحسبك درهم – انتهى. قال النووي: في هذا الحديث فضل الدعاء لأخيه المسلم بظهر الغيب ولو دعا لجماعة من المسلمين حصلت هذه الفضيلة ولو دعا لجميع المسلمين، فالظاهر حصولها أيضاً وكان بعض السلف إذا أراد أن يدعو لنفسه يدعو لأخيه المسلم بتلك الدعوة لأنها تستجاب ويحصل له مثلها (رواه مسلم) في الدعوات، وأخرجه أيضاً أحمد (ج5ص195) وأبوداود في أواخر الصلاة وابن ماجه في الحج، والبخاري في الأدب المفرد وابن أبي شيبة وأبوعوانة وابن حبان، وفي الباب عن أنس أخرجه البزار، وعن أم كرز أخرجه أبوبكر في الغيلانيات وعن أبي هريرة أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق. 2251- قوله: (لا تدعوا) أي دعاء سوء (على أنفسكم) أي بالهلاك والويل ونحو ذلك عند التضجر في مصيبة المرض أو الموت مثلا (ولا تدعوا على أولادكم) أي بالعمى واللعن ونحو ذلك وقد كثرت وغلبت هذه البلية في النساء فإنهن يدعون على أولادهن عند الضجر والملال (ولا تدعوا على أموالكم) قال القاري: أي من العبيد والإماء بالموت وغيره. قلت: زاد في رواية أبي داود ولا تدعوا على خدمكم قبل قوله "ولا تدعوا على

{الفصل الثاني}

لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم)) . رواه مسلم، وذكر حديث ابن عباس: ((اتق دعوة المظلوم)) . في كتاب الزكاة. {الفصل الثاني} 2252- (8) عن النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدعاء هو العبادة. ـــــــــــــــــــــــــــــ أموالكم" فالظاهر إن المراد بالأموال في رواية مسلم ما هو الأعم من العبيد والإماء (لا توافقوا) نهى للداعي أي وعلة للنهي أي لا تدعوا على من ذكر لئلا توافقوا (من الله ساعة) أي ساعة إجابة (يسأل) أي الله (فيها عطاء) بالنصب على أنه مفعول ثان. قال القاري: وفي نسخة يعني من المشكاة بالرفع على أنه نائب الفاعل ليسأل – انتهى. وفي رواية أبي داود لا توافقوا من الله ساعة نيل فيها عطاء. قال المظهر: العطاء ما يعطي من خير أو شر وأكثر استعمال العطاء يكون في الخير والمعنى ههنا يسئل فيها مسئلة (فيستجيب) بالرفع عطفاً على يسئل أو التقدير فهو يستجيب (لكم) يعني لا تدعوا دعاء سوء على ما ذكر مخافة أن يصادف دعوتكم ساعة إجابة فيستجاب دعاءكم السوء ثم تندموا على ما دعوتم ولا ينفعكم الندامة يعني لا تدعوا إلا بخير. وقيل "فيستجيب" منصوب لأنه جواب "لا توافقوا" قال الطيبي: جواب النهي من قبيل لا تدن من الأسد فيأكلك على مذهب أي مذهب الكسائي ويحتمل أن يكون مرفوعا أي فهو يستجيب (رواه مسلم) في أثناء حديث جابر الطويل في آخر صحيحه، وأخرجه أيضاً أبوداود في أواخر الصلاة، وفي الباب عن أم سلمة بلفظ: لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون، وقد تقدم في باب ما يقال عند من حضره الموت (ج1ص449) . (وذكر حديث ابن عباس إتق) أي احذر (دعوة المظلوم) أي لا تظلم أحداً بأن تأخذ منه شيئاً ظلماً أو تمنع أحداً حقه تعدياً أو تتكلم في عرضه افتراء حتى لا يدعوا عليك، وتمام الحديث فإنه ليس بينها وبين الله حجاب. (في كتاب الزكاة) في أوله لكونه في ضمن حديث طويل هناك فأسقطه للتكرار ونبه عليه لا لكون الحديث أنسب بذلك الكتاب حتى يرد السؤال والجواب. 2253- قوله: (الدعاء هو العبادة) هذه الصفة المقتضية للحصر من جهة تعريف المسند إليه ومن جهة تعريف المسند ومن جهة ضمير الفصل تقتضي أن الدعاء هو أعلى أنواع العبادة وأرفعها وأشرفها، وإلى هذا أشار بقوله الدعاء مخ العبادة. قال الطيبي: معنى الحديث أن تحمل العبادة على المعنى اللغوي إذا الدعاء هو إظهار غاية التذلل والافتقار إلى الله والاستكانة له، وما شرعت العبادات إلا للخضوع للباري وإظهار الافتقار وينصر هذا

ثم قرأ: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} ـــــــــــــــــــــــــــــ التأويل ما بعد الآية المتلوة {إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم} [غافر: 6] داخرين حيث عبر عن عدم الافتقار والتذلل والخضوع بالاستكبار، ووضع عبادتي موضع دعائي وجعل جزاء ذلك الاستكبار الصغار والهوان. وقيل: لا وجه لحمل العبادة على المعنى اللغوي ولا فائدة فيه والأقرب أن يقال أن العبادة سواء كانت دعاء أم غيره لا يخلو أن يقصد بها استدعاء رضوان الله تعالى واستدفاع سخطه أو يقصد بها غرض دنيوي محض كالتوسعة في الرزق ليتنعم والشفاء من المرض ليتخلص من الألم وعلى كل فذلك القصد يصح أن يسمى دعاء، لأنه دعاء قلبي وإذا اعتبرنا العبادات الشرعية سوى الدعاء وجدنا الشارع، قد شرع الدعاء في كل منهما بما يوافق ذلك القصد فصار الدعاء عبارة عن الأمرين، السؤال باللسان والقصد بالجنان، لأن الدعاء باللسان إنما هو ترجمة لذلك القصد فإذا صح هذا فإننا إذا أفرزنا الدعاء من العبادة وهو القصد القلبي وترجمته اللسانية لم يبق من العبادة إلا صورتها. ولا شك أن القصد القلبي مع الترجمة عنه أكرم على الله تعالى وأشرف من صورة العبادة مجردة عن ذلك، ولهذا صح إن الدعاء مخ العبادة، وهو معنى قوله إن الدعاء هو العبادة على وزان قوله الحج عرفة وقد يتوسع في هذا فيقال إن صورة العبادة كالصوم دعاء بالحال، وبهذا يصح إن العبادات كلها دعاء. وقال ميرك: أتى بضمير الفصل والخبر المعرف باللام ليدل على الحصر في أن العبادة ليست غير الدعاء مبالغة ومعناه إن الدعاء معظم العبادة كما قال صلى الله عليه وسلم (الحج عرفة أي معظم أركان الحج الوقوف بعرفة) . قال القاري في شرح الحصن بعد نقل كلام ميرك: والأظهر أن الحصر حقيقي لا ادعائي فإن إظهار العبد العجز، والاحتياج عن نفسه والاعتراف بأن الله تعالى قادر على إجابته سواء استجاب له أو لم يستجب كريم غني لا بخل له ولا فقر ولا احتياج له إلى شيء حتى يدخر لنفسه ويمنعه من عباده هو عين العبادة بل مخها – انتهى. (ثم قرأ وقال ربكم ادعوني استجب لكم) ذكر الآية بعد الحديث على وجه البيان لأن في الآية الأمر بالدعاء والقيام بحكم الأمر هو العبادة. قال القاري: قيل استدل بالآية على أن الدعاء عبادة لأنه مأمور به والمأمور به عبادة. وقال القاضي البيضاوي: لما حكم بأن الدعاء هو العبادة الحقيقية التي تستحق أن تسمى عبادة من حيث أنه يدل على أن فاعله مقبل بوجهه إلى الله تعالى معرض عمن سواه لا يرجو ولا يخاف إلا منه استدل عليه بالآية فإنها تدل على أنه أمر مأمور به إذا أتى به المكلف قبل منه لا محالة وترتب عليه المقصود ترتب الجزاء على الشرط، والمسبب على السبب وما كان كذلك كان أتم العبادات وأكملها، ويقرب منه قوله مخ العبادة أي خالصها. وقيل الاستدلال بالآية بتمامها وذلك لأن أول الكلام مسوق للدعاء، فالمناسب به أن يقول: إن الذين يستكبرون عن دعائي، فإطلاق العبادة في موضع الدعاء ويدل على أن الدعاء عبادة. قال الحافظ: هذه الآية ظاهرة في ترجيح الدعاء على ...

رواه أحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه. 2253- (9) وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدعاء مخ العبادة)) . رواه الترمذي. 2254- (10) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس شيء أكرم ـــــــــــــــــــــــــــــ التفويض وأجاب عنها من ذهب إلى أن الأفضل ترك الدعاء والاستسلام للقضاء بأن آخرها دل على أن المراد بالدعاء (أي في الآية) العبادة لقوله: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي} واستدلوا بحديث النعمان يعني الذي نحن في شرحه. وأجاب الجمهور أي الذين قالوا بترجيح الدعاء على التفويض بأن الدعاء من أعظم العبادة فهو كالحديث الآخر الحج عرفة أي معظم الحج وركنه الأكبر، ويؤيده حديث الدعاء مخ العبادة، وقد تواردت الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالترغيب في الدعاء والحث عليه. وقال الشيخ تقي الدين السبكي: الأولى حمل الدعاء في الآية على ظاهره، وأما قوله بعد ذلك عن عبادتي فوجه الربط إن الدعاء أخص من العبادة فمن استكبر عن العبادة استكبر عن الدعاء وعلى هذا فالوعيد إنما هو في حق من ترك الدعاء استكباراً، ومن فعل ذلك كفراً، وأما من تركه لمقصد من المقاصد فلا يتوجه إليه الوعيد المذكور، وإن كنا نرى أن ملازمة الدعاء والاستكثار أرجح من الترك لكثرة الأدلة الواردة في الحث عليه – انتهى. قلت: الأمر في الآية للاستحباب والوعيد ليس على ترك الدعاء مطلقاً بل على تركه استكباراً (رواه أحمد) (ج4ص267، 271، 276) (والترمذي) في تفسير سورتي البقرة والمؤمن وفي الدعوات. وقال: هذا حديث حسن صحيح. (وأبوداود) في أواخر الصلاة وسكت عنه. ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره (والنسائي) في الكبرى (وابن ماجه) في الدعاء وأخرجه أيضاً البخاري في الأدب المفرد وابن أبي شيبة في مصنفه وابن حبان في صحيحه، والحاكم (ج1ص491) والطبراني في كتاب الدعاء. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي وأخرجه أبويعلى من حديث البراء كما في الكنز. 2253- قوله: (الدعاء مخ العبادة) المخ بالضم نقي العظيم والدماغ وشحمة العين وخالص كل شي، والمعنى إن الدعاء لب العبادة وخالصها، وذلك لأن الداعي إنما يدعوا الله عند انقطاع أمله مما سواه، وذلك حقيقة التوحيد والإخلاص ولا عبادة فوقهما، قال ابن العربي: وبالمخ تكون القوة للأعضاء فكذا الدعاء مخ العبادة به تتقوى عبادة العابدين فإنه روح العبادة (رواه الترمذي) في الدعوات. وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة – انتهى. وابن لهيعة فيه مقال مشهور، وأخرج البخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة مرفوعاً أشرف العبادة الدعاء. 2254- قوله: (ليس شيء أكرم) بالنصب على أنه خبر ليس أي أكثر كرامة أي شرفاً يعني أعلى قدراً

على الله من الدعاء)) . رواه الترمذي، وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. 2255- (11) وعن سلمان الفارسي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يرد القضاء ـــــــــــــــــــــــــــــ وأرفع درجة. وقيل أي أفضل وأشرف (على الله) أي عند الله (من الدعاء) أي من حسن السؤال والطلب لأن فيه إظهار الفقر والعجز والتذلل والاعتراف بقوة الله وقدرته والمعنى ليس شيء من أنواع العبادات القولية أكرم عند الله من الدعاء لأن شرف كل شيء يعتبر في بابه فلا يرد أن الصلاة أفضل العبادات البدنية، ولا يتوهم أنه مناف لقوله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات: 13] وقيل: الأظهر أن الدعاء أفضل من جميع الأذكار والطاعات وقيل: المراد بقوله أكرم أسرع قبولاً وأنفع تأثيراً. وقيل يمكن أن يراد بالدعاء الدعاء إلى الله تعالى فيكون المعنى أكرم الأعمال هو الهداية إلى الله تعالى التي هي وظيفة الرسل والعلماء النائبين عنهم، وهذا معنى صحيح ولا يظهر فيه إشكال فتأمل (رواه الترمذي وابن ماجه) في الدعوات وأخرجه أيضاً أحمد، والبخاري في الأدب المفرد وفي التاريخ وابن حبان والحاكم (ج1ص490) (وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب) وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد وأقره الذهبي. قال الشوكاني: وإنما لم يصححه الترمذي لأن في إسناده عمران بن داور القطان ضعفه النسائي وأبوداود ومشاة أحمد. وقال ابن القطان: رواته كلهم ثقات إلا عمران، وفيه خلاف - انتهى. قلت: عمران هذا قال البخاري فيه: إنه صدوق يهم، ووثقه عفان والعجلي. وقال الساجي والحاكم: صدوق، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال أحمد: أرجو أن يكون صالح الحديث وضعفه أبوداود والنسائي. وقال ابن معين: ليس بالقوي. وقوله هذا حديث حسن غريب كذا وقع في النسخ المطبوعة في الهند من المشكاة وفي النسخة التي على هامش المرقاة، وهكذا نقله الشوكاني في تحفة الذاكرين وليس في نسخ الترمذي الموجودة عندنا لفظ حسن، وكذا لم يقع في متن المرقاة ولم يذكره البغوي أيضاً والحديث لا ينزل عن درجة الحسن. 2255- قوله: (لا يرد القضاء) بالنصب على المفعولية (إلا الدعاء) قال القاري أخذاً عن التوربشتي: القضاء هو الأمر المقدر. وتأويل الحديث إنه إن أراد بالقضاء ما يخافه العبد من نزول المكروه به ويتوقاه، فإذا وفق للدعاء دفعه الله عنه فتسميته قضاء مجاز على حسب ما يعتقده المتوقي عنه يوضحه، قوله - صلى الله عليه وسلم - في "الرقى" هو من قدر الله، وقد أمر بالتداوي والدعاء مع أن المقدور كائن لخفاءه على الناس وجوداً وعدماً. ولما بلغ عمر الشام وقيل له إن بها طاعونا رجع. فقال أبوعبيدة: أتفر من القضاء يا أمير المؤمنين؟ فقال لو غيرك قالها يا أبا عبيدة نعم! نفر من قضاء الله أو أراد برد القضاء إن كان المراد حقيقته تهوينه وتيسير الأمر حتى كأنه لم ينزل يؤيده قوله في الحديث الآتي إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل - انتهى. وقيل هكذا كله تكلف وحقيقة المعنى إن المراد بالقضاء

إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر)) . رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ القضاء الذي علق رده بالدعاء وجعل الدعاء سبباً لرده، فإن القضاء لا ينافي السبب والمسبب، فمن جملة القضاء أن يكون شيء سبباً لحصول شيء أو يكون سبباً لرده فالدعاء ورد البلاء به من قدر الله تعالى فقد يقضى بشي على عبده قضاء مقيداً بأن لا يدعوه، فإن دعاءه اندفع عنه فالدعاء كالترس والبلاء كالسهم (ولا يزيد في العمر) بضم الميم وتسكن (إلا البر) بكسر الباء وهو الإحسان والطاعة. والظاهر إنه يزاد حقيقة قال تعالى: {وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب} [فاطر: 11] وقال: {يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} [الرعد: 39] والمعنى أنه لو لم يكن باراً لقصر عمره من القدر الذي كان إذا بر، والتفاوت إنما يظهر في التقدير المعلق لا فيما يعلم الله تعالى إن الأمر يصير إليه فإن ذلك لا يقبل التغيير، ولا يخفي ما بين الحصرين المستفادين من الجملتين من التناقض فيجب حمل القدر أي المقدر في الجملة الأولى على غير العمر فليتأمل ذكر في الكشاف إنه لا يطول عمر الإنسان ولا يقصر إلا في كتاب، وصورته أن يكتب في اللوح إن لم يحج فلان أو يغز فعمره أربعون سنة وإن حج وغزا فعمره ستون سنة فإذا جمع بينهما فبلغ الستين فقد عمر وإذا أفرد أحدهما فلم يتجاوز به الأربعين فقد نقص من عمره الذي هو الغاية وهو الستون، وذكر نحوه في معالم التنزيل وقيل معناه إذا بر لا يضيع عمره فكأنه زاد وقيل قدر أعمال البر سبباً لطول العمر كما قدر الدعاء سبباً لرد البلاء، فالبر على الوالدين وبقية الأرحام يزيد في العمر، إما بمعنى أنه يبارك له في عمره فييسر له في الزمن القليل من الأعمال الصالحة ما لا يتيسر لغيره من العمل الكثير فالزيادة مجازية لأنه يستحيل في الآجال الزيادة الحقيقية. قال الطيبي: اعلم أن الله تعالى إذا علم أن زيداً يموت سنة خمس مائة استحال أن يموت قبلها أو بعدها فاستحال أن تكون الآجال التي عليها علم الله تزيد أو تنقص فتعين تأويل الزيادة إنها النسبة إلى ملك الموت أو غيره ممن وكل بقبض الأرواح وأمره بالقبض بعد آجال محدودة فإنه تعالى بعد أن يأمره بذلك أو يثبت في اللوح المحفوظ ينقص منه أو يزيد على ما سبق علمه في كل شيء وهو بمعنى قوله تعالى: {يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} وعلى ما ذكر يحمل قوله عزوجل {ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده} [الأنعام: 2] فالإشارة بالأجل الأول إلى ما في اللوح المحفوظ، وما عند ملك الموت وأعوانه، وبالأجل الثاني إلى ما في قوله تعالى: {وعنده أم الكتاب} وقوله تعالى: {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} [الأعراف: 34] والحاصل أن القضاء المعلق يتغير. وأما القضاء المبرم فلا يبدل ولا يغير - انتهى. (رواه الترمذي) في القدر. وقال: حديث حسن غريب. قال الشوكاني: وصححه ابن حبان ولم يصححه الترمذي لأن في إسناده أبا مودود البصري واسمه فضة بكسر أوله وتشديد المعجمة. قال أبوحاتم: ضعيف. قلت: فضة أبومودود بصري مشهور بكنيته.

2256- (12) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء)) . رواه الترمذي. 2257- (13) ورواه أحمد عن معاذ بن جبل، قال ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الحافظ في التقريب: فيه لين. قال الشوكاني: وأخرجه أيضاً الطبراني في الكبير والضياء في المختارة، ومثله حديث ثوبان الذي أخرجه ابن أبي شيبة والطبراني في الكبير والحاكم في المستدرك (ج1ص493) وابن حبان في صحيحه لا يرد القدر إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه - انتهى. قلت: حديث ثوبان أخرجه أيضاً ابن ماجه في السنة والفتن. قال في الزوائد: سألت شيخنا أبا الفضل القرافي عن هذا الحديث فقال: حسن. وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد وأقره الذهبي. 2256- قوله: (إن الدعاء ينفع مما نزل) أي من بلاء نزل بالرفع إن كان معلقاً وبالصبر إن كان محكماً فيسهل عليه تحمل ما نزل به فيصبره أو يرضيه به حتى لا يكون في نزوله متمنياً خلاف ما كان بل يتلذذ بالبلاء كما يتلذذ أهل الدنيا بالنعماء (ومما لم ينزل) أي بأن يصرفه عنه ويدفعه منه أو يمده قبل النزول بتأييد من عنده يخف معه أعباء ذلك إذ أنزل به (فعليكم) أي إذا كان هذا شأن الدعاء فالزموا (عباد الله) أي يا عباد الله (بالدعاء) لأنه من لوازم العبودية التي هي القيام بحق الربوبية (رواه الترمذي) في الدعوات، وكذا الحاكم (ج1ص493) كلاهما من رواية عبد الرحمن بن أبي بكر القرشي عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر القرشي وهو ضعيف في الحديث قد تكلم فيه بعض أهل الحديث من قبل حفظه – انتهى. والحديث قال الحافظ في الفتح. في سنده: لين. وسكت عنه الحاكم. وقال الذهبي في مختصره: قلت عبد الرحمن واه، وقال المنذري في الترغيب: هو ذاهب الحديث. 2257- قوله: (ورواه أحمد) (ج5ص234) (عن معاذ بن جبل) وكذا الطبراني كلاهما من طريق إسماعيل بن عياش عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي عن شهر بن حوشب عن معاذ بلفظ: لن ينفع حذر من قدر ولكن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل فعليكم بالدعاء عباد الله. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10ص146) شهر بن حوشب لم يسمع من معاذ ورواية إسماعيل بن عياش عن أهل الحجاز ضعيفة - انتهى. قلت: ورواه أيضاً البزار عن معاذ بن جبل، وفيه إبراهيم بن خيثم وهو متروك، ورواه البزار أيضاً والطبراني في الأوسط والحاكم (ج1ص492) عن عائشة. قال الحاكم: صحيح الإسناد. وتعقبه الذهبي بأن زكريا ابن منظور أحد رجاله مجمع على ضعفه. وقال الهيثمي (ج7ص209، ج10ص146) : زكريا بن منظور وثقه

وقال الترمذي: هذا حديث غريب. 2258- (14) وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من أحد يدعوا بدعاء إلا آتاه الله ما سأل، أو كف عنه من السوء مثله، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم)) . رواه الترمذي. 2259- (15) وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سلوا الله من فضله، فإن الله يحب أن يسأل، وأفضل العباد انتظار الفرج)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحمد بن صالح المصري وضعفه الجمهور وبقية رجاله ثقات (وقال الترمذي هذا) أي حديث ابن عمر (غريب) ومع غرابته فهو ضعيف كما تقدم. 2258- قوله: (إلا آتاه الله ما سأل) أي إن جرى في الأزل تقدير إعطاءه ما سأل (أو كف عنه من السوء مثله) أي دفع عنه من البلاء عوضا مما منع قدر مسئوله إن لم يجر التقدير. قال الطيبي: فإن قلت كيف مثل جلب النفع بدفع الضرر وما وجه التشبيه. قلت: الوجه ما هو السائل مفتقر إليه وما هو ليس مستغني عنه. وقال ابن حجر: أي يدفع الله عنه سوأ تكون الراحة في دفعه بقدر الراحة التي تحصل له لو أعطى ذلك المسئول فالمثلية بإعتبار الراحة في دفع ذلك. وجلب هذا (ما لم يدع بإثم) أي بمعصية (أو قطيعة رحم) تخصيص بعد تعميم (رواه الترمذي) لم يحكم الترمذي عليه بشي من الصحة أو الضعف وفي سنده ابن لهيعة وفي الباب عن عبادة بن الصامت. أخرجه الترمذي وصححه هو والحافظ في الفتح، ونسبه المنذري والحافظ للحاكم أيضاً، وعن أبي سعيد أخرجه أحمد، وسيأتي في الفصل الثالث وعن أبي هريرة أخرجه أحمد. قال المنذري: بإسناد لا بأس به والترمذي والحاكم وقال صحيح الإسناد. 2259- قوله: (وعن ابن مسعود) كذا في جميع النسخ الحاضرة عندنا، وهكذا وقع في الترغيب للمنذري والجامع الصغير وكنز العمال. قال القاري: وفي نسخة يعني من المشكاة أبي مسعود بالياء بدل النون - انتهى. وهكذا وقع في جامع الأصول للجزري (ج5ص19) وهو غلط من الناسخ والصواب ابن مسعود فإن الحديث من مسند عبد الله بن مسعود كما وقع مصرحاً بذلك في جامع الترمذي وهكذا ذكره الحافظ في الفتح (سلوا الله من فضله) أي بعض فضله فإن فضله واسع وليس هناك مانع (فإن الله يحب أن يسأل) أي من فضله. وقال الطيبي: أي لا يمنعكم شيء من السؤال فإن الله يحب أن يسأل من فضله لأن خزائنه ملأي لا تغضيها نفقة سحاء الليل والنهار فلما حث على السؤال هذا الحث البليغ وعلم أن بعضهم يمتنع من الدعاء لاستبطاء الإجابة قال (وأفضل العبادة انتظار الفرج) أي إذا سألتم وأبطئت عنكم الإجابة فلا تضجروا، لأن انتظار الفرج من أفضل

رواه الترمذي. وقال: هذا حديث غريب. 2260- (16) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يسأل الله يغضب عليه)) . رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ العبادة، والفرج بفتحتين بالفارسية كشايس، يقال فرج الله الغم عنه أي كشفه وأذهبه. قال القاري: انتظار الفرج أي ارتقاب ذهاب البلاء والحزن بالصبر وترك الشكاية إلى غيره تعالى، وكونه أفضل العبادة لأن الصبر في البلاء انقياد للقضاء (رواه الترمذي) وأخرجه أيضاً ابن مردوية وابن أبي الدنيا كلهم من طريق حماد بن واقد عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله (وقال: هذا حديث غريب) ليست هذه الجملة في نسخ الترمذي الموجودة عندنا بل فيها بعد تمام الحديث "هكذا روي حماد بن واقد هذا الحديث وحماد بن واقد ليس بالحافظ وروى أبونعيم (الفضل بن دكين) هذا الحديث عن إسرائيل عن حكيم بن جبير عن رجل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحديث أبي نعيم أشبه أن يكون أصح" انتهى كلام الترمذي. قلت: حماد بن واقد العيشي أبوعمرو الصفار البصري قال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمته: قال ابن معين: ضعيف. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال أبوزرعة: لين الحديث. له عند الترمذي حديث واحد وهو في انتظار الفرج وأعله – انتهى مختصراً. وإنما رجح الترمذي حديث أبي نعيم لأن أبا نعيم وهو الفضل بن دكين ثقة ثبت. وأما حماد بن واقد فضعيف كما عرفت آنفا والرجل المبهم في طريق أبي نعيم يحتمل أن يكون صحابياً ويحتمل أن يكون تابعياً، وعلى الثاني يكون هذا الطريق مرسلا، وفي الباب عن أنس بلفظ: إن أفضل العبادة انتظار الفرج أخرجه البزار. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10ص147) وفيه من لم أعرفه. 2260- قوله: (من لم يسأل الله يغضب عليه) لأن ترك السؤال تكبر واستغناء وهذا لا يجوز للعبد ولنعم ما قيل: الله يغضب إن تركت سؤاله وترى ابن آدم حين يسأل يغضب وقال الطيبي: وذلك لأن الله يحب أن يسئل من فضله فمن لم يسأل الله يبغضه، والمبغوض مغضوب عليه – انتهى. قال الحافظ: ويؤيده حديث ابن مسعود رفعه سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسئل أخرجه الترمذي، وفي الحديث دليل على أن الدعاء من العبد لربه من أهم الواجبات وأعظم المفروضات لأن تجنب ما يغضب الله منه لا خلاف في وجوبه (رواه الترمذي) وأخرجه أيضاً أحمد والبخاري في الأدب المفرد وابن ماجه والبزار والحاكم (ج1ص491) وابن أبي شيبة كلهم من رواية أبي صالح الخوزي بضم الخاء المعجمة وسكون الواو ثم زاي عن أبي هريرة، وهذا الخوزي مختلف فيه ضعفه ابن معين وقواه أبوزرعة، وظن الحافظ ابن كثير أنه

2261- (17) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة، وما سأل الله شيئاً - يعني أحب إليه - من أن يسأل العافية)) . رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ أبوصالح السمان فجزم بأن أحمد تفرد بتخريجه وليس كما قال، فقد جزم شيخه المزي في الأطراف بأن أبا صالح هو الخوزي وقع في رواية البزار والحاكم عن أبي صالح الخوزي سمعت أبا هريرة كذا في الفتح (ج26ص19، 20) . 2261- قوله: (من الفتح) بصيغة المفعول (له منكم باب الدعاء) أي بأن وفق لأن يدعوا الله كثيراً مع وجود شرائطه وحصول آدابه (فتحت له أبواب الرحمة) يعني أنه يجاب لمسئوله تارة ويدفع عنه مثله من السوء أخرى كما في رواية ابن أبي شيبة فتحت له أبواب الإجابة، وفي رواية الحاكم فتحت له أبواب الجنة ورواية الكتاب أعم وأشمل (وما سأل) بصيغة المجهول (الله) بالرفع نائب الفاعل (شيئاً) وفي رواية الحاكم ولا يسأل الله عبد شيئاً (يعني أحب إليه) كذا في جميع النسخ الحاضرة، وهكذا في المصابيح وجامع الترمذي وهكذا نقله المنذري في الترغيب أي بزيادة لفظة يعني قبل أحب ولا توجد هذه اللفظة في جامع الأصول والحصن والكنز وتحفة الذاكرين وليست أيضاً في رواية الحاكم. قال الطيبي: أحب إليه تقييد للمطلق بيعني وفي الحقيقة صفة شيئاً – انتهى. قلت قوله يعني من كلام بعض الرواة وذكر ذلك لأنه لم يحفظ ولم يستحضر لفظ الحديث بعد قوله شيئا فرواه بالمعنى فما بعد يعني نقل ورواية بالمعنى و "شيئاً" مفعول مطلق وأحب إليه صفته وإن في قوله (من أن يسأل العافية) مصدرية، والمعنى ما سئل الله سؤالا أحب إليه من سؤال العافية، ويجوز أن يكون "شيئا" مفعولا به أي ما سئل الله مسؤلا أحب إليه من العافية وزيد أن يسئل اهتماما بشأن المسؤل وللإيذان بأن الأحب إليه سؤال العافية لا ذاتها. قال الطيبي إنما كانت العافية أحب لأنها لفظة جامعه لخير الدارين من الصحة في الدنيا والسلامة فيها. وفي الآخرة. لأن العافية أن يسلم من الأسقام والبلايا وهي الصحة ضد المرض – انتهى. وقيل: المراد بالعافية السلامة عن جميع الآفات الظاهرة والباطنة في الدنيا والآخرة (رواه الترمذي) وكذا الحاكم (ج1ص498) كلاهما من طريق عبد الرحمن بن أبي بكر القرشي المليكي عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال الترمذي: حديث غريب، والمليكي ضعيف في الحديث. وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد وتعقبه الذهبي بأن المليكي ضعيف. وقال المنذري: هو ذاهب الحديث. وقال الحافظ في سنده: لين. وقد صححه مع ذلك الحاكم.

2262- (18) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد فليكثر الدعاء في الرخاء)) . رواه الترمذي. وقال: هذا حديث غريب. 2263- (19) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء ـــــــــــــــــــــــــــــ 2262- قوله: (من سره) أي أعجبه وأوقعه في الفرح والسرور (أن يستجيب الله له عند الشدائد) جمع الشديدة وهي الحادثة الشاقة. وقال الجزري: الشديدة كل ما يمر بالإنسان من مصائب الدنيا، وفي الترمذي زيادة، والكرب بضم الكاف وفتح الراء جمع الكربة، وهي الغم الذي يأخذ بالنفس لشدته (فليكثر) أمر من الإكثار (الدعاء في الرخاء) بفتح الراء والخاء المعجمة ممدود أي في حالة الصحة والفراغ والعافية. قال الجزري: الرخاء السعة في العيش وطيبة وهو ضد الشدة – انتهى. والمعنى فليلازم الدعاء في حال الصحة والرفاهية والسلامة من المحن، فإن من شيمة المؤمن الحازم أن يريش أسهم قبل أن يرمي ويلتجىء إلى الله قبل مس الاضطرار إليه بخلاف الكافر والفاجر كما قال الله تعالى: {وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إلى خوله نعمة منه نسي ما كان يدعوا إليه من قبل} الآية [الزمر: 8] وقال {وإذا مس الإنسان ضر دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه} [يونس:12] (رواه الترمذي) وكذا الحاكم (ج1ص544) وقال حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. قال المنذري في الترغيب: ورواه الحاكم من حديث أبي هريرة ومن حديث سلمان وقال في كل منهما صحيح الإسناد. 2263- قوله: (وأنتم موقنون بالإجابة) المراد ملزومه أي ادعوا الله والحال إنكم ملتبسون بالصفات التي هي سبب في الإجابة. قال التوربشتي: أي كونوا عند الدعاء على حالة تستحقون فيها الإجابة وذلك إتيان المعروف واجتناب المنكر وغير ذلك من مرعاة أركان الدعاء وآدابه حتى تكون الإجابة على قلوبكم أغلب من الردأ، والمراد ادعوه معتقدين لوقوع الإجابة لأن الداعي إذا لم يكن متحققاً في الرجاء لم يكن رجاءه صادقاً وإذا لم يكن الرجاء صادقاً لم يكن الدعاء خالصاً والداعي مخلصاً فإن الرجاء هو الباعث على الطلب ولا يتحقق الفرع إلا بتحقق الأصل. وقيل: لا بد من اجتماع المعنيين إذ كل منهما مطلوب لرجاء الإجابة، وقال المظهر: المعنى ليكن الداعي ربه على يقين بأن الله تعالى يجيبه لأن رد الدعاء إما لعجز في إجابته أو لعدم كرم في المدعو أو لعدم علم المدعو بدعاء الداعي وهذه الأشياء منتفية عن الله تعالى فإن الله جل جلاله عالم كريم قادر لا مانع له من الإجابة، فإذا علم الداعي إنه لا مانع لله في إجابة الدعاء فليكن موقناً بالإجابة. فإن قيل قد قلتم إن الداعي ليكن موقنا بالإجابة واليقين إنما يكون إذا لم يكن الخلاف في ذلك الأمر، ونحن قد نرى بعض الدعاء يستجاب وبعضها لا يستجاب

من قلب غافل لاه)) . رواه الترمذي. وقال: هذا حديث غريب. 2264- (20) وعن مالك بن يسار، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سألتم الله فاسألوه ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ فكيف يكون للداعي يقين. قلنا: الداعي لا يكون محروماً عن إجابة الدعاء البتة لأنه يعطي ما يسأل وإن لم يكن إجابته مقدراً في الأزل لا يستجاب دعاءه فيما يسأل ولكن يدفع عنه السوء مثل ما يسأل كما جاء في الحديث أو يعطي عوض ما يسأل يوم القيامة من الثواب والدرجة، لأن الدعاء عبادة ومن عمل عبادة لا يجعل محروماً من الثواب – انتهى. (من قلب غافل) بالإضافة وتركها أي معرض عن الله أو عما يسأله (لاه) من اللهو أي لاعب بما سأله أو مشتغل بغير الله وهذا عمدة آداب الدعاء ولهذا خص بالذكر (رواه الترمذي) وأخرجه أيضاً الحاكم (ج1ص493) وفي سندهما صالح بن بشير بن وداع البصري القاص الزاهد المعروف بالمرى بضم الميم وتشديد الراء وهو ضعيف. (وقال هذا حديث غريب) وقال الحاكم: حديث مستقيم الإسناد تفرد به صالح المرى وهو أحد زهاد أهل البصرة. قال المنذري: لا شك في زهده لكن تركه أبوداود والنسائي – انتهى. قلت: وقال البخاري منكر الحديث. وضعفه الجمهور. وللحديث شاهد من حديث عبد الله بن عمرو إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال القلوب أوعية وبعضها أوعي من بعض فإذا سألتم الله عزوجل أيها الناس فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة، فإن الله لا يستجيب لعبد دعاءه عن ظهر قلب غافل. أخرجه أحمد (ج2ص177) وحسن المنذري والهيثمي إسناده، ويؤيده ما روى الطبراني من حديث ابن عمر بنحو ذلك. قال الهيثمي (ج10ص148) بعد ذكره: وفيه بشير بن ميمون الواسطي وهو مجمع على ضعفه. 2264- قوله: (وعن مالك بن يسار) بفتح الياء السكوني بفتح السين. قال في التقريب: صحابي قليل الحديث - انتهى. وقال سلمان بن عبد الحميد: شيخ أبي داود لمالك بن يسار عندنا صحبة. قال المنذري في مختصر السنن والحافظ في الإصابة: وفي نسخة من السنن "ما" لمالك بزيادة "ما" النافية وقال أبوالقاسم البغوي: لا اعلم بهذا الإسناد غير هذا الحديث ولا أدري له صحبة أو، لا – انتهى. وقال المصنف: قد اختلف في صحبته. (إذا سألتم الله) شيئاً من جلب نفع (فاسألوه ببطون أكفكم) جمع الكف أي مع رفعها إلى السماء (ولا تسألوه بظهورها) قال ابن حجر: لأن اللائق لطالب شيء يناله أن يمد كفه إلى المطلوب ويبسطها متضرعاً ليملأها من عطاءه الكثير المؤذن به رفع اليدين إليه جميعاً، أما من سأل رفع شيء وقع به من البلاء فالسنة أن يرفع إلى السماء ظهر كفيه إتباعاً له عليه الصلاة والسلام وحكمته التفاؤل في الأول بحصول المأمول، وفي الثاني بدفع المحظور - انتهى.

2265- (21) وفي رواية ابن عباس، قال: ((سلوا الله ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها، فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم)) . رواه أبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ قلت يدل على هذا الفرق ما ذكرنا في (ج2ص394) من حديث السائب بن خلاد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سأل جعل باطن كفيه إليه وإذ استعاذ جعل ظاهرهما إليه أخرجه أحمد وفي إسناده ابن لهيعة وفيه مقال مشهور. وقيل: جعل ظهر الكف فوق بطنها مخصوص بالاستسقاء كقلب الرداء. واستدل لذلك بما تقدم في الاستسقاء من حديث أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء رواه مسلم وفيه إنه ليس فيه ما يدل على اختصاص ذلك بالاستسقاء وفي الباب عن أبي بكرة أخرجه الطبراني: قال الهيثمي (ج10ص169) ورجاله رجال الصحيح غير عمار بن خالد الواسطي وهو ثقة. 2265- قوله: (وفي رواية ابن عباس إلخ) أي زاد في حديث ابن عباس بعد قوله بظهورها فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم" (قال) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم (سلوا الله ببطون أكفكم) لأن هذه هيئة السائل الطالب المنتظر للأخذ إذ مادة من طلب شيئاً من غيره أن يمده يده إليه ليضع ما يعطيه له فيها (فإذا فرغتم) أي من الدعاء (فامسحوا بها) أي بأكفكم (وجوهكم) فإنها تنزل عليها آثار الرحمة فتصل بركتها إليها. قال في اللمعات: أي تبركاً بما فاض من أنوار الإجابة وإيصالها إلى الوجه الذي هو أشرف الأعضاء وأقربها أولى – انتهى. وفيه استحباب مسح اليدين بالوجه عقب الدعاء. واتفقوا على ذلك خارج الصلاة. وإما في الصلاة فقال البيهقي (ج2ص212) بعد رواية أثر عمر في رفع اليدين في القنوت. أما مسح اليدين بالوجه عند الفراغ من الدعاء فلست أحفظه عن أحد من السلف في دعاء القنوت وإن كان يروي عن بعضهم في الدعاء خارج الصلاة وقد روي فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث فيه ضعف (يشير إلى حديث ابن عباس) وهو مستعمل عند بعضهم خارج الصلاة وإما في الصلاة فهو عمل لم يثبت بخبر صحيح ولا أثر ثابت ولا قياس. فالأولى أن يفعله ويقتصر على ما فعله السلف رضي الله عنهم من رفع اليدين دون مسحهما بالوجه في الصلاة - انتهى. (رواه أبوداود) في أواخر الصلاة. وحديث مالك بن يسار أخرجه البغوي وابن أبي عاصم وابن السكن والمعمري في اليوم والليلة وابن قانع كلهم من طريق ضمضم بن زرعة الحضرمي الشامي عن شريح بن عبيد عن أبي ظبية عن أبي بحرية عنه. وقد اقتصر أبوداود على ذكر كلام شيخه في مالك بن يسار. ونقل المنذري بعد ذكره اختلاف النسخة التي أشرنا إليه وكلام البغوي، ثم قال وفي إسناده إسماعيل بن عياش (راوي الحديث عن ضمضم) وقد تكلم فيه غير واحد وصحح بعضهم روايته عن الشاميين وفي إسناده أيضاً ضمضم بن زرعة الحضرمي وهو شامي وثقه يحيى بن معين – انتهى. وحديث ابن عباس رواه أبوداود من طريق عبد الله بن يعقوب بن

2266- (22) وعن سلمان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن ربكم حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً)) ـــــــــــــــــــــــــــــ إسحاق عمن حدثه عن محمد بن كعب القرظي عن عبد الله بن عباس. قال أبوداود: روى هذا الحديث من غير وجه عن محمد بن كعب كلها واهية وهذا الطريق قائلها وهو ضعيف أيضاً - انتهى. قلت: عبد الله بن يعقوب بن إسحاق. قال الحافظ في التقريب في ترجمته: وهو مجهول الحال. وقال في مبهماته: عبد الله بن يعقوب عمن حدثه عن محمد بن كعب يقال هو أبوالمقدام هشام بن زياد. وقال في مبهمات التهذيب: عبد الله بن يعقوب بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي عن ابن عباس الحديث مشهور برواية المقدام هشام بن زياد عن محمد بن كعب – انتهى. قلت: وأبوالمقدام هشام بن زياد ضعيف متروك. والحديث رواه ابن ماجه في الدعاء والحاكم (ج1ص536) من طريق صالح بن حسان عن محمد بن كعب، وصالح هذا ضعيف متروك وحديث ابن عباس وأخرجه أيضاً البيهقي في السنن الكبرى (ج2ص212) من طريق أبي داود ثم نقل كلام أبي داود المتقدم. 2266- قوله: (إن ربكم) هذا لفظ أبي داود وللترمذي والبيهقي إن الله (حيي) بكسر الياء الأولى وتشديد الثانية فعيل من الحياء أي كثير الحياء ووصفه تعالى بالحياء يحمل على ما يليق له كسائر صفاته نؤمن بها ولا نكيفها (كريم) هو الذي يعطي من غير سؤال فكيف بعده. وقيل: الكريم هو الجواد المعطي الذي لا ينفد عطاءه وهو الكريم المطلق (يستحي) عينه ولامه حرفاً علة (من عبده إذا رفع يديه إليه) ولفظ الترمذي والبيهقي يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه (أن يردهما صفراً) بكسر الصاد المهملة وسكون الفاء أي خاليتين فارغتين يقال صفر الشيء بكسر الفاء أي خلا، والمصدر الصفر بالتحريك ولا يدخلون فيه تاء التأنيث بل يستعملونه على صيغته هذه في المذكر والمؤنث والتثنية والجمع، وزاد في رواية الترمذي والبيهقي خائبتين من الخيبة وهو الحرمان وفي الحديث دلالة على استحباب رفع اليدين في الدعاء ويكونان مضمومتين، لما روى الطبراني في الكبير عن ابن عباس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا دعا ضم كفيه وجعل بطونهما مما يلي وجهه) ذكره ابن رسلان كذا في السراج المنير. وقال في هامش تحفة الذاكرين نقلاً عن عدة الحصن الحصين بعد ذكر حديث ابن عباس هذا وسنده ضعيف - انتهى. وقد ورد في رفع الأيدي عند الدعاء أحاديث كثيرة صحيحة صريحة كما ذكرها شيخنا في شرح الترمذي في باب ما يقول إذا سلم، والحافظ في الفتح في باب رفع الأيدي في الدعاء من كتاب الدعوات والجمع بين هذه الأحاديث وبين ما تقدم من حديث أنس إنه لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في شيء من دعاءه إلا في الاستسقاء رواه الشيخان بأن المنفي صفة خاصة لا أصل الرفع، قال الحافظ: ما حاصله إن الرفع

رواه الترمذي، وأبوداود، والبيهقي في "الدعوات الكبير" 2267- (23) وعن عمر، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه)) رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ في الاستسقاء يخالف غيره إما بالمبالغة إلى أن تصير اليدان حذو الوجه مثلاً وفي الدعاء إلى حذو المنكبين ولا يعكر على ذلك إنه ثبت في كل منهما حتى يرى بياض أبطيه بل يجمع بأن تكون روية البياض في الاستسقاء أبلغ منها في غيره. وأما إن الكفين في الاستسقاء يليان الأرض وفي الدعاء يليان السماء. قال المنذري: وبتقدير تعذر الجمع فجانب الإثبات أرجح – انتهى. (رواه الترمذي) في الدعوات (وأبوداود) في أواخر الصلاة (والبيهقي في الدعوات الكبير) وكذا في السنن الكبرى (ج2ص211) وأخرجه أيضاً أحمد (ج5ص438) وابن ماجه وابن حبان والحاكم (ج1ص497- 535) قال الترمذي: حديث حسن غريب. وروى بعضهم ولم يرفعه. وقال البيهقي: رفعه جعفر بن ميمون بياع الأنماط عن أبي عثمان النهدي عن سلمان هكذا، ووفقه سليمان التيمي عن أبي عثمان في إحدى الروايتين عنه. قلت: رواه أحمد والحاكم موقوفاً ومرفوعاً وقال الحاكم: إسناد صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي وسكت عنه أبوداود. وقال الحافظ في الفتح: سنده جيد. قال الحاكم: وله شاهد بإسناد صحيح من حديث أنس بن مالك ثم رواه نحو حديث سلمان. قال المنذري: في تصحيح سنده نظر. وقال الذهبي: عامر بن يساف (أحد رواة حديث أنس) ذو مناكير – انتهى. قلت: ونسب في الكنز (ج1ص169) حديث أنس إلى عبد الرزاق وأبي يعلى أيضاً. 2267- قوله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه في الدعاء) قيل: حكمة الرفع إلى السماء إنها قبله الدعاء ومهبط الرزق والوحي وموضع الرحمة والبركة (لم يحطهما) بضم الحاء المهملة ونصب الطاء المشددة أي لم يضعهما حتى يمسح بهما وجهه) وذلك على طريق التيمن والتفاؤل فكأنه يشير إلى أن كفيه ملئتا من البركات السماوية والأنوار الإلهية فهو يفيض منها على وجه الذي هو أولى الأعضاء بالكرامة قاله التوربشتي وقال في السبل: في الحديث دليل على مشروعية مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من الدعاء. وقيل: وكأن المناسبة إنه تعالى لما كان لا يردهما صفراً فكان الرحمة أصابتهما فناسب إفاضة ذلك على الوجه الذي هو أشرف الأعضاء وأحقها بالتكريم - انتهى. (رواه الترمذي) وأخرجه أيضاً الحاكم (ج1ص536) كلاهما من طريق حماد بن عيسى الجهني عن حنظلة بن أبي سفيان الجحمي عن سالم بن عبد الله عن أبيه عن عمر. قال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن عيسى وقد تفرد به وهو قليل الحديث. وقد حدث عنه الناس وحنظلة

2268- (24) وعن عائشة، قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحب الجوامع من الدعاء ويدع ما سوى ذلك)) . رواه أبوداود. 2269- (25) وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أسرع الدعاء إجابة دعوة غائب لغائب)) . رواه الترمذي وأبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن أبي سفيان ثقة وثقة يحيى القطان – انتهى. قلت: حماد هذا ضعيف ضعفه أبوحاتم وأبوداود والدارقطني. وقال مأكولاً: ضعفوا أحاديثه كذا في تهذيب التهذيب، والحديث سكت عنه الحاكم والذهبي. وقال النووي في الأذكار (ص294) في إسناده ضعف، وأما قول الحافظ عبد الحق إن الترمذي قال فيه إنه حديث صحيح فليس في النسخ المعتمدة من الترمذي إنه صحيح بل قال حديث غريب - انتهى. 2268- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستحب) أي يحب (الجوامع من الدعاء) أي الجامعة لخير الدنيا والآخرة. وقيل: هي ما كان لفظه قليلاً ومعناه كثيراً شاملاً لأمور الدنيا والآخرة كما في قوله تعالى {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} [البقرة: 201] ومثل الدعاء بالعافية في الدنيا والآخرة وقيل: هي الجامعة للتحميد والصلاة وجميع آداب الدعاء. وقيل: هي ما يجمع الأغراض الصالحة والمقاصد الصحيحة (ويدع) أي يترك (ما سوى ذلك) أي من الأدعية في غالب الأحيان (رواه أبوداود) في آخر الصلاة وسكت عنه هو والمنذري وأخرجه الحاكم (ج1ص539) وقال حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. 2269- قوله: (وعن عبد الله بن عمرو) بالواو (إن أسرع الدعاء إجابة) تمييز، وهذا لفظ أبي داود وللترمذي ما دعوة أسرع إجابة من دعوة غائب لغائب (دعوة غائب لغائب) معناه في غيبة المدعو له أو في سره كأنه من وراء معرفته أو معرفة الناس. روى الخرائطي في مكارم الأخلاق عن يوسف بن أسباط قال مكثت دهراً وأنا أظن هذا الحديث إذا كان غائباً عن شخصه ثم نظرت فيه فإذا هو لو كان على المائدة وهو لا يسمع كان غائباً، وخص حالة الغيبة بالذكر للبعد عن الرياء والأغراض الفاسدة المنقصة من الأجر فإنه في حالة الغيبة يتمحض الإخلاص ويصح قصد وجه الله تعالى بذلك فيوافقه الملك فيدعو له بمثل ذلك ويؤمن على دعاءه كما تقدم دعاءه أقرب إلى الإجابة لأن الملك معصوم. وفي الحديث الحث على الدعاء للمؤمنين بظهر الغيب. (رواه الترمذي) في البر والصلة (وأبو داود) في أواخر الصلاة كلاهما من طريق عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو بن العاص. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه والإفريقي يضعف في الحديث – انتهى. وسكت عنه أبوداود ونقل المنذري كلام الترمذي وأقره. قلت:

2270- (26) وعن عمر بن الخطاب، قال: ((استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة فأذن لي، وقال: شركنا يا أخي! في دعائك ولا تنسنا. فقال كلمة ما يسرني إن لي بها الدنيا)) . رواه أبوداود والترمذي وانتهت روايته عند قوله: ولا تنسنا. ـــــــــــــــــــــــــــــ والحديث أخرجه أيضاً البخاري في الأدب المفرد والطبراني في الكبير، وفي الباب أحاديث كثيرة، منها حديث أبي الدرداء، وقد تقدم، ومنها حديث عمران بن حصين أخرجه البزار، ومنها حديث ابن عباس الآتي في آخر الباب، ومنها حديث واثلة عند أبي نعيم في الحلية. 2270- قوله: (استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة) أي من المدينة. قال ابن حجر: في قضاء عمرة كان نذرها في الجاهلية ذكره القاري (فأذن لي) أي فيها (أشركنا) يحتمل نون العظمة وأن يريد نحن وأتباعنا (يا أخيّ) بالتصغير أو بدونه، والمراد بالتصغير الاختصاص بالتلطف والتعطف لا التحقير (في دعائك) في إظهار الخضوع والمسكنة في مقام العبودية بالتماس الدعاء ممن عرف له الهداية وحث للأمة على الرغبة في دعاء الصالحين وأهل العبادة وتنبيه لهم أن لا يخصوا أنفسهم بالدعاء ولا يشاركوا فيه أقاربهم وأحباءهم لا سيما في مظان الإجابة وتفخيم لشأن عمر وإرشادة بذكره في السامعين وإرشاد إلى ما يحمى دعاءه من الرد (ولا تنسنا) تأكيد أو أراد به في سائر أحواله (فقال) قال القاري: عطف على "قال أشركنا" لتعقيب المبين بالمبين أي قال عمر فقال بمعنى تكلم النبي صلى الله عليه وسلم (كلمة) وهي أشركنا أو يا أخي! بالإضافة إلى نفسه الشريفة أو لا تنسنا أو غير ما ذكر ولم يذكره توقياً عن التفاخر ونحوه من آفات النفوس (ما يسرني) بضم السين (إن لي بها الدنيا) الباء للبدلية و "ما" نافية وإن مع اسمه وخبره فاعل يسرني أي لا يعجبني ولا يفرحني كون جميع الدنيا لي بدلها قاله القاري. قلت: وفي رواية أحمد فقال عمر: ما أحب إن لي بها ما طلعت عليه الشمس لقوله يا أخي (رواه أبوداود) في أواخر الصلاة (والترمذي) في الدعوات وأخرجه أيضاً أحمد (ج1ص29) (ج2ص59) وابن ماجه في فضل دعاء الحاج من كتاب الحج ونسبة في التنقيح لأبي داود الطيالسي والبيهقي في الشعب أيضاً (وانتهت روايته) أي الترمذي وكذا رواية ابن ماجه (عند قوله ولا تنسنا) والحديث صححه الترمذي وسكت عنه أبوداود. قلت: في سنده عندهم عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب العدوي وهو ضعيف. كما ستعرف. فالحديث ضعيف الإسناد. قال المنذري بعد نقل تصحيح الترمذي: وفي إسناده عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب، وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة – انتهى. قلت: ضعفه ابن معين والنسائي

2271- (27) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حين يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام وتفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب! وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين)) . رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ وابن خراش وغيرهم. وقال ابن سعد: كان كثير الحديث ولا يحتج به. وقال ابن نمير وأبوحاتم والبخاري: منكر الحديث. وقال شعبة: كان عاصم لو قيل له: من بنى مسجد البصرة لقال فلان عن فلان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال الدارقطني: مديني يترك وهو مغفل. وقال ابن حبان: كان سيء الحفظ كثير الوهم فاحش الخطأ فترك من أجل كثرة خطأه كذا في تهذيب التهذيب. 2271- قوله: (ثلاثة) أي أشخاص أو ثلاثة رجال (الصائم) أي منهم أو أحدهم الصائم (حين يفطر) لأنه بعد عبادة وحال تضرع ومسكنة (والإمام العادل) بين رعيته (ودعوة المظلوم) كان مقتضى الظاهر أن يقول، والمظلوم، ولعله لما كانت المظلومية ليست بذاتها مطلوبة عدل عنه قاله القاري. وقال الطيبي: أي دعوة الصائم ودعوة الإمام بدليل قوله ودعوة المظلوم، ويكون بدلا من دعوتهم وقوله "يرفعها" حال كذا قيل، والأولى أن يكون أي يرفعها خبراً لقوله ودعوة المظلوم وقطع هذا القسم عن أخويه لشدة الاعتناء بشأن دعوة المظلوم ولو فاجراً أو كافراً وينصر هذا الوجه عطف قوله ويقول الرب على قوله ويفتح فإنه لا يلائم الوجه الأول لأن ضمير يرفعها للدعوة حينئذ لا لدعوة المظلوم كما في الوجه الأول. قال القاري: والظاهر إن الضمير على الوجهين لدعوة المظلوم وإنما بولغ في حقها لأنه لما لحقته نار الظلم واحترقت أحشاءه خرج منه بالتضرع والانكسار وحصل له حاله الاضطرار فيقبل دعاءه كما قال تعالى: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء} [النمل: 62] (يرفعها الله فوق الغمام) أي تجاوز الغمام أي السحاب (ويفتح) أي الله (لها) أي لدعوته (أبواب السماء) بالنصب على أن يفتح مذكر معلوم وبالرفع على أنه مؤنث مجهول. قيل: رفعها فوق الغمام وفتح أبواب السماء لها كناية عن سرعة القبول والوصول إلى مصعد الإجابة (لأنصرنك) بفتح الكاف أي أيها المظلوم (ولو بعد حين) الحين يستعمل لمطلق الوقت ولستة أشهر ولأربعين سنة، والمعنى لا أضيع حقك ولا أرد دعائك ولو مضي زمان طويل لأني حليم لا أعجل عقوبة العباد لعلهم يرجعون عن الظلم والذنوب إلى إرضاء الخصوم والتوبة، وفيه إيماء إلى أنه تعالى يمهل ولا يهمله (رواه الترمذي) في موضعين الأول في باب صفة الجنة ونعيمها من طريق حمزة الزيات عن زياد الطائي عن أبي هريرة. وقال بعد روايته: هذا حديث ليس إسناده بذلك القوى، وليس هو عندي بمتصل – انتهى. قلت: زياد الطائي. قال الذهبي في الميزان: فيه

2272- (28) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث دعوات مستجابات. لا شك فيهن: دعوة الوالد، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم)) . رواه الترمذي، وأبوداود، وابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يعرف. وقال الحافظ في التقريب: مجهول أرسل عن أبي هريرة، والثاني في الدعوات في باب بعد باب أي الكلام أحب إلى الله من طريق سعدان القمي وهو صدوق عن أبي مجاهد سعد الطائي وهو لا بأس به عن أبي مدلة بضم الميم وكسر المهملة وتشديد اللام وهو مقبول عن أبي هريرة: قال الترمذي، حديث حسن. ونسبه السيوطي في الجامع الصغير لأحمد أيضاً والشوكاني في تحفة الذاكرين لابن خزيمة وابن حبان أيضاً. 2272- قوله: (ثلاث دعوات) مبتدأ خبره (مستجابات) قال الطيبي: الحديث السابق ثلاثة، وفي هذا ثلاث دعوات، لأن الكلام على الأول في شأن الداعي وتحرية في طريق الاستجابة وما هي منوطة به من الصوم والعدل بخلاف الوالد والمسافر إذ ليس عليهما الاجتهاد في العمل. (لا شك فيهن) أي في استجابتهن وهو أكد من حديث لا ترد. وإنما أكد به لالتجاء هؤلاء الثلاثة إلى الله تعالى بصدق الطلب ورقة القلب وانكسار الخاطر قاله القاري. (في دعوة الوالد) أي لولده أو عليه ولم يذكر الوالدة لأن حقها أكد فدعاءها أولى بالإجابة وقوله "دعوة الوالد" هذه رواية أبي داود، وكذا وقع في رواية لأحمد ولفظ الترمذي "دعوة الوالد على ولده" وهكذا وقع في أكثر روايات أحمد وفي رواية الأدب المفرد "دعوة الوالدين على ولدهما" وفي رواية ابن ماجه "دعوة الوالد لولده" وكذا وقع في رواية أبي داود الطيالسي (ودعوة المسافر) يحتمل أن تكون دعوته لمن أحسن إليه وبالشر لمن آذاه وأساء إليه لأن دعاءه لا يخلو عن الرقة (ودعوة المظلوم) أي لمن ينصره ويعينه أو يسليه ويهون عليه أو على من ظلمه بأي نوع من أنواع الظلم. وقال السندي: قوله "دعوة المظلوم" أي في حق الظالم وأثر الاستجابة قد لا يظهر في الحال لكون المجيب تعالى حكيماً –انتهى. قال التوربشتي: اختص هؤلاء الثلاثة بإجابة الدعوة لانقطاعهم إلى الله لصدق الطلب ورقة القلب وانكسار البال ورثاثة الحال. أما المسافر فلأنه منقطع عن الوطن المألوف مفارق عما كان يستأنس به مستشعر في سفره من طوارق الحدثان فلا يخلو ساعتئذ عن الرقة والرجوع إلى الله بالباطن. وأما المظلوم فإنه منقلب إلى ربه على صفة الاضطرار. وأما الوالد فإنه يدعو لولده على نعت الحنو والرقة وإيثار الولد على نفسه بما يستطيع فيخلص في دعاءه مبلغ جهده. (رواه الترمذي) في باب دعاء الوالدين في أوائل البر والصلة وفي باب دعوة المسافر من أبواب الدعوات. وقال: حديث حسن. (وأبوداود) في أواخر الصلاة وسكت عنه، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره (وابن ماجه) في الدعاء وأخرجه أيضاً أحمد في مواضع، والبخاري في الأدب المفرد وأبوداود الطيالسي، وفي الباب عن عقبة بن عامر الجهني عند الطبراني بإسناد جيد.

{الفصل الثالث}

{الفصل الثالث} 2273- (29) عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها، حتى يسأل شسع نعله إذا انقطع)) . 2274- (30) زاد في رواية عن ثابت البناني مرسلاً، ((حتى يسأله الملح، وحتى يسأله شسعة إذا انقطع)) . رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2273- قوله: (حاجته) مفعول ثان (كلها) تأكيد لها أي جميع مقصوداته إشعاراً بالافتقار إلى الاستعانة في كل لحظة ولمحة، ولأن خزائن الجود بيده وأزمته إليه ولا معطي إلا هو (حتى يسأل) أي ربه وفي بعض النسخ حتى يسأله (شسع نعله) بكسر المعجمة وسكون المهملة، أي شراكها. قال في المجمع: هو من سيور النعل ما يدخل بين الإصبعين ويدخل طرفه في الثقب الذي في صدر النعل المشدود في الزمام، والزمام سير يعقد فيه الشسع. وقال الجزري: شسع النعل سير من سيورها التي تكون على وجهها يدخل بين الإصبعين – انتهى. قال الطيبي: وهذا من باب التتميم لأن ما قبله جئ في المهمات وما بعده في المتمات. 2274- قوله: (وزاد في رواية) حق المصنف أن يقول وفي رواية أو يقول رواه الترمذي زاد في رواية قاله القاري (عن ثابت) بن أسلم (البناني) بضم الموحدة وخفة النون الأولى وكسر الثانية منسوب إلى بنانة اسم أم سعد بن لؤي، وثابت هذا من ثقات التابعين وحكى عنه قال: صحبت أنساً أربعين سنة (مرسلاً) أي مرفوعاً بحذف الصحابي (حتى يسأله الملح) ونحوه من الأشياء التافهة وهذا هو القدر الزائد، وأما قوله "حتى يسأله شسع نعله الخ" فهو موجود في الروايتين وإنما ذكره تنبيهاً على موضع الزائد (حتى يسأله شسعة) فإنه لم ييسره لم يتيسر ودفع به وبما قبله ما قد يتوهم من أن الدقائق لا ينبغي أن تطلب منه لحقارتها (رواه الترمذي) الحديث الموصول رواه الترمذي عن أبي داود صاحب السنن عن قطن بن نسير البصري وهو صدوق يخطئ كما في التقريب عن جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس. قال الترمذي: هذا حديث غريب وروى غير واحد هذا الحديث عن جعفر بن سليمان عن ثابت البناني عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكروا فيه عن أنس حدثنا صالح بن عبد الله نا جعفر بن سليمان عن ثابت البناني إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ليسأل أحدكم ربه حاجته حتى يسأله الملح وحتى يسأله شسع نعله إذا انقطع، وهذا أصح من حديث قطن عن جعفر بن سليمان – انتهى. يعني إن حديث صالح بن عبد الله عن جعفر بن سليمان مرسلا أصح من حديث قطن عن جعفر متصلا، لأن صالح بن عبد الله أوثق من قطن ومع ذلك

2275- (31) وعنه، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في الدعاء حتى يرى بياض إبطيه)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ قد تابع صالح بن عبد الله غير واحد. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمة قطن ما لفظه. قال ابن عدي: حدثنا البغوي ثنا القواريري ثنا جعفر عن ثابت بحديث ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها فقال رجل للقواريري إن شيخا يحدث به عن جعفر عن ثابت عن أنس. فقال القواريري: باطل. قال ابن عدي: وهو كما قال – انتهى. قلت: حديث أنس نسبه السيوطي وغيره لابن حبان أيضاً ونسبه الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10ص150) للبزار وفيه زيادة قوله حتى يسأله الملح. قال الهيثمي: رواه الترمذي غير قوله وحتى يسأله الملح. ورجاله أي عند البزار رجال الصحيح غير سيار بن حاتم وهو ثقة. وفي الباب عن عائشة بلفظ سلوا الله كل شيء حتى الشسع فإن الله إن لم ييسره لم يتيسره. قال الهيثمي: رواه أبويعلى ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن عبيد الله بن المنادي وهو ثقة. 2275- قوله: (وعنه) أي عن أنس (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في الدعاء) أي في مواضع مخصوصية قاله القاري. (حتى يرى) بصيغة المجهول أي يبصر (بياض إبطيه) قال القاري: لعل المراد بياض طرفي إبطيه ولا ينافيه حديث أبي داود المسألة أن ترفع يديك حذو منكبيك فإنه يحمل على الأقل في الرفع أو على أكثر الأوقات، والأول على بيان الجواز وفي الاستسقاء ونحوه من شدة البلاء والمبالغة في الدعاء - انتهى. قلت: قد ثبت في كل من الاستسقاء وغيره حتى يرى بياض إبطيه، أما الاستسقاء ففي الصحيحين من حديث أنس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه في شيء من دعاء إلا في الاستسقاء، وإنه يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه، وأما غير في الاستسقاء ففي البخاري عن أبي موسى في قصة قتل عمه أبي عامر الأشعري قال: فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بماء فتوضع ثم رفع يديه، فقال: اللهم اغفر لعبيد أبي عامر ورأيت بياض إبطيه، وفي الصحيحين من حديث أبي عبيد في قصة ابن اللتبية ثم رفع يديه حتى رأيت عفرتي إبطيه يقول: اللهم هل بلغت. قال الحافظ: في ذلك رد على من قال لا يرفع كذا إلا في الاستسقاء. قلت: ويدل على رفع اليدين كذلك مطلقاً ما روى البخاري معلقاً في الاستسقاء والدعوات عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه، وما روى مسلم من وجه آخر عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في الدعاء حتى يرى بياض إبطيه ويجمع بين ذلك بأن تكون رؤية البياض في الاستسقاء أبلغ منها في غيره وفي الباب عن أبي برزة عند أبي يعلى وعن عائشة عند البزار ذكرهما الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10ص168) مع الكلام عليهما.

2276- (32) وعن سهل بن سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((كان يجعل إصبعيه حذاء منكبيه، ويدعوا)) . 2277- (33) وعن السائب بن يزيد، عن أبيه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا، فرفع يديه مسح وجهه بيديه)) . رواه البيهقي الأحاديث الثلاثة في الدعوات. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2276- قوله: (كان يجعل إصبعيه) أي أصابع يديه مرتفعة (حذاء منكبيه) دل الحديث على القصد والتوسط في رفع اليدين وهو الأكثر والحديث السابق على الزيادة وهي حالة المبالغة والإلحاح في الدعاء والمسألة قاله القاري (ويدعوا) أي بعد ذلك. 2277- قوله: (وعن السائب بن يزيد) تقدم ترجمته في باب أحكام المياه (عن أبيه) هو يزيد بن سعيد ابن ثمامة بن الأسود الكندي والد السائب بن يزيد المعروف بابن أخت النمر صحابي أسلم يوم الفتح. قال الزهري: عن سعيد بن المسيب قال ما اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم قاضياً ولا أبوبكر ولا عمر حتى كان في وسط خلافة عمر فإنه قال ليزيد ابن أخت النمر: اكفني بعض الأمر يعني صغارها. وقال ابن سعد: استعمله عمر على السوق (فرفع يديه) عطف على دعا (مسح وجهه بيديه) قال ابن حجر: جواب "إذا" والصواب إنه خبر كان، وإذا ظرف له. قال الطيبي: دل على أنه إذا لم يرفع يديه في الدعاء لم يمسح وهو قيد حسن، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يدعوا كثيراً كما في الصلاة والطواف وغيرهما من الدعوات المأثورة دبر الصلوات وعند النوم وبعد الأكل وأمثال ذلك ولم يرفع يديه لم يمسح بهما وجهه (روى البيهقي الأحاديث الثلاثة) حديث أنس قد أخرجه أيضاً البخاري ومسلم كما تقدم. وأما حديث سهل بن سعد فأخرجه أحمد (ج5ص337) والحاكم (ج1ص536) من رواية عبد الرحمن بن إسحاق عن عبد الرحمن بن معاوية عن ابن أبي ذباب عن سهل بن سعد قال: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاهراً يديه قط يدعوا على منبر ولا غيره ما كان يدعوا إلا يضع يديه حذو منكبيه ويشير بإصبعه إشارة لفظ أحمد، وفي رواية الحاكم كان يجعل إصبعيه بحذاء منكبيه ويدعوا. قال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي: (ج10ص167) فيه عبد الرحمن بن إسحاق الزرقي المدني وثقه ابن حبان، وضعفه مالك وجمهور الأئمة، وبقية رجاله ثقات - انتهى. وأما حديث السائب بن يزيد عن أبيه فأخرجه أيضاً أبوداود في أواخر الصلاة من طريق حفص بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص عن السائب بن يزيد عن أبيه. وقد سكت عنه أبوداود. وقال المنذري: في إسناده عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف. وقال الحافظ في الإصابة: (ج3ص656) في ترجمة يزيد والد السائب بن يزيد بعد ذكر هذا الحديث من رواية أبي داود وفي السند ابن لهيعة

2278- (34) وعن عكرمة، عن ابن عباس، قال: ((المسألة أن ترفع يديك حذو منكبيك أو نحوهما، والاستغفار أن تشير بإصبع واحدة، والابتهال أن تمد يديك جميعاً)) وفي رواية قال: والابتهال هكذا ورفع يديه وجعل ظهورهما مما يلي وجهه. رواه أبوداود. 2279- (35) وعن ابن عمر، أنه يقول: ((إن رفعكم أيديكم بدعة، ما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا - يعني إلى الصدر - ـــــــــــــــــــــــــــــ واختلف عليه في سنده – انتهى. قلت: ذكر الحافظ هذا الاختلاف في تهذيب التهذيب في ترجمة حفص بن هاشم بن عتبة من شاء الوقوف عليه رجع إلى تهذيبه وحفص هذا قال الحافظ: مجهول. وقال الذهبي: لا يدري من هو – انتهى. ويؤيده حديث عمر المتقدم في الفصل الثاني. 2278- قوله: (المسألة) مصدر بمعنى السؤال والمضاف مقدر ليصح الحمل أي أدبها (أن ترفع يديك حذو منكبيك أو نحوهما) أي قريباً منهما (والاستغفار) أي أدبه (أن تشير بإصبع واحدة) وهي السبابة سباً للنفس الأمارة والشيطان والتعوذ منهما إلى الله تعالى وقيده بواحدة لأنه يكره الإشارة بالإصبعين قاله الطيبي: (والابتهال) أي التضرع والاجتهاد والمبالغة في الدعاء في دفع المكروه عن النفس أدبه (أن تمد يديك جميعاً) أي حتى يرى بياض أبطيك (وفي رواية قال والابتهال هكذا) تعليم فعلى والمشار إليه قوله: (ورفع) أي ابن عباس (يديه وجعل ظهورهما مما يلي وجهه) أي رفع يديه رفعاً كلياً حتى ظهر بياض الإبطين جميعاً وصارت كفاءة محاذيين لرأسه. قال الطيبي: ولعله أراد بالابتهال دفع ما يتصوره من مقابلة العذاب فيجعل يديه كالترس يستره من المكروه – انتهى. والفرق بين الروايتين، إن في الرواية الأولى بيان الابتهال بالقول، وفي الثانية بالفعل. (رواه أبوداود) في أواخر الصلاة وسكت عليه هو والمنذري ونسبه الحافظ في الفتح للحاكم أيضاً وسكت عنه. 2279- قوله: (إن رفعكم أيديكم) أي مبالغتكم في الرفع في الدعاء (بدعة ما زاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي غالباً (على هذا يعني) أي يريد بالمشار إليه (إلى الصدر) قال الطيبي: يعني تفسير لما فعله ابن عمر من رفع اليدين إلى الصدر وأنكر عليهم غالب أحوالهم في الدعاء وعدم تمييزهم بين الحالات من الرفع إلى الصدر لأمر وفوقه إلى المنكبين لأمر آخر وفوقهما لغير ذلك – انتهى. وقال في اللمعات: قوله "إن رفعكم أيديكم" بدعة يعني رفعكم فوق صدوركم دائماً أو في أكثر الأحوال من غير تمييز بين الأحوال المذكورة في الحديث السابق بدعة، لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كان حاله صلى الله عليه وسلم مختلفاً تارة، كما ذكر قوله على هذا قد رفعهما ابن عمر إلى الصدر فأراهم إياه بقوله وفعله، ولذلك فسر الراوي بقوله يعني إلى الصدر - انتهى. وقال ابن حجر:

رواه أحمد. 2280 – (36) وعن أبي بن كعب، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر أحداً فدعا له بدأ بنفسه)) . رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ استند ابن عمر في قوله ما زاد إلى علمه فهو ناف وغيره أثبت عنه صلى الله عليه وسلم الرفع إلى حذو المنكبين تارة وإلى أعلى من ذلك أخرى والحجة للمثبت. وقال الحافظ: وما نقل عن ابن عمر من إنكار رفع اليدين في الدعاء فإنما أنكر رفعهما إلى حذو المنكبين. وقال ليجعلهما حذو صدره كذلك أسنده الطبري عنه قال: وقد صح عن ابن عمر خلاف ذلك أخرجه البخاري في الأدب المفرد من طريق القاسم بن محمد رأيت ابن عمر يدعو عند القاص يرفع يديه حتى يحاذى بهما منكبيه. (رواه أحمد) قال الهيثمي: (ج10:ص168) فيه بشر بن حرب وهو ضعيف وفي الباب عن أبي سعيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً بعرفة يدعو هكذا ورفع يديه وجعل يديه حيال ثندوته وجعل بطون كفيه مما يلى الأرض، وفي رواية جعل ظهر كفيه مما يلى وجهه ورفعهما فوق ثندوته وأسفل من منكبيه، رواه أحمد وفيه أيضاً بشر بن حرب، وعن ابن عباس قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بعرفة ويداه إلى صدره كاستطعام المسكين رواه الطبراني في الأوسط، وفيه الحسين بن عبد الله بن عبيد الله وهو ضعيف كذا في مجمع الزوائد (ج10:ص167) . 2280 – قاله: (فدعا له) عطف على ذكر أي فأراد أن يدعو له (بدأ نفسه) جزاء إذا ذكر وفيه تعليم للأمة وأنه يندب للداعي أن يبدأ بنفسه ثم يثني بمن أراد الدعاء له، وقد عقد البخاري في صحيحه باب قول الله تعالى وصل عليهم، ومن خص أخاه بالدعاء دون نفسه، ثم ذكر فيه ثمانية أحاديث تدل على ذلك. قال الحافظ: في هذه الترجمة إشارة إلى رد ما جاء عن ابن عمر أخرجه ابن أبي شيبة والطبري من طريق سعيد بن يسار قال: ذكرت رجلاً عند ابن عمر فترحمت عليه فلهز في صدري، وقال لي: إبدأ بنفسك. وعن إبراهيم النخعي: كان يقال إذا دعوت فابدأ بنفسك فإنك لا تدري في أي دعاء يستجاب لك، وأحاديث الباب ترد على ذلك قال: وأما ما أخرجه الترمذي من حديث أبي بن كعب رفعه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر أحداً فدعا له بدأ بنفسه وهو عند مسلم في أول قصة موسى والخضر، ولفظه: وكان إذا ذكر أحداً من الأنبياء بدأ بنفسه، قال: ويؤيد هذا القيد أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لغير نبي فلم يبدأ بنفسه كقوله في قصة هاجر يرحم الله أم إسماعيل لوتركت زمزم لكانت عيناً معيناً. وحديث أبي هريرة: اللهم أيده بروح القدس يريد حسان بن ثابت، وحديث ابن عباس: اللهم فقهه في الدين وغيره ذلك من الأمثلة مع أن الذي جاء في حديث أبي لم يطرد، فقد ثبت أنه دعا لبعض الأنبياء فلم يبدأ بنفسه كحديث أبي هريرة: يرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد – انتهى كلام الحافظ. قلت: فظهر إن بدأه - صلى الله عليه وسلم - بنفسه عند ذكر أحد والدعاء له لم يكن من عادته المستمرة (رواه الترمذي) في الدعوات وأخرجه

وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح. 2281 – (37) وعن أبي سعيد الخدري، أن النبي صلى الله عليه قال: ((ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطعية رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها. قالوا: إذا نكثر قال: الله أكثر)) رواه أحمد. ـــــــــــــــــــــــــــــ أيضاً أحمد (ج5:ص121) وأبوداود في الحروف والنسائي، ونسبه في الجامع الصغير لابن حبان والحاكم أيضاً وفي الباب عن أبي أيوب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دعا بدأ بنفسه رواه الطبراني. قال الهيثمي: إسناده حسن (وقال هذا حديث حسن غريب صحيح) وسكت عنه أبوداود والمنذري، وقد تقدم أن أصل الحديث عند مسلم. 2281 – قوله: (ليس فيها إثم) أي معصية (ولا قطعية رحم) تخصيص بعد تعميم والقطيعة الهجران والصد أي ترك البر إلى الأهل والأقارب (إلا أعطاه الله بها) أي بتلك الدعوة (إحدى ثلاث) أي من الخصال (إما أن يعجل له دعوته) أي بخصوصها أو من جنسها في الدنيا في وقت إرادة إن قدر وقوعها في الدنيا يعني يعجل له دعوته في الدنيا في أحوج أوقاته وأوفقها لا على أوقات تمنيه (وإما أن يدخرها) أي تلك المطلوبة أو مثلها أو أحسن منها أو ثوابها وبدلهها يعني يجعلها ذخيرة بأن يعطيه جزيل ثوابها (له) أي للداعي (في الآخرة) إن لم يقدر وقوعها في الدنيا (وإما أن يصرف) أي يدفع (من السوء) أي البلاء النازل أو غيره في أمر دينه أو دنياه أو بدنه (مثلها) أي مثل تلك الدعوة كمية وكيفية إن لم يقدر له وقوعها في الدنيا. والحاصل إن ما لم يقدر له فيها أحد الأمرين إما الثواب المدخر وإما دفع قدرها من السوء (قالوا) أي بعض الصحابة (إذا) أي إذا كان الدعاء لا يرد منه شيء ولا يخيب الداعي في شيء منه (نكثر) أي من الدعاء لعظيم فوائده (قال) النبي صلى الله عليه وسلم (الله أكثر) قال الطيبي: أي الله أكثر إجابة من دعاءكم. وقيل: إن معناه فضل الله أكثر أي ما يعطيه من فضله وسعة كرمه أكثر مما يعطيكم في مقابلة دعاءكم. وقيل: الله أغلب في الكثرة يعني فلا تعجزونه في الاستكثار فإن خزائنه لا تنفد وعطاياه لا تفنى. وقيل الله أكثر ثواباً وعطاء مما في نفوسكم فأكثروا ما شئتم فإنه تعالى يقابل أدعيتكم بما هو أكثر منها وأجل (رواه أحمد) (ج3ص18) وأخرجه أيضاً البخاري في الأدب المفرد والطحاوي في مشكل الآثار وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10ص148) وعزاه لأحمد ثم قال: ورواه أبويعلى بنحوه والبزار والطبراني في الأوسط ورجال أحمد وأبي يعلى وأحد إسنادي البزار رجاله

2282- (38) وعن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((خمس دعوات يستجاب لهن: دعوة المظلوم حتى ينتصر، ودعوة الحاج حتى يصدر، ودعوة المجاهد حتى يفقد، ودعوة المريض حتى يبرأ، ودعوة الأخ لأخيه بظهر الغيب، ثم قال: وأسرع هذه الدعوات إجابة دعوة الأخ بظهر الغيب)) . رواه البيهقي في الدعوات الكبير. ـــــــــــــــــــــــــــــ رجال الصحيح غير علي بن علي الرفاعي وهو ثقة – انتهى. وقال المنذري رواه أحمد وأبويعلى والبزار بأسانيد جيدة، والحاكم (ج1ص493) وقال صحيح الإسناد. قلت: ووافقه الذهبي ونسبه في الكنز (ج1ص179) لابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبيهقي في الشعب أيضاً، وفي الباب عن جابر. وقد تقدم في الفصل الثاني وعن عبادة بن الصامت وأبي هريرة وقد سبق تخريجهما هناك. 2282- قوله: (خمس دعوات يستجاب لهن) مبتدأ وخبره (دعوة المظلوم) وإن كان كافراً أو فاجراً (حتى ينتصر) أي إلى أن ينتقم من الظالم بلسانه أو يده. قال القاري: لأنه إن انتقم بمثل حقه شرعاً فقد استوفى أو انقص فواضح أولاً بمثله شرعاً أو بأزيد صار ظالماً. قال الطيبي: حتى في القرائن الأربع بمعنى إلى كقولك سرت حتى تغيب الشمس لأن ما بعدها غير داخل فيما قبلها (ودعوة الحاج) حجاً مبروراً (حتى يصدر) بضم الدال أي إلى أن يرجع إلى بلده وأهله. وقيل: أي يرجع من الحج ويدخل بيته (ودعوة المجاهد) وفي الجامع الصغير والكنز (ج1ص174) الغازي بدل المجاهد، أي الغازي في سبيل الله لإعلاء كلمة الله (حتى يفقد) بسكون الفاء وكسر القاف من الفقدان، من باب ضرب أي إلى أن يفرغ من الجهاد ويفقد أسبابه. قال الطيبي: أي يفقد ما يستتب له من مجاهدته أي حتى يفرغ منها – انتهى. واستتب له الأمر أي تهيأ واستقام على ما في الصحاح وفي بعض النسخ حتى يقعد بسكون القاف وضم العين من القعود أي عن الجهاد وفي بعضها يقفل بسكون القاف وضم الفاء من القفول بمعنى يرجع أي إلى وطنه ومنه القافلة تفاؤلاً. قلت: والظاهر هي النسخة الأخيرة، ويؤيدها إنه هكذا نقلها السيوطي في الجامع الصغير وعلى المتقي في الكنز عن الشعب للبيهقي (ودعوة المريض حتى يبرأ) من علته أو يتعافى أو يموت (ودعوة الأخ لأخيه) في الدين (بظهر الغيب) أي بحيث لا يشعر وإن كان حاضراً في المجلس (وأسرع هذه الدعوات إجابة دعوة الأخ) لأخيه (بظهر الغيب) لدلالتها على خلوص النية وصفاء الطوية والبقية لا تخلو دعوتهم عن حظوظهم النفسية وأغراضهم الطبيعية، ولذا ورد الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه المسلم كذا في المرقاة (رواه البيهقي في الدعوات الكبير) وكذا في شعب الإيمان كما في الجامع الصغير والكنز والله أعلم بحال إسناده.

(1) باب ذكر الله عزوجل والتقرب إليه

(1) باب ذكر الله عزوجل والتقرب إليه ـــــــــــــــــــــــــــــ (باب ذكر الله عزوجل) أي فضل ذكر الله (والتقرب إليه) أي التقرب بذكر الله إلى الله والمراد بالذكر هنا الإتيان بالألفاظ التي ورد الترغيب في قولها والإكثار منها، مثل الباقيات الصالحات وهي سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وما يلتحق بها من الحوقلة والبسملة والحسبلة والاستغفار ونحو ذلك والدعاء بخير الدنيا والآخرة. ويطلق ذكر الله أيضاً ويراد به المواظبة على العمل بما أوجبه أو ندب إليه كتلاوة القرآن وقراءة الحديث ومدارسة العلم والتنفل بالصلاة. ثم الذكر يقع تارة باللسان ويوجر عليه الناطق ولا يشترط استحضاره لمعناه، ولكن يشترط أن لا يقصد به غير معناه وإن إنضاف إلى النطق الذكر بالقلب فهو أكمل فإن إنضاف إلى ذلك استحضار معنى الذكر وما اشتمل عليه من تعظيم الله تعالى ونفي النقائص عنه ازداد كمالاً، فإن وقع ذلك في عمل صالح مهما فرض من صلاة أو جهاد أو غيرهما ازداد كمالاً، فإن صحح التوجه وأخلص لله تعالى في ذلك فهو أبلغ الكمال قاله الحافظ. وقال الفخر الرازي: المراد بذكر اللسان الألفاظ الدالة على التسبيح والتحميد والتمجيد والذكر بالقلب التفكر في أدلة الذات والصفات وفي أدلة التكاليف من الأمر والنهي حتى يطلع على أحكامها وفي أسرار مخلوقات الله، والذكر بالجوارح هو أن تصير مستغرقة في الطاعات ومن سمي الله تعالى الصلاة ذكراً فقال: {فاسعوا إلى ذكر الله} [الجمعة: 9] ونقل عن بعض العارفين. قال: الذكر على سبعة إنحاء فذكر العينين بالبكاء، وذكر الأذنين بالإصغاء، وذكر اللسان بالثناء، وذكر اليدين بالعطاء، وذكر البدن بالوفاء وذكر القلوب بالخوف والرجاء وذكر الروح بالتسليم والرضا. وقال القاضي عياض: ذكر القلب نوعان: أحدهما، وهو أرفع الأذكار وأجلها الفكر في عظمة الله وجلاله وجبروته وملكوته وآياته في سماواته وأرضه، ومنه حديث خير الذكر الخفي (أخرجه أحمد وأبويعلى من حديث سعد بن أبي وقاص ذكره الهيثمي (ج10ص81) مع الكلام عليه) والمراد به هذا، والثاني ذكره بالقلب عند الأمر والنهي فيمتثل ما أمر به ويترك ما نهى عنه، ويقف عما أشكل عليه. وأما ذكر اللسان مجرداً فهو أضعف الأذكار ولكن فيه فضل عظيم كما جاءت به الأحاديث، قال وذكر ابن جرير الطبري وغيره اختلاف السلف في ذكر القلب واللسان أيهما أفضل. قال القاضي: والخلاف عندي إنما يتصور في مجرد ذكر القلب تسبيحاً وتهليلاً وشبههما، وعليه يدل كلامهم لا أنهم مختلفون في الذكر الخفي الذي ذكرناه أولا فذلك لا يقاربه ذكر اللسان فكيف يفاضله، وإنما الخلاف في ذكر القلب بالتسبيح المجرد ونحوه. والمراد بذكر اللسان مع حضور القلب فإن كان لاهيا فلا خلاف في فضل الذكر بالقلب حينئذ، واحتج من رجح ذكر القلب وحده بأن عمل السر أفضل. ومن رجح ذكر اللسان أي

{الفصل الأول}

{الفصل الأول} 2283- 2284- (1- 2) عن أبي هريرة، وأبي سعيد، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة، ـــــــــــــــــــــــــــــ مع حضور القلب قال: لأن العمل فيه أكثر لأنه زاد باستعمال اللسان فاقتضى زيادة أجر. قال النووي والصحيح أن ذكر اللسان مع حضور القلب أفضل من القلب وحده. وقال ابن القيم في الوابل الصيب. الذكر يكون بالقلب واللسان تارة وذلك أفضل الذكر وبالقلب وحده تارة، وهي الدرجة الثانية، وباللسان وحده تارة وهي الدرجة الثالثة، فأفضل الذكر ما تواطأ عليه القلب واللسان. وإنما كان ذكر القلب وحده أفضل من ذكر اللسان وحده لأن ذكر القلب يثمر المعرفة ويهيج المحبة ويثير الحياء ويبعث على المخافة ويدعوا إلى المراقبة ويزع عن التقصير في الطاعات والتهاون في المعاصي والسيئات وذكر اللسان وحده لا يوجب شيئاً من هذه الآثار وإن أثمر شيئاً منها فثمرة ضعيفة – انتهى. قال النووي في الأذكار: فضيلة الذكر غير منحصرة في التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير ونحوها، بل كل عامل لله تعالى بطاعة فهو ذاكر لله تعالى كذا قاله سعيد بن جبير وغيره من العلماء. وقال عطاء: مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام كيف تشتري وتبيع وتصلي وتصوم وتنكح وتطلق وتحج وأشباه هذا. وقال ابن حجر: مجالس الذكر مجالس سائر الطاعات، ومن قال: هي مجالس الحلال والحرام أراد التنصيص على أخص أنواعه. وقال النووي: أيضاً الأذكار المشروعة في الصلاة وغيرها واجبة كانت أو مستحبة لا يحسب شيء منها ولا يعتد به حتى يتلفظ به بحيث يسمع نفسه إذا كان صحيح السمع لا عارض له. قال القاري: ومقصودة الحكم الفقهي وهو أنه إذا قرأ في باطنه حال القراءة أو سبح بلسان قلبه حال الركوع والسجود لا يكون آتيا بفرض القراءة وسنة التسبيح لا أن الذكر القلبي لا يترتب عليه الثواب الأخروي هذا، وقد ورد الذكر القرآن على عشرة أوجه يدل كل واحد منها على أهميته وغاية عظمته، وقد سردها ابن القيم في مدارج السالكين وقال في الوابل الصيب بعد سرد، الأحاديث في فضل الذكر: وفي الذكر أكثر من مائة فائدة، ثم ذكر منها تسعاً وسبعين فائدة مع البسط من أحب الوقوف على ذلك رجع إلى هذين الكتابين. 2283- 2284- قوله: (لا يقعد قوم يذكرون الله) قال ابن حجر: التعبير بالقعود للغالب كما هو ظاهر لأن المقصود حبس النفس على ذكر الله مع الدخول في عداد الذاكرين لتعود عليه بركة أنفاسهم ولحظ إيناسهم - انتهى. وقيل: فيه إشارة إلى أن القعود أحسن هيئات الذكر لدلالته على جميعه الحواس الظاهرة والباطنة. وقيل: هو كناية عن الاستمرار ومداومة الأذكار (إلا حفتهم) بتشديد الفاء أي أحاطت بهم (الملائكة) أي

وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، ـــــــــــــــــــــــــــــ الذين يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر (وغشيتهم) بكسر الشين أي غطتهم (الرحمة) الخاصة بالذاكرين. قال السندي: أي غطتهم الرحمة من كل جانب إذ الغشيان يستعمل فيما يشمل المغشي من جميع جوانبه. وقال الشوكاني: "قوله حفتهم الملائكة" أي أحدقت بهم واستدارت عليهم، ومعنى غشتهم الرحمة سترتهم من التغشي بالثواب. (ونزلت عليهم السكينة) أي الطمأنينة والوقار لقوله تعالى: {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} [الرعد: 28] ومنه قوله تعالى: {هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم} [الفتح:4] وقيل: المراد بالسكينة الرحمة ويرد ذلك عطفها على قوله غشيتهم الرحمة. وقيل: أنها الملائكة وقيل: هي ما يحصل به السكون وقوة القلب وذهاب الظلمة النفسانية. وقال ابن القيم في مدارج السالكين: وقد ذكر الله تعالى السكينة في كتابه في ستة مواضع الأول قوله تعالى: {وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم} [البقرة: 248] الثاني قوله تعالى: {ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين} [التوبة:26] الثالث قوله تعالى: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها} [التوبة: 40] الرابع {هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ولله جنود السموات والأرض وكان الله عليماً حكيماً} [الفتح: 4] الخامس قوله تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً} [الفتح: 18] السادس قوله تعالى: {إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين} الآية [الفتح: 26] وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذا اشتدت عليه الأمور قرأ آيات السكينة وقد جربت أنا أيضاً قراءة هذه الآيات عند اضطراب القلب فرأيت لها تأثيراً عظيماً في سكونه وطمأنينته. وأصل السكينة هي الطمأنينة والوقار والسكون الذي ينزله الله في قلب عبده عند اضطرابه من شدة المخاوف فلا ينزعج بعد ذلك لما يرد عليه ويوجب له زيادة الإيمان وقوة اليقين والثبات ولهذا أخبر سبحانه وتعالى عن إنزالها على رسوله وعلى المؤمنين في مواضع القلق والاضطراب كيوم الهجرة إذ هو وصاحبه في الغار والعدو فوق رؤسهما لو نظر أحدهم إلى ما تحت قدميه لرآهما وكيوم حنين إذ ولو مدبرين من شدة بأس الكفار لا يلوي أحد منهم على أحد وكيوم الحديبية حين اضطربت قلوبهم من تحكم الكفار ودخولهم تحت شروطهم التي تحملها النفوس وحسبك بضعف عمر عن حملها وهو عمر حتى ثبته الله بالصديق. قال ابن عباس: كل سكينة في القرآن فهي طمأنينة إلا التي في سورة البقرة. ثم بين ابن القيم الفرق بين السكينة والطمأنينة فقال الفرق بينهما إن السكينة صولة تورث خمود الهيبة الحاصلة في القلب وذلك في بعض الأوقات فليس حكماً دائما مستمراً، وهذا يكون لأهل الطمأنينة دائماً ويصحبه الأمن والإنس والاستراحة.

وذكرهم الله فيمن عنده)) . رواه مسلم. 2285- (3) وعن أبي هريرة، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسير في طريق مكة، فمر على جبل يقال له: جمدان، فقال: سيروا، هذا جمدان، سبق المفردون. ـــــــــــــــــــــــــــــ والفرق الثاني إن السكينة تكون نعتاً لا تزول وقد تكون حيناً بعد حين. وأما الطمأنينة فهي لا تفارق صاحبها، والفرق الثالث إن السكينة بمنزلة من واجهه عدو يريد هلاكه فهرب منه عدوه فسكن روحه، والطمأنينة بمنزلة حصن رآه مفتوحاً فدخله وأمن فيه وتقوى بصاحبه وعدته – انتهى. (وذكرهم الله) أي مباهاة وافتخاراً بهم بما يعظم به شأنهم ويرتفع به مكانهم من الثناء الجميل عليهم ووعد الجزاء الجزيل لهم (فيمن عنده) أي من الملائكة المقربين الذين كانوا يدعون لأنفسهم التسبيح والتقديس ولبني آدم الفساد وسفك الدماء ووجه المفاخرة بهم أنهم مع موانعهم من النفس والشيطان وسائر العلائق والعوائق لا يغفلون عن ذكره ويقومون بوظيفة شكره. وفي الحديث ترغيب عظيم للاجتماع على الذكر، فإن هذه الأربع الخصائص في كل واحدة منها على انفرادها ما يثير رغبة الراغبين ويقوى عزم الصالحين على ذكر رب العالمين. ووقع في حديث أبي هريرة عند مسلم من وجه آخر ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة الخ. قال النووي: في هذا دليل لفضل الاجتماع على تلاوة القرآن في المسجد وهو مذهبنا ومذهب الجمهور. وقال مالك: يكره. وتأوله بعض أصحابه ويلتحق بالمسجد في تحصيل هذه الفضيلة الاجتماع في مدرسة ورباط ونحوهما إنشاء الله ويدل عليه الحديث الذي بعده يعني الذي نحن في شرحه، فإنه مطلق يتناول جميع المواضع ويكون التقييد في هذا الحديث خرج على الغالب لا سيما في ذلك الزمان فلا يكون له مفهوم يعمل به – انتهى. (رواه مسلم) في الدعوات وكذا الترمذي وابن ماجه ونسبه الشوكاني في تحفة الذاكرين لأحمد وأبي داود الطيالسي وعبد بن حميد وأبي يعلى وابن حبان وابن أبي شيبة وابن شاهين في الترغيب في الذكر أيضاً. 2285- قوله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكة) يحتمل أن يكون ذاهباً إلى مكة أو راجعاً إلى المدينة (فمر على جبل يقال له جمدان) بضم الجيم وسكون الميم وفي آخره نون جبل على ليلة من المدينة (فقال سيروا) أي سيراً حسناً مقروناً بذكر وحضور وشكر وسرور (هذا جمدان) ومع جماديته يشعر بذكر الرحمن ويستبشر بمن مر عليه من أرباب العرفان، كما ورد أن الجبل ينادي الجبل باسمه أي فلان هل مربك أحد ذكر الله فإذا قال نعم استبشر، رواه الطبراني عن ابن مسعود من قوله. قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح (سبق المفردون) قال الجزري: هو بضم الميم وفتح الفاء وكسر الراء مشددة كذا روينا وضبطنا

قالوا: وما المفردون؟ يا رسول الله! قال الذاكرون الله كثيراً والذاكرات)) . رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ عن شيوخنا. وقال النووي في شرح مسلم: بفتح الفاء وكسر الراء المشددة هكذا نقله القاضي عن متقنى شيوخهم وذكر غيره أنه روى بتخفيفها وإسكان الفاء. وقال في الأذكار: روي المفردون بتشديد الراء وتخفيفها والمشهور الذي قاله الجمهور التشديد، يقال فَرَدَ الرجلُ في رأيه وأْفَرَدَ وفَرَّدَ واْستَفْرَدَ كله بمعنى أي استقل به وتخلى بتدبيره. والمراد به الذين تفردوا بذكر الله تعالى وانفردوا واعتزلوا عن الناس للتعبد. وقيل: هم الذين هلك أترابهم من الناس وذهب القرن الذين كانوا فيه وانفردوا عنهم وبقوا بعدهم يذكرون الله تعالى، وقال ابن الإعرابي: يقال فرد الرجل إذ اتفقه واعتزل الناس وخلا بمراعاة الأمر والنهي (قالوا) أي بعض الصحابة (وما المفردون) أي من هم "فما" بمعنى من كما في قوله تعالى: {والسماء وما بناها} [الشمس: 5] والواو رابطة بين السؤال والجواب. وقيل: الواو للعطف على محذوف كأنهم قالوا: لا نعلم المفردين ونقول ما المفردون. وقيل: الواو زائدة للتحسين، قال التوربشتي: فإن قيل لم قالوا ما المفردون؟ ولم يقولوا من المفردون؟ قلنا: لأنهم فتشوا عن معرفة معنى هذا اللفظ عند الإطلاق ما هو المراد منه لا تعيين المتصفين به وتعريف أشخاصهم يعني أن السؤال عن الصفة أي التفريد أو الإفراد فأجاب صلى الله عليه وسلم بأن التفريد الحقيقي المتعبد هو تفريد النفس بذكر الله تعالى. وقيل: الأظهر إن "ما" ههنا تغليب غير ذوي العقول لكثرتهم على ذوي العقول لقلتهم لما حرر في محله أن الأشياء كلها له حظ من الذكر والتسبيح ومعرفة الرب والخشية منه (الذاكرون الله كثيراً) أي ذكراً كثيراً. واختلف في تفسير الكثرة. فقال ابن عباس: كثرة الذكر يحصل بالذكر في أدبار الصلاة والغدو والعشي وفي المضاجع وكلما استيقظ من نومه وكلما غداً أو راح من منزله. وقال مجاهد: يحصل بذكره قياماً وقعوداً واضطجاعاً. وقال عطاء: بإقامة الصلوات الخمس مع حقوقها، وسأل ابن الصلاح عن ذلك فقال: بالمواظبة على الأذكار المأثورة المثبتة صباحاً ومساءاً في الأوقات والأحوال المختلفة ليلاً ونهاراً وهي مبينة في كتاب عمل اليوم والليلة وهذه الأقوال ذكرها النووي في الأذكار (والذاكرات) قال النووي: تقديره والذاكراته فحذفت الهاء هنا كما حذفت في القرآن لمناسبة رؤس الآي، ولأنه مفعول يجوز حذفه (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي والحاكم (ج1ص495) ولفظ الترمذي في الجواب. قال المستهترون في ذكر الله يضع الذكر عنهم أثقالهم فيأتون يوم القيامة خفافاً، والمستهترون بضم الميم وفتح التاءين. قال في جامع الأصول: المستهتر بالشي المولع به المواظب عليه عن حب ورغبة فيه. وقال في النهاية: يقال أهتر فلان بكذا واستُهتِر فهو مُهتر به ومسْتهتَر أي مولع به لا يتحدث بغيره ولا يفعل غيره – انتهى. وقال المنذري: المستهترون بذكر الله هم المولعون به المداومون عليه لا يبالون ما قيل فيهم ولا ما فعل بهم. وقال ابن القيم في

2286- (4) وعن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل الذي يذكر ربه، والذي لا يذكر، مثل الحي والميت)) . متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الوابل الصيب: اهتر بالشي يرفعه وفيه أولع به ولزمه وجعله دأبه وكذا استهتر فيه وبه أي الذين أولعوا بذكر الله وفيه تفسير آخر إن اهتروا في ذكر الله أي كبروا وهلك أقرانهم وهم في ذكر الله يقال اهتر الرجل فهو مهتر إذا سقط في كلامه من الكبر. والهتر السقط من الكلام كأنه بقي في ذكر الله حتى خرف وأنكر عقله والهتر الباطل أيضاً ورجل مستهتر إذا كان كثير الأباطيل، وحقيقة اللفظ إن الاستهتار الاستكثار من الشيء والولوع به حقا كان أو باطلاً، وغلب استعماله على المبطل حتى إذا قيل فلان مستهتر لا يفهم منه إلا الباطل. وإنما إذا قيد بشي تقيد به نحو هو مستهتر، وقد اهتر في ذكر الله أي أولع به وأغرى به. ويقال استهتر فيه وبه - انتهى. والحديث رواه الطبراني في الكبير عن أبي الدرداء وفيه ضعف. 2286- قوله: (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر) زاد أبوذر بعد هذه ربه (مثل الحي والميت) بفتح الميم والمثلثة في مثل في الموضعين. وهو لف ونشر مرتب شبه الذاكر بالحي الذي ظاهره متزين بنور الحياة وإشراقها فيه، وبالتصرف التام فيما يريده وباطنه بنور العلم والفهم والإدراك كذلك الذاكر مزين ظاهره بنور العلم والطاعة، وباطنه بنور العلم والمعرفة فقلبه مستقر في حظيرة القدس، وسره في مخدع الوصل. وغير الذاكر عاطل ظاهره وباطل باطنه. وقيل: موقع التشبيه بالحي والميت لما في الحي من النفع لمن يواليه والضرر لمن يعاديه وليس ذلك في الميت، وفي هذا التمثيل منقبة للذاكر جليلة وفضيلة له نبيلة وإنه بما يقع منه من ذكر الله عزوجل في حياة ذاتية وروحية لما يغشاه من الأنوار ويصل إليه من الأجور كما أن التارك للذكر، وإن كان في حياة ذاتية فليس لها اعتبار بل هو شبيه بالأموات الذين لا يفيض عليهم بشي مما يفيض على الإحياء المشغولين بطاعة الله عزوجل ومثل ما في هذا الحديث قوله تعالى {أو من كان ميتاً فأحييناه} [الأنعام: 123] والمعنى تشبيه الكافر بالميت وتشبيه الهداية إلى الإسلام بالحياة (متفق عليه) واللفظ للبخاري أخرجه في كتاب الدعوات ورواه مسلم في كتاب الصلاة (في باب استحباب صلاة النافلة في بيته) بلفظ: مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت، وكذا أخرجه الإسماعيلي وابن حبان في صحيحه وأبوعوانة فلعل البخاري رواه بالمعنى، فإن الذي يوصف بالحياة والموت حقيقة هو الساكن لا المسكن وإن إطلاق الحي والميت في وصف البيت إنما يراد به ساكن البيت فهو من باب ذكر المحل وإرادة الحال. وقيل: معنى قوله "مثل الحي والميت، وفي رواية مسلم أي مثل قلبهما أو مثل مكانهما ولذا ورد لا تجعلوا بيوتكم قبوراً أي خالية عن الذكر.

2287- (5) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2287- قوله: (أنا عند ظن عبدي) المؤمن (بي) قال الطيبي: أخذاً عن التوربشتي الظن لما كان واسطة بين الشك واليقين استعمل تارة بمعنى اليقين، وذلك إن ظهرت إماراته وتارة بمعنى الشك إذا ضعفت علاماته، وعلى المعنى الأول قوله تعالى: {الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم} [البقرة:46] أي يوقنون على ربهم المعنى الثاني قوله تعالى: {وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون} [القصص: 39] أي توهموا، والظن في الحديث يجوز إجراءه على ظاهره، ويكون المعنى أنا أعامله على حسب ظنه بي وأفعل به ما يتوقعه مني من خير أو شر. والمراد الحث على تغليب الرجاء على الخوف وحسن الظن بالله كقوله عليه الصلاة والسلام (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله، ويجوز أن يراد بالظن اليقين والمعنى أنا عند يقينه بي وعلمه بأن مصيره إلي وحسابه عليّ وإن ما قضيت به له أو عليه من خير أو شر لا مرد له لا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت – انتهى. وقال القرطبي في المفهم: قيل معنى ظن عبدي بي ظن الإجابة عند الدعاء وظن القبول عند التوبة وظن المغفرة عند الاستغفار وظن المجازاة عند فعل العبادة بشروطها تمسكاً بصادق وعده قال، ويؤيده في الحديث الآخر ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة قال ولذلك ينبغي للمرأ أن يجتهد في القيام بما عليه موقنا بأن الله يقبله ويغفر له لأنه وعد بذلك وهو لا يخلف الميعاد، فإن اعتقد أو ظن إن الله لا يقبلها وإنها لا تنفعه فهذا هو اليأس من رحمة الله وهو من الكبائر، ومن مات على ذلك وكل إلى ما ظن كما في بعض طرق الحديث المذكور فليظن بي عبدي ما شاء. قال وأما ظن المغفرة مع الإصرار على المعصية فذلك محض الجهل والعزة وهو يجر إلى مذهب المرجئة – انتهى. قلت: تغليب الرجاء وترجيحه على الخوف قيده بعض أهل التحقيق بالمحتضر. قال الحافظ: ويؤيد ذلك حديث لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله وهو عند مسلم من حديث جابر، وأما قبل ذلك فأقول ثالثها الاعتدال. وقال الشوكاني في تحفة الذاكرين في شرح هذا الحديث: فعلى العبد أن يكون حسن الظن بربه في جميع حالاته ويستعين على تحصيل ذلك باستحضار ما ورد من الأدلة الدالة على سعة رحمة الله سبحانه وتعالى في الكتاب والسنة. وقال ابن عباد: حسن الظن يطلب من العبد في أمر دنياه وفي أمر آخرته. أما أمر دنياه فأن يكون واثقاً بالله تعالى في إيصال المنافع والمرافق إليه من غير كد أو بسعي خفيف مأذون فيه ومأجور عليه، وبحيث لا يفوته ذلك شيئاً من فرض ولا نفل فيوجب له ذلك سكوناً وراحة في قلبه وبدنه فلا يستفزه طلب ولا يزعجه سبب. وأما أمر آخرته فإن يكون قوى الرجاء في قبول أعماله الصالحة وتوفية أجوره عليها في دار الجزء فيوجب له ذلك المبادرة لإمثتال الأمر والتكثير من أعمال البر يوجد أن حلاوة ونشاط ومن مواطن حسن الظن بالله تعالى التي لا ينبغي

وأنا معه ـــــــــــــــــــــــــــــ للعبد أن يفارقه فيها أوقات الشدائد والمحن، وحلول المصائب في الأهل والمال والبدن لئلا يقع بعدم ذلك في الجزع والسخط. وقيل: الظن تغليب أحد المجوزين بسبب يقتضي التغليب فلو خلا عن السبب المغلب لم يكن ظناً بل عرة وتمنياً، والمعنى المشهور أنا له كما يظن بي فإن ظن إني أصنع به خيراً صنعت به خيراً، وإن ظن إني أصنع به شراً صنعت به شراً. ويشكل على هذا نصوص كثيرة كقوله تعالى: {يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا} [الأعراف: 169] وقوله تعالى: {وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون} [الزمر: 47] وفي الحديث "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والأحمق من اتبع نفسه هواه وتمنى على الله الأماني" وقد ورد في الأمن من مكر الله وقد جاءت نصوص كثيرة في مدح الخشية من الله عزوجل والخوف منه، وجاء عن أكابر الصحابة وخيار التابعين آثار كثيرة في شدة خوفهم، فمنهم من تمنى إن أمه لم تلده وإن كان شجرة تعضد، والقاعدة في هذا إن المحمود أن يكون العبد بين الخوف والرجاء ولا يبلغ به الخوف أن ييأس من رحمة الله عزوجل ولا يبلغ به الرجاء أن يأمن من مكره، وعلامة ذلك أن يكون دائباً في عمل الخير واجتناب الشر فإن من أيس من رحمة الله فلا يبعد أن يدع ذلك قائلا أنا معذب في الآخرة لا محالة لكثرة ذنوبي فلماذا امنع نفسي هواها فأعذبها في الدنيا بترك شهواتها؟ ومن أمن مكر الله تعالى قال إنه ناج لا محالة فلا يضره أن يتبع نفسه هواها ولم يخلق الله شيئاً إلا للبشر ويقرأ {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} [الأعراف: 32] وينسى إن قليلة يدعوا إلى كثيرة والاسترسال إلى الحلال الكثير يعسر عليه الاجتناب من الحرام فيغلب فيجترىء على ما لم يكن له أن يجترىء عليه ويقول إنا مؤمن وكل مؤمن حبيب الله ومن شأن المحبوب أن لا يمنع محبة ما تهواه نفسه ولا يكلفه ما يشق عليه وأشباه ذلك. وقد أجيب بأن الحديث خاص بحال لاحتضار فالمؤمن المحسن يبدو له من مبشرات تضطره إلى ظن الخير، وإن كان قبل ذلك من أشد الخائفين وغيره يبدو له من المنذرات ما يضطره إلى ظن سوء مصيره، وإن كان قبل ذلك آمناً من مكر الله وهذا كما حمل حديث إذا أحب عبدي لقائي أحببت لقاءه، وفيه إن لفظ الحديث عام فالتخصيص بلا دليل لا يجوز، وقد يقال أن المراد بالعبد المؤمن الصالح كما تشعر الإضافة في قوله عبدي فهو الذي يكون الله عزوجل عند ظنه به إذ لا يظن به إلا الخير والحق وهو أهل أن لا يخيب رجاءه كما جاء في من لو أقسم على الله لأبره والله اعلم كذا في شرح الأدب المفرد (وأنا معه) أي عوناً ونصراً وتائيداً وتوفيقاً وتحصيلاً لمرامه وهو كقوله تعالى: {إنني معكما أسمع وأرى} [طه: 46] وهي معية خصوصية أي معه بالرحمة والتوفيق والهداية والرعاية والإعانة فهي أخص من المعية التي في قوله تعالى: {وهو معكم أينما كنتم} [الحديد: 4] وقوله {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} [المجادلة: 7] فإن معناها المعية بالعلم والإحاطة. قال الشوكاني: هذه معية عامة وتلك معية خاصة حاصلة

إذا ذكرني. فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ. ذكرته ـــــــــــــــــــــــــــــ للذاكر على الخصوص بعد دخوله مع أهل المعية العامة، وذلك يقتضي مزيد العناية ووفور الإكرام له والتفضل عليه ومن هذه المعية الخاصة ما ورد في الكتاب العزيز من كونه مع الصابرين وكونه مع الذين اتقوا فلا منافاة بين إثبات المعية الخاصة وإثبات المعية العامة (إذا ذكرني) بلسانه أو قلبه أو بهما (فإن ذكرني) تفريع يفيد أنه تعالى مع الذاكر سواء ذكره في نفسه أو مع غيره (في نفسه) أي سراً وخفية وهو يحتمل أن يكون ذكراً قلبياً أو لسانياً إخفائياً، أي ذكراً شفاهياً على جهة السر دون الجهر، قال الشوكاني: ويدل على هذا الاحتمال الثاني قوله وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه فإنه يدل على أن العبد قد جهر بذكره سبحانه وتعالى بين ذلك الملأ الذي هو فيهم فيقابله الأسرار بالذكر باللسان لا مجرد الذكر القلبي فإنه لا يقابل الذكر الجهري بل يقابل مطلق الذكر اللساني أعم من يكون سراً أو جهراً (ذكرته في نفسي) أي في ذاتي من غير إطلاع أحد من مخلوقاتي أو المراد في غيبي أي إذا ذكرني خالياً أثبته وجازيته عما عمل بما لا يطلع عليه أحد وفيه جواز إطلاق النفس على الله تعالى باعتبار معنى الذات خلافاً لمن منع وحمله على المشاكلة كما في قوله تعالى: {تعلم ما في نفسي ولا اعلم ما في نفسك} [المائدة: 116] لكن يرد عليه قوله تعالى: {ويحذركم الله نفسه} [آل عمران: 28] وقوله صلى الله عليه وسلم (لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك) . قال الحافظ: أي إن ذكرني بالتنزيه والتقديس سراً ذكرته بالثواب والرحمة سراً. وقال التوربشتي: الذكر من الله تعالى هو حسن قبوله والمجازاة له بالحسنى، فالمراد من قوله هذا إن العبد إذا ذكره في السر آتاه الله ثواب ذلك سراً على منوال عمله أي ويتولى بنفسه إثابته لا يكله إلى غيره. فإن قيل قد عرفنا فائدة الذكر الخفي من العبد وذلك أنه يكون من الآفات الداخلة على الأعمال بمعزل، ومن الإخلاص بمكان فما فائدة ذكر الله تعالى عبده في الغيب؟ قلنا الاصطفاء والاستئثار فإن الله تعالى إنما يدع علم الشيء بمكان من الغيب استئثاراً به واصطفاء له وفيه أيضاً صيانة سر العبد عن إطلاع الملأ الأعلى عليه وتوقي عمله عن إحاطة علم الخلق بكنه ثوابه، وفيه أيضاً تنبيه على كون العبد من الله بمكان تكّنه الغيرة عن الأغيار (وإن ذكرني في ملأ) بفتح الميم واللام مهموز أي مع جماعة من المؤمنين أو في حضرتهم. قال الجزري: الملأ أشراف الناس ورؤساؤهم ومقدموهم الذين يرجع إلى أقوالهم. وفيه دليل على جواز الذكر بالجهر. واختلفوا في ذلك فمنهم من منعه مطلقاً، ومنهم من جوزه مطلقاً، ومنهم من فصل كصاحب الفتاوى الخيرية، فقال إن كان الجهر مفرطاً منع عنه وإلا جاز، نعم السر أفضل من الجهر لكنه أمر آخر وهذا هو المعتمد عند محققي الحنفية (ذكرته) قال الشوكاني: معناه إن الله يجعل ثواب ذلك الذكر بمرأى ومسمع من ملائكته أو يذكره عندهم بما يعظم به شأنه ويرتفع به مكانه ولا مانع من أن يجمع بين الأمرين. وقيل: المراد منه مجازاة العبد بأحسن مما ...

في ملأ خير منهم)) . متفق عليه. 2288- (6) وعن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} ـــــــــــــــــــــــــــــ جاء به وأفضل مما يقرب به إلى ربه (في ملأ خير منهم) أي من ملأ الذاكرين وهم الملأ الأعلى ولا يلزم منه تفضيل الملائكة على بني آدم كما ذهب إليه المعتزلة لاحتمال أن يكون المراد بالملأ الذين هم خير من ملأ الذاكرين الأنبياء والشهداء فلم ينحصر ذلك في الملائكة وأيضاً فإن الخيرية إنما حصلت بالذاكر والملأ معاً فالجانب الذي فيه رب العزة خير من الجانب الذي ليس هو فيه بلا ارتياب فالخيرية حصلت بالنسبة للمجوع على المجموع، وهذا قاله الحافظ مبتكراً لكن قال إنه سبقه إلى معناه الكمال بن الزملكاني في الجزء الذي جمعه في الرفيق الأعلى. وقال الطيبي: الملأ الموصوف بأنه خير منهم هم الملائكة المقربون وأرواح المرسلين فلا دلالة على كون الملائكة أفضل من البشر. قال في اللمعات: والأحسن أن يقال الخيرية من جهة النزاهة والتقدس والعلو، وهي لا تنافي أفضلية البشر من جهة كثرة الثواب على الطاعة مع وجود الموانع والعوارض الجسمانية. وقال ابن الملك: اختلف هل البشر خير من الملائكة أم لا، رجح كلا مرجحون. قيل: والمختار إن خواص البشر كالأنبياء خير من خواص الملائكة كجبريل. وأما عوام البشر فليسوا بخير من الملائكة أصلاً فقوله في ملأ خير منهم أي خير منهم حالاً فإن حال الملائكة خير من حال الإنس في الجد والطاعة قال الله تعالى: {لا يعصون الله ما أمرهم} [التحريم: 6] وأحوال المؤمنين مختلفة بين طاعة ومعصية وجد وفترة – انتهى. قلت: قد بسط الحافظ الكلام في ذكر الاختلاف في ذلك مع سرد أدلة قول أهل السنة وقول المعتزلة من شاء الوقوف على ذلك رجع إلى الفتح (متفق عليه) أخرجه البخاري في التوحيد، ومسلم في الذكر والدعاء. وتمام الحديث (وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً وإن أتاني يمشي أتيته هرولة) . وقد أخرجه أيضاً أحمد (ج2ص251) والترمذي في الزهد والنسائي في الكبرى وابن ماجه في ثواب التسبيح، وروى البزار عن ابن عباس. قال المنذري: بإسناد صحيح مرفوعاً قال: قال الله تبارك وتعالى: (يا ابن آدم إذا ذكرتني خاليا ذكرتك خالياً وإذا ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ خير من الذين تذكرني فيهم) . 2288- قوله: (من جاء بالحسنة) أي جاء بها يوم القيامة غير مبطلة ولذا لم يقل من فعل الحسنة، والمراد بفرد من أفرادها أي فرد كان والمعنى من جاء يوم القيامة متلبساً بها متصفاً بأنه قد عملها في الدنيا (فله عشر أمثالها) أي ثواب عشر حسنات أمثالها حذف المميز الموصوف وأقيم الصفة مقامه فلا يعترض بأن

وأزيد. ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها أو أغفر. ومن تقرب مني شبراًً، تقربت منه ذراعاً. ومن تقرب مني ذراعاً، تقربت منه باعاً. ومن أتاني يمشي أتيته هرولة. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأمثال جمع مثل وهو مذكر فكان قياسه عشرة بالتاء على القاعدة، والجواب إن المعدود محذوف وهو موصوف أمثالها، والحسنات مؤنث فناسب تذكير العدد يعني أنه روعي في ذلك الموصوف المحذوف والتقدير فله عشر حسنات أمثالها، ثم حذف الموصوف وأقيم صفته مقامه وترك العدد على حاله ومثله مررت بثلاثة نسايات ألحقت في عدد المؤنث مرعاة للموصوف المحذوف إذا الأصل بثلاثة رجال نسايات. والحاصل إن له عشر مثوبات كل منها مثل تلك الحسنة في الكيفية وهذا أقل المضاعفة بمقتضى الواعد ولذا قال (وأزيد) بصيغة المتكلم أي لمن أريد الزيادة من أهل السعادة على عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وإلى أضعاف كثيرة. قال النووي: معناه إن التضعيف بعشر أمثالها لا بد منه بفضل الله ورحمته ووعده الذي لا يخلف والزيادة بعد بكثرة التضعيف إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة يحصل لبعض الناس دون بعض على حسب مشيئته سبحانه وتعالى (ومن جاء بالسيئة) أي غير مكفرة (فجزاء سيئة مثلها) أي عدلاً (أو أغفر) فضلاً. قال الطيبي: اختص ذكر الجزاء بالثانية لأن ما يقابل العمل الصالح كله أفضال وإكرام من الله، وما يقابل السيئة فهو عدل وقصاص فلا يكون مقصوداً بالذات كالثواب، فخص بالجزاء. وأما إعادة السيئة نكرة فلتنصيص معنى الوحدة المبهمة في السيئة المعرفة المطلقة وتقريرها. وأما معنى الواو في "وأزيد" فلمطلق الجمع إن أريد بالزيادة الرؤية كقوله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} [يونس: 26] وإن أريد بها الأضعاف فالواو بمعنى "أو" التنويعية كما هي في قوله أو أغفر قال القاري: والأظهر ما قاله ابن حجر من أن العشر والزيادة يمكن اجتماعهما بخلاف جزاء مثل السيئة ومغفرتها فإنه لا يمكن اجتماعهما فوجب ذكراً والدال على أن الواقع أحدهما فقط ومن تقرب) أي طلب القربة (مني) أي بالطاعة (شبراً) أي مقداراً قليلاً، قال الطيبي: شبراً وذراعاً وباعاً في الشرط والجزء منصوب على الظرفية أي من تقرب إلى مقدار شبر (ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً) قال الباجي: الباع طول ذراعي الإنسان وعضديه وعرض صدره، وذلك قدر أربعة أذرع. وقيل: هو قدر مد اليدين وما بينهما من البدن (ومن أتاني) حال كونه (يمشي أتيته هرولة) هي الإسراع في المشي دون العدو. وقال الطيبي: هي حال أي مهرولاً أو مفعول مطلق لأن الهرولة نوع من الإتيان فهو كرجعت القهقري لكن الحمل على الحال أولى لأن قرينه يمشي حال لا محالة قال النووي: هذا الحديث من أحاديث الصفات ويستحيل إرادة ظاهره (أي لأنه يقتضي قطع المسافات وتداني الأجسام وذلك في حقه تعالى محال) ومعناه من تقرب إلى بطاعتي تقربت إليه برحمتي والتوفيق والإعانة وإن

ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئاً لقيته بمثلها مغفرة)) . رواه مسلم. 2289- (7) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى قال: من عاد لي ولياً ـــــــــــــــــــــــــــــ زاد زدت، فإن أتاني يمشي وأسرع في طاعتي أتيته هرولة أي صببت عليه الرحمة وسبقته بها ولم أحوجه إلى المشي الكثير في الوصول إلى المقصود، والمراد إن جزاءه يكون تضعيفه على حسب تقربه – انتهى. وكذا فسره الأعمش والراغب والجزري وابن بطال وابن التين والتوربشتي والطيبي والحافظ والعيني وغيرهم من أهل العلم قلت لا حاجة إلى هذا التأويل والتفسير والصواب أن يحمل هذا الحديث كأمثاله على ظاهره فنؤمن به على ما يليق بعظمة الله تعالى كالمجيء والنزول ونحوهما وربنا ليس كمثله شيء وهو السميع البصير والله اعلم (ومن لقيني بقراب الأرض) بضم القاف على المشهور وبكسر أي بمثلها وقدرها. مأخوذ من القرب. وقال الجزري في النهاية: أي بما يقارب ملأها وهو مصدر قارب يقارب (خطيئة) تمييز (لا يشرك بي) حال من فاعل لقيني العائد إلى من (شيئاً) مفعول مطلق أو مفعول به (لقيته بمثلها مغفرة) أي إن أردت ذلك له لقوله تعالى: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48] ونكته حذفه في الحديث استغناء بعلمه منها ومبالغة في سعة باب الرحمة. قال الطيبي: المقصود من الحديث دفع اليأس بكثرة الذنوب فلا ينبغي أن يغتر في الاستكثار من الخطايا. قال ابن الملك: فإنه يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولا يعلم إنه من أيهم – انتهى. وهذا المقصود من آخر الحديث. وأما أوله ففيه الترغيب والتحثيث على المجاهدة في الطاعة والعبادة دفعاً للتكاسل والقصور. واعلم أنه قلما يوجد في الأحاديث حديث أرجى من هذا الحديث فإنه صلى الله عليه وسلم رتب قوله لقيته بمثلها مغفرة على عدم الإشراك بالله فقط، ولم يذكر الأعمال الصالحة لكن لا يجوز لأحد أن يغتر ويقول إذا كان كذلك فأكثر الخطيئة حتى يكثر الله المغفرة. وإنما قال تعالى ذلك كيلاً ييأس المذنبون من رحمته ولا شك إن لله مغفرة وعقوبة ومغفرته أكثر ولكن لا يعلم إنه من المغفورين أو من المعاقبين فإذن ينبغي للمؤمن أن يكون بين الخوف والرجاء كذا في المرقاة (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد (ج5ص148- 153- 155- 169- 180) وابن ماجه. 2289- قوله: (من عادى) أي آذى ففي رواية لأحمد في الزهد من حديث عائشة من آذى لي ولياً (لي) هو في الأصل صفة لقوله ولياً لكنه لما تقدم صار حالاً (ولياً) الولي المحب والناصر والحافظ وكل من يتولى. أمر أحد. قال الحافظ والعيني: المراد بولي الله العالم بالله المواظب على طاعته المخلص في عبادته. وقال القسطلاني

فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشي أحب إلي مما افترضت عليه، ـــــــــــــــــــــــــــــ فعيل بمعنى مفعول وهو من يتولى الله تعالى أمره قال تعالى وهو يتولى الصالحين ولا يكله إلى نفسه لحظة بل يتولى الحق رعايته أو هو فعيل مبالغة من الفاعل وهو الذي يتولى عبادة الله وطاعته فعبادته تجري على التوالي من غير أن يتخللها عصيان، وكلا الوصفين واجب حتى يكون الولي ولياً بحسب قيامه بحقوق الله على الاستقضاء والاستبقاء ودوام حفظ الله إياه في السراء والضراء، ومن شرط الولي أن يكون محفوظاً كما أن من شرط النبي أن يكون معصوماً. قال القشيري: والمراد بكون الولي محفوظاً أن يحفظه الله تعالى عن تماديه في الزلل والخطأ إن وقع فيهما بأن يلهمه التوبة فيتوب منهما وإلا فهما لا يقدحان في ولايته – انتهى. وقد استشكل وجود أحد يعادي الولي لأن المعاداة من باب المتفاعلة التي تقع من الجانبين، ومن شأن الولي الحلم والاجتناب عن المعاداة والصفح عمن يجهل عليه. وأجيب بأن المعاداة لم تنحصر في الخصومة والمعاملة الدنيوية مثلاً، بل قد تقع عن بغض ينشأ عن التعصب كالرافضي في بغضه لأبي بكر والمبتدع في بغضه للسني فتقع المعاداة من الجانبين. أما من جانب الولي فلله تعالى وفي الله، وأما من جانب الآخر فظاهر وكذا الفاسق المتجاهر يبغضه الولي في الله ويبغضه الآخر لإنكاره عليه وملازمته لنهيه عن شهواته. وقيل لا يحتاج إلى هذا التكلف فإذا قلنا إن الفاعل يأتي بمعنى فعل كما في قوله تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم} [آل عمران: 133] بمعنى أسرعوا حصل الجواب ويؤيد هذا قوله من آذى لي ولياً كما تقدم (فقد آذنته) بمد الهمزة وفتح المعجمة بعدها نون أي أعلمته من الإيذان وهو الأعلام (بالحرب) أي بمحاربتي إياه ووقع في حديث عائشة من عادى لي ولياً فقد استحل محاربتي وفي حديث معاذ عند ابن ماجه وأبي نعيم كما في الفتح فقد بارز الله بالمحاربة، وفي حديث أبي أمامة عند الطبراني والبيهقي. وحديث أنس عند أبي يعلى والبزار فقد باوزني. وقد استشكل وقوع المحاربة وهي مفاعلة من الجانبين والمخلوق في أسر الخالق. والجواب إنه من المخاطبة بما يفهم فإن غاية الحرب الهلاك والله لا يغلبه غالب، فكان المعنى فقد تعرض لإهلاكي إياه فأطلق الحرب وأراد لازمه أي أعمل به ما يعمله العدو المحارب. قال الفاكفاني: هذا تهديد شديد لأن من حاربه الله أهلكه وهو من المجاز البليغ لأن من كره من أحب الله خالف الله ومن خالف الله عانده ومن عانده أهلكه، وإذا ثبت هذا في جانب المعاداة ثبت في جانب الموالاة فمن والى أولياء الله أكرمه الله (وما تقرب إلي عبدي) أي المؤمن (بشي) أي من الطاعة (أحب إلي) بفتح أحب صفة لقوله بشي فهو مفتوح في موضع جر وبالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو أحب (مما افترضت عليه) سواء كان عيناً أو كفاية ظاهراً أو باطناً ويستفاد منه إن أداء الفرائض أحب الأعمال إلى الله وإن قرب العبد إلى ربه بأداء الفرائض أتم وأكمل مما يحصل بأداء النوافل لأن انعزل العبد عن اختياره في امتثال الأمر أشد في أداء الفرائض فإن النوافل يهديها العبد إلى الرب بالاختيار والتبرع، ويحصل في الأول فناء الذات، وفي الثاني فناء الصفات

وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحببته، فإذا أحببته فكنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الطوفي: الأمر بالفرائض جازم ويقع بتركها المعاقبة بخلاف النفل في الأمرين، وإن اشترك مع الفرائض في تحصيل الثواب فكانت الفرائض أكمل فلهذا كانت أحب إلى الله تعالى وأشد تقريباً وأيضاً الفرض كالأصل والأس والنفل كالفرع والبناء وفي الإتيان بالفرائض على الوجه المأمور به امتثال الأمر واحترام الأمر وتعظيمه بالانقياد إليه وإظهار عظمة الربوبية وذل العبودية فكان التقرب بذلك أعظم العمل (وما يزال) بلفظ المضارع وفي رواية وما زال (عبدي) أي القائم بالفرائض (يتقرب) أي يطلب زيادة القرب (إلي بالنوافل) أي التطوع من جميع أصناف العبادات يعني مع محافظته على الفرائض (حتى أحببته) أي حباً كاملاً لجمعه بين الفرائض والنوافل. قال الحافظ: ظاهره إن محبة الله للعبد تقع بملازمة العبد التقرب بالنوافل، قد استشكل بما تقدم أولاً إن الفرائض أحب العبادات المتقرب بها إلى الله فكيف لا تنتج المحبة، والجواب إن المراد من النوافل ما كانت حاوية للفرائض مشتملة عليها ومكملة لها. ويؤيده إن في رواية أبي أمامة "ابن آدم إنك لن تدرك ما عندي إلا بأداء ما افترضت عليك" وقال الفاكهاني: معنى الحديث إنه إذا أدى الفرائض ودام على إتيان النوافل من صلاة وصيام وغيرهما أفضى به ذلك إلى محبة الله تعالى. وقال ابن هبيرة: يؤخذ قوله من قوله ما تقرب إلى آخره إن النافلة لا تقدم على الفريضة لأن النافلة إنما سميت نافلة لأنها تأتي زائدة على الفرائض فما لم تؤد الفريضة لا تحصل النافلة، ومن أدى الفرض ثم زاد عليه النفل وأدام ذلك تحققت منه إرادة التقريب وقد تبين بذلك إن المراد من التقرب بالنوافل إن تقع ممن أدى الفرائض لا من أخل بها (فإذا أحببته) لتقربه إلى بما ذكر (فكنت) كذا في أكثر النسخ الحاضرة من المشكاة "حتى أحببته فإذا أحببته فكنت" وفي المصابيح "حتى أحبه (أي بضم أوله) فإذا أحببته كنت) وهكذا وقع في البخاري من رواية الشكميهني ولأبي ذر "حتى أحببته فكنت" وكذا وقع في نسخة القاري من المشكاة (سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به) بضم الياء وفي رواية، من حديث عائشة عينه التي يبصر بها وفي أخرى عينيه اللتين يبصر بهما بالتثنية وكذا قال في الأذن واليد والرجل (ويده التي يبطش) بفتح الياء وكسر الطاء أي يأخذ (بها ورجله التي يمشي بها) زاد في حديث عائشة وفوأده الذي يعقل به ولسانه الذي يتكلم به ونحوه في حديث أبي أمامة وقد استشكل كيف يكون الباري جل وعلى سمع العبد وبصره الخ وأجيب بأوجه أحدها أنه ورد على سبيل التمثيل والمعنى كنت سمعه وبصره في إيثاره أمري فهو يحب طاعتي ويؤثر خدمتي كما يحب هذه الجوارح ثانيها أن المعنى إن كليته مشغولة بي فلا يصغى بسمعه إلا إلى ما يرضيني ولا يبصر ببصره إلا ما أمرته به ولا يبطش بيده إلا في ما يحل له ولا يسعى برجله إلا في طاعتي

ثالثها أن المعنى أجعل له مقاصده كأنه ينالها ويراها بسمعه وبصره الخ رابعها كنت له في النصرة كسمعه وبصره ويده ورجله في المعاونة على عدوه خامسها قال الفاكهاني: وسبقه إلى معناه ابن هبيرة هو فيما يظهر لي أنه على حذف مضاف، والتقدير كنت حافظ سمعه الذي يسمع به فلا يسمع إلا ما يحل استماعه وحافظ بصره كذلك الخ. سادسها يحتمل معنى آخر أدق من هذا الذي قبله، وهو أن يكون سمعه بمعنى مسموعه، لأن المصدر قد جاء بمعنى المفعول مثل فلان أملي بمعنى مأمولي، والمعنى أنه لا يسمع إلا ذكرى ولا يتلذ إلا بتلاوة كتابي ولا يأنس إلا بمناجاتي ولا ينظر إلا في عجائب ملكوتي ولا يمد يده إلا فيما فيه رضاي ورجله كذلك. وقال الطوفي: اتفق العلماء ممن يعتد بقوله إن هذا مجاز وكناية عن نصرة العبد وتأييده وعنايته حتى كأنه سبحانه ينزل نفسه من عبده منزلة الآلات التي يستعين بها، وقع في رواية فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي. وقال الخطابي: هذه أمثال والمعنى توفيق الله لعبده في الأعمال التي يباشرها بهذه الأعضاء وتيسير المحبة له فيها، بأن يحفظ جوارحه عليه ويعصمه عن مواقعة ما يكره الله من الإصغاء إلى اللهو بسمعه، ومن النظر إلى ما نهى الله عنه ببصره ومن البطش فيما لا يحل له بيده، ومن السعي إلى الباطل برجله، وإلى هذا نحى الداودي حيث قال: هذا كله من المجاز يعني أنه يحفظه كما يحفظ العبد جوارحه لئلا يقع في مهلكة ومثله قال الكلاباذي وعبر بقوله أحفظه فلا يتصرف إلا في محابي لأنه إذا أحبه كره له أن يتصرف فيما يكرهه منه. وقال التوربشتي: معناه اجعل سلطان حبي غالباً عليه حتى يسلب عنه الاهتمام بشي غير ما يقربه إلى فيصير منخلعاً عن الشهوات ذاهلاً عن الحظوظ واللذات، حيثما تقلب وأينما توجه لقي الله تعالى بمرأى منه ومسمع لا تطور حول حاله الغفلة، ولا يحول دون شهوده الحجبة. ولا يعتري ذكره النسيان، ولا يخطر بباله الأحداث والأعيان يأخذ بمجامع قلبه. حب الله فلا يرى إلا ما يحبه ولا يسمع إلا ما يحبه ولا يفعل إلا ما يحبه ويكون الله سبحانه في ذلك له يداً ومؤيداً وعوناً وكيلاً يحمي سمعه وبصره ويده ورجله عما لا يرضاه، وحقيقة هذا القول ارتهان كلية العبد بمراضي الله وحسن رعاية الله له، وذلك على سبيل الاتساع وهو شائع في كلام العرب إذا أرادوا اختصاص الشيء بنوع من الخصوصية والاهتمام به والعناية والاستغراق فيه والوله إليه. سابعها قاله الخطابي أيضاً: قد يكون عبر بذلك عن سرعة إجابة الدعاء والنجح في الطلب وذلك إن مساعي الإنسان كلها إنما تكون بهذه الجوارح المذكورة. وقال بعضهم: وهو منتزع مما تقدم لا يتحرك له جارحة إلا في الله. ولله فهي كلها تعمل بالحق للحق، وأسند البيهقي في الزهد عن أبي عثمان الجيزي أحد أئمة الطريق قال معناه كنت أسرع إلى قضاء حوائجه من سمعه في الاستماع وعينه في النظر ويده في اللمس ورجله في المشي. قيل: وزعم الاتحادية أنه على حقيقته وإن الحق عين العبد

وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن. ـــــــــــــــــــــــــــــ واحتجوا بمجيء جبريل في صورة دحية قالوا: فهو روحاني خلع صورته وظهر بمظهر البشر قالوا: فالله أقدر على أن يظهر في صورة الوجود الكلي أو بعضه تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، وحمله بعض أهل الزيغ على ما يدعونه من أن العبد إذا لازم العبادة الظاهرة والباطنة حتى يصفي من الكدورات أنه يصير في معنى الحق تعالى الله عن ذلك، وأنه يفنى عن نفسه جملة حتى يشهد أن الله هو الذاكر لنفسه الموحد لنفسه المحب لنفسه وأن هذه الأسباب والرسوم تصير عدماً صرفاً في شهودة وإن لم تعدم في الخارج وعلى الأوجه كلها فلا متمسك فيه للاتحادية ولا القائلين بالوحدة المطلقة لقوله في بقية الحديث، ولئن سألني ولئن استعاذني فإنه كالصريح في الرد عليهم كذا في الفتح. (وإن سألني لأعطيته) أي ما سأل وهو بفتح اللام وضم الهمزة ونون التأكيد الثقيلة (ولئن استعاذني) بنون الوقاية، وفي بعض النسخ بالموحدة وهو أظهر معنى، والأول أشهر رواية قاله في اللمعات وقال الحافظ: ضبطناه بوجهين الأشهر، بالنون بعد الذال المعجمة، والثاني بالموحدة. (لأعيذنه) أي مما يخاف وقد استشكل بأن جماعة من العباد والصلحاء دعوا وبالغوا ولم يجابوا، والجواب إن الإجابة تتنوع فتارة يقع المطلوب بعينه على الفوز، وتارة يقع لكن يتأخر لحكمة فيه، وتارة قد يقع الإجابة ولكن بغير عين المطلوب حيث لا يكون في المطلوب مصلحة ناجزة وفي الواقع مصلحة ناجزة أو أصلح منها. وقد تمسك بهذا الحديث بعض الجهلة من أهل التجلي والرياضة فقالوا: القلب إذا كان محفوظاً مع الله كانت خواطره معصومة من الخطأ، وتعقب ذلك أهل التحقيق من أهل الطريق فقالوا: لا يلتفت إلى شيء من ذلك إلا إذا وافق الكتاب والسنة، والعصمة إنما هي للأنبياء ومن عداهم فقد يخطىء فقد كان عمر رضي الله عنه رأس الملهمين، ومع ذلك فكان ربما رأى الرأي فيخبره بعض الصحابة بخلافه فيرجع إليه ويترك رأيه، فمن ظن أنه يكتفي بما يقع في خاطره عما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام فقد ارتكب أعظم الخطأ. وفي الحديث إن من أتى بما وجب عليه وتقرب بالنوافل لم يرد دعاءه لوجود هذا الوعد الصادق المؤكد بالقسم وقد تقدم الجواب عما يتخلف من ذلك (وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن) وفي حديث عائشة ترددي عن موته ووقع في الحلية في ترجمة وهب بن منبه إني لأجد في كتب الأنبياء إن الله تعالى يقول (ما ترددت عن شيء قط ترددي عن قبض روح المؤمن) فإن قيل التردد هو التخير بين أمرين لا يدري أيهما أصلح وهو محال على الله تعالى. أجيب بأن المراد من لفظاً التردد في هذا الحديث إزالة كراهة الموت من العبد المؤمن بلطائف يحدثها الله له ويظهرها حتى تذهب الكراهة التي في نفسه بما يتحقق عنده من البشرى برضوان الله وكرامته، وهذه الحالة يتقدمها أحوال كثيرة من مرض

وهرم وفاقة وزمانة وشدة بلاء يهون على العبد مفارقة الدنيا، ويقطع عنها علاقته حتى إذا أيس عنها تحقق رجاءه بما عند الله فاشتاق إلى دار الكرامة فأخذه المؤمن عما تشبث به من حب الحياة شيئاً فشيئاً بالأسباب التي أشرنا إليها يضاهي، ويشبه فعل المتردد من حيث الصنعة فشبه، بفعل المتردد وأدخل في أفراده مبالغة وعبر عنه بالتردد ولما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - هو المخبر عن الله وعن صفاته وأفعاله بأمور غير معهودة لا يكاد السامع يعرفها على ما هي عليه إذن له أن يعبر عنها بألفاظ مستعملة في أمور معهودة تعريفاً للأمة، وتوقيفاً لهم بالمجاز على الحقيقة، وتقريباً لما ينأى عن الإفهام، وتقريراً لما يضيق عن الإفصاح به نطاق البيان وذلك بعد أن عرفهم ما يجوز على الله وما لا يجوز قاله التوربشتي. وقال الخطابي: التردد في حق الله غير جائز والبذاء عليه في الأمور غير سائغ ولكن له تأويلان. أحدهما: إن العبد قد يشرف على الهلاك في أيام عمره من داء يصيبه وفاقة تنزل به فيدعوا الله فيشفيه. منها: ويدفع عنه مكروهها فيكون ذلك من فعله كتردد من يريد أمراً ثم يبدو له فيه فيتركه ويعرض عنه، ولا بد له من لقائه إذا بلغ الكتاب أجله لأن الله قد كتب الفناء على خلقه واستأثر بالبقاء لنفسه. والثاني: أن يكون معناه ما رددت رسلي في شيء أنا فاعله كترديدي إياهم في نفس المؤمن، كما روي في قصة موسى عليه السلام، وما كان من لطمة عين ملك الموت وتردده إليه مرة بعد أخرى. قال: وحقيقة المعنى على الوجهين عطف الله على العبد ولطفه به وشفقته عليه وعبر ابن الجوزي عن الثاني، بأن التردد للملائكة الذين يقبضون الروح، وأضاف الحق ذلك لنفسه لأن ترددهم عن أمره قال: وهذا التردد ينشأ عن إظهار كرامة المؤمن على ربه، فإن قيل: إذا أمر الملك بالقبض كيف يقع منه التردد، فالجواب من وجوه. منها: إن معنى التردد اللطف به كأن الملك يؤخر القبض فإنه إذا نظر إلى قدر المؤمن وعظم المنفعة به لأهل الدنيا احترمه فلم يبسط يده إليه فإذا ذكر أمر ربه لم يجد بدأ من امتثاله. ومنها: إن الملك يتردد فيما لم يحد له فيه الوقت كان يقال لا تقبض روحه إلا إذا رضي. وقيل معنى الحديث ما أخرت وما توقفت توقف المتردد في أمر أنا فاعله إلا في قبض نفس عبدي المؤمن أتوقف فيه وأريد ما أعددت له من النعيم والكرامات حتى يسهل عليه ويميل قلبه إليه شوقاً إلى أن ينخرط في سلك المقربين ويتبوأ في أعلى عليين قاله القاضي. وقيل هذا خطاب لنا بما نعقل والمقصود تفهيمنا تحقيق المحبة للولي والدلالة على شرفه ورفعة منزلته حتى لو تأتي أنه تعالى لا يذيقه الموت الذي حتمه على عباده لفعل، ولهذا المعنى ورد لفظ التردد كما إن العبد إذا كان له أمر لا بد له أن يفعله بحبيبه لكنه يؤلمه، فإن نظر إلى ألمه أنكف عن الفعل وإن نظر إلى أنه لا بد له منه أن يفعله لمنفعته أقدم عليه فيعبر عن هذه الحالة في قلبه بالتردد فخاطب الله الخلق بذلك على حسب ما يعرفون، ودلهم به على شرف الولي عنده ورفعة درجته. وقيل المراد أنه يقبض روح المؤمن بالتأني والتدريج بخلاف سائر

يكره الموت وأنا أكره مساءته، ولا بد له منه)) . رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأمور فإنها تحصل بمجرد قوله كن سريعاً دفعة ذكره الكرماني. وقيل الصواب فيه أن يؤمن به على ما يليق بعظمة الله تعالى وشأنه ولا يتوهم ولا يقال كيف فلا حاجة إلى التأويلات التي ذكروها والله اعلم (يكره الموت) قال القاري: استئناف جواباً عما يقال ما سبب التردد، والمراد أنه يكره شدة الموت بمقتضى طبعه البشرى (وأنا أكره مساءته) بفتح الميم والمهملة بعدها همزة ففوقية مصدر ساء الأمر فلاناً أي أحزنه. قال ابن الملك: أي إيذاءه بما يلحقه من صعوبة الموت وكربه. وقال ابن حجر: أي أكره ما يسوءه لأني أرحم به من والديه لكن لا بد له منه لينتقل من دار الهموم إلى دار النعيم والمسرات، فعلته به إيثاراً لتلك النعمة العظمى والمسرات الكبرى كما أن الأب الشفوق يكلف الابن بما يكلفه من العلم وغيره وإن شق عليه نظراً لكماله الذي يترتب على ذلك – انتهى. قال القاري: وهو خلاصة كلام الطيبي وحاصل كلامهم إن إضافة المساءة من باب إضافة المصدر إلى مفعوله، والظاهر إنها مضافة إلى فاعله والمعنى أكره مساءته لكراهة الموت فإنه لا ينبغي أن يكره الموت بل يحبه فإن من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه من كره لقاء الله كره الله لقاءه – انتهى. وقال الجنيد: الكراهة هنا لما يلقى المؤمن من الموت وصعوبته وكربه وليس المعنى إني أكره له الموت لأن الموت يورده إلى رحمة الله ومغفرته – انتهى. وعبر بعضهم عن هذا بأن الموت حتم مقضي وهو مفارقة الروح للجسد ولا تحصل غالباً إلا بألم عظيم جداً، فلما كان الموت بهذا الوصف والله يكره أذى المؤمن أطلق على ذلك الكراهة، ويحتمل أن تكون المساءة بالنسبة إلى طول الحياة لأنها تؤدي إلى أرذل العمر وتنكس الخلق والرد إلى أسفل سافلين كذا في الفتح. (ولا بد له منه) كذا وقعت هذه الزيادة في بعض نسخ المشكاة موافقاً لما في المصابيح وسقطت من بعضها كنسخة القاري التي أخذها في شرحه وكنسخة أشعة اللمعات للشيخ الدهلوي وليست أيضاً في البخاري. قال القاري: وفي نسخة صحيحتي من المشكاة ولا بد له منه وكذا في أصل مبرك وهو كذا في شرح المصابيح لابن الملك. وقال ابن حجر: كما في رواية. وقال الحافظ: زاد محمد بن مخلد (يعني عند الذهبي) عن ابن كرامة (شيخ البخاري) في آخر الحديث ولا بد له منه. ووقعت هذه الزيادة أيضاً في حديث وهب بن منبه المقطوع عند أحمد في الزهد، وأبي نعيم في الحلية. قال القاري: والمعنى ولا بد للمؤمن من الموت فلا معنى للكراهة أو ولهذا لا ادفع عنه الموت (رواه البخاري) في باب التواضع من كتاب الرقاق. قال: حدثنا محمد بن عثمان بن كرامة، حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا سليمان بن بلال، حدثنا شريك بن عبد الله بن نمر عن عطاء عن أبي هريرة. قال الذهبي: في ترجمة خالد بن مخلد من الميزان (ج1ص300، 301) قال أحمد: له مناكير. وقال أبوحاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن سعد: منكر الحديث مفرط في التشيع. وقال أبوداود: صدوق ولكنه يتشيع، وذكره ابن عدي ثم ساق له عشرة أحاديث

2290- (8) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، ـــــــــــــــــــــــــــــ استنكرها. قال الذهبي: ومما انفرد ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن كرامة عنه وذكر حديث أبي هريرة من عادى لي ولياً الخ. وساقه من طريق محمد بن مخلد عن محمد بن عثمان بن كرامة شيخ البخاري فيه ثم قال: فهذا غريب جداً ولولا هيبة الجامع الصحيح لعدته في منكرات خالد بن مخلد وذلك لغرابة لفظه، ولأنه مما ينفرد به شريك وليس بالحافظ ولم يرو هذا المتن إلا بهذا الإسناد ولا أخرجه من عدا البخاري ولا أظنه في مسند أحمد – انتهى. قلت شريك هذا قد وثقه ابن سعد وأبوداود. وقال النسائي وابن معين: لا بأس به واحتج به الجماعة إلا أن في روايته عن أنس في حديث الإسراء مواضع شاذة. وأما خالد بن مخلد فقد وثقه العجلي وصالح ابن محمد جزرة وعثمان بن أبي شيبة وابن حبان. وقال ابن عدي: هو من المكثرين لا بأس به. وقال الأزدي: في حديثه بعض المناكير وهو عندنا في عداد أهل الصدق ولا يلتفت إلى قول أبي حاتم لا يحتج به لأنه جرح مبهم. وأما التشيع والمناكير. فقال الحافظ في مقدمة الفتح في ذكر خالد: هذا قلت: أما التشيع فقد قدمنا إنه إذا كان ثبت الأخذ والأداء لا يضره لا سيما ولم يكن داعية إلى رأيه. وأما المناكير فقد تتبعها ابن عدي من حديثه وأوردها في كامله وليس فيها شيء مما أخرجه البخاري بل لم أر له عنده من أفراده سوى حديث واحد، وهو حديث أبي هريرة من عادى لي ولياً – الحديث. وقال في الفتح (ج26ص145) بعد ذكر كلام الذهبي المتقدم، قلت: ليس هذا الحديث في مسند أحمد جزماً، وإطلاق أنه لم يرو هذا المتن إلا بهذا الإسناد مردود، ومع ذلك فشريك شيخ شيخ خالد فيه مقال أيضاً، ولكن للحديث طرق أخرى يدل على مجموعها على أن له أصلاً منها عن عائشة أخرجه أحمد في الزهد، وابن أبي الدنيا وأبونعيم في الحلية، والبيهقي في الزهد من طريق عبد الواحد بن ميمون عن عروة عنها، وذكر ابن حبان وابن عدي أنه تفرد به. وقد قال البخاري: أنه منكر الحديث، ومنها عن علي عند الإسماعيلي في مسند علي وعن ابن عباس أخرجه الطبراني وسندهما ضعيف. وعن أنس أخرجه أبويعلى والبزار والطبراني وفي سنده ضعف أيضاً. وعن حذيفة أخرجه الطبراني مختصراً وسنده حسن غريب، وعن معاذ بن جبل أخرجه ابن ماجه وأبونعيم في الحلية مختصراً وسنده ضعيف أيضاً، وعن وهب بن منبه مقطوعاً أخرجه أحمد في الزهد وأبونعيم في الحلية – انتهى. هذا وقد بسط الكلام في تخريج هذا الحديث وشرحه ابن رجب الحنبلي في شرح الأربعين النووية (ص259، 260) فارجع إليه إن شئت. 2290- قوله: (إن لله ملائكة) أي من المقربين غير الحفظة المرتبين مع الخلائق بل هم سيارة سياحة في الأرض لا وظيفة لهم، وإنما مقصودهم حلق الذكر (يطوفون) أي يدورون (في الطرق) أي طرق المسلمين (يلتمسون أهل الذكر) أي يطلبون مجالستهم. وقيل: أي يطلبون من يذكر الله من بني آدم ليزوروهم ويدعوا لهم ويستمعوا إلى

فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم. قال: فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا. قال: فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم. ما يقول عبادي؟ قال: يقولون: يسبحونك، ويكبرونك، ويحمدونك، ويمجدونك. ـــــــــــــــــــــــــــــ ذكرهم، وفي الرواية الآتية يبتغون مجالس الذكر، وفي حديث جابر بن عبد الله عند أبي يعلى والبزار إن لله سرايا من الملائكة تقف وتحل بمجالس الذكر. (تنادوا) بفتح الدال أي نادى بعض تلك الملائكة بعضاً قائلين (هلموا) أي تعالوا مسرعين (إلى حاجتكم) أي إلى ما تطلبون من استماع الذكر وزيارة الذاكر، فإنا قد وجدنا جماعة من أهل الذكر. وفي رواية أحمد والترمذي إلى بغيتكم بكسر الباء وضمها مع سكون الغين وفتح الياء مخففة، وبفتح الباء وكسر الغين مع تشديد الياء المفتوحة أي إلى مطلوبكم ومرغوبكم وقوله "هلموا" ورد على لغة أهل نجد أنها تثنى وتجمع وتؤنث ولغة أهل الحجاز بناء لفظها على الفتح وبقاءه بحاله مع المثنى والجمع والمؤنث ومنه قوله تعالى: {قل هلم شهداءكم} [الأنعام: 150] (قال) أي النبي صلى الله عليه وسلم (فيحفونهم) بفتح التحتية وضم الحاء وتشديد الفاء من الحف وهو الاشتمال حول شيء أي يطوفون بهم ويدورون حولهم من جوانبهم (بأجنحتهم) قال المظهري: الباء للتعدية أي يديرون أجنحتهم حول الذاكرين. وقال الطيبي: الظاهر إنها للاستعانة كما في قولك كتبت بالقلم أي يطيفونهم ويحدقون بهم بأجنحتهم لأن حفهم الذي ينتهي إلى السماء إنما يستقيم بواسطة الأجنحة (إلى السماء الدنيا) وفي رواية، إلى سماء الدنيا. قال الطيبي: أي يقف بعضهم فوق بعض إلى السماء الدنيا. (فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم) أي بالذاكرين من الملائكة. قال الطيبي: وهو أعلم حال والأحسن أن تكون معترضة أو تتميماً صيانة عن التوهم يعني لتوهم أن تكون الحال منتقلة، والحال أنها مؤكدة. وفائدة السؤال مع العلم بالمسئول إظهار شرف بني آدم وصلاحهم والتعريض بالملائكة بقولهم في بني آدم {أتجعل فيها من يفسد فيها} [البقرة: 30] الخ (ما يقول عبادي) الإضافة للتشريف (يقولون) أي الملائكة (يسبحونك) أي عبادك يسبحونك (ويحمدونك) بالتخفيف (ويمجدونك) بتشديد الجيم أي يذكرونك بالعظمة أو ينسبونك إلى المجد وهو الكرم. قال الجزري: التمجيد التعظيم والمجيد الشريف العظيم، وفي رواية مسلم الآتية ذكر التهليل بدل التمجيد، وفي حديث أنس عند البزار يعظمون آلائك ويتلون كتابك ويصلون على نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ويسألونك لآخرتهم ودنياهم. قال الحافظ: ويؤخذ من مجموع هذه الطرق المراد بمجالس الذكر وإنها التي تشتمل على ذكر الله بأنواع الذكر الواردة من تسبيح وتكبير وغيرهما، وعلى تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى وعلى الدعاء بخيري الدنيا والآخرة وفي دخول قراءة الحديث النبوي ومدارسة العلم الشرعي ومذاكرته، والاجتماع على صلاة النافلة

قال: فيقول: هل رأوني؟ قال: فيقولون: لا والله ما رأوك. قال: فيقول كيف لو رأوني؟ قال: فيقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تمجيداً، وأكثر لك تسبيحاً. قال: فيقول: فما يسألون؟ قالوا: يسألونك الجنة. قال: يقول: وهل رأوها. قال: فيقولون: لا والله يا رب! ما رأوها. قال: يقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصاً، وأشد لها طلباً، وأعظم فيها رغبة. قال: فمم يتعوذون؟ قال: يقولون: من النار. قال: يقول فهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يا رب ما رأوها. قال: يقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فراراً، أو أشد لها مخافة. قال: فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم. قال: يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم، ـــــــــــــــــــــــــــــ في هذه المجالس نظر. والأشبه اختصاص ذلك بمجالس التسبيح والتكبير ونحوهما، والتلاوة حسب وإن كانت قراءة الحديث ومدارسة العلم والمناظرة فيه من جملة ما يدخل تحت مسمى ذكر الله تعالى – انتهى. قلت، وقال العيني: قوله "أهل الذكر" أي في قوله "يلتمسون أهل الذكر" يتناول الصلاة وقراءة القرآن وتلاوة الحديث وتدريس العلوم ومناظرة العلماء – انتهى. فاختلف الحافظ والعيني في أن المراد بمجالس الذكر وأهل الذكر الخصوص أو العموم، فاختار الحافظ الخصوص نظراً إلى ظاهر ألفاظ الطرق المذكورة، واختار العيني العموم نظراً إلى أن ما في هذه الطرق من ألفاظ الذكر تمثيلات. قال شيخنا في شرح الترمذي: والظاهر هو الخصوص كما قال الحافظ: والله تعالى اعلم. (قال) أي النبي صلى الله عليه وسلم (فيقول) أي الله (كيف لو رأوني) أي لو رأوني كيف يكون حالهم في الذكر (وأشد لك تمجيداً) أي تعظيماً، وزاد في رواية تحميداً، وفي أخرى وأشد لك ذكراً (وأكثر لك تسبيحاً) فيه إيماء إلى أن تحمل مشقة الخدمة على قدر المعرفة والمحبة (فما يسالون) أي مني، وفي رواية فما يسألوني وفي أخرى فما يسألونني (وهل رأوها) أي الجنة (كانوا أشد عليها حرصاً وأشد لها طلباً وأعظم فيها رغبة) لأن الخبر ليس كالمعانية (فمم) أي من شيء حذفت ألف "ما" وأبقيت الفتحة على الميم، فإنه يجب حذف ألف "ما" الاستفهامية إذا جرت، وإبقاء الفتحة على الميم دليلاً عليها نحو {فيم أنت من ذكراها} [النازعات: 43] فناظرة بم يرجع المرسلون {لم تقولون ما لا تفعلون} [الصف: 2] وعلة حذف الألف الفرق بين الاستفهام والخبر (فأشهدكم) من الأشهاد أي أجعلكم شاهدين (إني قد غفرت لهم) أي بذكرهم فـ {إن الحسنات يذهبن السيئات} [هود: 114] (فيهم فلان) كناية عن اسمه ونسبه (ليس منهم) أي

إنما جاء لحاجة. قال: هم الجلساء لا يشقى جليسهم)) رواه البخاري. وفي رواية مسلم، قال: إن لله ملائكة سيارة ـــــــــــــــــــــــــــــ من الذاكرين. قال القاري: حال من المستتر في الخبر. وقيل: من فلان على مذهب سيبويه. (إنما جاء) أي إليهم (لحاجة) أي دنيوية له فجلس معهم يريد الملك بهذا إنه لا يستحق المغفرة (هم الجلساء) جمع جليس (لا يشقى) بفتح الياء أي يصير شقياً (جليسهم) أي مجالسهم. قال الطيبي: أي هم جلساء لا يخيب جليسهم عن كرامتهم فيشقى – انتهى. وفي الحديث فضل مجالس الذكر والذاكرين وفضل الاجتماع على ذلك وإن جليسهم يندرج معهم في جميع ما يتفضل الله تعالى عليهم إكراماً لهم، ولو لم يشاركهم في أصل الذكر وفيه محبة الملائكة لبني آدم واعتناءهم بهم، وفيه إن السؤال قد يصدر من السائل وهو اعلم بالمسئول عنه من المسئول لإظهار العناية بالمسئول عنه والتنويه بقدره والإعلان بشرف منزلته. وقيل: إن في خصوص سؤال الله الملائكة عن أهل الذكر الإشارة إلى قوله {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} [البقرة: 30] فكأنه قيل لهم: انظروا إلى ما حصل منهم من التسبيح والتقديس مع ما سلط عليهم من الشهوات ووساوس الشيطان وكيف عالجوا ذلك وضاهوكم في التسبيح والتقديس. وقيل: إنه يؤخذ من هذا الحديث إن الذكر الحاصل من بني آدم أعلى وأشرف من الذكر الحاصل من الملائكة لحصول ذكر الآدميين مع كثرة الشواغل ووجود الصوارف وصدوره في عالم الغيب بخلاف الملائكة في ذلك كله كذا في الفتح. (رواه البخاري) في أواخر الدعوات من طريق جرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة وكذا خرجه ابن حبان من هذا الطريق ومن طريق الفضيل بن عياض عن الأعمش: قال الحافظ: لم أره من حديث الأعمش إلا بالعنعنة لكن اعتمد البخاري على وصله لكون شعبة رواه عن الأعمش (عند أحمد) فإن شعبه كان لا يحدث عن شيوخه المنسوبين للتدليس إلا بما تحقق إنهم سمعوه – انتهى. والحديث أخرجه أحمد (ج2ص252) ومسلم والطيالسي من طريق وهيب عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة، وقد ذكر المصنف لفظ مسلم بعد ذلك وأخرجه أحمد أيضاً (ج2ص251) والترمذي نحو رواية مسلم من طريق أبي معاوية عن الأعمش، فقال عن أبي صالح عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد الخدري بالشك، وهذا الشك من الأعمش كما صرح في رواية أحمد، والظاهر إن الأعمش استيقن بعد ما شك أو شك بعد ما استيقن ولا أثر لهذا الشك على صحة الحديث كما هو بديهي. (وفي رواية مسلم قال إن لله ملائكة سيارة) بتشديد الياء من السير أي سياحون في الأرض، قال في اللسان: والسيارة القافلة والسيارة القوم يسيرون أنث على معنى الرفقة والجماعة، وفي رواية أحمد (ج2ص251) والترمذي إن لله ملائكة سياحين في الأرض، بفتح السين المهملة وتشديد الياء التحتية من قولهم ساح في الأرض

فضلاً يبتغون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلساً فيه ذكر قعدوا معهم، وحف بعضهم بعضا بأجنحتهم، حتى يملأوا ما بينهم وبين السماء الدنيا، فإذا تفرقوا عرجوا وصعدوا إلى السماء، قال: فيسألهم الله، وهو أعلم من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عبادك في الأرض يسبحونك، ويكبرونك، ويهللونك، ويحمدونك، ويسألونك. قال: وماذا يسألوني؟ قالوا: يسألونك جنتك. قال: وهل رأو جنتي؟ قالوا: لا أي رب! ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا ذهب فيها وسار، وأصله من سيح الماء الجاري (فضلاً) زاد في رواية أحمد والترمذي وابن حبان عن كتاب الناس وقوله "فضلاً" صفة بعد صفة للملائكة وهو بضمتين وسكون الثاني تخفيفاً جمع فاضل كنزل ونازل أي زيادة عن الملائكة الحفظة وغيرهم المرتبين مع الخلائق لا وظيفة لهم إلا حلق الذكر. قال النووي: ضبطوا فضلاً على أوجه. أحدها: وهو أرجحها وأشهرها في بلادنا فضلاً بضم الفاء والضاد، والثانية بضم الفاء وإسكان الضاد ورجحها بعضهم وادعى أنها أكثر وأصوب، والثالثة: بفتح الفاء وإسكان الضاد، والرابعة: فضل بضم الفاء والضاد، ورفع اللام على أنه خبر مبتدأ محذوف، والخامسة: فضلاء بالمد جمع فاضل، قال العلماء: معناه على جميع الروايات أنهم ملائكة زائدون على الحفظة وغيرهم من المرتبين مع الخلائق فهؤلاء السيارة لا وظيفة لهم، وإنما مقصودهم حلق الذكر – انتهى. وقوله "عن كتاب الناس" بضم الكاف وتشديد التاء المثناة جمع كاتب، والمراد بهم الكرام الكاتبون وغيرهم المرتبون مع الناس (يبتغون) أي يطلبون. قال النووي: ضبطوه على وجهين، أحدهما يتتبعون بالعين المهملة من التتبع وهو البحث عن الشيء والتفتيش، والثاني يبتغون بالغين المعجمة من الابتغاء وهو الطلب وكلاهما صحيح (قعدوا معهم) أي مع الذاكرين (وحف بعضهم) أي بعض الملائكة (بعضاً) أي بعضاً آخر منهم (بأجنحتهم) أي باستعانتها (حتى يملأوا) أي الملائكة (ما بينهم) أي ما بين الذاكرين (فإذا تفرقوا) أي أهل الذكر (عرجوا) أي الملائكة من عرج يعرج إذا صعد إلى فوق (وصعدوا) بكسر العين (إلى السماء) أي السابعة (وهو اعلم) أي بهم كما في بعض النسخ من المشكاة وكما وقع في صحيح مسلم (من أين جئتم فيقولون جئنا من عند عبادك) قوله "من عند عبادك" كذا في جميع النسخ من المشكاة، وكذا وقع في المصابيح والترغيب للمنذري، والذي في صحيح مسلم من عند عباد لك، وهكذا نقله الجزري والحافظ، وفيه غاية تشريف لبني آدم حال كونهم (في الأرض) وفي رواية أحمد والترمذي فيقول الله أي شيء تركتم عبادي يصنعون (ماذا يسألوني) بتشديد النون وتخفف، ويروي أيضاً ماذا يسألونني، وفي رواية أحمد والترمذي فأي شيء

قال: وكيف لو رأوا جنتي؟ قالوا: ويستجيرونك. قال: ومما يستجيروني؟ قالوا: من نارك. قال: هل روا ناري؟ قالوا: لا. قال: فكيف لو رأوا ناري؟ قالوا: يستغفرونك. قال: فيقول: قد غفرت لهم، فأعطيتهم ما سألوا، وأجرتهم مما استجاروا. قال: يقولون: رب! فيهم فلان عبد خطاء، إنما مر فجلس معهم. قال: فيقول: وله غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ يطلبون (وكيف لو رأوا جنتي) قال الطيبي: جواب "لو" ما دل عليه كيف لأنه سؤال عن الحال أي لو رأوا جنتي ما يكون حالهم في الذكر (ويستجيرونك) عطف على ويسألونك، والجملة من السؤال، والجواب فيما بينهما معترضة أي يستعيذونك. قال الجزري: الاستجارة طلب الجوار والإجارة الحماية والدفاع والمنعة عن الإنسان (ومما) كذا في جميع النسخ من المشكاة، وهكذا في نسخ مسلم من طبعات الهند وجامع الأصول (ج5ص238) ووقع في النسخ المصرية من صحيح مسلم و"مم" أي بحذف الألف وإبقاء الفتحة على الميم، وكذا نقله المنذري في الترغيب والحافظ في الفتح وهذا هو الصواب، والظاهر إن الأول خطأ من النساخ (يستجيروني) بالوجهين ويرو أيضاً يستجيرون (من نارك) أي يطلبون الأمان منها (يستغفرونك) أي أيضاً وفي بعض النسخ ويستغفرونك بالعطف موافقاً لما في صحيح مسلم (قد غفرت لهم فأعطيتهم ما سألوا) قال القاري: لعل العدول عن الواو إلى الفاء لترتب الإعطاء على المغفرة. قلت: قوله "فأعطيتهم" بالفاء كذا وقع في جميع النسخ من المشكاة والذي في صحيح مسلم وأعطيتهم أي بالواو، وهكذا في المصابيح والترغيب وجامع الأصول والفتح والظاهر إن ما وقع في المشكاة خطأ من الناسخ (وأجرتهم) من أجاره يجيره إذا آمنه من الخوف (يقولون رب) أي يا رب! (عبد خطأ) بفتح الخاء المعجمة وتشديد الطاء المهملة والمد أي كثير الخطأ والذنب، أو ملازم الخطايا غير تارك لها وهو من أبنية المبالغة. قال القاري: بدل من فلان (إنما مر) أي لحاجة (فجلس معهم) قال الطيبي في التركيب: تقديم وتأخير أي إنما فلان مرّ أي ما فعل فلان إلا المرور والجلوس عقبه يعني ما ذكر الله تعالى (فيقول وله غفرت) أي أيضاً. قال الطيبي: الواو للعطف وهو يقتضي معطوفاً عليه أي قد غفرت لهم وله ثم اتبع غفرت تأكيداً وتقريراً (هم القوم) قال الطيبي: تعريف الخبر يدل على الكمال أي هم القوم كل القوم الكاملون فيما هم فيه من السعادة فيكون قوله (لا يشقى بهم) أي بسببهم وببركتهم (جليسهم) استئنافاً لبيان المقتضى لكونهم أهل الكمال وفي هذه العبارة مبالغة في نفي الشقاء عن جليس الذاكرين. فلو قيل يسعد بهم جليسهم لكان

2291- (9) وعن حنظلة بن الربيع الأسيدي، قال: ((لقيني أبوبكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قلت: نافق حنظلة. قال: سبحان الله ما تقول؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك في غاية الفضل، لكن التصريح بنفي الشقاء أبلغ في حصول المقصود، وفي الحديث فضيلة الجلوس مع أهل الذكر وإن لم يشاركهم وفضل مجالسة الصالحين وبركتهم. 2291- قوله: (وعن حنظلة بن الربيع) بفتح الراء وكسر الموحدة وسكون التحتية (الأسيدي) قال النووي: ضبطوه بوجهين أصحهما وأشهرهما ضم الهمزة وفتح السين وكسر الياء المشددة، والثاني كذلك إلا أنه بإسكان الياء ولم يذكر القاضي (عياض) إلا هذا الثاني وهو منسوب إلى بني أسيد بطن من بني تميم - انتهى. وقال الفتني في المغني: الأسيدي بمضمومة ومفتوحة وشذة تحتية مكسورة وسكونها والشدة عند المحدثين للأصل وتسكينها عند أهل اللغة للخفة منسوب إلى أسيد بن عمرو بن تميم بن مر، ومنه حنظلة بن الربيع - انتهى. وقال ابن عبد البر: بنو أسيد بن عمرو بن تميم من أشراف بني تميم وهو أسيد بكسر الياء وتشديدها - انتهى. وحنظلة هذا هو حنظلة بن الربيع بن صيفي بفتح الصاد المهملة بعدها تحتية ساكنة التميمي المعروف بحنظلة الكاتب لأنه كتب للنبي - صلى الله عليه وسلم - الوحي، ففي مسلم والترمذي من طريق أبي عثمان النهدي عن حنظلة "وكان من كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - " وهو ابن أخي أكثم بن صيفي حكيم العرب، وليس هو حنظلة بن أبي عامر غسيل الملائكة أرسله النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل الطائف وشهد القادسية ونزل الكوفة وتخلف عن علي في قتال أهل البصرة يوم الجمل، ونزل قرقيسياء حتى مات في خلافة معاوية ولا عقب له (لقيني أبوبكر) وفي الترمذي أنه مر بأبي بكر وهو (أي حنظلة) يبكي (كيف أنت يا حنظلة) سؤال عن الحال أي كيف استقامتك على ما تسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - أهي موجود أم لا؟ قاله القاري. وقال الطيبي: أي أتستقيم على الطريق أم لا (نافق حنظلة) أي صار منافقاً وأراد نفاق الحال لإنفاق الإيمان. قال الطيبي: فيه تجريد لأن أصل الكلام نافقت فجرد من نفسه شخصاً آخر مثله فهو يخير عنه لما رأى من نفسه ما لا يرضي لمخالفة السر العلن والحضور الغيبة. وقال الجزري: النفاق ضد الإخلاص وأراد به في هذا الحديث إنني في الظاهر إذا كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - أخلصت وإذا انفردت عنه رغبت في الدنيا وتركت ما كنت عليه فكأنه نوع من الظاهر والباطن وما كان يرضي أن يسامح به نفسه، وكذلك كان الصحابة رضي الله عنهم أجمعين يؤاخذون أنفسهم بأقل الأشياء. وقال النووي: معناه إنه خاف أنه منافق حيث كان يحصل له الخوف في مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - ويظهر عليه ذلك مع المراقبة والفكر والإقبال على الآخرة فإذا خرج اشتغل بالزوجة والأولاد ومعاش الدنيا، وأصل النفاق إظهار ما يكتم خلافه من الشر فخاف أن يكون ذلك نفاقاً فأعلمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه ليس بنفاق وأنهم لا يكلفون الدوام على ذلك. (قال سبحان الله) تعجب أو تبرئة وتنزيه (ما تقول) قال الطيبي:

قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة كأنا رأى عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً. قال أبوبكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: نافق حنظلة يا رسول الله! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله! نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأى عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده، لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر ـــــــــــــــــــــــــــــ "ما" استفهامية وقوله "تقول" هو المتعجب منه يعني عجبت من قولك هذا الذي حكمت فيه بالنفاق على نفسك (قلت نكون عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي لا عجب في ذلك لأنا نكون عنده، وأتى بضمير الجمع لأن من المعلوم إنه لا بد في الحاضرين من يشابه حنظلة في ذلك ولم يقل نافقنا لئلا يتوهم العموم الشامل للخصوص (يذكرنا) بالتشديد أي يعظنا (بالنار) أي بعذابها تارة (والجنة) أي بنعيمها أخرى ترهيباً وترغيباً أو يذكرنا الله بذكرهما أو بقربهما (كأنا) أي حتى صرنا كأنا (رأى عين) بالنصب أي كأنا نرى الله والجنة والنار رأي عين فهو مفعول مطلق بإضمار نرى، وروى بالرفع أي كأنا راؤن الجنة والنار بالعين على أنه مصدر بمعنى اسم الفاعل ويصح كونه الخبر للمبالغة كرجل عدل. قال القاضي: ضبطناه رأى عين بالرفع أي كأنا بحال من يراهما بعينه. قال ويصح النصب على المصدر أي نراهما رأي عين (عافسنا الأزواج والأولاد) بالفاء والسين المهملة أي خالطناهم ولاعبناهم وعالجنا أمورهم واشتغلنا بمصالحهم. قال الهروي وغيره: معناه حاولنا ذلك ومارسناه واشتغلنا به أي عالجنا معايشنا وحظوظنا (والضيعات) أي الأراضي والبساتين جمع ضيعة بالضاد المعجمة المفتوحة، وهي معاش الرجل من مال أو حرفة أو صناعة. قال الهروي في الغريبين: ضيعة الرجل ما يكون منه معاشه من صناعة أو نخل أو غلة أو غيرها كذلك أسمعنيه الأزهري قال: شمر ويدخل فيها الحرفة والتجارة يقال ما ضيعتك فتقول كذا (نسينا) بدل اشتمال من عافسنا أو هو جواب "إذا" وجملة عافسنا بتقدير قد حال قاله القاري وللترمذي ونسينا (كثيراً) أي نسينا كثيراً مما ذكرنا به أو نسياناً كثيراً كأنا ما سمعنا منه شيئاً قط وهذا أنسب بقوله رأي عين (وما ذاك) أي وما سبب ذلك القول (لو تدومون) أي في حال غيبتكم مني (على ما تكونون عندي) أي من صفاء القلب والخوف من الله تعالى (وفي الذكر) قال الطيبي: عطف على خبر كان الذي هو عندي. وقال ابن الملك: الواو بمعنى أو عطف على قوله "ما تكونون" أو على عندي أي لو تدومون في الذكر أو على ما تكونون في الذكر وأنتم بعداء مني من الاستغراق

{الفصل الثاني}

لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات)) . رواه مسلم. {الفصل الثاني} 2292- (10) وعن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم؟ وأرفعها في درجاتكم؟ وخير لكم من إنفاق الذهب والورق؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه (لصافحتكم الملائكة) قيل: أي علانية وإلا فكون الملائكة يصافحون أهل الذكر حاصل. وقال ابن حجر: أي عياناً في سائر الأحوال (على فرشكم وفي طرقكم) قال الطيبي: المراد الدوام (ولكن يا حنظلة ساعة وساعة) أي ساعة كذا وساعة كذا يعني ساعة في الحضور تؤدون فيها حقوق ربكم، وساعة في الغيبة والفتور تقضون فيها حظوظ أنفسكم لينتظم بذلك أمر الدين والمعاش وفي كل منهما رحمة على العباد. قال في المفاتيح: أي لا يكون الرجل منافقاً بأن يكون في وقت على غاية الحضور وصفاء القلب وفي الذكر وفي وقت لا يكون بهذه الصفة، بل لا بأس بأن يكون ساعة في الذكر وساعة في الاستراحة والنوم والزراعة ومعاشرة النساء والأولاد وغير ذلك من المباحات (ثلاث مرات) أي قال ذلك ثلاث مرات وهو يحتمل أن يكون قوله "ولكن يا حنظلة ساعة وساعة" أو قوله "ساعة وساعة" ويحتمل أن يكون المراد تثليث لفظ ساعة أي ساعة في الحضور في الذكر وساعة في حق النفس خاصة وساعة في العاقبة واختار الطيبي الثاني (رواه مسلم) في التوبة وأخرجه أيضاً أحمد (ج4ص178) والترمذي وابن ماجه في الزهد. 2292- قوله: (ألا أنبئكم) وفي رواية ألا أخبركم وقوله "ألا" يحتمل أن يكون للتنبيه وأنبئكم استئناف بيان والأظهر أنه مركب "من" لا النافية واستفهام التقرير كما يدل عليه قولهم الآتي بلى (بخير أعمالكم) أي أفضلها لكم (وأزكاها) أي أنماها من حيث الثواب الذي يقابلها وأظهرها من حيث كمال ذاتها لا بالنظر إلى الثواب (عند مليككم) المليك بمعنى المالك للمبالغة. وقال في القاموس: الملك ككتف وأمير وصاحب ذو الملك (وأرفعها) أي أكثرها رفعة بمقتضى السببية (في درجاتكم) أي أكثرها رفعاً لمنازلكم في الجنة (وخير لكم من إنفاق الذهب والورق) بكسر الراء وتسكن أي الفضة أي من صرفهما في سبيل الله ابتغاء مرضاته. قال الطيبي: قوله و"خير" مجرور عطفاً على خير أعمالكم من حيث المعنى لأن المعنى ألا أنبئكم بما هو خير لكم من بذل أموالكم وأنفسكم في سبيل الله – انتهى. وقال ابن حجر: عطف على "خير أعمالكم" عطف خاص على عام، لأن الأول خير الأعمال مطلقاً، وهذا خير من بذل الأموال والأنفس، أو عطف مغاير بأن يراد بالأعمال الأعمال اللسانية فيكون ضد هذا يعني مغايرة، لأن بذل الأموال والنفوس من الأعمال الفعلية انتهى. وقال الشوكاني:

وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناكم؟ قالوا: بلى: قال: ذكر الله)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ في تخصيص هذين العملين الفاضلين: (الإنفاق والجهاد) بالذكر أيضاً بعد تعميم جميع الأعمال زيادة تأكيداً لما دل عليه ألا أنبئكم بخير أعمالكم وما بعده من فضيلة الذكر على كل الأعمال ومبالغة في النداء بفضله عليها ودفع لما يظن من أن المراد بالأعمال ههنا غير ما هو متناة في الفضيلة وارتفاع الدرجة – وهو الجهاد والصدقة بما هو محبب إلى قلوب العباد فوق كل نوع من أنواع المال وهو الذهب والفضة (وخير لكم من أن تلقوا عدوكم) أي للجهاد والعدو يطلق على الجمع ولذا جمع ضمير أعناقهم (فتضربوا أعناقهم) أي أعناق بعضهم (ويضربوا) أي بعضهم (أعناقكم) أي كلكم أو بعضكم يعني خير لكم من بذل الأموال والأنفس في سبيل الله بأن تجاهدوا الكفار (قالوا بلى) أي أخبرنا، وفي رواية أحمد وابن ماجه قالوا: وما ذاك يا رسول الله! (قال ذكر الله) أي هو ذكركم له سبحانه وإطلاق الذكر يشمل القليل والكثير مع المداومة وعدمها. وفي الحديث دليل على أن الذكر أفضل عند الله تعالى من جميع الأعمال التي يعملها العبد وإنه أكثرها نماء وبركة وأرفعها درجة وفي هذا ترغيب عظيم، فإنه يدخل تحت الأعمال كل عمل يعمله العبد كائناً ما كان. قال السندي: أحاديث أفضل الأعمال مختلفة، وقد ذكر العلماء في توفيقها وجوها من جملتها أن الاختلاف بالنظر إلى اختلاف أحوال المخاطبين، فمنهم من يكون الأفضل له الاشتغال بعمل، ومنهم من يكون الأفضل له الاشتغال بأخر يعني فمن كان مطيقاً للجهاد قوى الأثر فيه شجاعاً باسلاً يحصل به نفع الإسلام، فأفضل أعماله الجهاد، ومن كان كثير المال غنياً ينتفع الفقراء بماله فأفضل أعماله الصدقة، ومن كان غير متصف بأحد الصفتين المذكورتين فأفضل أعماله الذكر ونحوه. وقال الحافظ: المراد بذكر الله في حديث أبي الدرداء الذكر الكامل وهو ما يجتمع فيه ذكر اللسان والقلب بالتفكر في المعنى واستحضار عظمة الله تعالى، وإن الذي يحصل له ذلك يكون أفضل ممن يقاتل الكفار مثلاً من غير استحضار لذلك، وإن أفضلية الجهاد إنما هي بالنسبة إلى ذكر اللسان المجرد، فمن اتفق له أنه جمع ذلك كمن يذكر الله بلسانه وقلبه واستحضاره وكل ذلك حال صلاته أو في صيامه أو تصدقه أو قتاله الكفار مثلاً فهو بلغ الغاية القصوى والعلم عند الله تعالى. وأجاب القاضي أبوبكر بن العربي بأنه ما من عمل صالح إلا والذكر مشترط في تصحيحه، فمن لم يذكر الله عند صدقته أو صيامه مثلاً فليس عمله كاملاً فصار الذكر أفضل الأعمال من هذه الحيثية، ويشير إلى ذلك حديث نية المؤمن أبلغ من عمله. وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في قواعده: هذا الحديث يدل على أن الثواب لا يترتب على قدر النصب في جميع العبادات بل قد يأجر الله تعالى على قليل الأعمال أكثر مما يأجر على كثيرها فإذا الثواب يترتب على تفاوت الرتب في الشرف – انتهى. وقيل: لعل الخيرية والأرفعية في الذكر لأجل إن سائر العبادات من إنفاق الذهب والفضة ومن ملاقاة العدو، والمقاتلة معهم إنما هي وسائل ووسائط تتقرب العباد بها إلى الله تعالى. والذكر إنما هو المقصود الأسنى والمطلوب الأعلى كما قال الله تعالى

رواه مالك، وأحمد، والترمذي، وابن ماجه، إلا أن مالكاً وقفه على أبي الدرداء. 2293- (11) وعن عبد الله بن بسر، قال: ((جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أي الناس خير؟ فقال: طوبى لمن طال عمره، وحسن عمله ـــــــــــــــــــــــــــــ {وأقم الصلاة لذكرى} [طه:14] وقال {ولذكر الله أكبر} [العنكبوت: 45] فالذكر لب العبادات. وقال في حجة الله (ج2ص54) الأفضلية تختلف بالاعتبار ولا أفضل من الذكر باعتبار تطلع النفس إلى الجبروت ولا سيما في نفوس زكية لا تحتاج إلى الرياضات وإنما تحتاج إلى مداومة التوجه هذا. وقد بسط الغزالي الكلام في ذلك في آخر الباب الأول من كتاب الأذكار من إحياء العلوم فارجع إليه (رواه مالك) في أواخر الصلاة (وأحمد) (ج5ص195) موصولاً ومنقطعاً وفي (ج6ص447) منقطعا (والترمذي) في الدعوات (وابن ماجه) في فضل الذكر، وأخرجه أيضاً الحاكم (ج1ص496) وابن أبي الدنيا والطبراني في الكبير، والبيهقي في شعب الإيمان وابن شاهين في الترغيب في الذكر، وحسن إسناده المنذري والهيثمي وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. (إلا أن مالكا وقفه) بالتخفيف (على أبي الدرداء) يعني والباقون رفعوه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يضر لأن الحكم لمن وصل لا لمن وقف لأن مع الأول زيادة العلم بالوصل وزيادة الثقة مقبولة، ولأن هذا مما لا يقال من قبل الرأي فوقفه كرفع غيره قاله القاري. قلت: وفي سند الموطأ انقطاع أيضاً فإنه رواه مالك عن زياد بن أبي زياد إنه قال قال أبوالدرداء: ألا أخبركم الخ ورواه أحمد (ج5ص195) والترمذي وابن ماجه وغيرهم من طريق زياد ابن أبي زياد عن أبي بحرية عن أبي الدرداء، وفي الباب عن معاذ بن جبل عند أحمد. قال المنذري: بإسناد جيد إلا أن فيه انقطاعاً. وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح إلا أن زياد بن أبي زياد لم يدرك معاذاً وعن ابن عمر عند البيهقي في شعب الإيمان. 2293- قوله: (طوبى) فعلى من الطيب (لمن طال عمره) بضمتين على ما هو الأفصح الوارد في كلامه سبحانه، وفي القاموس العمر بالفتح وبالضم وبضمتين الحياة (وحسن عمله) قال الطيبي: إن الأوقات والساعات كرأس المال للتاجر فينبغي أن يتجر فيما يربح فيه وكلما كان رأس ماله كثيراً كان الربح أكثر فمن انتفع من عمره بأن حسن عمله فقد فاز وأفلح، ومن أضاع رأس ماله لم يربح وخسر خسراناً مبيناً – انتهى. قال ابن حجر: طوبى فعلى من الطيب، والمراد بها الثناء عليه والدعاء له بطيب حاله في الدارين، وإلا ظهر أنه خبر لأنه في جواب أي الناس خير، ويمكن أن يكون المراد من طوبى الجنة أو شجرة في الجنة تعم أهلها وتشمل محلها. قال الطيبي: وكان من الظاهر أن يجاب من طال عمره وحسن عمله، فالجواب من الأسلوب الحكيم كأنه قال غير خاف إن خير الناس من طال عمره وحسن عمله بل الذي يهمك أن تدعوا له فتصيب من بركته – انتهى.

قال: يا رسول الله! أي الأعمال أفضل؟ قال: أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله)) . رواه أحمد والترمذي. 2294- (12) وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا مررتم برياض الجنة ـــــــــــــــــــــــــــــ والأظهر أنه إخبار عن طيب حاله وحسن مآله فيكون متضمناً للجواب ببلاغة مقاله كذا في المرقاة. قلت: الرواية عند أحمد والترمذي بغير زيادة كلمة "طوبى" وكذا ذكرها الجزري بغير هذه الزيادة في جامع الأصول (ج12ص321) فالجواب في روايتهما على ما يقتضيه الظاهر (ولسانك) الواو للحالية (رطب) بفتح الراء وسكون الطاء أي قريب العهد أو متحرك طري (من ذكر الله) قال الطيبي: رطوبة اللسان عبارة عن سهولة جريانه كما أن يبسه عبارة عن ضده ثم إن جريان اللسان عبارة عن مداومة الذكر فكأنه قيل خير الأعمال مداومة الذكر، فهو من أسلوب قوله تعالى: {ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [البقرة: 132] انتهى. وقيل: المقصود في الحديث الحث على الذكر القلبي والمداومة عليه، لكن لما كان الذكر اللساني دالاً عليه ومنبئاً عنه مثاباً عليه اكتفى بذكره إقامة للدال مقام المدلول. وأما إذا اجتمعا فهو أولى وأحرى (رواه أحمد والترمذي) فيه نظر فإن بين السياق الذي ذكره المصنف ههنا تبعاً للمصابيح وبين سياق أحمد والترمذي فرقاً بيناً، فإن الترمذي أخرج الفصل الأول فقط في باب ما جاء في طول العمر للمؤمن من كتاب الزهد بلفظ: إن أعرابياً قال يا رسول الله! من خير الناس قال من طال عمره وحسن عمله. وروى الفصل الثاني فقط بسنده الأول في فضل الذكر من الدعوات بالسياق الذي يأتي في الفصل الثالث من هذا الباب. وأما الإمام أحمد فروى الحديث بتمامه في موضعين الأول بلفظ: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - أعرابيان فقال أحدهما من خير الرجال يا محمد: قال من طال عمره وحسن عمله، وقال الآخر: إن شرائع الإسلام قد كثرت علينا فباب نتمسك به جامع قال لا يزال لسانك رطباً بذكر الله، والثاني بلفظ: جاء أعرابيان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أحدهما أي الناس خير؟ قال من طال عمره وحسن عمله. وقال الآخر يا رسول الله: إن شرائع الإسلام فذكر مثل السياق الآتي في الفصل الثالث، ونسب هذا الحديث في تنقيح الرواة للبغوي في شرح السنة والله اعلم. والحديث قد حسنه الترمذي، وروى الجزء الأول أيضاً الطبراني في الكبير وأبونعيم في الحلية كما في الجامع الصغير. وروى نحوه أحمد ورجاله رجال الصحيح وابن حبان في صحيحه والبيهقي عن أبي هريرة والترمذي وصححه، وأحمد والدارمي والطبراني والحاكم: والبيهقي عن أبي بكرة وأبويعلى بإسناد حسن عن أنس والحاكم عن جابر. وقال صحيح على شرط الشيخين، وأما الجزء الثاني فسيأتي تخريجه في الفصل الثالث. 2294- قوله: (إذا مررتم برياض الجنة) جمع روضة، وهي أرض مخضرة بأنواع النبات يقال لها

فارتعوا. قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حلق الذكر)) . رواه الترمذي. 2295- (13) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قعد مقعداً لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة، ومن اضطجع مضجعا لا يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة ـــــــــــــــــــــــــــــ بالفارسية مرغزار أي بساتينها الموضوعة في الدنيا المورثة للجنات العالية في العقبى، والمراد بها مجالس الذكر ومواضعه فهو من باب تسمية الشيء باسم ما يؤل إليه أو بما يوصل إليه (فارتعوا) من رتع كمنع رتعاً ورتوعاً ورتاعاً بالكسر، أكل وشرب ما شاء في خصب وسعة، أو هو الأكل والشرب رغداً أو في الريف أو بشره، وهو كناية عن أخذ الحظ الأوفر والنصيب الأوفى، يعني فافعلوا فيها ما يكون سبباً لحصولها من الأذكار لما جاء أن الجنة قيعان وغراسها أذكاره تعالى (حلق الذكر) أي هي حلق الذكر. قال في النهاية: الحلق بكسر الحاء وفتح اللام جمع الحلقة (بفتح الحاء وسكون اللام مثل قصعة وقصع) وهي الجماعة من الناس مستديرون كحلقة الباب وغيره. وقال في جامع الأصول: الحلقة بسكون اللام الشيء المستدير كحلقة الخاتم ونحوها، والمراد به الجماعة من الناس يكونون كذلك. وقال الجوهري: جمع الحلقة حلق بفتح الحاء على غير قياس. وحكى عن أبي عمر وإن الواحد حلقة بالتحريك والجمع حلق بالحق بالفتح. وقال ثعلب كلهم يجيزه على ضعفه. شبه في هذا الحديث مجالس الذكر وفي حديث ابن عباس عند الطبراني مجالس العلم برياض الجنة، وشبه الاشتغال بالأذكار واكتساب العلم وهو علم الكتاب والسنة وما يتوصل به إليهما برتع الحيوانات في أنواع النبات بجامع النفع قيل: هذا الحديث مطلق في المكان والذكر فيحمل على المقيد المذكور في باب المساجد والذكر هو سبحان الله والحمد لله الخ ذكره الطيبي، والأظهر حمله على العموم وذكر الفرد الأكمل بالخصوص لا ينافي عموم المنصوص. وقد تقدم شيء من الكلام في هذا في شرح حديث أبي هريرة في باب المساجد فعليك أن تراجعه (رواه الترمذي) في الدعوات وحسنه وأخرجه أيضاً أحمد والبيهقي في شعب الإيمان. 2295- قوله: (كانت) أي القعدة (عليه) أي على القاعد (من الله) أي من جهة أمره وحكمه (ترة) بكسر التاء وتخفيف الراء أي حسرة والموتور الذي قتل له قتيل ولم يدرك بدمه وكذلك وتره حقه أي نقصه وكلا الأمرين معقب للحسرة، ومنه قوله تعالى: {لن يتركم أعمالكم} [محمد: 35] أي لن ينقصكم أعمالكم والهاء عوضا عن الواو المحذوفة مثل عدة. وقال الجزري: أصل الترة، النقص، ومعناها ههنا التبعة، يقال وترت الرجل ترة على وزن وعدته عدة. وقال النووي في الأذكار: معناه نقص وقيل: تبعه ويجوز أن يكون حسرة كما في الرواية الأخرى – انتهى. وهو منصوب على الخبرية وروى بالرفع على أن الكون تام (ومن اضطجع مضجعا لا يذكر الله فيه كانت) أي الاضطجاعة (من الله ترة) بالوجهين. قال الطيبي: كانت في الموضعين رويت على

رواه أبوداود. 2296- (14) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان عليهم حسرة)) . رواه أحمد وأبوداود. ـــــــــــــــــــــــــــــ التأنيث في أبي داود وجامع الأصول وفي الحديثين اللذين يليانه على التذكير فيهما فعلى رواية التأنيث في كانت ورفع ترة ينبغي أن يؤول مرجع الضمير في كانت مؤنثاً إلى القعدة أو الاضطجاعة فيكون ترة مبتدأ والجار والمجرور أي عليه خبر، والجملة خبر كانت. وأما على رواية التذكير ونصب ترة كما هو في المصابيح فظاهر والجار متعلق بترة ويؤيد هذه الرواية الأحاديث الآتية بعد – انتهى. قال القاري: ويمكن أن يقال تأنيث كان لتأنيث الخبر وقال الجزري: يجوز رفع ترة ونصبها على أنه اسم كان وخبرها. قال القاري: ثم المراد يذكر المكانين استيعاب الأمكنة كذكر الزمانين بكرة وعشيا لاستيعاب الأزمنة يعني من فتر ساعة من الأزمنة وفي مكان من الأمكنة وفي حال من الأحوال من قيام وقعود واضطجاع كان عليه حسرة وندامة، لأنه ضيع عظيم ثواب الذكر كما ورد ليس يتحسر أهل الجنة إلا على ساعة مرت بهم ولم يذكروا الله فيه – الحديث. (أخرجه الطبراني والبيهقي عن معاذ) ثم في الحديث أتى "بلم" في الجملة الأولى و"بلا" في الجملة الثانية تفننا – انتهى. (رواه أبوداود) في الأدب وسكت عنه. قال المنذري في الترغيب: رواه أحمد وابن أبي الدنيا والنسائي وابن حبان في صحيحه بنحوه وعزاه في تلخيص السنن إلى النسائي. وقال في إسناده محمد بن عجلان وفيه مقال. 2296- قوله: (ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار) أي ملئها في النتن والقذارة وذلك لغفلتهم عن الذكر ولأن المجلس لا يخلو عادة عن لغو الكلام وسقطه وعن الكلام في إعراض الناس. قال الطيبي: أي ما يقومون قياما إلا هذا القيام وضمن قاموا معي تجاوزوا وبعدوا فعدي بعن يعني لا يوجد عنهم قيام عن مجلسهم إلا كقيام المتفرقين عن أكل الجيفة التي هي غاية في القذر والنتن والجيفة جثة الميت المنتنة. قال ابن الملك: وتخصيص جيفة الحمار بالذكر لأنه أدون الجيف من بين الحيوانات التي تخالطنا وفي هذا التشبيه غاية التنفير عن ترك ذكر الله تعالى في المجالس، وإنه مما ينبغي لكل أحد أن لا يجلس في مجلس الغفلة ولا يلابس أهله. وإن يفر عنه كما يفر عن جيفة الحمار، فإن كل عاقل يفر عنها ولا يقعد عندها (وكان) أي ذلك المجلس (عليهم حسرة) أي ندامة يوم القيامة بسبب تفريطهم في ذكر الله في ذلك المجلس وذلك لما يظهر لهم في موقف الحساب من أجور العامرين لمجالسهم بذكر الله تعالى فيتحسرون على كل لحظة من أعمارهم لم يذكروا الله فيها. وحسرة روى بالنصب على أنه خبر "كان" وبالرفع على أنه اسم "كان" أو على أن كان تامة أي وقع عليهم حسرة (رواه أحمد وأبوداود) في الأدب وسكت عنه هو والمنذري. وقال النووي في الأذكار: إسناده صحيح وأخرجه أيضاً

2297- (15) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه، ولم يصلوا على نبيهم، إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم)) . رواه الترمذي. 2298- (16) وعن أم حبيبة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل كلام ابن آدم عليه لا له، إلا أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو ذكر الله)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ النسائي وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص143) والحاكم (ج1ص492) وقال حديث على شرط مسلم. 2297- قوله (ولم يصلوا على نبيهم) تخصيص بعد تعميم (إلا كان) أي ذلك المجلس (عليهم ترة فإن شاء عذبهم) أي بذنوبهم السابقة وتقصيراتهم اللاحقة. وقال الطيبي: دل على أن المراد بالترة التبعة قال وقوله "فإن شاء عذبهم" من باب التشديد والتغليظ ويحتمل أن يصدر من أهل المجلس ما يوجب العقوبة من حصائد ألسنتهم (وإن شاء غفر لهم) أي كرماً منه وفضلاً ورحمة، وفيه إيماء بأنهم إذا ذكروا الله لم يعذبهم حتماً بل يغفر لهم جزماً (رواه الترمذي) من طريق سفيان عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة، وقال حديث حسن. وقد روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه – انتهى. وأخرجه الحاكم (ج1ص496) من طريق عمارة بن غزية عن صالح. وقال حديث صحيح الإسناد وصالح ليس بالساقط، وتعقبه الذهبي فقال صالح ضعيف. وقال الترغيب بعد ذكر تحسين الترمذي: ورواه بهذا اللفظ ابن أبي الدنيا والبيهقي - انتهى. قلت: صالح مولى التوأمة صدوق اختلط بآخره لا بأس برواية القدماء عنه، ولقيه السفيانان بعد ما كبر وتغير وخرف كما في التهذيب والظاهر إن الترمذي حسنه لمتابعاته وشواهده، فقد ورد في كراهة القيام من المجلس قبل ذكر الله أحاديث ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10ص79، 80) من شاء الوقوف عليها رجع إليه. 2298- قوله: (كل كلام ابن آدم) كذا في جميع النسخ بزيادة كل وهكذا في المصابيح وجامع الأصول والترغيب، والذي في الترمذي وابن ماجه كلام ابن آدم أي بدون لفظ "كل" أو هكذا وقع في الوابل الصيب لابن القيم (عليه) أي ضرره ووباله عليه ولو كان مباحًا، فإن أقله تطويل الحساب وقد يجر إلى المكروه أو المحرم فيصير سبباً للعذاب، أو يورث الغفلة عن الذكر فيكون وسيلة إلى نقص الثواب. وقيل: معنى "عليه" أي يكتب عليه (لا له) أي ليس له نفع فيه أولا يكتب له ذكره تأكيداً (إلا أمر بمعروف) مما فيه نفع الغير من الأوامر الشرعية (أو نهي عن منكر) مما فيه موعظة الخلق من الأمور المنهية (أو ذكر الله) أي ما فيه رضا الله من الأذكار الإلهية. قال القاري: وظاهر الحديث أنه لا يظهر في الكلام نوع يباح للأنام اللهم إلا أن يحمل على المبالغة والتأكيد في الزجر عن القول الذي ليس بسديد وقد يقال إن قوله "لا له" تفسير لقوله "عليه" ولا شك أن

رواه الترمذي، وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث غريب. 2299- (17) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي)) . رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ المباح ليس له نفع في العقبى أو يقال التقدير كل كلام ابن آدم حسرة عليه لا منفعة له فيه إلا المذكورات وأمثالها، فيوافق بقية الأحاديث المذكورة وهو مقتبس من قوله تعالى: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس} [النساء: 114] وبه يرتفع اضطراب الشراح في أمر المباح – انتهى كلام القاري. (رواه الترمذي) في الزهد (وابن ماجه) في الفتن كلاهما من طريق محمد بن يزيد بن خنيس المكي عن سعيد بن حسان عن أم صالح بنت صالح عن صفية بنت شيبة عن أم حبية (وقال الترمذي: هذا حديث غريب) وفي بعض نسخ الترمذي حسن غريب ونسبه المنذري في الترغيب لابن أبي الدنيا أيضاً. وقال بعد ذكر كلام الترمذي: رواته ثقات وفي محمد بن يزيد كلام قريب لا يقدح وهو شيخ صالح – انتهى. قلت: وأم صالح بنت صالح. قال الحافظ في التقريب: إنها لا يعرف حالها. 2299- قوله: (لا تكثروا) بضم التاء من الإكثار كذا وقع في جميع النسخ بصيغة الجمع، وهكذا في المصابيح وجامع الأصول وكذا نقله المنذري في الترغيب وعلي المتقي في الكنز والنووي في الرياض والذي في نسخ الترمذي الموجودة عندنا لا تكثر بصيغة الإفراد (الكلام بغير ذكر الله) فيه إشارة إلى أن بعض الكلام مباح وهو ما يعينه (فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة) بفتح القاف وسكون السين أي سبب قساوة (للقلب) وهي النبوّ عن سماع الحق والميل إلى مخالطة الخلق وقلة الخشية وعدم الخشوع والبكاء وكثرة الغفلة عن دار البقاء (وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي) أي صاحبه أو التقدير أبعد قلوب الناس القلب القاسي أو أبعد الناس من له القلب القاسي. قال الطيبي: ويمكن أن يعبر بالقلب عن الشخص لأنه به كما قيل المرأ بأصغريه أي بقلبه ولسانه، فلا يحتاج إذا إلى حذف الموصول مع بعض الصلة قال تعالى: {ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة} الآية [البقرة: 74] وقال عزوجل: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم} [الحديد: 16] (رواه الترمذي) في الزهد وأخرجه أيضاً البيهقي وابن شاهين في الترغيب كما في الكنز. وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم بن عبد الله بن حاطب (عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر) قال المنذري في الترغيب بعد ذكر هذا الحديث: رواه الترمذي والبيهقي. وقال الترمذي: حديث حسن غريب.

2300- (18) وعن ثوبان، قال: ((لما نزلت {والذين يكنزون الذهب والفضة} كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره: فقال بعض أصحابه: نزلت في الذهب والفضة، لو علمنا أي المال خير فنتخذه؟ فقال أفضله لسان ذاكر، وقلب شاكر، وزوجة مؤمنة تعينه على إيمانه)) ـــــــــــــــــــــــــــــ 2300- قوله: (فقال بعض أصحابه نزلت في الذهب والفضة) أي ما نزلت أو نزلت هذه الآية في الذهب والفضة وعرفنا حكمها ومذمتهما (لو علمنا) لو للتمني (أي المال خير) مبتدأ وخبر والجملة سدت مسد المفعولين لعلمنا تعليقاً (فنتخذه) منصوب بإضمار أن بعد الفاء جواباً للتمني واللفظ المذكور للترمذي. ولفظ أحمد (ج5ص278) فقال بعض أصحابه قد نزل في الذهب والفضة ما نزل فلو أنا علمنا أي المال خير اتخذناه. قيل: السؤال وإن كان عن تعيين المال ظاهراً لكنهم أرادوا ما ينتفع به عند تراكم الحوائج فلذلك أجاب عنه بما أجاب ففيه شائبة عن الجواب عن أسلوب الحكيم (فقال أفضله) أي أفضل المال أو أفضل ما يتخذه الإنسان قنية (لسان ذاكر) أي بتحميد الله تعالى وتقديسه وتسبيحه وتهليله والثناء عليه بجميع محامده وتلاوة القرآن (وقلب شاكر) أي على إنعامه وإحسانه (وزوجة مؤمنة) قال الطيبي: الضمير في أفضله راجع إلى المال على التأويل بالنافع أي لو علمنا أفضل الأشياء نفعاً فنقتنيه ولهذا السر استثنى الله من أتى الله بقلب سليم من قوله: {مال ولا بنون} [الشعراء: 88] والقلب إذا سلم من آفاته شكر الله تعالى، فسرى ذلك إلى لسانه فحمد الله وأثنى عليه، ولا يحصل ذلك إلا بفراغ القلب ومعاونة رفيق يعينه في طاعة الله – انتهى. ولهذا قال (تعينه على إيمانه) أي على دينه بأن تذكره الصلاة والصوم وغيرهما من العبادات وتمنعه من الزنا وسائر المحرمات قال السندي: عد المذكورات من المال المشاركتها للمال أي في ميل قلب المؤمن إليها وإنها أمور مطلوبة عنده، ثم عدها من أفضل الأموال لأن نفعها باق ونفع سائر الأموال زائل، وبالجملة فالجواب من أسلوب الحكيم للتنبيه على أن هم المؤمن ينبغي أن يتعلق بالآخرة فيسأل عما ينفعه، وإن أموال الدنيا كلها لا تخلو عن الشر – انتهى. قال القاري: ظاهر كلام الطيبي إن القلب مقدم على اللسان في نسخته فبنى عليه ما ذكر، وإلا فيقال إذا ذكر الله بلسانه سرى ذلك إلى جنانه فشكر على إحسانه فقدر الله تعالى له مؤنسة تعينه على إيمانه – انتهى. قلت: وقع في رواية ابن ماجه وكذا في رواية لأحمد بتقديم القلب على اللسان ولفظهما عن ثوبان. قال: لما نزل في الفضة والذهب ما نزل. قالوا فأي المال نتخذ قال عمر أنا اعلم ذلك لكم قال فأوضع على بعير فأدركه وأنا في أثره فقال يا رسول الله! أي المال نتخذ قال ليتخذ أحدكم قلباً شاكراً ولساناً ذاكراً وزوجة مؤمنة تعينه على أمر الآخرة

{الفصل الثالث}

رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه. {الفصل الثالث} 2301- (19) عن أبي سعيد، قال: ((خرج معاوية على حلقة في المسجد، فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله. قال: آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟ قالوا: آلله ما أجلسنا غيره. ـــــــــــــــــــــــــــــ (رواه أحمد) (ج5ص278- 282) (والترمذي) في تفسير سورة التوبة واللفظ له (وابن ماجه) في أبواب النكاح كلهم من طريق سالم بن أبي الجعد عن ثوبان. قال الترمذي: حديث حسن سألت محمد بن إسماعيل فقلت له سالم بن أبي الجعد سمع من ثوبان فقال لا، قلت له ممن سمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال سمع من جابر بن عبد الله وأنس بن مالك. وذكر غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم – انتهى. وقال الذهلي عن أحمد: لم يسمع سالم من ثوبان ولم يلقه وبينهما معدان بن أبي طلحة. وقال أبوحاتم: أدرك أبا أمامة ولم يدرك عمرو بن عبسة ولا أبا الدرداء ولا ثوبان كذا في تهذيب التهذيب (ج3ص432) قلت: والحديث يؤيده ما رواه الطبراني عن ابن عباس. قال المنذري بإسناد جيد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أرب من أعطيهن فقد أعطى خير الدنيا والآخرة قلباً شاكراً، ولساناً ذاكراً، وبدناً على البلاء صابراً، وزوجة لا تبغيه حوباً في نفسها وماله. 2301- قوله: (خرج معاوية) بن أبي سفيان (على حلقة) بسكون اللام وتفتح أي جماعة متحلقة. قال في المجمع: الحلقة كالقصعة، وهي الجماعة من الناس مستديرون. وقال الجزري: قوله "حلقة" بسكون اللام الشيء المستدير كحلقة الخاتم ونحوها، والمراد به الجماعة من الناس يكونون كذلك (فقال ما أجلسكم) أي ما السبب الداعي إلى جلوسكم على هذه الهيئة ههنا وهو استفهام (قال آلله) بالمد والجر. قال السيد جمال الدين: قيل الصواب بالجر لقول المحقق الشريف في حاشيته همزة الاستفهام وقعت بدلا عن حرف القسم ويجب الجر معها – انتهى. وكذا صحح في أهل سماعنا من المشكاة ومن صحيح مسلم. ووقع في بعض نسخ المشكاة بالنصب – انتهى. وقال الطيبي: قيل آلله بالنصب أي أتقسمون بالله؟ فحذف الجار وأوصل الفعل ثم حذف الفعل كذا في المرقاة. وقال في اللمعات: قد يحذف حرف القسم فينصب بالإيصال وقد يجر نحو الله لأفعلن كذا ثم أدخلت حرف الاستفهام فمد. وقيل: حرف الاستفهام صار بدلاً من حرف القسم فيجر بها، ويرده جواز النصب بل هو الغالب والجر شاذ، وإدخال حرف الاستفهام في الجواب بطريق المشاكلة – انتهى. (قالوا آلله) تقديره أي أو نعم نقسم بالله (ما أجلسنا غيره) فوقع الهمزة موقعها مشاكلة وتقريراً لذلك كما قرره الطيبي، وفي نسخ

قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل عنه حديثا مني، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه، فقال: ما أجلسكم ههنا؟ قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام، ومن به علينا. قال: آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟ قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذلك. قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه آتاني جبرئيل فأخبرني أن الله عزوجل يباهي بكم الملائكة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ مسلم الموجودة عندنا قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، وهكذا وقع في بعض نسخ الترمذي: (قال) أي معاوية (أما) بالتخفيف للتنبيه (إني) بكسر الهمزة (لم أستحلفكم تهمة لكم) بضم أوله وسكون الهاء وتفتح. قال في النهاية: التهمة وقد تفتح الهاء فعلة من الوهم، والتاء بدل من الواو أتهمته ظننت فيه ما نسب إليه أي ما أستحلفكم تهمة لكم بالكذب ولكني أردت المتابعة والمشابهة فيما وقع له صلى الله عليه وسلم مع الصحابة، وقدم بيان قربه منه عليه الصلاة والسلام وقلة نقله من أحاديثه دفعاً لتهمة الكذب عن نفسه فيما ينقله فقال. (وما كان أحد بمنزلتي) أي بمنزلة قربي (من رسول الله صلى الله عليه وسلم) لكونه محرماً لأم حبيبة أخته من أمهات المؤمنين ولكونه من إجلاء كتبة الوحي (أقل) خبر كان (عنه) أي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا مني) أي لاحتياطي في الحديث وإلا كان مقتضى منزلته أن يكون كثير الرواية (ومن) فعل ماض من المن من باب نصر أي أنعم (به) أي بالإسلام (علينا) أي من بين الأنام كما حكى الله تعالى عن مقول أهل دار السلام {الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله} [الأعراف: 43] (قال آلله ما أجلسكم إلا ذلك) لعله أراد به الإخلاص (قال أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم) لأنه خلاف حسن الظن بالمؤمنين (ولكنه) أي الشأن (إن الله عزوجل يباهي بكم الملائكة) أي فأردت أن أحقق بماذا كانت المباهاة فللاهتمام بتحقيق ذلك الأمر الإشعار بتعظيمه أستحلفكم. قال النووي: قوله "إن الله يباهي بكم الملائكة" معناه يظهر فضلكم لهم ويريهم حسن عملكم ويثنى عليكم عندهم، وأصل البهاء الحسن والجمال، وفلان يباهي بماله وأهله أي يفتخر ويتجمل بهم على غيرهم ويظهر حسنهم – انتهى. وقيل: معنى المباهاة بهم إن الله تعالى يقول لملائكته أنظروا إلى عبيدي هؤلاء كيف سلطت عليهم نفوسهم وشهواتهم وأهويتهم والشيطان وجنوده ومع ذلك قويت همتهم على مخالفة هذه الدواعي القوية إلى البطالة وترك العبادة والذكر فاستحقوا أن يمدحوا أكثر منكم، لأنكم لا تجدون للعبادة مشقة بوجه، وإنما هي منكم كالتنفس منهم ففيها غاية الراحة والملائمة للنفس. قال الطيبي: أي فأردت أن أتحقق

رواه مسلم. 2302- (20) وعن عبد الله بن بسر، أن رجلاً قال: ((يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، فأخبرني بشي أتشبث به. قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ ما هو السبب في ذلك فالتحليف لمزيد التقرير والتأكيد لا التهمة، كما هو الأصل في وضع التحليف فإن من لا يتهم لا يحلف. قال ابن القيم: هذه المباهاة من الله تعالى دليل على شرف الذكر عند الله ومحبته له وإن له مزية على غيره من الأعمال (رواه مسلم) في الدعوات وأخرجه أيضاً أحمد (ج4ص92) والترمذي في الدعوات وأخرج النسائي في آخر القضاء المسند منه فقط ونسبه في الكنز لابن حبان أيضاً. 2302- قوله: (إن رجلاً) هذا لفظ الترمذي ولابن ماجه إن أعرابياً (إن شرائع الإسلام) قال الطيبي: الشريعة مورد الإبل على الماء الجاري والمراد ما شرع الله وأظهره لعباده من الفرائض والسنن – انتهى. قال القاري: والظاهر إن المراد بها ههنا النوافل لقوله (قد كثرت علي) بضم المثلثة ويفتح أي غلبت علي بالكثرة حتى عجزت عنها لضعفي (فأخبرني بشي) قال الطيبي: التنكير في بشي للقليل المتضمن لمعنى التعظيم كقوله تعالى: {ورضوان من الله أكبر} [التوبة: 72] ومعناه أخبرني بشي يسير مستجلب لثواب كثير – انتهى. (أتشبث به) بتشديد الموحدة أي أتعلق به واعتصم واستمسك وهذا لفظ الترمذي، ولابن ماجه فأنبئني منها بشي أتشبث به قال السندي: أي ليسهل علي أدائها أو ليحصل به فضل ما فات منها من غير الفرائض ولم يرد الاكتفاء به عن الفرائض والواجبات والله اعلم – انتهى. وقال الطيبي: لم يرد أنه يترك ذلك رأسا ويشتغل بغيره فحسب. وإنما أراد إنه بعد أداء ما افترض عليه يتشبث بما يستغني به عن سائر ما لم يفترض عليه (قال لا يزال) أي هو إنه لا يزال (لسانك رطباً من ذكر الله) أي طرياً مشتغلاً قريب العهد منه وهو كناية عن المداومة على الذكر. قال ابن القيم في الوابل الصيب: الفائدة السابعة والخمسون للذكر أن أدامته تنوب عن التطوعات وتقوم مقامها سواء كانت بدنية أو مالية كحج التطوع، وقد جاء ذلك صريحاً في حديث أبي هريرة إن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ولهم فضل أموالهم يحجون بها ويعتمرون ويجاهدون. فقال: ألا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم. قالوا: بلى يا رسول الله! قال تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة – الحديث متفق عليه. فجعل الذكر عوضاً لهم عما فاتهم من الحج والعمرة والجهاد وأخبر أنهم يسبقونهم بهذا الذكر، فلما سمع أهل الدثور بذلك عملوا به فازدادوا إلى صدقاتهم وعبادتهم بمالهم التعبد بهذا الذكر فحازوا الفضيلتين فنفسهم الفقراء وأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم

رواه الترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. 2303- (21) وعن أبي سعيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل: ((أي العباد أفضل وأرفع درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات. قيل: يا رسول الله! ـــــــــــــــــــــــــــــ قد شاركوهم في ذلك وانفردوا عنهم بما لا قدرة لهم عليه، فقال: {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء} [الجمعة: 4] وفي حديث عبد الله بن بسر قال جاء أعرابي فقال: يا رسول الله! كثرت علي خلال الإسلام وشرائعه فأخبرني بأمر جامع يكفيني. قال: عليك بذكر الله تعالى قال: ويكفيني يا رسول الله قال نعم ويفضل عنك. فدله الناصح - صلى الله عليه وسلم - على شيء يبعثه على شرائع الإسلام والحرص والاستكثار منها، فإنه إذا اتخذ ذكر الله تعالى شعاره أحبه وأحب ما يحب فلا شيء أحب إليه من التقرب بشرائع الإسلام، فدله - صلى الله عليه وسلم - على ما يتمكن به من شرائع الإسلام وتسهل به عليه وهو ذكر الله عزوجل (رواه الترمذي) في الدعوات واللفظ له (وابن ماجه) في فضل الذكر وأخرجه أيضاً أحمد (ج4ص188، 190) والحاكم (ج1ص195) وابن حبان وابن أبي شيبة. والحديث حسنه الترمذي وصححه الحاكم والذهبي. قال الحافظ: وأخرج ابن حبان نحوه أيضاً من حديث معاذ بن جبل، وفيه أنه السائل عن ذلك. وحديث عبد الله بن بسر عزاه الجزري في جامع الأصول (ج5ص241) للترمذي فقط وذكره بلفظ: إن رجلاً قال: يا رسول الله! إن أبواب الخير كثيرة ولا أستطيع القيام بكلها فأخبرني بشي أتشبث به ولا تكثر علي فأنسى قال، وفي رواية إن شرائع الإسلام قد كثرت وأنا قد كبرت فأخبرني بشي أتشبث به ولا تكثر علي فأنسى، قال لا يزال لسانك رطباً بذكر الله تعالى – انتهى. ولم أجد هذا السياق في جامع الترمذي. 2303- قوله: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل أي العباد أفضل) وفي مسند الإمام أحمد إن أبا سعيد هو السائل عن ذلك (وأرفع) ليس هذا اللفظ في المسند ولا في نسخ الترمذي الموجودة عندنا، نعم ذكره الجزري في جامع الأصول وابن القيم في الوابل الصيب، ونسباً الحديث للترمذي. (قال الذاكرون الله كثيراً) قيل: المراد بهم المداومون على ذكره ومكره، والقائمون بالطاعة المواظبون على شكره. وقيل: المراد بهم الذين يأتون بالأذكار الواردة في جميع الأحوال والأوقات (والذاكرات) أي الله كثيراً. قال القاري: وفي بعض النسخ أي من المشكاة والذاكرات غير موجودة – انتهى. قلت: وسقوطها هو الصواب فإنها ليست عند أحمد ولا الترمذي ولم يذكرها أحد ممن عزا الحديث للترمذي كالنووي في الأذكار والمنذري في الترغيب والجزري في جامع الأصول والسيوطي في الجامع الصغير وابن القيم في الوابل الصيب وعلي المتقي في الكنز والشوكاني في تحفة الذاكرين. ولم يذكرهن النبي - صلى الله عليه وسلم - مع إرادتهن تغليباً للمذكر على المؤنث (قيل يا رسول الله) وفي المسند قال قلت: ...

ومن الغازي في سبيل الله؟ قال: لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دماً، فإن الذاكر لله أفضل منه درجة)) . رواه أحمد والترمذي. وقال: هذا حديث حسن غريب. 2304- (22) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا ذكر الله خنس، وإذا غفل وسوس)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ يا رسول الله! (ومن الغازي في سبيل الله) أي الذاكرون أفضل من غيرهم، ومن الغازي أيضاً قالوا ذلك تعجباً (قال) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جوابه (لو ضرب) أي الغازي (بسيفه في الكفار) هذا من قبيل يجرح في عراقيبها نصلي حيث جعل المفعول به مفعولاً فيه مبالغة أن يوجد فيهم الضرب ويجعلهم مكاناً للضرب بالسيف، لأن جعلهم مكاناً للضرب أبلغ من جعلهم مضروبين به فقط (والمشركين) تخصيص بعد تعميم اهتماما بشأنهم فإنهم ضد الموحدين (حتى ينكسر) أي سيفه (ويختضب) أي هو أو سيفه (دماً) وهو كناية عن الشهادة (فإن الذاكر لله) وفي المسند، والترمذي لكان الذاكرون الله (أفضل منه) أي من الغازي (درجة) تحتمل الوحدة أي بدرجة واحد عظيمة وتحتمل الجنس أي بدرجات متعددة (رواه أحمد) (ج3ص78) (الترمذي) في الدعوات ونسبه في الكنز لأبي يعلى وابن شاهين أيضاً. قال المنذري: ورواه البيهقي مختصراً قال قيل يا رسول الله! أي الناس أعظم درجة قال الذاكرون الله (وقال) أي الترمذي (هذا حديث حسن غريب) كذا في بعض النسخ بزيادة لفظ حسن، وفي بعضها هذا حديث غريب، أي بحذف لفظ حسن كما في جامع الترمذي والترغيب والكنز، وفي سنده ابن لهيعة وفيه كلام معروف عن دراج عن أبي الهيثم. قال في التقريب في ترجمة دراج: أنه صدوق وفي حديثه عن أبي الهيثم ضعف. 2304- قوله: (الشيطان جاثم) بجيم ومثلثة أي لازم الجلوس ودائم اللصوق من جثم الرجل أو الطائر أو الحيوان بجثم جثماً وجثوماً أي تلبد بالأرض ولزمها والتصق بها على قلب ابن آدم فإذا ذكر الله) أي ابن آدم بقلبه أو ذكر قلبه الله (خنس) من باب ضرب ونصر أي انقبض الشيطان وتأخر وتنحى عنه، ولكثرة هذا الوصف فيه سمي الخناس في سورة الناس. قال الجزري: الخنوس التأخر والانقباض (وإذا غفل) بمعجمة وفاء أي هو أو قلبه عن ذكر الله (وسوس) أي إليه الشيطان وتمكن تمكناً تاماً منه، وفيه إيماء إلى أن الغفلة سبب الوسوسة لا العكس، ووقع في حديث الحارث الأشعري عند أحمد والترمذي وأمركم أن تذكروا الله تعالى فإن مثل ذلك مثل رجل خرج العدو في أثره سراعاً حتى إذا أتى إلى حصن حصين فأحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله – انتهى. قال ابن القيم: لو لم يكن في الذكر إلا هذه الخصلة الواحدة لكان حقيقاً

رواه البخاري تعليقاً. 2305- (23) وعن مالك، قال: ((بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: ذاكر الله في الغافلين كالمقاتل خلف الفارين، ـــــــــــــــــــــــــــــ بالعبد أن لا يفتر لسانه من ذكر الله تعالى وأن لا يزال لهجاً بذكره فإنه لا يحرز نفسه من عدوه إلا بالذكر ولا يدخل عليه العدو، إلا من باب الغفلة فهو يرصده، فإذا غفل وثب عليه وافترسه، وإذا ذكر الله تعالى انخنس عدو الله تعالى وتصاغر وانقمع حتى يكون كالوصع وكالذباب ولهذا سمي الوسواس الخناس أي يوسوس في الصدور، فإذا ذكر الله خنس أي كف وانقبض، ثم ذكر عن عباس مثل حديث الباب موقوفاً عليه. (رواه البخاري تعليقاً) أي بلا ذكر سند قلت في عزو هذا السياق المرفوع للبخاري نظر فإنه ذكر في تفسير سورة الناس معناه عن ابن عباس موقوفاً عليه من قوله لا مرفوعاً حيث قال: ويذكر عن ابن عباس الوسواس إذا وُلِدَ خنسه الشيطان (أي أخره وأزاله عن مكانه لشدة نخسه وطعنه بإصبعه) فإذا ذكر الله ذهب وإذا لم يذكر الله ثبت على قلبه. قال الحافظ: إسناده إلى ابن عباس ضعيف، أخرجه الطبري والحاكم (ج2ص541) وفي إسناده حكيم بن جبير وهو ضعيف، ولفظه ما من مولود إلا على قلبه الوسواس فإن ذكر الله خنس وإن غفل وسوس، وهو قوله تعالى: {الوسواس الخناس} [الناس: 4] قلت: قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي وعزاه الشوكاني في الفتح القدير لابن المنذر وابن مردوية والضياء والبيهقي أيضاً، وأخرجه سعيد بن منصور من وجه آخر عن ابن عباس بلفظ: يولد الإنسان والشيطان جاثم على قلبه، فإذا عقل وذكر اسم الله خنس وإذا غفل وسوس. وأخرجه ابن مردوية من وجه آخر عن ابن عباس. قال: الوسواس هو الشيطان يولد المولود، والوسواس على قلبه فهو يصرفه حيث شاء فإذا ذكر الله خنس، وإذا غفل جثم على قلبه فوسوس ولأبي يعلى والبيهقي في الشعب وابن أبي الدنيا والحكيم الترمذي في النوارد من حديث أنس مرفوعاً. قال: إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم فإن ذكر الله خنس وإن نسي التقم قلبه فذلك الوسواس الخناس قال الحافظ: إسناده ضعيف. وقال الهيثمي: فيه عدي بن عمارة وهو ضعيف. ولسعيد بن منصور من طريق عروة بن رويم. قال: سأل عيسى عليه السلام ربه أن يريه موضع الشيطان من بني آدم فأراه فإذا رأسه مثل رأس الحية واضع رأسه على ثمرة القلب فإذا ذكر العبد ربه خنس وإذا ترك مناه حدثه. 2305- قوله: (وعن مالك قال بلغني) تقدم الكلام في بلاغات مالك المذكورة في الموطأ، وهذا البلاغ قد وصله أبونعيم وغيره كما سيأتي (ذاكر الله في الغافلين) أي عن الذكر (كالمقاتل) أي للكفار (خلف الفارين) بتشديد الراء أي المنهزمين الفارين من الزحف إذا التحم الحرب في قتال الكفار، وفي حديث ابن عمر عند أبي نعيم

وذاكر الله في الغافلين كغصن أخضر في شجر يابس. وفي رواية: مثل الشجرة الخضراء في وسط الشجر، وذاكر الله في الغافلين مثل مصباح في بيت مظلم، وذاكر الله في الغافلين يريه الله مقعده من الجنة وهو حي وذاكر الله في الغافلين يغفر له بعدد كل فصيح وأعجم. والفصيح: بنوآدم، والأعجم: البهائم)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ وغيره كالمقاتل عن الفارين شبه الذاكر الذي يذكر بين جمع لم يذكروا بالمجاهد الذي يقاتل بعد فرار أصحابه في كون كل منهما قاهراً للعدو، فالذاكر قاهر الشيطان وقامع لجنوده المسلطة على القلب كما أن القاتل الصابر قاهر وقامع لجنود الكفار ففيه تشبيه المعقول بالمحسوس (وذاكر الله) كرره لينيط به في كل مرة غير ما أناط به في الأخرى إعلاماً بأنه أمر عظيم له فوائد متعددة مستقلة (في الغافلين) أي فيما بينهم فالجار ظرف أي بينهم أو محله الرفع على أنه صفة والتقدير الذاكر الكائن في الغافلين (كغصن أخضر في شجر يابس) قال القاري: أي بجنب الأشجار اليابسة (وفي رواية) هذه هي رواية ابن عمر عند أبي نعيم وغيره (مثل الشجرة الخضراء في وسط الشجر) بفتح السين المهملة ويسكن أي الشجر اليابس، زاد في حديث ابن عمر الذي قد تحات من الصريد أي تساقط من شدة البرد فقد تهيأت حينئذ للحرق بالنار فكذا الغافل عن ذكر الله متهيئ للمؤاخذة والعذاب فشبه فيه الذاكر بغصن أخضر مثمر أو شجرة خضراء مثمرة. والغافل بيابس تهيأ للحرق (وذاكر الله في الغافلين مثل مصباح في بيت مظلم) فإن الذكر نور وسرور والغفلة ظلمة وغيبة. قال الطيبي: شبه الذاكر الذي يذكر الله بين جماعة لم يذكروا بالمجاهد الذي يقاتل الكفار بعد فرار أصحابه منهم، فالذاكر قاهر لجند الشيطان وهازم له، والغافل مقهور منهزم منه. ثم شبه بالغصن الأخضر الذي يعد للأثمار، والغافل باليابس الذي يهيأ للإحراق. ثم شبه ثالثاً بالمصباح في مجرد كونه مضيئاً في نفسه، والغافل في البيت المظلم في مجرد الظلمة (يريه الله) وفي حديث ابن عمر يعرفه الله بضم أوله وشدة الراء المكسورة (مقعده) أي وما أعد له (من الجنة وهو حي) جملة حالية وليست هذه الجملة في حديث ابن عمر. قال العزيزي: يحتمل أن يكون ذلك في النوم. وقال القاري: لعل الإراءة بالمكاشفة أو بنزول الملائكة عند النزع لقوله تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون} [فصلت: 30] (يغفر له) أي ذنوبه (بعدد كل فصيح وأعجم) المراد بالأعجم هنا كل دابة لا نطق لها، وفي رواية للبيهقي من حديث ابن عمر وذاكر الله في الغافلين من الأجر بعدد كل فصيح وأعجم، وذاكر الله في الغافلين ينظر الله إليه نظرة لا يعذبه أبداً، وذاكر الله في السوق له بكل شعرة

رواه رزين. 2306- (24) وعن معاذ بن جبل، قال: ((ما عمل العبد عملاً أنجى له من عذاب الله من ذكر الله)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ نور يوم يلقى الله (رواه رزين) قال في التنقيح: الحديث ذكره رزين في جامعه ولا يوجد في شيء من أصوله الستة يعني صحيحي البخاري ومسلم والموطأ لمالك وجامع أبي عيسى الترمذي وسنن أبي داود السجستاني وسنن أبي عبد الرحمن النسائي، وهذا يدل على خطأ ما وقع في نسخة جامع الأصول المطبوعة بمصر سنة 1368 من عزو هذا الحديث لموطأ الإمام مالك، فقد رقم في أوله ط علامة لإخراج مالك له في موطأه. وقال في آخره أخرجه الموطأ هذا وذكره علي المتقي في الكنز (ج1ص386) من حديث ابن عمر، ونسبه لأبي نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب وابن صهري في أماليه وابن شاهين في الترغيب وابن النجار. قال وقال ابن شاهين: هذا حديث صحيح الإسناد حسن المتن غريب الألفاظ – انتهى. وقال الشوكاني في تحفة الذاكرين بعد عزوه لأبي نعيم والبيهقي: وفي إسناده عمران بن مسلم القصير. قال البخاري: منكر الحديث. وقال الحافظ العراقي: سنده ضعيف، ولعله يشير إلى كون في إسناده هذا الرجل – انتهى. ورواه الطبراني في الكبير والأوسط والبزار عن ابن مسعود مختصراً ذاكر الله في الغافلين بمنزلة الصابر في الفارين. قال الهيثمي: (ج9ص80) رجال الأوسط وثقوا. وقال العزيزي قال الشيخ: حديث صحيح. 2306- قوله: (ما عمل العبد عملاً) كذا في جميع النسخ من المشكاة، وهكذا وقع في جامع الأصول (ج5ص244) عزواً للموطأ فقط، والذي جاء في نسخ الموطأ الموجودة ما عمل ابن آدم من عمل، وهكذا ذكر في جامع الأصول (ج10ص315) وقال في آخر الحديث أخرجه الموطأ والترمذي، وللترمذي ما شيء أنجى، ولابن ماجه ما عمل امرؤا بعمل ورواه أحمد (ج5ص239) بلفظ: ما عمل آدمي عملاً قط، والحاكم بلفظ: ما عمل آدمي من عمل، وما في "ما عمل" نافية "وعملاً" مفعول مطلق أو مفعول به على أن عمل بمعنى كسب أي فعل عملاً من أعمال البر ويؤيد هذا ما وقع في رواية من عمل (أنجى له) قال في الحرز الثمين أفعل تفضيل من الإنجاء لا من النجاة، لأن النجاة من الخلاص والمعنى هنا على التلخيص وهو معنى الانجاء وبناء أفعل التفضيل على هذا الوزن من باب الإفعال قياس عند سيبويه، ويؤيده كثرة السماع كقولهم هو أعطاهم للدينار وأنت أكرم لي من فلان وهو عند غيره سماع مع كثرته. ونقل عن المبرد والأخفش جواز بنا أفعل التفضيل من جميع المزيد فيه كأفعل واستفعل وغيرهما كذا أفاده الشيخ الرضى – انتهى. (من عذاب الله من ذكر الله) من الأولى صلة أنجى والثانية تفضيلية أي فجميع أعمال الخير تنجي من عذاب الله، لكن الذكر أعظم إنجاء من غيره بأي صيغة كان من صيغ الذكر وهذا لأن سائر العبادات وسائل ووسائط يتقرب بها إلى الله تعالى والذكر هو المقصود الأسنى والمطلوب الأعلى. ...

رواه مالك، والترمذي، وابن ماجه. 2307- (25) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى يقول: أنا مع عبدي ـــــــــــــــــــــــــــــ قال ابن عبد البر: فضائل الذكر كثيرة لا يحيط بها كتاب وحسبك بقوله تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر} [العنكبوت: 45] – انتهى. وزاد في رواية الطبراني في الكبير وابن أبي شيبة في المصنف. قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا أن يضرب بسيفه حتى ينقطع قاله ثلاث مرات. (رواه مالك) في باب ما جاء في ذكر الله من كتاب الصلاة (والترمذي وابن ماجه) في فضل الذكر من الدعوات وكذا الحاكم (ج1ص496) ومثله لا يقال من قبل الرأي فهو في حكم المرفوع قاله القاري. قلت: روي أحمد (ج5ص239) وابن أبي شيبة والطبراني في الكبير وابن عبد البر والبيهقي قول معاذ هذا مرفوعاً. قال المنذري في الترغيب: رواه أحمد بإسناد جيد إلا أن فيه انقطاعاً. وقال الهيثمي (ج10ص73) بعد أن عزاه لأحمد: رجاله رجال الصحيح إلا أن زياد بن أبي زياد مولى ابن عياش لم يدرك معاذاً – انتهى. قلت يدل على ذلك رواية أحمد حيث وقع فيها "عن زياد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة أنه بلغه عن معاذ بن جبل أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الخ والحديث ذكره الحافظ في بلوغ المرام. وقال أخرجه ابن أبي شيبة والطبراني بإسناد حسن، وفي الباب عن جابر عند الطبراني في الأوسط والصغير. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. 2307- قوله: (إن الله تعالى يقول أنا مع عبدي) أي عوناً ونصراً وتأييداً وتوفيقاً فهذه معية خاصة تفيد عظمة ذكره تعالى وإنه مع ذاكره برحمته ولطفه وإعانته والرضا بحاله وتحصيل مرامه. قال ابن القيم: الفائدة الثانية والأربعون للذكر أن الذاكر قريب من مذكوره ومذكوره معه، وهذه المعية معية خاصة غير معية العلم والإحاطة العامة فهي معية بالقرب والولاية والمحبة والنصرة والتوفيق كقوله تعالى: {إن الله مع الذين اتقوا والله مع الصابرين} [البقرة: 249] {وإن الله لمع المحسنين} [العنكبوت: 69] {لا تحزن إن الله معنا} [التوبة: 40] وللذاكر من هذه المعية نصيب وافر كما في الحديث الإلهي أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه وأثر آخر أهل ذكرى أهل مجالستي الخ. والمعية الحاصلة للذاكر معية لا يشبهها شيء وهي أخص من المعية الحاصلة للمحسن والمتقي وهي معية لا تدركها العبارة ولا تنالها الصفة وإنما تعلم بالذوق وهي مزلة أقدام إن لم يصحب العبد فيها تمييز بين القديم والمحدث، بين الرب والعبد، بين الخالق والمخلوق، بين العابد والمعبود، وإلا وقع في حلول يضاهيء به النصارى أو اتحاد يضاهيء به القائلين بوحدة الوجود تعالى الله عما يقول الظالمون

إذا ذكرني، وتحركت بي شفتاه)) . رواه البخاري. 2308- (26) وعن عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يقول: ((لكل شيء صقالة، وصقالة القلوب ذكر الله، ـــــــــــــــــــــــــــــ والجاحدون علواً كبيراً (إذا ذكرني) في سنن ابن ماجه "إذا هو ذكرني" وفي الكنز وبلوغ المرام والوابل الصيب "ما ذكرني" (وتحركت بي) أي بذكري (شفتاه) قال الطيبي: فيه من المبالغة ما ليس في قوله إذا ذكرني باللسان هذا إذا كان الواو للحال. وأما إذا كان للعطف فيحتمل الجمع بين الذكر باللسان والقلب، وهذا التأويل أولى لأن المؤثر النافع هو الذكر باللسان مع حضور القلب، وأما الذكر باللسان والقلب لاه فهو قليل الجدوى (رواه البخاري) تعليقاً الحديث ذكر الحافظ في بلوغ المرام. وقال: أخرجه ابن ماجه وصححه ابن حبان وذكره البخاري تعليقاً – انتهى. وفيه نظر، فإن الحديث بهذا السياق ليس في نسخ البخاري الموجودة عندنا لا مسنداً ولا معلقاً وليس هو في جامع الأصول أيضاً ولم ينسبه أحد إلى البخاري نعم هو في البخاري (في كتاب التوحيد) بلفظ: يقول الله أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي الخ. وقد تقدم في الفصل الأول من هذا الباب والحديث ذكره المنذري في الترغيب. وقال رواه ابن ماجه واللفظ له وابن حبان في صحيحه وعزاه في الكنز (ج1ص733) لأحمد وابن ماجه والحاكم وابن عساكر. قلت: أخرجه الحاكم (ج1ص496) من حديث أبي الدرداء وقال حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، وفي إسناده عند ابن ماجه محمد بن مصعب القُرقُساني. قال في الزوائد: قال فيه صالح بن محمد هو ضعيف في الأوزاعي، لكن رواه ابن حبان في صحيحه من طريق أيوب بن سويد عن الأوزاعي أيضاً، وأيوب بن سويد ضعيف – انتهى. قلت قال أحمد: حديث القرقساني عن الأوزاعي مقارب. وقال الحاكم: أبوأحمد روى عن الأوزاعي أحاديث منكرة وليس بالقوي عندهم. وقال الحافظ في التقريب: هو صدوق كثير الغلط. 2308- قوله: (لكل شي) أي مما يصدأ حقيقةً أو مجازاً (صقالة) بكسر الصاد أي انجلاء. وقيل: أي تجلية وتصفية. قال في المصباح: صقلت السيف ونحوه صَقْلاً من باب قتل وصقالاً أيضاً بالكسر جلوته (وصقالة القلوب ذكر الله) قال الطيبي: صدء القلوب الرين في قوله تعالى: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} [المطففين: 14] بمتابعة الهوى المعنى بها في قوله تعالى: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه} [الجاثية: 23] فكلمة "لا إله" تخليها وكلمة "إلا الله" تجليها والله اعلم. وقال ابن القيم تحت هذا الحديث: لا ريب أن القلب يصدأ كما يصدأ النحاس والفضة وغيرهما وجلاءه بالذكر فإنه يجلوه حتى يدعه كالمرأة البيضاء فإذا ترك صدأ فإذا ذكر جلاه. وصدأ القلب بأمرين بالغفلة والذنب، وجلاءه بشيئين بالاستغفار والذكر فمن كانت الغفلة أغلب

وما من شيء أنجى من عذاب الله من ذكر الله. قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا أن يضرب بسيفه حتى ينقطع)) . رواه البيهقي في الدعوات الكبير. ـــــــــــــــــــــــــــــ أوقاته كان الصدأ متراكباً على قلبه، وصدأه بحسب غفلته، وإذا صدىء لم تنطبع فيه صور المعلومات على ما هي عليه، فيرى الباطل في صورة الحق، والحق في صورة الباطل، لأنه لما تراكم عليه الصدأ أظلم فلم تظهر فيه صور الحقائق كما هي عليه. فإذا تراكم عليه صدأ وأسود وركبه الران فسد تصوره وإدراكه فلا يقبل حقاً ولا ينكر باطلاً، وهذا أعظم عقوبات القلب. وأصل ذلك من الغفلة واتباع الهوى فإنهما يطمسان نور القلب ويعميان بصره – انتهى. وقال بعض العارفين: إن كان القلب صافياً مجلياً من كل كدر ارتسمت فيه صور المعارف والعلوم وكان محلاً لكل خير وإلا بأن كان ملوثاً مدنساً بالمعاصي لم يقبل شيئاً من ذلك كالمرأة التي ركبها الصدأ (وما من شيء أنجى) أي له (من عذاب الله) قال المناوي: كذا في كثير من النسخ أي من الجامع الصغير لكن رأيت نسخة المؤلف يعني السيوطي بخطه من عذاب بالتنوين (قالوا ولا الجهاد) بالرفع (قال ولا الجهاد في سبيل الله) يعني الجهاد المجرد عن ذكر الله تعالى (قال: ولا أن يضرب بسيفه حتى ينقطع) أي هو أو سيفه وقوله "ولا أن يضرب" هكذا في جميع النسخ من المشكاة، وذكر المنذري في الترغيب وابن القيم في الوابل الصيب بلفظ: ولو أن يضرب، والسيوطي في الجامع الصغير وعلي المتقي في الكنز بلفظ: ولو أن تضرب بسيفك (رواه البيهقي في الدعوات الكبير) قال المنذري: رواه ابن أبي الدنيا والبيهقي من رواية سعيد بن سنان واللفظ له. وقال العزيزي قال الشيخ: حديث صحيح.

(2) باب أسماء الله تعالى

(2) باب أسماء الله تعالى ـــــــــــــــــــــــــــــ (كتاب أسماء الله تعالى) قال الله عزوجل {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسماءه} [الأعراف: 180] قال البغوي في المعالم التنزيل: الإلحاد في أسماءه تسمية بما لا ينطق به كتاب ولا سنة. وقيل: الإلحاد في أسماءه يكون على ثلاثة أوجه إما بالتغيير كما فعله المشركون فإنهم أخذوا اسم اللات من الله والعزى من العزيز ومناة من المنان، أو بالزيادة عليها بأن يخترعوا أسماء من عندهم لم يأذن الله بها، أو بالنقصان منها بأن يدعوه ببعضها دون بعض – انتهى. وقال تعالى: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياماً تدعوا فله الأسماء الحسنى} [الإسراء: 110] وقال تعالى: {الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى} [طه: 8] اعلم أن اسمه تعالى ما يصح أن يطلق عليه وذلك باعتبار ذاته كالله أو باعتبار صفة من صفاته السلبية كالقدوس والأول أو الحقيقة الثبوتية كالعليم والقادر أو الإضافة كالحميد والملك أو باعتبار فعل من أفعاله كالخالق والرازق. قال القرطبي: أسماء الله وإن تعددت فلا تعدد في ذاته ولا تركيب لا محسوساً كالجسميات ولا عقلياً كالمحدودات، وإنما تعددت الأسماء بحسب الاعتبارات الزائدة على الذات ثم هي من جهة دلالتها على أربعة أضرب. الأول ما يدل على الذات مجردة كالجلالة، فإنه يدل عليه دلالة مطلقة غير مقيدة، وبه يعرف جميع أسمائه فيقال الرحمن مثلاً من أسماء الله، ولا يقال الله من أسماء الرحمن ولهذا كان الأصح إنه اسم علم غير مشتق وليس بصفة. الثاني: ما يدل على الصفات الثابتة للذات كالعليم والقدير والسميع والبصير. الثالث: ما يدل على إضافة أمر ما إليه كالخالق والرازق. الرابع: ما يدل على سلب شيء عنه كالعلي والقدوس وهذه الأقسام الأربعة منحصرة في النفي والإثبات – انتهى. قال الغزالي: الاسم هو اللفظ الدال على المعنى بالوضع لغة والمسمى هو المعنى الموضوع له الاسم والتسمية وضع ذلك اللفظ لذلك المعنى، أو إطلاقه عليه. وقد يطلق الاسم ويراد به المعنى فالمراد بالاسم هو المسمى على التقدير الثاني وغير المسمى على التقدير الأول، فلذلك اختلف في أن الاسم هو المسمى أو غيره، ومحل هذا المبحث وإن صفاته تعالى عين ذاته أو غيرها كتب العقائد ولم يتكلف السلف في ذلك تورعاً وطلباً للسلامة ولنا فيهم أسوة واختلف في الأسماء الحسنى هل هي توقيفية بمعنى أنه لا يجوز لأحد أن يشتق من الأفعال الثابتة لله أسماء إلا إذا ورد نص إما في الكتاب أو السنة فقال الفخر الرازي: المشهور عن أصحابنا إنها توقيفية. وقالت المعتزلة والكرامية: إذا دل العقل على أن معنى اللفظ ثابت في حق الله جاز إطلاقه عليه، يعني أنه يصح أن يطلق على الله كل اسم يصح معناه فيه، والإفهام الصحيحة البشرية لها سعة ومجال في

{الفصل الأول}

{الفصل الأول} 2309- (1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله تعالى تسعة وتسعين اسماً، ـــــــــــــــــــــــــــــ اختيار الصفات. قال الراغب: وما ذهب إليه أهل الحديث هو الصحيح، ولو ترك الإنسان وعقله لما جسر أن يطلق عليه عامة هذه الأسماء التي ورد الشرع بها إذ كان أكثرها على حسب تعارفنا، يقتضي إعراضاً إما كمية نحو العظيم والكبير وإما كيفية نحو الحي والقادر أو زماناً نحو القديم والباقي أو مكاناً نحو العلي والمتعالي أو انفعالاً نحو الرحيم والودود، وهذه معان لا تصح عليه سبحانه وتعالى على حسب ما هو متعارف بيننا وإن كان لها معان معقولة عند أهل الحقائق من أجلها صح إطلاقها عليه عزوجل. وقال القاضي أبوبكر الباقلاني والغزالي: الأسماء توقيفية دون الصفات. قال: هذا هو المختار، واتفقوا على أنه لا يجوز أن يطلق عليه اسم ولا صفة توهم نقصاً، ولو ورد ذلك نصاً فلا يقال ماهد ولا زارع ولا فالق ولا نحو ذلك، وإن ثبت في نحو قوله: {فنعم الماهدون} {أم نحن الزارعون} {فالق الحب والنوى} [الأنعام: 95] ونحوها ولا يقال له ماكر ولا بناء وإن ورد مكر الله {والسماء بنيناها} وقال أبوالقاسم القشيري: أسماء الله تؤخذ توقيفاً من الكتاب والسنة والإجماع فكل اسم ورد فيها وجب إطلاقه في وصفه وما لم يرد لا يجوز ولو صح معناه وقال أبوإسحاق الزجاج: لا يجوز لأحد أن يدعوا الله بما لم يصف به نفسه فيقول يا رحيم لا يا رفيق ويقول يا قوي لا يا جليد. قال الحافظ: والضابط إن كل ما أذن الشرع أن يدعى به سواء كان مشتقاً أو غير مشتق فهو من أسماء وكل ما جاز أن ينسب إليه سواء كان مما يدخله التأويل أولاً، فهو من صفاته ويطلق عليه أسماء أيضاً. وقال الحليمي: إن أسماء الله التي ورد بها الكتاب والسنة وإجماع العلماء على تسميته بها منقسمة بين عقائد خمس. الأولى: إثبات الباري رداً على المعطلين وهي الحي والباقي والوارث وما في معناها. الثانية: إثبات وحدانيته لتقع البراءة عن الشرك وهي الكافي والعلي والقادر ونحوها. والثالثة: تنزيهه رداً على المشبهة وهي القدوس والمجيد والمحيط وغيرها. والرابعة: اعتقاداً إن كل موجود من اختراعه رداً على القول بالعلة والمعلول وهي الخالق والباري والمصور وما يلحق بها. والخامسة: إثبات إنه مدبر لما اخترعه ومصرفه على ما يشاء لتقع البراءة من قول القائلين بالطبائع أو بتدبير الكواكب أو بتدبير الملائكة وهي القيوم والعليم والحكيم وشبهها. 2309- قوله: (إن لله تعالى تسعة وتسعين اسماً) بالنصب على التمييز. قال الخطابي: فيه دليل على أن أشهر أسماءه تعالى الله لإضافة هذه الأسماء إليه، وقد روى إن الله هو اسمه الأعظم. وقال ابن مالك: ولكون

مائة إلا واحدة ـــــــــــــــــــــــــــــ الله اسماً علماً، وليس بصفة. قيل في كل اسم من أسماءه تعالى سواه اسم من أسماء الله، وهو من قول الطبري على ما حكاه النووي إلى الله ينسب كل اسم له فيقال الكريم من أسماء الله ولا يقال من أسماء الكريم الله. قال القسطلاني: ولما كانت معرفة أسماء الله تعالى، وصفاته توقيفية إنما تعرف من طريق الوحي والسنة ولم يكن لنا أن نتصرف فيها بما لم يهتد إليه مبلغ علمنا، ومنتهى عقولنا، وقد منعنا عن إطلاق ما يرد به التوقيف في ذلك وإن جوزه العقل، وحكم به القياس كان الخطأ في ذلك غير هين والمخطيء فيه غير معذور والنقصان عنه كالزيادة فيه غير مرضى، وكان الاحتمال في رسم الخط واقعاً باشتباه تسعة وتسعين في زلة الكاتب وهفوة القلم بسبعة وسبعين، أو سبعة وتسعين، أو تسعة وسبعين، فينشأ الاختلاف في المسموع من المسطور أكده حسماً للمادة وإرشاداً إلى الاحتياط بقوله (مائة) بالنصب على البدلية (إلا واحداً) أي إلا اسماً واحداً. وقال في فتوح الغيب: قوله "مائة إلا واحدا" تأكيد وفذلكة لئلا يزاد على ما ورد كقوله: {تلك عشرة كاملة} [البقرة: 196] وفيه رفع التصحيف، فإن تسعة تصحف بسبعة وتسعين بسبعين بالموحدة فيهما. وقيل أتى بذلك للتنصيص على العدد المقصود على وجه المبالغة. وقيل: إنما قال ذلك لئلا يتوهم العدد على التقريب وفيه فائدة رفع الاشتباه في الخط. قال السندي: وهذا مبني على معرفته - صلى الله عليه وسلم - رسم الخط وإن كونه أمياً لا يتأتي معرفة ذلك إلا بالإلهام من الله تعالى – انتهى. وقوله "إلا واحداً" بالتذكير في أكثر الروايات ويروي واحدة بالتأنيث. قال ابن مالك: أنث باعتبار معنى التسمية أو الصفة أو الكلمة واختلف في هذا العدد هل المراد به حصر الأسماء الحسنى في هذه العدة أو إنها أكثر من ذلك، ولكن اختصت هذه بأن من أحصاها دخل الجنة فذهب الجمهور إلى الثاني. ونقل النووي اتفاق العلماء عليه فقال ليس في الحديث حصر لأسماء الله تعالى وليس معناه إنه ليس له اسم غير هذه التسعة والتسعين، وإنما مقصود الحديث إن هذه الأسماء التسعة والتسعين من أحصاها دخل الجنة فالمراد الإخبار عن دخول الجنة بإحصاءها لا الإخبار بحصر الأسماء. ويؤيده قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن مسعود الذي أخرجه أحمد وصححه ابن حبان أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك. وعند مالك عن كعب الأحبار في دعاءه وأسالك بأسمائك الحسنى ما علمت منها وما لم أعلم. ولابن ماجه من حديث عائشة إنها دعت بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحو ذلك. وقال الخطابي: في هذا الحديث إثبات هذه الأسماء المخصوصة بهذا العدد وليس فيه منع ما عداها في الزيادة وإنما التخصيص لكونها أكثر الأسماء وأبينها معاني وخبر المبتدأ في الحديث هو قوله من أحصاها لا قوله لله وهو كقولك لزيد ألف درهم أعدها للصدقة أو لعمرو ومائة ثوب من زاره ألبسه إياها. وقال القرطبي في المفهم والتوربشتي في شرح المصابيح: نحو ذلك. وبالغ بعضهم في تكثير الأسماء الحسنى حتى قال ابن العربي

من أحصاها ـــــــــــــــــــــــــــــ في شرح الترمذي حاكياً عن بعض أهل العلم: إنه جمع من الكتاب والسنة من أسماء الله تعالى ألف اسم. قلت: وذهبت بعضهم إلى حصرها في التسعة والتسعين. قال ابن حزم من زاد شيئاً في الأسماء على التسعة والتسعين من عند نفسه فقد الحد في أسماءه، واحتج لذلك بالتأكيد في قوله - صلى الله عليه وسلم - "مائة إلا واحداً" قال لأنه لو جاز أن يكون له اسم زائد على العدد المذكور لزم أن يكون له مائة اسم فيبطل قوله "مائة إلا واحداً" وهذا الذي قاله ليس بحجة على ما تقدم لأن الحصر المذكور عند الجمهور باعتبار الوعد الحاصل لمن أحصاها فمن أدعى أن الوعد وقع لمن أحصى زائداً على ذلك أخطأ، ولا يلزم من ذلك أن لا يكون هناك اسم زائد وأما الحكمة في القصر على العدد المخصوص المذكور فذكر الفخر الرازي عن الأكثر أنه تعبد لا يعقل معناه. وقيل: الحكمة فيه أنها في القرآن كما في بعض طرقه. وقال: آخرون الأسماء الحسنى مائة على درجات الجنة استأثر الله تعالى منها بواحدة وهو الاسم الأعظم فلم يطلع عليه أحداً فكأنه قال مائة ولكن واحد منها عند الله. وقال بعضهم: ليس الاسم المكمل للمائة مخفياً بل هو الجلالة وبه جزم السهيلي فقال: الأسماء الحسنى مائة على عدد درجات الجنة والذي يكمل المائة الله ويؤيده قوله تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} [الأعراف: 180] فالتسعة والتسعون لله فهي زائدة عليه وبه تكمل المائة وقيل غير ذلك (من أحصاها) وفي رواية لمسلم من حفظها وفي رواية للبخاري: لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة. قال الشوكاني: وهذا اللفظ يفسر معنى قوله "أحصاها" فالإحصاء هو الحفظ. وقيل: أحصاها قرأها كلمة كلمة كأنه يعدها. وقيل: أحصاها علمها وتدبر معانيها واطلع على حقائقها وقيل: أطاق القيام بحقها والعمل بمقتضاها والتفسير الأول هو الراجح المطابق للمعنى اللغوي وقد فسرته الرواية المصرحة بالحفظ كما عرفت. وقال النووي قال البخاري وغيره من المحققين: معناه حفظها وهذا هو الأظهر لثبوته نصاً في الخبر. وقال في الأذكار: هو قول الأكثرين. وقال الخطابي: الإحصاء في هذا يحتمل وجوهاً. أحدها: وهو أظهرها أن يعدها حتى يستوفيها يريد أنه لا يقتصر على بعضها لكن يدعو الله بها كلها ويثني عليه بجميعها فيستوجب الموعود عليها من الثواب. ثانيها: المراد بالإحصاء إلا طاقة كقوله تعالى: {علم أن لن تحصوه} [المزمل: 20] والمعنى من أطاق القيام بحق هذه الأسماء والعمل بمقتضاها وهو أن يعتبر معانيها فيلزم نفسه بواجبها فإذا قال الرزاق: وثق بالرزق وكذلك سائر الأسماء. ثالثها: المراد العقل والإحاطة بمعانيها من قول العرب فلان ذو حصاة أي ذو عقل ومعرفة. وقيل: معنى أحصاها عرفها لأن العارف بها لا يكون إلا مؤمناً والمؤمن يدخل الجنة. وقال ابن الجوزي: فيه خمسة أقوال. أحدها: من استوفاها حفظاً. والثاني: من أطاق العمل بمقتضاها مثل أن يعلم أنه سميع فيكف لسانه عن القبيح. والثالث: من عقل معانيها. والرابع: من أحصاها علماً وإيماناً. والخامس: أن المعنى من قرأ القرآن حتى يختمه لأن جميع الأسماء فيه. وقال القرطبي:

{الفصل الثاني}

دخل الجنة، وفي رواية وهو وتر يحب الوتر)) . متفق عليه. {الفصل الثاني} 2310- (2) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله تعالى تسعة وتسعين اسماً، ـــــــــــــــــــــــــــــ المرجو من كرم الله تعالى إن من حصل له إحصاء هذه الأسماء على أحد هذه المراتب مع صحة النية أنه يدخل الجنة. قال السندي: كأنه مبني على إرادة المعاني كلها من المشترك لا بشرط الاجتماع بل على البدلية والله اعلم والمحققون على أن معنى أحصاها حفظها. قلت: وهذا هو الراجح (دخل الجنة) ذكر الجزاء بلفظ الماضي تحقيقاً لوقوعه وتنبيهاً على أنه وإن لم يقع فهو في حكم الواقع لأنه كائن لا محالة (وفي رواية) للبخاري في الدعوات (وهو) أي ذاته تعالى (وتر) ولمسلم والله وتر، وفي أخرى له أنه وتر، والوتر بفتح الواو وكسرها الفرد ومعناه في حق الله تعالى أنه الواحد الذي لا شريك له في ذاته ولا نظير ولا انقسام (يحب الوتر) من كل شيء وقيل: هو منصرف إلى من يعبد الله بالوحدانية والتفرد على سبيل الإخلاص. وقيل: المراد يحب من الأذكار والطاعات ما هو على عدد الوتر ويثيب عليه لاشتماله على الفردية. وقيل: يحب الوتر لأنه أمر بالوتر في كثير من الأعمال والطاعات كما في الصلوات الخمس ووتر الليل وإعداد الطهارة وتكفين الميت والطواف والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار في الحج ونصاب المعشرات والورق والإبل في الزكاة وفي كثير من المخلوقات كالسماوات والأرض وأيام الأسبوع – انتهى. وقال القرطبي: الظاهر أن الوتر هنا للجنس إذ لا معهود جرى ذكره حتى يحمل عليه فيكون معناه أنه وتر يحب كل وتر شرعه ومعنى محبته له أنه أمر به وأثاب عليه ويصلح ذلك لعموم ما خلقه وتراً من مخلوقاته تنبيه قد طعن أبوزيد البلخى في صحة الحديث بأن دخول الجنة ثبت في القرآن مشروطاً ببذل النفس والمال فكيف يحصل بمجرد حفظ ألفاظ تعد في اليسر مدة. وتعقب بأن الشرط المذكور ليس مطرداً ولا حصر فيه بل قد تحصل الجنة بغير ذلك كما ورد في كثير من الأعمال غير الجهاد أن فاعله يدخل الجنة. وأما دعوى إن حفظها يحصل في اليسر مدة فإنما يرد على من حمل الحفظ والإحصاء على معنى أن يسردها عن ظهر قلب. فأما من أوله على بعض الوجوه المتقدمة فإنه يكون في غاية المشقة، ويمكن الجواب عن الأول بأن الفضل واسع كذا في الفتح (متفق عليه) أخرجاه في الدعوات وأخرجه البخاري أيضاً في الشروط وفي التوحيد دون قوله "هو وتر" الخ والحديث رواه أيضاً أحمد (ج2ص258، 267، 214) والترمذي والنسائي في الكبرى وابن ماجه وابن حبان في صحيحه وغيرهم. 2310- قوله: (إن لله تسعة وتسعين اسماً) ليس الغرض الحصر بل نص على ذلك لما رتبه عليه فغيرها

من أحصاها دخل الجنة. هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، الملك القدوس ـــــــــــــــــــــــــــــ من الأسماء وإن حصل على إحصاءه ثواب عظيم إلا أنه ليس فيه هذه الخصوصية (من أحصاها) قال الجزري: الإحصاء العدد والحفظ، والمراد من حفظها على قلبه وقيل المراد من استخرجها. من كتاب الله تعالى وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعدها لهم ولهذا لم ترد مسرودة معدودة من هذه الكتب السنة إلا في كتاب الترمذي (وقد تكلموا في روايته) وقيل المراد من أخطر بباله عند ذكرها معناها وتفكر في مدلولها معتبراً متدبراً ذاكراً راغباً راهباً معظماً لمسماها مقدساً لذات الله تعالى، وبالجملة ففي كل اسم يجريه على لسانه يخطر بباله الوصف الدال عليه أقوال (دخل الجنة) قيل أي استحق دخولها. وقيل أي دخولاً أولياً أو مع المقربين السابقين أو وصل أعلى مراتب نعيمها (هو الله الذي لا إله إلا هو) الاسم المعدود في هذه الجملة من أسماءه هو الله لا غيره من هو وإله كما يدل عليه روايات أخر "هي الله الواحد" الخ عند ابن ماجه "أسأل الله الرحمن الرحيم" عند البيهقي "الله الرحمن الرحيم" عند الحاكم والجملة تفيد الحصر والتحقيق لإلهيته ونفي ما عداه عنها. قال الطيبي: الجملة مستأنفة إما لبيان كمية تلك الأعداد أنها ما هي في قوله إن لله تسعة وتسعين اسماً وذكر الضمير نظراً إلى الخبر وإما لبيان كيفية الإحصاء في قوله "من أحصاها دخل الجنة" بأنه كيف يحصى. فالضمير راجع إلى مسمى الدال عليه قوله لله كأنه لما قيل ولله الأسماء الحسنى. سأل وما تلك الأسماء فأجيب هو الله أو لما قيل من أحصاها دخل الجنة، سأل كيف أحصاها فأجاب قل هو الله أحد فعلى هذا الضمير ضمير الشأن مبتدأ والله مبتدأ ثان وقوله "الذي لا إله إلا هو" خبره والجملة خبر الأول والموصول مع الصلة صفة لله – انتهى. والله أعلم دال على المعبود بحق دلالة جامعة لجميع معاني الأسماء الآتية (الرحمن الرحيم) هما اسمان مشتقان من الرحمة مثل ندمان ونديم وهما من ابنية المبالغة، والأكثر على أن فعلان أبلغ من فعيل. ومن ثم قيل الرحمن أبلغ من الرحيم ونصره السهيلي بأنه ورد على صيغة التثنية، والتثنية تضعيف فكان البناء تضاعفت فيه الصفة. وذهب ابن الأنباري إلى أن الرحيم أبلغ من الرحمن ورجحه ابن عساكر بتقديم الرحمن عليه وبأنه جاء على صيغة الجمع كعبيد وهو أبلغ من صيغة التثنية. وذهب قطرب إلى أنهما سواء والرحمن خاص لله لا يسمى به غيره ولا يوصف والرحيم يوصف به غير الله تعالى فيقال رجل رحيم ولا يقال رحمن (الملك) أي ذو الملك التام، والمراد به القدرة على الإيجاد والاختراع من قولهم، فلان يملك الانتفاع بكذا إذا تمكن منه، فيكون من أسماء الصفات. وقيل: المتصرف في الأشياء بالإيجاد والإفناء والإماتة والإحياء فيكون من أسماء الأفعال كالخالق (القدوس) أي الطاهر من العيوب المنزه عنها، وفعول من أبنية المبالغة من القدوس وهو النزاهة عما يوجب نقصاً. وقريء بالفتح وهو لغة فيه. قال الجزري: هو مضموم الأول. وقد

السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارىء المصور ـــــــــــــــــــــــــــــ روى بفتحه وليس بالكثير، ولم يجيء مضموم الأول من هذا البناء إلا قدوس وسبوح وذروح. وقال سيبويه: ليس في الكلام فعول بالضم (السلام) أي ذو السلام مما يلحق الخلق من العيب والفناء. قال الجزري: أي الذي سلم من كل عيب وبريء من كل آفة مصدر نعت به للمبالغة كرجل عدل، فكأنه عين السلامة يقال سَلِم يسلم سلامة وسلاماً، ومنه قيل للجنة دار السلام لأنها دار السلامة من الآفات. وقيل: معناه المسلم عباده عن المخاوف والمهالك (المؤمن) أي الذي يصدق عباده وعده فهو من الإيمان التصديق أو يؤمنهم في القيامة من عذابه فهو من الأمان، والأمن ضد الخوف كذا قال الجزري في النهاية وجامع الأصول وشرح المصابيح (المهيمن) الرقيب المبالغ في المراقبة والحفظ، ومنه هيمن الطائر إذا نشر جناحه على فراخه صيانة لها. وقيل: الشاهد أي العالم الذي لا ينهب عنه مثقال ذرة. وقيل الذي يشهد على كل نفس بما كسبت ومنه قوله تعالى: {ومهيمناً عليه} [المائدة: 48] أي شاهداً. وقيل القائم بأمور الخلق. وقيل أصله مؤيمن أبدلت الهاء من الهمزة فهو مفعيل من الأمانة بمعنى الأمين الصادق الوعد (العزيز) أي الغالب القاهر القوي الذي لا يغلب والعزة في الأصل القوة والشدة والغلبة تقول عز يعز بالكسر إذا صار عزيزاً وعز يعز بالفتح إذا اشتد (الجبار) معناه الذي يقهر العباد على ما أراد من أمر ونهي، يقال جبر الخلق وأجبرهم وأجبر أكثر. وقيل هو العالي فوق خلقه وفعال من أبنية المبالغة ومنه قولهم نخلة جبارة وهي العظيمة التي تفوت يد المتناول (المتكبر) أي العظيم ذو الكبرياء. وقيل المتعالي عن صفات الخلق. وقيل الذي يتكبر على عتاة خلقه إذا نازعوه العظمة فيقصمهم، والتاء فيه للتفرد والتخصص لا تاء التعاطي والتكلف والكبرياء العظمة والملك قال تعالى: {وتكون لكما الكبرياء في الأرض} [يونس: 78] أي الملك. وقيل هي عبارة عن كمال الذات وكمال الوجود ولا يوصف بها إلا الله تعالى وهو من الكبر وهو العظمة (الخالق) أي الذي أوجد الأشياء جميعها بعد إن لم تكن موجودة. وأصل الخلق التقدير فهو باعتبار تقدير ما منه وجودها باعتبار الإيجاد على وفق التقدير خالق. وقال في المرقاة: الخالق من الخلق وأصله التقدير المستقيم ومنه قوله تعالى: {فتبارك الله أحسن الخالقين} [المؤمنون: 14] أي المقدرين ويستعمل بمعنى الإبداع وإيجاد شيء من غير أصل كقوله تعالى: {خلق السماوات والأرض} [الأنعام: 1] وبمعنى التكوين كقوله عزوجل: {خلق الإنسان من نطفة} [النحل: 4] فالله خالق كل شيء بمعنى أنه مقدره أو موجده من أصل أو من غير أصل (الباريء) بالهمزة في آخره، ويجوز إبداله ياء في الوقف وهو الذي خلق الخلق لا عن مثال إلا أن لهذه اللفظة من الاختصاص بخلق الحيوان ما ليس لها بغيره من المخلوقات وقلما تستعمل في غير الحيوان فيقال برأ الله النسمة وخلق السماوات والأرض (المصور) بكسر الواو المشددة أي الذي صور جميع

الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم، ـــــــــــــــــــــــــــــ الموجودات ورتبها فأعطي كل شيء منها صورة خاصة وهيئة منفردة يتميز بها عن غيره على اختلاف أنواعها وكثرة أفرادها. وقال الجزري: هو أنشأ خلقه على صور مختلفة ومعنى التصوير التخطيط والتشكيل (الغفار) أي الذي يستر العيوب والذنوب في الدنيا بإسبال الستر عليها وفي العقبى بترك المعاتبة والمعاقبة لها، وهو لزيادة بناءه أبلغ من الغفور. وقيل المبالغة في الغفار باعتبار الكمية وفي الغفور باعتبار الكيفية. وأصل الغفر الستر. وقال الجزري في النهاية: في أسماء الله الغفار والغفور وهما من أبنية المبالغة ومعناهما الساتر لذنوب عباده وعيوبهم المتجاوز عن خطاياهم وذنوبهم، وأصل الغفر التغطية يقال غفر الله لك غفراً وغفراناً ومغفرة، والمغفرة الباس الله تعالى العفو للمذنبين. وقال في جامع الأصول: الغفار هو الذي يغفر ذنوب عباده مرة بعد مرة، وأصل الغفر الستر والتغطية فالله غافر لذنوب عباده ساتر لها بترك العقوبة عقوبة عليها (القهار) أي الغالب على جميع الخلائق كما قال تعالى: {وهو القاهر فوق عباده} [الأنعام: 18] يقال قهره يقهره قهراً غلبه فهو قاهر وقهاراً للمبالغة (الوهاب) أي كثير الإنعام دائم العطاء بلا عوض والهبة العطية الخالية عن الأعواض والأغراض فإذا كثرت سمي صاحبها وهاباً (الرزاق) أي خالق الأرزاق ومعطيها لجميع ما يحتاج إلى الرزق من مخلوقاته. والأرزاق نوعان ظاهرة للأبدان كالأقوات، وباطنة للقلوب والنفوس كالمعارف والعلوم (الفتاح) أي الحاكم بين عباده يقال فتح الحاكم بين الخصمين إذا فصل بينهما. وقيل للحاكم الفاتح ومنه قوله تعالى: {ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين} [الأعراف: 89] وقيل هو الذي يفتح أبواب الرزق وخزائن الرحمة والعلم والمعرفة لعباده والمنغلق عليهم من أرزاقه (العليم) أي العالم المحيط علمه بجميع الأشياء ظاهرها وباطنها دقيقها وجليلها على أتم الإمكان، وفعيل من أبنية المبالغة (القابض) أي الذي يضيق ويمسك الرزق وغيره من الأشياء عن العباد بلطفه وحكمته ويقبض الأرواح عند الممات (الباسط) أي الذي يبسط الرزق لعباده ويوسعه عليهم بجوده ورحمته ويبسط الأرواح وينشرها في الأجساد عند الحياة (الخافض) أي الذي يخفض الجبارين والفراعنة أي يضعهم ويهينهم ويخفض كل شيء يريد خفضه والخفض ضد الرفع (الرافع) أي الذي يرفع أولياءه ويعزهم والرفع ضد الخفض (المعز) أي الذي يهب العز لمن يشاء من عباده ويجعله عزيزاً (المذل) الذي يلحق الذل بمن يشاء من عباده وينفي عنه أنواع العز جميعها فيجعله ذليلاً (السميع) المدرك لكل مسموع (البصير) المدرك لكل مبصر (الحكم) بفتحتين مبالغة الحاكم، وحقيقته الذي سلم له الحكم ورد إليه قاله الجزري: وقيل هو الحاكم

العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلي الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الجليل الكريم ـــــــــــــــــــــــــــــ الذي لا راد لقضاه ولا معقب لحكمه (العدل) بسكون الدال المهملة وهو الذي لا يميل به الهوى فيجوز في الحكم وهو في الأصل مصدر سمي به فوضع موضع العادل وهو أبلغ منه لأنه جعل المسمى نفسه عدلاً (اللطيف) أي الذي اجتمع له الرفق في الفعل والعلم بدقائق المصالح وإيصالها لمن قدرها له من خلقه يقال لطف به وله بالفتح لطفاً إذا رفق به فأما لطف بالضم يلطف فمعناه صغر ودق. وقال الشوكاني: اللطيف العالم بخفيات الأمور والملاطف لعباده. وقال الجزري: هو الذي يوضل إليك أَربك في رفق، وقيل هو الذي لطف عن أن يدرك بالكيفية (الخبير) أي العالم ببواطن الأشياء وحقائقها من الخبرة وهي العلم بالخفايا الباطنة. وقال الجزري: العالم العارف بما كان وما يكون (الحليم) أي الذي لا يستخفه شيء من عصيان العباد ولا يستفزه الغضب عليهم ولكنه جعل لكل شيء مقداراً فهو منته إليه (العظيم) أي الذي بلغ إلى أقصى مراتب العظمة وجل عن حدود العقول حتى لا تتصور الإحاطة بكنهه وحقيقته، والعظم في صفات الأجسام كبر الطول والعرض والعمق والله تعالى جل قدره عن ذلك (الغفور) تقدم معناه (الشكور) أي الذي يعطي الثواب الجزيل على العمل القليل أو المثنى على عباده المطيعين. وقال الجزري: أي الذي يجازي عباده ويثيبهم على أفعالهم الصالحة فشكر الله لعباده إنما هو مغفرته لهم وقبوله لعبادتهم (العلي) فعيل من العلو وهو البالغ في علو الرتبة بحيث لا رتبة إلا وهي منحطة عن رتبته. وقال بعضهم هو الذي علا عن الإدراك ذاته وكبر عن التصور صفاته (الكبير) هو الموصوف بالجلال وكبر الشأن قاله الجزري. وقال القاري: الكبير وضده الصغير يستعملان باعتبار مقادير الأجسام وباعتبار الرتب، وهو المراد هنا إما باعتبار أنه أكمل الموجودات وأشرفها من حيث أنه قديم أزلي غنى على الإطلاق وما سواه حادث مفتقر إليه في الإيجاد والإمداد بالاتفاق، وإما باعتبار أنه كبير عن مشاهدة الحواس وإدراك العقول (الحفيظ) أي البالغ في الحفظ يحفظ الموجودات من الزوال والاختلال مدة ما شاء أو يحفظ على العباد أعمالهم وأقوالهم (المقيت) بضم الميم وكسر القاف وسكون التحتية أي الحفيظ. وقيل المقتدر. وقيل الذي يعطي أقوات الخلائق وهو من إقاته يقيته إذا أعطاه قوته وهي لغة في قاته يقوته وإقاتة أيضاً إذا حفظه (الحسيب) أي الكافي فعيل بمعنى مفعل كالميم مؤلم من أحسبني الشيء إذا كفاني وأحسبته وحسبته بالتشديد أعطيته ما يرضيه حتى يقول حسبي. وقيل إنه مأخوذ من الحسبان أي هو المحاسب للخلائق يوم القيامة فعيل بمعنى مفاعل (الجليل) أي المنعوت بنعوت الجلال والحاوي لجميعها هو الجليل المطلق (الكريم) أي كثير الجود والعطاءه الذي لا ينفد عطاءه ولا تفنى خزائنه وهو الكريم المطلق

الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، ـــــــــــــــــــــــــــــ (الرقيب) أي الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء فعيل بمعنى فاعل. وقيل مراقب الأشياء وملاحظها فلا يعزب عنه مثقال ذرة (المجيب) أي الذي يقابل الدعاء والسؤال بالقبول والعطاء وهو اسم فاعل من أجاب يجيب. قال الجزري: المجيب الذي يقبل دعاء عباده ويستجيب لهم (الواسع) أي الذي وسع غناه كل فقير ورحمته كل شيء يقال وسعه الشيء يسعه سعة فهو واسع ووسع بالضم وساعة فهو وسيع، والوسع والسعة الجدة والطاقة (الحكيم) أي الحاكم بمعنى القاضي فعيل بمعنى فاعل، أو هو الذي يحكم الأشياء ويتقنها فهو فعيل بمعنى مفعل، وقيل الحكيم ذو الحكمة، والحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء فأفضل العلوم، ويقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويتقنها حكيم (الودود) فعول بمعنى مفعول من الود المحبة يقال وددت الرجل أوده، وداً إذا أحببته فالله تعالى مودود أي محبوب في قلوب أوليائه أو هو فعول بمعنى فاعل أي إنه يحب عباده الصالحين. وقيل هو الذي يتودد أي يتحبب إلى عباده بنعمه الدائمة عليهم (المجيد) هو مبالغة الماجد من المجد وهو سعة الكرم فهو الذي لا تدرك سعة كرمة. قال الجزري: المجيد هو الواسع الكرم. وقيل هو الشريف (الباعث) أي الذي يبعث الخلق ويحييهم بعد الموت يوم القيامة أو باعث الرسل إلى الأمم (الشهيد) هو الذي لا يغيب عنه شيء والشاهد الحاضر من الشهود وهو الحضور أي إنه حاضر يشاهد الأشياء ويراها لا يعزب عنه شي، وفعيل من أبنية المبالغة في فاعل فإذا اعتبر العلم مطلقاً فهو العليم، وإذا أضيف إلى الأمور الباطنة فهو الخبير، وإذا أضيف إلى الأمور الظاهرة فهو الشهيد، وقد يعتبر مع هذا أن يشهد على الخلق يوم القيامة بما علم وشاهد منهم (الحق) أي الثابت الموجود حقيقة المتحقق كونه ووجوده وإلهيته والحق ضد الباطل (الوكيل) القائم بأمور عباده المتكفل بمصالحهم. وقال الجزري: الوكيل هو الكفيل بأرزاق العباد وحقيقته أنه الذي يستقل بأمر الموكول إليه ومنه قوله تعالى: {وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} [آل عمران: 173] (القوى) أي ذو القدرة التامة البالغة إلى الكمال الذي لا يلحقه ضعف. قال الجزري: القوى القادر. وقيل التام القدرة والقوة الذي لا يعجزه شيء (المتين) أي القوي الشديد الذي لا يلحقه في أفعاله مشقة ولا كلفة ولا تعب والمتانة الشدة والقوة، فهو من حيث إنه بالغ القدرة تامها قوى ومن حيث أنه شديد القوة متين (الولي) أي الناصر. وقيل المتولي لأمور العالم والخلائق القائم بها كولي اليتيم. وقيل المحب لأولياءه (الحميد) أي المحمود المستحق للثناء على كل حال فعيل بمعنى مفعول (المحصى) أي الذي أحصى كل شيء بعلمه وإحاطه به فلا يفوته شيء من الأشياء دق أو جل والإحصاء العد والحفظ

المبديء، المعيد، المحي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الأحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الأول، ـــــــــــــــــــــــــــــ (المبديء) بالهمزة وقد تبدل وقفاً أي الذي أنشأ الأشياء واخترعها ابتداء من غير مثال سبق (المعيد) أي الذي يعيد الخلق بعد الحياة إلى الممات في الدنيا وبعد الممات إلى الحياة يوم القيامة (المحي) أي خالق الحياة ومعطيها لمن شاء (المميت) أي خالق الموت ومسلطه على من شاء من خلقه (الحي) أي الدائم البقاء (القيوم) القائم بنفسه والمقيم لغيره وهو فيعول للمبالغة (الواجد) بالجيم أي الغني الذي لا يفتقر. وقد وجد يجد جدة أي استغنى غنى لا فقر بعده. وقيل الذي يجد كل ما يريده ويطلبه ولا يفوته شيء (الماجد) بمعنى المجيد لكن المجيد أبلغ. وقيل الماجد المتعالي المتنزه (الواحد) أي الفرد الذي لم يزل وحده ولم يكن معه آخر. وقيل هو المنقطع القرين والشريك (الأحد) كذا في بعض النسخ من المشكاة بزيادة الأحد بعد الواحد وهكذا في المصابيح والحصن وجامع الأصول (ج5ص25) وليست هذه الزيادة في نسخ الترمذي الموجودة عندنا، ولم تقع أيضاً في رواية الحاكم (ج1ص16) قال الطيبي في جامع الأصول: لفظ الأحد بعد الواحد ولم يوجد في جامع الترمذي والدعوات للبيهقي ولا في شرح السنة – انتهى. قال الجزري في جامع الأصول (ج5ص201) الأحد والفرد الفرق بينه وبين الواحد إن "أحدا" بنى لنفي ما يذكر معه من العدد فهو يقع على المذكر والمؤنث يقال ما جاءني أحد أي ذكر ولا أنثى، وأما الواحد فإنه وضع لمفتتح العدد تقول جاءني واحد من الناس ولا تقول جاءني أحد من الناس، والواحد بنى على انقطاع النظير والمثل، والأحد بنى على الإنفراد الوحدة عن الأصحاب، فالواحد منفرد بالذات والأحد منفرد بالمعنى _ انتهى. وقيل: إن الأحدية لتفرد الذات والواحدية لنفي المشاركة في الصفات، وبسط الطيبي في بيان الفرق بينهما من حيث اللفظ والمعنى جميعاً فارجع إليه إن شئت (الصمد) هو السيد الذي انتهى إليه السودد، وقيل هو الدائم الباقي، وقيل هو الذي لا جوف له، وقيل الذي يصمد في الحوائج إليه أي يقصد. (القادر المقتدر) معناهما ذو القدرة إلا أن المقتدر أبلغ لما في البناء من معنى التكلف والاكتساب فإن ذلك وإن امتنع في حقه تعالى حقيقة لكنه يفيد المعنى مبالغة كذا في المرقاة. وقيل: القادر المتمكن من كل ما يريده بلا معالجة ولا واسطة والمقتدر المستولى على كل من أعطاه حظاً من قدرة (المقدم) بكسر الدال أي الذي يقدم الأشياء بعضها على بعض ويضعها في مواضعها اللائقة بها (المؤخر) بكسر الخاء المعجمة أي الذي يؤخر الأشياء إلى أماكنها ومواقيتها المناسبة لها فمن استحق التقديم قدمه، ومن استحق التأخير أخره ولا مقدم لما أخره ولا مؤخر لما قدمه (الأول) أي الذي لا بداية

الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي، المتعالي، البر، التواب، المنتقم، العفو، الرؤف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، ـــــــــــــــــــــــــــــ لأوليته. وقيل أي السابق على الأشياء كلها فإنه موجدها ومبدعها (الآخر) أي الباقي وحده بعد أن يفنى جميع الخلق ولا نهاية لآخريته (الظاهر) أي الذي ظهر فوق كل شيء وعلاه. وقيل هو الذي عرف بطرق الاستدلال العقلي بما ظهر لهم من آثار أفعاله وأوصافه (الباطن) المحتجب عن أبصار الخلائق وأوهامهم فلا يدركه بصر ولا يحيط به وهم (الوالي) أي مالك الأشياء جميعها المتصرف فيها. وقيل المتولي لجميع أمور خلقه (المتعالي) البالغ في العلو المرتفع عن النقص. وقيل الذي جل عن إفك المفترين وعلا شأنه. وقيل الذي جل عن كل وصف وثناء وهو متفاعل من العلو. وقال الجزري: هو المتنزه عن صفات المخلوقين تعالى أن يوصف بها وجل ويجوز حذف يائه على ما قريء في المتواتر وقفاً ووصلاً (البر) بفتح الموحدة مشتق من البر بالكسر بمعنى الإحسان وهو مبالغة البار أي المحسن البالغ في البر والإحسان. قال الجزري: البر هو العطوف على عباده ببره ولطفه (التواب) الذي يقبل توبة عباده مرة بعد أخرى. وقيل الذي يرجع بالإنعام على كل مذنب رجع إلى التزام الطاعة بقبول توبته من التوب وهو الرجوع (المنتقم) هو المبالغ في العقوبة لمن يشاء من العصاة مفتعل من نقم ينقم إذا بلغت به الكراهية حد السخط (العفو) فعول من العفو وهو الذي يمحو السيئات ويتجاوز عن المعاصي وهو أبلغ من الغفور لأن الغفران ينبىء عن الستر والعفو ينبىء عن المحو والطمس وهو من أبنية المبالغة يقال عفا يعفو عفواً فهو عاف وعفو (الرؤف) ذو الرحمة البالغة من الرأفة وهي شدة الرحمة فهو أبلغ من الرحيم والراحم. قال الجزري: والفرق بين الرأفة والرحمة إن الرحمة قد تقع في الكراهة للمصلحة، والرأفة لا تكاد تكون في الكراهة. وقيل إن الرحمة إحسان مبدؤه شفقة المحسن، والرأفة إحسان مبدؤه فاقة المحسن إليه (مالك الملك) أي الذي تنفذ مشيئته في ملكه ويجري الأمور فيه على ما يشاء أو الذي له التصرف المطلق (ذو الجلال والإكرام) أي ذو العظمة والكبرياء وذو الإكرام لأولياءه بأنعامه عليهم. وقيل الذي لا شرف ولا كمال إلا هو له أي هو مستحقة ولا كرامة ولا مكرمة إلا وهي منه (المقسط) أي العادل في حكمه يقال أقسّط الرجل يُقسِط فهو مُقسط إذا عدل، ومنه {إن الله يحب المقسطين} [المائدة: 25] وقسط يقسط فهو قاسط إذا جار ومنه {وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً} [الجن: 15] فكأن الهمزة في أقسط للسلب كما يقال شكا إليه فأشكاه (الجامع) أي الذي يجمع الخلائق ليوم الحساب. وقيل المؤلف بين المتماثلات والمتباينات والمتضادات في

الغني، المغني، المانع، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور)) . رواه الترمذي، والبيهقي في "الدعوات الكبير" ـــــــــــــــــــــــــــــ الوجود (الغني) أي المستغني عن كل شيء لا يحتاج إلى أحد في شيء وكل أحد يحتاج إليه وهذا هو الغني المطلق ولا يشارك الله فيه غيره (المغني) أي الذي يغني من يشاء من عباده عن غيره يعطي من يشاء ما يشاء (المانع) الدافع لأسباب الهلاك والنقص. وقال الجزري: هو الناصر الذي يمنع أولياءه أن يؤذيهم أحد. وقيل: يمنع من يريد من خلقه ما يريد ويعطيه ما يريد (الضار) أي الذي يضر من يشاء من خلقه حيث هو خالق الأشياء كلها خيرها وشرها ونفعها وضرها (النافع) أي الذي يوصل النفع إلى من يشاء من خلقه حيث هو خالق النفع والضر والخير والشر (النور) هو الذي يبصر بنوره ذو العماية ويرشد بهداه ذو الغواية فيصل إلى تمام الهداية. وقيل هو الظاهر الذي به كل ظهور فالظاهر بنفسه المظهر لغيره يسمى نوراً (الهادي) أي الذي بصر عباده وعرفهم طريق معرفته حتى أقروا بربوبيته وهدى كل مخلوق إلى ما لا بد منه في بقاءه ودوام وجوده (البديع) أي الخالق المخترع لا عن مثال سابق، فعيل بمعنى مفعل يقال أبدع فهو مبدع (الباقي) أي الدائم الوجود الذي لا يقبل الفناء (الوارث) أي الذي يرث الخلائق ويبقى بعد فناءهم (الرشيد) أي الذي أرشد الخلق إلى مصالحهم أي هداهم ودلهم عليها فعيل بمعنى مفعل. وقيل: هو الذي تنساق تدابيره إلى غاياتها على سَنَن السداد من غير إشارة مشير ولا تسديد مُسَددٍ (الصبور) أي الذي لا يعاجل العصاة بالمؤاخذة والانتقام منهم بل يؤخر ذلك إلى أجل مسمى فمعنى الصبور في صفة الله تعالى قريب من معنى الحليم. والفرق بينهما أن العصاة لا يأمنون العقوبة في صفة الصبور كما يأمنونها في صفة الحليم هذا، ومن أراد استقصاء معاني الأسماء الحسنى فعليه أن يرجع إلى المقصد الأسنى في شرح الأسماء الحسنى للغزالي وأشعة اللمعات للشيخ عبد الحق الدهلوي (رواه الترمذي والبيهقي) وأخرجه أيضاً ابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والحاكم (ج1ص16) والطبراني وابن أبي الدنيا كلاهما في الدعاء، وابن أبي عاصم وأبوالشيخ وابن مردوية كلاهما في التفسير، وأبونعيم في الأسماء الحسنى، وابن مندة وجعفر الفريابي في الذكر، وفي رواياتهم اختلاف شديد في سرد الأسماء وزيادة ونقص كما أشار إليه الحافظ في الفتح والقسطلاني في إرشاد الساري (ج11ص68- 69) والشوكاني في فتح القدير (ج2ص256- 257) وكما يدل عليه ما ذكره السيوطي في الجامع الصغير وعلي المتقي في الكنز من سياق بعض الروايات، وفي الباب عن ابن عباس وابن عمر. قال الشوكاني: وقد أخرجها بهذا العدد الذي أخرجه الترمذي وابن مردوية وأبونعيم

وقال الترمذي: هذا حديث غريب. ـــــــــــــــــــــــــــــ عن ابن عباس وابن عمر قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكراه ولا أدري كيف إسناده – انتهى. (وقال الترمذي) أي بعد أن أخرجه عن الجوزجاني عن صفوان بن صالح عن الوليد بن مسلم عن شعيب بن أبي حمزة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة (هذا حديث غريب) وبعده حدثنا به غير واحد عن صفوان بن صالح ولا نعرفه إلا من حديث صفوان بن صالح وهو ثقة عند أهل الحديث – انتهى. قال الحافظ: لم ينفرد به صفوان فقد أخرجه البيهقي (وكذا الحاكم ج1ص16) من طريق موسى بن أيوب النصيبي وهو ثقة عن الوليد أيضاً. وقد اختلف في سنده على الوليد ثم ذكر الحافظ الاختلاف وبسط الكلام في ذلك. قال الترمذي: وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعلم في كبير شيء من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث – انتهى. قال الحافظ: وقع سرد الأسماء في رواية زهير بن محمد عن موسى بن عقبة عند ابن ماجه. أي كما وقع في رواية الوليد بن مسلم عن شعيب (عند الترمذي وغيره) وهذان الطريقان يرجعان إلى رواية الأعرج وفيهما اختلاف شديد في سرد الأسماء وزيادة ونقص، ووقع سرد الأسماء أيضاً في طريق ثالث أخرجها الحاكم في المستدرك (ج1ص17) وجعفر الفريابي في الذكر من طريق عبد العزيز بن الحصين عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة – انتهى كلام الحافظ. قلت: الطرق الثلاث كلها ضعيفة. أما طريق ابن ماجه فلضعف عبد الملك بن محمد صاحب زهير بن محمد. وأما طريق الوليد وعبد العزيز بن الحصين فلما سيأتي في كلام الحافظ. واختلف العلماء في سرد الأسماء هل هو مرفوع أو مدرج في الخبر من بعض الرواة فمشي كثير منهم على الأول واستدلوا به على جواز تسمية الله تعالى بما لم يرد في القرآن بصيغة الاسم لأن كثيراً من هذه الأسماء كذلك وذهب آخرون إلى أن التعيين مدرج لخلو أكثر الروايات عنه. ونقله عبد العزيز اليخشبي عن كثير من العلماء. قال ابن كثير في تفسيره (ج4ص270) والذي عول عليه جماعة من الحفاظ إن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه. وإنما ذلك لأنه رواه عبد الملك بن محمد الصنعاني عن زهير بن محمد أنه بلغه عن غير واحد من أهل العلم أنهم قالوا ذلك أي أنهم جمعوها من القرآن كما روي عن جعفر بن محمد وسفيان بن عيينة وأبي زيد اللغوي – انتهى. قال الشوكاني في تحفة الذاكرين (ص54) بعد ذكر كلام ابن كثير هذا: ولا يخفاك إن هذا العدد قد صححه إمامان يعني ابن حبان والحاكم وحسنه إمام يعني النووي في الأذكار فالقول بأن بعض أهل العلم جمعها من القرآن غير سديد ومجرد بلوغ واحد أنه وقع ذلك لا ينتهض لمعارضة الرواة ولا تدفع الأحاديث بمثله – انتهى. قلت قال الحاكم بعد تخريج الحديث من طريق صفوان بن صالح عن الوليد بن مسلم: هذا حديث قد خرجاه في الصحيحين بأسانيد صحيحة دون ذكر الأسامي والعلة فيه عندهما تفرد الوليد بن مسلم، وليس هذا بعلة فإني لا أعلم اختلافاً بين أئمة الحديث إن الوليد أوثق وأحفظ وأجل وأعلم من

2311- (3) وعن بريدة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: ((اللهم إني أسألك بأنك أنت الله، ـــــــــــــــــــــــــــــ أبي اليمامان وبشر بن شعيب وعلي بن عياش وغيرهما من أصحاب شعيب. قال الحافظ: يشير إلى أن بشراً وعلياً وأبا اليمان رووه عن شعيب بدون سياق الأسماء فرواية أبي اليمان عند البخاري في الشروط ورواية علي عند النسائي ورواية بشر عند البيهقي. قال الحافظ: وليست العلة عند الشيخين تفرد الوليد فقط بل الاختلاف فيه والاضطراب وتدليسه واحتمال الإدراج – انتهى. قال الترمذي: وقد روي هذا الحديث بإسناد آخر عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر فيه الأسماء وليس له إسناد صحيح – انتهى. قال الحافظ في التلخيص بعد نقل كلام الترمذي: هذا ما لفظه الطريق التي أشار إليها الترمذي رواها الحاكم (ج1ص17) من طريق عبد العزيز بن الحصين عن أيوب وهشام بن حسان جميعاً عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة وفيها زيادة ونقصان. قال الحاكم: هذا حديث محفوظ عن أيوب وهشام بدون ذكر الأسامي وعبد العزيز ثقة. قال الحافظ: بل متفق على ضعفه وهاه البخاري ومسلم وابن معين. وقال البيهقي: هو ضعيف عند أهل النقل – انتهى. قلت وقال الذهبي في تلخيصه متعقباً على الحاكم قلت: بل ضعفوه – انتهى. وقال الحاكم أيضاً: إنما أخرجت رواية عبد العزيز بن الحصين شاهداً لرواية الوليد عن شعيب لأن الأسماء التي زادها على الوليد كلها في القرآن. قال الحافظ في الفتح بعد ذكر كلام الحاكم: هذا كذا قال وليس كذلك وإنما تؤخذ من القرآن بضرب من التكلف لا أن جميعها ورد فيه بصورة الأسماء. قلت: قد استضعف حديث سرد الأسماء جماعة، منهم ابن حزم والداودي وابن العربي وأبوالحسن القابسي وأبوزيد البلخي. قال ابن حزم: الأحاديث الواردة في سرد الأسماء ضعيفة لا يصح شيء منها أصلاً ومال الحافظ في الفتح إلى رجحان أن سرد الأسماء مدرج في الحديث إذ قال. وإذا تقرر رجحان أن سرد الأسماء ليس مرفوعاً فقد اعتنى جماعة بتتبعها من القرآن من غير تقييد بعدد كما روي عن محمد بن يحيى الذهلي أنه استخرج الأسماء من القرآن، وعن أبي جعفر بن محمد الصادق أنه قال هي في القرآن، وعن أبي زيد اللغوي أنه أخرجها من القرآن ووافقه سفيان على ذلك، وتقدم عن الشوكاني أنه قوي حديث السرد ورجح القول بكون سرد الأسماء مرفوعاً، وفي شرح الأذكار لابن علان ليس لهذا الاختلاف كبير جدوى، فإن الموقوف كذلك حكمه المرفوع لأن مثله لا يقال رأياً – انتهى فتأمل. 2311- قوله: (وعن بريدة) أي ابن الحصيب الأسلمي (سمع رجلاً) الظاهر إنه أبوموسى الأشعري كما سيأتي في حديث بريدة الآتي في الفصل الثالث وكما يدل عليه رواية أحمد في مسنده (ج5ص349) (اللهم إني أسألك) لم يذكر المسئول لعدم الحاجة إليه (بأنك أنت الله) كذا في جميع النسخ من المشكاة والمصابيح

لا إله إلا أنت، الأحد، الصمد، الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، فقال: دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا سأل به أعطى، وإذا دعي به أجاب)) . رواه الترمذي، وأبوداود ـــــــــــــــــــــــــــــ وفي بعض نسخ أبي داود وهكذا وقع في رواية ابن ماجه والحاكم، ووقع في بعض نسخ أبي داود اللهم إني أسألك إني أشهد إنك أنت الله، ولفظ الترمذي بأني أشهد أنك أنت الله وهكذا عند أحمد. والباء للسببية أي بسبب إني أو بوسيلة إني أشهد فهذا ذكر للوسيلة، وأما المسئول فغير مذكور (الأحد) أي بالذات والصفات (الصمد) أي المقصود في الحوائج على الدوام (الذي لم يلد) لانتفاء مجانسته (ولم يولد) لانتفاء الحدوث عنه (ولم يكن له كفواً أحد) أي مكافئاً ومماثلاً فله متعلق بكفواً. وقدم عليه لأنه محط القصد بالنفي وأخر أحد وهو اسم يكن عن خبرها رعاية للفاصلة (فقال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (دعا الله) لفظ الترمذي لقد سأل الله، وهكذا في ابن ماجه والمسند والمستدرك في رواية، ولأبي داود لقد سألت الله، وأما لفظ الكتاب فهو للحاكم في رواية أخرى (باسمه الأعظم) في شرح السنة في هذا الحديث دلالة على أن لله تعالى اسماً أعظم إذا دعي به أجاب، وإن ذلك هو المذكور ههنا، وهو حجة على من قال ليس الاسم الأعظم اسماً معيناً بل كل اسم ذكر بإخلاص تام مع الإعراض عما سوى الله هو الاسم الأعظم، لأن شرف الاسم بشرف المسمى لا بواسطة الحروف المخصوصة. قال الطيبي: وقد ذكر في أحاديث أخر مثل ذلك: وفيها أسماء ليست في هذا الحديث إلا أن لفظ الله مذكور في الكل فيستدل بذلك على أنه الاسم الأعظم – انتهى. وسيأتي الكلام في ذلك مفصلاً في آخر الباب (الذي إذا سأل به أعطى وإذا دعي بها أجاب) كذا في رواية أبي داود وابن ماجه وأحمد بتقديم السؤال على الدعاء. ووقع عند الترمذي بتقديم الدعاء على السؤال. قيل السؤال أن يقول العبد أعطني الشيء الفلاني فيعطي، والدعاء أن ينادي ويقول يا رب فيجيب الرب تعالى ويقول لبيك يا عبدي ففي مقابلة السؤال الإعطاء وفي مقابلة الدعاء الإجابة وهذا هو الفرق بينهما ويذكر أحدهما مقام الآخر أيضا. وقيل الفرق بينهما إن الثاني أبلغ، فإن إجابة الدعاء تدل على شرف الداعي ووجاهته عند المجيب بخلاف السؤال فإنه قد يكون مذموماً كما يكون في إثم أو قطيعة رحم. وقال الطيبي: إجابة الداعي تدل على وجاهة الداعي عند المجيب فيتضمن قضاء الحاجة بخلاف الإعطاء فالأخير أبلغ وقوله أعطي وأجاب أي بأن يعطي عين المسئول بخلاف الدعاء بغيره فإنه وإن كان لا يرد لكنه إما أن يعطاه أو يدخره للآخرة أو يعوض (رواه الترمذي) في جامع الدعوات وحسنه (وأبو داود) في أواخر الصلاة وسكت عنه وأخرجه أيضاً أحمد (ج5ص350) والنسائي في الكبرى وابن ماجه في الدعاء وابن حبان وابن أبي شيبة وابن السني (ص243) والحاكم (ج1ص504) وقال: صحيح على شرط الشيخين. ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره، وقال قال شيخنا أبوالحسن المقدسي: إسناده لا مطعن فيه ولا أعلم أنه روي في هذا الباب

2312- (4) وعن أنس، قال: ((كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، ورجل يصلي، فقال: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت الحنان، المنان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام! يا حي يا قيوم! أسألك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ـــــــــــــــــــــــــــــ حديث أجود إسناداً منه، وهو يدل على بطلان مذهب من ذهب إلى نفي القول بأن لله اسماً هو الاسم الأعظم وهو حديث حسن – انتهى. وقال الحافظ في الفتح: هو أرجح من حيث السند من جميع ما ورد في ذلك انتهى. 2312- قوله: (وعن أنس قال كنت جالساً مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد ورجل يصلي فقال اللهم) لفظ الترمذي عن أنس قال دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - المسجد ورجل قد صلى وهو يدعو وهو يقول في دعائه اللهم، ولأبي داود عن أنس أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالساً ورجل يصلي ثم دعا اللهم، وفي ابن ماجه عن أنس قال سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يقول اللهم والرجل المذكور هم أبوعياش الزرقي، فإن الحديث ذكره المنذري في الترغيب من رواية الإمام أحمد وفيه مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأبي عياش الزرقي بن الصامت وهو يصلي وهو يقول اللهم الحديث. قال الهيثمي بعد عزوه لأحمد والطبراني في الصغير: ورجال أحمد ثقات إلا أن ابن إسحاق مدلس وإن كان ثقة (بأن لك الحمد) تقديم الجار للاختصاص (لا إله إلا أنت) زاد ابن ماجه وحدك لا شريك لك (الحنان) كذا في جميع النسخ الحاضرة من المشكاة والمصابيح، وسقط هذا اللفظ عن النسخ التي اعتمدها القاري وأخذها في شرحه ولم يقع أيضاً في رواية الترمذي وأبي داود وابن ماجه والحاكم، نعم وقع عند أحمد كما في الترغيب. قال القاري: وفي نسخة صحيحة يعني من المشكاة الحنان قبل المنان وهو المفهوم من المفاتيح – انتهى. قال في النهاية: الحنان الرحيم بعباده فعال للمبالغة من الحنان بالتخفيف بمعنى الرحمة (المنان) بتشديد النون أيضاً وهو المنعم المعطي من المن العطاء لا من المنة، وكثيراً ما يرد المن في كلامهم بمعنى الإحسان إلى من لا يستثيبه ولا يطلب الجزاء عليه فالمنان من أبنية المبالغة كالسفاك والوهاب أي كثير العطاء والإنعام. قال صاحب الصحاح: من عليه مناً أي أنعم (بديع السماوات والأرض) قال القاري: يجوز فيه الرفع على أنه صفة المنان أو خبر المبتدأ محذوف أي هو أو أنت وهو أظهر والنصب على النداء ويقويه رواية الواحدي في كتاب الدعاء له يا بديع السماوات كذا في شرح الجزري على المصابيح. قلت: في رواية أحمد على ما نقله المنذري في الترغيب يا حنان يا منان يا بديع السماوات والأرض، وفي الأدب المفرد يا بديع السماوات يا حي يا قيوم إني أسألك (يا ذا الجلال والإكرام) أي ذا العظمة والكبرياء وذا الإكرام لأوليائه (يا حي يا قيوم) ليس هذا اللفظ عند الترمذي وابن ماجه، نعم وقع عند أبي داود والنسائي وابن حبان والحاكم (أسألك) أي ولا أسأل غيرك ولا أطلب سواك أو أسألك كلما أسأل أو هو تأكيد للأول وليس هذا اللفظ في الحصن ولم أره في كتاب سوى

دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سأل به أعطى)) . رواه الترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه. 2313- (5) وعن أسماء بنت يزيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم} ، وفاتحة آل عمران: {الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم} ـــــــــــــــــــــــــــــ المشكاة وسوى الأدب المفرد، وزاد الحاكم في رواية أسألك الجنة وأعوذ بك من النار (دعا الله باسمه الأعظم) هكذا عند الترمذي وابن ماجه وفي سنن أبي داود دعا الله باسمه العظيم (رواه الترمذي) وقال هذا حديث غريب (وأبو داود) وسكت عنه (والنسائي) في الكبرى (وابن ماجه) وأخرجه أيضاً أحمد وابن حبان والحاكم وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي والطبراني في الصغير وابن أبي شيبة وسعيد بن منصور، وأخرجه البخاري في الأدب المفرد مختصراً بلفظ: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فدعا رجل فقال: يا بديع السماوات يا حي يا قيوم إني أسألك فقال أتدرون بما دعا؟ والذي نفسي بيده دعا باسمه الذي إذا دعي به أجاب، وفي الباب عن أبي طلحة عند الطبراني وفيه أبان بن عياش وهو متروك. 2313- قوله: (وعن أسماء بنت يزيد) هن الزيادة ابن السكن بن رافع بن امرىء القيس بن زيد بن عبد الأشهل الأنصارية الأوسية ثم الأشهلية أم سلمة، ويقال أم عامر وهي من المبايعات روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عدة أحاديث كانت من ذوات العقل والدين، وكان يقال لها خطيبة النساء وهي ابنة عمة معاذ بن جبل، وقد شهدت اليرموك وقتلت يومئذ تسعة من الروم بعمود فسطاطها وعاشت بعد ذلك دهراً روي عنها شهر بن حوشب وغيره (اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين) أي في جميعهما، أو مجموعهما يجوز أن يراد أنه في هاتين الآيتين كلتيهما على سبيل الاجتماع لا الإنفراد كما حديث أبي أمامة عند ابن ماجه وغيره كذا قال القاري في شرح الحصن. وقال السندي: قوله اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين الخ يريد أنه لا إله إلا هو وهذا هو المراد من حديث القاسم عن أبي أمامة أيضاً (وإلهكم إله واحد) أي المستحق للعبادة واحد لا شريك له (لا إله إلا هو الرحمن الرحيم) المنعم بجلائل النعم ودقائقها (وفاتحة آل عمران) أي ابتداء سورة آل عمران وفاتحة بالجر على أنها وما قبلها بدلان أو عطف بيان، وجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ثانيتهما أو الأخرى أو بالعكس أي ومنهما والنصب بتقدير أعني (الم، الله لا إله إلا هو الحي القيوم) كذا وقع تعيين الآيتين عند من عزا له المصنف – الحديث. وهو عند الثلاثة من رواية عيسى بن يونس عن عبيد الله بن أبي زياد عن شهر عن أسماء، وعند الدارمي من رواية

رواه الترمذي، وأبوداود، وابن ماجه، والدارمي. ـــــــــــــــــــــــــــــ أبي عاصم عن عبيد الله، وخالف محمد بن بكر عيسى بن يونس وأبا عاصم فروى أحمد (ج6ص461) من طريقه عن عبيد الله عن شهر عن أسماء قالت سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في هاتين الآيتين: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} [آل عمران: 2] و {الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم} [آل عمران: 1، 2] إن فيهما اسم الله الأعظم وروي ابن ماجه والحاكم (ج1ص509) والطبراني في الكبير من طريق القاسم بن عبد الرحمن الشامي عن أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إن اسم الله الأعظم في ثلاث سور من القرآن في سورة البقرة وآل عمران وطه. قال المناوي في شرحه الكبير على الجامع: وفيه أي عند الحاكم والطبراني هشام بن عمار مختلف فيه. وقال في المختصر: وإسناده حسن، وقيل صحيح. وقال البوصيري في الزوائد: في إسناده أي عند ابن ماجه غيلان بن أنس لم أر لأحد فيه كلاماً لا يجرح ولا توثيق وباقي رجال الإسناد ثقات – انتهى. قلت قال الحافظ في التقريب في ترجمة غيلان هذا: إنه مقبول – انتهى. قال القاسم بن عبد الرحمن الشامي المذكرر: فالتمستها فعرفت أنه الحي القيوم. وقال الجزري في الحصن: وعندي إنه الله لا إله إلا هو الحي القيوم جمعاً بين الحديثين، وبيانه إن حديث أسماء نص في أنه لا إله إلا هو الحي القيوم، وحديث أبي أمامة في ثلاث سور البقرة وآل عمران وطه {والله لا إله إلا هو الحي القيوم} في هذه السور أما البقرة وآل عمران فظاهر، وأما طه ففيها أولاً {الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى} [طه: 8] وآخراً وعنت الوجوه للحي القيوم. قال الحنفي: فيه نظر لجواز كون الاسم الأعظم المأخوذ في هذا المجموع، قلت: (قائله القاري) الأظهر في هذا المجمع أن يقال الله لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الحي القيوم ليكون مشتملاً على جميع ما ذكره في السور وكأن الجزري نظر إلى أن الموجود في جميعها الله لا إله إلا هو الحي القيوم كذا ذكره القاري في شرح الحصن. قلت: والأظهر عندي ما قاله الجزري لما ذكرنا من رواية أحمد وتقدم عن السندي أنه قال المراد به لا إله إلا هو والله تعالى أعلم (رواه الترمذي الخ) وأخرجه أيضاً أحمد (ج6ص461) وابن أبي شيبة كلهم من طريق عبيد الله بن أبي زياد القداح عن شهر بن حوشب عن أسماء، قال الترمذي: حديث حسن صحيح وسكت عنه أبوداود. وقال الحافظ في الفتح بعد ذكر الحديث: حسنه الترمذي، وفي نسخة صححه وفيه نظر لأنه من رواية شهر بن حوشب – انتهى. وقال المنذري في تلخيص السنن: وأخرجه الترمذي وقال حديث حسن، هذا آخر كلامه، وشهر بن حوشب وثقه أحمد وابن معين وتكلم فيه غير واحد، وعبيد الله بن أبي زياد القداح المكي قد تكلم فيه أيضاً غير واحد – انتهى. وقال في رجال الترغيب في ترجمة عبيد الله هذا قال ابن معين ضعيف. وقال أبوداود أحاديث مناكير، وقال أحمد: ليس بثقة وقال مرة صالح الحديث، وقال أبوأحمد الحاكم: ليس بالقوي عندهم. وقال ابن عدي: لم أر له شيئاً منكراً، وقال يحيى

2314- (6) وعن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعوة ذي النون، إذا دعا ربه، وهو في بطن الحوت، {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} ، لم يدع بها، رجل مسلم في شيء، إلا استجاب)) . رواه أحمد والترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن سعيد كان وسطاً ليس بذاك وصحح الترمذي حديثه في اسم الله الأعظم. وقال الحافظ في التقريب في عبيد الله بن أبي زياد القداح المكي: ليس بالقوي عندهم، وفي شهر بن حوشب صدوق كثير الإرسال والأوهام. 2314- قوله: (وعن سعد) أي ابن أبي وقاص (دعوة ذي النون) أي دعا صاحب الحوت وهو يونس عليه الصلاة والسلام (إذا دعا ربه) كذا في بعض النسخ من المشكاة وهكذا في الأذكار للنووي وفي بعضها إذا دعا أي بسقوط ربه، وفي الترمذي إذا دعا وهكذا ذكر الجزري في جامع الأصول (ج5ص110) والبغوي في المصابيح وكذا وقع عند الحاكم. قال القاري: قوله "إذا دعا" أي ربه كما في نسخة صحيحة يعني من المشكاة وهو غير موجود في الترمذي لكنه مذكور في الأذكار كذا في المفاتيح وهو ظرف دعوة. ولفظ أحمد دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت لا إله إلا أنت (وهو في بطن الحوت) جملة حالية {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} [الأنبياء: 87] قال القاري: بدل من الدعوة لأنها في الأصل المرة من الدعاء، ويراد بها هنا المدعو به مع التوسل فيه بما يكون سبباً لاستجابته (لم يدع بها) أي بتلك الدعوة أو بهذه الكلمات وفي الترمذي فإنه لم يدع بها وكذا نقله المنذري في الترغيب عن الترمذي وهكذا وقع في رواية أحمد. وعلى هذا فالظاهر إن قوله لا إله إلا أنت خبر لقوله دعوة ذي النون، والتقدير فعليك أن تدعو بهذه الدعوة فإنه لم يدع بها الخ (في شي) أي من الحاجات (إلا استجاب) أي الله (رواه أحمد) (ج1ص170) أي مطولاً مع قصة وكذا أبويعلى والبزار. قال الهيثمي (ج10ص159) وهو عند الترمذي طرف منه، قال ورجال أحمد وأبي يعلى وأحد إسنادي البزار رجال الصحيح غير إبراهيم بن محمد بن سعد بن أبي وقاص وهو ثقة. (والترمذي) وأخرجه أيضاً النسائي في الكبرى والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن أبي حاتم وابن مردوية، والبيهقي في الشعب كما في فتح القدير (ج3ص410) والحاكم (ج1ص505) وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، وزاد الحاكم في طريق عنده فقال رجل يا رسول الله هل كانت ليونس خاصة أم للمؤمنين عامة؟ فقال رسول الله، ألا تسمع قول الله عزوجل {ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين} [الأنبياء: 88] ورواه ابن جرير بلفظ: اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطي دعوة يونس بن متي، قلت يا رسول الله هل ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين؟ قال هي ليونس خاصة وللمؤمنين عامة إذا دعوا به الم تسمع قول الله {وكذلك ننجي المؤمنين} فهو شرط من الله لمن دعاه.

{الفصل الثالث}

{الفصل الثالث} 2315- (7) عن بريده، قال: ((دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد عشاء، فإذا رجل يقرأ، ويرفع صوته، فقلت: يا رسول الله! أتقول: هذا مراء؟ قال: بل مؤمن منيب. قال: وأبوموسى الأشعري يقرأ، ويرفع صوته، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتسمع لقراءته، ثم جلس أبوموسى يدعوا، فقال: اللهم إني أشهد أنك أنت الله، لا إله إلا أنت، أحداً صمدا، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقد سأل الله باسمه الذي إذا سئل به أعطي، وإذا دعي به أجاب. قلت: يا رسول الله! أخبره بما سمعت منك؟ قال: نعم. فأخبرته بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال لي: أنت اليوم لي ـــــــــــــــــــــــــــــ 2315- قوله: (عشاء) أي وقت عشاء أو لصلاة عشاء (فإذا) للمفاجأة (أتقول) قال ابن حجر: أي أترى وهو أولى من قول الشارح يعني الطيبي أي أتعتقد أو أتحكم لرواية شرح السنة أتراه مرائياً (هذا) أي هذا الرجل (مراء) أي يقرأ للسمعة والرياء بقرينة رفع صوته المحتمل أن يكون كذلك (منيب) أي راجع من الغفلة إلى الذكر (قال وأبوموسى الأشعري يقرأ ويرفع صوته) أي قال بريدة قلت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والحال إن أبا موسى هو الذي يقرأ فالرجل المذكور في صدر الحديث هو أبوموسى كما صرح به في رواية أحمد وشرح السنة ومحمل قول بريدة أتقول هذا مراء عدم معرفته به قبل ذلك، والحديث ذكره الجزري في جامع الأصول (ج5ص22) عن رزين وفيه، قال أبوموسى الأشعري يقرأ الخ، أي بسقوط الواو قبل أبوموسى والظاهر أن الحذف من الناسخ (يتسمع) من باب التفعل فهو من التسمع لا من الاستماع (ثم جلس أبوموسى يدعوا) لعله في التشهد أو بعد الصلاة. قال ابن حجر: علم منه إن قراءته مع رفع صوته كانت وهو قائم (فقال) أي أبوموسى في دعائه (اللهم إني أشهدك) أي أعتقد فيك قاله القاري. وفي رواية أحمد اللهم إني أسألك بأني أشهد (أحداً صمدا) منصوبان على الاختصاص كقوله {شهد الله أنه لا إله إلا هو} إلى قوله {قائماً بالقسط} وفي شرح السنة معرفان مرفوعان على أنهما صفتان لله ذكره القاري، قلت وكذا وقعا معرفين مرفوعين في رواية أحمد (لقد سأل) أي أبوموسى الأشعري (أخبره) بحذف الاستفهام، وفي رواية أحمد ألا أخبره (بما سمعت منك) من مدحه ومدح دعائه (فقال لي) أي أبوموسى فرحاً بما ذكرته له (أنت اليوم لي) أي في هذا الزمان

أخ صديق، حدثتني بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم)) . رواه رزين. ـــــــــــــــــــــــــــــ (أخ صديق) أي الجامع بين الأخوة والصداقة، وسقط لفظ الأخ في جامع الأصول وهو غير موجود أيضاً في رواية أحمد (حدثتني بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم) حال أو استئناف. بيان وفيه إشعاراً بأن الباعث له على المؤاخاة هو تحديثه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تضمنه لمدحه ولو كان ذلك أيضاً ليس فيه بأس لأن تبشيره به من لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعادة عظيمة ليس فيه محل عجب أو تزكية للنفس كذا في اللمعات (رواه رزين) أي ذكره رزين في تجريده هكذا مطولاً بدون سند. قلت ويدل كلام ابن حجر والقاري أنه رواه البغوي في شرح السنة بسنده هكذا مطولاً، ورواه أحمد في مسنده (ج5ص349) عن عثمان بن عمر أنا مالك (بن مغول) عن ابن بريدة عن أبيه قال خرج بريدة عشاء فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ بيده فأدخله المسجد فإذا صوت رجل يقرأ فقال النبي صلى الله عليه وسلم تراه مرائياً فأسكت بريدة فإذا رجل يدعوا فقال اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - والذي نفسي بيده أو قال والذي نفس محمد بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سأل به أعطي وإذا دعي به أجاب، قال فلما كان من القابلة خرج بريده عشاء فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ بيده فأدخله المسجد، فإذا صوت الرجل يقرأ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أتقوله مراء فقال بريدة أتقوله مرائياً يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا، بل مؤمن منيب، فإذا الأشعري يقرأ بصوت له في جانب المسجد فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الأشعري أو إن عبد الله بن قيس أعطى مزماراً من مزامير داود، فقلت ألا أخبره يا رسول الله! قال بلى! فأخبره فأخبرته فقال أنت لي صديق أخبرتني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث - انتهى. وأصل الحديث عند الأربعة وأحمد أيضاً وابن حبان وابن أبي شيبة وسعيد بن منصور والحاكم والبيهقي كما تقدم وسبق أيضاً عن الحافظ أنه قال حديث بريدة أرجح ما ورد في الاسم الأعظم من حيث السندي هذا وقد ذكر المصنف في تعيين الاسم الأعظم كما ترى أربعة أحاديث. وقد ورد في ذلك أحاديث أخرى، منها حديث أبي أمامة وقد ذكرنا لفظه في شرح حديث أسماء، ومنها حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في هذه الآية من آل عمران: {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء} [آل عمران: 36] إلى آخر الآية. قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط وفيه حنش بن فرقد وهو ضعيف. قال المناوي: وفي إسناده، أيضاً محمد بن زكريا السعداني وثقه ابن معين، وقال أحمد: ليس بالقوي، وقال النسائي والدارقطني: ضعيف. وفي إسناده أيضاً أبوالجوزاء وفيه نظر. ومنها حديث ابن عباس أيضاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - اسم الله الأعظم في آيات من آخر سورة الحشر، أخرجه الديلمي ذكره الشوكاني في تحفة الذاكرين (ص52) وسكت عنه. وفي

هذه الأحاديث دلالة واضحة على أن لله تعالى اسماً أعظم إذا سأل به أعطي وإذا دعي به أجاب. وقد أنكره بعض أهل العلم، وذهب إلى أنه لا وجود له كما سيأتي والقول الراجح قول من أثبته وهم الجمهور، وأحاديث الباب حجة على المنكرين. قال الحافظ في الفتح: قد أنكره قوم كأبي جعفر الطبري وأبي الحسن الأشعري وجماعة بعدهما كأبي حاتم بن حبان والقاضي أبي بكر الباقلاني فقالوا: لا يجوز تفضيل بعض الأسماء الإلهية على بعض، لأنه يؤذن باعتقاد نقصان المفضول عن الأفضل. وحملوا ما ورد من ذلك على أن المراد بالأعظم العظيم وإن أسماء الله كلها عظيمة. وعبارة أبي جعفر الطبري اختلف الآثار في تعيين الاسم الأعظم والذي عندي إن الأقوال كلها صحيحة إذ لم يرد في خبر أنه الاسم الأعظم ولا شيء أعظم منه فكأنه يقول كل اسم من أسماءه تعالى يجوز وصفه بكونه أعظم فيرجع إلى معنى عظيم كما تقدم. وقال ابن حبان: إلا عظيمة الواردة في الأخبار إنما يراد بها مزيد ثواب الداعي بذلك كما أطلق ذلك في القرآن والمراد به مزيد ثواب القاري وقيل المراد بالاسم الأعظم كل اسم من أسماء الله تعالى دعا العبد به ربه مستغرقاً بحيث لا يكون في فكره حالتئذ غير الله تعالى، فإن من تأتي له ذلك استجيب له، ونقل معنى هذا عن جعفر الصادق وعن الجنيد وعن غيرهما. وقال آخرون استأثر الله تعالى بعلم الاسم الأعظم ولم يطلع عليه أحداً من خلقه وأثبته آخرون معيناً واضطربوا في ذلك وجملة ما وقفت عليه من ذلك أربعة عشر قولاً. الأول، الاسم الأعظم "هو" نقله الفخر الرازي عن بعض أهل الكشف واحتج له بأن من أراد أن يعبر عن كلام معظم بحضرته لم يقل له أنت قلت كذا، وإنما يقول هو يقول تأدباً معه. الثاني الله لأنه اسم لم يطلق على غيره ولأنه الأصل في الأسماء الحسنى ومن ثم أضيفت إليه. الثالث الله الرحمن الرحيم ولعل مستنده ما أخرجه ابن ماجه عن عائشة إنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمها الاسم الأعظم فلم يفعل فصلت ودعت اللهم إني أدعوك الله وأدعوك الرحمن وأدعوك الرحيم وأدعوك بأسمائك الحسنى كلها ما علمت منها وما لم أعلم – الحديث. وفيه أنه - صلى الله عليه وسلم - قال إنه لفي الأسماء التي دعوت بها. قال الحافظ: وسنده ضعيف، وفي الاستدلال به نظر لا يخفي. الرابع الرحمن الرحيم الحي القيوم لما أخرج الترمذي من حديث أسماء بنت يزيد يعني حديثها المذكور في الباب. الخامس الحي القيوم أخرج ابن ماجه من حديث أبي أمامة يعني حديثه الذي ذكرنا في شرح حديث أسماء وقواه الفخر الرازي واحتج بأنهما يدلان من صفات العظمة بالربوبية ما لا يدل على ذلك غيرهما كدلالتهما. السادس الحنان المنان بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام الحي القيوم، ورد ذلك مجموعاً في حديث أنس عند أحمد والحاكم وأصله عند أبي داود والنسائي وصححه ابن حبان.

(3) باب ثواب التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير

(3) باب ثواب التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير ـــــــــــــــــــــــــــــ السابع بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام أخرجه أبويعلى من طريق السري بن يحيى عن رجل من طي وأثنى عليه قال كنت أسأل الله أن يريني الاسم الأعظم فأريته مكتوباً في الكواكب في السماء. الثامن ذو الجلال والإكرام أخرج الترمذي من حديث معاذ بن جبل قال سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يقول يا ذا الجلال والإكرام، فقال قد استجيب لك فسل، واحتج له الفخر بأنه يشمل جميع الصفات المعتبرة في الإلهية لأن في الجلال إشارة إلى جميع السلوب وفي الإكرام إشارة إلى جميع الإضافات. التاسع الله لا إله إلا هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، أخرجه أبوداود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم من حديث بريدة وهو أرجح من حيث السند من جميع ما ورد في ذلك. العاشر رب رب أخرجه الحاكم من أبي الدرداء وابن عباس بلفظ: اسم الله الأكبر رب رب. وأخرج ابن أبي الدنيا عن عائشة إذا قال العبد يا رب يا رب قال الله تعالى لبيك عبدي سل تعط، رواه مرفوعاً وموقوفاً. الحادي عشر دعوة ذي النون فذكر حديث سعد المذكور في الباب. الثاني عشر نقل الفخر الرازي عن زين العابدين أنه سأل الله أن يعلمه الاسم الأعظم فرأى في النوم هو الله الله الله الذي لا إله إلا هو رب العرش العظيم. الثالث عشر هو مخفي في الأسماء الحسنى ويؤيده حديث عائشة المتقدم لما دعت ببعض الأسماء وبالأسماء الحسنى فقال لها صلى الله عليه وسلم إنه لفي الأسماء التي دعوت بها، الرابع عشر كلمة التوحيد نقله عياض عن بعض العلماء – انتهى كلام الحافظ باختصار يسير. وقال الشوكاني في تحفة الذاكرين: قد اختلف في تعيين الاسم الأعظم على نحو أربعين قولاً قد أفردها السيوطي بالتصنيف قال ابن حجر: وأرجحها من حيث السند الله لا إله إلا هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد – انتهى. (باب ثواب التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير) تخصيص بعد تعميم من باب ذكر الله عزوجل، والمراد بيان الأحاديث التي وردت في فضل قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وثوابه، ومعنى التسبيح تنزيه الله تعالى عما لا يليق به من كل نقص فيلزم نفي الشريك والصاحبة والولد وجميع الرذائل وسمات الحدوث مطلقاً. وقد يطلق التسبيح ويراد به جميع ألفاظ الذكر ويطلق به ويراد به الصلاة النافلة. وقال ابن الأثير: وأصل التسبيح التنزيه من النقائص ثم استعمل في مواضع تقرب منه اتساعاً يقال سبحته أسبحة تسبيحاً وسبحاناً أي برّاً ونزه، ويقال أيضاً للذكر والصلاة النافلة سبحة، يقال قضيت سبحتي والسبحة من التسبيح كالسخرة من التسخير.

{الفصل الأول}

{الفصل الأول} 2316- (1) عن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الكلام أربع: سبحان الله، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2316- قوله: (أفضل الكلام) أي كلام البشر، أما كلام الله تعالى فهو أفضل مطلقاً، وأما الاشتغال فهو بالقرآن أفضل إلا بالذكر في وقت مخصوص فهو أفضل من الاشتغال بالقرآن، فالكلام في مقامين نفس الكلام والاشتغال، أي صرف الوقت. قال النووي: هذا (الحديث وما أشبهه) محمول على كلام الآدمي وإلا فالقرآن أفضل، وكذا قراءة القرآن أفضل من التسبيح والتهليل المطلق. فأما المأثور في وقت أو حال أو نحو ذلك فالاشتغال به أفضل – انتهى. وقال القاري: أفضل الكلام أربع أي أفضل كلام البشر، لأن الرابعة لم توجد في القرآن ولا يفضل ما ليس فيه على ما هو فيه، ولقوله عليه الصلاة والسلام هي أفضل الكلام بعد القرآن وهي من القرآن أي غالبها يعني إن الثلاثة الأول وإن وجدت في القرآن لكن الرابعة لم توجد فيه فقوله هي من القرآن مبني على التغليب. قلت: أراد القاري بقوله عليه الصلاة والسلام ما رواه أحمد (ج5ص20) عن سمرة بلفظ: أفضل الكلام بعد القرآن أربع، وهي من القرآن لا يضرك بأيهن بدأت – الحديث. وقيل: معنى هي من القرآن أي متفرقة فيه لا مجتمعة لورود "سبحان الله حين تمسون ولمجيء الحمد لله كثيراً" ولقوله تعالى: {فاعلم أنه لا إله إلا الله} [محمد: 19] وأما قوله الله أكبر فغير موجود بهذا المبنى لكنه بحسب المعنى مستفاد من قوله تعالى: {وكبره تكبيراً} [الإسراء: 111] ومن قوله {وربك فكبر} [المدثر: 3] ومأخوذ من قوله {ولذكر الله أكبر} [العنكبوت: 45] ومن قوله: {ورضوان من الله أكبر} [التوبة: 72] والحاصل إن المجموع بهذا الترتيب ليس من القرآن ولذا قال الجزري: أي كل منها جاءت في القرآن – انتهى. قال القاري: ويحتمل أي قوله أفضل الكلام في حديث الباب أن يتناول كلام الله أيضاً فإنها موجودة فيه لفظاً، إلا الرابعة فإنها موجودة معنى وأفضليتها مطلقاً لأنها هي الجامعة لمعاني التنزيه والتوحيد وأقسام الثناء والتحميد وكل كلمة منها معدودة من كلام الله وهذا ظاهر معنى ما ورد هي من القرآن أي كلها – انتهى. (سبحان الله) سبحان اسم مصدر وهو التسبيح. وقيل: بل سبحان مصدر لأنه سمع له فعل ثلاثي وهو من الأسماء اللازمة للإضافة وقد يفرد وإذا أفرد منع الصرف للتعريف وزيادة الألف والنون كقوله: أقول لما جاءني فخره سبحان من علقمة الفاخر وجاء منوناً كقوله: سبحانه ثم سبحاناً يعود له وقبلنا سبح الجودي والجمد

والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ فقيل صرف ضرورة، وقيل هو بمنزلة قبل وبعد إن نوى تعريفه بقي على حاله وإن نكر أعرب منصرفاً وهذا البيت يساعد على كونه مصدر إلا اسم مصدر لوروده منصرفاً، ولقائل القول الأول أن يجيب بأن هذا نكرة لا معرفة وهو من الأسماء اللازمة النصب على المصدرية والناصب له فعل مقدر لا يجوز إظهار تقديره سبحت الله سبحاناً كسبحت الله تسبيحاً فهو واقع موقع المصدر. وعن الكسائي أنه منادى تقديره يا سبحانك ومنعه جمهور النحويين وهو مضاف إلى المفعول، أي سبحت الله، ويجوز أن يكون مضافاً إلى الفاعل أي نزه الله نفسه والأول هو المشهور (والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) قال المناوي: وإنما كانت هذه الكلمات الأربع أفضل الكلام لأنها تتضمن تنزيهه تعالى عن كل ما يستحيل عليه ووصفه بكل ما يجب له من أوصاف كماله وإنفراده لوحدانيته واختصاصه بعظمته وقدمه المفهومين من أكبريته. وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: أسماء الله الحسنى التي سمي بها نفسه في كتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - مندرجة في أربع كلمات هن الباقيات الصالحات. الكلمة الأولى: قوله سبحان الله ومعناها في كلام العرب التنزيه والسلب، فهي مشتملة على سلب النقص والعيب عن ذات الله تعالى وصفاته فما كان من أسمائه سلباً فهو مندرج تحت هذه الكلمة كالقدوس، وهو الطاهر من كل عيب والسلام وهو الذي سلم من كل آفة. الكلمة الثانية: قوله الحمد لله وهي مشتملة على ضروب الكمال لذاته وصفاته فما كان من أسمائه متضمناً للإثبات كالعليم والقدير والسميع والبصير فهو مندرج تحت الكلمة الثانية، فقد نفينا بقولنا سبحان الله كل عيب عقلناه، وكل نقص فهمناه وأثبتنا بالحمد لله كل كمال عرفناه، وكل جلال أدركناه، ووراء ما نفيناه وأثبتناه شأن عظيم قد غاب عنا وجهلناه فنحققه من جهة الإجمال بقولنا الله أكبر، وهي الكلمة الثالثة: بمعنى أنه أجل مما نفيناه، وأثبتناه، وذلك معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك فما كان من أسماءه متضمن المدح فوق ما عرفناه وأدكناه كالأعلى والمتعالي، فهو مندرج تحت قولنا الله أكبر، فإذا كان في الوجود من هذا شأنه نفينا أن يكون في الوجود من يشاكله أو يناظره فحققنا ذلك بقولنا لا إله إلا الله وهي الكلمة الرابعة: فإن الألوهية ترجع إلى استحقاق العبودية ولا يستحق العبودية إلا من اتصف بجميع ما ذكرناه فما كان من أسماءه متضمناً للجميع على الإجمال كالواحد الأحد ذي الجلال والإكرام فهو مندرج تحت قولنا لا إله إلا الله. وإنما استحق العبودية لما وجب له من أوصاف الجمال ونعوت الكمال الذي لا يصفه الواصفون ولا يعده العادون كذا ذكره السبكي في طبقات الشافعية الكبرى (ج5ص86، 87) وفي الحديث إن أفضل الكلام هذه الكلمات الأربع، وظاهره يعارض ما سيأتي من حديث أبي ذر سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الكلام أفضل؟ فقال: سبحان وبحمده. وما سيأتي في الفصل الثاني من حديث جابر أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأيضاً حديث أبي ذر هذا يدل

وفي رواية: ((أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر لا يضرك بأيهن بدأت)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ على أفضلية التسبيح مطلقاً وهو مخالف لحديث جابر، فإنه يدل على أفضلية التهليل مطلقاً: وقد جمع القرطبي بما حاصله إن هذه الأذكار إذا أطلق على بعضها أنه أفضل الكلام أو أحبه إلى الله، فالمراد إذا انضمت إلى أخواتها بدليل حديث سمرة عند مسلم أحب الكلام أربع لا يضرك بأيهن بدأت سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر: ويحتمل أن يكتفي في ذلك بالمعنى فيكون من اقتصر على بعضها كفى، لأن حاصلها التعظيم والتنزيه ومن نزهه فقد عظمه ومن عظمه فقد نزهه – انتهى. وقيل: يحتمل أن يجمع بأن تكون "من" مضمرة في قوله أفضل الذكر لا إله إلا الله، وفي قوله أفضل الكلام وكذا في قوله الآتي أحب الكلام بناء على أن لفظ أفضل وأحب متساويان في المعنى. قلت: ويؤيد ذلك ما وقع في رواية أحمد (ج5ص11) أربع من أطيب الكلام وهن من القرآن لا يضرك بأيهن بدأت سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. وقال الشوكاني في تحفة الذاكرين (ص243) تحت رواية سمرة: أحب الكلام إلى الله أربع الخ. في الحديث دليل على أن هذه الأربع الكلمات أحب إلى الله تعالى، ولا ينافيه ما سيأتي من أن سبحان الله وبحمده أحب الكلام إلى الله، لأن التسبيح والتحميد هن من جملة هذه الأربع المذكورة هنا (وفي رواية أحب الكلام إلى الله أربع) أي أربع كلمات (سبحان الله) أي اعتقد تنزهه عن كل ما لا يليق بجمال ذاته وكمال صفاته وهذا بمنزلة التخلية ولذا أردفه بما يدل على أنه المتصف بالأسماء الحسنى والصفات العلى المستحق لإظهار الشكر وإبداء الثناء وهو بمنزلة التحلية ولذا قال (والحمد لله) ثم أشار إلى أنه متوحد في صفاته السلبية ونعوته الثبوتية فقال (ولا إله إلا الله) ثم أو ما إلى أنه لا يتصور كنه كبريائه وعظمة إزاره وردائه بقوله (والله أكبر) ثم قال (لا يضرك بأيهن) أي بأي الكلمات (بدأت) أي لا يضرك أيها الآتي بهن في حيازة ثوابهن لأن كلا منها مستقل فيما قصد بها من بيان جلال الله وكماله، ولكن الترتيب المذكورة أفضل وأكمل للمناسبة الظاهرة من تقديم التنزيه وإثبات التحميد ثم الجمع بينهما بكلمة التوحيد المشتملة على التسبيح والتحميد ثم الختم بكون سبحانه أكبر من أن يعرف حقيقة تسبيحه وتحميده. قال ابن الملك: يعني بدأت بسبحان الله أو بالحمد لله أو بلا إله إلا الله أو بالله أكبر جاز، وهذا يدل على أن كل جملة منها مستقلة لا يجب ذكرها على نظمها المذكور لكن مراعاتها أولى، لأن المتدرج في المعارف يعرفه أولاً بنعوت جلاله التي تنزه ذاته عما يوجب نقصاً، ثم بصفات كماله وهي صفاته الثبوتية التي بها يستحق الحمد، ثم يعلم أن من هذا صفته لا مماثل له ولا يستحق الألوهية غيره فيكشف له من ذلك إنه أكبر إذ كل شيء هالك إلا وجهه – انتهى. قال الشوكاني: واعلم أن هذه "الواو" الواقعة بين هذه الكلمات هي واقعة لعطف بعضها على بعض كسائر الأمور المتعاطفة فهل يكون

رواه مسلم. 2317- (2) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأن أقول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إلي مما طلعت عليه الشمس)) . رواه مسلم. 2318- (3) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال سبحان الله ـــــــــــــــــــــــــــــ الذكر بها بغير واو فيقول الذاكر سبحان الله الحمد لله لا إله إلا الله الله أكبر، أو يكون الذكر بها مع الواو فيقول الذاكر سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، والظاهر الأول لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم بأنهم يقولون كذا وكذا فالمقول هو المذكور من دون حرف العطف كسائر التعليمات الواردة عنه صلى الله عليه وسلم – انتهى (رواه مسلم) فيه نظر فإن الرواية الأولى ليست في صحيح مسلم. إنما روي مسلم الرواية الثانية فقط في باب كراهة التسمية بالأسماء القبيحة من كتاب الآداب. وأما الرواية الأولى فأخرجها ابن ماجه في فضل التسبيح ونسبها في التنقيح لابن أبي شيبة وابن حبان أيضاً وأخرجها أحمد (ج5ص20) وزاد "بعد القرآن وهي من القرآن" ورواها أيضاً أحمد عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. قال المنذري: رواته محتج بهم في الصحيح. وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح والرواية الثانية أخرجها أيضاً أحمد (ج5ص10، 21) ونسبها في الكنز والتنقيح لابن أبي شيبة وابن حبان والطبراني في الكبير وابن شاهين في الترغيب والنسائي في اليوم والليلة أيضاً. 2317- قوله: (أحب إلي مما طلعت عليه الشمس) أي من الدنيا وما فيها من الأموال وغيرها. وقيل: هو كناية عن المخلوقات كلها. قال ابن العربي: أطلق المفاضلة بين قول هذه الكلمات وبين ما طلعت عليه الشمس ومن شرط المفاضلة استواء الشيئين في أصل المعنى، ثم يزيد أحدهما على الآخر وأجاب بما حاصله أن أفعل قد يراد به أصل الفعل لا المفاضلة كقوله تعالى: {خير مستقراً وأحسن مقيلا} [الفرقان: 24] ولا مفاضلة بين الجنة والنار أو إن الخطاب واقع على ما استقر في نفس أكثر الناس فإنهم يعتقدون أن الدنيا لا شيء مثلها وإنها المقصود فأخبر بأنها عنده خير مما تظنون أنه لا شيء مثله أو لا شيء أفضل منه. وقيل: يحتمل أن يكون المراد إن هذه الكلمات أحب إلي من أن يكون لي الدنيا فأتصدق بها، والحاصل إن الثواب المترتب على قول هذا الكلام أكثر من ثواب من تصدق بجميع الدنيا لو فرض أنه ملكها (رواه مسلم) في الدعوات وكذا الترمذي وذكره الجزري في الحصن ونسبه لمسلم والترمذي والنسائي وابن أبي شيبة وأبي عوانة. 2318- قوله: (سبحان الله) منصوب على المصدرية بفعل محذوف أي أسبح الله سبحاناً يعني أنزهه من

وبحمده في يوم مائة مرة، حطت خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر)) . متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ كل نقص (وبحمده) قال القاري: الباء للمقارنة والواو زائدة أي أسبحه تسبيحاً مقروناً بحمده أو متعلق بمحذوف عطف الجملة على الأخرى معناه، أسبح الله وأبتدىء بحمده أو أثنى بثناءه. وقال العيني: الواو فيه للحال تقديره أسبح الله متلبساً بحمدى له من أجل توفيقه لي بالتسبيح (في يوم) قال الطيبي: أي في يوم مطلق لم يعلم في أي وقت من أوقاته فلا يقيد بشي منها. وقال المظهر: ظاهر الإطلاق يشعر بأنه يحصل هذا الأجر المذكور لمن قال ذلك مائة مرة سواء قالها متوالية أو متفرقة في مجالس أو بعضها أول النهار وبعضها آخر النهار لكن الأفضل أن يأتي بها متوالية في أول النهار، وزاد في الحديث الآتي من قال حين يصبح وحين يمسي، ويأتي في ذلك ما ذكره صاحب المظهر من أن الأفضل أن يقول ذلك متوالياً في أول النهار وفي أول الليل (حطت) بصيغة المجهول أي وضعت ومحيت (خطاياه) أي غفرت ذنوبه. قال القاري: أي الصغيرة ويحتمل الكبيرة. وقال العيني: أي من حقوق الله لأن حقوق الناس لا تنحط إلا باسترضاء الخصوم. وقال الباجي: يريد أن يكون كفارة له كقوله تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئآت} [هود: 114] (وإن كانت مثل زبد البحر) الزبد بفتحتين ما يعلو الماء ونحوه عند هيجانه من الرغوة، ومعناه بالفارسية كفك آب وشير وسيم وجزآن، والمراد به الكناية عن المبالغة في الكثرة. قال الطيبي: وهذا وأمثاله كنايات يعبر بها عن الكثرة عرفاً. قال عياض: قوله "حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر" مع قوله في التهليل (في حديث أبي هريرة الآتي وهو تاسع أحاديث الباب) محيت عنه مائة سيئة قد يشعر بأفضلية التسبيح على التهليل يعني لأن عدد زبد البحر أضعاف أضعاف المائة، وقد قال في حديث التهليل ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به. فيحتمل أن يجمع بينهما بأن التهليل المذكور أفضل ويكون ما فيه من زيادة كتب الحسنات ومحو السيئات ثم ما جعل مع ذلك من فضل عتق الرقاب وكونه حرزاً من الشيطان زائداً على فضل التسبيح وتكفيره جميع الخطايا، لأنه قد ثبت أن من اعتق رقبة اعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار، وقد حصل بعتق رقبة واحدة تكفير جميع الخطايا عموماً بعد حصر ما عدد منها خصوصاً، مع ما يبقى له من زيادة عتق الرقاب الزائدة على الواحدة، ومع ما فيه من زيادة مائة درجة، وكونه حرزاً من الشيطان. ويؤيده ما سيأتي في حديث جابر أن أفضل الذكر لا إله إلا الله مع الحديث الآخر إنه أفضل ما قلته أنا والنبييون قبلي. وقيل إنه الاسم الأعظم وهي كلمة التوحيد والإخلاص كذا ذكره الحافظ والنووي (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد (ج2ص302) ومالك في أواخر الصلاة والترمذي وابن ماجه وأبوعوانة ونسبه في التنقيح للنسائي وابن حبان أيضاً.

2319- (4) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مائة مرة، لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه)) . متفق عليه. 2320- (5) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلمتان ـــــــــــــــــــــــــــــ 2319- قوله: (من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مائة مرة) قال القاري: أي فيهما بأن يأتي ببعضها في هذا وببعضها في هذا أو في كل واحد منهما وهو الأظهر (لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء) أي القائل (به) وهو قول المائة المذكورة (إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه) قال في اللمعات: لا بد من تمحل في بيان معناه بأن يقال تقديره لم يأت أحد بمساو ولا جاء بأفضل مما جاء إلا أحد، قال مثل ما قال فإنه أتى بمثله أو أحد زاد عليه فإنه أتى بأفضل منه والله أعلم. وقال القاري: وأجيب عن الإعتراض المشهور بأن الاستثناء منقطع أو كلمة أو بمعنى الواو. قال الطيبي: أي يكون ما جاء به أفضل من كل ما جاء به غيره إلا مما جاء به من قال مثله أو زاد عليه. قيل: الاستثناء منقطع والتقدير لم يأت أحد بأفضل مما جاء به لكن رجل قال مثل ما قاله فإنه يأتي بمساواته فلا يستقيم أن يكون متصلاً إلا على تأويل نحو قوله: وبلدة ليس بها أنيس وقيل بتقدير لم يأت أحد بمثل ما جاء به أو بأفضل مما جاء به الخ والاستثناء متصل كذا في المرقاة. فإن قلت: كيف يجوز الزيادة وقد قالوا إن تحديدات الشرع في الإعداد لا يجوز التجاوز عنها؟ قلنا: لما صرح في الحديث بجواز الزيادة علم أنه ليس من ذلك القبيل كإعداد الركعات ونحوها فعدم جواز الزيادة في الإعداد ليس كلياً، أو المراد زاد عليه من أعمال الخير فافهم كذا في اللمعات (متفق عليه) فيه نظر فإن الحديث لم يخرجه البخاري. وقد ذكره المنذري في تلخيص السنن والجزري في الحصن والنابلسي في ذخائر المواريث ولم ينسبه أحد منهم للبخاري. وقال المناوي في الكشف كما في تنقيح الرواة: رواه مسلم والترمذي كلاهما في الدعوات، وصححه الترمذي وأبوداود في الأدب والنسائي في اليوم والليلة ولم يخرجه البخاري – انتهى. قلت: أخرجه الترمذي وكذا ابن السني في اليوم والليلة (ص27) بلفظ الكتاب. وأما أبوداود فأخرجه في الأدب بلفظ: من قال حين يصبح سبحان الله العظيم وبحمده مائة مرة وإذا أمسى كذلك، لم يواف أحد من الخلائق بمثل ما وافى. قال المنذري: وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي بنحوه أتم منه ونسب الجزري لفظ التسبيح المذكور في أبي داود للحاكم وابن حبان وأبي عوانة أيضاً والله أعلم. 2320- قوله: (كلمتان) أي كلامان يعني جملتان مفيدتان، والكلمة تطلق على الكلام كما يقال كلمة

خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، ـــــــــــــــــــــــــــــ الإخلاص وكلمة الشهادة، وقال السندي: المراد بالكلمة اللغوية أو العرفية لا النحوية – انتهى. وهو خبر مقدم وما بعده صفة بعد صفة، والمبتدأ سبحان الله إلى آخره، والنكتة في تقديم الخبر تشويق السامع إلى المبتدأ، فإن من جملة الأسباب المقتضية لتقديم المسند تشويق السامع إلى المسند إليه كما نص عليه أهل المعاني فكلما طال الكلام في وصف الخبر حسن تقديمه، لأن كثرة الأوصاف الجميلة تزيد السامع شوقاً إلى المسند إليه فيكون أوقع في النفس وأدخل في القبول لأن الحاصل بعد الطلب أعز من المنساق بلا تعب، ولا يخفي أن هذا متحقق في هذا الحديث بل هو أحسن من المثال الذي أوردوه بكثير وهو قول الشاعر: ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها شمس الضحى وأبوإسحاق والقمر قال السندي: الظاهر إن قوله "كلمتان" خبر لقوله "سبحان الله" الخ قدم على المبتدأ لتشويق السامع إليه، وذلك لأن كلمتان نكرة وسبحان الله الخ معرفة، لأنه أريد به نفسه، واللفظ إذا أريد به نفسه يكون معرفة حقيقة عند من قال بوضع الألفاظ لأنفسها وحكماً عند من ينفيه، والمعرفة لا تكون خبر النكرة عند غالب النحاة – انتهى. وبعضهم جعل "كلمتان" مبتدأ و"سبحان الله" الخ الخبر، لأن سبحان لازم الإضافة إلى مفرد فجرى مجرى الظروف والظروف لا تقع إلا خبراً ورجحه الكمال بن الهمام قال، لأنه مؤخر لفظاً والأصل عدم مخالفة وضع الشيء محله بلا موجب، ولأن سبحان الله الخ محط الفائدة بنفسه بخلاف كلمتان فإنه إنما يكون محطاً للفائدة بواسطة وصفه بالخفة على اللسان والثقل في الميزان والمحبة للرحمن. ألا ترى أن جعل كلمتان الخبر غير بين لأنه ليس متعلق الغرض الإخبار منه - صلى الله عليه وسلم - عن سبحان الله إلى آخره إنهما كلمتان بل بملاحظة وصف الخبر بما تقدم، أعني خفيفتان ثقيلتان حبيبتان فكان اعتبار سبحان الله إلى آخره خبراً أولى – انتهى. وللنظر في بعضه مجال فتأمل (خفيفتان على اللسان) أي تجريان عليه بالسهولة للين حروفهما فالنطق بهما سريع وذلك لأنه ليس فيهما من حروف الشدة المعروفة عند أهل العربية وهي الهمزة والباء الموحدة والتاء المثناة الفوقية والجيم والدال والطاء المهملتان والقاف والكاف ولا من حروف الاستعلاء أيضاً وهي الخاء المعجمة والصاد والضاد والطاء والظاء والغين المعجمة والقاف سوى حرفين الباء الموحدة والظاء المعجمة، ومما يستثقل أيضاً من الحروف الثاء المثلثة والشين المعجمة وليستا فيهما، ثم إن الأفعال أثقل من الأسماء وليس فيهما فعل، وفي الأسماء أيضاً ما يستثقل كالذي لا ينصرف وليس فيهما شيء من ذلك، وقد اجتمعت فيهما حروف اللين الثلاثة الألف والواو والياء وبالجملة الحروف السهلة الخفيفة أكثر من العكس (ثقيلتان في الميزان) حقيقة. قال الحافظ: وصفهما بالخفة والثقل لبيان قلة العمل وكثرة الثواب، قال السندي: خفتهما سهولتهما على اللسان لقلة حروفهما وحسن نظمهما واشتمالهما على الاسم الجليل الذي يذعن الطباع في ذكره كأنهما في ذلك كالحمل الخفيف الذي يسهل حمله وثقلهما

حبيبتان إلى الرحمن، ـــــــــــــــــــــــــــــ في الميزان لعظم لفظهما قدراً عند الله. وقال الطيبي: الخفة مستعارة للسهولة شبه سهولة جريان هذا الكلام على اللسان بما يخف على الحامل من بعض المحمولات، ولا يشق عليه فحذف ذكر المشبه به وأبقى شيئاً من لوازمه وهو الخفة. وأما الثقل فعلى حقيقته عند أهل السنة لأن الأعمال تتجسم عند الميزان، والميزان هو الذي يوزن به في القيامة أعمال العباد وفي كيفيته أقوال، والأصح إنه جسم محسوس ذو لسان وكفتين والله تعالى يجعل الأعمال كالأعيان موزونة. وقيل توزن صحائف الأعمال، وأما الأعمال فإنها أعراض والأعراض يستحيل وزنها إذ لا تقوم بأنفسها فلا توصف بثقل ولا خفة ويقويه حديث البطاقة الذي أخرجه الترمذي وحسنه والحاكم وصححه. وفيه فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة – انتهى. وقيل: تجعل الأعمال في أجسام فتصير أعمال الطائعين في صورة حسنة وأعمال المسيئين في صورة قبيحة، ثم توزن. قال الحافظ: والصحيح إن الأعمال هي التي توزن، وقد أخرج أبوداود والترمذي وصححه ابن حبان عن أبي الدرداء مرفوعاً ما يوضع في الميزان يوم القيامة أثقل من خلق حسن. قلت القول باستحالة وزن الأعمال معللاً بأنها لا تقوم بأنفسها بل تفنى سخيف جداً بل هو باطل قد أبطله أصحاب العلوم الطبيعية اليوم، وحققوا أن الأقوال لا تفنى بل تكون باقية في الخلاء يمكن اختطافها وهم بصدد اختراع آلات ميكانية يسهل بها القبض عليها. وفي الحديث إشارة إلى أن سائر التكاليف صعبة شاقة على النفوس ثقيلة وهذه خفيفة سهلة عليها مع أنها تثقل في الميزان فلا ينبغي التفريط فيه. وقد روي في الآثار أن عيسى عليه السلام سأل ما بال الحسنة تثقل والسيئة تخف، فقال لأن الحسنة حضرت مرارتها وغابت حلاوتها فثقلت فلا يحملنك ثقلها على تركها، والسيئة حضرت حلاوتها وغابت سرارتها فلذلك خفت عليكم فلا يحملنك على فعلها خفتها فإن بذلك تخف الموازين يوم القيامة (حبيبتان إلى الرحمن) كذا وقع بتقديم خفيفتان وتأخير حبيبتان عند البخاري في الدعوات وفي الإيمان والنذور، وكذا عند أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان. ووقع في التوحيد عند البخاري بتقديم حبيبتان وتأخير ثقيلتان، وهي تثنية حبيبة بمعنى محبوبة، لأن فيهما المدح بالصفات السلبية التي يدل عليها التنزيه وبالصفات الثبوتية التي يدل عليها الحمد، وقال السندي: معنى "حبيبتان إلى الرحمن" إنهما موصوفتان بكثرة المحبوبية عنده تعالى تفيده الأحاديث الأخر مثل أحب الكلام إلى الله سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم وإلا جميع الذكر محبوب عنده تعالى. وقيل: المراد محبوبية قائلهما ومحبة الله للعبد إرادة إيصال الخير له والتكريم وخص الرحمن من الأسماء الحسنى، لأن المقصود من الحديث بيان سعة رحمة الله تعالى على عباده حيث يجازي على العمل القليل بالثواب الجزيل ويجوز أن يقال اختصاص ذلك لإقامة السحج أعنى الفواصل وهي من محسنات الكلام على ما عرف في علم البديع، وإنما نهي عن السجع ما كان متكلفاً أو متضمناً لباطل كسجع الكهان لا ما جاء عن غير قصد أو تضمن حقاً. قال الكرماني: فإن قيل فعيل بمعنى مفعول

سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)) . متفق عليه. 2321- (6) وعن سعد بن أبي وقاص، قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: ((أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة؟ فسأله سائل من جلسائه كيف يكسب أحدنا ألف حسنة. قال: يسبح مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة أو يحط عنه ألف خطيئة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ يستوي فيه المذكر والمؤنث، ولا سيما إذا كان موصوفه معه نحو رجل قتيل وامرأة قتيل، فلم عدل عن التذكير إلى التأنيث، فالجواب عن ذلك جائز لا واجب وأيضاً فهو أي وجوب ذلك في المفرد لا المثنى أو أنثهما لمناسبة الخفيفة والثقليلة لأنهما بمعنى الفاعلة لا المفعولة. وقيل هذه التاء لنقل اللفظ عن الوصفية إلى الاسمية (سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم) هكذا وقع عند البخاري في الإيمان والنذور وفي التوحيد بتقديم سبحان الله وبحمده على سبحان الله العظيم، وكذا وقع عند أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه، ووقع عند البخاري في الدعوات بتقديم سبحان الله العظيم على سبحان الله وبحمده، وكذلك وقع عند الترمذي. قال السندي: "الواو" في وبحمده للحال بتقدير وأنا متلبس بحمده. وقيل للعطف أي أنزهه وأتلبس بحمده. وقيل زائدة أي أسبحه متلبساً بحمده. وفي الحديث الاعتناء بشأن التسبيح أكثر من التحميد لكثرة المخالفين فيه، وذلك من جهة تكريره بقوله سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم. وقد جاءت السنة به عل أنواع شتى كما في صحيح مسلم وغيره من كتب السنن والمسانيد والجوامع والمعاجم. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الدعوات وفي الإيمان والنذور وفي التوحيد في باب قول الله {ونضع الموازين القسط} [الأنبياء:47] وهو آخر حديث في صحيح البخاري وأخرجه مسلم في الدعوات ورواه أيضاً أحمد (ج2ص232) والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان وابن أبي شيبة. 2321- قوله: (أيعجز) بكسر الجيم (أن يكسب) أي يحصل (فيكتب) كذا بالتذكير في جميع النسخ، وهكذا وقع في المصابيح وفي جامع الأصول والحصن وتحفة الذاكرين، ووقع في صحيح مسلم فتكتب بالتأنيث وكذا نقله المنذري في الترغيب (له ألف حسنة) لأن الحسنة الواحدة بعشر أمثالها وهو أقل المضاعفة الموعودة في القرآن بقوله {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها والله يضاعف لمن يشاء} [الأنعام: 16] (أو يحط) أي يوضع (عنه ألف خطيئة) لقوله تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات} [هود: 114] وفيه إشعار بأن الحسنات المتضاعفة تمحو السيئات. قال النووي: هكذا هو في عامة نسخ صحيح مسلم أو يحط "بأو" وفي بعضها "ويحط" بالواو. قلت: وكذا وقع بالواو بغير ألف عند أحمد (ج1ص174) والترمذي والنسائي وابن حبان فعلى الرواية الأولى

رواه مسلم. وفي كتابه في جميع الروايات عن موسى الجهني أو يحط: قال أبوبكر البرقاني: ورواه شعبة ـــــــــــــــــــــــــــــ يكون أجر القائل بذلك أن يكتب له ألف حسنة أو تحط عنه ألف سيئة أي يحصل أحد الأمرين. وعلى الرواية الثانية أنه يجمع له بين الأمرين فيكتب له ألف حسنة وتحط عنه ألف خطيئة وسيأتي مزيد الكلام في ذلك (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد (ج1ص174، 180، 185) والترمذي والنسائي وابن حبان ونسبه في تنقيح الرواة لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبي نعيم أيضاً (وفي كتابه) أي في كتاب مسلم (في جميع الروايات عن موسى الجهني أو يحط) أي بالألف وموسى هذا هو موسى بن عبد الله، ويقال ابن عبد الرحمن الجهني أبوسلمة، ويقال أبوعبد الله الكوفي روى عن زيد بن وهب ومصعب بن سعد ومجاهد ونافع مولى ابن عمر وغيرهم، وعنه شعبة والثوري وعبد الله بن نمير والقطان ويعلى بن عبيد وآخرون. قال الحافظ: ثقة عابد. قلت: وثقة القطان وأحمد وابن معين والنسائي والعجلي وابن سعد وغيرهم، وعن يعلى بن عبيد قال كان بالكوفة أربعة من رؤساء الناس ونبلائهم وذكره منهم، وعن مسعر قال ما رأيت موسى الجهني إلا وهو في اليوم الآتي خير منه في اليوم الماضي مات سنة أربع وأربعين ومائة (قال أبوبكر البرقاني) بكسر الباء الموحدة وفتحها وبالقاف والنون هو الإمام الحافظ شيخ الفقهاء والمحدثين أبوبكر أحمد بن محمد بن أحمد ابن غالب الخوارزمي البرقاني الشافعي شيخ بغداد، سمع من أبي العباس بن حمدان وغيره ببلده خوارزم، ومن أبي بكر الإسماعيلي بحرجان، ومن أبي عمرو بن حمدان بنيسابور، ومن أبي بكر بن أبي الحديد بدمشق. ومن عبد الغني الأسدي وابن النحاس بمصر، ومن أبي على الصواف وأبي بكر بن الهيثم وطبقتهم ببغداد. وحدث عنه أبوبكر البيهقي والخطيب وأبوإسحاق الشيرازي الفقيه وأبوعبد الله الصوري وآخرون، وصنف التصانيف وخرج على الصحيحين. قال الخطيب البغدادي: كان ثقة ورعاً ثبتاً لم نرى في شيوخنا أثبت منه عارفاً بالفقه، له حظ من علم العربية كثير صنف مسنداً ضمنه ما اشتمل عليه صحيح البخاري ومسلم، قال ولم يقطع التصنيف حتى مات. وسمعت محمد بن يحيى الكرماني يقول: ما رأيت في أصحاب الحديث أكثر عبادة من البرقاني، ولد سنة ثلاث وثلاثين. وقيل: سنة ست وثلاثين وثلامائة ومات ببغداد في أول رجب سنة خمس وعشرين وأربع مائة كذا في تذكرة الحفاظ (ورواه شعبة) هو شعبة بن حجاج بن الورد العتكي الأزدي مولاهم أبوبسطام الواسطي ثم البصري ثقة حافظ متقن، كان الثوري يقول: هو أمير المؤمنين في الحديث وهو أول من فتش بالعراق عن الرجال وذب عن السنة وكان عابداً مات سنة ستين ومائة، كذا في التقريب وقد بسط في ترجمته في تهذيب التهذيب (ج4ص338- 346) وفي التذكير (ج1ص174- 177) وفي الجرح والتعديل (ج2ق1ص369

وأبوعوانة ويحيى بن سعيد القطان عن موسى، فقالوا: ويحط بغير ألف هكذا في كتاب الحميدي. 2322- (7) وعن أبي ذر، قال سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الكلام أفضل. ((قال ما اصطفى الله ـــــــــــــــــــــــــــــ 370) (وأبوعوانة) هو الوضاح بتشديد المعجمة ثم حاء مهملة ابن عبد الله اليشكري بالمعجمة الواسطي البزار مولى يزيد بن عطاء أبوعوانة الحافظ مشهور بكنيته ثقة ثبت قاله في التقريب. وقال ابن عبد البر: اجمعوا على أنه ثقة ثبت حجة فيما حدث من كتابه، وقال إذا حدث من حفظه ربما غلط، مات في ربيع الأول سنة خمس أو ست وسبعين ومائة بالبصرة، وارجع للبسط في ترجمته إلى تهذيب التهذيب (ج11ص116- 119) والتذكرة (ج1ص213- 215) والجرح والتعديل (ج4ق2ص40- 41) (ويحيى بن سعيد القطان) تقدم ترجمته في جزء الأول (ص94) من هذا الشرح (عن موسى) أي المذكور الذي رواه مسلم من جهته (فقالوا) بصيغة الجمع والضمير لشعبة وصاحبيه (ويحط بغير ألف) أي بالواو. وقال الشوكاني بعد ذكر كلام البرقاني: هذا ورواية هؤلاء الثلاثة الحفاظ حجة على رواية غيرهم. قلت: رواية شعبة عند أحمد (ج1ص174) وأما رواية أبي عوانة فلم أقف عليها ولعلها عند النسائي أو ابن حبان. وأما رواية يحيى القطان فهي عند الترمذي بالواو وعند أحمد (ج1ص180) بأو أي بالألف ووافقه على ذلك عبد الله بن نمير عند مسلم، وأحمد (ج1ص185) ويعلى بن عبيد عند أحمد (ج1ص185) قال عبد الله بن أحمد بعد رواية يحيى: بأو أي بالألف قال أبي. وقال ابن نمير أيضاً: أو يحط ويعلى أيضاً أو يحط، وعلم من هذا أنه اتفق شعبة وأبوعوانة على الرواية بالواو وابن نمير، ويعلى على الرواية بالألف. واختلفت رواية يحيى فروى عنه محمد بن بشار عند الترمذي بالواو، والإمام أحمد بالألف، ولم يظهر لي وجه ترجيح أحديهما على الأخرى، ولعل الجمع بينهما أولى من الترجيح. قال القاري في المرقاة: قد تأتي الواو بمعنى أو فلا منافاة بين الروايتين وكأن المعنى إن من قالها يكتب له ألف حسنة إن لم يكن عليه خطيئة وإن كانت فيحط بعض ويكتب بعض، ويمكن أن تكون أو بمعنى الواو أو بمعنى بل فحينئذ يجمع له بينهما وفضل الله أوسع من ذلك – انتهى. وقال في شرح الحصن: أو هنا للتنويع في اختلاف الحالة فالكتابة للمتقي والحط للمخطي أو بمعنى الوار الموضوعة للجمع كما يدل قوله ويحط (هكذا) المشار إليه قوله وفي كتابه إلى آخره (في كتاب الحميدي) وهو الجمع بين الصحيحين يعني الجامع بين البخاري ومسلم جمعاً وأفرادا: وقد ذكر كلام الحميدي هذا النووي في شرح مسلم وفي الأذكار، والمنذري في الترغيب، والشوكاني في تحفة الذاكرين وتقدم ترجمة الحميدي ووصف كتابه في الجزء الأول (ص16- 17) . 2322- قوله: (سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الكلام) أي من جملة الأذكار (أفضل قال ما اصطفى الله)

لملائكته، سبحان الله وبحمده)) . رواه مسلم. 2323- (8) وعن جويرية، ـــــــــــــــــــــــــــــ كذا في جميع النسخ من المشكاة وهكذا في المصابيح، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول والمنذري في الترغيب. ووقع في بعض نسخ صحيح مسلم ما اصطفاه الله وكذا نقله الحافظ في الفتح وهكذا وقع عند أحمد (ج5ص148) (لملائكته) أي الذي اختاره من الذكر لملائكته وأمرهم بالمداومة عليه ومواظبته لغاية فضله فليس في هذا الحديث ما يدل على حصره فاندفع ما قيل أنه يعلم منه أن الملائكة يتكلمون بهذه الكلمة لا غير، وقد ثبت منهم كلمات أخر من الأذكار والتسبيحات والدعوات وليس هذا محل بسطها (سبحان الله وبحمده) قال الطيبي: فيه تلميح إلى قوله تعالى حكاية عن الملائكة {ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} [البقرة: 30] ويمكن أن يكون سبحان الله وبحمده مختصراً من الكلمات الأربع سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر لما سبق أن سبحان الله تنزيه لذاته عما لا يليق بجلاله وتقديس لصفاته من النقائص فيندرج فيه معنى لا إله إلا الله وقوله: "بحمده" صريح في معنى الحمد لله، لأن الإضافة فيه بمعنى اللام في الحمد. ويستلزم ذلك معنى الله أكبر لأنه إذا كان كل الفضل والأفضال لله ومن الله وليس من غيره شيء من ذلك فلا يكون أحد أكبر منه. فإن قلت يلزم من هذا أن يكون التسبيح أفضل من التهليل؟ قلت: لا يلزم ذلك إذ التهليل صريح في التوحيد والتسبيح متضمن له، ولأن نفي الإلهية في قول لا إله نفي لمضمنها من الخالقية والرازقية والإثابة والمعاقبة وقوله "إلا الله" إثبات لذلك ويلزم منه نفي ما يضاد الإلهية ويخالفها من النقائص، ومنطوق سبحان الله تنزيه ومفهومه توحيد، يعني فيكون لا إله إلا الله أفضل لأن التوحيد أصل والتنزيه ينشأ عنه. قال فإذا اجتمعنا دخلاً في أسلوب الطرد والعكس – انتهى كلام الطيبي وتقدم شيء من الكلام في ذلك في شرح حديث سمرة بن جندب (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد (ج5ص148) ونسبه في الحصن لأبي عوانة أيضاً، وفي رواية لمسلم قال أبوذر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبرك بأحب الكلام إلى الله؟ قلت: يا رسول الله! أخبرني بأحب الكلام إلى الله. فقال أحب الكلام إلى الله سبحان الله وبحمده. وأخرجها أيضاً أحمد (ج5ص161) والنسائي وابن أبي شيبة كما في الحصن وأخرجها الترمذي والحاكم (ج1ص501) وابن حبان وأبوعوانة أيضاً إلا أنهم قالوا سبحان ربي وبحمده. 2323- قوله: (وعن جويرية) تصغير جارية وهي جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار الخزاعية من بني المصطلق أم المؤمنين، كان اسمها برة فغيرها النبي صلى الله عليه وسلم إلى جويرية فصارت علما لها، فلهذا لا ينصرف. سباها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم المريسيع وهي غزوة بني المصطلق في سنة خمس أو ست، وكانت تحت

((أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندنا بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها، ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة. قال: ما زلت على الحال التي فارقتك عليها. قالت: نعم! قال لنبي صلى الله عليه وسلم: لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت ـــــــــــــــــــــــــــــ مسافع بن صفوان المصطلقي، وقد قتل في هذه الغزوة وكانت قد وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس أو ابن عم له فكاتبته على نفسها فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعينه على كتابتها، فقالت: يا رسول الله! أنا جويرية بنت الحارث سيد قومه وقد أصابني من الأمر ما لم يخف عليك فوقعت في السهم لثابت بن قيس أو لابن عم له فكاتبته على نفسي وجئتك أستعينك، فقال لها: هل لك في خير من ذلك؟ قالت: وما هو يا رسول الله! قال أقضى كتابتك وأتزوجك قالت نعم! قال قد فعلت فبلغ الناس أنه قد تزوجها فقالوا إصهار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأرسلوا ما كان في أيديهم من بني المصطلق فلقد أعتق الله بها مائة أهل بيت من بني المصطلق. قالت عائشة: فما أعلم امرأة أعظم بركة منها على قومها. وأخرج ابن سعد في الطبقات عن أبي قلابة أن النبي صلى الله عليه وسلم سبى جويرية فجاء أبوها فقال إن ابنتي لا تسبى مثلها فخل سبيلها، فقال أرأيت إن خيرتها أليس قد أحسنت قال بلى! فأتاها أبوها فذكر لها ذلك فقالت قد اخترت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال الحافظ: هذا مرسل صحيح الإسناد وماتت سنة خمسين على الصحيح. قال الخزرجي: لها أحاديث انفرد البخاري بحديثين ومسلم بمثلهما (بكرة) بضم الموحدة أي أول النهار (حين صلى الصبح) أي أراد صلاة الصبح يعني أراد أن يصلي فرض الصبح (وهي) أي جويرية (في مسجدها) بفتح الجيم ويكسر أي موضع صلاتها والجملة حالية (ثم رجع) إليها (بعد أن أضحى) أي دخل في الضحوة وهي ارتفاع النهار (وهي جالسة) أي في موضعها ففي رواية أبي داود فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي في مصلاها ورجع وهي في مصلاها. وفي رواية أحمد والترمذي والنسائي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر عليها بكرة وهي في المسجد تدعو، ثم مر بها قريباً من نصف النهار. ولابن ماجه مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى الغداة أو بعد ما صلى الغداة وهي تذكر الله فرجع حين ارتفع النهار، أو قال انتصف وهي كذلك، وفي الأدب المفرد ثم رجع إليها بعد ما تعالى النهار وهي في مجلسها (ما زلت) بكسر التاء خطاب لجويرية على تقدير الاستفهام أي ثبت في مكانك وما زالت (على الحال) هو مما يجوز تذكيره وتأنيثه ولذا قال (التي فارقتك عليها) أي من الجلوس على ذكر الله تعالى. وفي رواية أبي داود لم تزالي في مصلاك هذا وفي الأدب المفرد ما زالت في مجلسك (لقد قلت بعدك) أي بعد أن خرجت من عندك أو بعد ما فارقتك (أربع كلمات) نصبة على المصدر أي تكلمت بعد مفارقتك أربع كلمات (لو وزنت) بصيغة المجهول أي قوبلت (بما قلت) أي بجميع ما قلت من الذكر

منذ اليوم لوزنتهن، سبحان الله وبحمده، عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ من أول النهار إلى هذا الوقت (منذ) بضم الميم وقد تكسر (اليوم) بالجر على ما هو المختار "ومنذ" على هذا حرف جر بمعنى "من" أو في أي من ابتداء النهار أو في الوقت المذكور، ويجوز رفع اليوم وتفصيله في المغنى لابن هشام (ج2ص21- 22) وفي القاموس (لوزنتهن) بفتح الزاء والنون أي ساوتهن في الوزن. يقال هذا يزن درهماً أي يساويه أو غلبتهن في الوزن، يقال وازنه فوزن إذا غلب عليه وزاد في الوزن، وقال القاضي أي لرجحت تلك الكلمات على جميع أذكارك وزادت عليهن في الأجر والثواب والضمير راجع إلى ما باعتبار المعنى (عدد خلقه) هو وما عطف عليه منصوبات بنزع الخافض ويقدر المقدار في الثلاثة الأخيرة أي بعدد جميع مخلوقاته وبمقدار رضا ذاته الشريفة أي بمقدار يكون سبباً لرضاه تعالى أو بمقدار يرضي به لذاته، ويختاره فهو مثل ما جاء وبملأ ما شئت من شيء بعد، وفيه إطلاق النفس عليه تعالى من غير مشاكلة، وبمقدار ثقل عرشه، وبمقدار زيادة كلماته أي بمقدار يساويهما يساوي العرش وزنا والكلمات عدداً. وقيل: نصب الكل على الظرفية بتقدير قدر أي قدر عدد مخلوقاته وقدر رضاه الخ. وقيل: نصب هذه الألفاظ على المصدرية أي أعد تسبيحه المقرون بحمده عدد خلقه وأقدر مقدار ما يرضى لنفسه وزنة عرشه ومقدار كلماته (وزنة عرشه) أي قدر وزن عرشه ولا يعلم وزنة إلا الله (ومداد كلماته) بكسر الميم. قيل: معناه مثلها في العدد، وقيل مثلها في عدم النفاد، وقيل مثلها في الكثرة. والمداد مصدر مثل المدد وهو الزيادة والكثرة. وقال في النهاية: أي مثل عددها. وقيل قدر ما يوازيها في الكثرة عيار كيل أو وزن أو عدد أو ما أشبهه من وجوه الحصر والتقدير. وهذا تمثيل يراد به التقريب لأن الكلام لا يدخل في الكيل والوزن، وإنما يدخل في العدد. والمداد مصدر كالمدد يقال مددت الشيء مداً ومداداً وهو ما يكثر به ويزاد انتهى. قال العلماء: واستعماله هنا مجاز لأن كلمات الله تعالى لا تحصر بعد ولا غيره، والمراد المبالغة به في الكثرة لأنه ذكر أولاً ما يحصره العدد الكثير من عدد الخلق، ثم ارتقى إلى ما هو أعظم من ذلك وعبر عنه بهذا أي ما لا يحصيه عد كما لا تحصى كلمات الله تعالى. ذكره النووي وقال في اللمعات: وهذا ادعاء ومبالغة في تكثيرها كأنه تكلم بهذا المقدار فلا يتجه أن يقال إنه ما معنى أسبحه بهذا المقدار سواء كان خبراً أو إنشاء وهو لم يسبح إلا واحد – انتهى. وقال السندي: فإن قلت كيف يصح تقييد التسبيح بالعدد للذكور مع أن التسبيح هو التنزيه عن جميع ما لا يليق بجنابه الأقدس وهو أمر واحد في ذاته لا يقبل التعدد، وباعتبار صدوره عن المتكلم لا يمكن اعتباراً هذا العدد فيه، لأن المتكلم لا يقدر عليه، ولو فرض قدرته عليه أيضاً لما صح تعلق هذا العدد بالتسبيح إلا بعد أن صدر منه بهذا العدد أو عزم على ذلك. وأما بمجرد أنه قال مرة سبحان الله لا يحصل منه هذا العدد. قلت: لعل التقييد بملاحظة استحقاق ذاته الأقدس

رواه مسلم. 2324- (9) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل ـــــــــــــــــــــــــــــ الأطهر أن يصدر من المتكلم التسبيح بهذا العدد، فالحاصل أن العدد ثابت لقول المتكلم لكن لا بالنظر إلى الوقوع بل بالنظر إلى الاستحقاق أي بالنظر إلى أنه تحقق منه التسبيح بهذا العدد بل باعتبار أنه تعالى حقيق بأن يقول المتكلم التسبيح في حقه بهذا العدد والله تعالى أعلم. وفي الحديث دليل على فضل هذه الكلمات، وإن من قال سبحان الله عدد كذا وزنة كذا الخ يدرك فضيلة ذلك القدر وفضل الله يمن به على من يشاء من عباده. قال الشوكاني: ولا يتجه أن يقال إن مشقة من قال هكذا أخف من مشقة من كرر لفظ الذكر حتى يبلغ إلى مثل ذلك العدد، فإن هذا باب منحه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعباد الله وأرشدهم ودلهم عليه تخفيفاً لهم وتكثيراً لأجورهم من دون تعب ولا نصب فلله الحمد. وقد ورد ما يقوى هذا في كثير من الأحاديث (رواه مسلم) في الدعوات وكذا الترمذي وابن ماجه وأخرجه النسائي في الصلاة (ج6ص325- 430) وابن سعد في الطبقات (ج8ص84- 85) ونسبه الجزري في الحصن لابن أبي شيبة أيضاً. واعلم أن الحديث رواه مسلم عن ابن عباس عن جويرية وكذا الترمذي والنسائي وابن ماجه فالحديث عندهم من مسند جويرية. وأما أبوداود فرواه عن ابن عباس قال خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من عند جويرية الخ، وهكذا وقع عند أبي عوانة. وهذا بظاهره يدل على أن الحديث من مسانيد ابن عباس، ورواه أحمد في مسنده على النحوين ذكره أولا في مسند ابن عباس (ج1ص258- 353) ثم ذكره في مسند جويرية (ج6ص325- 430) ورواه البخاري في الأدب المفرد أولا عن ابن عباس عن جويرية، ثم رواه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عند جويرية ولم يسق لفظه، نعم زاد ولم يقل أي سفيان عن جويرية إلا مرة واحدة، والراجح عندنا أن الحديث من مسند جويرية رواه عنها ابن عباس، ووقع في رواية أبي داود ومن وافقه الحذف من ابن عباس أو ممن دونه والله تعالى أعلم. 2324- قوله: (لا إله إلا الله) اختلف في تقديره على أقوال ذكر بعضها الزرقاني في شرح الموطأ (وحده لا شريك له) وحده حال مؤولة بمنفرداً لأن الحال لا تكون معرفة ولا شريك له حال ثانية مؤكدة لمعنى الأولى (له الملك) بضم الميم (في يوم مائة مرة) مجتمعة أو متفرقة (كانت) أي هذه الكلمة أو التهليلة، وفي رواية كان بالتذكير أي القول المذكور (له) أي للقائل بها (عدل) بفتح العين بمعنى المثل والنظير. قال

عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن التين: قرأناه بفتح العين. قال الفراء: العدل بالفتح ما عدل الشيء من غير جنسه وبالكسر المثل كذا في الفتح. وقال في المجمع: عدل ذلك مثله فإذا كسر العين فهو زنته أي هو بفتح عين بمعنى مثله بكسر الميم، وبكسر عين بمعنى زنة ذلك أي موازنة قدراً، أو حديث عدل عشر رقاب بالفتح أي مثلها. وفي النهاية العدل بالكسر والفتح بمعنى المثل، وقيل بالفتح ما عادله من جنسه، وبالكسر ما ليس من جنسه، وقيل بالعكس. (عشر) بسكون الشين (رقاب) أي مثل ثواب إعتاق عشر، رقاب جمع رقبة بمعنى العنق في الأصل فجعلت كناية عن جميع ذات الإنسان تسمية للشي ببعضه أي يضاعف ثوابها حتى يصير مثل أصل ثواب الإعتاق المذكور (وكتبت) أي ثبتث (مائة حسنة) بالرفع (ومحيت) أي أزيلت (عنه مائة سيئة) قال الطيبي: جعل في هذا الحديث التهليل ماحياً من السيئات مقداراً معلوماً، وفي حديث التسبيح ماحياً لها مقدار زبد البحر فيلزم أن يكون التسبيح أفضل. وقد قال في حديث التهليل لم يأت أحد بأفضل مما جاء به، أجاب القاضي عياض أن التهليل المذكور في هذا الحديث أفضل لأن جزاءه مشتمل على محو السيئات وعلى عتق عشر رقاب وعلى إثبات مائة حسنة والحرز من الشيطان (حرزا) بكسر الحاء المهملة وسكون الراء وبالزاي أي حصناً. وقال المظهر: أي حفظاً ومنعاً (يومه) بالنصب على الظرفية (ذلك) أي في ذلك اليوم الذي قالها فيه (حتى يمسي) وفي رواية ابن ماجه سائر يومه إلى الليل أي بقية يومه أو كله. قال القاري: ظاهر التقابل إنه إذا قال في الليل كانت له حرزاً منه ليلة ذلك حتى يصبح، فيحتمل أن يكون اختصاراً من الراوي أو ترك لوضوح المقابلة وتخصيص النهار لأنه أحوج فيه إلى الحفظ – انتهى. قلت قال الحافظ في الفتح: قوله "وكانت له حرزا من الشيطان" في رواية عبد الله سعيد (عند ابن السني ص26) وحفظ يومه حتى يمسي وزاد من قال مثل ذلك حين يمسي كان له مثل ذلك، ومثل ذلك في طرق أخرى يأتي التنبيه عليها بعد – انتهى. قال النووي: ظاهر إطلاق الحديث أنه يحصل هذا الأجر المذكور في الحديث لمن قال هذا التهليل مائة مرة في يومه سواء قاله متوالية أو متفرقة في مجالس أو بعضها أول النهار وبعضها آخره لكن الأفضل أن يأتي بها متوالية في أول النهار ليكون حرزاً له في جميع نهاره، وكذا في أول الليل ليكون حرزاً له في جميع ليلة. (ولم يأت أحد) أي يوم القيامة (بأفضل مما جاء به) أي بأي عمل كان من الحسنات (إلا رجل عمل أكثر منه) استثناء منقطع أي لكن أحد عمل أكثر مما عمل فإنه يزيد عليه أو متصل بتأويل. قال ابن عبد البر: فيه تنبيه على أن المائة غاية في الذكر وأنه قل من يزيد عليه. وقال إلا أحد لئلا يظن أن الزيادة على

متفق عليه. 2325- (10) وعن أبي موسى الأشعري، قال: ((كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس؟ أربعوا على أنفسكم. ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك ممنوعة كتكرار العمل في الوضوء، ويحتمل أن يريد أنه لا يأتي أحد من سائر أبواب البر بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل من هذا الباب أكثر مما عمله، ونحوه قول القاضي عياض ذكر المائة دليل على أنها غاية للثواب المذكور، وقوله إلا أحد يحتمل أن يريد الزيادة على هذا العدد فيكون لقائله من الفضل بحسابه لئلا يظن أنه من الحدود التي نهى عن اعتدائها وأنه لا فضل في الزيادة عليها كما في ركعات السنن المحدودة وإعداد الطهارة، ويحتمل أن تراد الزيادة من غير هذا الجنس من الذكر وغيره أي إلا أن يزيد أحد عملاً آخر من الأعمال الصالحة – انتهى. وقال النووي: فيه دليل أنه لو قال هذا التهليل أكثر من مائة مرة في اليوم كان له هذا الأجر المذكور في الحديث على المائة ويكون له ثواب آخر على الزيادة وليس هذا من الحدود التي نهى عن إعدائها ومجاوزة إعدادها وإن زيادتها لا فضل فيها أو تبطلها كالزيادة في عدد الطهارة وعدد ركعات الصلاة، ويحتمل أن يكون المراد الزيادة من أعمال الخير لا من نفس التهليل، ويحتمل أن يكون المراد مطلق الزيادة سواء كانت من التهليل أو من غيره أو منه ومن غيره وهذا الاحتمال أظهر والله أعلم – انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في صفة إبليس من بدأ الخلق وفي الدعوات، ومسلم فيه وأخرجه أيضاً أحمد (ج2ص202) ومالك في أواخر الصلاة والترمذي والنسائي وابن ماجه في الدعوات وأبوعوانة وابن أبي شيبة. 2325- قوله: (كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر) وفي رواية في غزاة، وهذه الغزوة غزوة خيبر كما وقع التصريح بذلك في رواية البخاري في باب غزوة خيبر من كتاب المغازي (فجعل الناس يجهرون بالتكبير) أي يبالغون في الجهر ورفع الصوت بالتكبير كلما صعدوا ثنية وعلوا شرفاً، والمراد بالتكبير قول لا إله إلا الله والله أكبر، ففي رواية البخاري التي أشرنا إليها لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر أشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله (أربعوا) بهمزة وصل مكسورة ثم موحدة مفتوحة (على أنفسكم) أي أرفقوا بها بخفض أصواتكم ولا تجهدوا على أنفسكم يعني لا تبالغوا في الجهر أو أعطفوا على أنفسكم بالرفق بها والكف من الشدة عليها. قال ابن السكيت ربع الرجل يربع إذا رفق وكف. وقال القاري: أي أرفقوا بها وأمسكوا عن الجهر الذي يضركم، وفيه إشارة إلى أنهم بالغوا في الجهر ورفع الصوت

إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، أنكم تدعون سميعاً بصيراً، وهو معكم، والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته، قال أبوموسى: وأنا خلفه أقول: لا حول ولا قوة إلا بالله في نفسي، ـــــــــــــــــــــــــــــ فلا يلزم منه المنع من الجهر مطلقاً، لأن النهي للتيسير والإرفاق لا لكون الجهر غير مشروع (إنكم) استيناف فيه معنى التعليل (لا تدعون أصم ولا غائباً) قال الكرماني: فإن قلت المناسب ولا أعمى قلت الأعمى غائب عن الإحساس بالمبصر والغائب كالأعمى في عدم رؤيته ذلك المبصر فنفي لازمه ليكون أبلغ وأعم وزاد قريباً (أي في رواية أخرى) إذ رب سامع وباصر لا يسمع ولا يبصر لبعده عن المحسوس فأثبت القرب ليتبين المقتضى وعدم المانع ولم يرد بالقرب قرب المسافة بل القرب بالعلم. وقال الحافظ: ومناسبة الغائب ظاهرة من أجل النهي عن رفع الصوت (إنكم) تأكيد وقيل هو كالتعليل لقوله لا تدعون أصم (سميعاً بصيراً) كذا وقع في رواية البخاري في باب الدعاء إذا علا عقبة من كتاب الدعوات وفي كتاب القدر، ووقع عنده في المغازي سميعاً قريباً وهكذا عند مسلم، ووقع في التوحيد عند البخاري سميعاً بصيراً قريباً. قال في اللمعات: وجه زيادة قوله بصيراً مع أنه لا حاجة إليه لمناسبة قوله سميعاً فإنهما مذكوران معاً في أكثر المواضع، أو لإرادة أنه لا حاجة لكم إلى الجهر ورفع الصوت فإنه يسمع من غير جهر ورفع صوت ومع ذلك يبصركم ويعلم حالكم من صوركم وهيئاتكم فأفهم. وقال الطيبي: فائدة زيادة قوله بصيراً إن السميع البصير أشد إدراكاً وأكمل إحساساً من السميع الأعمى. وقال ابن حجر: سميعاً مقابل لقوله أصم وبصيراً أتى به لأنه ملازم للسميع في الذكر لما بينهما من التناسب في الإدراك (وهو معكم) أي بالعلم والقدرة والإحاطة عموماً والفضل والرحمة خصوصاً. قال القاري: أي حاضر بالعلم والإطلاع على حالكم أين ما كنتم سواء أعلنتم أو أخفيتم وهو بظاهره مقابل لقوله "ولا غائباً" ثم زاد في تحقيق هذه المعية المعنوية الدالة على غاية الشرف والعظمة بقوله (والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) هذه الجملة انفرد بها مسلم لم يذكرها البخاري وهذا تمثيل وتقريب إلى الفهم وإلا فهو أقرب من حبل الوريد. قال النووي: قوله "هو معكم" أي بالعلم والإحاطة وقوله "والذي تدعونه أقرب" الخ هو بمعنى ما سبق وحاصله إنه مجاز كقوله تعالى: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} [ق: 16] أي نحن أقرب إليه بالعلم من حبل وريده، لا يخفى علينا شيء من خفياته فكأن ذاته قريبة منه، وحاصله إنه تجوز بقرب الذات عن قرب العلم. ونقل الذهبي في كتاب العلو عن الإمام أبي الحسن الأشعري أنه قال إن الله يقرب من خلقه كيف شاء كما قال: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} (في نفسي) متعلق بأقول أي بلساني سراً من غير ارتفاع صوتي وقوله "في نفسي" تفرد به البخاري وهو عنده في الدعوات وفي التوحيد، ووقع عنده في المغازي وأنا خلف دابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

{الفصل الثاني}

فقال: يا عبد الله بن قيس! ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ فقلت: بلى يا رسول الله! قال: لا حول ولا قوة إلا بالله)) . متفق عليه. {الفصل الثاني} 2326- (11) عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ فسمعني وأنا أقول لا حول الخ (يا عبد الله) هو اسم أبي موسى (ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة) معنى كونه كنزاً أنه يعد لقائله ويدخر له من الثواب ما يقع له في الجنة موقع الكنز في الدنيا، وحاصله أنه من ذخائر الجنة أو من محصلات نفائس الجنة (لا حول ولا قوة إلا بالله) خبر مبتدأ محذوف أي هو، أو كنز الجنة لا حول ولا قوة إلا بالله. قال النووي قال العلماء: سبب ذلك إنها كلمة استسلام وتفويض إلى الله تعالى واعتراف بالإذعان له وإنه لا صانع غيره ولا راد لأمره وإن العبد لا يملك شيئاً من الأمر، ومعنى الكنز هنا إنه ثواب مدخر في الجنة وهو ثواب نفيس كما أن الكنز أنفس أموالكم. قال أهل اللغة: الحول الحركة والحيلة أي لا حركة ولا استطاعة ولا حيلة إلا بمشيئة الله تعالى. وقيل معناه لا حول ولا قوة في تحصيل خير إلا بالله، وقيل لا حول عن معصية الله إلا بعصمته ولا قوة على طاعته إلا بمعونته وحكى هذا عن ابن مسعود رضي الله عنه (عند البزار مرفوعاً) وكله مقارب – انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجهاد والمغازي والدعوات والقدر والتوحيد، ومسلم في الدعوات بألفاظ متقاربة وليس السياق المذكور لواحد منهما بل هو مأخوذ مجموع من مجموع ما فيهما، والحديث أخرجه أيضاً أحمد (ج4ص394، 400، 402، 403، 407، 417، 418- 419) والترمذي في الدعوات وأبوداود في أواخر الصلاة والنسائي في الكبرى، وابن ماجه في الدعوات مختصراً وابن السني (ص165) . 2326- قوله: (غرست له) بصيغة المجهول من باب ضرب يقال غرست الشجرة غرساً وغراسة إذا نصبتها وأثبتها في الأرض (نخلة) أي غرس له بكل مرة نخلة، ووقع في رواية النسائي شجرة بدل نخلة لكن تحمل هذه الرواية المطلقة على المقيدة بالنخلة فيكون المغروس هنا في الجنة هو النخلة (في الجنة) أي المعدة لقائلها. فيه إن التمرة من ثمار الجنة كما قال تعالى: {فيهما فاكهة ونخل ورمان} [الرحمن: 68] وخصت النخلة هنا لكثرة نفعها وطيب طعمها وكثرة ميل العرب إليها. وقد قال العلماء أيضاً: إنما خص النخلة لأنها أنفع الأشجار وأطيبها ولذلك ضرب الله تعالى مثل المؤمن وإيمانه بها وثمرتها في قوله تعالى: {ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة}

رواه الترمذي. 2327- (12) وعن الزبير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من صباح يصبح العباد فيه إلا مناد ينادي: سبحوا الملك القدوس)) . رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ [إبراهيم: 24] وهي كلمة التوحيد {كشجرة طيبة} [إبراهيم: 24] وهي النخلة (رواه الترمذي) وحسنه وأخرجه أيضاً النسائي إلا أنه قال: غرست له شجرة وابن حبان في صحيحه والحاكم في موضعين بإسنادين قال في أحدهما على شرط مسلم وقال في الآخر على شرط البخاري كذا في الترغيب للمنذري. قلت: في النسخة المطبوعة للمستدرك في الموضع الأول (ج1ص502) "هذا حديث صحيح على شرط مسلم" ورمز الذهبي في تلخيصه في آخر الحديث (خ) وفي الموضع الثاني (ج1ص512) ذكره الحاكم شاهد الحديث رواه هو وابن ماجه عن أبي هريرة بلفظ: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر يغرس لك بكل واحدة شجرة. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وله شاهد عن جابر. ثم ذكره وسكت عنه أعني لم يحكم عليه بشي ولم يذكره الذهبي في تلخيصه، والحديث نسبه الجزري في الحصن لابن أبي شيبة أيضاً، وفي الباب عن عبد الله بن عمرو أخرجه البزار. قال الهيثمي (ج10ص94) وإسناد جيد. 2327- قوله: (وعن الزبير) أي ابن العوام (ما من صباح يصبح العبد فيه) قال الطيبي: صباح نكرة وقعت في سياق النفي وضمت إليها من الاستغراقية لإفادة الشمول ثم جيء بقوله يصبح صفة مؤكدة لمزيد الإحاطة كقوله تعالى: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} [هود: 6] {ولا طائر يطير بجناحيه} [الأنعام: 38] (إلا مناد) من الملائكة وهو مبتدأ والواو مقدرة (سبحوا) بصيغة الأمر من التسبيح أي نزهوا (الملك القدوس) أي عما هو منزه عنه، والمعنى اعتقدوا أنه منزه عنه وليس المراد نشاء تنزيه لأنه منزه أزلاً وأبداً أو أذكروه بالتسبيح لقوله تعالى: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} [الإسراء: 44] ولذا قال الطيبي: أي قولوا سبحان الملك القدوس أو قولوا سبوح قدوس رب الملائكة والروح، أي نحوهما من قول سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم وقوله "سبحوا الملك القدوس" كذا وقع في أكثر نسخ الترمذي ووقع في بعضها سبحان الملك القدوس، وهكذا نقله النووي في الأذكار والجزري في جامع الأصول والسيوطي في الجامع الصغير، ونقله على المتقي في الكنز على النحوين بأن جعلهما روايتين للترمذي، والقصد من مناداة الملك بسبحان الملك القدوس على ما وقع في بعض نسخ الترمذي حث الناس على قول ذلك، كما صرح بذلك في رواية أبي يعلى وابن السني، وهي تؤيد ما في أكثر نسخ الترمذي من قوله سبحوا الملك القدوس (رواه الترمذي) من طريق موسى بن عبيدة الربذي عن محمد بن ثابت عن

2328- (13) وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الذكر: لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء: الحمد لله، ـــــــــــــــــــــــــــــ أبي حكيم مولى الزبير عن الزبير. قال الترمذي: هذا حديث غريب –انتهى. قلت: وإسناده ضعيف لضعف موسى ابن عبيدة ولجهالة محمد بن ثابت وأبي حكيم، وأخرجه أبويعلى وابن السني (ص22) بلفظ: ما من صباح يصبح العباد إلا وصارخ يصرخ أيها الخلائق سبحوا الملك القدوس. قال الهيثمي (ج10ص94) وفيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف جداً. قلت: وفيه أيضاً محمد بن ثابت وأبوحكيم المذكوران في سند الترمذي وقد تقدم أنهما مجهولان. 2328- قوله: (أفضل الذكر لا إله إلا الله) لأنها كلمة التوحيد والتوحيد لا يماثله شي، وهي الفارقة بين الكفر والإيمان، وباب الإسلام الذي لا يدخل إليه إلا منه، ولأنها أجمع للقلب مع الله وأنفى للغير وأشد تزكية للنفس وتصفية للباطن وتنقية للخاطر من خبث النفس وأطرد للشيطان. قال الطيبي قال بعض المحققين: إنما جعل التهليل أفضل الذكر لأن له تأثيراً في الباطن عن الأوصاف الذميمة التي هي معبودات في باطن الذاكر. قال تعالى {أرأيت من اتخذ إلهه هواه} [الفرقان: 43] فيفيد نفي عموم الآلهة بقوله لا إله ويثبت الواحد بقوله إلا الله ويعود الذكر من ظاهر لسانه إلى باطن قلبه فيتمكن فيه ويستولى على جوارحه وجد حلاوة هذا من ذاق. وقيل: لأنه لا يصح الإيمان إلا به وليس هذا فيما سواه من الأذكار والحديث يعارضه في الظاهر حديث أبي ذر المتقدم قال سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الكلام أفضل قال ما اصطفى الله لملائكته سبحان الله وبحمده، وحديث سمرة بن جندب أفضل الكلام أربع سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، وسبق وجه الجمع بينهما في شرح هذين الحديثين. (وأفضل الدعاء الحمد لله) يحتمل أن المراد به سورة الفاتحة بتمامها كأن هذا اللفظ بمنزلة القلب لها. قال الطيبي: يمكن أن يكون قوله الحمد لله من باب التلميح والإشارة إلى قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم} [الفاتحة: 5، 6] وأي دعاء أفضل وأكمل وأجمع من ذلك، ويحتمل أن المراد هذه اللفظة، وعلى هذا فقيل إطلاق الدعاء على الحمد من باب المجاز ولعله جعل أفضل الدعاء من حيث أنه سؤال لطيف يدق مسلكه. ومن ذلك قول أمية بن أبي الصلت حين خرج إلى بعض الملوك يطلب نائلته: إذا أثنى عليك المرأ يوماً كفاه من تعرضه الثناء وقيل: جعل الحمد من أنواع الدعاء باعتبار ما يلزمه فإنه إذا وقع في مقابلة نعمة كان شكراً، وقد قال تعالى: {لئن شكرتم لأزيدنكم} [إبراهيم: 7] فهو يتضمن الطلب. قال المظهر: إنما جعل الحمد دعاء لأن الدعاء عبارة عن ذكر الله وأن تطلب منه حاجة، والحمد يشملهما، فإن من حمد الله إنما يحمده على نعمته، والحمد على النعمة

رواه الترمذي، وابن ماجه. 2329- (14) وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحمد رأس الشكر، ما شكر الله عبد لا يحمده)) . 2330- (15) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أول من يدعى إلى الجنة يوم القيامة الذين يحمدون الله في السراء والضراء)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ طلب مزيد. قال تعالى: {لئن شكرتم لأزيدنكم} – انتهى. قلت: في قوله إنما يحمده على نعمته نظر ظاهر لمن ينظر فيما ذكروا في تحقيق معنى الحمد لله (رواه الترمذي) وحسنه (وابن ماجه) وأخرجه أيضاً النسائي وابن حبان وصححه والحاكم (ج1ص398- 503) وقال حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، ورواه أحمد بلفظ: لا إله إلا الله أفضل الذكر وهي أفضل الحسنات. قال الشوكاني: وهكذا في مسند البزار. 2329- قوله: (الحمد رأس الشكر) لأن الشكر تعظيم المنعم وفعل اللسان أظهر وأدل على ذلك، أما فعل القلب فخفي وفي دلالة أفعال الجوارح قصور كذا في اللمعات. وقال بعض الشراح: الحمد رأس الشكر أي بعض خصاله وأعلاها لأن الحمد باللسان وحده والشكر به وبالقلب والجوارح إذ الشكر صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه إلى ما خلق لأجله، فالحمد إحدى شعب الشكر ورأس الشيء بعضه فهو من هذه الجهة بعض الشكر. وجعل رأسه لأن الرأس أعظم أجزاء البدن والثناء باللسان أعظم أجزاء الشكر فإن ذكر النعمة باللسان والثناء على موليها أشيع لها وأدل على مكانها لخفاء الاعتقاد ولما في أعمال الجوارح من الاحتمال بخلاف عمل اللسان (ما شكر الله عبد لا يحمده) قال القاضي: لما جعل الحمد رأس الشكر وأصله والعمدة فيه حتى انعكس عليه لم يعتمده فيه لغيره من الشعب عند فقده وكان التارك له كالعرض عن الشكر رأساً. 2330- قوله: (أو ل من يدعى إلى الجنة) أي بالدخول (الذين يحمدون الله في السراء والضراء) أي في حالة الرخاء والشدة والأحوال كلها إذا الإنسان لا يخلو عن مسرة أو مضرة والمقابل للسراء الحزن وللضراء النفع وفي إيقاع التقابل بين السراء والضراء مزيد التعميم والإحاطة لشمول نقيضهما كأنه قال في السرور والحزن والنفع والضر، لأن ذكر كل يقتضي ذكره مقابله فيتضمن ذكر الكل مع اختصار وهذا طريق في البيان يسلكه الفصحاء وله نظائر. وقيل: المعنى أي الذين يرضون عن مولاهم بما أجرى عليهم من الحكم غنى كان أو فقراً شدة كان أو رخاء فالمراد الدوام. وقيل: الحمد في السراء ظاهر، وأما في الضراء فالحمد لأجل أنه تعالى لطف به ولم ينزل به أكبر من

رواهما البيهقي في "شعب الإيمان". 2331- (16) وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال موسى عليه السلام: يا رب! علمني شيئاً أذكرك به، أو أدعوك به. فقال: يا موسى! قل لا إله إلا الله. فقال رب: كل عبادك يقول هذا، إنما أريد شيئاً تخصني به، قال: يا موسى! لو أن السماوات السبع ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك أو لأجل ما يشاهد في طي الضراء من الثواب وتكفير الذنوب (رواهما البيهقي في شعب الإيمان) حديث عبد الله بن عمرو ذكره السيوطي في الجامع الصغير، ونسبه لعبد الرزاق في جامعه والبيهقي في شعبه. قال العزيزي: رجاله ثقات لكنه منقطع. وقال الحافظ في الفتح: أخرج الطبري من رواية عبد الله بن باباه عن عبد الله بن عمرو ابن العاص، قال: إن الرجل إذا قال لا إله إلا الله فهي كلمة الإخلاص التي لا يقبل الله عملاً حتى يقولها، وإذا قال الحمد لله فهي كلمة الشكر التي لم يشكر الله عبد حتى يقولها. وحديث ابن عباس ذكره المنذري في الترغيب. وقال رواه ابن أبي الدنيا والبزار والطبراني في الثلاثة بأسانيد أحدها حسن والحاكم (ج1ص502) وقال صحيح على شرط مسلم – انتهى. قلت: ووافقه الذهبي وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10ص95) وقال رواه الطبراني في الثلاثة بأسانيد وفي أحدها قيس بن الربيع وثقة شعبة والثوري وغيرهما وضعفه يحيى القطان وغيره وبقية رجاله رجال الصحيح، ورواه البزار بنحوه إسناده حسن – انتهى. 2331- قوله: (علمني شيئاً) أي من الأذكار (أذكرك به) بالرفع على أنه صفة لشيئاً وليس جواباً للأمر بدليل قوله "أو أدعوك به" وهو مرفوع بإثبات الواو. وقيل: خبر مبتدأ محذوف استئنافاً أي أنا أذكرك به. قيل: ويجوز الجزم وعطف أدعوك على منوال قوله تعالى: {إنه من يتق ويصبر} [يوسف: 90] على قراءة إثبات الياء مع جزم يصبر إتقافاً (أو أدعوك به) كذا في جميع النسخ الحاضرة عندنا من المشكاة ويظهر من كلام القاري والشيخ الدهلوي إنه وقع في أكثر نسخها الموجودة عندهما أو بالألف وفي بعضها بالواو بدل أو، وهكذا بالواو وقع في مجمع الزوائد (ج10ص82) والكنز والترغيب والمستدرك (ج1ص528) فأو على ما في أكثر النسخ بمعنى الواو. وقيل: للتنويع (قل لا إله إلا الله) فإنه متضمن لكل ذكر ودعاء سواه مع زيادة دلالة على توحيد ذاته وتفريد صفاته (كل عبادك يقول) أفرد رعاية للفظ كل دون معناه (هذا) أي هذا الكلام أو هذا الذكر (إنما أريد شيئاً تخصني) أي أنت (به) أي بذلك الشيء من بين عموم عبادك (قال يا موسى لو أن السماوات السبع إلخ) قال الطيبي: فإن قلت: طلب موسى عليه الصلاة السلام ما به يفوق على غيره من الذكر أو الدعاء فما مطابقة الجواب للسؤال. قلت: كأنه قال طلبت شيئاً محالاً إذ لا ذكر ولا دعاء أفضل من هذا قال:

وعامرهن غيري والأرضين السبع وضعن في كفة، ولا إله إلا الله في كفة لمالت بهن لا إله إلا الله)) . رواه في شرح السنة. 2332- 2333- (17- 18) وعن أبي سعيد وأبي هريرة، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال: لا إله إلا الله والله أكبر، ـــــــــــــــــــــــــــــ وحاصل الجواب إن ما طلبت من أمر مختص بك فائق على الأذكار كلها محال لأن هذه الكلمة ترجح على الكائنات كلها من السماوات وسكانها والأرضين وقطانها (وعامرهن) بالنصب عطف على السماوات. قيل: عامر الشيء حافظه ومصلحه ومدبره الذي يمسكه من الخلل ولذا سمي ساكن البلد والمقيم به عامره من عمرت المكان إذا أقمت فيه، والمراد المعنى الأعم الذي هو الأصل ليصح استثناءه تعالى منه بقول (غيري) قاله الطيبي. وقال غيره أي ساكنهن والاستثناء منقطع. وقيل: المراد هنا جنس من يعمرها من الملك وغيره والله تعالى عامرها خلقاً وحفظاً، وقد دخل فيه من حيث يتوقف عليه صلاحها توقفهن على الساكن ولذا استثنى وقال غيري (والأرضين السبع) أي الطباق ولم يذكر عامر الأرضين لقلته أو اكتفى بذكر عامر السماوات (وضعن) بصيغة المجهول (في كفة) بكسر الكاف وتشديد الفاء يعني كفة الميزان لاستدارتها وكل مستدير كفة بالكسر وكفة الميزان ما يجعل عليه الموزون ويقال لها بالفارسية بلة ترازو (ولا إله إلا الله) أي ثوابها أو بطاقتها وهي ورقة كتابتها ويؤيده حديث البطاقة (في كفة) أي أخرى (لمالت بهن) أي لرجحت عليهن وغلبتهن وزادت عليهن يقال مال بفلان أي غلبه (لا إله إلا الله) هو من باب وضع الظاهر موضع الضمير. قال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث: يؤخذ منه أن الذكر بلا إله إلا الله أرجح من الذكر بالحمد لله، ولا يعارضه حديث أبي مالك الأشعري رفعه، والحمد لله تملأ الميزان فإن الملء يدل على المساواة والرجحان صريح في الزيادة فيكون أولى، ومعنى ملء الميزان إن ذاكرها يمتلىء ميزانه ثواباً – انتهى. (رواه) أي البغوي (في شرح السنة) أي بإسناده والحديث ذكره المنذري في الترغيب. وقال: رواه النسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم (ج1ص528) كلهم من طريق دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد. وقال الحاكم: صحيح إسناد – انتهى. قلت: ووافقه الذهبي وذكره الحافظ في الفتح وقال: أخرجه النسائي بسند صحيح ونسبه الهيثمي (ج10ص82) لأبي يعلى وقال: ورجاله وثقوا وفيهم ضعف، وذكره على المتقي في الكنز (ج1ص396) ونسبه لأبي يعلى والحكيم الترمذي وابن حبان والحاكم وأبي نعيم في الحلية والبيهقي في الأسماء. 2332- 2333- قوله: (وعن أبي سعيد وأبي هريرة قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) في الترمذي وابن ماجه

صدقه ربه. قال: لا إله إلا أنا وأنا أكبر، وإذا قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الله: لا إله إلا أنا وحدي، لا شريك لي، وإذا قال: لا إله إلا الله له الملك وله الحمد، قال: لا إله إلا أنا لي الملك ولي الحمد، وإذا قال: لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال: لا إله إلا أنا لا حول ولا قوة إلا بي، وكان يقول: من قالها في مرضه ثم مات لم تطعمه النار)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ والحاكم أنهما شهدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الخ قال ابن التين: أراد بهذا اللفظ التأكيد للرواية قلت: هو من صنيع أداء الحديث. قال السيوطي في ندريب الراوي (ص135) عقد الرامهرمزي أبواباً في تنويع ألفاظ التحمل والأداء منها الإتيان بلفظ الشهادة كقول أبي سعيد أشهد على رسول الله أنه نهى عن الجر أن ينتبذ فيه، وقول عبد الله ابن طاؤس أشهد على والدي أنه قال أشهد على جابر بن عبد الله أنه قال أشهد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: أمرت أن أقاتل الناس – الحديث. وقول ابن عباس شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر – الحديث. في الصلاة بعد العصر وبعد الصبح (صدقه) بتشديد الدال (ربه قال) أي قال ربه بياناً لتصديقه أي قرره بأن قال (لا إله إلا أنا وأنا أكبر) وهذا أبلغ من أن يقول صدقت قاله القاري قلت قوله "صدقه ربه" قال هكذا في جميع النسخ الحاضرة من المشكاة ووقع في الترمذي صدقه ربه، وقال أي بزيادة الواو قبل قال وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج5ص138) وفي الترغيب صدقه ربه فقال أي بالفاء بدل الواو، وفي ابن ماجه إذا قال العبد لا إله إلا الله والله أكبر قال يقول الله عزوجل صدق عبدي لا إله إلا أنا وأنا أكبر (وإذا قال) أي العبد (لا إله إلا الله وحده لا شريك له يقول الله) أي تصديقاً لعبده وفي الترمذي ههنا قال الله (لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي) كذا في جميع النسخ الحاضرة من المشكاة، ووقع في الترمذي قبل ذلك، وإذا قال لا إله إلا الله وحده قال (أي النبي - صلى الله عليه وسلم -) يقول الله لا إله إلا أنا وأنا وحدي، وكذا وقع عند ابن ماجه، وهكذا نقله في الترغيب وجامع الأصول، والظاهر إن ما في المشكاة اختصار من المصنف. قال القاري: وحذف صدقه ربه هنا للعلم به مما قبله وعبر هنا بيقول وثمة وفيما يأتي بقال تفنناً. قلت: وقع عند ابن ماجه والحاكم كلمة "قال صدق عبدي" ههنا وفيما يأتي بعد، والظاهر أنه وقع الاختصار من أحد الرواة في رواية الترمذي والله أعلم (قال لا إله إلا أنا لا حول) قال القاري: وفي نسخة يعني من المشكاة ولا حول مطابقاً لما قبله. قلت: في نسخ الترمذي الموجودة عندنا ولا حول بالواو في الموضعين، وكذا وقع عند ابن ماجه، وهكذا في الترغيب والجامع (وكان يقول) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (من قالها) أي هذه الكلمات من دون الجوابات (ثم مات) أي من ذلك المرض (لم تطعمه النار) أي لم تمسه أو لم تحرقه يعني لم تأكله استعار الطعم للإحراق مبالغة كأن

رواه الترمذي، وابن ماجه. 2334- (19) وعن سعد بن أبي وقاص، ((أنه دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة وبين يديها نوى أو حصى، تسبح به، فقال: ألا أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا أو أفضل؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ الإنسان طعامها تتقوى وتتغذى به، وفي ابن ماجه من رزقهن عند موته لم تمسه النار. قال السندي: "من رزقهن" على بناء المفعول ورجع نائب الفاعل إلى من أي من أعطاه الله تعالى هذه الكلمات عند موته ووفقه لها "لم تمسه النار" بل يدخل الجنة ابتداء مع الأبرار – انتهى. وفي الحديث دليل على أن هذه الكلمات المذكورة في الحديث إذا قالها العبد في مرضه ومات في ذلك المرض على تلك الكلمات، أي كانت خاتمة كلامه الذي يتكلم به عاقلا مختاراً لم تمسه النار ولم يضره ما تقدم من المعاصي، وأنها تكفر جميع الذنوب وراجع إلى تحفة الذاكرين (ص231، 235- 236) (رواه الترمذي) وقال حديث حسن (وابن ماجه) وأخرجه أيضاً النسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم (ج1ص5) وقال هذا حديث صحيح رواه كلهم من طريق أبي إسحاق عن الأغر أبي مسلم عن أبي سعيد وأبي هريرة. قال الترمذي: وقد رواه شعبة عن أبي إسحاق عن الأغر عنهما نحوه بمعناه ولم يرفعه شعبة، وكذا قال الذهبي في تلخيص المستدرك أوقفه شعبة وغيره – انتهى. قلت: ولا يضر وقف من وقفه فإن الرفع زيادة والزيادة من الثقة مقبولة، ولو سلم فهو مرفوع حكماً لأن الحكم المذكور فيه مما لا مسرح للاجتهاد فيه. 2334- قوله: (على امرأة) أي محرم له أو كان ذلك قبل نزول الحجاب على أنه لا يلزم من الدخول الرؤية (وبين يديها) الواو للحال (نوى) اسم جمع لنواة وهي عظم التمر (أو حصى) اسم جمع لحصاة وهي الأحجار الصغيرة وأو للشك من الراوي (تسبح) أي المرأة (به) أي بما ذكر من النوى أو الحصى وهذا لفظ أبي داود وللترمذي وبين يديها نواة أو قال حصاة تسبح بها، وفيه دليل على جواز عد التسبيح بالنوى والحصى قيل وكذا بالسبحة لعدم الفارق بين المنظومة والمنثورة وهذا لتقريره - صلى الله عليه وسلم - المرأة على ذلك وعدم إنكاره والإرشاد إلى ما هو أفضل لا ينافي الجواز كذا قيل، وعندي فيه نظر لأن الحديث ضعيف، وإن حسنه الترمذي وصححه الحاكم والذهبي ولم يثبت عد التسبيح بالحصى أو النوى مرفوعاً من فعله أو قوله أو تقريره - صلى الله عليه وسلم -، والخير إنما هو في اتباع ما ثبت عنه لا في ابتداع من خلف (فقال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (ألا أخبرك بما هو أيسر) أي أخف وأسهل (من هذا) أي من هذا الجمع والتعداد (أو أفضل) قيل أو للشك من سعد أو ممن دونه. وقيل بمعنى الواو. وقيل بمعنى بل. قال القاري: وهو الأظهر. قلت: وقع في بعض نسخ الترمذي وأفضل أي بالواو وهذه النسخة تؤيد

سبحان الله عدد ما خلق في السماء، وسبحان الله عدد ما خلق في الأرض، وسبحان الله عدد ما بين ذلك، وسبحان الله عدد ما هو خالق، والله أكبر مثل ذلك، والحمد لله مثل ذلك، ولا إله إلا الله مثل ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك)) . رواه الترمذي، وأبوداود، وقال الترمذي: هذا حديث غريب. ـــــــــــــــــــــــــــــ أن أو الواقعة في أبي داود وبعض نسخ الترمذي بمعنى الواو. قال الطيبي: وإنما كان أفضل لأنه اعتراف بالقصور وإنه لا يقدر أن يحصى ثناءه وفي العد بالنوى إقدام على أنه قادر على الإحصاء. قال القاري: وفيه أنه لا يلزم من العد هذا الإقدام ثم ذكر وجوهاً أخرى للأفضلية ولا يخلو واحد منها عن خدشة ولا يخفى ذلك على المتأمل (سبحان الله عدد ما خلق) فيه تغليب لكثرة غير ذوي العقول الملحوظة في المقام (عدد ما بين ذلك) أي ما بين ما ذكر من السماء والأرض من الهواء والطير والسحاب وغيرها (عدد ما هو خالق) أي خالقه أو خالق له فيما بعد ذلك واختاره ابن حجر وهو الأظهر لكن الأدق الأخفى ما قال الطيبي: أي ما هو خالق له من الأزل إلى الأبد، والمراد الاستمرار فهو إجمال بعد التفصيل لأن اسم الفاعل إذا أسند إلى الله تعالى يفيد الاستمرار من بدأ الخلق إلى الأبد كما تقول الله قادر عالم فلا تقصد زمانا دون زمان (والله أكبر مثل ذلك) قال الطيبي: منصوب نصب عدد في القرائن السابقة على المصدر. وقال بعض الشراح: بنصب مثل أي الله أكبر عدد ما هو خالقه أي بعدده فجعل مرجع الإشارة إلى أقرب ما ذكر، والظاهر أن المشار إليه جميع ما ذكر فيكون التقدير الله أكبر عدد ما خلق في السماء والله أكبر عدد ما خلق في الأرض والله أكبر عدد ما خلق بين ذلك والله أكبر عدد ما هو خالق ذكره القاري قال والأظهر إن هذا من اختصار الراوي فنقل آخر الحديث بالمعنى خشية الملالة بالإطالة، ويدل على ما قلنا بعض الآثار أيضاً – انتهى. وقال في اللمعات: المثل منصوب نصب عدد في القرائن السابقة وهذا ما عبارة عن العبارة السابقة أي قال الله أكبر عدد ما خلق في السماء الخ أو قال لفظ مثل ذلك بدل عدد ما خلق (رواه الترمذي) في الدعوات (وأبوداود) في أواخر الصلاة وأخرجه أيضاً النسائي في اليوم والليلة وابن حبان في صحيحه والحاكم (ج1ص548) كلهم من طريق عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن خزيمة عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص عن أبيها. وقال الترمذي: حديث حسن وسكت عنه أبوداود، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. قلت: في تحسين الترمذي وتصحيح الحاكم والذهبي نظر، فإن خزيمة هذا مجهول. قال الذهبي: نفسه في الميزان خزيمة لا يعرف تفرد عنه سعيد بن أبي هلال وكذا قال الحافظ في التقريب: أنه لا يعرف وسعيد بن أبي هلال مع ثقته حكى الباجي عن أحمد أنه اختلط فأنى للحديث الصحة أو الحسن (وقال الترمذي هذا حديث غريب) كذا في جميع النسخ

2335- (20) وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سبح الله مائة بالغداة ومائة بالعشي، كان كمن حج مائة حجة، ومن حمد الله مائة بالغداة ومائة بالعشي، كان كمن حمل على مائة فرس في سبيل الله، ومن هلل الله مائة بالغداة ومائة بالعشي، كان كمن أعتق مائة رقبة من ولد إسماعيل، ومن كبر الله مائة بالغداة ومائة بالعشي، لم يأت في ذلك اليوم أحد بأكثر مما أتى به إلا من قال مثل ذلك، أو زاد على ما قال)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحاضرة من المشكاة. قال القاري: وفي نسخة حسن غريب قلت وهذه هي الصواب لموافقتها لما وقع في جامع الترمذي ولما نقله المنذري في تلخيص السنن وفي الترغيب. 2335- قوله: (من سبح الله مائة) أي من قال سبحان الله مائة مرة (بالغداة ومائة بالعشي) أي أول النهار وأول الليل أو في الملوين (كان كمن حج مائة حجة) أي نافلة دل الحديث على أن الذكر بشرط الحضور مع الله بسهولته أفضل من العبادات الشاقة بغفلة ويمكن أن يكون الحديث من باب إلحاق الناقص بالكامل مبالغة في الترغيب ويراد التساوي بين التسبيح المضاعف بالحجج الغير المضاعفة والله أعلم. (كان كمن حمل) بالتخفيف أي أركب مائة نفس (على مائة فرس في سبيل الله) أي في نحو الجهاد أما صدقة أو عارية وفي الترمذي بعد هذا أو قال غز مائة غزاة وهو شك من الراوي (ومن هلل الله) أي قال لا إله إلا الله (كان كمن أعتق مائة رقبة) فيه تسلية للذاكرين من الفقراء العاجزين عن العبادات المالية المختصة بها الأغنياء (من ولد إسماعيل) بضم الواو وسكون اللام وبفتحهما يقع على الواحد والثنية والجمع، فإن قلت ما وجه تخصيص كونه من ولد إسماعيل عليه السلام. قلت لأن من كان من ولده له فضل على عتق غيره وذلك أن محمد أو إسماعيل وإبراهيم صلوات الله وسلامه عليهم بعضهم من بعض، وقال الطيبي: قوله "من ولد إسماعيل" تتميم ومبالغة في معنى العتق لأن فك الرقاب أعظم مطلوب وكونه عن عنصر إسماعيل الذي هو أشرف الخلق نسباً أعظم وأمثل (لم يأت في ذلك اليوم أحد) أي يوم القيامة (بأكثر) أي بثواب أكثر أو المراد بعمل أفضل وإنما عبر بأكثر لأنه معنى أفضل (مما أتى به) أي جاء به أو بمثله. قيل: ظاهره إن هذا أفضل من جميع ما قبله والذي دلت الأحاديث الصحيحة الكثيرة إن أفضل هذا التهليل فالتحميد فالتكبير فالتسبيح، فحينئذ يؤول بأن يقال لم يأت في ذلك اليوم أحد غير المهلل والحامد المذكورين أكثر مما أتى به (إلا من قال مثل ذلك أو زاد على ما قال) الكلام فيه كما مر في

رواه الترمذي. وقال: هذا حديث حسن غريب. 2336- (21) وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((التسبيح نصف الميزان، والحمد لله يملأه، ـــــــــــــــــــــــــــــ حديث أبي هريرة في الفصل الأول (رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن غريب) في سنده الضحاك بن حمرة بضم الحاء وسكون الميم وفتح الراء المهملة الأملوكي بضم الهمزة الواسطي روي عن عمرو بن شعيب وغيره قال الحافظ في التقريب: إنه ضعيف، وقال في تهذيب التهذيب قال ابن معين: ليس بشي. وقال النسائي والدولابي ليس بثقة. وقال البرقاني عن الدارقطني: ليس بالقوي يعتبر به. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن شاهين في الثقات: وثقه إسحاق بن راهوية – انتهى مختصراً. وقال الذهبي في الميزان قال النسائي: ليس بثقة. وقال البخاري: منكر الحديث مجهول. وقال ابن معين: ليس بشي. ثم ذكر الذهبي هذا الحديث ثم قال رواه الترمذي عن محمد بن وزير الواسطي (عن أبي سفيان الحميري عن الضحاك بن حمرة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده) وحسنه فلم يصنع شيئاً. 2336- قوله: (التسبيح نصف الميزان) أي ثوابه بعد تجسمه يملأ نصف الميزان والمراد به إحدى كفتيه الموضوعة لوضع الحسنات فيها (والحمد لله يملأه) أي الميزان كله لو وضع فيه وحده فيكون أفضل من التسبيح ويكون ثوابه ضعف ثواب التسبيح لأن التسبيح نصف الميزان والحمد لله وحده يملأه أي يملأ كفتيه، أو المراد إن الحمد لله يملأ نصفه الآخر أي لو وضع ثوابه في الكفة الأخرى بعد وضع ثواب التسبيح في إحدى كفتيه امتلأ الميزان، فيكون ثواب الحمد كثواب التسبيح لأن كل واحد منهما يأخذ نصف الميزان فيملآن الميزان معاً فيكونان متساويين. قال الطيبي: في الحديث توجيهان. أحدهما أن يراد التسوية بين التسبيح والتحميد بأن كل واحد منهما يأخذ نصف الميزان فيملآن الميزان معاً، وذلك لأن الأذكار التي هي أم العبادات البدنية تنحصر في نوعين، أحدهما التنزيه والآخر التحميد والتسبيح يستوعب القسم الأول والتحميد يتضمن القسم الثاني. وثانيهما أن يراد تفضيل الحمد على التسبيح وإن ثوابه ضعف ثواب التسبيح لأن التسبيح نصف الميزان والتحميد وحده يملأه وذلك لأن الحمد المطلق إنما يستحقه من كان مبرأ عن النقائص منعوتاً بنعوت الجلال وصفات الإكرام، فيكون الحمد شاملاً للأمرين وأعلى القسمين وإلى الوجه الأول الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان، وإلى الثاني بقوله صلوات الله عليه بيدي لواء الحمد. أقول يؤيد معنى الترجيح الترقي في قوله ولا إله إلا الله ليس لها حجاب لأن هذه الكلمة اشتملت على التنزيه والتحميد لله تعالى كما مر، وعلى نفي ذلك عما سواه صريحاً ومن ثم جعل من جنس آخر لأن الأولين دخلاً في معنى الوزن والمقدار في الأعمال وهذا حصل منه

ولا إله إلا الله ليس لها حجاب دون الله حتى تخلص إليه)) . رواه الترمذي. وقال: هذا حديث غريب، وليس إسناده بالقوي. 2337- (22) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما قال عبد لا إله إلا الله مخلصاً قط إلا فتحت له أبواب السماء حتى يفضي إلى العرش ما اجتنب الكبائر)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ القرب إلى الله تعالى من غير حاجز ولا مانع – انتهى كلام الطيبي. واستشكل ظاهر الحديث بأن التحميد إذا يملأ الميزان فبقية الأعمال كيف توزن، وظاهر الأحاديث الواردة في وزن الحسنات والسيئات إن جميع الأعمال الحسنة توضع في كفة واحدة. والسيئات بأسرها في الأخرى، وأجيب بأنه يحتمل أن تجعل تلك الأعمال والأذكار عند الوزن في صور وأجسام صغيرة، ومع ذلك لا يتفاوت وزنها ولا يزاحم بعضها بعضاً والله أعلم (ولا إله إلا الله ليس لها دون الله حجاب) أي ليس لقبولها حجاب يمنعها عنه لاشتمالها على التنزيه والتحميد ونفي السوي صريحاً (حتى تخلص) بضم اللام (إليه) أي تصل إليه وتنتهي إلى محل القبول والمراد بهذا وأمثاله سرعة القبول والإجابة وكثرة الأجر والإثابة، وفيه دلالة ظاهرة إن لا إله إلا الله أفضل من سبحان الله والحمد لله (رواه الترمذي) من طريق إسماعيل بن عياش عن عبد الرحمن بن زياد الإفريقي عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو (وقال هذا حديث غريب وليس بإسناده بالقوي) أي إسناده ضعيف لأن عبد الرحمن بن زياد ضعيف وإسماعيل بن عياش صدوق في روايته عن أهل بلده مخلط في غيرهم. 2337- قوله: (ما قال عبدلاإله إلا الله مخلصاً) أي حال كونه مخلصاً من قلبه لا منافقاً ولا مرائياً (قط) كذا في جميع النسخ من المشكاة أي وقع قط بعد قوله مخلصاً وفي الترمذي ما قال عبد لا إله إلا الله قط مخلصاً أي وقع لفظ قط قبل مخلصاً، وهكذا وقع في الترغيب وجامع الأصول والحصن والجامع الصغير (إلا فتحت) بصيغة المجهول مخففاً وقد يشدد (له) أي لهذا الكلام أو القول (أبواب السماء) أي فلا تزال كلمة الشهادة صاعدة (حتى يفضي) بضم الياء وكسر المعجمة بصيغة المعلوم من الإفضاء أي يصل وقوله "يفضي" بالياء كذا وقع في جميع النسخ من المشكاة، وهكذا نقله في الترغيب وجامع الأصول، وفي الترمذي تفضي أي بالتاء، وهكذا الحصن والجامع الصغير (إلى العرش) أي ينتهي إليه (ما اجتنب) أي صاحبه (الكبائر) أي وذلك مدة تجنب قائلها الكبائر من الذنوب. قال الطيبي: الحديث السابق دل على تجاوزه من العرش حتى انتهى إلى الله تعالى، والمراد من ذلك سرعة القبول والاجتناب عن الكبائر شرط للسرعة لا لأجل الثواب والقبول – انتهى. أو لأجل كمال الثواب ومراتب القبول لأن السيئة لا تحبط الحسنة بل الحسنة تذهب السيئة

رواه الترمذي. وقال: هذا حديث غريب. 2338- (23) وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقيت إبراهيم ليلة أسري بي. فقال: يا محمد! أقري أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ كذا في المرقاة، وفي الحديث تحذير عن ارتكاب الكبائر وإشعار إلى قوله تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} [فاطر:10] (رواه الترمذي) نسبه الجزري في الحصن للترمذي والنسائي والحاكم (وقال هذا حديث غريب) وفي الترمذي هذا حديث حسن غريب وهكذا في الترغيب وشرح الجامع الصغير للعزيزي. 2338- قوله (لقيت إبراهيم) أي الخليل عليه الصلاة والسلام (ليلة أسري بي) قال القاري: بالإضافة، وفي نسخة يعني من المشكاة بتنوين ليلة أي ليلة أسري فيها بي، وهي ليلة المعراج (فقال) أي إبراهيم وهو في محله من السماء السابعة مسنداً ظهره إلى البيت المعمور (قريء أمتك) أمر من الإقراء أي بلغهم وأوصلهم (مني السلام) يقال أقرأ فلان فلاناً السلام، وأقرأ عليه السلام، أي أبلغه إياه كأنه حين يبلغه سلامه يحمله على أن يقرأ السلام ويرده. قال القاري: وفي نسخة يعني من المشكاة إقرأ أي بكسر الهمزة، وفتح الراء من القراءة، أي أبلغهم من جانبي السلام، وفيه ما قيل إنه يقال في الأمر منه إقرأ عليه السلام، وتعديته بنفسه خطأ، فلا يقال اقرأه السلام. قال القاري لكن في الصحاح والقاموس إن قرأه السلام وأقرأه السلام بمعنى (طيبة التربة) بضم التاء وسكون الراء وهي التراب فإن ترابها المسك والزعفران ولا أطيب منهما (عذبة الماء) أي مائها طيب لا ملوحة فيه (وأنها) بفتح الهمزة وتكسر أي الجنة (قيعان) بكسر القاف جمع قاع وهي الأرض المستوية الخالية من الشجر (وإن) بالوجهين (غراسها) بكسر الغين المعجمة جمع غرس بالفتح بمعنى المغروس والضمير إلى القيعان. قال القاري: جمع غرس بالفتح وهو ما يغرس أي يستره تراب الأرض من نحو البذر لينبت بعد ذلك، وإذا كانت تلك التربة طيبة وماءها عذاباً كان الغراس أطيب لا سيما. والغرس الكلمات الطيبات وهن الباقيات الصالحات والمعنى أعلمهم بأن هذه الكلمات ونحوها سبب لدخول قائلها الجنة، ولكثرة أشجار منزله فيها لأنه كلما كررها نبت له أشجار لعددها – انتهى. قال التوربشتي: الغرس إنما يصلح في التربة الطيبة وينمو بالماء العذب أي أعلمهم إن هذه الكلمات تورث قائلها الجنة وإن الساعي في اكتسابها لا يضيع سعيه لأنها المغرس الذي لا يتلف ما استودع فيه. قال الشيخ الدهلوي: واستشكل بأنه يدل على أن أرضها خالية عن الأشجار والقصور

رواه الترمذي. وقال: هذا حديث حسن غريب إسناداً. 2339- (24) وعن يسيرة، وكانت من المهاجرات، ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو خلاف مدلول الجنة. وأجيب بأنه لا يدل على أنها الآن قيعان بل على أنها في نفسها قيعان والأشجار فيها مغروسة بجزاء الأعمال، أو المراد إن الأشجار فيها لما كانت لأجل الأعمال فكأنه غرست بها فافهم. وقال الطيبي: في هذا الحديث إشكال لأنه يدل على أن أرض الجنة خالية عن الأشجار والقصور، ويدل قوله: {جنات تجري من تحتها الأنهار} [البقرة: 25] وقوله {أعدت للمتقين} على أنها غير خالية عنها لأنها إنما سميت جنة لأشجارها المتكاثفة المظلة بالتفاف أغصانها، وتركيب الجنة دائر على معنى الستر وإنها مخلوقة معدة، والجواب أنها كانت قيعاناً ثم إن الله تعالى أوجد بفضله وسعة رحمته فيها أشجاراً وقصوراً على حسب أعمال العاملين لكل عامل ما يختص به بحسب عمله، ثم إن الله تعالى لما يسره لما خلق له من العمل لينال به ذلك الثواب جعله كالغارس لتلك الأشجار على سبيل المجاز إطلاقاً للسبب على المسبب – انتهى. وأجيب أيضاً بأنه لا دلالة في الحديث على الخلو الكلي من الأشجار والقصور لأن معنى كونها قيعاناً إن أكثرها مغروس وما عداه منها أمكنة واسعة بلا غرس لينغرس بتلك الكلمات، ويتميز غرسها الأصلي الذي بلا سبب وغرسها المسبب عن تلك الكلمات. (رواه الترمذي) قال المنذري في الترغيب بعد ذكر هذا الحديث: رواه الترمذي والطبراني في الصغير والأوسط وزاد ولا حول ولا قوة إلا بالله روياه من طريق عبد الواحد بن زياد عن عبد الرحمن بن إسحاق عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن ابن مسعود (وقال) أي الترمذي (هذا حديث حسن غريب إسناداً) وفي الجامع الترمذي حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث ابن مسعود. قال المنذري "أبو القاسم هو عبد الرحمن بن عبد الله ابن مسعود وعبد الرحمن هذا لم يسمع من أبيه وعبد الرحمن بن إسحاق هو أبوشيبة الكوفي واه ورواه الطبراني أيضاً بإسناد رواه من حديث سلمان الفارسي ولفظه: قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن في الجنة قيعاناً فأكثروا من غرسها. قالوا: يا رسول الله! وما غرسها؟ قال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر – انتهى. قلت ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10ص89- 90) وقال فيه الحسين بن علوان وهو ضعيف. 2339- قوله: (وعن يسيرة) بمثناة تحتية مضمومة وسين وراء مهملتين مفتوحتين بينهما مثناة تحتية ساكنة. ويقال أسيرة بالهمزة في أوله بدل الياء أم ياسر بمثناة تحت وكسر سين مهملة ويقال بنت ياسر وتكنى أم حميضة (وكانت من المهاجرات) الأول المبايعات. وقيل: من الأنصار. قال الحافظ في تهذيب التهذيب: ذكرها ابن سعد في النساء الغرائب من غير الأنصار. وقال ابن حبان وابن مندة وأبونعيم وابن عبد البر: كانت

قالت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عليكن بالتسبيح، والتهليل، والتقديس، واعقدن بالأنامل، فإنهن مسئولات مستنطقات، ولا تغفلن فتنسين الرحمة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ من المهاجرات. قلت: قد أخرج أحمد والترمذي وابن سعد من طريق هانيء بن عثمان عن أمه حميضة بنت ياسر عن جدتها يسيرة وكانت من المهاجرات. قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عليكن بالتسبيح - الحديث. وفي رواية الحاكم وكانت إحدى المهاجرات وهذا يؤيد ما قاله ابن حبان ومن وافقه. (قال لنا) أي معشر النساء (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) زاد في المسند بعده يا نساء المؤمنات! (عليكن) اسم فعل بمعنى الزمن وأمسكن (بالتسبيح) أي بقول سبحان الله (والتهليل) أي قول لا إله إلا الله (والتقديس) أي قول سبحان الملك القدوس أو سبوح قدوس رب الملائكة والروح (واعقدن) بكسر القاف أي أعددن عدد مرات التسبيح وما عطف عليه (بالأنامل) أي بعقدها أو برؤسها يقال عقد الشيء بالأنامل عده. قال الطيبي: حرضهن النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن يحصين تلك الكلمات بأناملهن، ليحط عنها بذلك ما اجترحته من الذنوب ويدل على أنهن كن يعرفن عقد الحساب – انتهى. والأنامل جمع أنملة بتثليث الميم والهمزة تسع لغات التي فيها الظفر كذا في القاموس، والظاهر أن يراد بها الأصابع من باب إطلاق البعض وإرادة الكل عكس ما ورد في قوله تعالى: {يجعلون أصابعهم في أذانهم} [البقرة: 19] لإرادة المبالغة (فإنهن) أي الأنامل كسائر الأعضاء (مسئولات) أي يسألن يوم القيامة عما اكتسبن وبأي شيء استعملن (مستنطقات) بفتح التاء أي متكلمات بخلق النطق فيها فيشهدن لصاحبهن أو عليه بما اكتسبه من خير أو شر قال تعالى: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} [النور: 24] {وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم} [فصلت: 22] وفيه حث على استعمال الأعضاء فيما يرضي الرب تعالى وتعريض بالتحفظ عن الفواحش والآثام (ولا تغفلن) بضم الفاء والفتح لحن أي عن الذكر يعني لا تتركن الذكر (فتنسين الرحمة) بفتح التاء بصيغة المعروف من النسيان أي فتتركن الرحمة، والمراد بنسيان الرحمة نسيان أسبابها أي لا تتركن الذكر فإنكن لو تركتن الذكر لحرمتن ثوابه فكأنكن تركتن الرحمة قال تعالى: {فاذكروني} أي بالطاعة {أذكركم} أي بالرحمة. ويجوز أن يكون تنسين بضم المثناة الفوقية بصيغة المجهول من الإنساء، ونصب الرحمة على المفعول الثاني والمعنى لا تغفلن عن الذكر بأن تتركنه فتنسين من الرحمة وتحرمن ثواب الذكر. قال الطيبي: لا تغفلن نهي لأمرين أي لا تغفلن عما ذكرت لكن من اللزوم على الذكر والمحافظة عليه. والعقد بالأصابع توثيقا وقوله "فتنسين" جواب "لو" أي إنكن لو تغفلن عما ذكرت لكن لتركتن سدى عن رحمة الله، وهذا من باب قوله تعالى: {لا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي} [طه: 81] أولا يكن منكن

الغفلة فيكون من الله ترك الرحمة فعبر بالنسيان عن ترك الرحمة كما في قوله تعالى: {وكذلك اليوم تنسى} [طه: 126] – انتهى. قال الشوكاني: والحديث يدل على مشروعية عقد التسبيح بالأنامل. وقد أخرج أبوداود والترمذي وحسنه والنسائي والحاكم وصححه عن عبد الله بن عمرو، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقد التسبيح بيده، زاد في رواية لأبي داود وغيره بيمينه. وقد علل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك في حديث يسيرة بأن الأنامل مسئولات مستنطقات، يعني أنهن يشهدن بذلك فكان عقدهن بالتسبيح من هذه الحيثية أولى من السبحة والحصى. قلت: ويدل على جواز عد التسبيح بالنوى والحصى. حديث سعد بن وقاص المتقدم، وحديث صفية قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين يديّ أربعة آلات نواة أسبح بها – الحديث. أخرجه الترمذي والحاكم وصححه السيوطي. قال الشوكاني: هذان الحديثان يدلان على جواز عد التسبيح بالنوى والحصى، وكذا بالسبحة لعدم الفارق لتقريره صلى الله عليه وسلم للمرأتين على ذلك وعدم إنكاره، والإرشاد إلى ما هو أفضل لا ينافي الجواز. وقد وردت بذلك آثار ثم ذكرها من شاء الوقوف عليها رجع إلى النيل (ج2ص211) ، قلت: حديث سعد قد قدمنا أنه ضعيف. وأما حديث صفية فهو أيضاً ضعيف ضعفه الترمذي بقوله هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث هاشم بن سعيد الكوفي عن كنانة مولى صفية عن صفية، وليس إسناده بمعروف. وأما الحاكم فقال صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي وتبعه السيوطي واغتر به الشوكاني وهذا منهم عجيب، فإن هاشم بن سعيد هذا أورده الذهبي في الميزان. وقال: قال ابن معين ليس بشي. وقال ابن عدي: مقدار ما يرويه لا يتابع عليه. ولهذا قال الحافظ في التقريب: ضعيف فائدة إعلم أن للعرب طريقة معروفة في عقود الحساب تواطؤا عليها وهي أنواع من الآحاد والعشرات والمئين والألوف. أما الآحاد فللواحد عقد الخنصر إلى أقرب ما يليه من باطن الكف وللإثنين عقد البنصر معها كذلك، وللثلاثة عقد الوسطى معها كذلك، وللأربعة حل الخنصر، وللخمسة حل البنصر معها دون الوسطى، وللستة عقد البنصر وحل جميع الأنامل، وللسبعة بسط الخنصر إلى أصل الإبهام مما يلي الكف، وللثمانية بسط البنصر فوقها كذلك، وللتسعة بسط الوسطى فوقها كذلك. وأما العشرات فلها الإبهام والسبابة فللعشرة الأولى عقد رأس الإبهام على طرف السبابة، وللعشرين إدخال الإبهام بين السبابة والوسطى, وللثلاثين عقد رأس السبابة على رأس الإبهام عكس العشرة، وللأربعين ترك الإبهام على العقد الأوسط من السبابة، وعطف الإبهام إلى أصلها، وللخمسين عطف الإبهام إلى أصلها وللستين تركيب السبابة على ظهر الإبهام عكس الأربعين، وللسبعين إلقاء رأس الإبهام على العقد الأوسط من السبابة. ورد طرف السبابة إلى الإبهام، وللثمانين رد طرف السبابة إلى أصلها، وبسط الإبهام على جنب السبابة

{الفصل الثالث}

رواه الترمذي، وأبوداود. {الفصل الثالث} 2340- (25) عن سعد بن أبي وقاص، قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: علمني كلاماً أقوله، قال: قل: ((لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله رب العالمين، لا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم. فقال: فهؤلاء لربي، فمالي؟ فقال: قل اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني، وارزقني، وعافني)) . شك الراوي في "عافني" ـــــــــــــــــــــــــــــ من ناحية الإبهام، وللتسعين عطف السبابة إلى أصل الإبهام وضمها بالإبهام. وأما المئين فكالآحاد إلى تسع مائة في اليد اليسرى والألوف كالعشرات في اليسرى كذا في سبل السلام (ج1ص306، 307) وفي تفصيل هذه الطريقة المعروفة عند العرب وتوضيحها رسالة لطيفة في اللغة الأردية اسمها "عقد أنامل" وهي ترجمة ما ذكره صاحب "غياث اللغات" (ص291، 292) بالفارسية (رواه الترمذي وأبوداود) واللفظ للترمذي، وفي رواية أبي داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهن أن يراعين بالتكبير والتقديس والتهليل، وأن يعقدن بالأنامل فإنهن مسئولات مستنطقات. وأخرج أحمد (ج6ص371) والنسائي في الكبرى وابن سعد والحاكم والطبراني بلفظ الترمذي. وقال الترمذي: هذا حديث إنما نعرفه من حديث هانيء بن عثمان – انتهى. وسكت عنه أبوداود والمنذري. وقال الذهبي صحيح. 2340- قوله: (جاء أعرابي) أي بدوي (علمني كلاما) أي ذكراً (أقوله) أي ألازم وأداوم عليه (الله أكبر كبيراً) منصوب بفعل محذوف، أي كبرت كبيراً أو ذكرت كبيراً، ويجوز أن يكون حالا مؤكدة كقولك زيد أبوك عطوفاً (والحمد لله كثيراً) صفة مفعول مطلق أي حمداً كثيراً (العزيز الحكيم) وفي رواية البزار العلي العظيم وهو المشهور على الألسنة (فقال) أي الأعرابي، وفي مسلم قال بدون الفاء وكذا في المسند، وهكذا وقع في الترغيب وجامع الأصول (فهؤلاء) أي الكلمات وفي المسند هؤلاء وهكذا في الترغيب والجامع (لربي) أي موضوعة لذكره (فمالي) أي من الدعاء لنفسي (اللهم اغفر لي) بمحو السيئات (وارحمني) أي بتوفيق الطاعات (واهدني) أي لأحسن الأحوال (وارزقني) أي المال الحلال (وعافني) أي من الابتلاء بما يضر في المال (شك الراوي) هو موسى الجهني الراوي للحديث عن مصعب بن سعد عن أبيه (في عافني) أي

رواه مسلم. 2341- (26) وعن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على شجرة يابسة الورق، فضربها بعصاه، فتناثر الورق، فقال: ((إن الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، تساقط ذنوب العبد كما يتساقط ورق هذه الشجرة)) . رواه الترمذي. وقال: هذا حديث غريب. ـــــــــــــــــــــــــــــ في إثباته ونفيه. والراجح إثباته لأن الحديث رواه مسلم عن شيخين، قال حدثنا أبوبكر بن أبي شيبة نا علي بن مسهر وابن نمير عن موسى الجهني ح، وحدثنا محمد بن عبد الله بن نمير واللفظ له، نا أبي نا موسى الجهني عن مصعب بن سعد عن أبيه قال جاء أعرابي الخ، ثم قال بعد قوله وارزقني. قال موسى: أما عافني فأنا أتوهم وما أدري، ولم يذكر ابن أبي شيبة في حديثه قول موسى – انتهى. ورواه أحمد في مسنده (ج1ص180) عن يحي بن سعيد عن موسى فذكر قوله "وعافني" من غير شك فيه ثم رواه (ج1ص185) عن عبد الله بن نمير ويعلى بن موسى. وقال بعد قوله "وارزقني". قال ابن نمير قال موسى: أما عافني فأنا أتوهم وما أدري (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً البزار. قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح، وروى مسلم عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأتاه رجل فقال: يا رسول الله! كيف أقول حين أسأل ربي؟ قال: قل اللهم اغفر لي وارحمني وعافني وارزقني، فإن هؤلاء تجمع لك دنياك وآخرتك. 2341- قوله: (فضربها) أي أغصان الشجرة (فتناثر الورق) أي تساقط (إن الحمد لله وسبحان الله إلخ) قال الطيبي: هذه الكلمات كلها بالنصب على اسم إن وخبرها (تساقط) بضم التاء من باب المفاعلة (ذنوب العبد) أي المتكلم بهذه الكلمات والمفاعلة للمبالغة، وقوله "تساقط ذنوب العبد" كذا في جميع النسخ من المشكاة، وهكذا وقع في جامع الأصول، وفي الترمذي لتساقط (بزيادة اللام المفتوحة) من ذنوب العبد، وهكذا نقله في الترغيب والكنز (كما يتساقط) بصيغة المضارع المعلوم من باب التفاعل، وهكذا وقع في جامع الأصول، والذي في الترمذي والترغيب والكنز كما تساقط أي بصيغة الماضي المعلوم (ورق هذه الشجرة) يعني إن هذه الكلمات تساقط ذنوب العبد فتتساقط كما يتساقط ورق هذه الشجرة فقوله كما "يتساقط" حال من الذنوب والتقدير تساقط الذنوب مشبهاً تساقطها بتساقط الورق. قال في اللمعات: لما كان المقصود ههنا بيان حال الكلمات وفضلها وثمة أعني في أوراق الشجرة بيان سقوطها لا إسقاط العصا إياها قال: كما قال: فافهم (رواه الترمذي) من طريق الأعمش عن أنس (وقال هذا حديث غريب) قال ولا نعرف للأعمش سماعاً عن أنس إلا أنه قد رآه ونظر إليه – انتهى. قال المنذري في الترغيب: وأخرجه أحمد من غير طريق الأعمش، ورجاله رجال الصحيح، ولفظه

2342- (27) وعن مكحول، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها من كنز الجنة. قال مكحول: فمن قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا منجا من الله إلا إليه، كشف الله عنه سبعين بابا من الضر، أدناها الفقر)) . رواه الترمذي. وقال: هذا حديث ليس إسناده بمتصل، ومكحول لم يسمع عن أبي هريرة. ـــــــــــــــــــــــــــــ إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ غصناً فنفضه فلم ينتفض ثم نفضه فلم ينتفض ثم نفضه فانتفض، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ينفضن الخطايا كما تنفض الشجرة ورقها. قلت وأخرجه أيضاً البخاري في الأدب المفرد من غير طريق الأعمش مثل رواية أحمد. 2342- قوله: (فإنها) أي هذه الكلمة (من كنز الجنة) أي من ذخائر الجنة أو من محصلات نفائس الجنة. قال النووي: المعنى إن قولها يحصل ثواباً نفسياً يدخر لصاحبه في الجنة (قال مكحول) أي موقوفاً عليه (ولا منجا) بالألف يعني بالقصر أي لا مهرب ولا مخلص (من الله) أي من سخطه وعقوبته (إلا إليه) أي بالرجوع إلى رضاه ورحمته (كشف الله) كذا في جميع النسخ من المشكاة، وهكذا في الترغيب وجامع الأصول وتحفة الذاكرين، والذي في الترمذي كشف أي بغير ذكر لفظ الجلالة (سبعين بابا) أي نوعا (من الضر) بضم الضاد وتفتح وهو يحتمل التحديد والتكثير (أدناها) كذا في جميع النسخ من المشكاة، وهكذا في جامع الأصول والذي في الترمذي أدناهن، وهكذا في الترغيب وتحفة الذاكرين (الفقر) أي أحط السبعين وأدنى مراتب الأنواع نوع مضرة الفقر. قال القاري: والمراد الفقر القلبي الذي جاء في الحديث كاد الفقر أن يكون كفراً لأن قائلها إذا تصور معنى هذه الكلمة تقرر عنده وتيقن في قلبه إن الأمر كله بيد الله وإنه لا نفع ولا ضر إلا منه ولا عطاء ولا منع إلا به، فصبر على البلاء وشكر على النعماء وفوض أمره إلى الله تعالى ورضي بالقدر – انتهى. قلت: حديث كاد الفقر أن يكون كفراً، رواه أبونعيم في الحلية والبيهقي في الشعب. قال ابن الديبع الشيباني في تمييز الطيب: من الخبيث (ص144) : وفي سنده يزيد الرقاشي وهو ضعيف وله شواهد ضعيفة – انتهى. وقال المناوي في شرح الجامع الصغير: إسناده رواه. وقال صاحب مجمع البحار في تذكرة الموضوعات (ص174) ضعيف. ولكن صح من قول أبي سعيد – انتهى. قال شيخنا وتقييد الفقر بالقلبي مما لا حاجة إليه كما لا يخفى (رواه الترمذي وقال: هذا) أي صدر الحديث (حديث ليس إسناده بمتصل) وبين عدم الاتصال بقوله (ومكحول) كذا في جميع نسخ المشكاة بذكر الواو قبل مكحول، وليست في الترمذي ولا في الترغيب (لم يسمع عن أبي هريرة) قال ابن حجر: كذا في النسخ يعني من المشكاة، والمشهور من قلت في الترمذي من بدل عن، وهكذا وقع في

2343- (28) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا حول ولا قوة إلا بالله دواء من تسعة وتسعين داء أيسرها الهم)) . 2344- (29) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أدلك على كلمة من تحت العرش من كنز الجنة: لا حول ولا قوة إلا بالله، يقول الله تعالى: ـــــــــــــــــــــــــــــ الترغيب. قال المنذري بعد نقل كلام الترمذي: هذا ما لفظه، ورواه النسائي والبزار مطولا ورفعا ولا منجا من الله إلا إليه ورواتهما ثقات محتج بهم. قال وفي رواية للحاكم وصححها، قال يا أبا هريرة ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة. قلت بلى يا رسول الله! قال تقول لا حول ولا قوة إلا بالله ولا ملجأ ولا منجأ من الله إلا إليه ذكره في حديث – انتهى. قلت: رواية الحاكم هذه أخرجها أحمد (ج2ص309) ورواته ثقات. 2343- قوله: (لا حول ولا قوة إلا بالله دواء) أي معنوي (من تسعة وتسعين) لا يعلم حكمة تخصيص هذا العدد إلا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وقال الشوكاني: ظاهره إن هذا الذكر شفاء هذا العدد المذكور، ويمكن أن يكون خارجاً مخرج المبالغة كما في قوله تعالى: {ذرعها سبعون ذراعاً} [الحاقة: 32] فيكون المراد إنه شفاء من جميع الأمراض والعلل التي أيسرها الهم (داء) من أدواء الباطن كالكبر والعجب والشرك الخفي وغلبة الهوى، أو أعم من ذلك وهذا أظهر. وقال القاري أي من الأدواء الدنيوية والأخروية (أيسرها) أي أقلها وأسهلها (الهم) أي جنس الهم المتعلق بالدين أو الدنيا أو هم المعاش وغم المعاد. قال المناوي: وذلك لأن العبد إذا تبرأ من الأسباب انشرح صدره وانفرج غمه وأتته القوة والغياث والتأييد وبسطت الطبيعة على ما في الباطن من الداء فدفعته. 2344- قوله: (من تحت العرش من كنز الجنة) قال الطيبي: "من تحت العرش" صفة كلمة أي كائنة من تحت العرش مستقرة فيه، ويجوز أن تكون من ابتدائية أي ناشئة من تحت العرش "ومن" في من كنز الجنة بيانية أي بيان لتحت العرش، كأنه يقول التحت الذي هو كنز وإذا جعل العرش سقف الجنة، جاز أن يكون من كنز الجنة بدلا من قوله من تحت العرش – انتهى. والمعنى أنها من الكنوز المعنوية العرشية وذخائر الجنة العالية العلوية لا من الكنوز الفانية الحسية السفلية. وقيل: المعنى أي كلمة أنزلت من كنز الجنة الكائنة تحت العرش، وفي الحديث تقديم وتأخير. ويؤيده رواية أحمد (ج2 ص298) بلفظ: ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة من تحت العرش (يقول الله تعالى) قال الطيبي: هذا جزاء شرط محذوف أي إذا قال العبد هذه الكلمة يقول الله تعالى قال ابن حجر: أي لملائكته معلماً لهم بكمال قائلها المتحلي بمعناها. وقال القاري: الظاهر إن قوله يقول الله

أسلم عبدي، واستسلم)) . رواهما البيهقي في "الدعوات الكبير" 2345- (30) وعن ابن عمر، أنه قال: ((سبحان الله هي صلاة الخلائق، والحمد لله كلمة الشكر، ولا إله إلا الله كلمة الإخلاص، ـــــــــــــــــــــــــــــ استئناف لبيان فضيلة تلك الكلمة وفضل قائلها. قلت: وقع عند الحاكم بلفظ: تقول لا حول ولا قوة إلا بالله فيقول الله عزوجل أسلم عبدي الخ وهذا يؤيده ما قاله الطيبي (أسلم عبدي) أي انقاد لإحكام الألوهية وأخلص (واستسلم) أي بالغ في الانقياد له تعالى. قال الطيبي: أسلم عبدي واستسلم أي فوض أمور الكائنات إلى الله بأسرها وانقاد هو بنفسه لله مخلصاً له الدين (رواهما البيهقي) ذكر الأول منهما المنذري في الترغيب والجزري في الحصن ونسباه للطبراني في الأوسط والحاكم، ونسبه السيوطي في الجامع الصغير وعلي المتقي في الكنز لابن أبي الدنيا في كتاب الفرج. قال الحاكم (ج1ص542) هذا حديث صحيح، وبشر بن رافع الحارثي ليس بالمتروك وتعقبه الذهبي فقال قلت: بشرواه. وقال الهيثمي بعد عزوه إلى الطبراني: وفيه بشر بن رافع الحارثي وهو ضعيف. وقد وثق بقية رجاله رجال الصحيح. وقال المنذري بعد نقل تصحيح الحاكم: بل في إسناده بشر بن رافع أبوالاسباط قال، وضعفه أحمد وغيره وقواه ابن معين وغيره. وقال ابن عدي: هو مقارب الحديث لا بأس بأخباره ولم أجد له حديثاً منكراً – انتهى. قلت: بشر هذا ضعفه أحمد والنسائي وأبوحاتم وابن عبد البر وابن حبان. وقال الترمذي يضعف في الحديث. وقال الحاكم أبوأحمد: ليس بالقوي عندهم. وقال يعقوب بن سفيان والبزار: لين الحديث. وقال الدارقطني: منكر الحديث. وقال الحافظ: فقيه ضعيف الحديث – انتهى. ولم أجد أحدا قوى أمره غير ابن معين وابن عدي، وفي الباب عدة أحاديث يقوي بعضها بعضاً منها حديث جابر عند الطبراني في الأوسط، ومنها حديث ابن عباس عند ابن عساكر، ومنها حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عند الطبراني في الأوسط وابن عساكر. والحديث الثاني أخرجه أحمد في مواضع من مسنده منها في (ج2ص298) والبزار والحاكم (ج1ص21) وقال هذا حديث صحيح ولا يحفظ له علة، ووافقه الذهبي. ونقل المنذري في الترغيب كلام الحاكم وأقره. وقال الهيثمي (ج10ص99) بعد عزوه لأحمد والبزار: رجالهما رجال الصحيح غير أبي بلج (يحي بن أبي سليم) الكبير وهو ثقة. 2345- قوله: (وعن ابن عمر أنه بقال) أي موقوفاً (سبحان الله هي صلاة الخلائق) أي عبادتها قال تعالى: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} [الإسراء: 44] وقال {كل قد علم صلاته وتسبيحه} [النور: 41] قيل والتسبيح إما بالمقال أو بالحال حيث يدل على الصانع وعلى قدرته وحكمته وعلى تنزهه تعالى مما لا يجوز عليه من الشريك وغيره (والحمد لله كلمة الشكر) أي عمدته ورأسه كما سبق (ولا إله إلا الله كلمة الإخلاص) أي كلمة التوحيد الموجبة لإخلاص

والله أكبر تملأ ما بين السماء والأرض، وإذا قال العبد: لا حول ولا قوة إلا بالله، قال الله تعالى: أسلم واستسلم)) . رواه رزين. ـــــــــــــــــــــــــــــ قائلها من النار أو كلمة لا تنفع إلا مقرونة بالصدق والإخلاص (والله أكبر تملأ) بالتأنيث باعتبار الكلمة والتذكير باعتبار اللفظ أي يملأ ثوابها (ما بين السماء والأرض) قيل: ويحتمل أن يكون ما بين السماء والأرض كناية عن العالم كله (وإذا قال العبد لا حول ولا قوة لا بالله) أي وتصور مبناه وتحقق بمعناه (قال الله تعالى أسلم) أي إسلاماً كاملاً (واستسلم) أي انقاد ظاهراً وباطناً (رواه رزين) ذكر قول ابن عمر هذا رزين في جامعه بغير سند، ولا يوجد في شيء من أصوله ولم أقف على من أخرجه فالله أعلم بحال إسناده. بعون الله وحسن توفيقه تم الجزء السابع من مشكاة المصابيح مع شرحه مرعاة المفاتيح ويليه الجزء الثامن إن شاء الله تعالى، وأوله "باب الاستغفار والتوبة"

(4) باب الاستغفار والتوبة

بسم الله الرحمن الرحيم (4) باب الاستغفار والتوبة ـــــــــــــــــــــــــــــ (باب الاستغفار) أي: طلب المغفرة، وقد سبق بيان معناها عند شرح اسم الله الغفار في حديث الأسماء الحسنى فارجع إليه. وقال الحافظ: الاستغفار استفعال من الغفران، وأصله الغفر، وهو إلباس الشيء ما يصونه عما يدنسه وتدنيس كل شيء بحسبه، والغفران من الله للعبد أن يصونه من العذاب - انتهى. قال القاري: الاستغفار قد يتضمن التوبة وقد لا يتضمن ولذا قال: (والتوبة) أو الاستغفار باللسان والتوبة بالجنان، وهي الرجوع من المعصية إلى الطاعة والمغفرة منه تعالى لعبده ستره لذنبه في الدنيا بأن يطلع عليه أحدًا، وفي الآخرة بأن لا يعاقبه عليه. قال الطيبي: والتوبة في الشرع ترك الذنب لقبحه والندم على ما فرط والعزيمة على ترك المعاودة وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالإعادة هذا كلام الراغب. وزاد النووي وقال: إن كان الذنب متعلقًا ببني آدم فلها شرط آخر، وهو رد المظلمة إلى صاحبها أو تحصيل البراءة منه، وقال ابن القيم في مدارج السالكين (ج1: ص169) في الكلام على تفسير التوبة المطلقة: وكثير من الناس إنما يفسر التوبة بالعزم على أن لا يعاود الذنب، وبالإقلاع عنه في الحال، وبالندم عليه في الماضي. وإن كان في حق آدمي فلابد من أمر رابع وهو التحلل منه، وهذا الذي ذكروه بعض مسمى التوبة بل شرطها. وإلا فالتوبة في كلام الله ورسوله كما تتضمن ذلك تتضمن العزم على فعل المأمور والتزامه، فلا يكون بمجرد الإقلاع والعزم والندم تائبًا حتى يوجد منه العزم الجازم على فعل المأمور والإتيان به، هذا حقيقة التوبة، وهي اسم لمجموع الأمرين لكنها إذا قرنت بفعل المأمور كانت عبارة عما ذكروه، فإذا أفردت تضمنت الأمرين، وهي كلفظة التقوى التي عند إفرادها تقتضى فعل ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه، وعند اقترانها بفعل المأمور تقتضي الانتهاء عن المحظور، فإن حقيقة التوبة الرجوع إلى الله بالتزام فعل ما يحب، وترك ما يكره، فهي رجوع من مكروه إلى محبوب، فالرجوع إلى المحبوب جزء

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ مسماها، والرجوع عن المكروه الجزء الآخر، ولهذا علق سبحانه الفلاح المطلق على فعل المأمور وترك المحظور بها فقال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور: 31) فكل تائب مفلح ولا يكون مفلحًا إلا من فعل ما أمر به وترك ما نهي عنه. وقال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الحجرات: 11) وترك المأمور ظالم كما إن فاعل المحظور ظالم، وزوال اسم الظلم عنه بالتوبة الجامعة الأمرين، قال: وإنما سمي التائب تائبًا لرجوعه إلى أمر الله من نهيه وإلى طاعته من معصيته كما تقدم فإذا التوبة هي حقيقة دين الإسلام والدين كله داخل في مسمى التوبة، وبهذا استحق التائب أن يكون حبيب الله فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين , وإنما يحب الله من فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، فإذا التوبة هي الرجوع مما يكرهه الله ظاهرًا وباطنًا إلى ما يحبه ظاهرًا وباطنًا، ويدخل في مسماها الإسلام والإيمان والإحسان وتتناول جميع المقدمات. قال ابن القيم (مشيرًا إلى الفرق بين الاستغفار والتوبة) : وأما الاستغفار فهو نوعان مفرد ومقرون بالتوبة فالمفرد كقول نوح عليه السلام لقومه: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً} (نوح: 10، 11) وكقول صالح عليه السلام لقومه: {لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (النمل: 46) وكقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (المزمل: 20) وقوله: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (الأنفال: 33) والمقرون كقوله تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} (هود: 3) وقول صالح لقومه: {فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} (هود: 52 - 61) وقول شعيب: {وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} (هود: 90) فالاستغفار المفرد كالتوبة بل هو التوبة بعينها مع تضمنه طلب المغفرة من الله وهو محو الذنب وإزالة أثره ووقاية شره، لا كما ظنه بعض الناس إنها الستر فإن الله يستر على من يغفر له، ومن لا يغفر له، ولكن الستر لازم مسماها أو جزءه، فدلالتها عليه إما بالتضمن وإما باللزوم، وحقيقتها وقاية شر الذنب، ومنه المغفر لما يقي الرأس من الأذى، والستر لازم لهذا المعنى، وألا فالعمامة لا تسمى مغفرًا ولا القبع ونحوه مع ستره فلابد في لفظ المغفر من الوقاية. وهذا الاستغفار الذي يمنع العذاب في قوله: {وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (الأنفال: 33) فإن الله لا يعذب مستغفرًا. وأما من أصر على الذنب وطلب من الله مغفرته فهذا ليس باستغفار مطلق، ولهذا لا يمنع العذاب فالاستغفار يتضمن التوبة، والتوبة تتضمن الاستغفار، وكل منهما يدخل في مسمى الآخر عند الإطلاق. وأما عند اقتران إحدى اللفظتين بالأخرى فالاستغفار طلب وقاية شر ما مضى، والتوبة والرجوع طلب وقاية شر ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله فها هنا ذنبان. ذنب قد مضى فالاستغفار طلب وقاية شره، وذنب يخاف وقوعه فالتوبة العزم على أن لا يفعله والرجوع إلى الله يتناول النوعين. رجوع إليه ليقيه شر ما مضى، ورجوع إليه ليقيه شر ما

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ يستقبل من شر نفسه وسيئات أعماله، وأيضًا فإن المذنب بمنزلة من ارتكب طريقًا تؤديه إلى هلاكه ولا توصله إلى المقصود فهو مأموران يوليها ظهره ويرجع إلى الطريق التي فيها نجاته، وتوصله إلى مقصودة وفيها فلاحه فها هنا أموال لابد منهما مفارقة شيء. والرجوع إلى غيره فخصت التوبة بالرجوع والاستغفار بالمفارقة، وعند إفرادهما يتناول الأمرين، ولهذا والله أعلم جاء الأمر بهما مرتبًا بقوله: {وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} (هود: 90) فإنه الرجوع إلى طريق الحق بعد مفارقة الباطل، وأيضًا فالاستغفار من باب إزالة الضرر والتوبة طلب جلب المنفعة، فالمغفرة أن يقيه شر الذنب، والتوبة أن يحصل له بعد الوقاية ما يحبه، وكل منهما يستلزم الآخر عند إفراده والله أعلم. وقيل: في الفرق بينهما إن التوبة لا تكون إلا لنفسه أي لما اجترحته نفسه خاصة من الآثام بخلاف الاستغفار، فإنه يكون لنفسه ولغيره أو لغيره فقط كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} (الحشر: 10) وقال تعالى حاكيًا عن الملائكة: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} (غافر: 7) وإن التوبة هي الندم على ما فرط في الماضي، والغرم على الامتناع منه في المستقبل، والاستغفار طلب الغفران لما صدر منه ولا يجب فيه الغرم في المستقبل هذا. وللتوبة أحكام لا يليق بالعبد جهلها. ذكر ابن القيم نبذًا منها في مدارج السالكين شرح منازل السائرين (ج1:ص150: 169) فعليك أن تطالعه وأضف إلى ذلك مطالعة كتاب التوبة من الإحياء للغزالي, وقد عقد ابن القيم في المدارج (ج1: ص172، 173) فصلاً لإيضاح الفرق بين الذنب والسيئة والتكفير والمغفرة فطالعه أيضًا مع ما تعقبه وعلق عليه محشيه وقد ذكر صاحب المنازل أسرارًا للتوبة بسط ابن القيم الكلام في شرح السر الأول وتوضيحه أحببنا إيراده لغاية حسنه ولطافته. قال صاحب المنازل: ولطائف أسرار التوبة ثلاثة أشياء أولها: أن ينظر الجناية والقضية فيعرف مراد الله فيها إذ خلاك وإتيانها، فإن الله عز وجل إنما خلي العبد والذنب لمعنيين أحدهما: أن يعرف عزته في قضائه وبره في ستره وحلمه في إمهال راكبه وكرمه في قبول العذر منه وفضله في مغفرته. الثاني: أن يقيم على عبده حجة عدله فيعاقبه على ذنبه بحجته. قال ابن القيم في شرح هذا الكلام (ج1: ص111) اعلم أن صاحب البصيرة إذا صدرت منه الخطيئة فله نظر إلى خمسه أمور أحدها: أن ينظر إلى أمر الله ونهيه فيحدث له ذلك الاعتراف بكونها خطيئة والإقرار على نفسه بالذنب. الثاني: أن ينظر إلى الوعد والوعيد فيحدث له ذلك خوفًا وخشية تحمله على التوبة. الثالث: أن ينظر إلى تمكين الله له منها وتخليته بينه وبينها أو تقديرها عليه وإنه لو شاء لعصمه منها وحال بينه وبينها، فيحدث له ذلك أنواعًا من المعرفة بالله وأسمائه وصفاته وحكمته ورحمته ومعرفته وعفوه وحلمه وكرمه، وتوجب هذه المعرفة عبودية بهذه الأسماء لا تحصل بدون

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ لوازمها البتة، ويعلم ارتباط الخلق والأمر والجزاء والوعد بأسمائه وصفاته، وأن ذلك موجب الأسماء والصفات وأثرها في الوجود، وإن كل اسم وصفة مقتض لأثره وموجبه متعلق به لا بد منه، وهذا المشهد يطلعه على رياض مونقة من المعارف والإيمان وأسرار القدر والحكمة يضيق عن التعبير عنها نطاق الكلم. فمن بعضها: ما ذكره الشيخ يعني صاحب المنازل أن يعرف العبد عزته في قضائه وهو أنه سبحانه العزيز الذي يقضى بما يشاء وإنه لكمال عزه حكم على العبد وقضى عليه بأن قلب قلبه وصرف إرادته على ما يشاء وحال بين العبد وقلبه. وجعله مريدًا شائيًا لما شاء منه العزيز الحكيم. وهذا من كمال العزة إذ لا يقدر على ذلك إلا الله، وغاية المخلوق أن يتصرف في بدنك وظاهرك. وأما جعلك مريدًا شائيًا لما شاءه منك، ويريده فلا يقدر عليه إلا ذو العزة الباهرة فإذا عرف العبد عز سيده ولاحظه بقلبه وتمكن شهوده منه كان الاشتغال به عن ذل المعصية أولى به وأنفع له لأنه يصير مع الله لا مع نفسه ومن معرفة عزته في قضائه أن يعرف أنه مدبر مقهور ناصيته بيد غيره لا عصمة له، إلا بعصمته ولا توفيق له إلا بمعونته، فهو ذليل حقير في قبضة عزيز حميد، ومن شهود عزته أيضًا في قضائه أن يشهد أن الكمال والحمد والغناء التام والعزة كلها لله، وإن العبد نفسه أولى بالتقصير والذم والعيب والظلم والحاجة وكلما ازداد شهوده لذله ونقصه وعيبه وفقره ازداد شهوده لعزة الله وكماله وعبده وغناه وكذلك بالعكس، فنقص الذنب وذلته يطلعه على مشهد العزة، ومنها إن العبد لا يريد معصية مولاه من حيث هي معصية فإذا شهد جريان الحكم عليه وجعله فاعلاً لما هو غير مختار له ولا مريد بإرادته ومشيئته واختياره، فكأنه مختار غير مختار، مريد غير مريد، شاء غير شاء، فهذا يشهد عزة الله وعظمته وكمال قدرته. ومنها: أن يعرف بره سبحانه في ستره عليه حال ارتكاب المعصية مع كمال رؤيته له، ولو شاء لفضحه بين خلقه فحذروه، وهذا من كمال بره ومن أسمائه البر، وهذا البر من سيده به نفع كمال غناه عنه، وكمال فقر العبد إليه، فيشتغل بمطالعة هذه المنة، ومشاهدة هذا البر والإحسان والكرم فيذهل عن ذكر الخطيئة فيبقى مع الله سبحانه، وذلك أنفع له من الاشتغال بجنايته وشهود ذل معصيته، فإن الاشتغال بالله والغفلة عما سواه هو المطلب الأعلى والمقصد الأسنى، ولا يوجب هذا نسيان الخطيئة مطلقًا بل في هذه الحال. فإذا فقدها فليرجع إلى مطالعة الخطيئة وذكر الجناية ولكل وقت ومقام عبودية تليق به. ومنها: شهود حلم الله سبحانه وتعالى في إمهال راكب الخطيئة ولو شاء لعاجله بالعقوبة، ولكنه الحليم الذي لا يعجل فيحدث له ذلك معرفته سبحانه باسمه الحليم ومشاهدة صفة الحلم، والتعبد بهذا الاسم والحكمة والمصلحة الحاصلة من ذلك بتوسط الذنب أحب إلى الله، وأصلح للعبد وأنفع من فوتها ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع. ومنها: معرفة العبد كرم ربه في قبول العذر منه إذا اعتذر إليه بنحو ما تقدم (ص99) المدارج من الاعتذار لا بالقدر فإنه مخاصمة ومحاجة كما تقدم (ص99) فيقبل عذره بكرمه وجوده فيوجب له

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك اشتغالاً بذكره وشكره ومحبةٍ أخرى لم تكن حاصلة له قبل ذلك، فإن محبتك لمن شكرك على إحسانك وجازاك به ثم غفر لك إساءتك ولم يؤاخذك بها أضعاف محبتك على شكر الإحسان وحده والواقع شاهد بذلك، فعبودية التوبة بعد الذنب لون (وهذا لون) آخر يعني إن عبودية التوبة بعد الذنب لون، وهذا الذي ذكره أخيرًا من معرفة العبد كرم ربه إلخ لون آخر ومنها: أن يشهد فضله في مغفرته فإن المغفرة فضل من الله، وإلا فلو وأخذ بالذنب لو أخذ يمحض حقه وكان عادلاً محمودًا. وإنما عفوه بفضله لا باستحقاقك فيوجب لك ذلك أيضًا شكرًا له ومحبة وإنابة إليه وفرحًا وابتهاجًا به ومعرفة له باسمه الغفار، ومشاهدة لهذه الصفة، وتعبدًا بمقتضاها وذلك أكمل في العبودية والمحبة والمعرفة. ومنها: أن يكمل لعبده مراتب الذل والخضوع والانكسار بين يديه والافتقار إليه، فإن النفس فيها مضاها الربوبية لو قدرت لقالت كقول فرعون ولكنه قدر فأظهر وغيره عجز فأضمر، وإنما يخلصها من هذه المضاهاة ذل العبودية وهو أربع مراتب. المرتبة الأولى: مشتركة بين الخلق وهي ذل الحاجة والفقر إلى لله فأهل السماوات والأرض محتاجون إليه فقراء إليه، وهو وحده الغني عنهم وكل أهل السماوات والأرض يسألونه وهو لا يسأل أحدًا. المرتبة الثانية: ذل الطاعة والعبودية، وهو ذل الاختيار، وهذا خاص بأهل طاعته وهو سر العبودية. المرتبة الثالثة ذل المحبة، فإن المحب ذليل بالذات لمحبوبه وعلى قدر محبته له يكون ذله، فالمحبة أسست على الذلة للمحبوب كما قيل: أخضع وذل لمن تحب فليس في ... حكم الهوى أنف يسأل ويعقد وقال آخر: مساكين أهل الحب حتى قبورهم ... عليها تراب الذل بين المقابر المرتبة الرابعة: ذل المعصية والجناية، فإذا اجتمعت هذه المراتب الأربع كان الذل لله والخضوع له أكمل وأتم، إذ يذل له خوفًا وخشية ومحبة وإنابة وإطاعة وفقرًا وفاقة، وحقيقة ذلك هو الفقر الذي يشير إليه القوم، وهذا المعنى أجلّ من أن يسمى بالفقر بل هو لب العبودية وسرها وحصوله أنفع شيء للعبد، وأحب شيء إلى الله فلا بد من تقدير لوازمه من أسباب الضعف والحاجة، وأسباب العبودية والطاعة، وأسباب المحبة والإنابة، وأسباب المعصية والمخالفة إذ وجود الملزوم بدون لازمه ممتنع، والغاية من تقدير عدم هذا الملزوم ولازمه مصلحة وجوده خير من مصلحة فوته ومفسدة فوته أكبر من مفسدة وجوده، والحكمة مبناها على دفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما وقد فتح لك الباب، فإن كنت من أهل المعرفة فادخل وإلا فرد الباب وارجع بسلام. ومنها: إن أسماءه الحسنى تقتضي آثارها اقتضاء الأسباب التامة لمسبباتها

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ فاسم السميع البصير يقتضي مسموعًا ومبصرًا. واسم الرزاق يقتضي مرزوقًا، واسم الرحيم يقتضي مرحومًا، وكذلك اسم الغفور والعفو والتواب والحليم يقتضي من يغفر له ويتوب عليه ويعفو عنه ويحلم، ويستحيل تعطيل هذه الأسماء والصفات إذ هي أسماء حسنى وصفات كمال ونعوت جلال وأفعال حكمة، وإحسان وجود فلا بد من ظهور آثارها في العالم. وقد أشار إلى هذا أعلم الخلق بالله صلوات الله وسلامه عليه حيث يقول: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم) . وأنت إذا فرضت الحيوان بحملته معدومًا فلمن يرزق الرزاق سبحانه؟ وإذا فرضت المعصية والخطيئة منتفية من العالم فلمن يغفر وعمن يعفو؟ وعلى من يتوب ويحلم؟ وإذا فرضت الفاقات كلها قد سدت، والعبيد أغنياء معافون فأين السؤال والتضرع والابتهال والإجابة، وشهود الفضل والمنة والتخصيص بالإنعام والإكرام؟ فسبحان من تعرف إلى خلقه بجميع أنواع التعرفات ودلهم عليه بأنواع الدلالات وفتح لهم إليه جميع الطرقات، ثم نصب إليه الصراط المستقيم وعرفهم به ودلهم عليه {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأنفال: 24) . ومنها: السر الذي لا تقتحمه العبارة ولا تجسر عليه الإشارة لولا ينادى عليه منادى الإيمان على رؤوس الأشهاد، فشهد به قلوب خواص العباد فازدادت به معرفة لربها ومحبة له وطمأنينة وشوقًا إليه ولهجًا بذكره وشهودًا لبره ولطفه وكرمه وإحسانه ومطالعة لسر العبودية وإشرافًا على حقيقة الإلهية وهو ما ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله: (لله أفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح) هذا لفظ مسلم. وفي الحديث من قواعد العلم إن اللفظ الذي يجري على لسان العبد خطأ من فرح شديد أو غيظ شديد، ونحوه لا يؤاخذ به ولهذا لم يكن هذا كافرًا بقوله أنت عبدي وأنا ربك قال. والقصد إن هذا الفرح له شأن لا ينبغي للعبد إهماله والإعراض عنه، ولا يطلع عليه إلا من له معرفة خاصة بالله وأسمائه وصفاته وما يليق بعز جلاله، وقد كان الأولى بناطي الكلام فيه إلى ما هو اللائق بإفهام بنى الزمان وعلومهم ونهاية أقدامهم من المعرفة وضعف عقولهم عن احتماله غير أنا نعلم أن الله عز وجل سيسوق هذه البضاعة إلى تجارها ومن هو عارف بقدرها، وإن وقعت في الطريق بيد من ليس عارفًا بها فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، فاعلم أن الله سبحانه وتعالى اختص نوع الإنسان من بين خلقه بأن كرمه وفضله وشرفه وخلقه لنفسه، وخلق كل شيءٍ له وخصه من معرفته ومحبته وقربه وإكرامه بما لم يعطه غيره، وسخر له في سماواته وأرضه وما بينهما حتى ملائكته الذين هم أهل قرية استخدمهم وجعلهم حفظة له في

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ منامه ويقظته وظعنه وإقامته، وأنزل إليه وعليه كتبه، وأرسله وأرسل إليه، وخاطبه وكلمه منه إليه، واتخذ منهم الخليل والكليم والأولياء والخواص والأحبار، وجعلهم معدن أسراره ومحل حكمته وموضع حبه، وخلق لهم الجنة والنار، فالخلق والأمر والثواب والعقاب مداره على النوع الإنساني، فإنه خلاصة الخلق وهو المقصود بالأمر والنهي، وعليه الثواب والعقاب، فللإنسان شأن ليس لسائر المخلوقات، وقد خلق أباه بيده ونفخ من روحه وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شيء وأظهر فضله على الملائكة، فمن دونهم من جميع المخلوقات وطرد إبليس عن قربه وأبعده عن بابه إذ لم يسجد له مع الساجدين، واتخذه عدوًا له فالمؤمنون من نوع الإنسان خير البرية على الإطلاق وخيرية الله على العالمين فإنه خلقه ليتم نعمته عليه وليتواتر إحسانه إليه، وليخصه من كرامته وفضله بما لم تنله أمنيته ولم يخطر على باله، ولم يشعر به ليسأله من المواهب والعطايا الباطنة والظاهرة العاجلة والآجلة التي لا تنال إلا بمحبته ولا تنال محبته إلا بطاعته وإيثاره على ما سواه، فاتخذه محبوبًا له وأعدله أفضل ما يعده محب غنى قادر جواد لمحبوبه، إذ أقدم عليه وعهد إليه عهداً يقدم إليه فيه بأوامره ونواهيه وأعلمه في عهده ما يقربه إليه ويزيده محبة له وكرامة عليه، وما يبعده منه ويسخطه عليه، ويسقطه من عينه، وللمحبوب عدو هو أبغض خلق خلقه إليه قد جاهره بالعداوة، وأمر عباده أن يكون دينهم وطاعتهم وعبادتهم له دون وليهم ومعبودهم الحق، واستقطع عباده واتخذ منهم حزبًا ظاهروه ووالوه على ربهم، وكانوا أعداء له مع هذا العدو، يدعون إلى سخطه ويطعنون في ربوبيته وإلهيته ووحدانيته ويسبونه ويكذبونه ويفتنون أولياءه ويؤذونهم بأنواع الأذى، ويجهدون على إعدامهم من الوجود وإقامة الدالة لهم ومحو كل ما يحبه الله ويرضاه وتبديله بكل ما يسخطه ويكرهه، فعرفه بهذا العدو وطرائقهم وأعمالهم وما لهم، وحذره موالاتهم والدخول في زمرتهم، والكون معهم، وأخبره في عهده أنه أجود الأجودين، وأكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين. وأنه: سبقت رحمته غضبه وحلمه عقوبته وعفوه مؤاخذته، وإنه قد أفاض على خلقه النعمة وكتب على نفسه الرحمة، وإنه يحب الإحسان والجود والعطاء والبر، وإن الفضل كله بيده والخير كله منه، والجود كله له، وأحب ما إليه أن يجود على عباده ويوسعهم فضلاً ويغمرهم إحسانًا وجود، أو يتم عليهم نعمه، ويضاعف لديهم مننه ويتعرف، إليهم بأوصافه وأسماءه، ويتحبب إليهم بنعمه وآلاءه فهو الجواد لذاته، وجود كل جواد خلقه الله ويخلقه أبدًا أقل من ذرة بالقياس إلى جوده، فليس الجواد على الإطلاق إلا هو، وجود كل جواد فمن جوده ومحبته للجود والإعطاء والإحسان والبر والإنعام والأفضال فوق ما يخطر ببال الخلق، أو يدور في أوهامهم وفرحه بعطائه وجوده وأفضاله أشد من فرح الآخذ بما يعطاه أو يأخذ أحوج ما هو إليه وأعظم ما كان قدرًا فإذا اجتمع شدة الحاجة وعظم قدر العطية والنفع بها فما الظن بفرح المعطي؟ ففرح المعطي سبحانه بعطائه أشد وأعظم من فرح هذا بما

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ يأخذه، ولله المثل الأعلى إذ هذا شأن الجواد من الخلق فإنه يحصل له من الفرح والسرور والابتهاج واللذة بعطائه، وجوده فوق ما يحصل لمن يعطيه، ولكن الآخذ غائب بلذة أخذه عن لذة المعطى وابتهاجه وسروره. هذا مع كمال حاجته إلى ما يعطيه وفقره إليه وعدم وثوقه باستخلاف مثله، وخوف الحاجة إليه عند ذهابه والتعرض لذل الاستعانة بنظيره ومن هو دونه، ونفسه قد طبعت على الحرص والشح، فما الظن بمن تقدس وتنزه عن ذلك كله؟ ولو أن أهل سماواته وأرضه وأول خلقه وآخرهم وإنسهم وجنهم ورطبهم ويابسهم قاموا في صعيد واحدٍ فسألوه فأعطى كلاً ما سأله ما نقص ذلك مما عنده مثقال ذرة، وهو الجواد لذاته كما أنه الحي لذاته العليم لذاته السميع البصير لذاته، فجوده العالي من لوازم ذاته، والعفو أحب إليه من الانتقام، والرحمة أحب إليه من العقوبة، والفضل أحب إليه من العدل، والعطاء أحب إليه من المنع، فإذا تعرض عبده ومحبوبة الذي خلقه لنفسه وأعد له أنواع كرامته وفضله على غيره وجعله محل معرفته وأنزل إليه كتابه، وأرسل إليه رسوله واعتنى بأمره، ولم يهمله ولم يتركه سدى، فتعرض لغضبه وارتكب مساخطه وما يكرهه وأبق منه، ووالى عدوه وظاهره عليه، وتحيز إليه وقطع طريق نعمه وإحسانه إليه التي هي أحب شيء إليه، وفتح طريق العقوبة والغضب والانتقام فقد استدعى من الجود الكريم خلاف ما هو موصوف به من الجود والإحسان والبر، وتعرض لإغضابه وإسخاطه وانتقامه، وأن يصير غضبه وسخطه في موضع رضاه، وانتقامه وعقوبته في موضع كرمه وبره وعطاءه، فاستدعى بمعصيته من أفعاله ما سواه أحب إليه منه، وخلاف ما هو من لو لزم ذاته من الجود والإحسان. فبينما هو حبيبه المقرب المخصوص بالكرامة إذا انقلب آبقًا شاردًا رادًا لكرامته، مائلاً عنه إلى عدوه مع شدة حاجته إليه، وعدم استغناءه عنه طرفة عين، فبينما ذلك الحبيب مع العدو في طاعته وخدمته ناسيًا لسيده، منهمكًا في موافقة عدوه، قد استدعى من سيده خلاف ما هو أهله إذ عرضت له فكرة فتذكر بر سيده وعطفه وجوده وكرمه، وعلم أنه لا بد له منه، وأن مصيره إليه، وعرضه عليه، وإنه لم يقدم عليه بنفسه قدم به عليه، على أسوأ الأحوال، ففر إلى سيده من بلد عدوه وجد في الهرب إليه حتى وصل إلى بابه فوضع خده على عتبة بابه وتوسد ثرى أعتابه متذللاً متضرعًا خاشعًا باكيًا آسفًا، يتملق سيده ويسترحمه ويستعطفه ويعتذر إليه، قد ألقى بيده إليه، واستسلم له وأعطاه قياده، وألقى إليه زمانه، فعلم سيده ما في قلبه فعاد مكان الغضب عليه رضا عنه، ومكان الشدة عليه رحمة به، وأبدله بالعقوبة عفوًا، وبالمنع عطاءً وبالمؤاخذة حلمًا، فاستدعى بالتوبة الرجوع من سيده ما هو أهله وما هو موجب أسماءه الحسنى وصفاته العلى، فكيف يكون فرح سيده به، وقد عاد إليه حبيبه ووليه طوعًا واختيارًا، وراجع ما يحبه سيده منه ويرضاه، وفتح طريق البر والإحسان والجود التي هي أحب إلى سيده من طريق الغضب والانتقام والعقوبة؟ وهذا موضع الحكاية المشهورة عن بعض العارفين

(الفصل الأول)

(الفصل الأول) 2346- (1) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عله وسلم: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ ـــــــــــــــــــــــــــــ أنه حصل له شرود وإباق عن سيده، فرأى في بعض السكك بابًا قد فتح وخرج منه صبي يستغيث ويبكى وأمه خلفه تطرده، حتى خرج فأغلقت الباب في وجهه ودخلت فذهب الصبي غير بعيد، ثم وقف مفكرًا فلم يجد له مأوى غير البيت الذي أخرج منه، ولا من يؤويه غير والدته فرجع مكسور القلب حزينًا فوجد الباب مُرتجًا فتوسده، ووضع خده على عتبة الباب ونام فخرجت أمه، فلما رأته على تلك الحالة لم تملك أن رمت نفسها عليه والتزمته تقبله وتبكي وتقول: يا ولدى أين تذهب عني ومن يؤويك سواي؟ ألم أقل لك: لا تخالفني ولا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جبلت عليه من الرحمة لك والشفقة عليك وإرادتي الخير لك؟ ثم أخذته ودخلت فتأمل قول الأم: (لا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جبلت عليه من الرحمة والشفقة) وتأمل قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها) وأين تقع رحمة الوالدة من رحمة الله التي وسعت كل شيء؟ فإذا أغضبه العبد بمعصيته فقد استدعى منه صرف تلك الرحمة عنه فإذا تاب إليه فقد استدعى منه ما هو أهله وأولى به، فهذه نبذة يسيرة تطلعك على سر فرح الله بتوبة عبده أعظم من فرح هذا الواجد لراحلته في الأرض المهلكة بعد اليأس منها، ووراء هذا ما تجفوا عنه العبارة وتدق عن إدراكه الأذهان وإياك وطريقة التعطيل والتمثيل، فإن كلاً منهما منزل ذميم ومرتع على علاته وخيم، ولا يحل لأحدهما أن يجد روائح هذا الأمر ونفسه لأن زكام التعطيل والتمثيل مفسد لحاسة الشم كما هو مفسد لحاسة الذوق، فلا يذوق طعم الإيمان ولا يجد ريحه. والمحروم كل المحروم من عرض عليه الغنى والخير فلم يقبله، فلا مانع لما أعطى الله ولا معطي لما منع، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العليم) ثم بسط ابن القيم الكلام في شرح قول صاحب المنازل: ((الثاني أن يقيم على عبده حجة عدله فيعاقبه على ذنبه)) ثم ذكر النظر الرابع من الأنظار الخمسة التي تحصل عند صدور المعصية من العبد وهو النظر إلى محل الجناية ومصدرها أي النفس الأمارة بالسوء وشرح في ضمنه اللطيفة الثانية من لطائف أسرار التوبة ثم ذكر النظر الخامس وهو نظره إلى الآمر له بالمعصية المزين له فعلها، الحاض له عليها، وهو شيطانه الموكل به، ثم أطال الكلام في شرح اللطيفة الثالثة من أحب الوقف على ذلك رجع إلى المدارج (ج1: ص119: 126) . 2346- قوله: (والله) فيه: القسم على الشيء تأكيدًا له وإن لم يكن عند السامع فيه شك (إني لأستغفر الله وأتوب إليه) يحتمل أن يكون المراد يقول هذا اللفظ بعينه ويؤيده ما أخرجه النسائي بسند جيد من طريق

فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ مجاهد عن ابن عمر أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه في المجلس قبل أن يقوم مائة مرة. ويحتمل أنه يطلب المغفرة ويعزم على التوبة وينشئها. ويؤيده ما سيأتي في آخر الفصل الثاني من حديث ابن عمر قال: إن كنا نعد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المجلس رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور. مائة مرة. أخرجه أحمد، والترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة من طريق محمد بن سوقة عن نافع عن ابن عمر (في اليوم) الواحد (أكثر من سبعين مرة) ، كذا في شعيب عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة، عند البخاري، وفي رواية معمر عن الزهري عن أبي سلمة عند الترمذي، وابن السني إني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة، وهكذا وقع في حديث أنس عند أبي يعلي، والبزار، والطبراني، فيحتمل أن يريد به المبالغة والتكثير. والعرب تصنع السبع والسبعين والسبعمائة موضع الكثرة، ويحتمل أن يريد العدد بعينه. وقوله في رواية الكتاب أكثر مبهم، فيحتمل أن يفسر بحديث ابن عمر المذكور وأنه يبلغ المائة. وقد وقع في رواية محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عند النسائي، وابن ماجة بلفظ: إني لأستغفر الله وأتوب إليه كل يوم مائة مرة. وفي حديث الأغر الآتي وإني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة. قال الشوكاني بعد ذكر الروايات الثلاث: وينبغي الأخذ بالأكثر وهو رواية المائة فيقول في كل يوم أستغفر الله وأتوب إليه مائة مرة، فإن قال اللهم إني أستغفرك فاغفر لي وأتوب إليك فتب على. فقد أخذ بطرفي الطلب، والله سبحانه وتعالى {غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} (غافر: 3) - انتهى. وقد استشكل وقوع الاستغفار من النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو معصوم. والاستغفار يستدعي وقوع المعصية. وأجيب بعدة أجوبة منها: إن المراد باستغفاره - صلى الله عليه وسلم - استغفاره من الذي وقع في حديث الأغر الآتي وسيأتي تفسيره وتوضيحه. ومنها قول ابن الجوزي: هفوات لطباع البشرية لا يسلم منها أحد، والأنبياء وإن عصموا من الكبائر فلم يعصموا من الصغائر. كذا قال وهو مفرع على خلاف المختار، والراجح عصمتهم من الصغائر أيضًا. ومنها: قول ابن بطال الأنبياء أشد الناس اجتهادًا في العبادة لما أعطاهم الله تعالى من المعرفة فهم دائبون في شكره معترفون له بالتقصير - انتهى. ومحصله جوابه أن الاستغفار من التقصير في أداء الحق الذي يجب لله تعالى. ويحتمل أن يكون لاشتغاله بالأمور المباحة من أكل أو شرب أو جماع أو نوم أو راحة أو لمخاطبة الناس، والنظر في مصالحهم ومحاربة عدوهم تارة ومداراته أخرى، وتأليف المؤلفة وغير ذلك مما يحجبه عن الاشتغال بذكر الله والتضرع إليه، ومشاهدته ومراقبته فيرى ذلك ذنبًا بالنسبة إلى المقام العلي وهو الحضور في حظيرة القدس. ومنها إن الاستغفار تشريع

رواه البخاري. 2347- (2) وعَنْ الأَغَرِّ الْمُزَنِيِّ قال: قال رسول الله صلى الله عله وسلم: إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي ـــــــــــــــــــــــــــــ وتعليم لأمته أو من ذنوب أمته فهو كالشفاعة لهم. وقال الغزالي في الإحياء: كان - صلى الله عليه وسلم - دائم الترقي، فإذا ارتقى إلى حال رأى ما قبلها دونها فاستغفر من الحالة السابقة، وهذا مفرع على أن العدد المذكور في استغفاره كان مفرقًا بحسب تعدد الأحوال وظاهر ألفاظ الحديث يخالف ذلك. ومنها: إن استغفاره كان إظهارًا للعبودية وافتقارًا لكرم الربوبية. (رواه البخاري) في الدعوات وأخرجه أيضًا أحمد (ج2: ص282) ، والطبراني في الأوسط كما في مجمع الزوائد (ج10: ص208) . 2347- قوله: (وعن الأغر) بفتح الهمزة والغين المعجمة وتشديد الراء (المزني) نسبة إلى قبيلة مزينة مصغرًا. قال في التقريب: الأغر بن عبد الله المزني، ويقال: الجهني. ومنهم من فرق بينهما صحابي. قال البخاري: المزني أصح. وقال في الخلاصة: الأغر بن يسار المزني أو الجهني، والمزني أصح صحابي من المهاجرين الأولين. وقيل: اسم أبيه عبد الله. له ثلاثة أحاديث خرج له مسلم منها فرد حديث، وروى عنه ابن عمر ومعاوية بن قرة وأبو بردة. قلت: غاير بين الأغر المزني والجهني ابن منده، وكذا مال إلى التفرقة بينهما ابن الأثير، وجزم أبو نعيم وابن عبد البر بأنهما واحد، وصوبه الحافظ في الإصابة والتهذيب. (إنه ليُغان) بضم الياء وبالغين المعجمة مبنيًا للمفعول من باب ضرب من الغين وهو الغين والغطاء لغة، والمراد هنا ما يغشى القلب ويغطيه (على قلبي) نائب فاعل يغان أي يغشى أو يغطى قلبي. قال الجزري: الغين الغيم، وغينت السماء تغان إذا أطلق عليها الغيم. وقيل: الغين شجره ملتف أراد ما يغشاه من السهو الذي لا يخلو منه البشر لأن قلبه أبدًا كان مشغولاً بالله تعالى، فإن عرض له وقتًا ما عارض بشري يشغله من أمور الأمة والملة ومصالحهما عد ذلك ذنبًا وتقصيرًا فيفزع إلى الاستغفار - انتهى. وقال القاري: يقال: غين عليه كذا أي غطى عليه، ((وعلى قلبي)) مرفوع على نيابة الفاعل يعني ليغشى على قلبه ما لا يخلوا البشر عنه من سهو والتفات إلى حظوظ النفس من مأكول ومنكوح ونحوهما، فإنه كحجاب وغيم يطبق على قلبه فيحول بينه وبين الملأ الأعلى حيلولة ما فيستغفر تصفية للقلب وإزاحة للغاشية، وهو إن لم يكن ذنبًا لكنه من حيث أنه بالنسبة إلى سائر أحواله نقص وهبوط إلى حضيض البشرية يشابه الذنب فيناسبه الاستغفار - انتهى. قلت: تحير العلماء في بيان معنى هذا الحديث وتأويله حتى قال السيوطي: هذا من المتشابه الذي لا يعلم معناه، وقد وقف الأصمعي إمام اللغة على تفسيره وقال: لو كان عن غير قلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - لتكلمت عليه وفسرته، ولكن العرب تزعم أن الغين الغم الرقيق. وقال

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ السندي: حقيقته بالنظر إلى قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تدري وإن قدره - صلى الله عليه وسلم - أجل وأعظم مما يخطر في كثير من الأوهام، فالتفويض في مثله أحسن نعم القدر المقصود بالإفهام مفهوم، وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يحصل له حالة داعية إلى الاستغفار فيستغفر كل يوم مائه مرة فكيف غيره والله أعلم. وقال عياض: المراد بالغين الفترات والغفلات عن الذكر الذي كان شأنه الدوام عليه، فإذا فتر عنه أو غفل لأمر ما عد ذلك ذنبًا فاستغفر منه وقيل: هو شيء يعترى القلوب الصافية مم يتحدث به النفس فيهوشها. وقيل: هو السكينة التي تغشى قلبه، ويكون استغفاره إظهارًا للعبودية والافتقار وملازمة الخشوع وشكرًا لما أولاه. وقيل: هي حالة خشية وإعظام تغشى القلب ويكون استغفاره شكرها كما سبق. ومن ثم قال المحاسبي: خوف المتقربين الأنبياء والملائكة خوف إجلال وإعظام وإن كانوا آمنين عذاب الله. وقال الشيخ شهاب الدين السهروردي: لا ينبغي أن يعتقد أن الغين نقص في حال صلوات الله عليه وسلامه، بل كمال أو تتمة كمال، وهذا سر دقيق لا ينكشف إلا بمثال، وهو أن الجفن المسبل على حدقة البصر، وإن كان صورته صورة نقصان من حيث هو إسبال وتغطية على ما من شأنه. أن يكون باديًا مكشوفًا، فإن المقصود من خلق العين إدراك المدركات الحسية، وذلك لا يتأتى إلا بانبعاث الأشعة الحسية من داخل العين واتصالها بالمرئيات على مذهب قوم، وبانطباع صور المدركات في الكرة الجليدية على مذهب آخر، فكيفما قدر لا يتم المقصود إلا بانكشاف العين عما يمنع من انبعاث الأشعة، ولكن لما كان الهواء المحيط بالأبدان الحيوانية قلما يخلو من الأغبرة السائرة بحركة الرياح، فلو كانت الحدقة دائمة الانكشاف لاستضرت بملاقاتها وتراكمها عليها، فأسبلت أغطية الجفون وقاية لها ومصقلة لتنصقل الحدقة بأسباب الأهداب، ورفعها لخفة حركة الجفن. فيدوم جلاؤها ويحتد نظرها، فالجفن وإن كان نقصانًا ظاهرًا فهو كمال حقيقة، فهكذا لم تزل بصيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - معترضة، لأن تصدأ بالأغبرة الثائرة من أنفاس الأغيار، فلا جرم دعت الحاجة إلى إسبال جفن من الغين على حدقة بصيرته سترًا لها ووقاية وصقالاً عن تلك الأغبرة المثارة بروية الأغيار وأنفاسها فصح أن الغين وإن كانت صورته نقصًا فمعناه كمال وصقال حقيقة. ثم قال أيضًا: إن روح النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يزل في الترقي إلى مقامات القرب مستتبعة للقلب في رقيها إلى مركزها، وهكذا القلب كان يستتبع نفسه الزكية ولا خفاء إن حركة الروح والقلب أسرع وأتم من نهضة النفس وحركتها، فكانت خطأ النفس تقصر عن مدى الروح والقلب في العروج والولوج في حرم القرب ولحوقها بهما فاقتضت العواطف الربانية على الضعفاء من الأمة إبطاء حركة القلب بإلقاء الغين عليه لئلا يسرع القلب ويسرح في معارج الروح ومدارجها، فتنقطع علاقة النفس عنه لقوة الانجذاب فتبقى العباد مهملين محرومين عن الاستنارة بأنوار النبوة والاستضاءة بمشكاة مصباح الشريعة،

وَإِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ. رواه مسلم. 2348- (3) وعنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ ـــــــــــــــــــــــــــــ وحيث كان يرى - صلى الله عليه وسلم - إبطاء القلب بالغين الملقى عليه وقصور النفس عن شأو ترقي الروح إلى الرفيق الأعلى كان يفزع إلى الاستغفار إذ لم تف قواها في سرعة اللحوق لها - انتهى كلام الشيخ السهروردي. وقد ذكر الحافظ محصله في الفتح في شرح حديث أبي هريرة المتقدم. وقال التوربشتي في شرح المصابيح: ((ونحن بالنور المقتبس من مشكاة مشايخ الصوفية نذهب في الوقت عليهم مذهبين)) أحدهما: أن نقول لما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أتم القلوب صفاءً وأكثرها ضياءً وأعرفها عرفانًا، وكان معنيًا مع ذلك بتشريع الملة وتأسيس السنة ميسرًا غير معسر لم يكن له بد من النزول إلى الرخص والإلتفات إلى حظوظ النفس، مع ما كان ممتحنًا به من أحكام البشرية، وكان إذا تعاطى شيئًًا من ذلك أسرع كدورة ما إلى القلب لكمال رقته وفرط نورانيته، فإن الشيء كلما كان أرق وأصفى كان ورود التأثيرات عليه أبين وأهدى، وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا أحس بشيء من ذلك عده على النفس ذنبًا فاستغفر منه، ولهذا المعنى كان استغفاره عند خروجه من الخلاء فيقول: غفرانك. والآخر: أن تقول: إن الله تعالى كما اقتناه عن العالمين أراد أن يبقيه لهم لينتفعوا به، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لو ترك ما هو عليه، وفيه من الحضور والتجليات الإلهية لم يكن لينفرغ لتعريف الجاهد وتعليم الجاهل، فاقتضت الحكمة الإلهية أن يرد إليهم الفينة بعد الفينة بنوع من الحجية والاستتار ليكمل حظهم عنه فيرى ذلك من سيئات حاله فيستغفر منه والله أعلم - انتهى. (وإني لأستغفر الله) جملة أخرى معطوفة (في اليوم مائة مرة) قال المناوي: أراد بالمائة التكثير فلا ينافي رواية: سبعين. (رواه مسلم) ، وأخرجه أيضًا أحمد (ج4: ص211: 260) ، والبخاري في تاريخه (ج1: ق2 ص44) ، وأبو داود في أواخر الصلاة، كلهم من طريق حماد عن ثابت عن أبي بردة عن الأغر المزني ونسبه في الحصن والكنز للنسائي أيضًا. 2348- قوله: (وعنه) أي الأغر المزني (يا أيها الناس توبوا إلى الله) فيه تلميح إلى قوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} (النور: 31) فالتوبة واجبة على الناس جميعًا. قال النووي: هذا الأمر بالتوبة موافق لقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً} (التحريم: 8) قلت: وجوب التوبة ظاهر بحديث الأغر هذا، وبالأحاديث الأخرى وبالآيتين المذكورتين، وهو واضح بنور البصيرة عند من شرح الله بنور الإيمان صدره، فإن من عرف أن لا سعادة في دار البقاء إلا في لقاء الله تعالى، وإن كل محجوب عنه يشقى لا محالة محول بينه وبين ما يشتهي محترق بنار الفراق

فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ. رواه مسلم. 2349- (4) وعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي ـــــــــــــــــــــــــــــ ونار الجحيم، وعلم أن لا مبعد عن لقاء الله إلا إتباع الشهوات ولا مقرب من لقاءه إلا الإقبال على الله بدوام ذكره، وعلم أن الذنوب سبب كونه محجوبًا مبعدًا عن الله تعالى. فلا يشك في أن الانصراف عن طريق البعد واجب للوصول إلى القرب. وإنما يتم الانصراف بالغلم والندم والعزم، وهكذا يكون الإيمان الحاصل عن البصيرة، ومن لم يترشح لهذا المقام فيلاحظ ما ورد في ذلك من الآيات والأحاديث وارجع للبسط إلى كتاب التوبة من الإحياء للغزالي. قال القاري: قوله: ((يا أيها الناس توبوا إلى الله)) الظاهر إن المراد بهم المؤمنون لقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور: 31) وفي الآية والحديث دليل وشاهد على أن كل أحد في مقامه وحاله يحتاج إلى الرجوع لتوقية كماله، وإن كل أحد مقصر في القيام بحق عبوديته كما قضاه وقدر، قال تعالى: {كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} (عبس: 23) ويدل عليه أيضًا قوله: (فإني أتوب إليه) أي أرجع رجوعًا يليق به إلى شهوده أو سؤاله أو إظهار الافتقار بين يديه (في اليوم مائة مرة) فأنتم أولى بأن ترجعوا إليه في ساعة ألف كرة (رواه مسلم) وأخرجه أيضًا أحمد (ج4: ص211، 260) كلاهما من طريق شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي بردة أنه سمع الأغر المزني يحدث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: أيها الناس. إلخ وأخرج النسائي، وابن أبي شيبة، والطبراني، والحكيم الترمذي بنحوه. 2349- قوله: (فيما يروى) هكذا في رواية أبي أسماء عن أبي ذر، ووقع في رواية أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر فيما روى أي بلفظ الماضي (إنه) قال القاري: ضبط بفتح الهمزة وكسرها فتأمل في الفرق بينهما. (قال: يا عبادي) قال الطيبي: الخطاب لثقلين لتعاقب التقوى والفجور فيهم، ويحتمل أن يعم الملائكة فيكون ذكرهم مدرجًا في الجن لشمول الإجتنان لهم، وتوجه هذا الخطاب لا يتوقف على صدور الفجور ولا على إمكانه - انتهى. قال شيخنا: والظاهر هو الاحتمال الأول (إني حرمت) أي منعت (الظلم على نفسي) أي تقدست عنه وتعاليت فهو في حقي كالمحرم في حق الناس، إذا لا يتصور في حقه ظلم سواء قلنا إن الظلم وضع الشيء في غير محله أو أنه التعدي في ملك الغير أو مجاوزة الحد وهو المحمود في كل فعال من غير فصل، لأن فعله إما عدل وإما فضل. قال النووي قال العلماء: قوله حرمت الظلم على نفسي. معناه تقدست عنه وتعاليت والظلم مستحيل في حق الله سبحانه وتعالى، كيف يجاوز سبحانه حدًا وليس فوقه من يطيعه وكيف يتصرف في غير

وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ ملك، والعالم كله ملكه وسلطانه. وأصل التحريم في اللغة المنع فسمى تقديسه عن الظلم تحريمًا لمشابهته للممنوع في أصل عدم الشيء - انتهى. (وجعلته بينكم محرمًا) أي حكمت بتحريمه فيما بينكم فإذا علمتم ذلك (فلا تظالموا) بفتح التاء وشدة الظاء للإدغام وتخفيفه أصله تتظالموا حذفت إحدى التاءين تخفيفًا أي لا يظلم بعضكم بعضًا، والمعنى أنه تعالى حرم الظلم عل عباده ونهاهم أن يتظالموا فيما بينهم فحرام على كل عبد أن يظلم غيره (يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته) يعني إن الهداية لمن حصلت إنما هي من عند الله لا من عند نفسه، وكذلك الطعام والكسوة لمن حصل فإنما هو من عند الله لا من عند نفسه، وهذا يقتضي أن جميع الخلق مفتقرون إلى الله تعالى في جلب مصالحهم ودفع مضارهم في أمور دينهم ودنياهم، وإن العباد لا يملكون لأنفسهم شيئًا من ذلك كله، وإن من لم يتفضل الله عليه بالهدى والرزق فإنه يحرمهما في الدنيا. قال المازري: ظاهر هذا أنهم خلقوا على الضلال إلا من هداه الله تعالى، وفي الحديث المشهور كل مولود يولد على الفطرة. قال: فقد يكون المراد بالأول وصفهم بما كانوا عليه قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم أو أنهم تركوا وما في طباعهم من إيثار الشهوات والراحة وإهمال النظر لضلوا، وهذا الثاني أظهر. وقال المناوي: كلكم ضال أي غافل عن الشرائع قبل إرسال الرسل إلا من هديته أي وقفته للإيمان أي للخروج عن مقتضى طبعه. وقال القاري: هذا لا ينافي قوله عليه الصلاة والسلام كل مولود يولد على الفطرة، فإن المراد بالفطرة التوحيد، والمراد بالضلالة جهالة تفصيل أحكام الإيمان وحدود الإسلام. ومنه قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى} (الضحى: 7) - انتهى. وقال ابن رجب: قد ظن بعضهم أن قوله كلكم ضال إلا من هديته معارض لحديث عياض بن حماد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يقول الله عز وجل خلقت عبادي حنفاء)) ، وفي رواية ((مسلمين فاجتالتهم الشاطين)) وليس كذلك فإن الله خلق بني آدم وفطرهم على قبول الإسلام، والميل إليه دون غيره والتهيأ لذلك والاستعداد له بالقوة لكن لا بد للعبد من تعليم الإسلام بالفعل، فإنه قبل التعلم جاهل لا يعلم شيئًا كما قال تعالى: {وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً} (النحل: 78) وقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} والمراد {وَجَدَكَ} غير عالم مما علمك من الكتاب والحكمة، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا} (الشورى: 52) فالإنسان يولد مفطورًا على قبول الحق فإن هداه الله تعالى سبب له من يعلمه الهدى فصار مهديًا بالفعل بعد أن كان مهديًا بالقوة، وإن خذله الله قيض له من يعلمه ما يغير فطرته كما قال - صلى الله عليه وسلم - كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه. وأما سؤال المؤمن من الله الهداية. فإن الهداية نوعان: هداية مجملة، وهي الهداية للإسلام والإيمان وهي حاصلة

فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ. يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ. يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ. يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ ـــــــــــــــــــــــــــــ للمؤمن، وهداية مفصلة، وهي هداية إلى معرفة تفاصيل أجزاء الإيمان والإسلام وإعانته على فعل ذلك، وهذا يحتاج إليه كل مؤمن ليلاً ونهاراً، ولهذا أمر الله عباده أن يقرؤوا في كل ركعة من صلاتهم قوله: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} (فاستهدوني) أي ساوني الهدى وأطلبوه مني (أهدكم) أوفقكم للهداية (يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته) قال العلقمي: وذلك لأن الناس عبيد لا يملكون شيئاً وخزائن الرزق بيد الله عز وجل فمن لا يطعمه بفضله بقى جائعاً بعد له إذ ليس عليه إطعام أحد. فإن قلت: كيف هذا مع قوله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا} (هود: 6) قلت: هذا التزام منه تفضلاً، لا أن للدابة حقاً بالأصالة. فإن قلت كيف ينسب الإطعام إلى الله تعالى؟ ونحن نشاهد الأرزاق مرتبة على هذه الأسباب الظاهرة من الحرف والصناعات وأنواع للاكتساب. قلت: هو القدر لتلك الأسباب الظاهرة بقدرته وحكمته الباطنة، فالجاهل محجوب بالظاهر، عن الباطن، والعارف محجوب بالباطن عن الظاهر، قال والعالم جماده وحيوانه مطيع لله عز وجل طاعة العبد لسيده، فكما أن السيد يقول لعبده أعط فلانًا كذا، وأهد لفلان كذا، وتصدق على هذا الفقير بكذا، كذلك الله عز وجل يسخر السحاب فيسقي أرض فلان أو البلد الفلاني ويحرك قلب فلان لإعطاء فلان، ويوجه فلان إلى فلان بوجه من الوجوه لينال منه نفعاً ونحو ذلك - انتهى. وقال القاري: إلا من أطعمته أي من أطعمته وبسطت عليه الرزق وأغنيته فلا يشكل أن الإطعام عام للجميع فكيف يستثني (فاستطعموني) أي اطلبوا الطعام وتيسير القوت مني (أطعمكم) أي أيسر لكم أسباب تحصيله (كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني) أي أطلبوا مني الكسوة (أكسُكم) بضم السين أي أيسر لكم ستر عوراتكم وأزيل عنكم مساوي كشف سوءاتكم. قال الطيبي: فإن قلت ما معنى الاستثناء في قوله إلا من أطعمته وكسوته إذ ليس أحد من الناس محروم منهما. قلت: الإطعام والكسوة لما كانا معبرين عن النفع التام والبسط في الرزق وعدمهما عن التقتير والتضييق كما قال الله تعالى: {اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقَدِرُ} (الرعد: 26) سهل التقصى عن الجواب، من هذا أن ليس المراد من إثبات الجوع والعرى في المستثنى منه، نفي الشبع والكسوة بالكلية، وليس في المستثنى إثبات الشبع والكسوة مطلقاً، بل المراد بسطهما وتكثيرهما وبوضع الحديث الرابع عشر من الفصل الثاني أنه وضع قوله: ((وكلكم فقراء إلا من أغنيته)) في موضوعه - انتهى. (يا عبادي أنكم تُخطِئون) بضم أوله وكسر ثالثه من أخطأ، وبفتحهما من خطئ يخطأ خطأ أي أذنب فهو خطئ قال النووي: الرواية المشهورة بضم التاء، وروى بفتحها وفتح الطاء يقال خطأ يخطأ إذا فعل ما يأثم به فهو خطئ، ومنه قوله تعالى {اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} (يوسف: 97) ويقال في الإثم أيضاً أخطأ فهما صحيحان

بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ. يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي. يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ (بالليل والنهار) أي وخطيئة كل بحسب مقامه (وأنا أغفر الذنوب جميعاً) أي بالتوبة أو ما عدا الشرك إن شاء وهي كقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} (الزمر: 53) (فاستغفروني) أي أطلبوا مني المغفرة (إنكم لن تبلغوا ضري) بفتح الضاد وضمه (فتضروني) حذف. نون الإعراب منه في نصبه بأن المضمرة في جواب النفي وكذا قوله (فتنفعوني) يعني أن العباد لا يقدرون أن يوصلوا إلى الله نفعاً ولا ضراً، فإن الله تعالى في نفسه غني حميد لا حاجة له بطاعات العباد ولا يعود نفعها إليه. وإنما هم ينتفعون بها ولا يتضرر بمعاصيهم وإنما هم يتضررون بها قال الله تعالى {وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللهَ شَيْئاً} (آل عمران: 176) وقال حاكياً عن موسى وقال موسى: {إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} (إبراهيم: 8) . قال القاري: أي: لا يصح منكم ضري ولا نفعي فإنكم لو اجتمعتم على عبادتي أقصى ما يمكن ما نفعتموني في ملكي، ولو اجتمعتم على عصياني أقصى ما يمكن لم تضروني بل {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} (الإسراء: 7) وهذا معنى قوله: (لو أن أولكم) أي: من الموجودين (وآخركم) ممن سيوجد. وقال ابن المالك: أي: من الأموات والأحياء والمراد جميعكم (وإنسكم وجنكم) أي: وملائكتكم تعميم بعد تعميم للتأكيد أو تفصيل وتبيين (كانوا على أتقى رجل قلب منكم) أي: لو كنتم على غاية التقوى بأن تكونوا جميعاً على تقوى أتقى قلب رجل واحد منكم. وقال القاضي: أي على أتقى أحوال قلب رجل، أي كان كل واحد منكم على هذه الصفة كذا في المرقاة. وقال الشيخ الدهلوي في ترجمته: ((باشند بر برهيزكار ترين دل يك مرداز شما، يعني أكر فرض كرده شود دل يك كسى از شماكه متقي ترين دلها باشد وشماهمه برين صفت باشيد)) (ما زاد ذلك) أي: ما ذكر (في ملكي شيئًا) إما مفعول به أو مصدر، وهذا راجع إلى لن تبغلوا نفعي فتنفعوني نشرًا مشوشًا اعتمادًا على فهم السامع (كانوا على أفجر) أي: فجورًا فجرًا وأفجر أحوال (قلب رجل واحد منكم) وقال الشيخ الدهلوي في ترجمته: ((باشند برب فرماني كنده وكناه كننده ترين دل يك مرداز شما)) (ما نقص) بالتخفيف (ذلك) أي ما ذكر (من ملكي شيئًا) قال الطيبي: يجوز أن يكون مفعولاً به إن قلنا إن نقص متعد، ومفعولاً مطلقًا إن قلنا أنه لازم أي نقص نقصانًا قليلاً، والتنكير فيه للتحقير بدليل قوله في الحديث الآتي بدله جناح بعوضة، وهذا راجع إلى قوله

يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((لن تبلغوا ضري فتضروني)) والمعنى أن ملكه لا يزيد بطاعة الخلق ولو كانوا كلهم بررة، أتقياء قلوبهم على أتقى قلب رجل منهم، ولا بنقص ملكه بمعصية العاصين، ولو كان الجن والإنس كلهم عصاة فجرة قلوبهم على قلب أفجر رجل منهم فإنه سبحانه الغني بذاته عن من سواه، وله الكمال المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله، فملكه ملك كامل لا نقص فيه بوجه من الوجوه على أي وجه كان (قاموا) أي وقفوا (في صعيد واحد) أي في أرض واحدة ومقام واحد قال ابن حجر: الصعيد يطلق على التراب وعلى وجه الأرض وهو المراد هنا (فسألوني) أي كلهم أجمعون. قال الطيبي: قيد السؤال بالإجماع في مقام واحد، لأن تزاحم السؤال وازدحامهم مما يدهش المسئول ويهم ويعسر عليه إنجاح مآربهم وإسعاف مطالبهم (فأعطيت كل إنسان) وكذا كل جني (مسألته) أي في آن واحد ومكان واحد (ما نقص ذلك) أي الإعطاء (مما عندي) والمراد بهذا ذكر كمال قدرته تعالى وكمال ملكه، وأن ملكه وخزائنه لا تنقص بالعطاء ولو أعطى الأولين والآخرين من الجن والإنس جميع ما سألوه في مقام واحد، وفي ذلك حث الخلق على سؤاله وإنزال حوائجهم به (إلا كما ينقص) أي كالنقص أو كالشيء الذي ينقصه (المخيط) بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الياء المثناة تحت هو ما يخلط به الثواب كالإبرة ونحوها (إذا أدخل البحر) بالنصب على أنه مفعول ثان للإدخال، وذكر ذلك لتحقيق أن ما عنده لا ينقص البتة كما قال تعالى: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللهِ بَاقٍ} (النحل: 96) . فإن البحر إذا غمس فيه إبرة، ثم أخرجت لم ينقص من البحر بذلك شيء قال الطيبي: لما لم يكن ما ينقصه المخيط محسوسًا ولا معتدًا به عند العقل، بل كان في حكم العدم كان أقرب المحسوسات وأشبهم بإعطاء حوائج الخلق كافة، فإنه لا ينقص مما عنده شيئًا. وقال النووي قال العلماء: هذا تقريب إلى الأفهام، ومعناه لا ينقص شيئًا أصلاً كما قال في الحديث الآخر: لا يغيضها نفقة. أي لا ينقصها نفقة لأن ما عند الله لا يدخله نقص، وإنما يدخل النقص المحدود الفاني وعطاء الله تعالى من رحمته وكرمه وهما صفتان قديمتان لا يتطرق إليهما نقص، فضرب المثل بالمخيط في البحر لأنه غاية ما يضرب في المثل في القلة، والمقصود التقريب إلى الأفهام بما شاهدوه فإن البحر من أعظم المرئيات عيانًا وأكبرها، والإبرة من أصغر الموجودات مع أنها صقيلة لا يتعلق بها ماء - انتهى. قلت: قد تبين في الحديث الذي أخرجه الترمذي وابن ماجة السبب الذي لأجله لا ينقص ما عند الله بالعطاء بقوله: ((ذلك بأني جواد وأجد ما جد أفعل ما أريد عطائي كلام وعذابي كلام وإنما أمري لشيء إذا أردت أن أقول له كن فيكون)) وهذا مثل قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (يس: 82) فهو سبحانه إذا أراد شيئاً من عطاء أو عذاب أو غير ذلك قال له

يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا عَلَيْكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ كن فيكون، فكيف يتصور أن ينقص هذا، وكذلك إذا أراد أن يخلق شيئًا قال له: كن فيكون (إنما هي) أي القصة (أعمالكم أحصيها) أي أحفظها وأكتبها (عليكم) قال القاري: كذا في الأصول المعتمدة يعني من المشكاة بلفظ: عليكم وهو المناسب للمقام. ووقع في أصل ابن حجر لكم. وقال وفي نسخة عليكم. قلت: والذي في صحيح مسلم لكم، وهكذا وقع في جامع الأصول (ج11: ص349) وفي شرح الأربعين النووية لابن رجب وفي الجامع الصغير للسيوطي، والترغيب للمنذري فهو المعتمد. قال القاري: وقال الطيبي: قوله: أعمالكم أي جزاء أعمالكم تفسير للضمير المهم. وقيل: هو راجع إلى ما يفهم من قوله: (على أتقى قلب رجل، وعلى أفجر قلب رجل) وهو الأعمال الصالحة والطالحة يعني أنه سبحانه يحصي أعمال عباده ثم يوفيهم إياها بالجزاء عليها (ثم أوفيكم إياها) بتشديد الفاء من التوفية، وهي إعطاء الحق على التمام أي أعطيكم جزاء أعمالكم يوم القيامة وافيًا تامًا إن خيرًا فخير وإن شر فشر، وهذا كقوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} (الزلزلة: 7، 8) وقوله: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} (الكهف: 49) وقوله: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} وقوله: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} (فمن وجد خيرًا) أي: توفيق خير من ربه وعمل خير من نفسه (فليحمد الله) أي: على توفيقه إياه للخير لأنه الهادي (ومن وجد غير ذلك) أي: شرًا ولم يصرح به تحقيرًا له وتنفيرًا عنه (فلا يلومن إلا نفسه) لأنه صدر من نفسه أو لأنه باق على ضلاله الذي أشير إليه بقوله كلكم ضال قاله القاري. وقال العلقمي: إن الطاعات التي يترتب عليها الثواب والخير بتوفيق الله عز وجل فيجب حمده على التوفيق والمعاصي التي يترتب عليها العقاب والشر، وإن كانت بقدر الله وخذلانه العبد فهي كسب للعبد فليلُم نفسه لتفريطه بالكسب القبيح. وقال ابن رجب: قوله: ((ثم أوفيكم إياها)) الظاهر إن المراد توفيتها يوم القيامة كما قال تعالى: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ويحتمل أن المراد يوفي عباده جزاء أعمالهم في الدنيا والآخرة. ثم بسط شرح قوله: ((فمن وجد خيرًا)) إلخ. على هذين الاحتمالين من أحب الوقوف عليه رجع إلى شرحه للأربعين النووية (رواه مسلم) في البر والصلة من رواية سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر، وفي آخره قال سعيد بن عبد العزيز: كان أبو إدريس الخولاني إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه، وأخرجه مسلم أيضًا من رواية قتادة عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يروى عن ربه عز وجل: إني حرمت على نفسي الظلم وعلى عبادي فلا تظالموا. قال مسلم

2350- (5) وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ فِي بني إسرائيل رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِنْسَانًا ثُمَّ خَرَجَ يَسْأَلُ، فأتى راهبًا فسأله فقال: أَلَهُ تَوْبَةً؟ قَالَ: لا. فَقَتَلَهُ. وَجَعَلَ يَسْأَلُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ : وساق أي: أبو أسماء الحديث بنحوه، وحديث أبي إدريس أتم منه - انتهى. قلت رواه أحمد (ج5: ص160) من طريق قتادة عن أبي قلابة عن أبي أسماء وساقه بلفظه، وأخرجه أحمد (ج5: ص154: 177) ، والترمذي، وابن ماجة، والبيهقي من رواية: شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي ذر ويأتي لفظه في الفصل الثاني 2350- قوله: (كان في بني إسرائيل رجل) قال الحافظ: لم أقف على اسمه ولا على اسم أحد من الرجال ممن ذكر في القصة (قتل تسعة وتسعين إنسانًا) زاد الطبراني من حديث أبي معاوية بن أبي سفيان كلهم ظلمًا (ثم خرج يسأل) أي عن التوبة والاستغفار، وفي رواية هشام عن قتادة عند مسلم فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب (فأتى راهبًا) الراهب واحد رهبان النصارى، وهو الخائف والمتعبد المتنزل عن الخلق، وفيه إشعار بأن ذلك وقع بعد رفع عيسى عليه السلام، فإن الرهبانية إنما ابتداعها أتباعه كما نص عليه في القرآن (فسأله فقال) أي: القاتل (أله) أي: لهذا الفعل أو لهذا الفاعل (توبة) بعد هذه الجريمة العظيمة، وقوله: ((أله توبة)) كذا في جميع نسخ المشكاة الحاضرة عندنا. قال القاري: وفي نسخة يعني من المشكاة كما في نسخة المصابيح ألي توبة. قلت: في المصابيح الموجودة عندنا من طبعة بولاق 1294 فقال له: هل لي توبة. وليس في البخاري الهمزة ففي أصل الحافظ له توبة. قال الحافظ: بحذف أداة الاستفهام، وفيه تجريد أو التفات، لأن حق السياق أي مقتضى الظاهر أن يقول: ألي توبة. - انتهى. وفي أصل العيني والقسطلاني فقال له: هل من توبة. قال العيني: يعني فقال للراهب: هل من توبة لي. وقال القسطلاني: سقط لأبوي ذر والوقت لفظة من فتوبة رفع، وفي رواية مسلم أنه قتل تسعة وتسعين نفسًا فهل له من توبة (قال) أي: الراهب في جوابه (لا) أي: لا توبة له أو لك بعد أن قتلت تسعة وتسعين إنسانًا وأفتاه بذلك لغلبة الخشية عليه، واستبعاده إن تصح توبته بعد قتله لمن ذكر أنه قتله بغير حق (فقتله) وكمل به مائة. قال القاري: لعله لكونه أوهمه إنه لا يقبل له توبة منها وإن رضي مستحقوه. وقيل: لأن فتياه اقتضت عنده أن لا نجاة له فيئس من الرحمة ثم تداركه الله فندم على ما صنع فرجع يسأل. وفيه إشارة إلى قلة فطنة الراهب لأنه كان من حقه التحرز ممن اجترأ على القتل حتى صار له عادة بأن لا يواجهه بخلاف مراده، وأن يستعمل معه المعاريض مداراة عن نفسه هذا لو كان الحكم عنده صريحًا في عدم قبول توبة القاتل فضلاً عن أن الحكم لم يكن عنده إلا مظنونًا (وجعل) في البخاري (فجعل) (يسأل) أي من

فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: إيت قَرْيَةَ كذا وكذا، فأدركه الموت فناء بصدره نحوها، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تَقَرَّبِي وَإِلَى هَذِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــ الناس ليدلوه على من يأتي إليه فيسأله عن قبول توبته (فقال له رجل) عالم بعد أن سأله فقال: إني قتلت مائة إنسان فهل لي من توبة، فقال: نعم ومن يحول بينك وبين التوبة. ففي رواية هشام: فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل عالم فقال إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة، فقال: نعم ومن يحول بينه وبين التوبة، (إئت قرية كذا) باسمها (وكذا) بوصفها أي القرية الفلانية التي أهلها صلحاء وتب إلى الله واعبده معهم فقصد تلك القرية. وفي رواية هشام: انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسًا يعبدون الله تعالى فاعبد الله تعالى معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء فانطلق حتى إذا نصف الطريق (أي بلغ نصفها) أتاه الموت. واسم هذه القرية نصرة وأما القرية المأتي منها فاسمها كفرة كما عند الطبراني بإسناد جيد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. قال النووي: قوله انطلق إلى أرض كذا وكذا إلخ، فيه استحباب مفارقة التائب المواضع التي أصاب بها الذنوب والأخدان المساعدين على ذلك ومقاطعتهم ما داموا على حالهم، وأن يستبدل بهم صحبة أهل الخير والصلاح والعلماء والمتعبدين الورعين، ومن يقتدي بهم وينتفع بصحبتهم ويتأكد بذلك توبته (فأدركه الموت) أي إماراته وسكراته فالفاء عطف على محذوف أي فقصدها وسار نحوها وقرب من وسط طريقها فأدركه الموت (فناء) بنون ومد وبعد الألف همزة أي نهض ومال (بصدره نحوها) أي إلى ناحية القرية التي توجه إليها للتوبة والعباد، أي ثم مات. قال الحافظ: هذا هو المعروف في هذا الحديث وحكى بعضهم فيه فنأى بغير مد قبل الهمزة وبإشباعها بوزن سعى، وتقول نأى ينأى نأيًا أي بعد، وعلى هذا فالمعنى فبعد بصدره عن الأرض التي خرج منها ووقع في رواية هشام ما يشعر بأن قوله فناء بصدره إدراج فإنه قال في آخر الحديث. قال قتادة: (راوي الحديث عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد) قال الحسن: ذكر لنا أنه لما أتاه الموت نأى بصدره (فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب) زاد في رواية هشام: فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلاً بقلبه إلى الله. وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له. قال النووي: قياس الملائكة ما بين القريتين وحكم الملك الذي جعلوه بينهم محمول على أن الله تعالى أمرهم عند اشتباه أمره عليهم واختلافهم فيه أن يحكموا رجلاً ممن يمر بهم فمر الملك في صورة رجل فحكم بذلك (فأوحى الله إلى هذه) أي إلى القرية التي توجه إليها وقصدها للتوبة وهي نصرة (أن تقربي) أي من الميت بفتح التاء وتشديد الراء وكلمة أن تفسيرية لما في الوحي من معنى القول: (وإلى هذه) أي إلى القرية التي خرج منها وهي كفرة، وقوله: ((إلى هذه)) كذا في جميع نسخ المشكاة. ووقع في البخاري وأوحى إلى هذه أي بزيادة وحى قبل

أَنْ تَبَاعَدِي، فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَهُمَا. فَوُجِدَ إِلَى هذه أقرب بشبر فغفر له. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى هذه (أن تباعدي) بفتح التاء أي عن الميت (فقال) وفي البخاري وقال: قال القاري: أي الله كما في نسخة يعني من المشكاة (قيسوا) الخطاب للملائكة المتخاصمين أي قدروا (ما بينهما) أي بين القريتين فقيس (فوجد) بضم الواو مبنيًا للمفعول أي الميت المتنازع فيه (إلى هذه) أي القرية التي توجه إليها وهي نصرة (أقرب) بفتح الموحدة (بشبر) في رواية هشام: فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، (فغفر له) وفي رواية هشام: فقبضته ملائكة الرحمة. وفي رواية معاذ عن شعبة عند مسلم أيضًا: فكان إلى القرية الصالحة أقرب منها بشبر فجعل من أهلها. قال الحافظ في الحديث: مشروعية التوبة من جميع الكبائر حتى من قتل الأنفس، ويحمل على أن الله تعالى إذا قبل توبة القاتل تكفل برضا خصمه، قال الطيبي إذا رضي الله عن عبده أرضى خصومه. ورد مظالمه، ففي الحديث ترغيب في التوبة ومنع الناس عن اليأس ورجاء عظيم لأصحاب العظائم: وقال عياض في الحديث: إن التوبة تنفع من القتل كما تنفع من سائر الذنوب وهو وإن كان شرعًا لمن كان قبلنا، وفي الاحتجاج به خلاف لكن ليس هذا موضع الخلاف، لأن موضع الخلاف إذا لم يرد في شرعنا تقريره وموافقته، وأما إذا ورد فهو شرع لنا بلا خلاف، ومن الوارد في ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء: 48) فكل ما دون الشرك يجوز أن يغفر له، ومنه حديث عبادة بن الصامت ففيه بعد قوله: ولا تقتلوا النفس وغير ذلك من المنهيات ((فمن أصاب من ذلك شيئًا فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه)) متفق عليه. وأما قوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} (النساء: 93) فمعناه أنه يستحق أن يجازى بذلك، وقد أخبر الله بفضله أنه لا يخلد من مات موحدًا فيها فلا يخلد هذا، ولكن قد يعفي عنه فلا يدخل النار أصلاً، وقد لا يعفي عنه بل يعذب كسائر العصاة الموحدين، ثم يخرج معهم إلى الجنة , ولا يلزم من كونه يستحق أن يجازى بعقوبة مخصوصة أن يتحتم ذلك الجزاء والله أعلم. وفيه: إن المفتي قد يجيب بالخطأ وفيه: فضل التحول من الأرض التي يصيب الإنسان فيها المعصية لما يغلب بحكم العادة على مثل ذلك، إما لتذكره لأفعاله الصادرة قبل ذلك والفتنة بها، وإما لوجود من كان يعينه على ذلك ويحضه عليه. وفيه: فضل العالم على العابد لأن الذي أفتاه أولاً بأن لا توبة له غلبت عليه العبادة فاستعظم وقوع ما وقع من ذلك القاتل من استجراءه على قتل هذا العدد الكثير. وأما الثاني: فغلب عليه العلم فأفتاه بالصواب ودله على طريق النجاة. وفيه: إن للحاكم إذا تعارضت عنده الأحوال وتعذرت البينات أن يستدل بالقرائن على الترجيح. (متفق عليه) أخرجه البخاري في ذكر بني إسرائيل، ومسلم في التوبة واللفظ للبخاري، وأخرجه أيضًا أحمد (ج3: ص20: 72) ، وابن ماجة في الديات، وابن حبان في صحيحه، وفي الباب عن عبد الله بن عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان ذكرهما

2351- (6) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ. رواه مسلم. 2352- (7) وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ ـــــــــــــــــــــــــــــ الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10: ص211، 212) ، والمنذري في الترغيب. 2351- قوله: (لو لم تذنبوا) أي أيها المكلفون أو أيها المؤمنون (لذهب الله بكم) الباء للتعدية كما في قوله (ولجاء بقوم) أي لأذهبكم وأفناكم وأظهر قومًا آخرين من جنسكم أو من غيركم (يذنبون) أي يمكن وقوع الذنب منهم ويقع بالفعل عن بعضهم (فيستغفرون الله) أي فيتوبون أو يطلبون المغفرة مطلقًا (فيغفر لهم) لاقتضاء صفة الغفار، والغفور ذلك، ولذا قال الله تعالى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} (نوح: 10) ولاستلزام هذه الصفة الإلهية وجود المعصية في الأفراد البشرية، والمعنى لو كنتم معصومين كالملائكة لذهب بكم، وجاء بممن يأتي منهم الذنوب لئلا يتعطل صفات الغفران والعفو، فلا تجرئة فيه على الانهماك في الذنوب. قال التوربشتي:لم يرد هذا الحديث مورد تسلية المنهمكين في الذنوب وتوهين أمرها على النفوس وقلة الاحتفال منهم بمواقعتها على ما يتوهمه أهل الغرة بالله، فإن الأنبياء صلوات الله عليهم إنما بعثوا ليردعوا الناس عن غشيان الذنوب واسترسال نفوسهم فيها، بل ورد مورد البيان لعفوا الله عن المذنبين وحسن التجاوز عنهم، ليعظموا الرغبة في التوبة والاستغفار، والمعنى المراد من الحديث هو إن الله تعالى كما أحب أن يحسن إلى المحسن أحب أن يتجاوز عن المسيء، وقد دل على ذلك غير واحد من أسماءه الغفار الحليم التواب العفو، فلم يكن ليجعل العباد شأنًا واحدًا كالملائكة مجبولين على التنزه من الذنوب، بل يخلق فيهم من يكون بطبعه ميالاً إلى الهوى مفتتنًا ومتلبسًا بما يقتضيه، ثم يكلفه التوقي عنه ويحذره عن مداناته ويعرفه التوبة بعد الابتلاء، فإن وفى فأجره على الله وإن اخطأ الطريق فالتوبة بين يديه، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنكم لو كنتم مجبولين على ما جبلت عليه الملائكة لجاء الله بقوم يتأتى منهم الذنب، فيتجلى عليهم بتلك الصفات على مقتضى الحكمة، فإن الغفار يستدعي مغفورًا كما أن الرزاق يستدعي مرزوقًا - انتهى. وقد تقدم نحو هذا الكلام لابن القيم فتذكر. (رواه مسلم) في التوبة، وأخرجه أيضًا أحمد (ج2: ص309) ، والحاكم (ج4: ص246) ، وفي الباب عن أبي أيوب عند أحمد، ومسلم، والترمذي وعن عبد الله ابن عمرو عند الحاكم (ج2: ص246) . 2352- قوله: (إن الله يبسط يده) قيل: بسط اليد عبارة عن الطلب لأن عادة الناس إذا طلب أحدهم شيئًا من أحدهم بسط إليه كفه، والمعنى يدعو المذنبين إلى التوبة (بالليل ليتوب مسيء النهار) أي لا يعاجلهم

وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا. رواه مسلم. 2353- (8) وَعَنْ عَائشة قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بالعقوبة بل يمهلم ليتوبوا (ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل) وقال النووي: معناه يقبل التوبة من المسيئين نهارًا وليلاً حتى تطلع الشمس من مغربها، ولا يختص قبولها بوقت فبسط اليد استعارة في قبول التوبة، قال المازري: المراد به قبول التوبة، وإنما ورد لفظ بسط اليد لأن العرب إذا رضي أحدهم الشيء بسط يده لقبوله، وإذا كرهه قبضها عنه، فخوطبوا بأمر حسي يفهمونه وهو مجاز، فإن يد الجارحة مستحيلة في حق الله تعالى - انتهى. وقيل: البسط عبارة عن التوسع في الجود والعطاء والتنزه عن المنع، وفي الحديث تنبه على سعة رحمته وكثرة تجاوزه. وقال الطيبي: هو تمثيل يدل على أن التوبة مطلوبة عنده محبوبة لديه كأنه يتقاضاها من المسيء، (حتى تطلع الشمس من مغربها) فحينئذ يغلق باب التوبة قال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا} (الأنعام: 185) الآية، قال ابن الملك: مفهوم هذا الحديث وأشباهه يدل على أن التوبة لا تقبل بعد طلوع الشمس من المغرب إلى يوم القيامة. (رواه مسلم) في التوبة، وأخرجه أيضًا أحمد (ج4: ص395: 404) ونسبه في الكنز (ج4: ص128) لابن أبي شيبة، وأحمد، ومسلم، والنسائي، وأبي الشيخ في العظمة والبيهقي في الأسماء. 2353- قوله: (إن العبد إذا اعترف) أي: بذنبه، قال القاري: أي: أقر بكونه مذنبًا وعرف ذنبه (ثم تاب) أي من ذنبه إلى الله. قال القاري: أي أتي بأركان التوبة من الندم والخلع والعزم والتدارك (تاب الله عليه) أي: قبل توبته لقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} (الشوري: 25) قال الطيبي: وحقيقته إن الله يرجع عليه برحمته - انتهى. والحديث قطعة من حديث طويل من حديث الإفك وقبلها قال: أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا عائشة؟ إنه قد بلغني عنك كذا وكذا (هو كناية عما رميت به من الإفك) ، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه. إلخ. قال الداودي: أمرها بالاعتراف ولم يندبها إلى الكتمان للفرق بين أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهن فيجب على أزواجه الاعتراف بما يقع منهن ولا يكتمنه إياه، فإنه لا يحل لنبي إمساك من يقع منها ذلك بخلاف نساء الناس فإنهن ندبن إلى الستر. وتعقبه عياض بأنه ليس في الحديث ما يدل على ذلك ولا فيه أنه أمرها بالاعتراف، وإنما أمرها أن تستغفر الله وتتوب إليه أي فيما بينها وبين ربها، فليس صريحًا في الأمر لها بأن تعترف عند الناس بذلك، قال الحافظ: وسياق جواب عائشة (بقولها ((والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم

متفق عليه. 2354- (9) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ وصدقتم به، فلئن قلت لكم: إني بريئة والله يعلم إني بريئة لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم إني منه بريئة لتصدقني)) .) يشعر بما قاله الداودي لكن المعترف عنده ليس على إطلاقه فليتأمل، ويؤيد ما قال عياض: إن في رواية يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن الطبراني قالت، فقال لي أبي إن كنت صنعت شيئًا فاستغفري الله وإلا، فأخبري رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعذرك - انتهى. قلت: ويرجح ما قال عياض إن في رواية للبخاري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا عائشة إن كنت قارفت سوءًا وظلمت فتوبي إلى الله، فإن الله يقبل التوبة عن عباده. (متفق عليه) هذا طرف من حديث الإفك الطويل أخرجه البخاري في باب تعديل النساء بعضهن بعضًا من الشهادات، وفي غزوة بني المصطلق وهي غزوة المريسيع من المغازي، وفي تفسير سورة النور، وأخرجه مسلم في التوبة، وأخرجه أيضًا أحمد، وأخرج ابن جرير الطبري، والترمذي بنحوه. 2354- قوله: (من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها) إلخ هذا هو المراد من قوله: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ} (الأنعام: 158) الآية، لكن الآية مختصة بعدم قبول الإيمان، والحديث يدل على عدم قبول التوبة مطلقًا سواء كانت من الكفر أو من المعصية، وفيه اختلاف بين العلماء فتدبر كذا في اللمعات، (تاب الله عليه) أي: قبل توبته ورضي بها، قال النووي: هذا أي: طلوع الشمس من المغرب حد لقبول التوبة، وقد جاء في الحديث الصحيح إن للتوبة بابًا مفتوحًا فلا تزال مقبولة حتى يغلق، فإذا طلعت الشمس من مغربها أغلق وامتنعت التوبة على من لم يكن تاب قبل ذلك، وهو معنى قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} (الأنعام: 158) وللتوبة حد آخر، وهو أن يتوب قبل الغرغرة كما جاء في الحديث الصحيح، وأما في حالة الغرغرة وهي حالة النزع فلا تقبل توبته ولا غيرها، لأن المعتبر هو الإيمان بالغيب ولا تنفذ وصيته ولا غيرها. (رواه مسلم) في الدعاء، وأخرجه أيضًا أحمد (ج2: ص275) ، وعبد الرزاق، وابن جرير في تفسيرهما، ونقله ابن كثير في التفسير عن الطبري، ثم قال: لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة وعليه في هذا استدراك فإنه في صحيح مسلم كما ترى فلا ينبغي في هذا أن يوصف بأنه لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة وأغرب مما صنع ابن كثير صنيع الحافظ الهيثمي، فإنه ذكره في مجمع الزوائد (ج10: ص98) باللفظ الذي في صحيح مسلم، ثم قال: رواه الطبراني في الأوسط وفيه الحسن بن أبي جعفر وهو ضعيف.

2355- (10) وَعَنْ أَنَسِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ ـــــــــــــــــــــــــــــ 2355- قوله: (لله) بلام التأكيد المفتوحة (أشد فرحًا) قيل: الفرح في مثل هذا كناية عن الرضاء وسرعة القبول وحسن الجزاء لتعذر ظاهره عليه تعالى (بتوبة عبده) أي أرضى بتوبة عبده المؤمن وأقبل لها (حين يتوب إليه من أحدكم) أي من فرح أحدكم وسروره ورضاه، قيل: الفرح المتعارف في نعوت بني آدم غير جائز على الله تعالى، لأنه اهتزاز طرب يجده الشخص في نفسه عند ظفره بغرض يستكمل به نقصانه أو يسد به خلته أو يدفع به عن نفسه ضرارًا أو نقصانًا، وإنما كان غير جائز عليه تعالى لأنه الكامل بذاته الغني بوجوده الذي لا يلحقه نقص ولا قصور. وإنما معناه الرضا. والسلف فهموا منه ومن أشباهه الترغيب في الأعمال والأخبار عن فضل الله، وأثبتوا هذه الصفات لله تعالى ولم يشتغلوا بتفسيرها مع اعتقادهم تنزيهه تعالى عن صفات المخلوقين وأما من اشتغل بالتأويل فله طريقان. أحدهما: أن التشبيه مركب عقلي من غير نظر إلى مفردات التركيب، بل تؤخذ الزبدة والخلاصة من المجموع وهي غاية الرضا ونهايته. وإنما إبراز ذلك في صورة التشبيه تقرير المعنى الرضا في نفس السامع وتصويرًا لمعناه. وثانيهما: تمثيلي وهو أن يتوهم للمشبه الحالات التي للمشبه به وينتزع له منها ما يناسبه حالة حالة بحيث لم يختل منها شيء يعني إنه من باب التمثيل وهو أن يشبه الحال الحاصلة بتنجيز الرضا والإقبال على العبد التائب بحال من كان في المفازة على الصورة المذكورة في الحديث، ثم يترك المشبه ويذكر المشبه به. قال القرطبي: هذا مثل قصد به بيان سرعة قبول الله توبة عبده التائب وإنه يقبل عليه بمغفرته ويعامله معاملة من يفرح بعمله، ووجه هذا المثل إن المعاصي حصل بسبب معصيته في قبضة الشيطان وأسره، وقد أشرف على الهلاك فإذا لطف الله به ووفقه للتوبة خرج من شوم تلك المعصية وتخلص من أسر الشيطان ومن المهلكة التي أشرف عليها فأقبل الله عليه بمغفرته وبرحمته، وإلا فالفرح الذي هو من صفات المخلوقين محال على الله تعالى (كما تقدم بيانه) لكن هذا الفرح عند ثمرة وفائدة، وهو الإقبال على الشيء المفروح به وإحلاله المحل الأعلى، وهذا هو الذي يصح في حقه تعالى فعبر عن ثمرة الفرح بالفرح على طريقة العرب في تسمية الشيء باسم ما جاوره أو كان منه بسبب - انتهى. والحاصل إن إطلاق الفرح في حقه تعالى مجاز عن رضاه وقد يعبر عن الشيء بسبه أو عن ثمرته الحاصلة عنه، فإن من فرح بشيء جاد لفاعله بما سأل، وبذل له ما طلب فعبر عن عطاءه تعالى وواسع كرمه بالفرح. وقال الطيبي: المراد كمال الرضا لأن الفرح المتعارف لا يجوز عليه تعالى، والمتقدمون من أهل الحديث فهموا من أمثال ذلك ما يرغب في الأعمال الصالحة ويكشف عن فضل الله تعالى على عباده مع كونه منزهًا عن صفات المخلوقين ولم يفتشوا عن معاني هذه الألفاظ، وهذه الطريقة السليمة. وقلما يزيغ عنه قدم الراسخ. وقال التوربشتي: هذا القول وأمثاله إذا أضيف إلى الله سبحانه، وقد عرف أنه مما يتعارفه الناس في نعوت بني آدم على

كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَ هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ما تقدم في غير هذا الموضع، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد بيان المعاني الغيبية ولم يطاوعه فيه لفظ موضوع لذلك، فله أن يأتي فيه بما يتضح دونه المعنى المراد، ولما أراد أن يبين أن التوبة منهم يقع عند الله بأحسن موقع عبر عنه بالفرح الذي عرفوه من أنفسهم في أسنى الأشياء وأحبها إليهم، ليهتدوا إلى المعنى المراد منه ذوقًا ومالاً، وذلك بعد أن عرفهم أن إطلاق تلك الألفاظ في صفات الله تعالى على ما يتعارفونه في نعوتهم غير جائز ولا يجوز لأحد أن يتعاطى هذا النوع في كلامه ويتسع فيه إلا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه يجوز له ما لا يجوز لغيره لبراءه نطقه عن الهوى، ولأنه لا يقدم على ذلك إلا بإذن من الله، وهذه رتبة لا تنبغي إلا له صلى الله عليه وسلم - انتهى. قلت: كل صفة وصف الله بها نفسه أو وصفه بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهي صفة حقيقة لا مجاز، فهو تعالى يسمع ويبصر ويتكلم بما شاء متى شاء ويرضى ويسخط ويعجب ويفرح بتوبة عبده، ومعنى كل ذلك معلوم والكيف مجهول، فنثبت له ذلك كله ولا نكيفه ولا نشبهه بصفات المخلوقين ولا نؤوله ولا نعطله. قال شيخنا: لا حاجه إلى التأويل ومذهب السلف في أمثال هذا الحديث إمرارها على ظواهرها من غير تكييف ولا تشبيه ولا تأويل هذا. وقد تقدم في أول الباب ما ذكره ابن القيم في بيان معنى هذا الحديث فراجعه (كان راحلته) قال القاري: وفي نسخة يعني من المشكاة كانت راحلته. قلت: والذي في صحيح مسلم (كان على راحلته) ، وهكذا نقله المنذري، والجزري، والراحلة البعير الذي يركبه الإنسان ويحمل عليه متاعه (بأرض فلاة) بالإضافة وبتنوين أي بمفازة ليس فيها ما يؤكل ويشرب (فانفلتت) أي: نفرت وفرت (وعليها) أي على ظهر (طعامه وشرابه) يعني يكون حزنه على غاية الشدة بذهاب الراحلة وخوف هلاك نفسه من عدم الزاد والماء (فأيس) من باب سمع (منها) أي: من وجدان الراحلة بعد طلبها (قد أيس من راحلته) أي: من حصولها ووصولها وهي جملة حالية (فبينما) كذا في جميع النسخ من المشكاة وفي صحيح مسلم فبينا (هو كذلك) أي: في هذا الحال منكسر البال (إذ هو بها قائمة عنده) إذ للمفاجأة وقائمة حال من الضمير المجرور، أي: إذ الرجل حاضر بتلك الراحلة حال كونها قائمة عنده من غير تردد في طلبها، وعليها زاده طعامه وشرابه (فأخذ بخطامها) بكسر المعجمة أي زمامها فرحًا بها فرحًا لا نهاية له (ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح) كرره لبيان عذره وسبب صدوره يعني أراد أن يحمد الله بما أنعم عليه من رد راحلته إليه وقصد أن يقول اللهم أنت ربي وأنا عبدك، فسبق

رواه مسلم. 2356- (11) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ عَبْدًا أَذْنَبَ ذَنْبًا فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبت فاغفره. فَقَالَ رَبُّهُ: أَعْلم عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غَفَرْتُ لعَبْدِي ثُمَّ مكث ما شاء الله، ـــــــــــــــــــــــــــــ لسانه عن نهج الصواب وأخطأ، وقال اللهم أنت عبدي وأنا ربك من غاية الفرح، فكان أن فرح هذا الرجل على غاية الشدة فكذلك رضاء الله توبة عبده. قال عياض: فيه إن ما قاله الإنسان من مثل هذا في حال دهشته وذهوله لا يؤاخذ به، وكذا حكايته عنه على طريق علمي وفائدة شرعية لا على الهزل والمحاكاة والعبث، ويدل على ذلك حكاية النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك ولو كان منكرًا ما حكاه والله أعلم. (رواه مسلم) في التوبة، وأخرجه البخاري في أوائل الدعوات مختصرًا، وفي الباب عن البراء بن عازب والنعمان بن بشير عند أحمد، ومسلم، والحاكم وعن أبي سعيد عند أحمد، وابن ماجة، وعن أبي مسعود عند أحمد، والشيخين، وسيأتي في الفصل الثالث، وعن أبي هريرة عند أحمد، ومسلم، والترمذي، وابن ماجة. 2356- قوله: (إن عبدًا) أي: من هذه الأمة أو من غيرهم (أذنب ذنبًا) وفي البخاري إن عبدًا أصاب ذنبًا. قال الحافظ: كذا تكرر هذا الشك (أي: روي بالشك ها هنا وفي المواضع الآتية) في هذا الحديث من هذا الوجه (أي: من رواية همام بن يحيى عن إسحاق بن عبد الله عن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة) ولم يقع في رواية حماد بن سلمة يعني رواه حماد بن سلمة عن إسحاق عند مسلم بلفظ: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يحكي عن ربه عز وجل قال: أذنب عبد ذنبًا ولم يشك، وكذا في بقية المواضع ولفظ الكتاب للبخاري إلا أن المصنف اقتصر على أحد اللفظين بالجزم تبعًا للبغوي (فقال) ظاهره أنه عطف على أذنب. وقال الطيبي: خبر إن إذا كانت اسمها نكرة موصوفة ذكره القاري (رب) أي يا رب (أذنبت) أي: ذنبًا، وفي البخاري أذنبت، وربما قال أصبت أي بالشك (فاغفره) أي: الذنب وقوله فاغفره كذا لأبي ذر، وللكشميهني فاغفر لي قاله القسطلاني (فقال ربه) أي: للملائكة (أعلم عبدي) بهمزة الاستفهام والفعل الماضي وللأصيلى علم بحذف الهمزة. وقال الطيبي: قوله: ((أعلم)) قيل: إما استخبار من الملائكة، وهو أعلم به للمباهاة، وإما الاستفهام للتقرير والتعجيب، وإنما عدل عن الخطاب وهو قوله: ((أعلمت عبدي. إلى الغيبة شكرًا لصيغة إلى غيره وإحمادًا له على فعله (إن له ربًا يغفر الذنب) أي إذ شاء لمن شاء، (ويأخذ به) أي يؤاخذ ويعاقب فاعله إذ شاء لمن شاء وفي رواية حماد ويأخذ بالذنب (غفرت لعبدي) أي ذنبه (ثم مكث) بفتح الكاف وضمها (ما شاء الله) أي من الزمان،

ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ ذَنْبًا فاغفره. فقال: أَعْلم عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غَفَرْتُ لعَبْدِي ثُمَّ مكث ما شاء الله، ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ ذَنْبًا آخر فاغفره لي فقال: أَعْلم عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غَفَرْتُ لعَبْدِي. فليفعل ما شاء. ـــــــــــــــــــــــــــــ وسقط هذا من رواية حماد (ثم أذنب ذنبًا) آخر، وفي البخاري ثم أصاب ذنبًا أو أذنب ذنبًا، وفي رواية حماد ثم عاد فأذنب (فقال: رب أذنبت ذنبًا) أي: آخر، وفي البخاري أصبت أو أذنبت آخر (فاغفره) لي وللأصيلي فاغفر لي (فقال) ربه: (أعلم عبدي) وللأصيلي علم بحذف الهمزة (إن له ربًا يغفر الذنب) تارة (ويأخذ به) أي يعاقب فاعله عليه أخرى (ثم مكث ما شاء الله) من الزمان (ثم أذنب ذنبًا) آخر، وفي البخاري بعده وربما قال: أصاب ذنبًا (قال) وفي بعض النسخ فقال: (رب أذنبت ذنبًا آخر) أي: من جنسه أو من غير جنسه، وفي البخاري: (رب أصبت أو قال أذنبت آخر) . قال القسطلاني: كذا بالشك في هذه المواضع المذكورة كلها في هذا الحديث من هذا الوجه ورواه حماد عن إسحاق عند مسلم ولم يشك (غفرت لعبدي) وزاد في رواية غير أبي ذر: ((ثلاثًا)) قال القسطلاني: أي: غفرت لعبدي الذنوب الثلاثة. وقال القاري في شرح الحصن: قوله: ثلاثًا ليس ظرفًا لقوله: غفرت كما يتبادر إلى الوهم بل بيان لما وقع من تكرار السؤال والجواب والحديث بين العبد والرب (فليفعل) قال القاري: وفي نسخة يعني من المشكاة وهي كما في المصابيح فليعمل: قلت وهكذا وقع في البخاري وكذا نقله المنذري في الترغيب والجزري في الحصن، وهكذا وقع عند أحمد (ج2: ص296) (ما شاء) أي: من الذنب المعقب بالتوبة الصحيحة، ففيه أن التوبة الصحيحة لا يضر فيها نقص بالذنب ثانيًا بل مضت على صحتها ويتوب من المعصية الثانية. وهكذا قال المنذري: قوله ((فليعمل ما شاء)) معناه إذ كان هذا دأبه يذنب الذنب فيتوب منه ويستغفر فليفعل ما شاء لأنه كلما أذنب كانت توبته واستغفاره كفارة لذنبه فلا يضره. لا أنه يذنب الذنب فيستغفر منه بلسانه من غير إقلاع ثم يعاوده، فإن هذه توبة الكذابين ويدل له قوله ثم أصاب ذنبًا آخر - انتهى. وفي رواية حماد: اعمل ما شئت فقد غفرت لك. قال النووي: معناه ما دمت تذنب ثم تتوب غفرت لك. وقال الطيبي: أي اعمل ما شئت ما دمت تذنب ثم تتوب فإني أغفر لك. وهذه العبارة تستعمل في مقام السخط كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (فصلت: 40) وليس هذا المعنى مرادًا ها هنا، وفي مقام التلطف والحفاوة بالمخاطب وإظهار العناية والشفقة به كما في هذا الحديث وفي قوله في حديث حاطب بن أبي بلتعة: لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فقد غفر لكم، وكما تقول لمن تحبه وهو يؤذيك اصنع ما شئت فلست بتارك ذلك، وليس المراد من ذلك الحث على الفعل بل إظهار الحفاوة والتلطف -

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ انتهى. قلت: قد أشكل على كثير من الناس معنى قوله: فليعمل ما شاء كما أشكل عليهم معنى قوله المذكور في حديث حاطب، فإن ظاهره إباحة كل الأعمال لأهل بدر وتخييرهم فيما شاءوا منها، وذلك ممتنع، وقد أجيب عن ذلك بوجوه منها ما قال ابن القيم في الفوائد (ص16) : إن هذا خطاب لقوم قد علم الله سبحانه أنهم لا يفارقون دينهم بل يموتون على الإسلام وأنهم قد يقارفون بعض ما يقارفه غيرهم من الذنوب، ولكن لا يتركهم سبحانه مصرين عليها، بل يوفقهم لتوبة نصوح واستغفار وحسنات تمحو أثر ذلك، ويكون تخصيصهم بهذا دون غيرهم، لأنه قد تحقق ذلك فيهم وإنهم مغفور لهم، ولا يمنع ذلك كون المغفرة حصلت بأسباب تقوم بهم كما لا يقتضي ذلك أن يعطلوا الفرائض وثوقًا بالمغفرة، فلو كانت قد حصلت بدون الاستمرار على القيام بالأوامر لما احتاجوا بعد ذلك إلى صلاة ولا صيام ولا حج ولا زكاة ولا جهاد وهذا محال، ومن أوجب الوجبات التوبة بعد الذنب فضمان المغفرة لا يوجب تعطيل أسباب المغفرة، ونظير هذا قوله في الحديث الآخر: أذنب عبد ذنبًا فقال: أي: رب أذنبت ذنبًا فاغفره لي فغفره له الحديث. وفيه: ((قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء)) فليس في هذا إطلاق وإذن منه سبحانه له في المحرمات والجرائم. وإنما يدل على أنه يغفر له ما دام كذلك إذا أذنب وتاب، واختصاص هذا العبد بهذا لأنه قد علم أنه لا يصر على ذنب وإنه كلما أذنب تاب، حكم يعم كل من كانت حاله حاله لكن ذلك العبد مقطوع له بذلك، كما قطع به لأهل بدر، وكذلك كل من بشره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنة أو أخبره بأنه مغفور له لم يفهم منه هو ولا غيره من الصحابة إطلاق الذنوب والمعاصي له ومسامحته بترك الواجبات بل كان هؤلاء أشد اجتهادًا وحذرًا وخوفًا بعد البشارة منهم قبلها كالعشرة المشهود لهم بالجنة وقد كان الصديق شديد الحذر والمخافة، وكذلك عمر فإنهم علموا أن البشارة المطلقة مقيدة بشروطها والاستمرار عليها إلى الموت ومقيدة بانتفاء موانعها ولم يفهم أحد منهم من ذلك الإطلاق الإذن فيما شاءوا من الأعمال انتهى. قال النووي: في هذا الحديث أن الذنوب لو تكررت مائة مرة بل ألفًا أو أكثر وتاب في كل مرة قبلت توبته أو تاب عن الجميع توبة واحدة صحت توبته. وقال القرطبي في المفهم: هذا الحديث يدل على عظم فائدة الاستغفار وكثرة فضل الله وسعة رحمته وحلمه وكرمه، لكن هذا الاستغفار هو الذي يثبت معناه في القلب مقارنًا للسان لتنحل به عقدة الإصرار، ويحصل معه الندم وهو ترجمة للتوبة، ويشهد له حديث خياركم كل مفتن تواب أي الذي يتكرر منه الذنب والتوبة، فكلما وقع في الذنب عاد إلى التوبة لا من قال أستغفر الله بلسانه وقلبه مصر على تلك المعصية، فهذا الذي استغفاره يحتاج إلى استغفار، وفي حديث ابن عباس عند ابن أبي الدنيا مرفوعًا: ((التائب من الذنب كمن لا ذنب له)) والمستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه، ولكن الراجح إن قوله: والمستهزئ إلى آخره موقوف. قال القرطبي: وفائدة هذا الحديث إن العود إلى الذنب وإن كان أقبح من ابتداءه لأنه

متفق عليه. 2357- (12) وَعَنْ جُنْدَبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَ أَنَّ رَجُلاً ـــــــــــــــــــــــــــــ أضاف إلى ملابسة الذنب نقض التوبة لكن العودة إلى التوبة أحسن من ابتدائها، لأنه إن ضاف إليها ملازمة الطلب من الكريم والإلحاح في سؤاله والاعتراف بأنه لا غافر للذنب سواه. وقال ابن بطال: في هذا الحديث إن المصر على المعصية في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له مغلبًا لحسنته التي جاء بها، وهي اعتقاد أن له ربًا خالقًا يعذبه يغفر له واستغفاره إياه على ذلك يدل عليه قوله تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (الأنعام: 160) ولا حسنة أعظم من التوحيد، فإن قيل: إن استغفار ربه توبة منه، قلنا ليس الاستغفار أكثر من طلب المغفرة، وقد يطلها المصر والتائب. ولا دلالة في الحديث على أنه تاب مما سأل الغفران عنه، لأن حد التوبة الرجوع عن الذنب، والعزم على أن لا يعود إليه والإقلاع عنه والاستغفار بمجرده لا يفهم منه ذلك، وقال غيره شروط التوبة ثلاثة: الإقلاع، والندم، والعزم على أن لا يعود إليه، والتعبير بالرجوع عن الذنب لا يفيد معنى الندم بل هو إلى معنى الإقلاع أقرب. قال بعضهم: يكفي في التوبة تحقق الندم على وقوعه منه، فإنه يستلزم الإقلاع عنه، والعزم على عدم العود فهما ناشئان عن الندم لا أصلان معه. ومن ثم جاء الحديث الندم توبة وهو حديث حسن من حديث ابن مسعود أخرجه ابن ماجة وصححه الحاكم، وأخرجه ابن حبان من حديث أنس وصححه. ومن شاء مزيد الكلام في ذلك فليرجع إلى مدارج السالكين (ج1: ص88) وإلى باب التوبة من أوائل كتاب الدعوات من الفتح، فإنه قد استوفى البحث في ذلك هناك وقال السبكي في الحلبيات: الاستغفار طلب المغفرة إما باللسان أو بالقلب أو بهما فالأول: فيه نفع لأنه خير من السكوت ولأنه يعتاد قول الخير، والثاني نافع جدًا، والثالث أبلغ منه لكن لا يمحصان الذنب (أي: قطعًا وجزمًا) حتى توجد التوبة منه فإن العاصي المصر يطلب المغفرة لا يستلزم ذلك وجود التوبة إلى أن قال: والذي ذكرته إن معنى الاستغفار غير معنى التوبة هو بحسب وضع اللفظ لكنه غلب عند كثير من الناس إن لفظ استغفر الله معناه التوبة، فمن كان ذلك معتقده فهو يريد التوبة لا محالة، ثم قال وذكر بعضهم إن التوبة لا تتم إلا بالاستغفار لقوله تعالى {وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} (هود: 3) والمشهود إنه لا يشترط - انتهى ملخصًا من فتح الباري. (متفق عليه) . أخرجه البخاري في باب قول الله: يريدون أن يبدلوا كلام الله من كتاب التوحيد ومسلم في التوبة، وأخرجه أيضًا أحمد (ج2: ص296) ، وابن السني (ص117) ، والحاكم (ج3 ص242) ونسبه في الحصن للنسائي أيضًا. 2357- قوله: (حدث) أي: حكى لأصحابه (إن رجلاً) يحتمل أنه من هذه الأمة أو من غيرهم

قَالَ: وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلانٍ وَأنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَني لا أَغْفِرَ لِفُلانٍ فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلانٍ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ أَوْ كَمَا قَالَ. رواه مسلم. 2358- (13) وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ ـــــــــــــــــــــــــــــ (قال: والله لا يغفر الله لفلان) قاله استكثارًا أو استكبارًا لذنبه أو تعظيمًا لنفسه حين جنى عليه كما يصدر عن بعض جهلة الصوفية قاله القاري: (وأن الله تعالى) بفتح الهمزة أي وحدث أن الله تعالى وبكسرها أي والحال إن الله تعالى (قال: من ذا الذي يتألى علي) بفتح الهمزة وتشديد اللام المفتوحة أي: يتحكم علي ويحلف باسمي من الألية اليمين، يقال: آلى يؤلى إيلاء وائتلى يأتلى إيتلأ وتألى يتألى أي: حلف والاسم الألية (إني لا أغفر لفلان) وهذا استفهام إنكار فلا يجوز لأحد الجزم بالجنة أو النار أو عدم المغفرة إلا لمن ورد فيه النص (فإني قد غفرت لفلان) أي رغمًا لأنفك (وأحبطت عملك) قال المظهر: أي: أبطلت قسمك وجعلت حلفك كاذبًا، لما ورد في حديث آخر من يتأل على الله يكذبه (أي: من حكم وحلف نحو والله ليدخل الله فلانًا النار أبطل قسمه وجعل حلفه كاذبًا) فلا متمسك للمعتزلة إن ذا الكبيرة مع عدم الاستحلال يخلد في النار كالكفر يحبط عمله. وقال النووي: في الحديث دلالة لمذهب أهل السنة في غفران الذنوب بلا توبة إذا شاء الله غفرانها، واحتجت المعتزلة به في إحباط الأعمال بالمعاصي الكبائر. ومذهب أهل السنة إنها لا تحبط إلا بالكفر، ويتأول حبوط عمل هذا على أنه سقطت حسناته في مقابلة سيئاته، فسمي إحباطًا مجازًا، ويحتمل أنه جرى منه أمر آخر أوجب الكفر، ويحتمل أن هذا كان في شرع من كان قبلنا وكان هذا حكمهم - انتهى. وقيل: هو محمول على التغليظ. قال في اللمعات: قوله: ((من ذا الذي يتألى علي)) في هذه العبارة تخويف وتهديد شديد وفي صورة الغيبة دون أن يقول: أنت الذي تتألى، دلالة على التهديد لكل من يتألى من غير خصوصية بالمخاطب، ثم خاطبه بأنك إذا حلفت علي فأعلم إني قد غفرت له على رغم أنفك وأحبطت عملك جزاءً على ما قلت: (أو كما قال) شك الراوي أي: قال الرسول أو غيره ما ذكرته، أو قال: مثل ذلك. وهو تنبيه على النقل بالمعنى لئلا يتوهم نقل اللفظ أيضًا. قال النووي: ينبغي للراوي وقارئ الحديث إذا اشتبه عليه لفظه فقرأها على الشك أن يقول: عقيبه ((أو كما قال)) وكذا يستحب لمن روى بالمعنى أن يقول بعده ((أو كما قال)) أو ((نحو هذا)) كما فعلته الصحابة فمن بعدهم. والله أعلم. وقد روى الدارمي في مسنده في باب من هاب الفتيا مخافة السقط آثارا كثيرة في ذلك فمن شاء فليرجع إليه. (رواه مسلم) في البر والصلة والأدب. 2358- قوله: (سيد الاستغفار) قال العزيزي: أي: أفضل أنواع صيغ الاستغفار يعني الأكثر ثوابًا

أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ ـــــــــــــــــــــــــــــ عند الله. قلت: ترجم البخاري لهذا الحديث بقوله باب أفضل الاستغفار. قال الحافظ: ترجم بالأفضلية، ووقع الحديث بلفظ السيادة فكأنه أشار إلى أن المراد بالسيادة الأفضلية، ومعناها الأكثر نفعًا لمستعمله يعني إن النفع والثواب للمستغفر به لا للاستغفار نفسه والمراد المستغفر بهذا النوع من الاستغفار أكثر ثوابًا من المستغفر بغيره فهو نحو مكة أفضل من المدينة، أي ثواب العابد فيها أفضل من ثواب العابد في المدينة، ووجه كون هذا الاستغفار كذلك مما لا يعرف بالعقل، وإنما هو أمر مفوض إلى الذي قرر الثواب على الأعمال. وقال الطيبي: لما كان هذا الدعاء جامعًا لمعاني التوبة كلها. وقد سبق أن التوبة غاية الاعتذار استعير له اسم السيد، وهو في الأصل الرئيس المقدم الذي يقصد في الحوائج، ويرجع إليه في الأمور. قال ابن أبي جمرة: جميع هذا الحديث من بديع المعاني وحسن الألفاظ ما يحق له أن يسمى بسيد الاستغفار ففيه الإقرار لله وحده بالإلهية ولنفسه بالعبودية، والاعتراف بأنه الخالق والإقرار بالعهد الذي أخذه عليه والرجاء بما وعده به والاستعاذة من شر ما جنى به العبد على نفسه وإضافة النعم إلى موجدها وإضافة الذنب إلى نفسه ووفور رغبة في المغفرة، واعترافه بأنه لا يقدر على ذلك إلا هو فهذا الاستغفار جامع لما يجب على العبد أن يقربه ويعترف ويدعو ويستغفر (أن تقول) بالمثناة الفوقية أي أيها المخاطب خطابًا عامًا أو أيها الراوي. قال القسطلاني: بصيغة المخاطب في الفرع. وقال الحافظ: قوله: أن يقول أي العبد، وثبت في رواية أحمد (ج4: ص122) ، والنسائي: إن سيد الاستغفار أن يقول العبد، وللترمذي من رواية عثمان بن ربيعة عن شداد: ألا أدلك على سيد الاستغفار، وفي حديث جابر عند النسائي: تعلموا سيد الاستغفار. قلت: رواية الترمذي تؤيد كونه بصيغة المخاطب: (لا إله إلا أنت خلقتني) ويروى: لا إله ألا أنت، أنت خلقتني) . قال الحافظ: كذا في نسخة معتمدة بتكرير أنت وسقطت الثانية من معظم الروايات. قيل: قوله: ((خلقتني)) استئناف بيان للتربية (وأنا عبدك) أي مخلوقك ومملوكك وهو حال كقوله: (وأنا على عهدك ووعدك) أي أنا مقيم على الوفاء بعهد الميثاق وأنا موقن بوعدك يوم الحشر والتلاق أو بوعدك بالثواب للمؤمنين على لسان الرسل (ما استطعت) أي قدر استطاعتي، فما مصدرية، والمضاف مقدر. وقال الخطابي: يريد أنا على ما عاهدتك عليه وواعدتك من الإيمان بك وإخلاص الطاعة لك ما استطعت من ذلك، ويحتمل أن يريد أنا مقيم على ما عاهدت إلي ومتمسك به ومتنجز وعدك في المثوبة والأجر عليه، واشتراط الاستطاعة في ذلك معناه الاعتراف بالعجز والقصور من كنه الواجب في حقه تعالى. أي لا أقدر أن أعبدك حق عبادتك ولكن أجتهد بقدر طاقتي. وقيل: أراد بالعهد ما أخذه الله على عباده حيث أخرجهم أمثال الذر {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ

أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ. قَالَ: وَمَنْ قَالَهَا مِنْ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَمَنْ قَالَهَا مِنْ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} (الأعراف: 172) فأقروا له بالربوبية وأذعنوا له بالوحدانية، وبالوعد ما قال على لسان نبيه إن من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة (أبوء لك بنعمتك علي) بضم الموحدة وسكون الواو بعدها همزة ممدودًا أي اعترف بها من قولهم باء بحقه أي أقر به، وأصله البواء ومعناه اللزوم ومنه بوأه الله منزلاً إذا أسكنه فكأنه ألزمه به (وأبوء بذنبي) أي: أعترف به. وقيل: معناه احتمله برغمي لا أستطيع صرفه عني من قولهم باء فلان بذنبه إذا احتمله كرهًا لا يستطيع دفعه عن نفسه. قال القسطلاني: ولأبي ذر عن الكشميهني: وأبوء لك بذنبي، وفي رواية الترمذي: وأعترف بذنوبي. قال الطيبي: واعترف أولاً بأنه أنعم عليه ولم يقيده ليشمل كل النعم، ثم اعترف بالتقصير وإنه لم يقم بأداء شكرها وعده ذنبًا مبالغة في التقصير وهضم النفس – انتهى. قال الحافظ: ويحتمل أن يكون قوله: وأبوء لك بذنبي اعترافًا بوقوع الذنب مطلقًا ليصح الاستغفار منه لا أنه عد ما قصر فيه من أداء شكر النعم ذنبًا (فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) يؤخذ منه أن من اعترف بذنبه غفر له، وقد وقع صريحًا في حديث الإفك الطويل، وفيه كما تقدم قبل أربعة أحاديث ((العبد إذا اعترف بذنبه وتاب تاب الله إليه)) وهذا الاعتراف فيما بينه وبين ربه لا عند الناس، لأنه يحب الستر والكتمان عن الناس إذا اقترف ذنبًا هو يستطيع أن يكتمه (قال) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - (ومن قالها) أي: هذه الكلمات (من النهار) أي: في بعض أجزاءه، وفي رواية النسائي: فإن قالها حين يصبح، وللترمذي: لا يقولها أحدكم حين يمسي فيأتي عليه قدر قبل أن يصبح أو حين يصبح فيأتي عليه قدر قبل أن يمسى (موقنًا بها) . أي: مخلصًا من قلبه مصدقًا بثوابه. وقال القاري: أي: حال كونه معتقدًا لجميع مدلولها إجمالاً أو تفصيلاً (فمات من يومه قبل أن يمسي) أي: قبل الغروب (فهو من أهل الجنة) أي: يموت مؤمنًا فيدخل الجنة أو مع السابقين أو بغير عذاب أو هو بشارة بحسن الخاتمة، وفي رواية الترمذي: إلا وجبت له الجنة، وفي رواية النسائي: دخل الجنة. قال السندي: أي: ابتداء وإلا فكل مؤمن يدخل الجنة بإيمانه، وهذا فضل من الله تعالى. وقال الكرماني: فإن قيل المؤمن وإن لم يقلها فهو من أهل الجنة. قلت: المراد أنه يدخلها ابتداء من غير دخول النار لأن الغالب أن الموقن بحقيقتها المؤمن بمضمونها لا يعصي الله تعالى أو إن الله يعفو عنه ببركة هذا الاستغفار، فإن قلت: فما الحكمة في كونه سيد الاستغفار؟ قلت: هذا وأمثاله من التعبديات والله أعلم بذلك لكن لا شك أن فيه ذكر الله تعالى أكمل الأوصاف وذكر العبد نفسه بأنقص الحالات وهي أقصى غاية التضرع ونهاية الاستكانة لمن لا يستحقها إلا هو

(الفصل الثاني)

رواه البخاري. (الفصل الثاني) 2359- (14) وَعَن أنس قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ـــــــــــــــــــــــــــــ أما الأول فلما فيه من الاعتراف بوجود الصانع وتوحيده الذي هو أصل الصفات العدمية المسماة بصفات الجلال والاعتراف بالصفات السبعة الوجودية المسماة بصفات الإكرام وهي القدرة اللازمة من الخلق الملزومة للإرادة والعلم والحياة. والخامسة الكلام اللازم من الوعد والسمع والبصر واللازمان من المغفرة إذا المغفرة للمسموع والمبصر لا يتصور إلا بعد السماع والإبصار. وأما الثاني فلما فيه أيضًا من الاعتراف بالعبودية وبالذنوب في مقابلة النعمة التي تقتضي نقيضها وهو الشكر - انتهى. وقال ابن أبي جمرة: من شروط الاستغفار صحة النية والتوجه والأدب فلو أن أحدًا حصل الشروط واستغفر بغير هذا اللفظ الوارد واستغفر آخر بهذا اللفظ الوارد لكن أخل بالشروط هل يستويان؟ فالجواب إن الذي يظهر أن اللفظ إنما يكون سيد الاستغفار إذا جمع الشروط المذكورة والله أعلم. (رواه البخاري) في أوائل الدعوات، وأخرجه أيضًا في الأدب المفرد، وأخرجه أحمد (ج4: ص122: 125) ، والنسائي في الاستعاذة وفي اليوم والليلة، والترمذي في الدعوات، والحاكم (ج2: ص458) وفي الباب عن بريدة عند أحمد، وأبي داود في الأدب، والنسائي، وابن ماجة في الدعاء، وعن جابر عند النسائي، وابن السني (ص128) ونسبه في الكنز لعبد بن حميد وابن أبي شيبة أيضًا. 2359- قوله: (إنك ما دعوتني ورجوتني) ما مصدرية ظرفية، أي: مادمت تدعوني وترجوني يعني في مدة دعائك ورجائك (غفرت لك) ذنوبك (على ما كان فيك) أي من المعاصي وإن تكررت وكثرت (ولا أبالي) أي بكثرة ذنوبك وخطاياك ولا يتعاظمني ذلك ولا أستكثره يعني لا يعظم على مغفرتك، وإن كانت ذنوبك كثيرة فذنوب العبد، وإن كثرت وعظمت فإن عفو الله ومغفرته أعظم منها وأعظم. فهي صغيرة في جنب عفو الله ومغفرته. قال القاري: ولا أبالي أي والحال إني لا أتعظم مغفرتك علي وإن كان ذنبًا كبيرًا أو كثيرًا. قيل: لأن الدعاء مخ العبادة وهو سؤال النفع والصلاح والرجاء يتضمن حسن الظن بالله تعالى، والله عز وجل يقول: أنا عند ظن عبدي بي. وعند ذلك تتوجه رحمة الله إلى العبد، وإذا توجهت لا يتعاظمها شيء لأنها وسعت كل شيء. قال الطيبي: في قوله ولا أبالي معنى لا يسأل عما يفعل (لو بلغت ذنوبك عنان السماء) بفتح العين المهلة وبنونين

ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلا أُبَالِي يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ لَوْ لقيتني بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ خفيفتين أي سحابها واحدها عنانة. وقيل: عنان السماء ما عن (بتشديد النون) لك منها أي ظهر لك منها إذا رفعت رأسك إلى السماء ونظرتها وما انتهى إليه البصر منها. وقال الطيبي: العنان السحاب وإضافتها إلى السماء تصوير لارتفاعه وأنه بلغ مبلغ السماء يعني لو تجسمت ذنوبك وملأت الأرض والفضاء بكثرتها وعظمتها حتى ارتفعت إلى السماء (ثم استغفرتني غفرت لك) هو نظير قوله تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَّحِيماً} (النساء:110) (لو لقيتني) كذا في جميع النسخ الحاضرة من المشكاة، والذي في الترمذي لو أتيتني وهكذا في المصابيح، والترغيب، والحصن، والجامع الصغير، والكنز، ومدارج السالكين، والظاهر إن ما وقع في نسخ المشكاة خطأ من الناسخ (بقراب الأرض) بضم القاف، ويكسر والضم أشهر. أي بما يقارب ملأها وقيل: أي يملأها وهو أشبه أي هو المراد هنا لأن الكلام في سياق المبالغة، ويؤيده ما وقع في آخر حديث أبي ذر عند أحمد وقراب الأرض ملأ الأرض (خطايا) تمييز أي: بتقدير تجسمها (ثم لقيتني) أي مت حال كونك (لا تشرك بي شيئًا) أي معتقدًا توحيدي مصدقًا برسولي محمد - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء به وهو الإيمان. قال القاري: قوله لا تشرك بي شيئًا. الجملة حال من الفاعل أو المفعول على حكاية الحال الماضية لعدم الشرك وقت اللقي (لأتيتك بقرابها مغفرة) تمييز أيضًا وعبر به للمشاكلة وإلا فمغفرة الله أبلغ وأوسع لا يجوز الاغترار به وإكثار المعاصي، فالمراد الحث على الاستغفار والتوبة، وإن الله يقبل توبة التائب ويغفر له وإن كثرت ذنوبه قال الطيبي: ثم هذه للتراخي في الإخبار وإن عدم الشرك مطلوب أولى، ولذلك قال لقيتني وقيد به وإلا لكان يكفي أن يقال خطايا لا تشرك بي. قال القاري: فائدة القيد أن يكون موته على التوحيد - انتهى. قال ابن رجب في شرح الأربعين: قد تضمن حديث أنس هذا إن هذه الأسباب الثلاثة يحصل بها المغفرة أحدها: الدعاء مع الرجاء. والثاني: الاستغفار ولو عظمت الذنوب وبلغت الكثرة عنان السماء. والثالث: التوحيد وهو السبب الأعظم فمن فقده فقد المغفرة، ومن جاء به فقد أتي بأعظم أسباب المغفرة. قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء: 116) فمن جاء مع التوحيد بقراب الأرض خطايا لقيه الله بقرابها مغفرة لكن هذا مع مشيئة الله عز وجل فإن شاء غفر له وإن شاء أخذه بذنوبه، ثم كان عاقبته أن لا يخلد في النار بل يخرج منها، ثم يدخل الجنة قال بعضهم: الموحد لا يلقى في النار كما يلقى الكفار ولا يبقى فيها كما يبقى الكفار فإن كمل توحيد العبد وإخلاصه لله فيه وقام بشروطه كلها بقلبه ولسانه وجوارحه، أو بقلبه ولسانه عند الموت أوجب ذلك مغفرة ما سلف من الذنوب كلها، ومنعه من دخول النار بالكلية فمن تحقق بكلمة التوحيد قلبه أخرجت منه كل ما سوى الله محبة

رواه الترمذي. 2360- (15) ورواه أحمد والدارمي عن أبي ذر، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. 2361- (16) وعن ابن عباس عن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ـــــــــــــــــــــــــــــ وتعظيمًا وإجلالاً ومهابة وخشيةً ورجاءً وتوكلاً، وحينئذٍ تحرق ذنوبه وخطاياه كلها ولو كانت مثل زبد البحر، وربما قلبتها حسنات فإن هذا التوحيد هو الأكسير الأعظم فلو وضع ذرة منه على جبال الذنوب والخطايا لقلبها حسنات - انتهى. وارجع إلى مدارج السالكين (ج1: ص183، 184) فإنه قد أسهب الكلام في إيضاح ذلك بما لا مزيد عليه هذا. وقد بسط ابن رجب الكلام في شرح السببين الأولين وإيراد ما يناسب المقام ويتعلق به عقب ذكر كل واحد منهما فليرجع إليه من شاء (رواه الترمذي) في الدعوات من طريق كثير بن فائد عن سعيد بن عبيد الهنائي عن بكر بن عبد الله المزني عن أنس، وقال حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه - انتهى. قال ابن رجب: وإسناده لا بأس به. وقال الدارقطني: تفرد به كثير بن فائد عن سعيد مرفوعًا، ورواه مسلم بن قتيبة عن سعيد بن عبيد فوقفه عن أنس. قال ابن رجب: روي عنه مرفوعًا وموقوفًا وتابعه على رفعه أبو سعيد مولى بني هاشم فرواه عن سعيد بن عبيد مرفوعًا أيضًا، وقد روي أيضًا من حديث ثابت عن أنس مرفوعًا ولكن قال أبو حاتم: هو: منكر - انتهى. ونسب الحديث في الكنز للضياء أيضًا. 2360- قوله: (ورواه أحمد) (ج5: ص167: 172) ، (والدارمي) في الرقاق (ص375) كلاهما من طريق شهر بن حوشب عن معدي كرب عن أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يرويه عن ربه فذكرا معنى حديث أنس، ورواه أحمد (ج5: ص154) أيضًا مختصرًا من رواية شهر عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي ذر وفي الباب عن ابن عباس أخرجه الطبراني في معاجيمه الثلاثة. قال الهيثمي: وفيه إبراهيم بن إسحاق الصيني قيس بن الربيع وكلاهما مختلف فيه، وبقية رجاله رجال الصحيح - انتهى. وعن أبي الدرداء أخرجه الطبراني في الكبير (وقال الترمذي: هذا) أي: حديث أنس (حسن غريب) قد تقدم أن ابن رجب قال: إسناده لا بأس به وأنه تابع كثير بن فائد على رفعه أبو سعيد مولى بني هاشم فرواه عن سعيد بن عبيد مرفوعًا أيضًا. 2361 - قوله: (من علم أني ذو قدرة) أي: أذعن وتحلى قلبه بأني ذو قدرة (على مغفرة الذنوب غفرت له) قال الطيبي: دل هذا الحديث على أن اعتراف العبد بذلك سبب للغفران وهو نظير قوله: أنا عند ظن عبدي بي - انتهى. وظاهر كلامه هذا أنه يغفر له وإن لم يستغفر. وقيل: معنى الحديث من علم أني ذو قدرة على

ولا أبالي، ما لم يشرك بي شيئاً. رواه في شرح السنة. 2362- (17) وعنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ لَزِمَ الِاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُل ضِيقٍ مَخْرَجًا وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مغفرة الذنوب أي واستغفرني غفرت له. قلت: وإلى الأول مال الشوكاني كما يدل عليه كلامه في تحفة الذاكرين عند شرح حديث أنس السابق، حيث قال: بل ورد ما يدل على أن العبد إذا أذنب فعلم أن الله تعالى إن شاء أن يعذبه عذبه وإن شاء أن يغفر له غفر له كان ذلك بمجرده موجبًا للمغفرة من الله سبحانه وتعالى تفضلاً منه ورحمة، كما في حديث أنس عند الطبراني في الأوسط. قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أذنب ذنبًا فعلم أن الله عز وجل إن شاء عذبه وإن شاء غفر له كان حقًا على الله أن يغفر له. وفي إسناده جابر بن مرزوق الجدي وهو: ضعيف قال: ومثل هذا غير مستبعد من الفضل الرباني والتطول الرحماني فهو الذي يغفر ولا يبالي (ولا أبالي) قال العلقمي: أي بذنوبك لأنه سبحانه وتعالى لا حجر عليه فيما يفعل ولا معقب لحكمه ولا مانع لعطاءه (ما لم يشرك بي شيئًا) لأن الشرك لا يغفر إلا بالإيمان والتوبة (رواه) أي: البغوي: (في شرح السنة) أي: بإسناده ونسبه في الجامع الصغير للطبراني في الكبير والحاكم. قلت: أخرجه الحاكم (ج4: ص262) من طريق حفص بن عمر العدني عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس فذكره. وقال: حديث صحيح الإسناد، وتعقبه الذهبي فقال العدني: واه. 2362 - قوله: (من لزم الاستغفار) أي عند صدور معصية أو داوم عليه فإنه في كل نفس يحتاج إليه ولذا قال - صلى الله عليه وسلم -: (طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارًا كثيرًا) . وسيأتي في الفصل الثالث واللفظ المذكور لأبي داود، وابن ماجة، وابن حبان، ورواه أحمد، والنسائي، وابن السني، والحاكم بلفظ: من أكثر من الاستغفار. وهذا يؤيد المعنى الثاني (من كل ضيق) الضاد ويفتح أي شدة ومحنة. وقيل: أي أمر شديد عسير يضيق به القلب (مخرجًا) مصدر أو ظرف أي طريقًا يخرجه إلى سعة ومنحة بسبب كثرة الاستغفار ولزومه. والجار متعلق به وقدم عليه للاهتمام وكذا (ومن كل هم) أي: غم وحزن وقلق (فرجًا) بفتحتين وهو بالجيم أي خلاصًا من فرج الله الغم عنه كفرجه كشفه وأذهبه، والفرجة مثلثة التفصي والخلوص من الشدة والهم والاسم الفرج محركة (ورزقه) أي حلالاً طيبًا (من حيث لا يحتسب) أي من وجه لا يظن ولا يرجو ولا يخطر بباله. قال الجزري: أي من حيث لا يعلم ولا كان في حسابه - انتهى. وفي الحديث إيماء إلى قوله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (الطلاق 2، 3) ولما لكان لا يخلو المتقي

رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجة. ـــــــــــــــــــــــــــــ وغيره من التقصير كما ورد: كل بني آدم خطاؤن وخير الخطائين التوابون. أشار - صلى الله عليه وسلم - إليه في تعبيره بملازمة الاستغفار إيماء إلى أن العاصي إذا استغفر صار متقيًا، وهذا جزاء المتقي لا محالة. قال الطيبي: من داوم الاستغفار وأقام بحقه كان متقيًا وناظرًا إلى قوله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً} (نوح 10: 12) ففيه دليل على أن بالاستغفار يحصل كل شيء، ويؤيد هذا ما ذكره الثعلبي إن رجلاً أتى الحسن البصري رح فشكا إليه الجدوبة فقال له الحسن: استغفر الله، وأتاه آخر فشكا إليه الفقر، فقال له: استغفر الله، وأتاه آخر فقال: ادع الله أن يرزقني ابنًا، فقال: استغفر الله، وأتاه آخر فشكا إليه جفاف بساتينه، فقال له: استغفر الله، فقيل: له أتاك رجال يشكون أبوابًا ويسألون أنواعًا فأمرتهم كلهم بالاستغفار فقال: ما قلت من ذات نفسي في ذلك شيء إنما اعتبرت فيه قول الله عز وجل حكاية عن نبيه نوح عليه السلام إنه قال لقومه: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} الآية (رواه أحمد) (ج1: ص248) ، (وأبو داود) في أواخر الصلاة، (وابن ماجة) في فضل الذكر وأخرجه أيضًا النسائي، وابن السنى (ص118، 119) ، وابن حبان، والحاكم (ج1: ص262) ، والبيهقي كلهم من رواية الحكم بن مصعب عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده عبد الله بن عباس. قال الحاكم: حديث صحيح الإسناد، ونقل المنذري في الترغيب قول الحاكم وأقره. وقال في تهذيب السنن: في إسناده الحكم بن مصعب ولا يحتج به. وقال في رجال الترغيب: الحكم بن مصعب صويلح الحديث لم يرو عنه غير الوليد بن مسلم في ما علم وذكره ابن حبان في الثقات وفي الضعفاء أيضًا. وقال يخطئ - انتهى. وقال الذهبي في تلخيص المستدرك: قلت: الحكم فيه جهالة - انتهى. وقال الحافظ في التقريب: الحكم بن مصعب المخزمي مجهول، ووافق الشيخ أحمد شاكر الحاكم حيث قال في شرح المسند (ج4: ص55) : إسناده صحيح الحكم بن مصعب. قال أبو حاتم: مجهول. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يخطئ وذكره أيضًا في الضعفاء. وقال: ((لا يجوز الاحتجاج به ولا الرواية عنه إلا على سبيل الاعتبار)) قال الحافظ في التهذيب: ((وهو تناقض صعب)) والذي أراه إنه إن جهله أبو حاتم فقد عرفه غيره وإن تناقض فيه ابن حبان فلا يؤخذ بكلامه فإن البخاري عرفه وترجمه في الكبير (1/2/336) . قال: ((الحكم بن مصعب القرشي: سمع محمد بن علي بن عبد الله بن عباس سمع منه الوليد بن مسلم)) فلم يذكر فيه جرحًا فهو ثقة عنده خصوصًا وإنه لم يذكره هو ولا النسائي في الضعفاء وأما قول المنذري في مختصر السنن في حق الحكم: أنه لا يحتج به فهو غلو منه شديد - انتهى. قلت: الحكم هذا ليس له عندهم إلا فرد حديث. وهو حديث لزوم الاستغفار ولم يرو عنه إلا الوليد بن مسلم ورجل آخر على ما قاله ابن حبان ولم يصرح أحد بتوثيقه، وليس هو من الرواة المعروفين المشهورين بالعدالة حتى يستغنى عن التوثيق

2363- (18) وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصديق قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَصَرَّ مَنْ اسْتَغْفَرَ وإنْ عاد فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً. رواه الترمذي، وأبو داود. 2364- (19) وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُّ بَنِي آدَمَ ـــــــــــــــــــــــــــــ والتعديل، ففي كون إسناد هذا الحديث صحيحًا نظر عندي، نعم هو ليس ممن لا يقبل حديث في فضائل الأعمال والأذكار بناء على قول المنذري إنه صويلح الحديث. وذكر البخاري له تأريخه من غير جرح والله أعلم. 2363 - قوله: (ما أصر من استغفر) كلمة ((ما)) نافية يعني من عمل معصية ثم ندم على ذلك واستغفر منه خرج عن كونه مصرًا على المعصية، لأن المصر هو الذي لم يستغفر ولم يندم على الذنب. قال في النهاية: أصر على الشر لزمه ودوامه وأكثر ما يستعمل في الشر والذنوب، أي من اتبع ذنبه بالاستغفار فليس بمصر عليه وإن تكرر منه (وإن عاد) أي ولو رجع إلى ذلك الذنب أو غيره، وهذا لفظ أبي داود، وابن السني، وللترمذي ولو فعله (في اليوم) أو الليلية (سبعين مرة) الظاهر أن المراد به التكثير والتكرير والمبالغة لا التحديد، وليس المراد بالاستغفار التلفيظ بقوله أستغفر الله، بل المراد الندامة على فعل المعصية والعزم على عدم العود. قال المناوي في شرح هذا الحديث أي: ما أقام على الذنب من تاب توبة صحيحة، وإن عاد في اليوم سبعين مرة فإن رحمة الله لا نهاية لها فذنوب العالم كلها متلاشية عند عفوه، وفي الحديث إيماء إلى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} (آل عمران: 135، 136) الآية قال الشوكاني: ولم يصروا. أي: لم يقيموا على قبيح فعلهم، والمراد بالإصرار هنا العزم على معاودة الذنب وعدم الإقلاع عنه بالتوبة منه وقال ابن القيم: الإصرار عقد القلب على ارتكاب الذنب متى ظفر به فهذا الذي يمنع مغفرته (رواه الترمذي) في أحاديث شتى من أبواب الدعوات، (وأبو داود) في أواخر الصلاة، وأخرجه أيضًا ابن السني (ص118) كلهم من رواية أبي نصيرة عن مولى لأبي بكر، عن أبي بكر، وذكره الشوكاني في فتح القدير (ج1: ص350) وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبي يعلى والبيهقي في الشعب وسكت عليه أبو داود. وقال الترمذي: حديث غريب وليس إسناده بالقوي أي لجهالة مولى أبي بكر، قال في المبهمات من التقريب: أبو نصيرة عن مولى لأبي بكر يقال: هو أبو رجاء وقال في الكنى: منه أبو رجاء مولى أبي بكر الصديق مجهول. 2364 - قوله: (كل بني آدم) كذا في جميع النسخ الحاضرة من المشكاة، وهكذا في المصابيح وجامع الأصول (ج3: ص70) والكنز، والجامع الصغير، وهكذا وقع عند ابن ماجة، والدارمي، والحاكم، والذي في

خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ. رواه الترمذي، وابن ماجة، والدارمي. 2365- (20) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ الترمذي: كل ابن آدم، وهكذا وقع في الترغيب (خطأ) بتشديد الطاء والمد والتنوين أي كثير الخطأ، قال السندي: والمراد بالخطأ المعصية عمدًا ومطلقًا بناء على أنه الخطأ المقابل للصواب دون العمد. قال القاري: أفرد نظرًا إلى لفظ الكل، وفي رواية خطاؤن نظر إلى معنى الكل. قيل: أراد الكل من حيث هو كل أو كل واحد. وأما الأنبياء صلوات الله عليهم فإما مخصوصون عن ذلك، وإما أنهم أصحاب صغائر، والأول أولى، فإن ما صدر عنهم من باب ترك الأولى أو يقال الزلات المنقولة عن بعضهم محمولة على الخطأ والنسيان من غير أن يكون لهم قصد إلى العصيان - انتهى. وقيل: كل بني آدم خطاء أي غالبهم كثير الخطأ (وخير الخطائين التوابون) أي: الرجاعون إلى الله بالتوبة من المعصية إلى الطاعة لقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} (البقرة: 222) أي: دون المصرين، فإن الإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة فكيف على الكبيرة. (رواه الترمذي) في أواخر الزهد، (وابن ماجة) في ذكر التوبة من أبواب الزهد (والدارمي) في الرقاق، وأخرجه أيضًا الحاكم (ج4: ص244) كلهم من رواية علي بن مسعدة الباهلي عن قتادة عن أنس. قال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث علي بن مسعدة عن قتادة. وقال الحاكم: صحيح الإسناد. وتعقبه الذهبي فقال علي لين: قلت: علي بن مسعدة. قال المنذري: لين الحديث. وقال البخاري: فيه نظر. وقال ابن عدي: أحاديثه غير محفوظة. وقال ابن حبان لا يحتج بما انفرد به. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال أبو حاتم: لا بأس به. وقال ابن معين: صالح. وقال الحافظ: صدوق له أوهام، فالظاهر إن الحديث لا ينزل عن درجة الحسن والله أعلم. وزاد نسبة الحديث في الجامع الصغير والكنز لأحمد. 2365- قوله: (إن المؤمن إذا أذنب) أي ذنبًا. كما في رواية الحاكم (كانت) أي الذنب يتأول السيئة (نكتة) بالنصب على الخبر، وروي بالرفع على أن كان تامة فيقدر منه أي حدثت من الذنب نكتة (سوداء) والنكتة النقطة السوداء في الأبيض، أو البيضاء في الأسود والأثر الحاصل من نكت الأرض وشبع الوسخ في المرآة والسيف ونحوهما. (في قلبه) أي حصلت في قلبه أثر قليل كالنقطة تشبه الوسخ في صقيل كالمرآة والسيف ونحوهما. وقال القاري: أي كقطرة مداد تقطر في القرطاس، ويختلف على حسب المعصية وقدرها، والحمل على الحقيقة أولى من جعله من باب التمثيل والتشبيه، حيث قيل شبه القلب بثوب في غاية النقاء والبياض والمعصية بشيء في غاية

فَإِنْ تَابَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ زَادَ زَادَتْ حتى تعلو قلبه فَذَلِكم الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تعالى {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ـــــــــــــــــــــــــــــ السواد أصاب ذلك الأبيض، فبالضرورة. أنه يذهب ذلك الجمال منه. وكذلك الإنسان إذا أصاب المعصية صار كأنه حصل ذلك السواد في ذلك البياض - انتهى. واللفظ المذكور لأحمد، وابن ماجة، والحاكم، ولفظ الترمذي إن العبد إذا أخطأ خطيئته نكتت (بصيغة المجهول من النكت وهو في الأصل أن تضرب في الأرض بقضيب فيؤثر فيها أي جعلت) في قلبه نكتة سوداء (فإن تاب) أي من الذنب (واستغفر) أي: وسأل الله المغفرة، ووقع في المسند، وابن ماجة، والمستدرك (ج2: ص517) لفظ: نزع بعد تاب. وقيل: استغفر أي أقلع عن ذلك وتركه. ولفظ الترمذي: فإذا هو نزع واستغفر وتاب، والظاهر أنه وقع سقوط لفظ نزع في المشكاة تبعًا للمصابيح والله أعلم (صقل قلبه) بالصاد المهملة على بناء المفعول من صقله جلاه من باب نصر أي: محا الله تلك النكتة عن قلبه فينجلي، ويحتمل أن يكون على بناء الفاعل وضميره راجع إلى التائب وفي رواية الترمذي، والحاكم، سقل بالسين قال في القاموس: السقل: الصقل، وقال فيه صقله جلاه - انتهى. والمعنى نظف وصفى مرآة قلبه، لأن التوبة بمنزلة المصقلة تمحو وسخ القلب وسواده حقيقيًا أو تمثيليًا (وإن زاد) أي في الذنب بعينه أو بغيره من الذنوب (زادت) أي النكتة السوداء أو يظهر لكل ذنب نكتة (حتى تعلو) أي تغلب النكت، وفي المسند يعلو بالمثناة التحتية أي يغلب سواد تلك النكتة، على (قلبه) أي تغطية وتغمرة وتستر سائره، ويصير كله ظلمة فلا يعي خيرًا ولا يبصر رشدًا، ولا يثبت فيه صلاح. وفي رواية الترمذي: ((وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه)) يعني: وإن عاد إلى ما اقترفه أو عاد في الذنب، والخطيئة زيد في النكتة السوداء نكتة أخرى، وهكذا حتى تطفئ تلك النكت نور قلبه فتغمى بصيرته (فذلكم) قيل الخطاب للصحابة أي فذلكم الأثر المستقبح المستعلى هو (الران الذي ذكر الله) أي في كتابه وأدخل اللام على ران وهو فعل، أما القصد حكاية اللفظ وإجراءه مجرى الاسم، وإما لتنزيله منزلة المصدر، وقوله: ((فذلكم الران)) هكذا في جميع نسخ المشكاة، وكذا وقع في المصابيح، والذي في المسند ((ذلك الرين)) وفي الترمذي ((وهو الران)) وفي ابن ماجة، والحاكم ((فذلك الران)) وهكذا نقله المنذري في الترغيب، والرين والران سواء كالذيم والذام والعيب والعاب، وأصل الرين الطبع والتغطية والدنس، وهو أيضًا الصدأ الذي يعلو السيف والمرآة. قال أبو عبيد: ((كل ما غلبك وعلاك فقد ران بك ورانك وران عليك {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم} أي: غلب واستولى عليها {مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي: ما اكتسبوه من الذنوب)) . قال الحافظ ابن كثير: أي ليس الأمر كما زعموا، ولا كما قالوا: إن هذا القرآن أساطير الأولين، بل هو كلام الله ووحيه وتنزيله على

رواه أحمد، والترمذي وابن ماجة، وَقَالَ الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. 2366- (21) عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وإنما حجب قلوبهم عن الإيمان به ما عليها من الرين الذي قد لبس قلوبهم من كثرة الذنوب والخطايا، والرين يعتري قلوب الكافرين، والغيم للأبرار والغين للمقربين - انتهى. قال شيخنا: أصل الران والرين الغشاوة وهو كالصدى على الشيء الثقيل قال الطيبي: الران والرين سواء كالعاب والعيب، والآية في الكفار إلا أن المؤمن بارتكاب الذنب يشبههم في اسوداد القلب ويزاد ذلك بازدياد الذنب. قال ابن الملك هذه الآية مذكورة في حق الكفار لكن ذكرها - صلى الله عليه وسلم - تخويفًا للمؤمنين كي يحترزوا عن كثرة الذنب كيلا تسود قلوبهم كما أسودت قلوب الكفار، ولذا قيل المعاصي يريد الكفر كذا في المرقاة. رواه أحمد (ج2: ص297) ، (والترمذي) في تفسير سورة المطففين، (وابن ماجة) في ذكر الذنوب من أبواب الزهد، وذكره الشوكاني في الفتح القدير (ج5: ص390) وزاد نسبته لعبد بن حميد، والنسائي، وابن جرير (ج2: ص62) ، وابن المنذر، وابن حاتم، والحاكم (ج1: ص5، وج2: ص517) ، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان، وذكره المنذري في الترغيب في موضعين ونسبه لابن حبان أيضًا (وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح) ، وقال الحاكم (ج2: ص517) : صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي. 2366- قوله: (إن الله يقبل توبة العبد) قال القاري: ظاهره الإطلاق، وقيده بعض الحنفية بالكافر - انتهى. قال شيخنا: والظاهر المعول عليه هو الأول (ما لم يغرغر) بغينين معجمتين الأولى مفتوحة والثانية مكسورة وبراء مكررة من الغرغرة، أي ما لم تبلغ روحه حلقومه، فتكون بمنزلة الشيء الذي يتغرغر به المريض والغرغرة أن يجعل المشروب في الفم ويردد إلى أصل الحلق ولا يبلغ، ويقال لذلك الشيء الذي يتغرغر به الغرور مثل قولهم لعوق ولدود وسعوط والمقصود ما لم يعاين أحوال الآخرة. قال القاري: يعني ما لم يتيقن بالموت فإن التوبة بعد التيقين بالموت لم يعتد بها لقوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} (النساء: 18) قيل: وأما تفسير ابن عباس حضوره بمعاينة ملك الموت فحكم أغلبي لأن كثيرًا من الناس لا يراه وكثيرًا يراه قبل الغرغرة - انتهى. وقال التوربشتي: الغرغرة تردد الماء وغيره في الحلق والغرغرة صوت معه بحح ويقال الراعي يغرر بصوته أي: يردده في حلقه ويتغرغر صورته في حلقه أي: يتردد، ومعناه في الحديث تردد النفس في الحلق عند نزع الروح، وذلك في أول

رواه الترمذي وابن ماجة. ـــــــــــــــــــــــــــــ ما يأخذ في سياق الموت. ويكون معنى قوله: ما لم يغرغر ما لم يحضره الموت. فإنه إذا حضره الموت يغرغر بتردد النفس في الحلق فإذا تحقق بالموت، وانقطاع المدة أي مدة الحياة فتوبته غير معتد بها قال: وإنا إن أنكرنا صحة التوبة ممن حضره الموت فأيقن بالهلاك وتحقق بفوات إمكان المراجعة، فإنا لا نقول والحمد لله بسد باب الرحمة عنه وتحريم المغفرة عليه، بل نخاف منه ونرجو له العفو من الله فإن الله تعالى يقول: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء: 48) انتهى. ملخصًا. والحاصل إن التوبة عند المعاينة لا تنفع، لأنها توبة ضرورة لا اختيار قال الله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} (النساء: 17، 18) الآية، والتوبة من قريب عند جمهور المفسرين هي التوبة قبل المعاينة أي قبل وقت حضور الموت. قال عكرمة: قبل الموت. وقال الضحاك: قبل معاينة ملك الموت، فهذا شأن التائب من قريب. وأما إذا وقع في السياق فقال إني تبت الآن لم تقبل توبته، وذلك لأنها توبة اضطرار لا اختيار فهي كالتوبة بعد طلوع الشمس من مغربها ويوم القيامة وعند معاينة بأس الله. وقيل: معنى التوبة من قريب إنهم يتوبون على قرب عهد من الذنب من غير إصرار. قال في الإحياء: معناه عن قرب العهد بالخطيئة بأن يندم عليها ويمحو أثرها بحسنة تدفعها قبل أن يتراكم الذنب على القلب فلا يقبل المحو ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: أتبع السيئة الحسنة تمحها. قال في هامش مدارج السالكين: اغتر الناس بظواهر أقوال المفسرين عكرمة، والضحاك وغيرهما في تفسير الآية، وحديث ابن عمر وأمثاله فصاروا يسرفون في التوبة ويصرون على المعاصي، فترسخ في قلوبهم وتأنس بها أنفسهم وتصير ملكات وعادات يتعذر عليهم أو يتعسر على غير الموفق النادر الإقلاع عنها حتى يجيئهم الأجل الموعود، وليس معنى الآية إن التوبة المقبولة المرضية التي أوجب الله على نفسه قبولها هي ما كانت عن معاصي يصر المرء عليها إلى ما قبل غرغرة الموت ولو بساعات ودقائق بل المراد القرب من وقت الذنب المانع من الإصرار كما في الآية الأخرى. ولعل مراد عكرمة والضحاك وأمثالهما موافقة معنى الحديث من أن الله يقبل توبة العاصي ما لم يغرغر أي: إنه إن فرض أنه تاب في أي وقت من الأوقات قبل الغرغرة والمعاينة تقبل توبته، ولا يكون ذلك منافيًا للآية، فإن الإنسان قد يتوب قبل الغرغرة من ذنب عمله من عهد قريب، ولكن قلما يتوب من الإصرار الذي رسخ في الزمن البعيد، فإن تاب فقلما يتمكن من إصلاح ما أفسده الإصرار من نفسه ليتصدق عليه قوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} (طه: 82) وجملة القول إن المراد أن الإصرار والتسويف خطر، وإن كانت التوبة تقبل في كل حال اختيار إذ الغالب أن المرء يموت على ما عاش فليحذر المغرورون. (رواه الترمذي) في الدعوات، (وابن ماجة)

2367- (22) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ قَالَ: وَعِزَّتِكَ يَا رَبِّ لا أَبْرَحُ أُغْوِي عِبَادَكَ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ. فَقَالَ الرَّبُّ عز وجل: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وارتفاع مكاني لا أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي. ـــــــــــــــــــــــــــــ في ذكر التوبة من أبواب الزهد، وأخرجه أيضًا أحمد (ج2: ص132: 153) ، والحاكم (ج4 ص257) ، وأبو نعيم في الحلية (ج5: ص19) ، وذكره السيوطي في الجامع الصغير والدر المنثور (ج2: ص131) ، وعلي المتقي في الكنز (ج4: ص21) وزاد نسبته لابن حبان، والبيهقي في الشعب، والحديث حسنه الترمذي. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. واعلم أنه اختلفت النسخ من سنن ابن ماجة في تسمية الصحابي الذي روى هذا الحديث، ففي بعضها عبد الله بن عمر كما وقع في المسند والترمذي، والحاكم، والحلية، وابن حبان، والبيهقي، وهذا هو الصحيح. ووقع في بعضها عبد الله بن عمرو أي بالواو، وهي النسخة التي كانت عند البوصيري فظنه لذلك حديثًا آخر غير هذا الحديث الذي عن ابن عمر بن الخطاب فاعتبره من الزوائد كما يدل عليه كلامه الذي نقله عنه السندي، وهذا خطأ من غير شك، وفي الباب عن أبي ذر عند أحمد (ج5: ص174) ، والبزار وعن رجل عند أحمد والبغوي كما في الكنز. 2367- قوله: (إن الشيطان قال: وعزتك يا رب) أي: وقوتك وقدرتك يعني أقسم بعزتك التي لا ترام، وفي رواية أخري لأحمد إن إبليس قال لربه: بعزتك وجلالك. قال القاري: وفيه إيماء إلى أنه رئيس الضلال، ومظهر الجلال كما أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - مظهر العناية والجمال وسيد أهل الهداية والكمال (لا أبرح) بفتح الهمزة أي: لا أزال (أُغوي) بضم الهمزة وكسر الواو أي: أضل (عبادك) ، وفي رواية لأحمد: بني آدم. أي: لا أزال أضل بني آدم، إلا المخلصين منهم ويحتمل العموم ظنًا منه إفادة ذلك (ما دامت أرواحهم في أجسادهم) أي: مدة حياتهم (فقال الرب عز وجل: وعزتي وجلالي) قال القاري: ولعل ذكرهما للمشاكلة وإلا فمقتضي المقابلة أن يقول: ورحمتي وجمالي (وارتفاع مكاني) لم أجد هذا اللفظ عند أحمد في مسند أبي سعيد ولا ذكره الجزري في الحصن، والمنذري في الترغيب وعلي المتقي في الكنز، نعم هو شرح السنة للبغوي وهي زيادة منكرة (لا أزال) ، وفي رواية أحمد: (لا أبرح) ، وفي أخري له أيضًا: لا أزال في كلا الموضعين ولعل ذلك من تصرف الرواة (أغفر لهم ما استغفروني) أي مدة طلبهم المغفرة في حالة الاختيار. وفي الحديث دليل علن أن الاستغفار يدفع ما وقع من الذنوب بإغواء الشيطان وتزيينه وإنها لا تزال المغفرة كائنة ما داموا يستغفرون. قال الطيبي: فإن قلت كيف المطابقة بين هذا الحديث وبين قوله تعالى: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ

رواه أحمد. 2368- (23) وَعَن صَفْوَانَ بْنَ عَسَّالٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ بِالْمَغْرِبِ بَابًا عَرْضُهُ مَسِيرَةُ سَبْعِينَ عَامًا لِلتَّوْبَةِ لا يُغْلَقُ مَا لَمْ تَطْلُعْ الشَّمْسُ مِنْ قِبَلِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} (ص: 82 - 85) فإن الآيات دلت على أن المخلصين هم الناجون فحسب، والحديث دال على أن غير المخلصين هم أيضًا ناجون، قلت: قيد قوله تعالى: {ممَنِ اتَّبَعَكَ} أخرج العاصين المستغفرين منهم لأن المعنى ممَنِ اتَّبَعَكَ واستمر على المتابعة، ولم يرجع إلى الله ولم يستغفر - انتهى. وقيل: الأظهر في دفع هذا الإشكال إن المراد بالمخلصين الموحدون الذين أخلصهم الله من الشرك (رواه أحمد) أي: بهذا اللفظ دون اللفظ دون قوله ((وارتفاع مكاني)) (ج3: ص29) وإنما رواه بهذه الزيادة البغوي صاحب المصابيح في شرح السنة (1/146/2) وأخرجا الحديث من طريق ابن لهيعة عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد، والكلام في ابن لهيعة معروف، وفي حديث دراج عن أبي الهيثم ضعف. وأخرجه أحمد أيضًا بنحوه بدون هذه الزيادة من هذا الطريق (ج3: ص76) ، وأخرجه في (ج3: ص29، 41) من طريق آخر أي: من طريق الليث عن يزيد بن الهاد عن عمرو عن أبي سعيد وليس فيه أيضًا هذه الزيادة ومن هذا الموضع ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10: ص207) وقال: رواه أحمد، وأبو يعلي بنحوه. وقال: (لا أبرح أغوي عبادك) والطبراني في الأوسط وأحد إسنادي أحمد رجاله رجال الصحيح، وكذلك أحد إسنادي أبي يعلي - انتهى. وأراد بهذا الطريق الثاني. وأما الطريق الأول ففيه ابن لهيعة ودراج كما ذكرنا، وأخرجه الحاكم (ج4: ص261) من طريق عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم بدون الزيادة المذكورة، وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي ولا يخفى ما فيه. قال الحافظ في ترجمة دراج: صدوق في حديثه عن أبي الهيثم ضعف وقال الشوكاني بعد نقل تصحيح الحاكم: وفيه نظر فإن في إسناده دراجًا. 2368- قوله: (إن الله تعالى جعل بالمغرب بابًا) أي: حسيًا. وقيل: معنويًا (عرضه مسيرة سبعين عامًا) أي: فكيف طوله، قيل: ذكر السبعين للتكثير والمبالغة لا للتحديد. قال في اللمعات: قيل: المراد به المبالغة في انفتاح باب التوبة وكون الناس في فسحة واسعة منها. وهذا تأويل، وصريح الإيمان أن يؤمن بها من غير تأويل، والعلم عند الله. (للتوبة) أي مفتوحًا لأصحاب التوبة أو علامة لصحة التوبة وقبولها (لا يغلق) بصيغة المجهول (ما لم تطلع الشمس من قبله) بكسر القاف وفتح الموحدة أي من جانب المغرب. قال ابن الملك: وهذا يحتمل أن يكون حقيقة، وهو الظاهر، وفائدة إغلاقه أعلام الملائكة بسد باب التوبة وأن يكون تمثيلاً. قال الطيبي:

وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ} . رواه الترمذي، وابن ماجة. 2369- (24) وَعَن مُعَاوِيَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ ـــــــــــــــــــــــــــــ يعني إن باب التوبة مفتوح على الناس وهم في فسحة وسعة عنها ما لم تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت سد عليهم فلم يقبل منهم إيمان ولا توبة، لأنهم إذا عاينوا ذلك واضطروا إلى الإيمان والتوبة فلا ينفعهم ذلك كما لا ينفع المحتضر، ولما كان سد الباب من قبل المغرب جعل فتح الباب من قبله أيضًا. وقال التوربشتي: المراد منه والله أعلم إن أمر قبول التوبة هين، والناس عنه في فسحة وسعة ما لم تطلع الشمس من مغربها، فإن بابًا ينتهي عرضه إلى مسيرة سبعين عامًا لا يكاد يتضايق عن الناس إلا أن يغلق وإغلاقه بطلوع الشمس من مغربها (وذلك) أي: طلوع الشمس من مغربها المانع من قبول التوبة (قول الله عز وجل) أي: معنى قوله: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} أي: بعض علاماته الدالة على الساعة أو بعض علامات يظهرها ربك إذا قربت القيامة وهو طلوع الشمس من مغربها {لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا} أي: حينئذ حال كونها {لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ} أي: من قبل إتيان بعض آياته وهو الطلوع المذكور وتتمة الآية {أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} عطفًا على آمنت أي أو لم تكن النفس كسبت في حال إيمانها توبة من قبل، وبهذا التقرير تظهر المناسبة التامة بين الحديث والآية، ويكون معاينة طلوع الشمس نظير معاينة حضور الموت في عدم نفع الإيمان والتوبة عند حصول كل منهما. قاله القاري. وقال الطيبي: الوجه أن يحمل على اللف التقديري بأن يقال لا ينفع نفسًا إيمانها حينئذٍ أو كسبها في إيمانها خيرًا حينئذٍ لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا من قبل والإيجاز من حلية التنزيل - انتهى. رواه الترمذي في الدعوات، وصححه. وابن ماجة في الفتن، واللفظ للترمذي رواه في حديث. وفيه قال زر: يعني ابن حبيش فما برح يعني صفوان يحدثني حتى حدثني إن الله تعالى جعل بالمغرب بابًا. إلخ. قال المنذري: وليس في هذه الرواية تصريح برفعه كما صرح البيهقي وإسناده صحيح - انتهى ولفظ ابن ماجة عن زر عن صفوان، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن من قبل مغرب الشمس بابًا مفتوحًا عرضه سبعون سنة فلا يزال ذلك الباب مفتوحًا للتوبة حتى تطلع الشمس من نحوه، فإذا طلعت من نحوه لم ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا. والحديث أخرجه أيضًا أحمد (ج4: ص240، 241) ، والبخاري في تأريخه (2/2/306) ، والطبراني في الكبير، وعبد الرزاق، وابن حبان في صحيحه، والبيهقي وغيرهم بألفاظ. 2369- قوله: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة) فيه دليل على أن الهجرة لم تنقطع، وحديث ابن

وَلا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا. رواه أحمد وأبو داود والدارمي. 2370- (25) وَعن أَبُي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن رجلين كانا في بني إسرائيل متحابين، أَحَدُهُمَا مُجْتَهِدٌ فِي الْعِبَادَةِ وَالآخَرُ يَقُولُ مُذْنِبُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ عباس عند الشيخين قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة: لا هجرة بعد فتح مكة. أي: انقطعت بعد فتحها، وقد اختلفت في الجمع بينهما فقال في اللمعات: المراد بالهجرة ها هنا مهاجرة الذنوب والآثام والأخلاق الذميمة بالخروج عن موطن الطبيعة ومستقر النفس، والمراد بقوله: ((حتى تنقطع التوبة)) أي: ينتهي حكم الله تعالى وشريعته بقبول التوبة، وذلك عند طلوع الشمس من مغربها - انتهى. وقال ابن الملك: أراد بالهجرة هنا الانتقال من الكفر إلى الإيمان، ومن دار الشرك إلى دار الإسلام، ومن المعصية إلى التوبة. وقال الطيبي: لم يرد بها الهجرة من مكة إلى المدينة لأنها انقطعت، ولا الهجرة من الذنوب والخطايا كما ورد المهاجر من هجر الذنوب والخطايا، لأنها عين التوبة، فليزم التكرار فيجب أن يحمل على الهجرة من مقام لا يتمكن فيه من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وإقامة حدود الله فتدبر. وقال الخطابي: كانت الهجرة في أول الإسلام فرضًا ثم صارت مندوبة فوجبت على المسلمين عند انتقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة، وأمروا بالانتقال إلى حضرته ليكونوا معه فيتعاونوا ويتظاهروا إن حزبهم أمر ويتعلموا منه أمر دينهم، وكان عظم الخوف في ذلك الزمان من أهل مكة، فلما فتحت مكة وبخعت بالطاعة زال ذلك المعنى، وارتفع وجوب الهجرة وعاد الأمر فيها إلى الندب والاستحباب، فالهجرة المنقطعة هي الفرض والباقية هي الندب على أن إسناد حديث ابن عباس متصل صحيح وإسناد حديث معاوية فيه مقال - انتهى مختصرًا. (ولا تنقطع التوبة) أي: صحتها أو قبولها أو حكم الله وشريعته بقبولها. (رواه أحمد) (ج4: ص99) ، (وأبو داود) في أوائل الجهاد، (والدارمي) في السير، وأخرجه أيضًا النسائي. وقد سكت عنه أبو داود ونقل المنذري كلام الخطابي ((في إسناد حديث معاوية مقال)) وأقره، قلت: في سنده عندهم جميعًا أبو هند البجلي الشامي روى عن معاوية وعنه عبد الرحمن بن أبي عوف الجرشي. قال الحافظ: شامي تابعي أرسل شيئًا فذكره العسكرى (أي: على سبيل الوهم والغلط) في الصحابة قال عبد الحق في الأحكام: ليس بمشهور. وقال ابن القطان: مجهول. وقال الذهبي في الميزان: لا يعرف، ولكن احتج به النسائي على قاعدته وقال الحافظ في التقريب. مقبول فالحديث لا يخلو عن ضعيف. 2370- قوله: (متحابين) وفي رواية أبي داود: متواخيين أي: متصادقين ومتصافيين. وقيل: أي: متقابلين في القصد والسعي، فهذا كان قاصدًا وساعيًا في الخير وهذا كان قاصدًا وساعيًا في الشر (أحدهما مجتهد في العبادة) أي: مبالغ فيها (والآخر يقول) أي: الرسول - صلى الله عليه وسلم - (مذنب) أي: هو مذنب. قال الطيبي: ويمكن أن

فجعل يقول: أقصر عما أنت فيه، فيقول: خلني وربي. حتى وجده يومًا على ذنب استعظمه، فقال: أقصر فقال: خلني وربي، أبعثت عليّ رقيبًا؟ فقال: والله لا يغفر الله لك أبدًا، ولا يدخلك الجنة، فبعث الله إليهما ملكًا فقبض أرواحهما، فاجتمعا عنده، فقال للمذنب: ادخل الجنة برحمتي. وقال للآخر: أتستطيع أن تحظر على عبدي رحمتي؟ فقال: لا يا رب: قال: اذهبوا به إلى النار. ـــــــــــــــــــــــــــــ يقال: إن المعنى والآخر منهمك في الذنب ليطابق قوله مجتهد في العبادة. وقال المظهر: أي يقول الآخر: أنا مذنب أي: معترف بالذنب. وقال القاري والشيخ الدهلوي: وهو الأظهر لسياق الحديث. قلت: ويؤيد القول الأول ما وقع عند أبي داود ((فكان أحدهما يذنب والآخر مجتهد في العبادة)) (فجعل يقول) أي: المجتهد للمذنب (أقصر) بفتح همزة أمر من الإقصار أي: كف وأمسك وامتنع. قال في المجع الإقصار: هو: الكف عن الشيء مع القدرة عليه فإن عجز عنه يقول قصرت عنه بلا ألف - انتهى. ولأبي داود فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول: أقصر. (عما أنت فيه) أي: من ارتكاب الذنب (فيقول) أي: الآخر: (خلني وربي) أي: اتركني معه (حتى وجده) أي: المجتهد المذنب (يومًا) أي: وقتًا ما (على ذنب استعظمه) أي: المجتهد ذلك الذنب (أبعثت) بصيغة المجهول بالاستفهام الإنكاري (علي رقيبًا) أي: أبعثك الله علي حافظًا وكأن الرجل كان يستغفر ربه ويعتذر إليه كلما أذنب، وبهذا يناسب هذا الحديث باب الاستغفار، وظاهر سياق الحديث أنه أدخل الجنة بمحض فضله ورحمته، فكان المناسب أن يورده في الباب الذي يليه فإن الأحاديث المذكورة فيه تدل على سعة رحمة الله تعالى كما لا يخفى (فقال) أي: المجتهد من إعجابه بأعماله واحتقار صاحبه لارتكاب عظيم ذنبه (ولا يدخلك الجنة) وفي بعض نسخ أبي داود أو لا يدخلك الله الجنة وهكذا وقع في الكنز (ج4: ص142) (فقبض) أي: الملك (أرواحهما) أي: روحيهما على حد صغت قلوبكما (فقال للمذنب: ادخل الجنة برحمتي) أي: جزاء الحسن ظنك بي فقد غفرتك (وقال للآخر) في العدول عن التعبير بالمجتهد نكتة لا تخفى، وهي إن اجتهاده في العبادة ضاع لقلة علمه ومعرفته بصفات ربه وإعجابه بعمله وقسمه وحكمه على الله بأنه لا يغفر للمذنب، فانقلب الأمر وصار كالآخر. والمذنب بحسن عقيدته وحسن ظنه بربه واعترافه بالتقصير في معصيته نزل منزلة المجتهد (أتستطيع) الهمزة للإنكار أي أتقدر (أن تحظر) بضم الظاء المعجمة أي: تمنع وتحرم (على عبدي رحمتي) أي: التي وسعت كل شيء في الدنيا وخصت للمؤمنين في العقبى (فقال: لا يا رب) اعترف حين لا ينفعه الاعتراف (اذهبوا به) الخطاب للملائكة الموكلين بالنار (إلى النار) جزاء على اجتراءه علي وحلفه، وحكمه عليَّ بأن لا أغفر للمذنب ولإعجابه بأعماله واحتقاد

رواه أحمد. 2371- (26) وعن أسماء بنت يزيد، قالت سمعت رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يقرأ: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} ـــــــــــــــــــــــــــــ صاحبه ولا دلالة في الحديث على كفره ليكون مخلدًا في النار. ولفظ أبي داود فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالمًا (أي: فحلفت أن لا أغفر له ولا أدخله الجنة) أو كنت على ما في يدي قادرًا (أي: فمنعتني منه) وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي. وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار. (رواه أحمد) ، وأخرجه أيضًا أبو داود في باب النهي عن البغي من كتاب الأدب من طريق علي بن ثابت الجزري عن عكرمة بن عمار عن ضمضم بن جوس عن أبي هريرة، وهذا الإسناد صحيح أحسن قد سكت عنه أبو داود علي بن ثابت الجزري ثقة صدوق، قد ضعفه الأزدي بلا حجة، وعكرمة بن عمار العجلي صدوق، وضمضم بن جوس الهفاني اليمامي ثقة. قال الحافظ: روى له أبو داود في إثم القنط ورواه أيضًا البغوي في المعالم بإسناده عن ضمضم بن جوس. قال: دخلت مسجد المدينة فناداني شيخ فقال لي: يا يمامي تعال وما أعرفه فقال: لا تقولن لرجل والله لا يغفر الله لك أبدًا ولا يدخلك الجنة. قلت: ومن أنت يرحمك الله. قال أبو هريرة: قال: فقلت: إن هذه الكلمة يقولها أحدنا لبعض أهله إذا غضب أو لزوجته أو لخادمته، قال: فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن رجلين - الحديث إلى آخره. ثم قال أبو هريرة: والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت بدنياه وآخرته - انتهى. 2371 - قوله: (وعن أسماء بنت يزيد) أي: ابن السكن الأنصارية (يقرأ) {يَا عِبَادِيَ} بفتح الياء وسكونها. قال في فتح البيان: قرئ بإثبات الياء وصلاً ووقفًا، وبغير الياء، أي وقفًا وهما سبعيتان {الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ} أي: أفرطوا في الجناية عليها بالإسراف في المعاصي. وقيل: أي: أفرطو عليها بالكفر أو المعاصي واستكثروا منها. وقيل: أي: أفرطوا عليها وتجاوزوا الحد في فعل كل مذموم {لاَ تَقْنَطُوا} بفتح النون من باب سمع وبكسرها من باب ضرب أي: لا تيأسوا {مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} أي: من مغفرته {إِنَّ اللَّهَ} استئناف فيه معنى التعليل {يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} أي: ذنوب الكفار بالتوبة وذنوب المسلمين بها وبالمشيئة. اعلم أنهم اختلفوا هل هذه الآية مقيدة بالتوبة وإنه لا تغفر إلا ذنوب التائبين أو هي على إطلاقها؟ فذهب جماعة من المفسرين إلى الأول. قال الحافظ ابن كثير: هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفر وغيرهم إلى التوبة والإنابة وإخبار بأن الله تبارك وتعالى يغفر الذنوب جميعًا لمن تاب منها ورجع عنها، وإن كانت مهما كانت وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر، ولا يصح حمل هذه على غير توبة لأن الشرك لا يغفر لمن لم يتب منه. ثم ذكر حديث ابن عباس إن ناسًا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ وزنوا وأكثروا فأتوا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا إن لما عملنا كفارة فنزل {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} (الفرقان: 68) ونزل {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} (الزمر: 53) أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي. قال ابن كثير: المراد من الآية الأولى قوله تعالى: {إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} (الفرقان: 70) الآية ثم ذكر حديث ثوبان الآتي في الفصل الثالث، وحديث أسماء الذي نحن في شرحه ثم قال: فهذه الأحاديث كلها دالة على أن المراد أنه يغفر جميع ذلك مع التوبة ولا يقنطن عبد من رحمه الله وإن عظمت ذنوبه وكثرت، فإن باب الرحمة والتوبة واسع ثم ذكر ابن كثير الآيات والأحاديث الدالة على الحث على التوبة والاستغفار. وقال الجمل (ج3: ص724) : وهذه الآية عامة في كل كافر يتوب ومؤمن عاص يتوب فتمحو توبته ذنبه، والمراد منها التنبيه على أنه لا ينبغي للعاصي أن يظن أنه لا مخلص له من العذاب فإن من اعتقد ذلك فهو قانط من رحمة الله تعالى إذ لا أحد من العصاة إلا وإنه متى تاب زال عقابه وصار من أهل المغفرة والرحمة. فمعنى قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} (الزمر: 53) أي: بالتوبة إذا تاب وصحت توبته فمحصت ذنوبه، ومن مات قبل أن يتوب فهو موكول إلى مشيئة الله تعالى فيه، فإن شاء غفر له وعفى عنه، وإن شاء عذبه بقدر ذنوبه، ثم يدخله الجنة بفضله ورحمته، فالتوبة واجبة على كل واحد وخوف العقاب قائم فلعل الله يغفر مطلقًا ولعله يعذب ثم يغفر بعد ذلك - انتهى. وإليه أي إلى تقييد آية الزمر بالتوبة، ذهب ابن القيم حيث قال في الجواب الكافي (ص16) ومدارج السالكين (ج1: ص394) إن هذه الآية في حق التائبين وقوله: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} في حق غير التائب. وذهب بعضهم إلى أن الآية على إطلاقها. قال العلامة القنوجي البوفالي في فتح البيان (ج8: ص166) والحق أن الآية غير مقيدة بالتوبة بل هي على إطلاقها، وإليه ذهب الشوكاني حيث قال في فتح القدير (ج4: ص456، 457) الألف واللام قد صيرت الجمع الذي دخلت عليه (وهو قوله: الذنوب) للجنس الذي يستلزم استغراق أفراده فهو في قوة إن الله يغفر كل ذنب كائنًا ما كان، إلا ما أخرجه النص القرآني وهو الشرك: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء: 48) ثم لم يكتف بما أخبر عباده به من مغفرة كل ذنب بل أكد ذلك بقوله جميعًا. قال الشوكاني: والجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} هو إن كل ذنب كائنًا ما كان ما عدا الشرك بالله مغفور لمن شاء الله أن يغفر له، على أنه يمكن أن يقال أن إخباره لنا بأنه يغفر الذنوب جميعًا، يدل على أنه يشاء غفرانها جميعًا، وذلك يستلزم أنه يشاء المغفرة لكل المذنبين من المسلمين فلم يبق تعارض

ولا يبالي. رواه أحمد، والترمذي. وقال: هذا حديث حسن غريب. ـــــــــــــــــــــــــــــ بين الآيتين من هذه الحيثية. قال ولو كانت هذه البشارة العظيمة مقيدة بالتوبة لم يكن لها كثير موقع، فإن التوبة من المشرك يغفر الله له بها ما فعله من الشرك بإجماع المسلمين. وقد قال: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} فلو كانت التوبة قيدًا في المغفرة لم يكن للتنصيص على الشرك فائدة. وقد قال سبحانه وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم. قال الواحدي: المفسرون قالوا: إن هذه الآية في قوم خافوا إن أسلموا أن لا يغفر لهم ما جنوا من الذنوب العظام كالشرك وقتل النفس ومعاداة النبي - صلى الله عليه وسلم -. قلت: (قائله الشوكاني ذهب أنها في هؤلاء القوم فكان ماذا؟ فإن الاعتبار بما اشتملت عليه من العموم لا بخصوص السبب كما هو متفق عليه بين أهل العلم قال وأما قوله تعالى بعد ذلك {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ} (الزمر: 54) فليس فيه ما يدل على تقييد الآية الأولى بالتوبة لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام، بل غاية ما فيها أنه بشرهم بتلك البشارة العظمى، ثم دعاهم إلى الخير وخوفهم من الشر على أنه يمكن أن يقال إن هذه الجملة مستأنفة خطابًا للكفار الذين لم يسلموا بدليل قوله: {وَأَسْلِمُوا لَهُ} جاء بها لتحذير الكفار وإنذارهم بعد ترغيب المسلمين بالآية الأولى وتبشيرهم، وهذا وإن كان بعيدًا ولكنه يمكن أن يقال به. والمعنى على ما هو الظاهر إن الله جمع لعباده بين التبشير العظيم والأمر بالإنابة إليه والإخلاص والاستسلام لأمره والخضوع لحكمه وقوله: {مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ} (الزمر: 54) أي: عذاب الدنيا. يعني بالقتل والأسر والقهر والخوف والجدب لا عذاب الآخرة. قلت: الآية تحتمل القولين لكن سياقها يؤيد ما قاله ابن كثير ومن وافقه. وأما ما ذكره الشوكاني في تأويل ذلك السياق ففيه تكلف ظاهر. والراجح عندي إن مغفرة ذنوب المسلمين غير مقيدة بالتوبة بل تغفر بها وبالمشيئة (ولا يبالي) أي: من أحد فإنه لا يجب على الله. وقيل: أي: لا يبالي بمغفرة الذنوب جميعًا لسعة رحمته وعدم مبالاته من أحد وانتهت رواية الترمذي على هذا أو زاد أحمد في روايته إنه هو الغفور الرحيم. والظاهر من هذه الرواية إن قوله ولا يبالي. كان من القرآن، ولذا قال صاحب المدارك تحت هذه الآية: وفي قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - يغفر الذنوب جميعًا ولا يبالي. وقال القاري: وهو يحتمل أنه كان من الآية فنسخ، ويحتمل أن يكون زيادة من عنده عليه الصلاة والسلام كالتفسير للآية (رواه أحمد) (ج6: ص454: 459، 460، 461) ، (والترمذي) في تفسير سورة الزمر، كلاهما من طريق ثابت البناني عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد (وقال) أي: الترمذي (هذا حديث حسن غريب) وقال أيضًا: لا نعرفه إلا من حديث ثابت عن شهر بن حوشب - انتهى. وشهر هذا صدوق كثير الإرسال والأوهام قاله في التقريب وقال حرب بن إسماعيل عن أحمد ما أحسن حديثه ووثقه وروى عن أسماء أحاديث حسانًا كذا في تهذيب التهذيب. والحديث

وفي ((شرح السنة)) ((يقول)) بدل ((يقرأ)) . 2372- (27) وعن ابن عباس، في قول الله تعالى: {إِلا اللَّمَمَ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن تغفر اللهم تغفر جمًا، وأي عبد لك لا ألما. ـــــــــــــــــــــــــــــ ذكره الشوكاني في فتح القدير (ج4: ص460) وزاد في نسبته أبا داود، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن الأنباري، والحاكم، وابن مردويه، ونسبه ابن كثير أيضًا إلى أبي داود ولم أجده في سننه ولم ينسبه النابلسي إليه في ذخائر المواريث، بل اقتصر على ذكر الترمذي (وفي شرح السنة يقول) أي يا عبادي إلخ (بدل يقرأ) أي السابق في رواية أحمد والترمذي وهذا يؤيد القول بأنه حديث. 2372- قوله: في قول الله تعالى: {إِلَّا اللَّمَمَ} أي: في تفسير قوله: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ} (النجم: 32) الكبائر كل ذنب توعد الله عليه بالنار، أو ما عين له حدًا أو ذم فاعله ذمًا شديدًا، ولأهل العلم في تحقيق الكبائر كلام طويل، وكما اختلفوا في تحقيق معناها وماهيتها اختلفوا في عددها. والفواحش جمع فاحشة، وهي ما فحش من كبائر الذنوب كالزنا ونحوه، وهو من عطف الخاص على العام. وقيل: هي كل ذنب فيه وعيد أو مختص بالزنا {إِلا اللَّمَمَ} بفتحتين أي ما قل وصغر من الذنوب يعني الصغائر منها فإنهم لا يقدرون أن يجتنبوها، والاستثناء منقطع لأنه ليس من الكبائر والفواحش. وأصل {اللَّمَمَ} في اللغة ما قل وصغر. ومنه ألم بالمكان قل لبثه فيه وألم بالطعام قل أكله منه. قال في الصحاح: ألم الرجل من {اللَّمَمَ} وهو صغائر الذنوب، ويقال: مقاربة المعصية من غير مواقعة. قال المبرد: أصل اللَّمَمَ أن تلم بالشيء من غير أن ترتكبه يقال: ألم بكذا إذا قاربه ولم يخالطه. قال الأزهري: العرب تستعمل الإلمام في معنى الدنو والقرب. وقال الزجاج: أصل {اللَّمَمَ} والإلمام ما يعمله الإنسان المرة بعد المرة ولا يتعمق فيه ولا يقيم عليه، ويقال: ألممت به إذا زرته وانصرفت عنه. وقد اختلفت أقوال أهل العلم في تفسير هذا اللَّمَمَ المذكور في الآية، فالجمهور على أنه صغائر الذنوب. وقيل: هو ما كان دون الزنا من القبلة والغمزة والنظرة. وقيل: الخطرة من الذنوب. وقيل كل ذنب لم يذكر الله فيه حدًا ولا عذابًا. وقيل: غير ذلك والراجح هو قول الجمهور (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي: استشهادًا بأن المؤمن لا يخلوا من اللَّمَمَ (إن تغفره اللهم تغفر جمًا) بفتح الجيم وتشديد الميم أي كثيرًا (وأي عبد لك لا ألمًا) فعل ماض مفرد والألف للإشباع أي لم يلم بمعصية أي عبد غير معصوم لم يقع منه ذنب أي لم يتلطخ بصغيرة يقال: لم أي: تزل وألم: إذا فعل {اللَّمَمَ} وهو الشيء القليل، والبيت لامية بن أبي الصلت الذي كان متعبدًا في الجاهلية ومتدينًا ومؤمنًا بالبعث أدرك الإسلام ولم يسلم، وكان - صلى الله عليه وسلم - يحب شعره لاشتماله على المواعظ والحقائق، وهذا

رواه الترمذي. وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. 2373- (28) وعَنْ أَبِي ذر، قال: قال رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقُولُ الله تعالى: يا عبادي كلكم ضال إلا من هديت، فاسئلوني الهدى أهدكم. وكلكم فقراء إلا من أغنيت، فاسئلوني أرزقكم. وكلكم مذنب إلا من عافيت، ـــــــــــــــــــــــــــــ البيت صار حديثًا لنطقه - صلى الله عليه وسلم - بلفظه والمنفي عنه - صلى الله عليه وسلم - في قوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ} (يس: 69) هو إنشاء الشعر لا إنشاده والتمثل به وهو الصحيح أي من شأنك غفران الذنوب الكبيرة الكثيرة فضلاً عن الصغائر، لأنها لا يخلوا عنها أحد، وإنها مكفرة بالحسنات. وقال الطيبي: أي: من شأنك اللهم أن تغفر غفرانًا كثيرًا للذنوب العظيمة. وأما الجرائم الصغيرة فلا تنسب إليك لأنها لا يخلو عنها أحد وإنها مكفرة باجتناب الكبائر وإن ليس للشك بل للتعليل كما تقول للسلطان إن كنت سلطانًا فأعط الجزيل. والمعنى لأجل إنك غفار غفر جمًا - انتهى. (رواه الترمذي) في تفسير سورة النجم، وذكره الشوكاني في فتح القدير وزاد في نسبة سعيد بن منصور، والبزار، وابن جرير، وابن المنذري، وابن أبي حاتم، والحاكم (ج2: ص469) ، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب (وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب) وقال: لا نعرفه إلا من حديث زكريا بن إسحاق أي: عن عمرو بن دينار عن عطاء بن يسار عن ابن عباس ومن هذا الطريق رواه الحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. 2373- قوله: (كلكم ضال إلا من هديت) أي: كلكم عار من الهداية ليس له هداية من ذاته بل هي من عناية ربه ولطفه وهذا لا ينافي حديث كل مولود يولد على الفطرة بمعنى أنه يولد خاليًا عن دواعي الضلالة وفيه أن العبد محتاج إلى الله تعالى في كل شيء وأن أحدًا لا يغني أحدًا شيئًا من دونه فحقه أن يتبتل إليه بشر أشره (فاسألوني) وفي بعض النسخ فسلوني، وهكذا وقع عند أحمد (ج5: ص177) ، والترمذي، وابن ماجة، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (الهدى) أي: اطلبوا الهداية مني لا من غيري (كلكم فقراء) كذا في جميع النسخ الحاضرة، وفي مسند الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجة: وكلكم فقير. وهكذا نقله الجزري (إلا من أغنيت) وهو أيضًا لا يستغني عنه لمحة لاحتياجه إلى الإيجاد والإمداد كل لحظة. قال الله تعالى: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء} (محمد: 38) (فاسألوني) وفي الترمذي فسلوني، وهكذا في جامع الأصول والمسند وابن ماجة (وكلكم مذنب) أي يتصور منه الذنب (إلا من عافيت) أي: من الأنبياء والأولياء أي وعصمت وحفظت، وهو يدل على أن العافية هي السلامة من الذنوب وهي أكمل أفرادها، وإنما قال: عافيت تنبيهًا على أن الذنب مرض ذاتي

فمن علم منكم أني ذو قدرة على المغفرة فاستغفرني غفرت له ولا أبالي. ولو أن أولكم وآخركم، وحيكم، وميتكم، ورطبكم، ويابسكم اجتمعوا على أتقى قلب عبد من عبادي ما زاد ذلك في ملكي جناح بعوضة ولو أن أولكم، وآخركم، وحيكم، وميتكم، ورطبكم، ويابسكم اجتمعوا على أشقى قلب عبد من عبادي، ما نقص ذلك من ملكي جناح بعوضة، ولو أن أولكم، وآخركم، وحيكم، وميتكم، ورطبكم، ويابسكم اجتمعوا في صعيد واحد، فسأل كل إنسان منكم ما بلغت أمنيته، فأعطيت كل سائل منكم، ما نقص ذلك من ملكي إلا كما لو أن أحدكم مر بالبحر فغمس فيه إبرة، ثم رفعها، ذلك بأني جواد ـــــــــــــــــــــــــــــ وصحته عصمة الله تعالى وحفظه منه أو كلكم مذنب بالفعل، وذنب كل بحسب مقامه إلا من عافيته بالمغفرة والرحمة والتوبة (غفرت له) أي: جميع ذنوبه (ولا أبالي) أي: لا أكترث (ولو أن أولكم وآخر كم) يراد به الإحاطة والشمول (وحيكم وميتكم) تأكيد لإرادة الاستيعاب كقوله (ورطبكم ويابسكم) أي شبابكم وشيوخكم، أو عالمكم وجاهلكم، أو مطيعكم وعاصيكم. وقيل: المراد بهما البحر والبر أي أهلهما أو أنه لو صار كل ما في البحر والبر من الشجر والحجر والحيتان وسائر الحيوان آدميًا. وقيل: يحتمل أن يراد بهما الإنس والجن بناء على أن خلق الجن من النار، والإنس من الماء، ويؤيده ما ورد في الحديث المذكور في الفصل الأول عن أبي ذر: وجنكم وإنسكم. قال الطيبي: هما عبارتان عن الإسيتعاب التام كما في قوله تعالى: {وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (الأنعام: 59) والإضافة إلى ضمير المخاطبين تقتضي أن يكون الاستيعاب في نوع الإنسان فيكون تأكيدًا للشمول بعد تأكيد وتقريرًا بعد تقرير - انتهى. (اجتمعوا على اتقى قلب عبد من عبادي) وهو نبينا - صلى الله عليه وسلم - (ما زاد ذلك) أي: الاجتماع (جناح بعوضة) بفتح الجيم أي: قدره (اجتمعوا على أشقى قلب عبد من عبادي) وهو إبليس اللعين (اجتمعوا في صعيد واحد) أي: أرض واسعة مستوية (ما بلغت أمنيته) بضم الهمزة وكسر النون وتشديد الياء أي: مشتهاه، وجمعها المني والأماني يعني كل حاجة تخطر بباله (ما نقص ذلك) أي الإعطاء أو قضاء حوائجهم (فغمس) بفتح الميم أي أدخل (إبرة) بكسر الهمزة وسكون الموحدة وهي المخيط (ذلك) أي عدم نقص ذلك من ملكي (بأني جواد) أي كثير الجود. ووقع عند أحمد (ج5: ص177) ، والترمذي بعد ذلك ((واجد)) وهو الذي يجد ما يطلبه ويريده وهو الواجد المطلق لا يفوته شيء، وهذا بيان لسبب ما تقدم، وذلك لأنه إذا كان عطاءه الكلام فلا يتصور في خزائنه النقصان. وقال في اللمعات: قوله ذلك بأني جواد ماجد

ماجد أفعل ما أريد، عطائبي كلام، وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردت أن أقول له {كُن فَيَكُونُ} . رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجة. 2374- (29) وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قرأ: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} قال: قال ربكم: أنا أهل أن أتقي فمن اتقاني فأنا أهل أن أغفر له. رواه الترمذي، وابن ماجة، ـــــــــــــــــــــــــــــ إشارة إلى مجموع ما ذكر أو إلى الأخير وعلى الأول الجواد بالنسبة إلى الأخير والماجد إلى ما قبله أو الكل في الكل فافهم (ماجد) هو بمعنى المجيد كالعالم بمعنى العليم من المجد وهو سعة الكرام (إنما أمري لشيء إذا أردت أن أقول له كن فيكون) بالرفع والنصب أي من غير تأخير عن أمري، وهذا تفسير لقوله: عطائي كلام وعذابي كلام. قال القاضي: يعني ما أريد إيصاله إلى عبد من عطاء أو عذاب لا أفتقر إلى كد ومزاولة عمل، بل يكفي لحصوله ووصوله تعلق الإرادة به، وكن من كان التامة أي أحدث فيحدث (رواه أحمد) (ج5: ص154: 177) (والترمذي) في أواخر الزهد، (وابن ماجة) في باب ذكر التوبة، وأخرجه أيضًا البيهقي كلهم من رواية شهر بن حوشب عبد الرحمن بن غنم عن أبي ذر، وأخرج أحمد (ج5: ص160) ، ومسلم، والحاكم (ج4: ص241) نحوه بزيادة ونقص، وتقدم لفظ مسلم في الفصل الأول. 2374- قوله: (أنه قرأ) أي قوله تعالى في آخر سورة المدثر {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى} أي: هو التحقيق بأن يتقيه المتقون بترك معاصيه والعمل {وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} أي هو الحقيق بأن يغفر الله للمؤمنين ما فرط منهم من الذنوب، والحقيق بأن يقبل التوبة التائبين من العصاة فيغفر ذنوبهم قاله الشوكاني: وقال البيضاوي {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى} (المدثر: 56) حقيق بأن يتقي عقابه {وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} (المدثر: 56) حقيق بأن يغفر لعباده - سيما المتقين منهم. وقال قتادة: أي: هو أهل أن يخاف منه وهو أهل أن يغفر ذنب من تاب إليه وأناب (قال) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - (قال ربكم) أي: معنى تفسيريًا (أنا أهل أن أتقى) بإضافة أهل وصيغة المجهول من اتقى أي: يخاف ويحذر يعني أنا حقيق وجدير بأن يتقي العباد من جعل شريك بي ومن المعاصي ويخافوا من عذابي. وزاد أحمد وابن ماجة: فلا يجعل معي إلهًا آخر، وفي رواية أخرى لابن ماجة أنا أهل أن أتقى فلا يشرك بي غيري (فمن اتقاني) أي: خافني. وزاد الترمذي فلم يجعل معي إلهًا (فأنا أهل أن أغفر له) أي: لمن اتقاني، ولأحمد، وابن ماجة فمن اتقى أن يجعل معي إلهًا آخر فأنا أهل أن أغفر له، وفي رواية لابن ماجة: وأنا أهل لمن اتقى أن يشرك بي أن أغفر له. وهذا مضمون قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء: 48) (رواه الترمذي) في تفسير سورة المدثر، (وابن ماجة) في باب ما يرجى من رحمة الله من أبواب الزهد

والدارمي. 2375- (30) وعن ابن عمر، قال: إن كنا لنعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس يقول: رب اغفر لي، وتب عليَّ، إنك أنت التواب الغفور. ـــــــــــــــــــــــــــــ ، (والدارمي) (ص366) في الرقاق وذكره الشوكاني في فتح القدير وزاد في نسبته أحمد، والنسائي، والبزار، وأبا يعلى، وابن جريج، وابن المنذري، وابن أبي حاتم، وابن عدي، وابن مردويه. قلت: وأخرجه أيضًا الحاكم (ج2: ص508) ، والبغوي كلهم من رواية سهيل بن عبد الله القطعي عن ثابت البناني عن أنس. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وسهيل ليس بقوي في الحديث، وقد تفرد سهيل بهذا الحديث عن ثابت - انتهى. قلت: الحديث قد صححه الحاكم ووافقه الذهبي وسهيل المذكور مختلف فيه، وجروح من جرحه مبهمة. قال أحمد: فيه روى أحاديث منكرة. وقال البخاري: لا يتابع في حديثه يتكلمون فيه. وقال مرة: ليس بالقوي عندهم، وكذا قال أبو حاتم، والنسائي: ليس بالقوي. وقال أحمد بن زهير: سئل ابن معين عن سهيل فقال: ضعيف. وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: صالح. ووثقه العجلي كذا في تهذيب التهذيب. وقال في التقريب: ضعيف. وقد تحصل من هذا كله أن حديثه لا ينزل عن درجة الحسن، ولحديث هذا شواهد. فقد روى ابن مردويه عن أبي هريرة وابن عمر وابن عباس نحوه. 2375- قوله: (إن) مخففة من المثقلة بقرينة المقام (كنا لنَعُدّ) اللام فارقة ونعد بفتح النون وضم العين وتشديد الدال أي لنحصي (لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -) متعلق بنعد (في المجلس) أي: الواحد كما في رواية أبي داود، والترمذي، وابن السني، وزاد الترمذي أيضًا ((من قبل أن يقوم)) (يقول) بالرفع وينصب بتقدير أن أي: قوله: (رب اغفر لي) وكأنه كان يقول ذلك عملاً بقوله تعالى {وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} (النصر: 3) وتمسكًا بقوله: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} (البقرة: 222) والحديث يدل على أن استغفاره - صلى الله عليه وسلم - كان بلفظ الدعاء وقد رجحوه على قول القائل: استغفر الله لأنه إن كان غافلاً ولاهيًا في ذلك كذبًا بخلاف الدعاء فإنه قد يستجاب إذا صادف الوقت وإن كان مع الغفلة كذا قالوا، وهذا مبني على أن قوله: أستغفر الله خبر، ويجوز أن يكون إنشاء وهو الظاهر. وقد ورد في الصحيح قوله: - صلى الله عليه وسلم - أستغفر الله الذي لا إله إلا هو القيوم وأتوب إليه. نعم يرجحه فيمن سواه - صلى الله عليه وسلم - كذا في الملعات (وتب علي) أي: ارجع علي بالرحمة أو وفقني للتوبة أو اقبل توبتي (إنك أنت التواب الغفور) صيغتا مبالغة وهذا لفظ أحمد والترمذي، وفي رواية أبي داود، وابن ماجة، وابن السني، الرحيم بدل الغفور، وهكذا وقع عند النسائي في رواية. وابن حبان

مائة مرة. رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود، وابن ماجة. 2376- (31) وعن بلال بن يسار بن زيد مولى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: حدثني أبي، عن جدي ـــــــــــــــــــــــــــــ (مائة مرة) مفعول مطلق لنعد (رواه أحمد) (ج2: ص21 - 67: 84) ، (والترمذي) في الدعوات، (وأبو داود) في أواخر الصلاة (وابن ماجة) في باب الاستغفار، واللفظ لأحمد في (ج2: ص21) ، وأخرجه أيضًا النسائي، والبخاري في الأدب المفرد (ج2: ص78) ، وابن حبان في صحيحه، وابن السني (ص120: 144) وصححه الترمذي، ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره. 2376- قوله: (وعن بلال) بالباء الموحدة كذا عند الترمذي، وهكذا ذكره البخاري في التاريخ الكبير (1/2/ 108) ، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (1/1/397) ، والحافظ في تهذيب التهذيب (1/505) ، والتقريب، والخزرجي في الخلاصة، والجزري في جامع الأصول (ج5: ص145) ، والمزي في الأطراف، وكذا وقع في بعض نسخ سنن أبي داود، ووقع في أكثرها هلال بن يسار بالهاء. قال المنذري في مختصر السنن: وقع في كتاب أبي داود هلال بن يسار بن زيد بالهاء، ووقع في كتاب الترمذي وغيره وفي بعض نسخ سنن أبي داود: بلال بن يسار بالباء الموحدة. وقد أشار الناس إلى الخلاف فيه، وذكره البغوي في معجم الصحابة بالباء. وذكره البخاري في تاريخه الكبير أيضًا بالباء - انتهى. وقال الجزري: بلال بن يسار كذا عند الترمذي أي: بالموحدة، وعند أبي داود هلال بن يسار أي بالهاء، وقد ظهر من هذا أنه اختلف في أنه بالباء الموحدة أو بالهاء، وقد ذكر هذا الاختلاف ابن الأثير في أسد الغابة في ترجمة جده زيد بن بولا مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم ذكر هذا الحديث من طريق موسى بن إسماعيل حفص بن عمر الشني عن أبيه عمر بن مرة عن بلال بن يسار بن زيد عن أبيه عن جده ومن هذا الطريق أخرجه الترمذي وأبو داود وغيرهما. قال: وقد قال: بعضهم هلال موضع بلال والله أعلم. (بن يسار) بالياء التحتانية وسين مهملة (بن زيد) بن بولي (مولى النبي) بيان لزيد. قال في التقريب: بلال بن يسار بن زيد القرشي مولاهم بصري مقبول. وقال في تهذيب التهذيب: بلال بن يسار بن زيد القرشي مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثه في أهل البصرة روى عن أبيه عن جده في الاستغفار، وعنه عمر بن عمر بن مرة الشني روى أبو داود والترمذي له حديث واحدًا واستغربه الترمذي. قلت: وذكره ابن حبان في الثقات - انتهى. (قال) أي: بلال (حدثني أبي) أي: يسار بن زيد أبو بلال. قال في التقريب: مقبول. وقال في تهذيب التهذيب ذكره ابن حبان في الثقات: (عن جدي) أي: زيد قال في التقريب: زيد والد يسار مولى النبي - صلى الله عليه وسلم -

أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، غفر له، ـــــــــــــــــــــــــــــ صحابي، له حديث ذكر أبو موسى المدني إن اسم أبيه بولاً بموحدة وكان عبدًا نوبيًا. وقال في الإصابة: زيد بن بولي بالموحدة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو يسار، له حديث عند أبي داود والترمذي من رواية ولده بلال بن يسار بن زيد، حدثني أبي عن جدي، ذكر أبو موسى (المدني) إن اسم أبيه بولاً بالموحدة، وقال غيره اسمه زيد يعني لم ينسبه غير أبي موسى. وقال ابن شاهين: كان نوبيًا أصابه النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بني ثعلبة فأعتقه - انتهى. وقال ابن الأثير في أسد الغابة: هو في كتاب ابن مندة إلا أنه ينسبه ولا نسبه أبو عمر (ولا البخاري ولا ابن أبي حاتم) وإنما نسبه أبو نعيم وتبعه أبو موسى. وأخرج الحديث بعينه عن بلال بن يسار عن أبيه عن جده زيد فهو لا شك فيه - انتهى. وقال الجزري في تصحيح المصابيح: ليس زيد هذا زيد بن حارثة والد أسامة بل هو أبو يسار روى عنه ابنه يسار هذا الحديث وذكره البغوي في معجم الصحابة، وقال: لا أعلم لزيد مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير هذا الحديث وذكر إن كنيته أبو يسار وإنه سكن المدينة (إنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا في جميع النسخ الحاضرة، وهكذا في جامع الأصول، وفي بعض نسخ أبي داود، ووقع في الترمذي وأكثر نسخ أبي داود أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - (من قال) أي مخلصًا من قلبه: (أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم) روي بالنصب على الوصف للفظ الله وبالرفع لكونهما بدلين أو بيانين لقوله هو، والأول هو الأكثر والأشهر. وقال الطيبي: يجوز في الحي القيوم النصب صفة لله أو مدحًا والرفع بدلاً من الضمير أو على المدح أو على خبر مبتدأ محذوف (وأتوب إليه) قال القاري: ينبغي أن لا يتلفظ بذلك إلا إذا كان صادقًا وألا يكون بين يدي الله كاذبًا، ولذا روي إن المستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه - انتهى. وذكر النووي في كتاب الأذكار عن الربيع بن خيثم أنه قال، لا يقل أحدكم أستغفر الله وأتوب إليه فيكون ذنبًا وكذبًا إن لم يفعل، بل يقول اللهم اغفر لي وتب علي. قال النووي: وهذا الذي قاله من قوله: اللهم اغفر لي وتب علي حسن، وأما كراهة أستغفر الله، وتسميته كذبًا فلا نوافق عليه لأن معنى أستغفر الله أطلب مغفرته وليس في هذا كذب، ويكفي في رده حديث من قال أستغفر الله الذي لا إله ألا هو. إلخ، يعني حديث بلال بن يسار الذي نحن في شرحه قال الحافظ: هذا في لفظ أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم. وأما أتوب إليه فهو الذي عنا الربيع رحمه الله إنه كذب وهو كذلك إذا قاله ولم يفعل التوبة كما قال. وفي الاستدلال للرد عليه بالحديث الذي ذكره نظر لجواز أن يكون المراد منه ما إذا قالها وفعل شروط التوبة، ويحتمل أن يكون الربيع قصد مجموع اللفظين لا خصوص أستغفر الله فيصح كلامه كله والله أعلم. ثم نقل الحافظ كلام السبكي من الحلبيات وقد

(الفصل الثالث)

وإن كان قد فر من الزحف. رواه الترمذي، وأبو داود، لكنه عند أبي داود: هلال بن يسار، وقال الترمذي: هذا حديث غريب. (الفصل الثالث) 2377- (32) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة، فيقول: يا رب: أنى لي ـــــــــــــــــــــــــــــ ذكرناه في شرح حديث (2358) فراجعه (وإن كان قد فر) أي هرب (من الزحف) بفتح الزاي وسكون الحاء أي من الجهاد ولقاء العدو في الحرب يعني وإن ارتكب الكبيرة فإن الفرار من الزحف كبيرة أوعد الله تعالى عليه: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ} (الأنفال: 16) الآية قال الطيبي: الزحف الجيش الكثير الذي يرى لكثرته كأنه يزحف. قال في النهاية: من زحف الصبي إذا دب على لسته قليلاً قليلاً. وقال المظهر: هو اجتماع الجيش في وجه العدو. أي فر من حرب الكفار حيث لا يجوز الفرار بأن لا يزيد الكفار على المسلمين مثلي عدد المسلمين ولا نوى التحرف أو التحيز. قال الشوكاني: في الحديث دليل على أن الاستغفار يمحو الذنوب سواء كانت كبائر أو صغائر، فإن الفرار من الزحف من الكبائر بلا خلاف. وقال أبو نعيم الأصبهاني هذا يدل على أن بعض الكبائر تغفر ببعض العمل الصالح وضابطه الذنوب التي لا توجب على مرتكبها حكمًا في نفس ولا مال. ووجه الدلالة منه إنه مثل بالفرار من الزحف وهو من الكبائر، فدل على أن ما كان مثله أو دونه يغفر إذا كان مثل الفرار من الزحف فإنه لا يوجب على مرتكبه حكمًا في نفس ولا مال كذا في الفتح (رواه الترمذي) في الدعوات عن الإمام البخاري عن موسى بن إسماعيل، (وأبو داود) في أواخر الصلاة عن موسى بن إسماعيل، وأخرجه أيضًا البخاري في التاريخ الكبير (1/2/347) ، وأبو نعيم، وأبو موسى المديني وذكره على المتقي في الكنز (ج1: ص431) وزاد في نسبته ابن سعد، والبغوي، وابن مندة، والباوردي، والطبراني، وسعيد بن منصور، وابن عساكر. (وقال الترمذي: هذا حديث غريب) لا نعرفه إلا من هذا الوجه. قال المنذري في الترغيب بعد نقل كلام الترمذي هذا: ((وإسناده جيد متصل فقد ذكر البخاري في تاريخه الكبير (2/1/108) إن بلالاً سمع من أبيه (2/4/421) وإن يسار سمع من أبيه زيد مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال ورواه الحاكم من حديث ابن مسعود. وقال صحيح على شرطهما إلا أنه قال يقولها ثلاثًا - انتهى. قلت: وروا الطبراني موقوفًا من قول ابن مسعود. قال الهيثمي: (ج10: ص210) : ورجاله وثقوا. ونسبه في الكنز لابن أبي شيبة موقوفًا على ابن مسعود ومعاذ. 2377- قوله: (في الجنة) متعلق بيرفع (فيقول) أي: العبد (أنى لي) أي كيف حصل أو من أين

هذه؟ فيقول: باستغفار ولدك لك. رواه أحمد. 2378- (33) وعن عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الميت في القبر إلا كالغريق المتغوث، ينتظر دعوة تلحقه من أب، أو أم، أو أخ، أو صديق، فإذا لحقته كان أحب إليه من الدنيا وما فيها، وإن الله تعالى ليدخل على أهل القبور من دعاء أهل الأرض أمثال الجبال، وإن هدية الأحياء إلى الأموات الاستغفار لهم. رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ حصل لي (هذه) أي: الدرجة (فيقول: باستغفار) أي حصل باستغفار (ولدك لك) الولد يطلق على الذكر والأنثى، المراد به المؤمن وهذا أحد منافع النكاح وأعظمها وأحد الأشياء التي تلحق المؤمن من حسناته وعمله بعد موته كما جاء في الحديث. قال الطيبي: دل الحديث السابق على أن الاستغفار يحط من الذنوب أعظمها، وهذا يدل على أنه يرفع درجة غير المستغفر إلى ما يبلغها بعمله فما ظنك بالعامل المستغفر ولو لم يكن في النكاح فضيلة غير هذا لكفى به فضلاً والله أعلم (رواه أحمد) (ج2: ص509) وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10: ص210) بهذا اللفظ، ثم قال رواه أحمد والطبراني في الأوسط ورجالهما رجال الصحيح غير عاصم بن بهدلة، وقد وثق - انتهى. وفي الباب عن أبي سعيد عند الطبراني في الأوسط: قال الهيثمي: وفيه ضعفاء وقد وثقوا. 2378- قوله: (ما الميت في قبر) أي: في حال من أحوال الشدة (إلا كالغريق) أي المشرف على الغرق (المتغوث) أي المستغيث المستعين المستجير الرافع صوته بأقصى ما عنده بالنداء لمن يخلصه المتعلق بكل شيء رجاءً لخلاصه، وفي المثل الغريق يتعلق بكل حشيش (تلحقه) أي من وراءه (من أب) أي من جهة أب (أو أم أو أخ أو صديق) أي محب وهذا تخصيص ببعض من يرجى منه الغوث ويتوقع الدعاء والاستغفار أكثر ممن سواه، وإلا فالحكم عام كما قال في آخر الحديث، ولم يذكر الولد في هذا الحديث لكونه معلومًا مقررًا مذكورًا في الأحاديث (فإذا لحقته) أي وصلته الدعوة. قال ابن حجر: بأن دعى له بها فإنه تصل إليه بمجرد ذلك إجماعًا (كان) أي لحوقها إياه (أحب إليه من الدنيا وما فيها) أي من مستلذاتها. وقال ابن حجر: أي: لو عاد إليها (وإن الله ليدخل على أهل القبور من دعاء أهل الأرض) أي: ممن هو حي فوق الأرض ومن تعليلية أو ابتدائية (أمثال الجبال) أي: من الرحمة والغفران لو تجسمت (رواه البيهقي) ، وأخرجه أيضًا أبو الشيخ في فوائده وذكره الذهبي في ترجمة محمد بن جابر بن أبي عياش الحمصي، وقال فيه: لا أعرفه وخبره منكر جدًا، ثم قال وروى الفضل بن محمد الباهلي وعبد الله بن محمد بن خالد الرازي عنه، قال حدثنا ابن المبارك عن يعقوب بن القعقاع

2379- (33م) وعن عبد الله بن بسر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارًا كثيرًا. رواه ابن ماجة، وروى النسائي في ((عمل اليوم والليلة)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما الميت في قبره إلا كالغريق ينتظر دعوة تلحقه من أبٍ أو أمٍ أو صديقٍ، وإن الله ليدخل من الدعاء على أهل القبور كأمثال الجبال، وإن هدية الأحياء إلى الأموات الاستغفار لهم. زاد الرازي: والصدقة عنهم - انتهى. قال الحافظ في اللسان (ج5: ص99) بعد ذكره أورده البيهقي في الشعب، ونقل عن ابن علي الحافظ أنه غريب من حديث ابن المبارك لم يقع عند أهل خراسان، قال: ولم أكتبه إلا عن هذا الشيخ يعني الفضل بن محمد. قال البيهقي: وتابعه محمد بن خزيمة عن ابن أبي عياش. وابن عياش تفرد به. 2379- قوله: (وعن عبد الله بن بسر) بضم الموحدة وسكون المهملة (طوبى) فعل من الطيب، وهي اسم الجنة أو شجرة فيها. وقيل: المراد راحة وطيب عيش. قال القاري: طوبى أي: الحالة الطيبة والعيشة الراضية أو الشجرة المشهورة في الجنة العالية (لمن وجد في صحيفته) أي: في الآخرة (استغفارًا كثيرًا) أي: لعظم منافعه قال الطيبي: فإن قيل لم يقل طوبى لمن استغفر كثيرًا وما فائدة العدول؟ قلت: هو كناية عنه فيدل على حصول ذلك جزمًا وعلى الإخلاص، لأنه إذا لم يكن مخلصًا فيه كان هباءً منثورًا فلم يجد في صحيفته إلا ما يكون حجة عليه ووبالاً له - انتهى. وقوله: ((استغفارًا كثيرًا)) هكذا وقع في النسخ الحاضرة من المشكاة وسنن ابن ماجة بنصب استغفارًا، وكذا في الحصن، والكنز، والجامع الصغير، وعدة الحصن، والأذكار للنووي، وفي الترغيب للمنذري برفع استغفار. قال الشوكاني في تحفة الذاكرين شرح عدة الحصن الحصين: قوله: ((استغفارًا كثيرًا)) هكذا في نسخ هذا الكتاب أي: العدة بنصب استغفارًا على أنه مفعول به وإن الفعل وهو وجد مبني للمعلوم، وفي غير هذا الكتاب برفع استغفار على أن الفعل مبني للمجهول، وهذا أقوى وأولى لأن المقصود وجود ذلك في الصحيفة لأي واحد كان من ملك أو بشر لا وجود ذلك لصاحب الصحيفة نفسه، وإن كان لابد أن يجدها يوم الحساب - انتهى. قلت: ولم أجد ((استغفار)) بالرفع إلا في الترغيب للمنذري. وأما ما عدا ذلك من الكتب التي ذكرناها، ففي كلها بنصب استغفارًا فهو أولى وأقوى بل هو الصحيح (رواه ابن ماجة) في باب الاستغفار من سننه. قال المنذري: بإسناد صحيح. وقال البوصيري: إسناده صحيح رجاله ثقات. (وروى النسائي) الأولى أن يقول ورواه النسائي (في عمل يوم وليلة) قال الطيبي: ترجمة كتاب صنفه في الأعمال اليومية والليلية - انتهى. ورواه أيضًا البيهقي كما في الترغيب، وروى الطبراني في الأوسط عن الزبير بن العوام مرفوعًا: ((من أحب أن تسره صحيفته فليكثر فيها من الاستغفار)) . قال الهيثمي: رجاله ثقات، ورواه البيهقي أيضًا. قال المنذري: بإسناد لا بأس به، وعزاه في

2380- (34) وعن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: اللهم اجعلني من الذين إذا أحسنوا استبشروا، وإذا أساؤا استغفروا. رواه ابن ماجة، والبيهقي ((في الدعوات الكبير)) . 2381- (35) وعن الحارث بن سويد، ـــــــــــــــــــــــــــــ الكنز للضياء أيضًا، وفي الباب أيضًا عن عائشة أخرجه أبو نعيم في الحلية، وعن أبي الدرداء موقوفًا أخرجه أحمد في الزهد وعن أنس مرفوعًا أخرجه البزار ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10: ص208) ، والجزري في الحصن وعن معاوية بن جندب أخرجه ابن عساكر، والديلمي في مسند الفردوس ذكره في الكنز (ج1: ص424) . 2380- قوله: (اللهم اجعلني من الذين إذا أحسنوا) أي العلم والعمل (استبشروا) أي فرحوا بالتوفيق قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} (يونس: 58) (وإذا أساؤا) أي: قصروا في أحدهما (استغفروا) كان ظاهر المقابلة أن يقال: وإذا أساؤا حزنوا فعدل عن الداء إلى الدواء إيماء إلى أن مجرد الحزن لا يكون مفيدًا، وإنما يكون مفيدًا إذا أبحر إلى الاستغفار المزيل للإصرار كذا في المرقاة. وقال الطيبي: إذا أحسنوا استبشروا أي إذا أتوا بعمل خير قرنوه بالإخلاص فيترتب عليه الجزاء فيستحقوا الجنة ويستبشروا بها، كما قال: {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} (فصلت:30) فهو كناية تلويحية، وقوله: ((وإذا أساؤا استغفروا)) عبارة عن أن لا يبتليهم بالاستدراج ويرى أعمالهم حسنة فيهلكوا كما قال تعالى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ} (فاطر: 8) - انتهى. وهذا تعليم للأمة وإرشاد إلى لزوم الاستغفار وإلا فهو - صلى الله عليه وسلم - أرقى وأتقى من كل الأخيار (رواه ابن ماجة) في باب الاستغفار من سننه، وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان. قال في الزوائد: وهو: ضعيف. قلت: ضعفه ابن سعد، وأحمد، ويحي والجوزجاني، والنسائي. وقال أبو زرعة: ليس بقوي. وقال الحاكم: ليس بقوي يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن خزيمة: لا أحتج به لسوء حفظه. وقال الحاكم: أبو أحمد ليس بالمتين عندهم. وقال الدارقطني: أنا أقف فيه لا يزال عندي فيه لين. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة صالح الحديث وإلى اللين ما هو. قال الساجي: كان من أهل الصدق، ويحتمل لرواية الجلة (قتادة، والسفيانين، والحمادين وشعبة، وغيرهم) عنه وقال الترمذي: صدوق إلا أنه ربما رفع الشيء الذي يوقفه غيره. والحديث ذكره السيوطي في الجامع الصغير وعلي المتقي في الكنز (ج2: ص113) ورمزا له ابن ماجة، والبيهقي في الشعب وذكره في الكنز (ج2 ص128) أيضًا وزاد في نسبته الخطيب، وابن عساكر وذكره ابن رجب في شرح الأربعين (ص163) وعزاه لأحمد فقط. 2381- قوله: (وعن الحارث بن سويد) بالتصغير التيمي من بني تيم الرباب الكوفي أبو عائشة. قال

قال: حدثنا عبد الله بن مسعود حديثين: أحدهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآخر عن نفسه قال: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا - أي بيده - ـــــــــــــــــــــــــــــ المؤلف: من كبار التابعين وثقاتهم. وقال الحافظ: ثقة ثبت من كبار التابعين. وقال ابن عيينة: كان الحارث من علية أصحاب ابن مسعود توفى آخر خلافة ابن الزبير وأرخه ابن أبي خيثمة سنة إحدى أو اثنتين وسبعين. (قال: حدثنا عبد الله بن مسعود حديثين) نصبه على المفعول الثاني، وفي رواية لمسلم قال: دخلت على عبد الله أعوده وهو مريض فحدثنا بحديثين (أحدهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي: يروى عنه (والآخر عن نفسه) أي: نفس ابن مسعود يعني مروي من قوله (قال) وهو الحديث الموقوف. قال الحافظ: لم يقع التصريح برفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في شيء من نسخ كتب الحديث إلا ما قرأت في شرح مغلطائي، إنه روي مرفوعًا من طريق وهاها أبو أحمد الجرحاني يعني ابن عدي - انتهى. (أن المؤمن يرى ذنوبه) قال الطيبي: ذنوبه المفعول الأول والمفعول الثاني محذوف أي كالجبال بدليل قوله في الآخر: كذباب مراى عظيمة ثقيله أو هو قوله: (كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه) قال ابن أبي جمرة: السبب في ذلك إن قلب المؤمن منور، فإذا رأى من نفسه ما يخاف ما ينور به قلبه عظم الأمر عليه، والحكمة في التمثيل بالجبل إن غيره من المهلكات قد يحصل النسبب إلى النجاة منه بخلاف الجبل إذا سقط على الشخص لا ينجو منه عادة، وحاصله أن المؤمن يغلب عليه الخوف لقوة ما عنده من الإيمان فلا يأمن العقوبة بسببها، وهذا شأن المؤمن أنه دائم الخوف والمراقبة يستصغر عمله الصالح ويخشى من صغير عمله السيئ كذا في الفتح. وقال القاري: وهو تشبيه تمثيل شبه حاله بالقياس إلى ذنبه وأنه يرى أنها مهلكة بحاله إذا كان تحت جبل يخافه، فدل الحديث على أن المؤمن في غاية الخوف والاحتراز من الذنوب، ولا ينافيه الاعتدال المطلوب بين الخوف والرجاء في المحبوب، لأن رجاء المؤمن وحسن ظنه بربه في غاية ونهاية - انتهى. (وإن الفاجر) أي: العاصي الفاسق (يرى ذنوبه كذباب) بضم المعجمة وموحدتين الأولى خفيفة بينهما ألف الطير المعروف، وفي رواية الإسماعيلي يرى ذنوبه كأنها ذباب (مر على أنفه) أراد أن ذنبه سهل عنده فلا يبالي به لاعتقاده عدم حصول ضرر كبير بسببه كما أن ضرر الذباب عنده سهل (فقال به) أي: أشار إلى الذباب أو فعل به (هكذا) يعني نحاه بيده أو دفعه وذبه وهو من إطلاق القول على الفعل قالوا: وهو أبلغ (أي: بيده) تفسير للإشارة أي دفع الذباب بيده. وقوله: ((أي: بيده)) كذا في جميع النسخ الحاضرة وهكذا في جامع الأصول (ج3: ص65) والذي في البخاري قال أبو شهاب (راوي الحديث عن الأعمش عن عمارة بن

فذبه عنه، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الله أفرح بتوبة عبد المؤمن من رجل، نزل في أرض دوية مهلكة، ـــــــــــــــــــــــــــــ عمير عن الحارث بن سويد عن ابن مسعود وهو موصول بهذا السند) بيده فوق أنفه وهو تفسير منه لقوله فقال به، وعند أحمد، والترمذي كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا فطار. قال المحب الطبري: إنما كانت هذه صفة المؤمن لشدة خوفه من الله ومن عقوبته، لأنه على يقين من الذنب وليس على يقين من المغفرة، والفاجر قليل المعرفة بالله فلذلك قل خوفه واستهان بالمعصية. وقال ابن أبي جمرة: السبب في ذلك إن قلب الفاجر مظلم فوقوع الذنب خفيف عنده، ولهذا تجد من يقع في المعصية منهم إذا وعظ يقول هذا سهل قال: والحكمة في تشبيه ذنوب الفاجر بالذباب كون الذباب أخف الطير وأحقره وهو مما يعاين ويدفع بأقل الأشياء، قال: وفي ذكر الأنف مبالغة في اعتقاده خفة الذباب عنده، لأن الذباب قلما ينزل على الأنف، وإنما يقصد غاليًا العين قال: وإشارته بيده تأكيد للخفة أيضًا لأنه بهذا القدر اليسير يدفع ضرره (فذبه عنه) تفسير لما قبله أي: دفع الذباب عن نفسه وبه سمي الذباب ذبابًا لأنه كلما ذب آب أي: كلما دفع رجع، وليست هذه الجملة في البخاري. والظاهر أن المؤلف ذكرها تبعًا للجزري في جامع الأصول وقد تم الحديث الموصول على هذا (ثم قال) أي: ابن مسعود (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) كذا في جميع النسخ الحاضرة، وهكذا في جامع الأصول والترغيب ولم يقع التصريح برفعه عند البخاري، نعم وقع بيان ذلك في رواية مسلم مع كونه لم يسق حديث ابن مسعود الموقوف ولفظه من طريق جرير عن الأعمش عن عمارة عن الحارث، قال: دخلت على ابن مسعود أعوده وهو مريض فحدثنا بحديثين حديثًا عن نفسه وحديثًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لله أشد فرحًا - الحديث (لله) بلام التأكيد المفتوحة (أفرح بتوبة عبده) أي: من المعصية إلى الطاعة. قال الطيبي: لما صور حال المذنب بتلك الصورة الفظيعة أشار إلى أن الملجأ هو التوبة والرجوع إلى الله تعالى انتهى. يعني فحصلت المناسبة بين الحديثين من الموقوف والمرفوع، وهذا لفظ البخاري، ولمسلم: لله أشد فرحًا بتوبة عبده (المؤمن) . هذا من زيادات مسلم وليس عند البخاري (من رجل) متعلق بأفرح (نزل) هذا من زيادات البخاري وليس مسلم وليس عند مسلم (في أرض دوية مهلكة) بفتح الدال وتشديد الواو المكسورة وتشديد الياء المفتوحة بعدها هاء التأنيث نسبة إلى الدو، بفتح الدال وتشديد الواو، وهي الأرض الفقر والفلاة الخالية أي البرية والصحراء التي لا نبات بها، قال ابن الأثير: ألدو الصحراء، والدوية منسوبة إليها ووقع في رواية داويّة، وهي أيضًا بتشديد الياء. وقيل: ذلك لإبدال الواو الأولى ألفًا، وقد يبدل في النسبة على غير قياس نحو طائي في النسبة إلى طي، ومهلكة بفتح الميم واللام بينهما هاء ساكنة أي موضع الهلاك أو الهلاك

معه راحلته، عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته، فطلبها حتى إذ اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله، قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه، فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ، فإذا راحلته عنده، عليها زاده وشرابه فالله أشد فرحًا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده. ـــــــــــــــــــــــــــــ نفسه. وقال النووي: وهي موضع خوف الهلاك، ويقال لها: مفازة - انتهى. وتفتح لامها وتكسر وهما بمعنى، والمراد يهلك سالكها أو من حصل فيها، ويروى مهلكة بضم الميم وكسر اللام اسم فاعل من الثلاثي المزيد فيه أي: تهلك هي من يحصل بها واللفظ المذكور لمسلم، ولفظ البخاري: ((نزل منزلاًً وبه مهلكة)) أي: بالمنزل أي: فيه مهلكة. قال الحافظ: كذا في الروايات التي وقفت عليها من صحيح البخاري بواو مفتوحة ثم موحدة خفيفة مكسورة ثم هاء ضمير ثم ذكر الحافظ لفظ مسلم مع ضبطه وشرحه (عليها طعامه وشرابه) زاد الترمذي وما يصلحه (فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته) أي: فخرج في طلبها واستمر على ذلك وهذا لفظ البخاري، ولمسلم: فنام فاستيقظ وقد ذهبت فطلبها. وفي رواية أحمد، والترمذي: فأضلها فخرج في طلبها (حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش) هذا لفظ البخاري. ولمسلم حتى أدركه العطش، ولأحمد، والترمذي حتى إذا أدركه الموت (أو ما شاء الله) قال الحافظ والعيني والقسطلاني: شك من أبي شهاب (راوي الحديث عن الأعمش) وقال الطيبي: إما شك من الراوي والتقدير، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك أو قال ما شاء الله. أو تنويع أي: اشتد الحر والعطش أو ما شاء الله من العذاب والبلاء غير الحر والعطش. قال القاري: والأظهر إن ((أو)) بمعنى الواو، وهو تعميم بعد تخصيص أي: وما شاء الله بعد ذلك (قال) أي: في نفسه وهو جواب إذا (أرجع) بفتح الهمزة بلفظ المتكلم وهذا للبخاري وعند مسلم ثم قال: ارجع (إلى مكاني الذي كنت فيه) لاحتمال أن تعود الراحلة إليه لا لفها له أولاً (فأنام حتى أموت) أي: أو حتى ترجع إلى راحلتي. وإنما اقتصر على ما ذكر استبعادًا لجانب الحياة ويأسًا عن رجوع الراحلة (فوضع رأسه على ساعة ليموت فاستيقظ) أي: فنام فاستنبه (فإذا راحلته عنده) أي: حاضرة أو واقفة (فالله أشد فرحًا بتوبة العبد المؤمن من هذا) أي: من فرح هذا الرجل (براحلته وزاده) هذا فذلك القصة أعيدت لتأكيد القضية، وقوله: الذي كنت فيه فأنام إلى آخر الحديث لفظ مسلم. وللبخاري قال: أرجع إلى مكاني فرجع فنام نومة، ثم رفع رأسه فإذا رحلته عنده، وللترمذي قال: أرجع إلى مكاني الذي أضللتها فيه فأموت فيه، فرجع إلى مكانه فغلبته عينه فاستيقظ فإذا راحلته عند رأسه، عليها طعامه وشرابه وما يصلحه، وهكذا وقع عند أحمد. والحديث فيه إشارة إلى قوله: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} (البقرة: 222) وإنهم بمكان عظيم عند رب كريم رؤوف رحيم تنبيه: ذكر مسلم من حديث البراء لهذا الحديث المرفوع سببًا، وأوله كيف تقولون في رجل انفلتت

روى مسلم المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فحسب، وروى البخاري الموقوف على ابن مسعود أيضًا. 2382- (36) وعن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يحب العبد المؤمن المفتن التواب. ـــــــــــــــــــــــــــــ عنه راحلته بأرض قفر ليس بها طعام ولا شراب وعليها له طعام وشراب فطلبها حتى شق عليه فذكر معناه وأخرجه ابن حبان من حديث أبي هريرة مختصرًا ذكروا الفرح عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والرجل يجد ضالته فقال: لله أشد فرحًا - الحديث. ذكره الحافظ في الفتح (روى مسلم المرفوع) أي: الحديث المرفوع (إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه أي: مما ذكر أي: مما ذكر من الحديث المروي المركب من الموقوف والمرفوع (فحسب) أي: فقط (وروى البخاري الموقوف على ابن مسعود أيضًا) وهو: إن المؤمن. إلخ. وحاصله أن الحديث المرفوع متفق عليه والموقوف من أفراد البخاري وأخرج أحمد (ج1: ص383) ، والترمذي في الزهد الموقوف والمرفوع جميعًا، وأخرج النسائي في الكبرى المرفوع فقط، وروي المرفوع أيضًا من حديث البراء عند أحمد ومسلم، ومن حديث أنس، وقد تقدم، ومن حديث النعمان بن بشير عند أحمد، ومسلم: ومن حديث أبي هريرة عند مسلم وغيره، ومن حديث أبي سعيد عند أحمد، وابن ماجة. 2382- قوله: (إن الله يحب العبد المؤمن المفتّن) بتشديد التاء المفتوحة أي الممتحن بالذنب (التواب) أي الكثير التوبة، ومحبة الله تعالى له إنما هي من جهة التوبة. قال في النهاية: المفتن الممتحن يمتحنه الله بالذنب ثم يتوب ثم يعود إليه ثم يتوب منه. قال المناوي: وهكذا وذلك لأنه محل تنفيذ إرادته وإظهار عظمته وسعة رحمته. وقال ابن القيم: المفتن التواب هو الذي كلما فتن بالذنب تاب منه. وقال القرطي: معناه الذي يتكرر منه الذنب والتوبة فكلما وقع في الذنب عاد إلى التوبة. وقال القاري: المفتن أي: المبتلى كثيرًا بالسيئات أو بالغفلات أو بالحجب عن الحضرات لئلا يبتلى بالعجب والغرور الذين هما من أعظم الذنوب وأكثر العيوب - انتهى. والحديث صريح في صحة التوبة مع وقوع العودة وفيه رد على من اشترط لصحة التوبة أن لا يعود إلى ذلك الذنب، وقال: فإن عاد إليه بأن أن توبته باطلة، وقد عزى هذا القول للقاضي أبي بكر الباقلاني ويرده أيضًا حديث (رقم 2258) المتقدم في الفصل الأول من هذا الباب قال ابن القيم في مدارج السالكين (ج1: ص152) ومن أحكام التوبة أنه هل يشترط في صحتها أن لا يعود إلى الذنب أبدًا أم ليس ذلك بشرط؟ فشرط بعض الناس عدم معاودة الذنب، فقال: متى عاد تبين أن التوبة كانت باطلة غير صحيحة والأكثرون على إن ذلك ليس بشرط. وإنما صحة التوبة تتوقف على الإقلاع عن الذنب والندم عليه والعزم الجازم على ترك معاودته، فإن كانت في حق آدمي

2383- (37) وعن ثوبان، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما أحب أن لي الدنيا بهذه الآية ـــــــــــــــــــــــــــــ فهل يشترط تحلله؟ فيه تفصيل سنذكره إنشاء الله، فإذا عاوده مع عزمه حال التوبة على أن لا يعاوده صار كمن ابتدأ المعصية ولم تبطل توبته المتقدمة والمسألة مبنية على أصل وهو أن العبد إذا تاب من الذنب ثم عاوده فهل يعود إليه إثم الذنب الذي قد تاب منه، ثم عاوده بحيث يستحق العقوبة على الأول والآخر إن مات مصرًا؟ أو إن ذلك قد بطل بالكلية فلا يعود إثمه وإنما يعاقب على هذا الأخير؟ وفي هذا الأصل قولان ثم ذكرهما مع البسط (ج1: ص152: 156) فارجع إليه إن شئت، والحديث عزاه المؤلف لأحمد وكذا نسبه إليه السيوطي في الجامع الصغير وعلي المتقي في الكنز (ج4: ص121) وفيه نظر فإنه ليس مما رواه أحمد بل هو من زيادات ابنه عبد الله ومن طريقه رواه أبو نعيم في الحلية (ج3: ص178، 179) قال عبد الله: حدثني عبد الأعلى بن حماد النرسي حدثنا أبو داود بن عبد الرحمن العطار حدثنا أبو عبد الله مسلمة الرازي عن أبي عمرو البجلي عن عبد الملك بن سيفان الثقفي عن أبي جعفر محمد بن علي عن محمد بن الحنيفة عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهو في المسند في موضوعين بالسند المذكور (ج1: ص80، 103) قال العلامة الشيخ أحمد شاكر في شرح المسند (ج2: ص39) : إسناده ضعيف جدًا. أبو عبد الله مسلمة الرازي لم أجد له ترجمة، وذكر في التعجيل عوضًا في ترجمة أبي عمرو البجلي وأبو عمرو البجلي قال في التعجيل (ص508) ((يقال اسمه عبيدة روي عنه حرمي بن حفص)) ثم نقل عن ابن حبان قال: ((لا يحل الاحتجاج به)) وعبد الملك بن سفيان الثقفي قال في التعجيل (ص265) ((قال الحسيني مجهول)) والحديث في مجمع الزوائد (ج10: ص200) وقال الهيثمي: ((رواه عبد الله، وأبو يعلى وفيه من لم أعرفه)) وعزاه إليهما شيخه العراقي في تخريج الإحياء (ج4: ص5) وقال: ((سنده ضعيف)) قلت: أبو عمرو البجلي قد جزم الحافظ في الكنى من لسان الميزان (ج6: ص419) بأنه هو عبيدة بن عبد الرحمن ويؤيده لأن الذهبي ثم الحافظ أورداه في الأسماء هكذا عبيدة بن عبد الرحمن أبو عمرو الجلي ذكره ابن حبان فقال: روى عن يحيى بن سعيد حدث عنه حرمي بن حفص يروي الموضوعات عن الثقات، والحديث ذكره الحافظ في الفتح نقلاً عن القرطبي بلفظ: خيركم كل مفتن تواب، ثم عزاه لمسند الفردوس عن علي ولم يحكم عليه بشيء وذكر السيوطي في الجامع الصغير وعلي المتقي في الكنز (ج4: ص123) بهذا اللفظ وعزاه للبيهقي في الشعب عن علي. 2383- قوله: (ما أحب إن لي الدنيا) أي: جميع ما فيها بأن أتصدق بخيراتها أو أتلذذ بلذاتها (بهذه الآية) أي: بدلها أي: لو أعدمت هذه الآية وأعطيت بدلها جميع الدنيا ما أحببت ذلك وخصت لكونها أرجى آية في القرآن، حيث دلت على غفران جميع الذنوب وإلا فغير هذه الآية مثلها في كونه - صلى الله عليه وسلم - لا يرضى بجميع الدنيا

{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا} الآية فقال رجل: فمن أشرك؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: إلا ومن أشرك ـــــــــــــــــــــــــــــ بدلها ( {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا} الآية بالحركات الثلاث، وذكر في المسند الآية بتمامها أي: إلى قوله: {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر: 53) قال الشوكاني: هذه الآية أرجى آية في كتاب الله سبحانه لاشتمالها على أعظم بشارة فإنه أولاً أضاف العباد إلى نفسه لقصد تشريفهم ومزيد تبشيرهم، ثم وصفهم بالإسراف في المعاصي والاستكثار من الذنوب، ثم عقب ذلك بالنهي عن القنوط من الرحمة لهؤلاء المستكثرين من الذنوب، فالنهي عن القنوط للمذنبين غير المسرفين من باب الأولى وبفحوى الخطاب. ثم جاء بما لا يبقى بعده شك ولا يتخالج القلب عند سماعه ظن فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} (الزمر: 53) فالألف واللام قد صيرت الجمع الذي دخلت عليه للجنس الذي يستلزم استغراق أفراده فهو في قوة إن الله يغفر كل ذنب كائنًا ما كان، إلا ما أخرجه النص القرآني وهو الشرك {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} ثم لم يكتف بما أخبر عباده به من مغفرة كل ذنب بل أكد ذلك بقوله جميعًا وما أحسن ما علل سبحانه به هذا الكلام قائلاً أنه {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} أي كثير المغفرة والرحمة عظيمهما بليغهما واسعهما - انتهى. وقال الطيبي: هي أرجى آية في القرآن ولذلك اطمأن إليها وحشي قاتل حمزة دون سائر الآيات - انتهى. وقد ذكر البغوي في المعالم إن عطاء بن رباح روى عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل إلى وحشي يدعوه إلى الإسلام فأرسل إليه كيف تدعوني إلى دينك وأنت تزعم إن من قتل أوزنى أو أشرك {يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} (الفرقان: 68، 69) وأنا قد فعلت هذا كله فأنزل الله تعالى: {إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} (الفرقان: 70) فقال وحشي هذا شرط شديد لعلي لا أقدر عليه فهل غير ذلك فأنزل الله عز وجل {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء: 48) فقال: أراني بعد في شبهة فلا أدري يغفر لي أم لا فأنزل الله {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر: 53) قال وحشي: نعم هذا وجاء فأسلم فقال المسلمون: هذا له خاصة أم للمسلمين عامة فقال: بل للمسلمين عامة كذا في المرقاة. وذكر الهيثمي هذا الحديث في مجمع الزوائد (ج10: ص214، 215) وقال: رواه الطبراني وفيه أبين بن سليمان وهو ضعيف - انتهى. (فقال رجل) يا رسول الله (فمن أشرك) أي: أهو داخل في الآية أم خارج عنها (فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي: أدبًا مع الله تعالى وانتظارًا لأمره ووحيه (ثم قال ألا) بالتخفيف (ومن أشرك) أي: التوبة، قال في اللمعات: لولا الواو حملت إلا على الاستثناء فهي حرف تنبيه وغفران الإشراك يكون بالتوبة، وهذا لا ينافي عموم الآية بأن الله تعالى يغفر الذنوب جميعًا - انتهى. وقال الطيبي: أجاب بأنه داخل فيكون منهيًا عن القنوط، والواو في ومن مانعه من حمل إلا على الاستثناء وموجبة لحملها على التنبيه - انتهى. أي:

ثلاث مرت. 2384- (38) وعن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى ليغفر لعبده ما لم يقع الحجاب. قالوا: يا رسول الله! وما الحجاب؟ قال: أن تموت النفس وهي مشركة. ـــــــــــــــــــــــــــــ والمعنى إن المشرك داخل في هذه الآية، ومنهي عن القنوط ويغفر ذنبه لكن بالتوبة. قلت: قوله: إلا من أشرك هكذا وقع في جميع نسخ المشكاة الحاضر؛ وهكذا في تفسير ابن كثير والشوكاني، ووقع في المسند (ج5: ص275) (طبعة الحلي) ((إلا من أشرك)) أي: بسقوط الواو، وعلى هذا فيمكن حمل إلا على الاستثناء والمعنى إلا المشرك فلا يغفر ذنبه إلا بالتوبة كما قال: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} ومعنى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} (الزمر: 53) إن كل ذنب كائنًا ما كان ماعدا الشرك بالله مغفور لمن يشاء الله، أي يغفر له (ثلاث مرات) ظرف لقال والتكرار لتأكيد الحكم. والحديث في المسند (ج5: ص275) قال أحمد: حدثنا حسن وحجاج قالا: ثنا ابن لهيعة ثنا أبو قبيل قال: سمعت أبا عبد الرحمن المري أنه سمع ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ما أحب. إلخ وهو في مجمع الزوائد (ج10: ص214) وليس فيه ذكر السؤال والجواب. قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط: وإسناده حسن وذكره ابن كثير في تفسيره عن المسند مطولاً وقال تفرد الإمام أحمد وزاد الشوكاني في نسبته ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه، والبيهقي في الشعب، وعزاه السيوطي في الجامع الصغير لأحمد فقط: قال العزيزي وإسناده صحيح ولا يخفى ما فيه. 2384- قوله: (إن الله تعالى) وفي المسند إن الله عز وجل (ليغفر) بلام مفتوحة للتأكيد (لعبده) أي ما شاء من الذنوب وفي رواية لأحمد إن الله يقبل توبة عبده أو يغفر لعبده وهذا شك من الراوي (ما لم يقع الحجاب) أي: بينه وبين رحمة الله، وقال القاري: أي: الإثنينية قال الله تعالى: {لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ} (النحل: 51) (وما الحجاب) هكذا في رواية ووقع في أخرى وما وقوع الحجاب أي: الذي يبعد العبد عن رحمة ربه ومغفرة ذنبه (قال: أن تموت النفس وهي مشركة) وفي معنى الشرك كل نوع من أنواع الكفر، والحديث في المسند (ج5: ص174) وفي سنده عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان العنبسي الدمشقي الزاهد. قال الحافظ: صدوق يخطئي ورمي بالقدر وتغير بآخره وهو في مجمع الزوائد (ج1: ص198) قال الهيثمي: رواه أحمد، والبراز، وفيه عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان وقد وثقه جماعة وضعفه آخرون وبقية رجالهما ثقات وأحد إسنادي البراز فيه إبراهيم بن هانئ وهو ضعيف - انتهى. وذكره في الكنز (ج1: ص66) ورمز له حم، خ

روى الأحاديث الثلاثة أحمد، وروى البيهقي الأخير في كتاب ((البعث والنشور)) . 2385- (39) وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لقى الله لا يعدل به شيئًا في الدنيا ثم كان عليه مثل جبال ذنوب غفر الله له. رواه البيهقي في كتاب ((البعث والنشور)) . 2386- (40) وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: التائب من الذنب كمن لا ذنب له. ـــــــــــــــــــــــــــــ في التاريخ - صلى الله عليه وسلم -، حب، والبغوي في الجعديات: ك، ص، عن أبي ذر رضي الله عنه (روى الأحاديث الثلاثة) أي: جميعها (أحمد) أي: في مسنده وتقدم الكلام في كل منها (وروى البيهقي الأخير) أي: الحديث الأخير. 2385- قوله: (من لقى الله) أي: من مات (لا يعدل به شيئًا) أي: لا يوازي ولا يساوي بالله شيئًا. قال الطببي: ويجوز أن المعنى لا يتجاوزه إلى شيء، فشيئًا منصوب على نزع الخافض (في الدنيا) بيان للواقع إذ لإشراك إنما يكون فيها، وأما الآخرة فكل الناس فيها مؤمنون وإن لم ينفع الكفار إيمانهم (ثم كان عليه مثل جبال) بالنصب على أنه خبر كان واسمه قوله: (ذنوب غفر الله له) أي: إياها يعني جميعها إن شاء لقوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء: 48) (رواه البيهقي إلخ) وأخرجه ابن مردويه عن أبي الدرداء بلفظ: من مات لا يعدل بالله شيئًا ثم كانت عليه من الذنوب مثل الرمال غفر له. ويؤيده حديث النواس بن سمعان: من مات وهو لا يشرك بالله شيئًا فقد حلت له مغفرته. أخرجه الطبراني، وحسن ويؤيده أيضًا ما روي في الصحيحين وغيرهما في فضل الإيمان وكلمة الشهادة من يشاء الوقوف عليه رجع إلى الكنز (ج1: ص73 - 75) . 2386- قوله: (التائب من الذنب) أي: توبة صحيحة وإطلاق الذنب يشمل الذنوب كلها، فيدل الحديث على أن التوبة مقبولة من أي ذنب كان، وظاهر الحديث يدل على أن التوبة إذا صحت بشرائطها فهي مقبولة (كمن لا ذنب له) أي: مثله في عدم تضرره. وقال السندي: ظاهره إن الذنب يرفع من صحائف أعماله ويحتمل أعماله ويحتمل أن المراد التشبيه في عدم العقاب فقط والله أعلم. وقال الطيبي: هذا من قبيل إلحاق الناقص بالكامل مبالغة كما يقال زيد كالأسد إذ لا شك أن المشرك التائب ليس كالنبي المعصوم، وتعقبه ابن حجر بأن المراد بمن لا ذنب له من هو عرضة له لكنه حفظ منه فخرج الأنبياء والملائكة فليسوا مقصودين بالتشبيه. قال القاري: فالخلاف لفظي. واختلفوا فيمن عمل ذنوبًا وتاب منها ومن لم يعملها أصلاً أيهما أفضل؟ قال في اللمعات: والتحقيق إن الحيثية مختلفة. وقال ابن القيم في مدارج السالكين (ج1: ص163) هل المطيع الذي لم يعص خير من العاصي الذي تاب إلى الله توبة

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ نصوحًا أو هذا التائب أفضل منه؟ اختلف في ذلك، فطائفة رجحت من لم يعص على من عصى وتاب توبة نصوحًا واحتجوا بوجوه ثم ذكرها وبلغها إلى عشرة، ثم قال: وطائفة رجحت التائب وإن لم تنكر كون الأول أكثر حسنات منه، واحتجت بوجوه ثم ذكرها إلى أن بلغت أيضًا إلى عشرة وجوه تركنا نقلها لئلا يطول الكلام. والمسألة لطيفة شريفة جدًا فعليك أن تراجع المدارج لكي تتبين لك بها مسألة أخرى اختلفوا فيها أيضًا، وهي: أن العبد إذا تاب من الذنب فهل يرجع إلى ما كان عليه قبل الذنب من الدرجة التي حطه عنها الذنب أولا يرجع إليها؟ قال ابن القيم (ج1 ص161) : قالت: طائفة يرجع إلى درجته لأن التوبة تجب الذنب بالكلية وتصيره كأنه لم يكن، والمقتضي لدرجته ما معه من الإيمان والعمل الصالح فعاد إليها بالتوبة، قالوا: ولأن التوبة حسنة عظيمة وعمل صالح، فإذا كان ذنبه قد حطه عن درجته فحسنته بالتوبة قد رقته إليها، وهذا كمن سقط في بئر وله صاحب شفيق أدلى إليه حبلاً تمسك به حتى رقى منه إلى موضعه، فهكذا التوبة العمل الصالح مثل هذا القرين الصالح والأخ الشفيق. وقالت طائفة: لا يعود إلى درجته وحاله لأنه لم يكن في وقوف، وإنما كان في صعود فبالذنب صار في نزول وهبوط، فإذا تاب نقص عليه ذلك القدر الذي كان مستعدًا له للترقي، قالوا: ومثل هذا مثل رجلين سائرين على طريق سيرًا واحدًا، ثم عرض لأحدهما ما رده على عقبه أو أوقفه وصاحبه سائر فإذا استقال هدا رجوعه ووقفته وسار بأثر صاحبه لم يلحقه أبدًا لأنه كلما سار مرحلة تقدم ذاك أخرى قالوا: والأول يسير بقوة أعماله وإيمانه وكلما ازداد سيرًا ازدادت قوته، وذلك الواقف الذي رجع قد ضعفت قوة سيره وإيمانه بالوقوف والرجوع، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يحكي هذا الخلاف، ثم قال: والصحيح إن من التائبين من لا يعود إلى درجته، ومنهم من يعود إليها، ومنهم من يعود إلى أعلى منها فيصير خيرًا مما كان قبل الذنب وكان داود بعد التوبة خيرًا منه قبل الخطيئة، قال: وهذا بحسب حال التائب بعد توبته وجده وعزمه، وحذره وتشميره فإن كان ذلك أعظم مما كان له قبل الذنب عاد خيرًا مما كان وأعلى درجة وإن كان مثله عاد إلى مثل حاله وإن كان دونه لم يعد إلى درجته وكان منحطًا عنها. وهذا الذي ذكره هو فصل النزاع في هذه المسألة ويتبين هذا بمثلين مضروبين أحدهما: رجل مسافر سائر على الطريق بطمأنينة وأمن فهو يعدو مرة ويمشي أخرى ويستريح تارة، وينام أخرى، فبينا هو كذلك إذ عرض له في طريق سيره ظل ظليل، وماء بارد ومقيل، وروضة مزهرة فدعته نفسه إلى النزول على تلك الأماكن فنزل عليها فوثب عليه منها عدو، فأخذه وقيده وكتفه ومنعه عن السير فعاين الهلاك وظن أنه منقطع به وإنه رزق الوحوش والسباع، وأنه قد حيل بينه وبين مقصده الذي يؤمه، فبينا هو على ذلك تتقاذف به الظنون إذ وقف على رأسه والده الشفيق القادر فحل كتافه وقيوده، وقال له: اركب الطريق واحذر هذا العدو فإنه على منازل الطريق بالمرصاد. واعلم أنك ما دمت حاذرًا له متيقظًا لا يقدر عليك، فإذا

رواه ابن ماجة، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ غفلت وثب عليك وأنا متقدمك إلى المنزل وفرط لك فاتبعني على الأثر، فإن كان هذا السائر كيسًا فطنًا لبيبًا حاضر الذهن والعقل، استقبل سيراه استقبالاً آخر أقوى من الأول وأتم، واشتد حذره وتأهب لهذا العدو وأعد له عدته، فكان سيره الثاني أقوى من الأول وخيرًا منه، ووصوله إلى المنزل أسرع وإن غفل عن عدوه وعاد إلى مثل حاله الأول من غير زيادة ولا نقصان، ولا قوة حذر، واستعداد عاد كما كان وهو معرض لما عرض له أولاً وإن أورثه ذلك توانيًا في سيره وفتورًا وتذكرا لطيب مقيله وحسن ذلك الروض وعذوبة ماءه وتفيؤ ظلاله وسكونًا بقلبه إليه لم يعد إلى مثل سيره ونقص عما كان المثل الثاني: عبد في صحة وعافية جسم عرض له مرض أوجب له حمية وشرب دواء وتحفظًا من التخليط ونقض بذلك مادة ردية كانت منقصة لكمال قوته وصحته فعاد بعد المرض أقوى مما كان قبله كما قيل: لعل عتبك محمود عواقبه وربما صحت الأجسام بالعلل أوجب وإن له ذلك المرض ضعفًا في القوة وتداركه بمثل ما نقص من قوته عاد إلى مثل ما كان، وإن تداركه بدون ما نقص من قوته عاد إلى دون ما كان عليه من القوة، وفي هذين المثلين كفاية لمن تدبرها. وقد ضرب لذلك مثل آخر برجل خرج من بيته يريد الصلاة في الصف الأول لا يلوي على شيء في طريقه، فعرض له رجل من خلفه جبذ ثوبه وأوقفه قليلاً يريد تعويقه عن الصلاة فله معه حالان: أحدهما: أن يشتغل به حتى تفوته الصلاة فهذه حال غير التائب. الثاني: أن يجاد به على نفسه ويتفلت منه لئلا تفوت الصلاة ثم له بعد هذا التفلت ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكون سيره جمزًا ووثبًا ليستدرك ما فاته بتلك الوقفة فربما استدركه وزاد عليه. الثاني: أن يعود إلى سيره. الثالث: أن تورثه تلك الوقفة فتورًا وتهاونًا فيفوته فضيلة الصف الأول أو فضيلة الجماعة، وأول الوقت فهكذا حال التائبين السائرين سواء - انتهى كلام ابن القيم. (رواه ابن ماجة) في باب ذكر التوبة (والبيهقي) والحديث ذكره المنذري في الترغيب، وقال: رواه ابن ماجة، والطبراني كلاهما من رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه ولم يسمع منه، ورواة الطبراني رواة الصحيح، ورواه ابن أبي الدنيا، والبيهقي مرفوعًا أيضًا من حديث ابن عباس وزاد والمستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه. وقد روي بهذا الزيادة موقوفًا ولعله أشبه - انتهى. وقال الهيثمي (ج10: ص200) بعد ذكر حديث ابن مسعود: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه - انتهى. وقال السخاوي في المقاصد: رواه ابن ماجة، والطبراني في الكبير، والبيهقي في الشعب من طريق أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه رفعه، ورجاله ثقات بل حسنه شيخنا (الحافظ ابن حجر) يعني لشواهده وإلا فأبوه عبيدة جزم غير واحد بأنه لم يسمع من

وقال: تفرد به النهراني وهو مجهول. وفي ((شرح السنة)) روى عنه موقوفًا. قال: الندم توبة، والتائب كمن لا ذنب له. ـــــــــــــــــــــــــــــ أبيه - انتهى. وقال ابن الديبع الشيباني (ص67) بعد ذكر كلام السخاوي هذا: وللحديث شواهد ضعيفة (وقال) أي: البيهقي (تفرد به) أي بنقل هذا الحديث (النهراني) بفتح النون وسكون الهاء (وهو مجهول) إما عينه أو حاله وقد تقدم إن رجال الطبراني رجال الصحيح، وكذا رجال ابن ماجة ثقات، والعلة فيه إنما هي الانقطاع في إسناده ولم أجد للنهراني هذا في ما عندي من كتب الرجال ترجمة (وفي شرح السنة روى) أي: البغوي ويحتمل أن يكون بصيغة المجهول (عنه) أي: عن ابن مسعود (موقوفًا) لكنه في حكم المرفوع (قال الندم) أي: على المعصية أي: لكونها معصية وإلا فإذا ندم عليها من جهة أخرى كما إذا ندم على شرب الخمر من جهة صرف المال عليه فليس من التوبة في شيء (توبة) معناه إنه معظمها ومستلزم لبقية أجزائها عادة فإن النادم ينقطع من الذنب في الحال عادة ويعزم على عدم العود إليه في الاستقبال، وبهذا القدر تتم التوبة إلا في الفرائض التي يجب قضاءها فتحتاج التوبة فيها إلى القضاء وإلا في حقوق العباد فتحتاج فيها إلى الاستحلال أي الرد والندم يعني على كل ذلك كما لا يخفى قاله السندي. وقال القاري: ((الندم توبة)) أي: أعظم أركانها الندامة، إذ يترتب عليها بقية الأركان من القلع والعزم على عدم العود، وتدارك الحقوق ما أمكن وهو نظير الحج عرفة إلا أنه عكس مبالغة. والمراد الندامة على فعل المعصية من حيث أنها معصية لا غير - انتهى. قلت: اختلفوا في حد التوبة فقال بعضهم: إنها الندم. وقال بعضهم: إنها العزم على أن لا يعود. وقال بعضهم: هي الإقلاع عن الذنب، ومنهم من يجمع بين الأمور الثلاثة وهي أكملها. قال الحافظ: وقال بعضهم: يكفي في التوبة تحقق الندم على وقوع الذنب منه فإنه يستلزم الإقلاع عنه والعزم على عدم العود فهما ناشئان عن الندم لا أصلان معه. ومن ثم جاء الحديث الندم توبة، وهو حديث حسن من حديث ابن مسعود، وأخرجه ابن ماجة، وصححه الحاكم، وأخرجه ابن حبان من حديث أنس وصححه، وقال أيضًا: قد تمسك من فسر التوبة بالندم بما أخرجه أحمد، وابن ماجة، وغيرهما من حديث ابن مسعود رفعه الندم توبة، ولا حجة فيه، لأن المعنى الحض عليه وإنه الركن الأعظم في التوبة لا أنه توبة نفسها - انتهى. (والتائب كمن لا ذنب له) أي: فإذا تاب توبة صحيحة خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وحديث ابن مسعود هذا رواه أحمد (ج1: ص276: 423: 633) ، والبخاري في تاريخه الكبير (2/1/341 - 343) ، وابن ماجة في باب ذكر التوبة، والحاكم (ج4: ص243) مختصرًا أي: بدون قوله: التائب كمن لا ذنب له، وحسنه الحافظ وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وانظر التهذيب (ج4: ص384، 385) ، وذكر البخاري أسانيد كثيرة للحديث يظهر من بعضها أنه رواه بعضهم موقوفًا من قول ابن مسعود، ولا يضر ذلك لكثرة من رفعه، ولأن الرفع زيادة من الثقة،

(5) باب

(5) باب (الفصل الأول) 2387- (1) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما قضى الله الخلق كتب كتابًا فهو عنده ـــــــــــــــــــــــــــــ وله شواهد من حديث أنس أخرجه الحاكم (ج4: ص243) ، والبزار، والبيهقي، وابن حبان، ومن حديث وائل ابن حجر أخرجه الطبراني، ومن حديث ابن أبي سعيد عن أبيه أخرجه الطبراني، وأبو نعيم في الحلية، ومن حديث أبي هريرة أخرجه الطبراني في الصغير ذكرها في مجمع الزوائد (ج10: ص199) مع الكلام عليها. (باب) بالرفع منونًا وبالوقوف مسكنًا ولم يذكر العنوان وغالب أحاديثه في رحمة الرحمن الباعثة على التوبة من العصيان والموجبة للرجاء وعدم اليأس من الغفران قاله القاري. وقلت: وقع في بعض النسخ ((باب في سعة رحمة الله)) ولا يخفى مناسبته للأحاديث المذكورة فيه. 2387- قوله: (لما قضى الله الخلق) أي: خلق المخلوقات كقوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} أي: خلقهن، وقضى يطلق بمعنى حكم وأتقن وفرغ وأتم وأمضى وأنفذ، وكل صنعة محكمة متقنة فهي قضاء، وقال القاري: لما قضى الله الخلق أي: حين قدر الله خلق المخلوقات وحكم بظهور الموجودات، أو حين خلق الخلق يوم الميثاق أو بدأ خلقهم - انتهى. قلت: وقع في رواية البخاري في باب قول الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ} (آل عمران: 28) من كتاب التوحيد لما خلق الله الخلق، وهكذا وقع في رواية لأحمد، ومسلم، وللترمذي إن الله حين خلق الخلق (كتب كتابًا) وفي رواية لهما، كتب في كتابه أي: في اللوح المحفوظ بأمره للملائكة أن يكتبوا أو للقلم، ويؤيده حديث عبادة بن الصامت أول ما خلق الله القلم (أي بالنسبة إلى ما عدا الماء والعرش) ثم قال: اكتب. فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة وحديث جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة أو الكتابة كناية عن الإثبات والإبانة والإخبار به. ووقع عند الترمذي، وابن ماجة كتب بيده على نفسه أي موجبًا إياه على نفسه بمقتضى وعده، وليس الكتب للاستعانة لئلا ينساه تعالى فإنه منزه عن ذلك لا يخفى عنه شيء وإنما ذلك لأجل الملائكة الموكلين بالمكلفين، فإن قيل: ما وجه تخصيص هذا بالذكر مع أن القلم كتب كل شيء. قلت: لما فيه من الرجاء الكامل وإظهار إن رحمته وسعت كل شيء بخلاف غيره (فهو) أي ذلك الكتابة بمعنى المكتوب وقيل عمله أو ذكره (عنده) أي: عندية المكانة لا عندية المكان لتنزهه عن سمات

فوق عرشه إن رحمتي سبقت غضبي. في رواية: غلبت غضبي. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحدثان (فوق عرشه) مكنونًا عن سائر الخلق مرفوعًا عن حيز الإدراك. قال الحافظ: فلا تكون العندية مكانية بل هي إشارة إلى كما كونه مخفيًا عن الخلق مرفوعًا عن حيز إدراكهم، وفيه تنبيه نبيه على تعظيم الأمور وجلالة القدر. قال الخطابي: المراد بالكتاب أحد شيئين. أما القضاء الذي قضاه كقوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} (المجادلة: 21) أي: قضى ذلك قال: ويكون معنى قوله فوق العرش أي عنده علم ذلك فهو لا ينساه ولا يبدله كقوله تعالى: {فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى (طه: 52) وأما اللوح المحفوظ الذي فيه ذكر أصناف الخلق وبيان أمورهم وآجالهم وأرزاقهم وأحوالهم، ويكون معنى فهو عنده فوق العرش أي ذكره وعلمه، وكل ذلك جائز في التخريج. قيل: العندية المكانية المعروفة مستحيلة في حقه تعالى، فهي محمولة على ما يليق به أو مفوضة إليه قلت: هي خبر جاء به التوقيف فقلنا به ونفينا عنه التكييف إذ ليس كمثله شيء فالأولى بل المتعين إمراره على ظاهره كما جاء من غير تصرف فيه (إن رحمتي) بكسر الهمزة وتفتح. قال الحافظ: بفتح أن على أنها بدل من الكتاب وبكسرها على أنها ابتداء كلام يحكي مضمون الكتاب: قال القاري: ويؤيد الثاني رواية للشيخين إن رحمتي تغلب غضبي. (سبقت غضبي وفي رواية غلبت غضبي) الرواية الثانية للبخاري فقط أوردها في بدء الخلق، ولفظ مسلم تغلب، وكذا وقع عند البخاري في باب قوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ (آل عمران: 28) قال القاري: غلبت غضبي أي غلبت آثار رحمتي على آثار غضبي وهي مفسرة لما قبلها، والمراد بيان سعة الرحمة وكثرتها وشمولها الخلق حتى كأنها السابق والغالب كما يقال غلب على فلان الكرم إذا كان هو أكثر خصاله وإلا فرحمة الله وغضبه صفتان راجعتان إلى إرادته الثواب والعقاب، وصفاته لا توصف بغلبة إحداهما على الأخرى. وإنما هو على سبيل المبالغة للمجاز. وقيل: السبق والغلبة باعتبار التعلق أي تعلق الرحمة غالب سابق على تعلق الغضب، لأن الرحمة مقتضى ذاته المقدسة. وأما الغضب فإنه متوقف على سابقة عمل من العبد الحادث، وبهذا التقرير يندفع استشكال من أورد وقوع العذاب قبل الرحمة في بعض المواطن كمن يدخل النار من الموحدين، ثم يخرج بالشفاعة وغيرها. وقال التوربشتي: في سبق الرحمة بيان إن قسط الخلق منها أكثر من قسطهم من الغضب، وإنها تنالهم من غير استحقاق، وإن الغضب لا ينالهم إلا باستحقاق، ألا ترى إن الرحمة تشمل الإنسان جنينًا ورضيعًا وفطيمًا وناشئًا من غير أن يصدر منه شيء من الطاعة ولا يلحقه الغضب إلا بعد أن يصدر عنه من الذنوب ما يستحق معه ذلك. وقال الطيبي: أي: لما خلق الخلق حكم حكمًا جازمًا ووعد وعدًا لازمًا لا خلف فيه بأن رحمتي سبقت غضبي، فإن المبالغ في حكمه إذا أراد أحكامه عقد عليه سجلاً وحفظه ووجه المناسبة بين قضاء الخلق وسبق الرحمة إنهم مخلوقون للعبادة شكرًا للنعم الفائضة عليهم، ولا يقدر أحد على أداء حق الشكر، وبعضهم يقصرون فيه فسبقت رحمته في حق الشاكر بأن وفى جزاءه، وزاد عليه ما لا يدخل تحت الحصر وفي حق المقصر إذا تاب

متفق عليه. 2388- (2) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لله مائة رحمة، ـــــــــــــــــــــــــــــ ورجع بالمغفرة والتجاوز، ومعنى ((سبقت رحمتي)) تمثيل لكثرتها وغلبتها على الغضب بفرسي رهان تسابقتا فسبقت إحداهما على الأخرى - انتهى. وقال في اللمعات: وذلك لأن آثار رحمة الله وجوده وإنعامه عمت المخلوقات كلها وهي غير متناهية، بخلاف أثر الغضب فإنه ظاهر في بعض بني آدم بعض الوجوه كما قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا} (النحل: 18) وقال: {عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (الأعراف: 156) وأيضًا تهاون العباد وتقصيرهم في أداء شكر نعمائه تعالى أكثر من أن يعد ويحصى {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ} (النحل: 61) فمن رحمته أن يبقيهم ويرزقهم وينعمهم بالظاهر ولا يؤاخذهم بهذا في الدنيا، وظهور رحمته في الآخرة قد تكفل ببيانه الحديث الآتي فإذن لا شك في أن رحمته تعالى سابقة وغالبة على غضبه - انتهى. وظاهر الحديث إن الكتابة بعد الخلق، ووقع في رواية للبخاري في باب {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} (البروج: 21، 22) بلفظ: إن الله كتب كتابًا قبل أن يخلق الخلق ففيه إن الكتابة قبل الخلق، فقيل: معنى قوله قضى الخلق أي: أراد الخلق. وقيل المراد من الثاني: تعلق الخلق وهو حادث فجاز أن يكون بعده. وأما الأول فالمراد منه نفس الحكم وهو أولى فبالضرورة يكون قبله (متفق عليه) رواه البخاري في أول بدء الخلق وفي التوحيد في أربعة مواضع سبق ذكر الموضع الأول والرابع والثاني في باب قوله وكان عرشه على الماء، والثالث في باب ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، ورواه مسلم في التوبة، وأخرجه أحمد مرارًا منها (ج2: ص242: 258: 260) ، وأخرجه النسائي في الكبرى، والترمذي في الدعوات، وابن ماجة في باب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة. 2388 - قوله: (إن لله مائة رحمة إلخ) للحديث طرق وألفاظ، واللفظ المذكور ها هنا لمسلم رواه في التوبة من طريق عطاء عن أبي هريرة، وله أيضًا من رواية العلاء عن أبيه عن أبي هريرة: خلق الله مائة رحمة فوضع واحدة بين خلقه، وخبأ عنده مائة إلا واحدة، وللبخاري في الأدب، وكذا لمسلم في التوبة من رواية سعيد بن المسيب عن أبي هريرة جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده. تسعة وتسعين جزأ، وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه، وللبخاري في الرقاق من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة وأرسل في خلقه كلهم رحمه. ولمسلم من حديث سليمان أن الله خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماوات والأرض، فجعل منها في الأرض رحمة فيها تعطف الوالدة على ولدها والوحش

أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فيها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف ـــــــــــــــــــــــــــــ والطير بعضها على بعض، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة. قال القرطبي: يجوز أن يكون معنى خلق اخترع أوجد، ويجوز أن يكون بمعنى قدر، وقد ورد خلق بمعنى قدر في لغة العرب، فيكون المعنى إن الله أظهر لذلك يوم أظهر تقدير السماوات والأرض، وقوله كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض، المراد بها التعظيم والتكثير. وقد ورد التعظيم بهذا اللفظ في اللغة والشرع كثيرًا، والمراد بالرحمة في قوله: ((إن لله مائة رحمة)) بمقتضى الروايات المذكورة هي التي جعلها في عباده، وهي مخلوقة، وأما الرحمة التي هي صفة من صفاته فهي قائمة بذاته تعالى غير مخلوقة. وقال الطيبي: رحمه الله تعالى لا نهاية لها فلم يرد بما ذكره تحديدًا بل تصويرًا للتفاوت بين قسط أهل الإيمان منها في الآخرة، وقسط كافة المربوبين في الدنيا - انتهى. وقال في اللمعات: لعل المراد أنواعها الكلية التي تحت كل نوع منها أفراد غير متناهية، أو المراد ضرب المثل لبيان المقصود (من قلة ما عند الناس وكثرة ما عند الله) تقريبًا إلى فهم الناس أو هو من قبيل قوله: ((إن لله تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة)) في أن الحصر باعتبار هذا الوصف فافهم. وقال القرطبي: مقتضى هذا الحديث إن الله علم أن أنواع النعم التي ينعم بها على خلقه مائة نوع فأنعم عليهم في هذه الدنيا بنوع واحد انتظمت به مصالحهم وحصلت به مرافقهم، فإذا كان يوم القيامة كمل لعباده المؤمنين ما بقي فبلغت مائة وكلها للمؤمنين، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} (الأحزاب: 43) فإن رحيمًا من أبنية المبالغة التي لا شيء فوقها. ويفهم من هذا أن الكفار لا يبقى لهم حظ من الرحمة لا من جنس رحمات الدنيا ولا من غيرها، إذا كمل كل ما كان في علم الله من الرحمة للمؤمنين، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} (الأعراف: 156) الآية قال الحافظ: أما مناسبة خصوص عدد المائة فيحتمل أن تكون مناسبة هذا العدد الخاص لكونه مثل عدد درج الجنة، والجنة هي محل الرحمة فكان كل رحمة بإزاء درجة، وقد ثبت أنه لا يدخل أحد الجنة إلا برحمة الله تعالى فمن نالته منها رحمة واحدة، كان أدنى أهل الجنة منزلة، وأعلاهم منزلة من حصلت له جميع الأنواع من الرحمة (أنزل منها) أي من جملة المائة (رحمة واحدة) وفي رواية، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة. قال القاري: الإنزال تمثيل مشير إلى أنها ليست من الأمور الطبيعية، بل هي من الأمور السماوية مقسومة بحسب قابلية المخلوقات (بين الجن) أي بعضهم مع بعض (والإنس) كذلك (والبهائم) أي مع أولادها (والهوام) بتشديد الميم جمع هامة، وهي كل ذات سم، وقد يقع على ما يدب من الحيوان وإن لم يقتل كالحشرات كذا في النهاية والله أعلم برحمتها فيما لا توالد فيها (فبها) أي بتلك الرحمة الواحدة وبسبب خلقها فيهم (يتعاطفون) أي يتمايلون فيما بينهم (وبها يتراحمون) أي بعضهم على بعض (وبها تعطف) بكسر الطاء

الوحش على ولدها، وأخر الله تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة. متفق عليه. 2389- (3) وفي رواية لمسلم، عن سليمان نحوه، وفي آخره. قال: فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة. 2390- (4) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة، ما طمع بجنته أحد. ـــــــــــــــــــــــــــــ من ضرب أي تشفق وتحن (الوحش) بسكون المهملة (على ولدها) أي حين صغرها (وأخر الله) قال الطيبي: عطف على أنزل منها رحمة وأظهر المستكن بيانًا لشدة العناية برحمة الله الأخروية - انتهى. وفي رواية فأمسك عنده، وفي حديث سلمان وخبأ عنده (تسعًا وتسعين رحمة يرحم بها عباده) أي: المؤمنين (يوم القيامة) أي: قبل دخول الجنة وبعدها. وفيه إشارة إلى سعة فضل على عباده المؤمنين وإيماء إلى أنه أرحم الراحمين. وقال ابن أبي جمرة: في الحديث إدخال السرور على المؤمنين، لأن العادة أن النفس يكمل فرحها بما وهب لها إذا كان معلومًا مما يكون موعودًا، وفيه الحث على الإيمان واتساع الرجاء في رحمات الله تعالى المدخرة (متفق عليه) واللفظ لمسلم، وأخرجه أحمد كما في مجمع الزوائد (ج10: ص214) ، والترمذي في الدعوات، وابن ماجة في باب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة من أبواب الزهد، والحاكم (ج4: ص248) . 2389- قوله: (وفي رواية لمسلم عن سلمان) الفارسي (نحوه) أي: بمعناه وقد ذكرنا لفظها (وفي آخره فإذا كان يوم القيامة أكملها) أي: أتم الرحمة الواحدة التي أنزلها في الدنيا (بهذه الرحمة) أي التي أخرها حتى يصير المجموع مائة رحمة فرحم بها عباده المؤمنين، وحديث سلمان أخرجه أحمد أيضًا (ج5: ص439) وفي الباب عن أبي سعيد عند ابن ماجة، وعن جندب عند أحمد والطبراني، وعن معاوية بن حيدة عن الطبراني وابن عساكر، وعن ابن عباس عند الطبراني والبزار، وعن عبادة بن الصامت عند الطبراني. من شاء الوقوف على ألفاظها رجع إلى مجمع الزوائد والكنز. 2337- قوله: (وعنه) قال القاري: وفي نسخة وعن أبي هريرة وهو الأظهر لا يهام مرجع الضمير أن يكون إلى أقرب مذكور وهو سلمان، وأما على النسخة المشهورة التي هي الأصل فكأنه اعتمد على العنوان (لو يعلم المؤمن) قيل: الحكمة في التعبير بالمضارع دون الماضي الإشارة إلى أنه لم يقع له علم ذلك ولا يقع لأنه إذا امتنع في المستقبل كان ممتنعًا فيما مضى (ما عند الله من العقوبة) بيان لما (ما طمع) بكسر الميم من باب سمع أي ما رجا (بجنته) وللترمذي في الجنة (أحد) أي من المؤمنين فضلاً عن الكافرين، ولا بعد أن يكون أحد

ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة، ما قنط من جنته أحد. متفق عليه. 2391- (5) وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، ـــــــــــــــــــــــــــــ على إطلاقه من إفادة العموم إذ تصور ذلك وحده يوجب اليأس من رحمته، وفيه بيان كثرة عقوبته لئلا يغتر مؤمن بطاعته أو اعتمادًا على رحمته فيقع في الأمن ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون (ما قنط) من القنوط وهو: اليأس من باب نصر وضرب وسمع (أحد) أي من الكافرين. قال الطيبي: الحديث في بيان صفتي القهر والرحمة لله تعالى، فكما أن صفات الله تعالى غير متناهية لا يبلغ كنه معرفتها أحد كذلك عقوبته ورحمته، فلو فرض أن المؤمن وقف على كنه صفته القهارية لظهر منها ما يقنط من ذلك الخواطر فلا يطمع بجنته أحد، وهذا معنى وضع أحد موضع ضمير المؤمن، ويجوز أن يراد بالمؤمن الجنس على سبيل الاستغراق فالتقدير أحد منهم. ويجوز أن يكون المعنى على وجه آخر وهو إن المؤمن قد اختص بأن يطمع في الجنة، فإذا انتفى الطمع منه فقد انتفى عن الكل، وكذلك الكافر مختص بالقنوط، فإذا انتفى القنوط عنه فقد انتفى عن الكل. وورد الحديث في بيان كثرة رحمته وعقوبته كيلا يغتر مؤمن برحمته فيأمن من عذابه ولا ييأس كافر من رحمته ويترك بابه. وحاصل الحديث إن العبد ينبغي أن يكون بين الرجاء والخوف بمطالعة صفات الجمال تارة وبملاحظة نعوت الجلال أخرى كذا في المرقاة. وقال في اللمعات: سياق الحديث لبيان صفتي اللطف والرحمة والغضب وعدم بلوغ أحد إلى كنههما، فلو علم المؤمنون الذين هم مظاهر رحمة الله ما عند الله من القهر ما طمع أحد منهم الجنة، وكذا في الكافرين، وهذا مقصود آخر لا ينافي سبق رحمته على غضبه بالمعنى الذي سبق - انتهى. (متفق عليه) . واللفظ لمسلم أخرجه من رواية العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة، ورواه البخاري (في باب الرجاء مع الخوف من كتاب الرقاق) من طريق سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة بلفظ: إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة فأمسك عنده تسعًا وتسعين رحمة، وأرسل في خلقه كله رحمة واحدة فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار قال الحافظ: وروى هذا الحديث العلاء ابن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة فقطعه حديثين أخرجهما مسلم من طريقه فذكر حديث الرحمة بلفظ: خلق الله مائة رحمة فوضع واحدة بين خلقه وخبأ عنده مائة إلا واحدة. وذكر الحديث الآخر بلفظ: لو يعلم المؤمن إلخ. قلت: وهكذا وقع عند الترمذي في الدعوات. 2391- قوله: (الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله) بكسر الشين المعجمة وتخفيف الراء المهملة وآخره كاف أحد سيور النعل التي في وجهها. وقيل: وهو السير الذي يدخل فيه إصبع الرجل ويطلق أيضًا على

والنار مثل ذلك. رواه البخاري. 2392- (6) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال رجل لم يعمل خيرًا قط ـــــــــــــــــــــــــــــ كل سير وقى به القدم من الأرض. قال الطيبي: ضرب العرب مثلاً بالشراك لأن سبب حصول الثواب والعقاب إنما هو بسعي العبد ويجري السعي بالأقدام، وكل من عمل خيرًا استحق الجنة بوعده، ومن عمل شرًا استحق النار بوعيده وما وعد وأوعد منجزان فكأنهما حاصلان (والنار مثل ذلك) أي: أقرب إلى أحدكم من شراك نعله. وقال القاري: إشارة إلى المذكور أي: النار مثل الجنة في كونها أقرب من شراك النعل أي: فلا يزهدن في قليل من الخير أن يأتيه فلعه يكون سببًا لرحمة الله به ولا في قليل من الشر أن يجتنبه، فربما يكون فيه سخط الله تعالى، ثم قيل: هذا لأن سبب دخول الجنة والنار مع الشخص وهو العمل الصالح والسيء وهو أقرب إليه من شراك نعله إذ هو مجاور له والعمل صفة قائمة به. قال ابن بطال: في الحديث إن الطاعة موصلة إلى الجنة وإن المعصية مقربة إلى النار، وإن الطاعة والمعصية قد تكون في أيسر الأشياء، فينبغي للمرء أن لا يزهد في قليل من الخير أن يأيته ولا في قليل من الشر أن يجتنبه، فإنه لا يعلم الحسنة التي يرحمه الله بها ولا السيئة التي يسخط عليه بها. وقال ابن الجوزي: معنى الحديث إن تحصيل الجنة سهل بتصحيح القصد وفعل الطاعة والنار كذلك بموافقة الهوى وفعل المعصية (رواه البخاري) في الرقاق وهو من أفراده، وأخرجه أيضًا أحمد (ج1: ص387: 413: 442) . 2393- قوله: (قال رجل) أي ممن كان قبلنا ففي حديث أبي سعيد عند البخاري: إن رجلاً كان قبلكم رغسه الله مالاً، وفي رواية له: ذكر رجلاً فيمن سلف أو فيمن كان قبلكم، وصرح في حديث حذيفة وأبي مسعود عند الطبراني إنه كان من بني إسرائيل، ولذلك أورد البخاري حديث أبي سعيد وحذيفة وأبي هريرة في ذكر بني إسرائيل. قيل اسم هذا الرجل جهينة فقد حكى الحافظ في الفتح (ج26: ص131: 132) إن أبا عوانة أخرج في صحيحه من حديث حذيفة عن أبي بكر الصديق إن الرجل المذكور في حديث الباب هو آخر أهل النار خروجا منها وآخر أهل الجنة دخولاً الجنة. قال الحافظ (ج27: ص209) وقد وقع في غرائب مالك للدارقطني من طريق عبد الملك بن الحكم وهو واه عن مالك عن نافع عن ابن عمر رفعه إن آخر من يدخل الجنة رجل من جهينة يقال له جهينة فيقول أهل الجنة عند جهينة الخير اليقين، وحكى السهيلي أنه جاء إن اسمه هناد (لم يعمل) صفة رجل (خيرًا قط) أي عملاً صالحًا بعد الإسلام، ووقع في رواية لمسلم لم يعمل حسنة قط. قال الباجي: ظاهر إن العمل ما تعلق بالجوارح وهو العمل، وإن جاز أن يطلق على الاعتقاد على سبيل المجاز والاتساع - صلى الله عليه وسلم - عن هذا الرجل إنه لم يعمل شيئًا من الحسنات التي تعمل بالجوارح، وليس فيه إخبار عن اعتقاد الكفر. وإنما يحمل هذا الحديث على أنه اعتقد الإيمان ولكنه لم يأت من شرائعه بشيء فلما حضره

لأهله. - وفي رواية - أسرف رجل على نفسه، فلما حضره الموت أوصى بنيه: إذا مات فحرقوه، ثم أذروا ـــــــــــــــــــــــــــــ الموت خاف تفريطه فأمر أهله أن يحرقوه - انتهى. قلت: وقع في رواية أحمد (ج2: ص304) كان رجل ممن كان قبلكم لم يعمل خيرًا قط إلا التوحيد، وهكذا وقع استثناء التوحيد في حديث ابن مسعود أيضًا عن أحمد (ج1: ص398) ورواية الباب وإن لم يذكر فيها هذا الاستثناء صريحًا لكنها كالصريح في ذكره لإطباق الروايات على ذكر خشيته وخوفه من عذابه وغفرانه تعالى (لأهله) متعلق بقال (وفي رواية أسرف رجل على نفسه) أي بالغ في فعل المعاصي، وهذا لفظ مسلم وللبخاري كان رجل يسرف على نفسه، وفي حديث حذيفة عند البخاري إنه كان يسيء الظن بعمله. وفي حديث أبي سعيد عند الشيخين فإنه لم يبتئر عن الله خيرًا فسرها قتادة لم يدخر، ووقع في آخر حديث حذيفة عند البخاري. قال عقبة بن عمرو. أبو مسعود) وأنا سمعته (يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -) يقول ذلك وكان نباشًا (أي للقبور يسرق أكفان الموتى) قال الحافظ: قوله: ((وكان نباشًا هو من رواية حذيفة وأبي مسعود معا كما يدل عليه رواية ابن حبان. ووقع في رواية للطبراني بلفظ: بينهما حذيفة وأبو مسعود جالسين. فقال أحدهما: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن رجلاً من بني إسرائيل كان ينبش القبور)) ، فذكره (فلما حضره الموت) فيه تسمية الشيء بما قرب منه لأن الذي حضره في تلك الحالة علامات الموت لا الموت نفسه (أوصى بنيه) هذا لفظ مسلم، وللبخاري فلما حضره الموت قال لبنيه، وفي الحديث أبي سعيد عند البخاري فلما حُضر قال لبنيه: أي أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب قال إلخ. (إذا مات فحرقوه) بصيغة الأمر من التحريق، وهذا عند مسلم وللبخاري فأحرقوه أي من الإحراق، ومقتضى السياق أن يقول إذا مت فحرقوني لكنه على طريق الالتفات. قال الطيبي: قوله: ((إذا مات إلخ)) مقول قال: على الرواية الأولى ومعمول أوصى على الرواية الأخرى فقد تنازعا فيه في عبارة الكتاب - انتهى. قلت: قوله: وفي رواية إلى قوله: أوصي بنيه جملة معترضة وقوله: إذا مات إلخ إنما هو مقول، قال في الرواية الأولى: كما يدل عليه سياق الحديث عند البخاري في التوحيد ومسلم في التوبة. وأما سياق الرواية الثانية فعند البخاري في ذكر بني إسرائيل فلما حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا مت فاحرقوني إلخ. وعند مسلم فلما حضره الموت أوصى بنيه فقال: إذا أنا مت فاحرقوني إلخ (ثم اذروا) يجوز فيه وصل الهمزة وقطعها من الثلاثي المجرد والمزيد يقال: ذرت الريح التراب وغيره تذروه ذروًا وذريًا وذرته، أطارته وسفته وأذهبته وفرقته بهبوبها. قال الحافظ: بهمز قطع وسكون المعجمة من أذرت العين دمعها وأذريت الرجل عن الفرس وبالوصل من ذروت الشيء ومنه تذروه الرياح. وفي رواية ثم اطحنوني ثم ذروني بضم المعجمة وتشديد الراء من الذر أي: فرقوني. وفي حديث حذيفة عند البخاري في

نصفه في البر ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابًا لا يعذبه أحد من العالمين، ـــــــــــــــــــــــــــــ الرقاق فذروني. قال الحافظ: بالتخفيف بمعنى الترك وبالتشديد بمعنى التفريق وهو ثلاثي مضاعف تقول ذررت الملح اذره، ومنه الذريرة نوع من الطيب. قال ابن التين: ويحتمل أن يكون بفتح أوله وكذا قرأناه ورويناه بضمها. وعلى الأول هو من التذرية وعلى الثاني من الذر (نصفه) أي نصف رماده (في البر ونصفه في البحر) وفي حديث حذيفة عند البخاري في أول ذكر بني إسرائيل إذا أنا مت فاجمعوا لي حطبًا كثيرًا وأوقدوا فيه نارًا حتى إذا أكلت لحمي وخلصت إلى عظمي فامتحشت فخذوها فاطحنوها ثم انظروا يومًا راحًا (أي: كثير الريح وشديدة) فاذروه في اليم الحديث. وفي حديث أبي سعيد عنده أيضًا في الرقاق فإذا مت فاحرقوني: حتى إذا صرت فحمًا فاسحقوني أو قال: فاسهكوني، ثم إذا كان ريح عاصف فاذروني فيها فأخذ مواثيقهم على ذلك. قال الباجي: وذلك على وجهين أحدهما على وجه الفرار مع اعتقاده أنه غير فائت كما يفر الرجل أمام الأسد مع اعتقاده أنه لا يفوته سبقًا ولكنه يفعل نهاية ما يمكنه فعله، والوجه الثاني أن يفعل هذا خوفًا من الباري تعالى وتذللاً ورجاء أن يكون هذا سببًا إلى رحمته ولعله كان مشروعًا في ملته - انتهى. (فو الله لئن قدر الله عليه) بتخفيف الدال وتشديدها من القدر بمعنى التضييق أو بمعنى القضاء لا من القدرة والاستطاعة (ليعذبنه) بنون التأكيد (عذابًا) أي: تعذيبًا (لا يعذبه) أي: ذلك العذاب (أحدًا من العالمين) من الموحدين وقد استشكل هذا الحديث لأن صنيع الرجل وقوله ظاهر في الشك في قدرة الله على البعث والإحياء والشك في القدر كفر، وقد قال في آخر الحديث خشيتك وغفر له والكافر لا يخشاه ولا يعفر له واختلف في تأويله. فقيل إن قدر بالتخفيف بمعنى ضيق ومنه قوله تعالى: {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} (الطلاق: 7) بالتخفيف والتشديد وهو أحد الأقوال في قوله تعالى: {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} (الأنبياء: 87) والمعنى لئن ضيق الله عليه وناقشه في حساب وقيل: المعنى لئن قدر عليه العذاب أي قضى من قدر بالتخفيف والتشديد بمعنى واحد أي لئن قدر عليه أن يعذبه ليعذبنه. ولكن هذا كالذي قبله معنى غير مناسب للسوق أصلاً مع أنه وقع في حديث معاوية بن حميدة عند أحمد (ج4: ص447) (ج5: ص3، 4) ثم اذروني في الريح لعلي أضل الله عز وجل. أي: أغيب عنه وأفوته. يقال: ضل الشيء إذا فات وذهب وهو كقوله تعالى: {لَّا يَضِلُّ رَبِّي} وهذا يدل على أن قوله: لئن قدر الله عليه على ظاهره وإنه أراد التمنع بالتحريق من قدرة الله ومع ذلك أخبر الصادق بغفرانه فلا بد من وجه يمكن القول بإيمانه. فقيل: مقصود الرجل بهذه الوصية إن فرقوا أجزائي في البر والبحر بحيث لا يكون هناك سبيل إلى جمعها فيحتمل أنه رأى أنه جمعه حينئذٍ يكون مستحيلاً والقدرة لا تتعلق بالمستحيل فلذلك قال: فلئن قدر

فلما مات فعلوا ـــــــــــــــــــــــــــــ الله عليه فلا يلزم أنه نفى القدرة أو شك فيها، فصار بذلك كافرًا فكيف يغفر له وذلك أنه ما نفى القدرة على ممكن. وإنما فرض غير المستحيل مستحيلاً فيما لم يثبت عنده أنه ممكن من الدين بالضرورة والكفر هو الأول لا الثاني. وقيل: إن الرجل ظن أنه إذا فعل هذا الصنيع ترك فلم ينشر ولم يعذب. وأما تلفظه بقوله: لئن قدر الله وبقوله فلعلي أضل الله فلأنه كان جاهلاً بذلك. وقد اختلف في مثله هل يكفر أم لا بخلاف الجاحد للصفة. قال الخطابي: أنه لم ينكر البعث وإنما جهل فظن أنه إذا فعل به ذلك لا يعاد فلا يعذب، وقد ظهر إيمانه باعترافه بأنه إنما فعل ذلك من خشية الله. وقيل: كان هذا الرجل موحدًا مثبتًا للصانع، وكان في زمن الفترة حين ينفع مجرد التوحيد ولم تبلغه شرائط الإيمان ولا تكليف قبل ورود الشرع على المذهب الصحيح لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (الإسراء: 15) وقيل: إنما وصى بذلك تحقيرًا لنفسه وعقوبة لها بعصيانها وإسرافها رجاء أن يرحمه الله فيغفر له وهذا يؤيد أن قوله: لئن قدر بمعنى ضيق , وقيل: لقى من هول المطلع ما أدهشه وسلب عقله فلم يتمكن من تمهيد القول وتخميره فبادر بسقط من القول، وأخرج كلامه مخرجًا لم يعتقد حقيقته. قال التوربشتي: وهذا أسلم الوجوه. وقال الطيبي: وهو كلام صدر عن غلبة حيرة ودهشة من غير تدبر في كلامه كالغافل والناسي فلا يؤاخذ فيما قال. قال القاري: هذا هو الظاهر من الحديث كما سيأتي حيث قال تعالى: لم فعلت قال: من خشيتك يا رب وأنت أعلم. وقيل: ذلك لا يؤاخذ عليه وقال السندي: يحتمل أن شدة الخوف طيرت عقله فما التفت إلى ما يقول وما يفعل وأنه هل ينفعه أم لا، كما هو المشاهد في الواقع في مهلكة فإنه قد يتمسك بأدنى شيء لاحتمال أنه لعله ينفعه إذ هو فيما قال: وفعل في حكم المجنون - انتهى. وجعل الحافظ هذا القول أظهر الأقوال حيث قال، وأظهر الأقوال أنه قال ذلك في حال دهشته وغلبة الخوف عليه حتى ذهب بعقله لما يقول ولم يقله قاصدًا لحقيقة معناه بل في حالة كان فيها كالغافل والذاهل والناسي الذي لا يؤاخذ بما يصدر منه، قال: وأبعد الأقوال قول من قال: إنه كان في شرعهم جواز المغفرة للكافر - انتهى. وقال ابن أبي جمرة: كان الرجل مؤمنًا لأنه قد أيقن بالحساب، وإن السيئات يعاقب عليها، وأما ما أوصى به فلعله كان جائزًا في شرعهم لتصحيح التوبة، فقد ثبت في شرع بني إسرائيل قتلهم أنفسهم. وقيل: ظن هذا الرجل أن الله تعالى إن وجده على حاله وهيئه يعذبه شديدًا وإذا وجده محترقًا مطحونًا مفرقًا فلعله يرحمه ويشفق عليه، لتحمله تلك المشاق والشدائد كما هو دأب الموالي الكرماء، فإنهم إذا وجد أحدهم عبده المسيء في مرض أو شدة رحمه وعطف عليه ورضي عنه، وإن كان قبل ذلك ساخطًا عليه وغضبان والله أعلم (فلما مات) أي: الرجل الموصي (فعلوا)

ما أمرهم، فأمر الله البحر، فجمع ما فيه، وأمر البر فجمع ما فيه، ثم قال له: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا رب! وأنت أعلم، فغفر له. ـــــــــــــــــــــــــــــ أي: أهله أو بنوه (ما أمرهم) به من التحريق وغيره وقوله: فلما مات إلخ لمسلم فقط (فأمر الله البحر فجمع ما فيه وأمر البر فجمع ما فيه) أي: من أجزاء الرجل، وفي رواية أخرى للبخاري فأمر الله تعالى الأرض فقال: اجمعي ما فيك منه ففعلت فإذا هو قائم، وفي حديث أبي سعيد عنده أيضًا فقال الله كن فإذا رجل قائم. قال الحافظ: وفي حديث سلمان الفارسي عند أبي عوانة في صحيحه فقال الله له: كن فكان كأسرع من طرفة العين، وهذا جميعه كما قال ابن عقيل: أخبار عما سيقع له يوم القيامة، وليس كما قال بعضهم أنه خاطب روحه فإن ذلك لا يناسب قوله: فجمعه الله، لأن التحريق والتفريق إنما وقع على الجسد وهو الذي يجمع ويعاد عند البعث. (ثم قال) الله عز وجل (له) أي: للرجل (لم فعلت هذا) أي: ما ذكر من الوصية، وفي رواية ما حملك على ما صنعت (قال: من خشيتك يا رب) وفي حديث حذيفة عند البخاري ما حملني إلا مخافتك (وأنت أعلم) أي: إنما فعلته من خشيتك. قال ابن عبد البر: وذلك دليل على إيمانه، إذ الخشية لا تكون إلا لمؤمن بل لعالم. قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} (فاطر: 28) ويستحيل أن يخافه من لا يؤمن به. وقد روى الحديث بلفظ: قال رجل لم يعمل خيرًا قط إلا التوحيد، وهذه اللفظة ترفع الإشكال في إيمانه والأصول تعضدها {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} (النساء: 48) قلت: الخشية من لوازم الإيمان ولما كان فعله هذا من أجل خشية الله تعالى وخوفه فلا بد من القول بإيمانه، وعلى هذا فالحديث ظاهر بل هو كالصريح في استثناء التوحيد كما تقدم فلا إشكال فيه. (فغفر له) وفي حديث أبي سعيد عند البخاري في الرقاق فما تلافاه إن رحمه أي تداركه ((وما)) موصولة أي: الذي تلافاه هو الرحمة، أو نافية وصيغة الاستثناء محذوفة، وفي ذكر بني إسرائيل بلفظ: فتلقاه رحمة. قال الحافظ: قالت المعتزلة: غفر له لأنه تاب عند موته وندم على فعله. وقالت المرجئة: غفر له بأصل توحيده الذي لا تضر معه معصية، وتعقب الأول بأنه لم يرد أنه رد المظلمة فالمغفرة حينئذ بفضل الله لا بالتوبة، لأنها لا تتم إلا بأخذ المظلوم حقه من الظلم، وقد ثبت أنه كان نباشًا. وتعقب الثاني بأنه وقع في حديث أبي بكر الصديق المشار إليه أولاً أنه عذب فعلى هذا فتحمل الرحمة والمغفرة على إرادة ترك الخلود في النار، وبهذا يرد على الطائفتين معًا على: المرجئة في أصل دخول النار، وعلى المعتزلة في دعوى الخلود فيها، وفيه أيضًا رد على من زعم من المعتزلة إنه بذلك الكلام تاب فوجب على الله قبول توبته - انتهى. وقيل: إن مغفرته إنما هي لكمال خوفه وخشيته من الله عز وجل، لأن الخشية من المقامات السنية ولما كانت على أقصى مراتبها وإن حصلت عند حضور علامات الموت صارت سببًا لمحو جميع سيئاته ووسيلة إلى مغفرة جميع ذنوبه {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ

متفق عليه. 2393- (7) وعن عمر بن الخطاب، قال: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبي فإذا امرأة من السبي قد تحلب ثديها تسعى، إذا وجدت صبيًا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم ـــــــــــــــــــــــــــــ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} وقد تقدم أن الخوف من الله من لوازم الإيمان. (متفق عليه) أخرجه البخاري في ذكر بني إسرائيل، وفي باب يريدون أن يبدلوا كلام الله من كتاب التوحيد، ومسلم في التوبة، وأخرجه أيضًا أحمد (ج2: ص269: 304) ، ومالك، والنسائي في أو أخر الجنائز، وابن ماجة في ذكر التوبة، وفي الباب عن أبي سعيد عند أحمد، والشيخين وغيرهم، وعن حذيفة عند البخاري والنسائي وغيرهما، وعن ابن مسعود عند أحمد، وأبي يعلي، وعن معاوية ابن حيدة عند أحمد، والطبراني وعن سلمان الفارسي عند أبي عوانة، والطبراني. 2393- قوله: (قدم) بكسر الدال (على النبي - صلى الله عليه وسلم - سبي) أي: أسرى من الغلمان والجواري، وسبيته سبيًا إذا حملته من بلد إلى بلد، وقوله: ((قدم)) على صيغة المعلوم فعل ماض و ((سبي)) بالرفع فاعله، وفي رواية الكشميهني قدم بسبي على صيغة المجهول، وبالباء الموحدة في سبي وكان هذا من السبي هوازن (فإذا امرأة من السبي) لم يعرف الحافظ اسمها (قد تحلب) بفتح الحاء وتشديد اللام على وزن تفعل (ثديها) بالإفراد والرفع فاعله أي سأل لبن ثديها على حذف المضاف لكثرته لعدم ولدها معها. وقال الحافظ: أي تهيأ لأن يحلب (تسعى) بفتح الفوقية وسكون السين وفتح العين المهملتين من السعي وهو المشي بسرعة أي: تعدو المرأة في طلب ولدها. ووقع في بعض نسخ صحيح البخاري بقاف مكسورة من السقي بالسين المهملة والقاف. قال الحافظ: بفتح المثناة وبقاف مكسورة، وللكشميهني بسقي بموحدة مكسورة بدل الفوقية وفتح المهملة وسكون القاف وتنوين التحتية، وللباقين تسعى بفتح العين المهملة من السعي أي: تمشي بسرعة تطلب ولدها الذي فقدته، وفي رواية تبتغي من الابتغاء وهو الطلب. قال عياض: وهو وهم، والصواب ما في رواية البخاري تسعى بالسين من السعي. وتعقبه النووي بأن كلاً من الروايتين صواب لا وهم فيه فهي ساعية وطالبة مبتغية لابنها. وقال القرطبي: لإخفاء بحسن رواية تسعى ووضوحها ولكن لرواية تبتغي وجهًا وهو تطلب ولدها وحذف المفعول للعلم به فلا يغلط الراوي مع هذا التوجيه (إذا وجدت) قال الحافظ: قوله: إذا كذا أي: بالألف للجميع ولمسلم (صبيًا في السبي) أي: في جملة صبيان السبي (أخذته فالصقتة ببطنها) قال الحافظ: حذف منه شيء بينته رواية الإسماعيلي ولفظه: إذا وجدت صبيًا أخذته فأرضعته فوجدت صبيًا فأخذته فألزمته بطنها. وعرف من سياقه إنها كانت فقدت صبيها وتضررت بإجتماع اللبن

أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ فقلنا: لا، وهي تقدر على أن لا تطرحه. فقال: لله أرحم بعباده من هذه بولدها. متفق عليه. 2394- (8) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لن ينجي ـــــــــــــــــــــــــــــ في ثديها فكانت إذا وجدت صبيًا أرضعته ليخف عنها، فلما وجدت صبيها بعينه أخذته فالتزمته والصقته ببطنها من فرحها بوجدانه وغاية مجتهاله. (أترون) بضم الفوقية أي تظنون (هذه) أي: المرأة (طارحة) أي: ملقية (فقلنا) كذا في جميع النسخ، والذي في الصحيحين قلنا أي: بدون الفاء (لا) أي: لا نظن إنها طارحة. وقال القسطلاني: أي لا تطرحه. (وهي تقدر على أن لا تطرحه) أي: لا تطرحه طائعة أبدًا. وقال القاري: الواو للحال، وفائدة هذا الحال إنها إن اضطرت، يمكن طرحها والله منزه عن الاضطرار، فلا يطرح عبده في النار البتة، (لله) بفتح أوله لام تأكيد، وصرح بالقسم في رواية الإسماعيلي فقال: والله لله أرحم إلى آخره، (بعباده) أي المؤمنين أو مطلقًا (من هذه) المرأة (بولدها) هذا. قال الحافظ: كأن المراد بالعباد هنا من مات على الإسلام، ويؤيده ما أخرجه أحمد، والحاكم (والبزار ورجالهم رجال الصحيح) من حديث أنس قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - في نفر من الصحابة وصبي على الطريق، فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أو يوطأ فأقبلت تسعى، وتقول: ابني ابني وسعت فأخذته، فقال القوم يا رسول الله ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار، فقال: ولا الله بطارح حبيبه في النار، فالتعبير بحبيبه يخرج الكافر، وكذا من شاء إدخاله ممن لم يتب من مرتكبي الكبائر. وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: لفظ العباد عام، ومعناه خاص بالمؤمنين وهو كقوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} (الأعراف: 156) فهي عامة من جهة الصلاحية، وخاصة بمن كتبت له. ثم ذكر ابن أبي جمرة احتمال تعميمه حتى في الحيوانات ورجحه العيني حيث قال، والظاهر إنها على العموم لمن سبق له. منها نصيب من أي العباد كان حتى الحيوانات على ما ورد في حديث أبي هريرة وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق - انتهى. قال ابن أبي جمرة: وفيه إشارة إلى أنه ينبغي للمرء أن يجعل تعلقه في جميع أموره بالله وحده وإن كل من فرض إن فيه رحمة ما يقصد لأجلها فالله سبحانه وتعالى أرحم منه فليقصد العاقل لحاجته من هو أشد له رحمة. قال: وفي الحديث ضرب المثل بما يدرك بالحواس لما لا يدرك بها لتحصيل معرفة الشيء على وجهه وإن كان الذي ضرب له المثل لا يحاط بحقيقته، لأن رحمة الله لا تدرك بالعقل، ومع ذلك فضربها النبي - صلى الله عليه وسلم - للسامعين بحال المرأة المذكورة (متفق عليه) أخرجه البخاري في باب رحمة الولد من كتاب الأدب، ومسلم في التوبة. 2394- قوله: (لن ينجي) أي: من النار ((ولن)) لمجرد النفي. وقيل: لتوكيده، وينجي بفتح النون وكسر الجيم

أحدًا منكم عمله، ـــــــــــــــــــــــــــــ المشددة من التنجية، أو بسكون النون وتخفيف الجيم المكسورة من الانجاء، ومعناه لن يخلص النجاة من الشيء التخلص منه (أحدًا) بالنصب على المفعولية (منكم عمله) بالرفع على الفاعلية، وفي رواية أبي داود الطيالسي ما منكم من أحد ينجيه عمله. وفي رواية للشيخين: لن يدخل أحدًا عمله الجنة. وفي رواية لمسلم: ليس أحد منكم ينجيه عمله. وفي أخرى له: لن ينجو أحد منكم بعمله واستشكل هذا الحديث ونحوه بقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (الزخرف: 72) وأجيب بأنه تحمل الآية على أن الجنة تنال المنازل فيها بالأعمال، فإن درجات الجنة متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال. ويحمل الحديث على أصل دخول الجنة والخلود فيها فإن قلت: إن قوله تعالى: {سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (النحل: 32) صريح بأن دخول الجنة أيضًا بالأعمال أجيب: بأنه بلفظ مجمل بينه الحديث والتقدير ادخلوا منازل الجنة وقصورها بما كنتم تعملون، فليس المراد بذلك أصل الدخول، ويجوز أن يكون الحديث مفسرًا للآية والتقدير أدخلوها بما كنتم تعملون مع رحمة الله لكم وتفضله عليكم، لأن اقتسام منازل الجنة برحمته، وكذا أصل دخول الجنة هو برحمته حيث ألهم العاملين ما نالوا به ذلك ولا يخلو شيء من مجازاته لعباده من رحمته وفضله، وقد تفضل عليهم ابتداء بإيجادهم ثم برزقهم ثم بتعليمهم، هذا محصل ما قاله ابن بطال في الجمع بين الآيتين وحديث الباب. وقال عياض: طريق الجمع أن الحديث فسر ما أجمل في الآية فذكر نحوًا من كلام ابن بطال الأخير، وإن من رحمة الله توفيقه للعمل وهدايته للطاعة وكل ذلك لم يستحقه العامل بعمله، وإنما هو بفضل الله ورحمته. وقال ابن الجوزي: يتحصل عن ذلك أربعة أجوبة. الأول: أن التوفيق للعمل من رحمة الله ولولا رحمة الله السابقة ما حصل الإيمان ولا الطاعة التي يحصل بها النجاة. الثاني: إن منافع العبد لسيده فعمله مستحق لمولاه فمهما أنعم عليه من الجزاء فهو من فضله. الثالث: جاء في بعض الأحاديث إن نفس دخول الجنة برحمة الله واقتسام الدرجات بالأعمال. والرابع: إن أعمال الطاعات كانت في زمن يسير، والثواب لا ينفد، فالإنعام الذي لا ينفد في جزاء ما ينفد بالفضل بمقابلة الأعمال. وقال الكرماني: الباء في قوله: {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ليست للسببية بل للإلصاق أو المصاحبة أي أورثتموها ملابسة أو مصاحبة أو للمقابلة نحو أعطيت الشاة بالدرهم، وبهذا الأخير جزم الشيخ جمال الدين بن هشام في المغني فسبق إليه فقال: (ج1: ص97) ترد الباء للمقابلة وهي الداخلة على الأعواض نحو اشتريته بألف وكافأت إحسانه بضعف. وقولهم هذا بذاك منه {ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (النحل: 32) وإنما لم نقدرها باء السببية كما قالت: المعتزلة (فإنهم يقولون العمل الصالح سبب موجب للجنة) وكما قال الجميع (أي: جميع أهل السنة) في لن يدخل أحدكم الجنة بعمله لأن المعطي

قالوا: ولا أنت يا رسول الله! ـــــــــــــــــــــــــــــ بعوض قد يعطي مجانًا بخلاف المسبب فلا يوجد بدون السبب قال: وقد تبين أنه لا تعارض بين الحديث والآية لاختلاف محملي الباءين جمعًا بين الأدلة، قلت: سبقه إلى ذلك ابن القيم، كما قال الحافظ، وقد حكى كلامه عن كتاب مفتاح دار السعادة قال الحافظ: ويظهر لي في الجمع بين الآية والحديث وجه آخر، وهو أن يحمل الحديث على أن العمل من حيث هو عمل لا يستفيد به العامل دخول الجنة ما لم يكن مقبولاً، وإذا كان كذلك فأمر القبول إلى الله تعالى، وإنما يحصل برحمة الله لمن يقبل منه، وعلى هذا فمعنى قوله: {ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: تعملونه من العمل المقبول، ولا يضر بعد هذا أن تكون الباء للمصاحبة أو للالصاق أو المقابلة ولا يلزم من ذلك أن تكون سبيية وحاصل هذا الجواب، إن المنفي في الحديث دخولها بالعمل المجرد عن القبول والمثبت في الآية، دخولها بالعمل المتقبل، والقبول إنما يحصل من الله تفضلاً. وقال النووي: معنى الآيات أن دخول الجنة بسبب الأعمال، والجميع بينها وبين الحديث، أن التوفيق للأعمال والهداية للإخلاص فيها وقبولها، إنما هو برحمة الله وفضله فيصح أنه لم يدخل الجنة بمجرد العمل، وهو مراد الحديث، ويصح أنه دخل بالأعمال أي: بسببها وهي من رحمة الله تعالى. ورد الكرماني الأخير بأنه خلاف صريح الحديث. وقال التوربشتي: ليس المراد من هذا الحديث نفي العمل وتوهين أمره، بل توقف العباد، على أن العمل، إنما يتم بفضل الله وبرحمته، لئلا يتكلوا على أعمالهم اغترارًا بها، فإن الإنسان ذو السهو والنسيان عرضة للآفات ودرية للغفلات، قلما يخلص له من شائبة رياء أو شهوة خفية أو فساد نية أو قصد غير صالح، ثم إن سلم له العمل عن ذلك ولا يسلم إلا برحمة من الله فإن أرجى عمل من أعماله لا يفي بشكر أدنى نعمة من نعم ربه فأنى له أن يستظهر بعمل لم يهتد إليه أيضًا إلا برحمة من الله وفضل. وقال الطيبي: أي النجاة من العذاب والفوز بالثواب بفضل الله ورحمته والعمل غير مؤثر فيهما على سبيل الإيجاب، بل غايته أنه يعد العامل لأن يتفضل عليه ويقرب الرحمة إليه، ولذا قال فسددوا إلخ. والخطاب للصحابة والمراد معشر بني آدم. قال الماذري: مذهب أهل السنة إن إثابة الله تعالى من أطاعة بفضل منه، وكذلك انتقامه ممن عصاه بعدل منه ولا يثبت واحد منهما إلا بالسمع، وله تعالى أن يعذب الطائع وينعم العاصي، لأن العالم كله ملكه والدنيا والآخرة في سلطاته يفعل فيهما ما يشاء، فلو عذب المطيعين وأدخلهم النار كان عدلاً منه، وإذا أكرمهم ونعمهم وأدخلهم الجنة فهو فضل منه، ولو نعم الكافرين وأدخلهم الجنة كان له ذلك، ولكنه أخبر وخبره صدق لا خلف فيه أنه لا يفعل ذلك بل يغفر للمؤمنين ويدخلهم الجنة برحمته، ويعذب الكافرين ويخلدهم في النار عدلاً منه. وهذا الحديث يقوي مقالتهم ويرد على المعتزلة حيث يثبتون الأعواض بالعقل ويوجبون ثواب الأعمال. ويوجبون الأصلح، ولهم في ذلك خبط كثير وتفضيل طويل (قالوا) وفي رواية لمسلم: فقيل: وفي أخرى له قال: رجل. قال الحافظ: لم أقف على تعيين القائل (ولا أنت يا رسول الله)

قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمته، فسددوا، وقاربوا، ـــــــــــــــــــــــــــــ أي: لا ينجيك عملك مع عظم قدره، قال الطيبي: الظاهر ولا إياك أي: للعطف على أحدًا فعدل إلى الجملة الاسمية أي من الفعلية المقدرة مبالغة. أي: ولا أنت ممن ينجيه عمله استبعادًا عن هذه النسبة إليه. قلت: وقع في رواية لمسلم قال رجل: ولا إياك يا رسول الله. قال الكرماني: إذا كان كل الناس لا يدخلون الجنة إلا أن يتغمدهم الله برحمته فوجه تخصيص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالذكر أنه إذا كان مقطوعًا له بأنه يدخل الجنة ثم لا يدخلها إلا برحمة الله فغيره يكون في ذلك بطريق الأولى. وقال الرافعي: لما كان أجر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الطاعة أعظم، وعمله في العبادة أقوم قيل: ولا أنت أي لا ينجيك عملك مع عظم قدره فقال: لا إلا برحمة الله. (قال ولا أنا) مطابق ولا أنت. أي: ولا أنا ممن ينجيه عمله. وفي رواية مسلم المشار إليها قال: ولا إياي إلا أن يتغمدني الله. أي: يسترني. وفي رواية لمسلم: إلا أن يتداركني (منه برحمة) وفي رواية لهما: بفضل ورحمته، وللمستملي بفضل رحمته بإضافة بفضل للاحقها. وفي رواية لمسلم: برحمته وفضل. وفي أخرى له: بمغفرة ورحمته. قال أبو عبيدة: المراد بالتغمد الستر وما أظنه إلا مأخوذًا من غمد السيف، لأنك إذا غمدت السيف فقد ألبسته الغمد وسترته به، كأنه جعل رحمة له غمدًا وستره بها وغشاه، قال القاري: والاستثناء منقطع، أي إلا أن يلبسني لباس رحمته فأدخل الجنة برحمته، والتغمد الستر أي يسترني برحمته ويحفظني كما يحفظ السيف بالغِمد، بكسر الغين وهو الغلاف، ويجعل رحمته محيطة بي إحاطة الغلاف للسيف. وقال الشيخ الدهلوي: معنى الاستثناء أي: لا ينجيني عملي إلا أن يرحمني الله، فحينئذ ينجيني عملي ويصير سببًا في نجاتي، وبدونه لا يصير سببًا، لأن العمل ليس علة حقيقية موجبة للنجاة. وقال الطيبي: الاستثناء منقطع. قال القسطلاني: ويحتمل أن يكون متصلاً من قبيل قوله تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأُولَى} (الدخان: 56) ولما أشعر هذا الكلام بإلغاء العمل، من حيث إيجابه النجاة، وهو لا ينافي سببيته ومدخليته، فيها باعتبار أنه يعد العامل لأن يتفضل عليه، ويقرب إلى الرحمة من جهة حكمه تعالى، بذلك ووضعه إياه، كذلك أشار إلى إثباته بقوله (فسددوا) بالسين المهملة المفتوحة وكسر الدال المهملة الأولى المشددة. أي اقصدوا السداد من الأمر وهو الصواب من قولهم سدد السهم إذا تحرى الهدف. وقيل: هو القصد من القول والعمل واختيار الصواب منهما، وهو ما بين الإفراط والتفريط، يعني قوموا العمل واطلبوا الصواب واقصدوا في العمل بلا إفراط وتفريط فلا تغلوا ولا تقصروا، وفي رواية لمسلم ولكن سددوا. قال الحافظ: ومعنى هذا الاستدراك أنه قد يفهم من النفي المذكور نفي فائدة العمل فكأنه قيل بل له فائدة، وهو أن العمل علامة على وجود الرحمة، التي تدخل العامل الجنة، فاعملوا واقصدوا بعملكم الصواب، وهو اتباع السنة من الإخلاص، وغيره ليقبل عملكم، فينزل عليكم الرحمة، (وقاربوا) أي اطلبوا المقاربة وهي

واغدوا وروحوا وشيء من الدلجة والقصد القصد تبلغوا. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ القصد في الأمر الذي لا غلو فيه ولا تقصير. وقيل: المعنى إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل، فاعملوا بما يقرب منه، يعني اعملوا بالسداد، فإن عجزتم عنه فقاربوا أي اقربوا منه. وقال الحافظ: أي لا تفرطوا فتجهدوا أنفسكم في العبادة، لئلا يفضي بكم ذلك إلى الملال فتركوا العمل، فتفرطوا (واغدوا) بالغين المعجمة الساكنة والدال المهملة من الغدو، وهو السير من أول النهار، (وروحوا) بضم الراء وسكون الواو من الرواح وهو السير من أول النصف الثاني من النهار. وقال الجزري: الغدو الخروج بكرة، والرواح العود عشيًا، والمراد اعملوا أطراف النهار، وقتًا وقتًا (وشيء من الدلجة) بضم أوله وفتحه وإسكان اللام ويجوز فتحها، وبعد اللام جيم سير الليل، والمراد العمل في الليل، وقال وشيء من الدلجة لعسر سير جميع الليل، ففيه إشارة إلى تقليله وإلى الحث على الرفق في العبادة، وشيء مرفوع على الابتداء وخبره مقدر. أي اعملوا. أي فيه، أو مطلوب عملكم فيه. وقيل: التقدير ولكن شيء من الدلجة، وقيل: إنه مجرور لعطفه على مقدر، أي اعملوا بالغدو والروحة وشيء من الدلجة، أو المعنى استعينوا بشيء من الدلجة وفي بعض نسخ البخاري وشيئًا بالنصب، وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول. قال الحافظ: وشيئًا منصوب بفعل محذوف، أي: افعلوا (والقصد القصد) بالنصب على الإغراء، أي الزموا الطريق الوسط المعتدل، قال الجزري: القصد العدل في الفعل والقول، والوسط بين الطرفين والتكرير للتأكيد (تبلغوا) المنزل الذي هو مقصدكم، وهو مجزوم على جواب الأمر، وقد شبه المتعبدين بالمسافرين، لأن العابد كالمسافر إلى محل إقامته وهو الجنة، وكأنه قال لا تستوعبوا الأوقات كلها بالسير بل اغتنموا أوقات نشاطكم وهو أول النهار وآخره وبعض الليل وارحموا أنفسكم فيما بينهما لئلا ينقطع بكم، قال الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ} (هود: 114) وقد تقدم بأبسط من هذا في شرح حديث أبي هريرة رقم (1256) ، قال الطيبي: بين أولاً أن العمل لا ينجي إجابًا لئلا يتكلوا عليه، وحث آخرًا على العمل لئلا يفرطوا بناء على أن وجوده وعدمه سواء، بل العمل أدنى إلى النجاة، فكأنه معد وإن لم يوجب. وقال الرافعي: في الحديث إن العامل لا ينبغي أن يتكل على عمله في طلب النجاة ونيل الدرجات، لأنه إنما عمل بتوفيق الله وإنما ترك المعصية بعصمة الله فكل ذلك بفضله ورحمته (متفق عليه) واللفظ للبخاري بل السياق المذكور بطوله من إفراده، أخرجه في الرقاق، وأخرجه مسلم في التوبة مختصرًا من طرق متعددة، وأخرجه البخاري أيضًا مختصرًا في أواخر المرضى مقرونًا بقوله: ((ولا يتمنى أحدكم الموت إلخ)) . وأخرجه أيضًا أحمد مختصر (ج3: ص235: 256: 264: 362) ، وأبو داود الطيالسي، وأبو نعيم، وفي الباب عن عائشة عند الشيخين، وعن جابر عند مسلم، وعن جماعة من الصحابة غير هؤلاء كما في الكنز (ج4: ص150) .

2395- (9) وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يدخل أحدًا منكم عمله الجنة ولا يجيره من النار، ولا أنا إلا برحمة الله. رواه مسلم. 2396- (10) وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أسلم العبد فحسن إسلامه، يكفر الله عنه ـــــــــــــــــــــــــــــ 2395- قوله: (لا يدخل) بضم أوله (عمله) بالرفع فاعله (ولا يجيره) أي: لا يخلصه ولا ينجيه أجار فلانًا أغاثه وأعانه ونصره، وأجاره من العذاب أي أنقذه وأبعده (ولا أنا) أي: إياي (إلا برحمة الله) أي: إلا عملاً مقرونًا برحمته، فالاستثناء متصل فدخول الجنة بمحض الفضل ودرجاتها على حسب أعمال أصحابها بمقتضى العدل (رواه مسلم) في التوبة من طريق أبي الزبير عن جابر، وأخرجه أحمد (ج3: ص337) من طريق أبي سفيان عن جابر بلفظ: قاربوا وسددوا فإنه ليس أحدكم ينجيه عمله. قالوا: ولا إياك يا رسول الله قال: ولا إياي، إلا أن يتغمدني الله برحمته. وأخرجه أيضًا بنحوه (ج3: ص362: 394) . 2396- قوله: (إذا أسلم العبد) هذا الحكم يشترك فيه الرجال والنساء وذكره بلفظ المذكور تغليبًا (فحسن إسلامه) عطف على أسلم وهو بضم السين المخففة أي صار إسلامه حسنًا بمواطاة الظاهر الباطن، ويمكن تشديد السين ليوافق رواية أحسن أحدكم إسلامه أي جعله حسنًا بالمواطاة المذكورة، قال العيني: معنى حسن الإسلام الدخول فيه بالظاهر والباطن جميعًا، يقال في عرف الشرع حسن إسلام فلان إذا دخل فيه حقيقة، يعني صار إسلامه حسنًا باعتقاده وإخلاصه ودخوله فيه بالباطن، والظاهر بأن لا يكون منافقًا، قال القاري: وليس معناه استقام على الإسلام وأدى حقه وأخلص في عمله لإيهامه إن مجرد الإسلام الصحيح لا يكفر (يكفر الله عنه) من التكفير وهو التغطية وهو في المعاصي كالإحباط في الطاعات، ويكفر بضم الراء جواب إذا، قيل: ويجوز جزمه فتكسر الراء حينئذٍ لالتقاء الساكنين، لأن الأصل في الساكن إذا حرك حرك بالكسر، ويرد بأن جزم جواب إذا، إنما يجوز في الضرورة، قال ابن هشام في مغنيه (ج1: ص85) : ولا تعمل إذا الجزم إلا في الضرورة كقوله: استغن ما أغناك ربك بالغنى ... وإذا تصبك خصاصة فتجمل وقال الرضى: لما كان حدث ((إذا)) الواقع فيه مقطوعًا به في أصل الوضع لم يرسخ فيه معنى أن الدال على الفرض بل صار عارضًا على شرف الزوال، فلهذا لم تجزم إلا في الشعر مع إرادة معنى الشرط وكونه بمعنى متى، فقول الحافظ في الفتح: إن إذا لا تجزم أي في النثر، وذهل العيني عن كون محل جزمها، إنما هو في

كل سيئة كان زلفها، وكان بعد القصاص: الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنها. ـــــــــــــــــــــــــــــ الشعر خاصة لا في النثر، فتعقب الحافظ كعادته وإلا فذلك أمر ضروري لم يخل عنه أصغر كتاب في علم النحو. قال ابن آجروم: وإذًا في الشعر خاصة ولكن شغفه بالرد والتعقب على الحافظ أوقعه في ذلك، واستعمل الجواب مضارعًا وإن كان الشرط بلفظ الماضي لكنه بمعنى المستقبل. وفي رواية البزار كفر الله فواخى بينهما (كل سيئة) بنصب كل على المفعولية أي من الصغائر والكبائر (كان زلفها) جملة فعلية في محل الجر، لأنها صفة سيئة ((وزلفها)) بتخفيف اللام المفتوحة وتشديدها، ولأبي ذر أزلفها بزيادة همزة مفتوحة وهما بمعنى واحد كما قاله الخطابي وغيره أي أسلفها وقدمها على الإسلام، وفي المحكم أزلف الشيء قربه وزلفه مخففًا ومثقلاً قدمه، وفي الجامع الزلفة تكون في الخير والشر، وقال في المشارق: زلف بالتخفيف أي: جمع وكسب وهذا يشمل الأمرين. وأما القربة فلا تكون إلا في الخير فعلى هذا تترجح رواية غير أبي ذر أي: بدون الهمزة لكن الذي قاله الخطابي يساعد رواية أبي ذر أي بزيادة الهمزة المفتوحة فافهم (وكان بعد) بضم الدال بعد حسن الإسلام أو بعد تكفير السيئات به، وقوله: بعد كذا في جميع النسخ من المشكاة والمصابيح، والذي في الصحيح وكان بعد ذلك، وهكذا في الجامع الصغير، وكذا وقع عند النسائي (القصاص) بالرفع اسم كان على أنها ناقصة أو فاعل على أنها تامة، وعبر بالماضي، وإن كان السياق يقتضي المضارع لتحقق الوقوع فكأنه واقع وذلك كما في قوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} (الأعراف: 44) أي: وكان بعد ذلك المجازاة في الدنيا أو في الآخرة على الأعمال التي يفعلها بعد إسلامه. قال العيني: المراد بالقصاص ها هنا مقابلة الشيء بالشيء أي: كل شيء يعمله يعطي في مقابله شيء إن خيرًا فخيرًا وإن شرًا فشرًا. وقال السندي: أي: المماثلة الشرعية وضعها الله تعالى فضلاً منه ولطفًا لا العقلية (الحسنة) بالرفع مبتدأ خبره (بعشر أمثالها) أي: تكتب أو تثبت بعشر أمثالها والجملة استنا فيها بيان وتفسير للقصاص، واللام في (الحسنة) للاستغراق يدل على هذا قوله: كل حسنة في حديث أبي هريرة رقم (44) المتقدم في كتاب الإيمان (إلى سبع مائة ضعف) متعلق بمقدر أي: منتهية إلى ذلك فهو حال والضعف المثل (إلى أضعاف كثيرة) أي: ممتدة إلى أمثال كثيرة فضلاً من الله ونعمة (والسيئة) مبتدأ خبره (بمثلها) أي: من غير زيادة عدلاً ورحمة كما قال: فلا يجزى إلا مثلها. والجملة معطوفة على الجملة قبلها (إلا أن يتجاوز الله عنها) أي: عن السيئة بقبول التوبة أو بالعفو وإن لم يتب، وفي فوائد سمويه إلا أن يغفر الله وهو الغفور، وفيه دليل لأهل السنة أن العبد تحت المشيئة إن شاء الله تعالى تجاوز عنه وإن شاء

رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ أخذه ورد على القاطع لأهل الكبائر بالنار كالمعتزلة، ثم قوله: إلى أضعاف كثيرة، هكذا وقع في جميع النسخ من المشكاة، وهو من زيادة المصنف أو الناسخ وهي خطأ وغلط بلا شك، لأنها ليست في صحيح البخاري ولم تقع أيضًا في سنن النسائي وليست أيضًا في الجامع الصغير والمصابيح والكنز (ج1: ص60) ويدل أيضًا على كونها غلطًا أنه استدل بعضهم بهذا الحديث كما ذكر شراح البخاري نقلاً عن الماوردي على أن التضعيف لا يتجاوز سبعمائة بل ينتهي إلى سبعمائة ثم رد كلهم على هذا البعض بحديث ابن عباس الآتي المصرح بالتضعيف إلى أكثر من سبعمائة ولو كانت هذه الزيادة في حديث أبي سعيد أيضًا لم يكن للاستدلال به على هذا القول وجه ولما احتاج من رد عليه إلى الاحتجاج على خلافه بحديث ابن عباس (رواه البخاري) هذا الحديث لم يسنده البخاري في موضع من صحيحه بل ذكره معلقًا في باب حسن إسلام المرء من كتاب الإيمان، فقال قال مالك: أخبرني زيد بن أسلم إن عطاء بن يسار أخبره أن أبا سعيد الخدري أخبره أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا أسلم العبد إلخ. والبخاري لم يدرك زمن مالك فيكون تعليقًا ولكنه بلفظ جازم فهو صحيح ولا قدح فيه لأنه موصول من جهات أخر صحيحة، ولم يذكره لشهوته وكيف وقد عرف من شرطه وعادته أنه لا يجزم إلا بتثبت وثبوت، وليس كل معلق يقدح فيه، فهذا وإن كان معلقًا لكنه في حكم المتصل الموصول في كونه صحيحًا وقد وصله أبو ذر الهروي في روايته، فقال أخبرنا النضروي وهو العباس بن الفضل حدثنا الحسين بن إدريس حدثنا هشام بن خالد حدثنا الوليد بن مسلم عن مالك عن زيد بن أسلم. وكذا وصله النسائي في (كتاب الإيمان) ، والحسن بن سفيان في مسنده، والبزار والبيهقي في الشعب والإسماعيلي، ولفظه من طريق عبد الله بن نافع عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا أسلم العبد كتب الله له كل حسنة قدمها ومحى عنه كل سيئة زلفها، ثم قيل له: ائتنف العمل الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة، والسيئة بمثلها، إلا أن يغفر الله. وأخرجه الدارقطني في غرائب مالك من تسع طرق ولفظه من طريق طلحة بن يحيى عن مالك ما من عبد يسلم فيحسن إسلامه إلا كتب الله له كل حسنة زلفها ومحى عنه كل خطيئة زلفها بالتخفيف فيهما، وللنسائي نحوه لكن قال أزلفها فقد ثبت في جميع الروايات ما سقط من رواية البخاري، وهو كتابة الحسنات المتقدمة قبل الإسلام وقوله: ((كتب الله)) أي: أمر أن يكتب. وللدارقطني من طريق ابن شعيب عن مالك يقول الله لملائكته اكتبوا. قيل: وإنما اختصره البخاري وأسقط ما رواه غيره عمدًا لأنه مشكل على القواعد والأصول. فقال المازري ثم القاضي عياض وغيرهما: الكافر لا يصح منه التقرب فلا يثاب على العمل الصالح الصادر في شركه، لأن من شرط المتقرب كونه عارفًا بمن يتقرب إليه والكافر ليس كذلك ورده النووي فقال الصواب الذي عليه المحققون، بل نقل بعضهم فيه الإجماع أن الكافر إذا فعل

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ أفعالاً جميلة على جهة التقرب إلى الله تعالى كصدقة وصلة رحم وإعتاق ونحوها ثم أسلم ومات على الإسلام إن ثواب ذلك يكتب له. ودليله حديث أبي سعيد الخدري عند النسائي والدارقطني وغيرهما، وحديث حكيم بن حزام في الصحيحين أنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرأيت أمورًا كنت أتحنث بها في الجاهلية هل لي فيها من شيء؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أسلمت على ما أسلفت من خير. قال الحافظ: وقد جزم بما جزم به النووي إبراهيم الحربي وابن بطال وغيرهما من القدماء والقرطبي وابن المنير من المتأخرين. وأما دعوى أنه مخالف للقواعد فغير مسلمة لأنه قد يعتد ببعض أفعال الكافر في الدنيا ككفارة الظهار، فإنه لا يلزم إعادتها إذا أسلم وتجزئه. قال ابن المنير: المخالف للقواعد دعوى أنه يكتب له ذلك في حال كفره، وأما أن الله يضيف إلى حسناته في الإسلام ثواب ما كان صدر منه مما كان يظنه خيرًا، فلا مانع منه، كما لو تفضل عليه ابتداء من غير عمل، وكما يتفضل العاجز بثواب ما كان يعمل وهو قادر، فإذا جاز أن يكتب له ثواب ما لم يعمل البتة، جاز أن يكتب له ثواب ما عمله غير موفي الشروط. وقال بن بطال بعد ذكره: حديث أبي سعيد ولله أن يتفضل على عباده بما شاء، ولا اعتراض لأحد عليه، واستدل غيره بقوله - صلى الله عليه وسلم - لما سألته عائشة عن ابن جدعان وما كان يصنعه من الخير هل ينفعه؟ فقال: إنه لم يقل يومًا رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين، فدل على أنه لو قالها بعد أن أسلم نفعه ما عمله في الكفر. قلت: وأول من لم يقل بهذا حديث حكيم بن حزام من وجوه. منها إن معنى قوله: أسلمت على ما أسلفت من خير إنك بفعلك ذلك اكتسبت طباعًا جميلة تنتفع بتلك الطباع في الإسلام بأن تكون تلك العادة معونة لك على فعل الطاعات، لما حصل لك من التدرب على فعلها، فلا تحتاج إلى مجاهدة جديدة، فتثاب بفضل الله عما تقدم بواسطة انتفاعك بذلك بعد إسلامك. ومنها إنك اكتسبت بذلك ثناء جميلاً فهو باق عليك في الإسلام ومنها أنه لا يبعد أن يزاد في حسناته التي يفعلها في الإسلام، ويكثر أجره لما تقدم له من الأفعال الحميدة. وقد جاء أن الكافر إذا كان يفعل خيرًا فإنه يخفف عنه به فلا يبعد أن يزاد به في أجوره. ومنها إنه ببركة ما سبق لك من فعل الخير هديت للإسلام لأن المبادي عنوان الغايات. ومنها إنك بتلك الأفعال رزقت الرزق الواسع. قال بن الجوزي: قيل إن النبي عر ورى عن جوابه فإنه سأل هل لي فيها من أجر فقال أسلمت على ما سلف من خير والعتق فعل الخير وكأنه أراد أنك فعلت الخير والخير يمدح فاعله ويجازي عليه في الدنيا، فقد روى مسلم من حديث أنس مرفوعًا إن الكافر يثاب في الدنيا بالرزق على ما يفعله من حسنة، ولا يخفى عليك إن كل ما تأولوا به حديث حكيم بن حزام تكلف مخالف لظاهره فالقول الراجح المعول عليه هو ما ذهب إليه النووي ومن وافقه والله أعلم.

2397- (11) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله كتب الحسنات والسيئات ـــــــــــــــــــــــــــــ 2397- قوله (وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) هكذا عند أحمد (ج 1: ص361) وفي الصحيحين عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولأحمد (ج1: ص310) عن ابن عباس يرويه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الحافظ: لم أر في شيء من الطرق التصريح بسماع ابن عباس له من النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى. ووقع في الصحيحين والمسند بعد هذا ((فيما يروي عن ربه عز وجل)) أي الحديث من الأحاديث الإلهية، ثم هو محتمل أن يكون مما تلقاه - صلى الله عليه وسلم - عن ربه بلا واسطة، ويحتمل أن يكون مما تلقاه بواسطة الملك. قال الحافظ: وهو الراجح وقال الكرماني: هذا لبيان أنه من الأحاديث القدسية أو لبيان ما فيه من الإسناد الصريح إلى الله تعالى، حيث قال إن الله كتب. ويحتمل أن يكون لبيان الواقع، وليس فيه إن غيره ليس كذلك، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي بل فيه إن غيره كذلك، إذ قال فيما يرويه أي في جملة ما يرويه أنه عز وجل إلخ (إن الله كتب الحسنات والسيئات) في البخاري فيما يروي عن ربه عز وجل قال: قال إن الله كتب إلخ قال الحافط: قوله ((إن الله كتب إلخ)) يحتمل أن يكون هذا من قول الله تعالى فيكون التقدير (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال الله: إن الله كتب، ويحتمل أن يكون من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - يحكيه عن فعل الله تعالى أي والتقدير. قال ابن عباس قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله كتب، ووقع عند أحمد (ج1: ص279) بلفظ عن ابن عباس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما روى عن ربه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن ربكم تبارك وتعالى رحيم من هم بحسنة. وللبخاري في التوحيد عن أبي هريرة بلفظ: عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يقول الله عز وجل إذا أراد عبدي أن يعمل. وأخرجه مسلم بنجوه. وفي رواية له عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال: الله عز وجل إذا هم عبدي. وقوله ((كتب إلخ)) أي أثبتهما في الأزل في علمه على وفق الواقع أو كتب بمعنى أمر الملائكة بكتبهما في اللوح المحفوظ أو كتب الحسنات أي قضاها وقدرها وجعلها حسنة وكذلك السيئة قدرها وجعلها سيئة أو أمر الحفظ بكتابتهما ليوازنهما أو صحفهما يوم القيامة. وفي الصحيحين والمسند (ج1: ص361) بعد هذا ((ثم بين ذلك)) أي ثم فصل الله ذلك الذي أجمله في قوله كتب الحسنات والسيئات بقوله ((فمن هم)) ففاعل بين هو الله تعالى والمجمل قوله كتب الحسنات والسيئات وقوله فمن هم بيان ذلك وشرحه بفاء الفصيحة، أو المعنى ثم بين الله للكتبة من الملائكة ذلك التقدير حتى عرفوه واستغنوا به عن استفسار في كل وقت كيف يكتبونه لكونه أمرًا مفروغًا عنه، أو المراد بين ذلك وفصله في التنزيل، ويؤيد هذا أنه وقع في الترغيب (ج1: ص25) للمنذري بلفظ ((ثم بين ذلك في الكتاب)) وقيل: فاعل بين هو النبي - صلى الله عليه وسلم - أي ثم فصل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك الإجمال بما

فمن هم بحسنة فلم يعملها، كتبها الله له عنده حسنة كاملة ـــــــــــــــــــــــــــــ بعده، فيكون من كلام الراوي، وإليه يشير صنيع البغوي والمصنف حيث تركه البغوي في المصابيح وتبعه المصنف في المشكاة، قيل وذكر اسم الإشارة باعتبار المذكور (فمن هم) قال الطيبي: الفاء للتفصيل لأن قوله كتب الحسنات مجمل لم يعرف منه كيفية الكتابة والهم ترجيح قصد الفعل، فقول هممت بكذا أي قصدته بهمتي وهو فوق مجرد خطور الشيء بالقلب، وقوله: ((من هم)) كذا وقع في رواية من حديث أبي هريرة عند مسلم، وللبخاري في التوحيد إذا أراد. وأخرجها مسلم بلفظ إذا هم. فهما بمعنى واحد (بحسنة) أي من قصد بها وصمم على فعلها يعني عقد عزمه عليها فقد ورد ما يدل على أن مطلق الهم والإرادة لا يكفي، فعند أحمد (ج4: ص345) وصححه ابن حبان، والحاكم من حديث خريم بن فاتك رفعه من هم بحسنة، فعلم الله إنه قد أشعر بها قلبه وحرص عليها، وقد تمسك به ابن حبان فقال بعد إيراد حديث الباب في صحيحه: المراد بالهم هنا العزم، ثم قال ويحتمل أن الله يكتب الحسنة بمجرد الهم بها وإن لم يعزم عليها زيادة في الفضل (فلم يعملها) بفتح الميم أي فلم يعمل الحسنة التي هم بها والمراد نفي عمل الجوارح (كتبها الله) أي قدرها وقضاها أو أمر الملائكة الحفظة بكتابتها بدليل حديث أبي هريرة عند البخاري في التوحيد بلفظ: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها. وأخرجه مسلم بنحوه. وفيه دليل على أن الملك يطلع على ما في قلب الآدمي إما بإطلاع الله إياه أو بأن يخلق له علمًا يدرك به ذلك، ويؤيد الأول ما أخرجه ابن أبي الدنيا عن أبي عمران الجوني، قال ينادى الملك: اكتب لفلان كذا وكذا، فيقول يا رب إنه لم يعمله. فيقول: إنه نواه. وقيل بل يجد الملك للهم بالسيئة رائحة خبيثة، وبالحسنة رائحة طيبة. وأخرج ذلك الطبري عن أبي معشر المدني وجاء مثله عن سفيان بن عيينة، ورأيت في شرح مغلطائي أنه ورد مرفوعًا قاله الحافظ (له) أي للذي هم بها (عنده) أي عند الله، وفيه إشارة إلى الشرف (حسنة) مفعول ثان باعتبار تضمين معنى التصيير أو حال موطئة، وذلك لأن العمل بالنية، ونية المؤمن خير من عمله فإنه يثاب على النية بدون العمل ولا يثاب على العمل بدون النية، لكن لا يضاعف ثواب الحسنة بالنية المجردة كذا في المرقاة. وقال الطوفي: إنما كتبت الحسنة بمجرد الإرادة. لأن إرادة الخير سبب إلى العمل وإرادة الخير خير، لأن إرادة الخير من عمل القلب. واستشكل بأن عمل القلب إذا اعتبر في حصول الحسنة فكيف لم يعتبر في حصول السيئة؟ وأجيب بأن ترك عمل السيئة التي وقع الهم بها يكفرها لأنه قد نسخ قصده السيئة وخالف هواه (كاملة) أي لا نقص فيها وإن نشأت عن مجرد الهم. ففيه إشارة إلى رفع توهم نقصها لكونها نشأت عن الهم المجرد، وإشارة إلى دفع كونها ليست كحسنة الفعل لكن الفعل يزيد بالمضاعفة وأقلها عشر. قال النووي: أشار بقوله عنده إلى مزيد الاعتناء به وبقوله كاملة إلى تعظيم الحسنة وتأكيد أمرها، فالمراد بالكمال عظم القدر لا التضعيف إلى العشرة كما زعم بعضهم أن التعبير بكاملة يدل على أنها تضاعف إلى العشرة، لأن ذلك هو الكمال لأنه يلزم منه مساواة من نوي الخير بمن فعله

فإن هم بها فعملها، كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة. ومن هم بسيئة فلم يعملها، كتبها الله له عند حسنة كاملة. ـــــــــــــــــــــــــــــ والتضعيف مختص بالعامل. قال تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (الأنعام: 160) والمجيء بها بالجوارح. وأما الناوي فإنما ورد أنه يكتب له حسنة، ومعناه يكتب له مثل ثواب الحسنة، والتضعيف قدر زائد على أصل الحسنة. قال الحافظ: ظاهر الحديث حصول الحسنة بمجرد الترك سواء كان ذلك لمانع أو لا، ويتجه أن يقال يتفاوت عظم الحسنة بحسب المانع، فإن كان خارجيًا مع بقاء قصد الذي هم بفعل الحسنة فهي عظيمة القدر، ولاسيما إن قارنها ندم على تفويتها واستمرت النية على فيها عند القدرة، وإن كان الترك من الذي هم من قبل نفسه فهي دون ذلك إلا أن قارنها قصد الإعراض عنها جملة. والرغبة عن فعلها، ولاسيما إن وقع العمل في عكسها كأن يريد أن يتصدق بدرهم مثلاً فصرفه بعينه في معصية، فالذي يظهر في الأخير أن لا يكتب له حسنة أصلاً وأما ما قبله فعلى الاحتمال - انتهى. (فان هم بها) أي بالحسنة (فعملها) بكسر الميم يعنى جمع بين النية والعمل (كتبها الله له عنده) اعتناء به وتشريفًا له (عشر حسنات) قال تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (الأنعام: 160) وهذا أقل ما وعد به من الأضعاف وقوله فإن هم بها فعملها كتبها الله عشر حسنات يؤخذ منه رفع توهم إن حسنة الإرادة تضاف إلى عشرة التضعيف، فتكون الجملة إحدى عشرة، فإن هذا خلاف ظاهر هذا الحديث. (إلى سبع مائة ضعف) بكسر الضاد أي مثل (إلى أضعاف كثيرة) بحسب الزيادة في الإخلاص وصدق العزم وحضور القلب وتعدي النفع كالصدقة الجارية والعلم النافع والسنة الحسنة وشرف العمل ونحو ذلك (ومن هم بسيئة فلم يعملها) أي مراقبة لله وخوفًا منه مع القدرة عليها لما في حديث أبي هريرة عند البخاري في التوحيد، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة. ولمسلم وإن تركها فاكتبوها له حسنة إنما تركها من جرأي. بفتح الجيم وتشديد الراء وبعد الألف ياء المتكلم، وهي بمعنى من أجلي (كتبها الله له عنده حسنة كاملة) قد تقدم أن المراد بالكمال عظم القدر لا التضعيف إلى العشرة، وظاهر إطلاق هذا الحديث كتابة الحسنة بمجرد الترك، لكنه محمول على ما قيد به في حديث أبي هريرة فهو مخصوص لمن هم بسيئة فتركها لوجه الله تعالى. قال الحافظ: ويحتمل أن تكون حسنة من ترك بغير استحضار ما قيد به دون حسنة الآخر، لما تقدم أن ترك المعصية كف عن الشر والكف عن الشر خير، ويحتمل أيضًا أن يكتب لمن هم بالمعصية ثم تركها حسنة مجردة، فإن تركها من مخافة ربه سبحانه كتبت حسنة مضاعفة. وقال الخطابي: محل كتابة الحسنة على الترك، أن يكون التارك قد قدر على الفعل ثم تركه، لأن الإنسان لا يسمى تاركًا إلا مع القدرة، ويدخل فيه من حال بينه وبين حرصه على الفعل مانع كان يمشي إلى امرأة ليزني بها مثلاً، فيجد الباب

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ مغلقًا ويتعسر فتحه ومثله من تمكن من الزنا مثلاً فلم ينتشر أو طرقه ما يخاف من أذاه عاجلاً - انتهى. اعلم أنهم اختلفوا فيمن هم بمعصية أو عزم عليها بقلبه وصمم على فعلها هل يأثم في عزمه وتصميمه أم لا؟ قال المازري: ذهب ابن الباقلاني يعني ومن تبعه إلى أن من عزم على المعصية بقلبه ووطن عليها نفسه أنه يأثم، وحمل الأحاديث الواردة في العفو عمن هم بسيئة ولم يعملها على الخاطر الذي يمر بالقلب ولا يستقر. قال المارزي: وخالفه كثير من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين ونقل ذلك عن الشافعي، ويؤيده قوله في حديث أبي هريرة في ما أخرجه مسلم من طريق همام عنه بلفظ: فأنا أغفر له ما لم يعملها، فإن الظاهر إن المراد بالعمل هنا عمل الجارحة بالمعصية المهموم به وتعقبه عياض بأن عامة السلف وأهل العلم من الفقهاء المحدثين على ما قال ابن الباقلاني لاتفاقهم على المؤاخذة بأعمال القلوب، لكنهم قالوا إن العزم على السيئة يكتب سيئة مجردة لا السيئة التي هم أن يعملها لكونه لم يعملها وقطعه عنها قاطع غير خوف الله تعالى والإنابة كمن يأمر بتحصيل معصية، ثم لا يفعلها بعد حصولها فإنه يأثم بالأمر المذكور لا بالمعصية. قال الحافظ: ومما يدل على ذلك حديث: إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. قيل: هذا القاتل فما بال المقتول قال إنه كان حريصًا على قتل صاحبه. والذي يظهر أنه من هذا الجنس وهو أنه يعاقب على عزمه بمقدار ما يستحقه ولا يعاقب عقاب من باشر القتل حشاء وهنا قسم آخر وهو من فعل المعصية ولم يتب منها، ثم هم أن يعود إليها فإنه يعاقب على الإصرار كما جزم به بن المبارك وغيره في تفسير قوله تعالى: {وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ} . ويؤيده أن الإصرار معصية اتفاقًا فمن عزم على المعصية وصمم عليها كتبت عليه سيئة فإذا عملها كتبت عليه معصية ثانية. قال عياض: فإن تركها خشية لله تعالى كتبت حسنة كما في الحديث، إنما تركها من جرأي فصار تركه لخوف الله تعالى ومجاهدته نفسه الأمارة بالسوء في ذلك وعصيانه هواه حسنة. فأما الهم الذي لا يكتب فهي الخواطر التي لا توطن النفس عليها ولا يصحبها عقد ولا نية ولا عزم. قال النووي: وهذا ظاهر حسن لا مزيد عليه، وقد تظاهرت نصوص الشريعة بالمؤاخذة على عزم القلب المستقر كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} (النور: 19) الآية وقوله: {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (الحجرات: 12) وغير ذلك قال الحافظ: وأجيب عن القول الأول بأن المؤاخذة على أعمال القلوب المستقلة بالمعصية، لا تستلزم المؤاخذة على عمل القلب بقصد معصية الجارحة إذا لم يعمل المقصود للفرق بين ما هو بالقصد وما هو بالوسيلة. وقسم بعضهم ما يقع في النفس أقسامًا يظهر منه. الجواب عن الثاني أضعفها أن يخطر له ثم يذهب في الحال وهذا من الوسوسة وهو معفو عنها وهو دون التردد، وفوقه أن يتردد فيه فيهم به ثم ينفر عنه فيتركه ثم يهم به ثم يترك كذلك ولا يستمر

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ على قصده، وهذا هو التردد فيعفى عنه أيضًا، وفوقه أن يميل إليه ولا ينفر عنه لكن لا يصمم على فعله وهذا هو الهم فيعفى عنه أيضًا، وفوقه أن يميل إليه ولا ينفر منه بل يصمم على فعله فهذا هو العزم، وهو منتهى الهم (وخمس بعضهم القسمة كما سبق في شرح حديث رقم 63) ثم العزم على القسمين. القسم الأول: أن يكون من أعمال القلوب صرفًا كالشك في الواحدانية أو النبوة أو البعث فهذا كفر ويعاقب عليه جزمًا ودونه المعصية التي لا تصل إلى الكفر كمن يحب ما يبغض الله ويبغض ما يحبه الله ويحب للمسلم الأذى بغير موجب لذلك، فهذا يأثم ويلتحق به الكبر والعجب والبغي والمكر والحسد، وفي بعض هذا خلاف فعن الحسن البصري إن سوء الظن بالمسلم حسده معفو عنه، وحملوه على ما يقع في النفس مما لا يقدر على دفعه لكن من يقع له ذلك مأمور بمجاهدته النفس على تركه. والقسم الثاني: أن يكون من أعمال الجوارح كالزنا والسرقة فهو الذي وقع فيه النزاع. فذهبت طائفة إلى عدم المؤاخذة بذلك أصلاً، ونقل عن نص الشافعي، ويؤيده ما وقع في حديث خريم بن فاتك المنبه عليه قبل فإنه حيث ذكر الهم بالحسنة. قال: علم الله أنه أشعرها قلبه وحرص عليها وحيث ذكر الهم بالسيئة لم يقيد بشيء بل قال: فيه ومن هم بسيئة لم تكتب عليه، والمقام مقام الفضل فلا يليق التحجير فيه. وذهب كثير من العلماء إلى المؤاخذة بالعزم المصمم، وسأل ابن المبارك سفيان الثوري أيؤاخذ العبد بما يهم به قال: إذا جزم بذلك. واستدل كثير منهم بقوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} (البقرة: 225) وحملوا حديث أبي هريرة الصحيح المرفوع إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تتكلم على الخطرات كما تقدم. ثم افترق هؤلاء فقالت طائفة يعاقب عليه صاحبه في الدنيا خاصة بنحو الهم والغم، وقالت طائفة بل يعاقب عليه يوم القيامة لكن بالعتاب لا بالعذاب، وهذا قول ابن جريج والربيع بن أنس وطائفة ونسب ذلك إلى ابن عباس أيضًا، واستدلوا بحديث النجوى المروي في باب ستر المؤمن على نفسه من كتاب الأدب واستثنى جماعة ممن ذهب إلى عدم مؤاخذة من وقع منه الهم بالمعصية، ما يقع في الحرام المكي ولو لم يصمم لقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الحج: 25) لأن الحرم يجب اعتقاد تعظيمه فمن هم بالمعصية فيه خالف الواجب بانتهاك حرمته وانتهاك حرمة الحرم بالمعصية يستلزم انتهاك حرمة الله لأن تعظيم الحرم من تعظيم الله فصارت المعصية في الحرم أشد من المعصية في غيره وإن اشترك الجميع في ترك تعظيم الله تعالى، نعم من هم بالمعصية قاصدًا الاستخفاف بالحرم عصى، ومن هم بمعصية الله قاصدًا الاستخفاف بالله كفر، وإنما المعفو عنه الهم بالمعصية مع الذهول عن قصد الاستخفاف. وأجاب من لم يقل بالمؤاخذة بالعزم عن

فإن هو همَّ بها فعملها، كتبها الله له سيئةً واحدةً. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ حديث الملتقيين بسيفيهما بأنه يتعلق بفعل خارجي أي يتعلق بالملتقيين عزم كل منهما على قتل صاحبه واقترن بعزمه فعل بعض ما عزم عليه وهو شهر السلاح وإشارته به إلى الآخرة، فهذا الفعل يؤاخذ به سواء حصل القتل أم لا، ولا يلزم من قوله فالقاتل والمقتول في النار أن يكونا في درجة واحدة من العذاب بالاتفاق - انتهى كلام الحافظ. باختصار يسير (فإن هو) أي الشأن أو مريد العمل (هم بها) أي بالسيئة (فعملها) أي جمع بين القصد والعمل (كتبها الله له سيئة واحدة) في حديث أبي هريرة عند الشيخين فاكتبوها له بمثلها. ولمسلم من حديث أبي ذر: فجزاءه بمثلها أو اغفر له. وله في آخر حديث ابن عباس: أو محاها بالفضل أو بالتوبة أو بالاستغفار أو بعمل الحسنة التي تكفر السيئة. والأول أشبه بظاهر حديث أبي ذر ويستفاد من التأكيد بقوله واحدة إن السيئة لا تضاعف كما تضاعف الحسنة، وهو على وفق قوله تعالى: {فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} (غافر: 40) قال ابن عبد السلام في أماليه: فائدة التأكيد دفع توهم من يظن أنه إذا عمل السيئة كتبت عليه سيئة العمل، وأضيفت إليها سيئة الهم وليس كذلك، إنما يكتب عليه سيئة واحدة. وقد استثنى بعضهم وقوع المعصية في الحرم المكي والجمهور على التعميم في الأزمنة والأمكنة، ولكن قد تتفاوت بالعظم ولا يرد على ذلك قوله تعالى: {مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} (الأحزاب: 30) لأن ذلك ورد تعظيمًا لحق النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأن وقوع ذلك من نساءه يقتضي أمرًا زائدًا على الفاحشة وهو أذى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وزاد مسلم بعد قوله أو محاها الله ((ولا يهلك على الله إلا هالك)) أي لا يهلك مع سعة هذه الرحمة إلا من حقت عليه الكلمة، أي من أصر على التجرؤ على السيئة عزمًا وقولاً وفعلاً، وأعرض عن الحسنات همًا وقولاً وفعلاً. قال ابن بطال: في هذا الحديث بيان فضل الله العظيم على هذه الأمة، لأنه لولا ذلك كاد لا يدخل أحد الجنة لأن عمل العباد للسيئات أكثر من عملهم الحسنات. ويؤيد ما دل عليه هذا الحديث من الإثابة على الهم بالحسنة وعدم المؤاخذة على الهم بالسيئة قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (البقرة: 286) إذ ذكر في السوء الافتعال الذي يدل على المعالجة والتكلف فيه بخلاف الحسنة وفيه: أن الله تعالى بفضله وكرمه جعل العدل في السيئة، والفضل في الحسنة فضاعف الحسنة ولم يضاعف السيئة، بل أضاف فيها إلى العدل الفصل، فأدارها بين العقوبة والعفو بقوله كتبت له واحدة أو يمحوها وبقوله فجزاءه بمثلها أو أغفر. (متفق عليه) أخرجه البخاري في باب من هم بحسنة أو سيئة من كتاب الرقاق، ومسلم في الإيمان، وأخرجه أيضًا أحمد (ج1: ص227 - 279 - 310 - 361) والنسائي في الكبرى، وفي الباب عن أبي هريرة عند الشيخين وغيرهما، وعن أبي ذر عند مسلم وعن أنس عند أبي يعلى.

(الفصل الثاني)

(الفصل الثاني) 2398- (12) عن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات، كمثل رجل كانت عليه درع ضيقة قد خنقته، ثم عمل حسنة فانكفت حلقة ثم عمل أخرى فانفكت أخرى حتى تخرج إلى الأرض.رواه في ((شرح السنة)) . 2399- (13) وعن أبي الدرداء. أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم: يقص على المنبر وهو يقول ـــــــــــــــــــــــــــــ 2398- قوله: (إن مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات) أي صفته (كمثل رجل) قيد به لمناسبته بالدرع (كانت عليه درع) بكسر الدال المهملة، وهي قميص من زر والحديد يلبس وقاية من سلاح العدو مؤنث، وقد يذكر بخلاف درع المرأة أي قميصها فإنه مذكر (قد خنقته) أي عصرت حلقه ولبته لضيقها (ثم عمل حسنة) أي أي حسنة كانت والتنوين للتنكير (فانفكت) أي انحلت (حلقة) بسكون اللام أي من حلق تلك الدرع (ثم عمل) أخرى أي حسنة أخرى (فانفكت أخرى) أي حلقة من الحلق وهكذا تنفك واحدة بواحدة بعد أخرى (حتى تخرج إلى الأرض) أي حتى تسقط تلك الدرع. قال الطيبي: أي حتى تنحل وتنفك بالكلية ويخرج صاحبها من ضيقها فقوله: تخرج إلى الأرض كناية عن سقوطها - انتهى. والمقصود من الحديث أن عمل السيئات يضيق صدر عاملها، ويحيره في أمره ويعسره عليه فلا تيسر له أموره ويسود قلبه ويضيق عليه رزقه ويبغضه إلى الناس، وإذا عمل الحسنات تذهب حسناته سيئاته كما قال الله عز وجل: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (هود: 114) فإذا زالت سيئاته انشرح صدره وتوسع رزقه وطاب قلبه وتيسر له أموره وصار محبوبًا في قلوب الناس فالحديث تمثيل وبيان لقوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (رواه) أي البغوي (في شرح السنة) أي بإسناده، وأخرجه أيضًا أحمد (ج4: ص145) من رواية عبد الله بن المبارك. قال أنا ابن لهيعة قال حدثني يزيد بن أبي حبيب قال: حدثا أبو الخير، أنه سمع عقبة بن عامر وابن لهيعة فيه كلام معروف، لكن رواية ابن المبارك عنه حسن. قال عبد الغني بن سعيد الأزدي، إذا روى العبادلة عن ابن لهيعة فهو صحيح ابن المبارك وابن وهب والمقري، وذكر الساجي وغيره مثله كذا في التهذيب (ج5: ص 378) وقال في التقريب: إنه صدوق خلط بعد احتراق كتبه، ورواية ابن المبارك وابن وهب عنه أعدل من غيرهما، وله في مسلم بعض شيء مقرون والحديث ذكره المنذري في الترغيب (ج4 ص 25) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (ج10: ص 201، 202) وقالا: رواه أحمد والطبراني وأحد أسنادي الطبراني رجاله رجال الصحيح. 2399- قوله (يقص) أي يحدث الناس ويعظهم ويذكرهم (ويقول) أي والحال أنه يقول ويحتمل أن

{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} قلت: وإن زنى وإن سرق؟ يا رسول الله! فقال الثانية: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} ـــــــــــــــــــــــــــــ يكون للعطف على يقص (ولمن خاف) أي لكل فرد من أفراد الخائفين أو لمجموعهم يعني الكلام على سبيل التوزيع فإحدى الجنتين للخائف الإنسي، والأخرى للخاف الجني، فكل خائف ليس له إلا جنة واحدة والأول هو المعتمد (مقام ربه) مقامه سبحانه هو الموقف الذي يقف فيه العباد للحساب أو قيام الخائف عند ربه للحساب يعني ولمن خاف من القيام بحضرة ربه يوم القيامة، قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (المطففين: 6) وقيل: المعنى خاف مقام ربه عليه وهو إشرافه على أحواله وإطلاعه على أفعاله وأقواله من قام عليه إذ راقبه، كما في قوله: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} ، ومحصل ذلك احتمالات ثلاث في تفسير المقام. أولها: إنه اسم مكان. والثاني: أنه مصدر تحته احتمالان إما بمعنى قيام الخلائق بين يدي الله أو بمعنى قيام الله على الخلائق، وأضاف إلى الرب تفخيمًا وتهويلاً. وقيل: أي لمن خاف ربه مقام مقحم للمبالغة، كقوله: أنفيت عنه مقام الذئب. قال مجاهد والنخعي: هو الرجل الذي يهم بالمعصية فيذكر الله فيدعها من خوفه، وفيه إشارة إلى سبب استحقاق الجنتين في نفس الأمر، وهو أنه ليس مجرد الخوف بل الخوف الناشئ عنه ترك المعاصي. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في هذه الآية قال: وعد الله المؤمنين الذين خافوا مقامه فأدوا فرائضه الجنة، وأخرج ابن جرير عنه أيضًا يقول خاف ثم أتقى والخائف من ركب طاعة الله وترك معصيته. (جنتان) أي جنتان ذواتا أفنان إلى آخر صفاتهما المذكورة في القرآن المبينة أنهما أعلى من الجنتين المذكورتين بعدهما من الجنان ومن ثمة قال: {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} أي في المرتبة والنعيم والشرف، واختلف في الجنتين أولاً، فقيل: جنة لفعل الطاعة وأخرى لترك المعصية. وقيل: جنة للعقيدة وأخرى للعمل. وقيد جنة بالعمل، وجنة بالتفضيل. وقيل: غير ذلك، والأظهر أن يقال: جنتان من ذهب آنيتهما وقصورهما وحليهما وما فيهما ومن دونهما جنتان أي من فضة كذلك وإليه ذهب ابن كثير حيث قال الصحيح إن هذه الآية عامة كما قاله ابن عباس وغيره بقول الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} (النازعات: 40) بين يدي الله عز وجل يوم القيامة {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} (النازعات 40) ولم يطغ ولا آثر الحياة الدنيا، وعلم أن الآخرة خير وأبقى، فأدى فرائض الله واجتنب محارمه فله يوم القيامة عند ربه جنتان، كما روى البخاري (بسنده) عن أبي موسى الأشعري مرفوعًا: جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما - الحديث. وقال في فتح القدير (ج5: ص141) أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} (الرحمن: 46) وفي قوله: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} (الرحمن: 62) قال: جنتان من ذهب للمقربين، وجنتان من وِرق لأصحاب اليمين. وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد وابن المنذر، والحاكم

فقلت الثانية: وإن زنى وإن سرق؟ يا رسول الله! فقال الثالثة: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} فقلت الثالثة: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله! قال: وإن رغم أنف أبي الدرداء. رواه أحمد. 2400- (14) وعن عامر الرام، ـــــــــــــــــــــــــــــ وصححه ابن مردويه والبيهقي في البعث عن أبي موسى في الآية. قال: جنتان من ذهب للسابقين، وجنتان من فضة للتابعين. (قلت: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله) إن وصلية. أي ولو زنى وسرق الخائف له جنتان. قال ابن حجر: إن سبق منه قبل هذا الخوف نحو الزنا والسرقة ويصح على بعد وإن فعلهما مع هذا الخوف، ووجه بعده اجتماع هذا الخوف وفعل ذينك وأمثالها - انتهى. وقيل: المعنى من خاف الله في معصيته فتركها يعطيه الله بستانين في الجنة وإن زنا وإن سرق في وقت وتاب لم يبطل زناه وسرقته ثواب خوفه من الله تعالى في معصية أخرى غير تلك الزنية والسرقة. (فقال الثانية) أي في المرة الثانية زيادة في التأكيد (وإن رغم أنف أبي الدرداء) بكسر الغين المعجمة أي لصق بالرغام وهو التراب ذلاً وهوانًا. قال القارئ: ظاهر الحديث إن من على عمومه، والمراد بالخائف المؤمن فكيف يكون نظير حديث رواه الشيخان عن أبي ذر مرفوعًا ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة. قلت: وإن زنى وإن سرق. قال: وإن زنى وإن سرق، ثم قال في الثالثة أو الرابعة: على رغم أنف أبي ذر - الحديث. كما سبق في كتاب الإيمان - انتهى. قلت: ونحوه ما رواه أحمد (ج6: ص442) عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له دخل الجنة. قال: قلت: وإن زنى وإن سرق، قال: وإن زنى وإن سرق. ثم قال في الثالثة: على رغم أنف أبي الدرداء. قال: فخرجت لأنادي بها في الناس، قال: فلقيني عمر فقال: ارجع فإن الناس إن علموا بهذه اتكلوا عليها، فرجعت فأخبرته - صلى الله عليه وسلم - فقال: صدق عمر. (رواه أحمد) لم أجده في مسنده في مسند أبي الدرداء. ويمكن أن يكون ذكره في غير مظنته، والحديث ذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره ولم يعز لأحمد بل عزاه لابن جرير، والنسائي، وقال وقد روي موقوفًا على أبي الدرداء وروي عنه أنه قال: إن من خاف مقام ربه لم يزن ولم يسرق. نعم عزا الحديث الهيثمي في مجمع الزوائد (ج7: ص118) لأحمد والطبراني، وقال: ورجال أحمد رجال الصحيح وذكره الشوكاني في فتح القدير (ج5: ص140) وعزاه لابن أبي شيبة، وابن منيع، وأحمد، والحاكم والنسائي، والبزار، وأبي يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والطبراني. 2400- قوله (وعن عامر الرام) أي الرامي، فحذف الياء تخفيفًا كما في المتعال، وهو أخو الخضر بضم الخاء وسكون الضاد المعجمتين المحاربي من ولد مالك بن مطرف بن خلف بن محارب صحابي له حديث واحد. قال في التهذيب: عامر الرام. وقيل: الرامي أخو الخضر بن محارب عداده في الصحابة، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -

قال: بينا نحن عنده، يعني عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذا أقبل رجل عليه كساء في يده شيء قد التفت عليه، فقال: يا رسول الله! مررت بغيضة شجر، فسمعت فيها أصوات فراخ طائر، فأخذتهن فوضعتهن في كسائي فجاءت أمهن فاستدارت على رأسي فكشفت لها عنهن، فوقعت عليهن فلففتهن بكسائي، فهن أولاء معي قال: ضعهن فوضعتهن وأبت أمهن إلا لزومهن. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتعجبون لرحم أم الأفراخ فراخها، فوا لذي بعثني بالحق: لله أرحم بعباده من أم الأفراخ بفراخها إرجع بهن حتى تضعهن من حيث أخذتهن ـــــــــــــــــــــــــــــ : إن المؤمن إذا ابتلى ثم عافاه الله كان كفارة لذنوبه - الحديث. قاله محمد بن إسحاق عن رجل من أهل الشام يقال له: أبو منظور عن عمه عن عامر به، وقال في الإصابة: كان عامر راميًا حسن الرمي فلذلك قيل له الرامي وكان شاعرًا وفيه يقول الشماخ: فحلأها عن ذي الاراكة عامر ... أخو الخضر يرمي حيث تردى الهواجر وكان يقال لولد مالك الخضر لأنه كان شديد الأدمة، وقال في أسد الغابة: قيل لمالك وأولاده الخضر. لأنه كان آدم وكان عامر أرمى العرب (يعني عند النبي - صلى الله عليه وسلم -) تفسير من الرواي عن الرامي قاله القاري. والظاهر إن هذا التفسير من البغوي، إذ وقع كذلك في المصابيح (كساء) بكسر الكاف (قد التف عليه) أي لف الرجل كساءه على ذلك الشيء (فقال) أي الرجل (مررت بغيضة شجر) الغيضة بفتح الغين الأجمة ومجتمع الشجر وبالفارسية بيشه وجنكل. والأجمة الشجرة الكثيرة الملتف، وبالفارسية نيستان وأنبوه درختان. والشجر اسم الجنس يقع على القليل والكثير وأضاف الغيضة إليه لمزيد البيان (فسمعت فيها) أي في الغيضة (أصوات فِراخ طائر) بكسر الفاء جمع فرخ هو ولد الطائر (فأخذتهن) أي الفراخ (فاستدارت) أي دارت (فكشفت لها) أي لأم الفراخ (عنهن) أي عن الفراخ يعني رفعت الكساء ونحيته عن وجه الفراخ لأجل أمهن حتى رأتهن (فوقعت) أي سقطت أم الفراخ (فلففتهن) أي جميعهن (فهن) أي هن وأمهن (أولاء) اسم إشارة (معي) أي تحت كسائي. (فقال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي بعض النسخ قال: أي بدون الفاء كما في أبي داود (فوضعتهن) أي وكشفت عنهن وعن أمهن (وأبت أمهن) أي امتنعت (إلا لزومهن) أي عدم مفارقتهن استثناء مفرغ لما في أبت من معنى النفي، أي ما فارقتهن بعد كشف الكساء بل ثبتت معهن من غاية رحمتها بهن (أتعجبون لرحم أم الأفراخ) أي لشفقتها ورحمتها، والرحم بالضم وبضمتين مصدر كالرحمة وهو التعطف والشفقة (فراخها) منصوب على المفعولية (ارجع بهن حتى تضعهن من حيث أخذتهن)

(الفصل الثالث)

وأمهن معهن فرجع بهن. رواه أبو داود. (الفصل الثالث) 2401- (15) عن عبد الله بن عمر، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته، فمر بقوم، فقال: من القوم؟ قالوا: نحن المسلمون وامرأة تحصب بقدرها، ـــــــــــــــــــــــــــــ من بمعنى في نحو قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ} (الجمعة: 9) وقيل: إنها زائدة على مذهب الأخفش (وأمهن معهن) جملة حالية (فرجع) أي الرجل (بهن) أي بالفراخ من مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى موضعهن فوضعهن فيه مع أمهن لألفتهن بمكانهن (رواه أبو داود) في أول الجنائز، وأخرجه أيضًا أحمد كما في الإصابة كلاهما من طريق محمد بن إسحاق عن أبي منظور عن عمه عن عامر الرامي. قال: إنا لببلادنا إذ رفعت لنا رايات وألوية، فقلت: ما هذا؟ قالوا: هذا لواء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتيته وهو تحت شجرة قد بسط له كساء وهو جالس عليه، وقد اجتمع له أصحابه فذكر الحديث في ثواب الأسقام، ثم قال: فبينا نحن عنده إذا قبل رجل عليه كساء وفي يده شيء إلخ، ورواه أيضًا ابن أبي شيبة، وابن أبي خيثمة، وابن السكن. وقد سكت عليه أبو داود ثم المنذري وفي سنده كما ترى أبو منظور عن عمه وهما مجهولان أبو منظور الشامي، قال في التقريب والخلاصة أنه مجهول. وقال البخاري: أبو منظور لا يعرف إلا بهذا، وعم أبي منظور لم أقف على حاله ولم أر له ترجمة في كتب الرجال الموجودة عندي. وقال في التقريب في ترجمة عامر: صحابي، له حديث يروى بإسناد مجهول. وقال ابن السكن: روي عنه حديث واحد فيه نظر. وقال المنذري في الترغيب: بعد عزوه لأبي داود في إسناده راو لم يسم. 2401- قوله (فقال من: القوم قالوا نحن المسلمون) كأنهم توهموا أو خافوا إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظنهم غير مسلمين. قال ابن حجر تبعًا للطيبي: كان من الظاهر أن يقال في الجواب: نحن مضريون أو قرشيون أو طائيون فعدلوا عن الظاهر، وعرفوا الخبر حصرًا أي نحن قوم لا نتجاوز الإسلام توهمًا إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظن أنهم غير مسلمين - انتهى. قال القاري: وهذا تكلف وقال قوله: من القوم أي أنتم أوهم من الأعداء الكافرين أو الأحباء المسلمين. (وامرأة) أي والحال إن امرأة معهم (تحصب) بالحاء والصاد المهملتين كتضرب كذا وقع في بعض نسخ المشكاة من طبعات الهند، وهكذا وقع في سنن ابن ماجة (بقدرها) بكسر القاف أي ترمي الحصب والحطب تحت قدرها، وفي بعض طبعات الهند تحضب بالحاء المهملة والضاد

ومعها ابن لها فإذا ارتفع وهج تنحت به فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: أنت رسول الله؟ قال: نعم. قالت: بأبي أنت وأمي، أليس الله أرحم الراحمين قال: بلى قالت: أليس الله أرحم بعبادة من الأم بولدها؟ قال: بلى. قالت: إن الأم لا تلقي ولدها في النار فأكب رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي ثم رفع رأسه إليها فقال: إن الله لا يعذب من عباده إلا المارد المتمرد الذي يتمرد على الله وأبى أن يقوا: لا إله إلا الله ـــــــــــــــــــــــــــــ المعجمة المكسورة، وهكذا في نسخة القاري وفي نسخة التي على حاشية المرقاة من حضب النار إذا ألقى فيها الحطب. قال القاري: تحضب أي توقد وقوله: ((بقدرها)) كذا في جميع نسخ المشكاة الموجودة عندنا، والذي في ابن ماجه تنورها. قال السندي: تحصب تنورها أي ترمي فيه ما يوقد النار به فيه (ومعها ابن لها) أي صغير (فإذا ارتفع وهج) بالفتح حر النار وفي ابن ماجة فإذا ارتفع وهج التنور (تنحت به) أي تبعدت الأم بالولد عن النار (أنت رسول الله) استفهام بحذف أداته ولا ينافي إسلامها قبل ذلك لعلمها به إجمالاً وإن لم تعلم ذاته بعينها (قالت إن الأم لا تلقي ولدها في النار) أي فكيف أرحم الراحمين يلقي بعض العبيد فيها وإن كانوا كفرة (فأكب) أي طأطأ رأسه (عن الله لا يعذب) أي عذابًا مخلدًا (من عباده) أي من جميع عباده فالإضافة للاستغراق بدليل الاستثناء. وقال السندي: قوله: لا يعذب أي على الدوام. والظاهر أنه لا يدخل النار إلا هؤلاء إذا الكلام في إدخال النار في الخلود والدوام. والله أعلم. وبالجملة فالمعصية تعظم وتزيد قبحًا وشناعة بقدر حقارة العاصي وعظمة المعصي بها وكثرة إحسانه إلى المعاصي فيعظم جزاءها بذلك فبالنظر إلى حالة العبد العاصي وإنه خلق من أي شيء وأي شيء مقداره، وإلى عظمة خالق السماوات والأرض الذي قامت السماوات بأمره، وإلى كثرة نعمه وإحسانه تعظم أدنى المعاصي حتى تجاوز الجبال والبحار وتصير حقيقة بأن يجعل جزاءها الخلود في النار لولا رحمة الكريم العفو الغفور الرحيم فكيف هذه المعصية المتضمنة لتشبيهه بالأحجار التي هي أرذل الخلق فتعالى سبحانه عن ذلك علوًا كبيرًا. وحقائق هذه الأمور لا يعلمها إلا علام الغيوب، ثم ظاهر الحديث يقتضي أن جاحد النبوة قد أبى عن كلمة التوحيد على وجهها، وهو المراد ها هنا - انتهى كلام السندي. (إلا المارد) أي شيطان الإنس والجن المتعري عن الخيرات من مرد كنصر وكرم عتا وعصى. وجاوز حد أمثاله، أو بلغ الغاية التي يخرج بها من جملة ما عليه ذلك الصنف (المتمرد) مبالغة له (الذي يتمرد على الله) أي يتجرأ على مخالفته ويعتو عليه (وأبى) عطف على يتمرد عطف تفسير أي امتنع (أن يقول لا إله إلا الله) فيكون بمنزلة ولد يقول لست أمي وأمي غيرك ويعصيها ويتصورها بصورة كلب أو خنزير فلا شك أنها حينئذ تتبرأ عنه وتعذبه إن قدرت عليه، وحاصل الجواب إن الكافر خرج من العبودية

رواه ابن ماجة. 2402- (16) وعن ثوبان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن العبد ليلتمس مرضاة الله، فلا يزال بذلك، فيقول الله عز وجل لجبريل: إن فلانًا عبدي يلتمس أن يرضيني، ألا وإن رحمتي عليه. فيقول جبريل: رحمة الله على فلان، ويقولها حملة العرش، ويقولها من حولهم، حتى يقولها أهل السماوات السبع، ثم تهبط له إلى الأرض. رواه أحمد. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأن يسمى عبد الله فلهذا يعذب {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (رواه ابن ماجة) في باب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة، وفي سنده إسماعيل بن يحيى الشيباني ويقال له: الشعيري متهم بالكذب. وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه وحكى عن يزيد بن هارون أنه قال: كان إسماعيل الشعيري كذابًا. وقال ابن حبان: لا تحل الرواية عنه روى له ابن ماجة في الزهد حديثًا واحدًا عن ابن عمر في قصة المرأة التي تحصب تنورها، وهو الذي أشار إليه العقيلي كذا في تهذيب التهذيب (ج1: ص336) وقال في الزهد: إسناد حديث ابن عمر ضعيف لضعف إسماعيل بن يحيى متفق على تضعيفه - انتهى. قال السندي أصل الحديث ليس من الزوائد ولعله يشير إلى حديث أبي هريرة عند البخاري بلفظ: كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن أبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى. ويشهد له ما روى أحمد (ج5: ص285) برجال ثقات من حديث أبي أمامة بلفظ: كلكم في الجنة إلا من شرد على الله شراد البعير على أهله. ورواه أيضًا الطبراني في الأوسط بإسناد حسن كما في مجمع الزوائد. 2402- قوله (إن العبد) أي الصالح (ليلتمس) أي يطلب (مرضاة الله) أي رضاه بأصناف الطاعات (فلا يزال بذلك) أي ملتبسًا أي بذلك الالتماس (إن فلانًا) كناية عن اسمه ووصفه (عبدي) أي المؤمن إضافة تشريف (يلتمس أن يرضيني) أي لأن أرحمه (ألا) للتنبيه (وإن رحمتي) أي الكاملة (عليه) أي واقعة عليه ونازلة إليه (رحمة الله على فلان) خبر أو دعاء وهو الأظهر. (ويقولها) أي هذه الجملة (ويقولها من حولهم) أي جميعًا (ثم يهبط) على بناء المفاعل، ويحتمل أن يكون على بناء المفعول أي تنزل الرحمة (له) أي لأجله (إلى الأرض) أي إلى أهل الأرض. قال القاري: يعني محبة الله إياه ثم يوضع له القبول فيها. قال الطيبي. هذا الحديث وحديث المحبة متقاربان - انتهى. ويريد بحديث المحبة ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعًا. إن الله تعالى إذا أحب عبدًا دعا جبريل، فقال: إني أحب فلانًا فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول إن الله يحب فلانًا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض - الحديث. (رواه أحمد) (ج5: ص279) .

2403- (17) وعن أسامة بن زيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} قال: كلهم في الجنة. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الهيثمي (ج10: ص202) ورجاله رجال الصحيح غير ميمون بن عجلان وهو ثقة - انتهى. 2403- قوله (في قول الله عز وجل فمنهم ظالم لنفسه) الفاء تفصيل لقوله {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ (فاطر: 32) والمفعول الأول، ((لأورثنا)) الموصول، والمفعول الثاني الكتاب وإنما قدم المفعول الثاني لقصد التشريف والتعظيم للكتاب، والمعنى ثم أورثنا أي أعطينا الذين اصطفيناهم من عبادنا الكتاب، وهو القرآن ((ومن)) للبيان أو للتبعيض، والمراد بعبادنا أمة الإجابة أو أمة الدعوة وبالموصول آله وأصحابه ومن بعدهم من أمته، والمعنى قضينا وقدرنا وحكمنا بتوريث القرآن منك الذين اخترناهم من أمتك أو عبر بالماضي عن المضارع لتحققه، ثم قسم سبحانه هؤلاء الذين أورثهم كتابه واصطفاهم من عباده إلى ثلاثة أقسام فقال: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} (فاطر: 32) أي بالتقصير في العمل به (ومنهم مقتصد) يعمل به في أغلب أحواله وأوقاته (ومنهم سابق بالخيرات) يضم إلى العمل به التعليم والإرشاد إلى العمل. وقيل: الظالم لنفسه هو المفرط في فعل بعض الواجبات المرتكب لبعض المحرمات، والمقتصد هو المؤدي للواجبات التارك للمحرمات، وقد يترك بعض المستحبات، ويفعل بعض المكروهات، والسابق بالخيرات هو: الفاعل للواجبات والمستحبات التارك للمحرمات والمكروهات وبعض المباحات. وقيل: الظالم هو المرجأ لأمر الله والمقتصد هو الذي خلط عملاً صالحًا وآخر سيئًا. قال النسفي: وهذا التأويل يوافق التنزيل فإنه تعالى قال: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ} (التوبة: 100) الآية وقال بعده: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ} (التوبة: 102) الآية وقال بعده: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} (التوبة: 106) - انتهى. وقيل: الظلم للنفس يصدق على الظلم للنفس بمجرد إحرامها للحظ وتفويت ما هو خير لها فتارك الاستكثار من الطاعات قد ظلم نفسه باعتبار ما فوتها من الثواب، وإن كان قائمًا بما أوجب الله عليه وتاركًا لما نهاه الله عنه، ومعنى المقتصد هو من يتوسط في أمر الدين ولا يميل إلى جانب الإفراط ولا إلى جانب التفريط. وأما السابق: فهو الذي سبق غيره في أمور الدين وهو خير الثلاثة وفي تفسير هؤلاء الثلاثة أقوال أخرى كثيرة ذكرها الثعلبي وغيره. (قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (كلهم في الجنة) إيذان بأن قوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} (النحل: 31) مبتدأ أو خبر، والضمير للثلاثة، والحديث ذكره الحافظ ابن كثير من رواية الطبراني بلفظ: قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كلهم من هذه الأمة. وذكره الشوكاني في فتح القدير (ج4: ص341) وعزاه للطبراني وابن مردويه، والبيهقي بلفظ: كلهم من هذه الأمة وكلهم في الجنة. قال ابن كثير: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} قال هم

رواه البيهقي في ((كتاب البعث والنشور)) ـــــــــــــــــــــــــــــ أمة محمد ورثهم الله تعالى كل كتاب أنزله فظالمهم يغفر له ومقتصدهم يحاسب حسابًا يسيرًا، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب. وكذا روي عن غير واحد من السلف: إن الظالم لنفسه من هذه الأمة من المصطفين على ما فيه عوج وتقصير. وقال آخرون: بل الظالم لنفسه ليس من هذه الأمة ولا من المصطفين الوارثين للكتاب، والصحيح إن الظالم لنفسه من هذه الأمة. وهذا اختيار ابن جرير كما هو ظاهر الآية وكما جاءت به الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من طريق يشد بعضها بعضًا فذكرها، منها حديث أسامة بن زيد الذي نحن في شرحه، ومنها حديث أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في هذه الآية {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} قال: هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة، وكلهم في الجنة أخرجه أحمد، والترمذي، وابن جرير، وابن أبي حاتم. وفي أسانيد كلهم من لم يسم. قال ابن كثير: ومعنى قوله ((بمنزلة واحدة)) أي في أنهم من هذه الأمة وأنهم من أهل الجنة، وإن كان بينهم فرق في المنازل في الجنة. ومنها حديث أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} فأما الذين سبقوا فأولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب. وأما الذين اقتصدوا فأولئك الذين يحاسبون حسابًا يسيرًا، وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك الذين يحسبون في طول المحشر ثم هم الذين تلافاهم الله برحمته فهم الذين يقولون {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} (فاطر: 34) إلى آخر الآية. أخرجه أحمد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في البعث. وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضًا، ويجب المصير إليها ويدفع بها قول من حمل الظالم لنفسه على الكافر، وفي الباب آثار عن عمر، وعثمان، وعلي، وعائشة، وابن مسعود وغيرهم. ذكرها الحافظ ابن كثير والشوكاني في تفسيرهما وكلها تؤيد ما ذهب إليه الجمهور في تفسير الآية إن الطبقات الثلاث هم الذين اصطفى من عباده وهم أهل الإيمان من هذه الأمة وكلهم ناج يدخل الجنة. (رواه البيهقي في كتاب البعث والنشور) وأخرجه أيضًا الطبراني، وابن مردويه.

(6) باب ما يقول عند الصباح والمساء والمنام

(6) باب ما يقول عند الصباح والمساء والمنام (الفصل الأول) 2404- (1) عن عبد الله، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمسى قال: أمسينا وأمسى الملك لله، والحمد لله، ـــــــــــــــــــــــــــــ (باب ما يقول عند الصباح والمساء) قال الراغب: الصبح والصباح أول النهار وهو وقت ما احمر الأفق بحاجب الشمس، قال: {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} (11: 81) {فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ} (37: 177) وقال في القاموس: الصبح الفجر أو أول النهار وهو الصبيحة والصباح، والإصباح والمصبح. كمكرم، والمساء والإمساء ضد الصباح والإصباح. قلت: الظاهر المتبادر من بعض الأحاديث الواردة في الباب أن المساء أول الليل، ويمكن حمل كلام صاحب القاموس عليه كما لا يخفى، وقال في هامش ((تحفة الذاكرين)) الصباح من طلوع الفجر أي إلى طلوع الشمس، والمساء من غروب الشمس كما يدل له ما أخرجه عبد الرزاق، والفريابي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم، وصححه عن أبي رزين. قال: جاء نافع بن الأزرق إلى ابن عباس فقال هل تجد الصلوات الخمس في القرآن قال: نعم. فقرأ {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} قال: صلاة المغرب والعشاء {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} (30: 17) قال: صلاة الصبح {وَعَشِيّاً} صلاة العصر {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} (30: 18) صلاة الظهر. فهذا تفسير الصحابي اللغوي للصباح والمساء ومثله عن مجاهد،.فالمساء لا يكون إلا من بعد غروب الشمس، فأذكاره من ذلك الوقت نحو أمسينا وأمسى الملك لله. الخ - انتهى. قلت: فمن قال إن المساء يدخل وقته بالزوال، والصباح يدخل وقته بانتصاف الليل، وإنه تدخل أوراد الصباح من نصف الليل الأخير والمساء من الزوال فقد أبعد جدًا، قال النووي في الأذكار تحت باب ما يقال عند الصباح وعند المساء: اعلم أن هذا الباب واسع جدًا ليس في الكتاب باب أوسع منه وأنا أذكر إن شاء الله تعالى فيه جملاً من مختصراته فمن وفق للعمل بكلها فهي نعمة وفضل من الله تعالى عليه وطوبى له من عجز عن جميعها فليقتصر من مختصراتها على ما شاء ولو كان ذكرًا واحدًا، ثم ذكر النووي آيات من القرآن العزيز ورد فيها الأمر بالذكر أو التسبيح أو الدعاء في العشي والإبكار والإشراق والغدو والآصال وقبل طلوع الشمس وقبل غروبها أو ورد فيها مدح القائمين بذلك، ثم سرد جملاً من الأحاديث أورد المصنف أكثرها في المشكاة (والمنام) أي زمان النوم، أو هو مصدر ميمي أي عند إرادة النوم، والظاهر أن المراد به نوم الليل فلا يشمل القيلولة. 2404- قوله (أمسينا وأمسى الملك لله) أي دخلنا في المساء ودخل الملك فيه كائنًا لله ومختصًا به، أو الجملة حالية بتقدير ((قد)) أو بدونه أي أمسينا وقد صار بمعنى كان ودام الملك لله (والحمد لله) قال الطيبي: عطف على ((أمسينا وأمسى الملك)) أي صرنا نحن وجميع الحمد لله - انتهى. قال القاري: أي عرفنا فيه أن الملك لله وأن الحمد لله

ولا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم إني أسألك من خير هذه الليلة وخير ما فيها، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها، اللهم إني أعوذ بك من الكسل، والهرم، وسوء الكبر، وفتنة الدنيا، وعذاب القبر، وإذا أصبح قال ذلك ـــــــــــــــــــــــــــــ لا لغيره، ويمكن أن يكون جملة ((الحمد الله)) مستقلة والتقدير ((والحمد لله على ذلك)) وقيل: ويجوز أن يكون قوله ((والحمد لله)) معطوفًا على قوله ((الملك لله)) فيكون هذا أيضًا اسمًا لأصبح (ولا إله إلا الله) كذا في جميع نسخ المشكاة بزيادة الواو وهكذا وقع في المصابيح وجامع الأصول وكذا وقع عند ابن السني، قال الطيبي: عطف على ((الحمد لله)) على تأويل وأمسى الفردانية والوحدانية مختصين بالله - انتهى. والذي في صحيح مسلم ((لا إله إلا الله)) أي بدون الواو وهكذا وقع عند الترمذي وأبي داود وكذا نقله النووي في الأذكار وابن الجزري في الحصن، والظاهر أن ما وقع في المشكاة تبعًا للمصابيح وجامع الأصول خطأ والصواب بحذف الواو (وحده) حال مؤكدة. أي منفردًا بالألوهية (اللهم إني أسألك) أي مصيرًا وافرًا وحظًا وافيًا (من خير هذه الليلة) أي ذاتها وعينها (وخير ما فيها) قال الطيبي: أي من خير ما ينشأ (يقع ويحدث) فيها وخير ما يسكن فيها، قال تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ} (6: 13) وقال ابن حجر: أي مما أردت وقوعه فيها لخواص خلقك من الكمالات الظاهرة والباطنة وخير ما يقع فيها من العبادات التي أمرنا بها فيها، أو المراد خير الموجودات التي قارن وجودها تلك الليلة وخير كل موجود الآن. وقيل: الأظهر أن يراد بخيرها ما يعمل فيها بنفسه وبخير ما فيها ما يقع ويحدث فيها من الكوائن والحوادث (وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها) وفي رواية لمسلم ((رب أسألك خير ما في الليلة وخير ما بعدها (أي من الليالي أو مطلقًا) وأعوذ بك من شر هذه الليلة وشر ما بعدها)) (اللهم إني أعوذ بك من الكسل) بفتحتين أي التثاقل في الطاعة مع الاستطاعة. قال الطيبي: الكسل التثاقل عما لا ينبغي التثاقل عنه، ويكون ذلك لعدم انبعاث النفس للخير مع ظهور الاستطاعة. (والهرم) بفتحتين، أي كبر السن المؤدي إلى تساقط بعض القوى وضعفها وهو الرد إلى أرذل العمر لأنه يفوت فيه المقصود بالحياة من العلم والعمل، ولذا قال تعالى: {لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} (16: 70) (وسوء الكِبَر) بكسر الكاف وفتح الباء بمعنى الهرم والخرف، وروي بإسكان الباء بمعنى البطر أي الطغيان عند النعمة والتعاظم على الناس. والأول أصح رواية ودراية وتعضده رواية النسائي ((وسوء العمر)) والمراد بسوء الكبر ما يورثه كبر السن من ذهاب العقل، واختلاط الرأي والتخبط فيه، والقصور عن القيام بالطاعة وغير ذلك مما يسوء الحال. وقال في اللمعات: في الفقرات كلها ترق من الأدنى إلى الأعلى استعاذ أولاً من الكسل أي من التثاقل في الطاعة مع الاستطاعة، ثم من الهرم الذي فيه سقوط بعض الاستطاعة فيفوت به بعض وظائف العبادات، ثم من سوء الكبر الذي يصير فيه كالحلس الملقى على الأرض لا يصدر منه شيء من الخيرات (وفتنة الدنيا) أي الافتتان بها ومحبتها أو الابتلاء بفتنة فيها (وعذاب القبر) أي من نفس عذابه أو مما يوجبه (وإذا أصبح) أي دخل - صلى الله عليه وسلم - في الصباح (قال ذلك) أي

أيضًا: أصبحنا وأصبح الملك لله. وفي رواية: رب إني أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر. رواه مسلم. 2405- (2) وعن حذيفة، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أخذ مضجعه من الليل وضع يده تحت خده، ثم يقول: اللهم باسمك أموت وأحيى. وإذا استيقظ قال: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا ـــــــــــــــــــــــــــــ ما يقول في المساء (أيضًا) أي لكن يقول بدل ((أمسينا وأمسى الملك لله)) (أصبحنا وأصبح الملك لله) ويبدل اليوم بالليلة فيقول: اللهم إني أسالك من خير هذا اليوم، ويذكر الضمائر بعده (وفي رواية) أي لمسلم وغيره يقول بعد قوله: ((سوء الكبر)) (رب إني أعوذ بك) كذا في جميع النسخ الموجودة عندنا والذي في صحيح مسلم ((رب أعوذ بك)) أي بسقوط ((إني)) وكذا وقع عند الترمذي وأبي داود وهكذا في المصابيح وجامع الأصول والحصن (من عذاب في النار وعذاب في القبر) التنكير فيهما للتقليل لا للتفخيم كما وهم ابن حجر. وفي الحديث إظهار العبودية والافتقار إلى تصرفات الربوبية، وإن الأمر كله خيره وشره بيد الله، وأن العبد ليس له من الأمر شيء، وفيه تعليم للأمة ليتعلموا آداب الدعوة (رواه مسلم) وكذا الترمذي في الدعوات، وأبو داود في الأدب، وابن السني (ص13) ، والنسائي، وابن أبي شيبة كما في الحصن، ورواه أحمد (ج1: ص440) مختصرًا جدًا. وفي الباب عن أنس أخرجه البخاري في الأدب المفرد، والترمذي، وأبو داود، وابن السني، والبغوي في شرح السنة (ج5: ص132) . 2405- قوله (إذا أخذ مضجعه) بفتح الجيم أي أتى فراشه ومرقده (من الليل) أي في بعض أجزاء الليل فالمضجع كمقعد موضع الضجع، وفي رواية للبخاري: ((إذا أوى إلى فراشه)) أي دخل فيه، وقال الطيبي: قوله: ((من الليل)) صلة لأخذ على طريق الاستعارة كأنه قيل إذا أخذ حظه من الليل أي أراد أن ينام، لأن لكل أحد حظًا منه وهو السكون والنوم والراحة فكأنه يأخذ منه نصيبه وحظه بالسكون والنوم قال تعالى: {جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} (10: 67) والمضجع مصدر - انتهى (وضع يده) أي كفه اليمنى (تحت خده) وعند أحمد (ج5: ص387) ((وضع يده اليمنى تحت خده اليمنى)) (اللهم باسمك) بوصل الهمزة، أي بذكر اسمك جادًا لا بكف اللسان عن ذكرك ولا بقلب غافل (أموت) قدم الموت لأن النوم أخوه وهذا وقت النوم (وأحيي) بفتح الهمزة أي أنام واستيقظ يعني بذكر اسمك أحيى ما حييت وعليه أموت. ويسقط بهذا سؤال من يقول بالله الحياة والموت لا باسمه، ويحتمل أن يكون لفظ الاسم هنا زائدًا كما في قول الشاعر: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا) ولأحمد في الرواية المذكورة ((أحياني بعد ما أماتني)) قيل: هذا ليس إحياء ولا إماتة

وإليه النشور. رواه البخاري. 2406- (3) ومسلم عن البراء. ـــــــــــــــــــــــــــــ بل إيقاظ وإنامة، وأجيب بأن الموت عبارة عن انقطاع تعلق الروح بالبدن، وذلك قد يكون ظاهرًا فقط وهو النوم ولهذا يقال ((النوم أخو الموت)) أو ظاهرًا وباطنًا وهو الموت المتعارف فإطلاق الموت على النوم يكون مجازًا لاشتراكهما في انقطاع تعلق الروح بالبدن، وقيل سمي النوم بالموت لأن الصفات السمع من الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام كما تزول بالموت بتة تبقى بالنوم بحيث لم تكن. فالنوم يعطل هذه الصفات بحيث نستطيع أن نقول إنها بطلت كلها سوى الحياة حتى يستيقظ، والحياة وإن كانت باقية للنوم لكن النائم لا يدر بها ففي حقه لا يبعد أن يقال: زالت عنه تلك الصفات السبع كلها فيدخل في سلك الموتى. وقال أبو إسحاق الزجاج: النفس التي تفارق الإنسان عند النوم هي التي للتمييز، والتي تفارقه عند الموت هي التي للحياة، وهي التي تزول معها التنفس، وسمي النوم موتًا لأنه يزول معه العقل والحركة تمثيلاً وتشبيهًا لا تحقيقًا. وقال الخطابي: هذا مجاز لأن الحياة غير زائلة عند النوم لكن جعل السكون عن الحركات وزوال القدرة عند النوم بمنزلة الموت فقال: ((بعد ما أماتنا)) أي رد علينا القوة والحركة بعدما أن أزالهما منا بعد النوم (وإليه النشور) أي البعث يوم القيامة والإحياء بعد الإماتة. يقال: نشر الله الموتى فنشروا أي أحياهم فحيوا. قاله الحافظ. وقال في النهاية: نشر الميت نشورًا، إذا عاش بعد الموت، وأنشره الله أي أحياه. قيل: ما سبب الشكر على الانتباه من النوم، وأجاب الطيبي مبينًا لحكمة إطلاق الموت على النوم بأن انتفاع الإنسان بالحياة إنما هو بتحري رضا الله عنه وتوخي طاعته والاجتناب عن سخطه وعقابه فمن نام زال عنه هذا الانتفاع بالكلية ولم يأخذ نصيب حياته وكان كالميت فكان قوله: ((الحمد لله)) شكرًا لنيل هذه النعمة وزوال ذلك المانع وقال الطيبي: وهذا التأويل موافق للحديث الآخر الذي فيه ((وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين)) وينتظم معه قوله ((وإليه النشور)) أي وإليه المرجع في نيل الثواب بما يكتسب في الحياة. قيل الذكر في بدء نومه والحمد بعد يقظته مشعر بأنه ينبغي أن يكون السالك عند نومه ذاكرًا الله تعالى متهيئًا للموت لأنه خاتمة أمره وعمله، وعند تنبهه حامدًا لله وشاكرًا على فضله، ويتذكر باليقظة بعد النوم البعث بعد الموت، وأن يعلم أن مرجع الخلق كله إلى مولاه. (رواه البخاري) في الدعوات والتوحيد أي عن حذيفة، وكذا رواه عنه أحمد (ج5: ص385، 387، 397، 399، 407) ، والترمذي في الدعوات، وأبو داود في الأدب، وابن ماجة في الدعاء، والنسائي، وابن السنى (ص225) ، وابن أبي شيبة، والبخاري في الأدب المفرد، والدارمي في الاستيذان، والبغوي في شرح السنة (ج5: ص 98، 99) . 2406- قوله (ومسلم عن البراء) قال القاري: فالحديث متفق عليه، والخلاف في الصحابي. قلت: ليس هذا الحديث متفقًا عليه في عرف المحدثين إذا شرطوا فيه اتحاد الصحابي. والحديث رواه أحمد أيضًا عن البراء (ج4: ص294، 302) .

2407- (4) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخلة إزاره، فإنه لا يدري ما خلفه عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2407- قوله (إذا أوى) بقصر الهمزة أي نزل (إلى فراشه) بكسر الفاء أي أتى إليه لينام عليه. وفي رواية البخاري في التوحيد ((إذا جاء أحدكم إلى فراشه)) ولابن ماجة ((إذا أراد أحدكم أن يضطجع على فراشه)) وللترمذي: ((إذا قام أحدكم عن فراشه ثم رجع إليه)) ولأحمد (ج2: ص283) ((إذا قام أحدكم من الليل ثم رجع إلى فراشه)) (فلينفض) بضم الفاء من باب نصر من النفض بالنون والفاء والضاد المعجمة وهو تحريك الشيء ليسقط ويزول ما عليه من غبار ونحوه ومعناه بالفارسية بيفشاند (فراشه) قبل أن يدخل إليه (بداخلة إزاره) ولابن ماجة ((فلينزع داخلة إزاره ثم لينقض بها فراشه)) . وللبخاري في الأدب المفرد ((فليحل)) وله أيضًا ولمسلم: ((فليأخذ)) قال الحافظ: قوله ((بداخلة إزاره)) كذا للأكثر، وفي رواية أبي زيد المروزي ((بداخل)) بلا هاء. وداخلة الإزار حاشيته التي تلي الجسد وتماسه، وقيل هي طرفه مطلقًا، وفي القاموس: طرفه الذي يلي الجسد ويلي الجانب الأيمن. قال القرطبي: حكمة هذا النفض قد ذكرت في الحديث، وأما اختصاص النفض بداخلة الإزار فلم يظهر لنا، ويقع لي أن في ذلك خاصية طبية تمنع من قرب بعض الحيوانات كما أمر بذلك العائن، ويؤيده ما وقع في بعض طرقه ((فلينفض بها ثلاثًا)) فخذا بها حذو الرقى في التكرير – انتهى. وأشار الداودي إلى أن الحكمة في ذلك أن الإزار يستر بالثياب فيتوارى بما يناله من الوسخ فلو نال ذلك بكمه صار غير لدن الثوب، والله يحب إذا عمل العبد عملاً أن يحسنه. وقال صاحب النهاية (ج2: ص17) : داخلة الإزار طرفه وحاشيته من داخل، وإنما أمر بداخلته دون خارجته لأن المؤتزر يأخذ إزاره بيمينه وشماله فيلزق ما بشماله على جسده وهي داخلة إزاره (يعني أن المؤتزر إذا ائتزر يأخذ أحد طرفي إزاره بيمينه والآخر بشماله فيرد ما أمسكه بشماله عل جسده) ثم يضع ما بيمينه فوق داخلته فمتى عاجله أمر وخشى سقوط إزاره أمسكه بشماله ودفع عن نفسه بيمينه، فإذا صار إلى فراشه فحل إزاره فإنما يحل بيمينه خارجة الإزار وتبقى الداخلة معلقة وبها يقع النفض لأنها غير مشغولة باليد - انتهى. وأشار الكرماني إلى أن الحكمة فيه أن يكون يده حين النقض مستورة لئلا يكون هناك شيء فيحصل في يده ما يكره. قال الحافظ: وهي حكمة النفض بطرف الثوب دون اليد لا خصوص الداخلة. وقال القاري: قيد النفض بإزاره لأن الغالب في العرب أنه لم يكن لهم ثوب غير ما هو عليهم من إزار ورداء، وقيد بداخل الإزار ليبقى الخارج نظيفًا، ولأن هذا أيسر ولكشف العورة أقل وأستر. وإنما قال: هذا لأن رسم العرب ترك الفراش في موضعه ليلاً ونهارًا ولذا علله وقال: (فإنه) أي الشأن أو المريد للنوم (لا يدري ما خلفه) بالفتحات والتخفيف (عليه) أي جاء عقبه على الفراش، قال البغوي: يريد لعل هامة دبت فصارت فيه بعده. ولمسلم وكذا للبخاري في الأدب المفرد ((وليسم الله فإنه لا يعلم ما خلفه بعده على فراشه)) أي ما صار بعده خلفًا وبدلاً عنه إذا غاب، خلف فلان فلانًا إذا قام مقامه، والمراد ما يكون قد دب على فراشه بعد

ثم يقول: باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فأرحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين. وفي رواية: ثم ليضطجع على شقه الأيمن ـــــــــــــــــــــــــــــ مفارقته. قال الطيبي: معناه لا يدري ما وقع في فراشه بعد ما خرج منه من تراب أو قذاة أو هوام. وقال النووي: معناه أنه يستحب أن ينفض فراشه قبل أن يدخل فيه لئلا يكون قد دخل فيه حية أو عقرب أو غيرهما من المؤذيات وهو لا يشعر ولينفض ويده مستورة بطرف إزاره لئلا يحصل في يده مكروه إن كان شيء هناك (ثم يقول) أي بعد النفض ووضع الجنب كما يدل عليه الرواية الآتية ((ثم ليضطجع ثم ليقل)) (باسمك ربي وضعت جنبي) أي مستعينًا باسمك يا ربي. وفي الأدب المفرد: ((وليقل سبحانك ربي بك وضعت جنبي)) . ولمسلم: ((وليقل سبحانك اللهم ربي بك وضعت جنبي)) (وبك أرفعه) أي باسمك أو بحولك وقوتك أرفعه حين أرفعه فلا أستغني عنك بحال (إن أمسكت نفسي) . وفي رواية: ((احتبست نفسي)) أي قبضت روحي في النوم توفيتها (فارحمها) أي بالمغفرة والتجاوز عنها (وإن أرسلتها) بأن رددت الحياة إلى وأيقظتني من النوم (فاحفظها) أي من المعصية والمخالفة (بما تحفظ به) أي من التوفيق والعصمة والأمانة (عبادك الصالحين) أي القائمين بحقوق الله وعباده. والباء في ((بما تحفظ)) مثلها في ((كتبت بالقلم)) وما موصولة مبهمة، وبيانها ما دل عليه صلتها لأن الله تعالى إنما يحفظ عباده الصالحين من المعاصي ومن أن لا يتهاونوا في طاعته وعبادته بتوفيقه ولطفه ورعايته، والحديث موافق لقوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} (39: 42) جمع النفسين في حكم التوفي ثم فرق بين جهتي التوفي بالحكم بالإمساك وهو قبض الروح، وبالإرسال وهو رد الحياة، أي الله يتوفى الأنفس التي تقبض والتي لا تقبض فيمسك الأولى ويرسل الأخرى. وزاد في رواية الترمذي في آخر هذا الحديث شيئًا لم أره عند غيره وهو قوله: ((وإذا استيقظ فليقل الحمد الله الذي عافاني في جسدي ورد علي روحي (أي روحي المميزة برد تميزها الزائل عنها بنومها) وأذن لي بذكره)) وهو يشير إلى ما ذكره الكرماني أن الإمساك كناية عن الموت فالرحمة أو المغفرة تناسبه والإرسال كناية عن استمرار البقاء والحفظ يناسبه. وقد تقدم قول الزجاج في الكلام على حديث حذيفة وكذلك كلام الطيبي. قال ابن بطال: في هذا الحديث أدب عظيم وقد ذكر حكمته في الخبر وهو خشية أن يأوي إلى فراشه بعض الهوام الضارة فتؤذيه. وقال القرطبي يؤخذ من هذا الحديث أنه ينبغي لمن أراد المنام أن يمسح فراشه لاحتمال أن يكون فيه شيء يخفى من رطوبة أو غيرها. وقال ابن العربي: هذا من الحذر ومن النظر في أسباب دفع سوء القدر، أو هو من الحديث الآخر ((اعقلها وتوكل)) . قلت: الظاهر هو الأول ففيه حث على الحزم والاحتراس من مظان الضر والأذى وقد ورد فيما يقال عند النوم أحاديث أخرى ذكر أكثرها في هذا الباب (وفي رواية) لمسلم وغيره: (ثم ليضطجع على شقه الأيمن) فيه ندب اليمين في النوم لأنه أسرع إلا الانتباه لعدم استقرار القلب حينئذ لأنه معلق بالجانب الأيسر فيعلق فلا يستغرق في النوم بخلاف النوم على الأيسر فإن القلب ليستقر

ثم ليقل: باسمك. متفق عليه. وفي رواية: فلينفضه بصنفة ثوبه ثلاث مرات، وإن أمسكت نفسي فاغفر لها. 2408- (5) وعن البراء بن عازب، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه نام على شقه الأيمن ثم قال: اللهم أسلمت نفسي إليك، ـــــــــــــــــــــــــــــ فتكون الاستراحة له بطأ للانتباه، ثم هذا إنما هو بالنسبة إلينا دونه - صلى الله عليه وسلم - لأنه لا ينام قلبه فلا فرق في حقه عليه الصلاة والسلام بين النوم على شقه الأيمن والأيسر، وإنما كان يؤثر الأيمن لأنه كان يحب التيامن في شأنه كله ولتعليم أمته (متفق عليه) أخرجه البخاري في الدعوات وفي التوحيد، ومسلم في الدعاء، وأخرجه أيضًا أحمد (ج2: ص246، 283، 295) والبخاري في الأدب المفرد في موضعين، والترمذي في الدعوات، وأبو داود في الأدب، والنسائي في عمل اليوم والليلة، وابن ماجة في الدعاء، والدارمي في الاستيذان (ص360) ، والدارقطني في غرائب مالك، وابن السني (ص226) ، والطبراني في الدعاء، وابن أبي شيبة، والبغوي في شرح السنة (ج5: ص99، 100) . (وفي رواية) للبخاري في التوحيد وكذا للترمذي والطبراني (فلينفضه) قيل: لأن البيوت إذ ذاك كانت مظلمة لم يكن فيها المصابيح فأمر بالنفض من قبل التلبس به حتى لا يؤذيه ما دخله من المؤذيات (بصنفة ثوبه) وللترمذي: ((بصنفة إزاره)) بباء الجر بعدها صاد مهملة مفتوحة فنون مكسورة ففاء فهاء تأنيث. أي بطرف ثوبه. وقال الطيبي: أي بحاشية إزاره التي تلي الجسد. فكأنه أراد الجمع بين الروايتين وإلا ففي النهاية: صنفة الإزار بكسر النون طرفه مما يلي طرته. وفي القاموس صَنِفة الثوب كفرحة، وصِنْفه وصِنْفته بكسرهما حاشيته أي جانب كان أو جانبه الذي لا هدب له أو الذي فيه الهدب - انتهى. (ثلاث مرات) حذرًا من وجود مؤذية وهو لا يشعر وقيد بالثلاثة مبالغة في النظافة (فاغفر لها) أي بدل قوله ((فارحمها)) وهذا اللفظ للبخاري، ومسلم، والدارمي، وأحمد (ج2: ص283، 295) . 2408- قوله (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أوى إلى فراشه) إلخ. هكذا وقع في رواية العلاء بن المسيب عن أبيه عن البراء من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي عند البخاري في باب النوم على الشق الأيمن من كتاب الدعوات، وكذا رواه في الأدب المفرد، وهكذا وقع في رواية للنسائي في عمل اليوم والليلة، والبغوي في شرح السنة. ووقع في رواية سعد بن عبيدة وأبي إسحاق عن البراء من قوله وتعليمه كما سيأتي وهي عند الشيخين وأصحاب السنن وغيرهم فيستفاد مشروعية هذا الذكر من قوله - صلى الله عليه وسلم - ومن فعله (نام على شقه) بكسر المعجمة وتشديد القاف أي جانبه (الأيمن) لأنه كان يحب التيامن في شأنه كله (ثم قال: اللهم) وفي رواية للنسائي ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أوى إلى فراشه توسد يمنيه (أي جعل يده اليمني تحت رأسه من التوسد وهو اتخاذ النائم تحت رأسه وسادة وهي المخدة) ثم قال بسم الله)) (أسلمت) أي سلمت. وقيل: أي أخلصت (نفسي) أي: ذاتي (إليك) أي مائلة إلى حكمك، وقيل أسلمت نفسي إليك أي استسلمت وانقدت. والمعنى جعلت ذاتي منقادة لك طائعة لحكمك إذ لا قدرة لي على تدبيرها، ولا على جلب ما ينفعها إليها، ولا دفع ما يضرها عنها فأمرها مفوض إليك

ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك. ـــــــــــــــــــــــــــــ تفعل بها ما تريد واستسلمت لما تفعل فلا اعتراض عليك فيه (ووجهت وجهي) أي: وجهتي وتوجهي وقصد قلبي (إليك) وقيل: الوجه هنا بمعنى الذات والشخص كالنفس، وفيه نظر لأن الجمع بينهما يدل على تغايرهما فالمراد بالنفس الذات وبالوجه القصد (وفوضت أمري إليك) من التفويض وهو تسليم الأمر إلى الله تعالى أي: رددت أمري إليك والمعنى توكلت عليك في أمري كله لتكفيني همه وتتولى صلاحه (وألجأت) أي: أسندت (ظهري إليك) أي: اعتمدت في أموري (ومنها القيام لصلاة التهجد ولصلاة الفجر) عليك لتعينني على ما ينفعني لأن من استند إلى شيء تقوَّى به واستعان به تشبيهًا للاستناد المعنوي بالاستناد الحسي بجامع الراحة في كل وخصه بالظهر لأن العادة جرت أن الإنسان يعتمد بظهره إلى ما يستند إليه. وقال الطيبي: في هذا النظم عجائب وغرائب لا يعرفها إلا النقاد من أهل البيان فقوله: ((أسلمت نفسي)) إشارة إلى أن جوارحه منقادة لله تعالى في أوامره ونواهيه، وقوله: ((وجهت وجهي)) إلى أن ذاته وحقيقته مخلصة له تعالى بريئة من النفاق. وقوله: ((فوضت أمري إليك)) إلى أن أموره الخارجة والداخلة مفوضة إليه لا مدبر لها غيره. وقوله: ((ألجأت ظهري إليك)) بعد قوله: ((فوضت أمري)) إشارة إلى أنه بعد تفويض أموره التي هو مفتقر إليها وبها معاشه وعليها مدار أمره يلتجئ إليه مما يضره ويؤذيه من الأسباب الداخلة والخارجة (رغبة ورهبة) علة لكل من المذكورات أي: طمعًا في رفدك وثوابك وخوفًا من غضبك ومن عذابك. وقال الطيبي: منصوبان على العلة بطريق اللف والنشر أي: فوضت أموري إليك رغبة أي: طمعًا في ثوابك وألجأت ظهري من المكاره والشدائد إليك رهبة منك أي: محافة من عذابك. وقيل: مفعول لهما لألجأت. وقال القاري: الأظهر أن نصبهما على الحالية أي: راغبًا وراهبًا أو الظرفية أي: في حال الطمع والخوف يتنازع فيهما الأفعال المتقدمة كلها. (إليك) متعلق برغبة ومتعلق الرهبة محذوف أي: منك، يدل عليه أنه وقع في الرواية الآتية عند أحمد (ج4: ص296) ، والنسائي ((رهبة منك ورغبة إليك)) ، وقيل: ((إليك)) متعلق برغبة ورهبة وإن تعدى الثاني بمن لكنه أجرى مجرى رغب تغليبًا يعني أعطى للرهبة حكم الرغبة، والعرب تفعل ذلك كثيرًا كقوله: ورأيت بعلك في الوغى ... متقلدًا سيفًا ورمحًا والرمح لا يتقلد. ونحوه: علفتها تبنًا وماء باردًا والماء لا يعلف. وقال الجزري في النهاية، وجامع الأصول: قد عطف الرهبة على الرغبة ثم أعمل لفظ الرغبة وحدها ولو أعمل الكلمتين معًا لقال: ((رغبة إليك ورهبة منك)) ولكن هذا سائغ في العربية أن يجمع بين الكلمتين في النظم ويحمل إحداهما على الأخرى في اللفظ، كقول الشاعر: إذا ما الغانيات برزن يومًا ... وزججن الحواجب والعيونا

لا مَلْجَأَ وَلا مَنْجَا مِنْكَ إِلا إِلَيْكَ. آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قالهن ثم مات تحت لَيْلَتِه مات عَلَى الْفِطْرَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والعيون لا تزجج وإنما تكحل - انتهى بتوضيح. وكذلك قال البغوي، وابن الجوزي، والطيبي: (لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك) أي: لا مهرب ولا ملاذ ولا مخلص من عقوبتك إلا إلى رحمتك. قال الحافظ: أصل ملجأ بالهمزة ومنجأ بغير همزة ولكن لما جمعا جاز أن يهمزا للازدواج وأن يترك الهمز فيهما وأن يهمز المهموز ويترك الآخر فهذه ثلاثة أوجه ويجوز التنوين مع القصر فتصير خمسة. قال العيني: إعرابهما مثل إعراب ((عصا)) وفي هذا التركيب خمسة أوجه لأنه مثل لا حول ولا قوة إلا بالله أي: فتجري فيه الأوجه الخمسة المشهورة وهي فتح الأول والثاني، وفتح الأول ونصب الثاني، وفتح الأول ورفع الثاني، ورفع الأول وفتح الثاني، ورفع الأول والثاني. قال العيني: والفرق بين نصبه وفتحه بالتنوين وعدمه، وعند التنوين تسقط الألف، ثم إنهما إن كانا مصدرين يتنازعان في ((منك)) وإن كانا مكانين فلا، إذ اسم المكان لا يعمل، وتقديره: لا ملجأ منك إلى أحد إلا إليك ولا منجأ إلا إليك (آمنت بكتابك) أي: صدقت أنه كتابك، وهو يحتمل أن يريد به القرآن ويحتمل أن يريد اسم الجنس فيشمل كل كتاب سماوي أنزل (الذي أنزلت) أي: أنزلته (ونبيك الذي أرسلت) وقع في رواية: ((أرسلته وأنزلته)) في الأول بزيادة الضمير المنصوب فيهما (من قالهن) أي: الكلمات المذكورة (ثم مات تحت ليلته) قال الطيبي: معنى ((تحت ليلته)) أنه لم يتجاوز عنه إلى النهار لأن الليل يسلخ منه النهار فهو تحته يعني أنه يقع ذلك قبل أن ينسلخ النهار من الليل وهو تحته، قال: أو يكون بمعنى مات تحت نازلة تنزل عليه في ليلته، وكذا معنى ((من)) في الرواية الأخرى أي: من أجل ما يحدث في ليلته، وقال ابن حجر: سبب التعبير بالتحت أن الله جعل الليل لباسًا فالناس مغمورون ومستورون تحته كالمستور تحت ثيابه ولباسه (مات على الفطرة) أي: على الدين القويم ملة إبراهيم عليه السلام فإن إبراهيم عليه السلام أسلم واستسلم، قال الله تعالى عنه: {جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (37: 84) وقال عنه: {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (2: 131) وقال: {فَلَمَّا أَسْلَمَا} (37: 103) وقال ابن بطال وجماعة: المراد بالفطرة هنا دين الإسلام وهو بمعنى الحديث الآخر: ((من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة)) . قال القرطبي في المفهم: كذا قال الشيوخ وفيه نظر لأنه إذا كان قائل هذه الكلمات المقتضية للمعاني التي ذكرت من التوحيد والتسليم والرضا إلى أن يموت كمن يقول: لا إله إلا الله ممن لم يخطر له شيء من هذه الأمور فأين فائدة هذه الكلمات العظيمة وتلك المقامات الشريفة ويمكن أن يكون الجواب أن كلاً منهما وإن مات على الفطرة فبين الفطرتين ما بين الحالتين ففطرة الأول فطرة المقربين وفطرة الثاني فطرة أصحاب اليمين. قلت: وقع في حديث رافع بن خديج عند الترمذي وقد حسنه ((فإن مات من ليلته دخل الجنة)) . ووقع في رواية حصين بن عبد الرحمن عن سعد بن عبيدة عند أحمد بدل قوله: ((مات على الفطرة)) ((بنى له بيت في الجنة)) قال الحافظ: وهذا يؤيد ما ذكره القرطبي، وقال الشيخ أكمل الدين الحنفي في شرحه لمشارق الأنوار فإن قلت:

وفي رواية قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل: يا فلان إِذَا أَوَيت إِلَى فِرَاشِك فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الْأَيْمَنِ ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نفسي إليك ... إلى قوله: أَرْسَلْتَ. وقال: فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ متَ عَلَى الْفِطْرَةِ، وإن أصبحت أصبت خيرًا. متفق عليه. 2409- (6) وعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَكَفَانَا ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا مات الإنسان على إسلامه ولم يكن ذكر من هذه الكلمات شيئًا فقد مات على الفطرة لا محالة فما فائدة ذكر هذه الكلمات؟ أجيب بتنويع الفطرة ففطرة القائلين فطرة المقربين الصاحين، وفطرة الآخرين فطرة عامة المؤمنين، ورد بأنه يلزم أن يكون للقائلين فطرتان: فطرة المؤمنين وفطرة المقربين، وأجيب بأنه لا يلزم ذلك بل إن مات القائلون فهم على فطرة المقربين، وغيرهم لهم فطرة غيرهم - انتهى. (وفي رواية) للشيخين وغيرهما (قال) ، أي البراء (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل) هو البراء راوي الحديث ففي رواية للبخاري ((قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أتيت مضجعك)) . وفي رواية للترمذي عن البراء ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: ألا أعلمك كلمات تقولها إذا أويت إلى فراشك)) ، (إذا أويت إلى فراشك) أي انضممت إليه ودخلت فيه للنوم كما قال في الرواية الأخرى ((إذا أخذت مضجعك)) أي أتيت مكان نومك وأردت أن تضطجع (فتوضأ) أمر ندب (وضوءك للصلاة) أي كوضوئك للصلاة فهو منصوب بنزع الخافض. قال الترمذي: لا نعلم في شيء من الروايات ذكر الوضوء عند النوم إلا في هذا الحديث. وفي رواية لأبي داود: ((إذا أويت إلى فراشك وأنت طاهر فتوسد يمينك)) الحديث. (ثم اضطجع) أصله اضتجع لأنه من باب الافتعال فقلبت التاء طاء (وقال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - فيكون من جملة كلام البراء عطف على ((قال رسول الله)) (فإن مت) بضم الميم وكسرها (من ليلتك) أي في ليلتك (وإن أصبحت أصبت خيرًا) أي خيرًا كثيرًا. أو خيرًا في الدارين. قال النووي: في هذا الحديث ثلاث سنن مهمة مستحبة ليست بواجبة. إحداها: الوضوء عند إرادة النوم، فإن كان متوضأ كفاه ذلك الوضوء لأن المقصود النوم على طهارة مخافة أن يموت في ليلته وليكون أصدق لرؤياه وأبعد من تلعب الشيطان به في منامه وترويعه إياه. والثانية النوم على الشق الأيمن لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحب التيامن، ولأنه أسرع إلى الانتباه، الثالثة ذكر الله تعالى ليكون خاتمة عمله - انتهى. (متفق عليه) فيه نظر فإن الرواية الأولى للبخاري وحده كما تقدم والرواية الثانية رواها البخاري في آخر الوضوء وفي الدعوات وفي التوحيد في باب قوله {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ} ورواها مسلم في الدعاء، وكذا الترمذي، وابن ماجة، ورواها أبو داود في الأدب، والنسائي في: عمل اليوم والليلة، وأخرجها أيضًا أحمد: (ج4: ص290، 292، 296، 302) ، والدارمي في: الاستيذان، وابن السني (ص225) ، والبغوي في شرح السنة: (ج5: ص103، 104) . 2409- قوله (وكفانا) أي كفى مهماتنا وقضى حاجتنا ودفع عنا شر ما يؤذينا فهو تعميم بعد تخصيص

وَآوَانَا فَكَمْ مِمَّنْ لَا كَافِيَ لَهُ وَلَا مُؤْوِيَ. رواه مسلم. 2410- (7) وعن علي: أَنَّ فَاطِمَةَ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشْكُو إِلَيْهِ مَا تَلْقَى فِي يَدِهَا مِنْ الرَّحَى ـــــــــــــــــــــــــــــ (وآوانا) بالمد ويجوز القصر أي جعل لنا مأوى نأوى أي نضم إليه ونسكن فيه. قال الجزري: أي ردنا إلى مأوى لنا ولم يجعلنا منتشرين كالبهائم (في الصحاري) والمأوى المنزل، وفي حديث البيعة أنه قال للأنصار ((أبايعكم على أن تأوونى وتنصروني)) أي تضموني إليكم وتحوطوني بينكم، يقال: أوى وآوى بمعنى واحد أي ضم، والمقصود منهما لازم ومتعد ومنه قوله ((لا قطع في ثمر حتى يأويه الجرين)) أي يضمه البيدر ويجمعه، ومنه لا يأوي الضالة إلا ضال، كل هذا من أوى يأوى. يقال: أويت إلى المنزل وأويت غيري وآويته. وأنكر بعضهم المقصود المتعدي. وقال الأزهري: هي لغة فصيحة - انتهى. وقال النووي: إذا أوى إلى فراشه وأويت مقصور، وأما آوانا فممدود وهذا هو الصحيح الفصيح المشهور، وحكى القصر فيهما وحكى بالمد فيهما - انتهى (فكم ممن لا كافي له) بفتح الياء (ولا مؤوي) بضم ميم وسكون همزة ويبدل، وبكسر واو اسم فاعل من الإيواء وله مقدر. أي فكم من شخص لا يكفيهم الله شر الأشرار بل تركهم وشرهم حتى غلب عليهم أعداءهم ولا يهيئ لهم مأوى بل تركهم يهيمون في البوادي ويتأذون بالحر والبرد. قال الطيبي: ذلك قليل نادر فلا يناسب ((كم)) المقتضى للكثرة على أنه افتتح بقوله ((أطعمنا وسقانا)) ويمكن أن ينزل هذا على معنى قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} (47: 11) فالمعنى إنا نحمد الله عل أن عرفنا نعمه ووفقنا لأداء شكره فكم من منعم عليه لا يعرفون ذلك ولا يشكرون. وكذلك الله مولى الخلق كلهم بمعنى أنه ربهم ومالكهم لكنه ناصر للمؤمنين ومحب لهم فالفاء في ((فكم)) للتعليل. قيل وإنما حمد الله على الطعام والسقي وكفاية المهمات في وقت الاضطجاع لأن النوم فرع الشبع والري وفراغ الخاطر عن المهمات والأمن من الشرور. (رواه مسلم) في الدعاء، وأخرجه أيضًا أحمد، والترمذي في الدعوات، وأبو داود في الأدب، والنسائي، والبخاري في الأدب المفرد، وابن السني (ص226) ، والبغوي في شرح السنة (ج5: ص105) . 2410- قوله (وعن علي) ، أي ابن أبي طالب (أن فاطمة) الزهراء بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - (أتت النبي - صلى الله عليه وسلم -) ، أي بيته (تشكو إليه) قال القاري: إما مفعول له بحذف ((أن)) تخفيفًا أي أتت إليه إرادة أن تشكو أو حال مقدرة من فاعل أتت، أي مقدرة الشكوى (ما تلقى) ، أي من الكلفة والمشقة أو من ((المجل)) ففي الترمذي، وزوائد عبد الله بن أحمد في مسند أبيه (ج1: ص124) شكت فاطمة مجل يديها من الطحن. وهو بفتح الميم وسكون الجيم بعدها لام. قال الطبري: المراد به غلظ اليد، وكل من عمل عملاً بكفه فغلظ جلدها. قيل: مجلت كفه. وقال الجزري: مجلت يده تمجُل مجلاً ومجِلت تمجل مجلاً إذا ثخن جلدها وتعجز وظهر منها ما يشبه البثر من العمل بالأشياء الصلبة الخشنة (في يدها من الرحى) زاد في رواية ((مما

وَبَلَغَهَا أَنَّهُ جَاءَهُ رَقِيقٌ فَلَمْ تُصَادِفْهُ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ فَلَمَّا جَاءَ أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ قَالَ: فَجَاءَنَا وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا ـــــــــــــــــــــــــــــ تطحن)) ، أي من أجل إدارة الرحى بالقصر لطحن الشعير للخبز وهو سبب آخر من أسباب الشكوى وبقي أسباب أخرى ورد ذكرها عند أبي داود، وعبد الله بن أحمد في زوائده في مسند أبيه (ج1: ص154) ، من طريق أبي الورد عن علي بن أعبد عن علي قال: كانت فاطمة زوجتي فجرت بالرحى حتى أثر الرحى بيدها، واستقت بالقربة حتى أثرت القربة بنحرها وقمت، (أي كنست) البيت حتى اغبرت ثيابها وأوقدت تحت القدر حتى دنست (وفي رواية ((دكنت)) ) ثيابها فأصابها من ذلك ضرر (وبلغها) حال من ضمير ((أتت)) ، أي وقد بلغ فاطمة (أنه) ، أي الشأن (جاءه) ، أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (رقيق) من السبي والرقيق المملوك وقد يطلق على الجماعة. وقال الجزري: الرقيق اسم للعبيد والإماء فعيل بمعنى مفعول. أي إنه في الرق الملكة (فلم تصادفه) بالفاء، أي لم تجد فاطمة النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيته حتى تلتمس منه خادمًا، فإن قلت: في رواية أبي الورد عن ابن أعبد عن علي عند أبي داود، ((فوجدت عنده حداثًا - بضم المهملة وتشديد الدال وبعد الألف مثلثة - أي جماعة يتحدثون، فاستحيت فرجعت)) . قلت: يحمل على أن المراد أنها لم تجده في المنزل بل في مكان آخر كالمسجد وعنده من يتحدث معه (فذكرت ذلك) ، أي الذي تشكوه (لعائشة فلما جاء) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (أخبرته عائشة) ، أي بمجيء فاطمة إليها في طلب الخادم، وفي رواية للبخاري ((فذكرت ذلك عائشة له)) قال الحافظ: وفي رواية مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي ليلي (عن علي) عند جعفر الفريابي في الذكر، والدارقطني في العلل، وأصله في مسلم: ((حتى أتت منزل النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم توافقه فذكرت ذلك له أم سلمة بعد أن رجعت فاطمة)) ويجمع بأن فاطمة التمسته في بيتي أمي المؤمنين، وقد وردت القصة من حديث أم سلمة نفسها أخرجها الطبري في تهذيبه من طريق شهر بن حوشب عنها قالت: جاءت فاطمة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تشكو إليه الخدمة. فذكرت الحديث مختصرًا. وفي رواية السائب (عن علي عند أحمد (ج1: ص107) وابن سعد) : فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما جاء بك يا بنية؟ قالت: جئت لأسلم عليك واستحيت أن تسأله ورجعت. فقلت: ما فعلت؟ قالت: استحييت أن أسأله، فأتيناه جميعًا. قال الحافظ: وهذا مخالف لما في الصحيح ويمكن الجمع بأن تكون لم تذكر حاجتها أولاً على ما في هذه الرواية ثم ذكرتها ثانيًا لعائشة لما لم تجده، ثم جاءت هي وعلي على ما في رواية السائب فذكر بعض الرواة ما لم يذكر بعض وقد اختصره بعضهم. ففي رواية مجاهد الماضية في النفقات عند البخاري: أن فاطمة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - تسأله خادمًا فقال ألا أخبرك ما هو خير لك منه؟ . وفي رواية هبيرة بن يريم عن علي عند أحمد (ج1: ص147) قال: قلت لفاطمة: لو أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألتيه خادمًا فقد أجهدك الطحن والعمل. قالت: فانطلق معي. قال فانطلقت معها فسألناه فقال: ألا أدلكما - الحديث. ووقع عند مسلم من حديث أبي هريرة أن فاطمة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - تسأله خادمًا وشكت العمل فقال: ما ألفيته عندنا (قال) أي علي (فجاءنا وقد أخذنا) الواو فيه للحال (مضاجعنا) جمع مضجع وهو المرقد أي جاءنا النبي - صلى الله عليه وسلم - حال كوننا مضطجعين،

فَذَهَبْنَا نَقُومُ فَقَالَ: عَلَى مَكَانِكُمَا. فَجَاءَ فَقَعَدَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى بَطْنِي فَقَالَ: أَلَا أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَا ـــــــــــــــــــــــــــــ زاد في رواية السائب ((فأتيناه جميعًا فقلت: بأبي يا رسول الله والله لقد سنوت)) أي: استقيت من البير فكنت مكان السانية. وهي الناقة التي تسقى عليها الأرض. حتى اشتكيت صدري. وقالت فاطمة: لقد طحنت حتى مجلت يداي، وقد جاءك الله بسبي وسعة فأخدمنا فقال: والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم لا أجد ما أنفق عليهم، ولكني أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم. ووقع في رواية عبيدة بن عمرو عن علي عند ابن حبان من الزيادة ((فأتانا وعلينا قطيفة إذا لبسناها طولاً خرجت منها جنوبنا، وإذا لبسناها عرضًا خرجت منها رؤوسنا وأقدامنا)) وفي رواية السائب ((فرجعا فأتاهما النبي - صلى الله عليه وسلم - وق دخلا في قطيفة لهما إذا غطيا رؤوسهما، تكشف أقدامها، وإذا غطيا أقدامهما تكشف رؤوسهما)) (فذهبنا نقوم) أي شرعنا وقصدنا لأن نقوم له (على مكانكما) أي لا تفارقا عن مكانكما والزماه. وقيل أي اثبتا واستمرا على ما أنتما عليه من الاضطجاع (فجاء فقعد بيني وبينها) . وفي رواية عند أحمد: (ج1: ص145) والنسائي: (أتانا النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة حتى وضع قدمه يني وبين فاطمة) (حتى وجدت برد قدمه) بالإفراد وفي بعض النسخ بالتثنية وهكذا وقع عند البخاري في المناقب والنفقات والدعوات. أي بالتثنية، وكذا وقع عند مسلم. قال القسطلاني: ولأبي ذر ((قدمه)) أي بالإفراد (على بطني) . وفي رواية: ((قال على مكانكما حتى وجدت برد قدميه على صدري)) قال العيني: كلمة ((حتى)) غاية لمقدر تقديره فدخل هو في مضجعنا. ولظهوره ترك - انتهى. وقيل: أي: فأدخل قدميه بيننا من البرد حتى وجدت إلخ. وزاد في رواية الطبري ((فسخنتهما)) . وفي لفظ: وكانت ليلة باردة وقد دخلت هي وعلي في اللحاف فأرادا أن يلبسا الثياب وكان ذلك ليلاً. قال الحافظ: وفي رواية علي بن أعبد ((فجلس عند رؤوسهما وإنها أدخلت رأسها في اللفاع يعني: اللحاف حياء من أبيها)) ويحمل على أنه فعل ذلك أولاً فلما تأنست به دخل معهما في الفراش مبالغة في التأنيس، وفيه غاية التلطف على ابنته وصهره وإذا جاءت الألفة رفعة الكلفة. وزاد في رواية علي بن أعبد ((فقال: ما كان حاجتك أمس. فسكتت مرتين فقلت: أنا والله أحدثك يا رسول الله فذكرته له)) . ويجمع بين الروايتين بأنها أولاً استحيت فتكلم علي عنها فأنشطت للكلام فأكملت القصة، واتفق غالب الرواة على أنه - صلى الله عليه وسلم - جاء إليهما وفي مرسل علي بن الحسين عند جعفر الفريابي في الذكر ((أن فاطمة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - تسأله خادمًا وبيدها أثر الطحن من قطب الرحى فقال: إذا أويت إلى فراشك)) . فيحتمل أن تكون قصة أخرى فقد أخرج أبو داود من طريق أم الحكم أو ضباعة بنت الزبير أي ابن عبد المطلب قالت: أصاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبيًا فذهبت أنا وأختي فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نشكوا إليه ما نحن فيه وسألناه أن يأمر لنا بشيء من السبي فقال: سبقكن يتامى بدر. فذكر قصة التسبيح أثر كل صلاة ولم يذكر قصة التسبيح عند النوم فلعله علم فاطمة في كل مرة أحد الذكرين. كذا في الفتح فقال: (ألا) . بالتخفيف وفتح الهمزة: (أدلكما على خير مما سألتما) وفي رواية: ((مما سألتماني)) أي طلبتما من الرقيق، وفي رواية السائب: ((ألا أخبركما بخير مما سألتماني؟ فقالا: بلى.

إِذَا أَخَذْتُمَا مَضجَعْكُمَا فَسَبِّحَا ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ وَاحْمَدَا ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ وَكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ ـــــــــــــــــــــــــــــ فقال: كلمات علمنيهن جبريل)) (إذا أخذتما مضجعكما) زاد في رواية لمسلم ((من الليل)) ، وزاد في رواية السائب عند أحمد (ج1: ص107) ، ((تسبحان دبر كل صلاة عشرًا، وتحمدان عشرًا، وتكبران عشرًا)) وهذه الزيادة ثابتة في رواية عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص عند أصحاب السنن الأربعة في حديث أوله: ((خصلتان لا يحصيهما عبد إلا دخل الجنة)) وصححه الترمذي، وابن حبان وفيه ذكر ما يقال عند النوم أيضًا (فسبحا) بكسر الموحدة (واحمدا) بفتح الميم (وكبرا) وبكسر الموحدة (أربعًا وثلاثين) كذا وقعي في رواية القطان عن شعبة عن الحكم عن ابن أبي ليلى عن علي عند البخاري في النفقات بالجزم بأربع في التكبير وتقديم التسبيح. وهكذا وقع في روايات أخرى، ومثله لسليمان بن حرب عن شعبة عند البخاري أيضًا لكن قدم التكبير وأخر التسبيح، وزاد في رواية هبيرة عن علي في آخر الحديث ((فتلك مائة باللسان وألف في الميزان)) قال الجزري في شرحه للمصابيح: في بعض الروايات الصحيحة التكبير أولاً وكان شيخنا الحافظ ابن كثير يرجحه ويقول: تقديم التسبيح يكون عقب الصلاة وتقديم التكبير عند النوم، أقول: الأظهر أنه يقدم تارة ويؤخر أخرى عملاً بالروايتين وهو أولى وأحرى من ترجيح الصحيح على الأصح مع أن الظاهر أن المراد تحصيل هذا العدد وبأيهن بدأ لا يضر كما ورد في سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. ((لا يضرك بأيهن بدأت)) . وفي تخصيص الزيادة بالتكبير إيماء إلى المبالغة في إثبات العظمة والكبرياء فإنه يستلزم الصفات التنزيهية والثبوتية المستفادة من التسبيح والحمد. والله أعلم. كذا في المرقاة. قلت: وفي رواية: ((التكبير ثلاث وثلاثون)) وفي رواية: ((التسبيح أربع وثلاثون)) . وفي رواية: ((التحميد أربع وثلاثون)) واتفاق أكثر الرواة على أن الأربع للتكبير أرجح. قال ابن بطال: هذا نوع من الذكر عند النوم ويمكن أن يكون - صلى الله عليه وسلم - كان يقول جميع ذلك عند النوم وأشار لأمته بالاكتفاء ببعضها إعلامًا منه أن معناه الحض والندب لا الوجوب. وقال عياض: جاءت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذكار عند النوم مختلفة بحسب الأحوال والأشخاص والأوقات وفي كل فضل (فهو) أي: التسبيح وما بعده إذا قلتماه في الوقت المذكور، وقيل: أي: ما ذكر من الذكر (خير) أي: أفضل (لكما) أي: خاصة، وكذا لمن قاله وعمل به (من خادم) الخادم واحد الخدم يقع على الذكر والأنثى قال العيني: وجه الخيرية إما أن يراد به أن يتعلق بالآخرة والخادم بالدنيا والآخرة خير وأبقى. وإما أن يراد بالنسبة إلى ما طلبته بأن يحصل لها بسبب هذه الأذكار قوة تقدر على الخدمة أكثر مما يقدر الخادم عليه. وفي الحديث حمل الإنسان أهله على ما يحمل على نفسه من إيثار الآخرة على الدنيا إذا كانت لهم قدرة على ذلك. وفيه بيان إظهار غاية التعطف والشفقة على البنت والصهر ونهاية الاتحاد برفع الحشمة والحجاب حيث لم يزعجهما عن مكانهما فتركهما على حالة اضطجاعهما وبالغ حتى أدخل رجله بينهما ومكث بينهما حتى علمهما ما هو الأولى بحالهما من الذكر عوضًا عما طلباه من الخادم فهو من باب تلقي المخاطب بغير ما يطلب إيذانًا بأن الأهم من المطلوب هو التزود للمعاد والصبر على

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ مشاق الدنيا والتجافي عن دار الغرور. وفيه أن الزوج لا يلزمه إخدام زوجته إذا كانت لا تخدم في بيت أبيها وكانت تقدر على الخدمة من طبخ وخبز وملء ماء وكنس بيت. ولما سألت فاطمة الخادم لم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عليًّا أن يخدمها. قال الطبري: يؤخذ منه أن كل من كانت لها طاقة من النساء على خدمة بيتها في خبز أو طحن أو غير ذلك أن ذلك لا يلزم الزوج إذا كان معروفًا أن مثلها يلي ذلك بنفسه ولو كانت كفاية ذلك إلى علي لأمره به كما أمره أن يسوق إليها صداقها قبل الدخول مع أن سوق الصداق ليس بواجب إذا رضيت المرأة أن تؤخره فكيف يأمره بما ليس بواجب عليه ويترك أن يأمره بالواجب. وحكى ابن حبيب عن أصبغ وابن الماجشون عن مالك أن خدمة البيت تلزم المرأة ولو كانت الزوجة ذات قدر وشرف إذا كان الزوج معسرًا. قال: ولذلك ألزم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فاطمة بالخدمة الباطنة وعليًّا بالخدمة الظاهرة. وحكى ابن بطال أن بعض الشيوخ قال: لا نعلم في شيء من الآثار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى على فاطمة بالخدمة الباطنة وإنما جرى الأمر بينهم على ما تعارفوه من حسن العشرة وجميل الأخلاق وأما أن تجبر المرأة على شيء من الخدمة فلا أصل له بل الإجماع منعقد على أن على الزوج مؤنة الزوجة كلها. ونقل الطحاوي الإجماع على أن الزوج ليس له إخراج خادم المرأة من بيته فدل على أنه يلزمه نفقة الخادم على حسب الحاجة إليه. وقال الشافعي والكوفيون: يفرض لها ولخادمها النفقة إذا كانت ممن تخدم. وقال مالك والليث ومحمد بن حسن: يفرض لها ولخادمها إذا كانت خطيرة. وشذ أهل الظاهر فقالوا: ليس على الزوج أن يخدمها ولو كانت بنت الخليفة، وحجة الجماعة قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (4: 19) وإذا احتاجت إلى من يخدمها فامتنع لم يعاشرها بالمعروف كذا في الفتح. وفيه أن للإمام أن يقسم الخمس حيث رأى لأن السبي لا يكون إلا من الخمس. وأما الأربعة أخماس فهو حق الغانمين، وهو قول مالك وجماعة. وذهب الشافعي جماعة إلى أن لآل البيت سهمًا من الخمس. قال إسماعيل القاضي: هذا الحديث يدل على أن للإمام أن يقسم الخمس حيث يرى. لأن الأربعة الأخماس استحقاق الغانمين، والذي يختص بالإمام هو الخمس، وقد منع النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنته وأعز الناس عليه من أقربيه وصرفه إلى غيرهم. وقال نحوه الطبري: لو كان سهم ذوي القربى قسمًا مفروضًا لأخدم ابنته ولم يكن ليدع شيئًا اختاره الله ولها وامتن به على ذوي القربى. وكذا قال الطحاوي وزاد: وإن أبا بكر وعمر أخذا بذلك وقسما جميع الخمس ولم يجعلا لذوي القربى منه حقًا مخصوصًا به بل بحسب ما يرى الإمام وكذلك فعل علي. قال الحافظ: في الاستدلال بحديث علي هذا نظر لأنه يحتمل أن يكون ذلك من الفيء وأما خمس الخمس من الغنيمة فقد روى أبو داود من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي، قال: قلت: يا رسول الله إن رأيت أن توليني حقنًا من هذا الخمس - الحديث. وله من وجه آخر عنه ((ولاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمس الخمس فوضعته مواضعه حياته - الحديث. فيحتمل أن تكون قصة فاطمة وقعت قبل فرض الخمس. والله أعلم. وهو بعيد لأن قوله تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ} (8: 41) .

متفق عليه. 2411- (8) وعن أبي هريرة قال: جاءت فاطمة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تَسْأَلُهُ خَادِمًا فَقَالَ: أَلا أَدُلُّكِ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ خَادِمٍ؟ تُسَبِّحِينَ الله ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ ـــــــــــــــــــــــــــــ الآية نزلت في غزوة بدر وقد مضى قريبًا أن الصحابة أخرجوا الخمس من أول غنيمة غنموها من المشركين فيحتمل أن حصة خمس الخمس وهو حق ذوي القربى من الفيء المذكور لم يبلغ قدر الرأس الذي طلبته فاطمة فكان حقها من ذلك يسيرًا جدًا يلزم منه أن لو أعطاها الرأس أثر في حق بقية المستحقين ممن ذكر. وقال المهلب: في هذا الحديث أن للإمام أن يؤثر بعض مستحقي الخمس على بعض ويعطي الأوكد فالأوكد ويستفاد من الحديث حمل الإنسان أهله على ما يحمل عليه نفسه من التقلل والزهد في الدنيا والقنوع بما أعد الله لأولياءه الصابرين في الآخرة. قلت (قائله الحافظ) : وهذا كله بناء على ما يقتضيه ظاهر الترجمة (أي: ترجمة البخاري بلفظ باب الدليل على أن الخمس لنوائب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمساكين وإيثار النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل الصفة والأرامل حين سألته فاطمة وشكت إليه الطحن والرحى أن يخدمها من السبي فوكلها إلى الله) وأما مع الاحتمال الذي ذكرته أخيرًا فلا يمكن أن يؤخذ من ذكر الإيثار عدم وقوع الاشتراك في الشيء، ففي ترك القسمة وإعطاء أحد المستحقين دون الآخر إيثار الآخذ على الممنوع فلا يلزم منه نفي الاستحقاق، كذا تكلم الحافظ في الفتح تحت الترجمة المذكورة من الخمس فتأمله. وقال في الدعوات بعد ذكر كلام القاضي إسماعيل: ثم وجدت في تهذيب الطبري من وجه آخر ما لعله يعكر على ذلك. فساق من طريق أبي أمامة الباهلي عن علي ((قال: أهدي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رقيق أهداهم له بعض ملوك الأعاجم، فقلت لفاطمة: ائت أباك فاستخدميه)) فلو صح هذا لأزال الإشكال من أصله لأنه حينئذ لا يكون للغانمين فيه شيء، وإنما هو من مال المصالح يصرفه الإمام حيث يراه - انتهى. وإن شئت الوقوف على اختلاف العلماء في كيفية تقسيم خمس الغنيمة فارجع إلى فتح القدير للشوكاني (ج2: ص295، 296) (متفق عليه) . أخرجه البخاري في الخمس ومناقب علي والنفقات والدعوات، ومسلم في الدعاء واللفظ المذكور للبخاري في النفقات، وأخرجه أيضًا أحمد (ج1: ص80، 81، 97، 107، 137، 145، 147) مختصرًا ومطولاً وكذا ابنه عبد الله في زوائده (ج1: ص124، 154) ، وأخرجه أيضًا الحميدي في مسنده (ج1: ص24) ، والترمذي في الدعوات، وأبو داود في الخراج وفي الأدب، والنسائي في الكبرى، وابن حبان في صحيحه، وابن السنى (ص235) ، وابن سعد، والدارمي في الاستيذان، والبغوي في شرح السنة (ج5: ص108) . 2411- قوله: (تسأله خادمًا) أي: رقيقًا ولم تصادفه فلما علم بها جاءها، وفي صحيح مسلم بعد هذا ((وشكت العمل فقال: ما ألفيتيه عندنا)) قال الحافظ: هو بالفاء، أي: ما وجدته ويحمل على أن المراد ما وجدته عندنا فاضلاً عن حاجتنا إليه لما ذكر من إنفاق أثمان السبي على أهل الصفة (تسبحين الله) إلخ. بصيغة المضارع، وذكر الجلالة في

(الفصل الثاني)

وَتَحْمَدِينَ الله ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَتُكَبِّرِينَ الله أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ عند كل صلاة وعند منامك. رواه مسلم. (الفصل الثاني) 2412- (9) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَصْبَحَ قَالَ: اللَّهُمَّ بِكَ أَصْبَحْنَا وَبِكَ أَمْسَيْنَا وَبِكَ نَحْيَا وَبِكَ نَمُوتُ وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ. وَإِذَا أَمْسَى فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ بِكَ أَمْسَيْنَا وَبِكَ أَصْبَحْنَا وَبِكَ نَحْيَا وَبِكَ نَمُوتُ وَإِلَيْكَ النُّشُورُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المواضع الثلاثة وليس في مسلم ذكر الجلالة (أربعًا وثلاثين) تكملة للمائة (عند كل صلاة) أي: بعد كل مفروضة كما ورد في الأحاديث وقوله: ((عند كل صلاة)) هكذا وقع في جميع نسخ المشكاة الحاضرة وكذا في المصابيح، وشرح السنة. وليس هو في صحيح ومسلم. ولم يذكره الجزري في جامع الأصول. (وعند منامك) ، وفي مسلم: حين تأخذ مضجعك. ولعل تخصيصها بالخطاب في هذا الحديث لأنها الباعث الأصلي في طلب الخادم أو هذا الحديث نقل بالمعنى أو بالاختصار وهذا هو الراجح. وفي الحديث أن من واظب على هذا الذكر عند النوم يصبه إعياء لأن فاطمة شكت التعب من العمل فأحالها - صلى الله عليه وسلم - على ذلك. كذا أفاده ابن تيمية، قال الحافظ: وفيه نظر ولا يتعين رفع التعب بل يحتمل أن يكون من واظب عليه لا يتضرر بكثرة العمل ولا يشق عليه ولو حصل له التعب. والله أعلم (رواه مسلم) في الدعاء ولم أجد من أخرجه سواه. 2412- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أصبح) أي: دخل في الصباح وهذا لفظ أحمد، وأبي داود، والبخاري في الأدب المفرد. وللترمذي: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلم أصحابه يقول: إذا أصبح أحدكم فليقل)) . ولابن ماجة، وابن السنى ((قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أصبحتم فقولوا)) . فقد اجتمع في الحديث القول والفعل (اللهم بك أصبحنا) الباء متعلق بمحذوف وهو خبر ((أصبحنا)) ولا بد من تقدير مضاف أي: أصبحنا متلبسين بحفظك، أو مغمورين بنعمتك، أو مشتغلين بذكرك، أو مستعينين باسمك، أو مشمولين بتوفيقك، أو متحركين بحولك وقوتك ومتقلبين بإرادتك وقدرتك. وتقديم ((بك)) على أصبحنا وما بعده يفيد الاختصاص (وبك أمسينا) هذا مبني على أن المراد المساء السابق أو اللاحق وصيغة الماضي للتفاؤل (وبك نحيى وبك نموت) أي: أنت تحيينا وأنت تميتنا يعني يستمر حالنا على هذا في جميع الأوقات وسائر الأحوال (وإليك) لا إلى غيرك (المصير) أي: المرجع بعد البعث (وإذا أمسى) عطف على ((إذا أصبح)) (اللهم بك أمسينا وبك أصبحنا) بتقديم ((أمسينا)) (وإليك النشور) أي: البعث بعد الموت. قال الجزري: يقال: نشر الميت ينشر نشورًا إذا عاش بعد الموت وأنشره الله أحياه. وقال المجد: النشر إحياء الميت كالنشور والإنشار والحياة نشره فنشر. وأفادت رواية الكتاب أن لفظ ((المصير)) في الصباح ولفظ ((النشور)) في المساء وهكذا وقع في نسخ الترمذي الموجودة عندنا وكذا ذكر الشوكاني في تحفة

رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجة. 2413- (10) وعنه قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ قلت: يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْنِي بِشَيْءٍ أَقُولُهُ إِذَا أَصْبَحْتُ وَإِذَا أَمْسَيْتُ قَالَ: قُلْ اللَّهُمَّ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ ـــــــــــــــــــــــــــــ الذاكرين ويظهر من تصحيح المصابيح وجامع الأصول (ج5: ص62) أن في الترمذي ((المصير)) في الموضعين، وهكذا رواه البغوي في شرح السنة (ج5: ص112) أي: بلفظ: ((المصير)) في الموضعين قال: ويروى ((وإليك النشور)) وجاء في أبي داود فيهما النشور. وفي أبي عوانة، والأدب المفرد: ((النشور)) في الصباح و ((المصير)) في المساء عكس ما في نسخ الترمذي، ورواه ابن ماجة بذكر المصير في المساء ولم يذكر لفظ النشور مطلقًا، ومؤدي النشور والمصير واحد وهو الرجوع إلى الله بعد الموت فلا تخالف بين الروايات ولا اعتراض على البغوي والمصنف في إيرادهما الرواية المذكورة (رواه الترمذي) في الدعوات وحسنه (وأبو داود) في الأدب وسكت عنه. وذكر المنذري تحسين الترمذي وأقره (وابن ماجة) في الدعاء، وأخرجه أيضًا أحمد بإسناد رجله رجال الصحيح، والنسائي في الكبرى، والبخاري في الأدب المفرد، وأبو عوانة، وابن حبان في صحيحيهما، وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص13) ، والبغوي في شرح السنة وقال: هذا حديث حسن وذكره النووي في الأذكار وصححه. 2413- قوله (وعنه قال) الظاهر أن الحديث من رواية أبي هريرة مباشرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه شهد سؤال أبي بكر (قال أبو بكر: قلت يا رسول الله) كذا في بعض النسخ ووقع في بعضها ((قال أبو بكر: يا رسول الله)) ، أي بدون لفظ ((قلت)) وهكذا وقع عند جميع المخرجين وكذا ذكره البغوي في المصابيح، والنووي في الأذكار، والجزري في جامع الأصول، والشوكاني في تحفة الذاكرين وهو الصواب. (وإذا أمسيت) زاد في رواية أحمد (ج1: ص10) ((إذا أخذت مضجعي)) (اللهم عالم الغيب والشهادة) ، أي ما غاب من العباد وظهر لهم، ونصبه على أنه صفة المنادي أو على النداء فإن قوله: اللهم بمعنى يا الله. وكذا ما بعده من الأوصاف وهو قوله: (فاطر السموات والأرض) أي مخترعهما وموجدهما ومبدعهما على غير مثال سبق. وقوله: ((اللهم عالم الغيب)) إلخ. وهكذا وقع بتقديم العالم على الفاطر عند أحمد (ج1: ص11، وج2: ص298) ، والترمذي، والبخاري في الأدب المفرد، وأفعال العباد، وابن حبان، وفي بعض الطرق ابن السني. ووقع عند أحمد (ج1: ص15) ، وأبي داود، والدارمي، والحاكم وفي بعض الروايات لابن السني بتقديم الفاطر على العالم، ووقع عند أحمد (ج1: ص10) بالشك أنه قال: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة. أو قال: اللهم عالم الغيب والشهادة فاطر السموات والأرض. والجزم مقدم على الشك. ورواية تقديم الفاطر أرجح لموافقتها لحديث عبد الله بن عمرو عند أحمد (ج2: ص197) ، والترمذي، والبخاري في الأدب المفرد، ولكونها موافقة للتنزيل. والله أعلم. (رب كل شيء) بالنصب أيضًا، أي

وَمَلِيكَهُ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ قُلْهُ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ وَإِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ. رواه الترمذي، وأبو داود، والدارمي. 2414- (11) وعن أبان ـــــــــــــــــــــــــــــ مصلح كل شيء ومربيه. (ومليكه) ، أي وملك كل شيء أو مالكه وقاهرة، فعيل بمعنى الفاعل للمبالغة كالقدير بمعنى القادر (أعوذ بك من شر نفسي) ، أي من ظهور السيئات الباطنية التي جبلت النفس عليها، وقيل: أي من شر هواها المخالف للهدي قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ} (28: 50) . أما إذا وافق الهوى الهدى فهو كزبد وعسل. وقيل: الاستعاذة منها لكونها أسرع إجابة إلى داعي الشر من الهوى والشيطان. وحاصله مزيد الاعتناء بتطهير النفس فقدم إشارة لكمال الصديق أن يفعله ليكون وسيلة إلى كل كمال يترقى إليه بعد، إذ الترقي يتفاوت بحسب تفاوت مراتب ذلك التطهير (ومن شر الشيطان) ، أي وسوسته وإغواءه وإضلاله، ثم يحتمل أن يكون المراد جنس الشياطين أو رئيسهم وهو إبليس (وشركه) روي على وجهين أظهرهما وأشهرهما بكسر الشين مع إسكان الراء أي: ما يدعو إليه الشيطان ويوسوس به من الإشراك بالله. والثاني: بفتح الشين والراء. أي: جبائله ومصائده (جمع مصيدة وهي ما يصاد بها من كل شيء) التي يفتتن الناس بها، وإحداها شركة بفتح الشين والراء وآخرها هاء. والإضافة على الأول إضافة المصدر إلى الفاعل وعلى الثاني محصنة، والعطف على التقديرين للتخصيص بعد التعميم للاهتمام به (قله) أي: قل هذا القول (وإذا أخذت مضجعك) بفتح الميم والجيم بينهما ضاد ساكنة أي: إذا أردت النوم (رواه الترمذي) في الدعوات، وصححه (وأبو داود) في الأدب، وسكت عليه. ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره (الدارمي) في الاستيذان، وأخرجه أيضًا أحمد (ج1: ص10، 11، وج2: ص298) ، والنسائي في الكبرى، والبخاري في الأدب المفرد، وأفعال العباد، وابن حبان في صحيحه، والحاكم (ج1: ص513) ، وصححه وأقره الذهبي، وابن أبي شيبة، وابن السنى (ص16، 230، 231) ، وأبو داود الطيالسي، والخطيب في تاريخ بغداد (ج11: ص166، 167) ، وفي الباب عن عبد الله بن عمرو عند أحمد (ج2: ص172، 197) ، والترمذي في الدعوات، والبخاري في الأدب المفرد من طريق أبي راشد الحبراني قال: أتيت عبد الله بن عمرو ابن العاص فقلت له: حدثنا بما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فألقى بين يدي صحيفة. فقال: هذا ما كتب لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنظرت فيها فإذا فيها ((أن أبا بكر الصديق قال: يا رسول الله علمني ما أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت، فقال له رسول الله: يا أبا بكر قل: اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة لا إله إلا أنت، رب كل شيء ومليكه أعوذ بك من شري نفسي ومن شر الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءًا أو أجره إليّ مسلم)) . 2414- قوله: (وعن أبان) بفتح الهمزة وتخفيف الموحدة يصرف لأنه على وزن فعال، ويمنع لأنه يجعل على

بْنِ عُثْمَانَ قَال سَمِعْتُ أبي يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ فِي صَبَاحِ كُلِّ يَوْمٍ وَمَسَاءِ كُلِّ لَيْلَةٍ بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَيَضُرَّهُ شَيْءٌ. فَكَانَ أَبَانُ قَدْ أَصَابَهُ طَرَفُ فَالِجٍ فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ أَبَانُ مَا تَنْظُرُ إليَّ؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ وزن أفعل، والأشهر الصرف (ابن عثمان) أي: ابن عفان الأموي المدني ثقة من كبار التابعين قال عمرو بن شعيب: ما رأيت أعلم بحديث ولا أفقه منه. وعده يحيى القطان في فقهاء المدينة. وكان به صمم ووضح وأصابه الفالج قبل أن يموت بسنة، مات سنة (105) حكى البخاري في التاريخ عن مالك أنه كان قد علم أشياء من قضاء أبيه، وأنكر أحمد سماعه من أبيه، وفي هذا الحديث تصريح بسماعه منه، وكذا حديثه في صحيح مسلم مصرح بالسماع (قال) أي أبان (سمعت أبي) أي عثمان: ما من عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة) أي بعد طلوع الفجر وبعد غروب الشمس، وفي رواية أحمد (ج1: ص67) : قال في أول يومه أو في أول ليلته (بسم الله) قيل الباء متعلقة الاستعاذة المقدرة أي: أعوذ باسم الله، وقيل متعلَّقة هو أصبحنا وأمسينا حسبما يقتضيه المقام أو متعلقة أستعين أو أتحفظ أي: أستعين أو أتحفظ من كل مؤذ باسم الله. المعنى أذكر اسمه على وجه التعظيم والتبرك (الذي لا يضر مع اسمه) أي: مع ذكره باعتقاد حسن ونية خالصة (شيء) كائن (في الأرض ولا في السماء) أي: من البلاء النازل منها (وهو السميع) أي: بأقوالنا (العليم) أي: بأحوالنا (ثلاث مرات) ظرف ((يقول)) (فيضره شيء) بالنصب جواب ((ما من عبد)) . قال الطيبي: وبالرفع عطفًا على يقول: على أن الفاء هنا كهي في قوله: ((لا يموت لمؤمن ثلاثة من الولد فتمسه النار)) أي: لا يجتمع هذا القول مع المضرة كما لا يجتمع مس النار مع موت ثلاثة من الولد بشرطه. ورواه أحمد (ج1: ص63، 67) ، والبخاري في الأدب المفرد بلفظ: ((من قال صباح كل يوم ومساء كل ليلة ثلاثًا ثلاثًا بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، لم يضره شيء في ذلك اليوم أو في تلك الليلة)) . وفي الحديث دليل على أن هذه الكلمات تدفع عن قائلها كل ضر كائنًا ما كان وأنه لا يصاب بشيء في ليله ولا نهاره إذا قالها في أول الليل والنهار (فكان) كذا في جميع النسخ الحاضرة، وفي الترمذي، وابن ماجة ((وكان)) (أبان) بالوجهين (طرف فالج) كذا للترمذي، وفي ابن ماجة: طرف من الفالج أي: نوع منه وهو بكسر اللام داء يحدث في أحد شقي البدن فيبطل إحساسه وحركته. قال في القاموس: الفالج (بكسر اللام على وزن فاعل) استرخاء لأحد شقي البدن لانصباب خلط بلغمي تنسد منه مسالك الروح (فجعل الرجل) الذي سمع منه الحديث (ينظر إليه) أي: إلى أبان تعجبًا وإنكارًا بأنك كنت تقول هذه الكلمات في كل صباح ومساء فكيف أصابك الفالج إن كان الحديث صحيحًا؟ (ما تنظر إلى) أي: ما سبب نظرك إلي؟ قال الطيبي: ((ما)) هي استفهامية وصلتها محذوفة و ((تنظر

أَمَا إِنَّ الْحَدِيثَ كَمَا حَدَّثتكَ وَلَكِنِّي لَمْ أَقُلْهُ يَوْمَئِذٍ لِيُمْضِيَ اللَّهُ عَلَيَّ قَدَرَهُ. رواه الترمذي، وابن ماجة، وأبو داود. وفي روايته: ((لَمْ تُصِبْهُ فَجْاءَةُ بَلاءٍ حَتَّى يُصْبِحَ وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُصْبِحُ لَمْ تُصِبْهُ فَجْاءَةُ بَلَاءٍ حَتَّى يُمْسِيَ)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ إليّ)) حال، أي: ما لك تنظر إلي؟ (أما) للتنبيه وقيل: بمعنى حقًا (ولكني لم أقله) أي: ما قدر الله لي أن أقوله (يومئذ ليمضي) من الإمضاء (عليّ) بتشديد الياء (قدره) بفتح الدال أي: مقدره. قال الطيبي: قوله: ((ليمضي الله)) علة لعدم القول وليس بغرض له كما في قعدت عن الحرب جبنًا، وقيل: اللام فيه للعاقبة. كما في قوله: لدوا للموت وابنوا للخراب، ذكره القاري. وفي رواية أبي داود ((فجعل الرجل الذي سمع منه الحديث ينظر إليه، فقال: ما لك تنظر إلي؟ فو الله ما كذبت على عثمان ولا كذب عثمان على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن اليوم الذي أصابني فيه ما أصابني فيه غضبت فنسيت أن أقولها)) . (رواه الترمذي، وابن ماجة) في الدعاء. وقال الترمذي: حديث حسن غريب صحيح (وأبو داود) في الأدب، وسكت عنه هو والمنذري، وأخرجه أيضًا أحمد (ج1: ص63، 67) ، وابنه عبد الله في زوائده (ج1: ص73) ، والبخاري في الأدب المفرد، والنسائي في الكبرى، وابن حبان، والحاكم (ج1: ص514) وصححه ووافقه الذهبي، وابن أبي شيبة، وابن السني (ص16) ، والبغوي في شرح السنة (ج5: ص113) (وفي روايته) أي: رواية أبي داود (لم تصبه فجاءة بلاء) بالإضافة بيانية، وهو بضم الفاء ممدودًا مصدر بمعنى المفعول أو بمعنى ما فاجأك. يقال: فجأه الأمر يفجأه، وفجئه يفجأه فجأ، وفجأة وفجأءة، وفاجأه مفاجأة، وافتجأ افتجاء هجم عليه أو طرقه بغتة من غير أن يشعر به. قال القاري: وفي نسخة بفتح الفاء وسكون الجيم في مختصر النهاية فجأه الأمر وفجئه فجاءة بالضم والمد وفجأ بالفتح وسكون الجيم من غير مد وفاجأه مفاجأة إذا جاءه بغتة من غير تقدم سبب - انتهى. وفيه إشارة إلى أن المراد بالفجأءة ما يفجأ به، والمصدر بمعنى المفعول وهو أعم من أن يكون بالمد وغيره (حتى يصبح، ومن قالها) أي: تلك الكلمات (حين يصبح لم تصبه فجاءة بلاء حتى يمسي) وعند ابن حبان وعبد الله بن أحمد في زوائده في مسند أبيه (ج1: ص73) ((لم تفجأه فاجئة بلاء حتى الليل، ومن قالها حين يمسي لم تفجأه فاجئة بلاء حتى يصبح إن شاء الله)) يعني من قال ذلك في الصباح يحفظه الله من كل ضرر مفاجئ حتى يغيب الشمس، ومن قالها في المساء يحفظه الله كذلك حتى يطلع الفجر، وفي شرح السنة ((لم تفجأه فاجئة حتى يمسي ... وحتى يصبح)) . قال القاري: وفي الغايتين أعني حتى يصبح وحتى يمسي إيماء إلى أن ابتداء الحفظ من الفجاءة والمضرة عقب قول القائل في أي: جزأ من أجزاء الليل أو النهار بل وفي سائر أثناءهما.

2415- (12) وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ إِذَا أَمْسَى: أَمْسَيْنَا وَأَمْسَى الْمُلْكُ لِلَّهِ والحَمْدُ لله لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ رَبِّ أَسْأَلُكَ خَيْرَ مَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَخَيْرَ مَا بَعْدَهَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَشَرِّ مَا بَعْدَهَا رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْكَسَلِ وَمِنْ سُوءِ الْكِبَرِ أَوْ الْكُفْرِ. وفي رواية: ((مِنْ سُوءِ الْكِبَرِ والكبر)) ، رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ وَعَذَابٍ فِي الْقَبْرِ. وَإِذَا أَصْبَحَ قَالَ ذَلِكَ أَيْضًا: أَصْبَحْنَا وَأَصْبَحَ الْمُلْكُ لِلَّهِ. رواه أَبُو دَاوُد، والترمذي. وفي روايته لَمْ يَذْكُرْ: ((مِن سُوءَ الْكُفْرِ)) . 2416- (13) وعن بَعْضَ بَنَاتِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُعَلِّمُهَا فَيَقُولُ: قُولِي حِينَ تُصْبِحِينَ سُبْحَانَ اللَّهِ ـــــــــــــــــــــــــــــ 2415- قوله: (وعن عبد الله) أي: ابن مسعود (كان يقول إذا أمسى أمسينا) إلى قوله: (وهو على كل شيء قدير) سبق الكلام عليه إعرابًا. ومعنى (رب) أي: يا ربي (وخير ما بعدها) أي: من الليالي أو مطلقًا (من الكسل) أي: في صالح العمل، وهو بفتحتين عدم انبعاث النفس للخير وقلة الرغبة مع إمكانه يقال: كسل كسمع يكسل فتر وتثاقل وتوانى عما لا ينبغي أن يتوانى عنه (ومن سوء الكبر) . قال النووي: قال القاضي: روينا الكبر بإسكان الباء وفتحها. فالإسكان بمعنى التعاظم على الناس والفتح بمعنى الهرم والخرف والرد إلى أرذل العمر كما في الحديث الآخر. قال القاضي: وهذا أظهر وأشهر مما قبله. قال: وبالفتح ذكره الهروي، وبالوجهين ذكره الخطابي وصوب الفتح وتعضده رواية النسائي: ((وسوء العمر)) انتهى. (أو الكفر) شك من الراوي وفي جامع الأصول: ((والكفر)) أي: بالواو بدل أو، أي: من سوء الكفر أي: من شر ما فيه الكفر أو الكفران. وقال القاري: أي: من شر الكفر وإثمه وشؤمه، أو المراد بالكفر الكفران (وفي رواية) أي: لأبي داود (من سوء الكبر) بفتح الباء أي: كبر السن (والكبر) بسكونها أي التكبر عن الحق (رب أعوذ بك من عذاب في النار) أي: عذاب كائن في النار (وإذا أصبح قال ذلك) أي: ما يقول في المساء من الذكر المذكور (أيضًا) أي إلا أنه يقول: (أصبحنا وأصبح الملك لله) بدل ((أمسينا وأمسى الملك لله)) ويبدل اليوم بالليلة فيقول: رب أسألك خير ما في هذا اليوم، ويذكر الضمائر بعده (رواه أبو داود) في الأدب، (والترمذي) في الدعوات، وأخرجه أيضًا مسلم وقد تقدم في الفصل الأول من هذا الباب والنسائي، وابن أبي شيبة، وابن السنى (ص13) (وفي روايته) أي: الترمذي (لم يذكر) بصيغة المجهول وروي معلومًا (من سوء الكفر) وكذا لم يذكر في رواية لأبي داود وليس هو عند مسلم أيضًا فالمحفوظ هو من سوء الكبر. 2416- قوله: (وعن بعض بنات النبي - صلى الله عليه وسلم -) قال الحافظ في التقريب لم أقف على اسمها وكلهن صحابيات. أي: فلا يضر جهالة اسمها (فيقول) الفاء تفسيرية (سبحان الله) هو علم للتسبيح منصوب على المصدرية تقديره سبحت الله سبحانًا

وَبِحَمْدِهِ ولا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. اعلم أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علمًا فَإِنَّهُ مَنْ قَالَها حِينَ يُصْبِحُ حُفِظَ حَتَّى يُمْسِيَ وَمَنْ قَالَها حِينَ يُمْسِي حُفِظَ حَتَّى يُصْبِحَ. رواه أبو داود. 2417- (14) وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: قال رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ فَسُبْحَانَ اللَّهِ ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا يستعمل غالبًا إلا مضافًا، ومعنى التسبيح تنزيه الله عما لا يليق به من كل نقص وعيب (وبحمده) قيل الواو للحال والتقدير: أسبح الله متلبسًا بحمدي له من أجل توفيقه. وقيل: عاطفة. والتقدير: أسبح الله وأقوم أو أبتدئ بحمده، ويمكن أن تكون زائدة والمعنى أسبحه مقرونًا بحمده (لا قوة) وفي عمل اليوم والليلة لابن السني: ولا حول ولا قوة (إلا بالله) أي: إلا بإقداره تعالى (ما شاء الله) أي: وجوده (كان) أي: وجد في وقت أراده (وما لم يشأ لم يكن) أي: لم يوجد أي: سواء يشاء العبد أو لم يشأ. وهذا معنى قوله تعالى: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ} (76: 30) (أعلم) بصيغة المتكلم أي: أعتقد (أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علمًا) أي: له القدرة الكاملة والعلم الشامل. قال الطيبي: هذان الوصفان أعني: القدرة الشاملة، والعلم الكامل، هما عمدة أصول الدين وبهما يتم إثبات الحشر والنشر ورد الملاحدة في إنكارهم البعث وحشر الأجساد لأن الله تعالى إذا علم الحزئيات والكليات على الإحاطة علم الأجزاء المتفرقة المتلاشية في أقطار الأرض فإذا قدر على جمعها أحياها فلذلك خصهما بالذكر في هذا المقام (فإنه) أي: الشأن وهو تعليل لقولي (حفظ) بصيغة المجهول أي: من البلايا والخطايا (رواه أبو داود) في الأدب، وأخرجه أيضًا النسائي في الكبرى، وابن السني (ص16) كلهم من رواية عبد الحميد مولى بني هاشم عن أمه وكانت تخدم بعض بنات النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - حدثتها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعلمها إلخ. وقد سكت عنه أبو داود. وقال المنذري في مختصر السنن: في إسناده امرأة مجهولة وهي أم عبد الحميد. وقال الحافظ في الكنى من النساء من التقريب: أم عبد الحميد الهاشمية مولاهم مقبولة من الثالثة. أي: من الطبقة الوسطى من التابعين، ثم قال في المبهمات من النسوة على ترتيب من روى عنهن رجالاً ثم نساء: عبد الحميد بن أبي هاشم عن أمه كانت تخدم بعض بنات النبي - صلى الله عليه وسلم -، لم أقف على اسمها وكأنها صحابية - انتهى. وحكى في هامش شرح السنة (ج5: ص115) عن الحافظ بعد نقل كلام المنذري المذكور أنه قال (أي: الحافظ) لكن يغلب على الظن أنها. أي: أم عبد الحميد صحابية، فإن بنات النبي - صلى الله عليه وسلم - متن في حياته إلا فاطمة فعاشت بعده ستة أشهر أو أقل وقد وصفت بأنها كانت تخدم التي روت عنها، لكنها لم تسمها. فإن كانت غير فاطمة قوي الاحتمال، وإلا احتمل أنها جاءت بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -. والعلم عند الله - انتهى. 2417- قوله: (من قال حين يصبح) أي: يدخل في الصباح {فَسُبْحَانَ اللَّهِ} أي: نزهوه عما لا يليق بعظمته تعالى

حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} إِلَى قوله {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} أَدْرَكَ مَا فَاتَهُ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ، وَمَنْ قَالَهُنَّ حِينَ يُمْسِي أَدْرَكَ مَا فَاتَهُ فِي لَيْلَتِهِ. رواه أبو داود. ـــــــــــــــــــــــــــــ أو أريد به الصلاة على ما روي عن ابن عباس، والمعنى فصلوا له {حِينَ تُمْسُونَ} من الإمساء أي: تدخلون في المساء وهو وقت المغرب والعشاء بناء على ما قدمناه من أن المساء أول الليل أي من غروب الشمس {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} من الإصباح أي: تدخلون في الصباح وهو وقت الفجر. يعني صلوا لله صلاة المساء. أي: المغرب والعشاء وصلاة الصبح {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} جملة اعتراضية حالية ومعناها يحمده أهلهما {وَعَشِيّاً} بفتح العين عطف على ((حين)) أي: وحين العشي وهو ما بين زوال الشمس إلى غروبها والمشهور أنه آخر النهار فالمراد به وقت العصر أي: صلوا لله عشيًا. أي: صلاة العصر {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} أي: تدخلون في الظهيرة وهي وقت الظهر. قال نافع بن الأزرق لابن عباس: هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال: نعم. وقرأ هاتين الآيتين، وقال: جمعت الآية الصلوات الخمس ومواقيتها. واختار الطيبي عموم معنى التسبيح الذي هو مطلق التنزيه فإنه المعنى الحقيقي الأولى من المعنى المجاز من إطلاق الجزء وإرادة الكل مع أن العبرة لعموم اللفظ لا بخصوص السبب فإن فائدة الأعم أتم. قاله القاري (إلى قوله) أي: تعالى: {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} بصيغة المجهول من الإخراج، وهذا اقتصار من الرواي وهو من سورة الروم وتمامه: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} كالطائر من البيضة، والحيوان من النطفة، والنبات من الحبة، والمؤمن من الكافر، والذاكر من الغافل، والعالم من الجاهل، والصالح من الطالح {وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} على عكس ما ذكر {وَيُحْيِي الأَرْضَ} أي: بالإنبات {بَعْدَ مَوْتِهَا} أي: يبسها {وَكَذَلِكَ} أي: مثل ذلك الإحياء {تُخْرَجُونَ} (30: 18، 19) أي: من قبوركم إحياء للحساب والعذاب والنعيم، والمراد أن الإبداء والإعادة متساويتان في قدرة من هو قادر على إخراج الميت وعكسه (أدرك ما فاته) أي: من الخير. أي حصل له ثواب ما فاته من ورد وخير (ومن قالهن) أي: تلك الكلمات أو الآيات (رواه أبو داود) في الأدب، وأخرجه أيضًا الطبراني، وابن السني (ص20، 28) كلهم من حديث سعيد بن بشير النجارى عن محمد بن عبد الرحمن ابن البيلماني عن أبيه عن ابن عباس، وقد سكت عنه أبو داود. قال النووي في الأذكار: لم يضعفه أبو داود وقد ضعفه البخاري في تاريخه الكبير، وفي كتاب الضعفاء. وقال المنذري: في إسناده محمد بن عبد الرحمن البيلماني عن أبيه وكلاهما لا يحتج به - انتهى. قلت: إسناد الحديث ضعيف جدًا. سعيد بن بشير قال الحافظ في التقريب فيه: إنه مجهول، وقال في تهذيبه: روى له أبو داود حديثًا واحدًا يعني حديث الباب وذكره البخاري في الضعفاء. وقال: لا يصح حديثه، وسعيد شبه المجهول. وقال العقيلي: مجهول ومحمد بن عبد الرحمن البيلماني قال فيه في التقريب: ضعيف واتهمه ابن عدي، وابن حبان، وقال في تهذيبه: قال ابن معين:

2418- (15) وعَنْ أَبِي عَيَّاشٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: مَنْ قَالَ إِذَا أَصْبَحَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ كَانَ لَهُ عِدْلَ رَقَبَةٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَعِيلَ ـــــــــــــــــــــــــــــ ليس بشيء. وقال البخاري، وأبو حاتم، والنسائي، والساجي: منكر الحديث. وقال البخاري في تاريخه الكبير (1، 1، 163) : كان الحميدي يتكلم فيه لضعفه، وقال ابن حبان حدث عن أبيه بنسخة شبيهًا بمأتى حديث كلها موضوعة لا يجوز الاحتجاج به ولا ذكره إلا على وجه التعجب. وقال ابن عدي: كل ما يرويه به ابن البيلماني فالبلاء فيه منه - انتهى. وأبوه عبد الرحمن البيلماني قال: عنه في التقريب: ضعيف. وقال في تهذيبه ذكره ابن حبان في الثقات. وقال: لا يحب أن يعتبر بشيء من حديثه إذا كان من رواية ابنه محمد لأن ابنه يضع على أبيه العجائب. وقال الدارقطني: ضعيف لا تقوم به الحجة. وقال الأزدي: منكر الحديث يروي عن ابن عمر بواطيل. وقال صالح جزرة: حديثه منكر ولا يعرف أنه سمع من أحد من الصحابة إلا من سُرَّق. قلت: فعلى هذا يكون حديثه هذا مرسلاً. 2418- قوله: (وعن أبي عياش) بتشديد التحتانية وآخره معجمة. وقيل: ابن أبي عياش، وقيل: ابن عائش. قال الحافظ في التقريب: والصواب الأول. وقال في تهذيبه: أبو عياش الزرقي. وقيل: ابن أبي عياش. وقيل: ابن عائش. وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((من قال إذا أصبح لا إله إلا الله)) الحديث. قاله سهيل بن أبي صالح عن أبيه عنه، أخرج حديثه أبو داود، والنسائي، وابن ماجة. قلت: قد وقع في بعض طرقه أي: عند النسائي، وابن ماجة عن أبي عياش الزرقي. فقيل: هو أبو عياش الزرقي الأنصاري الصحابي الراوي لحديث صلاة الخوف بعسفان وقد اختلف في اسمه فقيل: هو زيد بن الصامت، وقيل ابن النعمان، وقيل: اسمه عبيد بن معاوية، وقيل: عبد الرحمن بن معاوية بن الصامت شهد أحدًا وما بعدها ومات بعد الأربعين في خلافة معاوية. قال الحافظ في الإصابة: وعلى ذلك درى أبو أحمد الحاكم والذي يظهر أنه غيره. قلت: وقد جزم بالأول المصنف في الإكمال وإليه يظهر ميل الإمام أحمد حيث ذكر هذا الحديث في مسند أبي عياش الزرقي الراوي لحديث صلاة الخوف بعسفان. وقال الحافظ في تهذيبه: فإن كان (أي: الذي وقع في رواية النسائي، وابن ماجة) محفوظًا فهو الذي قبله وقد نص أبو أحمد للحاكم أن هذا الحديث من رواية أبي عياش الزرقي، ووقع في الكنى لأبي بشر الدولابي: أبو عياش الزرقي روى عنه زيد بن أسلم حديث ((من قال إذا أصبح)) (من قال) شرطية (إذا أصبح) ظرفية (له الملك وله الحمد) أي: على وجه الاختصاص حقيقة وإن وجدا في الجملة لغيره صورة زاد بعده في رواية ابن السني ((يحيي ويميت وهو حي لا يموت)) (كان) جواب الشرط (له) أي: لمن قال: ذلك المقال (عدل رقبة) أي: مثل إعتاقها وهو بفتح العين وكسرها روايتان بمعنى المثل، وقيل: بالفتح المثل من غير الجنس وبالكسر من الجنس وعلى هذا فالفتح ها هنا أظهر وقيل: بالعكس (من ولد إسماعيل) صفة ((رقبة)) وهو بفتح الواو واللام وبضم فسكون

وَكُتِبَ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ وَحُطَّ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ وَرُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ وَكَانَ فِي حِرْزٍ مِنْ الشَّيْطَانِ حَتَّى يُمْسِيَ وَإِنْ قَالَهَا إِذَا أَمْسَى كَانَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ حَتَّى يُصْبِحَ. فَرَأَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا عَيَّاشٍ يُحَدِّثُ عَنْكَ بِكَذَا وَكَذَا قَالَ: صَدَقَ أَبُو عَيَّاشٍ. رواه أَبُو دَاوُد وابن ماجة. 2419- (16) وعَنْ الْحَارِثِ بْنِ مُسْلِمٍ التَّمِيمِيِّ عن أبيه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـــــــــــــــــــــــــــــ أي: أولاده والتخصيص لأنهم أشرف من سبي (وكتب) أي: أثبت مع هذا (وحط) أي: وضع ومحى (ورفع له عشر درجات) أي: من درجات الجنان (وكان في حرز) بكسر المهملة أي: حفظ وصون (كان له مثل ذلك) أي: ما ذكر من الجزاء (فرأى رجل) وفي نسخة القاري ((قال حماد بن سلمة فرأى رجل)) وقد ذكر أبو داود هذه الزيادة بقوله: ((قال في حديث حماد)) وهو راوي هذا الحديث عن سهيل بن أبي صالح وهو حماد بن سلمة بفتح اللام ابن دينار البصري أبو سلمة، ثقة عابد أثبت الناس في ثابت وتغير حفظه بآخره مات سنة (167) قال المصنف: هو من أعلام البصريين وأئمتهم كثير الحديث واسع الرواية مشهور بالسنة والعبادة، مات سنة سبع وستين ومائة. وأطال الحافظ في ترجمته في تهذيب التهذيب فراجعه إن شئت (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرى النائم) أي: في المنام، وفي رواية ابن السني ((فكأن رجلاً اتهمه فقال: أكثر أبو عياش على نفسه فنام الرجل فرأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام)) (فقال) أي: الرجل في المنام (يحدث عنك بكذا وكذا) ، ولأحمد، وابن ماجة ((يروي عنك كذا وكذا)) (قال) - صلى الله عليه وسلم - (صدق أبو عياش) وفي ابن السني (قال الرجل فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي ثم قال: صدق أبو عياش، صدق أبو عياش، صدق أبو عياش)) وقوله: ((فرأى الرجل)) إلخ، ذكر استظهارًا وتأييدًا للرواية وطمأنينة للقلب لا استدلالاً على صحتها وثبوتها للإجماع على أن الرؤيا لا تثبت بها الأحكام ولا الحديث لأن النائم لا يضبط فربما نقل خلاف ما سمع أو كلامه يحتاج إلى تأويل وتعبير ويقع الخلاف في التفسير ولأنها إن وافقت ما استقر في الشرع فالعبرة به وإلا فلا عبرة بها لأنها إذا خالفته لم يجز نسخه بها (رواه أبو داود) في الأدب، (وابن ماجة) في الدعاء، وأخرجه أيضًا أحمد (ج4: ص60) ، والنسائي في عمل اليوم والليلة، وابن أبي شيبة، وابن السني (ص22، 23) . 2419- قوله: (وعن الحارث بن مسلم التميمي) تابعي قاله البخاري، وأبو زرعة، وأبو حاتم وغير واحد، قال البغوي سكن الشام (عن أبيه) أي: مسلم بن الحارث التميمي صحابي صرح بكونه صحابيًا البخاري، وأبو حاتم، وأبو زرعة وغيرهم. وقال في التقريب: مسلم بن الحارث، ويقال: الحارث بن مسلم التميمي صحابي قليل الحديث. قلت: قوله: ((عن الحارث بن

أَنَّهُ أَسَرَّ إِلَيْهِ فَقَالَ: إِذَا انْصَرَفْتَ مِنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَقُلْ قبل أن تكلم أحدًا: اللَّهُمَّ أَجِرْنِي ـــــــــــــــــــــــــــــ مسلم عن أبيه)) كذا عند أبي داود، ووقع عند النسائي، وابن حبان ((عن مسلم بن الحارث بن مسلم عن أبيه)) والصواب ما وقع في أبي داود. قال الخزرجي في الخلاصة (ص69) : الحارث بن مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كذا عند النسائي، والصواب ما عند أبي داود ((عن الحارث بن مسلم عن أبيه)) أي: عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال أبو حاتم، وأبو زرعة الرازي: الحارث بن مسلم تابعي - انتهى. ونحوه قال المنذري في الترغيب (ج1: ص140) وقال أبو زرعة الرازي كما في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (1/2/88) : الصحيح الحارث بن مسلم بن الحارث عن أبيه. قال الحافظ في تهذيب التهذيب: مسلم بن الحارث ورمز عليه لأبي داود، ويقال: الحارث بن مسلم التميمي روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدعاء عند الانصراف من صلاة المغرب. روى حديثه عبد الرحمن بن حسان الفلسطيني اختلف عليه فيه....... قلت (قائله الحافظ) : وصحح البخاري، وأبو حاتم، وأبو زرعة الرازيان، والترمذي، وابن قانع وغير واحد أن مسلم بن الحارث هو: صحابي روى هذا الحديث. وأخرج ابن حبان الحديث في صحيحه من مسند الحارث بن مسلم، والذي يرجح ما قاله البخاري أن صدقة ابن خالد ومحمد بن شعيب بن شابور رويا عن عبد الرحمن بن حسان الذي مدار الحديث عليه فقالا: عن الحارث بن مسلم بن الحارث عن أبيه، ورواه وليد بن مسلم فاختلف عليه. فقال داود بن رشيد، وهشام بن عمار، وعمرو بن عثمان الحمصي، وعلي بن سهل الرملي، ومؤمل بن الفضل الحراني عنه عن عبد الرحمن عن مسلم بن الحارث بن مسلم عن أبيه. وقال محمد بن مصفى وعبد الوهاب بن نجدة، ومحمد بن الصلت عن الوليد بقول صدقة بن خالد، ومحصل ذلك الاختلاف في الصحابي هل هو الحارث بن مسلم أو مسلم بن الحارث وفي التابعي كذلك ولم أجد في التابعين توثيقًا إلا ما اقتضاه صنيع ابن حبان حيث أخرج الحديث في صحيحه، وقد جزم الدارقطني بأنه مجهول، والحديث الذي رواه أصله تفرد به ما رأيته إلا من روايته، وتصحيح مثل هذا في غاية البعد لكن ابن حبان على عادته في توثيق من لم يرو عنه واحد إذا لم يكن فيما رواه ما ينكر - انتهى. وقال في الإصابة: وصحح البخاري، والترمذي وغير واحد: أن اسم الصحابي مسلم واسم التابعي ولده الحارث، والاختلاف فيه على الوليد بن مسلم فقال جماعة: عنه عن عبد الرحمن بن حسان عن الحارث بن مسلم عن أبيه. وقال هشام بن عمار وغيره عنه عن عبد الرحمن عن مسلم بن الحارث. والراجح الأول لأن محمد بن شعيب بن شابور رواه عن عبد الرحمن كذلك. وكذا قال: صدقة بن خالد عن عبد الرحمن في حديث آخر، وأخرجه البخاري في التاريخ (4/1/253) عن الحكم بن موسى عن صدقة ولفظه عن الحارث بن مسلم التميمي عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب له كتابًا بالوصاة إلى من يعرفه من ولاة الأمر، قال الدارقطني: مات في خلافة عثمان – انتهى. (أنه أسر) من الإسرار (إليه) إلى مسلم بن الحارث، والمعنى تكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - معه سرًا وخفية. قال الطيبي: في الإسرار ترغيبه فيه حتى يتلقاه ويتمكن في قلبه تمكن السر المكنون لا الضنة. أي: البخل به من غيره (إذا انصرفت) أي: فرغت (اللهم أجرني

مِنْ النَّارِ سَبْعَ مَرَّاتٍ فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ ذَلِكَ ثُمَّ مِتَّ فِي لَيْلَتِكَ كُتِبَ لَكَ جِوَارٌ مِنْهَا، وَإِذَا صَلَّيْتَ الصُّبْحَ فَقُلْ كَذَلِكَ فَإِنَّكَ إِذا مِتَّ فِي يَوْمِكَ كُتِبَ لَكَ جِوَارٌ مِنْهَا. رواه أبو داود. 2420- (17) وعن ابْنَ عُمَرَ قال: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَعُ هَؤُلاءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ ـــــــــــــــــــــــــــــ من النار) ، أي خلصني منها، أمر من الإجارة من باب الأفعال من الجور. معناه: أمِنّي وأعذني وأنقذني وخلصني من النار، أجاره الله من العذاب أنقذه (سبع مرات) ظرف لقل، أي كرر ذلك سبع مرات (فإنك إذا قلت ذلك) ، أي الدعاء المذكور سبعًا، (ثم مت) بضم الميم وكسرها، (كتب لك جوار) ، أي أمان وخلاص، بكسر الجيم وإهمال الراء كذا وقع في أكثر نسخ المشكاة، وهكذا في التاريخ الكبير للبخاري، وجامع الأصول والأذكار، والجامع الصغير، والترغيب ووقع في بعض نسخ المشكاة، ((جواز)) بفتح الجيم وإعجام الزاي، وهكذا وقع في موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان (583) وكذا وقع في بعض نسخ أبي داود، قال القاري: أي خلاص، والجواز في الأصل البراءة التي تكون مع الرجل في الطريق حتى لا يمنعه أحد من المرور، وحينئذ فلا يدفعه إلا تحلة القسم - انتهى. (وإذا صليت الصبح) ، أي وانصرفت (فقل) ، أي هذا الذكر سبعًا (كذلك) ، أي قبل أن تكلم أحدًا. قال المناوي: في فيض القدير (ج1: ص393) تنبيه قال ابن حجر: يؤخذ من مجموع الأدلة أن الصلاة إما أن تكون مما يتطوع بعدها أو لا؟ فالأول اختلف فيه هل يتشاغل قبل التطوع بالذكر المأثور كالمذكور في هذا الخير ثم يتطوع أو عكسه؟ ذهب الجمهور إلى الأول، والحنفية إلى الثاني، ويترجح تقديم الذكر المأثور لتقييده في الأخبار الصحيحة بدبر الصلاة، وزعم بعض الحنابلة أن المراد بدبرها ما قبل السلام ورد بعدة أخبار، وأما التي لا يتطوع بعدها فيتشاغل الإمام ومن معه بالذكر المأثور ولا يتعين له مكان، بل إن شاؤا انصرفوا أو مكثوا وذكروا، وعلى الثاني إن كان للإمام عادة أن يعظهم فليقبل عليهم جميعًا وإن كان لا يزيد على الذكر المأثور فهل يقبل عليهم أو ينفتل فيجعل يمينه من قبل المأمومين ويساره من قبل القبلة ويدعو؟ الثاني هو ما عليه أكثر الشافعية - انتهى. (رواه أبو داود) ، أي في الأدب، وأخرجه أيضًا أحمد () ، والبخاري في تاريخه (1/4/253) ، والنسائي في الكبرى، وابن حبان في صحيحه، والحديث سكت عنه أبو داود والمنذري وقد عرفت ما في سنده من الكلام. 2420- قوله (لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدع) ، أي يترك (هؤلاء الكلمات) ، وعند أحمد، وابن ماجة ((هؤلاء الدعوات)) (حين يمسي وحين يصبح) ، الظاهر أن كان ناقصة وجملة يدع خبر لها، أي لم يكن تاركًا لهن في هذين الوقتين بل

اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي وَآمِنْ رَوْعَاتِي اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي وَمِنْ فَوْقِي وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي. يعني الخسف. رواه أبو داود. ـــــــــــــــــــــــــــــ يداوم عليها فيهما (اللهم إني أسالك العافية) ، أي السلامة من الآفات الدينية والشدائد الدنيوية. وقيل: السلامة من الأسقام والبلايا. وقيل: عدم الابتلاء بها والصبر عليها والرضا بقضائها، وهي مصدر أو اسم من عافى. قال في القاموس: والعافية دفاع الله عن العبد وعافاه الله تعالى من المكروه عفاء ومعافاة وعافية: وهب له العافية من العلل والبلاء كأعفاه (اللهم إني أسالك العفو) ، أي محو الذنوب والتجاوز عنها، (والعافية) ، أي السلامة من العيوب (في ديني ودنياي) ، أي في أمورهما (اللهم استر) بضم التاء الفوقية (عوراتي) ، أي عيوبي وهي بسكون الواو وجمع عورة وهي سوءة الإنسان وكل ما يستحيي منه إذا ظهر ويسوء صاحبه أن يرى ذلك منه (وآمن روعاتي) بفتح الراء وسكون الواو جمع روعة وهي الفزعة، وآمن أمر من الإيمان بمعنى إزالة الخوف وإعطاء الأمن، ومنه قوله تعالى {وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} (106: 4) وحاصل المعنى: اجعل خوفي أمنًا وأبدله به، وقال السندي معنى ((آمن روعاتي)) ، أي ادفع عني خوفًا يقلقني ويزعجني وكأن التقدير وآمني من روعاتي على قياس {وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} (اللهم احفظني) ، أي ادفع البلاء عني، (من بين يدي) ، أي أمامي (ومن خلفي) إلخ، يعني من الجهات الست لأن كل بلية تصل الإنسان إنما تصله من إحداهن، وبالغ في جهة السفل لرداءة الآفة منها (وأعوذ بعظمتك أن أن أغتال) بصيغة المجهول من المتكلم، أي أؤخذ بغتة وأهلك غفلة (من تحتي) ، أي أهلك بالخسف، والأصل في الاغتيال أن يؤتي المرأ من حيث لا يشعر وأن يدهى بمكروه لم يرتقبه. قال في القاموس: غاله أهلكه كاغتاله وأخذه من حيث لم يدر (يعني الخسف) ، أي يريد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاغتيال من الجهة التحتانية الخسف. في القاموس: خسف الله بفلان الأرض غيبه فيها، وهذا تفسير من راوي الحديث وكيع بن الجراح كما في أبي داود، وابن ماجة أو جبير كما في ابن السني، قال الطيبي: استوعب الجهات الست كلها لأن ما يلحق الإنسان من نكبة وفتنة فإنما يجيء به ويصل إليه من إحدى هذه الجهات وبالغ في جهة السفل حيث قال: ((وأعوذ بك أن أغتال من تحتي)) لرداء آفتها - انتهى. ولا يخفى حسن موقع قوله: بعظمتك. وقوله: يعني الخسف كذا في جميع النسخ وهكذا وقع عند الحاكم. وفي المسند قال: يعني الخسف، وفي أبي داود، وابن ماجة، وابن حبان ((قال وكيع (راوي الحديث) يعني الخسف)) ، وفي ابن السني قال جبير: (أي ابن أبي سليمان بن جبير بن مطعم رواي الحديث عن ابن عمر) : وهو الخسف. قال عبادة (شيخ وكيع وتلميذ جبير) : لا أدري هو قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو قول جبير يعني هل فسره من قبل نفسه أورواه؟ قال الحافظ: وكأن وكيعًا لم يحفظ هذا التفسير فقال من نفسه - انتهى. (رواه أبو داود) في الأدب وأخرجه أيضًا أحمد (ج2: ص26) ، والنسائي في الكبرى مطولاً وفي

2421- (18) عَنْ أَنَسِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ اللَّهُمَّ أَصْبَحْنا نُشْهِدُكَ وَنُشْهِدُ حَمَلَةَ عَرْشِكَ وَمَلَائِكَتَكَ وَجَمِيعَ خَلْقِكَ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ وَحْدَكَ لا شَرِيكَ لَكَ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ إِلا غفرَ اللهُ له مَا أَصَابَه فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ مِنْ ذَنْبٍ وَإِنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِي غفرَ الله لَهُ مَا أَصَابَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مِنْ ذَنْبٍ. رواه الترمذي وأبوداود وقال الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الصغرى مختصرًا، وابن ماجة في الدعاء، والبخاري في الأدب المفرد في موضعين، وابن حبان في صحيحه، والحاكم (ج1: ص517) ، وابن أبي شيبة، وابن السني (ص14) ، وقد سكت عنه أبو داود والمنذري. وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وقال النووي: رويناه بالأسانيد الصحيحة. 2421- قوله (نشهدك) من الإشهاد، أي نجعلك شاهدًا على إقرارنا بوحدانيتك في الألوهية والربوبية وهو إقرار للشهادة وتأكيد لها وتجديد لها في كل صباح ومساء وعرض من أنفسهم أنهم ليسوا عنها غافلين، وقوله: ((أصبحنا ونشهد)) بصيغة الجمع للترمذي، وفي أبي داود ((اللهم إني أصبحت وأشهدك حملة عرشك)) ، (وملائكتك) بالنصب عطف على ما قبله تعميمًا بعد تخصيص (وجميع خلقك) ، أي مخلوقاتك تعميم آخر (أنك) ، بفتح الهمزة، أي على شهادتنا واعترافنا بأنك (أنت الله هذا لفظ أبي داود، وفي الترمذي بأنك الله (إلا غفر الله له) ، قال القاري: استثناء مفرغ مما هو جواب محذوف للشرط المذكور، أي الذي قال فيه ذلك الذكر تقديره: ما قال قائل هذا الدعاء إلا غفر له، أو يقدر نفي، أي من قال ذلك لم يحصل له شيء من الأحوال إلا هذه الحالة العظيمة من المغفرة الجسيمة فعلى هذا ((من)) في ((من قال)) بمعنى ما النافية، ويمكن أن تكون ((إلا)) زائدة - انتهى. قال الشيخ: كون إلا ههنا زائدة هو الظاهر وقد صرح صاحب القاموس بأنها قد تكون زائدة (ما أصابه في يومه ذلك من ذنب) زيادة ((من ذنب)) لأبي داود فقط (وإن قالها) أي هذه الكلمات (حين يمسي غفر الله له ما أصابه في تلك الليلة من ذنب) ، أي أي ذنب كان واستثنى الكبائر، وكذا ما يتعلق بحقوق العباد والإطلاق للترغيب مع أن الله يغفر ما دون الشرك لمن يشاء. (رواه الترمذي) في الدعوات، (وأبو داود) في الأدب واللفظ للترمذي، وأخرجه أيضًا النسائي في عمل اليوم والليلة، والطبراني في الأوسط كلهم من رواية بقية بن الوليد عن مسلم بن زياد الشامي عن أنس. وبقية مدلس ورواه عندهم بالعنعنة، نعم صرح بالتحديث عند ابن السني (ص25) ، في رواية المتن الآتي. واعلم أن حديث أنس هذا ليس في رواية اللؤلؤي، ولذلك لم يذكره المنذري في مختصر السنن، قال الحافظ المزي في الأطراف (ج1: ص406) : وحديث أبي داود في رواية أبي بكر بن داسة عنه ولم يذكره أبو القاسم انتهى. وروى أبو داود، وابن السني (ص234) من طريق مكحول عن أنس مرفوعًا ((من قال حين يصبح أو يمسي: اللهم إني أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك أنك أنت الله لا إله إلا أنت وأن محمدًا عبدك

2422- (19) وعن ثوبان قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَقُولُ إذا أمسى وإذا أصبح ثَلاثًا: رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُرْضِيَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. رواه أحمد ـــــــــــــــــــــــــــــ ورسولك أعتق الله ربعه من النار، فمن قالها مرتين أعتق الله نصفه، ومن قالها ثلاثًا أعتق الله ثلاثة أرباعه، فإن قالها أربعًا أعتقه الله من النار)) ، وقد سكت عنه أبو داود. قال النووي: روينا في سنن أبي داود بإسناد جيد لم يضعفه. وقال المنذري في مختصر السنن: في إسناده عبد الرحمن بن عبد الحميد أبو رجاء المهري مولاهم المصري المكفوف. قال ابن يونس: كان يحدث حفظًا وكان أعمى وأحاديثه مضطربة - انتهى. وقال في حاشية شرح السنة (ج5: ص111) : قد حسن هذا الحديث الحافظ ابن حجر في أمالي الأذكار كما نقله عنه ابن علان في الفتوحات الربانية (ج3: ص105، 106) . 2422- قوله (ما من عبد مسلم يقول إذا أمسى وإذا أصبح ثلاثًا) لفظ أحمد من رواية أبي سلام ممطور الحبشي التابعي عن رجل خدم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((ما من عبد مسلم يقول حين يصبح وحين يمسي ثلاث مرات)) إلخ، ولفظ الترمذي من رواية أبي سلمة عن ثوبان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قال حين يمسي رضيت بالله ربًا وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا، كان حقًا على الله أن يرضيه. (رضيت بالله) ، أي بقضائه. وقال القاري: هو يشمل الرضا بالأحكام الشرعية والقضايا الكونية (وبالإسلام) ، أي بأحكامه (دينًا) فيه التبرؤ عن جميع ما سوى الإسلام من الأديان (وبمحمد) ، أي بمتابعته (نبيًا) ، وفي حديث أبي سلام عن خادم النبي - صلى الله عليه وسلم - ((وبمحمد رسولاً)) ، قال النووي في الأذكار بعد ذكر الروايتين: فيستحب أن يجمع الإنسان بينهما فيقول نبيًا رسولاً ولو اقتصر على أحدهما كان عاملاً بالحديث. قيل: ويصح أن يقول ((نبيًا ورسولاً)) بواو العطف لأن المراد إثبات الوصفين له - صلى الله عليه وسلم - عملاً بقضية الخبرين، والمنصوبات تمييزات، ويمكن أن تكون حالات مؤكدات (إلا كان حقًا على الله) ، أي يمضي وعده، وقيل: أي واجبًا على الله وجوب تفضل وتكرم ورحمة وهو الذي أوجب ذلك على نفسه حيث قال {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} (6: 54) والمعنى أن الله عز وجل يحقق لهذا العبد ما وعده وهو إعطاءه من واسع فضله، وقوله حقًا خبر كان (أن يرضيه) من الإرضاء، أي يعطيه ثوابًا جزيلاً حتى يرضى. وهو اسم كان والجملة خبر ما والاستثناء مفرغ (يوم القيامة) ، هذا عند أحمد فقط (رواه أحمد) لم أجد الحديث عند أحمد في مسند ثوبان، نعم رواه أحمد (ج4: ص337، وج5: ص367) ، من رواية أبي عقيل عن سابق بن ناجية عن أبي سلام قال: مر رجل في مسجد حمص فقالوا: هذا خدم النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال: فقمت إليه فقلت: حدثني حديثًا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يتداوله بينك وبينه الرجال. قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول ما من عبد إلخ. وهكذا رواه أبو داود في الأدب، والنسائي في الكبرى، وابن ماجة في الدعاء والحاكم، (ج1: ص518) وابن أبي شيبة

والترمذي. 2423- (20) عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَضَعَ يَدَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ قِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ تَجْمَعُ أَوْ تَبْعَثُ عِبَادَكَ. رواه الترمذي. 2424- (21) ورواه أحمد عن البراء. ـــــــــــــــــــــــــــــ والطبراني، وابن السني (ص24) ، وابن سعد والروياني، والبغوي وغيرهم، وقد سكت عنه أبو داود، والمنذري وجود النووي سنده وقال الهيثمي (ج10: ص116) : رجال أحمد والطبراني ثقات. وقال البوصيري: إسناده صحيح رجاله ثقات. وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. قيل: والخادم المبهم عند هؤلاء المخرجين هو ثوبان. والله أعلم. (والترمذي) في الدعوات من طريق سعيد بن المرزبان البقال عن أبي سلمة عن ثوبان. وسعيد بن المرزبان ضعيف مدلس باتفاق الحفاظ، وقد قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. والظاهر أنه حسنه لشواهده. منها حديث أبي سلام عن خادم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد تقدم أن سنده جيد، ومنها حديث أبي سعيد عند ابن حبان والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، ومنها حديث المنيذر صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخرجه الطبراني وابن مندة كما في مجمع الزوائد (ج10: ص116) ، وفي الإصابة (ج4: ص192) ، وفي إسناده رشدين وهو ضعيف وقع بعض نسخ المشكاة بعد الترمذي، ((وأبو داود)) وهو خطأ من الناسخ. 2423- قوله (وضع يده) ، أي اليمنى كما في رواية أحمد (تحت رأسه) ، وفي رواية ((تحت خده)) وهو محمول على اختلاف الأوقات فكان تارة كذا، وتارة كذا. أو على أن بعض اليد تحت خده وبعضها تحت رأسه فعبر عن بعض ما تبين له أو يكون ذلك لقرب كل واحد منهما من الآخر (اللهم قني) بكسر القاف أمر من وقي يقي، أي احفظني (يوم تجمع أو تبعث عبادك) ، أي يوم القيامة وأو للشك من الراوي يشك هل قال: تجمع أو تبعث. وقد ورد في حديث ابن مسعود عند أحمد تجمع بغير شك وسيأتي في حديث حفصة ((تبعث)) بغير شك، فأي اللفظين قال جاز له ذلك. ولما كان النوم في حكم الموت والاستيقاظ كالبعث دعا بهذا الدعاء متذكرًا لتلك الحالة ويستحب أن يقول ذلك ثلاث مرات كما سيأتي في حديث حفصة (رواه الترمذي) في الدعوات، أي عن حذيفة وقال: حديث حسن صحيح. قلت: وصححه أيضًا الحافظ وحديث حذيفة هذا رواه أيضًا الحميدي في مسنده (ج1: ص210، 211) ، وأحمد (ج5 ص382) ونسبه الشوكاني في تحفة الذاكرين (ص88) للترمذي والبزار. 2424- قوله (ورواه أحمد عن البراء) (ج4: ص281، 290، 298، 300، 301، 303) ، وأخرجه أيضًا الترمذي في السنن وفي الشمائل والبغوي في شرح السنة، (ج5: ص97) ، والنسائي في اليوم والليلة، وابن حبان في صحيحه وسنده

2425- (22) وعَنْ حَفْصَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْقُدَ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى تَحْتَ خَدِّهِ ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ قِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَكَ. ثَلَاثَ مِرات. رواه أبو داود. 2426- (23) وعن عَلِيٍّ أَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ عِنْدَ مَضْجَعِهِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِوَجْهِكَ الْكَرِيمِ وَكَلِمَاتِكَ التَّامَّات مِنْ شَرِّ مَا أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ اللَّهُمَّ أَنْتَ تَكْشِفُ الْمَغْرَمَ وَالْمَأْثَمَ اللَّهُمَّ لا يُهْزَمُ جُنْدُكَ ـــــــــــــــــــــــــــــ صحيح كما قال الحافظ: وصنيع المصنف يدل على أن حديث حذيفة ليس عند أحمد، وحديث البراء لم يروه الترمذي والأمر ليس كذلك كما عرفت. 2425- قوله (وعن حفصة) أم المؤمنين رضي الله عنها (كان إذا أراد أن يرقد) ، أي ينام (قني عذابك يوم تبعث عبادك) فيه أنه ينبغي للعاقل أن يجعل النوم وسيلة لذكر الموت والبعث الذي بعده (ثلاث مرات) ، في بعض النسخ مرار (رواه أبو داود) في الأدب وسكت عنه هو والمنذري وقال: وأخرجه النسائي أيضًا مختصرًا في وضع الكف خاصة. قلت: وأخرجه أيضًا أحمد (ج6: ص287، 288) ، وابن السني (ص231، 232) مختصرًا ومطولاً وعزاه في الحصن للبزار، وابن أبي شيبة أيضًا، وفي الباب عن ابن مسعود أخرجه أحمد (ج1: ص395، 401، 415، 444) ، وابن ماجة، ورجال إسناده ثقات إلا أنه منقطع أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود لم يسمع من أبيه شيئًا. 2426- قوله (كان يقول عند مضجعه) اسم مكان أي عند اضطجاعه في مضجعه أو اسم زمان أو مصدر (إني أعوذ بوجهك) ، أي بذاتك والوجه يعبر به عن الذات كما في قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (28: 88) (وكلماتك التامات) وفي بعض النسخ من سنن أبي داود ((التامة)) ، أي بالإفراد، أي الكاملات في إفادة ما ينبغي وهي أسماءه وصفاته أو آياته القرآنية (من شر ما أنت آخذ بناصيته) ، أي هو في قبضتك وتصرفك كقوله تعالى: {مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} (11: 56) ، وهي عبارة عن القدرة أي من شر جميع الأشياء لأنه على كل شيء قدير. (أنت تكشف) ، أي تزيل وتدفع (المغرم) مصدر وضع موضع الاسم والمراد مغرم الذنوب والمعاصي، وقيل المغرم كالغرم الدين. والمراد به ما استدين فيما يكرهه الله أو فيما يجوز ثم يعجز عن أداءه، فأما دين احتاج إليه وهو قادر على أداءه فلا يستعاذ منه ذكره الجزري في النهاية، وقال التوربشتي: الغرم والمغرم ما ينوب الإنسان في ماله من ضرر بغير جناية منه وكذلك ما يلزمه أداءه، ومنه الغرامة والغريم الذي عليه الدين والأصل فيه الغرام وهو الشر الدائم والعذاب والمراد من المغرم ما يلزم به الإنسان من غرامة أو يصاب به في ماله من خسارة وما يلزمه كالدين وما يلحق به من المظالم (والمأثم) ، أي ما يأثم به الإنسان أو هو الإثم نفسه وضعًا للمصدر موضع الاسم (لا يهزم) بصيغة المجهول، أي لا يغلب ولو في عاقبة الأمر

وَلا يُخْلَفُ وَعْدُكَ وَلا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ. رواه أبو داود. 2427- (24) وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَالَ حِينَ يَأْوِي إِلَى فِرَاشِهِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيَّ الْقَيُّومَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ أو عَدَدَ رَمْلِ عَالِجٍ ـــــــــــــــــــــــــــــ (ولا يخلف وعدك) ، بصيغة المجهول من الإخلاف ورفع وعدك، وفي بعض النسخ بلفظ المخاطب المعلوم فوعدك منصوب، (ولا ينفع ذا الجد منك الجد) ، الجد بفتح الجيم وفسر بالغني وعليه الأكثرون، أي لا ينفع ذا الغني غناه منك، أي بدل طاعتك وإنما ينفعه العمل الصالح، وقيل: الجد هو البخت والحظ والعظمة، أي لا ينفعه ولا ينجيه حظه بالمال والولد والعظمة إنما ينفعه وينجيه منك فضلك ورحمتك. قال الجزري الجد البخت، وقيل: الغني، أي لا ينفع المبخوت والمسعود حظه وغناه اللذان هما منك، إنما ينفعه العمل والطاعة والإخلاص - انتهى. وقيل منك معناه عندك. وقيل الجد أبو الأب والأم، أي لا ينفع أحدًا مجرد نسبه، وقيل الجد بكسر الجيم بمعنى الجد والاجتهاد في الدنيا، والمعنى أن صاحب الجد على حيازة الدنيا الحريص عليها لا ينفعه ذلك وإنما ينفعه عمل الآخرة (سبحانك وبحمدك) ، أي أجمع بين تننزيهك وتحميدك (رواه أبو داود) في الأدب وأخرجه أيضًا النسائي، وابن أبي شيبة وسكت عنه أبو داود وصححه النووي. 2427- قوله (أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم) ، يجوز فيهما النصب صفة لله بعد صفة أو مدحًا بعد مدح، والرفع بدلاً من الضمير أو على أنه خبر مبتدأ محذوف (وأتوب إليه) ، أي أطلب المغفرة وأريد التوبة فكأنه قال: اللهم اغفر لي ووفقني للتوبة (ثلاث مرات) ظرف قال (غفر الله له ذنوبه) ، أي المتعلقة بحق الله أو الذنوب مطلقًا إن قصد بذلك التوبة وعدم العود وعجز عن إرضاء أصحاب الحقوق فلا يبعد أن الله تعالى يقبل توبته ويرضي خصومه من عنده وفضل الله واسع (وإن كانت) ، أي ولو كانت ذنوبه في الكثرة (مثل زبد البحر) ، الزبد محركة ما يعلو الماء وغيره من الرغوة (أو) للتنويع (عدد رمل عالج) بفتح اللام وكسرها. قال في مرآة الزمان: عالج موضع بالشام رمله كثير، وقال الطيبي: موضع بالبادية فيه رمل كثير، وفي النهاية: العالج ما تراكم من الرمل ودخل بعضه على بعض وجمعه عوالج. فعلى هذا لا يضاف الرمل إلى عالج لأنه صفة له، أي رمل يتراكم، وفي التحرير عالج موضع مخصوص فيضاف، قال ميرك: الرواية بالإضافة فعلى قول صاحب النهاية وجهه أن يقال: إنه من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة أو الإضافة بيانية وعدد منصوب عطفًا على مثل ويجوز جره عطفًا على الزبد وكذا قوله أو عدد ورق الشجر أو عدد أيام الدنيا. كذا في المرقاة. قلت: لفظ الترمذي ((وإن كانت عدد ورق الشجر وإن كانت عدد رمل عالج وإن كانت عدد أيام الدنيا، وهذا يعين أن العدد في لفظ المشكاة منصوب عطفًا على مثل، والمصنف تبع البغوي في نقل لفظ الحديث، وفي

أو عَدَدَ وَرَقِ الشَّجَرِ أو عَدَدَ أَيَّامِ الدُّنْيَا. رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب. 2428- (25) وعن شَدَّاد بْنَ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَأْخُذُ مَضْجَعَهُ بقرأة سُورَة مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلا وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ مَلَكًا فَلا يَقْرَبُهُ شَيْءٌ يُؤْذِيهِ حَتَّى يَهُبَّ مَتَى هَبَّ. رواه الترمذي. 2429- (26) وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بن العاص قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَلَّتَانِ ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث فضيلة عظيمة ومنقبة جليلة في مغفرة ذنوب القائل بهذا الذكر ثلاث مرات وإن كانت بالغة إلى هذا الحد الذي لا يحيط به عدد وفضل الله واسع وعطاؤه جم (رواه الترمذي) في الدعاء من طريق عبيد الله بن الوليد الوصافي عن عطية عن أبي سعيد، وعبيد الله بن الوليد هذا ضعيف متروك وعطية بن سعد العوفي قال في التقريب عنه: صدوق يخطئ كثيرًا وكان شيعيًا مدلسًا (وقال هذا حديث غريب) وفي نسخ الترمذي الموجودة عندنا ((هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث عبيد الله بن الوليد الوصافي)) وهكذا نقل المنذري في الترغيب وقال بعد ذكره: عبيد الله هذا واه ولكن تابعه عليه عصام بن قدامة وهو ثقة خرجه البخاري في تاريخه من طريقه بنحوه وعطية هذا هو العوفي، قال أحمد وغيره ضعيف الحديث. وقال أبو حاتم: ضعيف يكتب حديثه ووثقه ابن معين وغيره، وحسن له الترمذي غير ما حديث وأخرج حديثه ابن خزيمة في صحيحه، وقال في القلب من عطية شيء. 2428- قوله (ما من مسلم يأخذ مضجعه بقراءة سورة) ، أي مفتتحًا بقراءة سورة وقيل: أي متلبسًا بقراءتها، وقوله ((بقراءة)) كذا في كثير من نسخ المشكاة، وهكذا وقع في المصابيح ووقع في بعض نسخ المشكاة ((يقرأ)) بلفظ المضارع وهكذا وقع في الترمذي وذكره في جامع الأصول بلفظ ((فيقرأ)) ، أي بزيادة الفاء على صيغة المضارع. وهكذا وقع عند أحمد، وابن السني (من كتاب الله) ، أي القرآن المجيد (إلا وكل الله به ملكًا) ، أي أمره بأن يحرسه من المضار وهو استثناء مفرغ (فلا يقربه) بفتح الراء (شيء يؤذيه) ، وفي رواية أحمد ((إلا بعث الله عز وجل إليه ملكًا يحفظه من كل شيء يؤذيه)) ولابن السني، ((إلا وكل الله عز وجل به ملكًا لا يدع شيئًا يقربه ويؤذيه)) (حتى يهب) بضم الهاء وتشديد الباء من باب نصر (متى هب) ، أي يستيقظ متى استيقظ بعد طول الزمان أو قربه من النوم (رواه الترمذي) في الدعوات وأخرجه أيضًا أحمد (ج4: ص125) ، وابن السني (ص238) كلهم من رواية أبي العلاء بن الشخير عن رجل من بني حنظلة عن شداد بن أوس، قال الترمذي: هذا حديث غريب. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10: ص120) ، وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح وحسنه السيوطي كما قال الشوكاني: في تحفة الذاكرين (ص87) ورد عليهما بأن في إسناده مجهولاً وهو الحنظلي وأيضًا قد ضعف النووي في الأذكار إسناده. 2429- قوله (خلتان) بفتح الخاء المعجمة وتشديد اللام، أي خصلتان كما صرح بذلك في بعض روايات

لا يُحْصِيهِمَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ إِلا دَخَلَ الْجَنَّةَ أَلا وَهُمَا يَسِيرٌ وَمَنْ يَعْمَلُ بِهِمَا قَلِيلٌ يُسَبِّحُ اللَّهَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ عَشْرًا وَيَحْمَدُهُ عَشْرًا وَيُكَبِّرُهُ عَشْرًا قَالَ: فَأَنَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْقِدُهَا بِيَدِهِ. قَالَ: فَتِلْكَ خَمْسُونَ وَمِائَةٌ بِاللِّسَانِ وَأَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ فِي الْمِيزَانِ وَإِذَا أَخَذ مَضْجَعَه يسَبِّحُهُ وَيكَبِّرُهُ وَيحْمَدُهُ مِائَةً فَتِلْكَ مِائَةٌ بِاللِّسَانِ وَأَلْفٌ فِي الْمِيزَانِ فَأَيُّكُمْ يَعْمَلُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ أَلْفَيْنِ وَخَمْسَمِائَةِ سَيِّئَةٍ؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث (لا يحصيهما رجل مسلم) ، أي لا يحافظ عليهما كما في رواية أحمد (ج2: ص206) ، والحميدي (ج1: ص265) ، وأبي داود، يعني لا يواظب عليهما. قيل: والأظهر أنه ليس المراد إجراء هذه الألفاظ على اللسان فقط بل التذكر والتيقظ في فهم معانيها وإن لم يحرم من البركة من يذكرها وقلبه لاه عنها (إلا دخل الجنة) ، أي مع الناجين. وقيل: أي مع السابقين وإلا فإنه يدخل الجنة كل مؤمن إن شاء الله تعالى وإن كان بعد أمد والاستثناء مفرغ وفيه بشارة عظيمة بحسن الخاتمة للمواظب على هذه الأذكار (ألا) بالتخفيف حرف تنبيه (وهما) ، أي الخصلتان وهما الوصفان كل واحد منهما (يسير) ، أي سهل خفيف لعدم صعوبة العمل بهما على من يسره الله (ومن يعمل بهما) ، أي على وصف المداومة (قليل) عددهم، أي نادر لعزة التوفيق وجملة التنبيه معترضة لتأكيد التحضيض على الإتيان بهما والترغيب في المداومة عليهما، والظاهر أن الواو في ((وهما للحال والعامل فيه معنى التنبيه. قاله القاري. (يسبح الله) بأن يقول سبحان الله، وهو بيان لإحدى الخلتين والضمير للرجل المسلم (في دبر) بضمتين، أي عقب (كل صلاة) ، أي مكتوبة كما في رواية أحمد (ج2: ص162) (عشرًا) ، أي من المرات (ويحمده) بأن يقول الحمد لله (ويكبره) بأن يقول الله أكبر (قال) ، أي ابن عمرو (يعقدها) ، أي العشرات (بيده) ، أي بأصابعها أو بأناملها أو بعقدها. والمراد يضبط الأذكار المذكورة وبحفظ عددها أو يعقد لأجلها بيده. (قال) : أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (فتلك) ، أي العشرات الثلاث دبر كل صلاة من الصلوات الخمس (خمسون ومائة) ، أي في يوم وليلة حاصلة من ضرب ثلاثين في خمسة، أي مائة وخمسون حسنة (باللسان) ، أي بمقتضى نطقه في العدد (وألف وخمسمائة في الميزان) ، لأن كل حسنة بعشر أمثالها على أقل مراتب المضاعفة الموعودة في الكتاب والسنة (وإذا أخذ مضجعه) ، في الترمذي ((وإذا أخذت مضجعك تسبحه وتكبره وتحمده)) وهذا بيان للخلة الثانية (يسبحه ويكبره ويحمده مائة) ، أي مائة مرة يعني يسبح الله ثلاثًا وثلاثين، ويكبره أربعًا وثلاثين، ويحمده، ثلاثًا وثلاثين، فيكون عدد المجموع مائة يدل على ذلك رواية النسائي، وابن السني. ((وإذا أوى أحدكم إلى فراشه أو مضجعه يسبح ثلاثًا وثلاثين، ويحمد ثلاثًا وثلاثين، وكبر أربعًا وثلاثين)) ، ولأبي داود ((ويكبر أربعًا وثلاثين إذا أخذ مضجعه ويحمد ثلاثًا وثلاثين، ويسبح ثلاثًا وثلاثين)) . (فتلك) ، أي المائة من أنواع الذكر (مائة) ، أي مائة حسنة (وألف) ، أي ألف حسنة على جهة المضاعفة (فأيكم يعمل في اليوم والليلة ألفين وخمس مائة سيئة) كذا عند أحمد، والنسائي، وابن ماجة، والبخاري في

قَالُوا: وَكَيْفَ لا نحْصِيهَا؟ قَالَ: يَأْتِي أَحَدَكُمْ الشَّيْطَانُ وَهُوَ فِي صَلَاتِهِ فَيَقُولُ اذْكُرْ كَذَا اذْكُرْ كَذَا حَتَّى يَنْفَتِلَ فَلَعَلَّهُ لا يَفْعَلُ وَيَأْتِيهِ فِي مَضْجَعِهِ فَلا يَزَالُ يُنَوِّمُهُ حَتَّى يَنَامَ. رواه الترمذي وأبو داود ـــــــــــــــــــــــــــــ الأدب المفرد وفي الترمذي، ((ألفي وخمسائة سيئة)) وفي مسند الحميدي ((ألفي سيئة وخمسمائة سيئة)) قال القاري: الفاء جواب شرط محذوف وفي الاستفهام نوع إنكار يعني إذا حافظ على الخصلتين وحصل ألفان وخمسمائة حسنة في يوم وليلة فيعفي عنه بعدد كل حسنة سيئة كما قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (11: 114) فأيكم يأتي بأكثر من هذا من السيئات في يومه وليلته حتى لا يصير معفوًا عنه فما لكم لا تأتون بهما ولا تحصونهما؟ انتهى. وقال السندي: في حاشية النسائي: قوله: ((فأيكم يعمل)) إلخ، أي لتساوي هذه الحسنات ولا يبقى منها شيء، أي بل السيئات في العادة أقل من هذا العدد فتغلب عليها هذه الحسنات الحاصلة بهذا الذكر المبارك، وقال في حاشية ابن ماجة: أي إنها تدفع هذا العدد من السيئات وإن لم تكن له سيئات بهذا العدد ترفع له بها درجات وقلما يعمل الإنسان في اليوم والليلة هذا القدر من السيئات فصاحب هذا الورد مع حصول مغفرة السيئات لابد أن يحرز بهذا الورد فضيلة هذه الدرجات (قالوا وكيف لا نحصيها) ، أي المذكورات، وفي رواية أحمد ((قالوا: كيف من يعمل بهما قليل)) ؟ والمعنى أنهم قالوا مستفهمين استفهام تعجب إذا كان هذا الثوب الجزيل لمن يعمل هذا العمل القليل فكيف يقل العاملون به؟ قال الطيبي: أي كيف لا نحصي المذكورات في الخلتين، وأي شيء يصرفنا فهو استبعاد لإهمالهم في الإحصاء فرد استبعادهم بأن الشيطان يوسوس له في الصلاة حتى يغفل عن الذكر عقيبها وينومه عند الاضطجاع كذلك. وهذا معنى قوله (قال) : أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (يأتي أحدكم) مفعول مقدم (فيقول) ، أي يوسوس له ويلقي في خاطره (اذكر كذا اذكر كذا) ، من الأشغال الدنيوية والأحوال النفسية الشهوية أو ما لا تعلق له بالصلاة ولو من الأمور الأخروية (حتى ينفتل) ، أي ينصرف عن الصلاة (فلعله) ، أي فعسى (أن لا يفعل) ، أي الإحصاء، قيل: الفاء في ((فلعله)) جزاء شرط محذوف يعني أن الشيطان إذا كان يفعل كذا فعسى الرجل أن لا يفعل، وإدخال إن في خبره دليل على أن لعل ههنا بمعنى عسى، وفيه إيماء إلى أنه إذا كان يغلبه الشيطان عن الحضور المطلوب المؤكد في صلاته، فكيف لا يغلبه ولا يمنعه عن الأذكار المعدودة من السنن في حال انصرافه عن طاعته، وفي راوية أحمد (ج2: ص206) ((فيذكر حاجة كذا فيقوم ولا يقولها)) ، والمعنى أنه ينصرف عن الصلاة وهو مشغول بالحاجة التي ذكره بها الشيطان فلا يقول الذكر المطلوب إما نسيانًا أو عمدًا لاشتغاله بغيره، وهكذا يفعل معه عند النوم حتى ينام بدون ذكر (ويأتيه) ، أي الشيطان أحدكم (فلا يزال ينوّمه) بتشديد الواو، أي يلقي عليه النوم (حتى ينام) ، أي بدون الذكر، وفي رواية أحمد ((فينومه فلا يقولها)) وفي أخرى له أيضًا ولأبي داود ((فينومه قبل أن يقولها)) (رواه الترمذي) في الدعوات من طريق إسماعيل بن علية عن عطاء ابن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو (وأبو داود) في الأدب من

والنسائي. وفي رواية أبي داود قَالَ: خَصْلَتَانِ أَوْ خَلَّتَانِ لا يُحَافِظُ عَلَيْهِمَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وكذا في روايته بعد قوله ((وَأَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ فِي الْمِيزَانِ)) . قال: وَيُكَبِّرُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ وَيَحْمَدُ ثَلاثًا وَثَلاثِينَ وَيُسَبِّحُ ثَلاثًا وَثَلاثِينَ. وفي أكثر نسخ المصابيح ((عن عبد الله بن عمر)) . 2430- (27) وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غَنَّامٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ اللَّهُمَّ مَا أَصْبَحَ بِي مِنْ نِعْمَةٍ أو بأحد من خلقك ـــــــــــــــــــــــــــــ رواية شعبة عن عطاء، (والنسائي) في الصلاة من طريق حماد بن زيد عن عطاء واللفظ للترمذي، وأخرجه أيضًا أحمد (ج2: ص160، 161) من طريق جرير عن عطاء، و (ج2: ص205) من طريق شعبة، وابن ماجة في الصلاة من طريق ابن علية ومحمد بن فضيل وأبي يحيى التيمي، وابن الأجلح عن عطاء والحميدي في مسنده (ج1: ص265) ، والبخاري في الأدب المفرد (ج2: ص621) من طريق سفيان عن عطاء، وابن حبان من طريق حماد بن زيد عنه، وابن السني (ص236) من طريق حماد بن سلمة عن عطاء. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وسكت عنه أبو داود، ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره. وقال النووي في الأذكار: إسناد صحيح إلا أن فيه عطاء بن السائب وفيه اختلاف بسبب اختلاطه. قلت: قال المنذري قال أحمد فيه: ثقة ثقة صالح من سمع منه قديمًا، أي قبل الاختلاط والتغير كان صحيحًا ومن سمع منه حديثًا لم يكن بشيء. وقال النسائي: ثقة في حديثه القديم لكنه تغير، ورواية الثوري وحماد بن زيد عنه جيدة وصحح حديثه الترمذي، وابن خزيم، وابن حبان، والحاكم وغيرهم - انتهى. قلت: سمع سفيان الثوري وشعبة وحماد بن زيد من عطاء قبل الاختلاط كما في تهذيب التهذيب ويكفي في صحة الحديث من هؤلاء التسعة الذين رووه عن عطاء، شعبة، والثوري، وحماد بن زيد الذين سمعوا من عطاء قديمًا. (وفي رواية أبي داود قال خصلتان أو خلتان) . أي على الشك وكذا وقع بالشك في رواية أحمد (ج2 ص206) (لا يحافظ عليهما عبد مسلم) ، أي بدل لا يحصيهما رجل مسلم، (وكذا في روايته) ، أي رواية أبي داود (وفي أكثر نسخ المصابيح عن عبد الله بن عمر) ، أي بدون الواو وهو خطأ من غير شك فإن الحديث من مسند عبد الله بن عمرو بن العاص عند جميع المخرجين. 2430- قوله (عند عبد الله بن غنام) بفتح الغين المعجمة وتشديد النون وبعد الألف ميم. ابن أوس بن عمرو بن مالك بن عامر بن بياضة الأنصاري البياضي صحابي له حديث في سنن أبي داود والنسائي في القول عند الصباح يرويه عنه عبد الله بن عنبسة، ويأتي بقية الكلام عليه عند تخريج الحديث، (ما أصبح بي) ، أي حصل لي في الصباح. قاله القاري. وقيل: أي ما أصبح متصلاً بي، (من نعمة) ، أي دنيوية أو أخروية (أو بأحد من خلقك) أو للتنويع والمراد التعميم، وهذا ليس في رواية أبي داود نعم هو عن النسائي كما يظهر من تحفة الذاكرين وكذا هو في حديث ابن عباس عند ابن حبان

فَمِنْكَ وَحْدَكَ لا شَرِيكَ لَكَ، فَلَكَ الْحَمْدُ وَلَكَ الشُّكْرُ. فَقَدْ أَدَّى شُكْرَ يَوْمِهِ. وَمَنْ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ حِينَ يُمْسِي فَقَدْ أَدَّى شُكْرَ لَيْلَتِهِ. رواه أبو داود. 2431- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ: ـــــــــــــــــــــــــــــ وابن السني (فمنك) ، أي فحاصل منك (وحدك) حال من الضمير المتصل في قوله ((فمنك)) ، أي فهو حاصل منك منفردًا (ومن قال مثل ذلك حين يمسي) لكن يقول أمسى بدل أصبح (فقد أدى شكر ليلته) ، هذا يدل على أن الشكر هو الاعتراف بالمنعم الحقيق ورؤية كل النعم دقيقها وجليلها منه، وكماله أن يقوم بحق النعم ويصرفها في مرضاة المنعم. قال الشوكاني: وفي الحديث فضيلة عظمية ومنقبة كريمة حيث تكون تأدية واجب الشكر بهذه الألفاظ اليسيرة القليلة وأن قائلها صباحًا قد أدى شكر يومه وقائلها مساءً قد أدى شكر ليلته مع أن الله تعالى يقول: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا} (14: 34) وإذا كانت النعم لا يمكن إحصاءها فكيف يقدر العبد على شكرها فلله الحمد ولله الشكر على هذه الفائدة الجليلة المأخوذة من معدن العلم ومنبعه - انتهى. (رواه أبو داود) في الأدب، وأخرجه أيضًا النسائي في الكبرى، والبغوي في شرح السنة (ج5: ص115) كلهم من طريق ربيعة بن أبي عبد الرحمن الرأي عن عبد الله بن عنبسة عن عبد الله بن غنام البياضي، وقد سكت عنه أبو داود، وقال النووي: روينا في سنن أبي داود بإسناد جيد لم يضعفه عن عبد الله بن غنام فذكره. وقال الشوكاني: وجود النسائي إسناده، وأخرجه ابن حبان في صحيحه، وابن السني (ص15) من طريق ربيعة الرأي عن عبد الله بن عنبسة عن ابن عباس، وهذا تصحيف من بعض الرواة، والصحيح ابن غنام، قال الحافظ: في تهذيب التهذيب (ج5: ص354) ، عبد الله بن عنبسة عن عبد الله بن عباس، وقيل: ابن غنام البياضي وهو الصحيح حديث ((من قال حين يصبح: اللهم ما أصبح بي من نعمة)) ، وعنه ربيعة بن أبي عبد الرحمن ومحمد بن سعيد الطائفي، روى له أبو داود، والنسائي هذا الحديث الواحد، ووقع في رواية النسائي على الوجهين ورجح الطبراني وغيره ابن غنام، قلت (قائله الحافظ) : وقال أبو زرعة: لا أعرفه إلا في حديث واحد، وأخرجه ابن حبان في صحيحه فقال ابن عباس، وأما أبو نعيم فجزم في معرفة الصحابة بأن من قال ابن عباس فقد صحف، وكذا قال ابن عساكر أنه خطأ - انتهى. 2431- قوله (أنه كان يقول إذا أوى) بقصر الهمزة ومدها وجهان ومعناه الاضطجاع للنوم (إلى فراشه) ، هذا لفظ أحمد، والبخاري في الأدب المفرد، وأبي داود وابن ماجة في رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة، ولمسلم، وابن السني عن سهيل قال: كان أبو صالح يأمرنا إذا أراد أحدنا أن ينام أن يضطجع على شقه الأيمين، ثم يقول: اللهم رب السموات إلخ، وكان يروي ذلك عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وللترمذي، ومسلم أيضًا من طريق سهيل عن أبيه عن أبي هريرة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا إذا أخذ أحدنا مضجعه أن يقول: اللهم رب السموات، إلخ،

اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ وَرَبَّ الأَرْضِ وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى مُنَزِّلَ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ ذِي شَرٍّ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الآخِرُ ـــــــــــــــــــــــــــــ ورواه أيضًا ابن ماجة من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: أتت فاطمة النبي - صلى الله عليه وسلم - تسأله خادمًا فقال لها: ما عندي أعطيك. فرجعت فأتاها بعد ذلك. فقال: الذي سألت أحب إليك أو ما هو خير منه فقال لها علي: قولي لا بل ما هو خير منه. فقالت. فقال: قولي اللهم رب السموات إلخ وهذه الرواية عند مسلم، والترمذي أيضًا لكن لم يسق مسلم لفظها (اللهم رب السموات) ، زاد في رواية لمسلم، والترمذي، وابن ماجة، وأحمد لفظه ((السبع)) (ورب الأرض) ، وللترمذي ((ورب الأرضين)) ، أي خالقهما ومربي أهلهما وزاد في رواية لمسلم، وابن ماجة، والترمذي، وابن السني ((ورب العرش العظيم)) يجر العظيم صفة للعرش والنصب نعتًا للرب (ورب كل شيء) تعميم بعد تخصيص، وفي مسلم، والترمذي ((ربنا ورب كل شيء (فالق الحب) الفلق الشق (والنوى) جمع النواة وهي عجم التمر وفي معناه عجم غيره والتخصيص لفضلها أو لكثرة وجودها في ديار العرب، أي يامن يشق حب الطعام ونوى التمر ونحوهما بإخراج الزرع والنخيل منهما (منزل التوراة) من الإنزال وقيل: من التنزيل (والإنجيل والقرآن) زاد في رواية الأعمش عند ابن ماجة، ((العظيم)) ولمسلم، وابن السني الفرقان بدل القرآن لأنه فرق بين الحق والباطل ولعل ترك الزبور لأنه مندرج في التوراة أو لأنه ليس فيه أحكام إنما هو مواعظ. قال الطيبي: فإن قلت: ما وجه النظم بين هذه القرائن؟ قلت: وجهه أنه - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر أنه تعالى رب السموات والأرض، أي مالكهما ومدبر أهلهما عقبه بقوله {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} لينتظم معنى الخالقية والمالكية لأن قوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ} تفسير لفالق الحب والنوى، ومعناه يخرج الحيوان النامي من النطفة والحب من النوى {وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ} ، أي يخرج هذه الأشياء من الحيوان والنامي، ثم عقب ذلك بقوله ((منزل التوراة)) ليؤذن بأنه لم يكن إخراج الأشياء من كتم العدم إلى فضاء الوجود إلا ليعلم ويعبد ولا يحصل ذلك إلا بكتاب ينزله ورسول يبعثه. كأنه قيل يا مالك، يا مدبر، يا هادي أعوذ بك - انتهى كلام الطيبي (أعوذ) ، أي أعتصم وألوذ، ووقع في بعض النسخ ((وأعوذ)) بواو العطف وهو خطأ من الناسخ (من شر كل ذي شر) كذا لأحمد وأبي داود، والترمذي، والبخاري في الأدب المفرد، وفي رواية مسلم والترمذي، وابن السني ((من شر كل شيء)) (أنت آخذ بناصيته) ، أي من شر كل شيء من المخلوقات لأنها كلها في سلطانه وهو آخذ بنواصيها، وفي رواية لمسلم، وابن ماجة ((من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها)) ، أي أعوذ بك من شر كل دابة مؤذية (أنت الأول) ، وفي مسلم ((اللهم أنت الأول)) ، أي القديم الذي لا ابتداء له (فليس قبلك شيء) قيل هذا تقرير للمعنى السابق وذلك أن قوله ((أنت الأول)) مفيد للحصر قرينة الخير باللام فكأنه قيل: أنت مختص بالأولية فليس قبلك شيء (وأنت الآخر) ، أي الباقي بعد فناء خلقك لا انتهاء

فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ. اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ وَأَغْنِنِي مِنْ الْفَقْرِ. رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة، ورواه مسلم مع اختلاف يسير. 2432- (29) وعَنْ أَبِي الأَزْهَرِ الأَنْمَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنْ اللَّيْلِ قَالَ: ـــــــــــــــــــــــــــــ لك ولا انقضاء لوجودك. وقال الجزري: أي الباقي بعد فناء خلقه كله ناطقة وصامتة (فليس بعدك شيء) لعدم البعدية (وأنت الظاهر) أي فلا ظهور لشيء ولا وجود له إلا من آثار ظهورك ووجودك (فليس فوقك) أي فوق ظهورك (شيء) يعني ليس شيء أظهر منك لدلالة الآيات الباهرة عليك. وقيل الظاهر هو الذي ظهر فوق كل شيء وعلا عليه. وليس فوقك شيء أي لا يقهرك شيء. أي: ليس فوقك غالب (وأنت الباطن) يعني الذي حجب أبصار الخلائق وأوهامهم عن إدراكه فلا يدركه بصر ولا يحيط به وهم (فليس دونك شيء) أي لا يحجبك شيء عن إدراك مخلوقاتك يعني مع كونه يحتجب عن أبصار الخلائق فليس دونه ما يحجبه عن إدراكه شيئًا من خلقه، وقيل أنت الباطن أي بعظمة جلالك وكمال كبرياءك حتى لا يقدر أحد على إدراك ذاتك مع كمال ظهورك، وقوله: فليس دونك شيء أي وراءك شيء يكون أبطن منك، وقيل: الباطن هو العالم بما بطن. يقال: بطنت الأمر إذا عرفت باطنه (اقض عني الدين واغنني من الفقر) . وفي رواية مسلم، والحاكم: اقض عنا الدين وأغننا من الفقر. قال النووي: يحتمل أن المراد بالدين هنا حقوق الله تعالى وحقوق العباد كلها من جميع الأنواع، وأما معنى الظاهر من أسماء الله فقيل: هو من الظهور بمعنى القهر والغلبة وكمال القدرة ومنه ظهر فلان على فلان، وقيل: الظاهر بالدلائل القطعية والباطن المحتجب عن خلقه، وقيل: العالم بالخفيات، وأما تسميته تعالى بالآخر فقال الإمام أبو بكر الباقلاني: معناه الباقي بصفاته من العلم والقدرة وغيرهما التي كان عليها في الأزل يكون كذلك بعد موت الخلائق وذهاب علومهم وقدرهم وحواسهم وتفرق أجسامهم - انتهى. (رواه أبو داود) في الأدب واللفظ له، (والترمذي، وابن ماجة) في الدعوات، وأخرجه أيضًا أحمد (ج) ، والنسائي في الكبرى، والبخاري في الأدب المفرد (ج2: ص619) ، وابن السنى (ص227) ، وابن أبي شيبة، وأبو عوانة في الدعوات، وابن حبان، والحاكم (ج1: ص546) وقال: حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وسكت عنه أبو داود، والمنذري. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. (ورواه مسلم) في الدعاء (مع اختلاف يسير) وقد ذكرنا مواضع الاختلاف. 2432- قوله: (وعن أبي الأزهر) ويقال: أبو زهير مصغرًا (الأنمارى) بفتح الهمزة وسكون النون ويقال: النميري بالتصغير صحابي سكن الشام لا يعرف اسمه، وقيل: يحيى بن نفير روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في القول: إذا أخذ مضجعه. وعنه خالد بن معدان وغيره (كان إذا أخذ مضجعه) بفتح الميم والجيم أي موضع ضجوعه يعني استقر فيه لينام

بِسْمِ اللَّهِ وَضَعْتُ جَنْبِي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي وَأَخْسِئْ شَيْطَانِي وَفُكَّ رِهَانِي وَاجْعَلْنِي فِي النَّدِيِّ الْأَعْلَى. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. ـــــــــــــــــــــــــــــ (بسم الله وضعت جنبي لله) كذا في جميع النسخ من المشكاة وهكذا نقله في جامع الأصول وقع في المصابيح بدون ((لله)) وكذا في الأذكار، والحصن، والجامع الصغير. وهكذا وقع في سنن أبي داود. قال القاري: فوضعت متعلق الجار ويحتمل على الأول أيضًا أن يتعلق بقوله: وضعت أي: باسم الله وضعت جنبي حال كون وضعه لله أي للتقوى على عبادته (اللهم اغفر لي ذنبي) المراد به ذنبه اللائق بذاته الشريفة أو وقع تعليمًا لأمته (واخسأ شيطاني) أي: اجعله خاسئًا أي: مطرودًا وهو بوصل الهمزة وفتح السين من خسأت الكلب أي: طردته وزجرته مستهينًا به فانزجر وخسأ الكلب بنفسه فهو يتعدى ولا يتعدى ومنه قوله تعالى: {قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} (23: 108) والمعنى اجعله مطرودًا عني كالكلب المهين. قال الطيبي: أضافه إلى نفسه لأنه أراد به قرينه من الجن أو أراد الذي يقصد إغواءه ويبغي غوايته أي من شياطين الإنس والجن (وفك) بضم الفاء وتشديد الكاف المفتوحة ويجوز ضمها وكسرها (رهاني) بكسر الراء كسهام أي خلص نفسي ورقبتي عن كل حق علي. وأصل الفك الفصل بين الشَّيْئَيّنِ وتخليص بعضهما من بعض. والرهان الرهن وجمعه ومصدر راهنه وهو ما يوضع وثيقة للدين يعني المال المحبوس عند المرتهن والمراد هنا نفس الإنسان لأنها مرهونة بعملها لقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (74: 38) وقوله: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} (52: 21) ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: نفس المؤمن مرتهنة بدينه. أي محبوسة عن مقامها الكريم حتى يقضى عنه دينه. وفك الرهن تخليصه من يد المرتهن يعني خلص نفسي عن حقوق الخلق ومن عقاب ما اقترفت من الأعمال التي لا ترتضيها بالعفو عنها، وزاد في المستدرك وعمل اليوم والليلة لابن السني ((وثقل ميزاني)) أي بالأعمال الصالحة (واجعلني في النديّ الأعلى) النديّ: بفتح النون وكسر الدال وتشديد الياء هو النادي، قال الجزري: الندي النادي وهو المجلس يجتمع فيه القوم، فإذا تفرقوا عنه فليس بناد ولا ندي، والمراد بالندي الأعلى مجتمع الملائكة المقربين ولهذا وصفه بالعلو. وقال الخطابي: الندي القوم المجتمعون في مجلس، ومثله النادي وجمعه أندية، قال: ويريد بالندي الأعلى الملأ الأعلى من الملائكة - انتهى. وقيل: الندي أصله المجلس، ويقال للقوم أيضًا تقول: ندوت القوم أي جمعتهم، والمعنى اجعلني من القوم المجتمعين. ويريد بالأعلى الملأ الأعلى. وهم الملائكة أو من أهل الندي إذا أريد به المجلس، وهذا دعاء يجمع خير الدنيا والآخرة فتتأكد المواظبة عليه كلما أريد النوم وهو من أجل الأدعية المشروعة عنده على كثرتها (رواه أبو داود) في الأدب قال الحافظ في الإصابة في ترجمة أبي الأزهر الأنماري: بسند جيد. وقال النووي في الأذكار: بالإسناد الحسن، ورمز السيوطي في الجامع الصغير لصحته وسكت عنه أبو داود، وأخرجه أيضًا الحاكم (ج1: ص540، 549) ، وابن السنى (ص228) بلفظ ((كان إذا أخذ مضجعه قال: اللهم اغفر لي)) . إلخ، وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

2433- (30) وعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ من الليل قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَفَانِي وَآوَانِي وَأَطْعَمَنِي وَسَقَانِي وَالَّذِي مَنَّ عَلَيَّ فَأَفْضَلَ وَالَّذِي أَعْطَانِي فَأَجْزَلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ اللَّهُمَّ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ وَإِلَهَ كُلِّ شَيْءٍ أَعُوذُ بِكَ مِنْ النَّارِ. رواه أبو داود. 2334- (31) وعَنْ بُرَيْدَةَ قال: شَكَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَنَامُ اللَّيْلَ مِنْ الأَرَقِ فَقَالَ نبِيُّ الله - صلى الله عليه وسلم -: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَقُلْ: اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَمَا أَظَلَّتْ وَرَبَّ الأَرَضِينَ ـــــــــــــــــــــــــــــ 2433- قوله: (الحمد لله الذي كفاني) أي دفع عني شر كل موذ من خلقه وكفى مهماتي وقضى حاجاتي أو أغناني عن الخلق (وآواني) بالمد أي جعل لي مسكنًا يقيني الحر والبرد وأحرز فيه متاعي (والذي من) أي أنعم من المن العطاء لا من المنة (عليَّ فأفضل) بالفاء وفي رواية أحمد بالواو أي زاد في المن أو أكثر (والذي أعطاني فأجزل) أي: فأعظم العطاء أو أكثر من النعمة. قال الطيبي: الفاء فيه لترتبها في التفاوت من بعض الوجوه كقولك خذ الأفضل فالأكمل واعمل الأحسن فالأجمل فالإعطاء حسن وكونه جزيلاً أحسن وهكذا المن، وقدم المن لأنه غير مسبوق بعمل العبد بخلاف الإعطاء فإنه قد يكون بإزاء عمل من العبد ومسبوقًا به كذا قال، وفيه بحث (الحمد لله على كل حال) وفي رواية ابن السني ((اللهم فلك الحمد على كل حال)) (اللهم رب كل شيء) أي: مربيه ومصلحه (ومليكه) وفي رواية أحمد ((وملك كل شيء)) ، ولابن حبان ((ومالك كل شيء)) (وإله كل شيء) زاد في رواية أحمد، وابن حبان ((ولك كل شيء)) (أعوذ من النار) أي مما يقرب إليها من علم أو عمل أو حال يوجب العذاب (رواه أبو داود) في الأدب، قال النووي: بالإسناد الصحيح. قلت: سكت عنه أبو داود، والمنذري، وأخرجه أيضًا أحمد (ج2: ص118) ، والنسائي في الكبرى، وابن حبان، وأبو عوانة في صحيحهما، وابن السني (ص230) ، والبغوي في شرح السنة (ج5:ص106) ، وأخرجه الحاكم من حديث أنس (ج1: ص545، 546) وصححه وأقره الذهبي. 2434- قوله: (وعن بريدة) بن الحصيب الأسلمي الصحابي (شكا خالد بن الوليد) المخزومي (إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -) في القاموس: شكا أمره إلى الله شكوى، وينون وشكاية بالكسر وشكيت لغة في شكوت - انتهى. فعلى اللغة الأولى التي هي الفصحى يكتب شكا بالألف وعلى الثانية بالياء بناء على القاعدة المقررة في علم الخط (فقال: يا رسول الله ما أنام الليل من الأرق) هذا بيان لقوله: شكا، والأرق بفتحتين السهر في الليل لامتناع النوم لعلة من وسواس أو حزن أو غير ذلك. فمن ابتدائية للتعليل أي لأجل السهر (إذا أويت) بالقصر (وما أظلت) بتشديد اللام من الإظلال أي: وما أوقعت ظلها

وَمَا أَقَلَّتْ وَرَبَّ الشَّيَاطِينِ وَمَا أَضَلَّتْ كُنْ لِي جَارًا مِنْ شَرِّ خَلْقِكَ كُلِّهِمْ جَمِيعًا أَنْ يَفْرُطَ عَلَيَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَوْ أَنْ يَبْغِيَ عَزَّ جَارُكَ وَجَلَّ ثَنَاؤُكَ وَلا إِلَهَ غَيْرُكَ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ. رواه الترمذي وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ وَالْحَكَمُ بْنُ ظُهَيْرٍ الراوي قَدْ تَرَكَ حَدِيثَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه، قال الجزري: أظلت السماء الأرض أي: ارتفعت عليها فهي لها كالمظلة (وما أقلت) بتشديد اللام من الإقلال، أي حملت ورفعت من المخلوقات. قال الجزري: أقلت الأرض ما عليها أي: حملته (وما أضلت) من الإضلال وهو الحمل على الضلال ضد الهدى. أي: وما صيرته بإغوائها ضالاً. قال القاري: أي: وما أضلت الشياطين من الإنس والجن فما هنا بمعنى من، وفيما قبل غلب فيها غير العاقل، ويمكن أن ما هنا للمشاكلة يعني ليطابق ما قبله من تغليب غير ذوي العقول لكثرته على العقلاء (كن لي جارًا) من استجرت فلانًا فأجارني، ومنه قوله تعالى: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} (23: 88) أي: كن لي معينًا ومانعًا ومجيرًا وحافظًا في القاموس الجار المجير والمستجير والحليف والناصر (من شر خلقك كلهم جميعًا) حال فهو تأكيد معنوي بعد تأكيد لفظي، وفي حديث خالد بن الوليد عند الطبراني ((من شر خلقك أجمعين)) (أن يفرط) بفتح الياء التحتية وضم الراء وهو العدوان ومجاوزة الحد، يقال: فرط عليه أي: عدا عليه ومنه قوله تعالى: {أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا} (20: 45) (على أحد منهم) أي: من يفرط على أحد من خلقك على أنه بدل اشتمال من شر خلقك أو لئلا يفرط أو كراهة أن يفرط. قال في المفاتيح: أي: يقصدني بالأذى مسرعًا (أو أن يبغي) بكسر الغين أي: يظلم على أحد، وفي حديث خالد ((أو أن يطغى)) من الطغيان وأو للتنويع وهو على منوال قوله تعالى حكاية عن موسى وهارون: {إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى} (20: 45) (عز جارك) أي: غلب مستجيرك وصار عزيزًا (وجل) أي: عظم (ثناءك) يحتمل إضافته إلى الفاعل والمفعول ويحتمل أن يكون المثني غيره أو ذاته فيكون كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أنت كما أثنيت على نفسك)) وفي حديث خالد بن الوليد ((تبارك اسمك)) (رواه الترمذي) في الدعوات. قال النووي: بإسناد ضعيف، وقال المنذري: بإسناد فيه ضعف، وأخرجه الطبراني في الأوسط من حديث خالد بن الوليد أنه أصابه أرق فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا أعلمك كلمات إذا قلتهن نمت، قل: اللهم رب السماوات السبع إلخ. قال المنذري: إسناده جيد، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح إلا أن عبد الرحمن بن سابط لم يسمع من خالد بن الوليد، ورواه أي: الطبراني في الكبير بسند ضعيف بنحوه (والحكم) بفتحتين وفي بعض النسخ ((الحكيم)) بالياء وهو خطأ والصواب الحكم (بن ظهير) بالمعجمة مصغرًا (الراوي) بتخفيف الياء (قد ترك حديثه بعض أهل الحديث) قال الحافظ في التقريب: الحكم بن ظهير الفزاري أبو محمد وكنية أبيه أبو ليلى، ويقال أبو خالد متروك رمي بالرفض واتهمه ابن معين - انتهى. وقال في تهذيب التهذيب في ترجمته: قال أبو زرعة: إنه واهي الحديث متروك الحديث، وقال أبو حاتم: متروك

(الفصل الثالث)

(الفصل الثالث) 2435- (32) عَنْ أَبِي مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: إِذَا أَصْبَحَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ أَصْبَحْنَا وَأَصْبَحَ الْمُلْكُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذَا الْيَوْمِ فَتْحَهُ وَنَصْرَهُ وَنُورَهُ وَبَرَكَتَهُ وَهُدَاهُ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا فِيهِ وَشَرِّ مَا بَعْدَهُ ثُمَّ إِذَا أَمْسَى فَلْيَقُلْ مِثْلَ ذَلِكَ. رواه أبو داود. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث، وقال البخاري: متروك الحديث تركوه، وقال النسائي: متروك، روى له الترمذي حديثًا واحدًا في القول عند الأرق، وقال قد تركه بعض أهل الحديث، وقال صالح جزرة: كان يضع الحديث، وفي الكامل لابن عدي: قال يحيى كذاب. وقال ابن حبان: كان يشتم الصحابة ويروي عن الثقات الأشياء الموضوعات وهو الذي روى عن عاصم عن ذر عن عبد الله ((إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه)) . 2435- قوله: (عن أبي مالك) الأشعري (اللهم إني أسألك خير هذا اليوم فتحه) أي الظفر على المقصود (ونصره) أي النصرة على العدو) (ونوره) بتوفيق العلم والعمل (وبركته) بتيسير الرزق الحلال الطيب (وهداه) أي: الثبات على متابعة الهدى ومخالفة الهوى. وقال الطيبي: قوله: فتحه وما بعده بيان لقوله: ((خير هذا اليوم)) والفتح هو الظفر بالتسلط صلحًا أو قهرًا، والنصر الإعانة والإظهار على العدو وهذا أصل معناهما ويمكن التعميم فيهما يعني فيفيد التأكيد (وأعوذ بك من شر ما فيه) أي: في هذا اليوم (ومن شر ما بعده) كذا في أكثر النسخ من المشكاة ووقع في بعض النسخ ((وشر ما بعده)) أي: بدون ((من)) وهكذا في أبي داود، وكذا نقله الجزري في الحصن، وجامع الأصول، والنووي في الأذكار واكتفى به عن سؤال خير ما بعده إشعارًا بأن درء المفاسد أهم من جلب المنافع (ثم إذا أمسى فليقل مثل ذلك) بأن يقول: أمسينا وأمسى الملك وخير هذه الليلة ويؤنث الضمائر (رواه أبو داود) في الأدب. قال النووي: بإسناد لم يضعفه قلت: سكت عنه أبو داود، وقال المنذري: في سنده محمد بن إسماعيل بن عياش وأبوه وكلاهما فيه مقال - انتهى. قلت: قال الحافظ في التقريب: محمد بن إسماعيل بن عياش الحمصي عابوا عليه أنه حدث عن أبيه بغير سماع. وقال في تهذيب التهذيب: قال أبو حاتم لم يسمع من أبيه شيئًا حملوه على أن يحدث فحدث، وقال الآجري: سئل أبو داود عنه فقال: لم يكن بذاك قد رأيته ودخلت حمص غير مرة وهو حي وسألت عمرو بن عثمان عنه فذمه، قلت (قائله الحافظ) : وقد أخرج أبو داود عن محمد بن عوف عنه عن أبيه عدة أحاديث لكن يروونها بأن محمد بن عوف رآها في أصل إسماعيل - انتهى. وأما أبوه إسماعيل بن عياش فهو صدوق في روايته عن أهل بلده مخلط في غيرهم كما في التقريب وتهذيب التهذيب. وهذا الحديث رواه إسماعيل بن عياش عن ضمضم بن زرعة الحمصي فلا بأس بروايته.

2436- (33) وعن عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: قلت لأَبِي: يَا أَبَتِ أَسْمَعُكَ تَقول كُلَّ غَدَاةٍ اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي بَدَنِي اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي سَمْعِي اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي بَصَرِي لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ تُكررهَا ثَلَاثًا حِينَ تُصْبِحُ وَثَلَاثًا حِينَ تُمْسِي فَقَالَ: يا بني سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو بِهِنَّ فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَسْتَنَّ بِسُنَّتِهِ. رواه أبو داود. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2436- قوله: (وعن عبد الرحمن بن أبي بكرة) بالتاء واسمه نفيع بن الحارث. قال المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكرة هو عبد الرحمن بن أبي بكرة الأنصاري البصري الثقفي ولد بالبصرة سنة أربع عشرة حيث نزلها المسلمون وهو أول مولود ولد للمسلمين بها، تابعي كثير الحديث سمع أباه وعليًّا، وروى عنه جماعة - انتهى. وقال الحافظ فيه: ثقة من كبار التابعين (قال) أي: عبد الرحمن: (يا أبت) بكسر التاء وفتحها (أسمعك) أي أسمع منك أو أسمع كلامك حال كونك (تقول: كل غداة) أي: صباح أو كل يوم. قال القاري: وهو الأظهر لما سيأتي. وقال الشيخ الدهلوي في اللمعات: لعل المراد بالغداة هنا اليوم فيصح تفصيله بقوله: تكررها ثلاثًا حين تصيح وثلاثًا حين تمسي، أو يقدر بعد قوله: كل غداة ((وكل عشية)) ويكون قوله: ((حين تصبح وتمسي)) تعيينًا للوقت لأن الغداة والعشي أوسع من الصبح والمساء لأنهما اسمان لما قبل الزوال وبعده (اللهم عافني في بدني) أي: من الآلام والأسقام، والمفاعلة لقصد والعافية دفاع الله عن العبد السيئة والمكروه، وعافاه الله معافاة وعافية: وهب له العافية من العلل والبلايا (اللهم عافني في سمعي، اللهم عافني في بصري) خص السمع والبصر بالذكر بعد ذكر البدن مع أنه مشتمل عليهما لشرفهما فإن السمع يدرك ويعي الآيات المنزلة على الرسل، والعين هي التي تدرك وتجلو آيات الله المنبثة في الآفاق فهما جامعان لدرك الآيات النقلية والأدلة العقلية والنقلية وإليه ينظر قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا)) (تكررها) وفي أبي داود، ومسند أحمد، والأدب المفرد، ((تعيدها)) وكذا نقله النووي في الأذكار، والشوكاني في تحفة الذاكرين يعني تكرر هذه الجمل أو هذه الدعوات بدل من ((تقول)) أو حال (فقال: يا بني) بفتح الياء والتصغير، وفي أبي داود ((فقال إني)) وهكذا في الأذكار ووقع في المسند، وابن السني، والأدب المفرد ((قال: نعم يا بني إني)) (يدعو بهن) أي: كذلك (فأنا أحب أن أستن) أي: أقتدي (بسنته) وأتتبع سيرته (رواه أبو داود) في الأدب وسكت عنه، وأخرجه أيضًا أحمد (ج5: ص42) ، والبخاري في الأدب المفرد (ج2: ص159) ، والنسائي في الكبرى، وابن السني (ص24، 25) كلهم من طريق جعفر بن ميمون عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه، قال المزي: قال النسائي: جعفر بن ميمون ليس بالقوي، وقال المنذري بعد نقل كلام النسائي: وقال: فيه يحيى بن معين: ليس بذاك، وقال مرة: ليس بثقة، وقال مرة: بصري صالح الحديث. وقال الإمام أحمد ليس بقوي في الحديث، وقال أبو حاتم الرازي: صالح - انتهى. وقال الحافظ فيه: صدوق يخطئ.

2437- (34) وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أصبح قال: أصبحنا وأصبح الملك لله، والحمد لله، والكبرياء والعظمة لله، والخلق والأمر والليل والنهار وما سكن فيهما لله، اللهم اجعل أول هذا النهار صلاحًا وأوسطه نجاحاً وآخره فلاحًا يا أرحم الراحمين. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2437- قوله: (الكبرياء) أي: العظمة والتجبر (والعظمة) بفتح العين والظاء قال في القاموس: العظم بكسر العين حرف عظم كصغر عظمًا وعظامة فهو عظيم وعظم الرجل تكبر، والعظمة محركة الكبر والنخوة والزهو، وأما عظمة الله فلا توصف بهذا، ومتى وصف عبد بالعظمة فهو ذم - انتهى. والعظيم من أسماءه تعالى هو الذي جاوز قدره كل قدر وجل عن حدود العقول حتى لا تتصور الإحاطة بكهنة وحقيقته، والعظيم في صفات الأجسام كبر الطول والعمق والله تعالى جل عن ذلك (والخلق) أي: الإيجاد أو هو بمعنى المخلوق (والأمر) واحد الأوامر والمراد به الجنس أو واحد الأمور والمراد به التصرف والحكم، وقال الشوكاني في تفسير قوله تعالى: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} (7: 54) الخلق المخلوق والأمر كلامه وهو كن في قوله تعالى {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} أو المراد بالأمر ما يأمر به على التفصيل أو التصرف في مخلوقاته (وما سكن فيه2ا) أي وتحرك فهو من باب الاكتفاء نحو {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} (16: 81) أي والبرد، أو سكن بمعنى ثبت (لله) أي وحده لا شريك له وفيه رمز إلى قوله تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} (6: 13) وفي رواية ابن أبي شيبة: وما يضحى فيهما لله وحده. وهو بفتح الياء التحتية وإسكان الضاد المعجمة، وفتح الحاء المهملة، أي يبرز ويظهر، (اللهم اجعل أول هذا النهار صلاحًا) أي في ديننا ودنيانا، (وأوسطه نجاحًا) أي فوزًا بالمطالب المناسبة لصلاح الدارين (وآخره فلاحًا) . أي ظفرًا بما يوجب حسن الخاتمة وعلو المرتبة في درجات الجنة، والظاهر أن المراد من الأول والآخر والأوسط استيعاب الأوقات والساعات في صرفها إلى العبادات والطاعات لحصول حسن الحالات، والمعاملات في الدنيا ووصول أعلى الدرجات في الأخرى. قاله القاري. وقال الطيبي: صلاحًا في ديننا بأن يصدر منا ما ننخرط به في زمرة الصالحين من عبادك، ثم اشغلنا بقضاء مآربنا في دنيانا، لما هو صلاح في ديننا فانجحنا، واجعل خاتمة أمرنا بالفوز، بما هو سبب لدخول الجنة، فنندرج في سلك من قيل في حقهم: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2: 5) - انتهى. ولذا قالوا أجمع كلمة في الشريعة كلمة الفلاح. قال القاري: ولذا قال تعالى {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} إلى آخر الآيات، ثم قال: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} (23: 10: 11) (يا أرحم الراحمين) قال القاري: ختم بهذا لأنه سبب لسرعة إجابة الدعاء، كما جاء في حديث. وروى الحاكم في مستدركه وصححه من حديث أبي أمامة مرفوعًا ((إن لله ملكًا موكلاً بمن يقول يا أرحم الراحمين، فمن قالها ثلاثًا قال له الملك: إن أرحم الراحمين قد أقبل عليك فسل)) والظاهر أن قيد الثلاث لأن الغالب أن من قالها ثلاثًا حضر قلبه ورحمه

ذكره النووي في كتابه الأذكار برواية ابن السني. 3438- (35) وعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول إِذَا أَصْبَحَ: أَصْبَحْنَا عَلَى فِطْرَةِ الإِسْلَامِ وَكَلِمَةِ الإِخْلَاصِ وَعلى دِينِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - وَعلى مِلَّةِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ ـــــــــــــــــــــــــــــ ربه. قلت: حديث أبي أمامة هذا سكت عليه الحاكم (ج1: ص544) وقال الذهبي: فضال بن جبير (الراوي عن أبي أمامة) ليس بشيء، (ذكره النووي) بحذف الألف وإثباته، (برواية ابن السني) ، وذكره الجزري في الحصين، برواية ابن أبي شيبة والهيثمي في مجمع الزوائد، (ج10: ص114، 115) برواية الطبراني مع اختلاف يسير وفيه: ((وأوسطه فلاحًا وآخرة نجاحًا أسألك خير الدنيا والآخرة)) قلت: أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة (ص14) والطبراني في معجمه، وابن أبي شيبة في مصنفه من طريق فائد أبي الورقاء وهو متروك اتهموه. فالحديث ضعيف جدًا. وانظر: تفصيل الكلام في أبي الورقاء في تهذيب التهذيب (ج8: ص255، 256) . 2438- قوله (أصبحنا على فطرة الإسلام) بكسر الفاء أي دينه الحق. وقال القاري: أي خلقته قيل الفطرة الخلقة من الفطر، كالخلقة في أنها اسم للحالة كالجلسة، ثم إنها جعلت اسمًا للخلقة القابلة لدين الحق على الخصوص ومنه قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (30: 30) وحديث كل مولود يولد على الفطرة (وكلمة الإخلاص) في المسند ((وعلى كلمة الإخلاص)) أي التوحيد الخالص وهي كلمة لا إله إلا الله، وإنما سميت كلمة التوحيد كلمة الإخلاص لأنها لا تكون سببًا للخلاص إلا إذا كانت مقرونة بالإخلاص فالإضافة لأدنى ملابسة فإنها كلمة يحصل بها الإخلاص (وعلى دين نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -) وهو أخص مما قبله لأن ملل الأنبياء كلهم تسمى إسلامًا على الأشهر لقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ} (3: 19) ولقول إبراهيم {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (2: 131) ولوصية يعقوب لبنيه {فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (2: 132) والظاهر أنه قاله تعليمًا لغيره. قال النووي في الأذكار: كذا في كتاب ابن السني ((دين نبينا محمد)) وهو غير ممتنع، ولعله - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك جهرًا ليسمعه غيره فيتعلمه. والله أعلم. قال القاري: لا وجه لقوله ((لعل)) فإن الرواية متفرعة على السماع وهو لا يتحقق إلا بالجهر، وقيل الأظهر أنه - صلى الله عليه وسلم - أيضًا مأمور بالإيمان بنفسه كما ورد جوابه للمؤذن عند الشهادتين بقوله ((وأنا أنا)) قال ابن عبد السلام في أماليه: و ((على)) في مثل هذا تدل على الاستقرار والتمكن من ذلك المعنى لأن المجسم إذا علا شيئًا تمكن منه واستقر عليه ومنه، {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ} (2: 5) (وعلى ملة أبينا إبراهيم) الخليل - صلى الله عليه وسلم -، وهو أبو العرب لأنهم من ولد إسماعيل ونسله ففيه تغلب، أو الأنبياء بمنزلة الآباء ولذا قال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (33: 6) وفي قراءة شاذة وهو أب لهم، فأبو النبي يكون أبا أمته، وإنما احتيج لهذا التخصيص، لقوله تعالى: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} (16: 123) أي في أصول

(7) باب الدعوات في الأوقات

حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ. رواه أحمد والدارمي. (7) باب الدعوات في الأوقات (الفصل الأول) ـــــــــــــــــــــــــــــ الدين أو في بعض الفروع، كالختان وبقية العشرة من السنن المشهورة، (حنيفًا) حال من إبراهيم وهو المائل إلى دين الحق، المستقيم ضد الملحد المائل، إلى دين الباطل، وإن كان الحنف والإلحاد في أصل اللغة بمعنى مطلق الميل لكن خصا في الشرع بما ذكرنا. وقال ميرك: الحنيف المسلم المستقيم، وغلب هذا الوصف على إبراهيم الخليل. قال الأزهري: الحنيفية في الإسلام الميل إليه والإقامة على عقده، والحنيف الصحيح الميل إلى الإسلام والثابت عليه. وقال ابن سيده في محكمه: الحنيف المسلم الذي يتحنف عن الأديان أي يميل إلى الحق. قال وقيل هو المخلص. وقوله: ((حنيفًا)) كذا وقع مقتصرًا عليه في جميع النسخ من المشكاة وهكذا عند أحمد في بعض الروايات ووقع في رواية عنده بعد هذا زيادة ((مسلمًا)) ، وهكذا وقع عند غيره من المخرجين وكذا نقله في الأذكار وجامع الأصول (ج5: ص69) والحصن والجامع الصغير، والمعنى منقادًا كاملاً بحيث لا يلتفت إلى غيره تعالى (وما كان من المشركين) فيه رد على كفار العرب في قولهم: نحن على دين أبينا إبراهيم وتعريض باليهود والنصارى، ثم هو مع ما قبله من الأحوال المتداخلة أتى بها تقريرًا وصيانة للمعنى المراد تحقيقًا عما يتوهم من أنه يجوز أن يكون حنيفًا حالاً منتقلة فرد ذلك التوهم بأنه لم يزل موحدًا ومثبتًا لأنها حال مؤكدة كذا في المرقاة (رواه أحمد) (ج3: ص406، 407) ، (والدارمي) في الاستيذان، وأخرجه أيضًا النسائي في الكبرى، والطبراني، وابن السني (ص12) ، لكن عند أحمد والطبراني في الصباح والمساء جميعًا، وعند النسائي، والدارمي، وابن السني في الصبح فقط، والحديث صححه النووي في الأذكار، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10: ص116) : رجالهما أي رجال أحمد والطبراني رجال الصحيح , وقال صاحب السلاح بعد عزوه إلى النسائي: رجال إسناده رجال الصحيح. (باب الدعوات) المتفرقة (في الأوقات) أي المختلفة مما قدر لها الشارع، والوقت هو الزمان المضروب للفعل، كوقت الصلاة ووقت الزكاة ووقت الحج، وقد وردت دعوات في أحوال مخصوصة مختلفة كحال الغضب، وحال الصف، عند قتال الكفار، ونحو ذلك من الأحوال، كما وردت في أوقات مخصوصة بينها الشارع. ولما كان الدعاء في حال مخصوص مستلزمًا للدعاء في زمان مخصوص أدخل المصنف ذلك في الأوقات وقد أفرد بعضهم ذكر الأحوال لأن المعتبر فيها هو الحال لا الوقت فافهم. واعلم أن كل ما ورد من الشارع في زمن أو حال مخصوص يسن لكل أحد أن يأتي به لذلك ولو مرة للإتباع ما يربو على غيره، ومن ثم قالوا: صلاة النافلة في البيت أفضل منها في المسجد الحرام وإن قلنا بالأصح أن المضاعفة تختص به – انتهى باختصار يسير.

2439- (1) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2439- قوله (لو أن أحدكم) . قال القاري: وفي نسخة صحيحة يعني من المشكاة ((أحدهم)) قلت: وهكذا وقع عند البخاري في الدعوات، وكذا لمسلم، ووقع عند البخاري في التوحيد في بعض النسخ، ((أحدكم)) وفي أخرى ((أحدهم)) وهكذا اختلفت نسخ المصابيح في ذلك، ((ولو)) هذه يجوز أن تكون للتمني على حد، {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} (26: 102) والمعنى أنه - صلى الله عليه وسلم - تمنى لهم ذلك الخير يفعلونه لتحصل لهم السعادة، وحينئذٍ فيجئ فيه الخلاف المشهور هل يحتاج إلى جواب أم لا؟ وبالثاني قال ابن الصائغ وابن هشام. ويجوز أن تكون شرطية والجواب محذوف، والتقدير: لنال خيرًا كثيرًا أو لكان حسنًا، أو لسلم من الشيطان أو نحو ذلك، ويؤيده سياق الحديث كما لا يخفى، (إذا أراد أن يأتي أهله) أي يجامع امرأته أو جاريته، فالإتيان كناية عن الجماع، وهذه الرواية تدل على أن القول يكون قبل الشروع فهي مفسرة لغيرها من الروايات، التي فيها ((يقول حين يأتي أهله)) أو ((يقول حين يجامع أهله)) فإن هذا ظاهر في أن القول يكون مع الفعل فهو محمول على المجاز كقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ} (16: 98) أي إذا أردت القراءة، ويجوز كون إذا ظرفًا لقال، وقال خبر لأن وكونها شرطية وجزاءها قال والجملة خبر أن. وقد روى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود موقوفًا كما في الحصن والفتح إنه إذا أنزل قال: اللهم لا تجعل للشيطان فيما رزقتني نصيبًا. قال القاري: ولعله يقولها في قلبه أو عند انفصاله لكراهة ذكر الله، في حال الجماع بالإجماع (قال بسم الله) إلخ، أفاد الكرماني أنه رأى في نسخة قرئت على الفربري قيل لأبي عبد الله يعني البخاري من لا يحسن العربية يقولها بالفارسية؟ قال: نعم، (اللهم) أي يا الله (جنبنا) بتشديد النون من جنب الشيء يجنبه تجنيبًا إذا أبعده منه (الشيطان) أي بعده عنا وهو مفعول ثان (وجنب الشيطان ما رزقتنا) أي حينئذ من الولد، وصيغة الماضي للتفاؤل وتحقيق الرجاء، وهو في محل النصب، على أنه مفعول ثان. وأطلق ((ما)) على من يعقل لأنها بمعنى شيء كقوله تعالى: {وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} (3: 36) وقال العيني كلمة ما موصولة والعائد محذوف تقديره الذي رزقتناه، وقول من قال من الشارحين ما ها هنا بمعنى شيء ليس بشيء (فإنه) علة للجزاء المحذوف أي الشأن (إن يقدر) بالبناء للمفعول (بينهما) ، أي بين الأحد والأهل (ولد) ذكر أو أنثى (في ذلك) أي الوقت أو الإتيان، والمراد إن كان قدر لأن التقدير أزلى لكن عبر بصيغة المضارعة بالنسبة للتعلق، قاله الحافظ: (لم يضره) بفتح الراء وضمها، ويقال الضم أفصح أي لم يضر ذلك الولد (شيطان) أي من الشياطين قيل نكره بعد تعريفه أولاً لأنه أراد في الأول الجنس وفي الآخر إفراده على سبيل الاستغراق والعموم، ويجوز أن يراد بالأول إبليس وبالثاني أعم،

أبدًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ أو بالثاني سائر أعوانه. كذا في المرقاة. قلت: وقع في رواية أحمد (ج1: ص217) ((لم يضر ذلك الولد الشيطان أبدًا)) وفي أخرى له (ج1: ص287) ولمسلم، وابن ماجة ((لم يسلط عليه الشيطان أو لم يضره)) وهكذا وقع معرفًا في بعض الروايات عند البخاري وغيره. قال الحافظ: واللام للعهد المذكور في لفظ الدعاء، وفي مرسل الحسن عند عبد الرزاق إذا أتى الرجل أهله فليقل بسم الله اللهم بارك لنا فيما رزقتنا، ولا تجعل للشيطان نصيبًا فيما رزقتنا فكان يرجى، إن حملت أن يكون ولدًا صالحًا (أبدًا) . قال القاري: فيه إيماء إلى حسن خاتمة الولد ببركة ذكر الله في ابتداء وجود نطفته في الرحم. فالضر مختص بالكفر. وقال السندي: لم يحمل أحد حديث الباب على العموم الضرر لعموم ضرر الوسوسة للكل، وقد جاء كل مولود يمسه الشيطان، إلا مريم وابنها، فقيل لا يضره بالإغواء والإضلال بالكفر، وقيل بالكبائر، وقيل: بالصرف عن التوبة إذا عصى، قيل إنه يأمن مما يصيب الصبيان من جهة الجان، وقيل لا يكون للشيطان عليه سلطان، فيكون من المحفوظين، قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} (15: 42) انتهى. وقال الحافظ: اختلف في الضرر المنفي بعد الاتفاق على ما نقل عياض، على عدم الحمل على العموم في أنواع الضرر، وإن كان ظاهرًا في الحمل على عموم الأحوال من صيغة الماضي مع التأبيد، وكان سبب ذلك ما ثبت في الصحيح، أن كل بني آدم يطعن الشيطان في بطنه حين يولد، إلا من استثنى. فإن هذا الطعن نوع ضرر، في الجملة مع أن ذلك سبب صراخه ثم اختلفوا، فقيل: المعنى لم يسلط عليه من أجل بركة التسمية، (بحيث لا يكون له عمل صالح) ، بل يكون من جملة العباد الذين قيل فيهم، {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} (15: 42) ويؤيد مرسل الحسن المذكور: وقيل المراد لم يطعنه في بطنه وهو بعيد، لمنابذته ظاهر الحديث المتقدم، وليس تخصيصه بأولى من تخصيصه هذا، وقيل المراد لم يصرعه، وقيل لم يضره في بدنه - انتهى. يعني أن الشيطان لا يتخبطه ولا يداخله بما يضر عقله أو بدنه، قال العيني: وهو الأقرب، وقال ابن دقيق العيد: يحتمل أن لا يضره في دينه أيضًا، ولكن يبعده انتفاء العصمة، وتعقب بأن اختصاص من خص بالعصمة بطريق الوجوب، لا بطريق الجواز فلا مانع أن يوجد من لا يصدر منه معصية عمدًا، وإن لم يكن ذلك واجبًا له، وقال الداودي معنى لم يضره أي لم يفتنه عن دينه إلى الكفر، وليس المراد عصمته منه عن المعصية، وقيل لم يضره بمشاركة أبيه في جماع أمه، كما جاء عن مجاهد أن الذي يجامع ولا يسمي يلتف الشيطان على إحليله، فيجامع معه. قال الحافظ: ولعل هذا أقرب الأجوبة. ويتأيد الحمل على الأول بأن الكثير ممن يعرف هذا الفضل العظيم يذهل عنه إرادة المواقعة، والقليل الذي قد يستحضره ويفعله لا يقع معه الحمل، فإذا كان ذلك نادرًا لم يبعد، وفي الحديث من الفوائد أيضًا استحباب التسمية والدعاء والمحافظة على ذلك، حتى في حالة الملاذ كالوقاع، وفيه الاعتصام بذكر الله ودعاءه من الشيطان والتبرك باسمه والاستعاذة به من جميع الأسواء، وفيه الاستشعار بأنه الميسر لذلك العمل والمعين عليه، وفيه إشارة إلى أن الشيطان

متفق عليه. 2440- (2) وعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَرَبُّ الأَرْضِ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ملازم لابن آدم لا ينطرد عنه إلا إذا ذكر الله، (متفق عليه) أخرجه البخاري في الطهارة، وفي صفة إبليس، وفي النكاح، وفي الدعوات، وفي التوحيد، ومسلم في النكاح، وكذا الترمذي، وأبو داود، والنسائي في عشرة النساء من الكبرى، وفي عمل اليوم والليلة، وابن ماجة وأحمد (ج1: ص212، 217، 244، 284، 287) ، وابن السني (ص195) ، والبغوي في شرح السنة (ج5: ص119) . 2440- قوله (كان يقول عند الكرب) أي عند حلول الكرب وهو بفتح الكاف وسكون الراء بعدها موحدة، أي الغم الذي يأخذ النفس كذا في الصحاح. وقيل: الكرب أشد الغم. وقال الحافظ: هو ما يدهم المرأ مما يأخذ بنفسه فيغمه ويحزنه، وفي رواية للبخاري: كان يدعوا عند الكرب. وفي رواية لمسلم: كان يدعوا بهن ويقولهن عند الكرب. وفي أخرى له: كان إذا حز به أمر أي نزل به أمر مهم. قال الحافظ: هو بفتح المهملة والزاي وبالموحدة، أي هجم عليه أو غلبه، وفي حديث علي عند النسائي وصححه الحاكم ((لقنني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء الكلمات وأمرني إن نزل بي كرب أو شدة أن أقولها)) (لا إله إلا الله العظيم) ، الذي لا يعظم عليه شيء، وقيل أي البالغ أقصى مراتب العظمة التي لا يتصورها عقل ولا تحيط بكنهها بصيرة فلا يعظم عليه شيء (الحليم) هو الذي يؤخر العقوبة مع القدرة، وقيل هو الذي لا يستفزه غضب، ولا يحمله غيظ على استعجال العقوبة والمسارعة إلى الانتقام، (لا إله إلا الله رب العرش العظيم) بالجر على أنه نعت للعرش عند الجمهور، ونقل ابن التين عن الداودي أنه رواه برفع العظيم على أنه نعت للرب، وكذا برفع الكريم في قوله: ((رب العرش الكريم)) وبه قرأ ابن محيصن في آخر التوبة، وفي آية المؤمنين نعتًا للرب، والذي ثبت في رواية الجمهور بالجر فيهما، على أنه نعت للعرش ووصف العرش بالكريم، أي الحسن من جهة الكيفية، ووصفه بالعظيم من جهة الكمية، فهو ممدوح ذاتًا وصفة وخص بذكره لأنه أعظم الأجسام، فيدخل تحته الجميع، وقيل وصفه بالكرم، لأن الرحمة تنزل منه أو لنسبة إلى أكرم الأكرمين، وبالعظيم لأنه أعظم خلق الله، مطافًا لأهل السماء وقبلة للدعاء. قال الطيبي: صدر هذا الثناء بذكر الرب ليناسب كشف الكرب لأنه مقتضى التربية، وفيه التهليل المشتمل على التوحيد، وهو أصل التنزيهات الجلالية والعظمة التي تدل على تمام القدرة والحلم الذي يدل على العلم إذ الجاهل لا يتصور منه حلم ولا كرم. وهما أصل الأوصاف الإكرامية. وقال القسطلاني أخذا عن ابن القيم: قد صدر هذا الثناء بذكر الرب ليناسب كشف الكرب لأنه مقتضى التربية ووصف الرب تعالى بالعظمة والحلم وهما صفتان مستلزمتان لكمال القدرة والرحمة والإحسان والتجاوز ووصفه بكمال والربوبية

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ للعالم العلوي والسفلي والعرش الذي هو سقف، المخلوقات وأعظمها والربوبية التامة تستلزم توحيده، وإنه الذي لا تنبغي العبادة والحب والخوف والرجاء والإجلال والطاعة إلا له، وعظمته المطلقة تستلزم إثبات كل كمال له، وسلب كل نقص وتمثيل عنه، وحلمه يستلزم كمال رحمته وإحسانه إلى خلقه، فعلم القلب ومعرفته بذلك توجب محبته وإجلاله وتوحيده، فيحصل له من الابتهاج واللذة والسرور ما يدفع عنه ألم الكرب والهم والغم، وأنت تجد المريض إذا ورد عليه ما يسره ويفرحه ويقوي نفسه، كيف تقوى الطبيعة على دفع المرض الحسي، فحصول هذا الشفاء للقلب أولى وأحرى، فإذا قابلت بين ضيق الكرب وسعة هذه الأوصاف، التي تضمنها دعاء الكرب المذكور في هذا الحديث، وجدته في غاية المناسبة لتفريج هذا الضيق، وخروج القلب منه إلى سعة البهجة والسرور، وهذه الأمور إنما يصدق بها من أشرقت فيه أنوارها وباشر قلبه حقائقها - انتهى. قال النووي: هذا حديث جليل ينبغي الاعتناء به والإكثار عنه عند الكرب، والأمور العظيمة. قال الطبري: كان السلف يدعون به ويسمونه دعاء الكرب. قلت: حكى الحافظ عن ابن بطال أنه سعى بأبي بكر بن على عند السلطان بأصبهان، وكان عليه مدار الفتيا هناك فرأى أبو بكر الرازي في المنام، النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه قال له: قل لأبي بكر بن علي يدعو بدعاء الكرب، الذي في صحيح البخاري حتى يفرج الله عنه. قال الرازي: فأصبحت فأخبرته فدعا به، فلم يكن إلا قليلاً حتى أخرج. وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب ((الفرج بعد الشدة)) أنه كتب الوليد بن عبد الملك إلى عثمان بن حيان: انظر الحسن بن الحسن فاجلده مائة جلده، وأوقفه للناس قال: فبعث إليه فجيء به فقام إليه علي الحسين فقال: يا ابن عم تكلم بكلام الفرج يفرج الله عنك، فقالها فرفع إليه عثمان رأسه فقال: أرى وجه رجل كذب عليه خلوا سبيله، فسأكتب إلى أمير المؤمنين بعذره فأطلق. وأخرج النسائي، والطبري، من طريق الحسن بن الحسن بن علي قال: لما زوج عبد الله بن جعفر ابنته قال: لها إن نزل بك أمر فاستقبليه بأن تقولي: لا إله الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين. قال الحسن: فأرسل إلى الحجاج فقلتهن، فقال: والله لقد أرسلت إليك وأنا أريد أن أقتلك: فلأنت اليوم أحب إليّ من كذا وكذا، وفي لفظ ((فسل حاجتك)) . قال الطبري: معنى قول ابن عباس (في بعض الروايات) ((يدعو)) ، وإنما هو تهليل وتعظيم أي ليس فيه دعاء، يحتمل أمرين. أحدهما: أن المراد تقديم ذلك قبيل الدعاء، فيستفتح بهذا الذكر الدعاء ثم يدعو بما شاء، كما ورد في مسند أبي عوانة، في آخر الحديث ثم يدعو بعد ذلك. وعند عبد بن حميد: كان إذا حز به أمر قال: فذكر الذكر المأثور وزاد، ((ثم دعا)) وفي الأدب المفرد (ج2: ص161) من طريق آخر زاد في آخره ((اللهم اصرف عنى شره)) ، قال الطبري: ويؤيد هذا ما روى الأعمش عن إبراهيم قال: كان يقال إذا بدأ الرجل بالثناء قبل الدعاء استجيب، وإذا بدأ بالدعاء قبل الثناء كان على الرجاء، ثانيهما: ما أجاب به ابن عيينة عن الحديث الذي فيه ((كان أكثر ما يدعو به النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له)) ، الحديث. فقال سفيان: هو ذكر وليس فيه دعاء ولكن قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من شغله ذكرى عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين. قال: وقال أمية بن الصلت في مدح عبد الله بن جدعان:

متفق عليه. 2441- (3) وعَنْ سُلَيْمَانَ بْنُ صُرَدٍ قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلانِ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ وَأَحَدُهُمَا يَسُبُّ صَاحِبَهُ مُغْضَبًا قَدْ احْمَرَّ وَجْهُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: إِنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ ((أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)) فَقَالُوا لِلرَّجُلِ: ـــــــــــــــــــــــــــــ أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حباءك إن شيمتك الحباء إذا أثنى عليك المرأ يومًا ... كفاه من تعرضك الثناء قال سفيان: فهذا مخلوق حين نسب إلى الكرم، اكتفى بالثناء عن السؤال فكيف بالخالق - انتهى. وحاصل هذا الجواب أن الدعاء قد يكون صريحًا، وقد يكون تعريضًا، فإن الثناء على الكريم يتضمن الدعاء، والسؤال تعريضًا بألطف إيماء كمدح السائل والشاعر. قال الحافظ: ويؤيد الاحتمال الثاني حديث سعد بن أبي وقاص في دعوة ذي النون، إذ دعا وهو في بطن الحوت ((لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين)) الحديث. وقد تقدم في الفصل الثاني من كتاب أسماء الله تعالى: (ج3: ص440) قلت: ويؤيد الاحتمال الأول رواية أبي عوانه والأدب المفرد (متفق عليه) أخرجه البخاري في الدعوات، وفي التوحيد، ومسلم في الدعاء، وأخرجه أيضًا أحمد (ج1: ص229، 255، 260، 269، 281، 284) ، والبخاري في الأدب المفرد (ج2 ص157، 161) ، وابن ماجة في الدعاء، وأبو عوانة في صحيحه. 2441- قوله (عن سليمان بن صرد) بضم الصاد وفتح الراء بعدها دال مهملات، (استب رجلان) افتعال من السب أي تشاتما يعني شتم أحدهما الآخر، ولم يعرف الحافظ أسماء الرجلين، (عند النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي بمحضر منه، (وأحدهما يسب صاحبه) ، أي سبًا شديدًا (مغضبًا) ، بفتح الضاد حال من فاعل يسب (قد احمر وجهه) زاد في رواية: وانتفخت أوداجه. أي من شدة غضبه، ففي رواية للبخاري ((فغضب أحدهما فاشتد غضبه حتى انتفخ وجهه وتغير)) ، وفي حديث معاذ بن جبل عند أحمد وأصحاب السنن، حتى إنه ليخيل إلى أن أنفه ليتمزع من الغضب، (إني لأعلم كلمة) ، أي بالمعنى اللغوي الشامل للجملة المفيدة، (لو قالها لذهب) أي زال (عنه ما يجد) ، أي ما يجده من الغضب ببركتها (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) بدل من كلمة. وفي البخاري ((لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)) أي ذهب عنه ما يجد، كما في رواية أخرى له وفي حديث معاذ: إني لأعلم كلمة لو يقولها هذا الغضبان لذهب عنه الغضب. ((اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم)) ، والحديث مقتبس من قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (7: 200) قال الطيبي: أي ولا تنفع الاستعاذة من أمتك إلا المتقين، بدليل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا} أي ما أمرهم به تعالى ونهاهم عنه {فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (7: 201) لطريق السداد ودفعوا ما وسوس به إليهم (فقالوا للرجل) في

ألا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: إِنِّي لَسْتُ بِمَجْنُونٍ. متفق عليه. 2442- (4) وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا سَمِعْتُمْ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــ رواية مسلم ((فقام إلى الرجل ممن سمع النبي - صلى الله عليه وسلم -)) ، فدلت هذه الرواية على أن الذي خاطبه من الصحابة واحد وهو معاذ بن جبل، كما بينته رواية معاذ بن جبل عند أبي داود ولفظه، ((قال فجعل معاذ يأمره فأبى ومحك، (أي لج في الخصومة) وجعل يزداد غضبًا)) ، (لا تسمع) وفي بعض النسخ ألا تسمع، كما في البخاري (ما يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -) ، أي فتمتثل وتقول ذلك، (قال إني لست بمجنون) ، وفي رواية ((أترى بي بأسًا أمجنون أنا اذهب)) قال الحافظ: هو خطاب من الرجل للرجل الذي أمره بالتعوذ، أي امض في شغلك، واخلق بهذا المأمور أن يكون كافرًا أو منافقًا، أو كان غلب عليه الغضب حتى أخرجه عن الاعتدال بحيث زجر الناصح الذي دله على ما يزيل عنه ما كان به من وهج الغضب بهذا الجواب السييء. وقيل: إنه كان من جفاة الأعراب، وظن أنه لا يستعيذ من الشيطان إلا من به جنون، ولم يعلم أن الغضب من شر الشيطان ومسه، ولهذا يخرج به عن صورته، ويزين إفساد ماله كتقطيع ثوبه وكسر آنيته، أو الإقدام على من أغضبه، ونحو ذلك مما يتعاطاه من يخرج عن الاعتدال، وقد أخرج أحمد، وأبو داود، من حديث عطية السعدي: أن الغضب من الشيطان - الحديث. أي هو المحرك له الباعث عليه بإلقاء الوسوسة في قلب الآدمي ليغريه. وقال النووي: قول هذا الرجل الذي اشتد غضبه ((هل تري بي من جنون)) ، كلام من لم يفقه في دين الله تعالى، ولم يتهذب بأنوار الشريعة، وتوهم أن الاستعاذة مختصة بالجنون، ولم يعلم أن الغضب من نزعات الشيطان، ولهذا يخرج الإنسان عن اعتدال حاله، ويتكلم بالباطل ويفعل المذموم وينوي الحقد والبغض، وغير ذلك من القبائح المترتبة على الغضب، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للذي قال له أوصني: ((لا تغضب)) فردد مرارًا، فقال: لا تغضب. فلم يزده في الوصية على لا تغضب، مع تكراره الطلب. وهذا دليل ظاهر في عظم مفسدة الغضب، وما ينشأ منه ويحتمل أن هذا القائل كان من المنافقين، أو من جفاة الأعراب - انتهى. قلت: الظاهر أن قوله هذا أيضًا نشأ من شدة غضبه، وغلبة غيظه حتى أخرجه عن الاعتدال بحيث قال للناصح ما قال. قال الشوكاني: في الحديث دليل على أن الغضب متسبب عن عمل الشيطان، ولهذا كانت الاستعاذة مذهبة للغضب، فمن غضب في غير حق ولا موعظة، صدق فليعلم أن الشيطان هو الذي يتلاعب به وأنه مسه طائف منه. وفي هذا ما يزجر عن الغضب لكل من يود أن لا يكون في يد الشيطان يصرفه كيف يشاء - انتهى. ومن أحب الوقوف على حقيقة الغضب والأسباب المهيجة له وعلاج الغضب بعد هيجانه، رجع إلى الإحياء للغزالي مع شرحه للزبيدي، (متفق عليه) أخرجه البخاري في صفة إبليس وفي الأدب، ومسلم في الأدب واللفظ للبخاري في باب الحذر من الغضب، وأخرجه أيضًا أحمد (ج6: ص394) ، وأبو داود في الأدب، والنسائي في عمل اليوم والليلة، والبغوي في شرح السنة (ج5: ص124) . 2442- قوله (إذا سمعتم صياح) ، بكسر الصاد (الديكة) بكسر الدال المهملة وفتح التحتانية جمع ديك، كفيلة

فَسلوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنَّهَا رَأَتْ مَلَكًا، وَإِذَا سَمِعْتُمْ نَهِيقَ الْحِمَارِ فَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ رَأَى شَيْطَانًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ جمع فيل وهو ذكر الدجاج، وليس المراد حقيقة الجمع لأن سماع واحد كاف، وللديك خصيصة ليست لغيره من معرفة الوقت الليلي، فإنه يقسط أصواته فيها تقسيطًا، لا يكاد يتفاوت ويوالي صياحه قبل الفجر وبعده، لا يكاد يخطئ سواء طال الليل أم قصر، وزاد في رواية أحمد (ج2: ص308) ، والبخاري في الأدب المفرد، وابن السني ((في الليل)) (فسلوا الله) ، بنقل الهمزة، وروي بإثباته، أي فاطلبوا (من فضله) ، أي زيادة إنعامه عليكم، (فإنها رأت ملكًا) ، بفتح اللام نكرة إفادة للتعميم، قال عياض: كأن السبب فيه رجاء تأمين الملائكة على دعاءه، واستغفارهم له وشهادتهم له بالإخلاص. ويؤخذ منه استحباب الدعاء عند حضور الصالحين تبركًا بهم، وصحح ابن حبان، وأخرجه أبو داود، وأحمد من حديث زيد بن خالد رفعه ((لا تسبوا الديك فإنه يدعو إلى الصلاة)) وفي رواية ((يوقظ للصلاة)) ، وعند البزار من هذا الوجه سبب قوله - صلى الله عليه وسلم -: ذلك أن ديكًا صرخ فلعنه رجل فقال ذلك. قال الحليمي: يؤخذ منه أن كل من استفيد منه الخير لا ينبغي أن يسب، ولا أن يستهان به بل يكرم ويحسن إليه، قال وليس معنى قوله: ((يدعو إلى الصلاة)) أن يقول حقيقة صلوا أو حانت الصلاة، بل معناه أن العادة جرت بأنه يصرخ عند طلوع الفجر فطرة فطره الله عليها، (وإذا سمعتم نهيق الحمار) ، أي صوته المنكر. وزاد البخاري في الأدب المفرد، وابن السني في عمل اليوم والليلة ((من الليل)) ، وكذا وقع في حديث جابر عند أحمد، وأبي داود وغيره كما سيأتي في باب تغطية الأواني، وزاد فيه أيضًا ((نباح الكلاب)) ، قيل: أطلق الأمر بالتعوذ عند نهيق الحمر، في حديث الباب فاقتضى أنه لا فرق في طلبه بين الليل والنهار، وخصه في رواية أخرى بالليل. فإما أن يحمل المطلق على المقيد، أو يقال: خص الليل لأن انتشار الشياطين فيه أكثر، فيكون نهيق الحمير فيه أكثر، فلو وقع نهارًا كان ذلك. وقال الشوكاني: في قوله في الحديث الآخر ((من الليل)) يقيد المطلق فتكون الاستعاذة إذا سمع (النهيق) ، والنباح ليلاً لا نهارًا (فتعوذوا بالله من الشيطان) كذا في بعض النسخ من المشكاة، وهكذا وقع في الصحيحين، والمسند، والترمذي، وبعض نسخ أبي داود، وزاد في بعض نسخ المشكاة ((الرجيم)) ، وهكذا وقع في المصابيح، وبعض نسخ أبي داود، قال الحفني: أي اعتصموا بالله منه بأن يقول أحدكم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أو نحو ذلك من صيغ التعوذ. وقال المناوي: فتعوذا أي ندبًا بأي صيغة كانت، والأولى ((أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)) (فإنه) أي الحمار (رأى شيطانًا) في الصحيحين والمصابيح ((فإنها رأت شيطانًا)) على تأويل الدابة ورعاية المقابلة، ووقع في المسند، والترمذي، وشرح السنة كما في المشكاة، يعني وحضور الشيطان مظنة الوسوسة والطغيان ومعصية الرحمن فناسب التعوذ لدفع ذلك، قال عياض: وفائدة الأمر بالتعوذ لما يخشى من شر الشيطان وشر وسوسته، فيلجأ إلى الله في رفع ذلك. وقال الطيبي: لعل السر فيه أن الديك أقرب الحيوانات صوتًا إلى الذاكرين الله، لأنها تحفظ غالبًا أوقات الصلاة وأنكر الأصوات صوت الحمير فهو أقربها صوتًا إلى من هو أبعد من

متفق عليه. 2443- (5) وابْنَ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ خَارِجًا إِلَى سَفَرٍ كَبَّرَ ثَلاثًا ثُمَّ قَالَ {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ ـــــــــــــــــــــــــــــ رحمة الله. وفيه دلالة على أن الله تعالى: خلق للديكة إدراكًا تدرك به النفوس القدسية، كما خلق للحمير والكلاب إدراكًا تدرك به النفوس الشريرة الخبيثة، ونزول الرحمة عند حضور الصلحاء، ونزول الغضب عند حضور أهل المعاصي. فائدة قال الداودي: ينبغي أن يتعلم من الديك خمسة أشياء: حسن الصوت، والقيام بالسحر، والسخاء، والغيرة، وكثيرة النكاح. تنبيه قيل: قوله: ((فإنها رأت ملكًا)) و ((إنه رأى شيطانًا)) ليس المعنى أنها لا تصوت إلا إذا رأت ملكًا أو شيطانًا، فإن صياح الديكة وكذلك نهيق الحمار، كثيرًا ما يكون لعوارض وأسباب غير رؤية الملك والشيطان، بل المعنى أن صوتهما قد يكون لذلك أيضًا، فلا يتعين أي الأصوات لذلك، وأيها لغيره فيستحب الدعوة والتعوذ عند كل تصويت منهما، ليقع البعض منهما موقعهما، وإن لم يقع الكل مقام الرؤية، مع أن زيادة الدعاء والتعوذ مطلوبة، وإن لم يكن في محل إجابة، وكذلك حضور شيطان، ووجوده لا يتوقف التعوذ عليه لأن الإنسان أحوج ما يكون إليهما، فكان تعميم فكان تعميم الأمر بالدعاء والتعوذ عند كل صياح ديك ونهيق حمار كتعميم أمر العبادة في ليالي القدر تحريًا لمظان القبول - انتهى. وفيه أنه روى الطبراني وأبو موسى الأصبهاني في ترغيبه من حديث أبي رافع رفعه ((لا ينهق الحمار، (ولابن السني ((لن ينهق الحمار)) ) حتى يرى شيطانًا أو يتمثل له شيطان، فإذا كان كذلك فاذكروا الله وصلوا عليّ)) ، وهذا يخالف ما أول به هذا القائل حديث الباب فتأمل (متفق عليه) . أخرجه البخاري في أواخر بدء الخلق، ومسلم في الدعاء، وأخرجه أيضا أحمد (ج2: ص207) ، والبخاري في الأدب المفرد (ج2: ص237) ، والترمذي في الدعوات، وأبو داود في الأدب، والنسائي في التفسير وفي عمل اليوم والليلة، وابن السني فيه (ص102) ، والبغوي في شرح السنة (ج5: ص126) . 2443- قوله (كان إذا استوى على بعيره) ، أي استقر على ظهر مركوبه (خارجًا) ، أي من البلد منتهيًا (إلى السفر) ، كذا في جميع النسخ، أي معرفًا باللام وهكذا وقع في المصابيح، وشرح السنة، وكذا نقله الشوكاني في تحفة الذاكرين، والذي في صحيح مسلم خارجًا إلى سفر، وهكذا وقع في المسند (ج2: ص151) وأبي داود، وكذا نقله في جامع الأصول وفي الأذكار. وللترمذي، والدارمي ((كان إذا سافر فركب راحلته)) (كبر ثلاثًا) لعل الحكمة أن المقام مقام علو، وفيه نوع عظمة فاستحضر عظمة خالقه، ويؤيده أن المسافر إذا صعد عاليًا كبر وإذا نزل سبح، ويمكن أن يكون التكبير للتعجب من التسخير. (ثم قال) أي قرأ. أي قال: بنية القراءة امتثالاً لقوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا} {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ} أي ذلل

لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى وَمِنْ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا وَاطْوِ لنَا بُعْدَهُ اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ (لنا هذا) أي المركوب فانقاد لأضعفنا {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} ، أي مطيقين ومقتدرين عليه من أقرن له إذا أطاقه وقوي عليه، أي ما كنا نطيق قهره واستعماله، لولا تسخير الله تعالى إياه لنا: {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} (43: 14) ، أي لصائرون إليه بعد مماتنا وإليه سيرنا الأكبر واللام للتأكيد، وهذا من باب التنبيه بسير الدنيا على سير الآخرة، كما نبه بالزاد الدنيوي على الزاد الأخروي في قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (2: 197) وباللباس الدنيوي على الأخروي في قوله تعالى {وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ} (7: 26) قال البيضاوي: اتصال قوله: {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} بما قبله لأن الركوب للنقل والنقلة العظمى هو الانقلاب إلى الله تعالى، فينبغي للراكب أن لا يغفل عنه، ويستعد للقاء الله، يعني من شكر هذه النعمة أن يذكر عاقبة أمره، ويعلم أن استواءه على مركب الحياة كاستواءه، على ظهر ما سخر له ما لم يكن في المبدأ مطيقًا له ولا يجد في المنتهى بدًا من النزول عنه. كذا في اللمعات. وهذا الدعاء يسن عند ركوب أي دابة كانت لسفر أو غيره. فقول الراوي ((خارجًا إلى السفر)) حكاية للحال ودلالة على ضبط المقال، (اللهم) وفي رواية أحمد (ج2: ص145) ، والترمذي ((ثم يقول: اللهم)) (البر) أي الطاعة (والتقوى) ، أي عن المعصية أو المراد من البر الإحسان إلى الناس، أو من الله إلينا ومن التقوى امتثال الأوامر واجتناب النواهي، (ومن العمل) أي جنسه (ما ترضى) ، أي به عنا (اللهم هون) أمر من التهوين أي يسر (علينا سفرنا) ، مفعول لهون (هذا) ، وفي رواية الترمذي ((اللهم هون علينا المسير)) ، (واطو) أمر من طوى يطوي طيا (لنا بعده) كذا في جميع النسخ، وهكذا في المصابيح، وشرح السنة، والمسند (ج2: ص145) ، وسنن أبي داود، والدارمي، والذي في صحيح مسلم ((واطو عنا بعده)) ، وهكذا في المسند (ج2: ص151) ، وجامع الأصول، والحصن. وللترمذي ((واطو عنا بعد الأرض)) أي قرب لنا بعد هذا السفر. قيل: هو عبارة عن تسير السير بإعطاء القوة له ولمركوبه. وقال ابن حجر: اطو لنا بعده حقيقة إذ ورد ((أن لله ملائكة يطوون الأرض للمسافر كما تطوى القراطيس)) ، أو المراد خفف مشاقه. قلت: لا مانع من حمله على الحقيقة ففيه إشارة إلى طي المكان والزمان، والمعنى ارفع عنا مشقة السفر بتقريب المسافة البعيدة لنا حسًا. (اللهم أنت الصاحب في السفر) ، أي الحافظ والمعين. والصاحب في الأصل الملازم وأراد بذلك مصاحبة الله إياه بالعناية والحفظ، وذلك أن الإنسان أكثر ما يبغي الصحبة في السفر، يبتغيها للاستيناس بذلك والاستظهار به والدفاع لما ينو به من النوائب فنبه بهذا القول على حسن الاعتماد عليه وكمال الاكتفاء عن صاحب سواه. قال البغوي: قوله ((أنت الصاحب في السفر)) أي الحافظ يقال صحبك الله، أي حفظك، وقوله سبحانه وتعالى: {وَلَا هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَ} (21: 43) أي لا يجارون، ومن صحبه الله

وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ فِي الْمَالِ وَالْأَهْلِ وَإِذَا رَجَعَ قَالَهُنَّ وَزَادَ فِيهِنَّ آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يضره شيء (والخليفة في الأهل) ، الخليفة من ينوب عن المستخلف، فيما يستخلفه فيه يعني الذي يقوم مقام أحد في إصلاح أمره، والمعنى أنت الذي أرجوه وأعتمد عليه في غيبتي عن أهلي، أن يلم شعثهم ويثقف أودهم ويداوي سقمهم ويحفظ عليهم دينهم وأمانتهم، (اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر) ، بفتح الواو وإسكان العين المهملة وبالثاء المثلثلة وبالمد، أي شدته ومشقته وتعبه وأصله من الوعث وهو الرمل والمشي فيه يشتد على صاحبه ويشق ويقال رمل أوعث ورملة وعثاء أي لما يشتد فيه السير للينه ثم قيل للشدة والمشقة وعثاء على التمثيل. وقال التوربشتي: وعثاء السفر مشقته أخذ من الوعث وهو مكان السهل الكثير الدهس الذي يتعب الماشي فيه ويشق عليه (وكآبة المنظر) ، قال الجزري: المنظر هو ما ينظر إليه من أهله وماله وحاله، والكآبة بفتح الكاف وبالمد وهي تغير النفس بالانكسار من شدة الهم والحزن يقال كئب كآبة واكتئب فهو مكتئب وكئيب - انتهى. وقال الشوكاني: الكآبة بالمد التغير والانكسار من مشقة السفر وما يحصل على المسافر من الاهتمام بأموره - انتهى. والمنظر بفتح الظاء المعجمة مصدر ميمي أي من تغير الوجه بنحو مرض والنفس بالانكسار مما يعرض لها فيما يحبه مما يورث الهم والحزن وقيل: المراد منه الاستعاذة من كل منظر يعقب الكآبة عند النظر إليه (سوء المنقلب) بفتح اللام مصدر ميمي أي سوء الرجوع (في المال والأهل) أي من سوء الانقلاب إلى أهله وماله وذلك بأن يرجع منقوصًا مهمومًا بما يسوءه وقيل أي من أن يعود إلى وطنه فيرى في أهله وماله ما يسوءه مثل أن يصيب ماله آفة أو يجد أهله مرضى أو فقد بعضهم، وقيل أي من أن يطمع ظالم أو فاجر في المال والأهل (وإذا رجع) ، أي النبي - صلى الله عليه وسلم - من سفره إلى أهله (قالهن) ، أي الكلمات أو الجمل المذكورة وهي اللهم إنا نسألك (وزاد فيهن) ، أي في جملتهن بأن قال بعدهن (آئبون) ، بهمزة ممدودة بعدها همزة مكسورة اسم فاعل من آب يئوب إذا رجع، ومن تكلم به بالياء بعد الهمزة الممدودة فقد أخطأ كذا قيل: أي نحن راجعون من السفر بالسلامة إلى الوطن (تائبون) أي من المعصية إلى الطاعة (عابدون لربنا حامدون) ، قال الطيبي: لربنا يجوز أن يتعلق بقوله عابدون لأن عمل اسم الفاعل ضعيف فيقوى به أو بحامدون ليفيد التخصيص، أي نحمد ربنا لا نحمد غيره وهذا أولى لأنه كالخاتمة للدعاء - انتهى. وفي الحديث استحباب هذا الذكر عند ابتداء الأسفار كلها، وقد جاءت فيه أذكار كثيرة (رواه مسلم) في المناسك، وأخرجه أيضًا أحمد (ج2: ص145، 151) والترمذي في الدعوات، وأبو داود في الجهاد، والنسائي، والدارمي، والبغوي في شرح السنة (ج5: ص140) ، وفي رواية أحمد (ج2: ص145) ، والدارمي، والترمذي بعد قوله ((في الأهل)) ((اللهم اصحبنا في سفرنا واخلفنا في أهلنا)) ، وكان يقول إذا رجع إلى أهله، ((آئبون إن شاء الله تائبون عابدون لربنا حامدون)) . وفي رواية أبي داود نحوه بزيادة ونقصان يسير وفي آخره، ((وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - وجيوشه إذا علوا الثنايا كبروا وإذا هبطوا سبحوا فوضعت الصلاة على ذلك)) .

2444- (6) وعن عبد الله بن سرجس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سافر يتعوذ من وعثاء السفر وكآبة المنقلب والحور بعد الكور، ودعوة المظلوم، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2444- قوله: (وعن عبد الله بن سرجس) بفتح السين وكسر الجيم على وزن نرجس مصروفًا، (إذا سافر يتعوذ) ، أي بالله (وكآبة المنقلب) بفتح الكاف وهمزة ممدودة أو ساكنة كرأفة ورآفة. في القاموس: الكأب والكأبة والكآبة: الغم وسوء الحال والانكسار من حزن والمنقلب بفتح اللام مصدر بمعنى الانقلاب أو اسم مكان والإضافة ظرفية. قال الخطابي: معناه أن ينقلب إلى أهله كئيبًا حزينًا لعدم قضاء حاجته أو إصابة آفة له أو يجدهم مرضى أو مات منهم بعضهم. وقال الجزري: المعنى أنه يرجع من سفره بأمر يحزنه إما إصابة في سفره وإما قدم عليه مثل أن يعود غير مقضي الحاجة أو أصابت ماله آفة أو يقدم على أهله فيجدهم مرضى أو قد فقد بعضهم (والحور بعد الكور) بفتح فسكون فيهما والحاء مهملة، أي من الانتقاص بعد الزيادة والاستكمال يعني من نقصان الحال والمال بعد زيادتهما وتمامهما، أي من أن ينقلب حالنا من السراء إلى الضراء ومن الصحة إلى المرض، وقيل: من فساد الأمور بعد صلاحها، وقيل: من التفرق بعد الاجتماع، وأصل الحور نقض العمامة بعد لفها، وأصل الكور من تكوير العمامة وهو لفها وجمعها، وقيل الحور الرجوع عن الجماعة بعد أن كان فيهم. وروى مسلم في صحيحه: ((من الحور بعد الكون)) بالنون مصدر كان يكون كونًا من كان التامة دون الناقصة يعني من النقصان والتغير بعد الثبات والاستقرار. وقيل: معناه الرجوع عن الحالة المستحسنة بعد أن كان عليها وفي، كلامهم حار بعد ما كان يريد كان على حالة جميلة فحار عن ذلك أي: رجع. قال الله تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ * بَلَى} (84: 14، 15) أي: لن يرجع. قال النووي في شرح مسلم: هكذا هو في معظم النسخ من صحيح مسلم ((بعد الكون)) بالنون بل لا يكاد يوجد في بلادنا إلا بالنون وكذا ضبطه الحفاظ المتقنون في صحيح مسلم. وقال في الأذكار: رواية النون أكثر وهي التي في أكثر أصول صحيح مسلم بل هي المشهورة فيها. قال الترمذي بعد ذكر الروايتين: وكلاهما له وجه. قال: يقال: إنما هو الرجوع من الإيمان إلى الكفر أو من الطاعة إلى المعصية، إنما يعني الرجوع من شيء إلى شيء من الشر. قال النووي بعد ذكر كلام الترمذي هذا وكذا قال غيره من العلماء معناه بالراء والنون جميعًا الرجوع من الاستقامة أو الزيادة إلى النقص. قالوا ورواية مأخوذة من تكوير العمامة وهو لفها وجمعها، ورواية النون مأخوذة من الكون مصدر كان يكون كونًا إذا وجد واستقر أي أعوذ بك من النقص بعد الوجود والثبات. قال المازري في رواية الراء: قيل أيضًا: أن معناه أعوذ بك من الرجوع عن الجماعة بعد أن كنا فيها، يقال: كار عمامته إذا لفها، وحارها إذا نقضها. وقيل: نعوذ بك من أن تفسد أمورنا بعد صلاحها كفساد العمامة بعد استقامتها على الرأس، وعلى رواية النون قال أبو عبيد سئل عاصم عن معناه فقال: ألم تسمع قولهم حار بعد ما كان أي إنه كان على حالة جميلة فرجع عنها - انتهى (ودعوة المظلوم) أي أعوذ بك من الظلم

وسوء المنظر في الأهل والمال. رواه مسلم. 2445- (7) وعَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ قالت: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: مَنْ نَزَلَ مَنْزِلاً فَقَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنه يترتب عليه دعاء المظلوم، ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب. ففيه التحذير من الظلم ومن التعرض لأسبابه. قال الطيبي: فإن قلت: دعوة المظلوم يحترز عنها سواء كانت في الحضر أو السفر. قلت: كذلك الحور بعد الكور لكن السفر مظنة البلايا والمصائب والمشقة فيه أكثر فخصت به، أو لأن دعوة المظلوم المسافر الذي لا يلقى الإعانة والإغاثة أقرب إلى الإجابة لاجتماع الكربة والغربة وعدم الإعانة والإغاثة (وسوء المنظر) بفتح الظاء المعجمة (في الأهل والمال) وهو كل ما يسوء النظر إليه وسماعه فيهما. قال الباجي: يريد الاستعاذة من أن يكون في أهله وماله ما يسوء النظر إليه. يقال: منظر حسن ومنظر قبيح. وقال القاري: أي من أن يطمع ظالم أو فاجر في المال والأهل. وقال السندي: المراد بسوء المنظر كل منظر يعقب النظر إليه سوءًا. (رواه مسلم) في المناسك وأخرجه أيضًا أحمد (ج5: ص82، 83) والترمذي في الدعوات، والنسائي في الاستعاذة، وفي السير من الكبرى، وفي اليوم والليلة، وابن ماجة في الدعاء، وابن السني (ص157) والبغوي (ج5: ص136) . 2445- قوله: (وعن خولة) بفتح المعجمة وسكون الواو (بنت حكيم) بن أمية السلمية يقال: كنيتها أم شريك ويقال لها أيضًا: خويلة بالتصغير صحابية شهيرة. يقال: إنها كانت من اللاتي وهبن أنفسهن للنبي - صلى الله عليه وسلم - وكانت قبل تحت عثمان ابن مظعون. قال ابن عبد البر: وكانت صالحة فاضلة روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعنها سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير وغيرهما. قال الخزرجي: لها خمسة عشر حديثًا انفرد لها مسلم بحديث. يعني الذي نحن بصدد شرحه. قال القاري: وليس لها في الكتب (أي صحيح مسلم، وجامع الترمذي، والسنن الكبرى للنسائي، وسنن ابن ماجة، والموطأ) سوى هذا الحديث الواحد (من نزل منزلاً) في سفر أو حضر ولا وجه لتقييده بالسفر مع التنكير. قال الزرقاني: منزلاً أي مظنة للهوام والحشرات ونحوهما مما يؤذي ولو في غير سفر (فقال) في صحيح مسلم: ((ثم قال)) وهكذا في جامع الأصول والأذكار وكذا وقع عند الترمذي وأحمد في رواية وفي أخرى له ((فقال)) وفي رواية لمسلم ((إذا نزل أحدكم منزلاً فليقل)) وفي الموطأ وشرح السنة ((من نزل منزلاً فليقل)) وهو أمر ندب يدل عليه رواية الكتاب، ورواية أحمد بلفظ ((لو أن أحدكم إذا نزل منزلاً قال: أعوذ)) الحديث. (أعوذ) أي أعتصم (بكلمات الله) قال الهروي وغيره: الكلمات هي القرآن وقيل أسماءه وصفاته لأن كل واحد منها تامة لا نقص فيها لأنها قديمة والنقصان إنما يكون في المحدثات. وقيل هي جميع ما أنزله على أنبياءه لأن الجمع المضاف إلى المعارف يعم أي يقتضي العموم (التامات) أي الكاملات التي

مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ. لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ. رواه مسلم. 2446- (8) وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يدخل فيها نقص ولا عيب، وقيل: هي النافعات الكافيات الشافيات من كل ما يتعوذ منه. يعني أنها تنفع المقولة له وتحفظه من الآفات وتكفيه. قال الجزري: وصف كلمات بالتمام إذ لا يجوز أن يكون شيء من كلامه ناقصًا ولا فيه عيب كما يكون في كلام الآدميين. وقيل: معنى التمام ههنا: أن ينتفع بها المتعوذ وتحفظه من الآفات - انتهى. وقال الباجي: وصفها بالتمام على الإطلاق يحتمل أن يريد به أنه لا يدخلها نقص وإن كان كلمات غيره يدخلها النقص، ويحتمل أن يريد بذلك الفاضلة، يقال: فلان تام وكامل أي فاضل، ويحتمل أن يريد به الثابت حكمها، قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى} (7: 137) انتهى. قال الخطابي: كان الإمام أحمد يستدل به على أن كلام الله غير مخلوق لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يستعيذ بمخلوق (من شر ما خلق) عبر بما للتعميم (لم يضره) بفتح الراء وضمها (شيء) أي من المخلوقات. قال المناوي: الشيء عند أهل السنة الموجود ويدخل فيه الموجودات كلها (حتى يرتحل) أي ينتقل (من منزله ذلك) قال الباجي: يريد أن تعوذه يتناول مدة مقامه فيه. قال الزرقاني: وشرط نفع ذلك الحضور والنية وهي استحضار أنه - صلى الله عليه وسلم - أرشده إلى التحصن به وأنه الصادق المصدوق، فلو قاله أحد واتفق أنه ضره شيء فلأنه لم يقله بنية وقوة يقين وليس ذلك خاصًا بمنازل السفر بل عام في كل موضع جلس فيه أو نام. وقال المناوي: والظاهر حصول ذلك لكل داع بقلب حاضر وتوجه تام فلا يختص بمجاب الدعوة. قال القاري: في الحديث رد على ما كان يفعله أهل الجاهلية من كونهم، إذا نزلوا منزلاً قالوا: نعوذ بسيد هذا الوادي ويعنون به كبير الجن ومنه قوله تعالى في سورة الجن: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} (72: 6) (رواه مسلم) في الدعاء، وأخرجه أيضًا البخاري في خلق أفعال العباد، وأحمد (ج6: ص377، 409) ، والترمذي في الدعوات، والنسائي في الكبرى، ومالك في كتاب الجامع من الموطأ، وابن ماجة في الطب، وابن السني (ص168) والدارمي (ص359) ، والبغوي (ج5: ص145) ، وابن أبي شيبة، والطبراني، وزاد البخاري، والبغوي في آخره ((إن شاء الله)) وفي الباب عن عبد الرحمن بن عائش أخرجه أبو نعيم في المعرفة، وفي اليوم والليلة كما في الإصابة (ج2: ص406) ، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10: ص133) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. 2446- قوله (جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وفي خلق أفعال العباد والموطأ، وشرح السنة عن أبي صالح عن أبي هريرة ((أن رجلاً من أسلم قال: ما نمت هذه الليلة فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أي شيء؟ فقال: لدغتني عقرب)) الحديث. وهكذا وقع في رواية لأحمد، وهذا ظاهر في أن اللديغ رجل من أسلم، وروى أبو داود عن أبي صالح عن رجل من أسلم قال: كنت جالسًا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء رجل من أصحابه فقال يا رسول الله: لدغت الليلة فلم أنم

فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَقِيتُ مِنْ عَقْرَبٍ لَدَغَتْنِي الْبَارِحَةَ. قَالَ: أَمَا لَوْ قُلْتَ حِينَ أَمْسَيْتَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ تَضُرَّكَ. رواه مسلم. 2447- (9) وعنه أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا كَانَ فِي سَفَرٍ وَأَسْحَرَ يَقُولُ: سَمِعَ سَامِعٌ بِحَمْدِ اللَّهِ ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث. وأخرجه النسائي كذلك، وهذا يدل على أن اللديغ رجل آخر غير الأسلمي، ويحتمل أنهما قصتان وقعت القصة مرة للرجل الأسلمي وأخرى لغيره. والله تعالى أعلم. (فقال يا رسول الله ما لقيت) ما استفهامية للتعجب أي أي شيء لقيت، أي لقيت أمرًا عظيمًا ووجعًا شديدًا. أو موصولة والخبر محذوف، أي الذي لقيته لا أقدر وصفه لعظم شدته (من عقرب لدغتني البارحة) ، أي الليلة الماضية (قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أما) بفتح الهمزة وخفة الميم (لو قلت) شرطية (من شر ما خلق) ، أي من شر خلقه وهو ما يفعله المكلفون من إثم ومضارة بعض لبعض من نحو ظلم وبغي وقتل وضرب وشتم وغيرهم من نحو لدغ ونهش وعض، وزاد ابن السني ((ثلاثًا)) ، أي لو قلت هذا التعوذ ثلاث مرات (لم تضرك) أي العقرب بأن يحال بينك وبين كمال تأثيرها بحسب كمال المتعوذ وقوته وضعفه لأن الأدوية الإلهية تمنع من الداء بعد حصوله وتمنع من وقوعه وإن وقع لم يضره. قال القرطبي: جربت ذلك فوجدته صدقًا تركت ليلة فلدغتني عقرب فتفكرت فإذا أنا نسيت هذا التعوذ. (رواه مسلم) في الدعاء، وأخرجه أيضًا أحمد، ومالك في كتاب الجامع من الموطأ، وأبو داود في الطب، والنسائي في الكبرى، وابن ماجة في الطب، وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص227) ، والبغوي (ج5: ص146) وزاد في آخره ((إن شاء الله)) وروى أحمد (ج2: ص191) ، والترمذي، والحاكم (ج4: ص416) ، وابن حبان عن سهيل عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - واللفظ لأحمد قال: من قال إذا أمسى ثلاث مرات ((أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)) لم يضره حمة تلك الليلة. قال (سهيل) : فكان أهلنا قد تعلموها فكانوا يقولونها فلدغت جارية منهم فلم تجد لها وجعًا. ورواه الطبراني بلفظ: من قال إذا أمسى ((أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)) لم يضره شيء. وزاد أحمد في آخر حديث سهيل عن أبيه عن رجل من أسلم قال سهيل فكان أبي (أي أبو صالح) إذا لدغ أحد منا يقول: قالها؟ فإن قالوا نعم قال: كأنه يرى أنها لا تضره. 2447- قوله (كان إذا كان في سفر وأسحر) ، أي دخل في وقت السحر بفتحتين وهو قبيل الصبح، وقال الزمخشري هو السدس الأخير من الليل (سمع سامع بحمد الله) روى سمع بفتح الميم وتشديدها من التسميع بمعنى الإسماع للغير كذا ضبطه القاضي عياض وصاحب المطالع وأشار إلى أنه رواية أكثر رواة مسلم. قالا: ومعناه بلغ سامع قولي هذا لغيره وقال مثله تنبيهًا على الذكر في السحر والدعاء في ذلك، وروي بكسر الميم وتخفيفها من السمع وكذا ضبطه الخطابي وآخرون. قال الخطابي: معناه شهد شاهد وهو أمر بلفظ الخبر يريد به الإشهاد على ما يقوله وحقيقته ليسمع السامع

وَحُسْنِ بَلائِهِ عَلَيْنَا رَبَّنَا صَاحِبْنَا وَأَفْضِلْ عَلَيْنَا عَائِذًا بِاللَّهِ مِنْ النَّارِ. رواه مسلم. 2448- (10) وعن ابْنِ عُمَرَ قال: كَانَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا قَفَلَ مِنْ غَزْوٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ـــــــــــــــــــــــــــــ وليشهد الشاهد حمدنا لله تعالى وحسن بلائه، أي إنعامه علينا فإنا نعترف بذلك ونشهده عليه، وقال في اللمعات بعد ذكر الروايتين: وعلى الوجهين هو خبر بمعنى الأمر فالمعنى على الأول ليبلغ سامع قولي هذا إلى غيره ليسعى إلى الحمد والذكر والدعاء في هذا الوقت. وعلى الثاني ليسمع كل من يأتي منه السماع وليشهد على حمدنا لله تعالى. وقال التوربشتي: الحمل على الخبر أولى وأقوى لظاهر اللفظ، والمعنى أن من كان له سمع فقد سمع بحمدنا وحسن بلائه، أي حسن إنعامه وأفضاله علينا وأن كلا الأمرين أي حمدنا لله تعالى على نعمه وإنعامه علينا قد اشتهر واستفاض حتى لا يكاد يخفى على ذي سمع (وحسن بلائه علينا) ، أي حسن إنعامه وأفضاله علينا. قال الجزري في جامع الأصول: حسن البلاء النعمة والبلاء الاختبار والامتحان فالاختبار بالخير ليتبين الشكر وبالشر ليظهر الصبر. وقال التوربشتي: أراد بالبلاء النعمة والله سبحانه يبلو عباده تارة بالمضار ليصبروا وطوراً بالمسار ليشكروا {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (21: 35) فالمحنة والمنحة جميعًا بلاء لمواقع الاختبار وكلاهما نعمة باعتبار حصول الأجر والمنحة أعظم البلائين لا سيما لذوي النفوس الكاملة لأنها الموجبة للقيام بحقوق الشكر والقيام بها أتم وأصعب وأعلى وأفضل من القيام بحقوق الصبر (ربنا صاحبنا) بسكون الموحدة صيغة الأمر من المصاحبة، أي كن لنا صاحبًا بالإعانة والإغاثة والكلاءة والحفظ. قال النووي: أي احفظنا وحطنا واكلأنا ومن صحبه الله لم يضره شيء (وأفضل علينا) أمر من الإفضال، أي أحسن إلينا وتفضل علينا بإدامة النعمة والتوفيق للقيام بحقوقها (عائذًا بالله من النار) اسم فاعل أقيم مقام المصدر كقولهم قم قائمًا، أي قيامًا فالنصب على المصدر يعني نعوذ بالله عياذًا، أو حال من فاعل يقول فيكون من كلام الراوي. ويجوز أن يكون من كلام الرسول فيكون حالاً من فاعل فعل مقدر هو أقول بصيغة المتكلم والتقدير: أقول ذلك عائذًا بالله من النار. وإليه مال النووي حيث قال: منصوب على الحال، أي أقول هذا في حال استعاذتي واستجارتي بالله من النار. (رواه مسلم) في الدعاء، وأخرجه أيضًا أبو داود في الأدب، والنسائي، وابن السني (ص164) ، والحاكم (ج1: ص446) ، وأبو عوانة، وزاد أبو داود والحاكم بعد قوله بحمده ((ونعمته)) وزاد أيضًا الحاكم وأبو عوانة ((يقول ذلك ثلاث مرات ويرفع صوته)) كذا في الحصن. 2448- قوله (إذا قفل) بقاف ثم فاء أي رجع وزنه ومعناه، ومنه تسمى القافلة، في النهاية: قفل أي عاد من سفره وقد يقال للسفر قفول في الذهاب والمجئي وأكثر ما يستعمل في الرجوع (من غزو أو حج أو عمرة) كأنه قصد استيعاب أنواع سفره - صلى الله عليه وسلم - ببيان أنه لا يخرج عن هذه الثلاثة وإلا فظاهره اختصاص ذلك بهذه الأمور الثلاث وليس الحكم كذلك عند الجمهور بل يشرع قول ذلك في كل سفر إذا كان سفر طاعة كصلة الرحم وطلب العلم لما يشمل الجميع من اسم الطاعة. وقيل: يتعدى أيضًا إلى المباح لأن المسافر فيه لا ثواب له فلا يمتنع عليه فعل ما يحصل له الثواب

يُكَبِّرُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ مِنْ الْأَرْضِ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ ثُمَّ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ آئِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ سَاجِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ ـــــــــــــــــــــــــــــ وقيل: يشرع في سفر المعصية أيضًا لأن مرتكبها أحوج إلى تحصيل الثواب من غيرع، وهذا التعليل متعقب لأن الذي يخصه بسفر الطاعة لا يمنع من سافر في مباح ولا في معصية من الإكثار من ذكر الله وإنما النزاع في خصوص هذا الذكر في هذا الوقت المخصوص فذهب قوم إلى الاختصاص لكونها عبادات مخصوصة شرع لها ذكر مخصوص فتختص به كالذكر المأثور عقب الأذان وعقب الصلاة وإنما اقتصر الصحابي على الثلاث لانحصار سفر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها (يكبر) أي يقول الله أكبر (على كل شرف) بفتح المعجمة والراء بعدها فاء وهو المكان العالي، قال الجزري: الشرف ما ارتفع من الأرض. ووقع في رواية مسلم بلفظ ((إذا أوفى (أي ارتفع وعلا وأشرف واطلع) على ثنية (بمثلثة ثم نون ثم تحتانية مشددة هي العقبة في الجبل وقيل المرتفع من الأرض كالنشر والرابية وقيل هو طريق بين جبلين) أو فدفد)) (بفتح الفاء بعدها دال مهملة ثم فاء ثم دال والأشهر تفسيره بالمكان المرتفع، وقيل هو الأرض المستوية، وقيل الفلاة الخالية من شجر وغيره، وقيل غليظ الأودية ذات الحصى، وقيل الجلد من الأرض في ارتفاع وجمعه فدافد) قال الطيبي وجه التكبير على الأماكن العالية وهو استحباب الذكر عند تجدد الأحوال والتقلبات وكان - صلى الله عليه وسلم - يراعي ذلك في الزمان والمكان لأن اختلاف أحوال العبد في الصباح والمساء والصعود والهبوط وما أشبه ذلك مما ينبغي أن لا ينسى ربه عند ذلك فإنه هو المتصرف في الأشياء بقدرته المدبر لها قبل صنعه - انتهى. وقال الزين العراقي: مناسبة التكبير على المرتفع أن الاستعلاء محبوب للنفس وفيه ظهور وغلبة فينبغي للمتلبس به أن يذكر عنده أن الله أكبر من كل شيء ويشكر له ذلك ويستمطر منه المزيد (ثم يقول: لا إله إلا الله) إلخ. قال الحافظ: يحتمل أنه كان يأتي بهذا الذكر عقب التكبير وهو على المكان المرتفع ويحتمل أن التكبير يختص بالمكان المرتفع وما بعده إن كان متسعًا أكمل الذكر المذكور فيه وإلا فإذا هبط سبح كما في حديث جابر (الآتي في أواخر الفصل الثالث من هذا الباب) ويحتمل أن يكمل الذكر مطلقًا عقب التكبير ثم يأتي بالتسبيح إذا هبط. قال القرطبي: وفي تعقيب التكبير بالتهليل إشارة إلى أنه المنفرد بإيجاد جميع الموجودات وأنه المعبود في جميع الأماكن (آئبون) بالرفع خبر مبتدأ محذوف أي نحن آئبون أي راجعون وليس المراد الإخبار بمحض الرجوع فإنه تحصيل الحاصل بل الرجوع في حالة مخصوصة وهي تلبسهم بالعبادة المخصوصة والاتصاف بالأوصاوف المذكورة (تائبون) أي إلى ربنا من التوبة وهي الرجوع عما هو مذموم إلى ما هو محمود شرعًا وفيه إشارة إلى التقصير في العبادة قاله - صلى الله عليه وسلم - على سبيل التواضع أو تعليمًا لأمته أو المراد أمته وقد تستعمل التوبة لإرادة الاستمرار على الطاعة فيكون المراد أن لا يقع منهم ذنب (عابدون ساجدون لربنا حامدون) كلها رفع بتقدير نحن والجار والمجرور

صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ. متفق عليه. 2449- (11) وعن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى قال: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الْأَحْزَابِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: ـــــــــــــــــــــــــــــ متعلق بحامدون أو وبساجدون أو بهما أو بالصفات الخمسة على طريق التنازع (صدق الله وعده، أي فيما وعد به من إظهار دينه في قوله: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً} (48: 20) وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ} (24: 55) الآية: وهذا في سفر الغزو ومناسبته لسفر الحج والعمرة قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ} (48: 27) (ونصر عبده) يريد نفسه الكريمة (وهزم الأحزاب وحده) ، أي من غير فعل أحد من الآدميين، واختلف في المراد بالأحزاب هنا فقيل هم كفار قريش ومن وافقهم من العرب واليهود الذين تحزبوا، أي تجمعوا في غزوة الخندق ونزلت في شأنهم سورة الأحزاب، وقيل: المراد أعم من ذلك، أي أحزاب الكفار في جميع الأيام والمواطن. قال النووي: والمشهور الأول، وقيل: فيه نظر لأنه يتوقف على أن هذا الذكر إنما شرع من بعد الخندق، وأجيب: بأن غزوات النبي - صلى الله عليه وسلم - التي خرج فيها بنفسه محصورة والمطابق منها لذلك غزوة الخندق والأصل في الأحزاب أنه جمع حزب وهو القطعة المجتمعة من الناس، فاللام إما جنسية، أي كل من تحزب من الكفار وإما عهدية والمراد من تقدم وهو الأقرب قاله الحافظ. وقال القاري: قوله: وهزم الأحزاب أي القبائل المجتمعة من الكفار لحرب النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانوا اثني عشر ألفًا توجهوا من مكة إلى المدينة واجتمعوا حولها سوى من انضم إليهم من اليهود ومضى عليهم قريب من شهر لم يقع بينهم حرب إلا الترامي بالنبل والحجارة زعمًا منهم أن المؤمنين لم يطيقوا مقابلتهم فلا بد أنهم يهربون فأرسل الله عليهم ريحًا في ليلة شاتية سفت التراب على وجوههم وأطفأت نيرانهم وقلعت أوتادهم وأكفأت قدورهم وأرسل الله ألفًا من الملائكة فكبرت في ذوائب عسكرهم فهاصت الخيل وقذف في قلوبهم الرعب فانهزموا ونزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} (33: 9) قال الزرقاني: وفي الحديث جواز السجع في الدعاء والكلام بلا تكلف وإنما ينهى عن التكلف لأنه يشغل عن الإخلاص ويقدح في النية (متفق عليه) أخرجه البخاري في أواخر أبواب العمرة من كتاب الحج وفي الجهاد وفي المغازي وفي الدعوات ومسلم في الحج، وأخرجه أيضًا أحمد (ج2: ص6، 11، 16، 22، 39، 64، 106) ، ومالك في جامع الحج من الموطأ، وأبو داود في الجهاد، والنسائي في السير، وفي اليوم والليلة، وابن السني (ص165، 166، 169) ، ونسبه الجزري في جامع الأصول، وابن الجزري في الحصن، والسيوطي في الجامع الصغير للترمذي أيضًا، ولم يذكر المنذري في مختصر السنن والنابلسي في ذخائر المواريث، والعيني في العمدة الترمذي في من خرج هذا الحديث. 2449- قوله (دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب) ، أي في غزوة الخندق (فقال) ، تفسير لقوله دعا أو ودعا بمعنى

اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ اللَّهُمَّ اهْزِمْ الْأَحْزَابَ اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ أراد الدعاء (اللهم) ، أي يا الله يا (منزل الكتاب) من الإنزال. وقيل: من التنزيل والمراد بالكتاب القرآن. وقيل: الجنس فيشمل سائر الكتب المنزلة على الأنبياء (سريع الحساب) يعني يا سريع الحساب. قال الكرماني: إما أن يراد به أنه سريع حسابه بمجئي وقته، وإما أنه سريع في الحساب أي مسرع حساب الخلق يوم القيامة. قال السندي: قوله: ((منزل الكتاب سريع الحساب)) لكونهما للفصل بين الحق والباطل يقتضيان دفع أهل الباطل وهدم بنيانهم، فينبغي التوسل بهما لذلك - انتهى. ووقع في رواية للشيخين ((منزل الكتاب مجري السحاب هازم الأحزاب)) قيل أشار بهذا الدعاء إلى وجوه النصر عليهم فبالكتاب إلى القرآن الموعود فيه بالنصر على الكفار قال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} (9: 14) فيكون المراد شدة الطلب للنصر كنصره هذا الكتاب بخذلان من يكفر به ويجحده وبمجري السحاب إلى القدرة الظاهرة في تسخير السحاب تنبيهًا على سرعة إجراء ما يقدره فإنه قدر جريان السحاب على أسرع حال وكأنه يسأل بذلك سرعة النصر والظفر. وبهازم الأحزاب إلى تجريد التوكل واعتقاد أن الله هو المنفرد بالفعل من غير حول منا ولا قوة. قال القسطلاني: أو المراد التوسل إليه بنعمة فأشار بالأولى إلى نعمة الدين بإنزال الكتاب وبالثانية إلى نعمة الدنيا وحياة النفوس بإجراء السحاب الذي جعله سببًا في نزول الغيث والأرزاق، وبالثالثة إلى أنه حصل بها حفظ النعمتين فكأنه قال: اللهم كما أنعمت بعظيم نعمتك الأخروية والدنيوية وحفظهما فأبقهما وقد وقع هذا السجع اتفاقًا من غير قصد - انتهى. وقال الحافظ: وفيه أي في الدعاء التنبيه على عظم هذه النعم الثلاث فإن بإنزال الكتاب حصلت النعمة الأخروية وهي الإسلام وبإجراء السحاب حصلت النعمة الدنيوية وهي الرزق وبهزيمة الأحزاب حصل حفظ النعمتين وكأنه قال: اللهم كما أنعمت بعظيم النعمتين الأخروية والدنيوية وحفظهما فأبقهما (اللهم اهزم الأحزاب) ، أي اكسرهم وبدد شملهم فهزمهم الله تعالى بأن أرسل عليهم ريحًا وجنودًا لم تروها كما في سورة الأحزاب (اللهم اهزمهم) تأكيد وتعميم (وزلزلهم) قال النووي، أي أزعجهم وحركهم بالشدائد قال أهل اللغة الزلزال والزلزلة الشدائد التي تحرك الناس. وقال الحافظ: المراد الدعاء عليهم إذا انهزموا أن لا يستقر لهم قرار، وقال الداودي أراد أن تطيش عقولهم وترعد أقدامهم عند اللقاء فلا يثبتوا. قال القسطلاني: إنما خص الدعاء عليهم بالهزيمة والزلزلة دون أن يدعو عليهم بالهلاك لأن الهزيمة فيها سلامة نفوسهم وقد يكون ذلك رجاء أن يتوبوا من الشرك ويدخلوا في الإسلام، والإهلاك الماحق لهم مفوت لهذا المقصد الصحيح. وفي رواية الإسماعيلي في هذا الحديث من وجه آخر زيادة في هذا الدعاء وهي أنه - صلى الله عليه وسلم - دعا أيضًا فقال: اللهم أنت ربنا وربهم ونحن عبيدك وهم عبيدك نواصينا ونواصيهم بيدك فاهزمهم وانصرنا عليهم. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجهاد، والمغازي، والدعوات، والتوحيد، ومسلم في الجهاد، وأخرجه أيضًا أحمد (ج4: ص353، 354، 381) ، والترمذي، وأبو داود في الجهاد، والنسائي في السير، وفي عمل اليوم والليلة، وابن ماجه في الجهاد، والحميدي في مسنده (ج2: ص314) والبغوي في شرح السنة (ج5: ص152) .

2450- (12) وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ قَالَ: نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أَبِي فَقَرَّبْنَا إِلَيْهِ طَعَامًا وَوَطْبَةً فَأَكَلَ مِنْهَا ثُمَّ أُتِيَ بِتَمْرٍ فَكَانَ يَأْكُلُهُ وَيُلْقِي النَّوَى بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ وَيَجْمَعُ السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى. وفي رواية ـــــــــــــــــــــــــــــ 2450- قوله (وعن عبد الله بن بسر) بضم الموحدة وإسكان الباء (نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) ، أي ضيفًا (على أبي) ، أي والدي (فقربنا إليه طعامًا ووطبة) بواو مفتوحة وطاء ساكنة فموحدة في جميع نسخ المشكاة. قال النضر: الوطبة الحيس يجمع بين التمر والأقط والسمن. قلت: روي هذا اللفظ في صحيح مسلم على وجوه شتى. واختلف في أنه أيها أصح. قال القاضي عياض: في المشارق في حرف الواو: وطيئة بفتح الواو وكسر الطاء بعدها همزة ممدودة (كسفينة) هو التمر يخرج نواه ويعجن باللبن. وقال ابن دريد: هي عصيدة التمر. وقال ابن قتتيبة: هي الغرارة يكون فيها القديد والكعك وغيره. قيل: الوطيئة على وزن وثيقة هي الصحيح وهي طعام كالحيس سمي به لأنه يوطأ باليد أي يمرس وقيل هو سقاء اللبن ورد بأنه لا يؤكل منها بل يشرب إلا أن يقال بأنه غلب الأكل على الشرب وبأن قوله ثم أتي بشراب ينافيه إلا أن يراد به الماء. وروي وطئة بفتح الواو وكسر الطاء بعدها همزة غير ممدودة قال النووي: ونقل القاضي عياض عن رواية بعضهم في صحيح مسلم وطئة بفتح الواو وكسر الطاء بعدها همزة وادعى أنه الصواب وهكذا ادعاه آخرون. والوطئة بالهمزة عند أهل اللغة طعام يتخذ من التمر كالحيس. وروى السمرقندي رطبة بضم الراء وفتح الطاء بعدها موحدة واحدة الرطب وكذا ذكر الحميدي. وقال هكذا جاء فيما رأينا من نسخ مسلم رطبة بالراء وهو تصحيف من الراوي وإنما هو بالواو، وهذا الذي ادعاه على نسخ مسلم هو فيما رآه وإلا فأكثرها بالواو وكما قال النووي والجزري. وقال النووي: قوله: وطبة بالواو وإسكان الطاء وبعدها باء موحدة وهكذا رواه النضر بن شميل هذا الحديث عن شعبة والنضر إمام من أئمة اللغة وفسره النضر بأنه الحيس يجمع التمر البرني والأقط المدقوق والسمن. وكذا ضبطه أبو مسعود الدمشقي وأبو بكر البرقاني وآخرون وهكذا هو عندنا في معظم النسخ ثم ذكر النووي رواية الرطبة ووهنها قيل وعلى الروايات يحمل الطعام على الخبز (فأكل منها) أي من الوطبة. قال القاري: وكان الظاهر أن يقال منهما أو منه بتأويل المذكور فهو من قبيل {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ} (9: 34) في رجع الضمير إلى أقرب ما ذكر وترك الآخر للوضوح فهو من باب الاكتفاء (ثم أتي بتمر) أي جئي به (ويلقي) بضم أوله (النوى) جنس النواة (بين إصبعيه) بتثليث الهمزة والموحدة ففيه تسع لغات والأشهر كسر الهمزة وفتح الموحدة (ويجمع السبابة) أي المسبحة (والوسطى) قال النووي: قوله ((ويلقي النوى بين إصبعيه)) ، أي يجعله بينهما لقلته ولم يلقه في إناء التمر لئلا يختلط بالتمر. وقيل كان يجمعه على ظهر الإصبعين ثم يرمي به. قلت: ويؤيد الثاني ما وقع في رواية أحمد (ج4: ص188) ، وابن السني (ص152) ((فكان يأكل التمر ويضع النوى على ظهر إصبعيه، ثم يرمي به)) ويؤيده أيضًا الروية الآتية (وفي رواية) هذه الرواية ليست في

(الفصل الثاني)

فجعل يلقى النوى على ظهر إصبعيه السبابة والوسطى، ثُمَّ أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَهُ. فَقَالَ أَبِي: وَأَخَذَ بِلِجَامِ دَابَّتِهِ: ادْعُ اللَّهَ لَنَا. فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مَا رَزَقْتَهُمْ وَاغْفِرْ لَهُمْ وَارْحَمْهُمْ. رواه مسلم. (الفصل الثاني) 2451- (13) عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا رَأَى الْهِلالَ قَالَ: اللَّهُمَّ أَهله ـــــــــــــــــــــــــــــ صحيح مسلم بل هي في سنن أبي داود (فجعل يلقي النوى على ظهر إصبعيه السبابة والوسطى) ، بالجر بدل أو بيان ويجوز الرفع والنصب وفي رواية لأحمد وكذا الترمذي ((فكان يأكله ويلقي النوى بإصبعيه يجمع السبابة والوسطى)) قال السيوطي: لم يلق النوى في إناء التمر لأنه - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يجعل الآكل النوى على الطبق. رواه البيهقي وعلله الترمذي بأنه قد يخالطه الريق ورطوبة الفم فإذا خالطه ما في الطبق عافته النفس. كذا في فتح الودود (ثم أتي) بصيغة المجهول (بشراب) ، أي بماء أو ما يقوم مقامه، وفي جميع الروايات بعد ذلك ((ثم ناوله الذي عن يمينه)) وفيه أن الشراب ونحوه يدار على اليمين (وأخذ) ، أي وقد أخذ، جملة حالية معترضة بين القول والمقول وأخذ منه أن يسن أخذ ركاب الأكابر ولجامه والضيف تواضعًا واستمالة (ادع الله لنا) إلخ، فيه أنه ينبغي للمضيف أن يسأل الدعاء من الضيف، وفيه استحباب طلب الدعاء من الفاضل ودعاء الضيف بتوسعة الرزق والمغفرة والرحمة، وقد جمع - صلى الله عليه وسلم - في هذا الدعاء خيرات الدنيا والآخرة قاله النووي. (واغفر لهم) ، أي ذنوبهم (وارحمهم) بالتفضل عليهم بالواوين فيهما في جميع نسخ المشكاة، وهكذا وقع عند أحمد، والترمذي، وأبي داود. قال الجزري: والذي رويناه في جميع أصول مسلم ((فاغفر لهم)) بالفاء وكذلك ((فارحمهم)) في أكثرها (رواه مسلم) في الأشربة، وأخرجه أيضًا أحمد (ج4: ص187، 188، 189، 190) ، والترمذي في الدعوات، وأبو داود في الأشربة، والنسائي في اليوم والليلة، وابن أبي شيبة، وابن السني في اليوم والليلة (ص152) . 2451- قوله (عن طلحة بن عبيد) التيمي المدني أحد العشرة المبشرة (كان إذا رأى الهلال) الهلال يكون أول ليلة والثانية والثالثة، ثم هو قمر. وقال في القاموس: الهلال غرة القمر أو لليلتين أو إلى ثلاث أو إلى سبع وليلتين من آخر الشهر ست وعشرين وسبع وعشرين وفي غير ذلك قمر - انتهى. والمشهور أنه من أول الشهر إلى ثلاث واقتصر عليه في المهذب، وإنما قيل: له هلال لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه من الإهلال الذي هو رفع الصوت (اللهم أهله) بفتح الهمزة وكسر الهاء وتشديد اللام مفتوحة دعاء بصيغة الأمر من الإهلال. قال الجزري: أهل الهلال وأهل واستهل إذا رؤى وأبصر، وأهله الله أطلعه، وأهللته إذا أبصرته. وأصل الإهلال رفع الصوت كأنهم إذا رأوا الهلال رفعوا أصواتهم بالتكبير ومنه الإهلال في الإحرام وهو رفع الصوت بالتلبية. قال الطيبي: أهله يروى مدغمًا

عَلَيْنَا بِالْيُمْنِ وَالإِيمَانِ وَالسَّلامَةِ وَالإِسْلَامِ رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ. رواه الترمذي وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ومفكوكًا أي أطلعه (علينا) مقترنًا (بالأمن) كذا في جميع نسخ المشكاة، وكذا في المصابيح، والمستدرك (ج4: ص285) ، وهكذا وقع في بعض نسخ الترمذي، والدارمي، وابن السني، ووقع في بعض نسخ هذه الكتب الثلاثة باليمن بالياء مضمومة وهكذا وقع في المسند، وهو البركة. قال الحكيم الترمذي: اليمن: السعادة، والإيمان: الطمأنينة بالله. كأنه يسأل دوامهما والسلامة والإسلام: أن يدوم الإسلام ويسلم له شهره فإن لله تعالى في كل شهر حكمة وقضاء وشأنًا في الملكوت - انتهى. (والإيمان) ، أي بدوامه وكماله (والسلامة) ، أي عن كل مضرة وسوء، (والإسلام) ، أي دوامه. قال القاضي: الإهلال في الأصل رفع الصوت ثم نقل إلى رؤية الهلال لأن الناس يرفعون أصواتهم إذا رأوه بالإخبار عنه ولذلك سمي الهلال هلالاً نقل منه إلى طلوعه لأنه سبب لرؤيته ومنه إلى إطلاعه، وهو في الحديث بهذا المعنى، أي أطلعه علينا وأرنا إياه مقترنًا بالأمن والإيمان: أي باطنًا، والسلامة والإسلام، أي ظاهرًا ونبه بذكر الأمن والسلامة على دفع كل مضرة وبالإيمان والإسلام على جلب كل منفعة على أبلغ وجه وأوجز عبارة. (ربي وربك الله) خطاب للهلال على طريق الإلتفات ولما توسل به لطلب الأمن والإيمان دل على عظم شأن الهلال فقال ملتفتًا إليه ربي وربك الله تنزيهًا للخالق أن يشارك في تدبير ما خلق وردًا للأقاويل الداحضة في الآثار العلوية. وفي الحديث تنبيه على أن الدعاء مستحب عند ظهور الآيات وتقلب أحوال النيرات، وعلى أن التوجه فيه إلى الرب لا إلى المربوب، والإلتفات في ذلك إلى صنع الصانع لا إلى المصنوع، ذكره التوربشتي. وقال الشوكاني: في الحديث مشروعية الدعاء عند رؤية الهلال بما اشتمل عليه هذا الحديث. (رواه الترمذي) في الدعوات، وأخرجه أيضًا أحمد (ج1: ص163) والدارمي في أول الصوم، والحاكم في الأدب (ج4: ص285) ، والبخاري في التاريخ الكبير (2، 1، 109) في ترجمة بلال بن يحيى بن طلحة، وابن السني (ص207) ، والبغوي (ج5: ص128) ، ونسبه في الحصن لابن حبان أيضًا، قال الشوكاني: وزاد ابن حبان بعد قوله والإسلام ((والتوفيق لما تحب وترضى)) ، والحديث رواه كلهم من طريق سليمان بن سفيان المدني عن بلال بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله عن أبيه عن جده طلحة بن عبيد الله (وقال: هذا حديث حسن غريب) ، وقال الشيخ أحمد شاكر في شرح المسند (ج2: ص365) : إسناده حسن ورمز لحسنه السيوطي في الجامع الصغير، وسكت عنه الحاكم والذهبي. قلت: سليمان بن سفيان ضعفه ابن معين، وأبو حاتم، والنسائي وغيرهم، وفي التهذيب (ج4: ص194) عن الترمذي في العلل المفردة عن البخاري ((منكر الحديث)) ، وفيه أيضًا أن ابن حبان ذكره في الثقات، وقال ((كان يخطئ)) وهذا أعدل ما فيه. قال ورواه البخاري في الكبير في ترجمة بلال ولم يذكر له علة ولذلك رجحنا تحسينه إلا أن البخاري لم يذكر سليمان بن سفيان في الضعفاء - انتهى. وقال المناوي في فيض القدير (ج5: ص136) بعد نقل تحسين الترمذي: وهو مستند

2452، 2453- (14، 15) وعن عمر بن الخطاب وأَبِي هُرَيْرَةَ قَالا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ رَأَى مُبْتَلًى فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلَاكَ بِهِ وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلاً إلا لَمْ يُصِبْهُ ذَلِكَ الْبَلَاءُ كائنًا من كان. ـــــــــــــــــــــــــــــ المصنف يعني السيوطي في رمزه لحسنه ونوزع بأن الحديث عد من منكرات سليمان وقد ضعفه ابن المدني وأبو حاتم والدارقطني. وقال ابن معين: ليس بثقة. وذكره ابن حبان في الثقات وقال: كان يخطئ. وقال الحافظ ابن حجر: صححه الحاكم وغلط في ذلك فإن فيه سليمان بن سيفان ضعوه وإنما حسنه الترمذي لشواهده - انتهى. قلت: لم يحكم الحاكم في المستدرك (ج4: ص285) على هذا الحديث بشيء بل سكت عنه هو والذهبي، وأما شواهده - انتهى. فمنها ما رواه الدارمي وابن حبان والطبراني عن ابن عمر مثل حديث طلحة وزاد ((والتوفيق لما تحب وترضى)) وفي سنده عندهم عثمان بن إبراهيم الحاطبي. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10: ص139) فيه ضعف وبقية رجاله ثقات. ومنها ما رواه ابن السني (ص208) عن حدير أبي فوزة السلمي بلفظ ((كان إذا رأى الهلال قال: اللهم أدخله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام والسكينة والعافية والرزق الحسن)) وحدير هذا مختلف في صحبته ذكره جماعة. ومنهم الذهبي في تجريده (ج1: ص133) في الصحابة وذكره ابن حبان في التابعين. 2452، 2453 - قوله (ما من رجل رأى مبتلى) أي في أمر بدني: كبرص وجذام، وقصر فاحش أو طول مفرط، أو عمى أو عرج، أو اعوجاج يد ونحوها. أو ديني: بنحو فسق وظلم، وبدعة وكفر وغيرها (الحمد الله الذي عافاني) ، أي نجاني وسلمني (مما ابتلاك به) فإن العافية أو سمع من البلية لأنها مظنة الجزع والفتنة وحينئذٍ تكون محنة أي محنة والمؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف كما ورد،.قال العلماء: إن كان مبتلى بالفسوق يقوله جهرًا ويسمعه لينزجر عنها، وإن كان مريضًا أو ناقص الخلقة يقوله سرًا لئلا يتألم قلبه بذلك. ولا يلزم من لفظ الخطاب الجهر والإسماع، والطيبي حمله على القسم الأول بقرينة الخطاب حيث قال هذا إذا كان مبتلى بالمعاصي والفسوق، وأما إذا كان مريضًا أو ناقص الخلقة لا يحسن الخطاب. قال القاري: الصواب أنه يأتي به لورود الحديث بذلك وإنما يعدل عن رفع الصوت إلى إخفاءه في غير الفاسق بل في حقه أيضًا إذا كان يترتب عليه مفسدة ولذا قال الترمذي بعد إيراد الحديث المرفوع: وقد روى عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال: إذا رأى صاحب بلاء يتعوذ يقول ذلك في نفسه ولا يسمع صاحب البلاء - انتهى. ويسمع صاحب البلاء الديني إذا أراد زجره يرجو انزجاره (وفضلني على كثير ممن خلق) ، أي صيرني أفضل منهم أي أكثر خيرًا أو أحسن حالاً. وقال القاري: أي في الدين والدنيا والقلب والقالب (تفضيلاً) مصدر مؤكد لما قبله (كائنًا ما كان) الظاهر أنه حال من الفاعل يدل على ذلك آخر حديث عمر كما سيأتي، أي حال كون ذلك البلاء أي شيء كان، وقال الطيبي: حال من الفاعل أو الهاء في

رواه الترمذي. 2454- (16) ورواه ابن ماجة عن ابن عمر، وقَالَ الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وعمرو بن دينار الراوي ليس بالقوي. ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يصبه وهذا الوجه. وذهب المظهر إلى أنه من المفعول. وقال: أي في حال ثباته وبقائه ما كان أي ما دام باقيًا في الدنيا كذا في المرقاة. (رواه الترمذي) في الدعوات عن عمر وأبي هريرة. قلت: روى الترمذي أولاً من حديث عمرو بن دينار مولى آل الزبير عن سالم بن عبد الله بن عمر عن ابن عمر عن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من رأى صاحب بلاء فقال: ((الحمد لله الذي عافاني مم ابتلاك به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً)) إلا عوفي من ذلك البلاء كائنًا ما كان ما عاش. وقد ضعف الترمذي إسناد هذا الحديث حيث قال: هذا حديث غريب وعمرو بن دينار قهرمان آل الزبير ليس بالقوي في الحديث وقد تفرد بأحاديث عن سالم بن عبد الله بن عمر ثم روى الترمذي من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من رأى مبتلى فقال: ((الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً)) لم يصبه ذلك البلاء. قال الترمذي بعد إخراجه: حديث حسن غريب من هذا الوجه. قال ميرك: روى الترمذي من حديث أبي هريرة وحسن إسناده، ومن حديث عمر بن الخطاب بمعناه وضعفه - انتهى. فإطلاق المصنف ليس على بابه، وتصرفه في سياق المتن ليس مما يستحسن، والظاهر أنه تبع في سوق المتن البغوي صاحب المصابيح وزاد أبا هريرة في ذكر مخرج الحديث ولم يلتفت إلى تغاير سنديهما ولا إلى تحسين الترمذي لحديث أبي هريرة، وحديث عمر أخرجه أيضًا البغوي في شرح السنة (ج5: ص130) وأخرج البيهقي كما في الجامع الصغير، والبزار، والطبراني في الصغير والأوسط، كما في الترغيب (ج4: ص84) ، ومجمع الزوائد (ج10: ص138) من حديث أبي هريرة وحده. وقال فيه: فإذا قال ذلك شكر تلك النعمة. قال المنذري والهيثمي: إسناده حسن، وأخرج ابن السني (ص101) من حديث عمر وحده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ما من رجل يفجأه صاحب بلاء فيقول الحمد لله إلخ. وفيه أيضًا عمرو بن دينار قهرمان آل الزبير. 2454- قوله (ورواه ابن ماجة) في آخر الدعاء (عن ابن عمر) بلا واو بلفظ ((من فجئه (بكسر الجيم وفتحها أي لقيه فجاءة) صاحب بلاء فقال: الحمد لله)) الحديث. وفي سنده أيضًا عمرو بن دينار وأخرجه أيضًا الطبراني في الأوسط بلفظ حديث أبي هريرة، قال الهيثمي (ج10: ص138) : وفيه زكريا بن يحيى بن أيوب الضرير ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات (وقال الترمذي هذا) ، أي حديث عمر بن الخطاب (غريب) ، أي ضعيف، وأما حديث أبي هريرة فقد حسنه الترمذي كما تقدم (وعمرو بن دينار الراوي) ، أي لحديث عمر عن سالم بن عبد الله بن عمر عن ابن عمر عن عمر (ليس بالقوي) في الحديث وضعفه أيضًا ابن معين وعمر بن علي وأبو حاتم وأبو زرعة، والنسائي، والدارقطني، وأبو داود وغيرهم.

2455- (17) وعن ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: مَنْ دَخَلَ السُّوقَ فَقَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لا يَمُوتُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ وَرَفَعَ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ دَرَجَةٍ وَبَنَى لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقالوا: روى عن سالم بن عبد الله بن عمر أحاديث منكرة، وقال البخاري: فيه نظر. فحديث عمر عند الترمذي وابن السني ضعيف وكذا حديث ابن عمر عند ابن ماجه لكن يؤيدهما حديث أبي هريرة وهو حديث حسن الإسناد. 2455- قوله (من دخل السوق) قال الطيبي: خصه بالذكر لأنه مكان الغفلة عن ذكر الله والاشتغال بالتجارة فهو موضع سلطنة الشيطان ومجمع جنوده، فالذاكر هناك يحارب الشيطان ويهزم جنوده فهو خليق بما ذكر من الثواب انتهى. (فقال) أي سرًا أو جهرًا. قيل: والأفضل الجهر به لأن فيه تذكيرًا للغافلين حتى يقولوا مثل قوله ففيه القول والنفع المتعدي ولكنه إذا أمن الرياء والسمعة (بيده الخير) وكذا الشر لقوله تعالى: {قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللهِ} (4: 78) فهو من باب الاكتفاء أو من طريق الأدب فإن الشر لا ينسب إليه (وهو على كل شيء) ، أي مشيء (قدير) تام القدرة. قال الطيبي: فمن ذكر الله فيه دخل في زمرة من قال تعالى في حقهم: {رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} (24: 37) (كتب الله له) ، أي أثبت له أو أمر بالكتابة لأجله (ألف ألف حسنة) إلخ. كناية عن كثرة الثواب قالوا وذلك من جهة أنه يدفع عنهم ظلمة الغفلة وما هم فيه من الزور والأيمان الكاذبة كما يشاهد في الأسواق ولما كان في ذلك غلظة وشدة وفيهم كثرة كان الأجر أيضًا كثيرًا. كذا قال في اللمعات وهو محصل كلام الطيبي في شرح المشكاة (ومحا عنه) ، أي بالمغفرة أو أمر بالمحو عن صحيفته (ألف ألف سيئة) ، أي إن كانت وإلا تزاد في الحسنة بقدر ذلك (وبنى له بيتًا في الجنة) ، أي أمر ببنائه وهذه الجملة وقعت في رواية أخرى للترمذي مكان قوله ((ورفع له ألف ألف درجة)) ورواه بهذا اللفظ أحمد (ج1: ص47) ، وابن ماجة في التجارات، وابن السني (ص63) ، والبغوي (ج5 ص132) ، وابن أبي الدنيا والحاكم (ج1: ص538) كلهم من رواية عمرو بن دينار قهرمان آل الزبير عن سالم بن عبد الله عن أبيه عن جده وقد تقدم الكلام في عمرو بن دينار ورواه أيضًا الحاكم (ج1: ص539) من حديث عبد الله بن عمر مرفوعًا أيضًا، وقال: هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين. قال المنذري في الترغيب: كذا قال الحاكم، وفي إسناده مسروق ابن المرزبان يأتي الكلام عليه - انتهى. قلت قد ذكر في آخر كتابه مسروق بن المرزبان هذا. وقال: قال أبو حاتم: ليس بالقوي ووثقه غيره - انتهى. قلت: ذكره ابن حبان في الثقات وقال صالح بن محمد: صدوق. وقال الذهبي في الميزان: صدوق معروف، ثم ذكر كلام أبي حاتم. وقال في تلخيص المستدرك: مسروق بن المرزبان ليس

رواه الترمذي وابن ماجة وقال الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وفي شرح السنة: ((من قال في سوق جامع يباع فيه)) بدل ((من دخل السوق)) . 2456- (18) وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ سَمِعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلاً يَدْعُو يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ تَمَامَ النِّعْمَةِ. فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ تَمَامُ النِّعْمَةِ؟ قَالَ: دَعْوَةٌ أَرْجُو بِهَا خَيْرًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ بحجة. قال الحاكم: تابع مسروقًا عمران بن مسلم عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر ثم ساقه من رواية يحيى بن سليم عنه، قال الذهبي: وقال البخاري: عمران منكر الحديث. (رواه الترمذي) في الدعوات من طريق أزهر بن سنان عن محمد بن واسع عن سالم بن عبد الله عن أبيه عن جده وانتهى هذا الطريق إلى قوله ((ورفع له ألف ألف درجة)) . قال الترمذي: هذا حديث غريب. وقد رواه عمرو بن دينار عن سالم بن عبد الله هذا الحديث نحوه ثم ساقه من رواية أحمد ابن عبدة عن حماد بن زيد والمعتمر بن سليمان عن عمرو بن دينار وفيه: ((وبنى له بيتًا في الجنة)) مكان ((ورفع له ألف ألف درجة)) (وابن ماجة) ، وكذا أحمد، وابن السني، والحاكم، والبغوي، والترمذي، كلهم من رواية عمرو بن دينار عن سالم بن عبد الله بزيادة ((بنى له بيتًا في الجنة)) مكان ((ورفع له ألف ألف درجة)) وللحديث عدة طرق ذكرها الحاكم في المستدرك (ج1: ص538، 539) (وقال الترمذي هذا) أي حديث عمر من طريق أزهر بن سنان عن محمد بن واسع عن سالم بن عبد الله (غريب) . وقال المنذري في الترغيب بعد ذكر سياق أزهر بن سنان وكلام الترمذي هذا ما نصه: إسناده متصل حسن ورواته ثقات أثبات، وفي أزهر بن سنان خلاف. قال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به. قلت: قد ذكره أيضًا في آخر كتابه. وقال قال ابن معين: ليس بشيء، وقال ابن عدي: ليست أحاديثه بالمنكرة جدًا أرجو أنه لا بأس به - انتهى. قال الشوكاني في تحفة الذاكرين: والحديث أقل أحواله أن يكون حسنًا وإن كان في ذكر العدد على هذه الصفة نكارة - انتهى. ولا يخفى ما في سياق المصنف للحديث ولكلام الترمذي من الخلل والخرازة. هذا وقد بسط الكلام في طرق هذا الحديث ابن القيم في تهذيب السنن (ج7: ص336) فارجع إليه (وفي شرح السنة) ، أي لصاحب المصابيح (ج5: ص132) (من قال سوق جامع بباع فيه بدل ((من دخل السوق)) ) قال البغوي: وهذه الرواية تقتضي طلب ذلك وهو الأقرب لأن حكمة ترتب هذا الثواب العظيم على هذا الذكر اليسير أنه ذاكر لله تعالى في الغافلين فهو بمنزلة المجاهد مع الغازين - انتهى. وفي المستدرك للحاكم ((قال محمد بن واسع: فأتيت قتيبة بن مسلم فقلت له أتيتك بهدية فحدثته بالحديث فكان يركب في موكبه حتى يأتي باب السوق فيقولها ثم ينصرف)) . 2456- قوله (يقول) بدل أو حال (فقال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - سؤال امتحان (دعوة) ، أي مستجابة ذكره الطيبي أو هو دعوة أو مسألة دعوة (أرجو بها خيرًا) قال القاري: أي مالاً كثيرًا. وقوله: خيرًا كذا في جميع النسخ من المشكاة

فَقَالَ: إِنَّ مِنْ تَمَامِ النِّعْمَةِ دُخُولَ الْجَنَّةِ وَالْفَوْزَ مِنْ النَّارِ. وَسَمِعَ رَجُلاً يَقُولُ: يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ فَقَالَ: قَدْ اسْتُجِيبَ لَكَ فَسَلْ. وَسَمِعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلاً وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الصَّبْرَ. فَقَالَ: سَأَلْتَ اللَّهَ الْبَلَاءَ فَاسألهُ الْعَافِيَةَ. رواه الترمذي. 2457- (19) وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ جَلَسَ مَجْلِسًا فَكَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ـــــــــــــــــــــــــــــ ووقع الترمذي ((أرجو بها الخير)) وهكذا في المسند. قال الطيبي: وجه مطابقة الجواب السؤال هو أن جواب الرجل من باب الكناية أي أسأله دعوة مستجابة فيحصل مطلوبي منها، ولما صرح بقوله خيرًا فكان غرضه المال الكثير كما في قوله تعالى: {إِن تَرَكَ خَيْراً} (2: 180) فرده - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((إن من تمام النعمة)) إلخ. وأشار إلى قوله تعالى: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} (3: 185) انتهى. قال القاري: والأظهر أن الرجل حمل النعمة على النعم الدنيوية الزائلة الفانية وتمامها على مدعاة في دعائه فرده - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ودله على أن لا نعمة إلا النعمة الباقية الأخروية - انتهى. وقال الشيخ الدهلوي في اللمعات: قوله ((أرجو بها خيرًا)) ، أي هذه دعوة أرجو بها خيرًا، وأعلم مجملاً أن عند الله نعمة تامة فأسألها ولا أعرف حقيقة تمام النعمة فعلمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حقيقة تمام النعمة هذا ما يخيل بالبال في معنى الحديث وهو المتبادر وإن لم يذكره الطيبي. (فقال إن) ، وفي الترمذي ((قال فإن)) (من تمام النعمة دخول الجنة) ، أي ابتداء (والفوز) ، أي الخلاص والنجاة (من النار) ، أي ولو انتهاء (وسمع) ، أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (يا ذا الجلال والإكرام) ، أي يا ذا العظمة والكبرياء والإكرام لأولياءه (قد استجيب لك) ، أي وقع لك استحقاق الإجابة أو قصد به التفاؤل والمبالغة على أن الاستجابة بمعنى الإجابة (فسل) ، أي ما تريد، وفيه دليل على أن استفتاح الدعاء بقول الداعي يا ذا الجلال والإكرام يكون سببًا في الإجابة وفضل الله واسع (فقال) ، في الترمذي قال: (سألت الله البلاء) ، أي لأنه يترتب عليه (فاسأله العافية) ، أي فإنها أوسع وكل أحد لا يقدر أن يصبر على البلاء ومحل هذا إنما هو قبل وقوع البلاء وأما بعده فلا منع من سؤال الصبر بل مستحب لقوله تعالى: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً} (2: 250، 7: 126) (رواه الترمذي) في الدعوات وقال هذا حديث حسن، وأخرجه أيضًا أحمد (ج5: ص231، 235) ، والبخاري في الأدب المفرد (ج2: ص187) . 2457- قوله (فكثر) بضم الثاء (لغطه) بفتحتين، قال في القاموس: اللغط الصوت والجلبة أو أصوات مبهمة لا يفهم معناها - انتهى. والمراد ههنا كلام لا طائل تحته وما لا يعني. وقال القاري: أي تكلم بما فيه إثم لقوله: ((غفر له)) . وقال الطيبي ((اللغط)) بالتحريك الصوت والمراد به الهزء من القول وما لا طائل تحته فكأنه مجرد الصوت العري عن المعنى (فقال قبل أن يقوم) في الترمذي بعده ((من مجلسه ذلك)) (سبحانك اللهم وبحمدك) لعله مقتبس من

أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ إِلا غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ. رواه الترمذي والبيهقي في الدعوات الكبير. 2458- (20) عَنْ عَلِيِّ أنه أُتِيَ بِدَابَّةٍ لِيَرْكَبَهَا فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الرِّكَابِ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِهَا ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} (52: 48) قال عطاء: من كل مجلس تجلسه. واللهم معترض لأنه قوله: ((وبحمدك)) متصل بقوله: ((سبحانك)) إما بالعطف، أي أسبح وأحمد أو بالحال، أي أسبح حامدًا لك (إلا غفر له) ، أي ما جلس شخص مجلسًا فكثر لغطه فيه فقال ذلك قبل أن يقوم إلا غفر له. وفي المستدرك للحاكم ((ما جلس قوم مجلسًا كثر لغطهم فيه فقال قائل قبل أن يقوم سبحانك اللهم)) إلخ (ما كان) ، أي من اللغط (رواه الترمذي) في الدعوات من جامعه (والبيهقي في الدعوات الكبير) ، وأخرجه أيضًا أحمد (ج: ص) ، وأبو داود في الأدب، والنسائي في الكبرى، وابن حبان في صحيحه، كما في الموارد (ص588) ، والحاكم (ج1: ص536، 537) ، وابن السني (ص144) ، والبغوي في شرح السنة (ج5: ص134) ، وقال الترمذي حديث حسن صحيح غريب وسكت عنه أبو داود والمنذري، وقال الحاكم بعد روايته من طريق موسى بن عقبة عن سهيل عن أبيه: هذا الإسناد صحيح على شرط مسلم إلا أن البخاري قد علله بحديث وهيب عن موسى بن عقبة عن سهيل عن أبيه عن كعب الأحبار من قوله ووافقه الذهبي. وذكر الحاكم في علوم الحديث (ص113) هذا الحديث مثالاً للجنس الأول من أجناس العلل وهو أن يكون السند ظاهره الصحة وفيه من لا يعرف بين أهل الحديث بالسماع عمن روى عنه. قال الحاكم بعد ذكر هذا الحديث: هذا الحديث من تأمله لم يشك أنه من شرط الصحيح وله علة فاحشة، ثم نقل عن البخاري أنه قال: هذا حديث مليح ولا أعلم في الدنيا في هذا الباب غير هذا الحديث إلا أنه معلول حدثنا به موسى بن إسماعيل قال حدثنا وهيب قال ثنا سهيل عن عون بن عبد الله قوله: قال محمد بن إسماعيل هذا أولى فإنه لا يذكر لموسى بن عقبة سماع من سهيل - انتهى. وقد روى في الباب عن أبي برزة، وعائشة، وجبير بن مطعم، ورافع بن خديج، وعبد الله بن عمرو بن العاص، والسائب بن يزيد، وعبد الله ابن مسعود، وأم سلمة، وأنس. ذكر أحاديثهم الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10:ص141، 142) ، والمنذري في الترغيب (ج4: ص174، 175) ، والشوكاني في تحفة الذاكرين (ص180، 181) وقد أفرد الحافظ ابن كثير لأحاديث الباب جزءًا بذكر طرقها وعللها وما يتعلق بها. 2458- قوله (أتي) بصيغة المجهول، أي جيء (فلما وضع رجله) أي أراد وضع رجله (في الركاب) بكسر الراء هو ما يعلق في السرج فيجعل الراكب فيه رجله والذي يكون من الجلد يسمى غرزًا (فلما استوى على ظهرها) أي استقر

قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ. ثُمَّ قَالَ {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} . ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ ثَلَاثًا وَاللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثًا سُبْحَانَكَ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ. ثُمَّ ضَحِكَ فقيل: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَنَعَ كَمَا صَنَعْتُ ثُمَّ ضَحِكَ فَقُلْتُ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِنَّ رَبَّكَ لَيَعْجَبُ مِنْ عَبْدِهِ إِذَا قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي. يقول: يعلم إِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غَيْرُي. رواه أحمد والترمذي وأبو داود. ـــــــــــــــــــــــــــــ على ظهرها (قال الحمد لله) ، أي على نعمة الركوب وغيرها (ثم قال) ، أي قرأ {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} ، أي ذلله {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} ، أي مطيقين من أقرن للأمر إذا أطاقه وقوي عليه، أي ما كنا نطيق قهره واستعماله لولا تسخير الله تعالى إياه لنا {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} ، أي لصائرون إليه بعد مماتنا وإليه سيرنا الأكبر (ثم قال: الحمد لله ثلاثًا، والله أكبر ثلاثًا) كذا في جميع نسخ المشكاة وهكذا في المصابيح وشرح السنة، والمستدرك، ووقع في الترمذي بغير واو العطف وكذا في صحيح ابن حبان. ورواه أبو داود بلفظ ((ثم قال: الحمد لله ثلاث مرات، ثم قال: الله أكبر ثلاث مرات، ثم قال سبحانك)) إلخ، وزاد في رواية أحمد، وابن السني، والحاكم، ((لا إله إلا أنت مرة)) (ثم ضحك) ، أي عليّ (صنع كما صنعت) ، أي كصنعي المذكور. وفي رواية أحمد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل مثل ما فعلت وقال مثل ما قلت (ثم ضحك) ، أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إن ربك ليعجب) بفتح الجيم (من عبده إذا قال: رب اغفر لي ذنوني) قال الطيبي: أي يرتضي هذا القول ويستحسنه استحسان المتعجب - انتهى. وقال الجزري في النهاية في معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((عجب ربك من قوم يساقون إلى الجنة في السلاسل)) : أي عظم ذلك عنده وكبر لديه، أعلم الله أنه إنما يتعجب الآدمي من الشيء إذا عظم موقعه عنده وخفي عليه سببه فأخبرهم بما يعرفون ليعلموا موقع هذه الأشياء عنده. وقيل: معنى عجب ربك، أي رضي وأثاب فسماه عجبًا مجازًا وليس بعجب في الحقيقة. والأول الوجه وإطلاق التعجب على الله مجاز لأنه لا يخفى على الله أسباب الأشياء والتعجب بما خفي سببه ولم يعلم - انتهى. فتأمل (يقول) ، أي الله (يعلم) أي العبد كذا في بعض نسخ المشكاة بجمع يقول ويعلم وفي بعضها يعلم، أي بحذف يقول وهكذا وقع في سنن أبي داود والمسند (ج1: ص128) ، وشرح السنة، وفي رواية أخرى لأحمد (ج1: ص97) يقول: علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري. وفي الترمذي ((إن ربك ليعجب من عبده إذا قال: رب اغفرلي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب غيرك)) (رواه أحمد) (ج1: ص97، 115، 128) (والترمذي) في الدعوات، (وأبو داود) في الجهاد، وأخرجه أيضًا النسائي، وابن حبان في صحيحه، وابن السني (ص158، 159) ، والحاكم (ج2: ص98) والبغوي (ج5

2459- (21) وعن ابْنَ عُمَرَ قََالَ: كَانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إِذَا وَدَّعَ رَجُلاً أَخَذَ بِيَدِهِ فَلا يَدَعُهَا حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ يَدَعُ يَدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُولُ: اسْتَوْدِعْ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَآخِرَ عَمَلِكَ. وفي رواية: وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ. رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ ص139) . وقال الترمذي حديث حسن صحيح وسكت عليه أبو داود ونقل المنذري كلام الترمذي وأقره وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، ونسبه السيوطي في الدر المنثور (ج6: ص14) أيضًا للطيالسي، وعبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات. 2459- قوله (إذا ودع رجلاً) أي مسافرًا (أخذ بيده فلا يدعها) ، أي فلا يترك يد ذلك الرجل من غاية التواضع ونهاية إظهار المحبة والرحمة (حتى يكون الرجل هو) الذي (يدع يد النبي - صلى الله عليه وسلم -) باختياره (ويقول) للمودع (استودع الله دينك) ، أي استحفظ واطلب منه حفظ دينك (وأمانتك) ، أي حفظ أمانتك فيما تزاوله من الأخذ والإعطاء ومعاشرة الناس في السفر إذ قد يقع منك هناك خيانة. وقيل: أريد بالأمانة الأهل والأولاد الذين خلفهم - قال الخطابي: الأمانة ها هنا: أهله ومن يخلفه منهم وماله الذي يودعه ويستحفظه أمينة ووكيله ومن في معناهما، وجرى ذكر الدين مع الودائع لأن السفر موضع خوف وخطر وقد يصيبه فيه المشقة والتعب فيكون سببًا لإهمال بعض الأمور المتعلقة بالدين فدعا له بالمعونة والتوفيق فيهما - انتهى. وقال في فتح الودود: قوله ((أمانتك)) ، أي ما وضع عندك من الأمانات من الله أو من أحد من خلقه أو ما وضعت عند أحد أو ما يتعلق بك من الأمانات - انتهى. وقيل المراد بالأمانة التكاليف كلها كما فسر بها قوله تعالى {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} (33: 72) الآية (وآخر عملك) ، أي في سفرك أو مطلقًا كذا قيل. قال القاري: والأظهر أن المراد به حسن الخاتمة لأن المدار عليها في أمر الآخرة وأن التقصير فيما قبلها مجبور بحسنها ويؤيده قوله: ((وخواتيم عملك)) في الرواية الأخرى وهو جمع خاتم، أي ما يختم به عملك، أي أخيره. والجمع لإفادة عموم أعماله. قال الطيبي: قوله: ((استودع الله)) هو طلب حفظ الوديعة وفيه نوع مشاكلة للتوديع وجعل دينه وأمانته من الودائع لأن السفر يصيب الإنسان فيه المشقة والخوف فيكون ذلك سببًا لإهمال بعض أمور الدين فدعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمعونة والتوفيق. ولا يخلو الرجل في سفره ذلك من الاشتغال بما يحتاج فيه إلى الأخذ والإعطاء والمعاشرة مع الناس فدعا له بحفظ الأمانة والاجتناب عن الخيانة، ثم إذا انقلب إلى أهله يكون مأمون العاقبة عما يسوءه في الدين والدينا (وفي رواية) عند الثلاثة الترمذي، وأبي داود، وابن ماجة، وكذا عند أحمد، والنسائي في الكبرى، وابن حبان، والحاكم. (وخواتيم عملك) دعا له بذلك لأن الأعمال بخواتيمها كما تدل عليه الأحاديث (رواه الترمذي) في الدعوات

وأبو داود وابن ماجة. وفي روايتهما لم يذكر ((وَآخِرَ عَمَلِكَ)) . 2460- (22) وعن عبد الله الخطمي قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يستودع الجيش قال: أستودع الله دينكم وأمانتكم وخواتيم أعمالكم. رواه أبو داود. 2461- (23) وعَنْ أَنَسٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُرِيدُ سَفَرًا فَزَوِّدْنِي فَقَالَ: زَوَّدَكَ اللَّهُ التَّقْوَى. قَالَ: زِدْنِي. ـــــــــــــــــــــــــــــ (وأبو داود وابن ماجة) في الجهاد. واللفظ للترمذي رواه هكذا مطولاً وفيه ((آخر عملك)) وكذا رواه بهذا اللفظ ولكن معلقًا البغوي في شرح السنة (ج5: ص143) ثم قال: ورواه سالم عن ابن عمر وقال: ((وخواتيم عملك)) وقال الترمذي: حديث غريب. ثم رواه مختصرًا بلفظ ((أن ابن عمر كان يقول للرجل إذا أراد سفرًا: أن ادن مني أودعك كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يودعنا فيقول: استودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك)) . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وبهذا اللفظ المرفوع رواه أبو دواد وسكت عليه هو والمنذري، وابن ماجة، وكذا أحمد (ج2: ص7، 25، 38، 136) والنسائي، وابن حبان، والحاكم (ج1: ص442، وج2: ص97) وصححه، ووافقه الذهبي، والبخاري في الكبير، والضياء في المختارة (وفي روايتهما) أي أبي داود، وابن ماجة وكذا في رواية من ذكرنا ممن خرج هذا الحديث سوى الترمذي (لم يذكر) بصيغة المجهول (وآخر عملك) ، أي بل ذكر ((وخواتيم عملك)) وللحديث شواهد ذكرها ابن علان في الفتوحات الربانية (ج5: ص118) . 2460- قوله (وعن عبد الله الخطمي) بفتح الخاء المعجمة وسكون المهلة هو أبو موسى عبد الله بن يزيد بن زيد بن حصين بن عمرو بن الحارث بن خطمة الأوسي الأنصاري صحابي صغير شهد الحديبية وهو صغير كذا في التهذيب. وقال الخررجي: شهدها وهو ابن سبع عشرة سنة وشهد الجمل وصفين مع علي، ولي الكوفة لأبن الزبير، وكان الشعبي كاتبه (إذا أراد أن يستودع الجيش) ، أي العسكر المتوجه إلى العدو، ولابن السني ((كان إذا شيع جيشًا فبلغ ثنية الوداع قال: استودع الله)) إلخ (وخواتيم أعمالكم) فيه مقابلة الجمع بالجمع (رواه أبو داود) في الجهاد وسكت عليه، وقال النووي في الأذكار: حديث صحيح، وفي الرياض: رواه أبو داود بإسناد صحيح، وأخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة، وابن السني (ص161) والحاكم (ج2: ص98) وسكت عليه هو والذهبي. 2461- قوله (فزودني) أمر من التزويد وهو إعطاء الزاد والزاد طعام يتخذ للسفر يعني ادع لي دعاء يكون بركته معي في سفري كالزاد. وقال الطيبي: ويحتمل أن يكون المراد الزاد المتعارف فالجواب على طريقة أسلوب الحكيم (زودك الله التقوى) ، أي الاستغناء عن المخلوق أو امتثال الأوامر واجتناب النواهي (قال زدني) بكسر المعجمة وسكون

قَالَ: وَغَفَرَ ذَنْبَكَ. قَالَ: زِدْنِي بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي. قَالَ: وَيَسَّرَ لَكَ الْخَيْرَ حَيْثُمَا كُنْتَ. رواه الترمذي وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. 2462- (24) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال: إنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُسَافِرَ فَأَوْصِنِي. قَالَ: عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالتَّكْبِيرِ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ. فَلَمَّا وَلَّى الرَّجُلُ قَالَ: اللَّهُمَّ اطْوِ لَهُ البعد ـــــــــــــــــــــــــــــ المهملة أي من الزاد أو من الدعاء (قال: وغفر ذنبك) فيه إشارة إلى صحة التقوى وترتب أثره عليه والتجاوز عما يقع فيه من التقصيرات (بأبي أنت وأمي) ، أي أفديك بهما، وأجعلهما فداءك فضلاً عن غيرهما (ويسر لك الخير) أي: سهل لك خير الدارين أو أراد المال الكثير (حيثما كنت) أي: في أي مكان حللت ومن لازمه أي: زمان نزلت. وفي رواية الدارمي، وابن السنى: ((ووجهك للخير حيثما توجهت)) قال الطيبي: يحتمل أن الرجل طلب الزاد المتعارف فأجابه عليه الصلاة والسلام بما أجابه على طريقة أسلوب الحكيم. أي: زادك أن تتقي محارمه وتجتنب معاصيه، ومن ثم لما طلب الزيادة قال: وغفر ذنبك، فإن الزيادة من جنس المزيد عليه، وربما زعم الرجل أن يتقي الله وفي الحقيقة لا يكون تقوى تترتب عليه المغفرة فأشار بقوله: وغفر ذنبك أن يكون ذلك الاتقاء بحيث يترتب عليه المغفرة ثم ترقى منه إلى قوله: ((ويسر لك الخير)) فإن التعريف في الخير للجنس فيتناول خير الدنيا والآخرة - انتهى. وفيه دليل على مشروعية الدعاء للمسافر بهذه الدعوات. وقال المناوي: يندب لكل من ودع مسافرًا أن يقوله له ويحصل أصل السنة بقوله: ((زودك الله التقوى)) والأكمل الإتيان بما ذكر كله (رواه الترمذي) في الدعوات، وأخرجه أيضًا النسائي كما في تحفة الذاكرين، والدارمي في الاستيذان، والحاكم (ج2: ص97) ، وابن السنى (ص160) ، وأخرج نحوه البغووي في شرح السنة (ج5: ص142) ، والبزار في مسنده، والطبراني في الكبير من حديث قتادة , قال الهيثمي (ج10: ص131) : ورجالهما يعني البزار والطبراني ثقات (وقال هذا حديث حسن غريب) وسكت عليه الحاكم، والذهبي. 2462- قوله: (عليك) اسم فعل بمعنى خذ يقال عليك زيدًا وعليك بزيد، أي خذه، والمعنى الزم التقوى وداوم عليها بجميع أنواعها فإنها الوصية التي وصى الله بها عباده كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللهَ} (4: 131) (بتقوى الله) ، أي بمخافته والحذر من عصيانه (والتكبير) ، أي بقول: الله أكبر (على كل شرف) بفتح الشين المعجمة والراء، أي مكان عال، ومناسبة التكبير عند الصعود إلى المكان المرتفع أن الاستعلاء والارتفاع محبوب للنفوس لما فيه من استشعار الكبرياء فشرع لمن تلبس به أن يذكر كبرياء الله تعالى وأنه أكبر من كل شيء فيكبره ليشكر له ذلك فيزيده من فضله. قاله الحافظ. (فلما ولى الرجل) في الترمذي ((فلما أن ولى الرجل)) أي: أدبر، وأن زائدة وفي شرح السنة، والمستدرك ((فلما مضى)) (قال) أي: دعا له بظهر الغيب فإنه أقرب إلى الإجابة (اللهم اطو له البعد) بهمزة

وَهَوِّنْ عَلَيْهِ السَّفَرَ. رواه الترمذي. 2463- (25) وعَنْ ابْنِ عُمَرٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا سَافَرَ فَأَقْبَلَ اللَّيْلُ قَالَ: يَا أَرْضُ رَبِّي وَرَبُّكِ اللَّهُ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّكِ وَشَرِّ مَا فِيكِ وَشَرِّ مَا خُلِقَ فِيكِ وَشَرِّ مَا يَدِبُّ عَلَيْكِ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ أَسَدٍ وَأَسْوَدَ ـــــــــــــــــــــــــــــ وصل وكسر واو أمر من الطي أي قرب له البعد بطي الأرض. قال الجزري: أي: قربه له وسهل له السير حتى لا يطول. قال القاري: والمعنى ارفع عنه مشقة السفر بقريب المسافة البعيدة له حسًا أو معنى (وهون عليه السفر) أي: أموره ومتاعبه وهو تعميم بعد تخصيص (رواه الترمذي) في الدعوات وقال حديث حسن، وأخرجه النسائي في اليوم والليلة، وابن ماجة في الجهاد، وابن حبان في صحيحه، والحاكم (ج1: ص445، 446، وج2: ص98) وصححه وأقره الذهبي، وابن السنى (ص160) ، والبغوي (ج5: ص143) . 2463- قوله: (إذا سافر فأقبل الليل) وفي رواية أحمد، والحاكم ((إذا غزا أو سافر فأدركه الليل)) (يا أرض) خاطب الأرض ونادها على الاتساع وإرادة الاختصاص. وذكره الطيبي (ربي وربك الله) يعني إذا كان خالقي وخالقك هو الله فهو المستحق أن يلتجأ إليه ويتعوذ به من شر المؤذيات (أعوذ بالله من شرك) أي: من شر ما حصل من ذاتك من الخسف والزلزلة والسقوط عن الطريق والتحير في الفيافي. ذكره الطيبي. (وشر ما فيك) أي: من الضرر بأن يخرج منك ماء فيهلك أحدًا أو نبات فيصيب أحدًا ضرر من أكله أو يجرح أعضاء أحد بشوكه، وقال الطيبي: أي: شر ما استقر فيك من الصفات والأحوال الخاصة بطبائعك أي: العادية كالحرارة والبرادة وغيرهما (وشر ما خلق فيك) أي: من الحيوانات الساكنة في باطن الأرض، وقال القاري: أي: من الهوام وغيرها من الفلذات، وقال الطيبي: أي: من أجناس الأرض وحشراتها وما يعيش في ثقب الأرض وأجوافها (وشر ما يدب) بكسر الدال وتشديد الموحدة أي: يمشي ويتحرك (عليك) أي: على ظهرك يعني من شر الحيوانات الساكنة على ظاهر الأرض (وأعوذ بالله) كذا في المشكاة، والمصابيح، وشرح السنة وهكذا نقل في الحصن، ووقع في سنن أبي دواد ((أعوذ بالله)) بدون الواو وكذا في رواية أحمد (ج2: ص132) ، والحاكم (ج2: ص100) وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول (من أسد وأسود) قال الطيبي: حكي في أسود هنا وجهان: الصرف وعدمه. وقال التوربشتي: أسود هنا منصرف لأنه اسم جنس وليس بصفة إذ ليس فيه شيء من الوصفية كما هو معتبر في الصفات الغالبة عليها الاسمية في منع الصرف ولذا يجمع على أساود والمسموع من أفواه المشائخ والمضبوط في أكثر النسخ بالفتح غير منصرف، وعن بعضهم الوجه أن لا ينصرف لأن وصيفته أصلية وإن غلب عليه الاسمية، وهو الحية العظيمة الكبيرة التي فيها سواد وهي أخبث الحيات وذكر من شأنها

وَمِنْ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَمِنْ شَرِّ سَاكِنِ الْبَلَدِ وَمِنْ وَالِدٍ وَمَا وَلَدَ. رواه أبو داود. 2464- (26) وعَنْ أَنَسِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا غَزَا قَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَضُدِي وَنَصِيرِي ـــــــــــــــــــــــــــــ أنها تعارض الركب وتتبع الصوت إلى أن تظفر بصاحبه ولهذا خصصها بالذكر وجعلها جنسًا آخر برأسها ثم عطف عليها الحية. قال الشيخ الدهلوي: فيكون ذكر أسد وأسود من باب التخصيص بعد التعميم وذكر ما يغلب منه الأذى والضرر (ومن الحية) كل حية غير الأسود التي تقدم ذكرها أو يكون في الحديث ذكر العام بعد الخاص، ووقع في بعض نسخ سنن أبي داود ((من الحية)) أي: بدون الواو العاطفة، فعلى هذا من بيانية على تغليب الأسود، ويؤيد رواية الواو ما وقع عند أحمد، والحاكم بلفظ: ((من شر كل أسد وأسود وحية وعقرب)) (والعقرب) وفي معناهما سائر الهوام السميات (ومن شر ساكن البلد قيل: المراد بساكن البلد الإنس، سماهم بذلك لأنهم يسكنون البلاد غالبًا، أو لأنهم بنوا البلدان واستوطنوها، وقيل: هم الجن الذين هم سكان الأرض، والعرب تسمي الأرض المستوية التي يأوي إليها الحيوان البلد وإن لم تكن مسكونة ولا ذات أبنية أي: وإن لم يكن فيها بناء ومنازل. قال الله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} (7: 58) ولو حمل على كليهما لكان وجهًا، ووقع في بعض النسخ ساكني البلد بصيغة الجمع مضافًا، وكذا اختلف فيه نسخ أبي داود (ومن والد) ولأحمد، والحاكم ((ومن شر والد)) أي: آدم أو إبليس (وما ولد) أي: ذريتهما. وقيل: هما عامان لجميع ما يوجد بالتوالد من الحيوانات أصولها وفروعها، قال في اللمعات: والحمل على العموم أولى ليعم الكل (رواه أبو داود) في الجهاد من طريق بقية بن الوليد حدثني صفوان حدثني شريح بن عبيد عن الزبير بن الوليد عن عبد الله بن عمر. وأخرجه أيضًا أحمد (ج2: ص132) ، والبغوي (ج5: ص147) ، والنسائي، والحاكم (ج1: ص447) ، و (ج2: ص100) وصححه ووافقه الذهبي وحسنه الحافظ كما في حاشية الأذكار وسكت عنه أبو داود. وقال المنذري: ((وأخرجه النسائي وفي إسناده بقية بن الوليد وفيه مقال)) وهو تعليل من المنذري غير سديد، أولاً لأن المقال في بقية بن الوليد أنه يدلس وهو صرح عند أبي داود، والبغوي بالتحديث فانتفت تهمة التدليس، وثانيًا لم ينفرد بقية بروايته عن صفوان حتى يكون ذلك علة له فقد رواه عند أحمد، والحاكم أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج عن صفوان أيضًا ورواه أحمد مرة أخرى بهذا الاسناد من حديث عبد الله بن عمر أثناء مسند أنس. 2464- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا غزا) أي خرج للغزو (اللهم أنت عضدي) بفتح المهملة وضم معجمة أي معتمدي في جميع الأمور سيما في الحرب فلا أعتمد على غيرك أو أنت قوتي أتقوى وأعتضد بك كما يتقوى الشخص بعضده. قال القاضي: العضد ما يعتمد عليه ويثق به المرأ في الحرب وغيره من الأمور، وقال الطيبي: العضد كناية عما يعتمد عليه ويثق المرأ به في الخير وغيره من القوة، أو أنت ناصري ومعيني، ففي القاموس العضد بالفتح وبالضم وبالكسر وككتف وندس وعنق ما بين المرفق إلى الكتف والعضد الناصر والمعين وهم عضدي وأعضادي (ونصيري) أي: ناصري ومعيني

بِكَ أَحُولُ وَبِكَ أَصُولُ وَبِكَ أُقَاتِلُ. رواه الترمذي، وأبو داود. 2465- (27) وعن أبي موسى أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا خَافَ قَوْمًا قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَجْعَلُكَ فِي نُحُورِهِمْ وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ. رواه أحمد، وأبو داود. ـــــــــــــــــــــــــــــ فهو عطف تفسير على التفسير الثاني لعضدي (بك أحول) بحاء مهملة من الحول وهو الحيلة. قال الزمخشري: من حال يحول حيلة بمعنى احتال أي: بك أحتال لدفع مكر الأعداء وكيدهم. وقيل: معناه أتحرك وأتحول من حال إلى حال أو أحول من المعصية إلى الطاعة. والحول الحركة، يقال: حال الشخص إذا تحرك. وقيل: معناه المنع والدفع من قولك حال بين الشيئين إذا منع أحدهما عن الأخر، فمعناه لا أمنع ولا أدفع إلا بك. وقيل: الحول الفرق بين الشيئين أي: بقوتك ونصرتك إياي أفرق بين الحق والباطل. وقيل: الحول التردد أي: بك أتردد، ويروى ((وبك أحاول)) أي: أطالب (وبك أصول) بصاد مهملة أي: أحمل على العدو حتى أغلبه وأستأصله ومنه الصولة بمعنى الحملة والحمل والصائل بمعنى الحامل (وبك) أي: بحولك وقوتك وعونك ونصرتك (أقاتل) أي: أعدائك حتى لا يبقى إلا مسلم أو مسالم. وفي الحديث دليل على أنه يشرع له أن يدعو عند غزوه بهذا الدعاء ومثله (رواه الترمذي) في الدعوات، (وأبو داود) في الجهاد وأخرجه أيضًا أحمد، والنسائي في اليوم والليلة، وابن حبان في صحيحه، والضياء في المختارة، وأبو عوانة، وابن أبي شيبة وذكره البغوي (ج5: ص153) معلقًا وقد حسنه الترمذي وسكت عنه أبو داود. ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره. 2465- قوله: (كان إذا خاف قومًا) أي: شر قوم (قال) في دعائه (اللهم إنا نجعلك في نحورهم) بضمتين جمع النحر وهو الصدر أي: في إزاء صدورهم لتدفع عنا صدورهم وتحول بيننا وبينهم، تقول: جعلت فلانً في نحر العدو إذا جعلته قبالته وحذاءه ليقاتل عنك ويحول بينك وبينه، وخص النحر بالذكر لأنه أسرع وأقوى في الدفع والتمكن من المدفوع والعدو إنما يستقبل بنحره عند المناهضة للقتال أو للتفاؤل بنحرهم أي: قتلهم (ونعوذ بك من شرورهم) والمعنى نسألك أن تصد صدورهم وتدفع شرورهم وتكفي أمورهم وتحول بيننا وبينهم، وقيل: المعنى نسألك أن تتولانا في الجهة التي يريدون أن يأتونا منها، وقيل: نجعلك في إزاء أعدائنا حتى تدفعهم عنا فإنه لا حول ولا قوة لنا بل القوة والقدرة لك وفي الحديث دليل على مشروعية الدعاء عند الخوف من قوم بهذا الدعاء (رواه أحمد) (ج4: ص414، 415) ، (وأبو داود) في الصلاة، وأخرجه النسائي في اليوم والليلة، والحاكم (ج2: ص142) ، وابن حبان في صحيحه، وابن السنى (ص108) ، وأبو عوانة، وسكت عنه أبو داود، والمنذري، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي وقال النووي في الأذكار: والرياض، والعراقي: سنده صحيح.

2466- (28) وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ نَزِلَّ أَوْ نَضِلَّ أَوْ نَظْلِمَ أَوْ نُظْلَمَ أَوْ نَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيْنَا. رواه أحمد، والترمذي، والنسائي. وقَالَ الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2466- قوله: (قال بسم الله) أي: خرجت مستعينًا بذكر اسم الله (توكلت على الله) أي: اعتمدت عليه في جميع أموري (اللهم إنا نعوذ بك من أن نزل) أي: من أن نقع في ذنب ومعصية من الزلل يقال: زلت رجله إذا زلفت والزلة الزبقة وهي هنا كناية عن وقوع الذنب من غير قصد. وقال القاري: نزل أي: عن الحق وهو بفتح النون وكسر الضاد من الضلالة وهو ضد الرشاد والهداية أي: نضل عن الحق، وقال القاري: أي: عن الهدى (أو نظلم) بفتح النون وكسر اللام على بناء المعلوم أي: أنفسنا أو أحدًا (أو نظلم) بضم النون وفتح اللام على بناء المجهول أي: من أحد والأفعال الثلاثة من باب ضرب (أو نجهل) بفتح النون على بناء المعروف أي: أمور الدين أو حقوق الله أو حقوق الناس أو في المعاشرة أو في المخالطة مع الأصحاب أو أن نفعل بالناس فعل الجهال من الإيذاء وإيصال الضرر إليهم (أو يجهل علينا) بضم الياء على صيغة المجهول أي: يفعل الناس بنا أفعال الجهال من إيصال الضرر إلينا. قال الطيبي: الزلة السيئة بلا قصد، استعاذ من أن يصدر عنه ذنب بغير قصد أو قصد، ومن أن يظلم الناس في المعاملات أو يؤذيهم في المخالطات. أو يجهل أي: يفعل بالناس فعل الجهال من الإيذاء، قال: ومن خرج من منزله لا بد أن يعاشر الناس ويزاول الأمور فيخاف أن يعدل عن الصراط المستقيم فإما أن يكون في أمر الدين فلا يخلو من أن يضل أو يضل وإما أن يكون في أمر الدنيا فإما بسبب جريان المعاملة معهم بأن يظلم أو يظلم وإما بسبب الاختلاط والمصاحبة فإما أن يجهل أو يجهل عليه فاستعيذ من هذه الأحوال كلها بلفظ سلس وجسر ومتن رشيق وروعي المطابقة المعنوية والمشاكلة اللفظية كقول الشاعر: ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا والقصد من ذلك تعليم الأمة وإلا فهو - صلى الله عليه وسلم - معصوم من الظلم والجهل (رواه أحمد، والترمذي) في الدعوات، (والنسائي) في الاستعاذة واللفظ لأحمد (ج4: ص306) ، والترمذي وبهذا اللفظ، رواه ابن السني (ص61) ، ولفظ النسائي ((كان إذا خرج من بيته قال: بسم الله رب أعوذ بك من أن أزل، أو أضل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي)) وهكذا رواه الحاكم (ج1: ص519) ونحوه رواه أحمد (ج4: ص318، 332) ، ولابن ماجة كان إذا خرج من منزله قال: اللهم إني أعوذ بك أن أضل، أو أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي. (وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح) وقال البغوي: حديث صحيح ونقل النووي، والمنذري كلام الترمذي وأقراه وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين

وفي رواية أبي داود، وابن ماجة: ((قالت أُمُّ سَلَمَةَ: مَا خَرَجَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ بَيْتِي قَطُّ إِلَّا رَفَعَ طَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ)) . 2467- (29) وعَنْ أَنَسِ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. يُقَالُ لهُ حِينَئِذٍ هُدِيتَ وَكُفِيتَ وَوُقِيتَ فيتَنَحَّى لَهُ الشَّيطان، ـــــــــــــــــــــــــــــ ووافقه الذهبي (وفي رواية أبي داود، وابن ماجة) أي: في الحديث السابق، وأخرجه أبو داود في الأدب، وابن ماجة في الدعاء. واللفظ الآتي لأبي داود. وأما ابن ماجة فقد تقدم سياقه ولا موافقة بين روايتهما إلا في لفظ التوحيد ففي إطلاق المصنف نظر لا يخفى (ما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بيتي) لا ينافي هذا رواية من بيته لأن بيت أم سلمة رواية هذا الحديث هو بيته - صلى الله عليه وسلم - لكونها من أمهات المؤمنين. وظاهر الحديث يدل على المواظبة والمداومة والمعنى أبدًا (قط إلا رفع طرفه) بفتح فسكون أي: بصره (أن أضل) بصيغة المتكلم المعلوم من الضلالة أو بصيغة المتكلم المعلوم من الإضلال (أو أضل) بصيغة المتكلم المجهول من الإضلال أو المعلوم إذا كان الأول من الضلالة ووقع في سنن أبي داود بعد هذا ((أو أزل أو أزل)) وهكذا نقل في جامع الأصول وسقط ذلك من نسخ المشكاة والمصابيح والظاهر أن المصنف تبع في ذلك البغوي وغفل عن هذا السقوط. قال السندي بعد نقل هذه الرواية: الأول فيهما مبني على الفاعل والثاني للمفعول وهو المناسب بقوله بعده: أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي. فإن الأول فيهما مبني للفاعل والثاني للمفعول ويقدر في: أجهل على أحد ليوازن قوله في الثاني علي (أو أظلم) على بناء المعلوم أي أحدًا (أو أظلم) على بناء المجهول أي يظلمني أحد (أو أجهل) على بناء المعلوم ومعناه سبق (أو يجهل علي) على بناء المجهول. والحديث سكت عنه أبو داود، والمنذري. وقال النووي، والبغوي: حديث صحيح. 2467- قوله: (إذا خرج الرجل) المراد به الجنس (يقال له حينئذ) أي: يناديه ملك يا عبد الله، ولابن حبان ((فيقال له: حسبك)) (هديت) بصيغة المجهول أي: طريق المجهول أي: طريق الحق (وكفيت) بضم الكاف وكسر الفاء على بناء المجهول أي: مهماتك (ووقيت) بضم الواو وكسر القاف من الوقاية أي: حفظت من شر أعدائك. وأشار الطيبي إلى أن في الكلام لفًا ونشرًا مرتبًا حيث قال: هدي بواسطة التبرك باسم الله وكفي مهماته بواسطة التوكل ووقي بواسطة قول لا حول ولا قوة إلا بالله. وهو معنى حسن أي إذا استعان العبد بالله وباسمه المبارك هداه الله وأرشده وأعانه في الأمور الدينية والدنيوية وإذا توكل على الله كفاه الله تعالى فيكون حسبه {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (65: 3) ومن قال: لا حول ولا قوة إلا بالله وقاه الله من شر الشيطان فلا يسلط عليه (فيتنحى له الشيطان) أي: يبتعد عنه إبليس أو شيطانه الموكل عليه

وَيَقُولُ شَيْطَانٌ آخَرُ كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفِيَ وَوُقِيَ؟ . رواه أبو داود، وروى الترمذي إلى قوله: ((له الشيطان)) . 2468- (30) وعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا وَلَجَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَ الْمَوْلَجِ وَخَيْرَ الْمَخْرَجِ بِسْمِ اللَّهِ وَلَجْنَا ـــــــــــــــــــــــــــــ فيتنحى له الطريق. قاله القاري. وقيل: يتنحى لأجل القائل عن طريق إضلاله متحسرًا (ويقول) أي: للمتنحي (شيطان آخر) أي: مسليًا له، ولابن السني ((فيلاقيه شيطان آخر فيقول له)) (كيف لك برجل) أي: إضلال رجل (قد هدي وكفي ووقي) أي من الشياطين أجمعين ببركة هذه الكلمات فإنك لا تقدر عليه. قال الطيبي: هذه تسلية، أي كيف يتيسر لك الإغواء متلبسًا برجل إلخ. أي أنت معذور في ترك إغوائه والتنحي عنه فقوله لك متعلق بـ ((يتيسر)) وبرجل حال - انتهى. فإن قلت: بم علم الشيطان أنه هدي وكفي ووقي؟ قلت: قال ابن حجر: علم من الأمر العام أن كل من دعا بهذا الدعاء المرغب من حضرته - صلى الله عليه وسلم - استجيب له. (رواه أبو داود) في الأدب، أي بتمامه وكذا رواه النسائي، وابن حبان، وابن السني (ص62) (وروى الترمذي) في الدعوات (إلى قوله له) في الترمذي عنه (الشيطان) والحديث سكت عنه أبو داود، وقال المنذري: وأخرجه الترمذي والنسائي. وقال الترمذي: حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه - انتهى. قلت: وفي نسخ الترمذي الموجودة عندنا ((حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه)) ويؤيد الأول أنه وقع في الأذكار لفظ ((حسن غريب)) فقط. 2468- قوله (إذا ولج الرجل) ، أي دخل أو أراد أن يدخل وهو من باب ضرب (بيته) قيد واقعي للغلبة (خير المولج) بفتح الميم وكسر اللام كالموعد ويفتح (وخير المخرج) بفتح الميم والراء المهملة بينهما خاء معجمة. قال الطيبي: على ما في الخلاصة المولج بكسر اللام ومن الرواة من فتحها والمراد المصدر أي الولوج والخروج أو الموضع أي خير الموضع الذي يولج فيه ويخرج منه. قال ميرك: المولج بفتح الميم وإسكان الواو وكسر اللام لأن ما كان فاءه واو ساقطة في المستقبل (نحو بعد ويهب ويلد ويزن) فالمفعل منه مكسور العين في الاسم والمصدر جميعًا (أي ولا يفتح مفتوحًا كان يفعل منه أو مكسورًا بعد أن تكون الواو منه ذاهبة إلا أحرفًا جاءت نوادر) ومن فتح ها هنا فإما أنه سها أو قصد مزاوجته للمخرج وإرادة المصدر بهما أتم (وأولى) من إرادة الزمان والمكان لأن المراد الخير الذي يأتي من قبل الولوج والخروج - انتهى. وضبط السيوطي في مرقاة الصعود بضم الميم فيهما وفيه إيماء إلى قوله تعالى تعليمًا له: {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} (17: 80) وهو يشمل كل دخول وخروج وإن نزل القرآن في فتح مكة لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (بسم الله ولجنا) ، أي دخلنا، ووقع في سنن أبي داود بعد هذا

وَعَلَى اللَّهِ رَبِّنَا تَوَكَّلْنَا ثُمَّ لِيُسَلِّمْ عَلَى أَهْلِهِ. رواه أبو داود. 2469- (31) وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَفَّأَ الإنسان إذا تزوج ـــــــــــــــــــــــــــــ ((وبسم الله خرجنا)) ، وهكذا وقع في الحصن وجامع الأصول والأذكار والمصابيح والظاهر أن السقوط في المشكاة من الناسخ (وعلى الله ربنا) بالجر بدل أو بيان أي وعلى ربنا الذي ربانا بنعمه ومنها نعمة الإيجاد والإمداد وكأن هذه حكمة الإتيان به بعد الاسم الجامع (توكلنا) ، أي اعتمدنا، وقيل: أي فوضنا أمورنا كلها ورضينا بتصرفه كيفما شاء (ثم ليسلم على أهله) ، أي على أهل بيته، أي على سبيل الاستحباب المتأكد (رواه أبو داود) في الأدب وسكت عليه قال النووي في الأذكار بعد ذكر الحديث لم يضعفه أبو داود، أي فهو عنده حسن أو صحيح. وقال المنذري: في إسناده محمد بن إسماعيل بن عياش رواه عن أبيه وهو وأبوه فيهما مقال - انتهى. قلت: قال الحافظ: عابوا على محمد بن إسماعيل أنه حدث عن أبيه بغير سماع، وقد أخرج أبو داود عن محمد بن عوف عنه عن أبيه عدة أحاديث، منها حديث أبي مالك هذا لكن يروونها بأن محمد بن عوف رآها في أصل إسماعيل، أي كتابه وقد وقع ذلك مصرحًا في إسناد هذا الحديث وأما أبوه إسماعيل الحمصي فقال الحافظ: هو صدوق في روايته عن أهل بلده مخلط في غيرهم. قلت وروي هذا الحديث عن ضمضم بن زرعة الحمصي فالحديث لا ينزل عن درجة الحسن. 2469- قوله (كان إذا رفأ الإنسان) بفتح الراء وتشديد الفاء بعدها همزة وقد تقلب ألفًا أي أراد الدعاء للمتزوج من الترفئة بهمز بمعنى التهنئة وإذا شرطية وقوله (إذا تزوج) ظرفيه محضة، وقوله ((قال بارك الله)) جزاء الشرط، أي إذا هنأه ودعا له حين تزوجه قال بارك الله إلخ. بدل قولهم في تهنئة المتزوج والدعاء له ((بالرفاء والبنين)) وكانت كلمة تقولها أهل الجاهلية فورد النهي عنها كما روى بقي بن مخلد من طريق غالب عن الحسن عن رجل من بني تميم قال: كنا نقول في الجاهلية ((بالرفاء والبنين)) فلما جاء الإسلام علمنا نبينا قال: قولوا ((بارك الله لكم وبارك فيكم وبارك عليكم)) وأخرجه النسائي والطبراني، وابن السني من طريق أخرى عن الحسن عن عقيل بن أبي طالب أنه قدم البصرة فتزوج امرأة فقالوا له ((بالرفاء والبنين)) فقال: لا تقولوا هكذا وقولوا كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم بارك لهم وبارك عليهم)) ورجاله ثقات إلا أن الحسن لم يسمع من عقيل فيما يقال. قاله الحافظ في الفتح. قال الزمخشري: معنى الحديث أنه كان يضع الدعاء له بالبركة موضع الترفئة المنهي عنها. والترفئة في الأصل أن يقول للمتزوج: ((بالرفاء والبنين)) والرفاء بكسر الراء والمد الالتئام والاجتماع والتوافق من ((رفأت الثوب)) إذا أصلحته ولأمت خرقه وضممت بعضه إلى بعض، أو السكون والطمأنينة من رفوت الرجل إذا سكنته من الرعب والروع وعلى هذا يكون همزتها غير أصلية والباء متعلقة بمحذوف دل عليه المعنى، أي عرست، ثم استعير للدعاء للمتزوج وإن لم يكن بهذا اللفظ. قال الحافظ: دل حديث أبي هريرة على أن اللفظ كان مشهورًا عندهم غالبًا حتى سمي كل دعاء للمتزوج ترفية واختلف في علة النهي عن ذلك فقيل لأنه لا حمد فيه ولا

قَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَك وَبَارَكَ عَلَيْكُما وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فِي خَيْرٍ. رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود، وابن ماجة. 2470- (32) وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: إِذَا تَزَوَّجَ أَحَدُكُمْ امْرَأَةً أَوْ اشْتَرَى خَادِمًا فَلْيَقُلْ ـــــــــــــــــــــــــــــ ثناء ولا ذكر الله. وقيل: لما فيه من الإشارة إلى بغض البنات لتخصيص البنين بالذكر وقيل غير ذلك. (بارك الله لك) قال القاري: أي بالخصوص أي كثر لك الخير في هذا الأمر المحتاج إلى الإمداد، والبركة النماء والزيادة والسعادة (وبارك عليكما) بنزول الخير والرحمة والرزق والبركة في الذرية (وجمع بينكما في خير) ، أي في طاعة وصحة وعافية وسلامة وملاءمة وحسن معاشرة وتكثير ذرية صالحة. قيل: قال أولاً بارك الله لك لأنه المدعو له أصالة، أي بارك لك في هذا الأمر ثم ترقى منه ودعا لهما وعداه بعلى بمعنى بارك عليه بالذراري والنسل لأنه المطلوب من التزوج وأخر حسن المعاشرة والمرافقة والاستمتاع تنبيهًا على أن المطلوب الأول هو النسل وهذا تابع، وكذا في المرقاة. قلت: قوله ((وبارك عليكما)) كذا وقع في جميع النسخ من المشكاة، والذي في الترمذي وأبي داود، ((وبارك عليك)) وهكذا وقع عند ابن حبان، وابن السني، والحاكم، وكذا ذكر في المصابيح والأذكار، والمنتقى، وجامع الأصول الصغير، والحصن، وتحفة الذكرين، وفي ابن ماجة ((بارك الله لكم وبارك عليكم وجمع بينكما في خير)) . قال السندي: البركة لكونها نافعة تتعدى باللام ولكونها نازلة من السماء تتعدي بعلى فجاءت في الحديث بالوجهين للتأكيد والتفنن والدعاء محل للتأكيد - انتهى. وروى الشيخان عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعبد الرحمن بن عوف حين أخبره أنه تزوج ((بارك الله لك)) وروي في الصحيح أيضًا أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لجابر حين أخبره أنه تزوج ((بارك الله لك)) والأحاديث في ذلك معروفة وهي تدل على أن الدعاء للمتزوج بالبركة هو المشروع ولا شك أنها لفظة جامعة يدخل فيها كل مقصود من ولد وغيره (رواه أحمد) (ج: ص) (والترمذي، وأبو داود، وابن ماجة) في النكاح وأخرجه أيضًا النسائي في الكبرى، وابن حبان، والحاكم (ج2: ص183) وابن السني (ص194) . قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وسكت عنه أبو داود، ونقل المندري كلام الترمذي وأقره. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. وأقره الذهبي. وقال النووي في الأذكار: وقد عزاه للأربعة: أسانيده صحيحة. 2470- قوله (إذا تزوج أحدكم امرأة أو اشترى خادمًا) ، أي جارية كما في رواية الحاكم وكأنه ترك حال العبد مقايسة، وقيل هو على إطلاقه فيكون تأنيث الضمير فيما سيأتي باعتبار النفس أو النسمة، وزاد في رواية ابن ماجة، وابن السني، والحاكم: ((أو دابة)) (فليقل) وفي رواية الثلاثة المذكورين: ((فليأخذ بناصيتها)) وهي الشعر الكائن في مقدم الرأس كما في الصحاح والظاهر أن المراد هنا مقدم الرأس سواء كان فيه شعر أم لا. قال القاري: ويمكن أن يراد بها

اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيْهِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَمِنْ شَرِّ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيْهِ. وَإِذَا اشْتَرَى بَعِيرًا فَلْيَأْخُذْ بِذِرْوَةِ سَنَامِهِ وَلْيَقُلْ مِثْلَ ذَلِكَ. وفي رواية: فِي الْمَرْأَةِ وَالْخَادِمِ: ((ثُمَّ لِيَأْخُذْ بِنَاصِيَتِهَا وَلْيَدْعُ بِالْبَرَكَةِ)) . رواه أَبُو دَاوُد، وابن ماجة. 2471- (33) وعن أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ: اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلَا تَكِلْنِي ـــــــــــــــــــــــــــــ مطلق الرأس، ثم ليقل (اللهم إني أسالك خيرها) كذا في رواية أبي داود والحاكم، وابن السني أي خير ذاتها ولابن ماجة، وأبي يعلى من خيرها وهو الملائم لما سيأتي من مقابله في قوله: من شرها لكن يفيد التبعيض والمطلوب كل خيرها (وخير ما جبلتها) ، أي خلقتها وطبعتها (عليه) ، أي من الأخلاق البهية والصفات الحميدة، قيل: الأول عام والثاني خاص. وقال الشوكاني: أي ما خلقتها عليه وطبعتها عليه وحببته إليها (وشر ما جبلتها عليه) من الأفعال المردية والأوصاف القبيحة والأخلاق الذميمة (وإذا اشترى بعير فليأخذ بذروة سنامه) بكسر الذال المعجمة، أي بأعلاه، وقيل: إنه يجوز في الذال المحركات الثلاث، وذروة الشيء أعلاه والسنام بفتح السين ما ارتفع من ظهر الجمل (وليقل مثل ذلك) ، أي مثل ما ذكر من الدعاء (وفي رواية في المرأة والخادم) وكذلك في الدابة كما تقدم (ثم ليأخذ بناصيتها وليدع بالبركة) ، أي بالدعاء المذكور السابق. قال أبو داود بعد قوله ((بذروة سنامه)) : زاد أبو سعيد يعني سعيد بن عبد الله أحد شيخيه في رواية هذا الحديث ((ثم ليأخذ بناصيتها وليدع بالبركة في المرأة والخادم)) . وفي الحديث مشروعية هذا الدعاء عند التزوج واشتراء الخادم والدابة (رواه أبو داود، وابن ماجة) في النكاح لكن الشرطية الثانية لأبي داود فقط. والحديث رواه أيضًا بتمامه النسائي في الكبرى، والحاكم (ج2: ص185) ، وابن السني (ص193) ، وأبو يعلى، والبيهقي (ج7: ص148) والبخاري في أفعال العباد (ص27) وسكت عنه أبو داود. وصححه الحاكم. ووافقه الذهبي وصححه أيضًا النووي في الأذكار وجود الحافظ العراقي إسناده في تخريج أحاديث الإحياء، وفي الباب عن زيد بن أسلم مرسلاً مرفوعًا أخرجه مالك في الموطأ. 2471- قوله (وعن أبي بكرة) بفتح الباء وسكون الكاف آخره تاء (دعوات المكروب) أي الواقع في الكرب يعني المغموم المحزون، والكرب ما يدهم المرأ مما يأخذ بنفسه وبغمه ويحزنه، أي الدعوات النافعة له المزيلة لكربه وسماه دعوات لاشتماله على معان جمة، قال في اللمعات جمعها لاشتمال المذكور على معان جمة ودعوات متعددة، لأن قوله: ((رحمتك أرجو)) بمعنى ارحمني، ففيه دعوات مع أن قوله: ((وأصلح لي شأن كله)) يشتمل على ما لا يعد ولا يحصى - انتهى. وفي رواية الطبراني، وابن السني كلمات المكروب ولابن حبان دعوة المكروب بلفظ الإفراد (اللهم رحمتك أرجو) التقديم للحصر، أي لا أرجو إلا رحمتك (فلا تكلني) بفتح التاء وكسر الكاف من باب ضرب، أي لا تتركني ولا

إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ. رواه أَبُو دَاوُد. 2472- (34) وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رجل: هُمُومٌ لَزِمَتْنِي وَدُيُونٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَفَلا أُعَلِّمُكَ ـــــــــــــــــــــــــــــ تفوضني، وأصله جعل الغير وكيلاً لإنجاح أموره (إلى نفسي) فإنها أعدى لي من جميع أعدائي وإنها عاجزة لا تقدر على قضاء حوائجي (طرفة عين) بفتح الطاء وسكون الراء أي مقدار إطباق أحد الجفنين على الآخر يعني لا تفوض أمري إلى نفسي لحظة قليلة قدر ما يتحرك البصر. قال الطيبي: الفاء في فلا تكلني مرتب على قوله: رحمتك أرجو. فقدم المفعول ليفيد الاختصاص والرحمة عامة فيلزم تفويض الأمور كلها إلى الله كأنه قيل فإذا فوضت أمري إليك فلا تكلني إلا نفسي لأني لا أدري ما صلاح أمري وما فساده وربما زاولت أمرًا واعتقدت أن فيه صلاح أمري فانقلب فسادًا وبالعكس، ولما فرغ عن خاصة نفسه وأراد أن ينفي تفويض أمره إلى الغير ويثبته لله قال (وأصلح لي شأني) أي أمري (كله) أي جميعه تأكيد لإفادة العموم. وقال الشوكاني: الشأن يطلق على الأمر والحال والخطب وجمعه شئون، والمراد هنا إصلاح حاله وما يحتاج إليه من أمره في حياته وبعد موته (لا إله إلا أنت) قال القاري: هذه فذلكة المقصود لأنها تفيد وحدة المعبود. وقال المناوي: ختمه بهذه الكلمة الحضورية الشهودية إشارة إلى أن الدعاء إنما ينفع المكروب ويزيل كربه إذا كان مع حضور وشهود ومن شهد بالتوحيد والجلال مع جمع الهمة وحضور البال فهو حري بزوال الكرب في الدنيا والرحمة ورفع الدرجات في العقبى (رواه أبو داود) في الأدب في حديث طويل تقدم أوله في الفصل الثالث من باب الدعاء في الصباح والمساء وأخرجه أيضًا أحمد (ج5: ص42) والنسائي في الكبرى والبخاري في الأدب المفرد وابن حبان في صحيحه وابن السني (ص111) وابن أبي شيبة، والطبراني إلا أنه انتهت روايته إلى قوله كله وسكت عنه أبو داود. وقال الهيثمي (ج10: ص137) : رواه الطبراني وإسناده حسن. قلت: في سنده عندهم جعفر بن ميمون وتقدم الكلام فيه في شرح حديث أبي بكرة السابق. 2472- قوله (هموم) جمع الهم (وديون) عطف على هموم أي وديون لزمتني. قال الطيبي. هموم لزمتني مبتدأ وخبر كما في قولهم ((شر أهر ذا ناب)) أي همومه عظيمة لا يقادر قدرها وديون جمة نهضتني وأثقلتني - انتهى. قلت: الظاهر أن قوله: ((هموم)) إلخ. خبر مبتدأ محذوف يدل عليه أول الحديث وهو أن أبا سعيد قال دخل رسول الله ذات يوم في المسجد فإذا هو برجل من الأنصار يقال له: أبو أمامة فقال: يا أبا أمامة مالي أراك جالسًا في المسجد في غير وقت الصلاة، قال: هموم لزمتني وديون أي سبب جلوسي في المسجد في غير وقت الصلاة هموم وديون لزمتني فالتجأت إلى ربي في بيته فلزمتني صفة لهموم لا خبر له (أفلا أعلمك) عطف على محذوف أي ألا أرشدك فلا أعلمك ولا الثانية

كَلَامًا إِذَا قُلْتَهُ أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّكَ وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْبُخْلِ والْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ ـــــــــــــــــــــــــــــ مزيدة للتأكيد وقيل أصله فألا أعلمك ثم قدمت الهمزة لأن لها صدر الكلام وهو أظهر لبعده عن التكلف بل التعسف فإنه لا يبقى للفاء فائدة. كذا في المرقاة (كلامًا) أي دعاء (قال) أي الرجل المذكور وهو أبو أمامة (قلت بلى) هذا صريح في أن الحديث من رواية الرجل أي أبي أمامة وكذا قوله: ((قال: ففعلت ذلك فأذهب الله همي، وقضى عني ديني)) وظاهر سياقه في أوله كما تقدم أنه من حديث أبي سعيد. قال الطيبي: الظاهر أن يقال: قال: قال بلى أي بدل قوله: ((قال: قلت بلى)) لأن أبا سعيد لم يرو عن ذلك الرجل بل شاهد الحال كما دل عليه أول الكلام اللهم إلا أن يأول ويقال تقديره قال أبو سعيد قال لي رجل قلت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - هموم لزمتني (قل إذا أصبحت وإذا أمسيت) أي دخلت في الصباح والمساء (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن) بضم الحاء وإسكان الزاي وبفتحهما ضد السرور، وقيل: الهم والحزن بمعنى واحد، وقيل: الهم ما يتصور من المكروه الحالي والحزن لما في الماضي، وقيل: الهم فيما يتوقع أي في الخوف من أمرٍ في المستقبل والحزن فيما قد وقع وفات. أي بفوات أمر حصل في الماضي كموت ولد، أو الهم هو الحزن الذي يذيب الجسم، يقال: همني الأمر بمعنى أذابني وسمى به ما يعتري الإنسان من شدائد الغم لأنه يذيبه فهو أشد وأبلغ من الحزن الذي أصله الخشونة، وقال ميرك: الهم الكرب الذي ينشأ عند ذكر ما يتوقع حصوله مما يتأذى به والغم ما يحدث للقلب بسبب ما حصل والحزن ما يحصل لفقد ما يشق على المرأ فقده (وأعوذ بك من العجز) بفتح العين وسكون الجيم وهو ضد القدرة، وأصله التأخر عن الشيء مأخوذ من العجز وهو مؤخر الشيء وللزومه الضعف والقصور عن الإتيان بالشيء استعمل في مقابلة القدرة واشتهر فيها، والمراد هنا فقد القدرة على أداء الطاعة والعبادة ودفع الفساد وتحمل المصيبة والمحنة (والكسل) بفتحتين وهو التثاقل عن الشيء مع وجود القدرة والداعية إليه، وقيل: التواني عن الطاعة والتثاقل عن الأمر المحمود وعدم انبعاث النفس في الخير وقلة الرغبة فيه مع وجود القدرة عليه (وأعوذ بك من البخل والجبن) كذا في جميع النسخ من المشكاة وهكذا وقع في جامع الأصول والذي في سنن أبي داود ((من الجبن والبخل)) وهكذا في المصابيح والجامع الصغير والحصن، والجبن بضم الجيم وسكون الموحدة وبضمها. ضد الشجاعة وهو الخوف عند القتال ومنه عدم الجرأة عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقيل: هو ضعف القلب الناشئ عنه عدم الإقدام على المخاوف، والبخل بضم الباء وكجبل ونجم وعنق ضد الكرم (وأعوذ بك من غلبة الدين) أي استيلائه وكثرته وهي أن يفدحه الدين ويثقله وفي معناه ضلع الدين كما في رواية أي ثقله الذي يميل صاحبه عن الاستواء والضلع بالتحريك الاعوجاج والمراد به ها هنا ثقل الدين وذلك حيث لا يجد من عليه الدين وفاءه ولا يسامح الدائن مع المطالبة الشديدة

وَقَهْرِ الرِّجَالِ. قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَ اللَّهُ هَمِّي وَقَضَى عَنِّي دَيْنِي. رواه أبو داود. 2473- (35) وعَنْ عَلِيٍّ أَنَّه جَاءَهُ مكاتب فَقَالَ: إِنِّي عَجَزْتُ عَنْ كِتَابَتِي فَأَعِنِّي. قَالَ: أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ عَلَّمَنِيهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَوْ كَانَ عَلَيْكَ مِثْلُ جَبَلِ كبيرٍ دَيْنًا ـــــــــــــــــــــــــــــ (قهر الرجال) ، أي غلبتهم كما في رواية وهو شدة تسلطهم بغير حق تغلبًا وجدلاً، وقيل: الإضافة إلى الفاعل أو المفعول فكأنه إشارة إلى التعوذ من أن يكون مظلومًا أو ظالمًا وفيه إيماء إلى العوذ من الجاه المفرط والذل المهين، وقيل غير ذلك. ويأتي مزيد الكلام في معاني القرائن المذكورة في شرح حديث أنس ثاني أحاديث باب الاستعاذة (قال) : أي الرجل وهو أبو أمامة (ففعلت ذلك) ، أي ما ذكر من الدعاء عند الصباح والمساء (فأذهب الله) ببركة هذا الدعاء (همي) ، أي وحزني (رواه أبو داود في آخر الصلاة وسكت عنه. وقال المنذري: في إسناده غسان بن عوف وهو بصري وقد ضعف - انتهى. وفي تهذيب الحافظ قال الآجري: سألت أبا داود عن غسان بن عوف الذي يحدث عنه الجريري بحديث الدعاء يعني حديث أبي سعيد هذا فقال شيخ بصري، وهذا حديث غريب، قلت (قائله الحافظ) : ضعفه الساجي والأزدي، وقال العقيلي: لا يتابع على كثير من حديثه - انتهى. وقال في التقريب عنه: لين الحديث. 2473- قوله: (جاءه مكاتب) ، أي لغيره، والمكاتب بفتح التاء عبد علق سيده عتقه على إعطاءه كذا من المال (إني عجزت عن كتابتي) بكسر الكاف، أي عند بدلها وهو المال الذي كاتب به العبد سيده يعني بلغ وقت أداء مال الكتابة وليس لي مال، واختلف في تعريف الكتابة فقيل: هي تعليق عتق بصفة على معاوضة مخصوصة. وقال ابن قدامة: الكتابة إعتاق السيد عبده على مال في ذمته يؤدي مؤجلاً، وقيل: هي عتق على مال مؤجل من العبد موقوف على أدائه، وقيل: هي تحرير المملوك يدًا (أي: تصرفًا في البيع والشراء ونحوهما) ورقبة مالاً (أي: عند أداء البدل) (فأعني) أي: بالمال أو بالدعاء بسعة المال (قال: ألا أعلمك كلمات علمنيهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال الطيبي: طلب المكاتب المال فعلمه الدعاء إما لأنه لم يكن عنده من المال ليعينه فرده أحسن رد عملاً بقوله تعالى: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ} (2: 263) أو أرشده إشارة إلى أن الأولى والأصلح له أن يستعين بالله لأدائها ولا يتكل على الغير وينصر هذا الوجه قوله: ((وأغنني بفضلك عمن سواك)) (لو كان عليك مثل جبل كبير دينًا) بفتح الدال والنصب على التمييز. قال الطيبي: قوله: ((دينًا)) يحتمل أن يكون تمييزًا عن اسم كان الذي هو ((مثل)) لما فيه من الإبهام، و ((عليك)) خبره مقدمًا عليه، وأن يكون ((دينًا)) خبر كان و ((عليك)) حالاً من المستتر في الخبر والعامل هو الفعل المقدر في الخبر ومن جوز إعمال كان في الحال فظاهر على مذهبه - انتهى. وقوله ((مثل جبل كبير)) كذا في نسخ المشكاة تبعًا للمصابيح، والذي في جامع الترمذي ((مثل جبل صير ((بكسر الصاد المهملة بعدها ياء تحتية ساكنة ثم راء وهو جبل ببلاد طئ، وهكذا وقع في زيادات المسند لعبد الله

(الفصل الثالث)

أَدَّاهُ اللَّهُ عَنْكَ. قُلْ: اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِحَلَالِكَ عَنْ حَرَامِكَ وَأَغْنِنِي بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ. رواه الترمذي، والبيهقي في الدعوات الكبير، وسنذكر حديث جابر: ((إذا سمعتم نباح الكلاب)) في باب ((تغطية الأواني)) إن شاء الله تعالى. (الفصل الثالث) 2474- (36) وعَنْ عَائِشَةَ قالت: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا جَلَسَ مَجْلِسًا أَوْ صَلَّى تَكَلَّمَ بِكَلِمَاتٍ فَسَأَلتُهُ عَنْ الْكَلِمَاتِ فَقَالَ: إِنْ تَكَلَّمَ بِخَيْرٍ ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن أحمد ووقع في جامع الأصول ((صبير)) بفتح الصاد وكسر الباء الموحدة وسكون التحتية وكذا في رواية الحاكم (ج1: ص538) قال الجزري في جامع الأصول (ج5: ص222) : صبير جبل باليمن، وقال بعضهم الذي جاء في حديث علي مثل جبل صير بإسقاط الباء الموحدة وهو جبل بطئي وجبل على الساحل بين عمان وسيراف. قال: فأما صبير فإنما جاء في حديث معاذ - انتهى. (أداه الله عنك) ، أي أعانك على أدائه إلى مستحقه وأنقذك من مذلته (قل) في الترمذي ((قال: قل)) (اللهم اكفني) بهمزة وصل وكسر الفاء من كفي كفاية تثبت الهمزة في الابتداء مكسورة وتسقط في الدرج (بحلالك عن حرامك) ، أي متجاوزًا ومستغنيًا عنه يعني قني واحفظني بالحلال عن الوقوع في الحرام (وأغنني) بهمزة قطع من الإغناء (بفضلك عمن سواك) من الخلق فمن قاله بصدق نية وجد أثر الإجابة (رواه الترمذي) في الدعوات (والبيهقي في الدعوات الكبير) وأخرجه أيضًا عبد الله بن أحمد في زيادات المسند (ج1: ص153) والحاكم (ج1: ص538) قال الترمذي: حديث حسن غريب، وقال الحاكم صحيح وأقره الذهبي. قلت: في سنده عندهم عبد الرحمن بن إسحاق القرشي الواسطي أبو شيبة الكوفي وهو ضعيف، ففي تحسين الترمذي وتصحيح الحاكم والذهبي نظر. قال الشيخ أحمد شاكر في شرح المسند (ج2: ص332) : إسناده ضعيف لضعف عبد الرحمن بن إسحاق. قوله (وسنذكر حديث جابر: إذا سمعتم نباح الكلاب) بضم النون بعدها موحدة، أي صياحها، وتمامه على ما في المصابيح ((ونهيق الحمار بالليل فتعوذوا بالله من الشيطان فإنهن، أي الكلاب والحمير يرين ما لا ترون)) (في باب تغطية الأواني) لأنه أنسب لذلك الباب من هذا الباب بالنسبة إلى تتمته على ما ذكرها المصنف هناك وهي ((وأقلوا الخروج إذا هدأت الأرجل فإن الله عز وجل يبث من خلقه في ليلته ما يشاء، وأجيفوا الأبواب واذكروا اسم الله عليه فإن الشيطان لا يفتح بابًا إذا أجيف وذكر اسم الله عليه وغطوا الجرار وأكفئوا الآنية وأوكوا القرب)) . 2474- قوله (كان إذا جلس مجلسًا أو صلى) ، أي صلاة (تكلم بكلمات) ، أي عند انصرافه منها أو عند قيامه عنه (فسألته عن الكلمات) ، أي عن فائدتها (إن تكلم بخير) بصيغة المجهول فنائبه الجار وفي نسخة على بناء المعلوم، أي إن

كَانَ طَابِعًا عَلَيْهِنَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِنْ تَكَلَّمَ بِشَرٍّ كَانَ كَفَّارَةً لَهُ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ لَا إِلَه إِلَا أَنْت أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ. رواه النسائي. 2475- (37) وعن قَتَادَة بَلَغَهُ أَنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَأَى الْهِلَالَ قَالَ: ـــــــــــــــــــــــــــــ تكلم متكلم بخير، أي طاعة قبل تلك الكلمات المسئول عنها ثم ذكر تلك الكلمات عقبه (كان) ، أي الذكر الآتي وهو تلك الكلمات وقيل، أي تلك الكلمات وتذكير الضمير باعتبار الكلام (طابعًا) ، بفتح الموحدة وتكسر أي خاتمًا (عليهن) ، أي على كلمات الخير، وقال السندي: أي على تلك الكلمات التي هي خير، إذ الغالب أن الخير يكون كلمات متعددة فلذلك جمع الضمير وفيه ترغيب إلى تكثير الخير وتقليل الشر حيث اختير في جانبه الإفراد وإشارة إلى أن جميع الخيرات تثبت بهذا الذكر إذا كان هذا الذكر عقبها ولا تختص هذه الفائدة بالخير المتصل بهذا الذكر فقط. والمراد أنه يكون مثبتًا لذلك الخير رافعًا إلى درجة القبول آمنًا له عن حضيض الرد - انتهى. (وإن تكلم) بالوجهين (بشر) ، أي بإثم (كان كفارة له) ، أي لما تكلم به من الشر، أي مغفرة للذنب الحاصل فيستحب للإنسان ختم المجلس به، أي مجلس كان (سبحانك اللهم) إلخ، تفسير لقوله: بكلمات، أي تكلم بكلمات سبحانك اللهم إلخ. فسألته عن فائدتها، وفي الكلام تقديم وتأخير وضمير كان في الموضعين راجع إلى قوله: سبحانك في المعنى كما لا يخفى. وقال الطيبي: قوله عن الكلمات التعريف للعهد والمعهود قوله كلمات وهو يحتمل وجهين إما أن لا يضمر شيء فيكون الكلمات الجملتين الشرطيتين واسم كان فيهما مبهم تفسيره قوله سبحانك اللهم، وإما أن يقدر فما فائدة الكلمات؟ فعلى هذا الكلمات هي قوله سبحانك اللهم والمضمر في كان راجع إليه ففي الكلام تقديم وتأخير وهذا الوجه أحسن بحسب المعنى وإن كان اللفظ يساعد الأول، كذا في المرقاة. وقال في اللمعات: لا شك أن الكلمات هي سبحانك اللهم إلخ، فالسؤال يكون عنها والجواب بها، لكنه - صلى الله عليه وسلم - بين قبلها فضيلتها بقوله ((إن تكلم)) بصيغة المجهول الماضي أي وقع التكلم، أو بفتحات أي تكلم متكلم أو رجل ((بخير)) في المجلس، والضمير في ((كان)) راجع إلى قوله ((سبحانك اللهم)) إلخ لكونه فاعلاً أو مسندًا إلى ظاهره فهو اسم ((كان)) و ((طابعًا)) بفتح الباء بمعنى الخاتم خبر مقدم والضمير في ((عليهن)) راجع إلى الكلمات المفهومة من تكلم رعاية للمعنى، وفي قوله ((كان كفارة له)) إلى الشر لرعاية اللفظ فافهم. هذا ما سنح لي في توجيه الكلام انتهى. (رواه النسائي) في الصلاة وإسناده صحيح أو حسن. وذكره المنذري في باب الترغيب في كلمات يكفرن لغط المجلس بلفظ المشكاة وصدره بلفظة ((عن)) فلا أقل من أن يكون عنده حسنًا أو قريبًا من الحسن. وقال: رواه ابن أبي الدنيا والنسائي واللفظ لهما والحاكم والبيهقي وفي الباب عن جبير بن مطعم، ورافع بن خديج، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي برزة الأسلمي ذكرها المنذري في الباب المذكور، والحاكم (ج1: ص536، 537) . 2475- قوله (وعن قتادة) هو قتادة بن دعامة السدوسي التابعي الجليل (بلغه) في سنن أبي داود ((أنه بلغه))

هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ آمَنْتُ بِالَّذِي خَلَقَكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. ثُمَّ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي ذَهَبَ بِشَهْرِ كَذَا وَجَاءَ بِشَهْرِ كَذَا. رواه أبو داود. 2476- (38) وَعَنِ ابنِ مَسْعُود أنَّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: مَنْ كَثُرَ هَمُّهُ فَلْيَقُلْ: اللهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وابْن عَبْدُكَ وابْن أَمَتُك ـــــــــــــــــــــــــــــ والحديث مرسل (هلال خير ورشد) بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هذا أو هو هلال خير تفاؤلاً فيكون ما بعده التفاتًا أو خبر معناه دعاء، وقيل الظاهر أنه منصوب بمقدر، أي اللهم اجعله لنا أو أهله علينا هلال خير، أي بركة، ورشد بضم الراء وسكون الشين ويجوز فتحهما أي هداية إلى القيام بعبادة الله تعالى فإنه ميقات الحج والصوم وغيرهما. قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ} (2: 189) الآية (هلال خير ورشد، هلال خير ورشد) قال القاري: كرره ثلاثًا لأنه خبر بمعنى الدعاء ويصح بقاؤه على الخبرية تفاؤلاً بأن يكون الشهر عليه كذلك (آمنت بالذي خلقك) فيه رد على من عبد القمر (ثلاث مرات) ظرف لقال، وقيل أي يكرر ذلك ثلاثًا (الحمد لله الذي ذهب بشهر كذا) ، أي بجمادى الأخرى مثلا أي بالخير والسلامة (وجاء بشهر كذا) ، أي بجمادي الآخر، مثلاً أي بالخير والسلامة (وجاء بشهر كذا) أي برجب مثلاً، أي أبقى وفسح في العمر وكلاهما نعمة، أو المراد ثناءه تعالى على هذه القدرة الكاملة وإيجاد الحالة العجيبة. قال الطيبي: إما أن يراد بالحمد الثناء على قدرته بأن مثل هذا الإذهاب العجيب وهذا المجيء الغريب لا يقدر عليه إلا الله أو يراد به الشكر على ما أولى العباد بسبب الانتقال من النعم الدينية والدنيوية ما لا يحصى وينصر هذا التأويل قوله ((هلال خير)) (رواه أبو داود) في الأدب ورجاله ثقات لكنه مرسل، ورواه أيضًا البغوي في شرح السنة (ج5: ص129) عن قتادة قال كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى الهلال كبر ثلاثًا وهلل ثلاثًا ثم قال: هلال خير ورشد. ثلاثًا. ثم قال: آمنت إلخ. قال البغوي: هذا حديث منقطع. قال في مرقاة الصعود: وصله ابن السني والطبراني في الدعاء من طريق محمد بن عبيد الله الفزاري عن قتادة عن أنس وزاد الطبراني بعد قوله خلقك ((فعدلك وجعلك آية للعالمين)) انتهى. قلت: روى ابن السني (ص207) حديث أنس من طريق عمر بن أبي سلمة عن زهير بن محمد عن يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن حرملة عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا نظر إلى الهلال قال: اللهم اجعله هلال يمن ورشد، وآمنت بالذي خلقك فعدلك فتبارك الله أحسن الخالقين. وروي أيضًا من طريق الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رأى الهلال قال: هلال خير ورشد ثلاث مرات، آمنت بالذي خلقك ثلاث مرات. ثم يقول: الحمد لله الذي جاء بالشهر وذهب بالشهر. 2476- قوله (من كثر) بضم الثاء المثلثة (همه فليقل اللهم) وفي رواية أحمد (ج1: ص193) ((ما أصاب أحدًا قط هم ولا حزن فقال اللهم)) (إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك) بفتح الهمزة والميم المخففة، أي ابن جاريتك وهو

وفي قَبْضَتك، نَاصِيتِي بِيَدِكَ، مَاضِ في حُكْمُك عَدْلٌ في قَضَاؤُك، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَك سَميت بِهِ نَفْسَكَ أَوْ أَنَزَلْتَه في كِتَابِك أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ في مَكْنُونِ الغَيْبِ عِنْدِكَ أَنْ تَجْعَلَ القُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، ـــــــــــــــــــــــــــــ اعتراف بالعبودية (وفي قبضتك) بفتح القاف المرة من القبض، أي في تصرفك وتحت قضائك وقدرك ولا حركة لي ولا سكون إلا بأقدارك وهو إقرار بالربوبية ولم يقع هذا اللفظ فيما رأيت إلا لابن السني (ناصيتي بيدك) ، أي لا حول ولا قوة إلا بك، كناية عن كمال قدرته وإشارة إلى إحاطته على وقف إرادته وهو مقتبس من قوله تعالى: {مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} (11: 56) (ماض) ، أي ثابت ونافذ (في) بتشديد الياء، أي في حقي (حكمك) قال القاري في شرح الحصن: إيماء إلى أنه لا مانع لفعله ولا راد لحكمه أو المعنى سابق في شأن حكمك الأزلي ولا تبديل ولا تحويل لأمرك. وقال في المرقاة: حكمك، أي الأمري أو الكوني كإهلاك وإحياء ومنع وعطاء (عدل في قضاءك) ، أي ما قدرته عليّ لأنك تصرفت في ملكك على وفق حكمتك (أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك) ، أي ذاتك وهو مجمل وما بعده تفصيل له على سبيل التنويع الخاص أعني قوله (أو أنزلته في كتابك) ، أي في جنس الكتب المنزلة (أو علمته أحدًا من خلقك) ، أي من خلاصتهم وهم الأنبياء والرسل وهذا ساقط من بعض نسخ المشكاة، وليس أيضًا في جامع الأصول والصحيح وجوده، ويشهد له رواية أحمد، وابن حبان، والحاكم وابن السني (أو استأثر به) ، أي اخترته وتفردت به (في مكنون الغيب) ، أي مستوره، وفي رواية أحمد، وابن حبان، والحاكم، وابن السني، ((في علم الغيب)) (عندك) ، أي فلم تلهمه أحدًا ولم تنزله في كتاب. قال الجزري: الاستئثار بالشيء التخصص به والإنفراد أي انفردت بعلمه عندك لا يعلمه إلا أنت، وفيه دليل على أن لله سبحانه وتعالى أسماء غير التسعة والتسعين الاسم المتقدم ذكرها، وفيه التوسل بأسماء الله تعالى التي سمَّا بها نفسه ما علم العباد منها وما لم يعلموا، ومنها ما استأثر به في علم الغيب عنده فلم يطلع عليه ملكًا مقربًا ولا نبيًا مرسلاً وهذه الوسيلة أعظم الوسائل وأحبها إلى الله وأقربها تحصيلاً للمطلوب (أن تجعل القرآن) مفعول أسألك (ربيع قلبي) شبه القرآن بزمان الربيع في ظهور آثار رحمه الله وحياة القلب وارتياحه به. قال الشوكاني: أي أسألك أن تجعل القرآن كالربيع الذي يرتع فيه الحيوان، وكذلك القرآن ربيع القلوب، أي يجعل قلبه مرتاحًا إلى القرآن مائلاً إليه راغبًا في تلاوته وتدبره، وقيل أي منتزهه ومكان رعيه وانتفاعه بأنواره وأشجاره وثماره المشبه بها أنواع العلوم والمعارف وأصناف الحكم والأحكام واللطائف. قال الطيبي: هذا هو المطلوب والسابق وسائل إليه، فأظهر أولاً غاية ذلته وصغاره ونهاية عجزه وافتقاره، وثانيًا بين عظمة شأنه وجلالة اسمه سبحانه بحيث لم يبق فيه بقية، وألطف في المطلوب حيث جعل المطلوب وسيلة إلى إزالة الهم المطلوب أولاً، وجعل القرآن ربيع القلب وهو عبارة عن الفرح،

وَجَلاَءَ هَمِي وَغَمِي. مَا قَالَهَا عَبْدٌ قَط إِلا أَذْهَبَ الله غَمَّهُ وَأَبْدَلَهُ بِهِ فَرِجًا. رَوَاهُ رُزَيْن. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأن الإنسان يرتاح قلبه في الربيع من الأزمان ويميل إليه في كل مكان، وأقول كما أن الربيع سبب ظهور آثار رحمة الله تعالى وإحياء الأرض بعد موتها، كذلك القرآن سبب ظهور تأثير لطف الله من الإيمان والمعارف وزوال ظلمات الكفر والجهل والهم، كذا في المرقاة. وزاد في رواية أحمد ((نور صدري)) وكذا في حديث أبي موسى الأشعري عند الطبراني، وابن السني، أي يشرق في قلبي نوره فأميز به الحق من غيره. ووقع في رواية ابن حبان، وابن السني من حديث ابن مسعود ((نور بصري)) قال الشوكاني: سأله أن يجعل القرآن منور البصيرة، والنور مادة الحياة وبه يتم معاش العباد. وقال القاري في شرح الحصن قوله ((ونور بصري)) ، أي تلوته إذا تلوته عينًا كما أنه ربيع قلبي إذا تلوته غيبًا (وجلاء همي وغمي) بكسر الجيم، أي إزالتهما وكشفهما من جلوت السيف جلاء بالكسر أي صقلته، وفي رواية أحمد، وابن حبان، والحاكم، وابن السني: ((وجلاء حزني وذهاب همي)) سأله أن يجعل القرآن شفاء همه وغمه ليكون بمنزلة الدواء الذي يستأصل الداء ويعيد البدن إلى صحته واعتداله وأن يجعله لحزنه كالجلاء الذي يجلو الطبوع والأصدية (ما قالها) ، أي الكلمات المذكور (عبد قط إلا أذهب الله غمه وأبدله به فرجًا) بفتحتين وبالجيم وهو كشف الغم وفي بعض النسخ فرحًا بالحاء المهملة وهكذا في جامع الأصول، وفي رواية الأربعة المذكورين ((إلا أذهب الله همه وأبدل مكان حزنه فرحًا، قالوا: يا رسول الله ينبغي لنا أن نتعلم هؤلاء الكلمات قال أجل ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن)) وفي الحديث الحث على تعلم هذا الدعاء والعمل به وقت الحزن والهم والغم وأن من فعل ذلك أذهب الله عنه ما يجد وأبدله مكان الهم والغم فرحًا، هذا وقد بسط ابن القيم في شرح هذا الحديث وبيان ما يدل عليه الدعاء المذكور فيه من الفوائد والقواعد في شفاء العليل (ص274 - 278) فليرجع إليه من شاء (رواه رزين) ذكره رزين في تجريده ولا يوجد في أصوله، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10: ص136) وقال رواه أحمد (ج1: ص391، 452) وأبو يعلى، والبزار، والطبراني. ورجال أحمد وأبي يعلي رجال الصحيح غير أبي سلمة الجهني وقد وثقه ابن حبان - انتهى. قلت: وأخرجه أيضًا الحاكم (ج1: ص509) ، وابن السني (ص110) ، وابن حبان كما في موارد الظمآن (ص589) ، وابن أبي شيبة كما في الحصن رواه كلهم غير ابن السني من رواية أبي سلمة الجهني عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه عن عبد الله ورواه ابن السني من طريق عبد الرحمن بن إسحاق عن القاسم بن عبد الرحمن عن عبد الله بن مسعود. قال الحاكم: حديث صحيح على شرط مسلم إن سلم من إرسال عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه فإنه مختلف في سماعه من أبيه. وتعقبه الذهبي فقال: أبو سلمة لا يدري من هو ولا رواية له في الكتب الستة - انتهى. وقال الشيخ أحمد شاكر في شرحه للمسند: إسناده صحيح ثم نقل تخريجه عن الهيثمي وكلامه المتقدم ثم ذكر تصحيح الحاكم وتعقب الذهبي عليه. ثم قال: أبو سلمة الجهني ترجمه الحافظ في التعجيل (ص490، 491) ونقل عن الحسيني أنه قال ((مجهول)) وكلام الذهبي أنه لا يدري من هو، ثم قال: وقد ذكره ابن حبان في الثقات وأخرج حديثه في صحيحه وقرأت بخط الحافظ ابن عبد الهادي ((يحتمل أن يكون خالد بن

2477- (39) عَنْ جَابِرِ قَالَ: كُنَّا إِذَا صَعِدْنَا كَبَّرْنَا وَإِذَا نَزَلْنَا سَبَّحْنَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ سلمة)) قلت: وهو بعيد لأن خالدًا مخزومي وهذا جهني - انتهى. وترجمه أيضًا في لسان الميزان (6، 387) بنحو هذا ثم قال: والحق أنه مجهول الحال وابن حبان يذكر أمثاله في الثقات ويحتج به في الصحيح إذا كان ما رواه ليس بمنكر - انتهى. وتعقبه الشيخ أحمد شاكر فقال: وهذه دعوى من الحافظ فكلهم يحتجون في توثيق الراوي بذكر ابن حبان إياه في الثقات إذا لم يكن مجروحًا بشيء ثابت. وفضلاً عن هذا فإن البخاري ترجمه في الكنى برقم (341) فلم يذكر فيه جرحًا وهذا مع ذاك يرفعان جهالة حاله ويكفيان في الحكم بتوثيقه وأما ظن ابن عبد الهادي أنه خالد بن سلمة فإنه بعيد كما قال الحافظ وأقرب منه عندي أن يكون موسى بن عبد الله أو ابن عبد الرحمن الجهني ويكنى أبا سلمة فإنه من هذه الطبقة وقد سبق توثيقه. قلت: وفي تعقبه على الحافظ عندي نظر فتأمل. ثم قال الشيخ أحمد شاكر وهنا بهامش ك (أي النسخة الكتانية المغربية للمسند) ((قال الحافظ المنذري بعد الإتيان بحديث ابن مسعود هذا وذكر تخريجه وذكر كلام الحاكم ((لم يسلم، أي الحديث من الإرسال)) أقول: هذا ادعاء من الحافظ المنذري فإنه سلم منه لما رجحنا في (3690) أن عبد الرحمن سمع من أبيه)) - انتهى. وقال هناك (ج5: ص255) في سماع عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه كلام والراجح عندي أنه سمع منه، وهو الذي رجحه البخاري في التاريخ الصغير (40) فإنه روى عن ابن خثيم المكي قصة بإسناده قال فيها عبد الرحمن ((وأنا مع أبي)) ثم قال البخاري قال شعبة: لم يسمع عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود من أبيه، وحديث ابن خثيم أولى عندي - انتهى. 2477- قوله: (كنا) أي: في سفرنا (إذا صعدنا) بكسر العين أي: طلعنا مكانًا عاليًا وعلونا موضعًا مرتفعًا مثل جبل وتل (كبرنا) أي: قلنا الله أكبر إظهارًا لكبريائه تعالى وعلو مكانه وارتفاع شأنه (وإذا نزلنا) أي: هبطنا منزلاً واطئًا وموضعًا منخفضًا نحو الوادي وفي رواية ((تصوبنا)) بدل ((نزلنا)) والتصوب النزول والانحدار وقد ورد بلفظ هبطنا عند النسائي (سبحنا) أي: قلنا: سبحان الله. ومناسبة التكبير عند الصعود إلى المكان المرتفع أن الاستعلاء والارتفاع محبوب للنفوس لما فيه من استشعار الكبرياء فشرع لمن تلبس به أن يذكر كبرياء الله تعالى وأنه أكبر من كل شيء ليشكر له ذلك فيزيده من فضله، ومناسبة التسبيح عند الهبوط لكون المكان المنخفض محل ضيق، فيشرع فيه التسبيح لأنه من أسباب الفرج كما وقع في قصة يونس عليه السلام حين سبح في الظلمات فنجى من الغم. قال المهلب: تكبيره - صلى الله عليه وسلم - عند الارتفاع والإشراف على المواضع العالية استشعار لكبرياء الله عز وجل عند ما يقع عليه العين من عظيم خلقه أنه أكبر من كل شيء وأما تسبيحه في بطون الأودية فهو مستنبط من قصة يونس عليه الصلاة والسلام قال الله تعالى: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (37: 143، 144) فنجاه الله تعالى بتسبيحه في بطن الحوت من الظلمات فامتثل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا التسبيح في بطون الأودية لينجيه الله منها ومن أن يدركه العدو، وقيل: مناسبة التسبيح في الأماكن المنخفضة من

رواه البخاري. 2478- (40) عَنْ أَنَسِ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا كَرَبَهُ أَمْرٌ يَقُول: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ. رواه الترمذي. وقال: هذا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وليس بمحفوظ. ـــــــــــــــــــــــــــــ جهة أن التسبيح هو التنزيه فناسب تنزيه الله عن صفات الانخفاض كما ناسب تكبيره عند الأماكن المرتفعة (رواه البخاري) في الجهاد، وأخرجه النسائي في اليوم والليلة، والبغوي في شرح السنة (ج5: ص148) ، وروى أبو داود نحوه عن عبد الله بن عمر. 2478- قوله: (كان إذا كربه أمر) أي: أصابه كرب وشدة وقيل: أي: أشق عليه أمر وأهمه شأنه، وفي رواية ابن السني ((إذا حز به أمر)) وفي حديث ابن مسعود عند الحاكم إذا نزل به هم أو غم (يقول) في الترمذي ((قال)) وفي جامع الأصول ((يقول)) كما في المشكاة (يا حي) أي: الدائم البقاء (يا قيوم) أي: المبالغ في القيام بتدبير خلقه (برحمتك أستغيث) أي: أطلب الإغاثة وأسأل الاستعانة يقال: أغاثه الله أعانه ونصره وأغاثه الله برحمته كشف شدته. قال ابن القيم في الطب النبوي (ص159) : في تأثير قوله: ((يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث)) في دفع هذا الداء (أي الكرب والهم والغم)) مناسبة بديعة فإن صفة الحياة متضمنة لجميع صفات الكمال مستلزمة لها وصفة القيومية متضمنة لجميع صفات الأفعال، ولهذا كان اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى هو اسم الحي القيوم والحياة التامة تضاد جميع الأسقام والآلام، ولهذا لما كملت حياة أهل الجنة لم يلحقهم هم ولا غم ولا حزن ولا شيء من الآفات ونقصان الحياة يضر بالأفعال وينافي القيومية فكمال القيومية لكمال الحياة فالحي المطلق التام الحياة لا يفوته صفة الكمال البتة والقيوم لا يتعذر عليه فعل ممكن البتة. فالتوسل بصفة الحياة والقيومية له تأثير في إزالة ما يضاد الحياة ويضر بالأفعال والمقصود أن لاسم الحي القيوم تأثيرًا خاصًا في إجابة الدعوات وكشف الكربات (رواه الترمذي) في الدعوات وقال: هذا حديث غريب - انتهى. وأخرجه أيضًا ابن السني (ص109) كلاهما من طريق أبي بدر شجاع بن الوليد عن الرحيل بن معاوية عن يزيد بن أبان الرقاشي عن أنس. والرقاشي قال في التقريب: إنه زاهد ضعيف. وقال الساجي: كان يهم ولا يحفظ ويحمل حديثه لصدقه وصلاحه والظاهر أنه ضعف لأنه غفل عن حفظ الحديث شغلاً بالعبادة (هذا حديث غريب وليس بمحفوظ) قد وهم المصنف ها هنا فإن كلام الترمذي هذا إنما هو في حديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام)) . رواه من طريق مؤمل عن حماد بن سلمة عن حميد عن أنس به، ثم قال: هذا حديث غريب وليس بمحفوظ، وإنما يروى هذا عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن البصري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا أصح، والمؤمل غلط فيه. فقال: عن حميد عن أنس ولا يتابع فيه - انتهى. وقد تعقب الحافظ كلام الترمذي هذا في النكت الظراف على الأطراف (ج1: ص182) فارجع إليه، وفي الباب عن ابن مسعود أخرجه الحاكم (ج1: ص509) .

3 2479- (41) وعن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قال: قُلْنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ مِنْ شَيْءٍ نَقُولُهُ فَقَدْ بَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ؟ قَالَ: نَعَمْ اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا وَآمِنْ رَوْعَاتِنَا. قَالَ: فَضَرَبَ اللَّهُ وُجُوهَ أَعْدَائِهِ بِالرِّيحِ، هَزَمَ اللَّهُ بِالرِّيحِ. رواه أحمد. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2479- قوله: (قال: قلنا يوم الخندق) أي: يوم الأحزاب في المدينة، وسبب حفر الخندق أنه لما بلغه - صلى الله عليه وسلم - أن أهل مكة تحزبوا لحربه وجمعوا من مشركي العرب وأهل الكتاب ما لا طاقة له بهم فاستشار أصحابه فأشار سلمان الفارسي بحفره كما هو عرف بلادهم إذا قصدهم العدو الذي لا طاقة لهم بهم حول المدينة ليمنعهم دخولها بغتة ويستأمن به المسلمون على نسائهم وأولادهم فحفره هو وأصحابه بضعة عشر يومًا ورأوا فيها من الشدة والجوع والمعجزات ما هو مسطور في محله وكان ذلك في شوال سنة خمس من الهجرة وقيل غير ذلك، وقد بسط أهل السير في هذه الوقعة ما هو معروف فلا نطيل بذكرها (فقد بلغت القلوب الحناجر) ، أي فزعًا ورعبًا، فإن الرئة تنتفخ من شدة الروع فيرتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة وهي منتهى الحلقوم. قال الشوكاني في فتح القدير: الحناجر جمع حنجرة وهي جوف الحلقوم، أي ارتفعت القلوب عن أماكنها ووصلت من الفزع والخوف إلى الحناجر فلولا أنه ضاق الحلقوم عنها وهو الذي نهايته الحنجرة لخرجت كذا قال قتادة. وقيل هو على طريق المبالغة المعهودة في كلام العرب وإن لم ترتفع القلوب إلى ذلك المكان ولا خرجت عن مواضعها ولكنه مثل في اضطرابها وجبنها يعني هو على سبيل التمثيل عبر به عن شده الخوف والاضطراب. قال الفراء: والمعنى أنهم جبنوا وجزع أكثرهم وسبيل الجبان إذا اشتد خوفه أن تنتفخ رئته فإذا انتفخت الرئة ارتفع القلب إلى الحنجرة ولهذا يقال للجبان انتفخ سحره (قال نعم) ، أي قولوا (اللهم استر عوراتنا) جمع عورة وهي كل ما يستحي منه ويسوء صاحبه أن يرى منه (وآمن روعاتنا) جمع روعة وهي المرة من الروع بمعنى الفزع والخوف (فضرب الله) ، أي بعد ما قال لهم. وقالوا دفع الله وصرف عن مقاتلة المسلمين ومقابلتهم (وجوه أعدائه بالريح) بأن جعلها مسلطة عليهم حتى كفأت قدورهم وألقت خيامهم ووقعوا في برد شديد وظلمة عظيمة (هزم الله) وفي بعض النسخ من المشكاة ((وهزم الله)) بالواو العاطفة، والمعنى على الأول هزمهم فيكون استئنافًا لضرب أو بدلاً منه (بالريح) قال الطيبي: الظاهر أن يقال ((فانهزموا بها)) فوضع المظهر موضع المضمر ليدل به على أن الريح كانت سببًا لإنزال الرجز، وأقحم لفظ الله ليدل به على قوة ذلك السبب - انتهى. قلت: والذي في مسند أحمد فهزمهم الله عز وجل بالريح وهذا ظاهر لا يحتاج إلى ما تكلفه الطيبي (رواه أحمد) (ج3: ص3) ورواته ثقات، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10: ص136) وقال: رواه أحمد والبزار وإسناد البزار متصل ورجاله ثقات، وكذلك رجال أحمد إلا أن في نسختي من المسند عن ربيح بن أبي سعيد عن أبيه وهو في البزار عن أبيه عن جده. قلت: وهو كذلك في نسخة

2480- (42) وعن بريدة قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل السوق قال: بسم الله اللهم إني أسألك خير هذه السوق، وخير ما فيها، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها. اللهم إني أعوذ بك أن أصيب فيها صفقة خاسرة. رواه البيهقي في الدعوات الكبير. ـــــــــــــــــــــــــــــ المسند التي بين أيدينا كنسخة الحافظ الهيثمي، وربيح مصغرًا ابن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري المدني يروي عن أبيه عن جده، يقال: اسمه سعيد وربيح لقب. مقبول، قاله الحافظ في التقريب. 2480- قوله (إذا دخل السوق) ، أي أراد دخولها وقيل أي وصل إلى مكانها وفي رواية ابن السني والطبراني ((إذا خرج إلى السوق)) (قال) ، أي عند الأخذ فيه (اللهم إني أسألك خير هذه السوق) السوق يذكر ويؤنث على ما في الصحاح وقيل أنثها لأن تأنيثها أفصح من تذكيرها ولذا يقال في تصغيرها سويقة والمراد خير ذاتها أو مكانها (وخير ما فيها) ، أي ما ينتفع به من الأمور الدنيوية ويستعان به على القيام بوظائف العبودية وللوسائل حكم المقاصد، قال القاري في الحرز: قوله ((وخير ما فيها)) ، أي مما ينتفع به في الأمور الدنيوية التي يستعان بها على الأحكام الأخروية وقال في المرقاة أي من الأمور التي معينة على الدين أو أسألك خير هذه السوق بتيسير رزق حلال وعمل رابح وبركة في الوقوف بها وخير ما فيها من الناس والعقود والأمتعة (وأعوذ بك من شرها) ، أي في ذاتها أو مكانها لكونه مكان إبليس كما ورد (وشر ما فيها) ، أي مما يشغل عن ذكر الرب سبحانه أو مخالفته بنحو غش وخيانة وارتكاب ربا وعقد فاسد وأمثال ذلك وقيل من شرها، أي من شر ما استقر من الأوصاف والأحوال الخاصة بها وشر ما فيها، أي من شر ما خلق ووقع فيها وسبق إليها (اللهم إني أعوذ بك أن أصيب) ، أي أدرك (فيها صفقة) ، أي بيعة ومنه ألهاهم الصفق بالأسواق، أي التبايع قاله الجزري. ويقال: صفق يده على يده صفقًا وصفقة ضرب يده على يده وذلك عند وجوب البيع (خاسرة) ، أي عقد فيه خسارة دنيوية أو دينية، قال الطيبي: الصفقة المرة من التصفيق وهي اسم للعقد فإن المتبايعين يضع أحدهما يده في يد الآخر ووصف الصفقة بالخاسرة من الإسناد المجازي لأن صاحبها خاسر بالحقيقة - انتهى. فهي كقوله تعالى: {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} ويمكن أن يكون التقدير فيهما ذات خسارة وذات رضا أو فاعلة مصدر بمعنى مفعول. قال المناوي: إنما سأل خير السوق واستعاذ من شرها لاستيلاء الغفلة على قلوب أهلها فأتى بهذه الكلمات ليخرج من حال الغفلة فيندب لمن دخل السوق أن يحافظ على قوله ذلك فإذا نطق الداخل بهذه الكلمات كان فيه تحرزًا عما يكون من أهل الغفلة فيها (رواه البيهقي في الدعوات الكبير) ، ورواه الحاكم (ج1: ص539) ، وابن السني (ص63) ، والطبراني أيضًا ولفظهم ((أصيب فيها يمينًا فاجرة أو صفقة خاسرة)) ، وأو للتنويع والفاجرة بمعنى الكاذبة أي حلفًا كاذبًا وذكرهما تخصيص بعد تعميم لكونها أهم ووقوعها أغلب والحديث ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10: ص129) وقال: رواه الطبراني

(8) باب الاستعاذة

(8) باب الاستعاذة (الفصل الأول) 2481- (1) عن أبي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قال رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ جَهْدِ الْبَلاءِ ـــــــــــــــــــــــــــــ وفيه محمد بن أبان الجعفي وهو ضعيف. قلت: وهو في سند ابن السني أيضًا رواه عن علقمة بن مرثد عن ابن بريدة عن أبيه، وقال الحاكم (ج1: ص539) في باب دعاء دخول السوق بعد رواية حديث عمر وابنه عبد الله بن عمر ((وفي الباب عن جابر وأبي هريرة وبريدة الأسلمي وأنس وأقربها بشرائط هذا الكتاب حديث بريدة بغير هذا اللفظ)) ثم روى حديث بريدة من طريق محمد بن عيسى المدايني ثنا شعيب بن حرب حدثنا جار لنا يكنى أبا عمرو عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال الحافظ العراقي فيه أبو عمرو جار لشعيب بن حرب ولعله حفص بن سليمان الأسدي مختلف فيه، وقال غيره فيه أبو عمرو جار لشعيب بن حرب ولا يعرف، والمدايني متروك وبه رد الذهبي في التخليص تقوية الحاكم له، وفي الميزان (ج3: ص112) محمد بن عمر، عن علقمة بن مرثد، له حديث واحد، وهو منكر ذكره البخاري في الضعفاء ومتن حديثه عن ابن بريده عن أبيه ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل السوق قال: بسم الله)) قال البخاري: لا يتابع عليه - انتهى. قلت: ترجم له البخاري في التاريخ الكبير (1، 1، 179) لكن فيه محمد أبو عمر، قال شعيب بن حرب هو جار لنا سمع علقمة بن مرثد عن ابن بريدة عن أبيه كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل السوق قال بسم الله. قال محمد: هذا لا يتابع عليه. (باب الاستعاذة) أي أنواع الدعوات التي وقع فيها الاستعاذة من العوذ وهو الالتجاء واللوذ. قال في القاموس: العوذ الالتجاء كالعياذ والمعاذ والتعوذ والاستعاذة. 2481- قوله (تعوذوا بالله) أمر ندب وهذا لفظ البخاري في كتاب القدر ورواه في الدعوات بلفظ ((كان يتعوذ)) فيكون حديثًا فعليًا وهكذا وقع عند مسلم والنسائي، ولأحمد ((كان يستعيذ)) وكذا في رواية للنسائي قال الحافظ: قوله ((كان يتعوذ)) كذا هو في رواية الأكثرين، ورواه مسدد عن سفيان بلفظ الأمر ((تعوذوا)) وسيأتي في كتاب القدر، وكذا وقع في رواية الحسن بن علي الواسطي عن سفيان عن الإسماعيلي وأبي نعيم. وفيه مشروعية الاستعاذة ولا يعارض ذلك كون ما سبق في القدر لا يرد لاحتمال أن تكون هذه الاستعاذة والدعاء مما قضى الله به فقد يقضي على المرء مثلاً بالبلاء ويقضى أنه إن دعا كشف وفرج عنه البلاء فالقضاء محتمل للدافع والمدفوع، وفائدة الاستعاذة والدعاء إظهار العبد فاقته لربه وتضرعه إليه (من جهد البلاء) بفتح الموحدة ممدود، والجهد بفتح الجيم وتضم الفتح أشهر وأفصح، أي شدة البلاء قال في النهاية: جهد البلاء، أي الحالة الشاقة وقيل المراد به الحالة التي يمتحن بها للإنسان وتشق

وَدَرَكِ الشَّقَاءِ وَسُوءِ الْقَضَاءِ ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه بحيث يتمنى فيها الموت ويختاره عليها أي لو خير بين الموت وبين تلك الحالة لأحب أن يموت تحرزًا عن تلك الحالة، وقيل جهد البلاء كل ما أصاب المرء من شدة المشقة وما لا طاقة له بحمله ولا قدرة له على دفعه، وقيل المراد به قلة المال وكثرة العيال كذا جاء عن ابن عمر والصواب والحق أنه أعم وأن ذلك فرد من أفراد جهد البلاء، استعاذ - صلى الله عليه وسلم - من جهد البلاء لأن ذلك مع ما فيه من المشقة على صاحبه قد يحصل به التفريط في بعض أمور الدين وقد يضيق صدره بحمله فلا يصبر فيكون ذلك سببًا في الإثم (ودرك الشقاء) بفتح الدال والراء المهملتين ويجوز إسكان الراء وهو الإدراك واللحوق والوصول إلى الشيء يقال: أدركته إدراكًا ودركًا، قال الطيبي: ومنه الحديث ((لو قال: إن شاء الله لم يحنث وكان دركًا لحاجته)) وقيل الدرك بفتح الراء اسم وبالإسكان المصدر، والشقاء بفتح الشين وبالقاف والمد الشدة والعسر وهو ضد السعادة، وقال الحافظ: الشقاء هو الهلاك ويطلق على السبب المؤدي إلى الهلاك، قيل المراد بدرك الشقاء سؤء الخاتمة. وقال الشوكاني: درك الشقاء شدة المشقة في أمور الدنيا وضيقها عليه وحصول الضرر البالغ في بدنه أو أهله أو ماله وقد يكون باعتبار الأمور الأخروية وذلك بما يحصل من التبعة والعقوبة بسبب ما اكتسبه من الوزر واقترفه من الإثم استعاذ - صلى الله عليه وسلم - من ذلك لأنه النهاية في البلاء والغاية في المحنة وقد لا يصبر من امتحنه الله به فيجمع بين التعب عاجلاً والعقوبة آجلاً - انتهى. وقيل هو واحد دركات جهنم ودرجاتها ومنازلها ومعناه من موضع أهل الشقاوة وهي جهنم أو من موضع يحصل لكم فيه شقاوة أو هو مصدر إما مضاف إلى المفعول أو إلى الفاعل أي من درككم الشقاء أو من درك الشقاء إياكم (وسوء القضاء) هو ما يسوء الإنسان ويحزنه من الأقضية المقدرة عليه وذلك أعم من أن يكون في دينه أو في دنياه أو في نفسه أو أهله أو في ماله. قال ابن بطال: سوء القضاء عام في النفس والمال والأهل والولد والخاتمة والمعاد قال: والمراد بالقضاء هنا المقضي لأن حكم الله من حيث هو حكمه كله حسن لا سوء فيه. قالوا في تعريف القضاء والقدر: القضاء هو الحكم بالكليات على سبيل الإجمال في الأزل، والقدر هو الحكم بوقوع الجزئيات لتلك الكليات على سبيل التفصيل في الإنزال. قال الله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} (15: 21) قال الشوكاني: وفي الاستعاذة منه - صلى الله عليه وسلم - من سوء القضاء ما يدل على أنه لا يخالف الرضاء بالقضاء فإن الاستعاذة من سوء القضاء هي من قضاء الله سبحانه وتعالى وقدره ولهذا شرعها لعباده. ومن هذا ما ورد في قنوت الوتر بلفظ ((وقني شر ما قضيت)) قال: والقضاء (أي المقضي به) باعتبار العباد ينقسم إلى قسمين خير وشر وقد شرع لهم الدعاء بالوقاية من شره والاستعاذة منه ولا ينافي هذا ما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - في بيان الإيمان لمن سأله عنه بقوله: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خير وشره. فإنه لا مانع من أن يكون الإنسان مؤمنًا بما قضاه الله من خير وشر مستعيذًا بالله من شر القضاء عملاً بمجموع الأدلة فحديث الإيمان بالقضاء دل على أن القضاء منقسم إلى ما هو خير وإلى ما هو شر فتؤمن به ولما وقع منه - صلى الله عليه وسلم - الاستعاذة من سوء القضاء وأمرنا أيضًا بالاستعاذة منه فنستعيذ منه

وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإيماننا واستعاذتنا كلاهما تحت أمر الشارع عليه الصلاة والسلام انتهى بتغير يسير. وقال السندي: المقضي حيث القضاء أزلي فأي فائدة في الاستعاذة منه؟ والظاهر أن المراد صرف المعلق منه فإنه قد يكون معلقًا، والتحقيق أن الدعاء مطلوب لكونه عبادة وطاعة ولا حاجة لنا في ذلك إلى أن نعرف الفائدة المترتبة عليه سوى ما ذكرنا (وشماتة الأعداء) بفتح الشين المعجمة وهي فرح الأعداء بما يقع من يعادونه من المكروه ويحل به من المحنة. قال في الصحاح: الشماتة الفرح ببلية العدو ويقال يشمت به بالكسر شماتة، وفي القاموس شمت كفرح شمتًا وشماتة فرح ببلية العدو وفي النهاية شماتة الأعداء فرح العدو ببلية تنزل بمن يعاديه. قيل: أي تعوذوا من فرح أعداء الدين والدنيا المتعلقة بالدين وأما إذا كان رجل مثلاً له من الدنيا ما يسرف فيه ويبطر ويفسق ويظلم فيشمت بزوالها الأعداء فلا استعاذة منه. وقال القاري: أي قولوا نعوذ بك من أن تصيبنا مصيبة في ديننا أو دنيانا بحيث بفرح أعدائنا وبهذا علم أن الكلمات الأربعة جامعة مانعة لصنوف البلاء وأن بينها عمومًا وخصوصًا من وجهه كما في كلام البلغاء والفصحاء، وقيل: الخصلة الأخيرة، أي شماتة الأعداء تدخل في عموم كل واحدة من الثلاثة ثم كل واحدة من الثلاثة مستقلة فإن كل أمر يكره يلاحظ فيه جهة المبدأ وهو سوء القضاء وجهة المعاد وهو درك الشقاء لأن شقاء الآخرة هو الشقاء الحقيقي وجهة المعاش وهو جهد البلاء، وأما شماتة الأعداد فتقع لكل من وقع له كل من الخصال الثلاثة. قلت: والحديث رواه مسلم بلفظ ((كان يتعوذ من سوء القضاء ومن درك الشقاء ومن شماتة الأعداء ومن جهد البلاء)) قال الكرماني: هذه الكلمة جامعة لأن المكروه إما أن يلاحظ من جهة المبدأ وهو سوء القضاء، أو من جهة المعاد وهو درك الشقاء، أو من جهة المعاش وهو إما من جهة غيره وهو شماتة الأعداء، أو من جهة نفسه وهو جهد البلاء، نعوذ بالله منه - انتهى. قال السندي: وأنت خبير بأنه لا مقابلة على ما ذكره بين سوء القضاء وغيره بل غيره كالتفصيل لجزئياته فالمقابلة ينبغي أن تعتبر باعتبار أن مجموع الثلاثة الأخيرة بمنزلة القدر فكأنه قال من سوء القضاء والقدر لكن أقيم أهم أقسام سوء القدر مقامه، يعني أستعيذ بسوء القضاء ثم أتبع بأهم أقسام سوء القدر، فلا مقابلة بين سوء القضاء وغيره، بل غيره كالتفصيل لجزئياته، بقي أن المقضي من حيث القضاء أزلي فأي فائدة في الاستعاذة منه؟ والظاهر أن المراد صرف المعلق منه فإنه قد يكون معلقًا والتحقيق أن الدعاء مطلوب لكونه عبادة وطاعة ولا حاجة لنا في ذلك إلى أن نعرف الفائدة المترتبة عليه سوى ما ذكرنا - انتهى. قال الشوكاني: استعاذ - صلى الله عليه وسلم - من شماتة الأعداء وأمر بالاستعاذة منها لعظم موقعها وشدة تأثيرها في الأنفس البشرية ونفور طباع العباد عنها وقد يتسبب عن ذلك تعاظم العداوة المفضية إلى استحلال ما حرمه الله سبحانه وتعالى. وقال ابن بطال: شماتة الأعداء ما ينكأ القلب ويبلغ من النفس أشد مبلغ وإنما تعوذ النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك تعليمًا لأمته، فإن الله تعالى آمنه من جميع ذلك. قال الحافظ: ولا يتعين ذلك بل يحتمل أن يكون استعاذ بربه من وقوع ذلك بأمته ويؤيده رواية مسدد المذكورة بصيغة الأمر، وفي الحديث دلالة على أن الكلام المسجوع

متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يكره إذا صدر عن غير قصد إليه ولا تكلف بل هو من السجع المحمود وهو ما جاء بانسجام وإتقان والمذموم من السجع ما يأتي بتكلف واستكراه. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الدعوات، وفي القدر، ومسلم في الدعاء. واللفظ للبخاري في القدر، وأخرجه أيضًا أحمد (ج2: ص246) والنسائي في الاستعاذة، والحميدي في مسنده (ج2: ص429) ، والبخاري في الأدب المفرد (ج1: ص529، وج2: ص123) ، والبغوي (ج5: ص160) كلهم من طريق سفيان بن عيينة عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة، زاد البخاري في روايته في الدعوات ((قال سفيان الحديث ثلاث، زدت أنا واحدة لا أدري أيتهن هي)) أي الحديث المرفوع المروي يشتمل على ثلاث جمل من الجمل الأربع والرابعة زادها سفيان من عند نفسه ثم خفي عليه تعيينها، وفي رواية للنسائي ((قال سفيان هو ثلاثة فذكرت أربعة لأني لا أحفظ الواحد الذي ليس فيه)) ووقع عند الحميدي عن سفيان ((الحديث ثلاث من هذه الأربع)) . قال الحافظ: وأخرجه أبو عوانة والإسماعيلي وأبو نعيم من طريق الحميدي ولم يفصل ذلك بعض الرواة عن سفيان كما سيأتي واستشكل جواز زيادة سفيان الجملة المذكورة في الحديث مع أنه لا يجوز الإدراج في الحديث. قال الكرماني: كيف جاز له أن يخلط كلامه بكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحيث لا يفرق بينهما ثم أجاب بأنه ما خلط بل اشتبهت عليه تلك الثلاث بعينها وعرف أنها كانت ثلاثة من هذه الأربعة فذكر الأربعة تحقيقًا لرواية تلك الثلاثة قطعًا إذ لا تخرج منها، وروى البخاري في القدر الحديث المذكور وذكر فيه الأربعة مسندًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلا تردد ولا شك ولا قول بزيادة وفي بعض الروايات ((قال سفيان أشك أني زدت واحدة)) - انتهى. وقال الحافظ: سيأتي في القدر، أي عند البخاري عن مسدد، وأخرجه مسلم عن أبي خيثمة وعمرو الناقد، والنسائي عن قتيبة، والإسماعيلي من رواية العباس بن الوليد، وأبو عوانة من رواية عبد الجبار بن العلاء، وأبو نعيم من طريق سفيان بن وكيع كلهم عن سفيان بالخصال الأربعة بغير تمييز إلا أن مسلمًا قال عن عمرو الناقد، قال سفيان: أشك أني زدت واحدة منها. وأخرجه الجوزقي من طريق عبد الله بن هاشم عن سفيان فاقتصر على ثلاثة، ثم قال قال سفيان ((وشماتة الأعداء)) ، وأخرجه الإسماعيلي من طريق ابن أبي عمر عن سفيان وبين أن الخصلة المزيدة هي شماتة الأعداء، وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق شجاع بن مخلد عن سفيان مقتصرًا على الثلاثة دونها وعرف من ذلك تعيين الخصلة المزيدة. وأجاب الحافظ عن هذا الاختلاف بأن سفيان كان إذا حدث ميزها ثم طال الأمر فطرأ عليه النسيان وطرفه السهو عن تعيينها فحفظ بعض من سمع تعيينها منه قبل أن يطرأ عليه النسيان ويطرقه السهو ثم كان بعد أن خفي عليه تعيينها يذكر كونها مزيدة مع إبهامها ثم بعد ذلك إما أن يحمل الحال حيث لم يقع تمييزها لا تعيينًا ولا إبهامًا أن يكون ذهل عن ذلك أو عين أو ميز فذهل عنه بعض من سمع ويترجح كون الخصلة المذكورة، أي شماتة الأعداء هي المزيدة بأنها تدخل في عموم كل واحدة من الثلاثة - انتهى. قلت: وجنح بعضهم إلى ترجيح رواية مسدد ومن وافقه لأنها فيها زيادة ثقة، وزيادة الثقة مقبولة وإليه يشير صنيع البغوي والمؤلف إذ اقتصرا

2482- (2) وعن أَنَسَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ على إيراد الحديث القولي الذي ورد فيه الخصال الأربعة بغير تمييز وفصل ولم ينبها على رواية الشك والتردد والزيادة ولا يخفى ما في ذلك. نعم الأحوط لنا أن نذكر عند الدعاء بهذه الاستعاذة الجمل الأربع ونستعيذ من الخصال الأربعة جميعًا. 2482- قوله (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل) الحزن بفتحتين وبضم فسكون مثل رَشَد ورشُد، قيل الفرق بينه وبين الهم أن الحزن إنما يكون في أمر قد وقع والهم إنما هو في ما يتوقع وكثير من الناس لا يفرقون بينهما ويجعلونه من باب التكرير والتأكيد وكثيرًا ما يجيء مثل هذا التأكيد بالعطف مراعاة لتغاير اللفظ والعجز بسكون الجيم قال النووي: هو عدم القدرة على الخير، وقيل: هو ترك ما يجب فعله والتسويف به وأما الكسل وهو بفتحتين فهو عدم انبعاث النفس للخير وقلة الرغبة فيه مع إمكانه، وقيل العجز سلب القوة وتخلف التوفيق إذ صفة العبد العجز وإنما يقوى بقوة يحدثها الله فيه فكأنه استعاذ به أن يكله إلى أوصافه فإن كل من رد إليها فقد خذل والكسل التثاقل والتراخي مما ينبغي مع القدرة والاستطاعة والقوة، فالعاجز معذور والكسلان لا، ومع ذلك هو حالة ردية ولو مع عذر فلذا تعوذ منه والجبن ضد الشجاعة التي فيها فضيلة قوة الغضب وانقيادها للعقل وقيل هو الخور عن تعاطي الحرب خوفًا على المهجة وإمساك النفس والضن بها عن إتيان واجب الحق والبخل ضد الكرم، وفي كلام العرب منع الإحسان أو منع السائل المحتاج عما يفضل عن الحاجة، وفي الشرع منع ما وجب، قيل: الجبن والبخل قد يكونان غريزة وقد يعرض كل منها لمن ليس هو غريزة له، وذلك بحسب قوة الدواعي والموانع، ومن قوي إيمانه لم يكد يظهر منه أثر بخل أو جبن في سبيل الله وإن كان سجية له اللهم إلا أن يغفل عن استحضار مقتضى إيمانه فإنه حينئذٍ يظهر منه أثرهما فالاستعاذة من الجبن والبخل لئلا يظهر من أثرهما ما قد يخل بطاعة الله عز وجل ولا يكون ذلك إلا بقوة الإيمان واليقين لا بتبديل الغريزة، إلا أن فيه خرقًا للعادة، والمقصود لا يتوقف عليه، كذا في شرح الأدب المفرد. قال النووي: إنما استعاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجبن والبخل لما فيها من التقصير عن أداء الواجبات والقيام بحقوق الله تعالى وإزالة المنكر والإغلاظ على العصاة، ولأنه بشجاعة النفس وقوتها المعتدلة تتم العبادات ويقوم بنصر المظلوم والجهاد وبالسلامة من البخل يقوم بحقوق المال وينبعث للإنفاق والجود والمكارم الأخلاق ويمتنع من طمع النفس فيما ليس له (وضلع الدين) بفتح المعجمة واللام، قال الحافظ: أصل الضلع الاعوجاج يقال: ضلع بفتح اللام يضلع أي مال، والمراد به هنا ثقل الدين وشدته وذلك حيث لا يجد من عليه الدين وفاء ولا سيما مع المطالبة. وقال بعض السلف: ما دخل هم الدين قلبًا إلا أذهب من العقل ما لا يعود إليه (وغلبة الرجال) أي شدة تسلطهم كاستيلاء العوام والرعاع (سفلة الناس) هرجًا ومرجًا. وقال ابن القيم: كل اثنتين منها قرينتان، فالهم والحزن

متفق عليه. 2483- (3) عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْكَسَلِ وَالْهَرَمِ وَالْمَغْرَمِ وَالْمَأْثَمِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ من عَذَابِ النَّارِ وفِتْنَةِ النَّارِ ـــــــــــــــــــــــــــــ قرينتان إذ المكروه الوارد على القلب إن كان من مستقبل يتوقعه أحدث الهم أو من ماض أحدث الحزن، والعجز والكسل قرينتان فإن تخلف العبد عن أسباب الخير إن كان لعدم قدرته فالعجز، أو لعدم إرادته فالكسل، والجبن والبخل قرينتان فإن عدم النفع إن كان ببدنه فالجبن أو بماله فالبخل، وضلع الدين وقهر الرجال قرينتان فإن استيلاء الغير عليه إن كان بحق فضلع الدين أو بباطل فقهر الرجال. قال الكرماني: هذا الدعاء من جوامع الكلم لأن أنواع الرذائل ثلاثة: نفسانية، وبدنية، وخارجية. فالأولى بحسب القوى التي للإنسان وهي ثلاثة: العقلية، والغضبية، والشهوانية. فالهم والحزن يتعلق بالعقلية، والجبن بالغضبية، والبخل بالشهوانية. والعجز والكسل بالبدنية. والثاني يكون عند سلامة الأعضاء وتمام الآلات والقوى، والأول عند نقصان عضو ونحوه، والضلع والغلبة بالخارجية فالأولى مالي. والثاني جاهي. والدعاء مشتمل على جميع ذلك (متفق عليه) أخرجه البخاري في الدعوات هكذا مختصرًا وفي جملة حديث طويل أيضًا من رواية عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب عن أنس، وأخرجه مسلم في الدعاء مختصرًا باختلاف يسير من طريق آخر، وكذا البخاري في الجهاد، وأخرجه أيضًا أحمد، والترمذي في الدعوات، وأبو داود في أواخر الصلاة، والنسائي في الاستعاذة والبغوي (ج5: ص155) . 2483- قوله (والهرم) بفتحتين، والمراد به إلى أرذل العمر كما جاء في رواية وهو صيرورة الرجل خرف من كبر السن وسبب الاستعاذة من ذلك ما فيه من الخرف واختلال العقل والحواس والضبط والفهم وتشويه بعض المنظر والعجز عن كثير من الطاعات والتساهل في بعضها. قال الشوكاني: الهرم هو البلوغ في العمر إلى سن تضعف فيه الحواس والقوى ويضطرب فيه الفهم والعقل وهو أرذل العمر، وأما مجرد طول العمر مع سلامة الحواس وصحة الإدراك فذلك مما ينبغي الدعاء به لأن بقاء المؤمن متمتعًا بحواسه قائمًا بما يجب عليه متجنبًا لما لا يحل فيه حصول الثواب وزيادة الخير (والمغرم) مصدر وضع موضع الاسم وقد تقدم تفسيره في باب الدعاء في التشهد. قال النووي: أما استعاذته - صلى الله عليه وسلم - من المغرم وهو الدين فقد فسره - صلى الله عليه وسلم - أن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف، ولأنه قد يمطل المدين صاحب الدين، ولأنه قد يشتغل به قلبه، وربما مات قبل وفائه فبقيت ذمته مرتهنة به (والمأثم) مصدر وضع موضع الاسم وقد قدم بيانه وتفسيره أيضًا (اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار) ، أي بعد فتنتها. قال القاري: أي من أن أكون من أهل النار وهم الكفار فإنهم هم المعذبون. وأما الموحدون فإنهم مؤدبون ومهذبون بالنار لا معذبون بها (وفتنة النار) ، أي فتنة تؤدي إلى عذاب النار لئلا يتكرر. ويحتمل أن يراد بفتنة النار سؤال الخزنة على سبيل التوبيخ وإليه الإشارة

وَفِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى وشر فِتْنَةِ الْفَقْرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بقوله تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} (67: 8) وأصل الفتنة الامتحان والاختبار واستعملت في الشرع في اختبار كشف ما يكره ويقال فتنت الذهب إذا اختبرته بالنار لتنظر جودته، وفي الغفلة عن المطلوب كقوله: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} (64: 15) وتستعمل في الإكراه على الرجوع من الدين كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (85: 10) قال الحافظ: واستعملت أيضًا في الضلال والإثم والكفر والعذاب والفضيحة ويعرف المراد حيث ما ورد بالسياق والقرائن (وفتنة القبر) ، أي التحير في جواب الملكين. قال الشوكاني: هي ما ورد أن الشيطان يوسوس للميت في قبره ويحاول إغوائه وخذلانه عند سؤال الملكين له (وعذاب القبر) هو ما يترتب بعد فتنته على المجرمين، فالأول كالمقدمة للثاني وعلامة عليه (ومن شر فتنة الغنى) هي البطر والأشر والطغيان وتحصيل المال من الحرام وصرفه في العصيان والتفاخر بالمال والجاه والشح بما يجب إخراجه من واجبات المال ومندوباته (وشر فتنة الفقر) كالتسخط وقلة الصبر والوقوع في الحرام أو شبهته للحاجة. وقال القاري: هي الحسد على الأغنياء والطمع في أموالهم والتذلل بما يدنس العرض ويثلم الدين وعدم الرضاء بما قسم الله له وغير ذلك مما لا تحمد عاقبته. وقيل الفتنة هنا الامتحان والبلاء، أي ومن بلاء الغنى وبلاء الفقر، أي ومن الغنى والفقر الذي يكون بلاء ومشقة من أن يحصل منا شر إذا امتحنا الله إيانا بالغناء وبالفقر بأن لا نؤدي حقوق الأموال ونتكبر بسبب الغناء وبأن لا نصبر على الفقر. وقال الطيبي: إن فسرت الفتنة بالمحنة والمصيبة فشرها أن لا يصبر الرجل على لأوائها ويجزع منها، وإن فسرت بالامتحان والاختبار فشرها أن لا يحمد في السراء ولا يصبر في الضراء. قال بعض المحققين: قيد فيهما بالشر لأن كلاً منهما فيه خير باعتبار وشر باعتبار فالتقييد بالاستعاذة منه بالشر يخرج ما فيه من الخير سواء قل أو كثر. قلت: جاء في هذه الرواية لفظ الشر في الفقرتين وذكر في رواية للبخاري في الفقرة الأولى دون الثانية. قال الكرماني في الكواكب: فإن قلت: لم زاد لفظ الشر في الغنى ولم يذكره في الفقر ونحوه وأجاب بأنه تصريح بما فيه من الشر وأن مضرته أكثر من مضرة غيره أو تغليظًا على الأغنياء حتى لا يغتروا بغناهم ولا يغفلوا عن مفاسده أو إيماء إلى أن صورته لا يكون فيها خير بخلاف صورة الفقر فإنها قد تكون خيرًَا - انتهى. وتعقبه الحافظ في الفتح بأن هذا كله غفلة عن الواقع فإن الذي ظهر لي أن لفظة شر في الأصل ثابتة في الموضعين وإنما اختصره بعض الرواة فسيأتي بعد قليل في باب الاستعاذة من أرذل العمر في هذه الرواية من طريق آخر بلفظ ((وشر فتنة الغنى وشر فتنة الفقر)) ويأتي بعد أبواب أيضًا من طريق أخرى بإسقاط شر في الموضعين والتقييد في الغنى والفقر بالشر لا بد منه لأن كلاً منهما فيه خير باعتبار فالتقييد بالاستعاذة منه بالشر يخرج ما فيه من الخير سواء قل أم كثر - انتهى. وتعقبه العيني فقال: هذا غفلة منه حيث يدعي اختصار بعض الرواة بغير دليل على ذلك، قال وأما قوله وسيأتي بعد بلفظ ((شر فتنة الغنى وشر فتنة الفقر)) فلا يساعده فيما قاله لأن للكرماني أن يقول يحتمل أن يكون لفظ شر

وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ. اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَنَقِّ قَلْبِي كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ، وَبَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ في فتنة الفقر مدرجًا من بعض الرواة على أنه لم ينف مجيء لفظ شر في غير الغنى، ولا يلزمه هذا لأنه في بيان هذا الموضع الذي وقع هنا خاصة - انتهى. قال الحافظ في انتقاض الاعتراض: حكاية هذا الكلام، أي الذي قاله العيني تغني العارف عن التشاغل بالرد عليه - انتهى. قال الغزالي: فتنة الغنى الحرص على جمع المال والحب على أن يكسبه من غير حله ويمنعه من واجبات إنفاقه وحقوقه وفتنة الفقر يراد به الفقر الذي لا يصحبه صبر ولا ورع حتى يتورط صاحبه بسببه فيما لا يليق بأهل الدين والمروءة ولا يبالي بسبب فاقته على أي حرام وثب ولا في أي حالة تورط. وقيل: المراد فقر النفس الذي لا يرده ملك الدنيا بحذافيرها وليس فيه ما يدل على تفضيل الفقر على الغنى ولا عكسه (ومن شر فتنة المسيح الدجال) تقدم شرحه في باب الدعاء في التشهد (اللهم اغسل خطاياي) أي أزلها عني (بماء الثلج والبرد) بفتحتين حب الغمام أي بأنواع الألطاف والرحمة كأن كل نوع من الماء بمنزلة نوع من الرحمة والتطهير وحكمة العدول عن الماء الحار إلى الثلج والبرد مع أن الحار في العادة أبلغ في إزالة الوسخ الإشارة إلى أن الثلج والبرد ماءان طاهران لم تمسهما الأيدي ولم يمتهنهما الاستعمال فكان ذكرهما آكد في هذا المقام، أشار إلى هذا الخطابي. وقد سبق كلامه في شرح حديث أبي هريرة في أول باب ما يقرأ بعد التكبير. وقال الكرماني: وله توجيه آخر وهو أنه جعل الخطايا بمنزلة النار لكونها تؤدي إليها فعبر عن إطفاء حرارتها بالغسل تأكدًا في إطفاءها وبالغ فيه باستعمال المياه الباردة غاية البرودة (ونق) بفتح النون وتشديد القاف من التنقية (قلبي) الذي هو بمنزلة ملك الأعضاء واستقامتها باستقامته. وقوله ((نق قلبي)) هكذا في جميع نسخ المشكاة والمصابيح، وشرح السنة، والذي في الصحيحين ((ونق قلبي من الخطايا)) والعجب أنه لم يتنبه لذلك المؤلف، والمراد الخطايا الباطنية وهي الأخلاق الذميمة والشمائل الردية (كما ينقي) بصيغة المجهول الغائب، وفي رواية ((نقيت)) بصيغة المعلوم المخاطب (الثوب الأبيض من الدنس) بفتحتين، أي الدرن والوسخ وفيه إيماء إلى أن القلب بمقتضى أصل الفطرة سليم ونظيف وأبيض، وإنما يتسود بارتكاب الذنوب والتخلق بالعيوب (وباعد) ، أي بعّد وعبر بالمفاعلة للمبالغة (بيني وبين خطاياي) كرر بين هنا دون ما بعده لأن العطف على الضمير المجرور يعاد فيه الخافض (كما باعدت) ما مصدرية والكاف للتشبيه، أي كتبعيدك (بين المشرق والمغرب) تقدم بيان موقع التشبيه والمراد من المباعدة في شرح حديث أبي هريرة في باب ما يقرأ بعد التكبير، واستعاذته - صلى الله عليه وسلم - من الأشياء المذكورة في هذا الحديث وغيره لتكمل صفاته في كل أحواله أو تعليمًا لأمته، أو المراد إظهار الافتقار والعبودية نظرًا إلى استغنائه وكبريائه تعالى. (متفق عليه) أخرجاه في الدعوات وأخرجه أيضًا الترمذي، وابن ماجه في الدعاء، والنسائي في الاستعاذة، والبغوي (ج5: ص157، 158) غير أنه قدم بعضهم وأخر بعض الألفاظ، وأخرجه أبو داود مختصرًا في أواخر الصلاة، والحاكم مطولاً (ج1: ص541) .

2484- (4) عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَالْهَرَمِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ ـــــــــــــــــــــــــــــ 2484- قوله: (والجبن والبخل) قيل: من خاف فأحجم عن أن يطلب الأمور العظيمة المرضية في الشرع مثل أن يجتهد في تحصيل العلم حتى يبلغه الله تعالى درجة الإرشاد والفتوى فهو جبان إلا أن يكون له عذر من قلة الفهم وسوء الحفظ واشتغاله بتحصيل القوت وغير ذلك ومن منع العلم إذا طلب الناس منه ما يحتاجون إليه في دينهم فهو بخيل (وعذاب القبر) من الضيق والظلمة والوحشة وضرب المقمعة ولدغ العقرب والحية وأمثالهما أو مما يوجب عذابه من النميمة وعدم التطهير ونحوهما (اللهم آت) أمر من الإيتاء، أي: أعط (نفسي تقواها) ، أي: صيانتها عن المحظورات وقيل: أي: ارزقها الاحتراز عما يضرها ويهلكها في الآخرة. قال الطيبي: ينبغي أن تفسر التقوى بما يقابل الفجور في قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} (91: 8) وهي الاحتراز عن متابعة الهوى وارتكاب الفجور والفواحش لأن الحديث كالتفسير والبيان للآية فدل قوله: ((آت)) على أن الإلهام في الآية هو خلق الداعية الباعثة على الاجتناب عن المذكورات وقوله (وزكها) ، أي: وطهرها من الذنوب ونقها من العيوب واجعلها زاكية كاملة في الإيمان (أنت خير من زكاها) دل على أن إسناد التزكية إلى من في الآية هو نسبة الكسب إلى العبد لا خلق الفعل له كما زعمت المعتزلة لأن الخيرية تقتضي المشاركة بين كسب العبد وخلق القدرة فيه يعني قوله: ((من زكاها)) إيماء إلى قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} وإشارة إلى أن ضمير الفاعل في زكاها راجع إلى من ليستقيم ((أنت خير من زكاها)) وأما إذا كان راجعًا إلى الله تعالى فيتعين فإنه المزكي لا غير على ما هو في الحقيقة كذلك وأن الإسناد إلى غيره مجازي. وقال النووي: معنى ((زكها)) طهرها، ولفظة خير ليست للتفضيل بل معناه لا مزكي لها إلا أنت كما قال: (أنت وليها) أي: المتصرف فيها ومصلحها ومزينها، وقيل: ناصرها، وهذا راجع إلى قوله: ((آت نفسي تقواها)) كأنه يقول: انصرها على فعل ما يكون سببًا لرضاك عنها لأنك ناصرها (ومولاها) أي: ناصرها وعاصمها. وقيل: عطف تفسيري، وقيل: هذا راجع إلى قوله: ((زكها)) يعني طهرها بتأديبك إياها كما يؤدب المولى عبده. وقال الطيبي: أنت وليها ومولاها. استئناف على بيان الموجب وأن إيتاء التقوى وتحصيل التزكية فيها إنما كان لأنه هو متولي أمورها ومالكها فالتزكية إن حملت على تطهير النفس عن الأفعال والأقوال والأخلاق الذميمة كانت بالنسبة إلى التقوى مظاهر ما كان مكمنًا في الباطن وإن حملت على الإنماء والإعلان والإعلاء بالتقوى كانت تحلية بعد التخلية لأن المتقي شرعًا من اجتنب النواهي وأتى بالأوامر (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع) يعني من علم لا أعمل به ولا أعلمه الناس ولا يصل بركته إلى قلبي ولا يبدل أفعالي وأقوالي وأخلاقي المذمومة إلى المرضية ولا يهذبها.

وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا. رواه مسلم. 2485- (5) وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ مِنْ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ ويحتمل أن يكون مراده من علم ليس مما يحتاج إليه في الدين وليس في تعلمه إذن في الشرع (ومن قلب لا يخشع) أي: لا يخاف الله أو لا يخشع لذكر الله ولا لاستماع كلامه وهو القلب القاسي الذي هو أبعد القلوب من حضرة علام الغيوب. وقال القاري: أي: لا يسكن ولا يطمئن بذكر الله (ومن نفس لا تشبع) بفتح الموحدة أي: بما آتاها الله ولا تقنع بما رزقها الله ولا تفتر عن جمع المال لما فيها من شدة الحرص أو الأشر والبطر أو من نفس تأكل كثيرًا لأن كثرة الأكل جالبة لكثرة الأبخرة الموجبة للنوم والكسل وكثرة الوساوس والخطرات النفسانية المؤدية إلى مضار الدنيا والآخرة. قال ابن الملك أي: حريصة على جمع المال وتحصيل المناصب، وقيل على حقيقته فهو إما لشدة حرصه على الدنيا لا يقدر أن يأكل قدر ما يشبع جوعته، وإما الاستيلاء الجوع البقري عليه وهو جوع الأعضاء مع شبع المعدة عكس الشهوة الكلبية (ومن دعوة لا يستجاب لها) لكونها معصية أو ما لا يرضاه الحق أو المراد التعوذ من عدم استجابة الدعاء مطلقًا. قال الطيبي: الضمير في ((لها)) عاد إلى الدعوة واللام زائدة. قال الشوكاني: استعاذ - صلى الله عليه وسلم - من علم لا ينفع لأنه يكون وبالاً على صاحبه وحجة عليه، واستعاذ أيضًا من القلب الذي لا يخشع لأنه يكون حينئذٍ قاسيًا لا تؤثر فيه موعظة ولا نصيحة ولا يرغب في ترغيب ولا يرهب من ترهيب. واستعاذ من النفس التي لا تشبع لأنها تكون متكالبة على الحطام متجرئة على المال الحرام غير قانعة بما يكفيها من الرزق فلا تزال في تعب الدنيا وعقوبة في الآخرة، واستعاذ من الدعوة التي لا يستجاب لها لأن الرب سبحانه هو المعطي المانع الباسط القابض الضار النافع فإذا توجه العبد إليه في دعاءه ولم يستجب دعوته فقد خاب الداعي وخسر لأنه طرد من الباب الذي لا يستجلب الخير إلا منه ولا يستدفع الضر إلا به، اللهم إنا نعوذ بك مما استعاذ بك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (رواه مسلم) في الدعوات، وأخرجه أيضًا أحمد (ج4: ص371) ، والبغوي (ج5: ص158، 159) ، وأخرجه الترمذي في الدعوات، والنسائي في الاستعاذة مختصرًا ونسبه الشوكاني في تحفة الذاكرين لعبد بن حميد أيضًا. 2485- قوله: (وعن عبد الله بن عمر) بلا واو (اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك) أي: ذهاب نعمك الدينية والدنيوية النافعة في الأمور الأخروية من غير بدل قال في فيض القدير: مفرد في معنى الجمع يعم النعم الظاهرة والباطنة، والنعمة كل ملاءم تحمد عاقبته، ومن ثم قالوا: لا نعمة لله على كافر بل ملاذه استدراج والاستعاذة من زوال النعم تتضمن الحفظ عن الوقوع في المعاصي لأنها تزيلها ألا ترى إلى قوله:

وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ وَجَمِيعِ سَخَطِكَ. رواه مسلم. 2486- (6) عَنْ عَائِشَةَ قَالتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا كنت في نعمة فارعها ... فإن المعاصي تزيل النعم وقال الشوكاني: استعاذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من زوال نعمته لأن ذلك لا يكون إلا عند عدم شكرها وعدم مراعاة ما تستحقه النعم وتقتضيه من تأدية ما يجب على صاحبها من الشكر والمواساة وإخراج ما يجب إخراجه (وتحول عافيتك) بضم الواو المشددة أي: تبدلها بالبلاء. قال القاري: أي: انتقالها من السمع والبصر وسائر الأعضاء. فإن قلت ما الفرق بين الزوال والتحول؟ قلت: الزوال يقال في شيء كان ثابتًا لشيء ثم فارقه والتحول تغير الشيء وانفصاله عن غيره. أي: إبدال الشيء بالشيء، فمعنى النعمة ذهابها من غير بدل وتحول العافية إبدال الصحة بالمرض والغنى بالفقر فكأنه سأل دوام العافية وهي السلامة من الآلام والأسقام وقال الطيبي: أي: تبدل ما رزقتني من العافية إلى البلاء والداهية، والحديث رواه أبو داود أيضًا إلا أن في بعض نسخ السنن ((وتحويل عافيتك)) من باب التفعيل فيكون من باب إضافة المصدر إلى مفعوله، واستعاذ من ذلك لأن من اختصه الله سبحانه بعافيته فاز بخير الدارين فإن تحولت عنه فقد أصيب بشر الدارين فإن العافية يكون بها صلاح من أمور الدنيا والآخرة (وفجاءة نقمتك) بضم الفاء وفتح الجيم ممدودة بمعنى البغتة مشتقة من فاجأه مفاجأة إذا جاءه بغتة من غير أن يعلم بذلك، ويروى فجأة بفتح الفاء وإسكان الجيم من غير مد، والنقمة بكسر النون وسكون القاف، وفي رواية بفتح فكسر ككلمة العقوبة، وقال القاري: هي المكافأة بالعقوبة والانتقام بالغضب والعذاب، وخص فجاءة النقمة بالذكر لأنها أشد من أن تصيب تدريجًا كما ذكره المظهر واستعاذ - صلى الله عليه وسلم - من ذلك من حيث لا يكون له علم به ولا تكون له فرصة ومهلة للتوبة لأنه انتقم الله من العبد فقد أحل به من البلاء ما لا يقدر على دفعه ولا يستدفع بسائر المخلوقين وإن اجتمعوا جميعًا كما ورد في الحديث الصحيح القدسي أن العباد لو اجتمعوا جميعًا على أن ينفعوا أحدًا لم يقدروا على نفعه، أو اجتمعوا جميعًا على أن يضروا أحدًا لم يقدروا على ضره (وجميع سخطك) بالتحريك، أي ما يؤدي إليه يعني سائر الأسباب الموجبة لذلك، وإذا انتفت أسبابها حصلت أضدادها وهو إجمال بعد تفصيل وتعميم بعد تخصيص، أو المراد جميع آثار غضبك، واستعاذ - صلى الله عليه وسلم - من جميع سخطه لأنه سبحانه إذا سخط على العبد فقد هلك وخاب وخسر، ولو كان السخط في أدنى شيء وبأيسر سبب. (رواه مسلم) في الدعاء، وكذا البخاري في الأدب المفرد (ج2: ص126) ، وأبو داود في أواخر الصلاة، والحاكم (ج1: ص513) ونسبه في الحصن للنسائي أيضًا ولعله في الكبرى. 2486- قوله: (اللهم إني أعوذ بك) قال الطيبي: استعاذ مما عصم منه ليلتزم خوف الله تعالى وإعظامه والافتقار إليه وليقتدى به وليبين صفة الدعاء، وقال الشوكاني: هذا تعليم منه - صلى الله عليه وسلم - لأمته ليقتدوا به وإلا فجميع أعماله سابقها

مِنْ شَرِّ مَا عَمِلْتُ وَمِنْ شَرِّ مَا لَمْ أَعْمَلْ. رواه مسلم. 2487- (7) وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَنْ تُضِلَّنِي أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لا يَمُوتُ ـــــــــــــــــــــــــــــ ولاحقها كلها خير لا شر فيها (من شر ما عملت) بتقديم الميم على اللام فيه وفيما يأتي أي: فعلت. قال الطيبي: أي: من شر عمل يحتاج فيه إلى العفو والغفران يعني المراد من استعاذته من شر ما عمل طلب العفو والغفران منه عما عمل (ومن شر ما لم أعمل) استعاذ من شر أن يعمل في مستقبل الزمان ما لا يرضاه الله بأن يحفظه منه فإنه لا يأمن من مكر الله إلا القوم الخاسرون، أو من شر أن يصير معجبًا بنفسه في ترك القبائح فإنه يجب أن يرى ذلك من فضل ربه أو المراد شر عمل غيره قال تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} (8: 25) ويحتمل أنه استعاذ من أن يكون ممن يجب أن يحمد بما لم يفعل - انتهى. وقيل: المراد ما ينسب إليه افتراء ولم يعمله. وقال السندي: قوله: من شر ما عملت، إلخ. أي من شر ما فعلت من السيئات وما تركت من الحسنات أو من شر كل شيء مما تعلق به كسبي أولاً والله تعالى أعلم - انتهى (رواه مسلم) في الدعاء، وأخرجه أيضًا أبو داود في أواخر الصلاة، والنسائي في الاستعاذة، وابن ماجة في الدعاء. 2487- قوله: (اللهم لك) أي: لا لغيرك (أسلمت) أي: انقدت (وبك آمنت) أي: صدقت يعني انقدت لأمرك ونهيك وصدقت بك وبما أنزلت وأرسلت (وعليك توكلت) أي: إليك فوضت أموري كلها أو عليك لا غيرك اعتمدت في تفويض أموري (وإليك أنبت) أي: رجعت مقبلاً بقلبي عليك أو أقبلت بهمتي وطاعتي عليك وأعرضت عما سواك (وبك) أي: بقوتك ونصرك وإعانتك إياي (خاصمت) أي: حاربت أعداءك وقاتلتهم، أو بما آتيتني من البراهين والحجج خاصمت من خاصمني من الكفار (اللهم إني أعوذ بعزتك) أي: بغلبتك فإن العزة لله جميعًا. وقيل: أي: بقوة سلطانك (أن تضلني) بضم التاء من الإضلال وهو متعلق بأعوذ أي: من أن تضلني وكلمة التوحيد معترضة لتأكيد العزة يعني أن تهلكني بعدم التوفيق للرشاد والهداية والسداد. قال في الصحاح: ضل الشيء يضل ضلالاً، ضاع وهلك، والضلال والضلالة ضد الرشاد، وأضله وأهلكه. وقال القاري: أي: أعوذ بك من أن تضلني بعد إذ هديتني ووفقتني لانقياد الظاهر والباطن في حكمك وقضاءك وللإنابة إلى جنابك والمخاصمة مع أعدائك والالتجاء في كل حال إلى عزتك ونصرتك وفيه إيماء إلى قوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} (3: 8) (أنت الحي الذي لا يموت) بلفظ الغيبة وعند أحمد تموت بالخطاب أي: الحي الحياة الحقيقية التي لا يجامعها الموت بحال وهذا

(الفصل الثاني)

وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوتُونَ. متفق عليه. (الفصل الثاني) 2488- (8) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْأَرْبَعِ: مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ وَمِنْ دُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لفظ مسلم، وللبخاري: أعوذ بعزتك الذي لا إله إلا أنت الذي لا يموت. واستغنى عن ذكر عائد الموصول في هذه الرواية في قوله: ((بعزتك الذي لا إله إلا أنت)) لأن نفس المخاطب هو المرجوع إليه وبه يحصل الارتباط وكذلك المتكلم نحو: أنا الذي سمتني أمي حيدره لأن نسق الكلام سمته أمه (والجن والإنس يموتون) خصا بالذكر لأنهما المكلفان المقصودان بالتبليغ فكأنهما الأصل. قال الحافظ: استدل به على أن الملائكة لا تموت ولا حجة فيه لأنه مفهوم لقب ولا اعتبار له وعلى تقديره فيعارضه ما هو أقوى منه وهو عموم قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} (28: 88) مع أنه لا مانع من دخول الملائكة في مسمى الجن لجامع ما بينهم من الاستتار عن عيون الإنس. (متفق عليه) أخرجه البخاري في التوحيد مختصرًا، ومسلم في الدعاء واللفظ له، وأخرجه أيضًا أحمد (ج1: ص 302) ، والنسائي في النعوت من سننه الكبرى. 2488- قوله: (اللهم إني أعوذ بك من الأربع) اللام للعهد الذهني بينه بقوله: من علم أهو إجمال تفصيله قوله: (من علم لا ينفع) لا لي ولا لغيري لا في الدنيا بالعمل به ولا في الآخرة بالثواب عليه وهو علم لا يكون لله تعالى ولم يقترن به التقوى (ومن قلب لا يخشع) عند ذكر الله تعالى (ومن نفس لا تشبع) أي: حريصة على الدنيا لا تشبع منها أو من كثرة الأكل وأما الحرص على العلم والخير فمحمود ومطلوب قال تعالى: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} (20: 114) (ومن دعاء لا يسمع) بصيغة المجهول أي: لا يستجاب. يقال: اسمع دعائي أي: أجب لأن الغرض من السماع هو الإجابة والقبول. قال البغوي: ((من دعاء لا يسمع)) يعني لا يجاب، ومنه قول المصلي: سمع الله لمن حمده. استجاب الله دعاء من حمده. قال الطيبي: اعلم أن في كل من القرائن الأربع ما يشعر بأن وجوده مبني على غايته وأن الغرض منه تلك الغاية وذلك أن تحصيل العلوم إنما هو للانتفاع بها فإذا لم ينتفع به لم يخلص منه كفافًا بل يكون وبالاً ولذلك، وأن القلب إنما خلق لأن يتخشع لبارئه وينشرح لذلك الصدر ويقذف النور فيه فإذا لم يكن كذلك كان قاسيًا فيجب أن يستعاذ منه قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ} (39: 22) وأن النفس إنما يعتد بها إذا تجافت عن دار

رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجة. 2489- (9) ورواه الترمذي عن عبد الله بن عمر، والنسائي عنهما. 2490- (10) وعَنْ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَعَوَّذُ مِنْ خَمْسٍ: مِنْ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَسُوءِ الْعُمُرِ وَفِتْنَةِ الصَّدْرِ ـــــــــــــــــــــــــــــ الغرور وأنابت إلى دار الخلود وهي إذا كانت منهومة لا تشبع حريصة على الدنيا كانت أعدى عدو المرء فأولى الشيء الذي يستعاذ منه هي أي النفس، وعدم استجابة الدعاء دليل على أن الداعي لم ينتفع بعلمه وعمله ولم يخشع قلبه ولم تشبع نفسه - انتهى. وفي استعاذته - صلى الله عليه وسلم - من هذه الأمور إظهار للعبودية وإعظام للرب تبارك وتعالى وأن العبد ينبغي له ملازمة الخوف ودوام الافتقار إلى جنابه تعالى وفيه حث للأمة على ذلك وتعليم لهم وإلا فهو - صلى الله عليه وسلم - معصوم من هذه الأمور، وفيه أن الممنوع من السجع ما يكون عن قصد إليه وتكلف في تحصيله، وأما ما اتفق حصوله بسبب قوة السليقة وفصاحة اللسان فبمعزل عن ذلك (رواه أحمد) (ج2: ص340، 365) ، (وأبو داود) في الاستعاذة من أواخر الصلاة، (وابن ماجة) في الدعاء وقد سكت عنه أبو داود، والمنذري، والحاكم، وصححه الذهبي. 2489- قوله: (رواه الترمذي) في الدعوات (عن عبد الله بن عمرو) بالواو ابن العاص، قال الترمذي: وهذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. ونقل المنذري كلام الترمذي هذا وأقره وأخرجه أيضًا أحمد (ج2: ص167، 198) ، وأبو نعيم في الحلية (ج5: ص93) ، والحاكم (ج1: ص534) وسكت عنه هو والذهبي (والنسائي عنهما) أي عن أبي هريرة وابن عمرو، وكذا أحمد، والحاكم كما سبق، وفي الباب عن أنس عند أحمد، وابن حبان، والبغوي (ج5: ص159) وعن ابن عباس وجرير عند الطبراني، وابن مسعود عند الحاكم. 2490- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ من خمس) هذا لا ينافي الزيادة (وسوء العمر) بضم الميم وسكونها، أي: أرذله وهو البلوغ إلى حد في الهرم يعود معه كالطفل في سخف العقل وقلة الفهم وضعف القوة، وقال في اللمعات: يحتمل أن يراد به سوء الكبر وأن يكون سوء المعيشة وضيقها وفسادها وقيل المراد به عمر غير مرضي لا يعمل فيه عمل صالح يعني مضيه فيما لا ينفعه في العقبى بل يسوءه (وفتنة الصدر) بفتح الصاد وسكون الدال المهملتين، قال الجزري: يعني ما يوسوس به الشيطان في قلبه كما في حديث من وساوس الصدر - انتهى. وقيل: هي قساوة القلب وحب الدنيا وأمثال ذلك، وقيل: موته وفساده، وقيل هي ما ينطوي عليه من غل وحسد وخلق سيئ وعقيدة باطلة، وقيل هي ضيقه المانع من قبول الحق وتحمل البلاء وقال الطيبي: هي الضيق المشار إليه بقوله تعالى: {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} (6: 126) فهي الإنابة إلى دار الغرور والتجافي عن دار الخلود وفسرها وكيع في رواية

وَعَذَابِ الْقَبْرِ. رواه أبو داود، والنسائي. 2491- (11) وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْفَقْرِ وَالْقِلَّةِ وَالذِّلَّةِ ـــــــــــــــــــــــــــــ أحمد بأن يموت الرجل في فتنة لم يتب منها. والظاهر العموم (وعذاب القبر) ، أي البرزخ. (رواه أبو دواد والنسائي) في الاستعاذة إلا أن النسائي لم يذكر ((سوء العمر)) وأخرجه أيضًا أحمد (ج1: ص22، 54) ، وابن ماجة في الدعاء، وابن حبان كما في موارد الظمآن (ص605) ، والحاكم (ج1: ص530) وقد سكت عنه أبو داود والمنذري (ج2: ص158) ، وصححه الحاكم على شرط الشيخين وأقره الذهبي. 2491- قوله (اللهم إني أعوذ بك من الفقر) ، الفقر الاحتياج والطلب وأراد به ها هنا فقر القلب وكل قلب يطلب شيئًا ويحتاج إلى شيء ويحرص على شيء فهو فقير وإن كان صاحبه كثير المال يعني من قلب حريص على جمع المال وهذا مثل قوله ((ونفس لا تشبع)) قاله المظهر. وقال التوربشتي: الفقر المستعاذ منه إنما هو فقر النفس وجشعها الذي يفضي بصاحبه إلى كفران نعمة الله ونسيان ذكره ويدعوه إلى سد الخلة بما يتدنس به عرضه وينثلم به دينه وقال الطيبي: أصل الفقر كسر فقار الظهر، والفقر يستعمل على أربعة أوجه: الأول وجود الحاجة الضروية وذلك عام للإنسان ما دام في الدنيا بل عام في الموجودات كلها وعليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ} (35: 15) الثاني: عدم المقتنيات وهو المذكور في قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ} (2: 273) و {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء} (9:60) الثالث: فقر النفس وهو المقابل لقوله ((الغنى غنى النفس)) والمعنى بقولهم: ((من عدم القناعة لم يفده المال غنى)) الرابع: الفقر إلى الله المشار إليه بقولهم: ((اللهم اغنني بالافتقار إليك ولا تفقرني بالاستغناء عنك)) وإياه عنيَ تعالى بقوله: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} (28: 24) أقول: والمستعاذ منه في الحديث هو القسم الثاني يعني عدم المقتنيات وقلة المال وإنما استعاذ منه عند عدم الصبر وهو فتنة وقلة الرضاء به أو استعاذ من القسم الثالث أي: من الفقر الذي هو فقر النفس وهو الشره الذي يقابل غنى النفس الذي هو قناعتها لا قلة المال والفرق بين القول الأول والرابع أن الفقر الأول عام اضطراري والرابع خاص اختياري أو شهود ذلك الاضطرار ودوام حضور ذلك الافتقار (والقلة) بكسر القاف، قال المظهر: أراد به قلة المال بحيث لا يكون له كفاف من القوت فيعجز عن وظائف العبادات من أجل الجزع وجوع العيال، وقيل: المراد قلة الصبر وقلة الأنصار أو قلة العدد أو العُدد أو الكل. وقال التوربشتي: المراد منها القلة في أبواب البر وخصال الخير لأنه عليه الصلاة والسلام كان يؤثر الإقلال في الدنيا ويكره الاستكثار من الأعراض الفانية وفي صحيح ابن حبان الفاقة بدل القلة وهي شدة الفقر والحاجة إلى الخلق (والذلة) أي: من أن أكون ذليلاً في

وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ. رواه أبو داود، والنسائي. 2492- (12) وعنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الشِّقَاقِ ـــــــــــــــــــــــــــــ أعين الناس بحيث يستخفونه ويحقرون شأنه، وقيل: المراد بها الذلة الحاصلة من المعصية أو التذلل للأغنياء على وجه المسكنة، والمراد بهذه الأدعية تعليم الأمة ولا ينافي هذا الحديث قوله: ((اللهم أحيني مسكينًا)) إلخ، الآتي في فضل الفقراء لأن المراد بالمسكنة التواضع وعدم التكبر لا الفقر. قال المناوي: لم يسأل مسكنة ترجع للقلة بل إلى الإخبات والتواضع ذكره البيهقي وجرى على قضيته حجة الإسلام أي الغزالي حيث قال: استعاذته من الفقر لا تنافي طلب المسكنة لأن الفقر مشترك بين معنيين الأول: الافتقار إلى الله والاعتراف بالذلة والمسكنة له، والثاني: فقر الاضطرار وهو فقد المال المضطر إليه كجائع فقد الخبز فهذا هو الذي استعاذ منه والأول هو الذي سأله - انتهى. وسئل الشيخ زكريا عن معنى هذا الحديث فقال: معناه طلب التواضع والخضوع وأن لا يكون من الجبابرة المتكبرين والأغنياء المترفين - انتهى. ومنه أخذ السبكي قوله: المراد استكانة القلب لا المسكنة التي هي نوع من الفقر فإنه أغنى الناس بالله، وقال القتيبي: المسكنة حرف مأخوذ من السكون، يقال: تمسكن أي تخشع وتواضع. وقال الحافظ في التلخيص: إن الذي استعاذ منه وكرهه فقر القلب والذي اختاره وارتضاه طرح المال. وقال ابن عبد البر: الذي استعاذ منه هو الذي لا يدرك معه القوت والكفاف ولا يستقر معه في النفس غنى لأن الغنى عنده - صلى الله عليه وسلم - غنى النفس وقد قال تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} (93: 8) ولم يكن غناه أكثر من ادخاره قوت سنة لنفسه وعياله وكان الغنى محله في قلبه ثقة بربه، وكان يستعيذ من فقر منس وغنى مطغ، وفيه دليل على أن للفقر والغنى طرفين مذمومين وبهذا تجتمع الأخبار في هذا المعنى - انتهى. (وأعوذ بك من أن أظلم) بالبناء للفاعل أي أحدًا من المسلمين والمعاهدين ويدخل فيه ظلم نفسه بمعصية الله، والظلم وضع الشيء في غير محله وموضعه أو التعدي في حق غيره (أو أظلم) بالبناء للمفعول، أي يظلمني ويتعدى على أحد وأو للتنويع وقيل بمعنى الواو (رواه أبو داود، والنسائي) في الاستعاذة وهو عند أبي داود، والبخاري في الأدب المفرد (ج2: ص131) من رواية سعيد بن يسار عن أبي هريرة، وأخرجه ابن ماجة من طريق جعفر بن عياض عن أبي هريرة وجعله حديثًا قوليًا بلفظ تعوذوا بالله من الفقر والقلة إلخ. وأخرجه أحمد (ج2: ص205) ، والنسائي، وابن حبان، والحاكم (ج1: ص531، 541) من كلا الوجهين وقد سكت عنه أبو داود ولم يعترضه المنذري وصححه الحاكم وأقره الذهبي. 2492- قوله (اللهم إني أعوذ بك من الشقاق) بكسر الشين ككتاب التنازع والخلاف والخصومة أو التعادي لأن كلاً من المتعاديين يكون في شق، أي ناحية في غير شق صاحبه أو يريد مشقة الآخر أو لشق العصا بينهما، واستعاذ منه - صلى الله عليه وسلم - لأنه يؤدي إلى المهاجرة والمقاطعة. وقال القاري: أي من مخالفة الحق ومنه قوله تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا

وَالنِّفَاقِ وَسُوءِ الْأَخْلَاقِ. رواه أبو داود، والنسائي. 2493- (13) وعنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُوعِ فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ ـــــــــــــــــــــــــــــ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} (38: 2) (والنفاق) ، أي إظهار الإسلام وإبطان الكفر. قال في اللمعات: النفاق في الدين أن يستر الكفر ويظهر الإيمان ولعل المراد هنا أعم من ذلك مما يشمل الرياء وعلامات النفاق. وقال الطيبي: أي أن تظهر لصاحبك خلاف ما تضمره. وقيل المراد النفاق في العمل بكثرة كذبه وخيانة أمانته وخلف وعده، والفجور في مخاصمته، والأظهر أن اللام للجنس فيشمل جميع أفراده (وسوء الأخلاق) من عطف العام على الخاص، وفيه إشعار بأن المذكورين أولاً أعظم الأخلاق السيئة لأنه يسري ضررهما إلى الغير، ذكره الطيبي وقال في اللمعات: هو تعميم بعد تخصيص لأن الأخلاق هي الصفات الباطنة، أو المراد منه ضد بشاشة الوجه والسماحة، وقال ابن الملك: هو إيذاء أهل الحق وإيذاء الأهل والأقارب وتغليظ الكلام عليهم بالباطل وعدم التحمل عنهم وعدم العفو عنهم، إذا صدرت خطيئة منهم. (رواه أبو داود والنسائي) في الاستعاذة كلاهما من رواية بقية بن الوليد حدثنا ضبارة بن عبد الله بن أبي السليك عن دويد بن نافع عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة، وسكت عنه أبو داود وضعفه النووي في الأذكار وقال المنذري (ج2: ص159) : في إسناده بقية بن الوليد ودويد بن نافع وفيهما مقال - انتهى. قلت: بقية هذا صدوق كثير التدليس. قال ابن معين، ويعقوب وابن سعد، والعجلي، وأبو زرعة، والنسائي، والجوزجاني، وأبو أحمد الحاكم: ثقة في حديثه إذا حدث عن الثقات والمعرفين، فأما إذا حدث عن الضعفاء والمجهولين فليس بشيء. قال ابن عدي: إذا روى عن أهل الشام فهو ثبت وإذا روى عن غيرهم خلط. وإذا روى عن المجهولين فالعهدة منهم لا منه. وقال ابن المديني: صالح فيما روى عن أهل الشام. وضبارة بن عبد الله بن أبي السليك، أبو شريح الحضرمي الحمصي مجهول، قاله الحافظ في التقريب، وابن القطان كما في تهذيب التهذيب، وذكره ابن حبان في الثقات على ما اصطلح أن من لم يعرف بجرح ولا تعديل فهو عدل عنده. وقال يعتبر حديثه من رواية الثقات عنه - انتهى. ودويد بن نافع الشامي مقبول، وقال ابن حبان: مستقيم الحديث إذا كان دونه ثقة. قال الحافظ: وذكر ابن خلفون أن الذهلي والعجلي وثقاه. 2493- قوله (اللهم إني أعوذ بك من الجوع) ، أي الألم الذي ينال الحيوان من خلو المعدة عن الغذاء استعاذ منه لظهور أثره في بدن الإنسان وقواه الظاهرة والباطنة، ومنعه من الطاعات والخيرات (فإنه بئس الضجيع) بفتح فكسر، وهو من ينام معك في فراشك، أي المضاجع سماه ضجيعًا للزومه الإنسان في النوم واليقظة وفيه إشارة إلى أن الجوع المذم الذي يلزم الإنسان ويتضرر به أي بئس الصاحب الجوع الذي يمنع الإنسان من وظائف العبادات ويشوش

وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْخِيَانَةِ فَإِنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ. رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجة. 2494- (14) وعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْبَرَصِ وَالْجُذَامِ وَالْجُنُونِ ـــــــــــــــــــــــــــــ الدماغ ويثير الأفكار الفاسدة والخيالات الباطلة. قال الطيبي: الجوع يضعف القوى ويشوش الدماغ فيثير أفكارًا ردية وخيالات فاسدة فيخل بوظائف العبادات والمراقبات، ولذلك خص بالضجيع الذي يلازمه ليلاً ومن ثم حرم الوصال - انتهى. وقال التوربشتي: استعاذ من الجوع الذي يشغله عن ذكر الله ويثبطه عن طاعته لمكان الضعف وتحليل المواد لا إلى بدل وأشار بالضجيع إلى الجوع الذي يمنع عن الهجوع (النوم بالليل) لأنه جعل القسم المستعاذ منهما يلازم صاحبه في المضجع وذلك بلليل، وإلى التفريق الواقع بينه وبين ما شرع له من التعبد بالجوع المبرح في نهار الصوم (وأعوذ بك من الخيانة) هي ضد الأمانة. قال الطيبي: هي مخالفة الحق بنقض العهد في السر، والأظهر أنها شاملة لجميع التكاليف الشرعية كما يدل عليه قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ} (33: 72) الآية، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ} (8: 27) شامل لجميعها (فإنها بئست البطانة) ، أي الخصلة الباطنة بكسر الباء الموحدة خلاف الظهارة من الثوب ثم استعيرت لمن يخصه الرجل بالإطلاع على باطن أمره، والتبطن الدخول في باطن الأمر فلما كانت الخيانة أمر يبطنه الإنسان ويستره ولا يظهره سماها بطانة. قال الطيبي: البطانة ضد الظهارة وأصلها في الثوب فاستعير لما يستبطنه الإنسان من أمره فيجعله بطانة حاله. (رواه أبو داود، والنسائي) في الاستعاذة وأخرجه أيضًا ابن حبان في صحيحه كلهم من حديث محمد بن عجلان عن المقبري عن أبي هريرة، وقد سكت عنه أبو داود وقال المنذري: في سنده محمد بن عجلان وفيه مقال - انتهى. قلت: خرج له مسلم في صحيحه ثلاثة عشر حديثًا كلها في الشواهد ولذا صحح النووي إسناد هذا الحديث في الأذكار والرياض (وابن ماجة) ، في باب التعوذ من الجوع من أبواب الأطعمة من طريق ليث بن أبي سليم عن كعب عن أبي هريرة، وليث هذا صدوق اختلط أخيرًا ولم يتميز حديثه فترك، قاله الحافظ، وأخرجه البغوي (ج5: ص170) من رواية ليث عن رجل عن أبي هريرة ثم أشار إلى طريق المقبري عن أبي هريرة. 2494- قوله (اللهم إني أعوذ بك من البرص) بفتحتين، بياض رديء يظهر في ظاهر البدن لفساد مزاج (والجذام) بضم الجيم، علة رديئة تحدث من انتشار المرة السوداء في البدن كله فيفسد مزاج الأعضاء وهيئتها وشكلها وربما فسد في آخره أوصالها حتى تتأكل الأعضاء وتسقط قال في القاموس: الجذام كغراب علة تحدث من انتشار السوداء في البدن كله فيفسد مزاج الأعضاء وهيأتها وربما انتهى إلى تأكل الأعضاء وسقوطها عن تقرح (والجنون) ، أي

وَمِنْ سَيِّئْ الْأَسْقَامِ. رواه أبو داود، والنسائي. 2495- (15) وعن قُطْبَةُ بْنُ مَالِكٍ قال: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ مُنْكَرَاتِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَهْوَاءِ ـــــــــــــــــــــــــــــ زوال العقل الذي هو منشأ الخيرات العلمية والعملية، (ومن سيئ الأسقام) ، الإضافة ليست بمعنى من كقولك خاتم فضة بل هي من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي الأسقام السيئة، يعني الأمراض القبيحة الفاحشة الرديئة تكون سببًا لعيب يتنفر منه الخلق أو فساد أعضائه كالاستسقاء والسل والفالج والمرض المزمن الطويل، وهو تعميم بعد تخصيص نص على تلك الثلاثة مع دخولها في سيئ الأسقام لكونها أبغض شيء إلى العرب بل إلى جميع الناس، ولهم عنها نفرة عظيمة، ولهذا عدوا من شروط الرسالة السلامة من كل ما ينفر الخلق ويشوه الخلق قال صاحب الفتح الرباني: اعلم أن الأمراض المنفرة لا تجوز على الأنبياء بل يشترط في النبي سلامته من كل منفر وإنما ذكرها - صلى الله عليه وسلم - تعليمًا للأمة كيف تدعو. قال الطيبي: وإنما لم يتعوذ من الأسقام مطلقًا، أي سائر الأسقام بل قيد بالسيئ فإن بعضها مما يخف مؤنته وتكثر مثوبته عند الصبر عليه مع عدم إزمانه كالحمى والصداع والرمد يعني أن من الأمراض ما إذا تحامل الإنسان فيه على نفسه بالصبر خفت مؤنته وعظمت مثوبته قال: وإنما استعاذ من السقم المزمن فينتهي بصاحبه إلى حالة ينفر منها الحميم ويقل دونها المؤانس والمداوى مع ما يورث من الشين فمنها الجنون الذي يزيل العقل فلا يأمن صاحبه القتل، ومنها البرص والجذام وهما العلتان المزمنتان مع ما فيهما من القذارة والبشاعة وتغيير الصورة - انتهى. وقال ابن مالك: الحاصل أن كل مرض يحترز الناس من صاحب ذلك المرض ولا ينتفعون منه ولا ينتفع منهم ويعجز بسبب ذلك المرض عن حقوق الله وحقوق عباده يستحب الاستعاذة من ذلك. (رواه أبو داود، والنسائي) في الاستعاذة، وأخرجه أيضًا أحمد (ج: ص) ، والطيالسي (ج1: ص258) وابن أبي شيبة، وسكت عنه أبو داود والمنذري، وصحح النووي سنده في الرياض والأذكار. 2495- قوله (وعن قطبة) بضم القاف وسكون الطاء المهملة وفتح الباء الموحدة (بن مالك) الثعلبي بمثلثة، ومهملة من بني ثعلبة بني ذبيان ولذلك يقال له الذبياني، وهو عم زياد بن علاقة الذي روى هذا الحديث عنه، صحابي سكن الكوفة (اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق) المنكر ما لا يعرف حسنه من جهة الشرع أو ما عرف قبحه من جهته، والمراد بالأخلاق الأعمال الباطنة كحقد وبخل وحسد وجبن ونحوها، واستعاذ من منكرات الأخلاق لأنها تكون سببًا لجلبب كل شر ودفع كل خير (والأعمال) ، أي الأفعال الظاهرة وهي تعم الصغائر والكبائر من نحو قتل وزنا وشرب خمر وسرقة ونحوها (والأهواء) جمع الهوى مصدر هواه إذا أحبه ثم سمي بالهوى المشتهي محمودًا كان أو مذمومًا ثم غلب

رواه الترمذي. 2496- (16) وعَنْ شُتَيْرِ بْنِ شَكَلٍ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ: يَا نبي اللَّهِ عَلِّمْنِي تَعَوِيذًا أَتَعَوَّذُ بِهِ قَالَ: ـــــــــــــــــــــــــــــ على غير المحمود فقيل فلان اتبع هواه إذا أريد ذمه، وفي التنزيل {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى} (38: 26) منه ((فلان من أهل الأهواء)) لمن زاغ عن الشرع من أهل القبلة كالجبرية والقدرية والحشوية والخوارج والروافض ومن سار سيرتهم كذا في المغرب. قال الطيبي: الإضافة في القرينتين الأوليين من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف وفي الثالثة بيانية لأن الأهواء كلها منكرة انتهى. قال القاري: والأظهر أن الإضافات كلها من باب واحد، ويحمل الهوى على المعنى اللغوي كما في قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ} (28: 50) أو يحمل على ما تختاره النفس من العقائد ومنه قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} (45: 23) فالمراد بالأهواء مطلقًا الاعتقادات وبالمنكرات الأهوية الفاسدة التي غير مأخوذة من الكتاب والسنة، وقيل منكرات الأهواء هي الزيغ والانهماك في الشهوات جمع هوى مقصور هوى النفس وهو ميلها إلى المستلذات والمستحسنات عندها واستعاذ منه لأنه يشغل عن الطاعة ويؤدي إلى الأشر والبطر وزاد في رواية الحاكم والأدواء، أي من منكرات الأدواء، وهي بمعنى سيئ الأسقام وذكر هذا الدعاء مع عصمته تعليمًا لأمته كما سبق (رواه الترمذي) في الدعوات، وأخرجه أيضًا الحاكم (ج1: ص532) ، والطبراني في الكبير، ورواه ابن حبان في صحيحه مختصرًا بلفظ ((اللهم جنبي منكرات الأهواء والأدواء)) ، والحديث حسنه الترمذي وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي. 2496- قوله (وعن شتير) أوله شين معجمة ثم تاء مثناة وآخرة راء مصغرًا (بن شكل) بفتح المعجمة والكاف العبسي الكوفي يقال أنه أدرك الجاهلية ثقة من الطبقة الوسطى من التابعين، مات في ولاية ابن الزبير وقيل توفي زمن مصعب (عن أبيه) ، أي شكل وهو من رهط حذيفة بن اليمان صحابي سكن الكوفة لم يرو عنه غير ابنه شتير وذكر له أبو القاسم البغوي هذا الحديث وقال لا أعلم له غيره، كذا في مختصر السنن (ج2: ص161) للمنذري، وقال الحافظ: في الإصابة (ج2: ص154) بعد ذكر هذا الحديث من رواية السنن قلت: وله رواية عن علي (علمني تعويذًا) ، أي ما يتعوذ به. قال الجوهري في الصحاح (ج2: ص567) : العوذة والمعاذ والتعويذ كله بمعنى. وقال المجد في القاموس: العوذة بالهاء الرقية كالمعاذة والتعويذ قلت: قوله ((تعويذًا)) ، كذا في جميع النسخ من المشكاة والمصابيح، وهكذا وقع عند البخاري في تاريخه (2 - 2 - 266) ، وفي شرح السنة للبغوي (ج5: 169) ، وللترمذي تعوذًا بتشديد الواو المضمومة، وهكذا وقع في أسد الغابة (ج3: ص3) ، وجامع الأصول (ج5: ص132) ، وجمع الفوائد (ج2: ص667) والإصابة والمستدرك للحاكم، وفي رواية أبي داود: علمني دعاء فقال، وأخرج النسائي الروايتين إلا أنه قال ((علمني الدعاء انتفع به)) ، وهكذا وقع عند أحمد في المسند والبخاري في التاريخ والأدب المفرد (ج2: ص117) (أتعوذ به) أي لخاصة نفسي، وفي

قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ سَمْعِي وَشَرِّ بَصَرِي وَشَرِّ لِسَانِي وَشَرِّ قَلْبِي وَشَرِّ مَنِيِّي. رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي. 2497- (17) وعَنْ أَبِي الْيَسَرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو: ـــــــــــــــــــــــــــــ الترمذي بعده ((قال فأخذ بكفي)) ، وللنسائي والبخاري في التاريخ والبغوي ((فأخذ بيدي)) وكان أخذه - صلى الله عليه وسلم - كفه لمزيد الاعتناء والاهتمام بالتعليم (اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي) ، أي حتى لا أسمع شيئًا تكرهه. وقال في الحرز الثمين قوله من شر سمعي بأن أسمع كلام الزور والبهتان والغيبة وسائر أسباب العصيان أو بأن لا أسمع كلمة الحق وأن لا أقبل الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر (وشر بصري) ، أي حتى لا أرى شئيًا تكرهه، وقيل: أي خائنة الأعين وغيرها من معاصي النظر، وقيل: بأن أنظر إلى محرم أو أرى إلى أحد بعين الاحتقار وأن لا أتفكر في خلق السماء والأرض بنظر الفكر والاعتبار، (وشر لساني) ، أي حتى لا أتكلم بما لا يعنيني، وقيل: أي من شر نطقي فإن أكثر الخطايا منه وهو الذي يورد المرأ في المهالك، وخص هذه الجوارح لما أنها مناط الشهوة ومثار اللذة، (وشر قلبي) ، أي حتى لا أعتقد اعتقادًا فاسدًا ولا يكون فيه نحو حقد وحسد وتصميم فعل مذموم أبدًا وقيل: أي بأن أشتغل بغير أمر ربي وقيل: أي من شر نفسي والنفس مجمع الشهوات والمفاسد بحب الدنيا والرهبة من الخلق وخوف فوت الرزق والأمراض القلبية من نحو حسد وحقد وطلب رفعه وغير ذلك (وشر منيي) هو المني المشهور بمعنى الماء المعروف مضاف إلى ياء المتكلم، أي بأن أوقعه في غير محله أو يوقعني في مقدمات الزنا من النظر واللمس والتقبيل والمشي والعزم وأمثال ذلك. وقيل هو أن يغلب عليه حتى يقع في الزنا أو مقدماته، وقيل: أي من شر شدة الغلمة وسطوة الشهوة إلى الجماع الذي إذا أفرط ربما أوقع في الزنا أو مقدماته لا محالة فهو حقيق بالاستعاذة من شره، وخص هذه الأشياء بالاستعاذة لأنها أصل كل شر وقاعدته ومنبعه وزاد في رواية للنسائي والبغوي، ((قال: حتى حفظتها)) قال سعد (أحد رواة الحديث) : ((والمني ماءه)) وفي رواية للنسائي أيضًا يعني ذكره، وللترمذي يعني فرجه. وقوله ((منيي)) كذا في جميع النسخ من المشكاة والمصابيح، وهكذا وقع في النسخ الموجودة عندنا للترمذي، وكذا عند أحمد، والبخاري، وأبي داود، والنسائي، والحاكم، والبغوي، والجزري في أسد الغابة، وذكره في جامع الأصول بلفظ ((ومن شر هني)) يعني الفرج. وقال هذه رواية الترمذي، وكذا نقله في جمع الفوائد وعزاه لأصحاب السنن (رواه أبو داود) في آخر الصلاة، (والترمذي) في الدعوات، (والنسائي) في الاستعاذة، وأخرجه أيضًا أحمد (ج3: ص429) ، والبخاري في الأدب المفرد (ج2: ص117، 118) ، وفي التاريخ الكبير (2/2/266) ، والحاكم (ج1ص532، 533) والبغوي (ج5: ص168، 169) وسكت عنه أبو داود وحسنه الترمذي ونقل المنذري تحسينه وأقره. وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. 2497- قوله (وعن أبي اليسر) بفتح التحتية والسين المهملة آخره راء اسمه كعب بن عمرو بن عباد السلمي

اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَدْمِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ التَّرَدِّي وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْغَرَقِ وَالْحَرَقِ وَالْهَرَمِ وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ يَتَخَبَّطَنِي الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْمَوْتِ ـــــــــــــــــــــــــــــ بفتحتين الأنصاري مشهور باسمه وكنيته صحابي شهد العقبة وبدرًا وله فيها آثار كثيرة، وكان عظيم الفناء يوم بدر وغيره، وهو الذي أسر العباس، وهو الذي انتزع راية المشركين من يد أبي عزيز بن عمير، ثم شهد المشاهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم شهد صفين مع علي بن أبي طالب. مات بالمدينة سنة خمس وخمسين وقد زاد على المائة وهو آخر من مات من أهل بدر (اللهم إني أعوذ بك من الهدم) بسكون الدال، وهو سقوط البناء ووقوعه على الشيء يعني انهدام البناء عليه، وروي بالفتح وهو اسم ما انهدم منه. وفي النهاية محركًا البناء المهدوم، وبالسكون الفعل نفسه، وقال السندي: الهدم بفتح فسكون مصدر هدم البناء نقضه، والمراد من أن يهدم على البناء على أنه مصدر مبني للمفعول أو من أن أهدم البناء على أحد على أنه مصدر مبني للفاعل (وأعوذ بك من التردي) ، أي السقوط من موضع عال كالوقوع من شاهق جبل وسطح مرتفع أو الوقوع في مكان سفلي كالبئر تفعل من الردى وهو الهلاك. قال الجزري: بفتح التاء المثناة من فوق وفتح الراء المهملة وتشديد الدال المكسورة، من تردي يتردى إذا سقط في بئر أو تهور من جبل (ومن الغرق) ، بفتحتين مصدر غرق في الماء من باب تعب، أي سقط فيه (والحرق) بالتحريك مصدر حرق بالنار، إنما استعاذ - صلى الله عليه وسلم - من الهدم والتردي والغرق والحرق، لأن ذلك يكون بغتة، وقد يكون الإنسان في ذلك الوقت غير مقرر أموره بالوصية فيما يكون محتاج الوصية فيه وبإخراج ما يجب إخراجه ركونًا منه على ما هو فيه من الصحة والعافية، وقد لا يتمكن عند حدوث هذه الأمور من أن يتكلم بكلمة الشهادة لما يفجأه من الفزع ويدهمه من الخوف. قال التوربشتي: إنما استعاذ من هذه البليات مع ما وعد عليها من الشهادة لأنها محن مجهدة مقلقة لا يكاد واحد يصبر عليها ويثبت عندها أو يذكر عند حلولها شيئًا مما يجب عليه في وقته ذلك، وربما ينتهض الشيطان عنه فرصة لم يكن لينال منه في غيرها من الأحوال، أي فيحمله على ما يضر بدينه، ثم إنها تفجأ عليه فتتضمن الأسباب التي ذكرناها في موت الفجاءة. وقال الطيبي: استعاذ منها مع ما فيها من نيل الشهادة لأنها في الظاهر مصائب ومحن وبلايا كالأمراض السابقة المستعاذ منها، وأما ترتب ثواب الشهادة عليها فللبناء على أن الله تعالى يثيب المؤمن على المصائب كلها حتى الشوكة يشاكها ومع ذلك فالعافية أوسع، ولأن الفرق بين الشهادة الحقيقية وبين هذه الشهادة أن الشهادة الحقيقية متمنى كل مؤمن ومطلوبة وقد يجب عليه توخي الشهادة والتحري لها والتجرؤ فيها بخلاف التردي والحرق والغرق ونحوها فإنه يجب التحرير عنها ولو سعى فيها عصى. وقيل: في الحقيقة الاستعاذة ترجع إلى وقوعها من حيث الإخلال بالدين والاستعاذة من المحن والمصائب كلها إنما هي من حيث احتمال الجزع والشكوى مع كونها سببًا للكفارة من الذنوب ورفع الدرجات (وأعوذ بك من أن يتخبطني الشيطان) أي يصرعني ويلعب بي ويفسد ديني وعقلي (عند الموت) بنزغاته التي تزل الأقدام وتصارع العقول والأحلام،

وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أَمُوتَ فِي سَبِيلِكَ مُدْبِرًا وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أَمُوتَ لَدِيغًا. رواه أبو داود، والنسائي. وزاد في رواية أخرى: والغم. 2498- (18) وعَنْ مُعَاذِ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ طَمَعٍ يَهْدِي ـــــــــــــــــــــــــــــ والأصل في التخبط أن يضرب البعير الشيء بخف يده فيسقط وقال الجزري: من تخبطه الشيطان إذا صرعه ولعب به، والخبط باليدين كالرمح بالرجلين. وقال الشوكاني: أي يفتنه ويغلبه على أمره ويحسن له ما هو قبيح ويقبح له ما هو حسن ويناله بشيء من المس كالصرع والجنون ولما قيده بالتخبط عند الموت كان أظهر المعاني فيه هو أن يغويه ويوسوس له ويلهيه عن التثبت بالشهادة والإقرار بالتوحيد. وقال الخطابي: هو أن يستولي عليه الشيطان عند مفارقته الدنيا فيضله ويحول بينه وبين التوبة أو يعوقه عن إصلاح شأنه والخروج من مظلمة تكون قبله أو يؤيسه من رحمة الله أو يكره الموت ويؤسفه على حياة الدنيا فلا يرضى بما قضاه الله عليه من الفناء والنقلة إلى الدار الآخرة فيختم له بالسوء ويلقى الله وهو ساخط عليه (وأعوذ بك من أن أموت في سبيلك مدبرًا) ، أي عن الحق أو عن قتال الكفار حيث حرم الفرار، وقال في الحرز: أي فارًا من الزحف أو تاركًا للطاعة مرتكبًا للمعصية أو رجوعًا إلى الدنيا بعد الإقبال على العقبى أو اختيارًا للغفلة والهوى إلى سوى حضور المولى. قيل: هذا وأمثال ذلك تعليم للأمة وإلا فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز عليه الخبط والفرار من الزحف ونحوهما. والأظهر أن هذا كله تحدث بنعمة الله وطلب الثبات عليها والتلذذ بذكرها المتضمن بشكرها الموجب لمزيد النعمة المقتضي لإزالة النقمة - انتهى. قلت: وقع عند أحمد وكذا في رواية للنسائي ((وأن أقتل في سبيلك مدبرًا)) وهذا يرجح بل يعين المراد من الإدبار في رواية الكتاب وهو الفرار من الزحف في قتال الكفار (وأعوذ بك من أن أموت لديغًا) فعيل بمعنى مفعول من اللدغ وهو يستعمل في ذوات السم من الحية والعقرب ونحوهما، والاستعاذة مختصة بأن يموت عقيب اللدغ فيكون من قبيل فجاءة الموت. قال الشوكاني: استعاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - من أن يموت لديغًا لأنه قد يموت بذلك فجاءة فلا يقدر على التثبت وقد يتراخى موته فيشتغل بهذا الألم الشديد عن أن يتخلص بما يجب عليه التخلص عنه. وقال التوربشتي: موت اللديغ مشابه في المعنى لأسباب الهلاك التي ذكرناها قبل (رواه أبو داود) في أواخر الصلاة، (والنسائي) في الاستعاذة، وأخرجه أيضًا أحمد (ج3: ص427) ، والحاكم (ج1: ص530) ، (وزاد) أي النسائي (في رواية أخرى ((والغم)) ) ، أي كلمة الغم، وكذا زادها أحمد والحاكم، والحديث سكت عنه أبو داود والمنذري وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. 2498- قوله (استعيذوا بالله من طمع) بفتح الطاء المهملة والميم، أي حرص شديد. وقال القاري: هو نوع النفس إلى الشيء شهوة له (يهدى) بفتح أوله، أي يدل أو يؤدي أو يدني ويقرب ويوصل أو يجر. قال الطيبي: الهداية

إِلَى طَبْعٍ. رواه أحمد، والبيهقي في الدعوات الكبير. 2499- (19) وعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ اسْتَعِيذِي بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا، فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْغَاسِقُ إِذَا وَقَبَ ـــــــــــــــــــــــــــــ الإرشاد إلى الشيء والدلالة إليه، ثم اتسع فيه فاستعمل بمعنى الإدناء من الشيء والإيصال إليه قال القاري: الأظهر أن الهداية هنا بمعنى الدلالة وهي متعد تارة بنفسه كاهدنا الصراط المستقيم وتارة باللام كقوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (17: 9) وتارة بإلى كقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (42: 52) فلا حاجة إلى استعمالها بمعنى الإدناء والإيصال (إلى طبع) بفتح الطاء والموحدة، أي عيب وشين وأصله الدنس الذي يعرض السيف، وكانوا يرون أن الطبع هو الرين قال مجاهد: الرين أيسر من الطبع، والطبع أيسر من الإقفال. ثم استعمل الطبع فيما يشبه الوسخ في الدنس من الآثام والأوزار وغير ذلك من العيوب والمقابح المعنوية، والمعنى تعوذوا بالله من طمع يسوقكم وبدلكم إلى ما يشينكم في الدين ويزري بكم في المروءة من المقابح كالمذلة للسفلة والتواضع لأرباب الدنيا وإظهار السمعة والرياء وغير ذلك مما يترتب على الطمع، لذا قيل الطمع فساد الدين والورع صلاحه. وللحديث عند أحمد والطبراني تتمة وهي ((ومن طمع يهدي إلى غير مطمع)) ، (أي إلى تأميل ما يبعد حصوله والتعليق به، قال في المصباح: ومن كلامهم ((فلان طمع في غير مطمع)) إذا أمل ما يبعد حصوله) ((ومن طمع حيث لا مطمع)) ، (أي ومن طمع شيء لا مطمع فيه بالكلية لتعذره حسًا أو شرعًا، وهذه الثالثة أحط مراتب الدناءة في مطمع وأقبحها فإن حيث للتعميم في الأمكنة والأزمنة والأحوال، أي حيث لا يمكن حصوله في مكان أصلاً ولا في زمان أصلاً ولا في حال أصلاً فهو محال فهو أشد ذمًا ودناءة مما قبله) (رواه أحمد) (ج5: ص232، 247) (والبيهقي في الدعوات الكبير) ، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10: ص144) مطولاً وقال: رواه الطبراني (في الكبير) ، وأحمد والبزار بنحوه وفيه عبد الله بن عامر الأسلمي وهو ضعيف. قلت: وأخرجه أيضًا الحاكم (ج1: ص533) بنحوه وفي إسناده عبد الله بن عامر الأسلمي. وقال الحاكم: هذا حديث مستقيم الإسناد ووافقه الذهبي. قلت: عبد الله بن عامر هذا من رجال ابن ماجة، قال الحافظ: عنه في التقريب، ضعيف. قلت: قد ضعفه أحمد، وأبو زرعة، والنسائي، وأبو داود، وابن معين، والدارقطني. وقال أبو حاتم: متروك. وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقوى عندهم. وقال البخاري: يتكلمون في حفظه. وقال أيضًا: ذاهب الحديث. وقال ابن سعد: كان قارئًا للقران وكان يقوم بأهل المدينة في رمضان، وكان كثير الحديث استضعف. وقال ابن عدي: كان عزيز الحديث لا يتابع في بعض حديثه وهو ممن يكتب حديثه. وذكره البرقي في ((باب من غلب عليه الضعف)) . 2499- قوله (استعيذي بالله من شر هذا) ، أي هذا القمر (فإن هذا هو الغاسق إذا وقب) ، قال المجد: في القاموس الغسق محركة ظلمة أول الليل وغسق الليل كضرب غسقًا اشتدت ظلمته والغاسق القمر أو الليل إذا غاب

رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ الشفق، وقال في مادة ((وقب)) وقب الظلام دخل والشمس وقبا ووقوبًا غابت والقمر دخل في الخسوف ومنه غاسق إذا وقب. - انتهى. وقال القاضي: الغاسق الليل إذا غاب الشفق واعتكر ظلامه من غسق يغسق إذا أظلم وأطلق ها هنا على القمر لأنه يظلم ووقوبه دخوله في الكسوف واسوداده. قال الطيبي: وإنما استعاذ من كسوفه لأنه من آيات الله الدالة على حدوث بلية ونزول نازلة كما قال عليه الصلاة والسلام ولكن يخوف الله به عباده ولأن اسم الإشارة في الحديث كوضع اليد في التعيين وتوسيط ضمير الفصل بينه وبين الخبر المعروف يدل على أن المشار إليه هو القمر لا غير وتفسير الغاسق بالليل يأباه سياق الحديث كل الإباء ولأن دخول الليل نعمة من نعم الله تعالى ومن الله تعالى على عباده في كثير من الآيات، قال تعالى: {جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} (10: 67، 40: 61) قال القاري: قد يرد مثل هذا ادعاء وإرادة للمبالغة وقصدًا للتخصيص إيماء إلى أنه أعظم أفراد نوعه وبه يدفع قوله وتفسير الغاسق بالليل يأباه سياق الحديث. قال: ولا يشك أحد أن دخول الليل نعمة ولكن لا يلزم من كونه نعمة أنه لا يتضمن نقمة، ولذا قال تعالى في صدر السورة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِن * شَرِّ مَا خَلَقَ} (113: 1، 2) تعميمًا ثم قال {وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} (113: 3) إلخ. تخصيصًا - انتهى كلام القاري مختصرًا. وقال الخازن: في تفسيره بعد ذكر حديث عائشة هذا ما لفظه: فعلى هذا الحديث المراد به القمر إذا خسف وأسود. ومعنى وقب دخل في الخسوف أو أخذ في الغيبوبة. وقيل سمي لأنه إذا خسف اسود وذهب ضوءه. وقيل إذا وقب دخل في المحاق وهو آخر الشهر وفي ذلك الوقت يتم السحر المورث للتمريض وهذا مناسب لسبب نزول هذه السورة. وقال ابن عباس (وإليه ذهب جمهور المفسرين) الغاسق الليل إذا وقب، أي أقبل بظلمته من المشرق، وقيل سمي الليل غاسقًا لأنه أبرد من النهار والغسق البرد وإنما أمر بالتعوذ من الليل لأن فيها تنتشر الآفات ويقل الغوث وفيه يتم السحر. وقيل: الغاسق الثريا إذا سقطت وغابت، وقيل إن الأسقام تكثر عند وقوعها وترتفع عند طلوعها فلهذا أمر بالتعوذ من الثريا عند سقوطها - انتهى. وقال ابن جرير في تفسيره: ولأولى الأقوال في ذلك عندي أن يقال أن الله أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يستعيذ من شر غاسق وهو الذي يظلم، يقال قد غسق الليل يغسق غسوقًا إذا أظلم، إذا وقب يعني إذا دخل في ظلامه، والليل إذا دخل في ظلامه غاسق والنجم إذا أفل غاسق والقمر غاسق إذا وقب، ولم يخصص بعد ذلك بل عم الأمر بذلك فكل غاسق فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان يؤمر بالاستعاذة من شره إذا وقب - انتهى. وارجع لمزيد الكلام في ذلك إلى التفسير القيم (ص557،560) (رواه الترمذي) ، في تفسير سورة المعوذتين وقال هذا حديث حسن صحيح وأخرجه أيضًا أحمد (ج6: ص 61، 206، 215، 237، 252) ، والنسائي في التفسير من سننه الكبرى وفي عمل اليوم والليلة، والبغوي (ج5: ص167) ، وابن جرير في تفسيره، وابن المنذر، وأبو الشيخ في العظمة، والحاكم (ج2: ص540، 541) ، وابن مردويه، وابن السني (ص209) ، وحسنه الحافظ وتعجب من تضعيف النووي له في فتاويه مع قول الترمذي فيه: أنه حديث حسن صحيح، وكذا صححه الحاكم ووافقه الذهبي ورجاله رجال الصحيح إلا الحارث بن عبد الرحمن

2500- (20) وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِأَبِي: يَا حُصَيْنُ كَمْ تَعْبُدُ الْيَوْمَ إِلَهًا قَالَ. أَبِي: سَبْعَةً سِتًّا فِي الْأَرْضِ وَوَاحِدًا فِي السَّمَاءِ قَالَ: فَأَيُّهُمْ تَعُدُّ لِرَغْبَتِكَ وَرَهْبَتِكَ. قَالَ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ. قَالَ: يَا حُصَيْنُ أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَسْلَمْتَ عَلَّمْتُكَ كَلِمَتَيْنِ تَنْفَعَانِكَ. قَالَ فَلَمَّا أَسْلَمَ حُصَيْنٌ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ـــــــــــــــــــــــــــــ الراوي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة فقال علي بن المديني فيه: مجهول، ما روى عنه إلا ابن أبي ذئب، وخالفه يحيى بن معين فقال: مشهور. وقواه أحمد والنسائي فقالا: لا بأس به، وقد روى عنه أيضًا محمد بن إسحاق حديثًا آخر، وأقل درجاته أن يكون حديثًا حسنًا كذا في هامش شرح السنة. 2500- قوله (وعن عمران بن حصين) بالتصغير ابن عبيد بن خلف الخزاعي (لأبي) ، أي لوالدي حصين حال كفره. قلت: واختلف في إسلام حصين كما قال الحافظ: في الإصابة، وابن الأثير في أسد الغابة، والصحيح أنه أسلم فحديث عمران هذا نص في إسلامه، وكذا ما رواه أحمد، والنسائي. قال الحافظ: بإسناد صحيح والحاكم. وصححه وأقره الذهبي عن ربعي عن عمران بن حصين أن حصينًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يسلم - الحديث. وفيه ((ثم إن حصينًا أسلم)) ورواه النسائي من وجه آخر عن ربعي وفيه ((فانطلق ولم يكن أسلم ثم أسلم فقال يا رسول الله فما أقول الآن حين أسلمت)) ؟ الحديث. وفي رواية للنسائي ((فما أقول الآن وأنا مسلم)) ؟ قال الحافظ: وسنده صحيح من الطريقين ثم ذكر من حديث عمران بن حصين أيضًا عند ابن السكن والطبراني أنه قال: أتى أبي حصين بن عبيد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا محمد - الحديث. وفيه ((قال: فما مضت عشرون ليلة حتى مات مشركًا)) قال الطبراني بعد ذكره: الصحيح أن حصينًا أسلم)) ثم ذكر الحافظ من رواية ابن خزيمة عن عمران قصة طويلة وفيها ((فلم يقم أي حصين حتى أسلم فقام إليه عمران فقبل رأسه)) إلخ. (يا حصين كم تعبد اليوم) اللام للمعهود الحاضري نحو قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (5: 3) (إلهًا) قال ابن حجر المكي الهيتمي: هو تمييز لكم الاستفهامية ولا يضره الفصل لأنه غير أجنبي (قال أبي سبعة) ، أي أعبد سبعة من الآلهة (ستًا) كذا في جميع النسخ: والذي عند الترمذي ستة وهكذا ذكره الجزري في جامع الأصول (ج5: ص116) وفي أسد الغابة (ج6 ص25) بسنده إلى الترمذي وهكذا نقله في جمع الفوائد (ج2: ص661) (في الأرض وواحدًا في السماء) ، أي ستة آلهة في الأرض وإلهًا واحدًا في السماء (فأيهم) بضم الياء (تعد) بفتح التاء وضم العين، أي تعده إلهًا (لرغبتك ورهبتك) قال القاري: وفي نسخة يعني من المشكاة بضم أوله وكسر ثانيه، أي تهيئه لنفعك حين ترجو وتخاف. قال الطيبي: الفاء جزاء شرط محذوف، أي إذا كان كذلك فأيهم تخصه وتلتجئ إليه إذا أنابتك نائبة (أما) بالتخفيف للتنبيه (إنك) بكسر الهمزة (لو أسلمت علمتك كلمتين) ، أي دعوتين (تنفعانك) ، أي في الدارين، قال ابن جحر:

عَلِّمْنِيَ الْكَلِمَتَيْنِ اللَّتَيْنِ وَعَدْتَنِي. فَقَالَ: قُلْ اللَّهُمَّ أَلْهِمْنِي رُشْدِي وَأَعِذْنِي مِنْ شَرِّ نَفْسِي 2501- (21) عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ إِذَا فَزِعَ أَحَدُكُمْ فِي النَّوْمِ فَلْيَقُلْ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّة مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَشَرِّ عِبَادِهِ وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضُرُونِ ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا من باب الإغراء على الشيء بذكر ما يحمل عليه (علمني الكلمتين اللتين وعدتني) ، أي بتعليمهما (اللهم ألهمني رشدي) بضم فسكون وبفتحتين وهما لغتان، وقرئ بهما {مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} (18: 66) وقال في القاموس: رشد كنصر وفرح رشدًا ورشدًا ورشاد اهتدى والرشد الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه - انتهى. قال القاري: أي: وفقني إلى الرشد وهو الاهتداء إلى الصلاح (وأعذني من شر نفسي) بفتح كسر عين أمر من الإعاذة أي: أجرني واحفظني من شرها فإنها منبع الفساد. قال الشوكاني: وهذا الحديث من جوامع الكلم النبوية لأن طلب إلهام الرشد يكون به السلامة من كل ضلال والاستعاذة من شر النفس يكون بالسلامة من غالب معاصي الله سبحانه فإن أكثرها من جهة النفس الأمارة بالسوء (رواه الترمذي) في الدعوات وقال: هذا حديث حسن غريب، وقد روى هذا الحديث عن عمران بن حصين من غير هذا الوجه. قلت: وأخرجه البخاري في التاريخ (1/2/2) مختصرًا، ورواه ابن الأثير الجزري في أسد الغابة بسند إلى الترمذي مطولاً، وفي سنده شيب بن شيبة بن عبد الله المنقري التميمي البصري الخطيب البليغ. قال الحافظ: صدوق يهم في الحديث، وأخرج أحمد، والنسائي، وابن حبان، والحاكم وصححا من حديث حصين والد عمران في قصة إسلامه وتعليمه النبي - صلى الله عليه وسلم - الدعاء بلفظ: ((اللهم قني شر نفسي واعزم لي على أرشد أمري، اللهم اغفر لي ما أسررت وما أعلنت وما أخطأت وما عمدت وما علمت وما جهلت)) . 2501- قوله: (إذا فزع) بكسر الزاي أي: خاف (في النوم) أي: في حال النوم أو عند إرادته (أعوذ بكلمات الله التامة) كذا في بعض النسخ بلفظ الإفراد والمراد به الجماعة وهكذا وقع عند الترمذي، وأبي داود وكذا نقله في الأذكار، والحصن، وتحفة الذاكرين، ووقع في بعض نسخ المشكاة ((التامات)) بلفظ الجمع وهكذا وقع عند الحاكم وكذا نقله في الترغيب، ومختصر السنن، والمراد من التامة الكاملة الشاملة الفاضلة وهي أسماءه وصفاته وآيات كتبه (وعقابه) أي: عذابه (وشر عباده) من الظلم والمعصية ونحوهما وهو أخص من ((شر خلقه)) (ومن همزات الشياطين) جمع همزة وهي النخس والغمز وكل شيء دفعته فقد همزته أي: نزغاتهم وخطراتهم ودسائسهم وإلقائهم الفتنة والعقائد الفاسدة في القلب وهو تخصيص بعد تعميم (وأن يحضرون) بحذف الياء وإبقاء الكسرة دليلاً عليها قاله القاري. وقال الشوكاني:

فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يُعَلِّمُهَا مَنْ بَلَغَ مِنْ وَلَدِهِ وَمَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنْهُمْ كَتَبَهَا فِي صَكٍّ ثُمَّ عَلَّقَهَا فِي عُنُقِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــ بكسر النون وأصله يحضرونني فحذفت النون الأولى لدخول الناصب عليها وحذفت الياء تخفيفًا وبقيت نون الوقاية مكسورة لتدل على الياء المحذوفة أي: ومن أن يحضروني في أموري كالصلاة وقراءة القرآن وغير ذلك لأنهم إنما يحضرون بسوء (فإنها) أي: الهمزات (لن تضروه) أي: إذا دعا بهذا الدعاء وفيه دليل على أن الفزع إنما هو من الشيطان (وكان عبد الله بن عمرو) بالواو (يعلمها) أي: هذه الكلمات، وفي بعض نسخ الترمذي يلقنها من التلقين (من بلغ من ولده) أي: ليتعوذ به (في صك) الصك بفتح الصاد وتشديد الكاف، ما يكتب فيه من الورقة ونحوها (ثم علقها) أي: علق الورقة التي هي فيها (في عنقه) أي: في رقبة ولده الذي لم يبلغ، وفي رواية أبي داود ((وكان عبد الله عمرو يعلمهن من عقل من بنيه ومن لم يعقل كتبه فأعلقه عليه، وفي رواية أحمد ((فكان يعلمها من بلغ من ولده أن يقولها عند نومه، ومن كان منهم صغيرًا لا يعقل أن يحفظها كتبها له فعلقها في عنقه)) . ولابن السني ((كان يعلمها من أطاق الكلام من ولده ومن لم يطق كتبها فعلقها عليه)) . وفيه دليل على جواز تعليق التعويذات التي فيها أسماء الله تعالى على الصغار. قال في اللمعات: هذا هو السند فيما يعلق في أعناق الصبيان من التعويذات، وفيه كلام. وأما تعليق الحرز والتمائم مما كان من رسوم الجاهلية فحرام بلا خلاف - انتهى. قلت: اختلف العلماء في تعليق التمائم التي فيها أسماء الله وصفاته وآيات القرآن والأدعية المأثورة قال العلامة الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب في فتح المجيد شرح كتاب التوحيد (ص127) : اعلم أن العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم اختلفوا في جواز تعليق التمائم التي من القرآن وأسماء الله تعالى وصفاته فقالت طائفة: يجوز ذلك وهو قول عبد الله بن عمرو بن العاص وهو ظاهر ما روى عن عائشة، وبه قال أبو جعفر الباقر وأحمد في رواية وحملوا الحديث، (يعني حديث ابن مسعود قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الرقى والتولة والتمائم شرك. رواه أبو داود، وابن ماجة، وابن حبان، والحاكم، وقال صحيح وأقره الذهبي) على التمائم التي فيها شرك (والقرينة على هذا الحمل اقتران التمائم بالرقى، ومن المعلوم أن المراد من الرقى ها هنا هي التي فيها شرك) ، وقالت طائفة لا يجوز ذلك، وبه قال ابن مسعود وابن عباس وهو ظاهر قول حذيفة وعقبة ابن عامر وابن عكيم، وبه قال جماعة من التابعين منهم أصحاب ابن مسعود وأحمد في رواية اختارها كثير من أصحابه وجزم بها المتأخرون واحتجوا بهذا الحديث وما في معناه (كحديث عقبة بن عامر عن ابن حبان، وحديث عبد الله بن عكيم عند أحمد والترمذي وأبي داود والحاكم) قلت: (قائله الشيخ عبد الرحمن بن حسن مؤلف فتح المجيد) هذا هو الصحيح لوجوه ثلاثة تظهر للمتأمل الأول عموم النهي ولا مخصص للعموم الثاني سد الزريعة فإنه يفضي إلى تعليق ما ليس كذلك، الثالث أنه إذا علق فلا بد أن يمتهنه المعلق بحمله معه في حال قضاء الحاجة والاستنجاء ونحو ذلك انتهى. قلت: وزاد بعضهم وجهًا

رَوَاهُ أَبُو دَاود، والتِرْمذي وهذَا لفْظُه. ـــــــــــــــــــــــــــــ رابعًا وهو إن فعل ذلك استهزاء بآيات الله ومناقضة لما جاءت به فإن الله أنزل القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان وشفاء لما في الصدور ولا يزيد الظالمين إلا خسارًا وإنه لتذكرة للمتقين ولم ينزل القرآن ليتخذ حجبًا وتمائم ولا ليتلاعب به المتأكلون به الذين يشترون به ثمنًا قليلاً والذين يقرؤنه على المقابر وأمثال ذلك مما ذهب بحرمة القرآن وجرأ رؤساء المسلمين على ترك الحكم به. وأجاب هؤلاء عن حديث عبد الله بن عمرو أولاً بأنه ضعيف وإن حسنه الترمذي، وصححه الحاكم وذلك لأن في سنده محمد بن إسحاق وهو مدلس وقد عنعن. وثانيًا بأنه لو فرضنا صحته فليس فيه أيضًا حجة لأنه ليس فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - رأى ذلك وأقره. وثالثًا بأنه عمل فردي من عبد الله بن عمرو لا يترك به حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعمل كبار الصحابة الذين لم يعملوا مثل عبد الله بن عمرو رضي الله عنهم، قال الوشاكاني في تحفة الذاكرين (ص 89) في شرح حديث عبد الله بن عمرو هذا: قد ورد ما يدل على عدم جواز التمائم فلا تقوم بفعل عبد الله بن عمرو حجة - انتهى. ورابعًا: بأن غاية ما يدل عليه فعل عبد الله بن عمرو الصحابي هو جواز تعليق التمائم على الصغار الذين لا يعقلون ولا يقدرون على حفظ كلمات التميمة والذين ذهبوا إلى جواز التعليق أباحوه مطلقًا، أي لم يخصوه بالصغار بل توسعوا فيه عملاً للكبار والرجال والنساء حتى الكفرة الفجرة والفسقة أيضًا ولا يخفى ما في ذلك من القبائح. قال العلامة الشيخ أبو الطيب صديق بن حسن القنوجي البوفالي في ((الدين الخالص)) بعد نقل الوجوه الثلاثة المذكورة في فتح المجيد ما لفظه: الوجه الثالث لمنع التعليق ضعيف جدًا لأنه لا مانع من نزع التمائم عند قضاء الحاجة ونحوها لساعة ثم يعلقها، والراجح في الباب أن ترك التعليق أفضل في كل حال بالنسبة إلى التعليق الذي جوزه بعض أهل العلم بناء على أن يكون بما ثبت لا بما لم يثبت لأن التقوى له مراتب وكذا الإخلاص وفوق كل رتبة في الدين رتبة أخرى والمحصلون لها أقل ولهذا ورد في الحديث في حق السبعين ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب أنهم هم الذين لا يرقون ولا يسترقون مع أن الرقى جائزة وردت بها الأخبار والآثار والله أعلم بالصواب. والمتقي من يترك ما ليس به بأس خوفًا مما به بأس - انتهى. كلامه. قلت: والأحوط عندي هو ترك التعليق وجوبًا لا ندبًا فقط سدًا للباب وقطعًا للذريعة والله تعالى أعلم (رواه أبو داود) في الطب، (والترمذي) في الدعوات، (وهذا) أي المذكور (لفظه) ، أي لفظ الترمذي فرواه أبو داود بمعناه وكذا ابن أبي شيبة، وأحمد (ج2: ص181) ، والنسائي في عمل اليوم والليلة، والبيهقي في الأسماء والصفات، وابن عبد البر في التمهيد، وابن السني (ص239) ، والحاكم (ج1: ص548) وليس عنده تخصيصها بالنوم رواه جميعهم من طريق محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وقد سكت عنه أبو داود وحسنه الترمذي. وقال المنذري بعد نقل تحسين الترمذي (ج: ص366) : وفي إسناده محمد بن إسحاق وقد تقدم الكلام عليه وعلى عمرو بن شعيب - انتهى. قلت: الحديث المرفوع روي أيضًا من غير طريق محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فقد روى أحمد (ج4: ص57، وج6: ص6) ، وابن السني (ص206) ، والنسائي في اليوم والليلة من حديث

2502- (22) وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. قَالَتْ الْجَنَّةُ: اللَّهُمَّ أَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ وَمَنْ اسْتَجَارَ مِنْ النَّارِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قَالَتْ النَّارُ: اللَّهُمَّ أَجِرْهُ مِنْ النَّارِ. رَوَاهُ التِرْمذي، ـــــــــــــــــــــــــــــ محمد بن يحيى بن حبان عن الوليد بن الوليد أنه قال: يا رسول الله إني أجد وحشة، قال: إذا أخذت مضجعك فقل. فذكر مثله وهذا منقطع. محمد لم يسمع من الوليد، وروى أيضًا النسائي، وابن السني، وابن عبد البر في التمهيد من طريق محمد بن يحيى بن حبان: أن خالد بن الوليد الحديث. وهذا أيضًا مرسل، وروى ابن السني (ص236، 237) من طريق سفيان عن محمد بن المنكدر قال جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فشكا إليه أهاويل يراها في النوم فقال: إذا أويت إلى فراشك فقل فذكر مثله. وهذا أيضًا مرسل، وقال مالك في الموطأ بلغني أن خالد بن الوليد قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني أروع في منامي، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قل. فذكر مثله. وروى الطبراني في الأوسط عن أبي أمامة قال: حدث خالد بن الوليد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أهاويل يراها بالليل حالت بينه وبين صلاة الليل فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا خالد ألا أعلمك كلمات تقولهن الحديث. وهذه الطرق يشد بعضها بعضًا وتدل بمجموعها على أن للحديث أصلاً قويًا والله أعلم. وأما اختلاف الروايات في أن القصة للوليد بن الوليد أو لأخيه خالد أو لرجل منهم فيدفع بأن القصة وقعت لهما جميعًا. 2502- قوله (من سأل الله الجنة) ، أي دخولها بصدق وإيقان وحسن نية بأن قال: اللهم إني أسالك الجنة أو قال اللهم أدخلني الجنة (ثلاث مرات) ، أي كرره في مجالس أو في مجلس بطريق الإلحاح على ما ثبت أنه من آداب الدعاء (قالت الجنة) ببيان الحال أو بلسان القال لقدرته تعالى على إنطاق الجمادات وهو الظاهر، وقيل: المراد أهل الجنة من الحور والولدان أو خزنتها (اللهم أدخله الجنة) ، أي دخولاً أوليًا أو لحوقًا آخريًا (ومن استجار) ، أي استحفظ (من النار) بأن قال اللهم أجرني من النار (قالت النار اللهم أجره) ، أي احفظه أو أنقذه (من النار) ، أي من دخوله أو خلوده فيها. قال الطيبي: وفي وضع الجنة والنار موضع ضمير المتكلم تجريد ونوع من الالتفات، ثم قال وقول الجنة والنار يجوز أن يكون حقيقة ولا بعد فيه كما في قوله تعالى: {وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} (50: 30) ويجوز أن يكون استعارة شبه استحقاق العبد بوعد الله ووعيده بالجنة والنار في تحققهما وثبوتهما بنطق الناطق كأن الجنة مشتاقة إليه سائلة داعية دخوله والنار نافرة منه داعية له بالبعد منها، فأطلق القول وأراد التحقق والثبوت، ويجوز أن يقدر مضاف، أي قال خزنتهما فالقول إذًا حقيقي. قال القاري: لكن الإسناد مجازي. قال ابن حجر: الحمل على لسان الحال وتقدير المضاف مخالف للقواعد المقررة أن كل ما ورد في الكتاب والسنة ولم يحل العقل حمله على ظاهره لم يصرف عنه إلا بدليل، ونطق الجمادات بالعرف واقع كتسبيح الحصى في يده - صلى الله عليه وسلم - وحنين الجذع وغيره - انتهى. قلت: حمل القول على الحقيقة هو الظاهر الراجح ولا وجه للعدول عنه. وفي الحديث حث على كثرة سؤال الجنة والتعوذ من النار. (رواه الترمذي) .

(الفصل الثالث)

والنِسَائِّي. (الفصل الثالث) 2503- (23) وَعَنْ الْقَعْقَاعِ أَنَّ كَعْبَ الْأَحْبَارِ قَالَ: لَوْلَا كَلِمَاتٌ أَقُولُهُنَّ لَجَعَلَتْنِي يَهُودُ حِمَارًا ـــــــــــــــــــــــــــــ في أواخر صفة الجنة، (والنسائي) في الاستعاذة وفي اليوم والليلة، وأخرجه أيضًا أحمد (ج3: ص117، 141، 155، 262) ، وابن ماجة في آخر سننه، وابن حبان في كتاب الأدعية من صحيحه، والحاكم (ج1: ص534، 535) ، والبغوي (ج5: ص165) والحديث رجال إسناده ثقات. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. 2503- قوله (عن القعقاع) بقافين وعينين مهملتين أولاهما ساكنة، وابن حكيم الكناني المدني تابعي ثقة وثقه يحيى ابن سعيد، وأحمد، وابن معين، وذكره ابن حبان في الثقات (أن كعب الأحبار) تقدم (ج1: ص354) (لولا كلمات أقولهن) ، أي أدعو بهن (لجعلتني يهود) ، يمنع الصرف للعملية ووزن الفعل، أي من السحر (حمارًا) ، أي بليدًا أو ذليلاً والمعنى أنهم سحرة وقد أغضبهم إسلامي فلولا استعاذتي بالكلمات الآتية لتمكنوا مني وغلبوا علي وجعلوني بليدًا وأذلوني كالحمار فإنه مثل في الذلة. قال الباجي: يحتمل أن يريد - والله أعلم - لبلدتني وأضلتني عن رشدي حتى أكون كالحمار الذي لا يفقه شيئًا وبه يضرب المثل في البلادة - انتهى. وقال الطيبي: لعله أراد أن اليهود سحرته ولولا استعاذتي بهذه الكلمات لتمكنوا من أن يقلبوا حقيقتي لبغضهم إياي من حيث أني أسلمت أو لتمكنوا من إذلالي وتوهيني كالحمار فإنه مثل في الذلة قال القاري: وفيه أن قلب الحقائق ليس إلا لله كما قال تعالى: {كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} (2: 65) وقال {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (20: 66) فهذا يدل على غاية سحرهم الذي أجمع عليه كيد السحرة في زمان فرعون الطامعين على مال فرعون وجاهه فلو كان في قدرتهم شيء أزيد من هذا لفعلوه في حق موسى عليه الصلاة والسلام فإذا لم يقدروا في حقه فكيف يجوز أن يقدروا على سيد الخلق أن يقلبوا حقيقته. ولذا قال البيضاوي: والمراد بالسحر ما يستعان في تحصيله بالقرب إلى الشيطان مما لا يستقل به الإنسان وذلك لا يستتب إلا لمن يناسبه في الشرارة وخبث النفس فإن التناسب شرط في التضام والتعاون وبهذا تميز الساحر عن النبي والولي، وأما ما يتعجب منه كما يفعله أصحاب الحيل بمعونة الآلات والأدوية فتسميته سحرًا على التجوز - انتهى. فإذا كان ليس للشيطان أن يجعل نفسه حمارًا حقيقة فضلاً عن غيره فكيف للمتوسل إلى قربه أن يقلب الحقيقة. وأما قول صاحب المدارك: وللسحر حقيقة عند أهل السنة - كثرهم الله تعالى - وتخييل وتمويه عند المعتزلة - خذلهم الله - فمعناه أن السحر ثابت وحق لا أنه خيال فاسد كرؤية الأحوال شيئًا واحدًا شيئين وكتخيل الأشياء عند خلل الدماغ وحصول الأفكار الفاسدة لما يدل عليه الكتاب والسنة من قوله تعالى: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} (2: 102) وقوله: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} (2: 102) ، أي علم السحر الذي يكون سببًا في التفريق بين الزوجين بأن يحدث الله عنده النشور والخلاف، وقوله عز وجل: {وَمِن

فَقِيلَ لَهُ: وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: أَعُوذُ بِوَجْهِ اللَّهِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَيْسَ شَيْءٌ أَعْظَمَ مِنْهُ وَبِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ وَبِأَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى مَا عَلِمْتُ مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ وَبَرَأَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} (113: 4) كما هو مشهور في سحر اليهود له عليه الصلاة والسلام وبهذا يتبين قول البغوي. والصحيح أن السحر عبارة عن التمويه والتخييل، والسحر وجوده حقيقة عند أهل السنة وعليه أكثر الأمم، حكي عن الشافعي أنه قال إن السحر يخبل ويمرض وقد يقتل حتى أوجب القصاص على من قتل به، وقيل إنه يؤثر في قلب الأعيان فيجعل الآدمي على صورة حمار ويجعل الحمار على صورة الكلب والأصح أنه تخييل. قال تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (20: 66) لكنه يؤثر في الأبدان بالأمراض والموت والجنون - انتهى. ومما يدل على بطلان قلب الحقائق بعد إجماع أهل السنة والمعتزلة على خلافه أنه لم يقع مثل هذا أبدًا في الكون. ويدل على بطلانه النقل والعقل، ومما يذكر من بعض الحكايات لإثبات ذلك فهي مجرد حكاية فاسدة مما يستمرها الناس ويحكونها في بيوت القهوة وتجوز في عقول النساء وبعض الرجال ممن سخف عقله وسخف قلبه. انتهى كلام القاري بحذف واختصار يسير وارجع لمزيد الكلام في ذلك إلى تفسير سورة الفلق لابن القيم (فقيل له) ، أي لكعب (ما هن؟) ، أي تلك الكلمات (أعوذ بوجه الله) قال الباجي: قال القاضي أبو بكر: هو صفة من صفات الباري أمر - صلى الله عليه وسلم - أن يتعوذ بها. وقال أبو الحسن المحاربي معناه: أعوذ بالله - انتهى. وقال الحافظ تحت ترجمة البخاري في صحيحه باب قول الله عز وجل: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} (28: 88) قال ابن بطال: فيه دلالة على أن الله تعالى وجهًا من صفة ذاته وليس بجارحة ولا كالوجوه التي نشاهدها من المخلوقين كما نقول: أنه عالم ولا نقول إنه كالعلماء إلى آخر ما بسطه (العظيم الذي ليس شيء أعظم منه) ، أي ولا مساويًا لعظمته ولا قريبًا منها بل ولا عظمة لغيره لأن الكل عبيده ثم يحتمل أن يكون الموصول صفة للمضاف أو المضاف إليه والمؤدى واحد قاله القاري: (وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن) ، أي لا يتعداهن (بر) بفتح الموحدة وتشديد الراء، أي تقي (ولا فاجر) ، أي مائل عن الحق وإعادة لا لزيادة التأكيد، أي لا ينتهي علم أحد إلى ما يزيد عليها. قال الطيبي: قوله ((لا يجاوزهن)) إلخ يشعر بأن المراد بالكلمات علم الله الذي ينفد البحر قبل نفاده وأراد بقوله ((بر ولا فاجر)) الاستيعاب كما في قوله تعالى: {لاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (6: 59) فإن تكرير حرف التأكيد للاستيعاب أو المراد بالكلمات القرآن لأن أحدًا من البر والفاجر لا يخرج عن وعده ووعيده بالثواب والعقاب (وبأسماء الله الحسنى) مؤنث الأحسن، وفي الموطأ بعده ((كلها)) قال الباجي: يشير إلى قوله تعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (7: 180) (مَا عَلِمْتُ منها) ، أي من الأسماء الحسنى (وما لم أعلم) ، أي منها {مِن شَرِّ مَا خَلَقَ} ، أي أنشأ وقدر (وذرأ) بالهمز، أي بث ونشر (وبرأ) ، أي أوجد الخلق مبرأ عن التفاوت فخلق كل عضو على

رَوَاهُ مَالِك. 2504- (24) عَنْ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: كَانَ أَبِي يَقُولُ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفَقْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ فَكُنْتُ أَقُولُهُنَّ فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ عَمَّنْ أَخَذْتَ هَذَا؟ قُلْتُ: عَنْكَ. قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُهُنَّ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ. رَوَاهُ النِسَائِّي، والتِرْمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ ما ينبغي ووضعه في موضعه. قال تعالى: {مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ} (67: 3) قال الزرقاني: قيل هما بمعنى خلق فذكرها لإفادة اتحاد معناهما، وقيل البرأ والذرأ يكون طبقة وجيلاً بعد جيل والخلق لا يلزم فيه ذلك (رواه مالك) في باب ما يؤمر به من التعوذ من كتاب الجامع ولم أجده عند غيره. 2504- قوله: (وعن مسلم بن أبي بكرة) بن الحارث الثقفي البصري صدوق من أوساط التابعين وثقه ابن حبان والعجلي، مات في حدود سنة تسعين (كان أبي) أي: أبو بكرة واسمه نفيع بن الحارث تقدم ترجمته (يقول في دبر الصلاة) أي: المكتوبة أو جنس الصلاة وهو يحتمل أن يكون آخرها وعقبها قبل السلام أو بعده وهو الأظهر قاله القاري. قلت: وقع عند النسائي، وأحمد في رواية بلفظ: ((في دبر كل صلاة)) أي: مكتوبة أو أعم من أن تكون فريضة أو نافلة والظاهر هو الأول وعليه حمله النسائي حيث ترجم لهذا الحديث باب التعوذ في دبر الصلاة وذكره أثناء أبواب ما يقول بعد تسليم الإمام (اللهم إني أعوذ بك من الكفر) أي: من أنواعه (والفقر) أي: الفقر الذي لا يصحبه خير ولا روع، ولذا ورد ((كاد الفقر أن يكون كفرًا)) رواه أبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الشعب عن أنس مرفوعًا وهو حديث ضعيف فيه يزيد الرقاشي وهو ضعيف متروك، قال الصغاني: وصح من قول أبي سعيد ومعناه أي: قارب أن يوقع في الكفر لأنه يحمل على عدم الرضاء بالقضاء وتسخط الرزق وذلك يجر إلى الكفر والعياذ بالله، وقال القاري: أي من فتنة الفقر أو فقر القلب المؤدي إلى كفران النعمة وفي اقترانه بالكفر إشارة إلى ما ورد كاد الفقر أن يكون كفرًا حيث لم يكن راضيًا بما قسم الله له وشاكرًا لما أنعم عليه وللترمذي، والحاكم: ((أعوذ بك من الهم والكسل)) بدل قوله: ((أعوذ بك من الكفر والفقر)) (أي بنُيّ) بضم الموحدة وفتح الياء المشددة والتصغير للشفقة (عمن أخذت هذا) أي هذا الدعاء وفيه إيماء إلى أن الأليق للسالك أن يدعوا بالدعوات المأثورة (قلت عنك) أي أخذته، وفيه تنبيه على أفضلية الإجازة في الأذكار والدعوات (قال) أي تنبيهًا له تحصيل السند إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وزاد في رواية لأحمد والنسائي ((فالزمهن)) أي حاف على قراءة هذه الكلمات (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقولهن في دبر الصلاة) في القاموس الدبر بالضم وبضمتين نقيض القبل ومن كل شيء عقبه ومؤخره. (رواه النسائي) في الصلاة، وفي الاستعاذة، (والترمذي) في الدعوات، وأخرجه أيضًا الحاكم (ج1: ص533) ، وابن أبي شيبة، وابن السني (ص39) . وقال الترمذي: هذا حديث

(9) باب جمع الدعاء

إِلا أنَّه ((في دُبُرِ الصَّلاَة)) وَرَوَى أَحْمَد لَفْظ الحَدِيث عِنْدَهُ: ((في دُبُرِ كُلِّ صَلاة)) . 2505- (25) وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالدَّيْنِ. فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَعْدِلُ الْكُفْرِ بالدَّيْنَ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَفي رِوَايةٍ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفَقْرِ. قَالَ رَجُلٌ: وَيَعْدِلَانِ؟ قَالَ: نَعَمْ. رَوَاهُ النِسَائِّي. (9) باب جمع الدعاء (الفصل الأول) ـــــــــــــــــــــــــــــ حسن غريب، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم وأقره الذهبي (إلا أنه) أي الترمذي (لم يذكر ((في دبر الصلاة)) وروي أحمد لفظ الحديث وعنده ((في دبر الصلاة)) ) قلت روى الإمام أحمد هذا حديث ثلاث مرات الأولى: (ج5: ص36) بدون ذكر دبر الصلاة وبدون القصة، والثانية: (ج5: 39) مع ذكر دبر كل الصلاة، والثالثة: (ج5: ص44) مع ذكر القصة ودبر كل الصلاة. 2505 - قوله (أتعدل الكفر) أي تساويه وتقارنه (بالدين؟ قال: نعم) قال السندي: أراد الرجل أن قرانهما في الذكر يقتضي قوة المناسبة بينهما في المضرة بحيث أن كلا منهما يساوي الآخر فهل الدين بلغ هذا المبلغ حتى استحق أن يجعل عديلاً للكفر ويذكر قرينًا معه في الذكر فأجاب بأنه كذلك كيف وهو يمنع دخول الجنة كالكفر نعم هو دائمي ومنع الدين إلى غاية الأداء والله تعالى أعلم. (وفي رواية ((اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر)) قال) وفي النسائي ((فقال)) وهكذا في بعض النسخ للمشكاة (رجل: ويعدلان؟) بصيغة المجهول أو المعلوم أي: يعدل أحدهما بالآخر أي: يستويان (قال: نعم) أي نعم المديون يساوي الكافر المنافق لأن الرجل إذا غلب عليه الدين حدث فكذب ووعد فأخلف وتلك من صفات المنافقين وعلامات النفاق، والفقير أيضًا إذا لم يصبر كاد يفضى فقره إلى كفره فهو أسوأ حالاً من المديون (رواه النسائي) الرواية الأولى في باب الاستعاذة من الدين، والثانية في باب الاستعاذة من شر الكفر، وكذا أخرج الروايتين ابن حبان كما في موارد الظمآن (ص604، 605) ، وأخرج الحاكم الرواية الأولى فقط (ج1: ص532) وقال: حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. قلت: في سنده عندهم دراج أبو السمح رواه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد وثقه ابن معين وضعفه الدارقطني. وقال أبو داود: حديثه مستقيم إلا عن أبي الهيثم. وقال أحمد: أحاديث دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد فيها ضعف، وقال في التقريب: صدوق، في حديثه عن أبي الهيثم ضعف. (باب جامع الدعاء) هو من إضافة الصفة إلى الموصوف أي: الدعاء الجامع لمعان كثيرة في ألفاظ قليلة.

2506- (1) عن أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي جِدِّي وَهَزْلِي وَخَطَئِي ـــــــــــــــــــــــــــــ 2506- قوله: (أنه كان يدعوا بهذا الدعاء) قال الحافظ: لم أر في شيء من طرقه محل الدعاء بذلك، وقد وقع معظم أخره في حديث ابن عباس أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقوله في صلاة الليل، ووقع أيضًا في حديث علي عند مسلم أنه كان يقوله في آخر الصلاة، واختلف الرواية هل كان يقوله قبل السلام أو بعده؟ ففي رواية لمسلم ((ثم يكون من آخر ما يقول بين التشهد والسلام: اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت)) وفي رواية له (ولأحمد، وأبي داود، والترمذي) ((وإذا سلم قال: اللهم اغفر لي ما قدمت)) إلى آخره. ويجمع بينهما بحمل الرواية الثانية على إرادة السلام لأن مخرج الطريقين واحد، وأورده ابن حبان في صحيحه بلفظ: ((كان إذا فرغ من الصلاة وسلم)) وهذا ظاهر في أنه بعد السلام، ويحتمل أنه كان يقول ذلك قبل السلام وبعده وقد وقع في حديث ابن عباس نحو ذلك كما بينته عند شرحه - انتهى (اللهم اغفر لي خطيتئي) أي: سيئتي أو ذنبي قال الحافظ: الخطئية الذنب يقال خطئي يخطأ، ويجوز تسهيل الهمزة فيقال خطية بتشديد الياء (وجهلي) أي: ما صدر مني من أجل جهلي، والجهل ضد العلم، وقال القاري: ((وجهلي)) أي: فيما يجب علي علمه وعمله، وقيل: أي: ما لم أعلمه (وإسرافي) الإسراف الإفراط في كل شيء، ومجاوزة الحد فيه أي: تجاوزي عن حدي (في أمري) أي: في أموري كلها قال الكرماني: يحتمل أن يتعلق بالإسراف فقط، ويحتمل أن يتعلق بجميع ما ذكر على سبيل التنازع بين العوامل (وما أنت أعلم به مني) أي: تعلمه ولا أعلمه من المعاصي والسيئات والتقصيرات في الطاعة، وقيل: أي: مما علمته وما لم أعلمه وهو تعميم بعد تخصيص وتتميم لما يستغفر منه (اللهم اغفر لي جدي) بكسر الجيم وهو الاجتهاد في الأمر والتحقيق وضد الهزل (وهزلي) بفتح الهاء وسكون الزاي وهو المزاح أي: ما وقع مني في الحالين أو هو التكلم بالسخرية والبطلان والهذيان (وخطائي) قال في الصحاح: الخطأ نقيض الصواب وقد يمد، والخطأ الذنب، وقال في القاموس: الخطء والخطأ والخطاء ضد الصواب. والخطيئة: الذنب أو ما تعمد منه كالخطء بالكسر والخطأ ما لم يتعمد – انتهى. وقوله: خطائي كذا في جميع نسخ المشكاة والمصابيح بلفظ ضد العمد وهكذا وقع عند مسلم ووقع عند أكثر رواة البخاري ((خطاياي)) قال الحافظ: وقع في رواية الكشميهني ((خطئي)) وكذا أخرجه البخاري في الأدب المفرد بالسند الذي في الصحيح وهو مناسب لذكر العمد، ولكن جمهور الرواة على الأول والخطايا جمع خطيئة وعطف العمد عليها من عطف الخاص على العام فإن الخطيئة أعم من أن تكون عن خطأ أو عمد أو هو من عطف أحد العامين على الآخر يعني أنه اعتبر المغايرة بينهما باختلاف الوصفين. وقال العيني: عطف العمد على الخطايا إما عطف الخاص على العام باعتبار أن الخطيئة

وَعَمْدِي وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. متفقٌ عليه. 2507- (2) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي ـــــــــــــــــــــــــــــ أعم من التعمد، أو عطف أحد المتقابلين الآخر بأن الخطيئة على ما وقع على سبيل الخطأ (وعمدي) ، أي وتعمدي في ذنبي، (وكل ذلك) ، أي جميع مال ذكر من الذنوب والعيوب، (عندي) ، أي موجود أو ممكن وهو كالتذييل للسابق، أي أنا متصف بجميع هذه الأشياء فاغفرها لي قاله تواضعًا وهضمًا واستكانة وشكرًا لما أعلم أنه قد غفر له أو عد ترك الأولى وفوات الكمال ذنبًا وقيل: أراد ما كان عن غفلة وسهو، وقيل: أراد ما كان قبل النبوة، وقيل: هو محض مجرد تعليم للأمة وعلى كل حال فهو - صلى الله عليه وسلم - مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فدعا بهذا وغيره تواضعًا لأن الدعاء عبادة، قاله النووي وغيره (اللهم اغفر لي ما قدمت) ، أي من الذنوب والأعمال السيئة أو من التقصير في العمل قبل هذا الوقت (وما أخرت) أي: وما يقع مني بعد ذلك على الفرض والتقدير، وعبر عنه بالماضي لأن المتوقع كالمتحقق، أو معناه ما تركت من العمل، أو قلت سأفعل أو سوف أترك، وقيل: يحتمل أن يكون المراد ما قدم الفاضل وأخر الأفضل، وهذا القدر من هذا الدعاء يدخل فيه جميع ما أشتمل عليه لأن جميع ما ذكر فيه لا يخلو عن أحد الأمرين فهما شاملان لجميع ما سبق كقوله (وما أسررت) أي: أخفيت (وما أعلنت) أي: أظهرت والمقصود استيفاء المغفرة لأنواع الذنوب كلها، وقيل: المراد ما حدثت به نفسي وما تحرك به لساني (أنت المقدم) لمن تشاء من خلقك بتوفيقك إلى رحمتك (وأنت المؤخر) لمن تشاء عن ذلك، وقيل: أي: أنت المقدم بعض العباد إليك بتوفيق الطاعة أو أنت المقدم لي بالبعث في الآخرة وأنت المؤخر بخذلان بعضهم عن التوفيق فتؤخره عنك أو أنت المؤخر لي بالبعث في الدنيا أو أنت الرافع والخافض أو المعز والمذل (وأنت على كل شيء قدير) جملة مؤكدة لمعنى ما قبلها وعلى كل شيء متعلق بقدير وهو فعيل بمعنى فاعل أي: كامل القدرة، وفي الحديث الإحاطة بمغفرة جميع الذنوب متقدمها ومتأخرها وسرها وعلنها وما كان منها على جهة الإسراف وما علم به الداعي وما لم يعلم به (متفق عليه) أخرجاه في الدعوات، وأخرجه أيضًا أحمد (ج4: ص391 - 417) ، والبخاري في الأدب المفرد (ج2: ص139، 140، 141) ، والبيهقي، والبغوي وغيرهم. 2507- قوله: (اللهم أصلح لي) أي: عن الخطأ (ديني الذي هو عصمة أمري) بكسر العين أي: يعصمني من النار وغضب الجبار وقيل: أي: ما يعتصم به فإن العصمة في النفس والمال والعرض إنما يحصل بالدين. والعصمة على ما في الصحاح المنع والحفظ، فقيل هو مصدر ها هنا بمعنى الفاعل أي: الذي هو حافظ لأمري أي: لجميع أموري لأنه مفرد مضاف. قال المناوي: فإن من فسد دينه فسدت جميع أموره وخاب وخسر في الدنيا والآخرة (وأصلح لي دنياي التي

فِيهَا مَعَاشِي وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي وَاجْعَلْ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ وَاجْعَلْ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ. رواه مسلم. 2508- (3) وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى ـــــــــــــــــــــــــــــ فيها معاشي) أي: بإعطاء الكفاف فيما يحتاج إليه وكونه حلالاً معينًا على الطاعة. وقيل: معناه احفظ من الفساد ما أحتاج إليه في الدنيا (وأصلح لي آخرتي) أي: بالتوفيق للعبادة والإخلاص في الطاعة وحسن الخاتمة (التي فيها معادي) مصدر عاد إذا رجع أي: وفقني للطاعة التي هي إصلاح معادي قاله القاري. وقال الجزري: أي: ما أعود إليه يوم القيامة وهو إما مصدر أو ظرف انتهى أي: مكان عودي أو زمان إعادتي (واجعل الحياة زيادة لي في كل خير) أي: اجعل حياتي سبب زيادة الخيرات من العبادة والطاعة والإخلاص وقيل: أي: اجعل عمري مصروفًا فيما تحب وترضى وجنبني عما تكره (واجعل الموت راحة لي من كل شر) أي: من الفتن والمحن والابتلاء بالمعصية والغفلة. وقال زين العرب: أي: بأن يكون على شهادة واعتقاد حسن وتوبة حتى يكون موتي سبب خلاصي عن مشقة الدنيا والتخليص من غمومها وهمومها وحصول الراحة في العقبى. وقيل: فيه إشارة إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أردت بقوم فتنة فتوفني غير مفتون)) وهذا هو النقصان الذي يقابل الزيادة في القرينة السابقة. قال الشوكاني في تحفة الذاكرين (ص284) : هذا الحديث من جوامع الكلم لشموله لصلاح الدين والدنيا، ووصف إصلاح الدين بأنه عصمة أمره لأن صلاح الدين هو رأس مال العبد وغاية ما يطلبه، ووصف إصلاح الدنيا بأنها مكان معاشه الذي لا بد منه في حياته وسأله إصلاح آخرته التي هي المرجع وحولها يدندن العباد وقد استلزم ذلك سؤال إصلاح الدين لأنه إذا أصلح دين الرجل فقد أصلح له آخرته التي هي دار معاده، وسأله أن يجعل الحياة زيادة له في كل خير لأن من زاده الله خيرًا في حياته كانت حياته صلاحًا وفلاحًا وسأله أن يجعل له الموت راحة له من كل شر لأنه إذا كان الموت دافعًا للشرور قاطعًا لها ففيه الخير الكثير للعبد ولكنه ينبغي له أن يقول: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي كما علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه يشمل كل أمره ومعلوم أن من لم يكن في حياته إلا الوقوع في الشرور فالموت خير له من الحياة وراحة له من محنها - انتهى. (رواه مسلم) في الدعاء، ولم يخرجه البخاري في صحيحه فهو من أفراد مسلم، نعم أخرجه البخاري في الأدب المفرد (ج2: ص122) ، وأبو عوانة في الدعوات، والطبراني في الصغير (ص128) . 2508- قوله: (اللهم إني أسألك الهدى والتقى) بالضم والقصر أي: الهداية والتقوى (والعفاف) بالفتح الكف عن المعاصي وعما لا ينبغي (والغنى) بالكسر والقصر اليسار والمراد غنى القلب لا غنى اليد. قال النووي: العفاف والعفة هو التنزه عما لا يباح والكف عنه والغنى ها هنا غنى النفس والاستغناء عن الناس وعما في أيديهم. وقال في

رَوَاهُ مُسْلِم. 2509- (4) وعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: قُلْ اللَّهُمَّ اهْدِنِي وَسَدِّدْنِي وَاذْكُرْ بِالْهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ وَبالسَّدَادِ سَدَادَ السَّهْمِ. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ المعتصر: ليس المراد بالغنى غنى المال بل غنى النفس القاطع عن المال الذي يقطع المرء عن الطاعات ويشغل القلب عن الله تعالى فالغنى المحمود هو الغنى الذي يتفرغ به القلب عن الدنيا وعن الاهتمام بها فقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ما أحب أن لي أحدًا ذهبًا تأتي عليّ ليلة وعندي منه دينار إلا دينارًا أرصده لدين أو أقول به في عباد الله هكذا وهكذا. قال الطيبي: أطلق الهدى والتقى ليتناول كل ما ينبغي أن يهتدي إليه من أمر المعاش والمعاد ومكارم الأخلاق وكل ما يجب أن يتقى منه من الشرك والمعاصي ورذائل الأخلاق وطلب العفاف والغنى تخصيص بعد تعميم (رواه مسلم) ، في الدعاء وأخرجه أيضًا أحمد (ج1: ص389، 411، 416، 427) ، والبخاري في الأدب المفرد (ج2: ص128) ، والترمذي، وابن ماجة في الدعاء والبغوي (ج5: ص174) . 2509- قوله (اللهم اهدني) ، أي إلى مصالح أمري أو ثبتني على الهداية إلى الصراط المستقيم أو دلني على الكمالات الزائدة (وسددني) ، أمر من التسديد، أي اجعلني على السداد بفتح السين المهملة وهو الاستقامة وإصابة القصد في الأمر والعدل فيه، أي وفقني واجعلني مصيبًا في جميع أموري مستقيمًا. قال الطيبي: فيه معنى قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} (11: 112) و {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} ، أي اهدني هداية لا أميل بها إلى طرفي الإفراط والتفريط (واذكر) عطف على قل، أي اقصد وتذكر يا علي (بالهدى) بالضم والقصر معناه الرشاد ويذكر ويؤنث (هدايتك الطريق) ، أي المستقيم (وبالسداد) بفتح السين (سداد السهم) ، وفي رواية أحمد وأبي داود تسد يدك السهم. قال النووي: سداد السهم تقويمه. وأصل السداد الاستقامة والقصد في الأمور. قال الطيبي: أمره بأن يسأل الهدى والسداد وأن يكون في ذكره مخطرًا بباله أن المطلوب هداية كهداية من ركب متن الطريق وأخذ في المنهج المستقيم، وسداد يشبه بسداد السهم نحو الغرض. وقال الخطابي في المعالم (ج6: ص116) قوله: ((واذكر بالهدى هداية الطريق)) معناه أن سالك الطريق والفلاة وإنما يؤم سمت الطريق ولا يكاد يفارق الجادة ولا يعدل عنها يمنة ويسرة خوفًا من الضلال وبذلك يصيب الهداية وينال السلامة، يقول: إذا سألت الهدى فاخطر بقلبك هداية الطريق وسل الله الهدى والاستقامة كما تتحراه في هداية الطريق إذا سلكتها، وقوله: ((واذكر بالسداد تسديدك السهم)) معناه أن الرامي إذا رمى غرضًا سدد بالسهم نحو الغرض ولم يعدل عنه يمينَا ولا شمالاً ليصيب الرمية فلا يطيش سهمه ولا يخفق سعيه يقول: فاختر المعنى بقلبك حين تسأل الله السداد ليكون ما تنويه من ذلك على شاكلة ما تستعمله في الرمي. (رواه مسلم) في الدعاء، وأخرجه أيضًا أحمد (ج1: ص88، 134، 138، 154) ، وأبو داود في الخاتم، والنسائي في الزينة.

2510- (5) وعن أبي مالك الأشجعي عن أبيه قال: كان الرجل إذا أسلم علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة، ثم أمره أن يدعو بهؤلاء الكلمات: اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني، وعافني، وارزقني. رواه مسلم. 2511- (6) وعن أنس قال: كان أكثر دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2510- قوله (وعن أبي مالك الأشجعي) اسمه سعد بن طارق بن أشيم، تقدم ترجمته وترجمة أبيه في (ج2: ص223) (كان الرجل إذا أسلم علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة) ، أي جنس مسائل الصلاة من شروطها وأركانها أو الصلاة تحضره فإنه فرض عينه (ثم أمره أن يدعو بهؤلاء الكلمات) لكونها جامعة لجميع خيرات الدنيا والآخرة (اللهم اغفر لي) ، أي بمحو ذنوبي (وارحمني) ، أي بستر عيوبي (واهدني) ، أي إلى سبيل السلامة أو ثبتني على نهج الاستقامة (وعافني) ، أي من البلايا والخطايا (وارزقني) ، أي رزقًا حلالاً. (رواه مسلم) ، في الدعاء وأخرجه أيضًا أحمد (ج3: ص472) ، وروى مسلم وأحمد أيضًا (ج3: ص472، وج6: ص394) ، وابن ماجة في الدعاء من طريق يزيد بن هارون عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأتاه رجل فقال: يا رسول الله كيف أقول حين أسأل ربي؟ قال: قل اللهم اغفر لي وارحمني وعافني وارزقني، ويجمع أصابعه إلا الإبهام فإن هؤلاء تجمع لك دنياك وآخرتك. 2511- قوله (كان أكثر دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -) ، أي لكونه دعاء جامعًا ولكونه من القرآن مقتبسًا وجعل الله داعية ممدوحًا (اللهم آتنا في الدنيا) ، أي قبل الموت، وهذا لفظ البخاري في الدعوات ورواه في تفسير البقرة بلفظ ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: اللهم ربنا آتنا في الدنيا)) . وأخرجه مسلم وغيره بلفظ ((كان أكثر دعوة يدعو بها يقول اللهم آتنا في الدنيا)) إلى آخرة. قال: وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة (أي واحدة) ، دعا بها، (أي بهذه الدعوة أي اللهم آتنا في الدنيا حسنة إلى آخره) ، وإذا أراد أ، يدعو بدعاء (أي كثير طويل) دعا بها فيه (أي بهذه الدعوة في ضمن دعواته الكثيرة) وللبغوي قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول)) (حسنة) ، أي كل ما يسمى نعمة ومنحة عظيمة وحالة مرضية (وفي الآخرة) ، أي بعد الموت (حسنة) ، أي مرتبة مستحسنة (وقنا عذاب النار) ، أي احفظنا منه وما يقرب إليه، قال الطيبي: قوله ((وقنا عذاب النار)) تنميم، أي إن صدر منا ما يوجبه من التقصير والعصيان فاعف عنا وقنا عذاب النار. قيل: المراد بالحسنة كل ما يعطاه العبد في الدنيا مما يلائم طبعه من العيشة الطيبة والغنى والعافية والمرأة الحسنة وغير ذلك مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين من المباح والحلال وكذلك كل ما يعطاه في الآخرة يكون حسنة بلا واسطة أو بواسطة،

متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأما ما يذكر عن علي أن الحسنة في الدنيا المرأة الصالحة، وفي الآخرة الحور العين، وعذاب النار المرأة السوء، وعن الحسن البصري أنها العلم النافع والعبادة والرزق الطيب، وفي الآخرة الجنة، وعن قتادة أنها العافية في الدنيا والآخرة. وعن السدي ومقاتل أن حسنة الدنيا الرزق الحلال الواسع والعمل الصالح وحسنة الآخرة المغفرة والثوب. وعن عطية: حسنة الآخرة تيسير الحساب ودخول الجنة، وعن غيره: أن حسنة الدنيا الصحة والكفاف والعفاف في الدنيا والثواب والرحمة في الآخرة ونحو ذلك فمثال لا غير. قال القاضي عياض: إنما كان يكثر الدعاء بهذه الآية لجمعها معاني الدعاء كلها من أمر الدنيا والآخرة، قال: والحسنة عندهم ها هنا النعمة، فسأل نعيم الدنيا والآخرة، والوقاية من العذاب. وقال ابن كثير في تفسيره: جمعت هذه الدعوة كل خير في الدنيا وصرفت كل شر فإن الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي من عافية ودار رحبة وزوجة حسنة، وولد بار، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب هين، وثناء جميل، إلى غير ذلك، مما اشتملت عليه عبارات المفسرين ولا منافاة بينها فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا، وأما الحسنة في الآخرة فأعلى ذلك دخول الجنة وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العرصات وتيسير الحساب وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة، وأما النجاة من النار والوقاية من عذابه فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا من اجتناب المحارم والآثام وترك الشبهات والحرام. قال الحافظ: أو العفو محضًا ومراده بقوله وتوابعه ما يلتحق به في الذكر لا ما يتبعه حقيقة - انتهى. وقال القرطبي: والذي عليه أكثر أهل العلم أن المراد بالحسنتين نعيم الدنيا والآخرة. قال: وهذا هو الصحيح فإن اللفظ يقتضي هذا كله فإن ((حسنة)) نكرة في سياق الدعاء فهو محتمل لكل حسنة من الحسنات على البدل وحسنة الآخرة الجنة بإجماع - انتهى. وقال القاري: لعله - صلى الله عليه وسلم - كان يكثر هذا الدعاء لأنه من الجوامع التي تحوز جميع الخيرات الدنيوية والأخروية، وبيانه أنه - صلى الله عليه وسلم - كرر الحسنة ونكرها وقد تقرر في علم المعاني أن النكرة إذا أعيدت كانت غير الأول فالمطلوب في الأولى الحسنات الدنيوية من الاستقامة والتوفيق والوسائل إلى اكتساب الطاعات والميراث بحيث تكون مقبولة عند الله، وفي الثانية ما يترتب عليها من الثواب والرضوان في العقبى، وفي تفسير الآية أقوال كثيرة كلها ترجع إلى المعنى الأعم - انتهى. وقال الشوكاني: الظاهر أن المراد أنه يكون ما يعطاه في الدنيا حسنة فيكون كل خصلة من خصال الدنيا حسنة وكل خصلة من خصال الآخرة حسنة. أو يقال: المراد حسن المعاش وحسن المعاد وحسن الحياة وحسن الممات فإن ذلك يستلزم أن يكون كل أمور دنياه وآخرته حسنة (متفق عليه) أخرجه البخاري في تفسير البقرة، وفي الدعوات، ومسلم في الدعاء. واللفظ للبخاري في الدعوات، وأخرجه أيضًا أحمد (ج: ص) ، والبخاري في الأدب المفرد (ج2: ص130، 134) ، وأبو داود في أواخر الصلاة، والنسائي في اليوم والليلة، والبغوي (ج5: ص181، 182) .

(الفصل الثاني)

(الفصل الثاني) 2512- (7) عن ابن عباس قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو يقول: رب أعني ولا تعن عليَّ، وانصرني ولا تنصر عليَّ، وامكر لي ولا تمكر عليَّ، واهدني، ويسر الهدى لي، وانصرني على من بغى عليَّ، رب اجعلني لك شاكرًا، لك ذاكرًا، لك راهبًا، لك مطواعًا، إليك مخبتًا ـــــــــــــــــــــــــــــ 2512- قوله (يقول) بدل أو حال (رب أعني) من الإعانة، ((أي على أعدائي في الدين والدنيا من النفس والشيطان والجن والإنس)) (ولا تعن عليّ) ، أي أحدًا منهم (وانصرني ولا تنصر عليّ) أحدًا من خلقك، أي لا تسلطهم عليّ (وامكر لي ولا تمكر عليّ) بضم الكاف فيهما، أي أعني على أعدائي بإيقاع المكر منك عليهم لا عليّ. قال الطيبي: المكر الخداع وهو من الله إيقاع بلائه بأعدائه من حيث لا يشعرون، وقد يكون مكر الله باستدارجه بطول العمر وحسن الصحة وبظاهر النعمة، وقد يكون باستدراج العبد بالطاعات فيتوهم أنها مقبولة، وهي مردودة بما وقع فيها من الرياء والسمعة. والحاصل ألحق مكرك بأعدائي لا بي. وقال ابن الملك: المكر الحيلة والفكر في دفع عدو بحيث لا يشعر به العدو، فالمعنى اللهم اهدني إلى طريق دفع أعدائي عني ولا تهد عدوي إلى طريق دفعه إياي عن نفسه (واهدني) ، أي دلني على الخيرات والمبرآت، (ويسر الهدى لي) ، أي وسهل إتباع الهداية أو طرق الدلالة لي حتى لا أستثقل الطاعة ولا أشتغل عن الطاعة (وانصرني على من بغي علي) ، أي ظلمني وتعدى على (رب اجعلني لك شاكرًا) ، أي لا لغيرك (لك ذاكرًا) ، أي لا لمن سواك (لك راهبًا) ، أي خائفًا منك خاصة في السراء والضراء، فتقديم الجار والمجرور للاهتمام والاختصاص أو لتحقيق مقام الإخلاص، وهذا لفظ أبي داود. ولأحمد، والترمذي، وابن ماجة، وابن حبان، والحاكم، وابن أبي شيبة، والبغوي: ((لك ذكارًا، لك شكارًا، لك رهابًا)) ، أي على وزن فعال بصيغة المبالغة في المواضع الثلاثة، أي كثير الذكر لك في الأوقات والآناء، كثير الشكر على النعماء والآلاء، كثير الخوف والرهبة من المعصية ومن الغضب والسخط، أو جامعًا لشكر القلب وشكر العمل وشكر اللسان، وشكر القلب أن تعلم أن كل نعمة عليك فهي من الله وأن تلتذ بكونها من الله وشكر العمل أن تجعل النعمة في محلها كما أمر الله وشكر اللسان التلفظ بحمده بعد هذا والعلم والعمل (لك مطواعًا) بكسر الميم مفعال للمبالغة، أي كثير الطوع وهو الانقياد والطاعة يعني كثير الطاعة لأمرك والانقياد إلى قبول أوامرك ونواهيك، وفي رواية ابن ماجة، وابن أبي شيبة: ((مطيعًا)) من الإطاعة، أي منقادًا (لك مخبتًا) من الإخبات وهو الخشوع والتواضع والخضوع، أي اجعلني لك خاشعًا خاضعًا متواضعًا، قال في القاموس: أخبت: خشع. وقيل: من الخبت بفتح فسكون وهو المطئن من الأرض، يقال أخبت الرجل قصد الخبت أو نزله نحو أسهل، ثم استعمل الخبت استعمال اللين والتواضع، قال الله تعالى: {وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ} (11: 23) ، أي اطمأنوا وسكنت نفوسهم إلى أمره فالمخبت هو

إليك أواهًا منيبًا، رب تقبل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبت حجتي، وسدد لساني، واهد قلبي، واسلل سخيمة صدري. رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجة. ـــــــــــــــــــــــــــــ المتواضع الذي اطمأن قلبه إلى ذكر ربه وأقيم اللام مقام ((إلى)) لتفيد الاختصاص قال تعالى: {وبشر المخبتين الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية (22: 35) وفي رواية البغوي: ((إليك مخبتًا)) (إليك) وللبغوي: ((لك)) مكان ((إليك)) (أوّاهًا) بتشديد الواو أي أكثر التأوه من الذنوب وهو التضرع , وقيل: كثير الدعاء، وقيل: كثير البكاء. وقال القاري: أي متضرعًا فعال للمبالغة من أوه تأويهًا وتأوه تأوهًا إذا قال: أوه أي قائلاً لفظ أوه وهو صوت الحزين أي: اجعلني حزنيًا ومتفجعًا على التفريط أو هو قول النادم من معصيته المقصر في طاعته، وقيل: الأواه البكاء (منيبًا) من الإنابة، أي راجعًا إليك في أموري كلها، وقيل التوبة رجوع من المعصية إلى الطاعة والإنابة من الغفلة إلى الذكر والفكرة والأوبة من الغيبة إلى الحضور والمشاهدة. قال الطيبي: وإنما اكتفى في قوله: ((أواهًا منيبًا)) بصلة واحدة لكون الإنابة لازمة للتأوه ورديفًا له فكأنه شيء واحد ومنه قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} (11: 75) (رب تقبل توبتي) بجعلها صحيحة بشرائطها واستجماع آدابها فإنها لا تتخلف عن حيز القبول قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} (42: 25) (واغسل حوبتي) بفتح الحاء وتضم، أي امح ذنبي وأزل خطيئتي وإثمي. قيل: هي مصدر حبت بكذا، أي أثمت، تحوب حوبة وحوبًا وحبابة والجواب بالضم، والحاب الإثم سمي بذلك لكونه مزجورًا عنه إذ الحوب في الأصل لزجر الإبل وذكر المصدر دون الإثم وهو الحوب لأن الاستبراء من فعل الذنب أبلغ منه من نفس الذنب كذا قيل، ويمكن أن يكون مراعاة للسجع، ثم ذكر الغسل ليفيد إزالته بالكلية بحيث لا يبقى منه أثر، والتنزة والتفصي عنه عن القذر الذي يستنكف عن مجاورته (وأجب دعوتي) ، أي دعائي (وثبت حجتي) ، أي على أعدائك في الدنيا والعقبى أو ثبت قولي وتصديق في الدنيا وعن جواب الملكين في القبر وقيل: أي قو إيماني بك وثبتني على الصواب عند السؤال (وسدد لساني) ، أي صوبه وقومه حتى لا ينطق إلا بالصدق ولا يتكلم إلا بالحق (واهد قلبي) ، أي إلى الصراط المستقيم وقيل: أي إلى معرفة ربي، وقيل: أي إلى درك الحقائق الشرعية (واسلل) بضم اللام الأولى، أي أخرج وأنزع من سل السيف إذا أخرجه من الغمد (سخيمة صدري) ، بضم المهملة وكسر المعجمة، أي غشه وغله وحقده. قيل: السخيمة الضغينة من السخمة وهو السواد ومنه سخام القدر وإنما أضاف السخيمة إلى المصدر إضافة الشيء إلى محله والمعنى أخرج من صدري وانزع عنه ما ينشأ منه ويسكن فيه ويستولى عليه من مساوي الأخلاق وفي رواية ابن حبان، والبغوي ((قلبي)) بدل ((صدري)) . (رواه الترمذي) في الدعوات، (وأبو داود) في أواخر الصلاة، (وابن ماجة) في الدعاء، وأخرجه أيضًا أحمد (ج1: ص227) ، والبخاري في الأدب المفرد (ج2: ص118، 119) ، والنسائي في اليوم والليلة، وابن حبان في صحيحه، والحاكم (ج1: ص520) ، وابن أبي شيبة، والبغوي (ج5: ص175، 176) وقال

2513- (8) وعن أبي بكر قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر ثم بكى، فقال: سلوا الله العفو والعافية، فإن أحدًا لم يعط بعد اليقين خيرًا من العافية. ـــــــــــــــــــــــــــــ الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. كت عنه أبو داود، ونقل المنذري كلام الترمذي وأقره. وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. 2513- قوله: (ثم بكى) وفي رواية ابن حبان ((فخنقته العبرة ثلاث مرات)) قيل إنما بكى لأنه علم وقوع أمته في الفتن وغلبة الشهوة والحرص على جمع المال وتحصيل الجاه فأمرهم بطلب العفو والعافية ليعصمهم من الفتن (سلوا الله العفو) أي: عن الذنوب، قال في النهاية العفو معناه التجاوز عن الذنب، وترك العقاب عليه وأصله المحو والطمس (والعافية) زاد في رواية لأحمد، والحاكم، والبغوي: ((واليقين في الأولى والآخرة)) قيل العافية هي السلامة في الدين من الفتنة وفي البدن من الأسقام والمحنة، قال في الصحاح: عافاه الله وأعفاه بمعنى واحد والاسم العافية وهي دفاع الله تعالى عن العبد، وتوضع موضع المصدر فيقال: عافاه عافية فقوله: دفاع الله عن العبد يفيد أن العافية تشمل جميع ما يدفعه الله عن العبد من البلايا كائنة ما كانت. وقال في النهاية: العافية أن تسلم من الأسقام والبلايا وهذا يفيد العموم كما أفاده كلام صاحب الصحاح، وقال في القاموس: والعافية دفاع الله عن العبد، عافاه الله من المكروه معافاة وعافية وهب له العافية من العلل كأعفاه - انتهى. وهكذا كلام سائر أئمة اللغة، وبهذا علم أن العافية هي دفاع الله عن العبد، وهذا الدفاع المضاف إلى الإسم الشريف يشمل كل نوع من أنواع البلايا والمحن فكل ما دفعه الله عن العبد منها فهو عافية، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فإن أحدًا لم يعط بعد اليقين) أي: الإيمان، وفي رواية لأحمد، وابن حبان ((بعد كلمة الإخلاص)) (خيرًا من العافية) قال الطيبي: وهي السلامة من الآفات فيندرج فيها العفو - انتهى. يعني ولعموم معنى العافية الشاملة للعفو اكتفى بذكرها عنه والتنصيص عليه سابقًا للإيماء إلى أنه أهم أنواعها قال الشوكاني: أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسأل الإنسان ربه أن يرزقه العفو الذي هو العمدة في الفوز بدار المعاد وبأن يرزقه العافية التي هي العمدة في صلاح أمور الدنيا والسلامة من شرورها ومحنها فكان هذا الدعاء من الكلم الجوامع والفوائد النوافع فعلى العبد أن يكثر من الدعاء بالعافية وقد أغنى عن التطويل في ذكر فوائدها ومنافعها ما ذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث فإنها إذا كانت بحيث أنه لم يعط أحد بعد اليقين خيرًا منها فقد فاقت كل الخصال وارتفعت درجتها كل خير وقد ورد في حديث العباس عند أحمد، والبخاري في الأدب المفرد، والترمذي، والطبراني ما يدل على أن العافية تشمل أمور الدنيا والآخرة وهو الظاهر من كلام أهل اللغة لأن قولهم دفاع الله عن العبد غير مقيد بدفاعه عنه لأمور الدنيا فقط بل يعم كل دفاع يتعلق بالدنيا والآخرة، قال: وفي أمره - صلى الله عليه وسلم - للعباس بالدعاء بالعافية بعد تكرير العباس سؤاله بأن يعلمه شيئًا يسأل الله به دليل جلي بأن الدعاء بالعافية لا يساويه شيء

رواه الترمذي، وابن ماجة. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب إسنادًا. 2514- (9) وعن أنس أن رحلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! أي الدعاء أفضل؟ قال: سل ربك العافية والمعافاة في الدنيا والآخرة، ثم أتاه في اليوم الثاني فقال: يا رسول الله! أي الدعاء أفضل؟ فقال له مثل ذلك، ثم أتاه في اليوم الثالث فقال له مثل ذلك. قال: فإذا أعطيت العافية والمعافاة في الدنيا والآخرة ـــــــــــــــــــــــــــــ من الأدعية، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينزل عمه العباس منزلة أبيه ويرى له من الحق ما يراه الولد لوالده ففي تخصيصه بهذا الدعاء وقصروه على مجرد الدعاء بالعافية تحريك لهمم الراغبين على ملازمته، وأن يجعلوه من أعظم ما يتوسلون به إلى ربهم ويستدفعون به في كل ما يهمهم ثم كلمه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((سل الله العافية في الدنيا والآخرة)) فكأن الدعاء من هذه الحيثية قد صار لدفع كل ضر وجلب كل خير (رواه الترمذي، وابن ماجة) في الدعاء، وأخرجه أيضًا أحمد (ج1: ص3، 4، 5، 7، 8، 9، 10) ، والبخاري في الأدب المفرد (ج2: ص186) ، والنسائي، وابن حبان، والحاكم (ج1: ص529) ، والبغوي (ج5: ص178) ، وأبو بكر المروزي في مسند أبي بكر الصديق (وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب إسنادًا تمييز عن الثاني فإن الغرابة قد تكون في المتن وأخرى في الإسناد كما هو مقرر في موضعه، وأما الحسن فلا يكون إلا باعتبار إسناده، فليس فيه إبهام ليحتاج إلى رفعه بالتمييز قاله القاري. قلت: الذي في الترمذي هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه عن أبي بكر - انتهى. وهذا واضح، وكأن ما في المشكاة نقل بالمعنى. وقال البغوي بعد روايته: هذا حديث غريب. والحديث رواه النسائي من طرق وعن جماعة من الصحابة. قال المنذري: وأحد أسانيده صحيح. وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. 2514- قوله: (سل ربك العافية والمعافاة) يعني أن الدعاء بالعافية أفضل من غيره من الأدعية لاشتماله على جلب كل نفع ودفع كل ضر، وقد تقدم كلام وصاحب القاموس: في بيان العافية والمعافاة، وقال الجزري في النهاية: العافية أن تسلم من الأسقام والبلايا وهي الصحة وضد المرض والمعافاة هي أن يعافيك الله من الناس ويعافيهم منك أي: يغنيك عنهم، ويغنيهم عنك ويصرف أذاهم عنك وأذاك عنهم. وقيل: هي مفاعلة من العفو وهو أن يعفو عن الناس ويعفو لهم عنه - انتهى. وقال في اللمعات: أراد بالعافية السلامة عن جميع الآفات الظاهرة والباطنة ويدخل فيه الإيمان ولذلك سمي هذا الدعاء أفضل، والمعافاة مفاعلة من العافية فالمعنى أن يعافيك الله عن الناس، يصرف عنك أذاهم وأذاك عنهم، وقيل: مفاعلة من العفو يعني عفوك عنهم وعفوهم عنك والمآل واحد (فقال له مثل ذلك)

فقد أفلحت. رواه الترمذي، وابن ماجة، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب إسنادًا. 2515- (10) وعن عبد الله بن يزيد الخطمي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول في دعائه: اللهم ارزقني حبك وحب من ينفعني حبه عندك، اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب. اللهم ما زويت عني ـــــــــــــــــــــــــــــ أي: مثل ذلك القول فنصبه على المصدرية (فقد أفلحت) أي: فزت بمرادك وظفرت بمقصودك له بذلك عظم ذلك الدعاء وعموم بركته لمصالح الدنيا والآخرة، وفي الحديث التصريح بأن الدعاء بالعفاية أفضل الدعاء ولاسيما بعد تكريره للسائل في ثلاثة أيام حين أن يأتيه للسؤال عن أفضل الدعاء فأفاد هذا أن الدعاء بالعافية أفضل من غيره من الأدعية، ثم في قوله: ((فإذا أعطيت العافية)) إلخ. دليل ظاهر واضح بأن الدعاء بالعافية يشمل أمور الدنيا والآخرة لأنه قال هذه المقالة بعد أن قاله له: سل ربك العافية ثلاث مرات فكان ذلك كالبيان لعموم بركة هذه الدعوة بالعافية لمصالح الدنيا والآخرة ثم رتب على ذلك الفلاح الذي هو المقصد الأسنى والمطلب الأكبر (رواه الترمذي، وابن ماجة) في الدعاء، وأخرجه أيضًا أحمد (ج: ص) ، والبخاري في الأدب المفرد (ج2: ص93) ، وابن أبي الدنيا كلهم من طريق سلمة بن وردان عن أنس وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه إنما نعرفه من حديث سلمة بن وردان - انتهى. قلت: سلمة هذا ضعيف، والظاهر أن الترمذي حسنه لشواهده. 2515- قوله: (وعن عبد الله بن يزيد) بمثناتين تحتيتين من الزيادة، ابن زيد بن حصين الأنصاري الأوسي (الخطمي) بفتح المعجمة وسكون المهملة نسبة إلى خطمة بن جشم بن مالك بن الأوس، كان من أفاضل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال ابن الأثير: يكنى أبا موسى وهو كوفي وله بها دار، شهد الحديبية وهو ابن سبع عشرة سنة وشهد ما بعدها، واستعمله عبد الله بن الزبير على الكوفة، وكان الشعبي كاتبه لما كان أميرًا على الكوفة وشهد مع علي بن أبي طالب الجمل وصفين والنهروان. قال الدارقطني: له ولأبيه صحبة، شهد بيعة الرضوان وهو صغير، وشهد أبوه أحدًا وما بعدها وهلك قبل فتح مكة (اللهم ارزقني حبك) أي: لأنه لا سعادة للقلب ولا لذة ولا نعيم ولا صلاح إلا بأن يكون الله أحب إليه مما سواه، فقوله ((حبك)) ، فيه إضافة المصدر إلى مفعولة (وحب من ينفعني حبه عندك) كالملائكة والأنبياء والأصفياء والأتقياء، والظرف متعلق بينفعني (اللهم ما رزقتني مما أحب) ، أي الذي أعطيتني من الأشياء التي أحبها منصحة البدن وقوته وأمتعة الدنيا من المال والجاه والأولاد والفراغ وسائر النعم (فاجعله قوة) ، أي عدة (لي فيما تحب) بأن أصرفه فيما تحبه وترضاه من الطاعة والعبادة (اللهم ما زويت عني) في الترمذي ((اللهم وما زويت عني)) بزيادة الواو وهكذا نقله في جامع الأصول والجامع الصغير وجمع الفوائد والحصن، أي ما صرفت ونحيت من الزى بمعنى القبض

مما أحب فاجعله فراغًا لي فيما تحب. رواه الترمذي. 2516- (11) وعن ابن عمر قال: قلما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه: اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ـــــــــــــــــــــــــــــ والجمع، يقال: زوى فلان المال عن وارثه زيًا، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: اللهم ازو لنا الأرض وهون علينا السفر، أي اطوها كما في رواية أخرى، أي وما قبضته ونحيته وصرفته عنى بأن منعتني ولم تعطني (مما أحب) أي: مما أشتهيه من المال والجاه والأولاد وأمثال ذلك (فاجعله فراغًا لي) أي: سبب فراغ خاطري (فيما تحب) أي: من الذكر والفكر والطاعة والعبادة، قال القاضي: يعني ما صرفت عني من محابي فنحه عن قلبي واجعله سببًا لفراغي لطاعتك ولا تشغل به قلبي فيشغل عن عبادتك. وقال الطيبي: أي: اجعل ما نحيته عني من محابي عونًا على شغلي بمحابك وذلك أن الفراغ خلاف الشغل فإذا زوى عنه الدنيا ليتفرغ لمحاب ربه كان ذلك الفراغ عونًا له على الاشتغال بطاعة الله ذكره القاري (رواه الترمذي) في الدعوات وقال: هذا حديث حسن غريب، قال ابن القطان: ولم يصححه لأن رواته ثقات إلا سفيان بن وكيع فمتهم بالكذب وترك الرازيان حديثه بعد ما كتباه. وقيل لأبي زرعة أكان يكذب؟ قال: نعم. كذا في فيض القدير (ج2: ص102) قلت: سفيان هذا من شيوخ الترمذي، قال الحافظ عنه: كان صدوقًا إلا أنه ابتلي بوراقه فأدخل عليه ما ليس من حديثه فنصح فلم يقبل فسقط حديثه. 2516- قوله: (قلما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي: ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، اتصلت ها هنا حرف ما الكافة الزائدة بقل فكفته عن عمل الرفع كما في قول الشاعر: قلما يبرح اللبيب إلى ما ... يورث المجد داعيًا أو مجيبًا قال شيخنا: قد تتصل ما بقل فيقال: قلما جئت وتكون ما كافة عن عمل الرفع فلا اقتضاء للفاعل وتستعمل قلما لمعنيين أحدهما النفي الصرف والثاني إثبات الشيء القليل (يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه) وبعض نسخ الترمذي بهذه الكلمات، وفي رواية ابن السني ((كان ابن عمر إذا جلس مجلسًا لم يقم حتى يدعو لجلسائه بهذه الكلمات)) وزعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو بهن لجلسائه (اللهم اقسم لنا) ، أي اجعل لنا قسمًا ونصيبًا (من خشيتك) ، أي من خوفك، والخشية الخوف أو خوف مقترن بالتعظيم (ما تحول به) من حال يحول حيلولة، أي مقدار تحجب أنت بسببه (بيننا وبين معاصيك) فإنه لا أمنع لها من خشية الله تعالى. وقيل: لأن القلب إذا امتلأ من الخوف أحجمت الأعضاء جميعها من ارتكاب المعاصي وبقدر قله الخوف يكون الهجوم على المعاصي فإذا قل الخوف جدًا واستولت الغفلة كان ذلك من علامة الشقاء، ومن ثم قالوا: المعاصي بريد الكفر كما أن القبلة بريد الجماع والغناء بريد الزنا والنظر بريد العشق والمرض بريد الموت وللمعاصي من الآثار القبيحة المذمومة المضرة بالعقل والبدن والدنيا

ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصيبات الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، ـــــــــــــــــــــــــــــ والآخرة ما ل يحصيه إلا الله وقوله: ((ما تحول به)) ، كذا وقع في أكثر نسخ المشكاة، وهكذا في المصابيح، وشرح السنة، وابن السني، وعدة الحصن، ووقع في بعض نسخ المشكاة: ما يحول بالتحية، أي بالتذكير على أن الضمير لما وترك به وهكذا وقع في الترمذي، أي اجعل لنا من خوفك قسما ونصيبًا يحجب ويمنع هو بيننا وبينها واختلفت نسخ الحصن في ذلك (ومن طاعتك) ، بإعطاء القدرة عليها والتوفيق لها (ما تبلغنا) بتشديد اللام المكسورة، أي توصلنا أنت (به جنتك) ، أي مع شمولنا برحمتك، وليست الطاعة وحدها مبلغة (ومن اليقين) ، أي بك وبأنه لا راد لقضائك وبأنه لا يصيبنا إلا ما كتبت لنا وبأن ما أخطأنا لم يكن ليصيبنا وما أصابنا لم يكن ليخطئنا وبأن ما قدرته لا يخلو عن حكمه ومصلحة واستجلاب منفعة ومثوبة (ما تهون به) ، من التهوين أي تسهل به أنت بذلك اليقين (مصيبات الدنيا) ، وفي رواية الحاكم، وابن السني ((مصائب الدنيا)) ، أي من المرض والغم والجراحة وتلف المال والأولاد فإن من علم يقينًا أن ما يصيبه من المصيبات في الدنيا يعطيه الله عوضه في الآخرة الثواب ويكفر السيئات ويرفع الدرجات لا يغتم بما أصابه ولا يحزن بما نابه بل يفرح بذلك غاية حرصه على تحصيل الثواب (ومتعنا) ، أي التمتيع، أي اجعلنا متمتعين منتفعين (بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا) ، أي بأن نستعملها في طاعتك، وقال ابن الملك: التمتيع بالسمع والبصر إبقاءهما صحيحين إلى الموت (ما أحييتنا) ، أي مدة حياتنا، قال الطيبي: وإنما خص السمع والبصر بالتمتيع من الحواس لأن الدلائل الموصلة إلى معرفة الله وتوحيده إنما تحصل من طريقهما لأن البراهين إنما تكون مأخوذة من الآيات المنزلة وذلك بطريق السمع أو من الآيات المنصوبة في الآفاق والأنفس وذلك بطريق البصر فسأل التمتيع بهما حذرًا من الانخراط في سلك الذين ختم لله عَلَى قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، ولما حصلت المعرفة بالأولين يترتب عليها العبادة فسأل القوة ليتمكن بها من عبادة ربه - انتهى. والمراد بالقوة قوة سائر الأعضاء والحواس أو جميعها فيكون تعميمًا بعد تخصيص (واجعله) ، أي كل واحد منها أو أي المذكور من الأسماع والأبصار والقوة، فالضمير راجع لما سبق من الأسماع والأبصار والقوة وإفراده وتذكيره على تأيلها بالمذكور، أي اجعل ما متعتنا به (الوارث) ، أي الباقي (منا) ، أي بأن يبقى إلى الموت. قال البغوي: قوله ((واجعله الوارث منا)) ، أي أبقه معي حتى أموت. قيل: أراد بالسمع وعي ما يسمع والعمل به وبالبصر الاعتبار بما يرى، وقيل: يجوز أن يكون أراد بقاء السمع والبصر بعد الكبر وانحلال القوى فيكون السمع والبصر وارثي سائر القوى والباقيين بعدها ورد الهاء إلى الإمتاع فلذلك وحده فقال ((واجعله الوارث منا)) - انتهى. وقال في اللمعات: الضمير في قوله اجعله للمصدر المحذوف الذي هو الجعل أي اجعل الجعل وهو المفعول المطلق وعلى هذا الوارث مفعول أول ومنا في محل المفعول الثاني أي اجعل الوارث من نسلنا لا كلالة خارجة منا، والكلالة قرابة ليست من جهة

واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا. رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب. ـــــــــــــــــــــــــــــ الولادة وهذا الوجه قد ذكره بعض النحاة في قولهم: أن المفعول قد يضمر ولكن لا يتبادر إلى الفهم من الفظ ولا ينساق الذهن إليه كما لا يخفى. وقيل: أن الضمير فيه للمتمتع الذي هو مدلول متعنا والمعنى اجعل تمتعنا بها باقيًا مأثورًا فيمن بعدنا لأن وارث المرأ لا يكون إلا الذي يبقى بعده وهو المفعول الأول والوارث مفعول ثان و ((منا)) صلته، وهذا المعنى يشبه سؤال خليل الرحمن على نبينا وعليه الصلاة والسلام {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} (26: 84) وقيل: معنى وراثنه دوامه إلى يوم الحاجة إليه يعني يوم القيامة والأول أوجه لأن الوارث إنما يكون باقيًا في الدنيا. وقيل: إن الضمير للأسماع والأبصار والقوة بتأويل المذكور ومثل هذا شائع في العبارات لا كثير تكلف فيها، وإنما التكليف فيما قيل: أن الضمير راجع إلى أحد المذكورات، ويدل ذلك على وجود الحكم في الباقي لأن كل شيئين تقاربا في معنييهما فإن الدلالة على أحدهما دلالة على الآخر والمعنى بوراثتها لزومها إلى موته لأن الوارث يلزم إلى موته - انتهى. (واجعل ثأرنا) بالهمزة بعد المثلثة المفتوحة، أي إدراك ثأرنا (على من ظلمنا) ، أي مقصورًا عليه ولا تجعلنا ممن تعدى في طلب ثأره فأخذ به غير الجاني كما كان معهودًا في الجاهلية فنرجع ظالمين بعد أن كنا مظلومين. وأصل الثأر الحقد والغضب ثم غلب استعماله في طلب الدم من القاتل يقال ثأرت القتيل وبالقتيل، أي قتلت قاتله (وانصرنا على من عادانا) ، أي ظفرنا عليه وانتقم منه، (ولا تجعل مصيبتنا في ديننا) ، أي لا تصبنا بما ينقص ديننا من اعتقاد السوء وأكل الحرام والفترة في العبادة وغيرها (ولا تجعل الدنيا أكبر همنا) ، ((الهم)) القصد والحزن، أي لا تجعل طلب المال والجاه أكبر قصدنا أو حزننا أو لا تجعل أكبر قصدنا أو حزننا لأجل الدنيا بل اجعل أكبر قصدنا أو حزننا مصروفًا في عمل الآخرة، وفيه أن قليلاً من الهم فيما لابد منه في أمر المعاش مرخص فيه بل مستحب بل واجب (ولا مبلغ علمنا) ، أي غاية علمنا، أي لا تجعلنا بحيث لا نعلم ولا نتفكر إلا في أمور الدنيا بل اجعلنا متفكرين في أحوال الآخرة متفحصين عن العلوم التي تتعلق بالله تعالى وبالدار الآخرة والمبلغ بفتح الميم واللام بينهما موحدة ساكنة. الغاية التي يبلغه الماشي والمحاسب فيقف عنده (ولا تسلط علينا من لا يرحمنا) أي: لا تجعلنا مغلوبين للكفار والظلمة أو لا تجعل الظالمين علينا حاكمين فإن الظالم لا يرحم الرعية. وقيل: المراد ملائكة العذاب في القبر وفي النار ولا مانع من إرادة معنى الجمع هذا وقد أطال الشوكاني في شرح هذا الدعاء وأطاب في بيان فوائده في تحفة الذاكرين (ص300، 301) فارجع إليه (رواه الترمذي) في الدعوات، وأخرجه أيضًا النسائي، وابن السني (ص143) ، والحاكم (ج1: ص528) ، والبغوي (ج5: ص171) (وقال: هذا حديث حسن غريب) . وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري

2517- (12) وعن أبي هريرة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني، وزدني علمًا. الحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل النار. رواه الترمذي، وابن ماجة، وقال الترمذي: هذا حديث غريب إسنادًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأقره الذهبي، وفي إسناده عبيد الله بن زحر وقد ضعفوه بما يقتضي أن لا يكون حديثه صحيحًا، بل غاية رتبة هذا الحديث أن يكون حسنًا كما قال الترمذي. فقد قال أبو زرعة: أنه صدوق. وقال النسائي: لا بأس به. قال في المنار: فالحديث لأجله حسن لا صحيح. 2517- قوله: (اللهم انفعني بما علمتني) أي: في الأزمنة السابقة يعني بالعمل بمقتضاه خالصًا لوجهك (وعلمني) أي: فيما بعد (ما ينفعني) أي: علمًا ينفعني، فيه أنه لا يطلب من العلم إلا النافع والنافع ما يتعلق بأمر الدين والدنيا فيما يعود فيها على نفع الدين وإلا فما عدا هذا العلم فإنه ممن قال الله فيه: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ} (2: 102) أي: بأمر الدين فإنه نفى العلم عن علم السحر لعدم نفعه في الآخرة بل لأنه ضار فيها وقد ينفعهم في الدنيا لكنه لم يعد نفعًا (وزدني علمًا) مضافًا إلى ما علمتنيه. وقال السندي: أي: نافعًا بقرينة السياق أو هو مبني على تنزيل غير النافع بمنزلة الجهل. قال الطيبي: طلب أولاً النفع بما رزق من العلم وهو العمل بمقتضاه ثم توخى علمًا زائدًا عليه ليترقى منه إلى عمل زائد على ذلك، وفيه إشارة إلى أن من عمل بما علم ورثه الله علمًا لا يعلم، ثم قال: ((رب زدني علمًا)) يشير إلى طلب الزيادة في السير والسلوك إلى أن يوصله إلى مخدع الوصال فظهر من هذا أن العلم وسيلة إلى العمل وهما متلازمان. ومن ثم قيل: ما أمر الله ورسوله بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم بقوله تعالى: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} (20: 114) وهذا من جامع الدعاء الذي لا مطمع وراءه (الحمد لله على كل حال) من أحوال السراء والضراء فيحمده تعالى لكونه لم ينزل به أشد من هذا البلاء الذي نزل به وكم يترتب على الضراء من عواقب حميدة ومواهب كريمة يستحق الحمد عليها: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} (2: 216) قال في الحكم: من ظن انفكاك لطفه عن قدره فذاك لقصور نظره. وقال الغزالي: لا شدة إلا وفي جنبها نعم لله فليلزم الحمد والشكر على تلك النعم المقترنة بها. وقوله: ((الحمد لله)) إلخ كذا وقع في الترمذي بغير عطف ووقع عند ابن ماجة، والحمد لله أي بزيادة الواو. قال السندي: قوله: ((والحمد لله على كل حال)) أي: زيادة العلم وقيل: أن يزداد وظاهر العطف يقتضي أن الجملة إنشائية فلذلك عطفت على إنشائية (وأعوذ بالله من حال أهل النار) من الكفر والفسوق في الدنيا والعذاب والعقاب في العقبى. (رواه الترمذي) في الدعوات، (وابن ماجة) في السنة، والدعاء، وأخرجه أيضًا البغوي (ج5: ص123) ، وابن أبي شيبة كما في الحصن، والبزار كما في تفسير الحافظ ابن كثير (وقال الترمذي: هذا حديث غريب إسنادًا) في سنده عندهم موسى بن عبيدة الربذي عن محمد بن ثابت عن أبي هريرة وموسى ضعفه النسائي وغيره ومحمد بن ثابت لم يروه عنه غير موسى. قال الذهبي ((مجهل)) ذكره المناوي، وقال الحافظ في التقريب: محمد بن ثابت عن أبي هريرة مجهول

2518- (13) وعن عمر بن الخطاب قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أنزل عليه الوحي سمع عند وجهه دوي كدوي النحل، فأنزل عليه يومًا فمكثنا ساعة، فسري عنه، فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال: اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، ـــــــــــــــــــــــــــــ وقيل: هو محمد بن ثابت بن شرحبيل، وقال فيه: إنه مقبول. وفي الباب عن أنس أخرجه النسائي، والحاكم (ج1: ص510) . 2518- قوله: (سمع) على بناء الماضي المجهول، وهذا لفظ الترمذي، وفي المسند ((يسمع)) أي: بلفظ المضارع المجهول وكذا نقله الشوكاني في فتح القدير، وفي المستدرك وشرح السنة ((نسمع)) بصيغة المضارع المتكلم المعلوم، ونقله الذهبي في تلخيصه بلفظ: ((يسمع)) أي: كرواية المسند (عند وجهه) أي: عند قرب وجهه بحذف المضاف (دويّ كدويّ النحل) كذا وقع في أكثر نسخ المشكاة وهكذا في المسند ووقع في بعض نسخ المشكاة ((سمع عند وجهه كدويّ النحل)) أي: بإسقاط ((دويّ)) وهكذا عند الترمذي، والبغوي وكذا نقله المناوي في فيض القدير والشوكاني في تحفة الذاكرين وفتح القدير. والدويّ بفتح الدال وكسر الواو وتشديد الياء وهو صوت لا يفهم منه شيء، وهذا هو صوت جبريل عليه السلام يبلغ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوحي ولا يفهم الحاضرون من صوته شيئًا. وقال الطيبي: أي: سمع من جانب وجهه وجهته صوت خفي كأن الوحي يؤثر فيهم وينكشف لهم انكشافًا غير تام فصاروا كمن يسمع دويّ صوت ولا يفهمه لما سمعوه من غطيطه وشدة تنفسه عند نزول الوحي - انتهى. وقال في اللمعات: وهذا الدويّ إما صوت الوحي يسمعها الصحابة ولا ينكشف لهم انكشافًا تامًا، أو ما كانوا يسمعونه من النبي - صلى الله عليه وسلم - من شدة تنفسه من ثقل الوحي، والأول أظهر لأنه قد وصف الوحي بأنه كان تارة مثل صلصة الجرس - انتهى. (فأنزل عليه يومًا) أي: نهارًا أو وقتًا (فمكثنا) بفتح الكاف وضمها أي: لبثنا (ساعة) أي: زمنًا يسيرًا ننتظر الكشف عنه (فسرى عنه) بصيغة المجهول من التسرية وهو الكشف والإزالة أي: كشف عنه وأزيل ما اعتراه من برحاء الوحي وشدته (اللهم زدنا) أمر من الزيادة أي: من الخير والترقي أو كثرنا (ولا تنقصنا) بفتح حرف المضارعة وضم القاف من نقص المتعتدى أي: لا تنقص خيرنا ومرتبتنا وعددنا وعددنا. قال القاضي والطيبي: عطفت هذه النواهي على الأوامر للمبالغة والتأكيد وحذف ثواني المفعولات في بعض الألفاظ للتعميم والمبالغة كقولك فلان يعطي ويمنع (وأكرمنا) بقضاء مآربنا في الدنيا ورفع منازلنا في العقبى (ولا تهنا) بضم تاء وكسرها وتشديد نون على أنه نهى من الإهانة وأصله ولا تهوننا، نقلت كسرة الواو إلى الهاء فالتقت ساكنة مع النون الأولى الساكنة فحذفت وأدغمت النون الأولى في الثانية أي: لا تذلنا (وأعطنا) من الإعطاء (ولا تحرمنا) بفتح التاء وكسر الراء. وفي القاموس: حرمه

وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وارض عنا، ثم قال: أنزل عليَّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة، ثم قرأ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} حتى ختم عشر آيات. رواه أحمد، والترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ الشيء كضربه وعلمه حرمانًا بالكسر منعه حقه وأحرمه لغية، أي لا تمنعنا ولا تجعلنا محرومين (وآثرنا بالمد وكسر المثلثة أمر من الإيثار، أي اخترنا برحمتك وإكرامك وعنايتك (ولا تؤثر علينا) ، أي غيرنا بلطفك وحمايتك، وقيل لا تغلب علينا أعداءنا (وأرضنا) أمر من الإرضاء، أي أرضنا عنك بمعنى اجعلنا راضين بما قضيت لنا أو علينا بإعطاء الصبر وتوفيق الشكر وتحمل الطاعة والتقنع بما قسمت لنا (وارض عنا) بهمزة وصل وفتح ضاد أمر من الرضاء، أي كن راضيًا عنا بالطاعة اليسيرة الحقيرة التي في جهدنا ولا تؤاخذنا بسوء أعمالنا (ثم قال: انزل عليَّ) ، أي آنفًا (من أقامهن) ، أي حافظ وداوم عليهن وعمل بهن (دخل الجنة) ، أي دخولاً أولياً، هذا وارجع للبسط في شرح الحديث إلى فيض القدير (ج2 ص107، 108) ، وتحفة الذاكراين (ص 298) (رواه أحمد) (ج1 ص34) عن عبد الرزاق عن يونس بن سليم قال: أملى عليَّ يونس بن يزيد الأبلي عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري عن عمر بن الخطاب. ومن هذا الطريق أخرجه البغوي (ج5، 177) ، (والترمذي) في الدعوات من طريق عبد الرزاق عن يونس بن سليم عن الزهري. ثم رواه الترمذي من طريق عبد الرزاق أيضًا عن يونس بن سليم عن يونس بن يزيد عن الزهري. ثم قال: هذا أصح من الحديث الأول سمعت إسحاق بن منصور يقول: روى أحمد بن حنبل وعلي بن المديني وإسحاق بن إبراهيم عن عبد الرزاق عن يونس بن سليم عن يونس بن يزيد عن الزهري هذا الحديث. قال أبو عيسى: ومن سمع من عبد الرزاق قديمًا فإنهم إنما يذكرون فيه عن يونس بن يزيد، وبعضهم لا يذكر فيه عن يونس بن يزيد. ومن ذكر فيه عن يونس بن يزيد فهو أصح، وكان عبد الرزاق ربما ذكر في هذا الحديث يونس بن يزيد وربما لم يذكره، وإذا لم يذكر فيه يونس فهو مرسل - انتهى. وذكر نحو هذا الكلام البغوي في شرح السنة. والحديث نسبه السيوطي في الدر المنثور (ج5 ص2) والشوكاني في فتح القدير (ج3 ص460) لعبد الرزاق وعبد بن حميد، والنسائي، وابن المنذر، والعقيلي، والحاكم، والبيهقي في الدلائل، والضياء في المختارة وفي سنده عندهم جميعًا يونس بن سليم الصنعاني. قال الحافظ في التقريب: مجهول. وقال الذهبي: في الميزان في ترجمته: حدث عنه عبد الرزاق وتكلم فيه ولم يعتمد في الرواية ومشاه غيره. وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه ولا يعرف إلا به - انتهى. وقال في تهذيب التهذيب: قال النسائي: هذا حديث منكر لا نعلم أحدًا رواه غير يونس، ويونس لا نعرفه، وذكره ابن حبان في الثقات - انتهى. ورواه الحاكم (ج1 ص535) بإسنادين أحدهما من طريق المسند وصححه ووافقه الذهبي فهذا موافقة من الحاكم والذهبي على توثيق يونس بن سليم، وهو يدل على أن توثيق ابن حبان ليونس بن سليم صحيح ولذا حسن هذا الحديث البغوي في شرح السنة وصححه الشيخ أحمد شاكر في شرح المسند.

(الفصل الثالث)

(الفصل الثالث) 2519- (14) عن عثمان بن حنيف قال: إن رجلاً ضرير البصر أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ادع الله أن يعافيني. فقال: إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك. قال: فادعه. قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، إني توجهت بك إلى ربي ـــــــــــــــــــــــــــــ 2519- قوله: (عن عثمان بن حنيف) بالحاء المهملة والنون مصغرًا ابن واهب الأنصاري الأوسي المدني صحابي شهير شهد أحدًا والمشاهد بعدها، واستعمله عمر على مساحة سواد العراق، واستعمله عليٌ على البصرة فبقي عليها إلى أن قدمها طلحة والزبير مع عائشة رضي الله عنهم في نوبة وقعة الجمل فأخرجوه منها، ثم قدم عليٌّ إليها فكانت وقعة الجمل فلما ظفر بهم عليٌّ استعمل على البصرة عبد الله بن عباس وسكن عثمان بن حنيف الكوفة. روى عنه ابن أخيه أبو أمامة بن سهل بن حنيف وعمارة بن خزيمة بن ثابت وهانئ بن معاوية الصدفي وغيرهم، مات في خلافة معاوية (إن رجلاً ضرير البصر) ، أي ضعيف النظر أو أعمى، قاله القاري. قلت: في رواية النسائي ((أن أعمى أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -)) وفي رواية لأحمد ((إن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ذهب بصره)) وللطبراني، وابن السني ((أتاه رجل ضرير فشكا إليه ذهاب بصره (ادع الله أن يعافيني) ، أي من ضرري في نظري (فقال) ، في الترمذي ((قال)) ، أي بدون الفاء (إن شئت) ، أي اخترت الدعاء (دعوت) ، أي لك (وإن شئت) ، أي أردت الصبر والرضا (فهو) ، أي الصبر (خير لك) ، فإن الله تعالى قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه ثم صبر عوضته منهما الجنة (قال) ، أي الرجل (فادعه) بالضمير، أي ادع الله واسأل العافية، ويحتمل أن تكون الهاء للسكت، قال الطيبي: أسند النبي - صلى الله عليه وسلم - الدعاء إلى نفسه وكذا طلب الرجل أن يدعو هو? - صلى الله عليه وسلم - ?ثم أمره? - صلى الله عليه وسلم - ?أن يدعو هو، أي الرجل كأنه? - صلى الله عليه وسلم - ?لم يرتض منه اختياره الدعاء بعد قوله ((الصبر خير لك)) ، ولذلك أمره أن يدعو هو لنفسه، لكن في جعله شفيعًا له ووسيلة في استجابة الدعاء ما يفهم أنه - صلى الله عليه وسلم - شريك فيه (قال) ، أي عثمان (فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه) أي يأتي بكمالاته من سننه وآدابه، وزاد في رواية أحمد وابن ماجة والحاكم ((ويصلي ركعتين)) وفي رواية للنسائي ((قال (أي النبي - صلى الله عليه وسلم -) فانطلق فتوضأ ثم صل ركعتين)) (اللهم إني أسالك) أي أطلب منك حاجتي وقال القاري: أي أطلبك مقصودي، فالمفعول مقدر (وأتوجه إليك بنبيك) الباء للتعدية، أو المعنى أتوجه إليك بدعاء نبيك وشفاعته (محمد نبي الرحمة) أي المبعوث رحمة للعالمين (إني توجهت بك) ، أي استشفعت بك، والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - على طريق الالتفات، ففي رواية أحمد وابن ماجة ((يا محمد إني قد توجهت بك)) ، وفي رواية لأحمد أيضًا والنسائي والحاكم ((يا محمد إني أتوجه بك)) وفيه إن إحضاره في القلب وتصوره في أثناء الدعاء، والخطاب معه فيه جائز كإحضاره في أثناء التشهد في

ليقضي لي في حاجتي هذه اللهم فشفعه في. ـــــــــــــــــــــــــــــ الصلاة، والخطاب فيه وسيأتي الكلام فيه وفيه قصر السؤال الذي هو أصل الدعاء على الملك المتعال ولكنه توسل به عليه الصلاة والسلام، أي بدعائه كما قال عمر: كنا نتوسل إليك بنبيك عليه الصلاة والسلام، فلفظ التوسل والتوجه في الحديثين بمعنى واحد، ولذا قال في آخره ((اللهم فشفعه في)) إذ شفاعته لا تكون إلا بدعاء ربه وقطعًا، ولو كان المراد بذاته الشريفة لم يكن لذلك التعقيب معنى، إذ التوسل بقوله ((بنبيك)) كاف في إفادة هذا المعنى وأيضًا قول الأعمى للنبي - صلى الله عليه وسلم - ((أدع الله تعالى أن يعافيني)) وجوابه عليه الصلاة والسلام له ((إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك)) وقول الأعمى ((فادعه)) دليل واضح وبرهان راجح على أن التوسل كان بدعائه لا بنفس ذاته المطهرة عليه الصلاة والسلام، وقوله ((إني توجهت بك إلى ربي)) قال الطيبي: الباء في ((بك)) للاستعانة، أي استعنت بدعائك إلى ربي، وسيأتي مزيد توضيح ذلك إنشاء الله تعالى فانتظر (ليقضي) بالغيبة أي ربي، وقيل بالخطاب أي لتوقع القضاء (لي في حاجتي هذه) وجعلها مكانًا له على طريقة قوله {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} (- 46: 15) قال الطيبي: إن قلت: ما معنى ((لي)) و ((في)) ؟ قلت: معنى ((لي)) كما في قوله تعالى {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} (- 20: 25) أجمل أولاً ثم فصل ليكون أوقع في النفس، ومعنى ((في)) كما في قول الشاعر: يجرح في عراقيبها نصلي أي أوقع القضاء في حاجتي واجعلها مكانًا له، ونظيره قوله تعالى {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} (- 46: 15) انتهى. قلت: ولفظ الترمذي ((إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي)) وهو بصيغة المجهول أي لتقضى لي حاجتي بشفاعتك يعنى ليقضيها ربي لي بشفاعتك (اللهم) التفات ثان (فشفعه) بتشديد الفاء، أي اقبل شفاعته (في) أي في حقي. قال المناوي: والعطف بالفاء على معطوف عليه مقدر، أي اجعله شفيعًا لي فشفعه فيكون قوله: اللهم معترضة، سأل الله أولاً بطريق الخطاب أن يأذن لنبيه أن يشفع له، ثم أقبل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ملتمسًا شفاعته له ثم كر مقبلاً على ربه طالباً منه أن يقبل شفاعته في حقه. والحديث قد استدل به على جواز التوسل والسؤال بذوات الأنبياء والصالحين والميتين لأنه - صلى الله عليه وسلم - أمر الضرير أن يقول في دعائه ((وأتوجه إليك بمحمد نبي الرحمة، إني توجهت بك إلى ربي)) وإذا جاز السؤال به جاز السؤال بذاته وحقه وجاهه وحرمته وكرامته، وإذا جاز التوسل والسؤال بهذا كله من النبي - صلى الله عليه وسلم - جاز التوسل والسؤال بغيره من الأنبياء والصالحين، ولا فرق. واستدل به أيضًا على دعاء غير الله من الأموات والغائبين حيث أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر الضرير بعد الوضوء والصلاة أن يدعو ويقول في دعائه: يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى. ففي قوله ((يا محمد)) جواز دعوة الغائبين لأن الرسول أمره أن يدعو بهذا الدعاء وهو عنه غائب، وإذا جاز دعاء الغائبين جاز دعاء الميتين. قال الشيخ محمد عابد السندي في رسالته التي أفردها لمسألة التوسل: والحديث يدل على جواز التوسل والاستشفاع بذاته

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ المكرم في حياته، وأما بعد مماته فقد روى البيهقي والطبراني في الصغير (ص 103) عن عثمان بن حنيف أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له وكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته فلقي عثمان بن حنيف فشكا ذلك إليه فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة فتوضأ ثم ائت المسجد فصل فيه ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد? - صلى الله عليه وسلم - ?نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فيقضي لي حاجتي، وتذكر حاجتك ورُح إلى حتى أروح معك. فانطلق الرجل فصنع ما قال له ثم أتى باب عثمان فجاء البواب حتى أخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفان فأجلسه معه على الطنفسة وقال: ما حاجتك؟ فذكر حاجته فقضاها له، ثم قال: ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه الساعة، وقال: ما كانت لك من حاجة فأتنا، ثم إن الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له: جزاك الله خيرًا، ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إليَّ حتى كلمته فيَّ. فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلمته ولكن شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأتاه رجل ضرير فشكا إليه ذهاب بصره، فذكر الحديث. وزادا فيه هما وابن السني والحاكم ((فقال عثمان بن حنيف: فوالله ما تفرقنا ولا طال بنا الحديث حتى دخل عليه الرجل كأنه لم يكن به ضرر قط)) . قال الطبراني بعد ذكر طرقه التي روى بها: والحديث صحيح. وقال الشوكاني في ((تحفة الذاكرين)) (ص 138) : وفي الحديث دليل على جواز التوسل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الله عز وجل مع اعتقاد أن الفاعل هو الله سبحانه وتعالى وأنه المعطي المانع ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وقال فيه أيضًا (ص 37) في شرح قول العدة ((ويتوسل إلى الله سبحانه بأنبيائه والصالحين)) ما نصه: من التوسل بالأنبياء ما أخرجه الترمذي وغيره من حديث عثمان بن حنيف أن أعمى أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث. ثم قال: وأما التوسل بالصالحين فمنه ما ثبت في الصحيح أن الصحابة استسقوا بالعباس رضي الله عنه عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال عمر رضي الله عنه: اللهم إنا نتوسل إليك بعم نبينا، ألخ - انتهى. وقال العز بن عبد السلام حينما سئل عن التوسل بالذوات الفاضلة ما لفظه: إن صح حديث الأعمى فهو مقصور على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويكون من خصوصياته. وتعقبه المجوزون بقياس غيره عليه - صلى الله عليه وسلم -، ومن أدلتهم أنه قد أوجب الله تعالى تعظيم أمره وتوقيره والزم إكرامه وقد كانت الصحابة تتبرك بآثاره وشعره ولا شك أن حرمته - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته وتوقيره لازم كما كان حال حياته كذا في ((جلاء العينين)) (ص 438) للسيد نعمان خير الدين الشهير بابن الآلوسي البغدادي وقال الشوكاني في رسالته ((الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد)) لا يخفاك أنه قد ثبت التوسل به - صلى الله عليه وسلم - في حياته، وثبت التوسل بغيره بعد موته بإجماع الصحابة إجماعًا سكوتيًا لعدم إنكار أحد منهم على عمر رضي الله عنه في توسله بالعباس رضي الله عنه، وعندي أنه لا وجه لتخصيص جواز التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كما زعمه الشيخ عز الدين بن عبد السلام لأمرين: الأول ما عرفناك به من إجماع الصحابة رضي الله عنهم، والثاني أن التوسل إلى الله بأهل الفضل والعلم هو في التحقيق توسل بأعمالهم الصالحة ومزاياهم الفاضلة، إذا لا يكون الفاضل فاضًلا إلا بأعماله، فإذا قال القائل: اللهم إني أتوسل إليك بالعالم الفلاني فهو

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ باعتبار ما قام به من العلم. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكى عن الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة أن كل واحد منهم توسل إلى الله تعالى بأعظم عمل عمله فارتفعت الصخرة، فلو كان التوسل بالأعمال الفاضلة غير جائز أو كان شركًا لم تحصل الإجابة لهم ولا سكت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إنكار ما فعلوه بعد حكايته عنهم - انتهى. قلت: الحق والصواب عندنا أن التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته بمعنى التوسل بدعائه وشفاعته جائز وهذا هو الذي وقع في حديث الأعمى الذي نحن في شرحه كما تقدم وسيأتي أيضًا، وكذا التوسل بغيره - صلى الله عليه وسلم - من أهل الخير والصلاح في حياتهم بمعنى التوسل بدعائهم وشفاعتهم جائز أيضًا، وأما التوسل به - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته وكذا التوسل بغيره من أهل الخير والصلاح بعد مماتهم فلا يجوز سواء كان بذواتهم أو جاههم أو حرمتهم أو كرامتهم أو حقهم أو نحو ذلك من الأمور المحدثة في الإسلام، وكذا لا يجوز دعاء غير الله من الأموات والغائبين، وهذا هو الذي اختاره شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية في رسالته في التوسل والوسيلة، وقد أشبع الكلام في تحقيقه وأجاد فعليك أن تراجعها. وحديث الأعمى هو العمدة في الاستدلال عند المجوزين لأن غيره من الأحاديث إما أن يكون ضعيفًا لا يصلح للاستدلال كما بين ذلك حديثا حديثا العلامة السهسواني في ((صيانة الإنسان)) والعلامة السويدي الشافعي في ((العقد الثمين)) وذكره ملخصًا العلامة ابن الآلوسي في ((جلاء العينين)) أو أنه دليل على المجوزين لا لهم كحديث استسقاء عمر بالعباس رضي الله عنهما، وقد ذكرنا في (ص339) من الجزء الثاني وجه فساد الاستدلال بذلك على جواز التوسل بذاته - صلى الله عليه وسلم - وسيأتي أيضًا، وكقصة أصحاب الغار التي ذكرها الشوكاني في أثناء الاستدلال لذلك فإن فيها توسل الإنسان بعمل نفسه لا بعمل غيره أو بذات غيره، لأن أصحاب الغار إنما توسلوا بأعمالهم لا بأعمال غيرهم فلا يتم التقريب بل توسل الإنسان بعبادة غيره ومزاياه غير مشروع ولا مأثور ولا معقول، وتوسل الإنسان بعمل نفسه مما لا ينكره أحد من الأئمة وفيه أيضًا ما قال العلامة السهسواني في ((صيانة الإنسان)) : إنا لا نسلم أن الفاضل إذا كان فضله بالأعمال كان التوسل به توسلاً بأعماله الصالحة لم لا يجوز أن يكون التوسل به توسلاً بذاته، بل هو الظاهر فإن حقيقة التوسل بالشيء التوسل بذاته والتوسل بالأعمال أمر خارج زائد على الحقيقة ولا يصرف عن الحقيقة إلى المجاز إلا لمانع. قال صاحب المنار: إن المعلوم من حال هؤلاء المتوسلين بالأشخاص أنهم يتوسلون بذواتهم الممتازة بصفاتهم وأعمالهم المعروفة عنهم لاعتقاد أن لهم تأثيرًا في حصول المطلوب بالتوسل إما بفعل الله تعالى لأجلهم وإما بفعلهم أنفسهم مما يعدونه كرامة لهم. وقد سمعنا الأمرين منهم وممن يدافع عنهم وكل من الأمرين باطل. وفيه أيضًا أنه لو سلم أن مراد القائل: اللهم إني أتوسل إليك بالعالم الفلاني هو التوسل بأعماله لا التوسل بذاته فاللفظ محتمل للتوسل بالذات أيضًا وهذا مما لا شك فيه وقد نهانا الله تعالى عن استعمال لفظ موهم لأمر غير جائز فقال في سورة البقرة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (- 2: 104) قال الإمام العلامة القنوجي البوفالي في تفسيره ((فتح البيان)) : وفي ذلك

رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. ـــــــــــــــــــــــــــــ دليل على أنه ينبغي تجنب الألفاظ المحتملة للسب والنقص وإن لم يقصد المتكلم بها هذا المعنى المفيد للشتم سدًا للذريعة وقطعًا لمادة المفسدة والتطرق إليه - انتهى. وقال العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي القصيمي: في تفسيره (ج1 ص58) فيه الأدب واستعمال الألفاظ التي لا تحتمل إلا الحسن وعدم الفحش وترك الألفاظ القبيحة أو التي فيها نوع تشويش واحتمال لأمر غير لائق - انتهى. قلت: وكذلك ما قال بعض الحنفية من أن المراد به التوسل بصفة من صفات الله تعالى مثل أن يراد به التوسل بمحبة الله تعالى لعباده الكاملين التامة المستدعية عدم رده وأن يراد به التوسل برحمته الخاصة الشاملة لهم لأجل أعمالهم الفاضلة ولا شك في جواز التوسل بصفة الله تعالى هذا أيضًا مخدوش ومحل نظر فإن إرجاع ذلك إلى التوسل بصفة من صفاته تعالى، فيه تكلف وتعسف جدًا ولذلك لا يستشعر بذلك عامة المتوسلين بالأشخاص كما لا يخفى، ولو سلم فاللفظ محتمل للتوسل بالذات أيضًا، واستعمال الألفاظ المحتملة للأمر الغير المشروع منهي عنه بدليل الآية المتقدمة. وأما حديث الأعمى فالجواب عنه من ناحيتين: ناحية الإسناد وناحية المعنى. فإذا صح الإسناد أو حسن وكان المعنى في متنه ولفظه ما ذكره المجوزون قامت حجتهم ونهضت دعواهم وإلا فلا، ونحن سنورد ما نستطيع الكلام في الناحيتين إن شاء الله تعالى (رواه الترمذي) في ((أحاديث شيء)) من أبواب الدعوات، وأخرجه أيضًا أحمد (ج4 ص138) وزاد ((ففعل الرجل فبرأ)) ، والنسائي في الكبرى وزاد ((فرجع وقد كشف الله عن بصره)) ، وابن ماجة في ((صلاة الحاجة)) ، وابن السني (ص202) ، وابن خزيمة في صحيحه، والحاكم (ج1 ص313، 519، 526) ، والبيهقي في دلائل النبوة، وابن أبي خيثمة في تاريخه والطبراني في الصغير (ص103) (وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب) في الترمذي بعد هذا ((لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي جعفر وهو غير الخطمي)) انتهى. قلت: وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ووافقه الذهبي وصححه أيضًا الطبراني كما تقدم، وأبو عبد الله المقدسي كما في التوسل والوسيلة (ص81) وفي تصحيحهم للحديث عندي نظر والراجح أنه حديث ضعيف لا يبلغ درجة الحسن فضلاً أن يكون صحيحًا، فإن إسناد هذا الحديث في جميع طرقه عند جميع رواته قد انفرد به راو واحد، هذا الراوي هو أبو جعفر الذي رواه عنه شعبة عند أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، والحاكم (ج1 ص 313، 519) ، والبيهقي، وابن أبي خيثمة، والذي رواه عند هؤلاء السبعة عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، وقد قال الترمذي كما تقدم بعد رواية الحديث: غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي جعفر، أما الذين رووه عن أبي جعفر هذا فشعبة عند هؤلاء السبعة، وروح بن القاسم عند ابن السني (ص202) ، والحاكم (ج1 ص526) ، والبيهقي أيضًا، والطبراني في الصغير (ص 103) ، وحماد بن سلمة عند ابن أبي خيثمة، وهشام الدستوائي عند ابن السني على ما ذكر الإمام ابن تيمية في رسالته (ص 78) والحديث إلى أبي جعفر هذا صحيح السند لا بأس به وهذا

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ ظاهر لمن تفحص عن رجاله بين أبي جعفر وبين من أخرج هذا الحديث فلا كلام للناقد في إسناده حتى يصل أبا جعفر الذي قيل أنه الخطمي، وقيل: أنه غير الخطمي، وروى أبو جعفر هذا عند السبعة عن عمارة بن خزيمة عن عثمان بن حنيف الصحابي شاهدًا لقصة. وعمارة هذا ثقة لا كلام فيه وعثمان بن حنيف صحابي جليل لا كلام فيه أيضًا، وقد تابع عمارة بن خزيمة في روايته عن ابن حنيف أبو أمامة واسمه أسعد بن سهل بن حنيف ابن أخي عثمان بن حنيف رواه عن عمه عثمان عند البيهقي وابن السني والحاكم والطبراني فيكون أبو جعفر هذا رواه عن عمارة بن خزيمة وعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، فالحديث إذا لا يكون غريبًا إلا عند أبي جعفر المذكور، ولا ينفرد به سواه وسوى الصحابي عثمان بن حنيف، أما ما بين ذلك فالرواة متعددون وانفراد عثمان بن حنيف لا يضير الخبر لأنه صحابي جليل، فالكلام هنا يجب أن يقصر على أبي جعفر هذا، والترمذي كما تقدم يقول: إنه غير الخطمي. وسائر العلماء يقولون: أنه الخطمي، والغريب أن اسمه لم يقع مصرحًا به في واحد من الروايات فمن الخطمي إذا كان هو إياه ومن هو إذا كان سواه؟ أما أبو جعفر الخطمي فهو عمير بن يزيد بن عمير بن حبيب الأنصاري المدني ثم البصري وهو ثقة من رجال الأربعة، روى عن أبيه وعمارة بن خزيمة وآخرين، وعنه هشام الدستوائي وشعبة وروح بن القاسم وحماد بن سلمة ويحيى القطان وآخرون، وقال الحافظ في تهذيب التهذيب: وثقه ابن معين والنسائي، وابن نمير والعجلي والطبراني، وذكره ابن حبان في الثقات وأثنى عليه ابن مهدي. وقال الحافظ وقال أبو الحسن المديني: وهو مدني، قدم البصرة وليس لأهل المدنية عنه أثر ولا يعرفونه - انتهى. فأبو جعفر هذا إن كان هو الخطمي كما ظنه غير الترمذي فالحديث في درجة متوسطة في الصحة والجودة لا يبلغ مكانة أحاديث الصحيحين ولا ينزل إلى أن يكون ضعيفًا باطلاً مردودًا، وإنما هو كالأحاديث التي يصححها أمثال الترمذي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم ونحوهم ممن عندهم نحو تساهل في التصحيح ونقد الأخبار، هذا إن كان أبو جعفر هذا هو الخطمي، ولكن وقع اختلاف كما تقدم، فالترمذي يقول في جامعه إنه غير الخطمي، والحافظ ابن حجر يميل في التقريب إلى أنه غير الخطمي كالترمذي ويرجح أنه أبو جعفر عيسى بن ماهان الرازي التميمي. قال الحافظ في الكنى من التقريب: أبو جعفر عن عمارة بن خزيمة قال الترمذي: ليس هو الخطمي فلعله الذي بعده يريد به أبا جعفر عيسى بن ماهان الرازي التميمي الذي قال الحافظ فيه: إنه صدوق سيئ الحفظ. وفي تهذيب التهذيب أيضًا ما يدل على أنه يرجح كونه غير الخطمي، وذلك أنه قال في الكنى من التهذيب (ج12 ص58) : أبو جعفر عن عمارة بن خزيمة وعنه شعبة، قال الترمذي: ليس هو الخطمي ولم يزد على ذلك ولم ينكر على الترمذي ما حكاه عنه فكأنه يميل إلى الأخذ بقوله وعند ما ذكر ترجمة الخطمي من التهذيب لم يتعرض لذلك الخلاف ولم يقل إنه الذي روى ذلك الخبر عن عمارة مع أنه معروف التنقيب على ما يراه يستحق ذلك، فالظاهر من مجموع ذلك أنه يميل إلى موافقة الترمذي في القول بأنه غير الخطمي. هذا قول الترمذي ومن في جانبه، وأما الأكثرون فقد ذكروا أنه الخطمي بعينه وقد وقع ذلك في كثير

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ من الكتب التي رُوي الحديث فيها، وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية ذلك الرأي الأخير، إذًا فالخلاف قائم بين أهل الحديث في أبي جعفر راوي الحديث وقد يقول قائل إنه يجب إسقاط خلاف الترمذي ومن معه في هذا الخلاف لأنه قائم على الظن والتوهم فلا حجة فيه وإنما الحجة في قول سواهم وهم الذين صرحوا بأنه هو الخطمي كما وقع مصرحًا به عند ابن أبي خيثمة في التاريخ وعند الطبراني في المعجم الصغير وعند الحاكم في المستدرك، وعند ابن السني في عمل اليوم والليلة، فإن هؤلاء قد صرحوا بأن راوي الحديث هو الخطمي عينه وهم ما قالوا ذلك إلا لأنهم علموا أو حدثوا أنه هو نصًا لا توهمًا، وذلك يقتضي ترجيح رأيهم على رأى الترمذي فيجب المصير إليه علمًا وبحثًا وتحقيقًا. قيل في الجواب: كلا إنه لا يجب بل لا يجوز إطراح قول الترمذي اعتباطًا ولا الذهاب إلى تخطئته جزافًا إذ لو صح لنا أن نقول إنه ظن محض بلا دليل لصح لنا أن نقول إن هؤلاء الذين صرحوا في كتبهم أنه هو الخطمي نفسه ليس لهم دليل أيضًا سوى التوهم والظن وهذا قريب جدًا، وذلك أنهم وجدوا أبا جعفر في الإسناد مجردًا مطلقًا مما يمكن أن يعينه فوثب إلى توهمهم وأوهامهم أنه الخطمي فصرحوا بما توهموه لا بما علموه. وهذا يحتمل في الترمذي كما يحتمل في الآخرين المخالفين له وإن كان يبدو للمتأمل جيدًا تقديم ما ذهب إليه الترمذي وترجيحه وذلك أنه يبعد جدًا أن يصرح عالم بالحديث مثله بأن هذا ليس هو الخطمي بمجرد الظن المحض لأنه إذا لم يكن لديه سوى التوهم كانت منطقة السكوت أرحب وأوسع وما أبعد أن يقع اسم أو كنية بين يدي ناقد بصير مثل الترمذي فيقول مبادرًا إن صاحب ذلك الاسم أو تلك الكنية ليس هو فلانًا ممن يسمون ذلك الاسم بلا حجة ولا برهان سوى الظن البحت، أما من قالوا إنه الخطمي فمن القريب للغاية أن يسمعوا الراوي يقول حدثني أبو جعفر فينساق بسرعة إلى أذهانهم أنه هو الخطمي أو غيره ممن يكنون تلك الكنية، وإذا لا يسوغ لنا شد المعرفة والحقيقة أن يبادر إلى الحكم بتخطئة الترمذي زاعمًا أنه الخطمي قولاً واحدًا بل يجب على الأقل التريث والتوقف ما لم ينبثق له في تلك الظلمة شعاع من نور ولا سيما أن ذلك الراوي المختلف فيه لم يتابعه أحد على روايته الحديث عن عمارة بن خزيمة وعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف بل انفرد به في جميع الأسانيد والروايات وهذا ما يزيد الباحث الحريص على الحقيقة والمعرفة توقفًا وتريثًا. ولا سيما والحديث وارد في مسألة كهذه لها من الخطورة ما لها وإذ وصلنا إلى ذلك الدور من التحقيق وجدنا أمامنا أمرين لا مندوحة لنا من اختيار أحدهما: الأول أن نذهب قولاً واحدًا إلى أن ذلك الراوي ليس هو الخطمي كما قال الترمذي وكما رجح الحافظ ابن حجر على ما سبق. الثاني أن نلتزم التوقف وتجويز كلا الاحتمالين والقولين ريثما يقدر لنا قبس من نور في تلك الدجنة نتلمس به حقيقة ما غم علينا وعلى الباحثين وعلى الاحتمالين والقولين لا يصح لنا أن نبادر إلى القول بصحة الحديث وإلى الأخذ به حتى نأمن من أن يكون ذلك الراوي راويًا ضعيفًا متروكًا أو ممن لا يحتج به إذا انفراد برواية الحديث، وما دمنا جوزنا أن يكون الخطمي وأن يكون سواه فلا سبيل إلى الضمان من أن يكون ضعيفًا حتى نعلم أن جميع من يكنون تلك الكنية ممن هم في تلك الطبقة ثقات

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ أثبات أما إذا ذهبنا إلى القطع بأنه غير الخطمي فقد يحتمل أن يكون راويًا ضعيفًا، وكذلك إذا جوزنا أن يكون إياه وأن يكون سواه لأنه لا سبيل إلى القطع بأنه هو قولاً واحدًا إلا لمن كان متسرعًا إلى ما يجب التأني والبطء فيه، ومادام ذلك الاحتمال موجودًا فلا شك أن العمل بالحديث غير جائز، ومن ثم ذهب المحدثون إلى أن رواية المجهول مردودة لاحتمال أن يكون ضعيفًا وأجمعوا على أنه إذا جاءت رواية باسم مشترك بين ثقات وضعفاء فاحتمل أن تكون الرواية رواية ضعيف، واحتمل أن تكون رواية ثقة وجب طرح تلك الرواية والتوقف في العمل بها، ثم نقول إن أبا جعفر هذا إذا لم يكن الخطمي فيحتمل أن يكون هو أبا جعفر عيسى بن ما هان الرازي التميمي، وقد تقدم أنه سيء الحفظ، وقد تفرد برواية هذا الحديث لم يتابعه أحد ولا شاهد له فلا يصح الاحتجاج بروايته، واعترض على هذا التجويز والاحتمال بأنه وقع في بعض الروايات نسبة أبي جعفر هذا إلى المدينة فجاء في سنن ابن ماجة عن أبي جعفر المدني وكذا جاء في مسند أحمد وعند البيهقي والحاكم والطبراني، وابن السني وهذا في الظاهر يأبى احتمال أن يكون أبو جعفر هذا هو عيسى بن ماهان الرازي لأنه ليس مدنيًا بل مروزي الأصل سكن الريّ وقيل أصله من البصرة ومتجره إلى الري فنسب إليها كذا في تهذيب التهذيب، وهناك رواة آخرون يكنون تلك الكنية منهم الثقات ومنهم الضعفاء ويجوز أن يكون أبو جعفر الذي في الخبر أحدهم ويجوز العكس وأن يكون رجلاً مجهولاً ليس له إلا ذلك الحديث ولم يرو عنه شعبة وروح بن القاسم سواه ولم يروه عن عمارة غيره، وقد يفهم هذا من صنع الحافظ ابن حجر، وذلك أنه قال فيمن يكنون بأبي جعفر أبو جعفر عن عمارة بن خزيمة وعنه شعبة، قال الترمذي ليس هو الخطمي - انتهى. وقد يشهد لهذا أيضًا قول الترمذي أنه غير الخطمي ولم يزد على ذلك القول شيئًا فلم يسمه ولم يصفه ولم ينسبه فكأنه ما يعرف عنه شيئًا وإنما صحح حديثه اعتمادًا على رواية شعبة عنه لأن شعبة لا يروى إلا عن الثقات غالبًا وألا فقد روى عن غير الثقات، علا أن الترمذي معروف بالتساهل واللين في التحسين والتصحيح وقد اتضح بهذا البيان للمنصف أن حديث الأعمى ليس من الصحاح ولا الحسان وأنه لا يسوغ لمن لا يرضى لنفسه وعقيدته إلا الصحة واليقين أن يعمل به. أو إلزام الناس به فإن أبا جعفر المنفرد بروايته رجل مجهول لا نعرف حاله ولا يدرى مكانه من الصحة والقوة والضعف على وجه اليقين فيجب التوقف في روايته بل يجب ردها، وأما تصحيح من صححوه فليس بحجة وفي سنده ما ذكرناه من النقد والقدح، والذين صححوه كلهم من المتساهلين في التصحيح أمثال الترمذي والحاكم. وأما رواية ابن خزيمة في صحيحه فلا تقتضي الصحة مطلقًا كما بينه الأمير اليماني في توضح الأفكار (ج1 ص64) ويحتمل أن يكون الذين صححوه اعتمدوا في ذلك على رواية شعبة بن الحجاج له عن أبي جعفر المختلف فيه، وذلك أن شعبة قد عهد منه كثيرًا اجتناب الضعفاء واجتناب حديثهم والرواية عنهم ولكن هذا ليس بلازم فقد روى شعبة عن قوم ضعفاء، ولعلهم أيضًا صححوه حاسبين أن أبا جعفر الراوي هو الخطمي لأن الخطمي ثقة ولم يعلموا أنه سواه كما علم الترمذي

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ فكأن التصحيح قائم على هذا الوهم الذي فطن إليه الترمذي فرده، ومنشأ هذا الوهم والظن اتفاق الكنى وتحصل من هذا كله أن حديث الأعمى هذا ضعيف لا يحل الاحتجاج به، أما أولاً فلجهالة أبي جعفر المنفرد به عن عمارة بن خزيمة وعن أبي أمامة بن سهل، واختلاف الناس فيه، إذ زعم فريق أنه الخطمي وزعم فريق آخر أنه سواه، ولم يظهر لنا أصح القولين فوجدنا أن التوقف في ذلك هو المصير الصحيح، وأما ثانيًا فلتفرد ذلك الراوي المجهول المختلف فيه به دون غيره من أقرانه وممن هم أكثر منه حديثًا وتحديثًا وأكثر اجتماعًا بعمارة وبأبي أمامة وقد كان المظنون أن يرويه سواه إذا كان صحيحًا، وأما ثالثًا فلغرابة معنى الحديث وشذوذه عما عرفه الخاص والعام من أصول الإسلام وفروعه وعما علم بالضرورة منه فإن سؤال الله بخلقه كأن يقال يا الله أسألك بفلان أو أتوجه إليك بعبدك فلان أو نبيك فلان ونحو ذلك لم يعهد مثله في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من الصحابة أو الأئمة وما نقل شيء من هذا النوع إلا ما جاء في الأخبار الواهية الباطلة، ومثل تلك الروايات لا يحل بها حكم من أحكام المياه والوضوء والطهارة فضلاً عن أن يثبت بها قاعدة من قواعد الإسلام ومناجاة الله وسؤاله، أما الروايات الصحيحة فلم يجئ في شيء منها من ذلك هذا، وأما الكلام على الحديث من جهة المعنى على افتراض كونه حسنًا أو صحيحًا فيقال إنه دليل جلي على بطلان ما ذهب إليه المجوزون وذلك أن المراد بقوله أتوجه إليك بنبيك التوجه بدعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا بذاته ولا بشخصه، والدليل على ذلك أن أصل المسألة كان في الدعاء وفي طلبه من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن أصلها في سؤال الله بجاهه أو بذاته حتى يصح ما زعمه المجوزون. ومن الدليل عليه أيضًا قوله في خاتمة الحديث ((اللهم شفعه فيَّ)) فالأمر إذا أمر شفاعة. ومن الدليل عليه قوله أيضًا ((وإن شئت دعوت)) وقد شاء بلا خلاف، ولا شك فقد دعا أيضًا بلا خلاف، ولا شك قد علق الدعاء بالمشيئة والمشيئة قد وقعت فالدعاء كذلك قد وقع وهو مثل حديث الاستسقاء بالعباس. ومثل قول الفاروق رضي الله عنه: اللهم كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. وهم كانوا يتوسلون بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وشفاعته لا بذاته وشخصه، وهذا ظاهر في الشرع وفي اللسان إلا عمن حجب الله بصيرته فإن قيل: إن هذا عدول عن ظاهر الخبر وهو لا يجوز الذهاب إليه إلا بدليل ملجئ ولا دليل على هذا العدول قلنا: إن من الكذب القول بأن ما ذهب إليه المجوزون هو ظاهر الخبر بل الظاهر هو ما ذهب إليه المانعون وهو مقتضى اللغة العربية فإنه لا يفهم من قوله عليه الصلاة والسلام في تعليمه الدعاء ((اللهم إني أسالك وأتوجه إليك بنبيك)) وقوله ((توجهت بك)) إلا التوجه بالعمل لا بالذات والعمل هنا هو الدعاء والشفاعة بلا ريب. فإن قيل: إن هذا يقضي بأن يكون في الحديث كلمة محذوفة وهي كلمة الدعاء والشفاعة التي تزعمون أن التوجه والسؤال بها لا بالذات فيقدر في قوله ((أتوجه إليك بنبيك)) بدعاء نبيك، وفي قوله ((توجهت بك)) بدعائك، وهذا تقدير وادعاء في الحديث لا دليل عليه ولا ملجأ إليه أجيب أن التقدير في الحديث يجب على قول المجوزين وقول المانعين وعلى كل قول، فالمجوزون يقولون التقدير: اللهم إني أسالك وأتوجه إليك بذات نبيك أو بحرمته أو بجاهه أو بكرامته عليه أو مكانته لديك ونحو ذلك من

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ المحذوفات، ولا دليل في الحديث على واحد منها، وأما المانعون فهم يقدرون الدعاء فقط، والدعاء مذكور فيه مدلول عليه بأول الخبر وآخره فكان تقديره سائغًا بل واجبًا بل هو في حكم المذكور المنصوص عليه فالعلم به لا يحتاج إلى تفكير ولا إلى دلالة ولا إلى شيء غير الفهم والإنصاف بل هذا ما يتبادر إلى فهم كل قارئ له ما عدا أهل الهوى والجدل والعناد وإننا نتحدى المجوزين ونطلب إليهم جميعًا أن يذكروا كلمة واحدة في الشرع وفي اللسان جاء استعمالها كاستعمال الحديث وكان التفسير لها كما ذكروا، فإن جاءوا بشيء من ذلك قلنا: صدقوا وألا فلا مهرب لهم من اقتحام الحقيقة والرضاء بالأمر الوقع والحق الذي لا غضاضة على قابله، قال الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته (ص50) : حديث الأعمى لا حجة لهم، أي لمجوزي التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فيه فإنه صريح في أنه إنما توسل بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وشفاعته وهو طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - الدعاء وقد أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقول ((اللهم شفعه فيَّ)) ولهذا رد الله عليه بصره لما دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان ذلك يعد من آيات النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في الاستسقاء المشهور بين المهاجرين والأنصار، وقوله: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا. يدل على أن التوسل المشروع عندهم هو التوسل بدعائه وشفاعته لا السؤال بذاته إذ لو كان هذا مشروعًا لم يعدل عمر والمهاجرون والأنصار عن السؤال بالرسول إلى السؤال بالعباس - انتهى. وأما رواية الطبراني التي استدلوا بها على جواز التوسل به - صلى الله عليه وسلم - بعد مماته فيجاب عنها بما قال أيضًا شيخ الإسلام (ص83) من أنه لا حجة فيها إذ الاعتبار بما رواه الصحابي لا بما فهمه إذا كان اللفظ الذي رواه لا يدل على ما فهمه بل على خلافه، ومعلوم أن الواحد بعد موته إذا قال ((اللهم فشفعه في وشفعني فيه)) مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يدع له كان هذا كلامًا باطلاً مع أن عثمان بن حنيف لم يأمره أن يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا ولا أن يقول ((فشفعه فيَّ)) ولم يأمره بالدعاء على وجهه وإنما أمره ببعضه، وليس هناك من النبي - صلى الله عليه وسلم - شفاعة ولا ما يظن أنه شفاعة فلو قال بعد موته ((فشفعه في)) لكان كلامًا لا معنى له، ولهذا لم يأمر به عثمان، والدعاء المأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر به، والذي أمر به ليس مأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومثل هذا لا تثبت به شريعة كسائر ما ينقل عن آحاد الصحابة في حسن العبادات أو الإباحات أو الايجابات أو التحريمات إذا لم يوافقه غيره من الصحابة عليه، وكان ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يخالفه لا يوافقه لم يكن فعله سنة يجب على المسلمين إتباعها، بل غايته أن يكون ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد ومما تنازعت فيه الأمة فيجب رده إلى الله والرسول، ولهذا نظائر كثيرة ثم ذكرها، ثم قال (ص86) : يجب فيما تنازع فيه الصحابة الرد إلى الله والرسول فلا يكون شريعة للأمة إلا ما شرعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن قال من العلماء ((إن قول الصحابي حجة)) فإنما قاله إذا لم يخالفه غيره من الصحابة ولا عرف نص يخالفه، ثم إذا اشتهر ولم ينكروه كان إقراراً على القول فقد يقال هذا إجماع إقراري إذا عرف أنهم أقروه ولم ينكره أحد منهم وهم لا يقرون على باطل، وأما إذا لم يشتهر فهذا إن عرف أن غيره لم يخالفه فقد يقال هو حجة، وأما إذا عرف أنه خالفه فليس بحجة

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ بالاتفاق، وأما إذا لم يعرف هل وافقه غيره أو خالفه لم يجزم بأحدهما، ومتى كانت السنة تدل على خلافه كانت الحجة في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا فيما يخالفها بلا ريب عند أهل العلم، وإذا كان كذلك فمعلوم أنه إذا ثبت عن عثمان بن حنيف أو غيره أنه جعل من المشروع المستحب أن يتوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته من غير أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - داعيًا له ولا شافعًا فيه فقد علمنا أن عمر وأكابر الصحابة لم يروا هذا مشروعًا بعد مماته كما كان يشرع في حياته بل كانوا في الاستسقاء في حياته يتوسلون به فلما مات لم يتوسلوا به بل قال عمر في دعائه الصحيح المشهور الثابت باتفاق أهل العلم بمحضر من المهاجرين والأنصار في عام الرمادة المشهورة لما اشتدت بهم الجدب حتى حلف عمر لا يأكل سمنًا حتى يخصب الناس، ثم لما استسقي بالناس قال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. فيسقون، وهذا دعاء أقره عليه جمع الصحابة، لم ينكره أحد مع شهرته، وهو من أظهر الإجماعات الإقرارية، ودعا بمثله معاوية بن أبي سفيان في خلافته لما استسقى بالناس فلو كان توسلهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد مماته كتوسلهم في حياته لقالوا: كيف نتوسل بمثل العباس ويزيد بن الأسود ونحوهما؟ ونعدل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي هو أفضل الخلائق وهو أفضل الوسائل وأعظمها عند الله، فلما لم يقل ذلك أحد منهم وقد علم أنهم في حياته إنما توسلوا بدعائه وشفاعته وبعد مماته توسلوا بدعاء غيره وشفاعة غيره علم أن المشروع عندهم التوسل بدعاء المتوسل به لا بذاته، وحديث الأعمى حجة لعمر وعامة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فإنه إنما أمر الأعمى أن يتوسل إلى الله بشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعاته لا بذاته، وقال له في الدعاء: قل ((اللهم فشفعه فيَّ)) . وإذا قدر أن بعض الصحابة أمر غيره أن يتوسل بذاته لا بشفاعته يأمر بالدعاء المشروع بل ببعضه وترك سائره المتضمن التوسل بشفاعته كان ما فعله عمر بن الخطاب هو الموافق لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان المخالف محجوجًا بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان الحديث الذي رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة عليه لا له والله أعلم. وقال في (ص74) : وليس مجرد كون الدعاء حصل به المقصود ما يدل على أنه سائغ في الشريعة فإن كثيرًا من الناس يدعون من دون الله من الكواكب والمخلوقين ويحصل ما يحصل من غرضهم، وبعض الناس يقصد الدعاء عند الأوثان والكنائس وغير ذلك، ويدعو التماثيل التي في الكنائس، ويحصل ما يحصل من غرضه، وبعض الناس يدعو بأدعية محرمة باتفاق المسلمين ويحصل ما يحصل من غرضه. وقال في (ص109) : حديث الأعمى فيه التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الله في الدعاء فمن الناس من يقول: هذا يقضي جواز التوسل به مطلقًا حيًا وميتًا وهذا يحتج به من يتوسل بذاته بعد موته وفي مغيبه ويظن هؤلاء أن توسل الأعمى والصحابة في حياته كان بمعنى الإقسام به على الله أو بمعنى أنهم سألوا الله بذاته أن يقضي حوائجهم ويظنون أن التوسل به لا يحتاج إلى أن يدعو هو لهم ولا إلى أن يطيعوه فسواء عند هؤلاء دعا الرسول لهم أو لم يدع، الجميع عندهم توسل به، وسواء أطاعوه أو لم يطيعوه، ويظنون أن الله تعالى يقضي حاجة هذا الذي توسل به بزعمهم ولم يدع له الرسول كما يقضي حاجة هذا الذي توسل بدعائه ودعا له الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذ

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ كلاهما متوسل به عندهم ويظنون أن كل من سأل الله بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فقد توسل به كما توسل به ذلك الأعمى، وأن ما أمر به الأعمى مشروع لهم وقول هؤلاء باطل شرعًا وقدرًا، فلا هم موافقون لشرع الله ولا ما يقولون مطابق لخلق الله. ومن الناس من يقولون هذه قضية عين يثبت الحكم في نظائرها التي تشبهها في مناط الحكم لا يثبت الحكم بها فيما هو مخالف لها لا مماثل لها. والفرق ثابت شرعًا وقدرًا بين من دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين من لم يدع له، ولا يجوز أن يجعل أحدهما كالآخر، وهذا الأعمى شفع له النبي - صلى الله عليه وسلم - فلهذا قال في دعائه: ((اللهم فشفعه في)) فعلم أنه شفيع فيه ولفظه ((إن شئت صبرت وإن شئت دعوت لك، فقال: ادع لي)) فهو طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو له فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي وأن يدعو هو أيضًا لنفسه ويقول في دعاته: ((اللهم فشفعه فيَّ)) فدل ذلك على أن معنى قوله ((أسالك وأتوجه إليك بنبيك محمد)) ، أي بدعائه وشفاعته كما قال عمر ((اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا)) فالحديثان معناهما واحد فهو - صلى الله عليه وسلم - علم رجلاً أن يتوسل به في حياته كما ذكر عمر أنهم كانوا يتوسلون به إذا أجدبوا، ثم إنهم بعد موته إنما كانوا يتوسلون بغيره بدلاً عنه، فلو كان التوسل به حيًا وميتًا سواء والمتوسل به الذي دعا له الرسول كمن لم يدع له الرسول لم يعدلوا عن التوسل به وهو أفضل الخلق وأكرمهم على ربه وأقربهم إليه وسيلة إلى أن يتوسلوا بغيره ممن ليس مثله، وكذلك لو كان أعمى توسل به ولم يدع له الرسول بمنزلة ذلك الأعمى كان عميان الصحابة أو بعضهم يفعلون مثل ما فعل الأعمى، فعدو لهم عن هذا إلى هذا مع إنهم السابقون المهاجرون والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان فإنهم أعلم منا بالله ورسوله وبحقوق الله ورسوله وما يشرع من الدعاء وينفع وما لم يشرع ولا ينفع وما يكون أنفع من غيره وهم في وقت ضرورة ومخمصة وجدب يطلبون تفريج الكربات وتيسير العسير وإنزال الغيث بكل طريق ممكن دليل على أن المشروع ما سألوه دون ما تركوه، وذلك أن التوسل به حيًا هو من جنس مسألته أن يدعو لهم وهذا مشروع، فما زال المسلمون يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته أن يدعو لهم، وأما بعد موته فلم يكن الصحابة يطلبون منه الدعاء لا عند قبره ولا عند غير قبره كما يفعله كثير من الناس عند قبور الصالحين، يسأل أحدهم حاجته أو يقسم على الله به، ونحو ذلك وإن كان روى في ذلك حكايات عن بعض المتأخرين - انتهى. وأما ما استدل بالحديث على جواز دعاء غير الله وندائه من الأموات والغائبين فيجاب عنه بعد افتراض كون الحديث حسنًا بما قال الطيبي من أن قوله ((إني توجهت بك إلى ربي)) بعد قوله ((أتوجه إليك بنبيك)) فيه معنى قوله تعالى {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} (- 2: 255) فيكون خطابًا لحاضر معاين في قلبه مرتبط بما توجه به عند ربه من سؤال نبيه عليه الصلاة السلام الذي هو عين شفاعته ولذلك أتى بالصيغة الماضوية بعد الصيغة المضارعية المفيد كل ذلك أن هذا الداعي قد توسل بشفاعة نبيه عليه الصلاة والسلام فكأنه استحضر وقت ندائه ومثل ذلك كثير في المقامات الخطابية والقرائن الاعتبارية كما يقول المصلي في تشهده ((السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته)) . ونقل السويدي عن اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية: أن الإنسان يفعل مثل هذا كثيرًا يخاطب من يتصوره في نفسه وإن لم يكن في الخارج من يسمع

2520- (15) وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كان من دعاء داود يقول: اللهم إني أسالك حبك، وحب من يحبك، والعمل الذي يبلغني حبك، اللهم اجعل حبك أحب إليَّ من نفسي ومالي وأهلي، ومن الماء البارد قال: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر داود يحدث عنه يقول: كان أعبد البشر. ـــــــــــــــــــــــــــــ الخطاب وقد تقدم بسط ذلك في شرح حديث ابن مسعود (ج2 ص 472، 473) فنذكر، وقد علم بما ذكرنا أن النداء المذكور ليس مما يدعيه ويفعله أهل البدع من دعاء الأنبياء وندائهم وخطابهم معتقدين حضورهم في الخارج للاستعانة والاستعانة بهم في تفريج الكرب وقضاء الحوائج، وهذا ظاهر جلي إلا لأهل الجدل والعناد. 2520- قوله (يقول) اسم كان بحذف أن، أي قوله ((اللهم إني أسالك حبك)) من إضافة المصدر إلى الفاعل أو المفعول، أي حبك إياي أو حبي إياك والأول أظهر إذ فيه تلميح إلى قوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (- 5: 54) قاله القاري: ((وحب من يحبك)) كما سبق، أما الإضافة إلى المفعول فهو ظاهر كمحبتك للعلماء والصلحاء، وأما الإضافة إلى الفاعل فهو مطلوب أيضًا كما ورد في الدعاء ((حببنا إلى أهلها وحبب صالحي أهلها إلينا)) (والعمل) بالنصب عطف على المفعول الثاني ويحتمل الجر عطفًا على من يحبك، أي وحب العمل من إضافة المصدر إلى مفعوله فقط، ويؤيده حديث معاذ بن جبل عند الترمذي في تفسير ص بلفظ: وأسالك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقرب إلى حبك (الذي يبلغني) بتشديد اللام، أي يوصلني ويحصل لي (حبك) يحتمل لاحتمالين (اللهم اجعل حبك) أي حبي إياك (أحب إليَّ من نفسي ومالي) أي من حبهما حتى أوثره عليهما ((وأهلي)) كذا وقع في نسخ المشكاة الحاضرة عندنا ((من نفسي ومالي وأهلي)) وهكذا في جامع الأصول (ج5 ص110) وجمع الفوائد (ج2 ص658) ، وفي الترمذي ((من نفسي وأهلي)) ، أي بدون لفظة ((ومالي)) وهكذا عند الحاكم (ج2 ص433) ، وكذا ذكر ابن الجزري في الحصن. قال في اللمعات قوله ((من نفسي)) ، أي من حب نفسي، والمراد اجعل حب نفسك أحب إليَّ من نفسي لكنه لم يقل كذلك وإن جاز إطلاقه عليه مشاكلة لغاية التأدب - انتهى. قلت: وقع إطلاقه عليه في الحديث من غير مشاكلة أيضًا ((أنت كما أثنيت على نفسك)) (ومن الماء البارد) أعاد ((من)) ها هنا ليدل على استقلال الماء البارد في كونه محبوبًا وذلك في بعض الأحيان فإنه يعدل بالروح. قال في اللمعات: فيه مبالغة لأن حب الماء البارد طبيعي لا اختيار فيه، ففيه إشارة إلى سراية المحبة إلى الطبيعة أيضًا وذلك أكمل مراتب المحبة (قال) أي أبو الدرداء: (إذا ذكر) ، أي هو (داود يحدث عنه) أي يحكي (يقول) بدل من يحدث ذكره الطيبي. قال القاري: والأظهر أنه حال من الضمير في يحدث، وفي الترمذي ((قال)) مكان ((يقول)) وفي المستدرك ((وكان إذا ذكر داود وحدث عنه قال)) وهذا يدل على أن قوله ((يحدث)) في رواية الترمذي حال من الضمير في ((ذكر)) وقوله ((يقول)) أو ((قال)) جزاء للشرط، وعلى قول الطيبي والقاري يكون ((يحدث)) جزاء للشرط ولا يخفي ما فيه (كان) أي داود (أعبد البشر) أي أكثرهم عبادة في زمانه كذا قيد الطيبي. قال القاري: وعلى تقدير الإطلاق لا محذور فيه إذ لا يلزم من الأعبدية الأعلمية فضلاً عن الأفضلية.

رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب. 2521- (16) وعن عطاء بن السائب عن أبيه قال: صلى بنا عمار بن ياسر صلاة فأوجز فيها، فقال له بعض القوم: لقد خففت وأوجزت ـــــــــــــــــــــــــــــ وقيل: أي أشكر شكرًا، قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً} (- 34: 13) أي بالغ في شكر وابذل وسعك فيه كذا ذكره الطيبي، وتعقبه القاري (رواه الترمذي) في جامع الدعوات، وأخرجه أيضًا الحاكم في تفسير سورة ص (ج2 ص433) كلاهما من رواية محمد بن سعد الأنصاري عن عبد الله بن ربيعة الدمشقي عن عائذ الله أبي إدريس الخولاني عن أبي الدرداء (وقال: هذا حديث حسن غريب) وقال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه فرده الذهبي بأن عبد الله هذا قال أحمد: أحاديثه موضوعة - انتهى. وقال الحافظ: في التقريب عبد الله بن ربيعة بن يزيد الدمشقي، وقيل ابن يزيد بن ربيعة مجهول، وروى البخاري قوله: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر داود قال: كان أعبد البشر، من هذا الطريق في التاريخ الكبير (1/3/228) ، في ترجمة عبد الله بن يزيد بن ربيعة الدمشقي ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً، وذكره ابن حبان في الثقات كما يظهر من التهذيب (ج5 ص208) وعلى كل حال لا يخلو تحسين الترمذي وتصحيح الحاكم لهذا الحديث عن النظر. 2521- قوله: (وعن عطاء بن السائب) الثقفي الكوفي يكنى أبا محمد، وقيل: أبا السائب. قال الحافظ في التقريب: صدوق اختلط، مات سنة ست وثلاثين ومائة. قلت: من سمع منه قديمًا فهو صحيح الحديث منهم الثوري وشعبة وزائدة وحماد بن زيد، فأما من سمع منه بآخره ففي حديثهم نظر، ومنهم جرير وهشيم وابن علية، واختلف حماد بن سلمة فقيل سمع منه قبل الاختلاط وقيل بعده. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج7 ص207) بعد ذكر أقوال أئمة الجرح والتعديل في ذلك فيحصل لنا من مجموع كلامهم أن سفيان الثوري وشعبة وزهيرًا وزائدة وحماد بن زيد وأيوب عنه صحيح، ومن عداهم يتوقف فيه إلا حماد بن سلمة فاختلف قولهم والظاهر أنه سمع منه مرتين مرة مع أيوب كما يؤمى إليه كلام الدارقطني حيث قال: دخل عطاء البصرة مرتين فسماع أيوب وحماد بن سلمة في الرحلة الأولى صحيح - انتهى. ومرة بعد ذلك لما دخل إليهم البصرة وسمع منه جرير وذويه، والله أعلم (عن أبيه) أي السائب بن مالك أو ابن زيد أو ابن يزيد أبي يحيى ويقال أبو كثير ويقال أبو عطاء الثقفي الكوفي ثقة من كبار التابعين، روى عن علي وسعد وعمار بن ياسر وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهم، وعنه ابنه عطاء وأبو إسحاق السبيعي وأبو البختري (فأوجز) أي اقتصر (فيها) ، أي مع إتمام أركانها وسننها (فقال له بعض القوم) ، أي ممن حضرها (لقد خففت) بالتشديد، قال القاري: أي الأركان بأن فعلت ما يطلق عليها الركن (وأوجزت) أي اقتصرت بأن أتيت بأقل ما يؤدي به السنن، وقوله

الصلاة، فقال: أما على ذلك، لقد دعوت فيها بدعوات سمعتهن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما قام تبعه رجل من القوم ـــــــــــــــــــــــــــــ (الصلاة) تنازع فيه الفعلان. قلت: قوله ((وأوجزت)) كذا وقع في جميع نسخ المشكاة أي بواو العطف، والذي في النسائي ((أو أوجزت)) أي بأو بدل الواو. قال في اللمعات: قوله ((وأوجزت الصلاة)) يشبه أن يكون بتخفيف الدعاء فيه كما ينظر إليه سياق الحديث، ويحتمل أن يكون بإيجاز القراءة ويكون المعنى وإن أوجزت الصلاة بتخفيف القراءة فيها لكني دعوت بدعوات تجبر النقصان كما قيل إن النوافل تكمل الفرائض - انتهى. ولأحمد والنسائي من طريق أبي مجلز عن عطاء قال: صلى بنا عمار صلاة فأوجز فيها فأنكروا ذلك فقال: ألم أتم الركوع والسجود؟ قالوا: بلي. قال الشوكاني: قوله: ((فأوجز فيها)) لعله لم يصاحب هذا الإيجاز تمام الصلاة على الصفة التي عهدوا عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وألا لم يكن للإنكار عليه وجه، فقد ثبت من حديث أنس في مسلم وغيره أنه قال: ما صليت خلف أحد أوجز صلاة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تمام. وقوله ((فأنكروا ذلك)) فيه جواز الإنكار على من أخف الصلاة من دون استكمال، وقوله ((ألم أتم الركوع والسجود؟ قالوا: بلى)) فيه إشعار بأنه لم يتم غيرهما ولذلك أنكروا عليه (فقال: أما) بالتخفيف (عليَّ) بالتشديد (ذلك) وجه الطيبي هذه العبارة بثلاثة وجوه: أحدها أن الهمزة يحتمل أن تكون للإنكار كأنه قال: أتقول هذا وتنكرون عليَّ؟ وما عليَّ ضرر من ذلك، قال الشيخ الدهلوي: يعنى قوله ((ما عليَّ ذلك)) جملة حالية والواو مقدرة ولا حاجة إلى تقديرها فقد يقع حالاً بدون الواو نحو كلمته فوه إلى في، وكان تقديره الواو إشارة إلى كونها حالاً، وقوله ((ضرر من ذلك)) بيان لحاصل المعنى. وثانيها أن يكون الهمزة لنداء القريب، والمنادي محذوف، أي يا فلان ليس عليَّ ضرر من ذلك. وثالثها أن يكون أما للتنبيه، ثم قال عليَّ بيان ذلك فتدبر - انتهى. وفي المستدرك ((ما عليَّ في ذلك)) أي بدون الهمزة وبزيادة في قبل ذلك (لقد دعوت) كذا في جميع النسخ، وللنسائي ((أما عليَّ ذلك فقد دعوت)) قال السندي: أي أما مع التخفيف والإيجاز فقد دعوت، ألخ. وأما على تقدير اعتراضكم بالتخفيف فأقول قد دعوت، ألخ. والظاهر أن أما هذه لمجرد التأكيد وليس لها عديل في الكلام كأما الواقع في أوائل الخطب في الكتب بعد ذكر الحمد والصلاة من قولهم أما بعد فكذا (فيها) أي في أواخرها أو سجودها، قاله القاري. ومال النسائي إلى الأول حيث أورد هذا الحديث في أثناء أبواب الدعاء بعد التشهد والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - (بدعوات) قال السندي: جمع الدعوات باعتبار أن كل كلمة دعوة بفتح الدال، أي مرة من الدعاء فإن الدعوة للمرة كالجلسة (سمعتهن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال القاري: أي داخلها أو خارجها، وفي المسند وكذا في رواية للنسائي ((أما إني قد دعوت فيها بدعاء كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو به)) قال الشوكاني: يحتمل أنه كان يدعو به في الصلاة ويكون فعل عمار قرينة تدل على ذلك ويحتمل أنه كان يدعو به من غير تقييد بحال الصلاة كما هو الظاهر من كلام (فلما قام) أي عمار (تبعه رجل من القوم) إلى هنا قول السائب عبَّر عن نفسه

هُوَ أُبَيٌّ غَيْرَ أَنَّهُ كَنَى عَنْ نَفْسِهِ فَسَأَلَهُ عَنْ الدُّعَاءِ ثُمَّ جَاءَ فَأَخْبَرَ بِهِ الْقَوْمَ: اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا عَلِمْتَ الْوَفَاةَ خَيْرًا لِي اللَّهُمَّ وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ ـــــــــــــــــــــــــــــ برجل من القوم ولذا فسره عطاء بقوله (هو أُبَيّ) ، أي ذلك الرجل الذي تبع عمارًا هو أبي أي السائب (غير أنه) ، أي أبي (كنى عن نفسه) ، أي برجل فقال: تبعه رجل ولم يقل تبعته، ثم قال السائب (فسأله) أي الرجل عمارًا (عن الدعاء) ، أي فأخبره (ثم جاء) ، أي الرجل (فأخبر به) ، أي بالدعاء (اللهم) ، أي وهو هذا (بعلمك الغيب) ، أي المغيبات عن خلقك فضلاً عن المشاهدات، والباء للاستعطاف والتذلل، أي أنشدك بحق علمك ما خفي على خلقك مما استأثرت به (وقدرتك على الخلق) أي بقدرتك على خلق كل شيء تتعلق به مشيئك أو على جميع المخلوقات بأن تفعل فيهم ما تقضي إرادتك، وفيه دليل على جواز التوسل إليه تعالى بصفات كماله وخصال جلاله (أحيني) أي أمدني بالحياة (ما علمت الحياة) ما مصدرية ظرفية (خيرًا لي) بأن يغلب خيري على شري ((وتوفني إذا علمت الوفاة خيرًا لي)) بأن تغلب سيئاتي على حسناتي أو بأن تقع الفتن ما ظهر منها وما بطن، قاله القاري وعبر بما في الحياة لاتصافه بالحياة حالاً وبإذا الشرطية في الوفاء لانعدامها حال التمني إذا آل الحال إلى أن تكون الوفاة بهذا الوصف فتوفني، قلت قوله ((أحيني)) إلى قوله ((خيرًا لي)) ثابت في الصحيحين من حديث أنس بلفظ ((اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي)) وهو يدل على جواز الدعاء بهذا لكن عند نزول الضرر كما وقع التقييد بذلك في حديث أنس المذكور وقد تقدم في (ج2 ص438) (اللهم وأسألك) عطف على ((أنشدك)) المقدر، أي وأطلب منك و ((اللهم)) معترضة. وقال القاري: والظاهر أن اللهم عطف على الأول بحذف العاطف كما في كثير من الدعوات الحديثية ومنه تكرار ((ربنا)) من غير عاطف في الآيات القرآنية، ولا يضره الواو في قوله ((وأسالك)) لأنها نظيرة الواو في قوله تعالى ((ربنا وآتنا)) (خشيتك) ، أي خوفك (في الغيب والشهادة) أي في السر والعلانية أو في الحالين من الخلوة والجلوة أو في الباطن والظاهر، والمراد استيعابها في جميع الأوقات فإن الخشية رأس كل خير والشأن في الخشية في الغيب لمدحه تعالى من يخافه بالغيب، وقال الشوكاني: أي في مغيب الناس وحضورهم لأن الخشية بين الناس فقط ليست من الخشية لله بل من خشية الناس (وأسألك كلمة الحق) ، أي النطق بالحق (في الرضا والغضب) ، أي في حالتي رضا الخلق مني وغضبهم عليَّ فيما أقوله فلا أداهن ولا أنافق، أو في حالتي رضاي وغضبي بحيث لا تلجئني شدة الغضب إلى النطق بخلاف الحق ككثير من الناس إذا اشتد غضبه أخرجه من الحق إلى الباطل، والمعنى أسألك أن أكون مستمرًا على النطق بالحق في جميع أحوالي وأوقاتي. قال الشوكاني: جمع بين الحالتين لأن الغضب ربما حال بين الإنسان وبين الصدع بالحق، وكذلك الرضا ربما قاد في بعض الحالات إلى المداهنة وكتم كلمة الحق (القصد) أي الاقتصاد

فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ وَأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ وَأَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بَعْدَ الْقَضَاءِ وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو التوسط بلا إفراط وتفريط (في الفقر والغنى) لأن المختار أن الكفاف أفضل من الفقر ومن الغنى قاله في اللمعات، وقال المناوي: القصد أي التوسط في الفقر والغنى هو الذي ليس معه إسراف ولا تقتير، فإن الغنى يبسط اليد ويطغي النفس، والفقر يكاد أن يكون كفرًا، فالتوسط هو المحبوب المطلوب. وقال الشوكاني: القصد في كتب اللغة بمعنى استقامة الطريق والاعتدال، وبمعنى ضد التفريط وهو المناسب هنا لأن بطر الغني ربما جر إلى الإفراط وعدم الصبر على الفقر ربما أوقع في التفريط فالقصد فيهما هو الطريقة القويمة (لا ينفد) بفتح الفاء وبالدال المهملة أي لا يفنى ولا ينقضي ولا ينقص، وذلك ليس إلا نعيم الآخرة، وأما غيره فكل نعيم لا محالة زائل (قرة عين لا تنقطع) يحتمل أن يراد الذرية التي لا تنقطع بعده، بل تستمر ما بقيت الدنيا. ولعله مأخوذ من قوله تعالى {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} (25: 74) وقيل: أراد المداومة على الصلاة والمحافظة عليها لقوله ((وجعلت قرة عيني في الصلاة)) أو المراد ثواب الجنة الذي لا ينقطع فيكون تأكيدًا لقوله ((نعيمًا لا ينفد)) فيكون بعد تخصيصًا بعد تعميم، وقيل: أراد قرة عينه أي بدوام ذكر الله وكمال محبته والأنس به (وأسألك الرضاء) بالمد، وفي المستدرك الرضى أي بالقصر. قال الجوهري: الرضى مقصورًا مصدر محض والاسم الرضاء ممدودًا (بعد القضاء) وفي رواية للنسائي الرضاء بالقضاء أي بما قدرته لي في الأزل لأتلقاه بوجه منبسط وخاطر منشرح وأعلم أن كل قضاء قضيته لي فلي فيه خير، قيل في وجه الأول: كأنه طلب الرضاء بعد تحقق القضاء وتقرره (برد العيش) أي طيبه وحسنه (بعد الموت) برفع الروح إلى منازل السعداء ومقامات المقربين، والعيش في هذه الدار لا يبرد لأحد بل محشو بالغصص والكدر والنكد ممحوق بالآلام الباطنة والأسقام الظاهرة (لذة النظر إلى وجهك) قال الطيبي: قيد النظر باللذة لأن النظر إلى الله تعالى إما نظر هيبة وجلال في عرصات القيامة، وإما نظر لطف وجمال في الجنة ليؤذن بأن المراد هذا، وفيه أعظم دليل على رؤية الله تعالى في الدار الآخرة كما هو مذهب أهل السنة والجماعة (والشوق إلى لقاءك) أي الاشتياق إلى ملاقاتك في دار المجازاة. قال الشوكاني: إنما سأله ع لأنه من موجبات محبة الله تعالى للقاء عبده لحديث ((من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه)) ومحبة الله تعالى من أسباب المغفرة. وقال ابن القيم: جمع في هذا الدعاء بين أطيب ما في الدنيا وهو الشوق إلى لقاءه، وأطيب ما في الآخرة وهو النظر إليه، ولما كان كلامه موقوفًا على عدم ما يضر في الدنيا ويفتن في الآخرة قال (في غير ضراء) أي شدة، وقيل: أي الحالة التي تضر وهي نقيض السراء وهما بناءان للمؤنث ولا مذكر لهما (مضرة) اسم فاعل من أضر والجار إما متعلق بقوله ((والشوق إلى لقاءك)) أي أسألك شوقًا لا يؤثر في سيري وسلوكي بحيث يمنعني عن ذلك وأن يضرني مضرة، وإما متعلق بأحيني، الثاني أظهر معنى وأقرب لفظًا

وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ. رواه النسائي. 2522- (17) وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ الْفَجْرِ: ـــــــــــــــــــــــــــــ ويؤيد الثاني ما وقع عند أحمد والنسائي أيضًا بلفظ: أعوذ بك من ضراء مضرة. وقال الطيبي متعلق الظرف مشكل ولعله متصل بالقرينة الأخيرة وهي ((الشوق إلى لقاءك)) ، سأل شوقًا إليه بحيث يكون في ضراء غير مضرة أي شوقًا لا يضر في سيري وسلوكي، وإن ضرني مضرة ما، فإن الشوق قد يفضي إلى ذلك عند غلبة الحال وتهيج السكر وهو المراد بفتنة مضلة، ويجوز أن يتصل بقوله: أحيني ... إلى آخره حتى يتعلق بالكل أي أحيني متلبسًا بنعمك المذكورة حال عدم كوني في ضراء مضرة وهي البلية لا أصبر عليها (ولا فتنة مضلة) أي موقعة في الحيرة والضلال ومفضية إلى الهلاك، وقد وقع عند أحمد والنسائي في رواية: وأعوذ بك من ضراء مضرة وفتنة مضلة. قال الشوكاني: إنما قيد ضراء بمضرة لأن الضراء ربما كانت نافعة آجلاً أو عاجلاً فلا يليق الاستعاذة منها أي مطلقًا، ووصف الفتنة بالمضلة لأن من الفتن ما يكون من أسباب الهداية، وهي بهذا الاعتبار مما لا يستعاذ منه. قال أهل اللغة: الفتنة الامتحان والاختبار (زيِّنا) بتشديد الياء المكسورة والنون (بزينة الإيمان) أي بثباته وتوفيق الطاعة وحيلة الإحسان. قال المناوي: وهي زينة الباطن ولا معول إلا عليها لأن الزينة زينتان زينة البدن وزينة القلب وهي أعظمها قدرًا وإذا حصلت زينة البدن على أكمل وجه في العقبى، ولما كان كمال العبد في كونه عالمًا بالحق متبعًا له معلمًا لغيره قال (واجعلنا هداة) جمع هاد أي هادين إلى الدين (مهتدين) أي ثابتين على الهداية وطريق اليقين. قال الطيبي: وصف الهداة بالمهتدين لأن الهادي إذا لم يكن مهتديًا في نفسه لم يصلح أن يكون هاديًا لغيره لأنه يوقع الناس في الضلال من حيث لا يشعر. قلت: ومن حيث لا يشعرون (رواه النسائي) في الصلاة من طريق حماد عن عطاء بن السائب عن أبيه. وأخرجه أيضًا الحاكم (ج1: ص524) من هذا الطريق، وسماه حماد بن زيد، وقال: حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، وأخرجه أحمد (ج4: ص264) من طريق أبي هاشم عن أبي مجلز، قال: صلى بنا عمار صلاة فأوجز فيها، والنسائي أيضًا من طريق أبي مجلز عن قيس بن عباد قال: صلى عمار ابن ياسر بالقوم صلاة أخفها، وهذا يدل على أن طريق أحمد فيها انقطاع، والله أعلم، ورواه أبو يعلى أيضًا قال الهيثمي (ج10: ص177) ورجاله ثقات إلا أن عطاء بن السائب اختلط. انتهى. قلت: ولا يضر ذلك فإن الحديث رواه الحاكم من طريق حماد بن زيد وروايته عن عطاء قبل الاختلاط كما تقدم. 2522- قوله (كان يقول في دبر الفجر) أي في دبر صلاة الفجر، ولفظ أحمد (ج6: 318) ((كان يقول في دبر الفجر إذا صلى)) وفي رواية له ((كان يقول إذا صلى الصبح حين سلم)) وفي رواية ((حين يسلم)) وكذا وقع عند ابن ماجه وللطبراني ((كان يقول بعد صلاة الفجر)) ووقع في بعض نسخ المشكاة ((في دبر صلاة الفجر)) ولم يرد بهذا اللفظ

اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا وَعَمَلًا مُتَقَبَّلًا وَرِزْقًا طَيِّبًا. رواه أحمد، وابن ماجة، والبيهقي في الدعوات الكبير. 2523- (18) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ: دُعَاءٌ حَفِظْتَهُ مِن رسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا أَدَعَهُ: اللهمَّ اجعَلْنِي أُعَظّم شُكْرك، ـــــــــــــــــــــــــــــ في الكتب التي أخرجها أصحابها ولا في جامع الأصول (علمًا نافعًا) أي بالعمل به فيكون حجة لي لا عليَّ. وقال في الحرز: أي شرعيًا أعمل به (وعملاً ومتقبلاً) بفتح الموحدة أي مقبولاً بأن يكون مقرونًا بالإخلاص (ورزقًا طيبًا) أي حلالاً ملائمًا للقوة معينًا على الطاعة. في مختصر الطيبي: فإنه أس لهما ولا يعتد بهما دونه. قال الشوكاني: إنما قيد العلم بالنافع والرزق بالطيب والعمل بالمتقبل لأن كل علم لا ينفع فليس من عمل الآخرة، وربما كان ذرائع الشقاوة ولهذا كان ع يتعوذ من علم لا ينفع، وكل رزق غير طيب موقع في ورطة العقاب، وكل عمل غير متقبل إتعاب للنفس. انتهى. وقوله ((اللهم إني أسألك علمًا نافعًا)) إلخ. كذا وقع بتقديم العلم والعمل على الرزق عند أحمد (ج6: ص294، 319) وهكذا عند ابن السني، ووقع عند أحمد أيضًا (ج6: ص305، 322) ، وابن ماجة بتقديم الرزق على العمل وتأخيره عن العلم، وعند الطبراني في الصغير بتقديم الرزق على العلم والعمل وهذا الترتيب هو الظاهر، وأما ما وقع في الروايات الأخرى فلعله من تصرف الرواة، والحديث دليل صريح على مشروعية الدعاء بعد السلام من الصلاة المكتوبة (رواه أحمد) (ج6: ص294، 305، 319، 322) (وابن ماجة) في الصلاة (والبيهقي في الدعوات الكبير) وأخرجه أيضًا ابن السني (ص38) وابن أبي شيبة كما في النيل (ج2: ص204) كلهم من رواية موسى بن أبي عائشة عن مولى لأم سلمة عن أم سلمة. قال الشوكاني: رجاله ثقات لولا جهالة مولى أم سلمة. ونقل السندي عن البوصيري أنه قال في الزوائد: رجال إسناده ثقات خلا مولى أم سلمة فإنه لم يعرف ولم أر أحدًا ممن صنف في المبهمات ذكره ولا أدري ما حاله - انتهى. ورواه الطبراني في معجمه الصغير (ص152) من طريق عامر بن إبراهيم بن واقد الأصبهاني عن النعمان ابن عبد السلام عن الثوري عن منصور عن الشعبي عن أم سلمة. وهذا سند جيد. قال الهيثمي بعد ذكر الحديث (ج10: ص111) : رواه الطبراني في الصغير ورجاله ثقات. 2523- قوله (دعاء) مبتدأ (حفظته من رسول الله ع) صفة للمبتدأ مسوغ وخبره قوله (لا أدعه) أي لا أتركه لنفاسته، ولأحمد (ج2: ص311) : دعوات سمعتها من رسول الله ع لا أتركها ما عشت حيًا سمعته يقول: اللهم، إلخ (اللهم اجعلني أعظم) بالتخفيف والتشديد ورفع الميم وهو مفعول ثان بتقدير أن أو بغيره أي معظمًا (شكرك) أي وفقني لإكثاره والدوام على استحضاره لأكون قائمًا بما وجب عليَّ من شكر نعمائك التي لا تحصى. قال الطيبي:

وأكثر ذكرك، وأتبع نصحك، وأحفظ وصيتك. رواه الترمذي. 2524- (19) وعن عبد الله بن عمرو قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: اللهم إني أسألك الصحة والعفة، ـــــــــــــــــــــــــــــ اجعلني بمعنى صيرني ولذلك أتى بالمفعول الثاني فعلاً لأن صار من دواخل المبتدأ والخبر (وأكثر) مخففًا ومشددًا (ذكرك) أي لسانًا وجنانًا وهو يحتمل أن يكون تخصيصًا بعد تعميم وقيل إن بينهما عمومًا وخصوصًا من وجه (وأتبع) بتشديد التاء وكسر الموحدة من الإتباع وبسكون الأولى وفتح الثانية (نصحك) بضم النون كذا وقع في جميع النسخ من المشكاة وهكذا في جامع الأصول، والذي في الترمذي والمسند ((نصيحتك)) أي بامتثال ما يقربني إلى رضاك ويبعدني عن غضبك. وقال شيخنا: النصيحة هي الخلوص وإرادة الخير للمنصوح له والإضافة يحتمل أن يكون إلى الفاعل وإلى المفعول والأول أظهر (وأحفظ وصيتك) بملازمة فعل المأمورات وتجنب المنهيات أو المذكورة في قوله تعالى {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللهَ} (- 4: 131) فإنها للأولين والآخرين وهي التقوى، أو بالتسليم لله العظيم في جميع الأمور والرضا بالمقدور على ممر الدهور. وقال الطيبي: النصيحة هي إرادة الخير للمنصوح له فيراد بها حقوق العباد وبالوصية متابعة الأمر والنهي من حقوق الله تعالى والله أعلم (رواه الترمذي) في الدعوات من طريق الفرج بن فضالة عن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة، وقال حديث غريب، وأخرجه أيضًا أحمد (ج2 ص311) من رواية الفرج عن أبي سعيد المديني عن أبي هريرة قال الشيخ أحمد شاكر في شرح المسند: إسناده ضعيف جدًا الفرج بن فضالة ضعيف منكر الحديث، وأبو سعيد المديني ذكر الحافظ ابن كثير في جامع المسانيد والسنن أنه ((مولي عبد الله بن عامر بن كريز)) وقد يكون هو وقد يكون غيره من اضطراب الفرج بن فضالة، فإن الحديث سيأتي أي في المسند عن وكيع عن الفرج بن فضالة عن ((أبي سعيد الحمصي)) وكذلك ذكره الحافظ ابن كثير في ترجمة أبي سعيد الحمصي دون أن يبين من هو، ورواية وكيع أيضًا في الترمذي وفيها ((عن أبي سعيد المقبري)) وعندنا أن هذا كله تخليط من الفرج بن فضالة وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10 ص172) وقال: رواه أحمد من طريق أبي يزيد المديني، وفي رواية ((عن أبي سعيد الحمصي ولم أعرفهما، وبقية رجالهما ثقات)) وهكذا قال الهيثمي، فأما أولاً فإن الحديث ليس من الزوائد على الكتب الستة، وقد رواه الترمذي، وثانيًا ليس في المسند ((عن أبي يزيد المديني)) بل هو كما ترى ((حدثنا أبو سعيد المديني)) فإما أن يكون الهيثمي سها، وإما أن يكون خطأ في النسخة التي كانت معه من المسند، وثالثًا ليس بقية رجالهما ثقات وفي الإسنادين الفرج بن فضالة وهو ضعيف - انتهى. 2524- قوله (وعن عبد الله بن عمرو) بالواو (اللهم إني أسالك الصحة) أي العافية من الأمراض والعاهات وقال القاري: أي صحة البدن من سيء الأسقام أو صحة الأحوال والأقوال والأعمال (والعفة) هي بمعنى العفاف

والأمانة، وحسن الخلق، والرضى بالقدر. 2525- (20) وعن أم معبد قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ـــــــــــــــــــــــــــــ والعفاف هو التنزه عما لا يباح والكف عنه، وقال المناوي: أي عن المحرمات والمكروهات وما يخل بكمال المروءة (والأمانة) ضد الخيانة والمراد حفظ ما ائتمنت عليه من حقوق الله تعالى وحقوق عباده (وحسن الخلق) بضم اللام وسكونها أي مع الخلق بالصبر على أذاهم وكف الأذى عنهم والتلطف بهم. وقال القاري: أي حسن المعاشرة مع أهل الإسلام (والرضى بالقدر) أي بما قدرته عليَّ في الأزل، وهذا تعليم لأمته وتمرين للنفس على الرضاء بالقضاء وذلك لأمرين الأول: أن يتفرغ العبد للعبادة لأنه إذا لم يرض بالقضاء يكون مهمومًا مشغول القلب أبدًا بأنه لِمَ كان كذا؟ ولماذا لا يكون كذا؟ فإذا اشتغل القلب بشيء من هذه الهموم كيف يتفرغ للعبادة إذ ليس له إلا قلب واحد وقد امتلأ من الهموم وما كان وما يكون فأي محل فيه لذكر العبادة وفكر الآخرة ولقد صدق شقيق في قوله: حسرة الأمور الماضية وتدبير الآتية ذهبت ببركة الساعات. الثاني: خطر ما في السخط من مقت الله وغضبه مع أنه لا فائدة لذلك، إذ القضاء نافذ ولا بد منه رضي العبد أم سخط. والحديث ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10 ص173) وقال: رواه الطبراني (في الكبير) والبزار (في مسنده) وقال: أسألك العصمة بدل الصحة، وفيه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم وهو ضعيف الحديث وقد وثق وبقية رجال أحد الإسنادين رجال الصحيح. 2525- قوله (وعن أم معبد) بفتح الميم والموحدة - قال الحافظ في الإصابة (ج4 ص476) : أم معبد غير منسوبة، وقيل إنها أنصارية روى حديثها عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن مولى لأم معبد عن أم معبد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو ويقول: ((اللهم طهر قلبي من النفاق)) ، إلخ. وأخرجه أبو نعيم وأفردها عن أم معبد الخزاعية الكعبية عاتكة بنت خالد التي نزل عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر إلى المدينة وتبع أبا نعيم أبو موسى، وأما ابن السكن فذكر الحديث في ترجمة الخزاعة في الأسماء في عاتكة فقال روى عن مولي لأم معبد عن أم معبد حديث في الدعاء فذكره، ثم قال في الكنى: أم معبد الأنصارية وليست صاحبة الخيمتين يعني الخزاعية، ثم ساق الحديث عن شيخ آخر بالسند والمتن بعينه، ثم قال: لم أجد لأم معبد هذه حديثًا غير هذا. وفي إسناده نظر وهو كما قال، ثم قال: وقد روى عن ابن الحارث عن أم معبد مولاة قرظة حديث في الظروف ولست أدرى هي هذه أو غيرها فتناقض في ذلك مع جلالته في الحظ وإتقانه - انتهى. وقال ابن عبد البر: أم معبد الأنصارية روى عنها مولاها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثها في الدعاء وهي غير التي قبلها يعني بها أم معبد زوجة كعب بن مالك الأنصاري السلمي التي روت عن النبي في الخليطين وروت ((البذاذة من الإيمان)) وقال الجزري في أسد الغابة (ج5 ص620) : أم معبد غير منسوبة قاله أبو نعيم، وقال أبو عمر: أنصارية، ثم روى

اللهم طهر قلبي من النفاق، وعملي من الرياء ولساني من الكذب، وعيني من الخيانة، فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. رواهما البيهقي في الدعوات الكبير. 2526- (21) وعن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاد رجلاً من المسلمين قد خفت، فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل كنت تدعو الله بشيء أو ـــــــــــــــــــــــــــــ الجزري هذا الحديث من طريق أبي نعيم ثم قال: أخرجها أبو نعيم وأبو عمر وأبو موسى - انتهى. وتحصل من هذا كله أن أم معبد راوية حديث الدعاء المذكور صحابية أخرى غير الخزاعية وغير زوجة كعب بن مالك راوية حديث الخليطين وغير مولاة قرظة بن كعب راوية حديث الظروف (اللهم طهر قلبي من النفاق) أي بتحصيل اليقين في الدين وتسوية السر والعلانية بين المسلمين، قاله القاري. وقال العزيزي: أي من إظهار خلاف ما في الباطن وهذا وما بعده قاله تعليمًا لأمته كيف تدعو وألا فهو معصوم من ذلك (وعملي من الرياء) بمثناة تحتية أي حب إطلاع الناس على عملي، وقيل: أي من الرياء والسمعة بتوفيق الإخلاص (ولساني من الكذب) أي ونحوه من الغيبة والنميمة. وقال القاري: الكذب بفتح الكاف وكسر الذال ويجوز بكسر الكاف وسكون الذال وخص من معاصي اللسان لأنه أعظمها وأقبحها عند الله وعند الخلق (وعيني) بالتثنية والإفراد قاله المناوي (من الخيانة) أي بأن ينظر بها إلى ما لا يجوز النظر إليه أو يشير بها إلى ما يترتب الفساد عليه (فإنك تعلم خائنة الأعين) مصدر بمعنى الخيانة أي الرمز بها أو النظرة إلى المحرم بعد النظرة أو مسارقة النظر إلى ما نهى عنه، أو هو من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي الأعين الخائنة (وما تخفي الصدور) أي القلوب الحالة في الصدور من الوسوسة أو ما تضمر من أمانة أو خيانة (رواهما) أي الحديثين السابقين (البيهقي في الدعوات الكبير) قد تقدم تخريج عبد الله بن عمرو وأما حديث أم معبد فذكره السيوطي في الجامع الصغير وعزاه للحكيم الترمذي في النوادر (ص202) والخطيب في التاريخ وقد تقدم أنه رواه أيضًا أبو نعيم وأبو موسى وابن السكن وقال: في إسناده نظر. قال الحافظ: وهو كما قال فإنه من رواية فرج بن فضالة عن ابن أنعم وهما ضعيفان - انتهى. وفيه أيضًا مولى أم معبد وهو مجهول، وقال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء: بسنده ضعيف. 2526- قوله (عاد) من العيادة (رجلاً) أي مريضًا (قد خفت) بفتح الفاء من باب نصر أي ضعف من خفت الصوت إذا ضعف وسكن. وفي الترمذي ((قد جهد)) وهو بصيغة المجهول. قال في القاموس: جهد المرض فلانًا هزله (مثل الفرخ) بفتح الفاء وسكون الراء، ولد الطير عند خروجه من البيضة، يعني أضعفه المرض حتى صار ضعيفًا مثل الفرخ لضعفه وكثرة نحافته، وفي الأدب المفرد ((دخل على رجل قد جهد من المرض فكأنه فرخ منتوف)) أي ولد الطائر الذي استوصل ريشه، وفي شرح السنة ((عاد رجلاً قد صار مثل الفرخ المنتوف)) (هل كنت تدعو الله بشيء أو

تسأله إياه؟ قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فجعله لي في الدنيا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سبحان الله لا تطيقه ولا تستطيعه، أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار؟ قال: فدعا الله به فشفاه الله. رواه مسلم. 2527- (22) وعن حذيفة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه. قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض ـــــــــــــــــــــــــــــ تسأله إياه) ؟ قيل: هو شك من الراوي. وقال الطيبي: والظاهر أنه من كلامه - صلى الله عليه وسلم - أي هل كنت تدعو الله بشيء من الأدعية التي يسئل فيها مكروه؟ أو هل سألت الله البلاء الذي أنت فيه؟ وعلى هذا فالضمير المنصوب عائد إلى البلاء الذي دلَّ عليه الحال، وينبئ عنه ((خفت)) فيكون قد عم أولاً وخص ثانيًا، وفي الترمذي: أما كنت تدعو، أما كنت تسأل ربك العافية؟ (قال: نعم) فيه دلالة على أن أو للشك من الراوي لا للترديد منه - صلى الله عليه وسلم -، قاله القاري. (ما كنت معاقبي به) ما شرطية أو موصولة (فعجله لي في الدنيا) يعني فاستجاب الله دعاءه وابتلاه بالمرض حتى ضعف وصار مثل الفرخ كما تقدم (سبحان الله) تعجب من الداعي في هذا المطلب (لا تطيقه) أي في الدنيا (ولا تستطيعه) أي في العقبى أو كرر للتأكد، قاله القاري. قلت: كذا في جميع النسخ من المشكاة أي بواو العطف وهكذا وقع في مسند الإمام أحمد وفي جامع الأصول وجمع الفوائد، والذي في مسلم والترمذي، وشرح السنة ((لا تطيقه أو لا تستطيعه)) أي بأو للشك من الراوي، والظاهر أن ما في المشكاة سهو من الناسخ أو تبع المؤلف في ذلك صاحب جامع الأصول (أفلا قلت) أي بدل ما قلت (اللهم آتنا في الدنيا حسنة) ألخ، معناه أنه لو قال ذلك لغفر الله له ذنوبه وعافاه من المرض (قال) أي أنس (فدعا الله به) أي دعا الرجل بهذا الدعاء الجامع (فشفاه الله) وفي مسلم ((قال: فدعا الله له فشفاه)) قال النووي: في هذا الحديث النهي عن الدعاء بتعجيل العقوبة، وفيه فضل الدعاء باللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وفيه جواز التعجب بقول: سبحان الله، وقد سبقت نظائره، فيه استحباب عيادة المريض والدعاء له، وفيه كراهة تمني البلاء لئلا يتضجر منه ويسخطه وربما شكا. وأظهر الأقوال في تفسير الحسنة في الدنيا أنها العبادة والعافية، وفي الآخرة الجنة والمغفرة، وقيل: الحسنة نعم الدنيا والآخرة (رواه مسلم) في الدعوات، وأخرجه أيضًا أحمد (ج ص) ، والبخاري في الأدب المفرد (ج2 ص191) ، والترمذي في الدعوات، والبغوي (ج5 ص181، 182) وانتهت روايتهما عند قوله ((عذاب النار)) . 2527- قوله (لا ينبغي للمؤمن) أي لا يجوز له (أن يذل) بضم الياء وكسر الذال المعجمة من الإذلال (قالوا: وكيف يذل يا نفسه) وَجه استبعادهم أن الإنسان مجبول على حب إعزاز نفسه، قاله القاري. (قال: يتعرض) أي

من البلاء لما لا يطيق. رواه الترمذي، وابن ماجة، والبيهقي في شعب الإيمان، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. 2528- (23) وعن عمر رضي الله عنه قال: علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قل: اللهم اجعل سريرتي خيرًا من علانيتي، واجعل علانيتي صالحة، اللهم إني أسألك من صالح ما تؤتي الناس من الأهل، والمال، والولد غير الضال ولا المضل. رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ يتصدى (من البلاء) إما بالدعاء على نفسه به أو بأن يأتي بأسبابه العادية، وهو بيان مقدم لقوله ((لما لا يطيق)) . (رواه الترمذي، وابن ماجة) كلاهما في الفتن، (والبيهقي في شعب الإيمان) وأخرجه أيضًا أحمد (ج5 ص405) ، (وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب) في سنده عندهم علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف، وإنما حسن حديثه الترمذي لأنه صدوق عنده. 2528- قوله (علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي دعاء (قال) بيان لقوله علمني (اللهم اجعل سريرتي) هي والسر بمعنى وهو ما يكتم (خيرًا من علانيتي) بالتخفيف (واجعل علانيتي صالحة) طلب أولاً سريرة خيرًا من العلانية ثم عقب بطلب علانية صالحة لدفع توهم أن السريرة ربما تكون خيرًا من علانية غير صالحة (اللهم إني أسألك من صالح ما تؤتي الناس) قيل: من زائدة كما هو مذهب الأخفش وقوله (من الأهل والمال والولد) لبيان ما ويجوز أن تكون للتبعيض، وقوله ((من الأهل والمال)) كذا في جميع النسخ من المشكاة وهكذا في جامع الأصول، ووقع في الترمذي، ((من المال والأهل)) أي بتقديم المال على الأهل (غير الضال) أي بنفسه (ولا المضل) أي لغيره. قال الطيبي: مجرور بدل من كل واحد من الأهل والمال والولد، ويجوز أن يكون الضال بمعنى النسبة أي غير ذي ضلال (رواه الترمذي) في الدعوات عن محمد بن حميد عن علي بن أبي بكر عن الجراح بن الضحاك عن أبي شيبة عن عبد الله بن عكيم عن عمر. وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وليس إسناده بالقوي - انتهى. قلت: محمد بن حميد بن حيان ضعيف، وأبو شيبة قال في التقريب: أبو شيبة عن عبد الله بن عكيم يحتمل أن يكون أحد هؤلاء وإلا فمجهول من السادسة. والمراد بهؤلاء المكنون بأبي شيبة المذكور قبله وفيهم ثقات وضعفاء ولا يدري من هذا منهم، ولذلك ضعف الترمذي هذا الحديث.

(10) كتاب المناسك

(10) كتاب المناسك ـــــــــــــــــــــــــــــ (كتاب المناسك) أي مناسك الحج وهكذا عقد النسائي في سننه والطحاوي في شرح معاني الآثار، وهو جمع المنسك بفتح السين وكسرها وقرئ بهما في السبعة قوله تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً} (- 22: 34) وهو مصدر ميمي من نسك ينسك إذا تعبد ثم سميت أفعال الحج كلها مناسك، قاله القاري. وقال ابن جرير: أصل المنسك في كلام العرب الموضع المعتاد الذي يعتاده الرجل ويألفه لخير أو شر، يقال: إن لفلان منسكًا يعتاده، وإنما سميت مناسك الحج بذلك لتردد الناس إلى الأماكن التي تعمل فيها أعمال الحج والعمرة، وقال العيني: المناسك جمع منسك بفتح السين وكسرها وهو المتعبد ويقع على المصدر والزمان والمكان، ثم سميت أمور الحج كلها مناسك، والمنسك المذبح، وقد نسك ينسك نسكًا إذا ذبح والنسيكة الذبيحة وجمعها نسك، والنسك أيضًا الطاعة والعبادة وكل ما تقرب به إلى الله عز وجل، والنسك ما أمرت به الشريعة والورع وما نهت عنه، والناسك العابد وسئل ثعلب عن الناسك ما هو؟ فقال: هو مأخوذ من النسكية وهي سبيكة الفضة المصفاة كأن الناسك صفي نفسه لله تعالى - انتهى. والحج بفتح الحاء وكسرها لغتان قرئ بهما قوله تعالى {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} (- 3: 97) في السبع وأكثر السبعة على الفتح، وفي أمالي الهجري أكثر العرب يكسرون الحاء فقط، ونقل الطبري أن الفتح لغة أهل نجد والكسر لغيرهم. والحجة فيها لغتان أيضًا فتح الحاء وكسرها فمعناه على الفتح الفعلة من الحج، أي المرة وعلى الكسر الحالة والهيئة كالتلبية والإجابة. وقال الجوهري: والحجة بالكسر المرة الواحدة وهو من الشواذ لأن القياس بالفتح وهو مبني على اختياره أنه بالفتح الاسم. ومعنى الحج في اللغة القصد هكذا أطلقه أئمة اللغة، وقيده بعضهم بكثرة القصد إلى معظم، واستدل بقول المخبل السعدي: وأشهد من عوف حلولاً ... يحجون سب الزبرقان المزعفرا يقول: يأتونه مرة بعد أخرى لسؤدده وارجع لشرح البيت إلى هامش القرى لقاصد أم القرى (ص35) . وقيل: هو إطالة الاختلاف إلى الشيء واختاره ابن جرير، وقال الحافظ: أصل الحج في اللغة القصد. وقال الخليل: كثرة القصد إلى معظم، وفرق بعضهم بين فتح الحاء وكسرها فنقل الطبري عن حسين الجعفي أن الفتح الاسم والكسر المصدر وعن غيره عكسه. وقال النووي: الحج بالفتح هو المصدر وبالفتح والكسر جميعًا الاسم منه. وقال سيبوبه: المكسور مصدر واسم للفعل، والمفتوح مصدر فقط. وقال ابن السكيت: بفتح الحاء القصد وبالكسر القوم الحجاج، والحاج الذي يحج، وربما يظهرون التضعيف في ضرورة الشعر، قال: بكل شيخ عامًر أو حاجًج ويجمع على حجاج وحجيج وحجج بضم الحاء كبازل وبزل ونازل ونزل وعائذ وعوذ ومعناه في عرف الشرع القصد إلى زيارة البيت الحرام على وجه التعظيم في وقت مخصوص بأفعال مخصوصة كالطواف والسعي والوقوف بعرفة وغيرها

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ بإحرام، وقيل: هو زيارة مكان مخصوص وهو البيت العتيق في زمان مخصوص وهو أشهر الحج لعمل مخصوص وهو الطواف والسعي والوقوف محرمًا وهو فرض بالكتاب والسنة والإجماع وجاحده كافر عند الكل بلا نزاع، وقال الحافظ: وجوب الحج معلوم من الدين بالضرورة، وقال ابن قدامة: والأصل في وجوبه الكتاب والسنة والإجماع وأما سبب الحج فهو البيت لأنه يضاف إليه ولذا لا يجب في العمرة إلا مرة واحدة لعدم تكرار السبب، قال الحافظ: أجمعوا على أنه لا يتكرر إلا لعارض كالنذر - انتهى. وفي شرح الإقناع: وكالقضاء عند إفساد التطوع، وأما ما رواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة في مصنفيهما وأبو يعلى في مسنده وابن حبان في صحيحه والطبراني في الأوسط والبيهقي في سننه من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا ((يقول الله تبارك وتعالى: إن عبدًا صححت له جسمه وأوسعت له في رزقه يأتي عليه خمس سنين لا يفد إليَّ لمحروم)) فهو محمول على الندب يدل على ذلك حديث ابن عباس الآتي في الفصل الثاني: الحج مرة فمن زاد فهو تطوع واختلف هل هو على الفور أو التراخي فقال بالأول مالك وأحمد وأبو يوسف والمزني من أصحاب الشافعي، وقال بالثاني الشافعي والثوري والأوزاعي ومحمد بن الحسن ونقله الماوردي عن ابن عباس وأنس وجابر وعطاء وطاوس، واختلفت الرواية فيه عن أبي حنيفة قال ابن قدامة: من وجب عليه الحج وأمكنه فعله وجب عليه على الفور ولم يجز له تأخيره، أي فيأثم إن أخره بلا عذر وبهذا قال أبو حنيفة ومالك، وقال الشافعي: يجب الحج وجوباً موسعاً وله تأخيره لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمَّر أبا بكر على الحج وتخلف بالمدينة لا محاربًا ولا مشغولاً بشيء وتخلف أكثر الناس قادرين على الحج، ولأنه إذا أخره ثم فعله في السنة الأخرى لم يكن قاضيًا له دل على أن وجوبه على التراخي، ثم بسط ابن قدامة في الاستدلال على وجوبه على الفور، والجواب عما استدل به القائلون بالتراخي، وقال النووي في مناسكه: إذا وجدت شرائط الوجوب وجب على التراخي فله تأخيره ما لم يخش العضب فإن خشيه حرم عليه التأخير على الأصح، وإذا أخر فمات تبين أنه مات عاصيًا على الأصح لتفريطه، وقال الزبيدي في شرح الإحياء (ص) : اختلف فيه عند أصحابنا فقال أبو يوسف: هو في أول أوقات الإمكان فمن أخره عن العام الأول أثم، وهو أصح الروايتين عن أبي حنيفة كما في المحيط والخانية وشرح المجمع، وفي القنية أنه المختار. قال القدوري: وهو قول مشائخنا وبالتراخي قال محمد. لكن جوازه مشروط بأن لا يفوته حتى لو مات ولم يحج أثم عنده أيضًا، ووقت الحج عند الأصوليين يسمى مشكلاً لوجهين. الوجه الأول أنه يشبه المعيار، لأنه لا يصح في عام واحد إلا حج واحد، ويشبه الظرف لأن أفعاله لا تستغرق أوقاته. والوجه الثاني أن أبا يوسف لما قال بتعيين أشهر الحج من العام الأول جعله كالمعيار ومحمد لما قال بعدمه جعله كالظرف ولم يجزم كل منهما بما قال فإن أبا يوسف لو جزم بكونه معيارًا لقال من أخره عن العام الأول يكون قضاء لا أداء مع أنه لا يقول به، بل يقول إنه يكون أداء، ولقال إن التطوع في العام الأول لا يجوز مع أنه لا يقول به بل يقول إنه يجوز، وإن محمدًا لو جزم بكونه ظرفًا لقال إن من أخره عن العام الأول لا يأثم أصلاً لا في مدة حياته ولا

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ في آخر عمره مع أنه لا يقول به بل يقول: إن مات ولم يحج أثم في آخر عمره فحصل الإشكال، ثم إن القائل بالفور لا يجزم بالمعيارية، والقائل بالتراخي لم يجزم بالظرفية بل كل منهما يجوز الجهتين لكن القائل بالفور يرجح جهة المعيارية ويوجب أداءه في العام الأول حتى لو أخره عنه بلا عذر أثم لتركه الواجب لكن لو أداه في العام الثاني كان أداء لا قضاء، والقائل بالتراخي يرجح جهة الظرفية حتى لو أداه بعد العام الأول لا يأثم بالتأخير لكن لو أخره فمات ولم يحج أثم في آخر عمره، وقال بعض أصحابنا المتأخرين: والمعتمد أن الخلاف في هذه المسألة ابتدائي فأبو يوسف عمل بالاحتياط لأن الموت في سنته غير نادر فيأثم، ومحمد حكم بالتوسع لظاهر الحال في بقاء الإنسان - انتهى. قال الشوكاني في السيل الجرار (ج2 ص159) : أما الخلاف في كون الحج على الفور أو التراخي فمرجعه ما وقع في الأصول من الخلاف في صيغة الإيجاب هل هي للفور أو للتراخي، وقد دل على الفور عند الاستطاعة الأحاديث الواردة في الوعيد لمن وجد زادًا ولم يحج وهي وإن كان فيها مقال فمجموع طرقها منتهض. واستدل القائلون بالتراخي بما وقع منه - صلى الله عليه وسلم - من تأخير حجه إلى سنة عشر مع كون فرض الحج نزل في سنة خمس أو ست على خلاف في ذلك - انتهى. قلت: استدل لأحمد ومالك ومن وافقهما بقوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} (- 2: 196) والأمر يقتضي الفور، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - تعجلوا الحج يعني الفريضة فإن أحدكم لا يدرى ما يعرض له. وأخرجه أحمد، والبيهقي من حديث ابن عباس، وبما سيأتي في الفصل الثاني من حديث ابن عباس ((من أراد الحج فليعجل)) ومن حديث علي ((فلا عليه أن يموت يهوديًا أو نصرانيًا)) وفي الفصل الثالث من حديث أبي أمامة ((من لم يمنعه من الحج حاجة ظاهرة)) ألخ وبقوله صلى الله عليه وسلم ((حجوا قبل أن لا تحجوا)) الحديث أخرجه الدارقطني من حديث أبي هريرة، وارجع للجواب عن ذلك إلى القرى لقاصد أم القرى (ص 37) وإلى الفتح الرباني (ج11 ص21) وكيف ما كان الأمر التسارع إلى أدائه مطلوب والأحوط هو التعجيل للمستطيع بقدر الإمكان لأن الأجل غير معلوم وحينئذ يشكل تأخير النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجه إلى العاشرة مع فرضيته قبل ذلك سنة خمس أو ست أو سبع أو ثمان على اختلاف في ذلك والقائلون بالفور أشد احتياجًا إلى الاعتذار عن ذلك، والتخلص من هذا الإشكال وقد أجيب بأنه اختلف في الوقت الذي فرض فيه الحج على أقوال ومن جملتها أنه فرض سنة تسع حكاه النووي في الروضة وصححه القاضي عياض والقرطبي، ومنها أنه تأخر نزوله إلى أواخر تسع أو إلى سنة عشر حكاه العيني عن أمام الحرمين، وبه جزم ابن القيم في الهدي (ج1 ص180) ، وعلى هذا فلا تأخير لأنه لما فرض الحج بقوله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} (- 3: 97) في أواخر السنة التاسعة وهي سنة الوفود أو في العاشرة بادر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الحج من غير تأخير، وأما قوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} (- 2: 196) فإنه وإن نزل سنة ست عام الحديبية فليس فيه فريضة الحج وإنما فيه الأمر بإتمامه وإتمام العمرة بعد الشروع فيها وذلك لا يقتضي

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ وجوب الابتداء ولو سلم أنه فرض من قبل العاشرة سنة خمس لما وقع في قصة ضمام بن ثعلبة من ذكر الأمر بالحج وكان قدومه على ما ذكر الواقدي ومحمد بن حبيب سنة خمس، أو فرض سنة ست كما هو المشهور عند الجمهور بناء على أنها نزل فيها قوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} وأن المراد بالإتمام ابتداء الفرض لما ورد في قراءة علقمة ومسروق وإبراهيم النخعي بلفظ: ((وأقيموا)) أخرجه الطبري بأسانيد صحيحة عنهم فكان تراخيه - صلى الله عليه وسلم - لعذر مع علمه ببقاء حياته ليكمل التبليغ وسيأتي بيان العذر في ذلك والإشكال إنما هو في التراخي مع عدم العذر. قال ابن الهمام: إن تأخيره عليه الصلاة والسلام ليس يتحقق فيه تعريض الفوات وهو الموجب للفور لأنه كان يعلم أنه يعيش حتى يحج ويعلم الناس مناسكهم تكميلاً للتبليغ. قال القاري: والأظهر أنه عليه الصلاة والسلام أخره عن سنة خمس أو ست لعدم فتح مكة، وأما تأخيره عن سنة ثمان فلأجل النسيء وأما تأخيره عن سنة تسع فلما ذكرنا في رسالة مسماة بالتحقق في موقف الصديق وقال ابن رشد في مقدماته: أما قول من قال إن حجة أبي بكر كانت تطوعًا لأنه حج في ذي القعدة قبل وقت الحج على النسيء وإنه - صلى الله عليه وسلم - إنما أخر إلى عام عشر ليوقعه في وقته فليس ذلك عندي بصحيح بل حج أبي بكر في ذي القعدة هو وقته حينئذٍ شرعًا ودينًا قبل أن ينسخ النسيء ثم حج النبي في ذي الحجة من العام المقبل وأنزل الله {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} (9: 37) فنسخ ذلك النسيء ولو كان في الحج فرض في ذي الحجة ونسخ النسيء عند فرض الحج قبل حج أبي بكر لما حج أبو بكر في ذلك العام إلا في ذي الحجة ولا مكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك في ذلك العام لو شاء فيه فالصحيح أنه إنما أخر الحج في ذلك العام للعراة الذين كانوا يطوفون بالبيت من المشركين حتى يعهد إليهم في ذلك ما جاء في الحديث لا ليوقعه في ذي الحجة إذ كان قادرًا على أن يوقعه في ذلك العام في ذي الحجة - انتهى. وقال التوربشتي في شرح المصابيح: قد ذهب قوم إلى أن تأخير الحج بعد الفتح إنما كان للنسيء المذكور في كتاب الله وهو تأخير الأشهر عن مواضعها حتى عاد الحساب في الأشهر إلى أن أصله الموضع الذي بدأ الله به في أمر الزمان يوم خلق السماوات والأرض وإليه أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: إن الزمان استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض. وهذا التأويل في سنة عتاب بن أسيد (أي في سنة ثمان بعد الفتح) محتمل، وفي العام الذي بعث أبا بكر أميرًا على أهل الموسم غير المحتمل لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ليأمر بالحج في غير وقته المعلوم، وقد ذكر بعض أهل العلم بالسير أن الحج عام الفتح وقع في ذي القعدة على الحساب الذي ابتدعوه وكانوا ينسأون في كل عامين من شهر إلى شهر وكان الحج عام حجة أبي بكر الصديق رضي الله عنه في ذي الحجة على الحساب القويم وإنما وجه استينائه بالحج إلى السنة العاشرة - والله أعلم - هو أن لم يرض أن يحضر الموسم وأهل الشرك حضور هناك، لأنه لو تركهم على ما يتدينون به من هديهم المخالف لدين الحق لكان ذلك وهنًا في الدين، ولو منعهم لأفضى ذلك إلى التشاغل إلى ما أرادوه من النسك بالقتال ثم إلى استحلال حرمة الحرم، وقد كان أخبر يوم الفتح أن حرمتها عادت إلى ما كانت عليه، وأنه لم يحل له إلا ساعة من النهار فرأى أن يبعث الناس إلى الحج وينادي في أهل

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ الموسم أن لا يحج بعد العام مشرك ليكون حجه خاليًا عن العوارض التي ذكرناها، وقد ذكرنا لذلك وجوهًا غيرها في كتاب المناسك واكتفينا ها هنا بالقول الوجيز إيثارًا للاختيار - انتهى. قال الأبي المالكي في شرح صحيح مسلم: والقول بالتراخي إنما هو ما لم يخف الفوات وخوفه يكون بعلو السن وخوف تعاهد الأمراض، وعلو السن حده ابن رشد بالستين. والله أعلم. واختلف في أن الحج كان واجبًا على الأمم قبلنا أم وجوبه مختص بنا؟ قال القاري: الأظهر الثاني، واختار ابن حجر الأول مستدلاً بقوله: ((ما من نبي إلا وحج)) فهو من الشرائع القديمة، وجاء أن آدم عليه السلام حج أربعين سنة من الهند ماشيًا. قال القاري: وهذا كما ترى لا دلالة فيه على إثباته ولا على نفيه وإنما يدل على أنه مشروع فيما بين الأنبياء ولا يلزم من كونه مشروعًا أن يكون واجبًا مع أن الكلام إنما هو في الأمم قبلنا، ولا يبعد أن يكون واجبًا على الأنبياء دون أممهم، وقد صح أنه عليه الصلاة والسلام لما بلغ عسفان في حجة الوداع قال: لقد مر به هود وصالح على بكرين أحمرين خطهما الليف وأزرهم العباء وأرديتهم النمار يلبون يحجون البيت العتيق رواه أحمد - انتهى. وأما فضل الحج فمشهور قد وردت فيه النصوص الحديثية الكثيرة الصحيحة وسيأتي بعضها في الكتاب وأما حكمه وأسراره وفوائده ومصالحه المرعية فيه فهي أكثر من أن تحصى ولا يوفيها بيانًا إلا التصانيف المستقلة وقد نوه بها حكماء الإسلام وأشادوا بها في مؤلفاتهم ولنلم بنبذة منها ليقف القارئ على قُلّ من كُثر من أسرار شريعته الرشيدة وأهدافها الحميدة فيرى أن له دينًا يهدف بعبادته إلى صلاح الدين والدنيا. قال صاحب تيسير العلام شرح عمدة الأحكام: هذا المؤتمر الإسلامي العظيم وهذا الاجتماع الحاشد فيه من المنافع الدينية والدنيوية والثقافية والاجتماعية والسياسية ما يفوت الحصر والعد، أما الدينية فما يقوم به الحاج من هذه العبادة الجليلة التي تشتمل على أنواع من التذلل والخضوع بين يدي الله تعالى فمنها تقحم الأسفار وإنفاق الأموال والخروج من ملاذ الحياة بخلع الثياب واستبدالها بإزار ورداء حاسر الرأس وترك الطيب والنساء وترك الترفة بأخذ الشعور والأظفار ثم التنفل بين هذه المشاعر. كل هذا بقلوب خاشعة وأعين دامعة وألسنة مكبرة ملبية قد حدا بهم الشوق إلى بيت ربهم ناسين في سبيل ذلك الأهل والأوطان والأموال والنفس النفيس. وأما الثقافية فقد أمر الله بالسير في الأرض للاستبصار والاعتبار ففيه من معرفة أحوال الناس والاتصال بهم والتعرف على شئون الوفود التي تمثل أصقاع العالم كله ما يزيد الإنسان بصيرة وعلمًا إذا تحاك بعلمائهم واتصل بنبهائهم فيجد لكل علم وفن طائفة تمثله. وأما الاجتماعية والسياسية فإن الحج مؤتمر عظيم يضم وفودًا متنوعة العلوم مختلفة الثقافات متباينة الاتجاهات والنزعات فإذا كل حزب بحزبه وطائفة بشبيهتها ومثلوا ((لجان الحكومة الواحدة)) ودرسوا وضعهم الغابر والحاضر والمستقبل. ورأوا ما الذي أخرهم وما الذي يقدمهم وما هي أسباب الفرقة بينهم وما أسباب الائتلاف والاجتماع وتوحيد الكلمة؟ وبحثوا شئونهم الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ على أساس المحبة والوئام وبروح الوحدة والالتئام وأصبحوا يدًا واحدة ضد عدوهم وقوة مرهوبة في وجه المعتدي عليهم وبهذا يصير لهم كيان مستقل خاص له مميزاته وأهدافه ومقاصده يسمع صوته ويصغى إلى كلمته ويحسب له ألف حساب وبهذا يعود للمسلمين عزهم ويرجع إليهم سؤددهم ويبنون دولة إسلامية دستورها كتاب الله وسنة رسوله وشعارها العدل والمساواة وهدفها الصالح العام وغايتها الأمن والسلام حينئذٍ تتجه إليهم أنظار الدنيا وتسلم الزمام بأيديهم فيقوضون مجالس بنيت على الظلم والبغي ويبنون على أنقاضها العدل والإحسان وبهذا يقر السلام ويستتب الأمن وتتجه المصانع النهوج التي تصنع للموت الذريع أسلحة الدمار والخراب إلى أن تخترع المعدات التي تساعد على التثمير والتصنيع وإخراج خيرات الأرض فتحقق حكمة الله بخلقه حيث يحل الخصب والرخاء والأمن والسلام، مكان الجدب والغلاء والخوف والدماء، وإذا علم المسلم المؤمن ثمرات هذه الاجتماعيات الإسلامية فهم جيدًا أن له دينًا عظيمًا جليل القدر يقصد منها بعد عبادة الله صلاح الكون واتساقه لأن الاجتماع هو أعظم وسيلة لجمع الأمة وتوحيد الكلمة، ولذا فإنه عني بالاجتماعات عناية عظيمة تحقيقًا للمقاصد الكريمة، ففرض على أهل المحلة الاجتماع في مسجدهم كل يوم خمس مرات، وفرض على أهل البلد عامة الاجتماع للجمعة في كل أسبوع، وفرض على المسلمين الاجتماع في كل عام - انتهى. وقال الشيخ مصطفى السقاء في مقدمته على القرى لقاصد أم القرى: لفريضة الحج من الفضائل النفسية والاجتماعية ما لا يخفى على المتأمل فمن أول تلك الفضائل تعظيم ذلك البيت المقدس وعمارته إذ هو الرمز الباقي لقيام ديانة التوحيد في الأرض، وخلاص الإنسان من فوضى الوثنية والنحل الزائغة الضالة {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} (3: 96) ومن ذلك تعمير الأرض المقدسة التي حضنت ذلك الدين الجديد دين التوحيد إلى أن ترعرع وقوى، ونما وانتشر وقضى على الأوثان والأصنام في جزيرة العرب أولاً، فلولا هذه البيئة البعيدة عن معترك الحياة الصاخبة بتيارات المدنيات وغطرسة الملوك والجبابرة لم يتح لهذا الدين أن ينمو ويذيع، وحسبنا دليلاً على هذا ما لقيه إبراهيم من اضطهاد بين قومه وعشيرته حتى اضطروا إلى الهجرة بدينه من بلاده، والآية الكريمة {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (14: 37) مفصحة بهذا المعنى أي إفصاح. ثم بسط في ذكر المنافع السياسية والاجتماعية بنحو ما تقدم، ثم قال: أما الفائدة التهذيبية التي يجنيها الحاج من رحلته فهي رياضة النفس وتذليلها فإن أعمال الحج منذ يشرع الحاج في توجيه النية والنطق بالتلبية تدخل في نفسه شعورًا قلبيًا بالقرب من الله ولا يزال هذا الشعور ينمو ويزيد كلما اقترب من الأماكن المقدسة حتى إذا حل تلك الرحاب النضرة والساحات المطهرة وانغمس في أداء الأعمال شعر بسمو روحي وفيض إلهي يدب في نفسه وينتقل

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ به من حال إلى حال حتى ينتهي إلى احتقار سلطان المادة وتأثيره في النفس، وهذا الفيض الشعوري تمتزج فيه العناصر الروحية بعضها ببعض وتتجاوب في النفس وتتبين آثارها في الإرادة والعمل من تعظيم للدين وحب شديد للرسول الأكرم - صلى الله عليه وسلم - والسلف الصالح من الأمة وغيرة على المجتمع الإسلامي ورغبة في إسعاده، ومن ندم على ما سبق من التفريط في جنب الله ورغبة في استدراك ما فات في أزمان الغفلة وغرة الشباب من الطاعات والقربات وهذه الرياضة النفسية هي ثمرة الحج الكبرى حتى إذا انتهت أعماله وعاد الحاج إلى وطنه وأهله لم يفارقه ذلك الشعور الرباني ولا ريب أن كثيرًا ممن حجوا مخلصين لله تتأثر حياتهم بذلك الشعور الفياض الذي كسبوه في أثناء ارتحالهم في الأراضي المقدسة وتلمح في أخلاقهم الاستقامة والإقلاع عن كثير من المساوي التي كانت تشوب حياتهم قبل الحج ومثل هذا يسمى الحج المبرور الذي يتقبله الله ويعظم الثواب عليه، كما جاء في الحديث. ثم ذكر ما يحصل في هذا السفر الطويل الشاق من فائدة تعويد المسافر خلال تلك الرحلة احتمال كثير من المشقات بالتنقل المستمر لأداء المناسك ونقل الأمتعة والأزواد ونصب الخيام أو تقويضها وإعداد الرواحل أو السيارات وغير ذلك من الأعمال الشاقة، ثم قال: وبعض الحجاج يلتمسون مع أداء فريضة الحج في هذا الموسم ضروبًا من النفع المادي فينقلون المتاجر من شتى البلاد إلى الحجاز ويبيعونها هناك ويتزودون لبلادهم وأهليهم من طرائف الحجاز ومما يحمله إليه الناس من سائر البقاع والأصقاع، وليس هذا العمل محرمًا في الدين تقول الآية الكريمة {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} (2: 198) وتقول آية أخرى {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (22: 27، 28) ومن هذه المنافع التجارة التي يقوم عليها الموسم ويمكن أن تجعل البلاد المقدسة سوقًا إسلامية للتجارة (بدل أن تكون سوقًا تجارية لمصنوعات: أوربا، وروسيا، وأمريكا،، واليابان، والصين. وغير ذلك من بلاد الشرق والغرب) كما كانت في القرون الإسلامية الأولى سوقًا من أعظم الأسواق بين الممالك الإسلامية الشرقية والغربية ومن أعظم الأسباب لنشر الحضارة والثقافة في أحقاب طويلة، فقد كان التجار يتحينون موسم الحج لينقلوا حاصلات بلادهم وثمرات اجتهادهم إلى مكة والمدينة حيث يجتمع العديد الأكبر فيقبل الناس على اقتناء الطرف والنفائس من الثياب والحلي والطنافس والأواني النحاسية وأنواع الطيب ونحو ذلك ويتخذون منها الهدايا للأهل والأصحاب، وكان العلماء وأصحاب الفنون يلتقون في الموسم فيأخذ بعضهم عن بعض ويتبادلون الكتب والآثار العلمية والفنية وخاصة علماء الحديث الذين يجدون في هذا الموسم أحسن الفرص للرواية والإجازة وكان هذا التبادل التجاري والثقافي في جميع مظاهره من أحسن الوسائل لتعميم الحضارة وبعث روح التنافس الجدي بين المسلمين في الممالك والأقطار المختلفة - انتهى. وقال الشاه ولي الله الدهلوي في حجة الله البالغة (ج2: ص42) : المصالح المرعية في الحج أمور منها تعظيم البيت فإنه من شعائر الله وتعظيمه هو تعظيم الله تعالى ومنها تحقيق معنى العرضة فإن لكل دولة أو ملة اجتماعًا يتوارده الأقاصي والأداني ليعرف فيه بعضهم بعضًا ويستفيدوا أحكام

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ الملة ويعظموا شعائرها، والحج عرضة المسلمين وظهور شوكتهم واجتماع جنودهم وتنويه ملتهم وهو قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً} (2: 125) ومنها موافقة ما توارث الناس عن سيدنا إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام فإنهما إمامًا الملة الحنيفية ومشرعاها للعرب والنبي - صلى الله عليه وسلم - بعث لتظهر به الملة الحنيفية وتعلو به كلمتها وهو قوله تعالى: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} (22: 78) فمن الواجب المحافظة على ما استفاض عن إماميها كخصال الفطرة ومناسك الحج وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: قفوا على مشاعركم فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم ومنها الاصطلاح على حال يتحقق بها الرفق لعامتهم وخاصتهم كنزول منى والمبيت بمزدلفة فإنه لو لم يصطلح على مثل هذا لشق عليهم ولو لم يسجل عليه لم تجتمع كلمتهم عليه مع كثرتهم وانتشارهم. ومنها الأعمال التي تعلن بأن صاحبها موحد تابع للحق متدين بالملة الحنيفية شاكر لله على ما أنعم على أوائل هذه الملة كالسعي بين الصفا والمروة، ومنها أن أهل الجاهلية كانوا يحجون وكان الحج أصل دينهم ولكنهم خلطوا أعمالاً ما هي مأثورة عن إبراهيم عليه السلام وإنما هي اختلاق منهم وفيها إشراك لغير الله كتعظيم أساف ونائله وكالإهلال لمناة الطاغية وكقولهم في التلبية: لا شريك لك إلا شريكًا هو لك، ومن حق هذه الأعمال أن ينهي عنها ويؤكد في ذلك، وأعمالاً انتحلوها فخرًا وعجبًا كقول حمس: نحن قطان الله فلا نخرج من حرم الله فنزل: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} ومنها أنهم ابتدعوا قياسات فاسدة هي من باب التعمق في الدين، وفيها حرج للناس ومن حقها أن تنسخ وتهجر كقولهم: يجتنب المحرم دخول البيوت من أبوابها وكانوا يستورون من ظهورها ظنًا منهم أن الدخول من الباب ارتفاق ينافي هيئة الإحرام فنزل: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا} (2: 189) وككراهيتهم في التجارة موسم الحج ظنًا منهم أنها تخل بإخلاص العمل لله فنزل: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} (2: 198) وكاستحبابهم أن يحجوا بلا زاد ويقولون: نحن المتوكلون وكانوا يضيقون على الناس ويعتدون فنزل: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (2: 197) انتهى باختصار يسير. قلت: شرع الحج لجميع هذه الفوائد والمصالح المذكورة وغيرها مما نعلم منها الكثير ونجهل منها الكثير، وربما كان ما نجهله ونتمتع به أكثر مما نعرفه فقد قال الله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (22: 28) فأطلق المنافع ونكرها وأبهمها ودل هذا التعبير البليغ على كثرتها وتنوعها وتجددها في كل زمان وأنها أكثر من أن يأتي عليها الإحصاء والاستقصاء ويحيطها المحيطون ولكن من أوضح ملامح الحج والروح المسيطرة على جميع أعماله ومناسكه هو الحب والهيام والوله والتفاني وإعطاء زمام الجسم والفكر للقلب والعاطفة وتقليد العشاق والمحبين إمامهم وزعيمهم إبراهيم الخليل فحينًا طواف الحب والهيام حول البيت الحرام وحينًا تقبيل الحجر الأسود والاستلام وحينًا سعى بين غايتين وتقليد ومحاكاة للأم الحنون حتى في تؤدتها ووقارها وفي جريها وهرولتها. ثم قصد لمنى في يوم معين هو يوم التروية، ثم قصد

(الفصل الأول)

(الفصل الأول) 2529- (1) عن أبي هريرة، قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى عرفات ووقوف بساحتها ودعاء وابتهال ثم بيتوتة في المزدلفة وعودة إلى منى فرمي ونحر وحلق اقتداء بسنة إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم قلت: وزعم بعض المتنورين أن الحج مؤتمر سياسي ثقافي فحسب وليس كذلك فإنه لو كانت هذه هي الحكمة التي شرع لها الحج استقرار وساده جو من الهدوء يساعد على ذلك ولكنه اضطراب وانتقال من مكان إلى مكان ومن نسك إلى نسك، ولكانت دعوة مقصورة على العلماء والزعماء والأذكياء والنبهاء وعلى الخاصة من المسلمين، إنها لا شك ثمرة من ثمرات الحج ولكن ليست هي الغاية التي شرعت لها هذه الفريضة العظيمة وفرضت على المسلمين فقال: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (3: 97) وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من ملك زادًا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديًا أو نصرانيًا. ولكان له وضع غير هذا الوضع ومكان غير هذا المكان القاحل النائي، إنه عبادة ونسك، وطاعة وانقياد وحب وهيام واتصال بمؤسس هذه الملة وتجديد العهد بالمركز الروحي والمنبع الأصيل وتقليد للمحبين وتمثيل لما جرى لهم وتذكير للرحيل من دار الفناء إلى دار القرار والبقاء ويتبع ذلك فوائد وحكم وأسرار لا يحصيها إلا الله، وقد تقدمت الإشارة إلى شيء منها. 2529- قوله (خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) ، أي خطب لنا عام فرض الحج فيه أو ذكر لنا أثناء خطبة له. قال الأبي: يمنع أن يكون هذه الخطبة في الحج لأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما حج في العاشرة وفرض الحج كان سابقًا، قيل سنة خمس وقيل تسع إلا أن يكون قاله أيضًا في حجة الوداع (قد فرض) بصيغة المجهول (فحجوا) بضم الحاء المهملة صيغة الأمر (فقال رجل) هو الأقرع بن حابس كما في حديث ابن عباس أول أحاديث الفصل الثاني (أكل عام؟) بالنصب لمقدر، أي أتأمرنا أن نحج كل عام؟ أو أفرض علينا أن نحج كل عام؟ وفي النسائي: فقال رجل: في كل عام؟ أي هو مفروض على كل إنسان مكلف في كل سنة أو هو مفروض عليه مرة واحدة؟ قال النووي: واختلف الأصوليون في أن الأمر هل يقتضي التكرار؟ والصحيح عند أصحابنا لا يقتضيه، والثاني يقتضيه، والثالث يتوقف فيما زاد على مرة على البيان فلا يحكم باقتضاءه ولا بمنعه، وهذا الحديث قد يستدل به من يقول بالتوقف لأنه سأل فقال أكل عام؟ ولو كان مطلقه يقتضي التكرار أو عدمه لم يسأل ولقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا حاجة إلى السؤال بل مطلقه محمول على كذا وقد يجيب الآخرون عنه بأنه سأل استظهارًا واحتياطًا، وقوله: ذروني ما تركتكم، ظاهر في أنه لا يقتضي التكرار. قال المازري: ويحتمل أنه

فسكت حتى قالها ثلاثًا، فقال: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم. ثم قال: ذروني ما تركتم ـــــــــــــــــــــــــــــ إنما احتمل التكرار عنده من وجه آخر، لأن الحج في اللغة قصد فيه تكرار فاحتمل عنده التكرار من جهة الاشتقاق لا من مطلق الأمر - انتهى. قال القاري بعد ذكر هذا الاحتمال بلفظة قيل: والأظهر أن مبني السؤال قياسه على سائر الأعمال من الصلاة والصوم وزكاة الأموال ولم يدر أن تكراره كل عام بالنسبة إلى جميع المكلفين من جملة المحال كما لا يخفى (فسكت) ، أي عن جوابه (حتى قالها) ، أي قال الرجل السائل الكلمة التي تكلمها (ثلاثًا) قال التوربشتي: إنما سكت زجرًا له عن السؤال الذي كان السكوت عنه أولى لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما بعث لبيان الشريعة فلم يكن ليسكت عن بيان أمر علم أن بالأمة حاجة إلى الكشف عنه، فالسؤال عن مثله تقدم بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد نهوا عنه، والإقدام عليه ضرب من الجهل وشر فيه احتمال أن يعاقبوا بزيادة التكليف، وإليه أشار - صلى الله عليه وسلم - بقوله ((لو قلت نعم لوجبت)) قال القاري: ثم لما رآه - صلى الله عليه وسلم - لا ينزجر ولا يقنع إلا بالجواب الصريح صرح به (فقال لو قلت نعم) ، أي فرضًا وتقديرًا، ولا يبعد أن يكون سكوته عليه الصلاة والسلام انتظار للوحي أو الإلهام. وقال السندي: وهذا بظاهره يقتضي أن أمر افتراض الحج كل عام كان مفوضًا إليه حتى لو قال نعم لحصل وليس بمستبعد إذ يجوز أن يأمر الله تعالى بالإطلاق ويفوض أمر التقييد إلى الذي فوض إليه البيان فهو إن أراد أن يبقيه على الإطلاق يبقيه عليه وإن أراد أن يقيده بكل عام يقيده به، ثم فيه إشارة إلى كراهة السؤال في النصوص المطلقة والتفتيش عن قيودها بل ينبغي العمل على إطلاقها حتى يظهر فيها قيد، وقد جاء القرآن موافقًا لهذه الكراهة - انتهى. وقال الحافظ: استدل به على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان له أن يجتهد في الأحكام لقوله: ((لو قلت: نعم لوجبت)) ولا يشترط في حكمه أن يكون بوحي، وأجاب من منع باحتمال أن يكون أوحي إليه ذلك في الحال (لوجبت) ، أي هذه العبادة أو فريضة الحج المدلول عليها بقوله فرض، أو الحجة كل عام أو حجج كثيرة على كل أحد (ولما استطعتم) ، أي وما قدرتم كلكم إتيان الحج في كل عام، {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (ذروني) ، وفي رواية البخاري ((دعوني)) ، قال السندي: أي اتركوني من السؤال عن القيود في المطلقات. قال في القاموس: ذره، أي دعه، يذره تركًا ولا تقل وذرًا وأصله وذره يذره كوسعه يسعه لكن ما نطقوا بماضيه ولا بمصدره ولا باسم الفاعل، أو قيل وذرته شاذًا (ما تركتكم) ، أي لأني مبعوث لبيان الشرائع وتبليغ الأحكام، فما كان مشروعًا أبينه لكم لا محالة ولا حاجة إلى السؤال. قال السندي: ما مصدرية ظرفية، أي مدة تركي إياكم عن التكليف بالقيود فيها، وليس المراد لا تطلبوا مني العلم ما دام لا أبين لكم بنفسي - انتهى. وقال الحافظ: قوله ((ما تركتكم)) ، أي مدة تركي إياكم بغير أمر بشيء ولا نهي عن شيء وإنما غاير بين اللفظين لأنهم أماتوا الماضي واسم الفاعل منهما واسم مفعولهما وأثبتوا الفعل المضارع وهو يذر، وفعل الأمر وهو ذر ومثله دع ويدع ولكن سمع ودع كما قرئ به في الشاذ في قوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} (93: 3) وقال الشاعر:

فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم ـــــــــــــــــــــــــــــ ونحن ودعنا آل عمرو بن عامر ... فرائس أطراف المثقفة السمر ويحتمل أن يكون ذكر ذلك على سبيل التفنن في العبارة وإلا لقال: اتركوني. قال: والمراد بهذا الأمر ترك السؤال عن شيء لم يقع خشية أن ينزل به وجوبه أو تحريمه وعن كثرة السؤال لما فيه غالبًا من التعنت وخشية أن تقع الإجابة بأمر يستثقل فقد يؤدي لترك الامتثال فتقع المخالفة. قال ابن فرج: معنى قوله ((ذروني ما تركتكم)) لا تكثروا من الاستفسار عن المواضع التي تكون مفيدة لوجه ما ظهر ولو كانت صالحة لغيره، كما أن قوله ((حجوا)) وإن كان صالحًا للتكرار فينبغي أن يكتفي بما يصدق عليه اللفظ وهو المرة فإن الأصل عدم الزيادة ولا تكثروا التنقيب عن ذلك لأنه قد يفضي إلى مثل ما وقع لبني إسرائيل إذ أمروا أن يذبحوا البقرة فلو ذبحوا، أي بقرة كانت لامتثلوا ولكنهم شددوا فشدد عليهم وبهذا تظهر مناسبة قوله: ((فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم)) بقوله: ((ذروني ما تركتكم)) قال النووي: وهو دليل على أن لا حكم قبل ورود الشرع، وأن الأصل في الأشياء عدم الوجوب وهذا هو الصحيح عند محققي الأصوليين. (فإنما هلك من كان قبلكم) ، أي من اليهود والنصارى، (بكثرة سؤالهم) كسؤال الرؤية والكلام وقضية البقرة. قال الأبي: وفيه مرجوحية كثرة السؤال، ومنه ما اتفق لأسد بن الفرات مع مالك حين أكثر السؤال بقوله: فإن كان كذا، فإن كان كذا؟ فقال له مالك: هذه سلسلة بنت أخرى، إن أردت هذا فعليك بأهل العراق، إلا أن يقال لا يلزم من المنع هنا المنع في غيره لما أشار إليه - صلى الله عليه وسلم - من أنه في مقام التشريع فخاف الافتراض فيما يشق ولا يقدر عليه - انتهى. وقال الحافظ: استدل به على النهى عن كثرة المسائل والتعمق في ذلك. قال البغوي: في شرح السنة: المسائل على وجهين: أحدهما: ما كان على وجه التعليم لما يحتاج إليه من أمر الدين فهو جائز بل مأمور به لقوله تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ} (16: 45. و 21، 6) الآية، وعلى ذلك تنزل أسئلة الصحابة عن الأنفال والكلالة وغيرهما، ثانيهما: ما كان على وجه التعنت والتكلف، وهو المراد في هذا الحديث والله أعلم. ويؤيده ورود الزجر في الحديث عن ذلك وذم السلف، فعند أحمد من حديث معاوية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الأغلوطات. قال الأوزاعي: هي شداد المسائل، وقال الأوزاعي أيضًا: إن الله إذا أراد أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على لسانه المغاليط فلقد رأيتهم أقل الناس علمًا. وقال ابن وهب: سمعت مالكًا يقول: المراء في العلم يذهب بنور العلم من قلب الرجل. وقال ابن العربي: كان النهي عن السؤال في العهد النبوي خشية أن ينزل ما يشق عليهم فأما بعد فقد أمن ذلك لكن أكثر النقل عن السلف بكراهة الكلام في المسائل التي لم تقع. قال: وإنه لمكروه إن لم يكن حرامًا إلا للعلماء فإنهم فرعوا ومهدوا فنفع الله من بعدهم بذلك ولا سيما مع ذهاب العلماء ودروس العلم - انتهى ملخصًا. وينبغي أن يكون محل الكراهة للعالم إذا شغله ذلك عما هو أهم منه وكان ينبغي تلخيص ما يكثر وقوعه مجردًا عما يندر ولا سيما في المختصرات ليسهل تناوله والله المستعان – انتهى كلام الحافظ.

واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، ـــــــــــــــــــــــــــــ (واختلافهم) عطف على كثرة السؤال لا السؤال، إذ الاختلاف وإن قل يؤدي إلى الهلاك، ويحتمل أنه عطف على سؤالهم هو إخبار عمن تقدم بأنه كثر اختلافهم في الواقع فأداهم إلى الهلاك وهو لا ينافي أن القليل من الاختلاف مؤد إلى الفساد، قاله السندي (على أنبيائهم) ، يعني إذا أمرهم الأنبياء بعد السؤال أو قبله اختلفوا عليهم فهلكوا واستحقوا الإهلاك. قال الأبي: قوله ((واختلافهم على أنبيائهم)) هو زيادة على ما وقع فإن الذي وقع إنما هو إلحاح في السؤال لا الاختلاف (فإذا أمرتكم بشيء) ، أي من الفرائض وفي رواية بأمر: (فأتوا منه ما استطعتم) ، أي افعلوا قدر استطاعتكم. قال السندي: يريد أن الأمر المطلق لا يقتضي دوام الفعل وإنما يقتضي جنس المأمور به وأنه طاعة مطلوبة ينبغي أن يأتي كل إنسان منه على قدر طاقته، وأما النهي فيقتضي دوام الترك - انتهى. وقال: في اللمعات قوله: ((فأتوا منه ما استطعتم)) يجوز أن يكون تأكيدًا ومبالغة في إتيان ما أمر به وبذل الطاقة فيه، وأن يكون إشارة إلى التيسير ورفع الحرج كما في الصلاة وأركانها وشرائطها إذا عجز عن بعضها أتى بما استطاع، وهذا الأمر وأما في النهي فينبغي أن يحتاط في تركه ويبذل المجهود بالغًا ما بلغ. وقال النووي: هذا من قواعد الإسلام المهمة ومن جوامع الكلم التي أعطيها - صلى الله عليه وسلم - ويدخل فيه ما لا يحصى من الأحكام كالصلاة بأنواعها، فإذا عجز عن بعض أركانها أو بعض شروطها أتى بالباقي، وإذا عجز عن بعض أعضاء الوضوء أو الغسل غسل الممكن، وإذا وجد بعض ما يكفيه من الماء لطهارته أو لغسل النجاسة فعل الممكن، وأشباه هذا غير منحصرة، وأما قوله: ((وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه)) فهو على إطلاقه، فإن وجد عذر يبيحه كأكل الميتة عند الضرورة أو شرب الخمر عند الإكراه أو التلفظ بكلمة الكفر إذا أكره ونحو ذلك، فهذا ليس منهيًا عنه في هذا الحال. قال وهذا الحديث موافق لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (64: 16) وأما قوله تعالى: {حَقَّ تُقَاتِهِ} ففيها مذهبان: أحدهما: أنها منسوخة بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} والثاني وهو الصحيح أو الصواب وبه جزم المحققون: أنها ليست منسوخة بل قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} مفسرة لها ومبينة للمراد بها. قالوا: و {حَقَّ تُقَاتِهِ} هو امتثال أمره واجتناب نهيه، أي مع القدرة لا مع العجز ولم يأمر الله تعالى إلا بالمستطاع. قال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (2: 286) انتهى. قال الحافظ: في الحديث إشارة إلى الاشتغال بالأهم المحتاج إليه عاجلاً عما لا يحتاج إليه في الحال فكأنه قال: عليكم بفعل الأوامر واجتناب النواهي فاجعلوا اشتغالكم بها عوضًا عن الاشتغال بالسؤال عما لم يقع فينبغي للمسلم أن يبحث عما جاء عن الله ورسوله ثم يجتهد في تفهم ذلك والوقوف على المراد به ثم يتشاغل بالعمل به، فإن كان من العمليات يتشاغل بتصديقه واعتقاد حقيته، وإن كان من العمليات بذل وسعه في القيام به فعلاً وتركًا فإن وجد وقتًا زائدًا على ذلك فلا بأس أن يصرفه في الاشتغال بتعرف حكم ما سيقع على قصد العمل به إن لو وقع، فأما إن كانت

وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه. رواه مسلم. 2530- (2) وعنه قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله. ـــــــــــــــــــــــــــــ الهمة مصروفة عند سماع الأمر والنهي إلى فرض أمور قد تقع وقد لا تقع مع الإعراض عن القيام بمقتضي ما سمع فإن هذا مما يدخل في النهي فالتفقه في الدين إنما يحمد إذا كان للعمل لا للمراء والجدل وسيأتي بسط ذلك قريبًا، أي في باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه من كتاب الاعتصام - انتهى. (وإذا نهيتكم عن شيء) ، أي من المحرمات (فدعوه) ، أي اتركوه كله، قال الحافظ: استدل بهذا الحديث على أن اعتناء الشرع بالمنهيات فوق اعتناءه بالمأمورات لأنه أطلق الاجتناب في المنهيات، ولو مع المشقة في الترك، وقيد في المأمورات بقدر الطاقة، وهذا منقول عن الإمام أحمد. فإن قيل: إن الاستطاعة معتبرة في النهي أيضًا إذا لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا فجوابه أن الاستطاعة تطلق باعتبارين كذا قيل. والذي يظهر أن التقييد في الأمر بالاستطاعة لا يدل على المدعي من الاعتناء به بل هو من جهة الكف إذ كل أحد قادر على الكف لولا داعية الشهوة مثلاً، فلا يتصور عدم الاستطاعة عن الكف بل كل مكلف قادر على الترك بخلاف الفعل، فإن العجز عن تعاطيه محسوس، فمن ثم قيد في الأمر بالاستطاعة دون النهي، وادعى بعضهم أن قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} يتناول امتثال المأمور واجتناب المنهي، وقد قيد بالاستطاعة واستويا فحينئذٍ يكون الحكمة في تقييد الحديث بالاستطاعة في جانب الأمر دون النهي أن العجز يكثر تصوره في الأمر بخلاف النهي فإن تصور العجز فيه محصور في الاضطرار - انتهى (رواه مسلم) في الحج من طريق محمد بن زياد عن أبي هريرة، وكذا النسائي، وأحمد، وابن حبان، والطبري، والبيهقي (ج4: ص326) ، والدارقطني، وفي الباب عن ابن عباس، وسيأتي في الفصل الثاني، وعن علي عند الترمذي، وعن أبي أمامة عند الطبري، وعن أنس عند ابن ماجة، والحديث رواه البخاري من طريق آخر مختصرًا. أي من غير ذكر السبب في باب الإقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كتاب الاعتصام، ومسلم أيضًا في الفضائل، وأحمد (ج2: ص312) ، والترمذي في العلم، وابن ماجة في السنة. 2530- قوله (سئل) بالبناء للمفعول، أبهم السائل وهو أبو ذر الغفاري وحديثه في العتق عند البخاري، (أي العمل) ، وفي رواية أي الأعمال وهو مبتدأ خبره (أفضل) ، أي أكثر ثوابًا عند الله تعالى (قال) ، أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو (إيمان بالله ورسوله) نكر الإيمان ليشعر بالتعظيم والتفخيم، أي التصديق المقارن بالإخلاص المستتبع للأعمال الصالحة قال النووي: فيه تصريح بأن العمل يطلق على الإيمان والمراد به - والله أعلم - الإيمان الذي يدخل به في ملة الإسلام وهو التصديق بقلبه والنطق بالشهادتين، فالتصديق عمل القلب والنطق عمل اللسان ولا يدخل في الإيمان هنا الأعمال بسائر الجوارح: كالصوم، والصلاة، والحج، والجهاد وغيرها. لكونه جعل قسيمًا للجهاد والحج، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: إيمان بالله

قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله. قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور. ـــــــــــــــــــــــــــــ ورسوله. ولا يقال هذا في الأعمال ولا يمنع من تسمية الأعمال المذكورة إيمانًا فقد قدمنا دلائله - انتهى (قيل) القائل هو السائل في الأول (ثم ماذا؟) كلمة ثم للعطف مع الترتيب الذكرى، وما مبتدأ وذا خبره والمعنى ثم، أي شيء أفضل بعد الإيمان بالله ورسوله؟ (قال الجهاد في سبيل الله) ، أي قتال الكفار لإعلاء كلمة الله، (قيل ثم ماذا؟) أفضل (قال: حج مبرور) ، أي مقبول من البر وهو القبول ومن علامات القبول أن يزداد بعده خيرًا، أي يكون حاله بعد الرجوع خيرًا مما قبله ولا يعاود المعاصي، وهو مفعول من بر المتعدي يقال: بر الله حجه، أي قبله ويبني للمفعول. فيقال بر حجه فهو مبرور ويستعمل لازمًا. فيقال بر حجه، ويقال أيضًا أبر الله حجه إبراًر، قال الجزري: يقال بر حجه وبر حجه وبر الله حجه، وأبره برًا بالكسر في الجميع وإبرارًا، وقيل: المبرور المقابل بالبر وهو الثواب، وقيل: هو الذي لا رياء فيه ولا سمعة، وقيل: الذي لا يعقبه معصية، وقيل: هو الذي لا يخالطه شيء من المأثم مأخوذ من البر وهو الطاعة، ومنه برت يمينه إذا سلم من الحنث وبر بيعه إذا سلم من الخداع ورجح هذا المعنى النووي. وقال القرطبي: الأقوال التي ذكرت في تفسيره متقاربة المعنى، وهي أنه الحج الذي وفيت أحكامه فوقع موقعًا لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل، ولأحمد والحاكم من حديث جابر قالوا: يا رسول الله ما بر الحج؟ قال: إطعام الطعام وإفشاء السلام. قال في الفتح: وفي إسناده ضعف، ولو ثبت كان هو المتعين دون غيره - انتهى. قلت حديث جابر هذا قال الحاكم: إنه صحيح الإسناد ولم يخرجاه لأنه لم يحتجا بأيوب بن سويد لكنه حديث له شواهد كثيرة. وقال الذهبي في تلخيصه: صحيح. وحسن سنده المنذري في الترغيب، والهيثمي في مجمع الزوائد، ولفظ الطبراني ((إطعام الطعام وطيب الكلام)) . قيل المراد أن هذه الخصال من علامات الحج المبرور وليست علاماته قاصرة على هذه، والظاهر أنه - صلى الله عليه وسلم - أجاب السائل بذلك لكونه رأى منه التقصير في هذه الخصال لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجيب كل إنسان على حسب حاله ثم إنه عرف الجهاد باللام دون الإيمان والحج لأن المعرف بلام الجنس كالنكرة في المعنى فيوافق تنكير قسيميه. وقيل لأن الإيمان والحج لا يتكرر وجوبهما فناسبهما التنكير ليدل على الإفراد الشخصي بخلاف الجهاد فإنه قد يتكرر فعرف والتعريف للكمال إذ الجهاد لو أتى به مرة مع الاحتياج إلى التكرار لما كان أفضل كذا قيل. وقد تعقبه الحافظ في الفتح واعترضه العيني حسب عادته بما لا طائل تحته. قال الحافظ: وقع في مسند الحارث بن أبي أسامة ((ثم جهاد)) ، أي بالتنكير فقد ظهر من هذه الرواية أن التنكير والتعريف فيه من تصرف الرواة لأن مخرجه واحد فالإطالة في طلب الفرق في مثل هذا غير طائلة ثم أنه قدم الجهاد على الحج مع أنه فرض كفاية، والحج فرض عين وذلك لأنه كان أول الإسلام ومحاربة أعداءه والجد في إظهاره، وقيل: هو محمول على الجهاد في وقت الزحف الملجئ والنفير العام فإنه حينئذ يجب الجهاد

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ على الجميع. وإذا كان هكذا فالجهاد أولى بالتحريض والتقديم من الحج لأنه يكون حينئذٍ فرض عين ووقوعه فرض عين إذ ذاك متكرر فكان أهم منه. وقيل: قدم لأن نفع الجهاد متعد لما فيه من المصلحة العامة للمسلمين مع بذل النفس فيه بخلاف الحج فيهما، لأن نفعه قاصر ولا يكون فيه بذل النفس. وقيل ((ثم)) ها هنا للترتيب في الذكر كقوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} (90: 17) فإنه من المعلوم أنه ليس المراد ها هنا الترتيب في الفعل وفي الحديث دليل على أن الإيمان بالله ورسوله أفضل من الجهاد والجهاد أفضل من الحج، وقد اختلفت الأحاديث المشتملة على بيان فاضل الأعمال من مفضولها فتارة تجعل الأفضل الإيمان كما في الحديث الذي نحن في شرحه، وتارة الصلاة لوقتها كما في حديث ابن مسعود، وتارة إطعام الطعام وقراءة السلام كما في حديث ابن عمرو، وتارة السلامة من اليد واللسان كما في حديث أبي موسى، وتارة الجهاد كما في حديث أبي سعيد، وتارة ذكر الله كما في حديث أبي الرداء، وتارة غير ذلك، واستشكلت للمعارضة الظاهرة، أي تباين الأجوبة واختلافها مع اتحاد السؤال. وأجيب بأنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن المفاضلة في الأعمال عدة مرات وكان يجيب على ذلك بما يناسب المقام والوقت ويصلح لحال السائل والمخاطب، فإن لكل إنسان عملاً يصلح له ولا ينجح إلا به فينبغي توقيفه على ما خفى عليه وتوجيهه إليه، وكذلك الوقت يختلف، فوقت تكون الصدقة أفضل من غيرها كوقت المجاعات والحاجة، وتارة يكون الجهاد أفضل من غيره كوقت الزحف الملجئ والنفير العام، وتارة يكون طلب العلم الشرعي أنفع للحاجة إليه والانصراف عنه، وكذلك وظائف اليوم والليلة، فساعة يكون الاستغفار والتوبة والدعاء أولى من القراءة، وساعة أخرى تكون الصلاة وهكذا. وقال الشاه ولي الله الدهلوي في حجة الله (ج2: ص43) : الفضل يختلف باختلاف الاعتبار والمقصود هنا، أي في حديث أبي هريرة الذي نحن في شرحه بيان الفضل باعتبار تنويه دين الله وظهور شعار الله، وليس بهذا الاعتبار بعد الإيمان كالجهاد والحج - انتهى. وقال القفال الشافعي الكبير: إن ذلك اختلاف جواب جرى على حسب اختلاف الأحوال والأشخاص فإنه قد يقال ((خير الأشياء كذا)) ولا يراد به خير جميع الأشياء من جميع الوجوه والحيثيات والاعتبارات وفي جميع الأحوال والأوقات ولجميع الأشخاص والأفراد بل في حال دون حال ولواحد دون واحد ومن وجه دون وجه وفي وقت دون وقت، قال: ويجوز أن يكون المراد من أفضل الأعمال كذا أو من خيرها أو من خيركم من فعل كذا فحذفت من وهي مرادة كما يقال فلان أعقل الناس وأفضلهم ويراد أنه من أعقلهم وأفضلهم. ومن ذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خيركم خيركم لأهله، ومعلوم أنه لا يصير بذلك خير الناس مطلقًا. قال النووي: وعلى هذا الجواب يكون الإيمان أفضلها مطلقًا، والباقيات متساويات في كونها من أفضل الأعمال والأحوال، ويعرف فضل بعضها على بعض بدلائل تدل عليها وتختلف باختلاف الأحوال والأشخاص انتهى. وقد تقدم شيء من الكلام في هذا في الفصل الثاني من باب الذكر، وإن شئت

متفق عليه. 2531- (3) وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حج لله فلم يرفث ولم يفسق ـــــــــــــــــــــــــــــ مزيد التفضيل فارجع إلى شرح عمدة الأحكام (ج1: ص132) ، وفتح الملهم شرح صحيح مسلم (ج1: ص214، 215) (متفق عليه) رواه البخاري في الإيمان، والحج، ومسلم في الإيمان، وأخرجه أيضًا أحمد (ج2: ص264، 268، 269، 287) ، والترمذي في فضائل الجهاد، والنسائي في الحج، والبيهقي (ج5: ص262) وأخرج أيضًا بنحوه ابن خزيمة، وابن حبان في صحيحيهما والطيالسي. 2531- قوله (من حج لله) ، أي لابتغاء وجه الله تعالى، والمراد الإخلاص، وفي رواية للبخاري من حج هذا البيت، أي قصد البيت الحرام لحج أو عمرة، ولمسلم في رواية ((من أتى هذا البيت)) قال الحافظ: وهو أعم من قوله: ((من حج)) يعني أنه يشمل الحج والعمرة، ويجوز حمل لفظ حج على ما هو أعم من الحج والعمرة فتساوي رواية ((من أتى)) من حيث أن الغالب أن إتيانه إنما هو للحج والعمرة، وللدارقطني (ص282) بسند فيه ضعف: ((من حج أو اعتمر)) (فلم يرفث) بتثليث الفاء والضم المشهور في الرواية واللغة. قال الحافظ: فاء الرفث مثلثة في الماضي والمضارع، والأفصح الفتح في الماضي والضم في المستقبل، قال: والرفث الجماع ويطلق على التعريض به وعلى الفحش من القول. وقال الأزهري: الرفث اسم جامع لكل ما يريده الرجل من المرأة، وكان ابن عمر يخصه بما خوطب به النساء. وقال عياض: هذا من قول الله تعالى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ} (2: 193) والجمهور على أن المراد به في الآية الجماع - انتهى. والذي يظهر أن المراد به في الحديث ما هو أعم من ذلك وإليه نحا القرطبي وهو المراد بقوله في الصيام ((فإذا كان صوم أحدكم فلا يرفث)) - انتهى. قلت: روى البغوي في شرح السنة (ج6: ص) عن ابن عباس أنه أنشد شعرًا فيه ذكر الجماع فقيل: أتقول الرفث وأنت محرم؟ فقال: إنما الرفث ما وُوجِه، أي روجع وخوطب به النساء، فكأنه يرى الرفث المنهي عنه في الآية ما خوطب به المرأة دون ما يتكلم به من غير أن تسمع المرأة. وقال سعيد ابن جبير في قوله تعالى {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (2: 193) : الرفث إتيان النساء، والفسوق السباب، والجدال المراء يعني مع الرفقاء والمكارين (ولم يفسق) بضم السين، أي لم يأت بسيئة ولا معصية. وقيل: أي لم يخرج عن حدود الشرع وأصله انفسقت الرطبة إذا خرجت فسمي الخارج عن الطاعة فاسقًا، قال في القاموس: الفسق بالكسر الترك لأمر الله تعالى، والعصيان والخروج عن طريق الحق أو الفجور كالفسوق، فسق كنصر وضرب وكرم فسقًا وفسوقًا. وإنه لفسق خروج عن الحق، وفسق جار، وعن أمر ربه خرج، والرطبة عن قشرها خرجت كانفسقت قيل: ومنه الفاسق لانسلاخه عن الخير والفويسقة الفارة لخروجها من حجرها على الناس - انتهى. والفاء في قوله ((فلم)) والواو في قوله

رجع كيوم ولدته أمه. متفق عليه. 2532- (4) وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: العمرة إلى العمرة ـــــــــــــــــــــــــــــ ((ولم)) عطف على الشرط في قوله من حج وجوابه قوله: (رجع) أي صار أو رجع من ذنوبه أو حجته أو فرغ من أعمال الحج وحمله على معنى رجع إلى بيته بعيد، وقوله (كيوم ولدته أمه) خير على الأول وحال على الوجهين الأخيرين بتأويل مشابهًا في البراءة من الذنوب لنفسه في يوم ولدته أمه فيه، إذ لا معنى لتشبيه الشخص باليوم، أو المعنى مشابهًا يومه بيوم ولادته في خلوه من الذنوب، وقوله ((كيوم)) يحتمل الإعراب، أي كسر الميم والبناء على الفتح والإضافة لقوله: ولدته أمه. وهو المختار في مثل هذا لأن صدر الجملة المضاف إليها مبني. وفي رواية للبخاري، ومسلم: كما ولدته أمه، وفي رواية أحمد (ج2: ص229) ، والدراقطني (ص282) : كهيئته يوم ولدته أمه. وظاهر الحديث غفران الصغائر والكبائر والتبعات، وهو من أقوى الشواهد لحديث العباس بن مرداس الآتي المصرح بذلك وله شاهد من حديث ابن عمر في تفسير الطبري، وإليه ذهب القرطبي وعياض لكن قال الطبري: وهو محمول بالنسبة إلى المظالم على من تاب وعجز عن وفائها. قال الحافظ: وذكر لنا بعض الناس أن الطيبي أفاد أن الحديث إنما لم يذكر فيه الجدال كما ذكر في الآية على طريق الاكتفاء بذكر البعض وترك ما دل عليه ما ذكر. ويحتمل أن يقال إن ذلك يختلف بالقصد لأن وجوده لا يؤثر في ترك مغفرة ذنوب الحاج إذا كان المراد به المجادلة في أحكام الحج لما يظهر من الأدلة أو المجادلة بطريق التعميم فلا يؤثر أيضًا فإن الفاحش منها داخل في عموم الرفث، والحسن منها ظاهر في عدم التأثير، والمستوى الطرفين لا يؤثر أيضًا. قيل: ذكر الفسق في الحديث والنهي عنه في الحج مع كونه ممنوعًا في كل حال وفي كل حين هو لزيادة التقيح والتشنيع ولزيادة التأكيد في النهي عنه في الحج وللتنبيه على أن الحج أبعد الأعمال عن الفسق والله أعلم (متفق عليه) رواه البخاري في موضعين من كتاب الحج: في باب فضل الحج المبرور، وقبل جزاء الصيد، ورواه مسلم في أواخر الحج، وأخرجه أيضًا أحمد، والنسائي، والترمذي، وابن ماجة، والدراقطني (ص282) ، والبيهقي (ج5: ص65) ، والدارمي كلهم في الحج، وفي رواية الترمذي ((غفر له ما تقدم من ذنبه)) بدل قوله: ((كيوم ولدته أمه)) . 2532- قوله (العمرة) بضم العين مع ضم الميم وإسكانها، وهي في اللغة الزيادة، وقيل: القصد إلى مكان عامر، وقيل: إنها مشتقة من عمارة المسجد الحرام، وفي الشريعة زيادة البيت الحرام وقصده بكيفية مخصوصة وشروط مخصوصة ذكرت في كتب الحديث والفقه، وقيل: هي في الشرع إحرام وسعي وطواف وحلق أو تقصير، سميت بذلك لأنه يزار بها البيت ويقصد، وقال الراغب: العمارة نقيض الخراب، والاعتمار والعمرة الزيارة فيها عمارة الود، وجعل في الشريعة للقصد المخصوص - انتهى. (إلى العمرة) ، أي منتهية إلى العمرة، قال القاري: قوله: ((العمرة إلى العمرة)) ، أي العمرة

كفارة لما بينهما، ـــــــــــــــــــــــــــــ المنضمة أو العمرة الموصولة أو المنتهية إلى العمرة، وقال المناوي: أي العمرة حال كون الزمن بعدها ينتهي إلى العمرة، فإلى للانتهاء على أصلها، وقال الباجي وتبعه ابن التين: إن إلى يحتمل أن تكون بمعنى مع كقوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} (4: 2) وكقوله: {مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللهِ} (61: 14) فيكون التقدير: العمرة مع العمرة مكفرة لما بينهما، فإذا كانت للغاية كان المكفر هو العمرة الأولى، وإذا كانت بمعنى مع كان المكفر العمرتين، ويدل للثاني حديث ((العمرتان تكفران ما بينهما)) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان من حديث أبي هريرة. قال المناوي: فيه من لم أعرفهم ولم أرهم في كتب الرجال، وقال السندي: قيل: يحتمل أن تكون إلى بمعنى مع أي العمرة مع العمرة أو بمعناها متعلقة بكفارة، أي تكفر إلى العمرة ولازمه أنها تكفر الذنوب المتأخرة (كفارة لما بينهما) هذا ظاهر في فضل العمرة وأنها مكفرة للخطايا الواقعة بين العمرتين، قال في المطامح: نبه بهذا الحديث على فضل العمرة الموصولة بعمرة، قال العيني (ج10: ص 108، 109) : ظاهر الحديث أن الأولى هي المكفرة لأنها هي التي وقع الخبر عنها أنها تكفر ولكن الظاهر من جهة المعنى أن العمرة الثانية هي التي تكفر ما قبلها إلى العمرة التي قبلها فإن التكفير قبل وقوع الذنب خلاف الظاهر - انتهى. وقال الأبي: الأظهر أن الحديث خرج مخرج الحث على تكرير العمرة والإكثار منها لأنه إذا حمل على غير ذلك يشكل بما إذا اعتمر مرة واحدة فإنه يلزم عليه أن لا فائدة لها لأن فائدتها وهو التكفير مشروطة بفعلها ثانية إلا أن يقال: لم تنحصر فائدة العبادة في تكفير السيئات بل يكون فيها وفي ثبوت الحسنات ورفع الدرجات كما ورد في بعض الأحاديث ((من فعل كذا وكتب له كذا حسنة ومحيت عنه كذا كذا سيئة، ورفعت له كذا كذا درجة)) فتكون فائدتها إذا لم تكرر ثبوت الحسنات ورفع الدرجات. وقال شيخنا أبو عبد الله يعني ابن عرفة: إذا لم تكرر كفر بعض ما وقع بعدها لا كله - والله أعلم - بقدر ذلك البعض، وكذا في شرح الموطأ للزرقاني (ج2: ص269) قال ابن عبد البر: المراد تكفير الصغائر دون الكبائر، وذهب بعض علماء عصرنا إلى تعميم ذلك، ثم بالغ في الإنكار عليه، وكأنه يعني الباجي فإنه قال: ما من ألفاظ العموم فتقضي من جهة اللفظ تكفير جميع ما يقع بينهما إلا ما خصه الدليل واستشكل بعضهم كون العمرة كفارة للصغائر فقط مع أن اجتناب الكبار مكفر لها لقوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} (4: 31) الآية فماذا تكفر العمرة؟ وأجيب بأن تكفير العمرة مقيد بزمنها وتكفير الاجتناب عام لجميع عمر العبد فتغايرا من هذه الحيثية وقال السندي: هذا الاستشكال ليس بشيء لأن الذي لا يجتنب الكبائر فصغائره يكفرها العمرة، ومن ليس له صغيرة أو صغائره مكفرة بسبب آخر فالعمرة له فضيلة - انتهى. قال الحافظ: وفي الحديث دلالة على استحباب الاستكثار من الاعتمار خلافًا لقول من قال: يكره أن يعتمر في السنة أكثر من مرة

والحج المبرور ـــــــــــــــــــــــــــــ كالمالكية ولمن قال مرة في الشهر من غيرهم واستدل لهم بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يفعلها إلا من سنة إلى سنة، وأفعاله على الوجوب أو الندب وتعقب بأن المندوب لم ينحصر في أفعاله فقد كان يترك الشيء وهو يستحب فعله لرفع المشقة عن أمته وقد ندب إلى ذلك بلفظه فثبت الاستحباب من غير تقييد. وقال عياض: احتج به الجمهور وكثير من أصحاب مالك على جواز تكرير العمرة في السنة الواحدة وكرهه مالك لأنه - صلى الله عليه وسلم - اعتمر أربع عمر كل واحدة في سنة مع تمكنه من التكرير وتقدم كلام الأبي المالكي أن الحديث خرج مخرج الحث على تكرير العمرة والإكثار منها، قال الحافظ: واتفقوا على جوازها في جميع الأيام لمن لم يكن متلبسًا بأعمال الحج إلا ما نقل عن الحنفية أنه يكره في يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق، ونقل الأثرم عن أحمد: إذا اعتمر فلا بد أن يحلق أو يقصر فلا يعتمر بعد ذلك إلى عشرة أيام ليمكن حلق الرأس فيها. قال ابن قدامة: هذا يدل على كراهة الاعتمار عنده في دون عشرة أيام، وارجع لتفصيل الكلام في مسألة تكرار العمرة وتفضيل الطواف على العمرة إلى شفاء الغرام (ج1: ص179، 180) ، والقرى (ص297، 298) (والحج المبرور) قال ابن العربي: قيل هو الذي لا معصية بعده. قال الأبي: وهو الظاهر لقوله في الحديث الآخر: ((من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق)) إذ المعنى حج ثم لم يفعل شيئًا من ذلك، ولهذا عطفها بالفاء المشعرة بالتعقيب، وإذا فسر بذلك كان الحديثان بمعنى واحد وتفسير الحديث بالحديث أولى. فإن قلت: المرتب على المبرور غير المرتب على عدم الرفث والفسق، لأن المرتب على المبرور هو دخول الجنة وهو أخص من الرجوع بلا ذنب لأن المراد بدخولها الدخول الأول والدخول الأول لا يكون إلا مع مغفرة كل الذنوب السابقة واللاحقة والرجوع بلا ذنب إنما هو في تكفير السابقة. قلت: إذا فسر المبرور بذلك فسر الرجوع بلا ذنب بأنه كناية عن دخول الجنة الدخول الأول المذكور - انتهى. تنبيه قال ابن بزيزة: قال العلماء: شرط الحج المبرور حلية النفقة فيه، وقيل لمالك رجل سرق فتزوج به أيضارع الزنا؟ قال: أي والذي لا إله إلا هو. وسئل عمن حج بمال حرام فقال: حجه مجزئ وهو آثم بسبب جنايته، وبالحقيقة لا يرقى إلى العالم المطهر إلا المطهر - انتهى. وقال الدردير: صح الحج فرضًا أو نفلاً بالحرام من المال فيسقط عنه الفرض والنفل وعصى إذ لا منافاة بين الصحة والعصيان - انتهى. وبه قالت الحنفية كما في رد المحتار عن البحر حيث قال: يجتهد في تحصيل نفقة حلال فإنه لا يقبل بالنفقة الحرام كما ورد في الحديث مع أنه يسقط الفرض عنه معها ولا تنافي في سقوطه وعدم قبولها - انتهى. وذلك لأن القبول أخص من الإجزاء، فإن القبول عبارة عن ترتيب الثواب على الفعل والإجزاء عبارة عن سقوط القضاء، وقال النووي في مناسكه: ليحرص أن تكون نفقته حلالاً خالصة عن الشبهة فإن خالف وحج بما فيه شبهة أو بمال مغصوب صح حجه في ظاهر الحكم لكنه ليس حجًا مبرورًا ويبعد قبوله، وهذا هو مذهب الشافعي، ومالك، وأبي حنيفة، وجماهير العلماء من السلف والخلف. وقال أحمد بن

ليس له جزاء إلا الجنة. متفق عليه. 2523- (5) وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن عمرة في رمضان تعدل حجة. ـــــــــــــــــــــــــــــ حنبل: لا يجزيه الحج بمال حرام - انتهى. (ليس له جزاء) ، أي ثواب (إلا الجنة) بالرفع أو النصب وهو نحو ((ليس الطيب إلا المسك)) بالرفع فإن بني تميم يرفعونه حملاً لها على ما في الإهمال عند انتقاض النفي كما حمل أهل الحجاز ((ما)) على ((ليس)) في الإعمال عند استيفاء شروطها كذا في مغني اللبيب (ج1: ص227) قال النووي: ((ليس له جزاء إلا الجنة)) معناه أنه لا يقتصر لصاحبه من الجزاء على تكفير بعض ذنوبه بل لابد أن يدخل الجنة. وقال السندي: أي ابتداء وإلا فأصل الدخول فيها يكفي الإيمان ولازمه أن يغفر له الذنوب كلها صغائرها وكبائرها بل المتقدمة منها والمتأخرة - انتهى. قال في المطامح: وقضية جعل العمرة مكفرة والحج جزاءه الجنة أنه أكمل. وقال ابن القيم: في الحديث دليل على التفريق بين الحج والعمرة في التكرار إذ لو كانت العمرة كالحج لا يفعله في السنة إلا مرة لسوى بينهما ولم يفرق (متفق عليه) ، وأخرجه أيضًا أحمد (ج: ص) ، ومالك، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، والدارمي، وابن الجارود (ص178) ، والبيهقي (ج4: ص473، وج5: ص261) . 2533- قوله (إن عمرة في رمضان) ، أي كائنة، وسبب الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رجع عن حجة الوداع قال لأم سنان الأنصارية ما منعك أن تحجي معنا، قالت: لم يكن لنا ناضحان فحج أبو ولدها وابنها على ناضح وترك لنا ناضحًا ننضح عليه قال فإذا جاء رمضان فاعتمري فإن عمرة فيه تعدل حجة (تعدل حجة) ، أي تعادلها وتماثلها في الثواب لأن الثواب يفضل بفضيلة الوقت ذكره المظهر. قال الطيبي: وهذا من باب المبالغة وإلحاق الناقص بالكامل ترغيبًا وبعثًا عليه وإلا كيف يعدل ثواب العمرة ثواب الحج انتهى. وقال ابن خريمة في هذا الحديث: إن الشيء يشبه بالشيء ويجعل عدله إذا أشبهه في بعض المعاني لا جميعها لأن العمرة لا يقضى بها فرض الحج ولا النذر انتهى. ووقع في رواية لمسلم: ((فعمرة في رمضان تقضي حجة أو معي)) ، أي بالشك، وفي رواية البخاري في باب حج النساء: ((فإن عمرة في رمضان تقضي حجة معي)) بالجزم من غير شك، وفي رواية لأبي داود والحاكم (ج1: ص484) : ((أنها تعدل حجة معي)) وهكذا وقع عند ابن حبان في قصة أم سليم من حديث ابن عباس وفي حديث أنس عند الطبراني في الكبير ((عمرة في رمضان كحجة معي)) وفي حديث أبي طليق في قصة له ولامرأته عند الطبراني في الكبير والبزار ((قلت: فما يعدل الحج معك؟ قال: عمرة في رمضان)) وفي هذه الروايات ما يدل على أن المرأة المذكورة جعلت على نفسها حجة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لتحوز بذلك شرف المعية وكثرة الثواب فأجابها - صلى الله عليه وسلم - بأن ذلك يحصل لها بالاعتمار في رمضان واختلف العلماء في معنى حديث الباب فقال بعهضم: إن الحجة التي فاتت هذه المرأة كانت تطوعًا لإجماع الأمة على أن العمرة لا تجزئ عن حجة الفريضة

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ إذ لا مانع من أن تكون حجت مع أبي بكر رضي الله عنه في السنة التاسعة فسقط عنها الفرض ثم أرادت أن تحج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوادع في السنة العاشرة فمنعها عدم تيسر الراحلة، وقال بعضهم: إن الحجة التي فاتت هذه المرأة هي حجة الوداع وكانت أول حجة أقيمت في الإسلام فرضًا لأن حج أبي بكر كان إنذارًا فعلى هذا يستحيل أن تكون تلك المرأة كانت قامت بوظيفة الحج بعد، لأن أول حج لم تحضره هي، ولم يأت زمان حج ثان عند قوله عليه الصلاة والسلام لها ذلك، وما جاء الحج الثاني إلا والرسول عليه الصلاة والسلام قد توفي فإنما أراد عليه الصلاة والسلام أن يستحثها على استدراك ما فاتها من البدار ولا سيما الحج معه عليه الصلاة والسلام لأن فيه مزية على غيره قلت: وهذا مبني على أن الحج إنما فرض في السنة العاشرة ولكنه غير متفق عليه وقد تقدم ذكر الخلاف فيه، وعلى كل حال فإن كان ما فاتها حجة الفرض فيكون المراد من الحديث بيان فضل العمرة في رمضان وإعلامها أن ثوابها كثواب حجة لا أنها تقوم مقامها في إسقاط الفرض للإجماع على أن الاعتمار لا يجزئ عن فرض الحج، فالعمرة في رمضان لا تسقط الحجة المفروضة بل من الإتيان بها من قابل، وإن كان ما فاتها تطوعًا فالعمرة في رمضان تقوم مقام الحجة في التطوع ونقل الترمذي عن إسحاق ابن راهويه أن معنى الحديث نظير ما جاء أن {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تعدل ثلث القرآن وقال ابن العربي: حديث العمرة هذا صحيح وهو فضل من الله ونعمة فقد أدركت العمرة منزلة الحج بانضمام رمضان إليها، وهكذا قال أبو بكر المعافري، كما في ((القرى)) وقد تقدم ما قال الطيبي وابن خزيمة في معنى الحديث وتوجيهه، وقال ابن الجوزي: فيه أن ثواب العمل يزيد بزيادة شرف الوقت كما يزيد بحضور القلب وبخلوص القلب، وقال غيره يحتمل أن يكون المراد عمرة فريضة في رمضان كحجة فريضة، وعمرة نافلة في رمضان كحجة نافلة وقال ابن التين: قوله كحجة يحتمل أن يكون على بابه ويحتمل أن يكون لبركة رمضان، ويحتمل أن يكون مخصوصًا بهذه المرأة. قال الحافظ: الثالث قال به بعض المتقدمين ففي رواية أحمد بن منيع قال سعيد بن جبير: ولا نعلم هذا إلا لهذه المرأة وحدها، ووقع عند أبي داود من حديث أم معقل فكانت تقول الحج حجة، والعمرة عمرة، وقد قال هذا لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أدري ألي خاصة تعني أو للناس عامة، قال الحافظ: والظاهر حمله على العموم كما تقدم، والسبب في التوقف استشكال ظاهره وقد صح جوابه. تنبيه لما ثبت أن عمره - صلى الله عليه وسلم - كانت كلها في ذي القعدة وقع تردد لبعض أهل العلم في أن أفضل أوقات العمرة أشهر الحج أو رمضان فحديث الباب يدل على الثاني، أي كون رمضان أفضل أوقات العمرة لكن فعله عليه الصلاة والسلام لما لم يقع إلا في أشهر الحج كان ظاهرًا أنه أفضل إذ لم يكن الله سبحانه وتعالى يختار لنبيه إلا ما هو الأفضل أو أن رمضان أفضل لتنصيصه عليه الصلاة والسلام على ذلك فتركه لاقترانه بأمر يخصه كاشتغاله بعبادات أخرى في رمضان تبتلاً، وأن لا يشق على أمته فإنه لو اعتمر في رمضان لبادروا إلى ذلك وخرجوا مع ما هم عليه من المشقة في

متفق عليه. 2534- (6) وعنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لقي ركبًا بالروحاء، ـــــــــــــــــــــــــــــ الجمع بين العمرة والصوم، ولقد كان بهم رؤوفًا رحيمًا، وقد كان يترك العمل وهو يحب أن يعمله خشية أن يفرض على أمته وخوفًا من المشقة عليهم كالقيام في رمضان بهم، ومحبته لأن يستقي بنفسه مع سقاة زمزم كيلا يغلبهم الناس على سقايتهم. وقال الحافظ: والذي يظهر أن العمرة في رمضان لغير النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل، وأما في حقه فما صنعه هو أفضل لأن فعله لبيان جواز ما كان أهل الجاهلية يمنعونه، فأراد الرد عليهم بالقول والفعل وهو لو كان مكروهًا لغيره لكان في حقه أفضل - انتهى. تنبيه آخر قد استدل بقوله - صلى الله عليه وسلم - ((عمرة في رمضان تعدل حجة)) على استحباب تكرار العمرة والإكثار منها. قال المحب الطبري في القرى (ص566) : فيه دليل على استحباب تكرار العمرة من وجهين الأول: أن النكرة في سياق التفضيل، الظاهر منها إرادة العموم، فإنك إذا قلت: رجل من بني تيم يعدل قبيلة من غيرها، لم يتبادر إلى الفهم إلا أن كل واحد منها كذلك، فكذلك، كل عمرة في رمضان، والثاني: المراد بعمرة في رمضان إما أن يقال: كل عمرة لكل أحد أو عمرة لكل أحد أو عمرة لواحد لا بعينه، والأول هو المطلوب، والثالث غير مراد بالاتفاق، والثاني لازم للأول فيتعدى الحكم، بيان الملازمة أن اتصاف الفعل بالفضل إنما نشأ من جهة الزمان لا محالة، فإذا ثبت لفعل لزم ثبوته لمثله، وإن تكرر لقيام موجب الصفة ولعدم جواز تخلف الحكم عن مقتضيه، ومن ادعى تخصصها بعدم التكرار أو تخصيصها بالمخاطبة أو بميقات دون غيره أو معارضًا فعليه البيان - انتهى. قلت: قد ذهب إلى جواز تكرار العمرة واستحباب الإكثار منها الشافعي، وأبو حنيفة. وكرهه مالك إلا مرة في سنة، وأحمد في دون عشرة أيام كما تقدم في كلام ابن قدامة، ويؤيده ما أخرجه الشافعي عن أنس رضي الله عنه أنه كان إذا حمم رأسه خرج فاعتمر، وقوله: ((حمم)) بالحاء المهملة، أي اسود بعد الحلق في الحج بنبات الشعر، والمعنى أنه كان لا يؤخر العمرة إلى المحرم، بل كان يخرج إلى الميقات، ويعتمر في ذي الحجة، وهكذا ذكره الجوهري، وابن الأثير وقيد بالمهملة (متفق عليه) واللفظ لمسلم. وأخرجه أيضًا أحمد (ج1: ص229، 308) ، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، والدارمي، وابن الجارود (ص179) ، والبيهقي وفي الباب عن جماعة من الصحابة ذكر أحاديثهم العيني (ج10: ص117) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (ج3: ص280) . 2534- قوله (إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقي ركبًا) بفتح الراء وسكون الكاف جمع راكب أو اسم جمع كصاحب وصحب وهم العشرة فما فوقها من أصحاب الإبل في السفر دون بقية الدواب، ثم اتسع فيه فأطلق على كل جماعة (بالروحاء) بفتح الراء وسكون الواو بعدها حاء مهملة ثم ألف ممدودة. قال عياض: في المشارق هي من أعمال الفرع بينها وبين المدنية

فقال: من القوم؟ قالوا: المسلمون، فقالوا: من أنت؟ قال: رسول الله. فرفعت إليه امرأة صبيًا، فقالت: ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر. ـــــــــــــــــــــــــــــ نحو أربعين ميلاً، وفي صحيح مسلم ستة وثلاثون، وفي كتاب ابن أبي شيبة ثلاثون ميلاً، زاد في رواية أحمد وأبي داود: ((فسلم عليهم)) وكان ذلك اللقاء كما قال ابن حبان حين رجوعه من مكة إلى المدينة ففي رواية النسائي عن ابن عباس ((قال صدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما كان بالروحاء لقي قومًا)) الحديث. وفي رواية الشافعي في مسنده (ج1: ص289) وكذا عند البيهقي (ج5: ص155) من طريق الشافعي، ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قفل، فلما كان بالروحاء لقي ركبًا)) الحديث، وبه جزم ابن القيم في الهدي حيث قال: ثم ارتحل - صلى الله عليه وسلم - راجعًا إلى المدينة فلما كان بالروحاء لقي ركبًا فذكر قصة الصبي، وقيل وقعت هذه القصة في مقدمه إلى بيت الله، والمراد بالصدور والقفول صدوره من المدينة للحج ولا يخفى ما فيه، وارجع إلى ((القرى)) (ص49، 50) (فقال: من القوم؟) بالاستفهام (قالوا) ، أي بعضهم (المسلمون) ، أي نحن المسلمون (فقالوا: من أنت؟) يعني أن الذي أجاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل بعد ذلك ليعرف من يخاطب (قال) ، أي النبي (رسول الله) أي أنا رسول الله فلفظ رسول الله خبر مبتدأ محذوف. قال عياض: يحتمل أن هذا اللقاء كان ليلاً فلم يعرفوه - صلى الله عليه وسلم -، ويحتمل كونه نهارًا لكنهم لم يروه - صلى الله عليه وسلم - قبل ذلك لعدم هجرتهم فأسلموا في بلدانهم ولم يهاجروا قبل ذلك، وسيأتي في حديث جابر في قصة حجة الوداع أنه أذن في الناس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حاج فقدم المدينة بشر كثير ليأتموا به، فلعل هؤلاء ممن قدم فلم يلقوه إلا هنالك، وفي رواية مالك في موطأه، ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بامرأة وهي في محفتها (بكسر الميم وفتح المهملة وتشديد الفاء - مركب للنساء كالهودج إلا أنها لا تقبب كما تقبب الهوادج) فقيل لها ((هذا رسول الله)) الحديث. قال الباجي: فقد كانت المرأة فيمن آمن به ولم تره ولم تعرف عينه فلذلك أخبرت به (فرفعت إليه امرأة صبيًا) ، أي أخرجته من المحفة رافعة له على يديها، وفي رواية أحمد وأبي داود: ((ففزعت امرأة فأخذت بعضد صبي فأخرجته من محفتها)) (فقالت: ألهذا؟) ، أي يحصل لهذا الصغير (حج) ، أي ثوابه، قيل: قوله: ((حج)) فاعل الظرف لاعتماده على الهمزة، ويجوز أن يكون مبتدأ مؤخرًا و ((لهذا)) خبر مقدم، وفي رواية أحمد، وأبي داود: ((هل لهذا حج؟)) (قال) في الجواب (نعم) ، أي له حج (ولك أجر) زادها على السؤال ترغيبًا لها. قال القاري: أي أجر السببية وهو تعليمه إن كان مميزًا أو أجر النيابة في الإحرام والرمي والإيقاف والحمل في الطواف والسعي إن لم يكن مميزًا، وقال عياض: وأجرها فيما تتكلفه في أمره في ذلك وتعليمه وتجنيبه ما يجتنب المحرم. وقال النووي: معناه: بسبب حملها وتجنيبها إياه ما يجتنبه المحرم وفعل ما يفعله المحرم، وقال الأمير اليماني: قوله: ((لك أجر)) ، أي بسبب حملها وحجها به، أو بسبب سؤالها عن ذلك الحكم، أو بسبب الأمرين، وفي الحديث دليل على مشروعية الحج بالصبيان وجوازه، ولا خلاف فيه بين العلماء

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الأمير اليماني: الحديث دليل على أنه يصح حج الصبي وينعقد سواء كان مميزًا أم لا حيث فعل عنه وليه ما يفعل الحجاج وإلى ذلك ذهب الجمهور. واعلم أن في مسألة حج الصبي عدة أبحاث ينبغي التنبيه عليها. الأول: جواز الحج ومشروعيته بالصغار، وإليه ذهب الجمهور منهم الأمة الأربعة. قال الزرقاني: في الحديث مشروعية الحج بالصغار وبه قالت الأمة. قال عياض: لا خلاف بين العلماء في جواز الحج بالصبيان، وإنما منعه طائفة من أهل البدع ولا يلتفت إلى قولهم بل هو مردود بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وإجماع الأمة، وقال الطبري: لا خلاف بي أهل العلم في جواز الحج بالصبي إلا قومًا من أهل العراق منعوه وفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقوله وإجماع الأمة يرد قولهم، وإنما الخلاف في أنه هل ينعقد حكم الحج عليهم؟ وفائدة الخلاف تظهر في وجوب الفدية، فأبو حنيفة لا يلزمهم شيًا إنما يجتنبون ذلك على وجه التمرين والتعليم، وفي ما تقدم من قول عطاء: يفعل بالصغير ما يفعل بالكبير ويشهد به المناسك كلها إلا أنه لا يصلي عنه وإن شاءوا قمصوه موافقة له، وباقي الأئمة يرون وجوب الفدية - انتهى. وقال ابن البر في التمهيد: في الحديث الحج بالصبيان الصغار واختلف العلماء في ذلك فأجازه مالك والشافعي وسائر فقهاء الحجاز من أصحابنا وغيرهم وأجازه الثوري، وأبو حنيفة وسائر فقهاء الكوفة، وأجازه الأوزاعي والليث فيمن سلك مسلكهما من أهل الشام ومصر وكل من ذكرناه يستحب الحج بالصبيان ويأمر به ويستحسنه، وعلى ذلك جمهور العلماء في كل قرن. وقالت طائفة: لا يحج بالصبيان، وهو قول لا يشتغل به ولا يعرج عليه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حج بأغيلمة بني عبد المطلب وحج السلف بصبيانهم ولحديث الباب. وروينا عن أبي بكر الصديق أنه طاف بعبد الله بن الزبير في خرقة، وذكر عبد الرزاق عن الثوري عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال: كانوا يحبون إذا حج الصبي أن يجردوه وأن يجنبوه عن الطيب وأن يلبي عنه إذا كان لا يحسن التلبية - انتهى. وقال ابن حزم في المحلى (ج7: ص276) : ونستحب الحج بالصبي وإن كان صغيرًا جدًا أو كبيرًا وله أجر وحج وهو تطوع وللذي يحج به أجر، وكذلك ينبغي أن يدربوا ويعلموا الشراع من الصلاة والصوم إذا أطاقوا ذلك - انتهى. وقال الباجي: الصبيان على ضربين: ضرب يفهم ما يؤمر به، وضرب يصغر عن ذلك فلا يفهم ما يؤمر به ولا ينتهي عما نهي عنه. فأما الأول فروى ابن المواز وابن وهب عن مالك لا يحج بالرضيع، وأما ابن أربع سنين وخمس فنعم. وهذا إنما هو على الاستحباب، فإن أحرم به وألزم الإحرام لزمه، وإن كان صغيرًا جدًا لا يفهم - انتهى. وقال الأبي في الإكمال: اختلف قول مالك في الحج بالرضيع ومن لا يفهم، وحمل أصحابنا قوله بالمنع على الكراهة، وفي المدونة: يحج بالصبي وإن لم يبلغ أن يتكلم، وفي كتاب محمد: لا يحج بالرضيع، وأما ابن أربع فنعم اللخمي، ولا أرى أن يحج إلا بمن يعقل القربة، وأما الرضيع فهو كالبهيمة، قال وعلى هذا فلا يحج بالمجنون - انتهى. وقال ابن رشد في البداية (ج1: ص252) : اختلف أصحاب مالك في صحة

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوعه من الطفل الرضيع وينبغي أن لا يختلف في صحة وقوعه ممن يصح وقوع الصلاة منه، وهو كما قال عليه الصلاة والسلام من السبع إلى العشر - انتهى. الثاني: هل ينعقد حجه أم لا؟ قال النووي: في الحديث حجة للشافعي، ومالك، وأحمد، وجماهير العلماء: أن حج الصبي منعقد صحيح يثاب عليه وإن كان لا يجزئه عن حجة الإسلام، بل يقع تطوعًا. وقال أبو حنيفة: لا يصح حجه، قال أصحابه وإنما فعلوه تمرينًا له ليعتاده فيفعله إذا بلغ. قال: وإنما خلاف أبي حنيفة في أنه هل ينعقد حجه ويجري عليه أحكام الحج ويجب فيه الفدية ودم الجبران وسائر أحكام البالغ، فأبو حنيفة يمنع ذلك كله ويقول: إنما يجنب ذلك تمرينًا على التعليم، والجمهور يقولون يجري عليه أحكام الحج في ذلك وحجه منعقد يقع نقلاً - انتهى. قلت: هكذا نقل غير واحد من شراح الحديث وأصحاب كتب الفقه الجامع مذهب الحنفية في ذلك، منهم الحافظ في الفتح، وابن قدامة في المغني (ج3: ص252) ، وابن رشد في البداية (ج1: ص253) قال الحافظ: قال ابن بطال: أجمع أئمة الفتوى على سقوط الفرض عن الصبي حتى يبلغ إلا أنه إذا حج به كان له تطوعًا عند الجمهور، وقال أبو حنيفة: لا يصح إحرامه ولا يلزمه شيء من محظورات الإحرام، وإنما يحج به على جهة التدريب - انتهى. والذي يظهر من كتب الفقه الحنفي المعتبرة أن قول أبي حنيفة مثل قول الجمهور يعني أن الصبي ينعقد نقلاً، وإنما خلافه في وجوب الفدية والكفارات، ففي المبسوط: الصبي لو أحرم بنفسه وهو يعقل أو أحرم عنه أبوه صار محرمًا - انتهى. وفي العالمكيرية: لو أن الصبي حج قبل البلوغ لا يكون من حجة الإسلام ويكون تطوعًا - انتهى. وقال في الدر المختار: لو أحرم صبي عاقل أو أحرم عنه أبوه صار محرمًا وينبغي أن يجرده قبله ويلبسه إزارًا ورداءً، وقال القاري: في شرح اللباب ينعقد إحرام الصبي المميز للنفل لا للفرض ويصح أداءه بنفسه ولا يصح من غيره في الأداء ولا الإحرام بل يصحان من وليه له نيابة، وهذا كله مبني على انعقاده نفلاً. لكن في شرح المجمع: وعندنا إذا أهل الصبي أو وليه لم ينعقد فرضًا ولا نفلاً. وفي الهداية ما يدل على انعقاده نفلاً، ثم قال صاحب الهداية: واختلف المتأخرون فمنع بعضهم انعقاده أصلاً، وقيل ينعقد ويكون حج تمرين واعتياد - انتهى. ويمكن الجمع بأنه لا ينعقد انعقادًا ملزمًا وينعقد نقلاً غير ملزم لأنه غير مكلف ويتفرع عليه لو أنه لم يفعل شيًا من المأمورات أو ارتكب شيئًا من المحظورات لا يجب عليه شيء من القضاء والكفارات ويقوي ما ذكرنا في اختلاف المسائل: اختلفوا في حج الصبي، قال أبو حنيفة: لا يصح منه. قال يحيى بن محمد: معنى قول أبي حنيفة ((لا يصح منه)) على ما ذكره أصحابه: أنه لا يصح صحة يتعلق بها وجوب الكفارات، لا أنه يخرجه من ثواب الحج، وكذا يؤيد ما قلنا ما في الغاية من أن اعتكاف الصبي وصومه وحجه صحيح شرعي بلا خلاف - انتهى. ما في شرح اللباب، وقد صرح بانعقاد حجه نقلاً صاحب الهداية والغنية وابن نجيم، وابن عابدين، وغيرهم أيضًا. وقال الطحاوي: أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث، أي الحديث الذي نحن في شرحه أن

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ للصبي حجًا وهذا مما قد أجمع الناس جميعًا عليه ولم يختلفوا أن للصبي حجًا كما أن له صلاة - انتهى. وقد تبين مما ذكرنا أن حج الصبي يصح وينعقد نفلاً عند الحنفية أيضًا وأن خلافهم إنما هو في وجوب القضاء والكفارات، الثالث: هل يجب عليه الجزاء والفدية والكفارة والقضاء أم لا؟ وقد تقدم في كلام النووي من مذهب الجمهور وجوب ذلك خلافًا لأبي حنيفة. وقال الزرقاني: في حديث انعقاد حج الصبي وصحة وقوعه نفلاً وأنه مثاب عليه فيجتنب ما يجتنبه الكبير مما يمنعه الإحرام ويلزمه من الفدية والهدي ما يلزمه، وبه قال الأئمة الثلاثة والجمهور خلافًا لأبي حنيفة. وقال ابن عبد البر: قال مالك: ما أصاب الصبي من صيد أو لباس أو طيب فدى عنه، وبذلك قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا جزاء عليه ولا فدية - انتهى. وقال الخطابي في المعالم (ج2: ص281) : وفي ذلك دليل على أن حجه إذا فسد أو دخله نقص فإن جبرانه واجب عليه كالكبير، وإن اصطاد صيدًا لزمه الفداء كما يلزم الكبير. وفي وجوب هذه الغرامات عليه في ماله كما يلزمه لو أتلف مالاً لإنسان فيكون غرمه في ماله أو وجوبها على وليه إذ كان هو الحامل له على الحج والنائب عنه وفي ذلك نظر وفيه اختلاف بين الفقهاء - انتهى. قلت: في وجوب الكفارة والجزاء والقضاء عند أتباع الأئمة الثلاثة تفاصيل، اختلفوا فيها وأسقط بعهم في بعض الصور الكفارة والقضاء، وهي مبسوطة في كتب فروعهم، من شاء الوقوف عليها رجع إلى المغني لابن قدامة (ج2: ص255) ، ومناسك الحج والمجموع للنووي، والدسوقي على الشرح الكبير للدردير المالكي. وقال في شرح اللباب من فروع الحنفية: ولو أفسد أي الصبي نسكه أو ترك شيئًا من أركانه وواجباته لا جزاء عليه ولا قضاء حيث شروعه ليس بملزم له لأنه غيره مكلف في فعله - انتهى. وقد وافق ابن حزم الحنفية في ذلك حيث قال في المحلى (ج7: ص276، 277) : وإذا الصبي قد رفع عنه القلم فلا جزاء عليه في صيد إن قتله في الحرم أو في إحرامه ولا في حلق رأسه لأذى به عن تمتعه ولا لإحصاره لأنه غير مخاطب بشيء من ذلك ولو لزمه هدى للزمه أن يعوض منه الصيام وهو في المتعة وحلق الرأس وجزاء الصيد وهم لا يقولون بذلك. هذا ولا يفسد حجه بشيء مما ذكرنا إنما هو ما عمل، أو عمل به أجر وما لم يعمل فلا إثم عليه - انتهى. قلت: واستدل الحنفية بالحديث المشهور بين الفقهاء وأئمة الحديث ((رفع القلم عن ثلاثة، عن الصبي حتى يبلغ)) الحديث أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، والحاكم، وابن حبان من حديث عائشة. وأحمد وأبو داود، والنسائي، والدارقطني، والحاكم، وابن خزيمة، وابن حبان من حديث علي. والطبراني بسنده عن غير واحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ثوبان، ومالك بن شداد وغيرهما. قال الحافظ: الرفع مجاز عن عدم التكليف لأنه يكتب لهم فعل الخير قاله ابن حبان: قلت: والراجح عندنا هو ما ذهب إليه الحنفية وابن حزم، لأنه لا نص لمن ذهب إلى خلاف ذلك ولا حجة لهم فيما قالوه، هذا ما عندي والعلم عند الله تعالى. والرابع: هل يثاب الصبي على حسناته من الصلاة والصوم

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ والحج وغيرها؟ قال العيني: استدل بالحديث بعضهم على أن الصبي يثاب على طاعته ويكتب له حسناته وهو قول أكثر أهل العلم، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب فيما حكاه المحب الطبري وحكاه النووي في شرح مسلم عن مالك، والشافعي، وأحمد والجمهور - انتهى. وقال الخطابي: إنما كان للصبي الحج من ناحية الفضيلة من دون أن يكون محسوبًا عن فرضه لو بقي حتى يبلغ ويدرك مدرك الرجال، وهذا كالصلاة يؤمر بها إذا أطاقها وهي غير واجبة عليه وجوب فرض، ولكن يكتب له أجرها تفضلاً من الله، ويكتب لمن يأمره بها ويرشده إليها أجر. فإذا كان له حج فقد علم أن من سنته أن يوقف به في الموقف ويطاف به حول البيت محمولاًً إن لم يطق المشي، وكذلك السعي بين الصفا والمروة ونحوه من أعمال الحج - انتهى. وقال الطبري: قد قال كثير من أهل العلم إن الصبي يثاب على طاعته وتكتب له حسناته دون سيئاته، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وقد تقدم ما يدل عليه في باب تسمية الحج جهادًا، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: جهاد الكبير والصغير والمرأة: الحج والعمرة. أخرجه النسائي. قال: ففيه دلالة على أن ثواب عبادة الصغير لنفسه، ثم إن كان الصبي يعقل عقل مثله أحرم بنفسه، وإن لم يعقل أحرم عنه. وفي التمهيد: قال أبو عمر: فإن قيل: فما معنى الحج بالصغير وهو عندكم غير مجزئ عنه من حجة الإسلام وليس ممن تجري الأقلام له وعليه؟ قيل: أما جري القلم له بالعمل الصالح فغير منكر أن تكتب للصبي درجة وحسنة في الآخرة بصلاته وزكاته وحجه وسائر أعمال البر التي يعملها على سنتها تفضلاً من الله عز وجل كما تفضل على الميت بأن يؤجر لصدقة الحي عنه ويلحقه ثواب ما لم يقصده ولم يعمله مثل الدعاء والصلاة عليه ونحو ذلك. ألا ترى أنهم أجمعوا على أن الصبي إذا عقل الصلاة يصلي، وقد صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنس واليتيم معه وأكثر السلف على إيجاب الزكاة في أموال اليتامى ويستحيل أن لا يؤجروا على ذلك، وللذي يقوم بذلك عنهم أجر كما للذي يحجهم أجر فضلاً من الله عز وجل ونعمة، فلا شيء يحرم الصغير التعرض لفضل الله، وقد روي عن عمر بن الخطاب معنى ما ذكرنا، ولا مخالف له أعلمه ممن يجب إتباع قوله، ثم ذكر بسنده إلى عمر قال: تكتب للصغير حسناته ولا تكتب عليه سيئاته - انتهى. وقال ابن حزم في المحلى (ج7: ص276) : والله تعالى يتفضل بأن يأجرهم ولا يكتب عليهم إثمًا حتى يبلغوا، فإن قيل: لا نية للصبي، قلنا: نعم ولا تلزمه، إنما تلزم النية المخاطب المأمور المكلف والصبي ليس مخاطبًا ولا مكلفًا، وإنما أجره تفضل من الله تعالى مجرد عليه كما يتفضل على الميت بعد موته ولا نية له ولا عمل بأن يأجره بدعاء ابنه له بعد موته وبما يعمله غيره عنه من حج أو صيام أو صدقة ولا فرق، ويفعل الله ما يشاء - انتهى. وفي شرح اللباب: اتفقت الأئمة الأربعة على أن الصبي يثاب على طاعته وتكتب له حسناته سواء كان مميزًا أو غير مميز، لكن اختلف أصحابنا هل تكون حسناته له دون أبويه أو يكون الأجر لوالديه من غير أن ينقص من أجر الولد شيء؟ ففي قاضي خان: قال أبو بكر الإسكاف: حسناته تكون له دون أبويه، وإنما يكون للوالد من ذلك

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ أجر التعليم والإرشاد إذا فعل ذلك. وفي الغاية: أن اعتكاف الصبي وصومه وحجه صحيح شرعي بلا خلاف وأجره له دون أبويه - انتهى. وقال بعضهم: تكون حسناته لأبويه أيضًا بناء على التسبب، والأحاديث تدل عليه فقد روي عن أنس أنه قال: من جملة ما ينتفع به المرء بعد موته إن ترك ولدًا تعلم القرآن والعلم فيكون لوالده أجر ذلك من غير أن ينقص من أجر الولد شيء - انتهى. الخامس: هل يجزئ الصبي عن حجة الإسلام، أي الحجة الفريضة؟ قال العيني: وفي أحكام ابن بزيزة: أما الصبي فاختلف القائلون بانعقاد حجه هل يجزيه عن حجة الفريضة؟ فقال داود وغيره يجزيه وقال مالك، والشافعي وغيرهما لا يجزيه، وقال ابن البر في التمهيد: اختلف العلماء أيضًا هل يجزئه عن حجة الإسلام فالذي عليه فقهاء الأمصار الذين قدمنا ذكرهم في هذا الباب أن ذلك لا يجزيه، وذكر أبو جعفر الطحاوي في معاني الآثار حديث الباب ثم قال: فذهب قوم إلى أن الصبي إذا حج قبل بلوغه أجزأه عن حجة الإسلام، واحتجوا بهذا الحديث وخالفهم آخرون فقالوا: لا يجزيه عن حجة الإسلام، وعليه بعد بلوغه حجة أخرى، وكان لهم من الحجة على أهل المقالة الأولى أن في هذا الحديث أن للصبي حجًا، وهذا مما قد أجمع الناس عليه، ولم يختلفوا في أن للصبي حجًا وليس ذلك عليه بفريضة ومن جهة القياس فكما له صلاة وليست بفريضة فكذلك قد يجوز أن يكون له حج وليس بفريضة، وإنما هذا الحديث حجة على من زعم أنه لا حج له، وأما من يقول إن له حجًا وأنه غير فريضة فلم يخالف شيئًا من هذا الحديث، وهذا ابن عباس هو الذي روى هذا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قد صرف حج الصبي إلى غير الفريضة ثم ذكر ابن عبد البر بسند الطحاوي قول ابن عباس بلفظ: أيما غلام حج به أهله فمات فقد قضى حجة الإسلام وإن أدرك فعليه الحج. قال أبو عمر: على هذا جماعة فقهاء الأمصار وأئمة الأثر. وقال الشوكاني: وشذ بعضهم فقال: إذا حج الصبي أجزاه ذلك عن حجة الإسلام لظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((نعم)) في جواب قوله: ((ألهذا حج؟)) وقال الطحاوي: لا حجة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((نعم)) على أنه يجزيه عن حجة الإسلام بل فيه حجة على من زعم أنه لا حج له. قال لأن ابن عباس راوى الحديث قال أيما غلام حج به أهله ثم بلغ فعليه حجة أخرى، ثم ساقه بإسناد صحيح وقد أخرج هذا الحديث مرفوعًا الحاكم (ج1: ص481) وقال: صحيح على شرطهما، والبيهقي (ج5: ص156) ، وابن حزم (ج7: ص44) وصححه. وقال ابن خزيمة: الصحيح موقوف، وأخرجه كذلك، قال البيهقي: تفرد برفعه محمد بن المنهال. ورواه الثوري عن شعبة موقوفًا ولكنه قد تابع محمد بن المنهال على رفعه الحارث بن شريح، أخرجه كذلك الإسماعيلي والخطيب، ويؤيد صحة رفعه ما رواه ابن أبي شيبة عن ابن عباس: قال احفظوا عني ولا تقولوا. قال ابن عباس فذكره. وهو ظاهر في الرفع وقد أخرج ابن عدي من حديث جابر بلفظ ((لو حج صغير حجة لكان عليه حجة أخرى)) ومثل هذا حديث محمد بن كعب القرظي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: أيما صبي حج به أهله فمات أجزأت عنه، فإن

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ أدرك فعليه الحج - الحديث، أورده صاحب المنتقي وقال: ذكره أحمد بن حنبل في رواية ابنه عبد الله هكذا مرسلاً. قال صاحب الفتح الرباني: لم أقف على هذا الحديث في المسند، ولعله في كتاب آخر من كتب الإمام أحمد، ولا سيما لم يعزه صاحب المنتقي إلى المسند، قال الشوكاني: وأخرجه أبو داود في المراسيل، وفيه راو لم يسم. قلت: وأخرجه أيضًا ابن حزم في المحلى (ج7: ص44) ، وقال: هو مرسل وعن شيخ لا يدري اسمه ولا من هو؟ قال الشوكاني: فيؤخذ من مجموع هذه الأحاديث أنه يصح حجه ولا يجزئه عن حجة الإسلام إذا بلغ وهذا هو الظاهر فيتعين المصير إليه. قال القاضي عياض: أجمعوا على أنه لا يجزئه إذا بلغ عن فريضة الإسلام إلا فرقة شذت فقالت يجزئه لقوله نعم، وظاهره استقامة كون حج الصبي مطلقًا، والحج إذا أطلق تبادر منه إسقاط الواجب. ولكن العلماء ذهبوا إلى خلافه محتجين بحديث ابن عباس المذكور يعني الذي رواه الحاكم، والطحاوي، والبيهقي وابن حزم، وغيرهم. السادس: فيمن يحرم عن الصبي، واختلفوا فيه أيضًا، والحديث دليل على أن الأم يجوز لها أن تحرم عنه، خلافًا للشافعية. قال الطبري: واختلف أصحابنا في من يحرم عنه، فأكثرهم ذهب إلى أن ذلك منوط بالولاية في ماله، فمن ثبت له الولاية فيه أحرم عنه، والمعنى بالإحرام عنه أنه ينوي بقلبه أنه جعله محرمًا، وذهب بعضهم إلى أن أمه مقدمة في ذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ولك أجر)) والأولون يحملون ذلك على ما ذكرناه من أن معناه، أي فيما تتكلفين من أمره بالحج وتعليمه إياه والقيام بأمره - انتهى. وقال النووي: في شرح مسلم أما الولي الذي يحرم عن الصبي فالصحيح عند أصحابنا أنه الذي يلي ماله وهو أبوه أو جده أو الوصي أو القيم من جهة القاضي أو القاضي أو الإمام، وأما الأم فلا يصح إحرامها عنه إلا أن تكون وصية أو قيمة من جهة القاضي، وقيل: إنه يصح إحرامها وإحرام العصبة وإن لم يكن لهم ولاية المال، وهذا كله إن كان صغيرًا لا يميز، فإن كان مميزًا أذن له الولي فأحرم، فلو أحرم بغير إذن الولي أو أحرم الولي عنه لم ينعقد على الأصح، وصفة إحرام الولي من غير المميز أن يقول بقلبه: ((جعلته محرمًا)) - انتهى. وقال في مناسكه: إن كان مميزًا أحرم بإذن وليه، فإن أحرم بغير إذنه لم يصح على الأصح ولو أحرم عنه وليه صح على الأصح، فإن لم يكن مميزًا أحرم عنه وليه وهو الأب وكذا الجد عند عدم الأب، ولا يتولاه عند وجوده، والوصي والقيم كالأب على الصحيح، ولا يتولاه الأخ والعم والأم على الأصح إذا لم يكن له وصية ولا ولاية من الحاكم. قال ابن حجر: قوله: ((وهو الأب)) ويشرط في الأب كما قاله الأذرعي شروط ولاية المال من العدالة وغيرها، فإن انتفى عنه بعضها انتقلت إلى الجد، وقوله: ((عند عدم الأب)) ، أي أو وجوده لا بصفة الولاية، قوله: ((والأم)) اعترض بما في مسلم ((أن امرأة رفعت صبيًا)) الحديث. ورد بأنه ليس في الحديث أنها أحرمت عنه، وبتقديره يحتمل كونها وصية أو قيمة، أو أن الأجر الحاصل إنما هو أجر الحمل والنفقة - انتهى. وقال الشيخ ولي الدين: لا يصح الاستدلال بهذا الحديث على صحة الإحرام عنه مطلقًا لاحتمال أن هذا الصبي كان مميزًا فأحرم هو عن نفسه، وعلى تقدير أنه لم يميز فلعل له وليًا

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ أحرم عنه، وعلى تقدير أنها التي أحرمت فلعلها ولية مال - انتهى. وقال ابن قدامة (ج3: ص253) : إن كان مميزًا أحرم بإذن وليه، وإن أحرم بدون إذنه لم يصح، لأن هذا عقد يؤدي إلى لزوم مال فلم ينعقد من الصبي بنفسه كالبيع، وإن كان غير مميز فأحرم عنه من له ولاية على ماله كالأب والوصي وأمين الحاكم صح، قال: فإن أحرمت أمه عنه صح لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ولك أجر)) ولا يضاف الأجر إليها إلا لكونه تبعًا لها في الإحرام. وقال الإمام أحمد: في رواية حنبل: يحرم عنه أبوه أو وليه، واختاره ابن عقيل، وقال: المال الذي يلزم بالإحرام لا يلزم الصبي وإنما يلزم من أدخله في الإحرام في أحد الوجهين. وقال القاضي: ظاهر كلام أحمد أنه لا يحرم عنه إلا وليه لأنه لا ولاية للأم على ماله، والإحرام يتعلق به إلزام مال فلا يصح من غير ذي ولاية، أما غير الأم والولي من الأقارب كالأخ والعم وابنه فيخرج فيهم وجهان بناء على القول في الأم، أما الأجانب فلا يصح إحرامهم عنه وجهًا واحدًا - انتهى. وقال الدردير: يحرم ولي أب أو غيره عن رضيع قرب الحرم، أي مكة لا من الميقات للمشقة، ويحرم الصبي المميز وهو الذي يفهم الخطاب ويحسن رد الجواب بإذن الولي من الميقات، وألا يحرم بإذنه بل بغيره فله تحليله إن رآه مصلحة ولا قضاء عليه إذا حلله. قال الدسوقي: قوله: أب أو غيره كوصي ومقدم وقاض، وأم وعاصب وإن لم يكن لهم نظر في المال كما نقله الأبي في شرح مسلم وأقره، وخلافًا للشافعية حيث قالوا: الولي الذي يحرم عنه إنما هو الولي الذي له النظر في المال، وقوله ((عن رضيع)) المراد به الصغير المميز - انتهى. وقال في شرح اللباب: ينعقد إحرام الصبي المميز للنقل ويصح أداؤه بنفسه دون غيره ولا يصح من غير الميز في الأداء ولا الإحرام بل يصحان من وليه فيحرم عنه من كان أقرب إليه في النسب فلو اجتمع أخ أو والد يحرم له الوالد على ما في فتاوى قاضي خان، والظاهر أنه شرط الأولوية - انتهى. وفي الغنية: ينعقد إحرام الصبي المميز للنقل إذا أحرم بنفسه، وكذا غير المميز إذا أحرم عنه وليه، فالمميز لا يصح النيابة عنه في الإحرام ولا في أداء الأفعال إلا فيما لم يقدر عليه فيحرم بنفسه ويقضي المناسك كلها بنفسه ويفعل كما يفعل البالغ، وأما غير المميز فلا يصح أن يحرم بنفسه لأنه لا يعقل النية ولا يقدر التلفظ بالتلبية، وهما شرطان في الإحرام فيحرم له وليه والأقرب أولى - انتهى. قال ابن عابدين: المراد من كان أقرب إليه بالنسب، فلو اجتمع والد وأخ يحرم له الوالد كما في الخانية، والظاهر أنه شرط الأولوية - انتهى. السابع: إذا أحرم الصبي فبلغ قبل الوقوف بعرفة ماذا يفعل وهل يجزئه عن حجة الإسلام؟ قال ابن عبد البر: في التمهيد اختلف الفقهاء في المراهق والعبد يحرمان بالحج ثم يحتلم هذا ويعتق هذا قبل الوقوف بعرفة، فقال مالك وأصحابه: لا سبيل إلى رفض الإحرام لهذين ولا لأحد ويتماديان على إحرامهما ولا يجزيهما حجهما ذلك عن حجة الإسلام. وقال أبو حنيفة: إن جدد الصبي إحرامًا بعد ما بلغ أجزأه، وقال الشافعي: إذا أحرم الصبي ثم بلغ قبل الوقوف بعرفة فوقف بها محرمًا أجزأه عن حجة الإسلام،

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ وكذلك العبد إذا أحرم ثم عتق قبل الوقوف فوقف بها محرمًا أجزأه عن حجة الإسلام ولم يحتج إلى تجديد إحرام واحد منهما - انتهى. وقال النووي في مناسكه: إذا بلغ الصبي بعد خروج الوقت للوقوف أو قبل خروجه وبعد مفارقة عرفات ولم يعد إليها بعد البلوغ لم يجز عن حجة الإسلام وإن بلغ في حال الوقوف أو بعده فعاد ووقف في الوقت أجزأه عن حجة الإسلام - انتهى. وقال ابن قدامة: في المغني (ج3: ص248) : أجمع أهل العلم إلا من شذ عنهم ممن لا يعتد بخلافه على أن الصبي إذا حج في صغره والعبد إذا حج في رقه ثم بلغ أو عتق أن عليهما حجة الإسلام إذا وجدا إليها سبيلاً. كذلك قال ابن عباس، وعطاء، والحسن والنخعي، والثوري، ومالك، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور وأصحاب الرأي. قال الترمذي: وقد أجمع أهل العلم عليه. وقال الإمام أحمد عن محمد بن كعب القرظي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني أريد أن أجدد في صدور المؤمنين عهدًا، أيما صبي حج به أهله فمات أجزأت عنه، فإن أدرك فعليه الحج، وأيما مملوك حج به أهله فمات أجزأت عنه، فإن عتق فعليه الحج. رواه سعيد بن منصور في سننه، والشافعي في مسنده عن ابن عباس من قوله، فإن بلغ الصبي أو عتق العبد بعرفة أو قبلها غير محرمين فأحرما ووقفا بعرفة وأتما المناسك، أجزأهما عن حجة الإسلام، لا نعلم فيه خلافًا لأنه لم يفتهما شيء من أركان الحج، ولا فعلا شيئًا منها قبل وجوبه، وإن كان البلوغ والعتق وهما محرمان أجزأهما أيضًا عن حجة الإسلام، وكذلك قال ابن عباس، وهو مذهب الشافعي، وإسحاق. وقاله الحسن في العبد. وقال مالك لا يجزئهما، اختاره ابن المنذر. وقال أصحاب الرأي: لا يجزئ العبد، فأما الصبي فإن جدد إحرامًا بعد أن احتلم قبل الوقوف أجزأه وإلا فلا لأن إحرامهما لم ينعقد واجبًا فلا يجزي عن الواجب كما لو بقيا على حالهما. قال ابن قدامة: ولنا أنه أدرك الوقوف حرًا بالغًا فأجزأه كما لو أحرم تلك الساعة، قال أحمد: قال طاوس عن ابن عباس: إذا عتق العبد بعرفة أجزأت عنه حجته، فإن عتق بجمع لم تجزئ عنه، وهؤلاء يقولون: لا تجزئ، ومالك يقوله أيضًا، والحكم فيما إذا أعتق العبد وبلغ الصبي بعد خروجهما من عرفة فعادا إليها قبل طلوع الفجر ليلة النحر كالحكم فيما إذا كان ذلك فيها لأنهما قد أدركا من الوقت ما يجزئ، ولو كان لحظة، وإن لم يعود أو كان ذلك قبل طلوع الفجر من يوم النحر لم يجزئهما عن حجة الإسلام ويتمان حجهما تطوعًا لفوات الوقوف المفروض ولا دم عليها لأنهما حجا تطوعًا بإحرام صحيح من الميقات فأشبها البالغ الذي يحج تطوعًا، وإذا بلغ الصبي أو عتق العبد قبل الوقوف أو في وقته وأمكنهما الإتيان بالحج لزمهما ذلك لأن الحج واجب على الفور فلا يجوز تأخيره مع إمكانه كالبالغ الحر، وإن فاتهما الحج لزمتهما العمرة لأنها واجبة أمكن فعلها فأشبهت الحج، ومتى أمكنهما ذلك فلم يفعلا استقر الوجوب عليهما سواء كانا معسرين أو موسرين لأن ذلك وجب عليهما بإمكانه في موضعه فلم يسقط بفوات القدرة بعده - انتهى. وقال في الهداية: إذا بلغ الصبي بعد ما أحرم أو أعتق العبد فمضيا لم يجزهما

رواه مسلم. 2535- (7) وعنه قال: ـــــــــــــــــــــــــــــ عن حجة الإسلام لأن إحرامهما انعقد لأداء النفل فلا ينقلب لأداء الفرض، ولو جدد الصبي الإحرام قبل الوقوف ونوى حجة الإسلام جاز، والعبد لو فعل ذلك لم يجز لأن إحرام الصبي غير لازم لعدم الأهلية، وأما إحرام العبد فلازم فلا يمكنه الخروج منه بالشروع في غيره - انتهى. ويتضح وجه الفرق بين الصبي والعبد عند الحنفية إذ يكفي تجديد الأول إحرامه دون الثاني بما ذكره القاري حيث قال لا يجب الحج على صبي فلو حج فهو نفل لا فرض لكونه غير مكلف فلو أحرم ثم بلغ فلو جدد إحرامه يقع عن فرضه وإلا لا، وإنما جوز له التجديد لكون شروعه غير ملزم، بخلاف العبد البالغ إذا عتق، فإنه ليس له أن يجدد إحرامه بالفرض للزوم الإحرام الأول في حقه بشروعه فليس له أن يخرج عنه إلا بأدائه - انتهى. هذا واختلفت الحنفية في صحة تجديد الإحرام بعد الوقوف فذهب بعضهم إلى أنه معتبر وقال بعضهم لا يعتبر لأن بالوقوف ولو لحظة تم حج النفل ولا يصح في سنة حجتان إجماعًا. (رواه مسلم) هو من إفراد مسلم، لم يخرجه البخاري في صحيحه، ومن عزاه إليهما كابن رشد في البداية ومحب الدين الطبري في القرى فقد سها، وقد أخرجه أيضًا أحمد (ج1: ص219) ، والشافعي وأبو داود والنسائي والحاكم (ج1: ص484) ، وابن الجارود (ص147) ، والبيهقي (ج5: ص155، 156) وأخرجه مالك مرسلاً. وفي الباب عن جابر أخرجه أحمد، وابن ماجة، وابن أبي شيبة، وعن السائب بن يزيد أخرجه أحمد والبخاري والترمذي. وعن عبد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس قال ((بعثني أو قدمني النبي - صلى الله عليه وسلم - في الثقل من جمع بليل)) أخرجه البخاري. ووجه دخول هذا الحديث في الباب أن ابن عباس كان دون البلوغ إذ ذاك. 2535- قوله (وعنه) ، أي عن ابن عباس، كذا قال مالك وأكثر الرواة عن الزهري عن سليمان عند الشيخين وغيرهما أن الحديث من مسند عبد الله بن عباس، وخالفهم ابن جريج عن الزهري في الصحيحين أيضًا فقال عن ابن عباس عن الفضل أن امرأة فذكره فجعله من مسند الفضل، وتابعه معمر، وروى ابن ماجة من طريق محمد بن كريب عن أبيه عن ابن عباس أخبرني حصين بن عوف الخثعمي، قال: قلت: يا رسول الله إن أبي أدركه الحج ولا يستطيع أن يحج - الحديث. قال الترمذي: سألت محمدًا يعني البخاري عن هذا فقال أصح شيء فيه ما روي عن ابن عباس عن الفضل. قال محمد: ويحتمل أن يكون ابن عباس سمعه من الفضل ومن غيره ثم رواه بغير واسطة - انتهى. قال الحافظ: وإنما رجح البخاري الرواية عن الفضل لأنه كان ردف النبي - صلى الله عليه وسلم - حينئذٍ وكان عبد الله بن عباس قد تقدم من المزدلفة إلى منى مع الضعفة، وأخرج البخاري في باب التلبيلة والتكبير من طريق عطاء عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أردف الفضل فأخبر الفضل أنه لم

إن امرأة من خثعم، قالت: يا رسول الله! إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا، لا يثبت على الراحلة، ـــــــــــــــــــــــــــــ يزل يلبي حتى رمى الجمرة. فكان الفضل حدث أخاه بما شاهده في تلك الحالة، ويحتمل أن يكون سؤال الخثعمية وقع بعد رمي جمرة العقبة فحضره ابن عباس فنقله تارة عن أخيه لكونه صاحب القصة، وتارة عما شاهده ويؤيد ذلك ما وقع عند الترمذي وأحمد (ج1: ص75، 76) ، وابنه عبد الله (ج1: ص76) ، والطبري من حديث علي مما يدل على أن السؤال المذكور وقع عند المنحر بعد الفراغ من الرمي، وأن العباس كان شاهدًا، ولفظ أحمد من طريق عبيد الله بن أبي رافع عن علي قال: وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفة فقال: هذا الموقف وعرفة كلها موقف , فذكر الحديث، وفيه ((ثم أتى المنحر فقال هذا المنحر ومنى كلها)) ، قال: ((واستفتته)) ، وفي رواية ابنه عبد الله: ثم جاءته امرأة شابة من خثعم فقالت: إن أبي شيخ كبير قد أفند وقد أدركته فريضة الله في الحج، أفيجزئ عنه أن أؤدي عنه؟ قال: نعم فأدي عن أبيك. قال: وقد لوى عنق الفضل، فقال العباس: يا رسول الله لم لويت عنق ابن عمك؟ قال: رأيت شابًا وشابة فلم آمن عليهما الشيطان. وظاهر هذا أن العباس كان حاضرًا لذلك، فلا مانع أن يكون ابنه عبد الله أيضًا كان معه - انتهى. (إن امرأة) قال الحافظ: لم تسم (من خثعم) قال القسطلاني: بفتح الخاء المعجمة وسكون المثلثة وفتح العين المهملة غير مصروف للعلمية والتأنيث باعتبار القبيلة لا العلمية ووزن الفعل، وهي قبيلة مشهورة، أي من اليمن. وقال السندي: غير منصرف للعلمية ووزن الفعل أو التأنيث لكونه اسم قبيلة. وقال القاري: أو قبيلة من اليمن سموا به، ويجوز صرفه ومنعه. قال الزرقاني: قبيلة مشهورة سميت باسم جدها واسمه: أفتل بن أنمار. قال الكلبي: إنما سمي خثعم بجمل يقال له: خثعم، ويقال أنه لما تحالف ولد أفتل على إخوته نحروا بعيرًا ثم تخثعموا بدمه، أي تلطخوا به بلغتهم (إن فريضة الله على عباده في الحج) ، أي في أمره وشأنه، ويمكن في بمعنى من للبيانية قاله القاري. (أدركت) ، أي الفريضة (أبي) لم يسم أيضًا وهو مفعول (شيخنا) حال (كبيرًا) نعت له، قال السندي: قوله ((أدركت أبي شيخنا كبيرًا)) إلخ، يفيد أن افتراض الحج لا يشترط له القدرة على السفر وقد قرر - صلى الله عليه وسلم - ذلك فهو يؤيد أن الاستطاعة المعتبرة في افتراض الحج ليست بالبدن، وإنما هي بالزاد والراحلة، والله تعالى أعلم. (لا يثبت على الراحلة) نعت آخر ويحتمل أن يكون حالاً أيضًا ويكون من الأحوال المتداخلة أو شيخًا بدل لكونه موصوفًا، أي وجب عليه الحج بأن أسلم وهو شيخ كبير وله المال أو حصل له المال في هذه الحالة، والأول أوجه. قال الطيبي: وفي رواية: ((لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره)) وفي رواية: ((لا يستمسك على الرحل)) وفي رواية من الزيادة: ((إن شددته خشيت أن يموت)) ، وحديث أبي هريرة عند ابن خزيمة بلفظ: ((وإن شددت بالحبل على الراحلة خشيت أن أقتله)) قال الحافظ: وهذا يفهم منه على أن من قدر على هذين الأمرين من الثبوت على الراحلة أو الأمن عليه من

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأذى لو ربط لم يرخص له في الحج عنه كمن يقدر على محمل موطأ كالمحفة. وقال الأمير اليماني: ظاهر الحديث مع الزيادة المذكورة أنه لا بد في صحة التحجيج عنه من الأمرين عدم ثباته على الراحلة والخشية من الضرر عليه من شده فمن لا يضره الشد كالذي يقدر على المحفة لا يجزئه حج الغير إلا أنه ادعى في البحر الإجماع على أن الصحة وهي التي يستمسك معها قاعدًا شرط بالإجماع فإن صح الإجماع فذاك وإلا فالدليل مع من ذكرنا - انتهى. وهذا وقد اختلف هل المسئول عنه رجل أو امرأة كما وقع الاختلاف في الروايات في السائل ففي بعض الروايات أنه امرأة، وفي بعضها أنه رجل، وقد بسط ذلك في الفتح (ج7: ص221) ، وفي باب حج المرأة عن الرجل فقال: اتفقت الروايات كلها عن ابن شهاب عن سليمان على أن السائلة كانت امرأة، وأنها سألت عن أبيها، وخالفه يحيى بن أبي إسحاق عن سليمان فاتفق الرواة على أن السائل رجل. ثم اختلفوا عليه في إسناده ومتنه فذكر الاختلاف في الإسناد ثم قال: وأما المتن فقال هشيم عن يحيى عن سليمان: أن رجلاً سأل فقال: إن أبي مات، وقال ابن سيرين عنه فجاء رجل فقال: إن أمي عجوز كبيرة، وقال ابن علية عنه فجاء رجل فقال: إن أبي أو أمي، وخالف الجميع معمر عن يحي فقال: إن امرأة سألت عن أمها. وهذا الاختلاف كله عن سليمان بن يسار فأحببنا أن ننظر في سياق غيره، فإذا كريب قد رواه عن ابن عباس عن حصين بن عوف الخثعمي، قال قلت: يا رسول الله إن أبي أدركه الحج. وإذا عطاء الخراساني روى عن أبي الغوث بن حصين الخثعمي أنه استفتى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن حجة كانت على أبيه. أخرجهما ابن ماجة، والرواية الأولى أقوى إسنادًا، وهذا يوافق رواية هشيم في أن السائل عن ذلك رجل سأل عن أبيه ويوافقه ما روى الطبراني من طريق عبد الله بن شداد عن الفضل بن عباس أن رجلاً قال: يا رسول الله إن أبي شيخ كبير، ويوافقهما مرسل الحسن عند ابن خزيمة وقد جمع بعض العلماء وهو الحافظ زين الدين العراقي شيخ الحافظ والعيني بين هذه الروايات بتعدد القضية إذ قال: إن السؤال وقع مرات: مرة من امرأة عن أبيها ومرة من امرأة عن أمها، ومرة من رجل عن أبيه ومرة في السؤال عن الشيخ الكبير، ومرة في الحج عن الميت لكن قال الحافظ: والذي يظهر لي من مجموع هذه الطرق أن السائل رجل وكانت ابنته معه فسألت أيضًا والمسئول عنه أبو الرجل وأمه جميعًا، ويقرب ذلك ما رواه أبو يعلي بإسناد قوى من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس عن الفضل بن عباس، قال: كنت ردف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأعرابي معه بنت له حسناء، فجعل الأعرابي يعرضها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجاء أن يتزوجها وجعلت ألتفت إليها ويأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - برأسي فيلويه، فكان يلبي حتى رمى جمرة العقبة. فعلى هذا فقول الشابة: ((إن أبي)) لعلها لأرادت به جدها، لأن أباها كان معها، وكأنه أمرها أن تسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ليسمع كلامها ويراها رجاء أن يتزوجها، فلما لم يرضها سأل أبوها عن أبيه، ولا مانع أن يسأل عن أمه، وتحصل من هذا الروايات أن اسم الرجل حصين بن عوف الخثعمي، وأما ما وقع في الرواية الأخرى أنه أبو الغوث بن

أفأحج عنه؟ قال: نعم. وذلك في حجة الوداع. ـــــــــــــــــــــــــــــ حصين، فإن إسنادها ضعيف، ولعله كان فيه عن أبي الغوث حصين فزيد في الرواية ابن أو أن أبا الغوث كان مع أبيه حصين فسأل كما سأل أبوه وأخته والله أعلم - انتهى. وقيل: الأحسن في الجمع بين ذلك أن يقال: إن البنت المذكورة في رواية أبي يعلى كانت مع عم لها لا مع أبيها، فإن التجوز في رواية أبي يعلى من لفظ: ((معه بنت له)) أهون من التجوز في جميع الروايات المختلفة الواردة بلفظ: ((إن أبي شيخ كبير)) فالابنة سألت عن أبيها، والعم سأل عن أبيه، وأيضًا على ما أفاد الحافظ لم يبق الحاجة إلى سؤاله عن أبيه بعد ما سألت هي عنه (أفأحج عنه) ، أي أيجوز لي أن أنوب عنه فأحج عنه لأن ما بعد الفاء الداخلة عليها الهمزة معطوف على مقدر، والمعنى: أيصح مني أن أكون نائبة عنه في الحج فأحج عنه (قال: نعم) وعند أحمد (ج1: ص212) ((فحجي عن أبيك)) (وذلك) أي جميع ما ذكر جرى (في حج الوداع) بمنى، الوداع بفتح الواو وقيل بكسرها سميت بذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - ودع الناس فيها ولم يحج بعد الهجرة غيرها، وكانت في سنة عشر من الهجرة وفي الحديث دليل على جواز حج المرأة عن الرجل وبالعكس، وذهب بعض أهل العلم إلى عدم جواز حج المرأة عن الرجل، قالوا: لأن المرأة تلبس في الإحرام ما لا يلبسه الرجل فلا يحج عنه إلا رجل مثله. وحديث الباب يرد هذا القول. قال ابن بطال: لا خلاف في جواز حج الرجل عن المرأة والمرأة عن الرجل، ولم يخالف في جواز حج الرجل عن المرأة، والمرأة عن الرجل إلا الحسن بن صالح - انتهى. وقال ابن قدامة في المغني (ج3: ص233) : يجوز أن ينوب الرجل عن الرجل والمرأة، والمرأة عن الرجل والمرأة في الحج في قول عامة أهل العلم، لا نعلم فيه مخالفًا إلا الحسن بن صالح، فإنه كره حج المرأة عن الرجل، قال ابن المنذر: هذه غفلة عن ظاهر السنة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر المرأة أن تحج عن أبيها، وعليه يعتمد من أجاز حج المرأ عن غيره. وفي الباب حديث أبي رزين (يعني الذي يأتي في الفصل الثاني) أحاديث سواه - انتهى. وفيه دليل على وجوب الحج على العاجز الذي يجد الاستطاعة بالغير، قال الخطابي: فيه دليل على أن فرض الحج يلزم من استفاد مالاً في حال كبره وزمانته إذا كان قادرًا به على أن يأمر غيره في حج عنه كما لو قدر على ذلك بنفسه - انتهى. قلت: واختلف العلماء فيه قال ابن رشد: أما وجوبه باستطاعة النيابة مع العجز عن المباشرة فعند مالك وأبي حنيفة لا تلزم، وعند الشافعي تلزم، فيلزم على مذهبه الذي عنده مال بقدر أن يحج به عنه غيره إذا لم يقدره هو ببدنه أن يحج عنه غيره، وهى المسألة التي يعرفونها بالمعضوب وهو الذي لا يثبت على الراحلة - انتهى. وقال ابن قدامة (ج3: ص227) : من وجدت فيه شرائط وجوب الحج وكان عاجزًا عنه لمانع مأيوس من زواله كزمانة أو مرض لا يرجى زواله والشيخ الفاني متى وجد من ينوب عنه في الحج ومالاً يستنيبه به لزمه الحج، وبهذا قال أبو حنيفة، والشافعي

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال مالك: لا حج عليه إلا أن يستطيع بنفسه لأنه تعالى قال: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (- 3: 91) وهذا غير مستطيع، ولنا حديث أبي رزين وحديث ابن عباس في المرأة الخثعمية. وسئل علي رضي الله عنه عن شيخ لا يجد الاستطاعة قال: يجهز عنه - انتهى. وقال الخطابي: استدل الشافعي بخبر الخثعمية على وجوب الحج على المعضوب الزمن إذا وجد من يبذل له طاعته من ولده وولد ولده. ووجه ما استدل به من هذا الحديث أنها ذكرت وجوب فرض الحج على أبيها في حال الزمانة ولا بد من تعلق وجوبه بأحد أمور إما بمال أو بقوة بدن أو وجود طاعة من ذي قوة، وقد علمنا عجزه ببدنه ولم يجز للمال ذكر وإنما جرى الذكر لطاعتها وبذلها نفسها عنه فدل على أن الوجوب تعلق به، ومعلوم في اللسان أن يقال: فلان مستطيع لأن يبني داره إذا كان يجد من يطيعه في ابتنائها كما إذا وجد مالاً ينفقه في بنائها وكما لو قدر عليه بنفسه - انتهى. قال صاحب القرى: ولقائل أن يقول: استفسارها عن جواز الحج عنه وقع بعد إخبارها بإدراك الفرض له، فدل على تعلق الوجوب بأمر آخر غير الطواعية، فإن من لم يعلم جواز حجه عن أبيه لا يعلم وجوب الحج على أبيه بطواعيته وهذا ظاهر لمن تأمله، وليس ذلك الأمر الآخر إلا المال لتعذر القسمين الآخرين، أما الطواعية فلما ذكرناه، وأما القوة في البدن فلإخبارها أن الفرض أدركه وهو بحالة العجز، هذا هو الظاهر ولا وجه لصرف اللفظ عن ظاهره، وتكون هي قد علمت أن الاستطاعة بالمال كالاستطاعة بالبدن. وعلى هذا يكون الحديث حجة على وجوب الحج على المعضوب بسبب الاستطاعة بالمال أو بطواعية الولد قياسًا عليه، وأما غير الولد فيمكن إلحاقه به لوجود مطلق الاستطاعة - انتهى. وقال الحافظ: استدل بالحديث على أن الاستطاعة تكون بالغير كما تكون بالنفس، وعكس بعض المالكية فقال: من لم يستطع بنفسه لم يلاقه الوجوب قلت: فسر المالكية الاستطاعة بإمكان الوصول إلى البيت من غير خروج عن عادة خلافًا للأئمة الثلاثة فإنهم فسروها بالزاد والراحلة كما سيأتي. قال ابن التين: الاستطاعة أن يقدر على الوصول إلى البيت من غير خروج عن عادة، فمن كان عادته السفر ماشيًا، أي وأمكن وصوله ماشيًا لزمه أن يمشي وإن لم يجد راحلة، ومن كان عادته تكفف الناس وأمكنه التوصل به لزمه وإن لم يجد زادًا، ومن كان عادته الركوب والغناء عن الناس لم يلزمه الحج إلا بوجدان ذلك، وصرح الدردير أنه يجب الحج على الأعمى القادر على المشي بقائد ولو بأجرة. وقال عياض: الاستطاعة عند مالك هي القدرة ولو على رجليه دون مشقة فادحة. وقال الأكثر: هي الزاد والراحلة، وجاء فيه حديث وتأويله عندنا أنه أحد أنواع الاستطاعة لا كلها وما وقع من الاختلاف في نقل مذهب أبي حنيفة بين ابن قدامة وابن رشد فهو مبني على اختلاف الروايات عنه كما سيأتي. قال القاري في شرح اللباب في شرائط وجوب الأداء: الأول منها سلامة البدن عن الأمراض والعلل. فقيل: الصحيح أنه شرط الوجوب فحسب على ما في النهاية. وقال في البحر: هو المذهب الصحيح. وقيل: إنه من شرط

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأداء على ما صححه قاضي خان في شرح الجامع، واختاره كثير من المشايخ، منهم ابن الهمام، فعلى الأول لا يجب على الأعمى والمقعد والمعضوب، أي: الضعيف والزمن الذي لا حراك به على ما في القاموس، والمراد هنا الشيخ الكبير الذي لا يثبت على الراحلة. قال ابن الهمام: ففي المشهور عن أبي حنيفة أنه لا يلزمهم الحج. قال في البحر: وهذا عند أبي حنيفة في ظاهر الرواية وهو رواية عنهما. وقالا في ظاهر روايتهما وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة أنه يجب على هؤلاء إذا ملكوا الزاد والراحلة ومؤنة من يرفعهم ويضعهم. والخلاف المذكور في من وجد الاستطاعة وهو معذور، أما إن وجدها وهو صحيح ثم طرأ عليه العذر فالاتفاق على الوجوب - انتهى مختصرًا. واستدل بحديث الباب على وجوب الاستنابة على العاجز عن الحج الفرض، وقال عياض: لا حجة فيه لذلك، لأن قولها ((إن فريضة الله على عباده)) ألخ، لا يوجب دخول أبيها في هذا الفرض، وإنما الظاهر من الحديث أنها أخبرت أن فرض الحج بالاستطاعة نزل وأبوها غير مستطيع فسألت هل يباح لها أن تحج عنه له ويكون له في ذلك أجر؟ يعني أن معنى قولها المذكور أن إلزام الله عباده بالحج الذي وقع بشرط الاستطاعة صادف أبي بصفة من لا يستطيع فهل أحج عنه هل يجوز لي ذلك أو هل فيه أجر ومنفعة؟ فقال: نعم. ولا يخالفه. قوله ((فحجي عنه)) لأنه أمر ندب وإرشاد ورخصة لها أن تعمل لما رأى من حرصها على تحصيل الخير لأبيها. قال الحافظ وتعقب بأن في بعض طرقه التصريح بالسؤال عن الإجزاء فيتم الاستدلال، وفي بعض طرق مسلم ((إن أبي عليه فريضة الله في الحج)) ولأحمد في رواية ((والحج مكتوب عليه)) - انتهى. قلت: قولها ((أدركت أبي)) يرد التأويل الذي ذكره عياض فأنه صريح في إدراك الفرض له، والظاهر من إدراك الفرض للإنسان اللزوم وصرف اللفظ عن ظاهره خلاف الأصل وادعى بعض المالكية أن هذه القصة مختصة بالخثعمية كما اختص سالم مولى أبي حذيفة بجواز إرضاع الكبير حكاه عنه ابن عبد البر وتعقب بأن الأصل عدم الخصوصية واحتج بعضهم لذلك بما رواه عبد الملك بن حبيب صاحب الواضحة بإسنادين مرسلين فزاد في الحديث ((حج عنه وليس لأحد بعده)) ولا حجة فيه لضعف الإسناد مع إرسالهما، وقد عارضه قوله في حديث الجهنية في باب الحج والنذر عن الميت عند البخاري ((اقضوا الله فالله أحق بالوفاء)) وادعى آخرون منهم أن ذلك خاص بالابن يحج عن أبيه ولا يخفى أنه جمود. واستدل بحديث الباب على جواز الحج عن غيره إذا كان لا يستطيع الحج بنفسه وأنه ليس كالصلاة والصوم وسائر الأعمال البدنية وأنه صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك أن الله عز وجل إنما أراد بقوله: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (- 53: 39) بعض الأعمال دون بعض. قال ابن العربي: حديث الخثعمية حديث متفق على صحته في الحج خارج عن القاعدة المستقرة في الشريعة من أن ليس للإنسان إلا ما سعي، رفقًا من الله في استدراك ما فرط فيه المرء بولده وماله، وتعقب بأنه يمكن أن يدخل في عموم السعي وبأن عموم السعي

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ في الآية مخصوص اتفاقًا وقال الخطابي: في هذا الحديث بيان جواز حج الإنسان عن غيره حيًا وميتًا وأنه ليس كالصلاة والصيام وسائر الأعمال البدنية التي لا تجرى فيها النيابة، وإلى هذا ذهب الشافعي، وكان مالك لا يرى ذلك وقال: لا يجزئه إن فعل وهو الذي روى حديث ابن عباس، وكان يقول في الحج عن الميت: إن لم يوص به الميت أن تصدق عنه وأعتق أحب إليَّ من أن يحج عنه، وكان إبراهيم النخعي، وابن أبي ذئب يقولان: لا يحج أحد عن أحد والحديث حجة على جماعتهم - انتهى. وقال العيني: في الحديث جواز الحج عن غيره إذا كان معضوبًا، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، والثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وقال مالك، والليث، والحسن بن صالح: لا يحج أحد عن أحد إلا عن ميت لم يحج حجة الإسلام، وحاصل ما في مذهب مالك ثلاثة أقوال، مشهورها: لا يجوز، ثانيها: يجوز من الولد، ثالثها: يجوز إن أوصى به. وعن النخعي وبعض السلف: لا يصح الحج عن ميت ولا عن غيره. وهي رواية عن مالك وإن أوصى به قال القرطبي: رأى مالك أن ظاهر حديث الخثعمية مخالف لظاهر القرآن يعني قوله تعالى: {لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (- 53: 39) فرجع ظاهر القرآن، ولا شك في ترجيحه من جهة تواتره ومن جهة أن القول المذكور قول امرأة ظنت ظنًا، قال: ولا يقال قد أجابها النبي - صلى الله عليه وسلم - على سؤالها، ولو كان ظنها غلطًا لبينه لها، لأنا نقول: إنما أجابها عن قولها ((أفاجع عنه؟ قال: حجى عنه)) لما رأى من حرصها على إيصال الخير والثواب لأبيها - انتهى. وتعقب بأن في تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - لها على ذلك حجة ظاهرة، وأما ما رواه عبد الرزاق من حديث ابن عباس فزاد في الحديث ((حج عن أبيك، فإن لم يزده خيرًا لم يزده شرًا)) فقد جزم الحفاظ بأنها رواية شاذة وعلى تقدير صحتها فلا حجة فيها للمخالف، كذا في الفتح، وذكر ابن حزم في المحلى (ج7 ص 58) حديث ابن عباس هذا من طريق عبد الرزاق ثم أجاب عنه وقد أحسن في الجواب فارجع إليه. وأجاب بعض المالكية عن حديث الخثعمية بأن ذلك وقع من السائل على جهة التبرع وليس في شيء من طرقه تصريح بالوجوب، وبأنها عبادة بدنية فلا تصح النيابة فيها كالصلاة وقد نقل الطبري وغيره الإجماع على أن النيابة لا تدخل في الصلاة، قالوا: ولأن العبادات فرضت على جهة الابتلاء وهو لا يوجد في العبادات البدنية إلا بإتعاب البدن فيه يظهر الانقياد أو النفور بخلاف الزكاة فإن الابتلاء فيها بنقص المال وهو حاصل بالنفس وبالغير. وأجيب بأن قياس الحج على الصلاة لا يصح لأن عبادة الحج مالية بدنية معًا فلا يترجح إلحاقها بالصلاة على إلحاقها بالزكاة، ولهذا قال المازري: من غلب حكم البدن في الحج ألحقه بالصلاة، ومن غلب حكم المال ألحقه بالصدقة، وقد أجاز المالكية الحج عن الميت إذا أوصى به، ولم يجيزوا ذلك في الصلاة، وبأن حصر الابتلاء في المباشرة ممنوع لأنه يوجد في الآمر من بذله المال في الأجرة كذا في الفتح. قلت: ويعتضد تغليب حكم المال بحديث الخثعمية وغيره من الأحاديث الواردة في الحج عن الغير حيًا وميتًا، وسيأتي مزيد الكلام في مسألة المستطيع بغيره في

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ شرح حديث ابن عمر سادس أحاديث الفصل الثاني وللمسألة فروع مفيدة جدًا يجب معرفتها منها: أنه لا فرق عند الجمهور بين من وجد الاستطاعة وهو معذور ومن وجدها وهو صحيح ثم طرأ عليه العذر لظاهر حديث الخثعمية خلافًا لما هو المشهور عن أبي حنيفة. فإن قيل فلم لا يجوز أن يكون الحج مستقرًا في ذمته قبل العضب؟ لما طرأ العضب سألت عن أداء ما كان واجبًا عليه ويدل عليه رواية أخرى عند مسلم بلفظ ((إن أبي شيخ كبير عليه فريضة الله في الحج وهو لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره)) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فحجي عنه، وكذلك رواية أحمد ((والحج مكتوب عليه)) قلنا لا دلالة في الحديث على وقت الإدراك بل هو مجمل والحديث الأول مبين له، وهو قولها: ((أدركت أبي شيخًا كبيرًا)) ، أي في هذه الحالة ويكون هذا السؤال وقع منها مرتين ذكرت في إحداهما وقت الإدراك وفي الأخرى أخبرت أن عليه الفرض، وتريد الذي أدركه في تلك الحال فيجمع بين الحديثين إذ لا تضاد بينهما. ومنها: أنهم اختلفوا فيما إذا عوفي المعضوب فقال الجمهور: لا يجزئه لأنه تبين أنه لم يكن ميئوسًا منه، وقال أحمد وإسحاق: لا تلزمه الإعادة كذا في الفتح وقال النووي في مناسكه: ولو استناب المعضوب من يحج عنه فحج عنه ثم زال العضب وشفي لم يجزه على الأصح بل عليه أن يحج. وقال ابن قدامة (ج3 ص228) : ومتى أحج هذا، (أي العاجز عن الحج لمانع مأيوس من زواله كزمانة) عن نفسه ثم عوفي لم يجب عليه حج آخر، وهذا قول إسحاق، وقال الشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر: يلزمه لأن هذا بدل إياس فإذا برأ تبين أنه لم يكن مأيوسًا منه فلزمه الأصل. ولنا أنه أتى بما أمر به فخرج عن العهدة كما لو لم يبرأ، أو نقول أدى حجة الإسلام بأمر الشارع فلم يلزمه حج ثان كما لو حج بنفسه، ولأن هذا يفضي إلى إيجاب حجتين عليه، ولم يوجب الله عليه إلا حجة واحدة - انتهى. وقال في الهداية: والشرط العجز الدائم إلى وقت الموت، لأن الحج فرض العمر. قال ابن الهمام: وإنما شرط دوامه إلى الموت لأن الحج فرض العمر فحيث تعلق به خطابه لقيام الشروط وجب عليه أن يقوم هو بنفسه في أول أعوام الإمكان، فإذا لم يفعل أثم، وتقرر القيام بها بنفسه في ذمته في مدة عمره، وإن كان غير متصف بالشروط فإذا عجز عن ذلك بعينه وهو أن يعجز عنه في مدة عمره رخص له الاستنابة رحمة وفضلاً منه فحيث قدر عليه وقتًا ما من عمره بعد ما استناب فيه لعجز لحقه ظهر انتفاء شرط الرخصة. ومنها: ما قال ابن قدامة (ج3: ص229) : من يرجى زوال مرضه والمحبوس ونحوه ليس له أن يستنيب فإن فعل لم يجزئه وإن لم يبرأ، وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة له ذلك، ويكون ذلك مراعى، فإن قدر على الحج بنفسه لزمه وإلا أجزأه ذلك لأنه عاجز عن الحج بنفسه أشبه المأيوس من برئه، ولنا أنه يرجو القدرة على الحج بنفسه فلم يكن له الاستنابة ولا تجزئه أن فعل كالفقير، وفارق المأيوس من برئه لأنه عاجز على الإطلاق آيس من القدرة على الأصل فأشبه الميت، ولأن النص إنما ورد في الحج عن الشيخ الكبير وهو ممن لا يرجى منه الحج بنفسه فلا يقاس عليه إلا من كان مثله فعلى هذا إذا استناب من يرجو

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ القدرة على الحج بنفسه ثم صار مأيوسًا من برئه فعليه أن يحج عن نفسه مرة أخرى لأنه استناب في حال لا تجوز له الاستنابة فيها فأشبه الصحيح - انتهى. وفي الغنية (ص172) : في شرائط النيابة في الحج الفرض دوام العجز إن كان لعذر يرجى زواله عادة كالحبس والمرض فلو عجز فأحج عنه فرضًا كان أمره موقوفًا، فإن دام عجزه حتى مات ظهر أنه وقع مجزئًا عن فرضه وإن قدر عليه وقتًا ما ظهر أنه وقع نفلاً له، وإن كان لعذر لا يرجى زواله عادة كالزمانة والعمى لا يشترط دوامه إلى الموت، إلى آخر ما قال، وارجع لمزيد التفصيل إلى رد المحتار. وقال الحافظ: في الفتح واتفق من أجاز النيابة في الحج على أنها لا تجزئ في الفرض إلا عن موت أو عضب، فلا يدخل المريض لأنه يرجى برئه، ولا المجنون لأنه ترجى إفاقته، ولا المحبوس لأنه يرجى خلاصه، ولا الفقير لأنه يمكن استغناءه. ومنها: ما قال النووي: أما المعضوب فلا يصح الحج عنه بغير إذنه يعني في الفرض لأنه قال بعد ذلك: وتجوز الاستنابة في حج التطوع للميت والمعضوب على الأصح - انتهى. وقال ابن قدامة (ج3: ص234) : ولا يجوز الحج والعمرة عن حي إلا بإذنه فرضًا كان أو تطوعًا لأنها عبادة تدخلها النيابة فلم تجز عن البالغ العاقل إلا بإذنه، فأما الميت فتجوز عنه بغير إذن واجبًا كان أو تطوعًا، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالحج عن الميت وقد علم أنه لا إذن له، وما جاز فرضه جاز نفله كالصدقة - انتهى. وعند الحنفية فيه تفصيل كما في شرح اللباب والغنية ومنها: أنه نقل ابن المنذر وغيره الإجماع على أنه لا يجوز أن يستنيب من يقدر على الحج بنفسه في الحج الواجب، وأما النفل فيجوز عند أبي حنيفة خلافًا للشافعي، وعن أحمد روايتان كذا في الفتح. وقال ابن قدامة (ج3: ص230) : لا يجوز أن يستنيب في الحج الواجب من يقدر على الحج بنفسه إجماعًا. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من عليه حجة الإسلام وهو قادر على أن يحج لا يجزئ أن يحج غيره عنه، والحج المنذور كحجة الإسلام في إباحة الاستنابة عند العجز والمنع منها مع القدرة لأنها حجة واجبة فأما حج التطوع فينقسم أقسامًا ثلاثة أحدها: أن يكون ممن لم يؤد حجة الإسلام فلا يجوز أن يستنيب في حجة التطوع. الثاني: أن يكون ممن قد أدى حجة الإسلام وهو عاجز عن الحج بنفسه فيصح أن يستنيب في التطوع، والثالث أن يكون قد أدى حجة الإسلام وهو قادر على الحج بنفسه فهل له أن يستنيب في حج التطوع؟ فيه روايتان. إحداهما: يجوز وهو قول أبي حنيفة. والثانية: لا يجوز وهو مذهب الشافعي لأنه قادر على الحج بنفسه فلم يجز أن يستنيب فيه كالفرض - انتهى. وفي الهداية: تجوز الإنابة في الحج النقل حالة القدرة، لأن باب النفل أوسع ومنها: أن من حج عن غيره وقع الحج. عن المستنيب خلافًا لمحمد بن الحسن فقال: يقع عن المباشر وللمحجوج عنه أجر النفقة. قال العيني: ظاهر المذهب أن الحج يقع عن المحجوج عنه لحديث الخثعمية، وعند محمد أن الحج يقع عن الحاج وللآخر ثواب النفقة - انتهى. وقال القاري: في الحديث دليل على أن الحج يقع عن الآمر وهو مختار شمس الأئمة السرخسي وجمع من المحققين وهو ظاهر المذهب. ومنها: أنه استدل

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحنفية بعموم حديث الخثعمية على جواز صحة حج من لم يحج نيابة عن غيره، وخالفهم الجمهور فخصوه بمن حج عن نفسه، واستدلوا بحديث ابن عباس في شبرمة الآتي في الفصل الثاني. قال العيني: فيه أي في حديث الخثعمية ما يدل على أنه يجوز للرجل أن يحج عن غيره إن لم يكن حج عن نفسه لإطلاق الحديث ولم يسألها أحججت عن نفسك أم لا وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك، وأحمد في رواية. ويحكى كذلك عن الحسن، وإبراهيم، وأيوب، وجعفر بن محمد. وقال الأوزاعي والشافعي (وأحمد في روايته المشهورة عند أصحابه) وإسحاق: ليس لمن لم يحج حجة الإسلام أن يحج عن غيره فإن فعل وقع إحرامه عن حجة الإسلام. وقال أبو بكر عبد العزيز: يقع الحج باطلاً ولا يصح عنه ولا عن غيره وروي ذلك عن ابن عباس - انتهى. وأجاب الحنفية عن حديث شبرمة بأنه مضطرب معلول، وبأنه محمول على الندب بدليل إطلاقه عليه الصلاة والسلام قوله للخثعمية حجي عن أبيك من غير استخبارها عن حجها لنفسها قبل ذلك، وترك الاستفصال في وقائع الأحوال ينزل منزلة عموم الخطاب فيفيد جوازه عن الغير مطلقًا، وحديث شبرمة يفيد استحباب تقديم حجة لنفسه وبذلك يحصل الجمع. قلت: حديث شبرمة حديث صحيح أو حسن صالح للاحتجاج، وكل ما ذكروه في تعليله مدفوع ومردود كما سترى عند شرحه، وأما ما ذكروه من حمله على الاستحباب متمسكين على ذلك بحديث الخثعمية فقد تعقبه صاحب فتح الملهم (ج3: ص372) بأن سؤال الخثعمية إنما وقع بعد دفعه - صلى الله عليه وسلم - من المزدلفة إلى منى حين كان الفضل رديفه فكيف يتصور استفسارها عن مسألة النيابة في تلك الحجة بعد فراغها من الوقوف بعرفة فالظاهر أنها حجت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم سألت هل تحج عن أبيها، أي فيما يستقبل من الزمان إذا أرادت فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: نعم حجي عنه، ولما كان حجها عن نفسها معلومًا مشهودًا لم يحتج - صلى الله عليه وسلم - إلى استخبارها عنه حتى يقال: إن ترك الاستفصال في وقائع الأحوال ينزل منزلة عموم الأحوال، وحينئذٍ ارتفع التعارض بين حديث الخثعمية وبين حديث شبرمة رأسًا - انتهى. وفي حديث الخثعمية من الفوائد: جواز كلام المرأة وسماع صوتها للأجانب عند الضرورة كالاستفتاء عن العلم والترافع في الحكم والمعاملة. وفيه أن المرأة تكشف وجهها في الإحرام وهو إجماع حكاه ابن عبد البر، ويدل له قوله - صلى الله عليه وسلم -: ولا تنتقب المرأة. وفيه بيان ما ركب في الآدمي من الشهوة وجبلت طباعة عليه من النظر إلى الصور الحسنة. قال القرطبي: كان هذا النظر، أي نظر الفضل إلى المرأة ونظرها إلى الفضل بمقتضى الطباع البشرية فإنها مجبولة على النظر إلى الصورة الحسنة ففي نظر أحدهما إلى الآخر مغالبة طباع البشر لابن آدم وضعفه عما ركب فيه من الشهوات. وفيه منع النظر إلى الأجنبيات ووجوب غض البصر خوف الفتنة في حق الرجال والنساء جميعًا لأنه لا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة، وكان الفضل أبيض حسن الشعر وسيمًا، وكذا المرأة كانت حسناء، وفي صرف وجه الفضل بل عنقه ووضع يده عليه مبالغة في منعه فإن المنع بالفعل أبلغ من القول، وروى أحمد وابن خزيمة من وجه آخر عن ابن عباس أن

متفق عليه. 2536- (8) وعنه قال: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أختي نذرت أن تحج، ـــــــــــــــــــــــــــــ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للفضل حين غطى وجهه يوم عرفة: ((هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غفر له)) . ولم ينقل أنه نهى المرأة عن النظر فيحتمل أنه اجتزأ بمنع الفضل لما رأى أنها تعلم بذلك منع نظرها إليه لأن حكمهما واحد أو تنبهت لذلك، أو كان ذلك الموضع هو محل نظره الكريم فلم يصرف نظرها , واستدل ابن حزم بهذا الحديث على أن وجه المرأة ليس بعورة إذ قال لو كان الوجه عورة يلزم ستره لما أقرها على كشفه بحضرة الناس ولأمرها أن تسبل عليه من فوق ولو كان وجهها مغطي ما عرف ابن عباس أحسناء هي أم شوهاء - انتهى. ولا يخفى على المتأمل المنصف ما في هذا الاستدلال. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الحج، والمغاري، والاستئذان، ومسلم في الحج، وأخرجه أحمد (ج1: ص219) ، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، ومالك، والدارمي، وابن الجارود (ص177) ، والبيهقي (ج4: ص328، 329، وج5: ص179) ، وابن حزم (ج 7: ص56، 57) ، والشافعي (ج1: ص287) ، وفي الباب عن بريدة عند أحمد ومسلم والترمذي والحاكم، وعن عبد الله بن الزبير عند أحمد والنسائي والبيهقي، وعن سودة بنت زمعه عند أحمد والطبراني والبيهقي، وعن أبي رزين وسيأتي في الفصل الثاني. وعن أنس عند البزار والطبراني في الكبير والأوسط، وعن عقبة بن عامر عند الطبراني في الكبير والأوسط، وعن علي عند أحمد، وعن الفضل بن عباس عند أحمد والشيخين والأربعة والبيهقي وغيرهم. 2536- قوله: (أتى رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن أختي) إلخ، كذا وقع في النذور عند البخاري من رواية آدم عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ووقع في الحج والاعتصام عنده من طريق أبي عوانة عن أبي بشر بلفظ ((إن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن أمي نذرت أن تحج)) ورجح الحافظ في النذور هذه الرواية، أي كون السائل امرأة، وقال في الحج بعد ذكر رواية شعبة: فإن كان محفوظًا احتمل أن يكون كل من الأخ سأل عن أخته، والبنت سألت عن أمها، وقال الشوكاني: لا منافاة بين الروايتين لأنه يحتمل أن تكون القصة متعددة وأن تكون متحدة، ولكن النذر وقع من الأخت والأم فسأل الأخ عن نذر أخته والبنت عن نذر الأم - انتهى. وسمى الحافظ في المقدمة (ص391) الرجل السائل عن الأخت: عقبة بن عامر إذ قال: حديث ابن عباس ((قال أتى رجل فقال إن أختي نذرت)) هو عقبة بن عامر ولم تسم أخته. وقال في المرأة الجهنية إنها امرأة سنان بن سلمة الجهني كما في النسائي ولأحمد ((سنان بن عبد الله)) وهو أصح , وفي الطبراني أنها عمته ولم تسم أمها. وقال في الفتح: إن ما في النسائي لا يفسر به المبهم في حديث ابن عباس في المرأة الجهنية لأن فيه أن المرأة سألت بنفسها وفي النسائي أن زوجها سأل لها، ويمكن

وإنها ماتت. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لو كان عليها دين أكنت قاضيه؟ قال: نعم. قال: فاقض دين الله فهو أحق بالقضاء. ـــــــــــــــــــــــــــــ الجمع بأن نسبة السؤال إليها مجازية، وإنما الذي تولى لها السؤال زوجها. قال: ولم أقف على اسمها ولا على اسم أبيها لكن في حرف الغين المعجمة من الصحابيات لابن مندة عن ابن وهب عن عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه، أن غاثية أو غايثة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن أمي ماتت وعليها نذر أن تمشي إلى الكعبة. وجزم ابن طاهر في المبهمات بأنه اسم الجهنية المذكورة في حديث ابن عباس لكن قال الذهبي أرسله عطاء ولا يثبت، ثم ذكر الحافظ رواية ابن عباس عن سنان بن عبد الله الجهني أن عمته حدثته أنها أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن أمي توفيت وعليها مشي إلى الكعبة نذرًا. الحديث. ثم قال فإن كان محفوظًا حمل على واقعتين بأن تكون امرأته سألت على لسانه عن حجة أمها المفروضة وبأن تكون عمته سألت بنفسها عن حجة أمها المنذورة، ويفسر ((من)) في حديث الجهنية بأنها عمة سنان واسمها غاثية كما تقدم، ثم إنه قيل: أن حديث الجهنية مضطرب لأنه قد روى أن هذه المرأة قالت: إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، وأجيب بأنه محمول على أن المرأة سألت عن كل من الصوم والحج، ويؤيد ذلك ما عند مسلم عن بريدة قالت: إن أمي، وفيه ((يا رسول الله إنه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها؟ قال: صومي عنها، قالت: إنها لم تحج أفأحج عنها؟ قال: حجي عنها)) (وأنها ماتت) ، أي ولم تف بنذرها (لو كان عليها دين) لمخلوق (أكنت قاضيه) بالنصب، أي الدين عنها (فاقض دين الله) ، كذا في جميع نسخ المشكاة، وفي المصابيح وهكذا وقع في نسخة العيني للبخاري، وكذا ذكره الحافظ في الفتح، ووقع في متن القسطلاني ومتن الفتح طبعة الهند، وفي جامع الأصول (ج4: ص198) : فاقض الله، أي حقه أو دينه (فهو أحق بالقضاء) ، أي فدين الله أحق بالأداء من غيره. وفي الحديث دليل على صحة النذر بالحج ممن لم يحج، فإذا حج أجزأه عن حجة الإسلام عند الجمهور، وعليه الحج عن النذر، وقيل: يجزئ عن النذر ثم يحج عن حجة الإسلام، وقيل: يجزئ عنهما، وارجع إلى القرى لقاصد أم القرى (ص62) وفيه أيضًا دليل على أن من مات وفي ذمته حق لله تعالى من حج أو كفارة أو نذر فإنه يجب قضاءه، وفيه دليل أيضًا على أن الناذر بالحج إذا مات ولم يحج أجزأه إن يحج عنه الوارث أو غيره لعدم استفصاله - صلى الله عليه وسلم - للأخ هل هو وارث أولا، وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال كما تقرر في الأصول ويدل على ذلك أيضًا قوله: ((فاقض دين الله فهو أحق بالقضاء)) وقوله في حديث الجهنية: ((اقضوا الله فالله أحق بالوفاء)) وفيه مشروعية القياس وضرب المثل ليكون أوضح وأوقع في نفس السامع وأقرب إلى سرعة فهمه، وفيه تشبيه ما اختلف فيه وأشكل بما اتفق عليه، وفيه تشبيه المجهول حكمه بالمعلوم، فإنه دل على أن قضاء الدين المالي عن الميت كان معلومًا

متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ عندهم متقررًا ولهذا حسن الإلحاق به، وفيه أنه يستحب للمفتي التنبيه على وجه الدليل إذا ترتب على ذلك مصلحة وهو أطيب لنفس المستفتي وأدعى لإذعانه، وفيه دليل على جواز الحج عن الميت وإن لم يوص لإلحاقه وتشبيهه بالدين , وقال مالك: إنما يحج عنه إذا أوصى، وإذا أوصى حج من الثلث قال الأمير اليماني: دل الحديث على وجوب التحجيج عن الميت سواء أوصى أم لم يوص، لأن الدين يجب قضاءه مطلقًا، وكذا سائر الحقوق المالية من كفارة ونحوها، وإلى هذا ذهب ابن عباس وزيد بن ثابت وأبو هريرة والشافعي، ويجب إخراج الأجرة من رأس المال عندهم، أي مقدمًا على الوصايا والميراث كدين الآدمي. وقال الحافظ: في هذا الحديث أن من مات وعليه حج وجب على وليه أن يجهز من يحج عنه من رأس ماله كما أن عليه قضاء ديونه فقد أجمعوا على أن دين الآدمي من رأس المال فكذلك ما شبه به في القضاء ويلتحق بالحج كل حق ثبت في ذمته من كفارة أو نذر أو زكاة أو غير ذلك. وفي قوله: ((فالله أحق بالوفاء)) دليل على أنه مقدم على دين الآدمي وهو أحد أقوال الشافعي، وقيل: بالعكس، وقيل: هما سواء - انتهى. وقال العيني: قيل إذا اجتمع حق الله وحق العباد يقدم حق العباد فما معنى ((فهو أحق)) ؟ أجيب بأن معناه إذا كنت تراعي حق الناس فلأن تراعي حق الله كان أولى ولا دخل فيه للتقديم والتأخير إذ ليس معناه أحق بالتقديم - انتهى. قال الطيبي: في الحديث إشعار بأن المسئول عنه خلف مالاً فأخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن حق الله مقدم على حق العباد واجب عليه الحج عنه. والجامع علة المالية، وتعقبه الحافظ والعيني بأنه لا يتحتم في الجواب المذكور أن يكون خلف مالاً كما زعم لأن قوله: ((أكنت قاضيه)) أعم من أن يكون المراد مما خلفه أو تبرعًا - انتهى. قلت: ووافق الشافعي أحمد في التحجيج عن الميت من رأس المال. قال ابن قدامة (ج3: ص242) : متى توفي من وجب عليه الحج ولم يحج وجب أن يخرج من جميع ماله ما يحج به عنه ويعتمر سواء فاته بتفريط، أو بغير تفريط، وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة ومالك: يسقط بالموت، فإن أوصي بها فهي من الثلث، وبهذا قال الشعبي والنخعي - انتهى. وعند الحنفية في ذلك تفصيل كما في شرح اللباب والغنية (ص 173) قالوا: إذا تبرع أحد بدون الوصية أجزأ إن شاء الله. وقال النووي: تجب الاستنابة عن الميت إذا كان قد استطاع في حياته ولم يحج، هذا إذا كان له تركة، وإلا فلا يجب على الوارث، ويجوز للوارث والأجنبي الحج عنه سواء أوصي به أولم يوص - انتهى. وأستدل بالحديث على أنه يصح ممن لم يحج أن يحج نيابة عن غيره لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يسأله حج عن نفسه أم لا؟ ولأنه - صلى الله عليه وسلم - شبهه بالدين. ورد بأنه سيأتي في حديث شبرمة ما يدل على عدم إجزاء حج من لم يحج عن نفسه، وأما مسألة الدين فإنه لا يجوز له أن يصرف ماله إلى دين غيره وهو مطالب بدين نفسه (متفق عليه) هذا وهم من المصنف فإن الحديث من أفراد البخاري، وأخرجه في النذور، وأخرجه بقصة الجهنية في الحج، وفي الاعتصام، وأما مسلم فلم يخرجه أصلاً، ولعل المصنف قلد في ذلك صاحب جامع الأصول، والله أعلم. والحديث

2537- (9) وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يخلون رجل بامرأة، ولا تسافرن امرأة إلا ومعها محرم. ـــــــــــــــــــــــــــــ أخرجه أيضًا أحمد (ج1 ص240) ، والنسائي في الحج، وابن الجارود (ص 178) ، وابن حزم (ج7 ص63) ، والبيهقي (ج5 ص179) . 2537- قوله: (لا يخلون) أكد النهي مبالغة (رجل بامرأة) أي أجنبية. فيه حرمة اختلاء الأجنبي مع المرأة وهو إجماع كما قال في الفتح. وقد ورد في حديث ((فإن ثالثهما الشيطان)) واختلفوا هل يقوم غير المحرم مقامه في هذا بأن يكون معهما من يزيل معنى الخلوة كالنسوة الثقات مثلاً فقيل إنه يقوم لضعف التهمة به لأن المعنى المناسب للنهي إنما هو خشية أن يوقع بينهما الشيطان الفتنة، وقال القفال: لا يجوز بل لا بد من المحرم عملاً بلفظ الحديث. قال الشوكاني: وهو ظاهر الحديث، قلت: وكذلك يحرم الخلوة بالأجنبية لو كان معهما من لا يستحي منه لصغره كابن سنتين وثلاث ونحو ذلك فإن وجوده كالعدم ((ولا تسافرن امرأة)) أي شابة أو عجوز سفرًا طويلاً أو قصيرًا للحج أو غيره ((إلا ومعها محرم)) بفتح الميم وتخفيف الراء أي من يحرم عليه نكاحها من الأقارب كأب وأخ وعم وخال ومن يجري مجراهم كزوج كما جاء مصرحًا في رواية للشيخين من حديث أبي سعيد ((إلا ومعها ذو محرم منها أو زوجها)) ، وفي أخرى ((إلا ومعها أبوها أو ابنها أو زوجها أو أخوها أو ذو محرم منها)) ، قال ابن دقيق العيد: لم يتعرض هنا للزوج وهو موجود في رواية أخرى ولا بد من إلحاقه بالحكم بالمحرم في جواز السفر معه (وكذا الخلوة بها) اللهم إلا أن يستعمل لفظة الحرمة في إحدى الروايتين في غير معنى المحرمية استعمالاً لغويًا فيما يقضي الاحترام فيدخل فيه الزوج لفظًا - انتهى. قال الحافظ: وفي آخر حديث ابن عباس هذا ما يشعر بأن الزوج يدخل في مسمى المحرم فإنه لما استثنى المحرم فقال القائل: إن امرأتي حاجة. فكأنه فهم إدخال الزوج في المحرم ولم يرد عليه ما فهمه بل قيل له أخرج معها. والاستثناء من الجملتين كما هو مذهب الشافعي لا من الجملة الأخيرة لكنه منقطع لأنه متى كان معها محرم لم يبق خلوة فتقدير الحديث لا يقعدن رجل مع امرأة إلا ومعها محرم، والواو في ((ومعها)) للحال، أي لا يخلون في حال إلا في هذه الحال، ووقع في رواية للبخاري لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم. قال القسطلاني: أي لها. وقال النووي: يحتمل أن يريد محرمًا لها، أو له. وهذا الاحتمال الثاني هو الجاري على قواعد الفقهاء فإنه لا فرق بين أن تكون معها محرم لها كأبيها وابنها وأخيها وأمها وأختها أو يكون محرمًا له كأخته وبنته وأمه وعمته وخالته فيجوز القعود معها في هذه الأحوال. قال: وحقيقة المحرم، أي عند الشافعية من النساء التي يجوز له النظر إليها والخلوة بها والمسافرة معها كل من حرم نكاحها على التأبيد بسبب مباح لحرمتها. فخرج بالتأبيد أخت الزوجة وعمتها وخالتها ونحوهن، وخرجت

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ بسبب مباح أم الموطوءة بشبهة وبنتها فإنهما تحرمان على التأبيد وليستا محرمين، لأن وطئ الشبهة لا يوصف بالإباحة لأنه ليس بفعل المكلف، وخرج بقوله لحرمتها الملاعنة، لأن تحريمها ليس لحرمتها بل عقوبة وتغليظًا، والمحرم عام فيشمل محرم النسب كأبيها وابنها وأخيها وابن أختها وابن أختها وخالها وعمها، ومحرم الرضاع كأخيها من الرضاع وابن أخيها وابن أختها منه ونحوهم، ومحرم المصاهرة كأبي زوجها وابن زوجها، فيجوز لكل هؤلاء السفر بها والخلوة بها والنظر إليها من غير حاجة لكن لا يحل النظر بشهوة لأحد منهم هذا مذهب الشافعي والجمهور ووافق مالك على ذلك كله إلا ابن زوجها فكره سفرها معه لفساد الناس بعد العصر الأول ولأن كثيرًا من الناس لا ينزل زوجة الأب في النفرة عنها منزلة محارم النسب والمرأة فتنة إلا فيما جبل الله النفوس عليه من النفرة عن محارم النسب. قال النووي: وعموم هذا الحديث يرد على مالك، وقال ابن دقيق العيد: الحديث عام، فإن عنى بالكراهة التحريم مع محرمية ابن الزوج فهو مخالف لظاهر الحديث بعيد، وإن عنى كراهة التنزيه للمعنى المذكور فهو أقرب تشوفًا إلى المعنى، وقد فعلوا مثل ذلك في غير هذا الموضع، ومما يقويه ها هنا قوله ((لا يحل)) (في حديث ابن عمر عند الشيخين وحديث أبي هريرة عند مسلم وغيره) استثنى منه السفر مع المحرم فيصير التقدير ((إلا مع ذي محرم)) فيحل ويبقي النظر في قولنا ((يحل)) هل يتناول المكروه أم لا بناء على أن لفظة ((يحل)) يقتضي الإباحة المتساوية الطرفين، فإن قلنا: لا يتناول المكروه. فالأمر قريب مما قاله إلا أنه تخصيص يحتاج إلى دليل شرعي عليه، وإن قلنا: يتناول. فهو أقرب لأن ما قاله لا يكون حينئذ منافيًا لما دل عليه اللفظ - انتهى. وفي الحديث دليل على تحريم سفر المرأة من غير محرم وهو مطلق في قليل السفر وكثيره وفي سفر الحج وغيره، وقد وردت أحاديث مقيدة لهذا الإطلاق إلا أنها اختلف ألفاظها ففي لفظ ((لا تسافر ثلاثاً)) وفي آخر ((فوق ثلاث)) وفي آخر ((يومين)) وفي آخر ((يومًا وليلة)) وفي آخر ((يومًا)) وفي آخر ((ليلة)) وفي آخر ((بريدًا)) وهو عند أبي داود والحاكم والبيهقي، وفي آخر ((ثلاثة أميال)) وهو عند الطبراني، قال الحافظ: وقد عمل أكثر العلماء في هذا الباب بالمطلق لاختلاف التقييدات. وقال العيني: في هذا الحديث أن المرأة لا تسافر إلا مع ذي محرم، وعموم اللفظ يتناول عموم السفر فيقتضي أن يحرم سفرها بدون ذي محرم معها سواء كان سفرها قليلاً أو كثيرًا للحج أو غيره، وإلى هذا ذهب إبراهيم النخعي والشعبي وطاوس والظاهرية، واحتج هؤلاء أيضًا بحديث أبي هريرة الآتي - انتهى. قال عياض بعد ذكر الألفاظ المختلفة في التقييد: هذا كله ليس يتنافر ولا يختلف، وقد يكون هذا في مواطن مختلفة ونوازل متفرقة فحدث كل من سمعها بما بلغه منها وشاهد، وإن حدث بها واحد فحدث مرات بها على اختلاف ما سمعها - انتهى. وقال النووي: اختلاف هذه الألفاظ لاختلاف السائلين واختلاف المواطن. قال البيهقي: كأنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن المرأة تسافر ثلاثًا بغير محرم فقال: لا، وسئل عن سفرها يومين بغير محرم

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ فقال: لا، وسئل عن سفرها يومًا فقال: لا، وكذلك البريد، فأدى كل منهم ما سمعه، وما جاء منها مختلفًا عن راو واحًد فسمعه في مواطن فروى تارة هذا وتارة هذا وكله صحيح، وليس في كله تحديد لأقل ما يقع عليه اسم السفر، ولم يرد - صلى الله عليه وسلم - تحديد أقل ما يسمى سفرًا، فالحاصل أن كل ما يسمى سفرًا تنهى عنه المرأة بغير زوج أو محرم سواء كان ثلاثة أيام أو يومين أو يومًا أو بريدًا أو غير ذلك لرواية ابن عباس المطلقة فإنها تتناول جميع ما يسمى سفرًا - انتهى. وقد يمكن أن يجمع بينها بأن اليوم المذكور مفردًا والليلة المذكورة مفردة بمعنى اليوم والليلة المجموعين فمن أطلق يومًا أراد بليلته أو ليلة أراد بيومها، وهكذا عادة العرب يطلقون الليالي ويريدون بعددها من الأيام، ويكون ذكره يومين مدة مغيبها في هذا السفر في الذهاب والإياب يعنى أشار عند جمعهما إلى مدة الذهاب والرجوع، وعند إفرادهما أشار إلى قدر ما تقضي فيه الحاجة، والثالث، أي الوسط بين السير والرجوع لقضاء الحاجة في المقصد فأشار مرة إلى مسافة السفر ومرة إلى مدة الغيبة، وهكذا ذكر الثلاث فقد يكون اليوم الوسط بين الذهاب والرجوع الذي يقضي حاجتها بحيث سافرت له ويحتمل أن يكون هذا كله تمثيلاً لأقل الأعداد وأوائلها إذا الواحد أول العدد وأقله والاثنان أول الكثير وأقله والثلاث أول الجمع وأقله، فكأنه أشار إلى أن مثل هذا في قلة الزمن لا يحل لها السفر فيه مع غير ذي محرم فكيف بما زاد عليه، ولهذا قال في الحديث الآخر ((ثلاثة أيام فصاعدًا)) وحاصله أنه نبه بمنع الخروج أقل كل عدد على منع خروجها من البلد مطلقًا إلا بمحرم أو زوج ويحتمل أن يكون ذكر الثلاث قبل ذكر ما دونها فيؤخذ بأقل ما ورد في ذلك، وأقله الرواية التي فيها ذكر البريد فعلى هذا يتناول السفر طويل السير وقصيره، ولا يتوقف امتناع سير المرأة على مسافة القصر خلافًا للحنفية كذا في الفتح. وقال الشوكاني: قد ورد من حديث ابن عباس عند الطبراني ما يدل على اعتبار المحرم فيما دون البريد، ولفظه: لا تسافر المرأة ثلاثة أميال إلا مع زوج أو ذي محرم. وهذا هو الظاهر أعني الأخذ بأقل ما ورد لأن ما فوقه منهي عنه بالأولى، والتنصيص على ما فوقه كالتنصيص على الثلاث واليوم والليلة واليومين والليلتين لا ينافيه لأن الأقل موجود في ضمن الأكثر، وغاية الأمر أن النهى عن الأكثر يدل بمفهومه على أن ما دونه غير منهي عنه، والنهي عن الأقل منطوق وهو أرجح من المفهوم. وقالت الحنفية: إن المنع المقيد بالثلاث متحقق، وما عداه مشكوك فيه فيؤخذ بالمتيقن ونوقض بأن الرواية المطلقة شاملة لكل سفر فينبغي الأخذ بها وطرح ما سواها، فإنه مشكوك فيه، ومن قواعد الحنفية تقديم الخبر العام على الخاص، وقد خالفوا ذلك هنا. والاختلاف إنما وقع في الأحاديث التي وقع فيها التقييد بخلاف حديث ابن عباس فإنه لم يختلف فيه عليه، فهو سالم من الاضطراب، فالأخذ به أولى وقيل: ليس هذا من المطلق والمقيد الذي وردت فيه قيود متعددة وإنما هو من العام لأنه نكرة في سياق النفي فيكون من العام الذي ذكرت بعض أفراده ولا تخصيص بذلك على الراجح في الأصول. وأعلم أنهم اختلفوا في اشتراط المحرم أو الزوج

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ لوجوب الحج على المرأة. قال ابن رشد: اختلفوا هل من شروط وجوب الحج على المرأة أن يكون معها زوج أو محرم منها؟ فقال مالك والشافعي: ليس من شرط الوجوب ذلك، وتخرج المرأة إلى الحج إذا وجدت رفقة مأمونة. وقال أبو حنيفة وأحمد وجماعة: وجود ذي المحرم ومطاوعته لها شرط في الوجوب، وسبب الخلاف معارضة الأمر بالحج للنهي عن سفر المرأة إلا مع ذي محرم، فمن غلب عموم الأمر قال: تسافر للحج وإن لم يكن معها ذو محرم، ومن خصص العموم بأحاديث النهي ورأى أنه من باب تفسير الاستطاعة قال: لا تسافر إلا مع ذي محرم - انتهى. وقال ابن دقيق العيد: هذه المسألة تتعلق بالنصين إذا تعارضا وكان كل واحد منهما عامًا من وجه خاصًا من وجه، بيانه أن قوله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} (3: 91) الآية. عام في الرجال والنساء فمقتضاه أن الاستطاعة على السفر إذا وجدت وجب الحج على الجميع، وقوله - صلى الله عليه وسلم - ((لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم)) خاص بالنساء، عام في كل سفر فيدخل فيه الحج، فمن أخرجه عنه خص الحديث بعموم الآية، ومن أدخله فيه خص الآية بعموم الحديث فيحتاج إلى الترجيح من خارج - انتهى. قال الشوكاني: ويمكن أن يقال إن أحاديث النهي عن السفر من غير محرم لا تعارض الآية لأنها تضمنت أن المحرم في حق المرأة من جملة الاستطاعة على السفر التي أطلقها القرآن وليس فيها إثبات أمر غير الاستطاعة المشروطة حتى تكون من تعارض العمومين. لا يقال: الاستطاعة المذكورة قد بينت بالزاد والراحلة كما سيأتي، لأنا نقول: قد تضمنت أحاديث النهي زيادة على ذلك البيان باعتبار النساء غير منافية فيتعين قبولها على أن التصريح باشتراط المحرم في سفر الحج بخصوصه كما في حديث ابن عباس عند البزار والدارقطني وحديث أبي أمامة عند الطبراني مبطل لدعوى التعارض - انتهى. وقال النووي: أجمعت الأمة على أن المرأة يلزمها حجة الإسلام إذا استطاعت لعموم قوله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} واستطاعتها كاستطاعة الرجل، لكن اختلفوا في اشتراط المحرم لها، فأبو حنيفة يشترطه لوجوب الحج عليها إلا أن يكون بينها وبين مكة دون ثلاث مراحل، ووافقه جماعة من أصحاب الحديث وأصحاب الرأي وحكي ذلك عن الحسن البصري والنخعي، وقال عطاء وسعيد بن جبير، وابن سيرين ومالك والأوزاعي والشافعي في المشهور عنه: لا يشترط المحرم بل يشترط الأمن على نفسها. قال أصحابنا: يحصل الأمن بزوج أو محرم أو نسوة ثقات ولا يلزمها الحج عندنا إلا بأحد هذه الأشياء، فلو وجدت امرأة واحدة ثقة لم يلزمها لكن يجوز لها الحج معها هذا هو الصحيح. وقال بعض أصحابنا: يلزمها بوجود نسوة أو امرأة واحدة، وقد يكثر الأمن ولا تحتاج إلى أحد بل تسير وحدها في جملة القافلة وتكون آمنة، والمشهور من نصوص الشافعي وجماهير أصحابه هو الأول، واختلف أصحابنا في خروجها لحج التطوع وسفر الزيارة والتجارة ونحو ذلك من الأسفار التي ليست واجبة فقال بعضهم: يجوز لها الخروج فيها مع نسوة ثقات كحجة الإسلام. وقال الجمهور: لا يجوز إلا مع زوج أو محرم وهذا هو الصحيح للأحاديث

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ الصحيحة. وقال القاضي: واتفق العلماء أنه ليس لها أن تخرج في غير الحج والعمرة إلا مع ذي محرم إلا الهجرة من دار الحرب فاتفقوا على أن تهاجر منها إلى دار الإسلام وإن لم يكن معها محرم، والفرق بينهما أن إقامتها في دار الكفر. حرام إذا لم تستطع إظهار الدين وتخشى على دينها ونفسها وليس كذلك التأخر عن الحج فإنهم اختلفوا في الحج هل هو على الفور أم على التراخي - انتهى. وقال الخرقي: وحكم المرأة إذا كان لها محرم كحكم الرجل. قال ابن قدامة (ج3 ص236) : ظاهره أن الحج لا يجب على التي لا محرم لها، وقد نص عليه أحمد فقال أبو داود: قلت لأحمد: امرأة موسرة لم يكن لها محرم هل يجب عليها الحج؟ قال: لا، وقال أيضًا: المحرم من السبيل. وهذا قول الحسن والنخعي وإسحاق وابن المنذر وأصحاب الرأي، وعن أحمد أن المحرم من شرائط لزوم السعي دون الوجوب، فمتي فاتها الحج بعد كمال الشرائط بموت أو مرض لا يرجى برؤه أخرج عنها حجة، لأن شروط الحج المختصة به قد كملت وإنما المحرم لحفظها. وعنه رواية ثالثة: أن المحرم ليس بشرط في الحج الواجب. قال الأثرم: سمعت أحمد يسأل: هل يكون الرجل محرمًا لأم امرأته يخرجها إلى الحج؟ فقال: أما في فريضة الحج فأرجو لأنها تخرج إليها مع النساء ومع كل من أمنته، وأما في غيرها فلا والمذهب الأول، وعليه العمل، وقال ابن سيرين ومالك والأوزاعي والشافعي: ليس المحرم شرطًا في حجها بحال، قال ابن سيرين: تخرج مع رجل من المسلمين لا بأس به. وقال مالك: تخرج مع جماعة النساء، وقال الشافعي: تخرج مع حرة مسلمة ثقة، وقال الأوزاعي: تخرج مع قوم عدول. قال ابن المنذر: تركوا القول بظاهر الحديث واشترط كل واحد منهم شرطًا لا حجة معه، واحتجوا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة. وقال لعدي بن حاتم: يوشك أن تخرج الظعينة من الحيرة تؤم البيت لا جوار معها لا تخاف إلا الله. ولأنه سفر واجب فلم يشترط له المحرم كالمسلمة إذا تخلصت من أيدي الكفار، ولنا ما روى أبو هريرة مرفوعًا: لا يحل لامرأه تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم إلا ومعها ذو محرم. ثم ذكر حديث ابن عباس الذي نحن في شرحه، ثم قال: وروى ابن عمر وأبو سعيد نحوًا من حديث أبي هريرة. قال أبو عبد الله: أما أبو هريرة فيقول ((يومًا وليلة)) ويروى عن أبي هريرة ((لا تسافر سفرًا)) أيضًا، وأما حديث أبي سعيد ((يقول ثلاثة أيام، قلت: ما تقول أنت؟ قال: لا تسافر سفرًا قليلاً ولا كثيرًا إلا مع ذي محرم)) . وروى الدارقطني بإسناده عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تحجن امرأة إلا ومعها ذو محرم. وهذا صريح في الحكم، ولأنها أنشأت سفرًا في دار الإسلام فلم يجز بغير محرم كحج التطوع، وحديثهم محمول على الرجل بدليل أنهم اشترطوا خروج غيرها معها، فجعل ذلك الغير المحرم الذي بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديثنا أولى مما اشترطوه بالتحكم من غير دليل، ويحتمل أنه أراد أن الزاد والراحلة يوجب الحج مع كمال بقية الشروط، ولذلك اشترطوا تخلية الطريق وإمكان المسير وقضاء الدين ونفقة العيال واشتراط كل واحد منهم في محل

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ النزاع شرطًا من عند نفسه لا من كتاب ولا من سنة، فما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى بالاشتراط، ولو قدر التعارض فحديثنا أخص وأصح وأولى بالتقدم، وحديث عدي يدل على وجود السفر لا على جوازه ولذلك لم يجز في غير الحج المفروض، ولم يذكر فيه خروج غيرها معها، وقد اشترطوا ها هنا خروج غيرها معها، وأما الأسيرة إذا تخلصت من أيدي الكفار فإن سفرها سفر ضرورة لا يقاس عليه حالة الاختيار ولذلك تخرج فيه وحدها، ولأنها تدفع ضررًا متيقنًا بتحمل الضرر المتوهم فلا يلزم تحمل ذلك من غير ضرر أصلاً - انتهى كلام ابن قدامة. وقال الطبري في القرى (ص 44) : وافق أبا حنيفة في اشتراط المحرم أو الزوج أصحاب الحديث، وهو قول النخعي والحسن البصري، وبه قال أحمد وإسحاق وهو أحد قولي الشافعي، قال البغوي في شرح السنة: والقول باشتراط المحرم أولى لظاهر الحديث، ولم يختلفوا أنها ليس لها الخروج في غير الفرض إلا مع محرم إلا في كافرة أسلمت في دار الحرب أو أسيرة تخلصت فيلزمها الخروج بلا محرم. وقال (ص 45) : ووجه دلالة حديث عدي على عدم ذلك اعتبار المحرم أنه - صلى الله عليه وسلم - أخبر عن خروج المرأة وحدها عند أمانها على نفسها فوجب وقوعه لا محالة. ودل ذلك على الجواز إذ لو حرم لبينه فإنه وقت حاجة لأنه كالواقع وتأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز، وهذا القائل يحمل أحاديث اشتراط المحرم على حال الخوف والخطر جمعًا بينهما وعملاً بهما وذلك أولى من إهمال بعضها ويمكن أن يقال: الحديث دل على الوقوع لا على الجواز لا بطريق المطابقة ولا بالاستلزام لأنه ورد في معرض الثناء على حال الزمان بالأمن والعدل، وذكر خروج المرأة وحدها في معرض الاستدلال على ذلك سواء كان جائزًا أو غير جائز، فالجواز وعدمه مسكوت عنه ولا إشعار للفظ الخبر بهما لا نفيًا ولا إثباتًا، إذ لو قال عقيب كلامه: وارتحالها لذلك جائز لها لم يعد ذلك تكرارًا لما فهم من الأول ولا مؤكدًا للفظه، أو قال: وارتحالها محرم عليها لم يعد ذلك نقضًا له، كيف وفي قوله لا تخاف أحدًا إلا الله إشعار بالحرمة إذ لو يحرم عليها ذلك لما خافت الله تعالى، وأما قوله ((وتأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز)) فمسلم ولم يتأخر، فإن أحاديث اشتراط المحرم إن ثبت الخطاب بها قبل هذا الحديث، فالتحريم ثابت عندهم، وليس في لفظ هذا الحديث ما يناقضه فيحمل على ما ذكرناه وإن كان الخطاب بها متأخرًا عن هذا الحديث فقد بين - صلى الله عليه وسلم - ما سكت فيه عنه مما احتمل إرادته قبل موته فلم يتأخر البيان عن وقت الحاجة على الحالين، وهذا هو الظاهر عندي وإن كان الصحيح من مذهب الشافعي خلافه – انتهى. قال الحافظ: ومن الأدلة على جواز سفر المرأة مع النسوة الثقات إذا أمن الطريق أول أحاديث باب حج النساء (يعني به حديث إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جده قال: أذن عمر لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخر حجة حجها فبعث معهن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف) لاتفاق عمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف ونساء النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، وعدم نكير غيرهم من الصحابة عليهن في ذلك، ومن أبى ذلك من

فقال رجل: يا رسول الله! اكتتبت في غزوة ـــــــــــــــــــــــــــــ أمهات المؤمنين فإنما أباه من جهة خاصة لا من جهة توقف السفر على المحرم. وأجيب بأن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهن أمهات المؤمنين وهم محارم لهن، لأن المحرم من لا يجوز له نكاحها على التأبيد، فكذلك أمهات المؤمنين حرام على غير النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى يوم القيامة ثم إنه اختلف القائلون باشتراط المحرم للمرأة أن وجود الزوج أو المحرم شرط الوجوب أو شرط وجوب الأداء فللحنفية فيه قولان، والذي اختاره في فتح القدير أنه مع الصحة وأمن الطريق شرط وجوب الأداء فيجب الإيصاء إن منع المرض أو خوف الطريق أو لم يوجد زوج ولا محرم ويجب عليها التزوج عند فقد المحرم، وعلى الأول لا يجب شيء من ذلك كما في البحر وفي النهر، وصحح الأول في البدائع ورجع الثاني ففي النهاية تبعًا لقاضي خان، لكن جزم في اللباب أنه لا يجب عليها التزوج مع أنه مشى على جعل المحرم أو الزوج شرط أداء، ورجع هذا في الجوهرة وابن أمير الحاج في المناسك ووجهه أنه لا يحصل غرضها بالتزوج لأن للزوج أن يمتنع من الخروج معها بعد أن يملكها، ولا تقدر على الخلاص منه، وربما لا يوافقها فتضرر منه بخلاف المحرم، فإنه إن وافقها أنفقت عليه، وإن امتنع أمسكت نفقتها وتركت الحج وقال المرداوي من الحنابلة: المحرم من شرائط الوجوب كالاستطاعة وغيرها وعليه أكثر الأصحاب، ونقله الجماعة عن الإمام أحمد وهو ظاهر كلام الخرقي وقدمه في المحرم والفروع والحاويين والرعايتين وجزم به في المنهاج والإفادات. قال ابن منجا في شرحه: هذا المذهب وهو من المفردات، وعنه أن المحرم من شرائط لزوم أداء الحج (فلا يمنع الوجوب والاستقرار في الذمة) ، وجزم به في الوجيز وأطلقه الزركشي – انتهى. وفائدة الخلاف تظهر في وجوب الإيصاء به ثم لفظ ((امرأة)) في الحديث عام يشمل الشابة والعجوز لكن خص أبو الوليد الباجي المنع بغير العجوز التي لا تشتهى، أما هي فتسافر كيف شاءت في كل الأسفار بلا زوج ولا محرم وتعقب بأن المرأة مظنة الطمع فيها ومظنة الشهوة، ولو كانت كبيرة. وقد قالوا: لكل ساقطة لاقطة، ويجتمع في الأسفار من سفهاء الناس وسقطهم من لا يرتفع عن الفاحشة بالعجوز وغيرها لغلبة شهوته وقلة دينه ومروته وخيانته ونحو ذلك. وأجيب بأن الكلام إنما هي فيمن لا تشتهى أصلاً ورأسًا ولا نسلم أن من هي بهذه المثابة مظنة الطمع والميل إليها بوجه. قال ابن دقيق العيد: والذي قاله الباجي تخصيص العموم بالنظر إلى المعنى يعنى مراعاة الأمر الأغلب والمتعقب راعى الأمر النادر وهو الاحتياط. قال: والمتعقب على الباجي يرى جواز سفر المرأة وحدها في الأمن وسيرها في جملة القافلة فقد نظر أيضًا إلى المعنى مع كونه مخالفًا لظاهر الحديث يعنى فليس له أن ينكر على الباجي، وهذا الذي قاله من جواز سفرها وحدها هو قول للشافعي، نقله الكرابيسي، ولكن المشهور عن الشافعية اشتراط الزوج أو المحرم أو النسوة الثقات ولا يشترط أن يخرج معهن محرم أو زوج لإحداهن لانقطاع الأطماع باجتماعهن (فقال رجل) قال الحافظ: لم أقف على اسم الرجل ولا امرأته ولا على تعيين الغزوة المذكورة (اكتتبت) بصيغة المجهول المتكلم من باب الافتعال (في غزوة

كذا وكذا، وخرجت امرأتي حاجة. قال: اذهب فحج مع امرأتك. متفق عليه. 2538- (10) وعن عائشة قالت: استأذنت النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجهاد. فقال: جهادكن الحج. ـــــــــــــــــــــــــــــ كذا وكذا) ، أي كتبت نفسي في أسماء من عين لتلك الغزوة، وقيل: كتب وأثبت اسمي فيمن يخرج إلى غزوة كذا (وخرجت امرأتي حاجة) أي أرادت أن تخرج محرمة للحج أو قاصدة له، يعني وليس معها أحد من المحارم، وفي رواية للبخاري: إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا، وامرأتي تريد الحج (اذهب فاحجج) بضم الجيم الأولى (مع امرأتك) قال الحافظ: أخذ بظاهرة بعض أهل العلم فأوجب على الزوج السفر مع امرأته إذا لم يكن لها غيره، وبه قال أحمد وهو وجه للشافعية، والمشهور أنه لا يلزمه كالولي في الحج عن المريض فلو امتنع إلا بأجرة لزمها لأنه من سبيلها فصار في حقها كالمؤنة، واستدل به على أنه ليس للزوج منع امرأته من حج الفرض، وبه قال أحمد وهو وجه للشافعية، والأصح عندهم أن له منعها لكون الحج على التراخي وأما ما رواه الدارقطني من طريق إبراهيم الصائغ عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا في امرأة لها زوج ولها مال ولا يأذن لها في الحج فليس لها أن تنطلق إلا بإذن زوجها، فأجيب عنه بأنه محمول على حج التطوع عملاً بالحديثين ونقل ابن المنذر الإجماع على أن للزوج المنع من الخروج في الأسفار كلها، وإنما اختلفوا فيما كان واجبًا - انتهى. وعند الحنفية ليس لزوجها منعها عن حجة الإسلام إذا كان معها محرم، وألا فله منعها، ولو خرج معها زوجها فلا نفقة له عليها بل هي لها عليه النفقة وإن لم يخرج معها فكذلك عند أبي يوسف، وقال محمد: لا نفقة لها لأنها مانعة نفسها بفعلها، وارجع إلى المغني (ج3 ص240) قال النووي: وفي الحديث تقديم الأهم فالأهم من الأمور المتعارضة لأنه لما تعارض سفره في الغزو وفي الحج معها رجح الحج معها، لأن الغزو يقوم غيره في مقامه بخلاف الحج معها فإنه لا يقوم غيره مقامه في السفر معها إذا لم يكن لها محرم (متفق عليه) أخرجه البخاري في الحج وفي الجهاد وفي النكاح، ومسلم في الحج واللفظ للبخاري في الجهاد، وأخرجه أيضًا أحمد (ج1 ص222) ، والشافعي (ج1 ص290، 291) . 2538- قوله (وعن عائشة قالت: استأذنت النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجهاد فقال: جهادكن الحج) أي لا جهاد عليكن وعليكن الحج إذا استطعتن، وسماه جهادًا لما فيه من مجاهدة النفس ومشقة السفر وأتعاب البدن ومفارقة الأهل والوطن. والحديث رواه البخاري بألفاظ، واللفظ المذكور له في باب جهاد النساء من كتاب الجهاد والسير، وفي رواية له في الباب المذكور ((عن عائشة أم المؤمنين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأله نساءه عن الجهاد فقال: نعم الجهاد الحج)) ورواه في باب فضل الحج المبرور من أوائل كتاب الحج وفي أول الجهاد بلفظ ((عن عائشة أنها قالت: يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال: لكن أفضل الجهاد حج مبرور)) ورواه بنحوه أيضًا في باب حج النساء، وزاد ((فقالت عائشة: فلا أدع

متفق عليه. 2539- (11) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسافر ـــــــــــــــــــــــــــــ الحج بعد إذ سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ورواه النسائي بلفظ ((ألا نخرج فنجاهد معك فإني لا أري عملاً في القرآن أفضل من الجهاد، قال: لا، ولكن أفضل الجهاد وأجمله حج البيت حج مبرور)) . ورواه ابن ماجة بلفظ ((قلت: يا رسول الله على النساء جهاد؟ قال: نعم، جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة)) وقد ذكره المصنف في الفصل الثالث، وفي رواية للبيهقي ((عن عائشة قالت: استأذنه نساءه في الجهاد فقال - صلى الله عليه وسلم -: يكفيكن الحج، أو جهادكن الحج)) . قال ابن بطال: دل حديث عائشة على أن الجهاد غير واجب على النساء وإنهمن غير داخلات في قوله تعالى: {انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً} (- 9: 41) وهو إجماع ولكن ليس في قوله ((جهادكن الحج)) إنه ليس أن يتطوعن بالجهاد، وإنما فيه أن الحج أفضل لهن، وإنما لم يكن الجهاد عليهن واجبًا لما فيه من مغايرة المطلوب منهن من الستر ومجانبة الرجال والحج يمكنهن فيه مجانبة الرجال والاستتار فلذلك كان الحج أفضل لهن من الجهاد. قال: وزعم بعض من ينقص عائشة في قصة الجمل أن قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} (- 33: 33) يقتضي تحريم السفر عليهن، قال: وهذا الحديث يرد عليهم لأنه قال: ((لكن أفضل الجهاد)) فدل على أن لهن جهادًا غير الحج، والحج أفضل منه - انتهى. قال الحافظ: ويحتمل أن يكون المراد بقوله ((لا)) في جواب قولهن ((ألا نخرج فنجاهد معك)) ؟ أي ليس ذلك واجبًا عليكن كما وجب على الرجال، ولم يرد بذلك تحريمه عليهن، فقد ثبت في حديث أم عطية أنهن كن يخرجن فيداوين الجرحى، وفهمت عائشة ومن وافقها من هذا الترغيب في الحج إباحة تكريره لهن كما أبيح للرجال تكرير الجهاد، وخص به عموم قوله في حديث أبي واقد عند أحمد وأبي داود وغيرهما: ((هذه ثم ظهور الحصر)) وقوله تعالى {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} وكان عمر متوقفًا في ذلك ثم ظهر له قوة دليلها، فأذن لهن في آخر خلافته ثم كان عثمان بعد يحج بهن في خلافته أيضًا، وقد وقف بعضهن عند ظاهر النهي. وقال البيهقي: في حديث عائشة هذا دليل على أن المراد بحديث أبي واقد وجوب الحج عليهن مرة واحدة كما بين وجوبه على الرجال مرة لا المنع من الزيادة. وفيه دليل على أن الأمر بالقرار في البيوت ليس على سبيل الوجوب (متفق عليه) هذا وهم من المصنف فإن الحديث من أفراد البخاري لم يخرجه مسلم في صحيحه أصلاً، ولم يعزه لمسلم أحد غير المصنف فيما أعلم، وأخرجه أحمد، والنسائي، وابن ماجة كلاهما في الحج، وأخرجه أيضًا ابن خزيمة في صحيحه والبيهقي (ج4 ص326) وله شاهد من حديث أبي هريرة، أخرجه النسائي بإسناد صحيح بلفظ: ((جهاد الكبير أي العاجز والصغير والضعيف والمرأة الحج والعمرة)) . 2539- قوله (لا تسافر) للحج أو غيره سواء كان بالسيارة أو بالطيارة أو بالقطار، وهو نفي معناه نهي.

امرأة مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال القاري: وفي نسخة، أي من المشكاة بصيغة النهي (امرأة) أي شابة أو عجوز، وقوله: ((لا تسافر امرأة)) كذا وقع في المشكاة والمصابيح، وفي الصحيحين ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر)) (مسيرة يوم وليلة) مصدر ميمي بمعنى السير كالمعيشة بمعنى العيش، واختلف الرواية عن أبي هريرة أيضًا في ذكر المدة ففي رواية للشيخين مسيرة يوم وليلة وهي المذكورة في الكتاب، وفي أخرى لمسلم ((مسيرة يوم)) وفي أخرى له ((مسيرة ليلة)) وفي أخرى له أيضًا ((أن تسافر ثلاثًا)) وفي رواية لأبي داود ((بريدًا)) وقد تقدم الكلام في ذلك، وأنه ليس المراد التحديد بل المدار على ما يسمى سفرًا، والاختلاف إنما وقع لاختلاف السائل والمواطن، وليس هو من المطلق والمقيد بل من العام الذي ذكرت بعض أفراده وذا لا يخصص على الأصح (إلا ومعها ذو محرم) ، وفي مسلم ((إلا مع ذي محرم عليها)) ولفظ البخاري ((ليس معها حرمة)) وفي أخرى لمسلم ((إلا ومعها رجل ذو حرمة منها)) وقوله ((ذو محرم)) هكذا وقع في الروايات، قيل: والظاهر أن لفظ ((ذو)) مقحم فإن المحرم للمرأة هو من لا يحل له نكاحها، وقيل: المراد ((ذو رحم محرم)) أي ذو قرابة محرم تزوجها. قال في القاموس: ورحم محرم، محرم تزوجها. قال صاحب تسير العلام: المرأة مظنة الشهوة والطمع وهي لا تكاد تقي نفسها لضعفها ونقصها ولا يغار عليها مثل محارمها الذين يرون أن النيل منها نيل من شرفهم وعرضهم، والرجل الأجنبي حينما يخلو بالأجنبية يكون معرضًا لفتن الشيطان ووساوسه، لهذه المحاذير التي هي وسيلة في وقوع الفاحشة وانتهاك الأعراض حرم الشارع على المرأة أن تسافر إلا ومعها ذو محرم. قال: واختلفوا هل المرأة مستطيعة الحج بدون المحرم إذا كانت ذات مال أم أن وجود المحرم شرط في الاستطاعة؟ الصحيح أنه لا يحل له خروجها بدون محرم لأي سفر فتكون معذورة غير مستطيعة، واختلفوا في الكبيرة التي لا تميل إليها النفس هل تسافر بدون محرم؟ أم لا بد من المحرم؟ الصحيح الأخير، لأن الحديث عام في كل امرأة ولا يخلو الأمر من محذور فلكل ساقطة لاقطة. واختلفوا هل يكفي أن تكون مع رفقة أمينة أو تسافر مع امرأة مسلمة ثقة أم لا؟ الصحيح أنه لا بد من المحرم لعموم الحديث، ولأن غيرة المحرم ونظره مفقودان. واختلفوا في تحديد السفر تبعًا لاختلاف الأحاديث، والأحوط أن يؤخذ بأقلها لأنه لا ينافي ما فوقه، ويكون ما فوقه قضايا عين حسب حال السائل، والله أعلم. قال: وإذا قارنت حال المسلمين اليوم بهذه النصوص الصحيحة والآداب العالية والغيرة الكريمة والشهامة النبيلة والمحافظة على الفروج والأعراض وحفظ الأنساب وجدت كثيرًا من المسلمين قد نبذوا دينهم وراءهم ظهريًا ومرقوًا منه وصار التصون والحياء ضربًا من الرجعية والجمود. أما الانحلال الخلقي وخلع رداء الحياء والعفاف فهو التقدم والرقي فإنا لله وإنا إليه راجعون (متفق عليه) أخرجه البخاري في أبواب تقصير الصلاة، ومسلم في الحج. وأخرجه أيضًا أحمد مرارًا ومالك في كتاب الجامع من الموطأ والشافعي في

2540- (12) وعن ابن عباس قال: وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم ـــــــــــــــــــــــــــــ المسند (ج1 ص291) ، والترمذي في الرضاع وأبو داود، وابن ماجة في الحج، والحاكم (ج1 ص442) والبيهقي (ج5 ص227) . 2540- قوله (وقت) أي حدد وعين المواضع الآتية للإحرام وجعلها ميقاتًا، وإن كان مأخوذًا من الوقت وهو المقدار من الزمان إلا أن العرف يستعمله في مطلق التحديد اتساعًا. قال الحافظ: أصل التوقيت أن يجعل للشيء وقت يختص به، ثم اتسع فيه فأطلق على المكان أيضًا. وقال ابن الأثير في النهاية: التوقيت والتأقيت أن يجعل للشيء وقت يختص به، وهو بيان مقدار المدة، يقال: وقت الشيء بالتشديد يوقته ووقت بالتخفيف يقته إذا بين مدته، ثم اتسع فيه فأطلق على المكان فقيل للموضع ميقات. وقال ابن دقيق العيد: قيل إن التوقيت في الأصل ذكر الوقت، والصواب أن يقال: تعليق الحكم بالوقت ثم استعمل في التحديد للشيء مطلقًا لأن التوقيت تحديد بالوقت فيصير التحديد من لوازم التوقيت فيطلق عليه التوقيت، وقوله ها هنا ((وقت)) يحتمل أن يراد به التحديد أي حد هذه المواضع للإحرام ويحتمل أن يراد بذلك تعليق الإحرام بوقت الوصول إلى هذه الأماكن بالشرط المعتبر. وقال عياض: وقت أي حدد وجعل لهم ميقاتًا، وحد الحد الذي يحرمون منه والمواقيت كلها حدود للعبادات، وقد يكون وقت بمعنى أوجب عليهم الإحرام منه، ومنه قوله تعالى: إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} (- 4: 103) ويؤيده حديث ابن عمر عند البخاري بلفظ فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الولي العراقي: معنى التوقيت بهذه المواقيت أنه لا يجوز لمريد النسك أن يجاوزها غير محرم، والدليل على وجوب ذلك من أوجه (أحدها) أنه عليه الصلاة والسلام جعلها ميقاتًا للإحرام وقال: ((خذوا عني مناسككم)) فلزمنا الوقوف عند ذلك (ثانيها) أنه قال في الرواية الأخرى ((يهل أهل المدنية من ذي الحليفة)) إلى آخر الحديث، فأتى به بلفظ الخبر، وهو هنا بمعنى الأمر، وإنما يستعمل الأمر بصيغة الخير لتأكده، والأمر المتأكد للوجوب (ثالثها) أنه قد ورد الأمر صريحًا في قوله في رواية البخاري وغيره ((من أين تأمرنا أن نهل)) وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك وبين له مواضع الإهلال المأمور بها، وفي قوله في رواية مسلم من حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمر ((أمر رسول الله أهل المدنية أن يهلوا من ذي الحليفة)) الحديث (رابعها) أن في صحيح البخاري من حديث ابن عمر ((فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) وذكر الحديث. وافتراض المواقيت صريح فيما ذكرناه، ولذلك بوب عليه البخاري ((فرض مواقيت الحج والعمرة)) وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد والجمهور. وقالوا: لو تركها لزمه دم. قال الشيخ تقي الدين: وإيجاب الدم من غير هذا الحديث، وكأنه

لأهل المدينة ذا الحليفة، ـــــــــــــــــــــــــــــ يحتاج إلى مقدمة أخرى. ثم قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وآخرون: متى عاد إلى الميقات قبل التلبس بنسك سقط عنه الدم. وقال أبو حنيفة: إنما يسقط عنه الدم إذا عاد إليه ملبيًا، فإن عاد غير ملب استمر لزوم الدم. وقال عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وزفر: لا يسقط الدم بعوده إليه مطلقًا. وقال مالك: إن عاد إليه قبل أن يبعد عنه وهو حلال سقط، وإن عاد بعد البعد والإحرام لم يسقط، وأعلم أنه حكى الأثرم عن الإمام أحمد أنه سئل في أي سنة وقت النبي - صلى الله عليه وسلم - المواقيت؟ فقال: عام حج – انتهى، كذا ذكره الحافظ وغيره من الشراح واكتفوا بذكره في مبدأ المواقيت. وروى البخاري في العلم من حديث ابن عمر ((أن رجلاً قام في المسجد فقال: يا رسول الله من أين تأمرنا أن نهل؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يهل أهل المدينة من ذي الحليفة)) الحديث. ويشكل على ذلك أنهم تصدوا جميعًا للاعتذار عن مجاوزة أبي قتادة عام الحديبية عن المواقيت بغير إحرام وذكروا لذلك توجيهات مختلفة، وإذا كان التوقيت عام حجة الوداع لم يكن حاجة إلى الجواب والاعتذار عنه (لأهل المدينة) النبوية، أي سكانها ومن سلك طريق سفرهم ومر على ميقاتهم (ذا الحليفة) مفعول وقت، والحليفة بضم الحاء المهملة وفتح اللام تصغير الحلفة بفتحات نبت معروف، وذو الحليفة موضع معروف بقرب المدينة بينه وبينها ستة أميال قاله النووي وقبله الغزالي والقاضي عياض والشافعي كما في المعرفة، وكذا قال المجد في القاموس وياقوت الحموي في المعجم، وزادا كالقاضي أنه من مياه بني جشم بالجيم والشين المعجمة بين بني خفاجة من عقيل وقال ابن حزم: هو على أربعة أميال من المدينة، وقال السمهودي في وفاء الوفاء (ص 1194) : وقد اختبرت ذلك بالمساحة فكان من عتبة باب المسجد النبوي المعروف ببات السلام إلى عتبة باب مسجد الشجرة بذي الحليفة تسعة عشر ألف ذراع وسبعمائة ذراع واثنين وثلاثين ذراعًا ونصف ذراع بذراع اليد (وذراع اليد على ما ذكره المحب الطبري والنووي وغيرهما أربعة وعشرون إصبعًا، كل إصبع ست شعيرات مضمومة بعضها إلى بعض) وذلك خمسة أميال وثلثا ميل ينقص مائة ذراع - انتهى. وقيل: ذلك دون خمسة أميال، فإن الميل عند الحنفية أربعة آلاف ذراع بذراع الحديد المستعمل الآن. وقال الحافظ: ذو الحليفة مكان معروف بينه وبين مكة مائتا ميل غير ميلين، قاله ابن حزم (ج7 ص70) وقال غيره: بينهما عشر مراحل، قال: وبها مسجد يعرف بمسجد الشجرة خراب وبها بئر يقال لها بئر علي - انتهى. وعلي هذا ليس بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقال العيني: وبذي الحليفة عدة آبار ومسجدان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، المسجد الكبير الذي يحرم منه الناس، والمسجد الآخر مسجد المعرس - انتهى. وقال صاحب تيسير العلام: ذو الحليفة تسمى الآن آبار علي، وتبعد عن مكة بالمراحل (10) وبالفراسخ (80) وبالأميال (240) وبالكيلوات (430) والمرحلة هي مسيرة يوم وليلة بسير الإبل المحملة بالأثقال سيرًا معتادًا

ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد ـــــــــــــــــــــــــــــ ويقدر بها العرب الأوائل فأخذها عنهم العلماء (ولأهل الشام) ، أي ومن سلك طريقهم فمر بميقاتهم، والشام بلاد معروفة وهي من العريش إلى بالس، وقيل إلى الفرات قاله النووي في شرح أبي داود، قال القاري: قوله ((ولأهل الشام)) أي من طريقهم القديم لأنهم الآن يمرون على مدينة النبي الكريم - انتهى. وقال ابن حجر المكي الهيتمي: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ولأهل الشام الجحفة)) ، أي إذا لم يمروا بطريق المدينة وإلا لزمهم الإحرام من الحليفة إجماعًا على ما قاله النووي، قال القاري: وهذا غريب منه وعجيب، فإن المالكية وأبا ثور (وابن المنذر وهما من الشافعية) يقولون بأن له التأخير إلى الجحفة، وعندنا معشر الحنفية يجوز للمدني أيضًا تأخيره إلى الجحفة، فدعوى الإجماع باطلة مع وقوع النزاع - انتهى. قلت: وسيأتي الكلام في هذا مفصلاً ووقع في حديث عائشة عند النسائي ((ولأهل الشام ومصر الجحفة)) قال الولي العراقي: هذه زيادة يجب الأخذ بها وعليها العمل. وروى الشافعي بسنده عن عطاء مرسلاً أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل المغرب (الجحفة) بضم الجيم وإسكان الحاء المهملة وفتح الفاء قرية كبيرة كانت عامرة ذات منبر وهي الآن خربة بينها وبين البحر الأحمر بالأميال (6) وبالكيلوات (10) قال ابن حزم: وهي فيما بين المغرب والشمال من مكة، ومنها إلى مكة اثنان وثمانون ميلاً. وقال صاحب التيسير: تبعد عن مكة بالمراحل (5) وبالفراسخ (40) وبالأميال (120) وبالكيلوات (201) ويحرم منها أهل مصر والشام والمغرب ومن ورائهم من أهل الأندلس والروم والتكرور. قيل: إنها ذهبت أعلامها ولم يبق إلا رسوم خفية لا يكاد يعرفها إلا سكان بعض البوادي، فلذا - والله تعالى أعلم - اختار الناس الإحرام احتياطًا من المكان المسمى برابغ براء وموحدة وغين معجمة بوزن فاعل لأنها قرية قبل حذائها بقليل، وقيل: لا يحرمون من الجحفة لوخمها وكثرة حماها فلا ينزلها أحد إلا حم. وسماها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر عند الشيخين ((مهيعة)) بفتح الميم وإسكان الهاء وفتح التحتية والعين المهملة بوزن علقمة، وقيل: بكسر الهاء مع إسكان الياء على وزن لطيفة، والصحيح المشهور الأول. وسميت الجحفة لأن السيل أجحف بها، قال ابن الكلبي: كان العماليق يسكنون يثرب فوقع بينهم وبين بني عبيل - بفتح المهملة وكسر الموحدة، وهم إخوة عاد - حرب فأخرجوهم من يثرب فنزلوا مهيعة فجاء سيل فاجتحفهم أي: استأصلهم فسميت الجحفة (ولأهل نجد) أي: ساكنيها ومن سلك طريق سفرهم فمر بمياقتهم. ونجد بفتح النون وإسكان الجيم وآخره دال مهملة. قال الحافظ: هو كل مكان مرتفع، وهو اسم لعشرة مواضع، والمراد منها هنا التي أعلاها تهامة واليمن وأسفلها الشام والعراق. وقال ياقوت: نجد تسعة مواضع، ونجد المشهور فيها اختلاف كثير، والأكثر أنها اسم للأرض التي أعلاها تهامة وأسفلها العراق والشام. وقال الخطابي: نجد ناحية المشرق ومن كان بالمدينة كان نجده بادية العراق ونواحيها وهي مشرق أهلها، وذكر في المنتهى: نجد من بلاد العرب وهو خلاف الغور أعني تهامة، وكل ما ارتفع من تهامة إلى أرض

قرن المنازل، ـــــــــــــــــــــــــــــ العراق فهو نجد. وقال عياض في المشارق وأبو عمر: نجد ما بين الجرش إلى سواد الكوفة. وحده مما يلي لمغرب الحجاز وعن يسار الكعبة اليمن. ونجد كلها من عمل اليمامة. قال السمهودي: والصواب أن الذي من عمل اليمامة موضع مخصوص من نجد لا كله. وقال في النهاية: النجد ما ارتفع من الأرض وهو اسم خاص لما دون الحجاز مما يلي العراق - انتهى. وهو مذكر، قال الشاعر: ألم تر أن الليل يقصر طوله ... بنجد ويزداد النطاف به نجدا ولو أنثه أحد ورده على البلاد لجاز له ذلك (قرن المنازل) بلفظ: جمع المنزل والمركب الإضافي هو اسم المكان ويقال له قرن أيضًا بلا إضافة كما ورد في رواية للشيخين، وأحمد، ومالك وغيرهم، وهو بفتح القاف وسكون الراء بعدها نون، وضبطه صاحب الصحاح بفتح الراء وغلطوه. وبالغ النووي فحكى الاتفاق على تخطئته في ذلك، لكن حكى عياض عن تعليق القابسي: أن من قاله بالإسكان أراد الجبل المشرف على الموضع، ومن قال بالفتح أراد الطريق الذي يفترق منه فإنه موضع فيه طريق متفرق. والجبل المذكور بينه وبين مكة من جهة المشرق مرحلتان. وحكى الرؤياني عن بعض قدماء الشافعية أن المكان الذي يقال له قرن موضعان: أحدهما في هبوط وهو الذي يقال له قرن المنازل، والآخر في صعود وهو الذي يقال له قرن الثعالب، والمعروف الأول، وفي أخبار مكة للفاكهي: إن قرن الثعالب جبل مشرف على أسفل منى بينه وبين مسجد منى ألف وخمسمائة ذراع، وقيل له قرن الثعالب لكثرة ما كان يأوى إليه من الثعالب، فظهر أن قرن الثعالب ليس من المواقيت، وقد وقع ذكره في حديث عائشة في إتيان النبي - صلى الله عليه وسلم - الطائف يدعوهم إلى الإسلام وردهم عليه، قال: فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب، الحديث. وذكره ابن إسحاق في السيرة النبوية، ووقع في مرسل عطاء عند الشافعي في الأم (ج2: ص117) ولأهل نجد قرنًا ولمن سلك نجدًا من أهل اليمن وغيرهم قرن المنازل، ووقع في عبارة القاضي حسين في سياقه لحديث ابن عباس هذا ((ولأهل نجد اليمن ونجد الحجاز قرن)) ، وهذا لا يوجد في شيء من طرق حديث ابن عباس، وإنما يوجد ذلك من مرسل عطاء وهو المعتمد، فإن لأهل اليمن إذا قصدوا مكة طريقين إحداهما طريق أهل الجبال وهم يصلون إلى قرن أو يحاوذنه وهو ميقاتهم كما هو ميقات أهل المشرق، والأخرى طريق أهل تهامة، فيمرون بيلملم أو يحاوذنه وهو ميقاتهم لا يشاركهم فيه إلا من أتى عليه من غيرهم كذا في الفتح. وقال المحب الطبري: قرن المنازل وقرن الثعالب واحد وهو تلقاء ذات عرق على مرحلتين من مكة وهو ميقات أهل النجدين نجد الحجاز ونجد تهامة واليمن وقال ابن حزم: قرن شرق من مكة ومنها إلى مكة اثنان وأربعون ميلاً. وقال صاحب التيسير: وقرن لها معان أحدها أعلى الجبل ويسمى هذا المحرم الآن السير الكبير ويبعد عن مكة بالمراحل (2) وبالفراسخ (16) وبالأميال (48) وبالكيلوات (80) ويحرم منه أهل الطائف وأهل نجد نجد اليمن ونجد الحجاز وأهل الكويت فائدة

ولأهل اليمن يلملم، ـــــــــــــــــــــــــــــ قال ابن جاسر في ((مفيد الأنام)) : إذا ركب إنسان طائرة من نجد قاصدًا مكة لأداء نسكه فميقاته الشرعي ((قرن)) المعروف بالسيل وحيث أنه لا يتمكن من النزول بالطائرة في الميقات المذكور وقصد جدة لينزل في مطارها فإن الواجب عليه - والحالة ما ذكر - نية الإحرام في الطائرة إذا أتى على الميقات - قرن -المذكور أو على ما يحاذيه، فإذا نزل بجدة محرمًا قصد مكة لأداء نسكه، ولا يجوز له ترك الإحرام إذا أتى على الميقات أو حاذاه بقصد الإحرام من جدة لأن الإحرام من الميقات أو ما يحاذيه واجب، وتجاوزه بغير إحرام محرم، وفيه دم، ومثله إذا ركب طائرة من المدينة ونحوها قاصدًا مكة، والله أعلم - انتهى. (ولأهل اليمن) إذا مروا بطريق تهامة ومن سلك طريق سفرهم ومر على ميقاتهم. قال في المواهب اللطيفة: أراد به بعض أهل اليمن ممن يسكن تهامة فإن اليمن يشمل نجدًا وتهامة، وقوله فيما تقدم لأهل نجد عام يشمل نجد الحجاز ونجد اليمن. وقال الولي العراقي: قال أصحابنا وغيرهم: المراد بكون يلملم ميقات أهل اليمن بعض اليمن وهو تهامة، فأما نجد فإن ميقاته قرن، وذلك لأن اليمن يشمل نجدًا وتهامة فأطلق اليمن وأريد بعضه وهو تهامة منه خاصة، وقوله فيما تقدم ((نجد)) تناول نجد الحجاز ونجد اليمن وكلاهما ميقات أهله قرن (يلملم) بفتح التحتانية واللام وسكون الميم بعدها لام مفتوحة ثم ميم، وهو جبل من جبال تهامة على مرحلتين من مكة، وقال ابن حزم: هو جنوب من مكة، ومنه إلى مكة ثلاثون ميلاً. وفي شرح المهذب يصرف ولا يصرف. قال العيني: إن أريد الجبل فمنصرف، وإن أريد البقعة فغير منصرف البتة بخلاف قرن، فإنه على تقدير إرادة البقعة يجوز صرفه لأجل سكون وسطه. ويقال فيه ((ألملم)) بالهمزة وهو الأصل والياء تسهيل لها، وحكى ابن سيده فيه ((يرموم)) براءين بدل اللامين. قال العيني: ووزن يلملم فعمعل كصمحمح، وليس هو من لملمت لأن ذوات الأربعة لا يلحقها الزيادة في أولها إلا في الأسماء الجارية على أفعالها نحو مدحرج، قال: فلأجل هذا حكمنا بأن الميم الأولى واللام الثانية زائدتان، ولهذا قال الجوهري في باب الميم وفصل الباء: يلم ثم قال ((يلملم)) لغة في الملم وهو ميقات أهل اليمن - انتهى. وقال صاحب التيسير: وتبعد عن مكة بالمراحل (2) وبالفراسخ (16) وبالأميال (48) وبالكليوات (80) ويحرم منه أهل اليمن وأهل جاوه وأهل الهند والصين - انتهى. قلت: قد جرى عمل حجاج الهند والباكستان الذين يسافرون للحج من طريق البحر أنهم إذا وصلت باخرتهم قريبًا من بعض سواحل اليمن وكانوا على يوم وليلة أو أكثر من ميناء جدة يحرمون هناك في البحر بناء على زعمهم أنهم يحاذون إذ ذاك جبل ((يلملم)) الذي هو ميقات أهل اليمن ومن سلك طريقهم في البر إلى الحرم المكي، والذي هو على مرحلتين من مكة، أي على بعد ثمان وأربعين ميلاً منها، وعندي عملهم هذا محل نظر وبحث، بل الصواب عندي أنه لا يجب عليهم الإحرام في البحر في أي محل كانوا، أي قبل وصولهم إلى جدة بل لهم أن يؤخروا الإحرام حتى ينزلوا في ميناء جدة فيحرموا منها، وهذا يحتاج إلى شيء من البسط والتوضيح، فاعلم أن الأرض حول مكة في

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ جهاتها الأربع قد جعلت حرمًا وحدث لذلك حدود عينها إبراهيم عليه الصلاة والسلام بأمر الله تعالى، ثم قررها نبينا - صلى الله عليه وسلم -، فحرم مكة ما أحاط وأطاف بها من جوانبها الأربع، ومسافة تلك الحدود من الكعبة المشرفة والمسجد الحرام ليست متساوية بل متفاوتة، فهي تنتهي على بعد عشرة أميال في جهة الحديبية وجدة وكذا في جهة الطائف، وتسعة في أخرى، أي الجعرانة، وسبعة في ناحية، أي في جهة عرفات والعراق، وكذا في جهة اليمن، وثلاثة فقط في أخرى، أي في جهة التنعيم. وقد نصبت علامات لانتهاء الحرم في الجهات المذكورة، وإذا وصلت هذه العلامات بخطوط مستقيمة بينها تحدث من ذلك خارطة تشبه شكلاً مخمسًا ويكون طول الحرم حول مكة سبعة وثلاثين ميلاً وهي التي تدور بأنصاب الحرم المبنية في جميع جوانبه، وقد جعل الله تعالى هذه المنطقة المحاطة بالخطوط حرمًا يجب تكريمه واحترامه، وشرع له أحكامًا يختص به، فمثلاً لا يقتل صيدها ولا يختلى خلاه ولا يعضد شجرها وغير ذلك من الأحكام، وحرمة هذه القطعة من الأرض ليست إلا لأن لها علاقة ونسبة ببيت الله الحرام وهو في الحقيقة تكريم للكعبة وإجلال للبيت. ثم إن خارج تلك الحدود على بعد عشرات من الأميال قد وقتت خمس أماكن للقادمين إلى مكة للحج والعمرة يقال لها المواقيت جمع الميقات، وهي خمسة: ذو الحليفة، الجحفة، قرن المنازل، يلملم، ذات عرق. قد عين النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الأمكنة ميقاتًا للحجاج القادمين من طرفها، وقد أجمع العلماء على أنه لا يجوز لأحد يمر على واحد من هذه المواقيت الخمسة المنصوصة وهو يريد الحج أو العمرة أن يتجاوزه بدون الإحرام، فإن جاوزه غير محرم فقد أساء الأدب ببيت الله الحرام وعليه دم عند الجمهور، وإن سلك أحد طريقًا لا يقع فيها أي واحد من هذه المواقيت فإنه لا بد أن يمر بمحاذاته في محل ما فعليه أن يحرم قبل أن يتجاوز محل محاذاته، فإن لم يستطع أن يعرف محل المحاذاة فعليه أن يحرم قبل مرحلتين من مكة المكرمة. وبعد هذا فاعلم أن في الزمن القديم حينما كان السفر في البحر بالسفن الشراعية كان الحجاج القادمون من الهند والبلاد الشرقية ينزلون على واحدة من موانئ اليمن مثل الحديدة أو غيرها ثم يسافرون منها إلى مكة المكرمة في البر من طريق اليمن، ولذا كان الواجب عليهم أن يحرموا من يلملم)) لأن ميقات أهل اليمن ومن أتي من طريقهم يلملم، ولكن في زمننا هذا لا ترسي بواخر حجاج الهند والباكستان في موانئ اليمن بل تقطع طريقها في البحر رأسًا إلى جدة وترسي في مينائها، ولذا لا يقع يلملم في طريقهم ولا يمرون على خط محاذاتها أيضًا فليس هناك وجه معقول لا يجاب الإحرام عليهم في البحر قبل وصول باخرتهم إلى جدة، ولكن قد جرى العمل على أن ربان باخرة الحجاج القادمة من الهند أو الباكستان يعلن قبل الوصول إلى جدة بيوم وليلة أو أكثر بأن الباخرة ستمر قريبًا من جبل يلملم في الوقت الفلاني فعلى الحجاج أن يتأهبوا ويحرموا قبل ذلك، فالحجاج يحرمون في ذاك المحل من البحر عملاً بهذا الإعلان، فإن كان معناه أن جبل يلملم يرى بالتلسكوب (المنظار) وأمثالها من الآلات من ذلك المحل الذي يبعد منه

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ أكثر من خمسين ميلاً يقينًا فلا علاقة لهذه الرؤية بمسألة المحاذاة المعتبرة. وإن كان معناه أنه يمكن أن يخط خط مستقيم إلى جبل يلملم من ذلك المحل فهذا الإمكان متحقق من كل محل ولا يختص بمحل دون آخر، وعلى كل حال فإن المسألة ما زالت غير واضحة لي مع أني وافقتهم في الإحرام في ذاك المحل سنة 75، وسنة 82 من الهجرة، فأحرمت حيثما أحرموا وذلك لأنه لا شبهة في جواز الإحرام قبل الميقات عند الجمهور، وبما أنه لا يقع، أي ميقات في طريق بواخر الحجاج القادمة من الهند أو الباكستان ولا يحاذي أي واحد منها بل تقطع طريقها في البحر في حدود الآفاق، أي إلى غير جهة الحرم بعيدة عن يلملم الذي هو جبل من جبال تهامة وقريب من مكة المكرمة فلا يمكن لأية باخرة أو سفينة أن تتجاوزه أو تتجاوز خط محاذاته إلى جهة الحرم قبل وصولها إلى جدة ولو كانت تجرى على الساحل، وقد ذكرنا فيما سبق أن الحدود التي حدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للحرم إذا أحطناها بالخطوط الممتدة من حد إلى حد تحدث منه صور مخمسة، ثم إنه قد وقتت خمس أماكن مواقيت للحج والعمرة على بعد عشرات من الميل (بل على نحو أكثر من مأتي ميل إلى جهة المدينة) وقد مر تفصيله فيما سبق، وإذا أحطنا تلك المواقيت الخمسة بالخطوط تظهر منها أيضًا صورة مخمسة ممتدة الأطراف. وإذا أتضح لك هذا فاعلم أن المنطقة الواقعة ما بين خارج حدود الحرم، أي خارج الخطوط المحيطة بحدود الحرم إلى المواقيت يقال لها الحل الصغير لأنه يحل فيها الصيد لكن يحرم المرور والدخول فيها بغير إحرام لمن يسكن وراء الميقات، مثلاً المنطقة الواقعة ما بين مكة والتنعيم في جهة المدينة حرم ومنها إلى ذي الحليفة حل صغير وسائر الأرض خارج حدود المواقيت الخمسة يقال لها الآفاق أو الحل الكبير، فالذين يسكنون خارج حدود الحرم دون حدود المواقيت (أي في الحل الصغير) يجب عليهم الإحرام قبل دخولهم حدود الحرم إذا أرادوا الحج والعمرة، مثلاً الذين يسكنون في شمال مكة بين التنعيم وذي الحليفة يجب عليهم أن يحرموا من التنعيم قبل الدخول في حدود الحرم، والذين يسكنون في الآفاق خارج المواقيت يجب عليهم الإحرام من مواقيتهم قبل أن يتجاوزوا حدود الميقات (أي قبل دخولهم في الحل الصغير) ، فالذي يمر على أحد هذه المواقيت الخمسة حكمه واضح أنه يحرم من ذلك الميقات قبل أن يتجاوزه إلى الحل الصغير أو إلى جهة الحرم. أما الذي لا يمر على واحد من هذه المواقيت فيجب عليه الإحرام قبل تجاوزه الخط الذي يمتد من ميقات إلى آخر ويكون حدًا فاصلاً بين الحل الصغير والآفاق، أي الحل الكبير، وإن هذا الخط في الأصل هو خط محاذاة الميقات، فالحاج ما دام خارج الخط المذكور فهو في الآفاق، وإذا جاوز هذا الخط فقد دخل حدود الحل الصغير، ولا يجوز لآفاقي أن يدخل الحل الصغير بدون الإحرام وقد ذكرنا فيما سبق أنه إن جاء أحد من طريق لا يقع أي ميقات فيه ولا يمكن له معرفة حد الحل الصغير بالضبط أعني خط محاذاة الميقات فعليه أن يحرم قبل مرحلتين من مكة. فإذا كانت باخرة الحجاج القادمين من

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ البلاد الشرقية - الهند أو الباكستان وغيرهما - لا تمر في البحر بيلملم أو بمحاذاتها بل تقطع طريقها في الآفاق، أي في الحل الكبير إلى غير جهة الحرم متوجهة إلى جدة وترسي في مينائها يجوز للحجاج المسافرين في تلك البواخر أن يؤخروا الإحرام إلى جدة ويحرموا منها، لأنها على مرحلتين من مكة، والمسافة بين مكة ويلملم أيضًا مثله كما قال الهيتمي في تحفة المحتاج بشرح المنهاج (ج 4 ص 45) : وخرج بقولنا ((إلى جهة الحرم)) ما لو جاوزه يمنة أو يسرة فله أن يؤخر إحرامه لكن بشرط أن يحرم من محل مسافته إلى مكة مثل مسافة ذلك الميقات كما قاله الماوردي وجزم به غيره، وبه يعلم أن الجائي من اليمن في البحر له أن يؤخر إحرامه من محاذاة يلملم إلى جدة لأن مسافتها إلى مكة كمسافة يلملم كما صرحوا به بخلاف الجائي فيه من مصر ليس له أن يؤخر إحرامه عن محاذاة الجحفة لأن كل محل من البحر بعد الجحفة أقرب إلى مكة منها فتنبه لذلك، هذا بالنسبة للحجاج المسافرين بالباخرة، أما الحجاج المسافرون بالطائرة فإن طائراتهم تقطع طريقها في أجواء البر وتمر على قرن المنازل عمومًا وتدخل أول الحل مارة على واحد من الميقاتين: قرن المنازل أو ذات عرق، ثم تصل جدة وتنزل بها، ولذا يجب عليهم الإحرام قبل مرورهم على قرن المنازل، وبما أنه يتعذر علم الساعة التي تمر فيها الطائرة على الميقات بالضبط فالأحوط لهم أن يحرموا عند ركوبهم الطائرة، لأنهم إن جاوزوا الميقات بدون الإحرام ووصلوا جدة غير محرمين يأثمون ويجب عليهم الدم عند الجمهور، وسيأتي مزيد الكلام في هذا في شرح حديث جابر في المواقيت. تنبيه قال النووي: أقرب المواقيت إلى مكة قرن المنازل ميقات أهل نجد وفي ذلك نظر لأن ابن حزم ذكر كما تقدم أن بين قرن ومكة اثنين وأربعين ميلاً وأن بين يلملم ومكة ثلاثين ميلاً فتكون يلملم حينئذ أقرب المواقيت إلى مكة وعلى ما ذكر صاحب التيسير يكون قرن ويلملم على حد سواء من مكة. قال الحافظ: أبعد المواقيت من مكة ذو الحليفة ميقات أهل المدينة، فقيل: الحكمة في ذلك أن تعظم أجور أهل المدينة. وقيل رفقًا بأهل الآفاق لأن أهل المدينة أقرب الآفاق إلى مكة أي: ممن له ميقات معين - انتهى. وقال في حجة الله البالغة: لما كان الإتيان إلى مكة شعثًا تفلاً تاركًا لغلواء نفسه مطلوبًا، وكان في تكليف الإنسان أن يحرم من بلده حرج ظاهر، فإن منهم من يكون قطره على مسيرة شهر وشهرين وأكثر وجب أن يخص أمكنة معلومة حول مكة يحرمون منها ولا يؤخرون الإحرام بعدها، واختار لأهل المدينة أبعد المواقيت لأنها مهبط الوحي ومأرز الإيمان ودار الهجرة وأول قرية آمنت بالله ورسوله، فأهلها أحق أن يبالغوا في إعلاء كلمة الله وأن يخصوا بزيادة تعظيم الله، وأيضًا فهي أقرب الأقطار التي آمنت في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهى. قلت: لبيت الله الحرام من التكريم والتعظيم والتقديس والإجلال ما لا يخفى على مسلم، ومن آثار ذلك أن جعل له حمى وحدودًا لا يتجاوزها قاصده بحج أو عمرة إلا وقد أحرم وأتى في حال خشوع وخضوع وتقديس وإجلال عبادة لله واحترامًا لهذا البيت المطهر، ومن رحمة الله بخلقه أنه لم يجعل لهم ميقاتًا واحدًا في إحدى

فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، ـــــــــــــــــــــــــــــ جهاته بل جعل لكل جهة محرمًا وميقاتًا يكون في طريق سالكه إلى مكة سواء كان من أهل تلك الجهة أو لا وذلك لئلا تلحقهم المشقة بقصدهم ميقاتًا ليس في طريقهم حتى جعل ميقات من داره دون المواقيت مكانه الذي هو فيه، حتى أهل مكة يحرمون بالحج من مكة فلا يلزمهم الخروج إلى الحل. وفي تقدير النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه المواقيت وتحديدها معجزة من معجزاته الدالة على صدق نبوته، فقد حددها ووقتها وأهلها لم يسلموا غير أهل المدينة إشعارًا منه بأن أهل تلك الجهات سيسلمون ويحجون ويحرمون منها، وقد كان ولله الحمد والمنة (فهن) أي: المواقيت المذكورة (لهن) بضمير المؤنثات، وكان مقتضى الظاهر أن يكون ((لهم)) بضمير المذكرين، فأجاب ابن مالك بأنه عدل إلى ضمير المؤنثات لقصد التشاكل وكأنه يقول ناب ضمير عن ضمير بالقرينة لطلب التشاكل وأجاب غيره بأنه على حذف مضاف أي: هن لأهلهن أي: هذه المواقيت لأهل هذه البلدان بدليل قوله الآتي: ((ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)) فصرح بالأهل ثانيًا. قال النووي: الضمير في ((لهن)) عائد على المواضع والأقطار المذكورة وهي المدينة، والشام، واليمن ونجد أي: هذه المواقيت لهذه الأقطار، والمراد لأهلها، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. وفي رواية للبخاري ((هن لهم)) بضمير المذكرين وهو واضح. قال الحافظ: أي: المواقيت المذكورة لأهل البلاد المذكورة. ووقع في رواية أخرى أي: للبخاري في باب دخول مكة بغير إحرام بلفظ: ((هن لهن)) أي: المواقيت للجماعات المذكورة أو لأهلهن على حذف المضاف، والأول أي: ((لهم)) بضمير المذكرين هو الأصل، ووقع في باب مهل أهل اليمن بلفظ: ((هن لأهلهن)) وقوله: ((هن)) ضمير جماعة المؤنث وأصله لمن يعقل، وقد استعمل فيما لا يعقل لكن فيما دون العشرة - انتهى. وقال القرطبي: أما جمعه من لا يعقل بالهاء والنون في قوله: ((فهن لهم)) فمستعملة عند العرب وأكثر ذلك في العشرة فما دونها فإذا جاوزها قالوا بهاء المؤنث لا غير كما قال الله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً} (- 9: 36) ثم قال {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} (-9: 36) أي: من الإثنى عشر، ثم قال: {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} (- 9: 36) أي: في هذه الأربعة وقد قيل في الجميع وهو ضعيف شاذ - انتهى. (ولمن أتى) أي: مر (عليهن) أي: على المواقيت (من غير أهلهن) أي: من غير أهل البلاد المذكورة، وهذا يقتضي أن المواقيت المذكورة مواقيت أيضًا لمن أتى عليها وإن لم يكن من أهل تلك المواقيت المعينة، فإنه يلزمه الإحرام منها إذا أتى عليها قاصدًا لإتيان مكة لأحد النسكين، فيدخل في ذلك ما إذا ورد الشامي مثلاً إلى ذي الحليفة فإنه يجب عليه الإحرام منها ولا يتركه حتى يصل الجحفة، فإن آخر أساء ولزمه دم، هذا عند الجمهور. وقالت المالكية والحنفية: يجوز له التأخير إلى ميقاته وإن كان الأفضل له أن يحرم من ميقات المدينة أي: من ذي الحليفة. قال الحافظ: الشامي إذا أراد الحج فدخل المدينة فميقاته ذو الحليفة لاجتيازه عليها ولا يؤخره حتى يأتي الجحفة التي هي ميقاته الأصلي، فإن أخر أساء ولزمه دم عند الجمهور وأطلق النووي الاتفاق ونفى الخلاف في

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ شرحيه لمسلم والمهذب في هذه المسألة فلعله أراد في مذهب الشافعي، وإلا فالمعروف عند المالكية أن الشامي مثلاً إذا جاوز ذا الحليفة بغير إحرام إلى ميقاته الأصلي وهو الجحفة جاز له ذلك وإن كان الأفضل خلافه وبه قال الحنفية وأبو ثور وابن المنذر من الشافعية. . وقال الأبي المالكي بعد ذكر قول النووي ((وهذا لا خلاف فيه)) لعله يعني عندهم وأما عندنا فإنما ذلك لمن ليس ميقاته بين يديه كاليمني والعراقي والنجدي يمر أحدهم بذي الحليفة فإنه يحرم منها ولا يؤخره لأن ميقاته ليس بين يديه، وأما الشامي يمر بها فإنه يؤخر إلى الجحفة، لأنها ميقاته وهي بين يديه، نعم الأفضل له ذو الحليفة. قلت: فلا يصح الاعتذار الذي ذكره الحافظ والأبي مع وجود قول أبي ثور، وابن المنذر من الشافعية موافقًا للحنفية، والمالكية وقال ابن دقيق العيد: قوله: ((ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)) عام فيمن أتى، يدخل تحته من ميقاته بين يدي هذه المواقيت التي مر بها ومن ليس ميقاته بين يديها. وقوله: ((ولأهل الشام الجحفة)) عام بالنسبة إلى من يمر بميقات آخر أولاً، فإذا قلنا بالعموم الأول دخل تحته هذا الشامي الذي مر بذي الحليفة، فيكون له التجاوز إليها، فلكل واحد منهما عموم من وجه (لاجتماعهما فيمن مر وهو من أهلها وافتراقهما في شامي مر بميقاته لا غير فأحرم منه ولم يأت غيره، وفي شامي مثلاً أتى ميقات أهل المدينة ولم يأت غيره) فكما يحتمل أن يقال ((ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)) مخصوص بمن ليس ميقاته بين يديه يحتمل أن يقال ((ولأهل الشام الجحفة، مخصوص بمن لم يمر بشيء من هذه المواقيت - انتهى. وقال الحافظ: قال ابن دقيق العيد: قوله ((ولأهل الشام الجحفة)) يشمل من مر من أهل الشام بذي الحليفة ومن لم يمر، وقوله: ((ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)) يشمل الشامي إذا مر بذي الحليفة وغيره. فها هنا عمومان قد تعارضا – انتهى ملخصًا. ثم أجاب الحافظ عن هذا التعارض فقال: ويحصل الانفكاك عنه بأن قوله ((هن لهن)) مفسر لقوله مثلاً ((وقت لأهل المدينة ذا الحليفة)) وأن المراد بأهل المدينة ساكنوها ومن سلك طريق سفرهم فمر على ميقاتهم، ويؤيده ((عراقي خرج من المدينة فليس له مجاوزة ميقات أهل المدينة غير محرم)) ويترجح بهذا قول الجمهور وينتفي التعارض. وقال الولي العراقي بعد ذكر كلام ابن دقيق العيد: لو سلك (أي: ابن دقيق العيد) ما ذكرته أولاً من أن المراد بأهل المدينة من سلك طريق سفرهم ومر على ميقاتهم، لم يرد هذا الإشكال ولم يتعارض هنا دليلان، ومن المعلوم أن من ليس بين يديه ميقات لأهل بلدته التي هي محل سكنه كاليمني يحج من المدينة ليس له مجاوزة ميقات أهل المدينة غير محرم، وذلك يدل على ما ذكرناه أنه ليس المراد بأهل المدينة سكانها وإنما المراد بأهلها من حج منها وسلك طريق أهلها، ولو حملناه على سكانها لوردت هذه الصورة وحصل الاضطراب في هذا فنفرق في الغريب الطارئ على المدينة مثلاً بين أن يكون بين يديه ميقات لأهل بلده أم لا، فنحمل

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ أهل المدينة تارة سكانها وتارة على سكانها والواردين عليها، ويصير هذا تفريقًا بغير دليل، وإذا حملنا أهل المدينة على ما ذكرناه لم يحصل في ذلك اضطراب ومشى اللفظ على مدلول واحد في الأحوال كلها، والله أعلم - انتهى كلام الولي العراقي فتأمل. وقال الأمير اليماني: إن صح ما قد روي من حديث عرو أنه - صلى الله عليه وسلم - وقت لأهل المدينة ومن مر بهم ذا الحليفة تبين أن الجحفة إنما هي ميقات للشامي إذا لم يأت المدينة، ولأن هذه المواقيت محيطة بالبيت كإحاطة جوانب الحرم فكل من مر بجانب من جوانبه لزمه تعظيم حرمته وإن كان بعض جوانبه أبعد من بعض - انتهى. ووقع في رواية ((هن لهن ولكل آت أتى عليهن من غيرهن)) قال السندي: أي لكل مار مر عليهن من غير أهلهن الذين قررت لأجلهم، قيل: هذا يقتضي أن الشامي إذا مر بذي الحليفة فميقاته ذو الحليفة، وعموم ((ولأهل الشام الجحفة)) يقتضي أن ميقاته الجحفة فهما عمومان متعارضان، قلت: أنه لا تعارض إذ حاصل العمومين أن الشامي المار بذي الحليفة له ميقاتان أصلي وميقات بواسطة المرور بذي الحليفة، وقد قرروا أن الميقات ما يحرم مجاوزته بلا إحرام لا ما لا يجوز تقديم الإحرام عليه فيجوز أن يقال: ذلك الشامي ليس له مجاوزة شيء منهما بلا إحرام فيجب عليه أن يحرم من أولهما، ولا يجوز التأخير إلى آخرهما فإنه إذا أحرم من أولهما لم يجاوز شيئًا منهما بلا إحرام، وإذا أخر إلى آخرهما فقد جاوز الأول منهما بلا إحرام وذلك غير جائز له، وعلى هذا فإذا جاوزهما بلا إحرام فقد ارتكب حرامين بخلاف صاحب ميقات واحد فإنه إذا جاوزه بلا إحرام فقد ارتكب حرامًا واحدًا، والحاصل أنه لا تعارض في ثبوت ميقاتين لواحد، نعم لو كان معنى الميقات ما لا يجوز تقديم الإحرام عليه لحصل التعارض - انتهى. وقد علم مما ذكرنا أن ها هنا ثلاثة صور أو ثلاثة مسائل: إحداها أن يمر من ليس ميقاته بين يديه كاليمنى والعراقي والنجدي يمر أحدهم بذي الحليفة، وهذا لا خلاف فيه بين الأئمة أنه يلزمه الإحرام من ذي الحليفة، ولا يجوز له المجاوزة عنها بغير إحرام لأنه ليس ميقاته بين يديه وعليه حملت المالكية ((ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)) . والثانية أن يمر من ميقاته بين يديه كالشامي مثلاً بذي الحليفة، واختلفوا فيه فقالت الشافعية والحنابلة وإسحاق: يلزمه الإحرام من ذي الحليفة ولا يجوز له التأخير إلى ميقاته، أي الجحفة لظاهر الحديث خلافًا للمالكية والحنفية وأبي ثور وابن المنذر من الشافعية. والثالثة أن المدني إذا جاوز عن ميقاته إلى الجحفة فهل يجوز له ذلك أم لا؟ وبالأول قالت الحنفية كما في كتب فروعهم، وبالثاني قال الجمهور وهو القول الراجح المعول عليه عندنا قلت: واستدل الحنفية بما روى مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر أهل من الفرع، قال محمد في موطأه: أما إحرام عبد الله بن عمر من الفرع وهو دون ذي الحليفة إلى مكة فإن أمامها وقت آخر وهو الجحفة، وقد رخص لأهل المدينة أن يحرموا من الجحفة لأنها وقت من المواقيت (يعني أن الواجب أن لا يتجاوز عن مطلق الميقات لا عن الميقات الأول) ، ثم روى محمد عن أبي يوسف عن إسحاق بن راشد عن محمد بن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه

لمن كان يريد الحج والعمرة، ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: من أحب منكم أن يستمتع بثيابه إلى الجحفة فليفعل - انتهى. قال القاري في شرح النقاية: لو لم يحرم المدني ومن بمعناه من ذي الحليفة وأحرم من الجحفة فلا شيء عليه وكره وفاقًا، وعن أبي حنيفة يلزمه دم، وبه قال الشافعي، لكن الظاهر هو الأول لما روي في الحديث من قوله - صلى الله عليه وسلم - ((هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)) فمن جاوز إلى الميقات الثاني صار ميقاتًا له - انتهى. وقال ابن الهمام: المدني إذا جاوز إلى الجحفة فأحرم بها فلا بأس، والأفضل أن يحرم من ذي الحليفة، ومقتضى كون فائدة التوقيت المنع من التأخير أن لا يجوز التأخير عن ذي الحليفة، ولذا روى عن أبي حنيفة أن عليه دمًا لكن الظاهر عنه هو الأول لما روي من تمام الحديث من قوله - صلى الله عليه وسلم - ((هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)) فمن جاوز إلى الميقات الثاني صار من أهله، وروي عن عائشة أنها كانت إذا أرادت أن تحج أحرمت من ذي الحليفة، وإذا أرادت أن تعتمر أحرمت من الجحفة، ومعلوم أن لا فرق في الميقات بين الحج والعمرة، فلو لم تكن الجحفة ميقاتًا لهما لما أحرمت بالعمرة منها، فبفعلها يعلم أن المنع من التأخير مقيد بالميقات الأخير - انتهى. وقال ابن نحيم: قوله: أي: الماتن ((أن هذه المواقيت لأهلها ولمن مر بها)) قد أفاد أنه لا يجوز مجاوزة الجميع إلا محرمًا فلا يجب على المدني أن يحرم من ميقاته وإن كان هو الأفضل، وإنما يجب عليه أن يحرم من آخرها عندنا - انتهى. قلت: فعل ابن عمر رضي الله عنهما مخالف لتوقيت النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل المدينة ذا الحليفة فلا بد من تأويله، ولذا قال ابن عبد البر: محمله عند العلماء أنه مر بميقات لا يريد إحرامًا ثم بدا له فأهل منه أو جاء إلى الفرع من مكة أو غيرها ثم بدا له في الإحرام كما قاله الشافعي وغيره، وقد روى حديث الميقات ومحال أن يتعداه مع علمه به فيوجب على نفسه دمًا، وهذا لا يظنه عالم - انتهى. وقال الباجي: يجوز أن يكون عبد الله بن عمر ترك ظاهره أي: الأمر بالمواقيت لرأي رآه أو تأويل تأوله. قال: وفي كتاب محمد: قال مالك: كان خروج عبد الله بن عمر إلى الفرع لحاجة ثم بدا له فأحرم منها - انتهى. ويمكن أن يأول أن ابن عمر لم يمر في طريقه على ذي الحليفة بل ذهب إلى الفرع من طريق آخر. قال ابن قدامة في المغني (ج3: ص264) : فإن مر من غير طريق ذي الحليفة فميقاته الحجفة سواء كان شاميًا أو مدنيًا لما روى أبو الزبير أنه سمع جابر يسأل عن المهل فقال: سمعته أحسبه رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: مهل أهل المدينة من ذي الحليفة، والطريق الآخر من الجحفة. رواه مسلم، ولأنه مر على أحد المواقيت دون غيره فلم يلزمه الإحرام قبله كسائر المواقيت، ويمكن حمل حديث عائشة في تأخيرها إحرام العمرة إلى الجحفة على هذا، وأنها لا تمر في طريقها إلى ذي الحليفة لئلا يكون فعلها مخالفًا لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولسائر أهل العلم - انتهى. وأما الحديث المرفوع الذي ذكره محمد في موطأه فهو مرسل ولا حجة في المرسل عند الجمهور لاسيما وهو معارض لأحاديث التوقيت الموصولة الصحيحة (لمن كان) بدل مما قبله بإعادة الجار، وفي رواية ((من كان)) (يريد الحج والعمرة) الواو بمعنى

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ أو، أو المراد إرادتها معًا على جهة القران. وفيه دلالة على أنه لا يلزم الإحرام إلا من أراد دخول مكة لأحد النسكين، فلو لم يرد ذلك جاز له دخولها من غير إحرام وعليه بوب البخاري قال ((باب دخول الحرم ومكة بغير إحرام)) ودخل ابن عمر حلالاً، وإنما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإهلال لمن أراد الحج والعمرة، قلت: استدل البخاري بمفهوم قوله في حديث الباب لمن كان يريد الحج والعمرة على أن الإحرام يختص بمن أراد الحج والعمرة فمفهومه أن المتردد إلى مكة بغير قصد الحج والعمرة لا يلزمه الإحرام، وقد اختلف العلماء في هذا قال العيني: مذهب الزهري والحسن البصري والشامي في قول ومالك في رواية، وابن وهب وداود بن علي وأصحابه الظاهرية أنه لا بأس بدخول الحرم بغير إحرام ومذهب عطاء بن أبي رباح والليث بن سعد والثوري وأبي حنيفة وأصحابه ومالك في رواية وهي قوله الصحيح والشافعي في المشهور عنه وأحمد وأبي ثور والحسن بن حيي لا يصلح لأحد كان منزله من وراء الميقات إلى الأمصار أن يدخل مكة إلا بالإحرام فإن لم يفعل أساء ولا شيء عليه عند الشافعي وأبي ثور وعند أبي حنيفة عليه حجة أو عمرة. وقال أبو عمر: لا أعلم خلافًا بين فقهاء الأمصار في الحطابين ومن يدمن الاختلاف إلى مكة ويكثره في اليوم والليلة أنهم لا يؤمرون بذلك لما عليهم فيه من المشقة - انتهى. وقال الحافظ: المشهور من مذهب الشافعي عدم الوجوب مطلقًا، وفي قول يجب مطلقًا. قال: والمشهور عن الأئمة الثلاثة الوجوب وفي رواية عن كل منهم لا يجب، وهو قول ابن عمر والزهري والحسن وأهل الظاهر، وجزم الحنابلة باستثناء ذوي الحاجات المتكررة، واستثني الحنفية من كان داخل الميقات وزعم ابن عبد البر أن أكثر الصحابة والتابعين على القول بالوجوب قلت: مذهب الحنفية على ما في الدر المختارة وغيره أنه يحرم تأخير الإحرام عن المواقيت لآفاقي قصد دخول مكة ولو لحاجة غير الحج كمجرد الرؤية والنزهة أو التجارة، وألحق بالآفاقي في هذا الحكم الحرمي والحلي إذا خرجا إلى الميقات بخلاف ما إذا بقيا في مكانهما فلا يحرم، أما لو قصد الآفاقي موضعًا من الحل كخُلَيْص وجدة قصدًا أوليًا عند المجاوزة حل له مجاوزته بلا إحرام، فإذا دخل به التحق بأهله فله دخول مكة بلا إحرام، وحل لأهل داخلها يعني لكل من وجد في داخل المواقيت دخول مكة غير محرم ما لم يرد نسكًا للحرج وقال النووي في شرح مسلم: في حديث الباب دليل لمن يقول بجواز دخول مكة بغير إحرام لمن لم يرد نسكًا سواء كان دخوله لحاجة تتكرر كالحطاب والحشاش والسقاء والصياد وغيرهم أم لم يتكرر كالتاجر والزائر وغيرهما، وسواء كان آمنًا أو خائفًا وهذا أصح القولين للشافعي، وبه يفتي أصحابه، والقول الثاني: لا يجوز دخوله بغير إحرام إن كانت حاجته لا تتكرر إلا أن يكون مقاتلاً أو خائفاً من قتال أو ظالم. ونقل القاضي نحو هذا عن أكثر العلماء - انتهى. وقال الباجي (ج3 ص80) : دخول مكة على ثلاثة أضرب: الضرب الأول: أن يريد دخولها للنسك في حج أو عمرة فهذا لا يجوز أن يدخلها إلا محرمًا. فإن تجاوز الميقات غير محرم فعليه دم. والضرب

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ الثاني أن يدخلها غير مريد للنسك وإنما يدخلها لحجة تتكرر كالحاطبين وأصحاب الفواكه فهؤلاء لا يجوز لهم دخولها غير محرمين لأن الضرورة كانت تلحقهم بالإحرام متى احتاجوا إلى دخولها لتكرر ذلك. والضرب الثالث أن يدخلها لحاجته وهي مما لا تتكرر فهذا لا يجوز له أن يدخلها إلا محرمًا لأنه لا ضرر عليه في إحرامه، وإن دخلها غير محرم فهل عليه دم أو لا الظاهر من المذهب أنه لا شيء عليه وقد أساء - انتهى. وقال ابن قدامة: من جاوز الميقات مريدًا للنسك غير محرم فعليه أن يرجع إليه ليحرم منه إن أمكنه سواء تجاوزه عالمًا به أو جاهلاً، علم تحريم ذلك أو جهله، فإن رجع إليه فأحرم منه فلا شيء عليه لا نعلم في ذلك خلافًا، وإن أحرم من دون الميقات فعليه دم سواء رجع إلى الميقات أو لم يرجع، وبهذا قال مالك وابن المبارك. قال: وأما المجاوز للميقات ممن لا يريد النسك فعلى قسمين أحدهما: لا يريد دخول الحرم بل يريد حاجة فيما سواه فهذا لا يلزمه الإحرام بغير خلاف ولا شيء عليه في ترك الإحرام، وقد أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بدرًا مرتين وكانوا يسافرون للجهاد وغيره فيمرون بذي الحليفة فلا يحرمون ولا يرون بذلك بأسًا ثم متى بدا لهذا الإحرام وتجدد له العزم عليه أحرم من موضعه ولا شيء عليه، هذا ظاهر كلام الخرقي، وبه يقول مالك والثوري والشافعي وصاحبا أبي حنيفة، وحكى ابن المنذر عن أحمد في الرجل يخرج لحاجة وهو لا يريد الحج فجاوز ذا الحليفة ثم أراد الحج يرجع إلى ذي الحليفة فيحرم، وبه قال أبو إسحاق والأول أصح. القسم الثاني من يريد دخول الحرم إما إلى مكة أو غيرها فهم على ثلاثة أضرب أحدها من يدخلها لقتال مباح أو من خوف أو لحاجة متكررة كالحطاب والحشاش وناقل الميرة والفيح ومن كانت له ضيعة يتكرر دخوله وخروجه إليها فهؤلاء لا إحرام عليهم لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل يوم الفتح مكة حلالاً وعلى رأسه المغفر وكذلك أصحابه ولم نعلم أحدًا منهم أحرم يومئذٍ ولو أوجبنا الإحرام على كل من يتكرر دخوله أفضى إلى أن يكون جميع زمانه محرمًا فسقط للحرج وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يجوز لأحد دخول الحرم بغير إحرام إلا من كان دون الميقات، ولنا ما ذكرناه، وقد روى الترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل يوم الفتح مكة وعلى رأسه عمامة سوداء وقال: هذا حديث حسن صحيح. ومتى أراد هذا النسك بعد مجاوزة الميقات أحرم من موضعه كالقسم الذي قبله، وفيه من الخلاف ما فيه. النوع الثاني: من لا يكلف الحج كالعبد والصبي والكافر إذا أسلم بعد مجاوزة الميقات أو عتق العبد وبلغ الصبي وأرادوا الإحرام فإنهم يحرمون من موضعهم ولا دم عليهم وبهذا قال عطاء ومالك والثوري والأوزاعي وإسحاق وهو قول أصحاب الرأي في الكافر يسلم والصبي يبلغ، وقالوا في العبد: عليه دم. وقال الشافعي في جميعهم: على كل واحد منهم دم، وعن أحمد في الكافر يسلم كقوله، ويتخرج في الصبي والعبد كذلك قياسًا على الكافر يسلم. النوع الثالث: المكلف الذي يدخل لغير قتال ولا حاجة متكررة فلا يجوز له تجاوز الميقات غير محرم. وبه قال أبو حنيفة وبعض أصحاب الشافعي، وقال بعضهم: لا يجب الإحرام عليه، وعن أحمد ما يدل على ذلك، وقد روي عن ابن عمر أنه دخلها بغير إحرام، ولأنه أحد

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحرمين فلم يلزم الإحرام كدخوله حرم المدينة، ولأن الوجوب من الشرع ولم يرد من الشارع إيجاب ذلك على كل داخل فبقى على الأصل. إذا ثبت هذا فمتى أراد هذا الإحرام بعد تجاوز الميقات رجع فأحرم منه فإن أحرم من دونه فعليه دم كالمريد للنسك - انتهى كلام ابن قدامة. وقد علم مما تقدم أن الإمام الشافعي ذهب في المشهور عنه إلى جواز دخول مكة بغير إحرام لمن لم يرد الحج أو العمرة وهو مذهب الظاهرية، ونصره ابن حزم في المحلى، وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية وأبو البقاء ابن عقيل، قال ابن مفلح في الفروع وهي ظاهرة واستدلوا على ذلك بقوله في هذا الحديث لمن كان يريد الحج والعمرة، واستدلوا أيضًا بما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - دخل يوم الفتح حلالاً وعلى رأسه المغفر وكذلك أصحابه، وبما روى مالك في الموطأ عن نافع أن ابن عمر دخل مكة بغير إحرام، وبأنه قد ثبت بالاتفاق أن الحج والعمرة عند من أوجبها إنما يجب مرة واحدة، فلو أوجبنا على كل من دخلها أن يحج أو يعتمر لوجب أكثر من مرة، وبأن الوجوب من الشرع ولم يرد من الشارع إيجاب ذلك على كل داخل فبقي على الأصل. واستدل لأبي حنفية ومالك وأحمد بقوله - صلى الله عليه وسلم - في مكة أنها حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي إنما أحلت لي ساعة من نهار ثم عادت حرامًا كحرمتها بالأمس. قال الطحاوي وابن الهمام وغيرهما يعنى في الدخول بغير إحرام لإجماع المسلمين على حل الدخول بعده للقتال وأجيب عن ذلك بأن الحديث ليس له دخل في الإحرام، وإنما هو في تحريم القتال في مكة، قال الشيخ محمد عابد السندي في المواهب اللطيفة: وأما ما زعم الطحاوي بأن ذلك مصداق قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي شريح وغيره أنها لم تحل له إلا ساعة من نهار وأن المراد بذلك جواز دخولها بغير إحرام لا تحريم القتل والقتال فيها لأنهم أجمعوا على أن المشركين لو غلبوا - والعياذ بالله - على مكة حل للمسلمين قتالهم وقتلهم فيها - انتهى. فقد دفعه الشيخ أبو الحسن السندي بأن ذلك مخالف لصريح الحديث، فإن في حديث أبي شريح عند الشيخين: فإن أحد ترخص لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا: ((إن الله تعالى أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أحلت لي ساعة من نهار)) فهذا صريح في أن الساعة إنما أبيحت له في القتال لا في دخول مكة بغير إحرام، ولذلك قال النووي: في حديث أبي شريح دلالة على أن مكة تبقى دار الإسلام إلى يوم القيامة، ونهى المترخص إذا قاتل في رئاسة دنيوية، وفي دعواه الإجماع نظر فقد حكى القفال والماوردي وغيرهما القول بعدم حل القتال أصلاً في مكة ونقلوا في ذلك عن محققي الشافعية والمالكية - انتهى كلامه. وأشار الطحاوي إلى حديث أبي شريح في القتال والدخول بلا إحرام كليهما، فكان الأمران خاصة له في ذلك اليوم، ولا يخفى ما فيه، فإن قوله في الحديث ((فإن أحد ترخص لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) ألخ. نص بأنه في تحرم القتال في مكة خاصة واستدل لهم أيضًا بحديث ابن عباس مرفوعًا ((لا يجاوز أحد الميقات إلا محرمًا)) أخرجه ابن أبي شيبة والطبراني، وفي إسناده خصيف بن عبد الرحمن عن سعيد بن جبير، وقد

فمن كان دونهن فمهله ـــــــــــــــــــــــــــــ ضعفه أحمد ويحيى بن سعيد وابن خزيمة وأبو أحمد الحاكم والأزدي، ووثقه ابن معين وابن سعد. وقال الحافظ: صدوق سيء الحفظ خلط بآخره. ورواه ابن عدي من وجهين ضعيفين وروى الشافعي عنه بإسناد صحيح أنه كان يرد من جاوز الميقات غير محرم. وأجيب عن هذا بأنه موقوف، وهو أيضًا معارض لما رواه مالك في الموطأ أن ابن عمر جاوز الميقات غير محرم، ولا يحتج بما روي عن ابن عباس مرفوعًا لضعف طرقها واستدل لهم أيضًا بأن الإحرام لتعظيم هذه البقعة الشريفة، فإن الله جعل البيت معظمًا وجعل المسجد الحرام فناء، وجعل مكة فناء للمسجد الحرام، وجعل المواقيت فناء للحرم والشرع ورد بكيفية تعظيمه وهو الإحرام على هيئة مخصوصة فيستوي فيه الحاج والمعتمر وغيرهما ولا يجوز تركه لأحد ممن يريد دخول مكة، وفيه أن هذا تعليل في معرض النص، والأصل عدم الخصوصية وهي لا تثبت إلا بدليل فتأمل وقد أجاب هؤلاء عن حديث الباب بوجوه منها أنه استدلال بمفهوم القيد الغالبي وهو ضعيف عند الحنفية ومنطوق حديث ابن عباس المرفوع والموقوف أولى من المفهوم المخالف في قوله لمن كان يريد الحج والعمرة ومنها أن دخوله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح بغير إحرام حكم مخصوص له ولأصحابه بذلك الوقت. وقد تقدم ما فيه ومنها ما ذكره ابن دقيق العيد في شرح العمدة (ج3 ص6) ، وقد تركنا ذكره لطول كلامه، من شاء الوقوف عليه رجع إلى شرح العمدة ومنها أن قوله ((لمن كان يريد الحج والعمرة)) يحتمل أن يقدر فيه مضاف، أي لمن كان يريد مكان الحج والعمرة كما قال القاري: ((يريد الحج والعمرة)) أي مكان أحد النسكين وهو الحرم - انتهى. أو يكون كناية عن إرادة دخول مكة، والنكتة في اختيار هذا التعبير التنبيه على أنه ليس من شأن المسلم قصد دخول مكة مع تركه فريضة الحج والعمرة. قالوا: ويؤيد لصحة هذا التأويل حديث ابن عباس المتقدم قلت: حديث الباب نص فيما ذهب إليه الشافعية، وقد اعترف بذلك صاحب فيض الباري (ج3 ص64) ، ولم يقم على إيجاب اِِِِِِِِِِِلإحرام على من أراد مجاوزة الميقات لغير النسكين دليل، وقد كان المسلمون في عصره - صلى الله عليه وسلم - يختلفون إلى مكة لحوائجهم ولم ينقل أنه أمر أحدًا منهم بإحرام فلا حاجة إلى تأويل حديث الباب بما يخالف ظاهره، ويخالف فعل ابن عمر رضي الله عنه. قال صاحب تيسير العلام: ما ذكر من الخلاف في حق غير المتردد إلى الحرم لجلب الفاكهة أو الحطب وغيرهما أو له بستان في الحل يتردد عليه أو له وظيفة أو عمل في مكة وأهله في جدة أو بالعكس فهؤلاء ونحوهم لا يجب عليهم الإحرام عند عامة العلماء فيما اطلعت عليه من كلام فقهاء المذاهب إلا ما ذهب إليه أبو حنفية من التحريم على كل داخل إلى مكة من غير إحرام، والعمل على خلافه - انتهى. (فمن كان دونهن) أي دون المواقيت يعني من كان بين الميقات ومكة (فمهله) بصيغة المفعول من الإهلال، أي موضع إحرامه. قال الحافظ: المهل بضم الميم وفتح الهاء وتشديد اللام موضع الإهلال، وأصله رفع الصوت لأنهم كانوا يرفعون أصواتهم بالتلبية عند الإحرام، ثم أطلق على نفس الإحرام اتساعًا. قال ابن الجوزي: وإنما

من أهله وكذاك وكذاك، حتى أهل مكة يهلون منها. ـــــــــــــــــــــــــــــ يقوله بفتح الميم من لا يعرف. وقال أبو البقاء العكبري: هو مصدر بمعني الإهلال كالُمدْخل والمخرج بمعنى الإدخال والإخراج. قال البدر الدماميني: جعله هنا مصدرًا يحتاج إلى حذف أو تأويل ولا داعي إليه (من أهله) أي من محل أهله. قال القاري: أي من بيته ولو كان قريبًا من المواقيت ولا يلزمه الذهاب إليها. وفي رواية للشيخين ((ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ)) قال العيني: الفاء جواب الشرط، أي فمهله من حيث قصد الذهاب إلى مكة يعني يهل من ذلك الموضع. وقال الحافظ: أي فميقاته من حيث أنشأ الإحرام إذا سافر من مكانه إلى مكة، وهذا متفق عليه إلا ما روي عن مجاهد أنه قال: ميقات هؤلاء نفس مكة. قال ابن عبد البر: أنه قول شاذ، وقال السندي: أي يهل حيث ينشئ السفر من ((أنشأ)) إذا أحدث، يفيد أنه ليس لمن كان داخل الميقات أن يؤخر الإحرام عن أهله - انتهى. قال الحافظ: ويؤخذ من الحديث أن من سافر غير قاصد للنسك فجاوز الميقات ثم بدا له بعد ذلك أنه يحرم من حيث تجدد له القصد، ولا يجب عليه الرجوع إلى الميقات لقوله ((فمن حيث أنشأ)) قال القاري: ولم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم أهل المواقيت نفسها، والجمهور على أن حكمها حكم داخل المواقيت خلافًا للطحاوي حيث جعل حكمها حكم الآفاق (وكذاك وكذاك) بإسقاط اللام فيهما وهي رواية أبي ذر للبخاري وعند غيره ((وكذاك)) أي مرة، يعني وكذا من كان أقرب من هذا الأقرب، وكأنه منزل منزلة قولك وهكذا، أي الأقرب فالأقرب. وقال القاري: أي الأدون فالأدون إلى آخر الحل (حتى أهل مكة) وغيرهم ممن هو بها (يهلون) أي يحرمون (منها) أي من مكة، ولفظ أهل بالرفع على أن حتى ابتدائية، وقوله ((أهل مكة)) مبتدأ وخبره ((يهلون منها)) والجملة لا محل لها من الإعراب. وذكر الكرماني أنه روي فيه الجر أيضًا. وفي رواية ((حتى أهل مكة من مكة)) قال العيني: يجوز في لفظ ((أهل)) الجر لأن ((حتى)) تكون حرفًا جارًا بمنزلة إلى، ويجوز فيه الرفع على أنه مبتدأ وخبره محذوف تقديره ((حتى أهل مكة يهلون من مكة)) كما في قولك جاء القوم حتى المشاة، أي حتى المشاة جاءوا. قال الحافظ: قوله ((أهل مكة من مكة)) ، أي لا يحتاجون إلى الخروج إلى الميقات للإحرام منه بل يحرمون من مكة كالآفاقي الذي بين الميقات ومكة فإنه يحرم من مكانه ولا يحتاج إلى الرجوع إلى الميقات ليحرم منه، وهذا خاص بالحج، وأما المعتمر فيجب عليه أن يخرج إلى أدنى الحل يعني لقضية عائشة رضي الله عنها حين أرسلها النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أخيها عبد الرحمن إلى التنعيم لتحرم منه، وكذا قال غيره من أصحاب المذاهب الأربعة كالعيني والولي العراقي والمحب الطبري والقسطلاني وابن قدامة والشيخ محمد عابد السندي وغيرهم وادعوا الإجماع على ذلك قلت: حديث ابن عباس هذا نص في أن هذه المواقيت للحج والعمرة جميعًا لا للحج فقط فيلزم أن تكون مكة ميقاتًا لأهلها للحج والعمرة كليهما لا للحج فقط خلافًا للجمهور، ولهذا بوب البخاري عليه بقوله ((باب مهل أهل مكة للحج والعمرة)) ففيه إشعار بأن مكة عنده ميقات لأهلها للعمرة أيضًا قال الأمير اليماني: أعلم أن قوله ((حتى أهل مكة من مكة)) يدل على أن

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ ميقات عمرة أهل مكة كحجهم، وكذلك القارن منهم ميقاته مكة، ولكن قال المحب الطبري: إنه لا يعلم أحدًا جعل مكة ميقاتًا للعمرة في حق المكي. قال: فعليه أن يخرج من الحرم إلى أدني الحل يدل عليه أمره - صلى الله عليه وسلم - عائشة أن تخرج إلى التنعيم وانتظاره مع جملة الحجيج لها، ثم فعل من جاور بمكة من الصحابة ثم تتابع التابعين وتابعيهم إلى اليوم، وذلك إجماع في كل عصر. قال الأمير اليماني: وجوابه أنه - صلى الله عليه وسلم - جعلها ميقاتًا لها بهذا الحديث، وأما ما روي عن ابن عباس أنه قال ((يا أهل مكة من أراد منكم العمرة فليجعل بينه وبينها بطن محسر)) ، يعنى إذا أحرم بها من ناحية المزدلفة. وقال أيضًا: من أراد من أهل مكة أن يعتمر خرج إلى التنعيم ويجاوز الحرم. فآثار موقوفة لا تقاوم المرفوع، وأما ما ثبت من أمره - صلى الله عليه وسلم - لعائشة بالخروج إلى التنعيم لتحرم بعمرة فلم يرد إلا تطييب قلبها بدخولها إلى مكة معتمرة كصواحباتها، لأنها أحرمت بالعمرة معه ثم حاضت فدخلت مكة ولم تطف بالبيت كما طفن كما يدل له قولها ((قلت: يا رسول الله يصدر الناس بنسكين وأصدر بنسك واحد، قال: انتظري فاخرجي إلى التنعيم فأهلي منه)) الحديث. فإنه محتمل أنها إنما أرادت أن تشابه الداخلين من الحل إلى مكة بالعمرة، ولا يدل أنها لا تصح العمرة إلا من الحل لمن صار في مكة، ومع الاحتمال لا يقاوم حديث الباب. قال: وعند أصحاب أحمد أن المكي إذا أحرم للعمرة من مكة كانت عمرة صحيحة. قالوا: ويلزمه دم لما ترك من الإحرام من الميقات. قال الأمير اليماني: ويأتيك أن إلزامه الدم لا دليل عليه. وقال الشوكاني في السيل الجرار (ج2 ص 216) : وقع التصريح في حديث ابن عباس رضي الله عنهما في الصحيحين وغيرهما بعد ذكر المواقيت لأهل كل محل أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: ((فهي لأهلهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد الحج والعمرة)) فصرح في هذا الحديث بالعمرة يعني ففيه تعيين ميقات للعمرة والحج كليهما لأهل هذه المواقيت ولأهل مكة جميعًا وقال أبو الحسن السندي في حاشيته على الصحيح: قول البخاري ((باب مهل أهل مكة للحج والعمرة)) كأنه نبه بذلك على أن سوق الحديث لميقات الحج والعمرة جميعًا لا لميقات الحج فقط، ولذلك قال: ممن أراد الحج والعمرة، فمقتضاه أن ما جعل ميقاتًا لأهل مكة يكون ميقاتًا لهم للحج والعمرة جميعًا لا للحج فقط، وإن ذهب الجمهور إلى الثاني وجعلوا ميقات العمرة لأهل مكة أدني الحل بحديث إحرام عائشة بالعمرة من التنعيم، وذلك لأن عائشة ما كانت مكية حقيقة فيجوز أن يكون ميقات مثلها التنعيم للعمرة وإن كان ميقات المكي نفس مكة، وكذا يجوز إحرامها من التنعيم لأنها أرادت العمرة الآفاقية حيث أرادت المساواة لسائر المعتمرين في ذلك السفر، فحديث عائشة لا يعارض هذا الحديث، فكأنه بهذه الترجمة أراد الاعتراض على الجمهور، والله تعالى أعلم - انتهى. وقد ظهر بهذا كله أن كل ما استدل به الجمهور هو قضية عائشة في اعتمارها من التنعيم وآثار موقوفة عن ابن سيرين وعطاء وابن عباس. قالوا: قضية عائشة مع أثر ابن عباس مخصصة لحديث الباب، وفيه أن قضية عائشة واقعة جزئية محتملة، وحديث الباب فيه بيان ضابطه وقانون عام فيقدم على حديث عائشة، والآثار الموقوفة لا تعارض المرفوع، والعبرة لما روى الصحابي لا لرأيه

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ تنبيه: قال الطحاوي ذهب قوم (أي من الذين فرقوا بين ميقات المكي للحج وميقاته للعمرة) إلى أنه لا ميقات للعمرة لمن كان من مكة إلا التنعيم، ولا ينبغي مجاوزته كما لا ينبغي مجاوزة المواقيت التي للحج، وخالفهم آخرون فقالوا: مواقيت العمرة الحل وإنما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة بالإحرام من التنعيم لأنه كان أقرب الحل من مكة وأن التنعيم وغيره في ذلك سواء، ويؤيد ذلك ما رواه الطحاوي من طريق ابن أبي مليكة عن عائشة في حديثها، قال: فكان أدنانا من الحرم التنعيم فاعتمرت منه. قال: فثبت بذلك أن ميقات مكة للعمرة الحل - انتهى. وقال ابن قدامة بعد ذكر أثر ابن عباس المتقدم: إنما لزم الإحرام أي إحرام المكي للعمرة من الحل ليجمع في النسك بين الحل والحرام فإنه لو أحرم من الحرم لما جمع بينهما فيه لأن أفعال العمرة كلها في الحرم بخلاف الحج فإنه يفتقر إلى الخروج إلى عرفة فيجتمع له الحل والحرم والعمرة بخلاف ذلك (فبالخروج إلى الحل يتحقق فيها نوع سفر ويصح به كونه وافدًا على البيت الحرام) قال: ومن أي الحل أحرم جاز، وإنما أعمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة من التنعيم لأنها أقرب الحل إلى مكة - انتهى. تنبيه ثان: قال السندي في حاشيته على الصحيح قوله ((ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة)) مقتضاه أنه ليس لمن كان داخل المواقيت أن يؤخر الإحرام من أهله، وكذا ليس لأهل مكة أن يؤخروه من مكة، ويشكل عليه قول علمائنا الحنفية حيث جوزوا لمن كان داخل المواقيت التأخير إلى آخر الحل، ولأهل مكة إلى آخر الحرم من حيث أنه مخالف للحديث، ومن حيث أن المواقيت ليست مما يثبت بالرأي، والله تعالى أعلم - انتهى. قلت: اختلفوا في تعيين الإحرام بالحج لمن هو بمكة من مكة. قال الولي العراقي (ج2 ص 15، 16) : أما من هو بمكة فميقاته نفس مكة لا يجوز له تركها والإحرام خارجها ولو كان في الحرم، هذا هو الصحيح عند أصحابنا (الشافعية) وغيرهم، قال بعض أصحابنا: الإحرام من الحرم كله جائز، والحديث بخلافه. وقال المالكية: لو خرج إلى الحل جاز على الأشهر ولا دم لأنه زاد وما نقص. قال أصحابنا: ويجوز أن يحرم من جميع نواحي مكة بحيث لا يخرج عن نفس البلد، وفي الأفضل قولان أصحهما من باب داره، والثاني من المسجد الحرام تحت الميزاب - انتهى. وقال المحب الطبري (ص 73) : ظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم - ((حتى أهل مكة يهلون منها)) يدل على تعيين الإحرام بالحج من مكة حتى لو حرج وأحرم خارجًا منها كان مسيئًا وعليه دم. وفي المسألة خلاف، ثم قال: حجة من قال يجوز الإهلال بالحج لأهل مكة من الحرم خارجًا عن مكة وذكر فيه ما روي عن جابر في حديث فسخ الحج ((حتى إذا كان يوم التروية وجعلنا مكة بظهر أهللنا بالحج)) وما روي عنه أيضًا قال: ((أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أهللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى، قال: فأهللنا من الأبطح)) أخرجهما الشيخان. قال الطبري: والقائل بهذا يقول إطلاق مكة جائز على جميع الحرم، ومنه الحديث ((إن الله حرم مكة لا يختلي خلاها)) وهذا هو الأظهر عندي، وعليه بوب البخاري فقال ((باب الإهلال من البطحاء وغيرها للمكي، والحاج إذا خرج إلى منى)) ثم ذكر الحديثين - انتهى. وقال النووي: ميقات من بمكة من أهلها أو غيرهم نفس مكة

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ على الصحيح، وقيل: مكة وسائر الحرم - انتهى. قال الحافظ: والثاني مذهب الحنفية. واختلف في الأفضل فاتفق المذهبان على أنه من باب المنزل، وفي قول للشافعي من المسجد، وحجة الصحيح ما في حديث ابن عباس ((حتى أهل مكة يهلون منها)) وقال مالك وأحمد وإسحاق: يهل من جوف مكة ولا يخرج إلى الحل إلا محرمًا - انتهى. وقال ابن قدامة (ج3 ص261) : من أي الحرم أحرم المكي بالحج جاز لأن المقصود من الإحرام به الجمع في النسك بين الحل والحرم، وهذا يحصل بالإحرام من أي موضع كان فجاز كما يجوز أن يحرم بالعمرة من أي موضع كان من الحل، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه في حجة الوداع: إذا أردتم أن تنطلقوا إلى منى فأهلوا من البطحاء. ولأن ما اعتبر فيه الحرم استوت فيه البلدة وغيرها كالنحر تنبيه ثالث: اختلف العلماء في تقديم الإحرام على الميقات، قال العيني في شرح البخاري: قال ابن حزم: لا يحل لأحد أن يحرم بالحج أو العمرة قبل المواقيت، فإن أحرم أحد قبلها وهو يمر عليها فلا إحرام له ولا حج ولا عمرة له إلا أن ينوي إذا صار في الميقات تجديد الإحرام فذاك جائز وإحرامه حينئذ تام. وقال في شرح الهداية: تقديم الإحرام على هذه المواقيت جائز بالإجماع. وقال داود الظاهري: إذا أحرم قبل هذه المواقيت لا حج له ولا عمرة. قلت: وكذا نقل الإجماع في ذلك الخطابي والنووي وغيرهما. قال الحافظ: وفيه نظر، فقد نقل عن إسحاق وداود وغيرهما عدم الجواز، وهو ظاهر جواب ابن عمر، يشير إلى ما رواه البخاري في باب فرض مواقيت الحج والعمرة من طريق زيد بن جبير أنه أتى عبد الله بن عمر في منزله فسألته (فيه التفات) ، من أين يجوز أن أعتمر؟ قال: فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل نجد من قرن، الحديث. قال الحافظ: ويؤيده القياس على الميقات الزماني فإنهم أجمعوا على أنه لا يجوز التقديم عليه، وفرق الجمهور بين الزماني والمكاني فلم يجيزوا التقدم على الزماني وأجازوا في المكاني. وذهب طائفة كالحنفية وبعض الشافعية إلى ترجيح التقديم، وقال مالك يكره. قال الحافظ: وظاهر نص البخاري، أي تبويبه المذكور أنه لا يجيز الإحرام بالحج والعمرة من قبل الميقات، ويزيد ذلك وضوحًا ما سيأتي بعد قليل حيث قال: باب ميقات أهل المدينة ولا يهلون قبل ذي الحليفة. قال الحافظ: استنبط البخاري من إيراد الخبر أي حديث ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، إلخ بصيغة الخبر مع إرادة الأمر تعين ذلك، وأيضًا فلم ينقل عن أحد ممن حج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أحرم قبل ذي الحليفة، ولولا تعين الميقات لبادروا إليه لأنه يكون أشق فيكون أكثر أجرًا - انتهى. وقال العيني: هذه العبارة أي عبارة الترجمة تشير إلى أن البخاري ممن لا يرى تقديم الإهلال قبل المواقيت، وقال العيني أيضًا: اختلفوا أي القائلون بجواز التقديم هل الأفضل التزام الحج من المواقيت أو من منزله فقال مالك وأحمد وإسحاق: إحرامه من المواقيت أفضل. وقال الثوري، وأبو حنيفة والشافعي وآخرون: الإحرام من المواقيت رخصة، واعتمدوا في ذلك على فعل الصحابة فإنهم أحرموا من قبل المواقيت قالوا: وهم أعرف بالسنة وهم فقهاء الصحابة، أي وشهدوا إحرام

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلموا أن إحرامه - صلى الله عليه وسلم - من الميقات كان تيسيرًا على أصحابة ورخصة لهم، وابن عمر كان أشد الناس إتباعًا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأصول أهل الظاهر تقتضي أنه لا يجوز الإحرام إلا من الميقات، إلا أن يصح إجماع على خلافه، وقال أبو عمر: كره مالك أن يحرم أحد قبل الميقات، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أنكر على عمران بن حصين إحرامه من البصرة، وأنكر عثمان على عبد الله بن عامر إحرامه قبل الميقات، وفي تعليق البخاري: ((كره عثمان أن يحرم من خراسان وكرمان، وكره الحسن وعطاء بن أبي رباح الإحرام من الموضع البعيد)) وقال ابن بزيزة: في هذا ثلاثة أقوال، منهم من جوزه مطلقًا، ومنهم من كرهه مطلقًا، ومنهم من أجازه في البعيد دون القريب. قلت: وتقدم آنفًا من قال بالكراهة من البعيد فهو قول رابع في المسألة، والقول الثالث: رواية للمالكية. قال الباجي: في أثر ابن عمر أنه أهل من إيلياء تقديم الإحرام قبل الميقات، وقد روى ابن المواز عن مالك جواز ذلك وكراهيته فيما قرب من الميقات، وروى العراقيون كراهيته على الإطلاق وإذا قلنا برواية ابن المواز فالفرق بين القريب والبعيد أن من أحرم بقرب الميقات فإنه لا يقصد إلا مخالفة التوقيت لأنه لم يستدم إحرامًا، وأما من أحرم على البعد منه فإن له غرضًا في استدامة الإحرام كما قلنا أن من كان في شعبان لم يجز له أن يتقدم صيام رمضان بصيام يوم أو يومين، ومن استدام الصوم من أول شعبان جاز له استدامة ذلك حتى يصله برمضان - انتهى. وقال الأبي: إن أحرم قبلها بيسير كره، وإن أحرم قبلها بكثير فظاهر المدونة الكراهة، وظاهر المختصر الجواز. ونقل اللخمي قولاً بعدم كراهة القريب - انتهى. وقال الولي العراقي في طرح التثريب (ج5: ص5) : قد بينا أن معنى التوقيت بهذه المواقيت منع مجاوزتها بلا إحرام إذا كان مريدًا للنسك، أما الإحرام قبل الوصول إليها فلا مانع منه عند الجمهور. ونقل غير واحد الإجماع عليه، بل ذهب طائفة من العلماء إلى ترجيح الإحرام من دويرة أهله على التأخير إلى الميقات وهو أحد قولي الشافعي ورجحه من أصحابه القاضي أبو الطيب والروياني، والغزالي، والرافعي، وهو مذهب أبي حنفية، وروي عن عمر وعلي أنهما قالا في قوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} (2: 196) إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك. وقال ابن المنذر: ثبت أن ابن عمر أهل من إيلياء يعني بيت المقدس، وكان الأسود، وعلقمة، وعبد الرحمن، وأبو إسحاق يحرمون من بيوتهم انتهى. لكن الأصح عند النووي من قولي الشافعي أن الإحرام من الميقات أفضل. ونقل تصحيحه عن الأكثرين والمحققين، وبه قال أحمد، وإسحاق، وحكى ابن المنذر فعله عن عوام أهل العلم بل زاد مالك عن ذلك فكره تقدم الإحرام على الميقات. قال ابن المنذر: وروينا عن عمر أنه أنكر على عمران بن حصين إحرامه من البصرة وكره الحسن البصري، وعطاء بن أبي رباح، ومالك الإحرام من المكان البعيد - انتهى. وعن أبي حنيفة رواية أنه إن كان يملك نفسه عن الوقوع في محظور فالإحرام من دويرة أهله أفضل وإلا فمن الميقات. وبه قال بعض الشافعية - انتهى. وقال العيني: وقال الشافعي، وأبو حنفية: الإحرام من قبل هذه المواقيت أفضل لمن قوي على ذلك. وقد صح أن علي بن أبي طالب

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ وابن مسعود، وعمران بن حصين، وابن عباس، وابن عمر: أحرموا من المواضع البعيدة وعند ابن أبي شيبة أن عثمان بن العاص أحرم من المنجشانية وهي قرية من البصرة. وعن ابن سيرين أنه أحرم هو وحميد بن عبد الرحمن، ومسلم بن يسار من الدارات، وأحرم أبو مسعود من السيلحين. وقال أبو داود: يرحم الله وكيعًا أحرم من بيت المقدس، وأحرم ابن سيرين مع أنس من العقيق، ومعاذ من الشام ومعه كعب الحبر. وقال الأمير اليماني (ج2: ص189) : قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل الميقات أنه محرم، وهل يكره؟ قيل: نعم، لأن قول الصحابة: وقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل المدينة ذا الحليفة. يقتضي بالإهلال من هذه المواقيت ويقضي بنفي النقص والزيادة، فإن لم تكن الزيادة محرمة فلا أقل من أن تكون تركها أفضل، ولولا ما قيل من الإجماع بجواز ذلك لقلنا بتحريمه لأدلة التوقيت، ولأن الزيادة على المقدرات من المشروعات كإعداد الصلاة ورمي الجمار لا تشرع كالنقص منها وإنما لم نجزم بتحريم ذلك لما ذكرنا من الإجماع، ولأنه روى عن عدة من الصحابة تقديم الإحرام على الميقات، فأحرم ابن عمر من بيت المقدس، وأحرم أنس من العقيق، وأحرم ابن عباس من الشام، وأهل عمران بن حصين من البصرة وأهل ابن مسعود من القادسية. وورد في تفسير الآية أن الحج والعمرة تمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك عن علي وابن مسعود وإن كان قد تؤول بأن مرادهما أن ينشأ لهما سفرًا مفردًا من بلده كما أنشأ - صلى الله عليه وسلم - لعمرة الحديبية والقضاء سفرًا من بلده ويدل لهذا التأويل أن عليًا لم يفعل ذلك ولا أحد من الخلفاء الراشدين ولم يحرموا بحج ولا عمرة إلا من الميقات بل لم يفعله - صلى الله عليه وسلم - فكيف يكون ذلك تمام الحج ولم يفعله - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد من الخلفاء ولا جماهير الصحابة نعم الإحرام من بيت المقدس بخصوصه ورد فيه حديث أم سلمة سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من أهل من المسجد الأقصى بعمرة أو بحجة غفر له ما تقدم من ذنبه. رواه أحمد، وفي لفظ: ((من أحرم من بيت المقدس غفر له ما تقدم من ذنبه)) ورواه أبو داود ولفظه: ((من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر أو وجبت له الجنة)) شك من الراوي، ورواه ابن ماجة بلفظ: ((من أهل بعمرة من بيت المقدس كانت كفارة لما قبلها من الذنوب)) فيكون هذا مخصوصًا ببيت المقدس فيكون الإحرام منه خاصة أفضل من الإحرام من المواقيت، ويدل له إحرام ابن عمر منه، ولم يفعل ذلك من المدينة على أن منهم من ضعف الحديث، ومنهم من تأوله بأن المراد ينشئ لهما السفر من هنالك - انتهى كلام الأمير اليماني. وقال ابن قدامة (ج3: ص264) : لا خلاف في أن من أحرم قبل الميقات يصير محرمًا تثبت في حقه أحكام الإحرام، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل الميقات أنه محرم، ولكن الأفضل الإحرام من الميقات، ويكره قبله. روي نحو ذلك عن عمر وعثمان، وبه قال الحسن، وعطاء، ومالك، وإسحاق، وقال أبو حنيفة: الأفضل الإحرام من بلده وعن الشافعي كالمذهبين. وكان علقمة، والأسود، وعبد الرحمن، وأبو إسحاق يحرمون من بيوتهم. واحتجوا بما روت أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر أو وجبت له الجنة. شك عبد الله أيهما قال. رواه أبو داود. وفي لفظ رواه ابن ماجة: من أهل بعمرة من بيت المقدس غفر له. وأحرم ابن عمر من إيلياء، وروى النسائي، وأبو داود بإسناديهما عن الصبي بن معبد، قال: أهللت بالحج والعمرة معًا فلما أتيت العُذّيب لقيني سليمان بن ربيعة، وزيد بن صوحان وأنا أهل بهما جمعيًا فقال أحدهما: ما هذا بأفقه من بعيره، فأتيت عمر فذكرت له ذلك، فقال: هديت لسنة نبيك - صلى الله عليه وسلم -، وهذا إحرام به قبل الميقات. وروي عن عمر، وعلي رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك. ولنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أحرموا من الميقات ولا يفعلون إلا الأفضل فإن قيل: إنما فعل هذا لتبيين الجواز، قلنا: قد حصل بيان الجواز بقوله كما في سائر المواقيت، ثم لو كان كذلك لكان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه يحرمون من بيوتهم ولما تواطؤا على ترك الأفضل واختيار الأدنى، وهم أهل التقوى والفضل، وأفضل الخلق، لهم من الحرص على الفضائل والدرجات ما لهم، وقد روى أبو يعلى الموصلي في مسنده عن أبي أيوب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يستمتع أحدكم بحله ما استطاع فإنه لا يدري ما يعرض له في إحرامه. وروى الحسن أن عمران بن حصين أحرم من مصره فبلغ ذلك عمر فغضب، وقال: يتسامع الناس أن رجلاً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحرم من مصره. وقال: إن عبد الله بن عامر أحرم من خراسان، فلما قدم على عثمان لامه فيما صنع وكرهه له، رواهما سعيد والأثرم. قال البخاري: كره عثمان أن يحرم من خراسان أو كرمان، ولأنه أحرم قبل الميقات فكره كالإحرام بالحج قبل أشهره، ولأنه تغرير بالإحرام، وتعرض لفعل محظوراته، وفيه مشقة على النفس فكره كالوصال في الصوم. قال عطاء: انظروا هذه المواقيت التي وقتت لكم فخذوا برخصة الله فيها، فإنه عسى أن يصيب أحدكم ذنبًا في إحرامه فيكون أعظم لوزره فإن الذنب في الإحرام أعظم من ذلك، فأما حديث الإحرام من بيت المقدس ففيه ضعف يرويه ابن أبي فديك، ومحمد بن إسحاق وفيهما مقال، ويحتمل اختصاص هذا ببيت المقدس دون غيره ليجمع بين الصلاة في المسجدين في إحرام واحد، ولذلك أحرم ابن عمر منه، ولم يكن يحرم من غيره إلا من الميقات، وقول عمر للصبي: هديت لسنة نبيك يعني في القران فالجمع بين الحج والعمرة لا في الإحرام من قبل الميقات فإن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - الإحرام من الميقات بين ذلك بفعله وقوله، وأما قول عمر، وعلي فإنهما قالا: ((إتمام العمرة أن تنشئها من بلدك)) ومعناه أن تنشئ لها سفرًا من بلدك تقصد له، ليس أن تحرم بها من أهلك، قال أحمد: كان سفيان يفسره بهذا وكذلك فسره به أحمد. ولا يصح أن يفسر بنفس الإحرام فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ما أحرموا بها من بيوتهم، وقد أمرهم الله بإتمام العمرة، فلو حمل قولهم على ذلك لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه تاركين لأمر الله، ثم إن عمر وعليًا ما كانا يحرمان إلا من الميقات، أفتراهما يريان أن ذلك ليس بإتمام لها ويفعلانه؟ هذا لا ينبغي أن يتوهمه أحد ولذلك أنكر عمر على عمران إحرامه من مصره واشتد عليه، وكره أن يتسامع الناس مخافة أن يؤخذ

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ به، أفتراه كره إتمام العمرة واشتد عليه أن يأخذ الناس بالأفضل، هذا لا يجوز فيتعين حمل قولهما في ذلك على ما حمله عليه الأئمة، والله أعلم - انتهى كلام ابن قدامة. قلت: القول الراحج عندنا قول من قال: بكراهة تقديم الإحرام قبل الميقات، وقد روي ذلك عن عمر، وعثمان رضي الله عنهما كما تقدم، وهو الموافق لحكمة تشريع المواقيت، وما أحسن ما ذكر الشاطبي في الاعتصام (ج1: ص167) ومن قبله الهروي في ذم الكلام عن الزبير بن بكار: قال حدثني ابن عيينة قال سمعت مالك بن أنس وأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الله من أين أحرم؟ قال: من ذي الحليفة من حيث أحرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر، قال: لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة، فقال: فأي فتنة في هذه؟ إنما هي أميال أزيدها. قال: وأي فتنة أعظم من أن تري أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إني سمعت الله يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (24: 63) انتهى. وأما حديث: ((من تمام الحج أن تحرم من دويرة أهلك)) فهو حديث منكر أخرجه البيهقي (ج5: ص31) من طريق جابر بن نوح عن محمد بن عمرو عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله عز وجل: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} قال: فذكره. قال الشيخ ناصر الدين الألباني: هذا سند ضعيف، ضعفه البيهقي بقوله: فيه نظر ووجهه أن جابرًا هذا متفق على تضعيفه، وأورد له ابن عدي (50/2) هذا الحديث وقال: لا يعرف إلا بهذا الإسناد، ولم أر له أنكر من هذا - انتهى. وقد خفى هذا على الشوكاني فقال في نيل الأوطار (ج4: ص180) : ثبت هذا مرفوعًا من حديث أبي هريرة أخرجه ابن عدي والبيهقي - انتهى. وقد رواه البيهقي من طريق عبد الله بن سلمة المرادي عن علي موقوفًا، ورجاله ثقات إلا أن المرادي هذا كان تغير حفظه، وعلى كل حال هذا الموقوف أصح من المرفوع - انتهى. وأما حديث أم سلمة في الإحرام من المسجد الأقصى ففي صحته نظر وإن سكت عليه أبو داود. وقد أخرجه أيضًا أحمد (ج6: ص299) ، وابن ماجة، والدارقطني، والبيهقي (ج5: ص30) ، وابن حبان في صحيحه بألفاظ مختلفة كلهم من طريق حكيمة عن أم سلمة مرفوعًا. قال ابن القيم: في تهذيب السنن (ج2: ص 284) : قال غير واحد من الحافظ إسناده ليس بالقوي، وأعله المنذري بالاضطراب فقال في مختصر السنن (ج2: ص285) : وقد اختلف الرواة في متنه وإسناده اختلافًا كثيرًا وكذا أعله بالاضطراب الحافظ ابن كثير كما في نيل الأوطار (ج4: ص178) ، ثم إن المنذري كأنه نسى هذا فقال في الترغيب والترهيب: ((رواه ابن ماجة بإسناد صحيح)) وأنى له الصحة وفيه ما ذكره من الاضطراب، وسيأتي شيء من الكلام عليه في آخر الفصل الثاني، وفي الاستدلال به على جواز تقديم الإحرام على الميقات مطلقًا نظر لأن دلالته أخص من ذلك أعني أنه إنما يدل على أن الإحرام من بيت المقدس خاصة أفضل من الإحرام من المواقيت، وأما غيره من البلاد فالأصل الإحرام من المواقيت المعروفة وهو الأفضل كما قرره الأمير اليماني في سبل السلام وابن قدامة في المغني وهذا على فرض صحة الحديث أما وهو لم يصح كما رأيت فبيت المقدس كغيره في هذا الحكم لما سبق بيانه، وقد

متفق عليه. 2541- (13) وعن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ـــــــــــــــــــــــــــــ روى ما يدل عليه بعمومه وهو ما روى الهيثم بن كليب وأبو يعلى الموصلي في مسنديهما والبيهقي في سننه من طريق واصل ابن السائب الرقاشي عن أبي سورة عن عمه أبي أيوب الأنصاري مرفوعًا: ليستمتع أحدكم بحله ما استطاع فإنه لا يدري ما يعرض له في إحرامه. قال البيهقي: هذا إسناد ضعيف، واصل بن السائب منكر الحديث، قاله البخاري وغيره، ثم رواه البيهقي من طريق الشافعي: أنا مسلم عن ابن رباح عن عطاء مرفوعًا نحوه. وأعله بقوله: ((هذا مرسل)) قلت: ومسلم شيخ الشافعي هو ابن خالد الزنجي الفقيه، وهو صدوق كثير الأوهام كما في التقريب، وابن جريج مدلس وقد عنعنه واستدل أيضًا لأبي حنيفة ومن وافقه بما رواه أحمد والثقفي في مشيخته النيسابوريين (184، 185، 335/4) من طريق الحسن بن هادية قال: لقيت ابن عمر فقال لي: ممن أنت؟ قلت: من أهل عمان. قال: من أهل عمان؟ قلت: نعم. قال: أفلا أحدثك ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قلت بلى. فقال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: أني لأعلم أرضًا يقال لها عمان ينزح بجانبها البحر، والحجة منها أفضل من حجتين من غيرها. قال الشيخ الألباني: رجاله كلهم ثقات معروفون غير ابن هادية هذا فقد ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً، وأما ابن حبان فقد ذكره في الثقات (ج1: ص14) وهذا منه على عادته في توثيق المجهولين (المستورين) وتوثيق ابن حبان هذا هو عمدة الهيثمي حين قال في المجمع (ج3: ص217) : ((رواه أحمد ورجاله ثقات)) وحجة الشيخ الفاضل أحمد محمد شاكر في قوله في تعليقه على المسند ((إسناد صحيح)) وهذا غير صحيح لما سبق، وكم له في هذا التعليق وغيره من مثل هذه الصحيحات المبنية على هذه التوثيقات التي لا يعتمد عليها لضعف مستندها - انتهى. (متفق عليه) وأخرجه أيضًا أحمد (ج1: ص238، 249، 252، 332، 339) ، وأبو داود، والنسائي، والدارمي، وابن الجارود (ص148) ، والدارقطني، والشافعي، والبيهقي (ج5: ص29) . 2541- قوله: (عن جابر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال) كذا وقع في المشكاة والمصابيح، وهو يدل على أن الحديث عند مسلم مجزوم في رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والأمر ليس كذلك، فإن مسلمًا رواه أولا من طريق روح بن عبادة عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل عن المهل فقال: سمعت ثم انتهى فقال: أراه يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولم يذكر مسلم لفظه، ومعنى هذا الكلام أن أبا الزبير سمع بعض الناس يسأل جابرًا عن مواضع إحرام الحجاج من جميع الجهات فقال جابر: سمعت، ثم وقف عن الكلام ورفع الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال أراه (بضم الهمزة) ، أي أظن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مهل أهل المدينة)) ، وأما قوله: ((يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -)) فهو من كلام أبي الزبير يفسر به رجوع الضمير إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في قول جابر أراه يعني مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال النووي: معناه أن أبا الزبير قال سمعت

مهل أهل المدينة من ذي الحليفة، والطريق الآخر الجحفة، ومهل أهل العراق من ذات عرق، ـــــــــــــــــــــــــــــ جابرًا ثم انتهى أي: وقف عن رفع الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: أراه أي أظنه رفع الحديث فقال: أراه يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال في الرواية الأخرى أحسبه رفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثم رواه مسلم من طريق محمد بن بكر عن ابن جريج أخبرنا أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل عن المهل فقال سمعت أحسبه رفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال مهل أهل المدينة من ذي الحليفة إلخ. والطريقان تدلان على أن الحديث مشكوك في رفعه. قال النووي: لم يثبت رفع الحديث لكونه لم يجزم برفعه، وأجيب بأن قوله أراه أو أحسبه معناه أظنه، والظن في باب الرواية يتنزل منزلة اليقين وليس ذلك قادحًا في رفعه، وأيضًا فلو لم يصرح برفعه لا يقينًا ولا ظنًا فهو منزل منزلة المرفوع، لأن هذا لا يقال من قبل الرأي وإنما يؤخذ توقيفًا من الشارع لا سيما وقد ضمه جابر إلى المواقيت المنصوص عليها يقينًا باتفاق، وقد أخرجه أحمد من رواية ابن لهيعة وابن ماجة من رواية إبراهيم بن يزيد الخوزي كلاهما عن أبي الزبير ولم يشكا في رفعه (مهل أهل المدينة) بضم الميم من الإهلال، أي موضع إحرامهم اسم مكان (والطريق الآخر) ، أي مهل الطريق الآخر لهم. قاله القاري. (الجحفة) قال ابن مالك: أي إذا جاءوا من طريق الجحفة فهي مهلهم، وقال ابن حجر: أي ومهل أهل الطريق الآخر الذي لا يمر سالكه بذي الحليفة ولا يجاوزها يمنة أو يسرة هو الجحفة (ومهل أهل العراق من ذات عرق) بكسر العين وسكون الراء بعدها قاف سمي الموضع بذلك لأن فيه عرقًا وهو: الجبل الصغير. وهي: أرض سبخة تنبت الطرفاء، وقيل: العرق من الأرض السبخة تنبت الطرفاء ويسمى الآن الضريبة بفتح الضاد وكسر الراء بعدها ياء ثم باء وهي الحد الفاصل بين تهامة ونجد وتبعد عن مكة بالمراحل (2) وبالفراسخ (16) وبالأميال (48) وبالكيلوات (80) ويحرم منه أهل العراق وبلاد إيران وحاج الشرق كله. والحديث صريح في أن ذات عرق ميقات أهل العراق بنص النبي - صلى الله عليه وسلم - وتوقيته لكن قال النووي: لا يحتج بهذا الحديث مرفوعًا لكونه لم يجزم برفعه، وقد سبق الجواب عن ذلك ويشهد لكون ذات عرق ميقات أهل العراق بالنص ما وقع في حديث عائشة عند أحمد، وأبي داود، والنسائي، والطحاوي، والدارقطني بإسناد صحيح كما قاله النووي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقت لأهل العراق ذات عرق، ويأتي الكلام عليه في الفصل الثاني. ويشهد له أيضًا حديث الحارث بن عمرو السهمي عند أحمد، والنسائي، وأبي داود، والطبراني، وحديث ابن عباس عند ابن عبد البر في التمهيد، والبزار في مسنده، وحديث ابن عمر عند ابن راهوية في مسنده وحديث أنس عند الطحاوي، والطبراني، وحديث عبد الله بن عمرو عند أحمد، والدارقطني. وهذه الأحاديث وإن كان في كل منها ضعف ولا تخلو عن مقال فمجموعها لا يقتصر عن بلوغ درجة الاحتجاج به، وبها يرد على ابن خزيمة حيث قال: في ذات عرق أخبار لا يثبت منها شيء عند أهل الحديث. وعلي ابن المنذر حيث يقول: لم نجد في ذات عرق حديثًا يثبت. واعلم أنه قد اتفق العلماء على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نص على المواقيت الأربعة المذكورة في حديثي ابن عباس، وجابر وهي ذو الحليفة والجحفة وقرن ويلملم. واختلفوا في ذات عرق

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ هل صارت ميقاتًا لأهل العراق بتوقيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ونصه أم باجتهاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وممن قال إنه مجتهد فيه من السلف طاوس، وابن سيرين، وأبو الشعثاء، وجابر بن زيد حكاه البيهقي وغيره. وممن قال من السلف أنه منصوص عليه عطاء بن أبي رباح، وحكاه ابن الصباغ عن أحمد وأصحاب أبي حنيفة، واختلف قول الشافعي فيه فقال في موضع: هو منصوص عليه، وفي موضع: ليس منصوصًا عليه، وكذلك اختلف فيه الشافعية وأكثرهم على أنه منصوص عليه. ويدل لذلك الأحاديث السابقة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - التي نص فيها أن ذات عرق ميقات العراق. قال النووي: قالوا: وإن كانت أسانيد مفرداتها ضعيفة فمجموعها يقوي بعضها بعضًا ويصير الحديث حسنًا ويحتج به، ويحمل تحديد عمر باجتهاده على أنه لم يبلغه تحديد النبي - صلى الله عليه وسلم - فحدده باجتهاده فوافق النص - انتهى. واستدل من قال إنه مجتهد فيه بما رواه البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر قال: لما فتح هذان المصران (أي الكوفة والبصرة، والمراد بفتحهما غلبة المسلمين على مكان أرضهما) ، أتوا عمر فقالوا: يا أمير المؤمنين إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حد لأهل نجد قرنًا، وهو جور، أي ميل عن طريقنا، وإنا إن أردنا قرن شق علينا. قال: فانظروا حذوها من طريقكم، فحد لهم ذات عرق. قالوا: فهذا الحديث الصحيح صريح في أن توقيت ذات عرق باجتهاد من عمر، وقد جاءت بذلك أيضًا آثار عن بعض السلف قال الحافظ بعد ذكرها: هذا كله يدل على أن ميقات ذات عرق ليس منصوصًا، وبه قطع الغزالي، والرافعي في شرح المسند، يعني مسند الشافعي، والنووي في شرح مسلم، وكذا وقع في المدونة لمالك، وصحح الحنفية، والحنابلة، وجمهور الشافعية، والرافعي في الشرح الصغير، والنووي في شرح المهذب: أنه منصوص. وقد وقع ذلك في حديث جابر عند مسلم إلا أنه مشكوك في رفعه. وقد أخرجه أحمد من رواية ابن لهيعة، وابن ماجة من رواية إبراهيم بن يزيد كلاهما عن أبي الزبير فلم يشكا في رفعه، ووقع في حديث عائشة وفي حديث الحارث بن عمرو السهمي كلاهما عند أحمد، وأبي داود، والنسائي، وهذا يدل على أن للحديث أصلاً، فلعل من قال إنه غير منصوص لم يبلغه، أو رأى ضعف الحديث باعتبار أن كل طريق لا يخلو عن مقال، ولهذا قال ابن خزيمة: رويت في ذات عرق أخبار لا يثبت شيء منها عند أهل الحديث وقال ابن المنذر: لم نجد في ذات عرق حديثًا ثابتًا. قال الحافظ: لكن الحديث بمجموع الطرق يقوى كما ذكرنا. قلت: أظهر القولين عندي وأرجحهما أن ذات عرق وقتها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل العراق لثبوت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث، منها ما هو صحيح الإسناد ومنها ما في إسناده كلام، وبعضها يقوي يعضًا، ولا يعارض ذلك حديث ابن عمر عند البخاري الذي يدل على أن توقيت ذات عرق لأهل العراق باجتهاد من عمر، لاحتمال أن عمر لم يبلغه ذلك فاجتهد فوافق اجتهاده توقيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو رضي الله عنه معروف أنه وافقه الوحي في مسائل متعددة، فلا مانع من أن تكون هذه منها لا شرعًا ولا عقلاً ولا عادة. قال ابن قدامة: ويجوز أن يكون عمر ومن سأله لم يعلموا توقيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ عرق فقال ذلك برأيه فأصاب ووافق قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد كان كثير الإصابة - انتهى. وأما إعلال بعضهم حديث ذات عرق بأن العراق لم تكن فتحت يومئذٍ فقال ابن عبد البر: هي غفلة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت المواقيت لأهل النواحي قبل الفتوح لكنه علم أنها ستفتح، فلا فرق في ذلك بين الشام والعراق - انتهى. وبهذا أجاب الماوردي وآخرون فإن قلت: ما الجمع بين حديث ابن عباس الآتي في الفصل الثاني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت لأهل المشرق العقيق، وبقية الأحاديث في التوقيت من ذات عرق؟ قلت: في ذلك أوجه: أحدها: ضعف حديث ابن عباس، فإنه تفرد به يزيد بن أبي زياد وهو سيئ الحفظ، وبتقدير صحته أحاديث التوقيت من ذات عرق أصح وأكثر وأرجح. الثاني: أن ذات عرق ميقات الوجوب، والعقيق ميقات الاستحباب لأنه أبعد من ذات عرق فالإحرام من العقيق أفضل، فإن جاوزه وأحرم من ذات عرق جاز، وبهذا صرح الشافعية، الثالث: أن ذات عرق ميقات لبعض أهل العراق وهم أهل البصرة، والعقيق ميقات للبعض منهم وهم أهل المدائن، وقع ذلك في حديث لأنس عند الطبراني في الكبير، وفيه أبو ظلال هلال بن زيد، وثقه ابن حبان وضعفه الجمهور. الرابع: أن ذات عرق كانت أولاً في موضع العقيق الآن ثم حولت وقربت إلى مكة، وعلى هذا فذات عرق هو العقيق، واللفظان متواردان على شيء واحد، ومقتضى هذا الجواب وجوب الإحرام من العقيق، والجمهور على خلافه، فإنه لم يقل أحد: بتعيين الإحرام من العقيق، وإنما قالوا: يستحب احتياطًا. قال ابن المنذر: واختلفوا في المكان الذي يحرم منه من أتى من العراق على ذات عرق، فكان أنس يحرم من العقيق، واستحب ذلك الشافعي، وكان مالك، وإسحاق، وأحمد، وأبو ثور، وأصحاب الرأي يرون الإحرام من ذات عرق، وقال أبو بكر: الإحرام من ذات عرق يجزئ وهو من العقيق أحوط. اعلم أن من سلك طريقًا إلى الحرم لا ميقات فيها فميقاته المحل المحاذي لأقرب المواقيت إليه كما يدل عليه ما قدمنا نقلاً عن صحيح البخاري من توقيت عمر ذات عرق لأهل العراق لمحاذاتها قرن المنازل، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم. قال المحب الطبري: في حديث ابن عمر عند البخاري دلالة على أن من مر على طريق لا ميقات فيه أحرم إذا حاذى أقرب المواقيت إليه نزولاً على قضاء عمر. وقال الولي العراقي: سكت في حديث ابن عباس عند الشيخين عن قاصد مكة للنسك من غير أن يمر على شيء من هذه المواقيت، وقد قال الجمهور: يلزمه الإحرام إذا حاذى أقرب المواقيت إليه، وبه قال الأئمة الأربعة، وتمسكوا في ذلك بقول عمر رضي الله عنه لما شكى إليه أهل العراق جور قرن عن طريقهم: ((انظروا حذوها من طريقكم)) والإحرام من محاذاة الميقات أقرب الأمور إلى النص، لأن القصد البعد عن مكة بهذه المسافة، فلزم إتباعه - انتهى. وحاصل مذهب الحنابلة في ذلك على ما في ((مفيد الأنام)) للشيخ ابن جاسر النجدي: من لم يمر بميقات من المواقيت الخمسة، أحرم بحج أو عمرة وجوبًا إذا علم أنه حاذى أقرب المواقيت منه لقول عمر رضي الله عنه: ((انظروا حذوها من طريقكم)) رواه البخاري، وسن له أن

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ يحتاط ليخرج من عهدة الواجب، فإن لم يعلم حذو الميقات أحرم من بعد، إذ الإحرام قبل الميقات جائز وتأخيره عنه حرام، فإن تساويا قربًا منه فإنه يحرم من حذو أبعدهما من مكة من طريق، لأنه أحوط، فإن لم يحاذ ميقاتًا كالذي يجيء من ((سواكن)) إلى ((جدة)) من غير أن يمر ((برابغ)) ولا ((يلملم)) لأنهما أمامه، فيصل ((جدة)) قبل محاذاتهما أحرم من مكة بقدر مرحلتين، فيحرم في المثال من ((جدة)) لأنها على مرحلتين من مكة لأنه أقل المواقيت - انتهى. وقال ابن قدامة: من سلك طريقًا بين ميقاتين فإنه يجتهد حتى يكون إحرامه بحذو الميقات الذي هو إلى طريقه أقرب لما روينا أن أهل العراق قالوا لعمر: إن قرنا جور عن طريقنا، فقال: انظروا حذوها من طريقكم، فوقت لهم ذات عرق فإن لم يعرف حذو الميقات المقارب لطريقه احتاط فأحرم من بعد بحيث تيقن أنه لم يجاوز الميقات إلا محرمًا، لأن الإحرام قبل الميقات جائز وتأخيره عنه لا يجوز، فالاحتياط فعل ما لاشك فيه، ولا يلزمه الإحرام حتى يعلم أنه قد حاذاه، لأن الأصل عدم وجوبه، فلا يجب بالشك، فإن أحرم ثم علم أنه قد جاوز ما يحاذيه من المواقيت غير محرم فعليه دم وإن شك في أقرب الميقاتين إليه فالحكم في ذلك على ما ذكرنا في المسألة قبلها، وإن كانتا متساويتين في القرب إليه أحرم من حذو أبعدهما - انتهى. وقال الحافظ: قد نقل النووي في شرح المهذب: من ليس له ميقات ولا يحاذي ميقاتًا يلزمه أن يحرم على مرحلتين اعتبارًا بقول عمر: هذا في توقيته ذات عرق، وتعقب بأن عمر إنما حدها لأنها تحاذي قرنًا وهذه الصورة إنما هي حيث يجهل المحاذاة، فلعل القائل بالمرحلتين أخذ بالأقل، لأن ما زاد عليه مشكوك فيه، لكن مقتضى الأخذ بالاحتياط أن يعتبر الأكثر الأبعد - انتهى. قلت: مذهب الشافعية: أن من سلك البحر أو طريقًا ليس فيه شيء من المواقيت الخمسة، أحرم إذا حاذى أقرب المواقيت إليه، فإذا كان عند محاذاة ذي الحليفة على ميلين منها وعند محاذاة الجحفة على ميل كان ميقاته الجحفة، وإن استويا في القرب إليه أحرم عند محاذاة الأبعد من مكة، فإن لم يحاذ شيئًا - كالآتي من غربي جدة في البحر - أحرم على مرحلتين من مكة قال ابن حجر الهيتمي المكي في ((تحفة المحتاج بشرح المنهاج)) : (من سلك طريقًا) في بر أو بحر (لا ينتهي إلى ميقات، فإن حاذى ميقاتًا) ، أي سامته بأن كان على يمينه أو يساره ولا عبرة بما أمامه أو خلفه (أحرم من محاذاته) فإن اشتبه عليه موضع المحاذاة اجتهد ويسن أن يستظهر ليتيقن المحاذاة، فإن لم يظهر له شيء تعين الاحتياط (أو) حاذى (ميقاتين) بأن كان إذا مر على كلٍ تكون المسافة منه إليه واحدة (فالأصح أن يحرم من محاذاة أبعدهما) من مكة وإن حاذى الأقرب إليها أولا وليس له انتظار الوصول إلى محاذاة الأقرب إليها، كما ليس للمار على ذي الحليفة أن يؤخر إحرامه إلى الجحفة، فإن استوت مسافتهما في القرب إلى طريقه وإلى مكة أحرم من محاذاتهما، ما لم يحاذ أحدهما قبل الآخر، وإلا فمنه، أما إذا لم تستو مسافتهما إليه بأن كان بين طريقه وأحدهما إذا مر عليه ميلان، والآخر إذا مر عليه فهذا هو ميقاته، وإن كان

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ أقرب إلى مكة. قال الشرواني: في حاشيته والحاصل أن العبرة أولاً بالقرب إليه ثم بالبعد من مكة، ثم بالمحاذاة أولاً؛ فإن انتفى جميع ذلك فمن محاذاتهما - انتهى. قال ابن حجر: (وإن لم يحاذ) شيئًا من المواقيت (أحرم على مرحلتين من مكة) لأنه لا ميقات دونهما. قال: والإحرام من المرحلتين هنا بدل عن أقرب ميقات إلى مكة، وأقرب ميقات إليها على مرحلتين منها، لا من الحرم، فاعتبرت المسافة من مكة لذلك. لا يقال: المواقيت مستغرقة لجهات مكة فكيف يتصور عدم محاذاته لميقات؟ فينبغي أن المراد عدم المحاذاة في ظنه دون نفس الأمر، لأنا نقول يتصور بالجائي من ((سواكن)) ((إلى جدة)) من غير أن يمر برابغ أو بيلملم لأنهما حينئذٍ أمامه، فيصل جدة قبل محاذاتهما؛ وهي على مرحلتين من مكة، فتكون هي ميقاته. قال النووي: (وإن بلغ الميقات مريدًا) للنسك (لم تجز مجاوزته) إلى جهة الحرم (بغير إحرام) قال ابن حجر: خرج بقولنا: ((إلى جهة الحرم)) ما لو جاوزه يمنة أو يسرة فله أن يؤخر إحرامه لكن بشرط أن يحرم من محل مسافته إلى مكة مثل مسافة ذلك الميقات كما قاله الماوردي. وجزم به غيره. وبه يعلم أن الجائي من اليمن في البحر له أن يؤخر إحرامه من محاذاة يلملم إلى جدة، لأن مسافتها إلى مكة كمسافة يلملم كما صرحوا به - انتهى. ومذهب الحنفية أن من سلك طريقًا ليس فيه ميقات معين برًا أو بحرًا اجتهد وأحرم إذا حاذى ميقاتًا منها، ومن حذو الأبعد أولى. وإن لم يعلم المحاذاة فعلى مرحلتين من مكة، كجدة. قال صاحب البحر: قد قالوا: من كان في برً أو بحرً لا يمر بواحد من هذه المواقيت المذكورة، عليه أن يحرم إذا حاذى آخرها، ويعرف بالاجتهاد، وعليه أن يجتهد فإذا لم يكن بحيث يحاذي فعلى مرحلتين إلى مكة. ولعل مراده بالمحاذاة المحاذاة القريبة من الميقات، وإلا فآخر المواقيت باعتبار المحاذاة ((قرن المنازل)) وقال القاري في شرح المناسك: وعين هذه المواقيت ليست بشرط ولهذا يصح الإحرام قبلها، بل الواجب عينها أو حذوها، أي محاذاتها ومقابلتها، فمن سلك غير ميقات، أي طريقًا ليس فيه ميقات معين برًا أو بحرًا اجتهد، وأحرم إذا حاذى ميقاتًا منها، أي من المواقيت المعروفة ومن حذو الأبعد أولى، فإن الأفضل أن يحرم من أول الميقات وهو الطرف الأبعد عن مكة، حتى لا يمر بشيء مما يقال ميقاتًا غير محرم، ولو أحرم من الطرف الأقرب إلى مكة جاز باتفاق الأربعة، وإن لم يعلم المحاذاة فإنه لا يتصور عدم المحاذاة فعلى مرحلتين من مكة، كجدة المحروسة من طرف البحر. وقال في حاشية قوله: ((كجدة)) فإنها على مرحلتين عرفيتين من مكة، وثلاث مراحل شرعية ووجهه أن المرحلتين أوسط المسافات وإلا فالاحتياط الزيادة، كذا في شرح نظم الكنز. وأقول: لعل وجهه أيضًا أن أقرب المواقيت إلى مكة على مرحلتين عرفيتين من مكة، فقدر بذلك - انتهى. وقال في غنية الناسك: ومن كان في بر أو بحر لا يمر بواحد من المواقيت الخمس تحرى إذا لم يجد من يستخبره، وأحرم إذا غلب على ظنه أنه حاذى آخرها، قربت المحاذاة من الميقات أو بعدت كما في رد المحتار عن النهر، ومن حذو الأبعد أولى، وإن لم يعلم المحاذاة فعلى مرحلتين عرفيتين من مكة كجدة من طرف البحر، فإنها على مرحلتين عرفيتين من

ومهل أهل نجد قرن، ومهل أهل اليمن يلملم. رواه مسلم. 2542- (14) وعن أنس قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر كلهن في ذي القعدة، ـــــــــــــــــــــــــــــ مكة وثلاث مراحل شرعية (طوالع) - انتهى. وفي منسك الشيخ يحيى الحطاب من المالكية ((قال مالك)) : ومن حج في البحر من أهل مصر والشام وشبههما أحرم إذا حاذى الجحفة. قال شارحه الشيخ محمد البناني: أي ولا يؤخره إلى البر، وعليه درج الخرشي في شرحه حيث قال: إن من سافر في البحر فإنه يحرم إذا حاذى الميقات ولا يؤخره إلى البر - انتهى. فعليه إذا لم يحرم عند محاذاة الميقات ببحر وأخره إلى البر أساء وعليه دم عندهم تنبيه: قد اتضح مما ذكرنا من كلام ابن حجر المكي، وعلي القاري وغيرهما أنه لا يجب على الحاج الهنود والباكستانيين القادمين بالباخرة للحج أو العمرة أن يحرموا في أي محل من البحر قبل وصولهم إلى جدة، بل يجوز لهم أن يؤخروا الإحرام في البحر ويحرموا بعد نزولهم على ميناء جدة من جدة، لأنه لا يقع ميقات من المواقيت الخمسة في طريق بواخر الحجاج القادمين من الهند أو الباكستان ولا تحاذي شيئًا منها بل تقطع طريقها في البحر في حدود الآفاق بعيدة عن يلملم التي هي جبل من جبال نهامة وقريبة من مكة، فلا يمكن لأية باخرة أو سفينة قادمة من الهند والباكستان أن تتجاوزها أو تتجاوز خط محاذاتها إلى الحل الصغير ولو كانت تجري على الساحل فإن المواقيت الخمسة والخطوط الممتدة من ميقات إلى آخر الموصلة بعضها ببعض المحددة لحدودها كلها في البر، وأقرب المواقيت إلى مكة على مرحلتين منها، وجدة أيضًا على مرحلتين من مكة، فيجب عليهم أن يحرموا منها، وقد تقدم الكلام فيه مفصلاً فتذكر. (رواه مسلم) ، قد تقدم أن مسلمًا رواه مشكوكًا في رفعه وكذا أخرجه أبو عوانة في مستخرجه، والشافعي، وأحمد، والدارقطني، والبيهقي، وأخرجه أيضًا أحمد، وابن أبي شيبة، وإسحاق بن راهويه، وأبو يعلى والدارقطني، والبيهقي من طريق الحجاج بن أرطاة عن عطاء بن جابر، وأحمد من طريق ابن لهيعة، والحجاج، وابن ماجة من طريق إبراهيم بن يزيد الخوزي، الثلاثة عن أبي الزبير عن جابر، فلم يشكوا في رفعه إلا أن الحجاج مدلس. وابن لهيعة ضعفوه لاختلاطه بعد احتراق كتبه، وإبراهيم ابن يزيد غير محتج به، لكن لحديث جابر في توقيت ذات عرق لأهل العراق شواهد مرفوعة جياد حسان يجب العمل بمثلها مع تعددها ومجيئها مسندة ومرسلة من وجوه شتى. 2542- قوله: (أربع عمر) بضم ففتح جمع عمرة (كلهن) ، أي بعد الهجرة (في ذي القعدة) بفتح القاف وبكسر بناء على أنه من المرة أو الهيئة، سمي بذلك لأنهم كانوا يقعدون فيه عن الأسفار، وإنما اعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه العمر في ذي القعدة لفضيلة هذا الشهر ولبيان جواز ما كان أهل الجاهلية يمنعونه، فإنهم كانوا يرون الاعتمار في أشهر الحج من أفجر الفجور ففعله - صلى الله عليه وسلم - مرات في ذي القعدة وهو من أشهر الحج ليكون أبلغ في بيان جوازه، وأبلغ في إبطال ما كانت الجاهلية

إلا التي كانت مع حجته، عمرة من الحديبية في ذي القعدة، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة، وعمرة من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه (إلا التي كانت مع حجته) بفتح الحاء وكسرها والمراد أي انتهاء وإلا فهي بالنظر إلى الابتداء كانت في ذي القعدة واستشكل ابن التين هذا الاستثناء فقال: هو كلام زائد والصواب حذفه لأنه عد التي مع حجته فكيف يستثنيها أولاً؟ وأجاب عياض بأن الرواية صواب، وكأنه قال في ذي القعدة منها ثلاث والرابعة عمرته في حجته، أو المعنى كلها في ذي القعدة إلا التي اعتمر في حجته، لأن التي في حجته كانت في ذي الحجة (عمرة) بالنصب على البدلية وبالرفع على أنه مبتدأ موصوف بقوله: (من الحديبية) بحاء مضمومة فمهملة مفتوحة فتحتية ساكنة فموحدة مكسورة فتحتية ثانية مخففة، وقيل مشددة، أحد حدود الحرم على تسعة أميال من مكة. والخبر قوله: (في ذي القعدة) والحديبية قيل: اسم لبئر في طريق جدة سميت بشجرة حدباء هناك. قال الفاسي: يقال: إنها المعروفة الآن ببئر شمس، وقيل: شميس بالتصغير. وقال أبو علي البغدادي: في كتاب النوادر الحديبية مخففة الياء، موضع بين الحل والحرم. وقال أبو عمر ابن عبد البر: الحديبية آخر الحل وأول الحرم، وقيل: بعضها في الحل وبعضها في الحرم، وقيل: أكثرها في الحرم، وقال البخاري: الحديبية خارج من الحرم - انتهى. ووقع في رواية لمسلم: ((أو زمن الحديبية)) وهو شك من الراوي، والمعنى واحد، وفي رواية للبخاري: ((عمرة الحديبية في ذي القعدة حيث صده المشركون)) وكان توجهه - صلى الله عليه وسلم - من المدينة يوم الاثنين مستهل ذي القعدة سنة ست، فخرج قاصدًا إلى العمرة وأحرم في ذي الحليفة، ولما بلغ الحديبية صده قريش عن الوصول إلى البيت، ووقعت بينهم المصالحة على أن يدخل مكة في العام المقبل وتحلل هو وأصحابه من العمرة بالنحر، ثم الحلق ورجع إلى المدينة، وعدوها من العمر مع عدم الطواف والسعي لترتب أحكامها من نحر الهدي، والحلق، أي الخروج من الإحرام، وقيل: باعتبار النية المترتب عليه المثوبة. وقال الكرماني: عمرة المحصر عن الطواف محسوبة بعمرة وإن لم تتم مناسكها، وعمرة الحديبية هي: العمرة الأولى من الأربع والثانية (عمرة) بالنصب والرفع كما مر (من العام المقبل في ذي القعدة) وهي: عمرة القضاء أو القضية سنة سبع (وعمرة من الجعرانة) بكسر الجيم وسكون العين المهملة وتخفيف الراء وبكسر العين وتشديد الراء لغتان، والأول ذهب إليه الأصمعي وصوبه الخطابي. قال ابن المديني: أهل المدينة يثقلون وأهل العراق يخففون، وبالتخفيف قيدها المتقنون. وقال الخطابي في ((تصحيف المحدثين)) : إن هذا مما ثقلوه وهو مخفف وهي موضع قريب من مكة معروف، بينها وبين الطائف وهي إلى مكة أقرب. قال القاري: وهو على ستة أميال أو تسعة أميال وهو الأصح، وسمي هذا الموضع باسم امرأة كانت تلقب بالجعرانة، وهي ريطة بنت سعد بن زيد بن عبد مناف، وقيل: كانت من قريش، وهي المشار إليها في قوله تعالى: {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً} (16: 92) كانت تغزل من أول النهار إلى نصفه ثم تنقضه، فضربت بها العرب مثلاً في الحمق ونقض ما أحكم من العقود وأبرم من العهود (حيث قسم غنائم حنين) بعد فتح مكة،

في ذي القعدة، وعمرة مع حجته، ـــــــــــــــــــــــــــــ وحنين بالتصغير واد بينه وبين مكة ثلاثة أميال (في ذي القعدة) ، وهي العمرة الثالثة، وكانت في سنة ثمان بعد فتح مكة غزوة هوازن وغزوة الطائف. ويوم حنين هو: غزوة هوازن لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الطائف، نزل الجعرانة فقسم بها غنائم هوازن، ثم اعتمر منها فدخل مكة بهذه العمرة ليلاً، فقضى عمرته ثم خرج منها تحت ليلته إلى الجعرانة فبات بها، فلما أصبح وزالت الشمس خرج منها في بطن سرف حتى جامع الطريق طريق المدينة بسرف، ومن ثم خفيت هذه العمرة على كثير من الناس، (وعمرة مع حجته) أي مقرونة مع حجته وهي: الرابعة التي قرنها بحجة الوداع سنة عشر، وهي أيضًا باعتبار إحرامها كانت في ذي القعدة، وفي الباب عن ابن عباس عند أحمد (ج1: ص246، 276) ، والترمذي و، أبي داود، وابن ماجة، وسكت عنه أبو داود، والمنذري. ورجاله كلهم ثقات. وعن عائشة عند أحمد، وأبي داود، والنسائي: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد اعتمر ثلاثًا سوى التي قرنها بحجة الوداع)) وقد سكت عنه أبو داود، والمنذري، وعن ابن عمر أنه سئل: كم اعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: أربع. الحديث أخرجه الشيخان وغيرهما. وهذه الأحاديث تدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - اعتمر أربع عمر: (الأولى) : عمرة الحديبية سنة ست من الهجرة (والثانية) : عمرة القضاء في السنة السابعة (والثالثة) : عمرة الجعرانة في السنة الثامنة بعد فتح مكة (والرابعة) : كانت مع حجته سنة عشرة، وكلها كانت في ذي القعدة إلا الرابعة فكانت في ذي الحجة، هذا هو الصحيح الذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة. وذهب إليه المحققون من المحدثين والفقهاء. وقد ورد ما يخالف ذلك في العدد كحديث البراء التالي وحديث ابن عمر أنه سئل: كم اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: مرتين. أخرجه أحمد (ج2: ص70) ، وأبو داود، والنسائي، وحديث عروة عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اعتمر عمرتين عمرة في ذي القعدة، وعمرة في شوال. أخرجه أبو داود، وسكت عنه هو والمنذري. وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتمر ثلاث عمر كل ذلك في ذي القعدة. أخرجه أحمد (ج2: ص180) ، وفيه الحجاج بن أرطاة، وفيه كلام وقد وثق، وحديث عائشة عند أحمد بإسناد صحيح: ((ما اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا في ذي القعدة، ولقد اعتمر ثلاث عمر)) وحديث عروة عن عائشة أنه - صلى الله عليه وسلم - اعتمر ثلاث عمر، عمرتين في ذي القعدة، وعمرة في شوال. أخرجه سعيد بن منصور في سننه، والبيهقي (ج4: ص346) ، وقوى الحافظ إسناده وحديث أبي هريرة ((قال: اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث عمر كلها في ذي القعدة)) أخرجه البيهقي (ج4: ص345) ، وحديث جابر بمثل حديث أبي هريرة عند البزار، والطبراني في الأوسط. قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح. وحديث عمر بن الخطاب قال: اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثًا قبل حجه في ذي القعدة. أخرجه الطبراني في الأوسط. قال الهيثمي: ورجاله ثقات إلا أن سعيد بن المسيب اختلف في سماعه من عمر. والجمع بين حديث أنس ومن وافقه وبين أحاديث هؤلاء الصحابة أن من قال مرتين لم يعد العمرة التي كانت مع حجته لأنها كانت مقرونة بحجه، وكانت في ذي الحجة كما تقدم، وكأنه لم يعد أيضًا العمرة الأولى

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ وهي عمرة الحديبية لكونها لم تتم، وإن كانت وقعت في ذي القعدة، أو عدها ولم يعد عمرة الجعرانة لخفائها عليه، لكونها ليلاً، ومن قال: ثلاثًا. لم يحسب العمرة التي قرنها بحجته لأن حديثه مقيد بكون ذلك في القعدة، والتي في حجته كانت في ذي الحجة وقال ابن حزم: صدقت عائشة، وصدق ابن عمر، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعتمر مذ هاجر إلى المدينة عمرة كاملة إلا اثنتين كما قال ابن عمر - وهما عمرة القضاء وعمرة الجعرانة عام حنين - وعدت عائشة إلى هاتين العمرتين عمرة الحديبية التي صد عنها - صلى الله عليه وسلم -، فأحل بالحديبية ونحر الهدي. والعمرة التي قرن مع حجة الوداع لم يكمل أفعالها، فتألف قولاهما، وعلى ذلك يحمل قول أنس: ((أربع عمر)) ولا خلاف أنه - صلى الله عليه وسلم - اعتمر ثلاث عمر: عمرة الحديبية، وعمرة القضاء وعمرة الجعرانة، والصحيح أن الثلاث كانت في القعدة. واختلفوا هل اعتمر الرابعة؟ فمن قال: إنه كان قارنًا أو متمتعًا في حجته عدها أربعًا، ومن قال إنه كان مفردًا عدها ثلاثًا. ويجوز على هذا نسبة الرابعة إليه، لأنه أمر الناس بها وعملت بحضرته. وأما ما ورد مخالفًا لذلك في الزمن كحديث ابن عمر عند الشيخين: ((أنه - صلى الله عليه وسلم - اعتمر أربعًا إحداهن في رجب)) فيحمل على النسيان كما صرحت بذلك عائشة فقالت: ((يغفر الله لأبي عبد الرحمن نسى)) وكذلك قال غير واحد من المحدثين المحققين. وأما ما وقع في رواية عائشة عند أبي داود، وسعيد بن منصور، والبيهقي أنه - صلى الله عليه وسلم - اعتمر عمرة في شوال، فيجمع بينه وبين ما ورد في الأحاديث الصحيحة أن الثلاثة كانت في ذي القعدة، بأن يكون ذلك وقع في آخر شوال وأول ذي القعدة، ويؤيده ما وقع في رواية عائشة نفسها عند أحمد، وابن ماجة بإسناد صحيح: ((أنه ما اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا في ذي القعدة)) وأما ما رواه الدارقطني عن عائشة قالت: خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عمرة رمضان فأفطر وصمت وقصر وأتمت، الحديث. وقد قدمنا الكلام عليه في قصر الصلاة (ج2: ص265) فقال ابن القيم: هذا الحديث غلط فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعتمر في رمضان قط وعمره مضبوطة العدد والزمان، ويرحم الله أم المؤمنين، ما اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان قط، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: لم يعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا في ذي القعدة. رواه ابن ماجة وغيره. ولا خلاف أن عمره لم تزد على أربع، فلو كان قد اعتمر في رجب لكانت خمسًا، ولو كان قد اعتمر في رمضان لكانت ستًا إلا أن يقال: بعضهن في رجب، وبعضهن في رمضان، وبعضهن في ذي القعدة، وهذا لم يقع. وإنما الواقع اعتماره - صلى الله عليه وسلم - في ذي القعدة كما قال أنس، وابن عباس، وعائشة رضي الله عنهم - انتهى. وقال القسطلاني: قد حكم الحافظ بغلط هذا الحديث يعني حديث عائشة عند الدارقطني، إذ لا خلاف أن عمره لم تزد على أربع. وقد عينها أنس وعدها، وليس فيها ذكر شيء منها في غير ذي القعدة سوى التي مع حجته، ولو كانت له عمرة في رجب، وأخرى في رمضان لكانت ستًا، ولو كانت أخرى في شوال - كما هو في سنن أبي داود عن عائشة، أنه عليه الصلاة والسلام اعتمر في شوال - كانت سبعًا. والحق في ذلك أن ما أمكن فيه الجمع وجب ارتكابه دفعًا للمعارضة، وما لم يمكن فيه، حكم بمقتضى الأصح والأثبت.

(الفصل الثاني)

متفق عليه. 2543- (15) وعن البراء بن عازب قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة قبل أن يحج مرتين. رواه البخاري. (الفصل الثاني) 2544- (16) عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج، ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذا أيضًا يمكن الجمع بإرادة عمرة الجعرانة، فإنه عليه الصلاة والسلام خرج إلى حنين في شوال، والإحرام بها في ذي القعدة، فكان مجازًا للقرب، وهذا إن صح وحفظ، وإلا فالمعول عليه الثابت. والله أعلم. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الحج، وفي المغازي، ومسلم في الحج واللفظ للبخاري في المغازي، وأخرجه أيضًا أحمد، وأبو داود والترمذي، والدارمي، والبيهقي (ج4: ص345) . 2543- قوله: (اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذي القعدة قبل أن يحج مرتين) لا ينافي ما تقدم من حديث أنس وغيره كما سبق. قال القسطلاني: هذا لا يدل على نفي غيره، لأن مفهوم العدد لا اعتبار له. وقيل: إن البراء لم يعد الحديبية لأنها لم تتم، والتي مع حجته لكونها دخلت في أفعال الحج، وكلهن أي الأربعة في القعدة في أربعة أعوام على ما هو الحق، كما ثبت عن عائشة، وابن عباس رضي الله عنهم: لم يعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا في ذي القعدة، ولا ينافيه كون عمرته التي مع حجته في ذي الحجة، لأن مبدأها كان في ذي القعدة، لأنهم خرجوا لخمس بقين من ذي القعدة، كما في الصحيح، وكان إحرامه بها في وادي العقيق قبل أن يدخل ذو الحجة، وفعلها كان في ذي الحجة، فصح طريقا الإثبات والنفي. (رواه البخاري) من طريق يوسف بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عن البراء، وروى أحمد (ج4: ص297) من طريق زكريا عن أبي إسحاق عن البراء قال: اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يحج. واعتمر قبل أن يحج فقالت عائشة: لقد علم أنه اعتمر أربع عمر بعمرته التي حج فيها. وليس في رواية البراء هذه ما يدل نصًا على عدد عمره، ولا ما يدل على وقت عمرته من أي شهر. وروى أيضًا أحمد (ج4: ص298) ، والترمذي من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتمر في ذي القعدة، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وليس فيه ما يدل على عدد عمره في ذي القعدة هل اعتمر فيه مرة أو مرتين أو ثلاثًا، لكن الظاهر أن المراد بيان عمرة الحديبية وعمرة القضاء كما وقع في رواية أحمد أيضًا (ج4: ص298) من طريق حجين عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء. والله أعلم. 2544- قوله: (يا أيها الناس) خطاب عام يخرج منه غير المكلف (كتب عليكم الحج) أي: فرض بقوله تعالى:

فقام الأقرع بن حابس، فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ قال: لو قلتها نعم لوجبت، ولو وجبت لم تعملوا بها، ولم تستطيعوا ـــــــــــــــــــــــــــــ {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (3: 97) (فقام الأقرع بن حابس) بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع التميمي المجاشعي الدارمي وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - وشهد فتح مكة وحنينًا والطائف وهو من المؤلفة قلوبهم وقد حسن إسلامه. قال ابن إسحاق: قدم الأقرع بن حابس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع عطارد بن حاجب بن زرارة، والزبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم وغيرهم من أشراف تميم بعد فتح مكة وقد كان الأقرع وعيينة بن حصن الفزاري شهدا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتح مكة وحنينًا والطائف، فلما قدم وفد تميم كانا معه، فلما قدم وفد بني تميم المدينة ودخلوا المسجد نادوا النبي - صلى الله عليه وسلم - من وراء حجرته: أن اخرج علينا يا محمد، فآذى ذلك من صياحهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فخرج إليهم فقالوا: يا محمد جئناك نفاخرك، ونزل فيهم القرآن: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} (49: 4) والأقرع بن حابس هو القائل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن مدحي زين وإن ذمي شين)) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ذلكم الله سبحانه. قال بن دريد: اسم الأقرع فراس، ولقب الأقرع لقرع كان به في رأسه، والقرع انحصاص الشعر. وكان شريفًا في الجاهلية والإسلام، وشهد مع خالد بن الوليد حرب أهل العراق وكان على مقدمته. واستعمله عبد الله بن عامر على جيش سيره إلى خراسان فأصيب هو والجيش بالجوزجان وذلك في زمن عثمان (أفي كل عام؟) أي أكتب في كل عام قياسًا على الصوم، والزكاة فإن الأول: عبادة بدنية. والثاني: طاعة مالية والحج مركب منهما (لو قلتها) أي في جواب كلمة الأقرع (نعم) أي بالوحي أو الاجتهاد، قاله القاري. وقال ابن حجر: قوله: ((لو قلتها نعم)) إنه بدل من الضمير الراجع لما علم مما قبله وهو حجة كل عام. قلت: الحديث رواه أحمد ثمان مرات وليس في موضع منها: ((لو قلتها نعم)) فلفظه في الموضع الأول والثاني (ج1: ص255، 290، 291) : ((لو قلتها لوجبت)) أي بدون لفظة نعم. وهكذا ذكره البغوي في المصابيح، والمجد في المنتقى، وكذا وقع في رواية الدارمي، والبيهقي، وفي الموضع السابع (ج1: ص371) ، والثامن (ج1: ص372) : ((لو قلت: نعم)) أي بدون ضمير المؤنث وهكذا في رواية النسائي والحاكم والدارقطني، وفي الموضع الثالث (ج1: ص292) ، والخامس (ج1: ص323) ، والسادس (ج1: ص325) : ((لو قلت: كل عام لكان)) وفي الموضع الرابع (ج1: ص301) : ((لو قلت: نعم كل عام لكان كل عام)) فالظاهر أن ما وقع في نسخ المشكاة ((لو قلتها نعم)) أي بالجمع بين ضمير المؤنث وقوله نعم خطأ من الناسخ، والعلم عند الله تعالى (لوجبت) أي الحجة في كل عام (ولو وجبت) أي بالفرض والتقدير ابتداء أو بناء على الجواب (لم تعملوا بها) أي لكمال المشقة فيها (ولم تستطيعوا) قال القاري: أي ولم تطيقوا لها ولم تقدروا عليها فهو إما عطف تفسير والخطاب إجمالي للأمة أو

والحج مرة فمن زاد فتطوع. رواه أحمد، والنسائي، والدارمي. 2545- (17) وعن علي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من ملك زادًا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج، فلا عليه أن يموت يهوديًا أو نصرانيًا، ـــــــــــــــــــــــــــــ للحاضرين والباقون على التبعية، ويؤيده أنه في رواية: ((ولم تستطيعوا أن تعملوا بها)) أي كلكم من حيث المجموع، وإما عطف تغاير وعدم الاستطاعة مختص بمن يكون بعيدًا عن الحرم وهذه الاستطاعة أريد بها القدرة على الفعل، والاستطاعة في الآية إنما هي الزاد والراحلة فلا تنافي بينهما - انتهى. قلت: وقع في رواية أحمد (ج1: ص291) : ((لم تعملوا بها ولم تستطيعوا أن تعملوا بها)) أي بواو العطف وكذا عند البيهقي، وفي أخرى لأحمد (ج1: ص255) : ((لم تعملوا بها أو لم تستطيعوا أن تعملوا بها)) أي بحرف ((أو)) وهكذا عند الحاكم (ج2: ص293) (والحج) وفي بعض النسخ الحج أي بدون الواو وهكذا وقع عند أحمد (ج1: ص291) ، والدارمي، والحاكم، والبيهقي، وكذا ذكره المجد في المنتقى والبغوي في المصابيح، والزيلعي، وابن كثير (مرة) مبتدأ وخبر أي وجوب الحج مرة واحدة (فمن زاد فتطوع) كذا في جميع النسخ وهكذا في المصابيح، والسنن للبيهقي، والمستدرك للحاكم (ج2: ص293) ، وفي المسند: ((فهو تطوع)) وهكذا عند أبي داود أي من زاد على مرة فحجته أو فزيادته تطوع. (رواه أحمد) في مسنده ثمان مرات مطولاً ومختصرًا (والنسائي، والدارمي) وأخرجه أيضًا أبو داود، وابن ماجة، والدارقطني (ص255، 280) ، والحاكم (ج1: ص441، 470، وج2: ص293) ، وابن الجارود (ص147) ، والبيهقي (ج4 ص326) ، والطيالسي (ص348) وهو حديث صحيح. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وأقره الذهبي. 2545- قوله: (من ملك زادًا وراحلة) أي ولو بالإجازة و ((الزاد)) ما يتخذ من الطعام للسفر والجمع أزودة وأزواد و ((الراحلة)) من الإبل ما كان منها صالحًا لأن يرحل للذكر والأنثى، والتاء للمبالغة أي: لا للتأنيث، وقيل للنقل من الوصفية إلى الاسمية والجمع رواحل، وفي معنى الراحلة ما حدث من المراكب البرية والبحرية والهوائية الجوية (تبلغه) بتشديد اللام وتخفيفها أي: توصله (إلى بيت الله) ترك ذكر نفقة العود للظهور (ولم يحج) بفتح الجيم المشددة ويجوز ضمها وكسرها (فلا عليه) أي: فلا بأس ولا مبالاة ولا تفاوت عليه (أن يموت) أي: في أن يموت أو بين أن يموت (يهوديًا أو نصرانيًا) في الكفر إن اعتقد عدم الوجوب، وفي العصيان إن اعتقد الوجوب، وقيل: هذا من باب التغليظ الشديد والمبالغة في الوعيد لمن اعتقد وجوبه وتساهل في الأداء وهو قادر عليه، والأظهر أن وجه تخصيص الطائفتين بالذكر كونهما من أهل الكتاب غير عاملين به فشبه بهما من ترك الحج حيث لم يعمل بكتاب الله تعالى ونبذه وراء ظهره قاله القاري. وقال الطيبي: قوله: ((فلا عليه)) إلخ. أي: لا يتفاوت عليه أن يموت يهوديًا أو نصرانيًا، والمعنى أن وفاته في

وذلك أن الله تبارك وتعالى يقول: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} . ـــــــــــــــــــــــــــــ هذه الحالة ووفاته على اليهودية والنصرانية سواء فيما فعله من كفران نعمة الله تعالى وترك ما أمر به والانهماك في معصيته وهو من باب المبالغة والتشديد والإيذان لعظمة شأن الحج، ونظيره قوله تعالى: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (3: 97) فإنه وضع فيه ((ومن كفر)) موضع ((ومن لم يحج)) تعظيمًا للحج وتغليظًا على تاركه - انتهى. وقال الشيخ ولي الله الدهلوي في حجة الله: ترك ركن من أركان الإسلام يشبه الخروج عن الملة، وإنما شبه تارك الحج باليهودي والنصراني، وتارك الصلاة بالمشرك لأن اليهود والنصارى يصلون ولا يحجون، ومشركوا العرب يحجون ولا يصلون - انتهى. وقال المحب الطبري: الإجماع منعقد على أن هذا ليس على ظاهره، وأن من مات من المسلمين ولم يحج وكان قادرًا عليه لا يكون تركه الحج مخرجًا له عن الإسلام، وهو محمول على المستحل لذلك فيكفر به، أو أن فعله أشبه فعل اليهودي والنصراني (وذلك أن الله) أي ما ذكر من شرط الزاد والراحلة والوعيد على ترك هذه العبادة لأن الله (تبارك) تكاثر خير وبره (وتعالى) عظمته وغناه (يقول) أي في كتابه: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ} أي واجب عليهم {حِجُّ الْبَيْتِ} بفتح الحاء وكسرها لغتان وقراءتان سبعيتان في مصدر حج بمعنى قصد {مَنِ اسْتَطَاعَ} منهم {إِلَيْهِ} أي إلى حج البيت الحرام لأنه المحدث عنه وإن كان يحتمل رجوع الضمير للبيت لكن الأول أولى، والناس عام مخصوص بالمستطيع قد خصص ببدل البعض وهو قوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ} لأنه من المخصصات عند الأصوليين، فالحج فرض على المكلف إليه سبيلاً، وهو الذي يقدر على الوصول إليه بأي مركوب يناسبه وزاد يتزوده ولهذا أتى بهذا اللفظ الذي يمكن تطبيقه على جميع المركوبات الحادثة والتي ستحدث وهذا من آيات القرآن حيث كانت أحكامه صالحة لكل زمان وكل حال ولا يمكن الصلاح التام بدونها {سَبِيلاً} أي طريقًا وفسر - صلى الله عليه وسلم - استطاعة الطريق بالزاد والراحلة، رواه عنه غير واحد من الصحابة وسيأتي الكلام عليه في شرح حديث ابن عمر. قال الشوكاني: اللام في قوله: {لِلّهِ} هي التي يقال لها لام الإيجاب والإلزام ثم زاد هذا المعنى تأكيدًا حرف {عَلَى} فإنه من أوضح الدلالات على الوجوب عند العرب كما إذا قال القائل: لفلان على كذا. فذكر الله سبحانه الحج بأبلغ ما يدل على الوجوب تأكيدًا لحقه وتعظيمًا لحرمته، وهذا الخطاب شامل لجميع الناس، لا يخرج منه إلا من خصصه الدليل كالصبي والعبد. وقوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ} في محل جر على أنه بدل بعض من الناس، وبه قال أكثر النحويين -انتهى. والحديث مع الآية صريح في تشديد الوعيد على من ملك زادًا وراحلة ولم يحج وقد استدل بظاهره من ذهب إلى وجوب الحج على الفور وقال: لو كان على التراخي لما كان للتوعد معنى وأجاب عنه من ذهب إلى أن الحج على التراخي بأنه لا حجة فيه إما على تأويل أنه محمول على المستحل لذلك فيكفر به فظاهر، وإما على تأويل أن فعله أشبه فعل اليهودي والنصراني فغايته أن يدل على تأثيمه، ونحن نقول

رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب، وفي إسناده مقال، وهلال بن عبد الله مجهول والحارث يضعف في الحديث ـــــــــــــــــــــــــــــ بذلك وهو أصح قولي الشافعي، والتأخير إنما جاز بشرط سلامة العاقبة. وسيأتي الكلام عليه في شرح حديث ابن عباس الآتي (رواه الترمذي) وأخرجه أيضًا ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب كلهم من طريق هلال أبي هاشم الخراساني عن أبي إسحاق الهمداني عن الحارث عن علي (وفي إسناده مقال وهلال بن عبد الله) الراوي للحديث عن أبي إسحاق (مجهول) وسئل إبراهيم الحربي عنه فقال من هلال؟ وقال بن عدي: يعرف بهذا الحديث، وليس الحديث بمحفوظ، وقال العقيلي: لا يتابع عليه، وذكر الذهبي حديث علي هذا في ترجمة هلال بن عبد الله المذكور وقال: قال البخاري: منكر الحديث. وقال الترمذي: مجهول، وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه، وقال الحافظ في التقريب في ترجمته متروك، وقد روي عن علي موقوفًا ولم يرو مرفوعًا من طريق أحسن من هذا، وقال المنذري: طريق أبي أمامة على ما فيها أصلح من هذه. (والحارث يضعف في الحديث) الحارث هذا هو بن عبد الله الأعور الهمداني الحوتي الكوفي وقد تقدم ترجمته في (ج3: ص67) . اعلم أنه ورد في ترهيب من قدر على الحج فلم يحج أحاديث منها حديث علي وقد عرفت حاله ومنها حديث أبي أمامة وهو ثالث أحاديث الفصل الثالث وقد أخرجه الدارمي، وسعيد بن منصور في السنن، وأحمد، وأبو يعلى، والبيهقي من طريق عن شريك عن ليث بن أبي سليم عن ابن سابط عن أبي أمامة بلفظ: ((من لم يحسبه مرض أو حاجة ظاهرة، أو سلطان جائز، فلم يحج فليمت إن شاء يهوديًا أو نصرانيًا)) لفظ البيهقي، ولفظ أحمد: ((من كان ذا يسار فمات ولم يحج)) الحديث، وليث ضعيف وشريك سيئ الحفظ وقد خالفه سفيان الثوري فأرسله، رواه أحمد في كتاب الإيمان له، عن وكيع عن سفيان عن ليث عن بن سابط، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من مات ولم يحج ولم يمنعه من ذلك مرض حابس أو سلطان ظالم أو حاجة ظاهرة)) فذكره مرسلاً، وكذا ذكره ابن أبي شيبة عن أبي الأحوص عن ليث مرسلاً، وأرده أبو يعلي من طريق أخرى عن شريك مخالفة للإسناد الأول، وراويها عن شريك عمار بن مطرف ضعيف. وقال الذهبي في الميزان بعد أن ذكر طريق أبي يعلى هذه في ترجمة عمار بن مطر الرهاوي المذكور الراوي عن شريك: هذا منكر عن شريك. ومنها حديث أبي هريرة رفعه: ((من مات ولم يحج حجة الإسلام في غير وجع حابس أو حاجة ظاهرة أو سلطان جائر فليمت أي الميتتين شاء إما يهوديًا أو نصرانيًا)) رواه ابن عدي من حديث عبد الرحمن القطامي عن أبي المهزم وهما متروكان عن أبي هريرة. قال الحافظ في التلخيص (ص203) بعد ذكر هذه الروايات: وللحديث طريق صحيحة إلا أنها موقوفة رواها سعيد بن منصور والبيهقي (ج4: ص334) عن عمر بن الخطاب قال: لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى أهل الأمصار فينظروا كل

2546- (18) وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا صرورة في الإِسلام. ـــــــــــــــــــــــــــــ من كان له جدة ولم يحتج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين. لفظ سعيد، ولفظ البيهقي: أن عمر قال: ((ليمت يهوديًا أو نصرانيًا لها ثلاث مرات، رجل مات ولم يحج وجد لذلك سعة وخليت سبيله)) قال الحافظ: وإذا انضم هذا الموقف إلى مرسل بن سابط علم أن لهذا الحديث أصلاً ومحله على من استحل الترك وتبين بذلك خطأ من ادعى (يريد به ابن الجوزي فإنه ذكره في الموضوعات) أنه موضوع - انتهى. وقال البيهقي بعد رواية حديث أبي أمامة: وهذا وإن كان إسناده غير قوي فله شاهد من قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال الشوكاني في النيل بعد أن ساق طرق هذه الأحاديث: وهذه الطرق يقوي بعضها بعضًا وبذلك تتبين مجازفة ابن الجوزي في عده لهذه الأحاديث من الموضوعات فإن مجموع تلك الطرق لا يقصر عن كون الحديث حسنًا لغيره وهو محتج به عند الجمهور ولا يقدح في ذلك قول العقيلي والدارقطني ((لا يصح في الباب شيء)) لأن نفي الصحة لا يستلزم نفي الحسن - انتهى. وقد استدل بهذه الأحاديث على وجوب الحج على الفور لأنها تصرح أنه لا يمنعه من الإثم إلا مانع يمنعه من المبادرة إلى الحج كالمرض أو الحاجة الظاهرة أو السلطان الجائز فلو كان تراخيه لغير العذر المذكور لكان قد مات وهو آثم بالتأخير فدل على أن الوجوب الحج على الفور وأنه لا يجوز التأخير فيه إلا لعذر. 2546- قوله (لا صرورة في الإسلام) الصرورة بفتح الصاد وضم الراء المهملتين وإسكان الواو وفتح الراء على وزن الضرورة من الصر بفتح الضاد وهو الحبس والمنع. قال اللحياني: رجل صرورة لا يقال إلا بالهاء. وقال ابن الجني: رجل صرورة، امرأة صرورة ليست الهاء لتأنيث الموصوف بما هي فيه وإنما لحقت لإعلام السامع أن هذا الموصوف بما هي فيه قد بلغ الغاية والنهاية، فجعل تأنيث الصفة أمارة لما أريد من تأنيث الغاية والمبالغة - انتهى. قال في المصباح المنير: الصرورة بالفتح الذي لم يحج، وهذه الكلمة من النوادر التي وصف بها المذكر والمؤنث مثل ملوكة وفروقة، ويقال أيضًا: صروري على النسبة وصارورة ورجل صرورة لم يأت النساء. سمي الأول بذلك لصره على نفقته لأنه لم يخرجها في الحج، وسمي الثاني بذلك لصره على ماء ظهره وإمساكه - انتهى. قلت: قد فسر الصرورة في الحديث بثلاثة معان، الأول: أنه الذي لم يحج قط وهو نفي معناه النهي. أي لا يترك الحج في الإسلام من استطاعه، فمن ترك الحج مع الاستطاعة فقد منع عن نفسه الخير. وقال القاري: أي من لم يحج بعد أن يكون عليه لا يكون في الإسلام. قال الطيبي: فدل ظاهره على أن من يستطيع الحج ولم يحج ليس بمسلم كامل. وقال القاضي: ظاهر الكلام يدل على أن تارك الحج ليس بمسلم، والمراد منه أنه لا ينبغي أن يكون في الإسلام أحد يستطيع الحج ولا يحج فعبر عنه بهذه العبارة للتشديد والتغليظ - انتهى. وقيل: معناه لا يطلق على من لم يحج صرورة في الإسلام، كان يطلق عليه في الجاهلية

رواه أبو داود. ـــــــــــــــــــــــــــــ يدل عليه ما روى البيهقي (ج5: ص165) ، والطبراني في الكبير عن ابن مسعود، قال: لا يقولن أحدكم إني صرورة فإن المسلم ليس بصرورة، وما روى الدارقطني (ص286) ، والبيهقي (ج5: ص164، 165) عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يقال للمسلم صرورة. الثاني: أنه الذي قد انقطع عن النكاح وتبتل على مثل رهبانية النصارى فنهى عن ذلك، قال الزرقاني: ويسمى من لم ينزوج صرورة أيضًا لأنه صر الماء في ظهره وتبتل على مذهب الرهابنية - انتهى. وقال القاري: وقيل المراد بالصرورة التبتل وترك النكاح، أي ليس في الإسلام بل هو في الرهبانية، وأصل الكلمة من الصر وهو الحبس. الثالث: أن المراد من قتل في الحرم قتل، ولا يقبل قوله: إني صرورة ما حججت ولا عرفت حرمة الحرم كان الرجل في الجاهلية إذا أحدث حدثًا فلجأ إلى الكعبة لم يهج، فكان إذا لقيه ولي الدم في الحرم، قيل هو صرورة فلا تهجه، قال الخطابي في المعالم (ج2: ص278) : الصرورة تفسر تفسيرين: أحدهما: أن الصرورة هو الرجل الذي قد انقطع عن النكاح وتبتل على مذهب رهبانية النصارى، ومنه قول النابغة: لو أنها عرضت لأشمط راهب ... عبد الإله صرورة متلبد والوجه الآخر أن الصرورة هو: الرجل الذي لم يحج، فمعناه على هذا أن سنة الدين أن لا يبقى أحد من الناس يستطيع الحج فلا يحج حتى لا يكون صرورة في الإسلام - انتهى. قال ابن الأثير (ج1: ص281) : حديث ((لا صرورة في الإسلام)) قال أبو عبيد: هو في الحديث التبتل وترك النكاح، أي ليس ينبغي لأحد أن يقول: لا أتزوج لأنه ليس من أخلاق المؤمنين وهو فعل النصارى. والصرورة أيضًا: الذي لم يحج قط، وأصله من الصر الحبس والمنع، وقيل: أراد من قتل في الحرم قتل، إلى آخر ما ذكرنا في بيان المعنى الثالث، والظاهر أن أبا داود، والحاكم، والبيهقي رجحوا أن الصرورة في الحديث هو الذي لم يحج فأخرجوا الحديث في أبواب الحج (رواه أبو داود) ، وأخرجه أيضًا أحمد (ج1: ص312) ، والحاكم (ج1: ص448) ، والبيهقي (ج5: ص164) كلهم من طريق ابن جريج عن عمر بن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس وقد سكت عنه أبو داود، وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وقال الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على هذا الحديث في شرح المسند (ج4: ص303) : إسناده صحيح عمر بن عطاء (راوي الحديث عن عكرمة) هو عمر بن عطاء بن أبي الخوار بضم الخاء وتخفيف الواو وآخره راء، ثقة وثقه ابن معين وأبو زرعة وغيرهما، وأعل بعضهم هذا الحديث وضعفه بأن عمر بن عطاء فيه هو عمر بن عطاء بن وراز بفتح الواو وتشديد الراء وآخره زاي وهو ضعيف لقول الإمام أحمد: كل شيء روى ابن جريج عن عمر بن عطاء عن عكرمة فهو ابن وراز، وكل شيء روى ابن جريج عن عمر بن عطاء عن ابن عباس فهو ابن أبي الخوار، كان كبيرًا، قيل له: أيروي ابن أبي الخوار عن عكرمة؟ قال لا. وكذا جاء نحو هذا عن ابن معين. قال: عمر بن عطاء الذي يروي عنه ابن جريج

2547- (19) وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أراد الحج فليعجل. ـــــــــــــــــــــــــــــ يحدث عن عكرمة ليس هو بشيء، وهو ابن وراز، وهم يضعفونه، كل شيء عن عكرمة فهو ابن وراز وعمر بن عطاء بن أبي الخوار ثقة. وأما ابن حبان فقد جمعهما رجلاً واحدًا فوهم. ذكره في الثقات باسم ((عمر بن عطاء بن وراز بن أبي الخوار)) وأما أن ابن أبي الخوار كبير يروي عن ابن عباس، فلا يمنع أن يروي عن عكرمة الذي من طبقته، وقد بين أبو داود أن هذا الرواي هو ابن أبي الخوار، فروى الحديث من طريق أبي خالد الأحمر سليمان بن حيان عن ابن جريج عن عمر بن عطاء يعني ابن أبي الخوار عن عكرمة. وأخطأ المنذري خطأ شديدًا فقال: ((في إسناده عمر بن عطاء وهو ابن أبي الخوار وقد ضعفه غير واحد من الأئمة)) . وقد تبع في هذا الخطأ أبا دواد فقد قال الآجري: سألت أبا دواد عن عمر ابن عطاء الذي روى عنه ابن جرير. فقال: هذا عمر بن عطاء بن أبي الخوار بلغني عن يحيى أنه ضعفه. قال الحافظ: كذا قال، والمحفوظ عن يحيى أنه وثقه وضعف الذي بعده. يعني ابن وراز. انظر ترجمتيهما في التهذيب: (ج7: ص483، 484) والحديث رواه الحاكم أيضًا، وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وفي الباب عن ابن أخي جبير بن مطعم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا صرورة في الإسلام. ذكره الحافظ في المطالب العالية (ج1: ص312) وعزاه لأبي بكر، وأحمد بن منيع. 2547- قوله (من أراد الحج) أي قدر على أدائه، لأن الإرادة مبدأ الفعل والفعل مسبوق بالقدرة، فأطلق أحد سببي الفعل على الآخر، والعلاقة الملابسة لأن معنى قوله: (فليعجل) فليغتنم الفرصة إذا وجد الاستطاعة من القوة والزاد والراحلة، والمراد قبل عروض مانع، وقوله: ((فليعجل)) بتشديد الجيم من التعجيل كذا في جميع النسخ، وكذا وقع في المصابيح، والذي في السنن لأبي داود، والدارمي فليتعجل أي من التعجل، وهكذا ذكره ابن كثير في التفسير، والسيوطي في الجامع الصغير والمجد في المنتقى، والجزري في جامع الأصول (ج3: ص383) ، وكذا وقع عند أحمد (ج1: ص225) ، والحاكم (ج1: ص448) ، والبيهقي (ج4: ص339، 340) وفي بعض نسخ الدارمي ((فليستعجل)) أي من الاستعجال. قال الطيبي: التفعيل الاستفعال غير عزيز، ومنه التعجل بمعنى الاستعجال، والتأخر بمعنى الاستئخار - انتهى. وزاد في رواية أحمد (ج1: ص214: 323) ، وابن ماجة، والطحاوي، والبيهقي (ج4: ص340) : ((فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض الحاجة)) (أي التي تمنعه عن أداء النسك) ومعنى ((يمرض المريض)) أي من قدر له المرض يمرض فيمنعه ذلك عن الحج، قال الحفني: أي قد يطرأ المرض على الصحيح الذي يؤل أمره إلى كونه مريضًا ففيه مجاز الأول، وقال الزمخشري: هذا من قبيل المجاز باعتبار الأول إذا المريض لا يمرض بل الصحيح، فسمي المشارف للمرض والضلال مريضًا وضالة، كما سمي المشارف للموت ميتًا، ومنه {وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِراً كَفَّاراً} (71:

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ 27) أي صائرًا إلى الفجور والكفر - انتهى. والقصد الحث على الاهتمام بتعجيل الحج قبل العوارض والموانع، وفيه دليل على أن الحج واجب على الفور، وقد اختلف العلماء هل الحج واجب على الفور أم على التراخي؟ فممن قال: إنه واجب على الفور الإمام أحمد، وأبو يوسف، وجمهور أصحاب أبي حنيفة، والمزني من أصحاب الشافعي. قال النووي: ولا نص في ذلك لأبي حنيفة، وكان الكرخي يقول: هو مذهب أبي حنيفة. وقال صاحب تبيين الحقائق في الفقه الحنفي: إن القول بأنه على الفور قول أبي يوسف، وعن أبي حنيفة ما يدل عليه، فإن ابن شجاع روى عنه أن الرجل إذا وجد ما يحج به وقد قصد التزوج قال يحج ولا يتزوج، لأن الحج فريضة أوجبها الله على عبده، وهذا يدل على أنه على الفور - انتهى. وقال القاري: الأصح عندنا أن الحج واجب على الفور، وهو قول أبي يوسف، وعن أبي حنيفة ما يدل عليه فذكر رواية ابن شجاع عنه، وأما مذهب مالك فعنه في المسألة قولان مشهوران كلاهما شهره بعض علماء المالكية أحدهما على الفور، والثاني: أنه على التراخي. ومحل الخلاف المذكور ما لم يحس الفوات بسبب من أسباب الفوات، فإن خشيه وجب عندهم فورًا اتفاقًا. وممن قال إن وجوبه على التراخي: الشافعي وأصحابه. قال النووي وبه قال الأوزاعي والثوري ومحمد بن الحسن ونقله الماوردي عن ابن عباس وأنس وجابر وعطاء وطاوس. قال القاري: وقال محمد: وهو رواية عن أبي حنيفة، وقول الشافعي: إنه على التراخي إلا أن يظن فواته لو أخره لأن الحج وقته العمر نظرًا إلى ظاهر الحال في بقاء الإنسان فكان كالصلاة في وقتها يجوز تأخيره إلى آخر العمر كما يجوز تأخيرها إلى آخر وقتها، إلا أن جواز تأخيره مشروط عند محمد بأن لا يفوت يعني لو مات ولم يحج أثم. ولأبي يوسف: إن الحج في وقت معين من السنة والموت فيها ليس بنادر فيضيق عليه للاحتياط لا لانقطاع التوسع بالكلية فلو حج في العام الثاني كان مؤديًا بإتفاقهما، ولو مات قبل العام الثاني كان آثم بإتفاقهما، وثمرة الخلاف بينهما إن ما تظهر في حق تفسيق المؤخر، ورد شهادته عند من يقول بالفور وعدم ذلك عند من يقول بالتراخي كذا حققه الشمني - انتهى. واحتج من قال إنه على التراخي بأدلة منها أنهم قالوا: إن الحج فرض عام ست من الهجرة، وقيل سنة تسع ولا خلاف أن آية {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} الآية، نزلت عام ست من الهجرة في شأن ما وقع من الحديبية من إحصار المشركين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وهم محرمون بعمرة وذلك في ذي القعدة سنة ست وإذا كان الحج فرض عام ست وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحج إلا عام عشر فذلك دليل على أنه على التراخي، إذ لو كان على الفور لما أخره عن أول وقت للحج بعد نزول الآية. قالوا: ولاسيما إنه عام ثمان من الهجرة فتح مكة في رمضان واعتمر عمرة الجعرانة في ذي القعدة من عام ثمان ثم رجع إلى المدينة ولم يحج. قالوا: واستخلف عتاب بن أسيد فأقام الناس الحج سنة ثمان بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقيم بالمدينة هو وأزواجه وعامة أصحابه ولم يحجوا. قالوا: ثم غزا غزوة تبوك في عام تسع وانصرف عنها قبل الحج فبعث أبا بكر رضي الله عنه فأقام الناس الحج سنة تسع ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو وأزواجه وعامة أصحابه

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ قادرون على الحج، غير مشتغلين بقتال ولا غيره ولم يحجوا، ثم حج - صلى الله عليه وسلم - هو وأزواجه وأصحابه كلهم سنة عشر حجة الوداع، قالوا: فتأخيره الحج المذكور إلى سنة عشر دليل على أن الحج ليس وجوبه على الفور بل على التراخي، قال المحب الطبري: وما يتكلف من عذر في حقه - صلى الله عليه وسلم - وإن كان خلاف الأصل والظاهر فهو معدوم في حقهم، ولو وجب عليهم على الفور لبينه لهم - صلى الله عليه وسلم -، لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز، والعذر بصد المشركين قد زال بالفتح سنة ثمان، وما قيل من أن التأخير كان لأن لا يرى منكرًا من حج المشركين وطواف العراة فلذلك دليل على الجواز، إذ لو لم يجز التأخير لما كان هذا عذرًا في إسقاط واجب تعين، ثم ينتقض بمن تخلف من الصحابة وليسوا بأفضل ممن بعثه، ومنها ما جاء في حديث أنس في قصة ضمام بن ثعلبة السعدي أخرجه مسلم في أول كتاب الإيمان، وروى البخاري أصله، وفيه ((زعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلاً، قال صدق)) وقدوم ضمام بن ثعلبة على النبي - صلى الله عليه وسلم - كان سنة خمس من الهجرة، قاله محمد بن حبيب وآخرون. وقد صرح في هذا الحديث بوجوب الحج فتأخيره - صلى الله عليه وسلم - الحج إلى عام عشر دليل على أنه على التراخي لا على الفور، ومنها أنه إن أخر الحج من سنة إلى أخرى أو إلى سنين ثم فعله فإنه يسمى مؤديًا لحج لا قاضيًا له بإجماع المسلمين، قالوا: ولو حرم التأخير لكان قضاء لا أداء. ومنها ما هو مقرر في أصول الشافعية وهو أن المختار عندهم أن الأمر المجرد عن القرائن لا يقتضي الفور، وإنما المقصود منه الامتثال المجرد فوجوب الفور يحتاج إلى دليل خاص زائد على مطلق الأمر، ومنها أنهم قاسوا الحج على الصلاة الفائتة، قالوا: فهّي على التراخي ويقاس الحج عليها بجامع أن كلاً منهما واجب ليس له وقت معين، ومنها أنهم قاسوه على قضاء رمضان في كونها على التراخي بجامع أن كليهما واجب ليس له وقت معين، قالوا: ولكن تثبتت آثار أن قضاء رمضان غاية زمنه مدة السنة، واحتج من ذهب إلى أنه على الفور بأدلة أيضًا، منها آيات من كتاب الله تعالى يفهم منها ذلك وهي على قسمين، قسم منها فيه الدلالة على وجوب المبادرة إلى امتثال أوامره جل وعلا، والثناء على من فعل ذلك. كقوله تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (3: 133) قوله تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأَرْضِ} (57: 21) الآية، فقوله: {وَسَارِعُواْ} و {سَابِقُوا} فيه الأمر بالمسارعة والمسابقة إلى مغفرته وجنته جل وعلا وذلك بالمبادرة والمسابقة إلى امتثال أوامره، ولا شك أن المسارعة والمسابقة كلتاهما على الفور لا التراخي. وكقوله: {فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ} (2: 148 - 5: 48) الآية. ويدخل فيه الاستباق إلى الامتثال، وصيغ الأمر في قوله: {وَسَارِعُواْ} وقوله: {سَابِقُوا} وقوله: {فَاسْتَبِقُواْ} تدل على الوجوب، لأن الصحيح المقرر في الأصول أن صيغة ((افعل)) إذا تجردت عن القرائن اقتضت الوجوب، وذلك بدل على أن قوله: {سَابِقُوا} وقوله: {وَسَارِعُواْ} يدل على وجوب المبادرة إلى امتثال أوامر الله فورًا. ومن الآيات التي فيها الثناء

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ على المبادرين إلى امتثال أوامر ربهم قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} (21: 90) الآية. وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} (23: 61) والقسم الثاني من الآيات يدل على توبيخ من لم يبادر وتخويفه من أن يدركه الموت قبل أن يتمثل لأنه قد يكون اقترب أجله وهو لا يدري، فقد أمر الله تعالى خلقه أن ينظروا في غرائب صنعه وعجائبه كخلقه السماوات والأرض ونحو ذلك في آيات من كتابه كقوله: {قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (10: 101) الآية. وقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} (50: 6) الآية. ثم ذكر في آية أخرى ما يدل على أن ذلك النظر مع لزومه يجب معه النظر في اقتراب الأجل، فقد يقرب أجله ويضيع عليه أجر الامتثال بمعاجلة الموت، وذلك في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} (7: 184) إذًا المعنى: أو لم ينتظروا في أنه عسى أن يكون قد اقترب أجلهم، فيضيع عليهم الأجر بعدم المبادرة قبل الموت. وفي الآية دليل واضح على أن الإنسان يجب عليه أن يبادر إلى امتثال الأمر، خشية أن يعالجه الموت قبل ذلك، ومنها أحاديث جاءت دالة على وجوب الحج على الفور كحديث ابن عباس (الذي نحن في شرحه) وهو حديث حسن وسيأتي تخريجه، وكحديث ابن عباس مرفوعًا: تعجلوا إلى الحج يعني الفريضة، فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له، أخرجه أحمد (ج1: ص314) بسند ضعيف ووجه الدلالة من هذين الحديثين على وجوب الحج على الفور ظاهر. وكحديث عكرمة عن الحجاج بن عمرو الأنصاري قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل. قال عكرمة: سألت ابن عباس وأبا هريرة عن ذلك فقالا: صدق. أخرجه أحمد، وأصحاب السنن، وابن خزيمة، والحاكم، والبيهقي. وسيأتي في باب الإحصار وفوت الحج. ومحل الشاهد من هذا الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وعليه الحج من قابل)) لأنه لو كان على التراخي لم يعين العام القابل، وهو دليل على أن الوجوب على الفور، ومن الأحاديث الدالة على ذلك أيضًا ما تقدم من حديث علي، وأبي أمامة وأبي هريرة، وعمر بن الخطاب، وقد سبق بيان وجه الدلالة من هذه الأحاديث في شرح حديث علي، ومنها أن الله أمر به وأن جماعة من أهل الأصول قالوا: إن الشرع واللغة والعقل كلها دال على اقتضاء الأمر الفور أما الشرع فقد قدمنا الآيات القرآنية الدالة على المبادرة فورًا لامتثال أوامر الله كقوله: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} الآية. وكقوله: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} الآية. وأما اللغة فإن أهل اللسان العربي مطبقون على أن السيد لو قال لعبده: اسقني ماء فلم يفعل فأدبه، فليس للعبد أن يقول له: صيغة افعل في قولك: ((اسقني ماء)) تدل على التراخي، وكنت سأمتثل بعد زمن متراخ عن الأمر، بل يقولون: إن الصيغة ألزمتك فورًا، ولكنك عصيت أمر سيدك بالتواني والترخي، وأما العقل فإنا لو قلنا: إن وجوب الحج على التراخي فلا يخلو من أحد أمرين: إما أن

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ يكون ذلك التراخي له غاية معينة ينتهي عندها وإما لا، والقسم الأول ممنوع، لأن الحج لم يعين له زمن يتحتم فيه دون غيره من الأزمنة، بل العمر كله تستوي أجزاؤه بالنسبة إليه، إن قلنا: إنه ليس على الفور، والحاصل أنه ليس لأحد تعيين غاية له لم يعينها الشرع. والقسم الثاني هو أن تراخيه ليس له غاية يقتضي عدم وجوبه، لأن ما جاز تركه جوازًا لم تعين له غاية ينتهي إليها فإن تركه جائز إلى غير غاية، وهذا يقتضي عدم وجوبه، والمفروض وجوبه. فإن قيل: غايته الوقت الذي يغلب على الظن بقاؤه إليه. فالجواب أن البقاء إلى زمن متأخر ليس لأحد أن يظنه، لأن الموت يأتي بغتة فكم من إنسان يظن أنه يبقى سنين فيخترمه الموت فجاءة، وقد قدمنا قوله تعالى في ذلك: {وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} ولا ينتهي إلى حالة يتقين الموت فيها إلا عند عجزه عن العبادات، ولاسيما العبادات الشاقة كالحج، والإنسان طويل الأمل يهرم ويشب أمله. وتحديد وجوبه بستين سنة تحديد لا دليل عليه، فهذه جملة أدلة القائلين بأن وجوب الحج على الفور، ومنعوا أدلة المخالفين، قالوا: إن قولكم إن الحج فرض سنة خمس بدليل قصة ضمام بن ثعلبة المتقدمة، فإن قدومه سنة خمس، وقد ذكر له النبي - صلى الله عليه وسلم - وجوب الحج، وأن قوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} الآية. نزلت عام ست في عمرة الحديبية، فدلت على أن الحج مفروض عام ست وأنه - صلى الله عليه وسلم - أخره بعد فرضه إلى عام عشر، كل ذلك مردود، بل الحج إنما فرض عام تسع، قالوا: والصحيح أن قدوم ضمام بن ثعلبة السعدي كان سنة تسع. وقال الحافظ في الإصابة في ترجمة ضمام بن ثعلبة المذكور ما نصه: وزعم الواقدي أن قدومه كان سنة خمس، وفيه نظر. وذكر ابن هشام عن أبي عبيد أن قدومه كان سنة تسع، وهذا عندي أرجح، إلخ. وانظر ترجيح الحافظ لكون قدومه عام تسع. وذكر ابن كثير قدوم ضمام المذكور في حوادث سنة تسع مع أنه ذكر قول من قال: إن قدومه كان قبل عام خمس، هذا وجه ردهم للاحتجاج بقصة ضمام، وأما وجه ردهم للاحتجاج بآية {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} فهو أنها لم يذكر فيها إلا وجوب الإتمام بعد الشروع، فلا دليل فيها على ابتداء الوجوب، وقد أجمع أهل العلم على من أحرم بحج أو عمرة وجب عليه الإتمام، ووجوب الإتمام بعد الشروع لا يستلزم ابتداء الوجوب. قال ابن القيم في زاد المعاد نصه: وأما قوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} فإنها وإن نزلت سنة ست عام الحديبية فليس فيها فريضة الحج، وإنما فيها الأمر بإتمامه العمرة بعد الشروع فيهما، وذلك لا يقتضي وجوب الابتداء. فإن قيل فمن أين لكم تأخر نزول فرضه إلى التاسعة أو العاشرة؟ قيل: لأن صدر سورة آل عمران نزل عام الوفود، وفيه قدم وفد نجران على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصالحهم على أداء الجزية، والجزية إنما نزلت عام تبوك سنة تسع، وفيها نزل صدر سورة آل عمران، وناظر أهل الكتاب ودعاهم إلى التوحيد والمباهلة، ويدل عليه أن أهل مكة وجدوا في نفوسهم على ما فاتهم من التجارة من المشركين لما أنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (9: 28) فأعاضهم الله تعالى من ذلك الجزية، ونزل هذه الآيات، والمناداة بها إنما كان عام تسع، وبعث الصديق رضي الله عنه بذلك في مكة في موسم الحج، وأردفه بعلي رضي الله عنه، وهذا الذي ذكرناه قد قاله غير واحد من السف والله أعلم - انتهى من زاد المعاد. فتحصل أن آية: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} لم تدل على وجوب الحج ابتداء، وإنما دلت على وجوب إتمامه بعد الشروع فيه كما هو ظاهر اللفظ، ولو كان يتعين كونه يدل على ابتداء الوجوب لما حصل خلاف بين أهل العلم في وجوب العمرة، والحلاف في وجوبها معروف وسيأتي إن شاء الله إيضاحه، بل الذي أجمعوا عليه وهو وجوب إتمامها بعد الشروع فيها، كما هو ظاهر الآية، وأن قصة ضمام بن ثعلبة كانت عام تسع كما رجحه الحافظ وغيره، فظهر سقوط الاستدلال بها وبالآية الكريمة، وأن الحج إنما فرض عام تسع كما أوضحه ابن القيم في كلامه المذكور آنفًا، لأن آية {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} هي الآية التي فرض بها الحج، وهي من صدر سورة آل عمران، وقد نزل عام الوفود وفيه وفد نجران، وصالحهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على أداء الجزية، والجزية إنما نزلت عام تبوك سنة تسع كما تقدم قريبًا، وعلى كون الحج إنما فرض عام تسع غير واحد من العلماء، وهو الصواب إن شاء الله تعالى. وبه تعلم أنه لا حجة في تأخير النبي - صلى الله عليه وسلم - الحج عام فتح مكة، لأنه انصراف من مكة والحج قريب ولم يحج، لأنه لم يفرض، فإن قيل: سلمنا تسليمًا جدليًا أن سبب تأخيره الحج عام فتح مكة مع تمكنه منه، وقدرته عليه أن الحج لم يكن مفروضًا في ذلك الوقت وقد اعترفتم بأن الحج فرض عام تسع، وهو - صلى الله عليه وسلم - لم يحج عام تسع، بل أخر حجه إلى عام عشر، وهذا يكفينا في الدلالة على أن وجوبه على التراخي، إذ لو كان على الفور لما أخره بعد فرضه إلى عام عشر فالجواب والله تعالى أعلم: أن عام تسع لم يتمكن فيه النبي وأصحابه من منع المشركين من الطواف بالبيت وهم عراة، وقد بين الله تعالى في كتابه أن منعهم من قربان المسجد الحرام إنما هو بعد ذلك العام الذي هو عام تسع، وذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} وعامهم هذا هو عام تسع، فدل على أنه لم يمكن منعهم عام تسع، ولذا أرسل عليًا رضي الله عنه بعد أبي بكر ينادي ببراءة، وأن لا يحج بعد العام مشرك ولا عريان، فلو بادر - صلى الله عليه وسلم - إلى الحج عام تسع لأدى ذلك إلى رؤيته المشركين يطوفون بالبيت وهم عراة، وهو لا يمكنه أن يحضر ذلك، ولاسيما في حجة الوداع التي يريد أن يبين للناس فيها مناسك حجهم، فأول وقت أمكنه فيه الحج صافيًا من الموانع والعوائق بعد وجوبه عام عشر، وقد بادر بالحج فيه. وأجابوا عن قولهم: ((إنه لو أخره من سنة إلى أخرى، أو إلى سنين، ثم فعله بعد ذلك فإنه يسمى مؤديًا لا قاضيًا بالإجماع، ولو حرم التأخير لكان قضاء)) بأن القضاء لا يكون إلا في العبادة المؤقتة بوقت معين، ثم خرج ذلك الوقت المعين لها كما هو مقرر في الأصول، والحج لم يؤقت بزمن معين، والعمر كله وقت له، وذلك لا ينافي وجوب بالمبادرة خوفًا من طرو العوائق أو نزول الموت قبل الأداء كما تقدم إيضاحه، وأجابوا عن قولهم: ((إن من تمكن

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ من أداء الحج ثم أخره ثم فعله لا ترد شهادته فيما بين فعله وتأخيره ولو كان التأخير حرامًا لردت شهادته لارتكابه ما لا يجوز)) بأنه ما كل من ارتكب ما لا يجوز ترد شهادته بل لا ترد إلى بما يؤدي إلى الفسق وهنا قد يمنع من الحكم بتفسيقه مراعاة الخلاف. وقول من قال: ((إنه لم يرتكب حرامًا)) وشبهت الأدلة التي أقاموها على ذلك وأجاب القائلون بالتراخي عن الاحتجاج بأن الأمر يقتضي الفور من وجهين: أحدهما: أن أكثر الشافعية قالوا: إن الأمر المطلق المجرد عن القرائن لا يقتضي الفور بل هو على التراخي، هذا هو المعروف في كتب الشافعية في الأصول، ونقله القاضي أبو الطيب في تعليقه في هذه المسألة عن أكثر الشافعية، والثاني: أنه يقتضي الفور، وهنا قرينة ودليل يصرفه إلى التراخي، وهو ما تقدم من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأكثر أصحابه أنهم أخروا الحج إلى عام عشر، وأما حديث ((من أراد الحج فليتعجل)) فجوابه من وجهين: أحدهما: أنه حجة لنا لأنه فوض فعله إلى إرادته واختياره، ولو كان على الفور لم يفوض تعجيله إلى اختياره. والثاني: أنه ندب جمعًا بين الروايتين. قال المحب الطبري: الأمر في حديث ابن عباس ((تعجلوا الحج)) وفي حديث أبي هريرة ((حجوا قبل أن لا تحجوا)) أخرجه الدارقطني، محمول على الندب، ويؤيد ذلك قوله: ((من أراد الحج فليتعجل)) فقوله: ((فليتعجل)) محمول على الندب لا محالة، ولا يجوز حمله على الوجوب لأن الخطاب لا يخلوا إما أن يكون لمن وجب عليه الحج أو لمن لم يجب عليه، فإن كان الثاني فظاهر ما ذكرناه، وإن كان الأول وهو الأظهر بدليل الحديث الآخر يعني الفريضة كان فيه دلالة على أن الخطاب الأول ما اقتضى الفورية، وإلا لزم التكرار لا لفائدة مع قبحه من حيث ربطه بالإرادة، فإن من قال لعبده: افعل كذا الساعة على وجه الإلزام، ثم قال: إن أردت أن تفعل كذا فافعله الساعة. عد هذا مناقضًا للأول وكل من قال إنه على التراخي حمل هذا على الاستحباب ولا يلزم على ذلك تناقض، فإن من قال لعبده: افعل كذا في جميع النهار. ثم قال: إن أردت فعل هذا الواجب عليك على وجه الأولوية فافعله الساعة. كان هذا الكلام جاريًا على نهج الاستقامة ولا يعد مناقضًا للأول، فكان حمل الكلام الفصيح عليه أولى – انتهى. قالوا: وأما الجواب عن حديث ((فليمت إن شاء يهوديًا)) فمن أوجه: أحدها: أنه ضعيف، والثاني: أن الذم لمن أخره إلى الموت. ونحن نوافق على تحريم تأخيره إلى الموت، والذي نقول بجوازه هو التأخير بحيث يفعل قبل الموت. الثالث: أنه محمول على من تركه معتقدًا عدم وجوبه مع الاستطاعة فهذا كافر، ويؤيد هذا التأويل أنه قال: ((فليمت إن شاء يهوديًا أو نصرانيًا)) وظاهره أنه يموت كافر ولا يكون ذلك إلا إذا اعتقد عدم وجوبه مع الاستدامة، وإلا فقد أجمعت الأمة على أن من تمكن من الحج فلم يحج ومات لا يحكم بكفره بل هو عاص، فوجب تأويل الحديث لو صح، هكذا ذكر الشنقيطي في أضواء البيان أدلة الفريقين وأجوبتهم. والراحج عندنا هو ما ذهب إليه أحمد ومن وافقه لقوة أدلته، قال الشنقيطي: أظهر القولين عندي وألقيهما بعظمة خالق السماوات والأرض وهو أن وجوب أوامره جل وعلى كالحج على الفور على التراخي لما قدمنا من النصوص الدالة على الأمر بالمبادرة، وللخوف من مباغتة الموت كقوله: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} الآية، وما قدمنا معها من الآيات،

رواه أبو داود، والدارمي. 2548- (20) وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب ـــــــــــــــــــــــــــــ وكقوله: {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} ولما قدمنا من أن الشرع واللغة والعقل كلها يدل على أن أوامر الله تجب على الفور، وقد بينا أوجه الجواب عن كونه - صلى الله عليه وسلم - لم يحج حجة الإسلام إلا سنة عشر، والعلم عند الله تعالى. (رواه أبو داود، والدارمي) ، وأخرجه أيضًا أحمد (ج1: ص225) ، والحاكم (ج1: ص448) ، والبيهقي (ج4: ص339، 340) ، والدولابي في الكنى (ج2: ص12) كلهم من طريق أبي معاوية عن الحسن بن عمرو الفقيمي عن مهران أبي صفوان عن ابن عباس، وهذا إسناد جيد قد سكت عنه أبو داود. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وأخرج أيضًا أحمد (ج1: ص214: 323، 355) ، وابن ماجة، والطحاوي، والبيهقي (ج4: ص340) من طريق أبي إسرائيل الملائي عن فضيل بن عمرو عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس أو عن الفضل بن عباس أو عن أحدهما عن صاحبه بلفظ: ((من أراد أن يحج فليتعجل فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض الحاجة)) وفي رواية لأحمد (ج1: ص314) عن ابن عباس: ((تعجلوا إلى الحج يعني الفريضة، فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له)) وهذا إسناد ضعيف لضعف أبي إسرائيل الملائي، وهو إسماعيل الكوفي، وللتردد بين ابن عباس وأخيه الفضل، فإن سعيد بن جبير سمع عبد الله بن عباس، ولكنه لم يدرك الفضل. 2548- قوله (تابعوا بين الحج والعمرة) أي أوقعوا المتابعة بينهما بأن تجعلوا كلاً منهما تابعًا للآخر. قال السندي: أي اجعلوا أحدهما تابعًا للآخر واقعًا على عقبه، أي إذا حججتم فاعتمروا، وإذا اعتمرتم فحجوا فإنهما متتابعان. وقال الحفني: أي ائتوا بهما متتابعين من غير طول فصل جدًا، وليس المراد بالمتابعة تعاقبهما من غير فاصل بل المراد كون الثاني بعد الأول بدون فاصل كبير بحيث ينسب للأول عرفًا، وقال المحب الطبري: يجوز أن يراد به التتابع المشار إليه في قوله تعالى: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} (4: 92 - 58: 4) فيأتي بكل واحد من النسكين عقيب الآخر بحيث لا يتخلل بينهما زمان يصح إيقاع الثاني فيه يعني يأتي بكل منهما عقب الآخر بلا فصل، وهو الظاهر من لفظ المتابعة، ويحتمل أن يراد به إتباع أحدهما الآخر ولو تخلل بينهما زمان بحيث يظهر مع ذلك الاهتمام بهما، ويطلق عليه عرفًا أنه ردفه وتبعه وهذا الاحتمال أظهر إذ القصد الاهتمام بهما وعدم الإهمال وذلك يحصل بما ذكرناه وسواء تقدمت العمرة أو تأخرت لأن اللفظ يصدق على الحالين - انتهى. (فإنهما) أي الحج والاعتمار (ينفيان) أي كل منهما (الفقر) أي يزيلانه وهو يحتمل الفقر الظاهر بحصول غنى اليد والفقر الباطن بحصول غنى القلب (والذنوب) أي يمحوانها، وفي

كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة. رواه الترمذي، والنسائي. 2549- (21) ورواه أحمد، وابن ماجة عن عمر إلى قوله: ((خبث الحديد)) . ـــــــــــــــــــــــــــــ حديث عامر بن ربيعة عند أحمد (ج3: ص446) ((فإن متابعة بينهما تنفي الفقر والذنوب)) وفي أخرى له (ج3: ص447) وللطبراني في الكبير ((فإن متابعة بينهما تزيد في العمر والرزق وتنفيان الفقر والذنوب)) وحديث عامر يدل على أن الله تعالى أعلم نبيه بأنه يترتب على تتابعهما ذلك لأمر علمه الشارع فذلك خصوصية للتتابع لا تحصل بدونه، قيل المراد بالذنوب الصغائر ولكن يأباه قوله: (كما ينفي الكِير) بكسر الكاف وهو ما ينفخ فيه الحداد من الزق لاشتعال النار للتصفية، وأما الموضع الذي يوقد فيه الفحم من حانوت الحداد فهو الكُور، بضم الكاف، وقيل: بالعكس، وقيل: لا فرق بينهما (خبث الحديد والذهب والفضة) أي وسخها، والخبث: بفتحتين الوسخ والردئ الخبيث، مثل متابعتهما في إزالة الذنوب بإزالة النار الخبث، لأن الإنسان مركوز في جبلته القوة الشهوية والغضبية محتاج لرياضة تزيلها والحج جامع لأنواع الرياضات من إنفاق المال وجهد النفس بالجوع والظمأ والسهر واقتحام المهالك ومفارقة الوطن ومهاجرة الإخوان والخلان وغير ذلك. والحديث قد استدل به على وجوب العمرة فإن ظاهره التسوية بين أصل الحج والعمرة، وفيه أن هذا استدلال بمجرد الاقتران، ومجرد اقتران العمرة بالحج لا يكون دليلاً على وجوبها لما تقرر في الأصول من ضعف دلالة الاقتران لاسيما وقد عارضها ما ورد من الأدلة القاضية بعدم الوجوب وأما الأمر بالمتابعة فهو مصروف عن معناه الحقيقي بما سلف، وسيأتي الكلام في هذه المسألة في شرح حديث أبي رزين العقيلي (وليس للحجة المبرورة) قيل: المراد بها الحج المقبول المقابل بالبر وهو الثواب ومن علامات القبول أن يرجع خيرًا مما كان ولا يعاود المعاصي. وقيل: هي التي لا يخالطها شيء من الإثم، مأخوذ من البر وهو الطاعة، ورجحه النووي. وقيل: هي التي لا رياء فيها وقيل: هي التي لا يعقبها معصية، وهما داخلان فيما قبلهما وقال القرطبي: الأقوال في تفسير الحج المبرور متقاربة المعنى وحاصلها أنه الحج الذي وفيت أحكامه فوقع موافقًا لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل (ثواب إلا الجنة) بالرفع والنصب أي لا يقتصر لصاحبها من الجزاء على تكفير ذنوبه بل لا بد أن يدخل الجنة مع السابقين، وقوله: ((إلا الجنة)) هو للترمذي فقط، وفي السنن للنسائي: ((دون الجنة)) وكذا وقع في المسند وصحيح ابن حبان كما في الموارد (رواه الترمذي) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب (والنسائي) وأخرجه أيضًا أحمد (ج1: ص387) ، وابن خزيمة، وابن حبان في صحيحيهما. 2549- قوله: (رواه أحمد) (ج1: ص25، وج3: ص447) (وابن ماجة عن عمر) إلخ، وأخرجه أيضًا

2550- (22) وعن ابن عمر قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! ما يوجب الحج؟ قال: الزاد والراحلة. ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن أبي خثيمة في تاريخه، وابن الجوزي في مثير الغرام الساكن، وهو: حديث ضعيف، لأن مداره على عاصم بن عبيد الله وهو ضعيف لكن المتن صحيح من حديث عبد الله بن مسعود، وفي الباب عن عامر بن ربيعة، أخرجه أحمد، والطبراني في الكبير، وفيه أيضًا عاصم بن عبيد الله، وعن ابن عمر عند الطبراني في الكبير، والدارقطني في الأفراد، ورمز السيوطي لضعفه، وقال الهيثمي بعد عزوه للطبراني: وفيه حجاج بن نصير، وثقه ابن حبان وغيره، وضعفه النسائي وغيره، وعن جابر عند البزار، وعن ابن عباس عند الطبراني في الأوسط، ذكرهما الهيثمي مع الكلام فيهما. 2550- قوله: (ما يوجب الحج؟) أي: ما شرط وجوب الحج؟ (قال: الزاد والراحلة) يعني أن الحج واجب على من وجدهما ذهابًا وإيابًا. واقتصر من بين سائر الشروط عليه لأنه الأصل والأهم المقدم قاله القاري. اعلم: أن الحج إنما يجب بخمس شروط: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والحرية، والاستطاعة، ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم، فأما الكافر فإنه غير مخاطب بفروع الدين خطابًا يلزمه أداء ولا يوجب قضاء، وأما الصبي والمجنون فليسا بمكلفين بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يشب، وعن المعتوه حتى يعقل. رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وقال الترمذي: حديث حسن. وأما العبد فلا يجب عليه لأنه عبادة تطول مدتها وتتعلق بقطع مسافة وتشترط لها الاستطاعة بالزاد والراحلة فتضيع حقوق سيده المتعلقة به فلم يجب عليه كالجهاد، ولما روى ابن عباس مرفوعًا: أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة الإسلام، وأيما عبد حج ثم عتق فعليه حجة الإسلام. أخرجه ابن خزيمة، والإسماعيلي في مسند الأعمش، والحاكم، والبيهقي، وابن حزم وصححه. والخطيب في التاريخ. رواه بعضهم موقوفًا على ابن عباس ولا يضر ذلك فإن رواية المرفوع قوية، فالحديث لا يقل عن درجة الاحتجاج. ووجه الدلالة منه على أن الحرية شرط في وجوب الحج أنه لو حج وهو مملوك ثم أعتق بعد ذلك لزمته حجة الإسلام، فلو كان واجبًا عليه في حال كونه مملوكًا أجزأه عن حجة الإسلام كما هو ظاهر وأما غير المستطيع فإنه لا يجب عليه لقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (2: 286) وقال سبحانه وتعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} فخص المستطيع بالوجوب فيدل على نفيه عن غيره. قال ابن قدامة: وهذه الشروط الخمسة تنقسم أقسامًا ثلاثة منها: ما هو شرط للوجوب والصحة وهو: الإسلام، والعقل. فلم يجب على كافر ولا مجنون ولا تصح منهما، لأنهما ليسا من أهل العبادات، ومنها: ما هو شرط للوجوب والإجزاء. وهو: البلوغ، والحرية. وليس بشرط للصحة فلو حج الصبي والعبد صح حجهما ولم يجزئهما عن حجة الإسلام، ومنها: ما هو شرط للوجوب فقط وهو الاستطاعة، فلو تجشم غير المستطيع المشقة وسار بغير زاد وراحلة فحج كان حجه صحيحًا مجزئًا، كما لو تكلف القيام في الصلاة والصيام من يسقط

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ عنه أجزأه. قال: واختلفت الرواية أي عن أحمد في شرطين وهما تخلية الطريق وهو: أن لا يكون في الطريق مانع من: عدو ونحوه وإمكان المسير، وهو: أن تكمل فيه هذه الشرائط والوقت متسع يمكنه الخروج إليه، فروى أنهما من شرائط الوجوب فلا يجب الحج بدونهما، لأن الله تعالى إنما فرض الحج على المستطيع وهذا غير مستطيع، ولأن هذا يتعذر معه فعل الحج فكان شرطًا كالزاد والراحلة، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي، وروى أنهما ليسا من شرائط الوجوب وإنما يشترطان للزوم السعي فلو كملت هذه الشروط الخمسة ثم مات قبل وجود هذين الشرطين حج عنه بعد موته، وإن أعسر قبل وجودهما بقى في ذمته وهذا ظاهر كلام الخرقي فإنه لم يذكرهما، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئل ما يوجب الحج؟ قال: الزاد والراحلة. قال الترمذي: هذا حديث حسن - انتهى. وقال الشنقيطي بعد ذكر الشرائط الخمسة: أما العقل فكونه شرطًا في وجوب كل تكليف واضح لأن غير العاقل لا يصح تكليفه بحال، وأما اشتراط البلوغ فواضح، لأن الصبي مرفوع عنه القلم حتى يحتلم، فالبلوغ والعقل كلاهما شرط وجوب، وأما الإسلام فالظاهر أنه على القول بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة فهو شرط صحة لا شرط وجوب، وعلى أنهم غير مخاطبين بها فهو شرط وجوب، والأصح خطاب الكفار بفروع الشريعة كما أوضحنا أدلته في غير هذا الموضع فيكون الإسلام شرط صحة في حقهم، ومعلوم أنه على أنه شرط وجوب فهو شرط صحة أيضًا، لأن بعض شرط الوجوب يكون شرطًا في الصحة أيضًا، كالوقت للصلاة، فإنه شرط لوجوبها وصحتها أيضًا، وقد يكون شرط الوجوب ليس شرطًا في الصحة كالبلوغ والحرية، فإن الصبي لا يجب عليه الحج مع أنه يصح منه لو فعله، وكذلك العبد إلا أنه لا يجزئ عن حجة الإسلام إلا إذا كان بعد البلوغ وبعد الحرية، وأما الحرية فهي شرط وجوب فلا يجب الحج على العبد، واستدل العلماء على عدم وجوب الحج على العبد بأمرين: الأول إجماع أهل العلم على ذلك ولكنه إذا حج صح حجه ولم يجزئه عن حجة الإسلام فإن عتق بعد ذلك فعليه حجة الإسلام، قال النووي في شرح المهذب: أجمعت الأمة على أن العبد لا يلزمه الحج لأن منافعه مستحقة لسيده، فليس هو مستطيعًا ويصح منه الحج بإذن سيده وبغير إذنه بلا خلاف عندنا. قال القاضي أبو الطيب: وبه قال الفقهاء: كافة. وقال داود: لا يصح بغير إذنه. والأمر الثاني حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة الإسلام، وأيما عبد حج ثم عتق فعليه حجة الإسلام، ثم ذكر تخريجه عن التلخيص للحافظ وبسط الكلام في تقويته ثم قال: وأما الاستطاعة فقد نص تعالى على اشتراطها في قوله: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} ومعنى الاستطاعة في اللغة العربية معروف، وتفسير الاستطاعة في الآية اختلف فيه العلماء فالاستطاعة في مشهور مذهب مالك الذي به الفتوى هي إمكان الوصول بلا مشقة عظيمة زائدة على مشقة السفر العادية مع الأمن على النفس والمال ولا يشترط عندهم الزاد والراحلة، بل يجب الحج عندهم على القادر على المشي إن كانت له صنعة يحصل منها قوته في الطريق: كالجمال، والخراز، والنجار، ومن أشبههم.

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ واشترط بعض المالكية في الصنعة المذكورة أن لا تكون مرزية به. واعلم أن المالكية اختلفوا في الفقير الذي عادته سؤال الناس في بلده وعادة الناس إعطاؤه، وذلك السؤال هو الذي منه عيشته إذا علم أنه إن خرج حاجًا وسأل أعطاه الناس ما يعيش به كما كانوا يعطونه في بلده، هل سؤاله الناس وإعطاؤهم إياه يكون بسببه مستطيعًا لقدرته على الزاد بذلك فيجب عليه الحج بذلك أو لا يجب عليه بذلك؟ فذهب بعضهم إلى أن ذلك لا يجب عليه به الحج ولا يعد استطاعة، وذهب أكثر المالكية إلى أن الفقير الذي عادته السؤال في بلده وعادة الناس إعطاؤه إذا كانت عادتهم إعطاؤه في سفر الحج كما كانوا يعطونه في بلده أنه يعد بذلك مستطيعًا، وأن تحصيله زاده بذلك السؤال يعد استطاعة. قال الشنقيطي: والذي يظهر لي رجحانه بالدليل من هذين القولين في هذه المسألة هو: القول الأول، وهو أن الحج لا يجب على من يعيش في طريقه بتكفف الناس، وأن سؤال الناس لا يعد استطاعة. ومن الأدلة الدالة على ذلك عموم قوله جل وعلا: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ} (9: 92) الآية. وقد قدمنا مرارًا أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب فقد صرح تعالى في هذه الآية برفع الحرج عن الذين لا يجدون ما ينفقون، ولا شك أن الذي يتكفف الناس لشدة فقره داخل في عموم {الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ} وقد صرح تعالى بنفي الحرج عنهم، فيلزم من ذلك نفي الحرج عنه في وجوب الحج وهو واضح، ولكن كثيرًا من متأخري علماء المالكية خصصوا هذه الآية بمن ليس عادته السؤال في بلده قالوا: فلم تتناول محل النزاع. قال الشنقيطي: ظاهر الآية العموم في جميع {الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ} ، فتخصيصها بمن ليس عادته السؤال بدون دليل من كتاب أو سنة لا يصح ولا يعول عليه، وقد تقرر في الأصول أنه لا يمكن تخصيص العام إلا بدليل يجب الرجوع إليه سواء كان من المخصصات المتصلة أو المنفصلة، ومما يؤيد هذا في الجملة ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس. قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا المدينة سألوا الناس، فأنزل الله تعالى: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (2: 197) قال الحافظ في الفتح في الكلام على هذا الحديث: قال المهلب: في هذا الحديث من الفقه أن ترك السؤال من التقوى، ويؤيده أن الله مدح من لم يسأل الناس إلحافًا، فإن قوله: {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} أي: تزودوا واتقوا أذى الناس بسؤالكم إياهم والإثم في ذلك - انتهى. قال الشنقيطي: وفيه دليل ظاهر على حرمة خروج الإنسان حاجًا بِلا زاد ليسأل الناس، وظاهرها العموم في كل حاج يسأل الناس فقيرًا كان أو غنيًا كانت عادته السؤال في بلده أولاً وحمل النصوص على ظواهرها يجب إلا بدليل يجب الرجوع إليه، ومما يؤيد هذا أن الذين مدحهم الله في كتابه بتركهم سؤال الناس كانوا من أفقر الفقراء كما هو معلوم، وقد صرح تعالى بأنهم فقراء وأشار لشدة فقرهم وذلك في قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ} (أي بظهور آثار الفقر والحاجة عليهم) {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} (2: 273) الآية. فصرح بأنهم فقراء، وأثنى عليهم بالتعفف وعدم السؤال. قال: فالآية الكريمة

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ تدل بمنطوقها على الثناء على الفقير الصابر المتعفف عن مسألة الناس وتدل بمفهومها على ذم سؤال الناس، والأحاديث الواردة في ذم السؤال مطلقًا كثيرة جدًا، وبذلك كله تعلم أن سؤال الناس ليس استطاعة على ركن من أركان الإسلام وأن قول بعض المالكية ((أنه لا يعد استطاعة)) هو الصواب، وهو قول جمهور أهل العلم، وممن ذهب إليه الشافعي وأحمد وأبو حنيفة، ونقله ابن المنذر عن الحسن البصري، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وأحمد، وإسحاق، وبه قال بعض أصحاب مالك. قال البغوي: وهو قول العلماء - انتهى. والاستطاعة عند أبي حنيفة الزاد والراحلة. فلو كان يقدر على المشي وعادته سؤال الناس لم يجب عليه الحج عنده، وحاصل مذهب الحنيفة أن مقدار ما يتعلق به وجوب الحج ملك مال يبلغه إلى مكة ذاهبًا وراجعًا، راكبًا في جميع السفر لا ماشيًا بنفقة متوسطة، فاضلاً عن: مسكنه، وخادمه، وفرسه، وسلاحه، وآلات حرفته، وثيابه، وأثاثه، ونفقة من عليه نفقته، وكسوته، وقضاء ديونه ولو مؤجلة إلى حين عوده. ولا يشترط نفقة لما بعد إيابه لا سنة ولا شهرًا ولا يومًا. والاستطاعة في مذهب الشافعي: الزاد والراحلة بشرط أن يجدهما بثمن المثل، فإن لم يجدهما إلا بأكثر من ثمن المثل سقط عنه وجوب الحج، ويشترط عند الشافعية في الزاد ما يكفيه لذهابه ورجوعه فاضلاً عما يحتاج إليه لنفقة من تلزمه نفقتهم وكسوتهم مدة ذهابه ورجوعه وفاضلاً عن مسكن وخادم يحتاج إليهما وعن قضاء دين يكون عليه حالاً كان أو مؤجلاً. ويشترط عندهم أيضًا أن يكون صحيحًا لا مريضًا، ولا ينبغي أن يختلف في أن المرض القوي الذي يشق معه السفر مشقة فاضحة مسقط لوجوب الحج. ويشترط عندهم أيضًا أن يكون الطريق آمنًا من غير خفارة، والخفارة مثلثة الخاء: هي المال الذي يؤخذ على الحاج، ويشترط عندهم أيضًا أن يكون عليه من الوقت ما يتمكن فيه من السير والأداء، فإن كان بينه وبين مكة مسافة تقصر فيها الصلاة وكان قادرًا على المشي على رجليه ولم يجد راحلة أو وجدها بأكثر من ثمن المثل أو أجرة المثل لم يجب عليه الحج عندهم، ولا يعد قدرته على المشي استطاعة عندهم لحديث: الزاد والراحلة في تفسير الاستطاعة، وإن لم يجد ما يصرفه في الزاد والماء ولكنه كسوب ذو صنعة يكتسب بصنعته ما يكفيه ففي ذلك عندهم تفصيل، وهو أنه إن كان لا يكتسب في اليوم إلا كفاية يوم واحد لم يجب عليه الحج، لأنه ينقطع عن الكسب في أيام الحج، وإن كان يكتسب في اليوم كفاية أيام لزمه الحج. وقال إمام الحرمين: وفيه احتمال يعني أنه يحتمل عدم وجوب الحج بذلك مطلقًا، فإن القدرة على الكسب يوم العيد لا تجعل كملك الصاع في وجوب الفطرة. والاستطاعة عند أحمد هي الزاد والراحلة. قال ابن قدامة في المغني: والاستطاعة المشترطة ملك الزاد والراحلة وبه قال الحسن، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والشافعي، وإسحاق. قال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم. وقال عكرمة: هي الصحة. قال ابن قدامة: ويختص اشتراط الراحلة بالبعيد الذي بينه وبين البيت مسافة القصر، فأما القريب الذي يمكنه المشي إلى مكة وبينه وبينها مسافة دون القصر فلا يعتبر وجود الراحلة في حقه لأنها مسافة قريبة يمكنه المشي إليها فلزمه، وإن كان ممن لا يمكنه المشي (كشيخ كبير) اعتبر وجود الحمولة في حقه لأنه عاجز

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ عن المشي فهو كالبعيد، وأما الزاد فلا بد منه، قربت المسافة أو بعدت مع الحاجة إليه. فإن لم يجد زادًا ولا قدر على كسبه لم يلزمه الحج. والزاد الذي تشترط القدرة عليه هو ما يحتاج إليه في ذهابه ورجوعه من مأكول ومشروب وكسوة، إلى أن قال: وأما الراحلة فيشترط أن يجد راحلة تصلح لمثله إما بشراء أو كراء لذهابه ورجوعه. وإن كان ممن لا يقدر على خدمة نفسه والقيام بأمره اعتبرت القدرة على من يخدمه لأنه من سبيله، ويعتبر أن يكون هذا فاضلاً عما يحتاج إليه لنفقة عياله الذين تلزمه مئونتهم في مضيه ورجوعه، لأن النفقة متعلقة بحقوق الآدميين وهم أحوج وحقهم آكد، وقد روى عبد لله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت. رواه أبو داود، ويعتبر أن يكون فاضلاً عما يحتاج هو وأهله إليه من مسكن وخادم، وما لا بد منه، وأن يكون فاضلاً عن قضاء دينه، لأن قضاء الدين من حوائجه الأصلية ويتعلق به حقوق الآدميين فهو آكد، وسواء كان الدين لآدمي معين أو من حقوق الله تعالى - كزكاة في ذمته أو كفارات ونحوها - وهل يعتبر في الاستطاعة أن يكون له إذا رجع من حجه ما يقوم بكفايته وكفاية عياله على الدوام أولاً يعتبر ذلك؟ بل يكفي لوجوب الحج أن يكون عنده من النفقة ما يقوم بكفايته وكفاية عياله على الدوام أو لا يعتبر ذلك؟ بل يكفي لوجوب الحج أن يكون عنده من النفقة ما يقوم بكفايته وكفاية عياله مدة ذهابه للحج ورجوعه فقط وفاقًا: للحنفية، والمالكية، والشافعية. وهما روايتان عند الحنابلة، والمقدم عندهم اعتبارًا هي الرواية الأولى يعني: أن يكون فاضلاً عن مئونته ومؤنت عياله على الدوام حتى بعد رجوعه من عقار أو بضاعة يتجر فيها أو صناعة ونحوها. وقال ابن جاسر في مفيد الأنام: والرواية الثانية أقرب إلى الصواب إن شاء الله تعالى، لأن القول بأن الإنسان لا يكون مستطيعًا للحج إلا إذا كان عنده من النفقة بعد رجوعه من الحج ما يكفيه ويكفي عياله على الدوام أي دوام حياته يقضي بأن لا يكون غالب الأغنياء مستطيعين للحج لأنه قل من يثق من الأغنياء أن عنده من المال ما يكفيه ويكفي عياله على الدوام، هذا ما ظهر لي والله أعلم. قال ابن قدامة: ومن له عقار يحتاج إليه لسكناه أو سكنى عياله أو يحتاج إلى أجرته لنفقة نفسه أو عياله، أو بضاعة متى نقصها اختل ربحها فلم يكفيهم، أو سائمة يحتاجون إليها لم يلزمه الحج، وإن كان من ذلك شيء فاضل عن حاجته وأمكنه بيعه وشراء ما يكفيه ويفضل قدر ما يحج به لزمه، وإن كانت له كتب يحتاج إليها لم يلزمه بيعها في الحج، وإن كانت مما لا يحتاج إليها أو كان له بكتاب نسختان يستغني بأحدهما باع ما لا يحتاج إليه، فإن كان له دين على ملئ باذل له يكفيه للحج لزمه لأنه قادر، وإن كان على معسر أو تعذر استيفاؤه عليه لم يلزمه – انتهى. وإذا علمت أقوال أهل العلم ففي معنى الاستطاعة المذكورة في قوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} وعرفت مذاهبهم في ذلك فاعلم أن الأكثرين الذين فسروا الاستطاعة بالزاد والراحلة احتجوا لذلك بما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من تفسير الاستطاعة في الآية بالزاد والراحلة، وقد روى عنه ذلك غير واحد من الصحابة، منهم ابن عمر رضي الله عنه، أخرج حديثه الترمذي وغيره وهو الذي نحن في شرحه، وهو حديث ضعيف كما ستعرف، ومنهم ابن عباس رواه عنه ابن ماجة والدارقطني، وهو حديث صالح للاحتجاج، ومنهم أنس روى حديثه

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحاكم والدارقطني، وهو حديث صحيح، صححه الحاكم، وأقره الذهبي. ومنهم عائشة، رواه الدارقطني، والبيهقي في السنن، والعقيلي في الضعفاء وأعله بعتاب بن أعين. ومنهم علي بن أبي طالب، وجابر، وابن مسعود، وعبد الله بن عمرو بن العاص، أخرج أحاديثهم الدارقطني أيضًا، وكلها ضعيفة ورواه سعيد بن منصور في سننه والبيهقي عن الحسن مرسلاً وسنده صحيح، ومن شاء الوقوف على تفصيل الكلام في هذه الأحاديث رجع إلى ((أضواء البيان)) للشنقيطي فإنه قد بسط الكلام فيها أخذًا عن ((نصب الراية)) وغيره. ثم قال: قال غير واحد: إن هذا الحديث لا يثبت مسندًا وأنه ليس له طريق صحيحة إلا الطريق التي أرسلها الحسن. قال الشنقطي: والذي يظهر لي - والله أعلم - أن حديث الزاد والراحلة المذكور ثابت لا يقل عند درجة الاحتجاج لأن الطريقين اللتين أخرجهما به الحاكم في المستدرك عن أنس قال: كلتاهما صحيحة الإسناد، وأقر تصحيحهما الحافظ الذهبي ولم يتعقبه بشيء، والدعوى على سعيد بن أبي عروبة، وحماد بن سلمة في روايتهما الحديث عن قتادة عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها غلط، وأن الصحيح عن قتادة عن الحسن مرسلاً دعوى لا مستند لها، بل هي تغليط وتوهيم للعدول المشهورين من غير استناد إلى دليل، والصحيح عند المحققين من الأصوليين والمحدثين أن الحديث إذا جاء من طريق صحيحة وجاء من طرق أخرى غير صحيحة فلا تكون الطرق علة في الصحيحة إذا كان رواتها لم يخالفوا جميع الحفاظ، بل انفراد الثقة العدل بما لم يخالف فيه غيره مقبول عند المحققين، فرواية سعيد بن أبي عروبة، وحماد بن سلمة الحديث المذكورة عن قتادة عن أنس مرفوعًا لم يخالفوا فيها غيرهم بل حفظوا ما لم يحفظه غيرهم، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ فادعاء الغلط عليهما بلا دليل غلط. وقول النووي في شرح المهذب: وروى الحاكم حديث أنس وقال: هو صحيح، ولكن الحاكم متساهل، والله أعلم - يجاب عنه: بأنا لو سلمنا أن الحاكم متساهل في التصحيح، لا يلزم من ذلك أنه لا يقبل له تصحيح مطلقًا، ورب تصحيح للحاكم مطابق للواقع في نفس الأمر، وتصحيحه لحديث أنس المذكور لم يتساهل فيه، ولذا لم يبد النووي وجهًا لتساهله فيه، ولم يتكلم في أحد من رواته بل هو تصحيح مطابق. فإن قيل: متابعة حماد بن سلمة لسعيد بن أبي عروبة المذكورة راويها عن حماد هو أبو قتادة عبد الله بن واقد الحراني وهو متروك لا يحتج بحديثه، كما جزم به غير واحد من العلماء بالرجال، وقال فيه ابن حجر في التقريب: متروك فقد تساهل الحاكم في قوله: إن هذه الطريق على شرط مسلم مع أن في إسنادها أبا قتادة المذكور. فالجواب أن أبا قتادة المذكور وإن ضعفه الأكثرون فقد وثقه الإمام أحمد وأثنى عليه وناهيك بتوثيق الإمام أحمد وثنائه، وذكر ابن حجر والذهبي أن عبد الله بن أحمد قال لأبيه: إن يعقوب بن إسماعيل بن صبيح ذكر أن أبا قتادة المذكور كان يكذب، فعظم ذلك عنده جدًا وأثنى عليه، وقال: إنه يتحرى الصدق. قال: ولقد رأيته يشبه أصحاب الحديث. وقال أحمد في موضع آخر: ما به بأس، رجل صالح، يشبه أهل النسك ربما أخطأ. وفي

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ إحدى الروايتين عن ابن معين أنه قال: أبو قتادة الحراني ثقة، ذكرها عنه ابن حجر والذهبي. وقول من قال: لعله كبر فاختلط، تخمين وظن لا يثبت به اختلاطه، ومعلوم أن المقرر في الأصول وعلوم الحديث: أن الصحيح أن التعديل يقبل مجملاً، والتجريح لا يقبل إلا مفصلاً، مع أن رواية سعيد بن أبي عروبة عن أنس ليس في أحد من رواتها كلام. ومما يؤيد ذلك موافقة الحافظ النقادة الذهبي للحاكم على تصحيح متابعة حماد، مع أن حديث أنس الصحيح المذكور معتضد بمرسل الحسن، ولاسيما على قول من يقول: إن مراسيله صحاح إذا روتها عنه الثقات كابن المديني وغيره، ويؤيد ذلك أن مشهور مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد الاحتجاج بالمراسيل ويؤيده أيضًا الأحاديث المتعددة التي ذكرنا، وإن كانت ضعافًا لأنها تقوي غيرها ولاسيما حديث ابن عباس، فإنا قد ذكرنا سنده وبينا أنه لا يقل عن درجة الاحتجاج. وقال الشوكاني في نيل الأوطار: ولا يخفى أن هذه الطرق يقوي بعضها بعضًا فتصلح للاحتجاج ومما يؤيد الحديث المذكور أن أكثر أهل العلم على العمل به كما قدمنا عن أبي عيسى الترمذي أنه قال في حديث ((الزاد والراحلة)) : والعمل عليه عند أهل العلم، وقد بينا أنه قول الأكثرين منهم الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة والشافعي وأحمد، فالحاصل أن حديث الزاد والراحلة لا يقل بمجموع طرقه عن درجة القبول والاحتجاج. ثم قال الشنقيطي: الذي يظهر لي - والله أعلم - أن حديث الزاد والراحلة وإن كان صالحًا لاحتجاج لا يلزم منه أن القادر على المشي على رجليه بدون مشقة فادحة لا يلزمه الحج إن كان عاجزًا عن تحصيل الراحلة، بل يلزمه الحج لأنه لا يستطيع إليه سبيلاً كما أن صاحب الصنعة التي يحصل منه قوته في سفر الحج يحب عليه الحج، لأن قدرته على تحصيل الزاد في طريقه كتحصيله بالفعل فإن قيل: كيف قلتم بوجوبه على القادر على المشي على رجليه دون الراحلة مع اعترافكم بقبول تفسير النبي - صلى الله عليه وسلم - ((السبيل)) بالزاد والراحلة؟ وذلك يدل على أن المشي على الرجلين ليس من السبيل المذكور في الآية فالجواب من وجهين الأول: أن الظاهر المتبادر أنه - صلى الله عليه وسلم - فسر الآية بأغلب حالات الاستطاعة، لأن الغالب أن أكثر الحجاج آفاقيون قادمون من بلاد بعيدة، والغالب عجز الإنسان عن المشي على رجليه في المسافات الطويلة وعدم إمكان سفره بلا زاد، ففسر - صلى الله عليه وسلم - الآية بالأغلب، والقاعدة المقررة في الأصول: أن النص إذا كان جاريًا على الأمر الغالب لا يكون له مفهوم مخالفة، ولأجل هذا منع جماهير العلماء تزويج الرجل ربيبته التي لم تكن في حجره قائلين: إن قوله تعالى: {اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم} (4: 27) جرى على العادة، فلا مفهوم مخالفة له، فيجب الحج على القادر على المشي على رجليه، إما لعدم طول المسافة وإما لقوة ذلك الشخص على المشي، وكذلك يجب على ذي الصنعة التي يحصل منها قوته في سفره، لأنه في حكم واجد الزاد في المعنى، والعلم عند الله تعالى، والوجه الثاني: أن الله جل وعلا سوى في كتابه بين الحاج الراكب والحاج الماشي على رجليه، وقدم الماشي على الراكب، وذلك في قوله تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (22: 28) انتهى. وقال ابن تيمية: في شرح العمدة بعد سرده لما ورد في ذلك: فهذه الأحاديث مسندة من طرق حسان ومرسلة موقوفة تدل على أن مناط الوجوب الزاد والراحلة مع علم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن كثيرًا من الناس يقدرون على المشي، وأيضًا فإن الله قال في الحج: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} إما أن يعني القدرة المعتبرة في جميع العبادات وهو مطلق المكنة أو قدرًا زائدًا على ذلك، فإن كان المعتبر هو الأول لم يحتج إلى هذا التقييد كما لم يحتج إليه في آية الصوم والصلاة، فعلم أن المعتبر قدر زائد في ذلك وليس هو إلا المال، وأيضًا فإن الحج عبادة مفتقرة إلى مسافة فافتقر وجوبها إلى ملك الزاد والراحلة كالجهاد، ودليل الأصل قوله: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ} إلى قوله: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} (9: 92) الآية - انتهى. قلت: الراجح عندنا أن العاجز عن تحصيل الراحلة أو ما يقوم مقامها القادر على المشي على رجليه لا يلزمه الحج لتفسير النبي - صلى الله عليه وسلم - استطاعة السبيل المذكورة في الآية بالزاد والراحلة، وهو يدل على اعتبار الراحلة للزوم الحج، وأما حمل ذلك على أنه - صلى الله عليه وسلم - فسر الآية بأغلب حالات الاستطاعة فلا دليل عليه، والاستشهاد لذلك بقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم} فيه نظر لأن ها هنا قرينة تدل على أن الخطاب في هذه الآية خرج مخرج الغالب، وهي ما ورد في رواية للبخاري في قصة عرض أم حبيبة أختها عزة بنت أبي سفيان على النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: إني لو لم أتزوج أم سلمة ما حلت لي أي بنت أبي سلمة، فجعل المناط في التحريم مجرد تزوجه أم سلمة وحكم بالتحريم بذلك. وأما قوله تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} فلا دليل فيه على وجوب الحج على القادر على المشي العاجز عن الراحلة، وأما أكثر ما فيه أنه استدل به بعض العلماء على أن الحج ماشيًا لمن قدر عليه أفضل من الحج راكبًا، لأنه قدمهم في الذكر، خلافًا لما ذهب إليه الأكثرون من أن الحج راكبًا أفضل إقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه حج راكبًا مع كمال قوته وقدرته على المشي. وقال ابن قدامة: ومن تكلف الحج ممن لا يلزمه فإن أمكنه ذلك من غير ضرر يلحق بغيره مثل أن يمشي ويكتسب بصناعة كالخرز، أو معاونة من ينفق عليه، أو يكتري لزاده، ولا يسأل الناس استحب له الحج لقول الله تعالى: {يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} فقدم ذكر الرجال، ولأن في ذلك مبالغة في طاعة الله عز وجل وخروجًا من الخلاف وإن كان يسأل الناس كره له الحج لأنه يضيق على الناس ويحصل كلاً عليهم في التزام ما لا يلزمه - انتهى. قلت: وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وأكثر أهل العلم. وقال مالك: ليستا أي الزاد والراحلة من شرط وجوبه، فإذا قدر راجلاً وله صنعة أو من عادته السؤال فهو مستطيع كما ذكرنا في بيان مذهبه وما عليه الجمهور هو مقتضى القواعد الشرعية. قال ابن تيمية: كل عبادة اعتبر فيها المال فالمعتبر ملكه لا القدرة على ملكه كتحصيله بصنعة أو قبول هبة أو مسألة أو أخذ من صدقة أو بيت مال - انتهى. وهذا كله يتعلق بالمستطيع بنفسه، وأما ما يسمونه المستطيع بغيره فقد تقدم الكلام فيه في شرح حديث الخثعمية وهو نوعان: الأول منهما هو من لا يقدر على الحج بنفسه لكونه زمنًا،

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ أو هرمًا ونحو ذلك، ولكنه له مال يدفعه إلى من يحج عنه، فهل يلزمه الحج نظرًا إلى أنه مستطيع بغيره فيدخل في عموم قوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} أو لا يجب عليه الحج لأنه عاجز غير مستطيع بالنظر إلى نفسه فلا يدخل في عموم الآية، وبالقول الأول قال الشافعي وأصحابه، فيلزمه عندهم أجرة أجير يحج عنه بشرط أن يجد ذلك بأجرة المثل. قال النووي: وبه قال جمهور العلماء منهم علي بن أبي طالب، والحسن البصري، والثوري، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق، وابن المنذر، وداود. وقال مالك: لا يجب عليه ذلك، ولا يجب إلا أن يقدر على الحج بنفسه. واحتج لذلك بقوله تعالى: {لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (53: 40) وبقوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} وهذا لا يستطيع بنفسه فيصدق عليه اسم غير المستطيع، وبأنها عبادة لا تصح فيها النيابة مع القدرة، فكذلك مع العجز كالصلاة، واحتج الأكثرون القائلون بوجوب الحج عليه بأحاديث رواها الجماعة، منها: حديث ابن عباس في قصة استفتاء الخثعمية وقد تقدم في الفصل الأول. ومنها: حديث أبي رزين العقيلي الآتي، ومنها: حديث علي في قصة الخثعمية أيضًا عند أحمد (ج: ص) ، والترمذي، والبيهقي (ج4: ص329) . ومنها: حديث عبد الله بن الزبير عند أحمد (ج4: ص5) ، والنسائي. ومنها حديث ابن عباس أيضًا عند النسائي كلاهما بنحو قصة الخثعمية. والنوع الثاني من نوعي المستطيع بغيره هو من لا يقدر على الحج بنفسه وليس له المال يدفعه إلى من يحج عنه، ولكن له ولد يطيعه إذا أمره بالحج، والولد مستطيع، فهل يجب الحج على الولد ويلزمه أمر الولد بالحج عنه لأنه مستطيع بغيره؟ فيه خلاف بين أهل العلم. قال النووي في شرح المهذب: فرع في مذاهبهم في المعضوب إذا لم يجد مالاً يحج به غيره فوجد من يطيعه، قد ذكرنا أن مذهبنا وجوب الحج عليه، وقال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد: لا يجب عليه، وقد علمت أن مالكًا احتج في مسألة العاجز الذي له مال بقوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} وبأنه عاجز بنفسه فهو غير مستطيع إلى الحج سبيلاً، وبأن سعيد بن منصور وغيره رووا عن ابن عمر بإسناد صحيح: أنه لا يحج أحد عن أحد، ونحوه عن الليث ومالك، وأن الذين خالفوه احتجوا بالأحاديث التي أشرنا إليها وفيها ألفاظ ظاهرها الوجوب، كتشبيهه بدين الآدمي، وكقول السائل: يجزئ عنه أن تحج عنه، والإجزاء دليل المطالبة، وفي بعض رواياتها أن السائل يقول: إن عليه فريضة الحج، ويستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحج عنه وهو - صلى الله عليه وسلم - لم يبين له أن الحج سقط عنه بزمانته وعجزه عن الثبوت على الراحلة، وبقوله للولد ((أنت أكبر ولده)) وأمره بالحج عنه، وأما الذين فرقوا بين وجود المعضوب مالاً فأوجبوا عليه الحج وبين وجوده ولدًا يطيعه فلم يوجبوه، فلأن المال ملكه فعليه أن يستأجر به، والولد مكلف آخر ليس ملزمًا بفرض على شخص آخر، ولأنه وإن كان له ولد فليس بمستطيع ببدن ولا بزاد وراحلة، ولو وجد إنسانًا غير الولد يطيعه في الحج عنه، فهل يكون حكمه حكم الولد؟ فيه خلاف معروف، وأظهر الأقوال أنه كالولد،

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ تنبيه: إذا مات الشخص ولم يحج وكان الحج قد وجب عليه لاستطاعته بنفسه أو بغيره عند من يقول بذلك وكان قد ترك مالاً فهل يجب أن يحج ويعتمر عنه من ماله؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم، فقال بعضهم: يجب أن يحج ويعتمر عنه من تركته سواء مات مفرطًا أو غير مفرط، لكون الموت أعجله عن الحج فورًا. وبهذا قال الشافعي وأحمد. قال ابن قدامة: وبهذا قال الحسن وطاوس والشافعي. وقال أبو حنيفة ومالك: يسقط بالموت، فإن أوصى بذلك فهو في الثلث، وبهذا قال الشعبي والنخعي لأنه عبادة بدنية فتسقط بالموت كالصلاة، واحتجوا أيضًا بأن ظاهر القرآن كقوله: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} مقدم على ظاهر الأحاديث بل على صريحها لأنه أصح منها، وأجاب الأولون بأن الأحاديث مخصصة بعموم القرآن، وبأن المعضوب وجب عليه الحج بسعيه بتقديم المال وأجرة من يحج عنه، فهذا من سعيه، وأجابوا عن قياسه على الصلاة بأنها لا تدخلها النيابة بخلاف الحج والذين قالوا: يجب أن يحج عنه من رأس ماله، واستدلوا بأحاديث جاءت في ذلك تقتضي أن مات وقد وجب عليه الحج قبل موته أنه يحج عنه، منها:حديث ابن عباس عند البخاري المتقدم في الفصل الأول، ومنها: حديث ابن عباس عند البخاري أيضًا: أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء. والحج في هذين الحديثين وإن كان منذورًا فإيجاب الله له على عباده في كتابه أقوى من إيجابه بالنذر مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقضائها وشبهها بدين الآدمي، قال المجدي في المنتقى بعد أن أشار لحديث البخاري الأول: وهو يدل على صحة الحج عن الميت من الوارث وغيره حيث لم يستفصله أوارث هو أو لا؟ وشبهه بالدين - انتهى. وقد تقرر في الأصول أن عدم الاستفصال من النبي - صلى الله عليه وسلم - أي طلب التفصيل في أحوال الواقعة ينزل منزلة العموم القولي، وخالف في هذا الأصل أبو حنيفة كما هو مقرر في الأصول. ومنها: ما رواه النسائي في سننه بسند صالح للاحتجاج عن ابن عباس قال: قال رجل: يا رسول الله! إن أبي مات ولم يحج، أفأحج عنه؟ قال أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه؟ قال نعم، قال: فدين الله أحق. ومنها: ما رواه النسائي أيضًا بسند صحيح أن ابن عباس قال: أمرت امرأة سنان بن سلمة الجهني أن تسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أمها ماتت ولم تحج أفيجزئ عن أمها أن تحج عنها؟ قال: نعم، لو كان على أمها دين فقضته عنها ألم يكن يجزئ عنها؟ فلتحج عن أمها. ومنها: ما رواه الدارقطني عن ابن عباس قال: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل فقال: إن أبي مات وعليه حجة الإسلام، أفأحج عنه؟ قال: أرأيت لو أن أباك ترك دينًا عليه أقضيته عنه؟ قال: نعم، قال فاحجج عن أبيك. ومنها: حديث بريدة الأسلمي عند أحمد، ومسلم وغيرهما أن امرأة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن أمي قد ماتت ولم تحج فيجزئها أن أحج عنها قال: نعم - الحديث. ومنها: حديث أنس بن مالك عند البزار والطبراني بنحو حديث ابن عباس

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ عند الدارقطني ومنها حديث عقبة بن عامر عند الطبراني بنحو حديث ابن عباس عند النسائي فهذه الأحاديث ليس فيها ذكر نذر الحج وهي مع ما تقدم حجة من قال: إن من وجب عليه الحج في الحياة وترك مالاً وجب أن يحج عنه وهي ظاهرة في ذلك لتشبيهه بدين الآدمي وأجاب المخالفون بأن الحج أعمال بدنية وإن كانت تحتاج إلى مال، والأعمال البدنية تسقط بالموت فلا وجوب لعمل بعد الموت، والذي يحج عنه متطوع وفاعل خيراً. قالوا: ووجه تشبيهه بالدين انتفاع كل منهما بذلك الفعل، فالمدين ينتفع بقضاء الدين عنه، والميت ينتفع بالحج عنه، ولا يلزم من قضاء الدين عن أحد أن القضاء عنه واجب، بل يجوز أن يكون قضاءه عنه غير واجب عليه، واحتجوا أيضًا بأن جميع الأحاديث الواردة بالحج عن الميت واردة بعد الاستئذان في الحج عنه، قالوا: والأمر بعد الاستئذان كالأمر بعد الحظر فهو للإباحة، لان الاستئذان والحظر الأول كلاهما قرينة على صرف الأمر عن الوجوب إلى الإباحة. ومن أمثلة كون الأمر بعد الاستئذان للإباحة أن الصحابة رضي الله عنهم لما سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عما اصطادوه بالجوارح واستأذنوه في أكله نزل في ذلك قوله تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} (5: 4) فصار هذا الأمر بالأكل للإباحة لأنه وارد بعد سؤال واستئذان، ومن أمثلته من السنة حديث مسلم: أأصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم - الحديث. فإن معنى ((نعم)) هنا ((صل فيها)) وهذا الأمر بالصلاة فيها للإباحة، لأنه بعد الاستئذان، وخلاف أهل الأصول في المسألة معروف. قال الشنقيطي بعد سرد الأحاديث المذكورة: هذه الأحاديث تدل قطعًا على مشروعية الحج عن المعضوب والميت، وقد قدمنا أن الأظهر عندنا وجوب الحج فورًا، وعليه فلو فرط وهو قادر على الحج حتى مات مفرطًا مع القدرة أنه يحج عنه من رأس ماله إن ترك مالاً، لأن فريضة الحج ترتبت في ذمته فكانت دينًا عليه، وقضاء دين الله صرح النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث المذكورة بأحقيته حيث قال: فدين الله أحق أن يقضى. أما من عاجله الموت قبل التمكن فمات غير مفرط فالظاهر لنا أنه لا إثم عليه، ولا دين لله عليه لأنه لم يتمكن من أداء الفعل حتى يترتب في ذمته، ولن يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وقد تقدم أن مالكًا ومن وافقوه لم يعملوا بظاهر هذه الأحاديث المذكورة مع كثرتها وصحتها لأنها مخالفة عندهم لظاهر القرآن في قوله: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} وقوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} والمعضوب والميت ليس واحد منهما بمستطيع لصدق قولك: إنه غير مستطيع بنفسه، قال: وما اشتهر عن مالك أنه يقول: لا يحج أحد عن أحد، معناه عنده أن الصحيح القادر لا يصح الحج عنه في الفرض. والمعضوب عنده ليس بقادر، وأحرى الميت، فالحج عنهما من مالهما لا يلزم عنده إلا بوصية، فأن أوصى به صح من الثلث وتطوع وليه بالحج عنه خلاف الأولى عنده بل مكروه، والأفضل عنده أن يجعل ذلك المال الذي يحج به عنه في غير الحج كأن يتصدق به عنه أو يعتق به عنه ونحو ذلك، فإن أحرم بالحج عنه انعقد إحرامه وصح حجه عنه، والحاصل أن النيابة عن الصحيح في غير الفرض عنده مكروهة، والعاجز عنده لا فرض عليه أصلاً للحج، قال الشنقيطي: والأحاديث المذكورة حجة على مالك ومن وافقه، قلت: القول الراجح المعول عليه عندنا هو

رواه الترمذي، وابن ماجة. 2551- (23) وعنه قال: سأل رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما الحاج؟ قال: الشعث التفل. فقام آخر فقال: يا رسول الله أي الحج أفضل؟ قال: العج والثج. ـــــــــــــــــــــــــــــ ما ذهب إليه الشافعي وأحمد ومن وافقهما للأحاديث التي ذكرنا وهي نص في ذلك، هذا وقد تقدم شيء من الكلام في هذه المسألة في شرح حديث ابن عباس في قصة استفتاء الخثعمية (رواه الترمذي، وابن ماجة) أخرجه الترمذي في الحج مختصرًا كما ذكره المصنف وفى تفسير سورة آل عمران مطولاً وهى الرواية الآتية بعد هذا، وأخرجه ابن ماجة مطولاً فقط في الحج، ورواه البيهقي مختصراً في (ج4: ص327) ، ومطولاً في (ج4: ص330) ، و (ج5: ص58) ، وروى الشافعي في الأم (ج2: ص99) المطول فقط , والدارقطني (ص255) مطولاً ومختصرا ًكلهم من طريق إبراهيم بن يزيد الخوزي عن محمد بن عباد بن جعفر المخزومي عن ابن عمر قال الترمذي: هذا حديث حسن. وإبراهيم بن يزيد هو الخوزي المكي، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه - انتهى. قلت: تحسين الترمذي لهذا الحديث لا وجه له لان إبراهيم بن يزيد الخوزي المذكور متروك لا يحتج به كما جزم به غير واحد بل ذكر الحافظ في التهذيب ما يدل على أنهم أجمعوا على تركه وتضعيفه، ومنهم من كان يرميه بالكذب. ونقل المزي تحسين الترمذي وأقره، وقال الحافظ في التلخيص بعد نقل تحسين الترمذي: هو من إبراهيم بن يزيد الخوزي , وقد قال: الظاهر أن الترمذي كان حسن الرأي فيه وكان هو الحديث عنده ولذلك حسن روايته هذه. 2551- قوله: (ما الحاج؟) أي الكامل، والمعنى ما صفة الحاج الذي يحج؟ أو يكون ((ما)) بمعنى ((من)) قال الطيبي: يسأل بما عن الجنس وعن الوصف، والمراد هنا الثاني بجوابه - صلى الله عليه وسلم -. قلت: وقع عند الترمذي في التفسير بلفظ ((من الحاج؟)) وكذا ذكره المنذري في ترغيبه وعزاه لابن ماجة والزيلعي في نصب الراية (ج3: ص8) وعزاه للترمذي، وابن ماجة (قال: الشعث) بفتح الشين المعجمة وكسر العين المهملة، وبالثاء المثلثة وهو البعيد العهد بتسريح شعره وغسله، وقال القاري: أي المغبر الرأس من عدم الغسل، مفرق الشعر من عدم المشط، وحاصله تارك الزينة (التفل) بفتح التاء المثناة من فوق وكسر الفاء، وهو الذي ترك الطيب حتى تغيرت رائحته. وقال القاري: أي تارك الطيب فيوجد منه رائحة كريهة، من تفل الشيء من فيه إذا رمى به متكرهًا له (الحج) أي أعماله أو خصاله بعد أركانه (أفضل؟) أي أكثر ثوابًا (قال: العج، والثج) الأول بفتح العين المهملة وبالجيم لمشددة، وهو رفع الصوت بالتلبية، والثاني بفتح الثاء المثلثة وبالجيم المشددة وهو سيلانه دماء الهدي، وقيل دماء الأضاحي. قال وكيع في رواية ابن ماجة: يعني بالعج: العجيج بالتلبية، والثج: نحر البدن. قال الطيبي: ويحتمل أن يكون السؤال عن نفس الحج، ويكون المراد ما فيه العج

فقام آخر فقال: يا رسول الله ما السبيل؟ قال: زاد وراحلة. رواه في شرح السنة، وروى ابن ماجة في سننه، إلا أنه لم يذكر الفصل الأخير. ـــــــــــــــــــــــــــــ والثج. وقيل: على هذا يراد بهما الاستيعاب لأنه ذكر أوله الذي هو الإحرام وآخره الذي هو التحلل بإراقة الدم اقتصارًا بالمبدأ والمنتهى عن سائر الأفعال، أي الذي استوعب جميع أعماله من الأركان والمندوبات (ما السبيل؟) أي المذكور في قوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (قال: زاد وراحلة) أي بحسب ما يلقيان بكل أحد، والظاهر أن المعتبر هو الوسط بالنسبة إلى حال الحاج. وقوله: ((زاد وراحلة)) كذا وقع في جميع نسخ المشكاة، وهكذا وقع عند الشافعي، والبيهقي (ج4: ص330) ووقع عند الترمذي، وابن ماجة، والدارقطني، والبيهقي (ج5: ص58) الزاد والراحلة أي معرفًا باللام، وكذا ذكره المنذري في الترغيب نقلاً عن ابن ماجة (رواه) أي صاحب المصابيح (في شرح السنة) أي الحديث بكماله مسندًا (وروى ابن ماجة) أي الحديث، وكان حقه أن يقول: ورواه ابن ماجة (في سننه إلا أنه) أي ابن ماجة (لم يذكر الفصل الأخير) أي من الفصول الثلاثة في الحديث، وهو الآخر من قوله: فقام آخر، والفصل هنا بمعنى الفقرة في الكلام، وهذا وهم من المصنف فإن الحديث رواه ابن ماجة بكماله مسندًا، وكذلك رواه الترمذي في التفسير، والشافعي، والدارقطني، ثم البيهقي في سننهما كلهم من طريق إبراهيم بن يزيد الخوزي عن محمد بن عباد بن جعفر عن ابن عمر. وتقدم أن إبراهيم بن يزيد ضعيف متروك فهذا الحديث أيضًا ضعيف كالأول، ولكن حسنه المنذري وقال: رواه ابن ماجة بإسناد حسن. وقال الترمذي في التفسير بعد سياقه: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم ابن يزيد الخوزي المكي وقد تكلم بعض أهل لعلم في إبراهيم بن يزيد من قبل حفظه - انتهى. ومقتضى ما نقل الزيلعي عن الترمذي أنه وصف الحديث في التفسير بالغرابة حيث قال: قال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم إلخ. قال الزيلعي: وله طريق آخر عند الدارقطني في سننه، أخرجه عن محمد بن الحجاج المضفر ثنا جرير ابن حازم، عن محمد بن عباد بن جعفر، عن ابن عمر مرفوعًا، ومحمد بن الحجاج المضفر ضعيف - انتهى. وهو - كما قال الزيلعي - ضعيف. قال الذهبي في الميزان فيه: روى عباس عن يحيى ليس بثقة. وقال أحمد: تركنا حديثه. وقال البخاري عن شعبة: سكتوا عنه. وقال النسائي: متروك ثم ذكر بعض عجائبه، وعلى كل حال فهو لا يحتج به. واعلم أن إبراهيم بن يزيد الخوزي كما تابعه في هذه الرواية جرير بن حازم من طريق محمد بن الحجاج المضفر الذي ذكرنا آنفًا أنه لا يحتج به فقد تابعه أيضًا فيها غيره من الضعفاء. قال الزيلعي بعد أن ذكر حديث إبراهيم الخوزي المذكور عند الترمذي وابن ماجة: ورواه الدارقطني (ج2: ص255) ، ثم البيهقي (ج 4: ص330) . قال الدارقطني: وقد تابع إبراهيم بن يزيد عليه محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي، فرواه عن محمد بن عباد عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك - انتهى. وهذا الذي أشار إليه رواه ابن عدي في الكامل، وأعله بمحمد بن عبد الله الليثي وأسند تضعيفه

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ عن النسائي وابن معين. ثم قال: والحديث معروف بإبراهيم بن يزيد الخوزي، وهو من هذه الطريق غريب. ثم ذكر البيهقي تضعيف إبراهيم المذكور. قال: وروي من أوجه أخرى كلها ضعيفة. وروي عن ابن عباس من قوله، ورويناه من أوجه صحيحة عن الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً وفيه قوة لهذا السند - انتهى. ثم قال الزيلعي: قال الشيخ في الإمام: قوله: ((فيه قوة)) فيه نظر لأن المعروف عندهم أن الطريق إذا كان واحد ورواه الثقات مرسلاً وانفرد ضعيف برفعه، أن يعللوا المسند بالمرسل، ويحملوا الغلط على رواية الضعيف، فإذا كان ذلك موجبًا لضعف المسند فكيف يكون تقوية له؟ - انتهى. وهو كما قال: كما هو معروف في الأصول وعلم الحديث. ثم قال الزيلعي: قال يعني الشيخ في الإمام: والذي أشار إليه من قول ابن عباس رواه أبو بكر بن المنذر حدثنا علان بن المغيرة ثنا أبو صالح عبد الله بن صالح: حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: والمرسل رواه سعيد بن منصور في سننه حدثنا هشام: ثنا يونس عن الحسين قال: لما نزلت {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} قال رجل: يا رسول الله وما السبيل؟ قال: زاد وراحلة - انتهى. حدثنا الهشيم: ثنا منصور عن الحسن مثله، حدثنا خالد بن عبد الله عن يونس عن الحسن مثله. قال: وهذه أسانيد صحيحة إلا أنها مرسلة. وقال ابن المنذر: لا يثبت الحديث الذي فيه ذكر الزاد والراحلة مسندًا، والصحيح رواية الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً، وأما المسند فإنما رواه إبراهيم بن يزيد وهو متروك، ضعفه ابن معين وغيره - انتهى من نصب الراية. وبهذا تعلم أن حديث ابن عمر المذكور لم يسند من وجه صحيح، لأن إبراهيم الخوزي متروك، ومحمد بن الحجاج المضفر الذي ذكرنا أن إبراهيم تابعه عليه جرير بن حازم من طريقه لا يحتج به كما بيناه. وقد بينا أن متابعة محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي لا تقويه لأنه ضعيف. ضعفه النسائي وأعل الحديث به ابن عدي في الكامل. وقال الذهبي في الميزان: ضعفه ابن معين، وقال البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي: متروك - انتهى. وأما مرسل الحسن البصري المذكور وإن كان إسناده صحيحًا إلى الحسن فلا يحتج به، لان مراسيل الحسن لا يحتج بها. قال: الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمته وقال الدارقطني: مراسيله فيها ضعف. وقال فيه أيضًا: وقال محمد بن سعد: كان الحسن جامعًا عالمًا رفيعًا فقيهًا، ثقة مأمونًا، عابدًا ناسكًا، كثير العلم، فصيحًا جميلاً وسيمًا، وكان ما أسند من حديثه وروى عمن سمع منهم فهو حجة، وما أرسل فليس بحجة. وقال السيوطى في التدريب (ص69) : وقال أحمد بن حنبل: مرسلات سعيد بن المسيب أصح المرسلات، ومرسلات إبراهيم النخعي لا بأس بها، وليس في المرسلات أضعف من مرسلات الحسن وعطاء بن أبي رباح، فإهما كانا يأخذان عن كل أحد، ثم قال بعد ذلك: وقال العراقي: مراسيل الحسن عندهم شبه الريح. وعدم الاحتجاج بمراسيل الحسن هو المشهور عند المحدثين. وقال بعض أهل العلم: هي صحاح إذا رواها عنه الثقات. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب: وقال ابن المدينى: مرسلات الحسن إذا رواها عنه الثقات صحاح، ما أقل ما يسقط منها. وقال أبو زرعه: كل شيء يقوله الحسن: ((قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) وجدت له أصلاً

2552- (24) وعن أبى رزين العقيلي، أنه أتى النبي فقال: يا رسول الله: إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن. قال: حج عن أبيك واعتمر. ـــــــــــــــــــــــــــــ ثابتًا ما خلا أربعة أحاديث - انتهى. وقد ظهر بهذا كله أن حديث ابن عمر المرفوع في تفسير الاستطاعة بالزاد والراحلة لم يثبت بوجه صحيح بحسب صناعة علم الحديث، لكن له شواهد بعضها صحيح وبعضها حسن. وعلى هذا فلا شك أن حديث الزاد والراحلة بمجموع طرقه صالح للقبول والاحتجاج كما قال الشوكانى وغيره. 2552- قوله: (وعن أبي رزين) بفتح الراء وكسر الزاي (العقيلي) بالتصغير واسمه: لقيط بن عامر العامري وافد بني المنتفق. قال الترمذي بعد رواية حديثه: وأبو رزين العقيلي اسمه لقيط بن عامر. وقال الحافظ في التقريب: لقيط بن صبرة، بفتح المهملة وكسر الموحدة صحابي مشهور، ويقال: أنه أي صبرة جده، واسم أبيه عامر، وهو أبو رزين العقيلي، والأكثر على أنهما اثنان - انتهى. وقد تقدم ترجمة لقيط بن صبرة في الفصل الثاني من باب سنن الوضوء (أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن أبي شيخ كبير) إلخ. قال الحافظ: هذه قصة أخرى، أي غير قصة الخثعمية. قال: ومن وحد بينها وبين حديث الخثعمية فقد أبعد وتكلف. (ولا الظعن) بفتحتين أو سكون الثاني، والأولى معجمة والثانية مهملة، مصدر ظعن يظعن بالضم - إذا سار. وفى المجمع: الظعن الراحلة. أي لا يقوى على السير ولا على الركوب من كبر السن - انتهى. وقيل: يمكن أن يكنى به عن القوة ويراد بنفي الاستطاعة عدم الزاد والراحلة، كأنه قال: ليس له زاد ولا راحلة ولا قوة على السير والركوب. وقال المظهر: يحتمل أن يريد بقوله: لا يستطيع الحج والعمرة، الذهاب إليهما راجلاً، وبالظعن ركوب الدابة (قال: حج) بالحركات في الجيم، والفتح هو المشهور (عن أبيك) الذي كبر، وفيه دليل على جواز حج الولد عن أبيه العاجز. وقال المحب الطبري: فيه أبين البيان على جواز حج الإنسان عن الحي الذي لا يستطيع الحج بنفسه، وأنه ليس كالصلاة والصوم وسائر الأعمال البدنية، وأنه - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن الله عز وجل إنما أراد بقوله: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} بعض الأعمال دون بعض. وقيل: إن الآية عامة خصها هذا الحديث وأمثاله. وقيل: إن ولد الرجل من كسبه كما ورد في بعض الآثار، وعليه فالآية عامة، وحج الولد عن أبيه متناول لها، وقد تقدم بسط الكلام في مسالة النيابة بالحج في شرح حديث الخثعمية وفى شرح حديث الزاد والراحلة (واعتمر) استدل به من قال بوجوب العمرة، وقد ذهب إلى وجوبها جماعة من أهل الحديث، وهو المشهور عن الشافعي وأحمد، وبه قال إسحاق والثوري، والمزني. قال أحمد: لا أعلم في إيجاب العمرة حديثًا أجود من هذا ولا أصح منه، وأجيب عنه بما قال السندي: لا يخفى أن الحج والعمرة عن الغير ليسا بواجبين على الفاعل، فالظاهر حمل الأمر على الندب وحينئذٍ دلالة الحديث على وجوب العمرة خفاؤها لا يخفى - انتهى. وبما ذكر الشنقيطي أن صيغة

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأمر في قوله: ((واعتمر)) واردة بعد سؤال أبى رزين وقد قرر جماعة من أهل الأصول أن صيغة الأمر الواردة بعد المنع أو السؤال إنما تقتضي الجواز، لا الوجوب لأن وقوعها في جواب السؤال عن الجواز دليل صارف عن الوجوب إلى الجواز، والخلاف في هذه المسألة معروف - انتهى. والمشهور عن المالكية أن العمرة ليست بواجبة وهو قول الحنفية. واستدل القائلون بالوجوب أيضًا بما روي عن عمر في سؤال جبريل عن الإسلام، وفيه: ((وأن تحج وتعتمر)) أخرجه ابن خزيمة، وابن حبان، والدارقطني وغيرهم، وأجيب عن هذا بأن الأمر مجرد اقتران العمرة بالأمور الواجبة المذكورة في الحديث لا يكون دليلاً على الوجوب لما تقرر في الأصول من ضعف دلالة الاقتران لاسيما وقد عارضه ما سيأتي من الأدلة القاضية بعدم الوجوب، فإن قيل: إن وقوع العمرة في جواب من سأل عن الإسلام يدل على الوجوب. فيقال: ليس كل أمر من الإسلام واجبًا، والدليل على ذلك حديث شعب الإسلام والإيمان، فإنه اشتمل على أمور ليست بواجبة بالإجماع، واستدلوا أيضًا بما رواه ابن عدي، والبيهقي، عن جابر مرفوعاً: الحج والعمرة فريضتان. وفيه: ابن لهيعة وهو ضعيف. وقال ابن عدي: هو غير محفوظ عن عطاء عن جابر. وأخرجه أيضًا الدارقطني من حديث زيد بن ثابت بزيادة ((لا يضرك بأيهما بدأت)) وأجيب عنه بأن في إسناده إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف. وفى الحديث أيضًا انقطاع. ورواه البيهقي موقوفًا على زيد. قال الحافظ: وإسناده أصح. واستدلوا أيضًا بحديث عائشة عند أحمد، وابن ماجة: ((قالت: يا رسول الله أعلى النساء جهاد؟ قال: نعم عليهن جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة)) وقد ذكره المصنف في الفصل الثالث، وأجيب عنه بأن لفظة: ((عليهن)) ليست صريحة في الوجوب فقد تطلق على ما هو سنة مؤكدة، وإذا كان محتملاً لإرادة الوجوب والسنة المؤكدة لزم طلب الدليل بأمر خارج، وقد دل دليل خارج على وجوب الحج، ولم يدل دليل خارج يجب الرجوع إليه على وجوب العمرة، وبحديث الصبي بن معبد، قال: أتيت عمر فقلت: يا أمير المؤمنين إني أسلمت وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي فأهللت بهما، فقال عمر: هديت لسنة نبيك - صلى الله عليه وسلم - وبحديث عمرو بن حزم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى أهل اليمن كتابًا، وبعث به عمرو بن حزم، وكان في الكتاب: أن العمرة هي الحج الأصغر. أخرجه الدارقطني والأثرم. وبحديث ابن مسعود المتقدم بلفظ: ((تابعوا بين الحج والعمرة)) وقد تقدم الجواب عنه، واستأنسوا بقوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} قال ابن قدامة: ومقتضى الأمر الوجوب ثم عطفها على الحج، والأصل التساوي بين المعطوف والمعطوف عليه. قال ابن عباس: إنها لقرينة الحج في كتاب الله. وفيه: أن لفظ الإتمام مشعر بأنه إنما يجب بعد الإحرام لا قبله. ويدل على ذلك ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن يعلى بن أمية، قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بالجعرانة، عليه جبة وعليها خلوق فقال: كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي؟ فنزلت: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} والسائل قد أحرم، وإنما سأل كيف يصنع؟ وقد انعقد الإجماع على وجوب إتمام الحج والعمرة ولو أفسدهما. قال ابن القيم: وليس في الآية فرضها، وإنما فيها إتمام الحج

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ والعمرة بعد الشروع فيهما، وذلك لا يقتضي وجوب الابتداء، وأجمع أهل العلم على مشروعيتها كالحج، واستدل القائلون بعدم الوجوب بما رواه الترمذي وصححه. وأحمد، والبيهقي وغيرهم عن جابر أن أعرابيًا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله أخبرني عن العمرة أواجبة هي؟ فقال: لا وأن تعتمر خير لك. وفى رواية: أولى لك. وأجيب عنه بأن في إسناده الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف. وتصحيح الترمذي له فيه نظر، لأن الأكثر على تضعيف الحجاج، واتفقوا على أنه مدلس على أن تصحيح الترمذي له إنما ثبت في رواية الكروخي فقط، وقد نبه صاحب الإمام على أنه لم يزد على قوله حسن في جميع الروايات عنه إلا في رواية الكروخي. وقد رواه البيهقي من حديث سعيد بن عفير عن يحيى بن أيوب عن عبد الله عن أبي الزبير عن جابر بنحوه. ورواه ابن جريج عن ابن المنكدر عن جابر، ورواه ابن عدي من طريق أبى عصمة عن ابن المنكدر عن أبى صالح، وأبو عصمة قد كذبوه. وفى الباب عن أبي هريرة عند الدارقطني، وابن حزم، والبيهقي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الحج جهاد والعمرة تطوع. وإسناده ضعيف كما قال الحافظ. وعن طلحة عند ابن ماجة بنحوه بإسناد ضعيف، وعن ابن عباس عند البيهقي. قال الحافظ: ولا يصح من ذلك شيء. قال الشوكانى: وبهذا تعرف أن الحديث من قسم الحسن لغيره وهو محتج به عند الجمهور، ويؤيده ما عند الطبراني عن أبي أمامة مرفوعًا: من مشى إلى صلاة مكتوبة فأجره كحجة، ومن مشى إلى صلاة تطوع فأجره كعمرة. قلت: ولما اختلفت الأدلة في إيجاب العمرة وعدمه اختلف العلماء في ذلك سلفًا وخلفًا، فذهب عمرو، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وابن عمرو، وسعيد ابن المسيب، وسعيد بن جبير، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، والحسن، وابن سيرين، والشعبي إلى وجوبها. وبه قال الثوري، وإسحاق، والشافعي، وأحمد في أحد قوليهما. واختاره البخاري في صحيحه. وروي عن ابن مسعود: أن العمرة ليست واجبة. وبه قال مالك، وأبو ثور، وأبو حنيفة وهو أحد قول الشافعي وأحمد واختيار ابن تيمية. وقال الشوكاني بعد ذكر أدلة الفريقين: والحق عدم وجوب العمرة لأن البراءة الأصلية لا ينتقل عنها إلا بدليل يثبت به التكليف، ولا دليل يصلح لذلك لا سيما مع اعتضادها بما تقد م من الأحاديث القاضية بعدم الوجوب، ويؤيد ذلك اقتصاره - صلى الله عليه وسلم - على الحج في حديث: ((بني الإسلام على خمس)) واقتصار الله جل جلاله على الحج في قوله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} قلت: ويؤيده أيضًا قوله - صلى الله عليه وسلم - للذي قال: ((لا أزيد عليهن ولا انقص)) لئن صدق ليدخلن الجنة. وقال شيخنا الأجل المباركفوري بعد ذكر دلائل وجوب العمرة: والظاهر هو وجوب العمرة والله أعلم. وقال الشنقيطي بعد ذكر كلام الشوكانى: الذي يظهر لي أن ما احتج به كل واحد من الفريقين لا يقل عن درجة الحسن لغيره فيجب الترجيح بينهما، وقد رأيت الشوكاني رجح عدم الوجوب بموافقته للبراءة الأصلية، والذي يظهر بمقتضى الصناعة الأصولية ترجيح أدلة الوجوب على أدلة عدم الوجوب، وذلك من ثلاثة أوجه: الأول أن أكثر أهل الأصول يرجحون الخبر الناقل عن الأصل على الخبر المبقي على البراءة الأصلية. الثاني أن جماعة من أهل الأصول

رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. 2553- (25) وعن ابن عباس، قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة. قال: من شبرمة؟ قال: أخ لي أو قريب لي. قال: أحججت عن نفسك؟ قال: لا. ـــــــــــــــــــــــــــــ رجحوا الخبر الدال على الوجوب على الخبر الدال على عدمه. ووجه ذلك هو الاحتياط في الخروج من عهدة الطلب. الثالث: أنك إن عملت بقول من أوجبها فأديتها على سبيل الوجوب برئت ذمتك بإجماع أهل العلم من المطالبة بها ولو مشيت على إنها غير واجبة فلم تؤدها على سبيل الوجوب بقيت مطالبًا بواجب على قول جمع كثير من العلماء، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: دع ما يربيك إلى مالا يربيك. ويقول: فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه. وهذا المرجح راجع في الحقيقة لما قبله - انتهى. واستدل بإطلاق الحديث على صحة حجة من لم يحج نيابة عن غيره. ويأتي الكلام في هذا في شرح حديث ابن عباس الذي يليه (رواه الترمذي) إلخ، وأخرجه أيضًا ابن ماجة، وابن حبان في صحيحه كما في موارد الظمآن (ص239) ، والدارقطني (ج2: ص282) ، والحاكم (ج1: 481) وصححه. والبيهقي (ج4: ص350) ، ونقل المنذري في مختصر السنن (ج3: ص333) تصحيح الترمذي وأقره. وتقدم قول الإمام أحمد: لا أعلم في إيجاب العمرة حديثًا أجود من هذا ولا أصح منه. 2553- قوله: (سمع رجلاً) قال الحافظ في التلخيص (ص203) : زعم ابن باطيس: أن اسم الملبي نبيشة وهو وهم منه فإنه اسم الملبي عنه فيما زعم الحسن بن عمارة، وخالفه الناس فيه فقالوا: إنه شبرمة. وقد قيل: إن الحسن بن عمارة رجع عن ذلك فحدث به على الصواب موافقًا لرواية غيره. وقد بينه الدارقطني في السنن (ج2: ص276) . (لبيك عن شبرمة) أي نيابة عنه في الحج والعمرة وشبرمة، بضم الشين المعجمة والراء بينهما موحدة ساكنة. قيل: هو صحابي توفي في حياته - صلى الله عليه وسلم -. قال الجزري في أسد الغابة ((شبرمة)) غير منسوب، له صحبة توفي في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - روى عطاء عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلاً يلبي عن شبرمة، فذكر الحديث. وقال الحافظ في الإصابة في القسم الأول من حرف الشين المعجمة: ((شبرمة)) غير منسوب وقع ذكره في حديث صحيح، فروى أبو داود، وأحمد، وإسحاق، وأبو يعلى، والدارقطني، والطبراني من طريق عزرة بن ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: سمع - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يلبي عن شبرمة فقال: أحججت؟ قال: لا. قال: هذه عن نفسك وحج عن شبرمة. وروى الدارقطني من طريق عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس نحوه، رواه الدارقطني من طريق أبي الزبير عن جابر، ومن طريق عطاء عن عائشة نحوه (قال: أخ لي) أي من النسب (أو قريب لي) شك من الراوي (أحججت) بهمزة الاستفهام (عن نفسك؟) أي أولاً. وعن ابن حبان ((هل حججت قط؟)) (قال: لا) أي لم أحج عن نفسي

قال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة. ـــــــــــــــــــــــــــــ (قال: حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة) وفى رواية الدراقطني، وابن حبان، وابن ماجة: فاجعل هذه عن نفسك ثم حج عن شبرمة. قال ابن حبان: قوله: اجعل هذه عن نفسك. أمر وجوب. وقوله: ثم حج عن شبرمة أمر إباحة - انتهى. قال السندي: مفاد الحديث أن من عليه حجة الإسلام وأحرم بغيرها لا يجب عليه المضي في الغير بل يجب عليه صرف ذلك الإحرام إلى حجة الإسلام، لأن جعل تلك الحجة عن نفسه لا يكون إلا كذلك - انتهى. قلت: ظاهر الحديث أنه لا يجوز لمن لم يحج عن نفسه أن يحج عن غيره سواء كان مستطيعًا أو غير مستطيع لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستفصل هذا الرجل الذي سمعه يلبي عن شبرمة، وهو منزل منزلة العموم، وإلى ذلك ذهب الشافعي. وقال الثوري: أنه يجزئ حج من لم يحج عن نفسه ما لم يتضيق عليه، واستدل له بقوله - صلى الله عليه وسلم - في رواية للدارقطني: أيها الملبي عن نبيشة! هذه عن نبيشة، واحجج عن نفسك، فكأنه جمع بين هذا وبين حديث الكتاب على من كان مستطيعًا، ولكن رواية الدارقطني هذه قد تفرد بها الحسن بن عمارة وهو متروك الحديث. وقد روى الدارقطني حديث نبيشة موافقًا لحديث شبرمة، وتقدم قول من قال: إن اسم شبرمة نبيشة، قال المحب الطبري: في الحديث دلالة للشافعي على أنه لا يحج عن الغير من لم يحج عن نفسه، فإن فعل انقلب إليه، ووجه الدلالة قوله: ((ثم حج عن شبرمة)) وثم للترتيب فاقتضى ذلك أن يكون حجه عن الغير بعد حجه عن نفسه، فلغت الإضافة إلى الغير وبقي مجرد الإحرام فانصرف إليه لعدم القائل بالفصل إلا على رواية عن أحمد أنه لا ينعقد عنه ولا عن غيره ويؤيد ما ذكرنا رواية الدارقطنى، وابن ماجة وغيرهما بلفظ: ((فاجعل هذه عن نفسك، ثم حج عن شبرمة)) وهو صريح في إثبات المقصود، وممن قال: لا يحج عن غيره من لم يحج عن نفسه، أحمد ابن حنبل في إحدى الروايتين وهو: قول الأوزاعي، وإسحاق، وقال مالك، وأبو حنيفة: يجوز أن يحج عن غيره وعليه فرضه وهو قول الحسن، وعطاء الثوري، وبه قال ابن المنذر من الشافعية - انتهى مختصرًا. وقال ابن قدامة: ليس لمن لم يحج حجة الإسلام أن يحج عن غيره، فإن فعل وقع إحرامه عن حجة الإسلام، وبهذا قال الأوزاعي، والشافعي، وإسحاق. وقال أبو بكر عبد العزيز: يقع الحج باطلاً ولا يصح ذلك عنه ولا عن غيره. وقال الحسن، وإبراهيم، وأيوب السختياني، وجعفر بن محمد، ومالك، وأبو حنيفة: يجوز أن يحج عن غيره من لم يحج عن نفسه، وحكي عن أحمد مثل ذلك. وقال الثوري: إن كان يقدر على الحج عن نفسه حج عن نفسه، وإن لم يقدر على الحج عن نفسه حج عن غيره، واحتجوا بأن الحج مما تدخله النيابة فجاز أن يؤديه عن غيره من لم يسقط فرضه عن نفسه كالزكاة، وقال ابن قدامة: ولنا ما روى ابن عباس، فذكر حديث شبرمة ثم قال: ويفارق الزكاة فإنه يجوز أن ينوب عن الغير وقد بقى عليه بعضها وها هنا لا يجوز أن يحج عن الغير من شرع في الحج قبل إتمامه. قال: إذا ثبت هذا فإن عليه رد ما أخذ من النفقة لأنه لم يقع الحج عنه فأشبه ما لو لم يحج - انتهى. وقال الأمير اليماني: الحديث دليل على إنه لا يصح أن يحج عن غيره من لم يحج عن نفسه، فإذا أحرم عن غيره فإنه ينعقد إحرامه عن نفسه، لأنه - صلى الله عليه وسلم -

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ أمره أن يجعله عن نفسه بعد أن لبى عن شبرمة فدل على أنها لم تنعقد النية عن غيره وإلا لأوجب عليه المضي فيه، وإن الإحرام ينعقد مع الصحة والفساد، وينعقد مطلقًا مجهولاً معلقًا، فجاز أن يقع عن غيره ويكون عن نفسه، وهذا لأن إحرامه عن الغير باطل لأجل النهي والنهي يقتضي الفساد، وبطلان صفة الإحرام لا يوجب بطلان أصله، وهذا قول أكثر الأمة أنه لا يصح أن يحج عن غيره من لم يحج عن نفسه مطلقًا مستطيعًا كان أو لا، لأن ترك الاستفصال والتفريق في حكاية الأحوال دال على العموم، ولأن الحج واجب في أول سنة من سني الإمكان، فإذا أمكنه فعله عن نفسه لم يجز أن يفعله عن غيره، لأن الأول: فرض. والثاني: نفل. كمن عليه دين وهو مطالب به، ومعه دراهم بقدره لم يكن له أن يصرفها إلا إلى دينه، وكذلك كل ما احتاج أن يصرفه إلى واجب عنه فلا يصرفه إلى غيره إلا أن هذا إنما يتم في المستطيع، ولذا قيل: إنما يؤمر بأن يبدأ بالحج عن نفسه إذا كان واجبًا عليه، وغير المستطيع لم يجب عليه فجاز أن يحج عن غيره، ولكن العمل بظاهر عموم الحديث أولى - انتهى. قلت: وأعل ابن الهمام من الحنفية الحديث بالإضطراب في الرفع، والوقف، والإرسال، وبعنعنة قتادة، وهو معروف بالتدليس. قال: ولو سلم فحاصله أمره بأن يبدأ بالحج عن نفسه وهو يحتمل الندب فيحمل عليه بدليل إطلاقه - صلى الله عليه وسلم - قوله للخثعمية: حجى عن أبيك. من غير استخبارها عن حجها لنفسها قبل ذلك وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل مقام عموم الخطاب. قال: وحديث شبرمة يفيد استحباب تقديم حجة نفسه. وبذلك يحصل الجمع ويثبت أولوية تقديم الفرض على النفل مع جوازه - انتهى ملخصًا. قال القاري بعد ذكره: لكن بقي فيه أشكال على مقتضى قواعدنا من أن الشخص إذا تلبس بإحرام عن غيره لم يقدر على الانتقال عنه إلى الإحرام عن نفسه للزوم الشرعي بالشروع وعدم تجويز الانقلاب بنفسه فكيف في إطاعة الأمر سواء قلن: إنه للوجوب أو الاستحباب فلا مخلص عنه إلا بتضعيف الحديث أو نسخه. لأن حديث الخثعمية في حجة الوداع، أو بتخصيص المخاطب بذلك الأمر والله تعالى أعلم - انتهى. قلت: كل ما أعلو به الحديث وضعفوه به مدفوع كما ستعرف، وأما حمله على النسخ أو تخصيصه بالمخاطب بذلك الأمر ففيه أن حديث شبرمة خاص وحديث الخثعمية عام. ولا تعارض بين العام والخاص، فيقدم الخاص ويبنى العام عليه، والتخصيص خلاف الأصل حتى يرد المخصص صريحًا ولا مخصص ها هنا وأما حمل ابن الهمام وغيره من الحنفية حديث شبرمة على الندب والأولوية والتمسك لذلك بحديث الخثعمية بأن ترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في الأقوال، ففيه أنه لا تعارض بين الحديثين لما تقدم، فلا حاجة إلى تكلف الجمع بينهما، وقد تعقبه أيضًا صاحب فتح الملهم من الحنفية، وقد ذكرنا كلامه في شرح حديث الخثعمية فتذكر، وقال الشنقيطي بعد ذكر حديث شبرمة: فيه دليل على أن النائب عن غيره في الحج لا بد أن يكون قد حج عن نفسه حجة الإسلام وقاس العلماء العمرة على الحج في ذلك وهو قياس ظاهر، وخالف في هذا الاشتراط بعض العلماء كأبي حنيفة ومن وافقه فقالوا: يصح حج النائب عن غيره وإن لم يحج عن نفسه، واستدلوا بظواهر الأحاديث

رواه الشافعي، وأبو داود، وابن ماجة. ـــــــــــــــــــــــــــــ التي وردت في الحج عن المعضوب والميت فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول فيها: ((حج عن أبيك، حج عن أمك)) ونحو ذلك من العبارات، ولم يسأل أحد منهم هل حج عن نفسه أو لا؟ وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في الأقوال. قال الشنقيطي: الأظهر تقديم الحديث الخاص الذي فيه قصة شبرمة، لأنه لا يتعارض عام وخاص فلا يحج أحد عن أحد حتى يحج عن نفسه حجة الإسلام - انتهى. (رواه الشافعي) في الأم (ج2: ص105) من طريق ابن جريج، عن عطاء قال: سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يقول: لبيك عن فلان، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن كنت حججت فلب عن فلان، وإلا فاحجج عن نفسك ثم احجج عنه. وهذا كما ترى مرسل. ثم رواه الشافعي من طريق أيوب عن أبى قلابة، قال: سمع ابن عباس رجل يقول: لبيك عن شبرمة، فقال ابن عباس: ويحك وما شبرمة؟ قال: فذكر قرابة له - الحديث. وهذا موقوف. قيل: وأبو قلابة لم يسمع من ابن عباس شيئًا. (وأبو داود، وابن ماجة) واللفظ لأبي داود، روياه من طريق عبدة بن سليمان عن سعيد بن أبى عروبة عن قتادة عن عزرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعًا، وكذا روى من هذا الطريق ابن الجارود (ص178) وإسناد هذا الحديث عند أبى داود، وابن ماجة، وابن الجارود رجاله كلهم ثقات معروفون إلا عزرة الذي رواه عنه قتادة، وقتادة روى عن ثلاثة كلهم اسمه عزرة، وعزرة المذكور في إسناد هذا الحديث عند أبي داود، وابن ماجة ذاكره غير منسوب، وكذا ذكره الدارقطني، وابن حبان، والبيهقي. وجزم البيهقي بأن عزرة بن يحيى، وعزرة بن يحيى لم يذكره البخاري في التاريخ، ولا ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، ولم يخصه الحافظ في تهذيب التهذيب بترجمة، ولم يذكره الذهبي في الميزان، وقد ذكره الحافظ في التقريب فقال: عزرة بن يحيى عن سعيد بن جبير في قصة شبرمة، وعنه قتادة أيضًا، نسبه البيهقي. وبذلك جزم أبو علي النيسابوري وهو مقبول - انتهى. وروى البيهقي من طريق عبدة بن سليمان الكلابي عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن عزرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: هذا إسناد صحيح، وليس في هذا الباب أصح منه، وروي موقوفًا، رواه غندر عن سعيد بن أبي عروبة كذلك، وعبدة نفسه محتج به في الصحيحين، وقد تابعه على رفعه أبو يوسف القاضي، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، ومحمد بن بشر عن سعيد بن أبى عروبة. ساق الدارقطنى بإسناده رواياتهم. قال البيهقي: من رواه مرفوعًا حافظ ثقة فلا يضره خلاف من خالفه، يعني لأن من رفعه حفظ ما لم يحفظ من وقفه، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ. قال: وعزرة هذا هو: عزرة بن يحيى، أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت أبا علي الحافظ يقول ذلك. وقد روى قتادة أيضًا عن عزرة بن تميم وعن عزرة بن عبد الرحمن ثم ساق البيهقي روايات أخر عن ابن عباس تؤيد الحديث المذكور. وذكره الحافظ في التلخيص وقال بعد ذكر كلام البيهقي في تصحيحه: وكذا رجح عبد الحق وابن القطان رفعه. وأما الطحاوي فقال: الصحيح أنه موقوف. وقال أحمد بن حنبل: رفعه خطأ. وقال ابن

2554- (26) وعنه، قال: وقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل المشرق العقيق. ـــــــــــــــــــــــــــــ المنذر: لا يثبت رفعه، وقال الدارقطني: المرسل أصح، قال الحافظ: هو كما قال لكنه يقوي المرفوع لأنه من غير رجاله، ثم قال: فيجتمع من هذا صحة الحديث. وقال ابن تيمية: إن أحمد حكم في رواية ابنه صالح عنه إنه مرفوع. فيكون قد اطلع على ثقة من رفعه. قال: وقد رفعه جماعة على إنه وإن كان موقوفًا فليس لابن عباس فيه مخالف - انتهى. وقال النووي في شرح المهذب: وأما حديث ابن عباس في قصة شبرمة فرواه أبو داود، والدارقطني، والبيهقي وغيرهم بأسانيد صحيحة، ثم ذكر لفظ أبي داود ثم قال: وإسناده على شرط مسلم. والظاهر أن النووي يظن أن عزرة المذكور في إسناده هو ابن عبد الرحمن، وذلك من رجال مسلم خلافًا لما جزم به البيهقي، ثم قال النووي: ورواه البيهقي بإسناد صحيح عن ابن عباس، ثم ذكر بعض ما ذكرنا سابقًا من تصحيح البيهقي للحديث، وأن رفعه أصح من وقفه، قلت: ويظهر من كلام الحافظ في التلخيص أن عزرة المذكور في إسناد حديث شبرمة هو ابن عبد الرحمن، فقد قال: وأعل الحديث ابن الجوزي بعزرة فقال: قال يحيى بن معين: عزرة لا شيء ووهم في ذلك، إنما قال ذلك في عزرة بن قيس، وأما هذا فهو ابن عبد الرحمن ويقال فيه: ابن يحيى، وثقه يحيى بن معين، وعلي بن المديني وغيرهما، وروى له مسلم - انتهى. وبذلك جزم صاحب الجوهر النقي حيث قال بعد ذكر كلام البيهقي في نسب عزرة: قلت: عزرة الذي روى عن سعيد بن جبير، وروى عن قتادة هو: عزرة بن عبد الرحمن الخزاعي، كذا ذكر البخاري في تاريخه، وابن أبي حاتم، وابن حبان، وصاحب الكمال، والمزي، وليس في كتاب أبى داود أحد يقال له: عزرة بن يحيى، بل ولا في بقية الكتب الستة. وترجم المنذري في أطرافه لهذا الحديث فقال: عزرة بن عبد الرحمن عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وفى تقييد المهمل للغسانى: وروى مسلم عن قتادة عن عزرة، وهو: عزرة بن عبد الرحمن الخزاعي عن سعيد بن جبير في كتاب اللباس - انتهى. وأما إعلال الحديث بأن قتادة لم يصرح بسماعه من عزرة وهو إمام في التدليس فقد أجيب عنه بأن الحديث قد صححه ابن حبان، وهذا يدل على أن هذا الحديث عنده مما سمعه قتادة من شيخه عزرة، وإن لم يذكر سماعه فيه فقد قال في مقدمة صحيحه (ج1: ص123) : فإذا صح عندي خبر من رواية مدلس أنه بين السماع فيه، لا أبالي أن أذكره من غير بيان السماع في خبره بعد صحته عندي من طريق آخر- انتهى. على أن قتادة قد وافقه في رفع الحديث عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس عند الدارقطني وغيره وله شاهد من حديث عائشة عند الدارقطني أيضًا وأبي يعلى، وفى سنده ابن أبي ليلى، وفيه كلام ومن حديث جابر عند الدارقطني، والطبراني، وفيه ثمامة بن عبيدة وهو ضعيف. فتحصل من هذا كله أن الحديث حسن أو صحيح صالح للاحتجاج. والله تعالى أعلم. 2554- قوله (وقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل المشرق العقيق) قال الطبرانى: العقيق موضع قريب من ذات عرق قبلها بمرحلة أو مرحلتين. وفى بلاد العرب مواضع كثيرة تسمى العقيق (منها وادي العقيق الذي بقرب المدينة الذي

رواه الترمذي، وأبو داود. ـــــــــــــــــــــــــــــ ورد فيه الحديث عن ابن عمر رضى الله عنهما قال: ((سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوادي العقيق يقول: أتاني الليلة آت من ربي، فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة)) فإن هذا بينه وبين المدينة أربعة أميال تقريبًا) وكل موضع شقه ماء السيل فوسعه فهو عقيق، والجمع أعقة وعقائق - انتهى. وقال الأزهري في تهذيب اللغة: يقال لكل مسيل ماء شقه السيل فأنهره ووسعه عقيق، قال: وفى بلاد العرب أربعة أعقة وهي أودية عادية. منها عقيق يدفق ماءه في غور تهامة وهو الذي ذكره الشافعي فقال: لو أهلوا من العقيق كان أحب إليّ، وهذا غير العقيق الذي هو بقرب المدينة على عدة أميال، والذي جاء ذكره في حديث ابن عمر المتقدم. وقال القاري: العقيق موضع بحذاء ذات العرق مما وراءه. وقيل: داخل في حد ذات العرق، وأصله: كل مسيل شقه السيل فوسعه من العق وهو القطع والشق. والمراد بأهل المشرق من منزله خارج الحرم من شرقي مكة إلى أقصى بلاد الشرق وهم العراقيون والمعنى: حد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعين لإحرام أهل المشرق العقيق. (رواه الترمذي، وأبو داود) من طريق وكيع عن سفيان عن يزيد بن أبى زياد عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن ابن عباس وأخرجه أيضا أحمد (ج1: ص344) بهذا الإسناد وقد رواه أبو داود عن أحمد بالإسناد المذكور، ورواه والبيهقي في السنن الكبرى (ج5: ص28) من طريق أبي داود. وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وتعقبه المنذري فقال: في إسناده يزيد بن أبى زياد وهو ضعيف، وذكر البيهقي أنه تفرد به - انتهى. وقال الزيلعي (ج3: ص14) بعد نقل كلام البيهقي المذكور عن معرفة السنن: قال ابن القطان: هذا حديث أخاف أن يكون منقطعًا، فإن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس إنما عهد أن يروي عن أبيه عن جده ابن عباس، كما جاء في ((صحيح مسلم)) في صلاته عليه الصلاة والسلام من الليل، وقال مسلم في ((كتاب التميز)) : لا نعلم له سماعًا من جده، ولا أنه لقيه، ولم يذكر البخاري، ولا ابن أبي حاتم أنه يروي عن جده وذكر أنه يروي عن أبيه - انتهى. وقال الشيخ أحمد شاكر في شرح المسند (ج5: ص73) : إسناده صحيح، ثم ذكر تخريجه وقال بعد نقل كلام المنذري، والبيهقي، وابن القطان عن نصب الراية: أما يزيد بن أبي زياد فثقة عندنا كما بينا في (662) وأما محمد بن علي بن عبد الله بن عباس فقد سبقت روايته عن أبيه عن جده (2002) وذكر في التهذيب أنه: ((روى عن جده يقال مرسل)) ولكن الظاهر عندي أنه أدرك جده عبد الله بن عباس وسمع منه، فإنه من طبقة تدرك ذلك، إذ أن من الرواة عنه هشام بن عروة وهو قديم، أدرك ابن عباس صغيرًا فإنه ولد سنة (61) أي كانت سنه عند وفاة ابن عباس فوق السابعة يقينًا، فشيخه لو كان أقدم منه ببضع سنين لما بعد أن يسمع من جده وهو من أهله بل أكثر من هذا أن من الرواة عنه أيضًا، أعني عن محمد بن علي، حبيب بن أبي ثابت، وهو أقدم من هشام ابن عروة، وسمع من ابن عمر، وابن عباس، فأن يكون شيخه سمع من ابن عباس أولى، وقد ترجمه البخاري في الكبير

2555- (27) وعن عائشة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقت لأهل العراق ذات عرق. رواه أبو داود، والنسائي. 2556- (28) وعن أم سلمة، قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من أهل بحجة أو عمرة من ـــــــــــــــــــــــــــــ (1/1/183) فذكر أنه روى عن أبيه، وهذا لا ينفي أنه روى عن جده أيضًا، ولعله لم يسمع من جده إلا قليلاً، فكانت أكثر روايته عن أبيه عن جده، وإن لم يمتنع أن يروي عن جده أيضًا - انتهى. 2555- قوله: (وقت لأهل العراق ذات عرق) تقدم ضبطها وهي موضع من شرقي مكة بينهما مرحلتان يوازي قرن نجد وهي والعقيق متقاربان لكن العقيق قبيل ذات عرق، قال ابن الملك: كأنه - صلى الله عليه وسلم - عين لأهل المشرق ميقاتين: العقيق، وذات عرق، فمن أحرم من العقيق قبل أن يصل إلى ذات عرق فهو أفضل، ومن جاوزه فأحرم من ذات عرق جاز ولا شيء عليه - انتهى. وقال الشافعي: ينبغي أن يحرم من العقيق احتياطًا وجمعًا بين الحديثين. قلت: قد تقدم في شرح حديث جابر في المواقيت السابق في الفصل الأول الجمع بين حديثي ابن عباس، وعائشة بوجوه فتذكر. وقال الطبري: واستحب الشافعي الإحرام من العقيق لأهل العراق لما وقع من الالتباس في ذات عرق، فإنه قد قيل: إن ذات عرق خربت وخول بناءها إلى صوب مكة، فعلى الآتي من العراق أن يتحراها ويطلب آثارها، وذكر الشافعي أن من علامتها المقابر القديمة (رواه أبو داود، والنسائي) وأخرجه أيضًا أحمد، والطحاوي، والدارقطني (ص262) ، والبيهقي (ج5: ص28) كلهم من طريق المعافى بن عمران عن أفلح بن حميد عن القاسم عن عائشة. وزاد النسائي، والدارقطني، والبيهقي بقية المواقيت. ورواه ابن عدي في الكامل، ثم أسند عن أحمد بن حنبل أنه كان ينكر على أفلح بن حميد هذا الحديث يعني ذكره في هذا الحديث لذات عرق، وقال الحافظ في التلخيص (ج1: ص 205) : تفرد به المعافى بن عمران عن أفلح. والمعافى ثقة - انتهى. قلت: أفلح بن حميد ثقة، وزيادة العدل مقبولة، ولا يضره انفراد المعافى أيضًا لأنه ثقة، وكم من حديث صحيح غريب انفرد به ثقة عن ثقة كما هو معلوم في الأصول وعلم الحديث. وقال الذهبي في ترجمة أفلح بن حميد المذكور: وثقة ابن معين، وأبو حاتم، وقال ابن صاعد: كان أحمد ينكر على أفلح بن حميد وقوله: ((ولأهل العراق ذات عرق)) وقال ابن عدي في الكامل: وهو عندي صالح وهذا الحديث ينفرد به المعافى بن عمران عن أفلح عن القاسم عن عائشة، قلت: هو صحيح غريب -انتهى كلام الذهبي. وتراه صرح بأن هذا الحديث صحيح غريب مع أن هذا الحديث في توقيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات عرق لأهل العراق أصله عند مسلم من حديث جابر، إلا أن راويه شك في رفعه كما بينا، لكن له شواهد متعددة كما سبق بيانها في شرح حديث جابر المذكور في الفصل الأول. 2556- قوله: (من أهل) وفى رواية لأحمد والدراقطني ((من أحرم)) (بحجة أو عمرة) أو للتنويع (من

المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أو وجبت له الجنة. رواه أبو داود، وابن ماجة. ـــــــــــــــــــــــــــــ المسجد الأقصى قيل: إنما خص المسجد الأقصى لفضله، وفى رواية ابن ماجة: ((من بيت المقدس)) وكذا وقع في رواية لأحمد والدارقطني: (غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر) أي من الصغائر ويرجى الكبائر (أو وجبت) أي ثبتت (له الجنة) أي ابتداء، و ((أو)) للشك من الراوي، ورواه الدارقطني بلفظ: ((غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ووجبت له الجنة)) من غير شك. وفيه: إشارة إلى أن موضع الإحرام متى كان أبعد كان الثواب أكثر، قال الطبري: قد استدل بهذا الحديث من ذهب إلى فضيلة تقديم الإحرام عن الميقات، ويحتمل أن تكون هذه الخصيصة ثبتت لبيت المقدس دون غيره، ولو كان لأجل البعد عن مكة لكان غيره مما هو بعد أولى بالذكر. وقال الخطابي: فيه جواز تقديم الإحرام على الميقات من المكان البعيد مع الترغيب فيه، وقد فعله غير واحد من الصحابة، وكره ذلك جماعة، أنكر عمر بن الخطاب على عمران بن الحصين إحرامه من البصرة، وكرهه الحسن البصري، وعطاء بن أبى رباح، ومالك بن أنس، وقال أحمد بن حنبل: وجه العمل المواقيت، وكذلك قال إسحاق. قلت: يشبه أن يكون عمر إنما كره ذلك شفقًا أن يعرض للمحرم إذا بعدت مسافته آفة تفسد إحرامه ورأى أن ذلك في قصير المسافة أسلم - انتهى. قلت: الأظهر أن عمر رأى أن ذلك باب في تعدي هدى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومخالفة عن أمره فيجر إلى فتنة، وقد ذكر أبو شامة في كتاب البدع والحوادث أن مالكًا سئل عمن يحرم قبل الميقات فقال: يظن أنه أهدى من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد تقدم بسط الكلام في ذلك في شرح حديث جابر في المواقيت في الفصل الأول فتذكر. (رواه أبو داود، وابن ماجة) واللفظ لأبي داود ولفظ ابن ماجة في رواية: ((من أهل بعمرة من بيت المقدس غفر له)) وفى أخرى: ((من أهل بعمرة من بيت المقدس كانت كفارة لما قبلها من الذنوب)) والحديث أخرجه أيضًا أحمد (ج6: ص299) وابن حبان بلفظ: ((غفر له ما تقدم من ذنبه)) فقط. ورواه البيهقي (ج5: ص30) بلفظ أبي داود. قال المنذري: قد اختلف الرواة في متنه وإسناده اختلافًا كثيرًا. وقال النووي: إسناده ليس بالقوي، وقال ابن القيم: هذا الحديث قال غير واحد من الحفاظ: إسناده ليس بالقوي، وقال السعاتي في شرح المسند (ج11: ص112) بعد نقل كلام النووي: إسناده عند الإمام أحمد لا بأس به - انتهى. وأراد بذلك ما رواه أحمد من طريق ابن إسحاق حدثني سليمان بن سحيم مولى آل جبير عن يحيى بن أبي سفيان الأخنسي عن أمه أم حكيم بنت أمية بن الأخنس السلمية عن أم سلمة، ومن هذا الطريق أخرجه ابن حبان في صحيحه، والدارقطني (ص282) ، ويحيى بن أبي سفيان، ذكره الحافظ في تهذيب التهذيب فقال: يحيى بن أبي سفيان بن الأخنس الأخنسي المدني روى عن جدته، وقيل: عن أمه، وقيل: خالته أم حكيم حكيمة بنت أمية بن الأخنس عن أم سلمة في الإحرام من بيت المقدس، وروى عنه عبد الله بن عبد الرحمن بن يحنس ومحمد بن إسحاق بن يسار، وقيل بينهما

(الفصل الثالث)

(الفصل الثالث) 2557- (29) عن ابن عباس، قال: كان أهل اليمن يحجون فلا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون. فإذا قدموا مكة سألوا الناس، فأنزل الله تعالى: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} . ـــــــــــــــــــــــــــــ سليمان بن سحيم. قال ابن أبى حاتم عن أبيه: شيخ من شيوخ المدينة، ليس بالمشهور، وذكره ابن حبان في الثقات - انتهى. وقال في التقريب في ترجمته: ((مستور)) . وقال في ترجمة أم حكيم حكيمة: ((إنها مقبولة)) . 2557- قوله: (يحجون فلا يتزودون) قال الطيبي: كان الظاهر أن يقال: ((ولا يتزودون)) على الحال فجيء بالفاء لإرادة يقصدون الحج. قلت: كذا في جميع نسخ المشكاة بالفاء، ووقع في صحيح البخاري وسنن أبى داود وغيرهما ((ولا يتزودون)) أي بالواو، وهكذا ذكره ابن كثير وغيره، فالظاهر أن ما وقع في المشكاة من تصرف الناسخ، وزاد ابن أبى حاتم من وجه آخر عن ابن عباس ((يقولون نحج بيت الله أفلا يطعمنا)) ؟ (فإذا قدموا مكة سألوا الناس) أي أهل مكة أو أعم منهم، الزاد حيث فرغت أزودتهم، أو سألوا في مكة كما سألوا في الطريق فأنزل الله تعالى: {وَتَزَوَّدُواْ} أي خذوا زادكم من الطعام واتقوا الاستطعام وإبرام الناس والتثقيل عليهم {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} أي من السؤال. قال الشوكاني: هو من إخبار بأن خير الزاد اتقاء المنهيات فكأنه قال: اتقوا الله في إتيان ما أمركم به من الخروج بالزاد فإن خير الزاد التقوى، وقيل المعنى: فإن خير الزاد ما اتقى به المسافر من الهلكة والحاجة إلى السؤال والتكفف - انتهى. وقيل معنى الآية: وتزودوا لمعادكم التقوى (أي الأعمال الصالحة التي هي كالزاد إلى سفر الآخرة) فإنه خير زاد، فمفعول تزودوا محذوف بقرينة خبر إن وهو التقوى بالمعنى الشرعي، وما يدل عليه سبب نزول الآية أرجح وأقوى، وعلى هذا يكون الزاد بمعناه الحقيقي الحسي، والتقوى بالمعنى اللغوي، أي الإتقاء والكف عن السؤال وإبرام الناس. وقال ابن كثير: لما أمرهم بالزاد للسفر في الدنيا أرشدهم إلى زاد الآخرة وهو استصحاب التقوى إليها كما قال: {وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ} (7: 26) لما ذكر اللباس الحسي نبه مرشدًا على اللباس المعنوي وهو الخشوع والطاعة والتقوى وذكر أنه خير من هذا أنفع - انتهى. قال المهلب: في هذا الحديث من الفقه أن ترك السؤال من التقوى ويؤيده أن الله مدح من لم يسأل الناس إلحافًا، فإن قوله: {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} أي تزودوا واتقوا أذى الناس بسؤالكم إياهم والإثم في ذلك، قال: وفيه أن التوكل لا يكون مع السؤال، وإنما التوكل المحمود أن لا يستعين بأحد في شيء، وقيل: هو قطع النظر عن الأسباب بعد تهيئة الأسباب كما قال عليه السلام: اعقلها وتوكل - انتهى. وقال القسطلاني: ليس في الحديث ذم التوكل لأن ما فعلوه تآكل لا توكل، لأن التوكل قطع النظر عن الأسباب مع تهيئتها لا ترك الأسباب بالكلية، فدفع الضرر المتوقع أو الواقع لا ينافي التوكل، بل هو واجب كالهرب من الجدار الهاوي إساغة اللقمة بالماء.

رواه البخاري. 2558- (30) وعن عائشة، قالت: قلت: يا رسول الله! على النساء جهاد؟ قال: نعم عليهن جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة. رواه ابن ماجة. 2559- (31) وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من لم يمنعه من الحج حاجة ظاهرة، أو سلطان جائر، ـــــــــــــــــــــــــــــ (رواه البخاري) في الحج، وأخرجه أيضاً أبو داود في الحج والنسائي في السير، والتفسير من السنن الكبرى، والبيهقي (ج4: ص332) ، وابن حبان في صحيحه وعبد بن حميد، وابن أبى حاتم وغيرهم. 2558- قوله: (على النساء جهاد) بحذف الاستفهام، وفي المسند ((أعلى النساء جهاد)) ؟ أي بذكر همزة الاستفهام ورواه ابن خزيمة في صحيحه بلفظ: هل على النساء من جهاد (عليهن جهاد لا قتال فيه) بل فيه اجتهاد ومشقة سفر وتحمل زاد ومفارقة أهل وبلاد كما في الجهاد (الحج والعمرة) بدل من جهاد أو خبر مبتدأ محذوف ويجوز نصبهما بتقدير أعني قال السندى: أي فإن الحج والعمرة يشبهان الجهاد في السفر والخروج من البلاد والتعب، أما مقاتلة الأعداء فلا تقوى عليها المرأة، وقال الأمير اليماني: قوله: ((على النساء جهاد)) هو إخبار يراد به الاستفهام، وقوله: ((لا قتال فيه)) إيضاح للمراد، وبذكره خرج عن كونه استعارة، والجواب من الأسلوب الحكيم. وقوله: ((الحج والعمرة)) كأنها قالت ما هو؟ فقال: الحج والعمرة، أطلق عليهما لفظ الجهاد مجازًا، شبههما بالجهاد وأطلقه عليهما بجامع المشقة. والحديث فيه دليل على أن الجهاد ليس بواجب على النساء، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على ذلك. وفيه إشارة إلى وجوب العمرة وقد تقدم البحث عن ذلك. (رواه ابن ماجة) الحديث ذكره الحافظ في بلوغ المرام بلفظ المشكاة وقال: رواه أحمد، وابن ماجة واللفظ له. (أي لابن ماجة. ولفظ أحمد: ((قالت: يا رسول الله أعلى النساء جهاد؟ قال: الحج والعمرة هو جهاد النساء)) .) وإسناده صحيح، وأصله في الصحيح. قال الأمير اليماني: أي في صحيح البخاري، وأراد بذلك ما أخرجه البخاري من حديث عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: يا رسول الله: نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال: لا، لكن أفضل الجهاد، حج مبرور. وأفاد تقييد إطلاق رواية أحمد وابن ماجة للحج، وأفاد أن الحج والعمرة تقوم مقام الجهاد في حق النساء، وأفاد أيضاً بظاهره أن العمرة واجبة إلا أنه ورد ما يخالفه - انتهى. والحديث أخرجه أيضاً ابن خزيمة كما في الترغيب للمنذري. 2559- قوله: (حاجة ظاهرة) أي فقد زاد وراحلة، فإن الاستطاعة شرط الوجوب بلا خلاف، قاله القاري. (أو سلطان جائر) أي ظالم، وفيه إشارة إلى أن منعه بطريق الجور والعنف فلا عبرة بمنعه على سبيل المحبة واللطف،

أو مرض حابس، فمات ولم يحج، فليمت إن شاء يهوديًا، وإن شاء نصرانيًا. رواه الدارمي. 2560- (32) وعن أبى هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: الحاج والعمار وفد الله، إن دعوه أجابهم وإن استغفروه غفر لهم. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأيضاً من الموانع للوجوب إذا كان في الطريق سلطان جائر بالقتل وأخذ الأموال فالسلامة منهما من شروط الأداء الأصح نعم إذا كان الأمن غالبًا فيجب على الصحيح. قاله القاري. (أو مرض حابس) أي مانع من السفر لشدته، فسلامة البدن من الأمراض والعلل شرط الوجوب فحسب. وقيل: شرط الأداء. فعلى الأول لا يجب الحج ولا الإحجاج، ولا الإيصاء به على الأعمى، والمقعد، والمفلوج، والزمن، والمقطوع الرجلين، والمريض، والشيخ الكبير الذي لا يثبت على الراحلة (فمات ولم يحج، فليمت إن شاء يهوديًا وإن شاء نصرانيًا) حيث ترك العمل بالكتاب مع إيمانه به وتلاوته وعمله بمواضع الخطاب. (رواه الدارمي) (ص225) وأخرجه أيضاً سعيد بن منصور في السنن وأحمد، وأبو يعلى، والبيهقي (ج4: ص334) كلهم من طريق شريك عن ليث بن أبى سليم عن عبد الرحمن بن سابط عن أبي أمامة، وهذا إسناد ضعيف. ((ليث)) قال في التقريب عنه: صدوق اختلط أخيرًا ولم يتميز حديثه فترك، وشريك سيء الحفظ، وقد خالفه سفيان الثوري فأرسله، رواه أحمد في كتاب الإيمان له عن وكيع عن سفيان عن ليث ابن سابط قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من مات ولم يحج ولم يمنعه من ذلك مرض حابس أو سلطان ظالم أو حاجة ظاهرة فذكره مرسلاً، وكذا ذكره ابن شيبة عن أبي الأحوص عن ليث مرسلاً، وأورده أبو يعلى من طريق أخرى عن شريك مخالفة للإسناد الأول وراويها عن شريك عمار بن مطر ضعيف ذكره الحافظ في التلخيص (ص202) وللحديث شاهدان ضعيفان من حديث علي وهو ثاني أحاديث الفصل الثاني، ومن حديث أبى هريرة، وقد تقدم تخريجه هناك مع الكلام عليه، وله شاهد صحيح من قول عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، رواه سعيد بن منصور والبيهقي وقد ذكرنا لفظه في شرح حديث علي، وقد ذكرنا أيضاً أن مجموع تلك الروايات لا يقصر عن كون الحديث حسنًا لغيره، وهو محتج به عند الجمهور. 2560- قوله (الحاج) أي الفريق الحاج، والمراد به الجنس. قال الطيبي: الحاج واحد الحجاج، وهو من إطلاق المفرد على الجمع باعتبار المعنى للجنس مجاز معروف (والعمار) بضم العين وتشديد الميم جمع العامر بمعنى المعتمر، قال الزمخشري: لم يجئ فيما أعلم عمر بمعنى اعتمر لكن عمر الله إذا عبده فيحتمل أن يكون العمار جمع عامر من عمر بمعنى اعتمر وإن لم نسمعه ولعل غيرنا سمعه وأن يكون مما استعمل منه في بعض التصاريف دون بعض كما قيل: يذر ويدع (وفد الله) الإضافة للتشريف والمراد وفد حرمه أي كجماعة قادمون عليه ونازلون لديه ومقربون إليه. قال الزمخشري: الوفد الذين يقصدون الأمراء لزيارة واسترفاد وانتجاع وغير ذلك أي إنهم بسفرهم قاصدون التقرب إلى الله تعالى (إن دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم) وهذا في حج مبرور وعمرة كذلك كما لا يخفى، قال ابن حجر وجه إفراد الحاج

رواه ابن ماجة. 2561- (33) وعنه، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: وفد الله ثلاثة: الغازى، والحاج، والمعتمر. رواه النسائي، والبيهقي في شعب الإيمان. 2562- (34) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا لقيت الحاج فسلم عليه وصافحه، ومره ـــــــــــــــــــــــــــــ وجمع ما بعده الإشارة إلى تميز الحج بأن المتلبس به وإن كان وحده يصلح لأن يكون قائمًا مقام الوفد الكثيرين بخلاف العمرة فإنها لتراخي مرتبتها عن الحج لا يكون المتلبس بها وحده قائمًا مقام أولئك - انتهى. قلت: قوله: ((الحاج)) كذا في جميع نسخ المشكاة بلفظ المفرد وهكذا وقع عند البيهقي في السنن (ج5: ص262) ، والذي في سنن ابن ماجة: ((الحجاج)) أي بلفظ الجمع وكذا ذكره المنذري في الترغيب، وهكذا وقع في حديث جابر عند البزاز، وحديث أنس عند البيهقي في الشعب، وحديث ابن عمر عند تمام الرازى. (رواه ابن ماجة) وكذا البيهقي، وفي إسنادهما صالح بن عبد الله بن صالح مولى بني عامر، قال فيه البخاري: ((منكر الحديث)) . وقال الحافظ في التقريب: مجهول. 2561- قوله: (وفد الله ثلاثة) أي ثلاثة أشخاص أو أجناس (الغازي) في سبيل الله (والحاج والمعتمر) المتميزون عن سائر المسلمين بتحمل المشاق البدنية والمالية ومفارقة الأهلين. قال السندى: في القاموس: ((وفد إليه وعليه يفد وفدًا ورد)) وفي الصحاح: وفد فلان على الأمير أي ورد رسولاً فهو وافد والجمع وفد مثل صاحب وصحب فالمعنى السائرون إلى الله لقادمون عليه من المسافرين ثلاثة أصناف، فتخصيص هؤلاء من بين العابدين لاختصاص السفر بهم عادة، والحديث إما بعد انقطاع الهجرة أو قبلها لكن ترك ذكرها لعدم دوامها، والسفر للعلم لا يطول غالبًا فلم يذكر، والسفر على المساجد الثلاثة المذكورة في حديث ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)) ليس بمثابة السفر إلى الحج ونحوه فترك، ويحتمل أن لا يراد بالعدد الحصر. والله تعالى أعلم. (رواه النسائي) في فضل الحج (والبيهقي في شعب الإيمان) ، وكذا في السنن الكبرى (ج5: ص262) ، وأخرجه أيضاً ابن خزيمة، وابن حبان في صحيحيهما، وقدم ابن حبان الحاج والمعتمر كما في موارد الظمآن (ص240) وفي الباب عن ابن عمر أخرجه ابن ماجة، وابن حبان في صحيحه، وعن جابر أخرجه البزار برجال ثقات، وقال البوصيري: رواه إسحاق، والبزار بسند فيه: محمد بن أبى حميد وهو ضعيف - انتهى. وعن أنس أخرجه البيهقي بسند ضعيف. 2562- قوله: (إذا لقيت الحاج) أي بعد تمام حجه، وكذا عند قدومه من حجه، وفي معناه المعتمر (فسلم عليه) أي مبادرة إليه (وصافحه) أي ضع يدك اليمنى في يده اليمنى تواضعًا إليه (ومره) أمر من أمر أي اسأله التمس منه

أن يستغفر لك قبل أن يدخل بيته، فإنه مغفور له. رواه أحمد. 2563- (35) وعن أبى هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من خرج حاجًا أو معتمرًا أو غازيًا ثم مات في طريقه، كتب الله له أجر الغازي والحاج والمعتمر. رواه البيهقي في شعب الإيمان. ـــــــــــــــــــــــــــــ (أن يستغفر لك) أي يطلب لك المغفرة من الله، وقيل: يقول: استغفر الله لي ولك، وفيه مبالغة عظيمة في حقه حيث ترجى مغفرة غيره باستغفار (قبل أن يدخل بيته) أي محل سكنه، فإنه إذا دخل قد يخلط ويلهو ويتلوث بموجبات غفلته (فإنه) أي الحاج (مغفور له) الصغائر والكبائر إلا التبعات إذا كان حجه مبرورًا كما قيده في عدة أخبار، ومن دعا له مغفور له غفر له، فإن دعاء المغفور له مقبول، قال المناوى: فتلقي الحاج والسلام عليه ومصافحته وطلب الدعاء منه مندوب. وظاهر الحديث أن طلب الاستغفار منه موقت بما قبل الدخول، فإن دخل فات. قال: لكن الحديث محمول على الأولوية، فالأولى طلب ذلك منه قبل دخوله فلعله يخلط ويلهو. (رواه أحمد) (ج2: ص69، 128) بسند ضعيف، ورمز السيوطى في الجامع الصغير لحسنه، وليس كما قال. ففي سنده محمد بن عبد الرحمن بن البيلمانى وهو ضعيف وقد اتهمه ابن عدى، وابن حبان، وممن جزم بضعفه الحافظ الهيثمي حيث قال (ج4: ص16) بعد ذكره: رواه أحمد وفيه: محمد بن البيلمانى. وهو: ضعيف. 2563- قوله (من خرج حاجًا أو معتمرًا أو غازيًا) أي قاصدًا للغزو في سبيل الله (ثم مات في طريقه) أي قبل العمل (كتب الله له أجر الغازي والحاج والمعتمر) لقوله تعالى: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللهِ} (4: 100) قيل: فمن قال: إن من وجب عليه الحج وأخره ثم قصد بعد زمان فمات في الطريق كان عاصيًا فقد خالف هذا النص. ذكره الطيبي. قال القاري: وفيه: بحث إذ ليس نص في الحديث على مطلوبه، فإنه مطلق فيحمل على ما إذا خرج حاجًا في أول ما وجب عليه وخرج أهل بلده للحج أو على ما إذا تأخر لحدوث عارض من مرض أو حبس أو عدم أمن في الطريق ثم خرج فمات فإنه يموت مطيعًا، وأما إذا تأخر من غير عذر حتى فاته الحج فإنه يكون عاصيًا بلا خلاف عندنا على اختلاف في أن وجوب الحج على الفور أو التراخي، والصحيح هو الأول، ومع هذا يمكن أن نقول له أجر الحاج في الجملة، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً - انتهى. (رواه البيهقي في شعب الإيمان) ويؤيده ما روي عن أبى هريرة أيضاً مرفوعًا بلفظ: ((من خرج حاجًا فمات كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة، ومن خرج معتمرًا فمات كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة، ومن خرج غازيًا فمات كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة. ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج3: ص 208، 209) وقال: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه جميل بن أبى ميمونة، وقد ذكره ابن أبى حاتم، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً، وذكره ابن حبان في الثقات - انتهى.

(1) باب الإحرام والتلبية

(1) باب الإحرام والتلبية ـــــــــــــــــــــــــــــ وحديث أبى هريرة هذا ذكره المنذري في الترغيب (ج2: ص60) وقال: رواه أبو يعلى من رواية محمد بن إسحاق، وبقية رواته ثقات، ونسبه الحافظ أيضاً في المطالب العالية (ج1: ص326) لأبي يعلى وسكت عليه. وقال البوصيري: رواه أبو يعلى بسند ضعيف لتدليس محمد بن إسحاق. (باب الإحرام والتلبية) قال القاري: حقيقة الإحرام الدخول في الحرمة والمراد الدخول في حرمات مخصوصة أي التزامها، والتزامها شرط الحج شرعًا، غير أنه لا يتحقق ثبوته إلا بالنية والتلبية أو ما يقوم مقامها، فعطف التلبية على الإحرام من باب عطف الخاص على العام، أو مبني على القواعد الشافعية من أن الإحرام هو النية فقط، أو المراد بالتلبية غير المقرونة بالنية منب يان ألفاظها وأحوالها وفضائلها - انتهى. وقال في غنية الناسك (ص32، 33) : الإحرام لغة الدخول في حرمة لا تنتهك من الذمة وغيرها، وشرعًا الدخول في حرمات مخصوصة أي التزامها غير أن التزامها لا يتحقق شرعًا إلا بالنية مع الذكر أو الخصوصية - فتح - قال في النهر: فهما شرطان في تحققه لا جزآن لماهيته كما توهمه في البحر، حيث عرفه بنية النسك من الحج أو العمرة مع الذكر أو الخصوصية - انتهى. والمراد بالذكر التلبية ونحوها، وبالخصوصية ما يقوم مقامها من تقليد البدنة مع السوق، فلو نوى ولم يلب أو لب ولم ينو لا يصير محرمًا، وهل يصير محرمًا بالنية والتلبية أو بأحدهما بشرط الآخر؟ المعتمد ما ذكره الحسام الشهيد أنه بالنية لكن عند التلبية كما يصير شارعًا في الصلاة بالنية لكن بشرط التكبير لا بالتكبير، وعن أبى يوسف أنه يصير بالنية وحدها، وهو أحد قولي الشافعي قياسًا على الصوم بجامع أنهما عبادة كف عن المحظورات، وقياسه على الصلاة أولى لأنه التزام أفعال لا مجرد كف، بل التزام الكف شرط فكان بالصلاة أشبه، فلا بد من ذكر يفتتح به أو بما يقوم مقامه مما هو من خصوصياته - فتح - انتهى. وقال ابن جاسر النجدي في مفيد الأنام: الإحرام أول الأركان، وهو في اللغة الدخول في التحريم، يقال: أشتى إذا دخل في الشتاء، وأربع إذا دخل في الربيع، وأنجد إذا دخل نجدًا، وأتهم إذا دخل تهامة، وأصبح وأمسى إذا دخل في الصباح والمساء، وفي الشرع نية الدخول في النسك وإن لم يتجرد من ثيابه المحظورة على المحرم لا نيته ليحج أو يعتمر سمي الدخول في النسك إحرامًا لأن المحرم بإحرامه حرم على نفسه أشياء كانت مباحة له من النكاح، والطيب، والصيد، وأشياء من اللباس ونحوها، ومنه في الصلاة ((تحريمها التكبير)) - انتهى. وقال ابن قاسم الحنبلي: الإحرام لغة: الدخول في التحريم، لأنه يحرم على نفسه بنيته ما كان مباحًا له قبل الإحرام من النكاح والطيب والتقليم والحلق وأشياء من اللباس ونحو ذلك. وشرعًا: نية الدخول في النسك مع التلبية أو سوق الهدي، لا نية أن يحج أو يعتمر، فإن ذلك لا يسمى إحرامًا، وكذا التجرد وترك سائر المحظورات لكونه محرمًا بدونها. وقال الشيخ (يعني ابن تيمية) لا يكون الرجل محرمًا بمجرد ما في قلبه من قصد الحج ونيته، فإن القصد ما زال في القلب منذ خرج من بلده، بل لابد من قول

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ أو عمل يصير به محرمًا، هذا هو الصحيح من القولين - انتهى. وفى تحفة المحتاج بشرح المنهاج لابن حجر الهيتمى المكي: الإحرام يطلق على نية الدخول في النسك، وبهذا الاعتبار أي المعنى يعد ركنًا، وعلى نفس الدخول فيه بالنية لاقتضاءه دخول الحرم، كأنجد إذا دخل نجدًا، وتحريم الأنواع الآتية. وهذا هو الذي يفسده الجماع وتبطله الردة، وهو أي المعنى الثاني المراد هنا. قال الشرواني في حاشيته: قوله: ((يطلق على نية الدخول)) إلخ. أي يطلق شرعًا على الفعل المصدري فيراد به نية الدخول في النسك، إذ معنى ((أحرم به)) نوى الدخول في ذلك، ويطلق على الأثر الحاصل بالمصدر فيراد به نفس الدخول في النسك، أي الحالة الحاصلة المترتبة على النية. قال: وقد يقال: المراد به (أي بالنسك) هنا حالة حرم عليه بها ما كان حلالاً - انتهى. وقال ابن دقيق العيد: الإحرام الدخول في أحد النسكين والتشاغل بأعمالهما، وقد كان شيخنا العلامة أبو محمد بن عبد السلام يستشكل معرفة حقيقة الإحرام جدًا، ويبحث فيه كثيرًا، وإذا قيل: إنه النية اعترض عليه بأن النية شرط في الحج الذي الإحرام ركنه وشرط الشيء غيره، ويعترض على أنه التلبية بأنها ليست بركن، والإحرام ركن هذا أو قريب منه، وكان يحرم على تعيين فعل تتعلق به النية في الابتداء - انتهى. وفى الشرح الكبير للدردير: وركن الحج والعمرة ثلاثة: الأول: الإحرام وهو: نية أحد النسكين مع قول أو فعل متعلقين به كالتلبية والتجرد من المخيط والراجح أنه النية فقط. قال الدسوقي: قوله ((الراجح النية)) أي نية الدخول في حرمات الحج أو العمرة، وأما التلبية والتجرد فكل منهما واجب على حدته يجبر بالدم - انتهى. وقال ابن العربي في عارضة الأحوذى: ينعقد الحج بمجرد النية عندنا وإن لم ينطق به، وقال الشافعي، وأبو حنيفة: لا ينعقد إلا بالنية والتلبية أو سوق الهدي. وقال أبو عبد الله الزبيري من أصحاب الشافعي: لا ينعقد إلا بالنية والتلبية خاصة - انتهى. وفى الهداية: ولا يصير شارعًا في الإحرام بمجرد النية ما لم يأت بالتلبية خلافًا للشافعي لأنه عقد على الأداء فلابد من ذكر، كما في تحريمه الصلاة، ويصير شارعًا بذكر يقصد به التعظيم سوى التلبية فارسية كانت أو عربية، هذا هو المشهور عن أصحابنا، والفرق بينه وبين الصلاة على قولهما أن باب الحج أوسع من باب الصلاة حتى يقام غير الذكر مقام الذكر كتقليد البدن، فكذا غير التلبية وغير العربية. قال ابن الهمام: قوله ((خلفًا للشافعي)) في أحد قوليه، وروي عن أبى يوسف كقوله قياسًا على الصوم، إلى آخر ما قال. وقال ابن رشد: اتفقوا على أن الإحرام لا يكون إلا بنية، واختلفوا هل تجزئ النية فيه من غير التلبية؟ فقال مالك، والشافعي: تجزئ النية من غير التلبية، وقال أبو حنيفة: التلبية في الحج كالتكبيرة في الإحرام بالصلاة، إلا أنه يجزئ عنده كل لفظ يقوم مقام التلبية كما في افتتاح الصلاة عنده - انتهى. وقال ابن قدامة (ج3: ص281) : يستحب للإنسان النطق بما أحرم به ليزول الالتباس، فإن لم ينطق بشيء واقتصر على مجرد النية كفاه في قول إمامنا ومالك، والشافعي. وقال أبو حنيفة: لا ينعقد بمجرد النية حتى تضاف إليها التلبية أو سوق الهدي لما روي من حديث خلاد بن السائب (الآتي في الفصل الثاني) ولأنها عبادة ذات تحريم وتحليل فكان لها نطق واجب كالصلاة....

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولنا أنها عبادة ليس في آخرها نطق واجب فلم يكن في أولها كالصيام. والحديث المراد به الاستحباب فإن منطوقه رفع الصوت، ولا خلاف في أنه غير واجب فما هو من ضرورته أولى، ولو وجب النطق لم يلزم كونه شرطًا، فإن كثيرًا من واجبات الحج غير مشترطة فيه، والصلاة في آخرها نطق واجب بخلاف الحج والعمرة. قال: والتلبية في الإحرام مسنونة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلها وأمر برفع الصوت بها، وأقل أحوال ذلك الاستحباب. ثم ذكر حديث: العج والثج، وحديث سهل ابن سعد الآتي في الفصل الثاني، ثم قال: وليست بواجبة، وبهذا قال الحسن بن حي، والشافعي، وعن أصحاب مالك أنها واجبة يجب بتركها دم، وعن الثوري وأبى حنيفة: أنها من شرط الإحرام لا يصح إلا بها كالتكبير للصلاة، لأن ابن عباس قال في قوله تعالى: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} قال ابن عباس: الإهلال، وعن عطاء، وطاوس، وعكرمة: هو التلبية، ولأن النسك عبادة ذات إحرام وإحلال فكان فيها ذكر واجب كالصلاة، ولنا أنها ذكر فلم تجب في الحج كسائر الأذكار، وفارق الصلاة، فإن النطق يجب في آخرها فوجب في أولها، والحج بخلافه - انتهى. وقال في حدائق الأزهار: وإنما ينعقد (أي الإحرام) بالنية مقارنة لتلبية أو تقليد. قال الشوكاني: أقول: الإحرام هو مصير الشخص من الحالة التي كان يحل له فيها ما يحرم عليه بعدها إلى الحالة التي يحرم عليه بعدها إلى الحالة التي يحرم عليه فيها ما كان يحل له فيها. ولو لم يكن إلا مجرد الكف عن محظورات الإحرام لكان ذلك معنى معقولاً لكل عاقل، كالصوم فإنه ليس إلا الكف عن تناول المفطرات. فمن قال إنه لا يعقل معنى الإحرام وإنه ليس هناك إلا مجرد النية وإن النية لا تنوى وإلا لزم التسلسل، فقد أخطأ خطأ بينًا ومعلوم أن الشريعة المطهرة بعضها أوامر وبعضها نواه، والتعبد في النواهي ليس إلا بالكف فيلزمه أن يطرد هذا التشكيك الركيك في شطر الشريعة. وأما إيجاب النية فقد عرفناك غير مرة أن كل عمل يحتاج إلى النية والعمل يشمل الفعل والترك والقول والفعل، وعرفناك أن ظاهر الأدلة يقتضي أن النية شرط في جميع ما تقدم من العبادات لدلالة أدلتها على أن عدمها يؤثر في العدم، وهذا هو معنى الشرط عند أهل الأصول. وأما كون النية تقارن التلبية فقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دواوين الإسلام من غير وجه أنه أهل ملبيًا. وقد قدمنا لك أن أفعاله وأقواله في الحج محمولة على الوجوب لأنها بيان لمجمل القرآن وامتثال لأمره - صلى الله عليه وسلم - لأمته أن يأخذوا عنه مناسكهم. فمن ادعى في شيء منها أنه غير واجب فلا يقبل منه ذلك إلا بدليل. وأما كونها تقارن التقليد فلما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في عام الحديبية ((أنه لما كان بذي الحليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم بالعمرة)) . وقال في غنية الناسك بعد ذكر صفة التلبية وحكمها وذكر كيفية الإحرام، والحاصل أن التلبية: فرض، وسنة، ومستحب، ومؤكد، ومندوب، فالفرض: مرة واحدة عند الإحرام والزيادة على المرة سنة، وعند تغير الحالات مستحب مؤكد، والإكثار منها من غير تغير مندوب - انتهى. وقال الحافظ في الفتح: في التلبية مذاهب أربعة يمكن توصيلها إلى عشرة الأول: أنها سنة من السنن لا يجب بتركها شيء، وهو قول الشافعي وأحمد، ثانيها: واجبة، ويجب بتركها دم، حكاه الماوردي عن ابن

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ أبى هريرة من الشافعية وقال: إنه وجد للشافعي نصًا يدل عليه، وحكاه ابن قدامة عن بعض المالكية، والخطابي عن مالك وأبى حنيفة. قلت: وهو مختار أصحاب الفروع من المالكية. قال الدسوقي: والحاصل أن التلبية في ذاتها واجبة وعدم الفصل بينها وبين الإحرام بكثير واجب أيضاً ومقارنتها للإحرام سنة وتجديدها مستحب - انتهى. قال الحافظ: وحكى ابن العربي أنه يجب عندهم بترك تكرارها دم، وهذا قدر زائد على أصل الوجوب. ثالثها: واجبة لكن يقوم مقامها فعل يتعلق بالحج كالتوجه على الطريق، وبهذا صدر ابن شاس من المالكية كلامه في الجواهر له. وحكى صاحب الهداية من الحنفية مثله لكن زاد القول الذي يقوم مقام التلبية من الذكر كما في مذهبهم من أنه لا يجب لفظ معين وقال ابن المنذر: قال أصحاب الرأي: إن كبر أو هلل أو سبح ينوي بذلك الإحرام فهو محرم. رابعها: أنها ركن في الإحرام لا ينعقد بدونها حكاه ابن عبد البر عن الثوري، وأبى حنيفة، وابن حبيب، والزبيري من الشافعية، وأهل الظاهر قالوا: هي نظير تكبيرة الإحرام للصلاة، ويقويه ما تقدم من بحث ابن عبد السلام عن حقيقة الإحرام، وهو قول عطاء. أخرجه سعيد بن منصور بإسناد صحيح عنه. قال: التلبية فرض الحج، وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر، وطاوس، وعكرمة، وحكى النووي عن داود أنه لابد من رفع الصوت بها، وهذا قدر زائد على أصل كونها ركنًا - انتهى. وقال ابن رشد: كان مالكًا لا يرى التلبية من أركان الحج، ويرى على تاركها دمًا، وكان غيره يراها من أركانه، وحجة من رآها واجبة أن أفعاله - صلى الله عليه وسلم - إذا أتت بيانًا لواجب أنها محمولة على الوجوب حتى يدل الدليل على غير ذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: خذوا عني مناسككم - انتهى. وقال القاري في شرح النقاية: فرض الحج الإحرام بإجماع الأمة وهو عندنا شرط الأداء لا ركن كما قال الشافعي، ومالك، لأنه يدوم إلى الحلق ولا ينتقل إلى غيره، ويجامع كل ركن في الجملة ولو كان ركنًا لما كان كذلك - انتهى. وقد علم مما ذكرنا من كلام أصحاب الفروع وغيرهم أن ها هنا عدة مسائل: الأولى: أن الإحرام فرض للحج والعمرة وهي مما أجمعوا عليه. والثانية: هل هو شرط أو ركن؟ وهى خلافية، فذهبت الحنفية إلى أنه شرط وقالت المالكية والشافعية والحنابلة: إنه ركن. والثالثة: أنه لابد من النية وهى إجماعية. والرابعة: هل التلبية فرض للإحرام؟ وقد اختلفوا فيه فعند الحنفية: شرط، وعند المالكية: واجب، وعند الشافعية والحنابلة: سنة. وفي تركها أو ترك اتصالها بالإحرام هدي عند القائلين بالوجوب وبالشرطية إذا انعقد الإحرام بدونها من قول أو فعل متعلق به. والخامسة: هل لابد من التلبية خاصة أو يجزئ كل ذكر يقصد به التعظيم سوى التلبية أو ما يقوم مقامه مما هو من خصوصيات الحج والعمرة من تقليد البدنة مع السوق، وهي أيضاً خلافية، كما يدل عليه كلام صاحب الهداية وغيره. والسادسة: أنه إذا نوى بقلبه ما يحرم به من حج أو عمرة أو قران أو نسك من غير تعيين وعزم من قلبه على ذلك فهل يتلفظ بالنية مع ذلك ويقول: نويت الحج أو العمرة لله؟ فقالت الحنفية التلفظ بالنية مع ذلك حسن ليجتمع القلب

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ واللسان، قال ابن الهمام وغيره من محققي الحنفية: إن التلفظ بالنية مع ذلك إنما يحسن لمن لا يجتمع عزيمة قلبه أما من اجتمعت عزيمته فلا يحسن له في جميع العبادات، بل هو بدعة - انتهى. وفى ((تحفة المحتاج)) من فروع الشافعية: المحرم أي مريد الإحرام ينوي بقلبه وجوبًا، لخبر ((إنما الأعمال بالنيات)) ولسانه ندبًا للإتباع، وعقبهما يلبي ندبًا فيقول: ((نويت الحج وأحرمت به لله تعالى، لبيك اللهم)) ، إلخ. قال الشرواني: قوله: ((ينوى بقلبه)) إلخ، أي دخوله في حج أو عمرة أو كليهما، وقوله: ((ولسانه ندبًا للإتباع)) إن أراد الإتباع في هذا أيضاً فقد ذكر المحقق ابن الهمام في شرحه على الهداية أنه لم يعلم أن أحدًا من الرواة لنسكه - صلى الله عليه وسلم - روى أنه سمعه - صلى الله عليه وسلم - يقول: نويت العمرة ولا الحج - انتهى. وفي شرح مختصر خليل لبهرام: ومما يستحب عند الإحرام ترك التلفظ بما يحرم به، وروى عن مالك كراهة التلفظ بذلك - انتهى. قلت: قد تواترت الروايات المصرحة بأنه - صلى الله عليه وسلم - أحرم من ذي الحليفة وسمى وعين ما أحرم به من إفراد أو قران أو تمتع، واتفقت على تعيين النسك في التلبية الأولى التي تكون عند عقد الإحرام وإن اختلفت في نوعه، وصرحت أيضاً بأنه - صلى الله عليه وسلم - لبى عند ذلك كما ورد في الروايات، وقال: خذوا عني مناسككم، فعلينا أن نأخذ عنه من مناسكنا الإحرام والتلبية والتسمية، وهذا القدر هو الذي قام عليه الدليل، أما كون الإحرام شرطًا أو ركنًا وكون التلبية مسنونة أو مستحبة أو واجبة يصح الحج بدونها وتجبر بدم، وكذا كون الذكر الدال على تعظيم الله سوى التلبية مجزئًا والتلفظ بالنية بأن يقول: نويت العمرة، أو: نويت الحج، أو: نويت العمرة والحج، أو: اللهم إني أريد العمرة أو الحج، أو: اللهم إني أهل أو أحرم بكذا، فكل ذلك لم يرد فيه دليل خاص، والخير كله في إتباعه - صلى الله عليه وسلم -، فعلى كل من وصل إلى ميقاته ممن يريد الحج أو العمرة أن يحرم وينوي بقلبه الدخول في النسك الذي يريده ويعزم عليه بقلبه لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)) ويشرع له التلفظ بما نوى كما نقل، فإن كانت نية العمرة قال: لبيك عمرة، أو: اللهم لبيك عمرة، وإن كانت نية الحج قال: لبيك حجًا، أو: اللهم لبيك حجًا. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك. ولا يشرع له التلفظ بما نوى إلا في الإحرام خاصة لوروده عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأما الصلاة والطواف والصيام وغير ذلك من العبادات فلا ينبغي له أن يتلفظ بشيء منها بالنية، لأن ذلك لم يثبت، ولو كان التلفظ بالنية مشروعًا لبينه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأوضحه للأمة بفعله أو قوله، ولسبق إليه السلف الصالح، هذا والتلبية مصدر لبى أي قال: ((لبيك)) قال العيني: هي مصدر من لبى يلبى، وأصله لبب على وزن فعّل لا فعلل فقلبت الباء الثالثة ياء استثقالاً لثلاث باءات ثم قلبت ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وما قال صاحب التلويح من أن قولهم: لبى مشتق من لفظ لبيك كما قالوا: حمدل وحوقل، ليس بصحيح، ثم بسط في الرد والتعقب عليه، قال: ومعنى التلبية الإجابة، فإذا قال الرجل لمن دعاه: ((لبيك)) فمعناه أجبت لك فيما قلت.

(الفصل الأول)

(الفصل الأول) 2564- (1) عن عائشة، قالت: كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل أن يحرم، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2564- قوله: (كنت أطيب) أي أعطر (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال الحافظ: استدل بقولها: ((كنت أطيب)) على أن ((كان)) لا تقتضي التكرار لأنها لم يقع منها ذلك إلا مرة واحدة، وقد صرحت في رواية عروة عنها بأن ذلك كان في حجة الوداع كما سيأتي في كتاب اللباس (أي عند البخاري) كذا استدل به النووي في شرح مسلم، وتعقب بأن المدعي تكراره إنما هو التطيب لا الإحرام، ولا مانع من أن يتكرر التطيب لأجل الإحرام مع كون مرة واحدة، ولا يخفى ما فيه. وقال النووي في موضع آخر: المختار أنها لا تقتضي تكرارًا ولا استمرارًا، وكذا قال الفخر في المحصول وجزم ابن الحاجب بأنها تقتضيه. قال: ولهذا استفدنا من قولهم: ((كان حاتم يقري الضيف)) ، أن ذلك كان يتكرر منه. وقال جماعة من المحققين: إنها تقتضي التكرار ظهورًا، وقد تقع قرينة تدل على عدمه، لكن يستفاد من سياقه لذلك المبالغة في إثبات ذلك، والمعنى أنها كانت تكرر فعل التطيب لو تكرر منه فعل الإحرام لما اطلعت عليه من استحبابه لذلك، على أن هذه النقطة لم تتفق الرواة عنها عليها، فرواها مالك عند الشيخين، وتابعه منصور عند مسلم، ويحيى بن سعيد عند النسائي كلهم عن عبد الرحمن بن القاسم شيخ مالك بلفظ ((كنت)) ورواه سفيان بن عينة عن عبد الرحمن بن القاسم عند البخاري بلفظ ((طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) وكذا سائر الطرق ليس فيها صيغة ((كان)) انتهى بزيادة يسيرة. وتعقب العيني كلام الحافظ أن ((سائر الطرق ليس فيها صيغة كان)) وبسط الروايات التي وردت بصيغة كان، وقال بعد ذكر استدلال النووي، وما اعترض به عليه: قال الإمام فخر الدين: إن ((كان)) لا تقتضي التكرار ولا الاستمرار (أي عرفًا ولا لغةً) وجزم ابن الحاجب بأنها تقتضيه وقال بعض المحققين: تقتضي التكرار ولكن قد تقع قرينة تدل على عدمه. قلت (قائله العيني) ((كان)) تقتضي الاستمرار بخلاف ((صار)) ولهذا لا يجوز أن يقال في موضع: ((كان الله)) ((صار)) - انتهى. وذكر الشيخ تقى الدين في شرح العمدة أنها تدل عليه عرفًا لا لغةً. والله تعالى أعلم (لإحرامه) أي عند إرادته فعل الإحرام لأجل دخوله فيه (قبل أن يحرم) أي يدخل فيه، وفي رواية للنسائي: ((عند إحرامه حين أراد أن يحرم)) ولمسلم نحوه، واستدل به على استحباب التطيب عند إرادة الإحرام وأنه لا بأس باستدامته بعد الإحرام، ولا يضر بقاء لونه ورائحته، وإنما يحرم ابتداؤه في الإحرام. قال الولي العراقي في ((طرح التثريب)) (ج5: ص75) : وهذا مذهب الشافعي، وأبي حنيفة، وأبى يوسف، وأحمد بن حنبل، وحكاه ابن المنذر عن سعد بن أبى وقاص، وابن الزبير، وابن عباس، وإسحاق، وأبى ثور، وأصحاب الرأي، وحكاه الخطابي عن أكثر الصحابة، وحكاه ابن عبد البر عن أبى سعيد الخدري، وعبد الله بن جعفر، وعائشة، وأم حبيبة، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، والشعبي، والنخعي

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ وخارجة بن زيد، ومحمد بن الحنفية. قال: واختلف في ذلك عن الحسن، وابن سيرين، وسعيد بن جبير، وقال به الثوري، والأوزاعي، وداود، وحكاه النووي عن جمهور العلماء من السلف والخلف والمحدثين والفقهاء، وعد منهم غير من قدمنا معاوية. وحكاه ابن قدامة عن ابن جريج. قال ابن المنذر: وبه أقول. وذهب مالك إلى منع أن يتطيب قبل الإحرام بما تبقى رائحته بعده، لكنه قال: إن فعل فقد أساء ولا فدية عليه. وحكى الشيخ أبو الظاهر قولاً بوجوب الفدية وعلله بأن بقاء الطيب كاستعماله، وقال محمد بن الحسن: يكره أن يتطيب قبل الإحرام بما تبقى عينه بعده، وحكى ابن المنذر عن عطاء كراهة التطيب قبل الإحرام، وحكاه النووي عن الزهري. قال القاضي عياض: وحكي أيضاً عن جماعة من الصحابة والتابعين. وقال ابن عبد البر: وممن كره الطيب للمحرم قبل الإحرام عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعبد الله بن عمر، وعثمان بن أبى العاص، وعطاء، وسالم بن عبد الله على اختلاف عنه، والزهري، وسعيد بن جبير والحسن، وابن سيرين على اختلاف عنهم، وهو اختيار أبى جعفر الطحاوي إلا أن مالكًا كان أخفهم في ذلك قولاً، ذكر ابن عبد الحكم عنه قال: وترك الطيب عند الإحرام أحب إلينا - انتهى. وقال الشنقيطي في أضواء البيان (ج5: ص448) : اعلم أن العلماء اختلفوا في التطيب عند إرادة الإحرام قبله بحيث يبقى أثر الطيب وريحه أو عينه بعد التلبس بالإحرام هل يجوز ذلك؟ لأنه وقت الطيب غير محرم، والدوام على الطيب ليس كابتدائه كالنكاح عند من يمنعه في حال الإحرام مع إباحة الدوام على نكاح معقود قبل الإحرام، أو لا يجوز ذلك؟ لأن وجود ريح الطيب أو عينه أو أثره في المحرم بعد إحرامه كابتدائه للتطيب، ولأنه متلبس حال الإحرام بالطيب، مع أن الطيب منهي عنه في الإحرام فقال جماهير من أهل العلم: إن الطيب عند إرادة الإحرام مستحب. قال النووي في شرح المهذب: قد ذكرنا أن مذهبنا استحبابه، وبه قال جمهور العلماء من السلف والخلف والمحدثين والفقهاء، منهم: سعد بن أبى وقاص، وابن عباس، وابن الزبير، ومعاوية، وعائشة، وأم حبيبة، وأبو حنيفة، والثوري، وأبو يوسف، وأحمد وإسحاق، وأبو ثور، وابن المنذر، وداود وغيرهم إلخ. وقال النووي في شرح مسلم: وبه قال خلائق من الصحابة والتابعين وجماهير الفقهاء والمحدثين منهم: سعد بن أبى وقاص، وابن عباس إلى آخره كما في شرح المهذب. وقال ابن قدامة في المغني: يستحب لمن أراد الإحرام أن يتطيب في بدنه خاصة، ولا فرق بين ما يبقى عينه كالمسك والغالية أو أثره كالعود، والبخور، وماء الورد، هذا قول ابن عباس، وابن الزبير، وسعد بن أبى وقاص، وعائشة، وأم حبيبة، ومعاوية. وروى عن محمد بن الحنفية، وأبى سعيد الخدري، وعروة، والقاسم، والشعبي، وابن جريج إلخ. وقال جماعة آخرون من أهل العلم: لا يجوز التطيب عند إرادة الإحرام، فإن فعل ذلك لزمه غسله حتى يذهب أثره وريحه. وهذا هو مذهب مالك. قال النووي في شرح مسلم: وقال آخرون بمنعه منهم: الزهري ومالك ومحمد بن الحسن، وحكي أيضاً عن جماعة من الصحابة والتابعين إلخ. وقال ابن قدامة في المغني: وكان عطاء يكره ذلك وهو قول مالك، وروى ذلك عن عمر، وعثمان، وابن عمر رضي الله

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ عنهم إلخ – انتهى. قلت: هكذا أطلق ((مذاهب الأئمة الأربعة)) عامة شراح الحديث كالحافظ والنووي والعيني، ونقلة المذاهب كابن رشد، وابن قدامة، وابن عبد البر، وابن المنذر وغيرهم، لكن في فروعهم تفاصيل في هذه المسألة، ففي مفيد الأنام لابن جاسر النجدي: ((ويسن لمريد الإحرام أن يتطيب ولو امرأة غير محدة لحرمة الطيب عليها، في بدنه سواء كان الطيب مما تبقى عينه كالمسك أو أثره كالعود، والبخور، وماء الورد لقول عائشة: كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل أن يحرم - الحديث. قال شيخ الإسلام (يعني ابن تيمية) : وكذلك إن شاء المحرم أن يتطيب في بدنه فهو حسن ولا يؤمر المحرم قبل الإحرام بذلك، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله ولم يأمر به الناس - انتهى. ويكره لمريد الإحرام تطييبه ثوبه الذي يريد الإحرام فيه، فإن طيبه فله استدامة لبسه ما لم ينزعه، فإن نزعه فليس له لبسه والطيب فيه لأن الإحرام يمنع الطيب ولبس المطيب دون الاستدامة، فإن لبسه بعد نزعه وأثر الطيب باق لم يغسله حتى يذهب، فدى لاستعماله الطيب، أو نقل الطيب من موضع بدنه إلى موضع آخر، أو تعمد مسه بيده فعلق الطيب بها، أو نحى الطيب عن موضعه ثم رده إليه بعد إحرامه فدى، لأنه ابتداء للطيب، فإن ذاب الطيب بالشمس أو بالعرق فسال إلى موضع آخر من بدن المحرم فلا شيء عليه لحديث عائشة قالت: كنا نخرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة فنضمد جباهنا بالمسك عند الإحرام، فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراها النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا ينهاها. رواه أبو داود - انتهى. وهكذا ذكر في ((الروض المربع)) من فروع الحنابلة، ومذهب الشافعية في الطيب عند الإحرام كمذهب الحنابلة، ففي ((روضة المحتاجين)) : يسن أن يتطيب في بدنه للإحرام قبله ولو بما له جرم، ولا بأس باستدامته بعده. لكن لو نزع ثوبه المطيب وإن كان لا يسن تطييبه ثم لبسه ورائحة الطيب موجودة فيه لزمه الفدية في الأصح، كما لو ابتدأ لبس الثوب المطيب أو أخذ الطيب من بدنه ثم رده إليه، ولا عبرة بانتقال الطيب بإسالة العرق، ولو تعطر ثوبه من بدنه لم يضر جزمًا - انتهى. وفى الدر المختار: وطيب بدنه إن كان عنده لا ثوبه بما تبقى عينه، هو الأصح. قال ابن عابدين: قوله: ((طيب بدنه)) أي استحبابًا عند الإحرام ولو بما تبقى عينه كالمسك والغالية هو المشهور. قال: والفرق بين الثوب والبدن أنه اعتبر في البدن تابعًا، والمتصل بالثوب منفصل عنه. وأيضاً المقصود من استنانه وهو حصول الارتفاق حالة المنع منه حاصل بما في البدن فأغنى عن تجويزه في الثوب - انتهى. وفى البحر الرائق: يسن له استعمال الطيب في بدنه قبيل الإحرام بما تبقى عينه بعده أولا تبقى وكرهه محمد بما تبقى، وقيدنا بالبدن إذ لا يجوز التطيب في الثوب بما تبقى عينه على قول الكل على إحدى الروايتين عنهما. قالوا: وبه نأخذ. والفرق لهما بينهما أنه اعتبر في البدن تابعًا على الأصح، وما بالثوب منفصل عنه فلم يعتبر تابعًا - انتهى. واختار الطحاوي قول محمد ورجحه في شرح الآثار، لكنه لم يذكر الفرق بين الثوب والبدن في قول الشيخين وكذا لم يفرق بينهما محمد في موطأه. وكذا لا ذكر للفرق بينهما في عامة كتب الحنفية، نعم فرق بينهما ابن الهمام، وقال بعد ذكر الفرق الذي تقدم عن ابن نجيم في البحر: وقد قيل: يجوز في الثوب أيضاً على قولهما

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال في ((غنية الناسك)) : أما الثوب فلا يجوز أن يطيب بما تبقى عينه بعد الإحرام إجماعًا. وقيل يجوز في الثوب أيضاً عندهما كما في الفتح والبحر، والأولى أن لا يطيب ثوبه كما في اللباب - انتهى. وقال الباجى: إن مالكًا لا يجيز لأحد من الأمة استعمال الطيب عند الإحرام إذا كان طيب تبقى له رائحة بعد الإحرام، ولا يدهن بدهن فيه ريح تبقى، وإن تطيب لإحرامه فلا فدية عليه، لأن الفدية بإتلاف الطيب في وقت ممنوع من إتلافه وهذا أتلفه قبل ذلك، وإنما تبقى منه بعد الإحرام الرائحة، وليس ذلك بإتلاف فتجب الفدية، ورأيت لبعض الفقهاء أن من تطيب قبل الإحرام بما تبقى رائحته فهو بمنزلة من تطيب بعد الإحرام، لأن استدامته كابتداء التطيب، فإن أراد بذلك أنه ممنوع في الحالتين فهو صحيح، وإن أراد به وجوب الفدية فليس بصحيح لأنها إنما تجب بإتلاف الطيب أو لمسه - انتهى. وفى الشرح الكبير للدردير: وحرم عليهما تطيب بكورس إلا طيبًا يسيرًا باقيًا في ثوبه أو بدنه مما تطيب به قبل إحرام فلا فدية عليه وإن كره. قال الدسوقي: أي بشرط أن يكون الباقي أثره أو ريحه مع ذهاب جرمه، هذا مقتضى كلام سند، والذي يظهر من كلام الباجي وغيره أنها لا تسقط الفدية إلا في بقاء ريحه دون الأثر، فقد اتفق الجميع على أنه إذا كان الباقي شيئًا من جرمه فالفدية واجبة. وإن كان الباقي رائحته فلا فدية. والخلاف فيما إذا كان الباقي أثره أي لونه دون جرمه، فقيل بعدم وجوبها وقيل بوجوبها - انتهى. قال الشنقيطي: أظهر قولي أهل العلم عندي أنه إن طيب ثوبه قبل الإحرام فله الدوام على لبسه كتطييب بدنه، وإنه إن نزع عنه ذلك الثوب المطيب بعد إحرامه فليس له أن يعيد لبسه، فإن لبسه صار كالذي ابتدأ الطيب في الإحرام فتلزمه الفدية، وكذلك إن نقل الطيب الذي تلبس به قبل الإحرام من موضع من بدنه إلى موضع آخر بعد الإحرام فهو ابتداء تطيب في ذلك الموضع الذي نقله إليه وكذلك إن تعمد مسه بيده أو نحاه من موضعه ثم رده إليه لأن كل تلك الصور فيها ابتداء تلبس جديد بعد الإحرام بالطيب وهو لا يجوز. أما إن كان قد عرق فسال الطيب من موضعه إلى موضع آخر فلا شيء عليه في ذلك لأنه ليس من فعله، ولحديث عائشة عند أبى داود الذي ذكرناه قريبًا , وقال بعض علماء المالكية: ولا فرق في ذلك بين أن يكون الطيب في بدنه أو ثوبه، إلا أنه إذا نزع ثوبه لا يعود إلى لبسه، فإن عاد فهل عليه في العود فدية؟ يحتمل أن نقول: لا فدية، لأن ما فيه قد ثبت له حكم العفو كما لو لم ينزعه، وقال أصحاب الشافعي: تجب عليه الفدية لأنه لبس جديد وقع بثوب مطيب - انتهى من الحطاب. قلت: واحتج الجمهور القائلون باستحباب الطيب عند الإحرام بحديث عائشة الذي نحن في شرحه، وقد وقع في رواية عنها عند مسلم، قالت: طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي بذريرة في حجة الوداع للحل والإحرام. قال الجزري: الذريرة نوع من الطيب مجموع من أخلاط. وقال النووي: هي فتات قصب طيب يجاء به من الهند. وفي لفظ عند مسلم أيضاً عن عروة قال: سألت عائشة رضي الله عنها بأي شيء طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند إحرامه؟ قالت:

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ بأطيب الطيب وفي رواية: ((بأطيب ما أقدر عليه قبل أن يحرم، ثم يحرم)) وفي رواية عنها: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يحرم، يتطيب بأطيب ما يجد ثم أرى وبيص الدهن في رأسه ولحيته)) وفي لفظ عنها: ((قالت: كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يحرم، ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك)) كل هذه الألفاظ في صحيح مسلم. قالوا: فهذا الحديث دليل صريح في مشروعية الطيب قبل الإحرام وإن كان أثره باقيًا بعد الإحرام، بل ولو بقى عينه وريحه، لأن رويتها وبيص الطيب في مفارقه - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم صريح في ذلك. قالوا: وقد وردت آثار بذلك تدل على عدم خصوصية ذلك برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد روي عن سعد بن أبي وقاص أنه كان يفعل ذلك، وروي عن ابن عباس أنه أحرم وعلى رأسه مثل الرُب من الغالية. وقال مسلم بن صبيح: رأيت ابن الزبير وهو محرم وعلى رأسه ولحيته من الطيب ما لو كان لرجل لاتخذ منه رأس مال. واحتج الذين منعوا ذلك بحديث يعلى بن أمية التميمى الآتي في باب ما يجتنبه المحرم، فقد صرح فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بغسل الطيب الذي تضمخ به يعلى قيل الإحرام وأمر بإنقائه، فهو دليل واضح على أن من تضمخ بالطيب قبل إحرامه لا يجوز له الدوام بل يجب غسله وانقاؤه. وقد اعتضد حديث أبي يعلى هذا ببعض الآثار الواردة عن بعض الصحابة، منهم عمر، وعثمان، وابن عمر، وعثمان بن أبي العاص. قال المالكية ومن وافقهم: قد تبين بهذه الآثار المروية عن هؤلاء الصحابة أن حديث يعلى غير منسوخ. قالوا: وإنكار عمر ذلك في خلافته على صحابين معاوية، والبراء بن عازب، وعلى تابعي كبير كثير بن الصلت بمحضر الجمع الكثير من الناس صحابة وغيرهم مع عدم إنكار أحد عليه، من أقوى الأدلة على تأويل حديث عائشة. قلت: قد أجاب الجمهور عن حديث يعلى بوجهين: أحدهما أن قصته كانت بالجعرانة وهي سنة ثمان بلا خوف، وقد ثبت حديث عائشة الذي نحن في شرحه في حجة الوداع سنة عشر بلا خلاف، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من الأمر، والثاني أن المأمور بغسله في قصة يعلى إنما هو الخلوق لا مطلق الطيب. فلعل علة الأمر فيه ما خالطه من الزعفران، وقد ثبت النهي عن تزعفر الرجل مطلقًا محرمًا وغير محرم. وفي حديث ابن عمر: ((ولا يلبس أي المحرم من الثياب شيئًا مسه الزعفران)) وقد جاء مصرحًا في الحديث في مسند أحمد (ج4: ص224) ، والطحاوي (ص364) : ((قال له اخلع عنك هذه الجبة واغسل عنك الزعفران)) وأجاب المالكية عن حديث عائشة الذي احتج به الجمهور بوجوه منها أنهم حملوه على أنه تطيب، ثم اغتسل بعده، فذهب الطيب قبل الإحرام، قالوا: ويؤيد هذا قولها في الرواية الأخرى طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند إحرامه ثم طاف على نسائه ثم أصبح محرمًا، فظاهره أنه إنما تطيب لمباشرة نسائه ثم زال بالغسل بعده لا سيما وقد نقل أنه كان يتطهر من كل واحدة قبل الأخرى ولا يبقى مع ذلك طيب. ويكون قولها: ثم أصبح ينضح طيبًا، أي قبل غسله، وقد وقع في رواية للشيخين أن ذلك للطيب كان ذريرة وهي مما يذهبه الغسل. وقولها: ((كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم)) ، المراد به أثره لا جرمه، قاله القاضي عياض. وقال ابن العربي:

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ ليس في شيء من طرق حديث عائشة أن عين الطيب بقيت. وأجيب عن ذلك بأن دعوى أن التطيب للنساء، يرده صريح الحديث في قولها: ((طيبته لإحرامه)) وادعاء أن اللام للتوقيت خلاف الظاهر، وادعاء أن الطيب زال بالغسل قبل الإحرام، ترده الروايات الصريحة عن عائشة أنها كانت تنظر إلى وبيص الطيب في مفرقه - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم، لأن الوبيص في اللغة: البريق، واللمعان، وهو وصف وجودي، والوصف الوجودي لا يوصف به المعدوم وإنما يوصف به الموجود، فدل على أن الطيب الموصوف بالوبيص موجود بعينه، وهو يرد قول ابن العربي: ((أنه لم يرد في شيء من طرق حديث عائشة أن عين الطيب بقيت)) ويؤيده ما رواه أبو داود في سننه. قال النووي: بإسناد حسن، من طريق عائشة بنت طلحة عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنا نخرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة فنضمد جباهنا بالمسك المطيب عند الإحرام، فإذا عرقت إحدانا سال علو وجهها، فيراه النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا ينهانا. والمسك بضم السين وتشديد الكاف نوع من الطيب يضاف إلى غيره من الطيب ويستعمل، فهذا حجة في جواز بقاء عين الطيب في المحرم بعد الإحرام إن كان استعماله للطيب يضاف إلى غيره من الطيب ويستعمل، فهذا حجة في جواز بقاء عين الطيب في المحرم بعد الإحرام إن كان استعماله للطيب قبل الإحرام. قال الحافظ: يرد دعوى أنه لم يبق للطيب أثر بعد الغسل، قوله في رواية أخرى للحديث المذكور: ثم أصبح محرمًا ينضح طيبًا، فهو ظاهر في أن نضح الطيب وهو ظهور رائحته كان في حال إحرامه ودعوى بعض المالكية أن فيه تقديمًا وتأخيرًا، والتقدير: طاف على نسائه ينضح طيبًا، ثم أصبح محرمًا، خلاف الظاهر. ويرده قوله في رواية عند مسلم: كان إذا أراد أن يحرم يتطيب بأطيب ما يجد، ثم أراه في رأسه ولحيته بعد ذلك، وللنسائي وابن حبان: رأيت الطيب في مفرقه بعد ثلاث وهو محرم وقال بعض المالكية: إن الوبيص كان بقايا الدهن المطيب الذي تطيب به فزال وبقى أثره من غير رائحة، ويرده قول عائشة: ((ينضح طيبًا)) وقال بعضهم: بقى أثره لا عينه. قال ابن العربى: ليس في شتى من طرق حديث عائشة أن عينه بقيت - انتهى. ثم ذكر الحافظ حديث عائشة بنت طلحة عن عائشة وقال: فهذا صريح في بقاء عين الطيب ولا يقال: إن ذلك خاص بالنساء لأنهم أجمعوا على أن الرجال والنساء سواء في تحريم استعمال الطيب إذا كانوا محرمين. وقال بعضهم: كان ذلك طيبًا لا رائحة له تمسكًا برواية الأوزاعي عن الزهري عن عروة عن عائشة: ((بطيب لا يشبه طيبكم)) قال بعض رواته: يعني لا بقاء له. أخرجه النسائي. ويرد هذا التأويل ما في الذي قبله، ولمسلم من رواية منصور بن زاذان عن عبد الرحمن بن القاسم: بطيب فيه مسك. وله من طريق الحسن بن عبيد الله عن إبراهيم: كأني أنظر إلى وبيص المسك. وللشيخين من طريق عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه: ((بأطيب ما أجد)) وللطحاوي، والدارقطني من طريق نافع عن ابن عمر عن عائشة: ((بالغالية الجيدة)) وهذا يدل على أن قولها: ((بطيب لا يشبه طيبكم)) أي أطيب منه، لا كما فهمه القائل يعني ليس له بقاء - انتهى. ومنها: أن ذلك التطيب خاص به - صلى الله عليه وسلم - وأجيب عن ذلك بأن حديث عائشة بنت طلحة عن عائشة المتقدم نص في عدم خصوص ذلك به

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى الله عليه وسلم - ويعضده الآثار المروية عن بعض الصحابة كما تقدم عن ابن عباس وابن الزبير. وأما إنكار عمر، وعثمان على بعض الصحابة فهو مما لا يعارض به الصحيح المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن سنته أولى بالاتباع من قول كل صحابي مع أنهم خالفهم بعض الصحابة وقد ثبت في صحيح مسلم أن عائشة أنكرت ذلك على ابن عمر رضي الله عنهم. قال الحافظ: ادعى المالكية أن ذلك من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - قاله المهلب وأبو الحسن القصار، وأبو الفرج من المالكية، قال بعضهم: لأن الطيب من دواعي النكاح فنهى الناس عنه وكان هو أملك الناس لإربه ففعله. ورجحه ابن العربي بكثرة ما ثبت له من الخصائص في النكاح، وقد ثبت عنه أنه قال: حبب إليّ النساء والطيب. أخرجه النسائي من حديث أنس، وتعقب بأن الخصائص لا تثبت بالقياس. وقال المهلب: إنما خص بذلك لمباشرته الملائكة لأجل الوحي. وتعقب بأنه فرع ثبوت الخصوصية، وكيف بها ويردها حديث عائشة بنت طلحة المتقدم، وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن عائشة قالت: طيبت أبي بالمسك لإحرامه حين أحرم. وقولها: طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي هاتين. أخرجه الشيخان. ومنها أن الدوام على الطيب بعد الإحرام كابتداء الطيب في الإحرام بجامع الاستمتاع بريح الطيب في حال الإحرام في كل منهما. وأجيب عن ذلك بأنه منتقض بالنكاح فإن ابتداء عقده في حال الإحرام ممنوع عند الجمهور خلافًا لأبى حنيفة مع الإجماع على جواز الدوام على نكاح وقع عقده قبل الإحرام، ثم أحرم بعد عقده الزوجان وهو دليل على أنه ما كل دوام كالابتداء، وقد تقرر في الأصول أن المانع بالنسبة إلى الابتداء والدوام ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: هو المانع للدوام والابتداء معًا كالحديث، فإنه مانع من ابتداء الصلاة، مانع من الدوام عليها إذا طرأ في أثناءها. والثاني: هو المانع للدوام فقط دون الابتداء كالطلاق فإنه مانع من الدوام على العقد الأول والاستمتاع بالزوجية بموجبه، وليس مانعًا من ابتداء عقد جديد والاستمتاع بها بموجبه. والثالث: هو المانع من الابتداء فقط دون الدوام كالنكاح بالنسبة إلى الإحرام، فإن الإحرام مانع من ابتداء العقد، وليس مانعًا من الدوام على عقد كان قبله. قالوا: ومن هذا الطيب فإن الإحرام مانع من ابتدائه، وليس مانعًا من الدوام عليه. ومنها أن حديث عائشة المذكور يقتضي إباحة الطيب لمن أراد الإحرام، وحديث يعلى بن أمية يقتضي منع ذلك والمقر في الأصول أن الدال على المنع مقدم على الدال على الإباحة والجواز، لأن ترك مباح أهون من ارتكاب حرام. وأجيب عنه بأن محل ذلك فيما إذا جهل المتقدم منهما، أما إذا علم المتقدم فإنه يجب الأخذ بالمتأخر، لأنهم كانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث، وقصة يعلى وقعت بالجعرانة عام ثمان بلا خلاف، وحديث عائشة في حجة الوداع عام عشر، ومن المقرر في الأصول أن النصين إذا تعارضا وعلم المتأخر منهما فهو ناسخ للأول كما هو معلوم في محله. ومنها أن حديث يعلى من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظه الصريح في الأمر بإزالة الطيب وإلقائه من البدن وظاهره العموم لأن خطاب الواحد يعم حكمه الجميع لاستواء الجميع في التكليف، والعموم القولي لا يعارضه فعل

ولحله قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك، ـــــــــــــــــــــــــــــ النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه مخصص له كما تقرر في الأصول. وأجيب عنه بما قدمنا آنفًا من الأدلة على ذلك الفعل الذي هو التطيب قبل الإحرام ليس خاصًا به كما دل عليه حديث عائشة المذكور. وقولها في الصحيح: ((طيبته بيدي هاتين)) صريح في أنها شاركته في ملابسة ذلك الطيب. ومنها قياس الطيب على اللبس، وتعقب بأن استدامة اللبس لبس واستدامة الطيب ليس بطيب، ويظهر ذلك بما لو حلف، كذا في الفتح هذا. وقد اتضح بما ذكرنا من أدلة الفريقين ومناقشتها أن القول الراجح المعول عليه هو ما ذهب إليه الجمهور. قال الشنقيطي: أظهر قولي أهل العلم عندي في هذه المسألة أن الطيب جائز عند إرادة الإحرام ولو بقيت ريحه بعد الإحرام لحديث عائشة المتفق عليه، ولإجماع أهل العلم على أنه آخر الأمرين، والأخذ بآخر الأمرين أولى كما هو معلوم، وقد علمت الأدلة على أنه ليس من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - وحديث عائشة بعد حديث يعلى بسنتين، أي فيتعين الأخذ بحديث عائشة (ولحله) أي لأجل خروجه من إحرامه بعد أن يرمي ويحلق (قبل أن يطوف بالبيت) أي طواف الإفاضة. وفي اللباس عند البخاري: قبل أن يفيض. وللنسائي: ((وحين يريد أن يزور البيت)) ولمسلم نحوه. وللنسائي في رواية أخرى: ((ولحله بعد ما يرمي جمرة العقبة قبل أن يطوف بالبيت)) قال القارى: قوله: ((قبل أن يطوف بالبيت)) متعلق بـ ((حله)) وفيه دليل على أن الطيب يحل بالتحلل الأول خلافًا لمن ألحقه بالجماع (بطيب) متعلق بأطيب (فيه مسك) قد تقدم في رواية أنه ذريرة، ولا تنافي إذ لا مانع أنهم كانوا يخلطون الذريرة بالمسك. قال الحافظ: واستدل به على حل الطيب وغيره من محرمات الإحرام بعد رمي الجمرة، ويستمر امتناع الجماع ومتعلقاته إلى الطواف بالبيت، وهو دال على أن للحج تحللين، فمن قال: عن الحلق نسك كما هو قول الجمهور وهو الصحيح عند الشافعية، يوقف استعمال الطيب وغيره من المحرمات المذكورة عليه. ويؤخذ ذلك من كونه - صلى الله عليه وسلم - في حجته رمى ثم حلق ثم طاف فلولا أن الطيب بعد الرمي والحلق لما اقتصرت على الطواف في قولها: ((قبل أن يطوف بالبيت)) - انتهى. والحاصل أن إضافة الحل إلى ما قبل الطواف يؤمي إلى أن الحل الأصغر أي التحلل الأول هو بعد الرمي والحلق وغيرهما ما سوى الطواف. واعلم أن ها هنا ثلاثة مسائل خلافية، الأولى: أن الحلاق هل هو نسك أو إطلاق من محظور أي استباحت محظور، فذهب الجمهور إلى الأول، واختلف فيه قول الشافعي، والصحيح عند الشافعية: أن الحلق نسك كما تقدم في كلام الحافظ. ولا شك أن الذي تدل نصوص الشرع على رجحانه أن الحلاق نسك على من أتم نسكه، وعلى من فاته الحج، وعلى المحصر بعدو، وعلى المحصر بمرض. قال ابن قدامة: والحلق والتقصير نسك، في الحج والعمرة في ظاهر مذهب أحمد، وقول الخرقي، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، والشافعي. وعن أحمد أنه ليس بنسك وإنما هو إطلاق من محظور كان محرمًا عليه بالإحرام فأطلق فيه عند الحل كاللباس والطيب وسائر محظورات الإحرام الثانية: أن التحلل الأول هل يحصل بالرمي والحلق معًا أو بالرمي فقط، فمن قال: إن الحلق نسك، قال:

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ إن التحلل الأول لا يكون إلا بعد الرمي والحلق معًا، ومن قال: إن الحلق غير نسك، قال: يحصل التحلل الأول بمجرد انتهائه من رمي جمرة العقبة يوم النحر، قال مالك: إذا رمى جمرة العقبة فقد حل له قتل القمل، وحلق الشعر، وإلقاء التفث ولبس الثياب. قال الزرقاني: ولم يبق عليه من محرمات الإحرام سوى النساء والصيد، وكره الطيب حتى يطوف للإفاضة - انتهى. قال الباجى: وذلك أن موانع الإحرام على ضربين: رفث، وإلقاء تفث، فالرفث هو الجماع، وما في معناه مما يدعو إليه، وأما إلقاء التفث فهو كحلق الشعر، وخلع ثياب الإحرام، فأما إلقاء التفث فهو مباح بأول التحللين وهو رمي الجمرة، وأما الرفث فإنه لا يستباح إلا بآخر التحللين وهو طواف الإفاضة - انتهى. قال الدردير: حل برميها أي جمرة العقبة، وكذا بخروج وقت أدائها غير جماع ومقدماته وغير صيد، فحرمتهما باقية، وكره الطيب وهذا هو التحلل الأصغر. ومذهب الحنفية في المشهور عندهم أن الرمي غير محلل، ولا يحصل التحلل عندهم إلا بالحلق أو التقصير، قال الشنقيطي (ج5: ص288) : مذهب مالك أنه بمجرد رمي جمرة العقبة يوم النحر يحل له كل شيء إلا النساء والصيد والطيب، والطيب مكروه عنده بعد رميها لإحرام. وإن طاف طواف الإفاضة وكان قد سعى حل له كل شيء. ومذهب أبى حنيفة أنه إذا حلق أو قصر حل التحلل الأول ويحل به كل شيء عنده إلا النساء، وإن طاف طواف الإفاضة حل له النساء، وهم يقولون: إن حل النساء بعد الطواف إنما هو بالحلق السابق لا بالطواف لأن الحلق هو المحلل دون الطواف غير أنه أخر عمله إلى ما بعد الطواف فإذا طاف عمل الحلق عمله، كالطلاق الرجعي أخر عمله إلى انقضاء العدة لحاجته إلى الاسترداد، فإذا انقضت عمل الطلاق عمله فبانت. والدليل على ذلك أنه لو لم يحلق حتى طاف بالبيت لم يحل له شتى حتى يحلق، وبذلك تعلم أن المدار عندهم على الحلق، إلا أن الحلق عندهم بعد رمي جمرة العقبة وبعد النحر إن كان الحاج يريد النحر، ومذهب الشافعي أنه على القول بأن الحلق نسك يحصل التحلل الأول باثنين من ثلاثة: هي رمي جمرة العقبة، والحلق، وطواف الإفاضة. فإذا فعل اثنين من هذه الثلاثة تحلل التحلل الأول، وإن فعل الثالث منها تحلل التحلل الثاني. وبالأول: يحل عنده كل شيء إلا النساء، وبالثاني: تحل النساء، وعلى القول بأن الحلق ليس بنسك، فالتحلل الأول يحصل بواحد من اثنين هما: رمي جمرة العقبة، وطواف الإفاضة، ويحصل التحلل الثاني بفعل الثاني، ومذهب الإمام أحمد أنه إن رمى جمرة العقبة ثم حلق تحلل التحلل الأول، وبه يحل عنده كل شيء إلا النساء. فإن طاف طواف الإفاضة حلت له النساء - انتهى. وقال ابن قدامة (ج3: ص392) : قول الخرقي: ((قصر من شعره ثم قد حل)) يدل على أنه لا يحل إلا بعد التقصير، وهذا ينبني على أن التقصير نسك وهو المشهور، فلا يحل إلا به، وفي رواية أخرى: أنه إطلاق من محظور. وقال أيضاً (ج3: ص439) : ظاهر كلام الخرقي أن الحل إنما يحصل بالرمي والحلق معا وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وهو قول الشافعي، وأصحاب الرأي لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ رميتم وحلقتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء، وترتيب الحل عليهما دليل على حصوله بهما. ولأنهما نسكان يتعقبهما الحل، فكان حاصلاً بهما. وعن أحمد إذا رمى الجمرة فقد حل، ولم يذكر الحلق، وهذا يدل على أن الحل بدون الحلق، وهذا قول عطاء، ومالك، وأبى ثور، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لقوله في حديث أم سلمة: إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء، وكذلك قال ابن عباس. قال بعض أصحابنا: هذا مبني على الخلاف في الحلق هل هو نسك أو لا؟ فإن قلنا: نسك حصل الحل به وإلا فلا. وفي الروض المربع: يحصل التحلل الأول باثنين من حلق، ورمي، وطواف، والتحلل الثاني بما بقى مع سعي - انتهى. وبه جزم النووي في مناسكه فقال: أي اثنين منها أتى بهما حصل التحلل الأول، ويحصل التحلل الثاني بالعمل الباقي من الثلاثة. هذا على المذهب الصحيح المختار أن الحلق نسك وقال الولي العراقي في طرح التثريب (ج5: ص80) : قال جمهور الفقهاء من أصحاب المذاهب الأربعة: للحج تحللان، ثم اختلفوا في أمرين (أحدهما) فيما يحصل به التحلل الأول، فقال الشافعية: إن قلنا إن الحلق نسك وهو الصحيح المشهور حصل التحلل الأول بفعل أمرين من ثلاثة أمور: وهي رمي جمرة العقبة، والحلق، وطواف الإفاضة مع سعيه إن لم يكن سعى عقب طواف القدوم، فإذا فعل اثنين منها أي اثنين كانا حصل التحلل الأول. وإن قلنا إن الحلق ليس نسكًا حصل التحلل الأول بواحد من الرمي والطواف، فأيهما فعله أولاً حل التحلل الأول، وعند أصحابنا يجوز تقديم بعض هذه الأمور على بعض، وترتيبها بتقديم الرمي ثم الحلق ثم الطواف مستحب فقط. قالوا: ولو لم يرم جمرة العقبة حتى خرجت أيام التشريق فات الرمي ولزمه دم، ويصير كأنه رمى بالنسبة لحصول التحلل به. والأصح عند الرافعي، والنووي أنه يتوقف تحلله على الإتيان ببدله، ولكن نص الشافعي على خلافه وحكى الرافعي وجهًا شاذًا أنه يحصل التحلل الأول بالرمي وحده أو الطواف وحده، ولو قلنا الحلق نسك. وقال الحنابلة: يحصل التحلل الأول بالرمي والحلق، وقال المالكية للحج تحللان يحصل أحدهما برمي جمرة العقبة والآخر بطواف الإفاضة، ولو قدم طواف الإفاضة على جمرة العقبة قال مالك، وابن القاسم: يجزئه وعليه هدي. وعن مالك أيضاً لا يجزئه، وهو كمن لم يفض، وقال أصبغ: أحب إلى أن يعيد الإفاضة وهو في يوم النحر آكد وقال الحنفية: إن التحلل الأول بالحلق خاصة دون الرمي والطواف فليسا من أسباب التحلل، وفرقوا بأن التحلل هو الجناية في غير أوانها، وذلك مختص بالحلق. وأما ذبح الهدي فليس مما يتوقف عليه التحلل، إلا أن الحنفية والحنابلة قالوا: إن المتمتع إذا كان معه هدي لا يحل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر ... (الأمر الثاني) فيما يحل بالتحلل الأول - وهي المسألة الثالثة - وقد اتفق هؤلاء على أنه يحل به ما عدا الجماع ومقدماته، وعقد النكاح، والصيد والطيب، وأجمعوا على أنه لا يحل الجماع. واختلفوا في بقية هذه الأمور فقال الشافعية: يحل الصيد والطيب، واختلفوا في عقد لنكاح والمباشرة فيما دون الفرج.

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ وفيه قولان للشافعي أصحهما التحريم، كذا صححه النووي، ونقله عن الأكثرين. وذكر الرافعي أن القائلين به أكثر عددًا، وقولهم أوفق لظاهر النص في المختصر، ولكنه صحح في الشرح الصغير الحل. واقتضى كلامه في المحرر التفصيل بين المسألتين، فصرح بإباحة عقد النكاح بالأول وجعل المباشرة داخلة فيما يحل بالثاني، وكلام الحنابلة موافق للمرجح عندنا. وعبارة الشيخ مجد الدين ابن تيمية في المحرر: ثم قد حل من كل شيء إلا النساء، وعنه: يحل إلا من الوطء في الفرج، وكذا مذهب الحنفية. قال صاحب الهداية: وقد حل له كل شيء إلا النساء، ثم قال: ولا يحل الجماع فيما دون الفرج عندنا خلافًا للشافعي، فنصب الخلاف معه على أحد قوليه. وأما عقد النكاح فهو جائز عندهم في الإحرام وقال المالكية: يستمر تحريم النساء والصيد والطيب إلا أنهم أوجبوا في الصيد الجزاء ولم يوجبوا في الطيب الفدية كما تقدم. قال ابن حزم الظاهري: وهذا عجب، فإن احتجوا بالأثر الوارد في تطييب النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يطوف بالبيت قلنا: لا يخلو هذا الأثر أن يكون صحيحًا ففرض عليكم ألا تخالفوه، وقد خالفتموه، أو غير صحيح فلا تراعوه، وأوجبوا الفدية على من تطيب كما أوجبتموها على من تصيد. وقال ابن عبد البر: راعى مالك الاختلاف في هذه المسألة فلم ير الفدية على من تطيب بعد رمي جمرة العقبة وقبل الإفاضة. وقال أبو عباس القرطبي: اعتذر بعض أصحابنا عن هذا الحديث بادعاء خصوصية النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك. قلنا الأصل التشريع وعدم التخصيص، والقول بالتخصيص يحتاج إلى دليل، وليس ثم دليل على ذلك. وقال ابن العربي: هذه مسألة مشكلة قديمًا، اختلف السلف فيها على أربعة أقوال: الأول: أن من رمى الجمرة حل له كل شيء إلا النساء والطيب. الثاني: زاد مالك: ((والصيد)) لقوله تعالى: {لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} (5: 95) وهذا حرام بعد. الثالث: قال عطاء إلا النساء والصيد لأن الطيب حل بفعله - صلى الله عليه وسلم - فبقى النساء والصيد على تحريمه. الرابع: النساء خاصة، وهو قول الشافعي وهو حديث عائشة وهو الصحيح. وبه قال ابن عباس، وطاوس، وعلقمة - انتهى. قلت: وفيه قول خامس كما قال ابن النذر: وهو أن المحرم إذا رمى الجمرة يكون في ثوبيه حتى يطوف بالبيت، كذلك قال أبو قلابة. قال ابن قدامة: روي عن عروة أنه قال: لا يلبس القميص، ولا العمامة، ولا يتطيب. وروي في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثًا وقال ابن المنذر: اختلف أهل العلم فيما أبيح للحاج بعد رمي جمرة العقبة قبل الطواف بالبيت، فقال عبد الله بن الزبير، وعائشة، وعلقمة، وسالم بن عبد الله، وطاوس، والنخغي، وعبد الله بن حسن، وخارجة بن زيد، والشافعي، وأحمد , وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي: يحل له كل شيء إلا النساء، وروينا ذلك عن ابن عباس، وقال عمر بن الخطاب، وابن عمر: يحل له كل شيء إلا النساء والطيب. وقال مالك: يحل له كل شيء إلا النساء والطيب والصيد - انتهى. قال الباجى: مذهب مالك المنع من ذلك ومن دواعي النكاح. قال: ومن رمى جمرة العقبة حل له كل شيء إلا النساء والطيب والصيد، فإذا أفاض حل له كل شيء، فمن تطيب قبل أن يفي فلا فدية عليه، لأنه وجد منه أحد التحللين، ووجه آخر أنه محل اختلف في استباحة

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ استعمال الطيب فيه فلم يجب له فدية، أصل ذلك التطيب للإحرام - انتهى. وقال الأبي: القول بسقوط الفدية هو له في المدونة. وعنه رواية أخرى بثبوتها، ولا يتحقق لزومها إلا إذا كان المنع على وجه التحريم - انتهى. وذكر ابن قدامة في المغني (ج3: ص438) اختلاف العلماء في هذه المسألة نحو ما تقدم عن ابن المنذر، وقال: إن المحرم إذا رمى جمرة العقبة ثم حلق حل له كل ما كان محظورًا بالإحرام إلا النساء، هذا الصحيح من مذهب أحمد نص عليه في رواية جماعة فيبقى ما كان محرمًا عليه من النساء من الوطء والقبلة واللمس بشهوة وعقد النكاح، ويحل له ما سواه، وعن أحمد أنه يحل له كل شيء إلا الوطء في الفرج لأنه أغلظ المحرمات، ويفسد النسك بخلاف غيره - انتهى. وفى الروض المربع من فروع الحنابلة: ثم إذا رمى، وحلق، أو قصر، فقد حل له كل شيء كان محظورًا بالإحرام إلا النساء وطئًا ومباشرة وقبلة ولمسًا بشهوة وعقد النكاح - انتهى. وبه جزم النووي في المناسك إذ قال: ويحل بالتحلل الأول جميع المحرمات بالإحرام إلا الاستمتاع بالنساء فإنه يستمر تحريمه حتى يتحلل التحللين، وكذا يستمر تحريم المباشرة بغير الجماع على الأصح، زاد ابن حجر: أي وتحريم عقد النكاح كما في المنهاج وغيره - انتهى. وقال العيني (ج10: ص93) بعد ذكر اختلاف العلماء عن ابن المنذر: قلت مذهب عروة وجماعة من السلف أنه لا يحل للحاج اللباس والطيب يوم النحر وإن رمى جمرة العقبة وحلق وذبح حتى تحل له النساء، ولا تحل له النساء حتى يطوف طواف الزيارة. وقال علقمة، وسالم، وطاوس، وخارجة بن زيد، وإبراهيم النخعي، وأبو يوسف، ومحمد، والشافعي، وأحمد في الصحيح، وأبو ثور، وإسحاق: إذا رمى المحرم جمرة العقبة ثم حلق حل له كل شيء كان محظورًا بالإحرام إلا النساء، واختلفوا في حكم الطيب فقال أبو حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه، وأحمد في رواية: حكم الطيب حكم اللباس فيحل كما يحل اللباس. وقال مالك، وأحمد في رواية: حكم الطيب حكم الجماع فلا يحل له حتى يحل الجماع - انتهى. قلت: قد تقدم في بيان المسألة الثانية أن المحلل عند الحنفية الحلق، ولذا قال القاري في شرح اللباب: حكمه أي الحلق التحلل فيباح به جميع ما حظر بالإحرام من الطيب والصيد ولبس المخيط وغير ذلك إلا الجماع ودواعيه كالتقبيل واللمس على ما ذكره الكرماني، لكن في منسك الفارسي والطرابلسى: لا يحل الجماع فيما دون الفرج بخلاف اللمس والقبلة - انتهى. ولعل مرادهما أنهما مكروهان بخلاف الجماع فيما دون الفرج فإنه حينئذٍ حرام فلا تنافي، فإنه أي الجماع وتوابعه يتوقف حله على طواف الإفاضة - انتهى. قال الشنقيطى: لم أر لمالك بالنسبة إلى الصيد مستندًا من النقل إلا أمرين: أحدهما: أثر مروي عن مكحول عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء والطيب والصيد. ذكر هذا الأثر صاحب المهذب. وقال النووي في شرحه: وأما الأثر المذكور عن عمر رضي الله عنه فهو مرسل، لأن مكحولاً لم يدرك عمر، فحديثه عنه منقطع. والثاني التمسك بظاهر قوله تعالى: {لا تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} (95: 5) لأن حرمة الجماع المتفق عليها بعد رمي جمرة العقبة دليل على بقاء إحرامه في الجملة فيشمله عموم

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ {لا تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} لأنه لو زال حكم إحرامه بالكلية لما حرم عليه الوطء. وأما حجته مالكًا أعني مالكًا بالنسبة إلى النساء والطيب فهي ما روى في موطأه عن نافع، وعبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر: أن عمر بن الخطاب خطب الناس بعرفة وعلمهم أمر الحج وقال لهم فيما قال: إذا جئتم منى فمن رمى الجمرة فقد حل له ما حرم على الحاج إلا النساء والطيب، لا يمس أحد نساء ولا طيبًا حتى يطوف بالبيت. قال الباجي: لم يذكر عمر تحريم الصيد لأن المقيم بها مقيم بالحرم، والصيد ممنوع فيه للحلال فلا يستبيحه لطواف الإفاضة ولا غيره، وإنما تكلم على ما يستباح بطواف الإفاضة ويمنع منه الإحرام خاصة دون حرمة الحرم. ولا خلاف على المذهب أن الصيد ممنوع في ذلك الوقت في الحل، فلو أصابه في الحل قبل طواف الإفاضة لكان عليه جزاؤه، وقد قال به ابن القاسم - انتهى. ومما يستدل به لمالك على منع الطيب ما رواه الحاكم في المستدرك (ج1: ص461) من طريق يحيى بن سعيد، وعن القاسم بن محمد عن عبد الله بن الزبير، قال: من سنة الحج أن يصلي الإمام الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والصبح بمنى ثم يغدو إلى عرفة - الحديث. وفيه فإذا رمى الجمرة الكبرى حل له كل شيء حرم عليه إلا النساء والطيب حتى يزور البيت. ثم قال: هذا حديث على شرط الشيخين ولم يخرجاه ولم يتعقبه عليه الذهبي. ولا يخفى أن هذه الآثار لا تصلح لمعارضة أحاديث حل الطيب المرفوعة الصحيحة، وعلى فرض أن أثر ابن الزبير مرفوع، فهو أيضاً لا يعتد به بجنب الأحاديث الدالة على حل الطيب ولا سيما وهى مثبته لحله. قال الشنقيطي: وأما حجة من قال: إنه إن رمى جمرة العقبة وحلق حل له كل شيء إلا النساء، كأحمد والشافعي ومن وافقهما فمنها حديث عائشة المتفق عليه يعني الحديث الذي نحن في شرحه، وقد ذكر مسلم لهذا الحديث ألفاظًا متعددة متقاربة معناها واحد، ومنها ما رواه أحمد (ج1: ص234، 344، 369) والنسائي، وابن ماجة، والطحاوي، والبيهقي من طريق الحسن العرني عن ابن عباس، قال: إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء. قال رجل: والطيب؟ فقال ابن عباس: أما أنا فقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضمخ رأسه بالمسك، أفطيب ذلك أم لا؟ قال في البدر المنير: إسناده حسن كما قاله المنذري، إلا أن يحيى بن معين وغيره قالوا: إن الحسن العرني لم يسمع من ابن عباس. ومنها ما رواه أحمد، وأبو داود، والدارقطني، والبيهقي، وسعيد بن منصور، والطحاوي من طريق الحجاج بن أرطاة عن الزهري عن عمرة عن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا رمى أحدكم جمرة العقبة فقد حل له كل شيء إلا النساء. قال أبو داود، ويحيى بن معين، وأبو حاتم، وأبو زرعة: إن الحجاج لم ير الزهري ولم يسمع منه شيئًا. ورواه الطحاوي والبيهقي أيضاً من طريق الحجاج بن أرطاة عن أبى بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة عن عائشة. قال المنذري: قد ذكر غير واحد من الحفاظ أن الحجاج بن أرطاة لا يحتج بحديثه - انتهى. وقد ذكر المصنف حديث ابن عباس المتقدم وحديث عائشة هذا في باب خطبة يوم النحر

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ ورمي أيام التشريق، ويأتي بقية الكلام عليهما هناك إن شاء الله. ومنها ما رواه أبو داود والحاكم (ج1: ص489) والبيهقي من حديث أم سلمة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم النحر: إن هذا يوم رخص لكم إذا رميتم أن تحلوا يعني من كل ما حرمتم منه إلا النساء. وفي إسناده محمد بن إسحاق، ولكنه صرح بالتحديث، قال الحافظ وأعتذر بعض المالكية عن الأحاديث الدالة على حل الطيب بعد رمي جمرة العقبة قبل طواف الإفاضة بأن عمل أهل المدينة على خلافها، وتعقب بما رواه النسائي من طريق أبى بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن سليمان بن عبد الملك لما حج جمع ناسًا من أهل العلم منهم: القاسم بن محمد، وخارجة بن زيد، وسالم وعبد الله ابنا عبد الله بن عمر، وعمر عبد العزيز، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث فسألهم عن التطيب قبل الإفاضة فكلهم أمره به، فهؤلاء فقهاء أهل المدينة من اعين قد اتفقوا على ذلك فكيف يدعي مع ذلك العمل على خلافه؟ قال الشنقيطي: وأما ما ذكرنا عن الشافعي من أنه يحل له كل شيء إلا النساء باثنين من ثلاثة: هي الرمي، والحلق، والطواف وتحل النساء بالثالث منها، بناء على أن الحلق نسك، وعلى أنه ليس بنسك يحل له كل شيء إلا النساء بواحد من اثنين: هما: الرمي، والطواف، وتحل له النساء بالثاني منهما. لم نعلم له نصًا يدل عليه هكذا، والظاهر أنه رأى هذه الأشياء لها مدخل في التحلل، وقد دل النص الصحيح على حصول التحلل الأول بعد الرمي والحلق فجعل هو الطواف كواحد منهما قال: والتحقيق أن الطيب يحل له بالتحلل الأول لحديث عائشة المتفق عليه الذي هو صريح في ذلك، وكذلك لبس الثياب، وقضاء التفث، وأن الجماع لا يحل له إلا بالتحلل الأخير، وأما حلية الصيد بالتحلل الأول فهي محل نظر، لأن الأحاديث التي فيها التصريح بأنه يحل له كل شيء إلا النساء، قد علمت ما فيها من الكلام، وحديث عائشة المتفق عليه لم يتعرض لحل الصيد، وظاهر قوله: {لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} يمكن أن يتناول ما بعد التحلل الأول لأن حرمة الجماع تدل على أنه متلبس بالإحرام في الجملة وإن كان قد حل له بعض ما كان حرامًا عليه - انتهىكلام الشنقيطي. تنبيه: عقد الترمذي لحديث عائشة هذا ((باب ما جاء في الطيب عند الإحلال قبل الزيارة)) وقال بعد روايته: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم يرون أن المحرم إذا رمى جمرة العقبة يوم النحر وذبح وحلق أو قصر فقد حل له كل شيء إلا النساء وهو قول الشافعي، وأحمد، وإسحاق (وهو قول الحنفية) وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: حل له كل شيء إلا النساء والطيب. (أخرجه محمد في الموطأ بلفظ ((من رمى الجمرة ثم حلق أو قصر ونحر هديًا إن كان معه، حل له ما حرم عليه في الحج إلا النساء والطيب حتى يطوف بالبيت)) .) وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم (وبه قال ابن عمر رضي الله عنه وهو قول مالك) وهو قول أهل الكوفة (ليس المراد بأهل الكوفة الإمام أبا حنيفة لأن مذهبه في هذا الباب هو ما ذهب إليه الشافعي، وأحمد، وإسحاق) . قال محمد في الموطأ بعد رواية أثر عمر المذكور: هذا قول عمر، وابن عمر، وقد روت عائشة خلاف ذلك. قالت: طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي هاتين

كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم. ـــــــــــــــــــــــــــــ بعد ما حلق قبل أن يزور البيت. فأخذنا بقولها، وعليه أبو حنيفة والعامة من فقهائنا - انتهى. والعبارات المذكورة بين القوسين كلها لشيخنا في شرح كلام الترمذي، وكلام شيخنا في شرح هذا المقام وكذا كلام الترمذي كلاهما. واضح بين حق وصواب ليس فيه أدنى خفاء وغموض لكن مع وضوحه لم يفهمه البنوري بل أخطا خطأ فاحشًا فاعترض على شيخنا، وليس ذلك إلا لسوء فهمه وسقمه: وكم من عائب قولاً صحيحًا وآفته من الفهم السقيم أو لعدائه الكامن في قلبه مع أصحاب الحديث عامة ومع شيخنا خاصة، حيث اعترض عليه ولم يدر ما يخرج من فيه وما يسود به القرطاس قال البنوري في ((معارف السنن)) (ج6: ص526) : وما ذكره الترمذي من عدم الجواز قول أهل الكوفة فليس هو مذهبه أهل الكوفة من الإمام أبى حنيفة وأصحابه، بل هو مذهب محمد بن الحسن الشيباني من أصحابه كما صرح به الموطأ بعد رواية أثر عمر الفاروق: فقال وبهذا نأخذ ... قال: وأما أبو حنيفة فإنه كان لا يرى به بأسًا - انتهى. هكذا عبارة الإمام محمد في موطأه، وما ذكره الشيخ المباركفوري في تحفته معزوًا إلى الموطأ فقد غلط وأخطأ في نقل عبارته، ولا أدري ماذا حدث له. والله أعلم - انتهى كلام البنوري. قلت: لم يخطأ شيخنا في نقل العبارة عن الموطأ كما لا يخفى على من طالع موطأه (ص227) باب ما يحرم على الحاج بعد رمي جمرة العقبة يوم النحر فكل ما كتبه شيخنا في شرح الترمذي في هذا الباب هو حق وصواب. نعم كلام البنوري يدل على أنه لم يفهم كلام الترمذي أصلاً حيث نقل كلام الإمام محمد عن موطأه من باب من تطيب قبل أن يحرم (ص197، 198) مع أنه لا علاقة له بما ذكره الترمذي في الباب المذكور من أثر عمر، واختلاف أهل العلم في مسألة التطيب بعد الرمي والحلق قبل طواف الزيارة (كأني أنظر) أرادت بذلك قوة تحققها لذلك بحيث أنها لشدة استحضارها له كأنها ناظرة إليه (إلى وبيص الطيب) أي بريقه ولمعانه، وفي رواية لمسلم: ((وبيص المسك)) والوبيص بفتح الواو وكسر الموحدة بعدها ياء تحتانية ثم صاد مهملة البريق، من وبص الشيء يبص وبيصًا أي برق. وقال الإسماعيلي: الوبيص زيادة على البريق وأن المراد به التلألؤ وأنه يدل على وجود عين قائمة لا الريح فقط (في مفارق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) بفتح الميم جمع مفرق بفتح الميم وكسر الراء ويجوز فتحها وهو المكان الذي يفرق فيه الشعر في وسط الرأس، قيل: ذكرته بصيغة الجمع نظرًا إلى أن كل جزء منه كان مفرقًا. قال القاري: المفرق وسط الرأس الذي يفرق فيه شعر الرأس وإنما ذكر على لفظ الجمع تعميمًا لسائر جوانب الرأس التي يفرق فيها كأنهم سموا كل موضع منه مفرقًا وفي رواية للشيخين: ((مفرق)) على لفظ الواحد وهكذا ذكره البغوي في مصابيح السنة. وفي رواية البخاري في اللباس ((كنت أطيب النبي - صلى الله عليه وسلم - بأطيب ما يجد حتى أجد وبيص الطيب في رأسه ولحيته)) (وهو محرم) زاد النسائي، وابن حبان، وابن ماجة: ((بعد ثلاث)) وفيه دليل

متفق عليه. 2565- (2) وعن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهل ملبداً ـــــــــــــــــــــــــــــ على أن بقاء أثر الطيب ورائحته بعد الإحرام لا يضر ولا يوجب فدية كما هو مذهب الجمهور: الشافعي، وأحمد، وأبي حنيفة وغيرهم من السلف والخلف خلافًا لمالك ومن وافقه. (متفق عليه) أي على أصل الحديث، وقد رواه البخاري في الطهارة، وفي الحج، وفي اللباس، ومسلم في الحج، وصنيع المصنف والبغوي يدل على أن سياق الحديث على النسق المذكور للشيخين جميعًا وأنهما أورداه بهذا اللفظ، والأمر ليس كذلك فقولها: ((لإحرامه قبل أن يحرم ولحله)) لمسلم. ولفظ البخاري: ((لإحرامه حين يحرم)) وفي أخرى له: ((حين أحرم ولحله حين أحل)) وقولها: ((بطيب فيه مسك)) لمسلم وحده. وأما قولها: ((كأني أنظر)) إلخ. فقد اتفقنا عليه، رواه البخاري في الطهارة، والحج، ومسلم في الحج والحديث أخرجه أيضاً أحمد، ومالك، والترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، وابن حبان، والطحاوي، وابن الجارود، والبيهقي وغيرهم بألفاظ مختلفة متقاربة المعنى من شاء الوقوف على اختلاف روايات الشيخين وأصحاب السنن رجع إلى جامع الأصول (ج3: ص397) . 2565- قوله: (يهل) من الإهلال وهو رفع الصوت بالتلبية (ملبدًا) بكسر الباء وفتحها، حال من فاعل يهل، أي سمعته يرفع صوته بالتلبية حال كونه ملبدًا شعر رأسه بنحو الصمغ لينضم الشعر ويلتصق بعضه ببعض احترازًا عن تمعطه وتقمله. قال العلماء: التلبيد إلصاق شعر الرأس عند الإحرام بالصمغ أو الخطمي وشبههما مما يضم الشعر ويلزق بعضه ببعض ويمنعه من التشعث، والتمعط، والتقمل، وتخلل الغبار في الإحرام، وإنما يفعل ذلك من يطول مكثه في الإحرام، واستفيد من استحباب التلبيد قبل الإحرام لكونه أرفق به. وقد نص عليه الشافعي وأصحابه، وهو موافق لحديث الأعرابي الذي خر عن بعيره وهو محرم فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا يمسوه بطيب ولا يخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا. وفي رواية ((ملبدًا)) رواه أحمد، والشيخان. قلت: التلبيد مندوب عند الشافعية صرح به العيني، والقسطلاني، والطبري وغيرهم، وكذا ذكره في مندوبات الإحرام أصحاب فروع الشافعية كصاحب تحفة المحتاج (ج4: ص56) وغيره، وأما عند الحنفية فصرح أهل فروعهم أن التلبيد إن كان بالثخين ففيه دم للتغطية وإن كان مع الطيب أيضاً ففيه دمان. قال ابن الملك: التلبيد جائز عند الشافعي، وعندنا يلزمه دم إن لبد بما ليس فيه طيب لأنه كتغطية الرأس، ودمان إن كان فيه طيب. وأشكل عليه صاحب البحر بما ثبت في الصحيحين من تلبيده - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن عابدين في هامشه: أجاب عنه العلامة المقدسي في شرحه بقوله: أقول لا ريب في وجوب حمل فعله - صلى الله عليه وسلم - على ما هو سائغ بل ما هو أكمل. فالتلبيد الذي فعله - صلى الله عليه وسلم - يسير لا يحصل به التغطية، ولا يمنع ابتداء فعله في الإحرام ولا بقاؤه. والموجب للدم يحمل على المبالغة فيه بحيث تحصل منه تغطية. وقال أيضاً في رد المحتار: وعليه يحمل ما في الفتح عن رشيد الدين في مناسكه إذ قال: وحسن أن يلبد رأسه قبل الإحرام - انتهى. وقال صاحب الغنية (ص35) : وحسن أن يلبد رأسه بنحو خطمي أو

يقول: لبيك ـــــــــــــــــــــــــــــ غيره لكن تلبيدًا سائغًا وهو اليسير الذي لا يحصل به التغطية، فإن استصحاب التغطية الكائنة قبل الإحرام لا يجوز بخلاف الطيب، وعليه يجب أن يحمل تلبيده - صلى الله عليه وسلم - في إحرامه، وتمامه في جنايات رد المحتار. وقال القاري: ولعله كان به - صلى الله عليه وسلم - عذر، قال: ويمكن حمله على التلبيد اللغوي من جمع الشعر ولفه وعدم تخليته متفرقًا، ففي القاموس: تلبد الصوف ونحوه تداخل ولزق بعضه ببعض - انتهى. قلت: حمل فعله - صلى الله عليه وسلم - على عذر يحتاج إلى دليل، والأصل عدم العذر وأما حمل التلبيد على المعنى اللغوي ففيه: أن شراح الحديث، وأهل اللغة، وأصحاب غريب الحديث: كالخطابي، والحافظ، والعيني، والمجد، والجوهري، والجزري، والزمخشري وغيرهم قد اتفقوا على ما ذكرنا من العلماء من معنى التلبيد، ولزوق بعض الصوف أو الشعر ببعضه لا يحصل إلا بما يصلح للإلزاق والإلصاق كالصمغ أو الخطمي أو العسل وما يشبه ذلك، ويؤيد ذلك ما سيأتي في الفصل الثاني من حديث ابن عمر أنه - صلى الله عليه وسلم - لبد رأسه بالغسل. قال الحافظ: قال ابن عبد السلام يحتمل أنه بفتح المهملتين، ويحتمل أنه بكسر المعجمة وسكون المهملة، وهو ما يغسل به الرأس من خطمي أو غيره. قال الحافظ ضبطناه في روايتنا في سنن أبى داود بالمهملتين - انتهى. والظاهر أن ابن عمر ذكر ما رأى من تلبيده - صلى الله عليه وسلم - عند الإحرام وهو الذي فهمه أبو داود وغيره حيث أورد حديثه هذا في المناسك (يقول) بدل من يهل (لبيك) اختلف في لفظه وفي اشتقاقه ومعناه، أما لفظة فتثنية عند سيبويه ومن تبعه، يراد بها التكثير في العدد والعود مرة لا أنها لحقيقة التثنية بحيث لا يتناول إلا فردين وقال يونس بن حبيب البصري: هو اسم مفرد، والياء فيه كالياء في لديك وعليك وإليك، يعني في انقلاب الألف ياء لاتصالها بالضمير، ورد بأنها قلبت ياء مع المظهر. وعن الفراء: هو منصوب على المصدر ولا يكون عامله إلا مضمرًا وأصله ((لبا لك)) فثني على التأكيد أي ألب إلبابًا بعد إلبابٍ. وأما معناه: فقيل: معناه أجبتك إجابة بعد إجابة أو إجابة لازمة، قال ابن الأنباري: ومثله حنانيك أي تحننًا بعد تحنن، وقيل: معناه أنا مقيم على طاعتك إقامة بعد إقامة، من ألب بالمكان كذا ولب به، إذا أقام به ولزمه، وقيل معناه: اتجاهي وقصدي إليك، مأخوذ من قولهم: دارى تلب دارك وتواجهها. وقيل: معناه محبتي لك من قولهم: امرأة لبة إذا كانت محبة لزوجها، وعاطفة على ولدها، وقيل: إخلاصي لك من قولهم: حسب لبابك أي خالص محض ومن ذلك لب الطعام، ولبابه، وقيل: قربًا منك من الإلباب وهو: القرب، وقيل: معناه أنا ملب بين يديك، أي خاضع لك. حكى هذه الأقوال القاضي عياض وغيره. قال الحافظ، والعيني: والأول منها أظهر وأشهر، لأن المحرم مستجيب لدعاء الله إياه في حج بيته، ولهذا من دعا فقال: لبيك فقد استجاب. وقال ابن عبد البر: قال جماعة من أهل العلم: إن معنى التلبية: إجابة دعوة إبراهيم عليه السلام حين أذن في الناس بالحج - انتهى. قال الحافظ: وهذا أخرجه عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبى حاتم بأسانيدهم في تفاسيرهم عن ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة وقتادة وغير واحد، والأسانيد إليهم قوية، وأقوى ما فيه عن ابن عباس ما أخرجه أحمد بن منيع في مسنده، وابن أبي حاتم من طريق قابوس بن أبى ذبيان عن أبيه، عنه، قال: لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت قيل له:

اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، ـــــــــــــــــــــــــــــ أذن في الناس بالحج، قال: رب! وما يبلغ صوتي؟ قال: أذن وعليّ البلاغ. قال: فنادى إبراهيم: يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق، فسمعه من بين السماء والأرض، أفلا ترون أن الناس يجيئون من أقصى الأرض يلبون. ومن طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس، وفيه: ((فأجابوه بالتلبية في أصلاب الرجال وأرحام النساء)) ، وأول من أجابه أهل اليمن. فليس حاج يحج من يومئذٍ إلى أن تقوم الساعة إلا من كان أجاب إبراهيم يومئذٍ. قال ابن المنير في الحاشية: وفي مشروعيته التلبية تنبيه على إكرام الله تعالى لعباده بأن وفودهم على بيته إنما كان باستدعاء منه سبحانه وتعالى (اللهم لبيك) أي يا الله! أقمت ببابك إقامة بعد إقامة وأجبت نداءك إجابة بعد أخرى. وجملة ((اللهم)) بمعنى يا الله بين المؤكد والمؤكد، والتثنية لإفادة التكرار والتكثير، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} (67: 4) أي كرات كثيرة، وتكرار اللفظ لتوكيد ذلك (لبيك لا شريك لبيك) استئناف فيستحسن الوقف على لبيك الثانية كما يستحسن على الرابعة. قال القاري: التلبية الأولى المؤكدة بالثانية لإثبات الألوهية، وهذه بطرفيها لنفي الشركة الندية والمثلية في الذات والصفات (إن الحمد) روى بكسر الهمزة على الاستيناف وفتحها على التعليل، وجهان مشهوران لأهل الحديث واللغة. قال الجمهور: والكسر أجود. وحكاه الزمخشري عن أبى حنيفة، وابن قدامة عن أحمد بن حنبل، وحكاه ابن عبد البر عن اختيار أهل العربية. وقال الخطابي: الفتح رواية العامة. وحكاه الزمخشري عن الشافعي. وقال ثعلب: الاختيار الكسر، وهو أجود في المعنى من الفتح، لأن من كسر جعل معناه: إن الحمد والنعمة لك على كل حال، ومن فتح قال معناه: لبيك لهذا السبب، وكذا رجح الكسر ابن دقيق العيد، والنووي، قال ابن دقيق العيد: لأنه يقتضي أن تكون الإجابة مطلقة غير معللة، وأن الحمد والنعمة لله على كل حال، والفتح يدل على التعليل، فكأنه يقول: أجبتك لهذا السبب، والأول أعم وأكثر فائدة. وقال ابن الهمام: الكسر أوجه ويحوز الفتح، أما الكسر فهو على استيناف الثناء وتكون التلبية للذات، والفتح على أنه تعليل للتلبية، أي لبيك لأن الحمد والنعمة لك. ومال الباجي إلى أن لا مزية لأحد الوجهين على الآخر، وقال ابن عبد البر: المعنى عندي واحد، لأنه يحتمل أن يكون من فتح الهمزة أراد لبيك لأن الحمد على كل حال، والملك لك والنعمة وحدك دون غيرك حقيقة لا شريك لك. وتعقب بأن التقييد ليس في الحمد، وإنما هو في التلبية، فمعنى الفتح تلبيته بسبب أن له الحمد، ومعنى الكسر تلبيته مطلقًا غير معلل ولا مقيد فهو أبلغ في الاستجابة لله (والنعمة لك) المشهور فيه النصب. قال عياض: ويجوز الرفع على الابتداء، ويكون الخبر محذوفًا، والتقدير: إن الحمد لك والنعمة مستقرة لك. قال ابن الأنباري: إن شئت جعلت خبر إن محذوًفا، والموجود خبر المبتدأ تقديره: إن الحمد لك والنعمة مستقرة لك (والملك) بالنصب أيضاً على المشهور، ويجوز الرفع وتقديره: والملك كذلك، قال الحافظ: وقال الولي العراقي: فيه وجهان أيضاً، أشهرهما النصب

لا شريك لك. لا يزيد على هؤلاء الكلمات ـــــــــــــــــــــــــــــ عطفًا على اسم إن، والثاني الرفع على الابتداء، والخبر محذوف لدلالة الخبر المتقدم عليه. ويحتمل أن تقديره: والملك كذلك. وقال القاري: بالنصب عطف على الحمد ولذا يستحب الوقف عند قوله: ((والملك)) قال ابن المنير: قرن الحمد والنعمة وأفرد ((الملك)) لأن الحمد متعلق بالنعمة ولهذا يقال: الحمد لله على نعمه فجمع بينهما، وأما الملك فهو معنى مستقل بنفسه ذكر لتحقيق أن النعمة كلها لله لأنه صاحب الملك. قال القاري: ولا مانع من أن يكون ((الملك)) مرفوعًا، وخبره (لا شريك لك) أي فيه (لا يزيد) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (هؤلاء الكلمات) أي التلبية المذكورة. قيل: هذا لا ينافي ما رواه النسائي وغيره من حديث أبى هريرة قال: كان من تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((لبيك إله الحق)) لاحتمال أن ابن عمر لم يسمعها من النبي - صلى الله عليه وسلم - وسمعها أبو هريرة، والظاهر أنه كان يقول هذه الجملة التي رواها أبو هريرة قليلاً لتضافر الروايات على رواية ابن عمر. قلت حديث ابن عمر الذي نحن في شرحه رواه الشيخان من طريق سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه، وروى أحمد (ج2: ص47، 77) ، ومالك، ومسلم من طريق نافع عن ابن عمر مرفوعًا لفظ التلبية كما هو متفق عليه، ثم زادوا ((قال (أي نافع) وكان عبد الله بن عمر يزيد مع هذا: لبيك، لبيك، لبيك وسعديك والخير بيديك، لبيك والرغباء إليك والعمل)) فإن قيل: كيف زاد ابن عمر في التلبية ما ليس منها مع أنه كان شديد التحري لإتباع السنة؟ واللائق بورعه وشدة إتباعه للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا يزيد على تلبيته - صلى الله عليه وسلم - أجاب الأبي بأنه رأى أن الزيادة على النص ليست نسخًا، وأن الشيء وحده كذلك هو مع غيره، فزيادته لا تمنع من إتيانه بتلبية النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو فهم عدم القصر على أولئك الكلمات، وأن الثواب يتضاعف بكثرة العمل، واقتصار المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بيان لأقل ما يكفي وأجاب الولي العراقي بأنه ليس فيه خلط السنة بغيرها، بل لما أتى بما سمعه ضم إليه ذكرًا آخر في معناه، وباب الأذكار لا تحجير فيه إذا لم يؤد إلى تحريف ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن الذكر خير موضوع والاستكثار منه حسن، على أن أكثر هذا الذي زاده كان - صلى الله عليه وسلم - يقوله في دعاء استفتاح الصلاة، وهو: لبيك وسعديك، والخير في يديك، والشر ليس إليك - انتهى. والجوابان متقاربان. وفي مسلم وأحمد (ج2: ص131) : عن ابن عمر، كان عمر يهل بإهلال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هؤلاء الكلمات، ويقول: لبيك اللهم لبيك وسعديك، إلى آخر ما زاده هنا، قال الحافظ: فعرف أن ابن عمر اقتدى في ذلك بأبيه، وأخرج ابن أبى شيبة عن المسور بن مخرمة قال: كانت تلبية عمر، فذكر مثل المرفوع وزاد: لبيك مرغوبًا ومرهوبًا إليك، ذا النعماء والفضل الحسن - انتهى. واعلم أنه أجمع المسلمون على لفظ التلبية المذكورة في حديث ابن عمر المتفق عليه، وحديث جابر الطويل عند مسلم في قصته حجة الوداع، ولكن اختلفوا في الزيادة عليه بألفاظ فيها تعظيم الله ودعاءه ونحو ذلك، فكره بعضهم الزيادة على تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحكاه ابن عبد البر عن مالك قال: وهو أحد قولي الشافعي. وقال آخرون: لا بأس بالزيادة المذكورة، واستحب بعضهم الزيادة المذكورة. قال ابن عبد البر: أجمع

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ العلماء على القول بهذه التلبية المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، واختلفوا في الزيادة فيها فقال مالك: أكره الزيادة فيها على تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد روى عنه أنه لا بأس أن يزاد فيها ما كان ابن عمر يزيده. وقال الثورى، والأوزاعي، ومحمد ابن الحسن: له أن يزيد فيها ما شاء وأحب، وقال أبو حنيفة، وأحمد، وأبو ثور: لا بأس بالزيادة. وقال الترمذي: قال الشافعي: إن زاد في التلبية شيئًا من تعظيم الله تعالى فلا بأس إن شاء الله، وأحب إلى أن يقتصر على تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال أبو يوسف والشافعي في قول لا ينبغي أن يزاد فيها على تلبية النبي - صلى الله عليه وسلم - المذكورة وإليه ذهب الطحاوي واختاره، ذكره العيني. وقال الحافظ بعد ذكر ما روى عن ابن عمر وأبيه رضي الله عنهما من الزيادة على التلبية المروية عنه - صلى الله عليه وسلم - ما لفظه: واستدل به على استحباب الزيادة على ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك. قال الطحاوي بعد أن أخرجه أي لفظ التلبية المرفوع من حديث ابن عمر، وابن مسعود، وعائشة، وجابر، وعمرو بن معد يكرب: أجمع المسلمون جميعًا على هذه التلبية غير أن قومًا قالوا: لا بأس أن يزيد فيها من الذكر لله ما أحب، وهو قول محمد، والثوري، والأوزاعي، واحتجوا بحديث أبى هريرة يعني الذي أخرجه أحمد، والنسائي، وابن ماجة، وصححه ابن حبان، والحاكم، قال: كان من تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبيك إله حق لبيك، وبزيادة ابن عمر المذكورة. وخالفهم آخرون فقالوا: لا ينبغي أن يزاد على ما عمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس كما في حديث عمرو بن معد يكرب ثم فعله هو ولم يقل: لبوا بما شئتم مما هو من جنس هذا، بل علمهم كما علمهم التكبير في الصلاة، فكذا لا ينبغي أن يتعدى في ذلك شيئًا مما علمه ثم أخرج حديث عامر بن سعد بن أبى وقاص عن أبيه: أنه سمع رجلاً يقول: لبيك ذا المعارج، فقال: إنه لذو المعارج، وما هكذا كنا نلبي على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فهذا سعد قد كره الزيادة في التلبية، وبه نأخذ - انتهى. قال في البحر: هذا اختيار الطحاوي، ولعل مراده من الكراهة أن يزيد الرجل من عند نفسه على التلبية المأثورة، أو أراد الزيادة في خلال التلبية المسنونة، فإن أصحابنا قالوا: إن زاد عليها فهو مستحب. قال صاحب السراج الوهاج: هذا بعد الإتيان بها، أما في خلالها فلا - انتهى. وفي ((غنية الناسك)) ندب أن يزيد فيها لا في خلالها بل بعدها وجاز قبلها فيقول: لبيك إله الخلق لبيك، أو لبيك لبيك وسعديك، إلخ. ولا يستحب الزيادة من غير المأثور بل هو جائز كما يفهم من الفتح والتبيين. أما النقص عنها أو الزيادة في خلالها فيكره تنزيهًا، ذكره في الكبير. وفي شرح اللباب: ما وقع من الزيادة مأثورًا يستحب، وما ليس مرويًا فجائز أو حسن، كذا في رد المحتار. وقال محمد بعد رواية حديث ابن عمر من طريق نافع، وفيه الزيادة المذكورة، وبهذا نأخذ، التلبية هي التلبية الأولى التي روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما زدت فحسن وهو قول أبى حنيفة والعامة من فقهائنا - انتهى. قال الحافظ: ويدل على الجواز ما وقع عند النسائي من طريق عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود قال: كان من تلبية النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكره. ففيه دلالة على أنه كان يلبي بغير ذلك. وما تقدم من حديث أبى هريرة عند النسائي وابن ماجة، وابن حبان، والحاكم وما تقدم عن عمر وابن عمر من فعلهما، وروى سعيد بن منصور

متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ من طريق الأسود بن يزيد أنه كان يقول: لبيك غفار الذنوب. وللحاكم، والبيهقي عن ابن عباس أنه - صلى الله عليه وسلم - وقف بعرفات، فلما قال: لبيك اللهم لبيك، قال: إنما الخير خير الآخرة. وللدارقطني في العلل وأبي ذر الهروي، والبزار عن أنس أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: لبيك حجًا تعبدًا ورقًا. ولمسلم في حديث جابر الطويل في صفة الحج: حتى استوت به ناقته على البيداء وأهل بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك إلخ. وأهل الناس بهذا الذي يهلون به فلم يرد عليهم شيئًا منه، ولزم تلبيته وأخرجه أبو داود من الوجه الذي أخرجه منه مسلم، قال: والناس يزيدون ((ذا المعارج)) ونحوه من الكلام، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يسمع فلا يقول لهم شيئًا. وفي رواية البيهقي ((ذا المعارج)) و ((ذا الفواصل)) قال الحافظ بعد ذكر حديث جابر من رواية مسلم وأبى داود: وهذا يدل على أن الاقتصار على التلبية المرفوعة أفضل لمداومته هو - صلى الله عليه وسلم - عليها، وأنه لا بأس بالزيادة لكونه لم يردها عليهم وأقرهم عليها وهو قول الجمهور، وبه صرح أشهب، وحكى عن ابن عبد البر عن مالك الكراهة. قال: وهو أحد قولي الشافعي، وحكى الترمذي عن الشافعي، قال: فإن زاد في التلبية شيئًا من تعظيم الله فلا بأس، وأحب إلى أن يقتصر على تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك أن ابن عمر حفظ التلبية عنه، ثم زاد من قبله زيادة ونصب البيهقي الخلاف بين أبى حنيفة والشافعي فقال: الاقتصار على المرفوع أحب ولا ضيق أن يزيد عليها، قال: وقال أبو حنيفة: إن زاد فحسن، وحكى في المعرفة عن الشافعي قال: ولا ضيق على أحد في قول ما جاء عن ابن عمر وغيره من تعظيم الله ودعائه، غير أن الاختيار عندي أن يفرد ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك - انتهى. وهذا أعدل الوجوه فيفرد ما جاء مرفوعًا. وإذا اختار قول ما جاء موقوفًا أو أنشأه هو من قبل نفسه مما يليق قاله على انفراده حتى لا يختلط بالمرفوع، وهو شبيه بحال الدعاء في التشهد، فإنه قال فيه: ثم ليتخير من المسألة والثناء ما شاء أي بعد أن يفرغ من المرفوع، كما تقدم ذلك في موضعه - انتهى. قلت: الأفضل والأولى هو الإقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والاقتصار على لفظ تلبيته الثابت في الصحيحين وغيرهما، لأن الله تعالى يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} وهو - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لتأخذوا عني مناسككم)) ، وأن الزيادة المذكورة لا بأس بها، لما روي من فعل عمر وابنه، ومعلوم أن الزيادة على تلبيته النبي - صلى الله عليه وسلم - لو كان فيها محذور لما فعلها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وابنه عبد الله رضي الله عنهما، ولما وقع في حديث جابر الطويل عند مسلم وأبى داود، وهو واضح في أنهم يزيدون على تلبيته - صلى الله عليه وسلم - ويقرهم على ذلك. ولم ينكره عليهم كما ترى. (متفق عليه) رواه البخاري في اللباس ومسلم في الحج، وأخرجه أيضًا البيهقي (ج5: ص44) ، وأخرجه البخاري أيضاً في الحج من طريق نافع عن ابن عمر مختصرًا، ورواه أحمد بذكر التلبيد والتلبية جميعًا في (ج2: ص131) وبذكر التلبية فقط مرارًا، وروى النسائي، وأبو داود، وابن ماجة التلبيد في باب التلبيد والتلبية في باب صفة التلبية، وروى مالك، والترمذي فقط. وأما قوله: ((لا يزيد على هؤلاء الكلمات)) فلم أجده إلا عند الشيخين والبيهقي. والله أعلم.

2566- (3) وعنه، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أدخل رجله في الغرز واستوت به ناقته قائمة أهل من عند مسجد ذي الحليفة. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2566- قوله: (إذا أدخل) كذا في جميع النسخ للمشكاة والمصابيح، وهكذا في رواية أحمد (ج2:ص29، 37) ، والبيهقي (ج5: ص35) ، وابن ماجة، وكذا ذكر المحب الطبري في القرى (ص65) وعزاه لمسلم. والذي في صحيح مسلم ((وضع)) مكان أدخل (في الغرز) بفتح الغين المعجمة وسكون الراء بعدها زاي أي الركاب من جلد أو خشب، وقيل: هو ركاب كور البعير من جلد أو خشب أو حديد، وقيل: هو للكور مطلقًا مثل الركاب للسرج الذي يضع الراكب قدميه فيه، والكور بالضم بالفارسية ((بالان)) والركاب بالكسر حلقه آهني كه بر زين بندند تا وقت سواري بائي در آن نهند (واستوت به ناقته) أي رفعته مستويًا على ظهرها فالباء للتعدية، وفي مسلم: ((وابعثت به راحلته قائمة)) وفي أخرى له: ((أهل حين استوت به ناقته)) ومعنى انبعاثها به استواءها قائمة (أهل) أي رفع صوته بالتلبية ونوى أحد النسكين أو بهما (من عند مسجد ذي الحليفة) يريد بدأ بالإهلال منه، وكان ابن عمر ينكر بذلك على من روى أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما أهل حين استوى على البيداء وقد اختلفت الروايات عن الصحابة في مبدأ إهلاله - صلى الله عليه وسلم - فمنها ما يدل على أنه أهل في دبر الصلاة في مسجد ذي الحليفة كما في رواية ابن عباس عند أحمد، والترمذي، والنسائي، والبيهقي (ج5: ص37) وفي رواية أبى داود المازني عند ابن حزم (ج7: ص93) ، ومنها ما يدل على أنه أهل حين استوت به ناقته قائمة خارج مسجد ذي الحليفة عند الشجرة كما وقع في روايات ابن عمر عند أحمد، والشيخين وغيرهم، وفى حديث أنس عند البخاري، وأبى داود، والبيهقي، والطحاوي. وقال الزيلعي بعد ذكر حديث أنس: وأخرج أي البخاري أيضاً عن عطاء عن جابر أن إهلال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذي الحليفة حين استوت به راحلته - انتهى. وقال المجد في المنتقى بعد ذكر حديث جابر: رواه البخاري، وقال: رواه أنس، وابن عباس - انتهى. ومنها ما يدل على أنه أهل حين استوت به على البيداء أي بعد ما علا على شرف البيداء كما وقع في روايات ابن عباس أيضاً عند أحمد، والبخاري، ومسلم، والنسائي، وأبي داود، والدارقطني، والبيهقي، والحاكم (ج1: ص447) ، والطحاوي. وفي حديث جابر عند مسلم، والترمذي، والطحاوي. وفي حديث أنس عند أحمد، والنسائي، وأبي داود. وفي حديث سعد بن أبي وقاص عند أبى داود، والنسائي، والبيهقي، والحاكم. والبيداء هذه قال العلماء: هي الشرف الذي قدام ذي الحليفة إلى جهة مكة وهي بقرب ذي الحليفة، وذكره النووي، وقال البكري: البيداء هذه فوق علمي ذي الحليفة لمن صعد الوادي، وفي أول البيداء بئر ماء. وقد جمع بين هذه الروايات المختلفة بأن الناس كانوا يأتون أرسالاً جماعة بعد أخرى فرأى قوم شروعه - صلى الله عليه وسلم - في الإهلال بعد الفراغ من صلاته بمسجد ذي الحليفة فنقلوا عنه أنه أهل بذلك المكان ثم أهل لما استقلت به راحلته فسمعه

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ آخرون فظنوا أنه شرع في الإهلال في ذلك الوقت لأنهم لم يسمعوا إهلاله بالمسجد فقالوا: إنما أهل عندما استقلت به راحلته، ثم روى كذلك من سمعه يهل على شرف البيداء، وإلى هذا الجمع مال ابن القيم حيث قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر ركعتين ثم أهل بالحج والعمرة في مصلاه ثم ركب على ناقته وأهل أيضاً، ثم أهل لما استقلت به على البيداء - انتهى مختصرًا ملخصًا. ويؤيد هذا الجمع ما رواه أحمد (ج1: ص) ، وأبو داود، والحاكم (ج1: ص451) ، والبيهقي (ج5: ص37) ، والطحاوي (ج1: ص362) عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: عجبًا لاختلاف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إهلاله فقال: إني لأعلم الناس بذلك إنما كانت منه حجة واحدة، فمن هنالك اختلفوا، خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاجًا فلما صلى في مسجده بذي الحليفة ركعتيه أوجب في مجلسه فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه فسمع ذلك منه أقوام فحفظوا عنه، ثم ركب فلما استقلت به ناقته أهل، وأدرك ذلك منه أقوام، وذلك أن الناس كانوا يأتون أرسالاً فسمعوه حين استقلت به ناقته يهل فقالوا: إنما أهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين استقلت به ناقته ثم مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما علا شرف البيداء أهل، وأدرك ذلك منه أقوام فقالوا: إنما أهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين علا على شرف البيداء، وأيم الله لقد أوجب في مصلاه وأهل حين استقلت به ناقته، وأهل حين علا على شرف البيداء - انتهى. قال الحافظ في الفتح: وقد أزال الإشكال أي إشكال اختلاف الروايات في مكان إهلاله - صلى الله عليه وسلم - ما رواه أبو داود، والحاكم من طريق سعيد بن جبير قلت لابن عباس: عجبت، فذكر الحديث، ثم قال: فعلى هذا فكان إنكار ابن عمر على ما يخص الإهلال بالقيام على شرف البيداء - انتهى. وقال الشوكاني في شرح حديث ابن عباس المذكور: هذا الحديث يزول به الإشكال، ويجمع بين الروايات المختلفة بما فيه، فأوضحه ثم قال: وهذا يدل على أن الأفضل لمن كان ميقاته ذا الحليفة أن يهل في مسجدها بعد فراغه من الصلاة، ويكرر الإهلال عند أن يركب على راحلته وعند أن يمر بشرف البيداء - انتهى. وقال الطحاوي بعد رواية حديث ابن عباس المذكور: فبين عبد الله ابن عباس الوجه الذي جاء اختلافهم، وأن إهلال النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي ابتدأ الحج ودخل به فيه كان في مصلاه، فبهذا نأخذ، ينبغي للرجل إذا أراد الإحرام أن يصلي ركعتين ثم يحرم في دبرهما كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا قول أبى حنيفة، وأبى يوسف، ومحمد - انتهى. وقال الحافظ في الدراية: قوله: ((ولو لبى بعد ما استوت به راحلته جاز)) ولكن الأول يعني الإهلال دبر الصلاة في مسجد ذي الحليفة أفضل لما روينا، كذا قال. والأحاديث في أنه لبى بعد ما استوت به راحلته أكثر وأشهر من الحديث الذي احتج به فذكرها من رواية ابن عمر، وأنس، وجابر، ثم قال: وقد ورد ما يجمع بين هذه الأحاديث (المختلفة) من حديث ابن عباس عند أبى داود، والحاكم فذكره، ثم قال: وهذا لو ثبت لرجح ابتداء الإهلال عقيب الصلاة إلا أنه من رواية خصيف (بن عبد الرحمن) وفيه ضعف - انتهى. وقال ابن حزم:

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ حديث ابن عباس هذا في طريقه خصيف وهو ضعيف، وحديث أبى داود الأنصاري المازني من طريقة قوم غير مشهورين والأحاديث الدالة على إحرامه - صلى الله عليه وسلم - بعد ما استقلت به راحلته، وإحرامه بعد الاستواء على البيداء كلها صحيحة، متفق علي صحتها، إلا أن في أحاديث ابن عمر زيادة على حديث جابر، وأنس وعائشة، وهو: أنه - صلى الله عليه وسلم - أهل من عند مسجد ذي الحليفة حين أدخل رجله في الغرز واستقلت به الراحلة، وهذا صريح في الدلالة على أنه لم يكن عقيب الركوب ولا في مصلاه، ولو صح حديث ابن عباس، وأبى داود لوجب تقديم العمل به على حديث ابن عمر لما فيه من الزيادة، لكن لما كان حديث ابن عمر متفقًا على صحته ولم يصح حديثهما وجب المصير إليه دونهما، ولما كان في حديث ابن عمر زيادة على حديث من سواه ممن اتفق على صحة روايته وهي كون الإهلال من عند المسجد فيكون ذلك قبل الاستواء على البيداء، وجب العمل به، ويكون من رواه عند الاستواء على البيداء إنما سمعه حالتئذٍ يلبي فظن أن ذلك أول إهلاله. ويمكن أن يقضي بحديث ابن عمر على حديث ابن عباس، ويكون قوله: ((في مصلاه)) زيادة من الراوي ليس من قول ابن عباس ويصدق على من أحرم من عند المسجد عند استقلال ناقته به أنه لما فرغ من ركعتيه أهل، ولا يلزم من ذلك التعقيب. وهذا الجمع أولى من إسقاط حديث من أصله. والله أعلم، هذا آخر كلام ابن حزم. قال الطبري بعد ذكره: وما رواه الترمذي وقال: ((هو حسن)) فيه دلالة على جواز الاحتجاج به، والمختار المصير إليه والعمل به - انتهى. قلت: وقع في نسخ الترمذي الموجودة عندنا بعد رواية حديث ابن عباس من طريق خصيف مختصرًا ((هذا حديث غريب)) ليس فيها لفظ: ((حسن)) ونسب الزيلعي إليه أنه قال: حديث حسن غريب، وهذا يدل على اختلاف نسخ الترمذي. والله أعلم. قال الحافظ في الفتح: قد اتفق فقهاء الأمصار على جواز جميع ذلك، وإنما الخلاف في الأفضل - انتهى. قلت: ذهب مالك، والشافعي والجمهور إلى أن الأفضل أن يحرم إذا انبعثت راحلته لاتفاق أغلب الروايات في المعنى وأصحها وأشهرها على أنه - صلى الله عليه وسلم - أهل عند انبعاث راحلته وانبعاثها هو استواؤها قائمة. وقال أبو حنيفة، وأحمد، وداود: يحرم عقب الصلاة وهو جالس في مصلاه قبل ركوب دابته وقبل قيامه. قال النووى: وهو قول ضعيف للشافعي، وفيه حديث من رواية ابن عباس لكنه ضعيف - انتهى. قلت: يشير إلى حديث ابن عباس الذي أحال عليه الزيلعي، والحافظ، والشوكاني وغيرهم للجمع بين الأحاديث المختلفة في مبدأ إحرامه - صلى الله عليه وسلم -، وقد سكت عنه أبو داود، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم مفسر (أي لغيره من الأحاديث الواردة) في الباب ولم يخرجاه، وأقره عليه الذهبي، وإنما ضعفه من ضعفه كالنووي، والبيهقي والمنذري لأن في إسناده خصيف بن عبد الرحمن وهو غير متفق على ضعفه، على أن النووي نفسه قال في شرح المهذب: وأما قول البيهقي أن خصيفًا غير قوي، فقد خالفه فيه كثيرون من الحفاظ والأئمة المتقدمين فوثقه يحيى بن معين، وأبو حاتم، وأبو زرعة، ومحمد بن سعد. وقال النسائي فيه: ((هو صالح)) - انتهى. قال ابن قدامة في المغني (ج3: ص275) : قد روى عن أحمد أن الإحرام

متفق عليه. 2567- (4) وعن أبى سعيد الخدري، قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نصرخ بالحج صراخًا ـــــــــــــــــــــــــــــ عقيب الصلاة، وإذا استوت به راحلته، وإذا بدأ بالسير سواء، لأن الجميع قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من طرق صحيحة قال الأثرم: سألت أبا عبد الله أيما أحب إليك الإحرام في دبر الصلاة؟ أو إذا استوت به راحلته؟ فقال: كل ذلك قد جاء في دبر الصلاة، وإذا علا البيداء، وإذا استوت به ناقته، فوسع ذلك كله. والأولى الإحرام عقيب الصلاة لما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس وفيه بيان وزيادة علم فيتعين حمل الأمر عليه ولو لم يقله ابن عباس لتعين حمل الأمر عليه جمعًا بين الأخبار المختلفة، وهذا على سبيل الاستحباب، وكيفما أحرم جاز، لا نعلم أحدًا خالف في ذلك - انتهى مختصرًا. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد (ج2: ص10، 17، 18، 28، 29، 37) ومالك، والترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، والبيهقي وغيرهم بألفاظ مختلفة، واللفظ المذكور لأحمد (ج2: ص29، 37) ومسلم، وابن ماجة باختلاف يسير. 2567- قوله (خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نصرخ) بالضم حال أي نرفع أصواتنا بالتلبية وفي رواية: قدمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نصرخ، قال النووي: فيه استحباب رفع الصوت بالتلبية وهو متفق عليه بشرط أن يكون رفعًا مقتصدًا بحيث لا يؤذي نفسه، والمرأة لا ترفع بل تسمع نفسها، لأن صوتها محل فتنة، ورفع الرجل مندوب عند العلماء كافة، وقال أهل الظاهر: هو واجب - انتهى. ويأتي مزيد الكلام في هذه المسألة في شرح حديث خلاد بن السائب الآتي (بالحج صراخًا) بضم الصاد مفعول مطلق، ولعل الاقتصار على ذكر الحج لأنه الأصل والمقصود الأعظم أو لأنه المبدوء به ثم أدخل عليه العمرة، قال القاري: وقد يقال: هذا حال الراوي ومن وافقه، وأما حاله عليه الصلاة والسلام فمسكوت عنه يعرف من محل آخر فلا ينافي ما سيأتي - انتهى. وفي الحديث دليل على استحباب ذكر النسك في التلبية، ويدل عليه أيضاً حديث أنس الآتي. قال المحب الطبرى: الظاهر من لفظ الحديث ذكر النسك في التلبية، وقد اختلف أصحابنا في استحباب ذلك فمنهم من استحبه لظاهر هذه الأحاديث، ومنهم من قال: لا يستحب لما تقدم من حديث جابر قال: ما سمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تلبيته قط حجًا ولا عمرة، ومن حديث عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نذكر حجًا ولا عمرة. أخرجهما البيهقي ولما روي عن ابن عمر أنه كان إذا سمع بعض أهله يسمي حجًا يقول: لبيك بحج، صك في صدره وقال: أتعلم الله بما في صدرك؟ أخرجه البيهقي وسعيد بن منصور وقال: أتعلم الله بما في نفسك؟ قال الطبري: هذا الاختلاف - والله أعلم - في غير التلبية الأولى التي تكون عند عقد الإحرام، أما تلك فالظاهر استحباب ذكر النسك فيها قولاً واحدًا، وعلى ذلك يحمل ما ورد من الأحاديث، على أن حديث ابن عمر يعم الأولى وغيرها - انتهى. قال القاري: في حديث أبى سعيد رد على الشافعية أنه إنما يذكر الحج والعمرة في أول تلبيته فقط.

رواه مسلم. 2568- (5) وعن أنس، قال: كنت رديف أبى طلحة وإنهم ليصرخون بهما جميعًا الحج والعمرة. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال ابن قدامة (ج3: ص290، 291) : ويستحب ذكر ما أحرم به في تلبيته. قال أحمد إن شئت لبيت بالحج، وإن شئت لبيت بالحج والعمرة، وإن شئت بعمرة، وإن لبيت بحج وعمرة بدأت بالعمرة، فقلت: لبيك بعمرة وحجة. وقال أبو الخطاب: لا يستحب ذلك، وهو اختيار ابن عمر، وقول الشافعي لأن جابرًا قال: ما سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - في تلبيته حجًا ولا عمرة، وسمع ابن عمر رجلاً يقول: لبيك بعمرة. فضرب صدره وقال: تعلمه ما في نفسك؟ ولنا ما روى أنس قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لبيك عمرة وحجًا، وقال جابر: قدمنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن نقول: لبيك بالحج. وقال ابن عباس: قدم رسول الله وأصحابه وهم يلبون بالحج، وقال ابن عمر: بدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج. متفق على هذه الأحاديث. وقال أنس: سمعتهم يصرخون بهما صراخًا. رواه البخاري. وقال أبو سعيد: خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - نصرخ بالحج فحللنا. فلما كان يوم التروية لبينا بالحج وانطلقنا إلى منى. وهذه الأحاديث أصح وأكثر من حديثهم. وقول ابن عمر يخالفه قول أبيه، فإن النسائي روى بإسناده عن الصبي بن معبد أنه أول ما حج لبى بالحج والعمرة جميعًا، ثم ذكر ذلك لعمر فقال: هديت لسنة نبيك، وإن لم يذكر ذلك في تلبيته فلا بأس، فإن النية محلها القلب - انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أحمد (ج3: ص5، 75) والبيهقي (ج5: ص40) . 2568- قوله: (كنت رديف أبى طلحة) أي راكبًا خلف ظهره وهو زوج أمه (وإنهم) أي الصحابة والنبي معهم (ليصرخون) اللام فيه للتأكيد (بهما) أي بالحج والعمرة (جميعًا الحج والعمرة) بالجر على أنه بدل من الضمير في بهما، وبالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هما أو أحدهما الحج والآخر العمرة، ويجوز النصب على الاختصاص بتقدير أعني وفيه دليل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قارنًا. وقال المهلب: إنما سمع أنس من قرن خاصة، وليس في حديثه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصرخ بهما وإنما أخبر بذلك عن قوم، وقد يمكن أن يسمع قومًا يصرخون بحج وقومًا يصرخون بعمرة. قال العيني: هذا تحكم وخروج عما يقتضيه الكلام، فإن الضمير في ((يصرخون)) يرجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من أصحابه. والباء في بهما يتعلق بيصرخون، فكيف يفرق مرجع الضمير إلى بعضهم بشيء وإلى الآخرين بشيء آخر - انتهى مختصرًا. وقال الكرماني أيضاً: مراد أنس بذلك من نوى منهم القرآن، ويحتمل أن يكون على سبيل التوزيع بأن يكون بعضهم صارخًا بالحج وبعضهم بالعمرة. قال الحافظ ويشكل عليه قوله في الطريق الأخرى يقول: لبيك بحجة وعمرة معًا. وسيأتي إنكار ابن عمر على أنس ذلك، وسيأتي ما فيه في باب التمتع والقرآن - انتهى. وقال

رواه البخاري. 2569- (6) وعن عائشة، قالت: خرجنا مع رسول الله ع ـــــــــــــــــــــــــــــ العيني بعد ذكر كلام الكرماني: لا يوجد في الرد عليه أقوى من قوله - صلى الله عليه وسلم - لبيك بحجة وعمرة معًا كما سيجيء بيانه - انتهى. وفى الحديث حجة للجمهور في استحباب رفع الصوت بالتلبية، وقد جاءت فيه أحاديث كما سيجيء الإشارة إليها في شرح حديث خلاد بن السائب. (رواه البخاري) في باب الارتداف في الغزو والحج من كتاب الجهاد، وأخرجه أيضاً في الحج مقطعًا في مواضع، منها في باب رفع الصوت بالإهلال بلفظ: ((صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة الظهر أربعًا، والعصر بذي الحليفة ركعتين وسمعتهم يصرخون بهما جميعًا)) ، وأخرجه أيضاً البيهقي (ج5: ص40) ، ولمسلم: ((سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يلبى بالعمرة والحج جميعًا)) وفي لفظ: ((أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع بينهما بالحج والعمرة)) . 2569- قوله: (خرجنا) أي من المدينة، واختلف في عدد الذين كانوا معه - صلى الله عليه وسلم -، فقيل: تسعون ألفًا، ويقال: مائة ألف وأربعة عشر ألفًا، ويقال: أكثر من ذلك، حكاه البيهقي. قال الزرقاني: هذا في عدة الذين خرجوا معه، وأما الذين حجوا معه فأكثر المقيمين بمكة، والذين أتوا من اليمن مع علي، وأبي موسى رضي الله عنهما - انتهى. وقال القاري: بلغ جملة من معه - صلى الله عليه وسلم - تسعين ألفًا، وقيل مائة وثلاثين ألفًا - انتهى. وقال الشيخ الدهلوي في اللمعات: ورد في بعض الروايات أنهم كانوا أكثر من الحصر والإحصاء ولم يعينوا عددهم، وقد بلغوا في غزوة تبوك التي هي آخر غزواته - صلى الله عليه وسلم - مائة ألف، وحجة الوداع كانت بعد ذلك، ولا بد أن يزدادوا فيها، ويروى: مائة وأربعة عشر ألفًا، وفي رواية: مائة وأربعة وعشرون ألفًا - انتهى. (مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) زادت عمرة بنت عبد الرحمن عنها ((لخمس ليال بقين من ذي القعدة)) كما في الموطأ والصحيحين وغيرهما، وكذا وقع في حديث ابن عباس عند البخاري في باب ((الخروج آخر الشهر)) من كتاب الجهاد، وفي باب ((ما يلبس المحرم من الثياب)) من كتاب الحج، وكذا وقع في حديث جابر عند النسائي. قال القسطلانى: يقتضي أن تكون قالته عائشة بعد انقضاء الشهر، ولو قالته قبله لقالت إن بقين - انتهى. وقال الحافظ: فيه استعمال الفصيح في التاريخ وهو ما دام في النصف الأول من الشهر يؤرخ بما خلا وإذا دخل النصف الثاني يؤرخ بما بقى وقال أيضًا: فيه رد على من منع إطلاق القول في التاريخ لئلا يكون الشهر ناقصًا فلا يصح الكلام، فيقول مثلاً لخمس إن بقين بزيادة أداة الشرط، وحجة الجواز أن الإطلاق يكون على الغالب - انتهى. ويؤيده ما ورد في ليالي القدر عند الترمذي من حديث أبى بكر رفعه: ((التمسوها في تسع يبقين أو سبع يبقين)) الحديث. وما وقع في حديث آخر: ((تاسعة تبقى وسابعة تبقى)) واختلف في يوم خروجه - صلى الله عليه وسلم - على ثلاثة أقوال، الأول: أنه خرج يوم الجمعة وهذا وهم قبيح وخطأ فاحش يرده الروايات الصحيحة، إذ من المعلوم الذي لا ريب أنه صلى الظهر يوم خروجه بالمدينة أربعًا، والعصر بذي الحليفة ركعتين. القول الثاني: ما ذهب إليه ابن حزم واختاره العيني في شرح البخاري: أن

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ خروجه - صلى الله عليه وسلم - من المدينة كان يوم الخميس لست بقين من ذي القعدة، حكى هذا القول ابن القيم في الهدي (ج1: ص181، 182) عن ابن حزم، وذكر كلامه مفصلاً ثم بسط في الرد عليه، وسيأتي شيء من كلامه مع الجواب عنه. القول الثالث: ما اختاره المحققون من شراح الحديث وأصحاب التاريخ: أن خروجه كان لخمس بقين من ذي القعدة يوم السبت، وبه جزم ابن القيم في الهدي، وهو مختار الحافظ في الفتح (ج6: ص80) إذ قال في شرح قول ابن عباس: ((وذلك لخمس بقين من ذي القعدة)) ما لفظه: أخرج مسلم مثله من حديث عائشة، واحتج به ابن حزم في كتاب حجة الوداع له على أن خروجه - صلى الله عليه وسلم - من المدينة كان يوم الخميس، قال: لأن أول ذي الحجة كان يوم الخميس بلا شك، لأن الوقفة كانت يوم الجمعة بلا خلاف، وظاهر قول ابن عباس: ((لخمس)) يقتضي أن يكون خروجه من المدينة يوم الجمعة بناء على ترك عد يوم الخروج، وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر بالمدينة أربعًا كما سيأتي من حديث أنس، فتبين أنه لم يكن يوم الجمعة، فتعين أنه يوم الخميس، وتعقبه ابن القيم بأن المتعين أن يكون يوم السبت بناء على عد يوم الخروج أو على ترك عده، ويكون ذو القعدة تسعًا وعشرين يومًا - انتهى. ويؤيده ما رواه ابن سعد، والحاكم في الإكليل أن خروجه - صلى الله عليه وسلم - من المدينة كان يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة. وقال الحافظ أيضاً (ج18: ص85) : جزم ابن حزم بأن خروجه - صلى الله عليه وسلم - من المدينة كان يوم الخميس، وفيه نظر لأن أول ذي الحجة كان يوم الخميس قطعًا لما ثبت وتواتر أن وقوفه بعرفة كان يوم الجمعة وتعين أن أول الشهر يوم الخميس فلا يصح أن يكون خروجه يوم الخميس، بل ظاهر الخبر أن يكون يوم الجمعة لكن ثبت في الصحيحين عن أنس: ((صلينا الظهر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة أربعًا، والعصر بذي الحليفة ركعتين)) فدل على أن خروجهم لم يكن يوم الجمعة، فما بقى إلا أن يكون خروجهم يوم السبت، ويحمل قول من قال: ((لخمس بقين)) أي إن كان الشهر ثلاثين، فاتفق أن جاء تسعًا وعشرين فيكون يوم الخميس أول ذي الحجة بعد مضي أربع ليالي لا خمس، وبهذا تتفق الأخبار. هكذا جمع الحافظ عماد الدين ابن كثير بين الروايات، وقوي هذا الجمع بقول جابر أنه خرج لخمس بقين من ذي القعدة أو أربع، وكان دخوله - صلى الله عليه وسلم - مكة صبح رابعة كما ثبت في حديث عائشة وذلك يوم الأحد، وهذا يؤيد أن خروجه من المدينة كان يوم السبت كما تقدم، فيكون مكثه في الطريق ثمان ليال وهى المسافة الوسطى - انتهى. وقال في شرح ((باب الخروج آخر الشهر)) من كتاب الجهاد: قد استشكل قول ابن عباس وعائشة أنه خرج لخمس بقين، لأن ذا الحجة كان أوله الخميس للاتفاق على أن الوقفة كانت يوم الجمعة، ولا يصح ذلك لقول أنس أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر بالمدينة أربعًا ثم خرج. وأجيب بأن الخروج كان يوم السبت، وإنما قال الصحابة: ((لخمس بقين)) بناء على العدد، لأن ذا القعدة كان أوله الأربعاء فاتفق أن جاء ناقصًا، فجاء أول ذي الحجة الخميس، فظهر أن الذي كان بقى من الشهر أربع لا خمس، كذا أجاب به جمع من العلماء، ويحتمل أن يكون الذي قال: ((لخمس بقين)) أراد

عام حجة الوداع، فمنَّا من أهل بعمرة، ومنَّا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بالحج، ـــــــــــــــــــــــــــــ ضم يوم الخروج إلى ما بقى لأن التأهب وقع في أوله، وإن اتفق التأخير إلى أن صليت الظهر فكأنهم لما تأهبوا باتوا ليلة السبت على سفر اعتدوا به من جملة أيام السفر. والله أعلم، وقال ابن القيم: وجه ما اخترناه أن الحديث صريح في أنه خرج لخمس بقين وهى: يوم السبت، والأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء فهذه خمس، وعلى قول ابن حزم يكون خروجه لسبع بقين، فإن لم يعد يوم الخروج كان لست، وأيهما كان فهو خلاف الحديث، وإن اعتبر الليالي كان خروجه لست ليال بقين لا خمس، فلا يصح الجمع بين خروجه يوم الخميس وبين بقاء خمس من الشهر ألبتة، بخلاف ما إذا كان الخروج يوم السبت كان الباقي بيوم الخروج خمس بلا شك، ويدل عليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر لهم في خطبته شأن الإحرام، وما يلبس المحرم بالمدينة على منبره، والظاهر أن هذا كان يوم الجمعة لأنه لم ينقل أنه جمعهم ونادى فيهم لحضور الخطبة، وقد شهد ابن عمر رضي الله عنهما هذه الخطبة بالمدينة على منبره، وكان عادته - صلى الله عليه وسلم - أن يعلمهم في كل وقت ما يحتاجون إليه إذا حضر فعله، فأولى الأوقات به الجمعة التي تلي خروجه، والظاهر أنه لم يكن ليدع الجمعة وبينه وبينها بعض يوم من غير ضرورة، وقد اجتمع إليه الخلق، وهو أحرص الناس على تعليمهم الدين، وقد حضر ذلك الجمع العظيم، والجمع بينه وبين الحج ممكن بلا تفويت. والله أعلم. (عام حجة الوداع) بكسر الحاء المهملة وبفتحها وبفتح الواو، وجاز كسرها، قال النووي: سميت بذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ودع الناس فيها وقال لعليّ لا أحج بعد عامي هذا فلم يحج بعد الهجرة غيرها وكانت سنة عشر من الهجرة، وفيه دليل على أنه لا بأس بالتسمية بذلك خلافًا لمن كرهه، وتسمى البلاغ أيضًا، لأنه قال - صلى الله عليه وسلم - فيها: هل بلغت؟ وحجة الإسلام، لأنها التي حج فيها بأهل الإسلام ليس فيها مشرك (فمنا من أهل بعمرة) أي لبى بها بأن قال لبيك بعمرة فقط، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - خيرهم عند الإحرام بين الأنساك الثلاثة فقال: من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل، ومن أراد أن يهل بحج فليهل، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل، (ومنَّا من أهل بحج وعمرة) أي جمع بينهما فكان قارنًا، (ومنَّا من أهل بالحج) وحده ويشكل على ما وقع في هذه الرواية من التخيير بين الأنساك الثلاثة ما ورد في الصحيحين وغيرهما من رواية الأسود عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نرى إلا الحج، وللبخاري من وجه آخر عن أبى الأسود عن عروة عنها: مهلين بالحج، ولمسلم عن القاسم عنها: ((لا نذكر إلا الحج)) وله أيضاً: ((ملبين بالحج)) فظاهره أن عائشة مع غيرها من الصحابة كانوا أولاً محرمين بالحج. وأجاب الحافظ وغيره بأن هذا محمول على أول الأمر إذ خرجوا من المدينة لا يرون إلا الحج لما كانوا يعهدونه من ترك الاعتمار في أشهر الحج، ورواية الباب على آخر الأمر إذ بين لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وجوه الإحرام، وجوز لهم الاعتمار في أشهر الحج، وجمع القاري بينهما بأن قول عائشة لا نذكر إلا الحج أي ما كان قصدنا الأصلي

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ من هذا السفر إلا الحج بأحد أنواعه من القران والتمتع والإفراد فمنا من أفرد ومنَّا من قرن ومنَّا من تمتع - انتهى. وأما ما وقع عند مسلم وغيره من رواية ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام حجة الوداع فأهللنا بعمرة، فقال الزرقاني: أي أدخلناها على الحج بعد أن أهللنا به ابتداء، وهو إخبار عن حالها، وحال من كان مثلها في الإهلال بعمرة لا عن فعل جميع الناس، فلا ينافي قولها: ((فمنَّا من أهل بعمرة ومنَّا من أهل بالحج، ومنَّا من أهل بحج وعمرة)) وفيه أن عائشة لم تكن ممن أهل بالحج ابتداءً، وقد تظافرت الروايات الواردة في هذا الباب على أنها كانت معتمرة ابتداءً، ولما شكت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها لم تطف أمرها برفض عمرتها، فانتقلت إلى الإفراد أو أدخلت عليها الحج وصارت قارنة. وقال الباجي: قولها ((فأهللنا بعمرة)) يحتمل أن تريد بذلك أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويحتمل أن تريد من كان معها أو طائفة أشارت إليهم، ولا يصح أن تريد جماعة أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنها قد ذكرت أن منهم من أهل بعمرة ومنهم من جمع بين العمرة والحج ومنهم من أهل بحج - انتهى. واعلم أنه اختلفت الروايات في إحرام عائشة في نفسها اختلافًا كثيرًا، ولذلك اختلف أهل العلم في إحرامها ابتداءً وانتهاءً هل أحرمت بالحج فقط فكانت مفردة، أو أحرمت بالعمرة فكانت متمتعة، وعلى الثاني هل فسخت العمرة وأهلت بالحج مفردًا أو قرنت العمرة مع الحج قال ابن القيم في الهدي (ج1: ص204) : قد تنازع العلماء في قصة عائشة هل كانت متمتعة أو مفردة فإذا كانت متمتعة، فهل رفضت عمرتها وانتقلت إلى الإفراد أو أدخلت عليها الحج وصارت قارنة، وهل العمرة التي أتت بها من التنعيم كانت واجبة أم لا، وإذا لم تكن واجبة فهل هي مجزية عن عمرة الإسلام أم لا؟ واختلف العلماء في مسألة مبنية على قصة عائشة، وهى أن المرأة إذا أحرمت بالعمرة فحاضت ولم يمكنها الطواف قبل التعريف فهل ترفض الإحرام بالعمرة وتهل بالحج مفردًا أو تدخل الحج على العمرة وتصير قارنة؟ فقال بالقول الأول فقهاء الكوفة منهم: أبو حنيفة وأصحابه رحمهم الله، وبالثاني فقهاء الحجاز منهم: الشافعي، ومالك رحمهما الله، وهو مذهب أهل الحديث كالإمام أحمد رحمه الله وأتباعه، ثم ذكر ابن القيم دليل الكوفيين وبسط الكلام في الرد عليه هذا، وقد تصدى الشيخ محمد عابد السندي وغيره من الحنفية لتقوية مذهبهم، والجواب عن حجة فقهاء الحجاز لكنهم لم يأتوا بشيء غير تأويلات بعيدة وقال الأبي في الإكمال: اختلفت الروايات في إحرام عائشة ففي رواية عروة عنها: ((أهللنا بعمرة)) وفي رواية القاسم عنها: ((لبينا بالحج)) وفي روايته الأخرى عنها: ((لا نعرف إلا الحج)) وهذا كله صريح في أنها أهلت بالحج، وفي رواية الأسود عنها: ((ملبين لا نذكر حجًا ولا عمرة)) واختلف العلماء في الكلام على حديث عائشة فقال إسماعيل القاضي: إنها كانت مهلة بالحج لأنها رواية الأكثر عن عمرة، والقاسم، والأسود، وغلطوا رواية عروة، ورجحوا ذلك أيضاً بأن عروة قال في رواية حماد: حدثني غير واحد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: دعي عمرتك. فقد بان أنه لم يسمع الحديث منها، ولا بيان فيه لأحد

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ ممن حدثه ذلك، قالوا وأيضاً: فإن رواية عمرة، والقاسم ساقت عمل عائشة في الحج من أوله إلى آخره، ولذا قال القاسم عن رواية عمرة: أتتك بالحديث على وجهه - انتهى. قلت: وقع عند البخاري من رواية هشام، وابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت: وكنت ممن أهل بعمرة، وهي نص في كونها معتمرة ابتداء، وقد رد الحافظ على من ادعى كون رواية عروة غلطًا فرجح رواية القاسم ومن وافقه على رواية عروة، قال الحافظ: ادعى إسماعيل القاضي وغيره أن هذا غلط من عروة، وأن الصواب رواية الأسود والقاسم وعمر عنها أنها أهلت بالحج مفردًا، وتعقب بأن قول عروة عنها: ((أهلت بعمرة)) صريح، وأما قول الأسود وغيره عنها: ((لا نرى إلا الحج)) فليس صريحًا في إهلالها بحج مفرد، فالجمع بينهما ما تقدم (بأن المذكور في روايتهم ما كانوا يعهدون من ترك الاعتمار في أشهر الحج، فخرجوا لا يعرفون إلا الحج، ثم بين لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وجوه الإحرام) من غير تغليط عروة وهو أعلم الناس بحديثها، وقد وافقه جابر بن عبد الله الصحابي كما أخرجه مسلم عنه، وكذا رواه طاوس، ومجاهد عن عائشة، ثم قال الحافظ: ويحتمل في الجمع أيضاً أن يقال: أهلت عائشة بالحج مفردًا كما فعل غيرها من الصحابة وعلى هذا يتنزل حديث الأسود ومن تبعه. ثم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن يفسخوا الحج إلى العمرة ففعلت عائشة ما صنعوا فصارت متمتعة، وعلى هذا يتنزل حديث عروة , ثم لما دخلت مكة وهي حائض فلم تقدر على الطواف لأجل الحيض أمرها أن تحرم بالحج - انتهى. قلت: في هذا الجمع نظر من وجوه، منها أن ألفاظ روايات عروة صريحة في أنها لم تهلل أولاً إلا بعمرة، فلفظ البخاري من رواية عقيل عن الزهري عن عروة عن عائشة: خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة ومنَّا من أهل بحج - الحديث. وفيه: ((ولم أهلل إلا بعمرة فأمرني النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أنفض رأسي وأهل بالحج وأترك العمرة ففعلت ذلك - الحديث. فهذا نص في أنها لم تحرم أولاً إلا بعمرة، ومنها أنه يخالف هذا الجمع حديث جابر عند مسلم: قال أقبلنا مهلين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحج مفرد، وأقبلت عائشة بعمرة حتى إذا كانت بسرف عركت، حتى إذا قدمنا طفنا بالكعبة والصفا والمروة، فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آن يهل منَّا من لم يكن معه هدي - الحديث. وقد بسط ابن القيم الكلام في الرد على إسماعيل القاضي ومن وافقه وحقق أن عائشة كانت ممن أهل بعمرة ابتداء حيث قال: اختلف الناس فيما أحرمت به عائشة أولاً على قولين أحدهما: أنه عمرة مفردة، وهذا هو الصواب لما ذكرنا من الأحاديث، وفي الصحيح عنها: ((قالت خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع موافين (أي مقارنين) لهلال ذي الحجة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أراد منكم أن يهل بعمرة فليهل، فلولا أني أهديت لأهلت بعمرة، قالت: وكان من القوم من أهل بعمرة، ومنهم من أهل بالحج، قالت: فكنت أنا ممن أهل بعمرة)) وذكرت الحديث. وقوله في الحديث ((دعي العمرة وأهلي بالحج)) قاله لها بسرف وهو صريح في أن إحرامها كان بعمرة، والقول الثاني: أنها أحرمت أولاً بالحج وكانت مفردة، قال ابن

وأهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحج، ـــــــــــــــــــــــــــــ عبد البر: روى القاسم بن محمد والأسود بن يزيد وعمرة كلهم عن عائشة ما يدل على أنها كانت محرمة بحج لا عمرة، قال: وغلطوا عروة في قوله عنها: ((كنت ممن أهل بعمرة)) قال إسماعيل بن إسحاق: قد اجتمع هؤلاء يعني الأسود، والقاسم، وعمرة على الروايات التي ذكرنا فعلمنا بذلك أن الروايات التي رويت عن عروة غلط. قال ابن القيم: من العجب رد هذه النصوص الصحيحة الصريحة التي لا مدفع لها ولا مطعن فيها ولا تحتمل تأويلاً البتة بلفظ مجمل ليس ظاهرًا في أنها كانت مفردة، فإن غاية ما احتج به من زعم أنها كانت مفردة قولها: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نرى إلا أنه الحج. فيا لله العجب أيظن بالمتمتع أنه خرج لغير الحج. بل خرج للحج متمتعًا كما أن المغتسل للجنابة إذا بدأ فتوضأ لا يمتنع أن يقول: خرجت لغسل الجنابة، وصدقت أم المؤمنين إذا كانت لا ترى إلا أنه الحج حتى أحرمت بعمرة بأمره - صلى الله عليه وسلم -، وكلامها يصدق بعضه بعضًا. وأما قولها: ((لبينا بالحج)) فقد قال جابر عنها في الصحيحين: أنها أهلت بعمرة. وكذلك قال طاوس عنها في صحيح مسلم، وكذلك قال مجاهد عنها، فلو تعارضت الروايات عنها فرواية الصحابة عنها أولى أن يأخذ بها من رواية التابعين. كيف ولا تعارض في ذلك البتة. فإن القائل: ((فعلنا كذا)) يصدق ذلك منه بفعله وبفعل أصحابه. ومن العجب أنهم يقولون في قول ابن عمر: تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعمرة، معناه تمتع أصحابه، فأضاف الفعل إليه لأمره به، فهلا قلتم في قول عائشة: ((لبينا بالحج)) أن المراد به جنس الصحابة الذين لبوا بالحج، ويتعين قطعًا إن لم تكن هذه الرواية غلطًا أن تحمل على ذلك للأحاديث الصحيحة أنها كانت أحرمت بعمرة، وكيف ينسب عروة في ذلك إلى الغلط وهو أعلم الناس بحديثها، وكان يسمع منها مشافهة بلا واسطة، وأما قوله في رواية حماد بن زيد: حدثني غير واحد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها: دعي عمرتك. فهذا إنما يحتج إلى تعليله ورده إذا خالف الروايات الثابتة عنها، فأما إذا وافقها وصدقها وشهد لها أنها أحرمت بعمرة فهذا يدل على أنه محفوظ، وأن الذي حدثه ضبطه وحفظه، هذا مع أن حماد بن زيد انفرد بهذه الرواية المعللة وهي قوله: ((فحدثني غير واحد)) وخالفه جماعة فرووه متصلاً عن عروة عن عائشة، فلو قدر التعارض فالأكثرون أولى بالصواب فيا لله العجب! كيف يكون تغليظ أعلم الناس بحديثها وهو عروة في قوله عنها: ((وكنت فيمن أهل بعمرة)) سائغًا بلفظ مجمل محتمل ويقضي به على النص الصحيح الصريح الذي شهد له سياق القصة من وجوه متعددة، إلى آخر ما قال (وأهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحج) أي وحده، احتج به من قال: كان حجه - صلى الله عليه وسلم - مفردًا، وهم عامة الشافعية، والمالكية، وحمله المحققون منهم: كالقاضي عياض، والنووي، والحافظ وغيرهم على أن فيه بيان ابتداء الحال، ثم صار قارنًا، فإنه لا يلزم من إهلاله بالحج أن لا يكون أدخل عليه العمرة، وحمله الحنفية، والحنابلة القائلون بكونه - صلى الله عليه وسلم - قارنًا ابتداءً، على أن عائشة سمعت تلبيته بالحج فقط، وللقارن أن يلبي بأيهما شاء، فيقول: تارة لبيك بحجة، وتارة لبيك عمرة، وتارة لبيك بحجة وعمرة، فحكت عائشة ما سمعت فلا يخالف

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ قولها: من حكى أنه لبى بهما جميعًا وكان قارنًا من الابتداء. وسيأتي بيان الاختلاف في صفة إحرامه - صلى الله عليه وسلم -، وفي أن حجه هل كان إفرادًا أو تمتعًا أو قرانًا، اعلم أن الحج على ثلاثة أنواع: الإفراد، والتمتع، والقران، ويخير مريد الإحرام بين هذه الأنواع الثلاثة، قال ابن قدامة: إن الإحرام يقع بالنسك من وجوه ثلاثة: تمتع، وإفراد، وقران. وأجمع أهل العلم على جواز الإحرام بأي الأنساك الثلاثة شاء، وكذا حكى النووي في شرح المهذب وشرح مسلم الإجماع على جواز الأنواع الثلاثة وتأويل ما ورد من النهي عن التمتع عن بعض الصحابة. وقال الولي العراقي في طرح التثريب: أجمعت الأمة على جواز تأدية نسكي الحج والعمرة بكل من هذه الأنواع الثلاثة الإفراد، والتمتع، والقران. قال الحافظ: والإفراد هو الإهلال بالحج وحده في أشهره عند الجميع وفي غير أشهره أيضاً عند مجيزيه، والاعتمار بعد الفراغ من أعمال الحج لمن شاء - انتهى. ومعنى قوله: ((عند مجيزيه)) أن الإحرام بالحج قبل أشهره مختلف فيه، قال ابن قدامة: لا ينبغي أن يحرم بالحج قبل أشهره، هذا هو الأولى. فإن الإحرام بالحج قبل أشهره مكروه لكونه إحرامًا به قبل وقته، فأشبه الإحرام به قبل ميقاته، ولأن في صحته اختلافًا، فإن أحرم به قبل أشهره صح، وإذا بقى على إحرامه إلى وقت الحج جاز، نص عليه أحمد، وهو قول مالك، والثوري، وأبى حنيفة، وإسحاق، وقال عطاء وطاوس، ومجاهد، والشافعي: يجعله عمرة، لقول الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} (2: 197) تقديره وقت الحج أشهر، أو أشهر الحج أشهر معلومات، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، ومتى ثبت أنه وقته لم يجز تقديم إحرامه عليه كأوقات الصلوات. ولنا قول الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (2: 189) فدل على أن جميع الأشهر ميقات - انتهى. وفيه أنه لو صح ذلك لجاز صيام رمضان في شهر آخر، فإن قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} لا يختلف عن تعيين شهر رمضان باسمه، فإن قوله: {مَّعْلُومَاتٌ} كتسميتها سواء. والتمتع أن يهل بعمرة مفردة من الميقات في أشهر الحج فإذا فرغ منها أحرم بالحج من عامه. قال الحافظ: أما التمتع فالمعروف أنه الاعتمار في أشهر الحج، ثم التحلل من تلك العمرة والإهلال بالحج في تلك السنة، ويطلق التمتع في عرف السلف على القران أيضًا. قال ابن عبد البر: لا خلاف بين العلماء أن التمتع المراد بقوله تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} (2: 196) أنه الاعتمار في أشهر الحج قبل الحج، قال: ومن التمتع أيضاً القران لأنه تمتع بسقوط سفر للنسك الآخر من بلده، ومن التمتع أيضاً: فسخ الحج إلى العمرة - انتهى. وقال ابن قدامة في المغني: قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من أهل بعمرة في أشهر الحج من أهل الآفاق من الميقات وقدم مكة ففرغ منها وأقام بها وحج من عامه أنه متمتع. وقال أيضاً: لا نعلم بين أهل العلم خلافًا في أن من اعتمر في غير أشهر الحج عمرة وحل منها قبل أشهر الحج أنه لا يكون متمتعًا إلا قولين شاذين أحدهما عن طاوس أنه قال: إذا اعتمرت في غير أشهر الحج ثم أقمت حتى

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحج فأنت متمتع، والثاني عن الحسن أنه قال: من اعتمر بعد النحر فهي متعة. قال ابن المنذر: لا نعلم أحدًا قال بواحد من هذين القولين - انتهى. قال الراغب: المتاع انتفاع ممتد الوقت، يقال: متعة الله بكذا، ومتعة النكاح هي أن الرجل كان يشارط المرأة بمال معلوم يعطيها إلى أجل معلوم، فإذا انقضى الأجل فارقها من غير طلاق، ومتعة الحج ضم العمرة إليه - انتهى. قال القاري: التمتع في اللغة بمعنى التلذذ والانتفاع بالشيء، قال: وإنما سمي متمتعًا لانتفاعه بالتقرب إلى الله تعالى بالعبادتين، أو لتمتعه بمحظورات الإحرام بعد التحلل من العمرة، أو لانتفاعه بسقوط العود إلى الميقات ولا يبعد أن يقال لتمتعه بالحياة حتى أدرك إحرام الحجة - انتهى. واختلف أصحاب المذاهب الأربعة في معنى التمتع المصطلح وشرائطه، من شاء الوقوف على ذلك فليرجع إلى كتب فروعهم ومناسكهم، كشرح اللباب لعلي القاري، وغنية الناسك من مناسك الحنفية، والمغني مع الشرح الكبير، ونيل المآرب، ونور الظلام من كتب الحنابلة، وشرح المنهاج المواهب من كتب الشافعية، والمنتقى للباجي، والدسوقي على الشرح الكبير للدردير والبداية لابن رشد من كتب المالكية. وأما القران فصورته: الإهلال بالحج والعمرة معًا وهذا متفق على جوازه، أو الإهلال بالعمرة ثم يدخل عليها الحج أو عكسه، وهذا مختلف فيه، وهو مصدر قرن من باب ((نصر)) وقيل: من باب ((ضرب)) وفعال يجيء مصدرًا من الثلاثي كلباس، وهو الجمع بين الشيئين، قال المحب الطبري: للقران ثلاث صور: الأولى: أن يهل بهما جميعًا، وعليه دل ظواهر الأحاديث. الثانية: أن يهل بالعمرة ثم يدخل عليها الحج قبل الطواف، وعليه دل ما تقدم من حديث ابن عباس، وابن عمر، وعائشة، وحفصة. الثالثة: عكسه، وفيه قولان للشافعي، أحدهما: لا يجوز، وبه قال مالك وهو الأصح، والثاني: يجوز، وبه قال أبو حنيفة. والأول أصح، ويؤيده ما روي عن علي أنه سأله أبو نضرة فقال قد أهللت بالحج فهل أستطيع أن أضيف إليها عمرة؟ قال لا ذاك لو كنت بدأت بالعمرة، وبأن أفعال العمرة استحقت بالإحرام بالحج، فلم يبق في إدخالها فائدة بخلاف العكس - انتهى. قلت اختلفوا في مصداق القران اصطلاحًا كالتمتع، فقالت الشافعية: هو أن يحرم بهما معًا، ولو أحرم بعمرة في أشهر الحج أو قبلها ثم يحج في أشهره قبل الشروع في الطواف كان قارنًا بخلاف ما إذا شرع في الطواف ولو بخطوة فإنه لا يصح إدخاله حينئذ لأخذه في أسباب التحلل، ولا يجوز عكسه وهو إدخال العمرة على الحج في الجديد إذ لا يستفيد به شيئًا آخر، كذا في شرح المنهاج. وقال الولي العراقي: لو أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة ففيه قولان للشافعي، أصحهما: لا يصح إحرامه بالعمرة، والثاني: يصح ويصير قارنًا بشرط أن يكون قبل الشروع في أسباب التحلل من الحج. وقيل: قبل الوقوف بعرفات، وقيل: قبل فعل فرض، وقيل: قبل فعل طواف القدوم أو غيره - انتهى. وقال أيضاً: اختلفوا في إدخال العمرة على الحج فجوزه أصحاب الرأي، وهو قول للشافعي لهذه الأحاديث يعني التي تدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - أحرم بالحج أولاً ثم صار قارنًا بإدخال

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ العمرة عليه، قال: ومنعه آخرون وجعلوا هذا خاصًا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لضرورة الاعتمار حينئذٍ في أشهر الحج - انتهى. ولا يخفى في دعوى الاختصاص. وقالت الحنابلة: القران هو أن يحرم بهما معًا أو يحرم بها ثم يدخل الحج عليها، ويشترط لصحة إدخال الحج عليها أن يكون ذلك قبل الشروع في طوافها، ولا يشترط للإدخال كون ذلك في أشهر الحج ولا كون ذلك قبل طوافها وسعيها لمن معه هدي فيصح ممن معه هدي ولو بعد سعيها، وإن أحرم بالحج ثم أحرم بها لم يصح إحرامه بها، كذا في نيل المآرب. وقال ابن قدامة: أما إدخال العمرة على الحج فغير جائز، فإن فعل لم يصح ولم يصر قارنًا، روى ذلك عن علي، وبه قال مالك، وإسحاق، وأبو ثور، وابن المنذر، وقال أبو حنيفة: يصح ويصير قارنًا لأنه أحد النسكين، فجاز على الآخر قياسًا على إدخال الحج على العمرة، ولنا ما روى الأثرم بإسناده فذكر أثر عليّ بنحو ما تقدم، وقال أيضاً: وكل متمتع خشي فوات الحج فإنه يحرم بالحج ويصير قارنًا، وكذلك المتمع الذي معه هدي، فإنه لا يحل من عمرته بل يهل بالحج معها فيصير قارنًا. ولو أدخل الحج على العمرة قبل الطواف من غير خوف الفوات جاز وكان قارنًا بغير خلاف. وقد فعل ذلك ابن عمر. ورواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأما بعد الطواف فليس له ذلك ولا يصير قارنًا. وبهذا قال الشافعي. وقال مالك: يصير قارنًا وحكي ذلك عن أبى حنيفة - انتهى. وأما عند الحنفية، فهو أي القران من أحرم بهما معًا أو أدخل إحرام الحج على إحرام العمرة قبل أن يطوف لها أكثر الأشواط، أو أدخل العمرة على إحرام الحج قبل أن يطوف للقدوم ولو شوطًا ولا إساءة في القسمين الأولين وهو قارن مسيء في الثالث، قاله ابن نجيم، وارجع لمزيد التفصيل إلى ((غنية الناسك)) وأما عند المالكية، ففي البداية هو أن يهل بالنسكين معا أو يهل بالعمرة في أشهر الحج ثم يردف ذلك بالحج قبل أن يحل من العمرة، واختلف أصحاب مالك في الوقت الذي يكون ذلك له فيه، فقيل: ذلك له ما لم يشرع في الطواف ولو شوطًا واحدًا، وقيل ما لم يطف ويركع، ويكره بعد الطواف وقبل الركوع، فإن فعل لزمه، وقيل له ذلك ما بقي عليه شيء من عمل العمرة من طواف أو سعي، ما خلا أنهم اتفقوا على أنه إذا أهل بالحج ولم يبق عليه من أفعال العمرة إلا الحلاق فإنه ليس بقارن - انتهى. وقال الدردير: القران أن يحرم بهما معًا، أو يحرم بالعمرة ويردف الحج عليها بعد الإحرام قبل طوافها أو في طوافه قبل تمامه، وكره بعد الطواف قبل الركوع، ويصح في الركوع أيضاً لا بعده - انتهى باختصار. وقد ظهر بما قدمنا من اختلاف الأئمة في مصداق القران المصطلح أنه لا يصح إدخال العمرة على الحج عند مالك، وأحمد، والشافعي في أصح قوليه قلت: ويشكل هذا على المحققين من الشافعية، والمالكية: كالنووي، والحافظ، والقاضي عياض ومن تبعهم، فإنهم كما قدمنا أولوا الأحاديث التي تدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان مفردًا، بأنه لبى أولاً بالحج مفردًا ثم أدخل عليه العمرة وصار قارنًا، فإنه إذا لم يجز عند الشافعية والمالكية إدخال العمرة على الحج فكيف رجح هؤلاء في إحرامه - صلى الله عليه وسلم - أنه أحرم بالحج أولاً ثم أدخل

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه العمرة وقد تقدم أنهم أجابوا عن ذلك بأنه خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لضرورة الاعتمار حينئذٍ في أشهر الحج، ولا يخفى ما فيه. واعلم أنهم بعد ما أجمعوا على جواز الإحرام بأي الأنساك الثلاثة شاء، اختلفوا في أفضلها قال ابن قدامة: اختلفوا في أفضلها، فاختار إمامنا: التمتع، ثم الإفراد، ثم القران، وروى المروذي عن أحمد: إن ساق الهدي فالقران أفضل، وإن لم يسقه فالتمتع أفضل، وذهب أصحاب الرأي إلى اختيار القران، وذهب مالك إلى اختيار الإفراد، وهو ظاهر مذهب الشافعي - انتهى مختصرًا. وقال ابن القيم بعد ذكر رواية المروذي عن أحمد: فمن أصحابه من جعل هذه رواية ثانية، ومنهم من جعل المسألة رواية واحدة، وأنه إن ساق الهدي فالقران أفضل، وإن لم يسق فالتمتع أفضل، وهذه طريقة شيخنا، وهي التي تليق بأصول أحمد - انتهى. قلت: والمرجح في فروع الحنابلة كون التمتع أفضل مطلقًا، وحكى النووي للإمام الشافعي ثلاثة أقوال ثم قال: والصحيح: تفضيل الإفراد، ثم التمتع، ثم القران، وهكذا في عامة فروع الشافعية، لكن أفضلية الإفراد عندهم مشروطة بأن يعتمر بعده في هذه السنة، وإلا فهما أفضل منه، كما صرح بذلك غير واحد من الشافعية في كتب فروعهم. قال النووي في مناسكه: القران أفضل من إفراد الحج بغير أن يعتمر بعده - انتهى. وقال الولي العراقي: ذهب القاضي حسين، والمتولي من الشافعية إلى ترجيح الإفراد على التمتع والقران ولو لم يعتمر في تلك السنة ولكن الأكثرون على أن شرط تفضيله عليهما أن يعتمر من سنته، فلو أخر العمرة عن تلك السنة فكل منهما أفضل منه للإتيان فيهما بالنسكين، وذكر النووي: أن ما قالاه شاذ ضعيف - انتهى. والمختار عند المالكية أن الإفراد أفضل مطلقًا، ثم القران، ثم التمتع. واشتراط الاعتمار في أفضلية الإفراد قول ضعيف، والمعتمد عندهم أن الإفراد أفضل ولو لم يعتمر بعده، وأما الحنفية فلهم قول واحد وهو أفضلية القران ثم التمتع ثم الإفراد. وقال المحب الطبري: قد اختلف الأئمة في أي الوجوه الثلاثة أفضل، ومنشأ اختلافهم ما تقدم من اختلاف الروايات في فعله - صلى الله عليه وسلم -، فقال مالك والشافعي: الإفراد أفضل، وقال أحمد، وإسحاق، وأهل الظاهر: التمتع أفضل، وقال أبو حنيفة: القران أفضل، وبه قال أهل التحقيق من المحدثين والأئمة والحفاظ وهو المختار. انتهى مختصرًا. وقال الولي العراقي: اختلف العلماء في أفضل وجوه الإحرام بحسب اختلافهم فيما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - عام حجة الوداع على أقوال أحدها: أن الأفضل الإفراد، وهو مذهب مالك، والشافعي، وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر، وجابر، وعائشة، وأبى ثور، وحكاه النووي في شرح المهذب عنهم، وعن عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، والأوزاعي، وداود. قال المالكية والشافعية: ثم الأفضل بعد الإفراد التمتع ثم القران. الثاني: أن التمتع أفضل، وهو قول أحمد بن حنبل. قال ابن قدامة في المغني: وممن روى عنه اختيار التمتع ابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، وعائشة، والحسن، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وجابر بن زيد، وسالم، والقاسم، وعكرمة وهو أحد قولي الشافعي، وحكاه الترمذي عنه وعن أحمد، وإسحاق وأهل الحديث. قال الحنابلة: ثم الأفضل

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ بعد التمتع الإفراد ثم القران، والثالث: أن القران أفضل، وهذا قول أبى حنيفة، وحكاه ابن المنذر عن سفيان الثوري، وإسحاق بن راهويه، ثم قال: لا شك أنه عليه الصلاة والسلام كان قارنًا - انتهى. وهو قول للشافعي، وقال به من أصحابنا المزني، وأبو إسحاق، المروذي، وإليه ذهب ابن حزم الظاهري والمشهور عند الحنفية: أن الأفضل بعد القران التمتع ثم الإفراد، وعن أبى حنيفة: أن الإفراد أفضل من التمتع، الرابع: أنه إن ساق الهدي فالقران أفضل، وإن لم يسقه فالتمتع أفضل، حكاه المروذي عن أحمد بن حنبل. قلت: واختاره من الحنفية القاضي ثناء الله الفاني فتى حيث قال في تفسيره ((المظهري)) : التحقيق أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قارنًا، وأن القران أفضل من التمتع إن ساق الهدي، والتمتع أفضل إن لم يسق الهدي، وكل منهما أفضل من الإفراد - انتهى. الخامس: أن الأنواع الثلاثة سواء في الفضيلة، لا فضيلة لبعضها على بعض، حكاه القاضي عياض عن بعض العلماء. قال الحافظ في الفتح: وهو مقتضى تصرف ابن خزيمة في صحيحه. السادس: أن التمتع والقران سواء في الفضل، وهما أفضل من الإفراد حكي عن أبى يوسف - انتهى. وقد ظهر من كلام الطبري، والولي العراقي أن منشأ اختلافهم في أفضل الوجوه الثلاثة ومناطه هو اختلافهم في إحرامه - صلى الله عليه وسلم -، وهكذا ذكر غير واحد من شراح الحديث ومحققي الفقهاء، وقيل بعكس ذلك بأن ترجيحهم في إحرامه وحجه - صلى الله عليه وسلم - مبني على ما تحقق عندهم من أفضليته، لكن الصواب أنه ليس بمطرد عندهم. قال النووي: أما حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - فاختلفوا فيها هل كان مفردًا أو متمتعًا أو قارنًا؟ وهي ثلاثة أقوال للعلماء بحسب مذاهبهم السابقة وكل رجحت نوعًا وادعت أن حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت كذلك، والصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - كان أولاً مفردًا ثم أحرم بالعمرة بعد ذلك وأدخلها على الحج فصار قارنًا - انتهى. فهذا كما ترى قد صحح كونه - صلى الله عليه وسلم - قارنًا انتهاءً، وصحح في بيان المذاهب أفضلية الإفراد على غيره، وكذا اختار القاضي عياض، والحافظ وغيرهما أنه - صلى الله عليه وسلم - أفرد أولاً ثم أدخل العمرة عليه فصار قارنًا. واختار الخطابي في المعالم عكسه فقال بعد ذكر حديث حفصة أنها قالت: يا رسول الله ما شأن الناس حلوا ولم تحل أنت من عمرتك؟ فقال ((إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر)) فثبت أنه كان هناك عمرة إلا أنه أدخل عليها الحج قبل أن يقضي شيئًا من عمل العمرة فصار في حكم القارن. وقال في الروض المربع من فقه الحنابلة: قال أحمد: لا شك أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قارنًا والمتعة أحب إليّ. وقد اختلفت روايات الصحابة في حجه - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع هل كان مفردًا أو قارنًا أو متمتعًا، وروي كل منها في الصحيحين وغيرهما، واختلف الناس في ذلك وفي إحرامه - صلى الله عليه وسلم - على أقوال، أحدها: أنه حج مفردًا لم يعتمر معه، حكي هذا عن الإمام الشافعي وغيره. قال القسطلاني في المواهب: والذي ذهب إليه الشافعي في جماعة أنه - صلى الله عليه وسلم - حج مفردًا، وحكاه الزرقاني في شرح المواهب عن الإمام مالك، وحكي عن الشافعي وغيره أن نسبة القران والتمتع إليه - صلى الله عليه وسلم - على سبيل الاتساع لكونه أمر بهما - انتهى. وبه جزم الخطابي

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ حيث قال: اختلفت الروايات فيما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - به محرمًا، والجواب عن ذلك أن كل راو أضاف إليه ما أمر به اتساعًا، ثم رجح أنه كان أفرد الحج. قال الحافظ في الفتح: هذا هو المشهور عند الشافعية والمالكية وقد بسط الشافعي القول فيه في اختلاف الحديث وغيره - انتهى. ومقتضى هذا القول أنه - صلى الله عليه وسلم - لبى بالحج وحده واستمر عليه. الثاني: أنه لبى بالعمرة وحدها واستمر عليها حتى فرغ منها ثم أحرم بعد ذلك بالحج فكان متمتعًا وكان حجه حج تمتع، قاله القاضي أبو يعلى وغيره. الثالث: أنه حج متمتعًا تمتعًا لم يحل فيه لأجل سوق الهدي ولم يكن قارنًا، حكاه ابن القيم عن صاحب المغني وغيره، ومقتضى هذا أنه أحرم بالعمرة وحدها واستمر عليها حتى حل يوم النحر. الرابع: أنه لبى بالحج وحده وحج مفردًا واعتمر بعده من التنعيم. قال ابن تيمية: وهذا غلط لم يقله أحد من الصحابة، ولا التابعين، ولا الأئمة الأربعة، ولا أحد من أهل الحديث - انتهى. وقال ابن القيم: الذين قالوا: إنه حج مفردًا، اعتمر عقيبه من التنعيم لا يعلم لهم عذر ألبته إلا أنهم سمعوا أنه - صلى الله عليه وسلم - أفرد الحج، وأن عادة المفردين أن يعتمروا من التنعيم فتوهموا أنه فعل كذلك. الخامس: أنه لبى بالحج مفردًا ثم أدخل عليه العمرة وصار قارنًا فكان مفردًا ابتداءً وقارنًا انتهاءً، وبه جزم عامة محققي الشافعية وبعض المالكية، قال النووي في شرح المهذب: والصواب الذي نعتقده أنه - صلى الله عليه وسلم - أحرم بالحج أولاً مفردًا ثم أدخل عليه العمرة فصار قارنًا، وإدخال العمرة على الحج جائز على أحد القولين عندنا، وعلى الأصح لا يجوز لنا، وجاز للنبي - صلى الله عليه وسلم - تلك السنة للحاجة - انتهى. واختاره القاضي عياض إذ قال: أما إحرامه - صلى الله عليه وسلم - بنفسه فأخذ بالأفضل فأحرم مفردًا للحج، تضافرت به الروايات الصحيحة، وأما رواية من روى أنه كان متمتعًا فمعناه أمر به، وأما رواية من روى القران فهو إخبار عن آخر أحواله لا عن ابتداء إحرامه، لأنه أدخل العمرة على الحج لما جاء إلى الوادي وقيل له: قل عمرة في حجة - انتهى. قال الحافظ: وهذا الجمع هو المعتمد، وقد سبق إليه قديمًا ابن المنذر، ومهده المحب الطبرى (في القرى ص86 - 100) تمهيدًا بالغًا يطول ذكره، ومحصله أن كل من روي عنه الإفراد حمل على ما أهل به في أول الحال، وكل من روي عنه التمتع أراد ما أمر به أصحابه، وكل من روي عنه القران أراد ما استقر عليه أمره. السادس: أنه لبى بالعمرة وحدها ثم لم يتحلل منها إلى أن أدخل عليها الحج يوم التروية فصار قارنًا، حكاه الحافظ عن الطحاوي، وابن حبان، السابع: أنه أحرم إحرامًا مطلقًا لم يعين فيه نسكًا ثم عينه بعد، رجحه الشافعي في اختلاف الحديث، كما قال الحافظ في الفتح. وقال الولي العراقي: قال القاضي وقال بعض علمائنا: إنه أحرم إحرامًا مطلقًا منتظرًا ما يؤمر به من إفراد، أو تمتع، أو قران، ثم أمر بالحج، ثم أمر بالعمرة في وادي العقيق بقوله: ((صل في هذا الوادي وقل: عمرة في حجة)) ثم قال القاضي في موضع آخر بعد ذلك: لا يصح قول من قال: أحرم النبي - صلى الله عليه وسلم - إحرامًا مبهمًا. لأن رواية جابر وغيره من الصحابة في الأحاديث الصحيحة ترده وهي مصرحة بخلافه - انتهى. الثامن: أنه لبى بالحج والعمرة معًا وكان قارنًا من أول

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأمر، وحقق هذا القول ابن الهمام في شرح الهداية، وابن القيم في الهدي، وأجابا عن كل ما خالفه فعليك أن ترجع إليهما، وهذا القول هو الحق والصواب عندنا، قال ابن القيم: والصواب أنه أحرم بالحج والعمرة معًا من حيث أنشأ الإحرام ولم يحل حتى حل منهما جميعًا كما دلت عليه النصوص المستفيضة التي تواترت تواترًا يعلمه أهل الحديث - انتهى. وإليه مال ابن حزم الظاهري في كتابه ((حجة الوداع)) وتأول باقي الأحاديث إليه كما حكاه النووي، والولي العراقي، ثم إنه طاف طوافًا واحدًا وسعيًا واحدًا، وقد بسط ابن القيم الكلام في إثبات هذا القول أشد البسط وهذا القول هو الراجح المعول عليه عندنا قال الولي العراقي في شرح التقريب، والسيوطي في التنوير: قال القاضي عياض: قد أكثر الناس الكلام على هذه الأحاديث أي المختلفة في إحرامه وحجته - صلى الله عليه وسلم -، فمن مجيد منصف، ومن مقصر متكلف، ومن مطيل مكثر، ومن مقتصر مختصر، وأوسعهم في ذلك نفسًا أبو جعفر الطحاوي الحنفي، فإنه تكلم في ذلك في زيادة على ألف ورقة وتكلم معه في ذلك أبو جعفر الطبري، ثم أبو عبد الله بن أبي صفرة، ثم المهلب، والقاضي أبو عبد الله بن المرابط، والقاضي أبو الحسن بن القتار، والحافظ أبو عمر بن عبد البر وغيرهم وأولى ما يقال في هذا على ما لخصناه من كلامهم واخترناه من اختياراتهم مما هو أجمع للروايات وأشبه بمساق الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أباح للناس فعل هذه الأنواع الثلاثة ليدل على جواز جميعها إذ لو أمر بواحد لكان غيره يظن أنه لا يجزئ فأضيف الجميع إليه وأخبر كل واحد بما أمر به وأباحه ونسبه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إما لأمره به أو لتأويله عليه - انتهى. وقد سبق بهذا الجمع الخطابي كما تقدم وزاد، وقد يحتمل ذلك وجهًا آخر، وهو أن يكون بعضهم سمعه يقول: لبيك بحج، فحكى أنه أفردها، وخفي عليه قوله: ((وعمرة)) فلم يحك إلا ما سمع وهو عائشة، ووعى غيره الزيادة فرواها وهو أنس حين قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لبيك بحجة وعمرة، ولا تنكر الزيادات في الأخبار كما لا تنكر في الشهادات، وإنما كان يختلف ويتناقض لو كان الزائد نافيًا لقول صاحبه، وأما إذا كان مثبتًا له وزائدًا عليه فليس فيه تناقض ولا تدافع - انتهى. وجمع الحنفية كابن الهمام، وابن نجيم وغيرهما بين هذه الروايات بأن سبب رواية الإفراد سماع من رأى تلبيته بالحج وحده، ورواية التمتع سماع من سمعه يلي بالعمرة وحدها، ورواية القران سماع من سمعه يلبي بهما، وهذا لأنه لا مانع من إفراد ذكر نسك في التلبية وعدم ذكر شيء أصلاً وجمعه أخرى بنية القران - انتهى. وقال الأبي في الإكمال: اختلفت الرواة في صفة حجه - صلى الله عليه وسلم - وطعن بعض الملحدة بذلك في الوثوق بنقل الصحابة، قال لأن القضية واحدة واختلفوا في نقلها اختلافًا متضادًا وذلك يؤدي إلى الخلف في خبرهم وعدم الوثوق بنقلهم، وقد أكثر الناس من الكلام على هذه الأحاديث وأوسعهم في ذلك نفسًا الطحاوي، والمتحصل من جواباتهم ثلاثة الأول: أن الكذب إنما يدخل فيما طريقه النقل لا فيما طريقة النظر

فأما من أهل بعمرة فحل، ـــــــــــــــــــــــــــــ والاستدلال، وإنما استدلوا بما ظهر من فعله يعني أن التكاذب فيما طريقه النقل، ولم يقولوا: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم إني فعلت كذا، وإنما استدلوا على نيته وقصده بما ظهر من أفعاله، وهذا موضع تأويل يجوز فيه الغلط والخطأ، فإذا إنما وقع فيما طريقه النظر والاستدلال لا النقل. الثاني: يصح أن يكون أمر بعض أصحابه بالإفراد وبعضهم بالقران وبعضهم بالتمتع، ليدل على جواز الجميع فأضاف النقلة ذلك إلى فعله كما يقال: قطع الأمير اللص. والثالث: يصح أن يكون قارنًا إلا أنه فرق بين زمن إحرامه بالعمرة وبين زمانه بالحج فسمعت طائفة قوله الأول، وطائفة الثاني، وطائفة القولين، فروت كل واحدة بما سمعت انتهى مختصرًا. (فأما من أهل بعمرة فحل) لما وصل مكة وأتى بأعمالها وهي الطواف والسعي والحلق أو التقصير وهذا مجمع عليه في حق من لم يسق معه هديًا، أما من أحرم بعمرة وساق معه الهدي فقال مالك، والشافعي، وجماعة هو كذلك، قال النووي في مناسكه: المتمتع هو الذي يحرم بالعمرة من ميقات بلده ويفرغ منها ثم ينشئ الحج من مكة سمي متمتعًا لاستمتاعه بمحظورات الإحرام بين الحج والعمرة فإنه يحل له جميع المحظورات إذا فرغ من العمرة سواء كان ساق هاديًا أو لم يسق - انتهى. وقال الأبي في الإكمال: إن المعتمر إذا فرغ من عمرته حل ثم ينشئ الحج من عامه وإن كان معه الهدي، فكذلك عند مالك، والشافعي قياسًا على من ليس معه هدي - انتهى. وقال أبو حنيفة، وأحمد وجماعة: لا يحل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر. قال صاحب الهداية في المتمتع الذي ساق الهدي: إذا دخل مكة طاف وسعى، وهذا للعمرة على ما بينا في متمتع لا يسوق الهدي إلا أنه لا يتحلل حتى يحرم بالحج يوم التورية، لقوله عليه السلام: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة وتحللت منها. وهذا ينفي التحلل عند سوق الهدي - انتهى. قال الحافظ في الدراية: رواه مسلم في حديث جابر الطويل، وفي الصحيحين عن أنس: ((لولا أن معي الهدى لأحللت)) - انتهى. وقال ابن قدامة في المغني (ج3: 391) : أما من معه هدي (أي المتمتع الذي ساق الهدي) فليس له أن يتحلل لكن يقيم على إحرامه ويدخل الحج على العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعًا، نص عليه أحمد وهو قول أبى حنيفة ... وقال مالك، والشافعي: له التحلل ونحر هديه، ويستحب نحره عند المروة. ولنا حديث ابن عمر قال: تمتع الناس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما قدم مكة قال للناس: من كان معه هدي فإنه لا يحل من شيء حرم عليه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن معه هدي فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل. وروت عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع - الحديث. وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعًا)) وعن حفصة أنها قالت: يا رسول الله ما شأن الناس حلوا من العمرة ولم تحل من عمرتك؟ قال: إني لبدت رأسي وقلدت هدي فلا أحل حتى أنحر. متفق عليه. والأحاديث كثيرة أي في هذا المعنى. (وقال الحافظ: الأحاديث بذلك متضافرة) وذكر ابن قدامة روايتين أخريين لأحمد ثم قال: والرواية الأولى أولى لما

وأما من أهل بالحج أو جمع الحج والعمرة فلم يحلوا حتى كان يوم النحر. متفق عليه. 2570- (7) وعن ابن عمر، قال: تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، بدأ ـــــــــــــــــــــــــــــ فيها من الحديث الصحيح الصريح - انتهى. وفي الروض المربع: ثم إن كان متمتعًا لا هدي معه قصر من شعره وتحلل لأنه تمت عمرته، وإن كان معه هدي لم يقصر وحل إذا حج، فيدخل الحج على العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعًا وسيأتي مزيد الكلام في ذلك في باب قصة حجة الوداع، (وأما من أهل بالحج) أي مفردًا وأهدى، (أو جمع الحج والعمرة) قارنًا، (فلم يحلوا) بفتح الياء وضمها وكسر الحاء، يقال: حل المحرم، وأحل بمعنى واحد أي لم يخرجوا من الإحرام، (حتى كان يوم النحر) أي فحلوا، قال القاري: ففي يوم النحر برميهم جمرة العقبة والحلق حل لهم كل المحظورات إلا مباشرة النساء فحل لهم ذلك بطواف الركن - انتهى. وما ذكر في الحديث من أن من أهل بالحج مفردًا إنما حل يوم النحر، وهو محمول على من أهل بالحج وأهدى، وإلا فمن كان أهل بالحج ولم يهد أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يفسخه إلى العمرة. ففي رواية الأسود عن عائشة عند البخاري قالت: خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا نرى إلا أنه الحج فلما قدمنا أي مكة تطوفنا بالبيت فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من لم يكن ساق الهدي أن يحل، فحل من لم يكن ساق الهدى - الحديث. قال الحافظ: قوله: ((أن يحل)) أي من الحج بعمل العمرة، وهو فسخ الحج - انتهى. وعلى هذا يحمل ما وقع في رواية عقيل عن الزهري في الصحيحين: ((فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أحرم بعمرة ولم يهد فليحلل، ومن أحرم بعمرة وأهدى فلا يحل حتى ينحر هديه، ومن أهل بحج (أي وأهدى) فليتم حجه)) ، وإنما حملنا الحديث على ذلك لأن ظاهره مخالف لأحاديث فسخ الحج، وعلى هذا لا يحتاج إلى تغليظ الرواية وإسقاطها كما ذهب إليه ابن القيم فتأمل، وقال الشنقيطى في ((أضواء البيان)) : دعوى من ادعى أنه لم يحل بعمرة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع إلا من أحرم بالعمرة وحدها، وأن من أحل بحج أو جمع الحج والعمرة لم يحل أحد منهم حتى كان يوم النحر، دعوى باطلة، لأن الروايات الصحيحة التي لا مطعن فيها عن جماعة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - متظاهرة بكل الوضوح والصراحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر كل من لم يكن معه هدي أن يحل بعمرة سواء كان مفردًا أو قارنًا، ومستند من ادعى تلك الدعوى الباطلة هو ما أخرجه مسلم في صحيحه فذكر حديث عائشة الذي نحن في شرحه ثم قال: لأن الذين لم يحلوا من القارنين والمفردين في هذا الحديث ونحوه من الأحاديث يجب حملهم على أن معهم الهدي لأجل الروايات الصحيحة المصرحة بذلك وبأن من لم يكن معه هدي فسخوا حجهم في عمرة بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً مالك، وأبو داود، والبيهقي (ج5: ص109، 110) 2570- قوله: (تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجه الوداع بالعمرة إلى الحج) أي استمتع بالعمرة منضمة إلى الحج وانتفع بها، قال القاري: قوله: ((إلى الحج)) حال من ((العمرة)) أي تمتع بها منضمة إلى الحج (بدأ) أي ابتدأ النسك

فأهل بالعمرة ثم بالحج. ـــــــــــــــــــــــــــــ (فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج) بيان لقوله: تمتع، وظاهره أنه أدخل الحج على العمرة، وقال السندي: إن التمتع عند الصحابة كان شاملاً للقران أيضًا، وإطلاقه على ما يقابل القران اصطلاح حادث، وقد جاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قارنًا، فالوجه أن يراد بالتمتع ها هنا في شأنه - صلى الله عليه وسلم - القران توفيقًا بين الأحاديث، والمعنى: انتفع بالعمرة إلى أن حج مع الجمع بينهما في الإحرام، ومعنى قوله: بدأ بالعمرة أنه قدم العمرة ذكرًا في التلبية فقال: لبيك عمرة وحجًا - انتهى. وقال القاضي قوله: تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلخ هو محمول على التمتع اللغوي وهو القران آخرًا، ومعناه أنه - صلى الله عليه وسلم - أحرم أولاً بالحج مفردًا ثم أحرم بالعمرة فصار قارنًا في آخر أمره. والقارن: هو متمتع من حيث اللغة ومن حيث المعنى، لأنه ترفه باتحاد الميقات والإحرام والفعل، ويتعين هذا التأويل هنا للجمع بين الأحاديث في ذلك، قلت: الحديث مشكل على من ذهب إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - كان مفردًا أولاً وآخرًا ولم يكن متمتعًا ولا قارنًا، فقال المهلب لدفع هذا الإشكال أن قوله: ((تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) إلخ معناه أمر بذلك لأنه كان ينكر على أنس قوله: إنه قرن ويقول: إنه كان مفردًا، وأما قوله: ((بدأ فأهل بالعمرة)) فمعناه أمرهم بالتمتع وهو أن يهلوا بالعمرة أولاً ويقدموها قبل الحج، قال: ولا بد من هذا التأويل لدفع التناقض عن ابن عمر وقال ابن المنير: إن حمل قوله: ((تمتع)) على معنى ((أمر)) من أبعد التأويلات، والاستشهاد عليه بقوله: ((رجم)) وإنما أمر بالرجم من أوهن الاستشهادات، لأن الرجم وظيفة الإمام والذي يتولاه إنما يتولاه نيابة عنه، وأما أعمال الحج من إفراد وقران وتمتع فإنه وظيفة كل أحد عن نفسه، ثم أجاز تأويلاً آخر وهو: أن الراوي عهد أن الناس لا يفعلون إلا كفعله لا سيما مع قوله: ((خذوا عني مناسككم)) فلما تحقق أن الناس تمتعوا ظن أنه - صلى الله عليه وسلم - تمتع فأطلق ذلك، قال الحافظ: ولا يتعين هذا أيضاً بل يحتمل أن يكون معنى قوله: ((تمتع)) محمولاً على مدلوله اللغوي وهو الانتفاع بإسقاط عمل العمرة والخروج إلى ميقاتها وغيره. قال النووي: إن هذا هو المتعين. قال: وقوله: ((بالعمرة إلى الحج)) أي بإدخال العمرة على الحج - انتهى. والحديث مشكل أيضًا على من قال إنه - صلى الله عليه وسلم - كان مفردًا في أول الأمر ثم أدخل العمرة على الحج فصار قارنًا. قال الحافظ: وإنما المشكل هنا قوله: فبدأ بالعمرة ثم أهل بالحج. لأن الجمع بين الأحاديث الكثيرة في هذا الباب استقر كما تقدم على أنه بدأ أولاً بالحج ثم أدخل عليه العمرة وهذا بالعكس، وأجيب عنه بأن المراد به صورة الإهلال، أي لما أدخل العمرة على الحج لبى بهما فقال: لبيك بعمرة وحجة معًا. وهذا مطابق لحديث أنس المتقدم، لكن قد أنكر ابن عمر ذلك على أنس فيحتمل أن يحمل إنكار ابن عمر عليه كونه أطلق أنه - صلى الله عليه وسلم - جمع بينهما أي في ابتداء الأمر، ويعين هذا التأويل قوله في نفس الحديث: ((وتمتع الناس)) إلخ. فإن الذين تمتعوا إنما بدأوا بالحج، ولكن فسخوا حجهم إلى العمرة حتى حلوا بعد ذلك بمكة ثم حجوا من عامهم - انتهى. وقال القاضي: قوله: ((بدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) إلخ. محمول على التلبية في أثناء الإحرام وليس المراد أنه أحرم في أول أمره بعمرة ثم أحرم بحج، لأنه يفضي إلى مخالفة الأحاديث

(الفصل الثاني)

متفق عليه. (الفصل الثاني) 2571- (8) عن زيد بن ثابت، أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - تجرد لإهلاله واغتسل. ـــــــــــــــــــــــــــــ فوجب تأويل هذا على موافقها ويؤيد هذا التأويل قوله: ((وتمتع الناس)) إلخ. ومعلوم أن كثيرًا منهم أو كثيرًا منهم أو أكثرهم أحرموا بالحج أولاً مفردًا وإنما فسخوه إلى العمرة آخرًا فصاروا متمتعين، فقوله: ((تمتع الناس)) يعني في آخر الأمر وسيأتي مزيد الكلام في ذلك في شرح حديث ابن عمر في باب قصة حجة الوداع إن شاء الله تعالى. (متفق عليه) وأخرجه أيضًا أبو داود، والنسائي، والبيهقي (ج5: ص17) . 2571- قوله (تجرد) أي عن المخيط، ولبس إزارًا ورداءً، قاله القاري. (لإهلاله) أي لإحرامه، قال الراغب: الإهلال رفع الصوت عند رؤية الهلال ثم استعمل لكل صوت وبه شبه إهلال الصبي، ومنه الإهلال بالحج، وقال الحافظ: أصله رفع الصوت لأنهم كانوا يرفعون أصواتهم بالتلبية عند الإحرام، ثم أطلق على نفس الإحرام اتساعًا (واغتسل) أي للإحرام قال الشوكاني: الحديث يدل على استحباب الغسل عند الإحرام وإلى ذلك ذهب الأكثر، وقال الناصر: إنه واجب، وقال الحسن البصرى، ومالك: محتمل. - انتهى. قيل: والحكمة في الاغتسال عند الإحرام هي: التنظيف، وقطع الرائحة الكريهة ودفع أذاها عن الناس، وقيل: الحكمة فيه أنه لإزالة التفث الذي يكون على الإنسان حتى يأتي تفل الحج مفردًا عما كان قبله، فتفل الحاج كخلوف فم الصائم. قال ابن قدامة في المغني (ج3: ص271) : من أراد الإحرام استحب له أن يغتسل قبله في قول أكثر أهل العلم منهم: طاوس، والنخعي، ومالك، والثوري، والشافعي وأصحاب الرأي، لما روى خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه أنه رأي النبي - صلى الله عليه وسلم - تجرد لإهلاله واغتسل. رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب، وثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أسماء بنت عميس وهي نفساء: أن تغتسل عند الإحرام، وأمر عائشة أن تغتسل عند الإهلال بالحج وهي حائض، ولأن هذه العبادة يجتمع لها الناس فسن لها الاغتسال كالجمعة، وليس ذلك واجبًا في قول عامة أهل العلم. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الإحرام جائز بغير اغتسال، وأنه غير واجب وحكي عن الحسن أنه قال: إذا نسى الغسل يغتسل إذا ذكر. قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله قيل له عن بعض أهل المدينة: من ترك الغسل عند الإحرام فعليه دم، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأسماء وهي نفساء: ((اغتسلي)) فكيف الطاهر؟ فأظهر التعجب من هذا القول، وكان ابن عمر يغتسل أحيانًا ويتوضأ أحيانًا، وأي ذلك فعل أجزأه ولا يجب الاغتسال ولا نقل الأمر به إلا لحائض أو نفساء، ولو كان واجبًا لأمر به غيرهما، ولأنه لأمر مستقبل فأشبه غسل الجمعة - انتهى. وقال الأبي في الإكمال: في الحج ثلاث اغتسالات: للإحرام، ولدخول مكة، وللوقوف بعرفة. (كما روي عن ابن عمر أنه كان يغتسل لإحرامه قبل أن يحرم، ولدخوله مكة، ولوقوفه عشية عرفة) وأطلق مالك على جميعها الاستحباب وهي عندنا

رواه الترمذي، والدارمى. ـــــــــــــــــــــــــــــ سنة مؤكدة، وآكدها عندنا وعن الشافعي ما للإحرام لأمره - صلى الله عليه وسلم - به - انتهى. وقال الزرقاني: الغسل للإحرام سنة مؤكدة عند مالك وأصحابه لا يرخص في تركه إلا لعذر، وهو آكد اغتسالات الحج. وقال ابن خويرز منداد: إنه آكد من غسل الجمعة، وأوجبه أهل الظاهر، والحسن، وعطاء في أحد قوليه على مريد الإحرام طاهرًا أم لا - انتهى. وفى الشرح الكبير للدردير: السنة لمريد الإحرام ولو صبيًا أو حائضًا أو نفساء غسل متصل بالإحرام، فلو اغتسل غدوة وأحرم وقت الظهر لم يجزه، ولا يضر الفصل لشد رحاله وإصلاح جهازه، ولا دم في تركه عمدًا وقد أساء أي ارتكب مكروهًا - انتهى. وقال القاري في شرح المناسك: يغتسل (أي مريد الإحرام) بسدر ونحوه، أو يتوضأ، والغسل أفضل لأنه سنة مؤكدة والوضوء يقوم مقامه في إقامة السنة المستحبة لا السنة المؤكدة، وفيه إشارة إلى أن التيمم لا يقوم مقام الغسل مطلقًا - انتهى. وذكر ابن عابدين الاختلاف فيما بينهم في أن التيمم يجزئ أم لا؟ ومنشأه الاختلاف في أن غسل الإحرام للطهارة فيقوم مقامه، أو للنظافة فلا، قال ابن قدامة (ج3: ص272) : إن لم يجد ماء لم يسن له التيمم. وقال القاضي: يتيمم لأنه غسل مشروع، فناب عنه التيمم كالواجب، ولنا أنه غسل مسنون فلم يستحب التيمم عند عدمه كغسل الجمعة ونحوه من الأغسال المسنونة. والفرق بين الغسل الواجب والمسنون أن الواجب يراد لإباحة الصلاة، والتيمم يقوم مقامه في ذلك، والمسنون يراد للتنظيف وقطع الرائحة، والتيمم لا يحصل هذا بل يزيد شعثًا وتغييرًا، ولذلك افترقا في الطهارة الصغرى فلم يشرع تجديد التيمم ولا تكرار المسح به - انتهى. وفى الروض المربع من فقه الحنابلة: سن لمريده غسل ولو حائضًا ونفساء أو تيمم لعدم الماء أو لنحو مرض - انتهى. وهكذا في شرح الإقناع. (رواه الترمذي) وقال: هذا حديث حسن غريب، (والدارمي) كلاهما من طريق عبد الله بن يعقوب المدني عن عبد الرحمن بن أبى الزناد عن أبيه عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه، وعبد الله بن يعقوب قال الذهبي عنه: لا أعرفه. وقال الحافظ: مجهول الحال. قال ابن القطان في كتابه: وإنما حسنه الترمذي ولم يصححه للاختلاف في عبد الرحمن بن أبي الزناد، والراوي عنه عبد الله بن يعقوب المدني أجهدت نفسي في معرفته فلم أجد أحدًا ذكره - انتهى. كذا في نصب الراية. وقال ابن الملقن في شرح المنهاج جوابًا على من أنكر على الترمذي تحسين الحديث: لعله إنما حسنه لأنه عرف عبد الله بن يعقوب المدني في إسناده أي عرف حاله، والحديث رواه أيضاً الدارقطني (ص256) ، والبيهقي (ج5: ص32) ، والطبراني، والعقيلي كلهم من طريق محمد بن موسى بن مسكين أبى غزية عن عبد الرحمن بن أبى الزناد عن أبيه عن خارجة عن أبيه، وأعله العقيلي بأبى غزية وقال: عنده مناكير، ولا يتابع عليه إلا من طريق فيها ضعف - انتهى. وقال البيهقي: أبو غزية ليس بالقوي، وقال الدارقطني: قال يحيى بن صاعد: (شيخ الدارقطني، والراوي عن يحيى بن خالد عن أبي غزية) هذا حديث حسن غريب ما سمعناه إلا منه. قال البيهقي وروي عن غير أبى غزية، ثم روى الحديث من طريق الأسود بن عامر عن ابن أبي الزناد قال ابن التركماني: مدار الحديث على

2572- (9) وعن ابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبد رأسه بالغسل. رواه أبو داود. 2573- (10) وعن خلاد بن السائب ـــــــــــــــــــــــــــــ عبد الرحمن بن أبي الزناد وقد ضعفه النسائي وغيره، فالصواب أن يعلل به لا بأبي غزية، لأن غيره تابعه عليه فأخرجه البيهقي من حديث الأسود بن عامر وهو ثقة عن ابن الزناد، وأخرجه الترمذي من حديث عبد الله بن يعقوب عنه أي عن ابن أبي الزناد، وقال: حسن غريب - انتهى. قلت: ابن أبي الزناد وثقه الترمذي والعجلي ويعقوب بن شيبة، وصحح الترمذي عدة من أحاديثه، وقال في اللباس: ثقة حافظ. وقال الحافظ في التقريب: صدوق تغير حفظه لما قدم بغداد. فالظاهر أن حديثه لا ينحط عن درجة الحسن وللحديث عدة شواهد، منها حديث ابن عباس أخرجه الدارقطني (ص256) ، والحاكم (ج1: ص447) ، والبيهقي (ج5: ص33) وفيه: يعقوب بن عطاء وهو ضعيف، ومنها حديث ابن عمر عند الدارقطني، والحاكم، والبزار، وابن أبى شيبة، والبيهقي، قال من السنة أن يغتسل إذا أراد أن يحرم، ومنها حديث عائشة عند الطبراني في الأوسط قالت: ((إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج إلى مكة اغتسل حين يريد أن يحرم)) . ذكره الزيلعي. 2572- قوله: (لبد رأسه بالغسل) بكسر الغين المعجمة وسكون السين المهملة. ما يضاف إلى الماء للتنقية والتنظيف من خطمي وأشنان وصابون وغيره. وقال الجزري: الغسل بالكسر هو ما يغسل به من خطمي وغيره والحديث دليل على مشروعية تلبيد الشعر للإحرام خلافًا للحنفية، ويؤيده ما تقدم من حديث ابن عمر: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهل ملبدًا، ويؤيده أيضاً ما روي عن حفصة أنها قالت: يا رسول الله ما بال الناس حلوا ولم تحل أنت من عمرتك؟ فقال: إني لبدت رأسي وقلدت هديي - الحديث. ويؤيده أيضًا ما روي عن عائشة. قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يحرم غسل رأسه بخطمي وأشنان. أخرجه أحمد والدارقطني، وزاد: ((ودهنه بزيت غير كثير)) وقد تقدم الكلام في ذلك وفي ضبط الغسل ومعناه في شرح ثاني أحاديث اللباب، وتقدم هناك تأويل الحنفية لأحاديث الباب. قال القاري: ليس في حديث ابن عمر دلالة على أنه كان قبل إحرامه، ولا عبرة بذكر المصنف هنا لابتنائه على فهمه وفقهه. قلت: ما فهمه المصنف هو مواف لما تقدم من قول ابن عمر: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهل ملبدًا، وهو الذي فهمه جمهور الفقهاء المحدثين كأبي داود، والحاكم، والبيهقي، والمحب الطبري، والحافظ (رواه أبو داود) في المناسك وكذا الحاكم. كما قال العيني (ج9: ص159) ، والبيهقي (ج5: ص36) كلهم من طريق ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر، وقد سكت عنه أبو داود والمنذري، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي (ج1: ص450) . 2573- قوله: (عن خلاد) بفتح الخاء المعجمة وتشديد اللام وإهمال الدال (بن السائب) بن خلاد بن سويد الأنصاري الخزرجي التابعي، وقد ذكره جماعة في الصحابة منهم ابن حبان ولم يرفع نسبه وقال: له صحبة. ثم أعاده في

عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتاني جبرئيل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال أو التلبية. ـــــــــــــــــــــــــــــ التابعين وشبهتهم في ذلك الحديث الذي رواه عنه عبد الملك بن أبى بكر فقال: عن خلاد عن أبيه رفعه، وقيل: عن خلاد بن السائب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال الترمذي: والسائب بن خلاد أصح، ذكره الحافظ في تهذيب التهذيب وقال في التقريب: خلاد بن السائب بن خلاد بن سويد الخزرجي، ثقة من الثالثة، (أي من الطبقة الوسطى من التابعين) ووهم من زعم أنه صحابى، (عن أبيه) أي السائب بن خلاد بن سويد بن ثعلبة بن عمرو بن حارثة الخزرجي أبي سهلة المدني، قال في التقريب: له صحبة، وعمل لعمر على اليمن، وقال أبو عبيد: شهد بدرًا وولي اليمن لمعاوية، توفي سنة إحدى وسبعين، وقال ابن عبد البر: لم يرو عنه غير ابنه خلاد فيما علمت، وحديثه في رفع الصوت بالتلبية مختلف فيه، (فأمرني) عن الله تعالى أمر إيجاب، إذ تبليغ الشرائع واجب عليه، (أن آمر أصحابي) أمر ندب عند الجمهور ووجوب عند الظاهرية، (بالإهلال أو التلبية) إظهار لشعار الإحرام وتعليمًا للجاهل ما يستحب في ذلك المقام، و ((أو)) للشك من الراوي، والإهلال: هو رفع الصوت بالتلبية كما تقدم، فالتصريح بالرفع معه زيادة بيان، قاله الزرقاني. وقال أبو الطيب: المراد بالإهلال التلبية على طريق التجريد لأن معناه رفع الصوت بالتلبية وكلمة أو للشك. وزاد مالك، وأبو داود، وأحمد في رواية: ((يريد أحدهما)) يعني أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما قال أحد هذين اللفظين لكن الرواي شك فيما قاله من ذلك فأتى بأو التي لأحد الشيئين، ثم زاد ذلك بيانًا بقوله: ((يريد أحدهما)) وفي رواية للنسائي: ((بالتلبية)) بدون شك، وابن ماجة ((بالإهلال)) ، ولأحمد (ج5: ص192) ، وابن ماجة، والحاكم (ج1: ص450) ، والبيهقي (ج5: ص42) من حديث زيد بن خالد الجهني التصريح بالتلبية أيضاً، وقد روي في رفع الصوت بالتلبية أحاديث عن جماعة من الصحابة منهم: أنس، وهو خامس أحاديث الباب، ومنهم: السائب بن خلاد بن سويد وهو الذي نحن في شرح حديثه، وزيد بن خالد الجهني، وقد تقدم تخريج حديثه، وأبو هريرة عند أحمد، والحاكم، والبيهقي، وابن عباس عند أحمد (ج1: ص321) ، وجابر عند سعيد بن منصور في سننه من رواية أبي الزبير عنه، وعائشة عند البيهقي (ج5: ص43) ، وأبو بكر الصديق عند الترمذي، وابن ماجة، والحاكم والبيهقي، وسهل بن سعد عند الحاكم، والبيهقي، وأبى ذر. وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من طريق المطلب بن عبد الله قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرفعون أصواتهم بالتلبية حتى تبح أصواتهم، وهذه الأحاديث حجة لما ذهب إليه الجمهور من استحباب رفع الصوت بالتلبية. وذهب داود إلى أن رفع الصوت واجب. قال الشنقيطي: القاعدة المقررة في الأصول مع الظاهرية، وهي أن الأمر يقتضي الوجوب إلا لدليل صارف عنه، وقال الشوكاني: وهو ظاهر قوله: ((فأمرنى أن آمر أصحابي)) لا سيما وأفعال الحج وأقواله بيان لمجمل واجب هو قول الله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((خذوا عني مناسككم)) . قال: وخرج بقوله: ((أصحابي)) النساء، فإن المرأة لا

رواه مالك، والترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة: والدارمى. ـــــــــــــــــــــــــــــ تجهر بها بل تقتصر على إسماع نفسها. وقال ابن رشد أجمع أهل العلم على أن تلبية المرأة فيما حكاه أبو عمر هو أن تسمع نفسها بالقول. وفي الدر المختار: ولا تلبي جهرًا بل تسمع نفسها دفعًا للفتنة، وما قيل: ((أن صوتها عورة)) ضعيف - انتهى. قال المحب الطبري: رفع الصوت عندنا أي الشافعية بالتلبية مشروع في المساجد وغيرها، وقال مالك: لا يرفع الصوت بها في مساجد الجماعات بل يسمع نفسه ومن يليه، إلا في مسجد منى، والمسجد الحرام فإنه يرفع صوته فيهما، وهو قول قديم للشافعي، وزاد مسجد عرفة، لأن هذه المساجد تختص بالنسك - انتهى. وقال الباجي: المحرم لا يرفع صوته بالإهلال في غير مسجد منى، والمسجد الحرام، من مساجد الجماعات، هذا هو المشهور عن مالك، وروى القاضي أبو الحسن عن ابن نافع عن مالك أنه قال: يرفع صوته في المساجد التي بين مكة والمدينة. قال أبو الحسن: هذا وفاقًا للشافعي في أحد قوليه وله قول ثان: أنه يستحب رفع الصوت بالتلبية في سائر المساجد ووجه قول مالك المشهور: أن المساجد مبنية للصلاة، وذكر الله تعالى، وتلاوة القرآن، فلا يصح رفع الصوت فيها بما ليس من مقصودها، لأنه لا تعلق لشيء منها بالحج، أما المسجد الحرام، ومسجد الخيف فللحج اختصاص بهما من الطواف والصلاة أيام منى ولسبب الحج بنيا - انتهى. وقال ابن قدامة: لا يستحب رفع الصوت في الأمصار ولا في مساجدها إلا بمكة والمسجد الحرام، وهو قول مالك، وقال الشافعي يلبي في المساجد كلها. ولنا ما روس عن ابن عباس أنه سمع رجلاً يلبي بالمدينة فقال: إنه لمجنون، إنما التلبية إذا برزت، ولأن المساجد إنما بنيت للصلاة وجاءت الكراهة لرفع الصوت فيها عامًا فوجب إبقاءها على عمومها، فأما مكة فتستحب التلبية فيها لأنها محل النسك، وكذا المسجد الحرام وسائر مساجد الحرم كمسجد منى وفي عرفات أيضًا - انتهى. هذا وقد بسط الشافعي في الأم (ج: ص) في رفع الصوت بها في المساجد كلها بدون التخصيص بمسجد مكة ومنى والراجح عندنا هو ما ذهب إليه مالك، وأحمد. والله أعلم. (رواه مالك) إلخ. وأخرجه أيضاً أحمد (ج4: ص55، 56) ، والشافعي (ج2: ص133) ، وابن حبان، وابن خزيمة، والحاكم (ج1: ص450) ، والبيهقي (ج5:ص42) كلهم من رواية عبد الملك بن أبى بكر الحارث بن هشام عن خلاد بن السائب عن أبيه وصححه الترمذي، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي. قال الترمذي: وروى بعضهم هذا الحديث عن خلاد بن السائب عن زيد بن خالد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يصح، والصحيح هو خلاد بن السائب عن أبيه وهو خلاد بن السائب بن خلاد بن سويد الأنصارى - انتهى. وذكر الحافظ في الفتح هذا الحديث من رواية خلاد بن السائب عن أبيه وذكر من خرجه وصححه. ثم قال: ورجاله ثقات إلا أنه اختلف على التابعي في صحابيه - انتهى. وقال ابن عبد البر: هذا حديث اختلف في إسناده اختلافًا كثيرًا، وأرجو أن تكون رواية مالك أصح، فروي هكذا أي عن خلاد بن السائب عن أبيه، وروي عن خلاد عن زيد بن خالد الجهني، وروي عن خلاد عن أبيه عن زيد بن خالد، كذا ذكره السيوطي في التنوير ثم

2574- (11) وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما من مسلم يلبي إلا لبى من عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من ها هنا وها هنا. رواه الترمذي، وابن ماجة. ـــــــــــــــــــــــــــــ حكى عن المزي تفصيل الاختلاف. وقال الزرقاني بعد ذكر كلام ابن عبد البر: وهذا الاختلاف لا يضر، أما في الصحابي فلا مانع أن خلادًا سمعه من أبيه ومن زيد كما أن أباه قد يكون سمعه من زيد ثم من المصطفى، فحدث به كل منهما على الوجهين، أو كان السائب يرسله تارة، وأما رواية الثوري: (أي عن عبد الله بن أبى لبيد عن المطلب بن عبد الله بن حنطب عن خلاد عن زيد بن خالد عند أحمد، وابن ماجة، وابن خزيمة، والحاكم، والبيهقي) فمن الجائز أن يسمعه من خلاد الرجلان إلى هذا الاختلاف وصححوه كما مر - انتهى. وقال الحافظ في التلخيص بعد ذكر تصحيح الترمذي ونقل كلامه: وقال البيهقي أيضاً الأول: (أي خلاد بن السائب عن أبيه) هو الصحيح، وأما ابن حبان فصححهما وتبعه الحاكم، وزاد رواية ثالثة من طريق المطلب بن عبد الله عن أبى هريرة - انتهى. قلت: قال الحاكم (ج1: ص450) بعد رواية الحديث من طريق عبد الملك عن خلاد عن أبيه، ومن طريق المطلب بن عبد الله عن خلاد عن زيد، ومن طريق المطلب بن عبد الله بسماعه عن أبى هريرة ما لفظه: وهذه الأسانيد كلها صحيحة وليس يعلل واحد منها الآخر فإن السلف كان يجتمع عندهم الأسانيد لمتن واحد كما يجتمع عندنا الآن - انتهى. وأقره الذهبي. 2574- قوله: (إلا لبى من عن يمينه) كلمة من بفتح الميم موصولة (من حجر أو شجر أو مدر) من بيان من قال الطيبي: لما نسب التلبية إلى هذه الأشياء عبر عنها بما يعبر عن أولى العقل - انتهى. قلت: كذا وقع في رواية الترمذي بلفظة من، وهكذا ذكر الجزري في جامع الأصول (ج9: ص283) ، وعزا الحديث للترمذي فقط، وعند ابن ماجة، والحاكم، والبيهقي: إلا لبى ما عن يمينه، والمدر بفتحتين قطع الطين اليابس (حتى تنقطع) أي تنتهي (من ها هنا وها هنا) إشارة إلى المشرق والمغرب والغاية محذوفة أي إلى منتهى الأرض، والمعنى حتى يلبي جميع ما على يمينه وشماله من حجر الأرض ومدرها وشجرها إلى منتهاها من المشرق إلى المغرب. قال الطيبي: أي يوافقه في التلبية جميع ما في الأرض -انتهى. وفائدة المسلم من تلبية الحجر، والشجر، والمدر، معرفة فضل هذا الذكر وإن له عند الله شرفًا ومكانة ولا يبعد أن يكتب له ثواب ذلك كأنه فعله بنفسه زيادة عن ذكره الخاص لأنه المتسبب فيه. قال السندى: إن قلت: أي فائدة للمسلم في تلبيته الأحجار وغيرها مع تلبيته، قلت: إتباعهم في هذا الذكر دليل على فضيلته وشرفه ومكانته عند الله إذ ليس إتباعهم في هذا الذكر إلا لذلك على أنه يجوز أن يكتب له أجر هذه الأشياء لما أن هذه الأشياء صدر عنها الذكر تبعًا فصار المؤمن بالذكر كأنه دال على الخير. والله أعلم. (رواه الترمذي، وابن ماجة)

2575- (12) وعن ابن عمر، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يركع بذي الحليفة ركعتين، ثم إذا ـــــــــــــــــــــــــــــ كلاهما من رواية إسماعيل بن عياش عن عمارة بن غزية (الأنصاري المازني المدني) عن أبى حازم عن سهل ورواه أيضًا الترمذي من طريق عبيدة بن حميد عن عمارة بن غزيه عن أبى حازم عن سهل، لكن لم يسق لفظه بل قال: ((نحو حديث إسماعيل بن عياش)) ورواه من طريق عبيدة، ابن خزيمة في صحيحه كما في الترغيب (ج2: ص66) ، والحاكم (ج1: ص451) وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، والبيهقي (ج5: ص 43) . 2575- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يركع بذي الحليفة ركعتين) قيل: أي ركعتي الإحرام فقد روى مالك عن هشام بن عروة عن أبيه مرسلاً أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بمسجد ذي الحليفة ركعتين، فإذا استوت به راحلته أهل. قال الزرقاني: قوله: ((ركعتين)) أي سنة الإحرام ففيه صلاتهما قبل الإحرام وأنها نافلة وبه قال الجمهور سلفًا وخلفًا، واستحب الحسن البصري الإحرام بعد صلاة فرض لأنه روى أن الركعتين كانتا الصبح، وأجيب بأن هذا لم يثبت، وقال الباجي: هذا اللفظ إذا أطلق في الشرع اقتضى ظاهره في عرف الاستعمال النافلة، وهو المفهوم من قولهم: صلى فلان ركعتين، وإن كان روي أن صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بذي الحليفة كانت صلاة الفجر، وقد اختار مالك أن يكون إحرامه بأثر نافلة لأنه زيادة خير - انتهى. وقال النووي: في حديث استحباب صلاة الركعتين عند الإحرام ويصليهما قبل الإحرام ويكونان نافلة هذا مذهبنا، ومذهب العلماء كافة إلا ما حكاه القاضي وغيره عن الحسن البصري: أنه استحب كونه بعد صلاة فرض لأنه روى أن هاتين الركعتين كانت صلاة الصبح، والصواب ما قاله الجمهور وهو ظاهر الحديث - انتهى. وفى المحلى شرح الموطأ للشيخ سلام الله الدهلوي: في الحديث ندب كون الإحرام بعد الصلاة ويكون نافلة عند أبى حنيفة، والشافعي، والجمهور. ولو صلى المكتوبة أجزأته كما يجزئه عن تحية المسجد كذا ذكره فقهاء الفريقين. وعند مالك: يحرم الحاج والمعتمر بأثر فريضة أو نافلة كما في الرسالة، وبه قال أحمد غير أن ظاهر مذهبه كونه بعد الفرض أولى للإتباع - انتهى. وقال ابن قدامة: المستحب أن يحرم عقيب الصلاة فإن حضرت مكتوبة أحرم عقيبها، وإلا صلى ركعتين تطوعًا وأحرم عقيبهما. استحب ذلك عطاء، وطاوس، ومالك، والشافعي، والثوري، وأبو حنيفة، وإسحاق، وأبو ثور، وابن المنذر، وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس - انتهى. وقال الدردير: ثم رابع السنن ركعتان والفرض مجزئ عنهما وفاته الأفضل. قال الدسوقي: والفرض يجزئ أي في أصل السنة. والحاصل أن السنة تحصل بإيقاع الإحرام عقيب صلاة ولو فرضًا وتجزئ المكتوبة. قلت: واستدل أيضاً للجمهور بما روى أبو داود، والحاكم من طريق ابن إسحاق عن خصيف بن عبد الرحمن الجزري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاجًا، فلما صلى في مسجده بذي الحليفة ركعتين أوجب في مجلسه فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه، مختصر. وابن إسحاق، وخصيف فيهما مقال. قلت:

استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل بهؤلاء الكلمات ويقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك وسعديك، ـــــــــــــــــــــــــــــ ظاهر النصوص أن هاتين الركعتين كانت لفريضة الظهر لا تحية الإحرام ولا للفجر وبه صرح ابن القيم في الهدي حيث قال: لم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى للإحرام ركعتين غير فرض الظهر، وقال: المحفوظ أنه إنما أهل بعد صلاة الظهر، وقال أيضاً: قد قال ابن عمر: ما أهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا من عند الشجرة حين قام به بعيره، وقد قال أنس: إنه صلى الظهر ثم ركب، والحديثان في الصحيح فإذا جمعت أحدهما إلى الآخر تبين أنه إنما أهل بعد صلاة الظهر - انتهى ملخصًا. وقال ابن تيمية في مناسكه: يستحب أن يحرم عقيب صلاة إما فرض، وإما تطوع إن كان وقت تطوع في أحد القولين، وفي الآخر إن كان يصلي فرضًا أحرم عقيبه وإلا فليس للإحرام صلاة تخصه وهذا أرجح، (أهل) أي رفع صوته (بهؤلاء الكلمات) يعني التلبية المشهورة، وقد تقدمت في الفصل الأول من حديث ابن عمر (ويقول) أي يزيد عبد الله ابن عمر أو أبوه عمر ابن الخطاب ففي رواية لمسلم: كان عبد الله بن عمر يقول (أي بعد رواية التلبية المشهورة) : هذه تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال نافع: كان عبد الله (بن عمر) يزيد مع هذا: لبيك، لبيك، لبيك وسعديك، إلخ. وفي رواية أخرى لمسلم (وهي رواية الباب) بعد قوله: ((أهل بهؤلاء الكلمات)) : وكان عبد الله بن عمر يقول: كان عمر بن الخطاب يهل بإهلال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هؤلاء الكلمات ويقول (أي يزيد) : لبيك اللهم لبيك، لبيك وسعديك، إلخ. وهكذا ذكر الجزري في جامع الأصول (ج3: ص441) ، ولأحمد (ج2: ص131) بعد ذكر التلبية المشهورة ((قال أي عبد الله بن عمر وسمعت عمر بن الخطاب يهل بإهلال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويزيد فيها: لبيك وسعديك)) إلخ. قال الحافظ بعد ذكر الروايتين: فعرف أن ابن عمر اقتدى في ذلك بأبيه، وأخرج ابن أبي شيبة من طريق المسور بن مخرمة: قال كانت تلبية عمر، فذكر مثل المرفوع وزاد: ((لبيك مرغوبًا ومرهوبًا إليك، ذا النعماء والفضل الحسن)) - انتهى. ورواية المصابيح انتهت على قوله: ((أهل بهؤلاء الكلمات يعني التلبية)) وقوله: ((ويقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك وسعديك)) إلخ. هو مما زاده المصنف وقد ذكره بحيث يتبادر منه أن هذه الزيادة أيضًا مرفوعة، وهذا اختصار من المصنف مخل أو زيادة منه موهمة فليتنبه لذلك، (لبيك اللهم لبيك، لبيك) ثلاث مرات مع الفصل بين الأولى والثانية بلفظ: ((اللهم)) كما في المرفوع، وفي رواية الموطأ، وأبى داود، وفي رواية لمسلم أيضًا ثلاث مرات في زيادة ابن عمر لكن بدون الفصل (وسعديك) هو من باب لبيك، فيأتي فيه ما سبق، ومعناه أسعدني إسعادًا بعد إسعاد، فالمصدر فيه مضاف للفاعل وإن كان الأصل في معناه أسعدك بالإجابة إسعادًا بعد إسعاد، على أن المصدر فيه مضاف للمفعول. وقيل: المعنى مساعدة على طاعتك بعد مساعدة، فيكون من المضاف للمنصوب، قال عياض: إعرابها وتثنيتها كما في لبيك، ومعناه مساعدة لطاعتك بعد مساعدة. وقال المازري: وقيل: معناه أسعدنا سعادة بعد سعادة وإسعادًا بعد إسعاد، وكذلك قال ابن العربي: إنه سؤال من الله السعد وتأكيد فيه، وقال إبراهيم الحربي: لم يسمع سعديك مفردًا (أي عن لبيك) وهو من المصادر المنصوبة بفعل مضمر.

والخير في يديك، لبيك والرغباء إليك والعمل. متفق عليه، ولفظه لمسلم. 2576- (13) وعن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه كان إذا فرغ من تلبيته سأل الله رضوانه. ـــــــــــــــــــــــــــــ (والخير في يديك) كذا في زيادة عمر عند مسلم، وأحمد، وفي زيادة ابنه عبد الله: ((بيديك)) أي الخير كله بيد الله ومن فضله أي بقدرته وكرمه. قال الباجي: الألف واللام لاستغراق الجنس، فكأن الملبي يلبي ربه ويعتقد أن جميع الخير بيديه - انتهى. وهو من باب الاكتفاء وإلا فالأمر كله لله والخير والشر كله بقدره وقضائه، أو هو من إصلاح المخاطبة أي من باب حسن الأدب في الإضافة والنسب كما في قوله تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} (26: 80) ومن ها هنا ورد: ((والشر ليس إليك)) أي لا ينسب إليك أبدًا، (والرغباء إليك) فيه ثلاثة أوجه: فتح الراء والمد وهو أشهرها، وضم الراء مع القصر وهو مشهور أيضاً، وفتح الراء مع القصر مثل سكرى وهو غريب، حكاه أبو علي الجبائي، ونظير الوجهين الأولين العلياء والعليا، والنعماء والنعمى، ومعنى اللفظة الطلب والمسألة أي إنه تعالى هو المطلوب المسئول منه فبيده جميع الأمور، قال شمر: معنى رغب النفس سعة الأمل وطلب الكثير (والعمل) أي إن العمل كله لله تعالى لأنه المستحق للعبادة وحده وفيه حذف يحتمل أن تقريره كالذي قبله أي والعمل إليك أي إليك القصد به والانتهاء به إليك لتجازى عليه فيكون عطفًا على الرغباء، ويحتمل أن تقريره والعمل لك، وقال الطيبي: أي وكذلك العمل منته إليك إذ أنك المقصود منه. قال القاري: والأظهر أن التقدير ((والعمل لك)) أي لوجهك ورضاك، أو العمل بك أي بأمرك وتوفيقك، أن المعنى أمر العمل رادع إليك في الرد والقبول، هذا وتقدم الكلام مبسوطًا في وقت التلبية وابتداء الإحرام وفي حكم الزيادة على التلبية المرفوعة المشهورة. (متفق عليه) فيه نظر، فإن الزيادة المذكورة انفرد مسلم عن البخاري بروايتها. (ولفظه لمسلم) قد تقدم أن المصنف اختصر رواية مسلم اختصارًا مخلاً يتبادر منه أن الزيادة أيضاً مرفوعة مع أنها موقوفة على عبد الله، وأنه اقتدى في ذلك بأبيه، والحديث أخرجه أيضًا أحمد (ج2: ص131) ، والنسائي، والبيهقي (ج5: ص44) وغيرهم. وأما الزيادة المذكورة فأخرجها أحمد، ومالك، والترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، والشافعي، والبيهقي. هذا وقد خالف البغوي ها هنا ما اصطلحه من ذكر أحاديث غير الشيخين في الحسان حيث أورد رواية مسلم فيها. 2576- قوله: (عن عمارة) بضم أوله والتخفيف وزيادة الهاء في آخره (بن خزيمة) بضم الخاء المعجمة، وفتح الزاي (بن ثابت) الأنصاري الأوسي، كنيته أبو عبد الله، أو أبو محمد المدني، ثقة من الطبقة الوسطى من التابعين مات سنة خمس ومائة، وهو ابن خمس وسبعين، (عن أبيه) أي خزامة بن ثابت المعروف بذي الشهادتين، تقدم ترجمته في (ج3: ص187) (سأل الله رضوانه) بكسر الراء، أي رضاه في الدنيا والآخرة، وفي رواية الدارقطني، والبيهقي: سأل

(الفصل الثالث)

والجنة، واستعفاه برحمته من النار. رواه الشافعي. (الفصل الثالث) 2577- (14) عن جابر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أراد الحج أذن في الناس، فاجتمعوا، فلما أتى البيداء أحرم. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ الله مغفرته ورضوانه (والجنة) أي في العقبى (واستعفاه) أي طلب عفوه، فهو عطف على ((سأل)) وفي الدارقطني، والبيهقي: ((استعاذ)) وفي الحصن: ((استعتقه)) ونسبه للطبراني، (برحمته) أي بسبب رحمته تعالى لا بكسب نفسه، (من النار) أي نار العذاب. والحديث دليل على استحباب الدعاء بعد الفراغ من كل تلبية يلبيها المحرم في أي حين بهذا الدعاء ونحوه بأن يقول: اللهم إني أسألك مغفرتك ورضاك والجنة في الآخرة، وأن تعفو عني وتعيذني وتعتقني برحمتك من النار، ويحتمل أن المراد بالفراغ منها انتهاء وقت مشروعيتها وهو عند رمي جمرة العقبة، والأول أوضح (رواه الشافعي) في الأم (ج2: ص134) بإسناد ضعيف، لأن فيه صالح بن محمد بن أبى زائدة وهو ضعيف. قاله الحافظ، وقال الولي العراقي: صالح هذا ضعفه الجمهور، وقال أحمد: لا أرى به بأسًا. وفيه أيضًا إبراهيم بن أبى يحيى الراوي عنه ولكنه قد تابعه عليه عبد الله بن عبد الله الأموي، أخرجه البيهقي (ج5: ص46) ، والدارقطني (ص263) ، وروى الشافعي والدارقطني، والبيهقي عن القاسم بن محمد يقول: كان يستحب للرجل إذا فرغ من تلبيته أن يصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم -. 2577- قوله: (أذن في الناس) لقوله تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} (22: 27) الآية أي نادي بينهم بأني أريد الحج، قاله ابن الملك. قال القاري: والأظهر أنه أمر مناديًا بأنه - صلى الله عليه وسلم - يريد الحج كما سيأتي في حديث جابر الطويل، (فاجتمعوا) أي خلق كثير في المدينة، (فلما أتى البيداء) هي: الشرف أي المكان العالي الذي قدام ذي الحليفة بقربها إلى جهة مكة سميت بيداء لأنها لا بناء بها ولا أثر، وكل مفازة لا شيء فيها سمي بيداء، وهي ها هنا اسم موضع مخصوص بذي الحليفة كما ذكرنا، (أحرم) أي كرر إحرامه أو أظهره، قال القاري هو أظهر لما ثبت أنه أحرم ابتداء في مسجد ذي الحليفة بعد ركعتي الإحرام - انتهى. وقد تقدم بيان اختلاف الروايات في موضع إحرامه - صلى الله عليه وسلم - ووجه الجمع بينها. (رواه البخاري) هذا وهم من المصنف فإن حديث جابر هذا ليس في صحيح البخاري لا بلفظه ولا بمعناه بل هو مما انفرد الترمذي بروايته هكذا. ولذلك اقتصر الساعاتي في الفتح الرباني على نسبته إلى الترمذي، والظاهر أن المصنف تبع في ذلك الجزري حيث قال بعد ذكر هذه الرواية في جامع الأصول (ج3: ص436) : أخرجه البخاري، والترمذي، وكذلك نسبه إليهما محمد بن محمد بن سليمان الفاسي في جمع الفوائد (ج1: ص461) والحديث أخرجه مسلم مطولاً كما سيأتي.

2578- (15) وعن ابن عباس قال: كان المشركون يقولون لبيك لا شريك لك فيقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((ويلكم قد قد)) . إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2578- قوله: (ويلكم قد قد) قال القاضي: روى بإسكان الدال وكسرها مع التنوين فيهما، ومعناه كفاكم هذا الكلام فاقتصروا عليه ولا تزيدوا، فلا تقولوا ما بعده من الاستثناء، وفيه: بيان أن من رأى منكرًا ولم يقدر على تغييره باليد فإنه يغيره بالقول لأن قد قد إنكار (إلا شريكًا) كذا في جميع النسخ من المشكاة. وهو متعلق بمقول المشركين، وقوله: ((فيقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قد)) جملة معترضة للتنبيه على أن رسل الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لهم ذلك بين الاستثناء وما قبله قبل أن يتكلموا الاستثناء. وفي صحيح مسلم: ((فيقولون إلا شريكًا)) وهكذا في جامع الأصول (ج3: ص444) (هو لك تملكه وما ملك) ما نافية، وقيل: موصولة عطف على مفعول تملكه، والمعنى على الأول: أنت تملكه وهو لا يملك وعلى الثاني: أنت تملك إياه وما في ملكه، قال الطيبي كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك. فإذا انتهى كلامهم إلى ((لا شريك لك)) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قد. أي اقتصروا عليه ولا تتجاوزوا عنه إلى ما بعده، وقوله: ((إلا شريكًا)) الظاهر فيه الرفع على البداية من المحل كما في كلمة التوحيد، فاختير في الكلمة السفلى اللغة السافلة كما اختير في الكلمة العليا العالية، (يقولون) أي المشركون، وهو مقول ابن عباس (هذا) أي هذا القول وهو قولهم إلا شريكًا مع ما قبله وما بعده. (رواه مسلم) الحديث من أفراد مسلم، لم يخرجه البخاري ولا أحد من أصحاب السنن، نعم أخرجه البيهقي (ج5: ص45) وزاد في آخره: فيقولون: ((غفرانك غفرانك)) قال: فأنزل الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (8: 33) فقال ابن عباس: كان فيهم أمانان، نبي الله - صلى الله عليه وسلم - والاستغفار، قال فذهب نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وبقي الاستغفار {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ} (8: 34) قال: فهذا عذاب الآخرة، وذلك عذاب الدنيا. قال البيهقي بعد روايته: أخرجه مسلم في الصحيح من حديث النضر بن محمد عن عكرمة بن عمار مختصرًا دون قولهم: غفرانك إلى آخره - انتهى. وفى الباب عن أنس بن مالك، قال: كان الناس بعد إسماعيل على الإسلام فكان الشيطان يحدث الناس بالشيء يريد أن يردهم عن الإسلام حتى أدخل عليهم في التلبية: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك. قال فما زال حتى أخرجهم عن الإسلام إلى الشرك، أخرجه البزار. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج3: ص223) : رجاله رجال الصحيح. بعون الله وحسن توفيقه تم الجزء الثامن من مشكاة المصابيح مع شرحه مرعاة المفاتيح، ويليه الجزء التاسع إن شاء الله تعالى. وأوله ((باب قصة حجة الوداع)) .

(2) باب قصة حجة الوداع

بسم الله الرحمن الرحيم (2) باب قصة حجة الوداع (الفصل الأول) 2579 - (1) عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ـــــــــــــــــــــــــــــ (باب قصة حجة الوداع) وبوب أبو داود لحديث جابر بـ ((باب صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -)) والنووي في شرح مسلم بـ ((باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -)) قال القاري: الوداع بفتح الواو مصدر ودع توديعًا، كسلم سلامًا وكلم كلامًا، وقيل: بكسر الواو فيكون مصدرًا لموادعة وهو لوداعه الناس في تلك الحجة، وهي بفتح الحاء وكسرها. قال الشمني: لم يسمع في حاء ذي الحجة إلا الكسر، قال صاحب الصحاح: الحجة المرة الواحدة، وهو من الشواذ، لأن القياس بالفتح - انتهى. وعلى القياس روى سيبويه ((قالوا: حجة واحدة يعني بالفتح يريدون عمل سنة واحدة)) . 2579 - قوله (عن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) إلخ، حديث جابر هذا أصل كبير وأجمع حديث في الباب، قال النووي: هو أي جابر أحسن الصحابة سياقة لرواية حديث حجة الوداع، فإنه ذكرها من حين خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى آخرها فهو أضبط لها من غيره، وقال: وهو حديث عظيم مشتمل على جمل من الفوائد ومهمات من مهمات القواعد، وهو من أفراد مسلم لم يروه البخاري في صحيحه، ورواه أبو داود كرواية مسلم. قال عياض: وقد تكلم الناس على ما فيه من الفقه وأكثروا. وصنف فيه أبو بكر بن المنذر جزءًا كبيرًا، وخرج فيه من الفقه مائة ونيفًا

مكث بالمدينة تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس في العاشر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاج، ـــــــــــــــــــــــــــــ وخمسين نوعًا ولو تقصى لزيد على هذا القدر قريب منه – انتهى. ونوه به الحافظ الذهبي في ترجمته جابر، فقال: وله منسك صغير في الحج، أخرجه مسلم، وعقد له الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية فصلاً خاصًا قال فيه: وهو وحده منسك مستقل. ثم ساقه (ج 5: ص 146 – 149) وقال الأبي: حديث جابر هذا عظيم القدر، اشتمل على قواعد كثيرة من الدين بينها - صلى الله عليه وسلم - عند خروجه من الدنيا وانتقاله إلى ما أعد الله سبحانه له من الكرامة، ولم يبق - صلى الله عليه وسلم - بعد حجته هذه إلا قليلاً بعد أن أشرقت الأرض بنوره وعلت كلمة الإيمان (مكث) بضم الكاف وفتحها أي لبث (بالمدينة) كذا في جميع النسخ مطابقًا للمصابيح وليس هو عند مسلم بل هو للنسائي والشافعي وابن الجارود وأحمد فهو من الزيادات على رواية مسلم (تسع سنين لم يحج) بعد الهجرة أي لكنه اعتمر. قال الألباني: اتفق العلماء على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحج بعد هجرته إلى المدينة سوى حجة واحدة وهي حجة الوداع هذه، وعلى أنها كانت سنة عشر، واختلفوا في وقت ابتداء فرضه على أقوال، أقربها إلى الصواب أنه سنة تسع أو عشر، وهو قول غير واحد من السلف، واستدل له ابن القيم في ((زاد المعاد)) بأدلة قوية فليراجعها من شاء، وعلى هذا فقد بادر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الحج فورًا من غير تأخير، بخلاف الأقوال الأخرى فيلزم منها أنه تأخر بأداء الفريضة، ولذا اضطر القائلون بها إلى الاعتذار عنه - صلى الله عليه وسلم - ولا حاجة بنا نحن إلى ذلك – انتهى. وقد سبق الكلام في ذلك مفصلاً (ثم أُذِن) بضم الهمزة وكسر الذال المشددة مبني للمجهول، أي نادى مناد بإذنه، ويجوز بناؤه للمعلوم أي أمر بأن ينادي بيتهم، وقال السندي: قوله ((ثم أذن)) من التأذين والإيذان أي نادى وأعلم، والمراد أمر بالنداء فنادى المنادي، ويحتمل على بعد أن يقرأ على بناء المفعول – انتهى. وعلى كلا الاحتمالين فالمراد إعلام الناس بحجه - صلى الله عليه وسلم - وإشاعته بينهم ليتأهبوا للحج معه ويتعلموا المناسك والأحكام ويشاهدوا أفعاله وأقواله ويوصيهم ليبلغ الشاهد الغائب وتشيع دعوة الإسلام وتبلغ الرسالة القريب والبعيد، وفيه أنه يستحب للإمام إيذان الناس بالأمور المهمة ليتأهبوا لها لا سيما في هذه الفريضة الكثيرة الأحكام المفروضة ابتداء (في العاشرة) أي السنة العاشرة من الهجرة (أن) أي بأن (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاج) أي خارج

فقدم المدينة بشر كثير، فخرجنا معه، حتى إذا أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى الحج ومريد له وقاصده. قال القاري: وفي النسخ أي من المشكاة ((إن)) بالكسر فيكون من جملة المقول – انتهى. وزاد في رواية أحمد والنسائي وابن الجارود ((هذا العام)) (فقدم المدينة بشر كثير) قال القاري: تحقيقًا لقوله تعالى: {يأتوك رجالاً} أي مشاة {وعلى كل ضامر} أي راكبين على كل بعير ضعيف {يأتين من فج عميق} أي طريق بعيد {ليشهدوا منافع لهم} (22 – 27، 28) أي ليحضروا منافع دينية ودنيوية وأخروية – انتهى. وتقدم الكلام في عدد الذين كانوا معه - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع، وفي رواية مسلم بعد هذا ((كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويعمل مثل عمله)) . وفي رواية للنسائي: ((فلم يبق أحد يقدر أن يأتي راكبًا أو راجلاً إلا قدم فتدارك الناس ليخرجوا معه)) (فخرجنا معه) أي لخمس بقين من ذي القعدة كما رواه النسائي وابن الجارود والبيهقي أي بين الظهر والعصر. وروى الترمذي وابن ماجة عن أنس والطبراني عن ابن عباس أن حجه عليه الصلاة والسلام كان على رحل رث يساوي أربعة دراهم (حتى إذا أتينا) كذا في جميع النسخ من المشكاة، وهكذا في المصابيح وفي صحيح مسلم ((حتى أتينا)) أي بسقوط لفظة ((إذا)) وكذا وقع عند أبي داود وغيره (فولدت أسماء بن عميس) بمهملتين مصغرًا، الخثعمية، صحابية فاضلة، كانت أولاً تحت جعفر بن أبي طالب ثم تزوجها أبو بكر بعد قتل جعفر ثم علي بن أبي طالب وولدت لهم، وهي أخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين لأمها، هاجرت إلى الحبشة مع زوجها جعفر. قال الحافظ: كان عمر يسألها عن تعبير الرؤيا، ماتت بعد علي (محمد بن أبي بكر) الصديق وهو من أصغر الصحابة، ولاه علي بن أبي طالب مصر وكان ربيبه، قتله أصحاب معاوية بمصر سنة ثمان وثلاثين. وقال الحافظ: له رؤية، وكان عليّ يثني عليه ويفضله لأنه كانت له عبادة واجتهاد، وكان على رجالة عليّ يوم صفين، قتل سنة ثمان وثلاثين (فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) الظاهر أنها أرسلت زوجها الصديق، ويدل له ما رواه مالك في موطأه عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن أسماء بنت عميس أنها ولدت محمد بن أبي بكر فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويدل عليه أيضًا ما رواه النسائي من حديث أبي بكر فأتى أبو بكر النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره فأمره أن

كيف أصنع؟ قال: " اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي ". فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، ـــــــــــــــــــــــــــــ يأمرها أن تغتسل (كيف أصنع؟) أي في باب الإحرام. وقال الباجي في شرح رواية الموطأ: يحتمل أن أبا بكر سأل أن النفاس الذي يمنع صحة الصلاة والصوم يمنع صحة الحج فبين - صلى الله عليه وسلم - أنه لا ينافي الحج؛ ويحتمل أنه سأل عن اغتسالها للإحرام إن علم أن إحرامها بالحج يصح فخاف أن النفاس يمنع الاغتسال الذي يوجب حكم الطهر (قال: اغتسلي) فيه غسل النفساء للإحرام وإن لم تطهر، وفي حكمها الحائض فهو للنظافة لا للطهارة. قال القاري: ولذا لا ينوبه التيمم ويظهر من كلام الخطابي أن العلة عنده التشبه بالطاهرات حيث قال في معالم السنن: في الحديث استحباب التشبه من أهل التقصير بأهل الفضل والكمال والإقتداء بأفعالهم طمعًا في درك مراتبهم ورجاء لمشاركتهم في نيل المثوبة، ومعلوم أن اغتسال الحائض والنفساء قبل أوان الطهر لا يطهرهما ولا يخرجهما عن حكم الحدث وإنما هو لفضيلة المكان والوقت. قال الولي العراقي: هذا يدل على أن العلة عنده في اغتسالهما التشبه بأهل الكمال وهن الطاهرات. والظاهر أنه إنما هو لشمول المعنى الذي شرع الغسل لأجله وهو التنظيف وقطع الرائحة الكريهة لدفع أذاها عن الناس عند اجتماعهم، وبذلك علَّلَه الرافعي ولا يرد عليه التيمم عند العجز، لأن التنظيف هو أصل مشروعيته للإحرام فلا ينافيه قيام التراب مقامه، لأنه يقوم مقام الغسل الواجب فأولى المسنون وبعد استمرار الحكم قد لا توجد علته في بعض المحال – انتهى. قلت: وهذا عند من قال بمشروعية التيمم وإجزائه عند العجز. وأما الذي لم يقل به فلا إيراد عليه. وقد تقدم الكلام في ذلك في شرح حديث زيد بن ثابت في الفصل الثاني من باب الإحرام والتلبية. قال الخطابي: وفي أمره - صلى الله عليه وسلم - الحائض والنفساء بالاغتسال دليل على أن الطاهر أولى بذلك. وقال الزرقاني: وفيه الاغتسال للإحرام مطلقًا لأن النفساء إذا أمرت به مع أنها غير قابلة للطهارة كالحائض فغيرهما أولى (واستثفري) بالثاء المثلثة بعد الفوقية أمر من الاستثفار وهو أن تحتشي المرأة قطنًا وتشد في وسطها شيئًا وتأخذ خرقة عريضة تجعلها على محل الدم وتشد طرفيها من قدامها ومن ورائها في ذلك المشدود في وسطها، والمقصود أن تجعل هناك ما يمنع من سيلان الدم تنزيهًا أن تظهر النجاسة عليها، إذ لا تقدر على أكثر من ذلك. قال النووي: فيه أمر الحائض والنفساء والمستحاضة بالاستثفار وهو أن تشد في وسطها شيئًا وتأخذ خرقة عريضة تجعلها على محل الدم وتشد طرفيها من قدامها ومن ورائها في ذلك المشدود في وسطها، وهو شبيه بثفَر الدابة بفتح الفاء (وأحرمي) أي بالنية والتلبية، قاله القاري. وفيه صحة إحرام النفساء ومثلها الحائض، وأولى منهما الجنب لأنهما شاركتاه في شمول اسم الحدث وزادتا عليه بسيلان الدم وهو مجمع عليه (فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي ركعتين للظهر، وقيل سنة الإحرام (في المسجد) أي في مسجد ذي الحليفة. قال ابن العجمي في منسكه: ينبغي إن كان الميقات مسجد أن يصلي ركعتي الإحرام فيه ولو صلاهما في غير المسجد فلا بأس، ولو أحرم بغير صلاة جاز، ولا يصلي في الأوقات المكروهة، وتجزئ المكتوبة عنهما كتحية المسجد. وقيل:

ثم ركب القصواء، حتى إذا استوت به ناقته على البيداء أهل بالتوحيد: " لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك ". قال جابر: لسنا ننوي إلا الحج، ـــــــــــــــــــــــــــــ صلى الظهر. وقد قال ابن القيم: ولم ينقل أنه عليه الصلاة والسلام صلى للإحرام ركعتين غير فرض الظهر، كذا في المرقاة. وقد تقدم الكلام في ذلك في شرح حديث ابن عمر في الفصل الثاني من باب الإحرام والتلبية (ثم ركب القصواء) بفتح القاف وبالمد، اسم ناقته - صلى الله عليه وسلم - ولها أسماء أخرى مثل العضباء والجدعاء، وقيل: هي أسماء لنوق له - صلى الله عليه وسلم - فقال القاضي: قال ابن قتيبة: كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - نوق: القصواء والجدعاء والعضباء. قال أبو عبيد: العضباء اسم لناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم تسم بذلك لشيء أصابها. قال القاضي: قد ذكر هنا أنه ركب القصواء، وفي آخر هذا الحديث ((خطب على القصواء)) ، وفي غير مسلم ((خطب على ناقته الجدعاء)) . وفي حديث آخر: ((على ناقة خرماء)) . وفي آخر ((العضباء)) ، وفي حديث آخر ((كانت له ناقة لا تسبق)) ، وفي آخر ((تسمى مخضرمة)) . وهذا كله يدل على أنها ناقة واحدة خلاف ما قاله ابن قتيبة وأن هذا كان اسمها أو وصفها لهذا الذي بها خلاف ما قال أبو عبيد. لكن يأتي في كتاب النذر أن القصواء غير العضباء كما سنبينه هناك. قال الحربي: العضب والجدع والخرم والقصو والخضرمة في الآذان، قال ابن الأعرابي: القصواء التي قطع طرف أذنها، والجدع أكثر منه. وقال الأصمعي: والقصو مثله. قال: وكل قطع في الأذان جدع، فإن جاوز الربع فهي عضباء، والمخضرم مقطوع الأذنين، فإن اصطلمتا فهي صلماء، وقال أبو عبيد: القصواء المقطوعة الأذن عرضًا، والمخضرمة المستأصلة والمقطوعة النصف فما فوفه. وقال الخليل: المخضرمة مقطوعة الواحدة والعضباء مشقوقة الأذن، قال الحربي: فالحديث يدل على أن العضباء اسم لها، وإن كانت عضباء الأذن فقد جعل اسمها، هذا آخر كلام القاضي. وقال محمد بن إبراهيم التيمي التابعي: إن العضباء والقصواء والجدعاء اسم لناقة واحدة كانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (حتى إذا استوت به ناقته على البيداء أهل) وفي صحيح مسلم ((حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله، وما عمل من شيء عملنا به، فأهل يعني رفع صوته)) واللفظ المذكور في الكتاب هو لابن الجارود (بالتوحيد) يعني قوله: لبيك لا شريك لك. وفيه إشارة إلى مخالفة ما كانت الجاهلية تزيده بعد قوله ((لا شريك لك)) فقد كانوا يقولون: ((إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك)) كما تقدم (لبيك اللهم لبيك) إلخ. وفي رواية مسلم بعد ذكر التلبية ((وأهل الناس بهذا الذي يهلون به فلم يرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم شيئًا منه، ولزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلبيته)) وفي رواية أحمد وابن الجارود ((ولبى الناس والناس يزيدون ((ذا المعارج)) ونحوه من الكلام، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يسمع فلا يقول لهم شيئًا)) (قال جابر: لسنا ننوي إلا الحج) أي لسنا ننوي شيئًا من النيات إلا نية

لسنا نعرف العمرة، حتى إذا أتينا البيت معه، استلم الركن ـــــــــــــــــــــــــــــ الحج. قال السندي: قوله ((لا ننوي إلا الحج)) أي أول الأمر ووقت الخروج من البيوت وإلا فقد أحرم بعض بالعمرة أو هو خبر عما كان عليه حال غالبهم، أو المراد أن المقصد الأصلي من الخروج كان الحج وإن نوى بعض العمرة – انتهى. (لسنا نعرف العمرة) هو تأكيد للحصر السابق قبل. قال القاضي: أي لا نرى العمرة في أشهر الحج استصحابًا لما كان من معتقدات أهل الجاهلية، فإنهم كانوا يرون العمرة محظورة في أشهر الحج ويعتمرون بعد مضيها. وقيل: معناه ((ما قصدناها ولم تكن في ذكرنا)) وقد تقدم شيء من الكلام في هذا في شرح حديث عائشة الذي فيه ذكر انقسام الناس بين مفرد ومتمتع وقارن (حتى إذا أتينا البيت معه) أي وصلناه بعد ما نزل بذي طوى وبات بها واغتسل فيها ودخل مكة من الثنية العليا صبيحة الأحد رابع ذي الحجة وقصد المسجد من شق باب السلام ولم يصل تحية المسجد لأن تحية البيت المقصود منه هو الطواف، فمن ثم استمر - صلى الله عليه وسلم - على مروره في ذلك المقام حتى (استلم الركن) أي الركن الأسود وإليه ينصرف الركن عند الإطلاق، وفي رواية أحمد وابن الجارود ((الحجر الأسود)) والاستلام افتعال من السلام بمعنى التحية، وأهل اليمن يسمون الركن بالمحيا لأن الناس يحيونه بالسلام، وقيل من السلام بكسر السين، وهي الحجارة واحدتها سلِمة بكسر اللام، يقال: استلم الحجر إذا لثمه وتناوله، والمعنى: وضع يديه عليه وقبله، واستلم النبي - صلى الله عليه وسلم - الركن اليماني أيضًا في هذا الطواف كما في حديث ابن عمر ولم يقبله، وإنما قبل الحجر الأسود وذلك في كل طوفة. قلت: والسنة في الحجر الأسود تقبيله إن تيسر ذلك، فإن شق التقبيل استلمه بيده وقبلها، وإلا استلمه بنحو عصا وقبلها وإلا أشار إليه، ولا يقبل ما يشير به ولا يشرع شيء من هذا في الأركان الأخرى إلا الركن اليماني فإنه يحسن استلامه أي لمسه فقط، وفي المواهب وشرحه للزرقاني: واعلم أن للبيت أربعة أركان، الأول له فضيلتان، كون الحجر الأسود فيه، وكونه على قواعد إبراهيم أي أساس بنائه، وللثاني وهو الركن اليماني الثانية فقط، وليس للآخرين شيء منهما فلذلك يقبل الأول كما في الصحيحين عن ابن عمر: أنه - صلى الله عليه وسلم - قبل الحجر الأسود. وفي البخاري عن ابن عمر: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستلمه ويقبله. ويستلم الثاني فقط لما في الصحيح عن ابن عمر: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني. ولا يقبل الآخران ولا يستلمان إتباعًا للفعل النبوي لأنهما ليسا على قواعد إبراهيم، هذا على قول الجمهور. واستحب بعضهم تقبيل اليماني أيضًا، وأجاب الشافعي عن قول من قال كمعاوية ((وقد قبل الأربعة: ليس شيء من البيت مهجورًا)) فرد عليه ابن عباس فقال: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، بأنا لم ندع استلامهما هجرًا للبيت، وكيف يهجره وهو يطوف به، ولكنا نتبع السنة فعلاً أو تركًا، ولو كان ترك استلامهما هجرًا لها لكان ترك استلام ما بين الأركان هجرًا لها، ولا قائل به. وروى الشافعي عن ابن عمر قال: استقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحجر الأسود فاستلمه أي مسح بيده عليه ثم وضع شفتيه عليه طويلاً يقبله. ومفاده استحباب الجمع بينهما – انتهى. ويسن عند التكبير عند الركن

فطاف سبعًا، فرمل ثلاثًا، ومشى أربعًا، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم، فقرأ {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} فصلى ركعتين، فجعل المقام بينه وبين البيت. وفي رواية: أنه قرأ في الركعتين {قل هو الله أحد} و {قل يا أيها الكافرون} ـــــــــــــــــــــــــــــ الأسود في كل طوفة لحديث ابن عباس الآتي في باب الطواف: قال طاف النبي - صلى الله عليه وسلم - بالبيت على بعيره كلما أتى الركن أشار إليه بشيء كان عنده وكبر. رواه البخاري. قال الألباني: وأما التسمية فلم أرها في حديث مرفوع، وإنما صح عن ابن عمر أنه كان إذا استلم الحجر قال: بسم الله والله أكبر. أخرجه البيهقي (ج 5: 79) وغيره بسند صحيح كما قال النووي والعسقلاني. ووهم ابن القيم فذكره من رواية الطبراني مرفوعًا، وإنما رواه موقوفًا كالبيهقي كما ذكر الحافظ في التلخيص – انتهى. (فطاف سبعًا) كذا في جميع النسخ من المشكاة، وهكذا وقع في المصابيح، وفي رواية مختصرة عند النسائي والترمذي وليس هو عند مسلم (فرمل) أي مشى بسرعة مع تقارب الخطى وهز كتفيه، وفي رواية لمسلم ((ثم مشى على يمينه فرمل)) (ثلاثًا) أي ثلاث مرات من الأشواط السبعة، زاد في رواية لأحمد ((حتى عاد إليه)) . (ومشى) أي على السكون والهينة (أربعًا) أي في أربع مرات وكان مضطبعًا في جميعها، والاضطباع أن يجعل وسط الرداء تحت منكبه الأيمن ويجعل طرفيه على عاتقه الأيسر ويكون منكبه الأيمن منكشفًا والأيسر مستورًا. قال النووي: في الحديث أن المحرم إذا دخل مكة قبل الوقوف بعرفات يسن له طواف القدوم وهو مجمع عليه، وفيه أن الطواف سبعة أشواط. وفيه أن السنة الرمل في الثلاث الأول ويمشي على عادته في الأربع الأخيرة (ثم تقدم) قال القاري: وفي نسخة صحيحة من نسخ مسلم (نفذ) بالنون والفاء والذال المعجمة، أي توجه، قلت: وكذا وقع في رواية لابن الجارود (إلى مقام إبراهيم) بفتح الميم أي موضع قيامه، وهو الحجر الذي قام عليه عند بناء البيت، وفيه أثر قدميه، موضوع قبالة البيت (فقرأ: واتخذوا) بكسر الخاء على الأمر وبفتحها على الخبر (من مقام إبراهيم) أي بعض حواليه (مصلى) بالتنوين أي موضع صلاة الطواف (فصلى ركعتين) كذا في جميع النسخ الحاضرة عندنا، وهكذا وقع في المصابيح، وفي السنن للنسائي والترمذي، وليس هو عند مسلم، ووقع عند أحمد وابن الجارود ((حتى إذا فرغ)) أي من الطواف ((عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين)) (فجعل المقام بينه وبين البيت) أي صلى خلفه بيانًا للأفضل وإن جاز في أي موضع شاء (وفي رواية) وفي المصابيح ((ويروى)) وفي صحيح مسلم ((فكان أبي أي محمد بن علي بن الحسين يقول ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: كان يقرأ في الركعتين)) إلخ (أنه قرأ في الركعتين) أي بعد الفاتحة (قل هو الله أحد) أي إلى آخرها في إحداهما (وقل يا أيها الكافرون) أي بتمامها في الأخرى. والواو لمطلق الجمع فلا إشكال. قال الطيبي: كذا في صحيح مسلم وشرح السنة في إحدى الروايتين، وكان من الظاهر تقديم سورة الكافرون كما في رواية المصابيح. وقال النووي: معناه قرأ

ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ {إن الصفا والمروة من شعائر الله} أبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا، فرقى عليه حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره وقال: " لا إله إلا الله ـــــــــــــــــــــــــــــ في الركعة الأولى بعد الفاتحة ((قل يا أيها الكافرون)) وفي الثانية بعد الفاتحة ((قل هو الله أحد)) وقد ذكر البيهقي (ج 5: ص 91) بإسناد صحيح على شرط مسلم عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف بالبيت فرمل من الحجر الأسود ثلاثًا ثم صلى ركعتين قرأ فيهما ((قل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد)) كذا في المرقاة. قلت: وفي رواية للنسائي ((فصلى ركعتين)) فقرأ فاتحة الكتاب، وقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد)) ، وفي رواية للترمذي ((قرأ في ركعتي الطواف بسورتي الإخلاص: ((قل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد)) وفي الحديث دليل لما أجمع عليه العلماء أنه ينبغي لكل طائف إذا فرغ من طوافه أن يصلي خلف المقام ركعتي الطواف، واختلفوا هل هما واجبتان أم سنتان؟ وسيأتي ذكر الخلاف في باب الطواف إن شاء الله (ثم رجع إلى الركن فاستلمه) قال النووي: فيه دلالة لما قاله الشافعي وغيره من العلماء أنه يستحب للطائف طواف القدوم إذا فرغ من الطواف وصلاته خلف المقام أن يعود إلى الحجر الأسود فيستلمه ثم يخرج من باب الصفا ليسعى، واتفقوا على أن هذا الاستلام ليس بواجب وإنما هو سنة لو تركه لم يلزمه دم – انتهى. وعند الحنفية العود إلى الحجر إنما يستحب لمن أراد السعي بعده وإلا فلا، كما في البحر وغيره (ثم خرج من الباب) أي باب الصفا (إلى الصفا) أي إلى جانبه،قال في الهداية: إن خروجه عليه الصلاة والسلام من باب الصفا لأنه كان أقرب الأبواب إلى الصفا لا أنه سنة. والصفا والمروة علمًا جبلين بمكة ومن مشاعرها (فلما دنا) أي قرب (قرأ: إن الصفا والمروة من شعائر الله) أي من أعلام مناسكه. قال القاري: جمع شعيرة وهي العلامة التي جعلت للطاعات المأمور بها في الحج عندها كالوقوف والرمي والطواف والسعي (أَبْدَأُ) بصيغة المتكلم أي وقال: أبدأ (بما بدأ الله به) يعني ابتدأ بالصفا لأن الله بدأ بذكره في كلامه، فالترتيب الذكري له اعتبار في الأمر الشرعي إما وجوبًا أو استحبابًا وإن كانت الواو لمطلق الجمع في الآية. قال السندي: هذا يفيد أن بداءة الله تعالى ذكرًا تقتضي البداءة عملاً، والظاهر أنه يقتضي ندب البداءة عملاً لا وجوبًا، والوجوب فيما نحن فيه من دليل آخر (فبدأ) أي في سعيه (فرقِي) بكسر القاف أي صعد (عليه) أي على جبل الصفا (حتى رأى البيت) أي إلى أن رآه (فاستقبل القبلة) وضع الظاهر موضع الضمير تنصيصًا على أن البيت قبلة وتنبيهًا على أن المقصود بالذات هو التوجه إلى القبلة لا خصوص رؤية البيت، قاله القاري. وقال في اللمعات: وكان إذ ذاك يرى من الصفا، والآن حجبها بناء الحرم (وقال لا إله إلا الله) قال الطيبي: إنه قول آخر غير التوحيد والتكبير، ويحتمل أن يكون كالتفسير له والبيان، والتكبير وإن لم يكن ملفوظًا به لكن معناه مستفاد من هذا

وحده، لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده ". ثم دعا بين ذلك، قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل ومشى إلى المروة، ـــــــــــــــــــــــــــــ القول، أي لأن معنى التكبير التعظيم. قال القاري: والأظهر أنه قول آخر (وحده) حال مؤكدة أي منفردًا بالألوهية أو متوحدًا بالذات (لا شريك له) في الألوهية فيكون تأكيدًا، أو في الصفات فيكون تأسيسًا وهو الأولى (له الملك وله الحمد) زاد في رواية أبي داود والنسائي والدرامي وابن ماجه والبيهقي والشافعي ((يحيي ويميت)) (أنجز وعده) أي وفَّى بما وعده بإظهاره عز وجل للدين (ونصر عبده) أي عبده الخاص نصرًا عزيزًا، وعند أحمد ((صدق عبده)) بدل ((نصر)) ومعنى تصديق الله تعالى لعبده تأييده بالمعجزات والله تعالى أعلم (وهزم) وفي رواية ((وغَلب)) (الأحزاب وحده) أي هزمهم بغير قتال من الآدميين ولا بسبب من جهتهم. قال تعالى {فأرسلنا عليهم ريحًا وجنودًا لم تروها} (23: 9) والمراد بالأحزاب الذين تحزبوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق وكان ذلك في شوال سنة أربع من الهجرة، وقيل سنة خمس ويمكن أن يكون المراد بالأحزاب أنواع الكفار الذين تحزبوا لحرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغُلبوا بالهزيمة والفرار (ثم) لمجرد الترتيب دون التراخي (دعا بين ذلك) أي بين مرات هذا الذكر بما شاء (قال مثل هذا) أي الذكر (ثلاث مرات) قال الطيبي: كلمة ((ثم)) تقتضي التراخي وأن يكون الدعاء بعد الذكر، ((وبين)) تقتضي التعدد والتوسط بين الذكر بأن يدعو بعد قوله ((على كل شيء قدير)) الدعاء، فتمحل من قال: لما فرغ من قوله ((وهزم الأحزاب وحده)) دعا بما شاء ثم قال مرةً أخرى هذا الذكر ثم دعا، حتى فعل ذلك ثلاثًا، فهذا إنما يستقيم على التقديم والتأخير بأن يذكر قوله ((ثم دعا بين ذلك)) بعد قوله ((قال مثل هذا ثلاث مرات)) وتكون ((ثم)) للتراخي في الإخبار لا تأخر زمان الدعاء عن الذكر، ويلزم أن يكون الدعاء مرتين – انتهى. وقال السندي: يقول الذكر ثلاث مرات ويدعو بعد كل مرة. قال النووي: قوله ((أبدأ بما بدأ الله به)) إلخ. في هذا أنواع من المناسك: منها أن السعي يُشترط فيه أن يبدأ من الصفا وبه قال الشافعي ومالك والجمهور. وقد ثبت في رواية النسائي هذا الحديث بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ابدأوا بما بدأ الله به ". هكذا بصيغة الجمع. ومنها أنه ينبغي أن يرقى على الصفا والمروة، وفي هذا الرقي خلاف، قال جمهور أصحابنا: هو سنة ليس بشرط ولا واجب، فلو تركه صح سعيه لكن فاتته الفضيلة. قال أصحابنا: يستحب أن يرقى على الصفا والمروة حتى يرى البيت إن أمكنه. ومنها أنه يسن أن يقف على الصفا مستقبل الكعبة ويذكر الله تعالى بهذا الذكر المذكور ويدعو ويكرر الذكر والدعاء ثلاث مرات، هذا هو المشهور عند أصحابنا. وقال جماعة من أصحابنا يكرر الذكر ثلاثًا والدعاء مرتين فقط والصواب الأول – انتهى. (ثم نزل ومشى إلى المروة) كذا في جميع النسخ،

حتى انصبت قدماه في بطن الوادي، ثم سعى حتى إذا صعدنا مشى، حتى أتى المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصفا، حتى إذا كان آخر طواف على المروة، نادى وهو على المروة والناس تحته، ـــــــــــــــــــــــــــــ وهكذا في المصابيح، وفي مسلم ((ثم نزل إلى المروة)) وفي رواية النسائي ((ثم نزل ماشيًا)) أي إلى المروة (حتى انصبَّت) بتشديد الباء (قدماه) أي انحدرتا بالسهولة، ومنه ((إذا مشى كأنه ينحط في صبب)) أي موضع منحدر، وهو مجاز من قولهم ((صببت الماء فانصب)) أي سكبته فانسكب (في بطن الوادي) أي المسعى، وفي رواية للنسائي ((في بطن المسيل)) يعني انحدرتا بالسهولة حتى وصلتا إلى بطن الوادي، والمراد به المنخفض من (ثم سعى) وفي رواية لأحمد ((رمل)) يعني أسرع في المشي مع تقارب الخطى في بطن الوادي (حتى إذا صعِدتا) بكسر العين، أي ارتفعت قدماه عن بطن الوادي وخرجتا منه إلى طرفه الأعلى. قال الطيبي: معناه ارتفعتا عن بطن الوادي إلى المكان العالي لأنه في مقابلة ((انصبت قدماه)) أي دخلتا في الحدور (مشى) أي سار على السكون، يعني إذا بلغ المرتفع من الوادي مشى باقي المسافة إلى المروة على عادة مشيه. قال النووي: فيه استحباب السعي الشديد في بطن الوادي حتى يصعد ثم يمشي باقي المسافة إلى المروة على عادة مشيه، وهذا السعي مستحب في كل مرة من المرات السبع في هذا الموضع، والمشي مستحب فيما قبل الوادي وبعده، ولو مشى في الجميع أو سعى في الجميع أجزأه وفاتته الفضيلة، هذا مذهب الشافعي وموافقيه. وعن مالك فيمن ترك السعي الشديد في موضعه روايتان: إحداهما كما ذكر، والثانية تجب عليه إعادته – انتهى. وقال في اللباب: ويستحب أن يكون السعي بين الميلين فوق الرمل دون العدو، وهو في كل شوط، أي بخلاف الرمل في الطواف فإنه مختص بالثلاثة الأول خلافًا لمن جعله مثله، فلو تركه أو هرول في جميع السعي، فقد أساء ولا شيء عليه، وإن عجز عنه صبر حتى يجد فرجة، وإلا تشبه بالساعي في حركته، وإن كان على دابة حركها من غير أن يؤذي أحدًا – انتهى. (حتى أتى المروة) زاد في رواية أحمد ((فرقى عليها حتى نظر إلى البيت)) (ففعل على المروة كما فعل) أي مثل ما فعله (على الصفا) من الرقي واستقبال القبلة والذكر والدعاء. قال النووي: فيه أنه يسن عليها من الذكر والدعاء والرقي مثل ما يسن على الصفا، وهذا متفق عليه (حتى إذا كان) تامة أي وجد (آخر طواف) أي سعى (على المروة) متعلق بكان. وفي رواية لأحمد وابن الجارود ((فلما كان السابع عند المروة)) قال النووي: قوله ((حتى إذا كان آخر طواف على المروة)) فيه دلالة لمذهب الشافعي والجمهور أن الذهاب من الصفا إلى المروة يحسب مرة، والرجوع إلى الصفا ثانية، والرجوع إلى المروة ثالثة وهكذا فيكون ابتداء السبع من الصفا وآخرها بالمروة. وقال ابن بنت الشافعي وأبو بكر الصيرفي من أصحابنا يحسب الذهاب إلى المروة والرجوع إلى الصفا مرةً واحدة فيقع آخر السبع في الصفا، وهذا الحديث الصحيح يرد عليهما. وكذلك عمل المسلمين على تعاقب الأزمان، والله أعلم – انتهى. (نادى وهو على المروة والناس تحته) كذا في جميع النسخ

فقال: " لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت، لم أسق الهدي، وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي، فليحل وليجعلها عمرة ". ـــــــــــــــــــــــــــــ الحاضرة عندنا، وهكذا في المصابيح، وليست هذه الجملة في صحيح مسلم (فقال) وفي بعض النسخ ((قال)) أي بدون الفاء، قال الطيبي: هو جواب إذا، قال القاري: وفي نسخة صحيحة أي من المشكاة ((فقال)) بزيادة الفاء، وأما ما في بعض النسخ ((نادى وهو على المروة والناس تحته فقال)) فلا أصل له، وزاد في رواية لأحمد وابن الجارود بعد قوله ((قال)) ((يا أيها الناس)) (لو أني استقبلت) أي لو علمت في قبل (من أمري ما استدبرت) أي ما علمته في دبر منه، والمعنى لو ظهر لي هذا الرأي الذي رأيته الآن لأمرتكم به في أول أمري وابتداء خروجي و (لم أسُق الهدي) بضم السين، يعني لما جعلت عليَّ هديًا وأشعرته وقلدته وسقته بين يدي، فإنه إذا ساق الهدي لا يحل حتى ينحر، ولا ينحر إلا يوم النحر، فلا يصح له فسخ الحج بعمرة بخلاف من لم يسق، إذ يجوز له فسخ الحج، وهذا صريح في أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن متمتعًا. قال الخطابي: إنما قال هذا استطابة لنفوس أصحابه لئلا يجدوا في أنفسهم أنه أمرهم بخلاف ما يفعله في نفسه. وقد يستدل بهذا الحديث من يجعل التمتع أفضل (وجعلتها) أي الحجة (عمرة) يعني كنت متمتعًا من أول الأمر من غير سوق الهدي، وقال القاري: أي جعلت إحرامي بالحج مصروفًا إلى العمرة كما أمرتكم به موافقة. قال ابن القيم في شرح قوله - صلى الله عليه وسلم - ((لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت)) إلخ: يعني أنه لو كان هذا الوقت الذي تكلم فيه هو وقت إحرامه لكان أحرم بعمرة ولم يسق الهدي، لأن الذي استدبره هو الذي فعله ومضى فصار خلفه والذي استقبله هو الذي لم يفعله بعد، بل هو أمامه، فمقتضاه أنه لو كان كذلك لأحرم بالعمرة دون هدي. وقال الزرقاني في شرحه: أي لو عن لي هذا الرأي الذي رأيته آخر وأمرتكم به في أول أمري لما سقت الهدي، أي لما جعلت عليَّ هديًا وسقته بين يدي، فإن من ساقه لا يحل حتى ينحره وإنما ينحره يوم النحر، فلا يصح له فسخ الحج بعمرة، ومن لا هدي معه يجوز له فسخه – انتهى. قال النووي: وفي الحديث دليل على جواز قول ((لو)) في التأسف على فوات أمور الدين ومصالح الشرع، وأما الحديث الصحيح في أن ((لو)) تفتح عمل الشيطان، فمحمول على التأسف على حظوظ الدنيا ونحوها وقد كثرت الأحاديث الصحيحة في استعمال ((لو)) في غير حظوظ الدنيا ونحوها، فيجمع بين الأحاديث بما ذكرناه، والله أعلم (فمن كان منكم) الفاء جواب شرط محذوف، أي إذا كان الأمر ما ذكرت من أني سقت الهدي فمن كان منكم (ليس معه هدي) بإسكان الدال وكسرها وتشدد الياء مع الكسرة وتخفف مع الفتح، قاله النووي. (فليحل) بكسر الحاء، وفي رواية عند أحمد ((فليحْلل)) بسكون الحاء، أي ليصر حلالاً وليخرج من إحرامه بعد فراغه من أفعال العمرة (وليجعلها) أي الحجة (عمرة) إذ قد أبيح له ما حرم عليه بسبب الإحرام حتى يستأنف الإحرام للحج، والواو لمطلق الجمع إذ الجعل مقدم على الخروج، لأن المراد من الجعل

فقام سراقة بن مالك بن جعشم، فقال: يا رسول الله! ألعامنا هذا أم لأبد؟ فشبك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصابعه واحدة في الأخرى، وقال: " دخلت العمرة في الحج. مرتين، لا بل لأبد أبد ". ـــــــــــــــــــــــــــــ الفسخ، وهو أن يفسخ نية الحج ويقطع أفعاله ويجعل إحرامه وأفعاله للعمرة، أو الواو للعطف التفسيري قاله القاري. وفي رواية عطاء عن جابر عند البخاري ومسلم ((فقال: أحلوا من إحرامكم)) (أي اجعلوا حجكم عمرة وتحللوا منها بالطواف والسعي) فطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة وقصروا وأقيموا حلالاً حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج، واجعلوا التي قدمتم بها متعة. قال الحافظ: أي اجعلوا الحجة المفردة التي أهللتم بها عمرة تتحللوا منها فتصيروا متمتعين، فأطلق على العمرة متعة مجازًا، والعلاقة بينهما ظاهرة – انتهى. (فقام سراقة بن مالك بن جعشم) زاد في رواية أحمد وابن الجارود ((وهو في أسفل المروة)) وسُرَاقة بضم السين وتخفيف الراء وقاف، وهو الكنانيّ المدلجيّ، وقد ينسب إلى جده، يكنى أبا سفيان، وهو الذي ساخت فرسه في قصة الهجرة، وأسلم يوم الفتح. قال أبو عمرو: مات في خلافة عثمان سنة أربع وعشرين، وقيل بعد عثمان. وجده جُعْشم بضم الجيم وسكون المهملة وضم المعجمة وفتحها لغة حكاها الجوهري (ألعامنا هذا أم لأبد؟) معناه هل جواز فسخ الحج إلى العمرة (كما هو الظاهر من سياق الحديث) أو الإتيان بالعمرة في أشهر الحج أو مع الحج يختص بهذه السنة أم للأبد؟ أي من الحال والاستقبال، وفي رواية للنسائي وابن ماجه والبيهقي ((أرأيت عمرتنا)) وفي لفظ ((متعتنا)) ألعامنا هذا أم للأبد؟ (واحدة في الأخرى) أي جعل واحدة من الأصابع في الأخرى، فواحدة منصوب بعامل مضمر والحال مؤكدة (وقال دخلت العمرة في الحج) زاد في رواية ابن الجارود وأحمد ((إلى يوم القيامة)) (مرتين) أي قالها مرتين (لا) أي ليس لعامنا هذا فقط (بل لأبد أبد) بإضافة الأول إلى الثاني، والأبد الدهر، أي هذا لآخر الدهر، أو بغير الإضافة وكرره للتأكيد، وزاد في رواية ابن الجارود وأحمد ((ثلاث مرات)) يعني أن ذلك جائز في كل عام لا يختص بعام دون آخر إلى يوم القيامة، وكرر ذلك ثلاثًا للتأكيد ((وشبك بين أصابعه)) إشارة إلى اشتراك كل الأعوام في ذلك بدون اختصاص أحدها، وقد اختلف العلماء في سؤال سراقة، فقال بعضهم المراد منه الإتيان بالعمرة في أشهر الحج. وذهب فريق إلى أن المراد بذلك القران، يعني اقتران الحج بالعمرة، وقال آخرون: المراد منه فسخ الحج إلى العمرة، فعلى الأول يكون معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((دخلت العمرة في الحج)) أي حلت العمرة في أشهر الحج وصحت والمقصود إبطال ما زعمه أهل الجاهلية من أن العمرة لا تجوز في أشهر الحج وعليه الجمهور. وعلى الثاني دخلت العمرة في الحج أي اقترنت به لا تنفك عنه لمن نواها معًا، وتندرج أفعال العمرة في أفعال الحج حتى يتحلل منهما معًا. قيل: ويدل عليه تشبيك الأصابع، وفيه أنه حينئذٍ لا مناسبة بين السؤال والجواب فتدبر، وعلى الثالث أي دخلت نية العمرة في نية الحج بحيث أن من نوى الحج صح له الفراغ منه بالعمرة، قال النووي: وهو ضعيف. وقال القاري بعد ذكره:

............................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول هذا هو الظاهر من سياق الحديث وسباقه، والله تعالى أعلم. وقال الحافظ: وتعقب أي كلام النووي بأن سياق السؤال يقوي هذا التأويل، بل الظاهر أن السؤال وقع عن الفسخ، والجواب وقع عما هو أعم من ذلك حتى يتناول التأويلات الثلاثة المذكورة - انتهى. وقيل: معنى دخولها في الحج سقوط وجوب العمرة بوجوب الحج. قال النووي: وسياق الحديث يقتضي بطلان هذا التأويل. قلت: حديث جابر هذا صريح في أن سؤال سراقة عن فسخ الحج إلى العمرة وجواب النبي - صلى الله عليه وسلم - له يدل على تأييد مشروعيته كما ترى، لأن الجواب مطابق للسؤال، ومعنى فسخ الحج إلى العمرة أن من أحرم بالحج مفردًا أو قارنًا ولم يسق الهدي وطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة قبل الوقوف بعرفة، له أن يفسخ نيته بالحج وينوي عمرة مفردة فيقصر ويحل من إحرامه ليصير متمتعًا، وقد اختلف العلماء في هذا الفسخ هل هو خاص بالصحابة تلك السنة خاصة أم باق ولغيرهم إلى يوم القيامة؟ فقال أحمد والظاهرية وعامة أهل الحديث: ليس خاصًا بل هو باق إلى يوم القيامة، فيجوز لكل من أحرم بحج مفردًا أو قارنًا وليس معه هدي أن يقلب إحرامه عمرة، ويتحلل بأعمالها. وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وجماهير العلماء من السلف والخلف: هو مختص بهم في تلك السنة لا يجوز بعدها، وإنما أمروا به تلك السنة ليخالفوا ما كانت عليه الجاهلية من تحريم العمرة في أشهر الحج، واستدل للجمهور بحديث أبي ذر عند مسلم: ((قال كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - خاصة)) . وفي رواية قال: ((كانت لنا رخصة)) . يعني المتعة في الحج. ومراد أبي ذر بالمتعة المذكورة المتعة التي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بها أصحابه، وهي فسخ الحج إلى العمرة، واستدلوا على أن الفسخ المذكور هو مراد أبي ذر رضي الله عنه بما رواه أبو داود بسنده أن أبا ذر كان يقول في من حج ثم فسخها بعمرة لم يكن ذلك إلا للركب الذين كانوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالوا: فهذه الرواية فيها التصريح من أبي ذر بفسخ الحج في العمرة، وهي تفسر مراده بالمتعة في رواية مسلم. وضعفت رواية أبي داود هذه بأن في سنده محمد ابن إسحاق وهو مدلس، وقد رواه عن عبد الرحمن بن الأسود بالعنعنة، وعنعنة المدلس لا تقبل عند أهل الحديث حتى يصح السماع عن طريق أخرى. وأجيب عن تضعيف هذه الرواية بوجهين، الأول: أن مشهور مذهب مالك وأحمد وأبي حنيفة صحة الاحتجاج بالمرسل، ومعلوم أن من يحتج بالمرسل يحتج بعنعنة المدلس من باب أولى، والثاني: أن المقصود من رواية أبي داود المذكورة بيان المراد برواية مسلم، والبيان يقع بكل ما يزيل الإبهام ولو قرينة أو غيرها كما هو مقرر في الأصول، واستدل أيضًا للجمهور القائلين بأن الفسخ المذكور خاص بذلك الركب وتلك السنة بما رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والدارمي من طريق ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن الحارث بن بلال بن الحارث عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة؟ قال: " بل لكم خاصة ". ورد المجوزون للفسخ استدلال الجمهور بالحديثين المذكورين من جهتين: الأولى: تضعيف الحديثين المذكورين، قالوا: حديث بلال بن الحارث فيه ابنه الحارث ابن بلال وهو مجهول. وقال أحمد: حديث بلال بن الحارث عندي ليس يثبت ولا

......................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول به ولا يعرف هذا الرجل يعنى الحارث بن بلال. قال: وقد روى فسخ الحج إلى العمرة أحد عشر صحابيًا، أين يقع الحارث بن بلال منهم؟ قالوا: وحديث أبي ذر عند مسلم موقوف عليه وليس بمرفوع، وإذا كان الأول في سنده مجهول والثاني موقوفًا فيما هو مسرح للاجتهاد تبين عدم صلاحيتهما للاحتجاج، والثانية من جهتي رد الحديثين المذكورين هي أنهما معارضان بأقوى منهما وهو حديث جابر الذي نحن في شرحه وأجاب الجمهور عن تضعيف الحديثين المذكورين بأن حديث بلال المذكور سكت عليه أبو داود، ومعلوم من عادته أنه لا يسكت إلا عن حديث صالح للاحتجاج ولم يثبت في الحارث بن بلال جرح. وقد قال الحافظ في التقريب فيه: ((هو مقبول)) . قالوا: واعتضد حديثه بما رواه مسلم وأبو داود عن أبي ذر كما تقدم. وأما حديث أبي ذر فإن قلنا: إن الخصوصية التي ذكرها أبو ذر بذلك الركب مما لا مجال للرأي فيه فهو حديث صحيح له حكم الرفع، وقائله اطلع على زيادة علم خفيت على غيره، وإن قلنا: إنه مما للرأي فيه مجال وحكمنا بأنه موقوف على أبي ذر فصدق لهجة أبي ذر المعروف وتقاه وبعده من الكذب يدلنا على أنه ما جزم بالخصوصية المذكورة إلا وهو عارف صحة ذلك. قالوا: ورد حديث الحارث بن بلال بأنه مخالف لحديث جابر في سؤال سراقة المدلجى النبي - صلى الله عليه وسلم - وإجابته له بقوله: " بل للأبد ". لا يستقم، لأنه لا معارضة بين الحديثين لإمكان الجمع بينهما، والمقرر في علم الأصول وعلم الحديث أنه إذا أمكن الجمع بين الحديثين وجب الجمع بينهما إجماعًا ولا يرد غير الأقوى منهما بالأقوى لأنهما صادقان وليسا بمتعارضين، وإنما أجمع أهل العلم على وجوب الجمع بين الدليلين إن أمكن، لأن إعمال الدليلين معًا أولى من إلغاء أحدهما كما لا يخفى، ووجه الجمع بين الحديثين المذكورين أن حديثي بلال بن الحارث المزني وأبي ذر رضي الله عنهما محمولان على أن معنى الخصوصية المذكورة التحتم والوجوب فتحتم فسخ الحج في العمرة ووجوبه خاص بذلك الركب لأمره - صلى الله عليه وسلم - له بذلك، ولا ينافي ذلك بقاء جوازه ومشروعيته إلى أبد الأبد. وقوله في حديث جابر ((بل للأبد)) محمول على الجواز وبقاء المشروعية إلى الأبد فاتفق الحديثان، كذا حقق الشيخ الشنقيطي في ((أضواء البيان)) ثم قال: الذي يظهر لنا صوابه في حديث: ((بل للأبد)) . وحديث الخصوصية بذلك الركب المذكورين هو ما اختاره العلامة الشيخ تقي الدين أبو العباس بن تيمية، وهو الجمع المذكور بين الأحاديث بحمل الخصوصية المذكورة على الوجوب والتحتم وحمل التأييد المذكور على المشروعية والجواز أو السنة، ولا شك أن هذا هو مقتضى الصناعة الأصولية والمصطلحية كما لا يخفى. وقال أيضًا: والصواب هو ما ذكرنا من الجمع بين الأدلة، ووجهه ظاهر لا إشكال فيه. وقال النووي في شرح المهذب في الجواب عن قول الإمام أحمد: ((أين يقع الحارث بن بلال من أحد عشر صحابيًا رووا الفسخ عنه - صلى الله عليه وسلم -)) ما نصه: قلت: لا معارضة بينهم وبينه حتى يقدموا عليه لأنهم أثبتوا الفسخ للصحابة ولم يذكروا حكم غيرهم، وقد وافقهم الحارث في إثبات الفسخ للصحابة، ولكنه زاد زيادة لا تخالفهم وهي اختصاص الفسخ بهم -

................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ انتهى. قلت: وقد اختلف القائلون بالفسخ في حكمه هل هو واجب أو مستحب، فذهب الإمام أحمد إلى أنه مستحب، ومال فريق إلى الوجوب، منهم ابن حزم وابن القيم. قال ابن حزم: وهو قول ابن عباس وعطاء ومجاهد وإسحاق. قلت: واستدل لهم بما رواه أحمد وابن ماجة وأبو يعلى من حديث البراء بن عازب، قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، قال: فأحرمنا بالحج، فلما قدمنا مكة قال: " اجعلوا حجكم عمرة ". قال: فقال الناس: يا رسول الله قد أحرمنا بالحج فكيف نجعلها عمرة؟ قال: " انظروا ما آمركم به فافعلوا ". فردوا عليه القول فغضب ثم انطلق حتى دخل على عائشة غضبان فرأت الغضب في وجهه. فقالت: من أغضبك أغضبه الله. قال: " وما لي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا أتبع ". قال ابن القيم: بعد ذكر حديث البراء: ونحن نشهد علينا أنا لو أحرمنا بحج لرأينا فرضًا علينا فسخه إلى عمرة تفاديًا من غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإتباعًا لأمره، فوالله ما نسخ هذا في حياته ولا بعده ولا صح حرف واحد يعارضه ولا خص به أصحابه دون من بعدهم، بل أجرى الله على لسان سراقة أن سأله هل ذلك مختص بهم؟ فأجابه بأن ذلك كائن لأبد الأبد. فما ندري ما يقدم على هذه الأحاديث (يعني التي تدل على جواز فسخ الحج إلى العمرة) . وهذا الأمر المؤكد الذي غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على من خالفه - انتهى. قال الشوكاني: استدل بقول البراء ((فغضب)) . من قال بوجوب الفسخ لأن الأمر لو كان أمر ندب لكان المأمور مخيرًا بين فعله وتركه، ولما كان يغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند مخالفته لأنه لا يغضب إلا لانتهاك حرمة من حرمات الدين لا لمجرد مخالفة ما أرشد إليه على جهة الندب ولا سيما وقد قالوا له: قد أحرمنا بالحج فكيف نجعلها عمرة؟ فقال لهم: " انظروا ما آمركم به فافعلوا ". فإن ظاهر هذا أن ذلك أمر حتم لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لو كان أمره ذلك لبيان الأفضل أو لقصد الترخيص لهم بين لهم بعد هذه المراجعة أن ما أمرتكم به هو الأفضل. أو قال لهم: إني أردت الترخيص لكم والتخفيف عنكم (قال) وقد أطال ابن القيم في الهدي الكلام على الفسخ ورجح وجوبه وبين بطلان ما احتج به المانعون منه، فمن أحب الوقوف على جميع ذيول هذه المسألة فليراجعه. وإذا كان الموقع في مثل هذا المضيق هو إفراد الحج، فالحازم المتحري لدينه الواقف عند مشتبهات الشريعة ينبغي له أن يجعل حجه من الابتداء متمتعًا أو قرانًا مما هو مظنة البأس إلى ما لا بأس به، فإن وقع في ذلك فالسنة أحق بالإتباع، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل – انتهى. قلت: القول الراحج عندنا هو ما ذهب إليه أحمد ومن وافقه من أن فسخ الحج إلى العمرة ليس خاصًا للصحابة في تلك السنة، بل يجوز أو يسن ويستحب لكل من أحرم بحج وليس معه هدي أن يقلب إحرامه عمرة ويتحلل بأعمالها ليصير متمتعًا. وأما حديث أبي ذر وبلال بن الحارث فمحمولان على الوجوب يعني أن وجوب فسخ الحج إلى العمرة خاص بذلك الركب في تلك السنة. وأما الجواز والاستحباب فهو باق للأمة إلى يوم القيامة، وهو محمل حديث جابر وغيره من أحاديث الفسخ، ولا منافاة بين اختصاص الوجوب بالصحابة وبين بقاء المشروعية والاستحباب إلى أبد الأبد، وعلى ذلك

وقدم علي من اليمن ببدن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " ماذا قلت حين فرضت الحج؟ " قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك. ـــــــــــــــــــــــــــــ حمل الإمام ابن تيمية تلك الأحاديث كما تقدم وهو محمل حسن، والله تعالى أعلم. (وقدم عليٌّ من اليمن) لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان بعثه إليها، وقال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي نجيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان بعث عليًا إلى نجران فلقيه بمكة، وقد أحرم، وفي رواية عطاء عن جابر كما سيأتي ((قال: فقدم عليّ من سعايته)) قال القاضي: أي من عمله في الصدقات. قال: ((وقال بعض علمائنا: الذي في غير هذا الحديث ((أن عليًا إنما بعثه أميرًا لا عاملاً على الصدقات، إذ لا يجوز استعمال بني هاشم على الصدقات، لقوله - صلى الله عليه وسلم - للفضل بن العباس وعبد المطلب بن ربيعة حين سألاه ذلك: إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد)) ولم يستعملهما. قال القاضي: يحتمل أن عليًا ولي الصدقات وغيرها احتسابًا، أو أعطي عمالته عليها من غير الصدقة. قال: وهذا أشبه لقوله: ((من سعايته)) . والسعاية تختص بالصدقة. واستحسنه النووي إلا أنه ذهب إلى أن السعاية لا تختص بالصدقة بل تستعمل في مطلق الولاية، وإن كان أكثر استعمالها في الولاية على الصدقة، واستدل لذلك بما في حديث حذيفة في رفع الأمانة. قال: ولقد أُتي عليَّ زمان ولا أبالي أيكم بايعت، لئن كان مسلمًا ليردنه عليَّ دينه، ولئن كان نصرانيًا أو يهوديًا ليردنه عليَّ ساعيه - يعني الوالي عليه - انتهى. (بِبُدْن النبي - صلى الله عليه وسلم -) بضم الباء وسكون الدال جمع بَدَنة بفتح الباء والدال، والبَدَنة واحدة الإبل سميت به لعظمها وسمنها، وتقع على الجمل والناقة، وقد تطلق على البقرة. ونسبت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن عليًا رضي الله عنه اشتراها له، لا أنها من السعاية على الصدقة كما يتبادر إلى الذهن، وكان عددها سبعًا وثلاثين بَدَنة، وكان عدد الهدي الذي ساقه النبي - صلى الله عليه وسلم - معه من المدينة ثلاثًا وستين بَدَنة كما جاء في رواية الترمذي، وأعطى عليًا البُدْن التي جاءت معه من اليمن وهي تمام المائة. قال الزرقاني: ظاهر قوله ((قدم عليّ من اليمن بِِبُدْن النبي - صلى الله عليه وسلم -)) أن البُدْن للمصطفى. وفي رواية النسائي (ومسند أحمد والمنتقى لابن الجارود) ((قدم عليّ من اليمن بهدي وساق النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة هديًا)) . وظاهره أن الهدي كان لعلي رضي الله عنه، فيحتمل أن عليًا قدم من اليمن بهدي لنفسه وهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر كل راوٍ واحدًا منهما – انتهى. وسيأتي مزيد الكلام في هذا عند ذكر نحر هذه البُدْن إن شاء الله تعالى. ووقع عند مسلم وغيره بعد هذا ((فوجد (أي عليّ) فاطمة ممن حل ولبست ثيابًا صبيغًا واكتحلت فأنكر ذلك عليها (ظنًّا أنه لا يجوز) فقالت: إن أبي أمرني بهذا، قال (أي جعفر بن محمد عن أبيه) فكان عليٌّ يقول بالعراق: فذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محرشًا على فاطمة للذي صنعت مستفتيًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما ذكرت عنه، فأخبرته أني أنكرت عليها فقال: " صدقت صدقت ")) . (فقال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (ماذا قلت حين فرضت الحج؟) أي ألزمته على نفسك بالنية والتلبية، وفي رواية أحمد وابن الجارود ((وقال لعليّ: " بم أهللت "؟)) أي بأي شيءٍ نويت حين أحرمت بحج أو عمرة أو بهما؟ (قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك) فيه

قال: " فإن معي الهدي، فلا تحل ". قال: فكان جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن والذي أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة. قال: فحل الناس كلهم وقصروا، إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن كان معه هدي، فلما كان يوم التروية ـــــــــــــــــــــــــــــ أنه لا يصح الإحرام معلقًا وهو أن يحرم إحرامًا كإحرام فلان، فينعقد إحرامه ويصير محرمًا بما أحرم به فلان. قال النووي: في هذا الحديث دلالة لمذهب الشافعي وموافقيه أنه يصح الإحرام معلقًا بأن ينوي إحرامًا كإحرام زيد فيصير هذا المعلق كزيد، فإن كان زيد محرمًا بحج كان هذا بالحج أيضًا، وإن كان بعمرة فبعمرة، وإن كان بهما فبهما، وإن كان زيد أحرم مطلقًا صار هذا محرمًا إحرامًا مطلقًا فيصرفه إلى ما شاء من حج أو عمرة، ولا يلزمه موافقة زيد في الصرف– انتهى. ومذهب الحنفية في ذلك أن الإحرام المعلق حكمه حكم الإحرام المبهم. أي يصح عندهم ولكن لا يلزمه موافقة من أحرم على إحرامه. (قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (فإن معي) بسكون الياء وفتحها. قال القاري: أي إذا علقت إحرامك بإحرامي، فإني أحرمت بالعمرة ومعي (الهدي) ولا أقدر أن أخرج من العمرة بالتحلل (فلا تحل) نهي أو نفي، أي لا تحل أنت بالخروج من الإحرام كما لا أحل حتى تفرغ من العمرة والحج. وفي رواية ((فأهد وامكث حرامًا كما أنت)) . (قال) أي جابر (فكان جماعة الهدي) أي من الإبل، والهدي – بالتشديد والتخفيف – ما يهدى إلى البيت الحرام من النعم لتنحر، قاله الجزري. (الذي قدم به) أي بذلك الهدي (عليّ من اليمن) أي له - صلى الله عليه وسلم - (والذي أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم -) زاد في رواية النسائي وأبي داود وابن ماجة وابن الجارود والبيهقي ((من المدينة)) (مائة) أي من الهدي، وفي رواية الدارمي ((مائة بدنة)) (فحل الناس) أي خرج من الإحرام من لم يكن معه هدي بعد الفراغ من العمرة (كلهم) أي أكثرهم. قال النووي: فيه إطلاق اللفظ العام وإرادة الخاص لأن عائشة لم تحل ولم تكن ممن ساق الهدي، والمراد بقوله ((حل الناس كلهم)) أي معظمهم (وقصروا) قال الطيبي: وإنما قصروا مع أن الحلق أفضل لأن يبقى لهم بقية من الشعر حتى يحلق في الحج – انتهى. وليكونوا داخلين في المقصرين والمحلقين جامعين بين العمل بالرخصة والعزيمة، كذا في المرقاة. قال المحب الطبري: فيه دليل على استحباب التقصير للمتمتع وتوفير الشعر للحلق في الحج، ويشبه أن يكون ذلك عن أمره - صلى الله عليه وسلم - إذ عنه يأخذون مناسكهم وبه يقتدون، وبذلك أمرهم فقال: " خذوا عني مناسككم ". (إلا النبي - صلى الله عليه وسلم -) استثناء من ضمير ((حلوا)) (ومن كان معه هدي) عطف على المستثنى (فلما كان يوم التروية) بفتح التاء وسكون الراء المهملة وكسر الواو وتخفيف الياء، وهو اليوم الثامن من ذي الحجة، سمي بذلك لأن الحجاج كانوا يرتوون فيه من الماء لما بعده أي يستقون ويسقون إبلهم فيه استعدادًا للوقوف يوم عرفة، إذ لم يكن في عرفات ماء جار كزماننا. وقيل: لأن قريشًا كانت تحمل الماء من مكة إلى منى للحاج تسقيهم وتطعمهم فيروون منه، وقيل لأن الإمام يروي فيه الناس من أمر المناسك، وقيل لأن إبراهيم عليه السلام

توجهوا إلى منى، فأهلوا بالحج، وركب النبي - صلى الله عليه وسلم - فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة، ـــــــــــــــــــــــــــــ تروى فيه أي تفكر في ذبح ولده وأنه كيف يصنع، تنبيه: لستة أيام متوالية من أيام ذي الحجة أسماء، فاليوم الثامن: يوم التروية، واليوم التاسع: عرفة، والعاشر: النحر، والحادي عشر: القَرّ – بفتح القاف وتشديد الراء – لأنهم يقرون فيه بمنى، والثاني عشر: يوم النفر الأول، والثالث عشر: النفر الثاني (توجهوا) أي أرادوا التوجه (إلى منى) ينون، وقيل: لا ينون. فيكتب بالألف، سميت به لأنه يمنى الدماء في أيامها أي يراق ويسفك، أو لأنه يعطي الحجاج مناهم لإكمال أفعال الحج فيها (فأهلوا بالحج) أي من البطحاء كما في رواية لأحمد والشيخين والطحاوي والبيهقي، يعني أحرم به من كان خرج عن إحرامه بعد الفراغ من العمرة، وفي رواية لأحمد ((حتى إذا كان يوم التروية وأرادوا التوجه إلى منى أهلوا بالحج)) قال المحب الطبري: فيه بيان وقت إهلال أهل مكة والمتمتعين. وفيه إشارة إلى أن المحرم من مكة لا يقدم طوافه وسعيه لأنه إذا اشتغل بذلك لا يسمى متوجهًا. قال النووي: والأفضل عند الشافعي وموافقيه أن من كان بمكة وأراد الإحرام بالحج أحرم يوم التروية عملاً بهذا الحديث. وفيه بيان أن السنة أن لا يتقدم أحد إلى منى من قبل يوم التروية. وقد كره مالك ذلك. وقال بعض السلف: لا بأس به. ومذهبنا أنه خلاف السنة – انتهى. (وركب النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي حين طلوع الشمس من يوم التروية وسار من مكة إلى منى (فصلى بها) أي بمنى في موضع مسجد الخيف (الظهر والعصر) إلخ. كل صلاة لوقتها (ثم مكث) أي لبث بعد أداء الفجر (قليلاً حتى طلعت الشمس) فيه أن السنة أن لا يخرجوا من منى حتى تطلع الشمس. وهذا متفق عليه. ومبيته - صلى الله عليه وسلم - بمنى وصلاته تلك الصلوات بها دليل على استحباب ذلك، وهذا المبيت أجمع أهل العلم على الفرق بينه وبين مبيت ليالي منى فأوجبوا على تارك ذلك ما أوجبوا، ولم يوجبوا على تارك المبيت بمنى ليلة عرفة أي ليلة التاسع من ذي الحجة شيئًا، قاله ابن المنذر. وقال النووي: هذا المبيت سنة ليس بركن ولا واجب فلو تركه فلا دم عليه بالإجماع – انتهى. (وأمر بقبة) عطف على ((ركب)) أو حال، أي وقد أمر بضرب خيمة بنمرة قبل قدومه إليها (من شعر) بفتح العين وسكونها (تضرب له) بصيغة المجهول (بنمرة) بفتح النون وكسر الميم وفتح الراء المهملة، وهو غير منصرف، موضع على يمين الخارج من المازمين إذا أراد الموقف. وقال الطيبي: هو موضع بجنب عرفات وليس من عرفات. وقال في اللمعات: اسم موضع قريب عرفات، وهي منتهى أرض الحرم، وكان بين الحل والحرم – انتهى. قال الأبي: لما أراد - صلى الله عليه وسلم - أن يظهر مخالفة الجاهلية أراد أن يظهر ذلك ابتداء ليتأهبوا لذلك. وقال النووي: في هذا الحديث جواز الاستظلال للمحرم بقبة وغيرها. ولا خلاف في جوازه للنازل. واختلفوا في جوازه للراكب، فمذهبنا جوازه، وبه قال كثيرون، وكرهه مالك وأحمد، وفيه جواز اتخاذ القباب وجوازها من شعر - انتهى. وقال المحب

فسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام، كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى عرفة، ـــــــــــــــــــــــــــــ الطبري: وفي أمره - صلى الله عليه وسلم - بضرب القبة في نمرة دليل على الرخصة في حجز المواضع من الصحاري وأشباهها حيث لا ضرر على أحد في ذلك الغزو والحج وسائر الأسفار، وقال النووي أيضًا: فيه استحباب النزول بنمرة إذا ذهبوا من منى لأن السنة أن لا يدخلوا عرفات إلا بعد زوال الشمس وبعد صلاتي الظهر والعصر جمعًا، فالسنة أن ينزلوا بنمرة، فمن كان له قبة ضربها ويغتسلون للوقوف قبل الزوال، فإذا زالت الشمس سار بهم الإمام إلى مسجد إبراهيم عليه السلام وخطب لهم خطبتين خفيفتين، ويخفف الثانية جدًا، فإذا فرغ منها صلى بهم الظهر والعصر جامعًا بينهما، فإذا فرغ من الصلاة سار إلى الموقف – انتهى. (فسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي من منى إليها (ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام) . قال الزرقاني في شرح المواهب: ظاهره أنه ليس لقريش شك في شيء إلا في وقوفه عند المشعر، فإنهم يشكون فيه، وليس المراد ذلك بل عكسه، وهو أنهم لا يشكون في أنه - صلى الله عليه وسلم - سيقف عند المشعر الحرام على ما كانت عادتهم من وقوفهم به، ويقف سائر الناس بعرفة فقال الأبي: الأظهر في ((إلا)) أنها زائدة و ((أن)) في موضع النصب على إسقاط الجار، أي ولا يشك قريش في أنه واقف عند المشعر – انتهى. وقيل الشك ها هنا بمعنى الظن أي لا تظن قريش إلا أنه يقف عند المشعر لأنه من مواقف الحمس وأهل حرم الله. وقال الطيبي: أي ولم يشكوا في أنه يخالفهم في المناسك بل تيقنوا بها إلا في الوقوف فإنهم جزموا بأنه يوافقهم فيه، فإن أهل الحرم كانوا يقفون عند المشعر الحرام، وهو جبل في المزدلفة، يقال له قزح، وعليه جمهور المفسرين والمحدثين، وقيل إنه كل المزدلفة وهو بفتح العين وقيل بكسرها، ذكره النووي (كما كانت قريش تصنع في الجاهلية) معناه أن قريشًا كانت في الجاهلية تقف بالمشعر الحرام، وكان سائر العرب يتجاوزون المزدلفة ويقفون بعرفات فظنت قريشًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقف في المشعر الحرام على عادتهم ولا يتجاوزه، فتجاوزه - صلى الله عليه وسلم - إلى عرفات لأن الله تعالى أمره بذلك في قوله {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} (2: 199) أي سائر العرب غير قريش، وإنما كانت قريش تقف بالمزدلفة لأنها من الحرم، وكانوا يقولون: نحن أهل حرم الله فلا نخرج منه. وقد يتوهم أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يوافقهم قبل البعثة، وليس كذلك لما جاء في بعض الأحاديث الصحيحة صريحًا أنه كان يقف مع عامة الناس قبل النبوة أيضًا (فأجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال النووي: معناه جاوز المزدلفة ولم يقف بها، بل توجه إلى عرفات (حتى أتى عرفة) أي قاربها، لأنه فسره بقوله ((وجد القبة قد ضربت بنمرة فنزل بها)) وقد سبق أن نمرة ليست من عرفات، وقد قدمنا أن دخول عرفات قبل صلاتي الظهر والعصر جمعًا خلاف السنة. وقال الطبري: الظاهر أن المراد بإتيان عرفة القرب منها، فإن نمرة دونها، وسميت عرفة بذلك لتعريف جبرئيل إبراهيم المناسك، وقيل لمعرفة آدم حواء هناك، أو

فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس، أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي، فخطب الناس، وقال: " إن دماءكم وأموالكم ـــــــــــــــــــــــــــــ لتعارف الناس، أو لاعترافهم بذنوبهم أو لصبر الناس، والعرفة الصبر. وقيل: إن إبراهيم رأى ليلة التروية ذبح ولده فتروى يومه، وعرف في الثاني ونحر في الثالث، فسميت الأيام بذلك. وقوله ((فأجاز)) قيل هي لغة وجاز وأجاز بمعنى. وقيل جاز الموضع سلكه وسار فيه، وأجازه خلفه وقطعه. قال الأصمعي: جاز مشى فيه، وأجازه قطعه (قد ضربت) أي بنيت (فنزل بها) أي بالقبة. وهذا يدل على جواز استظلال المحرم بالخيمة ونحوها (حتى إذا زاغت) أي نزل بها واستمر فيها حتى إذا مالت الشمس وزالت عن كبد السماء من جانب الشرق إلى جانب الغرب (أمر بالقصواء) أي بإحضارها، وقد تقدم ضبطها وشرحها في أول شرح الحديث (فرحلت له) على البناء المجهول مخففًا أي شد على ظهرها الرحل ليركبها النبي - صلى الله عليه وسلم - (فأتى) أي فركبها فأتى (بطن الوادي) هو وادي عُرَنة بضم العين وفتح الراء المهملتين بعدها نون، وليست من عرفات (فخطب الناس) أي وعظهم وخطب خطبتين الأولى لتعريفهم المناسك والحث على كثرة الذكر والدعاء بعرفة، والثانية قصيرة جدًا لمجرد الدعاء، قاله القاري. وفيه دليل على أن الخطبة كانت على الراحلة، وفي معناها المواضع المرتفعة. قال الزرقاني: في الحديث أنه يستحب للإمام أن يخطب يوم عرفة في هذا الموضع، وبه قال الجمهور والمدنيون والمغاربة من المالكية وهو المشهور. فقول النووي: ((خالف فيها المالكية)) . فيه نظر، إنما قول العراقيين منهم، والمشهور خلافه. واتفق الشافعية أيضًا على استحبابها خلافًا لما توهمه عياض والقرطبي – انتهى. قال النووي: ومذهب الشافعي أن في الحج أربع خطب مسنونة: إحداها يوم السابع من ذي الحجة يخطب عند الكعبة بعد صلاة الظهر، والثانية هذه التي ببطن عرنة يوم عرفات، والثالثة يوم النحر، والرابعة يوم النفر الأول وهو اليوم الثاني من أيام التشريق، قال أصحابنا: وكل هذه الخطب أفراد وبعد صلاة الظهر إلا التي يوم عرفات، فإنها خطبتان وقبل الصلاة. قال أصحابنا: ويعلمهم في كل خطبة من هذه ما يحتاجون إليه إلى الخطبة الأخرى، والله أعلم – انتهى كلام النووي. وارجع لمزيد التفصيل إلى ((القرى لقاصد أم القرى)) لمحب الدين الطبري (ص 338، 339، 491، 493) ، والفتح الرباني (ج 12: ص 133، 215، 216) ، وفتح الباري (ج 7: ص 166) وعند الحنفية في الحج ثلاث خطب أولاها وثانيتها ما ذكره النووي، وثالثتها بمنى في اليوم الحادي عشر فيفصل بين كل خطبتين بيوم وكلها سنة. والراجح عندنا في تعيين أيام الخطبة هو ما ذهب إليه الشافعية، وسيأتي مزيد الكلام في ذلك (إن ماءكم وأموالكم) زاد في حديث ابن عباس عند أحمد والبخاري والترمذي والبيهقي وفي حديث ابن عمر عند البخاري ((وأعراضكم)) والعِرض بكسر العين موضع المدح والذم من الإنسان سواء كان في نفسه أو في سلفه. قال الحافظ: هذا الكلام على حذف المضاف أي سفك دمائكم وأخذ أموالكم

حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا. ـــــــــــــــــــــــــــــ وثلب أعراضكم – انتهى. وقيل المعنى: إن انتهاك دمائكم وأموالكم وأعراضكم، قيل: وهذا أولى مما ذكره الحافظ، لأن ذلك إنما يحرم إذا كان بغير حق فلا بد من التصريح به، فلفظة ((انتهاك)) أولى، لأن موضوعها لتناول الشيء بغير حق (حرام عليكم) قال الزرقاني: معنى الحديث إن دماء بعضكم على بعض حرام، وأموال بعضكم على بعض حرام وإن كان ظاهر اللفظ أن دم كل واحد حرام عليه نفسه، ومال كل واحد حرام عليه نفسه فليس بمراد، لأن الخطاب للمجموع، والمعنى فيه مفهوم، ولا تبعد إرادة المعنى الثاني. أما الدم فواضح، وأما المال فمعنى تحريمه عليه تحريم تصرفه فيه على غير الوجه المأذون فيه شرعًا، قاله الولي العراقي (كحرمة يومكم هذا) أي متأكدة التحريم شديدته كحرمة يومكم هذا يعني يوم عرفة (في شهركم هذا) أي ذي الحجة (في بلدكم هذا) أي مكة، وإنما شبهها في الحرمة بهذه الأشياء لأنهم كانوا لا يرون استباحتها وانتهاك حرمتها بحال: وقال ابن المنير: قد استقر في القواعد أن الأحكام لا تتعلق إلا بأفعال المكلفين، فمعنى تحريم اليوم والبلد والشهر تحريم أفعال الاعتداء فيها على النفس والمال والعرض، فما معنى إذًا تشبيه الشيء بنفسه؟ وأجاب بأن المراد أن هذه الأفعال في غير هذا البلد وهذا الشهر وهذا اليوم مغلظة الحرمة، عظيمة عند الله، فلا يستهل المعتدي كونه تعدى في غير البلد الحرام والشهر الحرام، بل ينبغي له أن يخاف خوف من فعل ذلك في البلد الحرام، وإن كان فعل العدوان في البلد الحرام أغلظ فلا ينفي كون ذلك في غيره غليظًا أيضًا، وتفاوت ما بينهما في الغلظ لا ينفع المعتدي في غير البلد الحرام، فإن فرضناه تعدى في البلد الحرام فلا يستسهل حرمة البلد بل ينبغي أن يعتقد أن فعله أقبح الأفعال وأن عقوبته بحسب ذلك فيراعى الحالتين – انتهى. وقال الزرقاني: وفي تقديم اليوم على الشهر وهو على البلد الترقي، فالشهر أقوي من اليوم، وهو ظاهر في الشهر لاشتماله على اليوم فاحترامه أقوى من احترام جزئه، وأما زيادة حرمة البلد فلأنه محرم في جميع الشهور لا في هذا الشهر وحده، فحرمته لا تخص به فهو أقوى منه – انتهى. قال الحافظ: وفي مشروعية ضرب المثل وإلحاق النظير بالنظير ليكون أوضح للسامع، وإنما شبه حرمة الدم والعرض والمال بحرمة اليوم والشهر والبلد، لأن المخاطبين بذلك كانوا لا يرون تلك الأشياء ولا يرون هتك حرمتها ويعيبون على من فعل ذلك أشد العيب، وقال في موضع آخر: ومناط التشبيه في قوله ((كحرمة يومكم)) وما بعده ظهوره عند السامعين، لأن تحريم البلد والشهر واليوم كان ثابتًا في نفوسهم مقررًا عندهم بخلاف الأنفس والأموال والأعراض فكانوا في الجاهلية يستبيحونها، فطرأ الشرع عليهم بأن تحريم دم المسلم وماله وعرضه أعظم من تحريم البلد والشهر واليوم، فلا يرد كون المشبه به أخفض رتبة من المشبه لأن الخطاب إنما وقع بالنسبة لما اعتاده المخاطبون قبل تقرير الشرع – انتهى. وقال الطيبي: هذا من تشبيه ما لم تجر به العادة بما جرت به لأنهم عالمون بحرمة الثلاث كما في قوله تعالى {وإذ

ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث. وكان مسترضعًا في بني سعد فقتله هذيل. ـــــــــــــــــــــــــــــ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة} (7: 171) كانوا يستبيحون دماءهم وأموالهم في الجاهلية في غير الأشهر الحرام ويحرمونها فيها، كأنه قيل: إن دماءكم وأموالكم محرمة عليكم أبدًا كحرمة الثلاث – انتهى. (ألا) بالفتح والتخفيف للتنبيه. (كل شيء من أمر الجاهلية) يعني الذي أحدثوه والشرائع التي شرعوها في الحج وغيره قبل الإسلام (تحت قدميَّ) بتشديد الياء مثنى (موضوع) أي مردود وباطل حتى صار كالشيء الموضوع تحت القدمين. قال في اللمعات: يحتمل أن يكون قوله ((موضوع)) ، وقوله ((تحت قدميَّ)) خبرين، أو الخبر هو موضوع وتحت ظرف له وهو الأظهر، والمراد بالوضع تحت القدم إبطاله وتركه، وتقول العرب في الأمر الذي لا يكاد يراجعه ويذكره ((جعلت ذلك تحت قدميّ)) . (ودماء الجاهلية موضوعة) أي متروكة لا قصاص ولا دية ولا كفارة. أعادها للاهتمام أو لييني عليه ما بعده من الكلام، قاله القاري. وقال الولي العراقي: يمكن أنه عطف خاص على عام لاندراج دمائها في أمورها، ويمكن أنه لا يندرج لحمل أمورها على ما ابتدعوه وشرعوه. وإيجاب القصاص على القاتل ليس مما ابتدعوه، وإنما أريد قطع النزاع بإبطال ذلك، لأن منها ما هو حق، ومنها ما هو باطل، وما يثبت وما لا يثبت (وإن أول دم أضع) أي أضعه وأتركه (من دمائنا) أي من دماء أهل الإسلام يعني أبدأ في وضع الدماء التي يستحق المسلمون ولايتها بأهل بيتي وأقاربي. قال النووي: فيه أن للإمام وغيره ممن يأمر بمعروف وينهى عن منكر ينبغي أن يبدأ بنفسه وأهله فهو أقرب إلى قبول قوله وإلى طيب نفس من قرب عهده بالإسلام (دم ابن ربيعة بن الحارث) أي ابن عبد المطلب، واسم هذا الابن إياس، قاله الجمهور والمحققون، وقيل حارثة، وقيل تمام، وقيل آدم، وقال الدارقطني: وهو تصحيف. ولبعض رواة مسلم وأبي داود ((دم ربيعة)) وهو وهم، لأن ربيعة عاش حتى توفي زمن عمر سنة ثلاث وعشرين، وتأوله أبو عبيد بأنه نسبه إليه لأنه ولي دم ابنه، وهو حسن ظاهر، به تتفق الروايتان. وربيعة هذا هو ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - يكنى ((أبا أروى)) وكان أسن من عمه العباس بسنتين، صحابي، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث، توفي في أول خلافة عمر، وقيل في أواخرها سنة ثلاث وعشرين (وكان) كذا في جميع النسخ من المشكاة والمصابيح، وفي صحيح مسلم والمنتقى لابن الجارود ((كان)) أي بدون واو العاطفة، وهكذا ذكره المحب الطبري (مسترضعًا) على بناء المجهول، أي كان لهذا الابن ظئر ترضعه من بني سعد (فقتله) أي ابن ربيعة، وقوله ((فقتله)) كذا في جميع النسخ من المشكاة أي بصيغة المذكر، وفي صحيح مسلم ((فقتلته)) بلفظ التأنيث، وهكذا عند أبي داود وابن الجارود، وكذا في المصابيح (هُذَيل) بهاء مضمومة فمعجمة مفتوحة، وكان ابن ربيعة هذا طفلاً صغيرًا، يحبو بين البيوت فأصابه حجر في حرب بني سعد مع قبيلة هُذَيل

وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء ـــــــــــــــــــــــــــــ فقتلته هُذَيل. قال الولي العراقي: ظاهره أنها تعمدت قتله. وذكر الزبير بن بكار: أنه كان صغيرًا يحبو بين البيوت فأصابه حجر في حرب كانت بين بني سعد وبين ليث بن بكر، كذا ذكره عياض والنووي وغيرهما ساكتين عليه وهو مناف لقوله ((فقتلته هُذَيل)) لأنهم غير بني ليث إذ هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر، وليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة كما بينه أبو عبيد القاسم بن سلام في أنسابه، كذا في شرح المواهب (وربا الجاهلية) معناه الزيادة على رأس المال، ولذا جاء الخبر ((موضوعة)) بالتاء على معنى ما في نسخ مسلم، وهذا إيضاح إذ المقصود مفهوم من لفظ ربا، لأن الربا هو الزيادة فإذا وضع الربا فمعناه وضع الزيادة. قال الولي: ولا شك أن عطف هذا على أمر الجاهلية من عطف الخاص على العام، لأنه من إحداثاتهم وشرعهم الفاسد (موضوع) المراد بالوضع الرد والإبطال أي الزائد على رأس المال مردود كما قال الله تعالى {وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم} (2: 279) وقوله ((موضوع)) كذا في جميع النسخ من المشكاة، وهكذا في سنن أبي داود والمنتقى والبيهقي ولمسلم ((موضوعة)) بالتأنيث، وهكذا في المصابيح، وكذا ذكره المحب الطبري (وأول ربا أضع من ربانا) كذا في جميع النسخ من المشكاة، وفي صحيح مسلم وسنن أبي داود والبيهقي والمنتقى ((وأول ربا أضع ربانا)) أي بدون لفظة ((من)) ، وهكذا في المصابيح وكذا ذكره الطبري، وعلى هذا ((ربانا)) خبر المبتدأ، وقوله (ربا عباس بن عبد المطلب) بدل منه أو خبر مبتدأ محذوف أي هو ربا العباس (فإنه موضوع كله) يحتمل عود ضمير ((إنه)) لربا العباس تأكيدًا لوضعه، ويحتمل لجميع الربا أي ربا العباس موضوع لأن الربا موضوع كله، قاله الولي العراقي. وإنما ابتدأ في وضع دماء الجاهلية ورباها من أهل الإسلام بأهل الإسلام بأهل بيته ليكون أمكن في قلوب السامعين وأسد لأبواب الطمع في الترخيص (فاتقوا الله في النساء) قال الطيبي: هو عطف من حيث المعنى على دمائكم وأموالكم أي فاتقوا الله في استباحة الدماء ونهب الأموال، وفي النساء، وهو من عطف الطلب على الخبر بالتأويل كما عطف {وامتازوا اليوم أيها المجرمون} (36: 59) على قوله {إن أصحاب الجنة} وقال الولي العراقي: يحتمل أن الفاء زائدة لأن الرواية بدونها، وأنها للسببية لأنه لما قرر إبطال أمر الجاهلية وكان من جملتها منع النساء من حقوقهن وترك إنصافهن أمرهم بمتابعة الشرع في إنصافهن، فكأنه قيل: فبسبب إبطال أمر الجاهلية اتقوا الله في النساء وأنصفوهن، فإن تركه من أمر الجاهلية، قال: و ((في)) تحتمل السببية نحو {فذلكن الذي لمتنني فيه} (12: 32) والظرفية مجازًا نحو {ولكم في القصاص حياة} (2: 179) أي إن النساء ظرف للتقوى المأمور بها – انتهى. قلت: وقع عند الجارود والبيهقي ((اتقوا الله)) أي بدون الفاء، وفي الحديث الحث على مراعاة حق النساء والوصية بهن ومعاشرتهن بالمعروف، وقد

فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، ـــــــــــــــــــــــــــــ جاءت أحاديث كثيرة صحيحة في الوصية بهن وبيان حقوقهن والتحذير من التقصير في ذلك فليراجعها من شاء في الترغيب والترهيب للمنذري ورياض الصالحين للنووي (فإنكم أخذتموهن بأمان الله) أي بعهده وهو ما عهد إليكم فيهن. قال النووي: هكذا في كثير من أصول مسلم ((بأمان الله)) بلا هاء، وفي بعضها ((بأمانة الله)) قلت: وكذا أي بالهاء وقع عند أبي داود والشافعي وابن الجارود وابن ماجة والبيهقي. قال الزرقاني: أي بأن الله ائتمنكم عليهن فيجب حفظ الأمانة وصيانتها بمراعاة حقوقها والقيام بمصالحها الدينية والدنيوية، وما وقع في كثير من أصول مسلم يقوي أن في قوله ((أخذتموهن)) دلالة على أنها كالأسيرة المحبوسة عند زوجها، وله التصرف فيها والسلطنة عليها حسبما بينه الشرع، ويوافقه قوله في رواية أخرى ((فإنهن عوان عندكم)) جمع عانية وهي الأسيرة، لكنها ليست أسيرة خائفة كغيرها من الأسراء بل هي أسيرة آمنة (واستحللتم فروجهن بكلمة الله) في معناه أربعة أقوال، الأول: أن المراد بكلمة الله أمره وحكَّمه وإباحته المنزلة في كتابه وهو قوله {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} (4: 3) قال النووي: هذا هو الصحيح، ورجحه القرطبي في المفهم إذ قال: فإن حكم الله كلامه المتوجه للمحكوم عليه على جهة الاقتضاء أو التخيير. الثاني: المراد كلمة التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله، إذ لا تحل مسلمة لغير مسلم. الثالث: المراد كلمة النكاح التي يستحل بها الفروج، أي الصيغ التي ينعقد بها النكاح من الإيجاب والقبول لأن الله تعالى أمر بها. الرابع: أن المراد قوله تعالى {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} (2: 229) قال الخطابي: هذا أحسن الوجوه. (ولكم عليهن) أي من الحقوق لما ذكر - صلى الله عليه وسلم - استحلال الزوج بكلمة الله وعلم منه تأكيد الصحبة بين الزوجين انتقل إلى بيان ما على كل واحد منهما من الحقوق، وبدأ بحق الأزواج لأنهم المخاطبون (أن لا يوطئن) بهمزة أو بإبدال التخفيف صيغة جمع الإناث من الإيطاء أي من باب الإفعال (فرشكم أحدًا تكرهونه) أي تكرهون دخوله في بيوتكم، وعبر عن بفرش لأن الداخل يطأ المنزل الذي يدخل فيه. قال المازري: قيل المراد بذلك أن لا يستخلين بالرجال ولم يرد زناها، لأن ذلك يوجب حدها، ولأن ذلك حرام مع من يكرهه الزوج ومن لا يكرهه. وقال الخطابي: معنى الحديث أن لا يأذن لأحد من الرجال يدخل فيتحدث إليهن، وكان الحديث من الرجال إلى النساء من عادات العرب ولا يرون بذلك عيبًا ولا يعدونه ريبة، فلما نزلت آية الحجاب ثار النساء مقصورات، ونهى عن محادثتهن والقعود إليهن، وليس المراد بوطئي الفرش هنا نفس الزنا لأنه محرم على الوجوه كلها. فلا معنى لاشتراط الكراهية فيه، ولو أريد الزنا لكان الضرب الواجب فيه هو المبرح الشديد والعقوبة المؤلمة من الرجم دون الضرب الذي ليس بمبرح. وذكر القاضي عياض نحوه. وقال النووي بعد ذكر كلام المازري

فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله. وأنتم تسألون عني، ـــــــــــــــــــــــــــــ والقاضي: والمختار أن معناه: أن لا يأذن لأحد تكرهونه في دخول بيوتكم والجلوس في منازلكم، سواء كان المأذون له رجلاً أجنبيًا أو امرأة أو أحدًا من محارم الزوجة، فالنهي يتناول جميع ذلك، وهذا حكم المسألة عند الفقهاء أنها لا يحل لها أن تأذن لرجل ولا امرأة ولا محرم ولا غيره في دخول منزل الزوج إلا من علمت أو ظنت أن الزوج لا يكرهه، لأن الأصل تحريم دخول منزل الإنسان حتى يوجد الإذن في ذلك منه أو عرف رضاه باطراد العرف بذلك ونحوه ومتى حصل الشك في الرضا ولم يترجح شيء ولا وجدت قرينة لا يحل الدخول ولا الإذن، والله أعلم (فإن فعلن ذلك) أي الإيطاء المذكور بدون رضاكم بلفظ صريح أو بقرائن (ضرباً غير مبرح) بضم الميم وفتح الموحدة وكسر الراء المشددة وبالحاء المهملة من البرح وهو المشقة، والضرب المبرح هو الضرب الشديد الشاق، ومعناه اضربوهن ضربًا ليس بشديد ولا شاق. وفيه إباحة ضرب الرجل امرأته للتأديب (ولهن عليكم رزقهن) أي وجوبًا، والمراد بالرزق النفقة من المأكول والمشروب، وفي معناه سكناهن (بالمعروف) أي على قدر كفايتهن من غير سرف ولا تقتير أو باعتبار حالكم فقرًا وغنىً، وفيه وجوب نفقة الزوجة وكسوتها، وذلك ثابت بالكتاب والسنة والإجماع (وقد تركت فيكم ما) أي فيما بينكم وما موصولة أو موصوفة (لن تضلوا بعده) أي بعد تركي إياه فيكم أو بعد التمسك به والعمل بما فيه ويؤيد الأول قوله (إن اعتصمتم به) أي في الاعتقاد والعمل. وفي هذا التركيب إبهام وتوضيح وذلك لبيان أن هذا الشيء الذي تركه فيهم شيء جليل عظيم فيه جميع المنافع الدينية والدنيوية، ثم لما حصل من هذا التشوق التام للسامع وتوجه إلى استماع ما يرد بعده واشتاقت نفسه إلى معرفته بينه بقوله (كتاب الله) بالنصب بدل من مفعول تركت، جزم به الولي. فإن كان الرواية وإلا فيجوز رفعه بأن خبر مبتدأ محذوف، أي هو كتاب الله ولم يذكر السنة مع أن بعض الأحكام يستفاد منها لاندراجها تحته، فإن الكتاب هو المبين للكل بعضها بلا واسطة وبعضها بواسطة، قال تعالي {ونزلنا الكتاب تبيانًا لكل شيء} (16: 89) وقال تعالي {لتبين للناس ما نزل إليهم} (16: 44) كذا في شرح المواهب. وقال القاري: إنما اقتصر على الكتاب لأنه مشتمل على العمل بالسنة لقوله تعالي {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول} (4: 59) وقوله {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} (59: 7) فيلزم من العمل بالكتاب العمل بالسنة، وفيه إيماء إلى أن الأصل الأصيل هو الكتاب (وأنتم تسئلون) بصيغة المجهول. وفي رواية أبي داود والدارمي وابن ماجه وابن الجارود والبيهقي ((مسئولون)) (عني) أي عن تبليغي وعدمه، قال الطيبي: قوله ((وأنتم تسئلون)) عطف على مقدر، أي قد بلغت ما أرسلت به إليكم جميعًا غير تارك لشيء مما بعثت به وأنتم تسئلون عني يوم القيامة هل بلغت؟ ... بأي شيء

فما أنتم قائلون؟ " قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: " اللهم اشهد. اللهم اشهد "، ـــــــــــــــــــــــــــــ تجبيون؟ ودل على هذا المحذوف الفاء في قوله (فما أنتم قائلون؟) أي إذا كان الأمر على هذا فبأي شيء تجيبون؟ (قالوا: نشهد أنك قد بلغت) أي رسالات ربك (وأديت) أي الأمانة (ونصحت) أي الأمة (فقال بإصبعه) أي أشار بها (السبابة) بالجر (يرفعها إلى السماء) حال من فاعل ((قال)) أي رافعًا إياها أو من السبابة أي مرفوعة (وينكتها إلى الناس) بفتح التحية وسكون النون وضم الكاف بعدها فوقية، كذا في نسخ المشكاة والمصابيح بالتاء الفوقانية، وهكذا في مسلم الطبعات المصرية والهندية، من نكت الأرض بالقضيب إذا ضرب الأرض بالقضيب فيؤثر فيها، وهذا بعيد من معني الحديث. وقيل مجاز من الإشارة بقرينة إلى، وفي المرقاة ((وينكتها إلى الناس)) أي يشير بها إليهم كالذي يضرب بها الأرض، والنكت ضرب رأس الأنامل إلى الأرض. وفي البارع ((قال الأصمعي: ضربه فنكته بالفوقية أي ألقاه على رأسه فوقع متنكتًا)) وذكره الفارابي في باب قتل فيحتمل أن يكون الحديث من هذا، والمعني: ينكسها - انتهى. وقال عياض: كذا (أي بالفوقية) الرواية في مسلم وهو بعيد المعني. قيل: صوابه ((ينكبها)) بموحدة، وكذا رويناه عن شيخنا أبي الوليد هشام بن أحمد في مسلم ومن طريق ابن الأعرابي عن أبي داود في سننه بموحدة، ومن طريق أبي بكر التمار عنه بفوقية، ومعناه يرددها ويقلبها إلى الناس مشيرًا لهم، وهو من نكب كنانته إذا قلبها. وقال القرطبي: روايتي في هذه اللفظة وتقييدي على من أعتمده من الأئمة المقتدين بضم الياء وفتح النون وكسر الكاف مشددة وضم الباء بواحدة أي يعدلها إلى الناس، وروي ينكبها مخففة الباء والنون وضم الكاف ومعناه يقلبها، وهو قريب من الأول وروي ينكتها بفوقية وهي أبعدها – انتهى. وقال الجزري في النهاية: في حديث حجة الوداع ((وينكبها إلى الناس)) أي يميلها إليهم، يريد بذلك أن يشهد الله عليهم، يقال: نكبت الإناء نكبًا ونكبته تنكيبًا إذ أماله وكبه (اللهم اشهد) أي على عبادك بأنهم أقروا بأني قد بلغت. والمعنى ((اللهم اشهد أنت إذ كفى بك شهيدًا)) . قال الزرقاني في شرح المواهب: فإن قيل ليس في هذه الخطبة ذكر شيء من المناسك فيرد ذلك على قول الفقهاء ((يعلمهم الخطيب ما يحتاجون إليه إلى الخطبة الأخرى)) أجيب بأنه - صلى الله عليه وسلم - اكتفى بفعله للمناسك عن بيانه بالقول لأنه أوضح، واعتنى بما أهمه في الخطبة التي قالها. والخطباء بعد ليست أفعالهم قدوة ولا الناس يعتنون بمشاهدتها ونقلها فاستحب لهم البيان بالقول، وفيه حجة للمالكية وغيرهم أن خطبة عرفة فردة إذ ليس فيه أنه خطب خطبتين. وما روي في بعض الطرق أنه خطب خطبتين، فضعيف كما قاله البيهقي وغيره. قلت: روى الشافعي بسنده عن جابر قال: راح النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الموقف بعرفة فخطب الناس الخطبة الأولى، ثم أذن بلال، ثم أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخطبة الثانية ففرغ من الخطبة وبلال من الأذان، ثم أقام بلال فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر. قال الشوكاني في

ثلاث مرات. ثم أذن بلال، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ النيل (ج 4: ص 287) : حديث جابر هذا أخرجه أيضًا البيهقي وقال: تفرد به إبراهيم بن أبي يحيى، وفي حديث جابر الطويل الذي أخرجه مسلم ما يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - خطب ثم أذن بلال، ليس فيه ذكر أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخطبة الثانية وهو أصح، ويترجح بأمر معقول هو أن المؤذن قد أمر بالإنصات للخطبة، فكيف يؤذن ولا يستمع الخطبة. قال المحب الطبري: وذكر الملا في سيرته أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فرغ من خطبته أذن بلال وسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما فرغ بلال من الأذان تكلم بكلمات ثم أناخ راحلته وأقام بلال الصلاة، وهذا أولى مما ذكره الشافعي، إذ لا يفوت به سماع الخطبة من المؤذن – انتهى كلام الشوكاني. وقال الطبري بعد ذكر رواية الملا من سيرته ما لفظه: وهذا وإن كان قريبًا مما ذهب إليه الشافعي إلا أنه ليس فيه أن الخطبة تكون مع الأذان، ثم إن تلك الكلمات لم يقل إنها كانت خطبة – انتهى. (ثم أذن بلال) لم يقع لفظ بلال في مسلم وإنما هو عند الدارمي وابن ماجة وابن الجارود والبيهقي، وزاد الدارمي ((بنداء واحد)) (ثم أقام فصلى العصر) أي جمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر، وهذا الجمع كجمع المزدلفة جمع نسك عند الحنفية وبعض أصحاب الشافعي، وجمع سفر عند الشافعي وأكثر أصحابه، فمن كان حاضرًا أو مسافرًا دون مرحلتين كأهل مكة لم يجز له الجمع عند الشافعي كما لا يجوز له القصر. والحديث يدل على أن الجمع بين الظهر والعصر بعرفة بأذان واحد وإقامتين، واختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال، الأول: أداؤهما بأذان واحد وإقامتين لحديث جابر هذا، وإليه ذهب أبو حنيفة والثوري والشافعي وأبو ثور وأحمد في رواية ومالك في رواية، وبه قال ابن القاسم وابن الماجشون وابن المواز من المالكية. والقول الثاني: بإقامتين من غير أذان، وروي ذلك عن ابن عمر. قال ابن قدامة في شرح قول الخرقي ((وإن أذن فلا بأس)) كأنه ذهب إلى أنه مخير بين أن يؤذن للأولى أو لا يؤذن. وكذا قال أحمد، لأن كلاً مروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والأذان أولى، وهو قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي – انتهى. والقول الثالث: بأذانين وإقامتين وهو الأشهر من مذهب مالك كما في الجلاب، وهو المذكور في المدونة، وروي ذلك عن ابن مسعود. قال ابن قدامة: وإتباع ما جاء في السنة أولى. واعلم أنه اشترط الحنفية للجمع بين الظهر والعصر بعرفة الجماعة فيهما والإمام الأعظم أو نائبه، بخلاف الجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة، فلم يشترطوا له الإمام ونائبه ولا الجماعة، وإليه ذهب الثوري والنخعي، ولا يشترط الإمام ولا الجماعة عند مالك والشافعي وأحمد وهو الراجح عندنا (ولم يصل بينهما شيئًا) أي من السنن والنوافل، وذلك للاستعجال بالوقوف. قال الطبري: قوله ((ثم أذن ثم أقام)) قال ابن المنذر: عرف جابر أن وقت الأذان في يوم عرفة عند فراغ الإمام من خطبته. وقال الشافعي: يخطب الخطبة الثانية مع استفتاح المؤذن بالأذان ويفرغ من فراغه، ويستدل بحديث رواه عن جابر فذكر الحديث الذي قدمناه. قال الطبري: وهذا يغاير حديث مسلم

ثم ركب حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، ـــــــــــــــــــــــــــــ من وجهين أحدهما في وقت الأذان والثاني في مكان الخطبة، فإن مسلمًا ذكر أن الخطبة كانت ببطن الوادي قبل إتيان الموقف، والشافعي ذكر أنها بعد إتيان عرفة وحديث مسلم أصح، ويترجح بوجه معقول، وهو أن المؤذنين قد أمروا بالإنصات كما أمر به سائر الناس، وكيف يؤذن من قد أمر بالإنصات؟ ثم لا يبقى للخطبة معنى، إذ يفوت المقصود منها أكثر الناس لاشتغال سمعهم بالأذان عن استماعها، قال البيهقي: وهذا التفصيل في ابتداء بلال بالأذان، وأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخطبة الثانية ففرغ من الخطبة وبلال من الأذان مما تفرد به ابن أبي يحيى، ثم ذكر الطبري رواية الملا من سيرته، وقد ذكرناها مع كلامه عليها قبل ذلك، ثم قال الطبري: وقال مالك: إن شاء يؤذن والإمام يخطب، وإن شاء يؤذن بعد الفراغ من الخطبة. وقال مرة أخرى إذا فرغ الإمام من الخطبة ابتدأ بالأذان ثم بالإقامة ثم بالصلاة. قال ابن حزم: وهذا القول الثاني عن مالك هو الصحيح الذي لا يجوز تعديه لصحته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبه نأخذ إقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا خير في مخالفته. قال الطبري: وجمعه - صلى الله عليه وسلم - بالناس بعرفة دليل على جواز الجمع في السفر القصير، إذ لم ينقل عن أحد من أهل مكة التخلف عن الصلاة معه - صلى الله عليه وسلم -، فإن الجمع بعلة النسك، وفي المسألة ثلاثة أقوال، أحدها: أنه بعلة أصل السفر، الثاني، بعلة السفر الطويل، الثالث: بعلة النسك. وقال في موضع آخر: قد اختلف أصحابنا هل كان جمعه - صلى الله عليه وسلم - بعلة مطلق السفر أو الطويل أو بعلة النسك؟ والظاهر أنه بعلة النسك حتى يجوز للآفاقي والمكي والمزدلفي والمعرفي، وعلى الأول لا يجوز للمعرفي، وعلى الثاني لا يجوز لغير الآفاقي، ولا خلاف أنه سنة، حتى لو صلى كل صلاة وحدها في وقتها جاز (ثم ركب) أي القصواء كما في رواية ابن الجارود أي وسار (حتى أتى الموقف) أي أرض عرفات، أو اللام للعهد والمراد موقفه الخاص ويؤيده قوله (فجعل بطن ناقته القصواء) بالجر (إلى الصخرات) بفتحتين، قال الطيبي: أي منتهيًا إليها، وتعقبه الأبي فقال: إن كان الوقوف على الصخرات صح هذا التقدير، والأظهر أنه تجوز بالبطن عن الوجه، والتقدير: وجعل وجه ناقته، وهذا إن كانت الصخرات في قبلته لأنه إنما وقف مستقبل القبلة. وقال القرطبي: يعني أنه علا على الصخرات ناحية منها حتى كانت الصخرات تحاذي بطن ناقته. قال الولي العراقي: لا حاجة إلى هذا لأن من وقف بحذاء صخرة على ناقة صار بطنها بحذائها أي إلى جانبها، وليس يشترط في محاذاة بطن الناقة لها أن يكون عاليًا عليها – انتهى. وقال الطبري: ظاهر قوله ((جعل بطن ناقته إلى الصخرات)) يدل على أنه كان واقفًا على الصخرات حتى يكون بطن الناقة إليها، ويؤيده ما رواه ابن إسحاق في سيرته أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((هذا الموقف)) للجبل الذي كان واقفًا عليه - انتهى. قال النووي: الصخرات حجرات مفترشات في أسفل جبل الرحمة وهو الجبل الذي بوسط أرض عرفات فهذا هو الموقف المستحب. وأما ما اشتهر بين العوام من الاعتناء بصعود الجبل وتوهمهم أنه لا يصح الوقوف إلا فيه فغلط، بل الصواب جواز الوقوف في

وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة، فلم يزل واقفًا حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلاً، حتى غاب القرص، ـــــــــــــــــــــــــــــ كل جزءٍ من أرض عرفات، وأن الفضيلة في موقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند الصخرات، فإن عجز فليقرب منه بحسب الإمكان. وأما وقت الوقوف فهو ما بين زوال الشمس يوم عرفة وطلوع الفجر الثاني من يوم النحر فمن حصل بعرفات في جزء من هذا الزمان صح وقوفه، ومن فاته ذلك فاته الحج. هذا مذهب الشافعي وجماهير العلماء، وقال مالك: لا يصح الوقوف في النهار منفردًا بل لا بد من الليل وحده، فإن اقتصر على النهار لم يصح وقوفه، وقال أحمد: يدخل وقت الوقوف من الفجر يوم عرفة، وأجمعوا على أن أصل الوقوف ركن لا يصح الحج إلا به (وجعل المشاة بين يديه) الحَبْل بفتح الحاء المهملة وسكون الباء الموحدة ثم لا هو المستطيل من الرمل، وقيل: هو التل الضخم منه والمشاة بضم الميم جمع ماشٍ، وأضيف الحبل إليه لاجتماعهم هناك من الموقف، والمراد به صف المشاة ومجتمعهم في مشيهم تشبيها بحبل الرمل. وقيل: أراد طريقهم الذي يسلكونه في الرمل. وقال النووي: روي حبل بالحاء المهملة وإسكان الباء، وروي جبل بالجيم وفتح الباء، قال القاضي عياض: الأول أشبه بالحديث، وحبل المشاة أي مجتمعهم، وحبل الرمل ما طال منه وضخم. وأما بالجيم فمعناه طريقهم، وحيث تسلك الرجالة، وتعقبه الولي العراقي بأن ما ذكره من رواية هذه اللفظة بوجهين، وترتب هذين المعنيين على هذين الوجهين لم أره في كلام القاضي لا في الإكمال ولا في المشارق ولا في كلام غيره أيضًا - انتهى. وقال الطبري: حبل المشاة بالحاء المهملة مفتوحة والباء موحدة ساكنة ثم لام أي صفهم ومجتمعهم في مشيهم، فكأنه عبر بحبل المشاة عن المشاة أنفسهم، وقد ضبطه بعضهم بالجيم وصححه شيخنا أبو عمرو بن الصلاح في منسكه، قال: وبه شهدت المشاهدة، وذكره بعض من صنف في الأمكنة المتعلقة بالحجيج وهو الظاهر – انتهى. (واستقبل القبلة) فيه أنه يستحب استقبال القبلة في الوقوف بعرفة (فلم يزل واقفًا حتى غربت الشمس) قال القاري: أي أكثرها أو كادت أن تغرب (وذهبت الصفرة قليلاً) أي ذهابًا قليلاً (حتى غاب القرص) قال القاري: أي جميعه – انتهى. هكذا هو في جميع النسخ مسلم بلفظ ((حتى)) بفوقية فتحتية، ولأبي داود (والبيهقي) ((حين)) بتحتية فنون، وقيل إنه الصواب، وهو مفهوم الكلام، ولحتى وجه قاله عياض. وقال النووي: ويحتمل أن الكلام على ظاهره ويكون قوله ((حتى غاب القرص)) بيانًا لقوله ((غربت الشمس وذهبت الصفرة)) لأن غروبها قد يطلق مجازًا على مغيب معظم القرص، فأزال ذلك الاحتمال بقوله حتى غاب القرص – انتهى. وقال القاري: قيل: صوابه حين غاب القرص، وفيه نظر إذ لا يظهر معنى لقوله ((ذهبت الصفرة قليلاً حين غاب القرص)) وكأن القائل غفل عن قيد القلة وذهل عن الرواية التي تطابق الدراية – انتهى. وفيه تنبيه على الاحتياط والمكث بعد الغروب حتى تذهب الصفرة لأجل الحائل من الجبال،

وأردف أسامة، ودفع حتى أتى المزدلفة، ـــــــــــــــــــــــــــــ وفي وقوفه - صلى الله عليه وسلم - على راحلته وإطالته الوقوف عليها دليل على إباحة ذلك مطلقًا خلافًا لمن كرهه، ويحتمل أن يكون ذلك مقصورًا على ما هو قرابة دون غيره من المباح وعلى ما خف أمره دون الأحمال الثقال والمحامل الثقيلة بالركبان المتعددة لما فيه من إتعاب الحيوان من غير ضرورة (وأردف أسامة) أي ابن زيد، وفي مسلم وغيره ((أردف أسامة خلفه)) وكذا هو في المصابيح، وسقط لفظ ((خلفه)) من جميع نسخ المشكاة. قال النووي: فيه جواز الإرداف إذا كانت الدابة مطيقة، وقد تظاهرت به الأحاديث. وقال الطبري: وإردافه - صلى الله عليه وسلم - أسامة رخصة في ركوب اثنين على بعير واحد، وأن ذلك لا ينقص من منصب الجليل شيئًا، وبيان فضل أسامة بتخصيصه بذلك دون من حضره في ذلك الوقت، وكذلك فضل الفضل في إردافه في ثاني الحال، وفضل عليٍّ باستنابته في النحر وبإشراكه في هديه (ودفع) أي ابتدأ السير ودفع نفسه ونحاها أو دفع ناقته وحملها على السير، قاله الجزري. وقال السيوطي: أي خرج من عرفات، وفي رواية ((أفاض وعليه السكينة)) وفي مسلم ((ودفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد شنق)) (بفتح الشين المعجمة والنون المخففة فقاف أي ضم وضيق) للقصواء الزمام (يعني ضم رأسها إليه وبالغ في الضم، يقال شنق لها وأشنق) حتى أن رأسها ليصيب مَوْرِك رحله (بفتح الميم وسكون الواو وكسر الراء هو الموضع الذي يثني الراكب رجله عليه قدام واسطة الرحل إذا مل من الركوب، وقال عياض: هو بفتح الراء وهو قطعة أدم محشوة تجعل في مقدم الرحل شبه المخدة الصغيرة يضع الراكب رجليه عليها متوركًا ليستريح من وضعهما في الركاب، أراد أنه قد بالغ في جذب رأسها إليه ليكفها عن السير، ورَحْله بفتح الراء وسكون الحاء المهملة. قال القسطلاني: وفي نسخة لمسلم ((رجله)) بكسر الراء بعدها جيم. قال النووي: وفي هذا استحباب الرفق في السير من الراكب بالمشاة وبأصحاب الدواب الضعيفة) ويقول بيده اليمنى (أي يشير بها) أيها الناس السكينة السكينة (بالنصب أي الزموا السكينة وهي الرفق والطمأنينة وعدم الزحمة، فالنصب على الإغراء. قال النووي: فيه أن السكينة في الدفع من عرفات سنة، فإذا وجد فرجة يسرع كما ثبت في الحديث الآخر) كلما أتى حِبلاً من الحِبال (بالحاء المهملة المكسورة جمع حبل وقد تقدم معناه) وأرخى لها قليلاً (أي أرخى للقصواء الزمام إرخاءً قليلاً أو زمانًا قليلاً) حتى تصعد (بفتح التاء المثناة فوق من صعد، وروي بضمها من أصعد يقال: صعد في الجبل وأصعد في الأرض لا غير أي ذهب وسار، ومنه قوله تعالى {إذ تصعدون} (3: 153) (حتى أتى المزدلفة) أصله مزتلفة فأبدل من التاء دال لقرب المخرج وهي موضع بين عرفة ومنى وكلها من الحرم، وهي المسماة بجَمْع – بفتح الجيم وسكون الميم وعين مهملة، وسميت جمعًا لأن آدم وحواء عليهما السلام بعد ما أهبطا إلى الأرض كل واحد في موضع اجتمعا به. وقيل: لأنه يجمع فيها بين صلاتين المغرب والعشاء. وقيل: لأن الناس يجتمعون فيها، وسميت بالمزدلفة لذلك أيضًا من الازدلاف وهو الاجتماع، وقيل:

فصلى بها المغرب والعشاء، ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنهم يزدلفون إلى الله تعالى أي يتقربون إليه بالوقوف بها. وقيل لأن آدم أزلف إلى حواء بها أي دنا وقرب منها. والازدلاف الاقتراب والتقرب والزلفة والزلفى القربة. وقيل لاقترابهم فيها من منى، يقال ((له زلفى عند فلان)) أي قربى منه. وقال النووي: المزدلفة من التزلف والازدلاف وهو التقرب، لأن الحجاج إذا أفاضوا من عرفات ازدلفوا إليها أي مضوا إليها وتقربوا منها. وقيل: سميت بذلك لمجيء الناس إليها في زلف من الليل أي ساعات. قال: والمزدلفة كلها من الحرم، وحدها ما بين مازمي عرفة ووادي محسر، وليس هذان الحدان منها. ويدخل في المزدلفة جميع تلك الشعاب والجبال الداخلة في الحد المذكور. قال الشاه ولي الله الدهلوي: إنما دفع - صلى الله عليه وسلم - من عرفات بعد الغروب ردًا لتحريف الجاهلية، فإنهم كانوا لا يدفعون إلا قبل الغروب ولأن قبل الغروب غير مضبوط وبعد الغروب أمر مضبوط، وإنما يؤمر في مثل ذلك اليوم بالأمر المضبوط. قال: والسر في المبيت بمزدلفة أنه كان سنة قديمة فيهم، ولعلهم اصطلحوا عليها لما رأوا من أن للناس اجتماعًا لم يعهد مثله في غير هذا الموطن، ومثل هذا مظنة أن يزاحم بعضهم ويحطم بعضهم بعضًا. وإنما براحهم بعد المغرب وكانوا طول النهار في تعب يأتون من كل فج عميق فلو تجشموا أن يأتوا منى والحال هذه لتعبوا (فصلى بها المغرب والعشاء) أي جمع بينهما في وقت العشاء. قال: المحب الطبري: وهذا الجمع سنة بإجماع من العلماء، وإنما اختلفوا فيما لو صلى كل صلاة في وقتها فعند أكثر العلماء يجوز. وقال الثوري وأصحاب الرأي: إن صلى المغرب دون مزدلفة فعليه الإعادة، وجوزوا في الظهر والعصر أن يصلى كل صلاة في وقتها مع كراهية – انتهي. وقال الرافعي: لو انفرد بعضهم في الجمع بعرفة أو بمزدلفة أو صلى إحدى الصلاتين مع الإمام والأخرى وحده جاز. ويجوز أن يصلى المغرب بعرفة أو في الطريق، وقال أبو حنيفة: لا يجوز ويجب الجمع بمزدلفة – انتهي. وقال النووي: في الحديث أن السنة للدافع من عرفات أن يؤخر المغرب إلى وقت العشاء، ويكون هذا التأخير بنية الجمع ثم يجمع بينهما في المزدلفة في وقت العشاء وهذا مجمع عليه، لكن مذهب أبي حنيفة وطائفة أنه يجمع بسبب النسك، ويجوز لأهل مكة والمزدلفة ومنى وغيرهم. والصحيح عند أصحابنا أنه جمع بسبب السفر فلا يجوز إلا لمسافر سفرًا يبلغ به مسافة القصر، وللشافعي قول ضعيف أنه يجوز الجمع في كل سفر وإن كان قصيرًا، وقال بعض أصحابنا: هذا الجمع بسبب النسك كما قال أبو حنيفة. قال أصحابنا ولو جمع بينهما في وقت المغرب في أرض عرفات أو في الطريق أو في موضع آخر أو صلى كل واحدة في وقتها جاز جميع ذلك لكنه خلاف الأفضل، هذا مذهبنا وبه قال جماعات من الصحابة والتابعين، وقاله الأوزاعي وأبو يوسف وأشهب وفقهاء أصحاب الحديث. وقال أبو حنيفة وغيره من الكوفيين: يشترط أن يصليهما بالمزدلفة ولا يجوز قبلها. وقال مالك: لا يجوز أن يصليهما قبل المزدلفة إلا من به أو بدابته عذر فله أن يصليهما قبل المزدلفة بشرط كونه بعد مغيب الشفق – انتهي.

بأذان واحد وإقامتين، ـــــــــــــــــــــــــــــ قلت: مذهب الحنفية على ما ذكره أصحابهم أنه يعيد مغربًا أداه في الطريق أو عرفات ما لم يطلع الفجر، هذا قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف يجزئه وقد أساء. واستدل لأبي يوسف بأنه أداها في وقتها فلا تجب إعادتها كما بعد طلوع الفجر إلا أن التأخير من السنة فيصير مسيئًا بتركه، واستدل لهما بحديث أسامة ((الصلاة أمامك)) معناه وقت الصلاة، قالوا: وبه يفهم وجوب التأخير، وإنما وجب ليمكنه الجمع بين الصلاتين بالمزدلفة فكان عليه الإعادة ما لم يطلع الفجر ليصير جامعًا بينهما، وإذا طلع الفجر لا يمكنه الجمع فتسقط الإعادة – انتهي. وقال الجمهور: معني قوله ((الصلاة أمامك)) أي موضع صلاة المغرب والعشاء أمامك وهو المزدلفة، وهو محمول عندهم على الأولوية (بأذان واحد وإقامتين) قال النووي: فيه أنه يصلي صلاة المغرب والعشاء في وقت العشاء بأذان للأولى وإقامتين لكل واحدة إقامة، وهذا هو الصحيح عند أصحابنا، وبه قال أحمد وأبو ثور وابن الماجشون المالكي والطحاوي الحنفي. وقال مالك: يؤذن ويقيم للأولي ويؤذن ويقيم أيضًا للثانية، وهو محكي عن ابن عمر وابن مسعود، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: بأذان واحد وإقامة واحدة، وللشافعي وأحمد قول أنه يصلي كل واحدة بإقامتها بلا أذان. وقال الثوري: يصليهما جميعًا بإقامة واحدة وهو يحكى أيضًا عن ابن عمر – انتهي. وقال الزبيدي في شرح الإحياء بعد ذكر حديث جابر الطويل عند مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بالمزدلفة المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ما نصه: وهو قول أحمد وأصح قولي الشافعي وغيرهما من العلماء، وبه قال زفر من أصحابنا واختاره الطحاوي، ورجحه ابن الهمام، واستدلوا بحديث جابر هذا. وقال أبو حنيفة: بأذان واحد وإقامة واحدة لما أخرج أبو داود من حديث أشعث بن أبي الشعثاء عن أبيه قال: أقلبت مع ابن عمر من عرفات إلى المزدلفة فأذن وأقام أو أمر إنساناً فأذن وأقام فصلى بنا المغرب ثلاث ركعات ثم التفت إلينا فقال: الصلاة، فصلى بنا العشاء ركعتين، فقيل له في ذلك، فقال: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - هكذا. وأخرج الطبراني عن أبي أيوب الأنصاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة بأذان واحد وإقامة واحدة، ثم ذكر الزبيدي ما رواه مسلم من حديث ابن عمر في الجمع بين الصلاتين بإقامة واحدة وما رواه أبو الشيخ من حديث ابن عباس كذلك. قال ابن الهمام: فقد علمت ما في هذا من التعارض فإن لم يرجع ما اتفق عليه الصحيحان على ما انفرد به مسلم وأبو داود حتى تساقطا، كان الرجوع إلى الأصل يوجب تعدد الإقامة بتعدد الصلاة كما في قضاء الفوائت بل أولى لأن الصلاة الثانية هنا وقتية، فإذا أقيم للأولى المتأخرة عن وقتها المعهود كانت الحاضرة أولى أن يقام لها بعدها. وقال مالك: بأذانين وإقامتين، واحتج بفعل ابن مسعود أخرجه أحمد والبخاري وابن أبي شيبة، ولفظ الأخير ((فلما أتي جمعًا أذن وأقام فصلى المغرب ثلاثاً ثم تعشى ثم أذن وأقام فصلى العشاء ركعتين)) ومنهم من قال: يجمع بينهما بإقامتين دون أذان واحتجوا بما رواه البخاري عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى المغرب والعشاء بجمع، كل واحدة بإقامة ولم يسبح بينهما ولا على أثر كل

ولم يسبح بينهما شيئًا، ـــــــــــــــــــــــــــــ واحدة منهما، وأخرجه أبو داود وقال: ولم يناد في الأولى. وفي رواية عنده أيضًا ((ولم يناد في واحدة منهما)) وحكى البغوي والمنذري أن هذا قول الشافعي وإسحاق بن راهويه، وحكى غيرهما أن أصح قولي الشافعي أنه يجمع بينهما بأذان وإقامتين ومنهم من قال: بإقامة واحدة دون أذان، ودليلهم ما رواه الشيخان والنسائي عن ابن عمر أنه صلى بجمع المغرب والعشاء بإقامة واحدة ثم انصرف فقال هكذا صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا المكان، وأخرجه أبو داود وزاد بعد قوله ((بإقامة واحدة)) ((ثلاثًا واثنين)) وبه قال سفيان الثوري وقال: أيهما فعلت أجزأك. قال المحب الطبري بعد ذكر هذه الروايات ما لفظه: وهذه الأحاديث المختلفة في هذا الباب توهم التضاد والتهافت، وقد تعلق كل من قال بقول منها بظاهر ما تضمنه ويمكن الجمع بين أكثرها فنقول قوله ((بإقامة واحدة)) أي لكل صلاة أو على صفة واحدة لكل منهما، ويتأيد برواية من صرح بإقامتين، ثم نقول: المراد بقول من قال كل واحدة يإقامة، أي ومع إحداهما أذان، تدل عليه رواية من صرح بأذان وإقامتين، وأما قول ابن عمر لما فرغ من المغرب ((الصلاة)) قد يوهم الاكتفاء بذلك دون إقامة، ويتأيد برواية من روى أنه صلاهما بإقامة واحدة، فنقول: يحتمل أنه قال ((الصلاة)) تنبيهًا لهم عليها لئلا يشتغلوا عنها بأمر آخر، ثم أقام بعد ذلك أو أمر بالإقامة، وليس في الحديث أنه اقتصر على قوله الصلاة ولم يقم، ونقول: العمدة من هذه الأحاديث كلها حديث جابر دون سائر الأحاديث، لأن من روى أنه جمع بإقامة معه زيادة علم على من روى الجمع دون أذان ولا إقامة، وزيادة الثقة مقبولة، ومن روى بإقامتين فقد أثبت ما لم يثبته من روى بإقامة فقضى به عليه، ومن روى بأذان وإقامتين وهو حديث جابر وهو أتم الأحاديث فقد أثبت ما لم يثبته من تقدم ذكره فوجب الأخذ به والوقوف عنده، ولو صح حديث مسند عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل حديث ابن مسعود الذي أخذ به مالك من أذانين وإقامتين لوجب المصير إليه لما فيه من إثبات الزيادة، ولكن لا سبيل إلى التقدم بين يدي الله ورسوله ولا إلى الزيادة على ما صح عنه - صلى الله عليه وسلم - انتهى. وقال ابن حزم: وأشد الاضطراب في ذلك عن ابن عمر فإنه روي عنه من عمله الجمع بينهما بلا أذان ولا إقامة، وروي عنه أيضًا بإقامة واحدة، وروي عنه موقوفاً بأذان واحد وإقامة واحدة، وروي عنه مسندًا الجمع بينهما بإقامتين، وروي عنه مسندًا بأذان واحد وإقامة واحدة – انتهى. وقد ظهر مما ذكرنا من كلام الزبيدي وابن الهمام والطبري وابن حزم أن الروايات في هذا الباب مختلفة جدًا وقد تقدم وجه التطبيق والجمع بينهما ورجحان وحدة الأذان لإقامة في الجمع بين الصلاتين بالمزدلفة (ولم يسبح بينهما شيئًا) أي لم يصل بين المغرب والعشاء شيئًا من النوافل والسنن. والنافلة تسمى سبحة لاشتمالها على التسبيح ففيه المولاة بين الصلاتين المجموعتين. وقد ورد الفصل بينهما بإناخة كل إنسان بعيره في حديث أسامة عند الشيخين وهذا لا ينافي الموالاة. وأما سنة المغرب

ثم اضطجع حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، ـــــــــــــــــــــــــــــ وراتبة العشاء فلم يرد ذكرها في حديث خلافًا لما هو المعتمد عند الحنفية (ثم اضطجع) أي للنوم تقوية للبدن ورحمة للأمة، لأن في نهاره عبادات كثيرة يحتاج إلى النشاط فيها (حتى طلع الفجر) قال في المواهب وشرحه: وترك عليه السلام قيام الليل تلك الليلة ونام حتى أصبح لما تقدم له من الأعمال بعرفة من الوقوف من الزوال إلى ما بعد الغروب، واجتهاده عليه السلام في الدعاء وسيره بعد الغروب إلى المزدلفة، واقتصر فيها على صلاة المغرب والعشاء قصرًا لها وجمعًا لهما جمع تأخير، ورقد بقية ليلته مع كونه عليه السلام كان يقوم الليل حتى تورمت قدماه، ولكنه أراح نفسه الشريفة لما تقدم في عرفة من التعب، وقد قال: إن لجسدك عليك حقًا. ولما هو بصدده يوم النحر من كونه نحر بيده الشريفة ثلاثًا وستين بدنة، وباقي المائة نحره عليّ، وذهب إلى مكة لطواف الإفاضة ورجع إلى منى – انتهى. قال القاري: ثم المبيت عندنا سنة وعليه بعض المحققين من الشافعية، وقيل: واجب، وهو مذهب الشافعي، وقيل: ركن لا يصح الحج إلا به كالوقوف بعرفة وعليه جماعة من الأجلة. وقال مالك: النزول واجب والمبيت سنة، وكذا الوقوف بعده ثم المبيت بمعظم الليل، والصحيح أنه بحضور لحظة بالمزدلفة – انتهى. وقال النووي: بمزدلفة ليلة النحر بعد الدفع من عرفات نسك، وهذا مجمع عليه، لكن اختلف العلماء هل هو واجب أم ركن أم سنة؟ والصحيح من قولي الشافعي أنه واجب، لو تركه أثم وصح حجمه ولزمه دمه. والثاني أنه سنة لا إثم في تركه ولا يجب فيه دم ولك يستحب. وقال جماعة من أصحابنا: هو ركن لا يصح الحج إلا به كالوقوف بعرفات، قاله من أصحابنا ابن بنت الشافعي وأبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، وقاله خمسة من أئمة التابعين وهم علقمة والأسود والشعبي والنخعي والحسن البصري، والله أعلم. والسنة أن يبقى بالمزدلفة حتى يصلي بها الصبح إلا الضعفة، فالسنة لهم الدفع قبل الفجر كما سيأتي في موضعه وفي أقل المجزئ من هذا المبيت ثلاثة أقوال عندنا، الصحيح: ساعة في النصف الثاني من الليل، والثاني: ساعة في النصف الثاني أو بعد الفجر قبل طلوع الشمس، والثالث: معظم الليل (فصلى الفجر حين تبين له الصبح) أي ظهر له. قال النووي: فيه أن السنة أن يبالغ بتقديم صلاة الصبح في هذا الموضع ويتأكد التبكير بها في هذا اليوم أكثر من تأكده في سائر السنة للإقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولأن وظائف هذا اليوم كثيرة، فسن المبالغة بالتكبير للصبح ليتسع الوقت للوظائف (ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام) زاد في رواية أبي داود وابن ماجة وابن الجارود والبيهقي ((فرقى عليه)) والمشعر بفتح الميم والعين كما في القرآن، وقيل بكسر الميم، موضع خاص من المزدلفة، سمي بالمشعر لأنه معلم للعادة، والحرام لأنه من الحرم أو لحرمته. قال النووي: المَشعر بفتح الميم هذا هو الصحيح وبه جاء القرآن، وتظاهرت

.............................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ به روايات الحديث، ويقال أيضًا بكسر الميم، والمراد به هنا قزح بضم القاف وفتح الزاي وبحاء مهملة وهو جبل معروف في المزدلفة، وهذا الحديث حجة الفقهاء في أن المشعر الحرام هو قزح، وقال جماهير المفسرين وأهل السير والحديث: المشعر الحرام جميع المزدلفة – انتهى. وقال المحب الطبري (ص 126) : في قوله ((حتى أتى المشعر الحرام)) حجة لمن قال: المشعر الحرام هو الجبل الصغير المعروف بالمزدلفة يقال له قزح، والأفصح في المشعر فتح الميم، وأكثر كلام العرب بكسرها، ولا نعرف الكسر في القراءة إلا شاذًا – انتهى. وقد روى الشيخان من حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف بالمزدلفة وقال: وقفت ها هنا ومزدلفة كلها موقف. وروى أبو داود والترمذي وصححه من حديث عليّ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أصبح يجمع أتى قزح فوقف عليه، وقال: هذا قزح وهو الموقف وجمع كلها موقف. وروى سعيد بن منصور من حديث ابن عمر: أنه رأى ناسًا يزدحمون على الجبل الذي يقف عليه الإمام، فقال: يا أيها الناس! لا تشقوا على أنفسكم، ألا إن ما ها هنا مشعر كله. وعنه قال: المشعر الحرام المزدلفة كلها. أخرجه أبو ذر، ذكر هذه الأحاديث الطبري (ص 379) ثم قال حديث ابن عمر هذا مصرح بأن المشعر الحرام هو المزدلفة، وكذلك تضمنه كثير من كتب التفسير في قوله تعالى {فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام} (2: 198) وحديث عليّ وجابر يدلان على أن قزح هو المشعر الحرام وهو المعروف في كتب الفقه، فتعين أن يكون في أحدهما حقيقة وفي الآخر مجازًا دفعًا للاشتراك، إذ المجاز خير منه، فترجح احتماله عند التعارض فيجوز أن يكون حقيقة في قزح، فيجوز إطلاقه على الكل لتضمنه إياه، وهو أظهر الاحتمالين في الآية، فإن قوله تعالى ((عند المشعر الحرام)) يقضي أن يكون الوقوف في غيره وتكون المزدلفة كلها عنده، لما كانت كالحريم له، ولو أريد بالمشعر الحرام المزدلفة لقال: في المشعر الحرام، ويجوز أن يكون حقيقة في المزدلفة كلها، وأطلق على قزح وحده تجوزًا لاشتمالها عليه، وكلاهما وجهان من وجوه المجاز، أعني إطلاق اسم الكل على البعض، وبالعكس. وهذا القائل يقول: حروف المعاني يقوم بعضها مقام بعض، فقامت ((عند)) مقام ((في)) ومنه ((ولهم اللعنة)) أي عليهم، وفي الحديث والأثر ما يصدق كل واحد من الاحتمالين، وقزح موضع من المزدلفة وهو موقف قريش في الجاهلية، إذ كانت لا تقف بعرفة. وقال الجوهري: قزح اسم جبل بالمزدلفة. قال الطبري: وقد بني عليه بناء، فمن تمكن من الرقي عليه رقى، وإلا وقف عنده مستقبل القبلة، فيدعو ويكبر ويهلل ويوحد ويكثر من التلبية إلى الإسفار، ولا ينبغي أن يفعل ما تطابق عليه الناس اليوم من النزول بعد الوقوف من درج في وسطه ضيقة يزدحم الناس على ذلك حتى يكاد يهلك بعضهم بعضًا، وهو بدعة شنيعة بل يكون نزوله من حيث رقيه من الدرج الظاهرة الواسعة. وقد ذكر ابن الصلاح في منسكه: أن قزح جبل صغير آخر المزدلفة، ثم قال أي ابن الصلاح بعد ذلك: وقد استبدل الناس بالوقوف على الموضع الذي ذكرناه الوقوف على بناء مستحدث في وسط المزدلفة، ولا تتأدى به هذه

فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفًا حتى أسفر جدًا، ـــــــــــــــــــــــــــــ السنة، هذا آخر كلامه، والظاهر أن البناء إنما هو على الجبل كما تقدم ذكره، ولم أر ما ذكره لغيره – انتهى كلام الطبري. (فاستقبل القبلة) يعني الكعبة (فدعاه) وفي لفظ ((فحمد الله)) أخرجه أبو داود وابن ماجة وابن الجارود والبيهقي. قال المحب الطبري: يستحب للحاج أن يدعو بدعاء ابن عمر المتقدم في فصل ركعتي الطواف وبعد السعي، يريد بذلك ما رواه أبو ذر عن ابن عمر أنه كان إذا قدم حاجًا طاف بالبيت سبوعًا ثم صلى ركعتين يطيل فيهما الجلوس فيكون جلوسه أطول من قيامه لمدحه ربه وطلبه حاجته، يقول مرارًا: اللهم اعصمني بدينك وطاعتك وطواعية رسولك، اللهم جنبني حدودك، اللهم اجعلني ممن يحبك، ويحب ملائكتك، ويحب رسلك، ويحب عبادك الصالحين. اللهم حببني إليك وإلى ملائكتك وإلى رسلك وإلى عبادك الصالحين. اللهم يسرني لليسرى، وجنبني العسرى، واغفر لي في الآخرة والأولى. اللهم اجعلني أوف بعهدك الذي عاهدت عليه واجعلني من أئمة المتقين ومن ورثة جنة النعيم، واغفر لي خطيئتي يوم الدين. وكان يقول ذلك على الصفا والمروة وبعرفات وبجمع وعلى الجمرتين وفي الطواف. قال الطبري: وفي رواية بعد قوله ((واغفر لي خطيئتي يوم الدين)) : اللهم إنك قلت: ادعوني استجب لكم وإنك لا تخلف الميعاد، اللهم إذ هديتني للإسلام فلا تنزعني منه ولا تنزعه مني حتى تتوفاني عليه وقد رضيت عني، اللهم لا تقدمني لعذاب ولا تؤخرني لسيء العيش. أخرجه سعيد بن منصور، وأخرج مالك طرفًا منه، وأخرجه بكماله ابن المنذر (وكبره) أي قال: الله أكبر (وهلَّلَه) أي قال: لا إله إلا الله (ووحده) أي قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلخ. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أحق من يعمل بقوله تعالى: {فاذكروا الله عن المشعر الحرام واذكروه كما هداكم} (2: 198) (فلم يزل واقفًا) فيه أن الوقوف على قزح من مناسك الحج وهذا لا خلاف فيه. قال الشاه ولي الله الدهلوي: وإنما شرع الوقوف بالمشعر الحرام لأنه كان أهل الجاهلية يتفاخرون ويتراؤن فأبدل من ذلك إكثار ذكر الله ليكون كابحاً عن عادتهم ويكون التنويه بالتوحيد في ذلك المواطن كالمنافسة،كأنه قيل: هل يكون ذكركم الله أكثر أو ذكر أهل الجاهلية مفاخرهم أكثر؟ (حتى أسفر جدًا) أي أضاء الفجر إضاءة تامة، فالضمير في أسفر يعود إلى الفجر المذكور أولاً، وقوله ((جدًا)) بكسر الجيم أي إسفارًا بليغًا. قال المحب الطبري: هذا كمال السنة في المبيت بالمزدلفة، وعليه اعتمد من أوجب ذلك. وقال أبو حنيفة: إذا لم يكن بها بعد طلوع الفجر لزمه دم إلا لعذر من ضعف أو غيره، فإن كان بها أجزأه وإن لم يكن قبله، وهو ظاهر ما نقله البغوي عن مالك وأحمد، وفي وجوب المبيت عندنا قولان الأصح وجوبه، والمعتمد فيه أدنى جزء بعد نصف الليل إلى طلوع الفجر هذا هو المشهور، وللشافعي قول آخر ((إلى طلوع الشمس)) فمن كان بها فيه فلا شيء عليه وإن لم يكن قبله، ومن دفع قبله فعليه دم على الأصح – انتهى. وقال ابن عابدين: الوقوف عند المشعر الحرام واجب عندنا لا سنة

فدفع قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن عباس، حتى أتى بطن محسر فحرك قليلاً، ـــــــــــــــــــــــــــــ والبيتوتة بمزدلفة سنة مؤكدة إلى الفجر لا واجبة خلافاً للشافعي فيهما كما في اللباب (فدفع) أي ذهب إلى منى (قبل أن تطلع الشمس) هذا صريح في أنه - صلى الله عليه وسلم - ذهب إلى منى قبل طلوع الشمس، وبه أخذ الجمهور. قال النووي: قال ابن مسعود وابن عمر وأبو حنيفة والشافعي وجماهير العلماء: لا يزال واقفًا فيه يدعو ويذكر حتى يسفر الصبح جدًا كما في الحديث. وقال مالك: يدفع منه قبل الإسفار. قال الطبري: قال أهل العلم: وهذه سنة الإسلام أن يدفع من المزدلفة عند الإسفار قبل طلوع الشمس. قال طاوس: كان أهل الجاهلية يدفعون من عرفة قبل أن تغيب الشمس ومن المزدلفة بعد أن تطلع الشمس، ويقولون: أشرق ثبير كيما نغير، فأخر الله هذه وقدم هذه. قال الشافعي: يعني قدم المزدلفة قبل أن تطلع الشمس وأخر عرفة إلى أن تغيب الشمس (وأردف الفضل بن عباس) أي بدل أسامة (حتى أتي بطن محسر) بضم الميم وفتح الحاء وكسر السين المشددة المهملتين، اختلفوا في محسر فقيل: هو واد بين مزدلفة ومنى. قال ابن القيم: ومحسر برزخ بين منى ومزدلفة لا من هذه ولا من هذه. وقيل: ما صب منه في المزدلفة فهو منها، وما صب منه في منى فهو منها، وصوبه بعضهم. وقد جاء ((ومزدلفة كلها موقف إلا بطن محسر)) فيكون على هذا قد أطلق بطن محسر، والمراد منه ما خرج من مزدلفة، وإطلاق اسم الكل على البعض جائز مجازًا شائعًا. وقال الطحاوي: ليس وادي محسر من منى ولا من المزدلفة، فالاستثناء في قوله ((إلا وادي محسر)) منقطع. قال الطبري: سمي بذلك لأنه حسر فيه قيل أصحاب الفيل أي أعيي، وقيل: لأنه يحسر سالكيهم ويتعبهم، يقال حسرت الناقة أتعبتها، وأهل مكة يسمون هذا الوادي وادي النار، يقال: أن رجلاً اصطاد فيه فنزلت نار فأحرقته (فحرك قليلاً) أي حرك ناقته وأسرع السير قليلاً. قال النووي: هي سنة من سنن السير في ذلك الموضع. قال أصحابنا: يسرع الماشي ويحرك الراكب دابته في وادي محسر ويكون ذلك قدر رمية بحجر – انتهى. قال الشافعي في الأم: وتحريكه - صلى الله عليه وسلم - الراحلة فيه يجوز أن يكون فعل ذلك لسعة الموضع. قال الطبري: وهكذا كل من خرج من مضيق في قضاء جرت العادة بتحريكه فيه، وقيل يجوز أن يكون فعله لأنه مأوى الشياطين. وقيل لأنه كان موقفًا للنصارى فاستحب الإسراع فيه. وقال الأسنوي: وظهر لي معنى آخر في حكمة الإسراع وهو أنه مكان نزل فيه العذاب على أصحاب الفيل القاصدين هدم البيت فاستحب فيه الإسراع لما ثبت في الصحيح أمره المار على ديار ثمود ونحوهم بذلك. قال ابن القيم: وهذه كانت عادته - صلى الله عليه وسلم - في المواضع التي نزل فيها بأس الله بأعدائه وكذلك فعل في سلوكه الحجر وديار ثمود، تقنع بثوبه وأسرع السير – انتهى. وقال الشاه ولى الله الدهلوي: إنما أوضع بالمحسر لأنه محل هلاك أصحاب الفيل فمن شأن من خاف الله وسطوته أن يستشعر الخوف في ذلك الموطن ويهرب من الغضب، ولما

ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة، فرماها ـــــــــــــــــــــــــــــ كان استشعاره أمرًا خفيًا ضبط بفعل ظاهر مذكر له منبه للنفس عليه - انتهى. قال الزرقاني: وهذا الجواب أي ما قاله الطبري وابن القيم والأسنوي في وجه التسمية بمحسر وفي حكمة الإسراع فيه مبني على قول الأصح خلافه، وهو أن أصحاب الفيل لم يدخلوا الحرم وإنما أهلكوا قرب أوله. وقال القاري: المرجح عند غير هؤلاء أنهم لم يدخلوه، وإنما أصابهم العذاب قبيل الحرم قرب عرفة فلم ينج منهم إلا واحد أخبر من ورائهم (ثم سلك الطريق الوسطي) وهي غير طريق ذهابه إلى عرفات، وذلك كان بطريق ضب، وهذا طريق المازمين وهما جبلان. قال النووي: فيه أن سلوك هذا الطريق في الرجوع من عرفات سنة، وهو غير الطريق الذي ذهب فيه إلى عرفات. وهذا معنى قول أصحابنا يذهب إلى عرفات في طريق ضب، ويرجع في طريق المازمين ليخالف الطريق تفاؤلاً بغير الحال كما فعل - صلى الله عليه وسلم - في دخول مكة حين دخلها من الثنية العليا وخرج من الثنية السفلى، وخرج إلى العيد في طريق ورجع في طريق آخر، وحول ردائه في الاستسقاء (التي تخرج) وفي رواية النسائي وأبي داود والدارمي وابن ماجة وابن الجارود والبيهقي ((التي تخرجك)) (على الجمرة الكبرى) قال النووي: الجمرة الكبرى هي العقبة وهي الجمرة التي عند الشجرة (حتى أتى) عطف على سلك أي حتى وصل (الجمرة التي عند الشجرة) أي جمرة العقبة، هذا يدل على أنه كان إذ ذاك هناك شجرة (فرماها) أي ضحى كما في رواية. أعلم أنه ذكر الغزالي في الإحياء ما يدل على أن رمى الجمار أمري تعبدي والعقل والنفس معزولان فيه كغالب أعمال الحجاج، وهو الذي صرح به العارفون في كتبهم، وربما يفهم منه أنه غير معقول المعنى، وليس إلا التعبد والتشبه بإبراهيم عليه السلام فقط. قال الزبيدي متعقبًا على كلام الغزالي: وهو ليس على ظاهره، فإن رمى الجمار اعتبار لأهله في سياقه غموض ودقة، ثم ذكره على سبيل الإجمال. من شاء الوقوف عليه فليرجع إلى شرح الإحياء وقال الشاه ولى الله الدهلوي: والسر في رمى الجمار ما ورد في نفس الحديث من أنه إنما جعل لإقامة ذكر الله عز وجل، وتفصيله أن أحسن أنواع توقيت الذكر وأكملها وأجمعها لوجوه التوقيت أن يوقت بزمان وبمكان ويقام معه ما يكون حافظًا لعدده محققًا لوجوده على رؤوس الأشهاد حيث لا يخفى شيء، وذكر الله نوعان يقصد به الإعلان بانقياده لدين الله، والأصل فيه اختيار مجامع الناس دون الإكثار، ومنه الرمي، ولذلك لم يؤمر بالإكثار هناك، ونوع يقصد به انصباغ النفس بالتطلع للجبروت، وفيه الإكثار، وأيضًا ورد في الأخبار ما يقتضى أنه سنة سنها إبراهيم عليه السلام حين طرد الشيطان، ففي حكاية مثل هذا الفعل تنبيه للنفس أي تنبيه - انتهى. قال النووي: في حديث أن السنة للحاج إذا دفع من مزدلفة فوصل منى أن يبدأ بجمرة العقبة ولا يفعل شيئاً قبل رميها، ويكون ذلك قبل نزوله. وأما حكم الرمي فالمشروع منه يوم النحر رمى جمرة العقبة لا غير بإجماع المسلمين وهو نسك بإجماعهم. ومذهبنا أنه

بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها، مثل حصى الخذف ـــــــــــــــــــــــــــــ واجب ليس بركن، فإن تركه حتى فاتته أيام الرمي عصى ولزمه دم وصح حجه، وقال مالك: يفسد حجه (بسبع حصيات) فيه أن الرمي بسبع حصيات. قال النووي: ويجب رميها بسبع حصيات، فلو بقيت منهن واحدة لم يكفه الست – انتهى. وعند الحنفية إذا ترك أكثر السبع لزمه دم كما لو لم يرم أصلاً، وأن ترك أقل منه كثلاث فما دونها فعليه لكل حصاة صدقة ولا يشترط الموالاة بين الرميات بل يسن ويكره تركها. قال النووي: ولا يجوز عند الشافعي والجمهور الرمي بالكحل والزرنيخ والذهب والفضة وغير ذلك مما يسمى حجراً وجوزه أبو حنيفة بكل ما كان من أجزاء الأرض أي من جنسها كالحجر والمدر والتين والمغرة، وكل ما يجوز التيمم به (يكبر مع كل حصاة منها) قال النووي: فيه أنه يسن التكبير مع كل حصاة، وفيه أنه يجب التفريق بين الحصيات فيرميهن واحدة واحدة، فإن رمى السبعة رمية واحدة حسب ذلك كله حصاة واحدة عندنا وعند الأكثرين، وموضع الدلالة لهذه المسألة قوله ((يكبر مع كل حصاة فهذا تصريح بأنه رمى كل حصاة وحدها مع قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآتي بعد هذا في أحاديث الرمي " لتأخذوا عنى مناسككم " انتهى. (مثل حصى الخَذْف) بفتح الخاء وسكون الذال المعجمتين. قال في النهاية: الخذف هو رميك حصاة أو نواة تأخذها بين سبابتيك وترمي بها. والمراد بيان مقدار الحصى التي يرمي بها في الصغر والكبر، وفسروا حصى الخذف بقدر حبة الباقلاء. قال النووي: فيه أن قدر الحصيات بقدر حصى الخذف وهو نحو حبة الباقلاء، وينبغي أن لا يكون أكبر ولا أصغر، فإن كان أكبر أو أصغر أجزأه بشرط كونه حجرًا. وقال المحب الطبري: قال عطاء بن أبي رباح حصى الخذف مثل طرف الإصبع. وقال الشافعي: هو أصغر من الأنملة طولاً وعرضًا، ومنهم من قال: كقدر النواة، ومنهم من قال: بقدر الباقلاء. وفيه تنبيه على استجاب الرمي بذلك – انتهى. وقوله ((مثل حصى الخذف)) هكذا في جميع النسخ من المشكاة والمصابيح، وهكذا وقع عند بعض رواة مسلم وكذا رواه أبو داود والبيهقي، ووقع في أكثر نسخ مسلم ((يُكَبِّرُ مع كل حصاة منها حصى الخذف)) أي بغير لفظة مثل، وكذا وقع عند ابن الجارود وكذا نقله المحب الطبري. قال الطيبي: حصى الخذف بدل من الحصيات. وقال النووي: هكذا هو في النسخ، وكذا نقله القاضي عياض عن معظم النسخ. قال: وصوابه ((مثل حصى الخذف)) قال: وكذلك رواه غير مسلم، وكذا رواه بعض رواة مسلم، هذا كلام القاضي. قلت: والذي في النسخ من غير لفظة مثل هو الصواب بل لا يتجه غيره ولا يتم الكلام إلا كذلك، ويكون قوله (حصى الخذف)) متعلقًا بحصيات، أي رماها بسبع حصيات حصى الخذف يكبر مع كل حصاة، فحصى الخذف متصل بحصيات، واعترض بينهما ((يكبر مع كل حصاة)) وهذا هو الصواب والله أعلم – انتهى كلام النووي. قال القاري بعد نقل كلام النووي: وعندي أن اتصال حصى الخذف بقوله مع كل حصاة أقرب لفظًا وأنسب

رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثًا وستين بدنة بيده، ثم أعطى عليًا فنحر ما غبر، وأشركه في هديه، ـــــــــــــــــــــــــــــ معنى، ومع هذا الاعتراض ولا تخطئة على إحدى النسختين، فإن تعلقه بحصاة أو حصيات لا ينافي وجود مثل لفظًا أو تقديرًا، غايته أنه إذا كان موجودًا فهو واضح معنى وإلا فيكون من باب التشبيه البليغ، وهو حذف أداة التشبيه أي كحصى الخذف بل لا يظهر للتعلق غير هذا المعنى. فالروايتان صحيحتان، وما سيأتي في الحديث عن جابر رواه الترمذي بلفظ ((وأمرهم أن يرموا بمثل حصى الخذف)) وروى مسلم عنه بلفظ ((رمى الجمرة بمثل حصى الخذف)) يرجح وجود المثل ويؤيد تقديره، والله تعالى أعلم بالصواب (رمى من بطن الوادي) قال القاري: بدل من قوله ((فرماها)) أو استيناف مبين وهو الأظهر. قال النووي: فيه أن السنة أن يقف للرمي في بطن الوادي بحيث يكون منى وعرفات والمزدلفة عن يمينه ومكة عن يساره، وهذا هو الصحيح الذي جاءت به الأحاديث الصحيحة، وقيل يقف مستقبل الكعبة وكيفما رمى أجزأه (ثم انصرف) أي رجع عن جمرة العقبة (إلى المَنْحر) بفتح الميم أي موضع النحر، قال الزرقاني: موضع معروف بمنى وكلها منحر كما في الحديث. قال ابن التين: منحر النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الجمرة الأولى التي تلي المسجد، فللنحر فيه فضيلة على غيره لقوله ((هذا المنحر وكل منى منحر)) . وقال عياض: فيه دليل على أن المنحر موضع معين من منى. وحيث يذبح منها أو من الحرم أجزأه (فنحر ثلاثًا وستين بدنة بيده) قال القاري: الظاهر أن لفظ المشكاة جمع بين الروايتين، فإن الرواية الصحيحة ((ثلاثًا وستين بيده)) بدون لفظة بدنة، قال النووي: هكذا هو في النسخ ثلاثًا وستين بيده، وكذا نقله القاضي عن جميع الرواة سوى ابن ماهان، فإنه رواه بدنة. قال: وكلاهما صواب، الأول أصوب. قلت: وكلاهما حري فنحر ثلاثًا وستين بدنة بيده. وقال المحب الطبري: قوله: ((ثلاثًا وستين بيده)) فيه دليل على استحباب ذبح المرء نسيكته بيده، وعند ابن ماهان بدنة مكان بيده، وكل صواب، وبيده أصوب، لقوله ((ثم أعطى عليًا فنحر ما غبر)) ويجوز أن يقال بدنة أصوب لأن قوله ((بيده)) لا يفيد أن المنحور بدن أو غيرها بخلاف قوله بدنة، وإسناد الفعل إليه يفيد أنه فعل بنفسه من حيث الظاهر فلا حاجة إلى قوله بيده، وذكر بعض أهل المعاني أن نحر النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثًا وستين بيده إشارة إلى منتهى عمره، ويكون قد أهدى من كل عام بدنة – انتهى. وقال الشاه ولي الدين الدهلوي: إنما نحر بيده هذا العدد ليشكر ما أولاه الله في كل سنة من عمره ببدنة (ثم أعطى) أي بقية البدن (عليًا فنحر) أي عليّ (ما غَبَر) بفتح المعجمة والموحدة وبالراء أي ما بقي من المائة (وأشركه) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - عليًا (في هديه) أي في نفس الهدي، ويحتمل أنه أشركه في نحره، قال النووي: ظاهره أنه شاركه في نفس الهدي، قال القاضي عياض: وعندي أنه لم يكن تشريكًا حقيقة بل أعطاه قدرًا يذبحه – انتهى. وفيه جواز الاستنابة في ذبح الهدي، وذلك جائز بالإجماع إذا

............................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ كان النائب مسلمًا، وفيه استحباب تعجيل ذبح الهدايا وإن كانت كثيرة في يوم النحر ولا يؤخر بعضها إلى أيام التشريق قاله النووي. وقد روى أبو داود عن عليّ لما نحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدنه فنحر ثلاثين بيده وأمرني فنحرت سائرها، وفيه محمد بن إسحاق وقد عنعن، وبه أعله المنذري. وروى أبو داود أيضًا عن غرفة (بغين معجمة مفتوحة، وقيل مهملة وهو وهم، وقال الخزرجي: بضم أوله وإسكان ثانيه، وقال الفتني في المغني: بغين وراء وفاء مفتوحات) بن الحارث الكندي: شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع وأتى بالبدن فقال: ادعو لي أبا حسن، فدعي له عليّ، فقال: خذ بأسفل الحربة وأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأعلاها، ثم طعنا بها البدن، فلما فرغا ركب بغلته وأردف عليًا، وجمع الولي العراقي باحتمال أنه - صلى الله عليه وسلم - انفرد بنحر ثلاثين بدنة، وهي التي ذكرت في حديث عليّ، واشترك هو وعليّ في نحر ثلاث وثلاثين بدنة، وهي المذكورة في حديث غرفة، وقول جابر ((نحر ثلاثًا وستين)) مراده كل ما له دخل في نحره إما منفردًا به أو مع مشاركة عليّ، وجمع الحافظ بين حديثي عليّ وجابر بأنه - صلى الله عليه وسلم - نحر ثلاثين ثم أمر عليًا أن ينحر فنحر سبعًا وثلاثين، ثم نحر - صلى الله عليه وسلم - ثلاثًا وثلاثين، قال: فإن ساغ هذا وإلا فما في الصحيح أصح أي مع مشاركة عليّ ليلئم مع حديث غرفة وإن لم يذكره. وقال عياض: الظاهر أنه - صلى الله عليه وسلم - نحر البدن التي جاءت معه من المدينة وكانت ثلاثًا وستين كما رواه الترمذي، وأعطى عليًا البدن التي جاءت معه من اليمن وهي تمام المائة. وقال الطبري بعد ذكر حديث غرفة: يجوز أن يكون هذا في غير المائة المذكورة أو يكون في الثلاث وستين منها، وأضيف الفعل إليه - صلى الله عليه وسلم - لأن من مسك بأعلى الحربة كان هو المتمكن من النحر دون الآخر والله أعلم. وقد روى أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحر في حجته سبع بدنات. أخرجه البخاري. وذكره ابن حزم وقال في الجمع بين الأحاديث: يخرجوا هذا على وجوه، أحدها، أنه - صلى الله عليه وسلم - لم ينحر بيده أكثر من هذه للسبع، وأمر من نحر ما بعد ذلك إلى ثلاث وستين بحضرته ثم غاب وأمر عليًا بنحر ما بقي إما بنفسه أو بالإشراف على ذلك. الثاني: أن يكون أنس لم يشاهد إلا نحره - صلى الله عليه وسلم - سبعًا فقط بيده وشاهد جابر تمام نحره - صلى الله عليه وسلم - الباقي فأخبر كل منهما بما رأى. الثالث: أنه نحر بيده منفردًا سبع بدن، ثم أخذ هو وعليّ الحربة فنحرا كذلك تمام ثلاث وستين كما قال غرفة بن الحارث الكندي، ثم انفرد عليّ بنحر الباقي من المائة كما قال جابر. قال ابن القيم: فإن قيل: فكيف تصنعون بالحديث الذي رواه أحمد وأبو داود عن عليّ قال: لما نحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدنه فنحر ثلاثين بيده وأمرني فنحرت سائرها؟ قلنا: هذا غلط، انقلب على الراوي، فإن الذي نحر ثلاثين هو علي والنبي - صلى الله عليه وسلم - نحر سبعًا بيده لم بشاهده علي ولا جابر، ثم نحر ثلاثًا وستين أخرى فبقى من المائة ثلاثون فنحرها عليّ فانقلب على الراوي عدد ما نحره علي بما نحره النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن قيل: فما تصنعون بحديث عبد الله بن قرط؟ قال: قرب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدنات خمس فطفقن يزدلفن إليه بأيهن يبدأ؟ الحديث أخرجه أبو داود وغيره، قيل: نقبله ونصدقه، فإن المائة لم تقرب إليه جملة، وإنما كانت تقرب إليه إرسالاً فقرب منهن

ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت، فأكلا من لحمها وشربا من مرقها، ثم ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأفاض إلى البيت، ـــــــــــــــــــــــــــــ إليه خمس بدنات رسلاً، وكان ذلك الرسل يبادرن ويتقربن إليه ليبدأ بكل واحدة منهن – انتهى. وقال الطبري بعد ذكر وجوه الجمع المذكورة عن ابن حزم: ليس في واحد من هذه الوجوه الثلاثة جمع بين الأحاديث الثلاثة، فإن الأول والثاني يخرج منهما حديث غرفة، والثالث يخرج منه حديث جابر، والأولى أن يقال: نحر سبعًا منفردًا، ثم تمام الثلاث والستين هو وعلي، ونسب الفعل إليه - صلى الله عليه وسلم - لما ذكرناه، ثم أمر عليًا بنحر ما بقي من المائة، والله أعلم (ثم أمر من كل بدنة) أي من المائة (ببضعة) بفتح الباء الثانية أي بقطعة من لحمها. قال النووي: البَضعة بفتح الباء لا غير وهي القطعة من اللحم. وقال الجوهري: هذه بالفتح وأخواتها بالكسر مثل القطعة والفلذة والفدرة والكسفة والخرقة، وفي العدد تكسر وتفتح مذكرًا كان أو مؤنثًا (فجعلت) أي القطع (في قدر) بكسر القاف (فأكلا من لحمها) قال المظهري: الضمير المؤنث يعود إلى القدر لأنها مؤنث سماعي. قال الطيبي: ويحتمل أن يعود إلى الهدايا. قال النووي: قال العلماء: لما كان الأكل من كل واحدة سنة، وفي الأكل من كل واحدة من المائة منفردة كلفة جعلت في قدر أي جمعت في قدر واحدة ليكون تناوله من مرق الجميع كالأكل من جميعها. ويأكل من اللحم المجتمع في المرق ما تيسر. وفيه استحباب الأكل من الهدي والأضحية. وأجمع العلماء على أن الأكل من الهدي والأضحية سنة ليس بواجب، وقد استدل به على جواز الأكل من هدي المتعة والقران على القول بأنه كان متمتعًا أو قارنًا، وقد تقدم أن الأصح عند المحققين من الشافعية أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قارنًا في آخره، فيرد عليهم أنه كيف أكل من هداياه وكان فيها دم القران أيضًا فلم يكن إذًا كلها هدايا تطوع وأضحية، ولا يجوز الأكل من الهدي الواجب كهدي التمتع والقران والنذر في مذهب الشافعي؟ قال الطبري: ولا حجة في هذا الحديث عليهم، إذ الواجب عليه سبع بدنة ويكون الأكل من حصة التطوع – انتهى. ولا يخفى ما فيه من التعسف (فأفاض إلى البيت) أي أسرع إلى بيت الله ليطوف به طواف الإفاضة، ويسمى أيضًا طواف الزيارة وطواف الفرض والركن. قال الطبري: الإفاضة الدفع في السير. وقال ابن عرفة: أفاض من المكان إذا أسرع منه لمكان آخر. وقال غيره: أصل الإفاضة الصب فاستعير للدفع في السير، وأصله أفاض نفسه أو راحلته فرفضوا ذكر المفعول حتى أشبه غير المتعدي. وطواف الإفاضة هو الذي يكون إثر الإفاضة من منى إلى مكة، ويقال له أيضًا طواف الزيارة وطواف الفرض. قال النووي: طواف الإفاضة ركن من أركان الحج بإجماع المسلمين وأول وقته عندنا من نصف ليلة النحر وأفضله بعد رمي جمرة العقبة وذبح الهدي والحلق، ويكون ذلك ضحوة يوم النحر. ويجوز في جميع يوم النحر بلا كراهة، ويكره تأخيره عنه بلا عذر، وتأخيره عن أيام التشريق أشد كراهة، ولا يحرم تأخيره سنين متطاولة ولا آخر لوقته، بل يصح ما دام الإنسان حيًّا وشرطه أن يكون بعد الوقوف بعرفات، حتى لو طاف للإفاضة بعد نصف

فصلى بمكة الظهر، ـــــــــــــــــــــــــــــ ليلة النحر قبل الوقوف ثم أسرع إلى عرفات فوقف قبل الفجر لم يصح طوافه لأنه قدمه على الوقوف – انتهى. وعند الحنفية أول وقت لطواف الإفاضة بعد طلوع الفجر يوم النحر وهو في يوم النحر الأول أفضل، ويمتد وقته إلى آخر العمر، فإن أخره عن أيام النحر كره تحريماً ووجب لترك الواجب وهذا عند الإمكان كذا في الدر المختار. وقال المحب الطبري: قد دلت الأحاديث على استحباب وقوع طواف الإفاضة في يوم النحر وأن يكون ضحوة النهار، وأول وقته عندنا الشافعية نصف الليل من ليلة النحر بدليل حديث أم سلمة أنها رمت الجمرة قبل الفجر ليلة النحر ثم مضت إلى مكة فأفاضت. وقال أبو حنيفة: أول وقته من طلوع الفجر ولا حد لآخر وقته عندنا ولا يجب بتأخيره عن أيام التشريق دم، وبه قال أحمد، وقال مالك: إن تطاول الزمان فعليه دم، وقال مرة لا شيء عليه. وقال أبو حنيفة: إن أخره إلى اليوم الثالث من أيام التشريق وجب عليه الدم وهو خلاف قول الكافة - انتهى. قال القاري: وأكثر العلماء ومنهم أبو حنيفة لا يجوز طواف الإفاضة بنية غيره خلافاً للشافعي حيث قال: لو نوى غيره كنذر أو وداع (أو تطوع أو قدوم) وقع الإفاضة - انتهى. واتفق العلماء على أنه لا يشرع في طواف الإفاضة رمل ولا اضطباع إذا كان قد رمل واضطبع في طواف القدوم (فصلى بمكة الظهر) قال النووي: فيه محذوف تقديره فأفاض فطاف بالبيت طواف الإفاضة ثم صلى الظهر، فحذف ذكر الطواف لدلالة الكلام عليه – انتهى. واختلف أين صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر يوم النحر؟ ففي رواية جابر هذه أنه صلى بمكة، وكذا قالت عائشة عند أبي داود وغيره، ولفظه عند أبي داود قال: أفاض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق، الحديث وسيأتي في الفصل الثاني من باب خطبة يوم النحر ورمى أيام التشريق. وفي حديث ابن عمر في الصحيحين أنه - صلى الله عليه وسلم - أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى. وقد ذكره المصنف في باب الحلق فهذا تعارض فرجح ابن حزم في كتاب حجة الوداع له قول عائشة وجابر وتبعه على ذلك جماعة بأربعة أوجه، أحدها: أنهما اثنان وهما أولى من الواحد وثانيها: أن عائشة أخص الناس به ولها من القرب والاختصاص ما ليس لغيرها، وثالثها: أن سياق جابر لحجته - صلى الله عليه وسلم - من أولها إلى آخرها أتم سياق وهو أحفظ للقصة، وضبطها حتى ضبط جزئيتها، حتى أقر منها ما لا يتعلق بالمناسك وهو نزوله في الطريق فبال عند الشعب وتوضأ وضوءاً خفيفاً، فمن ضبط هذا القدر فهو يضبط صلاة صلاته الظهر يوم النحر أولى. ورابعها: أن حجة الوداع كانت في آذار (وهو الشهر السادس في السنة – يونيو أو حزيران – من الشهور الرومية الشمسية على ما قال صاحب القاموس: يستوي فيه الليل والنهار ولا يكون النهار أطول من الليل، أو هو الشهر الثالث – مارس – بين شباط (فبرائر) ونيسان (أبريل) من الشهور الرومية الشمسية على ما قال غيره، ويكون في الليل أطول

.......................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ من النهار) قد دفع من مزدلفة قبل طلوع الشمس إلى منى وخطب بها الناس ونحر بها بدنه المائة وقسمها وطبخ له من لحمها وأكل منه ورمى الجمرة وحلق رأسه وتطيب ثم أفاض وشرب من ماء زمزم ووقف عليهم وهم يسقون، وهذه أعمال يظهر منها أنها لا تنقضي في مقدار يمكن معه الرجوع إلى منى بحيث يدرك وقت الظهر في فصل آذار، ورجحت طائفة أخرى قول ابن عمر بأمور أربعة، أحدها: أنه لا يحفظ عنه في حجته - صلى الله عليه وسلم - صلى أنه صلى الفرض بجوف مكة بل إنما كان يصلي بمنزله بالمسلمين مدة مقامه، فكان يصلي بهم أين نزلوا لا يصلي في مكان آخر غير المنزل العام، والثاني: أن حديث ابن عمر متفق عليه أي رواه الشيخان، وحديث جابر من أفراد مسلم التي انفرد بها عن البخاري، فحديث ابن عمر أصح، فإن رواته أحفظ وأشهر، ولاتفاق الشيخين عليه، والثالث: أن حديث عائشة قد اضطرب في وقت طوافه، فروي عنها أنه طاف نهارًا، وفي رواية لأحمد وأبي داود والترمذي عنها أنه - صلى الله عليه وسلم - أخر الطواف إلى الليل (كما سيأتي) وفي رواية عند أبي داود عنها أنه أفاض أي طاف طواف الإفاضة من آخر يومه كما تقدم. والجمع وإن أمكن بين روايتها الثلاث بأن قولها ((إلى الليل)) أي إلى قربه بدليل قولها في الرواية الثانية من آخر يومه، وذلك بالنهار، وهو الرواية الأولى فلم تضبط فيه وقت الإفاضة ولا مكان الصلاة فتقدم رواية من ضبط، والرابع: أن حديث ابن عمر أصح منه بلا نزاع، حديث عائشة من رواية محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن ابن القاسم ولم يصرح بالسماع بل عنعن الحديث فلا يقدم على حديث عبد الله بن عمر، لأن رواته ثقات حفاظ مشاهير، وجمع النووي بين حديثي جابر وابن عمر بأنه - صلى الله عليه وسلم - طاف للإفاضة قبل الزوال ثم صلى الظهر بمكة أول الوقت، ثم رجع إلى منى فصلى بها الظهر مرةً أخرى بأصحابه حين سألوه ذلك فيكون متنفلاً بالظهر الثانية التي بمنى. قال: وما ورد عن عائشة وغيرها أنه أخر الزيارة يوم النحر إلى الليل فمحمول على أنه عاد للزيارة مع نسائه لا لطواف الإفاضة، كذا في المواهب وشرحه للزرقاني. وقد بسط ابن القيم الكلام في ذلك في الهدي بأكثر من هذا، من شاء فليراجعه، تنبيه: حديث ابن عمر المذكور كما عزاه الزرقاني إلى الصحيحين عزاه أيضًا إليهما المجد ابن تيمية والجزري والمنذري والمحب الطبري وهو وهمٌ منهم، فإن حديث ابن عمر هذا من أفراد مسلم لم يخرجه البخاري في صحيحه، نعم قال في باب ((الزيارة يوم النحر)) : وقال لنا أبو نعيم: ثنا سفيان عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أنه طاف طوافًا واحدًا، ثم يقيل ثم يأتي منى يعني يوم النحر. وهذا كما ترى موقوف على ابن عمر من فعله، وليس فيه ذكر صلاة الظهر، ثم قال البخاري: ورفعه عبد الرزاق قال حدثنا. فعلقه ولم يذكر لفظه، قال العيني: وصل هذا التعليق مسلم: أنبأنا محمد بن رافع عن عبد الرزاق عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى، وهكذا عزى حديث ابن عمر هذا إلى مسلم فقط الزيلعي في نصب الراية والبيهقي في معرفة السنن والسنن الكبرى والنابلسي في ذخائر المواريث وكل ذلك دليل على أن حديث ابن عمر من أفراد مسلم

فأتى على بني عبد المطلب يسقون ـــــــــــــــــــــــــــــ مثل حديث جابر وعلى هذا فلا يصح ترجيح حديث ابن عمر على حديث جابر بأنه اتفق عليه الشيخان وهو الوجه الثاني من وجوه ترجيح حديث ابن عمر الأربعة المذكورة، هذا، وقد تعقب القاري على ما جمع به النووي بين حديثي جابر وابن عمر بأنه لا يحمل فعله - صلى الله عليه وسلم - على القول المختلف في جوازه فيأول بأنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بمكة ركعتي الطواف وقت الظهر ورجع إلى منى فصلى الظهر بأصحابه، أو يقال: الروايتان حيث تعارضتا فقد تساقطتا فتترجح صلاته بمكة لكونها فيها أفضل، ثم قال متعقبًا على التأويل الذي أول النووي به حديث عائشة أنه أخر الزيارة إلى الليل بأنه لا دلالة على التأويل المذكور لا لفظًا ولا معنىً، ولا حقيقة ولا مجازًا مع الغرابة في عرض كلامه إلى أنه عاد للزيارة فالأحسن أن يقال: معناه جوز تأخير الزيارة مطلقًا إلى الليل أو أمر بتأخير زيارة نسائه إلى الليل - انتهى. وأجيب أيضًا عن حديث عائشة في تأخير طواف الزيارة: إلى الليل بأن أحاديث طواف الإفاضة يوم النحر نهارًا أصح وأثبت فإنها مروية في الصحيحين فترجح على ما يخالفها، وبأن تحمل الأحاديث الدالة على الطواف نهارًا يوم النحر، وحديث عائشة على الطواف في بقية أيام النحر، وبما قال ابن حبان من أنه - صلى الله عليه وسلم - رمى جمرة العقبة ونحر ثم تطيب للزيارة ثم أفاض فطاف بالبيت طواف الزيارة ثم رجع إلى منى فصلى الظهر بها والعصر والمغرب والعشاء ورقد رقدة بها، ثم ركب إلى البيت ثانيًا وطاف به طوافًا آخر بالليل، فعلى هذا ما رواه أحمد عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زار ليلاً، إما أن يكون المراد به طواف الوادع أو طواف تطوع وزيارة محضة نافلة، وقد روى البيهقي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يزور البيت كل ليلة من ليالي منى، وروى الطبراني أيضًا نحوه وسيأتي مزيد الكلام في حديث عائشة في باب خطبة يوم النحر ورمي أيام التشريق حيث ذكره المصنف من رواية عائشة وابن عباس رضي الله عنهما، وقيل أي في وجه الجمع بين حديثي جابر وابن عمر: يحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بمنى أيضًا مقتديًا خلف رجل من أصحابه وقال المحب الطبري: الجمع بين الروايات كلها ممكن إذ يحتمل أن يكون صلى منفردًا في أحد الموضعين ثم مع جماعة في الآخر أو صلى بأصحابه بمنى ثم أفاض فوجد قوماً لم يصلوا فصلى بهم، ثم لما رجع وجد قوماً آخرين لم يصلوا فصلى بهم لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يتقدمه أحد في الصلاة، أو كرر الصلاة بمكة ومنى ليبين جواز الأمرين في هذا اليوم توسعة على الأمة، ويجوز أن يكون أذن في الصلاة في أحد الموضعين فنسب إليه وله نظائر – انتهى. والراجح عندنا في الجمع بين حديثيهما هو ما ذكره النووي بأنه - صلى الله عليه وسلم - طاف طواف الإفاضة قبل الزوال ثم صلى الظهر بمكة في أول وقتها ثم رجع إلى منى فصلى بها الظهر مرة أخرى بأصحابه حين سألوه ذلك فيكون متنفلاً بالظهر الثانية التي بمنى، وسيأتي شيء من الكلام في ذلك في شرح حديث ابن عمر في باب الحلق (فأتى) أي بعد فراغه من طواف الإفاضة (على بني عبد المطلب) هم أولاد العباس وجماعته لأن سقاية الحاج كانت وظيفته (يسقون) أي مر

على زمزم، فقال: " انزعوا بني عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم ". فناولوه دلوا فشرب منه. ـــــــــــــــــــــــــــــ عليهم وهم ينزعون الماء من بئر زمزم ويسقون الناس (على زمزم) قال النووي: معنى قوله ((يسقون على زمزم)) أي يغرفون بالدلاء ويصبونه في الحياض ونحوها ويسبلونه للناس، وأما ((زمزم)) فهي البئر المشهورة في المسجد الحرام بينها وبين الكعبة ثمان وثلاثون ذراعاً، قيل سميت زمزم لكثرة مائها، يقال ماء زمزوم وزمزم وزمازم إذا كان كثيراً. وقيل لضم هاجر رضي الله عنها لمائها حين انفجرت وزمها إياه، وقيل: لزمزمة جبريل عليه السلام وكلامه عند فجره إياها. وقيل إنها غير مشتقة ولها أسماء أخر ذكرتها في تهذيب اللغات مع نفائس أخرى تتعلق بها، منها أن علياً رضي الله عنه قال: خير بئر في الأرض زمزم، وشر بئر في الأرض برهوت. قلت: أخرج الطبراني في الكبير من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم، فيه طعام الطعم وشفاء السقم، وشر ماء على وجه الأرض ماء بوادي برهوت بقية حضر موت كرجل الجراد من الهوام تصبح تتدفق وتمسي لا بلال فيها. قال الهيثمي بعد عزوه للطبراني: ورجاله ثقات، وصححه ابن حبان. وبَرهُوت – بفتح الباء الموحدة والراء المهملة وضم الهاء وآخره تاء مثناة - بئر عتيقة بحضر موت لا يستطاع النزول إلى قعرها، ويقال: ((بُرْهوت)) بضم الباء وسكون الراء (انزعوا) بكسر الزاي من النزع وهو الاستقاء. قال النووي: معناه استقوا بالدلاء وانزعوها بالرشاء (بني عبد المطلب) يعني العباس ومتعلقيه بحذف حرف النداء. وفي حديث ابن عباس عند الشيخين ((أتى زمزم وهم يسقون عليها فقال: اعملوا فإنكم على عمل صالح)) (فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم) قال النووي: معناه لولا خوفي أن يعتقد الناس ذلك من مناسك الحج ويزدحمون عليه بحيث يغلبونكم ويدفعونكم عن الاستقاء لاستقيت معكم لكثرة فضيلة هذا الاستقاء – انتهى. وقيل: قال ذلك شفقة على أمته من الحرج والمشقة، والأول أظهر، وفيه بقاء هذه التكرمة لبني العباس كبقاء الحجابة لبني شيبة (فناولوه) أي أعطوه (فشرب منه) أي من الدلو أو من الماء. وفيه دليل على استجاب الشرب للناسك من ماء زمزم والإكثار منه. وذكر الواقدي أنه لما شرب صب على رأسه، وذكر أبو ذر في منسكه عن عليّ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أفاض دعا بسجل من زمزم فتوضأ. وأخرجه أحمد أيضًا، وقال: فدعا بسجل من ماء زمزم فشرب منه وتوضأ. وأخرجه أيضًا من حديث ابن عباس وفي رواية عنده أنهم لما نزعوا الدلو غسل منه وجهه وتمضمض فيه ثم أعادوه فيها، وكذلك أخرجه سعيد بن منصور. قيل: ويستحب أن يشرب قائمًا، واستدل لذلك بما روى البخاري من طريق عاصم عن الشعبي أن ابن عباس حدثهم قال: سقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من زمزم فشرب وهو قائم. قال عاصم: فحلف عكرمة ما كان يومئذ إلا على بعير. وفي

رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الاستدلال بذلك على استحباب شرب ماء زمزم قائماً نظر، لأنه يجوز أن يكون الأمر فيه على ما حلف عليه عكرمة، وهو أنه شرب وهو على الراحلة، ويطلق عليه ((قائم)) ويكون ذلك مراد ابن عباس من قوله ((قائماً)) فلا يكون بينه وبين النهى عن الشرب قائماً تضاد، ويجوز أن يحمل على ظاهره ويكون دليلاً على إباحة الشرب قائماً يعنى أنه عليه الصلاة والسلام شربه قائمًا لبيان الجواز. وقيل أو لعذر به في ذلك المقام من الطين أو الازدحام والله أعلم. فوائد: الأولى: أخرج أحمد وابن ماجة من حديث جابر مرفوعًا: " ماء زمزم لما شرب له ". وأخرجه الدارقطني وزاد: " إن شربته تستشفي به شفاك الله، وإن شربته ليشبعك أشبعك الله، وإن شربته لقطع ظمئك قطعه الله، وهي هزمة جبريل وسقيا الله إسماعيل ". وروى أبو داود الطيالسي من حديث أبي ذر مرفوعاً: " إنها مباركة، إنها طعام طعم وشفاء سقم ". وقد شربه جماعة من العلماء لمآرب فوجدوها ونالوها. الثانية: رُوي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تحمل من ماء زمزم وتخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يحمله، وأخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب، والبيهقي والحاكم وصححه، قال الشوكاني: فيه دليل على استجاب حمل ماء زمزم إلى المواطن الخارجة عن مكة. وأخرج الأزرقي عن ابن أبي حسين قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى سهيل بن عمرو يستهديه من ماء زمزم فبعث إليه براويتين وجعل عليهما كرًا غوطيًا، قيل الكرجنس من الثياب الغلاظ، وعن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استهدى سهيل بن عمرو من ماء زمزم. ذكره الهيثمي وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه عبد الله بن المؤمل المخزومي وثقه ابن سعد وابن حبان وقال: يخطئ، وضعفه جماعة. الثالثة: عن ابن عباس أنه قال: إذا شربت من ماء زمزم فاستقبل القبلة، واذكر اسم الله تعالى، وتنفس وتضلع منها، فإذا فرغت فاحمد الله، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن بيننا وبين الناس أي المنافقين أنهم لا يتضلعون من زمزم ". وعن عكرمة قال: كان ابن عباس إذا شرب من زمزم قال: اللهم إني أسالك علمًا نافعًا ورزقًا واسعًا وشفاءً من كل داء. أخرجهما الدارقطني وابن ماجة. والتضلع الامتلاء حتى تمتد أضلاعه. وفي هذين الأثرين بيان آداب شرب ماء زمزم (رواه مسلم) أي بطوله، وأخرجه أيضًا أبو نعيم في المستخرج على صحيح مسلم وأبو داود والدارمي وابن ماجة وابن الجارود في المنتقى (رقم 465: 469) والبيهقي (ج 5: ص 7 - 9) كلهم من طريق جعفر بن محمد الصادق عن أبيه محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبي جعفر الباقر، قال: دخلنا على جابر بن عبد الله فسأل عن القوم حتى انتهى إليَّ فقلت: أنا محمد بن علي بن حسين فأهوي بيده إلى رأسي فنزع زري الأعلى ثم زري الأسفل ثم وضع كفه بين ثديي وأنا يومئذ غلام شاب، فقال مرحبًا بك يا ابن أخي، سل عم شئت فسألته وهو أعمى وحضر وقت الصلاة فقام في نساجة متلحفًا بها، كلما وضعها على منكبه رجع طرفاها إليه من صغرها، ورداؤه إلى جنبه على المشجب، فصلى بنا فقلت: أخبرني عن حجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال بيده فعقد تسعاً، فقال: إن

2580 – (2) وعن عائشة، قالت: خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج، فلما قدمنا مكة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من أهل بعمرة ولم يهد فليحلل، ومن أحرم بعمرة وأهدى فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما ". ـــــــــــــــــــــــــــــ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكث تسع سنين لم يحج، الحديث. وأخرج القسم الأكبر منه أبو داود الطيالسي في مسنده (رقم 1668) ، وأحمد (ج 3: ص320 - 321) وعبد بن حميد وابن أبي شيبة والبزار. وروى قطعًا متفرقة منه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي والدارمي وابن ماجة، ومالك في موطئه، ومن طريقه محمد في موطئه، والشافعي والطحاوي في شرح المعاني وفي مشكل الآثار، والطبراني في الصغير، والدارقطني في سننه، والحاكم في المستدرك، والبيهقي، وأحمد في مسنده، وابن سعد في الطبقات، وأبو نعيم في الحلية. 2580- قوله (وعن عائشة قالت: خرجنا) أي معاشر الصحابة (مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع) وفي مسلم ((مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع)) والذي في المشكاة موافق لما ذكره الجزري في جامع الأصول (فمنا من أهل بعمرة) أي مفردة، والمعني: أحرم بها أو لبى بها مقرونة بالنية (ومنا من أهل بحج) أي مفرد أو مقرون بعمرة (فلما قدمنا) أي كلنا (مكة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وفي صحيح مسلم ((حتى قدمنا مكة فقال رسول - صلى الله عليه وسلم -)) وكان قدومهم مكة صبيحة الأحد رابع ذي الحجة (من أهل بعمرة ولم يهد) من الإهداء أي لم يكن معه هدي (فليَحلِل) بفتح الياء وكسر اللام، أي فليخرج من الإحرام بحلق أو تقصير (ومن أحرم بعمرة وأهدى) أي كان معه هدي (فليهل بالحج مع العمرة) التي أحرم بها، والمعنى لا يحل من عمرته بل يدخل الحج في العمرة ليكون قارنًا ففيه جواز إدخال الحج على العمرة (ثم لا يحل حتى يحل منهما) يعني لا يخرج من الإحرام ولا يحل له شيء من المحظورات حتى يتم العمرة والحج جميعًا. قال الولي العراقي في شرح رواية عروة عن عائشة عند مسلم ((فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من كان معه هدي فليهل بالحج مع عمرته، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعًا)) . قال المالكية والشافعية: هذه الرواية دالة على أن السبب في بقاء من ساق الهدي على إحرامه حتى يحل من الحج كونه أدخل الحج على العمرة، وأنه ليس السبب في ذلك مجرد سوق الهدي فما يقوله أبو حنيفة وأحمد ومن وافقهما إن المعتمر المتمتع إذا كان معه هدي لا يتحلل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر وهم تمسكوا بقوله في رواية عقيل عن الزهري في الصحيحين ((فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من أحرم بعمرة ولم يهد فليحلل، ومن أحرم بعمرة وأهدى فلا يحل حتى ينحر هديه " ... الحديث. وهي ظاهرة في الدلالة لمذهبهم، لكن تأولها أصحابنا على أن معناها: ومن أحرم بعمرة وأهدى فليهل بالحج ولا يحل حتى ينحر هديه. واستدلوا على صحة هذا التأويل برواية عروة عن عائشة المتقدمة، وقالوا: هذا التأويل متعين، لأن القضية واحدة والراوي واحد فيتعين الجمع بين الروايتين – انتهى.

وفي رواية: " فلا يحل حتى يحل بنحر هديه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وذكر نحو ذلك الزرقاني في شرح الموطأ في شرح باب دخول الحائض مكة، وقال المحب الطبري (ص 85) في شرح حديث ابن عمر عند الشيخين بلفظ ((فلما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة قال للناس: " من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم عليه حتى يقضي حجته، ومن لم يكن أهدى فليطف بالبيت وبين الصفا والمروة وليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج وليهد)) الحديث. قال الطبري: قد تعلق أبو حنيفة بهذا الحديث واستدل له على ما ذهب إليه من أن المعتمر في أشهر الحج، المريد للحج إذا كان معه الهدي فلا يحل من عمرته ويبقى على إحرامه حتى يحج، ولا دلالة فيه، إذ يكون المراد به من جمع بين الحج والعمرة، ويدل عليه ما سيأتي في الفصل بعده – انتهى. يشير بذلك إلى ما رُوِيَ عن عائشة قالت: وأما من ساق الهدي منهم فأدخل الحج على عمرته ولم يحل، أخرجه ابن حبان. وقال الشوكاني: استدل بما في البخاري من حديث عائشة: ((من أحرم بعمرة فأهدى فلا يحل حتى ينحر)) على أن من اعتمر فساق هديًا لا يتحلل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر، وتأول ذلك المالكية والشافعية على أن معناه: من أحرم بعمرة فأهدى فأهل بالحج فلا يحل له حتى ينحر هديه. ولا يخفى ما فيه من التعسف – انتهى. (وفي رواية) أي بدل قوله: " ثم لا يحل حتى يحل منهما ". (فلا يحل) بالنفي، ويحتمل النهي (حتى يحل بنحر هديه) أي يوم النحر، فإنه لا يجوز له نحر الهدي قبله، وقوله ((حتى يحل بنحر هديه)) كذا في المشكاة والمصابيح، وفي مسلم ((حتى ينحر هديه)) . وفي جامع الأصول ((حتى يحل نحر هديه)) اعلم أن ها هنا روايتين أوردهما مسلم في صحيحه، الأولى: رواية عقيل عن ابن شهاب الزهري عن عروة عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج حتى قدمنا مكة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من أحرم بعمرة ولم يهد فليحلل، ومن أحرم بعمرة وأهدى فلا يحل حتى ينحر هديه، ومن أهل بحج فليتم بحجه ". قالت عائشة: فحضت، إلخ. والرواية الثانية: من طريق معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عام حجة الوداع فأهللت بعمرة ولم أكن سقت الهدي فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من كان معه هدي فليهل بالحج مع عمرته ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعًا ". قالت: فحضت، إلخ. وقد ظهر بهذا ما وقع في سياق المشكاة تبعًا للبغوي من الخلل. قال الطيبي: قوله: ((ومن أحرم بعمرة وأهدى)) مع قوله ((وفي رواية حتى يحل بنحر هديه)) دل على أن من أحرم بعمرة وأهدى لا يحل حتى يحل بنحر هديه (وبه قال أبو حنيفة وأحمد) وقال مالك والشافعي: يحل إذا طاف وسعى وحلق. والرواية الأولى أعني قوله ((فليهل بالحج مع العمرة)) دلت على أنه أمر المعتمر بأن يقرن الحج بالعمرة فلا يحل إلا بنحر هذا الهدي فوجب حمل هذه الرواية الثانية على الأخرى، لأن القصة واحدة – انتهى. وقال النووي: قوله (أي في رواية عقيل عن الزهري عن عروة) : من أحرم بعمرة وأهدى فلا يحل حتى ينحر هديه. هذا الحديث ظاهر في الدلالة لمذهب أبي حنيفة وأحمد

ومن أهل بحج فليتم حجه ". قالت: فحضت، ولم أطف بالبيت، ولا بين الصفا والمروة، ـــــــــــــــــــــــــــــ وموافقيهما في أن المعتمر المتمتع إذا كان معه هدي لا يتحلل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر. ومذهب مالك والشافعي وموافقيهما أنه إذا طاف وسعى وحلق حل من عمرته وحل له كل شيء في الحال سواء كان ساق هديًا أم لا. واحتجوا بالقياس على من لم يسق الهدي وبأنه تحلل من نسكه فوجب أن يحل له كل شيء كما لو تحلل المحرم بالحج، وأجابوا عن هذه الرواية بأنها مختصرة من الروايات التي ذكرها مسلم بعدها والتي ذكرها قبلها عن عائشة قالت: ((خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام حجة الوداع فأهللنا بعمرة ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من كان معه هدي فليهلل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعًا ")) . فهذه الرواية مفسرة للمحذوف من الرواية التي احتج بها أبو حنيفة وتقديرها ((ومن أحرم بعمرة وأهدى فليهلل بالحج ولا يحل حتى ينحر هديه)) ولا بد من هذا التأويل لأن القضية واحدة، والراوي أي المخرج وهو عائشة واحد، فيتعين الجمع بين الروايتين على ما ذكرناه، والله أعلم - انتهى. وقد اتضح بهذا وبما ذكرنا قبل ذلك من كلام الولي العراقي أن السبب في بقاء المعتمر الذي ساق الهدي على إحرامه عند الشافعية والمالكية هو إدخال الحج على العمرة لا مجرد سوق الهدي، واستدلوا لذلك برواية معمر ومن وافقه عن الزهري عن عائشة عن عروة عن عائشة، وعند الحنفية والحنابلة مدار الحكم هو مجرد سوق الهدي ومستندهم رواية عقيل عن الزهري، والراجح عندنا هو قول الحنابلة ومن وافقهم لتظافر الروايات الصحيحة الصريحة بذلك، والله أعلم (ومن أهل بحج فليتم حجه) هذا بظاهره يقتضي أنه ما أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة مع أن الصحيح الثابت برواية أربعة عشر من الصحابة هو أنه أمر لمن لم يسق الهدي بفسخ الحج وجعله عمرة فحينئذٍ لا بد من حمل هذا الحديث على من ساق الهدي، والأمر بالفسخ لمن لم يسق الهدي فلا منافاة، قاله السندي في حاشية مسلم. وقد ذكرنا في شرح حديث عائشة المتقدم في باب الإحرام والتلبية أن قوله ((من أهل بحج)) معناه أي وأهدى فليتم حجه لئلا يخالف هذا الحديث لأحاديث فسخ الحج إلى العمرة (قالت: فحضت) أي بسرف قبل دخول مكة كما صح عنها، واتفقوا على أن ابتداء حيضها كان بسرف وذلك يوم السبت لثلاث خلون من ذي الحجة، واختلفوا في موضع طهرها، وسيأتي بيان الاختلاف فيه (ولم أطف بالبيت) أي للعمرة، لأن الطهارة شرط للطواف أو واجب، ولأن الطواف في المسجد والحائض ممنوع من الدخول فيه (ولا بين الصفا والمروة) أي ولم أسع بينهما. قال الطيبي: قوله: ((ولا بين الصفا والمروة)) عطف على المنفي قبله على تقدير ((ولم أسع)) نحو ((علفتها تبنًا وماءً باردًا)) ويجوز أن يقدر ((ولم أطف)) على المجاز لما في الحديث ((وطاف بين الصفا والمروة سبعة أشواط)) وإنما ذهب إلى التقدير دون الانسحاب لئلا يلزم استعمال اللفظ الواحد حقيقة ومجازًا في حالة واحدة - انتهى. أي لأن حقيقة الطواف الشرعي لم توجد لأنها الطواف بالبيت، وأجيب أيضًا بأنه سمى السعي طوافًا على حقيقته اللغوية، فالطواف لغة المشي قاله الزرقاني. وإنما لم تسع عائشة بين الصفا والمروة لأنه لا يصح السعي إلا بعد الطواف وإلا فالحيض لا يمنع السعي.

فلم أزل حائضًا حتى كان يوم عرفة، ـــــــــــــــــــــــــــــ قال ابن قدامة في المغني (ج2: ص394) : أكثر أهل العلم يرون أن لا تشترط الطهارة للسعي بين الصفا والمروة. وممن قال ذلك عطاء ومالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي. وكان الحسن يقول: إن ذكر قبل أن يحل فليعد الطواف، وإن ذكر بعد ما حل فلا شيء عليه. ولنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة حين حاضت: اقضي ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت. ولأن ذلك عبادة لا تتعلق بالبيت فأشبهت الوقوف. قال أبو داود: سمعت أحمد يقول: إذا طافت المرأة بالبيت ثم حاضت سعت بين الصفا والمروة ثم نفرت. ورُوِيَ عن عائشة وأم سلمة أنهما قالتا: إذا طافت المرأة بالبيت وصلت ركعتين ثم حاضت فلتطف بالصفا والمروة. رواه الأثرم. والمستحب مع ذلك لمن قدر على الطهارة أن لا يسعى إلا متطهرًا، وكذلك يستحب أن يكون طاهرًا في جميع مناسكه. ولا يشترط أيضًا الطهارة من النجاسة والستارة للسعي، لأنه إذا لم تشترط الطهارة من الحدث وهي آكد فغيره أولى. وقد ذكر بعض أصحابنا رواية عن أحمد: أن الطهارة في السعي كالطهارة في الطواف، ولا يعول عليه - انتهى. قال الباجي: إن السعي إنما يكون بأثر الطواف بالبيت، فإذا لم يمكن الحائض الطواف بالبيت لم يمكنها السعي بين الصفا والمروة، وإن لم تكن من شرطه الطهارة، لأنه عبادة لا تعلق لها بالبيت ولو طرأ على المرأة الحيض بعد كمال الطواف يصح سعيها - انتهى. وقال ابن قدامة: السعي تبع للطواف لا يصح إلا أن يتقدمه طواف، فإن سعى قبله لم يصح. وبذلك قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي. وقال عطاء: يجزئه، وعن أحمد يجزئه إن كان ناسيًا، وإن عمدًا لم يجزئه سعيه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن التقديم والتأخير في حال الجهل والنسيان قال: لا حرج. ووجه الأول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما سعى بعد طوافه وقد قال: " لتأخذوا عنى مناسككم ". فعلى هذا إن سعى بعد طوافه ثم علم أنه طاف بغير طهارة لم يعتد بسعيه ذلك – انتهى. وقال الحافظ: حكى ابن المنذر عن عطاء قولين فيمن بدأ بالسعي قبل الطواف بالبيت، وبالإجزاء قال بعض أهل الحديث، واحتج بحديث أسامة بن شريك (الآتي في الباب الذي بعد باب الحلق) أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: سعيت قبل أن أطوف؟ قال: طف ولا حرج. وقال الجمهور: لا يجزئه، وأولوا حديث أسامة على من سعى بعد طواف القدوم وقبل طواف الإفاضة انتهى. وقال ابن القيم: قوله ((سعيت قبل أن أطواف)) في هذا الحديث ليس بمحفوظ، والمحفوظ تقديم الرمي والنحر والحلق بعضها على بعض. وفي التمهيد: اختلف العلماء فيمن قدم السعي على الطواف فقال عطاء بن أبي رباح يجزيه ولا يعيد السعي ولا شيء عليه، وكذلك قال الأوزاعي وطائفة من أهل الحديث. واختلف في ذلك عن النووي فرُوي عنه مثل قول الأوزاعي وعطاء ورُوي عنه أنه يعيد السعي. وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم: لا يجزيه وعليه أن يعيد إلا أن مالكاً قال: يعيد الطواف والسعي جميعًا. وقال الشافعي: يعيد السعي وحده ليكون بعد الطواف ولا شيء عليه – انتهى مختصرًا. (فلم أزل حائضاً حتى كان يوم عرفة) اختلف في موضع طهرها بعد الاتفاق على أنها حاضت بسرف. قال الزرقاني: وفي

ولم أهلل إلا بعمرة، فأمرني النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن أنقض رأسي وأمتشط، وأهل بالحج، وأترك العمرة. ـــــــــــــــــــــــــــــ مسلم عن مجاهد عنها أنها تطهرت بعرفة، وعن القاسم عنها ((وطهرت صبيحة ليلة عرفة حين قدمنا منى)) وله عنه أيضًا ((فخرجت في حجتي حتى نزلنا منى فتطهرت، ثم طفنا بالبيت)) فاتفقت الروايات كلها على أنها طافت طواف الإفاضة يوم النحر، وجمع بين رواية مجاهد والقاسم بأنه انقطع الدم عنها بعرفة وما رأت الطهر إلا بعد أن نزلت منى. وقول ابن حزم: ((حاضت يوم السبت لثلاث خلون من ذي الحجة وطهرت يوم السبت عاشره)) إنما أخذه من روايات مسلم المذكورة – انتهى. وقال ابن القيم في الهدي: أما موضع حيضها فهو بسرف بلا ريب وموضع طهرها قد اختلف فيه فقيل بعرفة هكذا روى مجاهد عنها وروى عروة عنها أنها أظلها يوم عرفة وهي حائض، ولا تنافي بينهما، والحديثان صحيحان، وقد حملهما ابن حزم على معنيين فطهر عرفة هو الاغتسال للوقوف عنده. قال: لأنها قالت: تطهرت بعرفة. والتطهر غير الطهر. قال: وقد ذكر القاسم يوم طهرها أنه يوم النحر، وحديثه في صحيح مسلم. قال: وقد اتفق القاسم وعروة على أنها كانت يوم عرفة حائضًا وهما أقرب الناس منها. وقد روى أبو داود حدثنا محمد بن إسماعيل ثنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عنها خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موافين هلال ذي الحجة، فذكرت الحديث وفيه ((فلما كانت ليلة البطحاء طهرت عائشة)) . وهذا إسناد صحيح لكن قال ابن حزم: إنه حديث منكر مخالف لما روى هؤلاء كلهم عنها وهو قوله ((إنها طهرت ليلة البطحاء)) وليلة البطحاء كانت بعد يوم النحر بأربع ليال، وهذا محال إلا أننا لما تدبرنا وجدنا هذا اللفظة ليست من كلام عائشة فسقط التعلق بها لأنها هي مما دون عائشة وهي أعلم بنفسها. قال: وقد روى حديث حماد بن سلمة هذا وهيب بن خالد وحماد بن زيد فلم يذكرا هذا اللفظة. قلت: يتعين تقديم حديث حماد بن زيد ومن معه على حديث حماد بن سلمة لوجوه، أحدها: أنه أحفظ وأثبت من حماد بن سلمة، الثاني: أن حدثيهم فيه إخبارها عن نفسها، وحديثه فيه الإخبار عنها. الثالث: أن الزهري روى عن عروة عنها الحديث، وفيه ((فلم أزل حائضاً حتى كان يوم عرفة)) وهذه الغاية هي التي بينها مجاهد والقاسم عنها لكن قال عنها ((فتطهرت بعرفة)) والقاسم قال ((يوم النحر)) انتهى كلام ابن القيم. (ولم أهلل) أي لم أحرم أولاً (إلا بعمرة) هذا نص في أن عائشة لم تحرم إلا بعمرة وأنها كانت معتمرة ابتداء (فأمرني النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أنقض) بضم القاف (رأسي) أي أحل ضفر شعره (وأمتشط) أي أسرحه بالمشط وقيل أو بالأصابع (وأهل بالحج) أي أمرني أن أحرم بالحج (وأترك العمرة) وفي رواية ((فقال انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج ودعي العمرة)) وفي رواية ((أمسكي عن عمرتك)) وفي أخرى: ((ارفضي عمرتك)) . قال الحنفية: معنى الحديث: أمرني أن أخرج من إحرام العمرة وأتركها باستباحة المحظورات من التمشيط وغيره لعدم القدرة على الإتيان بأفعالها بسبب الحيض. واستدلوا

.............................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ بذلك على أن المرأة إذا أهلت بالعمرة متمتعة فحاضت قبل أن تطوف واستمر حيضها حتى جاء يوم عرفة تركت العمرة وأهلت بالحج مفردة، فإذا فرغت من الحج أحرمت بالعمرة قضاء ويلزمها دم لرفض العمرة. وقال الجمهور في معنى الحديث: أي أمرني أن أترك العمل للعمرة من الطواف والسعي وتقصير شعر الرأس وأرفض إتمام أفعالها، وأمرني أن أدخل الحج على العمرة فأكون قارنة، فليس المراد هنا بترك العمرة إسقاطها جملة أي إبطالها، وإنما المراد ترك أفعالها وإرداف الحج عليها حتى تصير قارنة وتتدرج أفعالها في أفعال الحج. قال ابن قدامة: المتمتعة إذا حاضت قبل الطواف للعمرة لم يكن لها أن تطوف بالبيت لأنها ممنوعة من دخول المسجد ولا يمكنها أن تحل من عمرتها ما لم تطف بالبيت، فإن خشيت فوات الحج أحرمت بالحج مع عمرتها وتصير قارنة، وهذا قول مالك والأوزاعي والشافعي وكثير من أهل العلم. وقال أبو حنفية: ترفض العمرة وتهلل بالحج. قال أحمد: ما قال هذا أحد غير أبي حنفية، وأحتج بما روى عروة عن عائشة قالت: أهللنا بعمرة – الحديث. وفيه ((فقال: انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج ودعي العمرة، قالت: ففعلت، فلما قضينا الحج أرسلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع عبد الرحمن بن أبي بكر التنعيم فاعتمرت معه، فقال: هذه عمرة مكان عمرتك)) متفق عليه. وهذا يدل على أنها رفضت عمرتها وأحرمت بحج من وجوه ثلاثة، أحدها: قوله ((دعي عمرتك)) والثاني: قوله ((وامتشطي)) والثالث قوله ((هذه عمرة مكان عمرتك)) ولنا ما روى جابر قال: أقبلت عائشة بعمرة حتى إذا كانت بسرف عركت – الحديث. وفيه قال: ((فاغتسلي ثم أهلي بالحج)) . ففعلت ووقفت المواقف كلها ثم قال: ((قد حللت من حجك وعمرتك)) . وروى طاوس عن عائشة أنها قالت: أهللت بعمرة فقدمت ولم أطف حتى حضت، ونسكت المناسك كلها وقد أهللت بالحج، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النفر: يسعك طوافك لحجك وعمرتك. رواهما مسلم. وهما يدلان على ما يدلان على ما ذكرنا جميعه، ولأن إدخال الحج على العمرة جائز بالإجماع من غير خشية الفوات فمع خشية الفوات أولى. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن لمن أهل بعمرة أن يدخل عليها الحج ما لم يفتتح الطواف بالبيت، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من كان معه هدي في حجة الوداع أن يهل بالحج مع العمرة ومع إمكان الحج مع بقاء العمرة لا يجوز رفضها لقول الله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} (2: 196) ولأنها متمكنة من إتمام عمرتها بلا ضرر فلم يجز رفضها كغير الحائض. ثم أجاب ابن قدامة عن رواية عروة بأن قوله ((انقضي رأسك وامتشطي ودعي العمرة)) قد انفرد به عروة وخالف به سائر من روى عن عائشة حين حاضت، وقد روى طاوس والقاسم والأسود وعمرة عن عائشة ولم يذكروا ذلك. وحديث جابر وطاوس مخالفان لهذه الزيادة ولا يخفى ما في هذا الجواب من التعسف. ثم قال ابن قدامة: ويحتمل أن قوله ((دعي العمرة)) أي دعيها بحالها وأهلي بالحج معها، أو دعي أفعال العمرة فإنها تدخل في أفعال الحج – انتهى. وقال الخطابي: استشكل بعض أهل العلم أمره لها بنقض رأسها ثم

........................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ بالامتشاط. وكان الشافعي يتأوله على أنه أمرها أن تدع العمل للعمرة وتدخل عليها الحج فتصير قارنة، قال: وهذا لا يشاكل القصة. وقيل: إن مذهبها أن المعتمر إذا دخل مكة استباح ما يستبيحه الحاج إذا رمى الجمرة. قال: وهذا لا يعلم وجهه. وقيل: كانت مضطرة إلى ذلك. قال: ويحتمل أن يكون نقض رأسها كان لأجل الغسل لنهل بالحج لا سيما أن كانت ملبدة فتحتاج إلى نقض الضفر، وأما الامشاط فلعل المراد به تسريحها شعرها بأصابعها برفق حتى لا يسقط منه شيء ثم تضفره كما كان ذكره الحافظ. وقال ابن القيم بعد ذكر مسلك الجمهور وتقويته: أما قوله ((وانقضي رأسك وامشطي)) . فهذا مما أعضل على الناس ولهم فيها أربعة مسالك، أحدها: أنه دليل على رفض العمرة كما قالت الحنفية. المسلك الثاني: أنه دليل على أنه يجوز للمحرم أن يمشط رأسه، ولا دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع على منعه من ذلك ولا تحريمه، وهذا قول ابن حزم وغيره. المسلك الثالث: تعليل هذه اللفظة وردها بأن عروة انفرد بها وخالف بها سائر الرواة، وقد روى حديثها طاوس والقاسم والأسود وغيرهم فلم يذكر أحد منهم هذه اللفظة. المسلك الرابع: أن قوله ((دعي العمرة)) . أي دعيها بحالها لا تخرجي منها، وليس المراد تركها. قالوا: ويدل عليه وجهان، أحدهما: قوله ((يسعك طوافك لحجك وعمرتك)) الثاني: قوله: ((كوني في عمرتك)) . قالوا: وهذا أولى من حمله على رفضها لسلامته من التناقض- انتهى. وقال الزرقاني: وأجاب جماعة منهم الشافعي باحتمال أن معنى ((دعي عمرتك)) اتركي التحلل منها وأدخلي عليها الحج فتصير قارنة، ويؤيده قوله في رواية مسلم ((وأمسكي عن العمرة)) أي عن أعمالها، وإنما قالت: ((وأرجع بحجة)) . لاعتقادها أن إفراد العمرة بالعمل أفضل كما وقع لغيرها من أمهات المؤمنين. قال الحافظ: واستبعد هذا التأويل لقولها في رواية عطاء عنها ((وأرجع أنا بحجة ليس معها عمرة)) أخرجه أحمد. وهذا يقوي قول الكوفيين أن عائشة تركت العمرة وحجت مفردة، لكن في رواية عطاء عنها ضعف. وأجاب الحنفية عن ذلك بأن ضعف رواية عطاء منجبر برواية البخاري: ((يصدرون بنسكين وأصدر بنسك)) وفي رواية ((قالت: يا رسول الله اعتمرتم ولم اعتمر)) . قال الحافظ: والرافع للإشكال في ذلك ما رواه مسلم من حديث جابر: ((أن عائشة أهلت بعمرة حتى إذا كانت بسرف حاضت فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: أهلي بالحج حتى إذا طهرت طافت بالكعبة وسعت فقال: قد حللت من حجك وعمرتك)) . ولمسلم من طريق طاوس عنها ((فقال - صلى الله عليه وسلم -: طوافك يسعك لحجك وعمرتك)) . فهذا صريح في أنها كانت قارنة. قال الزرقاني: وتعقب بأن قوله ((انقضى رأسك وامتشطي)) ظاهر في إبطال العمرة، لأن المحرم لا يفعل مثل ذلك لتأديته إلى نتف الشعر، وأجيب بجوازهما للمحرم حيث لا يؤدي إلى نتف الشعر مع الكراهة بغير عذر أو كان ذلك لأذى برأسها فأباح لها ذلك كما أباح لكعب بن عجرة الحلاق لأذى برأسه، أو نقض رأسها لأجل الغسل لتهل بالحج ولا سيما إن كانت تلبدت فتحتاج إلى نقض الضفر، ولعل المراد بالامتشاط تسريح شعرها بأصابعها برفق حتى لا يسقط منه شيء ثم تضفره كما كان، أو أعادت

ففعلت، حتى قضيت حجي بعث معي ـــــــــــــــــــــــــــــ الشكوى بعد رمي جمرة العقبة فأباح لها الامتشاط حينئذٍ. قال المازري: هو تعسف بعيد من لفظ الحديث، أو كان مذهبها أن المعتمر إذا دخل مكة استباح ما يستبيحه الحاج إذا رمى الجمرة. قال الخطابي: وهذا لا يعلم وجهه – انتهى. وقال ابن دقيق العيد قي شرح العمدة: لما حمل أصحاب الشافعي ومالك أمره عليه السلام بترك العمرة على ترك المضي في أعمالها لا على رفضها بالخروج منها وأنها أهلت بالحج مع بقاء العمرة وكانت قارنة اقتضى ذلك أن يكون قد حصل لها عمرة، وأشكل حينئذٍ قولها ((ينطلقون بحج وعمرة، وأنطلق بحج)) إذ هي أيضًا قد حصل لها حج وعمرة لما تقرر من كونها صارت قارنة فاحتاجوا إلى تأويل هذا اللفظ فأولوا قولها ((ينطلقون بحج وعمرة، وأنطلق بحج)) على أن المراد ينطلقون بحج مفرد عن عمرة وعمرة مفردة عن حج وأنطلق بحج غير مفرد عن عمرة، فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعمرة ليحصل لها قصدها في عمرة مفردة عن حج، هذا حاصل ما قيل في هذا مع أن الظاهر خلافه بالنسبة إلى هذا الحديث، لكن الجمع بين الروايات ألجأهم إلى مثل هذا - انتهى. وإنما أعمرها من التنعيم تطييبًا لقلبها لكونها لم تطف بالبيت لما دخلت معتمرة وقد وقع في رواية لمسلم من حديث جابر وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً سهلاً إذا هويت الشيء تابعها عليه، وأما ما قاله - صلى الله عليه وسلم - لها بعد ما اعتمرت من التنعيم فقال: هذه مكان عمرتك، فمعناه العمرة المنفردة التي حصل لغيرها التحلل منها بمكة ثم أنشأوا الحج منفردًا - فعلى هذا فقد حصل لعائشة عمرتان. قال النووي: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((يسعك طوافك لحجك وعمرتك)) . تصريح بأن عمرتها باقية صحيحة مجزية وأنها لم تلغها ولم تخرج منها، فيتعين تأويل ((ارفضي عمرتك)) . و ((دعي عمرتك)) على ما ذكرناه من رفض العمل فيها وإتمام أفعالها والله أعلم. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - في الرواية الأخرى لما مضت مع أخيها عبد الرحمن ليعمرها من التنعيم ((هذه مكان عمرتك)) فمعناه أنها أرادت أن يكون لها عمرة منفردة عن الحج كما حصل لسائر أمهات المؤمنين وغيرهن من الصحابة الذين فسخوا الحج إلى العمرة وأتموا العمرة وتحللوا منها قبل يوم التروية، ثم أحرموا بالحج من مكة يوم التروية، فحصل لهم عمرة منفردة وحجة منفردة، وأما عائشة فإنما حصل لها عمرة مندرجة في حجة بالقران، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النفر: ((يسعك طوافك لحجك وعمرتك)) أي وقد تمَّا وحُسِبا لك جميعًا فأبت وأرادت عمرة منفردة كما حصل لباقي الناس، فلما اعتمرت عمرة منفردة قال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: هذه مكان عمرتك، أي التي كنت تريدين حصولها منفردة غير مندرجة فمنعك الحيض من ذلك، وهكذا يقال في قولها: ((يرجع الناس بحج وعمرة وأرجع بحج)) أي يرجعون بحج منفرد وعمرة منفردة وأرجع أنا وليس لي عمرة منفردة، وإنما حرصت على ذلك لتكثير أفعالها - انتهى. (فَفَعلْتُ) بسكون اللام على صيغة المتكلم، أي ما أمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - من النقض والامتشاط وترك العمرة والإهلال بالحج (حتى قضيت حجي) أي أديته وأتممته فالقضاء بمعنى الأداء (بعث معي) قيل جملة استئنافية ذكره الطيبي. وفي مسلم ((قالت: ففعلت ذلك حتى إذا قضيت حجي بعث)) إلخ. وكان إرسالها مع أخيها عبد الرحمن ليلة البطحاء أو الحصبة

عبد الرحمن بن أبي بكر، وأمرني أن أعتمر مكان عمرتي من التنعيم. ـــــــــــــــــــــــــــــ وهي ليلة الأربعاء رابع عشرة ذي الحجة (عبد الرحمن بن أبي بكر) الصديق القرشي التيمي يكنى أبا عبد الله، وقيل بل يكنى أبا محمد، وقيل أبا عثمان، أمه أم رومان والدة عائشة فهو شقيقها، وكان اسمه في الجاهلية عبد الكعبة، وقيل عبد العزى، فغيره النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتأخر إسلامه إلى أيام الهدنة، فأسلم وحسن إسلامه. وقيل: إنما أسلم يوم الفتح هو ومعاوية في وقت واحد. ويقال: إنه شهد بدرًا مع المشركين ودعا إلى البراز فقام إليه أبوه ليبارزه فذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: متعنا بنفسك، ثم أسلم وحسن إسلامه، وصحب النبي - صلى الله عليه وسلم - في هدنة الحديبية، وكان أسن ولد أبي بكر. قال الزبير بن بكار: كان رجلاً صالحًا وكانت فيه دعابة. وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب في حديث ذكره أن عبد الرحمن بن أبي بكر لم يجرب عليه كذبة قط. وقال ابن عبد البر: كان من أشجع رجال قريش وأرماهم بسهم، وحضر اليمامة مع خالد بن الوليد فقتل سبعة من كبارهم منهم محكم اليمامة ابن طفيل، رماه بسهم في نحره فقتله. وأخرج الزبير عن عبد الله بن نافع قال: خطب معاوية فدعا الناس إلى بيعة يزيد فكلمه الحسين بن عليّ وابن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر، فقال له عبد الرحمن: أهرقلية كلما مات قيصر كان قيصر مكانه؟ لا نفعل والله أبدًا. وبعث إليه معاوية بعد ذلك بمائة ألف درهم فردها؛ وقال: لا أبيع ديني بدنياي. وخرج إلى مكة فمات بها قبل أن تتم البيعة ليزيد، وكان موته فجأة من نومة نامها بمكان على عشرة أميال من مكة. وقيل: توفي بحبشى، وهو على اثني عشر ميلاً من مكة فحمل إلى مكة فدفن بها. ولما بلغ عائشة خبره خرجت حاجة فوقفت على قبره وأنشدت أبيات متمم بن نويرة في أخيه مالك: وكنا كندماني جذيمة حقبة _ ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا فلما تفرقنا كأني ومالكًا _ ... بطول اجتماع لم نبت ليلة معًا ثم قالت: لو حضرتك دفنتك حيث مت. روى عبد الرحمن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث منها في الصحيح، وعن أبيه وروى عنه ابنه عبد الله وحفصة وابن أخيه القاسم بن محمد وغيرهم. قال الخزرجي: له ثمانية أحاديث اتفقا على ثلاثة، مات سنة ثلاث وخمسين، قاله ابن سعد. وقيل بعد ذلك (وأمرني أن أعتمر مكان عمرتي) أي بدلها، نصب على المصدر. قاله ابن الملك. أي عمرتي التي تركتها (من التنعيم) متعلق بأعتمر، وزاد في رواية عند الشيخين وغيرهما. ((فاعتمرت فقال: هذه (أي العمرة) مكان عمرتك)) . قال الزرقاني: بالرفع على الخبرية وبالنصب على الظرفية وعامله محذوف، وهو الخبر أي كائنة أو مجعولة مكان عمرتك. قال عياض: والرفع أوجه عندي إذ لم يرد به الظرف، إنما أراد عوض عمرتك. فمن قال: كانت قارنة، قال: مكان عمرتك التي أردت أن تأتي بها مفردة، وحينئذٍ فتكون عمرتها من التنعيم تطوعًا لا عن فرض لكنه أراد تطييب نفسها بذلك. ومن قال: كانت مفردة قال: مكان عمرتك التي فسخت الحج إليها. ولم

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ تتمكني من الإتيان بها للحيض. وقال السهيلي: الوجه النصب على الظرف لأن العمرة ليست بمكان لعمرة أخرى لكن إن جعلت مكان بمعنى عوض أو بدل مجازًا أي هذه بدل عمرتك جاز الرفع حينئذٍ – انتهى. والتَّنْعِيم تفعيل بفتح المثناة الفوقية وسكون النون وكسر العين المهملة، موضع على ثلاثة أميال أو أربعة من مكة أقرب الحل إلى البيت، سمي به لأن على يمينه جبل نُعيم (بضم النون) ، وعلى يساره جبل ناعم، والوادي اسمه نَعمان (بفتح النون) قاله في القاموس. قال المحب الطبري: هو أمام أدنى الحل وليس بطرف الحل، ومن فسره بذلك فقد تجوز وأطلق اسم الشيء على ما قرب منه، ذكره القسطلاني. وقال الحافظ: مكان خارج مكة على أربعة أميال منها إلى جهة المدينة كما نقله الفاكهي. وقال المحب الطبري: التنعيم أبعد من أدنى الحل إلى مكة بقليل وليس بطرف الحل بل بينهما نحو ميل، ومن أطلق عليه طرف الحل فهو تجوز. قال الحافظ: وأراد بالنسبة إلى بقية الجهات. واختلف في موضع إحرام عائشة فروى الأزرقي عن ابن جريج قال: رأيت عطاء يصف الموضع الذي أحرمت منه عائشة فأشار إلى الموضع الذي وراء الأكمة وهو المسجد الخَرِب (بفتح الخاء المعجمة وكسر الراء المهملة) . ونقل الفاكهي عن ابن جريج وغيره أن ثم مسجدين يزعم أهل مكة أن الخرب الأدنى من الحرم هو الذي أحرمت منه عائشة، وقيل: هو المسجد الأبعد عن الأكمة الحمراء، ورجحه المحب الطبري (ص 576) وقال الفاكهي: لا أعلم ذلك إلا أني سمعت ابن أبي عمير يذكر عن أشياخه أن الأول هو الصحيح عندهم. والحديث يدل على أن إعمارها من التنعيم كان بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصرح منه ما أخرجه أبو داود من طريق حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يا عبد الرحمن أردف أختك عائشة فأعمرها من التنعيم – الحديث. ونحوه رواية الأسود عن عائشة عند البخاري قال: ((فاذهبي مع أخيك إلى التنعيم)) . وفي رواية عن الأسود والقاسم جميعًا عنها بلفظ ((فاخرجي إلى التنعيم)) وهو صريح بأن ذلك كان عن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكل ذلك يفسر قوله في رواية القاسم عنها بلفظ ((اخرج بأختك من الحرم)) ، وأما ما رواه أحمد من طريق ابن أبي مليكة عنها في هذا الحديث ((قال: ثم أرسل إلى عبد الرحمن بن أبي بكر فقال: احملها خلفك حتى تخرج من الحرم، فوالله ما قال: فتخرجها إلى الجعرانة ولا إلى التنعيم)) فهي رواية ضعيفة لضعف أبي عامر الخراز الراوي له عن ابن أبي مليكة، ويحتمل أن يكون قوله ((فوالله)) إلخ من كلام من دون عائشة، قاله متمسكًا لإطلاق قوله ((فأخرجها من الحرم)) لكن الروايات المقيدة بالتنعيم مقدمة على المطلقة فهو أولى ولا سيما مع صحة أسانيدها، كذا في الفتح، وعقد البخاري في صحيحه لحديث عبد الرحمن بن أبي بكر في أمره - صلى الله عليه وسلم - إياه إعمارها من التنعيم ((باب عمرة التنعيم)) . قال الحافظ: يعني هل تتعين لمن كان بمكة أم لا؟ وإذا لم تتعين هل لها فضل على الاعتمار من غيرها من جهات الحل أو لا؟ قال صاحب الهدي: لم ينقل أنه - صلى الله عليه وسلم - اعتمر مدة إقامته بمكة قبل الهجرة ولا اعتمر بعد الهجرة إلا داخلاً إلى مكة، ولم يعتمر قط خارجًا من مكة إلى

قالت: فطاف الذين كانوا أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة ثم حلوا، ثم طافوا طوافًا بعد أن رجعوا من منى، ـــــــــــــــــــــــــــــ الحل ثم يدخل مكة بعمرة كما يفعل الناس اليوم، ولا ثبت عن أحد من الصحابة أنه فعل ذلك في حياته إلا عائشة وحدها. قال الحافظ: وبعد أن فعلته عائشة بأمره دل على مشروعيته. واختلف السلف في جواز الاعتمار في السنة أكثر من مرة فكرهه مالك وخالفه مطرف وطائفة من أتباعه وهو قول الجمهور. واستثنى أبو حنيفة يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق، ووافقه أبو يوسف إلا في يوم عرفة، واستثنى الشافعي البائت بمنى لرمي أيام التشريق، وفيه وجه اختاره بعض الشافعية فقال بالجواز مطلقًا كقول الجمهور. والله أعلم. وقد تقدم شيء من الكلام في ذلك في شرح حديث أبي هريرة ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما)) . قال الحافظ: واختلفوا أيضًا هل يتعين التنعيم لمن اعتمر من مكة، وتقدم الكلام فيه أيضًا في شرح حديث ابن عباس في المواقيت. قال الحافظ: واستدل بحديث عبد الرحمن بن أبي بكر في إعمار عائشة من التنعيم على تعين الخروج إلى الحل لمن أراد العمرة ممن كان بمكة، وهو أحد قولي العلماء. والثاني: تصح العمرة ويجب عليه دم لترك الميقات. وليس في حديث الباب ما يدفع ذلك. واستدل به أيضًا على أن أفضل جهات الحل التنعيم. وتعقب بأن إحرام عائشة من التنعيم إنما وقع لكونه أقرب جهة الحل إلى الحرم لا لأنه الأفضل. وقال في باب ((أجر العمرة على قدر التعب)) بعد ذكر ما روى الدارقطني والحاكم من حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها في عمرتها: ((إنما أجرك في عمرتك على قدر نفقتك)) . استدل به على أن الاعتمار لمن كان بمكة من جهة الحل القريبة أقل أجرًا من الاعتمار من جهة الحل البعيدة، وهو ظاهر هذا الحديث. وقال الشافعي في الإملاء: أفضل بقاع الحل للاعتمار الجعرانة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحرم منها، ثم التنعيم لأنه أذن لعائشة منها. قال: وإذا تنحى عن هذين الموضعين فأين أبعد حتى يكون أكثر لسفره كان أحب إليّ. وحكى الموفق في المغني عن أحمد: أن المكي كلما تباعد في العمرة كان أعظم لأجره. وقال الحنفية: أفضل بقاع الحل للاعتمار التنعيم، ووافقهم بعض الشافعية والحنابلة. ووجهه ما قدمناه أنه لم ينقل أن أحدًا من الصحابة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج من مكة إلى الحل ليحرم بالعمرة غير عائشة، وأما اعتماره - صلى الله عليه وسلم - من الجعرانة فكان حين رجع من الطائف مجتازًا إلى المدينة. ولكن لا يلزم من ذلك تعين التنعيم للفضل لما دل عليه هذا الخبر أن الفضل في زيادة التعب والنفقة، وإنما يكون التنعيم أفضل من جهة أخرى تساويه إلى الحل من جهة أبعد منه – انتهى. (فطاف) أي طواف العمرة (الذين كانوا أهلوا بالعمرة) وحدها يعني الذين أفردوا العمرة عن الحج (بالبيت) متعلق بطاف أي عند دخولهم مكة (وبين الصفا والمروة) أي وسعوا بينهما. وقال القاري: الطواف يراد به الدور الذي يشمل السعي فصح العطف ولم يحتج إلى تقدير عامل وجعله نظير ((علفتها تبنًا وماء باردًا)) (ثم حلوا) أي خرجوا من العمرة بالحلق أو التقصير ثم أحرموا بالحج من مكة (ثم طافوا طوافًا) أي للحج يوم النحر، وهو طواف الإفاضة (بعد أن رجعوا من منى) أي إلى

............................................................................................ ـــــــــــــــــــــــــــــ مكة، وقد سقط عنهم طواف القدوم إجماعًا لأنهم صاروا في حكم أهل مكة، والمكي لا طواف عليه للقدوم إلا ما حُكي عن الإمام أحمد: أن المتمتع يطوف يوم النحر أولاً للقدوم ثم يطوف طوافًا آخر للحج. قال الخرقي: إن كان متمتعًا فيطوف بالبيت سبعًا وبالصفا والمروة سبعًا كما فعل بالعمرة ثم يعود فيطوف طوافًا ينوي به الزيارة. قال ابن قدامة: أما الطواف الأول الذي ذكره الخرقي ها هنا فهو طواف القدوم، لأن المتمتع لم يأت به قبل ذلك والطواف الذي طافه في العمرة كان طوافها. ونص أحمد على أنه مسنون للمتمتع في رواية الأثرم، قال: قلت لأبي عبد الله رحمه الله: فإذا رجع أعني المتمتع كم يطوف ويسعى؟ قال: يطوف ويسعى لحجه ويطوف طوافًا آخر للزيارة، عاودناه في هذا غير مرة فثبت عليه. وكذلك الحكم في القارن والمفرد إذا لم يكونا أتيا مكة قبل يوم النحر ولا طافا للقدوم فإنهما يبدآن بطواف القدوم قبل طواف الزيارة نص عليه أحمد أيضًا، واحتج بما روت عائشة قالت: فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة ثم حلوا فطافوا طوافًا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم. وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافًا واحدًا، فحمل أحمد قول عائشة على أن طوافهم لحجهم هو طواف القدوم، ولأنه قد ثبت أن طواف القدوم مشروع، فلم يكن تعين طواف الزيارة مسقطًا له كتحية المسجد عند دخوله قبل التلبس بصلاة الفرض ولم أعلم أحدًا وافق أبا عبد الله على هذا الطواف الذي ذكره الخرقي، بل المشروع طواف واحد للزيارة كمن دخل المسجد وقد أقيمت الصلاة فإنه يكتفي بها عن تحية المسجد، ولأنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه الذين تمتعوا معه في حجة الوداع ولا أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدًا، وحديث عائشة دليل على هذا فإنها قالت: طافوا طوافًا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم، وهذا هو طواف الزيارة، ولم تذكر طوافًا آخر، ولو كان هذا الذي ذكرته طواف القدوم لكانت قد أخلت بذكر طواف الزيارة الذي هو ركن الحج لا يتم الحج إلا به، وذكر ما يستغنى عنه، وعلى كل حال فما ذكرت إلا طوافًا واحدًا، فمن أين يستدل به على طوافين؟ وأيضًا فإنها لما حاضت قرنت الحج إلى العمرة بأمر من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم تكن طافت للقدوم ولا أمرها به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد ذكر الخرقي في موضع آخر في المرأة إذا حاضت فخشيت فوات الحج: أهلت بالحج وكانت قارنة ولم يكن عليها قضاء طواف القدوم، ولأن طواف القدوم لو لم يسقط بالطواف الواجب لشرع في حق المعتمر طواف للقدوم مع طواف العمرة، لأنه أول قدوم إلى البيت فهو به أولى من المتمتع الذي يعود إلى البيت بعد رويته وطوافه به، وفي الجملة إن هذا الطواف المختلف فيه ليس بواجب، وإنما الواجب طواف واحد وهو طواف الزيارة، وهو في حق المتمتع كهو في حق القارن والمفرد في أنه ركن للحج لا يتم إلا به – انتهى كلام ابن قدامة. واختار الشيخ تقي الدين ابن تيمية ما رجحه ابن قدامة وصححه الشيخ أبو الفرج عبد الرحمن بن رجب. قال ابن القيم بعد ما حكى كلام ابن قدامة المتقدم: لم يرفع كلام أبي محمد يعني ابن قدامة الإشكال، وإن كان

وأما الذين جمعوا الحج والعمرة، فإنما طافوا طوافًا واحدًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ الذي أنكره أي من تكرار الطواف يوم النحر بعد الوقوف للمتمتع هو الحق كما أنكره، والصواب في إنكاره فإن أحدًا لم يقل إن الصحابة لما رجعوا من عرفة طافوا للقدوم وسعوا ثم طافوا للإفاضة بعده ولا النبي - صلى الله عليه وسلم -، هذا لم يقع قطعًا ولكن كان منشأ الإشكال أن أم المؤمنين فرقت بين المتمتع والقارن فأخبرت أن القارنين طافوا طوافًا واحدًا وأن الذين أهلوا بالعمرة طافوا طوافًا أخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم، وهذا غير طواف الزيارة قطعًا فإنه يشترك فيه القارن والمتمتع فلا فرق بينهما فيه، ولكن الشيخ أبو محمد لما رأى قولها في المتمتعين ((أنهم طافوا طوافًا آخر بعد أن رجعوا من منى)) قال: ليس في هذا ما يدل على أنهم طافوا طوافين، والذي قاله حق ولكن لم يرفع الإشكال، فقالت طائفة: هذه الزيادة من كلام عروة أو ابنه هشام: أدرجت في الحديث وهذا لا يتبن، ولو كان فغايته أنه مرسل ولم يرتفع الإشكال عنه بالإرسال، فالصواب أن الطواف الذي أخبرت به عائشة وفرقت به بين المتمتع والقارن هو الطواف بين الصفا والمروة، لا الطواف بالبيت، وزال الإشكال جملة فأخبرت عن القارنين أنهم اكتفوا بطواف واحد بينهما لم يضيفوا إليه طوافًا آخر يوم النحر، وهذا هو الحق. وأخبرت عن المتمتعين أنهم طافوا بينهما طوافًا آخر بعد الرجوع من منى للحج، وذلك الأول كان للعمرة، وهذا هو قول الجمهور – انتهى. (وأما الذين جمعوا الحج والعمرة) أي ابتداء أو إدخالاً لأحدهما في الآخر. وفي رواية ((وأما الذين كانوا أهلوا بالحج (أي مفردًا) أو جمعوا الحج والعمرة)) (أي قارنوا) (فإنما طافوا طوافًا واحدًا) أي بعد الوقوف بعرفة يوم النحر للحج والعمرة جميعًا. قال الزرقاني: لأن القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد، لأن أفعال العمرة تندرج في أفعال الحج، وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وأحمد والجمهور، وقال الحنفية: لا بد للقارن من طوافيين وسعيين – انتهى. وقال العيني: في الحديث – يعني حديث عائشة - حجة لمن قال الطواف الواحد والسعي الواحد يكفيان للقارن وهو مذهب عطاء والحسن وطاوس، وبه قال مالك وأحمد والشافعي وإسحاق وأبو ثور وداود إلى آخر ما قال. قلت: هكذا صرح غير واحد من شراح الحديث من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم بأن الحديث حجة للأئمة الثلاثة في وحدة الطواف للقارن خلافًا للحنفية القائلين بالطوافين له، قيل: والحديث بظاهره مشكل على الجميع لأنه يدل على اكتفائهم بطواف واحد، وقد ثبت بالأحاديث الصحيحة أنهم طافوا ثلاثة أطوفة: الأول طواف القدوم، والثاني طواف الإفاضة، والثالث طواف الوداع، ولذلك اتفق الجميع على أن القارن يطوف ثلاثة أطوفة، طواف القدوم والركن والوداع، وزادت الحنفية على ذلك طواف العمرة فصارت أربعة. قال ابن قدامة: الأطوفة المشروعة في الحج ثلاثة: طواف الزيارة، وهو ركن الحج، لا يتم إلا به بغير خلاف، وطواف

............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ القدوم، وهو سنة لا شيء على تاركه، وطواف الوداع، واجب ينوب عنه الدم إذا تركه، وبهذا قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري. وقال مالك: على تارك طواف القدوم دم، ولا شيء على تارك طواف الوداع، وحكي عن الشافعي كقولنا في طواف الوداع، وكقوله في طواف القدوم – انتهى. وعد النووي في مناسكه طواف القدوم من السنن والوداع من الواجبات. وصرح الدردير بوجوب طواف القدوم، وصرح أتباع الأئمة الثلاثة في فروعهم أن القارن حكمه حكم المفرد خلافًا للحنفية، فالقارن عند أتباع الثلاثة يطوف ثلاثة أطوفة كالمفرد، الأول طواف القدوم، والثاني طواف الإفاضة يوم النحر، لكنه عندهم للحج والعمرة كليهما فإنه دخل عمل العمرة في عمل الحج، والثالث طواف الصدر، وأما الحنفية فزادوا على ذلك طواف العمرة وقالوا: طواف الإفاضة هو للحج فقط فصارت أطوفة القارن عندهم أربعة. قال في الهداية في بيان القارن: إذا دخل مكة ابتدأ فطاف بالبيت سبعة أشواط، يرمل في الثلاث الأول منها ويسعى بعدها بين الصفا والمروة، وهذه أفعال العمرة ثم يبدأ بأفعال الحج فيطوف طواف القدوم ويسعى بعده كما بينا في المفرد – انتهى. وقيل الأطوفة للقارن عند الحنفية أيضًا ثلاثة كالمفرد لكن الطواف الأول يوم الورود واللقاء هو للعمرة وتداخل فيه طواف القدوم، والطواف الثاني أي يوم النحر هو للحج فقط. قال الشيخ محمد أنور الكشميري الحنفي: ويمكن أن يقال: إن الطواف الأول يوم القدوم كان للعمرة وتداخل فيه طواف القدوم. وقال الشيخ ثناء الله الفاني فتى في تفسيره: قلت: وذلك الطواف والسعي كان لعمرته وكفاه عن طواف القدوم لحجه – انتهى. ولكن ظاهر حديث عائشة مخالفًا للأحاديث الدالة على تعدد الطواف للمفرد والقارن احتاج الجميع إلى توجيهه وتأويله فقال السندي في حاشيته على البخاري: ظاهر الحديث أنهم إنما اقتصروا من الطوافين الذين طافهما السابقون على أحدهما إما الأول وإما الثاني، وليس الأمر كذلك بل هم أيضًا طافوا الطوافين الأول والثاني جميعًا، ذلك مما لا خلاف فيه، وقد جاء صريحًا عن ابن عمر، ففي صحيح مسلم عنه " وبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج، إلى أن قال: " وطاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قدم مكة، إلى أن قال: ونحر هديه يوم النحر وأفاض وطاف بالبيت وفعل مثل ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهدى وساق الهدي من الناس. ثم ذكر عن عائشة أنها أخبرت بمثل ذلك، وسيجيء هذا الحديث في البخاري أيضًا في باب سوق البدن، فالمراد كما سبق أنهم طافوا للركن طوافًا واحدًا والسابقون طافوا للركن طوافين، وقال أيضًا: قوله ((وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافًا واحدًا)) أي ما طافوا طواف الفرض إلا طوافًا واحدًا هو طواف الإفاضة، والذي طافوا أولاً كان طواف القدوم الذي هو من السنن لا من الفرائض بخلاف الذين حلوا فإنهم طافوا أولاً فرض العمرة ثم فرض الحج فطافوا طوافين للفرض، ولم يرد أن الذين جمعوا ما طافوا أولاً حين القدوم أو ما طافوا آخرًا بعد الرجوع من منى كما يفيده ظاهر الكلام

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ كيف والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان من الذين جمعوا على التحقيق وعلى مقتضى هذا الحديث، لأنه كان معه الهدي ألبتة، وقد ثبت أنه طاف أولاً حين قدم وطاف ثانيًا طواف الإفاضة حين رجع من منى، بل لعله ما ثبت أن أحدًا ترك الطواف عند القدوم ولا طواف الإفاضة، فلا فرق بين الطائفتين إلا بصفة الافتراض، فطواف من حل كان مرتين فرضًا وطواف من لم يحل كان مرة فرضًا، والله تعالى أعلم، والحاصل أن إحدى الطائفتين طافوا طوافين للنسكين والثانية طافوا لهما واحدًا – انتهى. وقال الباجي: قولهما ((أما الذين أهلوا بالحج أو جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافًا واحدًا)) تريد - والله أعلم – أحد وجهين: أما أنهم لم يطوفوا غير طواف واحد للورود وطواف واحد للإفاضة إن كانوا قرنوا قبل دخول مكة، وإن كانوا أردفوا فلم يطوفوا غير طواف واحد وهو طواف الإفاضة، ويحتمل أن يريد بذلك أنهم سعوا لهما سعيًا واحدًا والسعي يسمى طوافًا، والوجه الثاني: أن طوافهم كان على صفة واحدة لم يزد القارن فيه على طواف المفرد، وذلك أن القارن لم يفرد العمرة بطواف وسعي بل طاف لهما كما طاف المفرد للحج، وهذا نص في صحة ما ذهب إليه مالك ومن وافقه في أن حكم القارن في ذلك حكم المفرد - انتهى. ثم قال: وهؤلاء جمعوا الحج والعمرة لا يخلو أن يكونوا أهلوا بهما جميعًا أو أردفوا الحج على العمرة إذ أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فإن كانوا ممن أهل بهما فقد طافوا لهما طواف الورود، وسعوا بأثره، ثم طافوا لهما بعد ذلك طواف الإفاضة ولم يسعوا بعده. وأما من أردف الحج على العمرة فإن كان أردفه قبل الوصول إلى مكة فحكمه حكم من أهل بهما وقد تقدم حكمه. وأما من أردفه بعد الوصول إلى مكة وقبل التلبس بالطواف فإنه لا يطوف بالبيت ولا يسعى بين الصفا والمروة حتى يرجع من منى لأنه محرم بالحج من مكة، ومن أحرم بالحج من مكة فليس عليه طواف ورود، فهذا المردف لما أحرم بالحج من مكة لا تأثير لما تقدم من عمرته في الورود ولا في غير ذلك من الأفعال غير وجوب الدم للقران – انتهى. وقال ابن قدامة ما محصله: أن المراد الطواف الواحد للزيارة بعد الرجوع عن منى بخلاف المتمتع فإنه يطوف عند أحمد إذ ذاك طوافين: طواف القدوم وطواف الزيارة، لأن المتمتع لم يأت بطواف القدوم قبل ذلك، والطواف الذي طافه قبل الخروج إلى منى كان للعمرة، وعلى هذا معنى قولها ((طوافًا واحدًا)) أي يوم النحر للزيارة فقط لا للقدوم طوافًا آخر كما يفعله المتمتع عند الحنابلة، وقد تقدم كلام ابن قدامة بتمامه. وأجاب الحنفية عن حديث الباب وأولوه بوجوه، فقال بعضهم إن المراد بقوله: " طوافًا واحدًا " أي طاف لكل واحد منهما طوافًا يشبه الطواف الذي للآخر – انتهى. ولا يخفى ما في هذا التأويل من التعسف، وقال الطحاوي: إن عائشة أرادت بقولها: ((وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة فإنما طافوا لهما طوافًا واحدًا)) يعني الذين تمتعوا بالعمرة إلى الحج، لأن حجتهم كانت مكية، والحجة المكية لا يطاف لها إلا بعد عرفة. قال: والمراد بقولها "جمعوا بين الحج والعمرة، جمع متعة لا جمع قران – انتهى. قال الحافظ

............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ بعد ذكره: وإني لكثير التعجب منه في هذا الموضع كيف ساغ له هذا التأويل، وحديث عائشة مفصل للحالتين فإنها صرحت بفعل من تمتع ثم من قرن حيث قالت: فطاف الذين أهلوا بالعمرة ثم حلوا طوافًا آخر بعد أن رجعوا من منى. فهؤلاء أهل التمتع، ثم قالت: وأما الذين جمعوا، إلخ. فهؤلاء أهل القران وهذا أبين من أن يحتاج إلى إيضاح – انتهى. وقال بعضهم: إن مقصود عائشة بهذا الحديث ليس بيان وحدة الطواف وتعدده بل المراد بيان أنهم طافوا للتحلل عن الحج والعمرة طوافًا واحدًا يعني أن القارن يكون مهلاً بإحرامين والطواف يكون محلاً للإحرام فكان مقتضاه أن يكون المحل طوافين للإحرامين كما وقع للمتمتعين لكن القارن يكفي له للتحلل عن الإحرامين طواف واحد. وهذا التأويل أيضًا بعيد جدًا، لا يخفى بعده وتعسفه على المنصف، واختار ابن القيم وجهًا آخر فقال: الصواب أن الطواف الذي أخبرت به عائشة وفرقت به بين المتمتع والقارن هو الطواف بين الصفا والمروة لا الطواف بالبيت فأخبرت عن القارنين أنهم اكتفوا بطواف واحد بينهما لم يضيفوا إليه طوافًا آخر يوم النحر وهذا هو الحق، وأخبرت عن المتمتعين أنهم طافوا بينهما طوافًا آخر بعد الرجوع من منى للحج وذلك الأول كان للعمرة وهذا قول الجمهور، وتنزيل الحديث على هذا موافق لحديثها الآخر، وهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " يسعك طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة لحجك وعمرتك " وكانت قارنة، ويوافق قول الجمهور ولكن يشكل عليه حديث جابر الذي رواه مسلم في صحيحه " لم يطف النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافًا واحدًا طوافه الأول، هذا يوافق قول من يقول يكفي المتمتع سعي واحد كما هو إحدى الروايتين عن أحمد نص عليها في رواية ابنه عبد الله وغيره، وعلى هذا فيقال عائشة أثبتت وجابر نفى، والمثبت مقدم على النافي، أو يقال مراد جابر من قرن من أصحابه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وساق الهدى كأبي بكر وعمر وطلحة وعلي رضي الله عنهم وذوي اليسار، فإنهم إنما سعوا سعيًا واحدًا، وليس المراد به عموم الصحابة، أو يعلل حديث عائشة بأن تلك الزيادة فيه مدرجة من قول هشام، وهذه ثلاث طرق للناس في حديثها، والله أعلم – انتهى كلام ابن القيم. قلت: والطريق الأخير ضعيف جدًا بل باطل لأنه ليس في طريق حديث عائشة هذا هشام فإنه من رواية مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عنها، فهذا إسناد غاية في الصحة، فممن الخطأ والإدراج؟ ويؤيده أن له طريقًا أخرى عنها في الموطأ في باب دخول الحائض مكة " عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عنهما " وهذا سند صحيح كالجبل ثبوتًا. وسيجيء الكلام في مسألة السعي بين الصفا والمروة للمتمتع بعد الرجوع من منى للحج. والراجح عندي في معنى الحديث هو ما قال السندي ومن وافقه، وهو المعروف في توضيح الحديث وتوجيهه عند القائلين بوحدة الطواف للقارن، وما اختاره ابن القيم وجيه أيضًا عندي وسيأتي إيضاحه، واعلم أنه اختلف العلماء في طواف القارن والمتمتع إلى ثلاثة مذاهب، الأول: أن على القارن طوافًا واحدًا وسعيًا واحدًا وأن ذلك يكفيه لحجه وعمرته، وأن على المتمتع طوافين وسعيين، وهذا مذهب

............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ جمهور العلماء، منهم مالك والشافعي وأحمد في أصح الروايتين. الثاني: أن على كل واحد منهما سعيين وطوافين وهذا مذهب أبي حنيفة. الثالث: أنهما معًا يكفيهما طواف واحد وسعي واحد، وهو مروي عن الإمام أحمد كما تقدم في كلام ابن القيم، أما الجمهور المفرقون بين القارن والمتمتع القائلون بأن القارن يكفي لحجه وعمرته طواف زيارة واحد وهو طواف الإفاضة، وسعي واحد، فاحتجوا بأحاديث صحيحة ليس مع مخالفيهم ما يقاومها، منها حديث عائشة الذي نحن في شرحه، فإن قولها " وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافًا واحدًا، نص صريح دال على اكتفاء القارن بطواف واحد لحجه وعمرته، وقال ابن القيم: إن المراد بالطواف في حديث عائشة هذا هو الطواف بين الصفا والمروة، وله وجه من النظر كما سيأتي، وقد أجاب الحنفية عن هذا الحديث بوجوه، منها أن روايات عائشة في حجتها وحجته - صلى الله عليه وسلم - مضطربة. قال العيني: أحاديث عائشة في هذا الباب مضطربة جدًا لا يتم بها الاستدلال لأحد من الخصوم، ثم ذكر بعض الاختلاف، قالوا: فيشكل على حديثها المدار في مثل هذه المسألة، قلت: حديث عائشة هذا صحيح ثابت اتفق عليه الشيخان، وهو نص في المسألة، وقد تقدم وجه الجمع بين ما يتوهم من الاختلاف في بعض رواياتها فرده بادعاء الاضطراب فيه أمر قبيح جدًا، ومنها ما تقدم عن الطحاوي، وقد تقدم الجواب عنه في كلام الحافظ. ومن الأحاديث التي استدل بها الجمهور ما رواه مسلم في صحيحه من طريق طاوس عن عائشة أنها أهلت بعمرة فقدمت ولم تطف بالبيت حتى حاضت فنسكت المناسك كلها وقد أهلت بالحج فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: يسعك طوافك لحجك وعمرتك – الحديث. ففي هذا الحديث الصحيح التصريح بأنها كانت محرمة أولاً بالعمرة ومنعها الحيض من الطواف فلم يمكنها أن تحل بعمرة فأهلت بالحج مع عمرتها الأولى فصارت قارنة، ومع كونها قارنة صرح بأنها يكفيها لهما طواف واحد. وروى مسلم أيضًا من طريق مجاهد عن عائشة أنها حاضت بسرف فتطهرت بعرفة فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يجزئ عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك- انتهى. وهذا الحديث الصحيح صريح في أن القارن يكفيه لحجه وعمرته طواف واحد وسعي واحد ومنها حديث ابن عمر عند الشيخين، روى البخاري من طريق أيوب عن نافع أن ابن عمر دخل ابنه عبيد الله بن عبد الله وظهره في الدار فقال: إني لا آمن أن يكون العام بين الناس قتال فيصدوك عن البيت فلو أقمت، فقال: قد خرج رسول الله عليه وسلم فحال كفار قريش بينه وبين البيت، فإن حيل بيني وبينه أفعل كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (33: 21) ثم قال: أشهدكم أني أوجبت مع عمرتي حجًا. قال: ثم قدم فطاف لهما طوافًا واحدًا – انتهى. وفيه دليل على أن القارن يكفيه طواف واحد لحجته وعمرته وأجاب بعض الحنفية عنه بأنه ليس بصريح في اكتفاء القارن بطواف واحد فإنه يحتمل أن يكون المراد بقوله " طوافًا واحدًا أي طاف لكل منهما طوافًا يشبه الطواف الذي للآخر، وكذا أولوا رواية عائشة المتقدمة كما سبق وفيه أنه يرفع ...

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا الاحتمال قوله في الرواية الآتية " ورأى أنه قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول " وتأوله بعضهم بأن المراد أنه طاف للقدوم طوافًا واحدًا يعني أنه اكتفى قبل النحر بطوافه للقدوم في العمرة وكان هذا الطواف في الأصل للعمرة وتداخل فيه طواف القدوم فلم يعده، ثم طاف يوم النحر طوافًا للحج، وتأوله بعضهم بأن المراد أنه طاف طوافًا واحدًا للحل منهما جميعًا حيث لم يتحلل بعد أفعال العمرة يعني أنه طاف للإحلال منهما طوافًا واحدًا هو طواف الإفاضة، ولا يخفى ما في هذين التأويلين من التكلف والتعسف. وروى البخاري من طريق الليث عن نافع أن ابن عمر أراد الحج عام نزل الحجاج بابن الزبير فقيل له: إن الناس كائن بينهم قتال وإنا نخاف إن يصدوك، فقال {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} إذًا أصنع كما صنع رسول الله عليه وسلم، إني أشهدكم أني قد أوجبت عمرة، ثم خرج حتى إذا كان بظاهر البيداء قال: ما شأن الحج والعمرة إلا واحد أشهدكم أني قد أوجبت حجًا مع عمرتي وأهدى هديًا اشتراه بقديد، ولم يزد على ذلك فلم ينحر ولم يحل من شيء حرم منه ولم يحلق ولم يقصر حتى كان يوم النحر فنحر وحلق ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول. وقال ابن عمر: كذلك فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - – انتهى. وفي هذه الرواية التصريح من ابن عمر باكتفاء القارن بطواف واحد، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك فعل. قال الكرماني في شرح هذا الحديث: يعني أنه لم يكرر الطواف للقران بل اكتفى بطواف واحد. وقال الحافظ: قوله " بطوافه الأول " أي الذي طافه يوم النحر للإفاضة – انتهى. وقال السندي في حاشيته على البخاري: قوله " بطوافه الأول " أي بأول طواف طافه بعد النحر والحلق فإنه هو ركن الحج عندهم لا الذي طافه حين القدوم، وإن كان هو المتبادر من اللفظ فإنه للقدوم وليس بركن للحج، والله تعالى أعلم، وأجاب عنه بعض الحنفية بأن المراد به طواف القدوم كما هو المتبادر، وأن هذا الطواف الواحد أجزأ عن طواف القدوم للحج وطواف العمرة جميعًا، ثم طاف طواف الإفاضة يوم النحر ولم يذكره في الرواية وهو مراد ألبتة وإن تركه الرواي. قالوا: ويدل عليه قوله " وكذلك فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل كذلك حيث طاف يوم القدوم، وأجزأ ذلك الطواف الأول عن القدوم والعمرة جميعًا ثم طاف يوم النحر، وفيه أنه يلزم على هذا التأويل أن ابن عمر أو من دونه قد أخل بذكر طواف الزيارة الذي هو ركن الحج لا يتم الحج إلا به، وذكر ما يستغنى عنه، وفيه أيضًا أنه قد ثبت عنه طواف الإفاضة في رواية سالم عنه عند الشيخين حيث قال: "بدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج " إلى أن قال " وطاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قدم مكة إلى أن قال " ونحر هديه يوم النحر وأفاض وطاف بالبيت وفعل مثل ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهدى وساق الهدي من الناس، ثم ذكر عن عائشة أنها أخبرت بمثل ذلك. قلت: واستدل بظاهر حديث لمالك فيما ذهب إليه من إجزاء طواف القدوم عن طواف الإفاضة لمن تركه جاهلاً أو نسيه. قال الحافظ: وتوهم بعضهم أنه أراد طواف القدوم. وقال ابن

........................................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ عبد البر في حجة لمالك في قوله " إن طواف القدوم إذا وصل بالسعي يجزئ عن طواف الإفاضة لمن تركه جاهلاً أو نسيه حتى رجع إلى بلده وعليه الهدي، قال: ولا أعلم أحدًا قال به غيره وأصحابه، وتعقب بأنه إن حمل قوله " طوافه الأول " على طواف القدوم وأنه أجزأ عن طواف الإفاضة كان ذلك دالاً على الإجزاء مطلقًا ولو تعمده، لا بقيد الجهل والنسيان – انتهى. قلت: حمله على طواف القدوم والقول بسقوط طواف الإفاضة في تلك الصورة أو مطلقًا باطل بلا شك، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكتف بطوافه الذي طاف يوم دخل مكة بل طاف يوم النحر طواف الإفاضة الذي هو ركن الحج بإجماع المسلمين، وثبت ذلك ثبوتًا قطعيًا، وأما القول بأن ذلك الطواف الأول كان عن القدوم للحج وطواف العمرة جميعًا فادعاء محض ليس عليه أثارة من علم فلا يلتفت إليه، وقال السندي في حاشية البخاري بعد ذكر التأويل الذي نقلنا عنه ما لفظه: ولا يخفى أن بعض روايات حديث ابن عمر يبعد هذا التأويل ويقتضي أن الطواف الذي يجزئ عنهما هو الذي حين القدوم، ففي رواية للبخاري " ثم قدم فطاف لهما طوافًا واحدًا " وسيجيء في البخاري في باب من اشترى الهدي من الطريق بلفظ " ثم قدم فطاف لهما طوافًا واحدًا فلم يحل حتى حل منهما جميعًا " وسيجيء في باب الإحصار " وكان يقول أي ابن عمر: لا يحل حتى يطوف طوافًا واحدًا يوم يدخل مكة " وفي بعض روايات مسلم " فخرج حتى إذا جاء البيت طاف به سبعًا وبين الصفا والمروة سبعًا لم يزد عليه ورأى أنه مجزئ عنه وأهدى " وفي أخرى " ثم طاف لهما طوافًا واحدًا بالبيت وبين الصفا والمروة ثم لم يحل منهما حتى حل منهما بحجة يوم النحر " وفي رواية أخرى " ثم انطلق يهل بهما جميعًا حتى قدم مكة فطاف بالبيت وبالصفا والمروة ولم يزد على ذلك ولم ينحر ولم يحلق حتى كان يوم النحر فنحر وحلق ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول " والنظر في هذه الروايات يبعد ذلك التأويل، لكن القول بأنه ما كان يرى طواف الإفاضة مطلقًا أو للقارن أيضًا قول بعيد، بل قد ثبت عنه طواف الإفاضة في صحيح مسلم كما ذكرنا في القول السابق عنه، فإما أنه لا يرى طواف الإفاضة للقارن ركن الحج، بل يرى أن الركن في حقه هو الأول والإفاضة سنة أو نحوها وهذا لا يخلو عن بعد، أو أنه يرى دخول طواف العمرة في طواف القدوم للحج، ويرى أن طواف القدوم من سنن الحج للمفرد إلا أن القارن يجزئه ذلك عن سنة القدوم للحج وعن فرض العمرة وتكون الإفاضة عنده ركنًا للحج فقط، هذا غاية ما ظهر لي في التوفيق بين روايات حديث ابن عمر ولم أر أحدًا تعرض لذلك مع البسط وجمع الطرق إلا ما قيل إن المراد بالطواف السعي بين الصفا والمروة ولا يخفى بعده أيضًا فإن مطلق الطواف ينصرف إلى طواف البيت سيما وهو مقتضى الروايات فلينظر بعده، والله تعالى أعلم – انتهى. قلت: حمله على الطواف بين الصفا والمروة لا بعد فيه، بل هو الظاهر، ويؤيد ذلك حديث جابر عند مسلم " لم يطف النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافًا واحدًا طوافه الأول " – انتهى. قال الشنقيطي: الذي

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ يظهر لي والله أعلم أن مراد ابن عمر في قوله " ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول " هو الطواف بين الصفا والمروة، ويدل على ذلك أمران: الأول هو ما وقع في بعض روايات مسلم " ثم طاف لهما طوافًا واحدًا بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم لم يحلل منهما حتى حل منهما بحجة " (قال النووي: معناه حتى حل منهما يوم النحر بعمل حجة مفردة) ومعلوم أن الحل بحجة لا يمكن بدون طواف الإفاضة، أما السعي في الحجة فيكفي فيه السعي الأول بعد طواف القدوم فيتعين أن الطواف الأول الذي رأى إجزاءه عن حجه وعمرته هو الطواف بين الصفا والمروة بدليل الرواية الصحيحة بأنه لم يحل منهما إلا بحجة يوم النحر وحجة يوم النحر أعظم أركانها طواف الإفاضة فبدونه لا تسمى حجة لأنه ركنها الأكبر المنصوص على الأمر به في كتاب الله في قوله تعالى {وليطوفوا بالبيت العتيق} (22: 29) الأمر الثاني هو أن ابن عمر قال: كذلك فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الثابت عنه في الروايات الصحيحة أنه اكتفى بسعيه بين الصفا والمروة بعد طواف القدوم لحجه وعمرته وأنه بعد إفاضته من عرفات طاف طواف الإفاضة يوم النحر على التحقيق فحديث ابن عمر هذا نص صحيح متفق عليه على أن القارن يعمل كعمل المفرد، وعلى هذا يحمل الطواف الواحد في حديث عائشة المتقدم فيفسر بأنه الطواف بين الصفا والمروة، لأن القارن لا يسعى لحجه وعمرته إلا مرة واحدة – انتهى كلام الشنقيطي. وأجاب بعض الحنفية عن رواية مسلم المذكورة في كلام الشنقيطي بأنه يحتمل أن هؤلاء الذين لم يطوفوا بين الصفا والمروة بعد طواف الإفاضة لأجل أنهم سعوا بينهما قبل الرواح إلى منى بأن يطوفوا بالبيت طواف النفل لأجل تقديم السعي جائز بعد أن يكون مسبوقًا بطواف كطواف القدوم أو طواف النفل فكان الغرض أنهم لم يعيدوا السعي مرة أخرى – انتهى. وفيه أنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه القارنين أنهم طافوا طواف النفل وسعوا بعده بين الصفا والمروة قبل الرواح إلى منى، فحمله على ذلك بعيد جدًا. قال الشيخ محمد أنور: لم يثبت طواف النفل منه عليه صلوات الله وسلامه إلى العاشر، نعم ثبت بعد العاشر في ليالي منى برواية قوية. وقال بعضهم إن المراد في حديث جابر المذكور أن السعي الواحد لنسك واحد كافي، أي لا يحتاج إلى سعي آخر، وفيه أنه يأبى هذا التأويل ألفاظ حديث جابر وحديث ابن عمر وعائشة كما لا يخفى ذلك على من أمعن النظر فيها، ومن الأحاديث الصحيحة التي استدل بها للجمهور ما وقع في حديث جابر عند مسلم من قوله - صلى الله عليه وسلم -: " دخلت العمرة في الحج " مرتين وتصريحه - صلى الله عليه وسلم - بدخولها فيه يدل على دخول أعمالها في أعماله حالة القران، قال الحافظ: دل هذا على أنها لا تحتاج أي عمرة بعد أن دخلت فيه إلى عمل آخر غير عمله. واستدل للجمهور أيضًا بما روى أحمد (ج 2: ص 67) والترمذي وابن ماجة وسعيد بن منصور من حديث ابن عمر، واللفظ لأحمد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من قرن بين حجته وعمرته أجزأه لهما طواف واحد ". ولفظ الترمذي " من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد منهما حتى يحل منهما جميعًا " قال الترمذي: حديث حسن غريب صحيح. وأعله الطحاوي بأن عبد العزيز بن محمد

............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ الدراوردي (الراوي عن عبيد الله بن عمر) أخطأ فيه، وأن الصواب أنه موقوف، وتمسك في تخطئته بما رواه أيوب والليث وموسى بن عقبة وغير واحد عن نافع نحو سياق ما تقدم من أن ذلك وقع لابن عمر، وأنه قال إن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك لا أنه روى هذا اللفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - – انتهى. قال الحافظ: وهو تعليل مردود، فالدراوردي صدوق وليس ما رواه مخالفًا لما رواه غيره، فلا مانع من أن يكون الحديث عند نافع على الوجهين – انتهى. والحديث صححه الترمذي كما تقدم ثم أعله بنحو ما أعله به الطحاوي حيث قال: تفرد به الدراوردي على ذلك اللفظ، وقد رواه غير واحد عن عبيد الله بن عمر ولم يرفعوه وهو أصح – انتهى. قلت: وهكذا أعله ابن عبد البر في الاستذكار كما ذكره العيني والجواب عن ذلك كله أن حديث ابن عمر الذي قدمناه عن البخاري ليس بموقوف، لأن ابن عمر لما طاف لهما طوافًا واحدًا أخبر بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك، وهذا عين الرفع فلا وقف ألبتة، ولا يبعد أن يكون قول ابن عمر " هكذا فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي أمر من كان قارنًا أن يقتصر على طواف واحد، واستدل لهم أيضًا بما رواه الترمذي والنسائي عن جابر أن رسول الله عليه وسلم قرن الحج والعمرة فطاف لهما طوافًا واحدًا. قال الترمذي: هذا حديث حسن، وفيه الحجاج بن أرطاة. واستدل لهم أيضًا بما روى عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل قال: حلف طاوس ما طاف أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحجه وعمرته إلا طوافًا وحدًا. قال الحافظ: هذا إسناد صحيح، وفيه بيان ضعف ما رُوي عن علي وابن مسعود من ذلك. وقد روى آل بيت علي عنه مثل الجماعة، قال جعفر بن محمد الصادق عن أبيه أنه كان يحفظ عن علي " للقارن طواف واحد " خلاف ما يقول أهل العراق. ومما يضعف ما روي عن علي من ذلك أن أمثل طرقه عن رواية عبد الرحمن بن أذينة عنه، وقد ذكر فيها أنه يمتنع على من ابتدأ الإهلال بالحج أن يدخل عليه بالعمرة، وأن للقارن يطوف طوافين ويسعى سعيين. والذين احتجوا بحديثه لا يقولون بامتناع إدخال العمرة على الحج، فإن كانت الطريق صحيحة عندهم لزمهم العمل بما دلت عليه، وإلا فلا حجة فيها – انتهى كلام الحافظ. وفي الباب أيضًا عن ابن عباس عند ابن ماجة والدارقطني بنحو حديث جابر عند مسلم وعن أبي قتادة وأبي سعيد عند الدارقطني أيضًا بإسناد ضعيف وقد ثبت بما ذكرنا من الأحاديث والآثار الفرق بين القران والتمتع، وأن القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد لعمرته وحجته كفعل المفرد. أما أدلة الجمهور على أن المتمتع لا بد له من طوافين وسعيين: طواف وسعي لعمرته وطواف وسعي لحجه فمنها ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس أنه سئل عن متعة الحج فقال: أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع وأهللنا، فلما قدمنا مكة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي، فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة، وأتينا النساء، ولبسنا الثياب، وقال: من قلد الهدي فإنه لا يحل حتى يبلغ الهدي محله، ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج، فإذا فرغنا من

............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وقد تم حجنا وعلينا الهدي-الحديث، وأخرجه أيضًا الإسماعيلي في مستخرجه، ومن طريقه البيهقي في سننه (ج 5: ص 23) وإسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح، وهو صريح في سعي المتمتع مرتين ومنها حديث عائشة المتقدم فإن قولها " فطاف الذين كانوا أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة ثم حلوا ثم طافوا طوافًا (آخر) بعد أن رجعوا من منى (لحجهم) وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافًا واحدًا، يدل على الفرق بين القارن والمتمتع، وأن القارن يفعل كفعل المفرد والمتمتع يطوف لعمرته ويطوف لحجه، وقال بعض أهل العلم قول عائشة عن الذين أهلوا بالعمرة " ثم طافوا طوافًا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم " تعني به الطواف بين الصفا والمروة على أصح الأقوال في تفسير هذا الحديث وأما قول من قال إنها أرادت بذلك طواف الإفاضة فليس بصحيح لأن طواف الإفاضة ركن في حق الجميع وقد فعلوه، وإنما المراد بذلك ما يخص المتمتع وهو الطواف بين الصفا والمروة مرة ثانية بعد الرجوع من منى. وأما من قال إن المتمتع كالقارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد وهو رواية عن الإمام أحمد فقد استدل بما رواه مسلم في صحيحه عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لم يطوفوا بين الصفا والمروة إلا طوافًا واحدًا طوافهم الأول. قالوا: فهذا نص صحيح صرح فيه جابر بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يطف هو ولا أصحابه إلا طوافًا واحدًا، ومعلوم أن أصحابه فيهم القارن، وهو من كان معه الهدي، وفيهم المتمتع، وهو من لم يكن معه هدي، وإذًا ففي هذا الحديث الصحيح الدليل على استواء القارن والمتمتع في لزوم طواف واحد وسعي واحد، وأجاب المخالفون عن هذا بأجوبة، الأول: هو أن الجمع واجب إن أمكن، قالوا: وهو ها هنا ممكن بحمل حديث جابر هذا على أن المراد بأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يطوفوا إلا طوافًا واحدًا للعمرة والحج خصوص القارنين منهم كالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهم الذين ساقوا الهدي فإنهم بقوا على إحرامهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى حلوا من الحج والعمرة جميعًا، والقارن بين الحج والعمرة ليس عليه إلا سعي واحد كما دل عليه حديث جابر وغيره من الأحاديث الصحيحة وإن حمل حديث جابر على هذا كان موافقًا لحديث عائشة وحديث ابن عباس المتقدمين وبذلك يزول التعارض ويحصل العمل بالأحاديث كلها. الجواب الثاني: أنا لو سلمنا أن الجمع غير ممكن هنا في حديث جابر مع حديث عائشة وحديث ابن عباس كما جاء في ما رواه مسلم من طريق زهير عن أبي الزبير عن جابر قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهلين بالحج معنا النساء والولدان فلما قدمنا مكة طفنا بالبيت وبالصفا والمروة فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من لم يكن معه الهدي فليحلل. قال، قلنا: أي الحل؟ قال: الحل كله. قال: فأتينا النساء ولبسنا الثياب ومسسنا الطيب، فلما كان يوم التروية أهللنا بالحج وكفانا الطواف الأول بين الصفا والمروة – الحديث. ولفظ جابر في هذه الرواية لا يمكن حمله على القارنين بحال، لأنه صرح بأنهم حلوا الحل كله وأتوا النساء، ولبسوا الثياب، ومسوا الطيب، وأنهم أهلوا يوم التروية بحج، ومع هذا كله صرح

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ بأنهم كفاهم طوافهم الأول بين الصفا والمروة. ويؤيده ما وقع في حديث جابر عند أحمد (ج 3: ص 362) والطحاوي وأبي داود في باب الإفراد قال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لأربع خلون من ذي الحجة فلما طافوا بالبيت وبالصفا والمروة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اجعلوها عمرة إلا من كان معه الهدي، فلما كان يوم التروية أهلوا بالحج فلما كان يوم النحر قدموا فطافوا بالبيت ولم يطوفوا بين الصفا والمروة – انتهى. فإن حديث جابر ينفي طواف المتمتع بعد رجوعه من منى، وحديث عائشة وحديث ابن عباس يثبتانه، وقد تقرر في علم الأصول ومصطلح الحديث أن المثبت مقدم على النافي فيجب تقديم حديث ابن عباس وعائشة بأنهما مثبتان على حديث جابر النافي. الجواب الثالث: أن عدم طواف المتمتع بعد رجوعه من منى الثابت في صحيح مسلم رواه جابر وحده، وطوافه بعد رجوعه من منى رواه في صحيح البخاري وغيره ابن عباس وعائشة، وما رواه اثنان أرجح مما رواه واحد. وأما من قالوا: إن القارن والمتمتع يلزم كل واحد منهما طوافان وسعيان، طواف وسعي للعمرة وطواف وسعي للحج كأبي حنيفة ومن وافقه فقد استدلوا لذلك بأحاديث، فمنها حديث الصبي بن معبد التغلبي عند أبي حنيفة في مسنده رواه عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي عن الصبي بن معبد قال: أقبلت من الجزيرة حاجًا، إلى أن قال: " فأحببت أن أجمع عمرة إلى حجة فأهللت بهما جميعًا ولم أنس " وفيه " مضيت فطفت طوافًا لعمرتي وسعيت سعيًا لعمرتي ثم عدت ففعلت مثل ذلك، ثم بقيت حرامًا أصنع كما يصنع الحاج " وفي طريق آخر " كنت حديث عهد بنصرانية فقدمت الكوفة أريد الحج في زمان عمر بن الخطاب" وفيه " فلما قدم الصبي مكة طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة لعمرته ثم رجع حرامًا لم يحل من شيء ثم طاف بالبيت وبين الصفا والمروة لحجته " وفيه " فضرب عمر على ظهره وقال: هديت لسنة نبيك - صلى الله عليه وسلم - " وقال ابن حزم في المحلى (ج 7: ص 175) : روينا من طريق حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي أن الصبي بن معبد التغلبي قرن بين العمرة والحج فطاف طوافين وسعى سعيين ولم يحل بينهما وأهدى وأخبر بذلك عمر بن الخطاب فقال: هديت لسنة نبيك - صلى الله عليه وسلم -، وأجيب عن ذلك بأن إبراهيم النخعي لم يدرك الصبي ولا سمع منه ولا أدرك عمر فهو منقطع، وقد رواه الثقات مجاهد ومنصور عن أبي وائل شقيق بن سلمة عن الصبي فلم يذكروا فيه طوافًا ولا طوافين ولا سعيًا ولا سعيين أصلاً، وإنما فيه قرن بين الحج والعمرة فقط، قاله ابن حزم في المحلى. قلت: رواه أبو داود والنسائي عن منصور، وابن ماجة عن الأعمش كلاهما عن أبي وائل عن الصبي بن معبد قال: أهللت بهما معًا، فقال عمر: هديت لسنة نبيك – انتهى. وكذا رواه مختصرًا أحمد وإسحاق بن راهويه وأبو داود الطيالسي في مسانيدهم وابن أبي شيبة في مصنفه وابن حبان في صحيحه والدارقطني في العلل. فرواية النخعي عن الصبي بن معبد لا يصح الاحتجاج بها لكونها منقطعة، ومنها حديث علي أخرجه النسائي في سننه الكبرى في مسند على من طريق حماد بن عبد الرحمن الأنصاري عن إبراهيم بن محمد بن الحنفية

............................................................................................ ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: طفت مع أبي وقد جمع يبن الحج والعمرة فطاف لهما طوافين وسعى لهما سعيين، وحدثني أن عليًا فعل ذلك، وقد حدثه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك، ذكره الزيلعي ثم قال: قال صاحب التنقيح: وحماد هذا ضعفه الأزدي وذكره ابن حبان في الثقات، قال بعض الحفاظ: هو مجهول، والحديث من أجله لا يصح – انتهى. وقال الحافظ في الدراية: رواته موثقون وأخرجه محمد بن الحسن من قول علي موقوفًا بلفظ الأمر، وفي إسناده راو مجهول – انتهى. ولحديث علي إسناد آخر أخرجه الدارقطني (ص273) من طريق الحسن بن عماره عن الحكم عن ابن أبي ليلى عن علي، قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - قرن وطاف طوافين وسعى سعيين – انتهى. والحسن بن عمارة ضعيف بإجماع منهم قاله السهيلي. وقال أبو حاتم ومسلم والنسائي والدارقطني وأحمد ويعقوب بن شيبة: متروك الحديث. وقال الجوزجاني: ساقط، وقال الساجي: ضعيف متروك أجمع أهل الحديث على ترك حديثه. وقال ابن معين: لا يكتب حديثه، وقال مرة ضعيف، وقال مرة: ليس حديثه بشيء، وقال عمرو بن علي: هو رجل صالح صدوق كثير الوهم والخطأ متروك الحديث. وقال عبد الله بن المديني عن أبيه: ما احتاج إلى شعبة فيه، أمره أبين من ذلك. قيل له: كان يغلط؟ قال: أي شيء كان يغلط؟ كان يضع. وقد أطال العقيلي في تضعيف الحسن بن عمارة في كتاب الضعفاء كما في نصب الراية. وأخرجه الدارقطني أيضًا عن حفص بن أبي داود عن ابن أبي ليلى عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي بنحوه، قال: وحفص هذا ضعيف وابن أبي ليلى رديء الحفظ كثير الوهم. وأخرجه أيضًا عن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي حدثني أبي عن أبيه عن جده عن علي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قارنًا فطاف طوافين وسعى سعيين – انتهى. قال: وعيسى بن عبد الله يقال له مبارك وهو متروك الحديث، ذكره الزيلعي (ج 3: ص 110) وسكت عنه، ومنها حديث ابن عمر أخرجه الدارقطني (ص271) من طريق الحسن بن عمارة عن مجاهد عن ابن عمر أنه جمع بين عمرة وحج فطاف لهما طوافين وسعى سعيين، وقال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صنع كما صنعت – انتهى. قال الدارقطني بعد ذكر حديث ابن عمر هذا، وحديث علي المتقدم من طريق الحسن بن عمارة: لم يروهما غير الحسن بن عمارة وهو متروك ثم هو قد روى عن ابن عباس ضد هذا ثم أخرجه عن الحسن بن عمارة عن سلمة بن كهيل عن طاوس، قال سمعت ابن عباس يقول: لا والله ما طاف لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا طوافًا واحدًا فهاتوا من هذا الذي يحدث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طاف لهما طوافين – انتهى. ومنها حديث ابن مسعود أخرجه الدارقطني من طريق أبي بردة عمرو بن يزيد عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: طاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرته وحجه طوافين وسعى سعيين وأبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود. قال الدارقطني: وأبو بردة متروك، ومن دونه في الإسناد ضعفاء – انتهى. وقال الحافظ في الدراية: وفيه أبو بردة عمرو بن يزيد أحد الضعفاء، ورواه عن حماد بن أبي سليمان، ومنها حديث عمران بن حصين أخرجه الدارقطني أيضًا من طريق

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ محمد بن يحيى الأزدي ثنا عبد الله بن داود عن شعبة عن حميد بن هلال عن مطرف عن عمران بن حصين، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف طوافين وسعى سعيين – انتهى. قال الدارقطني: يقال إن محمد بن يحيى حدث بهذا من حفظه فوهم في متنه، والصواب بهذا الإسناد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرن الحج والعمرة، وليس في ذكر الطواف ولا السعي، ويقال إنه رجع عن ذكر الطواف والسعي وحدث به على الصواب كما حدثنا به محمد بن إبراهيم بن فيروز حدثنا محمد بن يحيى الأزدي به أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرن – انتهى. قال: وقد خالفه غيره فلم يذكر فيه الطواف ولا السعي كما حدثنا به أحمد بن عبد الله بن محمد الوكيل ومحمد بن مخلد، قالا حدثنا القاسم بن محمد بن عباد المهلبي ثنا عبد الله بن داود عن شعبة بهذا الإسناد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرن – انتهى. وقد ظهر كما ذكرنا أن جميع الأحاديث الدالة على طوافين وسعيين للقارن ليس فيها حديث قائم كما رأيت، وقال الحافظ في الفتح: واحتج الحنفية بما روي عن علي أنه جمع بين الحج والعمرة فطاف لهما طوافين وسعى لهما سعيين، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل، وطرقه عن علي عند عبد الرزاق والدارقطني وغيرهما ضعيفة، وكذا أخرج من حديث ابن مسعود بإسناد ضعيف نحوه. وأخرج من حديث ابن عمر نحو ذلك. وفيه الحسن بن عمارة وهو متروك والمخرج في الصحيحين، وفي السنن عنه من طرق كثيرة الاكتفاء بطواف واحد. وقال البيهقي: إن ثبتت الرواية أنه طاف طوافين فيحمل على طواف القدوم وطواف الإفاضة، وأما السعي مرتين فلم يثبت وقال ابن حزم: لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من أصحابه شيء في ذلك أصلاً. قال الحافظ: لكن روى الطحاوي وغيره مرفوعًا عن علي وابن مسعود ذلك بأسانيد لا بأس بها إذا اجتمعت، ولم أر في الباب أصح من حديثي ابن عمر وعائشة المذكورين في هذا الباب انتهى. وقال ابن القيم: وأما من قال إنه حج قارنًا قرانًا طاف له طوافين وسعى سعيين كما قاله كثير من فقهاء الكوفة، فعذره ما رواه الدارقطني من حديث مجاهد عن ابن عمر وعن علي بن أبي طالب وعن علقمة عن عبد الله ابن مسعود وعن عمران بن حصين فذكر ألفاظ أحاديث هؤلاء الصحابة ثم قال: وما أحسن هذا العذر لو كانت هذه الأحاديث صحيحة بل لا يصح منها حرف واحد، أما حديث ابن عمر ففيه الحسن بن عمارة. وقال الدارقطني: لم يروه عن الحكم غير الحسن بن عمارة وهو متروك الحديث. وأما حديث علي ففي أحد سنديه حفص بن أبي داود. وقال أحمد ومسلم: حفص متروك الحديث. وقال ابن خراش: هو كذاب يضع الحديث، وفيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ضعيف، وفي السند الثاني عيسى بن عبد الله، ويقال له مبارك. قال الدارقطني: هو متروك الحديث. وأما حديث علقمة عن عبد الله فيرويه أبو بردة عمرو بن يزيد عن حماد عن إبراهيم عن علقمة. قال الدارقطني: وأبو بردة ضعيف ومن دونه في الإسناد ضعفاء – انتهى. وفيه عبد العزيز بن أبان، قال يحيى: هو كذاب خبيث. وقال الرازي والنسائي: متروك الحديث، وأما حديث عمران بن حصين فهو مما غلط فيه محمد بن يحيى الأزدي وحدث به من حفظه فوهم فيه، وقد حدث به على الصواب مرارًا ويقال إنه رجع عن ذكر الطواف والسعي – انتهى. واستدل أيضًا للحنفية بما روي من أثار بعض الصحابة كعلي وابن مسعود والحسن

.............................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن علي والحسين بن علي ذكرها الزيلعي في نصب الراية (ج 3: ص 111) وابن حزم في المحلى (ج 7: ص 175، 176) مع الكلام عليها والبيهقي في المعرفة وفي السنن والحافظ في الدراية، وقد ذكرنا ما يعارض ذلك ويضعفه نقلاً عن الحافظ فتذكر، وإذا عرفت أن أحاديث السعيين والطوافين ليس فيها شيء قائم كما رأيت، فاعلم أن الذين قالوا بأن القارن يطوف طوافًا ويسعى سعيًا كفعل المفرد أجابوا عن تلك الأحاديث من وجهيين الأول: وهو ما بيناه الآن بواسطة نقل الزيلعي والحافظ ابن حجر وابن القيم عن الدارقطني وغيره من أوجه ضعفها. والثاني: أنا لو سلمنا أن بعضها يصلح للاجتهاد كما يقوله الحنفية وضعافها يقوي بعضها بعضًا فلا يقل مجموع طرقها عن درجة القبول كما أشار إليه الحافظ فهي معارضة بما هو أقوى منها وأصح وأرجح وأولى بالقبول من الأحاديث الثابتة في الصحيح الدالة على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل في قرانه إلا كما يفعل المفرد كحديث عائشة المتفق عليه وحديث ابن عمر عند البخاري، وكالحديث المتفق عليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة: يكفيك طوافك بالبيت وبالصفا والمروة لحجك وعمرتك. كذا حققه الشنقيطي، ثم قال: وقد اتضح من جميع ما كتبناه في هذه المسألة أن التحقيق فيها أن القارن يفعل كفعل المفرد لاندراج أعمال العمرة في أعمال الحج، وأن المتمتع يطوف ويسعى لعمرته ثم يطوف ويسعى لحجته، ومما يوضحه من جهة المعنى أنه يطوف ويسعى لحجه بعد رجوعه من منى، أنه يهل بالحج بالإجماع، والحج يدخل في معناه دخولاً مجزومًا به الطواف والسعي، فلو كان يكفيه طواف العمرة التي حل منها وسعيها لكان إهلاله بالحج إهلالاً بحج لا طواف فيه ولا سعي، وهذا ليس بحج في العرف ولا في الشرع – انتهى. تنبيه: استدل بعض الحنفية لتعدد السعي بأنه وقع في بعض الروايات ذكر سعيه ماشيًا كما تقدم في حديث جابر الطويل عند مسلم وأبي داود وهو قوله: حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة – الحديث. قالوا: هذا صريح في السعي راجلاً وماشيًا على الأقدام ووقع في بعض الروايات ذكر سعيه راكبًا كما وقع في حديث جابر أيضًا عند مسلم في باب جواز الطواف على البعير " طاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على راحلته بالبيت وبالصفا والمروة ليراء الناس وليشرف ويسألوه، فإن الناس غشوه " قالوا: فيكون السعي اثنين، الأول ماشيًا راجلاً بعد الطواف الأول عند دخول مكة وهو للقدوم عند الشافعية ومن وافقهم، وللقدوم والعمرة عندنا الحنفية، والسعي الثاني راكبًا، وتاريخ هذا السعي الثاني وإن كان غير معلوم يعني أنه كان قبل يوم النحر أو بعده لكن الأقرب والأليق بمسائل الحنفية أن يكون يوم النحر بعد طواف الإفاضة حيث يكون السعي مسبوقًا بطواف. ولم يطف النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد طوافه للقدوم والعمرة على اختلاف المذهبين إلا هذا الطواف أي يوم النحر. وتأول ابن حزم قول جابر في قصة حجة الوداع " حتى إذا انصبت قدماه " أي وهو على راحلته، والنزول والصعود إنما هو نزول الناقة وصعودها. قال الحنفية: إن هذا التأويل غير مقبول، فإن ألفاظ الحديث وتبادرها يخالفه، وأيضًا من كان راكبًا لا يسعى بين الميلين الأخضرين بل يمشي، قالوا: ويرد هذا التأويل حديث بنت أبي تجراة (الآتي في باب دخول

............................................................................................ ـــــــــــــــــــــــــــــ مكة والطواف) وفيه " فرأيته وإن ميزره ليدور من شدة السعي " قالوا: وتأول ابن حزم الرواية التي تدل على سعيه راكبًا بأن بعض الأشواط من السعي كان راكبًا وبعضها كان ماشيًا. قالوا: يرد هذا التأويل ما رواه أبو داود في باب الطواف الواجب عن أبي الطفيل عن ابن عباس أنه طاف سبعًا على راحلته فصرح فيه أنه طاف بينهما سبعة أشواط راكبًا. والظاهر أنه في حجة الوادع، يدل على ذلك ما وقع في رواية مسلم في باب استحباب الرمل في الطواف عن أبي الطفيل، قال: قلت لابن عباس: أراني قد رأيت رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال: فصفه لي. قال، قلت: رأيته عند المروة على ناقة، وقد كثر الناس عليه. قال، فقال ابن عباس: ذاك رسول الله عليه وسلم، إنهم كانوا لا يدعون عنه ولا يكهرون – انتهى. قالوا: وهذه الواقعة واقعة حجة الوداع، لأن كثرة الناس وسؤالهم لا يكون إلا في حجة الوادع. قالوا: فظهر من هذا كله أن تعدد السعي لازم وإن لم يصرح به أحد. قلت: التأويل الثاني الذي نسبوه إلى ابن حزم صحيح متعين عندي، وأما رواية أبي داود فأصلها في صحيح مسلم ولكن ليست فيه هذه اللفظة، ويؤيد التأويل المذكور ما وقع في رواية عند مسلم بإسناده عن أبي الطفيل، قال: قلت لابن عباس: أرأيت هذا الرمل بالبيت؟ – الحديث. وفيه " قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثر عليه الناس يقولون: هذا محمد، هذا محمد، حتى خرج العواتق من البيوت. قال: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يضرب الناس بين يديه، فلما كثر عليه ركب، والمشي والسعي أفضل – انتهى. فإن سياقه يدل على أن الركوب كان في أثناء السعي حين كثر الناس عليه فيه، وأما حديث بنت أبي تجراة فليس فيه تصريح أنه كان في حجته ولا أن سعيه ماشيًا كان في جميع الأشواط. قال المحب الطبري بعد ذكر الروايات التي تدل علي أنه - صلى الله عليه وسلم - سعى راكبًا ما لفظه: في هذه الأحاديث دلالة ظاهرة على ركوبه - صلى الله عليه وسلم - في السعي، والأحاديث المتقدمة في الفصل قبله وحديث جابر الطويل يدل على مشيه، فيحتمل أن يكون - صلى الله عليه وسلم - مشى في طوافه على ما دل عليه بعض الأحاديث، ثم خرج إلى السعي ماشيًا فسعى بعضه ماشيًا ورأته بنت أبي تجراة إذ ذاك، ثم لما كثر عليه ركب ناقته، ويؤيد ذلك قول بن عباس: وكان - صلى الله عليه وسلم - لا يضرب الناس بين يديه فلما كثر عليه ركب، والسعي والمشي أفضل. فإن سياقه دال على أن الركوب كان في أثناء السعي حين كثر الناس عليه فيه. وذهب ابن حزم في كتابه المشتمل على صفة الحج الكبرى إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - كان راكبًا في جميع طوافه بين الصفا والمروة عملاً بحديث جابر هذا، قال: وما رواه في حديثه الطويل من أنه - صلى الله عليه وسلم - لما انصبت قدماه في بطن الوادي رمل، ليس بمعارض لما ذكرناه، لأن الراكب إذا انصب به بعيره فقد انصب جميع بدنه وانصبت قدماه أيضًا مع سائر جسده، وكذلك الرمل، يعني به رمل الدابة براكبها، ولم يطف - صلى الله عليه وسلم - بين الصفا والمروة في تلك الحجة إلا مرة واحدة، وذكر في الحديث أنه كان فيه راكبًا، قال: ولا يقطع بأن طوافه - صلى الله عليه وسلم - بالبيت الأول كان راكبًا لأنه - صلى الله عليه وسلم - طاف في تلك الحجة مرارًا، منها طوافه الأول، وطواف الإفاضة، وطواف الوداع، فالله أعلم أي تلك الأطواف كان راكبًا؟ قال الطبري: وظاهر حديث ابن عباس يرد هذا التأويل، وحديث بنت أبي تجراة

متفق عليه. 2581 – (3) وعن عبد الله بن عمر، قال: تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، فساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج، فتمتع الناس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعمرة إلى الحج، فكان من الناس من أهدى، ومنهم من لم يهد، فلما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة قال للناس: " من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه، ـــــــــــــــــــــــــــــ يصرح برده، والمختار فيه ما تقدم ذكره جمعًا بين الأحاديث كلها. وأما ركوبه في الطواف بالبيت فكان في طواف الإفاضة. ويكون قول جابر المتقدم في هذا الفصل " طاف على راحلته بالبيت وبين الصفا والمروة " محمولاً على طواف الإفاضة والسعي بعد طواف القدوم وجمع بينهما لوقوع الركوب فيهما – انتهى. (متفق عليه) وأخرجه أيضًا أحمد ومالك وأبو داود والنسائي وغيرهم. 2581- قوله (تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج) قد تقدم في شرح حديث ابن عمر في باب الإحرام والتلبية أن المراد بالتمتع ها هنا المعنى اللغوي وهو الانتفاع والالتذاذ، ولا شك أن ذلك في القران بوجود الاكتفاء عن النسكين بنسك، فالقارن متمتع من حيث اللغة ومن حيث المعنى، لأنه ترفيه باتحاد الميقات والإحرام والفعل. قال القاري: ظاهر هذا الحديث أنه أحرم بالعمرة أولاً ثم أحرم بالحج، ويدل عليه قوله " وبدأ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج " مع أنه ورد صريحًا في أحاديث أنه أحرم بالحج ثم أحرم بالعمرة فكيف يصار إليه؟ ولو ثبت لكان معارضًا، فالذي أدين الله تعالى به أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يبتدئ بالعمرة بعد فرض الحج عليه في أول الوهلة، وقد اعتمر مرارًا بعد الهجرة، فالصواب أنه كان قارنًا أولاً، ومعنى قوله " بدأ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج" أنه لما جمع بين النسكين قد ذكر العمرة على الحج لأنه الوجه المسنون في القران دون العكس ثم كان أكثر ما يذكر في إحرامه الحج لأنه الأصل المفروض والسنة تابعة – انتهى. (فساق معه الهدي من ذي الحليفة) أي من الميقات، وفيه الندب إلى سوق الهدي من المواقيت من الأماكن البعيدة، وهي من السنن التي أغفلها كثير من الناس، قاله الحافظ (فتمتع الناس) قال القاري: أي أكثرهم هذا التمتع بالجمع اللغوي بالجمع بين العبادتين (مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعمرة إلى الحج) أي بضمها إليه (فكان من الناس) أي الذين أحرموا بالعمرة (من أهدى) وعند الشيخين بعده " فساق الهدي " (فلما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة قال للناس) أي المعتمرين (من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه) فيه حجة على الشافعية ومن

ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل، ثم ليهل بالحج وليهد، فمن لم يجد هديًا فليصم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله ". ـــــــــــــــــــــــــــــ وافقهم في أن سوق الهدي لا يمنع التحلل عندهم، وقد تقدم بيانه في شرح حديث عائشة (ولمن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت) أي طواف العمرة (وليقصر) بتشديد الصاد. قال النووي: معناه أنه يفعل الطواف والسعي والتقصير ويصير حلالاً، وهذا دليل على أن الحلق أو التقصير نسك وهو الصحيح. وقيل استباحة محظور. قال: وإنما أمره بالتقصير دون الحلق مع أن الحلق أفضل ليبقى له شعر يحلقه في الحج (وليحلل) قال القاري: أي ليخرج من إحرام العمرة باستمتاع المحظورات. وقال الحافظ: هو أمر معناه الخبر، أي قد صار حلالاً فله فعل كل ما كان محظورًا عليه في الإحرام، ويحتمل أن يكون أمرًا على الإباحة لفعل ما كان عليه حرامًا قبل الإحلال (ثم ليهل بالحج) أي يحرم وقت خروجه إلى عرفة، ولهذا أتى بـ ثم الدالة على التراخي فلم يرد أنه يهل بالحج عقب إحلاله من العمرة (وليهد) أي ليذبح الهدي يوم النحر بعد الرمي قبل الحلق وهو هدي التمتع وهو واجب بشروطه المذكورة في كتب الفقه (فمن لم يجد هدايًا) أي لم يجد الهدي بذلك المكان ويتحقق له ذلك بأن يعدم الهدي أو يعدم ثمنه حينئذ أو يجد ثمنه لكن يحتاج إليه لأهم من ذلك، أو يجده لكن يمتنع صاحبه من بيعه أو يمتنع من بيعه إلا بغلائه فينتقل إلى الصوم كما هو نص القرآن، كذا في الفتح. وفسر الحنفية العجز من الهدي بأن لا يكون في ملكه فضل عن كفاف قدر ما يشتري به الدم ولا هو أي الدم في ملكه (ثلاثة أيام في الحج) قال القاري: أي في أشهره قبل يوم النحر، والأفضل أن يكون آخرها يوم عرفة. وقال الحافظ: أي بعد الإحرام به. قال النووي: هذا هو الأفضل وإن صامها قبل الإهلال بالحج أجزأه على الصحيح. وأما قبل التحلل من العمرة فلا على الصحيح، وجوزه الثوري وأصحاب الرأي، وعلى الأول فمن استحب صيام عرفة بعرفة قال: يحرم يوم السابع ليصوم السابع والثامن والتاسع، وإلا فيحرم يوم السادس ليفطر بعرفة، فإن فاته الصوم قضاه، وقيل: يسقط ويستقر الهدي في ذمته وهو قول الحنفية، وفي صوم أيام التشريق لهذا قولان للشافعية، أظهرهما: لا يجوز. قال النووي: وأصحهما من حيث الدليل الجواز – انتهى. (وسبعة إذا رجع إلى أهله) قال القاري: أي توسعة ولو صام بعد أيام التشريق بمكة جاز عندنا – انتهى. فالرجوع إلى الأهل عند الحنفية كناية عن الفراغ عن أفعال الحج. وقال النووي: أما صوم السبعة فيجب إذا رجع. وفي المراد بالرجوع خلاف، الصحيح في مذهبنا أنه إذا رجع إلى أهله، وهذا هو الصواب لهذا الحديث الصحيح الصريح، والثاني إذا فرغ من الحج ورجع إلى مكة من منى. وهذان القولان للشافعي ومالك، وبالثاني قال أبو حنيفة – انتهى. قلت: اختلفوا في تفسير قوله تعالى: {وسبعة إذا رجعتم} فقيل: إذا رجعتم إلى أهليكم، وهو أحد قولي الشافعي، أو إذا نفرتم وفرغتم من أعمال الحج ورجعتم إلى مكة وهو قوله

فطاف حين قدم مكة، واستلم الركن أول شيء، ثم خب ثلاثة أطواف ومشى أربعًا، فركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين ثم سلم، فانصرف فأتى الصفا فطاف بالصفا والمروة سبعة أطواف، ثم لم يحل من شيء حرم منه حتى قضى حجه ونحر هديه يوم النحر، وأفاض فطاف بالبيت، ثم حل من كل شيء حرم منه، وفعل مثل ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ساق الهدي من الناس. متفق عليه. 2582 – (4) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " هذه عمرة استمتعنا بها، ـــــــــــــــــــــــــــــ الثاني ومذهب أبي حنيفة (فطاف) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (حين قدم مكة) أي طواف القدوم (واستلم الركن) أي الحجر الأسود (أول شيء) أي من أفعال الطواف (ثم خب) أي رمل، والخب نوع من العدو كالرمل، والمراد هنا الرمل (ثلاثة أطواف) أي في ثلاثة أشواط. قال ابن الملك: إظهار للجلادة والرجولية في نفسه وفيمن معه من الصحابة كيلا يظن الكفار أنهم عاجزون ضعفاء، قال القاري: هذا كان علة فعله - صلى الله عليه وسلم - في عمرة القضاء ثم استمرت السنة بعد زال العلة (ومشى) أي بسكون وهينة (أربعًا) أي في أربع مرات من لأشواط (فركع) أي صلى (حين قضى) أي أدى وأتم (عند المقام) متعلق بركع (ركعتين) أي صلاة الطواف (ثم سلم) أي من صلاته (فانصرف) أي عن البيت أو عن المسجد (فأتى الصفا) ظاهره أنه لم يتخلل بين صلاة الطواف والخروج إلى الصفا عمل آخر، لكن تقدم في حديث جابر في صفة الحج " ثم رجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب إلى الصفا " (فطاف) أي سعى (بالصفا والمروة سبعة أطواف) أي أشواط. وفي الحديث مشروعية طواف القدوم للقارن والرمل فيه إن عقبه بالسعي، وأن الرمل هو الخبب، وأنه يصلي ركعتي الطواف وأنهما يستحبان خلف المقام، وتسمية السعي طوافًا (ثم لم يحل) وفي الصحيحين " ثم لم يحلل " (من شيء حرم منه حتى قضى حجه) تقدم أن سبب عدم إحلاله كونه ساق الهدي وإلا لكان يفسخ الحج إلى العمرة ويتحلل منها كما أمر به أصحابه (ونحر هديه يوم النحر) قال القاري: وهو التحلل الأول بالحلق فيما عدا الجماع. وقال الحافظ: استدل به على أن الحلق ليس بركن، وليس بواضح لأنه لا يلزم من ترك ذكره في هذا الحديث أن لا يكون وقع، بل هو داخل في عموم قوله " حتى قضى حجه " (وأفاض) أي إلى مكة (فطاف بالبيت) أي طواف الإفاضة (ثم حل من كل شيء حرم منه) وهو التحلل الثاني المحلل للنساء (وفعل مثلما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ساق الهدي من الناس) وفي الصحيحين " من أهدى وساق الهدي من الناس " والموصول فاعل قوله " فعل " أي فعل من أهدى وساق الهدي مثل ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفيه إشارة إلى عدم خصوصيته بذلك. (متفق عليه) وأخرجه أيضًا أحمد (ج 2: ص 140) وأبو داود والنسائي والبيهقي. 2582- قوله (هذه عمرة استمتعنا بها) قال القاري: الاستمتاع هنا تقديم العمرة والفراغ منها فهو في معناه

(الفصل الثالث)

فمن لم يكن عنده الهدي، فليحل الحل كله، فإن العمرة قد دخلت في الحج إلى يوم القيامة ". رواه مسلم. وهذا الباب خال عن الفصل الثاني. (الفصل الثالث) 2583 - (5) عن عطاء، قال: سمعت جابر بن عبد الله في ناس معي قال: أهللنا أصحاب محمد بالحج خالصًا وحده. قال عطاء: قال جابر: فقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - صبح رابعة مضت من ذي الحجة، فأمرنا أن نحل، قال عطاء: قال: " حلوا وأصيبوا النساء ". قال عطاء: ولم يعزم عليهم، ـــــــــــــــــــــــــــــ اللغوي أي الانتفاع. وقال الأبي: لا يقال فيه أنه أحرم متمتعًا، لأن الإشارة بهذه إلى عمرة الفسخ ومعنى " استمتعنا " استمتعتم، أو يكون أدخل نفسه معهم فيها ولكن قام المانع وهو كون الهدي معه - انتهى. (فليحل) بفتح الياء وكسر الحاء (الحل) نصبه على المصدر، وقوله (كله) تأكيد له أي الحل التام (فإن العمرة فد دخلت في الحج) أي في أشهره (إلى يوم القيامة) قال ابن الملك: يعني أن دخولها فيه في أشهره لا يختص بهذه السنة بل يجوز في جميع السنين - انتهى. والحديث يحتمل معاني أخرى بعضها بعيد ذكرناها في شرح حديث جابر في قصة حجة الوداع (رواه مسلم) في باب جواز العمرة في أشهر الحج. وأخرجه أيضًا أحمد (ج 1: ص 236) وأبو داود والنسائي والبيهقي (وهذا الباب خال عن الفصل الثاني) أي في المصابيح، وهو اعتذار من صاحب المشكاة عن تركه. ولئلا يشكل قوله " الفصل الثالث ". 2583 - قوله (عن عطاء) أي ابن أبي رباح المكي التابعي الجليل تقدم ترجمته (أهللنا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -) منصوب على الاختصاص، أو بتقدير أعني، أي أحرمنا (بالحج خالصًا وحده) أي ليس معه عمرة، قال ذلك على حسب ما سبق إلى فهمه. وإلا فقد تقدم من حديث عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج وعمرة ومنا من أهل بالحج، أو أراد بالأصحاب أكثرهم أو كثيرًا منهم، وقيل: هو محمول على ما كانوا ابتدأوا به ثم أذن لهم بإدخال العمرة على الحج، وبفسخ الحج إلى العمرة فصاروا على ثلاثة أنواع (فأمرنا أن نحل) بكسر الحاء أي نفسخ الحج إلى العمرة قاله القاري، وأمر - صلى الله عليه وسلم - بالحل من كان مفردًا أو قارنًا ولم يكن معه هدي، أما من كان معه هدي فقد بقي على إحرامه (قال عطاء) أي راويًا عن جابر (قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال في اللمعات: الظاهر من السياق أن يكون فاعل " قال " جابر، أي قال جابر في تفسير قوله ((أمرنا أن نحل)) حاكيًا من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((حلوا)) ويجوز أن يكون فاعل " قال " رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فافهم (حلوا) بكسر الحاء وتشديد اللام صيغة أمر من " حل يحل " بكسر الحاء في المضارع أي اجعلوا حجكم عمرة وتحللوا منها بالطواف والسعي والتقصير (وأصيبوا) بفتح الهمزة أمر من الإصابة (ولم يعزم)

ولكن أحلهن لهم، فقلنا: لما لم يكن بيننا وبين عرفة إلا خمس، أمرنا أن نفضي إلى نسائنا، فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المني. قال: يقول جابر بيده، كأني أنظر إلى قوله بيده يحركها. قال: فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فينا، فقال: " قد علمتم أني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم، ولولا هديي لحللت كما تحلون، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، فحلوا ". فحللنا وسمعنا وأطعنا. ـــــــــــــــــــــــــــــ بفتح الياء وكسر الزاي، أي لم يوجب النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم وطئهن (ولكن أحلهن لهم) يعني لم يجعل الجماع عزيمة عليهم بل جعله رخصة لهم بخلاف الفسخ فإنه كان عزيمة فأمر " حلوا " للوجوب و " أصيبوا " للإباحة لأن من لازم الإحلال إباحة الجماع والوطئ قال الطيبي: أي قال عطاء في تفسير قول جابر " فأمرنا " ثم فسر هذا التفسير بأن الأمر لم يكن جزمًا (فقلنا) أي فيما بيننا يعني في جملة تذاكرنا فيما بيننا (لما لم يكن) أي حين لم يبق (بيننا وبين عرفة إلا خمس) أي من الليالي بحساب ليلة عرفة أو من الأيام بحساب يوم الأحد الذي لا كلام فيه (أمرنا) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (أن نفضي) من الإفضاء، أي نصل (إلى نسائنا) وهو كناية عن الجماع كقوله تعالى {وقد أفضى بعضكم إلى بعض} (4:21) (فنأتي) بالرفع أي فنحن حينئذ نأتي. قال الطيبي: قوله " فنأتي " ليس من تمام أمر رسول الله عليه وسلم، بل هو عطف على مقدر أي فتنزهنا من ذلك فقلنا نأتي عرفة (تقطر مذاكيرنا المني) جمع ذكر على غير قياس. وقال الأخفش: هو من الجمع الذي ليس له واحد مثل العبابيد والأبابيل، والجملة حالية، وهو كناية عن قرب العهد بالجماع، وكان هذا عيبًا في الجاهلية حيث يعدونه نقصًا في الحج (قال) أي عطاء (يقول جابر) أي يشير بيده (كأني أنظر إلى قوله بيده) أي إشارته بها (يحركها) أي يده، قال الكرماني: هذه الإشارة لكيفية التقطر، ويحتمل أن تكون إلى محل التقطر – انتهى. وقيل: لعله أراد تشبيه تحريك المذاكير بتحريك اليد (فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فينا) أي خطيبًا، وفي رواية " فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فما ندري أشيء بلغه من السماء أم شيء بلغه من قبل الناس، فقام فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه " (فقال) زاد في رواية " بلغني أن أقوامًا يقولون كذا وكذا " (قد علمتم) أي اعتقدتم (أني أتقاكم لله) أي أدينكم وأخشاكم (وأصدقكم) أي قولا (وأبركم) أي عملاً، وقيل أي أطوعكم لله (ولولا هديي لحللت كما تحلون) وفي رواية " لولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم ولكن لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله " (ولو استقبلت من أمري ما استدبرت) ما موصولة محلها النصب على المفعولية (لم أسق الهدي) أي لو علمت في ابتداء شروعي ما علمت الآن من لحوق المشقة لأصحابي بانفرادهم بالفسخ حتى توقفوا وترددوا وراجعوا لما سقت الهدي حتى فسخت وحللت معهم، أراد به - صلى الله عليه وسلم - تطييب قلوبهم وتسكين نفوسهم في صورة المخالفة بفعله وهم يحبون متابعة وكما موافقته، ولما في نفوسهم من الكراهية في الاعتمار في أشهر الحج ومقاربة النساء قرب عرفة (فحلوا) بكسر الحاء أمر للتأكيد (فحللنا وسمعنا وأطعنا وفي رواية

قال عطاء: قال جابر: فقدم علي من سعايته، فقال: بم أهللت؟ قال: بما أهل به النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " فأهد وامكث حرامًا ". قال: وأهدى له علي هديًا. فقال سراقة بن مالك بن جعشم: يا رسول الله! ألعامنا هذا أم لأبد؟ قال: " لأبد ". رواه مسلم. 2584 – (6) وعن عائشة، أنها قالت: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأربع مضين من ذي الحجة أو خمس، فدخل علي وهو غضبان، فقلت: من أغضبك يا رسول الله! أدخله الله النار. قال: " أو ما شعرت أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون، ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي معي حتى أشتريه، ـــــــــــــــــــــــــــــ ((فأحللنا حتى وطئنا النساء وفعلنا ما يفعل الحلال)) (فقدم عليَّ من سِعايته) بكسر السين أي من عمله من القضاء وغيره في اليمن، وقد سبق بيان معناه في شرح حديث جابر الطويل نقلاً عن القاضي عياض والنووي (فأهد) أمر من الإهداء أي في وقت الهدي دم القران (وامكث) أي الآن (حرامًا) أي محرمًا (قال) أي جابر (وأهدى) أي أتى بالهدي (له عليّ هديًا) أي من اليمن كما سبق (ألعامنا هذا؟) أي جواز العمرة في أشهر الحج أو جواز فسخ الحج إلى العمرة مختص بهذه السنة أم لأبد؟ والأول قول الجمهور، والثاني قول أحمد، وقد سبق الكلام في ذلك مفصلاً (رواه مسلم) وأخرجه أيضًا أحمد والبخاري وأبو نعيم في المستخرج وأبو داود والنسائي وابن ماجة والطحاوي والحاكم والبيهقي والطيالسي وغيرهم مختصرًا ومطولاً بألفاظ مختلفة. 2584- قوله قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأربع) أي ليال (أو خمس) شك منها أو من الراوي عنها. وقد تقدم في حديث جابر أنه - صلى الله عليه وسلم - قدم صبح رابعة مضت من ذي الحجة (فدخل علَيَّ وهو غضبان) أي ملآن من الغضب حين تأخر بعض أصحابه في فسخ الحج إلى العمرة. قال النووي: أما غضبه - صلى الله عليه وسلم - فلانتهاك حرمة الشرع وترددهم في قبول حكمه وقد قال الله تعالى {فلا وربك لا يؤمنون حنى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا} (4: 65) فغضب - صلى الله عليه وسلم - لما ذكرناه من انتهاك حرمة الشرع والحزن عليهم في نقص إيمانهم بتوقفهم، وفيه دلالة لاستحباب الغضب عند انتهاك حرمة الدين (أدخله الله النار) دعاء أو إخبار. وفيه جواز الدعاء على المخالف لحكم الشرع (قال: أو ما شعرتِ) أي أو ما عملتِ (أني أمرت الناس) أي بعضهم وهم الذين أحرموا بالحج مفردًا أو أحرموا بالحج والعمرة قرانًا ولم يكن معهم هدي (بأمر) وهو فسخ الحج (فإذا هم يترددون) أي في طاعة الأمر ومسارعته، أو في أن هذه الإطاعة هل هي نقصان بالنسبة إلى حجهم، قاله القاري (حتى اشتريه) أي الهدي بمكة أو في

(3) باب دخول مكة والطواف

ثم أحل كما حلوا ". رواه مسلم. (3) باب دخول مكة والطواف (الفصل الأول) 2585 - (1) عن نافع، قال: إن ابن عمر كان لا يقدم مكة إلا بات بذي طوى، حتى يصبح ويغتسل ويصلي، ـــــــــــــــــــــــــــــ الطريق (ثم أحل) أي بالفسخ كما حلوا، استدل بهذا الحديث على وجوب فسخ الحج إلى العمرة لمن لم يكن معه هدي، وقد سبق الكلام في ذلك في شرح حديث جابر الطويل (رواه مسلم) وفي معناه ما رُوي عن البراء بن عازب عند أحمد وابن ماجه وأبي يعلى، وقد ذكرنا لفظه في بحث فسخ الحج، وهو من الأحاديث في الفسخ التي صححها أحمد وابن القيم وقال الهيثمي في مجمع الزوائد بعد عزوه لأبي يعلى: رجاله رجال الصحيح. (باب دخول مكة) أي آداب دخولها (الطواف) عطف على المضاف. 2585 - قوله (عن نافع) أي مولى ابن عمر (كان لا يقدم مكة) بفتح الدال أي لا يجيئها (إلا بات) أي نزل في الليل عند قدومه (بذي طوى) بتثليث الطاء مع الصرف وعدمه، فمن صرفه جعله اسم واد ومكان وجعله نكرة، ومن لم يصرفه جعله بلدة وبقعة وجعله معرفة. قال النووي: هو موضع معروف بقرب مكة يقال بفتح الطاء وضمها وكسرها، والفتح أفصح وأشهر ويصرف ولا يصرف. وقال الحافظ: ويعرف اليوم ببئر الزاهر، وهو مقصود منون وقد لا ينون. وقال الطبري: ذو طوى بضم الطاء المهملة وفتح الواو المخففة والقصر موضع عند باب مكة يسمى بذلك ببئر مطوية فيه، هكذا ضبطه بعضهم وضبطه الأصيلي بكسر الطاء. وقال الأصمعي: هي بفتح الطاء. قال المنذري: وهو الصواب، فأما الموضع الذي بالشام فيكسر طاؤه ويضم ويصرف ولا يصرف، وقد قرئ بهما، وأما التي بطريق الطائف فممدود (حتى يصبح) فكان ينزل بذي طوى ويبيت فيه للاستراحة وللاغتسال والنظافة (ويغتسل) أي به. قال النووي: في الحديث الاغتسال لدخول مكة وأنه يكون بذي طوى لمن كانت في طريقه (بأن يأتي من طريق المدينة) ويكون بقدر بعدها لمن لم يكن في طريقه (قال الطبري: ولو قيل: يسن له التعريج إليها والاغتسال بها إقتداء وتبركاً لم يبعد. قال الأذرعي: وبه جزم الزعفراني) قال أصحابنا: وهذا الغسل سنة فإن عجز عنه تيمم. وقال الحافظ: قال ابن المنذر الاغتسال عند دخول مكة مستحب عند جميع العلماء وليس في تركه عندهم فدية. وقال أكثرهم: يجزئ منه الوضوء. وفي الموطأ أن ابن عمر كان لا يغسل رأسه وهو محرم إلا من احتلام، وظاهره أن غسله لدخول مكة كان لجسده دون

فيدخل مكة نهارًا، وإذا نفر منها، مر بذي طوى وبات بها حتى ـــــــــــــــــــــــــــــ رأسه وقال الشافعية: إن عجز عن الغسل تيمم. وقال ابن التين: لم يذكر أصحابنا الغسل لدخول مكة، وإنما ذكروه للطواف، والغسل لدخول مكة هو في الحقيقة للطواف – انتهى. وقال ابن قدامة: يستحب الاغتسال لدخول مكة، لأن ابن عمر كان يغتسل ثم يدخل مكة نهارًا، ويُذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعله، ولأن مكة مجمع أهل النسك فإذا قصدها استحب له الاغتسال كالخارج إلى الجمعة، والمرأة كالرجل وإن كان حائضًا أو نفساء لأن الغسل يراد به التنظيف وهذا يحصل مع الحيض فاستحب لها ذلك، وهذا مذهب الشافعي - انتهى. قلت: وهو مذهب أبي حنيفة أيضًا، فهذا الغسل عند الأئمة الثلاثة الشافعي وأحمد وأبي حنيفة لدخول مكة كما هو مصرح في كتب فروعهم ومناسكهم كما هو ظاهر أثر ابن عمر أنه كان يغتسل لإحرامه قبل أن يحرم ولدخول مكة، ولم يحتج إلى غسل للطواف لأنه ليس بين الدخول والطواف كبير فصل، فيجتمع في غسله هذا أمران دخول مكة وطواف بيت الله، ويؤيد ذلك ما قاله العيني: أن الغسل لدخول مكة ليس لكونه محرمًا وإنما لحرمة مكة حتى يستحب لمن كان حلالاً أيضًا، وقد اغتسل لها - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح وكان حلالاً أفاد ذلك الإمام الشافعي في الأم - انتهى. وأما عند المالكية فالغسل المذكور في الحديث وفي الأثر للطواف لا للدخول، قال الباجي: أضاف الغسل أي في أثر ابن عمر إلى دخول مكة وإن كان مقصوده الطواف لأنه يفعل عند دخول مكة ليتصل الدخول بالطواف، والغسل في الحقيقة للطواف دون الدخول، ولذلك لا تغتسل الحائض ولا النفساء لدخول مكة لتعذر الطواف عليهما – انتهى. وفي الشرح الكبير للدردير: وندب الغسل لدخول غير حائض ونفساء مكة بطوى، لأن الغسل في الحقيقة للطواف فلا يؤمر به إلا من يصح منه الطواف، وقوله ((بطوى)) حقه أن يقول: وبطوى. لأنه مندوب ثان – انتهى. (فيدخل مكة نهاراً) فيه استحباب دخول مكة نهارًا. قال النووي: وهذا هو الصحيح الذي عليه الأكثرون من أصحابنا وغيرهم أن دخولها نهارًا أفضل من الليل. وقال بعض أصحابنا وجماعة من السلف: الليل والنهار في ذلك سواء ولا فضيلة لأحدهما على الآخر، وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخلها محرمًا بعمرة الجعرانة ليلاً، ومن قال بالأول حمله على بيان الجواز – انتهى. وقال الحافظ: وأما الدخول ليلاً فلم يقع منه - صلى الله عليه وسلم - إلا في عمرة الجعرانة فإنه - صلى الله عليه وسلم - أحرم من الجعرانة ودخل مكة ليلاً فقضى أمر العمرة ثم رجع ليلاً فأصبح بالجعرانة كبائت، كما رواه أصحاب السنن الثلاثة من حديث محرش الكعبي، وترجم عليه النسائي ((دخول مكة ليلاً)) وروى سعيد بن منصور عن إبراهيم النخعي قال: كانوا يستحبون أن يدخلوا مكة نهاراً ويخرجوا منها ليلاً، وأخرج عن عطاء: إن شئتم فادخلوا مكة ليلاً، وإن شئتم فادخلوها نهارًا، إنكم لستم في ذلك كالنبي - صلى الله عليه وسلم - إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إمامًا فأحب أن يدخلها نهارًا ليراه الناس – انتهى. قال الحافظ: وقضية هذا أن من كان إماماً يقتدى به استحب له أن يدخلها نهارًا (وإذا نفر) أي خرج (منها) أي من مكة (مر بذي طوى وبات بها حتى

يصبح، ويذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك. متفق عليه. 2586 – (2) وعن عائشة، قالت: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما جاء إلى مكة دخلها من أعلاها وخرج من أسفلها. ـــــــــــــــــــــــــــــ يصبح) انتظارًا لأصحابه واهتمامًا لجمع أسبابه (ويذكر) عطف على ((لا يقدم)) أي وكان ابن عمر يذكر (كان يفعل ذلك) أي كلاً من المبيت بذي طوى والاغتسال وصلاة الصبح به ودخول مكة نهارًا (متفق عليه) وأخرجه أيضًا أحمد (ج 2: ص 14، 16، 157) وأبو داود والنسائي والبيهقي (ج 5: ص 71، 72) . 2586 – قوله (إن النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي عام حجة الوداع لأنها كانت معه حينئذ (لما جاء إلى مكة) أي وصل إلى قربها (دخلها من أعلاها) وكذا دخل في فتح مكة منها وأعلى مكة هو الجانب الشرقي (وخرج من أسفلها) أي لما أراد الخروج منها وفي حديث ابن عمر عند البخاري ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة من كداء من الثنية العلياء التي بالبطحاء، وخرج من الثنية السفلى)) فالمراد بأعلاها ((ثنية كَداء)) بفتح الكاف والمد والتنوين أي صرفه وعدمه نظرًا إلى أنه علم المكان أو البقعة، وقال أبو عبيد: لا تصرف، أي للعلمية والتأنيث، وهي الثنية العليا التي ينحدر منها على المقبرة المسماة عند العامة بالمعلاة، وتسمى بالحجون عند الخاصة. وقال الحافظ: هذه الثنية هي التي ينزل منها إلى المعلى مقبرة أهل مكة، وهي التي يقال لها الحجون يفتح المهملة وضم الجيم، وكانت صعبة المرتقى فسهلها معاوية ثم عبد الملك ثم المهدي على ما ذكره الأزرقي، ثم سهل في عصرنا هذا منها سنة إحدى عشرة وثمانمائة موضع، ثم سهلت كلها في زمن سلطان مصر الملك المؤيد في حدود العشرين وثمان مائة. وكل عقبة في جبل أو طريق عال تسمى ثنية. قال ابن جاسر: ثم سهلت في زمن الشريف الحسين بن علي في حدود الثلاثين وثلاثمائة وألف، ثم سهلت في زمن الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل آل سعود، ثم سهلت تسهيلاً كاملاً بعده – انتهى. والمراد بأسفلها ثنية كدى كهدى وقرئ بضم الكاف والقصر والتنوين وتركه. قال الحافظ: وهي عند باب شبيكة بقرب شعب الشافعين من ناحية قعيقعان، وكان ذلك بناء هذا الباب عليها في القرن السابع – انتهى. قال ابن جاسر: لا وجود الآن لهذا الباب، وقد أزيل لاتساع البلد، قال: وهذه الثنية تعرف الآن بريع الرسام، وقد سهلت، وهي الآن في الشارع العام الموصل إلى جرول. تنبيه: حكى الحميدي عن أبي العباس العذري أن بمكة موضعًا ثالثًا يقال له: ((كُدي)) كسمي، أي بالضم والتصغير يخرج منه إلى جهة اليمن. قال المحب الطبري: حققه العذري عن أهل المعرفة بمكة، قال: وقد بُني عليها باب مكة الذي يدخل منه أهل اليمن، واختلف في المعنى الذي لأجله خالف النبي - صلى الله عليه وسلم - بين طريقيه، فقيل: فعله تفاؤلاً بتغيير الحال إلى أكمل منه كما فعل في العيد وليشهد له الطريقان أو ليتبرك به أهلهما، وقيل: ليرى السعة في ذلك. وقيل: لأن نداء أبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان من جهة العلو. وقيل: ليظهر شوكة المسلمين في كلتا الطريقين. وقيل: ليغيظ المنافقين بظهور الدين

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ وعز الإسلام. وقال الحافظ: قيل الحكمة في ذلك المناسبة بجهة العلو عند الدخول لما فيه من تعظيم المكان وعكسه الإشارة إلى فراقه، وقيل لأن إبراهيم لما دخل مكة دخل منها، وقيل لأنه - صلى الله عليه وسلم - خرج منها مختفيًا في الهجرة، فأراد أن يدخلها ظاهرًا عاليًا، وقيل لأن من جاء من تلك الجهة كان مستقبلاً للبيت، ويحتمل أن يكون ذلك لكونه دخل منها يوم الفتح فاستمر على ذلك. والسبب في ذلك قول أبي سفيان بن حرب للعباس: لا أُسلم حتى أرى الخيل تطلع من كداء فقلت: ما هذا؟ قال: شيء طلع بقلبي، وإن الله لا يطلع الخيل هناك أبدًا. قال العباس فذكرت أبا سفيان بذلك لما دخل. وللبيهقي من حديث ابن عمر قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: كيف قال حسان؟ فأنشده: عدمت بنيتي إن لم تروها _ ... تثير النقع مطلعها كداء فتبسم وقال: ادخلوها من حيث قال حسان – انتهى. والحديث يدل على استحباب دخول مكة من أعلاها أي الثنية العليا والخروج من أسفلها، وبه قال جمهور العلماء، وهل يسن الدخول من الثنية العليا لكل داخل سواء كانت تلقاء طريقه أم لم تكن في طريقه؟ فذهب أبو بكر الصيدلاني وجماعة من الشافعية، واعتمده الرافعي إلى أنه إنما يستحب الدخول منها لمن كانت في طريقه، وأما من لم تكن في طريقه فقالوا: لا يستحب له العدول إليها، وذهب النووي إلى أن الدخول منها نسك مستحب لكل أحد، وصوبه وصححه وهو ما مشى عليه في المجموع وزوائد الروضة، واعتمده المتأخرون منهم. قال النووي في شرح المهذب: واعلم أن المذهب الصحيح المختار الذي عليه المحققون من أصحابنا أن الدخول من الثنية العليا مستحب لكل محرم داخل مكة سواء كانت في صوب طريقه أم لم تكن، ويعتدل إليها من لم تكن في طريقه. وقال الصيدلاني والقاضي حسين والفوراني وإمام الحرمين والبغوي والمتولي: إنما يستحب الدخول منها لمن كانت في طريقه، وأما من لم تكن في طريقه فقالوا: لا يستحب له العدول إليها، قالوا: وإنما دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - اتفاقًا لكونها كانت في طريقه، هذا كلام الصيدلاني وموافقيه، واختاره إمام الحرمين ونقله الرافعي عن جمهور الأصحاب، وقال الشيخ أبو محمد الجويني: ليست العليا على طريق المدينة بل عدل إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - متعمدًا لها، قال: فيستحب الدخول منها لكل أحد. قال: ووافق إمام الحرمين الجمهور في الحكم ووافق أبا محمد في أن موضع الثنية كما ذكره. وهذا الذي قاله أبو محمد من كون الثنية ليست على نهج الطريق بل عدل إليها هو الصواب الذي يقضي به الحس والعيان، فالصحيح استحباب الدخول من الثنية العليا لكل محرم قصد مكة سواء كانت في طريقه أم لا، وهو ظاهر نص الشافعي في المختصر ومقتضى إطلاقه فإنه قال: ويدخل المحرم من ثنية كداء، ونقله صاحب البيان عن عامة الأصحاب – انتهى. وقال ابن جاسر: لم أر من تعرض لهذا البحث من أصحابنا الحنابلة، وظاهر كلامهم يقتضي سنية ذلك لإطلاقهم سنية الدخول من أعلاها من ثنية كداء، ولكن ينبغي تقييد هذا الإطلاق بما إذا كانت ثنية كداء إزاء طريقه، أما إذا لم تكن في طريقه فلا يستحب له

متفق عليه. 2587 – (3) وعن عروة بن الزبير، قال: قد حج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخبرتني عائشة أن أول شيء بدأ به حين قدم مكة أنه توضأ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2587 - قوله (وعن عروة بن الزبير، قال: قد حج النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرتني عائشة) إلخ. للحديث سبب ذكره مسلم في صححه قد روى بسنده عن محمد بن عبد الرحمن (هو أبو الأسود النوفلي المدني المعروف بيتيم عروة) أن رجلاً من أهل العراق قال له: سل لي عروة بن الزبير عن رجل يهل بالحج، فإذا طاف بالبيت أيحل أم لا؟ فإن قال لك: لا يحل، فقل له: إن رجلاً يقول ذلك. قال: فسألته فقال: لا يحل من أهل بالحج إلا بالحج، قلت: فإن رجلا كان يقول ذلك. قال: بئسما قال. فتصداني الرجل، فسألني فحدثته، فقال: فقل له: فإن رجلاً كان يخبر أن رسول لله - صلى الله عليه وسلم - قد فعل ذلك وما شأن أسماء والزبير قد فعلا ذلك؟ قال: فجئته فذكرت له ذلك فقال: من هذا؟ فقلت: لا أدري (أي لا أعرف اسمه) قال: فما باله لا يأتيني بنفسه يسألني، أظنه عراقيًا (يعني وهم يتعنتون في المسائل) قلت: لا أدري. قال: فإنه قد كذب، قد حج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرتني عائشة أن أول شيء بدأ به (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) حين قدم مكة أنه توضأ، فذكر الحديث. قال الحافظ: قوله " فإن رجلاً كان يخبر " عني به ابن عباس، فإنه كان يذهب إلى أن من لم يسق الهدي وأهل بالحج إذا طاف يحل من حجه وأن من أراد أن يستمر على حجه لا يقرب البيت حتى يرجع من عرفة، وكان يأخذ ذلك من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن لم يسق الهدي من أصحابه أن يجعلوها عمرة، قال الحافظ: هذا مذهب لابن عباس خالفه فيه الجمهور، ووافقه فيه ناس قليل منهم إسحاق بن راهويه، وجواب الجمهور عن مأخذه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه أن يفسخوا حجهم فيجعلوه عمرة، ثم اختلفوا فذهب الأكثر إلى أن ذلك كان خاصًا بهم، وذهب طائفة إلى أن ذلك جائز لمن بعدهم، واتفقوا كلهم أن من أهل بالحج مفردًا لا يضره الطواف بالبيت، وبذلك احتج عروة في حديث الباب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بدأ بالطواف ولم يحل من حجه ولا صار عمرة، وكذا أبو بكر وعمر (أن أول شيء بدأ به حين قدم مكة أنه توضأ) قال القاري: أي جدد الوضوء لما تقدم أنه كان يغتسل فلا دلالة فيه على كون الطهارة شرطًا لصحة الطواف لأن مشروعيتها مجمع عليها، وإنما الخلاف في صحة الطواف بدونها، فعندنا أنها واجبة، والجمهور على أنها شرط – انتهى. وترجم البخاري لهذا الحديث " باب الطواف على وضوء ". قال الحافظ: أورد فيه حديث عائشة " أن أول شيء بدأ به النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قدم أنه توضأ ثم طاف " الحديث. وليس فيه دلالة على الاشتراط إلا إذا انضم إليه

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله - صلى الله عليه وسلم -: " خذوا عني مناسككم " وباشتراط الوضوء للطواف قال الجمهور وخالف فيه بعض الكوفيين، ومن الحجة عليهم قوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة لما حاضت " غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري ". وقال في شرح حديث عائشة هذا: هو ظاهر في نهي الحائض عن الطواف حتى ينقطع دمها وتغتسل، لأن النهي في العبادات يقتضي الفساد، وذلك يقتضي بطلان الطواف لو فعلته، وفي معنى الحائض الجنب والمحدث وهو قول الجمهور. وذهب جمع من الكوفيين إلى عدم الاشتراط. قال ابن أبي شيبة: حدثنا غندر حدثنا شعبة: سألت الحكم وحمادًا ومنصورًا وسليمان عن الرجل يطوف بالبيت على غيره طهارة فلم يروا به بأسًا، ورُوي عن عطاء إذا طافت المرأة ثلاثة أطواف فصاعدًا ثم حاضت أجزأ عنها، ففي هذا تعقب على النووي حيث قال في شرح المهذب: انفرد أبو حنيفة بأن الطهارة ليست بشرط في الطواف: واختلف أصحابه في وجوبها وجبرانه بالدم إن فعله – انتهى. قال الحافظ: " ولم ينفردوا بذلك كما ترى فلعله أراد انفرادهم عن الأئمة الثلاثة "، لكن عند أحمد رواية أن الطهارة للطواف واجبة تجبر بالدم، وعند المالكية قول يوافق هذا – انتهى. قلت: والذي جزم به الدردير والدسوقي من المالكية هو اشتراط الطهارة حيث قال الدردير: للطواف مطلقًا ركنًا أو واجبًا أو مندوبًا شروط أولها كونه أشواطًا سبعًا، وثانيها كونه متلبسًا بالطهارتين أي طهارة الحدث والخبث – انتهى. وقال الباجي في شرح قول ابن عمر: المرأة الحائض تهل بحجها أو عمرتها إذا أرادت ولكن لا تطوف بالبيت، لأن الطواف بالبيت ينافيه ولذلك يفسده الحيض والنفاس ويمنع صحته وتمامه لأن من شرطه الطهارة – انتهى. وقال ابن قدامة: ويكون طاهرًا في ثياب طاهرة يعني في الطواف لأن الطهارة من الحدث والنجاسة والستارة شرائط لصحة الطواف في المشهور عن أحمد وهو قول مالك والشافعي، وعن أحمد أن الطهارة ليست بشرط فمتى طاف للزيارة غير متطهر أعاد ما كان بمكة، فإن خرج إلى بلده جبره بدم، وكذلك يخرج في الطهارة من النجس والستارة، وعنه فيمن طاف للزيارة وهو ناس للطهارة لا شيء عليه – انتهى. وبسط الكلام في ذلك الولي العراقي في طرح الثريب (ج5: ص 120، 121) وكذا الساعاتي في شرح المسند (ج 12: ص 14) وقال النووي في شرح مسلم تحت حديث عائشة الذي أشار إليه الحافظ: فيه دليل على أن الطواف لا يصح من الحائض، وهذا مجمع عليه، لكن اختلفوا في علته على حسب اختلافهم في اشتراط الطهارة للطواف، فقال مالك والشافعي وأحمد هي شرط، وقال أبو حنيفة: ليست بشرط، وبه قال داود، فمن شرط الطهارة قال: العلة في بطلان الطواف عدم الطهارة، ومن لم يشترطها قال: العلة فيه كونها ممنوعة من اللبث في المسجد – انتهى. قال الولي العراقي بعد ذكره: فيه نظر فإن أبا حنيفة يصحح الطواف كما هو معروف عنه، وكما حكاه هو عنه في شرح المهذب، ولا يلزم من ارتكاب المحرم في اللبث في المسجد بطلان الطواف – انتهى. وقال ابن الهمام في شرح الهداية: والحاصل أن حرمة الطواف من وجهين دخولها المسجد وترك واجب الطواف، فإن الطهارة واجبة في

ثم طاف بالبيت، ثم لم تكن عمرة، ـــــــــــــــــــــــــــــ الطواف فلا يحل لها أن تطوف حتى تطهر فإن طافت كانت عاصية مستحقة لعقاب الله تعالى ولزمها الإعادة (ثم طاف بالبيت) أي طواف القدوم، قاله الطيبي. وقال القاري: أي طواف العمرة لكونه قارنًا أو متمتعًا ولا يخفى ما فيه. وقال في اللباب: ثم إن كان المحرم مفردًا بالحج وقع طوافه هذا للقدوم، وإن كان مفردًا بالعمرة أو متمتعًا أو قارنًا وقع عن طواف العمرة نواه له أو لغيره، وعلى القارن أن يطوف طوافًا آخر للقدوم – انتهى. قال القاري: أي استحبابًا بعد فراغه عن سعي العمرة – انتهى. وأول وقته حين دخوله مكة وآخره قبل وقوفه بعرفة فإذا وقف فقد فات وقته ويسن هذا الطواف للآفاقي لأنه القادم ويسمي أيضًا طواف التحية لأنه بمنزلة تحية المسجد شرع تعظيمًا للبيت ويسمى طواف اللقاء وطواف أول عهد بالبيت وطواف الورود. والحديث يدل على مشروعية طواف القدوم ولا اختلاف فيه. قال الحافظ: في هذا الحديث استحباب الابتداء بالطواف للقادم لأنه تحية المسجد الحرام. واستثنى بعض الشافعية ومن وافقه المرأة الجميلة أو الشريفة التي لا تبرز فيستحب لها تأخير الطواف إلى الليل إن دخلت نهارًا، وكذا من خاف فوت مكتوبة أو جماعة مكتوبة أو مؤكدة أو فائتة، فإن ذلك كله يقدم على الطواف، وذهب الجمهور إلى أن من ترك طواف القدوم لا شيء عليه، وعن مالك وأبي ثور من الشافعية عليه دم، وهل يتداركه من تعمد تأخيره بغير عذر؟ وجهان كتحية المسجد. وقال النووي: جميع العلماء يقولون إن طواف القدوم سنة ليس بواجب إلا بعض أصحابنا ومن وافقه فيقولون واجب يجبر تركه بالدم، والمشهور أنه سنة ليس بواجب ولا دم في تركه – انتهى. وقال الشوكاني: قد اختلف في وجوب طواف القدوم فذهب مالك وأبو ثور وبعض أصحاب الشافعي إلى أنه فرض أي واجب لقوله تعالى {وليطوفوا بالبيت العتيق} (22: 29) ولفعله - صلى الله عليه وسلم - وقوله: " خذوا عني مناسككم " فذهب الأئمة الثلاثة أبو حنيفة والشافعي وأحمد إلى أنه سنة، قالوا لأنه ليس فيه إلا فعله - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يدل على الوجوب. وأما الاستدلال على الوجوب بالآية فقال شارح البحر: إنها لا تدل على طواف القدوم لأنها في طواف الزيارة أي الإفاضة إجماعًا، قال الشوكاني: والحق الوجوب لأن فعله - صلى الله عليه وسلم - مبين لمجمل واجب هو قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت} (3: 97) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: خذوا عني مناسككم. وقوله: حجوا كما رأيتموني أحج. وهذا الدليل يستلزم وجوب كل فعل فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجه إلا ما خصه دليل، فمن ادعى عدم وجوب شيء من أفعاله في الحج فعليه الدليل على ذلك، وهذه كلية فعليك بملاحظتها في جميع الأبحاث التي ستمر بك (ثم لم تكن) بالتأنيث (عمرة) بالرفع وكان تامة، أي لم يوجد بعد الطواف عمرة، وقد ينصب أي لم يكن الطواف عمرة، كذا في اللمعات. وقال الحافظ: معنى قوله " ثم لم تكن عمرة " أي لم تكن الفعلة عمرة هذا إن كان بالنصب على أنه خبر كان، ويحتمل أن تكون كان تامة والمعنى: ثم لم تحصل عمرة، وهي على هذا بالرفع، وقد وقع في رواية مسلم بدل عمرة " غيره " بغين معجمة وياء ساكنة وآخره هاء، قال عياض: وهو

ثم حج أبو بكر فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت، ثم لم تكن عمرة، ثم عمر، ثم عثمان مثل ذلك. متفق عليه. 2588 – (4) وعن ابن عمر، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا طاف في الحج أو العمرة أول ما يقدم سعى ثلاثة أطواف ومشى أربعة، ثم سجد سجدتين، ثم يطوف بين الصفا والمروة. ـــــــــــــــــــــــــــــ تصحيف، وقال النووي: لها وجه أي لم يكن غير الحج، وكذا وجه القرطبي – انتهى. وقال التوربتشي: قوله ((ثم لم تكن عمرة)) أي لم يحل عن إحرامه ذلك ولم يجعلها عمرة، والمراد من قوله ((ثم لم يكن غيره)) أي لم يكن هناك تحلل بالطواف من الإحرام بل أقام على إحرامه حتى نحر هديه (ثم حج أبو بكر) أي بعده - صلى الله عليه وسلم - (فكان أول شيء) بالرفع (ثم عمر ثم عثمان مثل ذلك) قال القاري: بالنصب أي فعلا مثل ذلك، وفي نسخة بالرفع أي فعلهما مثل ذلك وقوله ((ثم عمر ثم عثمان مثل ذلك)) كذا في جميع النسخ، وهكذا في المصابيح، ولفظ الصحيحين ((ثم عمر مثل ذلك ثم حج عثمان فرأيته أول شيء بدأ به بالطواف بالبيت ثم لم يكن عمرة)) وفي مسلم ((لم يكن غيره)) قال الداودي: ما ذكر من حج عثمان هو من كلام عروة وما قبله من كلام عائشة. وقال أبو عبد الملك: منتهى حديث عائشة عند قوله ((ثم لم تكن عمرة)) ومن قوله ((ثم حج أبو بكر)) إلخ. من كلام عروة – انتهى. قال الحافظ: فعلى هذا يكون بعض هذا منقطعًا لأن عروة لم يدرك أبا بكر ولا عمر، نعم أدرك عثمان، وعلى قول الداودي يكون الجميع متصلاً وهو الأظهر – انتهى. (متفق عليه) قد عرفت مما قدمنا أن مسلمًا رواه مطولاً والبخاري مختصرًا دون قصة الرجل أي حذف صورة السؤال وجوابه، واقتصر على المرفوع منه كما في المشكاة، والحديث أخرجه البيهقي مطولاً من طريق مسلم. 2588 – قوله (إذا طاف في الحج أو العمرة) كذا عند البخاري بحرف ((أو)) وعند مسلم ((في الحج والعمرة)) أي بالواو، والظاهر أن أو للتنويع (أول ما يقدم) ظرف (سعى) جواب للشرط. قال القاري: ولا يبعد أن يكون ظرف طاف. قلت: ويقويه رواية مسلم بلفظ: كان إذا طاف في الحج والعمرة أول ما يقدم فإنه يسعى ثلاث أطواف بالبيت. والمراد بالسعي الرمل كما في الروايات الأخرى (ثلاث أطواف) أي أشواط ونصبه على أنه مفعول فيه (ثم سجد سجدتين) أي صلى ركعتين للطواف (ثم يطوف) أي يسعى، والتعبير بالمضارع فيه وفي ((يقدم)) لحكاية الحال الماضية، وفي رواية لابن عمر عند الشيخين ((كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول خب ثلاثًا ومشى أربعًا)) ، وفيها وفي رواية الباب دليل على أن الرمل إنما يشرع في طواف القدوم لأنه الطواف الأول، وهو الذي عليه الجمهور. قال أصحاب الشافعي: ولا يستحب الرمل إلا في طواف واحد في حج أو عمرة، أما إذا طاف في غير حج أو عمرة فلا رمل. قال النووي: بلا خلاف. ولا يشرع أيضًا في كل طوافات الحج بل إنما يشرع في واحد منها، وفيه قولان

............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ مشهوران للشافعي أصحهما طواف يعقبه سعي ويتصور ذلك في طواف القدوم وفي طواف الإفاضة، ولا يتصور في طواف الوداع، والقول الثاني: أنه لا يشرع إلا في طواف القدوم، وسواء أراد السعي بعده أم لا، ويشرع في طواف العمرة إذ ليس فيها إلا طواف واحد، وفيها أيضًا دليل على أن السنة أن يرمل في الثلاثة الأول من أول طواف يطوفه القادم إلى مكة سواء كان عمرة أو طواف قدوم في حج ويمشي على عادته في الأشواط الأربعة الباقية ولا يرمل فيها وإن ترك الرمل في الأشواط الأول لم يقضه في الأشواط الأخيرة على الصواب ولا يلزم بتركه دم على الأظهر لعدم الدليل خلافًا لمن أوجب فيه الدم. قال الحافظ في الفتح: لا يشرع تدارك الرمل، فلو تركه في الثلاث لم يقضه في الأربع لأن هيأتها السكينة فلا تغير، ويختص بالرجال فلا رمل على النساء ويختص بطواف يعقبه سعي على المشهور، ولا فرق في استحبابه بين ماش وراكب ولا دم بتركه عند الجمهور، واختلف في ذلك المالكية. قال الشوكاني: وقد رُوي عن مالك أن عليه دمًا ولا دليل على ذلك. ثم قال: يؤيده أنهم اقتصروا عند مراآة المشركين على الإسراع إذا مروا من جهة الركنين الشاميين، لأن المشركين كانوا بإزاء تلك الناحية يعني ناحية الحجر، فإذا مروا بين الركنين اليمانيين مشوا على هيأتهم كما هو مبين في حديث ابن عباس (عند الشيخين) ولما رملوا في حجة الوداع أسرعوا في جميع كل طوفة فكانت سنة مستقلة. وقال الطبري: قد ثبت أن الشارع سعى ولا مشرك يومئذ بمكة يعني في حجة الوداع فعلم أنه من مناسك الحج إلا أن تاركه ليس تاركًا لعمل بل لهيأة مخصوصة فكان كرفع الصوت بالتلبية فمن لبى خافضًا صوته لم يكن تاركًا للتلبية بل لصفتها ولا شيء عليه – انتهى. قال النووي: ولو لم يمكنه الرمل بقرب الكعبة وأمكنه إذا تباعد عنها فالأولى أن يتباعد ويرمل، لأن فضيلة الرمل هيأة للعبادة في نفسها والقرب من الكعبة هيأة في موضع العبادة لا في نفسها، فكان تقديم ما تعلق بنفسها أولى. تنبيه: إن قيل: ما الحكمة في الرمل بعد زوال علته التي شرع من أجلها، والغالب اطراد العلة وانعكاسها بحيث يدور معها المعلل بها وجودًا وعدمًا. فالجواب أن بقاء حكم الرمل مع زوال علته لا ينافي أن لبقائه علة أخرى، وهي أن يتذكر به المسلمون نعمة الله عليهم حيث كثرهم وقواهم بعد القلة والضعف كما قال الله تعالى: {واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره} (8: 26) الآية. وقال تعالى عن نبيه شعيب: {واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثركم} (7: 86) وصيغة الأمر في قوله ((اذكروا)) في الآيتين تدل على تحتم ذكر النعمة بذلك، وإذًا فلا مانع من كون الحكمة في بقاء حكم الرمل هي تذكر نعمة الله بالقوة بعد الضعف والكثرة بعد القلة، وقد أشار إلى هذا الحافظ في الفتح كما سيأتي. ومما يؤيده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رمل في حجة الوداع بعد زوال العلة المذكورة فلم يمكن بعد ذلك تركه لزوالها. قال الحافظ: إن عمر كان هم بترك الرمل في الطواف لأنه عرف سببه وقد انقضى، فهم أن يتركه لفقد سببه، ثم رجع عن ذلك الاحتمال أن تكون له حكمة ما اطلع عليها فرأى أن الإتباع أولى من طريق المعنى. وأيضًا إن فاعل ذلك إذا فعله تذكر السبب الباعث على ذلك فيتذكر نعمة الله على

متفق عليه. 2589 – (5) وعنه، قال: رمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـــــــــــــــــــــــــــــ إعزاز الإسلام وأهله – انتهى. وقال الشاه ولي الله الدهلوي: إن مشروعية الرمل والاضطباع في الطواف لمعان، منها ما ذكره ابن عباس من إخافة قلوب المشركين وإظهار صولة المسلمين، وكان أهل مكة يقولون: وهنتهم حمى يثرب، فهو فعل من أفعال الجهاد، وهذا السبب قد انقضى ومضى، ومنها تصوير الرغبة في طاعة الله وأنه لم يزده السفر الشاسع والتعب العظيم إلا شوقًا ورغبة كما قال الشاعر: إذا اشتكت من كلال السير واعدها _ ... روح الوصال فتحيى عند ميعاد وكان عمر رضي الله عنه أراد أن يترك الرمل والاضطباع لانقضاء سببهما، ثم تفطن إجمالاً أن لهما سببًا آخر غير منقض فلم يتركهما – انتهى. وفي الحديث دليل لما أجمع عليه العلماء من مشروعية صلاة ركعتين بعد الطواف واختلفوا هل هما واجبتان أم سنتان، والصحيح عند الحنفية أنهما واجبتان، والأصح عند الشافعية أنهما سنة. واستدل للوجوب بصيغة الأمر في قوله تعالى: {اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} (2: 125) على قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم وحمزة والكسائي. قيل: والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما طاف قرأ هذه الآية الكريمة وصلى ركعتين خلف المقام ممتثلاً بذلك الأمر، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - ((خذوا عني مناسككم)) والأمر في قوله ((واتخذوا)) على القراءة المذكورة يقتضى الوجوب. وأجيب عن ذلك الاستدلال بأن الأمر في الآية إنما هو باتخاذه المصلى لا بالصلاة، وقد قال: الحسن البصري وغيره أن قوله ((مصلى)) أي قبلة، ولا يخفى ما في هذا الجواب من التعسف، واستدل لعدم الوجوب بحديث ضمام بن ثعلبة لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن أخبره بالصلوات الخمس: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع، ففي هذا الحديث التصريح بأنه لا بجب شيء من الصلاة غير الخمس المكتوبة. وقد يجاب عن هذا الاستدلال بأن الأمر بصلاة ركعتي الطواف وارد بعد قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا إلا أن تطوع، قال النووي: وفي قوله ((ثم يطوف بين الصفا والمروة)) دليل على وجوب الترتيب بين الطواف والسعي، وأنه يشترط تقدم الطواف على السعي، فلو قدم السعي لم يصح السعي، وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور، وفيه خلاف ضعيف لبعض السلف (متفق عليه) وأخرجه أيضًا أحمد وأبو داود والنسائي والبيهقي. 2589- قوله (رَمَل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) الرَّمَل بفتح الراء والميم في الاسم والفعل الماضي: سرعة المشي مع تقارب في الخطو، والخبب هو الإسراع في المشي مع هز المنكبين دون وثب هكذا فسره أكثر المفسرين. وقال بعضهم: الخبب هو وثب في المشي مع هز المنكبين، والهرولة ما بين المشي والعدو، والسعي يقع على الجميع، فلهذا يقال سعي خفيف وسعي شديد فيحمل السعي المذكور في الحديث المتقدم على الرمل والخبب جمعًا بينهما، هكذا ذكره الطبري وقال

من الحجر إلى الحجر ثلاثًا، ومشى أربعًا، وكان يسعى ببطن المسيل ـــــــــــــــــــــــــــــ الشنقيطي: الرمل مصدر رمَل بفتح الميم يرمُل بضمها رمَلاً بفتح الميم ورملانًا إذا أسرع في مشيته وهز منكبيه وهو في ذلك لا ينزو أي لا يثب وهو الخبب، ولذا جاء في بعض روايات الحديث رمل، وفي بعضها خبّ، والمعنى واحد (من الحجر) أي الأسود (إلى الحجر) هذا نص في استيعاب الرمل لجميع الطوفة يعني في مشروعية الرمل في جميع المطاف من الحجر إلى الحجر، وحديث ابن عباس المروي في بيان سبب الرمل نص في عدم الاستيعاب وأن يمشوا ما بين الركنين اليمانيين، والجواب عن هذا الاختلاف أن حديث ابن عباس الذي فيه أنهم مشوا ما بين الركنين كان في عمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع، وما في الروايات الأخرى من الرمل من الحجر إلى الحجر في حجة الوداع سنة عشر فهو ناسخ لحديث ابن عباس وقيل إن الرمل سنة فعذرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في عمرة القضاء في استيعاب الرمل بجميع الطوفة لضعفهم بالحمى، قال الباجي: إن جابراً عاين ما روى عام حجة الوداع وابن عباس إنما روى عن غيره فإنه لم يشاهد عام القضية لصغره مع أنه يحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك رمل ما بين الركنين وإن كان مشروعاً لحاجته إلى الإبقاء على أصحابه، فلما ارتفعت هذه العلة لزم استدامة الرمل المشروع – انتهى. وقال ابن قدامة: الرمل سنة في الأشواط الثلاثة بكمالها يرمل من الحجر إلى أن يعود إليه، لا يمشي في شيء منها، روى ذلك عن عمر وابنه وابن مسعود وابن الزبير، وبه قال عروة والنخعي ومالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي. وقال طاوس وعطاء والحسن وسعيد بن جبير والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله: يمشي ما بين الركنين لرواية ابن عباس. ولنا ما روى ابن عمر أنه - صلى الله عليه وسلم - رمل من الحجر إلى الحجر، وحديث جابر عند مسلم " قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رمل من الحجر الأسود حتى انتهى إليه ثلاثة أطواف ". وهذا يقدم على حديث ابن عباس لوجوه، الأول: أنه مثبت. والثاني: أن رواية ابن عباس إخبار عن عمرة القضية، وهذا إخبار عن حجة الوداع فيكون متأخرًا ويجب العمل به. والثالث: أن ابن عباس كان في تلك الحال صغيرًا. والرابع: أن جلة الصحابة عملوا بما ذكرنا، ولو علموا من النبي - صلى الله عليه وسلم - ما قال ابن عباس ما عدلوا عنه إلى غيره، ويحتمل أن ما رواه ابن عباس يختص بالذين كانوا في عمرة القضية لضعفهم والإبقاء عليهم، وما رويناه سنة في سائر الناس – انتهى. ويظهر من كلام ابن حزم في المحلى أنه مال إلى أن الرمل من الحجر الأسود إلى الركن اليماني وفيما بينهما جائز (وكان يسعى) أي يسرع ويشتد عدوًا، قاله القاري. واعلم أن السعي في كلامهم يطلق على معنيين، الأول: المشي بين الصفا والمروة وهو المذكور في كلامهم إذا أطلقوا السعي بين الصفا والمروة. والثاني: شدة المشي بين الميلين الأخضرين وهو المراد في هذا الحديث، وهو مندوب وسنة عند الجمهور، منهم الحنفية وهو المرجح عند المالكية (ببطن المسيل) أي المكان الذي يجتمع فيه السيل. قال الحافظ: المراد ببطن المسيل الوادي لأنه موضع السيل. وقال القاري بطن المسيل

إذا طاف بين الصفا والمروة. ـــــــــــــــــــــــــــــ اسم موضع بين الصفا والمروة، وجعل علامته بالأميال الخضر – انتهى. والميلان الأخضران هما العلمان، أحدهما بركن المسجد والآخر بالموضع المعروف بدار العباس، وقد أزيلت الدار للتوسعة، وهما بعد العمارة الجديدة بجداري المسعى. قال النووي: السعي ببطن المسيل مجمع على استحبابه وهو أنه إذا سعى بين الصفا والمروة استحب أن يكون سعيه شديداً في بطن المسيل وهو قدر معروف. وقال ابن قدامة: إن الرمل في بطن الوادي سنة مستحبة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سعى وسعى أصحابه فروت صفية بنت شيبة عن أم ولد شيبة قالت: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسعى بين الصفا والمروة ويقول: لا يقطع الأبطح إلا شدًا. وليس ذلك بواجب، ولا شيء على تاركه، فإن ابن عمر قال: إن أسع بين الصفا والمروة فقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسعى، وإن أمش فقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي وأنا شيخ كبير، رواهما ابن ماجة وروى هذا أبو داود، ولأن ترك الرمل في الطواف بالبيت لا شيء فيه فبين الصفا والمروة أولى – انتهى. وكذلك عند الحنفية والمالكية كما صرح به في فروعهم. تنبيه: قيل في وجه مشروعية السعي الشديد والجري في بطن الوادي: ما رواه البخاري عن ابن عباس، ومحصله: أن هاجر لما تركها إبراهيم عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد عطشت وعطش ابنها حين نفد ما في السقاء من الماء وانقطع درها واشتد جوعهما حتى نظرت إلى ابنها يتشحط ويتلوى، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فقامت على الصفا وهو أقرب جبل يليها، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا، فلم تر أحدًا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدًا، فلم تر أحدًا، ففعلت ذلك سبع مرات. قال ابن عباس: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فلذلك سعى الناس بينهما. فجعل ذلك نسكًا إظهارًا لشرفهما وتفخيمًا لأمرهما. قال الشاه ولي الله الدهلوي: السر في السعي بين الصفا والمروة على ما ورد في الحديث أن هاجر أم إسماعيل عليه السلام لما اشتد بها الحال سعت بينهما سعي الإنسان المجهود فكشف الله عنهما الجهد بإبداء زمزم وإلهام الرغبة في الناس أن يعمروا تلك البقعة، فوجب شكر تلك النعمة على أولاده ومن تبعهم، وتذكر تلك الآية الخارقة لتبهت بهيمتهم وتدلهم على الله، ولا شيء في هذا مثل أن يعضد عقد القلب بهما بفعل ظاهر منضبط مخالف لمألوف القوم فيه تذلل عند أول دخولهم مكة، وهو محاكاة ما كانت فيه من العناء والجهد، وحكاية الحال في مثل هذا أبلغ بكثير من لسان المقال – انتهى. وروى أحمد عن ابن عباس أن إبراهيم عليه السلام لما أمر بالمناسك عرض الشيطان له عند السعي فسابقه فسبقه إبراهيم. وقبل: إنما سعى نبينا - صلى الله عليه وسلم - إظهارًا للجلد والقوة للمشركين الناظرين إليه في الوادي، وهذا كان في عمرة القضاء، ثم بقي بعده كالرمل في الطواف إذ لم يبق في حجة الوداع مشرك بمكة (إذا طاف بين الصفا والمروة) أي سعى بينهما، واختلف

رواه مسلم. 2590 – (6) وعن جابر، قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قدم مكة، أتى الحجر فاستلمه، ثم مشى على يمينه، ـــــــــــــــــــــــــــــ أهل العلم في حكم السعي على ثلاثة أقوال، أحدها: أنه ركن لا يصح الحج، إلا به، وهو قول ابن عمر وعائشة وجابر، وبه قال الشافعي ومالك في المشهور، وأحمد في أصح الروايتين عنه، وإسحاق وأبو ثور، والقول الثاني: أنه واجب يجبر بدم، وبه قال الثوري وأبو حنفية ومالك في العتبية كما حكاه ابن العربي، والثالث: أنه ليس بركن ولا واجب بل هو سنة ومستحب، وهو قول ابن عباس وابن سيرين وعطاء ومجاهد وأحمد في رواية، قال الحافظ في الفتح بعد ذكر الأقوال الثلاثة المذكورة: واختلف عن أحمد كهذه الأقوال الثلاثة، وعند الحنفية تفصيل فيما إذا ترك بعض السعي كما هو عندهم في الطواف بالبيت. وقال ابن قدامة: اختلفت الرواية في السعي، فرُوي عن أحمد أنه ركن لا يتم الحج إلا به، وهو قول عائشة وعروة ومالك والشافعي لما رُوي عن عائشة، قالت: طاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطاف المسلمون يعني بين الصفا والمروة فكانت سنة، ولعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة، رواه مسلم. ثم ذكر حديث صفية بنت شيبة الآتي من رواية ابن ماجة وفيه " سمعته يقول: اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي ". وسيأتي الكلام عليه، ورُوي عن أحمد أنه سنة لا يجب بتركه دم، رُوي ذلك عن ابن عباس وأنس وابن الزبير وابن سيرين، لقول الله تعالى {فلا جناح أن يطوف بهما} (2: 185) ونفي الحرج عن فاعله دليل على عدم وجوبه، فإن هذا رتبة المباح وإنما تثبت سنيته بقوله " من شعائر الله " ورُوي أن في مصحف أُبيّ وابن مسعود " فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما ". وهذا إن لم يكن قرآنًا فلا ينحط عن رتبة الخبر لأنهما يرويانه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال القاضي: هو واجب وليس بركن، إذا تركه وجب عليه دم، وهو مذهب الحسن وأبي حنيفة والثوري، وهو أولى، لأن دليل من أوجبه دل على مطلق الوجوب لا على كونه لا يتم الحج إلا به، وقول عائشة في ذلك معارض بقول من خالفها من الصحابة، وحديث صفية بنت شيبة عن أبي تجراة، قال ابن المنذر: يرويه عبد الله بن المؤمل وقد تكلموا في حديثه، ثم هو يدل على أنه مكتوب وهو الواجب وأما الآية فإنها نزلت لما تحرج ناس من السعي في الإسلام لما كانوا يطوفون بينهما في الجاهلية لأجل صنمين كانا على الصفا والمروة، كذلك قالت عائشة – انتهى. وسيأتي مزيد الكلام في مسألة السعي في شرح حديث صفية بنت شيبة عن بنت أبي تجراة (رواه مسلم) . قال صاحب تنقيح الرواة: أخرجه أيضًا أحمد والبخاري ثلاثتهم في حديثين، فالحديث متفق عليه، أخرجه البيهقي كذلك. 2590- قوله (لما قدم مكة أتى الحجر) أي الأسود وهو في ركن الكعبة القريب بباب البيت من جانب الشرق وارتفاعه من الأرض ذراعان وثلثا ذراع (فاستلمه) أي لمسه وقبله (ثم مشى على يمينه) أي يمين نفسه مما يلي الباب،

فرمل ثلاثًا ومشى أربعًا. رواه مسلم. 2591 - (7) وعن الزبير بن عربي، قال: سأل رجل ابن عمر عن استلام الحجر. فقال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستلمه ـــــــــــــــــــــــــــــ وقيل على يمين الحجر، والمعنى يدور حول الكعبة على يساره. وفيه دليل على أنه يستحب أن يكون ابتداء الطواف من الحجر الأسود بعد استلامه، وحكى في البحر عن الشافعي أن ابتداء الطواف من الحجر الأسود فرض. وفيه أيضًا دليل على مشروعية مشى الطائف بعد استلام الحجر على يمينه جاعلاً للبيت عن يساره، وقد ذهب إلى أن هذه الكيفية شرط لصحة الطواف الأكثر، قالوا: فلو عكس لم يجزه. قال الشوكاني: ولا يخفاك أن الحكم على بعض أفعاله - صلى الله عليه وسلم - في الحج بالوجوب لأنها بيان لمجمل واجب، وعلى بعضها بعدمه تحكم محض لفقد دليل يدل على الفرق بينهما (فرمل ثلاثًا) أي في ثلاث مرات من الأشواط (ومشى أربعًا) أي بالسكون والهينة. قال النووي: في هذا الحديث أن السنة للحاج أن يبدأ أول قدومه بطواف القدوم ويقدمه على كل شيء وأن يستلم الحجر الأسود في أول طوافه، وأن يرمل في ثلاث طوفات من السبع ويمشى في الأربع الأخيرة، (رواه مسلم) . وأخرجه أيضًا النسائي والترمذي والبيهقي. 2591- قوله (وعن الزبير بن عرَبيّ) بفتح الراء بعدها موحدة ثم ياء مشددة، النمري أبو سلمة البصري تابعي ثقة قال الحافظ في تهذيب التهذيب: روى عن ابن عمر، وعنه ابنه إسماعيل وحماد بن زيد وسعيد بن زيد ومعمر، قال الأثرم عن أحمد: أراه لا بأس به. وقال ابن معين: ثقة. وقال النسائي: ليس به بأس. أخرج البخاري والترمذي والنسائي له حديثًا واحدًا في استلام الحجر، وذكره ابن حبان في الثقات – انتهى. تنبيه: قال الحافظ في الفتح: قال أبو علي الجياني: وقع عند الأصيلي عن أبي أحمد الجرجاني، الزبير بن عدي بدال مهملة بعدها ياء مشددة وهو وهم وصوابه ((عربي)) براء مهملة بعدها موحدة ثم ياء مشددة كذلك رواه سائر الرواة عن الفربري – انتهى. وكأن البخاري استشعر هذا التصحيف فأشار إلى التحذير منه فحكى الفربري أنه وجد في كتاب أبي جعفر يعني محمد بن أبي حاتم وراق البخاري قال: قال أبو عبد الله يعني البخاري: الزبير بن عربي هذا بصري والزبير بن عدي كوفي – انتهى. هكذا وقع عند أبي ذر عن شيوخه عن الفربري، وعند الترمذي من غير رواية الكروخي عقب هذا الحديث ((الزبير هذا هو ابن عربي، وأما الزبير بن عدي فهو كوفي)) ويؤيده أن في رواية أبي دواد الطيالسي الزبير بن العربي بزيادة الألف ولام، وذلك مما يرفع الإشكال (سأل رجل) قال الحافظ: هو الزبير الرواي كذلك وقع عند أبي داود الطيالسي عن حماد حدثنا الزبير سألت ابن عمر (عن استلام الحجر) أي هو سنة؟ (يستلمه) أي باللمس ووضع اليد عليه، قاله القاري. وقال في اللمعات: الاستلام يتناول اللمس والتقبيل بعده فذكر التقبيل بعد الاستلام في حكم ذكر الخاص بعد العام، أو يراد هنا اللمس بقرينه ذكر

ويقبله. رواه البخاري. 2592 – (8) وعن ابن عمر، قال: لم أر النبي - صلى الله عليه وسلم - يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين. ـــــــــــــــــــــــــــــ التقبيل بعده – انتهى. والمراد أن يستلمه بيمينه فإن عجز فبيساره أي يمسحه بها (ويقبله) قال الشوكاني: فيه دليل على أنه يستحب الجمع بين استلام الحجر وتقبيله، والاستلام المسح باليد والتقبيل لها، كما في حديث نافع، قال: رأيت ابن عمر استلم الحجر بيده ثم قبل يده، وقال: ما تركته منذ رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله. قال الحافظ: يستفاد منه استحباب الجمع بين الاستلام والتقبيل بخلاف الركن اليماني فيستلمه فقط. والاستلام المسح باليد. والتقبيل يكون بالفم فقط. وروى الشافعي من وجه آخر عن ابن عمر قال: استقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - الحجر فاستلمه ثم وضع شفتيه عليه طويلاً يبكي – الحديث. واختص الحجر الأسود بذلك لاجتماع الفضيلتين له كما تقدم. وقال الطبري بعد ذكر رواية الشافعي: والعمل على هذا عند أهل العلم في كيفية التقبيل من غير تصويت كما يفعله كثير من الناس. وقال الحافظ: المستحب في التقبيل أن لا يرفع به صوته، وروى الفاكهي عن سعيد بن جبير قال: إذا قبلت الركن فلا ترفع بها صوتك كقبلة النساء – انتهى. قلت: أباح التقبيل بالصوت غير واحد من المالكية خلافًا للجمهور. (رواه البخاري) وأخرجه أيضًا النسائي وأبو داود الطيالسي والبيهقي وعزاه الحافظ في تهذيبه للترمذي أيضًا كما تقدم، وليس هو قي رواية الكروخي للترمذي. 2592- قوله (لم أر النبي - صلى الله عليه وسلم - يستلم من البيت) أي من أركانه أو من أجزائه (إلا الركنين اليمانيين) أي دون الركنين الشاميين، واليماني بتخفيف الياء على المشهور لأن الألف عوض عن ياء النسب فلو شددت لكان جمعًا بين العوض والمعوض، وجوز سيبويه التشديد وقال: إن الألف زائدة، كذا في الفتح، وقال الشيخ الدهلوي: الأشهر في اليمانيين تخفيف الياء وقد يشدد، والأصل في النسبة يمني، وقد جاء يمان بمعنى النسبة. والمراد بالركنين اليمانيين الركن الأسود والركن اليماني الذي يليه من نحو دور الجمحيين، وإنما قيل لهما اليمانيان للتغليب كما في الأبوين والقمرين والعمرين وأمثالها، والركنان الآخران أحدهما شامي وثانيهما عراقي، ويقال لهما الشاميان تغليبًا. وإنما اقتصر - صلى الله عليه وسلم - على استلام اليمانيين لما ثبت في الصحيحين من قول ابن عمر: أنهما على قواعد إبراهيم دون الشاميين ولهذا كان ابن الزبير بعد عمارته للكعبة على قواعد إبراهيم يستلم الأركان كلها كما روى ذلك عنه الأزرقي في كتاب مكة، فعلى هذا يكون للركن الأول من الأركان الأربعة فضيلتان: كون الحجر الأسود فيه، وكونه على قواعد إبراهيم. وللثاني الثانية فقط. وليس للآخرين أعنى الشاميين شيء منهما فلذلك يقبل الأول ويستلم الثاني فقط، ولا يقبل الآخران ولا يستلمان على رأي الجمهور، وروى ابن المنذر وغيره استلام الأركان جميعًا عن جابر وأنس والحسن والحسين من الصحابة وعن

متفق عليه. 2593 - (9) وعن ابن عباس، قال: طاف النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع على بعير، ـــــــــــــــــــــــــــــ سويد بن غفلة من التابعين، وقد أخرج البخاري ومسلم ((أن عبيد بن جريج قال لابن عمر: رأيتك تصنع أربعًا لم أر أحدًا من أصحابك يصنعها)) فذكر منها ((ورأيتك لا تمس من الأركان إلا اليمانيين)) وفيه دليل على أن الذين رآهم عبيد ابن جريج من الصحابة والتابعين كانوا لا يقتصرون في الاستلام على الركنين اليمانيين. وقال بعض أهل العلم: اختصاص الركنين مبين بالسنة ومسند التعميم القياس، كذا في النيل والفتح. وقال القاضي أبو الطيب: أجمع أئمة الأمصار والفقهاء على أن الركنين الشاميين لا يستلمان، قال: وإنما كان فيه خلاف لبعض الصحابة والتابعين، وانقرض الخلاف وأجمعوا على أنهما لا يستلمان. وفي رواية لابن عمر عند مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني. قال النووي: يحتج به الجمهور في أنه يقتصر بالاستلام في الحجر الأسود عليه دون الركن الذي هو فيه خلافًا للقاضي أبي الطيب من الشافعية (متفق عليه) وأخرجه أيضًا أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والبيهقي، وللترمذي معناه من رواية ابن عباس. 2593 – قوله (طاف النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع على بعير) كان هذا في طواف الإفاضة يوم النحر أو في طواف الوداع، وأما طوافه ماشيًا فكان في طواف القدوم كما يفيده حديث جابر الطويل. قال الشيخ الدهلوي: إنما طاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راكبًا لكثرة ازدحام الناس وسؤالهم عنه - صلى الله عليه وسلم - الأحكام، وكانت ناقته محفوظة من الروث والبول فيه. وأما الطواف راكبًا لغيره - صلى الله عليه وسلم - فجائز أيضًا، والأفضل المشي انتهى. وقال الحافظ: حمل البخاري سبب طوافه - صلى الله عليه وسلم - راكباً على أنه كان عن شكوى (حيث أدخل حديث ابن عباس في باب المريض يطوف راكباً) وأشار بذلك إلى ما أخرجه أبو داود (وأحمد) من حديث ابن عباس أيضًا بلفظ ((قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة وهو يشتكي فطاف على راحلته)) . ووقع في حديث جابر عند مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف راكبًا ليراه الناس وليسألوه، فيحتمل أن يكون فعل ذلك للأمرين وحيئذٍ لا دلالة فيه على جواز الطواف راكبًا لغير عذر، وكلام الفقهاء يقتضى الجواز إلا أن المشي أولى والركوب مكروه تنزيهًا، قال: والذي يترجح المنع، لأن طوافه - صلى الله عليه وسلم - وكذا أم سلمة كان قبل أن يحوط المسجد، فإذا حوط امتنع داخله، إذ لا يؤمن التلويث فلا يجوز بعد التحويط بخلاف ما قبله، فإنه كان لا يحرم التلويث كما في السعي، قال: وأما طواف النبي - صلى الله عليه وسلم - راكبًا فللحاجة إلى أخذ المناسك عنه، ولذلك عده بعض من جمع خصائصه فيها واحتمل أيضًا أن تكون راحلته عصمت من التلويث حينئذ كرامة له، فلا يقاس غيره عليه، وأبعد من استدل به على طهارة بول البعير وبعره – انتهى. وسيأتي الكلام في هذا في شرح حديث أم سلمة

يستلم الركن ـــــــــــــــــــــــــــــ في الفصل الثالث. قال ابن قدامة في المغنى (ج 3: ص 397) : لا نعلم بين أهل العلم خلافًا في صحة طواف الراكب إذا كان له عذر، فإن ابن عباس روى أنه - صلى الله عليه وسلم - طاف في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن. وعن أم سلمة قالت: شكوت – الحديث، متفق عليهما، وقال جابر: طاف النبي - صلى الله عليه وسلم - على راحلته بالبيت وبين الصفا والمروة ليراه الناس وليشرف عليهم ليسألوه، فإن الناس غشوه. والمحمول كالراكب فيما ذكرناه. قال: فأما الطواف راكبًا أو محمولاً لغير عذر فمفهوم كلام الخرقي أنه لا يجزئ وهو إحدى الروايات عن أحمد لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الطواف بالبيت صلاة. والثانية: يجزئه ويجبره بدم وهو قول مالك، وبه قال أبو حنيفة إلا أنه قال: يعيد ما كان بمكة، فإن رجع جبره بدم، لأنه ترك صفة واجبة في ركن الحج. والثالثة: يجزئه ولا شيء عليه، اختارها أبو بكر، وهي مذهب الشافعي وابن المنذر، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف راكبًا. قال ابن المنذر: لا قول لأحد مع فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولأن الله تعالى أمر بالطواف مطلقًا فكيفما أتى به أجزاه. ولا يجوز تقيد المطلق بغير دليل. ولا خلاف في أن الطواف راجلاً أفضل لأن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - طافوا مشيًا، والنبي - صلى الله عليه وسلم - في غير حجة الوداع طاف مشيًا، وفي قول أم سلمة: شكوت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أني أشتكي؟ فقال ((طوفي من وراء الناس وأنت راكبة)) دليل على أن الطواف إنما يكون مشيًا، وإنما طاف النبي - صلى الله عليه وسلم - راكبًا لعذر، فإن ابن عباس روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثر عليه الناس يقولون: هذا محمد هذا محمد، حتى خرج العواتق من البيوت، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يضرب الناس بين يديه، فلما كثروا عليه ركب. رواه مسلم. وكذلك في حديث جابر ((فإن الناس غشوه)) ورُوي عن ابن عباس ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طاف راكبًا لشكاة به)) وبهذا يعتذر من منع الطواف راكبًا عن طواف النبي - صلى الله عليه وسلم -، والحديث الأول (يعني حديث ابن عباس الأول) أثبت. قال: فعلى هذا يكون كثرة الناس وشدة الزحام عذرًا، ويحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قصد تعليم مناسكهم فلم يتمكن منه إلا بالركوب، والله أعلم – انتهى. وقال النووي في شرح المهذب: قال أصحابنا: الأفضل أن يطوف ماشيًا ولا يركب إلا لعذر مرض أو نحوه أو ما كان ممن يحتاج الناس إلى ظهوره ليستفتى ويقتدى بفعله، فإن طاف بلا عذر جاز بلا كراهية لكنه خالف الأولى، كذا قاله جمهور أصحابنا، وكذا نقله الرافعي عن الأصحاب. وقال إمام الحرمين: في القلب من إدخال البهيمة التي لا يؤمن تلويثها المسجد شيء، فإن أمكن الاستيثاق فذلك، وإلا فإدخالها المسجد مكروه، هذا كلام الرافعي. وجزم جماعة من أصحابنا بكراهة الطواف راكبًا من غير عذر، والمرأة والرجل في الركوب سواء فيما ذكرناه. قال الماوردي: وحكم طواف المحمول على أكتاف الرجال كالراكب فيما ذكرناه. قال: وإذا كان معذورًا فطوافه محمولاً أولى منه راكبًا صيانة للمسجد من الدابة، قال: وركوب الإبل أيسر حالاً من ركوب البغال والحمير (يستلم الركن

بمحجن. متفق عليه. 2594 – (10) وعنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طاف بالبيت على بعير، كلما أتى على الركن أشار إليه بشيء في يده، وكبر. رواه البخاري. 2595 – (11) وعن أبي الطفيل، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـــــــــــــــــــــــــــــ بمحجن) بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الجيم بعدها نون هو عصا محنية الرأس، والحجن الاعوجاج، وبذلك سمي الحجون، والمعنى أنه يؤمئ بعصاه إلى الركن حتى يصيبه، قال ابن التين: هذا يدل على قربه من البيت لكن من طاف راكبًا يستحب له أن يبعد إن خاف أن يؤذي أحدًا، فيحمل فعله - صلى الله عليه وسلم - على الأمن من ذلك – انتهى. ويحتمل أن يكون في حال استلامه قريبًا حيث أمن ذلك وأن يكون في حال إشارته بعيدًا حيث خاف ذلك. وزاد مسلم من حديث أبي الطفيل كما سيأتي ((ويقبل المحجن)) . وله من حديث ابن عمر أنه استلم الحجر بيده ثم قبل يده ورفع ذلك، ولسعيد بن منصور من طريق عطاء قال: رأيت أبا سعيد وأبا هريرة وابن عمر وجابرًا إذا استلموا الحجر قبلوا أيديهم. قيل: وابن عباس؟ قال: وابن عباس. أحسبه قال: كثيرًا. وبهذا قال الجمهور أن السنة أن يستلم الركن ويقبل يده، فإن لم يستطع أن يستلمه بيده استلمه بشيء في يده وقبل ذلك الشيء، فإن لم يستطع أشار إليه واكتفى بذلك، وعن مالك في رواية ((لا يقبل يده)) وكذا قال القاسم بن محمد بن أبي بكر، وفي رواية عند المالكية يضع يده على فمه من غير تقبيل، كذا في الفتح (متفق عليه) وأخرجه أيضًا أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة. 2594 – قوله (طاف بالبيت على البعير) قال الطبري بعد ذكر الأحاديث التي تدل على إباحة الطواف على الرحلة: هذه الأحاديث تدل على جواز الركوب في الطواف، وخصه مالك بالضرورة استدلالاً بحديث ابن عباس عند أحمد وأبي داود ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدم مكة وهو يشتكي وطاف على راحلته)) وبقوله في حديث جابر ((ليراه الناس وليشرف عليهم)) واختاره الشافعي مطلقًا مع كراهية، وعند مالك وأبي حنيفة إن قرب أعاد وإن بعد فعليه دم. (كلما أتى على الركن) أي الحجر الأسود (أشار إليه بشيء) المراد بالشيء المحجن الذي تقدم في الرواية الماضية. قال القاري: وفيه إشارة إلى أن الركن اليماني لا يشار إليه عند العجز عن الاستلام كما هو الصحيح من مذهبنا (في يده) كذا في المشكاة، وهكذا نقله الطبري في القرى والمجد في المنتقى، وفي البخاري ((عنده)) بدل ((في يده)) (وكبر) أي قال: الله أكبر، وفيه استحباب التكبير عند الركن الأسود في كل طوفة. (رواه البخاري) وأخرجه أيضًا أحمد (ج 1: ص 264) والترمذي والدارمي وغيرهم. 2595 – قوله (وعن أبي الطفيل) هو عامر بن وثلة بن عبد الله بن عمرو بن جحش الكناني الليثي أبو الطفيل،

يطوف بالبيت، ويستلم الركن بمحجن معه، ويقبل المحجن. رواه مسلم. 2596 – (12) وعن عائشة، قالت: خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نذكر إلا الحج، فلما كنا بسرف ـــــــــــــــــــــــــــــ ويقال اسمه عمرو، والأول أصح وهو بكنيته أشهر، وقال المصنف: غلبت عليه كنيته. ولد عام أحد، أدرك من حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمان سنين، وكان يسكن الكوفة ثم انتقل إلى مكة، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أبي بكر وعمر وعليّ وغيرهم من الصحابة والتابعين، وكان من أصحاب على المحبين له وشهد مع مشاهده كلها، وكان ثقة مأمونًا يعترف بفضل أبي بكر وعمر وغيرهما إلا أنه كان يقدم عليًا، وقال ابن سعد: كان أبو الطفيل ثقة في الحديث متشيعًا، وعُمّر إلى أن مات سنة عشر ومائة على الصحيح. وهو آخر من مات من الصحابة، قاله مسلم وغيره (يطوف بالبيت) أي راكبًا (ويقبل المحجن) أي بدل الحجر للماشي، قال الأمير اليماني في السبل: الحديث دال على أنه يجزئ عن استلامه باليد استلامه بآلة ويقبل الآلة كالمحجن والعصا، وكذلك إذا استمله بيده قبَّل يده، فقد روى الشافعي أنه قال ابن جريج لعطاء: هل رأيت أحدًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استلموا قبَّلوا أيديهم؟ قال: نعم؛ رأيت جابر بن عبد الله وابن عمر وأبا سعيد وأبا هريرة إذا استلموا قبَّلوا أيديهم، فإن لم يمكن استلامه لأجل الزحمة قام حياله ورفع يديه وكبر لما رُوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يا عمر إنك رجل قوي لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعفاء، إن وجدت خلوة فاستلمه وإلا فاستقبله وهلل وكبر، رواه أحمد والأرزقي. وإذا أشار بيده فلا يقبَّلها لأنه لا يقبل إلا الحجر أو ما مس الحجر – انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضًا أحمد (ج 5: ص 454) وأبو داود وابن ماجة. 2596 – قوله (لا نذكر) قال القاري: أي في تلبيتنا أو في محاورتنا، وقال بعضهم: أي لا نقصد (إلا الحج) فإنه الأصل المطلوب، وأما العمرة فإنها أمر مندوب، فلا يلزم من عدم ذكرها في اللفظ عدم وجودها في النية. وقال أيضًا: هذا الحديث بظاهره ينافي قولها السابق ((ولم أهلل إلا بعمرة)) إلا أن يقال: قولها: ((لا نذكر إلا الحج)) أي ما كان قصدنا الأصلي من هذا السفر إلا الحج بأحد أنواعه من القران والتمتع والإفراد، فمنا من أفرد ومنا من قرن ومنا من تمتع وإني قصدت التمتع فاعتمرت، ثم لما حصل لي عذر الحيض واستمر إلى يوم عرفة ووقت وقوف الحج أمرني أن أرفضها وأفعل جميع أفعال الحج إلا الطواف، وكذلك السعي إذ لا يصح إلا بعد الطواف – انتهى. وقال السندي: أرادت (عائشة رضي الله عنها) بهذا المقصود الأصلي من الخروج ما كان إلا الحج، وما وقع الخروج إلا لأجله، ومن اعتمر فعمرته كانت تابعة للحج فلا يخالف ما سبق أنها كانت معتمرة وكان في الصحابة رجال معتمرون، ويحتمل أنها حكاية عن غالب من كان معه - صلى الله عليه وسلم - من الصحابة في ذلك السفر – انتهى. وتقدم شيء من الكلام في هذا في شرح حديث عائشة في باب الإحرام والتلبية (بسرف) بفتح المهملة وكسر الراء بعدها فاء موضع قريب من مكة بينهما نحو عشرة أميال، وهو ممنوع من الصرف

طمثت، فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي، فقال: " لعلك نفست؟ " قلت: نعم. قال: " فإن ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم، فافعلي ما يفعل الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري ". ـــــــــــــــــــــــــــــ وقد يصرف، قاله الحافظ. وقال النووي: هو ما بين مكة والمدينة بقرب مكة على أميال منها، قيل ستة، وقيل سبعة، وقيل تسعة، وقيل عشرة، وقيل اثني عشر ميلاً - انتهى. وفيه قبر ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد اتفق التزوج والبناء بها وموتها في هذا الموضع (طمثت) قال النووي: هو بفتح الطاء وكسر الميم أي حضت، يقال حاضت المرأة وتحيضت وطمثت وعرَكت - بفتح الراء - ونفست وضحكت وأعصرت وأكبرت، كله بمعنى واحد، والاسم منه الحيض والطمث والعراك والضحك والإكبار والإعصار، وهي حائض وحائضة في لغة غربية حكاها الفراء، وطامث وعارك ومكبر ومعصر - انتهى. (وأنا أبكي) أي ظنًا مني أن الحيض يمنع الحج (لعلك نفِست) بفتح النون وضمها لغتان مشهورتان، الفتح أفصح، والفاء مكسورة فيهما، أي حضت، وأما النفاس الذي هو الولادة فيقال فيه نفست - بالضم - لا غير، ذكره النووي (فإن ذلك) بكسر الكاف أي نفاسك بمعنى حيضك (كتبه الله) أي قدره الله (على بنات آدم) قال القاري: فيه تسلية لها، إذ البلية إذا عمت طابت - انتهى. وقال النووي: هذا تسلية لها وتخفيف لهمها، ومعناه أنك لست مختصة به، بل كل بنات آدم يكون منهن هذا كما يكون منهن ومن الرجال البول والغائط. واستدل البخاري في صحيحه في كتاب الحيض بعموم هذا اللفظ على أن الحيض كان في جميع بنات آدم، وأنكر به على من قال إن الحيض أول ما أرسل ووقع في بني إسرائيل. قال الحافظ: وكأنه يشير إلى ما أخرجه عبد الرزاق عن ابن مسعود بإسناد صحيح قال: كان الرجال والنساء في بني إسرائيل يصلون جميعًا فكانت المرأة تتشوف للرجل، فألقى الله عليهن الحيض ومنعهن المساجد، وعنده عن عائشة نحوه، قال الداودي: ليس بينهما مخالفة، فإن نساء بني إسرائيل من بنات آدم فعلى هذا فقوله ((بنات آدم)) عام أريد به الخصوص. قلت (قائله الحافظ) : ويمكن أن يجمع بينهما مع القول بالتعميم بأن الذي أرسل على نساء بني إسرائيل طول مكثه بهن عقوبة لهن لا ابتداء وجوده، وقد روى الطبري وغيره عن ابن عباس وغيره أن قوله تعالى في قصة إبراهيم} وامرأته قائمة فضحكت} (11: 71) أي حاضت، والقصة متقدمة على بني إسرائيل بلا ريب؛ وروى الحاكم وابن المنذر بإسناد صحيح عن ابن عباس: أن ابتداء الحيض كان على حواء بعد أن أهبطت من الجنة، وإذا كان كذلك فبنات آدم بناتها - انتهى (غير أن لا تطوفي بالبيت) قال الطيبي: استثناء من المفعول به ولا زائدة (حتى تطهري) أي بانقطاع الدم والاغتسال، وهو بفتح التاء والطاء المهملة وتشديد الهاء أيضًا، وهو على حذف إحدى التائين وأصله تتطهري والمراد بالطهارة الغسل كما وقع في رواية لمسلم حتى تغتسلي، وفي الحديث دليل على أن الحائض والنفساء والمحدث والجنب يصح منهم جميع أفعال الحج وأقواله وهيئاته إلا الطواف وركعتيه، فيصح الوقوف بعرفات وغيره،

متفق عليه. 2597 – (13) وعن أبي هريرة، قال: بعثني أبو بكر في الحجة التي أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها قبل حجة الوداع، يوم النحر في رهط، أمره أن يؤذن في الناس: " ألا ـــــــــــــــــــــــــــــ وكذلك الأفعال المشروعة في الحج تشرع للحائض وغيرها. وفيه دليل على أن الطواف لا يصح من الحائض. وهذا مجمع عليه. وأما السعي فكالطواف إذ لا يصح إلا بعد الطواف. قال الشوكاني: الحديث ظاهر في نهي الحائض عن الطواف حتى ينقطع دمها وتغتسل والنهي يقتضي الفساد المرادف للبطلان فيكون طواف الحائض باطلاً، وهو قول الجمهور – انتهى. وقد تقدم الكلام في اشتراط الطهارة للطواف في شرح حديث عروة عن عائشة ثالث أحاديث هذا الباب. (متفق عليه) وأخرجه أيضًا أحمد والنسائي وابن ماجة والبيهقي. 2597 – قوله (بعثني) أي أرسلني (أبو بكر) الصديق، قال الطحاوي في مشكل الآثار: هذا مشكل لأن الأخبار في هذه القصة تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان بعث أبا بكر بذلك، ثم أتبعه عليًا فأمره أن يؤذن فكيف يبعث أبو بكر أبا هريرة ومن معه بالتأذين مع صرف الأمر عنه في ذلك إلى عليّ؟ ثم أجاب بما حاصله أن أبا بكر كان الأمير على الناس في تلك الحجة بلا خلاف، وكان عليّ هو المأمور بالتأذين بذلك، وكأن عليًا لم يطق التأذين بذلك وحده، واحتاج إلى من يعينه على ذلك، فأرسل معه أبو بكر أبا هريرة وغيره ليساعدوه على ذلك، ثم ساق من طريق المحرز بن أبي هريرة عن أبيه قال: كنت مع علي حين بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - ببراءة إلى أهل مكة فكنت أنادي معه بذلك حتى يصحل صوتي وكان هو ينادي قبلي حتى يعيي. وأخرجه أحمد أيضًا وغيره من طريق محرز بن أبي هريرة، فالحاصل أن مباشرة أبي هريرة لذلك كانت بأمر أبي بكر وكان ينادي بما يلقيه إليه عليّ مما أمر بتبليغه، كذا في الفتح (في الحجة التي أمره النبي - صلى الله عليه وسلم -) بتشديد الميم أي جعله أميرًا على قافلة الحج في الستة التاسعة من الهجرة (عليها) متعلق بأمره أي على الحجة (قبل حجة الوداع) أي بسنة. قال ابن القيم: يستنبط منه أنها كانت سنة تسع لأن حجة الوداع كانت سنة عشر اتفاقًا، وذكر ابن إسحاق أن خروج أبي بكر كان في ذي القعدة. وذكر الواقدي أنه خرج في تلك الحجة مع أبي بكر ثلاث مائة من الصحابة، وبعث معه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرين بدنة. قال الحافظ: وقد وقفت ممن سمي ممن كان مع أبي بكر في تلك الحجة على أسماء جماعة منهم سعد بن أبي وقاص وجابر بن عبد الله فيما أخرجه الطبري (يوم النحر) ظرف بعث (في رهط) أي في جملة رهط أو مع رهط، والرهط – بسكون الهاء ويحرك – عدد يجمع من الثلاثة إلى العشرة أو ما دون العشرة وما فيهم امرأة، ولا واحد له من لفظه (أمره) بالتخفيف (أن يؤذن) بالتشديد، والمراد بالتأذين الإعلام، وهو اقتباس من قوله تعالى: {وأذان من الله ورسوله} (9: 3) أي إعلام. قال الطيبي: والضمير راجع إلى الرهط، والإفراد باعتبار اللفظ، ويجوز أن يكون لأبي هريرة على الالتفات. قال القاري: أو على التجريد أو التقدير ((أمر أحد الرهط أن ينادي)) (ألا)

(الفصل الثاني)

لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان ". متفق عليه. (الفصل الثاني) . 2598 - (14) عن المهاجر المكي، ـــــــــــــــــــــــــــــ للتنبيه (لا يحجُ) بضم الجيم، نهى أو نفى معناه نهى، ويفتح، ويكسر على أنه نهى ويؤيده رواية ((لا يحججن)) قاله القاري. وفي رواية ((أن لا يحج)) قال الحافظ:كذا للأكثر، وللكشميهني ((ألا لا يحج)) بأداة الاستفتاح قبل حرف النهي، وللبخاري في التفسير ((أن لا يحجن)) وهو يعين ذلك للنهي (بعد العام) أي بعد هذه السنة. وقال الحافظ: أي بعد الزمان الذي وقع فيه الإعلام بذلك (مشرك) أي كافر. قال الحافظ: هو منتزع من قوله تعالى: {فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} (9: 28) والآية صريحة في منعهم دخول المسجد الحرام ولو لم يقصدوا الحج ولكن لما كان الحج هو المقصود الأعظم صرح لهم بالمنع منه فيكون ما وراءه أولى بالمنع، والمراد بالمسجد الحرام هنا الحرم كله. قال النووي: فلا يمكن مشرك من دخول الحرم بحال حتى لو جاء في رسالة أو أمر مهم لا يمكن من الدخول بل يخرج إليه من يقضي الأمر المتعلق به، ولو دخل خفية ومرض ومات نبش وأخرج من الحرم - انتهى. وقال العيني: وكذلك لا يمكن أهل الذمة من الإقامة بعد ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب. قاله في مرض موته - صلى الله عليه وسلم - (ولا يطوفن بالبيت عريان) أي مطلقًا في جميع الأيام غير مقيد بعام دون عام لقوله تعالى {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} (7: 31) وصح عن ابن عباس أنه نزل ردًا لما كانوا يفعلونه من الطواف بالبيت مع العري، يعني زعمًا منهم أنهم لا يعبدون ربهم في ثياب أذنبوا فيها. قال الحافظ: ذكر ابن إسحاق في سبب هذا الحديث أن قريشًا ابتدعت قبل الفيل أو بعده أن لا يطوف بالبيت أحد ممن يقدم عليهم من غيرهم أول ما يطوف إلا في ثياب أحدهم، فإن لم يجد طاف عرياناً، فإن خالف وطاف بثيابه ألقاها إذا فرغ ثم لم ينتفع بها، فجاء الإسلام فهدم ذلك كله. وفي الحديث حجة لاشتراط ستر العورة في الطواف كما يشترط في الصلاة والمخالف في ذلك الحنفية، قالوا: ستر العورة في الطواف ليس بشرط فمن طاف عرياناً أعاد ما دام بمكة، فإن خرج لزمه دم، قلت: قد اختلف هل ستر العورة في الطواف ليس بشرط فمن طاف عرياناً أعاد ما دام بمكة، فإن خرج لزمه دم. قلت: قد اختلف هل ستر العورة شرط لصحة الطواف أو لا؟ فذهب الجمهور إلى أنه شرط، وذهبت الحنفية إلى أنه ليس بشرط، فمن طاف عرياناً أعاد ما دام بمكة، فإن خرج لزمه دم، فهم ينكرون الاشتراط دون الوجوب، قالوا: وهو مدلول الحديث. (متفق عليه) أخرجه البخاري في أوائل الصلاة، وفي الحج، وفي تفسير سورة براءة، ومسلم في الحج، وأخرجه أيضًا النسائي والبيهقي. 2598 - قوله (عن المهاجر المكي) هو مهاجر بن عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث القرشي المخزومي. قال

قال: سئل جابر عن الرجل يرى البيت يرفع يديه؟ فقال: قد حججنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم نكن نفعله. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحافظ في تهذيب التهذيب: روى عن جابر وابن عمه عبد الله بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث والزهري وهو من أقرانه، وعنه أبو قزعة سويد بن حجير الباهلي ويحيى بن أبي كثير، ذكره ابن حبان في الثقات. قلت: قال أبو حاتم في العلل: لا أعلم أحداً روى عن المهاجر بن عكرمة غير يحيى بن أبي كثير، والمهاجر ليس بالمشهور – انتهى. وقال في التقريب: إنه مقبول. قلت: ذكره البخاري في تاريخه (ج 4: ص 380) وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (ج 4/1/220) ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلاً (عن الرجل يرى البيت) أي الرجل الذي يرى البيت (يرفع يديه) أي هو مشروع أم لا؟ وهذا لفظ أبي داود، وفي رواية الترمذي ((أيرفع الرجل يديه إذا رأى البيت؟)) (فلم نكن نفعله) أي رفع اليدين عند رؤيته في الدعاء، وهذا لفظ النسائي. وعند أبي داود ((فلم يكن يفعله)) وللترمذي ((أفكنا نفعله)) والهمزة للإنكار، والحديث يدل على عدم رفع اليد في الدعاء عند رؤية البيت، وقد ورد ما يدل على استحباب ذلك فروى الشافعي عن ابن جريج أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال: اللهم زد هذا البيت تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا ومهابة، وزد من شرفه وكرمه ممن حجه أو اعتمره تشريفًا وتكريمًا وتعظيمًا وبرًا. وهذا مرسل معضل فيما بين ابن جريج والنبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي إسناده سعيد بن سالم القداح وفيه مقال. وروى البيهقي عن مكحول، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل مكة فرأى البيت رفع يديه وكبر وقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام، فحينا ربنا بالسلام، اللهم زد هذا البيت تشريفًا وتعظيمًا، إلخ. وهذا مرسل. وروى البيهقي أيضًا من طريق الشافعي عن سعيد بن سالم عن ابن جريج قال: حدثت عن مقسم مولى عبد الله بن الحارث عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " ترفع الأيدي في الصلاة، وإذا رأى البيت، وعلى الصفا والمروة " – الحديث قال البيهقي: هو منقطع، لم يسمعه ابن جريج من مقسم، ورواه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس، وعن نافع عن ابن عمر مرة موقوفًا عليهما ومرة مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وابن أبي ليلى هذا غير قوي في الحديث وقد اختلف العلماء في ذلك كما اختلفت الروايات. فذهب أبو حنيفة ومالك إلى عدم الرفع. قال في اللباب وشرحه للقاري: ولا يرفع يديه عند رؤية البيت ولو حال دعائه لعدم ذكره في المشاهير من كتب الأصحاب كالقدوري والهداية والكافي والبدائع، بل قال السروجي: المذهب تركه. وكلام الطحاوي في شرح معاني الآثار صريح أنه يكره الرفع عند أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، وقيل: يرفع. ونقل عن جابر رضي الله عنه أن ذلك من فعل اليهود، وسماه البصروي مستحبًا إلخ. وقال في غنية الناسك: استحب المحققون من أهل المذهب للقادم رفع اليدين عند رؤية البيت للدعاء، منهم الكرماني والبصروي وابن الهمام وعلى القاري وهو مذهب الشافعي وأحمد – انتهى. واحتج لمن ذهب إلى كراهة الرفع وعدم مشروعيته بحديث جابر، وهو حديث حسن وقال سفيان الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق: يرفع

............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ يديه. قال ابن المنذر: وبه أقول. قال النووي: وهو مذهبنا. وقال الشافعي بعد أن أورد حديث ابن جريج: ليس في رفع اليدين عند رؤية البيت شيء فلا أكرهه ولا أستحبه. قال البيهقي: وكأنه لم يعتمد على الحديث لانقطاعه. قال ابن قدامة (ج 3: ص 369) : ويستحب رفع اليدين عند رؤية البيت، رُوي ذلك عن ابن عمر وابن عباس، وبه قال الثوري وابن المبارك والشافعي وإسحاق بن راهويه، وكان مالك لا يرى رفع اليدين لما رُوي عن المهاجر المكي، قال سئل جابر بن عبد الله فذكر حديث الباب ثم قال: ولنا ما روى أبو بكر بن المنذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن: افتتاح الصلاة واستقبال البيت – الحديث. قال ابن قدامة: وهذا من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وذاك من قول جابر، وخبره عن ظنه وفعله، وقد خالفه ابن عمر وابن عباس، ولأن الدعاء مستحب عند رؤية البيت، وقد أمر برفع اليدين عند الدعاء – انتهى. وقال النووي في شرح المهذب: قال أصحابنا رواية المثبت للرفع أولى، لأن معه زيادة علم، وقال البيهقي رواية غير جابر في إثبات الرفع مع إرسالها أشهر عند أهل العلم من حديث مهاجر وله شواهد، وإن كانت مرسلة. والقول في مثل هذا قول من رأى وأثبت. وقال الخطابي في المعالم: قد اختلف الناس في هذا فكان ممن يرفع يديه إذا رأى البيت سفيان الثوري وابن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وضعف هؤلاء حديث جابر لأن مهاجراً راويه عندهم مجهول، وذهبوا على حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ترفع الأيدي في سبعة مواطن، إلخ – ورُوي عن ابن عمر أنه كان يرفع اليدين عند رؤية البيت، وعن ابن عباس مثل ذلك – انتهى. قلت: قد تقدم أن مهاجرًا المكي وثقه ابن حبان، وقال الحافظ: إنه مقبول. فحديث جابر على الأقل حسن. وأما حديث ابن عباس في رفع الأيدي في سبعة مواطن ففي سنده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو سيء الحفظ. قال الشوكاني: ليس في الباب ما يدل على مشروعية رفع اليدين عند رؤية البيت وهو حكم شرعي لا يثبت إلا بالدليل، وأما الدعاء عند رؤية البيت فقد رويت فيه أخبار وآثار، منها ما أخرجه ابن المغلس أن عمر كان إذا نظر إلى البيت قال: اللهم أنت السلام ومنك السلام فحينا ربنا بالسلام. ورواه سعيد بن منصور في السنن عن ابن عيينة عن يحيى بن سعيد ولم يذكر عمر، ورواه الحاكم عن عمر أيضًا. وكذلك رواه البيهقي عنه – انتهى. تنبيه: قال الطبري: وأول موضع يقع فيه بصره على البيت رأس الردم لمن يأتي من أعلى مكة، وقد كان ذلك فأما اليوم فقد سد بالأبنية. وقال ابن جاسر: والدعاء المذكور يقوله إذا عاين البيت لا عند وصوله للمحل الذي كان يرى منه البيت قبل ارتفاع الأبنية وهو المسمى أولاً برأس الردم والآن يسمى بالمدعى. قال شيخ الإسلام: ولم يكن قديمًا بمكة بناء يعلو على البيت ولا كان فوق الصفا والمروة والمشعر الحرام بناء ولا كان بمنى بناء ولا بعرفات مسجد ولا عند الجمرات مسجد، بل كل هذه محدثة بعد الخلفاء الراشدين، ومنها ما أحدث بعد الدولة الأموية، فكان البيت يرى قبل دخول المسجد، فمن رأى البيت قبل دخول المسجد فعل ذلك أي الرفع

رواه الترمذي، وأبو داود. 2599 – (15) وعن أبي هريرة، قال: أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل مكة، فأقبل إلى الحجر فاستلمه، ثم طاف بالبيت، ثم أتى الصفا فعلاه حتى ينظر إلى البيت، فرفع يديه فجعل يذكر الله ما شاء ويدعو. رواه أبو داود. 2600 – (16) وعن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " الطواف حول البيت ـــــــــــــــــــــــــــــ والدعاء، وقد استحب ذلك من استحبه عند رؤية البيت، ولو كان بعد دخول المسجد - انتهى. (رواه الترمذي وأبو داود) وأخرجه البيهقي (ج 5: ص 73) وهو حديث حسن كما عرفت. 2599 – قوله (أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي توجه من المدينة (فدخل مكة) قال القاري: أي للحج أو للعمرة، والظاهر أن المراد يوم فتح مكة كما يدل عليه حديث أبي هريرة الطويل عند مسلم في باب فتح مكة (فأقبل إلى الحجر) أي توجه إلى الحجر الأسود، أو إلى بمعنى على (فاستلمه) أي باللمس والتقبيل (ثم طاف بالبيت) أي سبعة أشواط (ثم أتى الصفا) أي بعد ركعتي الطواف (فعلاه) أي صعده (حتى ينظر إلى البيت) وفي أبي داود ((حيث ينظر إلى البيت)) وفي حديث جابر الطويل المتقدم ((فرقى عليه حتى رأى البيت، وأنه فعل في المروة مثل ذلك)) قال القاري: وهذا كان في الصفا باعتبار ذلك الزمن، وأما الآن فالبيت يُرى من باب الصفا قبل رقيه لما حدث من ارتفاع الأرض ثمه حتى اندفن كثير من درج الصفا. وقيل بوجوب الرقي مطلقاً. وأما الرقي الآن في المروة فلا يمكن كما أن رؤية البيت منها لا تمكن لكن بصدر العقد المشرف عليها دكة فيستحب رقيها عملاً بالوارد ما أمكن (فرفع يديه) أي للدعاء على الصفا لا لرؤية البيت لما سبق، وأما ما يفعله العوام من رفع اليدين مع التكبير على هيأة رفعهما في الصلاة فلا أصل له (فجعل يذكر الله ما شاء) أي من التكبير والتهليل والتحميد والتوحيد (ويدعو) أي بما شاء. قال القاري: وفيه إشارة إلى المختار عند محمد أن لا تعين في دعوات المناسك لأنه يورث خشوع الناسك. وقال ابن الهمام: لأن توقيتها يذهب بالرقة لأنه يصير كمن يكرر محفوظة وإن تبرك بالمأثور فحسن – انتهى. وقوله ((يذكر الله ما شاء ويدعو)) كذا في جميع النسخ، وفي أبي داود ((يذكر الله ما شاء أن يذكره ويدعوه)) . وفي الحديث الابتداء بالطواف في أول دخول مكة سواء كان محرمًا بحج أو بعمرة أو غير محرم، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - دخلها في هذا اليوم، وهو يوم الفتح غير محرم بإجماع المسلمين وكان على رأسه المغفر. والأحاديث متظاهرة على ذلك، والإجماع منعقد عليه، قاله النووي. وفيه أيضًا رفع اليدين للدعاء على الصفا عند رؤية البيت (رواه أبو داود) قال المنذري: وأخرجه مسلم بنحوه في الحديث الطويل في الفتح يعني فتح مكة. 2600- قوله (الطواف حول البيت) أي الدوران حول الكعبة. وقوله ((حول البيت)) احتراز من الطواف

مثل الصلاة، إلا أنكم تتكلمون فيه، فمن تكلم فيه فلا يتكلم إلا بخير ". ـــــــــــــــــــــــــــــ بين الصفا والمروة (مثل الصلاة) بالرفع على الخبرية، وجوز النصب أي نحوهما، وفي رواية ((الطواف بالبيت صلاة)) أي مثلها في عدة من الأحكام كستر العروة والطهارة، وقيل أي مثلها في الثواب أو في التعليق بالبيت (إلا أنكم تتكلمون فيه) أي يجوز لكم الكلام في الطواف بخلاف الصلاة. وقال القاري: أي تعتادون الكلام فيه قال الطيبي: يجوز أن يكون الاستثناء متصلاً أي الطواف كالصلاة في الشرائط التي هي الطهارة وغيرها إلا في التكلم، ويجوز كونه منقطعًا أي الطواف مثل الصلاة لكن رخص لكم في التكلم فيه. وقال القاري: الاستثناء إما متصل أي مثلها في كل معتبر فيها وجودًا وعدمًا إلا التكلم يعني وما في معناه من المنافيات من الأكل والشرب وسائر الأفعال الكثيرة، وإما منقطع أي لكن رخص لكم في الكلام. وفي العدول عن قوله ((إلا الكلام)) نكتة لطيفة لا تخفى، ويعلم من فعله عليه الصلاة والسلام عدم شرطية الاستقبال، وليس لأصل الطواف وقت مشروط وبقى بقية شروط الصلاة من الطهارة الحكمية والحقيقية وستر العورة، فهي معتبرة عند الشافعي كالصلاة وواجبات عندنا. لأنه لا يلزم من مثل الشيء أن يكون مشاركًا له في كل شيء على الحقيقة مع أن الحديث من الآحاد، وهو ظني لا يثبت به الفرضية – انتهى. وقال المناوي: استدل به الخطابي على اشتراط الطهارة له. وقول ابن سيد الناس: المشبه لا يعطي قوة المشبه به من كل وجه وقد نبه على الفرق بينهما بحل الكلام فيه، رده المحقق أبو زرعة، لأن التحقيق أنه صلاة حقيقة إذ الأصل في الإطلاق الحقيقة وهي حقيقة شرعية، ويكون لفظ الصلاة مشتركًا اشتراكًا لفظيًا بين المعهودة والطواف، ولا يرد إباحة الكلام فيه، لأن كل ما يشرط في الصلاة يشترط فيه إلا ما يستثنى، والمشي مستثنى، إذ لا يصدق اسم الطواف شرعًا إلا به. وقال المحب الطبري: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " الطواف بالبيت صلاة ". دليل على أن الطواف يشترط فيه الطهارة والستارة، وأن حكمه حكم الصلاة إلا فيما وردت فيه الرخصة من الكلام بشرط أن يكون بخير، ووجهه أنه جعله صلاة أو مثل الصلاة، ومقتضى ذلك إبطاله بالكلام مطلقًا، فلما رخص في كلام خاص وجب أن يقتصر عليه، فلا يلحق به ما عداه تقليلاً لمخالفة الدليل وما ورد في إباحة الكلام مطلقًا، فيحمل على هذا المقيد (فمن تكلم فيه فلا يتكلم إلا بخير) أي من ذكر الله وإفادة علم واستفادته على وجه لا يشوش على الطائفين. وقال الطبري: من الخير المشار إليه في الحديث أن يسلم الرجل على أخيه ويسأله عن حاله وأهله ويأمر الرجل الرجل بالمعروف وينهاه عن المنكر وأشباه ذلك من تعليم جاهل أو إجابة مسألة، وهو مع ذلك كله مقبل على الله تعالى في طوافه، خاشع بقلبه، ذاكر بلسانه، متواضع في مسألته، يطلب فضل مولاه ويعتذر إليه، فمن كان بهذا الوصف رجوت أن يكون ممن قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله تبارك وتعالى يباهي بالطائفين. وقال أيضًا: واعلم أن التحدث في الطواف على غير النحو المتقدم خطأ كبير وغفلة عظمية، ومن لابس ذلك فقد لابس ما يمقت عليه، خصوصًا إن صدر ممن ينسب

رواه الترمذي، والنسائي، والدارمي، وذكر الترمذي جماعة وقفوه على ابن عباس. ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى العلم والدين فإنه إذا أنكر على من دونه احتج به فصار فتنة لكل مفتون، ومن آثر محادثة المخلوق في أمر الدنيا والإقبال عليه والإصغاء لحديثه على ذكر خالقه والإقبال عليه وعلى ما هو متلبس به من عبادته فهو غبين الرأي، لأن طوافه بجسده وقلبه لاه ساه قد غلب عليه الخوض فيما لا يعنيه حتى استرسل في عبادته كذلك، فهو إلى الخسران أقرب منه إلى الربح، ومثل هذا خليق بأن يشكوه البيت إلى الله عز وجل وإلى جبريل، ولعل الملائكة تتأذى به، وكثير من الطائفين يتبرمون منه، فعلى الطائف أن يبذل جهده في مجانبة ذلك – انتهى. والحديث رواه أحمد من طريق حسن بن مسلم عن طاوس عن رجل أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إنما الطواف صلاة، فإذا طفتم فأقلوا الكلام ". ورواه النسائي من هذا الطريق موقوفًا، ثم رواه من طريق حنظلة بن أبي سفيان عن طاوس، قال: قال عبد الله بن عمر: أقلوا الكلام في الطواف فإنما أنتم في الصلاة. وقوله ((فأقلوا الكلام)) أي فلا تكثروا فيه الكلام، وإن كان جائزًا، لأن مماثلته للصلاة تقتضي أن لا يتكلم فيه أصلاً كما لا يتكلم فيه الصلاة، فحين أباح الله تعالى فيه الكلام رحمة منه تعالى على العبد فعليه أن يشكر الله عز وجل ولا يكثر فيه الكلام ولا يتكلم إلا بخير أو لضرورة (رواه الترمذي والنسائي والدارمي) واللفظ للترمذي، وأخرجه أيضًا الحاكم (ج 1: ص 459) والدارقطني وابن خزيمة وابن حبان والبيهقي وغيرهم، وفي قول المصنف ((والنسائي)) نظر، فإن الحديث عنده من طريق طاوس موقوف ولم يسم الصحابي كما تقدم (وذكر الترمذي جماعة وقفوه على ابن عباس) قلت: قال الترمذي بعد رواية الحديث من طريق جرير عن عطاء بن السائب عن طاوس عن ابن عباس مرفوعًا ما لفظه ((وقد رُوي عن ابن طاوس وغيره عن طاوس عن ابن عباس موقوفًا، ولا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث عطاء بن السائب)) – انتهى. قال الحافظ في التلخيص: الحديث رواه الترمذي والحاكم والدارقطني من حديث ابن عباس، وصححه ابن السكن وابن خزيمة وابن حبان. وقال الترمذي: رُوي مرفوعًا وموقوفًا، ولا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث عطاء ومداره على عطاء بن السائب عن طاوس عن ابن عباس. واختلف في رفعه ووقفه ورجح الموقوف النسائي والبيهقي وابن الصلاح والمنذري والنووي، وزاد أن رواية الرفع ضعيفة، وفي إطلاق ذلك نظر، فإن عطاء بن السائب صدوق، وإذا رُوي عنه الحديث مرفوعًا تارة وموقوفًا أخرى فالحكم عند هؤلاء الجماعة للرفع، والنووي ممن يعتمد ذلك ويكثر منه، ولا يلتفت إلى تعليل الحديث به إذا كان الرافع ثقة فيجيء على طريقته أن المرفوع صحيح، فإن اعتل عليه بأن عطاء بن السائب اختلط ولا تقبل إلا رواية من رواه عنه قبل اختلاطه، أجيب بأن الحاكم أخرجه من رواية سفيان الثوري عنه، والثوري ممن سمع قبل اختلاطه باتفاق، وإن كان الثوري قد اختلف عليه في وقفه ورفعه. فعلى طريقتهم تقدم رواية الرفع أيضًا، والحق أنه.

2601 – (17) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " نزل الحجر الأسود من الجنة، وهو أشد بياضًا من اللبن، فسودته خطايا بني آدم ". ـــــــــــــــــــــــــــــ من رواية سفيان موقوف، ووهم عليه من رفعه وقد بسط الحافظ الكلام ها هنا، من شاء الوقوف فليرجع إلى التلخيص (ص 47) . 2601- قوله (وهو أشد بياضًا من اللبن) جملة حالية (فسودته خطايا بني آدم) أي صارت ذنوب بني آدم الذين يمسحون الحجر سببًا لسواده، واللفظ المذكور للترمذي، ولأحمد ((الحجر الأسود من الجنة، وكان أشد بياضًا من الثلج حتى سودته خطايا أهل الشرك)) . وفي رواية الطبراني ((الحجر الأسود من حجارة الجنة وما في الأرض من الجنة غيره، وكان أبيض كالمها (مقصورًا جمع مهاة وهي البلورة) ولولا ما مسه من رجس الجاهلية ما مسه ذو عاهة إلا برئ)) والحديث محمول على ظاهره إذ لا مانع نقلاً ولا عقلاً، فالركن الأسود حجر من حجارة الجنة حقيقة، وليس فيه غرابة وبعد واستحالة، والحديث صحيح كما قال الترمذي وغيره، وله شواهد كما ستعرف، وأوله بعض الشراح بإرادة المبالغة في تعظيم شأن الحجر وتفظيع أمر الخطايا والذنوب، والمعنى أن الحجر لما فيه من الشرف والكرامة واليمن والبركة يشارك جواهر الجنة فكأنه نزل منها. قال القاضي البيضاوي: لعل هذا الحديث جار مجرى التمثيل والمبالغة في تعظيم شأن الحجر وتفظيع أمر الخطايا والذنوب، والمعنى أن الحجر لما فيه من الشرف والكرامة وما فيه من اليمن والبركة شارك جواهر الجنة فكأنه نزل منها، وأن خطايا بني آدم تكاد تؤثر في الجماد فيجعل المبيض منها مسودًا فكيف فكيف بقلوبهم (يعني ففيه تخويف وتنبيه، فإن الرجل إذا علم أن الذنب يسود الحجر خاف أن يسود بدنه بشؤم ذنوبه ويذهب نور الإيمان) أو لأنه من حيث أنه مكفر للخطايا محاء للذنوب لما رُوي عن ابن عمر مرفوعًا (كما سيأتي) ((إن مسحهما كفارة للخطايا)) كأنه من الجنة وكثرة تحمله أوزار بني آدم صار كأنه كان ذا بياض شديد فسودته الخطايا، وقيل: في هذا الحديث امتحان إيمان الرجل، فإن كان كامل الإيمان يقبل هذا ولا يتردد وإن كان ضعيف الإيمان يتردد والكافر ينكر، وقال التوربشتي: هذا الحديث محتمل أن يراد منه ما دل عليه الظاهر ومحتمل أن يأول على ما يستقيم عليه المعنى من باب الاتساع، ولسنا نرى بحمد الله تعالى خلاف الظواهر في السنن إلا إذا عارضه من السنن الثوابت ما يحوج إلى التأويل أو وجدنا اللفظ في كلامهم بين الأمر في المجاز والاستعارة فسلكنا به ذلك المسلك، وإذ قد عرفنا من أصل الدين بالنصوص الثابتة أن الجنة وما احتوت عليه من الجواهر مباينة لما خلق في هذه الدار الفانية في حكم الزوال والفناء وإحاطة الآفات بها، فإن ذلك خلق خلقًا محكمًا غير قابل لشيء من ذلك، وقد وجدنا الحجر أصابه الكسر حتى صار فلقًا، وذلك من أقوى أسباب الزوال لم نستعبد فيه مذهب التأويل

............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ وذلك بأن نقول: جعل الحجر لما وضع فيه من الأنس والهيبة واليمن والكرامة كالشيء الذي نزل من الجنة وأراد به مشاركته جواهر الجنة في بعض أوصافها كأنه نزل من الجنة، ومثله قوله - صلى الله عليه وسلم - ((العجوة من الجنة)) وقد علمنا أنه أراد بذلك مشاركتها ثمار الجنة في بعض ما جعل فيها من الشفاء والبركة بدعائه - صلى الله عليه وسلم - بذلك فيها ولم يرد ثمار الجنة نفسها للاستحالة التي شاهدنا فيها كاستحالة غيرها من الأطعمة ولخلوها من النعوت والصفات الواردة في ثمار الجنة، وتأويل قوله ((نزل من الجنة)) أي الصفات الموهوبة لها كأنها من الجنة. قال الله تعالى: {وأنزلنا الحديد} (57: 25) وقال: {وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج} (39: 6) فحمل الإنزال على معنى القضاء والقسمة، ومنهم من ذهب فيه إلى معنى الخلق، ومنهم من قال إنه أقام إنزال الأسباب فيها مقام إنزالها نفسها. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وهو أشد بياضًا من اللبن)) . فمعناه أن الحجر كان من الصفاء والنورانية على هذا النعت فسودته خطايا بني آدم، ومعنى هذا القول – والله أعلم – أن كون بني آدم خطائين مقتحمين على موارد الهلكات، اقتضي أن يكون الحجر على الشاكلة التي هو عليها من السواد لئلا يتسارع إليهم المقت والعقوبة من الله تعالى، فإن كل من شاهد آية خارقة للعادة ثم بخس بحقها استحق الطرد من الله فأضيف التسويد إلى الخطايا لأنها كانت السبب في ذلك. ومن الدليل على هذا التأويل قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبد الله بن عمر الآتي ((إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة، طمس الله نورهما)) الحديث. فالذي طمس نورهما هو الله سبحانه وتعالى حكمة بالغة منه في الشيء الذي ذكرناه. ثم لمعنى آخر وهو كونه أتم فائدة في حال المكلفين، لأنه إذا عظموه حق تعظيمه من غير مشاهدة آية باهرة صح إيمانهم بالغيب، وذلك من أعلى مقامات أهل الإيمان فيكون من أجدى الأشياء في محور الخطايا وتمحيص الذنوب، وذلك إحدى المعنيين في إضافة التسويد إلى الخطايا لاقتضاءها ذلك من طريق الحكمة. وقال بعض الفضولية: إنه لو كان هذا الذي رووه من تسويد خطايا بني آدم الحجر واقعًا لتناقلته الأمم في عجائب الأخبار، ولقد أجبت عن ذلك في كتاب المناسك وأعطيت القول حقه في موضعين منه، ولم أرد ترديد القول ها هنا إيثار للاختصار – انتهى. قلت: لا ملجئ للتأويل الذي ذكره القاضي والتوربشتي بل يحمل الحديث على ظاهره، إذ لا مانع من ذلك عقلاً ولا سمعًا لاسيما وقد جاء هذا الحديث عند الطبراني بلفظ يبعد التأويل كما تقدم، قال الشيخ عبد الحق الدهلوي: ولعمري ما في الحديث ما يخالف الدليل القاطع الحاكم باستحالته حتى يجب تأويله وصرفه عن ظاهره، أما النزول من الجنة فلا استحالة فيه فإن الجنة فيها جواهر، فيمكن أن الله أنزل منها شيئًا إلى الأرض حتى يحمل الإنزال على معنى القضاء والقسمة أو معنى الخلق أو إقامة إنزال الأسباب فيها مقام إنزالها نفسها كما في قوله تعالى: {وأنزلنا الحديد} {وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج} وأما قولهم إنا قد عرفنا بالنصوص الثابتة أن الجنة وما احتوت عليه من الجواهر مباينة لما خلق في هذه الدار الفانية في الخواص (إلى آخر ما قالوا) فنقول: يمكن أن يكون فقدان خواص الجنة لنزوله إلى هذه الدار وسراية أحوالها وأحكامها إليه ويستأنس له بما يأتي من حديث عبد الله بن عمر

رواه أحمد، والترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((إن الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة طمس الله نورهما ولو لم يطمس نورهما لأضاء ما بين المشرق والمغرب)) . وكما قالوا في الجواب عن أقوال الزائغين في كون ما بين قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنبره روضة من رياض الجنة، على تقدير كونه محمولاً على الحقيقة أنه لو كان من الجنة لما نجوع ونظمأ فيها. وكما في عكس هذه الصورة من صعود بعض الأنبياء في السماء من عدم انحلال قواهم وفساد مزاجهم وتغير أحوالهم كما في الدنيا، فليكن ها هنا كذلك، والله على كل شيء قدير. ومثل هذا الكلام في قوله ((أشد بياضًا فسودته خطايا بني آدم)) بأن يكون في ابتداء نزوله أبيض، ثم جعل لذنوب بني آدم ومس أيديهم خاصية وسببية في تسويده. وأما قول بعض الزائغين بأنه لو كان هذا الذي رووه من تسويد خطايا بني آدم الحجر واقعًا لتناقلته الأمم في عجائب الأخبار فساقط من درجة الاعتبار، ولا استبعاد فيه، نعم لو قيل: المراد هو الظاهر ولكن يحتمل أن يكون إشارة إلى معنى مناسب لم يستعبد. ثم ذكر الشيخ الدهلوي ما قيل في تأويل الحديث مما سبق في كلام القاضي والتوربشتي، ثم قال: وهذا كله تأويلات وتمحلات من النفس ناشئة من ضيق دائرة الإيمان ومن شرح الله صدره للإيمان ووسع دائرة المعرفة لصدقه ويقول: آمنا به، والله على كل شيء قدير، غايته أن يقال: إن المراد هو الظاهر، ويحتمل – والله أعلم – أن يكون المراد ما ذكرنا من المعاني المتناسبة فافهم، وبالله التوفيق. تنبيه: قال المحب الطبري: قد اعترض بعض الملحدة فقال: كيف يسود الحجر خطايا أهل الشرك ولا يبيضه توحيد أهل الإيمان؟ والجواب عنه من ثلاثة أوجه، الأول: ما تضمنه حديث ابن عباس (عند الأزرقي) أن الله عز وجل إنما طمس نوره ليستر زينته عن الظلمة، وكأنه لما تغيرت صفته التي كانت كالزينة له بالسواد كان ذلك السواد له كالحجاب المانع من الرؤية، وإن رُؤي جرمه، إذ يجوز أن يطلق عليه أنه غير مريء كما يطلق على المرأة المستترة بثوب أنها غير مرئية. قال الحافظ بعد ذكر هذا الجواب مختصرًا: أخرجه (أي حديث ابن عباس الذي أشار إليه الطبري) الحميدي في فضائل مكة بإسناد ضعيف – انتهى. الثاني: أجاب به ابن حبيب فقال: لو شاء الله لكان ذلك وما علمت أيها المعترض أن الله تعالى أجر العادة بأن السواد يصبغ ولا ينصبغ والبياض ينصبغ ولا يصبغ. والثالث: أن يقال بقاؤه أسود – والله أعلم – إنما كان للاعتبار، وليعلم أن الخطايا إذا أثرت في الحجر فتأثيرها في القلوب أعظم – انتهى. (رواه أحمد) (ج 1: ص 307، 329) (والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح) قال الحافظ في الفتح بعد نقل تصحيح الترمذي: وفيه عطاء بن السائب وهو صدوق لكنه اختلط، وجرير ممن سمع منه بعد اختلاطه، لكن له طريق أخرى في صحيح ابن خزيمة فيقوى بها. وقد رواه النسائي من طريق حماد بن سلمة عن عطاء مختصرًا ولفظه ((الحجر الأسود من الجنة)) وحماد ممن سمع من عطاء قبل الاختلاط، وله شاهد من حديث أنس عند الحاكم أيضًا - انتهى كلام

2602 – (18) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحجر: " والله ليبعثنه الله يوم القيامة، له عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به، يشهد على من استلمه بحق ". رواه الترمذي، ـــــــــــــــــــــــــــــ الحافظ. قلت: حديث ابن عباس رواه أحمد من طريق حماد بن سلمة عن عطاء مطولاً كالترمذي كما تقدم فهو صحيح. وحديث أنس أخرجه الحاكم (ج 1: ص 456) من طريق داود بن الزبرقان عن أيوب السختياني عن قتادة عن أنس مرفوعًا: ((الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة)) . وسكت عنه الحاكم، وقال الذهبي: داود بن الزبرقان قال أبو داود: متروك. رواه أحمد من طريق شعبة وقتادة عن أنس موقوفًا عليه بلفظ ((الحجر الأسود من الجنة)) . ورواه البزار والبيهقي (ج 5: ص 75) والطبراني في الأوسط مرفوعًا، وفيه عمر بن إبراهيم العبدي وثقة ابن معين وغيره وفيه ضعف قاله الهيثمي (ج 3: ص 242) . 2602 – قوله (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحجر) أي في شأن الحجر الأسود ووصفه (ليبعثنه الله) أي ليظهرنه حال كونه (له عينان يبصر بهما) فيعرف من استلمه (ولسان ينطق به) . قال التوربشتي: البعث نشر الموتى، ولما كان الحجر من جملة الموات أعلم نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أن الله قد قدر أن يهب له حياة يوم القيامة يستعد به للنطق، ويجعل له آلة يتميز بها بين المشهود له وغيره، وآلة يشهد به. شبه حاله بالأموات الذين كانوا رفاتًا فبعثوا لاستواء كل واحد منهما في انعدام الحياة أولاً ثم في حصوله ثانيًا (يشهد على من استلمه بحق) أي متلبسًا بحق وهو دين الإسلام، واستلامه بحق هو طاعة الله وإتباع سنة نبيه لا تعظيم الحجر نفسه، والشهادة عليه هي الشهادة على أدائه حق الله المتعلق به، وليست ((على)) للضرر، قاله السندي. وقال العراقي ((على)) هذا بمعنى اللام، وقال التوربشتي: المستلم بحق هو المؤمن بالله وبرسله؛ لوقوع فعله ذلك مطابقًا للأمر. قلت: قوله ((يشهد على من استلمه بحق)) كذا وقع عند الترمذي وابن ماجة وأحمد (ج 1: ص 307) والدارمي والبيهقي (ج 5: ص 75) ولأحمد (ج 1: ص 247، 266، 291) وابن حبان والحاكم (ج 1: ص 457) والدرامي والبيهقي في رواية ((يشهد لمن استلمه)) أي باللام. قال العراقي. والباء في ((بحق)) يحتمل تعليقها بيشهد أو باستلمه. وقال الشيخ الدهلوي في اللمعات: كلمة ((على)) باعتبار تضمين معنى الرقيب والحفيظ، وقوله ((بحق)) متعلق باستلمه أي استلمه إيمانًا وإحتسابًا، ويجوز أن يتعلق بيشهد، وهذا الحديث أيضًا محمول على ظاهره، فإن الله تعالى قادر على إيجاد البصر والنطق في الجمادات فإن الأجسام متشابهة في الحقيقة يقبل كل منها ما يقبل الآخر من الأعراض، ويأوله الذين في قلوبهم زيغ التفلسف. والله العاصم – ويقولون: إن ذلك كناية عن تحقيق ثواب المستلم وأن سعيه لا يضيع، والعجب من البيضاوي أنه قال: إن الأغلب على الظن أن المراد هذا وإن لم يمتنع حمله على الظاهر، ولا عجب فإنه مجبول على التفلسف في تفسير القرآن وشرح الأحاديث تجاوز الله عنه – انتهى كلام الشيخ (رواه الترمذي)

وابن ماجة، والدارمي. 2603 – (19) وعن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إن الركن والمقام ـــــــــــــــــــــــــــــ في أواخر الحج وقال: هذا حديث حسن (وابن ماجة والدارمي) وأخرجه أيضًا أحمد وابن خزيمة في صحيحه وابن حبان كما في موارد الظمآن، والحاكم والبيهقي، قال الحافظ في الفتح: وفي صحيح ابن خزيمة عن ابن عباس مرفوعًا ((إن لهذا الحجر لسانًا وشفتين يشهدان لمن استلمه يوم القيامة بحق)) وصححه أيضًا ابن حبان والحاكم – انتهى. وللطبراني في الكبير عن ابن عباس مرفوعًا ((يبعث الله الحجر الأسود والركن اليماني يوم القيامة ولهما عينان ولسان وشفتان يشهدان لمن استلمهما بالوفاء)) قال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير من طريق بكر بن محمد القرشي عن الحارث بن غسان وكلاهما لم أعرفه - انتهى. وللحديث شاهد من حديث عبد الله بن عمرو، رواه أحمد (ج 2: ص 211) والطبراني في الأوسط مرفوعًا، قال: ((يأتي الركن يوم القيامة أعظم من أبي قبيس، له لسان وشفتان)) قال الهيثمي: وزاد الطبراني ((يشهد لمن استلمه بالحق، وهو يمين الله عز وجل يصافح بها خلقه)) وفيه عبد الله بن المؤمل، وثقه ابن حبان وقال: يخطئ، وفيه كلام وبقية رجاله رجال الصحيح، ورواه الحاكم في المستدرك (ج 1: ص 457) من طريق عبد الله بن المؤمل مطولاً كرواية الطبراني، وصححه الحاكم. وقال الذهبي: عبد الله بن المؤمل واه. قال الشيخ أحمد شاكر: هذا غلو من الحافظ الذهبي – انتهى. وقد ظهر بهذا كله أن حديث ابن عباس الذي نحن في شرحه وإن اقتصر الترمذي على تحسينه فهو صحيح. 2603- قوله (وعن ابن عمر) كذا في جميع نسخ المشكاة الموجودة عندنا، وهكذا وقع في المصابيح وهو خطأ والصواب ((عبد الله بن عمرو)) فالحديث من مرويات عبد الله بن عمرو بن العاص كما وقع عند الترمذي وغيره ممن أخرجه، وهكذا ذكره الجزري في جامع الأصول (ج 10: ص 176) (إن الركن والمقام) المراد بالركن هنا الحجر الأسود كما في رواية أحمد (ج 2: ص 214) وبالمقام مقام إبراهيم عليه السلام، وهو الحجر الذي كان إبراهيم عليه السلام يقوم عليه عند بناء البيت فقال ابن كثير في تفسيره (ج 1: ص 175) في تفسير قوله تعالى: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} (2: 125) بعد ذكر روايات صلاته - صلى الله عليه وسلم - ركعتي الطواف خلف المقام: فهذا كله يدل على أن المراد بالمقام إنما هو الحجر الذي كان إبراهيم عليه السلام يقوم عليه لبناء الكعبة، لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل عليه السلام به ليقوم فوقه ويناوله الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار. وكلما كمل ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى يطوف حول الكعبة وهو واقف عليه (وكان الحجر يرتفع بارتفاع الجدار عند البناء، وكلما احتاج إلى قدر من الارتفاع كان يرتفع بإذن الله تعالى) وكلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها، وهكذا حتى تم جدارن الكعبة، وكانت

ياقوتتان. من ياقوت الجنة، طمس الله نورهما، ولو لم يطمس نورهما لأضاء ما بين المشرق والمغرب ". ـــــــــــــــــــــــــــــ آثار قدميه ظاهرة فيه، ولم يزل هذا معروفًا تعرفه العرب في جاهليتها، ولهذا قال أبو طالب في قصيدته المعروفة اللامية: وموطئي إبراهيم في الصخر رطبة _ ... على قدميه حافيًا غير ناعل إلى آخر ما ذكر، وذكره الحافظ في الجزء الثامن عشر من الفتح نقلاً عن ابن الجوزي، وقد أدرك المسلمون ذلك فيه أيضًا كما روى عبد الله بن وهب في موطأه عن أنس والطبري في تفسيره عن قتادة. تنبيه: قد وضع الملك فيصل بن عبد العزيز حفظه الله بعد عصر يوم السبت ثامن عشر رجب سنة 1387 هـ المقام بداخل زجاج محاط بشباك صغير على هيأة منارة صغيرة طلبًا للتوسعة على الطائفين، وذلك بعد ما أزيلت الأعمدة والشباك الكبير وسقفهما الذي على المقام، فجزاه الله أحسن الجزاء، وصار المقام بعمله هذا بحيث يشاهد كل أحد فيه أثر قدمي إبراهيم عليه السلام غائصًا، فلله الحمد. تنبيه آخر: كان المقام من عهد إبراهيم لزق البيت إلى أن أخره عمر رضي الله عنه إلى المكان الذي هو فيه الآن، أخرجه عبد الرزاق في مصنفه بسند صحيح عن عطاء وغيره وعن مجاهد أيضًا، وأخرج البيهقي عن عائشة مثله بسند قوي، ولفظه ((إن المقام كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي زمن أبي بكر ملتصقًا بالبيت ثم أخرجه عمر)) وأخرج ابن مردويه بسند ضعيف عن مجاهد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي حوله، والأول أصح، ولم تنكر الصحابة فعل عمر ولا من جاء بعدهم فصار إجماعًا، وكان عمر رأى أن إبقاءه يلزم منه التضييق على الطائفين أو على المصلين فوضعه في مكان يرتفع به الحرج وتهيأ له ذلك، لأنه الذي كان أشار باتخاذه مصلى، وأول من عمل عليه المقصورة الموجودة الآن، كذا في الفتح. وارجع للتفصيل إلى تفسير ابن كثير، وإلى القرى (ص 308) لمحب الدين الطبري. تنبيه ثالث: قال ابن جاسر: إذا حصل على الطائفين زحام من جهة مقام إبراهيم فإنه يسوغ تأخيره بقدر إزالة الضرر، لأن المقام ليس هو البقعة التي هو بها الآن، وإنما هو نفس الحجر، والله أعلم (ياقوتتان من ياقوت الجنة) قال القاري: المراد به الجنس فالمعنى أنهما من يواقيت الجنة. قلت: وقع عند ابن حبان والبيهقي في رواية والحاكم ((من يواقيت الجنة)) (طمس الله نورهما) أي أذهبه. قال القاري: أي بمساس المشركين لهما، ولعل الحكم في طمسهم ليكون الإيمان غيبيًا لا عينيًا، وقال الشاه ولي الدهلوي: يحتمل أن يكونا من الجنة في الأصل فلما جعلا في الأرض اقتضت الحكمة أن يرعى فيهما حكم نشأة الأرض فطمس نورهما (ولو لم يطمس) على بناء الفاعل، ويجوز أن يكون على بناء المفعول (لأضاء) كذا في طبعات الهند بصيغة الإفراد أي لأضاء كل واحد، أو هو لازم أي لاستنار بهما (ما بين المشرق والمغرب) وفي النسخ المصرية ((لأضاءا)) أي بالتثنية، وهكذا وقع في المصابيح، وفي رواية للحاكم، ولأحمد، وللترمذي وابن حبان والبيهقي ((لأضاءتا)) بصيغة التثنية للمؤنث أي لأنارتاه، فأضاء متعد. قال التوربشتي: لما كان الياقوت من

رواه الترمذي. 2604 – (20) وعن عبيد بن عمير، أن ابن عمر كان يزاحم على الركنين زحامًا ما رأيت ـــــــــــــــــــــــــــــ أشرف الأحجار ثم كان بعد ما بين ياقوت هذه الدار الفانية وياقوت الجنة أكثر مما بين الياقوت وغيره من الأحجار أعلمنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها من ياقوت الجنة لنعلم أن المناسبة الواقعة بينهما وبين الأجزاء الأرضية في الشرف والكرامة والخاصية المجعولة لهما كما بين ياقوت الجنة وسائر الأحجار، وذلك مما لا يدرك بالقياس. وقال الشيخ الدهلوي: قوله ((ياقوتتان من ياقوت الجنة)) هذا أيضًا يؤلونه بأن المراد بيان شرفهما وكرامتهما لأن الياقوت من أشرف الأحجار ولا بد أن يكون ياقوت الجنة أشرف وأجود من ياقوت الدنيا، فكأنه قال كأنهما ياقوتتان من الجنة – انتهى. قال القاري: والحديث لا ينافي ما صح أيضًا ((ولولا ما مسهما من خطايا بني آدم لأضاءا ما بين المشرق والمغرب فإنهما لما مستهما تلك الخطايا طمس الله نورهما)) (رواه الترمذي) وأخرجه أيضًا أحمد (ج 2: ص 313، 314) وابن حبان في صحيحه وفي الثقات والحاكم (ج 1: ص 256) والبيهقي (ج5: ص 75) والدولابي في الكنى كلهم من طريق رجاء بن صبيح أبي يحيى عن مسافع بن شيبة الحجي عن عبد الله بن عمرو بن العاص. قال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث مرفوعًا: أخرجه أحمد والترمذي، وفي إسناده رجاء أبو يحيى وهو ضعيف، قال الترمذي: حديث غريب، ويروى عن عبد الله بن عمرو موقوفًا. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: وقفه أشبه، والذي رفعه ليس بقوي – انتهى. وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند: إسناد هذا الحديث صحيح، وبسط الكلام في الرد على الترمذي وفي تصحيح هذا الحديث، وفي الباب عن أنس أخرجه الحاكم مختصرًا وقد تقدم. 2604 – قوله (وعن عبيد بن عمير) بالتصغير فيهما، وهو عبيد بن عمير بن قتادة الليثي ثم الجندي أبو عاصم المكي قاص أهل مكة، ذكر البخاري أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكره مسلم فيمن ولد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو معدود في كبار التابعين، سمع عمر بن الخطاب وابن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وعائشة أم المؤمنين وأبا ذر وغيرهم، وروى عنه ابنه عبد الله وعطاء ومجاهد وعمرو بن دينار وغيرهم، وهو مجمع على ثقته، مات قبل ابن عمر. وقال ابن حبان في الثقات: مات سنة (68) ولأبيه عمير بن قتادة صحبة ورواية (أن ابن عمر كان يزاحم) أي يغالب الناس (على الركنين) أي الحجر الأسود والركن اليماني (زحامًا) قال الطيبي: أي زحامًا عظيمًا، وهو يحتمل أن يكون في جميع الأشواط أو الشوطين الأول والآخر فإنهما آكد أحوالها. وقد قال الشافعي في الأم: ولا أحب الزحام في الاستلام إلا في بدء الطواف وآخره ولكن أريد به ما لا يتأذى به أحد أي ازدحامًا لا يحصل فيه أذى لأحد قوله - صلى الله عليه وسلم - لعمر: إنك رجل قوي لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف، إن وجدت خلوة فاستلمه وإلا فاستقبله وهلل وكبر. رواه الشافعي وأحمد (ما رأيت

أحدًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزاحم عليه، قال: إن أفعل فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إن مسحهما كفارة للخطايا ". وسمعته يقول: " من طاف بهذا البيت أسبوعًا فأحصاه، كان كعتق رقبة ". وسمعته يقول: " لا يضع قدمًا ولا يرفع أخرى إلا حط ـــــــــــــــــــــــــــــ أحدًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزاحم عليه) أي على ما ذكر أو على كل واحد، وقد جاء أنه ربما دمي أنفه من شدة تزاحمه، وكأنهم تركوه لما يترتب عليه من الأذى، فالافتداء بفعلهم سيما هذا الزمان أولى، قاله القاري. قلت: روى الشافعي في مسنده وأبو ذر عن القاسم بن محمد قال: رأيت ابن عمر يزاحم على الحجر حتى يدمى أنفه أو فوه. وروى سعيد بن منصور نحوه، وروى أبو الوليد الأزرقي عن نافع أن ابن عمر كان لا يدعهما حتى يستلمهما، ولقد زاحم على الركن مرة في شدة الزحام حتى رعف فخرج فغسل عنه فعاد فزاحم فلم يصل إليه حتى رعف الثانية فخرج يغسل عنه ثم رجع فما تركه حتى استلم. وروي عن نافع أيضًا قال: لقد رأيت ابن عمر يزاحم مرة حتى انبهر فتنحى فجلس في ناحية حتى استراح وعاد فلم يدعه حتى استلمه. وقوله ((انبهر)) هو من البهر بضم الباء، وهو ما يعتري الإنسان عند السعي الشديد والمزاحمة من النهيج وتتابع النفس. وروى سعيد بن منصور من غير طريق القاسم أنه قيل لابن عمر في ذلك فقال: هوت الأفئدة إليه فأريد أن يكون فؤادي معهم. وروى الفاكهي والبيهقي من طرق عن ابن عباس كراهة المزاحمة وقال: لا يؤذي (قال) أي ابن عمر استلالاً لفعله، وقال الطيبي: أي اعتذارًا (إن أفعل) أي هذا الزحام فلا ألام، فإن شرطية، والجزاء مقدر، ودليل الجواب قوله: فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلخ. قاله القاري. وقال الشيخ الدهلوي في اللمعات: أي إن أزاحم فلا تنكروا علي، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في فضل استلامهما، فإني لا أطيق الصبر عنه، وفيه الحرص على الفضائل وارتكاب التعب والمشقة في تحصليها (كفارة للخطايا) وعند أحمد وابن حبان والبيهقي ((يحط الخطايا)) أي يسقطها، وهو كناية عن غفران الذنوب (وسمعته) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيضًا (أسبوعًا) أي سبع مرات، ومنه قيل أسبوعًا للأيام السبعة، ويقال له سبوع بلا ألف على لغة قليلة، قال في المجمع: طاف أسبوعًا أي سبع مرات، والأسبوع الأيام السبعة، وسبوع بلا ألف لغية – انتهى. وقال القاري: أي سبعة أشواط كما في رواية (فأحصاه) قال السيوطي: أي لم يأت فيه بزيادة أو نقص. وقيل أي حافظ على وجباته وسننه وآدابه. وقال القاري: أن يكمله ويراعي ما يعتبر في الطواف من الشروط والآداب (كان كعتق رقبة) ولفظ أحمد ((من طاف أسبوعًا يحصيه وصلى ركعتين كان له كعدل رقبة)) والمعنى أن من طاف وصلى ركعتين بعد الطواف بالشروط المعتبرة كان له مثل إعتاق رقبة في الثواب (لا يضع) أي الطائف (قدمًا ولا يرفع أخرى) قال القاري: الظاهر لا يرفعها فكأنه عد أخرى باختلاف وصف الوضع والرفع، والتقدير: لا يضع قدمًا مرة ولا يرفع قدمًا مرة أخرى – انتهى. وعند أحمد ((ما رفع رجل قدمًا ولا وضعها)) (يعني في الطواف) (إلا حط

الله عنه بها خطيئة، وكتب له بها حسنة ". رواه الترمذي. 2605- (21) وعن عبد الله بن السائب، قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول ما بين الركنين: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} . رواه أبو داود. ـــــــــــــــــــــــــــــ الله عنه بها) أي إلا وضع الله ومحا عن الطائف بكل قدم أو بكل مرة من الوضع والرفع (خطيئة وكتب له بها حسنة) زاد ابن حبان ((ورفع له بها درجة)) ولأحمد ((إلا كتب له عشر حسنات وحط عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات)) (رواه الترمذي) وقال: هذا حديث حسن. أخرجه أيضًا أحمد (ج 2: ص 3) وابن خزيمة في صحيحه والحاكم (ج 1: ص 489) وصححه ووافقه الذهبي، ورواه أحمد أيضًا (ج 2: ص 11) والنسائي وابن حبان والبيهقي وابن ماجة مختصرًا أي بعضه، رووه كلهم من طريق عطاء بن السائب عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن أبيه عن ابن عمر، وعطاء صدوق لكنه اختلط، وجرير (عند الترمذي والحاكم) وهشيم (عند أحمد) ممن سمع منه بعد اختلاطه لكن له طريق أخرى أيضًا فيتقوى بها، فقد رواه أحمد (ج 2: ص 11) وابن حبان كما في موارد الظمآن من طريق سفيان الثوري والنسائي من طريق حماد بن زيد كلاهما عن عطاء بن السائب، وقد سمعا منه قبل الاختلاط. 2605 – قوله (وعن عبد الله بن السائب) المخزومي المكي، له ولأبيه صحبة، وكان قارئ أهل مكة. تقدم ترجمته (ما بين الركنين) أي الحجر الأسود والركن اليماني كما في رواية لأحمد. وللحاكم ((فيما بين ركن بني جمح والركن الأسود)) وهكذا وقع في رواية أخرى لأحمد، وركن بني جمح هو اليماني ونسب إليهم لأن بيوتهم كانت إلى جهته وبنو جمح بطن من قريش، وكان بالمسجد باب يسمى بباب بني جمح لذلك (ربنا) منصوب بحذف حرف النداء (آتنا) من الإيتاء أي أعطنا (في الدنيا حسنة) أي العلم والعمل أو العفو والعافية والرزق الحسن أو حياة طيبة أو القناعة أو ذرية صالحة أو المرأة الصالحة الحسناء (وفي الآخرة حسنة) أي المغفرة والجنة والدرجات العالية أو مرافقة الأنبياء أو الرضا أو الرؤية واللقاء، وقيل الحور العين. وقيل في تفسير الحسنتين المذكورتين في الآية غير ذلك. قال القرطبي: والذي عليه أكثر أهل العلم أن المراد بالحسنتين نعيم الدنيا والآخرة. قال: وهذا هو الصحيح فإن اللفظ يقتضي هذا كله، فإن حسنة نكرة في سياق الدعاء فهو محتمل لكل حسنة من الحسنات على البدل، وحسنة الآخرة الجنة بإجماع – انتهى. (وقنا) أي احفظنا واكفنا، وأصله ((إوقنا)) حذفت الواو كما حذفت في ((يقي)) لأنها بين ياء وكسرة مثل يعد، هذا قول البصريين (عذاب النار) أي شدائد جهنم من حرها وزمهريرها وسمومها وغير ذلك، وقيل المراد بعذاب النار المرأة السليطة، والظاهر أن المراد جميع أنواع العقاب وأصناف العتاب. والحديث يدل على مشروعية الدعاء بالآية المذكورة في الطواف بين الركنين اليمانيين (رواه أبو داود) وأخرجه أيضًا أحمد (ج 3: ص 411) وابن حبان والحاكم

2606 – (22) وعن صفية بنت شيبة، قالت: أخبرتني بنت أبي تجراة، قالت: دخلت مع نسوة من قريش دار آل أبي حسين، ننظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يسعى بين الصفا والمروة، فرأيته يسعى وإن مئزره ـــــــــــــــــــــــــــــ (ج 1: ص 455) وابن الجارود والبيهقي، ونسبه المنذري للنسائي أيضًا. والحديث سكت عنه أبو داود والمنذري وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم وأقره الذهبي. 2606 – قوله (وعن صفية بنت شيبة) الحجبي، وعن صفية بنت شيبة بن عثمان بن أبي طلحة العبدرية، اختلف في رؤيتها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال الحافظ في التقريب: لها رؤية وحدثت عن عائشة وغيرها من الصحابة. وفي البخاري التصريح بسماعها من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنكر الدارقطني إدراكها. وقال في تهذيبه: لها رؤية، وقال الدارقطني: لا تصح لها رؤية، وذكرها ابن حبان في ثقات التابعين. قلت: ذكر المزي في الأطراف أن البخاري قال في صحيحه: قال: أبان بن صالح عن الحسن بن مسلم عن صفية بنت شيبة، سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم -، ففي هذا رد على ابن حبان، وقد أوضحت حال هذا الحديث فيما كتبته عن الأطراف – انتهى كلام الحافظ (أخبرتني بنت أبي تجراة) براء ثم ألف غير مهموزة ثم هاء، ضبطه الحافظ في الفتح بكسر المثناة وسكون الجيم بعدها راء ثم ألف ساكنة ثم هاء، وجاء عند البيهقي والدارقطني بلفظ ((تجرأة)) براء ثم ألف مهموزة ووقع عند أحمد (ج 6: ص 421، 422) ((تجزئة)) بزاي ثم همزة ثم هاء وهكذا وقع في نصب الراية والأم، والظاهر أنه تصحيف من الناسخ وصوابه تجراة أي براء مهملة ثم ألف غير مهموزة ثم هاء. وبنو تجراة قوم من كندة قدموا مكة. وابنة أبي تجراة هذه هي حبيبة بنت أبي تجراة إحدى نساء بني عبد الدار، قال الحافظ في تعجيل المنفعة: حبيبة بنت أبي تجراة العبدرية ويقال ((حيية)) بتحتانيتين وزن الأول، ويقال بالتصغير، لها صحبة، روى عنها عطاء. وصفية بنت شيبة في إسناد حديثها اضطراب، وقال في تهذيب التهذيب: اسم هذه المرأة الصحابية حبيبة بنت أبي تجراة وقيل تملك، وهي أم ولد شيبة، وقال في الإصابة: حبيبة بنت أبي تجراة العبدرية ثم الشيبية. قال: وقال أبو عمر: قيل اسمها حبيبة بفتح أوله، وقيل بالتصغير، وقال غيره: تجراة ضبطها الدارقطني بفتح المثناة من فوق، ثم قال أبو عمر: اختلف في صحابيتها بهذا الحديث على صفية بنت شيبة، وقد ذكرت لك في التمهيد. قال الحافظ: وقد تقدم من وجه آخر عن صفية عن برة، وقيل عن تملك، وقيل عن أم ولد لشيبة، وقيل عن صفية بلا واسطة، وقد استوعب أبو نعيم بيان طرقه، ومنها من طريق جبرة بنت محمد بن سباع عن حبيبة بنت أبي تجراة كذلك. وأخرجه النسائي من طريق بديل بن ميسرة عن مغيرة بن حكيم عن صفية بنت شيبة عن امرأة، وفي رواية ابن ماجة والبيهقي عن أم ولد لشيبة وقد تقدم سند حديث تملك في المثناة – انتهى (ننظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يسعى بين الصفا والمروة) أي لنتشرف برؤيته ولنستفيد من علمه وبركته (فرأيته يسعى) أي يسرع (وإن) بكسر الهمزة والواو للحال (مئزره) بكسر الميم

ليدور من شدة السعي، وسمعته يقول: " اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي ". ـــــــــــــــــــــــــــــ وسكون الهمز ويبدل أي إزاره (ليدور) أي حول رجليه (من شدة السعي) قال المظهر: يعني مئزره يدور حول رجليه ويلتف برجله من شدة عدوه، وفي رواية لأحمد ((حتى أرى ركبتيه من شدة السعي يدور به إزاره)) والحديث يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان ماشيًا في الطواف بين الصفا والمروة، وجاء ذلك صريحًا في حديث حسن. ولا ينافيه ما ورد أنه عليه الصلاة والسلام سعي راكبًا في حجة الوداع، لإمكان الجمع بأن مشيه كان في سعي عمرة من عمره، قاله القاري. وقال المحب الطبري بعد ذكر الأحاديث التي تدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - سعى راكبًا: في هذه الأحاديث دلالة ظاهرة على ركوبه - صلى الله عليه وسلم - في السعي، والأحاديث المتقدمة في الفصل قبله وحديث جابر الطويل يدل على مشيه، فيحتمل أن يكون - صلى الله عليه وسلم - مشى في طوافه على ما دل عليه بعض الأحاديث، ثم خرج إلى السعي ماشيًا فسعى بعضه ماشيًا ورأته بنت أبي تجراة إذ ذاك، ثم لما كثر عليه ركب ناقته، ويؤيد ذلك قول ابن عباس ((وكان - صلى الله عليه وسلم - لا يضرب الناس بين يديه، فلما كثر عليه ركب، والمشي والسعي أفضل)) فإن سياقه دال على أن الركوب كان في أثناء السعي حين كثر الناس عليه فيه. وذهب ابن حزم إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - كان راكبًا في جميع طوافه بين الصفا والمروة عملاً بحديث جابر ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف في حجة الوداع على راحلته بالبيت وبين الصفا والمروة ليراه الناس وليشرف عليهم وليسألوه، فإن الناس غشوه)) أخرجه مسلم. قال الطبري: وظاهر حديث ابن عباس يرد هذا التأويل، وحديث بنت أبي تجراة يصرح برده، والمختار فيه ما تقدم ذكره جمعًا بين الأحاديث كلها، وأما ركوبه في الطواف بالبيت فكان في طواف الإفاضة – انتهى مختصرًا. (اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي) قال الطيبي: أي فرض. فدل على أن السعي فرض ومن لم يسع بطل حجه عند الشافعي ومالك وأحمد – انتهى. قال القاري: وقال أبو حنيفة: السعي واجب لأن الحديث ظني وكذا المشي فيه مع القدرة وبترك الواجب يجب الدم – انتهى. وقد تقدم ذكر اختلاف الأئمة في حكم السعي في شرح حديث ابن عمر رقم (2589) في الفصل الأول من هذا الباب، والحديث قد استدل به من ذهب إلى أن السعي بين الصفا والمروة في الحج والعمرة ركن من أركانهما لا يصح واحد منهما بدونه ولا يجبر بدم، وهم الجمهور مالك والشافعي وأصحابهما، وأحمد في رواية وهو حديث صحيح كما قال صاحب التلقيح وأقره ابن الهمام، أو حسن كما قال النووي. واستدل لهم أيضًا بقوله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} (2: 158) قالوا: تصريحه تعالى بأن الصفا والمروة من شعائر الله يدل على أن السعي بينهما أمر حتم لا بد منه، لأن شعائر الله عظيمة لا يجوز التهاون بها، وقد أشار البخاري في صحيحه إلى ذلك حيث قال: باب وجوب الصفا والمروة وجعل من شعائر الله. قال الحافظ: أي وجوب السعي بينهما مستفاد من كونهما جعلا من شعائر الله، قاله ابن المنير في الحاشية، واستدل لهم أيضًا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ في حجه وعمرته بين الصفا والمروة سبعًا. وقد دل على أن ذلك لا بد منه دليلان، الأول: هو ما تقرر في الأصول من أن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان لبيان نص مجمل من كتاب الله يكون ذلك الفعل لازمًا وسعيه بين الصفا والمروة فعل بين به المراد من قوله تعالى {إن الصفا والمروة من شعائر الله} والدليل على أن فعله بيانًا للآية هو قوله - صلى الله عليه وسلم -: نبدأ بما بدأ الله به يعني الصفا، لأن الله بدأ بها في قوله {إن الصفا والمروة} الآية. وفي رواية عند النسائي ((ابدؤا بما بدأ الله به)) بصيغة الأمر. الدليل الثاني: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لتأخذوا عني مناسككم)) وفي رواية ((خذوا عني مناسككم)) وقد طاف بين الصفا والمروة سبعًا فيلزمنا أن نأخذ عنه ذلك من مناسكنا، ولو تركناه لكنا مخالفين أمره بأخذه عنه، والله تعالى يقول: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} (24: 63) فاجتماع هذه الأمور الثلاثة يدل على اللزوم وهي كونه سعى بين الصفا والمروة سبعًا، وأن ذلك بيان منه لآية من كتاب الله، وأنه قال: " لتأخذوا عني مناسككم ". وكون ذلك السعي بيانًا لآية {إن الصفا والمروة من شعائر الله} الآية أمر لا شك فيه، ويدل عليه أمران أحدهما سبب نزول الآية لأنه ثبت في الصحيحين أنها نزلت في سؤالهم عن السعي بين الصفا والمروة، وإذا كانت نازلة جوابًا عن سؤالهم عن حكم السعي بين الصفا والمروة فسعى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد نزولها بيان لها، والأمر الثاني: هو ما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم -: " نبدأ بما بدأ الله به " يعني الصفا. ومن أدلة الجمهور على أن السعي فرض لا بد منه: ما رواه الشيخان عن عروة عن عائشة في سبب نزل قوله تعالى {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} وفيه ((قالت عائشة: وقد سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطواف بينهما فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما)) الحديث. وهذا صريح في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سن الطواف بين الصفا والمروة أي فرضه بالسنة. وقد أجابت عائشة عما يقال أن رفع الجناح في قوله {فلا جناح عليه أن يطوف بهما} ينافي كونه فرضًا لأن ذلك في قوم تحرجوا من السعي بين الصفا والمروة، وظنوا أن ذلك لا يجوز لهم، فنزلت الآية مبينة أن ما ظنوه من الحرج في ذلك منفي. وقد تقرر في الأصول في أن النص الوارد في جواب سؤال لا مفهوم مخالفة له. وقال الحافظ في الفتح: قول عائشة رضي الله عنها ((سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطواف بين الصفا والمروة)) أي فرضه بالسنة، وليس مرادها نفي فرضيته، ويؤيده قولها لم يتم الله حج أحدكم ولا عمرته ما لم يطف بينهما – انتهى. وأما ما جاء في بعض قراءات الصحابة ((فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما)) كما ذكره الطبري وابن المنذر وغيرهما عن أبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم فقد أجيب عنه من وجهين، الأول: أن هذه القراءة لم تثبت قرآنًا لإجماع الصحابة على عدم كتبها في المصاحف العثمانية، وما ذكره الصحابي على أنه قرآن ولم يثبت كونه قرآنًا ذهب كثير من أهل العلم إلى أنه لا يستدل به على شيء، وهو مذهب مالك والشافعي، ووجهه أنه لما لم يذكره إلا كونه قرآنًا فبطل كونه قرآنًا بطل من أصله، فلا يحتج به على شيء. وقال بعض أهل العلم: إذا بطل كونه قرآنًا لم يمنع ذلك من الاحتجاج به كأخبار الآحاد التي ليست بقرآن، فعلى القول الأول

رواه في شرح السنة، ورواه أحمد مع اختلاف. ـــــــــــــــــــــــــــــ فلا إشكال، وعلى الثاني فيجاب عنه بأن القراءة المذكورة تخالف القراءة المجمع عليها المتواترة، وما خالف المتواترة المجمع عليه إن لم يمكن الجمع بينهما فهو باطل، والنفي والإثبات لا يمكن الجمع بينهما لأنهما نقيضان. الوجه الثاني: هو ما ذكره الحافظ في الفتح عن الطبري والطحاوي من أن قراءة ((أن لا يطوف بهما)) محمولة على القراءة المشهورة ولا زائدة – انتهى. ولا يخلو من تكلف كما ترى. ومن أدلة الجمهور على لزوم السعي ما جاء في بعض روايات حديث أبي موسى في إهلاله عند الشيخين وفيه ((طف بالبيت وبين الصفا والمروة)) فهذا أمر صريح منه - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وصيغة الأمر تقتضي الوجوب ما لم يقم دليل صارف عن ذلك، وقد دل على اقتضائها الوجوب الشرع واللغة كما بين في موضعه. ومن أدلتهم على أن السعي بين الصفا والمروة لا بد منه ما قدمنا ما رواه الترمذي عن ابن عمر، أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد منهما حتى يحل منهما جميعًا. قال المجد في المنتقى بعد ذكره: وفيه دليل على وجوب السعي ووقوف التحلل عليه، ومن أدلتهم على ذلك ما جاء في بعض الروايات الثابتة في الصحيح من أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة رضي الله عنها: يجزئ عنك طوافك بين الصفا والمروة عن حجك وعمرتك، وهذا اللفظ في صحيح مسلم. قالوا: ويفهم من قوله هذا أنها لو لم تطف بينهما لم يحصل لها إجزاء عن حجها وعمرتها. هذا تلخيص ما ذكره الشنقيطي في هذه المسألة في أضواء البيان. تنبيه: قال القاري: اعلم أن سياق الحديث يفيد أن المراد بالسعي المكتوب الجري الكائن في بطن الوادي لكنه غير مراد بلا خلاف نعلمه فيحمل على أن المراد بالسعي الطواف بينهما، واتفق أنه عليه الصلاة والسلام قال لهم عند الشروع في الجري الشديد المسنون لما وصل إلى محله شرعًا أعني بطن الوادي، ولا يسن جري شديد في غير هذا المحل بخلاف الرمل في الطواف، إنما هو مشي فيه شدة وتصلب – انتهى (رواه) أي البغوي (في شرح السنة) أي بإسناده (وروى) وفي بعض النسخ ((رواه)) (أحمد مع اختلاف) في لفظه (ج 6: ص 421، 422) وأخرجه أيضًا الشافعي وإسحاق بن راهويه والحاكم في المستدرك في الفضائل وسكت عنه، ومن طريق أحمد الطبراني في معجمه ومن طريق الشافعي رواه الدارقطني ثم البيهقي في سننيهما وابن أبي شيبة في مصنفه والطحاوي وغيرهم. قال الحافظ في الإصابة: حبيبة بنت أبي تجراة العبدرية ثم الشيبية روى حديثها الشافعي عن عبد الله بن المؤمل، وابن سعد عن معاذ بن هانئ، ومحمد بن سنجر عن أبي نعيم، وابن أبي خثيمة عن شريح بن النعمان كلهم عن ابن المؤمل عن عمر بن عبد الرحمن بن محصن عن عطاء بن أبي رباح حدثتني صفية بنت شيبة عن امرأة يقال لها حبيبة بنت أبي تجراة، قالت: دخلنا دار أبي حسين في نسوة من قريش. فذكر الحديث ثم قال: وأخرجه الطحاوي من طريق معاذ، وقد وقع لنا بعلو في المعرفة لابن مندة من طريقه. وقد تقدم أنه اختلف في المرأة التي روت عنها صفية بنت شيبة، فقيل عن صفية عن برة، وقيل عن تملك، وقيل عن أم

........................................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ ولد شيبة، وقيل عن صفية عن امرأة، وقيل عن صفية عن نسوة من بني عبد الدار، وقيل عن صفية بلا واسطة، أما حديث صفية عن برة فرواه الواقدي في كتاب المغازي وابن مندة كما في الإصابة. ومن طريق الواقدي روى البيهقي (ج 6: ص 98) وأما حديث تملك فأخرجه البيهقي في سننه والطبراني في معجمه وفيه المثنى بن الصباح، وقد وثقه ابن معين في رواية وضعفه جماعة. وأما حديث صفية عن أم ولد لشيبة فأخرجه ابن ماجة والبيهقي (ج 5: ص 98) وأما حديث صفية عن امرأة فأخرجه أحمد (ج 6: ص 437) والنسائي، قال الشوكاني: لعل المرأة المبهمة في حديث صفية هي حبيبة بنت أبي تجراة، وأما حديث صفية عن نسوة فأخرجه الدارقطني (ص 270) ومن طريقه البيهقي (ج 5: ص 97) وأما حديث صفية بلا واسطة فأخرجه الطبراني في معجمه الكبير، وفيه أيضًا المثنى بن لصباح، وحديث صفية بنت أبي تجراة قد أعله ابن عدي في الكامل بعبد الله بن المؤمل، وأسند تضعيفه عن أحمد والنسائي ووافقهم. وقال الحافظ في الفتح: وفي إسناد هذا الحديث عبد الله بن المؤمل وفيه ضعف. ومن ثم قال ابن المنذر: إن ثبت فهو حجة في الوجوب. قال الحافظ: له طريق أخرى في صحيح ابن خزيمة مختصرة، وعند الطبراني عن ابن عباس كالأولى، وإذا انضمت إلى الأولى قربت – انتهى. قلت: حديث ابن عباس في سنده المفضل بن صدقة، وهو متروك، قاله الهيثمي (ج 3: ص 241) وأما اختلاف الروايات في المرأة التي روت عنها صفية المذكورة هذا الحديث فلا يضر لتصريحها في رواية الدارقطني والبيهقي بأنها روت ذلك عن نسوة أدركن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإذن فلا مانع من أن تسمى واحدة منهن في رواية وتسمى أخرى في رواية أخرى كما لا يخفى. قال الحافظ: اختلف على صفية بنت شيبة في اسم الصحابية التي أخبرتها به، ويجوز أن تكون أخذته عن جماعة فقد وقع عنه الدارقطني عنها أخبرتني نسوة من بني عبد الدار فلا يضره الاختلاف. انتهى. قلت: وطريق الدارقطني قد حسنها النووي في شرح المهذب حيث قال: احتج أصحابنا بحديث صفية بن شيبة عن نسوة من بني عبد الدار أنهن سمعن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد استقبل الناس في المسعى وقال: " يأيها الناس اسعوا فإن السعي قد كتب عليكم ". رواه الدارقطني والبيهقي بإسناد حسن – انتهى. وقال الزيعلي في نصب الراية (ج 3: ص 56) بعد ذكر رواية الدارقطني المذكورة: قال صاحب التنقيح: إسناده صحيح، وقال ابن الهمام في فتح القدير (ج 2: ص 751) مجيبًا عن إعلال ابن القطان حديث بنت أبي تجراة بابن المؤمل: وهذا لا يضر بمتن الحديث، إذ بعد تجويد المتقنين له لا يضره تخليط بعض الرواة، وقد ثبت من طرق عديدة منها طريق الدارقطني عن ابن المبارك أخبرني معروف بن مشكان أخبرني منصور بن عبد الرحمن عن أمه صفية قالت: أخبرني نسوة من بني عبد الدار اللاتي أدركن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث ثم قال: قال صاحب التنقيح: إسناده صحيح، ومعروف بن مشكان صدوق، لا نعلم من تكلم فيه، ومنصور هذا ثقة مخرج له في الصحيحين – انتهى. وقد علم مما ذكرنا أن بعض طرق هذا الحديث لا تقل عن درجة القبول، وهو نص في محل النزاع مع أنه معتضد بما ذكرناه من الأدلة الأخرى.

2607 – (23) وعن قدامة بن عبد الله بن عمار قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسعى بين الصفا والمروة على بعير لا ضرب ولا طرد ولا إليك. رواه في شرح السنة. 2608 – (24) وعن يعلى بن أمية قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طاف بالبيت مضطجعًا ببرد أخضر. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2607 – قوله (وعن ابن قدامة) بضم القاف وتخفيف الدال المهملة (بن عبد الله بن عمار) بفتح المهملة وتشديد الميم ابن معاوية العامري الكلابي يكنى أبا عبد الله، صحابي قليل الحديث، يقال أسلم قديمًا وسكن مكة ولم يهاجر، ولقي النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع وأقام بركية في البدو من بلاد نجد وسكنها، روى عنه أيمن بن نابل وحميد بن كلاب (لا ضرب ولا طرد) بالفتح والرفع منونًا فيهما أي لا دفع (ولا إليك إليك) أي تنح تنح، وهو اسم فعل بمعنى تنح عن الطريق، قال الطبري: قوله ((إليك إليك)) نحو قول القائل: الطريق الطريق: وقال الطيبي: أي ما كانوا يضربون الناس ولا يطردونهم ولا يقولون تنحوا عن الطريق كما هو عادة الملوك والجبابرة، والمقصود التعريض بالذين كانوا يعملون ذلك – انتهى. (رواه) أي البغوي (في شرح السنة) بإسناده وأخرجه البيهقي (ج 5: ص 101) من طريق عبيد الله ابن موسى وجعفر بن عون عن أيمن بن نابل عن قدامة بن عبد الله بن عمار، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسعى بين الصفا والمروة على بعير، إلخ. ثم قال البيهقي: كذا قالا (أي عبيد الله وجعفر) ورواه جماعة (منهم روح بن عبادة وأبو نعيم وأبو عاصم) وموسى بن طارق ووكيع وأبو أحمد الزبيري وقران بن تمام الأسدي ومعتمر ومروان بن معاوية والمؤمل وسعيد بن سالم القداح، عن أيمن فقالوا: في الحديث يرمي الجمرة يوم النحر (أي بدل يسعى بين الصفا والمروة) ويحتمل أن يكون صحيحين – انتهى. قلت: حديث قدامة بلفظ ((يرمي الجمرة يوم النحر على ناقة ليس ضرب ولا طرد)) إلخ. أخرجه أحمد (ج 6: ص 412) والشافعي والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي وابن حبان والبيهقي (ج 5: ص 130) وسيأتي في باب رمي الجمار، وقال ابن عبد البر في ترجمة قدامة في الاستيعاب: روى عنه أيمن بن نابل وحميد بن كلاب، فأما حديث أيمن عنه فإنه قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرمي الجمرة يوم النحر على ناقة صهباء لا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك. وأما حديث حميد بن كلاب فإنه قال عنه أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة وعليه حلة حبرة. لا أحفظ له غير هذين الحديثين – انتهى. 2608 – قوله (وعن يعلى) كيرضى (بن أمية) بمضمومة ثم ميم مخففة مفتوحة وتحتية مشددة، ابن أبي عبيدة صحابي مشهور، تقدم ترجمته (طاف بالبيت مضطبعًا) بكسر الباء (ببرد) أي يماني، ففي رواية لأحمد ((ببرد له حضرمي)) (أخضر) أي فيه خطوط خضر، والاضطباع هو إعراء منكبه الأيمن وجمع الرداء على الأيسر، سمي بذلك لما فيه من إبداء الضبع وهو العضد، ويسمى التأبط لأنه يجعل وسط الرداء تحت الإبط وبيدي ضبعه الأيمن. قال النووي: هو

رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجة، والدارمي. 2609 – (25) وعن ابن عباس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه اعتمروا من الجعرانة، فرملوا بالبيت ثلاثًا وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم، ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى. رواه أبو داود. ـــــــــــــــــــــــــــــ افتعال من الضبع بإسكان الباء الموحدة وهو العضد، وهو أن يدخل إزاره تحت إبطه الأيمن ويرد طرفه على منكبه الأيسر ويكون منكبه الأيمن مكشوفًا، وقال الطيبي: الضبع بسكون الباء وسط العضد ويطلق على الإبط أيضًا أي لمجاورته له، والاضبطاع أن يأخذ الإزار أو البرد فيجعل وسطه تحت الإبط الأيمن ويلقي طرفيه على كتفه الأيسر من جهتيّ صدره وظهره، سمي بذلك لإبداء الضبعين: قيل: إنما ذلك إظهارًا للتشجع كالرمل في الطواف – انتهى. وهذه الهيأة هي المذكورة في حديث ابن عباس الآتي، وأول ما اضطبعوا في عمرة القضاء ليستعينوا بذلك على الرمل ليرى المشركون قوتهم ثم صار سنة، ويضبطع في الأشواط السبع، فإذا قضى طوافه سوى ثيابه، ولم يضطبع في ركعتي الطواف، قال الشوكاني: والحكمة في فعله أنه يعين على إسراع المشي، وقد ذهب إلى استحبابه الجمهور سوى مالك، قاله ابن المنذر. قال أصحاب الشافعي: وإنما يستحب الاضطباع في طواف يسن فيه الرمل – انتهى. وقال القاري: الاضطباع والرمل سنتان في كل طواف بعده سعي، والاضطباع سنة في جميع الأشواط بخلاف الرمل، ولا يستحب الاضطباع في غير الطواف وما يفعله العوام من الاضطباع من ابتداء الإحرام حجًا أو عمرة لا أصل له بل يكره حال الصلاة – انتهى. (رواه الترمذي) وقال: هو حديث حسن صحيح (وأبو داود) واللفظ له، وقد سكت عنه، ونقل المنذري كلام الترمذي وأقره (وابن ماجة والدارمي) وأخرجه أيضًا أحمد (ج 4: ص 222، 223) ورواه الشافعي بلفظ ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف مضطعبًا بالبيت وبين الصفا والمروة)) . 2609 – قوله (اعتمروا من الجعرانة) تقدم ضبطه (فرملوا بالبيت ثلاثًا) أي ثلاث مرات من الأشواط السبعة (وجعلوا) أي حين أرادوا الشروع في الطواف (أرديتهم) جمع رداء (تحت آباطهم) بالألف ممدودة جمع إبط. قال ابن رسلان: المراد أن يجعلوها تحت عواتقهم اليمنى (ثم قذفوها) أي ألقوها وطرحوا طرفيها (على عواتقهم اليسرى) جمع العاتق وهو المنكب أي استمروا عليه إلى أن فرغوا من الطواف. والحديث يدل على مشروعية الرمل والاضطباع في الطواف (رواه أبو داود) وأخرجه أيضًا أحمد (ج 1: ص 306، 371) والبيهقي (ج 5: ص 79) وأخرجه الطبراني نحوه، والحديث سكت عنه أبو داود والمنذري والحافظ في التلخيص، وقال الشوكاني: رجاله رجال الصحيح.

(الفصل الثالث)

(الفصل الثالث) 2610 - (26) عن ابن عمر، قال: ما تركنا استلام هذين الركنين: اليماني والحجر، في شدة ولا رخاء منذ رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستلمهما. متفق عليه. 2611 - (27) وفي رواية لهما: قال نافع: رأيت ابن عمر يستلم الحجر بيده، ثم قبل يده وقال: ما تركته منذ رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله. 2612 - (28) وعن أم سلمة، قالت: شكوت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني أشتكي، فقال: " طوفي من وراء الناس ـــــــــــــــــــــــــــــ 2610 - قوله (اليماني) بتخفيف الياء وتشديدها مجرورًا (والحجر) أي الأسود (في شدة) أي زحام (ولا رخاء) أي خلاء، قال الحافظ: الظاهر أن ابن عمر لم ير الزحام عذرًا في ترك الاستلام. وقد روى سعيد بن منصور من طريق القاسم بن محمد قال: رأيت ابن عمر يزاحم على الركن حتى يدمى، ومن طريق أخرى أنه قيل له في ذلك، فقال: هوت الأفئدة إليه فأريد أن يكون فؤادي معهم. وروى الفاكهي من طرق عن ابن عباس كراهة المزاحمة، قال: لا يؤذي ولا يؤذى (متفق عليه) أخرجه أيضًا أحمد (ج 2: ص 3) والدارمي والبيهقي (ج 5: ص 76) . 2611 - قوله (وفي رواية لهما) واللفظ لمسلم (يستلم الحجر بيده ثم قبل يده) لعل هذا في وقت الزحام حيث لا يقدر على تقبيل الحجر (منذ رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله) قال القاري: أي الاستلام المطلق أو المخصوص، إذ ثبت الاستلام والتقبيل عنه عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين - انتهى. وقيل: الظاهر أن الضمير للاستلام مطلقًا، ويجوز أن يكون للاستلام على الوجه المخصوص المذكور وهو أنه استلم الحجر بيده ثم قبل يده، والأول هو الوجه فافهم - انتهى. قلت: الظاهر بل الأظهر عندي هو الثاني، وهذه الرواية أخرجها أيضًا أحمد (ج 2: ص 108) والبيهقي (ج 5: ص 75) . 2612 - قوله (وعن أم سلمة) أم المؤمنين والدة زينب بنت أبي سلمة الراوية عنها هذا الحديث (شكوت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي أوان الخروج من مكة إلى المدينة (أني أشتكى) أي أتوجع، وهو مفعول ((شكوت)) والشكوى والشكاية إخبار عن مكروه أصابه، وهو المراد بقولها شكوت، ويجيء بمعنى المرض وهو المراد بقولها ((أني أشتكي)) فيكون المعنى ((شكوت إليه - صلى الله عليه وسلم - أني مريضة)) ومقصودها أنها لا تستطيع الطواف ماشية لضعفها من تلك الشكوى التي كانت بها (طوفي من وراء الناس) إنما أمرها أن تطوف من وراء الناس ليكون استر لها ولا تقطع صفوفهم ولا يتأذون

وأنت راكبة ". فطفت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي إلى جنب البيت، ـــــــــــــــــــــــــــــ بدابتها، ولأن سنة النساء التباعد عن الرجال في الطواف، وقال الباجي: طواف النساء وراء الرجال لهذا الحديث ولم يكن لأجل البعير، فقد طاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بعيره يستلم الركن بمحجن، وهذا يدل على اتصاله بالبيت، لكن من طاف غيره من الرجال على بعير فيستحب له إن خاف أن يؤذي أحدًا أن يبعد قليلاً، وإن لم يكن حول البيت زحام، وأمن أن يؤذي أحدًا فليقرب كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما المرأة فإن من سنتها أن تطوف وراء الرجال. انتهى. وفي الحديث جواز الطواف للراكب إذا كان لعذر ويلتحق بالراكب المحمول وقد تقدم الكلام في ذلك (وأنت راكبة) أي على بعيرك كما في رواية هشام عند البخاري عن عروة عن أم سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: وهو بمكة وأراد الخروج ولم تكن أم سلمة طافت بالبيت وأرادت الخروج فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أقيمت الصلاة للصبح فطوفي على بعيرك والناس يصلون ". ففعلت ذلك فلم تصل حتى خرجت – انتهى. وقد علم من هذه الرواية أن القصة لطواف الوداع، ويدل عليه أيضًا رواية النسائي عنها قالت " يا رسول الله والله ما طوفت طواف الخروج، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أقيمت الصلاة فطوفي ". قال القاري: فيه دلالة على أن الطواف راكبًا ليس من خصوصياته عليه الصلاة والسلام (فطفت) أي راكبة من وراء الناس (ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي) أي بالناس صلاة الصبح كما تدل عليه رواية البخاري المذكورة (إلى جنب البيت) أي متصلاً إلى جدار الكعبة، وفيه تنبيه على أن أصحابه - صلى الله عليه وسلم - كانوا متحلقين حولها، وفيه دلالة على أن صلاته - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه بالجماعة كانت بفناء الكعبة وأن طوافها كان وراء المصلين، وفيه أن من طاف راكبًا يتوخى خلوة المطاف لئلا يهوش على الطائفين، واستدل بالحديث المالكية على طهارة بول ما يؤكل لحمه وهو المشهور عن أحمد خلافًا لما ذهب إليه الحنفية والشافعية قال ابن بطال: في هذا الحديث جواز دخول الدواب التي يؤكل لحمها المسجد إذا احتج إلى ذلك لأن بولها لا ينجسه بخلاف غيرها من الدواب. وتعقب بأنه ليس في الحديث دلالة على عدم الجواز مع الحاجة أي في غيرها ولا على عدم الجواز مع عدم الحاجة فيها. قال الحافظ: بل ذلك دائر على التلويث وعدمه فحيث يخشى التلويث يمتنع الدخول، وقد قيل: إن ناقته - صلى الله عليه وسلم - كانت منوقة أي مدربة معلمة فيؤمن منها ما يحذر من التلويث، وهي سائرة، فيحتمل أن يكون بعير أم سلمة كان كذلك، والله أعلم. وقال النووي: هذا الحديث لا دلالة فيه (أي على طهارة بول ما يؤكل لحمه وروثه كما هو مذهب مالك وأحمد) لأنه ليس من ضرورة أنه يبول أو يروث في حال الطواف وإنما هو محتمل، وعلى تقدير حصوله ينظف المسجد منه كما أنه - صلى الله عليه وسلم - أقر إدخال الصبيان الأطفال المسجد مع أنه لا يؤمن بولهم بل قد وجد ذلك، ولأنه لو كان ذلك محققًا لنزه المسجد منه، سواء كان نجسًا أو طاهرًا لأنه مستقذر – انتهى. وقال الشوكاني: ويرد ذلك (أي استدلال أصحاب مالك وأحمد بهذا الحديث على طهارة بول مأكول اللحم وروثه) بوجوه: أما أولاً فلأنه لم يكن إذ ذاك قد حوط المسجد كما تقدم. وأما ثانيًا فلأنه ليس من لازم الطواف على البعير أن يبول. وأما ثالثًا فلأنه يطهر

يقرأ بالطور وكتاب مسطور. ـــــــــــــــــــــــــــــ منه المسجد كما أنه - صلى الله عليه وسلم - أقر إدخال الصبيان الأطفال المسجد مع أنه لا يؤمن بولهم. وأما رابعًا فلأنه يحتمل أن تكون راحلته عصمت من التلويث حينئذ كرامة له – انتهى (يقرأ بالطور وكتاب مسطور) أي بهذه السورة في ركعة واحدة كما هو عادته عليه الصلاة والسلام. والحديث قد يستنبط منه أن الجماعة في الفريضة ليست فرضًا على الأعيان إلا أن يقال إن أم سلمة كانت شاكية فهي معذورة، أو الوجوب يختص بالرجال، كذا في الفتح. اعلم أنه اتفق الجمهور على كراهة ابتداء الطواف ومنعه عند إقامة المكتوبة، وأما قطع الطواف للمكتوبة أو لصلاة الجنازة أو لغيرهما من الأعذار فاختلف العلماء فيه. قال ابن قدامة (ج 3: ص 395) : إذا تلبس بالطواف أو بالسعي ثم أقيمت المكتوبة فإنه يصلي مع الجماعة في قول أكثر أهل العلم، منهم ابن عمر وسالم وعطاء والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وروي ذلك عنهم في السعي. وقال مالك: يمضي في طوافه ولا يقطعه إلا أن يخاف أن يضر بوقت الصلاة، لأن الطواف صلاة فلا يقطعه لصلاة أخرى. ولنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة. والطواف صلاة فيدخل تحت عموم الخبر، وإذا ثبت ذلك في الطواف بالبيت مع تأكده ففي السعي بين الصفا والمروة أولى مع أنه قول ابن عمرو ومن سميناه من أهل العلم، ولم نعرف لهم في عصرهم مخالفًا. وإذا صلى بنى على طوافه وسعيه في قول من سمينا من أهل العلم. قال ابن المنذر: ولا نعلم أحدًا خالف في ذلك إلا الحسن، فإنه قال: يستأنف. وكذلك الحكم في الجنازة إذا حضرت يصلى عليها ثم يبني على طوافه لأنها تفوت بالتشاغل عنها، قال أحمد: ويكون ابتداؤه من الحجر يعني أنه يبتدئ الشوط الذي قطعه من الحجر حين يشرع في البناء – انتهى. قلت: وما ذكر عن مالك من المضي في الطواف وعدم قطعه هو مخالف لما في كتب فروع المالكية، فإنهم نصوا بوجوب القطع للمكتوبة، وكذا حكى عامة شراح البخاري عن مالك قطعه للمكتوبة موافقًا للجمهور. وقال النووي في مناسكه: وإذا أقيمت الجماعة للمكتوبة وهو في الطواف أو عرضت حاجة ماسة قطع الطواف لذلك فإذا فرغ يبني، والاستئناف أفضل، ويكره قطعه بلا سبب حتى يكره قطع الطواف المفروض لصلاة جنازة أو صلاة نافلة – انتهى. قال ابن حجر في شرحه: وحيث قطعه فالأولى أن يقطعه عن وتر، وأن يكون من عند الحجر الأسود – انتهى. وقال ابن عابدين: إذا حضرت الجنازة أو المكتوبة في أثناء الشوط هل يتمه أو لا؟ لم أر من صرح به عندنا، وينبغي عدم الإتمام إذا خاف فوت الركعة مع الإمام. وإذا عاد البناء هل يبني من محل انصرافه أو يبتدئ الشوط من الحجر؟ والظاهر الأول قياسًا على من سبقه الحدث في الصلاة وهو ظاهر قول الفتح بنى على ما كان طافه – انتهى. وعد صاحب اللباب الطواف عند إقامة المكتوبة في المكروهات. قال القاري: فإن ابتداء الطواف حينئذ مكروه بلا شبهة، وأما إذا كان يمكنه إتمام الواجب عليه وإلحاقه بالصلاة وإدراك الجماعة فالظاهر أنه هو الأولى من قطعه – انتهى. وقال الدردير: ابتدأ طوافه لبطلانه واجبًا كان أو تطوعًا انقطع

متفق عليه. 2613 – (29) وعن عابس بن ربيعة، قال: رأيت عمر يقبل الحجر ويقول: إني لأعلم أنك حجر ما تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل ما قبلتك. ـــــــــــــــــــــــــــــ لجنازة ولو قل الفصل، لأنها فعل آخر غير ما هو فيه فلا يجوز القطع لها اتفاقًا ما لم تتعين، فإن تعينت وجب القطع إن خشى تغيرها وإلا فلا يقطع، وإذا قلنا بالقطع فالظاهر أنه يبني كالفريضة كذا قالوا، وقطعه وجوبًا ولو ركنًا للفريضة أي لإقامتها للراتب، ودخل معه إن لم يكن صلاها أو صلاها منفردًا، والمراد بالراتب إمام مقام إبراهيم على الراجح وأما غيره فلا يقطع له لأنه كجماعة غير الراتب، وندب له كمال الشوط إن أقيمت عليه أثناءه ليبني من أول الشوط، فإن لم يكمله ابتدأ من موضع خرج، وندب أن يبتدئ ذلك الشوط، كما قاله ابن حبيب – انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في صفة الصلاة وفي الحج وفي التفسير، ومسلم في الحج، وأخرجه أيضًا أحمد (ج 6: ص 319) ومالك وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن الجارود (ص 161) والبيهقي (ج 5: ص 68، 101) . 2613 - قوله (وعن عابس) بموحدة فمكسورة ثم مهملة (بن ربيعة) النخعي الكوفي، ثقة مخضرم من كبار التابعين. قال الحافظ: روى عن عمر وعلي وحذيفة وعائشة، وعنه أولاده عبد الرحمن وإبراهيم وأسماء وأبو إسحاق السبيعي وإبراهيم بن جرير النخعي. قال الآجري عن أبي داود: جاهلي سمع من عمر. وقال النسائي ثقة، وقال ابن سعد: هو من مذحج، وكان ثقة، وله أحاديث يسيرة – انتهى. وليس هو عابس بن ربيعة الغطيفي الصحابي الذي شهد فتح مصر، قال الحافظ في التقريب في ترجمة عابس بن ربيعة الغطيفي: وهم من خلطه بالذي قبله أي بعابس بن ربيعة النخعي. وقال في تهذيب التهذيب: فرق ابن ماكولا بين الغطيفي والنخعي وهو الصواب (يقبل الحجر) أي الأسود (ويقول) مخاطبًا له ليسمع الناس (إني لأعلم أنك حجر ما تنفع) قال القاري: وفي نسخة ((لا تنفع)) (ولا تضر) أي بذاته، وإن كان امتثال ما شرع فيه ينفع بالجزاء والثواب. فمعناه أنه لا قدرة له على نفع ولا ضر، وأنه حجر مخلوق كباقي المخلوقات التي لا تضر ولا تنفع (ولولا أني رأيت رسول الله يقبل) كذا وقع في أكثر النسخ، وفي نسخة المرقاة ((يقبلك)) والذي في صحيح مسلم عن عابس بن ربيعة ((قال: رأيت عمر يقبل الحجر ويقول: إني لأقبلك وأعلم أنك حجر. ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك لم أقبلك)) وفي البخاري: أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله فقال: ((إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك)) . قال الطيبي: إنما قال ذلك لئلا يغتر بعض قريبي العهد بالإسلام الذين قد ألفوا عبادة الأحجار وتعظيمها ورجاء نفعها وخوف الضرر بالتقصير في تعظيمها فخاف أن يراه بعضهم يقبله فيفتن به فبين أنه لا ينفع ولا يضر وإن كان امتثال ما شرع فيه باعتبار الجزاء والثواب. وليسمع

متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ في الموسم فيشتهر في البلدان المختلفة. وفيه الحث على الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تقبيله وتنبيه على أنه لولا الاقتداء لما فعله. وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: إنما قال ذلك لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام فخشي عمر أن يظن الجهال بأن استلام الحجر هو مثل ما كانت العرب تفعله فأراد عمر أن يعلم أن استلامه لا يقصد به إلا تعظيم الله عز وجل والوقوف عند أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأن ذلك من شعائر الحج التي أمر الله بتعظيمها وأن استلامه مخالف لفعل الجاهلية في عبادتهم الأصنام لأنهم كانوا يعتقدون أنها تقربهم إلى الله زلفى، فنبه عمر على مخالفة هذا الاعتقاد، وأنه لا ينبغي أن يعبد إلا من يملك الضرر والنفع وهو الله جل جلاله. وقال المحب الطبري: إن قول عمر ((إنك حجر لا تضر ولا تنفع)) طلب منه للآثار وبحث عنها وعن معانيها، ولما رأى أن الحجر يستلم ولا يعلم له سبب يظهر للحس ولا من جهة العقل ترك فيه الرأي والقياس وصار إلى محض الإتباع كما صنع في الرمل. وقال الخطابي: في قول عمر من العلم أن متابعة السنن واجبة وإن لم يوقف لها على علل معلومة وأسباب معقولة. وأن أعيانها حجة على من بلغته وإن لم يفقه معانيها إلا أن معلومًا في الجملة أن تقبيل الحجر إنما هو إكرام له وإعظام لحقه، وقد فضل الله بعض الأحجار على بعض كما فضل بعض البقاع والبلدان على بعض وكما فضل بعض الليالي والأيام والشهور على بعض، وباب هذا كله التسليم، وهو أمر سائغ في العقول جائز فيها غير ممتنع ولا مستنكر. قال الحافظ في الفتح: في قول عمر هذا التسليم للشارع في أمور الدين وحسن الإتباع فيما لم يكشف عن معانيها، وهو قاعدة عظيمة في إتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يفعله، ولو لم يعلم الحكمة فيه. وفيه دفع ما وقع لبعض الجهال من أن في الحجر الأسود خاصة ترجع إلى ذاته. وفيه بيان السنن بالقول والفعل وأن الإمام إذا خشي على أحد من فعله فساد اعتقاد أن يبادر إلى بيان الأمر ويوضح ذلك. وفيه كراهة تقبيل ما لم يرد الشرع بتقبيله. فائدة: روى الخطيب وابن عساكر عن جابر مرفوعًا ((الحجر يمين الله في الأرض يصافح بها عباده)) . وروى الديلمي في مسند الفردوس عن أنس مرفوعًا ((الحجر يمين الله فمن مسحه فقد بايع الله)) وروى الطبراني في الأوسط عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا ((الحجر يمين الله يصافح بها خلقه)) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: وفيه عبد الله بن المؤمل وثقه ابن حبان وقال: يخطئ وفيه كلام، وبقية رجاله رجال الصحيح. قال الخطابي: ومعنى ((أنه يمين الله في الأرض)) أن من صافحه في الأرض كان له عند الله عهد، فكان كالعهد تعقده الملوك بالمصافحة لمن يريد موالاته والاختصاص به، وكما يصفق على أيدي الملوك للبيعة، وكذلك تقبيل اليد من الخدم للسادة والكبراء فهذا كالتمثيل بذلك والتشبيه به يعني فخاطبهم بما يعهدونه. وقال المحب الطبراني: معناه أن كل ملك إذا قدم عليه الوافد قبل يمينه، ولما كان الحاج والمعتمر أول ما يقدمان يسن لهما تقبيله نزل منزلة يمين الملك ويده، ولله المثل الأعلى وكذلك من صافحه كان له عند الله عهد كما أن الملوك تعطي العهد بالمصافحة، والله أعلم (متفق عليه) وأخرجه

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ أيضًا أحمد (ج 1: ص 16، 21، 26، 34، 46، 51، 54) وأبو داود والنسائي والترمذي والبيهقي وغيرهم. تنبيه: ذكر بعض شراح البخاري عن بعض العلماء جواز تقبيل قبره - صلى الله عليه وسلم - ومنيره وقبور الصالحين لأجل التبرك بذلك قياسًا على تقبيل الحجر الأسود، ولا يوافقهم على هذا أحد ممن يتبع السنة، بل ما ورد فيه نص صحيح صريح عن الشارع قبلناه وعملنا بمقتضاه وما لا فلا، نعم ورد أن بعض الصحابة قبل يد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعضهم قبل جهته وقبل بعض التابعين يد بعض الصحابة وعلى هذا فيجوز تقبيل يد الصالحين ومن ترجى بركتهم، قال النووي: تقبيل يد الرجل لزهده وصلاحه أو علمه أو شرفه أو صيانته أو نحو ذلك من الأمور الدينية لا يكره بل يستحب، فإن كان لغناه أو شوكته أو جاهه عند أهل الدنيا فمكروه شديد الكراهة، وقال أبو سعيد المتولي: لا يجوز – انتهى. وأما تقبيل قبره - صلى الله عليه وسلم - ومنبره وقبور الصالحين فلم يرد أن أحدًا من الصحابة أو التابعين فعل ذلك، بل قد ورد النهي عنه. فقد روى أبو داود بسند حسن من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تجعلوا قبري عيدًا وصلوا عليَّ، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم ". وقد تقدم هذا الحديث في باب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - مع بيان معناه وله شواهد من أوجه مختلفة. واتفق الأئمة على أنه لا يتمسح بقبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يقبله. وهذا كله محافظة على التوحيد. فإن من أصول الشرك بالله اتخاذ القبور مساجد كما قالت طائفة من السلف في قوله تعالى: {وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودًا ولا سواعًا ولا يغوث ويعوق ونسرًا} (71: 23) قالوا: هؤلاء كانوا قومًا صالحين في قوم نوح. فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا على صورهم تماثيل، ثم طال عليهم الأمد فعبدوها. وروى أحمد عن عائشة رضي الله عنها أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنو على قبره مسجدًا وصوروا فيه تلك الصور. أولئك شرار الخلق عند الله عز وجل يوم القيامة ". وما جر المصائب على عوام الناس وغرس في أذانهم أن الصالحين من أصحاب القبور ينفعون ويضرون حتى صاروا يشركونهم مع الله في الدعاء ويطلبون منهم قضاء الحوائج ودفع المصائب إلا تساهل معظم المتأخرين من العلماء، وذكر هذه البدع في كتبهم ولا أدري ما الذي ألجأهم إلى ذلك وأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحذر منه؟ أكان هؤلاء أعلم بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث أمر بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقطعها لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها تبركًا. وما أمر عمر رضي الله عنه بقطعها إلا خوفًا من الافتتان بها. وثبت عنه رضي الله عنه أنه رأى الناس في سفر يتبادرون إلى مكان فسأل عن ذلك فقالوا: قد صلى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال عمر: من عرضت له الصلاة فليصل وإلا فليمض، فإنما هلك أهل الكتاب لأنهم تتبعوا آثار أنبيائهم فاتخذوها كنائس وبيعًا. وكره الإمام مالك تتبع الأماكن التي صلى فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - في طريقه من المدينة إلى مكة سنة حجة الوداع والصلاة فيها تبركًا بأثره الشريف إلا في مسجد قباء، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يأتيه راكبًا وماشيًا، وبني مالك مذهبه على سد الذرائع فرأى أن التساهل في هذا وإن كان جائزًا يجر إلى مفسدة

2614 - (30) وعن أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " وكل به سبعون ملكًا - يعني الركن اليماني - فمن قال: اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} . قالوا: آمين. رواه ابن ماجة. ـــــــــــــــــــــــــــــ بعد تقادم العهد، فالاحتياط سد هذا الباب وعدم التساهل فيه فإن الراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه. وحاصل الكلام أن لا نفعل ولا نقول ولا نعتقد إلا ما دلت عليه السنة الثابتة، ونحترز من التساهل في ذلك مما يجر إلى ارتكاب البدع وفساد العقيدة والعمل. 2614- قوله (يعني) أي يريد بمرجع الضمير (الركن اليماني) فهو تفسير لضمير ((به)) والقائل بعض الرواة دون أبي هريرة بطريق الاعتراض بين الكلامين، وليس هذا التفسير في ابن ماجة. وقال السندي: قوله ((وكل به)) أي بالتأمين لمن دعا عنده، قيل: والظاهر أنه إذا كان فضل الركن اليماني إلى هذه المرتبة كان فضل الركن الأسود أكثر وأعلى من ذلك إلا أن يكون هذه الخاصية مخصوصة به، ويكون للحجر الأسود فضائل وخواص أخر أوفر وأعظم، والله أعلم (اللهم إني أسألك العفو) أي عن الذنوب (والعافية) أي عن العيوب (في الدنيا والآخرة) ويمكن أن يكون لفًا ونشرًا مشوشًا (ربنا آتنا في الدنيا حسنة) إلخ. قال القاري: لا تنافي بينه وبين ما سبق من قوله بين الركنين لأنه إذا وصل إلى الركن اليماني وشرع في هذا الدعاء وهو مار فلا شك أنه يقع بينهما إذ لا يجوز الوقوف للدعاء في الطواف كما يفعله جهلة العوام – انتهى. (قالوا آمين) أي ودعاء الملائكة يرجى استجابته منه (رواه ابن ماجة) بسند ضعيف كما ستعرف وأعلم أن هذا الحديث والحديث الذي يليه أي قوله ((من طاف بالبيت سبعًا)) إلخ. هما في الأصل حديث واحد رواه ابن ماجة بإسناد واحد جعله المؤلف حديثين وفرقهما، وهكذا فعل المجد في المنتقى. قال ابن ماجة في باب فضل الطواف: حدثنا هشام بن عمار ثنا إسماعيل بن عياش ثنا حميد بن أبي سوية قال: سمعت ابن هشام يسأل عطاء بن أبي رباح عن الركن اليماني وهو يطوف بالبيت فقال عطاء: حدثني أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " وكل به سبعون ملكًا فمن قال: اللهم إني أسألك العفو والعافية.. " إلخ. فلما بلغ الركن الأسود قال: يا أبا محمد ما بلغك في هذا الركن الأسود؟ فقال عطاء؟ حدثني أبو هريرة أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من فاوضه " (أي قابله بوجهه، قاله السندي. وقال الطبري: أي لابس وخالط، ومن مفاوضة الشريكين) فإنما يفاوض يد الرحمن. قال له ابن هشام: يا أبا محمد فالطواف؟ قال عطاء: حدثني أبو هريرة أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من طاف بالبيت سبعًا ولا يتكلم إلا.. " – الحديث. قال المنذري في الترغيب بعد ذكر هذا الحديث: رواه ابن ماجة عن إسماعيل بن عياش حدثني حميد بن أبي سوية وحسنه بعض مشائخنا – انتهى. ولم يتكلم البوصيري في الزوائد على إسناده. قال السندي: وذكر الدميري ما يدل على أنه حديث غير محفوظ – انتهى. وذكره الحافظ في

2615 – (31) وعنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من طاف بالبيت سبعًا ولا يتكلم إلا بسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، محيت عنه عشر سيئات، وكتب له عشر حسنات، ورفع له عشر درجات، ومن طاف فتكلم، وهو في تلك الحال ـــــــــــــــــــــــــــــ التلخيص وقال: إسناده ضعيف. قلت: هشام بن عمار من رجال الستة. قال الحافظ عنه: صدوق مقرئ، كبر فصار يتلقن فحديثه القديم أصح، وأما إسماعيل بن عياش الشامي الحمصي فهو صدوق في روايته عن أهل بلده أي الشاميين مخلط في غيرهم، وهذا الحديث من غير أهل بلده، وهو حميد بن أبي سوية ويقال ابن أبي سويد المكي. قال الحافظ في التقريب: إنه مجهول، وقال في تهذيب التهذيب: ذكره ابن عدي وقال: حدث عنه ابن عياش بأحاديث عن عطاء غير محفوظات، منها حديث فضل الدعاء عند الركن اليماني. قال الحافظ: أخرج ابن ماجة في الحج في فضل الطواف وغيره عن هشام ابن عمار عن إسماعيل فقال: في روايته حميد بن أبي سوية، وأخرجه ابن عدي فقال: في روايته حميد بن أبي سويد مصغرًا بدال بدل الهاء في آخره، وصوبه المصنف وترجمه ابن عدي فقال: حميد بن أبي سويد مولى بني علقمة، وقيل: حميد بن أبي حميد حدث عنه إسماعيل بن عياش منكر الحديث، وقد ظهر بهذا كله أن الحديث ضعيف من وجهين: لكونه من رواية ابن عياش عن غير أهل بلده، ولجهالة حميد بن أبي سوية المكي. وفي فضل الدعاء عند استلام الركن اليماني عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما مررت بالركن اليماني إلا وعنده ملك ينادي يقول: آمين، آمين، فإذا مررتم به فقولوا: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ". أخرجه أبو ذر. قال الطبري: ولا تضاد بين الحديثين يعني حديث ابن عباس وحديث أبي هريرة، فإن السبعين موكلون به لم يكلفوا قول آمين دائمًا وإنما عند سماع الدعاء، والملك كلف أن يقول آمين دائمًا سواء سمع الدعاء أم لم يسمعه، وعن علي بن أبي طالب أنه كان إذا مر بالركن اليماني قال: بسم الله الله أكبر، السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورحمة الله وبركاته، اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر والذل ومواقف الخزي في الدنيا والآخرة، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وجاء ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً لابن المسيب بإسناد ضعيف أخرجهما الأزرقي. 2615- قوله (من طاف بالبيت سبعًا) أي سبع مرات من الأشواط (ولا يتكلم إلا بسبحان الله) هو واجب النصب فمحله مجرور (والحمد لله) مرفوع على الحكاية (ولا حول) عن معصيته (ولا قوة) على طاعته (محيت) بتاء التأنيث في جميع النسخ وهكذا وقع في ابن ماجة (عشر سيئات) أي بكل خطوة أو بكل كلمة أو بالمجموع (وكتب) بالتذكير في جميع النسخ وكذا في المنتقى أي أثبت. وفي ابن ماجة ((كتبت)) بالتأنيث وهكذا وقع في الترغيب للمنذري (ورفع له) بالتذكير في جميع النسخ وكذا في ابن ماجة (ومن طاف فتكلم) أي بتلك الكلمات (وهو في تلك الحال) أي

(4) باب الوقوف بعرفة

خاض في الرحمة برجليه كخائض الماء برجليه ". رواه ابن ماجة (4) باب الوقوف بعرفة (الفصل الأول) 2616 - (1) عن محمد بن أبي بكر الثقفي، أنه سأل أنس بن مالك، ـــــــــــــــــــــــــــــ في حالة الطواف، وإنما كرر ((من طاف)) ليناط به غير ما نيط به أولاً، وليبرز المعقول في صورة المشاهد المحسوس قاله الطيبي. وقال الشيخ الدهلوي في اللمعات بعد ذكر كلام الطيبي: ويمكن أن يكون معناه تكلم بكلام الناس دون ما ذكر من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير مقابلاً لقوله ((ولا يتكلم إلا بسبحان الله)) أي لا يتكلم إلا بذكر الله فيكون مقابله أن يتكلم بغير ذكر الله، ومع ذلك يكون له ثواب لكنه يكون كالخائض في الرحمة برجليه وأسفل بدنه لكونه عاملاً وعابدًا به ولا يبلغ الرحمة إلى أعلاه لكونه متكلمًا بغير ذكر الله، وإذا لم يتكلم إلا بذكر الله يستغرق في بحر الرحمة من قدمه إلى رأسه ومن أسفله إلى أعلاه، هكذا يختلج في القلب معنى الحديث - انتهى. وهكذا حمل السندي وابن حجر الهيثمي قوله ((ومن طاف فتكلم)) على الكلام المباح فقال ابن حجر: أي من تكلم بغير ذلك الذكر من الكلام المباح، فيه الإشارة بأن الثواب الحاصل دون الأول بواسطة تكلمه في طوافه بغير الذكر، لأن ذلك مناف لكمال الأدب وإيقاع العبادة بغير وجهها - انتهى. قال القاري: والأول أي كلام الطيبي أظهر لأنه قد تقدم نهيه عليه الصلاة والسلام عن الكلام المباح بقوله فلا يتكلمن إلا بخير فيكون مكروهًا (إلى آخر ما قال) ثم قال: وأقول - والله تعالى أعلم - إن الظاهر المتبادر في معناه أن يقال ومن طاف فتكلم أي بغير هذه الكلمات كسائر الأذكار فيفيد التقييد حينئذ زيادة مثوبات هذه الكلمات فإنهن الباقيات الصالحات - انتهى. (رواه ابن ماجة) قد تقدم أن حديث أبي هريرة هذا وحديثه الأول المذكور هنا ساقهما ابن ماجة بإسناد واحد، وكان الأولى للمؤلف أن يقول بعد ذكرهما ((رواهما ابن ماجة)) . وفي ذكر الله في الطواف وفضل الطواف أحاديث ذكرها الشوكاني في النيل والطبري في القرى والقاري في المرقاة وغيرهم في كتب المناسك، فمن شاء الوقوف رجع إليها. (باب الوقوف) أي الحضور (بعرفة) أي ولو ساعة في وقت الوقوف. قال الطيبي: هي اسم لبقعة معروفة - انتهى. فالجمع في قوله تعالى: {فإذا أفضتم من عرفات} (2: 198) باعتبار أجزائها وأماكنها وتعدد محال الوقوف فيها، وتقدم وجه تسميتها بها، وارجع لمعرفة حدها والمسافة بينها وبين مكة إلى شفاء الغرام وغيره من الكتب المؤلفة في تاريخ مكة. 2616 - قوله (عن محمد بن أبي بكر الثقفي) نسبة إلى ثقيف، بالمثلثة والقاف، قبيلة بالطائف. وهو محمد بن

وهما غاديان من منى إلى عرفة: كيف كنتم تصنعون في هذا اليوم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: كان يهل منَّا المهل فلا ينكر عليه، ويكبر المكبر منَّا فلا ينكر عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ أبي بكر بن عوف بن رباح الثقفي الحجازي ثقة تابعي. قال الحافظ في تهذيب التهذيب: روى عن أنس في التهليل والتكبير في الغدو من منى إلى عرفات، وعنه موسى بن عقبة ومالك وشعبة وغيرهم. قال النسائي: ثقة، وقال العجلي: مدني تابعي ثقة – انتهى مختصرًا. وقال في شرح البخاري: ليس لمحمد المذكور في الصحيح عن أنس ولا غيره غير هذا الحديث الواحد، وقد وافق أنسًا على روايته عبد الله بن عمر أخرجه مسلم (وهما غاديان) جملية اسمية حالية، ((وغاديان)) بالغين المعجمة اسم فاعل من غدا يغدو غدوًا، أي ذاهبان غدوة (كيف كنتم تصنعون) أي من الذكر في الطريق (في هذا اليوم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) ولمسلم من طريق موسى بن عقبة عن محمد بن أبي بكر: قلت لأنس غداة عرفة: ما تقول في التلبية في هذا اليوم؟ (فقال) أي أنس (كان يهل) أي يلبي (منا المهل) أي الملبي أو الحرم (فلا ينكر عليه ويكبر المكبر فلا ينكر عليه) قال العيني: قوله ((لا ينكر)) على صيغة المعلوم في الموضعين والضمير المرفوع فيه للنبي - صلى الله عليه وسلم - – انتهى. وضبطه الحافظ في الفتح بضم أوله على البناء للمجهول، أي لا ينكر عليه أحد فيقيد التقرير منه - صلى الله عليه وسلم - والإجماع السكوتي من الصحابة رضي الله عنهم. قال الحافظ: في رواية موسى بن عقبة ((فمنا المكبر ومنا المهلل، ولا يعيب أحدنا على صاحبه)) وفي حديث ابن عمر من طريق عبد الله بن أبي سلمة عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه: غدونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من منى إلى عرفات منا الملبي ومنا المكبر، وفي رواية له قال يعني عبد الله بن أبي سلمة: فقلت له يعني لعبيد الله: عجبًا لكم كيف لم تقولوا له: ماذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع؟ قال الحافظ: وأراد عبد الله ابن أبي سلمة بذلك الوقوف على الأفضل، لأن الحديث يدل على التخيير بين التكبير والتلبية من تقريره لهم - صلى الله عليه وسلم - على ذلك فأراد أن يعرف ما كان يصنع هو ليعرف الأفضل من الأمرين وقد بينه ما رواه أحمد وابن أبي شيبة والطحاوي من طريق مجاهد عن أبي معمر عن عبد الله أي ابن مسعود: خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما ترك التلبية حتى رمى جمرة العقبة إلا أن يخلطها بتكبير. قال النووي: في الحديث دليل على استحباب التلبية والتكبير في الذهاب من منى إلى عرفات يوم عرفة والتلبية أفضل. وفيه رد على من قال بقطع التلبية بعد صبح يوم عرفة. وقال الطيبي: هذا رخصة ولا حرج في التكبير بل يجوز كسائر الأذكار، ولكن ليس التكبير في يوم عرفة من سنة الحجاج، بل السنة لهم التلبية إلى رمي جمرة العقبة يوم النحر، وحكى المنذري أن بعض العلماء أخذ بظاهره لكنه لا يدل على فضل التكبير على التلبية، بل على جوازه فقط، لأن غاية ما فيه تقريره - صلى الله عليه وسلم - على التكبير، وذلك لا يدل على استحبابه، فقد قام الدليل الصريح على أن التلبية حينئذٍ أفضل لمدوامته - صلى الله عليه وسلم - عليها. وقال العيني: التكبير المذكور نوع من الذكر أدخله الملبي في خلال التلبية من غير ترك التلبية، لأن المروي عن الشارع أنه

متفق عليه. 2617 – (2) وعن جابر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " نحرت ها هنا ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم، ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يقطع التلبية حتى رمي جمرة العقبة. وقال الخطابي: السنة المشهورة فيه أن لا يقطع التلبية حتى يرمي أو حصاة من جمرة العقبة يوم النحر، وعليها العمل. وأما قول أنس هذا فقيد يحتمل أن يكون تكبير المكبر منهم شيئًا من الذكر يدخلونه في خلال التلبية الثابتة في السنة من غير ترك التلبية – انتهى. قلت: حديث عبد الله بن مسعود المذكور سابقًا نص فيما قاله العيني والخطابي. وقد ترجم البخاري لحديث أنس في العيدين ((باب التكبير أيام منى وإذا غدا إلى عرفة)) قال الحافظ: قوله ((ويكبر المكبر فلا ينكر عليه)) هذا موضع الترجمة وهو متعلق بقوله فيها ((وإذا غدا إلى عرفة)) وظاهره أن أنسًا احتج به على جواز التكبير في موضع التلبية، ويحتمل أن يكون من كبر، أضاف التكبير إلى التلبية – انتهى. قلت: بل هذا هو المتعين لما سيأتي، ثم ترجم البخاري لحديث أنس أيضًا في الحج ((باب التلبية والتكبير إذا غدا من منى إلى عرفة)) قال الحافظ: أي مشروعيتهما، وغرضه بهذه الترجمة الرد على من قال: يقطع المحرم التلبية إذا راح إلى عرفة، ثم عقد بعد أربعة عشر بابًا ((باب التلبية والتكبير غداة النحر حتى يرمي)) قال الحافظ: المعتمد أنه أشار إلى ما ورد في بعض طرقه كما جرت به عادته، فعند أحمد (ج 1: ص 417) وابن أبي شيبة والطحاوي من طريق مجاهد عن أبي معمر عن عبد الله: خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما ترك التلبية حتى رمى جمرة العقبة إلا أن يخلطها بتكبير (متفق عليه) أخرجه البخاري في العيدين وفي الحج، ومسلم في الحج، وأخرجه أيضًا مالك وأحمد والنسائي وابن ماجه والدارمي والبيهقي (ج 5: ص 117) . 2617 – قوله (نحرت ها هنا) إشارة إلى مكان مخصوص في منى نحر فيه، وكذا في عرفات وجمع، والجمع علم للمزدلفة، والظاهر أنه قال كلا من هذه الكلمات في مكانه وجمعها الراوي كذا في اللمعات. وقال ابن حجر: نحرت ها هنا. أي في محل نحره المشهور، وقد بني عليه بناءان كل منهما يسمى مسجد النحر، أحدهما على الطريق والآخر منحرف عنها. وقيل وهو الأقرب من الوصف الذي ذكروه بمحل نحره عليه الصلاة والسلام (ومنى) مبتدأ (كلها) أي كل مواضعها، تأكيد (منحر) أي محل نحر، وهو خبر المبتدأ، والمقصود أن النحر لا يختص بمنحره عليه الصلاة والسلام وهو قريب من مسجد الخيف. قال الشوكاني: قوله ((منى كلها منحر)) يعني كل بقعة منها يصح فيها، وهو متفق عليه، لكن الأفضل النحر في المكان الذي نحر فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -، كذا قال الشافعي، ومنحر النبي - صلى الله عليه وسلم - هو عند الجمرة الأولى التي تلي مسجد منى، كذا قال ابن التين. وحد منى من وادي محسر إلى العقبة (فانحروا في رحالكم) المراد بالرحال المنازل

ووقفت ها هنا وعرفة كلها موقف، ووقفت ها هنا وجمع كلها موقف. رواه مسلم. 2618 – (3) وعن عائشة، قالت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، ـــــــــــــــــــــــــــــ قال أهل اللغة: رحل الرجل منزله سواء كان من حجر أو مدر أو شعر أو وبر، ومعنى الحديث: كل منى موضع نحر وذبح للهدايا المتعلقة بالحج فلا تتكلفوا النحر في موضع نحري، بل يجوز لكم النحر في منازلكم من منى (ووقفت ها هنا) أي قرب الصخرات (وعرفة كلها موقف) أي يصح الوقوف فيها إلا بطن عرنة، وقد أجمع العلماء على أن من وقف في أي جزء كان من عرفات صح وقوفه. ولها أربعة حدود: حد إلى جادة طريق المشرق، والثاني إلى مسافات الجبل الذي وراء أرضها، والثالث إلى البساتين التي تلي قرنيها على يسار مستقبل الكعبة. والرابع وادي عرنة وليست هي ولا نمرة من عرفات ولا من الحرم (ووقفت ها هنا) أي عند المشعر الحرام بمزدلفة، وهو البناء الموجود بها الآن، قاله القاري. (وجمع) أي المزدلفة (كلها موقف) أي إلا وادي محسر، قال النووي: في هذه الألفاظ بيان رفق النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمته وشفقته عليهم في تنبيههم على مصالح دينهم ودنياهم فإنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر لهم الأكمل والجائز، فالأكمل موضع نحره ووقوفه، والجائز كل جزء من أجزاء المنحر، وجزء من أجزاء عرفات، وجزء من أجزاء المزدلفة، وهي جمع – بفتح الجيم وإسكان الميم – وقد سبق بيانها. (رواه مسلم) وأخرجه أيضًا أحمد وأبو داود والبيهقي (ج5: ص 115) . 2618- قوله (ما من يوم) من زائدة (أكثر) بالنصب وقيل بالرفع (من) زائدة أيضًا (أن يعتق الله فيه عبدًا) زاد في رواية النسائي ((أو أمة)) قال السندي في حاشية النسائي: قوله ((أكثر من أن يعتق)) أي أكثر من جهة الإعتاق وبملاحظته، فليست هذه من تفضيلية وإنما التفضيلية من التي في قوله ((من يوم عرفة)) (من النار) متعلق بيعتق (من يوم عرفة) أي بعرفات. قال الطيبي: ما بمعنى ليس، واسمه ((يوم)) و ((من)) زائدة – انتهى. قال القاري: فتقديره: ما من يوم أكثر إعتاقًا فيه الله عبدًا من النار من يوم عرفة – انتهى. وقال السندي في حاشية ابن ماجة: ((أكثر)) جاء بالنصب على أنه خبر ما العاملة على لغة الحجاز، وبالرفع على إبطال عمل ما على وجهين ((أن يعتق)) فاعل اسم التفضيل، ويحتمل على تقدير الرفع أن يجعل ((أن يعتق)) مبتدأ خبره ((أكثر)) والجملة خبر ((ما)) وتجويز فتحة ((أكثر)) على أنه صفة يوم محمول على لفظه إلا أنه جر بالفتحة لكونه غير منصرف، وتجويز رفعه على أنه صفة له حمل له على محله أو على أنه خبر لما بعده والجملة صفة، فذاك يحوج إلى تقدير خبر مثل موجود بلا حاجة إليه انتهى -. وقال الأبي: ما نافية وتدخل على المبتدأ والخبر، وللعرب فيها مذهبان، فالحجازيون (والتهاميون والنجديون) يرفعون بها المبتدأ الاسم وينصبون الخبر، والتميميون يرفعون بها الاسمين. قال النووي: روينا الحديث بنصب أكثر على أن ما حجازية، وبرفعه على أنها تميمية ومن زائدة، والتقدير

وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء ". رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((ما يوم أكثر)) والمجروران بعده مبنيان، فمن يوم عرفة، مبين للأكثرية مما هي، و ((من أن يعتق)) مبين للمبين. قال: والحديث ظاهر الدلالة في فضل يوم عرفة وهو كذلك. ولو قال رجل ((امرأتي طالق في أفضل الأيام)) فلأصحابنا وجهان، أحدهما: تطلق يوم الجمعة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((خير يوم طلعت في الشمس يوم الجمعة)) والثاني: وهو الأصح أنها تطلق يوم عرفة لهذا الحديث، ويتأول حديث يوم الجمعة على أن معناه أنه أفضل أيام الأسبوع. قيل الحديث يدل على فضل يوم عرفة لا على أنه أفضل لما ثبت من أن المفضول قد يختص بخاصية ليست في الأفضل ولا يكون بسبب تلك الخاصية أفضل، فأكثرية العتق فيه لا تدل على أنه أفضل. وأيضًا فإنما دل على أنه لا يكون العتق في غيره أكثر، وذلك لا يدل على نفي المساواة إلا أن يضاف إلى ذلك ما يقع فيه من المباهاة، سلمنا أن أكثرية العتق تدل على أنه أفضل، لكن أفضل من الأيام التي يقع فيها العتق، لا أنه أفضل الأيام مطلقًا، فتأمل (وإنه) أي سبحانه وتعالى (ليدنو) قال المازري: أي تدنو رحمته وكرامته لا دنو مسافة ومماسة، وقال القاضي: وقد يريد دنو الملائكة إلى الأرض أو إلى السماء بما ينزل معهم من الرحمة عن أمره سبحانه وتعالى. وقال التوربشتي: أي يدنو منهم في موقفهم بفضله ورحمته وفي تخصيص لفظ الدنو تنبيه على كمال القرب لأن الدنو من أخص أوصاف القرب (ثم يباهي بهم) أي بالحجاج (الملائكة) قال بعضهم: أي يظهر على الملائكة فضل الحجاج وشرفهم. وقال التوربشتي: المباهاة هو المفاخرة وهي موضوعة للمخلوقين فيما يترفعون به على أكفاءهم، وتعالى الله الملك الحق عن التعزز بما اخترعه ثم تعبده، وإنما هو من باب المجاز أي يحلهم من قربه وكرامته بين أولئك الملأ محل الشيء المباهى به. ويحتمل أن يكون ذلك في الحقيقة راجعًا إلى أهل عرفة أي ينزلهم من الكرامة منه منزلة يقتضي المباهاة بينهم وبين الملائكة، وإنما أضاف العمل إلى نفسه تحقيقًا لكون ذلك عن موهبته، والله أعلم – انتهى. قلت: الحديث محمول على ظاهره من غير تأويل وتكييف كما هو مذهب السلف الصالح في النزول والعلو وغيرهما من الصفات من إمرارها على ظاهرها وتفويض الكيفية إلى علمه سبحانه وتعالى، فالدنو والمباهاة معناهما معلوم، والكيفية مجهولة، فنقول: إنه تعالى يدنو من عباده عشية عرفة بعرفات ويباهي بهم الملائكة كيف يشاء (فيقول: ما أراد هؤلاء؟) قال القاري: أي أي شيء أراد هؤلاء حيث تركوا أهلهم وأوطانهم وصرفوا أموالهم وأتعبوا أبدانهم أي ما أرادوا إلا المغفرة والرضاء والقرب واللقاء، ومن جاء هذا الباب لا يخشى الرد، أو التقدير: ما أراد هؤلاء فهو حاصل لهم ودرجاتهم على قدر مراداتهم ونياتهم. أو أي شيء أراد هؤلاء؟ أي شيئًا سهلاً يسيرًا عندنا إذ مغفرة كف من التراب لا يتعاظم عند رب الأرباب – انتهى. قال الأبي: لما كان الاستفهام على الله تعالى محالاً تأولوه بذلك، ويحتمل أنه استنطاق. (رواه مسلم) وأخرجه أيضًا النسائي وابن ماجه والحاكم (ج 1: ص 464) والبيهقي (ج 5: ص 118) .

(الفصل الثاني)

(الفصل الثاني) 2619 - (4) عن عمرو بن عبد الله بن صفوان، عن خال له يقال له: يزيد بن شيبان. قال: كنا في موقف لنا بعرفة يباعده عمرو من موقف الإمام جدًا، فأتانا ابن مربع الأنصاري، فقال: إني رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليكم، يقول لكم: " قفوا على مشاعركم فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم عليه السلام ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2619 - قوله (عن عمرو بن عبد الله بن صفوان) هو عمرو بن عبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف الجمحي المكي صدوق شريف من التابعين، روى عن يزيد بن شيبان وعبد الله بن السائب المخزومي وغيرهما. وروى عنه عمرو بن دينار وغيره. قال الزبير عن بعض أصحابه: توالى خمسة في الشرف فذكر جماعة، عمرو فيهم، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن سعد: كان قليل الحديث. وقال الزبير كان له رقيق يتجرون، فكان ذلك يعينه على مكارمه (يزيد بن شيبان) الأزدي، ويقال الديلي، صحابي، له عند الأربعة هذا الحديث الواحد. قال أبو حاتم: هو خال عمرو بن عبد الله بن صفوان المذكور. وقال البخاري: له رؤية (قال) أي يزيد (كنا في موقف لنا) أي لآبائنا وأسلافنا كانوا يقفون في الجاهلية (يباعده عمرو) أي يباعد ذلك المكان عمرو بن عبد الله (من موقف الإمام) يعني يجعله بعيدًا في وصفه إياه بالبعد، والتباعد والمباعدة بمعنى التبعيد وبه ورد التنزيل {ربنا باعد بين أسفارنا} (34: 19) وهذا قول الراوي عن عمرو بن عبد الله وهو عمرو بن دينار يعني قال عمرو: كان بين ذلك الموقف وبين موقف إمام الحاج مسافة بعيدة (جدًا) نصب على المصدر أي جد في التبعيد جدًا. وقال القاري: أي يجد جدًا في التبعيد أي بعدًا كثيرًا، فهو متصل بقوله ((يباعده)) متأخر عن متعلقه، فإما على كونه مصدرًا أي يبعده تبعيدًا جدًا أي كثيرًا أو على الحالية (فأتانا ابن مربع) بكسر الميم وسكون الراء المهملة بعدها موحدة مفتوحة مخففة، كذا ضبطه الحافظ في التقريب والطبري في القرى والمصنف في الإكمال والمنذري في مختصر السنن، ووقع في الإصابة والاستيعاب وأسد الغابة والتجريد ((ابن مريع)) أي بالياء التحتية، والظاهر أنه خطأ من الناسخ، وهو زيد بن مربع بن قيظي - بفتح القاف وسكون التحتانية بعدها ظاء - مشالة الأنصاري الأوسي من بني حارثة. وقيل اسمه يزيد، وقيل عبد الله، والأول أكثر. قال الحافظ " صحابي، أكثر ما يجيء مبهمًا أي غير مسمى عداده في أهل الحجاز، له هذا الحديث الواحد (يقول لكم) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (قفوا) بكسر القاف أمر من وقف يقف (على مشاعركم) جمع مشعر، والمراد منها ها هنا مواضع النسك والعبادة من قولك: شعرت بالشيء أي علمته، ومنه ((ليت شعري)) أي ليتني أعلم هل يكون كذا وكذا ويسمي كل موضع من مواضع النسك مشعرًا لأنه معلم لعبادة الله. وفي رواية ((كونوا على مشاعركم)) أي اثبتوا في مواضع نسككم ومواقفكم القديمة (فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم عليه السلام) علة للأمر بالاستقرار والتثبت على الوقوف في مواقفهم القديمة، علل ذلك بأن موقفهم موقف إبراهيم ورثوه

رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة. 2620 – (5) وعن جابر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " كل عرفة موقف، وكل منى منحر، وكل المزدلفة موقف، وكل فجاج مكة طريق ومنحر ". رواه أبو داود والدارمي. ـــــــــــــــــــــــــــــ منه ولم يخطئوا في الوقوف فيه عن سنته، فإن عرفة كلها موقف، والواقف بأي جزء منها آت بسنته، متبع لطريقته، وإن بعد موقفه عن موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله الطيبي. وقال السندي: إرساله - صلى الله عليه وسلم - الرسول بذلك لتطيب قلوبهم لئلا يتحزنوا ببعدهم عن موقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويروا ذلك نقصًا في الحج، أو يظنوا أن ذلك المكان الذي هم فيه ليس بموقف ويحتمل أن المراد بيان أن هذا خير مما كان عليه قريش من الوقوف بمزدلفة، وأنه شيء اخترعوه من أنفسهم، والذي أورثه إبراهيم هو الوقوف بعرفة، وقال التوربشتي: أعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - من وقف بها أنهم لم يخطئوا سنة خليل الله وأنهم على منهاجه، وأن من بعد موقفه عن موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - كمن دنا، وذلك لمعنيين أحدهما تسفيه رأي من رأى في الخروج عن الحرم حرجاً للوقفة، والثاني إعلامهم بأن عرفة كلها موقف لئلا يتنازعوا في مواقفهم ولا يتوهموا أن الموقف ما اختاره - صلى الله عليه وسلم - فلا يرون الفضل في غيره فينتهي بهم ذلك إلى التشاجر وإلى تصور الحق باطلاً، ولهذا قال: وقفت ها هنا وعرفة كلها موقف (رواه الترمذي) وقال: حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث ابن عيينة عن عمرو بن دينار، وابن مربع اسمه يزيد، وإنما يعرف له هذا الحديث الواحد (وأبو داود) وسكت عنه، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره (والنسائي وابن ماجة) وأخرجه أيضًا أحمد (ج 4: ص 137) وابن أبي شيبة والبيهقي (ج 5: ص 115) والحاكم (ج 1: ص 462) وصححه ووافقه الذهبي. 2620 – قوله (كل عرفة) أي جميع أجزائها ومواضعها (موقف) أي موضع وقوف للحج، زاد في رواية مالك وابن ماجة ((وارتفعوا عن بطن عرنة)) (وكل منى منحر) أي موضع نحر وذبح للهدايا المتعلقة بالحج (وكل مزدلفة) قال في اللمعات: المزدلفة أيضًا علم موضع مخصوص كعرفة ومنى، لكن أدخل عليها الألف واللام لأن العلم المشتق يجوز فيه إدخال اللام وتركها كما في الحارث والحسن مثلاً (موقف) فيه دليل على أن جميع المزدلفة موقف، كما أن عرفات كلها موقف وزاد في رواية مالك وابن ماجة ((وارتفعوا عن بطن محسر)) (وكل فجاج مكة) بكسر الفاء جمع فج وهو الطريق الواسع (طريق ومنحر) أي يجوز دخول مكة من جميع طرقها وإن كان الأفضل الدخول إليها من الثنية العليا أي ثنية كداء التي دخل منها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويجوز النحر في جميع نواحيها لأنها من الحرم. والمقصود التوسعة ونفي الحرج، ذكره الطيبي. قال القاري: ويجوز ذبح جميع الهدايا في أرض الحرم بالاتفاق إلا أن منى أفضل لدماء الحج، ومكة ولا سيما المروة لدماء العمرة، ولعل هذا وجه تخصيصها بالذكر (رواه أبو داود والدارمي) وأخرجه أيضًا أحمد (ج 3: ص 236)

2621 – (6) وعن خالد بن هوذة، قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس يوم عرفة على بعير قائمًا في الركابين. رواه أبو داود. ـــــــــــــــــــــــــــــ والحاكم (ج 1: ص 160) والبيهقي (ج 5: ص 122) وابن جرير، وروى مالك مرسلاً وابن ماجة نحوه. والحديث سكت عنه أبو داود والمنذري وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم وأقره الذهبي. 2621 – قوله (وعن خالد بن هَوْذة) بفتح الهاء وسكون الواو بعدها ذال معجمة ثم تاء تأنيث، وقوله ((عن خالد بن هوذة)) هكذا في جميع نسخ المشكاة، وكذا وقع في المصابيح وهو خطأ، والصواب عن العداء بن خالد بن هوذة فإن الحديث من مسند العداء بن خالد لا من مسند أبيه خالد بن هوذة، فقد رواه أبو داود عن عثمان بن أبي شيبة عن وكيع عن عبد المجيد أبي عمرو حدثني العداء بن خالد بن هوذة قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب. وكذا رواه عن عباس بن عبد العظيم عن عثمان بن عمر عن عبد المجيد أبي عمرو، وهكذا روى أحمد عن وكيع عن عبد المجيد، وكذا وقع في جامع الأصول (ج 4: ص 66) للجزري، والقرى (ص 355) للمحب الطبري. والعَدَّاء – بفتح عين وشدة دال مهملة وألف فهمزة – ابن خالد بن هوذة العامري، قال الحافظ في التقريب في ترجمته: صحابي أسلم هو وأبوه جميعًا وتأخر وفاته إلى بعد المائة. وقال في الإصابة: أسلم العداء بعد حنين مع أبيه، وللعداء أحاديث، وكأنه عمر، فإن عند أحمد أنه عاش إلى زمن خروج يزيد بن الملهب في سنة إحدى أو اثنتين ومائة في أيام يزيد بن عبد الملك، عداده في أعراب البصيرة وكان وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - فأقطعه مياها كانت لبني عامر يقال لها الرخيخ – بخائين معجمتين مصغرًا – وكان ينزل بها. وذكر أبو زكريا بن مندة أنه آخر من مات من الصحابة بالرخيخ، وذكر هشام بن الكلبي العداء ووالده في المؤلفة قلوبهم. والعداء هو الذي ابتاع منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العبد أو الأمة وكتب له العهدة وقد ذكر المصنف قصة البيع في باب المنهي عنها من البيوع. وأما خالد بن هوذة والد العداء فقال الحافظ في الإصابة: خالد بن هوذة بن ربيعة البكائي ويقال القشيري، جاء ذكره في حديث ابنه العداء، فروى البارودي من طريق عبد المجيد أبي عمرو عن العداء بن خالد، قال: خرجت مع أبي فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب. وقال الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء: أسلم العداء وأخوه حرملة وأبوهما وكانا سيدي قومهما وبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى خزاعة يبشرهم بإسلامهما (يخطب الناس) أي يعظهم ويعلمهم المناسك (يوم عرفة) بعد الزوال كما في حديث جابر في قصة حجة الوداع (على بعير قائمًا في الركابين) حالان مترادفان أو متداخلان. وقوله ((قائمًا)) أي واقفًا لا أنه قائم على الدابة، بل معناه حال كون الرجلين داخلين في الركابين (رواه أبو داود) وسكت عنه هو والمنذري، وأخرجه أحمد (ج 5: ص 30) ورواه أحمد أيضًا (ج 5: ص 30) ، والطبراني في الكبير مطولاً وأورد الهيثمي في مجمع الزوائد (ج 2: ص 253) الروايتين وقال: رجال الطبراني موثقون.

2622 – (7) وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " خير الدعاء دعاء يوم عرفة، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2622 – قوله (خير الدعاء دعاء يوم عرفة) قال الشوكاني: قوله ((دعاء يوم عرفة)) رجح المزي جر دعاء ليكون قوله ((لا إله إلا الله)) خبرًا لخير الدعاء ولخير ما قلت: أنا والنبيون، ويؤيده ما وقع في الموطأ من حديث طلحة بلفظ ((أفضل الدعاء يوم عرفة وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي، لا إله إلا الله)) وما وقع عند العقيلي من حديث ابن عمر ((أفضل دعائي ودعاء الأنبياء قبلي عشية عرفة لا إله إلا الله)) – انتهى. قلت: ويؤيده أيضًا ما وقع عند أحمد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: كان أكثر دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة ((لا إله إلا الله)) إلخ، ويؤيده أيضًا حديث عليّ عند ابن أبي شيبة بلفظ ((أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفة لا إله إلا الله)) . وأما حديث طلحة فلفظه في الموطأ ((أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة)) قال الزرقاني: قوله ((أفضل الدعاء)) مبتدأ خبره ((دعاء يوم عرفة)) . قال الباجي: أي أعظمه ثوابًا وأقربه إجابة، ويحتمل أن يريد به اليوم، ويحتمل أن يريد به الحاج خاصة، وقال ابن عبد البر: يريد أنه أكثر ثواباً، ويحتمل أن يريد أفضل ما دعا به، والأول أظهر، لأنه أورده في تفضيل الأذكار بعضها على بعض. وفي الحديث تفضيل الدعاء بعضه على بعض وتفضيل الأيام بعضها على بعض – انتهى. قال الطيبي: الإضافة في قوله ((دعاء يوم عرفة)) إما بمعنى اللام أي دعاء يختص به، ويكون قوله ((وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله)) بياناً لذلك الدعاء فإن، قلت: هو ثناء، قلت: في الثناء تعريض بالطلب، وإما بمعنى ((في)) ليعم الأدعية الواقعة فيه - انتهى. وقال الطبري: إنما سمي هذا الذكر دعاء لثلاثة أوجه، أحدها: ما تضمنه حديث سالم بن عبد الله أنه كان يقول بالموقف ((لا إله إلا الله)) إلخ. وفيه ((ثم قال حدثني أبي عن أبيه عن أبيه عمر بن الخطاب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يقول الله من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين)) . ووجهه أنه لما كان الثناء يحصل أفضل مما يحصل الدعاء أطلق عليه لفظ الدعاء لحصول مقصوده، ويروى عن الحسين بن الحسن المروزي قال: سألت سفيان بن عيينة عن أفضل الدعاء يوم عرفة فقال: لا إله إلا الله، إلخ. فقلت له: هذا ثناء وليس بدعاء، فقال: أما تعرف حديث مالك بن الحارث؟ قال: يقول الله عز وجل: إذا شغل عبدي ثناؤه علي من مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين. قال: وهذا تفسير قول النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثم قال سفيان: أما علمت ما قال أمية بن أبي الصلت حين أتى عبد الله بن جعدان يطلب نائله. فقلت: لا. فقال: قال أمية: أأذكر حاجتي أم قد كفاني _ ... حياؤك، إن شيمتك الحياء وعلمك بالحقوق وأنت فضل _ ... لك الحسب المهذب والثناء إذ أثنى عليك المرأ يوماً _ ... كفاه من تعرضه الثناء ثم قال: يا حسين هذا مخلوق يكتفي بالثناء عليه دون مسألة فكيف بالخالق؟ الوجه الثاني: معناه أفضل ما يستفتح

وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير ". رواه الترمذي. 2623 – (8) وروى مالك عن طلحة بن عبيد الله إلى قوله: " لا شريك له ". ـــــــــــــــــــــــــــــ الدعاء، على حذف المضاف، ويدل عليه الحديث الآخر، فإنه قال: أفضل الدعاء أن أقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلى آخره. ودعا بعد ذلك بقوله: اللهم اجعل في قلبي نورًا، إلخ. الثالث: معناه أفضل ما يستبدل به عن الدعاء يوم عرفة لا إله إلا الله، إلى آخره. والأول أوجه – انتهى. (وخير ما قلت) قال الشيخ الدهلوي في اللمعات: أي دعوت، والدعاء هو لا إله إلا الله وحده، إلخ. وتسميته دعاء إما لأن الثناء على الكريم تعريض بالدعاء والسؤال، وأما لحديث: " من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ". هكذا قالوا، ولا يخفى أن عبارة هذا الحديث لا تقتضي أن يكون الدعاء قوله لا إله إلا الله. إلخ. بل المراد أن خير الدعاء ما يكون يوم عرفة أي دعاء كان، وقوله " خير ما قلت " إشارة إلى ذكر غير الدعاء فلا حاجة إلى جعل ما قلت بمعنى ما دعوت، ويمكن أن يكون هذا الذكر توطئة لتلك الأدعية لما يستحب من الثناء على الله قبل الدعاء – انتهى. وقال القاري: لا يبعد أن يقال: خير ما قلت من الذكر فيكون عطف مغاير، والتقدير: أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة بأي شيء كان، وخير ما قلت من الذكر فيه وفي غيره أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله – انتهى. قلت: لكن لا يلائمه رواية الطبراني بلفظ: " أفضل ما قلت أنا والنبيون قبلي عشية عرفة: لا إله إلا الله ". وكذا رواية أحمد. كان أكثر دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة لا إله إلا الله " (له الملك وله الحمد) زاد في حديث أبي هريرة عند البيهقي " يحيي ويميت بيده الخير " (رواه الترمذي) في الدعوات من طريق حماد بن حميد عن عمرو بن شعيب وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه. وحماد بن أبي حميد هو محمد بن أبي حميد وليس هو بالقوي عند أهل الحديث، وأخرجه أحمد من هذا الطريق (ج2: ص210) بلفظ ((كان أكثر دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شيء قدير)) ، أورده الهيثمي في مجمع الزوائد. وقال: رواه أحمد ورجاله موثقون – انتهى. ولا يخفى ما فيه. 2623- قوله (وروى مالك) في آخر كتاب الصلاة وفي أواخر الحج عن زياد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي (عن طلحة بن عبيد الله) أي مرسلاً مرفوعًا، وطلحة هذا هو طلحة بن عبيد الله (مصغرًا) ابن كريز – بفتح الكاف وكسر الراء المهملة وسكون الياء وزاي معجمة – الخزاعي المدني أبو المطرف ثقة من أوساط التابعين، مات بالشام سنة ثمان عشرة ومائة. قال العراقي: وهم من ظنه أحد العشرة، أي لأنه تيمي واسم جده عثمان وهذا خزاعي وجده كريز فحديثه مرسل (إلى قوله ((لا شريك له)) ) وكذا أخرجه البيهقي في كتاب الدعوات الكبير والسنن الكبرى

2624 – (9) وعن طلحة بن عبيد الله بن كريز، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما رؤي الشيطان يومًا هو فيه أصغر ـــــــــــــــــــــــــــــ (ج 5: ص 117) مرسلاً مبتورًا. قال ابن عبد البر: لا خلاف عن مالك في إرساله ولا أحفظ بهذا الإسناد مسندًا من وجه يحتج به وأحاديث الفضائل لا تحتاج إلى محتج به، وقد جاء مسندًا من حديث علي وابن عمر ثم أخرج حديث علي من طريق ابن أبي شيبة وجاء أيضًا عن أبي هريرة، أخرجه البيهقي. وقال الحافظ في التلخيص (ص 215) بعد ذكر هذا الحديث: مالك في الموطأ من حديث طلحة بن عبيد الله بن كريز مرسلاً (لأن طلحة تابعي) ورُوي عن مالك موصولاً، ذكره البيهقي وضعفه، وكذا ابن عبد البر في التمهيد، وله طريق أخرى موصولة رواه أحمد والترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ " خير الدعاء دعاء يوم عرفة " الحديث. وفي إسناده حماد بن أبي حميد وهو ضعيف، ورواه العقيلي في الضعفاء من حديث نافع عن ابن عمر بلفظ " أفضل دعائي ودعاء الأنبياء قبلي عشية عرفة لا إله إلا الله " الحديث. وفي إسناده فرج بن فضالة وهو ضعيف جدًا. قال البخاري: منكر الحديث. ورواه الطبراني في المناسك من حديث علي نحو هذا، وفي إسناده قيس بن الربيع، وأخرجه البيهقي (ج 5: ص 117) وإسحاق بن راهويه كما في المطالب العالية (ج 1: ص 245) عنه بزيادة " اللهم اجعل في قلبي نورًا " إلخ. وفي إسناده موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف وتفرد به عن أخيه عبد الله عن علي. قال البيهقي: ولم يدرك عبد الله عليًّا – انتهى. وأحاديث الباب تدل على مشروعية الاستكثار من الدعاء المذكور يوم عرفة وأنه خير ما يقال في ذلك اليوم. تنبيه: قال الزرقاني: وقع في تجريد الصحاح لرزين بن معاوية الأندلسي زيادة في أول هذا الحديث وهي: أفضل الأيام يوم عرفة وافق يوم الجمعة، وهو أفضل من سبعين حجة في غير يوم الجمعة وأفضل الدعاء، إلخ. وتعقبه الحافظ فقال: حديث لا أعرف حاله لأنه لم يذكر صحابيه ولا من خرجه بل أدرجه في حديث الموطأ هذا وليست هذه الزيادة في شيء من الموطآت، فإن كان له أصل احتمل أن يراد بالسبعين التحديد أو المبالغة في الكثرة، وعلى كل حال منهما ثبتت المزية – انتهى. وفي الهدي لابن القيم. ما استفاض على ألسنة العوام أن وقفة الجمعة تعدل ثنتين وسبعين حجة فباطل لا أصل له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من الصحابة والتابعين – انتهى. 2624- قوله (وعن طلحة بن عبيد الله) بضم العين مصغرًا (بن كريز) بفتح الكاف مكبرًا، الخزاعي التابعي المتقدم ذكره آنفًا، فالحديث مرسل (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما رُؤِيَ) بالبناء للمجهول (يومًا) أي في يوم (هو فيه أصغر) الجملة صفة يومًا أي أذل وأحقر، مأخوذ من الصغار بفتح الصاد المهملة وهو الهوان والذل، قاله القاري. وهكذا فسر الزرقاني وصاحب المحلى وغيرهم من الشراح. وقال الباجي: يحتمل وجهين، أن يريد الصغار والخزي

ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة. وتجاوز الله عن الذنوب العظام، إلا ما رؤي يوم بدر ". فقيل: ما رؤي يوم بدر؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ والذل، ويحتمل أن يريد به تضاؤله وصغر جسمه وأن ذلك يصيبه عند نزول الملائكة وإغضاب نزولها له – انتهى. (ولا أدْحَر) بسكون الدال وفتح الحاء وبالراء مهملات، اسم تفضيل من الدحر وهو الطرد والإبعاد أي أبعد عن الخير ومنه قوله تعالى: {من كل جانب دحورًا} (37: 8، 9) وقوله تعالى {اخرج منها مذؤمًا مدحورًا} (7: 18) وقال الطبري: الدحر الدفع بعنف على سبيل الإهانة والإذلال، ومنه: {فتلقى في جهنم ملومًا مدحورًا} (17: 39) أي مبعدًا من رحمة الله (ولا أحقر) أي أسوأ حالاً، قاله القاري. وقال الزرقاني: أي أذل وأهون عند نفسه لأنه عند الناس حقير أبدًا. وقال الباجي: يحتمل الوجهين المتقدمين في أصغر (ولا أغيظ) أي أشد غيظًا محيطًا بكبده وهو أشد الحنق (منه) أي من الشيطان نفسه (في يوم عرفة) وفي المصابيح ((يوم عرفة)) قال شارحه: نصب ظرفًا لأصغر أو لأغيظ أي الشيطان في عرفة أبعد مرادًا منه في سائر الأيام وتكرار المنفيات للمبالغة في المقام، قاله القاري (وما ذاك) أي وليس ما ذكر له (إلا لما يرى) كذا في جميع النسخ من المشكاة موافقًا لما في المصابيح. وكذا ذكره المنذري في الترغيب والطبري في القرى، وفي الموطأ ((إلا لما رأى)) أي بصيغة الماضي المعلوم، قال القاري: لما يرى أي لأجل ما يعلم، قيل: ويحتمل رؤية العين كما يجيء (من تنزل الرحمة) أي على الخاص والعام بحسب المراتب (وتجاوز الله عن الذنوب العظام) قال القاري: فيه إيماء على غفران الكبائر – انتهى. قال الزرقاني: ((قوله: ((إلا لما رأى من تنزل الرحمة)) أي الملائكة النازلين بها على الواقفين بعرفة وهو لعنه الله، لا يحب ذلك، وليس المراد أنه يرى الرحمة نفسها، ولعله رأى الملائكة تبسط أجنحتها بالدعاء للحاج، ويحتمل أنه سمع الملائكة تقول: غفر لهؤلاء أونحو ذلك فعلم أنهم نزلوا بالرحمة، ورؤيته الملائكة للغيظ لا للإكرام، قاله أبو عبد الملك البوني، وقال الباجي: يحتمل أنه يرى الملائكة ينزلون على أهل عرفة وقد عرف الشيطان أنهم لا ينزلون إلا عند الرحمة لمن ينزلون عليه، ولعل الملائكة يذكرون ذلك أما على وجه الذكر بينهم أو على وجه الإغاظة للشيطان، ويخلق الله للشيطان إدراكًا يدرك به نزولهم ويدرك به ذكرهم لذلك، ولعله يسمع منهم إخبارهم بأن الله تعالى قد تجاوز لأهل الموقف عن جميع ذنوبهم وعما يوصف بالعظم منها، ويحتمل أن ينص على ذلك، ويحتمل أن يخبر به عنه بخبر يفهم المعنى وإن لم ينص على نفس المعصية سترًا من الله تعالى على عباده المغفور لهم – انتهى. (إلا ما رُؤي) ببناء المجهول (يوم بدر) قال الطيبي: أي ما رُؤي الشيطان في يوم أسوأ حالاً منه في ما عدا يوم بدر أول غزوة وقع فيها القتال وكانت في ثانية الهجرة، وفي المصابيح ((إلا ما كان من يوم بدر)) (فقيل: ما رُؤي؟) كذا في بعض النسخ بصيغة المجهول، وفي بعضها ((ما رأى)) أي ببناء المعلوم كما في الموطأ والمصابيح، أي قالت الصحابة: وما رأى الشيطان يوم

قال: " فإنه قد رأى جبريل يزع الملائكة ". رواه مالك مرسلاً وفي شرح السنة بلفظ المصابيح. 2625 – (10) وعن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا كان يوم عرفة إن الله ينزل إلى السماء الدنيا، فيباهي بهم الملائكة، فيقول: انظروا إلى عبادي أتوني شعثًا ـــــــــــــــــــــــــــــ بدر حتى صار لأجله أسوأ حالاً؟ (قال) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فإنه) أي الشيطان، وفي الموطأ ((أما إنه)) (قد رأى جبريل) عليه السلام أي يوم بدر (يَزَع) بفتح الياء والزاي المعجمة فعين مهملة، وأصله يوزع من الوزع، أي يصف (الملائكة) للقتال ويمنعهم أن يخرج بعضهم عن بعض في الصف. قال الجزري: وزعه يزعه وزعًا فهو وازع إذا كفه ومنعه، ومنه حديث ((إن إبليس رأى جبريل عليه السلام يوم بدر يزع الملائكة)) أي يرتبهم ويسويهم ويصفهم للحرب فكأنه يكفهم عن التفرق والانتشار – انتهى. وقال الطيبي: يزعهم أي يكفهم فيحبس أولهم على آخرهم، ومنه الوازع وهو الذي يتقدم الصف فيصلحه ويقدم في الجيش ويؤخره، ومنه قوله تعالى {فهم يوزعون} (27: 17، 83) أي يرتبهم ويسويهم ويكفهم عن الانتشار ويصفهم للحرب – انتهى. وفيه فضل الحج وشهود عرفة، وفضل يوم بدر وسعة فضل الله على المذنبين (رواه مالك) في أواخر الحج عن إبراهيم بن أبي عبلة (من ثقات التابعين) عن طلحة بن عبيد الله ابن كريز (مرسلاً) حديث طلحة هذا ذكره المنذري في الترغيب (ج 2: ص 73) وقال: رواه مالك والبيهقي من طريقه وغيرهما وهو مرسل، وقال ابن عبد البر في التقصي: وهو مرسل عند جماعة رواة الموطأ. وقال في التمهيد: هكذا الحديث في الموطأ عند جماعة الرواة عن مالك، ورواه أبو النصر إسماعيل بن إبراهيم العجلي عن مالك عن إبراهيم بن أبي عبلة عن طلحة بن عبيد الله بن كريز عن أبيه، ولم يقل في هذا الحديث ((عن أبيه)) غيره، وليس بشيء - انتهى. قلت: عبيد الله بن كريز هذا لم يذكر في التهذيب ولا في الجرح والتعديل، وإنما ذكره ابن حبان في (ج 2) من الثقات، وذكره أيضًا البخاري في التاريخ الكبير (ق1/ج3/ ص 397) فقال: عبيد الله بن كريز الخزاعي سمع عبد الله بن معقل، رواه عنه ابنه طلحة في البصريين – انتهى. وهذا كما ترى لم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً. وقال الزرقاني: حديث طلحة هذا مرسل، وزعم ابن الحذاء أن الحديث من الغرائب التي لم يوجد لها إسناد ولا نعلم أحدًا أسنده، من قصوره الشديد، فقد وصله الحاكم في المستدرك عن أبي الدرداء، وقال القاري: رواه الديلمي متصلاً والبيهقي مرسلاً ومتصلاً (وفي شرح السنة) للبغوي (بلفظ المصابيح) المغاير لبعض ما هنا، وقد تقدم التنبيه على ذلك. 2625 – قوله (إلى السماء الدنيا) قال القاري: لعل وجه التخصيص زيادة اطلاع أهلها لأهل الدنيا (فيباهي بهم) أي بالواقفين بعرفة (الملائكة) أي ملائكة سماء الدنيا أو الملائكة المقربين أو جميع الملائكة، قاله القاري (فيقول انظروا) أي نظر اعتبار (إلى عبادي) الإضافة للتشريف (أتوني) قال القاري: أي جاءوا مكان أمري (شُعثًا) بضم الشين

غبرًا ضاجين من كل فج عميق، أشهدكم أني قد غفرت لهم، فيقول الملائكة: يا رب! فلان كان يرهق وفلان وفلانة. قال: يقول الله عز وجل: قد غفرت لهم ". قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " فما من يوم أكثر عتيقًا من النار من يوم عرفة ". رواه في شرح السنة. ـــــــــــــــــــــــــــــ المعجمة وسكون العين المهملة، جمع أشعث وهو المتفرق الشعر (غبرًا) جمع أغبر وهو الذي التصق الغبار بأعضائه، وهما حالان (ضاجين) بتشديد الجيم من ضج إذا رفع صوته أي رافعين أصواتهم بالتلبية. قال القاري: وفي نسخة يعني من المشكاة بتخفيف الحاء المهملة، وفي المشارق: أي أصابهم حر الشمس. وفي القاموس: ضحى برز للشمس وكسعى ورضى أصابته الشمس. وذكر المنذري حديث جابر هذا من رواية ابن حبان بلفظ ضاحين، وقال: وهو بالضاد المعجمة والحاء المهملة أي بارزين للشمس غير مستترين منها، يقال لكل من برز للشمس من غير شيء يظله ويكنه: إنه لضاح (من كل فج عميق) متعلق بأتوا أي من كل طريق بعيد (أشهدكم) أي أظهر لكم (فلان كان يرهق) بتشديد الهاء وفتحه ويخفف أي يتهم بالسوء وينسب إلى غثيان المحارم، ولفظ البيهقي ((فتقول الملائكة: إن فيهم فلانًا مرهقًا)) قال المنذري: المرهق هو الذي يغشي المحارم ويرتكب المفاسد (وفلان وفلانة) أي كذا وكذا يعني عاص وفاسق. وقال القاري: أي كذلك يفعلان المعاصي، وإنما قالوا ذلك تعجبًا منهم بعظم الجريمة واستبعادًا لدخول صاحب مثل هذه الكبيرة في عداد المغفورين. وقال التوربشتي: قول الملائكة هذا على سبيل الاستعلام ليعلموا هل دخل ذلك المرهق في جملتهم أم لا، كأنهم قالوا: إن فيهم فلانًا ومن شأنه كيت وكيت، فماذا صنعت به، أو يكون سؤالهم هذا من طريق التعجب، وفيه من الأدب عدم التصريح بالمعائب وعلى هذا النحو من المعنى يحمل قوله - صلى الله عليه وسلم - في غير هذا الحديث: إن فيهم فلانًا الخطاء. ولا يصح حمله على غير ذلك فإنهم أعلم بالله من أن يسبق عنهم مثل هذا القول على سبيل الإعلام والاعتراض (قد غفرت لهم) أي لهؤلاء أيضًا، وقد غفرت لهم جميعًا وهؤلاء منهم وهم قوم لا يشقى جليسهم، قال الطيبي: فإن الحج يهدم ما كان قبله (فما من يوم) قال الطيبي: جزاء شرط محذوف (أكثر) بالنصب خبر ما بمعنى ليس، وقيل بالرفع على اللغة التميمية (عتيقًا) تمييز (من النار) متعلق بعتيق (من يوم عرفة) متعلق بأكثر (رواه) أي البغوي (في شرح السنة) أي بسنده وأخرجه أيضًا ابن حبان وابن خزيمة في صحيحهما والإسماعيلي في معجمه وأبو يعلى والبزار وابن منيع وعبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن عساكر وقاسم بن أصبع في مسنده والحاكم والبيهقي وابن أبي الدنيا بألفاظ متقاربة مختصرًا ومطولاً وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (ج 3: ص 253) من رواية أبي يعلى والبزار بزيادة فضل عشر ذي الحجة في أوله، وقال: فيه محمد بن مروان العقيلي وثقه ابن معين وابن حبان، وفيه بعض كلام، وبقية رجاله رجال الصحيح – انتهى. وفي الباب عن أبي هريرة وابن عمر وأنس وعبد الله بن عمرو بن العاص ذكر أحاديثهم المنذري في الترغيب والطبري في القرى وعلي المتقي في الكنز والهيثمي في مجمع الزوائد.

(الفصل الثالث)

(الفصل الثالث) 2626 - (11) عن عائشة، قالت: كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الحمس، وكان سائر العرب يقفون بعرفة، فلما جاء الإسلام أمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي عرفات، فيقف بها ثم يفيض منها، فذلك قوله عز وجل {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2626 - قوله (كانت قريش ومن دان دينها) أي اتبعهم في دينهم ووافقهم عليه واتخذ دينهم له ديناً (يقفون بالمزدلفة) أي حين يقف الناس بعرفة. قال سفيان بن عيينة: وكان الشيطان قد استهواهم فقال لهم: إنكم إن عظَّمتم غير حرمكم استخف الناس بحرمكم فكانوا لا يخرجون من الحرم. رواه الحميدي في مسنده (ج 1: ص 255) (وكانوا) أي قريش (يسمون الحُمْس) بضم الحاء المهملة وسكون الميم بعدها سين مهملة جمع أحمس من الحماسة بمعنى الشدة. روى إبراهيم الحربي في غريب الحديث عن مجاهد قال: الحمس قريش ومن كان يأخذ مأخذها من القبائل كالأوس والخزرج وخزاعة وثقيف وغزوان وبني عامر وبني صعصعة وبني كنانة إلا بني بكر، والأحمس في كلام العرب الشديد، وسموا بذلك لما شددوا على أنفسهم، وكانوا إذا أهلوا بحج أو عمرة لا يأكلون لحمًا ولا يضربون وبرًا ولا شعرًا، وإذا قدموا مكة وضعوا ثيابهم التي كانت عليهم، وروى إبراهيم أيضًا من طريق عبد العزيز بن عمران المدني قال: سموا حمسًا بالكعبة لأنها حمساء في لونها، حجرها أبيض يضرب إلى السواد - انتهى. والأول أشهر وأكثر وأنه من التحمس وهو التشدد. قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: تحمس تشدد، ومنه حمس الوغى إذا اشتد. قال: كانت قريش إذا خطب إليهم الغريب اشترطوا عليه أن ولدها على دينهم فدخل في الحمس من غير قريش ثقيف وليث بن بكر وخزاعة وبنو عامر بن صعصعة يعني وغيرهم، وعرف بهذا المراد بهذه القبائل من كانت له من أمهاته قرشية لا جميع القبائل المذكورة، كذا في الفتح. وقيل سموا حمسًا لشجاعتهم، والحماسة الشجاعة، وفيه إشارة إلى أنهم كانوا يفتخرون بشجاعتهم وجلادتهم مميزين أنفسهم عن جماعتهم وأهل جلدتهم (وكان سائر العرب) يعني بقيتهم (يقفون بعرفة) على العادة القديمة والطريقة المستقيمة (أن يأتي عرفات) هي علم للموقف والتاء ليست للتأنيث قاله الزمخشري. وقال الكرماني: التنوين عوض من النون في الزيدين يعني أن التنوين للمقابلة لا للتمكن أي جيء به في مقابلة النون في جمع المذكر السالم، وقد قيل كل بقعة فيها تسمى عرفة فهي جمع حقيقة (ثم يفيض منها) قال الطيبي: الإفاضة الزحف والدفع في السير وأصلها الصب (من أفضت الماء إذا صببته بكثرة) فاستعير للدفع في السير، وأصله أفاض نفسه أو راحلته ثم ترك المفعول رأساً حتى صار كاللازم (فذلك قوله عز وجل: ثم أفيضوا) أي ادفعوا وارجعوا (من حيث أفاض الناس) أي عامتهم وهو عرفة. قال الترمذي: معنى هذا الحديث أن أهل مكة كانوا لا يخرجون من الحرم، وعرفات خارج من.

متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحرم فأهل مكة كانوا يقفون بالمزدلفة ويقولون نحن قطين الله يعنى سكان (بيت) الله، ومن سوى أهل مكة كانوا يقفون بعرفات فأنزل الله تعالى {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} (2: 199) والحمس هم أهل الحرم – انتهى. قال السندي: قوله {ثم أفيضوا} أي أيها القريش {من حيث أفاض الناس} أي غيركم وهو عرفات والمقصود أي ارجعوا من ذلك المكان، ولا شك أن الرجوع من ذلك المكان يستلزم الوقوف فيه، لأنه مسبوق به فلزم من ذلك الأمر بالوقوف من حيث وقف الناس وهو عرفة. قال الحافظ: دل هذا الحديث على أن المراد بقوله تعالى {ثم أفيضوا} الإفاضة من عرفة، وظاهر سياق الآية أنها الإفاضة من مزدلفة لأنها ذكرت بلفظة ثم بعد ذكر الأمر بالذكر عند المشعر الحرام، وأجاب بعض المفسرين بأن الأمر بالذكر عند المشعر الحرام بعد الإفاضة من عرفات التي سيقت بلفظ الخبر تنبيهًا على المكان الذي تشرع الإفاضة منه، فالتقدير: فإذا أفضتم اذكروا ثم لتكن إفاضتكم من حيث أفاض الناس لا من حيث كان الحمس يفيضون، أو التقدير: فإذا أفضتم من عرفات إلى المشعر الحرام فاذكروا الله عنده، ولتكن إفاضتكم من المكان الذي يفيض فيه الناس غير الحمس، ثم قال الحافظ: وأما الإتيان في الآية بقوله ثم فقيل هي بمعنى الواو وهذا اختيار الطحاوي، وقيل لقصد التأكيد لا لمحض الثرتيب، والمعنى فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام، ثم اجعلوا الإفاضة التي تفيضونها من حيث أفاض الناس لا من حيث كنتم تفيضون. قال الزمخشري: وموقع ثم ها هنا موقعها من قولك: أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم، فتأتى ثم لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم والإحسان إلى غيره فكذلك حين أمرهم بالذكر عند الإفاضة من عرفات بين لهم مكان الإفاضة فقال ((ثم أفيضوا)) لتفاوت ما بين الإفاضتين وأن إحداهما صواب والأخرى خطأ. قال الخطابي: تضمن قوله تعالى ((ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} (2: 199) الأمر بالوقوف بعرفة، لأن الإفاضة إنما تكون عند اجتماع قبله، وكذا قال ابن بطال وزاد: وبين الشارع مبتدأ الوقوف بعرفة ومنتهاه – انتهى. وروى البخاري من حديث عروة عن عائشة قالت: إن هذه الآية نزلت في الحمس {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} قالت: كانوا (أي الحمس) يفيضون من جمع فدفعوا إلى عرفات. قال الحافظ: المعنى أنهم أمروا أن يتوجهوا إلى عرفات ليقفوا بها ثم يفيضوا منها. قال: وعرف برواية عائشة أن المخاطب بقوله تعالى {أفيضوا} النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمراد به من كان لا يقف بعرفة من قريش وغيرهم. وروى ابن أبي حاتم وغيره عن الضحاك أن المراد بالناس هنا إبراهيم الخليل عليه السلام وعنه المراد به الإمام وعن غيره آدم، وقرئ في الشواذ الناسي بكسر السين بوزن القاضي والأول أصح، نعم الوقوف بعرفة موروث عن إبراهيم كما روى الترمذي وغيره من طريق يزيد بن شيبان قال: كنا وقوفًا بعرفة فأتى ابن مربع – الحديث، وقد تقدم. ولا يلزم من ذلك أن يكون هو المراد خاصة بقوله {من حيث أفاض الناس} بل هو الأعم من ذلك والسبب فيه ما حكته عائشة رضي الله عنها (متفق عليه) أخرجه البخاري في الحج وفي تفسير سورة البقرة، ومسلم في الحج وأخرجه أيضًا فيه

2627 – (12) وعن عباس بن مرداس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا لأمته عشية عرفة بالمغفرة فأجيب: " أني قد غفرت لهم ما خلا المظالم، فإني آخذ للمظلوم منه ". قال: " أي رب! إن شئت أعطيت المظلوم من الجنة وغفرت للظالم ". فلم يجب عشيته، فلما أصبح بالمزدلفة أعاد الدعاء، فأجيب إلى ما سأل. قال: فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو قال: تبسم. فقال له أبو بكر وعمر: بأبي أنت وأمي إن هذه لساعة ما كنت تضحك فيها ـــــــــــــــــــــــــــــ الترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة. قال البوصيري في الزوائد: الحديث موقوف ولكن حكمه الرفع لأنه في شأن نزوله. 2627- قوله (وعن عباس بن مرداس) بكسر الميم هو العباس بن مراداس بن أبي عامر أبو الهيثم ويقال أبو الفضل السلمي الشاعر الصحابي المشهور، أسلم قبل فتح مكة بيسير، وقيل: أسلم بعد يوم الأحزاب، وعداده في المؤلفة قلوبهم وحسن إسلامه، وشهد فتح مكة وحنينًا، وكان ممن حرم الخمر في الجاهلية ونزل ناحية البصرة. قال الحافظ في تهذيب التهذيب: روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنه ابنه كنانة وعبد الرحمن بن أنس السلمي، روى له أبو داود وابن ماجه حديثًا واحدًا في يوم عرفة – انتهى (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا لأمته) قال القاري: الظاهر لأمته الحاجين معه مطلقًا. لا مطلق الأمة فتأمل. وقال السندي: قوله " لأمته " أي لمن معه في حجه ذلك أو لمن حج من أمته إلى يوم القيامة أو لأمته مطلقًا من حج أو لم يحج (عشية عرفة) أي وقت الوقفة (بالمغفرة) أي التامة (فأجيب أني) أي بأني. قال السندي: بفتح الهمزة أي أجابه الله بأني قد غفرت أو بكسرها أي أجابه قائلاً: إني قد غفرت (ما خلا المظالم) أي ما عدا حقوق الناس جمع مظلمة بكسر اللام وفتحها وهي ما تطلبه من عند الظالم مما أخذه منك بغير حق، وهي في الأصل مصدر بمعنى الظلم، وقيل جمع مظلم بكسر اللام والمظالم أعم من أن تكون مالية وعرضية (فإني آخذ) بصيغة المتكلم أو الفاعل (للمظلوم منه) أي من الظالم إما بالعذاب وإما بأخذ الثواب إظهارًا للعدل (أعطيت) أي من عندك (المظلوم من الجنة) أي ما يرضيه منها أو بعض مراتبها العلية. وقال السندي: ظاهره أنه سأل مغفرة مظالم المؤمنين بخلاف مظالم أهل الذمة إلا أن يقال: قوله " من الجنة " أي مثلاً أو تخفيف العذاب والله تعالى أعلم الصواب (وغفرت للظالم) فضلاً (فلم يجب) بصيغة المجهول والضمير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (عشيته) أي في عشية عرفة، والتذكير باعتبار الزمان أو المكان. ويمكن أن يكون الضمير راجعًا إليه - صلى الله عليه وسلم -، فالإضافة لأدني ملابسة، قاله القاري (فلما أصبح بالمزدلفة) أي ووقف بها (أعاد الدعاء) أي المذكور (فأجيب إلى ما سأل) أي ما طلبه على وجه العموم. قيل إلى بمعني اللام ويمكن أن يكون لضمين معنى الرجوع والوصول. قال القاري: وكان العباس سمع هذه الأمور منه - صلى الله عليه وسلم - فرواها كأنه علمها (قال) أي العباس (فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو قال: تبسم) أو للشك من الراوي عن العباس لقوله قال (ما كنت تضحك فيها) أي من شأنها أن لا تضحك فيها، أو المراد في مثلها مما تبكي وتتضرع فيه

فما الذي أضحكك، أضحك الله سنك. قال: " إن عدو الله إبليس لما علم أن الله عز وجل قد استجاب دعائي وغفر لأمتي، أخذ التراب فجعل يحثوه على رأسه، ويدعو بالويل والثبور، فأضحكني ما رأيت من جزعه ". ـــــــــــــــــــــــــــــ وإلا لم ير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الساعة قبل، لأنه لم يحج إلا أول حجها، وإن قيل إنه - صلى الله عليه وسلم - قد حج قبل عهد الإسلام فأبو بكر وعمر لم يرياه، كذا في اللمعات (أضحك الله سنك) أي أدام الله لك السرور الذي سبب ضحكك (فجعل يحثوه على رأسه) أي يلقي التراب بكفيه على رأسه (ويدعو بالويل) أي العذاب (والثبور) بضم الثاء أي الهلاك يعني يقول: وا ويلاه ويا ثبوراه. قال الطيبي: كل من وقع في تهلكة دعا بالويل والثبور أي يا هلاكي وعذابي احضر فهذا أوانك. وقال الطبري: الويل الحزن والهلاك المشقة وكل من وقع في هلكة دعا بالويل، ومعنى النداء فيه يا حزني ويا عذابي ويا هلاكي احضر فهذا وقتك، فكأنه نادى الويل أن يحضره بما عرض له، والثبور هو الهلاك، وقد ثبر يثبر ثبورًا إذا هلك (فأضحكني ما رأيت من جزعه) أي مما صدر من فضل ربي على رغمه. قال القاري: وظاهر الحديث عموم المغفرة وشمولها حق الله وحق العباد إلا أنه قابل للتقييد بمن كان معه - صلى الله عليه وسلم - في تلك السنة (يعني المراد من الأمة هم الواقفون معه - صلى الله عليه وسلم - بعرفة) أو بمن قبل حجه بأن لم يرفث ولم يفسق. ومن جملة الفسق الإصرار على المعصية وعدم التوبة، ومن شرطها أداء حقوق الله الفائتة كالصلاة والزكاة وغيرهما وقضاء حقوق العباد المالية والبدنية والعرضية اللهم إلا أن يحمل على حقوق لم يكن عالمًا بها أو يكون عاجزًا عن أدائها. قال: ولا تغتر بكون هذا الحديث مجملاً مع اعتقاد أن فضل الله واسع، وقد قال تعالى {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (4: 48، 116) ?ولذا قال عليه الصلاة والسلام: أي رب إن شئت، فما شاء الله كان وما لم يشاء لم يكن ولا يسئل عما يفعل وهم يسئلون. ثم قال القاري بعد ذكر الكلام في هذا الحديث وما ورد في معناه من الروايات قال: بعضهم إذا تأملت ذلك كله علمت أنه ليس في هذه الأحاديث ما يصلح متمسكًا لمن زعم أن الحج يكفر التبعات لأن الحديث ضعيف، على أنه ليس نصًا في المدعى لاحتماله ومن ثمة قال البيهقي: يحتمل أن تكون الإجابة إلى المغفرة بعد أن يذيقهم شيئًا من العذاب دون ما يستحقه فيكون الخبر خاصًا في وقت دون وقت، يعني ففائدة الحج حينئذ التخفيف من عذاب التبعات في بعض الأوقات دون النجاة بالكلية، ويحتمل أن يكون عامًا ونص الكتاب يدل على أنه مفوض إلى مشيئته تعالى. وحاصل هذا الأخير أنه بفرض عمومه محمول على أن تحمله تعالى التبعات من قبيل {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وهذا لا تكفير فيه وإنما يكون فاعله تحت المشيئة فشتان ما بين الحكم بتكفير الذنوب وتوقفه على المشيئة ولذا قال البيهقي: فلا ينبغي لمسلم أن يغر نفسه بأن الحج يكفر التبعات فإن المعصية شؤم، وخلاف الجبار في أوامره ونواهيه عظيم. قال: وهذا لا ينافي

رواه ابن ماجة، وروى البيهقي في كتاب البعث والنشور نحوه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قول ابن المنذر فيمن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه: إن هذا عام يرجى أن يغفر له جميع ذنوبه صغائرها وكبائرها، وإنما الكلام في الوعد الذي لا يخلف – انتهى. (رواه ابن ماجة) أي بهذا اللفظ من طريق عبد القاهر بن السري السلمي عن عبد الله بن كنانة (بكسر كاف وبنونين بينهما ألف وأولاهما خفيفة) بن عباس بن مرداس السلمي عن أبيه كنانة عن جده عباس (وروى البيهقي في كتاب البعث والنشور نحوه) أي بمعناه، وكذا رواه في شعب الإيمان وفي السنن الكبرى (ج 5: ص 118) ورواه أيضًا عبد الله بن أحمد في زوائد المسند لأبيه (ج 4: ص 14) والطبراني في الكبير وأخرج أبو داود في كتاب الأدب من سننه طرفًا منه من الوجه الذي رواه ابن ماجة لكنهم قالوا حدثني ابن لكنانة بن العباس ولم يسموه عن أبيه عن جده عباس، وعبد الله بن كنانة بن عباس، قال الحافظ في التقريب في كليهما أنه مجهول. وذكر في تهذيب التهذيب في ترجمتهما عن البخاري أنه قال: لم يصح حديثه. وقال في ترجمة كنانة بعد ذكر كلام البخاري هذا: وذكره ابن حبان في الثقات، وذكره أيضًا في كتاب الضعفاء قال: حديثه منكر جدًا لا أدرى التخليط منه أو من ابنه ومن أيهما كان فهو ساقط الاحتجاج به – انتهى. وقال البوصيري في الزوائد: في إسناده عبد الله بن كنانة قال البخاري: لم يصح حديثه – انتهى. ولم أر من تكلم بجرح ولا توثيق – انتهى. والحديث سكت عنه أبو داود بعد رواية طرف منه من الوجه المذكور، ونقل المنذري في مختصر السنن (8 / 97) كلام ابن حبان وزاد: " لعظم ما أتى من المناكير عن المشاهير ". وقد ظهر بهذا كله أن حديث عباس هذا ضعيف لكن له شواهد يبلغ بها إلى درجة الحسن. قال في المواهب اللدنية بعد ذكر حديث عباس بن مرداس من رواية ابن ماجة: ورواه أبو داود من الوجه الذي رواه ابن ماجة ولم يضعفه. قال الزرقاني: أي سكت عليه فهو عنده صالح للحجة، وقد أخرجه الحافظ ضياء الدين المقدسي في الأحاديث المختارة مما ليس في الصحيحين من طرق وقد صنف الحافظ ابن حجر فيه كراسًا سماه " قوة الحجاج في عموم المغفرة للحجاج ". قال في أوله: إنه سئل عن حال هذا الحديث هل هو صحيح أو حسن أو ضعيف أو منكر أو موضوع؟ قال: فأجبت بأنه جاء من طرق أشهرها حديث عباس بن مرداس فإنه مخرج في مسند أحمد، وأخرج أبو داود طرفًا منه وسكت عليه، فهو عنده صالح. وعلى رأى ابن الصلاح ومن تبعه حسن، وعلى رأى الجمهور كذلك، لكن باعتبار انضمام الطرق الأخرى إليه، ثم قال الحافظ أثناء كلامه. حديث العباس بمفرده يدخل في حد الحسن على رأى الترمذي ولا سيما بالنظر إلى مجموع هذه الطرق لطرق ذكرها، قال: وأورده ابن الجوزي في الموضوعات من حديث ابن مرداس، وقال: فيه كنانة منكر الحديث جدًا لا أدرى التخليط منه أو من ولده. وهذا لا ينتهض دليلاً على أنه موضوع فقد اختلف قول ابن حبان في كنانة فذكره في الثقات وفي الضعفاء، وذكر ابن مندة أنه قيل إن له رؤية منه

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى الله عليه وسلم -، وأما ولده عبد الله بن كنانة ففيه كلام لابن حبان أيضًا وكل ذلك لا يقتضي وضعه، بل غايته أن يكون ضعيفًا ويتعضد بكثرة طرقه، وأورد حديث ابن عمر في الموضوعات أيضًا وقال: فيه عبد العزيز بن أبي رواد، تفرد به نافع عن ابن عمر، قال ابن حبان: كان يحدث على التوهم والحسبان فبطل الاحتجاج به وهو مردود فإنه لا يقضي أنه موضوع مع أنه لم ينفرد به، بل له متابع عند ابن حبان في كتاب الضعفاء، هذا كلام الحافظ ملخصًا وهو كلام متقن إمام في الفن فلا عليك ممن أطلق عليه اسم الضعيف الذي لا يحتج به. وقال الطبري بعد روايته حديث ابن عمر: إنه محمول بالنسبة إلى المظالم على من تاب وعجز عن وفائها مع العزم على أنه يوفي إذا قدر ما يمكن توفيته. وقد رواه أي حديث العباس بن مرداس البيهقي في السنن الكبرى بنحو رواية ابن ماجة وكذا الطبراني في الكبير وعبد الله أحمد في زوائد المسند لأبيه وابن عدي وصححه الضياء كما مر. وقد قالوا إن تصحيحه أعلى من تصحيح الحاكم. وقال البيهقي بعد أن أخرجه في كتاب البعث: هذا الحديث له شواهد كثيرة، فأخرجه عبد الرزاق والطبراني من حديث عبادة بن الصامت وأبو يعلى وابن منيع من حديث أنس وابن جرير وأبو نعيم وابن حبان من حديث ابن عمر والدارقطني وابن حبان من حديث أبي هريرة وابن مندة من حديث عبد الله بن زيد (ذكر رواياتهم الحافظ في مؤلفه بنحو حديث عباس بن مرداس) وارجع إلى تنزيه الشريعة لابن عراق (ج 2: ص 169، 170) والقول المسدد (ص 37 – 40) فإن صح بشواهده فقيه الحجة وإن لم يصح فنحن في غنية عن تصحيحه فقد قال الله تعالى {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وظلم بعضهم بعضًا دون الشرك فيدخل في الآية – انتهى. وهو حسن، وفي الحديث الصحيح: من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه، وهو مخصوص بالمعاصي المتعلقة بالحقوق ولا تسقط الحقوق أنفسها، فمن كان عليه صلاة أو صيام أو زكاة أو كفارة ونحوها من حقوق الله أو شيء من حقوق العباد لا تسقط عنه لأنها حقوق لا ذنوب، إنما الذنب تأخيرها فنفس التأخير يسقط بالحج لا هي نفسها، فلو أخره، بعد الحج تجدد إثم آخر، فالحج المبرور يسقط إثم المخالفة لا الحقوق؛ ولا يسقط حق الآدمي بالحج إجماعاً والله أعلم، كذا في شرح المواهب، وقال ابن عابدين: قد يقال بسقوط نفس الحق إذا مات قبل القدرة على أدائه سواء كان حق الله تعالى أو حق عباده وليس في تركته ما بقي به لأنه إذا سقط إثم التأخير ولم يتحقق منه إثم بعده فلا مانع من سقوط نفس الحق، أما حق الله تعالى فظاهر، وأما حق العبد فالله تعالى يرضي خصمه عنه كما مر في الحديث. ثم قال: اعلم أن تجويزهم تكفير الكبائر بالهجرة والحج مناف لنقل عياض الإجماع على أنه لا يكفرها إلا التوبة، ولا سيما على القول بتكفير المظالم أيضًا، بل القول بتكفير إثم المطل وتأخير الصلاة ينافيه لأنه كبيرة، وقد كفرها الحج بلا توبة، وكذا ينافيه عموم قوله تعالى {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وهو اعتقاد أهل الحق أن مات مصرًا على الكبائر كلها سوى الكفر فإنه قد يعفى بشفاعة أو بمحض الفضل، والحاصل كما في البحر أن المسألة ظنية فلا يقطع بتكفير الحج للكبائر من حقوقه تعالى فضلاً عن حقوق العباد والله تعالى أعلم – انتهى. وقال القاري بعد ذكر كلام البيهقي:

(5) باب الدفع من عرفة والمزدلفة

(5) باب الدفع من عرفة والمزدلفة (الفصل الأول) 2628 - (1) عن هشام بن عروة عن أبيه، قال: سئل أسامة بن زيد: كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير في حجة الوداع حين دفع؟ قال: كان يسير العنق فإذا وجد فجوة ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا يخفى أن الأحاديث الصحيحة الصريحة لا تكون إلا ظنية فما بالك بالأحاديث الضعيفة؟ ولا شك أن المسائل الاعتقادية لا تثبت إلا بالأدلة القطعية رواية ودراية، نعم يغلب على الظن رجاء عموم المغفرة لمن حج حجًا مبرورًا، وأين من يجزم بذلك في نفسه أو غيره وإن كان عالماً أو صالحاً في علو مقامه هنالك، فمن المعلوم أن غير المعصوم يجب أن يكون بين الخوف والرجاء - انتهى. (باب الدفع من عرفة) أي الرجوع منها (والمزدلفة) عطف على الدفع، أي والنزول فيها، وفي بعض النسخ " إلى المزدلفة " ويجوز عطفه على عرفة أي وباب الدفع من المزدلفة ويؤيده نسخة " ومن المزدلفة إلى منى ". 2628- قوله (عن هشام بن عروة) هو هشام بن عروة بن الزبير بن العوام أبو المنذر القرشي الأسدي المدني أحد تابعي المدينة المشهورين المكثرين من الحديث المعدودين في أكابر العلماء وجلة التابعين، ثقة ثبت حجة أمام فقيه، رأي ابن عمر ومسح رأسه ودعا له، وسهل بن سعد وجابر وأنسًا، وروى عن أبيه وعمه عبد الله بن الزبير وأخويه عبد الله وعثمان وامرأته فاطمة بنت المنذر بن الزبير وخلق، وروى عنه خلق كثير منهم شعبة ومالك بن أنس والسفيانان والحمادان. ولد سنة إحدى وستين ومائة، ومات ببغداد سنة خمس أو ست وأربعين ومائة، وله سبع وثمانون سنة (عن أبيه) عروة بن الزبير بن العوام الأسدي أحد الفقهاء السبعة وأحد علماء التابعين تقدم ترجمته (سئل أسامة بن زيد) ابن حارثة بن شراحيل الكلبي الصحابي المشهور، حِب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومولاه وابن حِبه زيد بن حارثة تقدم ترجمته، وخص بالسؤال لأنه كان رديفه - صلى الله عليه وسلم - من عرفة إلى المزدلفة، وزاد في رواية مالك والبخاري وأبي داود وغيرهم " وأنا جالس معه " ولمسلم " سئل أسامة وأنا شاهد أو قال: سألت أسامة بن زيد " ولم يتعرض أحد من الشراح لتسمية السائل (حين دفع) أي حين انصرف من عرفة إلى المزدلفة، سمي دفعًا لازدحامهم إذا انصرف فيدفع بعضهم بعضًا (قال) أي أسامة (كان يسير العَنَق) بفتح المهملة والنون آخره قاف هو السير الذي بين الإبطاء والإسراع، قال في المشارق: هو سير سهل في سرعة، وقال القزاز: العنق سير سريع، وقيل المشي الذي يتحرك به عنق لدابة، وفي الفائق العنق الخطو الفسيح، وانتصب على المصدر المؤكد من لفظ الفعل كذا في الفتح، وقال السيوطي: نصبه على المصدر النوعي كرجعت القهقري. وقال القاري: انتصابه على المصدرية انتصاب القهقري أو الوصفية أي يسير السير العنق (فإذا وجد فجوة)

نص. متفق عليه. 2629 – (2) وعن ابن عباس، أنه دفع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة، فسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وراءه زجرًا شديدًا وضربًا للإبل، فأشار بسوطه إليهم، ـــــــــــــــــــــــــــــ بفتح الفاء وسكون الجيم فواو مفتوحة، والمكان المتسع بين الشيئين والجمع فجوات بفتحتين وفِجاء بكسر الفاء والمد، ورواه بعض الرواة في الموطأ بلفظ " فرجة " بضم الفاء وسكون الواو وهو بمعنى الفجوة (نص) بفتح النون وتشديد الصاد المهلة فعل ماض وفاعله النبي - صلى الله عليه وسلم - أي أسرع، قال أبو عبيد: النص تحريك الدابة حتى يستخرج به أقصى ما عندها، وأصل النص منتهى الأشياء وغايتها ومبلغ أقصاها، ومنه نصصت الشيء رفعته. قال الشاعر: ونص الحديث إلى أهله _ ... فإن الوثيقة في نصه أي أرفعه إليهم وأنسبه، ثم استعمل في ضرب سريع من السير، وقال هشام بن عروة راوي الحديث كما في رواية البخاري وغيره: النص فوق العنق أي أرفع منه في السرعة. قال النووي: هما نوعان من إسراع السير وفي العنق نوع من الرفق. قال الطبري: وفي هذا دلالة على أن السكينة المأمور بها في الحديث بعده إنما هي من أجل الرفق بالناس، فإن لم يكن زحام سار كيف شاء، وذكر العيني عن الطبري أنه قال: الصواب في السير في الإفاضتين جميعًا ما صحت به الآثار إلا في وادي محسر فإنه يوضع لصحة الحديث بذلك فلو أوضع أحد في مواضع العنق أو العكس لم يلزمه شيء لإجماع الجميع على ذلك غير أنه يكون مخطئًا طريق الصواب. وقال ابن خزيمة: في هذا الحديث دليل على أن الحديث الذي رواه ابن عباس عن أسامة (عند أبي داود وغيره) أنه قال: فلما رأيت ناقته رافعة يديها حتى أتى جمعًا. محمول على حال الزحام دون غيره، ذكره الحافظ. وقال ابن عبد البر: ليس في هذا الحديث أكثر من معرفة كيفية السير في الدفع من عرفة إلى المزدلفة وهو مما يلزم أتمة الحاج فمن دونهم فعله لأجل الاستعجال للصلاة لأن المغرب لا تصلى إلا مع العشاء بالمزدلفة أي فيجمع بين المصلحتين من الوقار والسكينة عند الزحمة ومن الإسراع عند عدمها لأجل الصلاة، فيه أن السلف كانوا يحرصون على السؤال عن كيفية أحواله - صلى الله عليه وسلم - في جميع حركاته وسكونه ليقتدوا به في ذلك (متفق عليه) أخرجه البخاري في الحج وفي الجهاد وفي المغاري ومسلم في الحج، وأخرجه أيضًا أحمد (ج 5: ص 205، 210) ومالك وأبو داود والنسائي وابن ماجة والحميدي (ج 1: ص 248) والدارمي وأبو داود الطيالسي وابن خزيمة في صحيحة وأبو عوانة وابن جرير والبيهقي (ج 5: ص 119) . 2629- قوله (دفع مع النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي أفاض معه (يوم عرفة) أي من عرفة إلى المزدلفة (زَجْرًا) بفتح الزاي وسكون الجيم بعدها راء أي صياحًا لحث الإبل وسوقًا لها برفع الأصوات (فأشار بسوطه إليهم) ليتوجهوا إليه ويسمعوا

وقال: " أيها الناس عليكم بالسكينة، فإن البر ليس بالإيضاع ". رواه البخاري. 2630 – (3) وعنه، أن أسامة بن زيد كان ردف النبي - صلى الله عليه وسلم - من عرفة إلى المزدلفة، ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى، فكلاهما قال: لم يزل النبي - صلى الله عليه وسلم - يلبي حتى رمى جمرة العقبة. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله (عليكم بالسكينة) أي في السير، والمراد السير بالرفق وعدم المزاحمة، يعني لازموا الطمأنينة والرفق وعدم المزاحمة في السير، وعلل ذلك بقوله (فإن البر) أي الخير (ليس بالإيضاع) الإيضاع الإسراع وحمل الخيل والركاب على سرعة السير، يعني الإسراع ليس من البر إذا كثر الناس في الطريق، فإن الإسراع في مثل هذه الحالة أي عند ازدحام الناس في الطريق يؤذيهم بصدمة الدواب والرجال، ولا خير في هذا بل الخير في الذهاب على السكون في مثل هذه الحالة. وقال الحافظ: قوله ((فإن البر ليس بالإيضاع)) أي السير السريع، ويقال هو سير مثل الخبب فبين - صلى الله عليه وسلم - أن تكلف الإسراع في السير ليس من البر أي مما يتقرب به، ومن هذا أخذ عمر بن عبد العزيز قوله لما خطب بعرفة: ليس السابق من سبق بعيره وفرسه ولكن السابق من غفر له. وقال المهلب: إنما نهاهم عن الإسراع إبقاء عليهم لئلا يجحفوا بأنفسهم مع بعد المسافة. وقيل إنما قال - صلى الله عليه وسلم - ذلك أي قوله ((عليكم بالسكينة)) في ذلك الوقت الذي لم يجد فجوة فلا ينافي الحديث السابق. وقال القاري: حاصل ما قال - صلى الله عليه وسلم - أن المسارعة إلى الخيرات والمبادرة إلى المبرات مطلوبة لكن لا على وجه يجر إلى المكروهات وما يترتب عليه من الأذيات، فلا تنافي بينه وبين الحديث السابق (رواه البخاري) وكذا البيهقي (ج 5: ص 119) وأخرجه أيضًا أحمد (ج 1: ص 251، 269، 353) وأبو داود والبيهقي بنحوه. 2630- قوله (وعنه) أي عن ابن عباس (أن أسامة بن زيد كان ردف النبي - صلى الله عليه وسلم -) بكسر الراء وسكون الدال وهو الراكب خلف الراكب كالرديف والمرتدف (ثم أردف الفضل) أي ابن عباس يعني جعله رديفه (فكلاهما) كذا في جميع النسخ من المشكاة، وفي البخاري ((قال (أي ابن عباس) فكلاهما)) أي الفضل بن عباس وأسامة بن زيد (قال) الضمير راجع للفظ فإن ((كلا)) مفرد لفظًا ومثنى معنى وهو أفصح من أن يقال فكلاهما قالا، قال تعالى {كلتا الجنتين آتت أكلها} (18: 33) أو المعنى كل واحد منهما قال (لم يزل النبي - صلى الله عليه وسلم - يلبي حتى رمى جمرة العقبة) أي شرع في رمي الجمرة أو فرغ منه قولان، ويؤيد الثاني ما وقع في رواية ابن خزيمة كما سيأتي: فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة، يكبر مع كل حصاة، ثم قطع التلبية مع آخر حصاة. ويؤيد الأول ما رواه البيهقي بإسناده عن عبد الله قال: ((رمقت النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة بأول حصاة)) . قال الحافظ: زاد ابن أبي شيبة من طريق علي بن الحسين عن ابن عباس عن الفضل في هذا الحديث ((فرماها سبع حصيات يكبر مع كل حصاة)) . قال الحافظ: وفي هذا الحديث يعني حديث ابن عباس الذي نحن في شرحه أن التلبية تستمر إلى رمي الجمرة يوم النحر وبعدها يشرع الحاج في التحلل، وروى ابن المنذر بإسناد صحيح أنه كان يقول: التلبية شعار الحج فإن كنت حاجًا فلب حتى بدأ حلك وبدء حلك أن ترمي جمرة العقبة. وروى سعيد بن

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ منصور من طريق ابن عباس قال: حججت مع عمر إحدى عشرة حجة وكان يلبي حتى يرمي الجمرة، وباستمرارها قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأحمد وإسحاق وأتباعهم، وقالت طائفة: يقطع المحرم التلبية إذا دخل الحرم وهو مذهب ابن عمر لكن كان يعاود التلبية إذا خرج من مكة إلى عرفة، وقالت طائفة: يقطعها إذا راح الموقف، رواه ابن المنذر وسعيد بن منصور بأسانيد صحيحة عن عائشة وسعد بن أبي وقاص وعلي، وبه قال مالك وقيده بزوال الشمس يوم عرفة، وهو قول الأوزاعي والليث، وعن الحسن البصري مثله لكن قال: إذا صلى الغداة يوم عرفة وهو بمعنى الأول، وقد روى الطحاوي بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن يزيد قال: حججت مع عبد الله فلما أفاض إلى جمع جعل يلبي فقال رجل: أعرابي هذا؟ فقال عبد الله: أنسي الناس أم ضلوا؟ وأشار الطحاوي إلى أن كل من روى عنه ترك التلبية من يوم عرفة أنه تركها للاشتغال بغيرها من الذكر لا على أنها لا تشرع، وجمع بذلك بين ما اختلف من الآثار، والله اعلم. واختلفوا أي الأولون: هل يقطع التلبية مع رمي أول حصاة أو عند تمام الرمي؟ فذهب إلى الأول الجمهور، وإلى الثاني أحمد وبعض أصحاب الشافعي، ويدل لهم ما روى ابن خزيمة من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن الحسين عن ابن عباس عن الفضل قال: أفضت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من عرفات فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة يكبر مع كل حصاة ثم قطع التلبية مع آخر حصاة، قال ابن خزيمة: هذا حديث صحيح مفسر لما أبهم في الروايات الأخرى. وأن المراد بقوله حتى رمى جمرة العقبة أي أتم رميها - انتهى كلام الحافظ. قال الشوكاني: والأمر كما قال ابن خزيمة، فإن هذه الزيادة مقبولة خارجة من مخرج صحيح غير منافية للمزيد وقبولها متفق عليه - انتهى. قلت: لكن قال البيهقي في السنن الكبرى (ج 5: ص 137) بعد ذكر رواية جابر بلفظ ((فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها)) تكبيرة مع كل حصاة كالدلالة على قطعه التلبية بأول حصاة، وكذا قال في معرفة السنن. قال: وقوله ((يلبي حتى رمى الجمرة)) أراد به حتى أخذ في رمي الجمرة وأما ما في رواية الفضل من الزيادة فإنها غريبة أوردها ابن خزيمة واختارها وليست في الروايات المشهورة عن ابن عباس عن الفضل بن عباس - انتهى. واعترض عليه ابن التركماني فقال: الغريب إذا صح سنده يعمل به. وقد أخرج ابن حزم هذا الحديث في كتاب حجة الوداع بسند جيد من حديث أبي الزبير عن أبي معبد مولى ابن عباس (1) . عن الفضل، ولفظه ((ولم يزل عليه السلام يلبي حتى أتم رمي جمرة العقبة)) ، وهذا صريح وهو يقوي الرواية التي رواها ابن خزيمة واختارها. ويدل على أنها ليست بغريبة، والعجب من البيهقي كيف يترك هذا الصريح ويستدل بقوله ((يكبر)) على قطع التلبية لأول حصاة مع أن التكبير لا يمنع التلبية، إذ الحاج له أن يكبر ويلبي ويهلل، وقد بين ذلك ابن مسعود بقوله ((فما ترك التلبية حتى رمى الجمرة إلا أن يخلطها بتكبير أو تهليل)) . وقال أبو عمر في التمهيد: قال أحمد وإسحاق وطائفة من أهل النظر والأثر: لا يقطع التلبية حتى يرمي جمرة العقبة بأسرها.

_ (1) كذا وكأنه سقط ((عن ابن عباس)) .

متفق عليه. 2631 – (4) وعن ابن عمر، قال: جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - المغرب والعشاء بجمع، كل واحدة منهما بإقامة، ـــــــــــــــــــــــــــــ قالوا: وهو ظاهر الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يزل يلبي حتى رمى الجمرة، ولم يقل أحد من رواة هذا الحديث ((حتى رمى بعضها)) على أنه قد قال بعضهم في حديث عائشة: ثم قطع التلبية في آخر حصاة. وفي الإشراف لابن المنذر: وروى بعض أصحابنا ممن يقول بظاهر الأخبار خبر ابن عباس، ثم قال: قطع التلبية مع آخر حصاة – انتهى كلام ابن التركماني. وقال الشنقيطي: الأظهر أنه يقطع التلبية عند الشروع في رمي العقبة وأن قوله ((حتى رمى جمرة العقبة)) يراد به الشروع في رميها لا الانتهاء منه، ومن القرائن الدالة على ذلك ما ثبت في الروايات الصحيحة من التكبير مع كل حصاة، فظرف الرمي لا يستغرق غير التكبير مع الحصاة لتتابع رمي الحصيات، وقال بعد ذكر قول ابن خزيمة المتقدم: وعلى تقدير صحة الزيادة المذكورة لا ينبغي العدول عنها. تنبيه: ما حكى الحافظ وابن عبد البر وغيرهما من الشراح ونقلة المذاهب كالنووي والعيني عن الإمام أحمد من قطع التلبية عند انتهاء الرمي والفراغ منه هي رواية عنه مرجوحة، لأن عامة فروعه مصرحة بقطعها مع أول حصاة موافقًا للجمهور، ففي نيل المآرب: تسن التلبية من حين الإحرام إلى أول الرمي أي رمي جمرة العقبة – انتهى. وقريب منه ما في الروض المربع. وقال في العدة شرح العمدة: ويقطعها عند أول حصاة يرميها لأنه قد روى في بعض ألفاظ حديث ابن عباس ((فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة قطع عند أول حصاة)) . رواه حنبل في المناسك – انتهى. وفي المغني والشرح الكبير تحت قول الخرقي: ويقطع التلبية عند ابتداء الرمي، وممن قال يلبي حتى يرمي الجمرة ابن مسعود وابن عباس وميمونة، وبه قال عطاء وطاوس وسعيد بن جبير والنخعي والثوري والشافعي وأصحاب الرأي لرواية الفضل بن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة وكان ردفيه يومئذ، وهو أعلم بحاله من غيره، وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مقدم على ما خالفه. ويستحب قطع التلبية عند أول حصاة للخبر، وفي بعض ألفاظه ((حتى رمى جمرة العقبة، قطع عند أول حصاة)) ، رواه حنبل في المناسك. وهذا بيان يتعين الأخذ به. وفي رواية من روى ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكبر مع كل حصاة)) دليل على أنه لم يكن يلبي – انتهى مختصرًا. (متفق عليه) وأخرجه أيضًا أحمد (ج 1: ص 214) ورواه هو مرارًا وأبو داود والترمذي والنسائي بألفاظ مختصرًا ومطولاً وارجع إلى جامع الأصول (ج 4: ص 88) . 2631 – قوله (جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - المغرب والعشاء بجمع) أي بالمزدلفة في وقت العشاء (كل واحدة منهما) بالرفع على الجملة الحالية وبالنصب على البدلية (بإقامة) قال القاري: أي على حدة، وبه قال زفر، واختاره الطحاوي وغيره من علمائنا. قلت: ورجحه ابن الهمام وقال الطحاوي بعد اختياره هذا القول: وهو خلاف قول أبي حنيفة وأبي يوسف

ولم يسبح بينهما ولا على إثر كل واحدة منهما. رواه البخاري. 2632 – (5) وعن عبد الله بن مسعود، قال: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة إلا لميقاتها، إلا صلاتين: صلاة المغرب والعشاء بجمع، ـــــــــــــــــــــــــــــ ومحمد، وذلك أنهم يذهبون في الجمع بين الصلاتين بمزدلفة إلى أن يجعلوا ذلك بأذان وإقامة واحدة – انتهى. ولم يذكر في حديث ابن عمر هذا الأذان وهو ثابت في حديث جابر وفي حديث ابن مسعود فلا بد من القول به وقد تقدم البسط في ذلك في شرح حديث جابر الطويل (ولم يسبح بينهما) أي لم يتنفل بين صلاة المغرب والعشاء (ولا على إِثْر كل واحدة منهما) بكسر الهمزة وسكون المثلثة بمعنى أثر بفتحتين أي ولا عقب كل واحدة منهما، لا عقب الأولى ولا عقب الثانية، وهذا تأكيد بالنظر إلى الأولى تأسيس بالنظر إلى الثانية فليتأمل قاله السندي (رواه البخاري) وكذا النسائي والبيهقي (ج 5: ص 120) وأخرج مسلم معناه، ولذا ذكره الحافظ عبد الغني في عمدته في ما اتفق عليه الشيخان، فالحديث متفق عليه. 2632 – قوله (ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة إلا لميقاتها) أي في وقتها، وفي رواية ((ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة لغير ميقاتها)) (إلا صلاتين صلاة المغرب) نصبه على البدلية أو بتقدير أعني أي أعني بهما صلاة المغرب (والعشاء يجمع) قال القاري: أي صلاة المغرب في وقت العشاء أي وصلاة الظهر والعصر بعرفة فإنه صلى العصر في وقت الظهر ولعله روى هذا الحديث بمزدلفة، ولذا اكتفى عن ذكر الظهر والعصر، فلا بد من تقديرهما أو ترك ذكرهما لظهورهما عند كل أحد، إذا وقع ذلك الجمع في مجمع عظيم في النهار على رؤوس الأشهاد فلا يحتاج إلى ذكره في الاستشهاد بخلاف جمع المزدلفة، فإنه بالليل، فاختص بمعرفته بعض الأصحاب، والله تعالى اعلم. والحاصل أن في العبارة مسامحة وإلا فلا يصح قوله ((إلا الصلاتين)) المراد بهما المغرب والعشاء سواء اتصل الاستثناء كما هو ظاهر الأداة أو انقطع كما بنى عليه ابن حجر البناء، فإن صلاة العشاء في ميقاتها المقدر شرعًا إجماعًا – انتهى كلام القاري. وقال الولي العراقي: قوله ((صلاة المغرب والعشاء بجمع)) أي وكذا بعرفات أيضًا في الظهرين كما عند النسائي (أي في باب الجمع بين الظهر والعصر بعرفة) عن ابن مسعود ((ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة إلا لوقتها إلا بجمع وعرفات)) فلم يحفظ راوي هذه الرواية ذكر عرفات وحفظه غيره، والحافظ حجة على الناسي – انتهى. وحينئذ فالمراد بقوله ((إلا صلاتين)) المغرب بمزدلفة فإنها أخرت والعصر بعرفة فإنها قدمت، فهاتان الصلاتان قد وقع فيهما التحويل عن وقتي أدائهما المعهودين في غير هذا اليوم حقيقة ثم استطرد بذكر الفجر لأنه متحولاً أيضًا عن وقته المستحب المعتاد في سائر الأيام وإن كان لم يتحول عن وقته الأصلي. وقال السندي في حاشية النسائي: هذا الحديث من مشكلات الأحاديث وقد

............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ تكلمت عليه في حاشية صحيح البخاري (في باب من يصلي الفجر بجمع) والصحيح في معناه أن مراده ما رأيته - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة لغير وقتها المعتاد لقصد تحويلها عن وقتها المعتاد وتقريرها في غير وقتها المعتاد لما في صحيح البخاري من روايته رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن هاتين الصلاتين حولتا عن وقتهما في هذا المكان. وهذا معنى وجيه، ويحمل قوله ((قبل ميقاتها)) على هذا على الميقات المعتاد، ويقال إنه غلس تغليسًا شديدًا يخالف التغليس المعتاد، لا أنه صلى قبل أن يطلع الفجر فقد جاء في حديثه وحديث غيره أنه صلى بعد طلوع الفجر، وعلى هذا المعنى لا يرد شيء سوى الجمع بعرفة، ولعله كان يرى ذلك للسفر، والله أعلم – انتهى. واستدل الحنفية بحديث ابن مسعود هذا على ترك الجمع بين الصلاتين في غير يوم عرفة وجمع، وأجاب المجوزون بأن من حفظ حجة على من لم يحفظ، وقد ثبت الجمع بين الصلاتين من حديث ابن عمر وابن عباس وغيرهم وتقدم في موضعه ما فيه كفاية، وأيضًا فالاستدلال به إنما هو من طريق المفهوم وهم لا يقولون به. وأما من قال به فشرطه أن لا يعارضه منطوق، وأيضًا فالحصر فيه ليس على ظاهره لإجماعهم على مشروعية الجمع بين الظهر والعصر بعرفة، وكذا في الفتح. وقال النووي: قد يحتج أصحاب أبي حنيفة بهذا الحديث على منع الجمع بين الصلاتين في السفر، لأن ابن مسعود من ملازمي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد أخبر أنه ما رآه يجمع إلا في هذه الليلة، ومذهب الجمهور جواز الجمع في جميع الأسفار المباحة التي يجوز فيها القصر. والجواب عن هذا الحديث أنه مفهوم وهم لا يقولون به ونحن نقول بالمفهوم ولكن إذا عارضه منطوق قدمناه على المفهوم، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بجواز الجمع ثم هو مترك الظاهر بالإجماع في صلاتي الظهر والعصر بعرفات – انتهى. وقال السندي في حاشية البخاري (ج 1: ص 201) : قد استدل به من ينفي جمع السفر كعلمائنا الحنفية، ورده النووي بأنه مفهوم وهم لا يقولون به ونحن نقول به إذا لم يعارضه منطوق كما ها هنا وتعقبه العيني فقال: لا نسلم أنهم لا يقولون بالمفهوم وإنما لا يقولون بالمفهوم المخالف – انتهى. قلت: (قائله السندي) وهذا عجيب منهما فإن استدلال الحنفية بصريح النفي الذي هو منطوق لا بالإثبات الذي يدل عليه الاستثناء بالمفهوم، ولو كان بالإثبات من باب المفهوم المخالف بالاتفاق فلم يكن لقول العيني وجه، بقي أن الاستدلال به فرع تصور معناه ومعناه ها هنا لا يخلو عن خفاء، إذ ظاهره يفيد أنه صلى الفجر قبل وقته، وهو مخالف للإجماع وقد جاء خلافه في روايات حديث ابن مسعود أيضًا وفي حديث جابر. أجيب بأن المراد أنه صلى قبل الوقت المعتاد بأن غلس، ورد بأن هذا يقتضي أن يكون المعتاد الإسفار وهو خلاف ما يفيده تتبع الأحاديث الصحاح الواردة في صلاة الفجر، أجيب بأن المراد التغليس الشديد، والحاصل أنه صلى يومئذ أول ما طلع الفجر والمعتاد أنه كان يصلي بعد ذلك بشيء، فيرد أنها صارت حينئذ لوقتها فكيف يصح عدها لغير وقتها حتى تستثني من قوله: " ما رأيت " إلخ. أجيب بأن المراد بقوله لغير وقتها المعتاد، قلت: فيلزم من

وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها. متفق عليه. 2633 - (6) وعن ابن عباس، قال: أنا ممن قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة المزدلفة في ضعفة أهله. ـــــــــــــــــــــــــــــ اعتبار العموم فيه أنه - صلى الله عليه وسلم - ما صلى صلاة في غير الوقت المعتاد أبدًا لا بتقديم شيء ولا بتأخيره، لا سفرًا ولا حضرًا سوى هاتين الصلاتين بل كان دائمًا يصلي في وقت واحد، وهذا خلاف ما يعرفه كل أحد بالبديهة وخلاف ما يفيده تتبع الأحاديث وخلاف ما أول به علماؤنا جمع السفر من الجمع فعلاً، فإنه لا يكون إلا بتأخير الصلاة الأولي إلى آخر الوقت، فلزم كونها في الوقت الغير المعتاد، ثم هو مشكل بجمع عرفة أيضًا، وحينئذ فلا بد من القول بخصوص هذا الكلام بذلك السفر مثلاً. ويبقى بعد جمع عرفة فيقال لعله ما حضر ذلك الجمع فما رأى. فلا ينافي قوله ما رأيت، أو يقال لعله ما رأى صلاة خارجة عن الوقت المعتاد غير هاتين الصلاتين فأخبر حسب ما رأى ولا اعتراض عليه ولا حجة للقائلين بنفي الجمع، والأحسن منه ما يشير إليه كلام البعض. ثم ذكر السندي ما تقدم من كلامه وتوجيهه في حاشيته على النسائي (وصلى الفجر يومئذ) أي بمزدلفة (قبل ميقاتها) أي قبل وقتها المعتاد فعلها فيه في الحضر لا أنه أوقعها قبل طلوع الفجر كما يتبادر من ظاهر اللفظ، ووقتها المعتاد أنه كان - صلى الله عليه وسلم - إذا أتاه المؤذن بطلوع الفجر صلى ركعتي الفجر في بيته ثم خرج فصلى الصبح، وأما بمزدلفة فكان الناس مجتمعين والفجر نصب أعينهم فبادر بالصلاة أول ما بزغ حتى أن بعضهم كان لم يتبين له طلوعه. قال النووي: المراد به قبل وقتها المعتاد لا قبل طلوع الفجر، لأن ذلك ليس بجائز بإجماع المسلمين والغرض أن استحباب الصلاة في أول الوقت في هذا اليوم أشد وآكد، ومعناه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان في غير هذا اليوم يتأخر عن أول طلوع الفجر إلى أن يأتيه بلال، وفي هذا اليوم لم يتأخر لكثرة المناسك فيه فيحتاج إلى المبالغة في التبكير ليتسع له الوقت. قال الحافظ: ولا حجة فيه لمن منع التغليس بصلاة الصبح لأنه ثبت عن عائشة وغيرها كما تقدم في المواقيت التغليس بها، بل المراد هنا أنه كان إذا أتاه المؤذن بطلوع الفجر صلى ركعتي الفجر في بيته ثم خرج فصلى الصبح مع ذلك بغلس، وأما بمزدلفة فكان الناس مجتمعين والفجر نصب أعينهم فبادر بالصلاة أول ما بزغ حتى أن بعضهم كان لم يتبين له طلوعه وهو بين في رواية إسرائيل (عند البخاري) حيث قال: ثم صلى الفجر حين طلع الفجر قائل يقول: طلع الفجر وقائل يقول: لم يطلع (متفق عليه) . وأخرجه أيضًا أحمد (ج1: ص 384، 426) وأبو داود والنسائي والبيهقي (ج 5: ص 124) . 2633- قوله (أنا ممن قدم النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي قدمه (ليلة المزدلفة) أي إلى منى (في ضعفة أهله) بفتح الضاد المعجمة والعين المهملة جمع ضعيف أي في الضعفاء من أهله وهم النساء والصبيان والخدم والمشائخ العاجزون وأصحاب الأمراض، وقال ابن حزم: الضعفة هم الصبيان والنساء فقط. والحديث يرد عليه لأنه أعم من ذلك. قال العيني: يدخل فيه المشائخ

متفق عليه. 2634 – (7) وعن الفضل بن عباس، وكان رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - ـــــــــــــــــــــــــــــ العاجزون لأنه روى عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم ضعفة بني هاشم وصبيانهم بليل، رواه ابن حبان في الثقات وقوله " ضعفة بني هاشم " أعم من النساء والصبيان والمشائخ العاجزين وأصحاب الأمراض لأن العلة خوف الزحام عليهم – انتهى. قلت: ويؤيده رواية الطحاوي عن عطاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للعباس ليلة المزدلفة: اذهب بضعفائنا ونسائنا فليصوا الصبح بمنى وليرموا جمرة العقبة قبل أن تصيبهم دفعة الناس، قال: فكان عطاء يفعله بعد ما كبر وضعف، ولأبي عوانة من طريق أبي الزبير عن ابن عباس كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقدم العيال والضعفة إلى منى من المزدلفة. والحديث دليل على جواز الإفاضة من مزدلفة إلى منى في الليل قبل طلوع الفجر وقبل الوقوف بالمشعر الحرام للنساء والصبيان والضعفة من الرجال ولكن لا يجزئ في أول إجماعًا. قال ابن قدامة: لا بأس بتقديم الضعفة والنساء أي بعد نصف الليل، وممن كان يقدم ضعفة أهله عبد الرحمن بن عوف وعائشة وبه قال عطاء والثوري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، ولا نعلم فيه مخالفًا، ولأن فيه رفقًا بهم ودفعًا لمشقة الزحام عنهم وإقتداء بفعل نبيهم - صلى الله عليه وسلم - – انتهى. وأعلم أن ها هنا مسألتان خلافيتان اشتبهت إحداهما بالأخرى على شراح الحديث ونقلة المذاهب، إحداهما الوقوف بالمزدلفة بعد طلوع الفجر من صبيحة يوم النحر، والثانية المبيت بها ليلة النحر وربما أطلقت شراح الحديث وأصحاب الفروع إحداهما على الأخرى ولا يخفى ذلك على من طالع شرحي البخاري للحافظ والعيني وشرحي مسلم للنووي والأبي، وشرحي الموطأ للباجي والزرقاني والنيل للشوكاني والمغني لابن قدامة وشرح الهداية لابن الهمام والبداية لابن رشد وشرح المهذب للنووي وغير ذلك من كتب شروح الحديث والفقه والمناسك، وحاصل مسالك الأئمة الأربعة وأتباعهم أن المبيت بالمزدلفة إلى ما بعد النصف الأول واجب عن الشافعي على المعتمد وأحمد وهذا لمن أدركه قبل النصف وإلا فالحضور ساعة في النصف الأخير كاف، وعند مالك النزول بقدر حط الرحال واجب في أي وقت من الليل كان. وعند الحنفية المبيت سنة مؤكدة وهو قول للشافعي وركن عن السبكي وابن المنذر وأبي عبد الرحمن من الشافعية، وأما الوقوف بعد الفجر فواجب عند الحنفية وسنة عند الأئمة الثلاثة وفريضة عند ابن الماجشون وابن العربي من المالكية وإن شئت الوقوف على تفاصيل مذاهبهم مع الأدلة فارجع إلى الفتح للحافط والعمدة للعيني والمغني وأضواء البيان للشنقيطي (متفق عليه) . وأخرجه أيضًا أحمد مرارًا وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي وغيرهم. 2634- قوله (وعنه) أي عن ابن عباس أي عبد الله فإنه المراد به عند الإطلاق (عن الفضل بن عباس) أي أخيه شقيقه (وكان) أي الفضل (رديف النبي) وفي بعض النسخ " رديف رسول الله. كما في مسلم أي من المزدلفة إلى منى

أنه قال في عشية عرفة وغداة جمع للناس حين دفعوا: " عليكم بالسكينة ". وهو كاف ناقته حتى دخل محسرًا، وهو من منى قال: " عليكم بحصى الخذف الذي يرمى به الجمرة، وقال: لم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبي حتى رمى الجمرة. رواه مسلم. 2635 – (8) وعن جابر، قال: أفاض النبي - صلى الله عليه وسلم - من جمع، وعليه السكينة، وأمرهم بالسكينة، وأوضع في وادي محسر، ـــــــــــــــــــــــــــــ والجملة معترضة (أنه) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (قال في عيشة عرفة) أي بناء على ما سمعه وهو غير رديفه (وغداة جمع) أي من مزدلفة يعني حال كونه رديفًا له (حين دفعوا) أي انصرفوا من عرفة والمزدلفة (عليكم بالسكينة) مقول القول، وهذا إرشاد إلى الأدب والسنة في السير من عرفة ومن مزدلفة ويلحق به سائر مواضع الزحام (وهو) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (كاف ناقته) بتشديد الفاء أي كان يكفها ويمنعها من الإسراع حين الزحام (حتى دخل محسِّرًا) بتشديد السين المكسورة أي يحرك دابته فيه (وهو) أي المحسر (من منى) فيه أن وادي محسر من منى وقيل هو من المزدلفة، والتحقيق أنه كالبرزخ بين المزدلفة ومنى، ومعنى قوله " هو من منى " أي موضع قريب من منى في آخر المزدلفة (عليكم بحصى الخذف) بخاء معجمة مفتوحة ثم ذال معجمة ساكنة بوزن الضرب تقول: خذفت الحصاة ونحوها خذفًا من باب ضرب، رميتها بطرفي الإبهام والسبابة. والمراد الحصى الصغار نحو الباقلا، وقد تقدم بيان ذلك في شرح حديث جابر الطويل (الذي يرمي به الجمرة) بالرفع على أنه نائب الفاعل، والمعنى يلزمكم أن ترفعوا حصى لترموا بها الجمرة، ثم اختلفوا في أنه يرفعها من الطريق وهو ظاهر الحديث، وجاء في بعض الروايات رفعها من المزدلفة وهذا منقول عن ابن عمر وسعيد بن جبير والمختار أنه يجوز أن يرفع من أي مكان شاء إلا الجمرات التي رمى بها، ويجوز بها أيضًا لكن الأفضل أن لا يرمى بها، ثم اختلفوا في أن ترفع سبع حصيات لرمى يوم النحر فقط. ونص الشافعي على استحباب ذلك، أو سبعين حصاة، سبعة ليوم النحر وثلاثًا وستين لما بعده من الأيام وظاهر إفراد الجمرة ينظر إلى القول الأول، والله أعلم. وارجع لمزيد التفصيل إلى المغنى (ج 3: ص 424) (وقال) أي الفضل (حتى رمى الجمرة) أي جمرة العقبة يوم النحر وعند ذلك قطع التلبية. والحديث يدل على أنه مستحب لمن بلغ وادي محسر إن كان راكبًا يحرك دابته، وإن كان ماشيًا أسرع في مشيه (رواه مسلم) . وأخرجه أيضًا أحمد (ج 1: ص 210) والنسائي والبيهقي (ج5: ص 127) . 2635 – قوله (من جمع) أي من المزدلفة (وعليه السكينة) جملة حالية (وأمرهم) أي الناس (وأوضع) أي أسرع السير بإبله، يقال وضع البعير يضع وضعًا وأوضعه راكبه إيضاعًا إذا حمله على سرعة السير (في وادي محسر) أي قدر رمية حجر. قال الشوكاني: حديث جابر هذا يدل على أنه يشرع الإسراع في وادي محسر. قال الأزرقي: وهو

(الفصل الثاني)

وأمرهم أن يرموا بمثل حصى الخذف. وقال: " لعلي لا أراكم بعد عامي هذا ". لم أجد هذا الحديث في الصحيحين إلا في جامع الترمذي مع تقديم وتأخير. (الفصل الثاني) 2636 - (9) عن محمد بن قيس بن مخرمة، قال: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ـــــــــــــــــــــــــــــ خمس مائة ذراع وخمسة وأربعون ذراعًا، وإنما شرع الإسراع فيه لأن العرب كانوا يقفون فيه ويذكرون مفاخر آبائهم فاستحب الشارع مخالفتهم، وقيل في حكمة الإسراع غير ذلك كما سبق (بمثل حصى الخذف) تقدم ضبطه وتفسيره (لعلي لا أراكم بعد عامي هذا) لعل ها هنا للإشفاق، وفيه تحريض على أخذ المناسك منه وحفظها وتبلغيها عنه، قال المظهر: لعل للترجي وقد تستعمل بمعنى الظن وعسى، كذا في المرقاة، وفي رواية مسلم " لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه ". قال الزرقاني: لعلي أي ظن ويحتمل أن لعل للتحقيق كما يقع في كلام الله تعالى كثيرًا. وقال النووي: فيه إشارة إلى توديعهم وإعلامهم بقرب وفاته - صلى الله عليه وسلم - وحثهم على الاعتناء بالأخذ عنه وانتهاز الفرصة من ملازمته وتعلم أمور الدين، وبهذا سميت حجة الوداع (لم أجد هذا الحديث في الصحيحين) أي في أحاديثهما حتى يشمل جامع الأصول للجزري، والجمع بين الصحيحين للحميدي فافهم. وهذا اعتراض على صاحب المصابيح في إيراده في الصحاح أي الفصل الأول (إلا في جامع الترمذي) استثناء منقطع أي لكن وجدته فيه (مع تقديم وتأخير) هذا أيضًا متضمن لاعتراض آخر. قلت: قال الترمذي: حدثنا محمود بن غيلان نا وكيع وبشر بن السري وأبو نعيم قالوا: نا سفيان بن عيينة عن أبي الزبير عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوضع في وادي محسر، وزاد فيه بشر " وأفاض من جمع وعليه السكينة وأمرهم بالسكينة " وزاد فيه أبو نعيم " وأمرهم أن يرموا بمثل حصى الخذف وقال: لعلي لا أراكم بعد عامي هذا ". قال الترمذي: حديث جابر حديث حسن صحيح. ورواه ابن ماجة والبيهقي (ج 5: ص 125) من طريق الثوري عن أبي الزبير عن جابر بنحو رواية الترمذي، وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي بلفظ " أفاض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه السكينة وأمرهم أن يرموا بمثل حصى الخذف وأوضع في وادي محسر " وأخرج أحمد أيضًا ومسلم وأبو داود (في رواية أبي الحسن ابن العبد وأبي بكر بن داسة) والنسائي والبيهقي (ج 5: ص 130) كلهم من طريق ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يرمي الجمرة على راحلته يوم النحر ويقول: " لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلى لا أحج بعد حجتي هذه ". وقد ذكره المصنف في باب رمي الجمار. 2636- قوله (عن محمد بن قيس بن مخرمة) بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الراء، ابن المطلب بن عبد مناف بن قصي القرشي المطلبي المكي. قال الحافظ في التقريب: يقال له رؤية، وقد وثقه أبو داود وغيره، وقال

" إن أهل الجاهلية كانوا يدفعون من عرفة حين تكون الشمس كأنها عمائم الرجال في وجوههم قبل أن تغرب، ومن المزدلفة بعد أن تطلع الشمس حين تكون كأنها عمائم الرجال في وجوههم، وإنا لا ندفع من عرفة حتى تغرب الشمس، وندفع من المزدلفة قبل أن تطلع الشمس، هدينا مخالف لهدي عبدة الأوثان والشرك ". ـــــــــــــــــــــــــــــ في تهذيب التهذيب: روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً وعن أبي هريرة وعائشة وعن أمه عن عائشة، روى عنه ابنه حكيم وعبد الله بن كثير بن المطلب ومحمد بن عجلان ومحمد بن إسحاق وابن جريج وغيرهم. قال أبو داود: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات وذكر العسكري أنه أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو صغير. وقال في الإصابة في ترجمته: ذكره العسكري وقال: لحق النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكره ابن أبي داود والباوردي في الصحابة، وجزم البغوي وابن مندة وغيرهما بأن حديثه مرسل يعني فهو من التابعين. وروى أيضًا عن أبيه وعمر، وروى أيضًا عن أمه وعن عائشة – انتهى. وذكره المصنف في التابعين، فالحديث مرسل (إن أهل الجاهلية) أي غير قريش (كانوا يدفعون) أي يرجعون (في وجوههم) الجار متعلق بتكون وجملة التشبيه معترضة (قبل أن تغرُب) بضم الراء، ظرف ليدفعون أو بدل من حين، نقل الطيبي عن القاضي شبه ما يقع من ضوء الشمس على الوجه طرفي النهار حين ما دنت الشمس من الأفق بالعمامة لأنه يلمع في وجهه لمعان بياض العمامة – انتهى. وقيل المراد كأن الشمس حين غاب نصفها عمامة على رأس الجبل، لأن شكل العمامة شكل نصف الكرة فإن قلت: قوله " في وجوههم " يدل على ما ذكره الطيبي قلت: نعم إن كان متعلقاً بقوله تكون الشمس وليس بمتعين بل يحتمل أن يتعلق بعمائم الرجال ظرفًا مستقرًا. كذا في اللمعات، وقال القاري: قال بعض الشراح قوله " حين تكون الشمس كأنها عمائم الرجال في وجوههم " أي حين تكون الشمس في وجوههم كأنها عمائم الرجال، وذلك بأن يقع في الجهة التي تحاذي وجوههم، وإنما لم يقل " على رؤوسهم " لأن في مواجهة الشمس وقت الغروب إنما يقع ضوئها على ما يقابلها ولم يتعد إلى ما فوقه من الرأس لانحطاطها، وكذا وقت الطلوع، وإنما شبهها بعمائم الرجال لأن الإنسان إذا كان بين الشعاب والأودية لم يصبه من شعاع الشمس إلا الشيء اليسير الذي يلمع في جنبيه لمعان بياض العمامة والظل يستر بقية وجهه وبدنه، فالناظر إليه يجد ضوء الشمس في وجهه مثل كور العمامة فوق الجبين، والإضافة في " عمائم " لمزيد التوضيح كما قاله الطيبي أو للاحتراز عن نساء الأعراب فإن على رؤوسهن ما يشبه العمائم كما قاله ابن حجر – انتهى كلام القاري. (ومن المزدلقة) أي يرجعون (وإنا لا ندفع من عرفة حتى تغرب الشمس) فيكره النفر قبل ذلك عند بعضهم، والأكثرون على أن الجمع بين الليل والنهار واجب (وندفع من المزدلفة قبل أن تطلع الشمس) أي عند الإسفار فيكره المكث بها إلى طلوع الشمس اتفاقًا (هدينا) أي سيرتنا وطريقتنا (والشرك) أي أهله، والجملة استينافية فيها معنى

رواه....... 2637 – (10) وعن ابن عباس، قال: قدمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة المزدلفة أغيلمة بني عبد المطلب ـــــــــــــــــــــــــــــ التعليل وفي المصابيح " لهدي أهل الأوثان والشرك " (رواه) كذا في الأصل بياض هنا، وفي نسخة صحيحة كتب في الهامش " رواه البيهقي " أي في شعب الإيمان، ذكره الجزري، ولفظ البيهقي " خطبنا " وساقه بنحوه، كذا في المرقاة، قلت: روى البيهقي في السنن (ج 5: ص 125) من طريق عبد الوارث بن سعيد عن ابن جريج عن محمد بن قيس بن مخرمة عن المسور بن مخرمة قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفة فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فإن أهل الشرك والأوثان – الحديث. قال البيهقي: ورواه عبد الله بن إدريس عن ابن جريج عن محمد بن قيس بن مخرمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب يوم عرفة فقال: هذا يوم الحج الأكبر ثم ذكر ما بعده بمعناه مرسلاً – انتهى. والحديث أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (ج 3: ص 255) من رواية المسور بن مخرمة قال: رواه الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح. وقال الحافظ في تخريج الهداية (ص 194) بعد ذكره عن المسور بن مخرمة أخرجه الحاكم وصححه والبيهقي من طريقه ثم من طريق ابن جريج عن محمد بن قيس بن مخرمة عنه، وهو عند الشافعي ثم عند البيهقي من هذا الوجه ليس فيه المسور، وذكره صاحب المهذب (أبو إسحاق الشيرازي) عن المسور، وخطأه ابن دقيق العيد فقال: إنما هو محمد بن قيس بن مخرمة كذا قال، وكأنه لم يقف على الرواية الموصولة (عند الحاكم والبيهقي) وروى ابن أبي شيبة عن ابن أبي زائدة عن ابن جريج أخبرت عن محمد بن قيس بن مخرمة نحوه، وهذا يقتضي انقطاع طريقي الحاكم انتهى كلام الحافظ وهو ملخص ما ذكره الزيلعي في نصب الراية (ج 3: ص 67) وحديث المسور بن مخرمة لم أجده في المستدرك في مظانه، وأما حديث محمد بن قيس بن مخرمة فرواه الشافعي في الأم (ج 2: ص 180) عن مسلم بن خالد عن ابن جريج عن محمد بن قيس بن مخرمة بلفظ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كان أهل الجاهلية يدفعون من عرفة قبل أن تغيب الشمس، ومن المزدلفة بعد أن تطلع الشمس ويقولون: أشرق ثبير كيما نغير. فأخر الله تعالى هذه وقدم هذه يعني قدم المزدلفة قبل أن تطلع الشمس وأخر عرفة إلى أن تغيب الشمس – انتهى. وذكره الشيخ عبد الرحمن الساعاتي في بدائع المنن (ج 2: ص 57، 58) بلفظ المشكاة. 2637 – قوله (قدمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي أمرنا بالتقدم إلى منى أو أرسلنا قدامه (أغيلمة بني عبد المطلب) أي صبيانهم، وفيه تغليب الصبيان على النسوان، وهو بدل من الضمير في قدمنا، وقال القاري: نصبه على الاختصاص أو على إضمار أعني أو عطف بيان من ضمير قدمنا. قال الخطابي: أغيملة تصغير غلمة، وكان القياس غليمة لكنهم ردوه إلى أفعلة فقالوا: أغيملة أي كأنهم صغروا أغلمة وإن لم يقولوه كما قالوا أصيبية في تصغير الصبية. وقال القاري: هو تصغير

على حمرات، فجعل يلطح أفخاذنا ويقول: " أبيني لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس ". ـــــــــــــــــــــــــــــ شاذ لأن قياس غلمة – بكسر الغين – غليمة، وقيل: هو تصغير أغلمة جمع غلام قياسًا وإن لم يستعمل، والمستعمل غلمة في القلة والغلمان في الكسرة. وقال الجزري في جامع الأصول: أغيلمة تصغير أغلمة قياسًا ولم تجيء، كما أن أصيبية تصغير أصبية ولم تستعمل، إنما المستعمل صبية وغلمة. وقال في النهاية: تصغير أغلمة بسكون الغين وكسر اللام جمع غلام وهو جائز في القياس ولم يرد في جمع الغلام أغلمة، وإنما ورد غِلمة بكسر الغين المعجمة (على حمرات) بضمتين جمع حمر جمع تصحيح وحمر جمع حمار وهي حال من المفعول أي راكبين على حمرات، وهذا يدل على أن الحج على الحمار غير مكروه في السفر القريب (فجعل) أي فشرع النبي - صلى الله عليه وسلم - (يلطح) بفتح الياء التحتية والطاء المهملة بعدها حاء مهملة أي يضرب (أفخاذنا) جمع فخذ، قال الجزري: اللطح هو الضرب الخفيف أي اللين ببطن الكف أي يضرب بيده أفخاذنا ضربًا خفيفًا. وإنما فعل ذلك ملاطفة لهم (أبيني) بضم الهمز وفتح الباء الموحدة وسكون ياء التصغير بعدها نون مكسورة ثم ياء مشددة مفتوحة. قال السندي: قيل هو تصغير أبنى كأعمى وأعيمى وهو اسم مفرد يدل على الجمع أو جمع ابن مقصورًا كما جاء ممدودًا، بقى أن القياس حنئذ عند الإضافة إلى ياء المتكلم أبيناي فكأنه رد الألف إلى الواو على خلاف القياس، ثم قلب الواو ياء وأدغم الياء في الياء وكسر ما قبله، ويحتمل أن يكون مقصور الآخر لا مشددة فالأمر أظهر، والله تعالى أعلم. وقال الجزري في النهاية: قد اختلف في صيغته ومعناه فقيل: إنه تصغير أبنى كأعمى وأعيمى، وهو اسم مفرد يدل على الجمع، وقيل: إن ابنا يجمع على أبني وأبناء مقصورًا وممدودًا، وقيل: هو تصغير ابن، وفيه نظر. وقال أبو عبيدة: هو تصغير بني جمع ابن مضافًا إلى النفس أي ياء المتكلم فهذا يوجب أن يكون اللفظ في الحديث بنيي بوزن سريجي – انتهى. وقال القاري: هو تصغير ابن مضاف إلى النفس أو بعد جمعه جمع السلامة إلا أنه خلاف القياس، لأن همزته همزة وصل، والقاعدة أن التصغير يرد الشيء إلى أصله مثل الجمع، ومنه قوله تعالى {المال والبنون} فأصل ابن بنوّ فهو من الأسماء المحذوفة العجز، فالظاهر أن يقال بني إلا أنه كان يلتبس بالمفرد فزيد فيه الهمزة – انتهى. قال: والمراد يا أبنائي أو يا بني (لا ترموا الجمرة) أي جمرة العقبة يوم النحر (حتى تطلع الشمس) هذا يدل على أن وقت رمي جمرة العقبة يوم النحر من بعد طلوع الشمس وإن كان الرامي ممن أبيح له التقدم إلى منى وأذن له في عدم المبيت بمزدلفة. قال الشوكاني: والأدلة تدل على أن وقت الرمي من بعد طلوع الشمس لمن كان لا رخصة له، ومن كان له رخصة كالنساء وغيرهن من الضعفة جاز قبل ذلك ولكنه لا يجزئ في أول ليلة النحر إجماعًا – انتهى. اعلم أن العلماء اختلفوا في الوقت الذي يجوز فيه رمي جمرة العقبة من للضعفة وغيرهم مع إجماعهم على أن من رماها بعد طلوع الشمس أجزأه ذلك، فذهب الشافعي وأحمد وعطاء وأسماء بنت أبي بكر وعكرمة وخالد وطاوس والشعبي إلى أن أول الوقت

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ الذي يجزئ فيه رمي جمرة العقبة هو ابتداء النصف الأخير من ليلة النحر، واستدل لهم بحديث عائشة الذي ذكره المصنف بعد هذا وهو حديث صحيح، ويعتضد هذا بما رواه الخلال من طريق سليمان بن أبي داود عن هشام بن عروة عن أبيه قال أخبرتني أم سلمة قالت: قدمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيمن قدم من أهله ليلة المزدلفة، قالت: فرميت بليل ثم مضيت إلى مكة فصليت بها الصبح ثم رجعت إلى منى، كذا ذكره ابن القيم. وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن أول وقته من بعد طلوع الفجر، وأول الوقت المستحب بعد طلوع الشمس وما بعد الزوال إلى الغروب وقت الجواز بلا إساءة، فإن رمى قبل طلوع الشمس وبعد طلوع الفجر جاز وإن رماها قبل الفجر أعادها، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة واستدل لذلك بما رواه الطحاوي بسنده عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر نساءه وثقله صبيحة جمع أن يفيضوا مع أول الفجر بسواد ولا يرموا الجمرة إلا مصبحين، وفي رواية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثه في الثقل وقال: لا ترموا الجمار حتى تصبحوا، وذهب النخعي ومجاهد والثوري وأبو ثور إلى أن أول وقته يبتدئ من بعد طلوع الشمس فلا يجوز رميها عندهم لا بعد طلوع الشمس، واستدلوا لذلك بحديث ابن عباس الذي نحن في شرحه. قالوا: إذا كان من رخص له منع أن يرمي قبل طلوع الشمس فمن لم يرخص له أولى، وأجاب الحنفية عن هذا بأنه محمول على بيان الوقت المستحب والفضيلة، وما رواه الطحاوي فيه بيان وقت الجواز، وأما حديث عائشة الآتي في قصة أم سلمة فأجابوا عنه بأنه ليس فيه دلالة على أنه عليه الصلاة والسلام علم ذلك وأقرها عليه ولا أنه أمرها أن ترمي ليلاً، ويمكن أن يراد بقوله " فرمت قبل الفجر " أي قبل صلاة الفجر، وقيل: إن حديث أم سلمة رخصة خاصة لها، وذهب بعض أهل العلم إلى أن أول وقته للضعفة من طلوع الفجر ولغيرهم من بعد طلوع الشمس وهو اختيار ابن القيم واستدل لذلك بحديث أسماء عند الشيخين أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلقة فقامت تصلي، فصلت ساعة، ثم قالت: يا بني هل غاب القمر؟ قلت: لا. فصلت ساعة ثم قالت: يا بني هل غاب القمر؟ قلت: نعم. قالت: فارتحلوا. فارتحلنا ومضينا حتى رمت الجمرة ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها، فقلت لها: يا هنتاه ما أرانا إلا قد غلسنا. قالت: يا بني إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذن للظعن – انتهى. فهذا الحديث صريح أن أسماء رمت الجمرة قبل طلوع الشمس بل بغلس، وقد صرحت بأنه - صلى الله عليه وسلم - أذن في ذلك للظغن، ومفهومه أنه لم يأذن للأقوياء الذكور، واستدل لذلك أيضًا بحديث ابن عمر عند الشيخين أيضًا أنه كان يقدم ضعفة أهله فيقفون عند المشعر الحرام بالمزدلفة بليل فيذكرون الله عز وجل ما بدا لهم ثم يرجعون قبل أن يقف الإمام وقبل أن يدفع، فمنهم من يقدم لصلاة الفجر ومنهم من يقدم بعد ذلك فإذا قدموا رموا الجمرة. وكان ابن عمر يقول: أرخص في أولئك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - – انتهى. وهذا يدل دلالة واضحة على الترخيص للضعفة في رمي جمرة العقبة بعد الصبح قبل طلوع الشمس كما ترى. ومفهومه أنه لم يرخص لغيرهم في ذلك. قال

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ الشنقيطي: إن الذي يقتضي الدليل رجحانه في هذه المسألة أن الذكور الأقوياء لا يجوز لهم رمي جمرة العقبة إلا بعد طلوع الشمس وأن الضعفة والنساء لا ينبغي التوقف في جواز رميهم بعد الصبح قبل طلوع الشمس لحديث أسماء وابن عمر المتفق عليهما الصريحين في الترخيص لهم في ذلك، وأما رميهم أعني الضعفة والنساء قبل طلوع الفجر فهو محل نظر فحديث عائشة عند أبي داود (الآتي) يقتضي جوازه وحديث ابن عباس عند أصحاب السنن (يعني الذي نحن في شرحه) يقتضي منعه. وقد جمعت بينهما جماعة من أهل العلم فجعلوا لرمي جمرة العقبة وقتين: وقت فضيلة ووقت جواز، وحملوا حديث ابن عباس على وقت الفضيلة وحديث عائشة على وقت الجواز. وله وجه من النظر، والعلم عند الله تعالى. أما الذكور الأقوياء فلم يرد في الكتاب ولا السنة دليل يدل على جواز رميهم جمرة العقبة قبل طلوع الشمس لأن جميع الأحاديث الواردة في الترخيص في ذلك كلها في الضعفة وليس شيء منها في الأقوياء الذكور، وقد قدمنا أن قياس القوي على الضعيف الذي رخص له من أجل ضعفه قياس مع وجود الفارق وهو مردود كما هو مقرر في الأصول، لأن الضعف الموجود في الأصل المقيس عليه الذي هو علة الترخيص المذكور ليس موجودًا في الفرع المقيس الذي هو الذكر القوي كما ترى – انتهى. ثم اعلم أن وقت رمي جمرة العقبة يمتد إلى آخر نهار يوم النحر فمن رماها قبل الغروب من يوم النحر فقد رماها في وقت لها. قال ابن عبد البر: أجمع أهل العلم على أن من رماها يوم النحر قبل المغيب فقد رماها في وقت لها وإن لم يكن ذلك مستحباً لها – انتهى. فإن فات يوم النحر ولم يرمها فقال بعض أهل العلم يرميها ليلاً، ثم اختلف هؤلاء فقال بعضهم رمها ليلاً أداء لا قضاء، وهو أحد وجهين مشهورين للشافعية، حكاهما صاحب التقريب والشيخ أبو محمد الجويني وولده إمام الحرمين وآخرون. وروى مالك عن نافع أن ابنة أخ لصفية بنت أبي عبيد نفست بالمزدلفة فتخلفت هي وصفية حتى أتتا من بعد أن غربت الشمس من يوم النحر فأمرهما عبد الله بن عمر أن ترميا ولم ير عليهما شيئًا – انتهى. وهذا يدل على أن ابن عمر يرى أن رميها في الليل أداء لمن كان له عذر كصفية وابنة أخيها. وممن قال برميها ليلاً الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأصحابهم. وفي الموطأ (في آخر باب الرخصة في رمي الجمار) قال يحيى: سئل مالك عمن نسي جمرة من الجمار في بعض أيام منى حتى يمسي قال: ليرم أية ساعة ذكر من ليل أو نهار كما يصلي الصلاة إذا نسيها ثم ذكرها ليلاً أو نهاراً، فإن كان ذلك بعد ما صدر وهو بمكة أو بعدما يخرج منها فعليه الهدي واجب. وقال الشيخ شهاب الدين أحمد الشلبي في حاشيته على تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق: ولو أخر الرمي إلى الليل رماها ولا شيء عليه لأن الليل تبع لليوم في مثل هذا كما في الوقوف بعرفة فإن أخره إلى الغد رماها وعليه دم. – انتهى. وقال بعض أهل العلم: إن غربت الشمس من يوم النحر وهو لم يرم جمرة العقبة لم يرمها في الليل ولكن يؤخر رميها حتى تزول الشمس من الغد. قال ابن قدامة (ج 3: ص 429) : فإن أخرها إلى الليل لم يرمها حتى تزول الشمس، واستدل لجواز الرمي ليلاً بما رواه البخاري عن ابن

رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجة. ـــــــــــــــــــــــــــــ عباس قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسئل يوم النحر بمنى فيقول: لا حرج، فسأله رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح، قال: اذبح ولا حرج. وقال: رميت بعد ما أمسيت فقال: لا حرج – انتهى. قالوا: قد صرح النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن من رمى بعد ما أمسى لا حرج عليه، واسم المساء يصدق بجزء من الليل، وأجاب القائلون بعدم جواز الرمي ليلاً عن هذا الاستدلال بأن مراد السائل بقوله بعد ما أمسيت يعني به بعد زوال الشمس في آخر النهار قبل الليل. والدليل على ذلك أن حديث ابن عباس المذكور فيه كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسئل يوم النحر بمنى – الحديث. فتصريحه بقوله " يوم النحر " يدل على أن السؤال وقع في النهار والرمي بعد الإمساء وقع في النهار لأن المساء يطلق لغة على ما بعد وقت الظهر إلى الليل، قال الحافظ في شرح الحديث المذكور: قوله " رميت بعد ما أمسيت " أي بعد دخول المساء وهو يطلق على ما بعد الزوال إلى أن يشتد الظلام، فلم يتعين لكون الرمي المذكور كان بالليل – انتهى. وقال ابن قدامة: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " إرم ولا حرج " إنما كان في النهار لأنه سأله في يوم النحر ولا يكون اليوم إلا قبل مغيب الشمس – انتهى. قالوا: فالحديث صريح في أن المراد بالإمساء فيه آخر النهار بعد الزوال لا الليل، وإذن فلا حجة فيه للرمي ليلاً. وأجاب القائلون بجواز الرمي ليلاً عن هذا بأجوبة، منها أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " لا حرج " بعد قول السائل " رميت بعد ما أمسيت " يشمل لفظه نفى الحرج عمن رمى بعد ما أمسى، وخصوص سببه بالنهار لا عبرة به لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب ولفظ المساء عام لجزء من النهار وجزء من الليل، وسبب ورود الحديث المذكور خاص بالنهار، وقد ثبت في الأصول أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب (رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة) وأخرجه أيضًا أحمد (ج 1: ص 234، 311) والطحاوي (ج 1: ص 413) وابن حبان والبيهقي (ج 5: ص 132) كلهم من طريق الحسن بن عبد الله العرني عن ابن عباس، والحسن العرني ثقة ولكنه لم يسمع من ابن عباس كما قال الإمام أحمد والبخاري وابن معين بل قال أبو حاتم لم يدركه. قال المنذري: الحسن العرني بجلى كوفي ثقة، واحتج به مسلم، واستشهد به البخاري غير أن حديث ابن عباس منقطع. وقال الإمام أحمد: الحسن العرني لم يسمع من ابن عباس شيئًا – انتهى. لكن رواه البخاري في التاريخ الصغير (ص 136) وأحمد والترمذي والطحاوي من طريق مقسم عن ابن عباس بمعناه وزيادة ونقص، وصححه الترمذي وغيره. وقال الحافظ في الفتح بعد ذكر حديث الباب: هو حديث حسن أخرجه أبو داود والنسائي والطحاوي وابن حبان من طريق الحسن العرني، وهو بضم المهملة وفتح الراء بعدها نون، عن ابن عباس، وأخرجه الترمذي والطحاوي من طرق عن الحكم عن مقسم عنه، وأخرجه أبو داود من طريق حبيب عن عطاء، وهذه الطرق يقوي بعضها بعضًا، ومن ثم صححه الترمذي وابن حبان.

2638 – (11) وعن عائشة، قالت: أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - بأم سلمة ليلة النحر، فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت، وكان ذلك اليوم، اليوم الذي يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندها. رواه أبو داود. 2639- (12) وعن ابن عباس، قال: يلبي المقيم أو المعتمر ـــــــــــــــــــــــــــــ 2639- قوله (أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - بأم سلمة) أي ومن معها من الضعفة والباء زائدة للتأكيد (ليلة النحر) أي من مزدلفة إلى منى (فرمت الجمرة قبل الفجر) أي طلوع الصبح. وفيه دليل على جواز الرمي قبل الفجر للنساء لأن الظاهر أنه لا يخفى عليه - صلى الله عليه وسلم - ذلك فقرره. قال الأمير اليماني: وقد عارضه حديث ابن عباس المتقدم، وجمع بينهما بأنه يجوز الرمي قبل الفجر لمن له عذر، وكان ابن عباس أي وغيره من الصبيان والغلمة لا عذر له. وقال الشوكاني: قوله " قبل الفجر " هذا مختص بالنساء فلا يصلح للتمسك به على جواز الرمي لغيرهن من هذا الوقت لورود الأدلة القاضية بخلاف ذلك، ولكنه يجوز لمن بعث معهن من الضعفة كالعبيد والصبيان أن يرمي في وقت رميهن كما في حديث أسماء وحديث ابن عباس عند أحمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث به مع أهله إلى منى يوم النحر فرموا الجمرة مع الفجر. وقد تقدم ما أجاب به الحنفية عن حديث عائشة هذا (ثم مضت) أي ذهبت من منى (فأفاضت) أي طافت طواف الإفاضة ثم رجعت إلى منى (وكان ذلك اليوم) أي اليوم الذي فعلت فيه ما ذكر من الرمي والطواف (اليوم) بالنصب على الخبرية) (الذي يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندها) يعني عند أم سلمة أي في نوبتها من القسم، كأنه إشارة إلى سبب استعجالها في الرمي والإفاضة، وقوله " عندها " كذا في جميع النسخ من المشكاة وهكذا في المصابيح، وفي أبي داود " تعني عندها " وهو من تفسير أبي داود أو أحد رواته (رواه أبو داود) وسكت عنه هو والمنذري. وقال الحافظ في بلوغ المرام " إسناده على شرط مسلم " وكذا قال النووي في شرح المهذب. وقال الزيلعي في نصب الراية (ج 3: ص 73) بعد أن ساق حديث أبي داود هذا عن عائشة: ورواه البيهقي في سننه وقال: إسناده صحيح لا غبار عليه – انتهى. قلت: حديث عائشة هذا أخرجه البيهقي في باب من أجاز رميها بعد نصف الليل (ج 5: ص 133) ولكن لم أجد فيه قوله إسناده صحيح لا غبار عليه. وقال الشوكاني: رجاله رجال الصحيح. 2639- قوله (يلبي المقيم) أي بمكة من المعتمرين (أو المعتمر) أي من القادمين، فأو للتنويع، ولا يبعد أن يراد به المعتمر مطلقًا، فأو شك من الراوي، قاله القاري. قلت: قوله " يلبي المقيم أو المعتمر " كذا وقع في جميع نسخ المشكاة، وهكذا ذكره الجزري في جامع الأصول (ج 3: ص 438) والمحب الطبري في القرى (ص 153) ومحمد بن محمد بن سليمان الفاسي المغربي في جمع الفوائد (ج 1: ص 462) وليس في المصابيح لفظ المقيم ولا في السنن لأبي داود والبيهقي والأم للشافعي ولم يذكره أيضًا الزيلعي في نصب الراية والمجد في المنتقي. والظاهر أن المصنف قلد في ذلك

حتى يستلم الحجر. ـــــــــــــــــــــــــــــ جامع الأصول وهو من أوهام الجزري (حتى يستلم الحجر) وفي المصابيح " حتى يفتتح الطواف " ويروى " حتى يستلم الحجر " وللبيهقي من طريق الشافعي عن مسلم بن خالد وسعيد بن سالم عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: يلبي المعتمر حتى يفتتح الطواف مستلمًا أو غير مستلم. قال شارح المصابيح: قوله حتى يفتتح الطواف أي يلبي الذي أحرم بالعمرة من وقت إحرامه إلى أن يبتدئ بالطواف ثم يترك التلبية – انتهى. ورواه الدارقطني بلفظ " لا يمسك المعتمر عن التلبية حتى يفتتح الطواف " ولا فرق بين رواية أبي داود وبين رواية الشافعي والدارقطني إلا في التعبير دون الواقع، لأن ابتداء الطواف من استلام الحجر الأسود، ولذلك قال الطبري بعد تخرج الروايتين: هذا قول أكثر أهل العلم أن المعتمر يلبي حتى يفتتح الطواف. قال ابن عباس: يلبي المعتمر إلى أن يفتتح الطواف مستلمًا وغير مستلم، وبه قال الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق – انتهى. قال الشوكاني: قوله " حتى يستلم الحجر " ظاهره أنه يلبي في حال دخوله المسجد وبعد رؤية البيت وفي حال مشيه حتى يشرع في الاستلام ويستثنى منه الأوقات التي فيها دعاء مخصوص، وقد ذهب إلى ما دل عليه الحديث من ترك التلبية عند الشروع في الاستلام أبو حنفية والشافعي وهو قول ابن عباس وأحمد – انتهى. وقال الترمذي بعد رواية الحديث مرفوعًا " أنه كان يمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر " ما لفظه: والعمل عليه عند أكثر أهل العلم. قالوا: " لا يقطع المعتمر التلبية حتى يستلم الحجر " وقال بعضهم إذا انتهى إلى بيوت مكة قطع التلبية، والعمل على حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبه يقول سفيان والشافعي وأحمد وإسحاق – انتهى. وقد ظهر بهذا كله أن المسألة خلافية. قال ابن قدامة (ج 3: ص 401) : يقطع المعتمر التلبية إذا استلم الركن. وبهذا قال ابن عباس وعطاء وعمرو بن ميمون وطاوس والنخعي والثوري والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي. وقال ابن عمر وعروة والحسن: يقطعها إذا دخل الحرم، وقال سعيد بن المسيب: يقطعها حين يرى عرش مكة. وحكي عن مالك إن أحرم من الميقات قطع التلبية إذا وصل إلى الحرم، وإن أحرم بها من أدنى الحل قطع التلبية حين يرى البيت، ولنا ما روي عن ابن عباس يرفع الحديث: كان يمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر،. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتمر ثلاث عمر ولم يزل يلبي حتى استلم الحجر. (أخرجه أحمد ج 2: ص 180) والبيهقي (ج 5: ص 105) قلت: ما حكي عن مالك هو رواية الموطأ والمختصر، والمعروف في مذهب المالكية أن معتمر الجعرانة أو التنعيم يلبي إلى دخول بيوت مكة. وفي المدونة قال ابن القاسم، قال مالك: والمحرم بالعمرة من ميقاته يقطع التلبية إذا دخل الحرم ثم لا يعود إليها، والذي يحرم من غير ميقاته مثل الجعرانة والتنعيم يقطع إذا دخل بيوت مكة. قال: فقلت له: أو المسجد، قال: أو المسجد كل ذلك واسع – انتهى. وقال ابن حزم: والذي نقول به

رواه أبو داود، وقال: ورُوي موقوفًا على ابن عباس. ـــــــــــــــــــــــــــــ فهو قول ابن مسعود أنه لا يقطعها حتى يتم جميع عمل العمرة. وقال الشافعي بعد ما روى عن عبد الله بن مسعود أنه لبي في عمرة على الصفا بعد ما طاف بالبيت: وليسوا يقولون (أي أهل العراق) بهذا ولا أحد من الناس علمناه، وإنما اختلف الناس فمنهم من يقول: يقطع التلبية في العمرة إذا دخل الحرم. وهو قول ابن عمر. ومنهم من يقول: إذا استلم الركن. وهو قول ابن عباس. وبه نقول، ويقولون هم أيضًا: فأما بعد الطواف بالبيت فلا يلبي أحد، أورده إلزامًا للعراقيين فيما خالفوا فيه عبد الله بن مسعود كذا في القرى (ص 154) (رواه أبو داود) في باب: متى يقطع المعتمر التلبية. (وقال ورُوي) على بناء المجهول (موقوفًا على ابن عباس) قلت: الحديث رواه أبو داود مرفوعًا حيث قال: حدثنا مسدد نا هشيم عن ابن أبي ليلي عن عطاء عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يلبي المعتمر حتى يستلم الحجر، ثم قال أبو داود: رواه عبد الملك بن أبي سليمان وهمام عن عطاء عن ابن عباس موقوفًا. وقد تبين بهذا أن الاقتصار المخل إنما هو في نقل صاحب المشكاة، فكان حقه أن يقول أولاً عن ابن عباس مرفوعًا. وقال المنذري في مختصر السنن وأخرجه الترمذي وقال: صحيح، هذا آخر كلامه. وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلي وتكلم فيه جماعة من الأئمة (أي من جهة حفظه) انتهى كلام المنذري. قلت: حديث ابن عباس المرفوع عند الترمذي هو حديث فعلي بلفظ أنه كان يمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر، وحديث ابن عباس المرفوع عند أبي داود قولي بلفظ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يلبي المعتمر حتى يستلم الحجر فإذن هما حديثان من رواية ابن عباس قولي عند أبي داود وفعلي عند الترمذي، ولهذا الاختلاف جعلهما المجد في المنتقي حديثين، قال الزيلعي في نصب الراية (ج 3: ص 115) : ولم ينصف المنذري في عزوه هذا الحديث للترمذي، فإن لفظ الترمذي من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولفظ أبي داود من قوله فهما حديثان ولكنه قلد أصحاب الأطراف إذ جعلوهما حديثًا واحدًا، وهذا مما لا ينكر عليهم، وقد بينا وجه ذلك في حديث " ابدؤا بما بدأ الله به، (ج 3: ص 54) قال: وروى الواقدي في كتاب المغازي حدثنا أسامة بن زيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبي يعني في عمرة القضية حتى استلم الركن – انتهى. قلت: مدار الروايتين المرفوعتين عند الترمذي وأبي داود على محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلي الكوفي القاضي وهو صدوق سيء الحفظ جدًا. قال البيهقي بعد رواية الحديث الفعلي المرفوع من طريق زهير والحسن بن صالح عن ابن أبي ليلي عن عطاء عن ابن عباس ما لفظه: رفعه خطأ وكان ابن أبي ليلى هذا كثير الوهم، وخاصة إذا روى عن عطاء فيخطئ كثيرًا، ضعفه أهل النقل مع كبر محله في الفقه، وقد روى عن المثني بن الصباح عن عطاء مرفوعًا، وإسناده أضعف مما ذكرنا. ثم روى من طريق الحجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: اعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث عمر كل ذلك لا يقطع التلبية حتى يستلم الحجر، وقد قيل عن الحجاج

(الفصل الثالث)

(الفصل الثالث) 2640 - (13) عن يعقوب بن عاصم بن عروة، أنه سمع الشريد يقول: أفضت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما مست قدماه الأرض حتى أتى جمعًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ عن عطاء عن ابن عباس مرفوعًا. والحجاج بن أرطاة لا يحتج به. ثم روى البيهقي عن أبي بكرة مرفوعًا أنه خرج معه - صلى الله عليه وسلم - في بعض عمره فما قطع التلبية حتى استلم الحجر. ثم قال: إسناده ضعيف – انتهى. ومن المعلوم أن الروايات الضعيفة تكتسب قوة بالاجتماع، والضعف اليسير ينجبر بكثرة الطرق ويصير الحديث حسنًا قابلاً للاحتجاج، ولذلك صحح الترمذي حديث ابن عباس واحتج به الشافعي وغيره من الأئمة. قال القاري: ومناسبة الحديث لعنوان الباب استطراد لحكم قطع التلبية للمعتمر كما ذكر فيما تقدم وقت قطع تلبية المحرم بالحج. 2640 – قوله (عن يعقوب بن عاصم بن عروة) أي بن مسعود الثقفي أخو نافع بن عاصم المكي روى عن ابن عمر وعبد الله بن عمرو والشريد بن سويد وغيرهم، وعنه إبراهيم بن ميسرة ويعلى بن عطاء والنعمان بن سالم وآخرون. ذكره ابن حبان في الثقات، وقال الحافظ في التقريب: إنه مقبول من الثالثة أي من الطبقة الوسطى من التابعين (أنه) أي يعقوب (سمع الشريد) بوزن الطويل، وهو شريد بن سويد الثقفي وقيل إنه من حضر موت ولكن عداده في ثقيف لأنهم أخواله، روى عنه ابنه عمرو بن الشريد ويعقوب بن عاصم وغيرهما. قال ابن السكن: له صحبة حديثه في أهل الحجاز، سكن الطائف، والأكثر أنه الثقفي، ويقال إنه حضرمي حالف ثقيفًا وتزوج آمنة بنت أبي العاص بن أمية. وقيل كان اسمه مالكًا فسمي الشريد لأنه شرد من المغيرة بن شعبة لما قتل رفقته الثقفيين، كذا في الإصابة. وقال الجزري: قيل إن الشريد اسمه مالك قتل قتيلاً من قومه فلحق بمكة فحالف بني حطيط بن جشم بن ثقيف، ثم وفد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسلم وبايعه بيعة الرضوان وسماه الرسول - صلى الله عليه وسلم - الشريد – انتهى. وروى مسلم وغيره من طريق عمرو بن الشريد عن أبيه قال: استنشدني النبي - صلى الله عليه وسلم - شعر أمية بن أبي الصلت. وفي رواية: أنه أنشد النبي - صلى الله عليه وسلم - من شعر أمية بن أبي الصلت مائة قافية فقال: كاد يسلم، يعني أمية، والله أعلم (أفضت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي رجعت من عرفات إلي المزدلفة (فما مست قدماه الأرض حتى أتى جمعًا) أي المزدلفة، وهذا يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - لم ينزل لحاجة في ذهابه من عرفات إلى المزدلفة، ويشكل عليه ما رواه الشيخان وأبو داود والنسائي عن أسامة قال: دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عرفة حتى إذا كان بالشعب نزل فبال، وفي رواية ((فلما جاء الشعب أناخ راحلته ثم ذهب إلي الغائط ثم توضأ ولم يسبغ الوضوء)) . وفي رواية " توضأ وضوء خفيفًا، قلت له الصلاة، فقال: الصلاة أمامك فركب. فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء ثم أقيمت الصلاة فصلي المغرب " الحديث. قال الطيبي: قوله " ما مست قدماه الأرض حتى أتي جمعاً " عبارة عن الركوب من عرفة إلى الجمع يعني

رواه أبو داود. 2641 – (14) وعن ابن شهاب، قال: أخبرني سالم أن الحجاج ـــــــــــــــــــــــــــــ فما يرد عليه أنه عليه الصلاة والسلام نزل فبال فتوضأ – انتهى. وحاصله أن الشريد بالغ في بيان ركوبه - صلى الله عليه وسلم - في السير من عرفة إلى الجمع بأنه قطع تلك المسافة راكبًا ولم يمش على الرجلين في تلك المسافة، وليس معناه أنه لم ينزل عن الناقة فلا يعارض هو حديث أسامة. وقال في عون المعبود: حديث الشريد يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينزل لحاجة بين عرفات والمزدلفة، وحديث أسامة يعارض ذلك لكن يرجع حديث أسامة على حديث الشريد لأنه المثبت أي والمثبت مقدم على النافي كما تقرر في موضعه، وكان أسامة رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو أعلم بحاله ولم ير الشريد نزوله - صلى الله عليه وسلم -، فلذا نفاه على علمه. وقال المحب الطبري بعد ذكر حديث الشريد: وما رواه أسامة أثبت فإنه كان ردف النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأخبر الشريد عما علمه ولم يبلغه ذلك – انتهى. هذا. وقد اعترض صاحب بذل المجهود على جواب العون فقال بعد ذكر توجيه الطيبي: وأما الجواب بترجيح رواية أسامة كما فعله صاحب العون بأن أسامة كان رديفه - صلى الله عليه وسلم - فبعيد، فأنه وقع في حديث الشريد أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا سبيل لترجيح أحدهما على الآخر. قال صاحب الأوجز: كذا أفاده الشيخ في البذل. قلت: جواب العون وكذا المحب الطبري مطابق للأصول، فإن حديث الشريد ظاهر بل صريح في نفي النزول على الأرض، وحديث أسامة صريح في النزول وقضاء الحاجة والوضوء وهو أقوي سندًا وأثبت، فلا بعد في تقديمه وترجيحه، وأما توجيه الطيبي فلا يخلو عن التكلف ومخالفة الظاهر، وكون الشريد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإفاضته معه لا يستلزم أن يعلم جميع أحواله - صلى الله عليه وسلم - في مسيره إلى المزدلفة على أنه قد قال أحمد بعد رواية الحديث عن روح، حيث قال روح: وقفت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفات: أملاه من كتابه يعنى بخلاف قوله أفضت، فإنه رواه من حفظه، ومن المعلوم أن رواية الكتاب أقوي وأثبت من رواية الحفظ (رواه أبو داود) عن محمد بن المثني عن روح بن عبادة عن زكريا بن إسحاق عن إبراهيم بن ميسرة عن يعقرب بن عاصم بن عروة أنه سمع الشريد، إلخ. وكذا رواه أحمد (ج 4: ص 389، 390) عن روح، وهذا إسناد رجاله ثقات. والحديث ذكره صاحب العون على الهامش بعد حديث أسامة المذكور في باب الدفع من عرفة وقال: لم يوجد هذا الحديث إلا في نسخة واحدة – انتهى. ونقل عن المزي أنه قال في الأطراف: هذا الحديث في رواية أبي الحسن بن العبد وأبي بكر بن داسة عن أبي داود ولم يذكره أبو القاسم – انتهى. ولذلك لم يذكره المنذري في مختصر السنن، وذكره الجزري في جامع الأصول (ج 4: ص 76) والنابلسي في ذخائر المواريث (ج 1: ص 268) ولم ينبها على ذلك. 2641- قوله (وعن ابن شهاب) أي الزهري (أخبرني سالم) أي ابن عبد الله بن عمر (أن الحجاج) بفتح

ابن يوسف عام نزل بابن الزبير سأل عبد الله: كيف نصنع في الموقف يوم عرفة؟ فقال سالم: إن كنت تريد السنة، فهجر بالصلاة يوم عرفة. فقال عبد الله بن عمر: صدق إنهم كانوا يجمعون بين الظهر ـــــــــــــــــــــــــــــ الحاء، مبالغة الحاج بمعنى الآتي بالحجة (ابن يوسف) أي ابن أبي عقيل الثقفي الأمير الشهير الظالم المبير. قال الحافظ في التقريب: وقع ذكره وكلامه في الصحيحين وغيرهما وليس بأهل أن يروى عنه ولي إمره العراق عشرين سنة ومات سنة خمس وتسعين. وقال في تهذيب التهذيب: ولد سنة (45) أو بعدها بيسير ونشأ بالطائف وكان أبوه من شيعة بني أمية وحضر مع مروان حروبه، ونشأ ابنه مؤدب كتاب ثم لحق بعبد الملك بن مروان وحضر معه قتل مصعب بن الزبير ثم انتدب لقتال عبد الله بن الزبير بمكة فجهزه أميرًا على الجيش فحضر مكة ورمى الكعبة بالمنجنيق إلى أن قتل ابن الزبير (سنة 73) وقال جماعة: إنه دس على ابن عمر من سمه في زج رمح. وقد وقع بعض ذلك في صحيح البخاري، وولاه عبد الملك الحرمين مدة ثم استقدمه فولاه الكوفة وجمع له العراقين (وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة) فسار بالناس سيرة جائرة واستمر في الولاية نحوًا من عشرين سنة، روى الترمذي في الفتن من جامعه عن هشام بن حسان القردوسي البصري قال: أحصوا ما قتل الحجاج صبرًا فبلغ مائة ألف وعشرين ألف قتيل. قال عمر بن عبد العزيز: لو جاءت كل امة بخبيثها وجئنا بالحجاج غلبناهم، وكفره جماعة، منهم سعيد بن جبير والنخعي ومجاهد والشعبي وعصم بن أبي النجود وغيرهم وقالت له أسماء بنت أبي بكر: أنت المبير الذي أخبرنا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومات بواسط في شوال سنة (95) وعمره خمسون سنة. وقيل: أنه لم يعش بعد قتل سعيد بن جبير إلا يسيرًا، ذكر قصة موته المؤلف في ترجمة سعيد بن جبير في حرف السين من إكماله (عام نزل) أي بجيش كثير (بابن الزبير) أي لقتاله، وهو عبد الله بن الزبير، وكان نزول الحجاج في سنة ثلاث وسبعين. وقال القاري: قوله عام نزل بابن الزبير " أي سنة قاتل فيها مع عبد الله بن الزبير الخليفة بمكة والعراقين وغيرهما ما عدا نحو الشام حتى فر من معه وبقي صابرًا مجاهدًا بنفسه إلى أن ظفروا به فقتلوه وصلبوه، ثم أمر عبد الملك الحجاج تلك السنة على الحاج وأمره أن يقتدي في جميع أحواله نسكه بأقوال عبد الله بن عمر وأفعاله وأن يسأله ولا يخالفه، فحينئذ (سأل) أي الحجاج (عبد الله) أي ابن عمر، وهو أبو سالم الراوي (كيف نصنع في الموقف يوم عرفة؟) أي في صلاة الظهر والعصر والوقوف في ذلك اليوم، هل نقدمهما على الوقوف أو نوسطهما فيه أو نؤخرهما عنه؟ (فقال سالم) أي ابن عبد الله، ففيه تجريد أو نقل بالمعني وإلا فحق العبارة أن يقول " فقلت " (إن كنت تريد السنة) أي متابعة سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - (فهجر) أمر من التهجير، أي صل بالهاجرة وهي شدة الحر (بالصلاة) أي الظهر والعصر، قال في النهاية: التهجير التبكير في كل شيء، فالمعنى صل صلاة الظهر والعصر جمعًا أول وقت الظهر (صدق) أي سالم (إِنهم) بكسر الهمزة، أي إن الصحابة (كانوا يجمعون بين الظهر

والعصر في السنة. فقلت لسالم: أفعل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال سالم: وهل يتبعون ذلك إلا سنته. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ والعصر في السنة) بضم السين المهملة وتشديد النون، أي سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان ابن عمر فهم من قول ولده سالم " فهجر بالصلاة " أي الظهر والعصر معًا، فأجاب بذلك فطابق كلام ولده، قال الطيبي: قوله " في السنة " في محل النصب على الحال من فاعل يجمعون أي متوغلين في السنة، متمسكين بها، قاله تعريضًا بالحجاج، وقيل في السنة أي لأجل السنة وإتباعها. (فقلت لسالم) قائله ابن شهاب (أفعل ذلك) الهمزة فيه للاستفهام (هل يتبعون) كذا في جميع نسخ المشكاه بمثناة تحتية ثم فوقية، وفي صحيح البخاري " تتبعون " أي بمثناة فوقية في أوله. قال الحافظ: بتشديد المثناة من فوق وكسر الموحدة بعدها مهملة كذا للأكثر من الإتباع، وللكشميهني " تبتغون " بسكون الموحدة وفتح المثناة بعدها غين معجمة من الابتغاء وهو الطلب (ذلك) كذا في جميع نسخ المشكاة، وفي صحيح البخاري " في ذلك " أي بزيادة " في " قال العيني والحافظ: وفي رواية الحموي بحذف كلمة " في " وهي مقدرة ويروى " بذلك " أي بالموحدة بدل " في " أي في ذلك الفعل. وقال الكرماني: أي في ذلك الجمع أو في التهجير (إلا سنته) قال الطيبي: قوله " هل يتبعون ذلك؟ " أي في ذلك الجمع إلا سنته أو لا يتبعون التهجير في الجمع لشيء إلا لسنته، فنصب ((سنة)) على نزع الخافض. وفي الحديث فتوى التلميذ بحضرة أستاذه ومعلمه عند السلطان وغيره، وفيه تعليم الفاجر السنن لمنفعة الناس، وفيه أن التوجه إلى المسجد الذي بعرفة حين تزول الشمس وتعجيل الرواح للإمام للجمع بن الظهر والعصر بعرفة في أول وقت الظهر سنة. (رواه البخاري) في باب الجمع بين الصلاتين بعرفة معلقًا مجزومًا حيث قال: وقال الليث: حدثني عقيل عن ابن شهاب قال: أخبرني سالم أن الحجاج بن يوسف، إلخ. قال الحافظ: وصله الإسماعيلي من طريق يحيى بن بكير وأبي صالح جميعًا عن الليث – انتهى. وأخرجه البيهقي (ج 5: ص 114) من طريق الإسماعيلي.

(6) باب رمي الجمار

(6) باب رمي الجمار ـــــــــــــــــــــــــــــ (باب رمي الجمار) هكذا بوب مالك في الموطأ والبخاري في صحيحه وأبو داود في سننه. قال الحافظ: أي وقت رميها أو حكم الرمي. قال القسطلاني: واحد الجمار جمرة وهي في الأصل النار المتقدة، والحصاة، وواحدة جمرات المناسك، وهي المرادة ها هنا، وهي ثلث: الجمرة الأولى والوسطى والعقبة يرمين بالجمار، قاله في القاموس. وقال الشهاب القرافي من المالكية: الجمار اسم للحصى لا للمكان، والجمرة اسم للحصاة، وإنما سمي الموضع جمرة باسم ما جاوره وهو اجتماع الحصى فيه، وقال الحافظ: الجمرة اسم لمجتمع الحصى، سميت بذلك لاجتماع الناس بها. يقال تجمر بنوا فلان إذا اجتمعوا، وقيل إن العرب تسمي الحصى الصغار جمارًا فسميت تسمية الشيء باسم لازمه. وقيل لأن آدم أو إبراهيم لما عرض له إبليس فحصبه، جمر بين يديه أي أسرع فسميت بذلك – انتهى. وقال ابن نجيم: الجمار هي الصغار من الحجارة جمع جمرة، وبها سموا المواضع التي ترمى جمارًا وجمرات لما بينهما من الملابسة، وقيل لتجمع ما هنالك من الحصى، من تجمر القوم إذا اجتمعوا – انتهى. وقال في اللمعات: الجمار الأحجار الصغار، ومنه سمي جمار الحج للحصى التي ترمى بها. وأما موضع الجمار بمنى فيسمى جمرة لأنها ترمى بالجمار أو لأنه موضع مجتمع حصى ترمى، والجمر يجيء بمعنى الجمع كثيرًا أو من أجمر بمعنى أسرع – انتهى. هذا وقد بسط الكلام في ذلك الشنقيطي في أضواء البيان (ج 5: ص 298) فراجعه. قال النووي في مناسكه قال الشافعي: الجمرة مجتمع الحصى لا ما سال من الحصى فمن أصاب مجتمع الحصى بالرمي أجزأه، ومن أصاب سائل الحصى الذي ليس بمجتمعه لم يجزه، والمراد مجتمع الحصى في موضعه المعروف الذي كان في زمنه - صلى الله عليه وسلم - فلو حول ورمى الناس في غيره واجتمع الحصى لم يجزه، وقال البجيرمي: لو أزيل العلم الذي هو البناء في وسط الجمرة فإنه يكفي الرمي إلى محله بلا شك، لأن العلم لم يكن موجودًا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد رمى هو وأصحابه إلى الجمرة، إلى آخر ما قال. وفي الغنية: قال في النخبة محل الرمي هو الموضع الذي عليه الشاخص وما حوله لا الشاخص، ومثله في البحر. قلت: اختلفوا في مصداق الجمرة فقال الشافعية: الجمرة مجتمع الحصى لا ما سال من الحصى ولا الشاخص ولا موضع الشاخص، لكن هذا مخالف لما تقدم عن البجيرمي، ويؤيده ما في روضة المحتاجين إذ قال: الثالث من الشرائط قصد المرمى، فلو رمى في الهواء فوقع في المرمى لم يعتد به، والمرمى هو مجتمع الحصى لا ما سال من الحصى، فلو قصد الشاخص أو حائط جمرة العقبة لم يكف وإن وقع في المرمى كما يفعله كثير من الناس. قال المحب الطبري: وهو الأظهر عندي. ويحتمل أنه يجزئه لأنه حصل فيه بفعله مع قصد الرمي الواجب. والثاني أقرب كما قاله الزركشي وهو المعتمد. ولا يقال يلزم عليه أنه لو رمى إلى غير المرمى فوقع في المرمى يجزئ، وقد صرحوا بخلافه لأنا نقول فرق ظاهر بين الرمي إلى غير المرمى وبين الرمي إلى الشاخص الذي في وسط المرمى سيما والشاخص المذكور حادث لم يكن في زمنه - صلى الله عليه وسلم -. ولذا لو أزيل كفى الرمي إلى محله بلا شك – انتهى. وقال المالكية: الجمرة اسم للبناء وما تحته من موضع الحصباء على المعتمد، وقيل إن الجمرة اسم للمكان الذي يجتمع فيه الحصى. وقال

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحنيفة: ليس الشاخص محل الرمي لكن مع ذلك لما يكفي الوقوع قريب الجمرة، فلو وقع على أحد جوانب الشاخص أي أطراف الميل أجزأه للقرب، ولو وقع على قبة الشاخص ولم ينزل عنها لا يجزئه للبعد. وأما عند الحنابلة فقال ابن جاسر في نور الظلام: المرمى هو مجتمع الحصى لا نفس الشاخص. قال الشيخ سليمان بن علي في منسكه: المرمى الذي تترتب عليه الأحكام بقولهم ((يعتبر حصول كل حصاة في المرمى)) ، هو الأرض المحيطة بالميل المبني، فلو طرح الحصاة في رأس البناء لم يعتد بها لأنها لم تحصل في المرمى – انتهى ملخصًا. قال الشيخ ابن جاسر: إذا طرح الحصاة في رأس البناء كما يفعله كثير من الحجاج فتدحرجت في المرمى المحوط بالبناء في الجمرات الثلاث فإنها تجزئه، أما إذا بقيت على رأس البناء فإنها لا تجزئه فيما يظهر لي والله أعلم. وقال ابن قدامة: ولا يجزئه الرمي إلا أن يقع الحصى في المرمى، فإن وقع دونه لم يجزئه في قولهم جميعًا، لأنه مأمور بالرمي ولم يرم، وهذا قول أصحاب الرأي، إلى آخر ما قال. اعلم أن الكلام في رمي الجمار على ما قال صاحب العناية وغيره في أكثر من اثني عشر موضعًا أحدها الوقت وهو يوم النحر وثلاثة أيام بعده، والثاني موضع الرمي وهو بطن الوادي والثالث في محل المرمى إليه وهو ثلاث جمرات، والرابع في كمية الحصيات وهي سبعة عند كل جمرة، والخامس في مقدار الحصاة، وهو أن يكون مثل حصى الخذف، والسادس في كيفية الرمي بأن يكون مثل الخاذف ويأخذ الحصى بطرف سبابته وإبهامه، والسابع في صفة الرامي بأن يكون راكبًا أو ماشيًا، والثامن في موضع وقوع الحصيات، والتاسع في الموضع الذي يأخذ منه الحجر، والعاشر فيما يرمى به وهو أن يكون من جنس الأرض (عند الحنفية) والحادي عشر أن يرمي في اليوم الأول جمرة العقبة لا غير، وفي بقية الأيام يرمى الجمار كلها. والثاني عشر حكم الرمي. والثالث عشر حكم التكبير عند الرمي. والرابع عشر تفريق الحصيات، والخامس عشر الوقوف بعد الرمي للدعاء وغير ذلك. وأكثر هذه المسائل خلافية، سيأتي بيان بعضها في شرح أحاديث هذا الباب وفي باب خطبة يوم النحر ورمي أيام التشريق. أما حكم الرمي فجمهور العلماء على أن رمي جمرة العقبة يوم النحر وكذا رمي الجمار الثلاث في أيام التشريق الثلاثة واجب يجبر بدم، وخالف عبد الملك بن الماجشون من أصحاب مالك الجمهور فقال: إن رمي جمرة العقبة يوم النحر ركن لا حج لمن تركه كغيرها من الأركان. واحتج الجمهور بالقياس على الرمي في أيام التشريق. واحتج ابن الماجشون بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رماها وقال: لتأخذوا عني مناسككم، ولا يخف ما في هذا الاستدلال. وقال الحافظ: قد اختلف فيه أي في حكم الرمي، فالجمهور على أنه واجب يجبر تركه بدم، وعند المالكية سنة مؤكدة فيجبر، وعندهم رواية أن رمي جمرة العقبة ركن يبطل الحج بتركه، ومقابله قول بعضهم أنها إنما تشرع حفظاً للتكبير، فإن تركه وكبر أجزاه، حكاه ابن جرير عن عائشة وغيرها – انتهى. وقال ابن قدامة (ج 3: ص 491) : من ترك الرمي من غير عذر فعليه دم قال أحمد: أعجب إلي إذا ترك الأيام كلها كان عليه دم، وفي ترك جمرة واحدة

(الفصل الأول)

(الفصل الأول) 2642 – (1) عن جابر، قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يرمي على راحلته يوم النحر، ـــــــــــــــــــــــــــــ دم أيضًا، نص عليه أحمد، وبهذا قال عطاء والشافعي وأصحاب الرأي، وحكى عن مالك أن عليه في جمرة أو الجمرات كلها بدنة. وقال الحسن: من نسي جمرة واحدة يتصدق على مسكين. ولنا قول ابن عباس: من ترك شيئًا من مناسكه فعليه دم، وإن ترك أقل من جمرة فالظاهر عن أحمد أنه لا شيء في حصاة ولا في حصاتين، وعنه: أنه يجب الرمي بسبع، فإن ترك شيئًا من ذلك تصدق بشيء أي شيء كان، وعنه: أن في كل حصاة دمًا، وهو مذهب مالك والليث، وعنه في الثلاثة دم، وهو مذهب الشافعي وفي ما دون ذلك في كل حصاة مد. وعنه: درهم، وعنه: نصف درهم – انتهى. وسيأتي مزيد الكلام على هذا في شرح حديث عبد الله بن مسعود من هذا الباب. 2642 – قوله (رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يرمي على راحلته يوم النحر) هذا يدل على أن رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا أفضل من رميها راجلاً وماشيًا، وحكى النووي في شرح مسلم عن الشافعي وموافقيه أنه يستحب لمن وصل راكبًا أن يرمي راكبًا ولو رمى ماشيًا جاز، ومن وصلها ماشيًا فيرميها ماشيًا. قال: وهذا في يوم النحر، وأما اليومان الأولان من أيام التشريق فالسنة أن يرمي فيها الجمرات الثلاثة ماشياً، وفي اليوم الثالث يرمي راكبًا. وكذا قال في مناسكه. وقال ابن قدامة (ج 3: ص 428) : ويرميها راكبًا أو راجلاً كيف ما شاء، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رماها على راحلته، رواه جابر وابن عمر وأم أبي الأحوص وغيرهم. قال جابر: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يرمي على راحلته يوم النحر والحديث. رواه مسلم. وقال نافع: كان ابن عمر يرمي جمرة العقبة على دابته يوم النحر، وكان لا يأتي سائرها بعد ذلك إلا ماشيًا ذاهبًا وراجعًا. رواه أحمد في المسند، وفي هذا بيان للفرق بين هذه الجمرة وغيرها، ولأن رمى هذه الجمرة مما يستحب البداية به في هذا اليوم عند قدومه، ولا يسن عندها وقوف، ولو سن له المشي إليها لشغله النزول عن البداية بها والتعجيل إليه بخلاف سائرها – انتهى. وقال الدسوقي من المالكية: يندب أن يرمي جمرة العقبة حين وصوله على الحالة التي وصلها من ركوب أو مشي فلا يصبر حتى ينزل أو يركب، لأن فيه عدم الاستعجال برميها – انتهى. وقال الباجي: قد قال مالك في المبسوط: الشأن يوم النحر أن يرمي جمرة العقبة راكبًا كما يأتي الناس على دوابهم، وأما في غير يوم النحر فكان يقول يرمي ماشيًا، والأصل في ذلك أنه يرمي جمرة العقبة متصلاً بوروده، وأما في سائر الأيام فإن المشي إليها تواضع ويحتاج إلى الدعاء عند الجمرتين. فلو ركب الناس لضاق بهم المكان – انتهى. وقال العيني: قال أصحابنا الحنفية: كل رمي بعده رمي كالجمرتين الأوليين في الأيام الثلاثة يرمى ماشيًا. وإن لم يكن بعده رمي كرمي جمرة العقبة يوم النحر والجمرة الأخيرة في الأيام الثلاثة فيرمي راكبًا، هذا هو الفضيلة، وأما الجواز فثابت كيفما كان – انتهى. وقال ابن عابدين: والضابط عندنا أن كل رمي يقف بعده فإنه يرميه ماشيًا وهو كل رمي بعده رمي كما مر، وما لا فلا، ثم

ويقول: " لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه ". رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا التفصيل قول أبي يوسف وله حكاية مشهورة ذكرها الطحطاوي وغيره، وهو مختار كثير من المشائخ كصاحب الهداية والكافي والبدائع وغيرهم. وأما قولهما فذكر في البحر أن الأفضل الركوب في الكل على ما في الخانية، والمشي في الكل على ما في الظهيرية، وقال: فتحصل أن في المسألة ثلاثة أقوال. ورجح الشيخ كمال الدين بن الهمام ما في الظهيرية بأن أدائها ماشيًا أقرب إلى التواضع والخشوع وخصوصًا في هذا الزمان، فإن عامة المسلمين مشاة في جميع الرمي فلا يؤمن من الأذى بالركوب بينهم بالزحمة، ورميه عليه الصلاة والسلام راكبًا إنما هو ليظهر فعله ليقتدى به كطوافه راكبًا – انتهى. وفي المرقاة: وروى البيهقي وابن عبد البر أنه عليه الصلاة والسلام رمى أيام التشريق ماشيًا. زاد البيهقي: فإن صح هذا كان أولى بالإتباع، وقال غيره: قد صححه الترمذي وغيره. وزاد ابن عبد البر: وفعله جماعة من الخلفاء بعده وعليه العمل. وحسبك ما رواه القاسم بن محمد من فعل الناس، ولا خلاف أنه عليه الصلاة والسلام وقف بعرفة راكبًا ورمى الجمار ماشيًا، وذلك محفوظ من حديث جابر – انتهى. ويستثنى منه رمي جمرة العقبة في أول أيام النحر كما لا يخفى (ويقول) عطف على (يرمي)) فيكون من قبيل ((علفتها تبنًا وماءً باردًا)) أو الجملة حالية (لتأخذوا مناسككم) قال النووي: هذه اللام لام الأمر ومعناه خذوا مناسككم، وهكذا وقع في رواية غير مسلم، وتقديره: هذه الأمور التي أتيت بها في حجتي من الأقوال والأفعال والهيئات هي أمور الحج وصفته، وهي مناسككم فخذوها عني واقبلوها واحفظوها واعملوا بها وعلموها الناس. وهذا الحديث أصل عظيم في مناسك الحج وهو نحو قوله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) – انتهى. قال الطيبي: ويجوز أن تكون اللام للتعليل والمعلل محذوف أي يقول: إنما فعلت لتأخذوا عني مناسككم – انتهى. ويؤيد الأول ما ورد عند النسائي والبيهقي بلفظ ((خذوا عني مناسككم)) وقال القرطبي: روايتنا لهذا الحديث بلام الجر المفتوحة والنون التي هي مع الألف ضمير أي يقول لنا ((خذوا مناسككم)) فيكون قوله ((لنا)) صلة للقول، قال: هو الأفصح، وقد روي ((لتأخذوا مناسككم)) بكسر اللام للأمر، وبالتاء المثناة من فوق، وهي لغة قرأ بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى {فبذلك فلتفرحوا} (10: 58) انتهى. قال السندي في حاشية النسائي ((خذوا عني مناسككم)) أي تعلموها مني واحفظوها، وهذا لا يدل على وجوب المناسك، وإنما يدل على وجوب أخذها وتعلمها، فمن استدل به على وجوب شيء من المناسك فاستدلاله في محل النظر. فليتأمل – انتهى. وكذا قال في حاشية مسلم. وعلل ذلك بقوله: إذ وجوب تعلم الشيء لا يدل على وجوب ذلك الشيء إذ جميع المندوبات والسنن يجب أخذها وتعلمها ولو على وجه الكفاية، وهي غير واجبة عملاً فافهم، والله تعالى أعلم (فإني لا أدري) مفعوله محذوف أي لا أعلم ماذا يكون (لعلي لا أحج بعد حجتي) بفتح الحاء، وهي يحتمل أن يكون مصدرًا، وأن يكون بمعنى السنة (هذه) أي التي أنا فيها (رواه مسلم) وأخرجه أيضًا أحمد وأبو داود والنسائي والبيهقي (ج 5: ص 130) قال المزي: هذا الحديث في

2643 – (2) وعنه قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رمى الجمرة بمثل حصى الخذف. رواه مسلم. 2644 – (3) وعنه قال: رمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمرة يوم النحر ضحى، وأما بعد ذلك فإذا زالت الشمس. ـــــــــــــــــــــــــــــ رواية أبي الحسن بن العبد وأبي بكسر بن داسة، ولم يذكره أبو القاسم أي اللؤلؤي، ولذا لم يذكره المنذري في مختصر السنن. 2643 – قوله (بمثل حصى الخذف) تقدم ضبطه ومعناه في شرح حديث جابر الطويل، وهو دليل على استحباب كون الحصى في هذا المقدار، قال القاري: وهو قدر حبة الباقلي أو النواة أو الأنملة فيكره أصغر من ذلك وأكبر منه وذلك للنهي عن الثاني في الخبر الصحيح ((بأمثال هؤلاء فارموا، وإياكم والغلو في الدين)) – انتهى. وقال في رد المحتار: إنها مقدار الباقلاء، قال في النهر: وهذا بيان المندوب، وأما الجواز فيكون ولو بالأكبر مع الكراهة – انتهى. قال الشيخ ولي الله الدهلوي: وإنما رمى بمثل حصى الخذف لأن دونها غير محسوس، وفوقها ربما يؤذي في مثل هذا الموضع، والحديث رواه الدارمي والبيهقي (ج 5: ص 127) من طريق سفيان عن أبي الزبير عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم أن يرموا بمثل حصى الخذف. قال الزرقاني: أمرهم - صلى الله عليه وسلم - مع رميه بمثلها لأنهم كلهم لم يروا رميه لكثرتهم – انتهى. (رواه مسلم وأخرجه أيضًا الترمذي والنسائي والبيهقي (ج 5: ص 127) . 2644 – قوله (رمى رسول الله الجمرة) أي جمرة العقبة (يوم النحر) أي يوم العيد (ضحى) قال العراقي: الرواية فيه بالتنوين على أنه مصروف وهو مذهب النحاة من أهل البصرة سواء قصد التعريف أو التنكير. وقال الجوهري: تقول: لقيته ضحًى وضحى، إذا أردت به ضحى يومك لم تنونه (يعني أنه منون عند التنكير وغير منون عند التعريف) وقال: ضحوة النهار بعد طلوع الشمس ثم بعده الضحى وهي حين تشرق الشمس مقصورة تؤنث وتذكر فمن أنث ذهب إلى أنها جمع ضحوة، ومن ذكر ذهب إلى أنه إسم على فُعَل مثل صرد ونغر، وهو ظرف غير متمكن مثل سحر، قال: ثم بعده الضحاء ممدود مذكر، وهو عند ارتفاع النهار الأعلى، ومنه قول عمر رضي الله عنه: يا عباد الله أضحوا لصلاة الضحى، يعني لا تصلوها إلا إلى ارتفاع الضحى – انتهى. وقد تحصل من هذا أن الضحوة وقت طلوع الشمس، والضحى وقت شروقها، والضحاء وقت ارتفاعها. قال القاري: قوله ضحى أي وقت الضحوة من بعد طلوع الشمس إلى ما قبل الزوال (وأما بعد ذلك) أي بعد يوم النحر وهو أيام التشريق (فإذا زالت الشمس) أي فيرمي بعد الزوال، قال العيني (ج 10: ص 86) : يستفاد منه أن الرمي في أيام التشريق محله بعد زوال الشمس وهو كذلك، وقد اتفق عليه الأئمة، وخالف أبو حنيفة في اليوم الثالث منها فقال: يجوز الرمي فيه قبل الزوال استحسانًا

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ (مع الكراهة التنزيهية) وقال: إن رمى في اليوم الأول أو الثاني قبل الزوال أعاد وفي الثالث يجزئه. وقال عطاء وطاوس: يجوز في الثلاثة قبل الزوال – انتهى. وقال ابن الهمام: أفاد حديث جابر أن وقت الرمي في اليوم الثاني لا يدخل إلا بعد ذلك، وكذا في اليوم الثالث، وفي رواية غير مشهورة عن أبي حنيفة قال: أحب إليَّ أن لا يرمي في اليوم الثاني والثالث حتى تزول الشمس، فإن رمى قبل ذلك أجزأه، وحمل المروي من فعله عليه الصلاة والسلام على اختيار الأفضل وجه الظاهر اتباع المنقول لعدم المعقولية، كذا في المرقاة. وروى البخاري عن ابن عمر كما سيأتي في خطبة يوم النحر: قال كنا نتحين (أي نراقب الوقت) فإذا زالت الشمس رمينا. قال الحافظ: فيه دليل على أن السنة أن يرمي الجمار في غير يوم الأضحى بعد الزوال، وبه قال الجمهور، وخالف فيه عطاء وطاوس فقالا: يجوز قبل الزوال مطلقًا، ورخص الحنفية في الرمي في يوم النفر قبل الزوال. وقال إسحاق: إن رمى قبل الزوال أعاد إلا في اليوم الثالث فيجزئه – انتهى. قال شيخنا في شرح الترمذي بعد ذكر كلام الحافظ: لا دليل على ما ذهب إليه عطاء وطاؤس لا من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا من قوله. وأما ترخيص الحنيفة في الرمي في يوم النفر قبل الزوال فاستدلوا عليه بأثر ابن عباس الآتي وهو ضعيف، فالمعتمد ما قال به الجمهور. قال في الهداية: إن قدم الرمي في اليوم الرابع قبل الزوال بعد طلوع الفجر جاز عند أبي حنيفة، وهذا استحسان. وقالا: لا يجوز اعتبارًا بسائر الأيام، وإنما التفاوت في رخصة النفر، فإذا لم يترخص التحق بها. ومذهبه مروي عن ابن عباس – انتهى. قال ابن الهمام: أخرج البيهقي عنه: إذا انتفخ النهار من يوم النفر فقد حل الرمي والصدر، والانتفاخ والارتفاع، وفي سنده طلحة بن عمرو ضعفه البيهقي. قال ابن الهمام: ولا شك أن المعتمد في تعيين الوقت للرمي في الأول من أول النهار وفيما بعده من بعد الزوال ليس إلا فعله كذلك مع أنه غير معقول (أي لا مدخل للعقل فيه) ولا يدخل وقته قبل الوقت الذي فعله فيه عليه الصلاة والسلام كما لا يفعل في غير ذلك المكان الذي رمى فيه عليه الصلاة والسلام، وإنما رمى عليه الصلاة والسلام في الرابع بعد الزوال فلا يرمى قبله – انتهى. وذكر الشنقيطي في أضواء البيان حديث جابر الذي نحن في شرحه وحديث ابن عمر المتقدم وحديث عائشة عند أحمد وأبي داود بلفظ " أفاض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آخر يوم حين صلى الظهر ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس " الحديث، وحديث ابن عباس عند أحمد (ج 1: ص 248، 290، 328) والترمذي وابن ماجة بلفظ " رمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمار حين زالت الشمس " ثم قال: وبهذه النصوص الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تعلم أن قول عطاء وطاوس بجواز الرمي في أيام التشريق قبل الزوال، وترخيص أبي حنيفة في الرمي يوم النفر قبل الزوال، وقول إسحاق: إن رمى قبل الزوال في اليوم الثالث أجزأه كل ذلك خلاف التحقيق، لأنه مخالف لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الثابت عنه المعتضد بقوله " لتأخذوا عني مناسككم " ولذلك خالف أبا حنيفة في ترخيصه المذكور صاحباه محمد وأبو يوسف، ولم يرد في كتاب الله ولا سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - شيء يخالف ذلك، فالقول بالرمي قبل الزوال أيام التشريق

متفق عليه. 2645 – (4) وعن عبد الله بن مسعود، أنه انتهى إلى الجمرة الكبرى، فجعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه، ـــــــــــــــــــــــــــــ لا مستند له البتة مع مخالفته للسنة الثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم -، فلا ينبغي لأحد أن يفعله، والعلم عند الله تعالى (متفق عليه) أخرجه البخاري في باب رمي الجمار معلقًا مجزومًا ومسلم. موصولاً، وكذا أخرجه موصولاً أحمد والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن خزيمه وابن حبان وإسحاق بن راهويه والدارمي والبيهقي (ج 5: 131، 149) . 2645 – قوله (انتهى) أي وصل (إلى الجمرة الكبرى) أي جمرة العقبة، ووهم الطيبي فقال: أي الجمرة التي عند مسجد الخيف. قال الحافظ: وتمتاز جمرة العقبة عن الجمرتين الأخريين بأربعة أشياء: اختصاصها بيوم النحر، وأن لا يوقف عندها، وترمى ضحى، ومن أسفلها استحبابًا. قال: وجمرة العقبة هي الجمرة الكبرى وليست من منى بل هي حد منى من جهة مكة وهي التي بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - الأنصار عندها على الهجرة (فجعل البيت) أي الكعبة (عن يساره ومنى عن يمينه) فيه أنه يستحب لمن وقف عند جمرة العقبة أن يجعل مكة عن يساره ومنى على جهة يمينه ويستقبل الجمرة بوجهه، وروى أحمد (ج 1: ص 430، 432) والترمذي وابن ماجة حديث ابن مسعود هذا بلفظ " لما أتى عبد الله جمرة العقبة استبطن الوادي (أي قصد بطن الوادي ليقوم فيه للرمي) واستقبل القبلة " قال الحافظ بعد ذكره: وما رواه البخاري هو الصحيح، وهذا (أي ما رواه أحمد والترمذي وابن ماجة) شاذ، في إسناده المسعودي، وقد اختلط، وبالأول قال الجمهور، وجزم الرافعي من الشافعية بأنه يستقبل الجمرة ويستدبر القبلة، وقيل يستقبل القبلة ويجعل الجمرة عن يمينه، وقد أجمعوا على أنه من حيث رماها جاز سواء استقبلها أو جعلها عن يمينه أو يساره أو من فوقها أو من أسفلها أو وسطها، والاختلاف في الأفضل – انتهى. فالأفضل عند الجمهور الكيفية التي وردت في حديث ابن مسعود عند الشيخين وغيرهما. قال النووي في شرح مسلم: في حديث ابن مسعود استحباب كون الرمي من بطن الوادي فيستحب أن يقف تحتها في بطن الوادي فيجعل مكة عن يساره ومنى عن يمينه ويستقبل جمرة العقبة ويرميها بالحصيات السبع، وهذا هو الصحيح في مذهبنا " وبه قال جمهور العلماء. وقال بعض أصحابنا: يستحب أن يقف مستقبل الجمرة مستدبرًا مكة. وقال بعض أصحابنا: يستحب أن يقف مستقبل الكعبة وتكون الجمرة عن يمينه والصحيح الأول - انتهى. وقال ابن بطال: رمي جمرة العقبة من حيث تيسر من العقبة من أسفلها أو أعلاها أو وسطها، كل ذلك واسع، والموضع الذي يختار بها بطن الوادي من أجل حديث ابن مسعود، وكان جابر بن عبد الله يرميها من بطن الوادي، وبه قال عطاء وسالم وهو قول الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق. وقال مالك: رميها من أسفلها أحب إلي. وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه جاء والزحام

ورمى بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، ـــــــــــــــــــــــــــــ عند الجمرة فصعد فرماها من فوقها، ذكره العيني (ج 10: ص 87) وأما الجمرة الأولى (أي الجمرة الدُنيا – بضم الدال وبكسرها – أي القريبة إلى جهة مسجد الخيف) والثانية فيرمي مستقبل القبلة عندهم جميعًا ندبًا لا وجوبًا (ورمى بسبع حصيات) بفتح الصاد والياء جمع حصاة، وفيه دليل على أن رمي الجمرة يكون بسبع حصيات، وقد ترجم البخاري لحديث ابن مسعود هذا ((باب رمي الجمار بسبع حصيات)) قال الحافظ: أشار في الترجمة إلى رد ما رواه قتادة عن ابن عمر، قال: ما أبالي رميت الجمار بست أو سبع، وقد أنكر ذلك ابن عباس، وقتادة لم يسمع من ابن عمر، أخرجه ابن أبي شيبة من طريق قتادة، وروي من طريق مجاهد: من رمى بست فلا شيء عليه. ومن طريق طاوس يتصدق بشيء، وعن مالك والأوزاعي: من رمى بأقل من سبع وفاته التدارك يجبره بدم، وعن الشافعية في ترك حصاة مد، وفي ترك حصاتين مدان، وفي ثلاثة فأكثر دم. وعن الحنفية إن ترك أقل من نصف الجمرات الثلاث فنصف صاع وإلا فدم – انتهى. وقال العيني: يستفاد من حديث ابن مسعود أن رمي الجمرة لا بد أن يكون بسبع حصيات وهو قول أكثر العلماء، وذهب عطاء إلى أنه إن رمى بخمس أجزأه. وقال مجاهد: إن رمى بست فلا شيء عليه، وبه قال أحمد وإسحاق، واحتج من قال بذلك بما رواه النسائي من حديث سعد بن مالك رضي الله عنه قال: رجعنا في الحجة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعضنا يقول رميت: بست حصيات، وبعضنا يقول: رميت بسبع، فلم يعب بعضنا على بعض. وروى أبو داود والنسائي أيضًا من رواية أبي مجلز قال: سألت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن شيء من أمر الجمار فقال: ما أدري رماها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بست أو سبع. والصحيح الذي عليه الجمهور أن الواجب سبع كما صح من حديث ابن مسعود وجابر وابن عباس وابن عمر وغيرهم. وأجيب عن حديث سعد بأنه ليس بمسند، وعن حديث ابن عباس أنه ورد على الشك من ابن عباس، وشك الشاك لا يقدح في جزم الجازم، ومن رماها بأقل من سبع حصيات فذهب الجمهور فيما حكاه القاضي عياض إلى أن عليه دمًا، وهو قول مالك والأوزاعي. وذهب الشافعي وأبو ثور إلى أن على تارك حصاة مدًا من طعام وفي اثنتين مدين وفي ثلاث فأكثر دمًا، وللشافعي قول آخر أن في الحصاة ثلاث دم، وله قول آخر أن في الحصاة درهمًا. وذهب أبو حنيفة وصاحباه إلى أنه إن ترك أكثر من نصف الجمرات الثلاث فعليه دم، وإن ترك أقل من نصفها ففي كل حصاة نصف صاع – انتهى. (يكبر مع كل حصاة) فيه أنه يستحب التكبير عند رمي حصى الجمار. قال النووي: استحباب التكبير مع كل حصاة هو مذهبنا ومذهب مالك والعلماء كافة. قال القاضي عياض: وأجمعوا على أنه لو ترك التكبير لا شيء عليه. وقال الحافظ: قد أجمعوا على أن من تركه لا يلزمه شيء إلا الثوري فقال: يطعم، وإن جبره بدم أحب إلي – انتهى. وذكر الطبري عن بعضهم أنه لو ترك رمي جميعهن بعد أن يكبر عند كل جمرة سبع تكبيرًا أجزأه. قال: وإنما جعل الرمي في ذلك بالحصي سببًا لحفظ التكبيرات السبع كما جعل

........................................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ عقد الأصابع بالتسبيح سببًا لحفظ العدد، وذكر عن يحيى بن سعيد أنه سئل عن الخرز والنوى يسبح به قال: حسن قد كانت عائشة تقول: إنما الحصى للجمار ليحفظ به التكبيرات – انتهى. واستدل بهذا الحديث على اشتراط رمي الجمار واحدة واحدة لقوله ((يكبر مع كل حصاة)) وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " خذوا عني مناسككم "، وخالف في ذلك عطاء وصاحبه أبو حنيفة فقالا: لو رمى السبع دفعة واحدة أجزأه، كذا ذكره الحافظ. وقال ابن قدامة: وإن رمى الحصاة دفعة واحدة لم يجزه إلا عن واحدة، نص عليه أحمد، وهو قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي، وقال عطاء: يجزئه ويكبر لكل حصاة – انتهى. وما ذكره الحافظ من موافقة أبي حنيفة لعطاء في إجزاء رمي السبع دفعة واحدة لعله أخذه عن صاحب التوضيح من الشافعية كما سيأتي في كلام العيني أو عن الكرماني، فإنه ذهب إلى ذلك حيث قال: إذا وقعت السبع متفرقة على مواضع الجمرات جاز، كما لو جمع بين أسواط الحد بضربة واحدة وإن وقعت على مكان واحد لا يجوز، وليس هذا مشهور في مذهب الحنفية، بل المصرح في فروعهم عدم الإجزاء مطلقًا كما هو قول الأئمة الثلاثة، ففي الهداية: لورمي بسبع حصيات جملة فهذه الجملة واحدة لأن المنصوص عليه تفرق الأفعال، قال العيني في البناية: أي لأن المنصوص هو فعل الرمي بسبع حصيات متفرقات لا عين الحصيات – انتهى. وفي الغنية: الخامس (من الشرائط) تفريق الرميات، فلو رمى بسبع حصيات أو أكثر جملة واحدة لا يجزئه إلا عن واحدة ولو متفرقة عند الأربعة خلافًا لما في الكرماني أنها إذا وقعت متفرفة جاز، وتمامه في المنحة – انتهى. وفي اللباب: الرابع: تفريق الرميات، فلو رمي بسبع حصيات جملة واحدة لم يجزه إلا عن حصاة واحد. قال القاري: لأن المنصوص عليه تفرق الأفعال لا عين الحصيات، فإذا أتى بفعل واحد لا يكون إلا عن حصاة واحدة لاندراجها في ضمن الجملة، إلى آخر ما قال. وقال العيني: اختلفوا في من رمى سبع حصيات مرة واحدة فقال مالك والشافعي: لا يجزئه إلا عن حصاة واحدة ويرمي بعدها ستًا، وقال عطاء تجزئه عن السبع وهو قول أبي حنيفة، وهذا الذي ذكر عن أبي حنيفة ذكره صاحب التوضيح، وذكر في المحيط: ولو رمى إحدى الجمار بسبع حصيات رمية واحدة فهي بمنزلة حصاة وكان عليه أن يرمي ست مرات. قال العيني: العمدة في النقل عن صاحب مذهب من المذاهب على نقل صاحب من أصحاب ذلك المذهب – انتهى. فائدة: قال الحافظ: زاد محمد بن عبد الرحمن بن يزيد النخعي عن أبيه في هذا الحديث (عند أحمد ج 1: ص 427) عن ابن مسعود أنه لما فرغ من رمي جمرة العقبة قال: اللهم اجعله حجًا مبرورًا وذنبًا مغفورًا – انتهى. وروى البيهقي في السنن (ج 5: ص 129) عن سالم ابن عبد الله بن عمر أنه استبطن الوادي ثم رمي الجمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة: الله أكبر، الله أكبر، اللهم اجعله حجًا مبرورًا وذنبًا مغفورًا وعملاً مشكورًا. وقال: حدثني أبي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرمي الجمرة في هذا المكان ويقول كلما رمى بحصاة مثل ما قلت. قال البيهقي: عبد الله بن حكيم بن الأزهر

ثم قال: هكذا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة. متفق عليه. 2646 – (5) وعن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الاستجمار تَوّ، ورمي الجمار تَوّ، والسعي بين الصفا والمروة تَوّ، والطواف تَوّ، وإذا استجمر أحدكم فليستجمر بتَوّ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ ضعيف. وروى حنبل في المناسك عن زيد بن أسلم عن سالم بن عبد الله مثل ذلك كما في المغني (ثم قال) أي ابن مسعود (هكذا رمى) بصيغة الفعل (الذي أنزلت عليه سورة البقرة) قال ابن المنير: خص عبد الله سورة البقرة بالذكر لأنها التي ذكر الله فيها الرمي فأشار إلى أن فعله - صلى الله عليه وسلم - مبين لمراد كتاب الله تعالى. قال الحافظ: ولم أعرف موضع ذكر الرمي من سورة البقرة، والظاهر أنه أراد أن يقول: إن كثيرًا من أفعال الحج مذكور فيها، فكأنه قال: هكذا رمى الذي أنزلت عليه أحكام المناسك منبهًا بذلك على أن أفعال الحج توقيفية. وقيل خص البقرة بذلك لطولها وعظم قدرها وكثرة ما فيها من الأحكام – انتهى. وقال في اللمعات بعد ذكر كلام الحافظ: " ولم أعرف موضع ذكر الرمي فيها، قلت: لعل الإشارة إلى ذكر الرمي في قوله تعالى: {واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه} (2: 203) فإن الرمي في تلك الأيام، وينبئ عنه أول حديثي عائشة في الفصل الثاني – انتهى. (متفق عليه) وأخرجه أيضًا أحمد مختصرًا ومطولاً مرارًا (ج 1: ص 374، 408، 415، 422، 427، 436، 457، 458) وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي (ج 5: ص 129، 148) . 2646- قوله (الاستجمار) أي الاستنجاء بالأحجار (تَوّ) بفتح المثناة الفوقية وتشديد الواو، أي فرد، قال النووي: التو – بفتح التاء المثناة فوق وتشديد الواو – هو الوتر، والمراد بالاستجمار الاستنجاء – انتهى. والإيتار والفردية هنا بالثلاثة، وفي البواقي بالسبعة بدليل الأحاديث المصرحة بذلك. وقد تقدم في باب آداب الخلاء أن الإيتار بالثلاثة في الاستنجاء واجب (ورمي الجمار) في الحج (توّ) أي سبع حصيات وكلها واجبة (والسعي بين الصفا والمروة توّ) أي سبع وكلها واجبة (والطواف توّ) أي سبعة أشواط وكلها فرائض عند الجمهور، وعند الحنفية أربعة أشواط فرض والباقي واجب. قال الجزري في النهاية: يريد أنه يرمي الجمار في الحج فردًا وهي سبع حصيات ويطوف سبعًا ويسعى سبعًا. وقيل أراد بفردية الطواف والسعي أن الواجب منهما مرة واحدة لا تثنى ولا تكرر سواء كان المحرم مفردًا أو قارنًا (وإذا استجمر أحدكم فليستجمر بتو) قال المناوي: ليس هذا تكرارًا بل بالأول الفعل وبالثاني عدد الأحجار، وفيه وجوب تعدد الحجر لضرورة تصحيح الإيتار بما يتقدمه من الشفع، إذ لا قائل بتعيين الإيتار بحجر واحد – انتهى. وقال القاري: الظاهر أن المراد بالاستجمار هنا أي في قوله ((إذا استجمر أحدكم)) إلخ. هو التبخر، فإنه يكون بوضع العواد على جمرة النار فيرتفع التكرار وهو أولى من قول القاضي عياض وتبعه الطيبي أن المراد بالأول

(الفصل الثاني)

رواه مسلم. (الفصل الثاني) 2647 – (6) عن قدامة بن عبد الله بن عمار، قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يرمي الجمرة يوم النحر على ناقة صهباء، ليس ضرب ولا طرد، وليس قيل: إليك، إليك. رواه الشافعي، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، والدارمي. 2648 – (7) وعن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: " إنما جعل رمي الجمار، والسعي بين الصفا والمروة، لإقامة ذكر الله ". ـــــــــــــــــــــــــــــ الفعل وبالثاني عدد الأحجار – انتهى. وقال السندي في حاشية مسلم: يحتمل عندي في وجوه التكرير أن يحمل الاستجمار في هذا الحديث في أحد الموضعين على الاستنجاء وفي الموضع الآخر على التبخر، كتبخر أكفان الميت ونحوه والله تعالى أعلم (رواه مسلم) هذا الحديث من أفراد مسلم لم يخرجه البخاري ولا أصحاب السنن، وخرج منه البخاري الاستجمار خاصة من حديث أبي هريرة، والحديث ذكره المحب الطبري في القرى وقال: أخرجاه. وهو وهم منه. 2647- قوله (عن قدامة) بضم القاف وتخفيف الدال المهملة (بن عبد الله بن عَمّار) بفتح المهملة وتشديد الميم (رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم -) وفي بعض النسخ ((رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) (يرمي الجمرة) أي جمرة العقبة (على ناقة صهباء) بفتح الصاد المهملة وسكون الهاء، هي التي يخالط بياضها حمرة، وذلك بأن يحمر أعلى الوبر وتبيض أجوافه، وقال الطيبي: الصهبة كالشقرة. وقال الجزري: المعروف أن الصهبة مختصة بالشعر وهي حمرة يعلوها سواد (ليس) أي هناك (ضرب) أي منع بالعنف (ولا طرد) أي دفع باللطف (وليس) أي ثمة (قيل) بكسر القاف ورفع اللام مضافًا إلى (إليك إليك) أي قول ((إليك)) أي تنح وتبعد. قال ابن حجر تبعًا للطيبي: والتكرير للتأكيد، قال القاري: وهذا إنما يصح لو قيل لواحد إليك إليك، والظاهر أن المعنى أنه ما كان يقال للناس ((إليك إليك)) وهو اسم فعل بمعنى تنح عن الطريق، فلا يحتاج إلى تقرير متعلق كما نقله الطيبي بقوله: ضم إليك ثوبك وتنح عن الطريق - انتهى. والمقصود والغرض من هذا الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - على سجيته المتواضعة كان يرمي من غير أن يكون هناك ضرب للناقة أو طرد للناس أو قول إليك، فلا فعل صدر للضرب والطرد ولا قول ظهر للتبعيد والتنحية. والحديث يدل على رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا (رواه الشافعي) إلخ. وأخرجه أيضًا أحمد (ج 6: ص 412) وابن حبان والبيهقي (ج 5: ص 130) والحاكم (ج 1: ص 466) وصححه الترمذي، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط البخاري أقره الذهبي. 2684 – قوله (إنما جعل رمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة لإقامة ذكر الله) يعني إنما شرع ذلك لإقامة

رواه الترمذي، والدارمي، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. 2649 - (8) وعنها، قالت: قلنا: يا رسول الله! ألا نبني لك بناء يظلك بمنى؟ قال: " لا، ـــــــــــــــــــــــــــــ شعار النسك، قاله المناوي، وقال القاري: أي لأن يذكر الله في هذه المواضع المتبركة، فالحذر الحذرمن الغفلة. وإنما خُصا بالذكر مع أن المقصود من جميع العبادات هو ذكر الله تعالى لأن ظاهرهما فعل لا تظهر فيهما العبادة، وإنما فيهما التعبد للعبودية بخلاف الطواف حول بيت الله، والوقوف للدعاء فإن أثر العبادة لائحة فيهما. وقيل إنما جعل رمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة سنة لإقامة ذكر الله، يعني التكبير مع كل حجر والدعوات المذكورة في السعي سنة، ولا يبعد أن يكون لك من الرمي والسعي حكمة ظاهرة ونكتة باهرة غير مجرد التعبد وإظهار المعجزة، ثم أطال القاري الكلام في ذلك نقلاً عن الطيبي والغزالي، من شاء الوقوف على ذلك رجع إلى المرقاة وأضواء البيان (ج5: ص 315) للشنقيطي، وقد تقدم شيء من الكلام على ذلك في شرح حديث جابر الطويل، واللفظ المذكور في الكتاب للترمذي، ورواه أحمد وأبو داود والدارمي والحاكم بلفظ ((إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله)) زاد الحاكم ((لا غيره)) وفي الحديث حث على المحافظة على سنن الحج من ذكر الطواف ونحوه، وقال العزيزي: لعل المراد بالحديث الحث على الذكر في الطواف وتألييه – انتهى. (رواه الترمذي) إلخ، وأخرجه أيضًا أحمد وأبو داود في باب الرمل، وابن الجارود والحاكم (ج 1: ص 459) وقال هذا حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وسكت عنه أبو داود، ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره، وقال النووي في شرح المهذب بعد ذكر الحديث عن أبي داود بسنده ما لفظه: هذا الإسناد كله صحيح إلا عبيد الله فضعفه أكثرهم ضعفًا يسيرًا، ولم يضعف أبو داود هذا الحديث فهو حسن عنده. ورواه الترمذي من رواية عبيد الله هذا، وقال: هو حديث حسن، وفي بعض النسخ " حسن صحيح " فلعله اعتضد براوية أخرى – انتهى. قال الشنقيطي: عبيد الله بن أبي زياد المذكور هو القداح أبو الحصين المكي، وقد وثقه جماعة وضعفه آخرون، وحديثه معناه صحيح بلا شك، ويشهد لصحة معناه قوله تعالى {واذكروا الله في أيام معدودات} (2: 203) لأنه يدخل في الذكر المأمور به رمي الجمار بدليل قوله بعده {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه} الآية. وذلك يدل على أن الرمي شرع لإقامة ذكر الله كما هو واضح – انتهى. 2649 – قوله (قالت: قلنا) أي معشر الصحابة، وهذا لفظ الترمذي، وفي أبي داود والدرامي وابن ماجة ((قالت: قلت)) وفي السنن للبيهقي والمستدرك للحاكم ((قالت: قيل)) (ألا نبني) بصيغة المتكلم (بناء) وفي ابن ماجة ((بيتًا)) وفي أبي داود ((بيتًا أو بناء)) (يظلك) زاد في أبي داود ((من الشمس)) (قال: لا) أي لا تبنوا لي بناء بمنى لأنه ليس مختصًا بأحد، إنما هو موضع العبادة من الرمي وذبح الهدي والحلق ونحوها، فلو أجيز البناء فيه لكثرت الأبنية وتضيق المكان

منى مناخ من سبق ". رواه الترمذي، وابن ماجة، والدارمي. ـــــــــــــــــــــــــــــ (منى) مبتدأ و (مناخ من سبق) خبره، والمُناخ بضم الميم، موضع إناخة الإبل، والمعنى أن الاختصاص فيه بالسبق لا بالبناء فيه. قال الطيبي: أي أتأذن أن نبني لك بيتًا في منى لتسكن فيه فمنع وعلل بأن منى موضع لأداء النسك من النحر ورمي الجمار والحلق يشترك فيه الناس فلو بني فيها لأدى إلى كثرة الأبنية تأسيًا به فتضيق على الناس وكذلك حكم الشوارع ومقاعد الأسواق، وعند أبي حنيفة رحمه الله أرض الحرم موقوفة لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتح مكة قهرًا وجعل أرض الحرم موقوفة فلا يجوز أن يمتلكها أحد – انتهى. وقال الخطابي في معالم السنن: قد يحتج بهذا من لا يرى دور مكة مملوكة لأهلها ولا يرى بيعها وعقد الإجارة عليها جائزًا، وقد قيل: إن هذا خاص للنبي - صلى الله عليه وسلم - وللمهاجرين من أهل مكة فإنها دار تركوها لله تعالى فلم ير أن يعود فيها فيتخذوها وطنًا أو يبنوا فيها بناء، والله أعلم – انتهى. قال القاري: وفي أن هذا التعليل يخالف تعليله - صلى الله عليه وسلم - مع أن منى ليست دارًا هاجروا منها – انتهى. قلت: عدم جواز بيع أرض الحرم وبيوت مكة وإجارتها هو مذهب أبي حنيفة ومحمد والثوري، وإليه ذهب عطاء ومجاهد ومالك وإسحاق وأبو عبيد، وذهب أبو يوسف والشافعي وأحمد وطاوس وعمرو بن دينار وابن المنذر إلى الجواز، واحتج الأولون بحديث عائشة هذا، وما أجيب به من اختصاص ذلك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرين فلا يخفى ما فيه، فإن الخصوصية لا تثبت بالادعاء، وقال المحب الطبري في القرى (ص 438) بعد ما حكى نحو كلام الخطابي: ويحتمل أن يكون ذلك مخصوصًا بمنى لمكان اشتراك الناس في النسك المتعلق بها فلم ير - صلى الله عليه وسلم - لأحد اقتطاع موضع منها ببناء وغيره بل الناس فيها سواء، وللسابق حق السبق وكذلك الحكم في عرفة ومزدلفة إلحاقًا بها – انتهى. هذا وقد أطال الكلام في بيان حكم بيع دور مكة وإجارتها وحكم البناء بمنى التقي الفاسي في شفاء الغرام (ج 1: ص 26، 32، 320، 321) فعليك أن ترجع إليه (رواه الترمذي) إلخ، وأخرجه أيضًا أحمد وأبو داود في باب تحريم مكة، والحاكم (ج 1: ص 367) والبيهقي (ج 5: ص 139) وابن عساكر كلهم من طريق يوسف بن ماهك عن أمه مسيكة عن عائشة، والحديث حسنه الترمذي. وسكت عنه أبو داود، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، وقرره الذهبي في تلخيصه. وقال ابن القيم: قال ابن القطان: وعندي أن الحديث ضعيف لأنه من رواية يوسف بن ماهك عن أمه مسيكة وهي مجهولة لا نعرف روى عنها غير ابنها – انتهى. قلت: مدار هذا الحديث على مسيكة وهي مجهولة. قال الحافظ في التقريب: مسيكة المكية لا يعرف حالها، من الثالثة، وذكرها الذهبي في المجهولات من النساء، وفي تهذيب التهذيب " قال ابن خزيمة: لا أحفظ عنها راويًا غير ابنها ولا أعرفها بعدالة ولا حرج " – انتهى. وقيل: الصواب تحسين الحديث فإن أم يوسف بن ماهك تابعية قد سمعت عائشة ولم يعلم فيها جرح، ومثل هذا الحديث حسن عند أهل العلم بالحديث، ولذلك سكت عليه أبو داود وحسنه الترمذي وقرره المنذري وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

(الفصل الثالث)

(الفصل الثالث) 2650 - (9) عن نافع، قال: إن ابن عمر كان يقف عند الجمرتين الأوليين وقوفًا طويلاً. يكبر الله ـــــــــــــــــــــــــــــ 2650 – قوله (عن نافع) أي مولى ابن عمر (كان يقف) أي بعد الرمي (عند الجمرتين الأوليين) أي الأول والوسطى ففيه تغليب، والمراد بالأولى التي تقرب من مسجد الخيف بمنى وهي التي يقال لها الجمرة الدنيا، وهي أول الجمرات التي ترمى من ثاني يوم النحر، والثانية الجمرة الوسطى (وقوفًا طويلاً) مقدار ما يقرأ سورة البقرة، كما رواه ابن أبي شيبة بسند صحيح عن عطاء عن ابن عمر، قال ابن قدامة في المغني: قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسئل أيقوم الرجل عند الجمرتين إذا رمى؟ قال: إي لعمري شديدًا، ويطيل القيام أيضًا. قيل فإلى أين يتوجه في قيامه؟ قال إلى القبلة ويرميها في بطن الوادي، والأصل في هذا ما روت عائشة قالت: أفاض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من آخر يومه حين صلى الظهر ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق، يرمي الجمرة إذا زالت الشمس كل جمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ويقف عند الأولى والثانية فيطيل القيام ويتضرع، ويرمي الثالثة ولا يقف عندها، رواه أبو داود – انتهى. وقد ورد القيام عند الجمرتين بعد رميهما في حديث سالم عن ابن عمر عند البخاري كما سيأتي. وذكر ابن قدامة الإجماع على جميع ما ذكر فيه، وصرح أصحاب الفروع من المذاهب الأربعة باستحباب القيام الطويل بعد رمي الجمرتين الأوليين، منهم النووي وابن حجر من الشافعية والدردير من المالكية والقاري وغيره من الحنفية، ثم قال ابن قدامة (ج 3: ص 453) : وإن ترك الوقوف عندها والدعاء ترك السنة ولا شيء عليه، وبذلك قال الشافعي وأبو حنيفة وإسحاق وأبو ثور ولا نعلم فيه مخالفًا إلا الثوري قال: يطعم شيئًا، وإن أراق دمًا أحب إليّ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله فيكون نسكًا – انتهى. (يكبر الله) في هذا الوقوف الطويل الذي بعد الرمي بسبع حصيات كما هو ظاهر السياق، وإليه نحى الباجي حيث قال: بين عبد الله أن وقوفه عند الجمرتين إنما هو للتكبير والتسبيح والدعاء – انتهى. وقال النووي: ثم ينحرف قليلاً ويستقبل القبلة ويحمد الله ويكبر ويهلل ويسبح ويدعو، إلخ. وقال القاري في شرح اللباب فيقف بعد تمام الرمي لا عند كل حصاة مستقبل القبلة فيحمد الله ويكبر ويهلل ويسبح ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدعو – انتهى. ويحتمل على بعد التكبير عند كل حصاة كما هو مؤدى رواية سالم عن أبيه عند البخاري بلفظ ((كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات، يكبر على أثر كل حصاة ثم يتقدم فيسهل)) الحديث. وإليه مال الزرقاني إذ قال: قوله ((يكبر الله)) زاد سالم ((على أثر كل حصاة أي من السبع، ففيه مشروعية التكبير عند كل حصاة، وأجمعوا على أن من تركه لا شيء عليه إلا الثوري فقال: يطعم وإن جبره بدم أحب إلي – انتهى. والحاصل أن التكبير مشروع في كلا الموضعين عند الرمي بكل حصاة، وبعد الرمي في الوقوف الطويل بعد الجمرتين الأوليين لكن ظاهر أثر ابن عمر هذا هو الثاني، ويأتي بيان الأول في حديث

ويسبحه ويحمده ويدعو الله، ولا يقف عند جمرة العقبة. ـــــــــــــــــــــــــــــ سالم عن ابن عمر في باب خطبة يوم النحر وسنذكر لفظه (ويحمده) من الحمد أو من التحميد (ويدعو الله) قال ابن قدامة (ج 3: ص 451) : روى أبو داود أن ابن عمر كان يدعو بدعائه الذي دعى به بعرفة ويزيد ((وأصلح وأتم لنا مناسكنا)) وقال ابن المنذر: كان ابن عمر وابن مسعود يقولان عند الرمي: اللهم اجعله حجًا مبرورًا وذنبًا مغفورًا (ولا يقف عند جمرة العقبة) بعد الرمي للدعاء، وجمرة العقبة هي التي يبدأ بها في الرمي في أول يوم، ويقتصر عليها، ثم تصير أخيرة في كل يوم بعد ذلك، ولفظ البخاري فيما رواه عن سالم عن عبد الله بن عمر أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات يكبر على أثر كل حصاة ثم يتقدم فيسهل فيقوم مستقبل القبلة قيامًا طويلاً فيدعو ويرفع يديه، ثم يرمي الجمرة الوسطى كذلك فيأخذ ذات الشمال فيسهل ويقوم مستقبل القبلة قيامًا طويلاً فيدعو ويرفع يديه ثم يرمي الجمرة ذات العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها ثم ينصرف ويقول: هكذا رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله. قال الحافظ: قال ابن قدامة: لا نعلم لما تضمنه حديث ابن عمر هذا مخالفًا إلا ما روي عن مالك من ترك رفع اليدين عند الدعاء بعد رمي الجمار، وأما ترك الوقوف عند جمرة العقبة فهو مجمع عليه، حكى الإجماع على ذلك في المحلى شرح الموطأ. وقال الحافظ في الفتح: لا نعرف فيه خلافًا. وقال ابن قدامة (ج 3: ص 427) : ولا يسن الوقوف عندها لأن ابن عمر وابن عباس رويا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رمى جمرة العقبة انصرف ولم يقف. رواه ابن ماجة – انتهى. وأخرج أبو داود وغيره من رواية سليمان بن عمرو عن أمه وهي أم جندب الأزدية أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقم عندها أي لم يقف عند جمرة العقبة. وتقدم حديث عائشة من رواية أبي داود بلفظ: يقف عند الأولى والثانية فيطيل القيام ويتضرع ويرمي الثالثة ولا يقف عندها. واختلف في تعليل ذلك على أقوال: ففي المحلى: السر في الوقوف والدعاء بعد الأوليين دون العقبة أن يقع الدعاء في وسط العبادة. وقيل: إنها وقعت في ممر الناس، فكان في الوقوف هناك قطع للسبيل على الناس – انتهى. وعامة أهل العلم على الثاني. قال القاري في شرح اللباب: إذا فرغ من الرمي لا يقف للدعاء عند هذه الجمرة في الأيام كلها بل ينصرف داعيًا، ولعل وجه عدم الوقوف للدعاء ها هنا على طبق سائر الجمرات تضييق المكان. وقال النووي: ولا يقف عندها للدعاء. قال ابن حجر: أي لا في يوم النحر ولا في ما بعده لضيق محلها فيضر بغيره، لكن هذا باعتبار ما كان على أنه لو علل بالتفاؤل بالقبول مقارنًا لفراغه منها لم يبعد – انتهى. وقال الباجي: شرع الوقوف عند الأولى والوسطى ولم يشرع عند الآخرة، ويحتمل أن يكون ذلك – والله أعلم – من جهة المعنى أن موضع الجمرتين الأوليين فيه سعة للقيام للدعاء ولمن يرمي، وأما جمرة العقبة فموضعها ضيق للوقوف عندها للدعاء لامتناع الرمي على من يريد الرمي، ولذلك الذي يرميها لا ينصرف على طريقه، وإنما ينصرف من أعلى الجمرة، ولو انصرف من طريقه ذلك

(7) باب الهدي

رواه مالك. (7) باب الهدي ـــــــــــــــــــــــــــــ لمنع من يأتي بالرمي – انتهى. وأما التعليل بوقوع الدعاء في وسط العبادة فأصله من صاحب الهداية، إذ قال: الأصل أن كل رمي بعده رمي يقف بعده لأنه في وسط العبادة فيأتي بالدعاء فيه، وكل رمي ليس بعده رمي لا يقف لأن العبادة قد انتهت، ولذا لا يقف بعد العقبة في يوم النحر أيضًا – انتهى. وقد ظهر من هذا كله أن ترك الوقوف للدعاء بعد العقبة ثابت بالأحاديث المرفوعة وآثار الصحابة، ومجمع عليه عند الأئمة الأربعة وغيرهم، وإنما الاختلاف في تعليله، فقيل: وقوع الدعاء في الوسط، وقيل: ضيق المكان، وقيل: التفاؤل بالقبول. وقريب من هذا الأخير ما ذكره الشيخ الدهلوي قال: لما تشرفت بهذه العبادة ألقي في روعي بلا سابقة فكر وتأمل بطريق الإلهام نكتة في عدم الوقوف عند هذه الجمرة وأرجو أن يكون صوابًا، وهو أن في عدم وقوفه عندها إشارة من الرب الرحيم ورسوله الكريم إلى أن العبد لما بلغ الجهد في العبادة وسعى في طريق المجاهدة والرياضة ووقف على باب الرحمة فدعا وسأل وأدى حق الخدمة والطاعة في الجمرتين الأوليين سهل الله تعالى عليه الأمر وأباح عليه الدعة والراحة بفضله وكرمه وأفاض عليه آثار رحمته وعفوه ومغفرته ولا سيما في هذه العبادة التي هي الحج المثمر لغاية آثار الرحمة والمغفرة، فكأنه قال: يا عبادي قد أتعبتم أنفسكم وجاهدتم حق الجهاد اربعوا على أنفسكم فقد غفرت لكم. وعرضت هذه النكتة على أكابر علماء مكة الذين كانوا حاضرين في ذلك المقام فقبلوه واستحسنوه. (رواه مالك) في باب رمي الجمار عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقف، الخ. وهو من أصح الأسانيد، وأخرجه أيضًا البيهقي (ج 5: ص 149) من طريق مالك، وأصله في صحيح البخاري مرفوعًا كما تقدم. (باب الهدي) بفتح الهاء وإسكان الدال وكسرها مع تشديد الياء لغتان، والأول أفصح، اسم لما يهدى إلى الحرم من النعم شاة كانت أو بقرة أو بعيرًا ليتقرب بإراقة دمه في الحرم. قيل: والواحدة هدية. قال الجوهري: الهديُ ما يهدى إلى الحرم من النعم، والهديّ على فعيل مثله، وقرئ {حتى يبلغ الهدي محله} (2: 196) بالتخفيف والتشديد، الواحدة هدْية وهديّة. قال ابن رشد: إن النظر في الهدي يشتمل على معرفة وجوبه وعلى معرفة جنسه وعلى معرفة حسنه وكيفية سوقه ومن أين يساق؟ وإلى أين ينتهي بسوقه؟ وهو موضع نحره وحكم لحمه بعد النحر، فنقول: إنهم أجمعوا على أن الهدي المسوق في هذه العبادة منه واجب ومنه تطوع، فالواجب منه ما هو واجب بالنذر ومنه ما هو واجب في بعض أنواع هذه العبادة. قال: فأما جنس الهدي فإن العلماء متفقون على أنه لا يكون الهدي إلا من الأزواج الثمانية التي نص الله تعالى عليها، وأن الأفضل في الهدايا هي الإبل ثم البقر ثم الغنم، وإنما اختلفوا في الضحايا وأما الأسنان فإنهم أجمعوا أن الثني فما فوقه يجزئ منها وأنه لا يجزئ الجذع من المعز في الضحايا والهدايا، واختلفوا في

(الفصل الأول)

(الفصل الأول) 2651 – (1) عن ابن عباس، قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر بذي الحليفة، ثم دعا بناقته فأشعرها ـــــــــــــــــــــــــــــ الجذع من الضان قال: وليس في عدد الهدي حد معلوم، وكان هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع مائة، وأما كيفية سوق الهدي فهو التقليد والإشعار وإذا كان الهدي من الإبل والبقر فلا خلاف أنه يقلد نعلاً أو نعلين، واختلفوا في تقليد الغنم فقال مالك وأبو حنيفة: لا تقلد الغنم، وقال الشافعي وأحمد: تقلد (إلى آخر ما قال) . 2651 – قوله (صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر بذي الحليفة) أي ركعتين لكونه مسافرًا، واكتفى بهما عوضًا عن ركعتي الإحرام، أو صلى ركعتين أخريين سنة الإحرام، قاله القاري. وقال الأبي: صلاته الظهر بذي الحليفة لا ينافي أن يكون إحرامه أثر نافلة (ثم دعا بناقته) قيل: لعلها كانت من جملة رواحله فأضافها إليه. وقال الطيبي: أي بناقته التي أراد أن يجعلها هديًا، فاختصر الكلام. يعني فالإضافة جنسية (فأشعرها) أي طعنها، من الإشعار وهو في اللغة الإعلام، مأخوذ من الشعور وهو العلم بالشيء من شعر يشعر كنصر ينصر، قاله العيني. وقال الراغب: الشعر معروف قال تعالى {ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها} (16: 80) الآية. ومنه استعير شعرت كذا أي علمت علمًا في الدقة كإصابة الشعر، وسمي الشاعر شاعرًا لفطنته ودقة معرفته {لا تحلوا شعائر الله} (5: 2) أي ما يهدى إلى بيت الله، سمي بذلك لأنها تشعر أي تعلم بأن تدمي بشعيرة أي حديدة – انتهى. وفي الشرع هو أن يشق أحد سنامي البدن ويطعن فيه حتى يسيل دمها ليعرف أنها هدي وتتميز إن خلطت وتعرف إن ضلت ويرتدع عنها السراق ويأكلها الفقراء إذا ذبحت في الطريق لخوف الهلاك. والحديث يدل على أن الإشعار سنة، وبه قال الجمهور، ومنهم الأئمة الثلاثة، وروي عن أبي حنيفة أن الإشعار بدعة مكروه لأنه مثلة وتعذيب الحيوان وهو حرام، وإنما فعله - صلى الله عليه وسلم - لأن المشركين لا يمتنعون عن تعرضه إلا بالإشعار. وقال الجمهور: القول بكراهته مخالف للأحاديث الصحيحة الواردة بالإشعار وليس هو مثلة بل هو كالفصد والحجامة والختان والكي للمصلحة، وأيضًا تعرض المشركين في ذلك الوقت بعيد لقوة الإسلام. وقد قيل إن كراهة أبي حنيفة الإشعار إنما كان من أهل زمانه فإنهم كانوا يبالغون فيه بحيث يخاف سراية الجراحة وفساد العضو، كذا في اللمعات. وقال الحافظ في شرح حديث المسور بن مخرمة في إشعار النبي - صلى الله عليه وسلم - الهدي زمن الحديبية وحديث عائشة في إشعاره عند بعثه إلى مكة ما لفظ ((فيه مشروعية الإشعار وهو أن يكشط جلد البدنة حتى يسيل دم ثم يسلته فيكون ذلك علامة على كونها هديًا وقال أيضًا: وفائدته الإعلام بأنها صارت هديًا ليتبعها من يحتاج إلى ذلك، وحتى لو اختلطت بغيرها تميزت أو ضلت عرفت أو عطبت عرفها المساكين بالعلامة فأكلوها مع ما في ذلك من تعظيم شعار الشرع وحث الغير عليه. وقال الشاه ولي الله الدهلوي: السر في الإشعار التنويه بشعائر الله وأحكام

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ الملة الحنيفية يري ذلك منه الأقاصي والأداني، وأن يكون فعل القلب منضبطًا بفعل ظاهر – انتهى. قال الحافظ: وبمشروعيته قال الجمهور من السلف والخلف، وذكر الطحاوي في اختلاف العلماء كراهته عن أبي حنيفة، وذهب غيره إلى استحبابه للإتباع حتى صاحباه أبو يوسف ومحمد فقالا: هو حسن. قال: وقال مالك: يختص الإشعار بمن لها سنام. قال الطحاوي: ثبت عن عائشة وابن عباس التخيير في الإشعار وتركه فدل على أنه ليس بنسك، لكنه غير مكروه لثبوت فعله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الحافظ: وأبعد من منع الإشعار واعتل باحتمال أنه كان مشروعًا قبل النهى عن المثلة، فإن النسخ لا يصار إليه بالاحتمال، بل وقع الإشعار في حجة الوداع وذلك بعد النهي عن المثلة بزمان. وقال الخطابي وغيره: اعتلال من كره الإشعار بأنه من المثلة مردود بل هو باب آخر كالكى وشق أذن الحيوان ليصير علامة وغير ذلك من الوسم وكالختان والحجامة. وشفقة الإنسان على المال عادة فلا يخشى ما توهموه من سريان الجرح حتى يفضي إلى الهلاك، ولو كان ذلك هو الملحوظ لقيده الذي كرهه به كأن يقول: الإشعار الذي يفضي بالجرح إلى السراية حتى تهلك البدنة مكروه فكان قريبًا، قال الحافظ: وقد كثر تشنيع المتقدمين على أبي حنيفة في إطلاق كراهة الإشعار وانتصر له الطحاوي في المعاني فقال: لم يكره أبو حنيفة أصل الإشعار وإنما كره ما يفعل على وجه يخاف منه هلاك البدن كسراية الجرح لا سـ ... مع الطعن بالشفرة فأراد سد الباب عن العامة، لأنهم لا يراعون الحد في ذلك، وأما من كان عارفًا بالسنة في ذلك فلا. وروي عن إبراهيم النخعي أيضًا أنه كره الإشعار، ذكر ذلك الترمذي، قال سمعت أبا السائب يقول: كنا عند وكيع فقال لرجل ممن ينظر في الرأي: أشعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقول أبو حنيفة: هو مثلة. قال الرجل فإنه قد روي عن إبراهيم النخعي أنه قال: الإشعار مثلة. قال: فرأيت وكيعًا غضب غضبًا شديدًا وقال: أقول لك: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول قال إبراهيم ما أحقك أن تحبس ثم لا تخرج حتى تنزع عن قولك هذا – انتهى. قال الحافظ: وفي هذا تعقب على الخطابي حيث قال: لا أعلم أحدًا من أهل العلم أنكر الإشعار غير أبي حنيفة وخالفه صاحباه وقالا في ذلك بقول عامة أهل العلم – انتهى. وفيه أيضًا تعقب على ابن حزم في زعمه أنه ليس لأبي حنيفة في ذلك سلف، وقد بالغ ابن حزم في هذا الموضع، ويتعين الرجوع إلى ما قال الطحاوي فإنه أعلم من غيره بأقوال أصحابه – انتهى كلام الحافظ. وقال ابن عابدين: جرى (صاحب الدر المختار) على ما قاله الطحاوي والشيخ أبو منصور الماتريدي من أن أبا حنيفة لم يكره أصل الإشعار، وكيف يكرهه مع ما اشتهر فيه من الأخبار، وإنما كره إشعار أهل زمانه الذي يخاف منه الهلاك خصوصًا في حر الحجاز فرأى الصواب حينئذ سد هذا الباب على العامة، فأما من وقف على الحد بأن قطع الجلد دون اللحم فلا بأس بذلك. قال الكرماني (في المناسك) : وهذا هو الأصح وهو اختيار قوام الدين وابن الهمام، فهو مستحب لمن أحسنه. قال في النهر: وبه يستغنى عن كون العمل على قولهما بأنه حسن – انتهى. قلت: ما روي عن أبي حنيفة من القول بكراهة

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ الإشعار لا شك أنه مخالف للأحاديث الصحيحة ومنابذ للسنة، واضطربت الحنفية في الجواب عنها فقال بعضهم: إنما أنكر أبو حنيفة الإشعار لأنه يجهد البدنة، وفيه ما لا يخفى من أذية الحيوان وتعذيبه وقد نهى عن ذلك ورأى أنه من المثلة وهو منهي عنه. وعند التعارض الترجيح للمحرم، قالوا: وقد روي عن ابن عباس التخيير فيه والرخصة، وعن عائشة تركه، فرجح أبو حنيفة الترك لأنه جهة المثلة وهي حرام، وترك الندب أولى من اقتحام التحريم. وأجاب الخطابي عن ذلك بأن المثلة إنما هو أن يقطع عضو من البهيمة يراد به التعذيب أو تبان قطعة منها للأكل كما كانوا يفعلون ذلك من قطعهم أسنمة الإبل وأليات الشاه يبينونها والبهيمة حية فتعذب بذلك، وإنما سبيل الإشعار سبيل ما أبيح من الكي والتبزيغ والتوديج في البهائم، وسبيل الختان والفصاد والحجامة في الآدميين، وإذا جاز الكي واللدغ بالميسم ليعرف بذلك ملك صاحبه جاز الإشعار ليعلم أنه بدنة نسك وتصان فلا يعرض لها حتى تبلغ المحل – انتهى. قال الشوكاني بعد ذكره. على أنه لو كان من المثلة لكان ما فيه من الأحاديث مخصصًا له من عموم النهي عنها. وقال ابن حجر في شرح مناسك النووي: وإنما لم يكن الإشعار منهيًا عنه، لأن أخبار النهى عن المثلة عامة وأخباره خاصة فقدمت. وقال الشيخ عبد الحي اللكنوي في حاشية الهداية: مذهب الإمام ها هنا وقع مخالفًا للأحاديث المروية في باب الطعن والإشعار، رواها مسلم والبخاري ومالك وغيرهم. وما ذكروه من التعارض بين أحاديث الإشعار وبين النهي عن المثلة فغير صحيح لوجهين أحدهما أن التعارض إنما يكون عند الجهل بالتاريخ، ومعلوم أن إشعاره كان في حجة الوداع، والنهي عن المثلة كان في غزوة خيبر كما هو مصرح في بعض الروايات فأنى التعارض، بل يكون عمل الإشعار متأخرًا فليعمل به، وثانيهما وهو أقواهما أن الإشعار ليس بمثلة إذ ليس كل جرح مثلة بل هو ما يكون تشويهًا كقطع الأنف والأذن ونحو ذلك فلا يقال لكل جرح أنه مثلة فلا تعارض بين النهى عن المثلة وبين خبر الإشعار، وقال بعضهم: معنى قول الراوي ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشعر بدنته)) أعلمها بعلامة ويمكن أن يكون ذلك سوى الجرح لأن الإشعار هو الإعلام، كذا ذكره الإمام المحبوبي حكاه في البناية عن الإسبيجابي، وهذا الجواب يغني حكايته عن رده، كيف وقد ورد في بعض الروايات أنه طعن، وهو صريح في الجرح، وقال بعضهم: حديث الإشعار منسوخ بأحاديث النهى عن المثلة، وقد تقدم الجواب عن هذا في كلام الحافظ وغيره، وقال بعضهم: الذي اشتهر عن أبي حنيفة من منع الإشعار فهو منع لما ارتكبه أهل زمانه من المبالغة فيه لا أصل الإشعار، أو هو ردع للعوام مطلقًا إبقاء على الهدايا وخوفًا عما يؤل الأمر إليه من المبالغة فيه والوقوع في المنهي عنه طلبًا لما هو مندوب فقط. وهذا قريب مما قاله الطحاوي. وقال بعضهم: إنما كره أبو حنيفة إيثار الإشعار على التقليد يعنى أن الأولى عنده التقليد واختيار الإشعار عليه مكروه، ولا يخفى ما فيه من التمحل، فإنه مخالف لما اشتهر عن أبي حنيفة من كراهة الإشعار مطلقًا وفيه أيضًا أنه لا يحصل الغرض

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ المذكور بالتقليد، لأنه يحتمل أن ينحل ويذهب بخلاف الإشعار فأنه ألزم، وقال بعضهم: إن إشعاره - صلى الله عليه وسلم - كان لصيانة الهدي لأن المشركين لا يمتنعون عن تعرضه إلا به قال في فتح القدير متعقبًا على هذا: قد يقال هذا يتم في إشعار الحديبية وهو مفرد بالعمرة، لا في إشعار هدايا حجة الوداع – انتهى. وقد تقدم نحو هذا عن صاحب اللمعات، وقال الشيخ اللكنوي في حاشية الهداية: لو سلمنا أن إشعاره كان لأن المشركين كانوا لا يمتنعون إلا به لكن إزالة السبب لا تقتضي إزالة المسبب، أما ترى إلى الرمل أنه بقي سنة مع زوال سببه فلا جرم يبقي الإشعار سنة أيضًا وإن زال سببه، قال: والأحسن في تأويل قول أبي حنيفة ما ذكره الطحاوي أنه إنما كره إشعار أهل زمانه، وهذا توجيه جيد يجب صرف مذهبه إليه لئلا يكون مخالفًا للأحاديث الصريحة، ومع قطع النظر عن هذا التأويل لا طعن على أبي حنيفة في هذا الباب لاحتمال عدم وصول أحاديث الإشعار إليه بطريق الصحة، والإمام إذا لم يصل إليه الحديث فعمل بالقياس فهو معذور. وقال في تعليقه على موطأ محمد: وحمله الطحاوي على أنه كره المبالغة فيه بحيث يؤدي إلى السراية وهو محمل حسن، ولولاه لكان قول أبي حنيفة مخالفًا للثابت بالأحاديث الصحيحة الصريحة صريحًا، وللقوم في توجيه ما روي عنه كلمات قد فرغنا عن دفعها في تعليقاتي على الهداية فلا نضيع الوقت بذكرها – انتهى. تنبيه: اتفق من قال بالإشعار بإلحاق البقر في ذلك بالإبل إلا سعيد بن جبير، واتفقوا على أن الغنم لا تشعر لضعفها ولكون صوفها أو شعرها يستر موضع الإشعار، وأما على ما نقل عن مالك فلكونها ليست ذات أسنمة، والله أعلم كذلك في الفتح. قلت: اختلف أصحاب المذاهب الأربعة في إشعار الإبل والبقر بعد ما اتفقوا على أن الغنم لا تشعر، فذهب الشافعية والحنابلة إلى استنان الإشعار في الإبل والبقر مطلقًا أي ولو لم يكن لها سنام، قال القسطلاني: إن لم يكن لها سنام أشعر موضعه هذا مذهب الشافعية وهو ظاهر المدونة. وقال القسطلاني في موضع آخر: مذهب الشافعي وموافقيه أنه يستحب تقليد البقر وإشعارها. وفي مناسك النووي: إن كانت بدنة أو بقرة استحب أن يقلدها وأن يشعرها أيضًا، وهو أن يضرب صفحة سنامها اليمنى. قال ابن حجر في شرحه: قوله ((صفحة سنامها)) هو في الإبل واضح، وأما البقر فلا سنام لها فليضربها في محله لو كان لها أخذًا مما في المجموع عن النص. وقال ابن قدامة: ويسن إشعار الإبل والبقر، وقال مالك: إن كانت البقرة ذات سنام فلا بأس بإشعارها وإلا فلا. ثم قال ابن قدامه: وتشعر البقرة لأنها من البدن فتشعر كذات السنام، وأما الغنم فلا يسن إشعارها لأنها ضعيفة وصوفها وشعرها يستر موضع إشعارها – انتهى. وأما عند المالكية ففي الإبل قولان، المرجح الإشعار مطلقًا أي ولو لم يكن لها سنام، والثاني التقييد بالسنام. وفي البقر ثلاثة أقوال: الأول الإثبات مطلقًا والثاني النفي مطلقًا، والثالث إشعار ذات السنام وهو المرجح عندهم كما يظهر من كلام الباجي والدردير والدسوقي والمدونة. وأما عند الحنفية فلا إشعار في البقر مطلقًا. قال في شرح اللباب: الإبل تقلد وتجلل وتشعر، والبقر

في صفحة سنامها الأيمن، ـــــــــــــــــــــــــــــ لا تشعر بل تجلل وتقلد والغنم لا يفعل بها شيء من الثلاثة – انتهى. (في صحفة سنامها) بفتح السين والصفحة الجانب والسنام أعلى ظهر البعير (الأيمن) صفة صفحة وذكره لمجاورته لسنام، وهو مذكر، أو على تأويل صفحة بجانب. وبه جزم النووي حيث قال: وصف لمعنى صفحة لا للفظها. ثم قال: أما محل الإشعار فمذهبنا ومذهب جماهير العلماء من السلف والخلف أنه يستحب الإشعار في صفحة السنام اليمنى. وقال مالك في اليسري. وهذا الحديث يرد عليه – انتهى. قلت: اختلف العلماء في أن الإشعار في الأيمن أفضل أو في الأيسر وللمالكية في ذلك أربعة أقوال كما في الدسوقي والإكمال حيث قالا: وفي أولويته في الشق الأيمن أو الأيسر، ثالثها إنما السنة في الأيسر، ورابعها إنهما سواء – انتهى. لكن مشهور مذهب مالك الأيسر كما في الإكمال، ولذا اقتصر عليه عامة نقلة المذاهب كالنووي والحافظ والعيني وغيرهم، وبه قال صاحبا أبي حنيفة كما في العيني وغيره. وقال محمد في موطأه بعد رواية أثر ابن عمر: أنه كان يشعر بدنته في الشق الأيسر إلا أن تكون صعابًا، فإذا لم يستطع أن يدخل بينها أشعر من الشق الأيمن. قال محمد: وبهذا نأخذ الإشعار من الجانب الأيسر إلا أن تكون صعابًا مقرنة لا يستطيع أن يدخل بينهما فليشعرها من الجانب الأيسر والأيمن (الواو بمعنى أو) انتهى. وهو أي الإشعار في الشق الأيسر رواية أحمد، وفي أخرى له المشهور عنه أنه يشعر في الأيمن وبه قال الشافعي، وهو رواية عن أبي يوسف وفي الدر المختار: الإشعار هو شق سنامها من الأيسر أو الأيمن. وفي الهداية: صفته أن يشق سنامها من الجانب الأيمن أو الأيسر، قالوا: والأشبه هو الأيسر، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - طعن في جانب اليسار مقصودًا، وفي جانب الأيمن اتفاقًا. قال ابن الهمام: قالوا لأنها كانت تساق إليه وهو يستقبلها فيدخل من قبل رؤسها والحربة بيمينه لا محالة، والطعن حينئذ إلى الجهة اليسار أمكن وهو طبع هذه الحركة فيقع الطعن كذلك مقصودًا ثم يعطف طاعنًا إلى جهة يمينه بيمينه وهو مكتلف بخلافه إلى الجهة الأولى – انتهى. وهذا مبني على أنه - صلى الله عليه وسلم - أشعر في الأيمن والأيسر. أما الأول فهو مذكور في حديث ابن عباس عند مسلم الذي نحن في شرحه، وأما الثاني أي الطعن في الأيسر فقال ابن عبد البر في كتاب التمهيد: رأيت في " كتاب ابن علية " عن أبيه عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي حسان الأعرج عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشعر بدنه من الجانب الأيسر ثم سلت الدم عنها قال ابن عبد البر: هذا عندي منكر في حديث ابن عباس، والمعروف ما رواه مسلم وغيره في الجانب الأيمن لا يصح في غير ذلك إلا أن ابن عمر كان يشعر بدنه من الجانب الأيسر – انتهى. وقد صحح ابن القطان كلامه هذا قال: وأنا أخاف أن يكون تصحف فيه الأيمن بالأيسر – انتهى. لكن قال الزيلعي في نصب الراية (ج 3: ص 116) : قد روي هذا الحديث من غير طريق ابن علية، فرواه أبو يعلى الموصلي في مسنده حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا شعبة بن الحجاج عن

وسلت الدم عنها، وقلدها نعلين، ـــــــــــــــــــــــــــــ قتادة عن أبي حسان عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أتى ذا الحليفة أشعر بدنته في شقها الأيسر ثم سلت الدم بأصبعه، فلما علت به راحلته البيداء لبى – انتهى. وقد سكت عليه الزيلعي والحافظ في الدراية. قيل: ويؤيده أثر ابن عمر عند مالك، كما سيأتي. قلت: لم أجد رواية صحيحة أو ضعيفة تدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - طعن في بعض البدنة في الشق الأيسر، وفي البعض الآخر في الشق الأيمن. وأما رواية أبي يعلى الموصلي فهي معارضة لما رواه الجماعة إلا البخاري عن ابن عباس في الإشعار في الشق الأيمن فيقدم هذا ويرجح على رواية أبي يعلى. وأما تأويل الباجي لحديث ابن عباس عند مسلم بأنه كان ذلك لصعوبتها أو ليرى الجواز، فلا يخفى ما فيه لأنه احتمال ناشئ من غير دليل. قال ابن قدامة (ج 3: ص 548) : السنة الإشعار في صفحتها اليمنى، وبهذا قال الشافعي وأبو ثور، وقال مالك وأبو يوسف: بل تشعر في صفحتها اليسرى. وعن أحمد مثله لأن ابن عمر فعله. ولنا ما روى ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بذي الحليفة ثم دعا ببدنة وأشعرها من صفحة سنامها الأيمن – الحديث. رواه مسلم. وأما ابن عمر فقد روي عنه كمذهبنا رواه البخاري (معلقًا) ثم فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى من قول ابن عمر وفعله بلا خلاف، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعجبه التيمن في شأنه كله – انتهى. وقال البخاري في صدر ((باب من أشعر بذي الحليفة ثم أحرم)) : وقال نافع كان ابن عمر إذا أهدى من المدينة قلده وأشعره بذي الحليفة يطعن في شق سنامه الأيمن بالشفرة ووجهها قبل القبلة باركة. قال الحافظ: وصله مالك في الموطأ قال: عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا أهدي هديًا من المدينة قلده وأشعره بذي الحليفة، يقلده قبل أن يشعره وذلك في مكان واحد وهو موجه للقبلة، يقلده بنعلين ويشعره من الشق الأيسر ثم يساق معه حتى يوقف به مع الناس بعرفة ثم يدفع به معهم إذا دفعوا، فإذا قدم منى غداة النحر نحره. وعن نافع عن ابن عمر كان إذا طعن في سنام هديه وهو يشعره قال: بسم الله والله أكبر. وأخرج البيهقي (ج 5: ص 232) من طريق ابن وهب عن مالك وعبد الله بن عمر عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يشعر بدنه من الشق الأيسر إلا أن تكون صعابًا، فإذا لم يستطع أن يدخل بينها أشعر من الشق الأيمن، وإذا أراد أن يشعرها وجهها إلى القبلة، وتبين بهذا أن ابن عمر كان يطعن في الأيمن تارة وفي الأيسر أخري بحسب ما يتهيأ له ذلك – انتهى كلام الحافظ (وسلت) بمهملة ولام ثم مثناة (الدم) أي مسحه وأماطه وأزاله (عنها) أي عن صفحة سنامها، زاد عند أبي داود ((بيده)) وفي أخري عنده أيضًا ((بإصبعه)) قال الخطابي: سلت الدم بيده، أي أماطه بإصبعه، وأصل السلت القطع، يقال: سلت الله أنف فلان أي جدعه (وقلدها) بتشديد اللام (نعلين) فيه دليل على استنان تقليد الإبل بنعلين، وقد وقع الإجماع على استنان تقليد الهدي. قال ابن قدامة: يسن تقليد الهدي وهو أن يجعل في أعناقها النعال وآذان القرب وعراها أو علاقة إداوة سواء كانت إبلاً أو بقرًا أو

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ غنمًا. وقال مالك وأبو حنيفة: لا يسن تقليد الغنم – انتهى. وفي مناسك النووي: إن كانت بدنة أو بقرة استحب له أن يقلدها نعلين وليكن لهما قيمة ليتصدق بهما. ومن ساق غنمًا استحب أن يقلدها خرب القرب وهي عراها وآذانها ولا يقلدها النعل لأنها ضعيفة. وقال الدردير: سن في هدايا الإبل إشعار وتقليد أي تعليق قلادة أي حبل في عنقها، وندب نعلان يعلقهما بنبات الأرض، أي بحبل من نبات الأرض لا من صوف أو وبر، وقال العيني: قال أصحابنا: لو قلد بعروة مزادة أو لحي شجرة أو شبه ذلك جاز لحصول العلامة. وذهب الشافعي والثوري إلى أنها تقلد بنعلين، وهو قول ابن عمر. وقال الزهري ومالك: يجزئ واحدة، وعن الثوري: يجزئ فم القربة ونعلان أفضل لمن وجدهما – انتهى. قال الحافظ: قيل الحكمة في تقليد النعل أن فيه إشارة إلى السفر والجد به فعلى هذا يتعين أي النعل، والله أعلم. وقال ابن المنير في الحاشية: الحكمة فيه أن العرب تعتد النعل مركوبة لكونها تقي عن صاحبها وتحمل عنه وعر الطريق، وقد كنى بعض الشعراء عنها بالناقة، فكأن الذي أهدي خرج عن مركوبه لله تعالى حيوانًا وغيره كما خرج حين أحرم عن ملبوسه، ومن ثم استحب تقليد نعلين لا واحدة – انتهى. وفي شرح اللباب: يسن تقليد بدن الشكر دون بدن الجبر وهو أن يربط في عنق بدنة أو بقرة قطعة نعل كاملة أو ناقصة أو قطعة مزادة أو لحاء شجرة أو نحوه من شراك نعل وغير ذلك مما يكون علامة على أنه هدي ولا يسن في الغنم مطلقًا لكن لو قلده جاز ولا بأس به – انتهى. والحديث دليل على أنه يسن تقليد الهدي وإشعاره من الميقات حيث قلد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هديه وأشعره بذي الحليفة ميقات أهل المدينة، وقد صرح أهل الفروع من أتباع الأئمة الأربعة باستحباب التقليد والإشعار من الميقات. قال ابن قدامه: وإذا ساق الهدي من قبل الميقات استحب إشعاره وتقليده من الميقات لحديث ابن عباس، وإن ترك الإشعار والتقليد فلا بأس به، لأن ذلك غير واجب – انتهى. وفي مناسك النووي: الأفضل أن يكون هديه معه من الميقات مشعرًا مقلدًا. وقال الدردير: ثالث السنن لمريد الإحرام تقليد هدي إن كان معه، ثم إشعاره إن كان مما يشعر. وقال في اللباب من مناسك الحنفية: فإذا أحرم بالتلبية ساق هديه ويقلد البدنة، إلى آخر ما بسط الكلام في حكم الإشعار وكيفيته واختلفوا هل الأفضل تقديم الإشعار على التقليد أو تقديم التقليد على الإشعار. قال القسطلاني: صح في الأول خبر في صحيح مسلم وصح في الثاني فعل ابن عمر وهو المنصوص، وزاد في المجموع أن الماوردي حكى الأول عن أصحابنا كلهم ولم يذكر فيه خلافًا – انتهى. وقال النووي في مناسكه: هل الأفضل أن يقدم الإشعار على التقليد فيه وجهان: أحدهما يقدم الإشعار فقد ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث ابن عمر مرفوعًا، والثاني وهو نص الشافعي تقديم التقليد، وقد صح ذلك عن ابن عمر من فعله، والأمر فيه قريب – انتهى. وقد تقدم قول الدردير أن ثالث السنن لمريد الإحرام تقليد هدي إن كان معه ثم إشعاره. وقال في موضع آخر: الأولى تقديم التقليد

ثم ركب راحلته، فلما استوت به على البيداء أهل بالحج. رواه مسلم. 2652 – (2) وعن عائشة، قالت: أهدى النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة إلى البيت غنمًا، فقلدها. ـــــــــــــــــــــــــــــ على الإشعار لأنه السنة. قال الدسوقي: السنة تقديم التقليد فعلاً خوفًا من نفارها لو أشعرت أولاً. قال الباجي: وقد قال ابن القاسم في المدونة: وكل ذلك واسع، يريد أن الترتيب المذكور ليس بواجب – انتهى. (ثم ركب راحلته) أي غير التي أشعرها (أهل بالحج) أي لبى به وكذا بالعمرة لما في الصحيحين عن أنس قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبي بالحج والعمرة يقول: لبيك عمرة وحجًا – انتهى. ومن حفظ حجة على من لم يحفظ. مع أنه يمكن أن الراوي اقتصر على ذكر الحج لأنه الأصل أو لأن مقصوده بيان وقت الإحرام والتلبية أو لعدم سماعه أولاً أو لنسيانه آخرًا، قاله القاري. وقد تقدم نقل الخلاف في كيفية إحرامه - صلى الله عليه وسلم - وطريق الجمع بين المختلف فيه فليراجع (رواه مسلم) وأخرجه أيضًا أحمد (ج 1: ص 216، 254) والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة والدرامي والبيهقي وابن الجارود، وقال الزيلعي: رواه الجماعة إلا البخاري. 2652 – قوله (أهدى النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة إلى البيت) أي بيت الله (غنمًا) أي قطعة من الغنم. ومعنى الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث بهديه قبل حجة الوداع مع من يحج وهو - صلى الله عليه وسلم - مقيم بالمدينة لا يحج، وأنه بعث مرة غنمًا. وفي قولها ((مرة)) إشعار بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يهدي بالبدن لكونها أفضل، وأهدى مرة بالغنم لبيان الجواز، وقد ثبت إهداؤه بالبدن في حديث آخر لعائشة أيضًا كما سيأتي (فقلدها) في الحديث دليل على جواز أن يكون الهدي من الغنم وأنها تقلد. وإلى ذلك ذهب جمهور العلماء وخالف في ذلك الحنفية والمالكية فقالوا: إن الغنم لا تقلد. والحديث يرد عليهما. قال السندي في حاشية النسائي: الحديث صريح في جواز تقليد الغنم فلا وجه لمنع من منع ذلك. وقال النووي: فيه دلالة لمذهبنا ومذهب الكثرين أنه يستحب تقليد الغنم. وقال مالك وأبو حنيفة: لا يستحب بل خصا التقليد بالإبل والبقر، وهذا الحديث صريح في الدلالة عليهما – انتهى. وحديث عائشة هذا هو من رواية الأسود عنها، واللفظ المذكور لمسلم، ولفظ البخاري ((قالت: أهدى النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة غنمًا)) وفي رواية له ((قالت: كنت أفتل القلائد للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيقلد الغنم)) وفي لفظ له ((كنت أفتل قلائد الغنم للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيبعث بها)) الحديث. وبوب البخاري على هذه الروايات ((تقليد الغنم)) قال الحافظ تحت هذه الترجمة: قال ابن المنذر: أنكر مالك وأصحاب الرأي تقليد الغنم، زاد غيره وكأنهم لم يبلغهم الحديث، ولم نجد لهم حجة إلا قول بعضهم أنها تضعف عن التقليد وهي حجة ضعيفة. لأن المقصود من التقليد العلامة، وقد اتفقوا على أنها لا تشعر، لأنها تضعف عنه فتقلد بما لا يضعفها. ثم ساق ابن المنذر من طريق عطاء وعبيد الله بن أبي يزيد وأبي جعفر محمد بن علي وغيرهم قالوا: رأينا الغنم تقدم مقلدة. ولابن أبي شيبة عن ابن عباس

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ نحوه، والمراد بذلك الرد على من ادعى الإجماع على ترك إهداء الغنم وتقليدها وأعل بعض المخالفين حديث الباب بأن الأسود تفرد عن عائشة بتقليد الغنم دون بقية الرواة عنها من أهل بيتها وغيرهم. قال المنذري وغيره: وليست هذه بعلة لأنه حافظ ثقة لا يضره التفرد - انتهى. وقال العراقي في طرح التثريب: اختلفوا في استحباب تقليد الغنم فقال به الشافعي وأحمد، ورواه ابن أبي شيبة عن عائشة وعن ابن عباس: لقد رأيت الغنم يؤتى بها مقلدة. وعن أبي جعفر: رأيت الكباش مقلدة. وعن عبد الله بن عبيد بن عمير أن الشاة كانت تقلد. وعن عطاء رأيت أناسًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يسوقون الغنم مقلدة. وحكاه ابن المنذر عن إسحاق وأبي ثور قال: وبه أقول، وإليه ذهب ابن حبيب من المالكية. وذهب آخرون إلى أنها لا تقلد كما أنها لا تشعر، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك. وحكاه ابن المنذر عن أصحاب الرأي، ورواه ابن أبي شيبة عن ابن عمر وسعيد بن جبير ويوافقه كلام البخاري فإنه بوب على هذا الحديث (أي حديث عروة وعمرة عن عائشة: قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهدي من المدينة فأفتل قلائد هديه ثم لا يجتنب شيئًا مما يجتنب المحرم) ((باب فتل القلائد للبدن والبقر)) فحمل الحديث عليهما ولم يذكر الغنم - انتهى. قلت: ورد عليه الحافظ فقال: تنبيه: أخذ بعض المتأخرين من اقتصار البخاري في هذه الترجمة على الإبل والبقر أنه موافق لمالك وأبي حنيفة في أن الغنم لا تقلد وغفل هذا المتأخر عن أن البخاري أفرد ترجمة لتقليد الغنم بعد أبواب يسيرة كعادته في تفريق الأحكام في التراجم - انتهى. ثم قال العراقي: وظاهر حديث عروة عن عائشة المذكور موافق للجمهور لأنها لم تخص بذلك هديًا دون هدي، وقد صرحت بالغنم في رواية الأسود عنها كما تقدم. وقال العيني: مذهب الحنفية أن التقليد في البدنة والغنم ليست من البدنة فلا تقلد لعدم التعارف بتقليدها، ولو كان تقليدها سنة لما تركوها. وقالوا في الحديث المذكور: تفرد به الأسود ولم يذكره غيره، وادعى صاحب المبسوط أنه أثر شاذ. فإن قلت: كيف يقال: تركوها، وقد ذكر ابن أبي شيبة في مصنفه أن ابن عباس قال: لقد رأيت الغنم يؤتى بها مقلدة؟ وعن أبي جعفر ((رأيت الكباش مقلدة)) وعن عبد الله بن عبيد بن عمير ((أن الشاة كانت تقلد)) وعن عطاء ((رأيت أناسًا من الصحابة يسوقون الغنم مقلدة)) قلت: ليس في ذلك كله أن التقليد كان في الغنم التي سيقت في الإحرام، وأن أصحابها كانوا محرمين، على أنا نقول إنهم ما منعوا الجواز وإنما قالوا بأن التقليد في الغنم ليس بسنة - انتهى. قلت: الآثار المذكورة نص في تقليد الغنم وظاهر في أنه كان في الغنم التي سيقت إلى الحرم ونص أيضًا في أن تقليد الغنم من الهدي كان معتادًا متعارفًا معمولاً به في ما بين الصحابة والتابعين، وحملها على غير ذلك ادعاء محض فلا يلتفت إليه، وكذا اعتذار صاحب المبسوط وغيره عن حديث الأسود عن عائشة عند الشيخين وغيرهما بادعاء أنه شاذ لم يتابعه عليه أحد، ليس مما يصغى إليه. قال ابن قدامة (ج 3: ص 549) : وقال مالك وأبو حنيفة: لا يسن تقليد الغنم لأنه لو كان سنة لنقل كما نقل عن الإبل، ولنا أن عائشة قالت:

.................................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ كنت أفتل القلائد للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيقلد الغنم ويقيم في أهله حلالاً، وفي لفظ " كنت أفتل قلائد الغنم للنبي - صلى الله عليه وسلم - " رواه البخاري. ولأنه هدي فيسن تقليده كالإبل، ولأنه إذا سن تقليد الإبل مع إمكان تعريفها بالإشعار فالغنم أولى وليس التساوي في النقل شرطًا لصحة الحديث، ولأنه كان يهدي الإبل أكثر فكثر نقله – انتهى. قلت: حديث الباب مشكل على الحنفية والمالكية جدًا، وقد تمحل الحنفية للتخلص عنه بوجوه منها ما تقدم، ومنها ما سيأتي آنفًا. وقال الشنقيطي (ج 5: ص 575) : واعلم أن الهدي من الغنم يسن تقليده عند عامة أهل العلم. وخالف مالك وأصحابه الجمهور. وقد ثبت في الصحيحين من حديث عائشة أنه - صلى الله عليه وسلم - أهدى غنمًا فقلدها. وقال بعض أهل العلم: لا تقلد بالنعال لضعفها. وإنما تقلد بنحو عرى القرب. والظاهر أن مالكًا لم يبلغه حديث تقليد الغنم، ولو بلغه لعمل به بأنه صحيح متفق عليه – انتهى. وأجاب بعض الحنفية عن حديث الباب بأنه أراد فقهاءنا من نفي تقليد الغنم التقليد بالنعل لا بالخيط المفتول، فإذا صح الحديث بتقليد الغنم ولا شك أنه من العهن وهو الصوف المصبوغ فمحل نفي تقليد الغنم هو تقليدها بالنعال وما يشبهها، ومحل إثبات التقليد هو بالخيوط المفتولة من الصوف والوبر فإذا لا يخالف حديث الباب مذهب أبي حنيفة وفقهائنا الحنفية لم يذكروا التقليد بالخيط لا نفيًا ولا إثباتًا، فالقول والتمسك بهذا الحديث لا يخالف المذهب – انتهى. وفيه أن ذكر فتل القلائد من العهن لا يدل على الاكتفاء بالتقليد بالعهن في الغنم بل كان ذلك لأن يربط به النعل في عنق الهدي سواء كان إبلاً أو بقرًا أو غنمًا، كما أن ذكر فتل القلائد للبدن في الرواية الآتية لا يدل على الاقتصار على ذلك في الإبل والبقر، وقد ذكر البخاري في "باب تقليد الغنم" بعد رواية حديث الأسود عن عائشة حديث مسروق عنها قالت: فتلت لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - تعني القلائد قبل أن يحرم. قال الحافظ: أما إردافه برواية مسروق مع أنه لا تصريح فيها بكون القلائد للغنم فلأن لفظ الهدي أعم من أن يكون لغنم أو لغيرها، فالغنم فرد من أفراد ما يهدي، وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - أهدى الإبل وأهدى البقر فمن ادعى اختصاص الإبل بالتقليد فعليه البيان – انتهى. علا أنه يخالف التأويل المذكور ما تقدم عن القاري والعيني وغيرهما من نقلة المذاهب أن أبا حنيفة أنكر استنان تقليد الغنم مطلقًا، ولم يثبت عنه ولا عن غيره من فقهاء الحنفية أنهم فرقوا بين تقليد الغنم بالنعل وتقليدها بالخيوط بل أنكروه مطلقًا كما تقدم. وعلى هذا فمذهب أبي حنيفة مخالف للحديث الصحيح من غير شك، والظاهر أنه لم يبلغه الحديث، ولا ما تقدم من الآثار المذكورة في كلام العراقي والعيني وغيرهما، هذا. وقد احتج الكاساني على عدم استنان تقليد الغنم بقوله تعالى {ولا الهدي ولا القلائد} (2: 5) قال الكاساني في البدائع (ج 2: ص 162) : والدليل على أن الغنم لا يقلد قوله تعالى {ولا الهدي ولا القلائد} عطف القلائد على الهدي، والعطف يقتضي المغايرة في الأصل، واسم الهدي يقع على الغنم والإبل والبقر جميعًا فهذا يدل على أن الهدي نوعان ما يقلد وما لا يقلد، ثم الإبل والبقر يقلدان بالإجماع، فتعين أن الغنم لا تقلد

متفق عليه. 2653- (3) وعن جابر، قال: ذبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـــــــــــــــــــــــــــــ ليكون عطف القلائد على الهدي عطف الشيء على غيره فيصح – انتهى. قال بعض الحنفية: ويؤيد ذلك ما قال الجصاص في أحكام القرآن: قد روي في تأويل القلائد وجوه عن السلف، فقال ابن عباس: أراد الهدي المقلد، قال أبو بكر (الرازي الجصاص) هذا يدل على أن من الهدي ما يقلد ومنه ما لا يقلد، والذي يقلد الإبل والبقر والذي لا يقلد الغنم – انتهى. ولا يخفى ما في هذا الاستدلال من التكلف والتعسف فإنه يلزم على هذا التفسير أن يكون المراد بالهدي في الآية الغنم فقط ولم يقل به أحد مع أنهم اختلفوا في تفسير القلائد على أقوال منها أن المراد القلائد حقيقة سواء كانت للإبل أو للبقر أو للغنم. وفي النهي عن إحلال القلائد تأكيد للنهي عن إحلال الهدي، يعني أن فيه مبالغة عن التعرض للهدي المقلد، فإنه إذا نهى عن قلادة أن يتعرض لها فبطريق الأولى أن ينهى عن التعرض للهدي المقلد بها، وهذا كما في قوله: {ولا يبدين زينتهن} (24: 31) لأنه إذا نهى عن إظهار الزينة فما بالك بموضعها من الأعضاء، ومنها أن المراد بالقلائد الحيوانات المقلدة بها ويكون عطف القلائد على الهدي لزيادة التوصية بالهدي، والمعنى: ولا الهدايا ذوات القلائد، وعلى هذا القول إنما عطف القلائد على الهدي مبالغة في التوصية بها لأنها من أشرف البدن المهداة والمعنى: ولا تستحلوا الهدي خصوصًا المقلدات منها. وقيل المراد أصحاب القلائد، والمعنى: لا تتعرضوا للهدايا ولا لأصحابها. والتفسير الأول أولى. وعلى كل حال ليس في عطف القلائد على الهدي دلالة أو أدنى إشارة إلى أن الهدي الغير المقلد هو الغنم خاصة، أو إلى أن الغنم من الهدي لا تقلد (متفق عليه) قد تقدم أن اللفظ المذكور لمسلم وبهذا اللفظ رواه أيضًا أحمد والنسائي وابن ماجه والبيهقي. وقد تقدم أيضًا أن البخاري روى مثله لكن أسقط قوله "فقلدها" وكذا رواه الدارمي ورواه أبو داود وابن الجارود بلفظ " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهدى غنمًا مقلدة " والحديث رواه أيضًا أحمد والشيخان والترمذي والنسائي بألفاظ أخرى متقاربة. 2653- قوله (وعن جابر، قال: ذبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وفي الحديث الأتي " نحر " مكان " ذبح " والفرق بين النحر والذبح أن النحر يكون في اللبة (بفتح اللام وتشديد الموحدة، هي الوهدة التي بين أصل العنق والصدر) والذبح يكون في الحلق، فالذبح هو قطع العروق التي في أعلى العنق تحت اللحيين، قال ابن عابدين: النحر قطع العروق في أسفل العنق عند الصدر والذبح قطعها في أعلاه تحت اللحيين. وفي تكملة البحر: ولا بأس بالذبح في الحلق كله أسفله وأوسطه وأعلاه، لأن ما بين اللبة واللحيين هو الحلق، ولأن كله مجتمع العروق فصار حكم الكل واحد – انتهى. وفي البدائع: الذبح هو فري الأوداج ومحله ما بين اللبة واللحيين، والنحر فري الأوداج ومحله آخر الحلق – انتهى. والحديث دليل

................................................................................ ـــــــــــــــــــــــــــــ لما ذهب إليه جمهور العلماء من أن نحر البقر جائز وإن كان الذبح مستحبًا عندهم لقوله تعالى {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} (2: 67) وخالف الحسن بن صالح ومجاهد فاستحبا نحرها. وقال مالك: إن ذبح الجزور من غير ضرورة أو نحر الشاة من غير ضرورة لم تؤكل. وقال في الدر المختار: حب النحر للإبل وكره ذبحها، والحكم في غنم وبقر عكسه، فندب ذبحها وكره نحرها لترك السنة. وقال في البدائع: لو نحر ما يذبح أو ذبح ما ينحر يحل لوجود فري الأوداج لكنه يكره (أي فعله لا المذبوح) لأن السنة في الإبل النحر، وفي غيرها الذبح، لأن الأصل في الذكاة إنما هو الأسهل على الحيوان، وما فيه نوع راحة له فهو أفضل والأسهل في الإبل النحر لخلو لبتها عن اللحم واجتماع اللحم فيما سواه من خلفها، والبقر والغنم جميع حلقها لا يختلف – انتهى. وفي شرح الإقناع من فروع الشافعية يسن نحر إبل وذبح بقر وغنم، ويجوز بلا كراهة عكسه. قال البجيرمي: لكنه خلاف الأولى، خلافًا للإمام مالك حيث قال: لا يجوز ذلك. وقال الدردير: وجب نحر إبل ووجب ذبح غيره من غنم وطير، فإن نحرت ولو سهوًا لم تؤكل إن قدر، وجاز للضرورة، أي جاز الذبح في الإبل والنحر في غيرها للضرورة كوقوع في مهواة أو عدم آلة ذبح أو نحر إلا البقر فيندب فيها الذبح. قال الدسوقي: ونحرها خلاف الأولى. ومثل البقر الجاموس وبقر الوحش فيجوز كل من الذبح والنحر فيهما. ومثل البقر في جواز الأمرين ونبد الذبح ما أشبه من حمار الوحش وغيره – انتهى. وقال ابن قدامة: لا خلاف بين أهل العلم في أن المستحب نحر الإبل وذبح ما سواها قال الله تعالى {فصل لربك وأنحر} (108: 2) وقال الله تعالى {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} (2: 67) ومعنى النحر أن يضربها بحربة أو نحوها في الوهدة التي بين أصل عنقها وصدرها، فإن ذبح ما ينحر أو نحر ما يذبح فجائز، هذا قول أكثر أهل العلم منهم عطاء والزهري وقتادة ومالك والليث والثوري وأبوحنيفة والشافعي وإسحاق وأبو ثور، وحكي عن داود أن الإبل لا تباح إلا بالنحر ولا يباح غيرها إلا بالذبح، لأن الله تعالى قال {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} وقال تعالى {فصل لربك وأنحر} والأمر يقتضي الوجوب، وحكي عن مالك أنه لا يجزئ في الإبل إلا النحر، ولنا قوله - صلى الله عليه وسلم - أمرر الدم بما شئت، وعن عائشة قالت: نحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بقرة واحدة – انتهى مختصرًا. وقال ابن رشد: اتفقوا على أن الذكاة في بهيمة الأنعام نحر وذبح، وأن من سنة الغنم والطير الذبح، وأن من سنة الإبل النحر، وأن البقر يجوز فيها الذبح والنحر واختلفوا هل يجوز النحر في الغنم والطير والذبح في الإبل؟ فذهب مالك إلى أنه لا يجوز النحر في الغنم والطير، ولا الذبح في الإبل، وذلك في غير موضع الضرورة. وقال قوم: يجوز جميع ذلك من غير كراهة وبه قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وجماعة العلماء. وقال أشهب: إن نحر ما يذبح أو ذبح ما ينحر أكل، ولكنه يكره، وفرق ابن بكير بين الغنم والإبل فقال: يؤكل البعير بالذبح ولا تؤكل الشاة بالنحر، ولم يختلفوا في جواز ذلك في موضع الضرورة. وسبب اختلافهم معارضة

عن عائشة بقرة يوم النحر. رواه مسلم. 2654 – (4) وعنه، قال: نحر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نسائه بقرة في حجته. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفعل للعموم. فأما العموم فقوله عليه الصلاة والسلام " ما أنحر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا " وأما الفعل فإنه ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحر الإبل والبقر وذبح الغنم، وإنما اتفقوا على جواز ذبح البقر لقوله تعالى {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} انتهى. (عن عائشة) أي لعائشة ولسائر نساءه كما سيأتي في الحديث الآتي (بقرة) ويحتمل أنه ذبح عن عائشة وحدها بقرة وجعل بقرة أخرى عن الكل تمييزًا لها لأنها انفردت بسبب موجب وهو القران، لأنها أردفت الحج على عمرتها، وهن لما اشتركن في سبب غيره أشرك بينهن ويكون في ذلك تخصيص وتفضيل، لأن الواجب في ذلك شاة أو سبع بدنة أو بقرة، كما فعل في حق صواحبها، ولعل إيثار البقر لأنه المتيسر حين إذن، وإلا فالإبل أفضل منه، وقيل إنه لبيان الجواز (يوم النحر) أي في حجته كما في رواية محمد بن بكر عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر عند أحمد ومسلم (رواه مسلم) من طريق يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن ابن جريج. والحديث من أفراد مسلم لم يخرجه البخاري. ورواه أيضًا أحمد والبيهقي (ج 5: ص 238) . 2654 – قوله (وعنه) أي عن جابر (نحر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نسائه بقرة في حجته) وفي الباب أيضًا عن عائشة رضي الله عنها " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحر عن أزواجه بقرة في حجة الوداع ". أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي في الكبري وابن ماجة كلهم من رواية يونس عن الزهري عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة، لفظ أحمد ولفظ الثلاثة "بقرة واحدة " وعن أبي هريرة " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذبح عمن اعتمر من نسائه بقرة بينهن" أخرجه أبو داود والنسائي في الكبرى وابن ماجة، والحديثان سكت عنهما أبو داود والمنذري. وحديث جابر مع حديثي عائشة وأبي هريرة يدل على جواز الاشتراك في الهدي إذا كان من الإبل أو البقر، وللعلماء خلاف في ذلك فذهب الشافعي وأحمد والجمهور إلى جواز الاشتراك في الهدي سواء أكان تطوعًا أم واجبًا، وسواء أكانوا كلهم متقربين أو بعضهم يريد القربة، وبعضهم يريد اللحم، واستدل لهم بما ورد من أحاديث الاشتراك المتقدمة وغيرها مما ذكره الزيلعي في نصب الراية (ج 3: ص 209) والحافظ في الدراية (ص 324) والمجد في المنتقي (ج 4: ص 330، 331) والمحب الطبري في القرى (ص 518، 527، 528) وقال داود وبعض المالكية: يجوز الاشتراك في هدي التطوع دون الواجب وهو مردود بحديث عطاء عن جابر قال: كنا نتمتع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فنذبح البقرة عن سبع نشترك فيها. أخرجه أحمد والنسائي وغيرهما. فهذا صريح في جواز الاشتراك في دم التمتع وهو واجب لقوله عز وجل: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} (2: 196) وذهب مالك إلى عدم جواز الاشتراك في الهدي مطلقًا، وأحاديث الباب تخالفه، وروي عن ابن عمر

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ نحو ذلك، ولكنه روى عنه أحمد ما يدل على الرجوع عنه وموافقة الجمهور، ولعل مالكًا لم يبلغه ذلك. وذهب أبو حنيفة إلى جوازه إن كانوا كلهم متقربين سواء أكان هدي تطوع أم واجب وليس فيهم من يريد اللحم. وقد تقدم الكلام على مسألة الاشتراك في الهدي والإضحية في باب الإضحية. قلت: ويدل أيضًا على جواز الاشتراك في الهدي من البقر ما رواه مالك في الموطأ والبخاري من طريقه في " باب ذبح الرجل البقر عن نسائه من غير أمرهن" عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن أنها سمعت عائشة تقول: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخمس بقين من ذي القعدة لا نرى إلا الحج – الحديث. وفيه: قالت: فدخل علينا يوم النحر بلحم بقرة فقلت: ما هذا؟ فقالوا: نحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أزواجه، وللشيخين من رواية سليمان بن بلال عن يحيى بلفظ " ذبح " قال ابن بطال: أخذ بظاهره جماعة فأجازوا الاشتراك في الهدي والإضحية ولا حجة فيه، لأنه يحتمل أن يكون عن كل واحدة بقرة وأما رواية يونس عن الزهري عن عمرة عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحر عن أزواجه بقرة واحدة، فقد قال إسماعيل القاضي: تفرد يونس بذلك، وقد خالفه غيره – انتهى. قال الحافظ: رواية يونس أخرجها النسائي وأبو داود وغيرهما ويونس ثقة حافظ، وقد تابعه معمر عند النسائي أيضًا، ولفظه أصرح من لفظ يونس قال: ما ذبح عن آل محمد في حجة الوداع إلا بقرة. وروى النسائي أيضا من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: ذبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمن اعتمر من نسائه في حجة الوداع بقرة بينهن. صححه الحاكم وهو شاهد قوي لرواية الزهري، وأما ما رواه عمار الدهني عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قالت: ذبح عنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حججنا بقرة بقرة، أخرجه النسائي أيضًا، فهو شاذ مخالف لما تقدم، وقد رواه البخاري في الأضاحي ومسلم أيضًا من طريق ابن عيينة عن عبد الرحمن بن القاسم بلفظ " ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نسائه البقر " ولم يذكر ما زاده عمار الدهني – انتهى. وتعقبه الزرقاني فقال: لا شذوذ فيه، فإن عمار الدهني – بضم المهملة وإسكان الهاء ونون – ثقة صدوق من رجال مسلم والأربعة، فزيادته مقبولة فإنه قد حفظ ما لم يحفظ غيره، وزيادته ليست مخالفة لغيره فإن رواية معمر " ما ذبح إلا بقرة " المراد بها جنس بقرة أي لا بعير ولا غنم، فلا تنافي الرواية الصريحة أن عن كل واحدة بقرة، فمن شرط الشذوذ أن يتعذر الجمع، وقد أمكن فلا تأييد فيها لرواية يونس التي حكم إسماعيل القاضي بشذوذها لأنه انفرد بقوله " واحدة " وإسماعيل من الحفاظ لا يجهل أن يونس ثقة حافظ وإنما حكم بشذوذ روايته ومخالفة غيره له على القاعدة أن الشاذ ما خالف الثقة فيه الملأ. وحديث أبي هريرة لا شاهد فيه فضلاً عن قوته إذ قوله "ذبح بقرة بينهن" لا صراحة فيه أنه لم يذبح سواها وإن كان ظاهره ذلك فتعارضه الرواية الصريحة في التعدد – انتهى. وفي هذا التعقب نظر لأن عمارًا ويونس اختلفا في ذلك، عمار وإن كان ثقة صدوقًا فلا يساوي يونس لأنه ثقة حافظ كما تقدم في كلام الحافظ. وقال في التقريب عن عمار

..................................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ الدهني: إنه صدوق، فإذا تعارضا في الوحدة والتعدد ترجح حديث يونس، وقول الزرقاني " أن زيادته ليست مخالفة لغيره " ليس بصحيح، فإن رواية يونس صريحة في نحر البقرة الواحدة عن أزواجه، ورواية عمار صريحة في التعدد ولا يمكن الجمع بينهما، ولا يصح إرادة الجنس في رواية معمر للتاء الفارقة بين الواحدة والجنس. قال العيني: الفرق بين البقرة والبقر كتمرة وتمر وعلى تقدير عدم التاء يحتمل التضحية بأكثر من واحدة – انتهى. واتفق من قال بالاشتراك على أنه لا يكون في أكثر من سبعة إلا إحدى الروايتين عن سعيد بن المسيب فقال: تجزئ عن عشرة، وبه قال إسحاق بن راهويه وابن خزيمة من الشافعية واحتج لذلك في صحيحه وقواه، وبه قال بن حزم، وبسط في إثباته واستدل لذلك بما تقدم من أحاديث عائشة وأبي هريرة وجابر. وأجاب الجمهور عن ذلك بوجوه قال الشوكاني: قد استدل بقول عائشة المذكور على أن البقرة تجزئ عن أكثر من سبعة، فإن الظاهر أنه لم يتخلف أحد من زوجاته يومئذ وهن تسع، ولكن لا يخفى أن مجرد هذا الظاهر لا تعارض به الأحاديث الصريحة الصحيحة الواردة في إجزاء البقرة عن سبعة فقط المجمع على مدلولها. وقيل إن البقرة كانت عن سبع منهن وعن الباقية لعله ذبح غير البقر، ولا يخفى ما فيه. وأجاب ابن القيم بأن أحاديث السبعة أكثر وأصح، وحاصله أن الروايات في ذلك مختلفة، وحديث عائشة يدل على الإجزاء لأكثر من سبعة، لكن أحاديث الإجزاء لسبعة فقط أكثر وأصح فتقدم. تنبيه: اختلف في أن البقرة المذكورة في حديث عائشة عند مالك والشيخين إضحية كانت أو هديًا وبكلا اللفظين وردت الروايات فروى البخاري في الأضاحي ومسلم أيضًا من طريق ابن عيينة عن عبد الرحمن ابن القاسم بلفظ " ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نسائه بالبقر " وأخرجه مسلم من طريق ابن الماجشون عن عبد الرحمن بلفظ " أهدى " بدل " ضحى " قال الحافظ: والظاهر أن التصرف من الرواة لأنه ثبت في الحديث ذكر النحر كما تقدم، فحمله بعضهم على الأضحية، فإن رواية أبي هريرة صريحة في أن ذلك كان عن من اعتمر من نسائه فقويت رواية من رواه بلفظ " أهدى " وتبين أنه هدي التمتع فليس فيه حجة على مالك في قوله " لا ضحايا على أهل منى " وتبين توجيه الاستدلال به على جواز الاشتراك في الهدي والأضحية – انتهى كلام الحافظ. وهذا كما ترى يدل على أنه مال إلى أن البقرة المذكورة كانت هديًا، ونحى في كتاب الأضاحي إلى كونها أضحية حيث قال: قوله " ضحى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أزواجه بالبقر " ظاهر في أن الذبح المذكور كان على سبيل الإضحية وحاول ابن التين تأويله ليوافق مذهبه فقال: المراد أنه ذبحها وقت ذبح الأضحية وهو ضحى يوم النحر، قال: وإن حمل على ظاهره فيكون تطوعًا لا على أنها سنة الأضحية، كذا قال. ولا يخفى بعده، واستدل به الجمهور على أن ضحية الرجل تجزئ عنه وعن أهل بيته، وخالف في ذلك الحنفية، وادعى الطحاوي أنه مخصوص أو منسوخ ولم يأت لذلك بدليل – انتهى. وهذا كما ترى رجح ها هنا خلاف ما رجحه في كتاب الحج. وذهب ابن القيم إلى أن الصواب رواية

رواه مسلم. 2655 – (5) وعن عائشة، قالت: فتلت قلائد بدن النبي - صلى الله عليه وسلم - بيدي، ثم قلدها ـــــــــــــــــــــــــــــ الهدي فقد قال بعد ذكر مذهب ابن حزم " أن الحاج شرع له التضحية مع الهدي ": والصحيح إن شاء الله أن هدي الحاج له بمنزلة الأضحية للمقيم، ولم ينقل أحد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه جمعوا بين الهدي والأضحية بل كان هديهم هو أضاحيهم فهو هدي بمنى وإضحية بغيرها، وأما قول عائشة " ضحى عن نسائه بالبقر " فهو هدي أطلق عليه اسم الأضحية وأنهن كن متمتعات وعليهن الهدي، فالبقر الذي نحره عنهن هو الهدي الذي يلزمهن – انتهى. لكن تبويب البخاري في كتاب الأضاحي على حديث عائشة المذكور " باب الأضحية للمسافر والنساء " و " باب من ذبح ضحية غيره " يدل على أنه حمل الحديث على الإضحية، ولذلك استدل به لمالك على أن التضحية بالبقر أفضل خلافًا للجمهور إذا قالوا: إن الأفضل البدنة لقوله - صلى الله عليه وسلم - " من راح في الساعة الأولى (إلى الجمعة) فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة " إلى آخره. مع أنه ليس في حديث عائشة تفضيل البقر ولا عموم لفظ. إنما هي قضية عين محتملة لأمور فلا حجة فيها لمالك، واستدل به أيضًا على الأضحية على النساء والأضحية على المسافر وعلى الحاج بمنى وغير ذلك من المسائل ليس هذا موضع تفصيلها. هذا. وقد ترجم البخاري على حديث عائشة كما تقدم " باب ذبح الرجل عن نسائه من غير أمرهن" قال الحافظ: أما قوله من غير أمرهن فأخذه من استفهام عائشة عن اللحم لما دخل به عليها ولو كان ذبحه بعلمها لم تحتج إلى الاستفهام، لكن ليس ذلك دافعًا للاحتمال فيجوز أن يكون علمها بذلك تقدم بأن يكون استأذنهن في ذلك. لكن لما أدخل اللحم عليها أحتمل عندها أن يكون هو الذي وقع الاستئذان فيه، وأن يكون غير ذلك فاستفهمت عنه لذلك، وقال النووي: هذا محمول على أنه - صلى الله عليه وسلم - استأذنهن في ذلك فإن تضحية الإنسان عن غيره لا يجوز إلا بإذنه – انتهى. وهكذا قال الطيبي كما في المرقاة. قلت: وقد تقدم أن عائشة كانت قارنة فهي داخلة في قولها " وضحى عن نسائه بالبقر " لأن القارن يجب عليه دم القران فكان لابد من استيذانها كسائر النساء، والله أعلم (رواه مسلم) من طريق سعيد بن يحيى الأموي عن أبيه عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر، وهو أيضًا من إفراد مسلم لم يخرجه البخاري. 2655 – قوله (فتلت قلائد بدن النبي - صلى الله عليه وسلم -) القلائد جمع قلادة بكسر القاف وهي ما تعلق بالعنق والبدن بضم الباء وإسكان الدال جمع البدنة بفتح الباء والدال وهي ناقة أو بقرة تنحر بمكة سميت بذلك لأنهم كانوا يسمنونها والبدن التثمين والاكتناز وبدن إذا ضخم وبدن بالتشديد إذا أسن (بيدَيّ) بفتح الدال وتشديد الياء على التثنية، وروي بالإفراد على الجنسية. قال الحافظ: فيه رفع مجاز أن تكون أرادت أنها فتلت بأمرها، وفيه دليل على استحباب فتل القلائد للهدي واستخدام الإنسان أهله في مثل هذا (ثم قلدها) زاد في رواية " بيده " قال ابن التين: يحتمل أن يكون قول عائشة

وأشعرها وأهداها، فما حرم عليه كان أحل له. ـــــــــــــــــــــــــــــ " ثم قلدها بيده " بيانًا لحفظها للأمر ومعرفتها به ويحتمل أن تكون أرادت أنه - صلى الله عليه وسلم - تناول ذلك بنفسه وعلم وقت التقليد ومع ذلك فلم يمتنع من شيء يمتنع منه المحرم لئلا يظن أحد أنه استباح ذلك قبل أن يعلم بتقليد الهدي. وقال الباجي: يحتمل أن تكون أرادت بذلك تبيين حفظها للأمر ومعرفتها من تناول كل شيء منه، ويدل ذلك على اهتبالها بهذا الأمر ومعرفتها به ويحتمل أنها أرادت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تناول ذلك بنفسه وعلم وقت التقليد لئلا يظن أحد أنه استباح محظور الإحرام بعد تقليد هديه وقبل أن يعلم هو بذلك فتبين من ذلك أنه لم يأت شيئًا من هذا إلا وهو عالم بتقليد هديه – انتهى. (وأهداها) أي مع أبي بكر رضي الله عنه في السنة التاسعة، وفي الرواية الآتية دليل استحباب بعث الهدي إلى الحرم وإن لم يسافر معه مرسله ولا أحرم في تلك السنة (فما حرم) بفتح الحاء وضم الراء (عليه) أي على النبي - صلى الله عليه وسلم - (شيء كان أحل له) بصيغة المجهول من الإحلال. وسبب هذا القول من عائشة رضي الله عنها أنها بلغها فتيا ابن عباس رضي الله عنهما فيمن بعث هديًا إلى مكة أنه يحرم عليه ما يحرم على الحاج من لبث المخيط وغيره حتى ينحر هديه بمكة فقالت ذلك ردًا عليه لأن باعث الهدي المقيم في بلده لا يصير بمجرد البعث محرمًا فلا يحرم عليه شيء، روى البخاري في " باب إذا بعث بهديه ليذبح (وأقام) لم يحرم عليه شيء " من كتاب الأضاحي بسنده عن مسروق أنه أتى عائشة فقال لها: يا أم المؤمنين إن رجل يبعث بالهدي إلى الكعبة ويجلس في المصر فيوصي أن تقلد بدنته فلا يزال من ذلك اليوم محرمًا حتى يحل الناس، قال: فسمعت تصفيقها من وراء الحجاب فقالت: لقد كنت أفتل قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيبعث هديه إلى الكعبة فما يحرم عليه مما حل للرجال من أهله حتى يرجع الناس – انتهى. وفي الصحيحين " أن زياد بن أبي سفيان كتب إلى عائشة أن عبد الله بن عباس قال: من أهدى هديًا حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر هديه؟ فقالت عائشة: ليس كما قال ابن عباس، " أنا فتلت قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي، ثم قلدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيديه ثم بعث بها مع أبي فلم يحرم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا أحله الله له حتى نحر الهدي " وروى مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم التيمي عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير أنه رأى رجلاً متجردًا بالعراق فسأل الناس عنه؟ فقالوا: أنه أمر بهديه أن يقلد فلذلك تجرد. قال ربيعة: فلقيت عبد الله بن الزبير فذكرت له ذلك فقال: بدعة ورب الكعبة – انتهى. قال الطحاوي: ولا يجوز عندنا أن يكون ابن الزبير حلف على ذلك أنه بدعة إلا وقد علم أن السنة خلاف ذلك. قال الحافظ: ورواه ابن أبي شيبة عن الثقفي عن يحيى بن سعيد أخبرني محمد بن إبراهيم أن ربيعة أخبره أنه رأى ابن عباس وهو أمير على البصرة في زمان علي متجردًا على منبر البصرة فذكره، فعرف بهذا اسم المبهم في رواية مالك – انتهى. وما ذهب إليه ابن عباس من أن الرجل إذا بعث هديًا يحرم عليه ما يحرم على المحرم من محظورات الإحرام، قال الحافظ: ثبت ذلك عن جماعة من الصحابة منهم ابن عمر، رواه ابن أبي شيبة عن ابن علية عن أيوب، وابن المنذر من طريق ابن جريج كلاهما

..................................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ عن نافع أن ابن عمر كان إذا بعث بالهدي يمسك عما يمسك يمسك عنه المحرم إلا أنه لا يلبي. ومنهم قيس بن سعد بن عبادة. أخرج سعيد بن منصور من طريق سعيد بن المسيب عنه نحو ذلك. وروى ابن أبي شيبة من طريق محمد بن علي بن الحسين عن عمر وعلي أنهما قالا في الرجل يرسل ببدنته أنه يمسك عما يمسك المحرم. وهذا منقطع. وقال ابن المنذر: قال عمر وعلي وقيس بن سعد وابن عمر وابن عباس والنخعي وعطاء وابن سيرين وآخرون: من أرسل الهدي وأقام حرم عليه ما يحرم على المحرم. وقال ابن مسعود وعائشة وأنس وابن الزبير وآخرون: لا يصير بذلك محرمًا يعني لا يحرم عليه شيء مما يحرم على المحرم. وإلى ذلك صار فقهاء الأمصار (ومنهم الأئمة الأربعة) ومن حجة الأولين ما رواه أحمد والطحاوي وغيرهما من طريق عبد الرحمن بن عطاء عن عبد الملك بن جابر (بن عيتك) عن جابر بن عبد الله قال: كنت جالسًا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد قميصه من جيبه حتى أخرجه من رجليه وقال: إني أمرت ببدني التي بعثت بها أن تقلد اليوم وتشعر على مكان كذا فلبست قميصي ونسيت فلم أكن لأخرج قميصي من رأسي – الحديث. قال الحافظ: وهذا لا حجة فيه لضعف إسناده. قلت: عبد الرحمن بن عطاء ضعفه عبد الحق في أحكامه ووافقه ابن القطان وقال ابن عبد البر: لا يحتج بما انفرد به فكيف إذا خالفه من هو أثبت منه وقد تركه مالك وهو جاره والحديث أخرجه عبد الرزاق من طريق البزار في مسنده عن عبد الرحمن بن عطاء أنه سمع ابني جابر يحدثان عن أبيهما جابر بن عبد الله قال: بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - جالس مع أصحابه إذ شق قميصه حتى خرج فسئل فقال: واعدتهم يقلدون هديي اليوم فنسيت – انتهى. وهذا أيضًا لا حجة فيه لما تقدم، وذكره ابن القطان من جهة البزار فقال: ولجابر ثلاثة أولاد: عبد الرحمن ومحمد وعقيل، والله أعلم من هما من الثلاثة – انتهى. وقد ظهر بما قدمنا أن المسألة كان فيها خلاف في السلف من الصحابة والتابعين لكن انقرض هذا الخلاف بعد ذلك واستقر الأمر على أن بمجرد تقليد الهدي وبعثه مع أحد لا يكون الرجل في حكم المحرم ولا يحرم عليه شيء مما يحرم على المحرم. قال الحافظ: جاء عن الزهري ما يدل على أن الأمر استقر على خلاف ما قال ابن عباس ففي نسخة أبي اليمان عن شعيب عنه، وأخرجه البيهقي (ج 5: ص 233) من طريقه قال: أول من كشف العمى عن الناس وبين لهم السنة في ذلك عائشة فذكر الحديث عن عروة وعمرة عنها. قال: فلما بلغ الناس قول عائشة أخذوا به وتركوا فتوى ابن عباس – انتهى. قلت: وها هنا مسألة أخرى خلافية بين الأئمة ربما تلتبس على بعض الناس بالمسألة الأولى المتقدمة وهي أن من قلد الهدي وتوجه معه أي ساقه معه وأراد النسك هل يكون بتقليد الهدي وسوقه معه محرمًا أم لا؟ فقال الحنفية يصير بالتقليد والتوجه معه ونية النسك محرمًا خلافًا لمالك والشافي. قال الحافظ: ذهب جماعة من فقهاء الفتوى إلى أن من أراد النسك صار بمجرد تقليده الهدي محرمًا حكاه ابن المنذر عن الثوري وأحمد وإسحاق. قال: وقال أصحاب الرأي: من ساق الهدي وأم البيت ثم قلد وجب عليه الإحرام.

متفق عليه. 2656 – (6) وعنها، قالت: فتلت قلائدها من عهن كان عندي، ثم بعث بها مع أبي. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال الجمهور: لا يصير بتقليد الهدي محرمًا ولا يجب عليه شيء – انتهى. وفي الهداية: من قلد بدنة تطوعًا أو نذرًا أو جزاء صيد وتوجه معها يريد الحج فقد أحرم لقوله - صلى الله عليه وسلم -: من قلد بدنة فقد أحرم. ولأن سوق الهدي في معنى التلبية في إظهار الإجابة لأنه لا يفعله إلا من يريد الحج أو العمرة، وإظهار الإجابة قد يكون بالفعل كما يكون بالقول فيصير به محرما لاتصال النية بفعل هو من خصائص الإحرام، فإن قلدها وبعث بها ولم يسقها لم يصر محرمًا لما روي عن عائشة قالت: كنت أفتل قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبعث بها وأقام في أهله حلالاً – انتهى. قال ابن الهمام: أفاد أنه لابد من ثلاثة: التقليد والتوجه معها، ونية النسك، وقوله لقوله - صلى الله عليه وسلم -: من قلد بدنة، إلخ. غريب مرفوعًا، ووقفه ابن أبي شيبه في مصنفه على ابن عباس وابن عمر – انتهى مختصرًا بقدر الضرورة. واستدل الزيلعي على الكنز بقول ابن عمر المذكور ثم قال: والأثر في مثله كالمرفوع وهو محمول على ما إذا ساقه لحديث عائشة المذكور أي جمع بين أثر ابن عمر وحديث عائشة. قلت: الراجح عندنا أنه لا يصير الرجل محرمًا بمجرد تقليد الهدي وسوقه معه حتى يلبي مع نية النسك، لأن إيجاب الإحرام يحتاج إلى دليل وقد دلت النصوص على أنه لا يجب الإحرام إلا إذا بلغ الميقات وأراد مجاوزته، وأما قبل الوصول إلى الميقات فلم يقم دليل على أنه يصير محرمًا أو يجب عليه الإحرام بمجرد تقليد الهدي أو سوقه. أما أثر ابن عمر وابن عباس فهو معارض لحديث عائشة المرفوع، وحمله على سوق الهدي والتوجه معه خلاف الظاهر، ولا دليل على أن التقليد والسوق يقوم مقام التلبية. تنبيه قال الحافظ: ما وقع في الأحاديث من استحباب التقليد والإشعار وغير ذلك يقتضي أن إظهار التقرب بالهدي أفضل من إخفاءه والمقرر أن إخفاء العمل الصالح غير الفرض أفضل من إظهاره فأما أن يقال إن أفعال الحج مبنية على الظهور كالإحرام والطواف والوقوف فكان الإشعار والتقليد كذلك فيخص الحج من عموم الإخفاء، وأما أن يقال: لا يلزم من التقليد والإشعار إظهار العمل الصالح، لأن الذي يهديها يمكنه أن يبعثها مع من يقلدها ويشعرها ولا يقول إنها لفلان فتحصل سنة التقليد مع كتمان العمل – انتهى. (متفق عليه) وأخرجه أيضًا أحمد ومالك وأبو داود والنسائي وابن ماجة والبيهقي وأخرج الترمذي معناه. 2656 – قوله (فتلت قلائدها) أي قلائد بدن النبي من (عهن) بكسر المهملة وسكون الهاء أي صوف مصبوغ بأي لون كان، وقيل هو الأحمر خاصة (كان عندي) صفة عهن (ثم بعث بها) أي بالبدن المقلدة (مع أبي) بفتح الهمزة، وكسر الموحدة الخفيفة تريد بذلك أباها أبا بكر الصديق، واستفيد من ذلك وقت البعث وأنه كان في سنة تسعة عام حج أبو بكر بالناس. قال ابن التين: أرادت عائشة بذلك علمها بجميع القصة، ويحتمل أن تريد أنه آخر فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -

متفق عليه. 2657 – (7) وعن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يسوق بدنة، فقال: " اركبها ". فقال: إنها بدنة. قال: " اركبها ". فقال: إنها بدنة. قال: " اركبها ويلك ". ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنه حج في العام الذي يليه حجة الوداع لئلا يظن ظان أن ذلك كان في أول الإسلام ثم نسخ، فأرادت إزالة هذا اللبس وأكملت ذلك بقولها (كما في رواية) : فلم يحرم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء أحله الله له حتى نحر الهدي أي وانقضى أمره ولم يحرم، وترك إحرامه بعد ذلك أحرى وأولى، لأنه إذا انتفى في وقت الشبهة فلأن ينتفي عند انتفاء الشبهة أولى، كذا في الفتح، وفي رواية لمسلم ((فأصبح فينا حلالاً يأتي ما يأتي الحلال من أهله)) والحديث يدل على ما دل عليه الحديث السابق. قال الحافظ: وفيه رد على من كره القلائد من الأوبار واختار أن تكون من نبات الأرض، وهو منقول عن ربيعة ومالك. وقال ابن التين: لعله أراد أنه الأولى مع القول بجواز كونها من الصوف والله أعلم. وفي حديث عائشة هذا والذي قبله دلالة على استحباب إرسال الهدي لمن لم يرد الحج وأنه يقلده ويشعره من بلده بخلاف من يخرج بهديه يريد الحج أو العمرة فإنه إنما يشعره ويقلده حين يحرم من الميقات كما تقدم (متفق عليه) وأخرجه أيضًا أبو داود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج 5: ص 233) 2657 – قوله (رأى رجلاً) قال الحافظ: لم أقف على اسمه بعد طول البحث، وقال العيني: لم يدر اسمه (يسوق بدنة) بفتحات. قال الحافظ: كذا في معظم الأحاديث، ووقع لمسلم من طريق بكير بن الأخنس عن أنس رضي الله عنه ((مر على النبي - صلى الله عليه وسلم - ببدنة أو هدية)) ولأبي عوانة من هذا الوجه ((أو هدي)) وهو مما يوضح أنه ليس المراد بالبدنة مجرد مدلولها اللغوي. قال القسطلاني: البدنة تقع على الجمل والناقة والبقرة وهي بالإبل أشبه، وكثر استعمالها فيما كان هديًا، ولمسلم من طريق المغيرة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ((بينا رجل يسوق بدنة مقلدة)) وكذا في طريق همام عن أبي هريرة، وللبخاري وأحمد (ج 2: ص 278) من طريق عكرمة عن أبي هريرة: فلقد رأيته راكبًا يساير النبي - صلى الله عليه وسلم - والنعل في عنقها (فقال: اركبها) زاد النسائي من طريق سعيد عن قتادة، والجوزقي من طريق حميد عن ثابت كلاهما عن أنس ((وقد جهده المشي)) ولأبي يعلى من طريق الحسن عن أنس ((حافيًا)) لكنها ضعيفة (فقال: إنها بدنة) قال الحافظ: تبين بما تقدم من الطرق أنه أطلق البدنة على الواحدة من الإبل المهداة إلى البيت الحرام ولو كان المراد مدلولها اللغوي لم يحصل الجواب بقوله ((إنها بدنة)) لأن كونها من الإبل معلوم، فالظاهر أن الرجل ظن أنه خفي على النبي - صلى الله عليه وسلم - كونها هديًا فلذلك قال: إنها بدنة، والحق أنه لم يخف ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم - لكونها كانت مقلدة، ولهذا قال له لما زاد في مراجعته ((ويلك)) (قال: اركبها ويلك) ووقع في رواية أحمد (ج 2: ص 254) وابن ماجى ((اركبها ويحك)) قال الهروي: ويل كلمة تقال لمن وقع في هلكة يستحقها، وويح لمن وقع في هلكة لا يستحقها، وكان الأصمعي يقول:

في الثانية أو الثالثة. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((ويل)) كلمة عذاب و ((ويح)) كلمة رحمة. وقال سيبويه: ((ويح)) زجر لمن أشرف على هلكة. وفي الحديث ((ويل واد في جهنم)) وكل ذلك أصل معنى الكلمة، ولكن الظاهر المتبادر أنه - صلى الله عليه وسلم - قالها زاجرًا وتأديبًا لأجل مراجعته له مع عدم خفاء الحال عليه. قال القرطبي: قالها له تأديبًا لأجل مراجعته له مع عدم خفاء الحال عليه. وبهذا جزم ابن عبد البر وابن العربي وبالغ حتى قال: الويل لمن راجع في ذلك بعد هذا. قال: ولولا أنه - صلى الله عليه وسلم - اشترط على ربه ما اشترط لهلك ذلك الرجل لا محالة. قال القرطبي: ويحتمل أن يكون فهم عنه أنه يترك ركوبها على عادة الجاهلية في السائبة وغيرها فزجره عن ذلك، فعلى الحالتين هي إنشاء، ورجحه عياض وغيره، قالوا: والأمر ها هنا وإن قلنا أنه للإرشاد لكنه استحق الذم بتوقفه على امتثال الأمر، والذي يظهر أنه ما ترك الامتثال عنادًا، ويحتمل أن يكون ظن أنه يلزمه غرم بركوبها أو إثم، وأن الإذن الصادر له بركوبها إنما هو للشفقة عليه فتوقف، فلما أغلظ له بادر إلى الامتثال، وقيل لأنه كان أشرف على هلكة من الجهد، وويل كلمة تقال لمن وقع في هلكة فالمعنى: أشرفت على الهلكة فاركب، فعلى هذا فهي إخبار، وقيل: هي كلمة تدعم بها العرب كلامها ولا تقصد معناها تجري على لسانهم في المخاطبة من غير قصد لمدلولها كما قيل في قوله عليه الصلاة والسلام: تربت يداك، عقرى حلقى، أفلح وأبيه، وكما تقول العرب: لا أم له، لا أب له، قاتله الله، ما أشجعه، وأشباه ذلك، ويقويه ما وقع بدله ((ويحك)) عند أحمد فإذًا لا يكون إنشاء ولا إخبارًا (في الثانية) أي في المرة الثانية (أو الثالثة) أي أو قال ذلك في المرة الثالثة، وهذا شك من الراوي. قال القاري: في الثانية أو الثالثة أي في إحدى المرتين متعلق به قال، وفي رواية همام عن أبي هريرة عند مسلم ((قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ويلك اركبها، فقال: بدنة يا رسول الله، قال: ويلك اركبها، ويلك اركبها)) قال الولي العراقي: فإن قلت: في هذه الرواية أنه عليه الصلاة والسلام بدأه بقوله: ويلك، ثم قاله له في المرة الثانية والثالثة، وفي الرواية الأولى أنه قال له ذلك في الثانية أو الثالثة فكيف الجمع بينهما؟ قلت: يحتمل أنه قال له ذلك في الأولى لأمر دنيوي وهو ما حصل له من الجهد والمشقة بالمشي فكان محتاجًا إلى الركوب، وقال له ذلك في الثانية أو الثالثة لأمر ديني وهو مراجعته للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتأخر امتثاله أمره – انتهى. والحديث يدل على جواز ركوب الهدي سواء كان واجبًا أو متطوعًا به لكونه - صلى الله عليه وسلم - لم يفصل في قوله ولا استفصل صاحب الهدي عن ذلك وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في الأقوال فدل على أن الحكم لا يختلف بذلك، وأصرح من هذا ما أخرجه أحمد (ج 1: ص 121) من حديث علي أنه سئل يركب الرجل هديه؟ فقال: لا بأس به قد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمر بالرجال يمشون فيأمرهم يركبون هديه أي هدي النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال: ولا تتبعون شيئًا أفضل من سنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم -، قال الحافظ: إسناده صالح – انتهى. وقد اختلفوا في ركوب الهدي على أقوال يأتي بيانها في شرح حديث جابر، وفي الحديث تكرير العالم للفتوى والندب إلى المبادرة إلى امتثال الأمر وزجر من لم يبادر إلى ذلك وتوبيخه وجواز

متفق عليه. 2658 – (8) وعن أبي الزبير، قال: سمعت جابر بن عبد الله سئل عن ركوب الهدي، فقال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرًا ". ـــــــــــــــــــــــــــــ مسايرة الكبار في السفر، وأن الكبير إذا رأى مصلحة للصغير لا يأنف عن إرشاده إليها، واستنبط البخاري من هذا الحديث جواز انتفاع الواقف بوقفه حيث بوب على هذا الحديث ((باب هل ينتفع الواقف بوقفه؟)) قال: وقد اشترط عمر لا جناح على من وليه أن يأكل، وقد يلي الواقف وغيره. قال: وكذلك من جعل بدنة أو شيئًا لله فله أن ينتفع بها كما ينتفع غيره وإن لم يشترط – انتهى. فهذا كما ترى أشار إلى إلحاق الوقف في ذلك بالهدي. قال الحافظ: وهو موافق للجمهور في الأوقاف العامة، أما الخاصة فالوقف على النفس لا يصح عند الشافعية ومن وافقهم (متفق عليه) أخرجه البخاري في الحج وفي الوصايا وفي الأدب، ومسلم في الحج، وأخرجه أيضًا أحمد (ج 2: ص 245، 254، 278) ومالك وأبو داود والنسائي وابن ماجه والبيهقي وابن أبي شيبة وأبو الشيخ ابن حبان في الأضاحي وابن الجارود في المنتقى، وفي الباب عن أنس أخرجه أحمد والشيخان والنسائي والترمذي وابن ماجه والبيهقي والدارمي، وأبو الشيخ ابن حبان في الضحايا. 2658 – قوله (وعن أبي الزبير) اسمه محمد بن مسلم بن تدرس الأسدي مولاهم المكي روى عن العبادة الأربعة وجابر وأبي الطفيل وسعيد بن جبير وعكرمة وغيرهم، وروى عنه عطاء وهو من شيوخه والزهري وابن جريج ومالك والأعمش وهشام بن عروة وأبو عوانة وخلق كثير، وهو من رجال الستة. قال الحافظ في التقريب: صدوق إلا أنه يدلس، من الرابعة، مات سنة ست وعشرين ومائة (اركبها بالمعروف) أي بوجه لا يلحقها ضرر (إذا ألجئت إليها) أي إذا اضطررت إلى ركوبها (حتى تجد ظهرًا) أي مركوبًا آخر. والحديث يدل على جواز ركوب الهدي عند الضرورة وقد اختلفوا في هذا على أقوال، والأول: الجواز مطلقًا، وهذا هو الذي جزم به الرافعي والنووي في مناسكه، وفي الروضة في كتاب الضحايا، وحكاه في شرح المهذب عن الماوردي والقفال وحكاه ابن المنذر عن عروة بن الزبير وأحمد وإسحاق وكذا حكاه النووي في شرحي مسلم والمهذب عنهم وعن مالك في رواية وعن أهل الظاهر، وحكاه الخطابي في المعالم عن أحمد وإسحاق وصرح عنهما بأنهما لم يشترطا منه حاجة إليها، ورواه ابن نافع عن مالك كما في الزرقاني. الثاني الجواز بشرط الاحتياج لذلك لا مطلقًا فلا يركبها من غير حاجة، نقله النووي في شرح المهذب عن أبي حامد والبندنيجي وغيرهما. وقال الرؤياني: تجويزه بغير حاجة يخالف النص وهو الذي نقله الترمذي عن الشافعي وأحمد وإسحاق حيث قال: وقد رخص قوم من أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم في ركوب البدنة إذا احتاج إلى ظهرها وهو

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ قول الشافعي وأحمد وإسحاق، وقال النووي في شرح مسلم: مذهب الشافعي أنه يركبها إذا احتاج ولا يركبها من غير حاجة، وبهذا قال ابن المنذر وجماعة وهو رواية عن مالك – انتهى. وبه جزم في الروض المربع من فروع الحنابلة حيث قال: ويركب لحاجة فقط بلا ضرر، وقال في المغني: وله ركوبه عند الحاجة على وجه لا يضر به. قال أحمد: لا يركبه إلا عند الضرورة. وهو قول الشافعي وابن المنذر وأصحاب الرأي. الثالث: الجواز بشرط الاضطرار لذلك فلا تركب إلا عند شدة الحاجة والاضطرار إليه، وهو المنقول عن جماعة من التابعين كالشعبي والحسن البصري وعطاء ابن أبي رباح. قال الولي العراقي: وهو الذي يقتضيه نص الشافعي فإنه قال: يركب الهدي إذا اضطر إليه. وإن كان النووي استشهد به للتجويز بشرط الحاجة، فقد علم أن الضرورة أشد من الحاجة. وكذا نقله ابن المنذر والخطابي عن الشافعي فقالا: وقال الشافعي يركبها إذا اضطر ركوبًا غير فادح ولا يركبها إلا من ضرورة. ورواه البيهقي عن عروة بن الزبير وهو قول أبي حنيفة وأصحابه فلذلك قيده صاحب الهداية من الحنفية بالاضطرار إلى ذلك. وهو قول الثوري إذ قال: لا يركب إلا إذا اضطر، وبه جزم الدردير والدسوقي إذ قيداه بالاضطرار لجواز ابتداء الركوب لا الدوام. قال الحافظ: وقال ابن العربي عن مالك: يركب للضرورة فإذا استراح نزل، ومقتضى من قيده بالضرورة أن من انتهت ضرورته لا يعود إلى ركوبها إلا من ضرورة أخرى. والدليل على اعتبار هذه القيود الثلاثة وهي الاضطرار والركوب بالمعروف وانتهاء الركوب لانتهاء الضرورة ما رواه مسلم من حديث جابر مرفوعًا بلفظ ((اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرًا)) فإن مفهومه أنه إذا وجد غيرها تركها. وروى سعيد بن منصور من طريق إبراهيم النخعي قال: يركبها إذا أعيي قدر ما يستريح على ظهرها. الرابع: الجواز مع الكراهة من غير حاجة، نسبه ابن عبد البر إلى الشافعي ومالك. الخامس: المنع مطلقًا، نقله ابن العربي عن أبي حنيفة وشنع عليه، ورده الحافظ والعيني فإن مذهبه الإباحة عند الاضطرار كما تقدم. السادس: وجوب ذلك مطلقًا حكاه ابن عبد البر والقاضي عياض عن بعض أهل الظاهر تمسكًا بظاهر الأمر ولمخالفة ما كانوا عليه في الجاهلية من إكرام البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي وإهمالها بلا ركوب. ورده ابن عبد البر بأن الذين ساقوا الهدي في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا كثيرًا ولم يأمر أحدًا منهم بذلك – انتهى. وتعقبه الحافظ فقال: وفيه نظر لما تقدم من حديث علي عند أحمد. وله شاهد مرسل عند سعيد بن منصور بإسناد صحيح رواه أبو داود في المراسيل عن عطاء كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالبدنة إذا احتاج إليها سيدها أن يحمل عليها ويركبها غير منهكها. قال الحافظ: ولا يمتنع القول بوجوبه إذا تعين طريقًا إلى إنقاذ مهجة إنسان من الهلاك – انتهى. قال الولي العراقي: من قال بالجواز مطلقًا تمسك بظاهر حديث أبي هريرة، فإنه عليه الصلاة والسلام أمر بذلك، والأمر هنا للإباحة، ولم يقيد ذلك بشيء (واستدلوا أيضًا بقوله تعالى {لكم فيها منافع إلى أجل مسمى} (22: 33) على أحد

................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ التفسيرين، ولا تنتهض به الحجة لأنه محمول على كونه تدعوه للحاجة أو الضرورة إلى ذلك بدليل حديث جابر فهو أخص في محل النزاع) قال العراقي: ومن قيد الجواز بالحاجة أو الضرورة قال: هذه واقعة محتملة وقد دلت رواية أخرى على أن هذا الرجل كان محتاجًا للركوب أو مضطرًا له، روى النسائي عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يسوق بدنة وقد جهده المشي قال: اركبها – الحديث. ثم ذكر العراقي حديث جابر الذي نحن في شرحه ثم قال: ومن منع مطلقًا فهذا الحديث حجة عليه، ولعله لم يبلغه، ومن أوجب فإنه حمل الأمر على الوجوب، ووجهه أيضًا مخالفة ما كانت الجاهلية عليه من إهمال السائبة والبحيرة والوصيلة والحام بلا ركوب. ودليل الجمهور أنه - صلى الله عليه وسلم - أهدى ولم يركب هديه ولم يأمر الناس بركوب الهدايا. قلت: القول الراجح عندي هو أنه إن دعته ضرورة لركوب الهدي جاز وإلا فلا، وذلك لأن حديث جابر عند مسلم صريح في أن ركوب الهدي إنما يجوز بالمعروف إذا احتاج إليه واضطر لذلك، فإن زالت الضرورة بوجود ظهر يركبه غير الهدي ترك ركوب الهدي، فالقيد الذي في حديث جابر يقيد به حديث أبي هريرة وما في معناه الخالي عن القيد لوجوب حمل المطلق على المقيد عند جماهير العلماء لا سيما إن اتحد الحكم والسبب كما هنا، ويفيد المعنى منع الركوب مطلقًا فإنه جعلها كلها لله تعالى فلا ينبغي أن يصرف منها شيئًا لمنفعة نفسه لكن السمح ورد بإطلاقه بشرط الحاجة رخصة فيبقى فيما وراءه على المنع الأصلي الذي هو مقتضى المعنى، واعلم أن محل جواز ركوب الهدي ما لم يضر به الركوب، وهذا متفق عليه بينهم، وعليه يدل قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث جابر ((اركبها بالمعروف)) ومتى نقصت بالركوب ضمن النقصان عند الشافعية والحنفية والحنابلة، ومقتضى نقل ابن عبد البر عن مالك أنه لا يضمن. قال الطحاوي في اختلاف العلماء قال أصحابنا والشافعي: يركب إذا احتاج، فإن نقصه ذلك ضمن. وقال مالك: لا يركب إلا عند الحاجة، فإن ركب لم يغرم، وصرح في الهداية وغيرها من فروع الحنفية بأنه لو ركبها فانتقص بركوبه فعليه ضمان ما نقص. وقال ابن قدامة في الشرح الكبير: وله ركوبها عند الحاجة ما لم يضر بها. قال أحمد: لا يركبها إلا عند الضرورة، وهو قول الشافعي وابن المنذر وأصحاب الرأي لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرًا، ولأنه تعلق بها حق المساكين فلم يجز ركوبها من غير ضرورة كملكهم، وإنما جوزناه عند الضرورة للحديث، فإن نقصها الركوب ضمن النقص لأنه تعلق بها حق غيره، وفي الركوب مع عدم الحاجة روايتان إحداهما لا يجوز لما ذكرنا، والثانية يجوز لحديث أبي هريرة وأنس – انتهى. واختلف المجيزون في أن جواز الركوب المقيد بالحاجة أو الضرورة هل ينتهي بانتهاء الحاجة أو يمتد إلى ما بعد ذلك، وهما قولان لمالك، فقال الجمهور يتقيد بذلك وينتهي بانتهاء الحاجة كما تقدم في بيان القول الثالث ما قال الحافظ من أن مقتضي من قيده بالضرورة أن من انتهت ضرورته لا يعود إلى ركوبها إلا من ضرورة أخرى. وقال عياض: قوله - صلى الله عليه وسلم - ((إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرًا)) فيه حجة لأحد قولي

رواه مسلم. 2659 – (9) وعن ابن عباس، قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستة عشر بدنة ـــــــــــــــــــــــــــــ مالك أنه إذا ركب واستراح ينزل، قال إسماعيل: وهذا الذي يدل عليه المذهب. وقال ابن القاسم: لا يلزمه النزول لأنه أبيح له الركوب فجاز له الاستصحاب. وقال الأبي: قوله حتى يجد ظهرًا يرد قول ابن القاسم لأنه إذا زال العذر صار دوام ركوبه كابتداءه لا لعذر – انتهى. لكن مختار الدردير هو قول ابن القاسم حيث قال: فإن ركب حينئذ أي حين كان مضطرًا فلا يلزم النزول بعد الراحة وإنما يندب فقط. قال الدسوقي: فإن نزل بعد الراحة فلا يركبها ثانيًا إلا إذا اضطر كالأول. واختلفوا أيضًا هل يحمل عليها متاعه فمنعه مالك وأجازه الجمهور قياسًا للحمل على الركوب، ورواه ابن أبي شيبة عن عطاء وطاوس، وهل يحمل عليها غيره؟ أجازه الجمهور أيضًا على التفصيل المتقدم من جوازه مطلقًا أو بقيد الحاجة أو الضرورة. قال الولي العراقي: قال أصحابنا: كما يجوز له الركوب بنفسه يجوز له إقامة غيره في ذلك مقام نفسه بالعارية فله أن يعيرها لركوب غيره، وحكى ابن المنذر عن الشافعي أنه قال: له أن يحمل المعي والمضطر على هديه ومنعوا إجارتها لأنها بيع للمنافع، ونقل القاضي عياض الإجماع على أنه لا يؤجرها، وأما لبنها فقال الطحاوي: قال أصحابنا والشافعي: إن احتلب منها شيئًا تصدق به فإن أكله تصدق بثمنه، وقال مالك: لا يشرب من لبنه فإن شرب لم يغرم – انتهى. قال الشنقيطي: والظاهر أن شرب ما فضل من لبنها عن ولدها لا بأس به لأنه لا ضرر فيه عليها ولا على ولدها، وقال ابن قدامة في المغني: وللمهدي شرب لبن الهدي لأن بقاءه في الضرع يضر به، فإذا كان ذا ولد لم يشرب إلا ما فضل عن ولده لما رواه سعيد بن منصور والأثرم عن علي أنه أتاه رجل ببقرة قد أولدها فقال له: لا تشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها، فإذا كان يوم الأضحى ضحيت بها وولدها عن سبعة. قال ابن قدامة: فإن شرب ما يضر بالأم أو ما لا يفضل عن الولد ضمنه لأنه تعدى بأخذه – انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضًا أحمد وأبو داود والنسائي والبيهقي وابن الجارود. 2659 – قوله (بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستة عشر بدنة) كذا وقع في جميع نسخ المشكاة، وفي صحيح مسلم ((ست عشرة)) وهكذا في جامع الأصول ونسخ المصابيح. قال الطيبي: كلاهما صحيح، لأن البدنة تطلق على الذكر والأنثى – انتهى. واختلفت الروايات في مقدار البدن التي بعث بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ففي هذا الرواية أنها ست عشر بدنة، وفي أخرى عند مسلم أيضًا أنها ثماني عشرة، ويمكن الجمع بتعدد القصة أو يصار إلى ترجيح الرواية المشتملة على الزيادة إن كانت القصة واحدة، قاله الشوكاني. وقال النووي: يجوز أنهما قضيتان، ويجوز أن تكون قضية واحدة والمراد ثمان عشرة، وليست في قوله ((ست عشرة)) نفي الزيادة لأنه مفهوم عدد ولا عمل عليه، والله أعلم – انتهى. وأسند الواقدي

مع رجل، وأمره فيها، فقال: يا رسول الله! كيف أصنع بما أبدع علي منها؟ قال: " انحرها، ثم اصبغ نعليها في دمها، ثم اجعلها على صفحتها، ولا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك ". ـــــــــــــــــــــــــــــ في أول غزوة الحديبية القصة بطولها، وفيها أنه عليه الصلاة والسلام استعمل على هديه ناجية بن جندب الأسلمي وأمره أن يتقدمه بها، وقال: كان سبعين بدنة. قال القاري: نقل الواقدي مخالف لرواية مسلم اللهم إلا أن يقال العدد المذكور في رواية مسلم مختص بخدمة ناجية له، والباقي لغيره من رفقائه كما يدل عليه قوله: وأمره فيها (مع رجل) أي ناجية الأسلمي قاله القاري (وأمره) بتشديد الميم أي جعله أميرًا (فيها) أي لينحرها بمكة (فقال يا رسول الله) وفي مسلم ((قال: مضى ثم رجع فقال: يا رسول الله)) (كيف أصنع بما أُبْدِعَ) بضم الهمزة وإسكان الباء وكسر الدال وفتح العين بصيغة المبني للمفعول (على) أي بما حبس على من الكلال (منها) أي من تلك البدن، يقال أبدعت الراحلة إذا كلت وأعيت حتى وقفت من الإعياء، وأبدع بالرجل على بناء المجهول إذا انقطعت راحلته به لكلال، ولذا لم يقل أبدع بي لأنه لم يكن هو راكبًا لأنها كانت بدنة يسوقها بل قال: أبدع على لتضمين معنى الحبس كما ذكرنا (ثم اصبغ) بضم الموحدة ويجوز فتحا وكسرها (نعليها) وفي حديث ابن عباس عن ذويب أبي قبيصة عند مسلم أيضًا ((نعلها)) بالإفراد، أي التي قلدتها في عنقها (في دمها) ليعلم أنه هدي عطب فينبغي أن يأكله من يجوز له أكله، وحكي عن مالك أنه قال: أمره بذلك ليعلم أنه هدي فلا يستباح إلا على الوجه الذي ينبغي (ثم اجعلها على صفحتها) قال القاري: أي كل واحدة من النعلين على صفحة من صفحتي سنامها – انتهى. وقوله ((ثم اجعلها)) كذا في جميع نسخ المشكاة، وفي صحيح مسلم ((ثم اجعله)) وهكذا في جامع الأصول، وفي المصابيح ((ثم اجعلهما)) أي بضمير التثنية، وفي حديث ذويب ((ثم اضرب به صفحتها)) (ولا تأكل منها أنت) للتأكيد (ولا أحد (أي ولا يأكل أحد (من أهل رُفْقتك) بضم الراء وسكون الفاء، وفي القاموس: الرفقة مثلثة، وقال الشوكاني: الرفقة بضم الراء وكسرها لغتان مشهورتان، أي رفقاؤك فأهل زائد، وقال البوصيري: بضم الراء وكسرها وسكون الفاء جماعة ترافقهم في سفرك والأهل مقحم. قال الطيبي: سواء كان فقيرًا أو غنيًا، وإنما منعوا ذلك قطعًا لأطماعهم لئلا ينحرها أحد ويتعلل بالعطب – انتهى. قال النووي: وفي المراد بالرفقة وجهان لأصحابنا، أحدهما أنهم الذين يخالطون المهدى في الأكل وغيره دون باقي القافلة. والثاني وهو الأصح الذي يقتضيه ظاهر نص الشافعي وكلام جمهور أصحابنا أن المراد بالرفقة جميع القافلة، لأن السبب الذي منعت به الرفقة هو خوف تعطيبهم إياه، وهذا موجود في جميع القافلة. فإن قيل: إذا لم تجوزوا لأهل القافلة أكله وقلتم بتركه في البرية كان طعمة للسباع، وهذا إضاعة مال. قلنا: ليس فيه إضاعة مال بل العادة الغالبة أن سكان البوادي وغيرهم يتتبعون منازل الحجيج لالتقاط ساقطة ونحو ذلك، وقد تأتي قافلة في أثر قافلة، والله أعلم – انتهى. والحديث يدل على أن من بعث معه هدي إلى الحرم فعطب في الطريق

................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ قبل بلوغ محله أنه ينحره ثم يصبغ نعليه في دمه ويضرب بالنعل المصبوغ بالدم صفحة سنامها ليعلم من مر بها أنها هدي ويخلي بينها وبين الناس ولا يأكل منها هو لا أحد من أهل رفقته. والظاهر أن علة منعه ومنع رفقته هو سد الذريعة لئلا يتوسل هو أو بعض رفقته إلى نحره بدعوى أنه عطب أو بالتسبب له في ذلك للطمع في أكل لحمه لأنه صار للفقراء وهم يعدون أنفسهم من الفقراء، والظاهر عدم الفرق بين هدي التطوع والفرض لكن خصص ذلك بهدي التطوع لأن الهدي الذب بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - كان هدي تطوع، والظاهر أنه لا يجوز الأكل منه للأغنياء بل للفقراء. واختلف الفقهاء في حكم هدي التطوع إذا عطب قبل محله. قال الشنقيطي: أما هدي التطوع فالظاهر أنه إن عطب في الطريق ألقيت قلائده في دمه وخلى بينه وبين الناس وإن كان له سائق مرسل معه لم يأكل منه هو ولا أحد من رفقته، وليس لصاحبه الأكل منعه عند مالك وأصحابه وهو ظاهر مذهب أحمد وليس عليه بدله لأنه لم يتعلق بذمته. قلت: مذهب مالك على ما يدل عليه فروع المالكية وكلام ابن قدامة أنه يجوز أكله للرفقاء مطلقًا سواء كانوا أغنياء أو فقراء فضلاً عن غير الرفقة ولا يجوز لصاحبه ولو فقيرًا ولا لرسوله ولا يجوز له الأمر لأحد أن يأكل ولا أن يفرقه على الناس بل يخلي بينه وبينهم، وارجع للتفصيل إلى المغني (ج 3: ص 537، 538) وحملت المالكية حديث ابن عباس على سد الذريعة كما جزم به المازري والقرطبي والزرقاني والأبي. قال الشنقيطي: وأما مذهب الشافعي وأصحابه فهو أن هدي التطوع باق على ملك صاحبه فله ذبحه وأكله وبيعه وسائر التصرفات فيه ولو قلده، لأنه لم يوجد منه إلا نية ذبحه والنية لا تزيل ملكه عنه حتى يذبحه بمحله، فلو عطب في الطريق فلمهديه أن يفعل به ما يشاء من بيع وأكل وإطعام لأنه لم يزل في ملكه ولا شيء عليه في شيء من ذلك. قلت: وهكذا ذكر مذهب الشافعي النووي في شرح مسلم وفي مناسكه والطيبي والقسطلاني، وحمل الطيبي حديث ابن عباس على الهدي الواجب حيث حكى القاري عنه في شرح حديث ابن عباس تحت قوله ((ولا تأكل أنت ولا أحد من أهل رفقتك)) أنه قال: سواء كان فقيرًا أو غنيًا هذا إذا أوجبه على نفسه، وأما إذا كان تطوعًا فله أن ينحره ويأكل منه، فإن مجرد التقليد لا يخرجه عن ملكه – انتهى. قال الشنقيطي: وأما مذهب أبي حنيفة في هدي التطوع إذا عطب في الطريق قبل بلوغ محله فهو أنه لا يجوز لمهديه الأكل منه ولا لغني من الأغنياء، وإنما يأكله الفقراء. قلت: حاصل مذهب الحنفية أكله للفقراء سواء كانوا رفقة أم لا، ولا يجوز للأغنياء مطلقًا. قال الزيلعي في التبيين: حديث ابن عباس محمول على أنه ورفقته كانوا أغنياء. قال الشنقيطي: ووجه قول من قال: إن هدي التطوع إذا عطب في الطريق لا يجوز لمهديه أن يأكل منه، هو أن الإذن له في الأكل جاء النص به بعد بلوغه ملحه، أما قبل بلوغه محله فلم يأت الإذن بأكله، ووجه خصوص الفقراء به لأنه حينئذ يصير صدقة لأن كونه صدقة خير من أن يترك للسباع تأكله، هكذا قالوا، والعلم عند الله تعالى – انتهى. وأما حكم الهدي الواجب إذا عطب قبل محله فقال

.................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ الخرقي: من ساق هديًا واجبًا فعطب دون محله صنع به ما شاء وعليه مكانه، قال ابن قدامة (ج 3: ص 534) الواجب من الهدي قسمان: أحدهما وجب بالنذر في ذمته، والثاني وجب بغيره، كدم التمتع والقرآن والدماء الواجبة بترك واجب أو فعل محظور، وجميع ذلك ضربان، أحدهما أن يسوقه ينوي به الواجب الذي عليه من غير أن يعينه بالقول، فهذا لا يزول ملكه عنه إلا بذبحه ودفعه إلى أهله، وله التصرف فيه بما شاء من بيع وهبة وأكل وغير ذلك، وإن عطب تلف من ماله، وإن تعيب لم يجزئه ذبحه، وعليه الهدي الذي كان واجبًا، الضرب الثاني أن يعين الواجب عليه بالقول فيقول: هذا الواجب عليّ، فإنه يتعين الوجوب فيه من غير أن تبرأ الذمة منه، فإن عطب أو سرق أو ضل أو نحو ذلك لم يجزه وعاد الوجوب إلى ذمته وهذا كله لا نعلم فيه مخالفًا، ورُوي عن أحمد أنه يذبح المعيب وما في ذمته جميعًا، ولا يرجع المعين إلى ملكه. ثم قال الخرقي: وإن ساقه تطوعًا نحره موضعه وخلى بينه وبين المساكين ولم يأكل منه هو ولا أحد من أهل رفقته ولا بدل عليه، قال ابن قدامة (ج 3: ص 537) : من تطوع بهدي غير واجب لم يخل من حالين: أحدهما أن ينوي به هديًا ولا يوجب بلسانه ولا بإشعاره وتقليده، فهذا لا يلزمه إمضاؤه وله أولاده ونماؤه والرجوع فيه متى شاء ما لم يذبحه لأنه نوى الصدقة بشيء من ماله فأشبه ما لو نوى الصدقة بدرهم. الثاني أن يوجب بلسانه فيقول هذا هدي أو يقلده أو يشعره ينوي بذلك إهداءه فيصير واجبًا معينًا يتعلق الوجوب بعينه دون ذمة صاحبه ويصير في يدي صاحبه كالوديعة يلزمه حفظه وإيصاله إلى محله، فإن تلف بغير تفريط منه أو سرق أو ضل لم يلزمه شيء لأنه لم يجب في الذمة، إنما تعلق الحق بالعين فسقط بتلفها كالوديعة، وقد روى الدارقطني بإسناده عن ابن عمر قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من أهدى تطوعًا ثم ضلت فليس عليه البدل إلا أن يشاء، فإن كان نذرًا فعليه البدل، فأما إن أتلفه أو تلف بتفريطه فعليه ضمانه، لأنه أتلف واجبًا لغيره فضمنه كالوديعة، وإن خاف عطبه أو عجز عن المشي وصحبة الرفاق نحره موضعه وخلى بينه وبين المساكين ولم يبح له أكل شيء منه، ولا لأحد من صحابته، وإن كانوا فقراء ويستحب له أن يضع نعل الهدي المقلد في عنقه في دمه ثم يضرب به صفحته ليعرفه الفقراء فيعلموا أنه هدي وليس بميتة فيأخذوه – انتهى. وقال عياض: أما ما عطب من الهدى الواجب قبل النحر فقال مالك والجمهور: يأكل منه صاحبه والأغنياء لأن صاحبه يضمنه لأنه تعلق بذمته، واختلف هل له بيعه فمنعه مالك وأجازه الجمهور – انتهى. وهكذا ذكر ابن رشد، والأبي في الإكمال، وأما مذهب الشافعية فقال النووي في شرح مسلم: إن كان هديًا منذورًا لزمه ذبحه، فإن تركه حتى هلك لزمه ضمانه كما لو فرط في حفظ الوديعة حتى تلفت، فإذا ذبحه غمس نعله التي قلده إياها في دمه ليعلم من مر به أنه هدي فيأكله ولا يجوز للمهدي ولا لسائق هذا الهدي الأكل منه، ولا يجوز للأغنياء الأكل منه مطلقًا، لأن الهدي مستحق للمساكين فلا يجوز لغيرهم ويجوز للفقراء من غير أهل هذه الرفقة ولا يجوز لفقراء الرفقة – انتهى. وهذا خلاف ما ذكره الشافعي في الأم

........................................................................................ ـــــــــــــــــــــــــــــ حيث قال (ج 2: ص 183) : إذا عطب الهدي الواجب دون المحرم صنع به صاحبه ما شاء من بيع وهبة وإمساك وعليه بدله بكل حال، لأنه قد خرج من أن يكون هديًا حين عطب قبل أن يبلغ محله – انتهى. وحاصل مذهب الحنفية على ما في مناسكهم كالغنية وشرح اللباب وغيرهما أنه إن عطب الهدي الواجب قبل وصوله إلى محله فعليه أن يقيم غيره بدله وصنع بالأول ما شاء من بيع وغيره، وقال الشنقيطي (ج 5: ص 583) : اعلم أن الهدي إما واجب وإما تطوع، والواجب إما بالنذر أو بغيره، والواجب بالنذر إما معين أو غير معين، فالظاهر الذي لا ينبغي العدول عنه: أن الهدي الواجب بغير النذر كهدي التمتع والقرآن والدماء الواجبة بترك واجب أو فعل محظور، والواجب بالنذر في ذمته كأن يقول ((لله علي نذر أن أهدي هديًا)) أن لجميع ذلك حالين: الأولى أن يكون ساق ما ذكر من الهدي ينوي به الهدي الواجب عليه من غير أن يعينه بالقول كأن يقول: هذا الهدي سقته أريد به أداء الهدي الواجب علي. والحالة الثانية هي أن بسوقه ينوي الهدي المذكور مع تعيينه بالقول، فإن نواه ولم يعينه بالقول فالظاهر أنه لا يزال في ضمانه ولا يزول ملكه عنه إلا بذبحه ودفعه إلى مستحقيه، ولذا إن عطب في الطريق فله التصرف فيه بما شاء من أكل وبيع، لأنه لم يزل في ملكه، وهو مطالب بأداء الهدي الواجب عليه بشيء آخر غير الذي عطب، لأنه عطب في ضمانه، فهو بمنزلة من عليه دين فحمله إلى مستحقه يقصد دفعه إليه، فتلف قبل أن يوصله إليه، فعليه قضاء الدين بغير التالف لأنه تلف في ذمته، وإن تعيب الهدي المذكور قبل بلوغه محله، فعليه بدله سليمًا ويفعل بالذي تعيب ما شاء لأنه لم يزل في ملكه وضمانه، والذي يظهر أن له التصرف فيه، ولو لم يعطب ولم يتعيب لأن مجرد نية إهدائه عن الهدي الواجب لا ينقل ملكه عنه، والهدي المذكور لازم له في ذمته حتى يوصله إلى مستحقه، والظاهر أن له نماؤه. وأما الحالة الثانية وهي ما إذا نواه وعينه بالقول كأن يقول: هذا هو الهدي الواجب عليّ. والظاهر أن الإشعار والتقليد كذلك، فالظاهر أنه يتعين الوجوب فيه من غير أن تبرأ الذمة فليس له التصرف فيه ما دام سليمًا، وإن عطب أو سرق أو ضل أو نحو ذلك لم يجزه وعاد الوجوب إلى ذمته فيجب عليه هدي آخر، لأن الذمة لا تبرأ بمجرد التعيين بالنية والقول أو التقليد والإشعار، والظاهر أنه إن عطب فعل به ما شاء، لأن الهدي لازم في ذمته وهذا الذي عطب صار كأنه شيء من ماله لا حق فيه لفقراء الحرم، لأن حقهم باق في الذمة فله بيعه وأكله وكل ما شاء، وعلى هذا جمهور أهل العلم، وعن مالك يأكل ويطعم من شاء من الأغنياء والفقراء، ولا يبيع منه شيئًا، وإن بلغ الهدي محله فذبحه وسرق فلا شيء عليه عند أحمد. قال في المغني (ج 3: ص 535) : وبهذا قال الثوري وابن القاسم صاحب مالك، وأصحاب الرأي، وقال الشافعي: عليه الإعادة لأنه لم يوصل الحق إلى مستحقه، فأشبه ما لو لم يذبحه، ولنا أنه أدى الواجب عليه فبرئ منه كما لو فرقه، ودليل أنه أدى الواجب أنه لم يبق إلا التفرقة وليست واجبة بدليل أنه لو خلى بينه وبين الفقراء أجزأه، ولذلك لما نحر النبي - صلى الله عليه وسلم -

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ البدنات قال: من شاء اقتطع – انتهى. قال الشنقيطي: وأظهر القولين عندي أنه لا تبرأ ذمته بذبحه حتى يوصله إلى المستحقين، لأن المستحقين إن لم ينتفعوا به، لا فرق عندهم بين ذبحه وبين بقائه حيًا، ولأن الله تعالى يقول: {وأطعموا البائس الفقير} (22: 28) ويقول: {وأطعموا القانع والمعتر} (2: 36) والآيتان تدلان على لزوم التفرقة والتخلية بينه وبين الفقراء يقتسمونه تفرقة ضمنية، لأن الإذن لهم في ذلك وهو متيسر لهم كإعطائهم إياه بالفعل، والعلم عند الله تعالى. وقول من قال إن الهدي المذكور إن تعيب في الطريق فعليه نحره، ونحر هدي آخر غير معيب لا يظهر كل الظهور، إذ لا موجب لتعدد الواجب عليه وهو لم يجب عليه إلا واحد، وحجة من قال بذلك: أنه لما عينه متقربًا به إلى الله لا يحسن انتفاعه به بعد ذلك ولو لم يجزئه، وأما الواجب المعين بالنذر كأن يقول: نذرت لله إهداء هذا الهدي المعين، فالظاهر أنه يتعين بالنذر ولا يكون في ذمته، فإن عطب أو سرق لم يلزمه بدله، لأن حق الفقراء إنما يتعلق بعينه لا بذمة المهدي، والظاهر أنه ليس له الأكل منه، سواء عطب في الطريق أو بلغ محله، وحاصل ما ذكرنا راجع إلى أن ما عطب بالطريق من الهدي إن كان متعلقًا بذمته سليمًا فالظاهر أن له الأكل منه والتصرف فيه، لأنه يلزمه بدله سليمًا، وقيل: يلزم الذي عطب والسليم معًا لفقراء الحرم، وأن ما تعلق الوجوب فيه بعين الهدي كالنذر المعين للمساكين ليس له تصرف فيه ولا الأكل منه إذا عطب ولا بعد نحره إن بلغ محله على الأظهر – انتهى. تنبيه: اختلف فيما إذا ضل المعين فذبح غيره ثم وجد الضال. قال الشنقيطي: الأظهر عندي أنه إذا عين هديًا بالقول أو التقليد والإشعار ثم ضل ثم نحر هديًا آخر مكانه ثم وجد الهدي الأول الذي كان ضالاً، أن عليه أن ينحره أيضًا، لأنه صار هديًا للفقراء فلا ينبغي أن يرده لملكه مع وجوده، وكذلك إن عين بدلاً عنه، ثم وجد الضال فإنه ينحرهما جميعًا، قال ابن قدامة في المغني (ج 3: ص 535) : وإن ضل المعين فذبح غيره ثم وجده، أو عين غير الضال بدلاً عما في الذمة، ثم وجد الضال ذبحهما معًا. روى ذلك عن عمر وابنه وابن عباس وفعلته عائشة، وبه قال مالك والشافعي وإسحاق، ويتخرج على قولنا فيما إذا تعيب الهدي فأبدله، فإن له أن يصنع به ما شاء أن يرجع إلى ملك أحدهما، لأنه قد ذبح ما في الذمة فلم يلزمه شيء آخر كما لو عطب المعين، وهذا قول أصحاب الرأي. ووجه الأول ما روى عن عائشة أنها أهدت هديين فأضلتهما فبعث إليها ابن الزبير هديين فنحرتهما، ثم عاد الضالان فنحرتهما، وقالت: هذه سنة الهدي، رواه الدارقطني، وهذا منصرف إلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولأنه تعلق حق الله بهما بإيجابهما أو ذبح أحدهما، وإيجاب الآخر – انتهى كلام ابن قدامة. قال الشنقيطي بعد ذكره: وليس في المسألة شيء مرفوع، والأحوط ذبح الجميع كما ذكرنا أنه الأظهر والعلم عند الله تعالى، ثم قال الشنقيطي: إن الهدي إن كان معينًا بالنذر من الأصل بأن قال: نذرت إهداء هذا الهدي بعينه أو معينًا تطوعًا إذا رآه صاحبه في حالة يغلب على الظن أنه سيموت فإنه تلزمه ذكاته، وإن فرط فيها حتى مات كان

....................................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه ضمانه، لأنه كالوديعة عنده، أما لو مات بغير تفريطه أو ضل أو سرق فليس عليه بدل عنه لأنه لم يتعلق الحق بذمته بل بعين الهدي، والأظهر عندي إن لزمه بدله بتفريطه أنه يشتري هديًا مثله وينحره بالحرم بدلاً عن الذي فرط فيه، وإن قيل بأنه يلزمه التصدق بقيمته على مساكين الحرم فله وجه من النظر، والله أعلم، ولا نص في ذلك – انتهى. وأما ما يجوز الأكل منه من الهدايا إذا بلغت محلها وما لا يجوز فقد اختلفوا فيه أيضًا فذهب مالك وأصحابه إلى جواز الأكل من جميع الهدي واجبه وتطوعه إذا بلغ محله إلا ثلاثة أشياء: جزاء الصيد، وفدية الأذى، والنذر الذي هو للمساكين. قال الأبي: أما ما بلغ من الهدي محله فمشهور مذهب مالك أنه لا يأكل من ثلاثة: من الجزاء والفدية ونذر المساكين، ويأكل مما سوى ذلك، وبه قال فقهاء الأمصار وجماعة من السلف – انتهى. وهكذا حكى الباجي، وقال الدردير: لما كان الأكل من دماء الحج ينقسم منعًا وإباحة باعتبار بلوغ المحل وعدمه أربعة أقسام أشار للأول منها وهو المنع مطلقًا بقوله (ولم يؤكل) أي يحرم على رب الهدي أن يأكل (من نذر مساكين عين لهم) باللفظ أو النية بأن قال هذا نذر الله ونوى أن يكون للمساكين (مطلقًا) بلغ محله أو لم يبلغ، ومثل نذر المساكين هدي التطوع إذا نواه للمساكين وكذا الفدية إن لم يجعل هديًا فهذه ثلاثة يحرم الأكل منها طلقًا، وأشار للقسم الثاني بقوله (عكس الجميع) أي جمع الهدايا غير ما ذكر من تطوع أو واجب لنقص بحج أو عمرة من ترك واجب أو فساد أو فوت أو تعدي ميقات أو متعة أو قران أو نذر لم يعين فله الأكل منها مطلقًا بلغت محلها أو لا، وإذ جاز له الأكل في الجميع (فله إطعام الغني والقريب) وأولى غيرهما ثم استثنى مما يؤكل منه مطلقًا ما يؤكل في حال دون حال، وتحته قسمان أولهما ثالث الأقسام الأربعة بقوله (إلا) ثلاثة (نذرًا لم يعين) مثل لله عليّ هدي للمساكين (والفدية) إذا جعلت هديًا (والجزاء) للصيد فلا يأكل من هذه الثلاثة (بعد بلوغ المحل) سالمة، فأما إن عطبت قبله فيأكل منها لأن عليه بدلها وأشار لرابع الأقسام بقوله (وهدي تطوع) لم يجعله للمساكين بلفظ ((ولا نية)) ومثله النذر المعين الذي لم يجعل لهم (إن عطب) قبل محله فلا يأكل منه، وأما إن وصل لمحله سالمًا فإنه يأكل منه – انتهى، وقال اللخمي: كل هدي واجب في الذمة عن حج أو عمرة من فساد أو متعة أو قران أو تعدي ميقات أو ترك النزول بعرفة نهارًا أو ترك النزول بمزدلفة أو ترك رمي الجمار أو أخر الحلق يجوز الأكل منه قبل بلوغ محله وبعده، أما جزاء الصيد وفدية الأذى فيوكل منهما قبل بلوغهما محلهما ولا يؤكل منهما بعده، وأما النذر المضمون إذا لم يسمعه للمساكين فإنه يأكل منه بعد بلوغه محله، وإن كان منذورًا معينًا ولم يسمه للمساكين أو قلده أو أشعره من غر نذر أكل منه بعد بلوغه محله ولم يأكل منه قبله، وإن عين النذر للمساكين أو نوى ذلك حين التقليد والإشعار لم يأكل منه قبل ولا بعد، والحاصل أن النذر المعين للمساكين لا يجوز له الأكل منه مطلقًا عند مالك، وأن النذر المضمون للمساكين حكمه عند المالكية حكم جزاء الصيد وفدية الأذى فيمتنع الأكل منه

...................................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ بعد بلوغه محله ويجوز قبله، لأنه باقي في الذمة حتى يبلغ محله، وأما النذر المضمون الذي لم يسم للمساكين كقوله: لله علي نذر أن أتقرب إليه بنحر هدي. فله عند المالكية الأكل منه قبل بلوغ محله وبعده، وقد تقدم أن هدي التطوع إن عطب في الطريق لا يجوز له الأكل منه عند المالكية، وذهب أحمد في المشهور عنه إلى أنه لا يؤكل من الهدايا إلا دم التمتع والقران والتطوع، وبه قالت الحنفية كما سيأتي. قال الحافظ في الفتح تحت ما روى البخاري عن ابن عمر معلقًا أنه قال: لا يؤكل من جزاء الصيد والنذر ويؤكل من سوى ذلك: وهذا القول إحدى الروايتين عن أحمد وهو قول مالك وزاد ((إلا فدية الأذى)) الأخرى عن أحمد ((لا يؤكل إلا من هدي التطوع والتمتع والقرآن)) وهو قول الحنفية بناء على أصلهم أن دم التمتع والقران دم نسك لا دم جبران – انتهى. وقال الخرقي: ولا يأكل من كل واجب إلا من هدي التمتع، قال ابن قدامة (ج 3: ص 541) : المذهب أنه يأكل من هدي التمتع والقران دون ما سواهما نص عليه أحمد، ولعل الخرقي ترك ذكر القران لأنه متعة أو اكتفى بذكر المتعة لأنهما سواء في المعنى، فإن سببهما غير محظور فأشبها هدي المتطوع، وهذا قول أصحاب الرأي وعن أحمد أنه لا يأكل من المنذور وجزاء الصيد ويأكل مما سواهما، وهو قول ابن عمر وعطاء والحسن وإسحاق، لأن جزاء الصيد بدل والنذر جعله الله تعالى بخلاف غيرهما. وقال ابن أبي موسى: لا يأكل أيضًا من الكفارة ويأكل مما سوى هذه الثلاثة، ونحوه مذهب مالك لأن ما سوى ذلك لم يسمه للمساكين ولا مدخل للإطعام فيه فأشبه التطوع، وقال الشافعي: لا يأكل من واجب لأنه هدي وجب بالإحرام، فلم يجز الأكل منه كدم الكفارة، ولنا أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - تمتعن معه في حجة الوداع وأدخلت عائشة الحج على العمرة فصارت قارنة، ثم ذبح عنهن النبي - صلى الله عليه وسلم - البقرة فأكلن من لحومها، قال أحمد: قد أكل من البقرة أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث عائشة خاصة، وقال ابن عمر: تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعمرة إلى الحج فساق الهدي من ذي الحليفة، متفق عليه. وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر فأكل هو وعلي من لحمها وشربا من مرقها، رواه مسلم. ولأنهما دماء نسك فأشبها التطوع ولا يؤكل من غيرهما لأنه يجب بفعل محظور فأشبه جزاء الصيد، فأما هدي التطوع وهو ما أوجبه بالتعيين ابتداء من غير أن يكون عن واجب في ذمته، وما نحره تطوعًا من غير أن يوجبه فيستحب أن يأكل منه لقول الله تعالى {فكلوا منها} (22: 28) وأقل أحوال الأمر الاستحباب، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل من بدنة. وقال جابر: كنا لا نأكل من بدننا فوق ثلاث، فرخص لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: كلوا وتزودوا، فأكلنا وتزودنا. رواه البخاري، وإن لم يأكل فلا بأس فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نحر البدنات الخمس قال: من شاء اقتطع ولم يأكل منهن شيئًا – انتهى. وقال في الهداية: يجوز الأكل من هدي التطوع والمتعة والقران لأنه دم نسك فيجوز الأكل منها بمنزلة الإضحية، وقد صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل من لحم هديه وحسا من المرقة، ويستحب له أن يأكل منها لما روينا وكذلك

رواه مسلم. 2660 – (10) وعن جابر، قال: نحرنا مع رسول الله عام الحديبية البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة. ـــــــــــــــــــــــــــــ يستحب أن يتصدق على الوجه الذي عرف في الضحايا، ولا يجوز الأكل من بقية الهدايا لأنها دماء كفارات – انتهى. وقال في شرح اللباب: الهدي على نوعين، هدي شكر وهو هدي المتعة والقران والتطوع، وهدي جبر وهو سائر الدماء الواجبة ما عدا الثلاثة، وكل دم وجب شكرًا فلصاحبه أن يأكل منه ما شاء ولا يتقيد ببعض منه ويؤكل الأغنياء والفقراء، ولا يجب التصدق لا بكله ولا ببعضه، بل يستحب أن يتصدق بثلثه، ويطعم ثلثه، ويهدي للأغنياء ثلثه، وكل دم وجب جبرًا لا يجوز له الأكل منه ولو كان فقيرًا ولا للأغنياء، ويجب التصدق بجميعه حتى لو استهلكه بعد الذبح كله أو بعضه لزمه قيمته للفقراء فيتصدق بها عليهم – انتهى. ومذهب الشافعية أنه لا يجوز أكل شيء من الدماء الواجبة حتى دم التمتع والقران ويجوز الأكل من دم التطوع مع وجوب التصدق ببعض لحمه. قال النووي: وكذا قال الأوزاعي وداود الظاهري: لا يجوز الأكل من الواجب، قال الشنقيطي بعد ذكر مذاهب الأئمة: الذي يرجحه الدليل في هذه المسألة هو جواز الأكل من هدي التطوع وهدي التمتع والقران دون غير ذلك، والأكل من هدي التمتع لا خلاف فيه من بين العلماء بعد بلوغه محله، وإنما خلافهم في استحباب الأكل منه أو وجوبه، ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت عنه في الأحاديث الصحيحة في حجة الوداع أنه أهدى مائة من الإبل، ومعلوم أن ما زاد على الواحدة منها تطوع، وقد أكل منها وشرب من مرقها جميعًا. وأما الدليل على الأكل من هدي التمتع والقران فهو ما ثبت في الصحيح أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ذبح عنهن النبي - صلى الله عليه وسلم - بقرًا ودخل عليهن بلحمه وهن متمتعات وعائشة منهن قارنة وقد أكلن جميعًا مما ذبح عنهن في تمتعهن وقرانهن بأمره - صلى الله عليه وسلم -، وهو نص صحيح صريح في جواز الأكل من هدي التمتع والقران، أما غير ما ذكرنا من الدماء فلم يقم دليل يجب الرجوع إليه على الأكل منه، ولا يتحقق دخوله في عموم قوله تعالى {فكلوا منها} لأنه لترك واجب أو فعل محظور، فهو بالكفارات أشبه، وعدم الأكل منه أظهر وأحوط، والعلم عند الله تعالى - انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضًا أحمد وأبو داود والنسائي والبيهقي (ج 5: ص 243) وفي الباب أيضًا عن ذويب أبي قبيصة عند أحمد ومسلم وابن ماجة والبيهقي، وعن ناجية الخزاعي وسيأتي في الفصل الثاني، وعن عمرو بن خارجة الثمالي عند أحمد (ج 4: ص 187، 238) والطبراني في الكبير وعن أبي قتادة عند الطبراني في الأوسط وعن شهر بن حوشب عن الأنصاري صاحب بدن النبي - صلى الله عليه وسلم - عند أحمد (ج 4: ص 64) . 2660 – قوله (عام الحديبية) بالتخفيف وقيل بالتشديد (البدنة) أي الإبل (عن سبعة والبقرة عن سبعة) ظاهره

..................................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ أن البقرة لا تسمى بدنة وهو كذلك بالنسبة لغالب استعمالها ففي القاموس البدنة محركة، من الإبل والبقر كالإضحية من الغنم تهدي إلى مكة المكرمة للذكر والأنثى، وفي الصحاح للجوهري: البدنة ناقة أو بقرة تنحر بمكة، وفي النهاية: البدنة تقع على الجمل والناقة والبقرة وهي بالإبل أشبه، وقال في الفتح: إن أصل البدن ممن الإبل وألحقت بها البقرة شرعًا – انتهى. والحديث فيه دليل على جواز اشتراك السبعة في الهدي من البدنة وهو قول الجمهور، وعن داود وبعض المالكية يجوز في هدي التطوع دون الواجب، وعن مالك لا يجوز مطلقًا، وأولت المالكية حديث جابر بوجوه كلها تكلفات باردة من شاء الوقوف عليها رجع إلى شرحي الموطأ للزرقاني والباجي. وأجاب إسماعيل القاضي عن حديث جابر بأنه كان بالحديبية حيث كانوا محصرين، وهذا الجواب لا يدفع الاحتجاج بالحديث بل ثبت عن جابر عند مسلم أنهم اشتركوا الاشتراك المذكور معه - صلى الله عليه وسلم - أيضًا في حجه ولا شك أن المراد بحجه حجة الوداع لأنه لم يحج بعد الهجرة حجة غيرها. روى مسلم عن جابر قال: اشتركنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحج والعمرة كل سبعة منا في بدنة فقال رجل لجابر: أيشترك في البقرة ما يشترك في الجزور؟ فقال: ما هي إلا من البدن، وفي لفظ له عنه قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهلين بالحج فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة. وفي لفظ له عنه أيضًا ((قال: حججنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنحرنا البعير عن سبعة والبقرة عن سبعة. وفي لفظ له عنه وهو يحدث عن حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي ويجتمع النفر منا في الهدية، وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم. وهذا يدل على صحة أصل الاشتراك. وفي لفظ له عنه أيضًا قال: كنا نتمتع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنذبح البقرة عن سبعة نشترك فيها – انتهى. فهذه الروايات الصحيحة تدل على أن دم التمتع يكفي فيه الاشتراك للسبع في بدنة أو بقرة ويدل على جواز الاشتراك أيضًا ما رواه البخاري عن أبي جمرة قال: سألت ابن عباس عن المتعة فأمرني بها وسألته عن الهدي فقال فيها: جزور أو بقرة أو شاة أو شرك في دم – انتهى. قال الحافظ: قوله ((أو شرك)) بكسر الشين المعجمة وسكون الراء، أي مشاركة في دم أي حيث يجزئ الشيء الواحد عن جماعة، وهذا موافق لما رواه مسلم عن جابر قال: خرجا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ممهلين بالحج فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة. وقال الشنقيطي: قوله ((أو شرك في دم)) يعني به ما بينته الروايات المذكورة الصحيحة عن جابر أن البدنة والبقرة كلتاهما تكفي عن سبعة من المتمتعين. وأجاب إسماعيل القاضي عن حديث ابن عباس هذا بأنه خالف أبا جمرة في ذكره الاشتراك المذكور ثقات أصحاب ابن عباس فرووا عنه أن ما استيسر من الهدي شاة، ثم ساق ذلك بأسانيد صحيحة عنهم عن ابن عباس. قال: وحدثنا سليمان عن حماد بن زيد عن أيوب عن محمد ابن سيرين عن ابن عباس، قال: ما كنت أرى أن دمًا واحدًا يقضي عن أكثر من واحد – انتهى. قال الحافظ: ليس بين رواية أبي جمرة ورواية غيره منافاة، لأنه زاد عليهم ذكر الاشتراك ووافقهم على ذكر الشاة، وإنما أراد ابن عباس بالاقتصار على

رواه مسلم. 2661 – (11) وعن ابن عمر، أنه أتى على رجل قد أناخ بدنته ينحرها، قال: ابعثها قيامًا ـــــــــــــــــــــــــــــ الشاة الرد على من زعم اختصاص الهدي بالإبل والبقر وذلك واضح فيما سنذكره بعد هذا، وأما رواية محمد عن ابن عباس فمنقطعة ومع ذلك لو كانت متصلة احتمل أن يكون ابن عباس أخبر أنه كان لا يرى ذلك من جهة الاجتهاد حتى صح عنده النقل بصحة الاشتراك فأفتى به أبا جمرة، وبهذا تجتمع الأخبار وهو أولى من الطعن في رواية من أجمع العلماء على توثيقه والاحتجاج بروايته، وهو أبو جمرة الضبعي، وقد روى عن ابن عمر أنه كان لا يرى التشريك، ثم رجع عن ذلك لما بلغته السنة، ثم ذكر الحافظ رجوع ابن عمر عن ذلك عن أحمد بسنده من طريق الشعبي عن ابن عمر، واستدل بقوله ((كل سبعة منا في بدنة)) من قال: ((عدل البدنة سبع شياه)) وهو قول الجمهور أي في الهدي والإضحية كليهما، وادعى الطحاوي وابن رشد أنه إجماع وتعقب عليهما بأن الخلاف في ذلك مشهور حكاه الترمذي في سننه عن إسحاق بن راهويه وكذا الحافظ في الفتح، وقال: هو (أي إجزاء البدنة عن عشرة) إحدى الروايتين عن سعيد بن المسيب، وإليه ذهب ابن خزيمة من الشافعية واحتج له في صحيحه وقواه، واحتج له ابن حزم وكذا ابن خزيمة بحديث رافع بن خديج أنه - صلى الله عليه وسلم - قسم فعدل عشرًا من الغنم ببعير – الحديث. وهو في الصحيحين، واحتجوا أيضًا بحديث ابن عباس، قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فحضر الأضحى فذبحنا البقرة عن سبعة والبعير عن عشرة، رواه الخمسة إلا أبا داود، ويجاب عنه بأنه خارج عن محل النزاع لأنه في الإضحية، فإن قالوا يقاس الهدي عليها، قلنا: هو قياس فاسد الاعتبار لمصادمته النصوص ويجاب عن حديث رافع أيضًا بمثل هذا الجواب لأن ذلك التعديل كان في القسمة وهي غير محل النزاع، وأيضًا حديث جابر في خصوص الهدي والأخص في محل النزاع مقدم على الأعم، ويؤيد كون البدنة عن سبعة فقط أمره - صلى الله عليه وسلم - لمن لم يجد البدنة أن يشتري سبعًا فقط، ولو كانت تعدل عشرًا لأمره بإخراج عشر لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز (رواه مسلم) وأخرجه أيضًا أحمد ومالك في الأضاحي والترمذي في الحج وابن ماجه في الأضاحي وابن حبان والبيهقي (ج 5: ص 234) وغيرهم. 2661 - قوله (وعن ابن عمر أنه) أي ابن عمر (أتى) أي مر (على رجل) أي بمنى كما في مسند أحمد، وهذا الرجل لم يعرف ولم يسمعه أحد من أصحاب الأصول (قد أناخ بدنته ينحرها) أي حال كونه يريد نحرها، وهذا لفظ البخاري، ولمسلم ((وهو ينحر بدنته باركة)) (ابعثها) أي أقمها (قيامًا) قال القاري: حال مؤكدة أي قائمة، وقد صحت الرواية بها، وعاملها محذوف دل عليه أول الكلام أي انحرها قائمة لا ابعثها، لأن البعث إنما يكون قبل القيام، اللهم إلا أن تجعل حالاً مقدرة أي ابعثها مقدرًا قيامها، وقال الحافظ: قوله ((ابعثها)) أي أثرها يقال: بعثت الناقة أثرتها، وقوله

مقيدة، سنة محمد - صلى الله عليه وسلم -. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((قيامًا)) مصدر بمعنى قائمة وهي حال مقدرة، أو قوله ((ابعثها)) أي أقمها أو العامل محذوف تقديره انحرها، وقد وقع في رواية عند الإسماعيلي ((انحرها قائمة)) (مقيدة) حال ثانية أي معقولة الرجل قائمة على ما بقي من قوائمها، ولأبي داود من حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها (سنة محمد - صلى الله عليه وسلم -) بنصب سنة على المفعولية أي فاعلاً بها سنة محمد أو متبعًا سنة محمد، ويجوز رفعه خبرًا لمبتدأ محذوف، ويدل عليه رواية الحربي في المناسك بلفظ ((فقال له: انحرها قائمة فإنها سنة محمد)) والحديث يدل على استحباب نحر الإبل قيامًا مقيدة، قال الباجي: وهو مذهب مالك وجمهور الفقهاء غير الحسن البصري في قوله ((تنحر باركة)) والأصل في ذلك حديث أنس عند البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحره بيده سبعة بدن قيامًا. قال الشيخ أبو بكر: إنما كان ذلك في الإبل لأنه أمكن لمن ينحرها لأنه يطعن في لبتها، وأما البقر والغنم التي سنتها الذبح فإن إضجاعها أمكن لتناول ذبحها، فالسنة إضجاعها، وروى محمد عن مالك أن الشأن أن تنحر البدن قائمة قد صفت يداها بالقيد، وقال ذلك ابن حبيب في قوله تعالى: {فاذكروا اسم الله عليها صواف} (22: 36) وقد روى محمد عن مالك أيضًا ((لا يعقلها إلا من خاف أن يضعف عنها)) – انتهى. وقال ابن قدامة (ج 3: ص 431) : السنة نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى فيضربها بالحربة في الوهدة التي بين أصل العنق والصدر، وممن استحب ذلك مالك والشافعي وإسحاق وابن المنذر، واستحب عطاء نحرها باركة (وهذا مخالف للسنة) وجوز الثوري وأصحاب الرأي كل ذلك، ولنا حديث ابن عمر عند الشيخين وحديث جابر عند أبي داود. وفي قول الله تعالى: {وجبت جنوبها} دليل على أنها تنحر قائمة، ويروى في تفسير قوله تعالى: {فاذكروا اسم الله عليه صواف} أي قيامًا وتجزئه كيف ما نحر. قال أحمد: ينحر البدن معقولة على ثلاث قوائم، وإن خشى عليها أن تنفر أناخها - انتهى. قلت: وبذلك قالت الحنفية، ففي المضمرات: السنة أن ينحر البعير قائمًا، وتذبح الشاة والبقرة مضطجعة، ذكره ابن عابدين. وفي الهداية: الأفضل في البدن النحر، وفي البقر والغنم الذبح، ثم إن شاء نحر الإبل في الهدايا قيامًا أو أضجعها وأي ذلك فعل فهو حسن، والأفضل أن ينحرها قيامًا لما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - نحر الهدايا قيامًا وأصحابه كانوا ينحرونها قيامًا معقولة يدها اليسرى - انتهى. وقال ابن الهمام بعد ذكر حديث جابر عن أبي داود المتقدم: وإنما سن النبي - صلى الله عليه وسلم - النحر قيامًا عملاً بظاهر قوله تعالى: {فإذا وجبت جنوبها} (22: 36) والوجوب السقوط، وتحققه في حال القيام أظهر. قال: والاستدلال بقول الله تعالى: {فاذكروا اسم الله عليها صواف} أظهر، وقد فسره ابن عباس بقوله قيامًا على ثلاث قوائم، وهو إنما يكون بعقل الركبة، والأولى كونه اليسرى للإتباع، رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط مسلم. قال: والحاصل أن القيام أفضل، فإن لم يتسهل فالقعود أفضل من الاضطجاع – انتهى. قال الحافظ في الفتح: في حديث ابن عمر استحباب نحر الإبل على الصفة المذكورة، وعن الحنفية يستوي قائمة وباركة في الفضيلة – انتهى.

متفق عليه. 2662 – (12) وعن علي، قال: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقوم على بدنه، وأن أتصدق بلحمها وجلودها ـــــــــــــــــــــــــــــ قلت: هذا خلاف ما وقع في عامة فروع الحنفية كما تقدم، ولعل منشأ ما حكى الحافظ والنووي عن الحنفية من استواء البروك والقيام في الفضيلة هو ما ذكره ابن الهمام في فتح القدير عن أبي حنيفة نحرت بدنة قائمة فكدت أهلك قيامًا من الناس، لأنها نفرت فاعتقدت أن لا أنحر بعد ذلك إلا باركة معقولة، وأستعين عليه بمن هو أقوى مني - انتهى. وهذا كما ترى مبني على خشية النفور لا مطلقًا. قال الحافظ: وفي الحديث تعليم الجاهل وعدم السكوت على مخالف السنة وإن كان مباحًا، وفيه أن قول الصحابي ((من السنة كذا)) مرفوع عند الشيخين لاحتجاجهما بهذا الحديث في صحيحيهما (متفق عليه) وأخرجه أيضًا أحمد (ج 2: ص 3) وأبو داود والنسائي والدارمي والبيهقي (ج 5: ص 237) . 2662 – قوله (أن أقوم على بُدْنه) بضم الباء وسكون الدال جمع بدنة، والمراد بدنه التي أهداها إلى مكة في حجة الوداع ومجموعها مائة كما تقدم، وفيه جواز الإنابة في نحر الهدي وتفرقته. قال الحافظ: قوله ((أن أقوم على بدنه)) أي عند نحرها للاحتفاظ بها، ويحتمل أن يريد ما هو أعم من ذلك، أي على مصالحها في علفها ورعيها وسقيها وغير ذلك (وأن أتصدق بلحمها) المراد أنه يقسم لحومها على المساكين إلا ما أمر به من كل بدنة ببضعة فطبخت كما مر في حديث جابر الطويل (وجلودها) قال الكرماني: فيه أنه لا يجوز بيع جلود الهدايا والضحايا كما هو ظاهر الحديث إذ الأمر حقيقة في الوجوب - انتهى. وتعقبه في اللامع فقال: فيه نظر، فذلك صيغة افعل لا لفظ أمر. وقال الحافظ: استدل به على منع بيع الجلد. قال القرطبي: فيه دليل على أن جلود الهدي وجلالها لا تباع لعطفها على اللحم وإعطاءها حكمه، وقد اتفقوا على أن لحمها لا يباع فكذلك الجلود والجلال، وأجازه الأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وهو وجه عند الشافعية، قالوا: ويصرف ثمنه مصرف الإضحية. واستدل أبو ثور على أنهم اتفقوا على جواز الانتفاع به وكل ما جاز الانتفاع به جاز بيعه وعورض باتفاقهم على جواز الأكل من لحم هدي التطوع، ولا يلزم من جواز أكله جواز بيعه وأقوى من ذلك في رد قوله ما أخرجه أحمد في حديث قتادة بن النعمان مرفوعًا: ((لا تبيعوا لحوم الأضاحي والهدي وتصرفوا وكلوا واستمتعوا بجلودها ولا تبيعوا، وإن أطعمتم من لحومها فكلوا إن شئتم)) - انتهى كلام الحافظ. وقال النووي في شرح المهذب: مذهبنا أنه لا يجوز بيع جلد الهدي والإضحية ولا غيره من أجزائها لا بما ينتفع به في البيت ولا بغيره، وبه قال عطاء ومالك وأحمد وإسحاق، هكذا حكاه عنهم ابن المنذر، ثم حكى عن ابن عمر وأحمد وإسحاق أنه لا بأس أن يبيع جلد هديه ويتصدق بثمنه، قال: ورخص فيه أبو ثور، وقال النخعي والأوزاعي: لا بأس أن يشترى به الغربال والمنخل والفأس والميزان ونحوها - انتهى. قلت: ونحوه مذهب الحنفية،

وأجلتها، ـــــــــــــــــــــــــــــ ففي الدر المختار: ويتصدق بجلدها أو يعمل منه نحو غربال وجراب وقربة وسفرة ودلو أو يبدله بما ينتفع به باقيًا لا بمستهلك كخل ولحم ونحوه كدارهم، فإن بيع اللحم أو الجلد به أي بمستهلك أو بدارهم تصدق بثمنه، ومفاده صحة البيع (وهو قول أبي حنيفة ومحمد كما في البدائع) مع الكراهة، وعن أبي يوسف باطل لأنه كالوقف - انتهى. فالنهي في حديث قتادة محمول عندهما على الكراهة أو على البيع مع الانتفاع بثمنه، وقال ابن عابدين: أفاد أي صاحب الدر المختار أنه ليس له بيعهما بمستهلك وأن له بيع الجلد بما تبقى عينه، وسكت عن بيع اللحم للخلاف فيه، ففي الخلاصة وغيرها: لو أراد بيع اللحم ليتصدق بثمنه ليس له ذلك، وليس له فيه إلا أن يطعم أو يأكل - انتهى. والصحيح كما في الهداية وشروحها أنهما سواء في جواز بيعهما بما ينتفع بعينه دون ما يستهلك، وأيده في الكفاية بما روى ابن سماعة عن محمد: لو اشترى باللحم ثوبًا فلا بأس به - انتهى. قلت: ظاهر حديث قتادة بن النعمان أنه لا يجوز بيع جلد الهدي والإضحية ولحمهما مطلقًا لا بما ينفع بعينه ولا بمستهلك، والله أعلم (وأجلتها) بكسر الجيم وتشديد اللام جمع جلال بكسر الجيم وتخفيف اللام وهي جمع جُل بضم الجيم وهو ما يطرح على ظهر البعير من كساء ونحوه، وفيه دليل على مشروعية تجليل البدن، وهو مستحب وليس بواجب، قال الأبي في الإكمال: تجليل البدن ليس بلازم ولكن مضى عليه عمل السلف وأئمة الفتوى، وتجلل بعد الإشعار لئلا تتطلخ بالدم، والجلال على قدر سعة المهدي – انتهى. وفي شرح مسلم للنووي ((قال القاضي: التجليل سنة وهو عند العلماء مختص بالإبل وهو مما اشتهر من عمل السلف، قال: وممن رآه مالك والشافعي وأبو ثور وإسحاق، قالوا: ويكون بعد الإشعار لئلا يتطلخ بالدم، قالوا: ويستحب أن تكون قيمتها ونفاستها بحسب حال المهدي وكان بعض السلف يجلل بالوشي وبعضهم بالحبرة وبعضهم بالقباطي والملاحف والأزر، قال مالك: وتشق على الأسنمة إن كانت قليلة الثمن لئلا تسقط، قال مالك: وما علمت من ترك ذلك إلا ابن عمر استبقاء للثياب، لأنه كان يجلل الجلال المرتفعة من الأنماط والبرود والحبر، قال: وكان لا يجلل حتى يغدو من منى على عرفات، قال: وروي عنه أنه كان يجلل من ذي الحليفة، قال: وكان يعقد أطراف الجلال على أذنابها، فإذا مشى ليلة نزعها، فإذا كان يوم عرفة جللها فإذا كان عند النحر نزعها لئلا يصيبها الدم. قال مالك: وأما الجل فينزع في الليل لئلا يخرقها الشوك. قال: واستحب إن كانت الجلال مرتفعة أن يترك شقها وأن لا يجللها حتى يغدو إلى عرفات، فإن كانت بثمن يسير فمن حين يحرم يشق ويجلل، قال القاضي: وفي شق الجلال على الأسنمة فائدة أخرى وهي إظهار الإشعار لئلا يستر تحتها، وفي هذا الحديث الصدقة بالجلال وهكذا قاله العلماء، وكان ابن عمر أولاً يكسوها الكعبة، فلما كسيت الكعبة تصدق بها – انتهى. قال الباجي: معنى ذلك أن جلال البدن كانت كسوة الكعبة وكانت أولى بها من غيرها، فلما كسيت الكعبة رأى أن الصدقة بها أولى من غير ذلك، لأن الهدي وإن كان له تعلق بالبيت فإن مصرفه إلى المساكين ومستحقي

وأن لا أعطي الجزار منها قال: ـــــــــــــــــــــــــــــ الصدقة، ويحتمل أن يكون ابن عمر كان يكسو جلال بدنه الكعبة قبل أن يعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقسم جلال بدنه، فلما علم ذلك رجع إليه وأخذ به – انتهى. قال القسطلاني. قال الشافعي في القديم: ويتصدق بالنعال وجلال البدن. وقال المهلب: ليس التصدق بجلال البدن فرضًا وإنما صنع ذلك ابن عمر لأنه أراد أن لا يرجع في شيء أهداه الله ولا في شيء أضيف إليه – انتهى. وقال المرداوي من الحنابلة في تنقيحه: وله أن ينتفع بجلدها وجلها أو يتصدق به ويحرم بيعهما وشيء منهما. وقال المالكية: وخطام الهدايا كلها وجلالها كلحمها فحيث يكون اللحم مقصورًا على المساكين يكون الجلال والخطام كذلك، وحيث يكون اللحم مباحًا للأغنياء والفقراء يكون الخطام والجلال كذلك تحقيقًا للتبعية، فليس له أن يأخذ من ذلك، ولا يأمر بأخذه في الممنوع من أكل لحمه، فإن أمر أحدًا بأخذ شيء من ذلك أو أخذ هو شيئًا رده، وإن أتلفه غرم قيمته للفقراء، وقال العيني من الحنفية: وقال أصحابنا: يتصدق بجلال الهدي وزمامه لأنه عليه الصلاة والسلام أمر عليًا بذلك، والظاهر أن هذا الأمر أمر استحباب – انتهى. وقال محمد في موطأه بعد رواية أثر ابن عمر في التصدق بجلال بدنه: وبهذا نأخذ، ينبغي أن يتصدق بجلال البدن وخطمها ولا يعطي الجزار من ذلك شيئًا ولا من لحومها، بلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث مع علي بن أبي طالب بهدي فأمر أن يتصدق بجلاله وخطمه وأن لا يعطي الجزار من خطمه وجلاله شيئًا – انتهى. (وأن لا أعطي الجزار) أي شيئًا (منها) المراد منع عطية الجزار من الهدي عوضًا عن أجرته كما بينته رواية أخرى لمسلم بلفظ ((ولا يعطي في جزارتها منها شيئًا)) قال ابن الأثير: الجُزارة بالضم كالعمامة، ما يأخذه الجزار من الذبيحة عن أجرته، وأصلها أطراف البعير: الرأس واليدان والرجلان، سميت بذلك لأن الجزار كان يأخذها عن أجرته – انتهى. قال ابن خزيمة: النهي عن إعطاء الجزار المراد به أن لا يعطي منها عن أجرته، وكذا قال البغوي في شرح السنة، قال: وأما إذا أعطي أجرته كاملة ثم تصدق عليه إذا كان فقيرًا كما يتصدق على الفقراء فلا بأس بذلك، وقال غيره: إعطاء الجزار منها على سبيل الأجرة ممنوع لكونه معاوضة، وأما أعطاه صدقة أو هدية أو زيادة على حقًا فالقياس الجواز. قال الحافظ: ولكن إطلاق الشارع ذلك قد يفهم منه منع الصدقة لئلا تقع مساحة في الأجرة لأجل ما يأخذه فيرجع إلى المعاوضة. قال القرطبي: ولم يرخص في إعطاء الجزار منها في أجرته إلا الحسن البصري وعبد الله بن عبيد بن عمير، قال: وفي حديث علي من الفوائد: سوق الهدي والوكالة في نحر الهدي والاستئجار عليه، والقيام عليه وتفرقته، وأن من وجب عليه شيء لله فله تخليصه ونظيره الزرع يعطي عشره ولا يحسب شيئًا من نفقته على المساكين – انتهى (قال) أي على أو النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الأظهر، قاله القاري. وقوله ((قال)) كذا في نسخ المشكاة والمصابيح، وهكذا وقع في جامع الأصول وفي بعض طرق أحمد وبعض نسخ مسلم، ووقع في بعض نسخه وبعض طرق أحمد ((وقال)) أي بزيادة الواو، وهكذا ذكره الزيلعي والمجد، وهكذا وقع في سنن

نحن نعطيه من عندنا. متفق عليه. 2663 – (13) وعن جابر، قال: كنا لا نأكل من لحوم بدننا فوق ثلاث، فرخص لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " كلوا وتزودوا ". فأكلنا وتزودنا. ـــــــــــــــــــــــــــــ أبي داود وابن ماجة، وللبيهقي بلفظ ((ثم قال)) (نحن نعطيه) أي أجرته (من عندنا) وفي رواية أحمد (ج 1: ص 123) ((وقال: نحن نعطيه من عندنا الأجر)) (متفق عليه) أي على أصل الحديث، لأن قوله ((قال: ونحن نعطيه من عندنا)) ليس عند البخاري بل لمسلم فقط، وهكذا أخرجه أحمد (ج 1: ص 89، 123، 154) وأبو داود وابن ماجة وابن الجارود (ص 173) والبيهقي (ج 5: ص 241) وأخرجه أيضًا أحمد (ج 1: ص 112، 132، 160) والدارمي وابن الجارود بدون الزيادة المذكورة. 2663 – قوله (كنا لا نأكل من لحوم بدننا) أي التي نهديها ونضحي بها (فوق ثلاث) وفي الصحيحين ((فوق ثلاث منى)) قال القسطلاني: بإضافة ثلاث إلى منى أي الأيام الثلاثة التي يقام بها بمنى وهي الأيام المعدودات. وقال في المصابيح: والأصل ثلاث ليال منى كما في قولهم ((حب رمان زيد)) فإن القصد إضافة الحب المختص بكونه للرمان إلى زيد، ومثله ابن قيس الرقيات، فإن الملتبس بالرقيات ابن قيس لا قيس. قال الشيخ سعد الدين التفتازاني: وتحقيقه أن مطلق الحب مضاف إلى الرمان، والحب المقيد بالإضافة إلى الرمان مضاف إلى زيد، قال الدماميني: وفيه نظر فتأمله (فرخص لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال الطيبي: نهى أولاً أن يؤكل لحم الهدي والإضحية فوق ثلاثة أيام ثم رخص (فقال: كلوا وتزودوا) أي ادخروا ما تزودونه فيما تستقبلونه مسافرين أو مجاورين، وفي رواية لمسلم ((كنا لا نمسك لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نتزود منها ونأكل منها يعني فوق ثلاث)) وفي أخرى له أيضًا ((أنه نهى عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث)) ثم قال بعد ((كلوا وتزودوا وادخروا)) (فأكلنا وتزودنا) هذا للبخاري وحده، وانتهت رواية مسلم إلى قوله ((كلوا وتزودوا)) وفيها بعد هذا ((قلت (قائله ابن جريج) لعطاء: قال جابر: حتى جئنا المدينة؟ قال: نعم)) . ووقعت هذه الزيادة عند البخاري بعد قوله ((فأكلنا وتزودنا)) بلفظ ((قال (أي ابن جريج) قلت لعطاء: أقال حتى جئنا المدينة؟ قال: لا)) قال النووي: فيحتمل أنه نسي في وقت فقال: لا، وذكر في وقت فقال: نعم. قال الحافظ: والذي وقع عند البخاري هو المعتمد، فإن أحمد أخرجه في مسنده عن يحيى بن سعيد (أي عن ابن جريج) كذلك، وكذلك أخرجه النسائي عن عمرو بن علي عن يحيى بن سعيد، وقد نبه على اختلاف البخاري ومسلم في هذه اللفظة الحميدي في جمعه وتبعه عياض ولم يذكرا ترجيحًا، وأغفل ذلك شراح البخاري أصلاً فيما وقفت عليه، قال: ثم ليس المراد بقوله ((لا)) نفي الحكم، بل مراده أن جابرًا لم يصرح باستمرار ذلك منهم حتى قدموا، فيكون على هذا معنى قوله في رواية عمرو بن دينار عن عطاء ((كنا نتزود لحوم الهدي إلى المدينة)) أي لتوجهنا إلى المدينة، ولا يلزم من ذلك بقاؤها معهم حتى يصلوا المدينة والله أعلم، لكن قد أخرج

....................................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ مسلم من حديث ثوبان قال: ذبح النبي - صلى الله عليه وسلم - أضحيته، ثم قال: لي يا ثوبان أصلح لحم هذه فلم أزل أطعمه منه حتى قدم المدينة – انتهى. قيل: قول الحافظ: بل المراد أن جابرًا لم يصرح باستمرار ذلك. إلخ. معناه جواز البقاء وعدمه في نفس الأمر لا وقوع أحدهما على القطع، ورواية عمرو بن دينار عن عطاء أخرجها الشيخان بلفظ ((كنا نتزود لحوم الأضاحي على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة)) قال علي بن المديني: قال سفيان بن عيينة غير مرة: لحوم الهدي يعني أن سفيان كان تارة يقول: لحوم الأضاحي، ومرارًا يقول: لحوم الهدي. والظاهر أن معنى هذه الرواية أنهم كانوا يتزودون لحوم الهدي من مكة فيأكلون منه في سفرهم إلى المدينة فإن بقي منهم شيء أكلوه بالمدينة في الحضر أيضًا كما يستفاد من رواية أحمد عن جابر قال: (أكلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القديد بالمدينة من قديد الأضحى)) يعني قديد هدي يوم الأضحى. ولا مانع من كونهم أهدوا وضحوا وتزودوا من لحمي الهدي والضحية، فإن كان لحم هدي فهو من هدي التطوع الذي يهدى إلى البيت، ومن هدي المتعة، وإن كان لحم ضحية فهو دليل لمن قال: بمشروعية الضحية للحاج، وعلى كل حال فهو يفيد جواز الأكل من هدي التطوع والواجب أي المتعة وادخاره والتزود منه، والله أعلم، هذا وحديث جابر نص في جواز الادخار والأكل من لحوم الهدي والإضحية فوق ثلاث، وهذا يخالف ما رواه مسلم عن علي بن أبي طالب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهانا أن نأكل من لحوم نسكنا بعد ثلاث. وفي لفظ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نهاكم أن تأكلوا لحوم نسككم فوق ثلاث ليال فلا تأكلوا، وروى أيضًا عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يأكل أحدكم من لحم إضحيته فوق ثلاث أيام. قال القاضي: اختلف العلماء في الأخذ بهذه الأحاديث فقال قوم: يحرم إمساك لحوم الأضاحي والأكل منها بعد ثلاث وأن حكم التحريم باق كما قاله علي وابن عمر. وقال جماهير العلماء: يباح الأكل والإمساك بعد الثلاث، والنهي منسوخ بحديث جابر وحديث بريدة عند أحمد ومسلم والترمذي وحديث عبد الله بن مسعود عند أحمد وحديث قتادة بن النعمان عند أحمد والطحاوي وغير ذلك من الأحاديث. قال: وهذا من نسخ السنة بالسنة. وقال بعضهم: ليس هو نسخًا بل كان التحريم لعلة، فلما زالت زال التحريم، وتلك العلة هي الدافة، وكانوا منعوا من ذلك في أول الإسلام من أجل الدافة فلما زالت العلة الموجبة لذلك أمرهم أن يأكلوا ويدخروا كما يدل عليه رواية مسلم من حديث مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن عبد الله بن واقد قال: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث. قال عبد الله بن أبي بكر: فذكرت ذلك لعمرة فقالت: صدق، سمعت عائشة تقول: دف أهل أبيات من أهل البادية حضرة الأضحى زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ادخروا ثلاث ثم تصدقوا بما بقى، فلما كان بعد ذلك قالوا: يا رسول الله! إن الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم ويجملون فيها الودك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وما ذاك؟ قالوا: نهيت أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، فقال: إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت،

........................................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ فكلوا وادخروا وتصدقوا. والمراد بالدافة هنا من ورد من شعفاء الأعراب للمواساة. وقيل: كان النهي الأول للكراهة لا للتحريم، قال هؤلاء: والكراهية باقية إلى يومنا هذا ولكن لا يحرم، قالوا: ولو وقع مثل تلك العلة اليوم فدفت دافة واساهم الناس وحملوا على هذا مذهب علي وابن عمر. والصحيح نسخ النهي مطلقًا وأنه لم يبق تحريم ولا كراهة، فيباح اليوم الادخار فوق ثلاث والأكل إلى متى شاء لصريح حديث جابر، وحديث بريدة أيضًا يدل على ذلك، فروى مسلم وأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله ض: نهيتكم عن أكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم. وفي رواية ((فكلوا وتزودوا وادخروا)) قلت: حكى الحازمي في الاعتبار عن علي والزبير وعبد الله بن واقد بن عبد الله بن عمر أنهم قالوا: يحرم الإمساك بلحوم الأضاحي بعد ثلاث وأن حكم التحريم باق. قال: وخالفهم في ذلك جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار ورأوا جواز ذلك وتمسكوا في ذلك بأحاديث تدل على نسخ الحكم الأول، ثم ذكر ما يدل على النسخ من حديث جابر وبريدة وعائشة، وقال ابن قدامة (ج 8: ص 633) يجوز الادخار فوق ثلاث في قول عامة أهل العلم ولم يجزه علي ولا ابن عمر، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهي عن ذلك. ولنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم. رواه مسلم. وقال أحمد فيه أسانيد صحاح، فأما علي وابن عمر فلم يبلغهما ترخيص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد كانوا سمعوا النهي فرووا على ما سمعوا – انتهى مختصرًا. وقال الحافظ في الفتح: قال الشافعي: لعل عليًا لم يبلغه النسخ. وقال غيره: يحتمل أن يكون الوقت الذي قال علي فيه ذلك كان بالناس حاجة كما وقع في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبذلك جزم ابن حزم فقال: إنما خطب علي بالمدينة في الوقت الذي كان عثمان حوصر فيه، وكان أهل البوادي قد ألجأتهم الفتنة إلى المدينة فأصابهم الجهد، فلذلك قال علي ما قال، وبنحو ذلك جمع الطحاوي. قال الحافظ: وكذلك يجاب عما أخرج أحمد (في مسند فاطمة (ج 6: ص 282) من طريق أم سليمان قالت: دخلت على عائشة فسألتها عن لحوم الأضاحي، فقالت: قد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها ثم رخص فيها فقدم علي من سفر فأتته فاطمة بلحم من ضحاياها فقال: أو لم ينه عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إنه قد رخص فيها، قالت: فدخل علي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن ذلك فقال: كلها من ذي الحجة إلى ذي الحجة. فهذا علي قد اطلع على الرخصة ومع ذلك خطب بالمنع فطريق الجمع ما ذكرته، وقد جزم به الشافعي في الرسالة في آخر باب العلل في الحديث (ص 239 بتحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر) فقال ما نصه: فإذا دفت الدافة ثبت النهي عن إمساك لحوم الضحايا بعد ثلاث، وإذا لم تدف دافة فالرخصة ثابتة بالأكل والتزود والادخار والصدقة. قال الشافعي: ويحتمل أن يكون النهي عن إمساك لحوم الأضاحي بعد ثلاث منسوخًا في كل حال. قال الحافظ: وبهذا الثاني أخذ المتأخرون من الشافعية، فقال الرافعي: الظاهر أنه لا يحرم اليوم بحال، وتبعه

....................................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ النووي فقال في شرح المهذب: الصواب المعروف أنه لا يحرم الادخار اليوم بحال، وحكى في شرح مسلم عن جمهور العلماء أنه من نسخ السنة بالسنة قال: والصحيح نسخ النهي مطلقًا وأنه لم يبق تحريم ولا كراهة فيباح اليوم الادخار فوق ثلاث والأكل إلى متى شاء – انتهى. وإنما رجح ذلك لأنه يلزم من القول بالتحريم إذا دفت الدافة إيجاب الإطعام، وقد قامت الأدلة عند الشافعية أنه لا يجب في المال حق سوى الزكاة. ونقل ابن عبد البر ما يوافق ما نقله النووي فقال: لا خلاف بين فقهاء المسلمين في إجازة أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث وأن النهي عن ذلك منسوخ كذا أطلق، وليس بجيد، فقد قال القرطبي: حديث سلمة (الآتي في الفصل الثالث) وعائشة نص على أن المنع كان لعلة فلما ارتفعت ارتفع لارتفاع موجبة فتعين الأخذ به، ويعود الحكم بعود العلة، فلو قدم على أهل بلد ناس محتاجون في زمان الأضحى ولم يكن عند أهل ذلك البلد سعة يسدون بها فاقتهم إلا الضحايا تعين عليهم ألا يدخروها فوق ثلاث. قال الحافظ: والتقييد بالثلاث واقعة حال وإلا فلو لم تستد الخلة إلا بتفرقة الجميع لزم على هذا التقرير عدم الإمساك ولو ليلة واحدة. وحكى البيهقي عن الشافعي أن النهي عن أكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث كان في الأصل للتنزيه، قال: وهو كالأمر في قوله تعالى: {فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر} (22: 36) وقال المهلب: إنه الصحيح لقول عائشة: وليس بعزيمة والله أعلم. فائدة: قال القرطبي: اختلف في أول الثلاث التي كان الادخار فيها جائزًا، فقيل: أولها يوم النحر فمن ضحى فيه جاز له أن يمسك يومين بعده، ومن ضحى بعده أمسك ما بقي له من الثلاثة. وقيل: أولها يوم يضحي فلو ضحى في آخر أيام النحر جاز له أن يمسك ثلاثًا بعدها، ويحتمل أن يأخذ من قوله فوق ثلاث (في حديث عليّ) أن لا يحسب اليوم الذي يقع فيه النحر من الثلاث، وتعتبر الليلة التي تليه وما بعدها، قال الحافظ: ويؤيده ما في حديث جابر ((كنا لا نأكل من لحوم بدننا فوق ثلاث منى)) فإن ((ثلاث منى)) تتناول يومًا بعد يوم النحر لأهل النفر الثاني – انتهى. وقال الشوكاني: قال القاضي عياض: يحتمل أن يكون ابتداء الثلاث من يوم ذبح الأضحية وإن ذبحت بعد يوم النحر ويحتمل أن يكون من يوم النحر وإن تأخر الذبح عنه. قال: وهذا أظهر. ورجح الحافظ ابن القيم الأول. وهذا الخلاف لا يتعلق به فائدة عند من قال بالنسخ إلا باعتبار ما سلف من الاحتجاج بذلك على أن يوم الرابع ليس من أيام الذبح – انتهى. فائدة أخرى: اختلف في أن النهي عن أكل لحوم الأضاحي وادخارها فوق ثلاث في أي سنة كان؟ فقيل كان ذلك سنة خمس من الهجرة كما جزم به صاحب الخميس حيث قال: وفي هذه السنة دفت دافة العرب فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث، كذا في الوفاء، ثم رخص لهم في الادخار ما بدا لهم – انتهى. وقيل إن النهي عن ذلك كان في سنة واحدة سنة تسع من الهجرة، والرخصة فيه كانت في حجة الوداع سنة عشر، والدليل على ذلك ما جاء في حديث قتادة بن النعمان عند أحمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام في حجة الوداع فقال: إني كنت أمرتكم

(الفصل الثاني)

متفق عليه. (الفصل الثاني) 2664 – (14) عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدى عام الحديبية في هدايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جملاً كان لأبي جهل ـــــــــــــــــــــــــــــ أن لا تأكلوا الأضاحي فوق ثلاثة أيام لتسعكم وإني أحله لكم فكلوا منه ما شئتم – الحديث. ففيه بيان وقت الرخصة وهو سنة حجة الوداع، ويستفاد من حديث سلمة بن الأكوع الآتي في الفصل الثالث أن النهي كان في العام السابق لعام الرخصة، وثبت في حديث قتادة المتقدم أن الرخصة كانت في حجة الوداع أي سنة عشر، فيكون النهي سنة تسع. قال الحافظ بعد ذكر حديث قتادة: فبين في هذا الحديث وقت الإحلال وأنه كان في حجة الوداع. وقال في شرح حديث سلمة بن الأكوع: يستفاد منه أن النهي كان سنة تسع لما دل عليه الذي قبله أن الإذن كان في سنة عشر – انتهى. واعترض عليه أن قيامه - صلى الله عليه وسلم - بذلك في حجة الوداع لا يوجب أن يكون ذلك وقت الإباحة والإحلال فقد أعلن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بأمور كثيرة كانت منهية عنها قبل ذلك كالمتعة والحمر الأهلية. وأيضًا كان نسخ المنع حين كان أبو سعيد الخدري في سفر كما وقع في روايته عند أحمد ومالك والشيخين وغيرهم مفصلاً، وقد كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع فهو كالنص في أنه نسخ المنع قبل حجة الوداع، ووقع نحو هذه القصة مع علي رضي الله عنه عند أحمد في مسند فاطمة من حديث عائشة كما تقدم، وهو أيضًا يدل على أن نسخه وقع حين كان علي في السفر عند الأضحى، وقد كان معه - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع (متفق عليه) . أخرجه البخاري في الحج ومسلم في الأضاحي، وأخرجه أيضًا أحمد. وللحديث ألفاظ أخرى عند أحمد والشيخين ومالك في الأضاحي والنسائي في الحج، وقد تقدم ذكر بعضها. 2664- قوله (أهدى عام الحديبية) بالتخفيف على الأفصح، وهي السنة السادسة من الهجرة، توجه فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة للعمرة فأحصره المشركون بالحديبية وهو موضع من أطراف الحل (في هدايا) أي في جملة هدايا (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) من وضع المظهر موضع المضمر تنويهًا بذكره - صلى الله عليه وسلم - في مقابلة ذكر اسم أبي جهل (جملاً) ذكر الإبل باتفاق أهل اللغة، ونقل الجوهري عن ابن السكيت: إنما يسمى جملاً إذا أربع أي دخل في السنة الرابعة، وذكر المنذري أن اسم هذا الجمل عصيفير، قال القاري ((جملاً)) نصب بأهدى، و ((في هدايا)) صلة له، وكان حقه أن يقول ((في هداياه)) فوضع المظهر موقع المضمر، والمعني جملاً كائنًا في هداياه (كان لأبي جهل) أي عمرو بن هشام المخزومي فرعون هذه الأمة الأحول، كنته العرب ((أبا الحكم)) وكناه النبي - صلى الله عليه وسلم - ((بأبي جهل)) فغلبت عليه هذه الكنية. قتل كافرًا يوم بدر في السنة الثانية من الهجرة. وعند أحمد (ج 1: ص 269) : أهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة بدنة فيها جمل أحمر لأبي جهل.

في رأسه برة من فضة، وفي رواية من ذهب. يغيظ بذلك المشركين. ـــــــــــــــــــــــــــــ وفي أخرى له أيضًا (ج 1: ص 261) : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كان أهدى جمل أبي جهل الذي كان استلب يوم بدر عام الحديبية في هديه (في رأسه) أي أنفه (بُرة) بضم الموحدة وفتح الراء المخففة، وأصلها بروة كغرفة لأنها تجمع على برات وبرون كثبات وثبون، وهي حلقة من صفر ونحوه تجعل في أنف البعير أو لحمة أنفه، يشد بها الزمام (من فضة كذا في جميع النسخ من المشكاة والمصابيح، وهكذا وقع عند أحمد (ج 1: ص 261، 269، 273) وابن ماجة والبيهقي في رواية وفي أبي داود ((برة فضة)) بالإضافة وهكذا ذكره في جامع الأصول، أي في أنفه حلقة فضة، فإن البرة حلقة من صفر ونحوه تجعل في لحم أنف البعير. وقال الأصمعي: في أحد جانبي المنخرين، لكن لما كان الأنف من الرأس قال ((في رأسه)) على الاتساع، أو هو مجاز المجاورة من حديث قربه من الرأس لا من إطلاق الكل على البعض وعند أحمد (ج 1: ص 234) عبرته قصة)) وإنما جعلها أبو جهل من فضة أو ذهب إظهارًا للفخر والعظمة، وقد وقع هذا الجمل للنبي - صلى الله عليه وسلم - في غنائم بدر فجعله في هديه عام الحديبية ليغيظ به المشركين كما سيأتي (وفي رواية ((من ذهب)) ) ويمكن التعدد باعتبار المنخرين (يغيظ بذلك المشركين) بفتح حرف المضارعة أي يوصل الغيظ إلى قلوبهم في نحر ذلك الجمل، وفيه تلميح إلى قوله تعالى: {ليغيظ بهم الكفار} (48: 29) قال الخطابي: قوله ((يغيظ بذلك المشركين)) معناه أن هذا الجمل كان معروفًا بأبي جهل فحازه النبي - صلى الله عليه وسلم - في سلبه فكان يغيظهم أن يروه في يده وصاحبه قتيل سليب. وفي الحديث دليل على جواز الذكر في الهدي، وإليه ذهب جماهير أهل العلم. قال الخطابي: في الحديث من الفقه أن الذكر في الهدي جائزة، وقد روى عن عبد الله بن عمر أنه كان يكره ذلك في الإبل، ويرى أن يهدي الإناث منها – قلت: وترجم له البيهقي ((باب جواز الذكر والأنثى في الهدايا)) وابن ماجة ((باب الهدي من الإناث والذكور)) قال البوصيري: قوله ((أهدي في بدنه جملاً)) أي ذكرًا، وكأنه أراد أن النوق كانت هي الغالب، فإذا ثبت إهداء الذكور لزم جواز النوعين – انتهى. قال ابن قدامة (ج 3: ص 550) والذكر والأنثى في الهدي سواء، وممن أجاز ذكران الإبل، ابن المسيب وعمر بن عبد العزيز ومالك وعطاء والشافعي، وعن ابن عمر أنه قال: ما رأيت أحدًا فاعلاً ذلك، وأن أنحر أنثى أحب إلى. والأول أولى، لأن الله تعالى قال: {والبدن جعلناها لكم من شعائر الله} (22: 36) ولم يذكر ذكرًا ولا أنثى، وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدى جملاً لأبي جهل في أنفه برة من فضة، ولأن القصد اللحم، ولحم الذكر أو فر، ولحم الأنثى أرطب فيتساويان – انتهى. وقال النووي في مناسكه: إن صفات الهدي المطلق كصفات الإضحية المطلقة، ويجزئ الذكر والأنثى، وقال ابن حجر في شرحه: والذكر أفضل إن لم يكثر نزواته، وإلا فالأنثى التي لم تلد – انتهى. وفي المدونة: الذكور والإناث عند مالك بدن كلها، وتعجب مالك ممن يقول لا يكون إلا في الإناث. قال مالك: وليس هكذا، قال الله تبارك وتعالى: {والبدن جعلناها لكم من شعائر الله} ولم يقل ذكرًا ولا

رواه أبو داود. ـــــــــــــــــــــــــــــ أنثى، قلت لابن القاسم: فالهدي من البقر والغنم والإبل هل يجوز من ذلك الذكر والأنثى في قول مالك؟ قال نعم – انتهى. (رواه أبو داود) في باب الهدي من كتاب المناسك، قال: حدثنا النفيلي نا محمد بن سلمة ثنا محمد بن إسحاق ح وثنا محمد بن المنهال نا يزيد بن زريع عن ابن إسحاق المعنى قال: قال عبد الله يعني ابن نجيح حدثني مجاهد عن ابن عباس، وقد سكت عنه أبو داود. وقال المنذري: في إسناده محمد بن إسحاق، قلت: وهو مدلس ولم يصرح بالتحديث والسماع بل قال: قال عبد الله يعني ابن أبي نجيح. وقال البيهقي: واختلف فيه على محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق فقيل ((برة فضة)) وقيل: من ذهب. ثم روى البيهقي بسنده عن عبد الله بن علي المديني عن أبيه قال: كنت أرى أن هذا من صحيح حديث ابن إسحاق فإذا هو قد دلسه. حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن ابن إسحاق قال حدثني من لا أتهم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس، ثم روى البيهقي بسنده وكذا أحمد (ج 1: ص 273) عن جرير بن حازم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدى في هديه بعيرًا كان لأبي جهل في أنفه برة من فضة. قال البيهقي: وهذا إسناد صحيح إلا أنهم يرون أن جرير بن حازم أخذه من محمد بن إسحاق ثم دلسه، فإن بين فيه سماع جرير من ابن أبي نجيح صار الحديث صحيحًا، والله أعلم – انتهى. قلت: روى الحديث أحمد (ج 1: ص 261) والحاكم (ج 1: ص 467) من طريق ابن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي نحيح عن مجاهد بن جبر عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كان أهدى جمل أبي جهل – الحديث. قال الحاكم: حديث صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. وهذا كما ترى قد صرح فيه ابن إسحاق بالتحديث، فالحديث صحيح أو حسن، وقد رواه أيضًا أحمد (ج 1: ص 269) وابن ماجة والبيهقي من طريق سفيان الثوري عن ابن أبي ليلي عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس، قال: أهدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل – الحديث. وهذا أيضًا إسناد حسن. قال البيهقي: ورواه مالك بن أنس في الموطأ (في باب ما يجوز من الهدي) مرسلاً وفيه قوة لما مضى – انتهى. وفي الباب أيضًا عن أبي بكر الصديق عند الدارقطني والبيهقي. تنبيه: روى الترمذي في ((باب ما جاءكم حج النبي - صلى الله عليه وسلم -)) ؟ من طريق زيد بن الحباب عن سفيان الثوري عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حج ثلاث حجج، حجتين قبل أن يهاجر وحجة بعد ما هاجر معها عمرة، فساق ثلاثة وستين بدنة، وجاء عليّ من اليمن ببقيتها (أي ببقية المائة أو ببقية البدن التي ذبحها النبي - صلى الله عليه وسلم -) فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من فضة فنحرها – الحديث. وهذا كما ترى مخالف لحديث الباب ولم ينبه على هذا الاختلاف ابن العربي وغيره من شراح الترمذي. والصواب عندنا ما وقع في رواية أبو داود ومن وافقه وذلك لوجوه منها أنه موافق لما في كتب السير، فإن جميع أهل السير ذكروا إهداء جمل أبي جهل في عمرة الحديبية لا في حجة الوداع. قال ابن القيم في الهدى (ج 1: ص 385) في الفصل الذي عقده لبيان ما في قصة الحديبية من الفوائد الفقهية: ومنها

2665 – (15) وعن ناجية الخزاعي، قال: قلت: يا رسول الله! كيف أصنع بما عطب من البدن؟ قال: " انحرها، ـــــــــــــــــــــــــــــ استحباب مغايظة أعداء الله فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدى في جملة هديه جملاً لأبي جهل في أنفه برة من فضة يغيظ به المشركين إلى آخر ما قال. ومنها ما وقع في رواية ابن عباس عند أحمد وأبي داود والبيهقي وعند أهل السير من تعليل إهداء جمل أبي جهل بإغاظة المشركين، فإن هذا لا يناسب حجة الوداع فإنه لم يكن فيها كافر بمكة. ومنها أن رواية الترمذي ضعيفة. قال الترمذي: هذا حديث غريب من حديث سفيان، وسألت محمدًا عن هذا فلم يعرفه من حديث الثوري عن جعفر عن أبيه عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورأيته لا يعد هذا الحديث محفوظًا، وقال: إنما عن الثوري عن أبي إسحاق عن مجاهد مرسل – انتهى. ولا يبعد أن يقال إن سفيان الثوري جمع بين الحديثين حديث جابر في قصة هدايا حجة الوداع وحديث ابن عباس في قصة هدايا عمرة الحديبية، كما يدل عليه سياق ابن ماجه في باب حجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه روى عن القاسم بن محمد المهلبي عن عبد الله بن داود عن سفيان قال: حج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث حجات، حجتين قبل أن يهاجر وحجة بعد ما هاجر من المدينة وقرن مع حجته عمرة. واجتمع ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به عليّ مائة بدنة منها جمل لأبي جهل في أنفه برة من فضة فنحر النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده ثلاثًا وستين ونحر عليّ ما غبر. قيل له (أي لسفيان) من ذكره؟ قال: جعفر عن أبيه عن جابر وابن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس – انتهى. ويؤيد ذلك أنه روى الحاكم من طريق زيد بن الحباب عن الثوري عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر (وهو طريق الترمذي كما تقدم) أول الحديث أي إلى قوله ((حجة قرن معها عمرة)) واقتصر عليه. ولم يذكر قصة جمل أبي جهل، وقد صحح الحديث الحاكم على شرط مسلم وقرره الذهبي. 2665 - قوله (وعن ناجية) بالنون والجيم (الخزاعي) بمضمومة وخفة زاي، نسبه إلى خزاعة. قال الحافظ في التقريب: ناجية بن جندب بن كعب، وقيل: ابن كعب بن جندب الخزاعي، صحابي تفرد بالرواية عنه عروة بن الزبير، ووهم من خلطه بناجية بن جندب بن عمير الأسلمي الصحابي الذي روى عنه مجزأة بن زاهر وغيره – انتهى بتصرف يسير. وهو معدود في أهل المدينة. قال سعيد بن عفير: كان اسمه ذكوان فسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - ناجية، إذ نجا من قريش، وهو الذي نزل القليب في الحديبية بسهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يقال. مات بالمدينة في زمن معاوية، وسيأتي مزيد الكلام في ترجمته عند تخريج الحديث (كيف أصنع بما عطب) بكسر الطاء من باب علم من العطب بفتحتين وهو الهلاك وأريد به ها هنا قربه للهلاك بأن اعترته آفة تمنعه من السير فيكاد يعطب. وقال القاري: بكسر الطاء أي عيي وعجز عن السير ووقف في الطريق، وقيل: أي قرب من العطب وهو الهلاك. وقال في النهاية: عطب الهدي هلاكه. وقد يعبر بالعطب عن آفة تعتريه فتمنعه عن السير ويخاف عليه الهلاك فينحر (من البدن) أي من الهدي المهداة إلى الكعبة

ثم اغمس نعلها في دمها، ثم خل بين الناس وبينها فيأكلونها ". رواه مالك، والترمذي وابن ماجة. ورواه أبو داود، والدارمي عن ناجية الأسلمي. ـــــــــــــــــــــــــــــ بيان لما (ثم اغمس) بكسر الميم من باب ضرب (نعلها) أي المقلدة بها (في دمها) أي ثم اجعلها على صفحتها (ثم خل) بصيغة الأمر من التخلية (بين الناس وبينها) قال الطيبي: التعريف للعهد. والمراد بهم الذين يتبعون القافلة أو جماعة غيرهم من قافلة أخرى – انتهى. قلت: اختلفوا في المراد بالناس، فعند المالكية يدخل فيهم الفقراء والأغنياء من الرفقة وغيرهم غير صاحب الهدي ورسوله، وعند الحنفية هم الفقراء خاصة سواء كانوا من الرفقة أو من غيرهم، وأما عند الشافعية والحنابلة فهم الفقراء لكن من غير أهل الرفقة وهو الراجح عندنا لما تقدم في حديث ابن عباس من قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك، وقد تقدم الكلام في ذلك مفصلاً (فيأكلونها) أي فهم يأكلونها على حد قوله تعالى {ولا يؤذن لهم فيعتذرون} (77: 36) وإلا لكان الظاهر أن يقال: فيأكلوها. أي بإسقاط النون لجواب الأمر كقوله تعالى {ذرهم يأكلوا} (15: 3) (رواه مالك والترمذي وابن ماجة) أي عن ناجية الخزاعي، هذا هو ظاهر معنى كلام المصنف، وفيه أن الإمام مالكًا روى الحديث عن هشام بن عروة عن أبيه فقال ((عن صاحب هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يا رسول الله كيف أصنع بما عطب من الهدي)) – الحديث. فهذا كما ترى لم يسم الرجل ولم ينسبه بل أبهم فقال ((عن صاحب هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) ورواه الترمذي من طريق عبدة بن سليمان، وابن ماجة من طريق وكيع كلاهما عن هشام عن عروة فقالا: عن ناجية الخزاعي، وهكذا رواه أحمد (ج 4: ص 334) ومن طريقه الحاكم (ج 1: ص 447) من رواية وكيع وأبي معاوية عن هشام وأخرجه أيضًا ابن حبان من رواية أبي خازم عن هشام فقال: ((عن ناجية الخزاعي)) فاتفق عبدة عند الترمذي ووكيع عند أحمد وابن ماجة والحاكم وأبو معاوية عند أحمد وأبو خازم عند ابن حبان على التسمية والنسبة. قوله (ورواه أبو داود والدارمي عن ناجية الأسلمي) أخرجه أبو داود من طريق سفيان الثوري عن هشام بن عروة عن أبيه ومن طريق أبي داود رواه البيهقي (ج 5: ص 243) وأخرجه الدارمي من طريق شعيب بن إسحاق عن هشام فقالا ((عن ناجية الأسلمي)) قال الزرقاني: وكذا رواه جعفر بن عون وروح بن القاسم وغيرهم عن هشام – انتهى. ورواه ابن عبد البر في الاستيعاب من طريق وهيب بن خالد عن هشام بن عروة عن أبيه فقال ((عن ناجية صاحب هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) فلم يذكر النسبة لا الأسلي ولا الخزاعي. قال الحافظ في الإصابة بعد ذكر طرقه: ولم يسم أحد منهم والد ناجية لكن قال بعضهم الخزاعي وبعضهم الأسلمي، ولا يبعد التعدد، فقد ثبت من حديث ابن عباس أن ذويبًا الخزاعي حدثه أنه كان مع البدن أيضًا ((ففي لفظ عند أحمد أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث معه بالبدن فيقول: إن عطب منها

............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ شيء فخشيت عليه فانحرها واغمس نعلها في دمها واضرب صفحتها ولا تأكل منها أنت ولا أحد من رفقتك) قال: وأخرج ابن أبي شيبة من طريق عروة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث ناجية الخزاعي عينًا في فتح مكة، وقد جزم أبو الفتح الأزدي وأبو صالح المؤذن بأن عروة تفرد بالرواية عن ناجية الخزاعي، فهذا يدل على أنه غير الأسلمي – انتهى. وقال في تهذيب التهذيب: ناجية بن كعب بن جندب، ويقال ابن جندب بن كعب، ويقال عمير بن معمر الأسلمي الخزاعي، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان صاحب بدنه فيما يصنع بما عطب من البدن، روى عنه عروة بن الزبير ومجزأة بن زاهر الأسلمي.... قلت (قائله الحافظ) قوله أي قول صاحب تهذيب الكمال) ((الأسلمي الخزاعي)) عجيب، وقد بينت في معرفة الصحابة أن ناجية بن جندب الأسلمي غير ناجية بن جندب بن كعب الخزاعي، وأن كلا منهما وقع له استصحاب البدن وأن الذي روى عنه عروة هو الخزاعي، وقيل فيه الأسلمي، وأن الذي روى عنه مجزأة هو الأسلمي بلا خلاف، والأسلمي قد ذكر ابن سعد أنه شهد الحديبية، وزعم الأزدي وأبو صالح المؤذن أن عروة تفرد بالرواية عن الخزاعي، وأما الأسلمي فروى عنه مجزأة بن زاهر وعبد الله بن عمرو الأسلمي أيضًا – انتهى. قلت: كلام الحافظ هذا وكذا كلامه في التقريب وفي الإصابة يدل على أن ناجية الأسلمي غير ناجية الخزاعي، والأول ناجية بن جندب بن عمير، والثاني هو ناجية بن جندب بن كعب أو ناجية بن كعب بن جندب وأن كليهما من أصحاب البدن المهداة التي وقع السؤال فيها عما يصنع بما عطب منها، وأن الصواب في حديث عروة ((ناجية الخزاعي)) لا الأسلمي، ويؤيد ذلك أن الإمام أحمد في مسنده وضع الحديث في مسند ناجية الخزاعي لما وقع في سنده ((عن عروة عن ناجية الخزاعي)) وذكر الزرقاني كلام الحافظ المتقدم عن الإصابة ثم تعقبه بأن جزم أبي الفتح الأزدي وأبي صالح المؤذن بتفرد عروة بالرواية عن الخزاعي لا يدل على أن هذا الحديث عنه فلعل الصواب رواية من قال إنه الأسلمي لا سيما وهم حفاظ ثقات، وقد جزم ابن عبد البر بأنه ناجية بن جندب الأسلمي – انتهى. قلت: لم يتفق أصحاب هشام على نسبة الأسلمي، بل قال أكثرهم: الخزاعي كما تقدم، نعم صنيع عامة أصحاب الرجال يؤيد أنه الأسلمي حيث نسبوا الحديث إلى الأسلمي ولم يذكروا الخزاعي كالمصنف في الإكمال وابن عبد البر في الاستيعاب والجزري في رجال جامع الأصول، وذكر الذهبي في تجريده والجزري في أسد الغابة الحديث في ترجمة الأسلمي والخزاعي كليهما، وقال الجزري في ترجمة ناجية بن جندب بعد ذكر الحديث عن الترمذي بسنده وعن الموطأ: والصحيح أنه أسلمي. ثم ذكر القصة من رواية ابن إسحاق وفيها أن الذي نزل القليب بسهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناجية ابن جندب الأسلمي صاحب بدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهى. والظاهر أن البغوي صاحب المصابيح تبع في ذلك الإمام أحمد والمصنف تبع ابن عبد البر ومن وافقه، فإنه لم يذكر ناجية الخزاعي في إكماله، والراجح عندنا هو ما ذهب إليه الحافظ، والله أعلم. والحديث صححه الترمذي وسكت عنه أبو داود والمنذري وصححه الحاكم على شرط الشيخين وقرره الذهبي

2666 – (16) وعن عبد الله بن قرط، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن أعظم الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القر ". قال ثور: وهو اليوم الثاني. قال: وقرب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدنات خمس أو ست، فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2666 – قوله (وعن عبد الله بن قرط) بضم القاف وسكون الراء وإهمال الطاء الأزدي الثمالي بضم المثلثة وتخفيف الميم صحابي، روى أحمد بن حنبل بإسناد حسن وأبو نعيم في الصحابة بإسناد لا بأس به أنه كان اسمه في الجاهلية شيطانًا فغيره النبي - صلى الله عليه وسلم - وسماه عبد الله. شهد اليرموك وفتح دمشق، وأرسله يزيد بن أبي سفيان بكتابه إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنهم، واستعمله أبو عبيدة على حمص في عهد عمر مرتين، ولم يزل عليها حتى توفي أبو عبيدة، ثم استعمله معاوية على حمص أيضًا. قال ابن يونس: قتل عبد الله بأرض الروم شهيدًا سنة ست وخمسين (إن أعظم الأيام) أي أيام عيد الأضحى، فلا ينافي ما في الأحاديث الصحيحة أن أفضل الأيام يوم عرفة فيكون المراد بتلك الأيام يوم النحر وأيام التشريق. وقال الطيبي: أي من أعظم الأيام، لأن العشر (أي عشر رمضان أو عشر ذي الحجة) أفضل مما عداها قال القاري: ولا يبعد أن يقال: الأفضلية مختلفة باعتبار الحيثية أو الإضافية والنسبية فلا يحتاج إلى تقدير ((من)) التبعيضية (يوم النحر) أي أول أيام النحر لأنه العيد الأكبر ويعمل فيه أكبر أعمال الحج حتى قال تعالى فيه {يوم الحج الأكبر} (ثم يوم القَرّ) بفتح القاف وتشديد الراء، هو اليوم الأول من أيام التشريق، سمي بذلك لأن الناس يقرون يومئذ في منازلهم بمنى ولا ينفرون عنه بخلاف اليومين الأخيرين، قاله القاري. وقال في اللمعات: سمي بذلك لأن الناس يقرون ويسكنون فيه بمنى بعد ما تعبوا في أداء المناسك. وقال الجزري والخطابي: هو اليوم الذي يلي يوم النحر، سمي بذلك لأن الناس يقرون فيه بمنى وقد فرغوا من طواف الإفاضة والنحر فاسترحوا وقروا (قال ثور) بفتح مثلثة، أحد رواة هذا الحديث وهو ثور بن يزيد الكلاعي ويقال الرحبي أبو خالد الحمصي أحد الحفاظ الأثبات العلماء. قال ابن معين: ما رأيت شاميًا أوثق منه. وقال في التقريب: ثقة ثبت إلا أنه يرى القدر، من كبار أتباع التابعين. مات سنة خمسين ومائة وقيل ثلاث أو خمس وخمسين (وهو) أي يوم القر هو (اليوم الثاني) أي من أيام النحر أو من أيام العيد، فلا ينافي ما سبق من أنه أول أيام التشريق (قال) أي عبد الله (وقرب) بتشديد الراء مجهولاً (بدنات خمس أو ست) شك من الراوي أو ترديد من عبد الله، يريد تقريب الأمر أي بدنات من بدن النبي - صلى الله عليه وسلم - (فطفقن) بكسر الفاء الثانية أي شرعن (يزدلفن) أي يتقربن ويسعين (إليه بأيتهن يبدأ) يعني يقصد كل من البدنات أن يبدأ في النحر بها. قال الطيبي: أي منتظرات بأيتهن يبدأ للتبرك بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نحرهن، ولا يخفى ما فيه من المعجزة الباهرة. قال الخطابي: قوله ((يزدلفن)) معناه يقتربن من قولك ((زلف الشيء)) إذا قرب، ومنه قوله تعالى {وأزلفنا ثم الآخرين} (26: 64) ومعناه والله

(الفصل الثالث)

قال: فلما وجبت جنوبها، قال فتكلم بكلمة خفية لم أفهمها فقلت: ما قال؟ قال، قال: " من شاء اقتطع ". رواه أبو داود. وذكر حديث ابن عباس وجابر، في باب الإضحية. (الفصل الثالث) 2667 – (17) عن سلمة بن الأكوع، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثالثة وفي بيته منه شيء ". ـــــــــــــــــــــــــــــ أعلم القرب والدنو من الهلاك، وإنما سميت المزدلفة لاقتراب الناس فيها إلى منى بعد الإفاضة من عرفات (قال) أي عبد الله (فلما وجبت جنوبها) أي سقطت على الأرض لأنها تنحر قائمة كما تقدم. قال الخطابي: معناه زهقت أنفسها فسقطت على جنوبها، وأصل الوجوب السقوط (قال) أي عبد الله، وهو تأكيد، وقال الطيبي: أي الراوي (فتكلم) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال القاري: فيلزم منه أن يقال بزيادة الفاء، وعندي أن ضمير ((قال)) راجع إليه - صلى الله عليه وسلم -، وقوله ((فتكلم بكلمة خفيفة)) عطف تفسير لقال – انتهى. قلت: ولفظ البيهقي ((فلما وجبت جنوبها تكلم بكلمة خفية لم أفهمها)) وهذا واضح لا يحتاج إلى تأويل (لم أفهمها) قال القاري: أي لخفاء لفظها (فقلت) أي للذي يليني (ما قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (قال) أي المسؤل (قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (من شاء اقتطع) قال الخطابي: فيه دليل على جواز هبة المشاع، وفيه دلالة على أخذ النثار في عقد الأملاك، وأنه ليس من باب النهبى، وإنما هو من باب الإباحة وقد كره بعض العلماء خوفًا أن يدخل فيما نهي عنه من النهبى (رواه أبو داود) وأخرجه أيضًا البيهقي (ج 5: ص 241) كلاهما من طريق ثور بن يزيد عن راشد بن سعد عن عبد الله بن عامر بن لحي عن عبد الله بن قرط. وسكت عنه أبو داود والمنذري، وقال المنذري: وأخرجه النسائي أي في الكبرى وذكره الحافظ في الإصابة في ترجمة عبد الله بن قرط، وعزاه لأبي داوود والنسائي وابن حبان والحاكم وقال: قال الطبراني تفرد به ثور بن يزيد (وذكر حديث ابن عباس) وقع في بعض النسخ ((حديثا ابن عباس)) وهو الظاهر ويريد بحديث ابن عباس قوله: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فحضر الأضحى فاشتركنا في البقرة سبعة وفي الجزور عشرة (وجابر) أي البقرة عن سبعة والجزور عن سبعة (في باب الإضحية) الأظهر أنه اعتراض من صاحب المشكاة بأنه حولهما عن هذا الباب، لأنهما أنسب إلى ذلك الباب، ويحتمل أن يكون اعتذارًا منه بأنه أسقطهما عن تكرار، والله أعلم. والحديثان قد تقدم البسط في شرحهما في باب الأضحية، وقد بينا هناك أن حديث جابر أنسب لباب الهدي. 2667 – قوله (من ضحى) بتشديد الحاء (فلا يصبحن) بالصاد المهملة الساكنة والموحدة المكسورة (بعد ثالثة) من الليالي من وقت التضحية (وفي بيته) قال القسطلاني: ولأبي ذر ((وبقى في بيته)) (منه) أي من الذي ضحى به (شيء) من لحمة لحرمة ادخار شيء من لحم الأضحية في هذا العام لأجل القحط الذي وقع فيه حتى امتلأت المدينة من أهل البادية

فلما كان العام المقبل قالوا: يا رسول الله! نفعل كما فعلنا العام الماضي؟ قال: " كلوا وأطعموا ـــــــــــــــــــــــــــــ فأمر أهلها بإخراج جميع ما عندهم من لحوم الأضاحي التي اعتادوا ادخار مثلها في كل عام (فلما كان العام المقبل) أي الآتي بعده (قالوا) أي بعض الأصحاب (نفعل) بتقدير الاستفهام (كما فعلنا العام الماضي؟) من ترك الادخار، قال ابن المنير: وكأنهم فهموا أن النهي ذلك العام كان على سبب خاص وهو الدافة، وإذا ورد العام حاك في النفس من عمومه وخصوصه إشكال، فلما كان مظنة الاختصاص عاودوا السؤال فبين لهم - صلى الله عليه وسلم - أنه خاص بذلك السبب، ويشبه أن يستدل بهذا من يقول: إن العام يضعف عمومه بالسبب فلا يبقى على أصالته ولا ينتهي به إلى التخصيص، إلا ترى أنهم لو اعتقدوا بقاء العموم على أصالته لما سألوا، ولو اعتقدوا الخصوص أيضًا لما سألوا، فسؤالهم يدل على أنه ذو شأنين، وهذا اختيار الإمام الجويني. وحاصل كلام ابن المنير أن وجه قولهم ((هل نفعل كما كنا نفعل)) مع أن النهي يقتضي الاستمرار لأنهم فهموا أن ذلك النهي ورد على سبب خاص فلما احتمل عندهم عموم النهي أو خصوصه من أجل السبب سألوا، فأرشدهم إلى أنه خاص بذلك العام من أجل السبب المذكور، واستدل به على أن العام إذا ورد على سبب خاص ضعفت دلالة العموم حتى لا يبقى على أصالته، لكن لا يقتصر فيه على السبب، كذا في الفتح (قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (كلوا) بصيغة الأمر من الأكل. قال الحافظ: تمسك به من قال بوجوب الأكل من الأضحية، ولا حجة فيه لأنه أمر بعد حظر، فيكون للإباحة. وقال النووي: يستحب الأكل من الأضحية، هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة إلا ما حكي عن بعض السلف أنه أوجب الأكل منها وهو قول أبي الطيب بن سلمة من أصحابنا، حكاه عنه الماوردي لظاهر هذا الحديث في الأمر بالأكل مع قوله تعالى {فكلوا منها} وحمل الجمهور هذا الأمر على الندب أو الإباحة، لا سيما وقد ورد بعد الحظر كقوله تعالى {وإذا حللتم فاصطادوا} (5: 2) وقد اختلف الأصولين والمتكلمون في الأمر الوارد بعد الحظر، فالجمهور من أصحابنا وغيرهم على أنه للوجوب، وقال جماعة منهم من أصحابنا وغيرهم: إنه للإباحة، وسيأتي مزيد الكلام في ذلك (وأطعموا) بهمزة قطع وكسر العين المهملة، وفي حديث عائشة وأبي سعيد ((تصدقوا)) قال الخطابي: استدل بإطلاق الأحاديث على أنه لا تقييد في القدر الذي يجزئ من الإطعام. ويستحب للمضحي أن يأكل من الأضحية شيئًا ويطعم الباقي صدقة وهدية، وعن الشافعي يستحب قسمتها أثلاثًا لقوله ((كلوا وتصدقوا وأطعموا)) قال ابن عبد البر: وكان غيره يقول: يستحب أن يأكل النصف ويطعم النصف، وقد أخرج أبو الشيخ في كتاب الأضاحي (وأحمد) من طريق عطاء بن يسار عن أبي هريرة رفعه ((من ضحى فليأكل من أضحيته)) ورجاله ثقات لكن قال أبو حاتم الرازي: الصواب عن عطاء مرسل، قال النووي: مذهب الجمهور أنه لا يجب الأكل من الأضحية، وإنما الأمر فيه للأذن. وذهب بعض السلف إلى الأخذ بظاهر الأمر، وحكاه المارودي عن أبي الطيب بن سلمة من الشافعية، وأما

............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ الصدقة منها فالصحيح أنه يجب التصدق من الأضحية بما يقع عليه الاسم، والأكمل أن يتصدق بمعظمها، ولنا وجه أنه لا تجب الصدقة بشيء منها، كذا في الفتح. وقال ابن حزم في المحلى: فرض على كل مضح أن يأكل من أضحيته، ولا بد ولو لقمة، وفرض عليه أن يتصدق أيضًا منها بما شاء قل أو أكثر ولا بد، ومباح له أن يطعم منها الغني والكافر وأن يهدي منها إن شاء ذلك – انتهى. وقال ابن قدامة في المغني (ج 8: ص 632) قال أحمد: نحن نذهب إلى حديث عبد الله ((يأكل هو الثلث ويطعم من أراد الثلث ويتصدق على المساكين بالثلث)) قال علقمة: بعث معي عبد الله بهدية فأمرني أن آكل ثلثًا وأن أرسل إلى أهل أخيه عتبة بثلث وأن أتصدق بثلث. وعن ابن عمر قال: الضحايا والهدايا ثلث لك وثلث لأهلك وثلث للمساكين. وهذا قول إسحاق وأحد قولي الشافعي. وقال في الآخر: يجعلها نصفين، يأكل نصفًا ويتصدق بنصف لقول الله تعالى {فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير} (22: 28) وقال أصحاب الرأي: ما كثر من الصدقة فهو أفضل لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدى مائة بدنة وأمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فأكل هو وعلى من لحمها وحسيا من مرقها ونحر خمس بدنات أو ست بدنات وقال:من شاء فليقتطع ولم يأكل منهن شيئًا. ولنا ما روي عن ابن عباس في صفة أضحية النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ويطعم أهل بيته الثلث ويطعم فقراء جيرانه الثلث، ويتصدق على السؤال بالثلث. رواه الحافظ أبو موسى الأصفهاني في الوظائف وقال: حديث حسن، ولأنه قول ابن مسعود وابن عمر، ولم نعرف لهما مخالفًا في الصحابة، فكان إجماعًا، ولأن الله تعالى قال {فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر} والقانع السائل يقال: قنع قنوعًا إذا سأل، وقنع قناعة إذا رضي، والمعتر الذي يعتريك أي يتعرض لك لتطعمه فلا يسأل، فذكر ثلاثة أصناف، فينبغي أن يقسم بينهم ثلاثًا، قال: والأمر في هذا واسع، فلو تصدق بها كلها أو بأكثرها جاز، وإن أكلها كلها إلا أوقية تصدق بها جاز، وقال أصحاب الشافعي: يجوز أكلها كلها. ولنا أن الله تعالى قال {فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر} وقال {وأطعموا البائس الفقير} والأمر يقتضي الوجوب. وقال بعض أهل العلم: يجب الأكل منها ولا تجوز الصدقة بجميعها للأمر بالأكل منها – انتهى مختصرًا. وقال في الدر المختار: يأكل من لحم الأضحية ويؤكل غنيًا ويدخر، وندب أن لا ينقص التصدق عن الثلث وندب تركه لذي عيال توسعة عليهم، وفي البدائع ((يستحب أن يأكل من إضحيته والأفضل أن يتصدق بالثلث ويتخذ الثلث ضيافة لأقربائه وأصدقائه ويدخر الثلث، وله أن يهبه جميعًا، ولو تصدق بالكل جاز، ولو حبس لنفسه الكل جاز؛ لأن القربة بالدم والتصدق باللحم تطوع)) – انتهى ملخصًا. قلت: اختلفوا في قوله تعالى: {فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير} وفي قوله: {فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر} أن حكم الأكل المأمور به في الآيتين هل هو الوجوب لظاهر صيغة الأمر أو الندب والاستحباب؟ فجمهور أهل العلم على أن الأمر بالأكل فيهما للاستحباب لا للوجوب، والقرينة الصارفة عن الوجوب هي ما زعموا من أن المشركين كانوا لا

وادخروا، فإن ذلك العام ـــــــــــــــــــــــــــــ يأكلون هداياهم فرخص للمسلمين في ذلك، وعليه فالمعنى: فكلوا إن شئتم ولا تحرموا الأكل على أنفسكم كما يفعله المشركون. وقال ابن كثير في تفسيره: إن القول بوجوب الأكل غريب وعزا للأكثرين أن الأمر للاستحباب. قال: وهو اختيار ابن جرير في تفسيره. وقال القرطبي في تفسيره: ((فكلوا منها)) أمر معناه الندب عند الجمهور، ويستحب للرجل أن يأكل من هديه وإضحيته وأن يتصدق بالأكثر مع تجويزهم الصدقة بالكل وأكل الكل. وشذت طائفة فأوجبت الأكل والإطعام بظاهر الآية، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فكلوا وادخروا وتصدقوا " – انتهى كلام القرطبي. ورجح الشنقيطي الوجوب حيث قال: أقوى القولين دليلاً وجوب الأكل والإطعام من الهدايا والضحايا، لأن الله تعالى قال: {فكلوا منها} في موضعين، فأمر بالأكل من الذبائح مرتين، ولم يقم دليل يجب الرجوع إليه صارف عن الوجوب، وكذلك الإطعام هذا هو الظاهر بحسب الصناعة الأصولية. قال: ومما يؤيد أن الأمر في الآية يدل على وجوب الأكل وتأكيده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحر مائة من الإبل فأمر بقطعة من لحم من كل واحدة منها فأكل منها وشرب من مرقها، وهو دليل واضح على أنه أراد أن لا تبقي واحدة من تلك الإبل الكثيرة إلا وقد أكل منها أو شرب من مرقها. وهذا يدل على أن الأمر في قوله {فكلوا منها} ليس بمجرد الاستحباب والتخيير إذ لو كان كذلك لاكتفى بالأكل من بعضها وشرب مرقة دون بعض. وكذلك الإطعام، فالأظهر فيه الوجوب – انتهى. وقال أبو حيان في البحر المحيط: والظاهر وجوب الأكل والإطعام، وقيل باستحبابهما. وقيل باستحباب الأكل ووجوب الإطعام، والأظهر أنه لا تحديد للقدر الذي يأكله، والقدر الذي يتصدق به، فيأكل ما شاء ويتصدق بما شاء، وقد قال بعض أهل العلم: يتصدق بالنصف ويأكل النصف. واستدل لذلك بقوله تعالى: {فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير} قال: فجزأها نصفين، نصف له ونصف للفقراء، وقال بعضهم: يجعلها ثلاثة أجزاء، يأكل الثلث ويتصدق بالثلث ويهدي الثلث، واستدل بقوله تعالى: {فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر} فجزأها ثلاثة أجزاء، ثلث له وثلث للقانع وثلث للمعتر، هكذا قوله، وأظهرها الأول، والعلم عند الله تعالى (وادخروا) بتشديد الدال المهملة وأصله من ذخر بالمعجمة، دخلت عليها تاء الافتعال ثم أدغمت، ومنه قوله تعالى: {وادكر بعد أمة} (12: 45) أي اجعلوا ذخيرة، وهو أمر إباحة. قال الحافظ: يؤخذ من الإذن في الادخار الجواز خلافًا لمن كرهه. وقد ورد في الادخار ((كان يدخر لأهله قوت سنة)) وفي رواية ((كان لا يدخر للغد)) والأول في الصحيحين، والثاني في مسلم، والجمع بينهما أنه كان لا يدخر لنفسه ويدخر لعياله، أو أن ذلك كان لاختلاف الحال فيتركه عند حاجة الناس إليه ويفعله عند عدم الحاجة – انتهى. (فإن ذلك العام) أي الواقع فيه النهي علة لتحريم الادخار السابق وإيماء إلى أن الحكم يدور مع العلة وجودًا وعدمًا

كان بالناس جهد، فأردت أن تعينوا فيهم ". متفق عليه. 2668 – (18) وعن نبيشة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنّا كنّا نهينا عن لحومها أن تأكلوها فوق ثلاث لكي تسعكم، جاء الله بالسعة ـــــــــــــــــــــــــــــ (كان بالناس جهد) بفتح الجيم أي مشقة من جهة قحط السنة (فأردت) أي بالنهي عن الادخار (أن تعينوا فيهم) بالعين المهملة من الإعانة: قال الطيبي: أي توقعوا الإعانة فيهم – انتهى. قال القاري: فجعله من باب التضمين كقول الشاعر: يجرح في عراقيبها نصلي ومنه قوله تعالى حكاية: {وأصلح لي في ذريتي} (46: 15) ويمكن أن يكون التقدير: أن تعينوني في حقهم فإن فقرهم كان صعبًا عليه - صلى الله عليه وسلم -. قلت: قوله ((أن تعينوا فيهم)) هكذا وقع في جميع نسخ المشكاة، وكذا ذكره الجزري في جامع الأصول (ج 4: ص 156) وهو خطأ، والصواب ((أن تعينوا فيها)) كما وقع في البخاري، يعني تعينوا الفقراء في المشقة، والضمير في ((تعينوا فيها)) للمشقة المفهومة من الجهد. قال الحافظ: قوله ((أن تعينوا فيها)) كذا هنا من الإعانة وفي رواية مسلم عن محمد بن المثنى عن أبي عاصم شيخ البخاري فيه ((فأردت أن يفشو فيهم)) أي بالفاء والشين، وللإسماعيلي عن أبي يعلى عن أبي خيثمة عن أبي عاصم: فأردت أن تقسموا فيهم كلوا وأطعموا وادخروا. قال عياض: الضمير في تعينوا فيها للمشقة المفهومة من الجهد أو من الشدة أو من السنة لأنها سبب الجهد، وفي ((يفشو فيهم)) أي في الناس يعني يشيع لحم الأضاحي في الناس المحتاجين إليها. قال في المشارق: ورواية البخاري أوجه. وقال في شرح مسلم: ورواية مسلم أشبه. قال الحافظ: قد عرفت أن مخرج الحديث واحد، ومداره على أبي عاصم وأنه تارة قال هذا وتارة قال هذا، والمعني في كل صحيح فلا وجه للترجيح – انتهى. (متفق عليه) أخرجاه في الأضاحي، وهو الحديث الثامن عشر من ثلاثيات الإمام البخاري رواه عن أبي عاصم عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع. قال القاري: لا يظهر وجه إيراد المصنف هذا الحديث في هذا الباب كما لا يخفي، ولعله أراد به تفسير الحديث جابر في آخر الفصل الأول. والحديث أخرجه البيهقي في الأضاحي (ج 9: ص 292) . 2668- قوله (وعن نبيشة) بضم النون وفتح الموحدة، وهو نبيشة الخير الهذلي، تقدم ترجمته (إنا كنا نهيناكم عن لحومها) أي الأضاحي أو الهدايا، فيظهر وجه المناسبة للباب قاله القاري. قلت: وقع في رواية لأحمد ((إني كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي)) (أن تأكلوها) بدل اشتمال (فوق ثلاث) أي ليال (لكي تسعكم) من الوسع أي ليصيب لحومها كلكم من ضحى ومن لم يضح (جاء الله) وفي بعض نسخ أبي داود ((فقد جاء الله)) وهكذا وقع في مسند أحمد بالسعة بفتح السين، ومنه قوله تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته} (65: 7) استئناف مبين لتغير الحكم، أي أتي الله

فكلوا وادخروا وائتجروا، ألا وإن هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر الله ". رواه أبو داود. ـــــــــــــــــــــــــــــ بالخصب وسعة الخير وأتى بالرخاء وكثرة اللحم، فإذا كان الأمر كذلك (فكلوا وادخروا وائتجروا) افتعال من الأجر أي اطلبوا الأجر بالتصدق، قال المنذري: افتعلوا من الأجر يريد الصدقة التي يتبعها أجرها وثوابها، وليس من باب التجارة، لأن البيع في الضحايا فاسد. قلت: وقع في بعض نسخ أبي داود ((واتجروا)) بتشديد التاء، وكان أصله ائتجروا، ثم أدغم كما في ((اتخذ)) قال الخطابي: ((واتجروا)) أصله ايتجروا على وزن افتعلوا، يريد الصدقة التي يبتغي أجرها وثوابها، ثم قيل اتجروا كما قيل اتخذت الشيء، وأصله ايتخذته، وهو من الأخذ، فهو من الأجر، وليس من باب التجارة، لأن البيع في الضحايا فاسد، إنما تؤكل ويتصدق منها – انتهى (ألا) للتنبيه (وإن هذه الأيام) أي أيام منى وهي أربعة، قاله القاري (أيام أكل وشرب) بضم الشين وفتحها فيحرم الصيام فيها، وقد علل ذلك علي رضي الله عنه بأن القوم زاروا الله وهم في ضيافته في هذه الأيام وليس للضيف أن يصوم دون إذن من أضافه، رواه البيهقي بسند مقبول، ومن ثم قال جمع: سر ذلك أنه تعالى دعا عباده إلى زيارة بيته، فأجابوه وقد أهدى على كل قدر وسعه، وذبحوا هديهم فقبله منهم وجعل لهم ضيافة وهي ثلاثة أيام، فأوسع زواره طعامًا وشرابًا ثلاثة أيام، وسنة الملوك إذا أضافوا أطعموا من على الباب كما يطعمون من في الدار، والكعبة هي الدار، وسائر الأقطار باب الدار، فعم الله الكل بضيافته فمنع صيامها، ذكره الزرقاني (ذكر الله) أي كثرة ذكره تعالى لقوله تعالى: {فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا} (2: 200) ولقوله عز وجل: {واذكروا الله في أيام معدودات} (2: 203) قال الزرقاني: وعقب الأكل والشرب بقوله ((وذكر الله)) لئلا يستغرق العبد في حظوظ نفسه وينسى حقوق الله تعالى. قال الطيبي: هذا من باب التتميم، فإنه لما أضاف الأكل والشرب إلى الأيام أوهم أنها لا تصلح إلا لهما، لأن الناس أضياف الله فيها، فتدارك بقوله ((وذكر الله)) لئلا يستغرقوا أوقاتهم باللذات النفسانية فينسوا نصيبهم من الروحانية، ونظيره في التتميم للصيانة أي الاحتراس قول الشاعر: فسقي ديارك غير مفسدها _ ... صوب الربيع وديمة تهمى قال الخطابي: قوله ((هذه الأيام أيام أكل وشرب)) فيه دليل على أن صوم أيام التشريق غير جائز لأنه قد وسمها بالأكل والشرب كما وسم يوم العيد بالفطر ثم لم يجز صيامه فكذلك أيام التشريق، وسواء كان ذلك تطوعًا من الصائم أو نذرًا أو صامها الحاج عن التمتع – انتهى. قلت: رواه مسلم في كتاب الصوم بلفظ ((أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله)) وقد ذكره المصنف في باب صيام التطوع، وتقدم هناك الكلام في صيام أيام التشريق مفصلاً (رواه أبو داود) في الأضاحي وسكت عليه. قال المنذري: وأخرجه النسائي بتمامه، وأخرجه ابن ماجه مختصرًا على الإذن في الادخار فوق ثلاث، وأخرج مسلم الفصل الثاني في ذكر الأكل والشرب والذكر – انتهى. قلت: وأخرجه أيضًا مطولاً أحمد (ج 5: ص 75، 76) والبيهقي (ج 9: ص 292) .

(8) باب الحلق

(8) باب الحلق ـــــــــــــــــــــــــــــ (باب الحلق) أي والقصر، واكتفى بأفضلهما، والكلام ها هنا في ستة أمور بسطها الباجي في شرح ((باب ما جاء في الحلاق)) من الموطأ، الأول: في حكم الحلق، الثاني: في صفته. الثالث: في موضعه، الرابع: في وقته، الخامس: فيما يتعلق به من الأحكام، السادس: في أنه هل هو نسك أو تحلل، قال العيني: قال شيخنا زين الدين العراقي في شرح الترمذي: إن الحلق نسك، قاله النووي. وهو قول أكثر أهل العلم، وهو القول الصحيح للشافعي، وفيه خمسة أوجه أصحها أنه ركن لا يصح الحج والعمرة إلا به، والثاني أنه واجب، والثالث أنه مستحب، والرابع أنه استباحة محظور، والخامس أنه ركن في الحج واجب في العمرة، وإليه ذهب الشيخ أبو حامد وغير واحد من الشافعية – انتهى. وصحح النووي في مناسكه أنه نسك وأنه ركن لا يصح الحج إلا به، ولا يجبر بدم. وقال في شرح مسلم: مذهبنا المشهور أن الحلق أو التقصير نسك من مناسك الحج والعمرة وركن من أركانهما لا يحصل واحد منهما إلا به، وبهذا قال العلماء كافة، والشافعي قول شاذ ضعيف أنه استباحة محظور كالطيب واللباس وليس بنسك، والصواب الأول – انتهى. وبوب البخاري في صحيحه ((باب الحلق والتقصير عند الإحلال)) قال ابن المنير في الحاشية: أفهم البخاري بهذه الترجمة أن الحلق نسك لقوله ((عند الإحلال)) وليس هو نفس التحلل، وكأنه استدل على ذلك بدعائه - صلى الله عليه وسلم - لفاعله، والدعاء يشعر بالثواب، والثواب لا يكون إلا على العبادة لا على المباحات، وكذلك تفضيله الحلق على التقصير يشعر بذلك، لأن المباحات لا تتفاضل، والقول بأن الحلق نسك قول الجمهور إلا رواية مضعفة عن الشافعي أنه استباحة محظور، وقد أوهم كلام ابن المنذر أن الشافعي تفرد بها، لكن حكيت أيضًا عن عطاء وعن أبي يوسف، وهي رواية عن أحمد وعن بعض المالكية، كذا في الفتح، وقال الباجي: وعندنا أنه نسك وهو أحد قولي الشافعي، والدليل على أنه نسك يثاب صاحبه على فعله قوله تعالى: {لتدخلن المسجد الحرام} (48: 27) الآية. فوصف دخول المسجد على هذه الصفة فيما وعدهم به، ولو لم يكن نسكًا مقصودًا لما وصف دخولهم به كما لم يصف دخولهم بلبسهم الثياب، ووجه ثان أنه كناية عن الحج أو العمرة ولو لم يكن من النسك لما كنى به عنه، ودليلنا من جهة السنة حديث ابن عمر في الدعاء للمحلقين، فلو لم يكن فعلاً يثاب عليه فاعله لما دعا له، وأيضًا إنه عليه السلام أظهر تفضيل الحلاق على التقصير، ولو لم يكن نسكًا له فضيلة لما كان أفضل من التقصير كما أنه ليس لبس نوع من الثياب أفضل من لبس غير ذلك – انتهى. وقال ابن قدامة (ج 3: ص 435) : الحلق والتقصير نسك في الحج والعمرة في ظاهر مذهب أحمد وقول الخرقي، وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي، وعن أحمد أنه ليس بنسك، وإنما هو إطلاق من محظور كان محرمًا عليه بالإحرام، فأطلق فيه عند الحل كاللباس والطيب وسائر محظورات الإحرام، فعلى هذه الرواية لا شيء على تاركه، ويحصل الحل بدونه، وجهها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالحل من العمرة قبله فروى أبو موسى قال: قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: بم أهللت؟ قلت:

(الفصل الأول)

(الفصل الأول) 2669 – (1) عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حلق رأسه في حجة الوداع، وأناس من أصحابه، وقصر بعضهم. ـــــــــــــــــــــــــــــ لبيك بإهلال كإهلال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: أحسنت، فأمرني فطفت بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم قال لي: أحل، متفق عليه. وعن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سعى بين الصفا والمروة قال: من كان معه هدي فليحل وليجعلها عمرة. رواه مسلم. وعن سراقة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا قدمتم فمن تطوف بالبيت وبين الصفا والمروة فقد حل إلا من كان معه هدي. رواه أبو إسحاق الجوزجاني، والرواية الأولى أصح، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر به فروى ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من لم يكن معه هدي فليطف بالبيت وبين الصفا والمروة وليقصر وليحلل. وعن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: احلوا إحرامكم بطواف بالبيت (والصفا والمروة) وقصروا. وأمره يقتضي الوجوب. ولأن الله تعالى وصفهم به بقوله سبحانه: {محلقين رؤوسكم ومقصرين} (48: 27) ولم يكن من المناسك لما وصفهم به كاللبس وقتل الصيد، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترحم على المحلقين ثلاثًا وعلى المقصرين مرة. ولو لم يكن من المناسك لما دخله التفضيل كالمباحات، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فعلوه في جميع حجهم وعمرهم ولم يخلوا به، ولو لم يكن نسكًا لما داوموا عليه بل لم يفعلوه، لأنه لم يكن من عادتهم فيفعلوه عادة، ولا فيه فضل فيفعلوه لفضله، وأما أمره بالحل فإنما معناه – والله أعلم – الحل بفعله، لأن ذلك كان مشهورًا عندهم، فاستغنى عن ذكره، ولا يمتنع الحل من العبادة بما كان محرمًا فيها كالسلام من الصلاة – انتهى. قال الولي العراقي في شرح التقريب: القائلون بأنه نسك اختلفوا في أنه ركن الحج لا يتم إلا بفعله ولا يجبر بدم أو واجب، فذهب إلى الأول أكثر الشافعية. وقال إمام الحرمين: إنه متفق عليه، وقال النووي: إنه الصواب، وذهب الداركي والشيخ أبو إسحاق الشيرازي إلى أنه واجب، وهو مذهب الأئمة الثلاثة، وذهب الشيخ أبو حامد الإسفرائيني وجماعة إلى أنه ركن في العمرة واجب في الحج. 2669 – قوله (حلق رأسه) بتشديد اللام وتخفيفها أي أمر بحلقه (في حجة الوداع وأناس من أصحابه) أي حلقوا لإدراك شرف متابعته وفضيلة الحلق التي بينه بالدعاء للمحلقين مرات (وقصر) بتشديد الصاد (بعضهم) أي بعض أصحابه أخذًا بالرخصة بعد دعائه للمقصرين في المرة الأخيرة بالتماسهم. قال القاري: ويمكن أن يكون المراد من قوله ((وقصر بعضهم)) أي بعد عمرتهم قبل حجتهم – انتهى. واللفظ المذكور للبخاري في المغازي، أخرجه من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن عبد الله بن عمر، وأخرج مسلم من طريق الليث بن سعد عن نافع أن عبد الله قال: حلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحلق طائفة من أصحابه وقصر بعضهم، قال عبد الله: إن سول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: رحم الله المحلقين. مرة أو مرتين

متفق عليه. 2670 - (2) وعن ابن عباس، قال: قال لي معاوية: إني قصرت من رأس النبي - صلى الله عليه وسلم - عند المروة بمشقص. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الشك من الليث) ثم قال ((والمقصرين)) ومجموع الروايتين يدل على أن الحلق والدعاء للمحلقين كان في حجة الوداع، وسيأتي الكلام فيه مفصلاً. تنبيه: أفاد ابن خزيمة في صحيحه من الوجه الذي أخرجه البخاري منه في المغازي من طريق موسى بن عقبة عن نافع متصلاً بالمتن المذكور، قال: وزعموا أن الذي حلقه معمر بن عبد الله بن نضلة، وبين أبو مسعود في الأطراف أن قائل ((وزعموا)) ابن جريج الراوي له عن موسى بن عقبة، كذا في الفتح، وقال النووي: اختلفوا في اسم الحالق فالصحيح أنه معمر بن عبد الله (العدوي) كما ذكر البخاري. وقيل هو خراش بن أمية، وهو بمعجمتين (الأولى مكسورة) انتهى. قال الحافظ: والصحيح أن خراشًا كان الحالق بالحديبية، والله أعلم. قلت: وقد بينه ابن عبد البر فقال في ترجمة خراش بن أمية بن الفضل الكعبي الخزاعي: وهو الذي حلق رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية – انتهى. ولمعمر بن عبد الله الذي حلقه في حجة الوداع قصة رواها أحمد والطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد، والبخاري في تاريخه الكبير كما حكاها العيني (متفق عليه) أخرجه البخاري في الحج وفي المغازي، ومسلم في الحج، واللفظ المذكور للبخاري في المغازي، وأخرجه أيضًا الترمذي والبيهقي (ج 5: ص 103، 134) . 2670 – قوله (قال لي معاوية) أي ابن أبي سفيان (إني قصرت من رأس النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي من شعر رأسه، واستدل به من ذهب إلى اجتزاء تقصير بعض شعر الرأس كالحلق لأن ظاهر حرف ((من)) للتبعيض. ووقع عند أحمد (ج 4: ص 92) والنسائي من طريق عطاء أن معاوية حدث أنه أخذ من أطراف شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أيام العشر – الحديث. قال: فلو ثبت هذا لكفى في تقدير الحلق والقصر ببعض الرأس – انتهى. قلت: اختلفت ألفاظ الرواية، وفي بعضها ((قال قصرت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) وهذا كما ترى مجمل، وأما ما وقع في بعض الروايات من قوله ((قصرت من رأسه)) أو ((أخذ من أطراف شعره)) فالظاهر أن المراد به نفي المبالغة في التقصير بحيث يبلغ إلى أصل الشعر لا الاجتزاء بأخذ بعض الرأس وترك بعضه على أن حمل فعله على المتفق عليه أولى من حمله على المختلف فيه بل هو المتعين، والله أعلم. قال النووي: في هذا الحديث جواز الاقتصار على التقصير وإن كان الحلق أفضل، وسواء في ذلك الحاج والمعتمر إلا أنه يستحب للمتمتع أن يقصر في العمرة ويحلق في الحج ليقع الحلق في أكمل العبادتين، وقد سبقت الأحاديث في هذا – انتهى (عند المروة) فيه أنه يستحب أن يكون تقصير المعتمر أو حلقه عند المروة لأنها موضع تحلله كما يستحب للحاج أن يكون حلقه أو تقصيره في منى لأنها موضع تحلله، وحيث حلقا أو قصرا من الحرم كله جاز (بمشقص) بكسر الميم وإسكان

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ الشين المعجمة وفتح القاف وآخره صاد مهملة أي نصل طويل عريض أو غير عريض له حدة، وقيل المراد به المقص وهو الأشبه في هذا المحل، قاله القاري. وقال في اللمعات: مشقص كمنبر، وهو نصل عريض أو سهم فيه ذلك، وقيل المراد به الجلم بالجيم بفتحتين وهو الذي يجز به الشعر والصوف وهو أشبه. ثم اعلم أن في الحديث إشكالاً وهو أنه لا يدري أن تقصير رأسه - صلى الله عليه وسلم - الذي أخبر به معاوية كان في الحج أو في العمرة؟ ولا يصح الحمل على الأول، لأن الحلق والتقصير من الحاج يكون بمنى لا عند المروة. وأيضًا قد ثبت حلق رأسه في الحج فتعين أن يكون في العمرة، ثم في أي عمرة من عمره كان؟ لا يجوز أن يكون في العمرة الحكمية التي كانت بالحديبية لأنه حلق يومئذ فيها ولم يدخل مكة ولم يسلم معاوية يومئذ، ولا يصح أن يحمل على عمرة القضاء لأنه قد ثبت عن أهل العلم بالسير أن معاوية إنما أسلم عام الفتح، نعم قد ينقل عنه نفسه أنه كان يقول: أسلمت عام القضية، لكن الصحيح أنه أسلم عام الفتح. وفي هذا النقل وهن، أو يحمل على عمرة الجعرانة وكان في ذي القعدة عام الفتح، وذلك أيضًا لا يصح لأنه قد جاء في بعض ألفاظ الصحيح ((وذلك في حجته)) وفي رواية النسائي بإسناد صحيح ((وذلك في أيام العشر)) وهذا إنما يكون في حجة الوداع، كذا في المواهب فتعين حمله على عمرة حجة الوداع، وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يحل يومئذ ولا من كان معه هدي، وإنما أمر بحل من لم يسق الهدي، نعم قد توهم بعض الناس أنه - صلى الله عليه وسلم - حج متمتعًا حل فيه من إحرامه ثم أحرم يوم التروية بالحج مع سوق الهدي، وتمسكوا بهذا الحديث من معاوية لكن الصواب أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يحل يومئذ. وقد قالوا: إن الصحابة أنكروا هذا القول على معاوية وغلطوه فيه كما أنكروا على ابن عمر في قوله ((إن إحدى عمره - صلى الله عليه وسلم - كان في رجب)) قال التوربشتي: الوجه فيه أن نقول: نسي معاوية أنه كان في حجة الوداع، ولا يستبعد ذلك في من شغلته الشواغل ونازعته الدهور والأعصار في سمعه وأبصاره وذهنه، وكان قد جاوز الثمانين وعاش بعد حجة الوداع خمسين سنة – انتهى. فحينئذ يحمل ذلك على عمرة الجعرانة، ويكون ذكر الحجة وأيام العشر سهوًا والله أعلم – انتهى ما في اللمعات. وقال ابن الهمام: حديث معاوية (أي في إحلاله بالتقصير عند المروة) إما هو خطأ أو محمول على عمرة الجعرانة فإنه قد كان أسلم إذ ذاك وهي عمرة خفيت على بعض الناس لأنها كانت ليلاً على ما في الترمذي والنسائي، وعلى هذا فيجب الحكم على الزيادة التي في النسائي وهو قوله ((في أيام العشر)) بالخطأ ولو كانت بسند صحيح إما للنسيان من معاوية أو من بعض الرواة، كذا في المرقاة. وقال الحافظ بعد ذكر رواية الباب: هذا يحتمل أن يكون في عمرة القضية أو الجعرانة لكن وقع عند مسلم والنسائي ما يدل على أن ابن عباس حمل ذلك على وقوعه في حجة الوداع لقوله لمعاوية: إن هذه حجة عليك إذ لو كان في العمرة لما كان فيه على معاوية حجة، وأصرح منه ما وقع عند أحمد (ج 4: ص 92) من طريق قيس بن سعد عن عطاء أن معاوية حدث أنه أخذ من أطراف شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أيام العشر بمشقص

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ معي وهو محرم، وفي كونه في حجة الوداع نظر لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحل حتى بلغ الهدي محله فكيف يقصر عنه على المروة وقد بالغ النووي هنا في الرد على من زعم أن ذلك كان في حجة الوداع فقال: هذا الحديث محمول على أن معاوية قصر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في عمرة الجعرانة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع كان قارنًا وثبت أنه حلق بمنى، وفرق أبو طلحة شعره بين الناس فلا يصح حمل تقصير معاوية على حجة الوداع ولا يصح حمله أيضًا على عمرة القضاء الواقعة سنة سبع، لأن معاوية لم يكن يومئذ مسلمًا، إنما أسلم يوم الفتح سنة ثمان، هذا هو الصحيح المشهور، ولا يصح قول من حمله على حجة الوداع، وزعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان متمتعًا، لأن هذا غلط فاحش، فقد تظاهرت الأحاديث في مسلم وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له: ما شأن الناس حلوا من العمرة ولم تحل أنت من عمرتك؟ فقال: إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر. قلت (قائله الحافظ) : ولم يذكر الشيخ هنا ما مر في عمرة القضية والذي رجحه من كون معاوية إنما أسلم يوم الفتح صحيح من حيث السند لكن يمكن الجمع بأنه كان أسلم خفية وكان يكتم إسلامه، ولم يتمكن من إظهاره إلا يوم الفتح. وقد أخرج ابن عساكر في تاريخ دمشق من ترجمة معاوية تصريح معاوية بأنه أسلم بين الحديبية والقضية، وأنه كان يخفي إسلامه خوفًا من أبويه، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دخل في عمرة القضية مكة خرج أكثر أهلها عنها حتى لا ينظرونه وأصحابه يطوفون بالبيت، فلعل معاوية كان ممن تخلف بمكة بسبب اقتضاه. ولا يعارضه أيضًا قول سعد بن أبي وقاص فيما أخرجه مسلم وغيره: فعلناها يعني العمرة في أشهر الحج، وهذا يومئذ كافر بالعرش – بضمتين – يعني بيوت مكة، يشير إلى معاوية، لأنه يحمل على أنه أخبر بما استصحبه من حاله ولم يطلع على إسلامه لكونه كان يخفيه. ويعكر على ما جوزوه أن تقصيره كان في عمرة الجعرانة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ركب من الجعرانة بعد أن أحرم بعمرة ولم يستصحب أحدًا معه إلا بعض أصحابه المهاجرين فقدم مكة فطاف وسعى وحلق ورجع إلى الجعرانة فأصبح بها كبائت، فخفيت عمرته على كثير من الناس، كذا أخرجه الترمذي وغيره، ولم يعدوا معاوية فيمن كان صحبه حينئذ ولا كان معاوية فيمن تخلف عنه بمكة في غزوة حنين حتى يقال لعله وجده بمكة، بل كان مع القوم وأعطاه مثل ما أعطى أباه من الغنيمة مع جملة المؤلفة، وأخرج الحاكم في الإكليل في آخر قصة غزوة حنين أن الذي حلق رأسه - صلى الله عليه وسلم - في عمرته التي اعتمرها من الجعرانة أبو هند عبد بني بياضة. فإن ثبت هذا وثبت أن معاوية كان حينئذ معه وكان بمكة فقصر عنه بالمروة أمكن الجمع بأن يكون معاوية قصر عنه أولاً وكان الحلاق غائبًا في بعض حاجته ثم حضر فأمره أن يكمل إزالة الشعر بالحلق لأنه أفضل ففعل، وإن ثبت أن ذلك كان في عمرة القضية، وثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - حلق فيها جاء هذا الاحتمال بعينه وحصل التوفيق بين الأخبار كلها، وهذا مما فتح الله علي به في هذا الفتح ولله الحمد ثم لله الحمد أبدًا. قال صاحب الهدي: الأحاديث الصحيحة المستفيضة تدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يحل من إحرامه إلى يوم النحر كما أخبر عن

متفق عليه. 2671 - (3) وعن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في حجة الوداع: ـــــــــــــــــــــــــــــ نفسه بقوله ((فلا أحل حتى أنحر)) وهو خبر لا يدخله الوهم بخلاف خبر غيره، ثم قال: فلعل معاوية قصر عنه في عمرة الجعرانة فنسي بعد ذلك وظن أنه كان في حجته – انتهى. ولا يعكر على هذا إلا رواية قيس بن سعد المتقدمة لتصريحه فيها بكون ذلك في أيام العشرة إلا أنها شاذة. وقد قال قيس بن سعد عقبها: والناس ينكرون ذلك على معاوية – انتهى. وأظن قيسًا رواها بالمعنى ثم حدث بها فوقع له ذلك. وقد أشار النووي إلى ترجيح كونه في الجعرانة وصوبه المحب الطبري وابن القيم وفيه نظر لأنه جاء أنه حلق في الجعرانة واستبعاد بعضهم أن معاوية قصر عنه في عمرة الحديبية لكونه لم يكن أسلم ليس ببعيد – انتهى كلام الحافظ. قلت: لا إشكال في رواية الشيخين فإنها تحمل على عمرة من عمره كما وقع في التصريح بذلك في رواية النسائي، والمراد بها عمرة الجعرانة، كما قال النووي والمحب الطبري وابن القيم وغيرهم، وأما ما وقع في رواية الحاكم في الإكليل ورواية الملا في سيرته على ما حكاه الطبري من أنه حلق في عمرة الجعرانة فقد تقدم وجه الجمع بينه وبين روايات ((أنه قصر عنه)) والمشكل إنما هو رواية أبي داود بلفظ ((قصرت عنه على المروة بحجته)) ورواية أحمد والنسائي بلفظ ((أخذ من أطراف شعر النبي - صلى الله عليه وسلم - في أيام العشر)) وأول المنذري رواية أبي داود بأن قوله ((لحجته)) يعني لعمرته، قال: وقد أخرجه النسائي أيضًا، وفيه ((في عمرة على المروة)) وتسمى العمرة حجًا، لأن معناها القصد، وقد قالت حفصة: ما بال الناس حلوا، ولم تحلل أنت من عمرتك؟ قيل: إنما تعني من حجتك – انتهى. وأما راوية أحمد والنسائي فهي محمولة على الخطأ والنسيان والوهم كما قال التوربشتي وابن القيم وابن الهمام والطيبي والحافظ، والله أعلم (متفق عليه) واللفظ لمسلم، وقوله ((عند المروة)) مما تفرد به مسلم دون البخاري، والحديث أخرجه أيضًا أحمد (ج 4: ص 95، 96، 97، 98، 102) وأبو داود في باب الأقران، والنسائي والبيهقي (ج 5: ص 102) . 2671 – قوله (قال في حجة الوداع) هكذا في جميع نسخ المشكاة والمصابيح وهو خطأ من المصنف والبغوي، فإن الحديث رواه مالك في الموطأ عن نافع عن ابن عمر ومن طريق مالك رواه أحمد (ج 2: ص 79) والبخاري ومسلم وأبو داود وليس عندهم قوله ((في حجة الوداع)) وقد اختلف المتكلمون على هذا الحديث في الوقت الذي قال فيه رسول - صلى الله عليه وسلم - ذلك فقال ابن عبد البر: كونه في الحديبية هو المحفوظ. وقال النووي: الصحيح المشهور أنه كان في حجة الوداع. قال القاضي عياض: لا يبعد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله في الموضعين. قال العيني: ما قاله القاضي هو الصواب جمعًا بين الأحاديث، وهو الذي اختاره الحافظ حيث قال: قال ابن عبد البر: لم يذكر أحد من رواة نافع عن

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن عمر أن ذلك كان يوم الحديبية، وهو تقصير وحذف، وإنما جرى ذلك يوم الحديبية حين صد عن البيت، وهذا محفوظ مشهور من حديث ابن عمر وابن عباس وأبي سعيد وأبي هريرة وحبشي بن جنادة وغيرهم، ثم أخرج حديث أبي سعيد بلفظ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستغفر لأهل الحديبية للمحلقين ثلاثًا وللمقصرين مرة، وحديث ابن عباس بلفظ ((حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: رحم الله المحلقين)) الحديث. وحديث أبي هريرة من طريق محمد بن فضيل الذي أخرجه البخاري بلفظ ((قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: والمقصرين، قال: اللهم اغفر للمحلقين. قالوا: والمقصرين؟ قالها ثلاثًا. قال: وللمقصرين. ولم يسق ابن عبد البر لفظه بل قال: نذكر معناه وتجوز في ذلك فإنه ليس في رواية أبي هريرة تعيين الموضع، ولم يقع في شيء من طرقه التصريح بسماعه لذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولو وقع لقطعنا بأنه كان في حجة الوداع لأنه شهدها، ولم يشهد الحديبية، ولم يسق ابن عبد البر عن ابن عمر في هذا شيئًا ولم أقف على تعيين الحديبية في شيء من الطريق عنه، وقد قدمت في صدر الباب (أي باب الحلق والتقصير عند الإحلال) أنه مخرج من مجموع الأحاديث عنه أن ذلك كان في حجة الوداع كما يؤمئ إليه صنيع البخاري، وحديث أبي سعيد الذي أخرجه ابن عبد البر أخرجه أيضًا الطحاوي من طريق الأوزاعي، وأحمد وابن أبي شيبة وأبو داود الطيالسي من طريق هشام الدستوائي كلاهما عن يحيى بن أبي كثير عن أبي إبراهيم الأنصاري عن أبي سعيد، وزاد فيه أبو داود (وأحمد) أن الصحابة حلقوا يوم الحديبية إلا عثمان وأبا قتادة، وأما حديث ابن عباس فأخرجه ابن ماجة من طريق ابن إسحاق حدثني ابن أبي نجيح عن مجاهد عنه وهو عند ابن إسحاق في المغازي بهذا الإسناد وأن ذلك كان بالحديبية، وكذلك أخرجه أحمد وغيره من طريقه، وأما حديث حبشي بن جنادة فأخرجه ابن أبي شيبة من طريق أبي إسحاق عنه ولم يعين المكان، وأخرجه أحمد من هذا الوجه (ج 4: ص 164، 165) وزاد في سياقه ((عن حبشي وكان ممن شهد حجة الوداع)) فذكر هذا الحديث، وهذا يشعر بأنه كان في حجة الوداع، وأما قول ابن عبد البر فوهم، فقد ورد تعيين الحديبية من حديث جابر عند أبي قرة في السنن، ومن طريق الطبراني في الأوسط، ومن حديث المسور بن مخرمة عند ابن إسحاق في المغازي، وورد تعيين حجة الوداع من حديث أبي مريم السلولي عند أحمد وابن أبي شيبة، ومن حديث أم الحصين عند مسلم، ومن حديث قارب بن الأسود الثقفي عند أحمد وابن أبي شيبة، ومن حديث أم عمارة عند الحارث. فالأحاديث التي فيها تعيين حجة الوداع أكثر عددًا وأصح إسنادًا (لأن بعضها في صحيح مسلم بخلاف الحديبية) ولهذا قال النووي عقب أحاديث ابن عمر وأبي هريرة وابن الحصين: هذه الأحاديث تدل على أن هذه الواقعة كانت في حجة الوداع. قال: وهو الصحيح المشهور، وقيل: كان في الحديبية، وجزم بأن ذلك كان في الحديبية إمام الحرمين في النهاية. ثم قال النووي: لا يبعد أن يكون وقع في الموضعين – انتهى. وقال عياض: كان

" اللهم ارحم المحلقين ". ـــــــــــــــــــــــــــــ في الموضعين. وقال ابن دقيق العيد: إنه الأقرب. قلت (قائله الحافظ) : بل هو المتعين لتظافر الروايات بذلك في الموضعين كما قدمناه إلا أن السبب في الموضعين مختلف. فالذي في الحديبية كان بسبب توقف من توقف من الصحابة عن الإحلال لما دخل عليهم من الحزن لكونهم منعوا من الوصول إلى البيت مع اقتدارهم في أنفسهم على ذلك فخالفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وصالح قريشًا على أن يرجع من العام المقبل، والقصة مشهورة، فلما أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإحلال توقفوا، فأشارت أم سلمة أن يحل هو - صلى الله عليه وسلم - قبلهم ففعل فتبعوه، فحلق بعضهم وقصر بعض، وكان من بادر على الحلق أسرع إلى امتثال الأمر ممن اقتصر على التقصير وقد وقع التصريح بهذا السبب في حديث ابن عباس المشار إليه قبل، فإن في آخره عند ابن ماجة وغيره أنهم قالوا: يا رسول الله ما بال المحلقين ظاهرت لهم بالرحمة؟ قال: لأنهم لم يشكوا (في أن ما فعلته أحسن مما قام في أنفسهم، أو معناه أي ما عاملوا معاملة من يشك في أن الإتباع أحسن، وأما من قصر فقد عامل معاملة الشاك في ذلك حيث ترك فعله - صلى الله عليه وسلم -) وأما السبب في تكرير الدعاء للمحلقين في حجة الوداع فقال ابن الأثير في النهاية: كان أكثر من حج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يسق الهدي، فلما أمرهم أن يفسخوا الحج ثم يتحللوا منها ويحلقوا رؤؤسهم شق عليهم، ثم لما لم يكن لهم بد من الطاعة كان التقصير في أنفسهم أخف من الحلق ففعله أكثرهم، فرجح النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل من حلق لكونه أبين في امتثال الأمر – انتهى. قال الحافظ: وفيما قاله نظر، وإن تابعه عليه غير واحد، لأن المتمتع يستحب في حقه أن يقصر في العمرة ويحلق في الحج إذا كان ما بين النسكين متقاربًا، وقد كان ذلك في حقهم كذلك، فالأولى ما قاله الخطابي وغيره أن عادة العرب أنها كانت تحب توفير الشعر والتزين به وكان الحلق فيهم قليلاً وربما كانوا يرونه من الشهرة، ومن زي الأعاجم، فلذلك كرهوا الحلق واقتصروا على التقصير، قلت: ما حكاه الحافظ عن الخطابي يأبى عنه كلام الخطابي في المعالم (ج 2: ص 418) حيث قال في شرح حديث ابن عمر: قلت: كان أكثر من أحرم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الصحابة ليس معهم هدي، وكان - صلى الله عليه وسلم - قد ساق الهدي، ومن كان معه هدي فإنه لا يحلق حتى ينحر هديه، فلما أمر من ليس معه هدي أن يحل وجدوا من ذلك في أنفسهم وأحبوا أن يأذن لهم في المقام على إحرامهم حتى يكملوا الحج، وكان طاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى بهم، فلما لم يكن لهم بد من الإجلال كان التقصير في نفوسهم أحب من الحلق فمالوا إلى التقصير، فلما رأي ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم أخرهم في الدعاء وقدم عليهم من حلق وبادر إلى الطاعة وقصر بمن تهيبه وحاد عنه، ثم جمعهم في الدعوة وعمهم بالرحمة – انتهى. وهذا كما ترى هو عين ما قاله ابن الأثير في النهاية (اللهم ارحم المحلقين حيث عملوا بالأفضل لأن العمل بما بدأ الله تعالى في قوله {محلقين رؤوسكم ومقصرين} (48: 27) أكمل. وقضاء التفث المأمور به في قوله عز وجل {ثم ليقضوا تفثهم} (22: 29)

قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: " اللهم ارحم المحلقين ". قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: " والمقصرين ". ـــــــــــــــــــــــــــــ يكون به أجمل، ويكون في ميزان العمل أثقل، وفيه دليل على الترحم على الحي وعدم اختصاصه بالميت (قالوا) أي الصحابة، قال الحافظ: لم أقف في شيء من الطرق على الذي تولى السؤال في ذلك بعد البحث الشديد (والمقصرين يا رسول الله) قال الحافظ: الواو معطوفة على شيء محذوف تقديره ((قل: والمقصرين، أو قل: وارحم المقصرين) وهو يسمى العطف التلقيني كقوله تعالى {ومن ذريتي} بعد قوله {إني جاعلك للناس إمامًا} (2: 124) قال الآلوسي: {ومن ذريتي} عطف على كاف {جاعلك} يقال: سأكرمك، فتقول: وزيدًا، أي وتكرم زيدًا، تريد تلقينه بذلك، قال {ومن ذريتي} في معني بعض ذريتي، فكأنه قال: ((وجاعل بعض ذريتي)) وهو من قبيل عطف التلقين فيكون خبرًا في معني الطلب، وكأن أصله واجعل بعض ذريتي، لكنه عدل إلى المنزل لما فيه من البلاغة من حيث جعله من تتمة كلام المتكلم كأنه مستحق مثل المعطوف عليه وجعل نفسه كالنائب عن المتكلم، والعدول من صيغة الأمر للمبالغة في الثبوت ومراعاة الأدب في التفادي عن صورة الأمر، وفيه من الاختصار الواقع موقعه ما يروق كل ناظر، قلت: ومن هذا القبيل قوله تعالى {قال ومن كفر} بعد قوله {وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر} (2: 126) فإنه يصح التقدير: وارزق من كفر بصيغة الأمر، فالطلب بمعني الخبر على عكس {ومن ذريتي} وفائدة العدول تعليم تعميم دعاء الرزق وأن لا يحجر في طلب اللطف، أو التقدير وأرزق من كفر، بصيغة المتكلم، وقال الآلوسي: ولك أن تجعل العطف على محذوف أي ارزق من آمن ومن كفر (قال: اللهم ارحم المحلقين) تنبيهًا على أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكتف على المحلقين أولاً لعدم الالتفات إلى المقصرين بل دعي لهم قصدًا وكرر الدعاء لهم خاصة لإظهار فضيلة التحليق (قالوا: والمقصرين يا رسول الله) تأكيد لاستدعاء الرحمة للمقصرين. قال القاري: هل هو قول المحلقين أو المقصرين أو قولهما جميعًا؟ احتمالات ثلاث، أظهرها بعض الكل من النوعين (قال: والمقصرين) قال الحافظ: فيه إعطاء المعطوف حكم المعطوف عليه ولو تخلل بينهما السكوت بلا عذر ثم هو هكذا في معظم الروايات عن مالك الدعاء للمحلقين مرتين، وعطف المقصرين عليهم في المرة الثالثة، وانفرد يحيى بن بكير دون رواة الموطأ بإعادة ذلك ثلاث مرات، نبه عليه ابن عبد البر في التقصي وأغفله في التمهيد، بل قال فيه: إنهم لم يختلفوا على مالك في ذلك، وقد راجعت أهل سماعي من موطأ يحيى بن بكير فوجدته كما قال في التقصي. وفي رواية الليث عن نافع عند مسلم وعلقها البخاري ((رحم الله المحلقين مرة أو مرتين، قالوا: والمقصرين، قال ((والمقصرين)) والشك فيه من الليث وإلا فأكثرهم موافق لما رواه مالك، ولمسلم أيضًا وعلقه البخاري من رواية عبيد الله – بالتصغير – العمري عن نافع، قال في الرابعة ((والمقصرين)) ولمسلم من

............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ وجه آخر عن عبيد الله بلفظ مالك سواء، قال الحافظ: وبيان كونها في الرابعة أن قوله والمقصرين معطوف على مقدر، تقديره ((يرحم الله المحلقين)) وإنما قال ذلك بعد أن دعا للمحلقين ثلاثًا صريحًا فيكون دعاؤه للمقصرين في الرابعة، وقد رواه أبو عوانة في مستخرجه من طريق الثوري عن عبيد الله بلفظ ((قال في الثالثة: والمقصرين)) والجمع بينهما واضح بأن من قال ((في الرابعة)) فعلى ما شرحناه، ومن قال ((في الثالثة)) أراد أن قوله {والمقصرين} معطوف على الدعوة الثالثة أو أراد بالثالثة مسألة السائلين في ذلك، وكان - صلى الله عليه وسلم - لا يراجع بعد ثلاث كما ثبت، ولو لم يدع لهم بعد ثالث مسألة ما سألوه في ذلك، وأخرجه أحمد (ج 2: ص 34) من طريق أيوب عن نافع بلفظ ((اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: وللمقصرين حتى قالها ثلاثًا أو أربعًا، ثم قال: والمقصرين)) ورواية من حزم مقدمة على من شك – انتهى. وروى البخاري بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: والمقصرين. قال: اللهم اغفر للمحلقين. قالوا: والمقصرين، قالها ثلاثًا. قال: وللمقصرين. قال الحافظ: قوله ((قالها ثلاثًا)) أي قوله: اللهم اغفر للمحلقين، وهذه الرواية شاهدة لأن عبيد الله العمري حفظ الزيادة – انتهى. واستدل بقوله ((المحلقين)) على مشروعية حلق جميع الرأس لأنه الذي تقتضيه الصيغة (إذ لا يقال لمن حلق بعض رأسه أنه حلقه إلا مجازًا) وقال بوجوب حلق جميعه مالك وأحمد، واستحبه الكوفيون والشافعي ويجزئ البعض عندهم، واختلفوا فيه فعن الحنفية الربع إلا أبا يوسف فقال: النصف. وقال الشافعي: أقل ما يجب حلق ثلاث شعرات، وفي وجه لبعض أصحابه شعرة واحدة، والتقصير كالحلق فالأفضل أن يقصر من جميع شعر رأسه، ويستحب أن لا ينقص عن قدر الأنملة، وإن اقتصر على دونها أجزأ. هذا للشافعية، وهو مرتب عند غيرهم على الحلق، وهذا كله في حق الرجال، كذا في الفتح. وقال ابن قدامة (ج 3: ص 393) : يلزم التقصير أو الحلق من جميع شعره، كذلك المرأة، نص عليه أحمد، وبه قال مالك، وعن أحمد يجزئه البعض مبنيًا على المسح في الطهارة، وكذلك قال ابن حامد، وقال الشافعي: يجزئه التقصير من ثلاث شعرات، واختار ابن المنذر أنه يجزئه ما يقع عليه اسم التقصير لتناول اللفظ له، ولنا قول الله تعالى: {محلقين رؤوسكم} وهذا عام في جميعه، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حلق جميع رأسه تفسيرًا لمطلق الأمر به فيجب الرجوع إليه، ولأنه نسك تعلق بالرأس فوجب استيعابه به كالمسح – انتهى. واختار ابن الهمام قول مالك في وجوب استيعاب الرأس بالحلق والتقصير، وقال بعد بسط الكلام فيه: فكان مقتضى الدليل في الحلق وجوب الاستيعاب كما هو قول مالك، وهو الذي أدين الله به. قال: وقياسه على المسح قياس مع الفارق. وقال الشنقيطي بعد ذكر مذاهب الأئمة في ذلك: أظهر الأقوال عندي أنه يلزم حلق جميع الرأس أو تقصير جميعه، ولا يلزم تتبع كل شعرة في التقصير، لأن فيه مشقة كبيرة، بل يكفي تقصير جميع جوانب الرأس مجموعة أو مفرقة، وأنه لا يكفي الربع ولا ثلاث شعرات خلافًا للحنفية والشافعية،

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأن الله تعالى يقول: {محلقين رؤوسكم} ولم يقل: بعض رؤوسكم {ومقصرين} أي رؤوسكم لدلالة ما ذكر قبله عليه، وظاهره حلق الجميع أو تقصيره، ولا يجوز العدول عن ظاهر النص إلا لدليل يجب الرجوع إليه، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " دع ما يريبك إلا ما لا يريبك ". فمن حلق الجميع أو قصره ترك ما يريبه إلى ما لا يريبه، ومن اقتصر على ثلاث شعرات أو على ربع الرأس لم يدع ما يريبه، إذ لا دليل يجب الرجوع إليه من كتاب ولا سنة على الاكتفاء بواحد منهما، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حلق في حجة الوداع حلق جميع رأسه وأعطى شعر رأسه لأبي طلحة ليفرقه على الناس، وفعله في الحلق بيان للنصوص الدالة على الحلق كقوله: {محلقين رؤوسكم} الآية، وقوله: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله} (2: 196) وقد قدمنا أن فعله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان بيانًا لنص مجمل يقتضي وجوب حكم أن ذلك الفعل المبين لذلك النص المجمل واجب، ولا خلاف في ذلك بين من يعتد به من أهل الأصول – انتهى. قال الحافظ: وفي الحديث من الفوائد أن التقصير يجزئ عن الحلق وهو مجمع عليه إلا ما روي عن الحسن البصري أن الحلق يتعين في أول حجة. حكاه ابن المنذر بصيغة التمريض، وقد ثبت عن الحسن خلافه. قال ابن أبي شبيبة: حدثنا عبد الأعلى عن هشام عن الحسن في الذي لم يحج قط، فإن شاء حلق وإن شاء قصر، نعم روى ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي قال: إذا حج الرجل أول حجة حلق، فإن حج أخرى فإن شاء حلق وإن شاء قصر، ثم روي عنه أنه قال: كانوا يحبون أن يحلقوا في أول حجة وأول عمرة – انتهى. وهذا يدل على أن ذلك للاستحباب لا المزوم. نعم عند المالكية والحنابلة أن محل تعيين الحلق والتقصير أن لا يكون المحرم لبد شعره أو ضفره أو عقصه، وهو قول الثوري والشافعي في القديم والجمهور، وقال في الجديد وفاقًا للحنفية: لا يتعين إلا إن نذره أو كان شعره خفيفًا لا يمكن تقصيره أو لم يكن له شعر فيمر الموسى على رأسه، وأغرب الخطابي فاستدل بهذا الحديث لتعين الحلق لمن لبد، ولا حجة فيه – انتهى. وقال ابن قدامة (ج 3: ص 434) : وهو أي المحرم مخير بين الحلق والتقصير أيهما فعل أجزأه في قول أكثر أهل العلم. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن التقصير يجزئ، يعني في حق من لم يوجد منه معنى يقتضي وجوب الحلق عليه، إلا أنه يروي عن الحسن أنه كان يوجب الحلق في أول حجة حجها ولا يصح هذا، لأن الله تعالى قال {محلقين رؤوسكم ومقصرين} (48: 27) ولم يفرق النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ قال: رحم الله المحلقين والمقصرين. وقد كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من قصر فلم يعب عليه، ولو لم يكن مجزيًا لأنكر عليه، واختلف أهل العلم فيمن لبد أو عقص أو ضفر، فقال أحمد: من فعل ذلك فليحلق وهو قول النخعي ومالك والشافعي وإسحاق، وكان ابن عباس يقول: من لبد أو ضفر أو عقد أو فتل أو عقص فهو على ما نوى، يعني إن نوى الحلق فليحلق وإلا فلا يلزمه، وقال أصحاب الرأي: هو مخير على كل حال لأن ما ذكرناه يقتضي التخيير على العموم، ولم يثبت في خلاف ذلك دليل، واحتج من نصر القول الأول بأنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من لبد

متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ فليحلق، وثبت عن عمر وابنه أنهما أمرا من لبد رأسه أن يحلقه، وثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبد رأسه وأنه حلقه، والصحيح أنه مخير إلا أن يثبت الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقول عمر وابنه قد خالفهما فيه ابن عباس، وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - له لا يدل على وجوبه بعد ما بين لهم جواز الأمرين – انتهى. وقال النووي في مناسكه: إذا فرغ من النحر حلق رأسه أو قصر وأيهما فعل أجزأ، والحلق أفضل. هذا في من لم ينذر الحلق، أما من نذر الحلق في وقته فيلزمه حلق الجميع، ولا يجزئه التقصير، ولو لبد رأسه عند الإحرام لم يكن ملتزمًا للحلق على المذهب الصحيح، وللشافعي قول قديم أن التلبيد كنذر الحلق – انتهى. وقال الدردير: والتقصير مجزئ لمن له الحلق أفضل، قال الدسوقي: أي إن لم يكن لبد شعره وإلا تعين الحلق، ونص المدونة: من ضفر أو عقص أو لبد فعليه الحلاق، ومثله في الموطأ، وعلله ابن الحاجب تبعًا لابن شاس بعدم إمكان التقصير، ورده في التوضيح بأنه يمكن أن يغسله ثم يقصر، وإنما علل علماؤنا تعين الحلق في حق هؤلاء بالسنة – انتهى. ومذهب الحنفية أنه لو تعذر الحلق لعارض تعين التقصير أو التقصير لعارض تعين الحلق كأن لبده بصمغ فلا يعمل فيه المقراض، ومتى نقض تناثر بعض شعره وذلك لا يجوز للمحرم قبل الحلق كذا في العالمكيرية. وقال في الدر المختار: ومتى تعذر أحدهما لعارض تعين الآخر، فلو لبد بصمغ بحيث تعذر التقصير تعين الحلق، قال ابن عابدين: مثال لتعذر التقصير ومثله ما لو كان الشعر قصيرًا فيتعين الحلق، وكذا لو كان معقوصًا أو مضفورًا كما عزى إلى المبسوط، ووجهه أنه إذا نقضه تناثر بعض الشعر فيكون جناية على إحرامه، لكن قد يقال: إن هذا التناثر غير جناية لأنه في وقت جواز إزالة الشعر بحلق أو غيره، ولو نتفًا منه أو من غيره، فبقى ما في المبسوط مشكلاً، تأمل. ومثال تعذر الحلق مع إمكان التقصير أن يفقد آلة الحلق أو من يحلقه أو يضره الحلق بنحو صداع أو قروح برأسه، وتقدم مثال تعذرهما جميعًا في الأقرع وذي قروح شعره قصير – انتهى. وفي الحديث أيضًا أن الحلق أفضل من التقصير ووجهه مع قطع النظر عن سببه الوارد في الحديبية وحجة الوداع أنه أبلغ في العبادة وأبين للخضوع والذلة وأدل على صدق النية، والذي يقصر يبقى على نفسه شيئًا مما يتزين به بخلاف الحالق فإنه يشعر بأنه ترك ذلك لله تعالى، وأما قول النووي تبعًا لغيره في تعليل ذلك بأن المقصر يبقي على نفسه الشعر الذي هو زينة والحاج مأمور بترك الزينة بل هو أشعث أغبر، ففيه نظر، لأن الحلق إنما يقع بعد انقضاء زمن الأمر للتقشف فإنه يحل له عقبه كل شيء إلا النساء في الحج خاصة، وفيه أيضًا مشروعية الدعاء لمن فعل ما شرع له وتكرار الدعاء لمن فعل الراجح من الأمرين المخير فيهما، والتنبيه بالتكرار على الرجحان وطلب الدعاء لمن فعل الجائز وإن كان مرجوحًا، هذا. وقد بسط الكلام في فوائد الحديث ومباحثه الولي العراقي في طرح التثريب (ج 5: ص 110 إلى ص 118) فارجع إليه إن شئت (متفق عليه) وأخرجه أيضًا أحمد (ج 2: ص 79) وأبو داود والبيهقي (ج 5: ص 103) وغيرهم.

2672 – (4) وعن يحيى بن الحصين، عن جدته، أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع، دعا للمحلقين ثلاثًا، وللمقصرين مرة واحدة. رواه مسلم. 2673 – (5) وعن أنس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى منى، فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى، ونحر نسكه، ثم دعا بالحلاق، وناول الحالق شقه الأيمن ـــــــــــــــــــــــــــــ 2672 – قوله (وعن يحيى بن الحصين) بمهملتين مصغرًا الأحمسي البجلي الكوفة ثقة، قال الحافظ: يحيى بن الحصين الأحمسي البجلي عن جدته أم الحصين ولها صحبة، وعن طارق بن شهاب وعنه أبو إسحاق السبيعي وزيد بن أبي أنيسة وشعبة. قال ابن معين والنسائي: ثقة. وزاد أبو حاتم ((صدوق)) وذكره ابن حبان في الثقات. وقال العجلي ((كوفي ثقة)) (عن جدته) أي أم الحصين بنت إسحاق الأحمسية الصحابية لم تسم. قال ابن عبد البر: أم الحصين بنت إسحاق الأحمسية روى عنها ابن ابنها يحيى بن الحصين والعيزار بن حريث شهدت حجة الوداع. قال الحافظ: سمي ابن عبد البر أباها إسحاق ولم أرها لغيره ورواية العيزار بن حريث عنها عند ابن مندة وأحمد (ج 6: ص 402) من طريق يونس بن أبي إسحاق عن العيزار بن حريث، قال: سمعت الأحمسية يعني أم الحصين تقول: رأيت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بردًا قد التحف به من تحت إبطه – الحديث (أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع) هذا نص في شهود أم الحصين حجة الوداع وأن الدعاء المذكور كان في حجة الوداع، وتقدم الكلام في هذا (مرة واحدة) هكذا في جميع النسخ وكذا وقع في جامع الأصول (ج 4: ص 108) وطرح التثريب (ج 5: ص 111) والذي في صحيح مسلم ((مرة)) أي بدون لفظة ((واحدة)) وهكذا في المصابيح والسنن للبيهقي والقرى (ص 412) للمحب الطبري، ولفظ أحمد في رواية: أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى دعا للمحلقين ثلاث مرات، فقيل له ((والمقصرين)) فقال في الثالثة (أي عقب الثالثة فتكون رابعة لتتفق مع الرواية الآتية) وفي لفظ له قالت: سمعت نبي الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفات (في الطريق الأولى ((بمنى)) فيحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - كرر الدعاء في خطبته بعرفات ثم في خطبته بمنى فسمعته في الموضعين) يقول: غفر الله للمحلقين، ثلاث مرار، قالوا: والمقصرين، فقال: والمقصرين، في الرابعة (رواه مسلم) وأخرجه أيضًا أحمد (ج 6: ص 402، 403) والبيهقي (ج 5: ص 103) . 2673 – قوله (فأتى الجمرة) أي جمرة العقبة (فرماها ثم أتى منزله بمنى) فيه أنه يستحب إذا قدم منى أن لا يعرج على شيء قبل الرمي، بل يأتي الجمرة الكبرى جمرة العقبة راكبًا كما هو فيرميها ثم يذهب فينزل حيث شاء من منى (ونحر نسكه) بسكون السين ويضم جمع نسيكة وهي الذبيحة، والمراد بدنه - صلى الله عليه وسلم -، وقد نحر بيد ثلاثًا وستين وأمر عليًا أن ينحر بقية المائة، وفيه استحباب نحر الهدي بمنى، ويجوز حيث شاء من بقاع الحرم لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كل منى منحر، وكل فجاج مكة منحر (ثم دعا بالحلاق) هو معمر بن عبد الله العدوي (وناول الحالق شقه) أي جانبه (الأيمن)

فحلقه، ـــــــــــــــــــــــــــــ أي من الرأس (فحلقه) فيه أنه يستحب في حلق الرأس أن يبدأ بالشق الأيمن من رأس المحلوق وإن كان على يسار الحالق وإلى ذلك ذهب الجمهور، وقال أبو حنيفة يبدأ بجانبه الأيسر لأنه على يمين الحالق، والحديث يرد عليه، قال الطيبي: دل الحديث على أن المستحب الابتداء بالأيمن (من رأس المحلوق) وذهب بعضهم إلى أن المستحب الأيسر – انتهى. قال القاري: أي ليكون أيمن الحالق، ونسب إلى أبي حنيفة إلا أنه رجع عن هذا، وسبب ذلك أنه قاس أولاً يمين الفاعل كما هو المتبادر من التيامن، ولما بلغه أنه عليه الصلاة والسلام اعتبر يمين المفعول رجع عن ذلك القول المبني على المعقول إلى صريح المنقول إذ الحق بالإتباع أحق، ولو وقف الحالق خلف المحلوق أمكن الجمع بين الأيمنين (أي اجتمع الابتداء بيمين الحالق والمحلوق وارتفع الخلاف وإذا تعذر الجمع فلا بد من ترجيح ما يدل عليه حديث أنس) وقال ابن عابدين في رد المحتار (ج 2: ص 249) تنبيه: قالوا: (أي الحنفية) يندب البداءة بيمين الحالق لا المحلوق إلا أن ما في الصحيحين يفيد العكس وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - قال للحلاق: خذ، وأشار على الجانب الأيمن ثم الأيسر ثم جعل يعطيه الناس، قال (أي ابن الهمام) في الفتح: وهو الصواب وإن كان خلاف المذهب – انتهى. وأقول (قائله ابن عابدين) : يوافقه ما في الملتقط عن الإمام، حلقت رأسي فخطأني الحلاق في ثلاثة أشياء لما أن جلست قال: استقبل القبلة، وناولته الجانب الأيسر، فقال: ابدأ بالأيمن، فلما أردت أن أذهب قال: ادفن شعرك، فرجعت فدفنته – انتهى (نهر) أي فهذا يفيد رجوع الإمام إلى قول الحجام، ولذا قال في اللباب: هو المختار، قال شارحه: كما في منسك ابن العجمي، والبحر، وقال في النخبة: وهو الصحيح، وقد روى رجوع الإمام عما نقل عنه الأصحاب فصح تصحيح قوله الأخير، واندفع ما هو المشهور عنه عند المشائخ من البداءة من يمين الحالق وأيسر المحلوق، وقال السروجي: وعند الشافعي يبدأ بيمين المحلوق، وذكر كذلك بعض أصحابنا ولم يعزه إلى أحد، والسنة أولى، وقد صح بداءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشق رأسه الكريم من الجانب الأيمن، ولا لأحد بعده كلام، وقد كان يحب التيامن في شأنه كله، وقد أخذ الإمام بقول الحجام ولم ينكره، ولو كان مذهبه خلافه لما وافقه – انتهى ملخصًا. ومثله في ((المعراج)) و ((غاية البيان)) انتهى كلام ابن عابدين. قلت: قصة أبي حنيفة مع الحجام مشهورة كما قال الحافظ، وأخرجها أبو الفرج بن الجزري في ((مثير الغرام الساكن)) بإسناده إلى وكيع عنه، قال وكيع قال لي أبو حنيفة: أخطأت في خمسة أبواب من المناسك فعلمنيها حجام فذكرها، ثم قال: فقلت: له (أي الحجام) من أين لك ما أمرتني به؟ قال: رأيت عطاء بن أبي رباح يفعل هذا، وذكر هذه القصة المحب الطبري في ((القرى)) (ص 114) مفصلاً، والحافظ في ((التلخيص)) مختصرًا، ولا اضطراب فيها أصلاً، وهي تدل على أن أبا حنيفة رجع عن قوله الأول بتعليم الحجام وتدل على عظم شأنه حيث ترك قياسه ورأيه وقبل الحق عمن هو دونه، وتدل أيضًا على أنه لم يبلغه حديث الابتداء في حلق الرأس بيمين المحلوق وإلا لما خالفه، وهو نص في مورد النزاع قاطع

ثم دعا أبا طلحة الأنصاري فأعطاه إياه، ثم ناول الشق الأيسر. فقال " احلق ". فحلقه فأعطاه أبا طلحة، فقال: " اقسمه بين الناس ". ـــــــــــــــــــــــــــــ للخلاف اتفقت روايته عند مخرجيه على التصريح بالبداءة بشق الرأس الأيمن، وفيه بيان أن التيامن المحجوب المطلوب في حلق الرأس وهو ما بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - بفعله وعمله لا ما فهمه أبو حنيفة أو لا، ولذلك اضطر ابن الهمام والسروجي والإتقاني وابن نجيم والعيني وغيرهم من الحنفية إلى تصحيح قول أبي حنيفة الأخير وتصويبه واختياره (ثم دعا أبا طلحة الأنصاري) زوج أم سليم والدة أنس راوي هذا الحديث واسم أبي طلحة زيد بن سهل الجاري، تقدم ترجمته (ج 1: ص 406) قال القاري: وكان له عليه الصلاة والسلام بأبي طلحة وأهله مزيد خصوصية ومحبة ليست لغيرهم من الأنصار وكثير من المهاجرين الأبرار رضي الله عنهم (فأعطاه) أي أبا طلحة (إياه) أي الشعر المحلوق (ثم ناول) وفي مسلم ((ثم ناوله)) أي الحالق (الشق الأيسر) من الرأس (فأعطاه أبا طلحة فقال: اقسمه بين الناس) الحديث ظاهر بل نص في أن شعر شقيه - صلى الله عليه وسلم - أعطاه أبا طلحة وفي أنه أمر بقسم شعر الشق الأيسر بين الناس ويدل عليه أيضًا رواية أبي عوانة في صحيحه بلفظ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر الحلاق فحلق رأسه ودفع إلى أبي طلحة الشق الأيمن ثم حلق الشق الآخر فأمره أن يقسمه بين الناس، وفي رواية لمسلم أنه قسم الأيمن بين من يليه وأعطى الأيسر أم سليم، وفي لفظ له ((فوزعه (أي الأيمن) الشعرة والشعرتين بين الناس ودفع الأيسر إلى أبي طلحة)) . قال الحافظ: ولا تناقض في هذه الروايات بل طريق الجمع بينها أنه ناول أبا طلحة كلا من الشقين، فأما الأيمن فوزعه أبو طلحة بأمره، وأما الأيسر فأعطاه لأم سليم زوجته بأمره - صلى الله عليه وسلم - أيضًا، زاد أحمد في رواية له لتجعلها في طيبها، وعلى هذا فالضمير في قوله يقسمه في رواية أبي عوانة يعود على الشق الأيمن وكذا قوله في رواية الباب فقال: اقسمه بين الناس – انتهى. وقال المحب الطبري: والصحيح أن الذي وزعه على الناس - صلى الله عليه وسلم - الشق الأيمن على ما تضمنه حديث توزيع الشعرة والشعرتين بين الناس، وأعطى الأيسر أبا طلحة أو أم سليم على ما تضمنه أيضًا ولا تضاد بين الروايتين، لأن أم سليم امرأة أبي طلحة فأعطاه - صلى الله عليه وسلم - لهما، فنسبت العطية تارة إليه وتارة إليها – انتهى. قال النووي: في الحديث فوائد منها بيان السنة في أعمال الحج يوم النحر بعد الدفع من مزدلفة ووصوله منى وهي أربعة: رمي جمرة العقبة أولاً، ثم نحر الهدي أو ذبحه، ثم الحلق أو التقصير، ثم دخوله مكة وطواف الإفاضة، وكلها ذكرت في هذا الحديث إلا طواف الإفاضة. والسنة في هذه الأعمال الأربعة أن تكون مرتبة كما ذكرنا لهذا الحديث الصحيح، فإن خالف ترتيبها فقدم مؤخرًا أو أخر مقدمًا جاز لقوله - صلى الله عليه وسلم - ((افعل ولا حرج)) وسيأتي الكلام على هذا في الباب الآتي، ومنها طهارة شعر الآدمي وهو الصحيح من مذهبنا، وبه قال جماهير العلماء، ومنها التبرك بشعره - صلى الله عليه وسلم - وجواز اقتنائه للتبرك، ومنها مواساة الإمام والكبير بين أصحابه وأتباعه فيما يفرقه عليهم

متفق عليه. 2674 - (6) وعن عائشة، قالت: كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يحرم، ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت، ـــــــــــــــــــــــــــــ من عطاء وهدية قال الحافظ: وفيه أن المواساة لا تستلزم المساواة، وفيه تنفيل من يتولى التفرقة على غيره، قال العيني: وفيه أن حلق الرأس سنة أو مستحبة إقتداء بفعله - صلى الله عليه وسلم -. قال الزرقاني: وإنما قسم شعره في أصحابه ليكون بركة باقية بينهم وتذكرة لهم، وكأنه أشار بذلك إلى اقتراب الأجل، وخص أبا طلحة بالقسمة التفاتًا إلى هذا المعنى، لأنه هو الذي حفر قبره ولحد له وبنى فيه اللبن – انتهى. (متفق عليه) أي على أصل الحديث، فإن البخاري رواه في ((باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان)) من كتاب الطهارة مختصرًا جدًا بلفظ ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما حلق رأسه كان أبو طلحة أول من أخذ من شعره)) قال العيني: لم يخرجه أحد من الستة غيره بهذه العبارة. وقال المزي في الأطراف (ج 1: ص 373) بعد ذكره: هو مختصر من حديث قد تقدم (ج 1: ص 371) يريد بذلك حديث الباب، وقد أخرجه مسلم في الحج مطولاً بألفاظ مختلفة متقاربة المعنى والسياق المذكور في الكتاب مأخوذ من روايتين لمسلم فقوله ((إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى منى فأتى الجمرة فرماها ثم أتى منزله بمنى)) وقع عنده في رواية يحيى بن يحيى عن حفص بن غياث عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أنس، وقوله ((ونحر نسكه وناول الحالق شقه الأيمن)) إلخ. وقع في رواية ابن أبي عمر عن ابن عيينة عن هشام عن ابن سيرين، وقوله ((ثم دعا بالحلاق)) ليس عند مسلم بل هو عند أبي داود فقط. فالمصنف أخذ صدر الرواية الأولى وترك عجزها، وترك أول الرواية الثانية وأدخل في الوسط فقرة من رواية أبي داود ولا يخفى ما في هذا الصنيع من الخلل. والحديث أخرجه أحمد والترمذي والنسائي في الكبرى وأبو داود وابن الجارود (ص 173) والبيهقي (ج 5: ص 103، 134) قال المزي في الأطراف (ج 1: ص 371) : حديث عبيد بن هشام الحلبي وعمرو بن عثمان الحمصي عن ابن عيينة (عند أبي داود) في رواية أبي الحسن بن العبد وأبي بكر بن داسة ولم يذكره أبو القاسم. 2674 – قوله (كنت أطيب رسول الله قبل أن يحرم) فيه دليل على جواز استعمال الطيب بل استحباب التطيب قبل الإحرام بما شاء من طيب سواء كان يبقى عينه ولونه أو أثره بعد الإحرام أو لا يبقى، وبه قال الشافعي وأحمد وأبو حنيفة والثوري وهو مذهب أكثر الصحابة وجماعة من التابعين، وقال مالك: يكره التطيب عند إرادة الإحرام إذا يبقى أثر الطيب وريحه أو عينه بعد التلبس بالإحرام، وإليه ذهب محمد بن الحسن واختاره الطحاوي (ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت) أي طواف الإفاضة يعني بعد التحلل الأول وهو بالحلق، وبه يظهر المناسبة بين الباب وبين هذا

بطيب فيه مسك. متفق عليه. 2675 - (7) وعن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفاض يوم النحر، ثم رجع فصلى الظهر بمنى. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث (بطيب) متعلق بأطيب (فيه) أي في أجزائه (مسك) في الحديث دليل على حل التطيب بعد رمي الجمرة والحلق قبل طواف الإفاضة، وإليه ذهب الشافعي وأحمد وأبو حنيفة، وكرهه مالك، وقد تقدم الكلام على هذا الحديث مستوفى في باب الإحرام والتلبية، وهو أول أحاديث الباب المذكور فعليك أن تراجعه (متفق عليه) واللفظ لمسلم، رواه عن أحمد بن منيع ويعقوب الدورقي كلاهما عن هشيم عن منصور عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة، ((قالت: كنت أطيب النبي - صلى الله عليه وسلم -)) إلخ. وليس عند البخاري لفظ المسك. 2675 – قوله (أفاض يوم النحر) أي نزل من منى إلى مكة بعد رميه ونحره وحلقه فطاف طواف الفرض أي طواف الزيارة والإفاضة وقت الضحى (ثم رجع) أي في ذلك اليوم (فصلى الظهر بمنى) فيه تصريح بأنه - صلى الله عليه وسلم - طاف طواف الإفاضة نهارًا وصلى صلاة الظهر بمنى بعد ما رجع من مكة، ويوافقه في وقت الطواف حديث جابر الطويل في حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويخالفه في الموضع الذي صلى فيه ظهر يوم النحر حيث قال: ((ثم ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر)) ففيه التصريح بأنه أفاض نهارًا وهو نهار يوم النحر، وأنه صلى ظهر يوم النحر بمكة، وكذلك قالت عائشة أنه طاف يوم النحر وصلى الظهر بمكة، فاتفق الحديثان في وقت طواف الإفاضة واختلفا في موضع صلاته لظهر ذلك اليوم. ووجه الجمع بينهما أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر بمكة كما قال جابر وعائشة، ثم رجع إلى منى فصلى بأصحابه الظهر مرة أخرى كما صلى بهم صلاة الخوف مرتين مرة بطائفة ومرة بطائفة أخرى في بطن نخل، فرأى جابر وعائشة صلاته في مكة فأخبر بما رأيا، وقد صدقا، ورأى ابن عمر صلاته بهم في منى فأخبر بما رأى وقد صدق، وبهذا الجمع جزم النووي وغير واحد، وقد جمع بعضهم بينهما بوجوه أخرى وصار بعضهم إلى الترجيح كما تقدم مفصلاً في شرح حديث جابر في قصة حجة الوداع. هذا، وقد ورد في بعض الرويات ما يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - طاف طواف الإفاضة ليلاً. قال البخاري في صحيحه: وقال الزبير عن عائشة وابن عباس: أخر النبي - صلى الله عليه وسلم - الزيارة إلى الليل، وقد تقرر أن كل ما علقه البخاري بصيغة الجزم فهو صحيح إلى من علق عنه مع أنه وصله أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم من طريق سفيان الثوري عن أبي الزبير به، وزياراته ليلاً في هذا الحديث المروي عن عائشة وابن عباس مخالفة لما تقدم في حديثي جابر وابن عمر وللجمع بينهما أوجه كما سبق منها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف طواف الزيارة في النهار يوم النحر كما أخبر به جابر وعائشة وابن عمر ثم بعد ذلك صار يأتي البيت ليلاً ثم يرجع إلى منى فيبيت بها، وإتيانه البيت في ليالي منى هو مراد عائشة وابن عباس. وقال البخاري في صحيحه بعد أن ذكر هذا الحديث الذي علقه بصيغة الجزم ما نصه: ويذكر عن أبي حسان

(الفصل الثاني)

رواه مسلم. (الفصل الثاني) 2676، 2677 - (8، 9) عن علي، وعائشة، قالا: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تحلق المرأة رأسها. ـــــــــــــــــــــــــــــ عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يزور البيت أيام منى – انتهى. قال الحافظ في الفتح: فكأن البخاري عقب هذا بطريق أبي حسان ليجمع بين الأحاديث بذلك، فيحمل حديث جابر وابن عمر على اليوم الأول، وحديث ابن عباس هذا على بقية الأيام، وهذا الجمع مال إليه النووي، ومنها أن الطواف الذي طافه النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلاً طواف الوداع فنشأ الغلط من بعض الرواة في تسميته بالزيارة، ومعلوم أن طواف الوداع كان ليلاً، فقد روى البخاري في صحيحه بسنده عن أنس بن مالك ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم رقد رقدة بالمحصب ثم ركب إلى البيت فطاف به)) وسيأتي في باب خطبة يوم النحر وهو واضح في أنه طاف طواف الوداع ليلاً، وإلى هذا الجمع مال ابن القيم، ولو فرضنا أن أوجه الجمع غير مقنعة فأحاديث جابر وعائشة وابن عمر ((أنه طاف طواف الزيارة نهارًا)) أصح مما عارضها فيجيب تقديمها عليه، وفي الحديث دلالة على أن رميه وحلقه وقع قبل الظهر بالاتفاق وإن اختلف في كونه بمكة أو بمنى، إذ الترتيب بين الحلق والإفاضة معتبر فظهر المناسبة بين الباب وبين حديث ابن عمر فتدبر (رواه مسلم) وأخرجه أيضًا أحمد (ج 2: ص 34) وأبو داود وابن الجارود (ص 174) والبيهقي (ج 5: ص 144) وقد عزا بعضهم هذا الحديث إلى الشيخين وهو خطأ، فإن الحديث من أفراد مسلم لم يخرجه البخاري، وقد تقدم التنبيه على ذلك في شرح حديث جابر الطويل في حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فتذكر. 2676، 2677 – قوله (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تحلق المرأة رأسها) أي في التحلل من الإحرام أو مطلقًا إلا لضرورة فإن حلقها مثلة كحلق اللحية للرجل، قاله القاري. قلت: الظاهر أن المرأة ممنوعة من حلق الرأس مطلقًا إلا لضرورة ولو كان الحلق يجوز لها لأمرت به في الحج لأن الحلق نسك كما تقدم، قال الحافظ: وهذا أي التخيير بين الحلق والتقصير وكون الحلق أفضل من التقصير إنما هو في حق الرجال، وأما النساء فالمشروع في حقهن التقصير بالإجماع، وفيه حديث لابن عباس عند أبي داود يعني الذي يأتي بعد هذا، ثم ذكر حديث علي، ثم قال: وقال جمهور الشافعية: لو حلقت أجزأها ويكره. وقال القاضيان أبو الطيب وحسين: لا يجوز – انتهى. وقال ابن قدامة: المشروع للمرأة التقصير دون الحلق لا خلاف في ذلك، قال ابن المنذر: أجمع على هذا أهل العلم، وذلك لأن الحلق في حقهن مثلة، ثم ذكر حديث ابن عباس وحديث علي، وقال في اللباب وشرحه للقاري: التقصير واجب لهن لكراهة الحلق كراهة تحريم في حقهن إلا لضرورة – انتهى. وقال الباجي: وأما المرأة فقد قال ابن حبيب: ليس على من حج من النساء حلاق وقد نهى عنه النبي

............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى الله عليه وسلم - المرأة في حج أو عمرة، وقال: هي مثلة. وهو الذي رواه ابن حبيب وإن لم نعرف له إسنادًا صحيحًا إلا أنه من قول العلماء، وهو الصحيح، لأنه مثلة لأنه حلاق غير معتاد كحلاق الرجل لحيته وشاربه – انتهى. قال الخرقي: والمرأة تقصر من شعرها مقدار الأنملة، قال ابن قدامة: الأنملة رأس الإصبع من المفصل الأعلى. قال: وكان أحمد يقول: تقصر من كل قرن قدر الأنملة وهو قول ابن عمر والشافعي وإسحاق وأبي ثور، وقال أبو داود: سمعت أحمد سئل عن المرأة تقصر من كل رأسها؟ قال: نعم تجمع شعرها إلى مقدم رأسها ثم تأخذ من أطراف شعرها قدر أنملة – انتهى. وقال مالك: في المرأة إذا قصرت تأخذ قدر الأنملة أو فوقه بقليل أو دونه بقليل وليست كالرجل في أنه يجزه جزًا كذا في طرح التثريب للولي العراقي. وقال الشنقيطي: اعلم أن محل كون الحلق أفضل من التقصير إنما هو بالنسبة إلى الرجال خاصة، وأما النساء فليس عليهن حق وإنما عليهن التقصير، والصواب عندنا وجوب تقصير المرأة جميع رأسها ويكفيها قدر الأنملة لأنه يصدق عليه أنه تقصير من غير منافاة لظواهر النصوص، ولأن شعر المرأة من جمالها وحلقه مثلة، وتقصيره جدًا إلى قرب أصول الشعر نقص في جمالها، وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن النساء لا حلق عليهن وإنما عليهن التقصير، ثم ذكر حديث ابن عباس الآتي برواية أبي داود والبزار والدارقطني، ثم قال ويعتضد عدم حلق النساء رؤوسهن بخمسة أمور غير ما ذكرنا، الأول: الإجماع على عدم حلقهن في الحج ولو كان الحلق يجوز لهن لشرع في الحج، الثاني: أحاديث جاءت بنهي النساء عن الحلق، الثالث: أنه ليس من عملنا ومن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد، الرابع: أنه تشبه بالرجال، وهو حرام، الخامس: أنه مثلة، والمثلة لا تجوز، أما الإجماع فقد قال النووي في شرح النهذب: قال ابن المنذر: أجمعوا على أن لا حلق على النساء وإنما عليهن التقصير، ويكره لهن الحلق لأنه بدعة في حقهن، وفيه مثلة، واختلفوا في قدر ما تقصره، فقال ابن عمر والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور: تقصر من كل قرن مثل الأنملة. وقال قتادة: تقصر الثلث أو الربع، وقالت حفصة بنت سيرين: إن كانت عجوزًا من القواعد أخذت نحو الربع، وإن كانت شابة فلتقلل، وقال مالك: تأخذ من جميع قرونها أقل جزء ولا يجوز من بعض القرون – انتهى. وتراه نقل عن ابن المنذر الإجماع على أن النساء لا حلق عليهن في الحج ولو كان الحلق يجوز لهن لأمرن به في الحج، لأن الحلق نسك على التحقيق كما تقدم إيضاحه، وأما الأحاديث الواردة في ذلك فقد قال الزيلعي في نصب الراية (ج 3: ص 95) : في نهي النساء عن الحلق أحاديث، منها ما رواه الترمذي في الحج والنسائي في الزينة، فذكره وهو الذي نحن في شرحه، ثم قال: حديث آخر أخرجه البزار في مسنده فذكره من رواية عائشة مرفوعًا بلفظ حديث علي مع الكلام عليه ثم قال: حديث آخر رواه البزار في مسنده أيضًا فذكره من رواية عثمان باللفظ المتقدم. قال الشنقيطي: وهذه الروايات التي ذكرنا في نهي المرأة عن حلق رأسها عن علي وعثمان وعائشة يعضد بعضها بعضًا كما تعتضد بما تقدم (يعني حديث ابن عباس في أن على النساء التقصير لا الحلق) وبما

............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ سيأتي: وأما كون حلق المرأة رأسها ليس من عمل نساء الصحابة فمن بعدهم فهو أمر معروف لا يكاد يخالف فيه إلا مكابر، فالقائل بجواز الحلق للمرأة قائل بما ليس من عمل المسلمين المعروف. وفي الحديث الصحيح: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد، فالحديث يشمل عمومه الحلق بالنسبة للمحرمة بلا شك. وإذا لم يبح لها حلقه في حال النسك فغيره من الأحوال أولى، وأما كون حلق المرأة رأسها تشبهًا بالرجال فهو واضح ولا شك أن الحالقة رأسها متشبهة بالرجال لأن الحلق من صفاتهم الخاصة بهم دون الإناث عادة، وقد ورد الحديث الصحيح في لعن المتشبهات من النساء بالرجال، وأما كون حلق رأس المرأة مثلة فواضح، لأن شعر رأسها من أحسن أنواع جمالها، وحلقه تقبيح لها وتشويه لخلقتها كما يدركه الحس السليم وعامة الذين يذكرون محاسن النساء في أشعارهم وكلامهم مطبقون على أن شعر المرأة الأسود من أحسن زينتها لا نزاع في ذلك بينهم في جميع طبقاتهم، وهو في أشعارهم مستفيض استفاضة يعلمها كل من له أدنى إلمام، ثم ذكر أمثلة لذلك من شعراء العرب كامرئ القيس والأعشى ميمون بن قيس وعمر بن أبي ربيعة وغيرهم، ثم قال: هذا كله يدل على أن حلق المرأة شعر رأسها نقص في جمالها وتشويه لها فهو مثلة، وبه تعلم أن العرف الذي صار جاريًا في كثير من البلاد بقطع المرأة شعر رأسها إلى قرب أصوله سنة إفرنجية مخالفة لما كان عليه نساء المسلمين ونساء العرب قبل الإسلام فهو من جملة الانحرافات التي عمت البلوى بها في الدين والخلق والسمت وغير ذلك. فإن قيل: جاء من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على حلق المرأة رأسها وتقصيرها إياه، فما دل على الحلق فهو ما رواه ابن حبان في صحيحه من حديث وهب بن جرير، ثنا أبي سمعت أبا فزارة يحدث عن يزيد بن الأصم عن ميمونة ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجها حلالاً وبنى بها وماتت بسرف فدفناها في الظلة التي بنى بها فيها فنزلنا أنا وابن عباس، فلما وضعناها في اللحد مال رأسها فأخذت ردائي فوضعته تحت رأسها فأجتذبه ابن عباس فألقاه، وكانت قد حلقت رأسها في الحج، فكان رأسها محجمًا)) فهذا الحديث يدل على أن ميمونة حلقت رأسها ولو كان حرامًا ما فعلته، وأما التقصير فما رواه مسلم في صحيحه من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: دخلت على عائشة أنا وأخوها من الرضاع فسألها عن غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجنابة، فدعت بإناء قدر صاع، فاغتسلت وبيننا وبينها ستر، وأفرغت على رأسها ثلاثًا، قال: وكان أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأخذن من رؤوسهن حتى تكون كالوفرة. فالجواب عن حديث ميمونة على تقدير صحته أن فيه أن رأسها كان محجمًا، وهو يدل على أن الحلق المذكور لضرورة المرض لتتمكن آلة الحجم من الرأس، والضرورة يباح لها ما لا يباح بدونها، وقد قال تعالى: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه} (6: 119) انتهى. وقيل إن ميمونة إنما حلقت رأسها في الحج عند التحلل من الإحرام ولعل ذلك أن نهي النساء عن الحلق يكون عندها نهي إرشاد لا نهي حكم فحلقت رأسها اختيار منها لترك الزينة. قال الشنقيطي: وأما الجواب عن حديث مسلم فعلى القول بأن الوفرة أطول من اللمة التي هي ما ألم بالمنكبين من الشعر

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ فلا إشكال، لأن ما نزل عن المنكبين طويل طولاً يحصل به المقصود. قال النووي في شرح مسلم: والوفرة أشبع وأكثر من اللمة، واللمة ما يلم بالمنكبين من الشعر، قاله الأصعمي – انتهى كلام النووي. وأما على القول الصحيح المعروف عند أهل اللغة من أنها لا تجاوز الأذنين. قال في القاموس: والوفرة الشعر المجتمع على الرأس، وأما ما سال على الأذنين منه، أو ما جاوز شحمة الأذن، ثم الجمة ثم اللمة، وقال الجوهري في صحاحه: والوفرة الشعر إلى شحمة الأذن ثم الجملة ثم اللمة، وهي التي ألمت بالمنكبين – انتهى. فالجواب أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قصرن رؤسهن بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - لأنهن كن يتجملن له في حياته، ومن أجمل زينتهن شعرهن، أما بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - فلهن حكم خاص بهن لا تشاركهن فيه امرأة واحدة من نساء جميع أهل الأرض، وهو انقطاع أملهن انقطاعًا كليًا من التزويج ويأسهن منه اليأس الذي لا يمكن أن يخالطه طمع فهن كالمعتدات المحبوسات بسببه إلى الموت. قال تعالى {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدًا إن ذلكم كان عند الله عظيمًا} واليأس من الرجال بالكلية قد يكون سببًا للترخيص في الإخلال بأشياء من الزينة لا تحل لغير ذلك السبب. وقال النووي في شرح مسلم في الكلام على هذا الحديث: قال عياض: المعروف أن نساء العرب إنما كن يتخذن القرون والذوائب، ولعل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلن هذا بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - لتركهن التزين واستغنائهن عن تطويل الشعر وتخفيفًا لمؤنة رؤسهن، وهذا الذي ذكره القاضي عياض من كونهن فعلنه بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - لا في حياته، كذا قاله أيضًا غيره (كالمازري والقرطبي والأبي) وهو متعين، ولا يظن بهن فعله في حياته - صلى الله عليه وسلم -، وفيه دليل على جواز تخفيف الشعور للنساء – انتهى كلام النووي. قال الشنقيطي: وقوله ((فيه دليل على جواز تخفيف الشعور للنساء)) فيه عندي نظر لما قدمنا من أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته لا يقاس عليهن غيرهن، لأن قطع طمعهن في الرجال بالكلية خاصة بهن دون غيرهن، وقد يباح له من الإخلال ببعض الزينة ما لا يباح لغيره حتى إن العجوز من غيرهن لتتزين للخطّاب، وربما تزوجت لأن كل ساقطة لها لاقطة، وقد يحب بعضهم العجوز كما قال القائل: أبي القلب إلا أم عمرو وحبها _ ... عجوزًا ومن يحبب عجوزًا يفند كثوب اليماني قد تقادم عهده _ ... ورقعته ما شئت في العين واليد وقال الآخر: ولو أصبحت ليلى تدب على العصا _ ... لكان هوى ليلى جديدًا أوائله انتهى كلام الشنقيطي ببعض الاختصار. وقيل أيضًا في الجواب عن هذا الحديث أن المراد أن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - كن يقصرن شعورهن المسترسلة ويعقدنها على القفا أو على الرأس من غير أن يتخذنها قرونًا وضفائر فتكون كالوفرة في عدم مجاوزتها الأذنين كما يفعله كثير من العجائز والأيامى في عصرنا بل عامة النساء في حالة الاغتسال بعد غسل الرأس،

رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن الشعور الطويلة لو استرسلت على حالها فإيصال الماء إلى البدن المستور تحت الشعور المسترسلة لا يخلو عن كلفة ومشقة (رواه الترمذي) حديث علي رواه الترمذي في باب كراهية الحلق للنساء من كتاب الحج، والنسائي في باب النهي عن حلق المرأة رأسها من كتاب الزينة، قالا حدثنا محمد بن موسى الحرشي عن أبي داود الطيالسي عن همام عن قتادة عن خلاس بن عمرو عن علي، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تحلق المرأة رأسها. ثم رواه الترمذي عن محمد بن بشار عن أبي داود الطيالسي عن همام عن خلاس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه مرسلاً أي لم يذكر فيه عن علي. وقال: حديث علي فيه اضطراب، وروي هذا الحديث عن حماد بن سلمة عن قتادة عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تحلق المرأة رأسها – انتهى. وحكى الزيعلي (ج 3: ص 95) كلام الترمذي هذا بلفظ: قال الترمذي: هذا حديث فيه اضطراب، وقد روي عن حماد بن سلمة عن قتادة عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً – انتهى. وإنما قال: مرسلاً أي منقطعًا لما حكى الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمة قتادة (ج 8: ص 355) عن الحاكم أنه قال في ((علوم الحديث)) لم يسمع قتادة من صحابي غير أنس. قال: وقد ذكر ابن أبي حاتم عن أحمد بن حنبل مثل ذلك، وقال أبو حاتم: قتادة عن أبي الأحوص مرسل، وأرسل عن أبي موسى وعائشة وأبي هريرة ومعقل بن يسار – انتهى. ثم قال الزيعلي: وقال عبد الحق في أحكامه: هذا حديث يرويه همام بن يحيى عن قتادة عن خلاس بن عمرو عن علي، وخالفه هشام الدستوائي وحماد بن سلمة فروياه عن قتادة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً انتهى. قال الحافظ في الدراية: رواته موثوقون إلا أنه اختلف في وصله – انتهى. وحاصل ما وقع في هذا الحديث من الاضطراب أنه اختلف أصحاب قتادة عليه فروى همام عنه عن خلاس عن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أي جعله من مسند علي، وخالفه حماد بن سلمة فروى عن قتادة عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعله من مسند عائشة وخالفهما هشام الدستوائي فرواه عن قتادة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً، وكذا روي عن حماد بن سلمة عن قتادة مرسلاً أيضًا، واختلف أيضًا على همام فروى محمد بن موسى عن الطيالسي عن همام عن قتادة عن خلاس عن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وروى محمد بن بشار عن الطيالسي عن همام عن خلاس نحوه مرسلاً ولم يذكر فيه عن علي. قلت: خلاس بن عمرو ثقة من رجال الستة غير أنه قال أبو داود ويحيى بن سعيد: لم يسمع خلاس من علي. وقال أحمد بن حنبل: روايته عن علي كتاب، وكذا قال يحيى بن سعيد وأبو حاتم والبخاري في تاريخه ولكن قال الجوزجاني والعقيلي: كان خلاس على شرطة علي، وقد سمع من عمار وعائشة وابن عباس كما في تهذيب التهذيب، وإذًا فسماعه عن علي ليس ببعيد، ومحمد بن موسى الحرشي عن الطيالسي عن همام سلسلة الرواة الثقات، فالرواية المسندة بذكر علي مقبولة معتبرة لا يضرها رواية من رواها مرسلة، وللحديث طريق آخر عند البزار يعتضد به. قال الزيلعي: حديث آخر أخرجه البزار في مسنده عن معلى بن عبد الرحمن الواسطي ثنا عبد الحميد بن جعفر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تحلق المرأة رأسها. قال البزار: ومعلى بن

2678 – (10) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ليس على النساء الحلق، إنما على النساء التقصير ". رواه أبو داود، والدارمي. ـــــــــــــــــــــــــــــ عبد الرحمن الواسطي روى عن عبد الحميد بأحاديث لم يتابع عليها، ولا نعلم أحدًا تابعه على هذا الحديث – انتهى. ورواه ابن عدي في الكامل وقال: أرجو أنه لا بأس به. قال عبد الحق: وضعفه أبو حاتم وقال: إنه متروك الحديث – انتهى. وقال ابن حبان في كتاب الضعفاء: يروى عن عبد الحميد بن جعفر المقلوبات، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد – انتهى. وفي الباب أيضًا عن عثمان، قال الزيلعي: رواه البزار في مسنده من طريق روح بن عطاء بن أبي ميمونة عن أبيه عن وهب بن عمير قال سمعت عثمان يقول: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تحلق المرأة رأسها. قال البزار: ووهب بن عمير لا نعلمه روى غير هذا الحديث، ولا نعلم حدث عنه إلا عطاء بن أبي ميمونة، وروح ليس بالقوي -انتهى. وقال الهيثمي بعد عزوه إلى البزار (ج 3: ص 263) : وفيه روح بن عطاء وهو ضعيف – انتهى. والحديثان وإن كانا ضعيفين لكنهما يصلحان للاستشهاد. 2678 – قوله (ليس على النساء الحلق) أي لا يجب عليهن الحلق في التحلل (إنما على النساء التقصير) أي إنما الواجب عليهن التقصير بخلاف الرجال، فإنه يجب عليهم أحدهما والحلق أفضل، قاله القاري. وفيه دليل على أن المشروع في حق النساء التقصير، وقد حكى الحافظ وغيره الإجماع على ذلك كما تقدم (رواه أبو داود) قال: حدثنا محمد بن الحسن العتكي ثنا محمد بن بكر ثنا ابن جريج قال: بلغني عن صفية بنت شيبة بن عثمان قالت أخبرتني أم عثمان بنت أبي سفيان أن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلخ. ثم قال أبو داود: حدثنا أبو يعقوب البغدادي ثقة، ثنا هشام بن يوسف عن ابن جريج عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة عن صفية بنت شيبة قالت: أخبرتني أم عثمان بنت أبي سفيان أن ابن عباس قال، إلخ (والدارمي) قال: أخبرنا علي بن عبد الله المديني ثنا هشام بن يوسف ثنا ابن جريج أخبرني عبد الحميد بن جبير عن صفية، إلخ. والحديث قد سكت عنه أبو داود والمنذري، وقال النووي في شرح المهذب: رواه أبو داود بإسناد حسن. وقال الحافظ في التلخيص: حديث ((ليس على النساء حلق وإنما يقصرن)) رواه أبو داود والدارقطني والطبراني من حديث ابن عباس وإسناده حسن، وقواه أبو حاتم في العلل والبخاري في التاريخ، وأعله ابن القطان، ورد عليه ابن المواق فأصاب – انتهى. قلت: قال الزيلعي في نصب الراية بعد ذكر هذا الحديث من رواية أبي داود: قال ابن القطان في كتابه: هذا ضعيف ومنقطع، أما الأول فانقطاعه من جهة ابن جريج قال: بلغني عن صفية فلم يعلم من حدثه به، وأما الثاني فقول أبي داود: حدثنا رجل ثقة يكنى أبا يعقوب وهذا غير كاف، وإن قيل: إنه أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم أبي إسرائيل فذاك رجل تركه الناس لسوء رأيه، وأما ضعفه فإن أم عثمان بنت أبي سفيان لا يعرف حالها – انتهى ما في

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ نصب الراية. قلت: حديث ابن عباس أقل درجاته الحسن، فقول النووي إنه حديث رواه أبو داود بإسناد حسن، وكذا قول من وافقه في تحسين إسناد الحديث وتقويته أصوب مما نقله الزيلعي عن ابن القطان وسكت عليه، فقول ابن جريج في رواية أبي داود ((بلغني عن صفية بنت شيبة)) تفسره الرواية التي بين فيها ابن جريج أن من بلغه عن صفية المذكورة هو عبد الحميد بن جبير بن شيبة وهو ثقة معروف وقد صرح في رواية الدارمي والدارقطني والبيهقي بما يدل على سماعه عن عبد الحميد بن جبير، وأما قول ابن القطان: أن أم عثمان بنت أبي سفيان لا يعرف حالها، ففيه قصور ظاهر جدًا، لأن أم عثمان المذكورة من الصحابيات المبايعات، قد روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن ابن عباس كما في الاستيعاب والإصابة وأسد الغابة، فدعوى أنها لا يعرف حالها ظاهرة السقوط، وأما قول ابن القطان: أن توثيق أبي داود لأبي يعقوب غير كاف وأن أبا يعقوب المذكور إن قيل إنه إسحاق بن إبراهيم أبي إسرائيل فذاك رجل تركه الناس لسوء رأيه، فجوابه أن أبا يعقوب المذكور هو إسحاق بن أبي إسرائيل، واسم أبي إسرائيل، إبراهيم بن كامجرا المروزي نزيل بغداد، وقد وثقه أبو داود، وأثنى عليه غير واحد من أجلاء العلماء بالرجال، وقال فيه الذهبي في الميزان (ج 1: ص 85) : حافظ شهير، قال: ووثقه يحيى بن معين والدارقطني، وقال صالح جزرة: صدوق إلا أنه كان يقف في القرآن ولا يقول غير مخلوق، بل يقول ((كلام الله)) ويسكت. وقال فيه الحافظ في تهذيب التهذيب (ج 1: ص 223) : قال ابن معين: ثقة، وقال أيضًا: من ثقات المسلمين ما كتب حديثًا قط عن أحد من الناس إلا ما خطه هو في ألواحه أو كتابه، وقال أيضًا: ثقة مأمون أثبت من القواريري وأكيس، والقواريري ثقة صدوق، وليس هو مثل إسحاق، وذكر غير هذا من ثناء ابن معين عليه وتفضيله على بعض الثقات المعروفين، ثم قال: وقال الدارقطني: ثقة، وقال البغوي: كان ثقة مأمونًا إلا أنه كان قليل العقل، وثناء أئمة الرجال عليه في الحفظ والعدالة كثير مشهور، وإنما نقموا عليه أنه كان يقول: القرآن كلام الله ويسكت عندها ولا يقول غير مخلوق، ومن هنا جعلوه واقفيًا، وتكلموا في حديثه، كما قال فيه صالح جزرة: صدوق في الحديث إلا أنه يقول: القرآن كلام الله، ويقف. وقال الساجي: تركوه لموضع الوقف وكان صدوقًا. وقال أحمد: إسحاق بن إسرائيل واقفي مشئوم إلا أنه صاحب حديث كيس. وقال السراج: سمعته يقول: هؤلاء الصبيان يقولون: كلام الله غير مخلوق، ألا قالوا: كلام الله وسكتوا، وقال عثمان بن سعيد الدارمي: سألت يحيى بن معين عنه، فقال: ثقة. قال عثمان: لم يكن أظهر الوقف حين سألت يحيى عنه، ويوم كتبنا عنه كان مستورًا. وقال عبدوس النيسابوري: كان حافظًا جدًا، ولم يكن مثله في الحفظ والورع، وكان لقي المشائخ فقيل كان يتهم بالوقف؟ قال: نعم اتهم وليس بمتهم، وقال مصعب الزبيري: ناظرته فقال: لم أقل على الشك ولكني أسكت كما سكت القوم قبلي، والحاصل أنهم متفقون على ثقته وأمانته بالنسبة إلى الحديث إلا أنهم كانوا يتهمونه بالوقف. وقد رأيت قول من نفي عنه التهمة

(9) باب

وهذا الباب خال عن الفصل الثالث. (9) باب (الفصل الأول) 2679 - (1) عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف في حجة الوداع بمنى للناس ـــــــــــــــــــــــــــــ وقول من ناظره أنه قال له لم: أقل على الشك ولكني سكت كما سكت القوم قبلي. ومعنى كلامه أنه لا يشك في أن القرآن غير مخلوق ولكنه يقتدي بمن لم يخض في ذلك، ولما حكى الذهبي في الميزان قول الساجي: إنهم تركوا الأخذ عنه لمكان الوقف، قال بعده قلت: قل من ترك الأخذ عنه - انتهى. وهو تصريح منه بأن الأكثرين على قبول فحديثه لا يقل عن درجة الحسن، وروايته عند أبي داود تعتضد بالرواية المذكورة قبلها، وكذا تعتضد بما رواه الدارقطني عن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز إملاء عن إسحاق بن أبي إسرائيل، وبما روى الدارقطني أيضًا عن أبي محمد بن صاعد عن إبراهيم بن يوسف الصيرفي عن أبي بكر بن عياش عن يعقوب بن عطاء عن صفية بنت شيبة، وبما رواه الدارمي والبيهقي من طريق عبد الله بن على المديني عن هشام بن يوسف. قال الزيلعي بعد ذكره كلام ابن القطان المتقدم ما نصه: وأخرجه الدارقطني في سننه (ص 277) والطبراني في معجمه عن أبي بكر بن عياش عن يعقوب بن عطاء عن صفية بنت شيبة به. وأخرجه الدارقطني والبزار في مسنده عن حجاج بن محمد عن ابن جريج عن عبد الحميد بن جبير عن صفية به. وقال البزار: لا نعلمه يروى عن ابن عباس إلا من هذا الوجه - انتهى. فتبين من جميع ما ذكر أن حديث ابن عباس في أن على النساء المحرمات إذا أردن قضاء التفث التقصير لا الحلق، أنه لا يقل عن درجة الحسن كما جزم النووي بأن إسناده عند أبي داود حسن، وقد رأيت اعتضاده بما ذكرنا من الروايات المتابعة له عند الدارمي والبيهقي والطبراني والدارقطني والبزار (وهذا الباب خال عن الفصل الثالث) كذا وقع في بعض النسخ، ولا يحتاج إلى الاعتذار، ولعله لدفع وهم الإسقاط. (باب) قال القاري: بالتنوين والسكون، وفي نسخة ((باب جواز التقديم والتأخير في بعض أمور الحج)) . 2679 - قوله (وقف) أي على ناقته كما في رواية صالح بن كيسان عند البخاري ومعمر عند مسلم وابن الجارود، ورواية يونس عند مسلم، ومعمر أيضا عند أحمد والنسائي بلفظ ((وقف على راحلته)) كلهم عن ابن شهاب الزهري عن عيسى بن طلحة عن عبد الله بن عمرو فرواية يحيى القطان عن مالك عن الزهري ((أنه جلس في حجة الوداع فقام رجل)) محمولة على أنه ركب ناقته وجلس عليها (بمنى للناس) أي لأجلهم ولم يعين مكان الوقوف بمنى ولا اليوم، ووقع في رواية عبد العزيز بن أبي سلمة عن الزهري عند البخاري في العلم ((عند الجمرة)) وهو أول منى، وفي رواية ابن جريج عن الزهري عند

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ الشيخين وابن الجارود ((يخطب يوم النحر)) وفي رواية محمد بن أبي حفصة عن الزهري عند مسلم وأحمد ((أتاه رجل يوم النحر وهو واقف عند الجمرة)) قال عياض: جمع بعضهم بين هذه الروايات بأنه موقف واحد على أن معنى خطب أي علم الناس، لا أنها من خطب الحج المشروعة، قال: ويحتمل أن يكون ذلك في موطنين: أحدهما على راحلته عند الجمرة ولم يقل في هذا ((خطب)) وإنما فيه ((وقف وسئل)) والثاني يوم النحر بعد صلاة الظهر، وذلك وقت الخطبة المشروعة من خطب الحج يعلم الإمام الناس ما بقي عليهم من مناسكهم. قال النووي: هذا الاحتمال الثاني هو الصواب، قال الحافظ: فإن قيل: لا منافاة بين هذا الذي صوبه وبين الذي قبله فإنه ليس في شيء من طريق الحديثين حديث عبد الله بن عباس (الآتي بعد ذلك) وحديث عبد الله بن عمرو بيان الوقت الذي خطب فيه من النهار، قلت: نعم لم يقع التصريح بذلك لكن في رواية ابن عباس (عند البخاري) إن بعض السائلين قال: رميت بعد ما أمسيت، وهذا يدل على أن هذه القصة كانت بعد الزوال لأن المساء يطلق على ما بعد الزوال وكأن السائل علم أن السنة للحاج أن يرمي الجمرة أول ما يقدم ضحى، فلما أخرها إلى بعد الزوال سأل عن ذلك، على أن حديث عبد الله بن عمرو من مخرج واحد لا يعرف له طريق إلا طريق الزهري، عن عيسى عنه، والاختلاف من أصحاب الزهري، وغايته أن بعضهم ذكر ما لم يذكر الآخر واجتمع من مرويهم ورواية ابن عباس أن ذلك كان يوم النحر بعد الزوال وهو على راحلته يخطب عند الجمرة، وإذا تقرر أن ذلك كان بعد الزوال يوم النحر تعين أنها الخطبة التي شرعت لتعليم بقية المناسك، فليس قوله ((خطب)) مجازًا عن مجرد التعليم بل حقيقة، ولا يلزم من وقوفه عند الجمرة أن يكون حينئذ رماها، ففي حديث ابن عمر عند البخاري في آخر باب الخطبة أيام منى: أنه - صلى الله عليه وسلم - وقف يوم النحر بين الجمرات فذكر خطبته فلعل ذلك وقع بعد أن أفاض ورجع إلى منى – انتهى. قلت: ولا يشكل عليه ما في حديث عبد الله بن عمرو أنه وقف بمنى للناس يسألونه، بناء على أن المتبادر منه أن وقوفه كان لتعليم الناس وسؤالهم لا للخطبة فإنه لا منافاة بين الأمرين، فكان أصل وقوفه للخطبة وكان وقت سؤال أيضًا فسأله في ذلك الوقت السائل عما فاته من حجه وعما أدرك وعما قدم وأخر، وسأله قوم عن المستقبل فعلمهم دينهم وأفتى وأجاب عن مسائلهم، وذكر ابن حزم في صفة حجة الوداع أن هذه الأسئلة عن التقديم والتأخير كانت بعد عوده إلى منى من إفاضته يوم النحر – انتهى. نعم يشكل على ما قال الحافظ من كون الخطبة يوم النحر بعد الزوال ما وقع في رواية رافع بن عمرو المزني الآتي في الفصل الثاني من باب خطبة يوم النحر بلفظ ((رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس بمنى حين ارتفع الضحى)) – الحديث. فإنها تدل على أن هذه الخطبة كانت وقت الضحى من يوم النحر (يعني قبل طواف الإفاضة) ومشى على ذلك ابن القيم في الهدي ولم أقف على دليل صريح من الأحاديث في كون هذه الخطبة بعد الظهر بمنى بعد طواف الإفاضة كما ذهب إليه القائلون بمشروعية الخطبة يوم النحر،

يسألونه، فجاءه رجل فقال: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح. فقال: " اذبح ولا حرج ". ـــــــــــــــــــــــــــــ ويمكن أن يجاب عن ذلك بالحمل على التعدد كما تقدم عن عياض أنه حكاه احتمالاً. وقال المحب الطبري بعد ذكر قول ابن حزم المتقدم، قلت: ويحتمل أن الأسئلة تكررت قبله أي قبل الزوال وبعده وفي الليل، والله أعلم (يسألونه) هو في محل النصب على الحال من الضمير الذي في وقف أو من الناس أي وقف لهم حال كونهم سائلين عنه، أو هو استئناف بيانًا لسبب الوقوف، ويؤيد الأخير رواية وقف على راحلته فطفق ناس يسألونه)) وفي رواية ((وقف في حجة الوداع فجعلوا يسألونه)) (فجاءه) عطف على قوله وقف (رجل) قال الحافظ: لم أعرف اسم هذا السائل ولا الذي بعده في قوله: فجاء آخر، والظاهر أن الصحابي لم يسم أحدًا لكثرة من سأل إذ ذاك، وقال في موضع آخر: لم أقف على اسم هذا السائل بعد البحث الشديد ولا على اسم أحد ممن سأل في هذه القصة وكانوا جماعة، لكن في حديث أسامة بن شريك عند الطحاوي وغيره ((كان الأعراب يسألونه)) فكان هذا هو السبب في عدم ضبط أسماءهم – انتهى. ويدل على كون السائلين جماعة متفرقين اختلاف أسألتهم عن التقدم والتأخير كما سيأتي بيانها (لم أشعر) بضم العين من باب نصر أي لم أفطن، يقال شعرت بالشيء شعورًا إذا فطنت له، قيل: وعلى هذا يكون مؤدى الاعتذار النسيان، قال الباجي: يحتمل أن يريد به نسيت فقدمت الحلاق – انتهى، وقيل الشعور العلم وعلى هذا المعنى لم أعلم المسألة قبل هذا، ويؤيده لفظ يونس عند مسلم ((لم أشعر أن الرمي قبل النحر فنحرت قبل أن أرمي، وقال آخر: لم أشعر أن النحر قبل الحلق فحلقت قبل أن أنحر)) فبين يونس متعلق الشعور أي العلم ولم يفصحه مالك في روايته، وإلى الاحتمالين معًا أشار البخاري في صحيحه إذ ترجم على حديث ابن عباس ((باب إذا رمى بعد ما أمسى أو حلق قبل أن يذبح ناسيًا أو جاهلاً)) قال العيني: فإن قلت: قيد في الترجمة كونه ناسيًا أو جاهلاً وليس في الحديث ذلك، قلت: جاء في حديث عبد الله بن عمرو ذلك وهو قوله: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح – الحديث. فإن عدم الشعور أعم من أن يكون يجهل أو نسيان، فكأنه أشار إلى ذلك لأن أصل الحديث واحد وإن كان المخرج متعددًا – انتهى. وبالاحتمالين معًا فسره القاري حيث قال: لم أشعر أي ما عرفت تقديم بعض المناسك وتأخيرها فيكون جاهلاً لقرب وجوب الحج أو فعلت ما ذكرت من غير شعور لكثرة الاشتغال فيكون مخطئًا (فحلقت) أي شعر رأسي (قبل أن أذبح) أي الهدي وفي رواية ((قبل أن أنحر)) والفاء سببية جعل الحلق مسببًا عن عدم الشعور كأنه يعتذر لتقصيره (اذبح) وفي رواية ((أنحر)) أي الآن (ولا حرج) أي لا ضيق عليك، ثم من قال: بعدم الفدية بمخالفة الترتيب في وظائف يوم النحر حمل نفي الحرج على نفي الإثم والفدية معًا، قال عياض: قوله ((اذبح ولا حرج)) ليس أمرًا بالإعادة وإنما هو إباحة لما فعل لأنه سأل عن أمر فرغ منه، فالمعنى افعل متى شئت، ونفي الحرج بين في رفع الفدية عن العامد والساهي وفي رفع الإثم عن الساهي، وأما العامد فالأصل أن تارك السنة عمدًا لا يأثم إلا

فجاء آخر، فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي. فقال: " ارم ولا حرج ". فما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: " افعل ولا حرج ". ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يتهاون فيأثم للتهاون لا للترك – انتهى. ومن ذهب إلى وجوب الدم حمله على نفي الإثم فقط، قال الباجي: يحتمل أن يريد لا إثم عليك لأن الحرج الإثم، ومعظم سؤال السائل إنما كان ذلك خوفًا من أن يكون قد أثم، فأعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا حرج، إذ لم يقصد المخالفة وإنما أتى ذلك عن غير علم ولا قصد مع خفة الأمر – انتهى. وقال السندي الحنفي في حاشية ابن ماجة معناه عند الجمهور أنه لا إثم ولا دم، ومن أوجب الدم حمله على دفع الإثم وهو بعيد، إذ الظاهر عموم النفي لحرج الدنيا وحرج الآخرة، وأيضًا لو كان دم لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ ترك البيان أو تأخيره عن وقت الحاجة لا يجوز في حقه - صلى الله عليه وسلم - (فجاء) رجل (آخر فقال: لم أشعر) أي لم أفطن أو لم أعلم أن الرمي قبل النحر (فنحرت) الهدي (قبل أن أرمي) أي الجمرة (فقال ارم) أي الآن (ولا حرج) وفي رواية ابن جريج عن الزهري عند البخاري: فقام إليه رجل فقال: كنت أحسب أن كذا قبل كذا، ثم قام آخر فقال: كنت أحسب أن كذا قبل كذا، حلقت قبل أن أنحر، ونحرت قبل أن أرمي، وأشباه ذلك فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: افعل ولا حرج، لهن كلهن، فما سئل يومئذ عن شيء إلا قال: افعل ولا حرج. وفي رواية محمد بن أبي حفصة عن الزهري عند مسلم كما سيأتي حلقت قبل أن أرمي، وقال آخر: أفضت إلى البيت قبل أن أرمي، وفي حديث معمر عند أحمد زيادة الحلق قبل الرمي أيضًا، فحاصل ما في حديث عبد الله بن عمر والسؤال عن أربعة أشياء، الحلق قبل الذبح، والحلق قبل الرمي، والنحر قبل الرمي، والإفاضة قبل الرمي، والأولان في حديث ابن عباس أيضًا في الصحيح وللدارقطني من حديثه أيضًا السؤال عن الحلق قبل الرمي وكذا في حديث جابر، وفي حديث أبي سعيد عند الطحاوي، وفي حديث علي عند أحمد السؤال عن الإفاضة قبل الحلق، وفي حديثه عند الطحاوي السؤال عن الرمي والإفاضة معًا قبل الحلق، وفي حديث جابر الذي علقه البخاري ووصله ابن حبان وغيره السؤال عن الإفاضة قبل الذبح، وفي حديث أسامة بن شريك الآتي في الفصل الثالث السؤال عن السعي قبل الطواف، وقد تقدم في مسألة اشتراط الطهارة للسعي في شرح حديث عائشة في باب قصة حجة الوداع أن الجمهور القائلين بعدم إجزاء السعي قبل الطواف حملوا حديث أسامة على من سعى بعد طواف القدوم قبل طواف الإفاضة فإنه يصدق عليه أنه سعى قبل الطواف أي طواف الركن، قيل: ولا إشكال في الحديث على مذهب الحنفية، فإنهم يحملونه كسائر الأحاديث الواردة في الباب على نفي الحرج بمعني نفي الإثم لعذر الجهل أو النسيان (فما سئل) بصيغة المجهول (النبي - صلى الله عليه وسلم -) زاد في رواية ((يومئذ)) (عن شيء قدم) بصيغة المجهول من التفعيل فيه وفي ((أخر)) أي وحقه التأخير (ولا أخر) أي ولا عن شيء أخر وحقه التقديم (إلا قال) - صلى الله عليه وسلم - في جوابه (افعل) الآن ما بقي وقد أجزأك فيما فعلت (ولا حرج) عليك في التقديم والتأخير.

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ وفي رواية يونس عند مسلم ((فما سمعته سئل يومئذ عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم بعض الأمور قبل بعض وأشباهها إلا قال: افعلوا ذلك ولا حرج)) قال الباجي: لا يقتضي هذا رفع الحرج في تقديم شيء ولا تأخيره غير المسألتين المنصوص عليهما، لأننا لا ندري عن أي شيء غيرهما سئل في ذلك اليوم، وجوابه إنما كان عن سؤال السائل فلا يدخل فيه غيره كما لا يدخل في قوله ((انحر ولا حرج، ارم ولا حرج) غير ذلك مما لم يسئل عنه – انتهى. وكذا قال ابن التين أن هذا الحديث لا يقتضي رفع الحرج في غير المسألتين المنصوص عليهما يعني المذكورتين في رواية مالك لأنه خرج جوابًا للسؤال، ولا يدخل فيه غيره – انتهى. وتعقبه الحافظ فقال: كأنه غفل عن قوله في بقية الحديث ((فما سئل عن شيء قدم ولا أخر)) وكأنه حمل ما أبهم فيه على ما ذكر، لكن قوله في رواية ابن جريج ((وأشباه ذلك)) يرد عليه، وقد تقدم فيما حررناه من مجموع الأحاديث عدة صور وبقيت عدة صور لم تذكرها الرواة إما اختصارًا وإما لكونها لم تقع، وبلغت بالتقسيم أربعًا وعشرين صورة، منها صورة الترتيب المتفق عليها وهي رمي جمرة العقبة ثم نحر الهدي أو ذبحه ثم الحلق أو التقصير ثم طواف الإفاضة، وهي وظائف يوم النحر بالاتفاق، وقد أجمع العلماء على مطلوبية هذا الترتيب إلا أن ابن الجهم من المالكية استثني القارن فقال: لا يجوز له الحلق قبل الطواف، وكأنه لاحظ أنه في عمل العمرة، والعمرة يتأخر فيها الحلق عن الطواف، يعني أنه رأى أن القارن عمرته وحجه قد تداخلا، فالعمرة قائمة في حقه والعمرة لا يجوز الحلق فيها قبل الطواف، ورد عليه النووي بنصوص الأحاديث والإجماع المتقدم عليه، ونازعه ابن دقيق العيد في ذلك حيث قال: وكأنه يريد بنصوص الأحاديث ما ثبت عنده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قارنًا في آخر الأمر وقد حلق قبل الطواف، وهذا إنما ثبت بأمر استدلالي لا نصي أعني كونه عليه السلام قارنًا، وابن الجهم بنى على مذهب مالك والشافعي ومن قال بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مفردًا، وأما الإجماع فبعيد الثبوت إن أراد به الإجماع النقلي القولي، وإن أراد السكوتي ففيه نظر، وقد ينازع فيه أيضًا – انتهى. قال الحافظ: واختلف العلماء في جواز تقديم بعضها على بعض فأجمعوا على الإجزاء في ذلك أي في التقديم والتأخير كما قاله ابن قدامة في المغني إلا أنهم اختلفوا في وجوب الدم في بعض المواضع، قال القرطبي: روي عن ابن عباس أن من قدم شيئًا على شيء فعليه دم. وبه قال سعيد بن جبير وقتادة والحسن والنخعي وأصحاب الرأي – انتهى. وفي نسبة ذلك إلى النخعي وأصحاب الرأي نظر فإنهم لا يقولون بذلك إلا في بعض المواضع كما سيأتي، قال: وذهب الشافعي وجمهور السلف والعلماء وفقهاء أصحاب الحديث إلى الجواز وعدم وجوب الدم لقوله للسائل: " لا حرج ". فهو ظاهر في رفع الإثم والفدية معًا، لأن إثم الضيق يشملهما – انتهى. وقال ابن دقيق العيد (ج 3: ص 48، 49) : إذا ثبت أن الوظائف في يوم النحر أربع فقد اختلفوا فيما لو تقدم بعضها على بعض، فاختار الشافعي جواز التقديم وجعل الترتيب مستحبًا، ومالك وأبو حنيفة يمنعان تقديم الحلق

............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ على الرمي لأنه يكون حينئذ حلقًا قبل وجود التحللين، وللشافعي قول مثله، وقد بنى القولان له على أن الحلق نسك أو استباحة محظور، فإن قلنا: إنه نسك جاز تقديمه على الرمي وغيره، لأنه يكون من أسباب التحلل، وإن قلنا إنه استباحة محظور لم يجز لما ذكرناه من وقوع الحلق قبل التحللين. قال: وفي هذا البناء نظر، لأنه لا يلزم من كون الشيء نسكًا أن يكون من أسباب التحلل، وهذا مالك يرى أن الحلق نسك ويرى مع ذلك أنه لا يقدم على الرمي، إذ معنى كون الشيء نسكًا أنه مطلوب مثاب عليه، ولا يلزم من ذلك أن يكون سببًا للتحلل – انتهى. وقال الأوزاعي: إن أفاض قبل الرمي اهراق دمًا. وقال عياض: اختلف عن مالك في تقديم الطواف على الرمي، روى ابن عبد الحكم عن مالك أنه يجب عليه إعادة الطواف، فإن توجه إلى بلده بلا إعادة وجب عليه دم، قال ابن بطال: هذا يخالف حديث ابن عباس، وكأنه لم يبلغه. قال الحافظ: وكذا هو في رواية ابن أبي حفصة عن الزهري في حديث عبد الله بن عمرو، وكأن مالكًا لم يحفظ ذلك عن الزهري – انتهى. وقال الأبي: أما الإفاضة فاختلف قول مالك إذا قدمها قبل الرمي فقيل: يجزئه ويهدي، وقيل: لا يجزئه ويعيدها بعد الرمي وهو كمن لم يفض، وكلك اختلف في قوله إذا قدمها على الحلق فرمى ثم أفاض ثم حلق، فقال: مرة يجزئه وقال: مرة يعيدها بعد الحلق، وقال في الموطأ في باب التقصير: أحب إلى أن يريق دمًا، وكذلك اختلف قول مالك في النحر قبل الحلق، وقال في آخر ((باب ما جاء في الحلاق)) من الموطأ: الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا أن أحدًا لا يحلق رأسه ولا يأخذ من شعره حتى ينحر هديًا إن كان معه، وقال: في ((باب العمل في النحر)) : لا يجوز لأحد أن يحلق رأسه حتى ينحر هديه، وارجع لشرح هذه الأقوال إلى المنتقى للباجي. وقال ابن قدامة: (ج 3: ص 446) : وفي يوم النحر أربعة أشياء: الرمي، ثم النحر، ثم الحلق ثم الطواف، والسنة ترتيبها هكذا، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - رتبها، كذلك وصفه جابر في حج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وروى أنس ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رمى ثم نحر ثم حلق)) رواه أبو داود. فإن أخل بترتيبها ناسيًا أو جاهلاً بالسنة فيها فلا شيء عليه في قوله كثير من أهل العلم، منهم الحسن وطاوس ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والشافعي وإسحاق وأبو ثور وداود ومحمد بن جرير الطبري. وقال أبو حنيفة: إن قدم الحلق على الرمي أو على النحر فعليه دم، فإن كان قارنًا فعليه دمان، وقال زفر: عله ثلاثة دماء، لأنه لم يجد التحلل الأول فلزمه الدم كما لو حلق قبل يوم النحر، ولنا ما روى عبد الله بن عمرو قال: قال رجل: يا رسول الله حلقت قبل أن أذبح، قال: " اذبح ولا حرج ". فقال آخر: ذبحت قبل أن أرمي. قال: " ارم ولا حرج ". متفق عليه. وفي لفظ ((قال: فجاء رجل فقال: يا رسول الله لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح – وذكر الحديث – قال: فما سمعته يسئل يومئذ عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم بعض الأمور على بعضها وأشباهها إلا قال: افعلوا ولا حرج عليكم)) رواه مسلم. وعن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قيل له يوم النحر وهو بمنى في النحر والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال: لا حرج. متفق عليه، ورواه عبد الرزاق

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ عن معمر الزهري عن عيسى بن طلحة عن عبد الله بن عمرو، وفيه: فحلقت قبل أن أرمي. وتابعه على ذلك محمد بن أبي حفصة عن الزهري عن عيسى عن عبد الله بن عمرو، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - – وأتاه رجل – فقال: يا رسول الله إني حلقت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج. قال: وأتاه آخر فقال: إني أفضت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق أن تتبع. على أنه لا يلزم من سقوط الدم بفقد الشيء في وقته سقوطه قبل وقته. فإنه لو حلق في العمرة بعد السعي لا شيء عليه، وإن كان الحل ما حصل قبله، وكذلك في مسألتنا إذا قلنا إن الحل يحصل بالحلق فقد حلق قبل التحلل ولا دم عليه، فأما إن فعله عمدًا عالمًا بمخالفة السنة في ذلك ففيه روايتان: إحداهما لا دم عليه، وهو قول عطاء وإسحاق لإطلاق حديث ابن عباس، وكذلك حديث عبد الله بن عمرو، من رواية سفيان بن عيينة، والثانية عليه دم، روى نحو ذلك عن سعيد بن جبير وجابر بن زيد وقتادة والنخعي، لأن الله تعالى قال {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله} (2: 196) ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رتب وقال: خذوا عني مناسككم. والحديث المطلق قد جاء مقيدًا فيحمل المطلق على المقيد. قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسئل عن رجل حلق قبل أن يذبح؟ فقال: إن كان جاهلاً فليس عليه، فأما التعمد فلا، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأله رجل فقال: لم أشعر، قيل لأبي عبد الله سفيان بن عيينة لا يقول: لم أشعر، فقال: نعم ولكن مالكًا والناس عن الزهري: لم أشعر. وهو في الحديث. وقال مالك: إن قدم الحلق على الرمي فعليه دم، وإن قدمه على النحر أو النحر على الرمي فلا شيء عليه، لأنه بالإجماع ممنوع من حلق شعره قبل التحلل الأول ولا يحصل إلا برمي الجمرة، فأما النحر قبل الرمي فجائز، لأن الهدي قد بلغ محله، ولنا الحديث، فإنه لم يفرق بينهما، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له في الحلق والنحر والتقديم والتأخير فقال: لا حرج، ولا نعلم خلافًا بينهم في أن مخالفة الترتيب لا تخرج هذه الأفعال عن الأجزاء ولا يمنع وقوعها موقعها، وإنما اختلفوا في وجوب الدم على ما ذكرنا، والله أعلم، فإن قدم الإفاضة على الرمي أجزاه طوافه، وبهذا قال الشافعي، وقال مالك: لا تجزئه الإفاضة فليرم ثم لينحر ثم ليفض، ولنا ما روى عطاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له رجل: أفضت قبل أن أرمي؟ قال: " ارم ولا حرج ". وعنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من قدم شيئًا قبل شيء فلا حرج ". رواهما سعيد في سننه، وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتاه آخر فقال: إني أفضت إلى البيت قبل أن أرمي؟ قال: ارم ولا حرج، فما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيء قدم أو أخر إلا قال: افعل ولا حرج. رواه أبو داود والنسائي والترمذي – انتهى. وقد ظهر بما ذكرنا من كلام القرطبي وابن دقيق العيد وابن قدامة والحافظ أنه لم يقل بظاهر أحاديث الباب وعمومها أحد من الأئمة بل خالفتها المالكية والحنفية في بعض الأمور كما سيأتي، نعم عمل بعمومها الشافعية والحنابلة كما سيأتي أيضًا، قال الدردير: يفعل في يوم النحر أربعة أمور مرتبة الرمي فالنحر فالحلق فالإفاضة، فتقديم الرمي على الحلق والإفاضة

............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ واجب وما عداه مندوب – انتهى. وحاصله أن تقديم الرمي على الحلق والإفاضة واجب يجبر بالدم وأما تقديمه على النحر أو تقديم النحر على كل واحد من الحلق والإفاضة أو تقديم الحلق على الإفاضة فمستحب، فالمراتب ستة، الوجوب في اثنين والندب في أربعة، ومذهب الحنفية على ما قال ابن عابدين هو أن الطواف لا يجب ترتيبه على شيء من الثلاثة، وإنما يجب ترتيب الثلاثة الرمي ثم الذبح ثم الحلق لكن المفرد لا ذبح عليه فيجيب عليه الترتيب بين الرمي والحلق فقط، وحاصله أنه لا يجب الدم بتقديم الطواف على الثلاثة، والمفرد ليس عليه الذبح، وإنما يجب الترتيب في الثلاثة على القارن والمتمتع، فإن قدم المفرد الحلق على الرمي فعليه دم ولو حلق القارن أو المتمتع دون المفرد قبل الذبح أو ذبح قبل الرمي فعليه دمان، دم للقران أو التمتع. ودم لهذه الجناية، سواء كان عامدًا أو جاهلاً أو ناسيًا. وقال النووي: الأعمال المشروعة يوم النحر أربعة: الرمي ثم الذبح ثم الحلق ثم الطواف، وهي على هذا الترتيب مستحبة، فلو خالف فقدم بعضها على بعض جاز وفاته الفضيلة، وقال أيضًا: السنة ترتيبها هكذا فلو خالف وقدم بعضها على بعض جاز ولا فدية عليه لهذه الأحاديث، وبهذا قال جماعة من السلف وهو مذهبنا – انتهى، وفي كشاف القناع من فروع الحنابلة: وإن قدم الحلق على الرمي أو على النحر أو طاف للزيارة قبل رميه أو نحر قبل رميه جاهلاً أو ناسيًا فلا شيء عليه، وكذا لو كان عالمًا، لكن يكره ذلك للعالم، وإن قدم طواف الإفاضة على الرمي أجزأه – انتهى. وكذا في منتهى الإرادات والروض المربع، هذا، وقد احتج لما روى الأثرم عن أحمد من تخصيص الرخصة بالناسي والجاهل دون العامد بقوله في رواية مالك: لم أشعر، كما تقدم، وبقوله في رواية يونس: فما سمعته سئل يومئذ عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم بعض الأمور على بعض أو أشباهها إلا قال: افعلوا ولا حرج. وأجاب بعض الشافعية بأن الترتيب لو كان واجبًا لما سقط بالسهو كالترتيب بين السعي والطواف فإنه لو سعى قبل أن يطوف وجب إعادة السعي، قال: وأما ما وقع في حديث أسامة بن شريك (الآتي في الفصل الثالث) فمحمول على من سعى بعد طواف القدوم ثم طاف طواف الإفاضة فإنه يصدق عليه أنه سعى قبل الطواف أي طواف الركن. قال الحافظ: ولم يقل بظاهر حديث أسامة إلا أحمد وعطاء فقالا: لو لم يطف للقدوم ولا لغيره وقدم السعي قبل طواف الإفاضة أجزأه. أخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج عنه – انتهى. وقال الخطابي في المعالم (ج 2: ص 433) : أما قوله: سعيت قبل أن أطوف. فيشبه أن يكون هذا السائل لما طاف طواف القدوم قرن به السعي، فلما طاف طواف الإفاضة لم يعد السعي، فأفتاه بأن لا حرج، لأن السعي الأول الذي قرنه بالطواف الأول قد أجزأه، فأما إذا لم يكن سعى إلى أن أفاض فالواجب عليه أن يؤخر السعي عن الطواف، لا يجزيه غير ذلك في قول عامة أهل العلم، إلا في قول عطاء وحده فإنه قال: يجزئه، وهو قول كالشاذ لا اعتبار له – انتهى.

............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ قلت: وقد ذهب إليه ابن حزم أيضًا ورد على من فرق بين تقديم السعي وسائر ما قدم وأخر، وأما تأويل الخطابي وغيره فلا يخفى ما فيه من التعسف، وقال ابن دقيق العيد (ج 3: ص 79) بعد حكاية قول الإمام أحمد المذكور: وهذا القول في سقوط الدم عن الجاهل والناسي دون العامد قوي من جهة الدليل أن الدليل دل على وجوب إتباع أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحج بقوله: " خذوا عني مناسككم ". وهذه الأحاديث المرخصة في التقديم لما وقع السؤال عنه إنما قرنت بقول السائل ((لم أشعر)) فيختص الحكم بهذه الحالة ويبقى حالة العمد على أصل وجوب إتباع الرسول في الحج، وأيضًا الحكم إذا رتب على وصف يمكن أن يكون معتبرًا لم يجز إطراحه وإلحاق غيره مما لا يساويه، ولا شك أن عدم الشعور وصف مناسب لعدم التكليف والمؤاخذة والحكم علق به، فلا يمكن إطراحه وإلحاق العمد به إذ لا يساويه، فإن تمسك بقول الراوي ((فما سئل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج)) فإنه قد يشعر بأن الترتيب مطلقًا غير مراعى في الوجوب، فجوابه أن الراوي لم يحك لفظًا عامًا عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقتضي جواز التقديم والتأخير مطلقًا، وإنما أخبر عن قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا حرج ". بالنسبة إلى كل ما سئل عنه من التقديم والتأخير حينئذ، وهذا الإخبار من الراوي إنما تعلق بما وقع السؤال عنه. وذلك مطلق بالنسبة إلى حال السؤال وكونه وقع عن العمد أو عدمه، والمطلق لا يدل على أحد الخاصين بعينه فلا يبقى حجة في حال العمد، والله أعلم – انتهى. وتعقبه الشنقيطي بأنه لا يتضح حمل الأحاديث على من قدم الحق جاهلاً أو ناسيًا وإن كان سياق حديث عبد الله بن عمرو المتفق عليه يدل على أن السائل جاهل، لأن بعض تلك الأحاديث ليس فيها ذكر النسيان ولا الجهل فيجب استصحاب عمومها حتى يدل دليل على التخصيص في النسيان والجهل. وقد تقرر أيضًا في علم الأصول أن جواب المسئول لمن سأله لا يعتبر فيه مفهوم المخالفة، لأن تخصيص المنطوق بالذكر لمطابقة الجواب للسؤال فلم يتعين كونه لإخراج المفهوم عن حكم المنطوق. وقال الشوكاني: وتعليق سؤال بعضهم بعدم الشعور لا يستلزم سؤال غيره به حتى يقال إنه يختص الحكم بحالة عدم الشعور ولا يجوز إطراحها بإلحاق العمد بها، وبهذا يعلم أن التعويل في التخصيص على وصف عدم الشعور المذكور في سؤال بعض السائلين غير مفيد للمطلوب – انتهى بقدر الضرورة، وقد عرفت مما قدمنا أن أحاديث الباب مخالفة للحنفية والمالكية في بعض الصور فاعتذروا عن ذلك بوجوه، منها: أن معنى الحرج في هذه الأحاديث الإثم وهو المنفي ها هنا، قال الأبي في الإكمال: قوله ((لا حرج)) محمول عندنا على نفي الإثم فقط – انتهى. وبذلك جزم الطحاوي وغيره من الحنفية أن المنفي هو الإثم فقط دون الفدية، وتعقبه الحافظ في الفتح فقال: العجب ممن يحمل قوله ((ولا حرج)) على نفي الإثم فقط، ثم يخص ذلك ببعض الأمور دون بعض، فإن كان الترتيب واجبًا يجب بتركه دم، فليكن في الجميع وإلا فما وجه تخصيص بعض دون بعض مع تعميم الشارع الجميع بنفي الحرج – انتهى. قلت: التعقب المذكور قوي متجه، وجوابه متعذر جدًا،

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقد اعترف بذلك بعض الحنفية حيث قال: يلزم على ما قررنا القول بوجوب الترتيب في الأعمال الأربعة من الرمي والنحر والحلق والطواف، وكلام أصحابنا صريح في نفي وجوبه مطلقًا في الطواف دون سائر الأعمال، ولم أجد إلى الآن مع البحث الشديد في الفرق بين الطواف وبين الأفعال الثلاثة وجهًا شافيًا، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا – انتهى. وقد تعرض الزرقاني للجواب عن التعقب المذكور فقال: إن مالكًا خص من العموم تقديم الحلق على الرمي فأوجب فيه الفدية لعلة أخرى وهي إلقاء التفث قبل فعل شيء من التحلل وقد أوجب الله ورسوله الفدية على المريض أو من برأسه أذى إذا حلق قبل المحل مع جواز ذلك له لضرورته فكيف بالجاهل والناسي، وخص منه أيضًا تقديم الإفاضة على الرمي لئلا يكون وسيلة إلى النساء والصيد قبل الرمي، ولأنه خلاف الواقع منه - صلى الله عليه وسلم - ولم يثبت عنده زيادة ذلك فلا يلزمه زيادة غيره، وهو أثبت الناس في ابن شهاب، ومحل قبول زيادة الثقة ما لم يكن من لم يزدها أوثق منه. وابن أبي حفصة الذي روى ذلك عن ابن شهاب وإن كان صدوقًا وروى له الشيخان لكنه يخطئ بل ضعفه النسائي، واختلف قول ابن معين في تضعيفه، وكان يحيى بن سعيد يتكلم فيه – انتهى. وحاصل هذا الجواب أن المراد في أحاديث الباب بنفي الحرج هو نفي الإثم فقط، وأما وجوب الدم في بعض الصور فإنما أوجبه مالك أو غيره لدلائل أخرى. قلت: لم يثبت بحديث مرفوع صحيح أو ضعيف وجوب الدم في شيء من التقديم والتأخير، وأما ما يذكر فيه من قول ابن عباس أو غيره فسيأتي الجواب عنه، وزيادة الثقة مقبولة إذا لم يعارض لرواية من هو أوثق منه، ولا معارضة ها هنا بين الروايات فيجب قبولها، وقال ابن دقيق العيد: من قال بوجوب الدم في العمد والنسيان عند تقديم الحلق على الرمي فإنه يحمل قوله عليه السلام: " لا حرج ". على نفي الإثم ولا يلزم من نفي الإثم نفي وجوب الدم، وادعى بعض الشارحين أن قوله عليه السلام لا حرج ظاهر في أنه لا شيء عليه، وعنى بذلك نفي الإثم والدم معًا، وفيما ادعاه من الظهور نظر وقد ينازعه خصومه فيه بالنسبة إلى الاستعمال العرفي فإنه قد استعمل ((لا حرج)) كثيرًا في نفي الإثم وإن كان من حيث الوضع اللغوي يقتضي نفي الضيق، نعم من أوجب الدم وحمل نفي الحرج على نفي الإثم يشكل عليه تأخير بيان وجوب الدم، فإن الحاجة تدعوا إلى بيان هذا الحكم فلا يؤخر عنها بيانه، ويمكن أن يقال: إن ترك ذكره في الرواية لا يلزم منه ترك ذكره في نفس الأمر – انتهى. قلت: ذكر هذا الإشكال الحافظ أيضًا فقال: تعقب بأن وجوب الفدية يحتاج إلى دليل، ولو كان واجبًا لبينه - صلى الله عليه وسلم - حينئذٍ لأنه وقت الحاجة ولا يجوز تأخيره، وأجاب العيني عن هذا التعقب فقال: لا، ثم دليل أقوى من قوله تعالى {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله} (2: 196) وبه احتج النخعي فقال: فمن حلق قبل الذبح اهراق دمًا، رواه ابن أبي شيبة عنه بسند صحيح – انتهى. وقد ورد الحافظ هذا الاحتجاج بأن المراد ببلوغ محله وصوله إلى الموضع الذي يحل ذبحه

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه وقد حصل، وإنما يتم ما أراد أن لو قال: ولا تحلقوا حتى تنحروا – انتهى. وقال ابن حزم. أما قول إبراهيم في أن من حلق قبل الذبح والنحر فعليه دم واحتجاجه بقول الله تعالى {ولا تحلقوا رؤوسكم} فغفلة منه، لأن محل الهدي هو يوم النحر بمنى ذبح أو نحر أو لم يذبح ولا نحر، إذا دخل يوم النحر والهدي بمنى أو بمكة فقد بلغ محله فحل الحلق ولم يقل تعالى حتى تنحروا أو تذبحوا، وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن كل ذلك مباح ولا حجة في قول أحد سواه عليه السلام – انتهى. وأجاب عن هذا العيني بأنه ليس المراد الكلي مجرد البلوغ إلى المحل الذي يذبح فيه، بل المقصد الكلي الذبح، ولذا لو بلغ ولم يذبح يجب عليه الفدية – انتهى. وأجاب بعض الحنفية عن الإشكال المذكور بأنه قد يترك البيان في مثل تلك الحالة اعتمادًا على القواعد العامة المعلومة من الشرع، ويحسب أن فيها غنية عن بيان المسألة في ذلك الوقت بخصوصه، قال: ونظيره ما رواه البخاري في صحيحه من طريق هشام بن عروة عن فاطمة عن أسماء بنت أبي بكر قالت أفطرنا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم غيم، ثم طلعت الشمس، قيل لهشام: فأمروا بالقضاء؟ قال: بد من قضاء. وقال معمر: سمعت هشامًا يقول: لا أدري أقضوا أم لا. قال الحافظ: جزم هشام بالقضاء محمول على أنه استند فيه إلى دليل آخر، وأما حديث أسماء فلا يحفظ فيه إثبات القضاء ولا نفيه – انتهى. قال هذا البعض: فالقضاء واجب في تلك الصورة عند جمهور الأمة ولكن لم يبينه - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الوقت مع احتياج الناس إليه، ولو بينه لنقل إلينا، وهكذا هو في حديث الباب قلت: لم يعرف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل ذلك بيان قاعدة عامة أو خاصة تدل على وجوب الدم في مثل تلك الحالة، وتغني عن البيان في ذلك الوقت أي في ابتداء الإسلام حينما كان الناس محتاجين إلى تقرير قواعد الحج فسكوته - صلى الله عليه وسلم - عن البيان حين ذاك دليل على عدم وجوب الفدية على من خالف الترتيب، وأما تنظير ذلك بما رواه البخاري من حديث أسماء فليس في محله، فإنه ليس فيه إثبات قضاء الصوم ولا نفيه، وإنما رجح الجمهور إيجاب القضاء فيه خلافًا لمجاهد والحسن وإسحاق وأحمد في رواية وابن خزيمة بأنه لو غم هلال رمضان فأصبحوا مفطرين ثم تبين أن ذلك اليوم من رمضان فالقضاء واجب بالاتفاق فكذلك هذا، وأما ما نحن فيه فقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم ذلك بقوله ((لا حرج)) وهو يدل دلالة لا لبس فيها على من قدم أو أخر لا شيء عليه من إثم ولا فدية، لأنه نكرة في سياق النفي ركبت مع لا فبقيت على الفتح والنكرة إذا كانت كذلك فهي صريح في العموم، فالأحاديث إذن نص صريح في عموم النفي لجميع أنواع الحرج من إثم وفدية. قلت: واستدل بعضهم على كون المراد بنفي الحرج في الحديث نفي الإثم فقط لا غيره بما وقع في حديث أسامة بن شريك الآتي من الاستثناء بقوله: إلا على رجل افترض عرض رجل مسلم وهو ظالم، فذلك الذي حرج وهلك قالوا فيه: دلالة ظاهرة على أن الحرج المنفي في الحديث هو الإثم والفساد فقط لا الفدية ونحوها. ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن هذا الاستدلال إنما يتم إذا كان الاستثناء في هذا الحديث متصلاً، وأما إذا كان منقطعًا فلا كما لا يخفى فافهم

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ واحتج بعضهم لذلك أيضًا بأن ابن عباس روى مثل حديث عبد الله بن عمرو كما سيأتي، وأوجب الدم، فقد روى الطحاوي بسنده عنه أنه قال: من قدم شيئًا من حجه أو أخره فليهرق لذلك دمًا، فلولا أنه فهم أن المراد بنفي الحرج نفي الإثم فقط دون الفدية لما أمر بخلافه، وفيه أنه قد روى عن ابن عباس مرفوعًا ما يعارضه فقد روى البيهقي (ج 5: ص143) عن أبي الحسن العلوي عن عبد الله بن محمد بن شعيب البزمهراني عن أحمد بن حفص بن عبد الله عن أبيه عن إبراهيم بن طهمان عن خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: سأل رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - – الحديث. وفيه ((فما علمته سئل عن شيء يومئذٍ إلا أنه قال: لا حرج ولم يأمر بشيء من الكفارة)) قال البيهقي: هذا إسناد صحيح، وروى البيهقي أيضًا (ج 5 ص 143، 144) بسنده عن ابن عباس قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من قدم من نسكه شيئًا أو أخر فلا شيء عليه ". قال الشيخ محمد عابد السندي في المواهب اللطيفة بعد ذكره: هذا مرفوع مقدم على موقوفه – انتهى. وأجاب ابن التركماني عن الرواية الأولى بأن الزيادة المذكورة وهي قوله ((ولم يأمر بشيء من الكفارة)) غريبة جدًا لم أجدها في شيء من الكتب المتداولة بين أهل العلم وشيخ البيهقي وشيخ شيخه لم أعرف حالهما بعد الكشف والتتبع إلى آخر ما قال. وأجاب بعضهم عن الرواية الثانية بأنه أي شيء يزيد فيه على حديثه المرفوع الذي سيأتي بلفظ لا حرج؟ فقوله ((لا شيء عليه)) أيضًا يحمل على ما حملنا عليه قوله ((لا حرج)) أي لا شيء عليه من الإثم وإعادة فعل فعله على غير ترتيب. قال: والظاهر أن حديث البيهقي مختصر من حديث الباب، قد اختصره بعض الرواة ورواه بالمعنى – انتهى، ومن الوجوه التي اعتذروا بها عن أحاديث الباب أن فتوى الراوي إذا كان مخالفًا لروايته يعمل بفتواه، وهذا ابن عباس الراوي لحديث الباب قد أفتى بوجوب الدم كما تقدم، وتعقب بأن الطريق بذلك إلى ابن عباس فيها ضعف، وأيضًا قد روي عنه ما يعارض فتواه صريحًا كما تقدم أيضًا، وأيضًا قد روى البيهقي بسنده عن مقاتل أنهم سألوا أنس بن مالك عن قوم حلقوا من قبل أن يذبحوا، قال: أخطأتم السنة ولا شيء عليكم. وهذا كما ترى مخالف لفتوى ابن عباس وموافق لحديثه المرفوع، وأيضًا نحن متعبدون بما بلغ إلينا من الحديث ولم نتعبد برأي الراوي أو بما فهمه كما بسطه ابن القيم في الإعلام والعلامة القنوجي في حصول المأمول، ومنها أن أحاديث الباب معارضة لدلالة آية الأذى فإن الله تعالى إذ أوجب الفدية لعذر الأذى فكيف بدون العذر. قال ابن رشد في البداية: وعمدة مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكم على من حلق قبل محله من ضرورة بالفدية فكيف من غير ضرورة – انتهى. وتعقبه ابن الهمام فقال: أما الاستدلال بدلالة قوله تعالى {فمن كان منكم مريضًا أو به أذى من رأسه} (2: 196) الآية فإن إيجاب الفدية للحلق قبل أوانه حالة العذر يوجب الجزاء مع عدم العذر بطريق أولى، فمتوقف على أن ذلك التأقيت الصادر عنه - صلى الله عليه وسلم - بالقول كان لتعيينه لا لاستنانه – انتهى. وأما ما قال مالك في باب الحلاق من موطأه: الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا أن أحدًا لا يحلق رأسه ولا يأخذ من شعره حتى ينحر هديًا إن كان معه ولا يحل من شيء حرم

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه حتى يحل بمنى يوم النحر ذلك أن الله تعالى قال {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله} فهو محمول على كراهة التنزيه والسنة والاستحباب على ما هو المشهور من مذهب مالك، ومنها ما قال ابن الهمام أن قول القائل لم أشعر ففعلت ما يفيد أنه ظهر له بعد فعله أنه ممنوع من ذلك فلذا قدم اعتذاره على سؤاله وإلا لم يسأل أو لم يعتذر، لكن قد يقال: يحتمل أن الذي ظهر له مخالفة ترتيبه لترتيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فظن أن ذلك الترتيب متعين فقدم ذلك الاعتذار وسأل عما يلزمه به فبين عليه الصلاة والسلام في الجواب عدم تعينه عليه بنفي الحرج وأن ذلك الترتيب مسنون لا واجب، والحق أنه يحتمل أن يكون كذلك، وأن يكون الذي ظهر له كان هو الواقع إلا أنه صلي الله عليه وسلم عذرهم للجهل وأمرهم أن يتعلموا مناسكهم، وإنما عذرهم بالجهل لأن الحال إذ ذاك كان في ابتداءه، وإذا احتمل كلا منهما فالاحتياط اعتبار التعيين والأخذ به واجب في مقام الاضطراب – انتهى. ومنها أن قوله ((ولا حرج)) يحتمل أن يراد به نفي الإثم والفدية معًا عن هؤلاء السائلين الذين جهلوا الحكم الشرعي بأعيانهم لكون الجهل عذرًا مقبولاً في حقهم إذ ذاك، وإن لم يكن عذر اليوم لشيوع الأحكام الشرعية وقدم العهد بها. روى الطحاوى عن أبي سعيد الخدري قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بين الجمرتين عن رجل حلق قبل أن يرمي، قال: لا حرج، وعن رجل ذبح قبل أن يرمي، قال: لا حرج، ثم قال: عباد الله! وضع الله عز وجل الضيق والحرج، وتعلموا مناسككم فإنها من دينكم. قال العيني: فدل ذلك على أن الحرج الذي رفعه الله عنهم إنما كان لجهلهم بأمر المناسك لا لغير ذلك، وذلك لأن السائلين كانوا أناسًا أعرابًا لا علم لهم بالمناسك فأجابهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: لا حرج يعني فيما فعلتم بالجهل لا أنه أباح لهم ذلك فيما بعد – انتهى. وقال الطحاوي بعد رواية الحديث أفلا ترى أنه أمرهم بتعلم مناسكهم لأنهم كانوا لا يحسنونها فدل ذلك أن الحرج والضيق الذي رفعه الله عنهم هو لجهلهم بأمر مناسكهم لا لغير ذلك، وفيه أن حاصل هذا الاعتذار أن رفع الإثم والفدية عن السائلين الأعراب كان لجهلهم ويرجع ذلك إلى أن يكون الحكم المذكور خاصًا بهم ولا يخفى ما فيه، ومنها ما تقدم في كلام الباجي وابن التين أن ذلك لا يقتضي رفع الحرج في تقديم شيء ولا تأخيره غير المسألتين المنصوص عليهما يعني المذكورتين في رواية مالك، لأنا لا ندري عن أي شيء غيرهما سئل في ذلك اليوم، وجوابه إنما كان عن سؤال السائل فلا يدخل فيه غيره – انتهى. وتعقبه الحافظ فقال: كأنه غفل عن قوله في بقية الحديث فما سئل عن شيء قدم ولا أخر. وكأنه حمل ما أبهم فيه على ما ذكر لكن قوله في رواية ابن جريج وأشباه ذلك يرد عليه وتقدم فيما حررناه من مجموع الأحاديث عدة صور – انتهى. وأجاب عنه الزرقاني بأن مالكًا أوجب الدم في تقديم الإفاضة على الرمي لأنه لم يقع في روايته حديث الباب ولا يلزم بزيادة غيره، لأنه أثبت الناس في ابن شهاب، وأوجب الفدية في تقديم الحلق على الرمي لوقوعه قبل شيء من التحلل – انتهى. وفيه أن الإمام مالكًا معذور لكونه لم يبلغه ما

متفق عليه. وفي رواية لمسلم: أتاه رجل فقال: حلقت قبل أن أرمي. قال: " ارم ولا حرج ". وأتاه آخر، فقال: أفضت إلى البيت قبل أن أرمي. قال: " ارم ولا حرج ". 2680 – (2) وعن ابن عباس، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأل يوم النحر بمنى، فيقول: " لا حرج ". فسأله رجل فقال: رميت بعد ما أمسيت. فقال: " لا حرج ". ـــــــــــــــــــــــــــــ وقع عند غيره من أصحاب الزهري، وأما المالكية ومن وافقهم فلا عذر لهم في ترك القول والعمل بما رواه غيره من الرواة الثقات الأثبات عن الزهري زيادة على رواية مالك، وأما ما ذكر من التعليل لإيجاب الدم في تقديم الحلق على الرمي فهو مما لا يلتفت إليه بعد وروده نصًا في الحديث لكونه في مقابلة النص، وأيضًا إذا كان الحلق نسكًا كان هو من أسباب التحلل (متفق عليه) أخرجه البخاري في العلم والحج والنذور ومسلم في الحج بألفاظ مختلفة المذكور ها هنا أحدها، وأخرجه أيضًا أحمد (ج 2: ص 160، 192، 202، 210) ومالك والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه والطحاوي وابن الجارود (ص 174، 175) والدارمي والبيهقي (ج 5: ص 141، 142) (وفي رواية لمسلم) رواها من طريق محمد بن أبي حفصة عن الزهري وكذا أخرجه من طريقه أحمد (ج 2: ص 210) وابن أبي حفصة هذا من رجال الصحيحين ومن أصحاب الزهري المشهورين، وثقه ابن معين وأبو داود وقال علي بن المديني: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: يخطئ. وقال النسائي: ضعيف، وهذا جرح مبهم على أن النسائي متعنت فلا يلتفت إلى تضعيفه (أتاه رجل فقال: حلقت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج، وأتاه آخر فقال: أفضت إلى البيت قبل أن أرمي، قال: " ارم ولا حرج ". قد تقدم أن الترتيب بين الرمي والذبح والحلق للقارن والمتمتع، وبين الرمي والحلق للمفرد واجب عند الحنفية، وأما الترتيب بين الرمي والطواف وبين الحلق والطواف فليس بواجب عندهم، ففرقوا بين الطواف وبين الأشياء الثلاثة في ذلك مع أنه وقع في جملة الروايات السؤال عن جميع هذه الصور وورد الجواب في كلها بلفظ ((لا حرج)) وقد تقدم ما قال بعضهم أنه لم يجد مع البحث الشديد للفرق بين الطواف وبين الأفعال الثلاثة وجهًا شافيًا، ورواية مسلم هذه صريحة في الرد على المالكية إذ نفى فيها الحرج في تقديم الحلق والإفاضة على الرمي، وقد سبق ما أجاب به الزرقاني عنها. 2680- قوله كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسئل يوم النحر بمنى) أي عن التقديم والتأخير (فيقول: لا حرج، فسأله رجل فقال: رميت بعد ما أمسيت. فقال: لا حرج) قد تقدم في شرح حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال الحافظ بعد ذكر رواية ابن عباس هذه: إنها تدل على أن هذه القصة كانت بعد الزوال لأن المساء يطلق على ما بعد الزوال، وكأن السائل علم أن السنة للحاج أن يرمي الجمرة أول ما يقدم ضحى، فلما أخرها إلى بعد الزوال سأل عن ذلك - انتهى. وقال الشوكاني: قوله ((رميت بعد ما أمسيت)) فيه دليل على أن من رمى بعد دخول وقت المساء وهو الزوال صح رميه ولا حرج عليه في ذلك. قلت: وقد تقدم في شرح حديث ابن عباس في الفصل الثاني من باب الدفع من

(الفصل الثاني)

رواه البخاري. (الفصل الثاني) 2681 – (3) عن علي، قال: أتاه رجل، فقال: يا رسول الله! إني أفضت قبل أن أحلق. قال: " احلق أو قصر ولا حرج ". وجاء آخر، فقال: ذبحت قبل أن أرمي. قال: " ارم ولا حرج ". ـــــــــــــــــــــــــــــ عرفة أنهم اختلفوا فيمن فاته يوم النحر ولم يرم الجمرة حتى غربت الشمس، فمن قائل يرميها ليلاً وهو أبو حنيفة ومالك ومن وافقهما. ومن قائل لا يرميها ليلاً ولكن يؤخر رميها حتى تزول الشمس من الغد وهو الإمام أحمد، ومن ذهب إلى جواز الرمي ليلاً استدل بحديث ابن عباس هذا، قال: لأن اسم المساء يصدق بجزء من الليل، بل قال بعضهم المساء من بعد الغروب. قال القاري: قوله ((أمسيت)) ضد ((أصبحت)) على ما في القاموس، فظاهره أنه بعد الغروب، وأجاب الذين ذهبوا إلى عدم جواز الرمي ليلاً بأن قوله ((يوم النحر)) في هذا الحديث يدل على أن السؤال وقع في النهار، والرمي بعد الإمساء وقع في النهار، لأن المساء يطلق لغة على ما بعد وقت الظهر إلى الليل، قالوا: فالحديث صريح في أن المراد بالإمساء فيه آخر النهار بعد الزوال لا الليل وإذن فلا حجة فيه الرمي ليلاً (رواه البخاري) في باب الذبح قبل الحلق من طريق عبد الأعلى عن خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس. وفي باب ((إذا رمى بعد ما أمسى)) من طريق يزيد بن زريع عن خالد عن عكرمة، وكذا رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والدارقطني والطحاوي والبيهقي (ج 5: ص 143) وزاد البيهقي في روايته ((ولم يأمر بشيء من الكفارة)) وقد ذكرناها قبل ذلك مع ما أجاب به عنها ابن التركماني، ولحديث ابن عباس في السؤال عن التقديم والتأخير طرق وألفاظ عند الشيخين، من شاء الوقوف عليها رجع إلى جامع الأصول (ج 4: ص 110، 111) وقد أخرجه أيضًا الدارقطني وأحمد بألفاظ مختلفة مختصرًا ومطولاً (ج 1: ص 216، 258، 269، 291، 300، 311، 316) . 2681- قوله (أتاه) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (إني أفضت) أي طفت طواف الإفاضة (قبل أن أحلق، قال: احلق أو قصر) ((أو)) للتخيير (ولا حرج) أي لا إثم ولا فدية (وجاء آخر فقال: ذبحت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج. قال القاري: أي لا إثم ولا فدية على المفرد، وأما القارن والمتمتع فليس عليهما الإثم إذا لم يكن عن عمد لكن عليهما الكفارة – انتهى؟ قلت: إنما فسر القاري بذلك لأنه لا ذبح على المفرد ولا يجب الترتيب عليه عند الحنفية إلا في الرمي والحلق فقط، وأما القارن والمتمتع فيجب عليهما الترتيب في الرمي والذبح والحلق. قال الخطابي: وتأول بعض من ذهب إلى هذا القول (أي وجوب الدم في التقديم والتأخير) من أصحاب الرأي قوله ((ارم ولا حرج)) على أنه أراد رفع الحرج في الإثم دون الفدية، قال: وقد يجوز أن يكون هذا السائل مفردًا فلا يلزمه دم، وإذا كان متطوعًا بالدم

(الفصل الثالث)

رواه الترمذي. (الفصل الثالث) 2682 - (4) عن أسامة بن شريك، قال: خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاجًا، فكان الناس يأتونه، فمن قائل: يا رسول الله! سعيت قبل أن أطوف، أو أخرت شيئًا أو قدمت شيئًا. فكان يقول: " لا حرج، إلا على رجل ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يلزمه في تقديمه وتأخيره شيء. قلت (قائله الخطابي) : قوله ((لا حرج)) ينتظم الأمرين جميعًا الإثم والفدية لأنه كلام عام، وكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إما متمتعين أو قارنين على ما دلت عليه الأخبار، والدم على القارن والمتمتع واجب، على أن السائل عن هذا الحكم لم يكن رجلاً واحدًا فقط، إنما كانوا جماعة، ألا تراه يقول (في حديث أسامة ابن شريك) : فمن قائل أخرت شيئًا أو قدمت شيئًا، وهؤلاء لا يتفق أن يكونوا كلهم مفردين، فكان هذا الاعتراض غير لازم - انتهى. (رواه الترمذي) في حديث طويل في صفة الحج في ((باب أن عرفة كلها موقف)) وأشار إليه في ((باب من حلق قبل أن يذبح أو نحر قبل أن يرمي)) حيث قال بعد إيراد حديث عبد الله بن عمرو: وفي الباب عن علي، إلخ. والحديث قد صححه الترمذي ورواه أيضًا الطحاوي (ج 1: ص 423) بهذا اللفظ وأحمد (ج 1: ص 75، 76) باختلاف يسير، ورواه عبد الله بن أحمد من غير طريق أبيه (ج 1: ص 76) ((ثم أتاه رجل فقال: إني رميت الجمرة وأفضت ولبست ولم أحلق، قال: فلا حرج فاحلق، ثم أتاه رجل آخر فقال: إني رميت وحلقت ولبست ولم أنحر؟ فقال: لا حرج فانحر، وهكذا أخرجه الطحاوي أيضًا (ج 1: ص 424) . 2682 - قوله (عن أسامة بن شريك) الثعلبي بالمثلثة والمهملة من بني ثعلبة بن سعد، وقيل من ثعلبة بن يربوع، وقيل من ثعلبة بن بكر بن وائل، والأول أصح، صحابي عداده في أهل الكوفة، روى عنه زياد بن علاقة وعلي بن الأقمر، وقال الأزدي وسعيد بن السكن والحاكم وغيرهم: لم يرو عنه غير زياد، وقال الحافظ في التقريب: تفرد بالرواية عنه زياد بن علاقة على الصحيح. قال الخزرجي: له ثمانية أحاديث (خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاجًا) أي مريدًا للحج (سعيت) أي للحج عقيب الإحرام بعد طواف قدوم الآفاقي أو طواف نفل للمكي (قبل أن أطوف) أي طواف الإفاضة. قال القاري: وهو بظاهره يشمل الآفاقي والمكي وهو مذهبنا على اختلاف في أفضلية التقديم والتأخير، خلافًا للشافعي حيث قيده بالآفاقي (أو أخرت شيئًا أو قدمت شيئًا) أي في أفعال أيام منى (فكان يقول: لا حرج) كذا في جميع نسخ المشكاة وهكذا ذكره الجزري في جامع الأصول، والذي في سنن أبي داود ((لا حرج، لا حرج)) أي مرتين. قال القاري: أي لا إثم (إلا على رجل) قال القاري: الاستثناء يؤيد أن معنى الحرج هو الإثم، وقد تقدم الكلام على هذا

(10) باب خطبة يوم النحر، ورمي أيام التشريق، والتوديع

اقترض عرض مسلم وهو ظالم، فذلك الذي حرج وهلك ". رواه أبو داود. (10) باب خطبة يوم النحر، ورمي أيام التشريق، والتوديع (الفصل الأول) 2683 - (1) عن أبي بكرة، قال: خطبنا النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر، ـــــــــــــــــــــــــــــ وعلى مسألة تقديم السعي على الطواف (اقترض) بالقاف والضاد المعجمة، أي اقتطع افتعال من القرض، وهو القطع، وسمي المقراض لأنه يقطع، وقرض الفار قطع (عرض مسلم) كذا في جميع النسخ، والذي في سنن أبي داود ((عرض رجل مسلم)) والعرض بكسر العين المهملة وسكون الراء يعني نال منه وعابه وقطعه بالغيبة ونحوها (وهو) أي والحال أن ذلك الرجل (ظالم) فيخرج جرح الرواة والشهود فإنه مباح (فذلك الذي) أي الرجل الموصوف (حرِج) بكسر الراء أي وقع منه حرج (وهلك) أي بالإثم، والعطف تفسيري (رواه أبو داود) وسكت عنه هو والمنذري وأخرجه أيضًا الطحاوي (ج 1: ص 223، 224) والدارقطني (ص 268) والبيهقي (ج 5: ص 146) . (باب خطبة يوم النحر) بضم الخاء المعجمة، مصدر خطب يخطب خطابة وخطبة، أي وعظ، ويطلق على الكلام الذي يخطب به، كذا في القاموس. وفي عرف الشرع عبارة عن كلام يشتمل على الذكر والتشهد والصلاة والوعظ (ورمى أيام التشريق) عطف على خطبة، وأيام التشريق هي ثلاثة أيام بعد يوم النحر، أولها اليوم الحادي عشر من ذي الحجة، وسميت هذه الأيام أيام التشريق لكثرة تشريق اللحم في الشمس فيها بعد تقطيعه وتقديده، وقيل: لأن الهدايا والضحايا تقع فيها وابتداؤها من يوم النحر بعد شروق الشمس، فانسحب عليها اسم التشريق، وهذا القول اختاره أبو عبيد القاسم بن سلام. واليوم الأول من هذه الأيام الثلاثة يقال له: يوم القر، لأن الناس يستقرون فيه بمنى، وسمي يوم الرؤوس أيضًا لأن الناس يأكلون فيه رؤوس ذبائحهم يوم النحر. واليوم الثاني سمي يوم النفر الأول ويقال له: يوم الأكارع، واليوم الثالث يقال له: يوم النفر الآخر، ذكره الطبري. وقال الجزري: وإنما سميت بذلك لأنهم كانوا يشرقون فيها لحوم الأضاحي أي يقطعونها ويقددونها، وتشريق اللحم تقديده، وقيل سميت بذلك لقولهم: أشرق ثبير كيما نغير. وقيل سميت بذلك لأن الهدي لا يذبح ولا ينحر حتى تشرق الشمس - انتهى. وفي اللسان: لأن لحم الأضاحي يشرق فيها للشمس (والتوديع) عطف على رمى أو خطبة، قال في القاموس: ودّعه كوضعه وودعه (بتشديد الدال) بمعنى، والاسم الوداع، يقال: ودع المسافر القوم وودعهم أي خلفهم خافضين، وقال في العناية: الوداع - بفتح الواو - اسم للتوديع كسلام وكلام. 2683 - قوله (عن أبي بكرة) الثقفي الصحابي اسمه نفيع بن الحارث (خطبنا النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر) فيه دليل

............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ على مشروعية الخطبة يوم النحر. ويدل عليه أيضًا حديث ابن عمر عند البخاري قال: وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر بين الجمرات في حجة الوداع فقال: أي يوم هذا - الحديث، وحديث ابن عباس عند البخاري وغيره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس يوم النحر فقال: يا أيها الناس أي يوم هذا؟ وحديث جابر عند أحمد، قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر فقال أي يوم أعظم حرمة؟ وحديث الهرماس بن زياد الباهلي قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس على ناقته العضباء يوم الأضحى بمنى. أخرجه أحمد (ج 3: ص 485، وج 5: ص 7) وأبو داود. وحديث أبي أمامة عند أبي داود قال: سمعت خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى يوم النحر، وحديث رافع بن عمرو المزني الآتي في الفصل الثاني من هذا الباب قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع يوم النحر يخطب على بغلة شهباء، وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم النحر فقام إليه رجل - الحديث. أخرجه الشيخان وغيرهما. وهذه الأحاديث نص في مشروعية الخطبة في يوم النحر وهي ترد على من زعم أن يوم النحر لا خطبة فيه للحاج، وأن المذكور في أحاديث الباب إنما هو من قبيل الوصايا العامة لا أنه خطبة من شعار الحج. ووجه الرد أن الرواة سموها خطبة كما سموا التي وقعت بعرفات خطبة، وقد اتفق على مشروعية الخطبة بعرفات، ولا دليل على ذلك إلا ما روى عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه خطب بعرفات، والقائلون بعدم مشروعية الخطبة يوم النحر هم المالكية والحنفية، وقالوا خطب الحج ثلاث: سابع ذي الحجة ويوم عرفة، وثاني يوم النحر، ووافقهم الشافعية إلا أنهم قالوا بدل ثاني النحر ثالثه، وزادوا خطبة رابعة وهي يوم النحر. قال الإمام الشافعي: وبالناس إليها حاجة ليتعلموا أعمال ذلك اليوم من الرمي والذبح والحلق والطواف. وتعقبه الطحاوي بأن الخطبة المذكورة ليست من متعلقات الحج لأنه لم يذكر فيها شيئًا من أعمال الحج وإنما ذكر فيها وصايا عامة، قال: ولم ينقل أحد أنه علمهم فيها شيئًا مما يتعلق بالحج يوم النحر فعرفنا أنها لم تقصد لأجل الحج. وقال ابن القصار: إنما فعل ذلك من أجل تبليغ ما ذكره لكثرة الجمع الذي اجتمع من أقاصي الدنيا فظن الذي رآه أنه خطب، قال: وأما ما ذكره الشافعي أن بالناس حاجة إلى تعليمهم أسباب التحلل المذكورة فليس بمتعين، لأن الإمام يمكنه أن يعلمهم إياها يوم عرفة – انتهى. وأجيب بأنه نبه - صلى الله عليه وسلم - في الخطبة المذكورة على تعظيم يوم النحر وعلى تعظيم شهر ذي الحجة وعلى تعظيم البلد الحرم، وقد جزم الصحابة المذكورون بتسميتها خطبة كما تقدم، فلا يلتفت إلى تأويل غيرهم، وما ذكره من إمكان تعليم ما ذكر يوم عرفة يعكر عليه كونه يرى مشروعية الخطبة ثاني يوم النحر، وكان يمكن أن يعلموا يوم التروية جميع ما يأتي بعده من أعمال الحج، لكن لما كان في كل يوم أعمال ليست في غيره شرع تجديد التعليم بحسب تجدد الأسباب. وقد بين الزهري وهو عالم أهل زمانه أن الخطبة ثاني يوم النحر نقلت من خطبة يوم النحر، وأن ذلك من عمل الأمراء يعني من بني أمية كما أخرج ذلك ابن أبي شيبة عنه، وهذا وإن كان مرسلاً لكنه معتضد بما سبق وبان به أن السنة

قال: " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، ـــــــــــــــــــــــــــــ الخطبة يوم النحر لا ثانيه. وأما قول الطحاوي أنه لم يعلمهم شيئًا من أسباب التحلل فلا ينفي وقوع ذلك أو شيء منه في نفس الأمر، بل قد ثبت في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص كما تقدم أنه شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم النحر، وذكر فيه السؤال عن تقديم بعض المناسك على بعض فكيف ساغ للطحاوي هذا النفي المطلق مع روايته هو لحديث عبد الله بن عمرو، وثبت أيضًا في بعض أحاديث الباب أنه - صلى الله عليه وسلم - قال للناس حينئذ: خذوا عني مناسككم. فكأنه وعظهم بما وعظهم به وأحال في تعليمهم على تلقي ذلك من أفعاله، أفاده الحافظ. قلت: حديث رافع بن عمرو المزني الآتي بلفظ ((رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس بمنى حين ارتفع الضحى على بغلة شهباء)) يدل على أن الخطبة المذكورة كانت وقت الضحى يعني قبل طواف الإفاضة وهو مشكل على مذهب الشافعية حيث قالوا: أنه يسن أن يخطب الإمام أو نائبه الناس بعد صلاة الظهر يوم النحر بمنى بعد طواف الإفاضة، وقد تقدم التنبيه على ذلك في شرح حديث عبد الله بن عمرو في الباب الذي قبل هذا (إن الزمان) هو اسم لقليل الوقت وكثيره، والمراد هنا السنة (قد استدار) أي دار (كهيئته) قال الطيبي: الهيئة صورة الشيء وشكله وحالته، والكاف صفة مصدر محذوف أي استدار استدارة مثل حالته (يوم خلق الله السموات) أي وما فيها من النيرين الذين بهما تعرف الأيام والليالي والسنة والأشهر (والأرض) قال القاري: أي عاد ورجع إلى الموضع الذي ابتدأ منه يعني الزمان في انقسامه إلى الأعوام والأعوام إلى الأشهر عاد إلى أصل الحساب والوضع الذي اختاره الله تعالى ووضعه يوم خلق السموات والأرض. وقال بعض المحققين من علمائنا (الحنفية) أي دار على الترتيب الذي اختاره الله تعالى ووضعه يوم خلق السموات والأرض وهو أن يكون كل عام اثني عشر شهرًا وكل شهر ما بين تسعة وعشرين إلى ثلاثين يومًا، وكانت العرب في جاهليتهم غيروا ذلك فجعلوا عامًا اثني عشر شهرًا وعامًا ثلاثة عشر فإنهم كانوا ينسؤن الحج في كل عامين من شهر إلى شهر آخر بعده ويجعلون الشهر الذي أنسؤه ملغي، فتصير تلك السنة ثلاثة عشر، وتتبدل أشهرها فيحلون الأشهر الحرم ويحرمون غيرها كما قال تعالى في سورة التوبة {إنما النسيء زيادة في الكفر} (الآية 37) فأبطل الله ذلك وقرره على مداره الأصلي فالسنة التي حج فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع هي السنة التي وصل ذو الحجة إلى موضعه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الزمان قد استدار كهيئته، يعني أمر الله أن يكون ذو الحجة في هذا الوقت، فاحفظوه واجعلوا الحج في هذا الوقت ولا تبدلوا شهرًا بشهر كعادة أهل الجاهلية – انتهى. وقال النووي، قال العلماء: معناه أنهم في الجاهلية يتمسكون بملة إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - في تحريم الأشهر الحرم وكان يشق عليهم تأخير القتال ثلاثة أشهر متواليات وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، فكانوا إذا احتاجوا إلى قتال أخروا تحريم المحرم إلى الشهر الذي بعده وهو صفر، ثم يؤخرونه في السنة الأخرى إلى شهر آخر، وهكذا يفعلون في سنة بعد سنة

السنة اثنا عشر شهرًا منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان ". ـــــــــــــــــــــــــــــ حتى اختلط عليهم الأمر وصادفت حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - تحريمهم، وقد تطابق الشرع، وكانوا في هذه السنة قد حرموا ذا الحجة لموافقة الحساب الذي ذكرنا، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الاستدارة صادفت ما حكم الله تعالى به يوم خلق السموات والأرض، وقال أبو عبيد: كانوا ينسؤن أي يؤخرون، وهو الذي قال الله تعالى فيه {إنما النسيء زيادة في الكفر} فربما احتاجوا إلى الحرب في المحرم فيؤخرون تحريمه إلى صفر، ثم يؤخرون صفرًا في سنة أخري فصادف تلك السنة رجوع المحرم إلى موضعه – انتهى. وقال البيضاوي: كانوا إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرموا مكانه شهرًا آخر حتى رفضوا خصوص الأشهر واعتبروا مجرد العدد – انتهى. فكأن العرب كانوا مختلفين في النسيء، والله تعالى أعلم (السنة) إلخ، أي السنة العربية الهلالية. قال الطيبي: جملة مستأنفة مبينة للجملة الأولى (منها أربعة حرم) قال تعالى {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} (سورة التوبة، الآية 36) قال البيضاوي: أي بهتك حرمتها وارتكاب حرامها، وقال الحافظ: {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} أي في الأربعة باستحلال القتال. وقيل: بارتكاب المعاصي (ثلاث) هو تفسير الأربعة الحرم (متواليات) أي متتابعات. قال الطيبي: اعتبر ابتداء الشهور من الليالي فحذف التاء، وقال ابن التين: الصواب ثلاثة متوالية يعني لأن المميز الشهر قال: ولعله أعاده على المعنى، أي ثلاث مدد متواليات – انتهى. قال الحافظ: أو باعتبار العدة مع أن الذي لا يذكر التمييز معه يجوز فيه التذكير والتأنيث (ذو القعدة) بفتح القاف وقد يكسر، شهر كانوا يقعدون فيه عن الأسفار (وذو الحجة) بكسر الحاء وقد تفتح (والمحرم) عطف على ذو القعدة. قال الحافظ ذكرها من سنتين لمصلحة التوالي بين الثلاثة، وإلا فلو بدأ بالمحرم لفات مقصود التوالي، وفيه إشارة إلى إبطال ما كانوا يفعلونه في الجاهلية من تأخير بعض الأشهر الحرم فقيل كانوا يجعلون المحرم صفرًا ويجعلون صفر المحرم لئلا يتوالى عليهم ثلاثة أشهر لا يتعاطون فيها القتال فلذلك قال متواليات. وكانوا في الجاهلية على أنحاء منهم من يسمى المحرم صفرًا فيحل فيه القتال ويحرم القتال في صفر ويسميه المحرم، ومنهم من كان يجعل ذلك سنة هكذا وسنة هكذا، ومنهم من يجعله سنتين هكذا وسنتين هكذا، ومنهم من يؤخر صفرًا إلى ربيع الأول وربيعًا إلى ما يليه، وهكذا إلى أن يصير شوال ذا القعدة، وذو القعدة ذا الحجة، ثم يعود فيعيد العدد على الأصل – انتهى. (ورجب مضر) عطف على ثلاث، ومضر على وزن عمر غير منصرف قبيلة عظيمة، وأضاف الشهر إليها لأنها كانت تشدد في تحريم رجب وتحافظ على ذلك أشد من محافظة سائر القبائل من العرب ولا توافق غيرها من العرب في استحلاله (الذي بين جمادى) بضم الجيم وفتح الدال وبعده ألف ورسمه بالياء (وشعبان) وصفه بكونه بين جمادى وشعبان لزيادة البيان وتوكيده كما قال في أسنان الصدقة: فإن لم تكن ابنة مخاض

وقال: " أي شهر هذا؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: " أليس ـــــــــــــــــــــــــــــ فابن لبون ذكر. ومعلوم أن ابن اللبون لا يكون إلا ذكرًا، ويحتمل أن يكون إنما قال ذلك من أجل أنهم قد كانوا نسؤا رجبًا و ... هـ عن موضعه وسموه به بعض الشهور الأخر فنحلوه اسمه فبين لهم أن رجبًا هو الشهر الذي بين جمادى وشعبان لا ما كانوا يسمونه على حساب النسيء. قال النووي: قد أجمع المسلمون على أن الأشهر الحرم الأربعة هي هذه المذكورة في الحديث، ولكن اختلفوا في الأدب المستحب في كيفية عدها، فقالت طائفة من أهل الكوفة وأصل الأدب، يقال المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة ليكون الأربعة من سنة واحدة، وقال علماء المدينة والبصرة وجماهير العلماء: هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ثلاثة سرد وواحد فرد، وهذا هو الصحيح الذي جاءت به الأحاديث الصحيحة منها هذا الحديث الذي نحن في فيه، وعلى هذا الاستعمال أطبق الناس من الطوائف كلها – انتهى. قيل الحكمة في جعل المحرم أول السنة أن يحصل الابتداء بشهر حرام ويختم بشهر حرام وتتوسط السنة بشهر حرام وهو رجب، وإنما توالى شهران في الآخر لإرادة تفضيل الختام، والأعمال بالخواتيم، قال الحافظ: أبدى بعضهم لما استقر عليه الحال من ترتيب هذه الأشهر الحرم مناسبة لطيفة، حاصلها أن للأشهر الحرم مزية على ما عداها، فناسب أن يبدأ بها العام وأن تتوسطه وأن تختم به، وإنما كان الختم بشهرين لوقوع الحج ختام الأركان الأربع لأنها تشتمل على عمل مال محض وهو الزكاة وعمل بدن محض وذلك تارة يكون بالجوارح وهو الصلاة وتارة بالقلب وهو الصوم، لأنه كف عن المفطرات، وتارة عمل مركب من مال وبدن وهو الحج، فلما جمعهما ناسب أن يكون له ضعف ما لواحد منهما فكان له من الأربعة الحرم شهران، والله أعلم (وقال: أي شهر هذا؟) أراد بهذا الاستفهام أن يقرر في نفوسهم حرمة الشهر والبلدة واليوم ليبني عليه ما أراده. قال القرطبي: سؤاله - صلى الله عليه وسلم - عن الثلاثة وسكوته بعد كل سؤال منها كان لاستحضار فهومهم، وليقبلوا عليه بكليتهم وليستشعروا عظمة ما يخبرهم عنه. ولذلك قال بعد هذا فإن دماءكم، إلى آخره. مبالغة في بيان تحريم هذه الأشياء – انتهى. وقال النووي: هذا السؤال والسكوت والتفسير أراد به التفخيم والتقرير والتنبيه على عظم مرتبة هذا الشهر والبلد واليوم (قلنا: الله ورسوله أعلم) قال التوربشتي: إحالتهم الجواب عليه فيما استبان أمره وتحقق، نوع من الأدب بين يدي من حق عليهم التأدب بين يديه، ثم إنهم لم ييأسوا من أن يكون في الأمر المسؤل عنه علم لم يبلغ إليهم فأحالوا العلم على علام الغيوب، ثم إلى المستأثر من البشر بنوع من ذلك العلم، وينبئك عن هذا المعني قولهم: حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه – انتهى. وقال الحافظ: قولهم ((الله ورسوله أعلم)) هذا من حسن أدبهم لأنهم علموا أنه لا يخفى عليه ما يعرفونه من الجواب وأنه ليس مراده مطلق الإخبار بما يعرفونه، ولهذا قال: حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، ففيه إشارة إلى تفويض الأمور بالكلية إلى الشارع (فقال: أليس) أي هذا الشهر أو اسمه

ذا الحجة؟ " قلنا: بلى. قال: " أي بلد هذا؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: " أليس البلدة "؟ قلنا: بلى. قال " فأي يوم هذا؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: " أليس يوم النحر؟ " قلنا: بلى. قال: ـــــــــــــــــــــــــــــ (ذا الحجة؟ قلنا بلى. قال: أي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال:) بلا فاء (أليس) أي البلد (البلدة) قال الخطابي: يقال: إن البلدة اسم خاص بمكة وهي المرادة بقوله تعالى {إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة} (سورة النمل الآية 91) وقال الطيبي: المطلق محمول على الكامل وهي الجامعة للخير المستجمعة للكمال كما أن الكعبة تسمى البيت ويطلق عليها ذلك، كذا في الفتح. وقال التوربشتي: قيل إن البلدة اسم خاص لمكة عظم الله حرمتها، ويؤيد ذلك هذا الحديث، ووجه تسميتها بالبلدة وهي تقع على سائر البلدان أنها البلدة الجامعة للخير المستحقة أن تسمى بهذا الاسم لتفوقها سائر مسميات أجناسها حتى كأنها هي المحل المستحقة للإقامة بها من قولهم بلد بالمكان أي أقام (قال: فأي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم) إلخ. وفي البخاري من حديث ابن عباس أنهم قالوا: يوم حرام. وقالوا عند سؤاله عن الشهر: شهر حرام، وعند سؤاله عن البلد: بلد حرام، وعند البخاري أيضًا من حديث ابن عباس: وظاهرهما أي ظاهر حديثي أبي بكرة وابن عباس التعارض، والجمع بينهما أن الطائفة الذين كان فيهم ابن عباس أجابوا، والطائفة الذين كان فيهم أبو بكرة لم يجيبوا بل قالوا: الله ورسوله أعلم. أو تكون رواية ابن عباس بالمعنى، لأن في حديث أبي بكرة عند البخاري في الحج وفي الفتن أنه لما قال: أليس يوم النحر؟ قالوا: بلى. فقولهم ((بلى)) بمعنى قولهم يوم حرام بالاستلزام، وغايته أن أبا بكرة نقل السياق بتمامه، واختصر ابن عباس، وكأن ذلك كان بسبب قرب أبي بكرة منه لكونه كان آخذًا بخطام الناقة، وقال بعضهم: يحتمل تعدد الخطبة، فإن أراد أنه كررها في يوم النحر فيحتاج لدليل، فإن في حديث ابن عمر عند البخاري في الحج أن ذلك كان يوم النحر بين الجمرات في حجته، وقال الحافظ في كتاب الحج: قيل في الجمع بين الحديثين: لعلهما واقعتان، قال الحافظ: وليس بشيء لأن الخطبة يوم النحر إنما تشرع مرة واحدة، وقد قال في كل منهما أن ذلك كان يوم النحر، وقيل في الجمع بينهما أن بعضهم بادر بالجواب وبعضهم سكت، وقيل في الجمع أنهم فوضوا أولاً كلهم بقولهم: الله ورسوله أعلم، فلما سكت أجاب بعضهم دون بعض، وقيل وقع السؤال في الوقت الواحد مرتين بلفظين فلما كان في حديث أبي بكرة فخامة ليست في الأول لقوله فيه ((أتدرون؟)) سكتوا عن الجواب بخلاف حديث ابن عباس لخلوه عن ذلك، أشار إلى ذلك الكرماني، وقيل في حديث ابن عباس اختصار بينته رواية أبي بكرة فكأنه أطلق قولهم ((قالوا: يوم حرام)) باعتبار أنهم قرروا ذلك

" فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض، ـــــــــــــــــــــــــــــ حيث قالوا: بلى. قال الحافظ: وهذا جمع حسن (فإن دماءكم وأموالكم) إلخ. تقدم شرح هذه الجملة في شرح حديث جابر الطويل المذكور في باب صفة الحج والمراد بهذا كله بيان توكيد غلظ تحريم الأموال والدماء والأعراض والتحذير من ذلك (وستلقون ربكم) أي يوم القيامة (فيسألكم عن أعمالكم) أي القليلة والكثيرة (ألا) للتنبيه (فلا ترجعوا بعدي) أي لا تصيروا بعد فراقي من موقفي هذا، أو بعد موتي ووفاتي، وهو الأظهر، وفيه استعمال رجع كصار معني وعملاً. قال ابن الملك: وهو مما خفي على أكثر النحويين. أي لا تصيروا بعدي (ضلالاً) بضم الضاد وتشديد اللام جمع ضال وفي رواية أخرى ((كفارًا)) أي كالكفار أو لا يكفر بعضكم بعضًا فتستحلوا القتال، أو لا تكن أفعالكم شبيهة بأفعال الكفار (يضرب بعضكم رقاب بعض) برفع الباء من يضرب على أنها جملة مستأنفة مبينة لقوله ((لا ترجعوا بعدي ضلالاً)) ويجوز الجزم. قال أبو البقاء: على تقدير شرط مضمر أي ((إن ترجعوا بعدي يضرب)) وقال الحافظ: قوله ((يضرب)) بجزم الباء على أنه جواب النهي، وبرفعها على الاستيناف أو يجعل حالاً. وقال النووي: الرواية ((يضرب)) برفع الباء هذا هو الصواب، وهكذا رواه المتقدمون والمتأخرون، وبه يصح المقصود هنا. ونقل القاضي عياض أن بعض العلماء ضبطه بإسكان الباء. قال القاضي: وهو إحالة للمعنى والصواب الضم. قال النووي: في معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: فلا ترجعوا بعدي كفارًا، إلخ. سبعة أقوال أحدها أن ذلك كفر في حق المستحل بغير حق، والثاني أن المراد كفر النعمة وحق الإسلام، والثالث أنه يقرب من الكفر ويؤدي إليه، والرابع أنه فعل كفعل الكفار، والخامس المراد حقيقة الكفر، ومعناه لا تكفروا بل دوموا مسلمين، والسادس حكاه الخطابي وغيره أن المراد المتكفرون بالسلاح، يقال: تكفر الرجل بسلاحه إذا لبسه، قال الأزهري في كتابه (تهذيب اللغة)) يقال للابس السلاح كافر. والسابع معناه: لا يكفر بعضكم بعضًا فتستحلوا قتال بعضكم بعضًا، قاله الخطابي. قال النووي: وأظهر الأقوال الرابع وهو اختيار القاضي عياض. وقال الحافظ: جملة ما فيه من الأقوال ثمانية، أحدها قول الخوارج أنه على ظاهره، ثانيها هو في المستحلين، ثالثها المعني كفارًا بحرمة الدماء وحرمة المسلمين وحقوق الوالدين، رابعها تفعلون فعل الكفار في قتل بعضهم بعضًا، خامسها لابسين السلاح يقال: كفر درعه إذا لبس فوقها ثوبًا، سادسها كفارًا بنعمة الله، سابعها المراد الزجر عن الفعل، وليس ظاهره مرادًا، ثامنها لا يكفر بعضكم بعضًا كأن يقول أحد الفريقين للآخر يا كافر فيكفر أحدهما، ثم وجدت تاسعًا وهو أن المراد ستر الحق، والكفر لغة الستر، لأن حق المسلم على المسلم أن ينصره ويعينه، فلما قاتله

ألا هل بلغت؟ " قالوا: نعم. قال: " اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع ". ـــــــــــــــــــــــــــــ كأنه غطى على حقه الثابت له عليه، وعاشرًا وهو أن الفعل المذكور يفضي إلى الكفر لأن من اعتاد الهجوم على كبار المعاصي جره شؤم ذلك إلى أشد منها فيخشى أن لا يختم له بخاتمة الإسلام. وقال الداودي: معناه لا تفعلوا بالمؤمنين ما تفعلون بالكفار، ولا تفعلوا بهم ما لا يحل وأنتم ترونه حرامًا. قلت (قائله الحافظ) : وهو داخل في المعاني المتقدمة قلت: واستشكل بعض الشراح غالب هذه الأجوبة بأن راوي الخبر وهو أبو بكرة فهم خلاف ذلك (لأنه ترك القتال في الفتنة) والجواب أن فهمه ذلك إنما يعرف من توقفه عن القتال واحتجاجه بهذا الحديث فيحتمل أن يكون توقفه بطريق الاحتياط لما يحتمله ظاهر اللفظ، ولا يلزم أن يكون يعتقد حقيقة كفر من باشر ذلك، ويؤيده أنه لم يمتنع من الصلاة خلفهم ولا امتثال أوامرهم ولا غير ذلك مما يدل على أنه يعتقد فيهم حقيقته – انتهى. (ألا) للتنبيه (هل بلّغت؟) بتشديد اللام، أي أعلمتكم ما أنزل إليّ من ربي وما أمرني به (اللهم اشهد) أي لي وعليهم، وإنما قال ذلك لأنه كان فرضًا عليه أن يبلغ فأشهد الله على أنه أدى ما أوجبه عليه (فليبلغ) بالتشديد ويخفف أي ليخبر (الشاهد أي الحاضر في المجلس (الغائب) أي الغائب عنه، والمراد إما تبليغ القول المذكور أو تبليغ جميع الأحكام، قال السندي: قوله ((الشاهد)) بالرفع فاعل ليبلغ، و ((الغائب)) بالنصب على أنه مفعول أول والمفعول الثاني محذوف، أي العلم الذي حضر سماعه أي ليعم البلاغ الكل كما هو مقتضى عموم الرسالة إليهم، ولأنه قد يفهم المبلغ ما لا يفهمه الحامل من الأسرار والعلوم وهذا معنى قوله: (فرب مبلغ) بتشديد اللام المفتوحة اسم مفعول أي من يبلغه كلامي بواسطة (أوعى) أي أحفظ لمبناه وأفهم لمعناه (من سامع) سمعه مني مباشرة. قال الحافظ: أي رب شخص بلغه كلامي فكان أحفظ له وأفهم لمعناه من الذي نقله. قال المهلب: فيه أنه يأتي في آخر الزمان من يكون له من الفهم في العلم ما ليس لمن تقدمه إلا أن ذلك يكون في الأقل، لأن ((رب)) موضوعة للتقليل. قلت (قائله الحافظ) : هي في الأصل كذلك إلا أنها استعملت في التكثير بحيث غلبت على الاستعمال الأول، لكن يؤيد أن التقليل هنا مراد أنه وقع في رواية للبخاري بلفظ ((عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه)) وقوله ((أوعى من سامع)) نعت لمبلغ، والذي يتعلق به رب محذوف وتقديره يوجد أو يكون، ويجوز على مذهب الكوفيين في أن رب اسم أن تكون هي مبتدأ وأوعى الخبر فلا حذف ولا تقدير وفي الحديث من الفوائد الحث على تبليغ العلم وجواز التحمل قبل كمال الأهلية وأن الفهم ليس شرطًا في الأداء. قال الحافظ: في الحديث دلالة على جواز تحمل الحديث لمن لم يفهم معناه ولا فقهه إذا ضبط ما يحدث به، ويجوز وصفه بكونه من أهل العلم بذلك، وفيه أيضًا وجوب تبليغ العلم على الكفاية، وقد يتعين في حق بعض الناس، وفيه تأكيد التحريم وتغليظه بأبلغ ممكن من تكرار ونحوه،

متفق عليه. 2684 – (2) وعن وبرة، قال: سألت ابن عمر: متى أرمي الجمار؟ قال: إذا رمى إمامك فارمه. فأعدت عليه المسألة، فقال: كنا نتحين فإذا زالت الشمس رمينا. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ وفيه مشروعية ضرب المثل وإلحاق النظير بالنظير ليكون أوضح للسامع (متفق عليه) أخرجه البخاري في العلم والمناسك وبدء الخلق والمغازي (في باب حجة الوداع) وفي تفسير براءة وفي الأضاحي والفتن والتوحيد ومسلم في الديات، وأخرجه أيضًا أحمد (ج 5: ص 37، 39، 40، 45، 49) وأبو داود والبيهقي (ج 5: ص 140) وأخرجه ابن ماجه في السنة مختصرًا جدًا. 2684- قوله (وعن وبرة) بفتح الواو الموحدة بعدها راء – هو ابن عبد الرحمن المسلمي بضم الميم وسكون المهملة بعدها لام – أبو خزيمة أو أبو العباس الكوفي، ثقة تابعي، مات في ولاية خالد بن عبد الله القسري على الكوفة سنة ست عشرة ومائة (متى أرمي الجمار؟) يعني في غير يوم الأضحي (إذا رمى إمامك فارمه) بهاء ساكنة للسكت وقال القاري: بهاء الضمير أو السكت، وعلى الأول تقديره ارم موضع الجمرة أو ارم الرمي أو الحصى – انتهى. قال الحافظ: قوله ((إذا رمى إمامك فارمه)) يعني الأمير الذي على الحج، وكأن ابن عمر خاف عليه أن يخالف الأمير فيحصل له منه ضرر، فلما أعاد عليه المسألة لم يسعه الكتمان فأعلمه بما كانوا يفعلونه في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد رواه ابن عيينة عن مسعر عن وبرة عن ابن عمر فقال فيه: فقلت له: أرأيت إن أخر إمامي؟ أي الرمي فذكر له الحديث. أخرجه ابن أبي عمر في مسنده عنه ومن طريقه الإسماعيلي – انتهى (فأعدت عليه المسألة) أردت تحقيق وقت رمي الجمرة (كنا نتحين) نتفعل من الحين وهو الزمان، أي نراقب الوقت المطلوب وهو زوال الشمس. قال الطيبي: أي ننتظر دخول وقت الرمي – انتهى. وقال الطبري: أي نطلب حينها والحين الوقت، ومنه كانوا يتحينون وقت الصلاة أي يطلبون حينها، ولفظ أبي داود ((كنا نتحين زوال الشمس (فإذا زالت الشمس رمينا) بلا ضمير أي الجمرة يعني قبل صلاة الظهر، فقد روى ابن ماجة من طريق الحكم عن مقسم عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرمي الجمار إذا زالت الشمس قدر ما إذا فرغ من رميه صلى الظهر. قال السندي: هذا يدل على أنه بعد الزوال يبدأ برمي الجمار ثم يصلي أي الظهر – انتهى. وفي الحديث دليل على أن السنة أن يرمي الجمار في غير يوم الأضحى بعد زوال الشمس، وأنه لا يجزئ رميها قبل زوالها بل وقته بعد الزوال، وإلى هذا ذهب الجمهور. وخالف في ذلك عطاء وطاوس فقالا: يجوز الرمي قبل الزوال مطلقًا، ورخص الحنفية في الرمي في يوم النفر قبل الزوال. وقال إسحاق: إن رمى قبل الزوال أعاد إلا في اليوم الثالث فيجزئه، والحديث يرد على الجميع، وقد تقدم البسط في هذه المسألة في شرح حديث جابر في الفصل الأول من باب رمي الجمار (رواه البخاري) وأخرجه أيضًا أبو داود والبيهقي (ج 5: ص 148) .

2685 – (3) وعن سالم عن ابن عمر، أنه كان يرمي جمرة الدنيا بسبع حصيات، يكبر على إثر كل حصاة، ثم يتقدم حتى يسهل، فيقوم مستقبل القبلة طويلاً، ويدعو ويرفع يديه، ثم يرمي الوسطى بسبع حصيات، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2685- قوله (كان يرمي جمرة الدنيا) كذا في جميع النسخ وهكذا وقع في المصابيح أي بإضافة الجمرة إلى الدنيا. وفي البخاري ((الجمرة الدنيا)) قال التوربشتي: الجمرة واحدة جمرات المناسك. وهي ثلاث جمرات واحد منها ذات العقبة وهي مما يلي مكة ولا يرمي يوم النحر إلا جمرة ذات العقبة، وبعد يوم النحر يرمي الثلاث، والسنة فيها ما ذكر في الحديث، والدنيا هي التي يبدأ بها، ووصفها بالدنيا (أي القربى) لكونها أقرب إلى منازل النازلين عند مسجد الخيف، وهنالك كان مناخ النبي - صلى الله عليه وسلم - وإضافتها إلى الدنيا كإضافة المسجد إلى الجامع من إضافة الموصف إلى الصفة، ويحتمل أن يكون فيه حذف أي جمرة البقعة الدنيا كقولك ((حق اليقين)) (بسبع حصيات) في كل يوم من أيام التشريق (يكبر على إثر كل حصاة) بكسر الهمزة وسكون المثلثة وبفتحهما أي عقيب كل واحدة من الحصى، وظاهر هذا تأخير التكبير عن الرمي. وفي رواية أحمد (ج 2: ص 152) يكبر مع كل حصاة، وكذا وقع في حديث جابر عند مسلم وغيره وحديث ابن مسعود عند الشيخين، ويأتي في حديث ابن عمر في رمي جمرة العقبة ((يكبر عند كل حصاة)) قال القاري: وهو أعم، والمراد بالمعية خروج الجمرة من اليد فهو مع الرمي باعتبار الابتداء، أو أثره باعتبار الانتهاء – انتهى. وأول بعضهم قوله ((إثر كل حصاة)) بأن المراد عقب إرادة الرمي بها، وإلى المعية أي مقارنة التكبير لكل حصاة ذهب أتباع الأئمة الأربعة كما صرح به الباجي وابن قدامة والنووي، قال الدسوقي: ظاهر المدونة أن التكبير مع كل حصاة سنة، وأشعر قول الدردير مع رمي كل حصاة أنه لا يكبر قبل رميها ولا بعده، ويفوت المندوب بمفارقة الحصاة ليده قبل النطق بالتكبير – انتهى. وفي الهداية ((يكبر مع كل حصاة)) كذا روي عن ابن مسعود وابن عمر – انتهى (ثم يتقدم) أي يذهب قليلاً من ذلك الموضع وفي رواية ((ثم تقدم أمامها)) (حتى يسهل) بضم أوله وسكون المهملة، يقال: أسهل الرجل إذا صار إلى السهل من الأرض، قال الحافظ: أي يقصد السهل من الأرض وهو المكان المستوي الذي لا ارتفاع فيه – انتهى. وقال القاري: أي يدخل المكان السهل وهو اللين ضد الحزن بفتح الحاء وسكون الزاي أي الصعب (فيقوم) مرفوع عطفًا على يتقدم (مستقبل القبلة) أي حال كونه مقابل الكعبة (طويلاً) وفي رواية ((فيقوم قيامًا طويلاً)) (ويدعو) أي قدر سورة البقرة كما تقدم (ويرفع يديه) أي في الدعاء (ثم يرمي الوسطى) وفي رواية ((ثم يرمي الجمرة الوسطى)) أي الجمرة التي بين الأولى والأخرى. قال ابن الهمام: هل هذا الترتيب متعين أو أولى؟ مختلف فيه والذي يقوى عندي استنان الترتيب لا تعيينه، والله أعلم. قال القاري: والأحوط مراعاة الترتيب لأنه واجب عند الشافعي

يكبر كلما رمي بحصاة، ثم يأخذ بذات الشمال ـــــــــــــــــــــــــــــ وغيره، ثم الظاهر أن الموالاة سنة كما في الوضوء أو واجب وفق مذهب مالك هنالك – انتهى. وقال ابن قدامة في المعني (ج 3: ص 452) : والترتيب في هذه الجمرات واجب على ما وقع في حديث ابن عمرو وحديث عائشة عند أبي داود، فإن نكس فبدأ بجمرة العقبة ثم الثانية ثم الأولى أو بدأ بالوسطى ورمي الثلاث لم يجزه إلا الأولى وأعاد الوسطى والقصوى، نص عليه أحمد، وإن رمى القصوي ثم الأولى ثم الوسطى أعاد القصوى وحدها، وبهذا قال مالك والشافعي، وقال الحسن وعطاء: لا يجب الترتيب وهو قول أبي حنيفة، فإنه قال: إذا رمى منكسًا يعيد، فإن لم يفعل أجزأه، واحتج بعضهم بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من قدم نسكًا بين يدي نسك فلا حرج، ولأنها مناسك متكررة في أمكنة متفرقة في وقت واحد ليس بعضها تابعًا لبعض فلم يشترط الترتيب فيها كالرمي والذبح. ولنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رتبها في الرمي وقال: خذوا عني مناسككم، ولأنه نسك متكرر فاشترط الترتيب فيه كالسعي، وحديثهم إنما جاء في من يقدم نسكًا على نسك لا في تقديم بعض النسك على بعض، وقياسهم يبطل بالطواف والسعي – انتهى. وقال الشنقيطي: اعلم أنه يجب الترتيب في رمي الجمار أيام التشريق فيبدأ بالجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف فيرميها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ثم ينصرف إلى الجمرة الوسطى فيرميها كالتي قبلها، ثم ينصرف إلى جمرة العقبة فيرميها كذلك، وهذا الترتيب على النحو الذي ذكرنا هو الذي فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمر بأخذ المناسك عنه، فعلينا أن نأخذ عنه من مناسكنا الترتيب المذكور، ثم ذكر حديث ابن عمر الذي نحن في شرحه، ثم قال: روى البخاري هذا الحديث في ثلاثة أبواب متوالية، وهو نص صحيح صريح في الترتيب المذكور، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: لتأخذوا عني مناسككم، فإن لم يرتب الجمرات بأن بدأ بجمرة العقبة لم يجزئه الرمي منكسًا لأنه خالف هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي الحديث: من عمل عمًلا ليس عليه أمرنا فهو رد، وتنكيس الرمي عمل ليس من أمرنا فيكون مردودًا، وبهذا قال مالك والشافعي وأحمد وجمهور أهل العلم. وقال أبو حنيفة: الترتيب المذكور سنة، فإن نكس الرمي أعاده، وإن لم يعد أجزأه، وهو قول الحسن وعطاء، واحتجوا بأدلة لا تنتهض، وعلى الصحيح الذي هو قول الجمهور: أن الترتيب شرط لو بدأ بجمرة العقبة ثم الوسطى ثم الأولى أو بدأ بالوسطى ورمي الثلاث لم يجزه إلا الأولى لعدم الترتيب في الوسطى والأخيرة، فعليه أن يرمي الوسطى ثم الأخيرة، ولو رمى جمرة العقبة ثم الأولى ثم الوسطى أعاد جمرة العقبة وحدها، هذا هو الظاهر – انتهى كلام الشنقيطي (يكبر كلما رمى بحصاة) قال الباجي: وذلك أنه إذا كان التكبير مشروعًا عند الرمي فإنه يتكرر عند كل رمية، وكذلك كل عبادة شرع فيها التكبير فإنه يتكرر بتكرر محله كالانتقال من ركن إلى ركن في الصلاة، وقد قال مالك يكبر مع كل حصاة – انتهى. والأصل في ذلك ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يكبر مع كل حصاة – انتهى. (ثم يأخذ بذات الشمال) في

فيسهل، ويقوم مستقبل القبلة، ثم يدعو ويرفع يديه، ويقوم طويلاً، ثم يرمي جمرة ذات العقبة من بطن الوادي بسبع حصيات، يكبر عند كل حصاة، ولا يقف عندها، ثم ينصرف فيقول: هكذا رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ البخاري ((ذات الشمال)) أي بدون الباء أي يمشي إلى جهة شماله (فيسهل) قال القاري: أي يذهب على شمال الجمرة الوسطى حتى يصل إلى موضع سهل يعني ليقف داعيًا في مكان لا يصيبه الرمي. وفي رواية ((ثم ينحدر ذات الشمال مما يلي الوادي فيقف مستقبل القبلة)) (ثم يرمي جمرة ذات العقبة) بإضافة الجمرة، قال الحافظ: هو نحو يا نساء المؤمنات، أي يأتي الجمرة ذات العقبة، وثبت كذلك في رواية سليمان (عن يونس عن الزهري عن سالم) عند البخاري، وفي رواية عثمان بن عمر (عن يونس) ثم يأتي الجمرة التي عند العقبة (ولا يقف عندها) أي للدعاء (ثم ينصرف) أي ابن عمر. وفي الحديث مشروعية التكبير عند رمي كل حصاة، وقد أجمعوا على أن من تركه لا يلزمه شيء إلا الثوري فقال: يطعم وإن جبره بدم أحب إليَّ، وعلى الرمي بسبع وعلى استقبال القبلة والقيام طويًلا عند الجمرتين أي الأولى والثانية والتضرع عندهما، وفيه التباعد من موضع الرمي عند القيام بالدعاء حتى لا يصيب رمي غيره، وفيه مشروعية رفع اليدين في الدعاء وترك الدعاء والقيام عند جمرة العقبة. قال ابن قدامة: لا نعلم لما تضمنه حديث ابن عمر هذا مخالفًا إلا ما روي عن مالك من ترك رفع اليدين عند الدعاء بعد رمي الجمار، فقال ابن المنذر: لا أعلم أحدًا أنكر رفع اليدين في الدعاء عند الجمرة إلا ما حكاه ابن القاسم عن مالك – انتهى. قال الحافظ: ورده ابن المنير بأن الرفع لو كان هنا سنة ثابتة ما خفي عن أهل المدينة وغفل رحمه الله تعالى عن أن الذي رواه من أعلم أهل المدينة من الصحابة في زمانه وابنه سالم أحد الفقهاء السبعة من أهل المدينة، والراوي عنه ابن شهاب عالم المدينة ثم الشام في زمانه، فمن علماء المدينة إن لم يكونوا هؤلاء؟ والله المستعان – انتهى. ونقل في المحلى عن ابن المنذر أنه قال: لا أعلم أحدًا أنكر ذلك غير مالك فإن ابن القاسم حكى عنه أنه لم يكن يعرف رفع اليدين هناك. قال وإتباع السنة أفضل، وقيل يرفع حكاه ابن التين وابن الحاجب – انتهى. وحكى القسطلاني عن ابن فرحون من المالكية في مناسكه في رفع اليدين في الدعاء قولان – انتهى. ولم يذكر في الحديث حال الرمي في المشي والركوب، وقد روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أن ابن عمر كان يمشي إلى الجمار مقبلاً ومدبرًا، وعن جابر أنه كان لا يركب إلا من ضرورة، وروى الترمذي عن ابن عمر وصححه والبيهقي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رمى الجمار مشي إليها ذاهبًا وراجعًا، وفي لفظ عنه كان يرمي الجمرة يوم النحر راكبًا وسائر ذلك ماشيًا، ويخبرهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك. رواه أحمد (ج 2: ص 114، 138، 156) وأبو داود والبيهقي (رواه البخاري) وأخرجه أيضًا أحمد (ج 2: 152) والنسائي والبيهقي (ج 5: ص 148) .

2686 - (4) وعن ابن عمر، قال: استأذن العباس بن عبد المطلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته، فأذن له. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2686- قوله (استأذن العباس بن عبد المطلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيت بمكة ليالي منى) المراد بها ليلة الحادي عشر واللتين بعده (من أجل سقايته) قال القاري: أي التي بالمسجد الحرام المملوءة من ماء زمرم المندوب الشرب منها عقب طواف الإفاضة وغيره إذا لم يتيسر الشرب من البئر للخلق الكثير، وهي الآن بركة، وكانت حياضًا في يدي قصي، ثم منه لابنه عبد مناف ثم منه لابنه هاشم، ثم منه لابنه عبد المطلب ثم منه لابنه العباس ثم منه لابنه عبد الله ثم منه لابنه علي وهكذا إلى الآن، لكن لهم نواب يقومون بها.قالوا: وهي لآل عباس أبدًا - انتهى. وروى الفاكهي بسنده عن عطاء قال: سقاية الحاج زمرم. وقال الأزرقي: كان عبد مناف يحمل الماء في الروايا والقرب إلى مكة ويسكبه في حياض من أدم بفناء الكعبة للحجاج، ثم فعله ابنه هاشم بعده، ثم عبد المطلب، فلما حفر زمزم كان يشترى الزبيب فينبذه في ماء زمزم ويسقي الناس. قال ابن إسحاق: لما ولى قصي بن كلاب أمر الكعبة كان إليه الحجابة والسقاية واللواء والرفادة ودار الندوة، ثم تصالح بنوه على أن لعبد مناف السقاية والرفادة، والبقية للأخوين، ثم ذكر نحو ما تقدم، وزاد ((ثم ولي السقاية من بعد عبد المطلب ولده العباس وهو يومئذ من أحدث إخوته سنًا، فلم تزل بيده حتى أقام الإسلام وهي بيده، فأقرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه فهي اليوم إلى بني العباس)) كذا في الفتح. وقال الطبري: قال أهل التواريخ: كان أصل السقاية حياض من أدم توضع على عهد قصي بفناء الكعبة ويستقي فيها الماء للحاج، وأصل الرفادة خرج كانت قريش تخرجه من أموالها إلى قصي يصنع به طعامًا للحاج يأكله من ليس له سعة..... وما زال ذلك الأمر حتى قام به هاشم ثم أخوه عبد المطلب ثم عبد المطلب ثم قام به العباس (فأذن له) وفي رواية: رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للعباس أن يبيت بمكة أيام منى من أجل سقايته، والمراد بأيام منى لياليها كما وقع في رواية البخاري، وهي ليلة الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر. والحديث دليل على مشروعية المبيت في منى ليالي أيام التشريق، وعلى جواز التخلف عن المبيت فيه لأجل السقاية. واتفق العلماء على ذلك، ثم اختلفوا هل المبيت فيه واجب أو سنة فذهب مالك وأصحابه إلى أنه واجب ولو بات ليلة واحدة منها أو جل ليلة وهو خارج عن منى لزمه دم لأثر ابن عباس ((من نسي من نسكه شيئًا أو تركه فليهرق دمًا)) أخرجه البيهقي، وروى مالك في الموطأ عن نافع عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب قال: لا يبين أحد من الحاج ليالي منى من وراء العقبة. ومذهب أبي حنيفة هو أن عدم المبيت بمنى ليالي منى مكروه لأنه - صلى الله عليه وسلم - بات بمنى، وعمر كان يؤدب على ترك المقام بها، ولو بات بغيرها متعمدًا لم يلزمه شيء عند أبي حنيفة وأصحابه لأنهم يرون أن المبيت بمنى لأجل أن يسهل

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه الرمي في أيامه فلم يكن من الواجبات عندهم. وللشافعي في هذه المسألة قولان أصحهما وأشهرهما وأظهرهما أنه واجب، والثاني أنه سنة، فعلى القول بأنه واجب فالدم واجب في تركه وعلى أنه سنة فالدم سنة في تركه ولا يلزم عندهم الدم إلا في ترك المبيت في الليالي كلها لأنها عندهم كأنها نسك واحد، وإن ترك المبيت في ليلة من الليالي الثلاث ففيه الأقوال المذكورة في ترك الحصاة الواحدة عندهم، أصحها أن في ترك مبيت الليلة الواحدة مدًا والثاني أن فيه درهمًا، والثالث أن فيه ثلث دم، وحكم الليلتين معلوم، والمعتبر في المبيت عندهم الكون بمنى معظم الليل إذ المبيت ورد مطلقًا والاستيعاب غير واجب اتفاقًا فأقيم المعظم مقام الكل، ولا فرق بين أول الليل وآخره، وفي قوله أن المعتبر الكون بمنى عند طلوع الفجر ومن حضر بها قبله فقد أدى واجب المبيت، ومذهب الإمام أحمد أن المبيت بمنى ليالي منى واجب فلو ترك المبيت بها في الليالي الثلاث فعليه دم على الصحيح من مذهبه، وعنه يتصدق بشيء وعنه لا شيء عليه، فإن ترك المبيت في ليلة من لياليها ففيه ما في الحصاة الواحدة من الأقوال التي قدمنا: قيل مد، وقيل درهم، وقيل ثلث دم، وأظهر الأقوال دليلاً أن المبيت بمنى أيام منى نسك من مناسك الحج يدخل في قول ابن عباس: من نسي من نسكه شيئًا أو تركه فليرهق دمًا، والدليل على ذلك ثلاثة أمور، الأول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بات بها الليالي المذكورة وقال لتأخذوا عني ماسككم، فعلينا أن نأخذ عنه من مناسكنا البيتوتة بمنى الليالي المذكورة. الثاني هو حديث ابن عمر في الترخيص للعباس الذي نحن في شرحه. قال الحافظ: في الحديث دليل على وجوب المبيت بمنى، وأنه من مناسك الحج، لأن التعبير بالرخصة يقتضي أن مقابلها عزيمة، وأن الإذن وقع للعلة المذكورة، وإذا لم توجد هي أو ما في معناها لم يحصل الإذن، وبالوجوب قال الجمهور، وفي ((قول للشافعي ورواية عن أحمد وهو مذهب الحنفية أنه سنة ووجوب الدم بتركه مبني على هذا الاختلاف، ولا يحصل المبيت إلا بمعظم الليل – انتهى. وما ذكره من أخذ الوجوب من الحديث المذكور واضح. الأمر الثالث هو ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يمنع الحجاج من المبيت خارج منى ويرسل رجالاً يدخلونهم في منى، وهو من الخلفاء الراشدين الذين أمرنا بالإقتداء بهم والتمسك بسنتهم، والظاهر أن من ترك المبيت بمنى لعذر لا شيء عليه كما دل عليه الترخيص للعباس من أجل السقاية والترخيص لرعاء الإبل في عدم المبيت. قال الحافظ: وهل يختص الإذن بالسقاية وبالعباس أو بغير ذلك من الأوصاف المعتبرة في هذا الحكم، فقيل يختص الحكم بالعباس وهو جمود، وقيل يدخل معه آلة، وقيل قومه وهم بنو هاشم، وقيل كل من احتاج إلى السقاية فله ذلك، ثم قيل أيضًا: يختص الحكم بسقاية العباس حتى لو عملت سقاية لغيره لم يرخص لصاحبها في المبيت لأجلها، ومنهم من عممه، وهو الصحيح في الموضعين، والعلة في ذلك إعداد الماء للشاربين، وهل يختص ذلك بالماء أو يلتحق به ما في معناه من الأكل وغيره، محل احتمال، وجزم الشافعية بإلحاق من له مال يخاف ضياعه أو أمر يخاف فوته أو مريض يتعاهده بأهل السقاية كما جزم الجمهور

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ بإلحاق الرعاء خاصة. قال الزرقاني: لكنهم لم يجزموا بذلك بالإلحاق، إنما هو بالنص الذي رواه مالك وأصحاب السنن الأربع عن عاصم بن عدي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى. قال الحافظ: وهو قول أحمد، واختاره ابن المنذر أعني الاختصاص بأهل السقاية ورعاء الإبل، والمعروف عن أحمد اختصاص العباس بذلك، وعليه اقتصر صاحب المغني حيث قال بعد ذكر حديث ابن عمر: وتخصيص العباس بالرخصة لعذره دليل على أنه لا رخصة لغيره، وعن ابن عباس قال لم يرخص النبي - صلى الله عليه وسلم - لأحد يبيت بمكة إلا العباس من أجل سقايته رواه ابن ماجة – انتهى. وقال أيضًا: يجوز للرعاة ترك المبيت بمنى ليالي منى ويؤخرون رمي اليوم الأول ويرمون يوم النفر الأول عن الرميين جميعًا لما عليهم من المشقة في المبيت والإقامة للرمي لحديث أبي البداح بن عاصم بن عدي (الآتي وكذلك الحكم في أهل سقاية الحاج لحديث ابن عمر (الذي نحن في شرحه) إلا أن الفرق بين الرعاء وأهل السقاية أن الرعاء إذا قاموا حتى غربت الشمس فقد انقضى وقت الرعي وأهل السقاية يشتغلون ليلاً ونهارًا فافترقا وصار الرعاء كالمريض الذي يباح له ترك الجمعة لمرضه، فإذا حضرها تعينت عليه، والرعاء أبيح لهم ترك المبيت لأجل الرعي، فإذا فات وقته وجب المبيت، وأهل الأعذار من غير الرعاء كالمرضى ومن له مال يخاف ضياعه ونحوهم كالرعاء في ترك البيتوتة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص لهؤلاء تنبيهًا على غيرهم. أو نقول: نص عليه لمعنى وجد في غيرهم فوجب إلحاقه بهم – انتهى. وقال النووي في مناسكه: من ترك مبيت منى لعذر فلا شيء عليه، والعذر أقسام أحدها أهل سقاية العباس يجوز لهم تركه سواء تولى بنو العباس أو غيرهم. ولو حدثت سقاية للحجاج فللمقيم بشأنها ترك المبيت كسقاية العباس (هذا هو المعتمد، وإن أطال الأسنوي وغيره في رده) الثاني رعاء الإبل يجوز لهم ترك المبيت لعذر الرعي (ينبغي حمله على ما إذا احتاجوا إليه ليلاً أو كانوا مع الذهاب إليه لا يمكنهم المجيء إلى المبيت وإن لم يحتاجوا إليه ليلاً فلا منافاة بين هذا وفرقه الآتي بين السقاة والرعاة) ومتى أقام الرعاء بمنى حتى غربت الشمس لزمهم المبيت بها تلك الليلة، ولو أقام أهل السقاية حتى غربت الشمس فلهم الذهاب إلى السقاية بعد الغروب، لأن شغلهم يكون ليلاً ونهارًا. الثالث من له عذر بسبب آخر كمن له مال يخاف ضياعه لو اشتغل بالمبيت أو يخاف على نفسه أو مال معه أو له مريض يحتاج إلى تعهده أو يطلب عبدًا آبقًا أو يكون به مرض يشق معه المبيت أو نحو ذلك فالصحيح أنه يجوز لهم ترك المبيت، ولهم أن ينفروا بعد الغروب ولا شيء عليهم – انتهى. وقال الدردير: إن ترك المبيت بها جل ليلة فأكثر فدم ولو لضرورة ورخص لراعي إبل فقط بعد رمي العقبة يوم النحر أن ينصرف إلى رعيه ويترك المبيت ليلة الحادي عشر والثاني عشر، ويأتي اليوم الثالث من أيام النحر فيرميه فيه لليومين. وكذا يرخص لصاحب السقاية في ترك المبيت خاصة فلا بد أن يأتي نهارًا للرمي ثم ينصرف، لأن ذا السقاية ينزع الماء من زمزم ليلاً ويفرغه في الحياض. قال الدسوقي: قوله: ((ولو

متفق عليه. 2687 – (5) وعن ابن عباس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء إلى السقاية فاستسقى، فقال العباس: يا فضل! اذهب إلى أمك فأت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشراب من عندها. فقال: " اسقني ". فقال: يا رسول الله! إنهم يجعلون أيديهم فيه. ـــــــــــــــــــــــــــــ كان الترك لضرورة)) أي لخوف على متاعه وهو الذي يقتضيه مذهب مالك حسبما رواه عنه ابن نافع في من حبسه مرض فبات بمكة فإن عليه هديًا، وقوله ((لراعي إبل فقط)) لأن الرخصة كما في الموطأ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لرعاة الإبل، ومعلوم أن الرخصة لا تتعدى محلها، وفي القياس عليها نزاع، وظاهر المصنف (أي الشيخ خليل) وابن شاس وابن الحاجب وابن عرفة الإطلاق (أي في رعاء الإبل ورعاء غير الإبل) قوله ويأتي اليوم الثالث ولا دم عليه لترك المبيت ولا لتأخير رمي اليوم الثاني لليوم الثالث، قوله ((في ترك المبيت خاصة)) أي لا في ترك الإتيان يوم الحادي عشر والإتيان في الثاني عشر كالرعاة – انتهى. وقال في الأنوار عن حاشية الصاوي: رخص مالك جوازًا لراعي الإبل فقط بعد رمي العقبة أن ينصرف إلى رعيه ويترك المبيت ليلة الحادي عشر والثاني عشر، ويأتي اليوم الثالث من أيام النحر فيرمي فيه لليومين الذي فاته والذي حضر فيه، ورخص لصاحب السقاية في ترك المبيت خاصة فلا بد أن يأتي نهارًا للرمي ثم ينصرف لأن ذا السقاية ينزع الماء من زمزم ويفرغه في الحياض – انتهى. وكذا قال الزرقاني: إن أهل السقاية إنما يرخص لهم في ترك البيات بمنى لا في ترك رمي اليوم الأول من أيام الرمي فيبيتون بمكة ويرمون الجمار نهارًا ويعودون لمكة، كما في الطراز المذهب – انتهى. وقد تقدم أن المبيت بمنى سنة عند الحنفية وعدم المبيت بها مكروه تنزيهًا عندهم فضلاً أن يكون للعذر. وفي الحديث استئذان الأمراء والكبراء فيما يطرأ من المصالح والأحكام وبدار من استؤمر إلى الإذن عند ظهور المصلحة (متفق عليه) وأخرجه أيضًا أحمد (ج 2: ص 19، 22، 28) وأبو داود وابن ماجة والدارمي والبيهقي (ج 5: ص 153) . 2687 – قوله (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء إلى السقاية) قال في المجمل: السقاية هي المحل الذي يتخذ فيه الشراب في الموسم كان يشتري الزبيب فينبذ في ماء زمزم ويسقي للناس وكان يليها العباس جاهلية وإسلامًا، وأقرها النبي - صلى الله عليه وسلم - له، فهي لآل العباس أبدًا فلا يجوز لأحد نزعها منهم ما بقى منهم أحد – انتهى (فاستسقى) أي طلب الشراب (فقال العباس: يا فضل: اذهب إلى أمك) الفضل هو ابن العباس أخو عبد الله وأمه هي أم الفضل لبابة بنت الحارث الهلالية، وهي والدة عبد الله أيضًا (فأت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشراب) أي خالص خاص ما وصله استعمال (اسقني) بهمزة وصل أو قطع أي من هذا الشراب الحاضر في السقاية (فقال) أي العباس (يا رسول الله إنهم) أي الناس (يجعلون أيديهم فيه) أي في هذا الشراب والغالب عليهم عدم النظافة. قال الحافظ: في رواية الطبراني من طريق يزيد بن أبي زياد عن عكرمة في هذا

قال: " اسقني ". فشرب منه، ثم أتى زمزم وهم يسقون ويعملون فيها، فقال: " اعملوا فإنكم على عمل صالح ". ثم قال: " لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذه ". وأشار إلى عاتقه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث أن العباس قال له: إن هذا قد مرث (أي وسخوه بإدخال أيديهم فيه) أفلا أسقيك من بيوتنا، قال: لا، ولكن اسقني مما يشرب منه الناس – انتهى. وعند أحمد (ج 1: ص 320، 336) بسند ضعيف، قال ابن عباس: جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - عباسًا فقال: اسقونا، فقال: إن هذا النبيذ شراب قد مغث ومرث، أفلا نسقينك لبنًا أو عسلاً؟ قال: اسقونا مما تسقون منه الناس (قال: اسقني) زاد أبو علي بن السكن في روايته ((فناوله العباس الدلو)) (فشرب منه) قال الحافظ في رواية يزيد المذكورة ((فأتى به فذاقه فقطب ثم دعا بماء فكسره)) قال: وتقطيبه إنما كان لحموضته وكسره بالماء ليهون عليه شربه وعرف بهذا جنس المطلوب شربه إذ ذاك، وقد أخرج مسلم من طريق بكر بن عبد الله المزني. قال: كنت جالسًا مع ابن عباس فقال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفه أسامة فاستسقى فأتيناه بإناء من نبيذ فشرب وسقى فضله أسامة وقال: أحسنتم، كذا فاصنعوا (ثم أتى زمزم وهم يسقون) أي الناس عليها (ويعملون فيها) أي يكدحون بالجذب والصب (فإنكم على عمل أي قائمون أو ثابتون أي تسعون على عمل (صالح) أي خير (لولا أن تغلبوا) بضم أوله على البناء للمجهول، أي لولا كراهة أن يغلبكم الناس ويأخذوا هذا العمل الصالح من أيديكم (لنزلت) أي عن ناقتي، قال التوربشتي: أعلمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الذي يكدحون فيه من سقاية الحاج بمكان من العمل الصالح لحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يشاركهم فيه غيره أنه لا يأمن عليهم إن فعل ذلك غائلة الولاة وتنافسهم وتنازعهم فيه حرصًا على حيازة هذه المأثرة لمكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورغبته فيها فتغلبوا عليها وينتزع عنكم فهذا هو المانع الذي صدني عن النزع معكم – انتهى. وقال الحافظ: معناه لولا أن يغلبكم الناس على هذا العمل إذا رأوني قد عملته لرغبتهم في الإقتداء بي فيغلبوكم بالمكاثرة لفعلت. ويؤيد هذا ما أخرج مسلم من حديث جابر: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بني عبد المطلب وهم يسقون على زمزم فقال: انزعوا بني عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم، واستدل بهذا على أن سقاية الحاج خاصة ببني العباس. وقال ابن بزيزة: أراد بقوله ((لولا أن تغلبوا)) قصر السقاية عليهم وأن لا يشاركوا فيها، واستدل به على أن الذي أرصد للمصالح العامة لا يحرم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا على آله تناوله، لأن العباس أرصد سقاية زمزم لذلك، وقد شرب منها النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال ابن المنير في الحاشية: يحمل الأمر في مثل هذا على أنها مرصدة للنفع العام فتكون للغني في معنى الهدية وللفقير صدقة (حتى أضع) بالنصب والرفع (وأشار إلى عاتقه) هو أحد طرفي رقبته، قال الحافظ: في الحديث من الفوائد أنه لا يكره طلب السقي من الغير ولا رد ما يعرض على المرء من الإكرام إذا عارضته مصلحة أولى منه، لأن رده لما عرض عليه العباس مما يؤتى به من نبيذ لمصلحة التواضع التي ظهرت من شربه مما يشرب منه الناس. وفيه الترغيب في سقي

رواه البخاري. 2688 – (6) وعن أنس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدة بالمحصب، ثم ركب إلى البيت فطاف به. ـــــــــــــــــــــــــــــ الماء خصوصًا ماء زمزم وفيه تواضع النبي - صلى الله عليه وسلم - وحرص أصحابه على الإقتداء به، وكراهة التقذر والتكره للمأكولات والمشروبات. قال ابن المنير في الحاشية: وفيه أن الأصل في الأشياء الطهارة لتناوله - صلى الله عليه وسلم - من الشراب الذي غمست فيه الأيدي – انتهى (رواه البخاري) وأخرجه أيضًا الطبراني والبيهقي (ج 5: ص 147) . 2688 – قوله (صلى الظهر) أي بعد النفر من منى في اليوم الرابع من يوم النحر، وهذا صريح في تقديم رمي الجمار على الظهر أثر الزوال وأنه ينفر من منى قبل أداء صلاة الظهر. قال الحافظ: قوله ((صلى الظهر)) لا ينافي أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يرم إلا بعد الزوال لأنه رمى فنفر فنزل المحصب فصلى الظهر به (ثم رقد رقدة) أي نام نومة خفيفة، وفي حديث ابن عمر عند أحمد وأبي داود ((ثم هجع هجعة)) أي اضطجع ونام يسيرًا (بالمحصب) بضم الميم وفتح الحاء المهملة وتشديد الصاد المهملة المفتوحة وفي آخره باء موحدة، مكان متسع بين مكة ومنى سمي به لاجتماع الحصباء فيه بحمل السيل فإنه موضع منهبط، قال في شرح اللباب: المحصب وهو الأبطح ويسمى الحصباء والبطحاء والخيف، قيل هو إلى منى أقرب وليس بصحيح، والمعتمد أنه بفناء مكة وحده على الصحيح ما بين الجبل الذي عند مقابر مكة، والجبل الذي يقابله مصعدًا إلى جهة الأعلى في الشق الأيسر وأنت ذاهب إلى منى مرتفعًا عن بطن الوادي وليس المقبرة من المحصب. وقال في المرقاة: قوله ((بالمحصب)) تنازع في الجار والمجرور ((صلى)) و ((رقد)) وهو في الأصل كل موضع كثر حصباؤه، والمراد الشعب الذي أحد طرفيه منى والآخر متصل بالأبطح وينتهي عنده، ولذلك لم يفرق الراوي بينهما، فروى في هذا الحديث أنه صلى بالمحصب، وفي حديثه الآخر ((أنه صلى بالأبطح)) ويقال له البطحاء، وقال التوربشتي: قوله ((بالمحصب)) متعلق بأول الحديث إلى قوله ثم رقد كأنه قال: وذلك بالمحصب، والمعنى أنه صلى الصلوات الأربع بالمحصب ثم رقد به رقدة ثم ركب إلى البيت فطاف به أي طواف الصدر وهو طوف الوداع والمراد من المحصب في هذا الحديث هو الأبطح الذي في الحديث الذي يليه، والمحصب يصح أن يقال لكل موضع كثر حصباؤه، والأبطح مسيل واسع فيه دقاق الحصى وهذا الموضع المذكور في الحديث تارة بالأبطح والأخرى بالمحصب أوله منقطع الشعب من وادي منى وآخره متصل بالمقبرة التي يسميه أهل مكة المعلي – انتهى. وهذا الحديث صريح في أن أول صلاة صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المحصب صلاة الظهر، والمتبادر من الحديث الآتي أنه العصر فيقدم الصريح على الظاهر (ثم ركب) أي من المحصب متوجهًا (إلى البيت فطاف به) أي طواف الوداع، والحديث فيه دليل على مشروعية النزول بالمحصب واستحبابه لمن لم يكن

رواه البخاري. 2689 – (7) وعن عبد العزيز بن رفيع، قال: سألت أنس بن مالك. قلت: أخبرني بشيء عقلته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أين صلى الظهر يوم التروية؟ قال: بمنى. ـــــــــــــــــــــــــــــ متعجلاً. واختلفوا في أنه سنة أو منزل اتفاقي على القولين، وسيأتي تفصيل الكلام فيه شرح حديث عائشة الآتي (رواه البخاري) وأخرجه أيضًا النسائي في الكبرى والبيهقي (ج 5: ص 110) . 2689- قوله (عن عبد العزيز بن رفيع) بضم الراء وفتح الفاء مصغرًا، الأسدي أبو عبد الله المكي نزيل الكوفة من مشاهير التابعين وثقاتهم، قال البخاري عن علي: له نحو ستين حديثًا، مات سنة ثلاثين ومائة. وقيل بعدها وليس لعبد العزيز بن رفيع عن أنس في الصحيحين إلا هذا الحديث الواحد (قلت) بدل من سألت أو بيان (عقلته) بفتح القاف أي علمته وحفظته. وهي جملة في محل الجر لأنها وقعت صفة لقوله شيء (أين صلى الظهر) زاد في رواية البخاري ((والعصر)) (يوم التروية؟)) أي اليوم الثامن من ذي الحجة، وقد تقدم وجه تسميته بذلك. وقال الحافظ: سمي التروية بفتح المثناة وسكون الراء وكسر الواو وتخفيف التحتانية لأنهم كانوا يروون فيها إبلهم ويتروون من الماء، لأن تلك الأماكن لم تكن إذ ذاك فيها آبار ولا عيون، وأما الآن فقد كثرت جدًا واستغنوا عن حمل الماء، وقد روى الفاكهي في كتاب مكة من طريق مجاهد قال: قال عبد الله بن عمر: يا مجاهد إذا رأيت الماء بطريق مكة ورأيت البناء يعلوا أخاشبها فخذ حذرك، وفي رواية ((فاعلم أن الأمر قد أظلك)) . وقيل في تسمية التروية أقوال أخرى شاذة، منها أن آدم رأى فيه حواء واجتمع بها. ومنها أن إبراهيم رأى في ليلة أنه يذبح ابنه فأصبح متفكرًا يتروى. ومنها أن جبريل عليه السلام أرى فيه إبراهيم مناسك الحج. ومنها أن الإمام يعلم الناس فيه مناسك الحج، ووجه شذوذها أنه لو كان من الأول لكان يوم الرؤية، أو الثاني لكان يوم التروي بتشدد الواو، أو من الثالث لكان من الرؤيا، أو من الرابع لكان من الرواية (قال بمنى) فيه أن السنة أن يصلي الحاج الظهر يوم التروية بمنى وهو قول الجمهور، ويدل عليه أيضًا ما تقدم في حديث جابر الطويل في صفة الحج ((فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج وركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر)) الحديث. وروى أبو داود والترمذي وأحمد والحاكم من حديث ابن عباس، قال: صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى خمس صلوات، ولأحمد عن ابن عمر أنه كان يحب إذا استطاع أن يصلي الظهر بمنى يوم التروية، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر بمنى. ولابن خزيمة والحاكم من طريق القاسم بن محمد بن عبد الله بن الزبير قال: من سنة الحج أن يصلي الإمام الظهر وما بعدها والفجر بمنى ثم يغدون إلى عرفة. وروى الثوري في جامعه عن عمرو بن دينار قال: رأيت ابن الزبير صلى الظهر يوم التروية بمكة. قال الحافظ: لعله فعل ما نقله عمرو عنه لضرورة أو لبيان الجواز، وروى ابن المنذر من طريق ابن عباس قال: إذ زاغت الشمس فليرح إلى منى. قال ابن المنذر في حديث

قال: فأين صلى العصر يوم النفر؟ قال: بالأبطح. ثم قال افعل كما يفعل أمرآؤك. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن الزبير أن من السنة أن يصلي الإمام الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح بمنى، قال به علماء الأمصار. قال: ولا أحفظ عن أحد من أهل العلم أنه أوجب على من تخلف عن منى ليلة التاسع شيئًا، ثم روى عن عائشة أنها لم تخرج من مكة يوم الترويه حتى دخل الليل وذهب ثلثه. قال ابن المنذر: والخروج إلى منى في كل وقت مباح. قلت: الظاهر من سياق حديث أنس وجابر أن توجهه - صلى الله عليه وسلم - كان قبل الزوال. وذكر أبو سعيد النيسابوري في كتاب ((شرف المصطفى)) أن خروجه - صلى الله عليه وسلم - يوم التروية كان ضحوة النهار، وهذا يدل على استحباب الغدو من الغد. وفي سيرة الملا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى منى بعد ما زاغت الشمس. وهذا يدل على استحباب الرواح بعد الزوال. قال الطبري: يمكن أن يكون - صلى الله عليه وسلم - تأهب للتوجه ضحوة النهار وتوجه في أول الزوال، ويكون أمره بالرواح على ما رواه الشافعي عن الحسن بن مسلم للراكب المخف الذي يصل إلى منى قبل فوات الصلاة وأمره بالغدو للماشي أو لذي الثقل أو يكون أمر بهما توسعة فيهما، فالمتوجه إلى منى مخير بين الغدو والرواح لذلك. وقد اتفقت الروايات كلها على أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بها الظهر والعصر – انتهى. وقال المهلب: الناس في سعة من هذا يخرجون متى أحبوا ويصلون حيث أمكنهم، ولذلك قال أنس: صل حيث يصلي أمراؤك، والمستحب في ذلك ما فعله الشارع، صلى الظهر والعصر بمنى، وهو قول مالك والثوري أبي حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور (قال) كذا في جميع النسخ من المشكاة، وفي الصحيحين ((قلت)) بدل ((قال)) قال القاري: في قوله ((قال)) التفات، إذ حقه أن يقول ((قلت)) (يوم النفر) بفتح النون وسكون الفاء وهو الرجوع والانصراف من منى. قال القاري: أي النفر الثاني وهو اليوم الثالث من أيام التشريق (قال: بالأبطح) أي البطحاء التي بين مكة ومنى وهي ما انبطح من الوادي واتسع، وهي التي يقال لها المحصب، وحدها ما بين الجبلين إلى المقبرة، قاله الحافظ. وقد تقدم ما ذكره القاري في الفرق (ثم قال) أي أنس (افعل كما يفعل أمراؤك) قال الحافظ: خشي عليه أن يحرص على ذلك فينسب إلى المخالفة أو تفوته الصلاة مع الجماعة فقال له: صل مع الأمراء حيث يصلون، وفيه إشعار لأن الأمراء إذ ذاك كانوا لا يواظبون على صلاة الظهر ذلك اليوم بمكان معين فأشار أنس إلى أن الذي يفعلونه جائز، وأن الإتباع أفضل يعني إتباعهم أفضل خوفًا من حدوث فتنة. وقال القاري: أي لا تخالفهم فإن نزلوا به أي (بالأبطح) فانزل، وإن تركوه فاتركه حذرًا مما يتولد على المخالفة من المفاسد فيفيد أن تركه لعذر لا بأس به. انتهى. قال الحافظ: وفي الحديث الإشارة إلى متابعة أولي الأمر والاحتراز عن مخالفة الجماعة (متفق عليه) وأخرجه أيضًا أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي والدرامي وابن خزيمة وأبو عوانة في صحيحه، وابن الجارود في المنتقى وسمويه في فوائده وابن المنذر والإسماعيلي والبيهقي.

2690 – (8) وعن عائشة، قالت: نزول الأبطح ليس بسنة، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2690 – قوله (نزول الأبطح) أي المحصب تعني النزول فيه (ليس بسنة) زاد في رواية أبي داود ((فمن شاء نزل ومن شاء لم ينزل)) قال القاري: ليس بسنة، أي قصدية أو من سنن الحج. وروى الشيخان عن ابن عباس، قال: ليس التحصيب بشيء. قال ابن المنذر: أي من أمر المناسك الذي يلزم فعله. وروى أحمد من طريق ابن أبي مليكة عن عائشة قالت: ثم ارتحل حتى نزل الحصبة. قالت: والله ما نزلها إلا من أجلي. وروى مسلم وأبو داود وغيرهما من طريق سليمان ابن يسار عن أبي رافع قال لم يأمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أنزل الأبطح حين خرج من منى ولكن جئت فضربت قبته فنزل، وروى مسلم من طريق الزهري عن سالم أن أبا بكر وعمر وابن عمر كانوا ينزلون الأبطح. قال الزهري: وأخبرني عروة عن عائشة أنها لم تكن تفعل ذلك وقالت: إنما نزله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان منزلاً أسمح لخروجه. قال الحافظ: لكن لما نزله النبي - صلى الله عليه وسلم - كان النزول به مستحبًا إتباعًا له ولتقريره على ذلك وفعله الخلفاء بعده كما رواه مسلم من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر ينزلون الأبطح. ومن طريق أخرى عن نافع عن ابن عمر أنه كان يرى التحصيب سنة، قال نافع: قد حصب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء بعده. فالحاصل أن من نفى أنه سنة كعائشة وابن عباس أراد أنه ليس من المناسك فلا يلزم بتركه شيء، ومن أثبته كابن عمر أراد دخوله في عموم التأسي بأفعاله - صلى الله عليه وسلم - لا الإلزام بذلك، ويستحب أن يصلي به الظهر والعصر والمغرب والعشاء ويبيت به بعض الليل كما دل عليه حديث أنس (المتقدم) وحديث ابن عمر – انتهى. قلت: نقل ابن المنذر الاختلاف في استحبابه مع الاتفاق على أنه ليس من المناسك. وادعى الحافظ زكي الدين المنذري استحبابه عند جميع العلماء، وكذلك ادعى قبله القاضي عياض. قال العراقي: فيه نظر، لأن الترمذي حكى استحبابه عن بعض أهل العلم، وقال النووي: إن عائشة وابن عباس كانا لا يقولان به، ويقولان هو منزل اتفاقي لا مقصود، فحصل خلاف بين الصحابة رضي الله عنهم، ومذهب الشافعي ومالك والجمهور استحبابه اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين وغيرهم. قال العيني: وهذا هو الصواب، وقد كان من أهل العلم من لا يستحبه فكانت أسماء وعروة بن الزبير رضي الله عنهما لا يحصبان، حكاه ابن عبد البر في الاستذكار عنهما، وكذلك سعيد بن جبير، فقيل لإبراهيم إن سعيد بن جبير لا يفعله، فقال: قد كان يفعله ثم بدأ له، وقد تقدم أن عائشة لم تكن تفعل ذلك. قلت: ومما يدل على استحباب التحصيب ما أخرجه الجماعة من حديث أسامة بن زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: نحن نازلون بخيف بني كنانة حيث تقاسمت قريش على الكفر يعني المحصب، وذلك أن بني كنانة حالفت قريشًا على بني هاشم أن لا يناكحوهم ولا يؤووهم ولا يبايعوهم وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال حين أراد أن ينفر من منى: نحن نازلون غدًا

إنما نزله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان أسمح لخروجه إذا خرج. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ فذكر نحوه، وكان نزوله - صلى الله عليه وسلم - بالمحصب شكرًا لله تعالى على ما منحه فيه من الظهور فيه على أعدائه الذين تقاسموا فيه على قطيعته ومضرته، وتذكيرًا للنعمة من القضاء على الكفر وإظهار دينه ونصرته وتأييده. وقال ابن الهمام بعد ذكر حديث أسامة وأبي هريرة: فثبت بهذا أنه نزله قصدًا ليرى لطيف صنع الله به وليتذكر فيه نعمته سبحانه عليه عند مقايسته نزوله به الآن إلى حاله قبل ذلك، أعني حال انحصاره من الكفار في ذات الله تعالى. وهذا أمر يرجع إلى معنى العبادة، ثم هذه النعمة التي شملته عليه الصلاة والسلام من النصر والاقتدار على إقامة التوحيد وتقرير قواعد الوضع الإلهي الذي دعا الله تعالى إليه عباده لينتفعوا به في دنياهم ومعادهم لا شك في أنها النعمة العظمى على أمته لأنهم مظاهر المقصود من ذلك المؤيد، فكل واحد منهم جدير بتفكرها والشكر التام عليها لأنها عليه أيضًا فكان سنة في حقهم، لأن معنى العبادة في ذلك يتحقق في حقهم أيضًا، وعن هذا حصب الخلفاء الراشدون، وعلى هذا الوجه لا يكون كالرمل ولا على الأول، لأن الإراءة لم يلزم أن يراد بها إراءة المشركين، ولم يكن بمكة مشرك عام حجة الوداع، بل المراد إراءة المسلمين الذين كان لهم علم بالحال الأول، كذا في المرقاة. قلت: ومذهب الحنفية في ذلك على ما في فروعهم وفي مناسكهم أن السنة أن ينزل به ولو ساعة ويدعو أو يقف على راحلته ويدعو. قال في الدر المختار: وإذا نفر إلى مكة نزل استنانًا ولو ساعة بالمحصب. قال ابن عابدين: قوله ((ولو ساعة)) يقف فيه على راحلته يدعو فيحصل بذلك أصل السنة. وأما الكمال فما ذكره الكمال ابن الهمام من أنه يصلي فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء ويهجع هجعة ثم يدخل مكة (بحر) وفي شرح النقاية للقاري: والأظهر أن يقال إنه سنة كفاية لأن ذلك الموضع لا يسع الحاج جميعهم، وينبغي لأمراء الحج وكذا غيرهم أن ينزلوا فيه ولو ساعة إظهار للطاعة – انتهى. وفي المدونة: استحب مالك لمن يقتدي به أن لا يدع النزول به ووسع لمن لا يقتدي به في تركه، وكان يفتي به سرًا وفي العلانية يفتي بالنزول به لجميع الناس (إنما نزله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان أسمح لخروجه) أي أسهل لمخرجه إلى المدينة ليجتمع الناس إليه مدة مقامه ثم يرحلوا لرحيله، فليس ذاك لقصد النسك حتى يكون سنة (إذا خرج) أي إذا أراد الخروج إلى المدينة. قال الحافظ: قوله ((أسمح)) أي أسهل لتوجهه إلى المدينة يستوي في ذلك البطيء والمعتدل ويكون مبيتهم وقيامهم في السحر ورحيلهم بأجمعهم إلى المدينة. وقال الطيبي: لأنه كان يترك فيه ثقله ومتاعه، أي كان نزوله بالأبطح ليترك ثقله ومتاعه هناك ويدخل مكة فيكون خروجه منها إلى المدينة أسهل – انتهى. قال القاري: وفيه أنه لا ينافيه قصد النزول به للمعنى الذي ذكره ابن الهمام كما مر (متفق عليه) وتفرد مسلم منه بقولها ((نزول الأبطح ليس بسنة)) والحديث أخرجه أيضًا أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة والبيهقي.

2691 – (9) وعنها، قالت: أحرمت من التنعيم بعمرة، فدخلت فقضيت عمرتي، وانتظرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأبطح حتى فرغت، فأمر الناس بالرحيل، فخرج فمر بالبيت فطاف به قبل صلاة الصبح، ثم خرج إلى المدينة. هذا الحديث ما وجدته برواية الشيخين، بل برواية أبي داود مع اختلاف يسير في آخره. 2692 – (10) وعن ابن عباس، قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2691-قوله (أحرمت من التنعيم بعمرة) قد تقدم الكلام على إحرامها من التنعيم بالعمرة في الفصل الأول من باب قصة حجة الوداع في شرح حديث عائشة (فدخلت) أي مكة (فقضيت عمرتي) أي أديتها منفردة عن الحج (وانتظرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأبطح حتى فرغت) أي من العمرة (فأمر الناس بالرحيل فخرج) أي من الأبطح (فطاف به) أي طواف الوداع (هذا الحديث ما وجدته برواية الشيخين) أي أحدهما (بل) وجدته (برواية أبي داود مع اختلاف يسير) أي بينه وبين لفظ المصابيح (في آخره) قال القاري: فيه اعتراضان على صاحب المصابيح حيث ذكر الحديث في الفصل الأول وحيث خالف لفظ أبي داود، والله أعلم. قلت روى أبو داود حديث عائشة في باب طواف الوداع أولاً من طريق وهب بن بقية عن خالد عن أفلح عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها، قالت: أحرمت من التنعيم بعمرة فدخلت فقضيت عمرتي وانتظرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأبطح حتى فرغت وأمر الناس بالرحيل. قالت: وأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيت فطاف به ثم خرج. ثم رواه من طريق محمد بن بشار عن أبي بكر الحنفي عن أفلح عن القاسم عن عائشة قالت: خرجت معه تعني مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في النفر الآخر فنزل المحصب. قال أبو داود: ولم يذكر ابن بشار قصة بعثها إلى التنعيم في هذا الحديث. قالت: ثم جئنه بسحر فأذن في أصحابه بالرحيل فارتحل فمر بالبيت قبل صلاة الصبح فطاف به حين خرج، ثم انصرف متوجهًا إلى المدينة – انتهى. وقد اتضح بهذا ما وقع عن البغوي من التصرف والاختلاف في نقل لفظ الحديث. وقال المناوي في الكشف: لم أقف على هذا الحديث بجملة في الصحيحين، إنما الذي في الصحيحين القطعة الأخير منه، وهي قوله ((فأمر الناس بالرحيل)) إلى آخره، وأول الحديث معناه في الصحيحين لا لفظه، ولفظه في أبي داود، هذا ما ظهر لي بعد الكشف – انتهى. كذا في تنقيح الرواة. والحديث سكت عنه أبو داود والمنذري، وأخرجه البيهقي (ج 5: ص 161) من طريق أبي داود عن محمد بن بشار ثم قال: رواه البخاري في الصحيح عن محمد بن بشار. 2692- قوله (كان الناس ينصرفون في كل وجه) أي في كل طريق بعد انقضاء أيام منى، منهم من يطوف ومنهم

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا ينفرن أحدكم حتى يكون آخر عهده بالبيت، ـــــــــــــــــــــــــــــ من لم يطف. وقال القاري: أي بعد حجهم في كل طريق طائفًا وغير طائف (لا ينفرن أحدكم) أي النفر الأول وهو الذي يكون في اليوم الثاني من التشريق لمن تعجل أو النفر الثاني وهو في اليوم الثالث لمن تأخر، أو لا يخرجن أحدكم من مكة. والمراد به الآفاقي، وقوله ((أحدكم)) هكذا وقع في نسخ المشكاة، والذي في صحيح مسلم ((لا ينفرن أحد)) (حتى يكون آخر عهده بالبيت) أي الطواف به كما رواه أبو داود، وقوله بالبيت خبر كان والسياق المذكور لمسلم، ولفظ البخاري ((قال ابن عباس: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن الحائض)) وكذا وقع في رواية لمسلم. قال الحافظ: قوله ((أمر الناس)) كذا في رواية سفيان عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس على البناء لما لم يسم فاعله، والمراد به النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذا قوله ((خفف)) وقد رواه سفيان أيضًا عن سليمان الأحوال عن طاوس فصرح فيه بالرفع، ولفظه عن ابن عباس قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهد بالبيت، وأخرجه مسلم هو والذي قبله عن سعيد بن منصور عن سفيان بالإسنادين فرقهما فكأن طاوسًا حدث به على الوجهين، ولهذا وقع في رواية كل من الروايين عنه ما لم يقع في رواية الآخر. وفيه دليل على وجوب طواف الوداع للأمر المؤكد به وللتعبير في حق الحائض بالتخفيف كما سيأتي، والتخفيف لا يكون إلا من أمر مؤكد. قال النووي: في الحديث دلالة لمن قال بوجوب طواف الوداع وأنه إذا تركه لزمه دم وهو الصحيح في مذهبنا، وبه قال أكثر العلماء منهم الحسن البصري والحكم وحماد والثوري وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وقال مالك وداود وابن المنذر: هو سنة لا شيء في تركه، وعن مجاهد روايتان كالمذهبين – انتهى. قال الحافظ: والذي رأيته في الأوسط لابن المنذر أنه واجب للأمر به إلا أنه لا يجب بتركه شيء – انتهى. قال الشوكاني: قد اجتمع في طواف الوداع أمره - صلى الله عليه وسلم - به ونهيه عن تركه وفعله الذي هو بيان للمجمل الواجب، ولا شك أن ذلك يفيد الوجوب. وقال ابن قدامة: طواف الوداع واجب ينوب عنه الدم إذا تركه، وبهذا قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والشافعي. وقال أيضًا: من أتى مكة لا يخلو إما أن يريد الإقامة بها أو الخروج منها فإن أقام بها فلا وداع عليه لأن الوداع من المفارق لا من الملازم، سواء نوى الإقامة قبل النفر أو بعده، وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: إن نوى الإقامة بعد أن حل له النفر لم يسقط عنه الطواف ولا يصح، لأنه غير مفارق، فلا يلزمه وداع كمن نواها قبل حل النفر، وإنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا ينفرن أحدكم حتى يكون آخر عهده بالبيت، وهذا ليس بنافر. فأما الخارج من مكة فليس له أن يخرج حتى يودع البيت بطواف، وهو واجب من تركه لزمه دم، وبذلك قال الحكم وحماد والثوري وإسحاق وأبو ثور. وقال الشافعي في قول له (ضعيف) : لا يجب بتركه شيء، وبه قال مالك كما تقدم، لأنه يسقط عن الحائض فلم

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ يكن واجبًا. ولنا ما روى ابن عباس قال: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلخ. ولمسلم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت، وليس في سقوطه عن المعذور ما يجوز سقوطه لغيره كالصلاة تسقط عن الحائض وتجب على غيرها، بل تخصيص الحائض بإسقاطه عنها دليل على وجوبه على غيرها، إذ لو كان ساقطًا عن الكل لم يكن لتخصيصها بذلك معنى. ووقته بعد فراغ المرء من جميع أموره ليكون آخر عهده بالبيت على ما جرت به العادة في توديع المسافر إخوانه وأهله، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: حتى يكون آخر عهده بالبيت. ومن كان منزله في الحرم فهو كالمكي لا وداع عليه، ومن كان منزله خارج الحرم قريبًا منه فظاهر كلام الخرقي أنه لا يخرج حتى يودع البيت، وهذا قول أبي ثور، وقال: أصحاب الرأي في أهل المواقيت إنهم بمنزلة أهل مكة في عدم وجوب طواف الوداع. ولنا عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت. ولأنه خارج من مكة فلزمه التوديع كالبعيد، فإن أخر طواف الزيارة فطافه عند الخروج ففيه روايتان: إحداهما يجزئه عن طواف الوداع لأنه أمر يكون آخر عهده بالبيت، وقد فعل، ولأن ما شرع لتحية المسجد أجزأ عنه الواجب من جنسه كتحية المسجد بركعتين تجزئ عنهما المكتوبة، وعنه (أي عن أحمد وهي الرواية الثانية) لا يجزئه عن طواف الوداع لأنهما عبادتان واجبتان فلم تجزئ إحداهما عن الأخرى كالصلاتين الواجبتين، فإن طاف للوداع ثم اشتغل بتجارة أو إقامة فعليه إعادته، وبهذا قال عطاء ومالك والثوري والشافعي وأبو ثور. وقال أصحاب الرأي: إذا طاف للوداع بعد ما حل له النفر أجزأه، وإن أقام شهرًا أو أكثر (أي لا إعادة عليه، والأفضل أن يعيد) لأنه طاف بعد ما حل له النفر فلم يلزمه إعادته كما لو نفر عقبيه. ولنا قوله عليه السلام: لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت، ولأنه إذا أقام بعده خرج عن أن يكون وداعًا في العادة، فلم يجزئه كما لو طافه قبل حل النفر. فأما إن قضى حاجة في طريقه أو اشترى زادًا أو شيئًا لنفسه في طريقه لم يعده، لأن ذلك ليس بإقامة تخرج طوافه عن أن يكون آخر عهده بالبيت، وبهذا قال مالك والشافعي، ولا نعلم مخالفًا لهما، فإن خرج قبل طواف الوداع رجع إن كان بالقرب (فطاف) وإن بعد بعث بدم، هذا قول عطاء والثوري والشافعي وإسحاق وأبي ثور. والقريب هو الذي بينه وبين مكة دون مسافة القصر، والبعيد من بلغ مسافة القصر. نص عليه أحمد وهو قول الشافعي. وقال الثوري: حد ذلك الحرم، فمن كان في الحرم فهو قريب ومن خرج منه فهو بعيد، وإن لم يمكنه الرجوع لعذر فهو كالبعيد، ولو لم يرجع القريب الذي يمكنه الرجوع لم يكن عليه أكثر من دم، إلى آخر ما بسط الكلام في هذه المسألة. وقال العيني: قال أصحابنا الحنفية: هو واجب على الآفاقي دون المكي والميقاتي ومن دونهم: وقال أبو يوسف: أحب إلى أن يطوف المكي لأنه يختم المناسك، ولا يجب على الحائض والنفساء ولا على المعتمر، لأن وجوبه عرف نصًا في الحج فيقتصر عليه (وما ورد في ثبوته على المعتمر فهو حديث ضعيف أخرجه

إلا أنه خفف عن الحائض ". ـــــــــــــــــــــــــــــ الترمذي) ولا على فائت الحج لأن الواجب عليه العمرة وليس لها طواف الوداع، وقال مالك: من أخر طواف الوداع وخرج ولم يطف إن كان قريبًا رجع فطاف، وإن لم يرجع فلا شيء عليه. وقال عطاء والثوري وأبو حنيفة والشافعي في أظهر قوليه وأحمد وإسحاق وأبو ثور: إن كان قريبًا رجع فطاف، وإن تباعد مضى واهراق دمًا، واختلفوا في حد القرب فروي أن عمر رد رجلاً من مر الظهران لم يكن ودع وبينه وبين مكة ثمانية عشر ميلاً (رواه مالك ولم يحد له هو حدًا بل أراد الحكم على المشقة كما قال الباجي) وعند أبي حنيفة يرجع ما لم يبلغ المواقيت، وعند الشافعي وأحمد يرجع من مسافة لا تقصر فيها الصلاة، وعند الثوري يرجع ما لم يخرج من الحرم (إلا أنه خفف) بصيغة المجهول من التخفيف أي طواف الوداع (عن الحائض) وفي معناها النفساء وعلى هذا الاستثناء اتفاق جميع أهل العلم. واستدل به على أن الطهارة شرط لصحة الطواف، وقد تقدم الكلام في ذلك، وصنيع البغوي يدل على أن قوله ((إلا أنه خفف عن الحائض)) تتمة قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا ينفرن أحدكم، إلخ. والأمر ليس كذلك، فإنه قد انتهى إلى قوله ((بالبيت)) والاستثناء المذكور إنما هو تتمة قول ابن عباس عند الشيخين: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، كما تقدم وهو دليل على سقوط طواف الوداع عن المرأة الحائضة، فلا يكون واجبًا عليها ولا يلزمها دم بتركه. قال ابن قدامة: المرأة إذا حاضت قبل أن تودع خرجت ولا وداع عليها ولا فدية، وهذا قول عامة فقهاء الأمصار، وقد روى عن عمر وابنه أنهما أمرا الحائض بالمقام لطواف الوداع. وكان زيد بن ثابت يقول به، ثم رجع عنه كما روى مسلم. وروى عن ابن عمر أنه رجع إلى قول الجماعة أيضًا، وقد ثبت التخفيف عن الحائض بحديث صفية حين قالوا: يا رسول الله إنها حائض، فقال: أحابستنا هي قالوا: يا رسول الله إنها قد أفاضت يوم النحر، قال: فلتنفر إذًا، ولا أمرها بفدية ولا غيرها. وفي حديث ابن عباس: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض. والحكم في النفساء كالحكم في الحائض – انتهى. وقال النووي: حديث ابن عباس دليل لوجوب طواف الوداع على غير الحائض وسقوطه عنها، ولا يلزمها دم بتركه، هذا مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد والعلماء كافة إلا ما حكى ابن المنذر عن عمر وابنه وزيد بن ثابت أنهم أمروا بالمقام لطواف الوداع، ودليل الجمهور هذا الحديث وحديث صفية – انتهى. وروى البخاري من طريق عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: رخص للحائض أن تنفر إذا أفاضت، قال: وسمعت ابن عمر يقول: إنها لا تنفر. ثم سمعته يقول بعد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص لهن. قال الحافظ: قوله ((ثم سمعته يقول بعد)) إن ذلك كان قبل موت ابن عمر بعام كما وقع للطحاوي من رواية عقيل عن الزهري عن طاوس، وقال ابن المنذر: قال عامة الفقهاء بالأمصار: ليس على الحائض التي قد أفاضت طواف وداع،

متفق عليه. 2693 – (11) وعن عائشة، قالت: حاضت صفية ـــــــــــــــــــــــــــــ وروينا عن عمر بن الخطاب وابن عمر وزيد بن ثابت أنهم أمروها بالمقام إذا كانت حائضًا لطواف الوداع، وكأنهم أوجبوه عليها كما يجب عليها طواف الإفاضة إذ لو حاضت قبله لم يسقط عنها، ثم أسند عن عمر بإسناد صحيح إلى نافع عن ابن عمر قال: طافت امرأة بالبيت يوم النحر ثم حاضت فأمر عمر بحبسها بمكة بعد أن ينفر الناس حتى تطهر وتطوف بالبيت. قال: وقد ثبت رجوع ابن عمر وزيد بن ثابت عن ذلك وبقي عمر فخالفناه لثبوت حديث عائشة، يشير بذلك إلى حديثها الآتي وما في معناه، وقد روى ابن أبي شيبة من طريق القاسم بن محمد كان الصحابة يقولون: إذا أفاضت المرأة قبل أن تحيض فقد فرغت إلا عمر فإنه كان يقول: يكون آخر عهدها بالبيت. وقد وافق عمر على رواية ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غيره، فروى أحمد وأبو داود والنسائي والطحاوي واللفظ لأبي داود من طريق الوليد بن عبد الرحمن عن الحارث بن عبد الله بن أوس الثقفي قال: أتيت عمر فسألته عن المرأة تطوف بالبيت يوم النحر ثم تحيض، قال: ليكن آخر عهدها بالبيت، فقال الحارث كذلك أفتاني، وفي رواية أبي داود: هكذا حدثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واستدل الطحاوي بحديث عائشة على نسخ حديث الحارث في حق الحائض، وكذلك استدل على نسخه بحديث أم سليم عند أبي داود الطيالسي أنها قالت: حضت بعد ما طفت بالبيت فأمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أنفر، والحق مع الجمهور، ولعل عمر لم يبلغه حديث الرخصة وإلا لكان أو الناس عملاً به (متفق عليه) قد تقدم أن أول الحديث إلى قوله بالبيت لمسلم وحده وقوله ((إلا أنه خفف عن الحائض)) إنما هو تتمة الرواية الأخرى التي اتفق عليها الشيخان، والحديث أخرجه أيضًا أحمد (ج 1: ص 222) وأبو داود والنسائي وابن ماجة والشافعي وابن الجارود والدارمي والبيهقي والبغوي في شرح السنة. 2693 – قوله (حاضت صفية) بفتح الصاد المهملة وكسر الفاء وتشديد الياء آخر الحروف، وهي أم المؤمنين صفية بنت حيي – بضم الحاء المهملة ويجوز كسرها وفتح التحتية الأولى المخففة وشدة الأخرى – ابن أخطب، بفتح الهمزة وإسكان الخاء المعجمة وفتح الطاء المهملة آخرها باء موحدة، بن سعنة بن ثعلبة الإسرائيلية من سبط لاوي بن يعقوب ثم من سبط هارون بن عمران أخي موسى عليهما السلام، كانت تحت سلام بن مشكم اليهودي، ثم خلف عليها كنانة بن أبي الحقيق، وهما شاعران فقتل زوجها كنانة في غزوة خيبر حين افتتحها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة سبع فوقعت في السبي فاصطفاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه وأسلمت فأعتقها وتزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد خيبر في سنة سبع من الهجرة. قيل: كان اسمها زينب فلما صارت من الصفاء سميت صفية وكانت حليمة عاقلة فاضلة توفيت في رمضان سنة (50 أو 52) في زمن

ليلة النفر، فقالت: ما أراني إلا حابستكم. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " عقرى حلقى ـــــــــــــــــــــــــــــ معاوية، وقيل سنة (36) وهو غلط، فإن علي بن الحسين لم يكن ولد، وقد ثبت سماعه منها في الصحيحين ودفنت بالبقيع ولها نحو ستين سنة لقولها: ما بلغت سبع عشرة سنة يوم دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الحافظ: قوله ((حاضت)) أي بعد أن أفاضت يوم النحر كما في رواية البخاري في باب الزيارة يوم النحر من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة قالت: حججنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فأفضنا يوم النحر فحاضت صفية – الحديث. ثم قال البخاري: ويذكر عن القاسم وعروة والأسود عن عائشة: أفاضت صفية يوم النحر. قال الحافظ: غرضه بهذا أن أبا سلمة لم ينفرد عن عائشة بذلك وإنما لم يجزم به لأن بعضهم أورده بالمعنى، ثم ذكر الحافظ تخريج روايات هؤلاء الثلاثة من الصحيحين (ليلة النفر) أي ليلة يوم النفر لأن النفر لم يشرع في تلك الليلة بل في يومها. قال القاري: والنفر يحتمل الأول والثاني وجزم به ابن حجر، قلت: يدل على أن المراد هو الثاني ما رواه مسلم من طريق الحكم عن إبراهيم عن عائشة قالت: لما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينفر إذا صفية على باب خبائها كئيبة حزينة فقال: عقرى حلقى إنك لحابستنا – الحديث (فقالت) أي صفية للنبي - صلى الله عليه وسلم - (ما أراني) بصيغة المجهول من الإراءة، أي ما أظن نفسي (إلا حابستكم) بكسر الباء وفتح التاء نصبًا على المفعولية، أي مانعتكم عن الخروج إلى المدينة بل تنظرون إليَّ أن أطهر فأطوف طواف الوداع ظنا منها أن طواف الوداع كطواف الإفاضة لا يجوز تركه بالأعذار. قال العيني: قولها ما أراني إلا حابستكم أي ما أظن نفسي إلا حابستكم لانتظار طهري وطوافي للوداع فإني لم أطف للوداع، وقد حضنت فلا يمكنني الطواف الآن، وظنت أن طواف الوداع لا يسقط عن الحائض – انتهى. وفي رواية للبخاري قالت صفية: ما أراني إلا حابستهم. قال العيني: أي ما أظن نفسي إلا حابسة القوم عن التوجه إلى المدينة لأني حضت وما طفت بالبيت (أي للوداع) فلعلهم بسببي يتوقفون إلى زمان طوافي بعد الطهارة، وإسناد الحبس إليها على سبيل المجاز – انتهى (قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: عقرى حلقى) بالفتح فيهما ثم السكون، وبالقصر بغير تنوين في الرواية، ويجوز في اللغة التنوين، وصوبه أبو عبيد، لأن معناه الدعاء بالعقر والحلق كما يقال سقيا ورعيا ونحو ذلك من المصادر التي يدعى بها، وعلى الأول هو نعت لا دعاء، ثم معنى ((عقرى)) عقرها الله أي جرحها وقيل جعلها عاقرًا لا تلد وقيل عقر قومها، ومعنى ((حلقى)) حلق شعرها وهو زينة المرأة، أو أصابها وجع في حلقها، أو حلق قومها بشؤمها أي أهلكهم، وحكى القرطبي أنها كلمة تقولها اليهود للحائض، فهذا أصل هاتين الكلمتين، ثم اتسع العرب في قولهما بغير إرادة حقيقتهما كما قالوا: قاتله الله، وتربت يداه، ونحو ذلك. وقال الطيبي: قوله عقرى حلقى، هكذا روي على وزن فعلى بلا تنوين والظاهر عقرًا وحلقًا بالتنوين، أي عقرها الله عقرًا وحلقها الله حلقًا يعني قتلها وجرحها أو أصاب حلقها بوجع، وهذا دعاء لا يراد وقوعه، بل عادة العرب التكلم بمثله على

(الفصل الثاني)

أطافت يوم النحر؟ " قيل: نعم. قال: " فانفري ". متفق عليه. (الفصل الثاني) 2694 - (12) عن عمرو بن الأحوص، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول في حجة الوداع: " أي يوم هذا؟ " قالوا: يوم الحج الأكبر. ـــــــــــــــــــــــــــــ سبيل التلطف وقيل هما صفتان للمرأة يعني أنها تحلق قومها وتعقرهم أي تستأصلهم من شؤمها - انتهى. وقيل إنهما مصدران والعقر الجرح والقتل وقطع العصب، والحلق إصابة وجع في الحلق أو الضرب على الحلق أو الحلق في شعر الرأس لأنهن يفعلن ذلك عند شدة المصيبة، وحقهما أن ينونا لكن أبدل التنوين بالألف إجراء للوصل مجرى الوقف - انتهى. قال القاري: وفيه أنه لا يساعده رسمها بالياء، وقيل إنهما تأنيث فعلان، أي جعلها عقرى أي عاقرًا أي عقيمًا وحلقى أي جعلها صاحبة وجع الحلق، ثم هذا وأمثال ذلك مثل تربت يداه وثكلته أمه مما يقع في كلامهم للدلالة على تهويل الخبر وأن ما سمعه لا يوافقه لا للقصد إلى وقوع مدلوله الأصلي والدلالة على التماسه - انتهى. قال القرطبي وغيره: شتان بين قوله - صلى الله عليه وسلم - هذا لصفية وبين قوله لعائشة لما حاضت معه في الحج: هذا شيء كتبه الله على بنات آدم، لما يشعر به من الميل لها والحنو عليها بخلاف صفية. قال الحافظ: وليس فيه دليل على اتضاع قدر صفية عنده، لكن اختلف الكلام باختلاف المقام فعائشة دخل عليها وهي تبكي أسفًا على ما فاتها من النسك فسلاها بذلك، وصفية أراد منها ما يريد الرجل من أهله (كما ورد في رواية) فأبدت المانع فناسب كلا منهما ما خاطبها به في تلك الحالة - انتهى (أطافت؟) أي صفية (يوم النحر) أي طواف الإفاضة (قيل: نعم) وفي رواية للبخاري ثم قال (أي النبي - صلى الله عليه وسلم -) : كنت طفت يوم النحر؟ قالت: نعم (قال: فانفري) بكسر الفاء أي اخرجي إلى المدينة من غير طواف الوداع فإن وجوبه ساقط بالعذر (متفق عليه) أخرجه البخاري في كتاب الحيض وفي الحج ومسلم في الحج، واللفظ المذكور للبخاري في باب الادلاج من المحصب، وأخرجه أيضًا أحمد ومالك والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن الجارود والبيهقي بألفاظ مختلفة. 2694- قوله (عن عمرو) بفتح أوله (بن الأحوص) بمفتوحة وسكون حاء وبصاد مهملتين. هو عمرو بن الأحوص الجُشَمي بضم الجيم وفتح المعجمة، من بني جشم بن سعد، قال الحافظ في التقريب: صحابي، له حديث في حجة الوداع. ونسبه ابن عبد البر فقال: عمرو بن الأحوص بن جعفر بن كلاب الجشمي الكلابي. اختلف في نسبه، روى عنه ابنه سليمان بن عمرو بن الأحوص، حديثه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبة في حجة الوداع، وفي رمي الجمار أيضًا. يقال: إنه شهد حجة الوداع مع أمه وامرأته، وحديثه في الخطبة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - صحيح - انتهى. قال الحافظ: وقد شهد اليرموك في زمن عمر (يقول في حجة الوداع) أي يوم النحر كما سبق (أي يوم هذا؟ قالوا: يوم الحج الأكبر) وفي

قال: " فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا. ألا لا يجني جان على نفسه، ـــــــــــــــــــــــــــــ رواية ((قال: أي يوم أحرم؟ (أي أعظم وأشد حرمة وأكثر احترامًا) فقال الناس: يوم الحج الأكبر)) وفيه دليل لمن يقول: إن يوم الحج الأكبر هو يوم النحر، وقد وردت في ذلك أحاديث أخرى ذكرها السيوطي في الدر المنثور والحافظ ابن كثير في تفسيره. منها ما رواه البخاري في باب الخطبة أيام منى تعليقًا من حديث ابن عمر قال: وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج بها وقال: هذا يوم الحج الأكبر. فطفق النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: اللهم اشهد. وودع الناس فقالوا: هذه حجة الوداع، ووصل هذا التعليق أبو داود وابن ماجة والطبراني. ومنها ما رواه البخاري أيضًا في باب كيف ينبذ إلى أهل العهد من كتاب الجهاد من حديث أبي هريرة قال: بعثني أبو بكر فيمن يؤذن يوم النحر بمنى.... إلى أن قال: ويوم الحج الأكبر يوم النحر. واختار هذا القول الحافظ ابن جرير، وهو قول مالك والشافعي والجمهور، وسمي بذلك لأن فيه تمام الحج ومعظم أفعاله، وقال الحافظ: لأن فيه تتكمل بقية المناسك، وذهب آخرون منهم عمر وابن عباس وطاوس إلى أنه يوم عرفة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: الحج عرفة. وفيه أقوال أخرى، ذكرها العيني والحافظ في الفتح في تفسير سورة براءة، والقول الأول أرجح وأما ما اشتهر على ألسنة العوام من أن يوم عرفة إذا وافق يوم الجمعة كان الحج حجًا أكبر يعني أن الحج الأكبر ما كان فيه الوقوف بعرفة يوم الجمعة، فهذا مما لا أصل له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من الصحابة ولا هو المراد بالحج الأكبر المذكور في الكتاب والسنة، نعم له فضل ومزية كما يدل عليه ما ذكره رزين في تجريده عن طلحة بن عبيد الله بن كريز مرسلاً مرفوعًا، ولكن لا يعرف إسناده ولا من خرجه، وقد تقدم التنبيه على هذا في باب الوقوف بعرفة ثم قولهم ((يوم الحج الأكبر)) بظاهره ينافي جوابهم السابق ((والله ورسوله أعلم)) وقد تقدم وجه التوفيق فتذكر (فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا) أي مكة أو الحرم المحترم وزاد في رواية ابن ماجة والترمذي في التفسير ((في شهركم هذا)) أريد بذلك أن دم كل واحد حرام عليه وعلى غيره. وأما في المال فالمراد أن مال كل واحد حرام على غيره لا عليه إلا في الباطل فقد يصير حرامًا عليه أن يصرفه فيه، قاله السندي (ألا) للتنبيه (لا يجني جان على نفسه) قال الطيبي: خبر في معنى النهي ليكون أبلغ يعني كأنه نهاه فقصد أن ينتهي فأخبر به، والمراد الجناية على الغير إلا أنها لما كانت سببًا للجناية على نفسه أنذرها في صورتها ليكون أدعى إلى الامتناع، ويدل على ذلك أنه روي في بعض طرق الحديث ((إلا على نفسه)) وحينئذ يكون خبرًا بحسب المعنى أيضًا، كذا في المرقاة، وقال في اللمعات: قوله ((ألا لا يجني جان على نفسه)) خبر بمعنى النهي. والمراد لا يجني أحدكم على الغير فيكون سببًا للجناية على نفسه اقتصاصًا ومجازاة، ولما كان هذا في

ألا لا يجني جان على ولده، ولا مولود على والده. ألا وإن الشيطان قد أيس أن يعبد في بلدكم هذا أبدًا، ولكن ستكون له طاعة فيما تحتقرون من أعمالكم فسيرضى به ". ـــــــــــــــــــــــــــــ معنى النهي عن الجناية على الغير والغير أعم أردفه بذكر النهي عن الجناية على والد ومولود تخصيصًا بعد تعميم لاختصاصه بمزيد قبح وشناعة، وقد روى: ألا لا يجني جان إلا على نفسه، وحينئذ يكون خبرًا بحسب المعنى أيضًا انتهى. قلت: قوله ((لا يجني جان على نفسه)) هكذا وقع في جميع نسخ المشكاة، والذي في الترمذي وابن ماجة: لا يجني جان إلا على نفسه، وكذا وقع في المصابيح، فالظاهر أن ما وقع في المشكاة خطأ من المصنف أو الناسخ. قال السندي: لا يجني جان إلا على نفسه أي لا يرجع وبال جنايته من الإثم أو القصاص إلا إليه. وقال الجزري في النهاية: الجناية الذنب والجرم وما يفعله الإنسان مما يوجب عليه العذاب أو القصاص في الدنيا والآخرة، المعنى أنه لا يطالب بجناية غيره من أقاربه وأباعده، فإذا جنى أحدهما جناية لا يعاقب بها الآخر كقوله تعالى:? {?ولا تزر وازرة وزر أخرى} انتهى (ألا لا يجني جان على ولده ولا مولود على والده) قال القاري: يحتمل أن يكون المراد النهي عن الجناية عليه لاختصاصها بمزيد قبح، وأن يكون المراد تأكيد لا يجني جان على نفسه، فإن عادتهم جرت بأنهم يأخذون أقارب الشخص بجنايته. والحاصل أن هذا ظلم يؤدي إلى ظلم آخر، والأظهر أن هذا نفي فيوافق قوله تعالى: {? ولا تزر وازرة وزر أخرى} وإنما خص الولد والوالد لأنهما أقرب الأقارب، فإذا لم يؤاخذا بفعله فغيرهما أولى، وفي رواية ((لا يؤخذ الرجل بجريمة أبيه)) وضبط بالوجهين (ألا وإن الشيطان) هو إبليس الرئيس أو الجنس الخسيس (قد أيس) أي قنط (أن يعبد) قال القاري: أي من أن يطاع في عبادة غير الله تعالى، لأنه لم يعرف أنه عبده أحد من الكفار – انتهى. وقيل معناه إن الشيطان أيس أن يعود أحد من المؤمنين إلى عبادة الصنم، ولا يرد على هذا مثل أصحاب مسيلمة ومانعي الزكاة وغيرهم ممن ارتد لأنهم لم يعبدوا الصنم. ويحتمل معنى آخر وهو أنه أشار - صلى الله عليه وسلم - إلى أن المصلين من أمتي لا يجمعون بين الصلاة وعبادة الشيطان كما فعلته اليهود والنصارى، ولك أن تقول: معنى الحديث أن الشيطان أيس من أن يتبدل دين الإسلام ويظهر الإشراك ويستمر ويصير الأمر كما كان من قبل، ولا ينافيه ارتداد من ارتد بل لو عبد الأصنام أيضًا لم يضر في المقصود فافهم، كذا في اللمعات مع زيادة (في بلدكم هذا) أي مكة، قال القاري: أي علانية، إذ قد يأتي الكفار مكة خفية، قلت: قوله ((في بلدكم هذا)) كذا وقع في رواية ابن ماجة، وللترمذي في الفتن ((في بلادكم هذه)) يعني مكة وما حولها من جزيرة العرب (ولكن ستكون له طاعة) أي انقياد أو إطاعة (فيما تحتقرون) من الاحتقار أي تحسبون ذلك حقيرة صغيرة، ويكون فيها طاعة ومرضاة للشيطان (من أعمالكم) أي دون الكفر من القتل والنهب ونحوهما من الكبائر وتحقير الصغائر (فسيرضى) بصيغة المعلوم أي الشيطان (به) أي بالمحتقر حيث لم يحصل له الذنب

رواه ابن ماجة، والترمذي وصححه. 2695 – (13) وعن رافع بن عمرو المزني، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس بمنى حين ارتفع الضحى على بغلة شهباء، وعلي يعبر عنه، ـــــــــــــــــــــــــــــ الأكبر، ولهذا ترى المعاصي من الكذب والخيانة ونحوهما توجد كثيرًا في المسلمين وقليلاً في الكافرين لأنه قد رضي من الكفار بالكفر فلا يوسوس لهم في الجزئيات، وحيث لا يرضى عن المسلمين بالكفر فيرمهم في المعاصي، وروي عن علي رضي الله عنه: الصلاة التي ليس لها وسوسة إنما هي صلاة اليهود والنصارى. ومن الأمثال ((لا يدخل اللص في بيت إلا فيه متاع نفيس)) وقال الطيبي: قوله ((فيما تحتقرون)) أي مما يتهجس في خواطركم وتتفوهون عن هناتكم وصغائر ذنوبكم فيؤدي ذلك إلى هيج الفتن والحروب كقوله - صلى الله عليه وسلم -: إن الشيطان قد يئس من أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم، كذا في المرقاة، وقوله ((فيما تحتقرون)) إلخ. هو لفظ الترمذي، وفي ابن ماجة ((في بعض ما تحتقرون من أعمالكم فيرضى بها)) والحديث دليل على مشروعية الخطبة يوم النحر، وقد سبق الكلام على ذلك (رواه ابن ماجة) في الحج (والترمذي) في تفسير سورة التوبة وفي كتاب الفتن، ونسبه في تنقيح الرواة للنسائي أيضًا (وصححه) أي الترمذي، وكذا صححه ابن عبد البر كما تقدم. 2695 – قوله (وعن رافع بن عمرو المزني) نسبة إلى قبيلة مزينة بضم الميم وفتح الزاي، وهو رافع بن عمرو بن هلال المزني أخو عائد بن عمرو، لهما ولأبيهما صحبة. قال ابن عبد البر: سكن رافع وعائذ جميعًا البصرة. روى عن رافع هذا عمرو بن سليم المزني وهلال بن عامر المزني. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب: روى رافع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثين أحدهما ((العجوة من الجنة)) عند ابن ماجة (من رواية عمرو بن سليم المزني عنه) والآخر شهوده حجة الوداع عند أبي داود والنسائي (من رواية هلال بن عامر المزني عنه) قال ابن عساكر: كان رافع في حجة الوداع خماسيًا أو سداسيًا – انتهى ورواية هلال بن عامر عنه تدل على أنه بقى إلى خلافة معاوية (يخطب الناس بمنى) أي أول النحر بقرينة قوله (حين ارتفع الضحى على بغلة شهباء) أي بيضاء يخالطها قليل سواد، ولا ينافيه حديث قدامة: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يرمي الجمرة يوم النحر على ناقة صهباء، قاله القاري. قلت: وروى أحمد وأبو داود من حديث الهرماس بن زياد البهلي قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس على ناقته العضباء يوم الأضحى. قال الطبري بعد ذكر حديث الهرماس ورافع المزني: وهذه الخطبة الثالثة من خطب الحج، ولا تضاد بين الحديثين إذ قد يجوز أن يكون خطب على الناقة ثم تحول إلى البغلة ويجوز أن يكون الخطبتان في وقتين، وكانت إحدى الخطبتين تعليمًا للناس لا أنها من خطب الحج – انتهى فتأمل (وعلي يعبر عنه) من التعبير أي يبلغ حديثه من هو بعيد من النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو رضي الله عنه وقف حيث يبلغه صوت

والناس بين قائم وقاعد. رواه أبو داود. 2696، 2697 – (14، 15) وعن عائشة، وابن عباس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخر طواف الزيارة يوم النحر إلى الليل. ـــــــــــــــــــــــــــــ النبي - صلى الله عليه وسلم - ويفهمه فيبلغه للناس ويفهمهم من غير زيادة ونقصان (والناس بين قائم وقاعد) أي بعضهم قاعدون وبعضهم قائمون وهم كثيرون حيث بلغوا مائة ألف وثلاثين ألفًا، كذا في المرقاة. وفي هذا الحديث أيضًا دليل على مشروعية الخطبة في يوم النحر (رواه أبو داود) وأخرجه أيضًا النسائي والبيهقي (ج 5: ص 140) وسكت عنه أبو داود والمنذري، وقال النووي في شرح المهذب: رواه أبو داود بإسناد حسن والنسائي بإسناد صحيح. 2696، 2697 – قوله (أخر طواف الزيارة يوم النحر إلى الليل) هذا يعارض ما وقع في حديث جابر الطويل في صفة حجة الوداع من أنه - صلى الله عليه وسلم - رمى ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثم ركب فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر، وكذا يعارض ما تقدم في باب الحلق من حديث ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى، واختلفوا في الجواب عن ذلك فذهب جماعة منهم ابن القطان الفاسي وابن القيم وابن حزم إلى تضعيف حديث عائشة وابن عباس هذا بل إلى تغليطه. قال ابن القطان: عندي أن هذا الحديث يعني حديث عائشة هذا ليس بصحيح، إنما طاف النبي - صلى الله عليه وسلم - يومئذ نهارًا، وهو ظاهر حديث عائشة من غير رواية أبي الزبير هذه التي فيها أنه أخر الطواف إلى الليل، وهذا شيء لم يرو إلا من هذا الطريق وأبو الزبير مدلس لم يذكر ها هنا سماعًا عن عائشة – انتهى. وقال ابن القيم أفاض - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة قبل الظهر راكبًا فطاف طواف الإفاضة وهو طواف الزيارة، ولم يطف غيره ولم يسع معه، هذا هو الصواب. وطائفة زعمت أنه لم يطف في ذلك اليوم، وإنما أخر طواف الزيارة إلى الليل وهو قول طاوس ومجاهد وعروة، واستدلوا بحديث أبي الزبير المكي عن عائشة المخرج في سنن أبي داود والترمذي قال الترمذي: حديث حسن، وهذا الحديث غلط بين خلاف المعلوم من فعله - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يشك فيه أهل العلم بحجته - صلى الله عليه وسلم - وقال ابن حزم: هذا أي حديث عائشة الذي نحن في شرحه حديث معلول لأنه يرويه أبو الزبير عن ابن عباس وعائشة، وهو يدلس فيما لم يقل فيه أخبرنا أو حدثنا أو سمعت فهو غير مقطوع إلا ما كان من رواية الليث عنه عن جابر فإنه كله سماع، ولسنا نحتج من حديثه إلا بما كان فيه بيان أنه سمعه، وليس في هذا بيان سماعه منهما – انتهى. وذهب بعضهم إلى ترجيح حديث ابن عمر وجابر وتقديمه على حديث عائشة وابن عباس، قال البيهقي بعد ذكر روايات ابن عمر وجابر وعائشة وابن عباس ما لفظه: أصح هذه الروايات حديث نافع عن ابن عمر وحديث جابر وحديث أبي سلمة عن عائشة يعني حديث البخاري بلفظ ((قالت: حججنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأفضنا يوم النحر)) وذهب جماعة منهم البخاري وابن

رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجة. ـــــــــــــــــــــــــــــ حبان والنووي والسندي إلى الجمع بين هذه الروايات، قال البخاري في باب الزيارة يوم النحر: وقال أبو الزبير عن عائشة وابن عباس: أخر النبي - صلى الله عليه وسلم - الزيارة إلى الليل، ويذكر عن أبي حسان عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يزور البيت أيام منى، وقال لنا أبو نعيم ثنا سفيان عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أنه طاف طوافًا واحدًا ثم يقيل ثم يأتي منى يعني يوم النحر، ورفعه عبد الرزاق قال: حدثنا عبيد الله ثم ذكر البخاري حديث أبي سلمة أن عائشة قالت: حججنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فأفضنا يوم النحر – الحديث. قال الحافظ: كأن البخاري عقب هذا (أي حديث أبي الزبير عن عائشة وابن عباس) بطريق أبي حسان ليجمع بين الأحاديث بذلك فيحمل حديث جابر وابن عمر على اليوم الأول، وحديث ابن عباس وعائشة هذا على بقية الأيام. قال الحافظ: وحديث أبي حسان عن ابن عباس وصله الطبراني (والبيهقي ج 5: ص 146) قال: ولرواية أبي حسان هذه شاهد مرسل أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عيينة حدثنا ابن طاوس عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفيض كل ليلة (يعني ليالي منى) . وقال النووي: قوله ((أخر طواف الزيارة يوم النحر إلى الليل)) محمول على أنه عاد للزيارة مع نسائه لا لطواف الإفاضة. قال: ولا بد من هذا التأويل للجمع بين الأحاديث وقال ابن حبان: يشبه أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - رمى ثم أفاض ثم رجع فصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ورقد رقدة ثم ركب إلى البيت فطاف طوافًا ثانيًا بالليل. قال الطبري بعد ذكر حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يزور البيت أيام منى ما لفظه: هذا يؤيد أبي حاتم فلعل زيارته - صلى الله عليه وسلم - وقعت في تلك المرة ليلاً، ويجوز أن يكون هذا منشأ اختلاف الروايات فأراد بعضهم يوم النحر وبعضهم غير يوم النحر، وقد سمى الزيارة إفاضة لأن معنى الإفاضة الدفع بكثرة، ولم يذكر جميعهم أنه كان يوم النحر – انتهى. وقال السندي في حاشية ابن ماجة ((قوله أخر طواف الزيارة إلى الليل)) المعلوم الثابت من فعله - صلى الله عليه وسلم - هو أنه طاف طواف الإفاضة وهو الطواف الفرض قبل الليل، فلعل المراد بهذا الحديث أنه رخص في تأخيره إلى الليل، أو المراد بطواف الزيارة غير طواف الإفاضة، أي إنه كان يقصد زيارة البيت أيام منى بعد طواف الإفاضة فإذا زار طاف أيضًا، وكان يؤخر طواف تلك الزيارة إلى الليل بتأخير تلك الزيارة إلى الليل ولا يذهب على مكة لأجل تلك الزيارة في النهار بعد العصر مثلاً. وقال القاري: قوله أخر طواف الزيارة أي جوز تأخيره يوم النحر إلى الليل إما مطلقًا أو للنساء لما ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - أفاض يوم النحر ثم صلى الظهر بمكة أو منى. وقال شيخنا في شرح الترمذي: حديث ابن عباس وعائشة المذكور ضعيف كما ستعرف (وكما تقدم) فلا حاجة إلى الجمع الذي أشار إليه البخاري (وغيره) وأما على تقدير الصحة فهذا الجمع متعين، هذا وقد سبق شيء من الكلام في الجواب عن هذا الحديث في شرح حديث جابر الطويل في صفة الحج (رواه الترمذي) إلخ. وأخرجه أيضًا أحمد (ج 1: ص 288، 309)

2698 – (16) وعن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرمل في السبع الذي أفاض فيه. رواه أبو داود، وابن ماجة. 2699 – (17) وعن عائشة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا رمى أحدكم جمرة العقبة، فقد حل له كل شيء إلا النساء ". ـــــــــــــــــــــــــــــ والبيهقي (ج 5: ص 144) وذكره البخاري في صححه تعليقًا بصيغة الجزم كما تقدم. وقال الترمذي: هذا حديث حسن وسكت عنه أبو داود ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره. وقال شيخنا في شرح الترمذي في كون هذا الحديث حسنًا نظر، فإن أبا الزبير ليس له سماع من ابن عباس وعائشة كما صرح به الحافظ ابن أبي حاتم في كتاب المراسيل – انتهى. وقال الشيخ أحمد شاكر في شرح المسند: أبو الزبير هو المكي محمد بن مسلم تدرس ثقة ولكن في سماعه من ابن عباس وعائشة شك، روى ابن أبي حاتم في المراسيل (ص 71) عن سفيان بن عيينة قال: يقولون: إن المكي لم يسمع من ابن عباس، وروى عن أبيه أبي حاتم قال: أبو الزبير رأى ابن عباس رؤية ولم يسمع من عائشة. قلت: وقال البيهقي (ج 1: ص 144) بعد رواية هذا الحديث: وأبو الزبير سمع من ابن عباس وفي سماعه من عائشة نظر، قاله البخاري. 2698 – قوله (لم يرمل) بضم الميم من باب نصر (في السبع الذي أفاض فيه) أي في طواف الزيارة يعني لا رمل في طواف الإفاضة كما في طواف الوداع، وإنما هو في طواف القدوم، ففيه دليل على أنه لا يشرع الرمل الذي سلفت مشروعيته في طواف القدوم في طواف الزيارة، قال الطبري: فيه دلالة على اختصاص الرمل بطواف القدوم أو بكل طواف يعقبه سعي وهما قولان للشافعي. وقال أيضًا في شرح حديث ابن عمر ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول خب ثلاثًا ومشى أربعة)) قوله ((الطواف الأول)) هو الذي يأتي به أول ما يقدم يعني طواف القدوم، وفيه دلالة على تخصيص الرمل بطواف القدوم وهو أظهر قولي الشافعي، والقول الآخر أنه يرمل في كل طواف يعقبه سعي بين الصفا والمروة – انتهى (رواه أبو داود وابن ماجة) وأخرجه أيضًا النسائي والبيهقي (ج 5: ص 84) كلهم من طريق ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس، وقد سكت عنه أبو داود ثم المنذري. 2699 – قوله (إذا رمى أحدكم جمرة العقبة) أي وحلق أو قصر، قاله القاري بناء على مذهب الحنفية أن المؤثر في التحلل هو الحلق (فقد حل له كل شيء) أي حرم بالإحرام، ومنه الحلق (إلا النساء) بالنصب على الاستثناء، أي وطئًا ومباشرة وقبلة ولمسًا بشهوة وعقد نكاح حتى يطوف طواف الإفاضة. والحديث يدل على أنه يحل كل محظور

رواه في شرح السنة، وقال: إسناده ضعيف. 2700 - (18) وفي رواية أحمد، والنسائي عن ابن عباس، قال: " إذا رمى الجمرة، فقد حل له كل شيء إلا النساء ". 2701 - (19) وعنها، قالت: أفاض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من آخر يومه ـــــــــــــــــــــــــــــ من محظورات الإحرام إلا الوطئ ودواعيه بعد الرمي وإن لم يحلق لكن وقع في رواية لأحمد وغيره ((إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء)) وهو يدل على أنه بمجموع الأمرين رمي جمرة العقبة والحلق يحل كل محرم على المحرم إلا النساء، وقد بسطنا الكلام في ذلك في شرح حديث عائشة ((كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت)) وهو أول أحاديث الفصل الأول من باب الإحرام والتلبية (رواه) أي صاحب المصابيح (في شرح السنة) أي بسنده، وأخرجه أيضًا أحمد وأبو داود والدارقطني (ص 279) والبيهقي (ج 5: ص 136) والطحاوي وسعيد بن منصور (وقال: إسناده ضعيف) لأن مداره على الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف ومدلس، وقال المنذري: قد ذكر غير واحد من الحفاظ أنه لا يحتج بحديثه - انتهى. وأيضًا اضطرب هو في إسناده، ففي رواية قال عن أبي بكر بن حزم، وفي رواية قال: عن الزهري. ولم يسمع من الزهري شيئًا. وقال البيهقي بعد ذكر الاختلاف في سنده ومتنه: وهذا من تخليطات الحجاج بن أرطاة - انتهى. لكن أخرج مثلها ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن عائشة كما قال الحافظ في الدراية (ص 189) قلت: وذكر ابن الهمام إسناده فقال: أخرج ابن أبي شيبة ثنا وكيع عن هشام بن عروة عن عائشة رضي الله عنها - الحديث. وفي الباب عن ابن عباس كما سيأتي، وعن أم سلمة أخرجه أحمد (ج 6: ص 295، 303) وأبو داود والحاكم (ج 1: ص 489، 490) ، والبيهقي (ج 5 ص 136، 137) مطولاً وفيه قصة وزيادات، وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضًا فيصح الاحتجاج بها على أنه يحل بالرمي كل محرم من محرمات الإحرام سوى النساء. 2700 - قوله (وفي رواية أحمد والنسائي) وابن ماجة والطحاوي والبيهقي (ج 5: ص 136) من طريق الحسن العرني (عن ابن عباس) مرفوعًا وموقوفًا (قال: إذا رمى الجمرة) أي جمرة العقبة (فقد حل له كل شيء إلا النساء) أي حتى يطوف طواف الإفاضة، وهذا أيضًا يدل على أن الرمي هو السبب للتحلل الأول كما هو مذهب المالكية، ويحمله الحنفية على إضمار الحلق أي إذا رمى وحلق جمعًا بينه وبين ما وقع في بعض الروايات من عطفه على الرمي وحديث ابن عباس هذا منقطع، لأن الحسن العرني لم يسمع من ابن عباس كما قاله الإمام أحمد وغيره، وقد تقدم شيء من الكلام في حديث ابن عباس هذا وحديث عائشة الذي قبله في شرح أول أحاديث باب الإحرام والتلبية. 2701- قوله (أفاض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من آخر يومه) أي طاف طواف الإفاضة في آخر يوم النحر، وهو

حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى، فمكث بها ليالي أيام التشريق، يرمي الجمرة إذا زالت الشمس، كل جمرة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ويقف عند الأولى والثانية، فيطيل القيام ويتضرع، ويرمي الثالثة فلا يقف عندها. رواه أبو داود. 2702 - (20) وعن أبي البداح بن عاصم بن عدي، ـــــــــــــــــــــــــــــ أول أيام النحر (حين صلى الظهر) فيه دلالة على أنه صلى الظهر بمكة موافقًا لما دل عليه حديث جابر الطويل وأنه وقع طوافه بعد الزوال بل بعد صلاة الظهر لقوله ((من آخر يومه، وهذا مخالف لما وقع في حديث ابن عمر وغيره أنه طاف قبل الظهر. وقال الطيبي: أي أفاض يوم النحر من منى إلى مكة حين صلى الظهر، فيفيد أنه صلى الظهر بمنى ثم أفاض وهو خلاف ما ثبت في الأحاديث لاتفاقها على أنه صلى الظهر بعد الطواف مع اختلافها أنه صلاها بمكة أو بمنى. قال القاري: لا يبعد أن يحمل على يوم آخر من أيام النحر بأن صلى الظهر بمنى ونزل في آخر يومه مع نسائه لطواف زيارتهن – انتهى. ولا يخفى ما في هذا الجمع من التكلف والتعسف، وقد تفرد باللفظ المذكور محمد بن إسحاق ورواه بعن، فلا حاجة إلى الجمع (فمكث) بفتح الكاف وضمها، أي لبث وبات (بها) أي بمنى (إذا زالت الشمس) فيه دليل على أن وقت رمى الجمرات في غير يوم النحر بعد الزوال (كل جمرة) بالنصب على البدلية وبالرفع على الابتدائية (ويقف عند الأولى) أي أولى الجمرات الثلاث وهي التي تلي مسجد الخيف (والثانية) هي الوسطى (فيطيل القيام) للأذكار من التكبير والتوحيد والتسبيح والتحميد والاستغفار (ويتضرع) أي إلى الله بأنواع الدعوات وعرض الحاجات (ويرمي الثالثة) هي جمرة العقبة التي رماها يوم النحر (فلا يقف عندها) أي للذكر والدعاء (رواه أبو داود) وأخرجه أيضًا أحمد وابن حبان والحاكم والبيهقي (ج 5: ص 148) وفي سنده عندهم محمد بن إسحاق وهو مدلس ولم يصرح بالتحديث، والمدلس إذا قال ((عن)) ولم يتابعه أحد على روايته لا يحتج بروايته. 2702- قوله (وعن أبي البداح) بفتح الموحدة وتشديد الدال المهملة فألف فحاء مهملة (بن عاصم بن عدي) بن الجد – بفتح الجيم – ابن العجلان بن حارثة بن ضبيعة القضاعي البلوي ثم الأنصاري، حليف لبني عمرو بن عوف من الأنصار. قال الواقدي: أبو البداح لقب غلب عليه، وكنيته أبو عمرو – انتهى. وكذا قال على بن المديني وابن حبان: كنيته أبو عمرو، وقيل كنيته أبو بكر وقيل أبو عمر. يقال: اسمه عدي. مات سنة (117) فيما ذكره جماعة، وقيل سنة (110) قال ابن عبد البر في الاستيعاب: اختلف فيه فقيل الصحبة لأبيه وهو من التابعين، وقيل له صحبة وهو الذي توفي عن سبيعة الأسلمية، وخطبها أبو السنابل بن بعكك ذكره ابن جريج وغيره، وهو الصحيح في أن له صحبة، والأكثر يذكرونه في الصحابة – انتهى. وذكره الحافظ في القسم الرابع من حرف الباء من الإصابة، وتعقب ابن عبد البر فقال: عليه

عن أبيه، قال: رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرعاء الإبل في البيتوتة: أن يرملوا يوم النحر، ثم يجمعوا رمي يومين بعد يوم النحر فيرموه ـــــــــــــــــــــــــــــ مؤاخذات، الأولى أن مالكًا أخرج في الموطأ عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن أبي البداح حديثًا، وهذا يدل على تأخر أبي البداح عن عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأن أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم لم يدرك العصر النبوي، وقد روى أيضًا عن أبي البداح أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وابنه عبد الملك وغير واحد وأرخ جماعة وفاته سنة (117) وقال الواقدي: مات سنة (110) وله أربع وثمانون سنة، فعلى هذا يكون مولده سنة (26) بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بخمس عشرة سنة، وهذا كله يدفع أن يكون له صحبة، ويدفع قول ابن مندة: أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال ابن فتحون: قول أبي عمر ((توفي عن سبيعة)) وهم – انتهى. قال ابن سعد: كان أبو البداح ثقة قليل الحديث. وقال الحافظ في التقريب: ثقة من الثالثة، ووهم من قال: له صحبة (عن أبيه) عاصم بن عدي، كان سيد بني عجلان وهو أخو معن بن عدي يكنى أبا عمرو ويقال أبا عبد الله. قال الحافظ في الإصابة: اتفقوا على ذكره في البدريين، ويقال: إنه لم يشهدها بل خرج فكسر فرده النبي - صلى الله عليه وسلم - من الروحاء واستخلفه على العالية من المدينة وهذا هو المعتمد، وبه جزم ابن إسحاق، وأورد الواقدي بسنده إلى أبي البداح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلف عاصمًا على أهل قباء والعالية لشيء بلغه عنهم، وضرب له بسهمه وأجره (فكان كمن شهدها ولهذا ذكروه في البدريين) وقال شهد أحدًا وما بعدها، وله ذكر في الصحيح في قصة اللعان. قال ابن سعد وابن السكن وغيرهما: مات سنة (45) وهو ابن مائة وخمس عشرة، وقيل عشرين – انتهى (رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي جوز وأباح (لرعاء الإبل) بكسر الراء والمد جمع راع أي لرعاتها بضم الراء (في البيتوتة) مصدر بات أي رخص لهم في البيتوتة خارج منى أو في ترك البيتوتة، والمعنى: أباح لهم ترك البيتوتة بمنى ليالي أيام التشريق، لأنهم مشغولون برعي الأبل وحفظها، فلو أخذوا بالمقام والمبيت بمنى ضاعت أموالهم. قال الباجي: قوله ((رخص)) يقتضي أن هناك منع خص هذا منه لأن لفظ الرخصة لا تستعمل إلا فيما يخص من المحظور للعذر، وذلك أن للرعاء عذرًا في الكون مع الظهر الذي لابد من مراعاته، والرعي به للحاجة إلى الظهر في الانصراف إلى بعيد البلاد، فأبيح لهم ذلك لهذا المعنى – انتهى. وقد تقدم بيان اختلاف الأئمة في البيتوتة بمنى هل هو واجب أو سنة، وتقدم أيضًا أنهم اتفقوا على سقوطه للرعاء وأهل السقاية، واختلفوا في أنه يختص السقوط بالرعاء وبأهل السقاية أو يعم أهل الأعذار كلها من مرض أو شغل أو حاجة (أن يرموا يوم النحر) أي جمرة العقبة كسائر الحجاج، قال الباجي: أخبر أن رميهم يوم النحر لا يتعلق به رخصة ولا يغير عن وقته ولا إضافته إلى غيره (ثم يجمعوا رمي يومين) أي الحادي عشر والثاني عشر (فيرموه) أي رمي اليومين وقوله ((فيرموه)) هكذا في المشكاة والمصابيح والذي في الترمذي ((فيرمونه)) وكذا وقع عند أحمد وابن

في أحدهما. ـــــــــــــــــــــــــــــ ماجة، وهكذا نقله الجزري (في أحدهما) أي في أحد اليومين، ومعناه أنهم يجمعون رمي اليوم التالي ليوم النحر مع اليوم الذي يليه وهو يوم النفر الأول جمع تقديم فيرمون في اليوم التالي ليوم النحر ولا يرمون في يوم النفر الأول، أو جمع تأخير فيرمون في يوم النفر الأول ولا يرمون في اليوم التالي ليوم النحر. فظاهر الحديث أنهم بالخيار، إن شاءوا رموا يوم القر لذلك اليوم ولما بعده تقديمًا، وإن شاءوا أخروا فرموا يوم النفر الأول ليومين تأخيرًا، وإلى ذلك ذهب بعضهم كما حكاه الخطابي إذ قال: قال بعضهم: هم بالخيار إن شاءوا قدموا وإن شاءوا أخروا – انتهى. ويؤيد ذلك رواية النسائي بلفظ ((رخص للرعاء في البيتوتة يرمون يوم النحر واليومين الذين بعده يجمعونهما في أحدهما)) ورواية أحمد وابن ماجة بلفظ ثم يجمعوا رمي يومين بعد النحر فيرمونه في أحدهما، ورواية مالك في الموطأ (على ما في طبعات الهند) وفي مسند أحمد والمستدرك للحاكم بلفظ ((ثم يرمون من الغد أو من بعد الغد ليومين ثم يرمون يوم النفر (الآخر)) ) لكن الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة لم يقولوا بجمع التقديم فأولوا الحديث إلى جمع التأخير، فقال مالك كما في مسند أحمد: ظننت أنه في الآخر منهما وفسره في الموطأ بعبارة أوضح فقال: وتفسير الحديث الذي أرخص فيه رسول الله لرعاء الإبل في رمي الجمار فيما نرى والله أعلم أنهم يرمون يوم النحر (جمرة العقبة كسائر الناس ثم ينصرفون لرعيهم فيغيبون عن منى في أول أيام التشريق، وهو اليوم الذي يلي يوم النحر) فإذا مضى اليوم الذي يلي يوم النحر رموا من الغد (أي من غد هذا اليوم الذي يلي يوم النحر وهو اليوم الثالث من أيام النحر واليوم الثاني من أيام التشريق) وذلك يوم النفر الأول (لمن تعجل) فيرمون (أي في هذا اليوم) لليوم الذي مضى (أي لليوم الحادي عشر) ثم يرمون ليومهم ذلك (أي لليوم الثاني عشر) لأنه لا يقضي أحد شيئًا (مما يجب عليه قضاؤه) حتى يجب عليه، فإذا وجب عليه (الأداء) ومضى (وقته ولم يؤد فيه كان القضاء بعد ذلك، فإن بدا لهم النفر (بعد رمى يومين الذي رمى لهما في الثاني) فقد فرغوا (ويجوز لهم النفر) وإن أقاموا إلى الغد (أي إلى اليوم الثالث عشر رموا مع الناس يوم النفر الآخر ونفروا – انتهى. وقال الخطابي: قد اختلف الناس في تعيين اليوم الذي يرمون فيه، فكان مالك يقول يرمون يوم النحر، وإذا مضى اليوم الذي يلي يوم النحر رموا من الغد وذلك يوم النفر الأول يرمون لليوم الذي مضى ويرمون ليومهم ذلك، وذلك أنه لا يقضي أحد شيئًا حتى يجب عليه. وقال الشافعي نحوًا من قول مالك – انتهى. وقال القاري في المرقاة: قال الطيبي: رخص لهم أن لا يبيتوا بمنى وأن يرموا يوم العيد جمرة العقبة ثم لا يرموا في الغد بل يرموا بعد الغد رمى اليومين القضاء والأداء، ولم يجوز الشافعي ومالك أن يقدموا الرمي في الغد – انتهى. قال القاري: وهو كذلك عند أئمتنا يعنى لم يجوزوا التقديم، ويؤيد تفسير مالك ومن واثقه رواية أحمد والبيهقي من طريق ابن جريج عن محمد بن أبي بكر عن أبيه عن أبي البداح عن عاصم بن عدي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرخص

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ للرعاء أن يتعاقبوا فيرموا يوم النحر ثم يدعوا يومًا وليلة ثم يرموا الغد. ولفظ الطحاوي من هذا الطريق: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص للرعاء أن يتعاقبوا فكانوا يرمون غدوة يوم النحر ويدعون ليلة ويوماً ثم يرمون من الغد. ويؤيده أيضًا ما ورد في حديث الباب من طريق سفيان عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه عن أبي البداح عن أبيه عند أحمد وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم والبيهقي وغيرهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص للرعاء أن يرموا يومًا ويدعوا يومًا. قال الشوكاني: أي يجوز لهم أن يرموا اليوم الأول من أيام التشريق، ويذهبوا إلى إبلهم فيبيتوا عندها ويدعوا يوم النفر الأول ثم يأتوا في اليوم الثالث فيرموا ما فاتهم في اليوم الثاني مع رمى اليوم الثالث، وفيه تفسير ثان وهو أنهم يرمون جمرة العقبة ويدعون رمي ذلك اليوم ويذهبون ثم يأتون في اليوم الثاني من أيام التشريق فيرمون ما فاتهم ثم يرمون عن ذلك اليوم كما تقدم، وكلاهما جائز – انتهى. فهذه الروايات ظاهرة بل صريحة في ما قال به الجمهور من جمع التأخير وموافقة لتفسير الموطأ المذكور وأما رواية مالك على ما في النسخ الهندية للموطأ وأحمد وغيرهما بلفظ ((ثم يرمون الغد أو من بعد الغد ليومين)) فقال في المحلى في تأويلها: قوله (ثم يرمون الغد) من يوم النحر، وهو اليوم الحادي عشر إن شاءوا، وذلك هو العزيمة (أو من بعد الغد ليومين) لذلك اليوم واليوم الماضي إن لم يرم من الغد من يوم النحر فقوله ((ليومين)) متعلق بقوله ((أو من بعد الغد)) وهذا المعنى على مذهب مالك والشافعي وغيره ممن لم يجوز تقديم الرمي على يومه لأنه لا قضاء حتى يجب وإلا فظاهر الحديث أنهم بالخيار إن شاءوا رموا يوم القر لذلك اليوم ولما بعده، وإن شاءوا أخروا فرموا يوم النفر الأول ليومين، وبه قال بعضهم – انتهى. وقال الزرقاني: ظاهر رواية الموطأ بلفظ ((ثم يرمون الغد ومن بعد الغد ليومين)) (على ما في النسخ المصرية) أنهم يرمون لهما في يوم النحر، وليس بمراد كما بينه الإمام مالك بعد – انتهى. وقال الباجي: يريد (ص) أنه يرمي لليومين الغد ومن بعد الغد، فذكر الأيام التي يرمي لها وهي الغد من يوم النحر وبعد الغد وهما أول أيام التشريق وثانيها ولم يذكر وقت الرمي وإنما يرمي لهما في اليوم الثاني من أيام التشريق بعد الزوال ولذا جمع بينهما في اللفظ فقال ((ليومين)) وقد فسر ذلك مالك – انتهى. قلت: ويشكل على تفسير الموطأ وعلى ما وقع عند أحمد في آخر الحديث ((قال مالك: ظننت أنه في الآخر منهما)) ما حكاه الترمذي وابن ماجة عن مالك بعد قول عاصم بن عدي في الحديث فيرمونه في أحدهما ((قال مالك: ظننت أنه قال في الأول منهما ثم يرمون يوم النفر)) واختلفوا في دفع هذا الإشكال والاختلاف فذهب بعضهم إلى أن ما في الترمذي وابن ماجة سهو وخطأ من بعض الرواة والصحيح ما في مسند أحمد لأنه موافق لتفسير الموطأ الصريح الواضح، وذهب بعضهم إلى توجيه رواية الترمذي وتأويلها إلى ما في الموطأ والمسند فقال معنى قوله ((في الأول منهما)) أي بترك الرمي في الأول (أي في الحادي عشر) منهما (وقضائه في اليوم الثاني من أيام التشريق) وليس المراد الرمي في الأول منهما، ولا يخفى ما في هذا التأويل من التعسف، وقيل معناه أنهم يرمون في الأول منهما

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ أي في الحادي عشر كسائر الحجاج ثم يروحون إلى إبلهم في المراعي ولا يأتون اليوم الثاني من أيام التشريق أي اليوم الثالث من أيام النحر وهو يوم النفر الأول بل يأتون يوم النفر الآخر فيجمعون فيه بين رمي يومين أي رمي اليوم الثاني عشر ورمي الثالث عشر أي النفر الآخر. وفيه أن هذا شيء آخر لا يناسب ما في المسند والموطأ، وقيل في معنى رواية الترمذي غير ذلك، ثم إن الجمهور بعد ما اتفقوا على جمع التأخير ونفي جمع التقديم أي تقديم رمي يوم على ذلك اليوم اختلفوا في أنه هل يجب الدم في جمع التأخير أو لا يجب وهل هو أداء أو قضاء، فذهبت الأئمة الثلاثة وأبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة إلى أنه لا يجب عليه دم. وقال أبو حنيفة: إذا طلع الفجر من الغد في اليوم الثاني والثالث من أيام النحر فات وقت الأداء فيجب عليه القضاء مع الجزاء إلى غروب آخر أيام التشريق. قال ابن قدامة (ج 3: ص 455) : إذا أخر رمي يوم إلى ما بعده أو أخر الرمي كله إلى آخر أيام التشريق ترك السنة ولا شيء عليه إلا أنه يقدم بالنية رمي اليوم الأول ثم الثاني ثم الثالث، وبذلك قال الشافعي وأبو ثور، لأن أيام التشريق وقت للرمي، فإذا أخره من أول وقته إلى آخره لم يلزمه شيء. قال القاضي: ولا يكون رميه في اليوم الثاني قضاء لأنه وقت واحد، والحكم في رمي جمرة العقبة إذا أخرها كالحكم في رمي أيام التشريق في أنها إذا لم ترم يوم النحر رميت من الغد. وقال أيضًا: آخر وقت الرمي آخر أيام التشريق فمتى خرجت قبل رميه فات وقته واستقر عليه الفداء الواجب في ترك الرمي، هذا قول أكثر أهل العلم – انتهى. وقال النووي في مناسكه: إذا ترك شيئًا من الرمي نهارًا فالأصح أنه يتداركه فيرميه ليلاً أو فيما بقي من أيام التشريق سواء تركه عمدًا أو سهوًا، وإذا تداركه فيها فالأصح أنه أداء لا قضاء، وإذا لم يتداركه حتى زالت الشمس من اليوم الذي يليه فالأصح أنه يجب عليه الترتيب فيرمي أولاً عن اليوم الفائت ثم عن الحاضر، ومتى تدارك فرمى في أيام التشريق فائتها أو فائت يوم النحر فلا دم عليه، ومتى فات ولم يتداركه حتى خرجت أيام التشريق وجب عليه جبره بالدم – انتهى. وقال الشيخ المواق في شرحه المختصر خليل بن إسحاق المالكي في الكلام على قوله ((والليل قضاء)) : قال ابن شاس: للرمي وقت أداء ووقت قضاء ووقت فوات، فوقت الأداء في يوم النحر من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. قال: وتردد الباجي في الليلة التي تلي يوم النحر هل هي وقت أداء أو وقت قضاء، ووقت الأداء في كل يوم من الأيام الثلاثة من بعد الزوال إلى مغيب الشمس ويتردد في الليل كما تقدم – انتهى. وقال الدردير: في جملة ما يجب فيه الدم تأخير الرمي حتى خرجت أيام الرمي وتأخير رمي كل حصاة من العقبة أو غيرها أو تأخير جميع الحصيات عن وقت الأداء وهو النهار لليل وهو وقت القضاء فأولى لو فات الوقتان فدم واحد وقضاء كل من الجمار ولو العقبة ينتهي إلى غروب الرابع، والليل عقب كل يوم قضاء لذلك اليوم يجب به الدم، ووقت أداء كل من الزوال للغروب – انتهى. فعلم من هذا أن الرمي في الليل وفي ما بعد الليل قضاء على ما هو

رواه مالك، والترمذي، والنسائي، وقال ـــــــــــــــــــــــــــــ المشهور عند المالكية فيجب به الدم لكنه يرخص للرعاة مطلقًا أو رعاة الإبل خاصة في جمع التأخير ولا يجب عليهم دم. وقال في الغنية: لو لم يرم في الليل رماه في النهار، ولو قبل الزوال قضاء عند أبي حنيفة وعليه الكفارة للتأخير وأداء عندهما ولا شيء عليه – انتهى. قال القاري: والحاصل أن الرمي موقت عند أبي حنيفة وعندهما ليس بموقت فإذا أخر رمي يوم إلى يوم آخر فعنده يجب القضاء مع الدم، وعندهما يجب القضاء لا غير، لأن الأيام كلها وقت لها انتهى. وقال محمد في موطأه بعد رواية حديث عاصم بن عدي: من جمع رمي يومين في يوم من علة أو غير علة فلا كفارة عليه إلا أنه يكره أن يدع ذلك من غير علة حتى الغد. وقال أبو حنيفة: إذا ترك ذلك حتى الغد فعليه دم. وروى الطحاوي في المعاني حديث ابن عباس مرفوعًا ((الراعي يرعى بالنهار ويرمي بالليل)) ثم قال: ذهب أبو حنيفة إلى أن في هذا الحديث دلالة على أن الليل والنهار وقت واحد للرمي، فقال: إن ترك رجل رمي العقبة في يوم النحر ثم رماها بعد ذلك في الليلة التي بعده فلا شيء عليه، وإن لم يرمها حتى أصبح من غده رماها وعليه دم لتأخيره إياها إلى خروج وقتها وهو طلوع الفجر من يومئذ، وخالفه في ذلك أبو يوسف ومحمد فقال: إذا ذكرها في شيء من أيام الرمي رماها ولا شيء عليه غير ذلك من دم ولا غيره، وإن لم يذكرها حتى مضت أيام الرمي فذكرها لم يرمها وكان عليه في تركها دم. ثم احتج الطحاوي لهما بحديث الباب واستظهره بالنظر. وقد ظهر من هذا كله أنه يجب الدم في جمع التأخير عند أبي حنيفة ولا شك أن قوله بلزوم الجزاء أي الدم مخالف لحديث عاصم بن عدي. وقد أجاب بعض الحنفية عن ذلك بوجوه كلها مخدوشة واهية. والراجح عندنا أن أيام التشريق كاليوم الواحد بالنسبة إلى الرمي في حق الرعاة، فمن رمى عن يوم منها في يوم آخر منها أجزأه ولا شيء عليه، والدليل على ذلك حديث عاصم بن عدي، فلو كان يجب الجزاء بتأخير رمي يوم عن ذلك اليوم لبينه - صلى الله عليه وسلم - لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وأما ما روي عن ابن عباس مرفوعًا ((من قدم شيئًا من حجه أو أخره فليهرق لذلك دمًا)) فهو محمول على عدم العذر، والله أعلم. قال الشنقيطي بعد ذكر حديث عاصم بن عدي: التحقيق أن أيام الرمي كلها كاليوم الواحد، وأن من رمى عن يوم في الذي بعده لا شيء عليه لإذن النبي - صلى الله عليه وسلم - للرعاء في ذلك ولكن لا يجوز تأخير يوم إلى يوم آخر إلا لعذر فهو وقت له ولكنه كالوقت الضروري والله تعالى أعلم (رواه مالك) في باب الرخصة في رمي الجمار بلفظ ((أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة يرمون يوم النحر ثم يرمون الغد أو من بعد الغد ليومين ثم يرمون يوم النفر)) وكذا رواه أبو داود والدارمي (والترمذي والنسائي) وأخرجه أيضًا أحمد (ج 5: ص450) والشافعي وابن ماجة وابن حبان والحاكم والبيهقي (ج 5: ص 450) وفي رواية للترمذي وأبي داود والنسائي وابن الجارود والحاكم قال: رخص للرعاء أن يرموا يومًا ويدعوا يومًا (وقال

(11) باب ما يجتنبه المحرم

الترمذي: هذا حديث صحيح. (11) باب ما يجتنبه المحرم (الفصل الأول) 2703 - (1) عن عبد الله بن عمر، أن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما يلبس المحرم من الثياب؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ الترمذي: هذا حديث صحيح) وسكت عنه أبو داود ونقل المنذري تصحيح الترمذي وقرره، وصححه الحاكم على شرط الشيخين وسكت عنه الذهبي. (باب ما يجتنبه المحرم) أي من المحظورات يعني وما لا يجتنبه من المباحات، قاله القاري. والمقصود بيان ما يحرم على المحرم وما يباح له، والمراد بالمحرم من أحرم بحج أو عمرة أو قرن، وقد تقدم الكلام على معنى الإحرام وحقيقته في باب الإحرام والتلبية. 2703 - قوله (عن عبد الله ابن عمر أن رجلاً) قال الحافظ: لم أقف على اسمه في شيء من الطرق (سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما يلبس) كلمة استفهامية أو موصولة أو موصوفة في محل النصب على أنه مفعول ثان لسأل، و ((يلبس)) بفتح الموحدة من اللبس بضم اللام، يقال: لبس الثوب يلبس من باب علم يعلم. وأما اللبس بفتح اللام فهو من باب ضرب يضرب، يقال لبست عليه الأمر ألبس بالفتح في الماضي والكسر في المستقبل إذا خلطت عليه، ومنه التباس الأمر وهو اشتباهه (المحرم) قال الحافظ: أجمعوا على أن المراد به ها هنا الرجل ولا يلتحق به المرأة في ذلك. قال ابن المنذر: أجمعوا على أن للمرأة لبس جميع ما ذكر، وإنما تشترك مع الرجل في منع الثوب الذي مسه الزعفران أو الورس وسيأتي الكلام على ذلك (من الثياب) أي من أنواع الثياب وهو بيان لما، أو للمسئول عنه وعند أحمد (ج 2: ص 77) والنسائي من طريق عمر بن نافع عن أبيه ((ما نلبس من الثياب إذا أحرمنا؟)) وهكذا عند أحمد (ج 2: ص 54) من طريق عبيد الله و (ص 65) من طريق أيوب كلاهما عن نافع، وهو مشعر بأن السؤال كان قبل الإحرام. وللبيهقي من طريق عبد الله بن عون عن نافع عن ابن عمر قال: قام رجل من هذا الباب يعني بعض أبواب مسجد المدينة فقال: يا رسول الله ما يلبس المحرم؟ وله أيضًا من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: ((نادى رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب وهو بذاك المكان، وأشار نافع إلى مقدم المسجد)) فظهر أن السؤال كان بالمدينة. وفي حديث ابن عباس عند الشيخين أنه - صلى الله عليه وسلم - خطب بذلك في عرفات فيحمل على التعدد. ويؤيده أن في حديث ابن عمر أجاب به السائل. وفي حديث ابن عباس ابتدأ به الخطبة. وقوله ((ما يلبس المحرم من الثياب)) هي الرواية المشهورة عن نافع عن ابن عمر. وقد رواه أبو عوانة من طريق ابن جريج عن نافع بلفظ ((ما يترك المحرم)) قال الحافظ: وهي شاذة، والاختلاف فيها على ابن جريج لا على

فقال: " لا تلبسوا القمص ـــــــــــــــــــــــــــــ نافع، وأخرجه أحمد (ج 2: ص 8) عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن سالم عن ابن عمر فقال مرة: ما يترك؟ ومرة: ما يلبس؟ وأخرجه أبو داود عن ابن عيينة بلفظ ((ما يترك)) من غير شك. ورواه سالم عن ابن عمر بلفظ ((أن رجلاً قال: ما يجتنب المحرم من الثياب)) أخرجه أحمد (ج 2: ص 34) وابن خزيمة وأبو عوانة في صحيحيهما من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عنه، وأخرجه البخاري في أواخر الحج من طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري بلفظ نافع فالاختلاف فيه على الزهري يشعر بأن بعضهم رواه بالمعني فاستقامت رواية نافع لعدم الاختلاف فيها (لا تلبسوا أي مريدوا الإحرام. وفي رواية للبخاري ((لا يلبس)) بالرفع على الخبر على الأشهر وهو في معنى النهي، وروى بالجزم على أنه نهى، وهذا الجواب مطابق للسؤال على إحدى الروايتين وهي قول السائل ما يترك المحرم أو ما يجتنب المحرم؟ وأما على الرواية المشهورة أي قول السائل ((ما يلبس)) فإن المسئول عنه ما يلبسه المحرم فأجيب بذكر ما لا يلبسه، والحكمة فيه أن ما يجتنبه المحرم ويمتنع عليه لبسه محصور فذكره أولى ويبقى ما عداه على الإباحة بخلاف ما يباح له لبسه فإنه كثير غير محصور فذكره تطويل، وفيه تنبيه على أن السائل لم يحسن السؤال وأنه كان الأليق السؤال عما يتركه فعدل عن مطابقته إلى ما هو أولى، وبعض علماء المعاني يسمى هذا أسلوب الحكيم، وقريب منه قوله تعالى {يسألونك ماذا ينفقون، قل ما أنفقتم من خير فللوالدين} (سورة البقرة، الآية 215) فالسؤال عن جنس المنفق فعدل عنه في الجواب إلى ذكر المنفق عليه لأنه أهم. وكان اعتناء السائل بالسؤال عنه أولى. قال النووي: قال العلماء: هذا الجواب من بديع الكلام وجزله فإنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عما يلبسه المحرم فقال: لا يلبس كذا وكذا فحصل في الجواب أنه لا يلبس المذكورات ويلبس ما عداها، فكان التصريح بما لا يلبس أولى لأنه منحصر، وأما الملبوس الجائز للمحرم فغير منحصر فضبط الجميع بقوله لا يلبس كذا وكذا يعني ويلبس ما سواه – انتهى. وقال البيضاوي: سئل عما يلبس فأجاب بما لا يلبس ليدل بالالتزام من طريق المفهوم على ما يجوز، وإنما عدل عن الجواب لأنه أخصر وأحصر، وفيه إشارة إلى أن حق السؤال أن يكون عما لا يلبس لأنه الحكم العارض في الإحرام المحتاج لبيانه، إذ الجواز ثابت بالأصل معلوم بالاستصحاب فكان الأليق السؤال عما لا يلبس. وقال ابن دقيق العيد: يستفاد منه أن المعتبر في الجواب ما يحصل منه المقصود كيف ما كان، ولو بتغيير أو زيادة ولا يشترط المطابقة (القمص) بضمتين جمع قميص نوع من الثياب معروف وهو الدرع، وذكر ابن الهمام في أبواب النفقة من فتح القدير أنهما سواء إلا أن القميص يكون مجيبًا من قبل الكتف والدرع من قبل الصدر – انتهى. ونبه به وبالسراويلات على جميع ما في معناهما وهو ما كان محيطًا أو مخيطًا معمولاً على قدر البدن أو قدر عضو منه، وذلك مثل الجبة والقميص والقباء والتبان والقفار، وفي البحر عن مناسك ابن أمير الحاج الحلبي أن ضابطه لبس كل شيء معمول على قدر البدن أو

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ بعضه بحيث يحيط به بخياطة أو تلزيق بعضه ببعض أو غيرهما، ويستمسك عليه بنفس لبس مثله إلا المكعب – انتهى. وفي شرح الإحياء للزبيدي ((ثم إن قولهم: إن المحرم لا يلبس المخيط)) ترجمة لها جزآن لبس ومخيط، فأما اللبس فهو مرعي في وجوب الفدية على ما يعتاد في كل ملبوس إذ به يحصل الترفه والتنعم، فلو ارتدى بقميص أو قباء أو التحف فيهما أو اتزر بسراويل فلا فدية عليه (فإنه لا يعد لابسًا له في العرف) كما لو اتزر بإزار خيط عليه رقاع، وأما المخيط فخصوص الخياطة غير معتبر بل لا فرق بين المخيط والمنسوج كالدرع والمعقود كجبة اللبد والملزق بعضه ببعض قياسًا لغير المخيط على المخيط والمتخذ من القطن والجلد وغيرهما سواء – انتهى. فإن قلت: تقييد اللبس المنتهي عنه باللبس المعتاد يخالف ما سيأتي في الفصل الثالث من حديث نافع أن ابن عمر وجد القر فقال: ألق على ثوبًا يا نافع، فألقيت عليه برنسًا، فقال: تلقي على هذا؟ وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يلبسه المحرم. قلت: قال ابن عبد البر:هذا من ورعه وتوقيه كره أن يلقى عليه البرنس وسائر أهل العلم إنما يكرهون الدخول فيه ولكنه رضي الله عنه استعمل العموم في اللباس لأن التغطية والامتهان قد يسمى لباسًا، ألم تسمع إلى قول أنس: فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس – انتهى. وهو يقتضي أن ابن عمر إنما فعل ذلك احتياطًا لا لاعتقاده الوجوب. وقال العراقي في شرح الترمذي: ويحتمل أن البرنس كان مفرجًا كالقباء بحيث لو قام عد لابسًا له، فإن بعض البرانس كذلك. وقد حكى الرافعي عن إمام الحرمين فيما لو ألقي على نفسه قباء أو فرجية وهو مضطجع أنه إن أخذ من بدنه ما إذا قام عد لابسه فعليه الفدية، وإن كان بحيث لو قام أو قعد لم يستمسك عليه إلا بمزيد أمر فلا – انتهى، وسيأتي مزيد الكلام في ذلك عند شرح حديث نافع المذكور. تنبيه: قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مناسك الحج ((والسنة أن يحرم في إزار ورداء سواء كانا مخيطين أو غير مخيطين باتفاق الأئمة)) قال صديقنا العلامة عبد الرحمن الافريقي رحمه الله في كتابه ((توضيح الحج والعمرة)) (ص 44) : ومعنى ((مخيطين)) أن تكون في الرداء والإزار خياطة عرضًا وطولاً،وقد غلط في هذا كثير من العوام، يظنون أن المخيط الممنوع هو كل ثوب خيط سواء في صورة عضو الإنسان أم لا، بل كونه مخيطًا مطلقًا، وهذا ليس بصحيح، بل المراد بالمخيط الذي نهي عن لبسه هو ما كان على صورة عضو الإنسان كالقميص والفنيلة والجبة والصدرية والسراويل وكل ما على صفة الإنسان محيط بأعضائه لا يجوز للمحرم لبسه ولو بنسج، وأما الرداء الموصل لقصره أو لضيقة أو خيط لوجود الشق فيه فهذا جائز – انتهى. قال النووي: قال العلماء: الحكمة في تحريم اللباس المذكور في الحديث على المحرم ولباسه الإزار والرداء أن يبعد عن الترفه ويتصف بصفة الخاشع الذليل وليتذكر أنه محرم في كل وقت فيكون أقرب إلى كثرة أذكاره وأبلغ في مراقبته وصيانته لعبادته وامتناعه من ارتكاب المحظورات وليتذكر به الموت ولباس الأكفان ويتذكر البعث يوم القيامة حفاء عراة مهطعين إلى الداع، والحكمة في تحريم الطيب

ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف، ـــــــــــــــــــــــــــــ والنساء أن يبعد عن الترفه وزينة الدنيا وملاذها، ولأن الطيب داع إلى الجماع ولأنه ينافي الحاج فإنه أشعث أغبر، ومحصله أن يجمع همه لمقاصد الآخرة – انتهى بزيادة يسيرة. وقال الشيخ ولى الله الدهلوي: الفرق بين المخيط وما في معناه وبين غير ذلك أن الأول ارتفاق وتحمل وزينة والثاني ستر عورة، وترك الأول تواضع لله وترك الثاني سوء أدب. وقال أيضًا: إن الإحرام في الحج والعمرة بمنزلة التكبير في الصلاة، فيه تصوير الإخلاص والتعظيم وضبط عزيمة الحج بفعل ظاهر، وفيه جعل النفس متذللة خاشعة لله بترك الملاذ والعادات المألوفة وأنواع التجمل، وفيه تحقيق معاناة التعب والتشعث والتغبر لله، وإنما شرع أن يجتنب المحرم هذه الأشياء تحقيقًا للتذلل وترك الزينة والتشعث وتنويها لاستشعار خوف الله وتعظيمه ومؤاخذة نفسه أن لا تسترسل في هواها – انتهى. (ولا العمائم) جمع عمامة بكسر العين، سميت بذلك لأنها تعم جميع الرأس، ونبه به على كل ساتر للرأس مخيطًا أو غير مخيط حتى العصابة فإنها حرام (ولا السراويلات) هو واحد جاء بلفظ الجمع، وقيل جمع سروالة، وهو ثوب خاص بالنصف الأسفل من البدن ولفظه أعجمي لا عربي على الصحيح، يقال: هو فارسي معرب ((شلوار)) في الهندية. في القاموس: السراويل فارسية معربة جمعها سراويلات أو هي جمع سروال وسروالة – انتهى. فالسراويلات تكون حينئذ جمع الجمع. وقال صاحب المحكم: السراويل فارسي معرب يذكر ويؤنث ولم يعرف الأصمعي فيها إلا التأنيث والجمع سراويلات، والسراوين (بالنون) السراويل. زعم يعقوب أن النون فيها بدل من اللام. وقال أبو حاتم السجستاني وسمعت من الأعراب من يقول: الشراويل بالشين المعجمة (ولا البرانس) بفتح الموحدة وكسر النون، جمع البرنس بضمهمها. قال الأزهري وصاحب المحكم وغيرهما: البرنس كل ثوب رأسه منه ملتزق به دراعة كانت أو جبة أو ممطرًا (الممطر بكسر الميم الأولى وفتح الطاء ما يلبس في المطر يتوقى به) من البرس بكسر الباء وهو القطن والنون زائدة، قال النووي: نبه بالعمام والبرانس على كل ساتر للرأس مخيطًا كان أو غيره حتى العصابة فإنها حرام، فإن احتاج إليها لشجة أو صداع أو غيرهما شدهما ولزمته الفدية – انتهى. وقال الخطابي: ذكر العمامة والبرنس معًا ليدل على أنه لا يجوز تغطية الرأس لا بالمعتاد ولا بالنادر. قال: ومن النادر المكتل يحمله على رأسه. قال الحافظ: إن أراد أنه يجعله على رأسه كلابس القبع صح ما قال، وإلا فمجرد وضعه على رأسه على هيأة الحامل لحاجته لا يضر، ومما لا يضر أيضًا الانغماس في الماء فإنه لا يسمى لابسًا وكذا ستر الرأس باليد (ولا الخفاف) بكسر الخاء المعجمة جمع خف. قال النووي: نبه - صلى الله عليه وسلم - بالخفاف على كل ساتر للرجل من مداس وجمجم وجورب وغيرها. وهذا وما قبله كله حكم الرجال، وأما المرأة فيباح لها ستر جميع بدنها بكل ساتر من مخيط وغيره إلا ستر وجهها فإنه حرام بكل ساتر وفي ستر يديها بالقفازين خلاف

إلا أحد لا يجد نعلين، ـــــــــــــــــــــــــــــ للعلماء وهما قولان للشافعي أصحهما تحريمه – انتهى. قال الغزالي في الإحياء: وللمرأة أن تلبس كل مخيط بعد أن لا تستر وجهها بما يماسه، فإن إحرامها في وجهها – انتهى. قال الزبيدي في شرحه: أي إن الوجه في حق المرأة كالرأس في حق الرجل ويعبر عن ذلك بأن إحرام الرجل في رأسه وإحرام المرأة في وجهها، والأصل في ذلك ما روى البخاري من حديث نافع عن ابن عمر مرفوعًا: لا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين (سيأتي الكلام على هذا بعد تخريج الحديث حيث ذكره المصنف) ثم إن قوله: فإن إحرامها في وجهها هو لفظ حديث أخرجه البيهقي في المعرفة (وفي السنن ج 5: ص 47) عن ابن عمر قال: إحرام المرأة في وجهها وإحرام الرجل في رأسه. وأخرج الدارقطني والطبراني والعقيلي وابن عدي (والبيهقي في السنن ج 5: ص 47 مرفوعًا) من حديثه بلفظ ((ليس على المرأة إحرام إلا في وجهها)) وإسناده ضعيف (لأن في سنده أيوب بن محمد أبا الجمل. قال البيهقي: وهو ضعيف عند أهل العلم بالحديث، ضعفه ابن معين وغيره) وقال العقيلي: لا يتابع على رفعه، إنما يروى موقوفًا. وقال الدارقطني في العلل: الصواب وقفه، وليس للرجل لبس القفازين كما ليس له لبس الخفين، وهل للمرأة فيه قولان: أحدهما لا يجوز، قاله في الأم والإملاء، وبه قال مالك وأحمد. والثاني وهو منقول المزني نعم، وبه قال أبو حنفية. وفي الوجيز أنه أصح القولين لكن أكثر النقلة على ترجيح الأول * انتهى. وسيأتي الكلام في هذه المسألة عند شرح قوله: لا تلبس القفازين (إلا أحد) قال القاري: بالرفع على البدلية من واو الضمير، وقال الزرقاني في شرح الموطأ: بالنصب عربي جيد، وروي بالرفع وهو المختار في الاستثناء المتصل بعد النفي وشهبه. قال الزين بن المنير: يستفاد منه جواز استعمال أحد في الإثبات خلافًا لمن خصه بضرورة الشعر كقوله: وقد ظهرت فلا تخفى على أحد _ ... إلا على أحد لا يعرف القمرا قال: والذي يظهر لي بالاستقراء أنه لا يستعمل في الإثبات إلا أن كان يعقبه نفي وكان الإثبات حينئذ في سياق النفي (لا يجد نعلين) في محل الرفع لأنه صفة لأحد، وزاد معمر في روايته عن الزهري عن سالم في هذا الموضع زيادة حسنة تفيد ارتباط ذكر النعلين بما سبق، وهي قوله: وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين، فإن لم يجد نعلين فليلبس الخفين واستدل بقوله ((فإن لم يجد نعلين)) على أن واجد النعلين لا يلبس الخفين المقطوعين وهو قول الجمهور. وأجازه الحنفية وبعض الشافعية. وقال ابن العربي: إن صار كالنعلين جاز، وإلا متى سترا من ظاهر الرجل شيئًا لم يجز إلا للفاقد. قال الزرقاني: فإن لبسهما مع وجود نعلين افتدى عند مالك والليث، وعن الشافعي قولان – انتهى. وصرح في الشرح الكبير والدسوقي بالفدية إن لبسهما مع وجود النعلين سواء قطعهما أولا، وقال في شرح الإحياء: هل يجوز لبس الخف المقطوع والمكعب مع وجود النعلين، فيه وجهان أحدهما نعم لشهبه بالنعل وأصحهما لا، لأن الإذن في الخبر

فيلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين، ـــــــــــــــــــــــــــــ مقيد بشرط أن لا يجدهما - انتهى. وقال القاري في شرح المناسك: ويجوز لبس المقطوع مع وجود النعلين لكن لا ينافي الكراهة المرتبة على مخالفة السنة – انتهى. قال الحافظ: والمراد بعدم الوجدان أن لا يقدر على تحصيله إما لفقده أو ترك بذل المالك له أو عجزه عن الثمن إن وجد من يبيعه أو الأجرة، ولو بيع بغبن لم يلزمه شراؤه أو وهب له لم يجب قبوله إلا أن أعير له (فيلبس الخفين) كذا في نسخ المشكاة بصيغة المضارع وهكذا وقع في بعض نسخ الموطأ. وفي الصحيحين ((فليلبس)) بزيادة اللام على صيغة الأمر. قال الحافظ: ظاهر الأمر للوجوب لكنه لما شرع للتسهيل لم يناسب التثقيل فهو للرخصة (وليقطعهما) بكسر اللام وسكونها (أسفل من الكعبين) وفي رواية حتى يكونا تحت الكعبين. والمراد قطعهما بحيث يصير الكعبان وما فوقهما من الساق مكشوفًا لا قطع موضع الكعبين فقط. قال العيني والحافظ: والمراد كشف الكعبين في الإحرام وهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم، ويؤيده ما روى ابن أبي شيبة عن جرير عن هشام بن عروة عن أبيه قال: إذا اضطر المحرم إلى الخفين خرق ظهورهما وترك فيهما قدر ما يستمسك رجلاه – انتهى. اعلم أن المراد بالكعبين ها هنا هو المراد بهما في الوضوء عند الجمهور وهما العظمان الناتئان في جانبي القدم، والمراد بهما عند محمد بن الحسن ومن تبعه من الحنفية هو العظم الشاخص في ظهر القدم عند معقد الشراك. قال ابن عابدين تحت قول المصنف ((فيقطعهما أسفل من الكعبين عند معقد الشراك)) وهو المفصل الذي في وسط القدم، كذا رواه هشام عن محمد بخلافه في الوضوء، فإنه العظم الناتي أي المرتفع ولم يعين في الحديث أحدهما لكن لما كان الكعب يطلق عليهما حمل على الأول احتياطًا لأن الأحوط فيما كان أكثر كشفًا – انتهى. قال الحافظ: لا يلزم من نقل ذلك عن محمد بن الحسن على تقدير صحته عنه أن يكون قول أبي حنفية ونقل عن الأصمعي وهو قول الإمامية أن الكعب عظم مستدير تحت عظم الساق حيث مفصل الساق والقدم، وجمهور أهل اللغة على أن في كل قدم كعبين – انتهى. وقال الجوهري: الكعب العظم الناشز عند ملتقي الساق والقدم وأنكر الأصمعي قول الناس إنه في ظهر القدم – انتهى. وقال في القاموس الكعب كل مفصل للعظام والعظم الناشز فوق القدم والناشزان من جانبيها أي القدم. قال في تاج العروس (ج 1: ص 456) : وأنكر الأصمعي قول الناس: إنه في ظهر القدم وسأل ابن جابر أحمد بن يحيى عن الكعب فأومأ ثعلب إلى رجله إلى المفصل منها بسبابته عليه. ثم قال: هذا قول المفضل وابن الأعرابي. قال وأومأ إلى الناتئين. قال: وهذا قول أبي عمرو بن العلاء والأصمعي، وكل قد أصاب، كذا في لسان العرب (ج 1: ص 213) قلت: وهذا يدل على أن لفظ الكعب في اللغة يستعمل بالمعنيين بمعنى العظم الناتئ عند مفصل الساق والقدم، وبمعنى العظم في ظهر القدم عند معقد الشراك، فأخذه محمد بهذا المعنى في المحرم لكونه أحوط عنده.

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ قلت: والظاهر عندنا هو قول الجمهور. ثم ظاهر الحديث أنه لا فدية على من لبسهما بعد القطع إذا لم يجد النعلين، وهو مذهب الجمهور. وقال الحنفية تجب، وتعقب بأنها لو وجبت لبينها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه وقت الحاجة، وأيضًا لو وجبت فدية لم يكن للقطع فائدة لأنها تجب إذا لبسهما بلا قطع، قاله الزرقاني. وهذا الذي حكاه عن الحنفية قد اختاره الطحاوي في معاني الآثار ورجحه من حيث الدليل وعزاه إلى أبي حنيفة وصاحبيه، ولكن قال القاري في المرقاة بعد نقل كلام الطحاوي: وفي منسك ابن جماعة: وإن شاء قطع الخفين من الكعبين ولبسهما ولا فدية عند الأربعة – انتهى. وأغرب الطبري والنووي والقرطبي و (الحافظ) ابن حجر فحكوا عن أبي حنيفة أنه يجب عليه الفدية إذا لبس الخفين بعد القطع عند عدم النعلين وهو خلاف المذهب، بل قال في مطلب الفائق: وهذه الرواية ليس لها وجود في المذهب بل هي منتقدة – انتهى. وقال في شرح المناسك: إذا لبسهما قبل القطع يومًا فدم، وفي أقل من يوم صدقة، وإن لبسهما بعد القطع أسفل من موضع الشراك فلا شيء عليه عندنا. وأغرب الطبري والنووي والقرطبي فحكوا عن أبي حنيفة أنه يجب عليه الفدية إذا لبس الخفين بعد القطع عند عدم النعلين – انتهى. وبهذا ظهر أن مذهب الحنفية هو كالجمهور، واستدل بالحديث على أن لبس الخفين مشروط بالقطع، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة مع الاختلاف فيما بينهم في موضع القطع، وعن أحمد في المشهور عنه لا يلزمه قطعهما بل يجوز لبسهما من غير قطع قال ابن قدامة: ويروى ذلك عن علي، وبه قال عطاء وعكرمة وسعيد بن سالم القداح، واحتج أحمد بإطلاق حديث ابن عباس عند البخاري بلفظ ((ومن لم يجد نعلين فليلبس خفين)) ومثله حديث جابر عند مسلم، وتعقب بأنه موافق على قاعدة حمل المطلق على المقيد فينبغي أن يقول بها ها هنا، وبأن ابن عباس حفظ لبس الخفين ولم ينقل صفة اللبس بخلاف ابن عمر فهو أولى. قال الحافظ: وأجاب الحنابلة عن حديث القطع بأشياء: منها دعوى النسخ في حديث ابن عمر فقد روى الدارقطني من طريق عمرو بن دينار أنه روى عن ابن عمر حديثه، وعن جابر بن زيد عن ابن عباس حديثه وقال: انظروا أي الحديثين قبل. ثم حكى الدارقطني عن أبي بكر النيسابوري أنه قال: حديث ابن عمر قبل، لأنه كان بالمدينة قبل الإحرام، وحديث ابن عباس بعرفات فيكون ناسخًا لحديث ابن عمر، لأنه لو كان القطع واجبًا لبينه للناس إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وأجاب الشافعي عن هذا في الأم فقال: كلاهما صادق حافظ وزيادة ابن عمر لا تخالف ابن عباس لاحتمال أن تكون عزبت عنه أو شك أو قالها فلم يقلها عنه بعض رواته – انتهى. وسلك بعضهم الترجيح بين الحديثين. قال ابن الجوزي: حديث ابن عمر اختلف في وقفه ورفعه، وحديث ابن عباس لم يختلف في رفعه – انتهى. وهو تعليل مردود بل لم يختلف على ابن عمر في رفع الأمر بالقطع إلا في رواية شاذة على أنه اختلف في حديث ابن عباس أيضًا فرواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفًا ولا يرتاب أحد

ولا تلبسوا من الثياب شيئًا مسه زعفران ـــــــــــــــــــــــــــــ من المحدثين أن حديث ابن عمر أصح من حديث ابن عباس لأن حديث ابن عمر جاء بإسناد وصف بكونه أصح الأسانيد واتفق عليه عن ابن عمر غير واحد من الحفاظ منهم نافع وسالم، بخلاف حديث ابن عباس فلم يأت مرفوعًا إلا من رواية جابر بن زيد عنه حتى قال الأصيلي: إنه شيخ بصري لا يعرف، كذا قال، وهو معروف موصوف بالفقه عند الأئمة. واستدل بعضهم بالقياس على السراويل كما سيأتي البحث فيه في حديث ابن عباس إن شاء الله تعالى، وأجيب بأن القياس مع وجود النص فاسد الاعتبار، واحتج بعضهم بقول عطاء: إن القطع فساد والله لا يحب الفساد، وأجيب بأن الإفساد إنما يكون فيما نهى الشرع عنه لا فيما أذن فيه، وقال ابن الجوزي: يحمل الأمر بالقطع على الإباحة لا على الاشتراط عملاً بالحديثين، ولا يخفي تكلفه - انتهى كلام الحافظ، وهكذا ذكر العيني، ثم قال: والأحسن في الجواب أن يقال إن حديث ابن عباس قد ورد في بعض طرقه الصحيحة موافقته لحديث ابن عمر في قطع الخفين، رواه النسائي في سننه من طريق إسماعيل بن مسعود عن يزيد بن زريع عن أيوب عن عمرو عن جابر بن زيد عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إذا لم يجد إزار فليلبس السراويل، وإذا لم يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ". قال العيني: وهذا إسناد صحيح وإسماعيل بن مسعود الجحدري وثقه أبو حاتم وغيره، وباقيهم رجال الصحيح. والزيادة من الثقة مقبولة على المذهب الصحيح – انتهى. قلت: وكذا ورد الأمر بالقطع في حديث جابر أيضًا عند الطبراني الأوسط بإسناد حسنه الهيثمي في مجمع الزوائد (ج 3: ص 219) فاتفقت الأحاديث كلها. قال ابن قدامة (ج 3: ص 302) والأولى قطعهما عملاً بالحديث الصحيح وخروجًا من الخلاف وأخذًا بالاحتياط – انتهى. وقال الخطابي (ج 2: ص 345) : أنا أتعجب من أحمد في هذا فإنه لا يكاد يخالف سنة تبلغه، وقلت سنة لم تبلغه، ويشبه أن يكون إنما ذهب إلى حديث ابن عباس، وليست هذه الزيادة فيه، إنما رواها ابن عمر إلا أن الزيادات مقبولة – انتهى (ولا تلبسوا) بفتح أوله وثالثه، وهذا الحكم شامل للنساء، والدليل الصريح على تعميم هذا الحكم ما سيأتي من حديث ابن عمر في نهى النساء في الإحرام عن لبس ما مسه الزعفران والورس في الفصل الثاني من هذا الباب. قال القاري: نكتة الإعادة اشتراك الرجال والنساء في هذا الحكم إما وجه التغليب أو التبعية – انتهى. وقال الحافظ: قيل عدل عن طريقة ما تقدم ذكره إشارة إلى اشتراك الرجال والنساء في ذلك، وفيه نظر. بل الظاهر أن نكتة العدول أن الذي يخالطه الزعفران والورس لا يجوز لبسه سواء كان مما يلبسه المحرم أو لا يلبسه. قال الزرقاني: والظاهر أنه لا تنافي بين النكتتين (من الثياب شيئًا مسه) أي صبغه (زعفران) بالتنكير والتنوين لأنه ليس فيه إلا ألف ونون فقط وهو لا يمنع الصرف، وفي بعض الروايات الزعفران بالتعريف وهو بفتح الزأي المعجمة وسكون العين

ولا ورس ". ـــــــــــــــــــــــــــــ المهملة وفتح فاء وراء مهملة بعدها ألف ونون اسم عربي، كذا في المحيط. وقال العيني: الزعفران اسم أعجمي صرفته العرب فقالوا: ثوب مزعفر وقد زعفر ثوبه يزعفره زعفرة ويجمع على زعافر (ولا ورس) وفي بعض الروايات ولا الورس – وهو بفتح الواو وإسكان الراء آخره سين مهملة – كذا في المحيط، قال المجد: نبات كالسمسم ليس إلا باليمن يزرع فيبقى عشرين سنة، نافع للكلف طلاء والبهق شربًا، وقال العيني: نباته مثل حب السمسم، فإذا جف عند إدراكه تفتق فينفض منه مثل الورق. وقال الجوهري: الورس نبت أصفر يكون باليمن. وقال ابن بيطار: يؤتى بالورس من الصين واليمن والهند، وهو يشبه زهر العصفر. وقال الحافظ: الورس نبت أصفر طيب الريح يصبغ به وذكر ابن العربي أنه ليس بطيب فقال: والورس وإن لم يكن طيبًا فله رائحة طيبة، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبين تجنب الطيب المحض وما يشبه الطيب في ملائمة الشم فيؤخذ منه تحريم أنواع الطيب على المحرم وهو مجمع عليه فيما يقصد به التطيب – انتهى. واستدل بقوله ((مسه)) على تحريم ما صبغ كله أو بعضه ولو خفيت رائحته بعد ذلك للغسل أو لمرور الزمان، وقال الشافعية: إذا صار الثوب بحيث لو أصابه الماء لم تفح له رائحة لم يمنع وإن بقى اللون، والحجة فيه حديث ابن عباس عند البخاري بلفظ ((ولم ينه عن شيء من الثياب إلا المزعفرة التي تردع الجلد)) وأما المغسولة فقال الجمهور: إذا ذهبت الرائحة جاز خلافًا لمالك، واستدل لهم بما روى أبو معاوية عن عبيد الله بن عمر عن نافع في هذا الحديث إلا أن يكون غسيلاً، أخرجه يحيى بن عبد الحميد الحماني في مسنده عنه، وروى الطحاوي عن أحمد بن أبي عمران أن يحيى بن معين أنكره على الحماني فقال له عبد الرحمن بن صالح الأزدري قد كتبته عن أبي معاوية، وقام في الحال فأخرج له أصله فكتبه عنه يحيى بن معين – انتهى. قال: الحافظ وهي زيادة شاذة لأن أبا معاوية وإن كان متقنًا لكن في حديثه عن غير الأعمش مقال. قال أحمد: أبو معاوية مضطرب الحديث في عبيد الله ولم يجيء بهذه الزيادة غيره. قال الحافظ: والحماني ضعيف وعبد الرحمن الذي تابعه فيه مقال – انتهى. وقال: العيني: في الحديث حرمة لبس الثوب الذي مسه ورس أو زعفران، وأطلق حرمته جماعة منهم مجاهد وهشام بن عروة وعروة بن الزبير ومالك في رواية ابن القاسم عنه، فإنهم قالوا: كل ثوب مسه ورس أو زعفران لا يجوز لبسه للمحرم سواء كان مغسولاً أو لم يكن لإطلاق الحديث، وإليه ذهب ابن حزم الظاهري وخالفهم جماعة، وهم سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري وطاوس وقتادة وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري وأبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور فإنهم أجازوا للمحرم لبس الثوب المصبوغ بالورس أو الزعفران إذا كان غسلاً لا ينفض – انتهى. وفي الموطأ: سئل مالك عن ثوب مسه طيب ثم ذهب ريح الطيب منه هل يحرم فيه؟ قال: نعم ما لم يكن فيه صباغ زعفران أو ورس. قال الباجي: إذا

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ زال من الثوب ريح الطيب ولم تكن في لونه زينة كلون الزعفران والورس أو كان مما في لونه زينة فزال اللون بالغسل فلا مانع يمنع من الإحرام فيه، وقال أيضًا في موضع آخر: إن كان الثوب مصبوغًا فيجنب المصبوغ بالزعفران أو الورس يجتنبه الرجال والنساء لما فيه من الطيب والصبغ الذي يستعمله غالبًا للتجمل، وهذان المعنيان ينافيان الإحرام، فمن لبسه من الرجال والنساء فعليه الفدية، وفي المدونة كان مالك يكره الثياب المصبوغة بالورس والزعفران وإن كان قد غسل إلا أن يكون ذهب لونه فلم يبق فيه من لونه شيء – انتهى. وحاصل كلام الباجي والمدونة أن المحظور عند المالكية شيئان الطيب ولون الزينة والتجمل كلون الزعفران، فإذا كان الثوب مصبوغًا بشيء فيه ريح فقط وزال يجوز الإحرام فيه وإذا كان مصبوغًا بنحو الزعفران لا يجوز الإحرام فيه بمجرد زوال الريح حتى يزول اللون أيضًا. وقال العيني في موضع آخر: وقال أصحابنا (الحنفية) : ما غسل من ذلك حتى صار لا ينفض (لأن المنع للطيب لا للون) فلا بأس بلبسه في الإحرام وهو المنقول عن سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح والحسن وطاوس وقتادة والنخعي والثوري وأحمد وإسحاق وأبي ثور، ومعنى ((لا ينفض)) لا يتناثر صبغه وقيل لا يفوح ريحه وهما منقولان عن محمد بن الحسن والتعويل على زوال الرائحة حتى لو كان لا يتناثر صبغه ولكنه يفوح ريحه يمنع من ذلك، لأن ذلك دليل بقاء الطيب، ثم ذكر العيني حديث أبي معاوية عن عبيد الله بن عمر المذكور ثم قال: فإن قلت: ما حال هذه الزيادة أعني قوله ((إلا أن يكون غسيلاً)) قلت: صحيح لأن رجاله ثقات وروى هذه الزيادة أبو معاوية الضرير وهو ثقة ثبت، فإن قلت: قال ابن حزم: لا نعلمه صحيحًا، وقال أحمد بن حنبل: أبو معاوية مضطرب الحديث في أحاديث عبيد الله، ولم يجيء أحد بهذه غيره، قلت: كفى حجة لصحة هذه الزيادة شهادة عبد الرحمن وكتابة يحيى بن معين ورواية أبي معاوية، وأما قول ابن حزم ((لا نعلمه صحيحًا)) فهو نفي لعلمه بصحته، وهذا لا يستلزم نفي صحة الحديث في علم غيره فافهم. وقد روى أحمد في مسنده من حديث ابن عباس حديثًا يدل على جواز لبس المزعفر للمحرم إذا لم يكن فيه نفض ولا ردع – انتهى. قلت: أبو معاوية الضرير المذكور في سند حديث ابن عمر عند الطحاوي هو مضطرب الحديث في غير حديث الأعمش سيما في عبيد الله بن عمر العمري كما قاله الإمام أحمد ومع ذلك كان يدلس كما صرح به يعقوب بن شيبة وابن سعد، وروى هذا الحديث عن عبيد الله معنعنًا ففي صحته نظر، وأما حديث ابن عباس الذي أشار إليه العيني فأخرجه أحمد في مسند (ج 1: ص 353) عن يزيد بن هارون عن الحجاج عن الحسين بن عبد الله بن عبيد الله عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا بأس أن يحرم الرجل في ثوب مصبوغ بزعفران قد غسل، ليس فيه نفض ولا ردع. ثم رواه في (ج 1: ص 362) عن ابن نمير عن حجاج بن أرطاة عن حسين بن عبد الله عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص في الثوب المصبوغ ما لم يكن به نفض ولا ردع. والسندان ضعيفان لتدليس الحجاج وضعف الحسين بن عبيد الله، وذكره

............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ الزيلعي في نصب الراية (ج 3: ص 29) من رواية إسحاق بن راهوية وابن أبي شيبة والبزار وأبي يعلى الموصلي في مسانيدهم من طريق يزيد بن هارون عن الحجاج عن الحسين بن عبد الله وسكت عنه الزيلعي وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج 3: ص 219) وقال: رواه أبو يعلى والبزار وفيه حسين بن عبد الله بن عبيد الله وهو ضعيف – انتهى. هذا وقد يستفاد من ظاهر الحديث جواز لبس المزعفر لغير المحرم لأنه قال ذلك في جواب السؤال عما يلبس المحرم فدل على جوازه لغيره، ويؤيده حديث ابن عمر مرفوعًا ((كان يصبغ بالصفرة ثيابه كلها حتى عمامته)) أخرجه أبو داود والنسائي، وفي لفظ للنسائي أن ابن عمر كان يصبغ ثيابه بالزعفران، وأصله في الصحيح، ولفظه: وأما الصفرة فإني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبغ بها، ويؤيده أيضًا حديث قيس بن سعد قال: أتانا النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضعنا له ماء يتبرد فاغتسل ثم أتيته بملحة صفراء فرأيت أثر الورس عليه، أخرجه أبو داود وابن ماجة وغيرهما، ويعارض ذلك في المزعفر للرجل ما رواه الشيخان عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يتزعفر الرجل. قال الشافعي: وأنهى الرجل الحلال بكل حال أن يتزعفر وأمره إذا تزعفر أن يغسله، وحمل الخطابي والبيهقي النهي على ما صبغ من الثياب بعد نسجه، فأما ما صبغ غزله ثم نسج فلا يدخل في النهي، وجوز الزين العراقي في شرح الترمذي أمرين آخرين أحدهما أن النهي عن لبس ما مسه الورس والزعفران ليس داخلاً في جواب السؤال عما يجتنبه المحرم بل هو كلام منفصل مستقل يعني أن جواب سؤاله انتهى عند قوله أسفل من الكعبين، ثم استأنف قوله ((ولا تلبسوا شيئًا مسه الزعفران)) ولا تعلق له بالمسؤل عنه، ثم استعبد العراقي هذا الاحتمال وهو حقيق بالاستبعاد، ومما رده به ما في الصحيحين عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يلبس المحرم ثوبًا مصبوغًا بورس أو زعفران. قال فقيد ذلك بالمحرم، ثانيهما حمل النهي على لطخ البدن بالزعفران دون لبس الثوب المصبوغ به، وأيده بما في سنن النسائي بإسناد صحيح عن أنس قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يزعفر الرجل جلده، وبما تقدم من حديث ابن عمر وقيس بن سعد ذكره الولي العراقي في شرح التقريب، وذهب ابن الهمام إلى ترجيح حديث أنس لكونه مرويًا في الصحيحين، ولكون المحرم مقدمًا على المبيح. قال الحافظ: واستنبط من منع لبس الثوب المزعفر منع أكل الطعام الذي فيه الزعفران، وهذا قول الشافعية وعن المالكية خلاف. وقال الحنفية: لا يحرم لأن المراد اللبس والتطيب، والآكل لا يعد متطيبًا، وقال الولي العراقي مورد النص في اللبس، فلو أكل ما فيه من زعفران أو غيره من أنواع الطيب قال أصحابنا (الشافعية) : إن استهلك الطيب فلم يبق له طعم ولا لون ولا ريح لم يحرم بلا خلاف، وإن ظهرت هذه الأوصاف حرم بلا خلاف، وإن بقيت الرائحة وحدها حرم أيضًا، لأنه يعد طيبًا، وإن بقى الطعم وحده فالأظهر التحريم، وإن بقى اللون وحده فالأظهر عدم التحريم، وقال المالكية: لا شيء عليه في أكل الخبيض بالزعفران، وقيل إن صبغ الفم فعليه الفدية. وما خلط بالطيب من غير طبخ ففي إيجاب

متفق عليه. وزاد البخاري في رواية: ـــــــــــــــــــــــــــــ الفدية به روايتان. وقال الحنفية: إن أكل الطيب في طعام قد طبخ وتغير فلا شيء عليه، وإن لم يطبخ وريحه موجود كره له ذلك، وقد يقال: إن تحريم الأكل حيث حرم مأخوذ من طريق الأولى، لأن الأكل أبلغ في مخالطة الجسد من اللبس، تنبيه: قال الحافظ: زاد الثوري في روايته عن أيوب عن نافع في هذا الحديث ((ولا القباء)) أخرجه عبد الرزاق عنه، ورواه الطبراني من وجه آخر عن الثوري، وأخرجه البيهقي والدارقطني عن عبيد الله بن عمر عن نافع أيضًا. والقباء معروف ويطلق على كل ثوب مفرج، ومنع لبسه على المحرم متفق عليه إلا أن أبا حنيفة قال: يشترط أن يدخل يديه في كميه لا إذا ألقاه على كتفه، ووافقه أبو ثور والخرقي من الحنابلة – انتهى. وقال الولي العراقي: ظاهر زيادة لفظ القباء أنه لا فرق بين أن يدخل يديه في كميه أم لا وبه قال مالك والشافعي وأحمد وحكاه ابن المنذر عن الأوزاعي وحكاه ابن عبد البر عن سفيان الثوري والليث بن سعد وزفر، وخص أبو حنيفة ذلك بما أدخل يديه في كميه، فإن اقتصر على لبسه على كتفيه لم يحرم وبه قال إبراهيم النخعي وحكاه ابن عبد البر عن أبي ثور – انتهى. وقال الباجي: ليس له أن يدخل منكبيه، فإن فعل ذلك افتدي، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: لا شيء عليه يدخل يديه في كميه – انتهى. وقال الدردير في محرمات الإحرام: وقباء وإن لم يدخل كمًا في يد بل وضعه على منكبيه مخرجًا يديه من تحته، ومحل المنع إن أدخل المنكبين في محلهما، فإن نكسه بأن جعل أسفله على منكبيه فلا فدية – انتهى. (متفق عليه أخرجه البخاري في العلم وفي الصلاة وفي المناسك وفي اللباس، ومسلم في الحج، وأخرجه أيضًا مرارًا، ومالك وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارمي والدارقطني والبيهقي وابن الجارود والطحاوي (وزاد البخاري في رواية) وكذا زاده أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي كلهم من رواية الليث بن سعد عن نافع عن ابن عمر. وذكر البخاري وأبو داود وغيرهما الاختلاف في رفع هذه الزيادة ووقفها. قال البخاري بعد روايته: تابعه (أي الليث) موسى بن عقبة وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة وجويرية وابن إسحاق في النقاب والقفازين (أي في ذكرهما في الحديث المرفوع وقال عبيد الله (يعنى ابن عمر العمري) ولا ورس، وكان يقول: ولا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين، وقال مالك عن نافع عن ابن عمر: ((لا تنتقب المحرمة)) وتابعه ليث بن أبي سليم – انتهى. قال الحافظ: قوله ((وقال عبيد الله ولا ورس)) إلخ. يعنى أن عبيد الله المذكور خالف المذكورين قبل في رواية هذا الحديث عن نافع فوافقهم على رفعه إلى قوله ((زعفران ولا ورس)) وفضل بقية الحديث فجعله من قول ابن عمر، وهذا التعليق عن عبيد الله وصله إسحاق بن راهويه في مسنده عن محمد بن بشر وحماد بن مسعدة وابن خزيمة من طريق بشر بن المفضل ثلاثتهم عن عبيد الله بن عمر عن نافع فساق الحديث إلى قوله ((ولا ورس)) قال وكان عبد الله يعنى ابن عمر يقول: ولا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين. ورواه

" ولا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين ". ـــــــــــــــــــــــــــــ يحيى القطان عند النسائي وحفص بن غياب عند الدارقطني كلاهما عن عبيد الله، فاقتصر على المتفق على رفعه، وقوله ((وقال مالك)) إلخ. هو في الموطأ كما قال مالك، والغرض أن مالكًا اقتصر على الموقوف فقط. وفي ذلك تقوية لرواية عبيد الله، وظهر الإدراج في رواية غيره. وقد استشكل ابن دقيق العيد الحكم بالإدراج في هذا الحديث لورود النهى عن النقاب والقفاز مفردًا مرفوعًا (عند أبي داود من رواية إبراهيم بن سعد المدني عن نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -) وللابتداء بالنهي عنهما في رواية ابن إسحاق (عن نافع عن ابن عمر عند أحمد وأبي داود والحاكم) وقال في الاقتراح: دعوى الإدراج في أول المتن ضعيفة وأجيب بأن الثقات إذا اختلفوا وكان مع أحدهم زيادة قدمت ولا سيما إن كان أحفظ والأمر ها هنا كذلك، فإن عبيد الله بن عمر في نافع أحفظ من جميع من خالفه، وقد فصل المرفوع من الموقوف. وأما الذي اقتصر على الموقوف فرفعه (وهو إبراهيم بن سعد) فقد شذ بذلك وهو ضعيف، وأما الذي ابتدأ في المرفوع بالموقوف (وهو ابن إسحاق) فإنه من التصرف في الرواية بالمعنى، وكأنه رأي أشياء متعاطفة فقدم وأخر لجواز ذلك عنده، ومع الذي فصل زيادة علم فهو أولى، أشار إلى ذلك شيخنا في شرح الترمذي – انتهى. قلت: وبسط الكلام على ذلك الولي العراقي في شرح التقريب (ج 5: ص 42، 43) نقلاً عن شرح الترمذي لوالده الزين العراقي (لا تنتقب) بفوقيتين مفتوحتين بينهما نون ساكنة ثم قاف مكسورة من باب الافتعال وهو مجزوم على النهي فتكسر لالتقاء الساكنين، ويجوز رفعه على الخبرية، والانتقاب هو أن تخمر المرأة وجهها أي تغطيه بالخمار وتجعل لعينيها خرقين تنظر منهما (المرأة المحرمة) قال الزرقاني: أي لا تلبس النقاب وهو الخمار الذي تشده المرأة على الأنف أو تحت المحاجر وأن قرب من العين حتى لا يبدو أجفانها فهو الوصواص – بفتح الواو وسكون الصاد الأولى – فإن نزول إلى طرف الأنف فهو اللفاف – بكسر اللام وبالفاء – فإن نزل إلى الفم ولم يكن على الأرنبة منه شيء فهو اللثام بالمثلثة – انتهى. (ولا تلبس) بفتح الباء والجزم على النهي ويجوز رفعه (القفازين) بضم القاف وشد الفاء وبعد الألف زأي تثنية قفاز بوزن رمان شيء تلبسه نساء العرب في أيديهن يغطي الأصابع والكف والساعد من البرد ويكون فيه قطن محشو، ذكره الطيبي. وقيل يكون له أزرار يزر على الساعد، كذا في المرقاة. وقال الحافظ: القفاز ما تلبسه المرأة في يدها فيغطي أصابعها وكفيها عند معاناة الشيء كغزل ونحوه وهو لليد كالخف للرجل – انتهى، قال الولي العراقي: النهي عن الانتقاب دل على تحريم ستر الوجه بما يلاقيه ويمسه دون ما إذا كان متجافيًا عنه، وهذا قول الأئمة الأربعة وبه قال الجمهور. قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المرأة تلبس المخيط كله، والخفاف وأن لها أن تغطى رأسها إلا وحهها فتسدل عليه الثوب سدلاً خفيفًا تستر به عن نظر الرجال ولا تخمر إلا ما روي عن فاطمة بنت المنذر قالت: كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق فلا تنكره علينا. قال ابن المنذر ويحتمل

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يكون ذلك التخمير سدلاً كما جاء عن عائشة. قالت كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه، أخرجه أبو داود وابن ماجة. وقال ابن المنذر أيضًا: لا نعلم أحدًا من أصحاب رسول الله رخص فيه يعني النقاب، ثم قال: وكانت أسماء بنت أبي بكر تغطي وجهها وهي محرمة، وروينا عن عائشة أنها قالت: المحرمة تغطي وجهها إن شاءت. وقال ابن عبد البر: وعلي كراهة النقاب للمرأة جمهور علماء المسلمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من فقهاء الأمصار أجمعين إلا شيء روي عن أسماء بنت أبي بكر أنها كانت تغطى وجهها وهي محرمة، وعن عائشة أنها قالت: تغطي المرأة وجهها إن شاءت وروي عنها أنها لا تفعل وعليه الناس – انتهى. وهذا كله يدل على اتفاق العلماء على وجوب كشف وجهها وعلى أن لها أن تسدل الثوب وترخيه من فوق رأسها على وجهها للتستر عن أعين الناس كما يدل عليه حديث عائشة المذكور. وعليه يحمل ما روي عن فاطمة بنت المنذر وأسماء بنت أبي بكر. وقال ابن القيم: أما نهيه - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر المرأة أن تنتقب وأن تلبس القفازين فهو دليل على أن وجه المرأة كبدن الرجل لا كرأسه فيحرم عليها فيه ما وضع وفصل على قدر الوجه كالنقاب والبرقع، ولا يحرم عليها ستره بالمقنعة والجلباب ونحوهما، وهذا أصح القولين فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - سوى بين وجهها ويديها ومنعها من القفازان والنقاب، ومعلوم أنه لا يحرم عليها ستر يديها وأنهما كبدن المحرم يحرم ستررهما بالمفصل على قدرهما وهما القفازان، فهكذا الوجه إنما يحرم ستره بالنقاب ونحوه. وليس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حرف واحد في وجوب كشف المرأة وجهها عند الإحرام إلا النهي عن النقاب وهو كالنهي عن القفازين فنسبة النقاب إلى الوجه كنسبة القفازين إلى اليد سواء، وقد ثبت عن أسماء أنها كانت تغطي وجهها وهي محرمة، وقالت عائشة: كانت الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها على وجهها فإذا جاوزونا كشفنا، ذكره أبو داود. واشتراط المجافاة عن الوجه – كما ذكره القاضي وغيره – ضعيف لا أصل له دليلاً ولا مذهبًا. قال صاحب المغنى: ولم أر هذا الشرط – يعنى المجافاة – عن أحمد ولا هو في الخبر مع أن الظاهر خلافه فإن الثوب المسدول لا يكاد يسلم من إصابة البشرة، فلو كان هذا شرطًا لبين، وإنما منعت المرأة من البرقع والنقاب ونحوهما مما يعد لستر الوجه، قال أحمد: لها أن تسدل على وجهها من فوق، وليس لها أن ترفع الثوب من أسفل، كأنه يقول: إن النقاب من أسفل على وجهها، تم كلامه. فإن قيل: فما تصنعون بالحديث المروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال إحرام الرجل في رأسه وإحرام المرأة في وجهها، فجعل وجه المرأة كرأس الرجل، وهذا يدل على وجوب كشفه؟ قيل: هذا الحديث لا أصل له أي في المرفوع ولم يروه أحد من أصحاب الكتب المعتمد عليها ولا يعرف له إسناد ولا تقوم به حجه، ولا يترك له الحديث الصحيح الدال على أن وجهها كبدنها، وأنه يحرم عليها فيه ما أعد للعضو كالنقاب والبرقع ونحوه، لا مطلق الستر كاليدين – انتهى. ونحو ذلك قال ابن تيمية. وأما لبس

............................................................................................ ـــــــــــــــــــــــــــــ المرأة القفازين فمختلف فيه فذهب مالك وأحمد إلى منعه وهو أصح القولين عن الشافعي وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر وعطاء ونافع وإبراهيم النخعي. وقال ابن المنذر: اتقاؤه أحب إليّ للحديث الذي جاء فيه (يعنى حديث ابن عمر الذي نحن في شرحه) وقال ابن عبد البر: الصواب عندي نهي المرأة عنه ووجوب الفدية عليها به لثبوته عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذهب آخرون إلى جوازه وحكاه ابن المنذر عن سعد بن أبي وقاص وعائشة وعطاء والثوري ومحمد بن الحسن، وحكاه النووي وغيره عن أبي حنفية. قال ابن عبد البر: ويشبه أن يكون مذهب ابن عمر لأنه كان يقول: إحرام المرأة في وجهها – انتهى. قال الولي العراقي: وهو رواية المزني عن الشافعي وصححه من أصحابنا الغزالي والبغوي، قال الرافعي: لكن أكثر النقلة على ترجيح الأول، وحكى الخطابي عن أكثر أهل العلم أنه لا فدية عليها إذا لبست القفازين وهو قول عند المالكية – انتهى. قلت: اتفقت فروع المذاهب الثلاثة على منع المحرمة من لبس القفازين واستدلوا لذلك بحديث ابن عمر الذي نحن في شرحه، ومذهب الحنفية على ما في البدائع أنه لا يكره لبس القفازين عندهم. قال الكاساني: وهو قول علي وعائشة. قال: وقال الشافعي: لا يجوز لحديث ابن عمر، ولنا ما روي أن سعد بن أبي وقاص كان يلبس بناته وهن محرمات القفازين ولأن لبس القفازين ليس إلا تغطية يديها بالمخيط وأنها غير ممنوعة عن ذلك فإن لها أن تغطيهما بقميصها وأن كان مخيطًا فكذا بمخيط آخر بخلاف وجهها، وقوله لا تلبسن القفازين نهي ندب حملناه عليه جمعًا بين الدلائل بقدر الإمكان – انتهى. وقال ابن القيم: تحريم لبس القفازين قول عبد الله بن عمر وعطاء وطاوس ومجاهد وإبراهيم النخعي ومالك والإمام أحمد والشافعي في أحد قوليه وإسحاق بن راهويه، وتذكر الرخصة عن علي وعائشة وسعد بن أبي وقاص وبه قال الثوري وأبو حنيفة والشافعي في القول الآخر. ونهي المرأة عن لبسهما ثابت في الصحيح كنهي الرجل عن لبس القميص والعمائم، وكلاهما في حديث واحد عن راو واحد، وكنهيه المرأة عن النقاب وهو في الحديث نفسه، وسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أولى بالإتباع، وهي حجة على من خالفها، وليس قول من خالفها حجة عليه. فأما تعليل حديث ابن عمر في القفازين بأنه من قوله فإنه تعليل باطل، وقد رواه أصحاب الصحيح والسنن والمسانيد عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث نهيه عن لبس القمص والعمائم والسراويلات وانتقاب المرأة ولبسها القفازين، ولا ريب عند أحد من أئمة الحديث أن هذا كله حديث واحد من أصح الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرفوعًا إليه، ليس من كلام ابن عمر، وموضع الشبهة في تعليله أن نافعًا اختلف عليه فيه، ثم ذكر ابن القيم عن أبي داود والبخاري ما وقع من الاختلاف في رفعه ووقفه ثم قال: فالبخاري ذكر تعليله ولم يرها علة مؤثرة فأخرجه في صحيحه عن عبد الله بن يزيد عن الليث عن نافع عن ابن عمر – انتهى. ثم ظاهرقوله ولا تنتقب المرأة اختصاصها بذلك، وأن الرجل ليس كذلك وهو مقتضى ما ذكره أول الحديث فيما يتركه المحرم، فإنه لم يذكر فيه ستر الوجه. ومذهب الشافعي وأحمد والجمهور

2704 - (2) وعن ابن عباس، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب، وهو يقول: " إذا لم يجد المحرم نعلين لبس خفين، وإذا لم يجد إزارًا لبس سراويل ". ـــــــــــــــــــــــــــــ أنه يجوز للمحرم ستر وجهه ولا فدية عليه، وفيه آثار عن الصحابة عثمان بن عفان وزيد بن ثابت، وذهب أبو حنيفة ومالك إلى منعه كالرأس وهو رواية عن أحمد، وقالوا: إذا حرم على المرأة ستر وجهها مع احتياجها إلى ذلك فالرجل أولى بتحريمه. وتمسكوا أيضًا بقوله عليه الصلاة والسلام في المحرم الذي وقصته ناقته ولا تخمروا وجهه ولا رأسه. وأجاب الجمهور عنه بأن النهي عن تغطية وجهه إنما كان لصيانة رأسه لا لقصد كشف وجهه. ولا بد من هذا التأويل لأن المتمسكين بهذا الحديث وهم الحنفية والمالكية لا يقولون ببقاء أثر الإحرام بعد الإحرام بعد الموت لا في الرأس ولا في الوجه، والجمهور يقولون: لا إحرام في الوجه في حق الرجل فحينئذٍ لم يقل بظاهره أحد منهم، ولا بد من تأويله على أن المالكية قالوا إنه لا فدية في تغطية المحرم وجهه إلا في رواية ضعيفة جزم بها ابن المنذر عن مالك، وبنى بعضهم هذا الخلاف على أن التغطية حرام أو مكروهة، وحكى ابن المنذر عن محمد بن الحسن أنه إن غطى ثلثه أو ربعه فعليه دم، وإن كان أقل من ذلك فعليه صدقة. ومذهب الحنفية أنه لو غطى جميع وجهه بمخيط أو غيره يومًا وليلة فعليه دم وفي الأقل من يوم صدقة كما بسط في فروعهم. وروى سعيد بن منصور عن عطاء بن أبي رباح يغطي المحرم وجهه ما دون الحاجبين أي من أعلى. وفي رواية له ما دون عينيه. قال الزين العراقي: ويحتمل أنه أراد الاحتياط لكشف الرأس. ولكن هذا أمر زائد على الاحتياط لذلك، وهو حاصل بدونه – انتهى. وفي المسألة قول رابع وهو أنه إن كان حيًا فله تغطية وجهه، وإن كان ميتًا لم يجز، قاله ابن حزم، قال الحافظ: قال أهل الظاهر: يجوز للمحرم الحي تغطية وجهه ولا يجوز للمحرم الذي يموت عملاً بالظاهر في الموضعين- انتهى. 2704 – قوله (يخطب) أي بعرفات كما تقدم (إذا لم يجد المحرم نعلين لبس خفين) أي بعد قطعهما أسفل من الكعبين كما هو مذهب الجمهور خلافًا لأحمد (وإذا لم يجد إزارًا لبس سراويل) فيه دليل على جواز لبس السراويل عند عدم الإزار من غير لزوم شيء، وإليه ذهب أحمد والشافعي، وعن أبي حنيفة منع السراويل للمحرم مطلقًا، ومثله عن مالك وكأنه لم يبلغه حديث ابن عباس، ففي الموطأ أنه سئل عما ذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من لم يجد إزارًا فليلبس سراويل فقال: لم أسمع بهذا ولا أرى أن يلبس المحرم سراويل، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى (في حديث ابن عمر) عن لبس السراويلات (مطلقًا فيما نهي عنه من لبس الثياب التي لا ينبغي للمحرم أن يلبسها ولم يستثن فيها (أي في السراويلات في حديث ابن عمر) كما استثنى في الخفين – انتهى. قال ابن عبد البر: قال عطاء بن أبي رباح والشافعي وأصحابه والثوري وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور وداود: إذا لم يجد المحرم إزارًا لبس السراويل ولا

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ شيء عليه، وحكاه النووي عن الجمهور، قال: ولا حجة في حديث ابن عمر لأنه ذكر فيه حالة وجود الإزار وذكر في حديث ابن عباس حالة العدم ولا منافاة. وقال الرازي من الحنفية: يجوز لبسه وعليه الفدية كما قال أصحابهم في الخفين، وأجاب بعض الحنفية عن هذا الحديث بأنه متروك الظاهر، ثم حكى عن القدوري أنه قال في التجريد: وافقونا على أن السراويل لو كان كبيرًا يمكن أن يتزر به من غير فتق لم يجز لبسه لأنه واجد للإزار، وكذا لو خاط إزاره سراويل قطعة واحدة لا يجوز لبسه وإن لم يجد إزارًا غيره، لأنه إزار في نفسه إذا فتقه. قال الزين العراقي في شرح الترمذي: لا يحصل الاعتراض بهاتين الصورتين لأنه واجد للإزار فيهما وقد علله القدوري بذلك، وإنما يجوز لبس السراويل عند عدم وجدان الإزار فليس الحديث إذن متروك الظاهر، كذا في شرح التقريب. وقال ابن رشد: اختلفوا في من لم يجد غير السراويل هل له لباسها؟ فقال مالك وأبو حنيفة: لا يجوز له لباس السراويل وإن لبسها افتدى، وقال الشافعي والثوري وأحمد وأبو ثور وداود: لا شيء عليه إذالم يجد إزارًا، وعمدة مذهب مالك ظاهر حديث ابن عمر المتقدم، وعمدة الطائفة الثانية حديث ابن عباس – انتهى. قال الأبي: ما في حديث ابن عباس أخذ به الشافعي ولم يأخذ به مالك لسقوطه في حديث ابن عمر. وقال في الموطأ: لم أسمع بها ولا أرى أن يلبسها المحرم، إلخ. وهذا يدل على أن هذه الزيادة لم تبلغه أو لم يبلغه أن المحرم يلبسه على حاله، أما لو فتق وجعل منه شبه إزار جاز – انتهى. قلت: ومذهب الحنفية أنه إذا لم يجد غير سروال فلبسه من غير فتق فعليه دم، وإن شقه واتزره فلا شيء عليه. قال الرازي: يجوز لبس السراويل من غير فتق عند عدم الإزار، ولا يلزم منه عدم لزوم الدم لأنه قد يجوز ارتكاب المحظور للضرورة مع وجوب الكفارة كالحلق للأذى ولبس المخيط للعذر. وقد صرح الطحاوي في الآثار بإباحة ذلك مع وجوب الكفارة. قال القاري: وليس في الحديث أنه لا يلزمه فتق السراويل حتى يصير غير مخيط كما قال به أبو حنيفة قياسًا على الخفين. وأما اعتراض الشافعية بأن في إضاعة مال فمردود بما تقدم، نعم لو فرض أنه بعد الفتق لا يستر العورة يجوز له لبسه من غير فتق بل هو متعين واجب إلا أنه يفدي. وأما قول ابن حجر: وعن أبي حنيفة ومالك امتناع لبس السراويل على هيئته مطلقًا فغير صحيح عنهما، وقال الولي العراقي: لم يأمر في الحديث بقطع السراويل عند عدم الإزار كما في الخف وبه قال أحمد وهو الأصح عند أكثر الشافعية. وقال إمام الحرمين والغزالي: لا يجوز لبس السراويل على حاله إلا إذا لم يتأت فتقه وجعله إزارًا، فإن تأتى ذلك لم يجز لبسه، وإن لبسه لزمته الفدية. وقال الخطابي: يحكى عن أبي حنيفة أنه قال يفتق السراويل ويتزر به، وقالوا: هذا كما جاء في الخف أنه يقطع. قال الخطابي: وهو الأصل في المال أن تضييعه حرام والرخصة إذا جاءت في لبس السراويل فظاهرها اللبس المعتاد، وستر العورة واجب، وإذا فتق السراويل واتزر به لم تستتر العورة، وأما الخف فإنه لا يغطي عورة وإنما

متفق عليه. 2705 - (3) وعن يعلى بن أمية، قال: كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجعرانة إذ جاءه رجل أعرابي، ـــــــــــــــــــــــــــــ هو لباس رفق وزينة فلا يشتبهان، ومرسل الإذن في لبس السراويل إباحة لا تقتضي غرامة – انتهى. قال الحافظ: ومن أجاز لبس السراويل على حاله قيده بأن لا يكون في حالة لو فتقه لكان إزارًا لأنه في تلك الحالة يكون واجد الإزار – انتهى. قلت: الظاهر عندنا ما ذهب إليه أحمد وأكثر الشافعية من أنه يجوز لبس السراويل بغير فتق عند عدم الإزار، ولا يلزمه شيء (متفق عليه) أخرجه البخاري في الحج وفي اللباس بلفظ ((من لم يجد النعلين فليلبس الخفين ومن لم يجد إزارًا فليلبس السراويل للمحرم)) وأخرجه مسلم في الحج، وأخرجه أيضًا أحمد (ج 1: ص 215، 221، 228، 279، 285، 337) وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي (ج 5: ص 50) . 2705 – قوله (وعن يعلى) بمفتوحة وسكون مهملة وفتح لام وقصر كيرضى (بن أمية) بمضمومة فخفة مفتوحة وشدة تحتية، هو يعلى بن أمية بن أبي عبيدة بن همام التميمي حليف قريش وهو المعروف بيعلى بن منية بضم الميم وسكون النون وفتح التحتانية وهي أمه، وقيل جدته أم أبيه، كنيته أبو خلف، ويقال أبو خالد، ويقال أبو صفوان، أسلم يوم الفتح وشهد الطائف وحنينًا وتبوك مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وروى عنه وعن عمر بن الخطاب وروى عنه أولاده صفوان ومحمد وعثمان وغيرهم، واستعمله أبو بكر على حلوان في الردة ثم عمل لعمر على بعض اليمن فحمى لنفسه حمى فعزله، ثم عمل لعثمان على صنعاء اليمن وحج سنة قتل عثمان فخرج مع عائشة في وقعة الجمل، ثم شهد صفين مع علي، وكان جوادًا معروفًا بالكرم، له تسعة عشر حديثًا، مات سنة بضع وأربعين (كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجعرانة) أي معتمرين سنة ثمان في ذي القعدة بعد فتح مكة بالعمرة المسماة بعمرة الجعرانة، وهو اسم مكان بين الطائف ومكة، وهو إلى مكة أقرب وفي ضبطه لغتان مشهورتان. قال النووي: إحداهما إسكان العين (يعني بعد الجيم المكسورة) وتخفيف الراء، والثانية كسر العين وتشديد الراء، الأولى أفصح، وبهما قال الشافعي وأكثر أهل اللغة – انتهى. وقال ابن الأثير: وهي قريب من مكة وهي في الحل وميقات الإحرام، وقال القاري: الجعرانة موضع معروف، أحرم منه النبي - صلى الله عليه وسلم - للعمرة، وهو أفضل من التنعيم عند الشافعية خلافًا لأبي حنيفة بناء على أن الدليل القولي أقوى، لأن القول لا يصدر إلا عن قصده، والفعل يحتمل أن يكون اتفاقيًا لا قصديًا، وقد أمر - صلى الله عليه وسلم - عائشة رضي الله عنها أن تعتمر عن التنعيم وهو أقرب المواضع من الحرم – انتهى، وقد تقدم الكلام على ذلك في شرح حديث عائشة ثاني أحاديث باب قصة حجة الوداع (إذ جاءه رجل أعرابي) منسوب إلى الأعراب وهم سكان البادية أي بدوي. قال الحافظ في الفتح: لم أقف على اسمه. وقال في مقدمة الفتح: الصواب أنه أي الرجل المبهم يعلى بن أمية راوي الحديث كما أخرجه الطحاوي من طريق شعبة عن قتادة

عليه جبة وهو متضمخ بالخلوق، فقال: يا رسول الله! إني أحرمت بالعمرة وهذه عليَّ. فقال: " أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبة فانزعها، ثم اصنع في عمرتك كما تصنع في حجك ". ـــــــــــــــــــــــــــــ عن عطاء أن رجلاً يقال له يعلى بن أمية أحرم وعليه جبة فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينزعها، قلت: روى الطحاوي بسنده إلى شعبة عن قتادة عن عطاء بن أبي رباح أن رجلاً يقال له يعلى بن أمية أحرم وعليه جبة فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينزعها. قال قتادة: قلت لعطاء: إنما كنا نرى أن نشقها فقال عطاء: إن الله لا يحب الفساد، فإن صح الحديث فيكون هو يعلى بن أمية صاحب القصة كما قال الحافظ: وأبهم اسمه كما يحصل كثيرًا من بعض الرواة لغرض ما والله أعلم (عليه جبة) ثوب معروف وفي رواية ((عليه قميص)) (وهو) أي الرجل (متضمخ) بالضاد والخاء المعجمتين أي متلوث ومتلطخ، يقال: تضمخ بالطيب إذا تلطخ به وتلوث به (بالخلوق) بفتح الخاء المعجمة نوع من الطيب يجعل فيه زعفران (إني أحرمت بالعمرة وهذه) أي الجبة (عليّ) بتشديد الياء (أما الطيب الذي بك) أي لصق ببدنك من الجبة (فاغسله ثلاث مرات) قال عياض وغيره: يحتمل أنه من لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - فيكون نصًا في تكرار الغسل ويحتمل أنه من كلام الصحابي وأنه - صلى الله عليه وسلم - أعاد لفظ ((اغسله)) ثلاث مرات على عادته أنه إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاث مرات لتفهم عنه – انتهى. وقال القاري: ذكر الثلاث إنما هو لنوقف إزالة الخلوق عليها غالبًا، وإلا فالواجب إزالة العين بأي وجه كان - انتهى. وفي رواية للبخاري ((قلت لعطاء: أراد الإنقاء حين أمره أن يغسل ثلاث مرات؟ فقال: نعم)) . قال الحافظ: القائل هو ابن جريج وهو دال على أنه فهم من السياق أن قوله ((ثلاث مرات)) من لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكن يحتمل أن يكون من كلام الصحابي وأنه - صلى الله عليه وسلم - أعاد لفظة (أغسله)) مرة ثم مرة على عادته أنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا لتفهم عنه، نبه عليه عياض – انتهى. وفي رواية أبي داود والبيهقي أمره أن ينزعها نزعًا ويغتسل مرتين أو ثلاثًا. قال النووي: إنما أمر بالثلاث مبالغة في إزالة لونه وريحه والواجب الإزالة، فإن حصلت بمرة كفت ولم تجب الزيادة، ولعل الطيب الذي كان على هذا الرجل كثير ويؤيده قوله متضمخ (وأما الجبة فانزعها) بكسر الزاي أي اقلعها فورًا وأخرجها (ثم اصنع في عمرتك) هذا يدل على أن المأمور به من الأعمال ما زاد على الغسل والنزع (كما تصنع في حجك) قال الباجي: هذا يقتضي أنه - صلى الله عليه وسلم - علم من حال السائل أنه عالم بما يفعل في الحج وإلا فلا يصح أن يقول له ذلك لأنه إذا لم يعلم ما يفعل الحاج لم يمكنه أن يمتثله المعتمر – انتهى. اعلم أنهم اختلفوا في المراد بقوله - صلى الله عليه وسلم - هذا فقال ابن العربي: كأنهم كانوا في الجاهلية يخلعون الثياب ويجتنبون الطيب في الإحرام إذا حجوا وكانوا يتساهلون في ذلك في العمرة فأخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن مجراهما واحد. وقال ابن المنير في الحاشية: قوله ((واصنع)) معناه اترك، لأن المراد بيان ما يجتنبه المحرم فيؤخذ منه فائدة حسنة وهي أن الترك فعل. قال: وأما قول ابن بطال: أراد الأدعية وغيرها مما يشترك فيه الحج والعمرة ففيه

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ نظر، لأن التروك مشتركة بخلاف الأعمال. فإن في الحج أشياء زائدة على العمرة كالوقوف وما بعده. وقال النووي كما قال ابن بطال وزاد: ويستثنى من الأعمال ما يختص به الحج. وقال الباجي: يجب أن يكون ما أمره بأن يفعل غير ما أمره من إزالة القميص وغسل الصفرة لأنهما قد نص عليهما فلا معنى أن ينصرف قوله ((وافعل في عمرتك ما تفعل في حجك)) إليهما. والوجه الآخر أنه قد عطف هذا اللفظ الثاني على النزوع والغسل فالظاهر أنهما غيرهما ولا شيء يمكن أن يشار إليه في ذلك إلا الفدية. قال الحافظ: كذا قال الباجي: ولا وجه لهذا الحصر بل الذي تبين من طريق أخرى أن المأمور به الغسل والنزع، وذلك أن عند مسلم والنسائي من طريق سفيان عن عمرو بن دينار عن عطاء في هذا الحديث، فقال: ما كنت صانعًا في حجك؟ قال: أنزع عني هذه الثياب وأغسل عني هذا الخلوق، فقال: ما كنت صانعًا في حجك فاصنعه في عمرتك – انتهى، واستدل بحديث يعلى على منع استدامة الطيب بعد الإحرام للأمر بغسل أثره من الثوب والبدن وقد تقدم الكلام في هذا في شرح حديث عائشة أول أحاديث باب الإحرام والتلبية، واستدل به أيضًا على أن من أصابه طيب في إحرامه ناسيًا أو جاهلاً ثم علم فبادر إلى إزالته فلا كفارة عليه (وهو مذهب الشافعي) وقال مالك: إن طال ذلك عليه لزمته، وعن أبي حنيفة وأحمد في رواية تجب مطلقًا، كذا في الفتح. وقال العيني: في الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر الرجل بالفدية فأخذ به الشافعي والثوري وعطاء وإسحاق وداود وأحمد في رواية، وقالوا: إن من لبس في إحرامه ما ليس له لبسه جاهلاً فلا فدية عليه والناسي في معناه، وقال أبو حنيفة والمزني في رواية عنه يلزمه إذا غطى رأسه متعمدًا أو ناسيًا يومًا إلى الليل فإن كان أقل من ذلك فعليه صدقة يتصدق بها. وقال مالك: يلزمه إذا انتفع بذلك أو طال لبسه عليه – انتهى. قال ابن بطال: لو لزمته الفدية لبينها النبي - صلى الله عليه وسلم - أي في هذا الحديث لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. وفرق مالك في من تطيب أو لبس ناسيًا بين من بادر فنزع وغسل وبين من تمادى والشافعي أشد موافقة للحديث، لأن السائل في حديث الباب كان غير عارف بالحكم، وقد تمادى ومع ذلك لم يؤمر بالفدية، وقول مالك فيه احتياط، وأما قول الكوفيين والمزني فهو مخالف لهذا الحديث وأجاب ابن المنير في الحاشية بأن الوقت الذي أحرم فيه الرجل في الجبة كان قبل نزول الحكم، ولهذا انتظر النبي - صلى الله عليه وسلم - الوحي (كما يدل عليه القصة) قال: ولا خلاف أن التكليف لا يتوجه على المكلف قبل نزول الحكم فلهذا لم يؤمر الرجل بفدية عما مضى بخلاف من لبس الآن جاهلاً، فإنه جهل حكمًا استقر، وقصر في علم ما كان عليه أن يتعلمه لكونه مكلفًا به، وقد تمكن من تعلمه، وأجيب أيضًا بأن الحديث ساكت عن الفدية نفيًا وإثباتًا. قال الباجي: لا يقتضي ذلك إثبات الفدية ولا نفيها، وإنما أحاله على من قدم علم من حال من أحرم بالحج – انتهى. واستدل بالحديث على أن المحرم إذا صار عليه مخيط نزعه ولا يلزمه تمزيقه ولا شقه، وأنه إذا نزعه من رأسه لم يلزمه دم، وهو مذهب الجمهور، وروى عن إبراهيم النخعي

متفق عليه. 2706 - (4) وعن عثمان، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب ". ـــــــــــــــــــــــــــــ والشعبي أنه لا ينزعه من قبل رأسه بل يشقه ويمزقه لئلاً يصير مغطيًا لرأسه، أخرجه ابن أبي شيبة عنهما وعن علي نحوه، وكذا عن الحسن وأبي قلابة وقد وقع عند أبي داود بلفظ ((اخلع عنك الجبة، فخلعها من قبل رأسه)) – انتهى. قال الطبري: ووجه الحجة عليهما أي على الشعبي والنخعي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بالنزع والخلع والمتعارف فيهما إنما هو من قبل الرأس، ولو أراد الشق لأمره به، ثم لما نزعه من قبل رأسه أقره عليه، ولو كان ممتنعًا لما أقره عليه، ولو وجب بذلك فدية لذكره وبينه كما بين غيره من الأحكام، لأنه موضع ضرورة فإنه سأل عما يجب عليه في تلك العمرة، والله أعلم (متفق عليه) أخرجه البخاري في الحج وفي فضائل القرآن ومسلم في الحج، وأخرجه أيضًا أحمد (ج 4: ص 222، 224) وأبو داود والترمذي والنسائي والطيالسي والبيهقي وغيرهم، وأخرجه مالك مرسلاً، وفي الحديث قصة عند الشيخين وأحمد وهي أن يعلى بن أمية قال لعمر: أرني النبي - صلى الله عليه وسلم - حين يوحى إليه قال: فبينما النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجعرانة ومعه نفر من أصحابه جاءه رجل فقال: يا رسول الله كيف ترى في رجل أحرم بعمرة وهو متضمخ بطيب؟ فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - ساعة فجاءه الوحي فأشار عمر إلى يعلى فجاء يعلى وعلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثوب قد أظل به فأدخل رأسه، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محمر الوجه وهو يغط ثم سري عنه، فقال: أين الذي سأل عن العمرة؟ فأتي بالرجل فقال: اغسل الطيب، إلخ. وفيها دليل على أن المفتي والحاكم إذا لم يعرف الحكم يمسك عن الجواب حتى يتبين له وعلى أن بعض الأحكام ثبت بالوحي وإن لم يكن مما يتلى، وعلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يحكم بالاجتهاد إلا إذا لم يحضره الوحى. 2706- قوله (لا ينكح) بفتح الياء وكسر الكاف وتحريك الحاء بالكسر لالتقاء الساكنين على النهي وبالضم على النفي، قال صاحب المحلى: مرفوع على الخبرية، ويحتمل أن يكون مجزومًا بالكسر. وقال الخطابي: الرواية الصحيحة بكسر الحاء على معنى النهي أي لا يعقد لنفسه ولا يتزوج امرأة (المحرم) بحج أو عمرة أو بهما (ولا ينكح) بضم الياء وكسر الكاف مجزومًا أو بضم الحاء أي لا يعقد لغيره بولاية ولا وكالة (ولا يخطب) بضم الطاء من الخطبة بكسر الخاء، أي لا يطلب امرأة بنكاح. وزاد ابن حبان في صحيحه ((ولا يخطب عليه)) كما في نصب الراية والدراية والفتح. قال التوربشتي: يروى هذا الحديث عن وجهين أحدهما على صيغة الخبر ويكون لا للنفي، وعلى صيغة النهي ولا هي الجازمة والكلمات الثلاث مجزومة بها إلا أن الأولى منها تحرك بالكسر للوصل، وذكر الخطابي أنها على صيغة النهي أصح. قال التوربشتي: قد أخرج هذا الحديث مسلم وأبو داود وأبو عيسى (الترمذي) وأبو عبد الرحمن (النسائي) في كتبهم والذي وجدناه الأكثر فيما يعتمد عليه من روايات الأثبات هو الرفع في تلك الكلمات. وقد ذهب الأكثرون من

............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ فقهاء الأمصار لا سيما من أصحاب الحديث إلى أن المراد منه النهي وإن روي على صيغة الخبر، وإيراد الإنشاء بصيغة الخبر أبلغ من إيراده بصيغة الإنشاء كما هو مقرر في موضعه. والحديث يدل على أنه لا يجوز للمحرم أن يتزوج ولا أن يزوج غيره، وإليه ذهب أكثر أهل العلم، وعزاه النووي في شرح المهذب لجماهير العلماء من الصحابة والتابعن فمن بعدهم، وقال: وهو مذهب عمر بن الخطاب وعثمان وعلى وزيد بن ثابت وابن عمر وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والزهري ومالك وأحمد والشافعي وإسحاق وداود وغيرهم، وقال في شرح مسلم: قال مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء من الصحابة فمن بعدهم: لا يصح نكاح المحرم – انتهى. وذهبت جماعة أخرى إلى أنه يجوز للمحرم أن يتزوج ويزوج غيره، وممن قال بهذا القول أبو حنيفة وهو مروي عن الحكم بن عتيبة والثوري والنخعي وعطاء وحماد بن أبي سليمان وعكرمة ومسروق. قيل: وهو قول ابن عباس وابن مسعود وأنس ومعاذ بن جبل، وإليه يظهر ميل البخاري حيث ترجم في المناسك بلفظ ((باب تزويج المحرم)) وفي النكاح بلفظ ((باب نكاح المحرم)) وأورد فيهما حديث ابن عباس في تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ميمونة محرمًا. قال الحافظ في الحج: أورد فيه حديث ابن عباس في تزوج ميمونة، وظاهر صنيعه أنه لم يثبت عنده النهي عن ذلك ولا أن ذلك من الخصائص، وقد ترجم في النكاح باب نكاح المحرم، ولم يزد على إيراد هذا الحديث – انتهى. وقال الحافظ في النكاح: كأنه يجنح إلى الجواز لأنه لم يذكر في الباب شيئًا غير حديث ابن عباس في ذلك، ولم يخرج حديث المنع كأنه لم يصح عنده على شرطه – انتهى. واستدل الأولون بحديث عثمان ومما روى عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب ولا يخطب عليه، ذكره الهيثمي وقال: رواه الطبراني في الأوسط عن أحمد بن القاسم، فإن كان أحمد بن القاسم بن عطية فهو ثقة، وإن كان غيره فلم أعرفه وبقية رجاله لم يتكلم فيهم أحد، واحتج الذين ذهبوا إلى أن الإحرام لا يمنع عقد النكاح بحديث ابن عباس الآتي ففيه التصريح بأنه - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة وهو محرم والله تعالى يقول {ولقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (سورة الأحزاب: الآية 21) وهو المشرع لأمته بأقواله وأفعاله وتقريره، فلو كان تزويج المحرم حرامًا لما فعله - صلى الله عليه وسلم -، واحتجوا أيضًا بما روي عن عائشة مثل حديث ابن عباس أخرجه الطحاوي والبيهقي (ج 7: ص 212) والبزار والطبراني في الأوسط، قال الهيثمي (ج 4: ص 268) بعد عزوه إلى البزار والطبراني: ورجال البزار رجال الصحيح – انتهى. وبما روي عن أبي هريرة مثل حديث ابن عباس أيضًا أخرجه الطحاوي والدارقطني وابن حبان كما في موارد الظمآن (ص 309) قال الحافظ في الفتح في الحج: صح نحو حديث ابن عباس عن عائشة وأبي هريرة، وقال في النكاح: قدمت في الحج أن حديث ابن عباس جاء مثله صحيحًا عن عائشة وأبي هريرة فأما حديث عائشة فأخرجه النسائي من طريق أبي سلمة عنه. وأخرجه الطحاوي والبزار من طريق مسروق عنها وصححه ابن حبان وأكثر ما أعل بالإرسال وليس ذلك بقادح فيه.

..................................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال النسائي: أخبرنا عمرو بن علي أنبأنا أبو عاصم عن عثمان بن الأسود عن ابن أبي مليكة عن عائشة مثله. قال عمرو ابن علي: قلت لأبي عاصم أنت أمليت علينا من الرقعة ليس فيه عائشة، فقال: دع عائشة حتى أنظر فيه، وهذا إسناد صحيح لولا هذه القصة، ولكن هو شاهد قوي أيضًا. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الدارقطني، وفي إسناده كامل أبو العلاء وفيه ضعف لكنه يعتضد بحديثي ابن عباس وعائشة وفيه رد على قول ابن عبد البر أن ابن عباس تفرد من بين الصحابة بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج وهو محرم، وجاء عن الشعبي ومجاهد مرسلاً مثله أخرجهما ابن أبي شيبة، وأخرج الطحاوي من طريق عبد الله بن محمد بن أبي بكر قال: سألت أنسًا عن نكاح المحرم فقال: لا بأس به، وهل إلا كالبيع، وإسناده قوي لكنه قياس في مقابل النص فلا عبرة به، وكان أنس لم يبلغه حديث عثمان – انتهى. واعلم أن النفي أو النهى في قوله ((لا ينكح ولا ينكح)) للتحريم، وفي قوله ((لا يخطب)) للتنزيه عند الأئمة الثلاثة ومن وافقهم، وفي الكل للتنزيه عند أبي حنيفة ومن وافقه، فاتفق الأئمة الأربعة على كون النفي في الثالث للتنزيه، والظاهر عندنا أن النهي في الجميع للتحريم فلا يجوز للمحرم أن يخطب امرأة وكذلك المحرمة لا يجوز للرجل خطبتها، فحرمة الخطبة كحرمة النكاح، لأن الصيغه فيها متحدة، فالحكم بحرمة أحدها دون الآخر يحتاج إلى دليل خاص، ولا دليل عليه والظاهر من الحديث حرمة النكاح وحرمة وسيلته التي هي الخطبة كما تحرم خطبة المعتدة، وما ذكروه من أن الخطبة لا تحرم في الإحرام وإنما تكره هو خلاف الظاهر من النص ولا دليل عليه، وما استدل به بعض أهل العلم من الشافعية وغيرهم على أن المتعاطفين قد يكون أحدهما مخالفًا لحكم الآخر كقوله تعالى {كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده} سورة الأنعام، الآية 141) قالوا: الأكل مباح وإيتاء الحق واجب لا دليل فيه، لأن الأمر بالأكل معلوم أنه ليس للوجوب، بخلاف قوله في الحديث ((ولا يخطب)) فلا دليل على أنه ليس للتحريم كقوله قبله ((لا ينكح المحرم)) هذا وأجاب القائلون بجواز عقد النكاح في الإحرام عن حديث عثمان بوجوه منها أن حديث ابن عباس أصح وأقوى لأنه اتفق عليه الشيخان، وأما حديث عثمان فهو مما انفرد به مسلم وقد تعارضا فيقدم عليه حديث ابن عباس. وفيه أن حديث عثمان تشريع قولي عام مقطوع الدلالة في الحكم، وحديث ابن عباس وما في معناه واقعة عين ومن المعلوم أن الحديث القولي العام يقدم على الفعلي عند التعارض: وإن كان أقوى إسنادًا. قال الحافظ: يترجح حديث عثمان بأنه تقعيد قاعدة، وحديث ابن عباس واقعة عين تحتمل أنواعًا من الاحتمالات – انتهى. ومنها أن المراد بالنكاح في حديث عثمان وطأ الزوجة وهو حرام في حال الإحرام إجماعًا وليس المراد به العقد، وفيه أولاً أن في نفس الحديث قرينتين دالتين على أن المراد عقد النكاح لا الوطء، الأولى أن قوله ((ولا ينكح)) بضم الياء دليل على أن المراد لا يزوج لا الوطء، لأن الولي إذا زوج قبل الإحرام وطلب الزوج وطأ زوجته في حال إحرام وليها فعليه أن يمكنه من ذلك إجماعًا فدل ذلك على أن المراد بقوله ((ولا ينكح)) ليس الوطء بل التزويج كما هو ظاهر، وأما ما قال ابن

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ الهمام من أن المراد بالجملة الثانية التمكين من الوطء والتذكير باعتبار الشخص أي لا تمكن المحرمة من الوطء زوجها فلا يخفى ما فيه من التكلف والتعسف، على أنه ينافيه قوله ((ولا يخطب)) وهي القرينة الثانية الدالة على المراد بالنكاح في الجملتين الأوليين عقد النكاح لا الوطء، لأن المراد بالخطبة هي خطبة المرأة التي هي طلب تزويجها، وذلك دليل على أن المراد العقد لأنه هو الذي يطلب بالخطبة، وليس من شأن وطء الزوجة أن يطلب بخطبة كما هو معلوم، قال الحافظ: تأويل أهل الكوفة حديث عثمان بأن المراد به الوطء متعقب بالتصريح فيه بقوله ((ولا ينكح)) بضم أوله وبقوله فيه ((ولا يخطب)) وثانيًا أن أبان بن عثمان راوي الحديث وهو من أعلم الناس بمعناه فسره بأن المراد بقوله ((ولا ينكح)) أي لا يزوج لأن السبب الذي أورد فيه الحديث هو أنه أرسل له عمر بن عبيد الله حين أراد أن يزوج ابنه طلحة بن عمر ابنة شيبة بن جبير فأنكر عليه ذلك أشد الإنكار وبين له أن حديث عثمان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - دليل على منع عقد النكاح في حال الإحرام ولم يعلم أنه أنكر عليه أحد تفسيره الحديث بأن المراد بالنكاح فيه العقد لا الوطء، وثالثًا أنه روى أحمد من حديث ابن عمر أنه سئل عن امرأة أراد أن يتزوجها رجل وهو خارج من مكة فأراد أن يعتمر أو يحج فقال: لا تتزوجها وأنت محرم، نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه. فنراه صرح بأن النكاح المنهي عنه في الإحرام التزويج، وروى مالك والبيهقي والدارقطني عن أبي غطفان بن طريف أن أباه طريفًا تزوج امرأة وهو محرم فرد عمر بن الخطاب نكاحه – انتهى. وهذا دليل على أن عمر يفسر النكاح الممنوع في الإحرام بالتزويج. وقد روى البيهقي في السنن الكبرى بإسناده عن الحسن عن علي قال: من تزوج وهو محرم نزعنا منه امرأته، وروى بإسناده أيضًا عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عليًا رضي الله عنه قال: لا ينكح المحرم فإن نكح رد نكاحه، وروى بإسناده أيضًا عن شوذب مولى زيد بن ثابت أنه تزوج وهو محرم ففرق بينهما زيد بن ثابت، وروى بإسناده أيضًا عن سعيد بن المسيب أن رجلاً تزوج وهو محرم فأجمع أهل المدينة على أن يفرق بينهما. وقال الحافظ: قد ثبت أن عمر وعليًا وغيرهما من الصحابة فرقوا بين محرم نكح وبين امرأته ولا يكون هذا إلا عن ثبت – انتهى. فهذه الآثار صريحة في أن النكاح المنهي عنه في الإحرام هو التزويج وأن النهي للتحريم، وحمل هذه الآثار على أن عملهم ذلك كان من قبيل الزجر والتعزير سدًا للذرائع بعيد جدًا بل هو باطل. ومن الوجوه التي أجاب بها القائلون بجواز النكاح في الإحرام أن النهي في حديث عثمان للكراهة وأن المراد منه أن النكاح والخطبة ليست من شأن المحرم فإنه في شغل شاغل عن ذلك، قال التوربشتي: قصد النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك كف المحرم وتفتير رغبته عن النكاح والإنكاح والخطبة لكونها مدعاة إلى هيجان الشهوة ولم يقصد تحريمه، وقال الشيخ محمد عابد السندي: الأولى أن يقال: النهى للكراهة جمعًا بين الدلائل، وذلك لأن المحرم في شغل عن مباشرة عقود الأنكحة، لأن ذلك يوجب شغل خاطره عما هو بصدده من المناسك فكرهه النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك، وإنما قلنا أنه الأولى لأنه لا قائل بعدم جواز الخطبة للمحرم (كما تقدم)

رواه مسلم. 2707 – (5) وعن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة وهو محرم. ـــــــــــــــــــــــــــــ وحاصله أن قران النكاح والإنكاح بالخطبة دليل على أن النهي للكراهة لأنه لا خلاف في جواز الخطبة، وإنما الخلاف في كراهتها، فالخطبة تصح عندهم مع الكراهة فكذا النكاح والإنكاح. وقال ابن الهمام: يحمل قوله ((لا ينكح المحرم)) على نهي الكراهة جمعًا بين الدلائل، وذلك لأن المحرم في شغل عن مباشرة عقود الأنكحة، لأن ذلك يوجب شغل قلبه عن الإحسان في العبادة لما فيه من خطبة ومراودات ودعوة واجتماعات، ويتضمن تنبيه النفس لطلب الجماع، وهذا محمل قوله ((ولا يخطب)) ولا يلزم كونه - صلى الله عليه وسلم - باشرا لمكروه (أي في قصة تزويج ميمونة محرمًا) لأن المعنى المنوط به الكراهة هو عليه الصلاة والسلام منزه عنه، ولا بعد في اختلاف حكم في حقنا وحقه لاختلاف المناط فيه وفينا كالوصال نهانا عنه وفعله – انتهى. وقال التوربشتي: فإن قيل كيف يصرف معنى الحديث إلى التنزه عن الخلال الثلاث وأنت تأبي أن يقال وهم ابن عباس (أي في قوله تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم) فترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتنزه عن ذلك، قلنا: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مشرعًا يفعل الشيء ليعلم أنه مباح، ويفعل الشيء ليقتدى به وكان يفعل الشيء أيضًا متخصصًا به ولم يكن هذا من باب ما خص به لأنه لو كان كذلك لبينه ولم يكن للإقتداء لأنه لم يحث عليه بل منع عمه حالة الإحرام بالمفهوم عن الحديث، وبعد فإن حاله - صلى الله عليه وسلم - في التمكن من الاستقامة والتصرف في القوي البشرية كانت خلاف حال غيره من الأمة، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - مسيطرًا على حوائج النفس بتمكين الله إياه، وفي هذا المعنى حديث عائشة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل ويباشر وهو صائم وكان أملككم لأربه. وفيه أن الأصل في النهي التحريم، وهو الذي فهمه راوي الحديث أبان بن عثمان وغيره من الصحابة كعمر وابنه وعلي وزيد بن ثابت فلا يعدل عنه إلا بدليل صريح، وأما حديث ابن عباس فسيأتي الجواب عنه، وقد سبق منا أن النهي في قوله ((لا يخطب)) أيضًا للتحريم كالجملتين الأوليين (رواه مسلم) وأخرجه أيضًا أحمد (ج 1: ص 57، 64، 68، 73) ومالك وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان والبيهقي وابن الجارود والدارمي والحميدي وغيرهم، وليس للترمذي فيه ((ولا يخطب)) وزاد ابن حبان ((ولا يخطب عليه)) . 2707- قوله (تزوج ميمونة) أم المؤمنين وهي بنت الحارث الهلالية، آخر امرأة تزوجها ممن دخل بهن، تزوجها سنة سبع وتوفيت بسرف حيث بنى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة إحدى وخمسين على الراجح (وهو محرم) قد اشتهر عن ابن عباس برواية الثقات عنه أنه قال: تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ميمونة وهو محرم، وقد تقدم أن له شاهدين قويين من حديث أبي هريرة وعائشة، ويعارض ذلك ما سيأتي من حديث يزيد بن الأصم عن ميمونة، ومن حديث أبي رافع أنه تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ميمونة وهو حلال، ويؤيد هذا ما رواه ابن سعد عن ميمون بن مهران قال

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ دخلت على صفية بنت شيبة وهي عجوزة كبيرة فسألتها أتزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ميمونة وهو محرم؟ قالت: لا والله لقد تزوجها وهما حلالان، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج 4: ص 268) وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجال الكبير رجال الصحيح، وبهذا ظهر أن الروايات اختلفت في تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - بميمونة. قال ابن القيم بعد ما حكى اختلاف الروايات في نكاحه - صلى الله عليه وسلم -: فالأقوال ثلاثة أحدها أنه تزوجها بعد حله من العمرة، وهو قول ميمونة نفسها. وقول السفير بينها وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أبو رافع وقول جمهور أهل النقل، والثاني أنه تزوجها وهو محرم وهو قول ابن عباس وأهل الكوفة وجماعة، والثالث أنه تزوجها قبل أن يحرم – انتهى. هذا وقد تقدم أن حديث ابن عباس من مستدلات القائلين بجواز النكاح في الإحرام، وقد أجاب المانعون عنه بأجوبة: منها ما ذكره الترمذي عن بعضهم أنه تزوجها حلالاً وظهر أمر تزوجيها وهو محرم وبنى بها وهو حلال بسرف في طريق مكة. وحاصل هذا الجواب أن معنى قوله ((تزوجها وهو محرم)) أي ظهر أمر تزويجها وفشى واشتهر وهو محرم وإن كان عقد النكاح قبل الإحرام. وتعقب هذا الجواب أو الجمع بأنه قد ثبت بالروايات الصريحة أن نكاحه - صلى الله عليه وسلم - بميمونة كان بسرف فقد روى النسائي من طريق قتادة ويعلى بن حكيم عن عكرمة عن ابن عباس قال: تزوج رسول الله ميمونة بنت الحارث وهو محرم، وفي حديث يعلى ((بسرف)) وروى ابن سعد من طريق ميمون بن مهران سألت صفية بنت شيبة فقالت: تزوج رسول الله ميمونة بسرف وبنى بها في قبة لها، وماتت بسرف. وسرف قريب مكة خارج الحرم داخل الميقات. قال الطبري: وهو على عشرة أميال من مكة. وقال القاري: والصحيح أنه على ستة أميال، وروى الطحاوي من طريق محمد بن إسحاق عن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة وهو حرام فأقام بمكة ثلاثًا فأتاه حويطب بن عبد العزى في نفر من قريش في اليوم الثالث فقالوا: إنه قد انقضى أجلك فاخرج عنا، فقال: وما عليكم لو تركتموني فعرست بين أظهركم فصنعنا لكم طعامًا فحضرتموه، فقالوا: لا حاجة لنا في طعامك فاخرج عنا، فخرج نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وخرج بميمونة حتى عرس بها بسرف. ونقل ابن القيم في الهدي عن مغازي موسي بن عقبة نحو ذلك، وهذا كله يدل على أن نكاحه - صلى الله عليه وسلم - ميمونة وقع بسرف ذاهبًا إلى مكة والبناء بها وقع فيها آئبًا من مكة. وأما ما رواه مالك عن ربيعة بن عبد الرحمن عن سليمان بن يسار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا رافع ورجلاً من الأنصار فزوجاه ميمونة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة قبل أن يخرج، وهو يدل على أن نكاحه بميمونة وقع بالمدينة قبل الخروج إلى عمرة القضاء فهو مأول بأن المراد بقوله ((زوجاه)) خطبا له فقط، مجازًا كما قال الزرقاني، لأنه صح عند أحمد والنسائي من حديث ابن عباس قال: لما خطبها النبي - صلى الله عليه وسلم - جعلت أمرها إلى العباس فأنكحها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقيل معنى ((زوجاه)) بلغاه رضا ميمونة بالخطبة أو بتزوجها بالمدينة، ثم إنه وقع التصريح في صحيح البخاري في غزوة الحديبية بإنشاء إحرامه - صلى الله عليه وسلم - من ذي الحليفة في عمرة الحديبية قبل القضاء التي وقع فيها نكاحه - صلى الله عليه وسلم - بميمونة، وهذا ظاهر في

............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ أن توقيت المواقيت وقع قبل عمرة الحديبية خلافًا لما حكى الأثرم عن أحمد أنه وقع عام حجة الوداع وإذا ثبت أنه تزوج بسرف ذاهبًا إلى مكة للعمرة وأن توقيت المواقيت كان قبل عمرة الحديبية لزم أن يكون نكاحه في الإحرام وإلالزم تجاوز الميقات وهو ذو الحليفة بغير إحرام، فإن سرف داخل الميقات قريب من مكة كما سبق، وهذا يبطل التأويل المذكور على أنه يمكن أن يأول حديث ميمونة ويزيد بن الأصم بمثل التأويل الذي ذكره الترمذي في حديث ابن عباس، فيقال: إنه تزوجها بسرف وهو محرم، وظهر واشتهر أمر تزويجه وهو حلال حين بنى بها بسرف راجعًا من مكة إلى المدينة أو حين أراد الوليمة بمكة، وفيه أن إحرامه - صلى الله عليه وسلم - من ذي الحليفة في عمرة الحديبية لا يستلزم وقوع التوقيت قبل حجة الوداع، وقد روى البخاري في باب ذكر العلم والفتيا في المسجد عن ابن عمر أن رجلاً قام في المسجد فقال: يا رسول الله من أين تأمرنا أن نهل، فقال رسول الله: يهل أهل المدينة إلخ. قال الحافظ: المراد بالمسجد مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويستفاد منه أن السؤال عن مواقيت الحج كان قبل السفر من المدينة، وقال في الحج بعد ذكر ما حكاه الأثرم عن أحمد من توقيت المواقيت عام حجة الوداع: وقد سبق حديث ابن عمر في العلم بلفظ ((أن رجلاً قام في المسجد فقال: يا رسول الله من أين تأمرنا أن نهل؟ - انتهى. وهذا يدل على أن الحافظ وافق الإمام أحمد في ذلك ومنها أن معنى قول ابن عباس تزوجها وهو محرم أي في الشهر الحرام وهو حلال وقد تزوجها - صلى الله عليه وسلم - في الشهر الحرام وهو ذو القعدة عام سبع في عمرة القضاء كما ذكره البخاري في كتاب المغازي في باب عمرة القضاء، ولا خلاف بين أهل اللسان العربي في إطلاق الإحرام على الدخول في حرمة لا تهتك كالدخول في الشهر الحرام أو في الحرم أو غير ذلك. وقال ابن منظور في اللسان: وأحرم الرجل إذا دخل في حرمة لا تهتك، ومن إطلاق الإحرام على الدخول في الشهر الحرام قد أنشده في اللسان شاهدًا لذلك قول زهير: جعلن القنان عن يمين وحزنه _ ... وكم بالقنان من محل ومحرم ولو أصبحت ليلى تدب على العصا _ ... لكان هوى ليلى جديدًا أوائله وقول الآخر: وإذ فتك النعمان بالناس محرمًا _ ... فملئ من عوف بن كعب سلاسله وقول الراعي: قتلوا ابن عفان الخليفة محرمًا _ ... ودعا فلم أر مثله مخذولاً فتفرقت من بعد ذاك عصاهم - ... شققًا وأصبح سيفهم مسلولاً - ويروى فلم أر مثله مقتولاً، فقوله ((قتلوا ابن عفان محرمًا)) أي في الشهر الحرام وهو ذو الحجة. وقيل المعنى أنهم قتلوه في حرم المدينة لأن المحرم يطلق لغة على كل داخل في حرمة لا تهتك سواء كانت زمانية أو مكانية أو غير ذلك. وقال

............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ بعض أهل اللغة منهم الأصمعي: إن معنى قول الراعي ((محرمًا)) في بيته المذكور: كونه حرمة الإسلام وذمته التي يجب حفظها ويحرم انتهاكها، وأنه لم يحل من نفسه شيئًا يستوجب به القتل، ومن إطلاق المحرم على هذا المعنى الأخير قول عدى بن زيد: قتلوا كسرى محرمًا _ ... غادروه لم يمتع بكفن ويروى ((فتولى ولم يمتع بكفن)) يريد قتل شيرويه أباه أبرويز بن هرمز مع أن له حرمة العهد الذي عاهدوه به حين ملكوه عليهم وحرمة الأبوة ولم يفعل لهم شيئًا يستوجب منهم القتل، وذلك هو مراده بقوله ((محرمًا)) وعلى تفسير قول ابن عباس ((وهو محرم)) بما ذكر فلا تعارض بين حديث ابن عباس وبين حديث ميمونة وأبي رافع، وتعقب هذا الجواب بأن رواية البخاري في باب عمرة القضاء بلفظ أنه - صلى الله عليه وسلم - تزوجها وهو محرم وبنى بها وهو حلال، تدفع هذا التفسير أو تبعده كما قال الزيلعي، فإن المقابلة بين المحرم والحلال تدل على أن المراد بالمحرم في قول ابن عباس ضد الحلال، ولم يرد الحلال بمعنى الداخل في الحل أو في الشهر الحرام، وفيه أنه لو فرضنا أن تفسير حديث ابن عباس بما ذكر ليس بمتعبن وليس بظاهر كل الظهور وأن التعارض بين الحديثين باق فالمصير إلى الترجيح إذن واجب وهو الجواب الثالث فيقال: حديث ميمونة وأبي رافع أرجح من حديث ابن عباس، لأن ميمونة هي صاحبة الواقعة، ولا شك أن صاحب القصة أدرى بما جرى له في نفسه من غيره، وقد تقرر في الأصول أن خبر صاحب القصة المروية مقدم على خبر غيره، لأنه أعرف بالحال من غيره والأصولين يمثلون له بحديث ميمونة المذكور مع حديث ابن عباس ومما يرجح به حديث أبي رافع على حديث ابن عباس أن أبا رافع هو رسوله إليها يخطبها عليه فهو مباشر للواقعة وابن عباس ليس كذلك وقد تقرر في الأصول ترجيح خبر الراوي المباشر لما روى على خبر غيره، لأن المباشر لما روى أعرف بحاله من غيره، والأصولين يمثلون له بخبر أبي رافع مع حديث ابن عباس، ومما يرجح به حديث ميمونة وحديث أبي رافع معًا على حديث ابن عباس أن ميمونة وأبا رافع كانا بالغيْن وقت تحمل الحديث المذكور وابن عباس ليس ببالغ وقت التحمل، وقد تقرر في الأصول ترجيح خبر الراوي المتحمل بعد البلوغ على المتحمل قبله لأن البالغ أضبط من الصبي بما تحمل، وللاختلاف في قبول خبر المتحمل قبل البلوغ مع الاتفاق على قبول خبر المتحمل بعد البلوغ وإن كان الراجح قبول خبر المتحمل قبل البلوغ إذا كان الأداء بعد البلوغ لأن المتفق عليه أرجح من المختلف فيه، فإن قيل: يرجح حديث ابن عباس بأنه اتفق عليه الشيخان في صحيحهما ومعلوم أن ما اتفق عليه مسلم والبخاري أرجح مما انفرد به مسلم وهو حديث ميمونة، وأرجح مما أخرجه الترمذي وأحمد وهو حديث أبي رافع، فالجواب أن غاية ما يفيده اتفاق الشيخين على صحة الحديث إلى ابن عباس، ونحن لو جزمنا بأنه قاله قطعًالم يمنع ذلك من ترجيح حديث ميمونة وأبي رافع عليه لأنهما أعلم بحال الواقعة منه لأن ميمونة صاحبة الواقعة وأبو رافع

متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ هو الرسول المباشر لذلك فلنفرض أن عباس قال ذلك، وأن أبا رافع وميمونة خالفا وهما أعلم بالحال منه لأن لكل منهما تعلقًا خاصًا بنفس الواقعة ليس لابن عباس مثله، وأما ما قال الطحاوي من أنه يحتمل أنه خفى عن ميمونة وقت تزويجها وذهب عنها الوقت الذي عقد عليها عند ما فوضت إلى العباس أمرها فلم تشعر إلا في الوقت الذي بنى بها فيه وعلمه ابن عباس لحضوره وغيبتها عنه فهو مما لا يلتفت إليه لأنه احتمال ناشئ من غير دليل ولم يثبت أن ابن عباس شهد الواقعة بل يدل على كلام العيني على عدم شهوده حيث قال: من الجائز غير المنكر أن يرويه ابن عباس عنه - صلى الله عليه وسلم - أو يرويه عن أبيه الذي ولي عقد النكاح بمشهد عنه ومرأى أو يرويه عن خالته ميمونة، فإن قيل: صح نحو حديث ابن عباس عن عائشة وأبي هريرة كما قال الحافظ وعلى هذا من روى أن تزويجها في حالة الإحرام أكثر ممن روى خلاف ذلك فيرجح حديثهم إذن بالكثرة، فالجواب أنهم وإن كثروا فميمونة وأبو رافع أعلم منهم بالواقعة كما تقدم والمرجحات يرجح بعضها على بعض، وضابط ذلك عند الأصوليين هو قوة الظن ومعلوم أن ما أخبرت به ميمونة رضي الله عنها عن نفسها وأخبر به الرسول بينها وبين زوجها - صلى الله عليه وسلم - الذي هو أبو رافع أقوى في ظن الصدق مما أخبره به غيرهما، ومن الأجوبة التي أجاب بها المانعون أنه لو سلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة وهو محرم لم تكن في ذلك حجة على جواز ذلك بالنسبة على أمته - صلى الله عليه وسلم - لأنه ثبت عنه من حديث عثمان ما يدل على منع النكاح في حال الإحرام وهو عام لجميع الأمة، والأظهر دخوله هو - صلى الله عليه وسلم - في ذلك العموم فإذا فعل فعلاً يخالف ذلك العموم المنصوص عليه بالقول دل على أن ذلك الفعل خاص به - صلى الله عليه وسلم - لتحتم تخصيص ذلك العموم القولي بذلك الفعل فيكون خاصًا به - صلى الله عليه وسلم -، وقد تقرر في الأصول أن النص القولي العام الذي يشمل النبي بظاهر عمومه لا بنص صريح إذا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلاً يخالفه كان ذلك مخصصًا لذلك العموم القولي فيكون ذلك الفعل خاصًا به - صلى الله عليه وسلم -، كذا حقق الشنقيطي. وقال الشوكاني في نيل الأوطار: يجعل فعله - صلى الله عليه وسلم - مخصصًا له من عموم ذلك القول (يعني حديث عثمان) كما تقرر في الأصول إذا فرض تأخر الفعل عن القول، فإن فرض تقدمه ففيه الخلاف المشهور في الأصول في جواز تخصيص العام المتأخر بالخاص المتقدم كما هو المذهب الحق أو جعل العام المتأخر ناسخًا كما ذهب إليه البعض – انتهى. وقال في السيل الجرار: إن حديث ابن عباس غاية ما فيه على فرض أنه أرجح لكونه في الصحيحين أن ذلك جائز لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيكون خاصًا به، والنهي خاصًا بالأمة كما تقرر في الأصول أن فعله - صلى الله عليه وسلم - لا يعارض القول الخاص بالأمة، وعلى تقدير شمول النهي له فيكون فعله مخصصًا له – انتهى. وقال النووي وغيره من الشافعية: هذا من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - فكان له أن يتزوج في حال الإحرام وهو مما خص به دون الأمة، وتعقبه العيني فقال: دعوى التخصيص تحتاج إلى دليل، ويأتي مزيد الكلام في ذلك في شرح حديثي يزيد بن الأصم وأبي رافع (متفق عليه) أخرجه البخاري في الحج وفي المغازي وفي النكاح، ومسلم في النكاح،

2708 – (6) وعن يزيد بن الأصم، ابن أخت ميمونة، عن ميمونة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوجها وهو حلال. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأخرجه أيضًا أحمد مرارًا وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن الجارود والدرامي والبيهقي والطحاوي وغيرهم. 2708 – قوله (وعن يزيد بن الأصم) بن عبيد بن معاوية بن عبادة بن البكاء – بفتح الموحدة وتشديد الكاف – واسم الأصم عمرو أبو عوف البكائي الكوفي نزل الرقة، ربته خالته ميمونة أم المؤمنين، واسم أمه برزة بنت الحارث أخت ميمونة. قال الحافظ: يقال له رؤية ولا يثبت وهو ثقة من الطبقة الوسطى من التابعين، مات سنة ثلاث ومائة وذكر الواقدي أنه عاش ثلاثًا وسبعين سنة (ابن أخت ميمونة) بنت الحارث أم المؤمنين (تزوجها وهو حلال) أي غير محرم، قيل تزوجها قبل الإحرام كما يدل عليه رواية مالك عن ربيعة عن سليمان بن يسار المرسلة في وقوع التزويج بالمدينة قبل أن يخرج، وقيل تزوجها بعد ما حل من عمرته بمكة أو بسرف وعلى كل حال هذا الحديث معارض لحديث ابن عباس السابق وأجاب القائلون بجواز النكاح في الإحرام عن ذلك بوجهين: الأول ترجيح حديث ابن عباس على حديث يزيد بن الأصم وذلك بوجوه منها أن حديث ابن عباس أقوى وأصح إسنادًا لاتفاق الشيخين عليه بخلاف حديث ابن الأصم وما في معناه فإنه لم يخرجه البخاري، وقد تقدم الجواب عن هذا، ومنها أن ابن الأصم لا يقاوم بابن عباس حفظًا واتقانًا وفقهًا، ولذا قال عمرو بن دينار للزهري: وما يدري ابن الأصم أعرابي كذا وكذا بشيء؟ أتجعله مثل ابن عباس، فابن عباس بمرتبة من العلم والفقه والحفظ والإتقان لا يدانيه ابن الأصم، وأجاب عن هذا ابن حزم بما نصه: وأما ترجيحهم ابن عباس على يزيد فنعم، والله لا يقرب يزيد بعبد الله ولا كرامة، وهذا تمويه منهم لأن يزيد إنما رواه عن ميمونة، وروى أصحاب ابن عباس عن ابن عباس ونحن لا نقرن ابن عباس صغير من الصحابة إلى ميمونة أم المؤمنين لكن نعدل يزيد إلى أصحاب ابن عباس ولا نقطع بفضلهم عليه، قال: وخبر يزيد عن ميمونة هو الحق، وقول ابن عباس وهم لا شك فيه لأنها هي أعلم بنفسها منه وأنها كانت إذ ذاك امرأة كاملة، وكان ابن عباس يومئذ ابن عشرة أعوام وأشهر فبين الضبطين فرق لا يخفى، هذا وقد تصدى العيني للجواب عن كلام ابن حزم، من شاء الوقوف عليه رجع إلى العمدة (ج 10: ص 196) ومنها أن حديث ابن عباس مثبت لأمر زائد وهو الإحرام وحديث ابن الأصم ناف له، ومن المعلوم أن المثبت يقدم ويرجح على النافي. وفيه أن حديث يزيد عن ميمونة أيضًا مثبت لوقوع عقد النكاح حلالاً وحديث ابن عباس ناف لذلك وبه صرح أهل الأصول من الحنفية، وهذا يقتضي أن يقدم حديث ابن الأصم ومن وافقه على حديث ابن عباس ومنها أن حديث ابن عباس محكم لا يحتمل تأويلاً قريبًا بخلاف رواية ابن الأصم وما في معناها فإنها تحمل على الخطبة أو فشو أمر التزويج واشتهاره عند البناء في الحل أي بسرف راجعًا إلى المدينة. وفيه أن الأمر على العكس من ذلك كما تقدم. ومنها أن أمر النكاح كان إلى العباس

رواه مسلم، قال الشيخ الإمام محيي السنة رحمه الله: والأكثرون على أنه تزوجها حلالاً، وظهر أمر تزويجها وهو محرم، ثم بنى بها وهو حلال بسرف في طريق مكة. ـــــــــــــــــــــــــــــ وكان هو وكيل عقد النكاح، والوكيل أعرف من الموكل وكذا يكون ابن العباس أعرف بالقضية. وفيه ما تقدم أن صاحب القضية أي ميمونة أعرف بقضيتها ولم يرو عن العباس في وقت التزويج شيء ولم يثبت شهود ابنه واقعة النكاح، ومنها أم حديث ابن عباس مؤيد بالقياس فإنه عقد كسائر العقود التي يتلفظ بها من شراء الأمة للتسري وغيره كما حكي عن أنس فيما رواه الطحاوي. وفيه أن الواجب حينئذ الرجوع إلى الحديث القولي أي حديث عثمان لا إلى القياس فإن تحكيم القياس عند التعارض بين حكايتي فعل مع وجود النص القولي غير صحيح فإن فيه تركًا للنص وعملاً بالقياس، الوجه الثاني من الوجهين اللذين أجاب بهما القائلون بالجواز هو أن المراد بالنكاح والتزوج في حديث يزيد بن الأصم هو الدخول والبناء والوطء دون العقد. قال القاري: قوله تزوجها أي دخل بها. وقال ابن الهمام: يحمل لفظ التزوج في حديث ابن الأصم على البناء بها مجازًا بعلاقة السببية العادية – انتهى. وبنحو ذلك قال الزبيدي في شرح الإحياء. وفيه أنه روى مسلم عن ابن نمير عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء أن ابن العباس أخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة وهو محرم. قال عمرو بن دينار: فحدثت به الزهري فقال: أخبرني يزيد بن الأصم أنه نكحها وهو حلال، زاد عبد الرزاق والبيهقي: قال عمرو بن دينار ((فقلت لابن شهاب: أتجعل أعرابيًا بوالاً على عقبيه على ابن عباس)) وهي خالة ابن عباس أيضًا؟ ولفظ الطحاوي ((أتجعله مثل ابن عباس؟)) قال البيهقي: ويزيد بن الأصم لم يقله عن نفسه إنما حدث به عن ميمونة بنت الحارث – انتهى. فهذه الرواية تدل على أن المراد بالنكاح والتزوج في حديثي ابن عباس ويزيد بن الأصم عند عمرو بن دينار وابن شهاب هو العقد لا الوطء والبناء وإلا لما صح المقابلة والمعارضة فافهم، وكذا يدل على بطلان التأويل المذكور رواية أحمد والترمذي والبيهقي لحديث يزيد بن الأصم عن ميمونة بلفظ ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوجها حلالاً وبنى بها حلالاً)) (رواه مسلم) في النكاح وأخرجه أيضًا أحمد (ج 6: ص 332، 333، 335) وأبو داود وابن ماجة والدرامي وابن الجارود والبيهقي (ج 5: ص 66، وج 7: ص 211) (قال الشيخ الإمام محيي السنة) أي صاحب المصابيح (والأكثرون) قال القاري: يعني الأئمة الثلاثة وأتباعهم (على أنه تزوجها حلالاً) أي عقد عليها قبل أن يحرم (وظهر أمر تزويجها) أي بسرف ذاهبًا على مكة (وهو محرم ثم بنى) أي دخل بها (وهو حلال بسرف) على وزن كتف غير منصرف وقيل منصرف (في طريق مكة) أي إلى المدينة وذلك بعد فراغه من عمرته المسماة بعمرة القضاء، قال الساعاتي في شرح المسند: وهذا الجمع وجيه وعليه فيقال إن ابن عباس لم يعلم بالعقد إلا بعد انتشاره والنبي - صلى الله عليه وسلم - محرم بسرف، ففهم أن العقد لم يحصل إلا في المكان الذي يقال له

2709 – (7) وعن أبي أيوب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يغسل رأسه وهو محرم. ـــــــــــــــــــــــــــــ سرف، ولهذا قال في روايته أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج بماء يقال له سرف وهو محرم، وتقدم أن هذا الماء أقرب إلى مكة من المدينة، وميقات أهل المدينة أقرب إلى المدينة من مكة فثبت أنه كان محرمًا بسرف ولم يبلغ ابن عباس خبر الزواج إلا بهذا المكان ففهم أنه حصل حينئذ. 2709 – قوله (كان يغسل رأسه وهو محرم) فيه دليل على جواز الاغتسال للمحرم وغسله رأسه وتشريبه شعره بالماء، وفي الحديث قصة وهو مختصر من حديث طويل رواه الشيخان وغيرهما عن عبد الله بن حنين أن عبد الله بن عباس والمسور بن مخرمة اختلفا بالأبواء فقال عبد الله بن عباس: يغسل المحرم رأسه. وقال المسور: لا يغسل المحرم رأسه. فأرسلني عبد الله بن عباس إلى أبي أيوب الأنصاري فوجدته يغتسل بين القرنين وهو يستر بثوب فسلمت عليه، فقال: من هذا؟ فقلت: أنا عبد الله بن حنين، أرسلني إليك عبد الله بن عباس يسألك كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغسل رأسه وهو محرم؟ فوضع أبو أيوب يده على الثوب فطأطأه حتى بدا لي رأسه، ثم قال لإنسان يصب عليه: اصبب، فصب على رأسه ثم حرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر فقال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل. وقد ترجم البخاري لهذا الحديث ((باب الاغتسال للمحرم)) قال الحافظ: أي ترفهًا وتنظفًا وتطهرًا من الجنابة، قال ابن المنذر: أجمعوا على أن للمحرم أن يغتسل من الجنابة، واختلفوا فيما عدا ذلك، وكأن المصنف (أي البخاري) أشار إلى ما روي عن مالك أنه كره للمحرم أن يغطي رأسه في الماء، وروى في الموطأ عن نافع أن ابن عمر كان لا يغسل رأسه وهو محرم إلا من احتلام. قال الحافظ: وفي الحديث جواز غسل المحرم وتشريبه شعره بالماء ودلكه بيده إذا أمن تناثره. وقال الزرقاني: دل حديث أبي أيوب على جواز ذلك ما لم يؤد إلى نتف الشعر، وقال الباجي: ليس في إمرار اليد على الرأس قتل الدواب ولا إزالتها عن موضعها إلا مثل ما في صب الماء على الرأس خاصة، ولذلك كانا مباحين فأما الانغماس في الماء فإنه محظور عند مالك على المحرم لأنه ربما زال القمل بكثرة الماء عن الشعر، وقد روى عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس إجازة انغماس المحرم في الماء. قال العيني: وكان أشهب وابن وهب يتغامسان في الماء وهما محرمان مخالفة لابن القاسم، وكان ابن القاسم يقول: إن غمس رأسه في الماء أطعم شيئًا من طعام خوفًا من قتل الدواب ولا تجب الفدية إلا بيقين، وعن مالك استحبابه ولا بأس عند جميع أصحاب مالك أن يصب المحرم على رأسه الماء لحر يجده – انتهى. قال الساعاتي في شرح المسند: اتفق العلماء على جواز غسل المحرم رأسه وجسده من الجنابة بل هو واجب عليه، وأما غسله تبردًا فمذهب الجمهور جوازه بلا كراهة، واختلفوا في غسل المحرم رأسه فذهب الأئمة أبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق والثوري والأوزاعي إلى أنه لا بأس بذلك، ووردت الرخصة به عن عمر بن الخطاب وابن عباس وجابر

...................................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ وعليه الجمهور، وحجتهم حديث أبي أيوب وكان مالك يكره ذلك للمحرم لأثر ابن عمر أنه كان لا يغسل رأسه إلا من احتلام، ويجوز غسل الرأس بالسدر والخطمى عند الشافعية (ورواية للحنابلة) مع الكراهة بحيث لا ينتف شعرًا ولا فدية عليه. وذهب أبو حنيفة ومالك وأحمد إلى التحريم ولزوم الفدية. وقال صاحبا أبي حنيفة: عليه صدقة لأن الخطمى تستلذ رائحته وتزيل الشعث وتقتل الهوام فوجبت به الفدية كالورس وقال ابن رشد: قال الجمهور (أبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق والثوري والأوزاعي) : لا بأس بغسل المحرم رأسه، وقال مالك يكره، وعمدته أثر ابن عمر (المذكور) وعمدة الجمهور حديث أبي أيوب وحمله مالك على غسل الجنابة والحجة له إجماعهم على أن المحرم ممنوع من قتل القمل ونتف الشعر وإلقاء التفث، والغاسل رأسه إما أن يفعل هذه كلها أو بعضها – انتهى. وقال الأبي في الإكمال: اختلف في غسل المحرم تبردًا أو غسل رأسه فأجازه الجمهور كما قال عمر: لا يزيده الماء إلا شعثًا، وتؤول عن مالك مثله وتؤولت عنه الكراهة أيضًا، وكره غمس المحرم رأسه في الماء، وعللت الكراهة بأنه من تحريك يده في غسله أو غمسه قد يقتل بعض الدواب أو يسقط بعض الشعر، وقيل: لعله رآه من تغطية الرأس – انتهى. وقال الباجي: الغسل للتبرد جائز للمحرم وإن كان لغير ضرورة. وهذه رواية ابن القاسم عنه – انتهى. قلت: وأثر ابن عمر المذكور بظاهره معارض لما روى مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان لا يدخل مكة إذا خرج حاجًا أو معتمرًا حتى يغتسل قبل أن يدخل إذا دنا من مكة بذي طوى ويأمر من معه فيغتسلون قبل أن يدخلوا مكة. قال الحافظ: ظاهره أن غسله لدخول مكة كان لجسده دون رأسه، وهكذا قال الباجي وزاد ((قال ابن حبيب: إذا اغتسل المحرم لدخول مكة فإنما يغسل جسده دون رأسه فقد كان ابن عمر لا يغسله)) . وقال الشيخ أبو محمد: لعل ابن عمر كان لا يغسل رأسه إلا من جنابة يعني في غير هذه المواضع الثلاثة فذهب إلى تخصيص ذلك وحكى ابن المواز عن مالك أن المحرم لا يتدلك رأسه في غسل دخول مكة ولا يغسل رأسه إلا بصب الماء فقط. واعتبر الباجي من قول مالك أنه في كل موضع أباح الغسل للمحرم لغير جنابة لا يذكر فيه إمرار اليد وإنما يذكر فيه صب الماء، وإذا ذكر غسل الجنابة ذكر إمرار اليد. وقال الشافعي: نحن ومالك لا نرى بأسًا أن يغسل المحرم رأسه من غير احتلام، وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه اغتسل وهو محرم وأطال الكلام إلى أن قال: وقد يذهب على ابن عمر وغيره السنن ولو علمها ما خالفها – انتهى. وقال في المحلى: قوله ((كان لا يغسل رأسه وهو محرم إلا من احتلام)) أي تحريًا لما هو الأفضل لما روى الترمذي عن ابن عمر مرفوعًا ((الحاج الشعث التفل)) انتهى، وأما غسل الرأس بالخطمى والسدر ونحوه فاختلفوا فيه أيضًا كما تقدم، قال العيني: إن غسل رأسه بالخطمى والسدر فإن الفقهاء يكرهونه وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي وأوجب مالك وأبو حنيفة عليه الفدية. وقال الشافعي وأبو ثور: لا شيء عليه، وقال في البناية: لا يغسل رأسه ولا لحيته بالخطمى،

متفق عليه. 2710- (8) وعن ابن عباس، قال: احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم. ـــــــــــــــــــــــــــــ وبه قال مالك. وفي شرح الوجيز: لا يكره بالخطمى والسدر، وفي القديم يكره ولكن لا فدية عليه. وبه قال أحمد، وفي الهداية: لا يغسل بالخطمى لأنه نوع طيب ولأنه يقتل هوام الرأس، وقال القاري: يجوز للمحرم غسل رأسه بحيث لا ينتف شعرًا بلا خلاف، أما لو غسل رأسه بالخطمى فعليه دم عند أبي حنيفة، وبه قال مالك وقالا: صدقة، ولو غسل بأشنان فيه طيب فإن كان من رآه سماه أشنانًا فعليه الصدقة، وإن سماه طيبًا فعليه الدم، وكذا في قاضي خان، ولو غسل رأسه بالحرض والصابون والسدر ونحوه لا شيء عليه بالإجماع (متفق عليه) فيه أن اللفظ المذكور ليس لهما ولا لأحدهما بل هو مفهوم ما فعله أبو أيوب، ومقتضى ما نسبه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يظهر من سياق الحديث وتمامه عند الشيخين، وقد أخرجه أيضًا مطولاً أحمد (ج 5: ص 416، 418، 421) ومالك وأبو داود وابن ماجة والدرامي وابن الجارود والبيهقي وغيرهم. 2710 – قوله (احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي في حجة الوداع كما جزم به الحازمي وغيره (وهو محرم) جملة حالية، زاد في رواية للبخاري ((في رأسه من وجع كان به بماء يقال له لحي جمل)) وفي طريق أخرى له عن ابن عباس تعليقًا ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو محرم في رأسه من شقيقة كانت به)) بشين معجمة وقافين وزن عظيمة: وجع يأخذ في أحد جانبي الرأس أو في مقدمه، وفي حديث ابن بحينة الآتي في الفصل الثالث ((في وسط رأسه)) قال الحافظ بفتح المهلمة أي متوسطة وهو ما فوق اليافوخ فيما بين أعلى القرنين. قال الليث: كانت هذه الحجامة في فأس الرأس، وفي حديث أنس الآتي في الفصل الثالث ((احتجم وهو محرم على ظهر القدم من وجع كان به)) وفي حديث جابر عند أحمد والنسائي ((احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم من وثئ كان بوركه أو ظهره)) ويجمع بين هذه الروايات بتعدد الحجامة منه في الإحرام، ثم يحتمل أنها في إحرام واحد أي في حجة الوداع، ويمكن أن يكون بعضها في إحدى عمراته، وفي الحديث دليل على جواز الحجامة للمحرم، وقد ترجم البخاري لحديث ابن عباس وابن بحينة ((باب الحجامة للمحرم)) قال الحافظ: أي هل يمنع منها أو تباح له مطلقًا أو للضرورة، والمراد في ذلك كله المحجوم لا الحاجم. قال ابن قدامة (ج 3: ص 305) : أما الحجامة إذا لم يقطع شعرًا فمباحة من غير فدية في قول الجمهور لأنه تداو لإخراج دم فأشبه الفصد وبط الجرح وقال مالك: لا يحتجم إلا من ضرورة. وكان الحسن البصري يرى في الحجامة دمًا – انتهى. وقال العيني: وبجوازه مطلقًا قال عطاء ومسروق وإبراهيم وطاوس والثوري وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق، وقالوا: ما لم يقطع الشعر، وقال قوم: لا يحتجم المحرم إلا من ضرورة روى ذلك عن ابن عمر وبه قال مالك – انتهى. وقال النووي: أجمع

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ العلماء على جواز الحجامة له في الرأس وغيره إذا كان له عذر في ذلك وإن قطع الشعر حينئذ، لكن عليه الفدية بقطع الشعر فإن لم يقطع فلا فدية عليه، ودليل المسألة قوله تعالى: {فمن كان منكم مريضًا أو به أذى من رأسه ففدية} (سورة البقرة، الآية 196) وهذا الحديث محمول على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان له عذر في الحجامة في وسط الرأس، لأنه لا ينفك عن قطع شعر. أما إذا أراد المحرم الحجامة لغير حاجة فإن تضمنت قطع شعر فهي حرام لتحريم قطع الشعر، وإن لم تتضمن ذلك بأن كانت في موضع لا شعر فيه فهي جائزة عند الجمهور ولا فدية فيها وعن ابن عمر ومالك كراهتها، وعن الحسن البصري: فيها الفدية وإن لم يقطع شعرًا، دليلنا أن إخراج الدم في الإحرام ليس بحرام – انتهى. وخص أهل الظاهر الفدية بشعر الرأس. ونقل الحطاب عن ابن بشير المالكي أنه ذكر قولاً بسقوط الفدية مطلقًا أي سواء أزال بسبب الحجامة شعرًا أو لا. قال الشنقيطي: القول الذي ذكره ابن بشير من المالكية واستغربه خليل في التوضيح بسقوط الفدية مطلقًا ولو أزال بسبب الحجامة شعرًا، له وجه من النظر، ولا يخلو عندي من قوة والله تعالى أعلم، وإيضاح ذلك أن جميع الروايات المصرحة بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم في رأسه، لم يرد في شيء منها أنه افتدى لإزالة ذلك الشعر من أجل الحجامة، ولو وجبت عليه في ذلك فدية لبينها للناس، لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، والاستدلال على وجوب الفدية في ذلك بعموم قوله تعالى: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضًا أو به أذى من رأسه ففدية} (سورة البقرة: الآية 196) لا ينهض كل النهوض، لأن الآية واردة في حلق جميع الرأس لا في حلق بعضه، وقد قدمنا أن حلق بعضه ليس فيه نص صريح، ولذلك اختلف العلماء فيه فذهب الشافعي إلى أن الفدية تلزم بحلق ثلاث شعرات فصاعدًا، وذهب أحمد في إحدى الروايتين إلى ذلك، وفي الأخرى إلى لزومها بأربع شعرات، وذهب أبو حنيفة إلى لزومها بحلق الربع، وذهب مالك إلى لزومها بحلق ما فيه ترفه أو إماطة أذى، وهذا الاختلاف يدل على عدم النص الصريح في حلق بعض الرأس، فلا تتعين دلالة الآية على لزوم الفدية لمن أزال شعرًا قليلاً لأجل تمكن آلة الحجامة من موضع الوجع، والله تعالى أعلم، وممن قال بأن إزالة الشعر عن موضع الحجامة لا فدية فيه: محمد وأبو يوسف صاحبا أبي حنيفة بل قالا: في ذلك صدقة، وقد قدمنا مرارًا أن الصدقة عندهم نصف صاع من بر أو صاع كامل من غيره كتمر وشعير، والحاصل أن أكثر أهل العلم منهم الأئمة الأربعة على أنه إن حلق الشعر لأجل تمكن آلة الحجامة لزمته الفدية على التفصيل المتقدم في قدر ما تلزم به الفدية من حلق الشعر كما تقدم إيضاحه وأن عدم لزومها عندنا له وجه من النظر قوي وحكاه ابن بشير من المالكية، وأما إن لم يحلق بالحجامة شعرًا فقد قدمنا قريبًا أقوال أهل العلم فيها وتفصيلهم بين ما تدعو إليه الضرورة وبين غيره – انتهى. قال النووي: وفي حديث الحجامة بيان قاعدة من مسائل الإحرام، وهي أن الحلق واللباس وقتل الصيد ونحو

متفق عليه. 2711 – (9) وعن عثمان، حدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الرجل إذا اشتكى عينيه وهو محرم: ضمدهما بالصبر. ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك من المحرمات يباح للحاجة وعليه الفدية كمن احتاج إلى حلق أو لباس لمرض أو حر أو برد أو قتل صيد للمجاعة وغير ذلك، واستدل بهذا الحديث على جواز الفصد وبط الجرح والدمل وقطع العرق وقلع الضرس وغير ذلك من وجوه التداوي إذا لم يكن في ذلك ارتكاب ما نهي عنه المحرم من تناول الطيب وقطع الشعر ولا فدية عليه في شيء من ذلك، وفيه مشروعية التداوي واستعمال الطب والتداوي بالحجامة، تنبيه: قال الزرقاني في شرح قول مالك ((لا يحتجم المحرم إلا من ضرورة)) أي يكره، لأنها قد تؤدي لضعفه كما كره صوم يوم عرفة للحاج مع أن الصوم أخف من الحجامة فبطل استدلال المجيز بأنه لم يقم دليل على تحريم إخراج الدم في الإحرام لأنّا لم نقل بالحرمة بل بالكراهة لعلة أخرى عملت – انتهى. ومرادهم أن ضعفه بإخراج الدم منه قد يؤدي إلى عجزه عن إتمام بعض المناسك. وهذا يدل على أن المنع عند المالكية لاحتمال الضعف لا لمعنى في نفس الحجامة، لكن قال الدردير: وكره حجامة بلا عذر خيفة قتل الدواب، فإن تحقق نفي الدواب فلا كراهة، ومحل الكراهة إذا لم يزل بسببها شعر وإلا حرم بلا عذر. وافتدى مطلقًا لعذر أم لا، وحكى الدسوقي اختلاف أصحابهم في إطلاق الكراهة وتقييدها باحتمال قتل الدواب ولم يذكر من كرهه لعارض الضعف ووجه بعض المالكية الكراهة المذكورة بأن الحجامة إنما تكون في العادة بشد الزجاج ونحوه والمحرم ممنوع من العقد والشد على جسده، قاله الشيخ سند (متفق عليه) أخرجه البخاري في الحج وفي الصوم وفي الطب، ومسلم في الحج، وأخرجه أحمد مرارًا والترمذي وأبو داود والنسائي والحميدي والبيهقي والدرامي وابن الجارود وغيرهم. 2711 – قوله (في الرجل) أي في حقه وشأنه وكذا حكم المرأة المحرمة (إذا اشتكى عينيه) أي حين شكا وجعهما (ضمدهما) بصيغة الماضي مشددًا من باب التفعيل. قال القاري: وفي نسخة يعني من المشكاة على بناء الأمر للإباحة. قلت: ويحتمل أن يكون بصيغة الماضي مخففًا من باب ضرب ونصر، يقال: ضمد الجرح يضمده ويضمده وضمّده شده بالضمادة وهي العصابة كالضماد، هذا أصله ثم استعمل في خلط الدواء بمائع فيلين ويوضع على العضو الماؤف، قال الطيبي: أصل الضمد الشد، يقال ضمد رأسه وجرحه إذا شده بالضماد وهو خرقة يشد بها العضو الماؤف أي المصاب بالآفة، ثم قيل لوضع الدواء على الجرح وغيره وإن لم يشد – انتهى (بالصبر) ككتف بفتح الصاد المهملة وكسر الباء ويجوز إسكانها، وقال في القاموس: ولا يسكن الباء إلا في ضرورة الشعر، عصارة شجر مر، وقال في بحر

رواه مسلم. 2712 – (10) وعن أم الحصين، قالت: رأيت أسامة وبلالاً وأحدهما آخذ بخطام ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والآخر رافع ثوبه يستره من الحر، حتى رمى جمرة العقبة. ـــــــــــــــــــــــــــــ الجواهر: هو عصارة جامدة من نبات كالسوسن بين صفرة وحمرة منه سقو طري ومنه عربي ومنه سميخاني وأفضله سقو طري – انتهى. ويسمى بالأردية ((إيلوا)) والمقصود أن يخلط الصبر بالماء ويمرخ فيقطره في عينيه أو يكتحلهما به أو يضعه على عينيه. وفي الحديث دليل على جواز تضميد العين وغيرها بالصبر ونحوه. قال النووي: اتفق العلماء على جواز تضميد العين وغيرها بالصبر ونحوه مما ليس بطيب ولا فدية في ذلك، فإن احتاج إلى ما فيه طيب جاز له فعله وعليه الفدية. واتفق العلماء على أن للمحرم أن يكتحل بكحل لا طيب فيه إذا احتاج إليه ولا فدية عليه فيه. وأما الاكتحال للزينة فمكروه عند الشافعي وآخرين ومنعه جماعة منهم أحمد وإسحاق، وفي مذهب مالك قولان كالمذهبين، وفي إيجاب الفدية بذلك عندهم خلاف – انتهى. ومذهب الحنفية فيه مثل مذهب الشافعي، وروى البيهقي عن عائشة أنها قالت: في الإثمد والكحل الأسود إنه زينة نحن نكرهه ولا نحرمه. وبه قال مالك وأحمد وإسحاق إلا عند الحاجة، وأجمعوا على حلة حيث لا طيب فيه (رواه مسلم)) وأخرجه أيضًا أحمد (ج 1: ص 60، 61، 65، 68) وأبو داود والترمذي والنسائي والبيهقي وابن الجارود والحميدي. 2712- قوله (وعن أم الحصين) بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين ثم ياء ساكنة ثم نون، هي بنت إسحاق الأخمسية الصحابية ولا يعرف لها اسم (رأيت أسامة) هو ابن زيد بن حارثة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (وبلالاً) هو ابن رباح مولى أبي بكر الصديق (وأحدهما) أي والحال أن أحدهما. قال القاري: والظاهر أنه بلال (آخذ) بصيغة الفاعل (بخطام ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) الخطام بكسر الخاء ككتاب بمعنى الزمام (والآخر) أي أسامة (رافع) بالتنوين (ثوبه) أي ثوبًا في يده (يستره) أي يظله بثوب مرتفع عن رأسه بحيث لم يصل الثوب إلى رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (من الحر) وفي رواية ((رافع ثوبه على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الشمس)) وروى أحمد عن أبي أمامة عمن رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ((راح إلى منى يوم التروية وإلى جانبه بلال، بيده عود عليه ثوب يظلل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) وفي الحديث دليل على جواز تظليل المحرم على رأسه بثوب أو نحوه سواءً كان راكبًا أو نازلاً وإليه ذهب أبو حنيفة والشافعي والجمهور محتجين بحديثي أم الحصين وأبي أمامة، وذهب مالك وأحمد إلى عدم الجواز إلا إذا كان نازلاً، فإن استظل سائرًا فعليه الفدية، وعن أحمد رواية أخرى أنه لا فدية وأجمعوا على أنه لو قعد تحت خيمة أو سقف جاز. وقد احتج لمالك وأحمد على منع التظلل بما رواه البيهقي بإسناد صحيح عن ابن عمر أنه أبصر رجلاً على بعيره وهو محرم قد استظل بينه وبين الشمس،

...................................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ فقال: إضح لمن أحرمت له، وبما أخرجه البيهقي أيضًا بإسناد ضعيف عن جابر مرفوعًا ((ما من محرم يضحي للشمس حتى تغرب إلا غربت بذنوبه حتى يعود كما ولدته أمه)) وقوله ((أضح)) بالضاد المعجمة، وكذا ((يضحي)) والمراد أُبرز للشمس، وروى البيهقي أيضًا والشافعي وسعيد بن منصور عن عبد الله بن عياش بن ربيعة قال: حججت مع عمر بن الخطاب فما رأيت مضطربًا فسطاطًا حتى رجع، قيل له: فما كان يصنع؟ قال: يطرح النطع على الشجر فيجلس تحته، قال الشوكاني: ويجاب بأن قول ابن عمر لا حجة فيه، وبأن حديث جابر مع كونه ضعيفًا لا يدل على المطلوب وهو المنع من التظلل ووجوب الكشف لأن غاية ما فيه أنه أفضل، على أن يبعد منه - صلى الله عليه وسلم - أن يفعل المفضول ويدع الأفضل في مقام التبليغ – انتهى. وقال النووي: حديث جابر ضعيف مع أنه ليس فيه نهي وكذا فعل عمر وقول ابن عمر ليس فيه نهي ولو كان فحديث أم الحصين مقدم عليه – انتهى. قلت: ويدل على الجواز مطلقًا استظلاله - صلى الله عليه وسلم - بالقبة المضروبة في عرفة. وقال الشنقيطي: لا يجوز عند المالكية أن يظلل المحرم على رأسه أو وجهه بعصا فيها ثوب، فإن فعل افتدى، وفيه قول عندهم بعدم لزوم الفدية وهو الحق، وحديث أم الحصين في التظليل على النبي - صلى الله عليه وسلم - بثوب يقيه الحر وهو يرمي جمرة العقبة، يدل على ذلك، وعلى أنه جائز فالسنة أولى بالإتباع، وأجاز المالكية للمحرم أن يرفع فوق رأسه شيئًا يقيه من المطر، واختلفوا في رفعه فوقه شيئًا يقيه من البرد، والأظهر الجواز لدخوله في معنى الحديث المذكور إذ لا فرق بين الأذى من البرد والحر والمطر، وبعضهم يقول: إن الفدية المذكورة مندوبة لا واجبه ولا بأس عندهم باتقاء الشمس أو الريح باليد يجعلها على رأسه أو وجهه. قال الشنقيطي: ولا خلاف بين أهل العلم في الاستظلال بالخباء والقبة المضروبة والفسطاط والشجرة وأن يرمي عليها ثوبًا، وعن مالك منع إلقاء الثوب على الشجرة، وأجازه عبد الملك بن الماجشون قياسًا على الخيمة وهو الأظهر. قال: والاستظلال بالثوب على العصا عند المالكية إذا فعله وهو سائر لا خلاف في منعه، ولزوم الفدية فيه، وإن فعله وهو نازل ففيه خلاف عندهم. والحق الجواز مطلقًا للحديث المذكور لأن ما ثبتت فيه سنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز العدول عنه إلى رأى مجتهد من المجتهدين ولو بلغ ما بلغ من العلم والعدالة لأن سنته - صلى الله عليه وسلم - حجة على كل أحد، وليس قول أحد حجة على سنته - صلى الله عليه وسلم -، وحديث أم الحصين نص صحيح صريح في جواز استظلال المحرم الراكب بثوب مرفوع فوقه يقيه حر الشمس والنازل أحرى بهذا الحكم عند المالكية من الراكب. وهذا الحديث الصحيح المرفوع لا يعارض بما روي من فعل عمر وقول ابنه عبد الله موقوفًا عليهما، ولا بحديث جابر الضعيف في منع استظلال المحرم – انتهى. قلت: وأجاب عن حديث أم الحصين بعض أصحاب مالك بأن هذا المقدار لا يكاد يدوم فهو كما أجاز مالك للمحرم أن يستظل بيده. وقال الطبري: حمل بعض أصحاب مالك الحديث على أنه تساهل لما قارب

رواه مسلم. 2713- (11) وعن كعب بن عجرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر به ـــــــــــــــــــــــــــــ الإحلال كما تساهل في الطيب قبل الإفاضة. قلت: وما رواه أحمد من حديث أبي أمامة يرد التأويلين (رواه مسلم) وأخرجه أيضًا أحمد (ج6: ص 401) وأبو داود والنسائي والدرامي والبيهقي (ج 5: ص 69) . 2713 – قوله (وعن كعب بن عجرة) بضم العين المهملة وسكون الجيم وبعدها راء مهملة ثم تاء تأنيث. نقل ابن عبد البر عن أحمد بن صالح المصري قال: حديث كعب بن عجرة في الفدية سنة معمول بها لم يروها من الصحابة غيره ولا رواها عنه إلا ابن أبي ليلي وابن معقل. قال: وهي سنة أخذها أهل المدينة عن أهل الكوفة. قال الزهري: سألت عنها علماءنا كلهم حتى سعيد بن المسيب فلم يبينوا كم عدد المساكين. قال الحافظ فيما أطلقه ابن صالح نظر فقد جاءت هذه السنة من رواية جماعة من الصحابة غير كعب فذكرهم، قال: ورواه عن كعب بن عجرة غير المذكورين أبو وائل عند النسائي ومحمد بن كعب القرظي عند ابن ماجة ويحيى بن جعدة عند أحمد وعطاء عند الطبري فيقيد إطلاق أحمد بن صالح بالصحة، فإن بقية الطرق التي ذكرتها لا تخلو عن مقال إلا طريق أبي وائل عن كعب بن عجرة عند النسائي (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر به) فيه تجريد أو التفات أو نقل بالمعنى، قاله القاري. قلت: وفي رواية ((وقف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية)) وفي أخرى ((أتي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زمن الحديبية)) وفي أخرى ((أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أدنه، فدنوت، فقال: أدنه، فدنوت)) وفي رواية ((حملت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ما كنت أرى أن الجهد بلغ منك ما أرى)) وفي أخرى ((أنه خرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - محرمًا فقمل رأسه ولحيته فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فأرسل إليه فدعا الحلاق فحلق رأسه)) والجميع بين هذا الاختلاف أن يقال: مر به أولاً وهو يوقد تحت قدر فرآه على تلك الصورة رؤية إجمالية عن بعد يسير وقال: أيؤذيك هوامك هذه؟ ولكنه لم يقدر قدر ما بلغ به من الوجع الشديد، ثم بلغه ما هو فيه من البلاء وشدة الأذى فأرسل إليه واستدعاه حتى أتاه محمولاً فاستدناه فدنا كما في رواية ابن عون عن مجاهد عن ابن أبي ليلى عند الشيخين وحك رأسه بإصبعه الكريمة كما في رواية أبي وائل عن كعب عند الطبري فخاطبه وقال له: ما كنت أرى أن الجهد بلغ منك ما أرى، ودعا الحلاق فحلق رأسه بحضرته، فنقل بعض الرواة ما لم ينقله الآخر. قال الحافظ بعد ما ذكر اختلاف الروايات في ذلك مفصلاً ما لفظه: ((والجمع بين هذا الاختلاف في قول ابن أبي ليلى عن كعب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر به فرآه، وفي قول عبد الله بن معقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل إليه فرآه، أن يقال مر به أولاً فرآه على تلك الصورة فاستدعى به إليه فخاطبه وحلق رأسه بحضرته فنقل كل واحد منهما ما لم ينقله الآخر ويوضحه قوله في رواية ابن عون حيث قال فيها ((فقال: ادن فدنوت)) فالظاهر أن هذا الاستدناء كان عقب رؤيته إياه

وهو بالحديبية قبل أن يدخل مكة وهو محرم، وهو يوقد تحت قدر، والقمل تتهافت على وجهه، فقال: " أيؤذيك هوامك؟ ". قال: نعم. قال: " فاحلق رأسك، ـــــــــــــــــــــــــــــ إذ مر به وهو يوقد تحت القدر – انتهى. وقال الطبري: يحتمل أن يكون وقف عليه - صلى الله عليه وسلم - وأمره بذلك ثم حمل إليه لما كثر عليه فأمره ثانيًا فلا يكون بين قوله ((فحملت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين قوله ((مر به)) تضاد. وقال العيني بعد ذكر اختلاف الروايات: لا تعارض في شيء من ذلك ووجهه أنه مر به وهو محرم في أول الأمر وسأله عن ذلك، ثم حمل إليه ثانيًا بإرساله إليه، وأما إتيانه فبعد الإرسال، وأما رؤيته فلا بد منها في الكل – انتهى باختصار يسير (وهو) أي كعب (بالحديبية) تقدم ضبطها والكلام عليها، وكان ذلك سنة ست من الهجرة وكانوا محرمين بعمرة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فصدهم المشركون عن دخول مكة (قبل أن يدخل مكة) أي وهو يتوقع دخولها حين لم يقع منع عن وصولها، وفي رواية للبخاري: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رآه وإنه ليسقط القمل على وجهه، فقال: أيؤذيك هوامك؟ قال نعم، فأمره أن يحلق وهم بالحديبية ولم يبين لهم أنهم يحلون وهم على طمع أن يدخلوا مكة فأنزل الله الفدية (وهو يوقد) من الإيقاد (تحت قدر) وفي رواية ((برمة)) والقمل) أي جنسه وهو بفتح القاف وسكون الميم، دويبة تتولد من العرق والوسخ في بدن الإنسان أو ثوبه أو شعره تسمى بالفارسية ((سبس)) وبالأردوية ((جوين)) تتهافت) بالتائين، وفي مسلم ((يتهافت)) أي بصيغة التذكير يعنى تتساقط شيئًا فشيئًا، من التهافت وهو تساقط الشيء قطعة قطعة كالثلج والرذاذ ونحوهما (على وجهه) وفي رواية لأحمد ((قملت حتى ظننت أن كل شعرة من رأسي فيها القمل من أصلها إلى فرعها. وفي رواية له أيضًا ((وقع القمل في رأسي ولحيتي حتى حاجبي وشاربي)) وفي رواية لأبي داود ((أصابتني هوام حتى تخوفت على بصري)) (فقال أيؤذيك) بالتذكير، وفي بعض النسخ بالتأنيث (هوامك) بتشديد الميم جمع هامة وهي ما يدب من الأخشاش والمراد بها ما يلازم جسد الإنسان غالبًا إذا طال عهده بالتنظيف، وقد وقع في الرواية هذه نفسها القمل فهو المراد بالهوام.قال الحافظ: قد عين في كثير من الروايات أنها القمل، وقال في موضع آخر: الهوام اسم للحشرات لأنها تهم أن تدب، وإذا أضيفت إلى الرأس اختصت بالقمل. وقال القاري: الهوام جمع هامة بتشديد الميم وهي الدابة التي تسير على السكون كالنمل والقمل. قال القرطبي: قوله ((أيؤذيك هوامك؟)) هذا سؤال عن تحقيق العلة التي يترتب عليها الحكم فلما أخبره بالمشقة التي نالته خفف عنه – انتهى. قال الحافظ: واستدل به على أن الفدية مرتبة على قتل القمل، وتعقب بذكر الحلق. فالظاهر أن الفدية مرتبة عليه، وهما وجهان عند الشافعية. ويظهر أثر الخلاف فيما لو حلق ولم يقتل قملاً (فاحلق رأسك) أمر إباحة، قاله القاري. وفي رواية ((فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحلق رأسه، قال الباجي: والأمر وإن كان يقتضي الوجوب أو الندب ولا تكون الإباحة أمرًا فقد يحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - ندبه

وأطعم فرقًا بين ستة مساكين ". والفرق: ثلاثة آصع، ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى ذلك، ورآه الأفضل له فقد نهى الإنسان عن أذى نفسه وتحمل المشقة الخارجة عن العادة المؤذية التي لا يطيقها الإنسان غالبًا في العبادات ولذلك كره من الحولاء بنت تويت أن لا تنام الليل، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: اكلفوا من العمل ما تطيقون – انتهى. وقوله ((أن يلحق رأسه)) أي يزيل شعره أعم من أن يكون بموسى أو بمقص أو نورة، قاله الزرقاني، وقال ابن قدامه: لا نعلم خلافًا في إلحاق الإزالة بالحلق سواء كان بموسى أو مقص أو نورة أو غير ذلك وأغرب ابن حزم فأخرج النتف عن ذلك، فقال يلحق جميع الإزالات بالحلق إلا النتف، كذا في الفتح (وأطعم) أمر وجوب وهو بيان لقوله تعالى: ((أو صدقة)) فرقًا) بفتح الفاء والراء وقد تسكن قاله ابن فارس. وقال الأزهري: كلام العرب بالفتح والمحدثون قد يسكنونه وآخره قاف، مكيال معروف بالمدينة وهو ستة عشر رطلاً. قال الحافظ: وإذا ثبت أن الفرق ثلاثة آصع كما سيأتي اقتضي أن الصاع خمسة أرطال وثلث خلافًا لمن قال إن الصاع ثمانية أرطال (بين ستة مساكين قال الطيبي: فلكل واحد نصف صاع بلا فرق بين الأطعمة (والفرق ثلاثة آصع) كذا في صحيح مسلم وكتاب الحميدي وشرح السنة، وفي نسخ المصابيح ((أصوع)) وكلاهما جمع صاع. وأخطأ من قال ((آصع)) لحن قال الطيبي: صح هذا اللفظ في الحديث وهو من قبيل القلب وأصله أصوع – انتهى. والمراد بالقلب القلب المكاني بأن تجعل الواو مكان الصاد وعكسه بعد نقل حركة الواو إلى الصاد ثم تقلب الواو ألفًا لتحركها في الأصل وانفتاح ما قبلها، وكذا في المرقاة وقال النووي: الآصع جمع صاع، وفي الصاع لغتان، التذكير والتأنيث وهو مكيال يسع خمسة أرطال وثلثا بالبغدادي، هذا مذهب مالك وأحمد وجماهير العلماء، وقال أبو حنيفة يسع ثمانية أرطال، وأجمعوا على أن الصاع أربعة أمداد، وهذا الذي قدمناه من أن الآصع جمع صاع صحيح، وقد ثبت استعمال الآصع في هذا الحديث الصحيح من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكذلك هو مشهور في كلام الصحابة والعلماء بعدهم، وفي كتب اللغة وكتب النحو والتصريف، ولا خلاف في جوازه وصحته – انتهى. وذكر الحافظ في الفتح هذه الرواية عن مسلم ثم قال: وأخرجه الطبري من طريق يحيى بن آدم عن ابن عيينة فقال: فيه قال سفيان: والفرق ثلاثة آصع، فأشعر بأن تفسير الفرق مدرج لكنه مقتضي الروايات الأخر ففي رواية سليمان بن قرم عن ابن الأصبهاني عند أحمد ((لكل مسكين نصف صاع)) وفي رواية يحيى بن جعدة عند أحمد أيضًا ((أو أطعم ستة مساكين مدين مدين)) وفي رواية زكريا عن ابن الأصبهاني عند مسلم ((أو يطعم ستة مساكين، لكل مسكينين صاع)) وكذا أخرجه مسدد في مسنده عن أبي عوانة عن ابن الأصبهاني، وللبخاري عن أبي الوليد عن شعبة عن ابن الأصبهاني ((أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع)) ثم أنه اختلفت الروايات في ذكر ما يخرج في الصدقة وفي مقدار الواجب لكل مسكين من المخرج، فللطبراني كما قال الحافظ عن أحمد

...................................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن محمد الخزاعي عن أبي الوليد شيخ البخاري فيه ((لكل مسكين نصف صاع تمر)) ولمسلم وأحمد وأبي داود من طريق أبي قلابة عن ابن أبي ليلى ((أو أطعم ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين)) ولأحمد عن محمد بن جعفر وبهز عن شعبة نصف صاع طعام، والمراد بالطعام هنا التمر كما صرح بذلك في عدة طريق عند أحمد وأبي داود وغيرهما، وفي طريق لمسلم، قال الحافظ: ولبشر بن عمر الزهراني عن شعبة (عند الدارقطني في الغرائب) نصف صاع حنطة، ورواية الحكم عن ابن أبي ليلى (عند أبي داود والبيهقي) تقتضي أنه نصف صاع زبيب فإنه قال: يطعم فرقًا من زبيب بين ستة مساكين. قال ابن حزم: لا بد من ترجيح إحدى هذه الروايات لأنها قصة واحدة في مقام واحد في حق رجل واحد. قال الحافظ: المحفوظ عن شعبة أنه قال نصف صاع من طعام، والاختلاف عليه في كونه تمرًا أو حنطة لعله من تصرف الرواة، وأما الزبيب فلم أره إلا في رواية الحكم، وقد أخرجها أبو داود، وفي إسنادها ابن إسحاق وهو حجة في المغازي لا في الأحكام إذا خالف، والمحفوظ رواية التمر فقد وقع الجزم بها عند مسلم من طريق أبي قلابة كما تقدم، ولم يختلف فيه على أبي قلابة. وكذا أخرجه الطبري من طريق الشعبي عن كعب، وأحمد من طريق سليمان بن قوم عن ابن الأصبهاني، ومن طريق أشعث وداود عن الشعبي عن كعب، وكذا في حديث عبد الله بن عمرو عند الطبراني، وعرف بذلك قوة قول من قال: لا فرق في ذلك بين التمر والحنطة وأن الواجب ثلاثة آصع لكل مسكين نصف صاع – انتهى. يشير بذلك إلى تضعيف ما هو محكي عن الحنفية، ففي الدر المختار ((أو تصدق بثلاثة أصوع طعام على ستة مساكين)) قال ابن عابدين ناقلاً عن القهستاني: والطعام البر بطريق الغلبة – انتهى. وقال ابن قدامة: قال الثوري وأصحاب الرأي: يجزئ من البر نصف صاع لكل مسكين، ومن التمر والشعير صاع صاع، وإتباع السنة أولى، وترجم البخاري ((باب الإطعام في الفدية نصف صاع)) قال الحافظ: أي لكل مسكين من كل شيء، يشير بذلك إلى الرد على من فرق في ذلك بين القمح وغيره، قال ابن عبد البر: قال أبو حنيفة والكوفيون: نصف صاع من قمح وصاع من تمر وغيره، وعن أحمد رواية تضاهي قولهم، قال عياض: وهذا الحديث يرد عليهم - انتهى. وأما رواية إسماعيل بن زكريا عن أشعث عن الشعبي عن عبد الله بن معقل عن كعب بلفظ ((لكل مسكين صاع من تمر)) فضعيفة كما قال ابن حزم (ج 7: ص 210) هذا وقوله ((أطعم فرقًا بين ستة مساكين)) يدل على أن الإطعام لستة مساكين، وترجم البخاري ((باب قول الله: {أو صدقة} وهي إطعام ستة مساكين)) قال الحافظ: يشير بهذا إلى أن الصدقة في الآية مبهمة فسرتها السنة، وبهذا قال جمهور العلماء، وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن الحسن قال: الصوم عشرة أيام والصدقة على عشرة مساكين، وروى الطبري عن عكرمة ونافع نحوه. قال ابن عبد البر: لم يقل بذلك أحد من فقهاء الأمصار - انتهى. وقال العيني: إن الإطعام لستة مساكين ولا يجزئ أقل من ستة، وهو قول الجمهور، وحكى عن أبي حنيفة أنه يجوز أن يدفع إلى مسكين واحد - انتهى.

أو صم ثلاثة أيام، أو انسك نسيكة. ـــــــــــــــــــــــــــــ (أو صم ثلاثة أيام) بيان لقوله تعالى {ففدية من صيام} قال ابن التين وغيره: جعل الشارع هنا صوم يوم معادلاً بصاع، وفي الفطر من رمضان عدل مد وكذا في الظهار والجماع في رمضان وفي كفارة اليمين بثلاثة أمداد وثلث، وفي ذلك أقوى دليل على أن القياس لا يدخل في الحدود والتقديرات، كذا في الفتح، وفي الحديث دليل على أن الصوم في الفدية الواجبة بحلق الشعر ثلاثة أيام، وقد تقدم ما روي عن الحسن أنه قال: الصيام عشرة أيام، قال ابن كثير: هو قول غريب فيه نظر لأنه ثبت السنة في حديث كعب بن عجرة صيام ثلاثة أيام لا عشرة. وقال ابن عبد البر في الاستذكار: روي عن الحسن وعكرمة ونافع صوم عشرة أيام ولم يتابعهم أحد من العلماء على ذلك - انتهى، هذا ولا تخصيص لصيام الفدية عند العلماء بموضع دون موضع بل يجوز له أن يصوم في أي موضع شاء بالاتفاق بين الأئمة الأربعة وغيرهم، وأما الإطعام ففيه خلاف فذهب الشافعي إلى أن الإطعام لا يجزيه إلا في الحرم وبه قال أحمد، قال أبو حنيفة ومالك: لا يختص ذلك بمكة ولا بالحرم فيطعم حيث شاء (أو انسك) بوصل الهمزة وضم السين (نسيكة) أي اذبح ذبيحة، وفي رواية ((انسك شاة)) أي اذبح شاة، والنسك يطلق على العبادة وعلى الذبح المخصوص. وقوله - صلى الله عليه وسلم - المذكور بيان لقوله تعالى: {أو نسك} وترجم البخاري ((باب النسك شاة)) قال الحافظ: أي النسك المذكور في الآية حيث قال: أو نسك، وروى الطبري من طريق مغيرة عن مجاهد في آخر هذا الحديث ((فأنزل الله {ففدية صيام أو صدقة أو نسك} والنسك شاة)) ومن طريق محمد بن كعب القرظي عن كعب ((أمرني أن أحلق وأفتدى بشاة)) قال عياض ومن تبعه تبعًا لأبي عمر: كل من ذكر النسك في هذا الحديث مفسرًا إنما ذكروا شاة وهو أمر لا خلاف فيه بين العلماء. قال الحافظ: يعكر عليه ما أخرجه أبو داود من طريق نافع عن رجل من الأنصار عن كعب بن عجرة أنه أصابه أذى فحلق فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يهدي بقرة، وللطبراني من طريق عبد الوهاب بن بخت عن نافع عن ابن عمر قال: حلق كعب بن عجرة رأسه فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يفتدي فافتدى ببقرة، ولعبد بن حميد من طريق أبي معشر عن نافع عن ابن عمر قال: افتدى كعب من أذى كان برأسه فحلقه ببقرة قلدها وأشعرها، ولسعيد بن منصور من طريق ابن أبي ليلى عن نافع عن سليمان بن يسار قيل لابن كعب بن عجرة: ما صنع أبوك حين أصابه الأذى في رأسه؟ قال: ذبح بقرة، فهذه الطرق كلها تدور على نافع. وقد اختلف عليه في الواسطة الذي بينه وبين كعب، وقد عارضها ما هو أصح منها من أن الذي أمر به كعب وفعله في النسك إنما هو شاة، وروى سعيد بن منصور وعبد بن حميد من طريق المقبري عن أبي هريرة أن كعب بن عجرة ذبح شاة لأذى كان أصابه، وهذا أصوب من الذي قبله، واعتمد ابن بطال على رواية نافع عن سليمان بن يسار فقال: أخذ كعب بأرفع الكفارات ولم يخالف النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما أمره به من ذبح الشاة بل وافق

............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ وزاد ففيه أن من أفتى بأيسر الأشياء فله أن يأخذ بأرفعها كما فعل كعب. وقال الحافظ: هو فرع ثبوت الحديث ولم يثبت بما قدمته - انتهى. وقال الحافظ العراقي: لفظ بقرة شاذ منكر، هذا واختلفت الروايات فيما افتدى به كعب بن عجرة، قال الحافظ بعد ذكر رواية أبي الزبير عن مجاهد عند الطبراني بلفظ ((ما أجد هديًا؟ قال: فأطعم، قال: ما أجد؟ قال: صم)) ما نصه: عرف من رواية أبي الزبير أن كعبًا افتدى بالصيام، ووقع في رواية ابن إسحاق ما يشعر بأنه افتدى بالذبح لأن لفظه صم أو أطعم أو انسك شاة، قال: فحلقت رأسي ونسكت. وروى الطبراني من طريق ضعيفة عن عطاء عن كعب في آخر هذا الحديث، فقلت: يا رسول الله: خر لي قال. أطعم ستة مساكين - انتهى. كذا ذكر الحافظ ولم يجزم بشيء من الثلاثة، لكن في كلامه السابق الإشارة إلى أن الذي فعله كعب إنما هو الافتداء بذبح الشاة حيث قال بعد ذكر رواية البقرة: وقد عارضها ما هو أصح منها من أن الذي أمر به كعب وفعله في النسك إنما هو شاة وتقدم أن ابن بطال اعتمد على رواية افتدائه بالبقرة، وتعقبه الحافظ بأن ذلك لم يثبت، ورواية أبي داود من طريق الحكم عن ابن أبي ليلى بلفظ: فحلقت رأسي ثم نسكت. تدل على أنه افتدى بالذبح وهي تؤيد رواية ابن إسحاق، لكن يأباه حديث الشعبي عن كعب عند أبي داود أيضًا، قال - صلى الله عليه وسلم -: أمعك دم؟ قال: لا، قال: فصم ثلاثة أيام أو تصدق. وجمع بينهما بأنه يحتمل أنه لم يكن واجدًا للشاة حين سأله - صلى الله عليه وسلم -، ثم بعد ذلك حصلت له فذبحها، قال الزرقاني: يحتمل أنه وجدها بعد ما أخبر أنه لا يجدها فنسك بها، وأما ما أخرجه ابن عبد البر أنه قال: فحلقت وصمت، فإما أنها رواية شاذة أو أنه فعل الصوم أيضًا باجتهاده، واختلف العلماء في موضع ذبح فدية الأذى فقال مالك وأحمد: يذبح حيث شاء ولا يختص ذلك بمكة ولا بالحرم، وقال الشافعي وأبو حنيفة يختص بالحرم. قال العيني: احتج بعموم الحديث مالك على أن الفدية يفعلها حيث يشاء سواء في ذلك الصيام والإطعام والكفارة لأنه لم يعين له موضعًا للذبح أو الإطعام ولا يجوز تأخير البيان عن وقت البيان، وقد اتفق العلماء في الصوم أن له أن يفعله حيث شاء لا يختص ذلك بمكة ولا بالحرم، وأما النسك والإطعام فجوزهما مالك أيضًا كالصوم، وخصص الشافعي ذلك بمكة أو بالحرم، واختلف فيه قول أبي حنيفة فقال مرة: يختص بذلك الدم دون الإطعام، وقال مرة: يختصان جميعًا بذلك. وقال هشيم: أخبرنا ليث عن طاوس أنه كان يقول: ما كان من دم أو إطعام فبمكة، وما كان من صيام فحيث شاء، وكذا قال عطاء ومجاهد والحسن - انتهى. وقال الخرقي: كل هدي أو إطعام فهو لمساكين الحرم إن قدر على إيصاله إليهم إلا من أصابه أذى من رأسه فيفرقه على المساكين في الموضع الذي حلق فيه، قال ابن قدامة: أما فدية الأذى فتجوز في الموضع الذي حلق فيه نص عليه أحمد، وقال الشافعي: لا يجوز إلا في الحرم لقوله تعالى {ثم محلها إلى البيت العتيق} (سورة الحج، الآية 33) ولنا أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر كعب بن عجرة بالفدية بالحديبية ولم يأمر ببعثه إلى الحرم، وروى الأثرم وإسحاق والجوزجاني في كتابيهما

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ عن أبي أسماء مولى عبد الله بن جعفر قال: كنت مع عثمان وعلي وحسين بن على رضي الله عنهم حجاجًا فاشتكى حسين بن علي بالسقيا فأومأ بيده إلى رأسه فحلقه علي ونحر عنه جزورًا بالسقيا، هذا لفظ رواية الأثرم ولم يعرف لهم مخالف، والآية وردت في الهدي، وظاهر كلام الخرقي اختصاص ذلك بفدية الشعر، وما عداه من الدماء فبمكة، وقال القاضي في الدماء الواجبة بفعل محظور كاللباس والطيب هي كدم الحلق، وفي الجميع روايتان إحدهما يفدي حيث وجد سببه والثانية محل الجميع الحرم، وأما جزاء الصيد فهو لمساكين الحرم نص عليه أحمد، إلى آخر ما قال. وقال الدردير: لم يختص النسك بمعنى الفدية بأنواعها الثلاثة (شاة أو إطعام ستة مساكين أو صيام ثلاثة أيام) بزمان كأيام منى أو بمكان كمكة أو منى بخلاف الهدي فإنه يختص بهما إلا أن ينوي بالذبح الهدي بأن يقلد أو يشعر، والمعتمد أن مجرد النية كاف فحكمه حكم الهدي في الاختصاص بمنى أو مكة – انتهى. وفي الهداية الصوم يجزيه في أي موضع شاء لأنه عبادة في كل مكان، وكذلك الصدقة عندنا، وأما النسك فيختص بالحرم لأن الإراقة لم تعرف قربة إلا في زمان أو مكان، وهذا الدم لا يختص بزمان فتعين اختصاصه بالمكان – انتهى. قال الحافظ: واحتج (للمالكية) القرطبي بقوله في حديث كعب ((أو اذبح نسكًا)) قال: فهذا يدل على أنه ليس بهدي، قال: فعلى هذا يجوز أن يذبحها حث شاء، قلت: (قائله الحافظ) : لا دلالة فيه إذ لا يلزم من تسميتها نسكًا أو نسيكة أن لا تسمى هديًا أو لا تعطي حكم الهدي، وقد وقع تسميتها هديًا في رواية للبخاري حيث قال: أو تهدي شاة، وفي رواية مسلم ((واهد هديًا)) وفي رواية للطبري ((هل لك هدي؟ قلت: لا أجد)) فظهر أن ذلك من تصرف الرواة، ويؤيده قوله في رواية مسلم ((أو اذبح شاة)) واستدل به على أن الفدية لا يتعين لها مكان، وبه قال أكثر التابعين، وقال الحسن: تتعين مكة، وقال مجاهد: النسك بمكة ومنى، والإطعام بمكة، والصيام حيث شاء، وقريب منه قول الشافعي وأبي حنيفة: الدم والإطعام لأهل الحرم والصيام حيث شاء إذ لا منفعة فيه لأهل الحرم، وألحق بعض أصحاب أبي حنيفة وأبو بكر بن الجهم من المالكية الإطعام بالصيام – انتهى. والأظهر عندنا في النسك والصدقة أيضًا أن له أن يفعلهما حيث شاء، لأن فدية الأذى أشبه بالكفارة منها بالهدي، ولأن الله لم يذكر للفدية محلاً معينًا ولم يذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - وسماها نسكًا، والله أعلم، هذا وقد تقدم أن الحديث تفسير لقوله تعالى: {فمن كان منكم مريضًا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} وسياق الحديث موافق للآية و ((أو)) فيهما للتخيير، وقد ترجم البخاري في الحج من صحيحه بالآية وقال بعد ذكرها: وهو مخير والصيام ثلاثة أيام. قال الحافظ: قوله ((مخير)) من كلام المصنف، استفاده من أو المكررة، وقد أشار إلى ذلك في أول باب كفارات الأيمان، فقال: وقد خير النبي - صلى الله عليه وسلم - كعبًا في الفدية، ويذكر عن ابن عباس وعطاء وعكرمة: ما كان في القرآن أو فصاحبه بالخيار، قال الحافظ: وأقرب ما وقفت عليه من طريق حديث الباب إلى التصريح ما أخرجه أبو داود من طريق الشعبي

............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ عن ابن أبي ليلى عن كعب بن عجرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: إن شئت فانسك نسيكة، وإن شئت فصم ثلاثة أيام، وإن شئت فأطعم – الحديث. وفي رواية مالك في الموطأ عن عبد الكريم بإسناده في آخر الحديث ((أي ذلك فعلت أجزأ)) . قال الحافظ: لكن رواية عبد الله بن معقل عند الشيخين تقتضي أن التخيير إنما هو بين الإطعام والصيام لمن لم يجد النسك، ولفظه عند البخاري قال: أتجد شاة؟ قال: لا، قال: فصم أو أطعم، ولأبي داود في رواية أخرى: أمعك دم؟ قال: لا، قال: فإن شئت فصم)) ونحوه للطبراني من طريق عطاء عن كعب، ووافقهم أبو الزبير عن مجاهد عند الطبراني، وزاد بعد قوله ((ما أجد هديًا)) قال: فأطعم. قال: ما أجد. قال: فصم، ولهذا قال أبو عوانة في صحيحه: فيه دليل على أن من وجد نسكًا لا يصوم يعني ولا يطعم لكن لا أعرف من قال بذلك من العلماء إلا ما رواه الطبري وغيره عن سعيد بن جبير ((قال: النسك شاة، فإن لم يجد قومت الشاة دراهم، والدراهم طعامًا فتصدق به أو صام لكل نصف صاع يومًا)) أخرجه من طريق الأعمش عنه، قال: فذكرته لإبراهيم فقال: ((سمعت علقمة مثله)) فحينئذ يحتاج إلى الجمع بين الروايتين وقد جمع بينهما بأوجه، منها: ما قال ابن عبد البر: إن فيه الإشارة إلى ترجيح الترتيب لا لإيجابه، ومنها ما قال النووي: ليس المراد أن الصيام أو الإطعام لا يجزئ إلا لفاقد الهدي بل المراد أنه استخبره هل معه هدي أو لا، فإن كان واجده أعلمه أنه مخير بينه وبين الصيام والإطعام وإن لم يجده أعلمه أه مخير بينهما، ومحصله أنه لا يلزم من سؤاله عن وجدان الذبح تعيينه لاحتمال أنه لو أعلمه أنه يجده لأخبره بالتخيير بينه وبين الإطعام والصوم. ومنها: ما قال غيرهما: يحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أذن له في حلق رأسه بسبب الأذى أفتاه بأن يكفر بالذبح على سبيل الاجتهاد منه - صلى الله عليه وسلم - أو بوحي غير متلو فلما أعلمه أنه لا يجد نزلت الآية بالتخيير بين الذبح والإطعام والصوم فخيره حينئذ بين الصيام والإطعام لعلمه بأنه لا ذبح معه فصام لكونه لم يكن معه ما يطعمه، ويوضح ذلك رواية مسلم في حديث عبد الله بن معقل المذكور حيث قال: أتجد شاة؟ قلت: لا، فنزلت هذه الآية ((ففدية من صيام أو صدقة أو نسك)) فقال: فصم ثلاثة أيام أو أطعم، وفي رواية عطاء الخراساني قال: صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين، قال: وكان قد علم أنه ليس عندي ما أنسك به، ونحوه في رواية محمد بن كعب القرظي عن كعب، وسياق الآية يشعر بتقديم الصيام على غيره، وليس ذلك لكونه أفضل في هذا المقام من غيره بل السر فيه أن الصحابة الذين خوطبوا شفاهًا بذلك كان أكثرهم يقدر على الصيام أكثر مما يقدر على الذبح أو الإطعام – انتهى كلام الحافظ. ثم إن التخيير في الفدية بأنواعها الثلاثة هل يختص بالعذر والضرورة أو يعم، وأن الفدية المذكورة تختص بالحلق أو تعم الحلق وغيره من محرمات الإحرام كاللبس والتطيب؟ وهل تختص بالعمد أو تعم العمد والخطأ والنسيان؟ وما هو حكم بعض شعر الرأس وحكم شعر الجسد غير الرأس؟ العلماء مختلفون في ذلك كله من أراد الوقوف على مذاهبهم ومستندات

(الفصل الثاني)

متفق عليه. (الفصل الثاني) 2714 – (12) عن ابن عمر، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى النساء في إحرامهن عن القفازين، والنقاب، وما مس الورس والزعفران من الثياب، ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب معصفر ـــــــــــــــــــــــــــــ أقوالهم فليرجع إلى العيني (ج 10: ص 152) والمغني (ج 3: ص 492، 493،494) وأضواء البيان (ج 5: ص 360 إلى 400) وفي الحديث من الفوائد أن السنة مبينة لمجمل الكتاب لإطلاق الفدية في القرآن وتقييدها بالسنة وتحريم حلق الرأس على المحرم والرخصة له في حلقها إذا آذاه القمل أو غيره من الأوجاع مع الكفارة المذكورة، وأن النسك ها هنا شاة، فلو تبرع بأكثر من هذا جاز، وفيه تلطف الكبير بأصحابه وعنايته بأحوالهم وتفقده لهم، وإذا رأى ببعض أصحابه ضررًا سأل عنه وأرشده إلى المخرج منه (متفق عليه) أخرجه البخاري في الحج والمغازي والتفسير والمرضى والطب والنذور، ومسلم في الحج، وأخرجه أيضًا مالك فيه، وأحمد (ج 4: ص 241، 242، 243، 244) والترمذي في الحج وفي التفسير وأبو داود والنسائي وابن ماجة في الحج، وأخرجه أيضًا الشافعي وابن الجارود والحميدي والبيهقي وغيرهم. 2714- قوله (عن ابن عمر أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى النساء في إحرامهن عن القفازين) أي عن لبسهما في أيديهن (والنقاب) أي البرقع في وجوههن بحيث يماس بشرتهن، فيه دليل على منع المحرمة من لبس القفازين والنقاب، وهو الحق والصواب، وقد تقدم الكلام في ذلك (وما مس) أي وعما صبغه (الورس والزعفران من الثياب) تقدم الكلام في ذلك أيضًا (ولتلبس) قال الطيبي كأنه قال سمعته يقول: لا تلبس النساء القفازين والنقاب ولتلبس (بعد ذلك أي ما ذكر (ما أحبت من ألوان الثياب) أي أنواعها وأصنافها (معصفر) بالجر على أنه بدل من ألوان الثياب أي المصبوغ بالعصفر وهو بضم عين وسكون صاد مهملتين فضم فاء آخره راء، يقال له بالهندية ((كُسُمْ وكُسُنْبة)) قلت: قوله ((معصفر)) كذا في جميع نسخ المشكاة والمصابيح، وفي أبي داود ((معصفرًا)) بالنصب وهكذا ذكر المجد في المنتقى والنووي في شرح المهذب والحافظ في التخليص والبيهقي في السنن والزيلعي في نصب الراية، وفي المستدرك للحاكم ((من معصفر)) أي بزيادة ((من)) وكذا في جامع الأصول وفي الحديث دلالة على لبس الثوب المعصفر للمحرمة وإليه ذهب الشافعي وأحمد وكرهه مالك إذا كان ينتفض، ومنع منه الثوري وأبو حنيفة. قال الخرقي: لا بأس بما صبغ بالعصفر. قال ابن قدامة: إن العصفر ليس بطيب ولا بأس باستعماله وشمه ولا بما صبغ به، وهذا قول جابر وابن عمر وعبد الله بن جعفر وعقيل بن أبي طالب وهو مذهب الشافعي، وعن عائشة وأسماء وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهن كن يحرمن في المعصفرات

أوخز أو حلي أو سروايل أو قميص أو خف. رواه أبو داود. ـــــــــــــــــــــــــــــ وكرهه مالك إذا ينتفض في بدنه ولم يوجب فيه فدية، ومنع منه الثوري وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن وشبهوه بالمورس والمزعفر لأنه صبغ طيب الرائحة فأشبه ذلك. قال: ولنا ما روى أبو داود بإسناده عن ابن عمر أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب – الحديث. وروى الإمام أحمد في المناسك بإسناده عن عائشة بنت سعد قالت: كنّا أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - نحرم في المعصفرات، ولأن قول سمينا من الصحابة ولم نعرف لهم مخالفًا، ولأنه ليس بطيب فلم يكره ما صبغ به كالسواد والمصبوغ بالمغرة، وأما الورس والزعفران فإنه طيب بخلاف مسألتنا – انتهى. وقال الشنقيطي: الأظهر أن العصفر ليس بطيب مع أنه لا يجوز لبس المحرم ولا غيره للمعصفر، وقد تقدم حديث ابن عمر عند أبي داود يريد حديثه الذي نحن في شرحه، قال: وهو صريح في أن العصفر ليس بطيب، وعن ابن عباس قال: ((كان أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يختضبن بالحناء وهن محرمات ويلبسن المعصفر وهن محرمات)) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، وقال: رواه الطبراني في الكبير وفيه يعقوب بن عطاء وثقه ابن حبان وضعفه جماعة، وأما ما ورد من منع لبس المعصفر مطلقًا فهو محمول على الرجال فلا يجوز لهم لبس المعصفر في الإحرام ولا في غير الإحرام، وأما النساء فيجوز لهن مطلقًا. وأجاب الحنفية عن حديث ابن عمر هذا بأوجه: منها أنه محمول على معصفر مغسول لا يوجد منه رائحة، ومنها أن المراد بالمعصفر في الحديث ما يصبغ بالطين الأرمني كذا ذكره القاري، ولا يخفى ما فيه، ونحوه ما ذكره في البدائع أن المراد بالمعصفر المصبوغ بمثل العصفور كالمغرة ونحوها، ومنها ما قال ابن الهمام أن مبنى الخلاف على أن العصفر طيب الرائحة أم لا؟ فقلنا: نعم. فلا يجوز، قال: والنص المذكور ورد بمنع المورس وهو دون المعصفر في الرائحة فيمنع المعصفر بطريق أولى، قال: والجواب المحقق من حديث ابن عمر إن شاء الله أن نقول: ولتلبس بعد ذلك، إلخ. مدرج فإن المرفوع صريحًا هو قوله: سمعته ينهى عن كذا، وقوله ((ولتلبس بعد ذلك)) ليس من متعلقاته، ولا يصح جعله عطفًا على نهى لكمال الانفصال بين الخبر والإنشاء فكان الظاهر أنه مستأنف من كلام ابن عمر فتخلو تلك الدلالة عن المعارض الصريح أعني منطوق المورس ومفهومه الموافق فيجب العمل به – انتهى. وقد تقدم الجواب عن ذلك في كلام الطيبي والشنقيطي فتأمل (أو خَزّ) بفتح الخاء المعجمة والزاي المشددة، ثوب من إبريسم وصوف، وفي المغرب: الخز اسم دابة سمى المتخذ من وبرها خزًا (أو حلي) بفتح الحاء وإسكان اللام وبضم الحاء مع كسر اللام وتشديد الياء جمع حلي بالفتح، وهو ما تتحلى به المرأة من جلجل وسوار وخرص وتتزين به من ذهب أو فضة أو غيرهما من المعدنيات أو الحجارة الثمينة، قال الطيبي: جعل الحلي من الثياب تغليبًا أو أدخل في الثياب مجازًا لعلاقة إطلاق اللبس عليه في قوله تعالى: {وتستخرجون منه حلية تلبسونها} (سورة النحل، الآية 14) (رواه أبو داود وأخرجه أيضًا الحاكم (ج 1: ص 486) والبيهقي (ج 5: ص 52) وأخرجه أحمد (ج 2: ص 22) إلى قوله ((من

2715- (13) وعن عائشة، قالت: كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محرمات، فإذا جازوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الثياب)) وفي سنده عندهم جميعًا محمد بن إسحاق وقد صرح بالتحديث، فالحديث حسن وقد سكت عنه أبو داود والحافظ في الفتح والتلخيص، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، وقرره الذهبي، وقال النووي في شرح المهذب: رواه أبو داود بإسناد حسن وهو من رواية محمد بن إسحاق صاحب المغازي، إلا أنه قال حدثني نافع عن ابن عمر، وأكثر ما أنكر على ابن إسحاق التدليس وإذا قال المدلس ((حدثني)) أحتج به على المذهب الصحيح المشهور – انتهى. 2715- قوله (كان الركبان) بضم الراء جمع الراكب (يمرون بنا) أي علينا معشر النساء (محرمات) بالرفع على الخبرية أي مكشوفات الوجوه (فإذا جازوا بنا) كذا في بعض نسخ المشكاه، وهكذا وقع في السنن للبيهقي، وهو من الجواز بمعنى المرور أي مروا علينا وفي بعض النسخ ((جاوزوا بنا)) من المجاوزة، وهكذا وقع في جامع الأصول، أي أرادوا المجاوزة والمرور بنا ولفظ أبي داود ((حاذوا بنا)) بفتح الذال من المحاذاة بمعنى المقابلة، وهكذا وقع في مسند أحمد وفي القرى للطبري والمنتقي للمجد، وفي بعض نسخ أبي داود ((حاذونا)) وهكذا وقع في نسخة معالم السنن وفي السيل الجرار والمغني والتلخيص والمصابيح وهو الأظهر (سدلت) أي أرسلت (جلبابها) بكسر الجيم أي ملحفتها وهي الملاءة التي تشتمل بها المرأة إذا خرجت لحاجة، وقال الطبري: الجلباب هو كالمقنعة تغطي به المرأة رأسها وظهرها وصدرها، وجمعه جلايب وقد يطلق على الإزار والملحفة (فإذا جاوزونا) أي تعدوا عنا وتقدموا علينا (كشفناه) أي أزلنا الجلباب، قال القاري: ولو جعل الضمير إلى الوجه لقرينة المقام فله وجه، والمعنى أنهن كن يسترن وجوههن إذا مر عليهن الرجال بجلابيبهن، فإذا أبعدوا عنهن كشفن وجوههن، وفي الحديث الرخصة للمرأة في ستر وجهها للحاجة كما فعلت عائشة ومن معها من النسوة وهن محرمات عند مرور الرجال عليهن. قال الخطابي: قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى المحرمة عن النقاب فأما سدل الثوب على وجهها من رأسها فقد رخص فيه غير واحد من الفقهاء ومنعوها أن تلف الثوب أو الخمار على وجهها أو تشد النقاب أو تتلثم أو تتبرقع، وممن قال بأن للمرأة أن تسدل الثوب على وجهها من فوق رأسها عطاء ومالك وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وإسحاق، وهو قول محمد بن الحسن وقد علق الشافعي القول فيه أي على صحته – انتهى. وقال الشوكاني: استدل بهذا الحديث على أنه يجوز للمرأة إذا احتاجت إلى ستر وجهها بمرور الرجال قريبًا منها فإنها تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها لأن المرأة تحتاج إلى ستر وجهها فلم يحرم عليها ستره مطلقًا كالعورة لكن إذا سدلت يكون الثوب متجافيًا عن وجهها بحيث لا يصيب البشرة، هكذا قال أصحاب الشافعي وغيرهم، وظاهر الحديث خلافه لأن الثوب المسدول لا يكاد يسلم من إصابة البشرة، فلو كان التجافي شرطًا لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم -

رواه أبو داود، ولابن ماجة معناه. 2716- (14) وعن ابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدهن بالزيت وهو محرم غير المقتت يعني غير المطيب. ـــــــــــــــــــــــــــــ انتهى. وقال ابن قدامة (ج 3: ص 326) : إذا احتاجت المرأة إلى ستر وجهها لمرور الرجال قريبًا منها فإنها تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها، روى ذلك عن عثمان وعائشة، وبه قال عطاء ومالك والثوري والشافعي وإسحاق ومحمد بن الحسن، ولا نعلم فيه خلافًا، وذلك لحديث عائشة عند أبي داود والأثرم فذكر حديثها الذي نحن في شرحه قال: ولأن بالمرأة حاجة إلى ستر وجهها فلم يحرم عليها ستره على الإطلاق كالعورة، وذكر القاضي أن الثوب يكون متجافيًا عن وجهها بحيث لا يصيب البشرة، فإن أصابها ثم زال أو أزالته بسرعة فلا شيء عليها كما لو أطارت الريح الثوب عن عورة المصلى ثم عاد بسرعة لا تبطل الصلاة، فإن لم ترفعه مع القدرة افتدت لأنها استدامت الستر، ولم أر هذا الشرط عن أحمد ولا هو في الخبر مع أن الظاهر خلافه فإن الثوب المسدول لا يكاد يسلم من إصابة البشرة، فلو كان هذا شرطًا لبين، وإنما منعت المرأة من البرقع والنقاب ونحوهما مما يعد لستر الوجه. قال أحمد: أنما لها أن تسدل على وجهها من فوق وليس لها أن ترفع الثوب من أسفل، كأنه يقول إن النقاب من أسفل على وجهها – انتهى (رواه أبو داود) أي بهذا اللفظ وأخرجه أيضًا أحمد (ج 6: ص 30) والبيهقي وابن خزيمة كلهم من طريق يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن عائشة، وقد سكت عنه أبو داود، وقال المنذري: ذكر شعبة ويحيى بن سعيد القطان ويحيى بن معين أن مجاهدًا لم يسمع من عائشة، وقال أبو حاتم الرازي: مجاهد عن عائشة مرسل، وقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث مجاهد عن عائشة أحاديث، وفيها ما هو ظاهر في سماعه منها وفي إسناده يزيد بن أبي زياد، وقد تكلم فيه غير واحد، وأخرج له مسلم في جماعة غير محتج به _ انتهى. وقال الحافظ في التخليص: وقال ابن خزيمة: في القلب من يزيد بن أبي زياد، ولكن ورد من وجه آخر من طريق ثم أحرج من طريق فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر وهي جدتها نحوه، وصححه الحاكم، وقال في الفتح بعد ذكر حديث عائشة: أخرجه ابن المنذر من طريق مجاهد عنها، وفي إسناده ضعف. وقال الشوكاني: يزيد بن أبي زياد المذكور قد أخرج له مسلم أي مقرونًا. في الخلاصة عن الذهبي أنه صدوق رديء الحفظ، قلت: وقال ابن معين: ضعيف الحديث لا يحتج بحديث، وقال أبو داود: لا أعلم أحدًا ترك حديثه وغيره أحب إلى منه، كذا في تهذيب الحافظ. 2716- قوله (كان يدهن) بتشديد الدال (غير المقتت) بقاف وتائين مثناتين فوقيتين الأولى مشددة من التقتيت حال من الزيت أو صفة له، وهو الذي يطبخ فيه الرياحين حتى يطيب ريحه، قال في القاموس زيت مقتت، طبخ فيه الرياحين أو خلط بأدهان طيبة – انتهى (يعنى) هو كلام بعض الرواة يعنى يريد ابن عمر بغير المقتت (غير المطيب)

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ وفي الحديث دلالة على جواز الإدهان بالزيت الذي لم يخلط بشيء من الطيب، لكن الحديث ضعيف كما ستعرف، ويستدل بمفهومه على أنه لو كان مطيبًا لم يجز الإدهان به قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أن للمحرم أن يأكل الزيت والشحم والسمن والشيرج وأن يستعمل ذلك في جميع بدنه سوى رأسه ولحيته. قال: وأجمعوا على أن الطيب لا يجوز استعماله في بدنه ففرقوا بين الطيب والزيت في هذا. قال الحافظ: فقياس كون المحرم ممنوعًا من استعمال الطيب في رأسه أن يباح له استعمال الزيت في رأسه – انتهى. قلت: في نقل الإجماع على جواز استعمال الزيت ونحوه في جميع البدن نظر، فكلام الحنفية والمالكية يدل على أن الإدهان ممنوع عندهم، ففي الهداية: ولا يمس طيبًا لقوله عليه السلام: الحاج الشعث التفل، وكذا لا يدهن لما روينا – انتهى. قال ابن الهمام: والشعث انتشار الشعر وتغيره لعدم تعهده، فأفاد منع الإدهان – انتهى. وقال القاري في شرح المناسك: إن ادهن بدهن غير مطيب كالزيت الخالص وأكثر منه فعليه دم عند أبي حنيفة وصدقة عندهما، وروي عنه مثل قولهما وإن استقل منه فعليه صدقة اتفاقًا، هذا إذا استعمله على وجه الطيب، أما إذا استعمله على وجه التداوي أو الأكل فلا شيء عليه اتفاقًا. ولو ادهن بسمن أو شحم أو ألية أو أكله فلا شيء عليه، ولا فرق بين الشعر والجسد في الدهن – انتهى. وفي البدائع: لو ادهن بدهن فإن كان الدهن مطيبًا فعليه دم إذا بلع عضوًا كاملاً، وإن كان غير مطيب بأن ادهن بزيت فعليه دم في قول أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد عليه صدقة ولو داوى بالزيت جرحه أو شقوق رجليه فلا كفارة عليه لأنه ليس بطيب بنفسه. وإن كان أصل الطيب لكنه ما استعمله على وجه الطيب فلا يجب به الكفارة بخلاف ما إذا تداوى بالطيب أنه تجب به الكفارة لأنه طيب في نفسه فيستوي فيه استعماله للتطيب أو لغيره، وإن ادهن بشحم أو سمن فلا شيء عليه لأنه ليس بطيب في نفسه، ولا أصل للطيب بدليل أنه لا يطيب بإلقاء الطيب فيه ولا يصير طيبًا بوجه، وقد قال أصحابنا: إن الأشياء التي تستعمل في البدن على ثلاثة أنواع: نوع هو طيب محض معد للتطيب كالمسك ونحوه فتجب به الكفارة على أي وجه استعمل حتى قالوا لو داوى عينه بطيب تجب عليه الكفارة، ونوع ليس بطيب بنفسه وليس فيه معنى الطيب ولا يصير طيبًا بوجه كالشحم فسواء أكل أو ادهن به أو جعل في شقوق الرجل لا تحب الكفارة، ونوع ليس بطيب بنفسه لكنه أهل الطيب يستعمل على وجه الطيب ويستعمل على وجه الإدام كالزيت والشيرج فيعتبر فيه الاستعمال، فإن استعمل استعامل الإدهان في البدن يعطى له الحكم الطيب، وإن استعمل في مأكول أو شقاق رجل لا يعطى له الحكم الطيب كالشحم – انتهى. وقال في اللباب: لا فرق بين الشعر والجسد في الدهن. وقال الباجي: الإدهان بعد الإحرام وقبل وجود شيء من التحلل ممنوع بدهن مطيب وغير مطيب، وروى ابن حبيب عن الليث إباحة ذلك بكل ما يجوز له أكله من الأدهان، وقال: أنه قول عمر وعلي، فإن فعل شيئًا من ذلك فقد روى ابن حبيب عن مالك أن عليه الفدية، واختار ابن حبيب أن لا فدية

...................................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه - انتهى. وقال في موضع آخر: استعمال الدهن الذي ليس بمطيب يكون في ثلاثة مواضع: أحدهما أن يستعمله في باطن جسده بأن لا يظهر منه كتقطيره في الأذن والاستسعاط به والمضمضة فإن هذا كله جائز للمحرم أن يفعله ولا شيء عليه فيه لأنه بمنزلة أكله وهو الذي ذكره مالك في الموطأ (في باب ما يجوز للمحرم أن يفعله) والثاني أن يستعمله في ظاهر بدنه غير باطن يديه وقدميه، فإن فعل فهذا ممنوع، وعليه الفدية عند مالك وجميع أصحابه. قال ابن حبيب: وقد روى إباحة ذلك، وبه أخذ الليث. وجه قول مالك أنه إزالة شعث لأنه مما يفعل للجمال والتنظف، وإن دهن بطون قدميه أو يديه لشقوق بهما فلا بأس بذلك، وإن فعل ذلك لغير علة فعليه الفدية، ووجه ذلك أنهما ظاهران ظهور سائر الأعضاء فإذا لم يقصد بدهنهما دفع مضرة فلا غرض في ذلك غير تحسين ظاهر الجسد وإزالة الشعث فوجبت بذلك الفدية، وإن قصد بذلك دفع المضرة أو القوة على العمل فلا فدية في ذلك لأنهما وإن ظهرا فإنهما باطنان من ظاهر الجسد ويختصان بالعمل وبذلك فارقا سائر الأعضاء من الجسد - انتهى. وقال النووي في المناسك: أما الأدهان فضربان دهن هو طيب، ودهن ليس بطيب كالزيت والشيرج والسمن فلا يحرم الإدهان به في غير الرأس واللحية، وأما ما هو طيب كدهن الورد والبنفسج فيحرم استعماله في جميع البدن والثياب، ثم قال في مبحث شعر الرأس واللحية: يحرم عليه دهنهما بكل دهن سواء كان مطيبًا أو غير مطيب كالزيت ودهن الجوز واللوز ولو دهن الأقرع رأسه بهذا الدهن فلا بأس به. وكذا لو دهن الأمرد ذقنه فلا بأس، ولو دهن محلوق الشعر رأسه عصى على الأصح ولزمه الفدية (بناء على أن الشعر إن نبت جمله ذلك الدهن الذي جعل عليه وهو محلوق، والوجه الثاني لا فدية، لأنه لا يزول به شعث، واختاره المزني وغيره) وقال ابن قدامة (ج 3: ص 322) : أما المطيب من الأدهان كدهن الورد والبنفسج فليس في تحريم الإدهان به خلاف في المذهب، وأما ما لا طيب فيه كالزيت والشيرج والسمن والشحم ودهن ألبان الساذج فقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسئل عن المحرم يدهن بالزيت والشيرج؟ فقال: نعم يدهن به إذا احتاج إليه ويتداوى المحرم. قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أن للمحرم أن يدهن بدنه بالشحم والزيت والسمن، ونقل الأثرم جواز ذلك عن ابن عباس وأبي ذر والأسود بن يزيد، ونقل أبو داود عن أحمد أنه قال: الزيت الذي يؤكل لا يدهن المحرم به رأسه، فظاهر أنه لا يدهن رأسه بشيء من الأدهان، وهو قول عطاء ومالك والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي، لأنه يزيل الشعث ويسكن الشعر، فأما دهن سائر البدن فلا نعلم عن أحمد فيه منعًا وقد ذكرنا إجماع أهل العلم على إباحته في اليدين (1) ، وإنما الكراهة في الرأس خاصة لأنه محل الشعر. وقال القاضي في إباحته في جميع البدن روايتان، فإن فعله فلا فدية فيه في ظاهر كلام أحمد سواء دهن رأسه أو غيره إلا أن

_ (1) كهذا في الأصل، والظاهر عندي (البدن) .

(الفصل الثالث)

رواه الترمذي. (الفصل الثالث) 2717 – (15) عن نافع، أن ابن عمر وجد القر، فقال: ألق علي ـــــــــــــــــــــــــــــ يكون مطيبًا. وقد روي عن ابن عمر أنه صدع وهو محرم فقالوا: ألا ندهنك بالسمن؟ فقال: لا. قالوا: أليس تأكله؟ قال: ليس أكله كالإدهان به وقال الذين منعوا من دهن الرأس: فيه الفدية لأنه مزيل للشعث أشبه ما لو كان مطيبًا، ولنا أن وجوب الفدية يحتاج إلى دليل ولا دليل فيه من نص ولا إجماع، ولا يصح قياسه على الطيب فإن الطيب يوجب الفدية وإن لم يزل شعثًا، ويستوي فيه الرأس وغيره والدهن بخلافه – انتهى. قلت: احتج الشافعية لما ذهبوا إليه من جواز دهن جميع البدن غير الرأس واللحية بالزيت والسمن ونحوهما مما ليس بطيب بحديث ابن عمر. وأجاب الحنفية ومن وافقهم عنه بأوجه، منها أن الحديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج كما ستعرف، ومنها أن الصحيح أنه موقوف ليس بمرفوع، كذا قيل، ومنها أنه اختلف فيه على سعيد بن جبير فقيل عن ابن عباس مكان ابن عمر كما في السنن للبيهقي، ومنها أنه على تقدير صحة الاحتجاج به فظاهره عدم الفرق بين الرأس واللحية وبين سائر البدن لأن الإدهان فيه مطلق غير مقيد بما سوى الرأس واللحية، ومنها أن الحديث محمول على حال الضرورة لأنه - صلى الله عليه وسلم - كما كان لا يفعل ما يوجب الدم كان لا يفعل ما يوجب الصدقة، ثم ليس فيه أنه لم يكفر فيحتمل أنه فعل وكفر فلا يكون حجة، ومنها أنه يحتمل أن يكون - صلى الله عليه وسلم - ادهن قبل الإحرام وبقي أثره بعد الإحرام ويؤيده ما وقع في رواية لأحمد (ج 2: ص 25، 59) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدهن عند الإحرام بالزيت غير المقتت (راوه الترمذي) وأخرجه أيضًا أحمد (ج 2: ص 25، 29، 59، 72، 145) وابن ماجة والبيهقي (ج 5: ص 58) كلهم من طريق فرقد السبخي عن سعيد بن جبير عن ابن عمر، وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث فرقد السبخي عن سعيد بن جبير، وقد تكلم يحيى بن سعيد في فرقد السبخي، وروى عنه الناس – انتهى. قلت: قال الحافظ في التقريب: فرقد بن يعقوب السبخي بفتح المهملة والموحدة وبخاء معجمة أبو يعقوب البصري صدوق عابد لكنه لين الحديث كثير الخطأ، وقال الذهبي في الميزان: قال أبو حاتم: ليس بقوي، وقال ابن معين: ثقة، وقال البخاري: في حديثه مناكير، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال أيضًا هو والدارقطني: ضعيف، وقال يحيى القطان: ما يعجبنا الرواية عن فرقد – انتهى. وقال في ترجمة محمد بن يونس القرشي الشامي نقلاً عن ابن حبان: فقد السبخي: ليس بشيء. 2717 – قوله (القر) بضم القاف وتشديد الراء، أي البرد، يقال قر اليوم قرًا بالفتح برد، والاسم القر بالضم فهو قر بالفتح تسمية بالمصدر، وقار على الأصل أي بارد، وليلة قرة وقارة (ألق) أمر من الإلقاء أي اطرح (عليّ) بتشديد

ثوبًا يا نافع! فألقيت عليه برنسًا، فقال: تلقي علي هذا وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يلبسه المحرم. رواه أبو داود. 2718 - (16) وعن عبد الله بن مالك بن بحينة، قال: احتجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم بلحي جمل من طريق مكة في وسط رأسه. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الياء (برنسًا) تقدم ضبطه ومعناه (تلقي عليّ) بحذف الاستفهام الإنكاري (هذا) أي الثوب المخيط (وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يلبسه المحرم) قال القاري: فجعل طرحه عليه لبسًا، ومذهبنا أنه يحرم على المحرم لبس المخيط وتغطية بعض الأعضاء بالمخيط وغيره على الوجه المعتاد، والمخيط الملبوس المعمول على قدر البدن أو قدر عضو منه بحيث يحيط به سواء بخياطة أو نسج أو لصق أو غير ذلك، وتفسير لبس المخيط على الوجه المعتاد أن لا يحتاج في حفظه إلى تكلف عند الاشتغال بالعمل، وضده أن يحتاج إليه، قال: ولعل ابن عمر كره ذلك للتشبه بالمخيط، وأطلق اللبس على الطرح مجازًا، ويمكن أنه ألقي عليه على وجه غطى رأسه ووجهه فأنكر عليه فعلى هذا معنى كلامه أتلقي هذا الإلقاء والحال أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى المحرم عن ستر الرأس وتغطيته – انتهى. وقال في اللمعات: لعل مذهب ابن عمر اجتناب المخيط مطلقًا أو فعله احتياطًا، وإلا فالمراد النهي عن لبس المخيط على وجه يتعارف فيه وقد صرحوا به – انتهى. وتقدم شيء من الكلام في ذلك في شرح حديث ابن عمر أول أحاديث هذا الباب (رواه أبو داود) وأخرجه أيضًا أحمد (ج 2: ص 31، 141) والبيهقي (ج 5: ص 52) وقد سكت عنه أبو داود، وقال المنذري: وأخرج البخاري والنسائي المسند منه بنحوه أتم منه. 2718 – قوله (وعن عبد الله بن مالك بن بحينة) بضم الموحدة وفتح الحاء المهملة بعدها ياء ساكنة ثم نون بعدها هاء، اسم أم عبد الله، ولذا كتبت الألف في ابن بحينة (بلحي جمل) بفتح اللام ويجوز كسرها وسكون الحاء وياء مثناة تحتية، وفي بعض الروايات ((بلحيي جمل)) أي بيائين بصيغة التثنية، وجمل بفتح الجيم والميم اسم موضع بطريق مكة كما وقع مبينًا في الرواية، قال الحافظ ذكر البكري في معجمه في رسم العقيق، قال: هي بئر جمل التي ورد ذكرها في حديث أبي جهم في التيمم، وقال غيره يعني ابن وضاح: هي عقبة الجحفة على سبعة أميال من السقيا – انتهى. وقال صاحب القاموس: ((لحي جمل)) موضع بين الحرمين، وإلى المدينة أقرب، وزعم أن السقيا بالضم موضع بين المدينة ووادي الصفراء، وما ظنه بعضهم من أن المراد بلحي جمل أحد فكي الجمل الذي هو ذكر الإبل وأن فكه كان هو آلة الحجامة أي احتجم بعظم جمل فهو غلط لا شك فيه (من طريق مكة) وفي رواية ((بطريق مكة)) (في وسط رأسه) بفتح السين المهملة أي متوسطه، وهذا الاحتجام لا يتصور بدون إزالة الشعر فيحمل على حال الضرورة، والله تعالى أعلم (متفق عليه) أخرجه البخاري في الحج وفي الطب، ومسلم في الحج، وأخرجه أيضًا أحمد (ج 5: ص 345) والنسائي والبيهقي (ج 5: ص 65) .

2719 – (17) وعن أنس، قال: احتجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم على ظهر القدم من وجع كان به. رواه أبو داود، والنسائي. 2720 – (18) وعن أبي رافع، قال: تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ميمونة وهو حلال، وبنى بها وهو حلال، وكنت أنا الرسول بينهما. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2719 – قوله (احتجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم على ظهر القدم من وجع كان به) وفي رواية النسائي ((من وثئ كان به)) وهو بفتح الواو وسكون المثلثة آخره همزة، وجع يصيب اللحم ولا يبلغ العظم، أو وجع يصيب العظم من غير كسر والاحتجام على ظهر القدم يتصور بدون قطع الشعر فلا إشكال مع التصريح بالعذر، ثم يمكن تعدد الاحتجام في إحرام واحد أو في إحرامين، قاله القاري. قلت: ذكر في هذا الحديث أن الحجامة كانت على ظهر القدم، وفي حديثي ابن عباس وابن بحينة أنها كانت في الرأس من صداع وجده، وفي حديث جابر عند أحمد من وثئ كان بوركه أو ظهره فيحتمل أنه كان به الأمران فاحتجم مرة لوجع الرأس ومرة للوثئ بظهر القدم وبالورك، وأن الحجامة تعددت منه - صلى الله عليه وسلم - في إحرام حجة الوداع، ويحتمل أنها كانت مرة في عمرة ومرة في حجة الوداع. قال الحافظ: اتفقت الطرق عن ابن عباس أنه احتجم - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم في رأسه، ووافقها حديث ابن بحينة وخالف ذلك حديث أنس فأخرج أبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وصححه ابن خزيمة وابن حبان من طريق معمر عن قتادة عنه قال ((احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم على ظهر القدم من وجع كان به)) ورجاله رجال الصحيح إلا أن أبا داود حكى عن أحمد أن سعيد بن أبي عروبة رواه عن قتادة فأرسله، وسعيد أحفظ من معمر وليست هذه بعلة قادحة، والجمع بين حديثي ابن عباس واضح بالحمل على التعدد أشار إلى ذلك الطبري – انتهى. (رواه أبو داود والنسائي) وأخرجه أيضًا أحمد وابن خزيمة وابن حبان والبيهقي (ج 5: ص 65) وأخرجه الترمذي في أواخر الشمائل بلفظ ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو محرم بملل على ظهر القدم)) قال القاري: هو بفتح الميم واللام الأولى موضع بين مكة والمدينة على سبعة عشر ميلاً من المدينة. 2720 – قوله (وعن أبي رافع) مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - (بنى بها) أي دخل عليها وهو كناية عن الزفاف (وكنت أنا الرسول) أي الواسطة في أمر الزواج (بينهما) أي بينه وبين ميمونة أو بينه وبين العباس وكيلها في الزواج، وهذا الحديث صريح كحديث يزيد بن الأصم المتقدم في الفصل الأول أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة وهو حلال خلافًا لما روى ابن عباس، قال الحازمي في كتابه في بيان الناسخ والمنسوخ (ص 11) : والأخذ بحديث أبي رافع أولى لأنه كان السفير

رواه أحمد، والترمذي، وقال: هذا حديث حسن. ـــــــــــــــــــــــــــــ بينهما وكان مباشرًا للحال، وابن عباس كان حاكيًا، ومباشر الحال مقدم على حاكيه ألا ترى عائشة كيف أحالت على علي حين سئلت عن مسح الخف وقالت: سلوا عليًا فإنه كان يسافر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - – انتهى بتغيير يسير، وعزاه الزيلعي (ج 3: ص 174) للطحاوي وسكت عنه، هذا وقد تقدم الكلام في مسألة التزوج في الإحرام مبسوطًا في شرح أحاديث عثمان وابن عباس ويزيد بن الأصم (رواه أحمد) (ج 6: ص 392) (والترمذي) في الحج، وأخرجه أيضًا ابن خزيمة، والبيهقي (ج 5: ص 66، وج 7: ص 211) وابن حبان في صحيحه عن ابن خزيمة كما في نصب الراية كلهم من طريق حماد بن زيد عن مطر الوراق عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن سليمان بن يسار عن أبي رافع (وقال) أي الترمذي (هذا حديث حسن) وبعده ((ولا نعلم أحدًا أسنده غير حماد بن زيد عن مطر الوراق عن ربيعة)) وروى مالك بن أنس عن ربيعة عن سليمان بن يسار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة وهو حلال، مرسلاً. ورواه أيضًا سليمان بن بلال عن ربيعة مرسلاً – انتهى. قال ابن عبد البر في التمهيد بعد ذكر رواية مطر الوراق: هذا عندي غلط من مطر لأن سليمان بن يسار ولد سنة أربع وثلاثين، وقيل سبع وعشرين، ومات أبو رافع بالمدينة بعد قتل عثمان بقليل، وقتل عثمان في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين فلا يمكن أن يسمع سليمان من أبي رافع، ومن صحيح أن يسمع سليمان بن يسار من ميمونة لما ذكرنا من مولده، ولأن ميمونة مولاته – انتهى. وقال ابن أبي حاتم في المراسيل: حديث سليمان بن يسار عن أبي رافع مرسل، ورد ذلك بما قال الزرقاني بعد ذكر كلام ابن عبد البر من أن سماع سليمان عن أبي رافع ممكن على القول الثاني في ولادته لأنه أدرك نحو ثمان سنين من حياة أبي رافع فلا يتغرب سماعه منه – انتهى. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب بعد ذكر كلام ابن عبد البر وابن أبي حاتم ما لفظه: كذا قالا وحديثه عنه في مسلم وصرح بسماعه منه عند ابن أبي خيثمة في تاريخه – انتهى. وقال الطحاوي: حديث أبي رافع إنما رواه مطر الوراق ومطر عندهم ليس ممن يحتج بحديثه وقد رواه مالك وهو أضبط منه فقطعه يعني رواه مرسلاً، قلت: مطر الوراق صدوق صالح الحديث من رواة مسلم، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: ربما أخطأ وقال الذهبي في الميزان: هو من رجال مسلم حسن الحديث. وقال البيهقي: قد احتج به مسلم بن الحجاج – انتهى. ومن تكلم فيه إنما تكلم في حديثه عن عطاء خاصة، قال في الميزان: قال أحمد ويحيى: هو ضعيف في عطاء خاصة، وقال في تهذيب التهذيب قال أحمد: ما أقربه من ابن أبي ليلى في عطاء خاصة – انتهى. فحديثه عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن لا ينحط عن درجة الحسن ولذا حسنه الترمذي ولم ير إرسال مالك قادحًا في وصله على أنهما حديثان متغايران كما لا يخفى، فلا تعارض بين رواية مطر ورواية مالك حتى يحتاج إلى الترجيح أو الجمع فافهم.

(12) باب المحرم يجتنب الصيد

(12) باب المحرم يجتنب الصيد ـــــــــــــــــــــــــــــ (باب) يجوز سكونه على الوقف ورفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف هو ((هذا)) ويحتمل الإضافة (المحرم يجتنب الصيد) أي اصطياده وقتله وإن لم يأكله، وأكله وإن ذكاه محرم آخر، قال القاري: والمراد بالصيد حيوان متوحش بأصل الخلقة بأن كان توالده وتناسله في البر، أما صيد البحر فيحل اصطياده للحلال والمحرم جميعًا مأكولاً أو غير مأكول لقوله تعالى {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم وللسيارة} (المائدة: الآية 96) قال الشنقيطي: ظاهر عموم قوله تعالى {أحل لكم صيد البحر} يدل على إباحة صيد البحر للمحرم بحج أو عمرة وهو كذلك كما بينه تخصيصه تعالى تحريم الصيد على المحرم بصيد البر في قوله {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا} (المائدة: الآية 96) فإنه يفهم منه أن صيد البحر لا يحرم على المحرم كما هو ظاهر. وقال ابن قدامة (ج 3: ص 344) : يحل للمحرم صيد البحر لقوله تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه} وأجمع أهل العلم على أن صيد البحر مباح للمحرم اصطياده وأكله وبيعه وشراؤه، وصيد البحر الحيوان الذي يعيش في الماء ويبيض فيه ويفرخ فيه كالسمك والسلحفاة والسرطان ونحو ذلك، فإن كان جنس من الحيوان نوع منه في البحر ونوع في البر كالسلحفاة فلكل نوع حكم نفسه كالبقر منها الوحشي محرم والأهلي مباح - انتهى. وأما صيد البر فقد أجمع العلماء على منعه للمحرم بحج أو عمرة، وهذا الإجماع في مأكول اللحم الوحشي كالظبي والغزال ونحو ذلك وتحرم عليه الإشارة إلى الصيد والدلالة عليه لحديث أبي قتادة الآتي. قال ابن قدامة (ج 3: ص 309) : لا خلاف بين أهل العلم في تحريم قتل الصيد واصطياده على المحرم وقد نص الله تعالى عليه في كتابه فقال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} (المائدة: الآية 95) وقال تعالى {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا} وتحرم عليه الإشارة إلى الصيد والدلالة عليه، قال: ولا تحل له الإعانة عليه بشيء - انتهى. والصيد عند الشافعي هو مأكول اللحم فقط فلا شيء عنده في قتل ما لم يؤكل لحمه إلا المتولد من بين مأكول اللحم وغير مأكوله فلا يجوز اصطياده عنده، وإن كان يحرم أكله كالسِمْع وهو المتولد من بين الذئب والضبع، وقال: ليس في الرَّخْمة والخنافس والقردان والحلم وما لا يؤكل لحمه شيء لأن هذا ليس من الصيد لقوله تعالى: {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا} فدل على أن الصيد الذي حرم عليهم هو ما كان حلالاً لهم قبل الإحرام، وهذا هو مذهب الإمام أحمد. قال ابن قدامة (ج 3: ص 506) : والصيد (أي الذي يجب بقتله الجزاء) ما جمع ثلاثة أشياء وهو أن يكون مباحًا أكله لا مالك له، ممتنعًا، فيخرج بالوصف الأول كل ما ليس بمأكول لا جزاء فيه كسباع البهائم والمستخبث من الحشرات والطير وسائر المحرمات. قال أحمد: إنما جعلت الكفارة في الصيد المحلل أكله، وهذا قول أكثر أهل العلم، إلا أنهم أوجبوا الجزاء في المتولد بين المأكول وغيره كالسمع المتولد من الضبع والذئب تغليبًا لتحريم قتله،

...................................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ الوصف الثاني أن يكون وحشيًا وما ليس بوحشي لا يحرم على المحرم ذبحه ولا أكله كبهيمة الأنعام كلها، والخيل والدجاج ونحوها لا نعلم بين أهل العلم في هذا خلافًا، والاعتبار في ذلك بالأصل لا بالحال، فلو استأنس الوحشي وجب فيه الجزاء، ولو توحش الأهلي لم يجب فيه شيء. وقال الحافظ: اتفقوا على أن المراد بالصيد ما يجوز أكله للحلال من الحيوان الوحشي وأن لا شيء فيما يجوز قتله، واختلفوا في المتولد (أي بين المأكول وغيره) فألحقه الأكثر بالمأكول – انتهى. قال ابن قدامة (ج 3: ص 343) : ولا تأثير للإحرام ولا للحرم في تحريم شيء من الحيوان الأهلي كبهيمة الأنعام ونحوها لأنه ليس بصيد، وإنما حرم الله تعالى الصيد، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذبح البدن في إحرامه في الحرم يتقرب إلى الله سبحانه بذلك، وقال: أفضل الحج العج والثج، يعني إسالة الدماء بالذبح والنحر وليس في هذا اختلاف. وقال البخاري في صحيحه: لم ير ابن عباس وأنس بالذبح (أي بذبح المحرم، وظاهر العموم يتناول الصيد وغيره، ولكن مراده الذبح في غير الصيد) بأسًا، وهو غير الصيد نحو الإبل والغنم والبقر والدجاج والخيل. قال الحافظ: أثر ابن عباس وصله عبد الرزاق من طريق عكرمة أن ابن عباس أمره أن يذبح جزورًا وهو محرم، وأما أثر أنس فوصله ابن أبي شيبة من طريق الصباح البجلي سألت أنس بن مالك عن المحرم يذبح؟ قال: نعم. وقوله ((وهو)) أي المذبوح، إلخ من كلام المصنف قاله تفقهًا، وهو متفق عليه فيما عدا الخيل فإنه مخصوص بمن يبيح أكلها – انتهى. وقال العيني قوله ((وهو غير الصيد)) إلخ. من كلام البخاري أشار به إلى تخصيص العموم الذي فهم من قوله بالذبح وقوله ((وهو)) أي الذبح أي المراد من الذبح المذكور في أثر ابن عباس وأنس هو الذبح في الحيوان الأهلي وهو الذي ذكره بقوله نحو الإبل إلى آخره، وهذا كله متفق عليه في غير ذبح الخيل، فإن فيه خلافًا معروفًا – انتهى. قال القاري: البري المأكول حرام اصطياده على المحرم بالاتفاق وأما غير المأكول فقسمه صاحب البدائع على نوعين، نوع يكون موذيًا طبعًا مبتدئًا بالأذى غالبًا، فللمحرم أن يقتله ولا شيء عليه نحو الأسد والذئب والنمر والفهد، ونوع لا يبتدئ بالأذى غالبًا كالضبع والثعلب وغيرهما، فله أن يقتله إن عدا عليه ولا شيء عليه، وهو قول أصحابنا الثلاثة، وقال زفر: يلزمه الجزاء وإن لم يعد عليه لا يباح له أن يبتدئه بالقتل، وإن قتله ابتداء فعليه الجزاء عندنا – انتهى. قلت: ليست الضبع مثل ما ذكر معها من الثعلب ونحوه لورود النص فيها لأنها صيد يلزم فيه الجزاء كما سيأتي، والراجح عندنا في المراد من الصيد هو ما قدمنا عن الشافعي وأحمد أنه الحيوان البري الوحشي المأكول اللحم فقط وهو ظاهر القرآن العظيم، هذا وقد علم مما تقدم من كلام ابن قدامة أنه لا يجوز للمحرم أكل الصيد إن صاده الحلال بأمره أو بإعانته أو بدلالته أو بإشارته، وهذا مما اتفق العلماء عليه واختلفوا فيما عدا ذلك على ثلاثة أقوال. أحدها: أنه لا يجوز له الأكل مطلقًا أي سواء صيد لأجله أو لا، وحكي هذا عن علي وابن عباس وابن عمر والليث والثوري وإسحاق بن راهويه وطاوس

(الفصل الأول)

(الفصل الأول) 2721 – (1) عن الصعب بن جثامة، أنه أهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمارًا وحشيًا ـــــــــــــــــــــــــــــ وجابر بن زيد، واحتج لهم بحديث الصعب بن جثامة الآتي، وبحديث زيد بن أرقم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدى له عضو من لحم صيد فرده وقال إنا لا نأكله، أنّا حرم، أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي. واحتج لهم أيضًا بعموم قوله تعالى: {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا} بناء على أن المراد بالصيد الحيوان المصيد، القول الثاني: أنه يجوز له الأكل مطلقًا أي وإن صيد لأجله ولم يكن بإذنه وإعانته أو دلالته وإشارته، وإليه ذهب أبو حنيفة، وحكي ذلك عن عمر بن الخطاب وأبي هريرة والزبير بن العوام وعائشة وطلحة بن عبيد الله وكعب الأحبار ومجاهد وسعيد بن جبير، واحتج لهم بحديث طلحة بن عبيد الله الآتي في الفصل الثالث وبحديث البهزي واسمه زيد بن كعب أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - في حمار وحشي عقير في بعض وادي الروحاء وهو صاحبه: شأنكم بهذا الحمار، فأمر - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر فقسمه في الرفاق وهم محرومون، أخرجه مالك وأحمد والنسائي وابن خزيمة وغيرهم. واحتج لهم أيضًا بحديث أبي قتادة ثاني أحاديث الباب كما ستعرف، القول الثالث: التفصيل بين ما صاده الحلال لأجل المحرم وما صاده لا لأجله فيمنع الأول دون الثاني وهو مذهب الجمهور منهم الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد وحكي ذلك عن عثمان بن عفان وعطاء وأبي ثور وإسحاق في رواية، واحتج لهم بحديث جابر الآتي في الفصل الثاني، وهو القول الراجح عندنا، وسيأتي الكلام في ذلك مفصلاً. 2721 – قوله (عن الصعب) بفتح الصاد وسكون العين المهملتين بعدها موحدة (جثامة) بفتح الجيم وتشديد المثلثة فألف فميم، ابن قيس بن ربيعة بن عبد الله الليثي حليف قريش، أمه فاختة أخت أبي سفيان بن حرب، يقال: هو أخو محلّم بن جثامة، وكان الصعب ينزل بودان، قال الحافظ في التقريب: مات في خلافة الصديق على ما قيل، والأصح أنه عاش إلى خلافة عثمان، قال الخزرجي في الخلاصة: له أحاديث اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بآخر، وعنه ابن عباس فقط عندهم في هدية الصيد وغيرها، وآخى - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين عوف بن مالك (أهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي في حجة الوداع، قال العيني: الأصل في ((أهدى)) التعدي بإلى، وقد تعدى باللام ويكون بمعناه، وقيل: يحتمل أن تكون اللام بمعنى ((أجل)) وهو ضعيف (حمارًا وحشيًا) كذا في رواية مالك عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عبد الله بن عباس عن الصعب. قال في شرح المواهب: وهو باتفاق الرواة عن مالك وتابعه عليه تسعة من حفاظ أصحاب الزهري، وقال في شرح الموطأ ((لا خلاف عن مالك في هذا)) وتابعه معمر وابن جريج وعبد الرحمن بن الحارث وصالح بن كيسان والليث وابن أبي ذئب وشعيب بن أبي حمزة ويونس ومحمد بن عمرو بن

............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ علقمة كلهم قالوا: حمارًا وحشيًا، كما قال مالك، وخالفهم سفيان بن عيينة عن الزهري فقال: أهديت له من لحم حمار وحش، رواه مسلم، وله عن الحكم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ((رجل حمار وحش)) وله عن شعبة عن الحكم ((عجز حمار وحش يقطر دمًا)) وفي أخرى له ((شق حمار وحش)) فهذه الروايات صريحة في أنه عقير، وأنه إنما أهدى بعضه لا كله، ولا معارضة بين رجل وعجز وشق لأنه يحمل على أنه أهدي رجلاً معها الفخذ وبعض جانب الذبيحة – انتهى. وقال الحافظ: لم تختلف الرواة عن مالك في ذلك وتابعه عامة الرواة عن الزهري، وخالفهم ابن عيينة عن الزهري فقال: لحم حمار وحش. أخرجه مسلم، لكن بين الحميدي صاحب سفيان (ج 2: ص 344) أنه كان يقول في هذا الحديث: حمار وحش، ثم صار يقول: لحم حمار وحش، فدل على اضطرابه فيه، وقد توبع على قوله ((لحم حمار وحش)) من أوجه فيها مقال ثم ذكرها مع الكلام فيها، ثم قال: ويدل على وهم من قال فيه: عن الزهري، ذلك أن ابن جريج قال: قلت للزهري: الحمار عقير؟ قال: لا ادري. أخرجه ابن خزيمة وأبو عوانة في صحيحهما. وقد جاء عن ابن عباس من وجه آخر أن الذي أهداه الصعب لحم حمار فذكر ما تقدم في كلام الزرقاني في شرح الموطأ. وقد اختلفوا في هذه الروايات فمنهم من اختار الجمع بينها ومنهم من سلك مسالك الترجيح. قال الزرقاني بعد ذكر هذه الروايات: فمنهم من رجح رواية مالك وموافقيه، قال الشافعي في الأم: حديث مالك ((أن الصعب أهدى حمارًا)) أثبت من حديث من روى ((أنه أهدى لحم حمار)) وقال الترمذي: قد روى بعض أصحاب الزهري عن الزهري هذا الحديث وقال: أهدى لحم حمار وحش. وهو غير محفوظ. وقال البيهقي: كان ابن عيينة يضطرب فيه، فرواية العدد الذين لم يشكوا فيه أولى - انتهى. وقد تقدم عن الحافظ أنه قال: من قال ذلك فيه عن الزهري أي ذكر اللحم في حديث الزهري وهم. وإليه يظهر ميل البخاري حيث بوب في صحيحه ((باب إذا أهدى للمحرم حمارًا وحشيًا حيًا لم يقبل)) ثم أورد فيه الحديث برواية مالك. قال الحافظ: كذا قيده البخاري في الترجمة بكونه حيًا، وفيه إشارة إلى أن الرواية التي تدل على أنه كان مذبوحًا موهمة – انتهى. وإليه مال الباجي إذ قال: قوله ((حمارًا وحشيًا) هكذا رواه الزهري عن عبيد الله وهو أثبت الناس فيه وأحفظهم عنه. وفي المبسوط من رواية ابن نافع عن مالك، بلغني إنما رده عليه من أجل أن الحمار كان حيًا – انتهى. مختصرًا. وبه جزم ابن العربي حيث قال: وإنما رد الصيد على الصعب لأنه كان حيًا. ومنهم من رجح رواية اللحم. قال ابن القيم: أما الاختلاف في كون الذي أهداه حيًا أو لحمًا فرواية من روى ((لحمًا)) أولى لثلاثة أوجه، أحدها: أن راويها قد حفظها وضبط الواقعة حتى ضبطها أنه يقطر دمًا، وهذا يدل على حفظه للقصة حتى لهذا الأمر الذي لا يؤبه له. الثاني: أن هذا صريح في كونه بعض الحمار وأنه لحم منه فلا يناقض قوله ((أهدي له حمارًا)) بل يمكن حمله على رواية من روى لحمًا، تسمية للحم باسم الحيوان، وهذا مما لا تأباه اللغة. الثالث: أن سائر الروايات متفقة على أنه

وهو بالأبواء أو بودان، ـــــــــــــــــــــــــــــ بعض من أبعاضه، وإنما اختلفوا في ذلك البعض هل هو عجزه أو شقة أو رجله أو لحم منه، ولا تناقض بين هذه الروايات إذ يمكن أن يكون الشق الذي فيه العجز وفيه الرجل فصح التعبير عنه بهذا وهذا، وقد رجع ابن عيينة عن قوله ((حمارًا)) وثبت على قوله ((لحم حمار)) حتى مات. وهذا يدل على أنه تبين له أنه أهدى له لحمًا لا حيوانًا – انتهى. وفيه ما تقدم عن الحافظ وغيره أنه لا خلاف فيه عن مالك أنه أهدى حمارًا، وتابعه عامة الرواة عن الزهري، وأن من قال فيه عن الزهري لحمًا وهم. ومنهم من جمع بحمل رواية ((أهدى حمارًا)) على النجوز من إطلاق اسم الكل على البعض كما بسطه الزرقاني في شرح الموطأ وابن الهمام في فتح القدير، وكما تقدم في كلام ابن القيم، وكما ذكره القرطبي احتمالاً. ومنهم من جمع بأن الصعب أحضر الحمار مذبوحًا ثم قطع منه عضوًا بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقدمه له. فمن قال: أهدى حمارًا، أراد بتمامه مذبوحًا لا حيًا، ومن قال ((لحم حمار)) أراد ما قدمه للنبي - صلى الله عليه وسلم - حكاه الحافظ عن القرطبي احتمالاً. ومنهم من جمع بأنه أحضره له حيًا، فلما رده عليه ذكاه وأتاه بعضو منه ظانًا أنه إنما رده عليه لمعنى يختص بحملته فأعلمه بامتناعه أن حكم الجزء من الصيد حكم الكل، حكاه الحافظ عن القرطبي أيضًا احتمالاً. قال الزرقاني بعد ذكره: هذا الجمع قريب وفيه إبقاء اللفظ على المتبادر منه الذي ترجم عليه البخاري ((إذا أهدى للمحرم حمارًا وحشيًا حيًا لم يقبل)) مع أنه لم يقل في الحديث ((حيًا)) فكأنه فهمه من قوله ((حمارًا)) ومنهم من جمع بالحمل على التعدد، قال ابن بطال: اختلاف روايات حديث الصعب تدل على أنها لم تكن قضية واحدة وإنما كانت قضايا فمرة أهدى إليه الحمار كله، ومرة عجزه، ومرة رجله، لأن مثل هذا لا يذهب على الرواة ضبطه حتى يقع فيه التضاد في النقل والقصة واحدة ذكره العيني (وهو بالأبواء) بفتح الهمزة وسكون الباء الموحدة وبالمد، جبل قرب مكة وعنده بلدة تنسب إليه، قيل سمي بذلك لوبائه وهو على القلب وإلا لقيل: الأوباء. وقيل لأن السيول تتبوأه أي تحله، قال ياقوت: وهذا أحسن. وقال الزرقاني: جبل بينه وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلاً، سمي بذلك لتبوأ السيول به لا لما فيه من الوباء إذ لو كان كذلك لقيل ((الأوباء)) أو هو مقلوب منه – انتهى. قال العيني: به توفيت أم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أو بودان) شك من الراوي وهو بفتح الواو وتشديد الدال المهملة فألف فنون، موضع بقرب الجحفة. قال الحافظ: هو أقرب إلى الجحفة من الأبواء فإن من الأبواء إلى الجحفة للآتي من المدينة ثلاثة وعشرون ميلاً، ومن ودان إلى الجحفة ثمانية أميال، وبالشك جزم أكثر الرواة وجزم ابن إسحاق وصالح بن كيسان عن الزهري بودان، وجزم معمر وعبد الرحمن بن إسحاق ومحمد بن عمرو ((بالأبواء)) والذي يظهر لي أن الشك فيه من ابن عباس، لأن الطبراني أخرج الحديث من طريق عطاء عنه على الشك أيضًا، وسيأتي برواية البيهقي أن ذلك في الجحفة، وروى الطحاوي

فرد عليه، فلما رأى ما في وجهه، قال: " إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم ". ـــــــــــــــــــــــــــــ من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس أن الصعب بن جثامة أهدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - عجز حمار وهو بقديد يقطر دمًا فرده (فرد عليه) أي رد النبي على الصعب الحمار الذي صاده ثم أهداه إليه. قال الحافظ: اتفقت الروايات كلها على أنه رده عليه إلا ما رواه ابن وهب والبيهقي (ج 5: ص 193) من طريقه بإسناده حسن من طريق عمرو بن أمية أن الصعب أهدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - عجز حمار وحش وهو بالجحفة فأكل منه وأكل القوم. قال البيهقي: إن كان هذا محفوظًا فلعله رد الحي وقبل اللحم. قلت (قائله الحافظ) وفي هذا الجمع نظر لما بينته (يشير إلى الروايات التي فيها ذكر إهداء جزء من الحمار ورده عليه) فإن كانت الطرق كلها محفوظة فلعله رده حيًا لكونه صيد لأجله ورد اللحم تارة لذلك، وقبله تارة أخرى حيث علم أنه لم يصد لأجله، وقد قال الشافعي: إن كان الصعب أهدى له حمارًا حيًا فليس للمحرم أن يذبح حمار وحشي حي وإن كان أهدى له لحمًا فقد يحتمل أن يكون علم أنه صيد لأجله، ويحتمل أن يحمل القبول المذكور في حديث عمرو بن أمية على وقت آخر، وهو حال رجوعه - صلى الله عليه وسلم - من مكة، ويؤيده أنه جازم فيه بوقوع ذلك بالجحفة وفي غيرها من الروايات بالأبواء أو بودان – انتهى. قال الزرقاني فكأنه لما رده لأنه محرم أهدى له بعد ما حل فقبله وهذا جمع حسن (فلما رأى) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ما في وجهه) أي في وجه الصعب من الكراهة لما حصل له من الكسر برد هديته، ففي رواية الترمذي ((فلما رأى ما في وجهه من الكراهة)) وكذا لأحمد وابن خزيمة، وفي رواية للبخاري ((فلما عرف في وجهي رده هديتي)) قال الباجي: يريد من التغير والإشفاق لرد النبي - صلى الله عليه وسلم - هديته مع أنه - صلى الله عليه وسلم - يقبل الهدية ويأكلها فخاف الصعب أن يكون ذلك لمعنى يخصه (قال) أي تطييبًا لقلبه (إنّا) بكسر الهمز لوقعها في الابتداء (لم نرده) بفتح الدال رواه المحدثون، وقال محققو النحاة: إنه غلط والصواب ضم الدال. قال عياض: ضبطناه في الروايات ((لم نرده)) بفتح الدال، وأبي ذلك المحققون من أهل العربية وقالوا: الصواب أنه بضم الدال لأن المضاعف المجزوم الذي اتصل به ضمير المذكر يراعى فيه الواو التي توجبها ضمة الهاء بعدها لخفاء الهاء فكأن ما قبلها ولي الواو ولا يكون ما قبل الواو إلا مضمومًا، هذا في المذكر أما المؤنث مثل لم تردها فمفتوح الدال مراعاة للألف. قال عياض: وليس الفتح بغلط بل ذكره ثعلب في الفصيح، نعم تعقبوه عليه بأنه ضعيف وأوهم صنيعه أنه فصيح وأجازوا أيضًا الكسر، وهو أضعف الأوجه. قال الحافظ: ووقع في رواية الكشمهيني بفك الإدغام ((لم نردده)) بضم الدال الأولى وسكون الثانية فلا إشكال، وفي رواية شعيب عن الزهري عند البخاري وابن جريج عنه عند أحمد وابن خزيمة ((ليس بنا رد عليك)) وفي رواية عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عند الطبراني ((إنا لم نرده عليك كراهية له ولكنّا حرم)) (عليك) لعلة من العلل (إلا أنّا) بفتح الهمزة أي لأجل أنّا (حرم) بضم الحاء والراء جمع

............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ حرام وهو من أحرم بنسك أي المحرمون. قال الجوهري: رجل حرام، أي محرم، والجمع حرم، مثل قذال وقذل، قال العيني: قوله ((إلا أنّا حرم)) بفتح الهمزة في ((أنّا)) على أنه تعدى إليه الفعل بحرف التعليل فكأنه قال لأنّا، وقال أبو الفتح القشيري: إنّا مكسورة الهمزة لأنها ابتدائية لاستئناف الكلام، وقال الكرماني: لام التعليل محذوفة والمستثنى منه مقدر أي لا نرده لعلة من العلل إلا لأننا حرم، قال الحافظ: زاد صالح بن كيسان عند النسائي ((لا نأكل الصيد)) وفي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس ((لولا أنّا محرمون لقبلناه منك)) . واستدل بالحديث من حرم أكل لحم الصيد على المحرم مطلقًا سواء صاده الحلال لنفسه أو لمحرم وذلك لأنه اقتصر في التعليل على كونه محرمًا فدل على أنه سبب الامتناع خاصة، وأجاب الجمهور عنه بما ذكر عن الشافعي أنه قال: إن كان الصعب أهدى حمارًا حيًا فليس للمحرم أن يذبح حمارًا وحشيًا حيًا وإن كان أهدى لحمًا فيحتمل أن يكون علم أنه صيد له. قال الحافظ: جمع الجمهور بين ما اختلف من الأحاديث في الرد والقبول بأن أحاديث القبول (كحديث طلحة وحديث البهزي وحديث أبي قتادة) محمولة على ما يصيده الحلال لنفسه ثم يهدي منه للمحرم، وأحاديث الرد (كحديث الصعب وحديث زيد بن أرقم) محمولة على ما صاده الحلال لأجل المحرم، قالوا: والسبب في الاقتصار على الإحرام عند الاعتذار للصعب أن الصيد لا يحرم على المحرم إذا صيد له إلا إذا كان محرمًا، فبين الشرط الأصلي وسكت عما عداه فلم يدل على نفيه، وقد بينه الأحاديث الأخر، ويؤيد هذا الجمع حديث جابر يعني الذي يأتي في الفصل الثاني وقال الزرقاني: حمل الجمهور حديث الصعب على أنه قصدهم باصطياده لأنه كان عالمًا بأنه - صلى الله عليه وسلم - يمر به فصاده لأجله، قال: وتعليله - صلى الله عليه وسلم - للصعب بأنه محرم لا يمنع كونه صيد له ولأنه بين الشرط الذي يحرم الصيد على الإنسان إذا صيد له وهو الإحرام وقبل حمار البهزي وفرقه على الرفاق لأنه كان يتكسب بالصيد فحمله على عادته في أنه لم يصد لأجله - صلى الله عليه وسلم -، قال: وهذا على رواية أن الصعب أهدى لحمًا أما على أنه أهداه حيًا فواضح، فالإجماع على أنه يحرم على المحرم قبول صيد وهب له وشراؤه واصطياده واستحداث ملكه بوجه من الوجوه، وأجاب الحنفية عن حديث الصعب بأنه مضطرب كما قال الطحاوي، وبأن الأظهر بل الصحيح في الرواية رد الحمار الحي كما تقدم عن الجمهور، وبأنه يحتمل أنه علم أنه صيد بدلالة المحرم أو إشارته وبأن حديث أبي قتادة أولى لأنه ليس فيه اضطراب مثل ما في حديث الصعب، وبأن رده - صلى الله عليه وسلم - يمكن أن يكون تنزهًا وسدًا لذرائع التوسع في أكل الصيد للمحرم وحسمًا لمادته لئلا يفضي استعمال ما لا بأس به إلى التساهل فيما به بأس في آخر الأمر، وهذه الأجوبة كلها مخدوشة لا يخفى على المصنف ما فيها من الخدشات والتعسفات، هذا. وفي حديث الصعب من الفوائد: الحكم بالعلامة لقوله: فلما رأى ما في وجهه، وفيه جواز رد الهدية إذا وجد مانع من قبولها وترجم له البخاري ((من رد الهدية لعلة)) وفيه كراهية رد هدية الصديق لما يقع في قلبه فإنه - صلى الله عليه وسلم - طيب نفسه بذكر

متفق عليه. 2722 – (2) وعن أبي قتادة، أنه خرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ـــــــــــــــــــــــــــــ عذر الرد، وفيه إخبار المهدي إليه بسبب الرد لتطمئن نفس المهدي وتزول وساوسه ويطيب قلبه، وفيه أن الهبة لا تدخل في الملك إلا بالقبول وإن قدرته على تملكها لا تصيره مالكًا لها (متفق عليه) أخرجه البخاري في الحج وفي الهبة ومسلم في الحج وأخرجه أيضًا أحمد (ج 4: ص 37، 38، 71، 72، 73) ومالك والترمذي والنسائي وابن ماجة والدرامي وابن الجارود (ص 154) وابن خزيمة وعبد الرزاق (ج 4: ص 426) والحميدي (ج 2: ص 344) والطحاوي والبيهقي وغيرهم. 2722 – قوله (وعن أبي قتادة أنه خرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي عام الحديبية كما في رواية يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عند الشيخين وغيرهما. قال الحافظ: قوله ((الحديبية)) أصح من رواية الواقدي من وجه آخر عن عبد الله ابن أبي قتادة أن ذلك كان في عمرة القضية، ووقع في رواية أبي عوانة عن عثمان بن عبد الله بن موهب عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه عند الشيخين أيضًا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج حاجًا فخرجوا معه. قال الإسماعيلي: هذا غلط فإن القصة كانت في عمرة، وأما الخروج إلى الحج فكان في خلق كثير وكان كلهم على الجادة لا على ساحل البحر، ولعل الراوي أراد ((خرج محرمًا)) فعبر عن الإحرام بالحج غلطًا. قال الحافظ: لا غلط في ذلك بل هو من المجاز السائغ، وأيضًا فالحج في الأصل قصد البيت فكأنه قال: خرج قاصدًا للبيت، ولهذا يقال للعمرة الحج الأصغر، ثم وجدت الحديث من رواية محمد بن أبي بكر المقدمي عن أبي عوانة بلفظ ((خرج حاجًا أو معتمرًا)) أخرجه البيهقي، فتبين أن الشك فيه من أبي عوانة،وقد جزم يحيى بن أبي كثير بأن ذلك في عمرة الحديبية، وهذا هو المعتمد – انتهى. واعلم أنه اختلفت الروايات في قصة اصطياد أبي قتادة الحمار الوحشي إجمالاً وتفصيلاً وتأخيرًا، وقد أجمل الكلام عليها الحافظ في الفتح والشيخ محمد عابد السندي في المواهب اللطيفة، قال الحافظ: حاصل القصة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خرج في عمرة الحديبية فبلغ الروحاء وهي من ذي الحليفة على أربعة وثلاثين ميلاً أخبروه بأن عدوًا من المشركين بوادي غيقة (بفتح الغين المجمعة بعدها ياء ساكنة ثم قاف مفتوحة ثم هاء، قال السكوني: هو ماء لبني غفار بين مكة والمدينة. وقال يعقوب: هو قليب لبني ثعلبة يصب فيه ماء رضوى ويصب هو في البحر) يخشى منهم أن يقصدوا غرته فجهز طائفة من أصحابه فيهم أبو قتادة إلى جهتهم ليأمن شرهم، فلما أمنوا ذلك لحق أبو قتادة وأصحابه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فأحرموا إلا هو (يعني أن أصحابه كانوا أحرموا من الميقات أو أحرموا في أثناء تجواله وحده لاستطلاع أخبار العدو إلا هو فإنه لم يحرم) فاستمر هو حلالاً لأنه إما لم يجاوز الميقات وإما لم يقصد العمرة، وقال أيضًا إن الروحاء هو المكان

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ الذي ذهب أبو قتادة وأصحابه منه إلى جهة البحر ثم التقوا بالقاحة (بالقاف والحاء المهملة المخففة، واد على نحو ميل من السقيا وعلى ثلاث مراحل من المدينة) وبها وقع له الصيد المذكور وكأنه تأخر هو ورفقته للراحة أو غيرها وتقدمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى السقيا حتى لحقوه، قال: ووقع في حديث أبي سعيد عند ابن حبان والبزار أن ذلك وقع وهم بعسفان، وفيه نظر، والصحيح ما سيأتي بعد باب أي عند البخاري من طريق صالح بن كيسان عن أبي محمد مولى أبي قتادة عنه، قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقاحة ومنا المحرم وغير المحرم (يريد بغير المحرم نفسه فقط) فرأيت أصحابي يتراؤن شيئًا فنظرت، فإذا حمار وحش – الحديث. قال الحافظ: وبهذا يعني بما ذكره من حاصل القصة وأن أبا قتادة استمر حلالاً لأنه إما لم يجاوز الميقات وإما لم يقصد العمرة يرتفع الإشكال الذي ذكره أبو بكر الأثرم، قال: كنت أسمع أصحابنا يتعجبون من هذا الحديث ويقولون: كيف جاز لأبي قتادة أن يجاوز المقيات وهو غير محرم ولا يدرون ما وجهه. قال: حتى وجدته في رواية من حديث أبي سعيد فيها: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأحرمنا فلما كنا بمكان كذا إذا نحن بأبي قتادة، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه في وجه - الحديث. قال: فإذا أبو قتادة إنما جاز له ذلك لأنه لم يخرج يريد مكة. قال الحافظ: والذي يظهر أن أبا قتادة إنما أخر الإحرام لأنه لم يتحقق أنه يدخل مكة فساغ له التأخير، قال: والرواية التي أشار إليها الأثرم تقتضي أن أبا قتادة لم يخرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة، وليس كذلك أي لأن عامة الروايات من حديث أبي قتادة على أن أبا قتادة خرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة وأن بعثه أبا قتادة ومن معه كان من الروحاء، وأخرج ابن حبان في صحيحه والبزار والطحاوي من طريق عياض بن عبد الله عن أبي سعيد، قال: بعث رسول الله أبا قتادة على الصدقة وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وهم محرمون حتى نزلوا بعسفان – الحديث. قال الحافظ: فهذا سبب آخر ويحتمل جمعهما. وقال في المواهب اللطيفة: الحاصل أن أبا قتادة خرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره بأخذ الصدقات، وكانت طريقهم متحدة فأحرموا كلهم غيره بناء على أنه لم يقصد إذ ذاك مكة ثم سار مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بناء على اتحاد الطريق حتى بلغوا الروحاء فأخبروا بالعدو فوجهه - صلى الله عليه وسلم - مع أصحاب له محرمين فلما أمنوا رجع على حالته التي كان عليها فساغ له التأخير لذلك – انتهى. وقال القاري: إن أبا قتادة لم يحرم لقصده الإحرام من ميقات آخر وهو الجحفة، فإن المدنى مخير (عند الحنفية) بين أن يحرم من ذي الحليفة وبين أن يحرم من الجحفة، وفيه أن رواية أبي سعيد التي فيها ذكر عسفان تدل على تأخير أبي قتادة الإحرام من الجحفة ولكن نظر فيها الحافظ وصحح خلافها كما تقدم، وقال القسطلاني: لم يحرم لاحتمال أنه لم يقصد نسكًا إذ يجوز دخول الحرم بغير إحرام لمن يرد حجًا ولا عمرة كما هو مذهب الشافعية، وأما على مذهب القائلين بوجوب الإحرام فيجاب بأنه إنما لم يحرم لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان أرسله إلى جهة أخرى ليكشف أمر عدو - انتهى. وقيل كانت هذه

فتخلف مع بعض أصحابه وهم محرمون وهو غير محرم، فرأوا حمارًا وحشيًا قبل أن يراه، فلما رأوه تركوه حتى رآه أبو قتادة، ـــــــــــــــــــــــــــــ القصة قبل أن يوقت النبي - صلى الله عليه وسلم - المواقيت (فتخلف) أي تأخر أبو قتادة (مع بعض أصحابه) الضمير راجع إلى أبي قتادة أو النبي - صلى الله عليه وسلم - (وهم) أي البعض (محرمون وهو) أي أبو قتادة (غير محرم) تقدم بيان وجه عدم إحرامه، وفي رواية لمسلم ((حتى إذا كانوا ببعض طريق مكة تخلف مع أصحاب له محرمين وهو غير محرم)) وفي رواية للبخاري ((قال أي أبو قتادة انطلقنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية فأحرم أصحابه ولم أحرم فأنبئنا بعدو بغيقة فتوجهنا نحوهم فبصر أصحابي بحمار وحش)) وفي أخرى له أيضًا ((كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقاحة من المدينة على ثلاث (أي مراحل) ومنا المحرم ومنا غير المحرم فرأيت أصحابي يتراؤن شيئًا)) وقد تقدم أن الروحاء هو المكان الذي ذهب أبو قتادة وأصحابه منه إلى جهة البحر ثم التقوا بالقاحة وبها وقع له الصيد المذكور فالظاهر أن المراد في رواية المشكاة تخلفهم بالقاحة بعد ما انصرفوا عن ساحل البحر وفيها وقع أمر الصيد (فرأوا حمارًا وحشيًا) نوع من الصيد على صفة الحمار الأهلي وبينهما بعض الميزات، وجمعه حمر، ونسب إلى الوحش لتوحشه وعدم استئناسه. قال النووي: قوله ((حمارًا وحشيًا)) كذا ذكر في أكثر الروايات، وفي رواية أبي كامل الجحدري عن أبي عوانة ((إذ رأوا حمر وحش، فحمل عليها أبو قتادة فعقر منها أتانًا)) فهذه الرواية تبين أن الحمار في أكثر الرواية المراد به أنثى وهي الأتان سميت حمارًا مجازًا – انتهى. قلت: وهكذا وقع في رواية موسى بن إسماعيل عن أبي عوانة عند البخاري، قال الحافظ: قوله ((فحمل أبو قتادة على الحمر فعقر منها أتانا)) في هذا السياق زيادة على جميع الروايات لأنها متفقة على إفراد الحمار بالرؤية وأفادت هذه الرواية أنه من جملة الحمر، وأن المقتول كان أتانا أي أنثى، فعلى هذا في إطلاق الحمار عليها تجوز - انتهى. وكذا قال القسطلاني. وزاد ((أو أن الحمار يطلق على الذكر والأنثى)) (قبل أن يراه) أي قبل رؤية أبي قتادة ذلك الحمار (فلما رأوه تركوه) أي الحمار (حتى رآه أبو قتادة) أي حتى رأى أبو قتادة الحمار، وزاد في رواية عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه عند البخاري ((فبينما أنا مع أصحابه يضحك بعضهم إلى بعض)) وقد بسط شراح الصحيحين في أن ضحك بعض المحرمين إلى بعض هل هو داخل في الدلالة على الصيد أم لا؟ ومال الحافظ وغيره من العلماء إلى أنه ليس بدلالة. وقد ترجم البخاري على هذه الرواية ((باب إذا رأى المحرمون صيدًا فضحكوا ففطن الحلال)) قال الحافظ في شرحه: أي لا يكون ذلك منهم إشارة له إلى الصيد فيحل لهم أكل الصيد، قلت: ووقع في هذه الرواية عند مسلم ((يضحك بعضهم إليّ)) أي بتشديد الياء. قال عياض: وهو خطأ وتصحيف وإنما سقط عليه لفظة ((بعض)) والصواب يضحك بعضهم إلى بعض كما في سائر الطرق والروايات، وتعقبه النووي وذهب الحافظ إلى تصويب ما قال القاضي من شاء الوقوف على كلام القاضي وتعقب

فركب فرسًا له، فسألهم أن يناولوه سوطه فأبوا فتناوله فحمل عليه فعقره، ثم أكل فأكلوا فندموا، فلما أدركوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سألوه، ـــــــــــــــــــــــــــــ النووي وجواب الحافظ رجع إلى الفتح في شرح باب ((إذا صاد الحلال فأهدى للمحرم الصيد)) من كتاب الحج (فركب) أي أبو قتادة بعد ما رأى الحمار (فرسًا له) وعند البخاري بعده ((يقال له الجرادة)) قال الحافظ: هو بفتح الجيم وتخفيف الراء والجراد اسم جنس، ووقع في السيرة لابن هشام أن اسم فرس أبي قتادة ((الحزوة)) أي بفتح المهملة وسكون الزأي بعدها واو، فإما أن يكون له اسمان وإما أن أحدهما تصحف والذي في الصحيح هو المعتمد – انتهى. (فسألهم أن يناولوه) أي يعطوه (سوطه، فأبوا) لعدم جواز المعاونة (فتناوله) أي أخذ بيده، وفي رواية أبي حازم عند البخاري في الهبة ((فأبصروا حمارًا وحشيًا وأنا مشغول أخصف نعلي فلم يؤذنوني به وأحبوا لو أني أبصرته فالتفت فأبصرته فقمت إلى الفرس فأسرجته ثم ركبت ونسيت السوط والرمح فقلت لهم: ناولوني السوط والرمح فقالوا: لا والله لا نعينك عليه بشيء فغضبت فنزلت فأخذتهما ثم ركبت)) وفي رواية ((وكنت نسيت سوطي فقلت: لهم ناولوني سوطي، فقالوا: لا نعينك عليه فنزلت فأخذته)) (فحمل عليه) أي وجه الفرس نحوه فأدركه (فعقره) أي قتله، وأصل العقر الجرح، وفي رواية ((فشددت على الحمار فعقرته ثم جئت به وقد مات)) وفي أخرى ((حتى عقرته فأتيت إليهم فقلت لهم: قوموا فاحتملوا فقالوا: لا نمسه. فحملته حتى جئتهم به)) (ثم) أي بعد طبخه (أكل) أي أبو قتادة منه (فأكلوا) تبعًا له (فندموا) لظنهم أنه لا يجوز للمحرم أكل الصيد مطلقًا، وفي رواية لمسلم ((فأكل بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بعضهم)) وفي رواية للشيخين ((فأتيت به أصحابي فقال بعضهم: كلوا، وقال بعضهم: لا تأكلوا)) قال الحافظ: قد تقدم من عدة أوجه أنهم أكلوا، والظاهر أنهم أكلوا أول ما أتاهم ثم طرأ عليهم الشك كما في لفظ عثمان بن موهب عن عبد الله بن أبي قتادة عند البخاري ((فأكلنا من لحمها ثم قلنا: أنأكل من لحم صيد ونحن محرمون؟)) وأصرح من ذلك رواية أبي حازم عند البخاري في الهبة بلفظ ((ثم جئت به فوقعوا فيه يأكلون، ثم إنهم شكوا في أكلهم إياه وهم حرم)) (فلما أدركوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي لحقوه وقد تقدمهم إلى السقيا، قال الحافظ: في الحديث من الفوائد أن عقر الصيد ذكاته وجواز الاجتهاد في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال ابن العربي: هو اجتهاد بالقرب من النبي - صلى الله عليه وسلم - لا في حضرته، وفيه العمل بما أدى إليه الاجتهاد ولو تضاد المجتهدان، ولا يعاب واحد منهما على ذلك لقوله: فلم يعب ذلك علينا. وكأن الآكل تمسك بأصل الإباحة والممتنع نظر إلى الأمر الطارئ، وفيه الرجوع إلى النص عند تعارض الأدلة يعني لأن الصحابة بعد ما أكلوا من الحمار الوحشي مجتهدين وحصل لهم شك في جواز أكلهم رجعوا في تحقيق ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (سألوه) أي عن ذلك هل يجوز أكله أم لا؟ وفي رواية عند البخاري ((فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أمامنا

قال: " هل معكم منه شيء؟ " قالوا: معنا رجله فأخذها النبي - صلى الله عليه وسلم - فأكلها. ـــــــــــــــــــــــــــــ فسألته، فقال: كلوه حلال)) (قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ما سألهم عن إشارتهم ودلالتهم وقتلهم (هل معكم منه شيء؟ قالوا: معنا رجله) وفي رواية أبي حازم عند البخاري في الهبة ((فرحنا وخبأت العضد معي)) وفيه ((فقال: معكم منه شيء؟ فناولته العضد فأكلها حتى تعرقها)) وفي رواية المطلب عند سعيد بن منصور ((قد رفعنا لك الذراع فأكل منها)) وجمع بأنه أكل من كليهما (فأخذها) أي رجله (فأكلها) إشارة إلى أن الجواب بالفعل أقوى من القول. قال الحافظ: فيه الاستيهاب من الأصدقاء وقبول الهدية من الصديق، وقيل عياض: عندي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طلب من أبي قتادة ذلك تطييبًا لقلب من أكل منه، بيانًا للجواز بالقول والفعل لإزالة الشبهة التي حصلت لهم – انتهى. والحديث دليل على جواز أكل الحمار الوحشي وأنه من الصيد بخلاف الحمار الأهلي فإنه رجس، وأن تمني المحرم أن يقع من الحلال الصيد ليأكل المحرم منه لا يقدح في إحرامه، وأنه يجوز للمحرم الأكل من صيد الحلال إذا لم يصده لأجله، وهذا يقوي من حمل الصيد في قوله تعالى: {وحرم عليكم صيد البر} على الاصطياد، تنبيه: روى أحمد (ج 5: ص 304) وابن ماجة وعبد الرزاق في مصنفه (ج 4: ص 430) والدراقطني وإسحاق بن راهوية وابن خزيمة والبيهقي (ج 5: ص 190) من طريق معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه، قال: خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زمن الحديبية فأحرم أصحابي ولم أحرم أنا فرأيت حمار وحش فحملت عليه فاصطدته، فذكرت شأنه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقلت له: إنما اصطدته لك فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه فأكلوه ولم يأكل منه حين أخبرته أني اصطدته له. قال ابن خزيمة وأبو بكر النيسابوري والدراقطني والجوزقي تفرد بهذه الزيادة معمر، قال ابن خزيمة: إن كانت هذه الزيادة محفوظة احتمل أن يكون - صلى الله عليه وسلم - أكل من لحم ذلك الحمار قبل أن يعلمه أبو قتادة أنه اصطاده من أجله فلما أعلمه امتنع – انتهى. قال الحافظ: وفيه نظر لأنه لو كان حرامًا ما أقر النبي - صلى الله عليه وسلم - على الأكل منه إلى أن أعلمه أبو قتادة بأنه صاده لأجله، ويحتمل أن يكون ذلك لبيان الجواز فإن الذي يحرم على المحرم إنما هو الذي يعلم أنه صيد من أجله، وأما إذا أتي بلحم لا يدري ألحم صيد أو لا فحمله على أصل الإباحة فأكل منه لم يكن ذلك حرامًا على الآكل. وعندي بعد ذلك فيه وقفة، فإن الروايات المتقدمة ظاهرة في أن الذي تأخر هو العضد وأنه - صلى الله عليه وسلم - أكلها حتى تعرقها أي لم يبق منها إلا العظم، ووقع عند البخاري في الهبة حتى نفدها أي فرغها، فأي شيء يبقى منها حينئذ حتى يأمر أصحابه بأكله، لكن رواية أبي محمد في الصيد عند البخاري ((أبقي معكم شيء منه؟ قلت: نعم. قال: كلوا فهو طعمة أطعمكموها الله)) فأشعر بأنه بقي منها غير العضد والله أعلم – انتهى. وقال الزيلعي: قال صاحب التنقيح: والظاهر أن هذا اللفظ الذي تفرد به معمر غلط فإن في الصحيحين ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل منه)) وفي لفظ لأحمد (ج 5: ص 306) ((قلت: هذه العضد قد شويتها وأنضجتها فأخذها

متفق عليه. وفي رواية لهما: فلما أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها؟ " قالوا: لا. قال: " فكلوا ما بقي من لحمها ". ـــــــــــــــــــــــــــــ فنهشها - صلى الله عليه وسلم - وهو حرام حتى فرغ منها)) – انتهى. وقال الشيخ محمد عابد السندي في المواهب اللطيفة: والأولى أن يقال إن رواية معمر شاذة لمخالفته للثقات الأثبات فلا عبرة بها والله أعلم – انتهى. قلت: معمر ثقة لا يضر تفرده وقد تقدم وجه الجمع بين الروايتين في كلام ابن خزيمة، ويشهد للزيادة المذكورة في رواية معمر حديث جابر الآتي في الفصل الثاني (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجهاد والأطعمة والهبة والحج والمغازي والصيد، ومسلم في الحج واللفظ المذكور في للبخاري في الجهاد، والحديث أخرجه أيضًا أحمد (ج 5: ص 301، 302، 306، 307، 308) ومالك وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة، والحميدي (ج 1: ص 204) والبيهقي (ج 5: ص 187، 188، 189) والدراقطني وابن الجارود (ص 153، 154) والشافعي والطحاوي وغيرهم (وفي رواية لهما) أي للشيخين المعلوم من متفق عليه، واللفظ الآتي للبخاري في الحج، ولفظ مسلم ((فقال: هل منكم أحد أمره أو أشار إليه بشيء؟)) وفي رواية أخرى له ((قال: أشرتم أو أعنتم أو أصدتم)) (أمنكم أحد أمره) أي بالصريح أو الدلالة (أن يحمل عليها) قال القاري: أي على الحمار أو الصيد وتأنيثه باعتبار الدابة، قلت: الضمير راجع إلى الأتان لأنه لا يطلق إلا على الأنثى وهي مذكورة في رواية البخاري التي هذه تتمتها وقد ذكرنا لفظها (أو أشار إليها؟) عطف على ((أمره)) قال القاري: والفرق بين الدلالة والإشارة أن الأولى باللسان والثانية باليد، وقيل الأولى في الغائب والثانية في الحضور، وقيل كلتاهما بمعنى واحد – انتهى. وفيه دليل على أن مجرد الأمر من المحرم للصائد بأن يحمل على الصيد، والإشارة منه مما يوجب عدم لحل لمشاركته للصائد (فكلوا ما بقي من لحمها) قال الحافظ: صيغة الأمر هنا للإباحة لا للوجوب لأنها وقعت جوابًا عن سؤالهم عن الجواز لا عن الوجوب فوقعت الصيغة على مقتضى السؤال ولم يذكر في هذه الرواية أنه - صلى الله عليه وسلم - أكل من لحمها، وذكره في الروايات الأخرى كما تقدم، وفي الحديث أنه لا يجوز للمحرم الاصطياد ولا الإعانة عليه بدلالة أو إشارة أو مناولة سلاح أو غير ذلك مما يعين على قتله أو صيده، وفيه جواز أكل المحرم مما صاده الحلال إذا لم يكن من المحرم إعانة أو إشارة أو دلالة، وهو إجماع إذا لم يصد لأجله فإن صيد لأجله فكذلك عند الجمهور منهم الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد خلافًا للحنفية إذ قالوا: يجوز له أكل ما صيد لأجله، وقد تقدم في أول الباب ذكر الخلاف في المسألة وأن حديث أبي قتادة هذا من مستدلات الحنفية، فإن ظاهره أنه صاده لأجل رفقهم المحرمين، قال القاري في شرح النقاية: الأولى في الاستدلال على المطلوب حديث أبي قتادة فإنهم لما سألوه - صلى الله عليه وسلم - لم يجب لحله لهم حتى سألهم عن موانع الحل أكانت موجودة أم لا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها؟ قالوا: لا.

2723 – (3) وعن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ـــــــــــــــــــــــــــــ فقال: فكلوا إذًا. فلو كان من الموانع أن يصاد لهم لنظمه في سلك ما يسأل عنه منها في التفحص عن الموانع ليجيب بالحكم عند خلوه عنها، وهذا المعنى كالصريح في نفي كون الاصطياد لهم مانعًا – انتهى كلام القاري. وهو مأخوذ من تقرير ابن الهمام، وذكر بعض الحنفية كلام ابن الهمام وزاد عليه أن العادة قاضية بأن مثل هذا الحيوان أي الحمار الوحشي في عظم جثته وكثرة لحمه لا يصيده الصائد لأن يأكله هو وحده، وكان أبو قتادة إذ ذاك في السفر ولم يكن معه إلا رفقته المحرمون فيغلب على الظن – والله أعلم – أنه كان نوى تشريكهم في أكله ولا سيما بعد ما علم بقرائن الحال من تمنيهم اصطياده كما يدل عليه قوله في بعض الروايات ((فلم يؤذنوني به وأحبوا لو أني أبصرته)) – انتهى. وأجيب عن ذلك بأن رواية معمر عند أحمد وابن ماجة وابن خزيمة وغيرهم صريحة في أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأكل منه حينما أخبره أبو قتادة بأنه إنما اصطاده لأجله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا يقتضي أن أبا قتادة لم يصد لأجل رفقته وأن الاصطياد لأجل المحرم من موانع الأكل ولذا امتنع النبي - صلى الله عليه وسلم - من أكله وأذن لرفقته فيه، وأما استبعاد أن يصيد أبو قتادة الحمار الوحشي لأجله فقط دون رفقته فقد أجاب عنه صاحب تيسير العلام بما نصه: قد يستبعد أن يصيد أبو قتادة الحمار الوحشي لأجله وحده دون رفقته وهو إشكال في موضعه، والذي يزيل هذا الإشكال هو أن نفهم أن الصيد عند العرب هواية محببة لديهم وظرف يتعشقه ملوكهم وكبارهم، فلا يبعد أن أبا قتادة لما رأى حمر الوحش شاقه طرادها قبل أن يفكر في أنه سيصيدها ليأكل لحمها هو وأصحابه، وهذا شيء علمناه من أنفسنا فلقد تعبنا في طراد الصيد وأنفقنا في سبيله الوقت والمال لذة وشوقًا فإذا ظفرنا به رخص لدينا وذهب خطره من قلوبنا، والله أعلم. 2723 - قوله (وعن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -) كذا في رواية مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر عند الشيخين، وهكذا وقع في رواية ابن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه عند مسلم، ووقع عند البخاري من رواية أبي عوانة عن زيد بن جبير قال: سمعت ابن عمر يقول حدثتني إحدى نسوة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعند الشيخين من رواية يونس عن الزهري عن سالم قال: قال عبد الله بن عمر قالت حفصة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خمس من الدواب – الحديث. قال الحافظ: هذا والذي قبله قد يوهم أن عبد الله بن عمر ما سمع هذا الحديث من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن وقع في بعض طرق نافع عنه ((سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم -)) أخرجه مسلم من طريق ابن جريج، قال: أخبرني نافع، وقال مسلم بعده: لم يقل أحد عن نافع عن ابن عمر ((سمعت)) إلا ابن جريج، وتابعه محمد بن إسحاق ثم ساقه من طريق ابن إسحاق عن نافع كذلك، فالظاهر أن ابن عمر سمعه من أخته حفصة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسمعه أيضًا من النبي - صلى الله عليه وسلم - يحدث به حين سئل عنه فقد وقع عند أحمد من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: نادى رجل، ولأبي عوانة في المستخرج من هذا

قال: " خمس لا جناح على من قتلهن في الحرم والإحرام: ـــــــــــــــــــــــــــــ الوجه، ((أن أعرابيًا نادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما نقتل من الدواب إذا أحرمنا؟)) والظاهر أن المبهمة في رواية زيد بن جبير هي حفصة، ويحتمل أن تكون عائشة، وقد رواه ابن عيينة عن ابن شهاب فأسقط حفصة من الإسناد، والصواب إثباتها في رواية سالم - انتهى. وقال الولي العراقي بعد ذكر اختلاف الروايات في الصحابي الذي روى هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ولا يضر هذا الاختلاف، فالحديث مقبول سواء كان من رواية ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بواسطة حفصة أو غيرها من أمهات المؤمنين رضي الله عنهن. وقد تقدم من حديث ابن جريج في صحيح مسلم بسماع ابن عمر له من النبي - صلى الله عليه وسلم - (خمس) أي من الدواب، كما في رواية عند الشيخين، وهي بتشديد الموحدة جمع دابة وهي في الأصل ما يدب على وجه الأرض، والهاء للمبالغة، تقع على المذكر والمؤنث. قال الحافظ: الدواب جمع دابة وهو ما دب من الحيوان، وقد أخرج بعضهم منها الطير لقوله تعالى {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه} (الأنعام: الآية 38) وحديث الباب يرد عليه فإنه ذكر في الدواب الخمس الغراب والحدأة، ويدل على دخول الطير أيضًا عموم قوله تعالى {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} (سورة هود: الآية 7) وقوله تعالى {وكأين من دابة لا تحمل رزقها} (العنكبوت: الآية 60) وفي حديث أبي هريرة عند مسلم في صفة بدء الخلق ((وخلق الدواب يوم الخميس)) ولم يفرد الطير بذكر، وقد تصرف أهل العرف في الدابة فمنهم من يخصها بالحمار ومنهم من يخصها بالفرس، وفائدة ذلك تظهر في الحلف - انتهى. وقال العيني: الدابة في الأصل لكل ما يدب على وجه الأرض، ثم نقله العرف العام إلى ذوات القوائم الأربع من الخيل والبغال والحمير، ويسمى هذا منقولاً عرفيًا، فإن قلت: في أحاديث الباب الغراب والحدأة وليسا من الدواب، ولو قال من الحيوان لكان أصواب، قلت: أكثر ما ذكر في أحاديث الباب الدواب فنظر إلى هذا الجانب - انتهى. وكلمة ((خمس)) مرفوع على الابتداء لتخصصها بالصفة وهي قوله ((لا جناح على من قتلهن)) والخبر قوله ((الفارة والغراب)) إلخ، وأما على ما وقع في الرواية الأخرى بلفظ ((خمس من الدواب)) فالصفة المخصصة هي قوله ((من الدواب)) والخبر قوله (لا جناح على من قتلهن) بضم الجيم أي لا إثم ولا جزاء والمعنى لا حرج (في الحرم) أي في أرضه، بفتح الحاء والراء المهملتين وهو الحرم المشهور أي حرم مكة (والإحرام) أي في حاله، ولفظ الكتاب لمسلم، أخرجه من رواية ابن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه، واللفظ المتفق عليه ((خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح)) أخرجاه من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر. قال الحافظ: ويؤخذ من الحديث جواز قتلهن الحلال، وفي الحل من باب الأولى، وقد وقع ذكر الحل صريحًا عند مسلم من طريق معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة بلفظ ((يقتلن في الحل والحرم)) ويعرف حكم الحلال بكونه لم يقم به مانع وهو الإحرام فهو بالجواز أولى - انتهى.

............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال الولي العراقي: نص في الحديث على المحرم لكونه جوبًا للسؤال عنه، ويعلم حكم الحلال من طريق أولى فإنه لم يقم به مانع من ذلك. فإذا أبيح مع قيام المانع فمع فقده أولى. قال: واقتصر في حديث ابن عمر على نفي الجناح وهو الإثم عن قتل هذه المذكورات وليس في ذلك ترجيح فعل قتلها على تركه، وفي حديث عائشة (عند مسلم) الأمر، وهو يدل على ترجيح قتلها على تركه، وهو محتمل للوجوب والندب بناءً على أن المندوب مأمور به وهو المرجح في الأصول ومذهب الشافعية والحنابلة والظاهرية استحباب قتل المؤذيات وهي الخمس المذكورة وما في معناها، وتمسكوا بالأمر به في هذا الحديث، وفيه زيادة على نفي الجناح الذي في حديث ابن عمر. وقال الحافظ: ليس في نفي الجناح وكذا الحرج في طريق سالم دلالة على أرجحية الفعل على الترك لكن ورد في طريق زيد بن جبير عند مسلم بلفظ ((أمر)) وكذا في طريق معمر (عند مسلم وعبد الرزاق) ولأبي عوانة من طريق ابن نمير عن هشام عن أبيه بلفظ ((ليقتل المحرم)) وظاهر الأمر الوجوب، ويحتمل الندب والإباحة. قال: ويؤيد الإباحة رواية الليث عن نافع عن ابن عمر عند النسائي بلفظ ((أذن)) وفي حديث أبي هريرة عند أبي داود وغيره ((خمس قتلهن حلال للمحرم)) ثم إنه وقع التقييد بالخمس في حديث عائشة أيضًا كما سيأتي، قال الحافظ: التقييد بالخمس وإن كان مفهومه اختصاص المذكورات بذلك لكنه مفهوم عدد وليس بحجة عند الأكثر، وعلى تقدير اعتباره يحتمل أن يكون قاله - صلى الله عليه وسلم - أولاً ثم بين بعد ذلك أن غير الخمس يشترك معها في الحكم فقد ورد في بعض طرق حديث عائشة بلفظ ((أربع وفي بعض طرقها بلفظ ((ست)) فأما طريق ((أربع)) فأخرجها مسلم عن طريق القاسم عنها فأسقط العقرب وأما طريق ((ست)) فأخرجها أبو عوانة في المستخرج من طريق المحاربي عن هشام عن أبيه عنها فأثبت الخمس وزاد ((الحية)) ويشهد لها طريق شيبان عن أبي عوانة عند مسلم وإن كانت خالية عن العدد، ولفظها ((سأل رجل ابن عمر: ما يقتل الرجل من الدواب وهو محرم فقال: حدثتني إحدى نسوة النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يأمر بقتل الكلب العقور والفارة والعقرب والحدأة والغراب والحية، قال: وفي الصلاة أيضًا. فلم يقل في أوله خمسًا وزاد الحية وزاد في آخره ذكر الصلاة لينبه بذلك على جواز قتل المذكورات في جميع الأحوال، وقد وقع في حديث أبي سعيد عند أبي داود نحو رواية شيبان وزاد السبع العادي فصارت سبعًا، وفي حديث أبي هريرة عند ابن خزيمة وابن المنذر زيادة ذكر الذئب والنمر على الخمس المشهورة فتصير بهذا الاعتبار تسعًا، لكن أفاد ابن خزيمة عن الذهلي أن ذكر الذئب والنمر من تفسير الراوي للكلب العقور، ووقع ذكر الذئب في حديث مرسل أخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور (وعبد الرزاق والبيهقي) وأبو داود من طريق سعيد بن المسيب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يقتل المحرم الحية والذئب ورجاله ثقات، وأخرج أحمد من طريق حجاج بن أرطاة عن وبرة عن ابن عمر قال ((أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الذئب للمحرم)) وحجاج ضعيف وخالفه مسعر عن وبرة فرواه موقوفًا، أخرجه ابن أبي شيبة، فهذا جميع

الفأرة والغراب ـــــــــــــــــــــــــــــ ما وقفت عليه في الأحاديث المرفوعة زيادة على الخمس المشهورة ولا يخلو شيء من ذلك من مقال – انتهى. قال بعض الحنفية: مرسل سعيد بن المسيب يكفي للاحتجاج فإن مراسليه مقبولة، قال: فهذا المرسل في قوة المسند عندنا، وقد تأيد بحديث الحجاج بن أرطاة، وبما أخرجه الطحاوي بإسناده عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ ((والحية والذئب والكلب العقور)) قال الشيخ عابد السندي في شرح مسند أبي حنيفة فإلحاق الذئب بالخمس إنما هو إلحاق بالنص كإلحاق الحية، نعم من لا معرفة له بالأدلة من الحنفية ألحقه من حيث المعنى، ولجامع الابتداء بالأذى – انتهى (الفأرة) بهمزة ساكنة، ويجوز فيها التسهيل أي تخفيفها ألفًا وجمعها ((فأر)) قال القاري: الفأرة بالهمزة ويبدل أي الوحشية والأهلية – انتهى. وبالأمر بقتلها قال الجمهور من السلف والخلف إلا إبراهيم النخعي فإنه منع المحرم من قتلها حكاه عنه الساجي وابن المنذر وغيرهما، وزاد الساجي: وأراه قال: فإن قتلها ففيها فدية. قال ابن المنذر: وهذا لا يعنى له لأنه خلاف السنة وقول أهل العلم. وقال الخطابي: هذا مخالف للنص خارج عن أقاويل أهل العلم، وعند المالكية خلاف في قتل ما انتهى صغره منها إلى حد لا يمكن منه الأذى وليس هذا الخلاف عند غيرهم كذا في شرح التقريب، وقال الحافظ: لم يختلف العلماء في جواز قتل الفأرة للمحرم إلا ما حكي عن إبراهيم النخعي فإنه قال: فيها جزاء إذا قتلها المحرم، أخرجه ابن المنذر وقال: هذا خلاف السنة وخلاف قول جميع أهل العلم. وروى البيهقي بإسناد صحيح عن حماد بن زيد قال: لما ذكروا له هذا القول ((ما كان بالكوفة أفحش ردًا للآثار من إبراهيم النخعي لقلة ما سمع منها ولا أحسن إتباعًا لها من الشعبي لكثرة ما سمع)) ونقل ابن شاس عن المالكية خلافًا في جواز قتل الصغير منها الذي لا يتمكن من الأذى، والفار أنواع، منها الجرذ، بالجيم بوزن عمر، والخلد بضم المعجمة وسكون اللام، وفأرة الإبل، وفارة المسك، وفارة الغيط وحكمهما في تحريم الأكل وجواز القتل سواء، وقد أطلق الفويسقة عليه في حديث جابر عند البخاري في الأدب، وذكر سبب تسميتها بذلك في حديث أبي سعيد عند ابن ماجة، قيل له: لم قيل للفأرة الفويسقة؟ فقال: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استيقظ وقد أخذت الفتيلة لتحرق بها البيت، وقيل إنما سميت بذلك لأنها قطعت حبال سفينة نوح (والغراب) أي الأبقع كما في الرواية الآتية، قال الحافظ: زاد في رواية سعيد بن المسيب عن عائشة عند مسلم ((الأبقع)) وهو الذي في ظهره أو بطنه بياض. وأخذ بهذا القيد بعض أصحاب الحديث كما حكاه ابن المنذر وغيره وقد اختاره ابن خزيمة وهو قضية حمل المطلق على المقيد، قال ابن قدامة: يلتحق بالأبقع ما شاركه في الإيذاء وتحريم الأكل، وقد اتفق العلماء على إخراج الغراب الصغير الذي يأكل الحب من ذلك، ويقال له غراب الزرع، ويقال له ((الزاغ)) وأفتوا بجواز أكله فبقي ما عداه من الغربان ملتحقًا بالأبقع. ومنها الغداف على الصحيح في الروضة بخلاف تصحيح الرافعي، وسمى ابن قدامة

والحدأة والعقرب ـــــــــــــــــــــــــــــ الغداف ((غراب البين)) والمعروف عند أهل اللغة أنه الأبقع، قيل: سمى غراب البين لأنه بان عن نوح لما أرسله من السفينة ليكشف خبر الأرض فلقى جيفة فوقع عليها ولم يرجع إلى نوح، وكان أهل الجاهلية يتشاءمون به فكانوا إذا نعب مرتين قالوا: آذن بشر، وإذا نعب ثلاثًا قالوا: آذن بخير فأبطل الإسلام ذلك. وقال صاحب الهداية المراد بالغراب في الحديث الغداف والأبقع لأنهما يأكلان الجيف، وأما غراب الزرع فلا، وكذا استثناءه ابن قدامة، وما أظن فيه خلافًا، وعليه يحمل ما جاء في حديث أبي سعيد إن صح حيث قال فيه: ويرمي الغراب ولا يقتله، وروى ابن المنذر وغيره عن علي ومجاهد، وعند المالكية اختلاف آخر في الغراب والحدأة هل يتقيد جواز قتلهما بأن يبتدءا بالأذى، وهل يختص ذلك بكبارها والمشهور عنهم كما قال ابن شاس: لا فرق وفاقًا للجمهور، ومن أنواع الغربان الأعصم وهو الذي في رجليه أو في جناحيه أو بطنه بياض أو حمرة، وحكمه حكم الأبقع، ومنها العقعق وهو قدر الحمامة على شكل الغراب، قيل سمي بذلك لأنه يعق فراخه فيتركها بلا طعم، والعرب تتشاءم به أيضًا، وحكمه حكم الأبقع على الصحيح، وقيل حكم غراب الزرع. وقال أحمد: إن أكل الجيف وإلا فلا بأس به – انتهى كلام الحافظ باختصار. وقال الولي العراقي: إن مذاهب الأئمة الأربعة متفقة على أنه يستثنى من الأمر بقتل الغراب غراب الزرع خاصة، فإما أن يكونوا اعتمدوا التقييد الذي في حديث عائشة بالأبقع وألحقوا به ما في معناه في الأذى وأكل الجيف وهو الغداف، وإما أن يكونوا أخذوا بالروايات المطلقة وجعلوا التقييد بالأبقع لغلبته لا لاختصاص الحكم به، وأخرجوا عن ذلك غراب الزرع وهو الزاغ لحل أكله، فهو مستثنى منفصل (والحدأة) بكسر الحاء وفتح الدال المهملتين وبعد الدال همزة بغير مد، وحكى صاحب المحكم المد فيه ندورًا بزيادة الهاء فيه للوحدة وليست للتأنيث بل هي كالهاء في التمرة، وحكى الأزهري فيها حدوة بواو بدل الهمزة، وجمع الحدأة حدأ بكسر الحاء والقصر والهمز كعنبة وعنب، ووقع في حديث عائشة الآتي بلفظ (الحديا)) بضم الحاء وفتح الدال وتشديد التحتانية مقصور تصغير الحدأة، وقال القاري: ((الحديا)) تصغير حد، لغة في الحدإ أو تصغير حدأة، قلبت الهمزة بعد ياء التصغير ياء وأدغم ياء التصغير فيه فصار حدية ثم حذفت التاء وعوض عنها الألف لدلالته على التأنيث أيضًا وقال الحافظ: قال قاسم بن ثابت: الوجه فيه الهمزة وكأنه سهل ثم أدغم، وقيل: هي لغة حجازية وغيرهم يقولون حدية، ومن خواص الحداة أنها تقف في الطيران ويقال إنها لا تخطف إلا من يمين من تخطف منه دون شماله (والعقرب) يطلق على الذكر والأنثى سواء وجمعه العقارب، وقد يقال للأنثى عقربة وعقرباء ممدود غير مصروف، وليس منها العقربان بل هي دويبة طويلة كثيرة القوائم، قاله صاحب المحكم، ويقال: إن عينها في ظهرها وأنها لا تضر ميتًا ولا نائمًا حتى يتحرك، ويقال لدغته العقرب بالغين

والكلب العقور ". ـــــــــــــــــــــــــــــ المعجمة ولسعته بالمهملتين، وقد تقدم اختلاف الرواة في ذكر الحية بدلها ومن جميعها. قال الحافظ: والذي يظهر لي أنه - صلى الله عليه وسلم - نبه بإحداهما على الأخرى عند الاقتصار، وبين حكمهما معًا حيث جمع. قال ابن المنذر: لا نعلمهم اختلفوا في جواز قتل العقرب. وقال نافع: لما قيل له: فالحية؟ قال: لا يختلف فيها، وفي رواية ((ومن يشك فيها)) وتعقبه ابن عبد البر بما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق شعبة أنه سأل الحكم بن عتيبة وحماد بن أبي سليمان فقالا: لا يقتل المحرم الحية ولا العقرب، وقال: ومن حجتهما أن هذين من هوام الأرض فليزم من أباح قتلهما مثل ذلك في سائر الهوام. قال: وهذا اعتلال لا معنى له، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أباح للمحرم قتلهما، نعم عند المالكية خلاف في قتل صغير الحية والعقرب التي لا تتمكن من الأذى (والكلب العقور) قال الحافظ: الكلب معروف والأنثى كلبة. واختلف العلماء في المراد بها ها هنا وهل لوصفه بكونه عقورًا مفهوم أو لا. فروى سعيد بن منصور بإسناد حسن عن أبي هريرة قال: الكلب العقور الأسد، وعن سفيان عن زيد بن أسلم أنهم سألوه عن الكلب العقور فقال: وأي كلب أعقر من الحية؟ وقال زفر: المراد بالعقور هنا الذئب خاصة. وقال مالك في الموطأ: كل ما عقر الناس وعدا عليهم وأخافهم مثل الأسد والنمر والفهد والذئب هو العقور، وكذا نقل أبو عبيد عن سفيان وهو قول الجمهور، وقال أبو حنيفة: المراد بالكلب هنا الكلب المتعارف خاصة ولا يلتحق به في هذا الحكم سوى الذئب. واحتج للجمهور بقوله - صلى الله عليه وسلم -: اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك فقتله الأسد. وهو حديث حسن أخرجه الحاكم – انتهى. قال الشوكاني بعد ذكره: غاية ما في ذلك جواز الإطلاق لا أن اسم الكلب هنا متناول لكل ما يجوز إطلاقه عليه وهو محل النزاع فإن قيل: اللام في الكلب تفيد العموم. قلنا بعد تسليم ذلك: لا يتم إلا إذا كان إطلاق الكلب على كل واحد منها حقيقة وهو ممنوع، والسند أنه لا يتبادر عند إطلاق لفظ الكلب إلا الحيوان المعروف، والتبادر علامة الحقيقة وعدمه علامة المجاز، والجمع بين الحقيقة والمجاز لا يجوز، نعم إلحاق ما عقر من السباع بالكلب العقور بجامع العقر صحيح، وأما أنه داخل تحت لفظ الكلب فلا – انتهى. وقال النووي: اتفق العلماء على جواز قتل الكلب العقور للمحرم والحلال في الحل والحرم واختلفوا في المراد به، فقيل: هذا الكلب المعروف خاصة حكاه القاضي عن الأوزاعي وأبي حنيفة والحسن بن صالح وألحقوا به الذئب. وحمل زفر الكلب على الذئب وحده، وقال الجمهور: ليس المراد تخصيص هذا الكلب بل المراد كل عاد مفترس كالسبع والنمر، وهذا قول الثوري والشافعي وأحمد وغيرهم، ومعنى العاقر الجارح – انتهى، قال الحافظ: واختلف العلماء في غير العقور مما لم يؤمر باقتنائه فصرح بتحريم قتله القاضيان: حسين والماوردي وغيرهما، ووقع في الأم للشافعي الجواز، واختلف كلام النووي فقال في البيع من شرح المهذب: لا خلاف بين أصحابنا في أنه

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ محترم لا يجوز قتله، وقال في التيمم والغصب: إنه غير محترم، وقال في الحج: يكره قتله كراهة تنزيه، وهذا اختلاف شديد وعلى كراهة قتله اقتصر الرافعي وتبعه في الروضة وزاد أنها كراهة تنزيه، وقال الولي العراقي: سواء حمل الكلب على مدلوله المعروف أو على كل سبع مفترس فتقييده بالعقور يخرج غيره ويقتضي أن غير العقور من الكلاب محترم لا يجوز قتله، وبه صرح الرافعي في كتاب الأطعمة والنووي في البيع في شرح المهذب، وزاد أنه لا خلاف فيه بين أصحابنا، وقال الرافعي في الحج: إن قتله مكروه، وقال النووي: هناك مراده كراهة تنزيه، وذكر الرافعي في الغصب أنه غير محترم، وكذا ذكر النووي في التيمم، وهذه مواضع مختلفة، وقال شيخنا الأسنوي في المهمات: جزم بالتحريم القاضي الحسين والمارودي وإمام الحرمين، ومذهب الشافعي جواز قتله، صرح به في الأم في باب الخلاف في ثمن الكلب – انتهى. ومن يقول بجواز قتل غير العقور يجيب عن هذا التقييد بأنه للاستحباب وغير العقور يجوز قتله ولا يستحب، والله أعلم، ثم إنه قال الحافظ: وذهب الجمهور كما تقدم إلى إلحاق غير الخمس بها في هذا الحكم إلا أنهم اختلفوا في المعنى في ذلك فقيل لكونها مؤذية فيجوز قتل كل مؤذ، وهذا قضية مذهب مالك. وقيل لكونها مما لا يؤكل، فعلى هذا كل ما يجوز قتله لا فدية على المحرم فيه، وهذا قضية مذهب الشافعي، وقد قسم هو أصحابه الحيوان بالنسبة للمحرم إلى ثلاثة أقسام: قسم يستحب كالخمس وما في معناه مما يؤذي، وقسم يجوز كسائر ما لا يؤكل لحمه، وهو قسمان: ما يحصل منه نفع وضرر فيباح لما فيه من منفعة الاصطياد ولا يكره لما فيه من العدوان، وقسم ليس فيه نفع ولا ضرر فيكره قتله ولا يحرم، والقسم الثالث ما أبيح أكله أو نهي عن قتله ولا يجوز ففيه الجزاء إذا قتله المحرم، وخالف الحنفية فاقتصروا على الخمس إلا أنهم ألحقوا بها الحية لثبوت الخبر والذئب لمشاركته للكلب في الكلبية، وألحقوا بذلك ما ابتداء بالعدوان والأذى من غيرها. وتعقب بظهور المعنى في الخمس وهو الأذى الطبيعي والعدوان المركب، والمعنى إذا ظهر في المنصوص عليه تعدى الحكم إلى كل ما وجد فيه ذلك المعنى كما وافقوا عليه في مسائل الربا، قال ابن دقيق العيد: والتعدية بمعنى الأذى إلى كل مؤذ قوي بالإضافة إلى تصرف أهل القياس فإنه ظاهر من جهة الإيماء بالتعليل بالفسق وهو الخروج عن الحد، وأما التعليل بحرمة الأكل ففيه إبطال لما دل عليه إيماء النص من التعليل بالفسق، لأن مقتضى العلة أن يتقيد الحكم بها وجودًا وعدمًا، فإن لم يتقيد وثبت الحكم عند عدمها بطل تأثيرها بخصوصها وهو خلاف ما دل عليه ظاهر النص من التعليل بها – انتهى. وقال غيره: هو راجع إلى تفسير الفسق، فمن فسره بأنه الخروج عن بقية الحيوان بالأذى علل به، ومن قال بجواز القتل وتحريم الأكل علل به، وقال من علل بالأذى: أنواع الأذى مختلفة، وكأنه نبه بالعقرب على ما يشاركها في الأذى باللسع ونحوه من ذوات السموم كالحية والزنبور والبرغوث، وبالفارة على ما يشاركها في الأذى بالنقب والقرض كابن العرس،

متفق عليه. 2724 – (4) وعن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: " خمس فواسق يقتلن ـــــــــــــــــــــــــــــ وبالغراب والحدأة على ما يشاركها بالاختطاف كالصقر والبازي، وبالكلب العقور على ما يشاركه في الأذى بالعدوان والعقر والافتراس بطبعه كالأسد والنمر والفهد. وقال من علل بتحريم الأكل وجواز القتل: إنما اقتصر على الخمس لكثرة ملابستها للناس بحيث يعم أذاها، والتخصيص لأجل الغلبة إذا وقع لم يكن له مفهوم على ما عرف في الأصول. قلت: وفي مذهب الحنيفة في السباع وفي قتل غير العقور روايتان كما يظهر من فروعهم من شاء الوقوف على ذلك رجع إلى الهداية والدر المختار وشرح اللباب وفتح القدير والبدائع، وهذا وقد أطنب الولي العراقي على عادته في شرح حديث ابن عمر وعائشة في طرح التثريب (ج 5: ص 56 – 72) وأجمل المحب الطبري في القرى (ص 215، 216) فأحسن فراجعهما إن شئت (متفق عليه) أخرجه البخاري في الحج وفي بدء الخلق المسلم في الحج، وأخرجه أيضًا احمد (ج 2: ص 3، 8، 32، 37، 38، 54، 65، 77، 82، 138) ومالك وأبو داود والنسائي وابن ماجة وعبد الرزاق (ج 4: ص 442) والطحاوي والدرامي وابن الجارود (ص 155) والبيهقي (ج 5: ص 209، 210) وغيرهم. 2724 – قوله (خمس) بالتنوين مبتدأ، وقوله (فواسق) صفته وهو غير منصرف والخبر قوله (يقتلن) قال الطيبي: وروى بلا تنوين مضافًا إلى فواسق، قال التوربشتي: والصحيح هو الأول، ويدل عليه رواية البخاري في أحد طرقه ((خمس من الدواب كلهن فاسق)) أي كل واحدة أو واحد منها فاسق، وهو جمع فاسقة، وأراد بفسقهن خبثهن وكثرة الضرر فيهن – انتهى. وقال النووي: هو بإضافة خمس لا بتنوينه، وجوز ابن دقيق العيد الوجهين وأشار إلى ترجيح الثاني فإنه قال: رواية الإضافة تشعر بالتخصيص فيخالفها غيرها في الحكم من طريق المفهوم، ورواية التنوين تقتضي وصف الخمس بالفسق من جهة المعنى فيشعر بأن الحكم المرتب على ذلك وهو القتل معلل بما جعل وصفًا وهو الفسق فيدخل فيه كل من فاسق من الدواب، ويؤيده رواية البخاري من طريق يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة بلفظ ((خمس من الدواب كلهن فاسق)) وفي رواية لمسلم ((كلها فواسق)) قال الحافظ: قال النووي وغيره: تسمية هذه الخمس فواسق تسمية صحيحة جارية على وفق اللغة، فإن أصل الفسق لغة الخروج، ومنه فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها، وقوله تعالى: {ففسق عن أمر ربه} (سورة الكهف: الآية 48) أي خرج، وسمي الرجل فاسقًا لخروجه عن طاعة ربه فهو خروج مخصوص، وزعم ابن الأعرابي أنه لا يعرف في كلام الجاهلية ولا شعرهم فاسق يعني بالمعنى الشرعي، وأما المعنى في وصف الدواب المذكورة بالفسق فقيل لخروجها عن حكم غيرها من الحيوان في تحريم قتله، وقيل في حل أكله لقوله تعالى: {أو فسقًا أهل لغير الله به} (سورة الأنعام: الآية 146) وقوله: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه، وإنه لفسق} (سورة الأنعام: الآية 121) وقيل لخروجها عن حكم غيرها بالإيذاء والإفساد

(الفصل الثاني)

في الحل والحرم: الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحديا ". متفق عليه. (الفصل الثاني) 2725 – (5) عن جابر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لحم الصيد لكم في الإحرام حلال ـــــــــــــــــــــــــــــ وعدم الانتفاع، ومن ثم اختلف أهل الفتوى، فمن قال بالأول ألحق بالخمس كل ما جاز قتله للحلال في الحرم وفي الحل، ومن قال بالثاني ألحق ما لا يؤكل إلا ما نهي عن قتله، وهذا قد يجامع الأول، ومن قال بالثالث يخص الإلحاق بما يحصل منه الإفساد، ووقع في حديث أبي سعيد عند ابن ماجة ((قيل له لم قيل للفارة فويسقة؟ فقيل: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استيقظ وقد أخذت الفتلية لتحرق بها البيت)) فهذا يؤمي إلى أن سبب تسمية الخمس بذلك لكون فعلها يشبه فعل الفساق وهو يرجح القول الأخير، والله أعلم (في الحل والحرم) أي حلالاً كان أو محرمًا (الحية) بأنواعها وفي معناها العقرب، (والغراب الأبقع) أي الذي فيه سواد وبياض (والكلب العقور) قال الحافظ: في الكلب بهيمية وسبعية كأنه مركب، وفيه منافع للحراسة والصيد، وفيه من اقتفاء الأثر وشم الرائحة والحراسة وخفة النوم والتودد وقبول التعليم ما ليس لغيره وقيل: إن أول من اتخذه للحراسة نوح عليه السلام (والحديا) بصيغة التصغير. قال التوربشتي: إنما خص هذه الخمس من الدواب المؤذية والضارية وذوات السموم لما أطلعه الله تعالى عليه من مفاسدها أو لأنها أقرب ضررًا إلى الإنسان وأسرع في الفساد، وذلك بغير تمكن الإنسان من دفعها والاحتراز عنها، فإن منها ما يطير فلا يدرك ومنها ما يختبئ في نفق من الأرض كالمنتهز للفرصة، فإذا أمكن من الصرر يبادر إليه، وإذا أحس بطلب استكن، ومنها ما لا يمتنع بالكف والزجر بل يصول صولة العدو المباسل، وقد يصيب المعرض عنه بالمكروه كما يصيب المتعرض له، ثم إنه يتمكن من الهجوم على الإنسان لمخالطته بهم ولا كذلك السباع العادية فإنها متنفرة عن العمرانات في أماكنها يتخذ الإنسان منها حذره – انتهى. واستدل بالحديث على جواز قتل من لجأ إلى الحرم ممن وجب عليه القتل، لأن إباحة قتل هذه الأشياء معلل بالفسق، والقاتل فاسق فيقتل، بل هو أولى لأن فسق المذكورات طبيعي والمكلف إذا ارتكب الفسق هاتك لحرمة نفسه فهو أولى بإقامة مقتضى الفسق عليه. وأشار ابن دقيق العيد إلى أنه بحث قال للنزاع، وسيأتي بسط القول في ((باب حرم مكة)) إن شاء الله (متفق عليه) أخرجه البخاري في الحج وفي بدء الخلق ومسلم في الحج وأخرجه أيضًا أحمد مرارًا والنسائي والترمذي وابن ماجة والدرامي وعبد الرزاق (ج 4: ص 422) والبيهقي (ج 5: ص 209) . 2725 – قوله (لحم الصيد في الإحرام حلال) يعني لحم صيد ذبحه حلال من غير دلالة المحرم وإعانته وإشارته وأمره حلال لكم، وقوله ((لحم الصيد لكم في الإحرام حلال)) كذا في جميع نسخ المشكاة والمصابيح، وهكذا

ما لم تصيدوه أو يصاد لكم ". ـــــــــــــــــــــــــــــ رواه الشافعي في الأم (ج 2: ص 176) ولفظ أبي داود والنسائي وابن حبان كما في الموارد (ص 243) والبيهقي (ج 5: ص 190) ((صيد البر (أي مصيده) لكم حلال)) وزاد أحمد (ج 3: ص 362) وعبد الرزاق (ج 4: ص 434) والترمذي والدراقطني (ص 285) ((وأنتم حرم)) (بضمتين جمع حرام بمعنى المحرم كردح جمع رداح ويقال رجل حرام وامرأة حرام) وفي رواية الحاكم ج 1: ص352) وابن الجارود (ص 154) ((لحم صيد البر لكم حلال وأنتم حرم)) وكذا وقع في رواية للبيهقي (ج 5: ص 190) (ما لم تصيدوه) أي بأنفسكم مباشرة (أو يصاد لكم) أي لأجلكم، وقوله ((يصاد)) كذا بالألف عند أبي داود والنسائي والدارقطني وابن حبان والبيهقي والطحاوي، ووقع عند أحمد (ج 3: ص 362) والترمذي وابن الجارود والشافعي ((أو يصد لكم)) أي مجزومًا بدون الألف، وهكذا وقع في رواية للحاكم كما قال الحافظ في التلخيص (ص 225) وهكذا وقع عند أحمد (ج 3: ص 387) ويؤيد ذلك ما وقع عنده أيضًا (ج 3: ص 389) بلفظ ((لحم الصيد حلال للمحرم ما لم يصده أو يصده له)) ورواه عبد الرزاق بلفظ ((إلا ما اصطدتم أو اصطيد لكم)) ورواية الجزم أي بدون الألف ظاهرة لا إشكال فيها فأنها جارية على قوانين العربية، لأن قوله ((أو يصد)) معطوف على المجزوم، وأما رواية الألف فقيل هي جارية على لغة منها قول الشاعر: ألم يأتيك والأخبار تنمى ومنها قوله تعالى: ((ومن يتقي ويصبر)) سورة يوسف: الآية 90 بإثبات الياء ولا يخفى ما فيه، وقال السندي الوجه نصب ((يصاد)) على أن ((أو)) بمعنى ((إلا أن)) فلا إشكال – انتهى. وقال القاري: قال بعض علمائنا: بالنصب بإضمار أن وأو بمعنى إلا يعني لحم صيد ذبحه حلال من غير دلالة المحرم وإعانته حلال لكم إلا أن يصاد لأجلكم وبهذا يستدل مالك والشافعي على حرمة لحم ما صاده الحلال لأجل المحرم، قلت: ما ذهب مالك والشافعي هو مذهب جمهور العلماء كما قدمنا في أول الباب، واحتج لهم بحديث جابر: فما صاده الحلال لأجل المحرم حرم على المحرم وما لم يصده لأجله حل له، وقد صح هذا التفصيل عن عثمان بن عفان، وأراد هؤلاء بهذا التفصيل الجمع بين الأحاديث المطلقة في التحريم أو الجواز لأن كلها صحيح لا يمكن رده، وبالجمع المذكور تجتمع الأدلة وإعمالها أحسن من إهمال بعضها مع صحتها وهو جمع مستقيم ليس فيه تكلف أو تعسف. قال الشنقيطي: أظهر الأقوال وأظهرها دليلاً هو القول المفصل بين ما صيد لأجل المحرم فلا يحل له وبين ما صاده الحلال لا لأجل المحرم، فإنه يحل له، والدليل على هذا أمران: الأول أن الجمع بين الأدلة واجب متى ما أمكن، لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما ولا طريق للجمع إلا هذا الطريق ومن عدل عنها لا بد أن يلغي نصوصًا صريحة. الثاني حديث جابر الذي نحن في شرحه، قلت: وهو صريح في الفرق

............................................................................................ ـــــــــــــــــــــــــــــ والجمع المذكور، وظاهر في الدلالة لمذهب الجمهور. قال الشوكاني: هذا الحديث صريح في التفرقة بين أن يصيده المحرم أو يصيده غيره له، وبين أن لا يصيده المحرم ولا يصاد له بل يصيده الحلال لنفسه ويطعمه المحرم ومقيد لبقية الأحاديث المطلقة كحديث الصعب وطلحة وأبي قتادة ومخصص لعموم الآية المتقدمة يعني أنه يحمل ما جاء مطلقًا في بعض طرق حديث أبي قتادة ونحوه على أنه لم يقصدهم باصطياده، ويحمل حديث الصعب وما وافقه على أنه قصدهم باصطياده لأنه كان عالمًا بأنه يمر به فصاده لأجله، وتحمل الآية الكريمة على الاصطياد وعلى لحم ما صيد للمحرم للأحاديث المبينة من الآية، ويؤيد ذلك حديث أبي قتادة عند أحمد وابن ماجة وعبد الرزاق والدارقطني والبيهقي وابن خزيمة وفيه ((وذكرت أني لم أكن أحرمت وإني إنما اصطدته لك فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه، فأكلوا ولم يأكل منه حين أخبرته أني اصطدته له)) وقد تقدم الكلام عليه. هذا وأجاب الحنفية عن حديث جابر بثلاثة أوجه: أحدها تأويله بحيث لا يخالف مذهبهم بل يوافقه، والثاني الكلام في سنده وإعلاله، والثالث ترجيح حديث أبي قتادة وتقديمه على حديث جابر أما التأويل فبوجوه وكلها مخدوشة باطلة لا يخفى بطلانها على المنصف فمنها ما قال صاحب الهداية والطحاوي أن معناه أن يصاد لكم بأمركم، وهذا لأن الغالب في عمل الإنسان لغيره أن يكون بطلب منه، ومنها ما قاله صاحب الهداية أيضًا أن اللام في أو يصاد لكم للملك، والمعنى أن يصاد ويجعل له فيكون تمليك عين الصيد من المحرم وهو ممتنع أن يتملكه فيأكل من لحمه، وقال القاري: وأبو حنيفة رحمه الله يحمله على أن يهدى إليكم الصيد دون اللحم انتهى. ويبطل هذا التأويل رواية الحديث بلفظ ((لحم الصيد لكم حلال)) إلخ. ومنها ما قيل: ((إن لكم)) بمعنى ((إعانتكم)) أو ((إشارتكم)) قال النبوري بعد ذكره: هذا تأويل محض لا يطمئن بمثله القلب. قلت: وهو نحو ما تقدم من تأويل صاحب الهداية والطحاوي. ومنها ما قيل: إن اللام ليس في معنى ((لأجلكم)) بل هي للتوكيل كما في قوله بعت له ثوبًا، واشتريت له لحمًا، وإذا احتمل كلا الوجهين لم يبق حجة في الحمل على الوجه الأول، وفيه أن الوجه الأول هو المتعين أعني أن اللام في ((لكم)) بمعنى لأجلكم لا للتوكيل يدل عليه رواية أبي قتادة عند أحمد وابن ماجة وغيرهما بلفظ ((ولم يأكل منه حين أخبرته أني اصطدته له)) ويدل عليه أيضًا قول عثمان رضي الله عنه حين أبي من أكل لحم الصيد ((إني لست كهيئتكم، إنما صيد لأجلي)) ومنها ما قال بعضهم إن غرض الحديث كما قاله الجمهور، ولكن ليس الغرض المنع والحرمة وإنما الغرض الكراهة فقط، والنهي من قبيل سد الذرائع، كما أنه عليه الصلاة والسلام أخذ صيد أبي قتادة بيانًا للجواز ولم يأخذ صيد صعب بن جثامة لسد الزرائع، وفيه أن حمله على الكراهة فقط بعيد جدًا لأنه خلاف الظاهر ويبطله أيضًا رواية أبي قتادة عند أحمد وابن ماجة والحكم عليها بالوهم من غير دليل ليس مما يلتفت إليه، وأما الجواب عن حديث جابر بالكلام في سنده فهو أن في إسناد هذا الحديث عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب بن

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ عبد الله بن حنطب عن مولاه المطلب عن جابر بن عبد الله، وعمرو مختلف فيه، فقال الدوري عن ابن معين: في حديثه ضعف، ليس بالقوى، وقال ابن أبي خثيمة عن ابن معين: ضعيف: وقال النسائي: ليس بالقوي وقد اضطرب هو في هذا الحديث فقال أكثر أصحابه عنه عن المطلب بن عبد الله عن جابر بن عبد الله، وقال الدراوردي عنه عن رجل من بني سلمة عن جابر، وهو عند الشافعي والدارقطني والبيهقي والحاكم، وقال يوسف بن خالد السمتي عنه عن المطلب بن عبد الله عن أبي موسى الأشعري، وهو عند الطبراني في الكبير وابن عدي في الكامل، ووافقه إبراهيم بن سويد عن عمرو عند الطحاوي، والمطلب بن عبد الله قال فيه ابن سعد: ليس يحتج بحديثه لأنه يرسل كثيرًا وليس له لقي وعامة أصحابه يدلسون. وقال الحافظ في التقريب: المطلب بن عبد الله بن المطلب بن حنطب، صدوق كثير التدليس والإرسال، وقال الترمذي: لا يعرف له سماع عن جابر، وقال في موضوع آخر: قال محمد يعني البخاري: لا أعرف له سماعًا من أحد من الصحابة إلا قوله: حدثني من شهد خطبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال ابن أبي الحاتم في المراسيل عن أبيه لم يسمع من جابر، وعلى هذا فالحديث مرسل، قال ابن التركماني: هذا الحديث معلول، عمرو بن أبي عمرو مع اضطرابه في هذا الحديث متكلم فيه، قال ابن معين وأبو داود: ليس بالقوي. زاد يحيى: وكان مالك يستضعفه، وقال السعدي: مضطرب الحديث، والمطلب قال فيه ابن سعد: ليس يحتج بحديثه لأنه يرسل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرًا وعامة أصحابه يدلسون، ثم الحديث مرسل أي منقطع، قال الترمذي: المطلب لا يعرف له سماع من جابر، فظهر بهذا أن الحديث فيه أربع علل: إحداها الكلام في المطلب، ثانيتها أنه ولو كان ثقة فلا سماع له من جابر فالحديث مرسل، ثالثتها الكلام في عمرو، ورابعتها أنه ولو كان ثقة فقد اختلف عليه فيه كما مر وقد أخرجه الطحاوي من وجه آخر عن المطلب عن أبي موسى، وقال ابن حزم في المحلى: هو خبر ساقط – انتهى. وأجيب أن هذا كله ليس فيه ما يقتضي ضعف هذا الحديث ورده، لأن عمرو المذكور ثقة وهو من رجال البخاري ومسلم، وممن روى عنه مالك بن أنس وكل ذلك يدل على أنه ثقة، وقال الحافظ في التقريب: ثقة ربما وهم. وقال فيه النووي في شرح المهذب: أما تضعيف عمرو بن أبي عمرو فغير ثابت لأن البخاري ومسلمًا رويا له في صحيحيهما واحتجا به وهما القدوة في هذا الباب، وقد احتج به مالك وروى عنه وهو القدوة وقد عرف من عادته أن لا يروي في كتابه إلا عن ثقة، وقال أحمد بن حنبل فيه: ليس به بأس، وقال أبو زرعة: هو ثقة، وقال أبو حاتم: لا بأس به، وقال ابن عدي: لا بأس به لأن مالكًا روى عنه ولا يروي مالك إلا عن صدوق ثقة، قلت: وقد عرف أن الجرح لا يقبل ولا يثبت إلا مفسرًا، ولم يفسره ابن معين والنسائي بما يثبت تضعيف عمرو المذكور، وقال الشيخ ولي الدين: قد تبع النسائي على هذا ابن حزم وسبقهما إلى تضعيفه يحيى بن معين وغيره، لكن وثقه أحمد وأبو زرعة وأبو حاتم وابن عدي وغيرهم، وأخرج له الشيخان في

............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ صحيحيهما وكفى بهما فوجب قبول خبره وقد سكت عنه أبو داود على خبره فهو عنده حسن أو صحيح كذا ذكر السندي. قلت: وصححه الحاكم وقال: إنه على شرط الشيخين، وقرره الذهبي، وقال الشافعي: هذا أحسن حديث روي في هذا الباب وأقيس، وأما إعلال الحديث بأن عمروا اضطرب في هذا الحديث وأنه اختلف عليه فيه فالجواب أن الاضطراب والاختلاف إنما يضر إذا تساوت الطرق ولم يترجح واحد منها بوجه من وجوه الترجيح كما تقرر في موضعه، وأما إذا ترجح واحد منها فيقدم هو على غيره فإنه لا يعل الراجح بالمرجوح، وها هنا رواية من روى عن عمرو عن المطلب عن جابر أرجح من رواية من روى عن عمرو عن رجل عن جابر لكثرة من روى بعدم ذكر الواسطة، ولذا قال الحاكم بعد روايته من طريق يعقوب بن عبد الرحمن ويحيى بن عبد الله بن سالم عن عمرو عن المطلب عن جابر: وهكذا رواه مالك بن أنس وسليمان بن بلال ويحيى بن عبد الله بن سالم عن عمرو بن أبي عمرو متصلاً مسندًا،، ثم أخرج أحاديثهم ثم أخرجه من طريق الشافعي، أخبرنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو عن رجل من بني سلمة عن جابر، قال الحاكم: وهذا لا يعلل حديث مالك وسليمان بن بلال ويعقوب بن عبد الرحمن الاسكندراني فإنهم وصلوه وهم ثقات – انتهى، كذا في نصب الراية، وأما الاختلاف عليه في الصحابي فلا يضر أيضًا فإن يوسف بن خالد السمتي متروك، وأما رواية إبراهيم بن سويد عند الطحاوي فقال الحافظ في التلخيص بعد ذكرها: قد خالفه إبراهيم بن أبي يحيى وسليمان بن بلال والدراوردي ويحيى بن عبد الله بن سالم ويعقوب بن عبد الرحمن ومالك فيما قيل وآخرون وهم أحفظ منه وأوثق – انتهى. وأما إعلال هذا الحديث بعدم سماع المطلب من جابر وكون الحديث مرسلاً فقد أجاب عنه الشنقيطي بأن قول الترمذي المذكور وكذا قول البخاري ليس في شيء من ذلك ما يقتضي رد روايته لما قدمنا في سورة النساء من أن التحقيق هو الاكتفاء بالمعاصرة ولا يلزم ثبوت اللقي، وأحرى ثبوت السماع كما أوضحه مسلم في مقدمة صحيحه بما لا مزيد عليه مع أن البخاري ذكر في كلامه هذا الذي نقله عنه الترمذي أن المطلب مولى عمرو المذكور صرح بالتحديث ممن سمع خطبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو تصريح بالسماع من بعض الصحابة بلا شك، وقال النووي في شرح المهذب: وأما إدراك المطلب لجابر فقال ابن أبي حاتم (في الجرح والتعديل) : وروى عن جابر قال: ويشبه أن يكون أدركه، هذا هو كلام ابن أبي حاتم، فحصل شك في إدراكه، ومذهب مسلم الذي ادعى في مقدمة صحيحه الإجماع فيه أنه لا يشترط في اتصال الحديث اللقاء بل يكتفي بإمكانه، والإمكان حاصل قطعًا، ومذهب علي بن المديني والبخاري والأكثرين اشتراط ثبوت اللقاء، فعلى مذهب مسلم الحديث متصل، وعلى مذهب الأكثرين يكون مرسلاً لبعض كبار التابعين، وقد سبق أن مرسل التابعي الكبير يحتج به عندنا إذا اعتضد بقول الصحابة أو قول أكثر العلماء أو غير ذلك مما سبق، وقد اعتضد هذا الحديث فقال به من

رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي. ـــــــــــــــــــــــــــــ الصحابة من سنذكره في فرع مذاهب العلماء – انتهى كلام النووي. قال الشنقيطي: فظهرت صحة الاحتجاج بالحديث المذكور على كل التقديرات على مذاهب الأئمة الأربعة، لأن الشافعي منهم هو الذي لا يحتج بالمرسل، وقد عرفت احتجاجه بهذا الحديث على تقدير إرساله، قال الشنقيطي: نعم يشترط في قبول رواية المدلس التصريح بالسماع والمطلب المذكور مدلس لكن مشهور مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد صحة الاحتجاج بالمرسل لا سيما إذا اعتضد بغيره كما ها هنا وقد علمت من كلام النووي موافقة الشافعية، ومن المعلوم أن من يحتج بالمرسل يحتج بعنعنة المدلس من باب أولى، فظهرت صحة الاحتجاج بالحديث المذكور عند مالك وأبي حنيفة وأحمد مع أن هذا الحديث له شاهد عند الخطيب وابن عدي من رواية عثمان بن خالد المخزومي عن مالك عن نافع عن ابن عمر كما نقله الحافظ في التلخيص (والزيلعي في نصب الراية) وهو يقويه وإن كان عثمان المذكور ضعيفًا لأن الضعيف يقوي المرسل كما عرف في علوم الحديث، فالظاهر أن حديث جابر هذا صالح وأنه نص في محل النزاع، وهو جمع بين هذه الأدلة بعن الجمع الذي ذكرنا أولاً، فاتضح بهذا أن الأحاديث الدالة على منع أكل المحرم مما صاده الحلال كلها محمولة على أنه صاده من أجله، وأن الأحاديث الدالة على إباحة الأكل منه محمولة على أنه لم يصده من أجله – انتهى كلام الشنقيطي. وأما الوجه الثالث مما أجاب به الحنيفة عن حديث جابر وهو ترجيح حديث أبي قتادة عليه فقال ابن الهمام في تقريره إن في حديث أبي قتادة أنهم لما سألوه عليه السلام لم يجب بحله لهم حتى سألهم عن موانع الحل أكانت موجودة أم لا؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها أو إشارة إليها؟ قالوا: لا. قال: فكلوا إذا. فلو كان من الموانع أن يصاد لهم لنظمه في سلك ما يسئل عنه منها في التفحص عن الموانع ليجيب بالحكم عند خلوه عنها، وهذا المعنى كالصريح في نفي كون الاصطياد للمحرم مانعًا فيعارض حديث جابر، ويقدم عليه لقوة ثبوته إذ هو في الصحيحين وغيرهما من الكتب الستة بخلاف ذلك بل قيل في حديث جابر انقطاع يعني فالأولى هو ترجيح حديث أبي قتادة، وتعقب بأنه لا تعارض بين الحديثين، فإن في رواية أبي قتادة عند أحمد وابن ماجة وعبد الرزاق وغيرهم أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأكل من صيده حين أخبره أبو قتادة أنه اصطاده له وعلى هذا فحديث أبي قتادة موافق لحديث جابر لا معارض (رواه أبو داود) إلخ. وأخرجه أيضًا أحمد (ج 3: ص 362، 387، 389) وابن خزيمة وابن حبان والحاكم (ج 1: ص 452) والدراقطني (ص 285) والبيهقي (ج 5: ص 190) وعبد الرزاق (ج 4: ص 435) والشافعي في الأم (ج 2: ص 176) وابن الجارود في المنتقى (ص 154) والطحاوي (ج 1: ص 388) من حديث عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب عن مولاه المطلب عن جابر وهو إسناد صالح حسن أو صحيح وقد تقدم الكلام والبحث في هذا فتذكر.

2726 – (6) وعن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: " الجراد من صيد البحر ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2726 – قوله (الجراد) بفتح الجيم وتخفيف الراء حيوان معروف، والواحدة جرادة، والذكر والأنثى سواء كالحمامة، ويقال: إنه مشتق من الجرد لأنه لا ينزل على شيء إلا جرده. قال الدميري: هو مشتق من الجرد والاشتقاق في أسماء الأجناس قليل جدًا. يقال ثوب جرد أي أملس، وهو نوعان بري وبحري، وهو أصناف مختلفة فبعضه كبير الجثة وبعضه صغيرها وبعضه أحمر وبعضه أصفر وبعضه أبيض، وإذا خرج من بيضه يقال له الدَّبيّ فإذا طالت أجنحته وكبرت فهو الغوغاء الواحدة غوغاة وذلك حين يموج بعضه في بعض. فإذا بدت فيه الألوان واصفرت الذكور واسودت الإناث سمى جرادًا حينئذ، ولها ست أرجل، يدان في صدرها وقائمتان في وسطها ورجلان في مؤخرها وطرفا رجليها منشاران، وهو من الحيوان الذي ينقاد لرئيسه فيجتمع كالعسكر إذا ظعن أوله تتابع جميعه ظاعنًا، وإذا نزل أوله نزل جميعه. قال: وفي الجراد خلقة عشرة من جبابرة الحيوان مع ضعفه: وجه فرس وعينًا فيل وعنق ثور وقرنا أيل وصدر أسد وبطن عقرب وجناحا نسر وفخذا جمل ورجلا نعامة وذنب حية – انتهى. وقال الحافظ في الفتح: وخلقة الجراد عجيبة فيها عشر من الحيوانات ذكر بعضها ابن الشهرزوري في قوله: لها فخذ بكر وساقا نعامة _ ... وقادمتا نسر وجؤجؤ ضيغم حبتها أفاعي الرمل بطنا وأنعمت _ ... عليها جياد الخيل بالرأس والفم قيل: وفاته عين الفيل وعنق الثور وقرن الأيل وذنب الحية، وهو صنفان: طيار ووثاب، ويبيض في الصخر ويتركه حتى ييبس وينتشر فلا يمر بزرع إلا اجتاحه (من صيد البحر) قيل إن الجراد يتولد من الحيتان كالديدان فيدسرها البحر ويطرحها إلى الساحل. وقيل: فيه بيان لأول خلقه فروى الباجي عن كعب قال: خرج أوله من منخر حوت فأفاد أن أول خلقه من ذلك قال الزرقاني. وفيه دليل على أن الجراد من صيد البحر وأنه في حكمه فلا جزاء في قتله، ويؤيده حديث جابر وأنس عند ابن ماجة مرفوعًا ((إن الجراد نثرة الحوت في البحر)) لكن الحديثين ضعيفان كما ستعرف، واختلف العلماء في ذلك فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد في رواية: إنه من صيد البر وفيه الجزاء، قال النووي في شرح المهذب: يجب الجزاء على المحرم بإتلاف الجراد عندنا، وبه قال عمر وعثمان وابن عباس وعطاء. قال العبدري: وهو قول أهل العلم كافة إلا أبا سعيد الأصطخري قال: لا جزاء فيه، وحكاه ابن المنذر عن كعب الأحبار وعروة بن الزبير قالوا: هو من صيد البحر فلا جزاء فيه، واحتج لهم بحديث أبي المهزم عن أبي هريرة يعني حديث الباب، ثم قال: واتفقوا على تضعيفه لضعف أبي المهزم – انتهى. وقال ابن قدامة: اختلفت الرواية أي عن الإمام أحمد في الجراد فعنه هو من صيد البحر لا جزاء فيه وهو مذهب أبي سعيد. قال ابن المنذر: قال ابن عباس وكعب: وهو من

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ صيد البحر، وقال عروة: هو نثرة حوت، ثم ذكر حديث أبي هريرة ثم: قال وروي عن أحمد أنه من صيد البر وفيه الجزاء وهو قول الأكثرين لما رواه الشافعي في مسنده عن عمر أنه قال لكعب في جرادتين: ما جعلت في نفسك؟ قال: درهمان. قال: بخ! درهمان خير من مائة جرادة، ولأنه طير يشاهد طيرانه في البر ويهلكه الماء إذا وقع فيه فأشبه العصافير، فعلى هذا يضمنه بقيمته لأنه لا مثل له، وهو قول الشافعي، وعن أحمد: يتصدق بتمرة عن الجرادة، وهو يروي عن عمر وعبد الله بن عمر، وقال ابن عباس: قبضة من طعام. قال القاضي: هذا محمول على أنه أوجب ذلك على طريق القيمة، والظاهر أنهم لم يريدوا بذلك التقدير وإنما أرادوا أن فيه أقل شيء – انتهى. وقال الحافظ في الفتح بعد ذكر حديث أبي هريرة: وسنده ضعيف، فلو صح لكان فيه حجة لمن قال: لا جزاء فيه إذا قتله المحرم، وجمهور العلماء على خلافه. قال ابن المنذر: لم يقل لا جزاء فيه غير أبي سعيد الخدري وعروة بن الزبير، واختلف عن كعب الأحبار، وإذا ثبت فيه الجزاء دل على أنه بري – انتهى. والقول الراجح المعول عليه أن الجراد من صيد البر فيجب الجزاء على المحرم في قتله وهو قول عامة العلماء من الصحابة والتابعين وغيرهم إلا أبا سعيد الخدري وعروة بن الزبير، واختلفت الرواية في ذلك عن كعب، وأما حديث أبي هريرة وأنس فضعيف بالاتفاق لا يصلح للاحتجاج كما سيأتي، وأيضًا تدفعه المشاهدة والحس لاستقراره في البر وإرزازه في الأرض وتقوته بما يخرجه الأرض من نباتها وثمراتها. قال النووي: ودعوى أنها بحري لا تقبل بغير دليل وقد دلت الأحاديث الصحيحة والإجماع على أنه مأكول فيجب جزاءه كغيره والله أعلم – انتهى. والظاهر أنه إنما عده من صيد البحر لأنه يشبه صيد البحر من حيث أنه يحل ميتته ولا يفتقر إلى التذكية يعني أنه جعله من صيد البحر لمشاركته صيد البحر في حكم الأكل منه من غير تذكية على ما ورد به الحديث ((أحلت لنا ميتتان)) إلخ. وقيل: إن الجراد على نوعين بحري وبري فيعمل في كل منهما بحكمه، ثم إنهم اختلفوا في أصله على أقوال، فقيل: أنه نثرة حوت كما تقدم، وقيل: متولد من روث السمك حكاه العيني، وقيل: أنه يتولد من الحيتان فيطرحها البحر إلى الساحل، وقيل: أول خلقه من نثرة الحوت كما سبق، وقال الباجي: روي عن سعيد بن المسيب أن الله تعالى خلق الجراد مما بقي من طينة آدم، ورواه عبد الرزاق (ج 4: ص 531) عن معمر عن الزهري عن ابن المسيب قال: لم يخلق الله بعد آدم شيئًا إلا الجراد بقي من طينته شيء فخلق منها الجراد، وهذا أيضًا لا يعرف إلا بخير نبي، ولا نعلم في ذلك خبرًا يثبت فلا يصح التعلق بشيء من ذلك – انتهى. وقال الحافظ: اختلف في أصله فقيل: أنه نثرة حوت فلذلك كان أكله بغير ذكاة، وهذا ورد في حديث ضعيف أخرجه ابن ماجة عن أنس رفعه ((إن الجراد نثرة حوت من البحر)) ومن حديث أبي هريرة ((خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حج أو عمرة فاستقبلنا رجل من جراد فجعلنا نضرب بنعالنا وأسواطنا فقال: كلوه فإنه من صيد البحر)) أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة وسنده ضعيف، إلى آخر ما نقلنا

رواه أبو داود، والترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ من كلامه قبل ذلك. هذا والحديث يدل أيضًا على جواز أكل الجراد مطلقًا وقد حكى غير واحد من أهل العلم الإجماع على إباحة أكله، لكن فصل ابن العربي في شرح الترمذي بين جراد الحجاز وجراد الأندلس، فقال في جراد الأندلس: لا يؤكل لأنه محض، وهذا إن ثبت أنه يضر أكله بأن يكون فيه سمية تخصه دون غيره من الجراد البلاد تعين استثناؤه، كذا في الفتح. قال الدميري: أجمع المسلمون على إباحة أكله، وقد قال عبد الله بن أبي أوفى: غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبع غزوات نأكل الجراد، رواه أبو داود والبخاري، وزاد أبو نعيم ((ويأكله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معنا)) وروى ابن ماجة عن أنس: كن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يتهادين الجراد في الأطباق. وفي الموطأ أن عمر رضي الله عنه سئل عن الجراد فقال: إن عندى قفة آكل منها – انتهى. وقال النووي: أجمع المسلمون على إباحة أكل الجراد، ثم قال الشافعي وأبو حنفية والجماهير: يحل سواء مات بذكاة أو باصطياد مسلم أو مجوسي، أو مات حتف أنفه، وقال مالك في المشهور عنه وأحمد في رواية: يحل إذا مات بسبب بأن يقطع بعضه أو يلقى في النار حيًا فإن مات حتف أنفه لا يحل، وقال الحافظ: قد أجمع العلماء على جواز أكله بغير تذكية إلا أن المشهور عند المالكية اشتراط تذكيته، واختلفوا في صفتها فقيل بقطع رأسه، وقيل: إن وقع في قدر أو نار حل، وقال ابن وهب: أخذه ذكاته، ووافق مطرف منهم الجمهور في أنه لا يفتقر إلى ذكاته لحديث ابن عمر: ((أحلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال)) أخرجه أحمد والدارقطني مرفوعًا، وقال إن الموقوف أصح، ورجح البيهقي أيضًا الموقوف، إلا أنه قال: إن له حكم الرفع – انتهى. وقال ابن قدامة (ج 8: ص 572) : يباح أكل الجراد بإجماع أهل العلم وقد قال عبد الله بن أبي أوفى: غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبع غزوات نأكل الجراد. رواه البخاري. ولا فرق بين أن يموت بسبب أو بغير سبب في قول عامة أهل العلم منهم الشافعي وأصحاب الحديث وأصحاب الرأي وابن المنذر، وعن أحمد أنه إذا قتله البرد لم يؤكل، وعنه لا يؤكل إذا مات بغير سبب، وهو قول مالك، ويروى أيضًا عن سعيد بن المسيب، ولنا عموم قوله عليه السلام: أحلت لنا ميتتان ودمان، فالميتتان السمك والجراد، ولم يفصل، ولأنه تباح ميتته فلم يعتبر له سبب كالسمك – انتهى. (رواه أبو داود والترمذي) أخرجه أبو داود أولاً من طريق ميمون بن جابان عن أبي رافع عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الجراد من صيد البحر. ثم روى هو والترمذي من طريق أبي المهزم عن أبي هريرة قال: أصابنا صرمًا من جراد فكان رجل يضرب بسوطه وهو محرم فقيل له: إن هذا لا يصلح، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " إنما هو من صيد البحر ". ولفظ الترمذي ((قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حج أو عمرة فاستقبلنا رجل من جراد فجعلنا نضربه بأسياطنا وعصينا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: كلوه فإنه من صيد البحر، وبنحو ذلك رواه أحمد (ج 2: ص 306) وابن ماجة

2727 – (7) وعن أبي سعيد الخدري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: " يقتل المحرم السبع العادي ". رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجة. 2728 – (8) وعن عبد الرحمن بن أبي عمار، قال: سألت جابر بن عبد الله عن الضبع ـــــــــــــــــــــــــــــ والبيهقي (ج 5: ص 207) قال المنذري: ميمون بن جابان لا يحتج به، وأبو المهزم – بضم الميم وفتح الهاء وكسر الزاي وتشديدها، بعدها ميم – اسمه يزيد بن سفيان بصري، متروك، وقال أبو داود: أبو المهزم ضعيف، والحديثان جميعًا وهم – انتهى. وأما حديث جابر وأنس عند ابن ماجة فهو أيضًا ضعيف جدًا، وفي إسناده موسى بن محمد متروك، منكر الحديث ومن أفراد ابن ماجة. 2727- قوله (يقتل المحرم السبع العادي) بتخفيف الياء وفتحها، أي الظالم الذي يفترس الناس ويعقر فكل ما كان هذا الفعل نعتًا له من أسد ونمر وفهد وذئب ونحوها فحكمه هذا الحكم وليس على قاتلها فدية، والحديث كذا ذكره المصنف مختصرًا وهو عند الترمذي بلفظ ((يقتل المحرم السبع العادي والكلب العقور والفارة والعقرب والحدأة والغراب)) وبنحو ذلك رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة وغيرهم. قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم، قالوا: المحرم يقتل السبع العادي والكلب، وهو قول سفيان الثوري والشافعي، وقال الشافعي: كل سبع عدا على الناس أو على دوابهم فللمحرم قتله – انتهى. قلت: وهو قول مالك وأحمد والجمهور كما تقدم (رواه الترمذي) وقال: هذا حديث حسن (وأبو داود) وسكت عنه (وابن ماجة) وأخرجه أيضًا أحمد والطحاوي والبيهقي (ج 5: ص 210) وفي إسناده عندهم جميعًا يزيد بن أبي زياد مختلف فيه، وروى له مسلم مقرونًا بغيره. وقال المنذري بعد نقل تحسين الترمذي: وفي إسناده يزيد بن أبي زياد وقد تقدم الكلام عليه، وقد أطال الشنقيطي الكلام في تقوية هذا الحديث وترجح مذهب الجمهور فارجع إلى أضواء البيان (ج 2: ص 139، 140) إن شئت. 2728- قوله (وعن عبد الرحمن بن أبي عمار) بفتح العين وتشديد الميم، هو عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار المكي القرشي حليف بني جمح الملقب بالقس – بفتح القاف وتشديد السين المهملة – ثقة عابد من الطبقة الوسطى من التابعين. قال ابن أبي خيثمة: كان حليفًا لبني جمح وكان ينزل مكة وكان من عبادها فسمي القس لعبادته (سألت جابر بن عبد الله) أي الأنصاري الصحابي (عن الضبع) قال الزرقاني: بضم الباء لغة قيس، وسكونها لغة تميم وهي أنثى، وقيل يقع على الذكر والأنثى، وربما قيل في الأنثى ضبعة بالهاء. والذكر ضبعان، والجمع ضباعين (كسرحان وسراحين) ويجمع مضموم الباء على ضباع وساكنها على أضبع – انتهى. وقال شيخنا: الضبع – بفتح الضاد المعجمة وضم الباء الموحدة – حيوان معروف يقال له بالفارسية كفتار (بفتح كاف وسكون فاء) وبالهندية ((بجو)) بكسر الموحدة وضم الجيم

أصيد هي؟ فقال: نعم. ـــــــــــــــــــــــــــــ المشددة كما في نفائس اللغات ومخزن الأدوية وغيرهما. وقيل: هو بالهندية ((هندار)) كما في غياث اللغات، والأول هو الظاهر لأن الضبع معروف بنبش القبور، والحيوان الذي يقال له بالهندية ((هندار)) لم يعرف بنبش القبور قال في النيل: ومن عجيب أمره أنه يكون سنة ذكرًا وسنة أنثى، فيلقح في حال الذكورة ويلد في حال الأنوثة، وهو مولع بنبش القبور لشهوته للحوم بني آدم. وقال الدميري: الضبع معروفة ولا تقل ضبعة، لأن الذكر ضبعان، ومن عجيب أمرها أنها كالأرنب تكون سنة ذكرًا وسنة أنثى فتلقح في حال الذكورة وتلد في حال الأنوثة، وهي مولعة بنبش القبور لكثرة شهوتها للحوم بني آدم، ومتى رأت إنسانًا نائمًا حفرت تحت رأسه وأخذت بحلقه فتقتله وتشرب دمه (أصيد هي؟) أي أفي قتلها جزاء؟ (فقال: نعم) زاد في رواية أبي داود وغيره كما سيأتي ((ويجعل فيه كبش إذا صاده المحرم، والحديث نص في أن الضبع صيد يلزم فيه الجزاء. وهذه المسألة متفق عليها بين الأئمة الأربعة، وأما إيجاب الكبش أو الشاة في الضبع فهو مذهب الأئمة الثلاثة الشافعي ومالك وأحمد كما صرح به أهل الفروع، ففي الروض المربع: وفي الضبع كبش، وهكذا في مناسك النووي وشرح الإقناع، ونص الدردير على أن في الضبع شاة، وأما عند الحنفية فالواجب القيمة. قال في الهداية: الجزاء عند أبي حنيفة وأبي يوسف أن يقوم الصيد في المكان الذي قتل فيه أو في أقرب المواضع ويُقَوّمه ذوا عدل، ثم هو مخير في الفداء إن شاء اشترى به هديًا إن بلغته أو اشترى طعامًا وتصدق به وإن شاء صام، وقال محمد والشافعي: تجب في الصيد النظير فيما له نظير، ففي الظبي شاة، وفي الضبع شاة لأن الصحابة أوجبوا النظير من حيث الخلقة. وقال عليه الصلاة والسلام: " الضبع صيد وفيه الشاة ". – انتهى بقدر الضرورة. وقال ابن قدامة (ج 3: ص 509) : إن جزاء ما كان دابة من الصيد نظيره من النعم، هذا قول أكثر أهل العلم منهم الشافعي، وقال أبو حنيفة: الواجب القيمة، ويجوز فيها المثل لأن الصيد ليس بمثلي، ولنا قول الله تعالى {فجزاء مثل ما قتل من النعم} سورة المائدة الآية 96. وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في الضبع كبشًا وأجمع الصحابة على إيجاب المثل، وقال عمر وعثمان وعلي وزيد ابن ثابت وابن عباس ومعاوية: في النعامة بدنة، وحكم عمر في حمار الوحش ببقرة، وحكم عمر وعلي في الظبي بشاة، وإذا حكموا بذلك في الأزمنة المختلفة والبلدان المتفرقة دل ذلك على أنه ليس على وجه القيمة ولأنه لو كان على وجه القيمة لاعتبروا صفة المتلف التي تختلف بها القيمة إما برؤية أو إخبار ولم ينقل منهم السؤال عن ذلك حال الحكم، إذا ثبت هذا فليس المراد حقيقة المماثلة فإنها لا تتحقق بين النعم والصيد لكن أريدت المماثلة من حيث الصورة، والمتلف من الصيد قسمان أحدهما ما قضت فيه الصحابة فيجب فيه ما قضت، وبهذا قال عطاء والشافعي وإسحاق، وقال مالك: يستأنف الحكم فيه، قال ابن قدامة: والذي بلغنا قضاء الصحابة في الضبع كبش، قضى به عمر وعلي

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ وجابر وابن عباس، وفيه عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل في الضبع يصيدها المحرم كبشًا. رواه أبو داود وابن ماجة. قال أحمد: حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الضبع بكبش، وبه قال عطاء والشافعي وأبو ثور وابن المنذر، وقال الأوزاعي: إن كان العلماء بالشام يعدونها من السباع، ويكرهون أكلها، وهو القياس إلا أن إتباع السنة والآثار أولى. القسم الثاني: ما لم تقض فيه الصحابة فيرجع إلى قول عدلين من أهل الخبرة لقول الله تعالى {يحكم به ذوا عدل منكم} فيحكمان فيه بأشبه الأشياء به من النعم من حيث الخلقة لا من حيث القيمة بدليل أن قضاء الصحابة لم يكن بالمثل في القيمة - انتهى مختصرًا. وقال الشنقيطي: اعلم أن الصيد ينقسم إلى قسمين: قسم له مثل من النعم كبقرة الوحش، وقسم لا مثل له من النعم كالعصافير وجمهور العلماء يعتبرون المثلية بالمماثلة في الصورة والخلقة، وخالف أبو حنيفة الجمهور فقال: إن المماثلة معنوية وهي القيمة أي قيمة الصيد في المكان الذي قتله فيه أو أقرب موضع إليه إن كان لا يباع الصيد في موضع قتله فيشترى بتلك القيمة هديًا إن شاء أو يشتري بها طعامًا ويطعم المساكين. واحتج أبو حنيفة بأنه لو كان الشبه من طريق الخلقة والصورة معتبرًا في النعامة بدنة وفي الحمار بقرة وفي الظبي شاة لما أوقفه على عدلين يحكمان به لأن ذلك قد علم فلا يحتاج إلى الارتياء والنظر، وإنما يفتقر إلى العدلين والنظر ما تشكل الحال فيه ويختلف فيه وجه النظر. ودليل الجمهور على أن المراد بالمثل من النعم المشابهة للصيد في الخلقة والصورة منها قوله تعالى: {فجزاء مثل ما قتل من النعم} فالمثل يقتضي بظاهره المثل الخلقي الصوري دون المعنوي، ثم قال {من النعم} فصرح ببيان جنس المثل، ثم قال: {يحكم به ذوا عدل منكم} وضمير ((به)) راجع إلى ((المثل من النعم)) لأنه لم يتقدم ذكر لسواه حتى يرجع إليه الضمير، ثم قال ((هديًا بالغًا الكعبة)) والذي يتصور أن يكون هديًا مثل المقتول من النعم، فأما القيمة فلا يتصور أن تكون هديًا ولا جرى لها ذكر في نفس الآية، وادعاء أن المراد شراء الهدي بها بعيد من ظاهر الآية، فاتضح أن المراد مثل من النعم، وقوله ((لو كان الشبه الخلقي معتبرًا لما أوقفه على عدلين)) أجيب عنه بأن اعتبار العدلين إنما وجب بالنظر في حال الصيد من كبر وصغر وما لا جنس له مما له جنس، وإلحاق ما لم يقع عليه نص بما وقع عليه النص، قاله القرطبي. قال الشنقيطي: المراد بالمثلية في الآية التقريب وإذا فنوع المماثلة قد يكون خفيًا لا يطلع عليه إلا أهل المعرفة والفطنة التامة ككون الشاة مثلاً للحمامة لمشابهتها في عب الماء والهدير...... قال: والمثل من النعم له ثلاث حالات: الأولى أن يكون تقدم فيه حكم من النبي - صلى الله عليه وسلم -، الثانية أن يكون تقدم فيه حكم من عدلين من الصحابة أوالتابعين مثلاً، الثالثة أن لا يكون تقدم فيه حكم منه - صلى الله عليه وسلم - ولا منهم رضي الله عنهم، فالذي حكم - صلى الله عليه وسلم - فيه لا يجوز لأحد الحكم فيه بغير ذلك كالضبع، فإنه - صلى الله عليه وسلم - قضى فيها بكبش، ثم ذكر حديث جابر الذي نحن في شرحه، ونقل تصحيحه عن البخاري وعبد الحق والبيهقي، ثم ذكر الاختلاف فيه بالوقف والإرسال، ثم قال: قضاءه - صلى الله عليه وسلم - في الضبع ثابت كما رأيت

فقلت: أيؤكل؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ تصحيح البخاري وعبد الحق له، وكذلك البيهقي والشافعي وغيرهم، والحديث إذا ثبت صحيحًا من وجه لا يقدح فيه الإرسال ولا الوقف من طريق أخرى كما هو الصحيح عند المحدثين، لأن الوصل والرفع من الزيادات وزيادة العدل مقبولة كما هو معروف. وأما إن تقدم فيه حكم من عدلين من الصحابة أو ممن بعدهم فقال بعض العلماء: يتبع حكمهم ولا حاجة إلى نظر عدلين وحكمهما من جديد لأن الله تعالى قال: {يحكم به ذوا عدل منكم} وقد حكما بأن هذا مثل لهذا، وقال بعض العلماء: لا بد من حكم عدلين من جديد، وممن قال به مالك. قال القرطبي: ولو اجتزأ بحكم الصحابة لكان حسنًا، وروي عن مالك أيضًا أنه يستأنف الحكم في كل صيد ما عدا حمام مكة وحمار الوحش والظبي والنعامة فيكتفي فيها بحكم من مضى من السلف، ثم ذكر الآثار في ذلك عن عمر وعبد الرحمن بن عوف وسعد وابن عباس وعثمان وعلى وزيد بن ثابت ومعاوية وابن مسعود وغيرهم. وقال الخطابي في المعالم (ج 5: ص 314) : وفي الحديث دليل على أن المثل المجعول في الصيد إنما هو من طريق الخلقة دون القيمة ولو كان الأمر في ذلك موكولاً إلى الاجتهاد لأشبه أن يكون بدله مقدرًا، وفي ذلك ما دل على أن في الكبش وفاء لجزاءه كانت قيمته مثل قيمة المجزي أو لم تكن – انتهى. وقال الشوكاني: قوله ((ويجعل فيه كبش)) فيه دليل على أن الكبش مثل الضبع، وفيه أن المعتبر في المثلية بالتقريب في الصورة لا بالقيمة، ففي الضبع الكبش سواء كان مثله في القيمة أو أقل أو أكثر – انتهى (أيؤكل) كذا بالتذكير في جميع نسخ المشكاة، ووقع في المصابيح ((أتوكل؟)) بالتأنيث وهكذا في كتاب الأم (ج 2: ص 164) وهو الأظهر، والذي في جامع الترمذي ((قلت: آكلها؟)) أي بصيغة المتكلم وكذا نقله المجد بن تيمية في المنتقى وفي مسند الإمام أحمد، قال (أي عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار) : سألت جابرًا فقلت: الضبع آكلها؟ قال نعم. قلت: أصيد هي؟ قال: نعم. قلت: أسمعت ذاك من نبي الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم. وفيه دليل على أن الضبع حلال. قال الشوكاني: فيه دليل على جواز أكل الضبع وإليه ذهب الشافعي وأحمد، قال الشافعي: ما زال الناس يأكلونها ويبيعونها بين الصفا والمروة من غير نكير، ولأن العرب تستطيبه وتمدحه، وذهب مالك وأبو حنيفة إلى تحريمه، واستدل لهم بما صح من تحريم كل ذي ناب من السباع، وبما سيأتي من حديث خزيمة بن جزء. قال الشوكاني: ويجاب عن الأول بأن حديث الباب يعني حديث جابر خاص فيقدم على حديث كل ذي ناب، ويجاب عن الثاني بأنه ضعيف أي لا يصلح للاحتجاج، لأن في إسناده عبد الكريم بن أبي المخارق وهو متفق على ضعفه. وقال الخطابي في المعالم: إذا كان قد جعله النبي - صلى الله عليه وسلم - صيدًا ورأى فيه الفداء فقد أباح أكله كالظباء والحمر الوحشية وغيرها من أنواع صيد البر، وإنما أسقط الفداء في قتل ما لا يؤكل فقال: خمس لا جناح على من قتلهن في الحل والحرم – الحديث. قال: وقد اختلف الناس في أكل الضبع فروي عن

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ سعد بن أبي وقاص أنه كان يأكل الضبع، وروي عن ابن عباس إباحة أكل لحم الضبع، وأباح أكلها عطاء والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور، وكرهه الثوري وأبو حنيفة وأصحابه ومالك وروي ذلك عن سعيد بن المسيب، واحتجوا بأنها سبع وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كل ذي ناب من السباع. قال الخطابي: وقد يقوم دليل الخصوص فينزع الشيء من الجملة وخبر جابر خاص، وخبر تحريم السباع عام – انتهى. وقال ابن رسلان: وقد قيل: إن الضبع ليس لها ناب وسمعت من يذكر أن جميع أسنانها عظم واحد كصفيحة نعل الفرس، فعلى هذا لا يدخل في عموم النهي – انتهى، كذا ذكره الشوكاني. وقال الخرقي: ولا بأس بأكل الضبع. قال ابن قدامة (ج 8: ص 604) : رويت الرخصة في الضبع عن سعد وابن عمر وأبي هريرة وعروة بن الزبير وعكرمة وإسحاق. وقال عروة: ما زالت العرب تأكل الضبع ولا ترى بأكلها بأسًا. وقال أبو حنيفة والثوري ومالك: هو حرام. وروى نحو ذلك عن سعيد بن المسيب لأنها من السباع، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أكل كل ذي ناب من السباع، وهي من السباع فتدخل في عموم النهي، ولنا ما روى جابر قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأكل الضبع، قلت: صيد هي؟ قال: نعم. احتج به أحمد، قال ابن عبد البر: هذا لا يعارض حديث النهي عن كل ذي ناب من السباع لأنه أقوى منه. قلنا: هذا تخصيص لا معارض، ولا يعتبر في التخصيص كون المخصص في رتبة المخصص بدليل تخصيص عموم الكتاب بأخبار الآحاد، ولأن الضبع قد قيل إنها ليس لها ناب وسمعت من يذكر أن جميع أسنانها عظم واحد كصفحة نعل الفرس، فعلى هذا لا تدخل في عموم النهي - انتهى، وقال الشنقيطي بعد ذكر كلام ابن عبد البر: للمخالف أن يقول: أحاديث النهي عامة في كل ذي ناب من السباع ودليل إباحة الضبع خاص ولا يتعارض عام وخاص لأن الخاص يقضي على العام فيخصص عمومه به كما هو مقرر في الأصول – انتهى، وقال الحافظ ابن القيم في الإعلام (ج 1: ص 192، طبعة الحجر) : أما الضبع فروى عنه فيها حديث صححه كثير من أهل العلم بالحديث فذهبوا إليه وجعلوه مخصصًا لعموم أحاديث التحريم كما خصصت العرايا لأحاديث المزابنة، وطائفة لم تصححه وحرموا الضبع لأنها من جملة ذات الأنياب، وقالوا: وقد تواترت الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهي عن أكل كل ذي ناب من السباع وصحت صحة لا مطعن فيها من حديث علي وابن عباس وأبي هريرة وأبي ثعلبة الخشني، قالوا: وأما حديث الضبع فتفرد به عبد الرحمن بن أبي عمار وأحاديث تحريم ذوات الأنياب كلها تخالفه، قالوا: ولفظ الحديث يحتمل معنين أحدهما أن يكون جابر رفع الأكل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن يكون إنما رفع إليه كونها صيدًا فقط ولا يلزم من كونها صيدًا جواز أكلها فظن جابر أن كونها صيدًا يدل على أكلها فأفتى به من قوله ورفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما سمعه من كونها صيدًا، فروى الترمذي عن عبد الرحمن بن أبي عمار قال: قلت لجابر بن عبد الله: آكل الضبع؟ قال: نعم. قلت: أصيد هي؟ قال: نعم. قلت: أسمعت ذلك من رسول

............................................................................................ ـــــــــــــــــــــــــــــ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم. وهذا يحتمل أن المرفوع منه هو كونها صيدًا، ويدل على ذلك أن جرير بن حازم قال عن عبيد بن عمير عن ابن أبي عمار عن جابر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن الضبع فقال: هي صيد وفيها كبش، قالوا: وكذلك حديث إبراهيم الصائغ عن عطاء عن جابر يرفعه: الضبع صيد فإذا أصابه المحرم ففيه جزاء كبش مسن ويؤكل، قال الحاكم: حديث صحيح، وقوله ((ويؤكل)) يحتمل الوقف والرفع، وإذا احتمل ذلك لم يعارض به الأحاديث الصحيحة الصريحة التي تبلغ مبلغ التواتر في التحريم، قالوا: ولو كان حديث جابر صريحًا في الإباحة لكان فردًا وأحاديث تحريم ذوات الأنياب مستفيضة متعددة ادعى الطحاوي وغيره تواترها فلا يقدم حديث جابر عليها، قالوا: والضبع من أخبث الحيوان وأشرهه وهو مغرى بأكل لحوم الناس ونبش قبور الأموات وإخراجهم وأكلهم ويأكل الجيف ويكسر بنابه، قالوا: والله سبحانه قد حرم علينا الخبائث وحرم رسول الله ذوات الأنياب والضب لا يخرج عن هذا وهذا، قالوا: وغاية حديث جابر يدل على أنها صيد يفدى في الإحرام ولا يلزم من ذلك أكلها، وقد قال بكر بن محمد: سئل أبو عبد الله يعني الإمام أحمد عن محرم قتل ثعلبًا فقال: عليه الجزاء، هي صيد ولكن لا يؤكل. وقال جعفر بن محمد: سمعت أبا عبد الله سئل عن الثعلب فقال: الثعلب سبع. فقد نص على أنه سبع وأنه يفدى في الإحرام، ولما جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في الضبع كبشًا ظن جابر أنه يؤكل فأفتى به، والذين صححوا الحديث جعلوه مخصصًا لعموم تحريم ذي الناب من غير فرق بينهما حتى قالوا: ويحرم أكل كل ذي ناب من السباع إلا الضبع وهذا لا يقع مثله في الشريعة أن يخصص مثلاً على مثل من كل وجه من غير فرقان بينهما، وبحمد الله إلى ساعتي هذا ما رأيت في الشريعة مسألة واحدة كذلك أعني شريعة التنزيل لا شريعة التأويل، ومن تأمل ألفاظه - صلى الله عليه وسلم - الكريمة تبين له اندفاع هذا السؤال، فإنه إنما حرم ما اشتمل على الوصفين أن يكون له ناب وأن يكون من السباع العادية بطبعها كالأسد والذئب والنمر والفهد. وأما الضبع فإنما فيها أحد الوصفين وهو كونها ذات ناب وليست من السباع العادية، ولا ريب أن السباع أخص من ذوات الأنياب، والسبع إنما حرم لما فيه من القوة السبعية التي تورث المغتذي بها شبهها، فإن الغاذي شبيه بالمغتذي، ولا ريب أن القوة السبعية التي في الذئب والأسد والنمر والفهد ليست في الضبع حتى تجب التسوية بينهما في التحريم، ولا تعد الضبع من السباع لغة وعرفًا – انتهى ما في الإعلام. قال شيخنا في شرح الترمذي (ج 3: ص 77) بعد ذكر كلام ابن القيم ما لفظه ((قلت: في أقوال المحرمين التي نقلها الحافظ ابن القيم خدشات، أما قولهم: إن حديث الضبع تفرد به عبد الرحمن بن أبي عمار ففيه أنه ثقة ولم يتفرد به. قال الحافظ في التلخيص: وأعله ابن عبد البر (في التمهيد (ج 1: ص 152، 155) بعبد الرحمن بن أبي عمار فوهم لأنه وثقه أبو زرعة والنسائي ولم يتكلم فيه أحد، ثم إنه لم ينفرد به – انتهى. وقال في الفتح: وقد ورد في حل الضبع أحاديث لا بأس بها – انتهى، وأما قولهم: لفظ الحديث يحتمل معنين أحدهما

فقال: نعم. فقلت: سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم. رواه الترمذي، والنسائي، والشافعي. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يكون جابر رفع الأكل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن يكون إنما رفع إليه كونها صيدًا فقط ففيه أن ظاهر لفظ الحديث يدل على أن جابرًا رضي الله عنه رفع الأكل وكونها صيدًا كليهما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويؤيده رواية أحمد (وعبد الرزاق (ج 4: ص 512) بلفظ سألت جابر بن عبد الله عن الضبع، فقال: حلال، فقلت: عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وأما قولهم: والضبع لا يخرج عن هذا وهذا ففيه أن حديث جابر المذكور صحيح ثابت قابل للاحتجاج فخروج الضبع عن هذا وهذا ظاهر – انتهى. قلت: ويدل أيضًا على عدم كونه من الخبائث وذوات الأنياب ما تقدم عن الإمام الشافعي أن لحوم الضباع تباع عندنا بمكة بين الصفا والمروة، وما تقدم عن الشوكاني أن العرب تستطيبه وتمدحه وتأكله، وقال عروة بن الزبير: ما زالت العرب تأكل الضبع ولا ترى بأكلها بأسًا، وما تقدم عن ابن رسلان وابن قدامة أن الضبع ليس لها ناب وأن جميع أسنانها عظم واحد كصفيحة نعل الفرس، وأما قول المحرمين أنه لو كان حديث جابر صريحًا في الإباحة لكان فردًا، وأحاديث تحريم ذوات الأنياب مستفيضة متعددة فلا يقدم حديث جابر عليها ففيه أن حديث جابر صريح في الإباحة كما تقدم، ولا يضر كونه فردًا، لأنه لا معارضة بينه وبين أحاديث تحريم ذوات الأنياب من السباع. فإن الضبع ليس من ذوات الأنياب كما ذكر ابن رسلان وابن قدامة، ولا من السباع العادية كما قرره ابن القيم والإمام الشافعي في الأم (ج 2: ص 220) تنبيه: قد صرح الحافظ ابن القيم في آخر ما بسط من الكلام المذكور أن الضبع ليست من السباع العادية، وعلى هذا فلا تدخل في أحاديث تحريم ذوات الأنياب من السباع وهذا كالصريح في أنه لم يوافق الحنفية في تحريم الضبع ولم يرجع تحريمه بل وافق القائلين بالإباحة حيث قال: لا ريب أن القوة السبعية التي في الذئب والأسد والنمر والفهد ليس في الضبع حتى تجب التسوية بينهما في التحريم ولا تعد الضبع من السباع لغة وعرفًا والله أعلم (رواه الترمذي) في الحج وفي الأطعمة (والنسائي) في الحج وفي الصيد والذبائح (والشافعي) في الأم (ج 2: ص 164) وأخرجه أيضًا أحمد وابن حبان وعبد الرزاق (ج 4: ص 513) والدارقطني (ص 266) وابن عبد البر في التمهيد (ج 1: ص 153) والحاكم (ج 1: ص 452) والبيهقي (ج 5: ص 183) وابن الجارود (ص 155، 299) والدارمي في آخر كتاب الحج كلهم من طريق ابن جريج عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار عن جابر (وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح) وقال: قال يحيى القطان: وروى جرير بن حازم هذا الحديث عن عبد الله ابن عبيد بن عمير عن ابن أبي عمار عن جابر عن عمر قوله، وحديث ابن جريج أصح، والحديث أخرجه أيضًا أبو داود وابن ماجة كما سيأتي)) .

2729 – (9) وعن جابر، قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الضبع، قال: " هو صيد، ويجعل فيه كبشًا إذا أصابه المحرم ". ـــــــــــــــــــــــــــــ وقد سكت عنه أبو داود، ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره. وقال الحافظ في التلخيص (ص 226) ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره. وقال الحافظ في التلخيص (ص 226) : قال الترمذي: سألت عنه البخاري فصححه، وكذا صححه عبد الحق، وقد أعل بالوقف. وقال البيهقي: هو حديث جيد تقوم به الحجة. ورواه البيهقي من طريق الأجلح عن أبي الزبير عن جابر عن عمر، قال: لا أراه إلا قد رفعه أنه حكم في الضبع بكبش – الحديث. ورواه الشافعي عن مالك عن أبي الزبير به موقوفًا وصحح وقفه من هذا الوجه الدارقطني، ورواه الدارقطني والحاكم من طريق إبراهيم الصائغ عن عطاء عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الضبع صيد، فإذا أصابه المحرم ففيه كبش مسن ويؤكل، وفي الباب عن ابن عباس رواه الدارقطني والبيهقي من طريق عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عنه، وقد أعل بالإرسال، رواه الشافعي من طريق ابن جريج عن عكرمة مرسلاً وقال: لا يثبت مثله لو انفرد، ثم أكده بحديث ابن أبي عمار، وقال البيهقي: روي موقوفًا عن ابن عباس أيضًا – انتهى كلام الحافظ. وقال الشنقيطي بعد نقل كلام الحافظ عن التلخيص: قضاؤه - صلى الله عليه وسلم - في الضبع بكبش ثابت كما رأيت تصحيح البخاري وعبد الحق له وكذلك البيهقي والشافعي وغيرهم، والحديث إذا ثبت صحيحًا من وجه لا يقدح فيه الإرسال ولا الوقف من طريق أخرى كما هو الصحيح عند المحدثين، لأن الوصل والرفع من الزيادات، وزيادة العدل مقبولة كما هو معروف. 2729 – قوله (قال: هو صيد) قال القاري: تذكيره باعتبار خبره أو المراد به الجنس فيجوز تذكيره وتأنيثه وفي رواية ((هي صيد (ويجعل) على بناء المعلوم أي قاتله (فيه) أي في جزاء قتله (كبشًا) بالنصب، وفي بعض النسخ لأبي داود ((كبش)) بالرفع، وعلى هذا يكون ((يجعل)) على بناء المجهول (إذا أصابه المحرم) أي بالاصطياد وقوله ((إذا أصابه)) كذا في سنن الدارمي وهكذا ذكره الحافظ في التلخيص (ص 225) ولفظ أبي داود ((إذا صاده)) وكذا ذكره المجد في المنتقى والحافظ في التلخيص (ص 389) وفي بعض نسخ أبي داود ((إذا اصاده)) وفي رواية للحاكم ((جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الضبع يصيبه المحرم كبشًا نجديًا وجعله من الصيد)) وكذا عند ابن ماجة، إلا أنه لم يقل ((نجديًا)) قال القاري: وليس هذا الحديث حجة علينا إذ لا تنافي بين كونه حرامًا أكله وبين كونه صيدًا ويلزم الكبش في قتله، وإنما يصلح دليلاً للخصم حيث أنه يخص تحريم الصيد بما يؤكل لحمه – انتهى. قلت: في رواية جرير بن حازم عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن عبد الرحمن بن أبي عمار عن جابر قال: قلت أيؤكل الضبع؟ قال: نعم، قلت: أصيد هي؟ قال: نعم، قال: أسمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم. رواه الحاكم وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. قال الشافعي: في مسألة ابن أبي عمار جابرًا أصيد هي؟ قال: نعم. ومسألته أتؤكل؟ قال: نعم، وسألته: أسمعت من النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم. فهذا دليل على أن الصيد الذي

رواه أبو داود، وابن ماجة، والدارمي. 2730 – (10) وعن خزيمة بن جزء، قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل الضبع، قال: " أو يأكل الضبع أحد؟ وسألته عن ـــــــــــــــــــــــــــــ نهى الله تعالى المحرم عن قتله ما كان يحل أكله من الصيد، وأنهم إنما يقتلون الصيد ليأكلوه لا عبثًا بقتله – انتهى فتأمل (رواه أبو داود) في الأطعمة (وابن ماجة) في الحج (والدارمي) في آخر الحج، وأخرجه أيضًا الحاكم (ج 1: ص 452) وابن الجارود (ص 155) وابن حبان كما في الموارد (ص 243) والدارقطني (ص 266) وابن عبد البر في التمهيد (ج 1: ص 153) كلهم من رواية جرير بن حازم عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن عبد الرحمن بن أبي عمار عن جابر، تنبيه صنيع المصنف تبعًا للبغوي يوهم أن حديث جابر هذا والذي قبله حديثان ولا يخفى ما فيه، والصواب أنه حديث واحد روي من طريق ابن جريج عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن ابن أبي عمار، ومن طريق جرير بن حازم عن عبد الله بن عبيد بن عمير به بألفاظ مختلفة مختصرًا ومطولاً ولذلك قال المنذري في مختصر السنن: وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة، وقال الحافظ في التلخيص (ص 225) : حديث ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى في الضبع بكبش)) رواه أصحاب السنن وابن حبان وأحمد والحاكم في المستدرك من طريق عبد الرحمن بن أبي عمار عن جابر، وقال في الأطعمة (ص 389) منه: حديث جابر ((أنه سئل عن الضبع أصيد هو؟ قال: نعم، قيل: أيؤكل؟ قال: نعم. قيل: أسمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم. الشافعي والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي وصححه البخاري والترمذي وابن حبان وابن خزيمة والبيهقي..... ورواه أبو داود بلفظ سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الضبع، فقال: صيد ويجعل فيه كبش إذا صاده المحرم – انتهى. وقال المجد في المنتقى بعد ذكره بلفظ الترمذي: رواه الخمسة وصححه الترمذي، ولفظ أبي داود عن جابر: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الضبع فقال: هي صيد ويجعل فيه كبش إذا صاده المحرم. 2730 – قوله (وعن خزيمة) بضم الخاء المعجمة وفتح الزاي (بن جزء) قال الحافظ في التقريب: خزيمة بن جزء – بفتح الجيم وسكون الزاي بعدها همزة – صحابي لم يصح الإسناد إليه، وقال في الإصابة: خزيمة بن جزي – بفتح الجيم وكسر الزاي بعدها ياء أي مشددة – له حديث في أكل الضب والضبع وغير ذلك، أخرجه الترمذي وابن ماجة والبارودي وابن السكن وقالا: لم يثبت حديثه ومداره على أبي أمية بن أبي المخارق أحد الضعفاء، وقال في تهذيب التهذيب: قال البخاري في التاريخ لما ذكر حديثه في الحشرات: فيه نظر. وقال البغوي: لا أعلم له غيره. وقال الأزدي: لا يحفظ روى عنه إلا (أخوه) حبان ولا يحفظ له غير هذا الحديث. قال: وفي إسناده نظر (أو يأكل الضبع أحد؟) كذا في جميع نسخ المشكاة والمصابيح وهكذا ذكره الشوكاني في النيل، وفي الترمذي ((ويأكل الضبع أحد؟)) أي بتقدير همزة الاستفهام الإنكاري. وفي رواية ابن ماجة: ومن يأكل الضبع؟ قال السندي: يشير إلى أنه مكروه طبعًا (وسألته عن

أكل الذئب، قال: " أو يأكل الذئب أحد فيه خير؟ ".رواه الترمذي، وقال: ليس إسناده بالقوي. ـــــــــــــــــــــــــــــ أكل الذئب) بالهمز ويبدل (قال: أويأكل) أي أجهلت حكمه ويأكل (الذئب أحد فيه خير) أي صلاح وتقوى صفة أحد، وفي الترمذي ((ويأكل)) أي بحذف همزة الاستفهام، واستدل بهذا الحديث من قال بحرمة الضبع. والحديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج (رواه الترمذي) في الأطعمة وأخرجه أيضًا ابن ماجة في الذبائح (وقال: ليس إسناده بالقوي) لا نعرفه إلا من حديث إسماعيل بن مسلم عن عبد الكريم أبي أمية وقد تكلم بعض أهل الحديث في إسماعيل وعبد الكريم أبي أمية، وهو عبد الكريم بن قيس بن أبي المخارق – انتهى. قال الزيلعي في نصب الراية (ج 4: ص 193) بعد نقل كلام الترمذي هذا: وضعفه ابن حزم بأن إسماعيل بن مسلم ضعيف وابن أبي المخارق ساقط وحبان بن جزء مجهول – انتهى. وقال الحافظ في التقريب: إسماعيل بن مسلم المكي أبو إسحاق ضعيف الحديث. وقال في التلخيص (ص 389) : وأما ما رواه الترمذي من حديث خزيمة بن جزء قال: أيأكل الضبع أحد؟ فضعيف لاتفاقهم على ضعف عبد الكريم أبي أمية، والراوي عنه إسماعيل بن مسلم – انتهى. تنبيه قال القاري في المرقاة معترضًا على قول الترمذي ((ليس إسناده بالقوي)) ما لفظه: وفيه أن الحسن أيضًا يستدل به على أن اجتهاد المستند إليه سابقًا يدل على أنه صحيح في نفس الأمر وإن كان ضعيفًا بالنسبة إلى إسناد واحد من المحدثين، ويقويه رواية ابن ماجة ولفظه ((ومن يأكل الضبع؟)) ويؤيده أنه ذو ناب من السباع فأكله حرام، ومع تعارض الأدلة في التحريم والإباحة فالأحوط حرمته، وأما قوله عليه الصلاة والسلام: الضبع لست آكله ولا أحرمه، كما رواه الشيخان وغيرهما فيفيد ما اختاره مالك من أنه يكره أكله، إذ المكروه عندنا ما أثم آكله ولا يقطع بتحريمه، ومقتضى قواعد أئمتنا أن أكله مكروه كراهة تحريم، لا إنه حرام محض لعدم دليل قطعي مع اختلاف فقهي – انتهى كلام القاري. وقد ذكر شيخنا في شرح الترمذي كلامه ثم رد عليه فقال: في كلام القاري هذا أوهام وأغلاط، فأما قوله ((إن الحسن أيضًا يستدل به)) ففيه أنه لا شك أن الحديث الحسن يستدل به لكن حديث خزيمة بن جزء هذا ليس بحسن بل هو ضعيف لا يصلح للاحتجاج كما عرفت. وأما قوله: أن اجتهاد المستند إليه سابقًا يدل على أنه صحيح في نفس الأمر إلخ. ففاسد، وقد بينا فساده فيما سبق (ج 1: ص 134 طبعة الحجر) وأما قوله: ويقويه رواية ابن ماجة ولفظه ((ومن يأكل الضبع؟)) ففيه أن في رواية ابن ماجة أيضًا عبد الكريم فكيف تقويه؟؟ وأما قوله ((أنه ذو ناب من السباع)) فممنوع، وسند المنع حديث جابر المذكور في الباب، ولو سلم أنه ذو ناب من السباع فحرمته ممنوعة لهذا الحديث، وأما قوله ((ومع تعارض الأدلة في التحريم والإباحة فالأحوط حرمته)) ففيه أن هذا إذا كان دليل الحرمة ودليل الإباحة كلاهما صحيحين. وأما إذا كان دليل الحرمة ضعيفًا ودليل الإباحة صحيحًا كما فيما نحن فيه فكون الحرمة أحوط ممنوع، وأما قوله ((إن قوله

(الفصل الثالث)

(الفصل الثالث) 2731 – (11) عن عبد الرحمن بن عثمان التيمي، قال: كنا مع طلحة بن عبيد الله، ونحن حرم، فأهدي له طير، وطلحة راقد، فمنا من أكل، ومنا من تورع، فلما استيقظ طلحة، وافق من أكله، قال: فأكلناه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه الصلاة والسلام: الضبع لست آكله ولا أحرمه، كما رواه الشيخان وغيرهما يفيد)) إلخ. ففيه وهم فاحش، فإنه لم يرو الشيخان ولا غيرهما ((الضبع لست آكله ولا أحرمه)) بل رووا ((الضب لست آكله ولا أحرمه)) والضب غير الضبع – انتهى. 2731 – قوله (عن عبد الرحمن بن عثمان التيمي) هو عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب ابن سعد بن تيم بن مرة التيمي القرشي وهو ابن أخي طلحة بن عبيد الله وكان يلقب شارب الذهب أسلم يوم الحديبية، وأول مشاهده عمرة القضاء، وقيل أسلم يوم الفتح وشهد اليرموك مع أبي عبيدة بن الجراح وكان من أصحاب ابن الزبير فقتل معه في يوم واحد بمكة سنة ثلاث وسبعين ودفن بالحزورة، فلما زيد في المسجد دخل قبره في المسجد الحرام، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن عمه طلحة بن عبيد الله وعثمان بن عفان، وعنه ابناه عثمان ومعاذ وغيرهما (كنا مع طلحة بن عبيد الله) هو أحد العشرة المبشرة تقدم ترجمته في الجزء الأول (ص 63) (ونحن) أي كلنا (حرم) بضمتين جمع حرام أي محرومون (فأهدى له) أي لطلحة (طير) أي مشوي أو مطبوخ (فمنا من أكل) اعتمادًا على الصداقة وتجويزًا للمحرم من لحم الصيد (ومنا تورع) ظنًا منه أنه لا يجوز للمحرم أكله (وافق من أكله) أي بالقول أو الفعل، والمراد بطير إما جنس وكان متعددًا، وإما طير كبير كفى جماعة، قاله القاري. وقوله ((وافق)) كذا في المشكاة، وهكذا وقع في بعض النسخ الهندية لسنن النسائي، وفي صحيح مسلم ((وفق)) بفتح أوله وتشديد الفاء مفتوحة من التوفيق، وهكذا وقع في المسند، أي صوبه، قاله النووي. قال الشوكاني: ويحتمل أن يكون معناه: دعا له بالتوفيق (قال) أي طلحة (فأكلناه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي أكلنا نظيره معه - صلى الله عليه وسلم -، وقوله ((فأكلناه)) هكذا في جميع نسخ المشكاة، والذي في صحيح مسلم ((أكلناه)) أي بدون الفاء، وهكذا وقع في مسند الإمام أحمد والسنن للنسائي، وكذا ذكره المجد في المنتقى والجزري في الجامع والحافظ في الفتح، والظاهر أن ما وقع في المشكاة خطأ من الناسخ، والحديث مما استدل به من ذهب إلى جواز أكل الصيد للمحرم مطلقًا، وهو عند الأئمة الثلاثة محمول على أن من أهدى لهم الطير صاده لنفسه ثم أهدى لهم. قال الشوكاني: لا بد من تقييد حديث طلحة بأن لا يكون من أهدى لهم الطير صاده لأجلهم جمعًا بين الأدلة (رواه مسلم) وأخرجه أيضًا أحمد (ج 1: ص 161، 162) والنسائي والبيهقي (ج 5: ص 188) .

(13) باب الإحصار، وفوت الحج

(13) باب الإحصار، وفوت الحج ـــــــــــــــــــــــــــــ (باب الإحصار) هو في اللغة المنع والحبس مطلقًا، وفي الشرع المنع عن الوقوف والطواف، فإن قدر على أحدهما فليس بمحصر (وفوت الحج) بأن يكون محرمًا ولم يدرك مكان الوقوف وهو عرفة في زمانه، وهو من بعد الزوال إلى طلوع فجر يوم النحر ولو ساعة، قاله القاري. وقال العيني: الإحصار المنع والحبس عن الوجه الذي يقصده، يقال أحصره المرض أو السلطان إذا منعه عن مقصده فهو محصر، والحصر الحبس، يقال حصره إذا حبسه فهو محصور. وقال القاضي إسماعيل: الظاهر أن الإحصار بالمرض والحصر بالعدو ومنه ((فلما حصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) وقال تعالى: {فإن أحصرتم} وقال الكسائي: يقال من العدو حصر فهو محصور، ومن المرض أحصر فهو محصر، وحكى عن الفراء أنه أجاز كل واحد منهما مكان الآخر، وأنكره المبرد والزجاج وقالا: هما مختلفان في المعنى، ولا يقال في المرض ((حصره)) ولا في العدو ((أحصره)) – انتهى. وقال صاحب فيض الباري: اعلم أن الإحصار عندنا (الحنفية) وعند جماعة من السلف وأهل اللغة عام للمريض والعدو كما نقل عن الفراء أيضًا، وعند الشافعية يختص بالعدو، وادعى بعض من الحنفية أن المحصر لا يقال إلا في المرض، أما في العدو فيقال له محصور لا محصر، قلت: وليس بجيد فإن الآية حينئذ تقتصر على المرض مع أنها نزلت في العدو بالاتفاق، فإنها نزلت في قصة الحديبية ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها مريضًا، وها هنا دقيقة وهي أن اللفظ قد يشتهر في نوع من الجنس ثم يرد استعماله في نوع آخر من ذلك الجنس أو في الجنس بعينه فيجعله الناس مقابلاً كالإحصار فإنه عام للمرض والعدو إلا أنه اشتهر الإحصار في المرض والحصر في العدو حتى ذهبت أوهام العامة أنهما متقابلان فجعلوا الإحصار مختصًا بالمرض والحصر بالعدو وليس كذلك، وإنما أخذ القرآن في النظم اللفظ العام لئلا يختص الحكم بالعدو ويعم المرض والعدو كليهما – انتهى، وقال الآلوسي في تفسيره (ج 2: ص 80) : الإحصار والحصر كلاهما في أصل اللغة بمعنى مطلقًا، وليس الحصر مختصًا بما يكون من العدو والإحصار بما يكون من المرض ونحوه كما توهم الزجاج من كثرة استعمالها كذلك فإنه قد يشيع استعمال اللفظ الموضوع للمعنى العام في بعض أفراده، والدليل على ذلك أنه يقال حصره العدو وأحصره كصده وأصده، فلو كانت النسبة إلى العدو معتبرة في مفهوم الحصر لكان التصريح بالإسناد إليه تكرارًا، ولو كانت النسبة إلى المرض ونحوه معتبرة في مفهوم الإحصار لكان إسناده إلى العدو مجازًا وكلاهما خلاف الأصل، والمراد من الإحصار هنا حصر العدو عند مالك والشافعي لقوله تعالى: {فإذا أمنتم} فإن الأمن لغة في مقابلة الخوف ولنزوله عام الحديبية، ولقول ابن عباس: لا حصر إلا حصر العدو. فقيد إطلاق الآية وهو أعلم بموقع التنزيل، وذهب أبو حنيفة إلى أن المراد به ما يعم كل منع من عدو ومرض وغيرهما لحديث الحجاج بن عمرو (الآتي في الفصل الثاني) ولما روى الطحاوي من حديث عبد الرحمن

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن زيد قال: أهل رجل بعمرة يقال له عمر بن سعيد فلسع فبينا هو صريع إذ طلع عليه ركب فيهم ابن مسعود فسألوه فقال: ابعثوا بالهدي واجعلوا بينكم وبينه يوم أمارة فإذا كان ذلك فليحل، وأخرج ابن أبي شيبة عن عطاء قال: لا إحصار إلا من مرض أو عدو أو أمر حابس، وروى البخاري مثله عنه. وقال عروة: كل شيء حبس المحرم فهو إحصار، وما استدل به الخصم (الشافعي ومن وافقه) مجاب عنه، وأما الأول: فإنه يقال للمريض إذا زال مرضه وبرئ: أمن كما روى ذلك عن ابن مسعود وابن عباس من طريق إبراهيم قال الآلوسي: فيضعف استدلال الشافعي ومالك بالآية على ما ذهبا إليه، وأما الثاني: فإنه لا عبرة بخصوص السبب والحمل على أنه للتأييد يأبى عنه ذكره باللام استقلالاً والقول بأن ((أحصرتم)) ليس عامًا إذا الفعل المثبت لا عموم له فلا يراد إلا ما ورد فيه وهو حبس العدو بالاتفاق ليس بشيء لأنه وإن لم يكن عامًا لكنه مطلق فيجري على إطلاقه، وأما الثالث: فلأنه بعد تسليم حجية قول ابن عباس في أمثال ذلك معارض بما أخرجه ابن جرير وابن المنذر عنه في تفسير الآية أنه قال: يقول من أحرم بحج أو عمرة ثم حبس عن البيت بمرض يجهده أو عدو يحبسه فعليه ذبح ما استيسر من الهدي فكما خصص في الرواية الأولى عمم في هذه، وهو أعلم بمواقع التنزيل، والقول ((بأن حديث الحجاج ضعيف)) ضعيف إذ له طرق مختلفة في السنن، وحمله على ما إذا اشترط المحرم الإحلال عند عروض المانع من المرض له وقت النية لقوله - صلى الله عليه وسلم - لضباعه: حجي واشترطي وقولي: اللهم محلي حيث حبستني. لا يتمشى على ما تقرر في أصول الحنفية من أن المطلق يجري على إطلاقه إلا إذا اتحد الحادثة والحكم وكان الإطلاق والتقييد في الحكم إذ ما نحن فيه ليس كذلك كما لا يخفى، انتهى كلام الآلوسي. وإن شئت مزيد البسط فيما أجاب به الحنفية عن الآية وقرروا به مذهبهم فارجع إلى شرح البخاري للقسطلاني والعيني والجوهر النقي للمارديني وأحكام القرآن لأبي بكر الرازي الجصاص وفتح القدير لابن الهمام، وقال الشنقيطي: اختلف العلماء في المراد بالإحصار في قوله تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله} (سورة البقرة: الآية 192) فقال قوم: هو صد العدو المحرم ومنعه إياه من الطواف بالبيت، وقال قوم: المراد به حبس المحرم بسبب مرض نحوه، وقال قوم: المراد به ما يشتمل الجميع من عدو ومرض ونحو ذلك، لكن قوله تعالى بعد هذا: {فإذا أمنتم} يشير إلى أن المراد بالإحصار هنا صد العدو للمحرم، لأن الأمن إذا أطلق في لغة العرب انصرف إلى الأمن من الخوف لا إلى الشفاء من المرض ونحو ذلك، ويؤيده أنه لم يذكر الشيء الذي منه الأمن، فدل على أن المراد به ما تقدم من الإحصار فثبت أنه الخوف من العدو، فما أجاب به بعض العلماء من أن الأمن يطلق على الأمن من المرض كما في حديث ((من سبق العاطس

............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ بالحمد أمن من الشوص واللوث والعلوص)) أخرجه (1) ابن ماجة في سننه فهو ظاهر السقوط، لأن الأمن فيه مقيد بكونه من المرض فلو أطلق لانصرف إلى الأمن من الخوف، وقد يجاب أيضًا بأنه يخاف وقوع المذكور من الشوص الذي هو وجع السن، واللوث الذي هو وجع الأذن، والعلوص الذي هو وجع البطن، لأنه قبل وقوعها به يطلق عليه أنه خائف من وقوعها، فإذا أمن من وقعها به فقد أمن من خوف. أما لو كانت وقعت به بالفعل فلا يحسن أن يقال أمن منها لأن الخوف في لغة العرب هو الغم من أمر مستقبل لا واقع بالفعل فدل هذا على أن زعم إمكان إطلاق الأمن على الشفاء من المرض خلاف الظاهر، وحاصل تحرير هذه المسألة في مبحثين: الأول في معنى الإحصار في اللغة العربية، الثاني في تحقيق المراد به في الآية الكريمة وأقوال العلماء، وأدلتها في ذلك، فاعلم أن أكثر علماء العربية يقولون: إن الإحصار هو ما كان عن مرض أو نحوه، قالوا: تقول العرب: أحصره المرض يحصره بضم الياء وكسر الصاد إحصارًا، وأما ما كان من العدو فهو الحصر، تقول العرب: حصره العدو يحصره بفتح الياء وضم الصاد حصرًا بفتح فسكون، ومن إطلاق الحصر في القرآن على ما كان من العدو قوله تعالى: {وخذوهم واحصروهم} (سورة التوبة: الآية 5) ومن إطلاق الإحصار على غير العدو كما ذكرنا عن علماء العربية قوله تعالى {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله} (سورة البقرة: الآية 275) وقول ابن ميادة: وما هجر ليلي أن تكون تباعدت ... عليك ولا أن أحصرتك شغول وعكس بعض علماء العربية فقال: الإحصار من العدو، والحصر من المرض، قاله ابن فارس في المجمل نقله عنه القرطبي ونقل البغوي نحوه عن ثعلب، وقال جماعة من علماء العربية: إن الإحصار يستعمل في الجميع وكذلك الحصر، ومن قال باستعمال الإحصار في الجميع الفراء، وممن قال بأن الحصر والإحصار يستعملان في الجميع أبو نصر القشيري، قال الشنقيطي: لا شك في جواز إطلاق الإحصار على ما كان من العدو كما سترى تحقيقه، هذا حاصل كلام أهل العربية في معنى الإحصار، وأما المراد به في الآية الكريمة فقد اختلف فيه العلماء على ثلاثة أقوال، الأول: أن المراد به حصر العدو خاصة دون المرض ونحوه، وهذا قول ابن عباس وابن عمر وأنس وابن الزبير وهو

_ (1) كذا ذكر الشنقيطي وهو وهم منه أو ممن نقل ذلك عنه، فإن الحديث المذكور ليس في سنن ابن ماجة ولم أقف على من خرجه، نعم ذكره ابن الأثير الجزري في النهاية (ج 1: ص 261) قال الفتني في تذكرة الموضوعات (ص 165) : هو حديث ضعيف، وقال العجلوني في كشف الخفاء (ج 2: ص 252) : ذكره (ابن الأثير) في النهاية وهو ضعيف- انتهى. وروي في معناه عن غير واحد من الصحابة بأسانيد ضعيفة من شاء الوقوف على ذلك رجع إلى الفوائد المجموعة (ص 222) للشوكاني، وكشف الخفاء (ج 2: ص 252) للعجلوني، وتنزيه الشريعة (ج 2: ص 292) لابن العراق واللآلئ المصنوعة (ج 2: ص 153) للسيوطي.

............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ قول سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير، وبه قال مروان وإسحاق وهو الرواية المشهورة الصحيحة عن أحمد بن حنبل، وهو مذهب مالك والشافعي، وعلى هذا القول أن المراد بالإحصار ما كان من العدو خاصة فمن أحصر بمرض ونحوه لا يجوز له التحلل (إلا أن يشترط عند الإحرام عند الشافعي وأحمد كما سيأتي) حتى يبرأ من مرضه ويطوف بالبيت ويسعى فيكون متحللاً بعمرة، وحجة هذا القول متركبة من أمرين، الأول: أن الآية الكريمة التي هو قوله تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} نزلت في صد المشركين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وهم محرمون بعمرة عام الحديبية عام ست بإطباق العلماء، وقد تقرر في الأصول أن صورة سبب النزول قطعية الدخول فلا يمكن إخراجها بمخصص فشمول الآية الكريمة لإحصار العدو الذي هو سبب نزولها قطعي فلا يمكن إخراجه من الآية بوجه، وروي عن مالك أن صورة سبب النزول ظنية الدخول لا قطعيته وهو خلاف قول الجمهور، وبهذا تعلم أن إطلاق الإحصار بصيغة الرباعي على ما كان من عدو صحيح في اللغة العربية بلا شك كما ترى وأنه نزل به القرآن العظيم الذي هو في أعلى درجات الفصاحة والإعجاز، الأمر الثاني: ما ورد في الآثار في أن المحصر بمرض ونحوه لا يتحلل إلا بالطواف والسعي، فمن ذلك ما رواه الشافعي في مسنده والبيهقي (ج 5: ص 219) عن ابن عباس أنه قال: لا حصر إلا حصر العدو، قال النووي في شرح المهذب: إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم وصححه أيضًا (الحافظ) ابن حجر، ومن ذلك ما رواه البخاري والنسائي عن ابن عمر أنه كان يقول: أليس حسبكم سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن حبس أحدكم عن الحج طاف بالبيت وبالصفا والمروة ثم يحل من كل شيء حتى يحج عامًا قابلاً فيهدي أو يصوم إن لم يجد هديًا، ومن ذلك ما رواه مالك في الموطأ والبيهقي (ج 5: ص 219) عن ابن عمر أنه قال: المحصر بمرض لا يحل حتى يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة فإذا اضطر إلى لبس شيء من الثياب التي لا بد له منها أو الدواء صنع ذلك وافتدى، ومن ذلك ما رواه مالك في الموطأ والبيهقي أيضًا (ج 5: ص 219) عن أيوب السختياني عن رجل من أهل البصرة كان قديمًا أنه قال: خرجت إلى مكة حتى إذا كنت ببعض الطريق كسرت فخذي، فأرسلت إلى مكة وبها عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر والناس فلم يرخص لي أحد أن أحل فأقمت على ذلك الماء سبعة أشهر حتى أحللت بعمرة، والرجل البصري المذكور الذي أبهمه مالك، قال ابن عبد البر: هو أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي شيخ أيوب كما رواه حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة، ورواه ابن جرير من طريق، وسمى الرجل يزيد بن عبد الله بن الشخير، ومن ذلك ما رواه مالك في الموطأ والبيهقي أيضًا (ج 5: ص 220) عن سليمان بن يسار أن سعيد بن حزابة المخزومي صرع ببعض طريق مكة وهو محرم فسأل - على الماء الذي كان عليه - عن العلماء فوجد عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم فذكرهم الذي عرض لهم فكلهم أمره أن يتداوى بما لا بد منه، ويفتدي،

............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإذا صح اعتمر فحل من إحرامه ثم عليه حج قابل ويهدي ما استيسر من الهدي. قال مالك: وعلى هذا الأمر عندنا فيمن أحصر بغير عدو، وقد أمر عمر بن الخطاب أبا أيوب الأنصاري وهبار بن الأسود حين فاتهما الحج وأتيا يوم النحر أن يحلا بعمرة ثم يرجعا حلالا، ثم يحجان عامًا قابلاً ويهديان، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله. هذا هو حاصل أدلة القول بأن المراد بالإحصار في الآية هو ما كان من خصوص العدو دون ما كان من مرض ونحوه، القول الثاني في المراد بالإحصار أنه يشمل ما كان من عدو ونحوه وما كان من مرض ونحوه من جميع العوائق المانعة من الوصول إلى الحرم، وممن قال بهذا القول ابن مسعود ومجاهد وعطاء وقتادة وعروة بن الزبير وإبراهيم النخعي وعلقمة والثوري والحسن وأبو ثور وداود وهو مذهب أبي حنيفة، وحجة هذا القول من جهة شموله لإحصار العدو قد تقدمت في حجة الذي قبله، وأما من جهة شموله للإحصار بمرض فهي ما رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة وابن خزيمة والحاكم والبيهقي عن عكرمة عن الحجاج بن عمرو الأنصاري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من كسر أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى، فذكرت ذلك لابن عباس وأبي هريرة فقالا: صدق، وفي رواية لأبي داود وابن ماجة: من عرج أو كسر أو مرض، فذكر معناه، وفي رواية ذكرها أحمد في رواية المروزي ((من حبس بكسر أو مرض)) وبهذا تعلم قوة حجة أهل هذا القول، ورد المخالفون الاحتجاج بحديث عكرمة هذا من وجهين، الأول: ما ذكره البيهقي في السنن الكبرى (ج 5: ص 220) قال: وقد حمله بعض أهل العلم إن صح أنه يحل بعد فواته بما يحل به من يفوته الحج بغير مرض فقد روينا عن ابن عباس ثابتًا عنه قال: لا حصر إلا حصر عدو، والله أعلم - انتهى، الوجه الثاني: هو حمل حله المذكور في الحديث على ما إذا اشترط في إحرامه أنه يحل حيث حبسه الله بالعذر، والتحقيق جواز الاشتراط في الحج بأن يحرم ويشترط أن محله حيث حبسه الله، ولا عبرة بقول منع الاشتراط لثبوته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (كما سيأتي) القول الثالث في المراد بالإحصار: أنه ما كان من المرض ونحوه خاصة دون ما كان من العدو وقد قدمنا أنه المنقول عن أكثر أهل اللغة، وإنما جاز التحلل من إحصار العدو عند من قال بهذا القول، لأنه من إلغاء الفارق وأخذ حكم المسكوت عنه من المنطوق به فإحصار العدو عندهم ملحق بإحصار المرض بنفي الفارق، ولا يخفى سقوط هذا القول لما قدمنا من أن الآية الكريمة نزلت في إحصار العدو عام الحديبية، وأن صورة سبب النزول قطيعة الدخول كما عليه الجمهور وهو الحق قال الشنقيطي: الذي يظهر لنا رجحانه بالدليل من الأقوال المذكورة هو ما ذهب إليه مالك والشافعي وأحمد في أشهر الروايتين عنه أن المراد بالإحصار في الآية إحصار العدو وأن من أصابه مرض أو نحوه لا يحل إلا بعمرة، لأن هذا هو الذي نزلت فيه الآية ودل عليه قوله تعالى: {فإذا أمنتم} الآية، ولا سيما على قول من قال من العلماء: إن الرخصة لا تتعدى محلها، وهو

........................................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ قول جماعة من أهل العلم. وأما حديث عكرمة الذي رواه عن الحجاج بن عمرو وابن عباس وأبي هريرة فلا تنتهض به حجة لتعين حمله على ما إذا اشترط ذلك عند الإحرام لحديث عائشة عند الشيخين، وحديث ابن عباس عند مسلم وأصحاب السنن وغيرهم من أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لضباعه بنت الزبير بن عبد المطلب: حجي واشترطي، ولو كان التحلل جائزًا دون شرط كما يفهم من حديث الحجاج بن عمرو، لما كان للاشتراط فائدة، وحديث عائشة وابن عباس بالاشتراط أصح من حديث عكرمة عن الحجاج بن عمرو والجمع بين الأدلة واجب إذا أمكن، وهو ممكن في الحديثين بحمل حديث الحجاج بن عمرو على ما إذا اشترط ذلك في الإحرام فيتفق مع الحديثين الثابتين في الصحيح، فإن قيل: يمكن الجمع بين الأحاديث بغير هذا، وهو حمل أحاديث الاشتراط على أنه يحل من غير أن تلزمه حجة أخرى، وحمل حديث عكرمة عن الحجاج بن عمرو وغيره على أنه يحل وعليه حجة أخرى، ويدل لهذا الجمع أن أحاديث الاشتراط ليس فيها ذكر حجة أخرى، وحديث الحجاج بن عمرو قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: فقد حل وعليه حجة أخرى. فالجواب أن وجوب البدل بحجة أخرى أو عمرة أخرى لو كان يلزم لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن يقضوا عمرتهم التي صدهم عنها المشركون، قال البخاري في صحيحه في باب ((من قال: ليس على المحصر بدل)) ما نصه ((وقال مالك وغيره: ينحر هديه ويحلق في أي موضع كان، ولا قضاء عليه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بالحديبية نحروا وحلقوا وحلوا من كل شيء قبل الطواف، وقبل أن يصل الهدي إلى البيت ثم لم يذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أحدًا أن يقضوا شيئًا ولا يعودوا له والحديبية خارج من الحرم)) - انتهى. وقد قال مالك: إنه بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حل هو وأصحابه بالحديبية، فنحروا الهدي وحلقوا رؤوسهم وحلوا من كل شيء قبل أن يطوفوا بالبيت وقبل أن يصل إليه الهدي، ثم لم يعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أحدًا من أصحابه ولا ممن كان معه أن يقضوا شيئًا ولا يعودوا لشيء - انتهى. ولا يعارض ما ذكرنا بما رواه الواقدي في المغازي من طريق الزهري ومن طريق أبي معشر وغيرهما، قالوا: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن يعتمروا فلم يتخلف منهم إلا من قتل بخيبر أو مات، وخرج معه جماعة معتمرين ممن لم يشهدوا الحديبية وكانت عدتهم ألفين، لأن الشافعي قال: والذي أعقله في أخبار أهل المغازي شبيه بما ذكرت، لأنا علمنا من متواطئ أحاديثهم أنه كان معه عام الحديبية رجال معرفون، ثم اعتمر عمرة القضية فتخلف بعضهم بالمدينة من غير ضرورة في نفس ولا مال، فهذا الشافعي جزم بأنهم تخلف منهم رجال معروفون من غير ضرورة في نفس ولا مال، وقد تقرر في الأصول أن المثبت مقدم على النافي. وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: ويمكن الجمع بين هذا إن صح وبين الذي قبله بأن الأمر كان على طريق الاستحباب، لأن الشافعي جازم بأن جماعة تخلفوا بغير عذر، وقال الشافعي في عمرة القضاء، إنما سميت عمرة القضاء والقضية للمقاضاة التي وقعت بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين قريش، لا على

(الفصل الأول)

(الفصل الأول) 2732 – (1) عن ابن عباس، قال: قد أحصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحلق رأسه، وجامع نساءه، ونحر هديه، ـــــــــــــــــــــــــــــ أنهم وجب عليهم قضاء تلك العمرة، وقد روى الواقدي أيضًا من حديث ابن عمر قال: لم تكن هذه العمرة قضاء ولكن كان شرطًا على قريش أن يعتمر المسلمون من قابل في الشهر الذي صدهم المشركون فيه. وقال البخاري في صحيحه في الباب المذكور: وقال روح عن شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما: إنما البدل على من نقض حجه بالتلذذ، فأما من حبسه عذر أو غير ذلك فإنه يحل ولا يرجع – انتهى. وقد ورد عن ابن عباس نحو هذا بإسناد آخر أخرجه ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عنه، وفيه: فإن كانت حجة الإسلام فعليه قضاؤها، وإن كانت غير الفريضة فلا قضاء عليه، فإذا علمت هذا وعلمت أن ابن عباس ممن روى عنه عكرمة الحديث الذي روى عن الحجاج بن عمرو وأن راوي الحديث من أعلم الناس به ولا سيما إن كان ابن عباس الذي دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعلمه التأويل، وهو مصرح بأن معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الحجاج بن عمرو ((وعليه حجة أخرى)) محله فيما إذا كانت عليه حجة الإسلام، تعلم أن الجمع الأول الذي ذكرنا هو المتعين، واختاره النووي وغيره من علماء الشافعية، وأن الجمع الأخير لا يصح لتعين حمل الحجة المذكورة على حجة الإسلام، وأما على قول من قال إنه لا إحصار إلا بالعدو خاصة وأن المحصر بمرض لا يحل حتى يبرأ ويطوف بالبيت وبالصفا والمروة، ثم يحل من كل شيء حتى يحج عامًا قابلاً فيهدي أو يصوم إن لم يجد هديًا كما ثبت في صحيح البخاري من حديث ابن عمر كما تقدم، فهو من حيث أن المريض عندهم غير محصر، فهو كمن أحرم وفاته وقوف عرفة، يطوف ويسعى ويحج من قابل ويهدي أو يصوم إن لم يجد هديًا – انتهى كلام الشنقيطي، وسيأتي بسط الكلام في مسألة الاشتراط في شرح حديث عائشة آخر أحاديث هذا الفصل وتعيين القول الراجح في مسألة الإحصار بالمرض في شرح حديث الحجاج بن عمرو في الفصل الثاني. 2732 – قوله (قد أحصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي منع عن عمرته التي أحرم بها في عام الحديبية (فحلق رأسه) أي بنية التحلل (وجامع نسائه) أي بعد تحلله الكامل كما يشير إليه قوله (ونحر هديه) إذ الواو لمطلق الجمع، وفي الصحيحين أنه - صلى الله عليه وسلم - تحلل هو وأصحابه بالحديبية لما صده المشركون وكان محرمًا بالعمرة فنحر ثم حلق ثم قال لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا. وفي حديث المسور بن مخرمة عند البخاري في الشروط ((فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا. واختلف العلماء هل نحر هديه يوم الحديبية في الحل أو في

حتى اعتمر عامًا قابلاً. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحرم؟ وظاهر قوله تعالى: {والهدي معكوفًا أن يبلغ محله} (سورة الفتح: الآية 25) أنهم نحروه في الحل، وفي محل نحر الهدي للمحصر أقوال، الأول للجمهور أنه يذبح هديه حيث يحيث يحل في حل أو حرم الثاني للحنفية أنه لا ينحره إلا في الحرم الثالث لابن عباس وجماعة: أنه إن كان يستطيع البعث إلى الحرم وجب عليه ولا يحل حتى ينحر في محله وإن كان لا يستطيع البعث به إلى الحرم نحره في محل إحصاره، وقيل: إنه نحره في طرف الحديبية وهو من الحرم، والأول أظهر كذا في السبل (حتى اعتمر) غاية للمجموع أي تحلل حتى اعتمر. قال القسطلاني: ولأبي ذر عن المستملى ((ثم اعتمر)) (عامًا قابلاً) أي آتيا يعني السنة السابعة من الهجرة التي اعتمر فيها حسب المقاضاة التي وقعت بينه - صلى الله عليه وسلم - وبين قريش، وقيل قضاء لعمرة حل عنها، وفيه نظر، وهذا الحديث فيه حذف يدل عليه ما رواه ابن السكن في كتاب الصحابة كما نبه عليه الحافظ وقال: إنه لم ينبه عليه من شراح هذا الكتاب غيره ولا بينه الإسماعيلي ولا أبو نعيم، ولفظه عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة قال: قال عبد الله بن رافع مولى أم سلمة أنها سألت الحجاج بن عمرو الأنصاري عمن حبس وهو محرم فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من عرج أو كسر أو حبس فليجزي مثلها وهو في حل. قال: فحدثت به أبا هريرة فقال: صدق. وحدثته ابن عباس فقال: قد أحصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحلق ونحر هديه وجامع نسائه حتى اعتمر عامًا قابلاً، والسبب في حذف البخاري ما ذكر أن الزائد ليس على شرطه لأنه قد اختلف في حديث الحجاج بن عمرو على يحيى بن أبي كثير عن عكرمة كما بينه الحافظ مع كون عبد الله بن رافع ليس من شرط البخاري فاقتصر على ما هو من شرط كتابه، واستدل بالحديث على وجوب القضاء على المحصر، قال المحب الطبري: هكذا يستدل به من قال بوجوب القضاء، ولا دلالة فيه على وجوب القضاء لأنه تضمن حكاية ما وقع، وقد تخلف بعض من كان معه في عمرة الحديبية عن عمرة القضية بالمدينة من غير ضرورة في نفس ولا مال، ولو وجب عليهم القضاء لأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا يتخلفوا عنه، وإنما سميت عمرة القصاص وعمرة القضية لأن الله تعالى اقتص لنبيه - صلى الله عليه وسلم - فدخل عليهم كما منعوه لا على أن ذلك وجب عليه. قال البيهقي: وروى الواقدي بسنده عن ابن عمر قال: لم تكن العمرة قضاء ولكن كان شرطًا على المسلمين أن يعتمروا من قابل في الشهر الذي صدهم المشركون فيه - انتهى. وقال الأمير اليماني: قوله ((حتى اعتمر عامًا قابلاً)) قيل إنه يدل على إيجاب القضاء على من أحصر، والمراد من أحصر عن النفل، وأما من أحصر عن واجبه من حج أو عمرة فلا كلام أنه يجب عليه الإتيان بالواجب إن منع من أدائه، والحق أنه لا دلالة في كلام ابن عباس على إيجاب القضاء، فإن ظاهر ما فيه أنه أخبر أنه - صلى الله عليه وسلم - اعتمر عامًا قابلاً، ولا كلام أنه - صلى الله عليه وسلم - اعتمر في عام القضاء ولكنها عمرة أخرى ليست قضاء عن عمرة الحديبية، إلى آخر ما ذكر من الدلائل على ذلك، والحديث فيه دليل على أن المعتمر إذا أحصر يحل، وأن

رواه البخاري. 2733 – (2) وعن عبد الله بن عمر، قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فحال كفار قريش دون البيت، فنحر النبي - صلى الله عليه وسلم - هداياه، وحلق، وقصر أصحابه. ـــــــــــــــــــــــــــــ التحلل بالإحصار لا يختص بالحاج وقد أورد البخاري هذا الحديث في باب إذا أحصر المعتمر، قال الحافظ، قيل: غرض المصنف بهذه الترجمة الرد على من قال: التحلل بالإحصار خاص بالحاج، بخلاف المعتمر فلا يتحلل بذلك بل يستمر على إحرامه حتى يطوف بالبيت، لأن السنة كلها وقت للعمرة فلا يخشى فواتها بخلاف الحج، وهو محكي عن مالك، واحتج له إسماعيل القاضي بما أخرجه بإسناد صحيح عن أبي قلابة قال: خرجت معتمرًا فوقعت على راحلتي فانكسرت فأرسلت إلى ابن عباس وابن عمر فقالا: ليس لها وقت كالحج يكون على إحرامه حتى يصل إلى البيت - انتهى. وقال العيني: روي ذلك القول عن مالك، وهو محكي عن محمد بن سيرين وبعض الظاهرية، وقضية الحديبية حجة تقضي عليهم - انتهى. قلت: هكذا ذكر خلاف مالك للجمهور في مسألة الإحصار في العمرة عامة نقلة المذاهب كابن قدامة وغيره، لكن الظاهر أن هذه الحكاية ليست بصحيحة، فإن عامة فروع المالكية كالشرح الكبير والدسوقي والمدونة وغيرها مصرحة بصحة الحصر عن العمرة وجواز التحلل عنها عند الحصر فلا خلاف في هذه المسألة بين الأئمة الأربعة (رواه البخاري) من طريق يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس، وأخرجه أيضًا الإسماعيلي وأبو نعيم وابن السكن. 2733 - قوله (خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي معتمرين كما في رواية، وكان خروجهم يوم الاثنين مستهل ذي القعدة سنة ست من الهجرة (فحال كفار قريش دون البيت) أي منعونا من دخول مكة والوصول إلى البيت (فنحر النبي - صلى الله عليه وسلم - هداياه) أي بالحديبية، وفي رواية ((بدنه)) بضم الموحدة وسكون الدال جمع بدنة (وحلق) أي رأسه كما في رواية، يعني ثم حلق فتحلل كما بينته الروايات الصحيحة الصريحة (وقصر أصحابه) أي بعضهم وحلق آخرون، وذلك أنهم توقفوا في الإحلال لما دخل عليهم من الحزن لكونهم منعوا من الوصول إلى البيت فأشارت أم سلمة إلى أن يحل هو - صلى الله عليه وسلم - قبلهم ففعل فتبعوه فحلق بعضهم وقصر بعض وكان من بادر إلى الحلق أسرع إلى امتثال الأمر ممن اقتصر على التقصير، واعلم أنهم اختلفوا في المحصر هل يجب عليه الحلق أو التقصير إذا نحر هديه أم لا؟ فذهب الشافعية إلى الوجوب بناء على المشهور عندهم أنه نسك، وقال به أبو يوسف في إحدى الروايتين، وهو رواية عن أحمد، والمشهور عنه أنه لا يجب، وبه قال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن، وإليه ذهب المالكية كما في الدردير والدسوقي، قال ابن قدامة (ج 3: ص 316) : هل يلزمه الحلق أو التقصير مع ذبح الهدي أو الصيام؟ ظاهر كلام الخرقي أنه لا يلزمه، لأنه

رواه البخاري. 2734 – (3) وعن المسور بن مخرمة، ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يذكره، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، لأن الله تعالى ذكر الهدي وحده ولم يشترط سواه، والثانية عليه الحلق أو التقصير، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حلق يوم الحديبية وفعله في النسك دال على الوجوب، ولعل هذا ينبني على أن الحلاق نسك أو إطلاق من محظور، ولا يتحلل إلا بالنية مع ما ذكرنا، فيحصل الحل بشيئين النحر أو الصوم والنية إن قلنا: الحلاق ليس بالنسك، وإن قلنا: هو نسك حصل بثلاثة أشياء: الحلاق مع ما ذكرنا - انتهى، وقال النووي في مناسكه: اعلم أن التحلل يحصل بثلاثة أشياء ذبح ونية التحلل بذبحها والحلق إذا قلنا بالأصح أنه نسك - انتهى. وفي غنية الناسك وبذبحه يحل بلا حلق وتقصير إلا أنه لو حلق أو قصر فحسن كما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عام الحديبية ليعرف استحكام عزيمته على الانصراف ويأمن المشركون منهم فلا يشتغلون بمكيدة أخرى هذا عندهما، وعليه المتون وهو ظاهر الرواية عن أبي يوسف - انتهى، وقال في البحر العميق بعد ما حكى خلاف أبي يوسف: وقال الجصاص: إنما لا يجب الحلق عندهما إذا أحصر في الحل لأن الحلق يختص بالحرم وأما إذا أحصر في الحرم يجب الحلق عندهما وعليه حمل حلقه - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية، وأجيب أيضًا بأنه محمول على الاستحباب لأنهم كانوا يمتنعون عن التحلل طمعًا في دخول مكة ويرون التحلل بالحلق فقطع بالأمر به أطماعهم تسليمًا لأمر الله تعالى. قلت: ومال الطحاوي إلى وجوب الحلق كما ذكره القاري في المرقاة وفي شرح اللباب وقال القاري أيضًا: وإذا لم يجب عليه الحلق وأراد أن يتحلل فإنه يفعل أدنى ما يخطره الإحرام كذا في البحر الزاخر، والأظهر وجوب الحلق لقوله تعالى: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله} ولفعله عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام - انتهى (رواه البخاري) في الحج وفي غزوة الحديبية وعمرة القضاء من كتاب المغازي مختصرًا ومطولاً، واللفظ المذكور له في غزوة الحديبية وهو طرف من حديث طويل، وأخرجه أيضًا أحمد مرارًا والبيهقي ولم يخرجه مسلم ولا أصحاب السنن. 2734 - قوله (وعن المسور) بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الواو فراء (بن مخرمة) بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الراء، ابن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة القرشي الزهري أبو عبد الرحمن، له ولأبيه صحبة، مات النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثمان سنين وسمع منه وحفظ عنه، ولد بمكة بعد الهجرة بسنتين وقدم به أبوه المدينة في ذي الحجة بعد الفتح سنة ثمان وهو أصغر من ابن الزبير بأربعة أشهر، وكان فقيهًا من أهل الفضل والدين، لم يزل مع خاله عبد الرحمن بن عوف مقبلاً ومدبرًا في أمر الشورى، وبقى بالمدينة إلى أن قتل عثمان، ثم انتقل إلى مكة ولم يزل بها إلى أن حاصرها عسكر يزيد فقتله حجر من حجارة المنجنيق وهو يصلي في الحجر وذلك مستهل ربيع الأول سنة

قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحر قبل أن يحلق، وأمر أصحابه بذلك. رواه البخاري. 2735 – (4) وعن ابن عمر، أنه قال: أليس حسبكم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـــــــــــــــــــــــــــــ أربع وستين وصلى عليه ابن الزبير بالحجون، توفي وهو ابن اثنتين وستين سنة وقيل إن وفاته كانت يوم جاء نعي يزيد إلى ابن الزبير وحصين بن نمير محاصر لابن الزبير (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحر قبل أن يحلق وأمر أصحابه بذلك) أي بالنحر قبل الحلق، وفيه دلالة على تقديم النحر قبل الحلق، وقد تقدم أن المشروع تقديم الحلق قبل الذبح فقيل حديث المسور هذا إنما هو إخبار عن فعله - صلى الله عليه وسلم - في عمرة الحديبية حيث أحصر فتحلل - صلى الله عليه وسلم - بالذبح، وقد بوب عليه البخاري ((باب النحر قبل الحلق في الحصر)) وأشار البخاري إلى أن هذا الترتيب يختص بالمحصر على جهة الوجوب فإنه أخرجه بمعناه، هذا وقد أخرجه بطوله في كتاب الشروط، وفيه أنه قال لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا، قال الشوكاني: فيه دليل على أن المحصر يقدم النحر على الحلق ولا يعارض هذا ما وقع في حديث ابن عباس المتقدم أنه حلق رأسه وجامع نسائه ونحر هديه، لأن العطف بالواو إنما هو لمطلق الجمع ولا يدل على الترتيب، فإن قدم الحلق على النحر فروى ابن أبي شيبة عن علقمة أن عليه دمًا، وعن ابن عباس مثله، والظاهر عدم وجوب الدم لعدم الدليل - انتهى. قال الحافظ: وهذا الحديث طرف من حديث طويل أخرجه البخاري في الشروط ولفظه في أواخر الحديث ((فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا - الحديث. وفيه قول أم سلمة للنبي - صلى الله عليه وسلم -: اخرج ثم لا تكلم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بدنك، فخرج فنحر بدنه ودعا حالقه فحلقه، وعرف بهذا أن البخاري أورد القدر المذكور هنا بالمعنى وأشار بقوله في الترجمة ((في الحصر)) إلى أن هذا الترتيب يختص بحال من أحصر. قال ابن التيمي: ذهب مالك إلى أنه لا هدي على المحصر، والحجة عليه هذا الحديث لأنه نقل فيه حكم وسبب فالسبب الحصر والحكم النحر، فاقتضى الظاهر تعلق الحكم بذلك السبب، والله أعلم، وسيأتي مزيد الكلام في ذلك في شرح حديث ابن عمر الذي يليه (رواه البخاري) في الحج مختصرًا باللفظ المذكور، وفي الشروط مطولاً كما تقدم، وأخرجه أيضًا أحمد (ج 4: ص 327) والبيهقي (ج 5: ص 220) مطولاً. 2735 - قوله (وعن ابن عمر أنه قال: أليس حسبكم سنة رسول الله) كذا عند البخاري ولأحمد والترمذي والنسائي: أنه كان ينكر الاشتراط في الحج ويقول: أليس حسبكم سنة نبيكم؟ قال العيني: قوله ((أليس حسبكم سنة رسول الله)) يريد به عدم الاشتراط كما هو مبين عند النسائي أنه كان ينكر الاشتراط في الحج ويقول: ((أما حسبكم سنة نبيكم؟ إنه لم يشترط)) وهكذا رواه الدارقطني، ومعنى قوله ((أليس حسبكم سنة رسول الله)) أي أليس يكفيكم سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ لأن معنى الحسب الكفاية، ومنه حسبنا الله أي كافينا، وحسبكم مرفوع لأنه اسم

إن حبس أحدكم عن الحج، طاف بالبيت وبالصفا والمروة، ثم حل من كل شيء حتى يحج عامًا قابلاً، فيهدي أو يصوم إن لم يجد هديًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ ليس، و ((سنة رسول الله)) منصوب على أنه خبر ليس، والجملة الشرطية وهي قوله ((إن حبس، إلخ)) تفسير للسنة فمحلها النصب أو الرفع خبر مبتدأ محذوف أي هي. وقال عياض: ضبطنا سنة بالنصب على الاختصاص أو على إضمار فعل أي تمسكوا ونحوه، وقال السهيلي: من نصب سنة فهو بإضمار الأمر كأنه قال: الزموا سنة نبيكم، ويمكن أن يقال أن يكون خبر ليس ((طاف بالبيت)) على قول عياض والسهيلي. قال العيني: خبر ليس على وجه نصب سنة على قول عياض والسهيلي قوله ((طاف بالبيت)) وهو أيضًا سد مسد جواب الشرط. قال الطبري: قوله ((حسبكم سنة نبيكم)) فيه إشعار بالتسوية بين حصر العدو والمرض، فإن معنى قوله حسبكم سنة نبيكم أي في جواز التحلل بهذا العذر دون اشتراط وأشار ابن عمر بإنكار الاشتراط إلى ما كان يفتي به ابن عباس من جواز الاشتراط، قال البيهقي: لو بلغ ابن عمر حديث ضباعه في الاشتراط لقال به، وسيأتي الكلام في مسألة الاشتراط مفصلاً إن شاء الله (إن حبس) بصيغة المجهول أي منع (أحدكم عن الحج) أي عن ركنه الأعظم وهو الوقوف بعرفة (طاف بالبيت) أي إذا أمكنه ذلك، فقد وقع في رواية عبد الرزاق ((إن حبس أحدًا منكم حابس عن البيت فإذا وصل إليه طاف به)) الحديث (وبالصفا والمروة) أي طاف بهما، أي سعى بينهما (ثم حل) أي بالحلق والذبح (من كل شيء) حرم عليه بالإحرام (حتى يحج عامًا قابلاً) عامًا ظرف وقابلاً صفة (فيهدي) أي يذبح شاة، إذ التحلل لا يحصل إلا بنية التحلل والذبح والحلق، قاله الكرماني (أو يصوم إن لم يجد هديًا) حيث شاء، واستدل بقوله ((حتى يحج عامًا قابلاً)) على وجوب الحج من القابل على من أحصر، وقد اختلف العلماء في أنه هل يجب على المحصر القضاء أم لا فأوجب الحنفية القضاء ولم يوجب الشافعية والمالكية، وعن أحمد روايتان، قالوا: فإن كان حج فرض بقى وجوبه على حاله؛ قال ابن قدامة في الشرح الكبير: في وجوب القضاء على المحصور روايتان، إحداهما لا قضاء عليه إلا أن يكون واجبًا، فيفعله بالوجوب السابق، هذا هو الصحيح من المذهب وبه قال مالك والشافعي، والثانية عليه القضاء روي ذلك عن عكرمة ومجاهد والشعبي، وبه قال أبو حنيفة، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لما تحلل زمن الحديبية قضى من قابل وسميت عمرة القضية، ولأنه حل من إحرامه قبل إتمامه فلزمه القضاء كما لو فاته، ووجه الرواية الأولى أنه تطوع جاز التحلل منه، وأما الخبر فإن الذين صدوا كانوا ألفًا وأربعمائة، والذين اعتمروا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يسيرًا، ولم ينقل إلينا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أحدًا بالقضاء وأما تسميتها عمرة القضية فإنما يعني بها القضية التي اصطلحوا عليها، ولو أرادوا غير ذلك لقالوا: عمرة القضاء - انتهى. ويشير بذلك إلى أن تسميتها بعمرة القضاء إنما كان من بعض الصحابة ومن أصحاب المغازي والسير لا من عامة الصحابة، وأما ما ذكره

............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ بعض أصحاب المغازي أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه حين رأوا هلال ذي القعدة أن يعتمروا قضاء لعمرتهم التي صد عنها المشركون بالحديبية وأن لا يتخلف أحد ممن شهد الحديبية فلم يتخلف أحد منهم إلا من استشهد منهم بخيبر ومن مات وادعى تواتر الأخبار بذلك، فهو مجرد دعوى فلا يلتفت إليها. قلت: واستدل لوجوب القضاء أيضًا لقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} فإنه يقتضي وجوب الإتمام من غير فرق بين حج الفرض والنفل ولا يخفى ما فيه، وبحديث حجاج بن عمرو الأنصاري الآتي بدون التفريق بينهما، وبحديث عائشة إذ أمرها - صلى الله عليه وسلم - برفض العمرة ثم اعمرها من التنعيم وقال: هذه مكان عمرتك. وقد تقدم الجواب عن حديث الحجاج بن عمرو في كلام الشنقيطي المذكور في أول الباب، وسيأتي أيضًا عند شرحه، وأما حديث عائشة فقد سبق الكلام فيه مفصلاً في باب قصة حجة الوداع فراجعه، واستدل أيضًا بقوله ((فيهدي)) على وجوب الهدي على المحصر في الحج. قال الشوكاني: ولكن الإحصار الذي وقع في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما وقع في العمرة فقاس العلماء الحج على ذلك، وهو من الإلحاق بنفي الفارق، وإلى وجوب الهدي ذهب الجمهور، وهو ظاهر الأحاديث الثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه فعل ذلك في الحديبية، ويدل عليه قوله تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} وذكر الشافعي أنه لا خلاف في ذلك في تفسير الآية، وخالف في ذلك مالك فقال: أنه لا يجب الهدي على المحصر، وعول على قياس الإحصار على الخروج من الصوم للعذر والتمسك بمثل هذا القياس في مقابل ما يخالفه من القرآن والسنة من الغرائب التي يتعجب من وقوع مثلها من أكابر العلماء - انتهى كلام الشوكاني. وقال ابن قدامة (ج 3: ص 356) وعلى من تحلل بالإحصار (في الحج أو العمرة) الهدي في قول أكثر أهل العلم، وحكي عن مالك: ليس عليه هدي لأنه تحلل أبيح له من غير تفريط أشبه من أتم حجه، وليس بصحيح لأن الله تعالى قال: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} قال الشافعي: لا خلاف بين أهل التفسير أن هذه الآية نزلت في حصر الحديبية ولأنه أبيح له التحلل قبل إتمام نسكه فكان عليه الهدي كالذي فاته الحج، وبهذا فارق من أتم حجه. قال: وإذا قدر المحصر على الهدي فليس له الحل قبل ذبحه، فإن كان معه هدي قد ساقه أجزأه، وإن لم يكن معه لزمه شراءه إن أمكنه - انتهى. وقال النووي في مناسكه: يلزم المتحلل بالإحصار ذبح شاة يفرقها حيث أحصر - انتهى. وفي شرح المنهاج: من أراد التحلل بالإحصار ذبح وجوبًا شاة أو سبع بدنة أو بقرة حيث أحصر ولو في الحل - انتهى. وقال في الهداية: إذا أحصر المحرم فمنعه من المضى جاز له التحلل، ويقال له: ابعث شاة تذبح في الحرم وواعد من تبعثه بيوم بعينه يذبح فيه ثم تحلل. وفي شرح اللباب: إذا أحصر المحرم بحجة أو عمرة وأراد التحلل أي الخروج من إحرامه يجب عليه أن يبعث الهدي - إلى آخر ما بسطه. وقال الباجي: أما تحلله للحصر فلا يوجب هديًا عند مالك. وبه قال ابن القاسم. وقال أشهب عليه الهدي، وبه

رواه البخاري. 2736 – (5) وعن عائشة، قالت: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ضباعة بنت الزبير، ـــــــــــــــــــــــــــــ قال أبو حنيفة والشافعي. ودليلنا أنه تحلل مأذون عار عن التفريط وإدخال النقص فلم يجب عليه الهدي، ودليل ثان يختص بالشافعي أن هذه عبادة لها تحرم وتحلل، فإذا سقط قضاؤها بالفوات يجب أن يسقط جبرانها. واحتج أشهب ومن تابعه بقوله تعالى: {فإن أحصرتم} الآية، وقال: هذا ممن احصر بعدو وقد خالف سائر أصحابنا أشهب في هذا وقالوا: الإحصار إنما هو إحصار المرض، وأما العدو فإنما يقال فيه حصر حصرًا فهو محصور - على آخر ما بسط الكلام في ذلك. وقال الدسوقي في شرح قول الدردير ((إن منعه عدو أو فتنة بحج أو عمرة فله التحلل ولا دم عليه)) : أي خلافًا لأشهب حيث قال بوجوبه واستدل بالآية، وأجيب بأن الهدي في الآية لم يكن لأجل الحصر، وإنما ساقه بعضهم تطوعًا فأمروا بذبحه فلا دليل فيها للوجوب - انتهى. وقد ظهر بهذا كله أنه يلزم الهدي في الإحصار عند الحنابلة والشافعية والحنفية خلافًا لمالك وأصحابه غير أشهب، لكن لا يخفى أن وجوب الهدي عند الحنابلة مقيد بعدم اشتراط التحلل عند الإحرام، فأما إذا اشترط التحلل فلا يلزمه الهدي سواء كان الإحصار بالعدو أو المرض كما يدل عليه كلام ابن قدامة في المغنى (ج 3: ص 282، 364) ويجب الهدي عند الشافعية في الإحصار بالعدو مطلقًا، أي سواء اشترط أو لم يشترط، وأما في الإحصار بالمرض فلا يجب إلا إذا اشترط التحلل بالهدي، وأما إذا لم يشترط ذلك بأن سكت في اشتراطه عن الهدي أو نفاه فلا يلزم كما في شرح الإقناع، والقول الراجح عندنا هو ما ذهب إليه الحنابلة، والله أعلم (رواه البخاري) وأخرجه أيضًا أحمد (ج 2: ص 33) والترمذي والنسائي وعبد الرزاق والدراقطني والبيهقي بعضهم مختصرًا وبعضهم مطولاً. 2736 - قوله (دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ضباعة) بضم الضاد المعجمة بعدها باء موحدة مخففة وبعد الألف عين مهملة (بنت الزبير) ابن عبد المطلب الهاشمية بنت عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، تزوجها المقداد بن عمرو البهراني حليف بني زهرة، يعرف بالمقداد بن الأسود لتبنيه له، فولدت له عبد الله وكريمة، فقتل عبد الله يوم الجمل مع عائشة، روت ضباعة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن زوجها المقداد، وعنها ابنتها كريمة بنت المقداد وابن عباس وعائشة وابن المسيب وعروة ابن الزبير وغيرهم، قال ابن عبد البر: لضباعة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث منها الاشتراط في الحج، قال الزبير بن بكار: لم يكن للزبير بن عبد المطلب عقب إلا من ضباعة وأختها أم الحكم، ودخوله - صلى الله عليه وسلم - على ضباعة عيادة أو زيارة وصلة فإنها قريبته كما تقدم، وفيه بيان تواضعه وصلته وتفقده - صلى الله عليه وسلم -، وهو محمول على أن الخلوة هناك كانت منتفية، فإنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يخلو بالأجنبيات، وإن كان لو فعل ذلك لم يلزمه منه مفسدة لعصمته، لكنهم لم يعدوا

فقال لها: " لعلك أردت الحج؟ " قالت: والله ما أجدني إلا وجعة. فقال لها: " حجي واشترطي وقولي: اللهم محلي حيث حبستني ". ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك من خصائصه، فهو في ذلك كغيره في التحريم (فقال لها) أي وهي في المدينة (لعلك أردت الحج) أي معنا، وهذا لفظ البخاري، وفي رواية لمسلم ((أردت الحج)) أي بدون لفظ ((لعلك)) وفي أخرى له أيضًا ((قالت: إني أريد الحج)) وقد يقتضي ظاهر هذه الرواية أنها قالت له ذلك ابتداء، ولا منافاة، فقد تكون إنما قالت: إني أريد الحج، في جواب استفهامه لها، وليس اللفظ صريحًا في أنها قالت ذلك ابتداء، وكذا قوله في رواية ابن ماجة من حديث ضباعة أنه عليه الصلاة والسلام قال لها: أما تريدين الحج العام؟ ومن رواية أسماء أو سعدى عند ابن ماجة أيضًا ((ما يمنعك من الحج؟)) كل ذلك يقتضي أن كلامها كان جوابًا لسؤاله لكن في حديث ابن عباس عند مسلم وأصحاب السنن الأربعة أن ضباعة أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت، وهذا قد ينافي قوله في حديث عائشة: دخل على ضباعة. وقد يجمع بينهما بأنها أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن إذ ذاك في منزله، ثم جاء فدخل عليها وهي في منزله، وفي حديث ابن عباس عند أبي داود والترمذي أنها قالت له: إني أريد الحج فأشترط؟ فقال لها: نعم. وهذا يقتضي أن أمره بالاشتراط ما كان إلا بعد استئذانها (قالت: والله ما أجدني) أي ما أجد نفسي، واتحاد الفاعل والمفعول مع كونهما ضميرين لشيء واحد من خصائص أفعال القلوب. وفي الحديث جواز اليمين في درج الكلام بغير قصد (إلا وجعة) بفتح الواو وكسر الجيم، وهو من الصفات المشبهة، أي إني ذات وجع أي مرض، وفي رواية لمسلم ((وأنا شاكية)) بالشين المعجمة أي مريضة، والشكوى والشكو والشكاية المرض، وفي حديث ابن عباس عند مسلم ((إني امرأة ثقيلة)) أي أثقلها المرض (فقال لها: حجي) أي أحرمي بالحج (واشترطي وقولي) عطف تفسيري (اللهم محلي) بفتح الميم وكسر الحاء أي محل خروجي من الحج وموضع تحللي من الإحرام أو وقت تحللي من الإحرام، والمحل يقع على المكان والزمان (حيث حبستني) أي منعتني من السير بسبب ثقل المرض. قال العيني: أي إنك حيث عجزت عن الإتيان بالمناسك وانحبست عنها بسبب قوة المرض تحللت، وقولي: اللهم مكان تحللي عن الإحرام مكان حبستني فيه عن النسك لعلة المرض. وقال القاري: قال بعض علمائنا قوله ((قولي: اللهم محلي)) إلخ، تفسير الاشتراط يعني اشترطي أن أخرج من الإحرام حيث مرضت وعجزت عن إتمام الحج، فمن لم ير الإحصار بالمرض يستدل بهذا الحديث بأن يقول لو كان المرض ينتج التحلل لم يأمرها بالاشتراط لعدم الإفادة، وإليه ذهب الشافعي ومن وافقه، ومن يرى الإحصار بالمرض، وهو مذهب أبي حنيفة يستدل بحديث الحجاج بن عمرو الأنصاري الآتي - انتهى. قلت: حديث عائشة يدل على جواز الاشتراط في الحج خوفًا من حدوث طارئ يطرأ عليه أثناء الحج من مرض أو نحوه، وأن من اشترط الاشتراط المذكور في إحرامه

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم عرض له ما يحبسه من المرض ونحوه عن الحج جاز له أن يتحلل، وأن من لم يشترط في إحرامه فليس له التحلل قال الولي العراقي: في الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر ضباعة أن تشترط في إحرامها التحلل عند المرض، وقد اختلف العلماء في هذا الأمر هل هو على سبيل الإباحة أو الاستحباب أو الإيجاب، وهذه الأقوال متفقة على الاشتراط في الجملة، ومنهم من أنكره لعدم صحة الحديث عنده أو لتأويله كما سيأتي، وحاصل هذا الخلاف أقوال أحدها جوازه، وهو المشهور من مذهب الشافعي فإنه نص عليه في القديم، وعلق القول به في الجديد على صحته، وقد صح كما سيأتي، ولذلك قطع الشيخ أبو حامد بصحته، وأجرى غيره فيه قولين في الجديد، أظهرهما الصحة، وروى ابن أبي شيبة فعله عن علي وعلقمة والأسود وشريح وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، والأمر به عن عائشة وعبد الله بن مسعود، وعن عثمان أنه رأى رجلاً واقفًا بعرفة فقال له: أشارطت؟ فقال: نعم. وعن الحسن وعطاء في المحرم قالا: له شرطه. وروى البيهقي الأمر به عن أم سلمة وقال ابن المنذر: ممن روينا عنه أنه رأى الاشتراط عند الإحرام عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر، وهو مذهب عبيدة السلماني والأسود بن يزيد وشريح وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح وعكرمة وعطاء بن يسار وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وبه قال الشافعي إذ هو بالعراق، ثم وقف عنه بمصر، وبالأول أقول (وهو المصحح عند الشافعية) وحكاه ابن حزم عن جمهور الصحابة، وحكاه والدي يعني الزين العراقي في شرح الترمذي عن جمهور الصحابة والتابعين ومن بعدهم، والثاني استحبابه وهو مذهب أحمد فإن ابن قدامة جزم به في المغني (ج 3: ص 282) وهو المفهوم من قول الخرقي والمجد بن تيمية في مختصريهما عند ذكر الإحرام ((ويشترط)) أي المحرم إن لم يفهم منه الوجوب، الثالث إيجابه، ذهب إليه ابن حزم الظاهري تمسكًا بالأمر، الرابع إنكاره، وهذا مذهب الحنفية والمالكية (ومعنى إنكار الاشتراط وعدم صحته وبطلانه أنه لا ينفعه الاشتراط ولا يفيده وإنه لا تأثير له في جواز التحلل ولا حاجة إليه ولا حكم له: فإن الإحصار عند الحنيفة يتحقق بالمرض أيضًا ولو لم يشترط فيصير المريض عندهم محصرًا له حكم المحصر) وروى ابن أبي شيبة عن هشام بن عروة قال: كان أبي لا يرى الاشتراط في الحج شيئًا، وعن إبراهيم النخعي: كانوا لا يشترطون ولا يرون الشرط شيئًا، وعن طاوس والحكم وحماد: الاشتراط في الحج ليس بشيء، وعن سعيد بن جبير: المستثنى وغير المستثنى سواء، وعن إبراهيم التيمي: كان علقمة لا يرى الاشتراط شيئًا، وروى الترمذي وصححه والنسائي عن ابن عمر أنه كان ينكر الاشتراط في الحج ويقول: أليس حسبكم سنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم -؟ زاد النسائي في روايته ((أنه لم يشترط)) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في صحيح البخاري بدون أوله. وحكى ابن المنذر إنكاره عن الزهري أيضًا، وحكاه ابن عبد البر عن سفيان الثوري، وعن أبي حنيفة أن الاشتراط يفيد سقوط الدم، فأما التحلل فهو ثابت عنده بكل إحصار،

............................................................................................ ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم قال الولي العراقي: فمن قال بالجواز تمسك بهذا الحديث ورأى أن الأمر به ترخيص وتوسعة وتخفيف ورفق وأنه يتعلق بمصلحة دنيوية، وهي ما يحصل لها من المشقة بمصابرة الإحرام مع المرض، ومن قال بالاستحباب رأى المصلحة فيه دينية، وهو الاحتياط للعبادة، فإنها بتقدير عدمه قد يعرض لها من مرض يشعث العبادة ويوقع فيها الخلل، وهذا بعيد، ومن قال بالوجوب حمل الأمر على حقيقته، وهو أبعد من الذي قبله، ولو كان واجبًا لما أخل النبي - صلى الله عليه وسلم - بفعله ولا الصحابة، ولو فعلوا ذلك في حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - لنقل، وقد صرح ابن عمر بأنه لم يشترط كما تقدم ذكره، ولما لم يأمر به إلا هذا المرأة الواحدة بعد شكايتها له علمنا أن ذلك ترخيص حرك ذكره هذا السبب وهو شكواها، ومن قال بالإنكار منهم من ضعف الحديث كما سيأتي ذكره ورده، ومنهم من أوله وفي تأويله أوجه: أحدها أنه خاص بضباعة، حكاه الخطابي عن بعضهم. قال: وقال يشبه أن يكون بها مرض أو حال كان غالب ظنها أنها تعوقها عن إتمام الحج فأذن لها النبي - صلى الله عليه وسلم - في الاشتراط كما أذن لأصحابه في رفض الحج، وليس ذلك لغيرهم، وقال النووي في شرح مسلم بعد ذكره هذا المذهب: وحملوا الحديث على أنها قضية عين وأنه مخصوص بضباعة، وحكاه في شرح المهذب عن الرؤياني من أصحابنا الشافعية، ثم قال: وهذا تأويل باطل ومخالف لنص الشافعي، فإنه إنما قال: لو صح الحديث لم أعده ولم يتأوله ولم يخصه. الثاني أن معناه: حيث حبستني بالموت أي إذا أدركتني الوفاة انقطع إحرامي، حكاه النووي في شرح المهذب عن إمام الحرمين، ثم قال: وهذا تأويل ظاهر الفساد، وعجبت من جلالة الإمام كيف قاله، الثالث أن المراد التحلل بعمرة لا مطلقًا حكاه المحب الطبري عن بعضهم، ويرده حديث ضباعة عند ابن خزيمة في صحيحه والبيهقي في سننه من رواية يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عنها قالت، قلت: يا رسول الله إني أريد الحج فكيف أهل بالحج، قال، قولي: اللهم إني أهل بالحج إن أذنت له به وأعنتني عليه ويسرته لي، وإن حبستني فعمرة، وإن حبستني عنهما جميعًا فمحلي حيث حبستني، فإن فيه التصريح بالتحلل المطلق عن الحج والعمرة معًا. وحكى ابن حزم عن بعضهم: أن هذا الحديث مخالف لقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} ولقوله تعالى {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} وعن بعضهم أن هذا الخبر رواه عروة وعطاء وسعيد بن جبير وطاوس، وروى عنهم خلافه يعني فهذا مما يوهن الاشتراط، ثم قال ابن حزم: سمعناكم تعتلون بهذا في الصاحب فعديتموه إلى التابع وإن درجتموه بلغ إلينا وإلى من بعدنا فصار كل من بلغه حديث فتركه حجة في رده، ولئن خالف هؤلاء ما رووا فقد رواه غيرهم ولم يخالفه، وأطنب ابن حزم في رد هذه المقالات، وهي حقيقة بذلك، والظن بمن يعتمد عليه ممن خالف هذا الحديث أنه لم يبلغه. قال البيهقي: عندي أن ابن عمر لو بلغه حديث ضباعة في الاشتراط لم ينكره كما لم ينكره أبوه - انتهى. واستدل بالحديث على أن المشترط لذلك يحل بمجرد المرض والعجز ولا يحتاج

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ إلا إحلال، وقد قال الشافعية إن اشتراط التحلل بذلك فلا يحل إلا بالتحلل، وإن قال: إذا مرضت فأنا حلال فهل يحتاج في هذه الصورة إلى تحلل أو يصير حلالاً بنفس المرض، فيه للشافعية وجهان، الذي نص عليه الشافعي أنه يصير حلالاً بنفس المرض، ودلالة الحديث محتملة، فإن قوله ((فإن محلي)) يحتمل أن يكون موضع حلي، ويحتمل أن يكون معناه، موضع إحلالي، قال الولي العراقي: والحديث ورد في الحج، والعمرة في معناه، فلو أحرم بعمر فشرط التحلل منها عند المرض كان كذلك. ولا خلاف في هذا بين المجوزين للاشتراط فيما أعلم، ولعل العمرة داخلة في قوله في رواية النسائي من حديث ابن عباس ((فإن لك على ربك ما استثنيت)) قال: والمراد بالتحلل أن يصير نفسه حلالاً فلو شرط أن يقلب حجه عمرة عند المرض فذكر أصحابنا أنه أولى بالصحة من شرط التحلل ونص عليه الشافعي، وإذا جاز إبطال العبادة للعجز فنقلها إلى عبادة أخرى أولى بالجواز – انتهى. واعلم أن سبب الحديث إنما هو في التحلل بالمرض لكن قوله ((حبستني)) يصدق بالحبس بالمرض وبغيره من الأعذار كذهاب النفقة وفراغها وضلال الطريق والخطأ في العدد وقد صرح الشافعية والحنابلة بأن هذه الأعذار كالمرض في جواز شرط التحلل بها، وظاهر الحديث أنه لا يجب عليه عند التحلل بالشرط دم، إذ لو وجب لذكره، فإنه وقت الاحتياج إليه، وبهذا صرح الحنابلة والظاهرية، وهو الأصح عند الشافعية، ومحل الخلاف عندهم في حالة الإطلاق، فلو شرط التحلل بالهدي لزمه قطعًا، وإن شرطه بلا هدي لم يلزمه قطعًا، قال ابن قدامة (ج 3: ص 282) : يستحب لمن أحرم بنسك أن يشترط عند إحرامه فيقول: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، ويفيد هذا الشرط شيئين أحدهما أنه إذا عاقه من عدو أو مرض أو ذهاب نفقة ونحوه أن له التحلل، والثاني أنه متى حل بذلك فلا دم عليه ولا صوم – انتهى. وفي شرح الإقناع: لا يسقط عنه الدم إذا شرط عند الإحرام أنه يتحلل إذا أحصر، بخلاف ما إذا شرط في المرض أنه يتحلل بلا هدي فإنه لا يلزمه، لأن حصر العدو لا يفتقر إلى شرط، أي التحلل بالإحصار جائز بلا شرط، فالشرط فيه لاغ ولو أطلق في التحلل من المرض بأن لم يشترط هديًا لم يلزمه شيء بخلاف ما إذا شرط التحلل بالهدي فإنه يلزمه قال البجيرمي: حاصله أن المرض ونحوه لا يبيح التحلل بدون شرط، أما إذا شرطه جاز التحلل به وأما الدم فإن شرط التحلل به فلا بد منه أيضًا، فإن سكت عنه أو نفاه فلا يجب – انتهى. قال الولي العراقي: واستدل بالحديث الجمهور على أنه لا يجوز التحلل بالإحصار بالمرض من غير شرط، إذ لو جاز التحلل به لم يكن لاشتراطه معنى قال: وظاهر الحديث أنه لا قضاء عند التحلل بالمرض بالشرط وبه صرح أصحابنا وغيرهم، ويعود فيه قول من قال بوجوب القضاء عند الإطلاق على ما تقدم بيانه، والمفهوم من لفظ الشرط أنه لا بد من مقارنته للإحرام فإنه متى سبقه أو تأخر عنه لم يكن شرطًا، وقد صرح بذلك في قوله في حديث ابن عباس: اشترطي عند إحرامك، وهو بهذا اللفظ في مصنف ابن أبي شيبة، وقد صرح بها المارودي وغيره

متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ كما نقله النووي في شرح المهذب، وكذا قال ابن قدامة في المغني: يستحب أن يشترط عند إحرامه – انتهى. وهو واضح، قال: وظاهر الحديث أنه لا بد من التلفظ بهذا الاشتراط كغيره من الشروط وهو ظاهر كلام أصحابنا الشافعة، وذكر فيه ابن قدامة احتمالين: أحدهما هذا، قال: ويدل عليه ظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس ((قولي: محلي من الأرض حيث تحبسني)) قلت: وكذا في حديث عائشة في الصحيحين ((وقولي: اللهم محلي حيث حبستني)) والثاني أنه تكفي فيه النية. ووجهه بأنه تابع لعقد الإحرام، والإحرام ينعقد بالنية فكذلك تابعه، قال: وقد يفهم منه أنه يتعين في الاشتراط اللفظ المذكور في الحديث، وليس كذلك، بل كل ما يؤدي معناه يقوم مقامه في ذلك. قال ابن قدامة: وغير هذا اللفظ مما يؤدي معناه يقوم مقامه، لأن المقصود المعنى والعبارة إنما تعتبر لتأدية المعنى. قال: وفي قوله ((محلي حيث حبستني)) أن المحصر يحل حيث يحبس، وهناك ينحر هديه ولو كان في الحل، وبه قال الشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة: لا ينحره إلا في الحرم، فائدة: قد يتشوف لحال ضباعة هل حبسها المرض أم لا؟ وقد جاء في رواية لمسلم في حديث ابن عباس ((فأدركت)) ومعناه أنها أدركت الحج ولم تتحلل حتى فرغت منه (متفق عليه) أخرجه مسلم في الحج والبخاري في كتاب النكاح في باب الأكفاء في الدين لقوله في رواية الصحيحين في آخر الحديث: ((وكانت تحت المقداد بن الأسود)) يشير إلى تزوجها بالمقداد، وليس كفؤًا لها من حيث النسب فإنه كندي وليس كندة أكفاء لقريش فضلاً عن بني هاشم، وإنما هو كفؤٌ لها في الدين فقط. قال الحافظ: قوله ((وكانت تحت المقداد بن الأسود)) هذا القدر هو المقصود من هذا الحديث في هذا الباب فإن المقداد هو ابن عمرو الكندي، نسب الأسود بن عبد يغوث لكونه تبناه فكان من حلفاء قريش، وتزوج ضباعة وهي هاشمية، فلولا أن الكفاءة لا تعتبر بالنسب لما جاز له أن يتزوجها، لأنها فوقه في النسب، والذي يعتبر الكفاءة في النسب أن يجيب بأنها رضيت هي وأولياءها، فسقط حقهم من الكفاءة، وهو جواب صحيح إن ثبت أصل اعتبار الكفاءة في النسب، وقال في موضع آخر: لم يثبت في اعتبار الكفاءة بالنسب حديث، وأما ما أخرجه البزار من حديث معاذ رفعه: العرب بعضهم أكفاء بعض، والموالي بعضهم أكفاء بعض، فإسناده ضعيف، واحتج البيهقي بحديث واثلة مرفوعًا ((إن الله اصطفى بني كنانة من بني إسماعيل – الحديث. وهو صحيح أخرجه مسلم لكن في الاحتجاج به لذلك نظر، لكن ضم بعضهم إليه حديث ((قدموا قريشًا ولا تقدموها)) ) - انتهى. والحديث أخرجه أيضًا أحمد والترمذي وأبو داود والنسائي والبيهقي وابن حبان والدارقطني وابن الجارود وغيرهم، وفي الباب عن ابن عباس أخرجه أحمد ومسلم والأربعة والبيهقي وابن الجارود والدارمي وغيرهم، وعن أنس عند البيهقي وعن جابر عند الطبراني والبيهقي، وعن ابن مسعود وأم سليم عند البيهقي

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ أيضًا، وعن أم سلمة عند أحمد والطبراني في الكبير، وسنده جيد، وعن ابن عمر عند الطبراني في الكبير، وفيه علي بن عاصم وهو ضعيف، وعن ضباعة أخرجه أحمد وابن ماجة وابن خزيمة والبيهقي، وعن أسماء بنت أبي بكر أو سعدى بنت عوف، أخرجه ابن ماجة على الشك هكذا. قال العقيلي: روى عن ابن عباس قصة ضباعة بأسانيد ثابتة جياد، وقال ابن حزم في المحلى بعد ذكر هذه الأحاديث سوى حديث أسماء أو سعدى: فهذه آثار متظاهرة متواترة لا يسع أحدًا الخروج عنها. وقال الشوكاني: وقد غلط الأصيلي غلطًا فاحشًا فقال: إنه لا يثبت في الاشتراط حديث، وكأنه ذهل عما في الصحيحين – انتهى. وقال الولي العراقي: قال النسائي: لا أعلم أحدًا أسنده عن الزهري غير معمر، وقال في موضع آخر: لم يسنده عن معمر غير عبد الرازق فيما أعلم، وأشار القاضي عياض إلى تضعيف الحديث فإنه قال في الأصيلي: لا يثبت في الاشتراط إسناد صحيح. قال النووي في شرح مسلم: وهذا الذي عرض به القاضي وقاله الأصيلي من تضعيف الحديث غلط فاحش جدًا نبهت عليه لئلا يغتر به لأن هذا الحديث مشهور في صحيحي البخاري ومسلم وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وسائر كتب الحديث المعتمدة من طرق متعددة بأسانيد كثيرة عن جماعة من الصحابة، وفيما ذكره مسلم من تنويع طرقه أبلغ كفاية. وقال والدي في شرح الترمذي: والنسائي لم يقل بانفراد معمر به مطلقًا بل بانفراده به عن الزهري. ولا يلزم من الانفراد المقيد الانفراد المطلق فقد أسنده معمر وأبو أسامة وسفيان بن عيينة عن هشام عن أبيه عن عائشة، وأسنده القاسم عنها، ولو انفرد به معمر مطلقًا لم يضره، وكم في الصحيحين من الانفراد ولا يضر إرسال الشافعي له، فالحكم لمن وصل، هذا معنى كلامه – انتهى كلام الولي العراقي. تنبيه قال الشيخ محمد أنور الكشميري: وافقنا البخاري في مسألة الاشتراط حيث لم يخرج حديث ضباعة في كتاب الحج مع كونه صريحًا في الاشتراط، وإنما أخرجه في كتاب النكاح، ومن آدابه وعاداته في التراجم والأبواب أنه لا يعقد ترجمة على الحديث إذا لم يذهب إليه، وأن الحديث إذا ورد في مسألة ولم يخرجه في بابه مع كونه صريحًا فيه بل حوله من مظنته، فكأن هذا تنبيه منه على أنه لا يأخذه ولا يذهب إليه، ونظير ذلك أنه روى حديث الركعتين بعد الوتر جالسًا ولم يبوب عليه الترجمة ولم يخرجه في أبواب الوتر بل أخرجه في السنة أي الركعتين قبل الفجر. قال: وما نبه أحد على هذه العادة، هذا معنى كلامه. وفيه ما قال صاحب فتح الملهم أنه قد تنبه لها ابن المرابط وأشار إليها كما حكاه العيني عنه فقال: زعم ابن المرابط أن عدم ذكر البخاري حديث ضباعة في الحج دلالة على أن الاشتراط عنده لا يصح، ثم قال العيني: فيه نظر لا يخفى، ولم يبين وجه النظر، وما ادعاه الشيخ الأنور من عادة البخاري ليس بمطرد، فقد روى البخاري حديث الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدعوات ولم يخرجه في أبواب الصلاة أصلاً مع أنه لا شبهة في كونه أليق بها فيما بين باب التشهد وباب الدعاء قبل السلام كما هو الظاهر

(الفصل الثاني)

(الفصل الثاني) 2737 – (6) عن ابن عباس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه أن يبدلوا الهدي الذي نحروا عام الحديبية في عمرة القضاء. رواه........ ـــــــــــــــــــــــــــــ 2737 – قوله (أمر أصحابه أن يبدلوا) بالتشديد والتخفيف (الهدي الذي نحروا عام الحديبية) أي يذبحوا مكان ما ذبحوه هديًا آخر (في عمرة القضاء) يعني أمرهم بأن ينحروا الهدي في عمرة القضاء بدل ما نحروا عام الحديبية أي في السنة المتقدمة، واستدل بقوله ((عمرة القضاء)) من رأى القضاء على المحصر، قالوا: كانت عمرة العام المقبل قضاء العمرة التي صد عنها في العام الماضي، وهذا الاسم تابع للحكم، ومن لم ير القضاء قال: القضاء هنا من المقاضاة لأنه قاضى أهل مكة عليها لا أنه من قضى يقضي قضاء، ولهذا سميت عمرة القضية. قال الطيبي: يستدل بهذا الحديث من يوجب القضاء على المحصر إذا حل حيث أحصر، ومن يذهب إلى أن دم الإحصار لا يذبح إلا في الحرم فإنه أمرهم بالإبدال لأنه نحروا هداياهم في الحديبية خارج الحرم – انتهى. وقال الخطابي: أما من لا يرى عليه القضاء في غير الفرض فإنه لا يلزمه بدل الهدي، ومن أوجبه فإنما يلزمه البدل لقوله عز وجل {هديًا بالغ الكعبة} ومن نحر الهدي في الموضع الذي أحصر فيه وكان خارجًا من الحرم فإن هديه لم يبلغ الكعبة، فيلزمه إبداله وإبلاغه الكعبة، وفي الحديث حجة لهذا القول – انتهى. وقال في اللمعات: هذا أي الأمر بإبدال الهدي يدل على أن هدي الإحصار لا يذبح إلا في الحرم كما هو مذهب أبي حنيفة، وهذا إن قلنا إنهم نحروا في الحديبية في غير الحرم، وإن قلنا إنهم ذبحوها في الحرم فإن الحديبية أكثرها حرم، فالتبديل للاحتياط وإدراك الفضيلة ثانيًا، والأمر للاستحباب، والله أعلم. وقوله ((في عمرة القضاء)) تسميته عمرة القضاء ظاهر في مذهبنا، والشافعية يقولون إن المراد بالقضاء الصلح، والقضاء والمقاضاة يجيء بمعنى الصلح والمصالحة، وقد ذكروا في الصلح أن يأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العام المقبل. وقال البيهقي: لعله إن صح الحديث استحب الإبدال وإن لم يكن واجبًا كما استحب الإتيان بالعمرة وإن لم يكن قضاء ما أحصروا عنه واجبًا بالتحلل والله أعلم، ذكره المنذري في مختصر السنن والمحب الطبري في القرى (رواه....) قال القاري: هنا بياض في الأصل، وفي نسخة ألحق به ((أبو داود)) وزاد في نسخة ((وفيه قصة)) وفي سنده محمد بن إسحاق – انتهى. قلت: الحديث رواه أبو داود في باب الإحصار من طريق محمد بن إسحاق عن عمرو بن ميمون عن أبي حاضر الحميري وهو عثمان بن حاضر، قال: خرجت معتمرًا عام حاصر أهل الشام ابن الزبير بمكة وبعث معي رجال من قومي بهدي، فلما انتهينا إلى أهل الشام منعونا أن ندخل الحرم، فنحرت الهدي مكاني ثم أحللت ثم رجعت، فلما كان من العام المقبل خرجت لأقضي عمرتي فأتيت ابن عباس فسألته فقال: أبدل الهدي فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه أن يبدلوا الهدي، إلخ.

2738 – (7) وعن الحجاج بن عمرو الأنصاري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من كسر، أو عرج فقد حل ـــــــــــــــــــــــــــــ وقد سكت عنه أبو داود. قال المنذري: في سنده محمد بن إسحاق وقد تقدم الكلام فيه – انتهى. قلت: قد تقدم أنه مدلس ولم يصرح في روايته لهذا الحديث بالتحديث والسماع ففي كون الحديث حسنًا نظر. 2738 – قوله (وعن الحجاج بن عمرو الأنصاري) هو الحجاج بن عمرو بن غزية – بفتح المعجمة وكسر الزاي وتشديد التحتانية – الأنصاري الخزرجي المازني، نسبة إلى جده مازن بن النجار، قال البخاري: له صحبة روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثين، هذا أحدهما، وقد صرح بسماعه فيه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، والآخر: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتهجد من الليل بعد نومه. روى عنه ابن أخيه حمزة بن سعيد وكثير بن العباس وعبد الله بن رافع وعكرمة، وقيل عن عكرمة عن عبد الله بن رافع، والحجاج بن عمرو هذا هو الذي ضرب مروان بن الحكم يوم الدار حتى أسقطه وحمله أبو حفصة مولاه وهو لا يعقل، وقال أبو نعيم: شهد مع علي صفين (من كسر) بضم الكاف وكسر السين على بناء المجهول (أو عرج) بفتح المهملة على بناء المعلوم من باب نصر وضرب، أي أصابه شيء في رجله وليس بخلقة، فإذا كان خلقة قيل عرج بالكسر كفرح من باب سمع، قال في الصحاح: عرج في الدرجة والسلم يعرج عروجًا إذا ارتقى، وعرج أيضًا إذا أصابه شيء في رجله فخمع ومشى مشية العرجان، وليس بخلقة، فإذا كان ذلك خلقة قلت: عرج بالكسر فهو أعرج بين العرج، وفي القاموس عرج عروجًا ارتقى وأصابه شيء في رجله فخمع وليس بخلقة، فإذا كان خلقة فعرج كفرح أو يثلث في غير الخلقة – انتهى. وزاد أبو داود وابن ماجة في رواية ((أو مرض)) وقال المجد في المنتقى: وفي رواية ذكرها أحمد في رواية المروزي ((من حبس بكسر أو مرض)) يعني من حدث له بعد الإحرام مانع غير إحصار العدو (فقد حل) أي يجوز له أن يترك الإحرام ويرجع إلى وطنه، قاله القاري. وقال السندي: قوله ((من كسر أو عرج)) إلخ. أي من أحرم ثم حدث له بعد الإحرام مانع من المضي على مقتضى الإحرام غير إحصار العدو بأن كان أحد كسر رجله أو صار أعرج من غير صنيع من أحد يجوز له أن يترك الإحرام وإن لم يشترط التحلل، وقيده بعضهم (الشافعية والحنابلة) بالاشتراط، ومن يرى أنه من باب الإحصار (وهم الحنفية) لعله يقول: معنى ((حل)) كاد أن يحل قبل أن يصل إلى نسكه بأن يبعث الهدي مع أحد ويواعده يومًا بعينه يذبحها فيه في الحرم فيتحلل بعد الذبح – انتهى. وقال التوربشتي: إن قيل ما وجه قوله ((فقد حل)) والمتمسك بهذا الحديث يرى أن المحصر ليس له أن يحل حتى يبلغ الهدي محله، وعنده أن محله مكانه الذي يجب أن ينحر به وهو الحرم فكيف يقول ((فقد حل)) ولم يبلغ الهدي محله، قلنا: قد قيل إن وجه قوله ((فقد حل)) له أن يحل من

وعليه الحج من قابل ". ـــــــــــــــــــــــــــــ غير أن يصل إلى البيت، ومثله قولك للمرأة إذا انقضت عدتها ((قلت: قد حلت للرجل)) يعني أن يخبطها ويعقد عليها، ويجوز أن يكون بمعنى المقاربة، أي قرب له ذلك وحان فكان كقولك من بلغ ذات عرق فقد حج – انتهى. (وعليه الحج من قابل) وفي رواية ((وعليه حجة أخرى)) وللحديث تتمة من قول عكرمة وهو أحد الرواة عن الحجاج بن عمرو وذلك قوله ((فذكرت ذلك لأبي هريرة وابن عباس فقال صدق)) وفي رواية فحدثت بذاك ابن عباس وأبا هريرة فقالا: صدق. قال الخطابي: في الحديث حجة لمن رأى الإحصار بالمرض والعذر يعرض للمحرم من غير حبس العدو وهو مذهب الثوري وأصحاب الرأي، وقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق: لا حصر إلا حصر العدو، وقد روي ذلك عن ابن عباس وعلل بعضهم حديث الحجاج بن عمرو بأنه قد ثبت عن ابن عباس خلافه وهو أنه قال: لا حصر إلا حصر العدو وتأوله بعضهم على أنه إنما يحل بالكسر والعرج إذا كان قد اشترط ذلك في عقد الإحرام على معنى حديث ضباعة، قالوا: ولو كان الكسر عذرًا لم يكن لاشتراطها معنى، ولا كانت بها إلى ذلك حاجة، وأما قوله ((وعليه الحج من قابل)) فإنما هذا فيمن كان حجه عن فرض، فأما المتطوع بالحج إذا أحصر فلا شيء عليه غير هدي الإحصار وهذا على مذهب مالك والشافعي، وقال أصحاب الرأي: عليه حجة وعمرة وهو قول النخعي، وعن مجاهد والشعبي وعكرمة عليه حجة من قابل – انتهى. باختصار يسير. وقال ابن القيم في مختصر السنن: إن صح حديث الحجاج بن عمرو فقد حمله بعض أهل العلم على أنه يحل بعد وفاته بما يحل به من يفوته الحج بغير مرض فقد روينا عن ابن عباس ثابتًا عنه أنه قال: لا حصر إلا حصر عدو، وقال غيره: معنى حديث الحجاج بن عمرو أن تحلله بالكسر والعرج إذا كان قد اشترط ذلك في عقد الإحرام على معنى حديث ضباعة، قالوا: ولو كان الكسر مبيحًا للحل لم يكن للاشتراط معنى، قالوا: وأيضًا فلا يقول أحد بظاهر الحديث فإنه لا يحل بمجرد الكسر والعرج فلا بد من تأويله فنحمله على ما ذكرناه، قالوا: وأيضًا فإنه لا يستفيد بالحل زوال عذره أي التخلص من الأذى الذي به ولا الانتقال من حاله بخلاف المحصر بالعدو. وقوله ((وعليه الحج من قابل)) هذا إذا لم يكن حج الفرض، فأما إذا كان متطوعًا فلا شيء عليه غير هدي الإحصار. وقال البيهقي: وحديث الحجاج بن عمرو قد اختلف في إسناده، والثابت عن ابن عباس خلافه وأنه لا حصر إلا حصر العدو – انتهى. ونحو ذلك قرر ابن قدامة مذهب الجمهور، من شاء الوقوف عليه رجع إلى المغني (ج 3: ص 363) ، ثم قال ابن القيم: اختلف العلماء من الصحابة فمن بعدهم فيمن منع الوصول إلى البيت بمرض أو كسر أو عرج هل حكمه حكم المحصر في جواز التحلل؟ فروي عن ابن عباس وابن عمر ومروان بن الحكم: أنه لا يحلله إلا الطواف بالبيت، وهو قول مالك والشافعي وإسحاق وأحمد في المشهور من مذهبه، وروي عن ابن مسعود أنه كالمحصر بالعدو وهو قول عطاء والثوري وأبي حنيفة وأصحابه وإبراهيم النخعي وأبي ثور وأحمد في الرواية الأخرى

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ عنه ومن حجة هؤلاء حديث الحجاج وأبي هريرة وابن عباس، قالوا: وهو حديث حسن يحتج بمثله، قالوا: وأيضًا ظاهر القرآن بل صريحه يدل على أن الحصر يكون بالمرض فإن لفظ الإحصار إنما هو للمرض، يقال: أحصره المرض وحصره العدو، فيكون لفظ الآية صريحًا في المريض وحصر العدو ملحق به، فكيف يثبت الحكم في الفرع دون الأصل؟ قال الخليل وغيره: حصرت الرجل حصرًا: منعته وحبسته، وأحصر هو عن بلوغ المناسك بمرض أو نحوه، قالوا: وعلى هذا خرج قول ابن عباس ((لا حصر إلا حصر العدو)) ولم يقل لا إحصار إلا إحصار العدو فليس بين رأيه وروايته تعارض، ولو قدر تعارضهما فالأخذ بروايته دون رأيه لأن روايته حجة ورأيه ليس بحجة. وأما قولكم: إن معناه أنه يحل بعد وفاته بما يحل به من يفوته الحج لغير مرض ففي غاية الضعف، فإنه لا تأثير للكسر ولا للعرج في ذلك، فإن المفوت يحل صحيحًا كان أو مريضًا، وأيضًا فإن هذا يتضمن تعليق الحكم بوصف لم يعتبره النص وإلغاء الوصف الذي اعتبره، وهذا غير جائز، وأما قولكم: إنه يحمل على الحل بالشرط. فالشرط إما أن يكون له تأثير في الحل عندكم أو لا تأثير له، فإن كان مؤثرًا في الحل لم يكن الكسر والعرج هو السبب الذي علق الحكم به، وهو خلاف النص، وإن لم يكن له تأثير في الحل بطل حمل الحديث عليه، قالوا: وأما قولكم: إنه لا يقول أحد بظاهره، فإن ظاهره أنه بمجرد الكسر والعرج يحل، فجوابه أن المعنى: فقد صار ممن يجوز له الحل بعد أن كان ممنوعًا منه، وهذا كقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أقبل الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا فقد أفطر الصائم ". وليس المراد به أنه أفطر حكمًا وإن لم يباشر المفطرات، بدليل إذنه لأصحابه في الوصال إلى السحر، ولو أفطروا حكمًا لاستحال منهم الوصال. ولقوله تعالى {فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره} (سورة البقرة: الآية 230) فإذا نكحت زوجًا آخر حلت، لا بمجرد نكاح الثاني، بل لا بد من مفارقته وانقضاء العدة وعقد الأول عليها، قالوا: وأما قولكم: إنه لا يستفيد بالإحلال الانتقال من حاله التي هو عليها ولا التخلص من أذاه، بخلاف من حصره العدو. فكلام لا معنى تحته، فإنه قد يستفيد بحله أكثر مما يستفيد المحصر بالعدو، فإنه إذا بقى ممنوعًا من اللباس وتغطية الرأس والطيب مع مرضه تضرر بذلك أعظم الضرر في الحر والبرد، ومعلوم أنه قد يستفيد بحله من الترفه ما يكون سبب زوال أذاه، كما يستفيد المحصر بالعدو بحله، فلا فرق بينهما، فلو لم يأت نص بحل المحصر بمرض لكن القياس على المحصر بالعدو يقتضيه، فكيف وظاهر القرآن والسنة والقياس يدل عليه؟ والله أعلم – انتهى كلام ابن القيم. قلت: وأما قول الجمهور: أنه ولو كان التحلل جائزًا بدون شرط لم يكن للاشتراط معنى، ولو كان المرض ونحوه من الأعذار يبيح الحل ما احتاجت إلى شرط فقد أجاب عنه بعض الحنفية بأنه ليس المراد بنفي الاشتراط وعدم الاحتياج في التحلل إليه كون الاشتراط لغوًا وعبثًا وأنه لا فائدة فيه أصلاً، بل فيه فائدة عظيمة وإن لم يتغير به حكم، والفائدة فيه تسكين قلب ضباعة وتسلية نفسها حيث كانت مريضة

................................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ تخاف من عدم إتمام ما أحرمت به فلو حدث لها مفاجئة ما يعوقها من الإتمام لكان أشق عليها وأبلغ في التفجيع لها كما شق على الصحابة التحلل في الحديبية وكما شق عليهم فسخ الحج إلى العمرة في حجة الوداع بخلاف ما إذا اشترطت وصرحت بتعليق الإتمام على الشرط واستحضرت من أول الأمر أنها في خيرة من تركه عندما يتفق لها من الموانع، فهذا مما لا شك فيه أنه لا يحصل في قلبها ضيق وحرج في التحلل عند حدوث عارض يمنعه من الإتمام والإكمال، ويكون شروعها في أعمال الحج أهون عليها وأسهل وأيسر، وهذه فائدة لا يمكن إنكارها مع جواز التحلل من غير اشتراط، على أنه روي عن أبي حنيفة كما في المغني أن الاشتراط يفيد سقوط الدم مع كون التحلل ثابتًا عنده بكل إحصار، وأما ما ذكره الجمهور من قول ابن عباس: لا حصر إلا حصر العدو. فقد تقدم الجواب عنه في كلام الآلوسي أيضًا فتذكر. وقال التوربشتي: قد نقل عنه في معنى الإحصار برواية الثقات ما يؤيد حديث الحجاج، وروي عن سفيان الثوري عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة، فإن أحصرتم، قال: من حبس أو مرض، قال إبراهيم: حدثت به سعيد بن جبير فقال: هكذا قال ابن عباس. ولو ثبت عنه أيضًا لا حصر إلا حصر العدو، فالسبيل أن يؤول لئلا يخالف حديث حجاج عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وليوافق حديث سعيد بن جبير عنه، ورأيت التأويل الجامع أن نقول: لا حصر إلا حصر العدو بمثابة قول من قال: لا هم إلا هم الدين، وذلك أن الحصر بالعدو من أعظم أسباب الحصر لأنه متعلق بالعموم وغيره متعلق بالخصوص والأفراد كما كان من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - حين صد عن البيت وأحصر بالعدو، أحصر هو وسائر من معه، ولو مرض أحد القوم لم يكن كذلك، فهذا معنى قوله: لا حصر إلا حصر العدو – انتهى. قلت: والقول الراجح عندي في معنى الإحصار أنه يكون من كل حابس يحبس الحاج من عدو ومرض وغير ذلك كما ذهب إليه الحنفية وكثير من الصحابة. قال الأمير اليماني في السبل: القول بتعميم الإحصار هو أقوى الأقوال وليس في غيره من الأقوال إلا آثار وفتاوي للصحابة – انتهى. قلت: وإليه مال البخاري في صحيحه إذ ذكر في باب المحصر بعد آية الإحصار: قال عطاء: الإحصار من كل شيء يحبسه. قال الحافظ: وفي اقتصاره على تفسير عطاء إشارة إلى أنه اختار القول بتعميم الإحصار – انتهى. وإليه ذهب ابن حزم حيث قال في المحلى: كل من عرض له ما يمنعه من إتمام حجه أو عمرته من عدوٍّ أو مرض أو خطأ طريق أو خطأ في رؤية الهلال فهو محصر. قلت: ويدل عليه عموم قوله تعالى: {فإن أحصرتم} (الآية) وإن كان سبب نزولها إحصار النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعدو، فالعام لا يقصر على سببه. قال الشوكاني في السيل الجرار (ج 2: ص 231) هذه الآية وإن كان سببها خاصًا فالاعتبار بعموم اللفظ كما تقرر في الأصول، وبنحو ذلك قال الأمير اليماني في السبل: وقال ابن جرير في تفسيره بعد تفصيل طويل: وأولى التأويلين للصواب في قوله تعالى: {فإن أحصرتم} تأويل من تأوله بمعنى فإن أحصركم خوف أو مرض أو علة عن

رواه الترمذي، وأبو دواد، والنسائي، وابن ماجة، والدارمي، وزاد أبو داود في رواية أخرى: " أو مرض ". وقال الترمذي: هذا حديث حسن. وفي المصابيح: ضعيف. 2739 – (8) وعن عبد الرحمن بن يعمر الديلي، قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم -، يقول: " الحج عرفة، ـــــــــــــــــــــــــــــ الوصول إلى البيت أي صيركم خوفكم أو مرضكم تحصرون أنفسكم فتحبسونها عن النفوذ لما أوجبتموه على أنفسكم من عمل الحج والعمرة فلذا قيل ((أحصرتم)) إلى آخر ما قال. قلت: ويدل على التعميم أيضًا حديث الحجاج بن عمرو بل هو مع الآية المذكورة نص على كون الإحصار عامًا للعدو والمرض، وفيهما بيان قاعدة كلية خرجت مخرج التشريع العام فلا تترك بما ورد مما يخالفها من الآثار والوقائع الجزئية التي تحتمل محامل من الخصوصية وغيرها، والله أعلم (رواه الترمذي وأبو داود) إلخ. وأخرجه أيضًا أحمد (ج 3: ص 450) وابن خزيمة والحاكم (ج 1: ص 483) والبيهقي (ج 5: ص 220) والدارقطني (ص 279) (وقال الترمذي: هذا حديث حسن) وقد سكت عنه أبو داود ونقل المنذري تحسين الترمذي وقرره، وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري وأقره الذهبي (وفي المصابيح: ضعيف) لعل البغوي ضعفه للاختلاف في سنده كما بينه الترمذي والبيهقي والحافظ في الفتح وغيرهم، والحق أن الاختلاف الواقع في سنده لا يضر ولا يستلزم ضعفه كما حققه الحافظ، ولذلك حسنه الترمذي وسكت عليه أبو داود وأقر المنذري تحسين الترمذي والذهبي تصحيح الحاكم. 2739 - قوله (وعن عبد الرحمن بن يعمر) بفتح المثناة التحتية وسكون العين المهملة وفتح الميم ويضم، غير منصرف (الديلي) بكسر الدال وسكون التحتانية، منسوب إلى الديل – بمكسورة وسكون ياء – وقيل الدؤلي بضم الدال وفتح الهمزة مكان الياء، وحينئذ تكتب بصورة الواو وقد تكسر الدال مع فتح همزة وقد تضم مع كسر همزة. قال الحافظ في التقريب: عبد الرحمن بن يعمر الديلي صحابي نزل بالكوفة، ويقال: مات بخراسان. وقال في الإصابة: قال ابن حبان في الصحابة: مكيّ سكن الكوفة، يكنى أبا الأسود، مات بخراسان، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث ((الحج عرفة)) وفيه قصة، وحديث النهي عن الدباء والمزفت، وصحح حديثه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني وصرح بسماعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض طرقه إليه (الحج عرفة) مبتدأ وخبر على تقدير مضاف من الجانبين أي معظم الحج أو ملاكه الوقوف بعرفة لفوت الحج بفواته. وقال الطيبي: تعريفه للجنس وخبره معرفة فيفيد الحصر نحو: ذلك الكتاب. وقال التوربشتي: أي معظم الحج وملاكه الوقوف بعرفة وذلك مثل قولهم: المال الإبل، وإنما كان ذلك ملاكه وأصله لأنه يفوت بفواته ويفوت الوقوف لا إلى بدل، وقيل: تقديره: إدراك الحج إدراك وقوف عرفة، والمقصود أن إدراك الحج يتوقف على إدراك الوقوف بعرفة، وأن من أدركه فقد أمن حجه من الفوات، وقال

من أدرك عرفة ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج. أيام منى ثلاثة، فمن تعجل ـــــــــــــــــــــــــــــ الشوكاني: أي الحج الصحيح حج من أدرك يوم عرفة. وقال المحب الطبري: معناه أن فوات الحج متعلق بفوات وقته، وغيره من الأركان وقته ممتد – انتهى. وفي الحديث قصة، وهي أن ناسًا من أهل نجد أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بعرفة فسألوه فأمر مناديًا فنادي: الحج عرفة. هذا لفظ الترمذي وفي رواية أبي داود قال (عبد الرحمن بن يعمر) : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - (ولأحمد والنسائي ((شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) ) وهو بعرفة فجاء ناس أو نفر من أهل نجد فأمروا رجلاً فنادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف الحج؟ (أي كيف حج من لم يدرك يوم عرفة كما بوب عليه أبو داود) فأمر رجلاً فنادي الحج الحج يوم عرفة (بتكرير لفظ الحج، وزاد في رواية ((ثم أردف رجلاً خلفه فجعل ينادي بذلك)) ) وفي رواية للدارقطني والبيهقي: الحج عرفات الحج عرفات، وفي المنتقي لابن الجارود: الحج عرفات ثلاثًا، وعند أحمد (ج 4: ص 309، 310) ((الحج يوم عرفة أو عرفات)) وكلاهما اسم للموضع الذي يقف به الحاج، وكل ذلك خارج عن الحرم (من أدرك عرفة) أي الوقوف بها (ليلة جمع) أي ولو ليلة المبيت بالمزدلفة وهي ليلة العيد (قبل طلوع الفجر) أي قبل طلوع فجر يوم النحر، وفيه رد على من زعم أن الوقوف يفوت بغروب الشمس يوم عرفة، ومن زعم أن وقته يمتد إلى ما بعد الفجر إلى طلوع الشمس قاله القاري. وقوله ((من أدرك عرفة ليلة جمع)) كذا وقع في المشكاة والمصابيح، وهكذا في المنتقي لابن الجارود، وفي رواية الحميدي ((من أدرك عرفة قبل الفجر)) وللنسائي ((من أدرك ليلة عرفة)) وفي أخرى له ((من جاء ليلة جمع قبل صلاة الصبح)) ولفظ الترمذي ((من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر)) ولفظ أبي داود ((من جاء قبل صلاة الصبح من ليلة جمع)) وهكذا وقع عند أحمد (ج 4: ص 309، 335) وابن ماجة، والمعني: من جاء عرفة ووقف ليلة المزدلفة قبل طلوع فجر يوم النحر، ولأحمد أيضًا (ج 4: ص 309) والدارمي من أدرك ليلة جمع قبل صلاة الصبح (فقد أدرك الحج) أي لم يفته وأمن من الفساد، وهذا لفظ الترمذي والحميدي والدارمي وابن الجارود وأحمد في رواية ولأبي داود والنسائي وابن ماجة، وأحمد في رواية ((فقد تم حجه)) قال السندي: أي أمن من الفوات، وإلا فلابد من الطواف، وقال القاضي أبو الطيب في تعليقه على النسائي أي قارب التمام. وقال الخطابي: قوله ((فقد تم حجه)) يريد به معظم الحج وهو الوقوف بعرفة، لأنه هو الذي يخاف عليه الفوات، فأما طواف الزيارة فلا يخشى فواته وهكذا كقوله: الحج عرفة، أي معظم الحج هو الوقوف بعرفة – انتهى (أيام منى) مرفوع على الابتداء وخبره قوله (ثلاثة) أي ثلاثة أيام، وهي الأيام المعدودات وأيام التشريق وأيام رمي الجمار، وهي الثلاثة التي بعد يوم النحر وليس يوم النحر منها لإجماع الناس على أنه لا يجوز النفر يوم ثاني النحر، ولو كان يوم النحر من الثلاث لجاز أن ينفر من شاء في ثانيه (فمن تعجل) أي استعجل بالنفر

في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه ". ـــــــــــــــــــــــــــــ أي الخروج من منى (في يومين أي من أيام التشريق فنفر في اليوم الثاني منها. قال الألوسي: النفر في أول منها لا يجوز فظرفية اليومين له على التوسع باعتبار أن الاستعداد له في اليوم الأول، والقول بأن التقدير في أحد يومين إلا أنه مجمل فسر باليوم الثاني أو في آخر يومين خروج عن مذاق النظر (فلا إثم عليه) في تعجيله (ومن تأخر) أي عن النفر في اليوم الثاني من أيام التشريق إلى اليوم الثالث (فلا إثم عليه) في تأخيره، وقيل: المعنى: ومن تأخر عن الثالث إلى الرابع ولم ينفر مع العامة فلا إثم عليه، والتخيير ها هنا وقع بين الفاضل والأفضل لأن المتأخر أفضل، فإن قيل: إنما يخاف الإثم المتعجل فما بال المتأخر الذي أتى بالأفضل ألحق به؟ فالجواب أن المراد من عمل بالرخصة وتعجل فلا إثم عليه في العمل بالرخصة ومن ترك الرخصة وتأخر فلا إثم عليه في ترك الرخصة، كذا في النيل، وقال التوربشتي: إن قيل ما وجه التخيير بين الأمرين وأحدهما أفضل من الآخر؟ وما وجه التسوية بين المتعجل والمتأخر؟ والمتأخر أخذ بالأسد والأفضل؟ قلنا: قد ذكر أهل التفسير أن أهل الجاهلية كانوا فئتين، فإحداهما ترى المتعجل آثمًا والأخرى ترى المتأخر آثمًا، فورد التنزيل بنفي الحرج عنهما، وهذا قول مطابق لسياق الآية لو كان له في أسباب النزول أصل ثابت، والظاهر أن الإعلام الذي جاءهم من قبل الله إنما جاء ليعلموا أن الأمر موسع عليهم فلهم أن يأخذوا من الأمرين بأيهما شاءوا)) ونظيره التخيير بين الصوم والإفطار وإن كان الصوم أفضل. وأما وجه التسوية بين المتعجل والمتأخر في نفي الجرح فهو أن من الرخص ما يقع من العامل موقع العزيمة، ويكون الفضل في إتيانه دون إتيان ما يخالفه، وذلك مثل قصر الصلاة للمسافر، فمنهم من يراه عزيمة ولا شك أنه في الأصل رخصة، والذي يراه أيضًا رخصة يرى إتيان هذه الرخصة أفضل، ولما كان التعجل في يومين رخصة والرخصة محتملة للمعاني التي ذكرناها وقع قوله ((فلا إثم عليه)) موضع البيان في إتيان الرخصة، وقوله ((ومن تأخر)) موقع البيان لترك الرخصة، وإذا كانت الرخصة من هذا القبيل الذي لن يبين لنا فضله على ما يخالفه فلا شك أن الإتيان بالأتم والأكمل أولى وأفضل – انتهى. والحديث فيه دليل على أن الوقوف بعرفة في وقته ركن لا يصح الحج إلا به وقد أجمع العلماء على ذلك، حكى هذا الإجماع غير واحد من شراح الحديث ونقلة المذاهب، منهم ابن قدامة وابن رشد وغيرهما. ودل الحديث أيضًا على أن وقت الوقوف ممتد إلى ما قبل طلوع الفجر من ليلة المزدلفة وقد أجمعوا عليه أيضًا لكنهم اختلفوا في وقت الفرض والواجب للوقوف كما ستعرف، قال ابن قدامة (ج 3: ص 410، 413) : الوقوف ركن لا يتم الحج إلا به إجماعًا، ثم ذكر حديث عبد الرحمن بن يعمر ثم قال: ويجب عليه الوقوف إلى غروب الشمس ليجمع بين الليل والنهار في الوقوف بعرفة: فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف بعرفة حتى غابت الشمس كما تقدم في حديث جابر (الطويل) وفي حديث علي وأسامة ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دفع حين غابت الشمس)) .

................................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن دفع قبل الغروب فحجه صحيح في قول جماعة الفقهاء إلا مالكًا. قال: لا حج له، قال ابن عبد البر: لا نعلم أحدًا من فقهاء الأمصار قال بقول مالك، وحجته ما روى ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من أدرك عرفات بليل فقد أدرك الحج، ومن فاته عرفات بليل فقد فاته الحج فليحل بعمرة، وعليه الحج من قابل، ولنا ما روى عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة – الحديث، وفيه ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهارًا فقد تم حجه)) فأما خبره فإنما خص الليل لأن الفوات يتعلق به إذا كان يوجد بعد النهار، فهو آخر وقت الوقوف كما قال عليه السلام: " من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها، ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدركها ". وعلى من دفع قبل الغروب دم في قول أكثر أهل العلم منهم عطاء والثوري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي ومن تبعهم، وقال ابن جريج: عليه بدنة. وقال الحسن البصري: عليه هدي من الإبل، ولنا أنه واجب لا يفسد الحج بفواته فلم يوجب البدنة كالإحرام من الميقات، فإن دفع قبل الغروب ثم عاد نهارًا فوقف حتى غربت الشمس فلا دم عليه. وبهذا قال مالك والشافعي، وقال الكوفيون وأبو ثور: عليه دم لأنه بالدفع لزمه الدم فلم يسقط برجوعه، كما لو عاد بعد غروب الشمس. ولنا أنه أتى بالواجب وهو الجمع بين الوقوف في الليل والنهار فلم يجب عليه دم كمن تجاوز الميقات غير محرم ثم رجع فأحرم منه، فإن لم يعد حتى غربت الشمس فعليه دم لأن عليه الوقوف حال الغروب وقد فاته بخروجه – انتهى. قلت: وما نسب إلى الكوفيون من وجوب الدم فيما إذا دفع قبل الغروب ثم عاد نهارًا فوقف حتى غربت الشمس، وهو قول مرجوح للحنفية، والراجح سقوط الدم كما ذهب إليه الجمهور، قال القاري: إن دفع قبل الغروب فإن جاوز حد عرفة بعد الغروب فلا شيء عليه اتفاقًا، وإن جاوزه قبل فعليه دم، فإن لم يعد أصلاً أو عاد بعد الغروب لم يسقط الدم، وإن عاد قبل الغروب فدفع بعد الغروب سقط الدم على الصحيح – انتهى. ثم قال ابن قدامة (ج 3: ص 415) : ومن لم يدرك جزءًا من النهار ولا جاء عرفة حتى غابت الشمس فوقف ليلاً فلا شيء عليه، وحجه تام لا نعلم مخالفًا فيه لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من أدرك عرفات بليل ... " ولأنه لم يدرك جزءًا من النهار فأشبه من منزله دون الميقات إذ أحرم منه، ووقت الوقوف من طلوع الفجر يوم عرفة إلى طلوع الفجر من يوم النحر. لا نعلم خلافًا بين أهل العلم في أن آخر الوقت طلوع فجر يوم النحر. قال جابر: لا يفوت الحج حتى يطلع الفجر من ليلة جمع. قال أبو الزبير: فقلت له: أقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك؟ قال: نعم. رواه الأثرم، وأما أوله فمن طلوع الفجر يوم عرفة. وقال مالك والشافعي أول وقته زوال الشمس من يوم عرفة، واختاره أبو حفص العكبري، وحكى ابن عبد البر ذلك إجماعًا، ولنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث عروة بن مضرس ((من شهد صلاتنا هذه

................................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهارًا فقد تم حجه)) ولأنه من يوم عرفة فكان وقتًا للوقوف كبعد الزوال، وترك الوقوف لا يمنع كونه وقتًا للوقوف كبعد العشاء، وإنما وقفوا في وقت الفضيلة ولم يستوعبوا جميع وقت الوقوف – انتهى. وقد ظهر من كلام ابن قدامة أنهم اختلفوا في فرض الوقت للوقوف على ثلاثة أقوال، الأول: قول أحمد: إنه من طلوع الفجر من يوم عرفة إلى طلوع الفجر من ليلة النحر من غير فرق بين الليل والنهار، وبه جزم عامة أهل الفروع من الحنابلة، والثاني: قول مالك: إنه ليلة النحر من الغروب إلى طلوع الفجر. فالمعتمد عنده في الوقوف بعرفة ليلة النحر، والنهار من يوم عرفة تبع، والأفضل الجمع بينهما، فإن أفرد الليل جاز، وإن عكس لم يجزه، والحاصل أن الوقوف بجزء من الليل ركن عنده فمن خرج من عرفات قبل الغروب ولم يرجع حتى يتداركه بجزء من الليل فاته الحج وعليه الحج من قابل، ومن وقف ليلاً ولم يقف بالنهار فعليه دم. قال الدردير: الركن الرابع للحج حضور عرفة ساعة ليلة النحر، وتدخل بالغروب، وأما الوقوف نهارًا فواجب ينجبر بالدم ويدخل وقته بالزوال – انتهى. وظاهر الحديث حجة على مالك، والقول الثالث: قول الشافعي وأبي حنيفة إنه من زوال عرفة إلى فجر النحر، وهو مختار اللخمي وابن العربي وابن عبد البر من المالكية، وأما الوقت الواجب للوقوف فاختلفوا فيه على قولين، الأول: أن يجمع في وقوفه بين الليل والنهار في أي جزء منهما، وهو قول مالك. قال الدردير: أما الوقوف نهارًا فواجب ينجبر بالدم ويدخل وقته بالزوال ويكتفي فيه أي جزء منه، قال الدسوقي: أي يكفي في تحصيل الوقوف الواجب الوقوف في أي جزء من ذلك – انتهى. وهو مختار صاحب الروض المربع من الحنابلة، وبه جزم النووي في مناسكه، والثاني: قول الحنفية وعامة الحنابلة أن الواجب أن يمتد الوقوف إلى ما بعد الغروب كما تقدم عن ابن قدامة وعلي القاري إذا وقف بالنهار وإن لم يتفق له الوقوف بالنهار فلا امتداد، وقال الشنقيطي: اعلم أن العلماء أجمعوا على أن الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج لا يصح الحج بدونه، وأنهم أجمعوا على أن الوقوف ينتهي وقته بطلوع فجر يوم النحر، فمن طلع فجر يوم النحر وهو لم يأت عرفة فقد فاته الحج إجماعًا، ومن جمع في وقوف عرفة بين الليل والنهار وكان جزء النهار الذي وقف فيه من بعد الزوال فوقوفه تام، ومن اقتصر على جزء من الليل دون النهار صح حجه ولزمه دم عند المالكية خلافًا لجماهير أهل العلم القائلين بأنه لا دم عليه، ومن اقتصر على جزء من النهار دون الليل لم يصح حجه عند مالك، وهو رواية عن أحمد، وعند الشافعي وأبي حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى: حجه صحيح وعليه دم. والدليل على أن الوقوف بعرفة ركن وأن وقته ينتهي بطلوع الفجر ليلة النحر ما رواه أحمد وأصحاب السنن غيرهم من حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي، ودليل الإجماع على أن من جمع في وقوفه بعرفة بين جزء من الليل وجزء من النهار من بعد الزوال أن وقوفه تام هو ما ثبت في الروايات الصحيحة

................................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك فعل وقال: ((لتأخذوا عني مناسككم)) فمن الروايات الصحيحة الدالة على ذلك ما رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر الطويل في حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه قد صرح فيه بأنه جمع في وقوفه بين النهار من بعد الزوال، وبين جزء قليل من الليل مع قوله: " لتأخذوا عني مناسككم ". ودليل القائلين بأن من اقتصر في وقوفه بعرفة على جزء من الليل دون النهار فقد تم حجه: حديث عبد الرحمن بن يعمر المذكور، فإن فيه من تصريح النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن من أدرك عرفة قبل طلوع الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه، و ((جمع)) هي المزدلفة، وليلتها هي الليلة التي صبيحتها يوم النحر، ودليل من ألزموه دمًا مع وقوفه بعرفة في جزء من الليل وهم المالكية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكتف بالليل بل وقف معه جزءًا من النهار، فتارك الوقوف بالنهار تاركًا نسكًا، وفي الأثر المروي عن ابن عباس: من ترك نسكًا فعليه دم، ولكن قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الديلي ((فقد تم حجه) لا يساعد على لزوم الدم، لأن لفظ التمام يدل على عدم الحاجة إلى الجبر بدم، فهو يؤيد مذهب الجمهور، والعلم عند الله تعالى، ودليل من قال: بأن من اقتصر في وقوفه بعرفة على النهار دون الليل أن وقوفه صحيح وحجه تام: حديث عروة بن مضرس، فإن فيه ((وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهارًا فقد تم حجه)) قال المجد في المنتقى بعد أن ساق هذا الحديث: رواه الخمسة وصححه الترمذي، وهو حجة في أن نهار عرفة كله وقت للوقوف – انتهى. وقد قدمنا إجماع أهل العلم على أن وقت الوقوف ينتهي بطلوع الفجر ليلة جمع، وإجماعهم على أن ما بعد الزوال من يوم عرفة وقت للوقوف، وأما ما قبل الزوال من يوم عرفة فجمهور أهل العلم على أنه ليس وقتًا للوقوف، وخالف أحمد الجمهور في ذلك قائلاً إن يوم عرفة كله من طلوع فجره إلى غروبه وقت للوقوف، واحتج لذلك بحديث عروة بن مضرس فإن فيه ((وقد وقف بعرفة ليلاً أو نهارًا فقد تم حجه)) فقوله - صلى الله عليه وسلم - ((ليلاً أو نهارًا)) يدل على شمول الحكم لجميع الليل والنهار، وقد قدمنا قول المجد في المنتقى بعد أن ساق هذا الحديث: وهو حجة في أن نهار عرفة كله وقت للوقوف، وحجة الجمهور هي أن المراد بالنهار في حديث عروة خصوص ما بعد الزوال بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين بعده لم يقفوا إلا بعد الزوال ولم ينقل عن أحد أنه وقف قبله، قالوا: ففعله - صلى الله عليه وسلم - وفعل خلفائه من بعده مبين للمراد من قوله ((أو نهارًا)) والحاصل أن الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج إجماعًا، وأن من جمع بين الليل والنهار من بعد الزوال فوقوفه تام إجماعًا، وأن من اقتصر على الليل دون النهار فوقوفه تام ولا دم عليه عند الجمهور خلافًا للمالكية القائلين بلزوم الدم، وأن من اقتصر على النهار دون الليل لم يصح وقوفه عند المالكية، وعند جمهور العلماء حجه صحيح، منهم الشافعي وأبو حنيفة وعطاء الثوري وأبو ثور، وهو الصحيح من مذهب أحمد. ولكنهم اختلفوا في وجوب الدم، فقال أحمد وأبو حنيفة يلزمه دم، وعن الشافعية قولان: أحدهما لا دم عليه وصححه النووي وغيره، والثاني: عليه دم، قيل وجوبًا وقيل استنانًا، وقيل

رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، والدارمي. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ـــــــــــــــــــــــــــــ ندبًا والأصح أنه سنة على القول به كما جزم به النووي، وأن ما قبل الزوال من يوم عرفة ليس وقتًا للوقوف عند جماهير العلماء خلافًا لأحمد وقد رأيت أدلة الجميع. قال الشنقيطي: أما من اقتصر في وقوفه على الليل دون النهار أو النهار من بعد الزوال دون الليل فأظهر الأقوال فيه دليلاً عدم لزوم الدم، أما المقتصر على الليل فلحديث عبد الرحمن بن يعمر فإن قوله - صلى الله عليه وسلم - فيه ((فقد تم حجه)) مرتبًا ذلك على إتيانه عرفة قبل طلوع فجر يوم النحر نص صريح في أن المقتصر على الوقوف ليلاً حجة تام، وظاهر التعبير بلفظ التمام عدم لزوم الدم، ولم يثبت ما يعارضه من صريح الكتاب أو السنة، وعلى هذا جمهور أهل العلم خلافًا للمالكية، وأما المقتصر على النهار دون الليل فلحديث عروة بن مضرس فإن فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ((وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهارًا فقد تم حجه)) فقوله ((فقد تم حجه)) مرتبًا له بالفاء على وقوفه بعرفة ليلاً أو نهارًا يدل على أن الواقف نهارًا يتم حجه بذلك والتعبير بلفظ التمام ظاهر في عدم لزوم الجبر بالدم ولم يثبت نقل صريح في معارضة ظاهر هذا الحدث، وعدم لزوم الدم للمقتصر على النهار، هو الصحيح من مذهب الشافعي لدلالة هذا الحديث على ذلك كما ترى، وأما الإكتفاء بالوقوف يوم عرفة قبل الزوال فقد قدمنا أن ظاهر حديث ابن مضرس المذكور يدل عليه لأن قوله - صلى الله عليه وسلم - ((أو نهارًا)) صادق بأول النهار وآخره كما ذهب إليه أحمد، ولكن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه من بعده كالتفسير للمراد بالنهار في الحديث المذكور وأنه بعد الزوال، وكلاهما له وجه من النظر، ولا شك أن عدم الاقتصار على أول النهار أحوط، والعلم عند الله تعالى. وحجة مالك في أن الوقوف نهارًا لا يجزئ إلا إذا وقف معه جزءًا من الليل هي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل كذلك وقال: " لتأخذوا عني مناسككم ". فيلزمنا أن نأخذ عنه من مناسكنا الجمع في الوقوف بين الليل والنهار، ولا يخفى أن هذا لا ينبغي أن يعارض به الحديث الصريح في محل النزاع الذي فيه ((وكان قد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهارًا فقد تم حجه)) كما ترى – انتهى كلام الشنقيطي مختصرًا بقدر الضرورة. (رواه الترمذي) إلخ، وأخرجه أيضًا أحمد (ج 4: ص 309، 310، 335) والحميدي (ج 2: ص 399) وأبو داود الطيالسي وابن حبان والحاكم (ج 1: ص 464) وقال: حديث صحيح الإسناد كما في نصب الراية، وقال الذهبي: صحيح. والبزار والبيهقي (ج 5: ص 116) والدارقطني (ص 264) وابن الجارود - صلى الله عليه وسلم - (165) (وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح) كذا في جميع نسخ المشكاة، وإني لم أجد كلام الترمذي هذا في جامع الترمذي ولا ذكره الزيلعي في نصب الراية (ج 3: ص 92) والحافظ في التلخيص (ص 216) والمنذري في مختصر السنن (ج 2: ص 408، 409) والمناوي في كشف المناهج وفيض القدير، ولا ذكره المجد في المنتقى والشوكاني في النيل، بل سكتوا كلهم كما سكت عليه أبو داود، فهو حديث صالح قابل للاحتجاج عندهم. وقال النووي

(14) باب حرم مكة حرسها الله تعالى

(14) باب حرم مكة حرسها الله تعالى ـــــــــــــــــــــــــــــ في شرح المهذب: حديث عبد الرحمن الديلي صحيح، رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وآخرون بأسانيد صحيحة، وقال بعد ذكر رواية الترمذي من طريق سفيان بن عيينة عن سفيان الثوري عن بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر: وإسناد هذه الرواية صحيح، وهو من رواية سفيان بن عيينة عن الثوري. قال ابن عيينة: ليس عندكم بالكوفة حديث أشرف ولا أحسن من هذا – انتهى كلام النووي. وذكر الترمذي عن سفيان بن عيينة أنه قال: هذا أجود حديث رواه سفيان الثوري. قال السيوطي: أي من حديث أهل الكوفة، وذلك لأن أهل الكوفة يكثر فيهم التدليس والاختلاف، وهذا الحديث سالم من ذلك، فإن الثوري سمعه من بكير، وسمعه بكير من عبد الرحمن، وسمعه عبد الرحمن من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يختلف رواته في إسناده، وقام الإجماع على العمل به – انتهى. ونقل ابن ماجة في سننه عن شيخه محمد بن يحيى: ما أرى للثوري حديثًا أشرف منه. (باب حرم مكة) أي حرمة حرمها، وسيأتي ذكر حدوده (حرسها الله تعالى) أي حماها وحفظها من الآفات الحسية والعاهات المعنوية، واعلم أن مكة هي الاسم المشهور لتلك البقعة المباركة ولها أسماء أخرى كثيرة وقد عني الناس بجمعها منهم العلامة اللغوي مجد الدين الشيرازي والنووي، وقد ذكرها التقي الفاسي في شفاء الغرام مع بيان معاني بعض الأسماء، وقال المحب الطبري: سمى الله تعالى مكة بخمسة أسماء: مكة وبكة والبلد والقرية وأم القرى، فأما مكة ففي قوله تعالى {ببطن مكة} (سورة الفتح: الآية 24) وفي تسميتها بهذا الاسم أربعة أقوال أحدها: لأنها يؤمها الناس من كل مكان، فكأنهم تجذبهم إليها من قول العرب: إمْتَكّ الفصيل ما في ضرع الناقة إذا لم يبق فيه شيئًا، الثاني: لأنها تملك من ظلم فيها أي تهلكه، والثالث: لجهد أهلها، ومن قولهم ((تمككت العظم) إذا أخرجت مخه، والتمكك الاستقصاء، الرابع: لقلة الماء بها، وأما بكة ففي قوله تعالى {للذي ببكة} (سورة آل عمران: الآية 90) وفي تسميتها بذلك ثلاثة أقوال، أحدها: لازدحام الناس بها يقال هم فيها يتاكبون أي يزدحمون، قاله ابن عباس والثاني: لأنها تبك أعناق الجبابرة، أي تدقها، وما قصدها جبار إلا قصمه الله تعالى، والثالث: لأنها تضع من نخوة المتكبرين، وأما تسميتها بالبلد ففي قوله تعالى {لا أقسم بهذا البلد} قال المفسرون: أراد مكة، والبلد في اللغة صدر القرى، وأما تسميتها بالقرية ففي قوله تعالى {ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة} (سورة النحل: الآية 113) ، الإشارة إلى مكة، فإنها كانت ذات أمن يأمن أهلها أن يغار عليهم، وكانوا أهل طمأنينة لا يحتاجون إلى الانتقال عنها لخوف أو ضيق، والقرية اسم لما يجمع جماعة كثيرة من الناس، من قولهم: قريت الماء في الحوض، إذا جمعته فيه، وأما تسميتها أم القرى ففي قوله تعالى: {لتنذر أم القرى ومن حولها} (سورة الأنعام: الآية 92) يعني مكة، وفي

................................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ تسميتها بذلك أربعة أقوال، أحدها: أن الأرض دحيت من تحتها، قاله ابن عباس. وقال ابن قتيبة: لأنها أقدم الأرض، والثاني: لأنها قبلة يؤمها جميع الأمة، الثالث: لأنها أعظم القرى شأنًا، الرابع: لأن فيها بيت الله تعالى: ولما جرت العادة أن بلد الملك وبيته مقدمان على جميع الأماكن سمي أما لأن الأم متقدمة، قلت: وسماها الله أيضًا في القرآن بالبلد الأمين وبالبلدة وبمَعاد بفتح الميم، فأما الأول: ففي قوله تعالى {وهذا البلد الأمين} (سورة التين: الآية 3) قال ابن عباس: يعني مكة، وأما الثاني: ففي قوله تعالى: {إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة} (سورة النمل: الآية 93) قال الواحدي في الوسيط: هي مكة، وأما الثالث: ففي قوله تعالى: {إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد} (القصص: الآية 85) قال ابن عباس: إلى مكة، قال التقي الفاسي بعد ذكر هذه الأسماء الثمانية: فهذه ثمانية أسماء لمكة مأخوذة من القرآن العظيم، ولم يذكر المحب الطبري من أسمائها المأخوذة من القرآن إلا خمسة لأنه قال: سمى الله تعالى مكة بخمسة أسماء: بكة ومكة والبلد والقرية وأم القرى – انتهى، أما حرم مكة فهو ما أحاطها وأطاف بها من جوانبها، جعل الله تعالى له حكمها في الحرمة تشريفًا لها، وسمي حرمًا لتحريم الله تعالى فيه كثيرًا مما ليس بمحرم في غيره من المواضع، وحده من طريق المدينة عند التنعيم على ثلاثة أميال من مكة، وقيل أربعة، وقيل خمسة، ومن طريق اليمن طرف أضاة لِبْن على ستة أميال من مكة، وقيل سبعة، ومن طريق الجعرانة على تسعة أميال – بتقديم المثناة الفوقية على السين – ومن طريق الطائف على عرفات من بطن نمرة سبعة أميال – بتقديم السين على الباء – وقيل: ثمانية. ومن طريق جدة عشرة أميال. وقال الرافعي: هو من طريق المدينة على ثلاثة أميال، ومن العراق على سبعة، ومن الجعرانة على تسعة ومن الطائف على سبعة ومن جدة على عشرة، والسبب في بعد بعض الحدود وقرب بعضها ما قيل إن الله تعالى لما أهبط على آدم بيتًا من ياقوتة أضاء لهم ما بين المشرق والمغرب، فنفرت الجن والشياطين ليقربوا منها، فاستعاذ منهم بالله وخاف على نفسه منهم، فبعث الله ملائكة فحفوا بمكة من كل جانب، ووقفوا مكان الحرم، أي في موضع أنصاب الحرم يحرسون آدم، فصار حدود الحرم موضع وقوف الملائكة، وقيل: إن الخليل عليه السلام لما وضع الحجر الأسود في الركن حين بنى الكعبة أضاء له نور وصل إلى أماكن الحدود فجاءت الشياطين فوقفت عند الأعلام فبناها الخليل عليه السلم حاجزًا، رواه مجاهد عن ابن عباس، وعنه أن جبرئيل عليه السلام أرى إبراهيم عليه السلام موضع أنصاب الحرم فنصبها ثم جددها إسماعيل عليه السلام ثم جددها قصي بن كلاب ثم جددها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما ولي عمر رضي الله عنه بعث أربعة من قريش فنصبوا أنصاب الحرم ثم جددها معاوية رضي الله عنه ثم عبد الملك بن مروان كذا ذكر القسطلاني في شرح البخاري، ونحوه في القرى (ص 602) للمحب الطبري، وارجع لمزيد من البسط إلى شفاء الغرام (ج 1: ص 54 إلى ص 66) تنبيه: إن علمي الحرم من

(الفصل الأول)

(الفصل الأول) 2740 – (1) عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة: " لا هجرة، ولكن جهاد ونية، ـــــــــــــــــــــــــــــ طريق جدة هما العلمان القديمان من زمن نبينا إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - بإشارة جبريل عليه السلام بوضعهما في تلك البقعة كسائر حدود الحرم من الجهات الأخرى، أما العلمان الجنوبيان المسامتان لعلمي الحرم المذكورين فقد أحدثا في جمادى الثانية سنة ست وسبعين وثلثمائة وألف من أجل طريق السيارات المؤدي بينهما، ثم صار عدول السيارات من هذا الطريق الجنوبي الذي يمر بين العلمين المحدثين إلى الطريق الشمالي الذي يمر بين علمي الحرم القديمين، ولإزالة اللبس لزم التنبيه على ذلك، وحيث الحال ما تقدم من أن حدود الحرم مختلفة في القرب والبعد، وأن وضع حدود الحرم هو بإيقاف جبريل عليه الصلاة والسلام لأبينا إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - على حدود الحرم وظهور أن حد الحرم من طريق المدينة ثلاثة أميال ومن طريق جدة عشرة أميال مع أن الحدين متجاوران فبذلك تبين أنه ليس للاجتهاد في تحديد الحرم مساغ وأنه لا يجوز لأحد أن يحدث حدًا للحرم ويضع عليه أنصابًا من تلقاء نفسه لأنه قد لا يكون ذلك حدًا للحرم في نفس الأمر، أما إذا أتى على محل ليس به أعلام فإنه ينظر إلى محاذاة أقرب الأعلام إليه، وليس في الإمكان سوى ذلك مع عدم الجزم بأن هذا حد للحرم، والله أعلم، كذا في مفيد الأنام. 2740 – قوله (يوم فتح مكة) منصوب لأنه ظرف لقال (لا هجرة) أي بعد الفتح، وأفصح بذلك في بعض الروايات أي لا هجرة من مكة إلى المدينة مفروضة بعد الفتح كما كانت قبله، وقد عقد البخاري في أواخر الجهاد ((باب لا هجرة بعد الفتح)) قال الحافظ: أي بعد فتح مكة، أوالمراد ما هو أعم من ذلك. إشارة إلى أن حكم غير مكة في ذلك حكمها، فلا تجب الهجرة من بلد قد فتحه المسلمون، أما قبل فتح البلد فمن به من المسلمين أحدد ثلاثة، الأول: قادر على الهجرة منها، لا يمكنه إظهار دينه بها ولا أداء واجباته فالهجرة منه واجبة، الثاني: قادر لكنه يمكنه إظهار دينه وأداء واجباته، فمستحبة لتكثير المسلمين ومعونتهم وجهاد الكفار والأمن من غدرهم والراحة من رؤية المنكر بينهم، الثالث: عاجز بعذر من أسر أو مرض أو غيره فتجوز له الإقامة فإن حمل على نفسه وتكلف الخروج منها أجر (ولكن جهاد ونية) أي لكن لكم طريق إلى تحصيل الفضائل التي في معنى الهجرة، وذلك بالجهاد ونية الخير في كل شيء، وارتفاع ((جهاد)) على الابتداء، وخبره محذوف مقدمًا تقديره ((لكم جهاد)) قال الحافظ: المعنى أن وجوب الهجرة من مكة انقطع بفتحها إذا صارت دار إسلام ولكن بقى وجوب الجهاد على حاله عند الاحتياج إليه، وفسره بقوله ((فإذا استنفرتم فانفروا)) أي إذا دعيتم إلى الغزو فأجيبوا، قال الخطابي وغيره: كانت الهجرة فرضًا في أول الإسلام على من أسلم لقلة المسلمين بالمدينة وحاجتهم إلى الاجتماع، فلما فتح الله مكة دخل الناس في دين الله أفواجًا، فسقط فرض

وإذا استنفرتم فانفروا ". ـــــــــــــــــــــــــــــ الهجرة إلى المدينة، وبقى فرض الجهاد والنية على من قام به أو نزل به عدو – انتهى. قال الحافظ: وكانت الحكمة أيضًا في وجوب الهجرة على من أسلم ليسلم من أذى ذويه من الكفار، فإنهم كانوا يعذبون من أسلم منهم إلى أن يرجع عن دينه، وفيهم نزلت: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مسضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها} (سورة النساء: الآية 99) وهذه الهجرة باقية الحكم في حق من أسلم في دار كفر وقدر على الخروج منها، وقد روى النسائي من طريق بهز بن حكيم بن معاوية عن أبيه عن جده مرفوعًا: " لا يقبل الله من مشرك عملاً بعد ما أسلم أو يفارق المشركين ". ولأبي داود من حديث سمرة مرفوعًا: " أنا بريء من كل مشرك يقيم بين أظهر المشركين ". وهذا محمول على من لم يأمن على دينه، قال: وقوله ((جهادًا ونية)) قال الطيبي وغيره: وهذا الاستدراك يقتضي مخالفة حكم ما بعده لما قبله، والمعنى أن الهجرة التي هي مفارقة الوطن التي كانت مطلوبة على الأعيان إلى المدينة انقطعت، إلا أن المفارقة بسبب الجهاد باقية، وكذلك المفارقة بسبب نية صالحة كالفرار من دار الكفر والخروج في طلب العلم والفرار بالدين من الفتن والنية في جميع ذلك (وإذا استنفرتم) بصيغة المجهول أي إذا طلبتم للنفر وهو الخروج إلى الجهاد (فانفروا) بكسر الفاء أي اخرجوا، والمعنى إذا دعاكم السلطان إلى غزو فاذهبوا. قال النووي: يريد أن الخير الذي انقطع بانقطاع الهجرة يمكن تحصيله بالجهاد والنية الصالحة، وإذا أمركم الإمام بالخروج إلى الجهاد ونحوه من الأعمال الصالحة فاخرجوا إليه، وفي الحديث بشارة بأن مكة تبقى دار إسلام أبدًا لا يتصور منها الهجرة، وفيه وجوب تعيين الخروج في الغزو على من عينه الإمام، وأن الأعمال تعتبر بالنيات، وقال الخطابي: في الحديث إيجاب النفير والخروج إلى العدو إذا وقعت الدعوة، وهذا إذا كان فيمن بإزاء العدو كفاية فإن لم يكن فيهم كفاية فهو فرض على المطيقين للجهاد، والاختيار للمطيق له مع وقوع الكفاية بغيره أن لا يقعد عن الجهاد، قال الله تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلاً وعد الله الحسنى} (سورة النساء: الآية 98) وقد ترجم البخاري لهذا الحديث ((باب وجوب النفير وما يجب من الجهاد والنية، وقوله: {انفروا خفافًا وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله} (سورة التوبة: الآية 42) قال الحافظ: قوله ((وما يجب من الجهاد والنية أي وبيان القدر الواجب من الجهاد ومشروعية النية في ذلك، وللناس في الجهاد حالان، إحداهما في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - والأخرى بعده، فأما الأولى: فأول ما شرع الجهاد بعد الهجرة النبوية إلى المدينة اتفاقًا، ثم بعد أن شرع هل كان فرض عين أو كفاية قولان مشهوران للعلماء، وهما في مذهب الشافعي، وقال الماوردي: كان عينًا على المهاجرين دون غيرهم، ويؤيده وجوب الهجرة قبل الفتح في حق كل من أسلم إلى المدينة لنصر

وقال يوم فتح مكة: " إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، ـــــــــــــــــــــــــــــ الإسلام، وقال السهيلي: كان عينًا على الأنصار دون غيرهم، ويؤده مبياعتهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة العقبة على أن يؤووا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وينصروه، فيخرج من قولهما أنه كان عينًا على الطائفتين، كفاية في حق غيرهم، ومع ذلك فليس في حق الطائفين على التعميم، بل في حق الأنصار إذا طرق المدينة طارق، وفي حق المهاجرين إذا أريد قتال أحد من الكفار ابتداء، ويؤيد هذا ما وقع في قصة بدر فيما ذكره ابن إسحاق فإنه كالصريح في ذلك، وقيل كان عينًا في الغزوة التي يخرج فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - دون غيرها، والتحقيق أنه كان عينًا على من عينه النبي - صلى الله عليه وسلم - في حقه ولو لم يخرج. الحال الثاني بعده - صلى الله عليه وسلم - فهو فرض كفاية على المشهور إلا أن تدعو الحاجة إليه كأن يدهم العدو، ويتعين على من عينه الإمام، ويتأدى فرض الكفاية بفعله في السنة مرة عند الجمهور، ومن حجتهم: أن الجزية تجب بدلاً عنه، لا تجب في السنة أكثر من مرة اتفاقًا، فليكن بدلها كذلك، وقيل: يجب كلما أمكن، وهو قوي، والذي يظهر أنه استمر على ما كان عليه في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن تكاملت فتوح معظم البلاد وانتشر الإسلام في أقطار الأرض ثم صار إلى ما تقدم ذكره، والتحقيق أيضًا أن جنس جهاد الكفار متعين على كل مسلم إما بيده وإما بلسانه وإما بماله وإما بقلبه – انتهى. وسيأتي مزيد الكلام في ذلك في شرح هذا الحديث في آخر الفصل الأول من كتاب الجهاد، ويأتي هناك بسط أحكام الجهاد إن شاء الله تعالى (وقال يوم فتح مكة) قال القاري: أعاده تأكيدًا أو إشارة إلى وقوع هذا القول وقتًا آخر من ذلك اليوم والله تعالى أعلم – انتهى. قلت: اللفظ المذكور لمسلم رواه في الحج عن إسحاق بن إبراهيم عن جرير وروى البخاري هذا الحديث في باب لا يحل القتال بمكة من كتاب الحج من طريق عثمان بن أبي شيبة عن جرير بلفظ ((فإذا استنفرتم فانفروا فإن هذا بلد)) إلخ. أي ليس فيه قوله ((وقال يوم فتح مكة)) قال الحافظ: الفاء أي في قوله ((فإن هذا)) جواب شرط محذوف تقديره إذا علمتم ذلك فاعلموا أن هذا بلد حرام، وكأن وجه المناسبة أنه لما كان نصب القتال عليه حرامًا كان التنفير يقع منه لا إليه، ولما روى مسلم هذا الحديث عن إسحاق عن جرير فصل الكلام الأول من الثاني بقوله ((وقال يوم الفتح: إن الله حرم)) إلى آخره. فجعله حديثًا آخر مستقلاً، وهو مقتضى صنيع من اقتصر على الكلام الأول كعلي بن لمديني عن جرير كما سيأتي في الجهاد – انتهى. (إن هذا البلد) أي مكة يعني حرمها. قال القاري: أو المراد بالبلد أرض الحرم جميعها (حرمه الله) أي حكم بتحريمها وقضاه، وظاهره أن حكم الله تعالى في مكة أن لا يقاتل أهلها ويؤمن من استجار بها ولا يتعرض له، وهو أحد أقوال المفسرين في قوله تعالى: {ومن دخله كان آمنًا} (سورة آل عمران: الآية 91) وقوله: {أو لم يروا أنّا جعلنا حرمًا آمنًا} (سورة العنكبوت: الآية 67) (يوم خلق السموات والأرض) يعني أن تحريمه أمر قديم وشريعة سالفة مستمرة وحكمه تعالى قديم لا يتقيد بزمان

فهو حرام بحرمة الله ـــــــــــــــــــــــــــــ فهو تمثيل في تحريمه بأقرب متصور لعموم البشر، إذ ليس كلهم يفهم معنى تحريمه في الأزل وليس تحريمه مما أحدثه الناس أو اختص بشرعه، وهذا لا ينافي قوله في حديث جابر عند مسلم وحديث أنس عند البخاري " إن إبراهيم حرم مكة "، لأن إسناد التحريم إليه من حيث أنه مبلغه فإن الحاكم بالشرائع والأحكام كلها هو الله تعالى، والأنبياء يبلغونها، فكما تضاف إلى الله تعالى من حيث أنه الحاكم بها تضاف إلى الرسل لأنها تسمع منهم وتبين على ألسنتهم، والحاصل أنه أظهر تحريمها مبلغًا عن الله بعد أن كان مهجورًا إلا أنه ابتدأه، وقيل إن حرمها بإذن الله يعني أنه تعالى كتب في اللوح المحفوظ يوم خلق السماوات والأرض أن إبراهيم سيحرم مكة بأمر الله تعالى، كذا في إرشاد الساري. وقال العيني: معنى قوله ((إن إبراهيم حرم مكة)) أعلن بتحريمها وعرف الناس بأنها حرام بتحريم الله إياها فلما لم يعرف تحريمها إلا أن في زمانه على لسانه أضيف إليه، وذلك كما في قوله تعالى: {الله يتوفى الأنفس} (سورة الزمر: الآية 43) فإنه أضاف إليه التوفي، وفي آية أخرى: {قل يتوفاكم ملك الموت} (سورة السجدة: الآية 11) فأضاف إلى الملك التوفي، وقال في آية أخرى: {الذين تتوفاهم الملائكة} سورة النحل: الآية 30، 34) فأضاف إليهم التوفي، وفي الحقيقة المتوفي هو الله عز وجل، وأضاف إلى غيره لأنه ظهر على أيديهم – انتهى. وقال الحافظ: لا معارضة بين الحديثين لأن معنى قوله ((إن إبراهيم حرم مكة)) أي بأمر الله تعالى لا باجتهاده، أو أن الله قضى يوم خلق السماوات والأرض أن إبراهيم سيحرم مكة أو المعنى أن إبراهيم أول من أظهر تحريمًا بين الناس، وكانت قبل ذلك عند الله حرامًا، أو أول من أظهره بعد الطوفان، وقال القرطبي: معناه: إن الله حرم مكة ابتداء من غير سبب ينسب لأحد ولا لأحد فيه مدخل، قال: ولأجل هذا أكد المعنى بقوله (في حديث أبي شريح الآتي) : ولم يحرمها الناس. والمراد بقوله ((ولم يحرمها الناس)) أن تحريمها ثابت بالشرع لا مدخل للعقل فيه، أو المراد أنها من محرمات الله فيجب امتثال ذلك وليس من محرمات الناس يعني في الجاهلية كما حرموا أشياء من عند أنفسهم فلا يسوغ الاجتهاد في تركه، وقيل معناه: إن حرمتها مستمرة من أول الخلق، وليس مما اختصت به شريعة النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الحافظ: واستدل بالحديث على اشتراط الإحرام على من دخل الحرم. قال القرطبي: معنى قوله ((حرمه الله)) أي يحرم على غير المحرم دخوله حتى يحرم، ويجري هذا مجرى قوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم} (سورة النساء: الآية 27) أي وطؤهن {حرمت عليكم الميتة} (سورة المائدة: الآية 4) أي أكلها. فعرف الاستعمال يدل على تعيين المحذوف. قال: وقد دل على صحة هذا المعنى اعتذاره عن دخول مكة غير محرم مقاتلاً بقوله ((لم تحل لي إلا ساعة من نهار)) الحديث - انتهى. وقد تقدم بسط القول في هذه المسألة في شرح حديث ابن عباس في بيان المواقيت (ج 6: ص 243 إلى 246) وتقدم الجواب هناك عن الاستدلال بهذا الحديث على منع دخول الحرم بغير إحرام فتذكر (فهو) أي البلد (حرام) أي محرم محترم (بحرمة الله)

إلى يوم القيامة، ـــــــــــــــــــــــــــــ أي بسبب حرمة الله، فالباء للسببية، ويجوز أن تكون للملابسة فيكون متعلق الباء محذوفًا، أي متلبسًا بحرمة الله، وهو تأكيد للتحريم (إلى يوم القيامة) إيماء إلى عدم نسخه، وقال الحافظ: قوله ((بحرمة الله)) أي بتحريمه، وقيل: الحرمة الحق، أي حرام بالحق المانع من تحليله، قال: واستدل به على التحريم القتل والقتال بالحرم، فأما القتل فنقل بعضهم الاتفاق على جواز إقامة حد القتل فيها على من أوقعه فيها، وخص الخلاف بمن قتل في الحل ثم لجأ إلى الحرم، وممن نقل الإجماع على ذلك ابن الجوزي، واحتج بعضهم بقتل ابن خطل بها، ولا حجة فيه، لأن ذلك كان في الوقت الذي أحلت فيه للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وزعم ابن حزم أن مقتضى قول ابن عمر وابن عباس وغيرهما أنه لا يجوز القتل فيها مطلقًا. ونقل التفصيل عن مجاهد وعطاء. وقال أبو حنيفة: لا يقتل في الحرم حتى يخرج إلى الحل باختياره لكن لا يجالس ولا يكلم ويوعظ ويذكر حتى يخرج، وقال أبو يوسف: يخرج مضطرًا إلى الحل وفعله ابن الزبير، وروى ابن أبي شيبة من طريق طاوس عن ابن عباس: من أصاب حدًا ثم دخل الحرم لم يجالس ولم يبايع، وعن مالك والشافعي: يجوز إقامة الحد مطلقًا فيها، لأن العاصي هتك حرمة نفسه فأبطل ما جعل الله له من الأمن، وأما القتال فقال الماوردي: من خصائص مكة أن لا يحارب أهلها فلو بغوا على أهل العدل فإن أمكن ردهم بغير قتال لم يجز، وإن لم يكن إلا القتال، فقال الجمهور: يقاتلون لأن قتال البغاة من حقوق الله تعالى، فلا يجوز إضاعتها، وقال الآخرون: لا يجوز قتالهم، بل يضيق عليهم إلى أن يرجعوا إلى الطاعة، قال النووي: والأول نص عليه الشافعي وأجاب أصحابه عن الحديث بحمله على تحريم نصب القتال بما يعم أذاه كالمنجنيق، بخلاف ما لو تحصن الكفار في بلد، فإنه يجوز قتالهم على كل وجه، وعن الشافعي قول آخر بالتحريم اختاره القفال، وجزم به في شرح التلخيص. وقال به جماعة من علماء الشافعية والمالكية، قال الطبري: من أتى حدًا في الحل واستجار بالحرم فللإمام إلجاؤه إلى الخروج منه، وليس للإمام أن ينصب عليه الحرب بل يحاصره ويضيق عليه حتى يذعن للطاعة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: وإنما أحلت لي ساعة من نهار. وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس. فعلم أنها لا تحل لأحد بعده بالمعنى الذي حلت له به، وهو محاربة أهلها والقتل فيها، ومال ابن العربي إلى هذا، وقال ابن المنير: قد أكد النبي - صلى الله عليه وسلم - التحريم بقوله ((حرمه الله)) ثم قال ((فهو حرام بحرمة الله)) ثم قال ((ولم تحل لي إلا ساعة من نهار)) وكان إذا أراد التأكيد ذكر الشيء ثلاثًا، قال: فهذا نص لا يحتمل التأويل. وقال القرطبي: ظاهر الحديث يقتضي تخصيصه - صلى الله عليه وسلم - بالقتال لاعتذاره عما أبيح له من ذلك مع أن أهل مكة كانوا إذ ذاك مستحقين للقتال والقتل لصدهم عن المسجد الحرام وإخراجهم أهله منه وكفرهم، وهذا الذي فهمه أبو شريح كما سيأتي وقال به غير واحد من أهل العلم. وقال ابن دقيق العيد: يتأكد القول بالتحريم بأن الحديث دال على أن المأذون للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيه لم يؤذن لغيره فيه، والذي وقع له إنما هو مطلق القتال لا القتال الخاص بما يعم كالمنجنيق فكيف

................................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ يسوغ التأويل المذكور، وأيضًا فسياق الحديث يدل على أن التحريم لإظهار حرمة البقعة بتحريم سفك الدماء فيها، وذلك لا يختص بما يستأصل – انتهى كلام الحافظ. قلت: ومذهب الحنفية في مسألتي القتل والقتال في الحرم على ما ذكره في غنية الناسك (ص 163) هو أن من جنى في غير الحرم بأن قتل أو ارتد أو زنى أو شرب الخمر أو فعل غير ذلك مما يوجب الحد ثم لاذ إليه لا يتعرض له ما دام في الحرم ولكن المرتد يعرض عليه الإسلام فإن أسلم سلم وإلا قتل لأن إباءه عن الإسلام جناية في الحرم، وغير المرتد لا يبايع ولا يؤاكل ولا يجالس ولا يؤوى إلى أن يخرج منه فيقتص منه، وأما إن فعل ما يوجب القصاص ثم لاذ إليه فإن كان القصاص في النفس لا يتعرض له ويضيق عليه حتى يخرج كما في الحد وإن كان فيما دون النفس يقتص منه في الحرم، لأن الأطراف يسلك بها مسلك الأموال، ومن جنى على المال إذا لجأ إلى الحرم يؤخذ منه لأنه حق العبد أي فكذا يقتص منه في الأطراف بخلاف الحد لأنه حق الرب تبارك وتعالى، وبخلاف القصاص في النفس لأنه ليس بمنزلة المال، وإن فعل شيئًا من ذلك في الحرم يقام عليه الحد ويقتص منه فيه، وإن قتل في الحرم قتل فيه، وإن قتل في البيت لا يقتل فيه. قال في رد المحتار: وكذا الحكم في سائر المساجد – انتهى. ومن دخل الحرم مقاتلاً قتل فيه إلى آخر ما ذكر، قلت: واستدل لما ذهب إليه مالك والشافعي ومن تبعهم من أن حكم الحرم كغيره فيقام فيه الحد ويسوفى فيه القصاص سواء كانت الجناية في الحرم أو في الحل ثم لجأ إلى الحرم بأن العاصي هتك حرمة نفسه فأبطل ما جعل الله له من الأمن، واستدلوا لذلك أيضًا بعمومات النصوص الدالة على استيفاء الحدود والقصاص في كل زمان ومكان، وبأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة، وبالقياس على من أتى في الحرم ما يوجب القتل، وأما ما ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه من الفقهاء والإمام أحمد وبعض محدثيه مع أنه إن كانت الجناية في الحرم استوفيت العقوبة فيه، وإن كانت في الحل ثم لجأ إلى الحرم لم تستوف منه فيه ويلجأ إلى الخروج منه، فإذا خرج اقتص منه، فاستدل لهم بمثل قوله تعالى {ومن دخله كان آمنًا} ، {أو لم نمكن لهم حرمًا آمنًا} (سورة القصص: الآية 57) ونحوهما من الآيات، ولو لم يكن للتخصيص فائدة ما ذكر، وأجاب هؤلاء عن أدلة المعارضين بأن العمومات لا تتناوله لأن لفظها لا يدل عليه لا بالوضع ولا بالتضمن فهو مطلق بالنسبة إليها، ولو فرض تناولها له لكانت مخصصة بالأدلة الواردة في منع إقامة الحد فيه لئلا يبطل موجبها. وأما قتل ابن خطل فليس فيه دليل لأنه قتل في الساعة التي أحل فيها الحرم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وأما قياسه على من أتى في الحرم بما يوجب القتل فلا يستقيم، لأن الجاني فيه هتك حرمته وحرمة الله تعالى فهما مفسدتان ولو لم يقم الحد على الجناة فيه لعم الفساد وعظم الشر في حرم الله بخلاف الذي أتى ما يوجب القتل خارجه فذنبه أخف كثيرًا وهو بلجوءه إلى الحرم كالتائب من الذنب النادم على فعله. قلت: ونصر ابن حزم في المحلى (ج 7: ص 262) أن القصاص

وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، ـــــــــــــــــــــــــــــ وأنواع الحدود لا تقام في الحرم مطلقًا، وقال من أتى فيه بما يوجب القتل والحد فليخرج ثم يقام عليه، ونقل عمومات عن بعض الصحابة ظاهرها معه. قلت: والقول الراجح عندنا هو ما ذهب إليه أبو حنيفة وأحمد لقوة دليل هذا القول والله أعلم (وإنه) أي الشأن، فالهاء فيه ضمير الشان (لم يحل القتال فيه لأحد قبلي) زاد في بعض طرق البخاري ((ولا يحل لأحد بعدي)) قال المحب الطبري (ص 591) : هذا القول يحتمل وجوهًا ثم ذكرها، وقال: الوجه الرابع وهو أقواها وأسلمها عن الاعتراض: أن يريد تحريم القتل بها وكان مستحقًا، حتى لو دخل كافر بغير أمان أو زان محصن أو من قتل إنسانًا عمدًا عدوانًا لم يقتل بها بل يضيق عليه حتى يخرج، وهذا مذهب أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أحمد وقول بعض أصحاب مالك، وكذلك القتال أيضًا لا يكون بقتل، بل بالحصر والتضييق والمدافعة حتى يخرجوا منها، ولا كذلك سائر البلاد، وإليه الإشارة بقوله - صلى الله عليه وسلم - ((فإن أحد ترخص بقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) أي وقتله ابن خطل وغيره وقد عاذوا بالحرم، فيقال لهم: إن الله عز وجل أذن لرسوله ولم يأذن لكم، فمنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس أن يقتدوا به في هذه الرخصة، وأن يعد سببها تحقيقًا لاختصاصه - صلى الله عليه وسلم - بهذه الرخصة – انتهى. قال ابن بطال: المراد بقوله ((ولا تحل لأحد بعدي)) الإخبار عن الحكم في ذلك لا الإخبار بما سيقع لوقوع خلاف ذلك في الشاهد كما وقع من الحجاج وغيره – انتهى. ومحصله أنه خبر بمعنى النهي بخلاف قوله ((لم يحل القتال فيه لأحد قبلي)) فإنه خبر محض، أو معنى قوله ((ولا تحل لأحد بعدي)) أي لا يحله الله بعدي، لأن النسخ ينقطع بعده لكونه خاتم النبيين، (ولم يحل) أي القتال (لي إلا ساعة من نهار) أي مقدارًا من الزمان، وهو ما بين طلوع الشمس وصلاة العصر، وقد ورد عند أحمد من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ((لما فتحت مكة قال: كفوا السلاح إلا خزاعة عن بني بكر، فأذن لهم حتى صلى العصر، ثم قال: كفوا السلاح فلقى رجل من خزاعة رجلاً من بني بكر من غد بالمزدلفة فقتله فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام خطيبًا فقال: ورأيته مسندًا ظهره إلى الكعبة)) فذكر الحديث. ويستفاد منه أن قتل من أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قتلهم كابن خطل وقع في الوقت الذي أبيح للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيه القتال خلافًا لمن حمل قوله ((ساعة من نهار)) على ظاهره فاحتاج إلى الجواب عن قصة ابن خطل كذا في الفتح قال القاري: قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ولم يحل لي إلا ساعة من نهار ". أي أحل لي ساعة إراقة الدم دون الصيد وقطع الشجر، وقال الخطابي، قيل: إنما أحلت له في تلك الساعة إراقة الدم دون الصيد وقطع الشجر وسائر ما حرم على الناس منه – انتهى. قال الطبري: ويحتمل العموم، فإن انتشار العسكر لا يخلو من تنفير صيد ودوس خلا وقطعه وغير ذلك، والعمد والخطأ فيه سواء، وقال أيضًا: يحتمل أن يكون المراد جميع ما حرم فيه من تنفير الصيد واختلاء الخلا وعضد الشجر، لأن ذلك من لوازم انتشار العسكر غالبًا فالصيد ينفر

فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد ـــــــــــــــــــــــــــــ بذلك والدواب يختلى لها ويخبط فحصوله وإن كان تبعًا وضمنًا لكنه لما كان معلومًا بالضرورة كان كالمباشر – انتهى. ثم قال القاري: قوله ((لم يحل لي إلا ساعة من نهار)) دل على أن فتح مكة كان عنوة وقهرًا كما هو عندنا، وقال الشيخ الدهلوي: يدل ظاهره على وقع القتال فيه، وقد وقع من خالد بن الوليد، وكان ذلك بأمر من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بإذن منه - صلى الله عليه وسلم - ولهذا ذهب الأكثرون، ومنهم أبو حنيفة إلى أن مكة فتحت عنوة، وعن الشافعي وهو رواية عن أحمد أنها فتحت صلحًا، لأنهم لم يتهيؤا للحرب، وإنما وقعت اتفاقًا بعد دخول خالد وتعرض بعض المشركين، واعتذاره - صلى الله عليه وسلم - بحل القتال له صريح في وقوع القتال والفتح عنوة، وثمرة الخلاف أن من قال: فتحت عنوة لا يجوز بيع دورها وإجارتها لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذها من الكفار وجعلها وقفًا بين المسلمين، ومن قال بالفتح صلحًا جوز ذلك لأنها مملوكة لأصحابها مبقاة على أملاكهم – انتهى. قلت: ذهب الأكثرون منهم أبو حنيفة وأحمد في المشهور عنه إلى أن مكة فتحت عنوة، وذهب الشافعي إلى أنها فتحت صلحًا، واستدل له على ذلك بأنها لو فتحت عنوة لقسمها النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الغانمين كخيبر ولملك الغانمون دورها وكانوا أحق بها من أهلها، ولو كانت عنوة لم يؤمن أهلها. واستدل الجمهور بقوله - صلى الله عليه وسلم - ((لم يحل لي إلا ساعة من نهار)) وبقوله في حديث أبي شريح ((فإن ترخص أحد بقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها فقولوا له: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لك)) واستدلوا أيضًا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخلها في حالة حرب وتعبئة فقد جعل للجيش ميمنة وميسرة ومقدمة ومؤخرة وقلبًا، ودخلها وعلى رأسه المغفر غير المحرم. وحصل القتال بين خالد بن الوليد وبينهم حتى قتل منهم جماعة. وقال - صلى الله عليه وسلم - للأنصار: " أترون أوباش قريش وأتباعهم احصدوهم حصدًا ". حتى قال أبو سفيان: يا رسول الله أبيحت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم، وقال: " من أغلق بابه فهو آمن ". وغير ذلك من الأدلة الواضحة الصحيحة، وأجابوا عن أدلة المعارضين فقالوا: أما كونه لم يقسم أرضها بين الغانمين فلأن الأرض غير داخلة في الغنائم التي تقسم، وهذا عمل الخلفاء الراشدين في أرض العنوة التي يأخذونها لا يقسمونها، وإنما يجعلونها فيئًا على المسلمين أولهم وآخرهم على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مَنّ على أهل مكة فأمنهم، ومن تأمينهم ترك ما بأيديهم مع أن هناك خلافًا بين العلماء هل يملك رباع مكة ودورها؟ وقد رجح كثير من العلماء عدم تملكها وقالوا: إنه يستوي فيها المسلمون كالمساجد، وأما تأمينه أهلها فبعد القتال منّ عليهم بذلك لكونهم جيران بيت الله تعالى، وبعد أن رأوا أن لا طاقة لهم في القتال طلبوا الأمان فأجابهم لطفًا بهم ورحمة، كذا في تيسير العلام. وارجع لمزيد التفصيل إلى الفتح في شرح حديث هشام بن عروة عن أبيه من باب ((أين ركز النبي - صلى الله عليه وسلم - الراية يوم الفتح؟)) (فهو) أي البلد (حرام) أي على كل أحد بعد تلك الساعة (بحرمة الله) أي المؤبدة (لا يُعضَد) بضم أوله وفتح الضاد المعجمة أي لا يقطع،

شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته ـــــــــــــــــــــــــــــ والعضد القتل، يقال: عضدت الشجر أعضده بالكسر قطعته، قال ابن الجوزي: أصحاب الحديث يقولون يعضد بضم الضاد. وقال لنا ابن الخشاب: هو بكسرها، والمعضد بكسر أوله الآلة التي يقطع بها. قال الخليل: المعضد الممتهن من السيوف في قطع الشجر. وقال الطبري: أصله من عضد الرجل إذا أصابه بسوء في عضده (شوكه) قال القاري: أي ولو يحصل التأذي به. وأما قول بعض الشافعية أنه يجوز قطع الشوك المؤذي فمخالف لإطلاق النص، ولذا جرى جمع من متأخريهم على حرمة قطعه مطلقًا، وصححه النووي في شرح مسلم واختاره في عدة كتبه – انتهى. قلت: قال الخطابي في المعالم: أما الشوك فلا بأس بقطعه لما فيه من الضرر وعدم النفع ولا بأس بأن ينتفع بحطام الشجر وما يلي منه – انتهى. وقال الحافظ: وأجازوا (أي الشافعية) قطع الشوك لكونه يؤذي بطبعه فأشبه الفواسق ومنعه الجمهور لحديث ابن عباس، وصححه المتولي من الشافعية، وأجابوا بأن القياس المذكور في مقابلة النص فلا يعتبر به حتى ولو لم يرد النص على تحريم الشوك لكان في تحريم قطع الشجر (كما في حديث أبي هريرة الآتي) دليل على تحريم قطع الشوك لأن غالب شجر الحرم كذلك، ولقيام الفارق أيضًا فإن الفواسق المذكورة تقصد بالأذى بخلاف الشجر. قال ابن قدامة: ولا بأس بالانتفاع بما انكسر من الأغصان وانقطع من الشجر بغير صنع آدمي ولا بما يسقط من الورق نص عليه أحمد ولا نعلم فيه خلافًا – انتهى. (ولا يُنفَّر) بضم أوله وتشديد الفاء المفتوحة (صيده) أي لا يصاح عليه فينفر وقال سفيان بن عيينة: معناه أن يكون الصيد في ظل الشجرة. فلا ينفر ليجلس مكانه ويستظل. قال الطبري: لا خلاف أنه لو نفره وسلم فلا جزاء عليه لكنه يأثم بارتكابه النهي، فلو أتلفه أو تلف بتنفيره وجب جزاءه، وقال النووي: يحرم التنفير وهو الازعاج عن موضعه فإن نفره عصى سواء تلف أو لا، فإن تلف في نفاره قبل سكونه ضمن وإلا فلا. قال العلماء: يستفاد من النهي عن التنفير تحريم الإتلاف بالأولى. وقال الحافظ: قيل: تنفير الصيد كناية عن الاصطياد، وقيل: هو على ظاهره، وقد روى البخاري عن عكرمة أنه قال: هو أن تنحيه من الظل تنزل مكانه، قال الحافظ: قيل نبه عكرمة بذلك على المنع من الإتلاف كسائر أنواع تنبيهًا بالأدنى على الأعلى، وقد خالف عكرمة عطاء ومجاهد فقالا: لا بأس بطرده ما لم يفض إلى قتله، أخرجه ابن أبي شيبة، وروى ابن أبي شيبة أيضًا من طريق الحكم عن شيخ من أهل مكة أن حمامًا كان على البيت فذرق على يد عمر فأشار عمر بيده فطار فوقع على بعض بيوت مكة فجاءت حية فأكلته فحكم عمر على نفسه بشاة، وروى من طريق أخرى عن عثمان نحوه (ولا يلتقط) بصيغة المعلوم (لقطته) بالنصب على أنه مفعول. قال القسطلاني: لقطته بفتح القاف في اليونينية وبسكونها في غيرها قال الأزهري: والمحدثون لا يعرفون غير الفتح، ونقل الطيبي عن صاحب شرح السنة أنه قال: اللقطة بفتح القاف والعامة تسكنها.

إلا من عرفها، ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال الخليل: هو بالسكون، وأما بالفتح فهو الكثير الالتقاط، قال الأزهري: وهو القياس، وقال ابن بري في حواش الصحاح: وهذا هو الصواب لأن العلة للفاعل كالضحكة للكثير الضحك، وفي القاموس: واللقط محركة أي بغير هاء وكحزمة وهمزة وثمامة ما التقط – انتهى. وقال النووي: اللغة المشهورة فتحها. قال القسطلاني: وهي هنا نصب مفعول مقدم والفاعل قوله (إلا من عرفها) أي أشهرها ثم يحفظها لمالكها ولا يتملكها، أي عرفها ليعرف مالكها فيردها إليه، وهذا بخلاف غير الحرم، فإنه يجوز تملكها بشرطه. وقال الحنفية والمالكية حكمها واحد في سائر البلاد لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة من غير فصل، لنا أن قوله ((ولا يلتقط لقطته)) ورد مورد بيان الفضائل المختصة بمكة كتحريم صيدها وقطع شجرها، وإذا سوى بين لقطة الحرم وبين لقطة غيره من البلاد بقي ذكر اللقطة في هذا الحديث خاليًا عن الفائدة – انتهى. وقال التوربشتي: قوله ((لا يلتقط لقطته إلا من عرفها)) أي لا يلتقطها إلا من يريد تعريفها فحسب، يدل عليه قوله في حديث أبي هريرة ((ولا يلتقط ساقطتها إلا منشد)) أي ليس للملتقط أن يتصدق بها أو يستنفقها كسائر اللقطات وذلك لتعظيم أمر الحرم، ولم يفرق أكثر العلماء بين لقطة الحرم ولقطة غيره من الأماكن، ويعضد هذا الحديث وما ورد بمعناه قول من فرق بينهما لأن الكلام ورد مورد بيان الفضائل المختصة بها كتحريم صيدها وقطع شجرها وحصد خلاها، ثم إن الخبر الخاص إنما يساق لعلم خاص وإذا سوى بين لقطة الحرم ولقطة غيره من البلاد وجدنا ذكر حكم اللقطة في هذا الحديث خاليًا عن الفائدة – انتهى. قلت: ذهب الشافعية ومتأخروا المالكية فيما ذكره صاحب تحصيل المرام من المالكية إلى أن لقطة مكة بخلاف غيرها من البلاد وأنها لا تحل إلا لمن يعرفها أبدًا ولا يتملكها كما يتملكها في غيرها من البلاد، والصحيح من مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد أنه لا خصوصية للقطة مكة وأن حكم اللقطة في سائر البلاد واحد، والحديث عندهم محمول على المبالغة في التعريف، فإن الحاج يرجع إلى بلاده فلا يعود إلا بعد أعوام فتدعو الضرورة إلى إطالة التعريف أو على قطع وهم من يظن أنه لا يحتاج إلى التعريف، فإن الغالب أن الحجيج إذا تفرقوا مشرقين ومغربين وقد مدت المطايا أعناقها لا يعرجون على شيء فلا فائدة في التعريف. وقال القاري: المقصود من ذكرها أن لا يتوهم تخصيص تعريفها بأيام الموسم، وقال ابن الهمام: تخصيص مكة لدفع وهم سقوط التعريف بها بسبب أن الظاهر أن ما وجد بها من لقطة فالظاهر أنه للغرباء، وقد تفرقوا فلا يفيد التعريف فيسقط – انتهى، قال الحافظ: استدل بحديثي ابن عباس وأبي هريرة على أن لقطة مكة لا تلتقط للتملك بل للتعريف خاصة وهو قول الجمهور، وإنما اختصت بذلك عندهم لإمكان إيصالها إلى ربها لأنها إن كانت للمكي فظاهر، وإن كانت للآفاقي فلا يخلو أفق غالبًا من وارد إليها. فإذا عرفها واجدها في كل

ولا يختلى خلاها ". فقال العباس: يا رسول الله! إلا الإذخر ـــــــــــــــــــــــــــــ عام سهل التوصل إلى معرفة صاحبها، قاله ابن بطال. وقال أكثر المالكية وبعض الشافعية: هي كغيرها من البلاد وإنما تختص مكة بالمبالغة في التعريف لأن الحاج يرجع إلى بلده وقد لا يعود، فاحتاج الملتقط بها إلى المبالغة في التعريف. واحتج ابن المنير لمذهبه بظاهر الاستثناء لأنه نفي الحل واستثنى المنشد (في قوله لا تحل ساقطتها إلا لمنشد) فدل على أن الحل ثابت للمنشد لأن الاستثناء من النفي إثبات. قال: ويلزم على هذا أن مكة وغيرها سواء، والقياس يقتضي تخصيصها، والجواب أن التخصيص إذا وافق الغالب لم يكن له مفهوم، والغالب أن لقطة مكة ييأس ملتقطها من صاحبها وصاحبها من وجدانها لتفرق الخلق إلى الآفاق البعيدة فربما داخل الملتقط الطمع في تملكها من أول وهلة فلا يعرفها فنهى الشارع عن ذلك وأمر أن لا يأخذها إلا من عرفها، وفارقت في ذلك لقطة العسكر ببلاد الحرب بعد تفرقهم فإنها لا تعرف في غيرهم باتفاق بخلاف لقطة مكة فيشرع تعريفها لإمكان عود أهل أفق صاحب اللقطة إلى مكة فيحصل التوصل إلى معرفة صاحبها – انتهى. (ولا يُخْتَلَى) بضم الياء وسكون الخاء المعجمة وفتح الفوقية واللام أي لا يجز ولا يقطع (خلاها) بفتح المعجمة مقصور الرطب من الكلأ، فإذا يبس فهو حشيش وهشيم قال الحافظ: الخلا هو الرطب من النبات واختلاؤه قطعه واحتشاشه، واستدل به على تحريم رعيه لكونه أشد من الاحتشاش، وبه قال مالك والكوفيون واختاره الطبري. وقال الشافعي: لا بأس بالرعي لمصلحة البهائم وهو عمل الناس بخلاف الاحتشاش فإنه المنهي عنه فلا يتعدى ذلك إلى غيره – انتهى. قلت: الظاهر أن الإمام مالكًا وافق الشافعي في جواز الرعي لما في المدونة. قال مالك: لا بأس بالرعي في حرم مكة وحرم المدينة في الحشيش والشجر، وفي آخر جامع الحج من الموطأ: سئل مالك هل يحتش الرجل لدابته من الحرم؟ فقال: لا. قال الباجي: وهذا كما قال: أن لا يحتش أحد في الحرم لدابته ولا لغير ذلك إلا الإذخر الذي أباحه النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن احتش في الحرم فلا جزاء عليه ولا بأس أن يرعى الإبل في الحرم. والفرق بينه وبين الاحتشاش أن الاحتشاش تناول قطع الحشيش وإرسال البهائم للرعي ليس بتناول لذلك، وهذا لا يمكن الاحتراز منه، ولو منع منه لامتنع السفر في الحرم والمقام فيه لتعذر الامتناع منه والتحرز – انتهى. قال الحافظ: وفي تخصيص التحريم بالرطب إشارة إلى جواز رعي اليابس واختلاءه وهو أصح الوجهين للشافعية، لأن النبت اليابس كالصيد الميت. قال ابن قدامة: لكن في استثناء الإذخر إشارة إلى تحريم اليابس من الحشيش، ويدل عليه أن في بعض طرق حديث أبي هريرة ((ولا يحتش حشيشها)) قال: وأجمعوا على إباحة أخذ ما استنته الناس في الحرم من بقل وزع ومشموم فلا بأس برعيه واختلاءه – انتهى. وسيأتي بسط الكلام في ذلك في شرح قوله الآتي ((لا يعضد شجرها)) (فقال العباس) أي ابن عبد المطلب (إلا الإذخر) يجوز فيه الرفع بدلاً مما قبله

فإنه لقينهم ولبيوتهم. فقال: إلا الإذخر. متفق عليه. 2741 – (2) وفي رواية أبي هريرة: ـــــــــــــــــــــــــــــ ونصبه لكونه مستثنى بعد النفي، واختار ابن مالك النصب لكون الاستثناء وقع متراخيًا عن المستثنى منه والإِذْخر بكسر الهمزة والخاء المعجمة بينهما ذال معجمة ساكنة نبت معروف عند أهل مكة طيب الريح له أصل مندفن أي ماض في الأرض، وقضبان دوّاق ينبت في السهل والحزن، وبالمغرب صنف منه فيما قاله ابن البيطار. قال: والذي بمكة أجوده، وأهل مكة يسقفون به البيوت بين الخشب يعني يجعلونه تحت الطين وفوق الخشب ليسد الخلل فلا يسقط الطين، وكذا يجعلونه في القبور يعني يسدون به الخلل بين اللبنات في القبور، وكانوا يستعملونه بدلاً من الحلفاء في الوقود ولهذا قال العباس: فإنه لقينهم. ووقع عند عمر بن شبة ((فقال العباس: يا رسول الله إن أهل مكة لا صبر لهم عن الإذخر لقينهم وبيوتهم)) وهذا يدل على أن الاستثناء في حديث الباب لم يرد به أن يستثنى هو، وإنما أراد به أن يلقن النبي - صلى الله عليه وسلم - الاستثناء (فإنه لقينهم) بفتح القاف وسكون التحتانية بعدها نون أي الحداد وحاجته له ليوقد به النار وقال الطبري: القين عند العرب كل ذي صناعة يعالجها بنفسه، وفي رواية للبخاري ((فإنه لصاغتنا وقبورنا) ووقع في مرسل مجاهد عند عمر بن شبه الجمع بين الثلاثة (ولبيوتهم) أي لسقفها (فقال: إلا الإذخر) هو استثناء بعض من كل لدخول الإذخر في عموم ما يختلى، قال الحافظ: اختلفوا هل كان قوله - صلى الله عليه وسلم - ((إلا الإذخر)) باجتهاد أو وحي؟ وقيل: كان الله فوض له الحكم في هذه المسألة مطلقًا. وقيل: أوحي إليه قبل ذلك أنه إن طلب أحد استثناء شيء من ذلك فأجب سؤاله. وقال ابن المنير: الحق أن سؤال العباس كان على معنى الضراعة وترخيص النبي - صلى الله عليه وسلم - كان تبليغًا عن الله إما بطريق الإلهام أو بطريق الوحي، ومن ادعى أن نزول الوحي يحتاج إلى أمد متسع فقد وهم، قال الحافظ: وفي الحديث بيان خصوصية النبي - صلى الله عليه وسلم - بما ذكر في الحديث وجواز مراجعة العالم في المصالح الشرعية والمبادرة إلى ذلك في المجامع والمشاهد وعظيم منزلة العباس عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنايته بأمر مكة لكونه كان بها أصله ومنشأه (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجنائز وفي الحج وفي البيوع وفي اللقطة وفي الجهاد وفي الجزية وفي المغازي مختصرًا ومطولاً، ومسلم في الحج والجهاد وأخرجه أيضًا أحمد (ج 1: ص 226، 253، 259، 266، 315، 316، 355) مختصرًا ومطولاً، والترمذي في السير وأبو داود في الحج والجهاد، والنسائي في الحج وفي البيعة، والدارمي مختصرًا وابن الجارود والبيهقي، وسعيد بن منصور وعبد الرزاق مطولاً. 2741 – قوله (وفي رواية أبي هريرة) أي عند الشيخين فقد أخرجها البخاري في العلم وفي الديات وفي اللقطة ومسلم في الحج وأخرجها أيضًا أحمد (ج 2: ص 238) والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة والبيهقي وابن الجارود ولفظها عند الشيخين من طريق شيبان عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن خزاعة قتلوا رجلاً من بني ليث عام فتح مكة بقتيل منهم فقتلوه فأخبر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فركب راحلته فخطب، فقال: إن الله

" لا يعضد شجرها ـــــــــــــــــــــــــــــ حبس عن مكة الفيل وسلط عليهم رسول الله والمؤمنين، ألا وإنها لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، ألا وإنها حلت لي ساعة من نهار، ألا وإنها ساعتي هذه حرام، لا يختلى شوكها ولا يعضد شجرها ولا تلتقط ساقطتها إلا لمنشد (وفي رواية ((لا يلتقط ساقطتها إلا منشد)) فمن قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما إن يعقل وإما أن يقاد أهل القتيل فجاء رجل من أهل اليمن فقال: اكتب لي يا رسول الله، فقال: اكتبوا لأبي فلان، فقال رجل من قريش. إلا الإذخر يا رسول الله، فإنا نجعله في بيوتنا وقبورنا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إلا الإذخر (لا يعضد) بصيغة المجهول أي لا يقطع ووقع في رواية لعمر بن شبة بلفظ ((لا يخضد)) بالخاء المعجمة بدل العين المهملة، وهو راجع إلى معني العضد، فإن أصل الخضد الكسر ويستعمل في القطع (شجرها) قال القرطبي: خص الفقهاء الشجر المنهي عن قطعه بما ينبته الله تعالى من غير صنع الآدمي، فأما ما ينبت بمعاجلة آدمي فاختلف فيه، والجمهور على الجواز. وقال الشافعي في الجميع الجزاء، ورجحه ابن قدامة، واختلفوا في جزاء ما قطع من النوع الأول فقال مالك: لا جزاء فيه بل يأثم، وقال عطاء: يستغفر، وقال أبو حنيفة: يؤخذ بقيمته هدي، وقال الشافعي: في العظيمة بقرة وفي ما دونها شاة. واحتج الطبري بالقياس على جزاء الصيد، وتعقبه ابن القصار بأنه كان يلزمه أن يجعل الجزاء على المحرم إذا قطع شيئًا من شجر الحل ولا قائل به. وقال ابن العربي: اتفقوا على تحريم قطع شجر الحرم إلا أن الشافعي أجاز قطع السواك من فروع الشجرة كذا نقله أبو ثور عنه. وأجاز أيضًا أخذ الورق والثمر إذا كان لا يضرها ولا يهلكها، بهذا قال عطاء ومجاهد وغيرهما، كذا في الفتح، وقال ابن قدامة: أجمع أهل العلم على تحريم قطع شجر الحرم وإباحة أخذ الإذخر وما أنبته الآدمي من البقول والزروع والرياحين، حكى ذلك ابن المنذر، والأصل فيه ما روينا من حديث ابن عباس، وروى أبو شريح وأبو هريرة نحوًا من حديث ابن عباس وكلها متفق عليها، فأما ما أنبته الآدمي من الشجر فقال أبو الخطاب وابن عقيل: له قلعه من غير ضمان كالزرع، وقال القاضي: ما نبت في الحل ثم غرس في الحرم فلا جزاء فيه، وما نبت أصله في الحرم ففيه الجزاء بكل حال، وقال الشافعي في شجر الحرم: الجزاء بكل حال أنبته الآدميون أو نبت بنفسه لعموم قوله عليه السلام ((لا يعضد شجرها)) وقال أبو حنيفة: لا جزاء فيما ينبت الآدميون جنسه كالجوز واللوز والنخل ونحوه ولا يجب فيما ينبته الآدمي من غيره كالدوح والسلم والعضاه لأن الحرم يختص تحريمه ما كان وحشيًا من الصيد كذلك الشجر، قال ابن قدامة: ويحرم قطع الشوك والعوسج، وقال القاضي وأبو الخطاب: لا يحرم. وروى ذلك عن عطاء ومجاهد وعمرو بن دينار والشافعي. لأنه يؤذي بطبعه، فأشبه السباع من الحيوان، ولنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ((لا يعضد شجرها)) وفي حديث أبي هريرة ((لا يختلى شوكها)) وهذا صريح، ولأن الغالب في شجر

.............................................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحرم الشوك، فلما حرم النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع شجرها والشوك غالبه كان ظاهرًا في تحريمه قال: ولا بأس بقطع اليابس من الشجر والحشيش لأنه بمنزلة الميت، ولا يقطع ما انكسر ولم يبن، لأنه قد تلف فهو بمنزلة الظفر المنكسر، ولا بأس بالانتفاع بما انكسر من الأغصان وانقلع من الشجر بغير فعل آدمي ولا ما سقط من الورق، نص عليه أحمد ولا نعلم فيه خلافًا، لأن الخبر إنما ورد في القطع وهذا لم يقطع، قال: وليس له أخذ ورق الشجر، وقال الشافعي: له أخذه لأنه لا يضر به، وكان عطاء يرخص في أخذ ورق السنا يستمشي به ولا ينزع من أصله، ورخص فيه عمرو بن دينار، ولنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يخبط شوكها ولا يعضد شجرها، رواه مسلم. ولأن ما حرم أخذه حرم كل شيء منه كريش الطائر، وقولهم ((لا يضر به)) لا يصح فإنه يضعفها وربما آل إلى تلفها. قال: ويحرم قطع حشيش الحرم إلا ما استثناه الشرع من الإذخر وما أنبته الآدميون واليابس لقوله عليه السلام: لا يختلى خلاها، وفي لفظ ((لا يحتش حشيشها)) وفي استثناء النبي - صلى الله عليه وسلم - الإذخر دليل على تحريم ما عداه. وفي جواز رعيه وجهان: أحدهما لا يجوز، وهو مذهب أبي حنيفة، لأن ما حرم إتلافه لم يجز أن يرسل عليه ما يتلفه كالصيد. والثاني يجوز، وهو مذهب عطاء والشافعي، لأن الهدي كانت تدخل الحرم فتكثر فيه ولم ينقل أنه كانت تسد أفواهها، ولأن بهم حاجة إلى ذلك أشبه قطع الإذخر. قال: ويباح أخذ الكمأة من الحرم وكذلك الفقع لأنه لا أصل له فأشبه الثمرة، وروى حنبل قال: يؤكل من شجر الحرم الضغابيس والعشرق وما سقط من الشجر وما أنبت الناس – انتهى. وقال في الروض المربع: يحرم قطع شجر الحرم وحشيشه الأخضرين الذين لم يزرعهما آدمي ويجوز قطع اليابس والثمرة وما زرعه الآدمي والكمأة والفقع والإذخر ويباح الانتفاع بما زال أو انكسر بغير فعل آدمي ولو لم يبن، ويضمن حشيش وورق بقيمته وغصن بما نقص – انتهى. وفي نيل المآرب: يحرم قطع شجره حتى ما فيه مضرة كعوسج وشوك وسواك ونحوه إلا اليابس – انتهى. قال ابن قدامة: ويجب في إتلاف الشجر والحشيش الضمان. وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي، وروي ذلك عن ابن عباس وعطاء وقال مالك وأبو ثور وداود وابن المنذر: لا يضمن لأن المحرم لا يضمنه في الحل فلا يضمن في الحرم كالزرع. وقال ابن المنذر: لا أجد دليلاً أوجب به في شجر الحرم فرضًا من كتاب ولا سنة ولا إجماع، وأقول كما قال مالك. نستغفر الله تعالى، ولنا ما روى أبو هشيمة قال: رأيت عمر بن الخطاب أمر بشجر كان في المسجد يضر بأهل الطواف فقطع وفدى. قال: وذكر البقرة. رواه حنبل في المناسك، وعن ابن عباس أنه قال في الدوحة: بقرة، وفي الجزلة شاة، والدوحة الشجرة العظيمة والجزلة الصغيرة، وعن عطاء نحوه. ولأنه ممنوع من إتلافه لحرمة الحرم فكان مضمونًا كالصيد، ويخالف المحرم فإنه لا يمنع من قطع شجر الحل ولا زرع الحرم، إذا ثبت هذا فإنه يضمن الشجرة الكبيرة ببقرة والصغيرة بشاة والحشيش بقيمته والغصن بما نقص، وبهذا قال الشافعي، وقال أصحاب الرأي يضمن الكل بقيمته

................................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنه لا مقدر فيه فأشبه الحشيش. ولنا قول ابن عباس وعطاء، ولأنه أحد نوعي ما يحرم إتلافه فكان فيه ما يضمن بمقدر كالصيد – انتهى بقدر الضرورة، وقال مالك في الموطأ: ليس على المحرم فيما قطع من الشجر في الحرم شيء ولم يبلغنا أن أحدًا حكم فيه بشيء وبئس ما صنع. قال الباجي: ذكر في مسألتين: إحداهما: ليس على المحرم فيما قطع من الشجر في الحرم بشيء، والثانية قوله: بئس ما صنع فنص على المنع من ذلك، وتتعلق بذلك مسألة ثالثة وهي تبيين الشجر الممنوع قطعه وتمييزه من غيره، فأما المسألة الأولى في أنه لا يجب به شيء فهو مذهب مالك، وقال أبو حنيفة والشافعي: يجب عليه الجزاء – انتهى. وقال الدردير: لا جزاء على قاطع ما حرم قطعه لأنه قدر زائد على التحريم يحتاج لدليل – انتهى. واستدل لذلك الزرقاني بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبة فتح مكة: " لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا ولا يعضد بها شجرة. في روايات أخر: ليس في شيء منها ذكر جزاء ولا غيره والكفارات لا يقاس عليها، قال الباجي: وأما المسألة الثانية في المنع من قطع شجر الحرم فهو مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة، والأصل في ذلك ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها، وأما المسألة الثالثة أي تبيين ما يسباح قطعه من شجر الحرم وتمييزه مما هو ممنوع فإن الممنوع منه ما هو من شجرة البادية مما لا يملك غالبًا، وجرت العادة بأن ينبت من غير عمل آدمي كالطلح والسعدان وما جري مجري ذلك، وكذلك سائر أنواع الحشيش، والأصل في ذلك ما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها ". فقال العباس: إلا الإذخر يا رسول الله فإنه لصاغتنا وقبورنا. فقال - صلى الله عليه وسلم -: " إلا الإذخر ". قال الباجي: والسنا عندي مثله وهذا فيما ينبت بنفسه، وأما ما غرس منه واتخذ بالعمل وملكه العامل فعندي يجوز أخذه وهو قول أبي حنيفة وقال الشافعي: لا يجوز. وأما ما جرت العادة بأنه يملك ويغرس ويعمل كالنخل والرمان والجوز وما أشبهها فإنه غير ممنوع قطعه، وكذا ما كان يتخذ من البقول سواء نبت بنفسه أو بصنع آدمي لأنه على أصله، ويجري ذلك مجرى الحيوان ما كان أصله التأنيس، فإنه لا يمنع من اصطياده في الحرم وإن توحش – انتهى. وفي المدونة: لا يقطع في الحرم من الشجر شيء يبس أو لم ييبس، وقال مالك: كل شيء أنبته الناس في الحرم من الشجر مثل النخل والرمان وما أشبههما فلا بأس بقطع ذلك كله، وكذلك البقل كله مثل الكراث والخس والسلق وما أشبه ذلك، ولا بأس بالسنا والإذخر أن يقلع في الحرم - انتهى. وقال الدردير: (حرم بالحرم قطع ما ينبت بنفسه) من غير علاج كالبقل البري وشجر الطرفاء، ولو استنبت نظرًا لجنسه، وكما يأتي في عكسه (إلا الإذخر والسنا) ومثلهما العصا والسواك وقطع الشجر للبناء والسكنى بموضعه أو قطعه لإصلاح الحوائط (كما يستنبت) من خسٍ وسلق وكراث وبطيخ وخوخ وإن لم يعالج نظرًا لأصله – انتهى. قال الدسوقي: قوله: ما ينبت بنفسه أي ولو كان قطعه لإطعام الدواب على المعتمد، ولا فرق بين الأخضر واليابس، وقوله كما يستنبت أي كما يجوز

................................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ قطع ما يستنبته كالحنطة والقثاء والعناب والنخل والرمان – انتهى. وقال النووي في مناسكه: يضمن المحرم والحلال شجر حرم مكة، فمن قلع شجرة كبيرة ضمنها ببقرة، وإن كانت صغيرة ضمنها بشاة ثم يتخير بين البقرة والشاة والطعام والصيام كما سبق في جزاء الصيد، وإن كانت صغيرة جدًا وجبت القيمة، ثم يتخير بين الطعام والصيام وكذا حكم الأغصان، وأما الأوراق فيجوز أخذها لكن لا يخبطها مخافة أن يصيب قشورها، ويحرم قطع حشيش الحرم، فإن قلعه لزمه القيمة، وإن كان يابسًا فلا شيء في قطعه، فلو قطعه لزمه الضمان لأنه لو لم يقلعه لنبت، ويجوز تسريح البهائم في حشيش الحرم لترعى فلو أخذ الحشيش لعلف البهائم جاز على الأصح بخلاف من يأخذ للبيع أو غيره، ويستثنى من البيع الإذخر، ولو احتيج إلى شيء من نبات الحرم للدواء جاز قطعه على الأصح. قال ابن حجر المكي: قوله: ((يضمن شجر الحرم)) أي بالقلع والقطع سواء الذي في ملكه والمثمر والمستنبت وغيره، وقوله ((فمن قلع شجرة)) أي رطبة غير مؤذية كالشوك، وقوله ((يحرم قطع حشيش الحرم)) أي ليس من شأنه أن يستنبت سواء نبت بنفسه أو استنبت. أما إذا كان من شأنه ذلك وإن نبت بنفسه كالحنطة والشعير والبقول والخضروات فيجوز أخذه، وقوله ((لأنه لو لم يقلعه لنبت)) محله ما إذا لم يفسد منبته وإلا جاز قلعه أيضًا، وقوله: يستثنى الإذخر، ألحق به ما يتغذى به كالرجلة والنبات المسمى بالبقلة ونحوهما لأنه في معنى الزرع، وكالإذخر غيره إذا احتاج إليه للتسقيف – انتهى. واختلف الشافعية في جواز أخذ المساويك وعدمه كما بسط ذلك ابن حجر، وقال ابن عابدين: اعلم أن النابت في الحرم إما جاف أو منكسر أو إذخر أو غيرها، والثلاثة الأول مستثناة من الضمان كما يأتي، وغيرها إما يكون أنبته الناس أو لا، والأول لا شيء فيه سواء كان من جنس ما ينبته الناس كالزرع أو لا، كأم غيلان، والثاني إن كان من جنس ما ينبتونه فكذلك، وإلا ففيه الجزاء، فما فيه الجزاء هو النابت بنفسه، وليس مما يستنبت ولا منكسرًا ولا جافًا ولا إذخرًا كما قرره في البحر – انتهى. وفي شرح اللباب: أشجار الحرم ونباته أربعة أنواع، الأول: كل شجر أنبته الناس حقيقة وهو من جنس ما ينبته الناس عادة كالزرع. الثاني: ما أنبته الناس وهو ليس مما ينبتونه عادة كالأراك وهو شجر المسواك، الثالث: ما نبت بنفسه وهو من جنس ما ينبته الناس عادة فهذه الأنواع الثلاثة يحل قطعها وقلعها والانتفاع بها ولا جزاء فيها. وأما النوع الرابع: فكل شجر نبت بنفسه وهو من جنس ما لا ينبته الناس عادة كأم غيلان، فهذا محظور القطع سواء كان مملوكًا بأن يكون في أرض رجل أو لا إلا اليابس لعدم إطلاق الشجر والنبات عليه حينئذ فإنه صار حطبًا، وإلا الإذخر فيجوز قطعه رطبًا ويابسًا، ويجوز أخذ الكمأة وما اجتنى من الزهر والثمر وما انكسر من الشجر بغير فعل آدمي، ويحرم قطع الشوك والعوسج، ولا ضمان فيه، ولا يجوز اتخاذ المساويك من أراك الحرم، وسائر أشجاره إذا كان أخضر ويجوز أخذ الورق ولا ضمان فيه إذا كان لا يضر

................................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ بالشجر ولا يجوز رعي الحشيش في قول أبي حنيفة ومحمد وأحمد، وقال أبو يوسف ومالك والشافعي: لا بأس به ولو ارتعت دابته حالة المشي لا شيء عليه لوقوع رعيها من غير اختياره، وهذا مما اتفق عليه – انتهى. وزاد في الغنية: يحل قطع الشجر المثمر (أي وإن لم يكن من جنس ما ينبته الناس) لأن إثماره أقيم مقام إنبات الناس – انتهى. وفي رد المحتار: ولا يرعى حشيشه أي عندهما، وجوزه أبو يوسف للضرورة، فإن منع الدواب عنه متعذر، وتمامه في الهداية ونقل بعض المحشين عن البرهان تأييد قوله بما حاصله أن الاحتياج للرعي فوق الاحتياج للإذخر، وأقرب حد الحرم فوق أربعة أميال ففي خروج الرعاة إليه ثم عودهم قد لا يبقي من النهار وقت تشبع فيه الدواب، وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - ((لا يختلى خلاها ولا يعضد شوكها)) وسكوته عن نفي الرعي إشارة لجوازه وإلا لبينه ولا مساواة بينهما ليلحق به دلالة، إذ القطع فعل العاقل، والرعي فعل العجماء وهو جبار وعليه عمل الناس وليس في النص دلالة على نفي الرعي ليلزم من اعتبار الضرورة معارضته بخلاف الاحتشاش – انتهى. قال ابن عابدين: لكن في قوله ((والرعي فعل العجماء)) نظر لأنها لو ارتعت بنفسها لا شيء عليه اتفاقًا، وإنما الخلاف في إرسالها للرعي وهو مضاف إليه – انتهى. وفي الهداية: إن قطع حشيش الحرم أو شجرة ليست بمملوكة وهو مما لا ينبته الناس (كشجر أم غيلان والأثل) فعليه قيمته إلا فيما جف منه لأن حرمتهما تثبت بسبب الحرم. قال عليه السلام: لا يختلى خلاها ولا يعضد شوكها، ولا يكون للصوم في هذه القيمة مدخل (فلا يكفي في الجزاء الصوم) لأن حرمة تناولها بسبب الحرم لا بسبب الإحرام فكان من ضمان المحال على ما بينا من أن الصوم يصلح جزاء للأفعال لا ضمان المحال ويتصدق بقيمته على الفقراء – انتهى. هذا وقد ظهر بما ذكرنا من عبارات كتب الفروع أن ها هنا عدة مسائل اتفق الفقهاء على بعضها واختلفوا في البعض الآخر، فمنها أنهم اختلفوا في مصداق المنهي عنه من الشجر وتمييزه من غيره، فقال مالك كما ذكر الدردير: يحرم قطع ما ينبت جنسه بنفسه ولو استنبته أحد نظرًا لجنسه. وقالت الحنفية: يحرم ما ينبت بنفسه وهو من جنس ما لا ينبته الناس عادة. وقال أحمد: يحرم قطع ما لم يزرعه آدمي من الشجر والحشيش، ويباح ما زرعه الآدمي وأنبته، وقالت الشافعية: يحرم قطع شجر الحرم وحشيشه أي الذي ليس من شأنه أن يستنبت مطلقًا أي سواء أنبته الآدميون أو نبت بنفسه إلا الذي من شأنه أن يستنبت، وإن نبت بنفسه كالبقول والخضراوات والحنطة والشعير ومنها أنهم أجمعوا على أن ما زرعه الآدمي وأنبته من البقول والزروع والرياحين يجوز قطعه ولا اختلاف في ذلك كما ذكره ابن قدامة وغيره، ومنها أنه لا فرق بين الأخضر واليابس عند مالك كما في المدونة والدسوقي خلافًا للأئمة الثلاثة، إذا أباحوا قطع اليابس كما صرح به ابن قدامة والنووي وابن عابدين وغيرهم، ومنها أن الشوك وغيره سواء في الحرمة عند مالك وأحمد كما في المغني ويجوز قطعه عند الشافعي والقاضي وأبي الخطاب من الحنابلة، ويحرم قطعه بلا ضمان عند

ولا يلتقط ساقطتها إلا منشد ". 2742 – (3) وعن جابر، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا يحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح ". ـــــــــــــــــــــــــــــ الحنفية كما في شرح اللباب، ومنها أنهم أجمعوا على إباحة قطع الإذخر رطبًا ويابسًا ومنها أنه لا يجوز قطع ما ينبت بنفسه لإطعام الدواب عند المالكية على المعتمد كما صرح به الدسوقي، وبه قال أحمد كما في المغني والحنفية، ويجوز على الأصح عند الشافعية كما صرح به النووي في مناسكه، ومنها أنه يجوز رعى الدواب عند مالك والشافعي وأبي يوسف ولا يجوز عند أبي حنيفة ومحمد وعند أحمد فيه وجهان كما ذكر ابن قدامة، ولو ارتعت بنفسها يجوز إجماعًا، ومنها أنهم أجمعوا على جواز الانتفاع بالأوراق الساقطة، ومنها أنه يجوز أخذ السواك من شجر الحرم عند المالكية كما صرح به الدردير وابن الحاج وكذا عند الشافعي على ما حكى عنه أبو ثور، ولا يجوز عند أحمد كما في نيل المأرب، وكذا عند الحنفية كما في شرح اللباب. واختلفت فيه الشافعية، ومنها أنه لا يجوز قطع الورق عند الحنابلة كما في المغني والروض المربع، ويجوز عند الشافعية والحنفية كما في مناسك النووي وفي شرح اللباب (ولا يلتقط) بصيغة المعلوم أي لا يأخذ (ساقطتها) بالنصب (إلا منشد) من الإنشاد أي معرف (وهو الذي يعرف اللقطة ويحتفظ بها إلى أن يحضر صاحبها فيردها إليه) وأما الطالب فيقال له الناشد تقول: نشدت الضالة إذا طلبتها وأنشدتها إذا عرفتها، وأصل الإنشاد والنشيد رفع الصوت، كذا في الفتح. فائدة: قال القاري: يحرم على الأصح عند الشافعية وأكثرهم على الكراهة نقل تراب الحرام وحجره إلى غيره ولو إلى حرم المدينة، كما يمنع نقل تراب حرم المدينة وحجره إلى غيره ولو إلى حرم مكة – انتهى. وقال ابن جاسر في مفيد الأنام: قال الإمام أحمد: لا يخرج من تراب المدينة، كذلك قال ابن عمر وابن عباس، ولا يخرج من حجارة مكة إلى الحل. قال في المنتهى: وكره إخراج تراب الحرم وحجارته إلى الحل – انتهى. وقال المحب الطبري في القرى: روي عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم أنهما كرها أن يخرج من تراب الحرم وحجارته إلى الحل شيء، أخرجه الشافعي، وقال: قال غير واحد من أهل العلم: لا ينبغي أن يخرج شيء من الحرم إلى غيره. وقال أبو حنيفة لا بأس، وعن عطاء أنه كان يكره أن يخرج تراب الحرم إلى الحل، أو يدخل تراب الحل إلى الحرم أخرجه سعيد بن منصور – انتهى. وارجع لمزيد البسط إلى شفاء الغرام (ج 1: ص 71) . 2742- قوله (لا يحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح) أي بلا ضرورة عند الجمهور ومطلقًا عند الحسن وحجة الجمهور ما رواه البراء قال: اعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذي القعدة فأبي أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة حتى قاضاهم لا يدخل مكة

رواه مسلم. 2743 – (4) وعن أنس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة يوم الفتح، ـــــــــــــــــــــــــــــ سلاحًا إلا في القراب. وما رواه ابن عمر ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج معتمرًا فحال كفار قريش بينه وبين البيت)) الحديث. وفيه ((قاضاهم على أن يعتمر العام المقبل ولا يحمل سلاحًا عليهم إلا سيوفًا)) إلخ. أخرجهما أحمد والبخاري. قال الشوكاني: في الحديثين دليل على جواز حمل السلاح بمكة للعذر والضرورة فيخصص بهذين الحديثين عموم حديث جابر عند مسلم يعني به حديث الباب. قال فيكون هذا النهى فيما عدا من حمله للحاجة والضرورة، وإلى هذا ذهب الجماهير من أهل العلم أي أن النهى محمول على حمل السلاح بغير ضرورة ولا حاجة، فإن كانت حاجة جاز، قال: وهكذا يخصص بحديثي البراء وابن عمر عموم قول ابن عمر للحجاج ((وأدخلت السلاح الحرم ولم يكن السلاح يدخل الحرم)) فيكون مراده لم يكن السلاح، يدخل الحرم لغير حاجة، فإنه قد دخل به - صلى الله عليه وسلم - غير مرة كما في دخوله يوم الفتح هو وأصحابه، ودخوله - صلى الله عليه وسلم - للعمرة كما في حديث البراء وابن عمر – انتهى. وقال النووي في شرح حديث جابر. هذا النهى إذا لم تكن حاجة فإن كانت حاجة جاز، هذا مذهبنا ومذهب جماهير العلماء. قال القاضي عياض: هذا محمول عند أهل العلم على حمل السلاح لغير ضرورة ولا حاجة، فإن كانت حاجة جاز، قال القاضي: وهذا مذهب مالك والشافعي وعطاء قال: وكرهه الحسن البصري أي مطلقًا تمسكًا بظاهر هذا الحديث يعني النهى، وحجة الجمهور دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - عام عمرة القضاء بما شرطه من السلاح في القراب ودخوله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح متأهبًا للقتال – انتهى. وقال ابن قدامة بعد ذكر حديث البراء: هذا ظاهر في إباحة حمله عند الحاجة لأنهم لم يكونوا يأمنون أهل مكة أن ينقضوا العهد ويخفروا الذمة واشترطوا حمل السلاح في قرابه، فأما من غير خوف فإن أحمد قال: لا إلا من ضرورة. وإنما منع منه لأن ابن عمر قال: لا يحمل المحرم السلاح في الحرم. وقال القاري بعد ذكر كلام القاضي عياض: وفيه بحث ظاهر، إذا المراد بحمل السلاح ظاهرًا بحيث يكون سبب لرعب مسلم أو أذى أحد كما هو مشاهد اليوم ويؤيده أنه كان ابن عمر يمنع ذلك في أيام الحجاج، وأما عام الفتح فهو مستثنى من هذا الحكم فإنه كان أبيح له ما لم يبح لغيره من نحو حمل السلاح – انتهى. قلت: والحق ما ذهب إليه الجمهور من حمل حديث جابر على حمل السلاح لغير ضرورة وحاجة لأن فيه الجمع بين الأحاديث، وأما تخصيصه بحمل السلاح ظاهر بحيث يكون سببًا لرعب مسلم أو أذى أحد فلا يخفى ما فيه (رواه مسلم) وأخرجه أيضًا البيهقي (ج 5: ص 156) والحديث من أفراد مسلم ووهم المحب الطبري حيث عزاه إلى الشيخين. 2743- قوله (دخل مكة) لثلاث عشرة خلت من رمضان سنة ثمان من الهجرة (يوم الفتح) أي فتح مكة وكان خرج من المدينة إليها لليلتين خلتا من رمضان، وقال الواقدي: خرج لعاشر رمضان قال الحافظ: هذا ليس بقوى

وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاء رجل، ـــــــــــــــــــــــــــــ لمخالفة ما هو أصح منه (وعلى رأسه المغفر) بكسر الميم وسكون الغين المعجمة وفتح الفاء آخره راء ويقال له مغفرة بزيادة هاء التأنيث آخره، وهو زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس يلبس تحت القلنسوة، حكاه في الصحاح عن الأصمعي، وصدر به صاحب المحكم كلامه، ثم قال: وقيل: هو رفرف البيضة، وقيل: وهو حلق يتقنع به المتسلح وقال في المشارق: هو ما يجعل من فضل درع الحديد على الرأس مثل القلنسوة والخمار، وقال في التمهيد: هو ما غطى الرأس من السلاح كالبيضة وشبهها من حديد كان أو غيره، قال الحافظ في الحج: وفي رواية زيد بن الحباب عن مالك (عن ابن شهاب عن أنس) : وعليه مغفر من حديد. أخرجه الدارقطني في الغرائب والحاكم في الإكليل، وكذا هو في رواية أبي أويس (عن ابن شهاب عند ابن سعد وابن عدي) وقال في المغازي: في رواية أبي عبيد القاسم بن سلام عن يحيى بن بكير عن مالك ((مغفر من حديد)) قال الدارقطني: تفرد به أبو عبيد، وهو في الموطأ ليحيى بن بكير مثل الجماعة. ورواه عن مالك جماعة من أصحابه خارج الموطأ بلفظ ((مغفر من حديد) ثم ساقه من رواية عشرة عن مالك كذلك، وكذلك هو عند ابن عدي من رواية أبي أويس عن ابن شهاب، وعند الدارقطني من رواية شبابة بن سوار عن مالك – انتهى. واعلم أنه لا معارضة بين حديث أنس هذا وبين حديث جابر الآتي أنه دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء، لإمكان أن المغفر فوق العمامة وهي تحته وقاية لرأسه من صدء الحديد، أو كانت العمامة السوداء ملفوفة فوق المغفر، ويحتمل أن يكون أول دخوله كان على رأسه المغفر ثم بعد ذلك كان على رأسه العمامة بعد إزالة المغفر بدليل قوله في حديث عمرو بن حريث عند مسلم: خطب الناس وعليه عمامة سوداء، لأن الخطبة إنما كانت عند باب الكعبة بعد تمام فتح مكة. قال الزرقاني بعد ذكر هذه الوجوه: فزعم الحاكم في الإكليل تعارض الحديثين متعقب بأنه إنما يتحقق التعارض إذا لم يمكن الجمع وقد أمكن ها هنا بوجوه حسان. وقال الحافظ زعم الحاكم في الإكليل أن بين حديث أنس وبين حديث جابر معارضة وتعقبوه باحتمال أن يكون أول دخوله كان على رأسه المغفر ثم أزاله ولبس العمامة بعد ذلك فحكى كل منها ما رآه، ويؤيده أن في حديث عمرو بن حريث أنه خطب الناس وعليه عمامة سوداء وكانت الخطبة عند باب الكعبة، وذلك بعد تمام الدخول، وهذا الجمع لعياض، وقال غيره: يجمع بأن العمامة السوداء كانت ملفوفة فوق المغفر أو كانت تحت المغفر وقاية لرأسه من صدء الحديد، فأراد أنس بذكر المغفر كونه دخل متهيأ للحرب وأراد جابر بذكر العمامة كونه دخل غير محرم (فلما نزعه) أي المغفر من رأسه (جاء رجل) قال الحافظ: لم أقف على اسمه إلا أنه يحتمل أن يكون هو الذي باشر قتله وقد جزم الفاكهي في شرح العمدة بأن الذي جاء بذلك هو أبو برزة الأسلمي، وكأنه لما رجح عنده أنه هو الذي قتله رأي أنه هو الذي جاء مخبرًا بقصته ويوشحه قوله في رواية يحيى بن قزعة في المغازي فقال اقتله بصيغة

وقال: إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة. فقال: " اقتله ". ـــــــــــــــــــــــــــــ الإفراد على أنه اختلف في اسم قاتله. وقال العيني: قوله ((جاءه رجل)) هو أبو برزة الأسلمي واسمه نضلة بن عبيد وجزم به الكرماني والفاكهي في شرح العمدة. قال الزرقاني: وكذا ذكره ابن طاهر وغيره. وقيل اسمه سعيد بن حريث (إن ابن خطل) بفتح الخاء المعجمة والطاء المهملة وآخره لام كان اسمه عبد العزي، فلما أسلم سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله، ومن قال: اسمه هلال التبس عليه بأخ له اسمه هلال، بين ذلك الكلبي في النسب، وقيل: هو عبد الله بن هلال بن خطل. وقيل: غالب بن عبد الله بن خطل، واسم خطل عبد مناف من بني تيم بن فهر بن غالب، كذا في الفتح، وهو أحد من أهدر دمه يوم الفتح، وقال: لا أؤمنهم في حل ولا حرم، وقد جمع الواقدي عن شيوخه أسماء من لم يؤمن يوم الفتح وأمر بقتله عشرة أنفس ستة رجال وأربع نسوة، قاله الحافظ والعيني، والسبب في قتل ابن خطل وعدم دخوله في قوله: من دخل المسجد فهو آمن، ما رواه ابن إسحاق في المغازي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين دخل مكة قال: لا يقتل أحد إلا من قاتل إلا نفرًا سماهم فقال: اقتلوهم وإن وجدتموهم تحت أستار الكعبة، منهم عبد الله بن خطل وعبد الله بن سعد، وإنما أمر بقتل ابن خطل لأنه كان مسلمًا فبعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصدقًا وبعث معه رجلاً من الأنصار وكان معه مولى يخدمه وكان مسلمًا فنزل منزلاً فأمر المولى أن يذبح تيسًا ويصنع له طعامًا فنام واستيقظ ولم يصنع له شيئًا فعدا عليه فقتله ثم ارتد مشركًَا ولحق بمكة وكانت له قينتان تغنيان بهجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال الحافظ: وروى الفاكهي من طريق ابن جريج قال: قال مولى ابن عباس: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً من الأنصار ورجلاً من مزينة وابن خطل وقال: أطيعا الأنصاري حتى ترجعا، فقتل ابن خطل الأنصاري وهرب المزني. وقال النووي: قال العلماء: إنما قتله لأنه كان قد ارتد عن الإسلام وقتل مسلمًا كان يخدمه وكان يهجو النبي - صلى الله عليه وسلم - ويسبه، وكانت له قينتان تغنيان بهجاء المسلمين – انتهى. قال ابن عبد البر: فهذا القتل قود من دم مسلم. وكذا قال الخطابي: لم ينفذ له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأمان وقتله بحق ما جناه في الإسلام (متعلق بأستار الكعبة) جمع ستر وكان تعلقه بها استجارة بها، وذلك كما ذكر الواقدي أنه خرج إلى الجندمة ليقاتل على فرس وبيده قناة، فلما رأى خيل الله والقتل دخله رعب حتى ما يستمسك من الرعدة فرجع حتى انتهى إلى الكعبة فنزل عن فرسه وطرح سلاحه ودخل تحت أستارها فأخذ رجل من الركب سلاحه وفرسه فاستوى عليه وأخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك (فقال: اقتله) زاد الوليد بن مسلم عن مالك: فقتل، أخرجه ابن عائذ وصححه ابن حبان وأخرج عمر بن شبة في كتاب مكة عن السائب بن يزيد، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استخرج من تحت أستار الكعبة ابن خطل فضربت عنقه صبرًا بين زمزم ومقام إبراهيم وقال: " لا يقتل قرشي بعد هذا صبرًا ". رجاله ثقات إلا أن في أبي معشر مقالاً، قاله الحافظ. واختلف في قاتله هل هو سعيد بن حريث أو عمار بن ياسر أو سعد بن أبي وقاص أو سعيد بن زيد أو أبو برزة - بفتح الموحدة وإسكان الراء المهملة ثم زاي معجمة مفتوحة –

................................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ الأسلمي، وهو أصح ما جاء في تعيين قاتله ورجحه الواقدي، وجزم به البلاذري وغيره، وتحمل بقية الروايات المخالفة له على أنهم ابتدروا قتله فكان المباشر منهم أبو برزة، وجزم ابن هشام في تهذيب السيرة بأن سعيد بن حريث وأبا برزة اشتركا في قتله، قاله الزرقاني. وقال الحافظ في الحج بعد ذكر ما ورد من الروايات المختلفة في ذلك ما لفظه: وروى ابن أبي شيبة من طريق أبي عثمان النهدي أن أبا برزة الأسلمي قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة، وإسناده صحيح مع إرساله، وله شاهد عند ابن المبارك في البر والصلة من حديث أبي برزة نفسه، ورواه أحمد من وجه آخر وهو أصح ما ورد في تعيين قاتله، وبه جزم البلاذري وغيره من أهل العلم بالأخبار، وتحمل بقية الروايات على أنهم ابتدروا قتله فكان المباشر له منهم أبو برزة، ويحتمل أن يكون غيره شاركه فيه، فقد جزم ابن هشام في السيرة بأن سعيد بن حريث وأبا برزة الأسلمي اشتركا في قتله، ومنهم من سمى قاتله سعيد بن ذويب، وحكى المحب الطبري أن الزبير بن العوام هو الذي قتل ابن خطل – انتهى. وقال في المغازي: اختلف في قاتله، وقد جزم ابن إسحاق بأن سعيد بن حريث وأبا برزة الأسلمي اشتركا في قتله، وحكى الواقدي فيه أقوالاً، منها أن قاتله شريك بن عبدة العجلاني، ورجح أنه أبو برزة - انتهى. واستدل بقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة على أن الكعبة لا تعيذ من وجب عليه القتل، وأنه يجوز قتل من وجب عليه القتل في الحرم. قال الحافظ: استدل بقصة ابن خطل على جواز إقامة الحدود والقصاص في حرم مكة، قال ابن عبد البر: كان قتل ابن خطل قودًا من قتله المسلم، وقال السهيلي: فيه أن الكعبة لا تعيذ عاصيًا ولا تمنع من إقامة حد واجب. وقال النووي: تأويل من قال لا يقتل فيها على أنه - صلى الله عليه وسلم - قتله في الساعة التي أبيحت له، وأجاب عنه أصحابنا بأنها إنما أبيحت له ساعة الدخول حتى استولى عليها وأذعن أهلها، وإنما قتل ابن خطل بعد ذلك – انتهى. وتعقب بأن المراد بالساعة التي أحلت له ما بين أول النهار ودخول وقت العصر، وقتل ابن خطل كان قبل ذلك قطعًا لأنه قيد في الحديث بأنه كان عند نزعه المغفر، وذلك عند استقراه بمكة. وقد قال ابن خزيمة: المراد بقوله في حديث ابن عباس ما أحل الله لأحد فيه القتل غيري أي قتل النفر الذين قتلوا يومئذ ابن خطل ومن ذكر معه، قال: وكان الله قد أباح له القتال والقتل معًا في تلك الساعة، وقتل ابن خطل وغيره بعد تقضي القتال – انتهى. وقال في المغازي: في الاستدلال بقتل ابن خطل على ذلك نظر، لأن المخالفين تمسكوا بأن ذلك إنما وقع في الساعة التي أحل للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيها القتال بمكة، وقد صرح بأن حرمتها عادت كما كانت، والساعة المذكورة وقع عند أحمد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنها استمرت من صبيحة يوم الفتح إلى العصر – انتهى. قال الطيبي: دل الحديث على جواز الدخول بغير إحرام لمن لا يريد النسك، وهذا أصح قولي الشافعي، وقال الحافظ: هذا الحديث ظاهره أنه - صلى الله عليه وسلم - لما دخل مكة يوم الفتح لم يكن محرمًا، وقد صرح بذلك مالك راوي الحديث كما ذكره البخاري في

متفق عليه. 2744 – (5) وعن جابر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء ـــــــــــــــــــــــــــــ المغازي عن يحيى بن قزعة عن مالك عقب هذا الحديث. قال مالك: ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما نرى والله أعلم يومئذ محرمًا. وقول مالك هذا رواه عبد الرحمن بن مهدي عن مالك جازمًا به، أخرجه الدارقطني في الغرائب، ووقع في الموطأ من رواية أبي مصعب وغيره قال مالك: قال ابن شهاب: ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ محرمًا، وهذا مرسل، ويشهد له ما رواه مسلم من حديث جابر بلفظ: دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام – انتهى. وأجيب عن ذلك بأنه لا دلالة في قصة ابن خطل على جواز دخول مكة بغير إحرام لاحتمال أن يكون - صلى الله عليه وسلم - كان محرمًا ولكنه غطى رأسه لعذر، وفيه أن هذا مخالف لتصريح جابر بأنه لم يكن يومئذ محرمًا. قال الحافظ: لكن فيه إشكال من وجه آخر لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان متأهبًا للقتال، ومن كان كذلك جاز له الدخول بغير إحرام عند الشافعية وإن كان عياض نقل الاتفاق على مقابله، وأما من قال من الشافعية كابن القاص: دخول مكة بغير إحرام من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -، ففيه نظر لأن الخصوصية لا تثبت إلا بدليل – انتهى. وقال الشمني كما في المرقاة: دخوله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح بغير إحرام حكم مخصوص بذلك الوقت، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في ذلك اليوم: " إنها لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم عادت حرامًا " – انتهى. وقد تقدم بسط الكلام على هذه المسألة مع بيان المذاهب ودلائلها في شرح حديث ابن عباس في المواقيت فارجع إليه. قال الحافظ: وفي الحديث مشروعية لبس المغفر وغيره من آلات السلاح حال الخوف من العدو وأنه لا ينافي التوكل، وقد تقدم في باب متى يحل المعتمر من أبواب العمرة من حديث عبد الله بن أبي أوفي: اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما دخل مكة طاف وطفنا معه وكنا نستره من أهل مكة أن يرميه أحد – الحديث. وإنما احتاج إلى ذلك لأنه كان حينئذ محرمًا فخشي الصحابة أن يرميه بعض سفهاء المشركين بشيء يؤذيه فكانوا حوله يسترون رأسه ويحفظونه من ذلك (متفق عليه) أخرجه البخاري في الحج وفي الجهاد وفي المغازي وفي اللباس ومسلم في الحج، وأخرجه أيضًا أحمد ومالك في الحج وأبو داود والترمذي في الجهاد والنسائي في الحج وفي السير وابن ماجة في الحج والدرامي والبيهقي (ج 5: ص 177) . 2744 – قوله (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة) بكسر العين (سوداء) قال النووي: فيه جواز لباس الثياب السود، وفي الرواية الأخرى ((خطب الناس وعليه عمامة سوداء)) فيه جواز لباس الأسود في الخطبة وإن كان الأبيض أفضل منه كما ثبت في الحديث الصحيح ((خير ثيابكم البياض)) وأما لباس الخطباء السواد في حال الخطبة فجائز ولكن الأفضل البياض كما ذكرنا، وإنما لبس العمامة السوداء في هذا الحديث بيانًا للجواز – انتهى.

بغير إحرام. رواه مسلم. 2745 – (6) وعن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يغزو جيش الكعبة، فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم ". قلت: يا رسول الله! وكيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ـــــــــــــــــــــــــــــ (بغير إحرام) هذا يرد ما أبدى الشيخ ابن دقيق العيد في شرح العمدة في ستر الرأس بالمغفر في حديث أنس احتمالاً فقال: يحتمل أن يكون - صلى الله عليه وسلم - كان محرمًا لكن غطى رأسه لعذر، وقد تقدم في كلام الحافظ ما في أصل الاستدلال من الإشكال، وقد بسطه الولي العراقي في طرح التثريب (ج 5: ص 85) فارجع إليه (رواه مسلم) في الحج وأخرجه أيضًا أحمد (ج 3: ص 387) والنسائي وابن ماجة والدرامي والبيهقي (ج 5: ص 177) . 2745 – قوله (وعن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يغزو) بالغين والزاي المعجمتين أي يقصد (جيش) أي عسكر عظيم في آخر الزمان (الكعبة) أي ليخربها. وقال العيني: قوله ((يغزو جيش الكعبة)) أي يقصد عسكر من العساكر تخريب الكعبة، وهذا لفظ البخاري. وفي رواية مسلم ((عبث النبي - صلى الله عليه وسلم - في منامه فقلنا له: صنعت شيئًا لم تكن تفعله؟ قال النووي: قوله ((عبث)) هو بكسر الباء، قيل معناه اضطراب بجسمه، وقيل حرك أطرافه كمن يأخذ شيئًا أو يدفعه (فإذا كانوا ببيداء من الأرض) في رواية لمسلم ((بالبيداء)) وفي حديث صفية عند الترمذي وابن ماجة ((بالبيداء أو ببيداء من الأرض)) أي على الشك. وفي راوية لمسلم عن أبي جعفر الباقر قال: هي بيداء المدينة. وهي بفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف ممدودة، وهي في الأصل المفازة التي لا شيء فيها. قال العيني: وهي في هذا الحديث اسم موضع مخصوص بين مكة والمدينة. وقال النووي: قال العلماء: البيداء كل أرض ملساء لا شيء بها، وبيداء المدينة الشرف الذي قدام ذي الحليفة أي إلى جهة مكة (يخسف) على بناء المفعول (بأولهم وآخرهم) أي يخسف بكلهم الأرض. قال الحافظ: زاد الترمذي في حديث صفية ((ولم ينج أوسطهم)) وزاد مسلم في حديث حفصة ((فلا يبقى إلا الشريد الذي يخبر عنهم)) واستغنى بهذا عن تكلف الجواب عن حكم الأوسط، أو أن العرف يقضي بدخول الأوسط في من هلك أو لكونه آخرًا بالنسبة للأول وأولاً بالنسبة للآخر فيدخل، وقال العيني: قوله ((يخسف بأولهم وآخرهم)) يعني كلهم، هذا الذي يفهم منه بحسب العرف. قال الكرماني: لم يعلم منه العموم، إذ حكم الوسط غير مذكور، والجواب ما قلنا، أو نقول: إن الوسط آخر بالنسبة إلى الأول وأول بالنسبة إلى الآخر، على أن في رواية صفية ((ولم ينج أوسطهم)) وهذا يغني عن تكلف الجواب (وفيهم أسواقهم) جملة حالية، وهو جمع سوق والتقدير أهل أسواقهم الذين يبيعون ويشترون كما في المدن، وعليه ترجم البخاري بلفظ ((باب ما ذكر في الأسواق)) وقال الطيبي: إن كان جمع سوق فالتقدير أهل أسواقهم، وإن

ومن ليس منهم؟ قال: " يخسف بأولهم وآخرهم، ثم يبعثون على نياتهم ". متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ كان جمع سوقة وهي الرعايا فلا حاجة إلى التقدير. وفي مستخرج أبي نعيم ((وفيهم أشرافهم)) بالشين المعجمة والراء والفاء، وفي رواية محمد بن بكار عند الإسماعيلي ((وفيهم سواهم)) قال الإسماعيلي: ووقع في رواية البخاري أسواقهم أي بالمهملة والقاف، وأظنه تصحيفًا، فإن الكلام في الخسف بالناس لا بالأسواق. قال الحافظ: بل لفظ ((سواهم)) تصحيف فإنه بمعنى قوله الآتي ((ومن ليس منهم)) فيلزم منه التكرار، بخلاف رواية البخاري، نعم أقرب الروايات إلى الصواب رواية أبي نعيم، وليس في لفظ أسواقهم ما يمنع أن يكون الخسف بالناس، فالمراد بالأسواق أهلها أن يخسف بالمقاتلة منهم ومن ليس من أهل القتال كالباعة. وفي رواية مسلم ((فقلنا: إن الطريق قد يجمع الناس، قال: نعم فيهم المستبصر والمجبور وابن السبيل)) والمستبصر هو المستبين لذلك القاصد للمقاتلة عمدًا، والمجبور بالجيم والموحدة أي المكره. قال النووي: يقال أجبرته فهو مجبر، هذه اللغة المشهورة، ويقال أيضًا جبرته فهو مجبور، حكاها الفراء وغيره، وجاء هذا الحديث على هذه اللغة، وأما ابن السبيل فهو سالك الطريق معهم وليس منهم، والغرض أنها استشكلت وقوع العذاب على من لا إرادة له في القتال الذي هو سبب العقوبة فوقع الجواب بأن العذاب يقع عامًا لحضور آجالهم ويبعثون بعد ذلك على نياتهم (ومن ليس منهم) أي في الكفر والقصد بتخريب الكعبة عطف على أسواقهم. قال الطيبي: أي من لا يقصد تخريب الكعبة بل هم الضعفاء والأسارى (قال: يخسف بأولهم وآخرهم) فيدخل فيهم هؤلاء وإن لم يكن قصدهم لأنهم كثروا في سوادهم (ثم يبعثون على نياتهم) قال العيني: أي يخسف بالكل لشؤم الأشرار، ثم إنه تعالى يبعث كلا منهم في الحشر بحسب قصده ونيته إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر، وفي رواية مسلم ((يهلكون مهلكًا واحدًا ويصدرون مصادر شتى)) قال النووي: أي يقع الهلاك على جميعهم ويبعثون مختلفين على قدر نياتهم فيجازون بحسبها انتهى. وفي حديث أم سلمة عند مسلم ((فقلت: يا رسول الله فكيف بمن كان كارهًا؟ قال: يخسف به معهم ولكنه يبعث يوم القيامة على نيته)) قال الحافظ: أي يخسف بالجميع لشؤم الأشرار ثم يعامل كل أحد عند الحساب بحسب قصده. وفي هذا الحديث من الفقه التباعد من أهل الظلم والتحذير من مجالستهم لئلا يناله ما يعاقبون به قال تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} (سورة الأنفال: الآية 25) ، وفيه أن من كثر سواد قوم جرى عليهم حكمهم في ظاهر عقوبات الدنيا، قال الحافظ: في هذا الحديث أن الأعمال تعتبر بنية العامل والتحذير من مصاحبة أهل الظلم ومجالستهم وتكثير سوادهم إلا لمن اضطر لذلك، ويتردد النظر في مصاحبة التاجر لأهل الفتنة هل هي إعانة لهم على ظلمهم أو هي ضرورات البشرية، ثم يعتبر عمل كل أحد بنيته وعلى الثاني يدل ظاهر الحديث – انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في البيوع ومسلم في الفتن واللفظ للبخاري، والحديث أخرجه أيضًا أحمد (ج 6: ص 105) وفي

2746 – (7) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة ". ـــــــــــــــــــــــــــــ الباب عن أم سلمة عند أحمد (ج 6: ص 259، 290) ومسلم وابن ماجة والحاكم، وعن حفصة عند أحمد (ج 6: ص 286، 287) ومسلم والنسائي وابن ماجة والحاكم، وعن صفية أخرجه أحمد (ج 6: ص 336، 337) والترمذي وابن ماجة في الفتن. 2746 - قوله (يُخْرِّب الكعبة) بضم الياء وفتح الخاء المعجمة وتشديد الراء المكسورة من التخريب، وبإسكان الخاء وتخفيف الراء المكسورة من الإخراب، والجملة فعل ومفعول والفاعل قوله (ذو السويقتين) بضم السين وفتح الواو تثنية سويقة مصغر الساق ألحق بها التاء للتصغير، لأن الساق مؤنثة والتصغير للتحقير والإشارة إلى الدقة لأن الغالب على سيقان الحبشة الدقة والحموشة فلذا صغرها (من الحبشة) من للتبعيض أي يخربها ضعيف من هذه الطائفة، وقال الطيبي: سر تصغير الإشارة إلى أن مثل هذه الكعبة المعظمة يهتك حرمتها مثل هذا الحقير الذميم الخلقة، ويحتمل أن يكون الرجل اسمه ذلك، أو أنه وصف له، أي رجل من الحبشة دقيق الساقين رقيقهما جدًا، والحبشة وإن كان شأنهم دقة السوق لكن هذا يتميز بمزيد من ذلك - انتهى. والحبش والحبشة نوع من السودان، قال في القاموس: الحبش والحبشة محركتين والأحبش بضم الباء جنس من السودان الجمع حبشان وأحابش - انتهى. قال الرشاطي: وهم من ولد كوش بن حام وهم أكثر السودان، وقد وقع هذا الحديث عند أحمد (ج 2: ص 351) من طريق سعيد بن سمعان عن أبي هريرة بأتم من هذا السياق ولفظه: يباع لرجل بين الركن والمقام ولم يستحل هذا البيت إلا أهله، فإذا استحلوه فلا تسأل عن هلكة العرب ثم تأتي الحبشة فيخربونه خرابًا لا يعمر بعده أبدًا، وهم الذين يستخرجون كنزه، وهذا التخريب يكون عند قرب الساعة حين لا يبقى في الأرض أحد يقول: الله الله. قال القرطبي: قيل إن خرابه يكون بعد رفع القرآن من الصدور والمصاحف، وذلك بعد موت عيسى عليه الصلاة والسلام وهو الصحيح – انتهى. قلت: وقع عند أحمد (ج 2: ص 310) من طريق ابن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " في آخر الزمان يظهر ذو السويقتين على الكعبة، قال: حسبت أنه قال: فيهدمها. قال الحافظ: قيل حديث أبي هريرة يخالف قوله تعالى: {أو لم يروا أنا جعلنا حرمًا آمنًا} ولأن الله حبس عن مكة الفيل ولم يمكن أصحابه من تخريب الكعبة ولم تكن إذ ذاك قبلة فكيف يسلط عليها الحبشة بعد أن صارت قبلة للمسلمين، وأجيب بأن ذلك محمول على أنه يقع في آخر الزمان قرب قيام الساعة حيث لا يبقى على الأرض أحد يقول الله الله كما ثبت في صحيح مسلم: " لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله ". ولهذا وقع في رواية سعيد بن سمعان: لا يعمر بعده أبدًا، وقد وقع قبل ذلك فيه من القتال وغزو أهل الشام له في زمن يزيد بن معاوية ثم من بعده في وقائع كثيرة من أعظمها وقعة القرامطة بعد الثلاث مائة فقتلوا من

متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ المسلمين في المطاف من لا يحصى كثرة وقلعوا الحجر الأسود فحولوه إلى بلادهم ثم أعادوه بعد مدة طويلة ثم غزى مرارًا بعد ذلك وكل ذلك لا يعارض قوله تعالى {أولم يروا أنا جعلنا حرمًا آمنًا} لأن ذلك إنما وقع بأيدي المسلمين فهو مطابق لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ولن يستحل هذا البيت إلا أهله. فوقع ما أخبر به - صلى الله عليه وسلم -، وهو من علامات نبوته وليس في الآية ما يدل على استمرار الأمر المذكور فيها – انتهى كلام الحافظ. وقال العيني: لا يلزم من قوله ((حرمًا آمنًا)) أن يكون ذلك دائمًا في كل الأوقات، بل إذا حصلت له حرمة وأمن في وقت ما صدق عليه هذا اللفظ وصح المعنى، ولا يعارضه ارتفاع ذلك المعني في وقت آخر. وقال عياض ((حرما آمنا)) أي إلى قرب القيامة. وقال ابن الجوزي إن قيل ما السر في حراسة الكعبة من الفيل ولم تحرس في الإسلام مما صنع بها الحجاج والقرامطة وذو السويقتين؟ فالجواب: أن حبس الفيل كان من أعلام النبوة لسيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودلائل رسالته لتأكيد الحجة عليهم بالأدلة التي شوهدت بالبصر قبل الأدلة التي ترى بالبصائر، وكان حكم الحبس أيضًا دلالة على وجود الناصر – انتهى. هذا. وقد عقد البخاري باب قول الله تعالي: {جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد} (سورة المائدة: الآية 98) ثم أورد فيه حديث أبي هريرة هذا. قال العيني: أشار به إلى أن قوام أمور الناس وانتعاش أمر دينهم ودنياهم بالكعبة يدل عليه قوله {قيامًا للناس} فإذا زالت الكعبة على يد ذي السويقتين تختل أمورهم، فذلك أورد حديث أبي هريرة فيه – انتهى. وقال الحافظ: كأنه يشير إلى أن المراد بقوله {قيامًا} أي قوامًا وأنها ما دامت موجودة فالدين قائم فلهذه النكتة أورد في الباب قصة هدم الكعبة في آخر الزمان، ثم ترجم البخاري لحديث أبي هريرة هذا، وحديث ابن عباس الآتي ((باب هدم الكعبة)) وذكر فيه طرف حديث عائشة المتقدم بلفظ ((قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يغزو جيش الكعبة فيخسف بهم، قال الحافظ: فيه إشارة إلى أن غزو الكعبة سيقع، فمرة يهلكم الله قبل الوصول إليها وأخرى يمكنهم، والظاهر أن غزو الذين يخربونه متأخر عن الأول، وقال العيني: غزو الكعبة المذكور في حديث عائشة مقدمة لهدمها لأن غزوها يقع مرتين ففي الأولى هلاكهم وفي الثانية هدمها (متفق عليه) أخرجه البخاري في الحج ومسلم في الفتن، وأخرجه أيضًا أحمد كما تقدم والحاكم والنسائي في الحج وفي التفسير، هذا وقد جاء في تخريب الكعبة أحاديث، منها حديث ابن عباس الآتي ومنها ما رواه أبو داود الطيالسي بسند صحيح، ومنها ما رواه أحمد (ج 2: ص 220) والطبراني في الكبير من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا ((يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة ويسلبها حليتها ويجردها من كسوتها، ولكأني أنظر إليه أصيلع أفيدع يضرب عليها بمسحاته ومعوله)) ومنها ما رواه ابن الجوزي من حديث حذيفة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثًا طويلاً وفيه ((وخراب مكة من الحبشة على يد حبشي أفحج الساقين أزرق العينين أفطس

2747 – (8) وعن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: " كأني به أسود أفحج ـــــــــــــــــــــــــــــ الأنف كبير البطن معه أصحابه ينقضونها حجرًا حجرًا ويتناولونها حتى يرموا بها يعني الكعبة إلى البحر)) . وفي كتاب الغريب لأبي عبيد عن علي، قال: استكثروا من الطوائف بهذا البيت قبل أن يحال بينكم وبينه فكأني برجل من الحبشة أصلع وأصمع حمش الساقين قاعد عليها وهي تهدم، وخرجه الحاكم مرفوعًا، وفيه ((أصمع أقرع، بيده معول وهو يهدمها حجرًا حجرًا)) ذكره العيني. 2747– قوله (كأني به) قال الحافظ: كذا في جميع الروايات عن ابن عباس في هذا الحديث، والذي يظهر أن في الحديث شيئًا حذف ويحتمل أن يكون هو ما وقع في حديث عليّ عند أبي عبيد في غريب الحديث من طريق أبي العالية عن علي، قال: استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يحال بينكم وبينه فكأني برجل من الحبشة أصلع أو قال: أصمع حمش الساقين قاعد عليها وهي تهدم، ورواه الفاكهي من هذا الوجه، ولفظه ((أصعل)) بدل ((أصلع)) وقال ((قائمًا عليها يهدمها بمسحاته)) ورواه يحيى الحماني في مسنده من وجه آخر عن علي مرفوعًا – انتهى. وتعقبه العيني بأنه لا يحتاج إلى تقدير حذف لأنه إنما يقدر في موضع يحتاج إليه للضرورة ولا ضرورة ها هنا. قال: ودعواه الظهور غير ظاهرة لأنه لا وجه في تقدير محذوف لا حاجة إليه بما جاء في أثر عن صحابي ولا يقال الأحاديث يفسر بعضها بعضًا، لأنا نقول هذا إنما يكون عند الاحتياج إليه ولا احتياج ها هنا إلى ذلك. قال: والضمير في لفظ ((به)) يحتمل ثلاثة أوجه: الأول أن يعود إلى البيت والقرينة الحالية تدل عليه، أي كأني متلبس به، الثاني أن يعود إلى القالع (الآتي ذكره) بالقرينة الحالية أيضًا، الثالث ما قاله الطيبي وهو أنه ضمير مبهم يفسره ما بعده على أنه تمييز كقوله تعالى: {فقضاهن سبع سموات} (سورة حم السجدة: الآية 11) فإن ضمير ((هن)) هو المبهم المفسر بسبع سموات وهو تمييز، وهذه الأوجه صحيحة ماشية على قاعدة العربية فلا يحتاج إلى تقدير حذف (أسود) بالرفع على أنه مبتدأ خبره يقلعها والجملة حال بدون الواو والضمير في به للبيت أي كأني متلبس به وأنظر إليه أو يكون ارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف والضمير في ((به)) للقالع، والتقدير كأني بالقالع هو أسود، ويروى أسود منصوبًا على الذم أو الاختصاص أو الحال. قال التوربشي والدماميني: يجوز أن يكون أسود أفحج حالين متداخلتين أو مترادفتين من الضمير في به، وقال المظهري: هما بدلان من الضمير المجرور وفتحا لأنهما غير منصرفين، ويجوز إبدال المظهر من المضمر الغائب نحو ضربته زيدًا، وتقدم ما قال الطيبي: أن الضمير في به مبهم يفسره ما بعده على أنه تمييز فهما منصوبان على التمييز (أفحج) بفتح الهمزة وسكون الفاء بعدها وفتح الحاء المهملة وبالجيم من الفحج بفاء ثم حاء مهملة ثم جيم وهو بالنصب أو الرفع كسابقه، والفحج تداني صدور القدمين وتباعد العقبين من باب علم وفتح، وقيل الفحج تباعد ما بين الساقين وقيل هو

(الفصل الثاني)

يقلعها حجرًا حجرًا ". رواه البخاري. (الفصل الثاني) 2748 – (9) عن يعلى بن أمية، قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه ". رواه أبو داود. ـــــــــــــــــــــــــــــ يباعد ما بين الفخذين. قال في القاموس: فحج كمنع، تكبر وفي مشيته تداني صدور قدميه وتباعد عقباه كفحج وهو أفحج بين الفحج محركة التفريج بين الرجلين – انتهى. والفجج بجيمين فتح ما بين الرجلين وهو أقبح من الفحج (يقلعها) أي يقلع الأسود الأفحج بناء الكعبة (حجرًا حجرًا) نصب على الحال من الهاء نحو بوبته بابا بابا، أي مبوبًا وقال الكرماني: أو هو بدل من الضمير أي المنصوب في يقلعها (رواه البخاري) في الحج وأخرجه أيضًا أحمد (ج 2: ص 228) بلفظ: كأني أنظر إليه أسود أفحج ينقضها حجرًا حجرًا يعني الكعبة. 2748- قوله (عن يعلى) بفتح المثناة تحت واللام بينهما مهملة ساكنة (بن أمية) بضم الهمزة وفتح الميم وتشديد الياء (احتكار الطعام) أي احتباسه لانتظار الغلاء به، قال المناوي: وليس عموم الطعام مرادًا بل المراد اشتراه ما يقتات وحبسه ليقل فيغلو فيبيعه بكثير. قال العزيزي: وخصه الشافعية بما اشتراه في زمن الغلاء وأمسكه ليزيد السعر (في الحرم) أي المكي بدليل حديث ابن عمر عند الطبراني في الأوسط بلفظ ((احتكار الطعام بمكة إلحاد)) والمراد بمكة جميع الحرم بدليل حديث يعلي، فكل من الحديثين مبين للآخر (إلحاد فيه) الإلحاد الميل عن الاستقامة والانحراف عن الحق إلى الباطل ومنه الملحد لأنه أمال مذهبه عن الأديان كلها ولم يمله من دين إلى دين، ذكره الزمخشري. قال الله تعالى: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} (سورة الحج: الآية 26) أي ومن يهم فيه بعمل من المعاصي عذب عليه لعظم حرمة المكان. قال العلقمي: أصل الإلحاد الميل، وهذا الإلحاد والظلم يعم جميع المعاصي الكبائر والصغائر لعظم حرمة المكان فمن نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسب عليها إلا في مكة، قال المناوي: احتكار الطعام حرام في سائر البلاد وبالحرم المكي أشد تحريمًا، وإنما سماه ظلمًا لأن الحرم واد غير ذي زرع فالواجب على الناس جلب الأقوات إليه للتوسعة على أهله فمن ضيق عليهم بالاحتكار فقد ظلم لأنه وضع الشيء في غير محله فاستحق الوعيد الشديد – انتهى. وقال العزيزي: احتكار الطعام هو شراء ما يقتات وحبسه إلى الغلاء فهو حرام ولو في غير الحرم وخص الحرم لأن الإثم به أشد، وأما لو اشتري غير طعام أو طعامًا غير مقتات بقصد ادخاره إلى الغلاء لم يحرم، وخرج بالشراء ما لو كان عنده بر مثلاً يأكله فادخره إلى الغلاء فلا يحرم، وكذا لو اشتراه بقصد أن يبيعه حالاً أوفي زمن الرخاء فلا حرمة (رواه أبو داود) في الحج من حديث جعفر بن يحيى بن ثوبان عن عمه عمارة بن ثوبان عن

2749 – (10) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمكة: " ما أطيبك من بلد وأحبك إليَّ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك ". رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح ـــــــــــــــــــــــــــــ موسى بن باذان عن يعلى، وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير (ج 4: ص 255) في ترجمة مسلم بن باذان، قال البخاري: قال أبو عاصم عن جعفر بن يحيى بن ثوبان قال حدثني عمي عمارة بن ثوبان عن مسلم بن باذان سمع يعلى، قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " احتكار الطعام بمكة إلحاد ". قال البخاري: هكذا وقع عندي. قال العنبري (؟) موسى ابن باذان – انتهى. قال ابن أبي حاتم في ترجمة موسى بن باذان سماه البخاري مسلم بن باذان فقال أبي وأبو زرعة جمعيًا: أخطا البخاري في هذا، أخرجه في مسلم بن باذان وإنما هو موسى بن باذان، وحكى الحافظ في تهذيب التهذيب (ج 10: ص 338) قول ابن أبي حاتم هذا ثم قال: قلت: قد حكى البخاري القولين في تاريخه ويظهر من سياقه ترجيح موسى – انتهى. والحديث سكت عنه أبو داود، وقال المنذري: وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير عن يعلى بن أمية أنه سمع عمر بن الخطاب يقول: احتكار الطعام بمكة إلحاد – انتهى. وأنت تعلم أن هذا مما لا مجال للرأي فيه فهو في حكم المرفوع، وسكوت أبي داود على حديث أبي يعلى يدل على أنه حديث حسن عنده لكن نقل المناوي عن ابن القطان أنه قال: حديث لا يصح لأن موسى وعمارة وجعفرًا كل منهم لا يعرف فهم ثلاثة مجهولون. وفي الميزان في ترجمة جعفر بن يحيى قال ابن المديني: أنه مجهول. وقال الذهبي: وعمه (عمارة) لين، فمن مناكير جعفر عن عمه ثم ساق هذا الحديث، ثم قال: هذا حديث واهي الإسناد. قال ابن المديني: لم يرو عن جعفر غير أبي عاصم. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب بعد ذكر كلام ابن المديني: جعفر بن يحيى ذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن القطان الفاسي: مجهول الحال، وقال في التقريب: إنه مقبول، وقال عن عمارة بن ثوبان: مستور، وعن موسى بن باذان الفاسي: مجهول ففي كون حديث يعلى هذا حسنًا نظر، والله أعلم، وفي الباب عن ابن عمر بن الخطاب أخرجه الطبراني في الأوسط وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: فيه عبد الله بن المؤمل، وثقه ابن حبان وغيره وضعفه جمع – انتهى. 2749 – وقوله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمكة) أي خطابًا لها حين وداعها وذلك يوم فتح مكة (ما أطيبك من بلد) صيغة تعجب (وأحبك إليَّ) عطف عليه والأولى بالنسبة إلى حد ذاتها أو للإطلاق والثانية للتخصيص، قاله القاري. (ولولا أن قومي أخرجوني) أي صاروا سببًا لخروجي (ما سكنت غيرك) قال القاري: هذا دليل للجمهور على أن مكة أفضل من المدينة خلافًا للإمام مالك رحمه الله، وقد صنف السيوطي رسالة في هذه المسألة (رواه الترمذي) في أواخر المناقب وأخرجه أيضًا ابن حبان في صحيحه والحاكم (ج 1: ص 486) كلهم من طريق عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير وأبي الطفيل عن ابن عباس (وقال هذا حديث حسن صحيح) وقال الحاكم حديث صحيح الإسناد

غريب إسنادًا. 2750 – (11) وعن عبد الله بن عدي بن حمراء، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقفًا على الحزورة فقال: " والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت ". ـــــــــــــــــــــــــــــ ووافقه الذهبي (غريب إسنادًا) تمييز، وفي جامع الترمذي غريب من هذا الوجه. 2750- قوله (وعن عبد الله بن عدي بن حمراء) القرشي الزهري من أنفسهم، وقيل إنه ثقفي حالف بني زهرة، يكني أبا عمر، وقيل أبا عمرو، قال البخاري: له صحبة ورواية، يعد في أهل الحجاز، وكان ينزل فيما بين قديد وعسفان وهو من مسلمة الفتح، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في فضل مكة. روى عنه أبو سلمة ومحمد بن جبير بن مطعم، وقوله ((حمراء)) كذا في المشكاة والمصابيح، وهكذا وقع عند الترمذي وابن حبان، وفي مسند الإمام أحمد وسنن ابن ماجة ((الحمراء)) وهكذا ذكر الحافظ في التقريب والتهذيب والإصابة وابن عبد البر في الاستيعاب وكذا وقع في المنتقي للمجد بن تيمية والقرى للمحب الطبري (رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقفًا على الحزورة) بفتح الحاء المهملة وسكون الزاي وفتح الواو بعدها راء ثم هاء: هي الرابية الصغيرة والجمع الحزاور، قال الجزري: هو موضع بمكة عند باب الحناطين وهو بوزن قسورة. قال الشافعي: الناس يشددون الحزورة والحديبية وهما مخففتان – انتهى. وقال الطيبي: هو على وزن القسورة موضع بمكة وبعضهم شددها أي الواو، والحزورة في الأصل بمعني التل الصغير، سميت بذلك لأنه هناك كان تل صغير، وقيل لأن وكيع بن سلمة بن زهير بن إياد كان ولى أمر البيت بعد جرهم فبني صرحًا هناك وجعل فيها أمة يقال لها حزورة فسميت حزورة مكة بها، وارجع إلى شفاء الغرام (ج 1: ص 76) (فقال) أي مخاطبًا للكعبة وما حولها من حرمها (والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله) فيه تصريح بأن مكة أفضل من المدينة كما عليه الجمهور. قال الشوكاني: فيه دليل على أن مكة خير أرض الله على الإطلاق وأحبها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبذلك استدل من قال إنها أفضل من المدينة (ولولا أني أخرجت منك) أي بأمر من الله (ما خرجت) فيه دلالة على أنه لا ينبغي للمؤمن أن يخرج من مكة إلا أن يخرج منها حقيقة أو حكماه، وهو الضرورة الدينية أو الدنيوية، والحديث حجة للقائلين بفضل مكة على المدينة. قال الدميري: وأما ما روي من حديث ((اللهم إنك تعلم أنهم أخرجوني من أحب البلاد إليّ فأسكنني في أحب البلاد إليك)) فقال ابن عبد البر: لا يختلف أهل العلم في نكارته ووضعه ونسبوا وضعه إلى محمد بن الحسن بن زياد وتركوه لأجله، وقال ابن دحية في تنويره: أنه حديث باطل بإجماع أهل العلم. وقال ابن مهدي: سألت عنه مالكًا فقال: لا يحل أن تنسب الباطل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد بين علته أبو بكر البزار والحافظ وغيرهما، نعم السكنى بالمدينة أفضل لما ثبت من حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يصبر على لأوائها وشدتها أحد

رواه الترمذي، وابن ماجة. ـــــــــــــــــــــــــــــ إلا كنت له شفيعًا وشهيدًا يوم القيامة، ولم يرد بسكنى مكة شيء من ذلك بل كرهه جماعة من العلماء، وثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها فإني أشفع لمن يموت بها ـ وجعل ابن حزم التفضيل الحاصل بمكة ثابتًا لجميع الحرم، قاله السندي. وقال القاري: وأما خبر الطبراني ((المدينة خير من مكة)) فضعيف بل منكر واه كما قاله الذهبي، وعلى تقدير صحته يكون محمولاً على زمانه لكثرة الفوائد في حضرته وملازمة خدمته لأن شرف المدينة ليس بذاته بل بوجوده عليه الصلاة والسلام فيه ونزوله مع بركاته، وأيضًا نفس المدينة ليس أفضل من مكة اتفاقًا إذ لا تضاعف فيه أصلاً بل المضاعفة في المسجدين، ففي الحديث الصحيح الذي قال بعض الحفاظ على شرط الشيخين ((صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجدي هذا بمائة ألف صلاة)) وصح عن ابن عمر موقوفًا وهو في حكم المرفوع لأنه لا يقال مثله بالرأي: صلاة واحدة بالمسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة بمسجد النبي عليه الصلاة والسلام – انتهى. وإن شئت بسط الكلام على مسألة أفضلهما وعلى مسألة حكم المجاورة بمكة فارجع إلى النيل وشفاء الغرام (ج 1: ص 78) والمرقاة والمحلى لابن حزم (ج 7: ص 279) ووفاء الوفاء للسمهودي والقرى (ص 160) للمحب الطبري (رواه الترمذي) في آخر المناقب (وابن ماجة) في أواخر الحج، وأخرجه أيضًا أحمد (ج 4: ص 305) والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما وسعيد بن منصور في سننه كلهم من طريق الزهري عن أبي سلمة عن عبد الله بن عدي بن حمراء، والحديث صححه الترمذي ثم قال: ورواه محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وحديث الزهري عن أبي سلمة عن عبد الله بن عدي بن الحمراء عندي أصح – انتهى. وفيه أنه روى هذا الحديث أيضًا الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة كما في المسند (ج 4: ص 305) قال الحافظ في الإصابة: انفرد برواية حديث عبد الله بن عدي بن الحمراء ابن شهاب الزهري، واختلف عليه فيه، فقال الأكثر عنه عن أبي سلمة عن عبد الله بن عدي بن الحمراء وقال معمر فيه عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة، ومرة أرسله، وقال ابن أخي الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن عبد الله بن عدي، والمحفوظ الأول – انتهى. قلت: روى أحمد من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، ثم روى من طريق رباح عن معمر عن الزهري فقال عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن بعضهم (أي الصحابة) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال، إلخ. قال التقي الفاسي في شفاء الغرام (ج 1: ص 76) بعد ذكر الروايتين ما لفظه: وذكر صحابنا الحافظ أبو الفضل العسقلاني أن رواية معمر شاذة يعني رواياته لهذا الحديث عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا. قال: والظاهر أن الوهم فيه من عبد الرزاق لأن معمرًا كان

(الفصل الثالث)

(الفصل الثالث) 2751 – (12) عن أبي شريح العدوي، أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة: ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يحفظ اسم صحابيه كما جاءت رواية رباح عنه وعبد الرزاق سلك الجادة فقال عن أبي سلمة عن أبي هريرة، ثم قال: وإذا تقرر ذلك علم أن لا أصل له من حديث أبي هريرة والله أعلم – انتهى. قلت: رواه عبد الرزاق في المصنف (ج 5: ص 27) عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة موقوفًا عليه فيغلب على الظن أن الناسخ أسقط قوله ((عن أبي هريرة)) والله أعلم، والحديث روي نحوه عن عبد الله بن عمرو أيضًا كما ذكره التقي الفاسي في شفاء الغرام. 2751- قوله (عن أبي شريح) بضم الشين المعجمة وفتح الراء وبالحاء المهملة (العدوي) بفتح العين والدال، قال الحافظ في كتاب الحج: كذا وقع هنا، وفيه نظر لأنه خزاعي من بني كعب بن ربيعة بن لحي بطن من خزاعة، ولهذا يقال له الكعبي أيضًا، وليس هو من بني عدي لا عدي قريش ولا عدي مضر، فلعله كان حليفًا لبني عدي بن كعب من قريش، وقيل في خزاعة بطن يقال لهم: بنو عدي، ثم قال في المغاري: كنت جوزت في الكلام على حديث الباب في الحج أنه من حلفاء بني عدي بن كعب، وذلك لأنني رأيته في طريق أخري الكعبي نسبة إلى بني كعب بن ربيعة بن عمرو بن لحي، ثم ظهر لي أنه نسب إلى بني عدي بن عمرو بن لحي، وهم أخوة كعب ويقع هذا في الأنساب كثيرًا ينسبون إلى أخي القبيلة، وأبو شريح هذا صحابي مشهور، اختلف في اسمه، فقيل خويلد بن عمرو، وقيل عمرو بن خويلد، وقيل كعب بن عمرو، وقيل هانئ بن عمرو، وقيل عبد الرحمن بن عمرو، وأصحها وأشهرها خويلد بن عمرو، وهو خويلد بن عمرو بن صخر بن عبد العزي بن معاوية بن المحترش بن عمرو بن مازن بن عدي بن عمرو بن ربيعة الخزاعي ثم الكعبي أسلم قبل فتح مكة وكان يحمل أحد ألوية بني كعب بن خزاعة يوم فتح مكة، روي له النبي - صلى الله عليه وسلم - عشرون حديثًا، اتفقا على حديثين وانفرد البخاري بحديث، وكان أبو شريح من عقلاء أهل المدينة سكن المدينة ومات بها سنة ثمان وستين (أنه قال لعمرو) بفتح العين (بن سعيد) أي ابن أبي العاص بن سعيد بن العاص بن أمية القرشي الأموي المعروف بالأشدق وليست له صحبة ولا كان من التابعين بإحسان وعرف بالأشدق لأنه صعد المنبر فبالغ في شتم علي رضي الله تعالى عنه فأصابه لقوة (وهو) أي عمرو (يبعث البعوث إلى مكة) جملة حالية والبعوث جمع بعث بمعنى مبعوث وهو من تسمية المفعول بالمصدر، والمراد به الجيش المجهز للقتال أي يرسل الجيوش إلى مكة لقتال عبد الله بن الزبير لكونه امتنع من مبايعة يزيد بن معاوية واعتصم بالحرم، وكان عمرو والي يزيد على المدينة، والقصة مشهورة وملخصها أن معاوية عهد بالخلافة بعده ليزيد بن معاوية فبايعه الناس إلا الحسين بن علي وابن الزبير، وأما عبد الرحمن بن أبي بكر فمات قبل موت معاوية، وأما عبد الله بن عمر فبايع ليزيد عقب موت أبيه، وأما الحسين بن علي فسار

ائذن لي أيها الأمير أحدثك قولاً قام به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغد من يوم الفتح، سمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به، حمد الله وأثنى عليه ثم قال: " إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى الكوفة لاستدعائهم إياه ليبايعوه، فكان ذلك سبب قتله، وأما ابن الزبير فاعتصم، ويسمى عائذ البيت، وغلب على أمر مكة فكان يزيد بن معاوية يأمر أمراءه على المدينة أن يجهزوا إليه الجيوش، فكان آخر ذلك أن أهل المدينة اجتمعوا على خلع يزيد من الخلافة وكان عمرو بن سعيد هذا قد أمر على الجيش الذي جهزه إلى مكة عمرو بن الزبير، وكان معاديًا لأخيه عبد الله، وكان عمرو بن سعيد قد ولاه شرطته ثم أرسله إلى قتال أخيه فجاء مروان إلى عمرو بن سعيد فنهاه فامتنع، وجاء أبو شريح فذكر القصة، فلما نزل الجيش ذا طوى خرج إليهم جماعة من أهل مكة فهزموهم وأسر عمرو بن الزبير فسجنه أخوه بسجن عارم، وكان عمرو قد ضرب جماعة من أهل المدينة ممن اتهم بالميل إلى أخيه، فأقادهم عبد الله منه حتى مات عمرو من ذلك الضرب، تنبيه: وقع في السيرة لابن إسحاق ومغازي الواقدي أن المراجعة المذكورة وقعت بين أبي شريح وبين عمرو بن الزبير فإن كان محفوظًا احتمل أن يكون أبو شريح راجع الباعث والمبعوث والله أعلم، قاله الحافظ (إئذن) بهمزتين وفتح الذال، أمر من أذن يأذن، وتبدل همزته الثانية ياء لسكونها وانكسار ما قبلها فيقال: إيذن (أيها الأمير) أصله يا أيها الأمير، حذف منه حرف النداء، ويستفاد منه حسن التلطف في مخاطبة السلطان ليكون أدعى لقبوله النصيحة، وأن السلطان لا يخاطب إلا بعد استئذانه ولا سيما إذا كان في أمر يعترض به عليه فترك ذلك، والغلظة له قد يكون سببًا لإثارة نفسه ومعاندة من يخاطبه (أحدثك) بالجزم لأنه جواب الأمر (قولاً) مفعول ثان (قام به) صفة للقول والمقول هو حمد الله تعالى إلى آخره (الغد) بالنصب (من يوم الفتح) أي ثاني يوم الفتح يعني أنه خطب اليوم الثاني من فتح مكة (أذناي) هو فاعل سمعت وأصله أذنان لي، فلما أضيف إلى ياء المتكلم سقطت نون التثنية، وفيه إشارة إلى بيان حفظه له من جميع الوجوه، فقوله سمعته أي حملته عنه بغير واسطة، وذكر الأذنين للتأكيد، وقوله (وعاه قلبي) أي حفظه تحقيق لفهمه وتثبته، وقوله (وأبصرته عيناي) زيادة في تحقيق ذلك وأن سماعه منه ليس اعتمادًا على الصوت فقط بل مع المشاهدة والروية (حين تكلم به) أي بالقول المذكور و ((حين)) نصب على الظرف لسمعت ووعاه وأبصرت، ويؤخذ من قوله ((ووعاه قلبي)) أن العقل محله القلب (حمد الله) جملة استئنافية مبينة، وفي رواية ((أنه حمد الله)) قال الحافظ: هو بيان لقوله تكلم، ويؤخذ منه استحباب الثناء بين يدي تعليم العلم وتبيين الأحكام والخطبة في الأمور المهمة، وقد تقدم من رواية ابن اسحاق أنه قال فيها ((أما بعد)) (وأثنى عليه) عطف على حمد من قبيل عطف العام على الخاص (حرمها الله) جملة وقعت في محل الرفع لأنها خبر إن (ولم يحرمها الناس)

فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها، فقولوا له: إن الله قد أذن لرسوله ولم يؤذن لكم، وإنما أذن لي ـــــــــــــــــــــــــــــ بالضم أي إن تحريمها كان بوحي من الله لا من اصطلاح الناس (فلا يحل) الفاء فيه جواب شرط محذوف تقديره إذا كان كذلك فلا يحل (لامرئ) هذا اللفظ من النوادر حيث كانت عينه دائمًا تابعة للامه في الحركة (يؤمن بالله واليوم الآخر) اكتفى بطرفي المؤمن به عن بقيته قال الحافظ: فيه تنبيه على الامتثال لأن من آمن بالله لزمته طاعته ومن آمن باليوم الآخر لزمه امتثال ما أمر به واجتناب ما نهي عنه خوف الحساب عليه، وقد تعلق به من قال إن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة، والصحيح عند الأكثر خلافه، وجوابهم بأن المؤمن هو الذي ينقاد للأحكام وينزجر عن المحرمات فجعل الكلام معه، وليس فيه نفي ذلك عن غيره، وقال ابن دقيق العيد: الذي أراه أنه من خطاب التهبيج نحو قوله تعالى {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} (سورة المائدة: الآية 26) فالمعنى استحلال هذا المنهي عنه لا يليق بمن يؤمن بالله واليوم الآخر بل ينافيه، فهذا هو المقتضى لذكر هذا الوصف، ولو قيل لا يحل لأحد مطلقًا لم يحصل منه هذا الغرض، وإن أفاد التحريم (أن يسفك) فاعل لا يحل وأن مصدرية، تقديره فلا يحل سفك دم، ويسفك بكسر الفاء على المشهور وحكي ضمها، ومعنى السفك إراقة الدم وصبه، والمراد به القتل، واستدل به على تحريم القتل والقتال بمكة، وتقدم البحث فيه في الكلام على حديث ابن عباس (بها) أي بمكة، والباء بمعنى في أي فيها كما هي رواية المستملي للبخاري (دمًا) مفعول ليسفك (ولا يعضد) بالنصب أيضًا لأنه عطف على يسفك والتقدير وأن لا يعضد، وزيدت لا لتأكيد معنى النفي، فمعناه لا يحل أن يعضد، ويعضد بكسر الضاد المعجمة بصيغة المعلوم. والضمير الذي فيه يرجع إلى امرئ أي ولا يقطع (بها) أي بمكة (شجرة) بالنصب مفعول يعضد، وفيه دليل على تحريم قطع شجر مكة وقد سبق الكلام في ذلك وتفصيل مذاهب الأئمة في شرح حديث ابن عباس (فإن) شرطية (أحد) فاعل فعل محذوف مضمر، والتقدير فإن ترخص أحد، ويفسره قوله (ترخص) وإنما حذف لئلا يجتمع المفسر والمفسر، وذلك كما في قوله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك} (سورة التوبة الآية: 6) وقوله ((ترخص)) على وزن تفعل مشتق من الرخصة، وفي رواية ابن أبي ذئب عند أحمد ((فإن ترخص مترخص)) وهو المتكلف للرخصة (بقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) كذا في صحيح مسلم وفي البخاري ((لقتال رسول الله)) واللام فيه للتعليل، وهو متعلق بقوله ترخص (فقولوا) جواب الشرط فلذلك دخلت فيه الفاء (إن الله قد أذن) بكسر الذال أي أجاز (لرسوله ولم يأذن لكم) معناه إن قال أحد بأن ترك القتال عزيمة والقتال رخصة يتعاطى عند الحاجة مستدلاً بقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها فقولوا له: ليس الأمر كذلك، فإن الله أذن لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ولم يأذن لكم (وإنما أذن لي) بفتح الهمزة وكسر الذال على بناء الفاعل، والضمير فيه يرجع إلى الله، ويروى يضم الهمزة على البناء للمجهول، وفي قوله ((لي)) التفات، لأن نسق الكلام

ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلغ الشاهد الغائب ". فقيل لأبي شريح: ما قال لك عمرو؟ قال: قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح! إن الحرم لا يعيذ عاصيًا ولا فارًا بدم ولا فارًا بخربة. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((وإنما أذن له)) أي لرسوله، قاله الحافظ. وقال العيني: وإنما التفت ثانيًا بقوله ((وإنما أذن لي)) ولم يقل ((أذن له)) بيانًا لاختصاصه بذلك بالإضافة إلى ضميره كما في قول امرئ القيس: وذلك من نبأ جاءني _ ... وخبرته عن أبي الأسود (ساعة من نهار) قد مضى في شرح حديث ابن عباس أن مقدار هذه الساعة ما بين طلوع الشمس وصلاة العصر، وكان قتل من قتل بإذن النبي - صلى الله عليه وسلم - كابن خطل وقع في هذا الوقت الذي أبيح فيه القتال للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والمأذون له فيه القتال لا قطع الشجر، فليس في الحديث ما يدل على إباحة عضد الشجر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تلك الساعة (وقد عادت حرمتها) أي الحكم الذي في مقابلة إباحة القتال المستفاد من لفظ الإذن (اليوم كحرمتها بالأمس) المراد باليوم الزمن الحاضر وبالأمس أي الأمس من يوم الفتح. وقال السندي: الظاهر أن المراد وقد عادت حرمتها بعد تلك الساعة كحرمتها قبل تلك الساعة - انتهى. ولم يبين غاية الحرمة هنا، وقد بينها في رواية ابن أبي ذئب المذكورة بقوله ((ثم هي حرام إلى يوم القيامة)) وكذا في حديث ابن عباس السابق بقوله ((فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة)) (وليبلغ) بسكون اللام وكسرها وتشديد اللام الثانية ويجوز تخفيفها أي يوصل (الشاهد) بالرفع (الغائب) بالنصب، قال ابن جرير: فيه دليل على جواز قبول خير الواحد لأنه معلوم أن كل من شهد الخطبة قد لزمه الإبلاغ وأنه لم يأمرهم بإبلاغ الغائب عنهم إلا وهو لازم له فرض العمل بما أبلغه كالذي لزم السامع سواء وإلا لم يكن للأمر بالتبليغ فائدة (فقيل لأبي شريح) لم يدر اسم القائل. وظاهر رواية ابن إسحاق أنه بعض قومه من خزاعة (ما قال لك عمرو؟) أي في جوابك (قال) أي أبو شريح (قال) أي عمرو (أنا أعلم بذلك) أي بالمذكور من قول أبي شريح: أن مكة حرمها الله تعالى، إلخ (منك يا أبا شريح) بإظهار الهمزة ويجوز حذفها للتخفيف فيقال يابا شريح (إن الحرم) أي حرم مكة (لا يعيذ) بالذال المعجمة أي لا يجير ولا يعصم (ولا فارًا بدم) بالفاء وتثقيل الراء من الفرار وهو عطف على ((عاصيًا)) والباء في ((بدم)) للمصاحبة، أي مصاحبًا بدم ومتلبسًا به يعني لا يجير هاربًا عليه دم يعتصم بمكة كيلا يقتص منه، قال الحافظ: المراد من وجب عليه حد القتل فهرب إلى مكة مستجيرًا بالحرم، وهي مسألة خلاف بين العلماء، وأغرب عمرو بن سعيد في سياقه الحكم مساق الدليل وفي تخصيصه العموم بلا مستند (ولا فارًا بخربة) عطف على ما قبله، والباء فيه للسببية وقوله ((بخربة)) بفتح الخاء المعجمة وسكون الراء بعدها باء موحدة وهي السرقة، كذا ثبت

متفق عليه. وفي البخاري: الخربة الجناية. ـــــــــــــــــــــــــــــ تفسيرها في رواية المستملي أعني في روايته: ولا فار بخربة يعني السرقة. وقال ابن بطال: الخربة بالضم الفساد وبالفتح السرقة. قال الحافظ: قد تصرف عمرو في الجواب وآتى بكلام ظاهره حق ولكن أراد به الباطل. قال ابن حزم: لا كرامة للطيم الشيطان أن يكون أعلم من صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأغرب ابن بطال فزعم أن سكوت أبي شريح عن جواب عمرو بن سعيد دال على أنه رجع إليه في التفصيل المذكور، ويعكر عليه ما وقع في رواية أحمد أنه قال في آخره: قال أبو شريح: فقلت لعمرو: قد كنت شاهدًا وكنت غائبًا وقد أمرنا أن يبلغ شاهدنا غائبنا وقد بلغت. فهذا يشعر بأنه لم يوافقه، وإنما ترك مشاققته لعجزه لما كان فيه من قوة الشوكة. وقال ابن بطال أيضًا: ليس قول عمرو جوابًا لأبي شريح لأنه لم يختلف معه في أن من أصاب حدًا في غير الحرم ثم لجأ إليه أنه يجوز إقامة الحد عليه في الحرم، فإن أبا شريح أنكر بعث عمرو الجيش إلى مكة ونصب الحرب عليها، فأحسن في استدلاله بالحديث، وحاد عمرو عن جوابه وأجابه عن غير سؤاله، وتعقبه الطيبي بأنه لم يحد في جوابه وإنما أجاب بما يقتضي القول بالموجب، كأنه قال له صح سماعك وحفظك لكن المعنى المراد من الحديث الذي ذكرته خلاف ما فهمته منه، فإن ذلك الترخص كان لسبب الفتح وليس بسبب قتل من استحق القتل خارج الحرم ثم استجار بالحرم، والذي أنا فيه من القبيل الثاني. قلت (قائله الحافظ) : لكنها دعوى من عمرو بغير دليل، لأن ابن الزبير لم يجب عليه حد فعاذ بالحرم فرارًا منه حتى يصح جواب عمرو، نعم كان عمرو يرى وجوب طاعة يزيد الذي استنابه وكان يزيد أمر ابن الزبير أن يبايع له بالخلافة ويحضر إليه في جامعة يعني مغلولاً، فامتنع ابن الزبير وعاذ بالحرم فكان يقال له بذلك عائذ الله، وكان عمرو يعتقد أنه عاص بامتناعه من امتثال أمر يزيد، ولهذا صدر كلامه بقوله: إن الحرم لا يعيذ عاصيًا. ثم ذكر بقية ما ذكر استطرادًا، فهذه شبهة عمرو وهي واهية، وهذه المسألة التي وقع فيها الاختلاف بين أبي شريح وعمرو فيها اختلاف بين العلماء أيضًا كما مر تفصليه في شرح حديث ابن عباس من هذا الباب، وفي حديث أبي شريح من الفوائد غير ما تقدم: جواز إخبار المرء عن نفسه بما يقتضي ثقته وضبطه لما سمعه ونحو ذلك، وإنكار العالم على الحاكم ما يغيره من أمر الدين، والموعظة بلطف وتدريج، والاقتصار في الإنكار على اللسان إذ لم يستطع باليد، ووقوع التأكيد في الكلام البليغ، وجواز المجادلة في الأمور الدينية، وفيه الخروج عن عهدة التبليغ، والصبر على المكاره لمن لا يستطيع بدًا من ذلك (متفق عليه) أخرجه البخاري في العلم وفي الحج وفي المغازي، ومسلم في الحج، وأخرجه أيضًا أحمد (ج 6: ص 385) والترمذي في الحج وفي الديات والنسائي في الحج وفي العلم (وفي البخاري: الخربة الجناية) قال القاري: وفي نسخة ((الخيانة)) ضد الأمانة – انتهى. والذي في البخاري في الحج وفي المغازي، قال أبو عبد الله: الخربة البلية. وقال ابن الأثير في النهاية: في الحديث ((الحرم

2752 – (13) وعن عياش بن أبي ربيعة المخزومي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تزال هذه الأمة بخير ما عظموا هذه الحرمة حق تعظيمها، فإذا ضيعوا ذلك هلكوا ". رواه ابن ماجة. ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يعيذ عاصيًا ولا فارًا بخربة)) الخربة أصلها العيب والمراد بها ها هنا الذي يفر بشيء يريد أن ينفرد به ويغلب عليه مما لا تجيزه الشريعة، والخارب أيضًا سارق الإبل خاصة ثم نقل إلى غيرها اتساعًا، وقد جاء في سياق الحديث في كتاب البخاري أن الخربة الجناية والبلية. قال الترمذي: وقد روي بخزية ويجوز أن يكون بكسر الخاء (وسكون الزاي) وهو الشيء الذي يستحي منه أو من الهوان أن يكون بالفتح وهو الفعلة الواحدة منهما – انتهى. وارجع لمزيد التفصيل إلى الفتح بالحج، والعيني والقسطلاني في العلم. 2752 – قوله (وعن عياش) بتشديد التحتانية وآخره معجمة (بن أبي ربيعة) اسم أبي ربيعة عمرو – ويلقب ذا الرمحين – ابن المغير بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشي أبو عبد الله، وقيل: أبو عبد الرحمن المخزومي ابن عم خالد بن الوليد بن المغيرة وأخو أبي جهل بن هشام لأمه، أمهما أم الجلاس، وأخو عبد الله بن أبي ربيعة لأبيه وأمه واسمها أسماء بنت سلمة بن مخرمة وهي أم الحارث وأبي جهل ابني هشام بن المغيرة، كان هشام بن المغيرة قد طلقها فتزوجها أخوه أبو ربيعة بن المغيرة، كان إسلام عياش بن أبي ربيعة قديمًا قبل أن يدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم، وهاجر إلى أرض الحبشة مع امرأته وولد له بها ابنه عبد الله، ثم هاجر إلى المدينة فجمع بين الهجرتين قال الزبير: كان عياش بن أبي ربيعة قد هاجر إلى المدينة حين هاجر عمر بن الخطاب فقدم عليه أخواه لأمه أبو جهل والحارث ابنا هشام فذكر له أن أمه حلفت أن لا يدخل رأسها دهن ولا تستظل حتى تراه فرجع معهما فأوثقاه رباطًا وحبساه بمكة فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو له بالنجاة في القنوت كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تعظيم مكة وعنه ابنه عبد الله وعبد الرحمن بن سابط وغيرهما استشهد باليمامة، وقيل باليرموك، وقيل مات سنة خمس عشرة بالشام في خلافة عمره (لا تزال هذه الأمة) أي أمة الإجابة (بخير) التنوين للتعظيم (ما عظموا) أي مدة تعظيمهم (هذه الحرمة) يعني الكعبة والحرم، وقال القاري: أي حرمة مكة وحرمها المعهودة عند العرب بأجمعها. وقال السندي: أي حرمة شعائر الله (فإذا ضيعوا ذلك) أي التعظيم أو ما ذكر من الحرمة (هلكوا) أي بالإهانة جزاء وفاقًا (رواه ابن ماجة) في آخر الحج من طريق يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن سابط عن عياش، قال ابن عبد البر: ويقولون: إن عبد الرحمن بن سابط لم يسمع منه، وأنه أرسل حديثه عنه، وروى عنه نافع مرسلاً أيضًا وروى عنه ابنه عبد الله بن عياش سماعًا منه – انتهى. وقال السندي: قال في الزوائد: في إسناده يزيد بن أبي زياد واختلط بآخره – انتهى.

(15) باب حرم المدينة حرسها الله تعالى

(15) باب حرم المدينة حرسها الله تعالى (الفصل الأول) ـــــــــــــــــــــــــــــ والحديث ذكره المحب الطبري في القرى (ص 589) وقال: أخرجه ابن الحاج في منسكه، وذكره الحافظ في الفتح في باب فضل مكة وبنيانها ثم قال: أخرجه أحمد وابن ماجة وعمر بن شبة في كتاب مكة وسنده حسن – انتهى. (باب حرم المدينة) قال الزرقاني: المدينة في الأصل المصر الجامع ثم صارت علمًا بالغلبة على دار هجرته - صلى الله عليه وسلم - ووزنها فعيلة لأنها من مدن (بالمكان أي أقام به) وقيل: مفعلة بفتح الميم لأنها من دان (بمعنى أطاع، والدين الطاعة) والجمع مدن ومدائن بالهمز على القول بأصالة الميم ووزنها فعائل وبغير همز على القول بزيادة الميم ووزنها مفاعل انتهى. وقال الحافظ في الفتح: المدينة علم على البلدة المعروفة التي هاجر إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - ودفن بها. قال الله تعالى: {يقولون لئن رجعنا إلى المدينة} (سورة المنافقون: الآية 8) فإذا أطلقت تبادر إلى الفهم أنها المراد، وإذا أريد غيرها بلفظ المدينة فلا بد من قيد فهي كالنجم للثريا، وكان اسمها قبل ذلك ((يثرب)) قال الله تعالى: {وإذ قالت طائفة منهم: يا أهل يثرب} (سورة الأحزاب: الآية 13) ويثرب اسم لموضع منها سميت كلها به، قيل: سميت بيثرب بن قانية من ولد إرم بن سام بن نوح، لأنه أول من نزلها، حكاه أبو عبيد البكري، وقيل غير ذلك. ثم سماها النبي - صلى الله عليه وسلم - طابة وطيبة كما سيأتي. وكان سكانها العماليق ثم نزلها طائفة من بني إسرائيل قيل أرسلهم موسى عليه السلام كما أخرجه الزبير بن بكار في أخبار المدينة بسند ضعيف ثم نزلها الأوس والخزرج لما تفرق أهل سبأ بسبب سيل العرم – انتهى. قال النووي في مناسكه: لمدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة أسماء: المدينة وطابة وطيبة والدار ويثرب، قال تعالى: {ما كان لأهل المدينة} (سورة التوبة: الآية 121) وفي مسلم عن جابر مرفوعًا: " إن الله سمي المدينة طابة ". قال النووي: سميت طابة وطيبة لخلوصها من الشرك وطهارتها منه، وقيل لطيب ساكنها، وأما تسميتها الدار فللاستقرار بها لأمنها، وأما المدينة فقال كثير من أهل اللغة: هي من دان أي أطاع، سميت بها لأنه يطاع لله تعالى فيها. قال ابن حجر في شرحه: اقتصر على هذه الأسماء مع أن أسمائها تقارب الألف كما بينها بعض المتأخرين لأنها أشهرها – انتهى. وقال السمهودي: إن كثرة الأسماء تدل على شرف المسمى ولم أجد أكثر من أسماء هذه البلدة الشريفة وقد استقصيتها بحسب القدرة حتى أني زدت على شيخ مشائخنا المجد الشيرازي اللغوي وهو أعظم الناس في هذا الباب نحو ثلاثين اسمًا فرقمت على ذلك صورة ليتميزوها وأنا أوردها مرتبة على حروف المعجم، ثم ذكر السمهودي أربعة وتسعين اسمًا مع بيان معانيها وسرد أحمد بن عبد الحميد العباسي ثمانية وخمسين اسمًا ثم ترجم كل اسم حسب ترتيبه الأبجدي، من أحب الوقوف على ذلك رجع إلى وفاء الوفا (ص 8 إلى ص 27) وإلى عمدة الأخبار (ص 58 إلى ص 70) . واعلم أن للمدينة حرمة عند الحنفية لا حرمًا كما لمكة خلافًا للأئمة الثلاثة؛ فعندهم يحرم صيدها وقطع شجرها، وعند الحنفية لا يحرم ذلك وسيأتي بسط الكلام في ذلك.

2753 - (1) عن علي رضي الله عنه، قال: ما كتبنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا القرآن، وما في هذه الصحيفة. قال: ـــــــــــــــــــــــــــــ 2753- قوله (ما كتبنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا القرآن وما في هذه الصحيفة) هذا لفظ البخاري في الجزية رواه من طريق سفيان عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن علي، وروى مسلم من طريق أبي معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن أبيه، قال: (أي يزيد بن شريك التيمي والد إبراهيم) : خطبنا علي بن أبي طالب فقال: من زعم أن عندنا شيئًا نقرؤه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة - قال: وصحيفة معلقة في قراب سيفه - فقد كذب. وروى البخاري أيضًا في العلم من طريق مطرف عن الشعبي عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي رضي الله عنه: هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلا كتاب الله أو فهم أعطيه رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة. قال الحافظ: قوله ((هل عندكم)) الخطاب لعلي والجمع إما لإرادته مع بقية أهل البيت أو للتعظيم. وقوله ((كتاب)) أي مكتوب أخذتموه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما أوحي إليه، ويدل على ذلك رواية المصنف يعني البخاري في الجهاد: هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ وله في الديات: ((هل عندكم شيء مما ليس في القرآن؟)) . وفي مسند إسحاق بن راهويه عن جرير عن مطرف ((هل علمت شيئًا من الوحي؟)) وإنما سأله أبو جحيفة عن ذلك لأن جماعة من الشيعة كانوا يزعمون أن عند أهل البيت لا سيما عليًا أشياء من الوحي خصهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بها لم يطلع غيرهم عليها. وقد سأل عليًا عن هذه المسألة أيضًا قيس بن عُبَاد (بضم العين وتخفيف الباء) والأشتر النخعي وحديثهما في مسند النسائي (ومسند الإمام أحمد ج 1: ص 122) وقال النووي: قوله من زعم أن عندنا شيئًا نقرؤه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة فقد كذب)) . هذا تصريح من علي رضي الله عنه بإبطال ما تزعمه الرافضة والشيعة ويخترعونه من قولهم أن عليًا رضي الله عنه أوصى إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمور كثيرة من أسرار العلم وقواعد الدين وكنوز الشريعة، وأنه - صلى الله عليه وسلم - خص أهل البيت بما لم يطلع عليه غيرهم، وهذه دعاوى باطلة واختراعات فاسدة لا أصل لها ويكفي في إبطالها قول علي رضي الله عنه هذا، وفيه دليل على جواز كتابة العلم (قال) أي علي رضي الله عنه تفسيرًا لما في الصحيفة، وفي رواية أبي جحيفة عند البخاري في العلم قال: قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، إلخ. قال الحافظ: ووقع للبخاري ومسلم من طريق يزيد التيمي عن علي قال: ما عندنا شيء نقرؤه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة، فإذا فيها الجراحات وأسنان الإبل والمدينة حرم - الحديث. ولمسلم عن أبي الطفيل عن علي: ما خصنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء لم يعم به الناس كافة إلا ما في قراب سيفي هذا. وأخرج صحيفة مكتوب فيها: لعن الله من ذبح لغير الله - الحديث. وللنسائي من طريق الأشتر وغيره عن علي ((فإذا فيها: المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم)) .

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " المدينة حرام ما بين عير إلى ثور، ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث. ولأحمد من طريق طارق بن شهاب ((فيها فرائض الصدقة)) والجمع بين هذه الأحاديث أن الصحيفة كانت واحدة وكان جميع ذلك مكتوباً فيها فنقل كل واحد من الرواة عنه ما حفظه، والله أعلم. وقد بين ذلك قتادة في روايته لهذا الحديث عن أبي حسان عن علي (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: المدينة حرام) كذا في رواية البخاري في باب إثم من عاهد ثم غدر من كتاب الجهاد، وهكذا وقع عند أحمد (ج 1: ص 126) وأبي داود ولفظ مسلم ((المدينة حرم)) بفتحتين بدون ألف، وهكذا عند البخاري في ((باب ذمة المسلمين وجوارهم واحدة)) وكذا وقع عند أحمد (ج 1: ص 81) والترمذي والنسائي. والحرام بمعنى الحرم لأن الروايات يفسر بعضها بعضًا. وقال القاري: حرام أي محترم ممنوع مما يقتضي إهانة الموضع المكرم، وعند الشافعية: الحرام بمعنى الحرم. قلت: وهو الظاهر (ما بين عَيْر) بفتح العين المهملة وسكون الياء آخر الحروف بلفظ العير مرادف الحمار، جبل مشهور في قبلة المدينة بقرب ذي الحليفة ميقات المدينة، وفي رواية للبخاري ((ما بين عائر)) بألف بعد العين المهملة على وزن فاعل (إلى ثور) بفتح الثاء المثلثة وسكون الواو بلفظ الثور فحل البقر جبل صغير خلف أحد، وهو غير جبل ثور الذي بمكة، وقوله ((إلى ثور)) انفرد به مسلم، ولفظ البخاري ((إلى كذا)) أي بإبهام النهاية. قال الحافظ: اتفقت روايات البخاري كلها على إبهام الثاني، ووقع عند مسلم ((إلى ثور)) فقيل: إن البخاري أبهمه عمداً لما وقع عنده أنه وهم. وقال صاحب المشارق والمطالع: أكثر رواة البخاري ذكروا عيرًا وأما ثور فمنهم من كنى عنه بكذا، ومنهم من ترك مكانه بياضًا، والأصل في هذا التوقف قول مصعب الزبيري ((ليس بالمدينة عير ولا ثور)) ، وأثبت غيره عيرًا فوافقه على إنكار ثور. قال أبو عبيد (القاسم بن سلام) : قوله: ((ما بين عير إلى ثور)) . هذه رواية أهل العراق، وأما أهل المدينة فلا يعرفون جبلاً عندهم يقال له ثور، وإنما ثور بمكة، ونرى أن أصل الحديث ما بين عير إلى أحد. قلت (قائله الحافظ) : وقد وقع ذلك في حديث عبد الله بن سلام عند أحمد والطبراني (في الكبير قال عبد الله بن سلام: ما بين كذا وأحد حرام حرمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كنت لأقطع به شجرة ولا أقتل به طائرًا. هذا لفظ أحمد (ج 5: ص 450) ، ولفظ الطبراني ((قال: ما بين عير وأحد حرام)) . قال الهيثمي: ورجاله ثقات) وقال عياض: لا معنى لإنكار عير بالمدينة فإنه معروف، وقد جاء ذكره في أشعارهم، وأنشد أبو عبيد البكري في ذلك عدة شواهد. وقال ابن السيد في المثلث: عير اسم جبل بقرب المدينة معروف. قال الحافظ: وقد سلك العلماء في إنكار مصعب الزبيري لعير وثور مسالك، منها ما تقدم، ومنها: قول ابن قدامة في المغنى (ج 3: ص 354) : يحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد قدر ما بين ثور وعير لا أنهما بعينهما في المدينة، ويحتمل أنه أراد الجبلين الذين بطرفي المدينة وسماهما عيرًا وثورًا تجوزًا وارتجالاً – انتهى. وحكى ابن الأثير كلام أبي عبيد

................................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ مختصراً ثم قال: وقيل إن عيرًا جبل بمكة، ويكون المراد أنه حرم من المدينة قدر ما بين عير وثور من مكة أو حرم المدينة تحريماً مثل تحريم ما بين عير وثور بمكة، على حذف المضاف ووصف المصدر المحذوف. وقال النووي: يحتمل أن ثوراً كان اسمًا لجبل هناك إما أحد وإما غيره فخفي اسمه، وقال صاحب البيان والانتصار: قد صحت الرواية بلفظ ثور فلا ينبغي الإقدام على توهيم الرواة بمجرد عدم العرفان فإن أسماء الأماكن قد تتغير أو تنسى ولا يعلمها كثير من الناس، وأيضًا فقد يكون للشيء اسمان فيعرف أحدهما دون الآخر. وقال المجد صاحب القاموس: لا أدري كيف وقعت المسارعة من هؤلاء الأعلام إلى إثبات وهم في الحديث المتفق على صحته بمجرد ادعاء أن أهل المدينة لا يعرفون جبلاً يسمى ثورًا وذكر احتمال طرق التغيير في الأسماء والنسيان لبعضها، قال: حتى إني سألت جماعة من فقهاء المدينة وأمرائها وغيرهم من الأشراف عن فدك ومكانها فكلهم أجابوا بعدم معرفة موضع يسمى بذلك في بلادهم مع أن هذه القرية لم تبرح في أيدي الأشراف والخلفاء يتداولونها إلى أواخر الدولة العباسة فكيف بجبل صغير لا يتعلق به كبير أمر مع أنه معروف بين أهل العلم بالمدينة ونقل بعض الحفاظ وصفه بذلك خلفًا عن سلف – انتهى. ونقل جماعة عن المحدث أبي محمد عفيف الدين عبد السلام بن مزروع البصري نزيل المدينة المشرفة أنه رآه غير مرة وأنه لما خرج رسولاً من صاحب المدينة إلى العراق كان منه دليل يذكر له الأماكن والأجبل، فلما وصلا إلى أحد إذا بقربه جبل صغير فسأله ما اسم هذا الجبل؟ فقال له: يسمى ثورًا. وقد حكى عنه نحو هذا القطب الحلبي في شرح البخاري ثم قال: فعلمت بذلك صحة الرواية. وقال المحب الطبري في الأحكام بعد حكاية كلام أبي عبيد ومن تبعه: قد أخبرني الثقة الصدوق الحافظ العالم أبو محمد عبد السلام البصري أن حذاء أحد عن يساره جانحًا إلى وراءه جبل صغير يقال له ثور. وأخبر أنه تكرر سؤاله عنه لطوائف من العرب العارفين بتلك الأرض وما فيها من الجبال فكل أخبر أن ذلك الجبل اسمه ثور وتواردوا على ذلك. قال الطبري: فعلمنا بذلك أن ذكر ثور في الحديث صحيح، وأن عدم علم أكابر العلماء به لعدم شهرته وعدم بحثهم عنه. قال: وهذه فائدة جليلة – انتهى. وقال الحافظ بعد حكاية كلام ابن مزروع البصري والمحب الطبري والقطب الحلبي: وذكر شيخنا أبو بكر بن حسين المراغي نزيل المدينة في مختصره لأخبار المدينة أن خَلَفَ أهل المدينة ينقلون عن سلفهم أن خَلْفَ أحد من جهة الشمال جبلاً صغيرًا يضرب لونه إلى الحمرة بتدوير يسمى ثوراً. قال: وقد تحققته بالمشاهد – انتهى كلام الحافظ. ونقل السمهودي عن الإقشهري أنه قال: قد استقصينا من أهل المدينة تحقيق خبر جبل يقال له ثور عندهم فوجدنا ذلك اسم جبل صغير خلف جبل أحد يعرفه القدماء دون المحدثين من أهل المدينة. والذي يعلم حجة على من لا يعلم – انتهى. واعلم أن ما ورد في حديث على هذا من

................................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ تحديد حرم المدينة بما بين عير وثور لا ينافي الحديث الآتي: ((إني أحرم ما بين لابتي المدينة)) . لأن اللابتين حرتان يكتنفانها، كما في القاموس، وعير وثور مكتنفان المدينة، فحديث عير وثور يفسر اللابتين، وقيل حديث: ((ما بين لابتيها)) يعني من جهة المشرق والمغرب، فإن من جهة المشرق حرة ومن جهة المغرب أخرى، وحديث: ((ما بين عير إلى ثور)) يعني من جهة الجنوب والشمال، فثور من جهة الشمال، وعير من جهة الجنوب، والله أعلم. وفي حديث علي هذا وفيما يأتي من أحاديث سعد بن أبي وقاص، وحديث أبي سعيد وحديث أنس دليل على أن المدينة حرمًا كحرم مكة، وقد روي في هذا عن جماعة من الصحابة غير هؤلاء، ذكر أحاديثهم المجد في المنتقى، والعيني في العمدة (ج10: ص 231) والهيثمي في مجمع الزوائد (ج3: ص 303) والسمهودي في وفاء الوفا (ص 89، 105، 108) . قال الشوكاني: استدل بما في هذه الأحاديث من تحريم شجر المدينة وخبطه وعضده وتحريم صيدها وتنفيره الشافعي ومالك وأحمد وجمهور أهل العلم على أن للمدينة حرمًا كحرم مكة يحرم صيده وشجره. قال الشافعي ومالك: فإن قتل صيدًا أو قطع شجرًا فلا ضمان لأنه ليس بمحل للنسك فأشبه الحمى. وقال ابن أبي ذئب وابن أبي ليلى: يجب فيه الجزاء كحرم مكة، وبه قال بعض المالكية وهو ظاهر قوله ((كما حرم إبراهيم مكة)) ، وذهب أبو حنيفة وزيد بن علي والناصر إلى أن حرم المدينة ليس بحرم على الحقيقة ولا تثبت له الأحكام من تحريم قتل الصيد وقطع الشجر، والأحاديث ترد عليهم – انتهى. وقال العيني: احتج بأحاديث تحريم حرم المدينة محمد بن أبي ذئب والزهري والشافعي ومالك وأحمد وإسحاق، وقالوا: المدينة لها حرم فلا يجوز قطع شجرها ولا أخذ صيدها، ولكنه لا يجب الجزاء فيه عندهم خلافًا لابن أبي ذئب فإنه قال: يجب الجزاء، وكذلك لا يحل سلب من يفعل ذلك عندهم إلا عند الشافعي، وقال في القديم: من اصطاد في المدينة صيدًا أخذ سلبه ويروى فيه أثرًا عن سعد، وقال في الجديد بخلافه. وقال الثوري وعبد الله بن المبارك وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: ليس للمدينة حرم كما كان لمكة، فلا يمنع أحد من أخذ صيدها وقطع شجرها – انتهى. والمراد من المنع منع استحباب لا تحريم، فلا يحرم عند الحنفية أخذ صيدها وقطع شجرها، بل يكره فقط كما في المرقاة. قال في الكافي: لأن حل الاصطياد عرف بالنصوص القاطعة فلا يحرم إلا بقاطع كذلك، ولم يوجد، وأما تحريم مكة فنصوص الكتاب فيه صريحة. قال التوربشتي: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث مسلم ((لا تخبط منها شجرة إلا لعلف)) وأشجار حرم مكة لا يجوز خبطها بحال، وأما صيد المدينة وإن رأى تحريمه نفر يسير من الصحابة فإن الجمهور منهم لم ينكروا اصطياد الطور بالمدينة ولم يبلغنا فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهي من طريق يعتمد عليه – انتهى. وأيضًا قال

................................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ أصحابنا: قوله عليه الصلاة والسلام ((أحرم)) من الحرمة لا من التحريم بمعنى أعظم المدينة جمعًا بين الدليلين بقدر الإمكان، وبه نقول فنعظمها ونوقرها أشد التوقير والتعظيم، لكن لا نقول بالتحريم لعدم القاطع احترازًا عن الجرأة على تحريم ما أحل الله تعالى. فإن قيل: إنه شبه التحريم بمكة فكيف يصح الحمل على التعظيم؟ أجيب: بأنه لا يخلو عن أمرين، إما أن يكون المراد التشبيه من كل الوجوه أو من وجه دون وجه، فإن كان الأول فلا يصح الحمل على ما حملتم عليه قوله ((كتحريم إبراهيم مكة)) فقلتم في الحرمة فقط لا في وجوب الجزاء في المشهور من المذهب، وإن قلتم بوجوب الجزاء فلا نسلم لأنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن الصحابة رضي الله عنهم إلا عن سعد فقط. وعن عمر في قول، وهو سلب القاطع والصائد وقد أجمعنا أن ذلك لا يجب في حرم مكة فكيف يجب هناك؟ وإن كان الثاني فكما حملتم على شيء ساغ لنا أن نحمل على آخر، وهذا لأن تشبيه الشيء بالشيء يصح من وجه واحد وإن كان لا يشبهه من كل الوجوه كما في قوله تعالى {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم} (سورة آل عمران: الآية 52) . يعني من وجه واحد وهو تخليقه بغير أب فكذلك نقول إن تشبيهه بمكة في تحريم التعظيم فقط لا في التحريم الذي يتعلق به أحكام أخر، لأن ذلك يوجب التعارض بين الأحاديث، وبالحمل على ما قلنا يدفع ودفعه هو المطلوب مهما أمكن بالإجماع، فصار المصير إلى ما ذهبنا إليه أولى وأرجح بلا نزاع – انتهى. قال صاحب فتح الملهم بعد ذكر هذا كله: قلت: ولكن يرد هذا كله حديث جابر عند مسلم بلفظ: ((إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم المدينة ما بين لابتيها لا يقطع عضاهها ولا يصاد صيدها)) . وأصرح منه حديث سعد بلفظ: ((إني أحرم ما بين لابتي المدينة أن يقطع عضاهها أو يقتل صيدها)) . وفي حديث ابن عباس عند أحمد (ج 1: ص 318) بإسناد حسن: ((لكل نبي حرم وحرمي المدينة، اللهم إني أحرمها بحرمك أن لا يؤوى بها محدث ولا يختلى خلاها ولا يعضد شوكها ولا تؤخذ لقطتها إلا لمنشدها)) . فقد ثبت النهي عن الاصطياد بطريق يعتمد عليه، وظهر أن التحريم فيه ليس بمعنى التوقير والتعظيم فقط بل هو واقع على قطع العضاه وقتل الصيد كالحرم المكي والله أعلم – انتهى. قلت: والأصل في المنع والنهي التحريم حتى تقوم دلالة على التنزيه ولم يقم دليل على كون النهي لكراهة التنزيه، بل ورد ما يدل على كونه للتحريم فقد روى مسلم من طريق يزيد بن هارون عن عاصم الأحول قال: سألت أنسًا أحرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة؟ قال: نعم هي حرام، لا يختلى خلاها، فمن فعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. ففي هذه الرواية ترتب الوعيد الشديد على المختلي، قال صاحب فتح الملهم: هذا مخالف لما ذهب إليه الحنفية من حمل النهي عن الاختلاء ونحوه على الكراهة مع إثبات الإباحة. قال: ولم أجد في غير هذا الطريق ويختلج في قلبي أن الرواية وقع فيها اختصار، وحذف بعض الرواة ذكر الإحداث وإيواء المحدث وكان

................................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ الوعيد مرتبًا على ذلك المحذوف كما هو المصرح في سائر الروايات عن أنس، وأيضًا ليس في هذه الرواية التصريح برفع هذه الجملة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما لا يخفى على المتأمل – انتهى. قلت: ليس منشأ هذا الاختلاج إلا أن هذه الرواية مخالفة لمذهب الحنفية فاضطر إلى توهينها والتشكيك في رفعها، وإلا فليس ها هنا ما يدل على كونها مخالفة لسائر الروايات فتأمل. وأحاب الحنفية أيضًا عن الأحاديث المذكورة بأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما قال ذلك لا لأنه لما ذكروه من تحريم صيد المدينة وشجرها، بل إنما أراد بذلك بقاء زينة المدينة ليستطيبوها ويألفوها وذلك كمنعه - صلى الله عليه وسلم - من هدم آطام المدينة وقال: " إنها زينة المدينة ". قال الحافظ: قال الطحاوي: يحتمل أن يكون سبب النهي عن صيد المدينة وقطع شجرها كون الهجرة كانت إليها فكان بقاء الصيد والشجر مما يزيد في زينتها ويدعو إلى ألفتها كما روى ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن هدم آطام المدينة فإنها من زينة المدينة فلما انقطعت الهجرة زال ذلك، وما قاله ليس بواضح لأن النسخ لا يثبت إلا بدليل، وقد ثبت على الفتوى بتحريمها سعد وزيد بن ثابت وأبو سعيد وغيرهم كما أخرجه مسلم. قال الحافظ: واحتج الطحاوي (لما ذهب إليه الحنفية) بحديث أنس في قصة أبي عمير ((ما فعل النغير)) قال: لو كان صيدها حرامًا ما جاز حبس الطير. وأجيب باحتمال أن يكون من صيد الحل. قال أحمد: من صاد من الحل ثم أدخله المدينة لم يلزمه إرساله لحديث أبي عمير، وهذا قول الجمهور، لكن لا يرد ذلك على الحنفية لأن صيد الحل عندهم إذا دخل الحرم كان له حكم الحرم، ويحتمل أن تكون قصة أبي عمير كانت قبل التحريم (لأنه في أول الهجرة، وتحريم المدينة كان بعد رجوعه - صلى الله عليه وسلم - من خيبر) واحتج بعضهم بحديث أنس في قصة قطع النخل لبناء المسجد، ولو كان قطع شجرها حرامًا ما فعله - صلى الله عليه وسلم -، وتعقب بأن ذلك كان في أول الهجرة كما سيأتي واضحًا في أول المغازي، وحديث تحريم المدينة كان بعد رجوعه - صلى الله عليه وسلم - من خيبر كما سيأتي في حديث عمرو بن أبي عمرو عن أنس في الجهاد، وفي غزوة أحد من المغازي واضحًا. قلت: واستدل الحنفية أيضًا بما رواه الطحاوي والطبراني وابن أبي شيبة عن سلمة أنه قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أما إنك لو كنت تصيدت بالعقيق لشيعتك إذا ذهبت وتلقيتك إذا جئت فإني أحب العقيق ". قال الطحاوي: ففي هذا الحديث ما يدل على إباحة صيد المدينة ألا ترى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد دل سلمة وهو بها على موضع الصيد وذلك لا يحل بمكة فثبت أن حكم صيد المدينة خلاف حكم صيد مكة. وقال في النخبة: هذا تصريح من النبي - صلى الله عليه وسلم - على جواز صيد المدينة فإن الأئمة اتفقوا على أن العقيق من المدينة ولم يخالف فيه مخالف. وأجيب عن ذلك بما قال البيهقي أن حديث سلمة ضعيف ومن يدعي العلم بالآثار لا ينبغي له أن يعارض الأحاديث الثابتة في حرم المدينة بهذا

................................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الضعيف، وقد يجوز أن يكون الموضع الذي كان سلمة يصيد فيه خارجًا من حرم المدينة، والموضع الذي رأى فيه سعد بن أبي وقاص غلامًا يقطع شجرًا من حرم المدينة داخله حتى لا يتنافيان، ولو اختلفا كان الحكم لرواية سعد لصحة حديثه وثقة رجاله دون حديث سلمة - انتهى. ويحتمل أن حديث سلمة كان قبل تحريم المدينة. قال صاحب فتح الملهم: والذي تحصل من مجموع الروايات – والله سبحانه وتعالى أعلم – أن لمكة حرمًا وللمدينة حرمًا يختلف عن حرم مكة في نوع من الأحكام كالنهي عن دخولها بغير إحرام وغيره، ويشبهه في نوع منها كالنهي عن الاصطياد وقطع الشجر مع تفاوت الدرجات فيه من حيث ورود التشديد والتغليظ في شأن مكة وإيجاب العقوبات على من جنى فيها على غير شاكلة ما هو في شأن المدينة من وقوع التساهل والإغماض عمن ارتكب شيئًا مما نهى عنه، وهذا غير خاف على من تأمل في الأحاديث التي ذكرناها من الطحاوي وغيره، ويشهد لهذا التخفيف أيضًا ما رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - في خبط شجرها لعلف الدواب، وقال في حديث جابر عند أبي داود وغيره لا يخبط ولا يعضد حمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن يهش هشًا رفيقًا أي ينثر نثرًا بلين ورفق، ولهذا لم يجر التعامل على ما في حديث سعد من التعزير بالسلب؛ بل قال ابن بطال: حديث سعد في السلب لم يصح عند مالك ولا رأى العمل عليه بالمدينة كما في عمدة القاري – انتهى. وقال الحافظ: قال ابن قدامة: يحرم صيد المدينة وقطع شجرها، وبه قال مالك والشافعي وأكثر أهل العلم، وقال أبو حنيفة: لا يحرم ثم من فعل مما حرم عليه فيه شيئًا أثم ولا جزاء عليه في رواية لأحمد وهو قول مالك والشافعي في الجديد وأكثر أهل العلم وفي رواية لأحمد وهو قول الشافعي في القديم وابن أبي ذئب واختاره ابن المنذر وابن نافع من أصحاب مالك وقال القاضي عبد الوهاب: إنه الأقيس واختاره جماعة بعدهم فيه الجزاء وهو كما في حرم مكة وقيل: الجزاء في حرم المدينة أخذ السلب لحديث صححه مسلم عن سعد بن أبي وقاص، وفي رواية لأبي داود ((من وجد أحدًا يصيد في حرم المدينة فليسلبه)) . قال القاضي عياض: لم يقل بهذا بعد الصحابة إلا الشافعي في القديم. قلت (قائله الحافظ) : واختاره جماعة معه وبعده لصحة الخبر فيه، ولمن قال به اختلاف في كيفيته ومصرفه، والذي دل عليه صنيع سعد عند مسلم وغيره أنه كسلب القتيل وأنه للسالب لكنه لا يخمس، وأغرب بعض الحنفية فادعى الإجماع على ترك الأخذ لحديث السلب ثم استدل بذلك على نسخ أحاديث تحريم المدينة، ودعوى الإجماع مردودة فبطل ما ترتب عليها. قال ابن عبد البر: لو صح حديث سعد لم يكن في نسخ أخذ السلب ما يسقط الأحاديث الصحيحة، ويجوز أخذ العلف لحديث أبي سعيد في مسلم: ((ولا يخبط فيها شجرة إلا لعلف)) . ولأبي داود من طريق أبي حسان عن علي نحوه، وقال المهلب: في حديث أنس دلالة على أن المنهي عنه في الحديث الماضي مقصور على القطع الذي

................................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ يحصل به الإفساد، فأما من يقصد الإصلاح كمن يغرس بستانًا مثلاً فلا يمتنع عليه قطع ما كان لتلك الأرض من شجر يضر بقاؤه. قال: وقيل: بل فيه دلالة على أن النهي إنما يتوجه إلى ما أنبته الله من الشجر مما لا صنع فيه للآدمي كما حمل عليه النهي عن قطع شجر مكة وعلى هذا يحمل قطعه - صلى الله عليه وسلم - النخل وجعله قبلة المسجد ولا يلزم منه النسخ المذكور – انتهى. ويأتي مزيد الكلام على حرم المدينة ومسألة السلب في شرح حديث سعد الآتي. فائدة: روى مسلم من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، قال: حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بين لابتي المدينة. قال أبو هريرة: فلو وجدت الظباء ما بين لابتيها ما ذعرتها، وجعل اثني عشر ميلاً حول المدينة حمى. وروى أبو داود من حديث عدي بن زيد قال: حمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل ناحية من المدينة بريدًا بريدًا لا يخبط شجره ويعضد إلا ما يساق به الجمل. وقد سكت عليه أبو داود وكذا سكت عليه الحافظ في الفتح، وقال المنذري: في إسناده سليمان بن كنانة، سئل عنه أبو حاتم الرازي فقال: لا أعرفه، ولم يذكره البخاري في تاريخه، وفي إسناده أيضًا عبد الله بن أبي سفيان وهو في معنى المجهول – انتهى. وقال في التقريب في عبد الله بن أبي سفيان: إنه مقبول. قال السمهودي (ص 96) : اعلم أن قوله في حديث مسلم ((وجعل اثني عشر ميلاً حول المدينة حمى)) . ظاهر في التحريم لذلك القدر، إذ حول المدينة إنما هو حرمها وحمى النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي ليس بحرم لم يكن حول المدينة على ما سيأتي بيانه، ولأن التقي السبكي قال: إن في سنن أبي داود تحديد حرم المدينة ببريد من كل ناحية. قال: وإسناده ليس بالقوي. والذي رأيته في أبي داود عن عدي بن زيد: حمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل ناحية من المدينة بريدًا بريدًا، إلخ. قال: ورواه البزار بنحوه، ورواه ابن زبالة بلفظ ((حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شجر المدينة بريدًا في بريد منها، وأذن في المسد والمنجدة ومتاع الناضح أن يقطع منه)) . وروى المفضل الجندي عن سعد بن أبي وقاص أنه قال في قصة العبد الذي وجده يعضد أو يخبط عضاها بالعقيق: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من وجد من يعضد أو يخبط شيئًا من عضاه المدينة بريدًا في بريد فله سلبه ". وروى البزار عن جابر قال: حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة بريدًا من نواحيها كلها. (قال الهيثمي بعد عزوه للبزار: وفيه الفضل بن مبشر وثقه ابن حبان وضعفه جماعة) قال السمهودي: وفي الأوسط للطبراني: وفيه ضعيف عن كعب بن مالك، قال: حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشجر بالمدينة بريدًا في بريد فأرسلني فأعلمت على الحرم على شرف ذات الجيش وعلى شريب، وعلى أشراف مخيض وعلى نبت (قال الهيثمي: في طرقه عبد العزيز بن عمران بن أبي ثابت، وهو ضعيف) قال السمهودي: ورواه ابن النجار وابن زبالة بلفظ ((حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة بريدًا في بريد وأرسلني فأعلمت على الحرم)) إلخ. قال: وروى ابن زبالة أيضًا من طريق مالك بن أنس عن أبي بكر بن حزم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في الحمى: إلى مضرب القبة. قال مالك: وذلك نحو من بريد. قال السمهودي بعد بيان الألفاظ المتعلقة بالتحديد ما نصه:

فمن أحدث فيها حدثًا، أو آوى ـــــــــــــــــــــــــــــ والتحديد بهذه الأماكن مؤيد لكون مجموع الحرم بريدًا، ولذلك قال ابن زبالة عقب ما تقدم عنه: وذلك كله يشبه أن يكون بريدًا في بريد – انتهى. ويحمل عليه قول أبي هريرة في حديث مسلم ((وجعل اثني عشر ميلاً حول المدينة حمى)) لأن ذلك هو البريد أي ستة أميال من جهة قبلتها وستة أميال من جهة شاميها وكذلك في المشرق والمغرب ومثله حديث حمى كل ناحية من المدينة بريدًا أي من القبلة إلى الشمال بريدًا، ومن المشرق إلى المغرب بريدًا، وقد أخذ بذلك مالك رحمه الله لكن فرق بين حرم الشجر وحرم الصيد، وجعل البريد حرم الشجر وما بين اللابتين حرم الصيد. قال عياض في الإكمال: قال ابن حبيب: تحريم ما بين اللابتين مخصوص بالصيد، قال: وأما قطع الشجر فبريد في بريد في دور المدينة كلها، بذلك أخبرني مطرف عن مالك وهو قول عمر بن عبد العزيز وابن وهب – انتهى. وحكى الباجي في المنتقى مثله عن ابن نافع ونقل ابن زبالة عن مالك أنه قال: الحرم حرمان: فحرم الطير والوحش من حرة واقم – أي وهي الحرة الشرقية، إلى حرة العقيق – أي وهي الغربية – وحرم الشجر بريد في بريد. وقال البرهان بن فرحون: حرم الصيد ما بين حرارها الأربع، وسماها أربعًا لوجود الحرتين المذكورتين في الجهات الأربع، لانعطاف بعض الشرقية والغربية من جهة الشمال والقبلة، ولم يعول أصحابنا في تحديد الحرم على البريد مع ما فيه من الزيادة؛ لأن أدلته ليست بالقوية فعولوا على ما اشتملت عليه الأحاديث الصحيحة من الجبلين واللابتين على أن إطلاق أحاديث التحريم مقترن بعدم الفرق بين حرم الشجر وحرم الصيد سواء كان الحرم بريدًا أو دونه غير أن في أحاديث البريد ما يشعر بأنه للشجر، مع أن ابن زبالة - ومحله من الضعف معلوم – روى عن ابن بشير المازني أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحرم ما بين لابتيها – يعني المدينة – من الصيد، وعن أبي هريرة وغيره نحوه. وفي رواية له: ((من الطير أن يصاد بها)) ، وقد يقال: هو من باب إفراد فرد مما حرم بالذكر. فإن قيل: قوله في حديث مسلم ((حرم ما بين لابتيها وجعل اثني عشر ميلاً حول المدينة حمى، دال على الفرق المذكور، قلنا: ممنوع لأن غايته أن يراد بالحمى الحرم فكأنه قال: وجعل اثني عشر ميلاً حولها حرمًا؛ إذ ليس فيه أنه جعله حمى الشجر – انتهى كلام السمهودي. (فمن أحدث) أي أظهر (فيها) أي في المدينة (حدثًا) بفتحتين أي منكرًا أو بدع وهي ما خالف الكتاب والسنة، وقال العيني: هو الأمر الحادث المنكر الذي ليس بمعتاد ولا معروف في السنة (أو آوى) أي ضم وحمى ومكن وأجار. قال عياض: ويقال: أوى وآوى بالقصر والمد في الفعل اللازم والمتعدي جميعًا، لكن القصر في اللازم أشهر وأفصح، والمد في المتعدي أشهر وأفصح. قال النووي: وبالأفصح جاء القرآن العزيز في الموضعين، قال الله تعالى {أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة} (سورة الكهف الآية: 62) وقال في المتعدي {وآويناهما إلى ربوة} (سورة المؤمنون:

محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل، ذمة المسلمين واحدة ـــــــــــــــــــــــــــــ الآية 52) (محدثًا) بكسر الدال وفتحها على الفاعل والمفعول، فمعنى الكسر: من نصر جانيًا وآواه وأجاره من خصمه وحال بينه وبين أن يقتص منه. ومعنى الفتح هو الأمر المبتدع نفسه. ويكون معنى الإيواء فيه الرضا به والصبر عليه، فإنه إذا رضي ببدعته وأقر فاعله عليها ولم ينكرها فقد آواه، قاله العيني. وقال القاري: بكسر الدال على الرواية الصحيحة أي مبتدعًا، وقيل: أي جانيًا بأن يحول بينه وبين خصمه أن يقتص منه، ويروى بفتح الدال أي أمرًا مبتدعًا، وإيواؤه الرضاء به والصبر عليه فعليه) أي فعلى كل منهما (لعنة الله) أي طرده وإبعاده (والملائكة) أي دعاؤهم عليه بالبعد عن رحمته (والناس أجمعين) قال الحافظ: قوله ((فعليه لعنة الله)) إلخ، فيه جواز لعن أهل المعاصي والفساد لكن لا دلالة فيه على لعن الفاسق المعين. وفيه أن المحدث والمؤوي للمحدث في الإثم سواء. قال عياض: واستدل بهذا على أن الحدث في المدينة من الكبائر لأن اللعنة لا تكون إلا في كبيرة، والمراد بلعنة الملائكة والناس المبالغ في الإبعاد عن رحمة الله، فإن اللعن في اللغة هو الطرد والإبعاد. قال: والمراد باللعن هنا العذاب الذي يستحقه على ذنبه في أول الأمر وليس هو كلعن الكافر الذي يبعد من رحمة الله كل الإبعاد. وقال ابن بطال: دل الحديث على أن من أحدث حدثًا أو آوى محدثًا في غير المدينة أنه غير متوعد بمثل ما توعد به من فعل ذلك بالمدينة وإن كان قد علم أن من آوى أهل المعاصي إنه يشاركهم في الإثم، فإن من رضي فعل قوم وعملهم التحق بهم ولكن خصت المدينة بالذكر لشرفها ولكونها مهبط الوحي وموطن الرسول عليه الصلاة والسلام. ومنها انتشر الدين في أقطار الأرض فكان لها بذلك مزيد فضل على غيرها. وقال غيره: السر في تخصيص المدينة بالذكر أنها كانت إذ ذاك موطن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم صارت موضع الخلفاء الراشدين ((لا يقبل منه صرف ولا عدل) بفتح أولهما، وفي رواية ((لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفًا ولا عدلاً)) ، واختلف في تفسيرهما فعند الجمهور الصرف الفريضة والعدل النافلة، ورواه ابن خزيمة بإسناد صحيح عن الثوري وعن الحسن البصري بالعكس، وعن الأصمعي الصرف التوبة والعدل الفدية، وقيل غير ذلك. قال عياض: معناه لا يقبل قبول رضى وإن قبل قبول جزاء، وقيل يكون القبول هنا بمعنى تكفير الذنب بهما، وقد يكون معنى الفدية هنا أنه لا يجد يوم القيامة فداء يفتدي به بخلاف غيره من المذنبين بأن يفديه من النار بيهودي أو نصراني كما رواه مسلم من حديث أبي موسى الأشعري (ذمة المسلمين) أي عهدهم وأمانهم واحدة) أي إنها كالشيء الواحد لا يختلف باختلاف المراتب، ولا يجوز نقضها لتفرد العاقد بها، وكان الذي ينقض ذمة أخيه كالذي ينقض ذمة نفسه، وهي ما يذم الرجل على إضاعته من عهد وأمان كأنهم كالجسد الواحد الذي إذا اشتكى بعضه اشتكى كله، قاله القاري. وقال الحافظ: ذمة المسلمين واحدة أي أمانهم صحيح فإذا آمن الكافر واحد من المسلمين حرم على غيره التعرض له، وللأمان شروط معروفة، وقال البيضاوي: الذمة العهد سمي بها لأنه يذم متعاطيها

يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل، ومن والى قومًا بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ـــــــــــــــــــــــــــــ على إضاعتها (يسعى بها) أي يتولاها ويلي أمرها (أدناهم) أي أدنى المسلمين مرتبة، والمعنى أن ذمة المسلمين واحدة سواء صدرت من واحد أو أكثر، شريف أو وضيع، فإذا آمن أحد من المسلمين كافرًا وأعطاه ذمة لم يكن لأحد نقضه فيستوي في ذلك الرجل والمرأة والحر والعبد لأن المسلمين كنفس واحدة. قال الحافظ: دخل في قوله ((أدناهم)) كل وضيع بالنص وكل شريف بالفحوى؛ فدخل في ((أدناهم)) المرأة والعبد والصبي والمجنون، فأما المرأة فقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على جواز أمان المرأة إلا شيئًا ذكره عبد الملك يعني ابن الماجشون صاحب مالك لا أحفظ ذلك عن غيره، قال: إن أمر الأمان إلى الإمام وتأول ما ورد مما يخالف ذلك على قضايا خاصة، قال ابن المنذر: وفي قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ((يسعى بذمتهم أدناهم)) دلالة على إغفال هذا القائل – انتهى. وجاء عن سحنون مثل قول ابن الماجشون فقال: هو إلى الإمام إن أجازه جاز وإن رده رد، وأما العبد فأجاز الجمهور أمانه قاتل أو لم يقاتل. وقال أبو حنيفة: إن قاتل جاز أمانه وإلا فلا. وقال سحنون: إذا أذن له سيده في القتال صح أمانه وإلا فلا. وأما الصبي فقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم أن أمان الصبي غير جائز. قلت (قائله الحافظ) : وكلام غيره يشعر بالتفرقة بين المراهق وغيره، وكذلك المميز الذي يعقل، والخلاف عن المالكية والحنابلة، وأما المجنون فلا يصح أمانه بلا خلاف كالكافر، لكن قال الأوزاعي: إن غزا الذمي مع المسلمين فآمن أحدًا فإن شاء الإمام أمضاه وإلا فليرده إلى مأمنه، وحكى ابن المنذر عن الثوري أنه استثنى من الرجال الأحرار الأسير في أرض الحرب فقال: لا ينفذ أمانه وكذلك الأجير (فمن أخفر مسلمًا) بالخاء المعجمة والفاء أي نقض عهد مسلم وأمانه فتعرض لكافر آمنه مسلم. قال أهل اللغة: يقال: أخفرت الرجل إذا نقضت عهده وخفرته بغير همز إذا آمنته، فالهمزة في أخفر للإزالة والسلب نحو اشكيته أي أزلت شكايته فمعنى ((أخفر مسلمًا)) أزال خفرته أي عهده وأمانه (ومن والى قومًا) أي اتخذهم أولياء، وهو يحتمل أن يراد به ولاء المولاة والحلف بأن يكون لرجل موالي فأبطل مولاتهم واتخذ قومًا آخرين موالي بغير إذن مواليه والاستشارة بهم فإن فيه نوعًا من نقض العهد والإيذاء، وقيل المراد من نسب نفسه إليهم كانتمائه إلى غير أبيه، ويحتمل أن يراد ولاء العتاقة وهذا أنسب لما جاء في الرواية الأخرى من أقرانه وذكره مع قوله: ((من ادعى إلى غير أبيه)) يعني من انتسب إلى غير من هو معتق له كان كالدعي الذي ينتسب إلى غير أبيه، قال النووي: معناه أن ينتمي العتيق إلى ولاء غير معتقه وهذا حرام لتفويته حق المنعم عليه. ولأن الولاء كالنسب فيحرم تضييعه كما يحرم تضييع النسب وانتساب الإنسان إلى غير أبيه (بغير إذن مواليه) تنبيه على ما هو المانع وهو إبطال حقهم وأمانتهم وإيراد الكلام على ما هو

لا يقبل منه صرف ولا عدل ". متفق عليه. وفي رواية لهما: " من ادعى إلى غير أبيه، أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل ". ـــــــــــــــــــــــــــــ الغالب في الوقوع لا تقييد الحكم بعدم الإذن حتى يجوز الانتساب بإذنهم. قال النووي: احتج قوم بقوله ((بغير إذن مواليه)) على جواز التولي بإذن مواليه، والصحيح الذي عليه الجمهور أنه لا يجوز وإن أذنوا كما لا يجوز الانتساب إلى غير أبيه وإن أذن أبوه فيه، وحملوا التقييد في الحديث على الغالب لأن غالب ما يقع هذا بغير إذن الموالي فلا يكون له مفهوم يعمل به ونظيره قوله تعالى: {وربائبكم اللاتي في حجوركم} (سورة النساء: الآية 27) ، وقوله تعالى {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق} (سورة الأنعام: الآية 122) وغير ذلك من الآيات التي قيد فيها بالغالب وليس لها مفهوم يعمل به - انتهى. وقال الخطابي: ليس إذن الموالي شرطًا في ادعاء نسب وولاء ليس منه وإليه، وإنما ذكر تأكيدًا للتحريم لأنه إذا استأذنهم في ذلك منعوه وحالوا بينه وبين ما يفعل من ذلك – انتهى. قال الحافظ: وهذا لا يطرد لأنهم قد يتواطؤن معه على ذلك لغرض ما، والأولى ما قال غيره أن التعبير بالإذن ليس لتقييد الحكم بعدم الإذن وقصره عليه، وإنما ورد الكلام بذلك على أنه الغالب – انتهى. قال الحافظ: ويحتمل أن يكون كنى بذلك عن بيعه فإذا وقع بيعه جاز له الانتماء إلى مولاه الثاني وهو غير مولاه الأول، أو المراد موالاة الحلف، فإذا أراد الانتقال عنه لا ينتقل إلا بإذن، وقال البيضاوي: الظاهر أنه أراد به ولاء العتق لعطفه (في الرواية الآتية) على قوله ((من ادعى إلى غير أبيه)) والجمع بينهما بالوعيد، فإن العتق من حيث أنه لحمة كلحمة النسب فإذا نسب إلى غير من هو له كالدعي الذي تبرأ عمن هو منه وألحق نفسه بغيره، فيستحق به الدعاء عليه بالطرد والإبعاد عن الرحمة ثم أجاب عن الإذن بنحو ما تقدم، وقال: ليس هو للتقييد، وإنما هو للتنبيه على ما هو المانع، وهو إبطال حق مواليه، فأورد الكلام على ما هو الغالب (متفق عليه) . أخرجه البخاري في الحج وفي الجهاد وفي الفرائض وفي الاعتصام، ومسلم في الحج وفي العتق، وأخرجه أيضًا أحمد وأبو داود في أواخر الحج والترمذي في الولاء والهبة، والنسائي والطحاوي والبيهقي وغيرهم (وفي رواية لهما) أي للشيخين وفيه أن قوله ((من ادعى إلى غير أبيه)) ليس في رواية البخاري (من ادعى) أي انتسب (إلى غير أبيه) أي المعروف) أو تولى غير مواليه) هذا العطف يؤيد من فسر الموالاة بولاء العتاقة كما تقدم (فعليه لعنة الله) إلخ. قال النووي: هذا صريح في غلظ تحريم انتماء الإنسان إلى غير أبيه أو انتماء العتيق إلى ولاء غير مواليه لما فيه من كفر النعمة وتضييع حقوق الإرث والولاء والعقل وغير ذلك مع ما فيه من قطيعة الرحم والعقوق.

2754 – (2) وعن سعد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إني أحرم ما بين لابتي المدينة: أن يقطع عضاهها أو يقتل صيدها ". ـــــــــــــــــــــــــــــ 2754 – قوله (وعن سعد) أي ابن أبي وقاص أحد العشرة المبشرة (إني أحرم ما بين لابتي المدينة) بتخفيف الموحدة تثنية لابة، وهي الحرة وهي الأرض ذات الحجارة السود كأنها أحرقت بالنار وأراد بهما حرتين تكتفانها وجمع اللابة لوب ولابات ولاب. قال ابن حبيب: هما الحرتان الشرقية والغربية، وللمدينة حرتان حرة بالقبلة (من جهة الجنوب) وحرة بالجرف (من جهة الشمال) فهي حرار أربع لكن يرجع كلها إلى الحرتين الشرقية والغربية لاتصالهما بهما ولذلك جمعها - صلى الله عليه وسلم - في اللابتين. وقال السمهودي: ما بين لابتيها أي حرتيها الشرقية والغربية، والمدينة بينهما، ولها أيضًا حرة بالقبلة وحرة بالشام لكنهما يرجعان إلى الشرقية والغربية لاتصالهما بهما، ولهذا جمعها - صلى الله عليه وسلم - كلها في اللابتين كما نبه عليه الطبري – انتهى. قال الحافظ: قد تكرر ذكر اللابتين في الحديث ووقع في حديث جابر عند أحمد ((وأنا أحرم المدينة ما بين حرتيها)) فادعى بعض الحنفية أن الحديث مضطرب لأنه وقع في رواية ((ما بين جبليها)) وفي رواية ((ما بين لابتيها)) وفي رواية ((مازميها)) وتعقب بأن الجمع بينهما واضح وبمثل هذا لا ترد الأحاديث الصحيحة، فإن الجمع لو تعذر أمكن الترجيح، ولا شك أن رواية ما بين لابتيها أرجح لتوارد الرواة عليها، ورواية جبليها لا تنافيها فيكون عند كل لابة جبل أو لا بتيها من جهة الجنوب والشمال وجبليها من جهة الشرق والغرب، وتسمية الجبلين في رواية أخرى لا تضر، وأما رواية مازميها فهي في بعض طرق أبي سعيد، والمزم بكسر الزاي المضيق بين الجبلين، وقد يطلق على الجبل نفسه كذا قال الحافظ في شرح حديث أنس في باب حرم المدينة. وفيه نظر فإنه ليس عند كل جبل لابة ولا أن لابتيها من جهة الجنوب والشمال وجبليها من جهة المشرق والمغرب بل الحقيقة أن حديث ما بين لابتيها يعني من جهة المشرق والمغرب، فإن من جهة المشرق حرة ومن جهة المغرب أخرى، وحديث ما بين جبليها يعنى الحرتين الجنوبية والشمالية، قال النووي: للمدينة لابتان شرقية وغربية وهي بينهما. قال: والمراد باللابتين الحرتان، قال: وهذه الأحاديث كلها متفقة فما بين لابتيها بيان لحد حرمها من جهتي المشرق والمغرب وما بين جبليها لحده من جهة الجنوب والشمال. وقال الحافظ في باب لابتي المدينة في شرح حديث أبي هريرة (ما بين لابتيها حرام)) : أن المدينة بين لابتين شرقية وغربية ولها لابتان أيضًا من الجانبين الآخرين إلا أنهما يرجعان إلى الأوليين لاتصالهما بهما، والحاصل أن جميع دورها كلها داخل ذلك – انتهى. قال النووي: ومعنى قوله ((ما بين لابتيها، للابتان وما بينهما، والمراد تحريم المدينة ولابتيها يعني أن اللابتين داخلتان أيضًا. قال الأبي: ولعلها بدليل آخر وإلا فلفظ ((بين)) لا يشملهما – انتهى. (أن يقطع) بدل اشتمال من المفعول (عضاهها) بكسر العين المهملة،

وقال: " المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، لا يدعها أحد رغبة عنها ـــــــــــــــــــــــــــــ وهي كل شجر عظيم له شوك كالطلح والعوسج واحدها عضاهة وعضهة وعضه وعضة بحذف الهاء الأصلية كما يحذف من الشفة (وقال: المدينة خير لهم) قال القاري: أي لأهلها من المؤمنين في الدنيا والأخرى، وذلك مطلق إن كان قبل الفتح ومقيد بغير مكة إن كان بعده، أو المراد بالخيرية من جهة بركة المعيشة فلا ينافي بركة الفضيلة الزائدة الثابتة لمكة بالأحاديث الصحيحة الصريحة – انتهى. قلت: احتج ابن رشد بالحديث على تفضيل المدينة على مكة، ولا دليل فيه لأن كونها خيرًا مطلق يصدق بصورة ككونها خيرًا من الشام لا من كل الأرض. وقال السندي في حاشية مسلم: قوله ((المدينة خير لهم)) قال ذلك في ناس يتركون المدينة إلى بعض بلاد الرخاء كالشام وغيره كما سيجيء، وهؤلاء الناس هم المراد بضمير ((لهم)) أي المدينة خير لأولئك التاركين لها من تلك البلاد التي يتركون المدينة لأجلها فلا دليل في الحديث على تفضيل المدينة على مكة كما لا يخفى (لو كانوا يعلمون) أي ما فيها من الخير لما فارقوها وما اختاروا غيرها عليها وما تحولوا للتوسعة في الدنيا، قال السندي: ليس المراد به أنها خير على تقدير العلم، إذ المدينة خير لهم علموا أو لا، بل المراد لو علموا بذلك لما فارقوها، وقد يجعل كلمة لو للتمني لكن قد يقال: كثير منهم يبلغهم الخبر ويفارقونها فأولئك قد علموا بذلك لبلوغهم الخبر ومع ذلك فارقوها فكيف يصح ((لو علموا بذلك لما فارقوها)) ؟ قلت: يمكن دفعه بأن المراد لو علموا بذلك عيانًا وليس الخبر كالمعاينة، أو يقال هو من تنزيل العالم الذي لا يعمل بعلمه بمنزلة الجاهل، كأنه ما علم هذا، وقد يقال: المعنى المدينة خير لهم لو كانوا من أهل العلم، إذ البلدة الشريفة لا ينتفع بها إلا الأهل الشريف الذين يعملون على مقتضى العلم، وأما من ليس من أهل العلم فلا ينتفع بالبلدة الشريفة بل ربما يتضرر، فخيرية البلدة ليست إلا لأهلها، ومن يليق للاقإمة فيها فافهم – انتهى. وقال الأبي: ((لو)) هذه إن كانت امتناعية فجوابها محذوف أي لو كانوا من أهل العلم لعلموا ذلك ولم يفارقوا المدينة، وإن كانت متعدية فالتقدير لو كانوا يعلمون ذلك لما فارقوها، وإن كانت للتمني لم تفتقر إلى جواب، وعلى التقديرين هو تجهيل لمن فعل ذلك لتفويته عن نفسه أجرًا عظيمًا، ولذلك قال: إلا أبدل الله فيها خيراً منهم، كما قال تعالى: {وإن تتولوا يستبدل قومًا غيركم} (سورة محمد: الآية40) ، أي يخلق خلقًا سواكم على خلاف صفتكم من الرغبة في الإيمان (لا يدعها) استئناف مبين أي لا يتركها (أحد) ممن استوطنها (رغبة عنها) أي عن ثواب الساكن فيها، وأما من خرج لضرورة شدة زمان أو فتنة فليس ممن يخرج رغبة عنها. وقال القرطبي والمازري: رغبة عنها أي كراهة لها من رغبت عن الشيء إذا كرهته. وقال الباجي: الظاهر عندي أنه إنما أراد به الخروج عن استيطانها إلى استيطان غيرها، وأما من كان مستوطنًا غيرها يعني من كان وطنه غيرها فقدم عليها طالبًا للقربة بإتيانها ورجع إلى وطنه أو كان مستوطنًا بها فسافر عنها لحاجة أو لضرورة شدة زمان أو فتنة فليس ممن يخرج رغبة عنها –

إلا أبدل الله فيها من هو خير منه، ولا يثبت أحد على لأوائها وجهدها إلا كنت له شفيعًا أو شهيدًا ـــــــــــــــــــــــــــــ انتهى. (إلا أبدل الله فيها) أي في المدينة (من هو خير منه) قال الباجي: بمولود يولد فيها أو بمنتقل ينتقل إليها من غيرها. قيل هذا خاص بزمن حياته - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: دائمًا. ويدل عليه قوله في حديث ((يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه هلم إلى الرخاء، المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون)) . وقال ابن عبد البر: هذا في حياته - صلى الله عليه وسلم - وذلك مثل الأعرابي القائل ((أقلني بيعتي)) ومعلوم أن من رغب عن جواره أبدله الله خيرًا منه، وأما بعد وفاته فقد خرج منها جماعة من أصحابه ولم تعوض المدينة خيرًا منهم. قال الزرقاني: يعني كأبي موسى وابن مسعود ومعاذ وأبي عبيدة وعلي وطلحة والزبير وعمار وحذيفة وعبادة بن الصامت وبلال وأبي الدرداء وأبي ذر وغيرهم، وقطنوا غيرها وماتوا خارجًا عنها ولم تعوض المدينة مثلهم فضلاً عن خير منهم، فدل ذلك على التخصيص بزمنه - صلى الله عليه وسلم -. قال الأبي: الأظهر أن ذلك ليس خاصًا بالزمن النبوي ومن خرج من الصحابة لم يخرج رغبة عنها بل إنما خرج لمصلحة دينية من تعليم أو جهاد أو غير ذلك – انتهى. قال الزرقاني: لا يقال ليس النزاع في أن خروجهم لما ذكر إنما هو في تعويضها بخير منهم، وهذا لم يقع فالأظهر التخصيص لأنا نقول: الإبدال مقيد بالخروج رغبة عنها فلا يرد أن الخارج لمصلحة دينية لم تعوض مثلهم – انتهى. قلت: هذا هو الظاهر بل الصحيح فإن التعويض والإبدال لما كان مقيدًا بترك المدينة والخروج رغبة عنها فلا مانع من حمله على الإطلاق والعموم (ولا يثبت أحد) أي بالصبر (على لأوائها) بالمد بسكون الهمزة الأولى وتبدل ألفًا أي شدة جوعها (وجهدها) بفتح الجيم وقد تضم أي مشقتها مما يجد فيه من شدة الحر وكربة الغربة وأذية من فيها من أهل البدعة لأهل السنة. قال الجوهري: اللأواء الشدة، لكن المراد هنا ضيق المعيشة والقحط لما في أكثر الروايات على لأوائها وشدتها فلابد من الاختلاف في معناهما وإن كان يمكن أن يكون العطف تفسيريًا وتأكيديًا لأن التأسيس أولى، والأصل في العطف التغاير فيحمل اللأواء على ضيق المعيشة والجهد على ما يصيبهم من الحر وعلى ما يصيب المهاجر فيها من وحشة الغربة وغير ذلك، كذا في المرقاة، وشرح المصابيح للتوربشتي. قال الأبي: الحديث خرج مخرج الحث على سكناها فمن لزم سكناها دخل في ذلك ولو لم تلحقه لأواء لأن التعليل بالغالب والمظنة لا يضر فيه التخلف في بعض الصور كتعليل القصر بمشقة السفر (إلا كنت) بصيغة المتكلم (له شفيعًا أو شهيدًا) قال عياض: سئلت قديمًا عن معنى هذا الحديث يعنى أن ((أو)) هذه هل هي للشك أو غيره ولمَ خص ساكن المدينة بالشفاعة هنا مع عموم شفاعته - صلى الله عليه وسلم - وادخاره إياها لأمته؟ قال: وأجبت عنه بجواب شاف مقنع في أوراق اعترف بصوابه كل واقف عليه. قال: وأذكر الآن منه يعنى في شرح مسلم لمعاً تليق بهذا الموضع قال بعض شيوخنا: أو هنا

يوم القيامة ". رواه مسلم. 2755 – (3) وعن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يصبر على لأواء المدينة وشدتها أحد من أمتي إلا ـــــــــــــــــــــــــــــ للشك والأظهر عندنا أنها ليست للشك لأن هذا الحديث رواه جابر بن عبد الله وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبو سعيد وأبو هريرة وأسماء بنت عميس وصفية بنت أبي عبيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا اللفظ، ويبعد اتفاق جميعهم أو رواتهم على الشك وتطابقهم فيه على صيغة واحدة بل الأظهر أنه - صلى الله عليه وسلم - قال هكذا، فإما أن يكون أعلم بهذه الجملة هكذا (أي من الله تعالى) وإما أن يكون أو للقسيم ويكون شهد لبعض أهل المدينة وشفيعًا لباقيهم إما شفيعًا للعاصين وشهيدًا للمطيعين وإما شهيدًا لمن مات في حياته وشفيعاً لمن مات بعده أو غير ذلك، وهذه خصوصية زائدة على الشفاعة لمكانة المذنبين يوم القيامة، وعلى شهادته على جميع الأمة وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في شهداء أحد: أنا شهيد على هؤلاء فيكون لتخصيصهم بهذا كله مزية وزيادة منزلة وحظوة. قال: وقد تكون أو بمعنى الواو فيكون لأهل المدينة شفيعًا وشهيدًا معًا. قال: وقد روي: إلا كنت له شهيدًا وله شفيعًا – انتهى. قال الزرقاني: بالواو رواه البزار من حديث ابن عمر. قال عياض: وإذا جعلنا أو للشك كما قيل فإن كانت اللفظة الصحيحة ((شهيدًا)) اندفع الاعتراض لأنها زائدة على الشفاعة المدخرة المجردة لغيرهم، وإن كانت ((شفيعًا)) فاختصاص أهل المدينة بهذا مع ما جاء من عموهما وادخارها لجميع الأمة أن هذه شفاعة أخرى غير العامة التي هي لإخراج أمته من النار ومعافاة بعضهم منها بشفاعته - صلى الله عليه وسلم - في القيامة وتكون هذه الشفاعة بزيادة الدرجات ورفعها أو تخفيف السيئات أو بما شاء الله من ذلك أو بإكرامهم يوم القيامة بأنواع من الكرامة كإيوائهم إلى ظل العرش أو كونهم في روح أو على منابر أو الإسراع بهم إلى الجنة أو غير ذلك من خصوص الكرامات الواردة لبعضهم دون بعض- انتهى. كذا نقله عنه النووي في شرح مسلم وغيره وأقروه (يوم القيامة) في الحديث إشارة إلى بشارة حسن الخاتمة وتنبيه على أنه ينبغي للمؤمن أن يكون صابرًا بل شاكرًا على إقامته في المدينة ولا ينظر إلى ما في عداها من النعم الصورية لأن العبرة بالنعم الحقيقية الأخروية (رواه مسلم) وأخرجه أيضًا أحمد (ج1: ص 181، 185) والبيهقي (ج 5: ص 197) . 2755- قوله (لا يصبر على لأواء المدينة) أي شدة جوعها (وشدتها) عطف تفسير على قول بعض الشراح، وقال أبو عمر: يعني المدينة والشدة والجوع واللأواء تعذر الكسب وسوء الحال. وقال المازري: اللأواء الجوع وشدة المكسب، وضمير شدتها يحتمل أن يعود على اللأواء ويحتمل أن يعود إلى المدينة. وقال الباجي: اللأواء هو الجوع وتعذر التكسب والشدة يحتمل أن يريد بها اللأواء ويحتمل أن يريد بها كل ما يشتد به سكانها وتعظم مضرته (أحد من أمتي إلا

كنت له شفيعًا يوم القيامة ". رواه مسلم. 2756 – (4) وعنه قال: كان الناس إذا رأوا أول الثمرة جاءوا به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا أخذه قال: " اللهم بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، ـــــــــــــــــــــــــــــ كنت له شفيعًا يوم القيامة) كذا وقع في المشكاة والمصابيح، أي بذكر شفيعًا فقط، وفي صحيح مسلم كنت له شفيعًا يوم القيامة أو شهيدًا. وهكذا عند أحمد والبخاري في الكبير والترمذي، وكذا ذكره الجزري في جامع الأصول (ج 10: ص 199) والظاهر أنه سقط لفظ ((أو شهيدًا)) في المشكاة والمصابيح. وقد تقدم أنهم اختلفوا في هذا فقيل هو مختص بمدة حياته - صلى الله عليه وسلم -، وقال آخرون: هو عام أبدًا، وهذا أصح، حكاه النووي عن عياض وأقره (رواه مسلم) وأخرجه أيضًا أحمد (ج 2: ص 288،) ، والبخاري في التاريخ الكبير (ج2: ص284، 285) والترمذي في فضل المدينة من آخر المناقب. 2756- قوله (كان الناس) أي الصحابة (إذا رأوا أول الثمرة) كذا في المشكاة والمصابيح وجامع الأصول، ولفظ مسلم ((أول الثمر)) أي بغير التاء، وهكذا في الموطأ وجامع الترمذي، والظاهر أن ما وقع في المشكاة والمصابيح وجامع الأصول خطأ، والثمر بفتح المثلثة والميم، وأول الثمر يسمى الباكورة، فالمعنى إذا رأوا باكورة الثمر وهي أول ما يدرك من الفاكهة (جاءوا به) أي بأول الثمر (إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي هدية له - صلى الله عليه وسلم - كما يدل عليه إعطاؤه لوليد. قال العلماء: كانوا يفعلون ذلك رغبة في دعائه - صلى الله عليه وسلم - في الثمر وللمدينة والصاع والمد، وإعلامًا له - صلى الله عليه وسلم - بابتداء صلاحها بما يتعلق بها من الزكاة وغيرها، وتوجيه الخارصين. وقال الأبي: وقيل: إنما كانوا يؤثرونه به على أنفسهم حبًا له، ويرونه أولى الناس بما يسبق إليهم من خير من ربهم. وقال الزرقاني: إما هدية وجلالة ومحبة وتعظيمًا، وإما تبركًا بدعائه لهم بالبركة وهو الذي يغلب على ظني، وسياق الحديث يدل عليه، والمعنيان محتملان، قاله ابن عبد البر. وكذا ذكر هذين الاحتمالين التوربشتي. وقال الباجي: يريد بالثمر ثمر النخل لأنه هو المقصود ثمارها، وأتوا به تبركًا بدعائه وإعلامًا له ببدو الصلاح، إما لما كان يتعلق به من إرسال الخراص ليستحلوا أكلها والتصرف فيها، وإما ليعلموه جواز بيع ثمارهم لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيعها قبل بدوها (فإذا أخذه) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال الزرقاني: زاد في بعض طرق الحديث ((وضعه على وجهه)) أي إظهارًا للفرح والمسرة (اللهم بارك لنا في ثمرنا) بالنماء والزيادة والبقاء (وبارك لنا في مدينتنا أي في ذاتها من جهة سعتها ووسعة أهلها، وقد استجاب الله دعاءه عليه الصلاة والسلام بأن وسع نفس المسجد وما حوله من المدينة وكثر الخلق فيها حتى عد من الفرس المعد للقتال المهيأ بها في زمن عمر أربعون

وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مدنا، ـــــــــــــــــــــــــــــ ألف فرس، والحاصل أن المراد بالبركة هنا ما يشمل الدنيوية والأخروية والحسبة، قاله القاري. وقيل بارك لنا في مدينتنا في أمور أخرى أيضًا سوى الثمار (وبارك لنا في صاعنا) أي فيما يكال به كمية وكيفية (وبارك لنا في مدنا) قال الزرقاني: أي بارك لنا في ما يكال في صاعنا وبارك لنا في ما يكال في مدنا، فحذف المقدر لفهم السامع وهو من باب ذكر المحل وإرادة الحال. قال ابن عبد البر: هذا من فصيح كلامه وبلاغته - صلى الله عليه وسلم -، وفيه استعارة، لأن الدعاء إنما هو للبركة في الطعام المكيل بالصاع والمد لا في الظروف، ويحتمل على ظاهر العموم أن تكون فيهما. وقال القاضي عياض: البركة هنا بمعنى النماء والزيادة وتكون بمعنى الثبات واللزوم، قال: فقيل يحتمل أن تكون هذه البركة دينية، وهي ما تتعلق بهذه المقادير من حقوق الله تعالى في ذكر الزكوات والكفارات فتكون بمعنى الدعاء للثبات والبقاء لها كبقاء الحكم بها ببقاء الشريعة وثباتها، ويحتمل أن تكون دنيوية من تكثير المال والقدر بهذه الأكيال حتى يكفي منه ما لا يكفي من غيره في غير المدينة، أو ترجع البركة إلى التصرف بها في التجارة وأرباحها أو إلى كثرة ما يكال بها من غلاتها وثمارها، أو تكون الزيادة فيما يكال بها لاتساع عيشهم وكثرته بعد ضيقه بما فتح الله عليهم ووسع من فضله لهم وتمليكهم من بلاد الخصب والريف بالشام والعراق ومصر وغيرها حتى كثر الحمل إلى المدينة واتسع عيشهم حتى صارت هذه البركة في الكيل نفسه فزاد مدهم وصار هشاميًا مثل مد النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتين أو مرة ونصفًا. وفي هذا كله ظهور إجابة دعوته - صلى الله عليه وسلم - وقبولها – انتهى كلام القاضي. قال النووي: الظاهر من هذا كله أن المراد البركة في نفس الكيل في المدينة بحيث يكفي المد في المدينة لمن لا يكفيه في غيرها، وهذا أمر محسوس عند من سكنها. قال الطيبي: ولعل الظاهر هو قول عياض ((أو لاتساع عيش أهلها)) إلخ، لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: وأنا أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك إبراهيم لمكة، ودعاء إبراهيم هو قوله {فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون} (إبراهيم: الآية 37) يعني وارزقهم من الثمرات بأن تجلب إليهم من البلاد لعلهم يشكرون النعمة في أن يرزقوا أنواع الثمرات في واد ليس فيه نجم ولا شجر ولا ماء لا جرم أن الله عز وجل أجاب دعوته فجعله حرمًا آمنًا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقًا من لدنه، ولعمري أن دعاء حبيب الله - صلى الله عليه وسلم - استجيب لها وضاعف خيرها على غيرها بأن جلب إليها في زمن الخلفاء الراشدين من مشارق الأرض ومغاربها من كنوز كسرى وقيصر وخاقان ما لا يحصى ولا يحصر، وفي آخر الأمر يأرز الدين إليها من أقاصي الأرض وشاسع البلاد وينصر هذا التأويل قوله في حديث أبي هريرة: أمرت بقرية تأكل القرى، ومكة أيضًا من مأكولها – انتهى. وقال الباجي: يحتمل أن يريد بالبركة بركة

اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك، وإنه دعاك لمكة، وأنا أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه ". ـــــــــــــــــــــــــــــ دنيا وآخرة ففي الدنيا أن يكون الطعام الذي يكتال به تكثر بركته بأن يجزئ منه العدد ما لا يجزئ ما كيل بغيره، أو يبارك في التصرف به على وجه التجارة بمعنى الإرباح أو يريد به المكيل فيكون ذلك دعاؤه في كثرة ثمارهم وغلاتهم، وأما البركة الدنيوية فإنها بهذا الكيل يتعلق كثير من العبادات من أداء زكاة الحبوب والفطر والكفارات – انتهى. قلت: الأرجح عندنا هو ما قاله النووي فإنه هو الظاهر من ألفاظ هذا الحديث، وما ورد في معناه كما لا يخفى على المتأمل. قال القرطبي: إذا وجدت البركة فيها في وقت حصلت إجابة الدعوة ولا يستلزم دوامها في كل حين ولكل شخص، والله أعلم. تنبيه: قال الزرقاني: هل يختص الدعاء المذكور بالمد المخصوص بزمانه - صلى الله عليه وسلم - أو يعم كل مد تعارفه أهل المدينة في سائر الأعصار زاد أو نقص، وهو الظاهر لأنه - صلى الله عليه وسلم - أضافه إلى المدينة تارة وإلى أهلها أخرى، ولم يضفه إلى نفسه الزكية فدل على عموم الدعوة لا على خصوصه بمد النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أفاده بعض العلماء – انتهى. قلت: وإلى الخصوص يظهر ميل البخاري حيث ترجم على حديث أنس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اللهم بارك لهم في مكيالهم وبارك لهم في صاعهم ومدهم)) بلفظ ((باب بركة صاع النبي - صلى الله عليه وسلم - ومده)) (اللهم إن إبراهيم) عليه الصلاة والسلام (عبدك وخليلك) كما قلت: {واتخذ الله إبراهيم خليلاً} سورة النساء الآية 124) . (وإني) أيضًا (عبدك ونبيك) لم يقل ((خليلك)) مع أنه خليل كما صرح به في أحاديث عدة. قال الأبي: رعاية للأدب في ترك المساواة بينه وبين آبائه الكرام. وقال الطيبي: عدم التصريح بذلك مع رعاية الأدب أفخم. قال الزمخشري في قوله تعالى {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات} (سورة البقرة: الآية 254) . الظاهر أنه أراد محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، وفي هذا الإيهام من تفخيم كما لا يخفى. وسئل الحطيئة عن أشعر الناس فقال: زهير والنابغة ولو شئت لذكرت الثالث. أراد نفسه. ولو صرح به لم يفخم أمره (وإنه دعاك لمكة) أي بقوله {فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون} (وأنا) كذلك في جميع نسخ المشكاة، وهكذا عند الترمذي، وفي صحيح مسلم ((وإني)) وهكذا في الموطأ وجامع الأصول والمصابيح (أدعوك) أي أطلب منك (للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله) أي بمثل ذلك المثل (معه) والمعنى بضعف ما دعا إبراهيم عليه الصلاة السلام، ولفظ حديث أنس عند البخاري كما سيأتي في الفصل الثالث ((اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة)) قال القاضي أبو محمد في هذا دليل على فضل المدينة على مكة، لأن تضعيف الدعاء لها إنما هو لفضلها على ما قصر عنها. قال الباجي: والذي عندي أن وجه الدليل من ذلك أن إبراهيم دعا

ثم قال: يدعو أصغر وليد له ـــــــــــــــــــــــــــــ لأهل مكة بما يختص دنياهم فقال: وارزق أهله من الثمرات. وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا لأهل المدينة بمثل ذلك ومثله معه. فيحتمل أن يريد به وبدعاء آخر معه وهو لأمر آخرتهم، فتكون الحسنات تضاعف للمدينة بمثل ما تضاعف بمكة فإنما معنى فضيلة إحدى البقعتين على الأخرى في تضعيف الحسنات. ويحتمل أن يريد أن إبراهيم أيضًا دعا لأهل مكة بأمر آخرتهم وعلم هو - صلى الله عليه وسلم - فدعا بمثل ذلك، وبمثله معه فيعود إلى مثل ما قدمنا ذكره. ويحتمل أن يريد أن إبراهيم دعا لأهل مكة في ثمراتهم ببركة قد أجاب الله دعاءه فيه وأنه - صلى الله عليه وسلم - دعا لأهل المدينة في ثمراتهم أيضًا بمثل ذلك ومثله معه فلا يكون هذا دليلاً على فضل المدينة على مكة في أمر الآخرة، وإنما يدل على أن البركة في ثمارهم مثل البركة في ثمار مكة، إما لقرب تناولها أو لكثرتها أو للبركة في الاقتيات بها أو ليوصل من يقتات بها في المدينة إلى مثلي ما يتوصل به من يقتات في مكة بثمارها – انتهى. وقال الحافظ في شرح حديث أنس المذكور: أي من بركة الدنيا بقرينة قوله في حديث آخر ((اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا)) ويحتمل أن يريد ما هو أعم من ذلك، لكن يستثنى منه ما خرج بدليل كتضعيف الصلاة بمكة على المدينة. واستدل به على تفضيل المدينة على مكة وهو ظاهر من هذه الجهة لكن لا يلزم من حصول أفضلية المفضول في شيء من الأشياء ثبوت الأفضلية له على الإطلاق، أما من ناقض ذلك بأنه يلزم أن يكون الشام واليمن أفضل من مكة لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآخر ((اللهم بارك لنا في شامنا)) وأعادها ثلاثًا فقد تعقب بأن التأكيد لا يستلزم التكثير المصرح به في حديث الباب. وقال ابن حزم: لا حجة في حديث الباب لهم لأن تكثير البركة بها لا يستلزم الفضل في أمور الآخرة لأن البركة أعم من أن تكون في أمور الدين أو الدنيا لأنها بمعنى النماء والزيادة إلى آخر ما قدمنا من كلامه – انتهى. قال الأبي: ولا يعارض دعاءه بالبركة قوله في الحديث الآخر ((أصابهم بالمدينة جهد وشدة)) إذ لا منافاة بين ثبوت الشدة وثبوت البركة فيها وتخلفها عن البعض لا يضر بها كذا أجاب شيخنا، والأظهر أن البركة في تحصيل القوت وأن المد بها يشبع ثلاثة أمثاله بغيرها، فتكون الشدة في تحصيل المد والبركة في تضعيف القوت به. قال الزرقاني: ولعل الأظهر جواب شيخه وهو ابن عرفة – انتهى. وقد تقدم كلام القرطبي أنه إذا وجدت البركة فيها في وقت حصلت إجابة الدعوة ولا يستلزم دوامها في كل حين ولكل شخص (ثم قال) أي أبو هريرة (يدعو) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الفراغ من الدعاء، وفي صحيح مسلم ((قال: ثم يدعو)) وهكذا في المصابيح وجامع الأصول والترمذي، ولفظ الموطأ ((ثم يدعو)) أي بدون لفظة ((قال)) (أصغر وليد) أي مولود، فعيل بمعنى مفعول (له) يعني أصغر طفل من أهل بيته، وفي رواية لمسلم ((ثم يعطيه أصغر من يحضره من الولدان))

فيعطيه ذلك الثمر. رواه مسلم. 2757 – (5) وعن أبي سعيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: " إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حرامًا وإني حرمت المدينة حرامًا ما بين مأزميها، أن لا يهراق فيها دم ـــــــــــــــــــــــــــــ وللترمذي والموطأ ((أصغر وليدًا يراه)) قال القاري: التحقيق أن الروايتين يعني الرواية المطلقة والمقيدة محمولتان على الحالتين، والمعنى أنه إذا كان عنده أو قريبًا منه وليد له أعطاه أو وليد آخر من غير أهله أعطاه، إذ لا شك أنهما لو اجتمعا لشارك بينهما، نعم إذا لم يكن أحد حاضرًا عنده فلا شبهة أنه ينادي أحدًا من أولاد أهله لأنه أحق ببره من غيره (فيعطيه) أي الولد (ذلك الثمر) قال الباجي: يحتمل أن يريد بذلك عظم الأجر في إدخال المسرة على من لا ذنب له لصغره؛ فإن سروره به أعظم من سرور الكبير، وقال أبو عمر: فيه من الآداب وجميل الأخلاق إعطاء الصغير وإتحافه بالطرفة لأنه أولى من الكبير لقلة صبره ولفرحه بذلك. وقال عياض: تخصيصه أصغر وليد يحضره لأنه ليس فيه ما يقسم على الولدان، وأما من كبر منهم فإنه يتخلق بأخلاق الرجال في الصبر ويلوح لي أنه تفاؤل بنماء الثمار وزيادتها لدفعها لمن هو في سن النماء والزيادة كما قيل في قلب الرداء للاستسقاء، وقيل إنما خصهم بذلك للمناسبة الواقعة بين الولدان وبين الباكورة لقربهما من الإبداع أي حدثان عهدهما بالإبداع (رواه مسلم) وأخرجه أيضًا مالك في كتابه الجامع من الموطأ والترمذي في الدعوات. 2757- قوله (وعن أبي سعيد) الخدري (إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام (حرم مكة) أي أظهر تحريمها (فجعلها حرامًا) أي بين كونها حرمًا. وقال في اللمعات: نسبة التحريم إلى إبراهيم باعتبار دعائه وسؤاله ذلك، فلا ينافي ما سبق في حرم مكة من قوله ((إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس)) ، وقد تقدم الكلام في ذلك بالبسط والتفصيل في شرح حديث ابن عباس أول أحاديث باب حرم مكة. وقوله ((حرامًا كذا في المشكاة والمصابيح، وهكذا وقع في جامع الأصول والبيهقي، وفي نسخ مسلم الموجودة عندنا ((حرمًا)) (وإني حرمت المدينة حرامًا ما بين مازميها) حرامًا نصب على المصدر إما لحرمت على غير لفظه، أو على حذف الزوائد، أي لفعل مقدر والتقدير إني حرمت المدينة فحرمت حرامًا، ومثله قوله سبحانه وتعالى {والله أنبتكم من الأرض نباتًا} (سورة نوح: الآية 17) وما بين مازميها يكون بدلاً عنها، ويحتمل أن يكون ((حرامًا)) مفعولاً ثانيًا لفعل محذوف ((وما بين مازميها)) مفعولاً أول، والتقدير وجعلت ما بين ما زميها حرامًا، والمأزم بهمزة بعد الميم وبكسر الزاي وهو الجبل، وقيل المضيق بين الجبلين ونحوه والأول هو الصواب هنا ومعناه ما بين جبليها، قاله النووي (أن لا يهراق) بسكون الهاء وتفتح أي بأن لا يراق (فيها دم) لأن إراقة دم المسلم فيها أقبح من غيرها، قيل: إن قوله ((أن لا يهراق)) وقع موقع التفسير لما حرم كأنه

ولا يحمل فيها سلاح لقتال ولا تخبط فيها شجرة إلا لعلف ". رواه مسلم. 2758 – (6) وعن عامر بن سعد، أن سعدًا ركب إلى قصره بالعقيق، فوجد عبدًا يقطع شجرًا أو يخبطه فسلبه، فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم أو عليهم ما أخذ من غلامهم. فقال: معاذ الله أن أرد شيئًا نفلنيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبى أن يرد عليهم. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: هو أن لا يهراق بها دم وليس من المفعولية في شيء إذ لو كان متعلقًا لقوله ((إني حرمت)) لكان من حقه أن يقول أن يهراق بها دم، وقيل: إنه مفعول ((حرمت)) على زيادة ((لا)) مثل لئلا يعلم أهل الكتاب. أي لكي يعلم، أو على المفعول له أي لئلا يهراق، قال القاري: والمراد من نهي إراقة الدم النهي عن القتال المفضي إلى إراقة الدم، لأن إراقة الدم الحرام منوع عنه على الإطلاق، والمباح منه لم نجد فيه اختلافًا يعتد به عند العلماء إلا في حرم مكة، وقيل لا يسفك دم حرام لأن سفك الدم الحرام في مكة والمدينة أشد تحريمًا، وقوله (ولا يحمل فيها سلاح) بكسر السين (لقتال) يؤيد القول الثاني، لأن التأسيس أولى من التأكيد (ولا تخبط) بالتأنيث والتذكير (فيها شجرة) أي لا تضرب ليسقط أوراقها (إلا لعلف) قال النووي: هو بإسكان اللام وهو مصدر علفت علفًا، وأما العلف بفتح اللام فاسم للحشيش والتبن والشعير ونحوها، وفيه جواز أخذ أوراق الشجر للعلف وهو المراد هنا بخلاف خبط الأغصان وقطعها فإنه حرام (رواه مسلم) مطولاً، وكذا البيهقي (ج 5: ص 201) . 2758- قوله (وعن عامر بن سعد) أي ابن أبي وقاص أحد العشرة المبشرة (أن سعدًا) هو أبوه (ركب إلى قصره بالعقيق) اسم موضع قريب من المدينة، وقال ابن حجر: قريب من ذي الحليفة فكأنه من طرفها (يقطع شجرًا) أي شجر حرم المدينة (أو يخبطه) بكسر الباء أي يخبط ورق شجر بضرب أو رمي جحر (فسلبه) أي أخذ ثيابه والسلب بفتحتين المسلوب (فلما رجع سعد (أي إلى المدينة (أو عليهم) شك من الراوي (معاذ الله) بفتح الميم مصدر لفعل مقدر أي أعوذ بالله معاذاً (نفّلنيه) بتشديد الفاء أي جعله لي نفلاً بالتحريك أو أعطانيه نفلاً أي غنيمة بإذنه لكل من رأى صائداً أو قاطع شجر أن يأخذ سلبه (وأبى أن يرد عليهم) قال النووي: هذا الحديث صريح في الدلالة لمذهب مالك والشافعي وأحمد والجماهير في تحريم صيد المدينة وشجرها كما سبق، وخالف فيه أبو حنفية كما قدمناه عنه، وقد ذكر مسلم في صحيحه تحريمها مرفوعًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من رواية علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وأنس بن مالك وجابر بن عبد الله وأبي سعيد وأبي هريرة وعبد الله بن عبيد ورافع بن خديج وسهل بن حنيف وذكره غيره من رواية غيرهم أيضًا فلا يلتفت إلى من خالف هذه الأحاديث الصحيحة المستفيضة. وفي هذا الحديث دلالة لقول الشافعي القديم

رواه مسلم. 2759 – (22) وعن عائشة، قالت: لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، ـــــــــــــــــــــــــــــ أن من صاد في حرم المدينة أو قطع من شجرها أخذ سلبه، وبهذا قال سعد بن أبي وقاص وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم. قال القاضي عياض: ولم يقل به أحد بعد الصحابة إلا الشافعي في قوله القديم وخالفه أئمة الأمصار. قلت (قائله النووي) : ولا تضر مخالفتهم إذا كانت السنة معه، وهذا القول القديم هو المختار لثبوت الحديث فيه وعمل الصحابة على وفقه، ولم يثبت له دافع، قال أصحابنا: فإذا قلنا بالقديم ففي كيفية الضمان وجهان أحدهما يضمن الصيد والشجر والكلأ كضمان حرم مكة، وأصحهما وبه قطع جمهور المفرعين على هذا القديم أنه يسلب الصائد وقاطع الشجر والكلأ، وعلى هذا في المراد بالسلب وجهان أحدهما أنه ثيابه فقط، وأصحهما وبه قطع الجمهور أنه كسلب القتيل من الكفار فيدخل فيه فرسه وسلاحه ونفقته وغير ذلك مما يدخل في سلب القتيل وفي مصرف السلب ثلاثة أوجه لأصحابنا أصحها أنه للسالب وهو الموافق لحديث سعد، والثاني أنه لمساكين المدينة، والثالث لبيت المال، وإذا سلب أخذ جميع ما عليه إلا ساتر العورة، وقيل يؤخذ ساتر العورة أيضًا، قال أصحابنا: ويسلب بمجرد الاصطياد سواء أتلف الصيد أم لا – انتهى. هذا وقد تقدم أن حديث تحريم المدينة وحديث السلب منسوخ أو مؤول عند الحنفية، وتقدم الجواب أيضًا عن ذلك (رواه مسلم) وأخرجه أيضًا أحمد (ج 1: ص 168، 170) والبيهقي (ج 5: ص 199) وأخرج أبو داود والحاكم (ج 1: ص 486) والبيهقي أيضًا (ج 5: ص 199) نحوه. 2759- قوله (لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة) في الهجرة يوم الاثنين لثنتي عشرة خلت من ربيع الأول في أحد الأقوال قاله الزرقاني، وفي رواية البخاري في آخر الحج ((قالت: وقدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله)) بالهمز بوزن أفعل من الوباء والوباء مقصور بهمز وبغير همز وهو المرض العام. وقد أطلق بعضهم على الطاعون أنه وباء لأنه من أفراده لكن ليس كل وباء طاعونًا. قال الحافظ: الوباء أعم من الطاعون، وحقيقته مرض عام ينشأ عن فساد الهواء، وقد يسمى طاعونًا بطريق المجاز. وفي رواية مسلم ((قدمنا المدينة وهي وبيئة)) بهمزة ممدودة يعنى ذات وباء. قال الحافظ: وما كان وباء المدينة إلا حمى كما هو مبين في حديث عائشة. قال: وزاد محمد بن إسحاق في روايته عن هشام بن عروة قال هشام: وكان وباؤها معروفًا في الجاهلية، وكان الإنسان إذا دخلها وأراد أن يسلم من وبائها قيل له: إنهق فينهق كما ينهق الحمار وفي ذلك يقول الشاعر: لعمري لئن غنبت من خيفة الردى _ ... نهيق حمار إنني لمروع انتهى. قال عياض: قدومه - صلى الله عليه وسلم - على الوباء مع صحة نهيه عنه لأن النهي إنما هو في الموت الذريع والطاعون، والذي

وعك أبو بكر وبلال، فجئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، ـــــــــــــــــــــــــــــ بالمدينة إنما كان وخمًا يمرض بسببه كثير من الغرباء، يعني أن المنهي عنه إنما هو في القدوم على الوباء الذريع والطاعون وما كان بالمدينة ليس كذلك، وإنما كان مجرد حمى تشتد وتطول مدتها بالنسبة إلى الغرباء ولا يغلب الموت بسببها، قال عياض: أو أن قدومه المدينة كان قبل النهي، لأن النهي كان في المدينة بعد استيطانها – انتهى. وقال الحافظ: لا يعارض قدومه على المدينة وهي بهذه الصفة نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن القدوم على الطاعون لأن ذلك قبل النهي، أو أن النهي يختص بالطاعون ونحوه من الموت الذريع لا المروض لو عم (وُعِك) بضم الواو وكسر العين على صيغة المجهول أي أصابه الوعك وهو الحمى، وقيل هو مغث الحمى وهو ممارستها المحموم حتى تصرعه (أبو بكر) الصديق (وبلال) وغيرهما كما سيأتي. قال الحافظ في حديث البراء عند البخاري في الهجرة أن عائشة أيضًا وعكت وكان وصولها إلى المدينة مع آل أبي بكر هاجر بهم أخوها عبد الله وخرج زيد بن حارثة وأبو رافع ببنتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فاطمة وأم كلثوم وأسامة بن زيد وأمه أم أيمن وسودة بنت زمعة وكانت رقية بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - سبقت مع زوجها عثمان وأخرت زينب وهي الكبرى عند زوجها أبي العاص بن الربيع. قال الزرقاني: وعند النسائي وابن إسحاق عن هشام عن أبيه عنها: لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي أوبأ أرض الله أصاب أصحابه منها بلاء وسقم، وصرف الله ذلك عن نبيه وأصابت أبا بكر وبلالاً وعامر بن فهيرة، فاستأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عيادتهم وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب فأذن لي فدخلت عليهم وهم في بيت واحد (فجئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته) أي بما صدر عن أبي بكر رضي الله عنه حين قلت له: يا أبت كيف تجدك وقد أخذته الحمى يقول: كل امرئٍ مصبح في أهله _ ... والموت أدني من شراك نعله وبما قال بلال إذ أقلع عنه الحمى يرفع صوته فيقول: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة _ ... بواد وعندي إذخر وجليل وهل أردن يوماً مياه مجنة _ ... وهل تبدون لي شامة وطفيل قال ابن عبد البر: إذخر وجليل نبتان من الكلأ طيب الرائحة يكونان بمكة وأوديتها لا يكادان يوجدان في غيرها وقيل: ((الجليل)) نبت ضعيف صفراء يحشى بها خصاص البيوت وغيرها، و ((مجنة)) بفتح الميم وكسر الجيم وتشديد النون موضع بأعلى مكة على أميال كان يقام للعرب بها سوق وبعضهم يكسر ميمها والفتح أكثر، وهي زائدة، و ((شامة وطفيل)) جبلان على نحو ثلاثين ميلاً من مكة في وجهة اليمن، وقيل جبلان مشرفان على مجنة على بريدين من مكة، وقيل عينان عندها، قال الزرقاني: وجمع باحتمال أن العينين بقرب الجبلين أو فيهما، وحاصل ما قال بلال: أنه كان

فقال: " اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وصححها وبارك لنا في صاعها ومدها، وانقل حماها فاجعلها بالجحفة ". ـــــــــــــــــــــــــــــ يذكر مكة وصحة هوائها وعذوبة مائها ولطافة جبالها ونباتها ونفحة رياح نباتها الذي بمنزلة بناتها وأبنائها. وعند ابن إسحاق: فذكرت ذلك فقلت: يا رسول الله إنهم ليهذون وما يعقلون من شدة الحمى ((اللهم حبب) بصيغة الأمر من التحبيب (المدينة) بالنصب على المفعولية (كحبنا مكة أو أشد) من حب مكة أيضًا. قال الزرقاني: فاستجاب الله دعاءه فكانت أحب إليه من مكة كما جزم به بعضهم وكان يحرك دابته إذا رأى المدينة من حبها – انتهى. وقال القاري: أو أشد أي بل أكثر وأعظم، ويؤيده أنه في رواية ((وأشد)) قال: ولا ينافي هذا ما سبق أنه عليه الصلاة والسلام قال لمكة: " إنك أحب البلاد إليَّ وإنك أحب أرض الله إلى الله. وفي رواية: لقد عرفت أنك أحب البلاد إلى الله وأكرمها على الله. فإن المراد به المبالغة أو لأنه لما أوجب الله على المهاجرين مجاورة المدينة وترك التوطن والسكون بمكة طلب من الله أن يزيد محبة المدينة في قلوب أصحابه لئلا يميلوا بأدنى الميل غرضًا به؟ إذ المراد بالمحبة الزائدة الملاءمة لملاذ النفس ونفي مشاقها لا المحبة المرتبة على كثرة المثوبة فالحيثية مختلفة، ويؤيد ما قررناه قوله (وصححها) أي المدينة من الوباء. قال القاري: أي اجعل هواءها وماءها صحيحًا (وبارك لنا في صاعها ومدها) تقدم الكلام على هذا. قال الزرقاني: فاستجاب الله تعالى دعاءه فطيب هواءها وترابها ومساكنها والعيش بها. قال ابن بطال وغيره: من أقام بها يجد من تربها وحيطانها رائحة طيبة لا تكاد توجد في غيرها. قال بعضهم: وقد تكرر دعاءه بتحبيبها والبركة في ثمارها، والظاهر أن الإجابة حصلت بالأول والتكرير لطلب المزيد (وانقل) أي حول (حماها) أي وبائها وشدتها وكثرتها (فاجعلها بالجحفة) بضم الجيم وسكون الحاء أحد المواقيت المشهورة وقد تقدم ذكرها في حديث المواقيت. قال الخطابي وغيره: كان ساكنوا الجحفة في ذلك الوقت يهودًا وهم أعداء الإسلام والمسلمين، ولذا توجه دعاءه - صلى الله عليه وسلم - عليهم ففيه جواز الدعاء على الكفار بالأمراض والهلاك وللمسلمين بالصحة وطيب بلادهم والبركة فيها وكشف الضر والشدائد عنهم، وفيه إظهار معجزة عجيبة فإنها من يومئذ وبيئة لا يشرب أحد من مائها إلا حم ولا يمر بها طائر إلا حم وسقط. وقال عياض: فيه معجزة له - صلى الله عليه وسلم - فإن الجحفة من يومئذ وبيئة وخمة لا يشرب أحد من مائها إلا حم أي من الغرباء الداخلين عليها. قال السمهودي: والموجود الآن من الحمى بالمدينة ليس حمى الوباء بل رحمة ربنا ودعوة نبينا للتكفير. قال: وفي الحديث ((أصح المدينة ما بين حرة بني قريظة والعريض)) وهو يؤذن ببقاء شيء منها بها، وأن الذي نقل عنها أصلاً ورأسًا سلطانها وشدتها ووباءها وكثرتها بحيث لا يعد الباقي بالنسبة إليه شيئًا. قال: ويحتمل أنها رفعت بالكلية ثم أعيدت خفيفة لئلا يفوت ثوابها كما أشار إليه الحافظ ابن حجر، ويدل له ما روى أحمد برجال الصحيح وأبو يعلى

متفق عليه. 2760 – (8) وعن عبد الله بن عمر في رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة: " رأيت امرأة سوداء ثائرة الرأس، خرجت من المدينة حتى نزلت مهيعة، فتأولتها: أن وباء المدينة نقل إلى مهيعة ـــــــــــــــــــــــــــــ وابن حبان في صحيحه والطبراني عن جابر: استأذنت الحمى على رسول الله فقال من هذه؟ فقالت: أم ملدم. فأمر بها إلى أهل قباء فبلغوا ما لا يعلمه إلا الله فشكوا ذلك إليه، فقال: ما شئتم دعوت الله ليكشفها عنكم وإن شئتم تكون لكم طهورًا، قالوا: أو تفعل؟ قال: نعم، قالوا: فدعها – انتهى. قال الحافظ: وقد استشكل بعض الناس الدعاء برفع الوباء لأنه يتضمن الدعاء برفع الموت، والموت حتم مقضي فيكون ذلك عبثًا، وأجيب بأن ذلك لا ينافي التعبد بالدعاء لأنه قد يكون من جملة الأسباب في طول العمر أو رفع المرض، وقد تواترت الأحاديث بالاستعاذة من الجنون والجذام وسيء الأسقام ومنكرات الأخلاق والأهواء والأدواء، فمن ينكر التداوي بالدعاء يلزمه أن ينكر التداوي بالعقاقير ولم يقل بذلك إلا شذوذ والأحاديث الصحيحة ترد عليهم، وفي الالتجاء إلى الدعاء مزيد فائدة ليست في التداوي بغيره لما فيه من الخضوع والتذلل للرب سبحانه بل منع الدعاء من جنس ترك الأعمال الصالحة اتكالاً على ما قدر فيلزم ترك العمل جملة، ورد البلاء بالدعاء كرد السهم بالترس وليس من شرط الإيمان بالقدر أن لا يتترس من رمي السهم والله أعلم. (متفق عليه) أخرجه البخاري في آخر الحج وفي الهجرة وفي المرضى، ومسلم في الحج وأخرجه أيضًا مالك في كتاب الجامع والنسائي في الطب. 2760 – قوله (وعن عبد الله بن عمر في رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة رأيت امرأة سوداء) قال الطيبي: أي قال في حديث رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأن المدينة رأيت، فيكون رأيت، حكاية ابن عمر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهى. وقال الحافظ: قوله ((رأيت)) حذف منه ((قال)) خطأ والتقدير ((قال رأيت)) وثبت في رواية الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان عن المقدمي شيخ البخاري فيه، ولفظه عن رؤيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المدينة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلخ. (ثائرة الرأس أي منتشرة شعر الرأس من ثار الشيء إذا انتشر، وفي رواية عند أحمد وأبي نعيم ((ثائرة الشعر)) والمراد شعر الرأس، وزاد ((تفلة)) بفتح المثتاة وكسر الفاء بعدها لام أي كريهة الرائحة (خرجت من المدينة) بدعائه - صلى الله عليه وسلم - (حتى نزلت مَهْيَعة) بفتح الميم وسكون الهاء بعدها ياء آخر الحروف مفتوحة ثم عين مهملة، وقيل بوزن عظيمة يقال: أرض مهيعة أي مبسوطة واسعة، وقوله مهيعة كذا في المشكاة والمصابيح، ولفظ البخاري ((بمهيعة)) أي بزيادة حرف الجار في أولها، قال القسطلاني ولابن عساكر مهيعة بإسقاط الموحدة (فتأولتها) ولأبي ذر عن الكشميهني ((فأولتها)) بإسقاط الفوقية بعد الفاء، والتأويل تفسير الشيء بما يؤل إليه (أن وباء المدينة نقل إلى مهيعة) قال القاري: يقال:

وهي الجحفة ". رواه البخاري. 2761 – (9) وعن سفيان بن أبي زهير، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " يفتح اليمن ـــــــــــــــــــــــــــــ أرض مهيعة أي مبسوطة، وبها كانت تعرف فلما ذهب السيل بأهلها سميت جحفة، فقوله: (وهي الجحفة) تفسير من بعض الرواة. وقال الحافظ: وأظن قوله ((وهي الجحفة)) مدرجًا من قول موسى بن عقبة أي راوي الحديث عن سالم بن عبد الله عن أبيه فإن أكثر الروايات خلا عن هذه الزيادة، وثبتت في رواية سليمان وابن جريج عن موسى ابن عقبة – انتهى. وهذه الرؤيا كما قاله المهلب من قسم الرؤيا المعبرة وهي مما ضرب به المثل، ووجه التمثيل أنه شق من اسم السوداء السوء والداء فتأول خروجها بما جمع اسمها وتأول ثوران شعر رأسها أن الذي يسوء ويثير الشر يخرج من المدينة، وقيل لما كانت الحمى مثيرة للبدن بالاقشعرار وارتفاع الشعر عبر عن حالها في النوم بارتفاع شعر رأسها، فكأنه قيل الذي يسوء ويثير الشر يخرج من المدينة. قال الزرقاني بعد ذكر هذا الحديث: ولا مانع من تجسم الأعراض خرقًا للعادة ليحصل لهم الطمأنينة لإخراجها وفي رواية ((قدم إنسان من طريق مكة فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: هل لقيت أحدًا؟ قال: لا إلا امرأة سوداء عريانة فقال - صلى الله عليه وسلم -: " تلك الحمى ولن تعود بعد اليوم)) قال السمهودي: والموجود الآن بالحمى بالمدينة ليس حمى الوباء بل رحمة ربنا، إلى آخر ما تقدم من كلامه (رواه البخاري) في الرؤيا، وأخرجه أيضًا أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة في الرؤيا. 2761 – قوله (وعن سفيان بن أبي زهير) بضم الزاي المعجمة وفتح الهاء مصغرًا الأزدي الشنوي من أزد شنؤة بفتح المعجمة وضم النون وبعد الواو همزة مفتوحة، وفي النسب كذلك وقيل بفتح النون بعدها همزة مكسورة بلا واو، ويقال فيه النمري لأنه من ولد النمر بن عثمان، صحابي نزل المدينة، له خمسة أحاديث، اتفقا على حديثين أحدهما في اقتناء الكلب رواه عنه السائب بن يزيد والآخر في فضل المدينة رواه عنه عبد الله بن الزبير وهو الذي نحن في شرحه، ورواية ابن الزبير والسائب بن يزيد عنه تدل على جلالته وقدم مرتبته، قيل اسم أبيه أبي زهير القرد بفتح القاف وكسر الراء بعدها مهملة، ولذا يقال له ابن القرد، وقيل اسم أبيه نمير (يفتح) بالتذكير والتأنيث مبنيًا للمفعول (اليمن) نائب الفاعل، وسمي اليمن لأنه عن يمين القبلة أو عن يمين الشمس أو بيمن بن قحطان، وقوله ((يفتح اليمن)) إلخ، كذا وقع في رواية للشيخين البداءة بذكر اليمن ثم ذكر الشام ثم العراق، لكن عند مسلم بلفظة ((ثم)) وعند البخاري بالواو، ووقع في رواية وكيع عن هشام عن أبيه عن ابن الزبير عند مسلم البداءة بذكر الشام ثم ذكر اليمن ثم العراق مرتبًا بلفظة ثم، والأرجح ما وقع في البخاري. قال الزرقاني: هذا من أعلام نبوته - صلى الله عليه وسلم - حيث أخبر بفتح هذه الأقاليم وأن الناس يتحملون بأهليهم ويفارقون المدينة فكان ما قاله على ترتيب ما قال لكن في رواية لمسلم وغيره تفتح الشام ثم اليمن ثم

فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ـــــــــــــــــــــــــــــ العراق، والظاهر أن اليمن قبل الشام للاتفاق على أنه لم يفتح شيء من الشام في الزمن النبوي فرواية تقديم الشام على اليمن معناها أن استيفاء فتح اليمن إنما كان بعد الشام – انتهى. وقال ابن عبد البر: افتتحت اليمن في أيام النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي أيام أبي بكر وافتتحت الشام بعدها والعراق بعدها، وفي هذا الحديث علم من أعلام النبوة فقد وقع على وفق ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى ترتيبه، ووقع تفرق الناس في البلاد بما فيها من السعة والرخاء ولو صبروا على الإقامة بالمدينة لكان خيرًا لهم، وفي هذا الحديث فضل المدينة على البلاد المذكورة وهو أمر مجمع عليه، وفيه دليل على أن بعض البقاع أفضل من بعض ولم يختلف العلماء في أن للمدينة فضلاً على غيرها، وإنما اختلفوا في الأفضلية بينها وبين مكة، كذا في الفتح (فيأتي قوم) من أهل المدينة. قال القاري: أي فيذهبون إلى اليمن فيعجب بعضًا بلادهم وهينة عيشهم فيحملهم على المهاجرة إليها بأنفسهم وأهاليهم فيأتون (يبسون) بفتح التحتية وكسر الموحدة وتشديد المهملة وعن ابن القاسم بضم الموحدة فهو من باب ضرب ونصر ثلاثيًا ويقال أيضًا بضم التحتية وكسر الموحدة من الثلاثي المزيد فحصل في ضبطه ثلاثة أوجه يقال: أبسست الدابة وبسستها أي سقتها يعني يسوقون دوابهم إلى المدينة (فيتحملون) أي يرتحلون من المدينة إلى اليمن المفتتحة. قال الحافظ: ((يبسون)) بفتح أوله وضم الموحدة وبكسرها من بس يبس. قال أبو عبيد: معناه يسوقون دوابهم، والبس سوق الإبل، يقال: بس بس عند السوق وإرادة السرعة، وقال الداودي: معناه يزجرون دوابهم فيبسون ما يطؤنه من الأرض من شدة السير فيصير غبارًا قال تعالى {وبست الجبال بسًا} (سورة الواقعة: الآية 5) أي سالت سيلاً، وقيل: معناه سارت سيرًا، وقال ابن القاسم: البس المبالغة في الفت ومنه قيل للدقيق المصنوع بالدهن بسيس، وانكر ذلك النووي وقال: إنه ضعيف أو باطل، قال ابن عبد البر: وقيل: معنى يبسون يسألون عن البلاد ويستقرءون أخبارها ليسيروا إليها. قال: وهذا لا يكاد يعرفه أهل اللغة. وقيل: معناه يزينون لأهلهم البلاد التي تفتح ويدعونهم إلى سكانها فيتحملون بسبب ذلك من المدينة راحلين إليها. ويشهد لهذا المعنى حديث أبي هريرة عند مسلم: يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه هلم إلى الرخاء والمدينة خير لهم لو كانوا يعملون. وعلى هذا فالذين يتحملون غير الذين يبسون كأن الذي حضر الفتح أعجبه حسن البلد ورخاؤها فدعا قريبه إلى المجيء إليها لذلك فيتحمل المدعو بأهله وأتباعه، قال ابن عبد البر: وروى يبسون بضم أوله من أبس إبساسًا، ومعناه يزينون لأهلهم البلدة التي يقصدونها وإلى هذا ذهب ابن وهب، وقال النووي: الصواب أن معناه الإخبار عمن خرج من المدينة متحملاً بأهله باسًا في سيره مسرعًا إلى الرخاء في الأمصار التي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بفتحها. قال الحافظ:

ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، ويفتح الشام فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون، ويفتح العراق فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون ". متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ويؤيده رواية ابن خزيمة من طريق أبي معاوية عن هشام في هذا الحديث بلفظ ((تفتح الشام فيخرج الناس من المدينة إليها يبسون والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون)) . ويوضح ذلك ما رواه أحمد من حديث جابر أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ليأتين على أهل المدينة زمان ينطلق الناس منها إلى الأرياف يلتمسون الرخاء فيجدون رخاء ثم يأتون فيتحملون بأهليهم إلى الرخاء والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ". وفي إسناده ابن لهيعة ولا بأس به في المتابعات وهو يوضح ما قلناه – انتهى. (ومن أطاعهم) عطف على أهليهم أي انقاد لهم من الأجانب في السفر معهم إلى اليمن (والمدينة) أي والحال أن المدينة (خير لهم) أي من اليمن لأنها حرم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومهبط الوحي ومنزل البركات الدنيوية والأخروية، وقيل لأنها لا يدخلها الدجال ولا الطاعون، وقيل لأن الفتن فيها دونها في غيرها، وقيل لفضل مسجدها والصلاة فيه ومجاورة القبر الشريف (لو كانوا يعلمون) أي بما فيها من الفضائل والخيرات والفوائد الدينية والدنيوية لما فارقوها ولما اختاروا عليها غيرها من البلاد، قال الشيخ سلام الله الدهولي في المحلى: أو المعنى لو كانوا علماء يعلمون أن إقامتهم بالمدينة أولى فعلى الأول مفعول العلم محذوف وعلى الثاني هو منزل منزلة اللازم. قال الحافظ: ويحتمل أن تكون لو بمعنى ليت فلا يحتاج إلى تقدير وعلى الوجهين ففيه تجهيل لمن فارقها وآثر غيرها (ويفتح) بالوجهين وفي رواية ابن جريج عن هشام عند مسلم ثم يفتح (الشام) سمي بذلك لأنه عن شمال الكعبة، وأنكر ياقوت الحموي تسميتها بأنها شامة القبلة، قال: هذا فاسد لأن القبلة لا يمين لها ولا شامة ثم بسط الأقوال في وجه تسميتها. (ويفتح) بالوجهين، وقال القاري بالتذكير فقط، وفي رواية ابن جريج ((ثم يفتح)) (العراق)) قال ابن الأعرابي: سمي بذلك لأنه سفل عن نجد ودنا من البحر أخذ من عراق القربة وهو الخرز الذي في أسفلها. وقال الخليل: العراق شاطئ البحر سمي بذلك لأنه على شاطئ دجلة والفرات مدًا حتى يتصل بالبحر على طوله، قال: وهو مشبه بعراق القربة كذا في معجم البلدان (فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم) من الناس راحالين إلى العراق مسرعين (والمدينة خير لهم) من العراق (لو كانوا يعلمون) ذلك، والواو في قوله ((والمدينة)) في الثلاثة للحال (متفق عليه) أخرجاه في أواخر الحج وأخرجه أيضًا أحمد (ج 5: ص 219، 220) ومالك في الجامع والنسائي في الحج، وروى أحمد قصة في أوله من طريق بسر بن سعيد أنه سمع في مجلس الليثيين يذكرون أن سفيان بن أبي زهير أخبرهم أن فرسه أعيت بالعقيق وهو في

2762 – (10) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أمرت بقرية تأكل القرى ـــــــــــــــــــــــــــــ بعث بعثهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجع إليه يستحمله فخرج معه يبتغي له بعيرًا فلم يجد إلا عند أبي جهم بن حذيفة العدوي فسامه له فقال له أبو جهم: لا أبيعكه يا رسول الله ولكن خذه فاحمل عليه من شئت، فزعم أنه أخذه منه ثم خرج حتى إذا بلغ بئر إهاب قال: " يوشك البنيان أن يأتي هذا المكان ويوشك الشام أن يفتح فيأتي رجال من أهل هذا البلد فيعجبهم ريعه ورخاؤه والمدينة خير لهم.. " – الحديث. 2762- قوله (أمرت) بضم الهمزة على بناء المجهول أي أمرني ربي (بقرية) أي بالهجرة إلى قرية والنزول فيها أو بالمقام في قرية واستيطانها. قال الحافظ: أي أمرني ربي بالهجرة إليها أو سكناها، فالأول محمول على أنه قاله بمكة والثاني على أنه قاله بالمدينة – انتهى. وفيه أنه لا مانع من حمله على الشق الأول أيضًا على أنه قال ذلك بالمدينة حكاية للأمر السابق الذي وقع بمكة (تأكل القرى) بضم القاف جمع قرية أي تغلبها وتظهر عليها، والمعنى أن أهلها تغلب على أهل سائر البلاد فتفتح منها فكنى بالأكل عن الغلبة لأن الآكل غالب على المأكول، وقال التوربشتي: الأصل في الأكل للشيء الإفناء له ثم استعير لافتتاح البلاد وسلب الأموال فكأنه قال: يأكل أهلها القرى وأضاف الأكل إليها لأن أموال تلك البلاد تجمع إليها فيفنى فيها. ووقع في موطأ ابن وهب ((قلت لمالك: ما تأكل القرى؟ قال: تفتح القرى لأن من المدينة افتتحت القرى كلها بالإسلام)) وبسطه ابن بطال فقال: معناه يفتح أهلها القرى فيأكلون أموالهم ويسبون ذراريهم. قال: وهذا من فصيح الكلام، تقول العرب: أكلنا بلد كذا إذا ظهروا عليها. وسبقه الخطابي إلى معنى ذلك أيضًا، وقال النووي: ذكروا في معناه وجهين أحدهما هذا، والآخر أن أكلها وميرتها تكون من القرى المفتتحة وإليها تساق غنائمها، وقال ابن المنير في الحاشية: يحتمل أن يكون المراد بأكلها القرى غلبة فضلها على فضل غيرها، ومعناه أن الفضائل تضمحل في جنب عظيم فضلها حتى تكون عدمًا، قال الحافظ: والذي ذكره احتمالاً ذكره القاضي عبد الوهاب فقال: لا معنى لقوله ((تأكل القرى)) إلا رجوح فضلها عليها وزيادتها على غيرها كذا قال، ودعوى الحصر مردودة لما مضى، ثم قال ابن المنير: وقد سميت مكة أم القرى لكن المذكور للمدينة أبلغ من الأمومة لأن الأمومة لا تمحى إذا وجدت ما هي له أم لكن يكون حق الأم أظهر، قال الزرقاني: وفي الحديث تفضيل المدينة على مكة، وقال الحافظ: استدل بالحديث على أن المدينة أفضل البلاد، قال المهلب: لأن المدينة هي التي أدخلت مكة وغيرها من القرى في الإسلام فصار الجميع في صحائف أهلها وأجيب بأن أهل المدينة الذين افتتحوا مكة معظمهم من أهل مكة فالفضل ثابت للفريقين، ولا يلزم من ذلك تفضل إحدى البقعتين. قال ابن حزم: لو فتحت بلد من بلد فثبت بذلك الفضل للأولى للزم أن تكون البصرة أفضل من خراسان وسجستان وغيرهما مما فتح من

يقولون: يثرب وهي المدينة تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد ". ـــــــــــــــــــــــــــــ جهة البصرة وليس كذلك (يقولون) أي يسمونها (يثرب) بفتح المثناة التحتية وسكون المثلثة وكسر الراء المهملة أي إن بعض الناس من المنافقين وغيرهم يسميها يثرب، ذكر أبو إسحاق الزجاج في مختصره وأبو عبيد البكري في معجم ما استعجم أنها سميت يثرب باسم يثرب بن قانية من ولد إرم بن سام بن نوح لأنه أول من سكنها بعد العرب، وقيل: هو اسم كان لموضع منها سميت به كلها، وقيل سميت باسم واحد من العمالقة نزلها، قاله الزرقاني (وهي المدينة) يعني والحال أن اسمها الذي يليق بها المدينة وفهم بعض العلماء من هذا كراهة تسمية المدينة يثرب وقالوا: ما وقع في القرآن إنما هو حكاية عن قول غير المؤمنين، وروى أحمد (ج 4: ص 285) من حديث البراء بن عازب رفعه ((من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله، هي طابة هي طابة)) وروى عمر بن شبة من حديث أبي أيوب ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يقال للمدينة يثرب)) ولهذا قال عيسى بن دينار من المالكية: من سمى المدينة يثرب كتبت عليه خطيئة. قال: وسبب هذه الكراهة أن يثرب إما من التثريب الذي هو التوبيخ والملامة أو من الثرب وهو الفساد وكلاهما مستقبح وكان - صلى الله عليه وسلم - يحب الاسم الحسن ويكره الاسم القبيح، كذا في الفتح. قال النووي: وأما تسميتها في القرآن يثرب فإنما هو حكاية عن قول المنافقين والذين في قلوبهم مرض – انتهى. وحكى الباجي عن عيسى بن دينار أنه قال: إنما القرآن على ما يعرف الناس انتهى. قال الزرقاني: وأجيب عن حديث الصحيحين ((فإذا هي يثرب)) وفي رواية ((لا أراها إلا يثرب)) بأنه كان قبل النهي – انتهى. ويمكن أن يقال أنه - صلى الله عليه وسلم - ذكرها بالاسم المعروف فيما بين الناس ليعرفوه، وقال البخاري في باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة: وقال أبو موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر فإذا هي المدينة يثرب. قال الحافظ: كان ذلك قبل أن يسميها - صلى الله عليه وسلم - طيبة – انتهى. أي لأن الرؤيا المذكورة كانت قبل الهجرة أو في ابتدائها ووقع تغيير الأسماء بعد ذلك بكثير (تنفي) بفتح الفوقية وسكون النون وكسر الفاء (الناس) أي الخبيث الردئ منهم يدل عليه التشبيه بقوله (كما ينفي الكير) بكسر الكاف وإسكان التحتية وفيه لغة أخرى ((كور)) بضم الكاف والمشهور بين الناس أنه الزق الذي ينفخ فيه لكن أكثر أهل اللغة على أن المراد بالكير حانوت الحداد والصائغ (أي ما يبنيه من الطين) قال ابن التين: وقيل الكير هو الزق، والحانوت هو الكور، كذا في الفتح. وقال أبو عمر: الكير هو موضع نار الحداد والصائغ وليس الجلد الذي تسميه العامة كيرًا، هكذا قال علماء اللغة (خبث الحديد) بفتح الخاء المعجمة والموحدة بعدها مثلثة والنصب على المفعولية أي وسخه الذي تخرجه النار، والمراد أنها لا تترك فيها من في قلبه دغل بل تميزه عن القلوب الصادقة وتخرجه كما يميز الحداد رديء الحديد من جيده، ونسب التمييز للكير لكونه السبب الأكبر في اشتعال النار التي يقع التمييز بها، قال التوربشتي:

متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذا القول صدر منه - صلى الله عليه وسلم - على وجه التمثيل فجعل مثل المدينة وما يصيب ساكنيه من الجهد والبلاء كمثل الكير وما يوقد عليه في النار فيميز به الخبيث من الطيب فيذهب الخبيث ويبقى الطيب فيه أزكى ما كان وأخلص وكذلك المدينة تنفي شرارها بالحمى والوصب والجوع وتطهر خيارهم وتزكيهم، قال عياض: هذا مختص بزمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه لم يكن يصبر على الهجرة والمقام معه بها إلا من ثبت إيمانه وأما المنافقون وجهلة الأعراب فلا يصبرون على شدة المدينة ولا يحتسبون الأجر في ذلك، وقال النووي: ليس هذا بظاهر لأن عند مسلم ((لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد)) وهذا والله أعلم في زمن الدجال كما جاء في الحديث الصحيح الذي ذكره مسلم في أواخر الكتاب في أحاديث الدجال أنه يقصد المدينة فترجف ثلاث رجفات يخرج الله منها كل كافر ومنافق، قال: فيحتمل أنه مختص بزمن الدجال ويحتمل أنه في أزمان متفرقة – انتهى. قال الحافظ: ويحتمل أن يكون المراد كلاً من الزمنين أي زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وزمن الدجال وكان الأمر في حياته - صلى الله عليه وسلم - كذلك للسبب المذكور ويؤيده قصة الأعرابي الآتية فإنه - صلى الله عليه وسلم - ذكره معللاً به خروج الأعرابي وسؤاله الإقالة عن البيعة ثم يكون ذلك أيضًا في آخر الزمان عند ما ينزل بها الدجال فترجف بأهلها فلا يبقى منافق ولا كافر إلا خرج إليه، وأما ما بين ذلك فلا – انتهى. واستدل بالحديث على أن المدينة أفضل البلاد لأنها تنفي الخبث، قال الحافظ: وأجيب عن ذلك بأن هذا إنما هو في خاص من الناس ومن الزمان بدليل قوله تعالى: {ومن أهل المدينة مردوا على النفاق} (سورة التوبة: الآية 102) والمنافق خبيث بلا شك، وقد خرج من المدينة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذ وأبو عبيدة وابن مسعود وطائفة ثم علي وطلحة والزبير وعمار وآخرون وهم من أطيب الخلق فدل على أن المراد بالحديث تخصيص ناس دون الناس ووقت دون وقت، وقال في موضع آخر: قال ابن بطال: فيه تفضيل المدينة على غيرها بما خصها الله تعالى من أنها تنفي الخبث ورتب على ذلك القول بحجية إجماع أهل المدينة، وتعقب بقول ابن عبد البر أن الحديث دال على فضل المدينة لكن ليس الوصف المذكور لها عامًا في جميع الأزمنة بل هو خاص بزمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه لم يكن يخرج منها رغبة عن الإقامة معه إلا من لا خير فيه، وقال عياض ونحوه، وأيده بحديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم: لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الفضة. قال: والنار إنما تخرج الخبث والرديء وقد خرج من المدينة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعة من خيار الصحابة وقطنوا غيرها وماتوا خارجها فذكر المذكورين وزاد فيهم أبا موسى وأبا ذر وحذيفة وعبادة بن الصامت وأبا الدرداء وغيرهم، قال: فدل على أن ذلك خاص بزمنه - صلى الله عليه وسلم - بالقيد المذكور ثم يقع تمام إخراج الرديء منها في زمن الدجال، وورد فيه " فلا يبقى منافق ولا منافقة إلا خرج إليه " فذلك يوم الخلاص – انتهى. (متفق عليه) أخرجاه في

2763 – (11) وعن جابر بن سمرة، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إن الله سمى المدينة طابة ". رواه مسلم. 2764 – (12) وعن جابر بن عبد الله، أن أعرابيًا بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم ـــــــــــــــــــــــــــــ أواخر الحج، وأخرجه أيضًا أحمد (ج 2: ص 237، 247) ومالك في الجامع والنسائي. 2763 – قوله (إن الله سمى المدينة طابة) أي إن الله سماها في اللوح المحفوظ أو في التوراة أو أمر نبيه أن يسميها بها ردًا على المنافقين في تسميتها بيثرب، وطابة بتخفيف الموحدة كشامة تأنيث طاب وأصلها طيبة، قلبت الياء ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها، قال النووي: فيه استحباب تسميتها طابة وليس فيها أنها لا تسمى بغيرها، فقد سماها الله تعالى المدينة في مواضع من القرآن وسماها النبي - صلى الله عليه وسلم - طيبة في حديث زيد بن ثابت عند مسلم – انتهى. وروى البخاري من حديث أبي حميد الساعدي قال: أقبلنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من تبوك حتى أشرفنا على المدينة فقال هذه طابة. قال الحافظ: وفي بعض طرقه طيبة، وللمدينة أسماء غير ما ذكر. منها المطيبة، كما روى عمر بن شبة في أخبار المدينة من رواية زيد بن أسلم قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: للمدينة عشرة أسماء، هي المدينة وطابة وطيبة والمطيبة، إلخ. وهذه الثلاثة أي طابة وطيبة بتشديد المثناة التحتية وطيبة بسكونها كهيبة وشيبة مع المطيبة أخوات لفظًا ومعنى مختلفات صيغة ومبنى. قال السمهودي: تسميتها بهذه الأسماء إما من الطيب بتشديد المثناة وهو الطاهر لطهارتها من أدناس الشرك أو لموافقتها من قوله تعالى {بريح طيبة} (سورة يونس: الآية 23) أو لحلول الطيب بها - صلى الله عليه وسلم - أو لكونها كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها، وإما من الطيب بكسر الطاء وسكون المثناة لطيب أمورها كلها وطيب رائحتها ووجود ريح الطيب بها. قال ابن بطال: من سكنها يجد من تربتها وحيطانها رائحة حسنة. وقال الأشبيلي: لتربة المدينة نفحة ليس طيبها كما عهد من الطيب بل عجب من الأعاجيب. وقال الحافظ: الطاب والطيب لغتان بمعنى، واشتقاقهما من الشيء الطيب، وقيل لطهارة تربتها، وقيل لطيبها لساكنها، وقيل من طيب العيش بها، وقال بعض أهل العلم: وفي طيب ترابها وهوائها دليل شاهد على صحة هذه التسمية لأن من أقام بها يجد من تربها وحيطانها رائحة طيبة لا تكاد توجد في غيرها (رواه مسلم) في أواخر الحج، وأخرجه أيضًا أحمد (ج 5: ص 94، 96، 97، 102، 108) والنسائي. 2764 – قوله (أن أعرابيًا) قال الحافظ: لم أقف على اسمه إلا أن الزمخشري ذكر في ربيع الأبرار أنه قيس بن أبي حازم وهو مشكل لأنه تابعي كبير مشهور صرحوا بأنه هاجر فوجد النبي - صلى الله عليه وسلم - قد مات فإن كان محفوظًا فلعله آخر وافق اسمه واسم أبيه، وفي الذيل لأبي موسى في الصحابة قيس بن أبي حازم المنقري فيحتمل أن يكون هو هذا قال الزرقاني: أي يزيد في اسم أبيه أداة الكنية سهوًا أو غلطًا (بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) من المبايعة وهي عبارة عن المعاقدة

فأصاب الأعرابي وعك بالمدينة فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد! أقلني بيعتي، فأبى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم جاءه فقال: أقلني بيعتي فأبى، ثم جاءه فقال: أقلني بيعتي فأبى، فخرج الأعرابي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما المدينة كالكير تنفي خبثها ـــــــــــــــــــــــــــــ على الإسلام والمعاهدة كائن كل واحد منهما باع ما عنده من صاحبه وأعطاه خلاصة نفسه وطاعته ودخيلة أمره، وزاد في رواية البخاري ((على الإسلام)) (فأصاب الأعرابي وعك) بفتح الواو وسكون المهملة وقد تفتح بعدها كاف الحمى، وقيل المها، وقيل إرعادها. وقال الأصمعي: أصله شدة الحر، فأطلق على الحمى وشدتها، كذا في الفتح. وفي رواية للبخاري فجاء من الغد محمومًا (أقلني بيعتي) استعارة من إقالة البيع وهو إبطاله، قال القسطلاني: (أقلني بيعتي)) أي على الإسلام. وقال السمهودي: أقلني بيعتي أي انقض العهد حتى أرجع إلى وطني، وكأنه قد بايع على هجرة الإقامة، وقال الحافظ في الحج: قوله ((فبايعه على الإسلام)) إلخ. ظاهره لأنه سأل الإقالة من الإسلام، وبه جزم عياض، وقال غيره إنما استقاله من الهجرة وإلا لكان قتله على الردة، يعني أنه لم يرد الأعرابي الارتداد عن الإسلام، قال ابن بطال بدليل أنه لم يرد حل ما عقده إلا بموافقة النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، ولو أراد الردة ووقع فيها لقتله إذ ذاك ولكنه خرج عاصيًا، وقال الحافظ في الأحكام: قوله ((على الإسلام)) ظاهر في أن طلبه الإقالة كان فيما يتعلق بنفس الإسلام ويحتمل أن يكون في شيء من عوارضه كالهجرة وكانت في ذلك الوقت واجبة ووقع الوعيد على من رجع أعرابيًا بعد هجرته (فأبى) أي امتنع (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أن يقيله، قال النووي: قال العلماء: إنما لم يقله النبي - صلى الله عليه وسلم - بيعته لأنه لا يجوز لمن أسلم أن يترك الإسلام ولا لمن هاجر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - للمقام عنده أن يترك الهجرة ويذهب إلى وطنه أو غيره، قالوا: وهذا الأعرابي كان ممن هاجر وبايع النبي - صلى الله عليه وسلم - على المقام معه، قال القاضي: ويحتمل أن بيعة هذا الأعرابي كانت بعد فتح مكة وسقوط الهجرة إليه - صلى الله عليه وسلم -، وإنما بايع على الإسلام وطلب الإقالة منه فلم يقله، والصحيح الأول – انتهى كلام النووي. وقال ابن التين: إنما امتنع النبي - صلى الله عليه وسلم - من إقالته لأنه لا يعين على معصية، لأن البيعة في أول الأمر كانت على أن لا يخرج من المدينة إلا بإذن، فخروجه عصيان، قال: وكانت الهجرة فرضًا قبل فتح مكة على كل من أسلم ومن لم يهاجر لم يكن بينه وبين المؤمنين مولاة لقوله تعالى {والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا} (سورة الأنفال: الآية 73) فلما فتحت مكة قال - صلى الله عليه وسلم -: لا هجرة بعد الفتح)) ففي ها إشعار بأن مبايعة الأعرابي المذكورة كانت قبل الفتح – انتهى. (فخرج الأعرابي) أي من المدينة راجعًا إلى البدو (إنما المدينة كالكير تنفي) بفتح أوله (خبثها) بمعجمة وموحدة مفتوحتين. قال السمهودي: قوله ((تنفي خبثها)) يحتمل أن يكون بمعنى الطرد والإبعاد

وتنصع طيبها ". متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأهل الخبث وقصة الأعرابي المذكور ظاهرة فيه، وخصه ابن عبد البر بزمنه - صلى الله عليه وسلم -، والظاهر كما قال النووي عدم التخصيص وقد طهرها الله تعالى ممن كان بها من أرباب الأديان المخالفين لدين الإسلام وأهلك من كان بها من المنافقين وهؤلاء هم أهل الخبث الكامل ومن عداهم من أهل الخبث والذنوب قد يكون طرده وإبعاده إن استمر على ذلك بآخرة الأمر بنقل الملائكة له إلى غيرها من الأرض، ويحتمل أن يكون بمعنى طرد أهل الخبث الكامل وهم أهل الشقاء والكفر لا أهل السعادة والإسلام لأن القسم الأول ليس قابلاً للشفاعة ولا للمغفرة، وقد وعد - صلى الله عليه وسلم - من يموت بها بالشفاعة لهذا وجب انتفاء القسم الأول منها، ويحتمل أن يكون بمعنى تخليص النفوس من شرها وميلها إلى اللذات لما فيها من اللأواء والشدة ويؤيده رواية أنها طيبة تنفي الذنوب ويكون نفيها للذنوب على ظاهره، ويحتمل أن يكون بمعنى أنها لا يخفى حال من انطوى فيها على خبث بل تظهر طويته كما هو مشاهد بها، ويؤيده ما في غزوة أحد في الصحيح من أنه - صلى الله عليه وسلم - لما خرج إلى أحد رجع ناس من أصحابه أي وهم المنافقون؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " المدينة كالكير ... " – الحديث. ولهذا سميت بالفاضحة، قال السمهودي: والذي ظهر لي من مجموع الأحاديث واستقراء أحوال هذه البلدة الشريفة أنها تنفي خبثها بالمعاني الأربعة (وتنصع) بضم التاء على بناء الفاعل من باب التفعيل والإفعال أي تخلص (طيبها) بالنصب على المفعولية وهو بفتح الطاء وتشديد التحتية، وروي ينصع بفتح التحتية وسكون النون وفتح الصاد المهملة من النصوع وهو الخلوص أي يصفو ويخلص ويتميز، والناصع الصافي الخالص، وعلى هذا طيبها مرفوع على أنه فاعل ينصع، ومعنى الحديث أنه يخرج من المدينة من لم يخلص إيمانه، ويبقى فيها من خلص إيمانه، وقال الحافظ: والمعنى أنها إذا نفت الخبث تميز الطيب واستقر فيها. قال الأبي: فإن قيل قد استقر بها المنافقون، أجيب بأنهم انتفوا بالموت، والموت أشد النفي، وقال العيني: فإن قلت: إن المنافقين قد سكنوا المدينة وماتوا فيها ولم تنفهم، قلت: كانت المدينة دارهم أصلاً ولم يسكنوا بها بالإسلام ولا حبًا له، وإنما سكنوها لما فيها من أصل معاشهم، ولم يرد - صلى الله عليه وسلم - بضرب المثل إلا من عقد الإسلام راغبًا فيه ثم خبث قلبه – انتهى. قال ابن المنير: ظاهر الحديث ذم من خرج من المدينة، وهو مشكل فقد خرج منها جمع كثير من الصحابة وسكنوا غيرها من البلاد، وكذا من بعدهم من الفضلاء، والجواب أن المذموم من خرج عنها كراهة فيها ورغبة عنها كما فعل الأعرابي المذكور، وأما المشار إليهم فإنما خرجوا لمقاصد صحيحة كنشر العلم وفتح بلاد الشرك والمرابطة في الثغور وجهاد الأعداء وهم مع ذلك على اعتقاد فضل المدينة وفضل سكانها (متفق عليه) أخرجه البخاري في الحج وفي الأحكام، ومسلم في الحج، وأخرجه أيضًا أحمد (ج 3: ص 306، 307، 365) ومالك في الجامع والنسائي والترمذي في أواخر المناقب.

2765 – (13) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد ". رواه مسلم. 2766 – (14) وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ـــــــــــــــــــــــــــــ 2765- قوله (لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة) أي تخرج (شرارها كما ينفي الكير) أي يذهب (خبث الحديد) أي وسخه، وقال الطيبي: يحتمل أن يكون ذلك في زمنه عليه الصلاة والسلام، لأن بعثته من أشراط الساعة وأن يكون حين خروج الدجال وقصده المدينة – انتهى. وقد تقدم الكلام عليه مفصلاً (رواه مسلم) في الحج، والحديث من أفراد مسلم لم يخرجه البخاري ولا أصحاب السنن. 2766- قوله (على أنقاب المدينة) طيبة، بفتح الهمزة وسكون النون جمع قلة لنَقَب، بفتح النون والقاف بعدها موحدة، ووقع في حديث أنس وأبي سعيد عند البخاري على ((نقابها)) بكسر النون جمع نقب بالسكون، وهما بمعنى. قال ابن وهب: المراد بها مداخلها وهي أبوابها وفوهات طرقها التي يدخل منها كما جاء في الحديث الآخر ((على كل باب منها ملك، وقيل طرقها، وأصل النقب الطريق بين الجبلين، وقيل الأنقاب الطرق التي يسكنها الناس (ملائكة) يحرسونها (لا يدخلها) قال الطيبي: جملة مستأنفة بيان لموجب استقرار الملائكة على الأنقاب (الطاعون) قال الحافظ في ((باب ما يذكر في الطاعون)) من كتاب الطب: بوزن فاعول، عدلوا به عن أصله ووضعوه دالاً على الموت العام كالوباء، ويقال طعن فهو مطعون وطعين إذا أصابه الطاعون، وإذا أصابه الطعن بالرمح فهو مطعون، هذا كلام الجوهري. وقال صاحب النهاية: الطاعون المرض العام الذي يفسد له الهواء وتفسد به الأمزجة والأبدان. وقال ابن العربي: الطاعون الوجع الغالب الذي يطفئ الروح كالذبحة، وسمي بذلك لعموم مصابه وسرعة قتله. وقال الداودي: الطاعون حبة تخرج من الأرقاع، وفي كل طي من الجسد، والصحيح أنه الوباء. وقال ابن عبد البر: الطاعون غدة تخرج في المراق والآباط، وقد تخرج في الأيدي والأصابع وحيث شاء الله، وقال النووي في الروضة: قبل الطاعون انصباب الدم إلى عضو، وقال آخرون: وهو هيجان الدم وانتفاخه. وقال النووي أيضًا في تهذيبه: هو بثر وورم مؤلم جدًا يخرج مع لهب ويسود ما حواليه أو يخضر أو يحمر حمرة شديدة بنفسجية كدرة ويحصل معه خفقان وقيء ويخرج غالبًا في المراق والآباط وقد يخرج في الأيدي والأصابع وسائر الجسد. وقال جماعة من الأطباء منهم أبو علي بن سيناء: الطاعون مادة سمية تحدث ورمًا قتالاً يحدث في المواضع الرخوة والمغابن من البدن، وأغلب ما تكون تحت الإبط أو خلف الأذن أو عند الأرنبة. قال: وسببه دم رديء مائل إلى العفونة والفساد يستحيل إلى جوهر سمي يفسد العضو ويغير ما يليه، ويؤدي إلى القلب كيفية رديئة فيحدث القيء والغثيان والغشي والخفقان وهو لرداءته لا يقبل من

................................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ الأعضاء إلا ما كان أضعف بالطبع وأودؤه ما يقع في الأعضاء الرئيسية، والأسود منه قل من يسلم منه، وأسلمه الأحمر ثم الأصفر والطواعين تكثر عند الوباء في البلاد الوبئة، ومن ثم أطلق على الطاعون وباء، وذكر الحافظ أقوالاً أخرى، ثم قال: هذا ما بلغنا من كلام أهل اللغة وأهل الفقه والأطباء في تعريفه، والحاصل أن حقيقته ورم ينشأ عن هيجان الدم أو انصباب الدم إلى عضو فيفسده، وأن غير ذلك من الأمراض العامة الناشئة عن فساد الهواء يسمى طاعونًا بطريق المجاز لاشتراكهما في عموم المرض أو كثرة الموت، والدليل على أن الطاعون غير الوباء حديث ((أن الطاعون لا يدخل المدينة)) . وقد ورد في حديث عائشة: قدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله. وفيه قول بلال ((أخرجونا إلى أرض الوباء)) ، وغير ذلك من الأحاديث الدالة على أن الوباء كان موجودًا بالمدينة، وقد صرح في الحديث بأن الطاعون لا يدخلها، فدل على أن الوباء غير الطاعون وأن من أطلق على كل وباء طاعونًا فبطريق المجاز، قال: والذي يفترق به الطاعون من الوباء أصل الطاعون الذي لم يتعرض له الأطباء ولا أكثر من تكلم في تعريف الطاعون وهو كونه من طعن الجن، ولا يخالف ذلك ما قال الأطباء من كون الطاعون ينشأ عن هيجان الدم أو انصبابه لأنه يجوز أن يكون ذلك يحدث عن الطعنة الباطنة فتحدث منها المادة السمية ويهيج الدم بسببها أو ينصب، وإنما لم يتعرض الأطباء لكونه من طعن الجن لأنه أمر لا يدرك العقل، وإنما يعرف من الشارع فتكلموا في ذلك على أن ما اقتضته قواعدهم. وقال الكلاباذي في معاني الأخباء: يحتمل أن يكون الطاعون على قسمين: قسم يحصل من غلبة بعض الأخلاط من دم أو صفراء محترقة أو غير ذلك، وقسم يكون من وخز الجن كما تقع الجراحات من القروح التي تخرج في البدن من غلبة بعض الأخلاط – انتهى. ومما يؤيد أن الطاعون يكون من طعن الجن وقوعه غالبًا في أعدل الفصول، وفي أصح البلاد هواء وأطيبها ماء، ولأنه لو كان بسبب فساد الهواء لدم في الأرض، لأن الهواء يفسد تارة ويصح أخرى، وهذا يذهب أحيانًا ويجيء أحيانًا على غير قياس ولا تجربة فربما جاء سنة على سنة، وربما أبطأ سنين، وبأنه لو كان كذلك لعم الناس والحيوان والموجود بالمشاهدة أنه يصيب الكثير ولا يصيب من هم بجانبهم مما هو في مثل مزاجهم، ولو كان كذلك لعم جميع البدن، وهذا يختص بموضع من الجسد ولا يتجاوزه، ولأن فساد الهواء يقتضي تغير الأخلاط وكثرة الأسقام، وهذا في الغالب يقتل بلا مرض، فدل على أنه من طعن الجن كما ثبت في الأحاديث الواردة منها حديث أبي موسى رفعه: " فناء أمتي بالطعن والطاعون "، قيل: يا رسول الله هذا الطعن قد عرفناه فما الطاعون؟ قال: " وخز أعداءكم من الجن وفي كل شهادة ". أخرجه أحمد من رواية زياد بن علا ة عن رجل عن أبي موسى. وفي رواية له عن زياد حدثه رجل من قومي قال: كنا على باب عثمان ننتظر الأذان فسمعت أبا موسى قال زياد: فلم أرض بقوله فسألت سيد الحي فقال: صدق. وأخرجه البزار والطبراني من وجهين آخرين عن زياد فسميا المبهم يزيد بن الحارث، وسماه أحمد في رواية

................................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ أخرى أسامة بن شريك، ولا معارضة بينه وبين من سماه يزيد بن الحارث لأنه يحمل على أن أسامة هو سيد الحي الذي أشار إليه في الرواية الأخرى واستثبته فيما حدثه به الأول وهو يزيد بن الحارث ورجاله رجال الصحيحين إلا المبهم وأسامة بن شريك صحابي مشهور، والذي سماه وهو أبو بكر النهشلي من رجال مسلم؛ فالحديث صحيح بهذا الاعتبار، وقد صححه ابن خزيمة والحاكم وأخرجاه، وأحمد والطبراني من وجه آخر عن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري، قال: سألت عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " هو وخز أعداءكم من الجن وهو لكم شهادة ". ثم ذكر الحافظ للحديث طريقين أخريين وشاهدين من حديث عائشة وحديث ابن عمر وضعفهما ثم قال: والعمدة في هذا الباب على حديث أبي موسى فإنه يحكم له بالصحة لتعدد طرقه إليه. ثم قال: قال العلماء: أراد - صلى الله عليه وسلم - أن يحصل لأمته أرفع أنواع الشهادة وهو القتل في سبيل الله بأيدي أعدائهم إما من الإنس وإما من الجن. وقوله ((وخز)) بفتح أوله وسكون المعجمة بعدها زاي، قال أهل اللغة: هو الطعن إذا كان غير نافذ، ووصف طعن الجن بأنه وخز لأنه يقع من الباطن إلى الظاهر فيؤثر في الباطن أولاً ثم يؤثر في الظاهر وقد لا ينفذ، وهذا بخلاف طعن الإنس فإنه يقع من الظاهر إلى الباطن فيؤثر في الظاهر أولاً ثم يؤثر في الباطن وقد لا ينفذ. تنبيه: يقع في الألسنة وهو في النهاية لابن الأثير بلفظ ((وخز إخوانكم من الجن)) ولم أره بلفظ إخوانكم بعد التتبع الطويل البالغ في شيء من طريق الحديث المسندة لا في الكتب المشهور ولا الأجزاء المنثورة وقد عزاه بعضهم لمسند أحمد والطبراني وكتاب الطواعين لابن أبي الدنيا ولا وجود لذلك في واحد منها، كذا في الفتح، قال الزرقاني: فإن قيل: إذا كان الطعن من الجن فكيف يقع في رمضان والشياطين تصفد فيه وتسلسل؟ أجيب باحتمال أنهم يطعنون قبل دخول رمضان ولا يظهر التأثير إلا بعد دخوله، وقيل غير ذلك، ويمكن أن يقال أن المصفد بعض الشياطين كما وقع في بعض الروايات وهم المردة لا كلهم فإن تصفيد الشياطين لا يستلزم تصفيد الجان كلهم، وقد استشكل عدم دخول الطاعون المدينة مع كون الطاعون شهادة، وكيف قرن بالدجال ومدحت المدينة بعدم دخولهما؟ قال الحافظ: والجواب أن كون الطاعون شهادة ليس المراد بوصفه بذلك ذاته وإنما المراد أن ذلك يترتب عليه وينشأ عنه لكونه سببه فإذا استحضر ما تقدم من أنه طعن الجن حسن مدح المدينة بعدم دخوله إياها، فإن فيه إشارة إلى أن كفار الجن وشياطينهم ممنوعون من دخول المدينة، ومن اتفق دخوله إليها لا يتمكن من طعن أحد منهم. فإن قيل طعن الجن لا يختص بكفارهم بل قد يقع من مؤمنيهم، قلنا: دخول كفار الإنس المدينة ممنوع، فإذا لم يسكن المدينة إلا من يظهر الإسلام جرت عليه أحكام المسلمين ولو لم يكن خالص الإسلام فحصل الأمن من وصول الجن إلى طعنهم بذلك، فلذلك لم يدخلها الطاعون أصلاً. وقد أجاب القرطبي في المفهم

................................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــ عن ذلك فقال: المعنى لا يدخلها من الطاعون مثل الذي وقع في غيرها كطاعون عمواس والجارف. وهذا الذي قاله يقتضى تسليم أنه دخلها في الجملة، وليس كذلك فقد جزم ابن قتيبة في المعارف وتبعه جمع جم من آخرهم الشيخ محيي الدين النووي في الأذكار بأن الطاعون لم يدخل المدينة أصلاً ولا مكة أيضًا لكن نقل جماعة أنه دخل مكة في الطاعون العام الذي كان في سنة تسع وأربعين وسبعمائة بخلاف المدينة فلم يذكر أحد قط أنه وقع بها الطاعون أصلاً. ولعل القرطبي بنى على أن الطاعون أعم من الوباء أو أنه هو، وإنه الذي ينشأ عن الفساد الهواء فيقع به الموت الكثير، وقد مضى في الجنائز من صحيح البخاري قول أبي الأسود: قدمت المدينة وهم يموتون بها موتاً ذريعاً، فهذا وقع بالمدينة وهو وباءً بلا شك، ولكن الشأن في تسميته طاعونًا، والحق أن المراد بالطاعون في هذا الحديث المنفي دخوله المدينة الذي ينشأ عن طعن الجن فيهيج بذلك الطعن الدم في البدن فيقتل، فهذا لم يدخل المدينة قط، فلم يتضح جواب القرطبي، وأجاب غيره بأن سبب الترجمة لم ينحصر في الطاعون وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ولكن عافيتك أوسع لي. فكان منع دخول الطاعون المدينة من خصائص المدينة ولوازم دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لها بالصحة وقال آخر: هذا من المعجزات المحمدية لأن الأطباء من أولهم إلى آخرهم عجزوا أن يدفعوا الطاعون عن بلد بل عن قرية، وقد امتنع الطاعون عن المدينة هذه الدهور الطويلة. قلت (قائله الحافظ) : هو كلام صحيح ولكن ليس هو جواباً عن الإشكال. ومن الأجوبة أنه - صلى الله عليه وسلم - عوضهم عن الطاعون بالحمى لأن الطاعون يأتي مرة بعد مرة والحمى تتكرر في كل حين فيتعادلان في الأجر ويتم المراد من عدم دخول الطاعون لبعض ما تقدم من الأسباب، ويظهر لي جواب آخر بعد استحضار الحديث الذي أخرجه أحمد من رواية أبي عسيب – بمهملتين آخره موحدة وزن عظيم – رفعه: أتاني جبريل بالحمى والطاعون فأمسكت الحمى بالمدينة وأرسلت الطاعون إلى الشام. وهو أن الحكمة في ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - لما دخل المدينة كان في قلة من أصحابه عددًا ومددًا وكانت المدينة وبئة كما سبق من حديث عائشة ثم خير النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمرين يحصل بكل منهم الأجر الجزيل فاختار الحمى حينئذ لقلة الموت بها غالبًا بخلاف الطاعون، ثم لما احتاج إلى جهاد الكفار وأذن له في القتال كانت قضية استمرار الحمى بالمدينة أن تضعف أجساد الذين يحتاجون إلى التقوية لأجل الجهاد فدعا بنقل الحمى من المدينة إلى الجحفة فعادت المدينة أصح بلاد الله بعد أن كانت بخلاف ذلك، ثم كانوا من حينئذ من فاتته الشهادة بالطاعون ربما حصلت له بالقتل في سبيل الله، ومن فاته ذلك حصلت له الحمى التي هي حظ المؤمن من النار، ثم استمر ذلك بالمدينة تمييزًا لها عن غيرها لتحقيق إجابة دعوته وظهور هذه المعجزة العظيمة بتصديق خبره هذه المده المتطاولة، والله أعلم – انتهى. وارجع إلى وفاء الوفاء للسمهودي (ص 64 – 67) فإنه قد بسط الكلام على ذلك وأحسن. وقال الزرقاني: قد أمتنع الطاعون

ولا الدجال ". متفق عليه. 2767 – (15) وعن أنس، قال: قال رسول الله: ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال ـــــــــــــــــــــــــــــ عن المدينة بدعائه وخبره هذه المدد المتطاولة فهو خاص بها. وجزم ابن قتيبة في المعارف والنووي في الأذكار بأن الطاعون لم يدخل مكة أيضًا معارضًا بما نقله غير واحد بأنه دخلها في سنة سبع وأربعين وسبعمائة؛ لكن في تاريخ مكة لعمر بن شبة برجال الصحيح عن أبي هريرة مرفوعًا: " المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة على كل نقيب منها ملك فلا يدخلهما الدجال ولا الطاعون ". وحينئذ فالذي نقل أنه دخل مكة في التاريخ المذكور ليس كما ظن أو يقال أنه لا يدخلهما من الطاعون مثل الذي يقع في غيرهما كالجارف وعمواس، وفي حديث أنس عند البخاري في الفتن ((فيجد الملائكة يحرسونها يعني المدينة فلا يقربها الدجال ولا الطاعون إن شاء الله)) . وقد اختلف في هذا الاستثناء فقيل هو للتبرك فيشملهما، وقيل هو للتعليق وأنه يختص بالطاعون ومقتضاه جواز دخول الطاعون المدينة. قال الحافظ في الفتن: وكونه للتبرك هو أولى. وقال السمهودي بعد ذكر هذه الرواية: هذا يقتضي جواز دخول الطاعون المدينة ويرده الجزم في سائر الأحاديث والصواب حفظها منه كما هو المشاهد، وقيل المراد بالطاعون في هذا الحديث المنفي دخوله المدينة طاعون العذاب فتأمل (ولا الدجال) هو فعال بفتح أوله وتشديد الجيم من الدجل وهو التغطية، والمراد المسيح الأعور وسمي الكذاب دجالاً لأنه يغطي الحق بباطله، ويقال دجل البعير بالقطران إذا غطاه والإناء بالذهب إذا طلاها، وقال ابن دريد: سمي دجالاً لأنه يغطي الحق بالكذب، وقيل لضربه نواحي الأرض. وقيل: بل قيل ذلك لأنه يغطي الأرض فرجع إلى الأول. وقال القرطبي في التذكرة اختلف في تسميته دجالاً على عشر أقوال. وقال صاحب القاموس: إنه اجتمع له من الأقوال في سبب تسميته الدجال المسيح خمسون قولاً، كذا في الفتح. ويأتي مزيد الكلام على عدم دخول الدجال المدينة في شرح حديث أنس الذي يليه (متفق عليه) أخرجه البخاري في الحج وفي الطب وفي الفتن، وأخرجه أيضًا أحمد (ج 2: ص 237) ومالك في الجامع والنسائي. 2767 – قوله (ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال) أي يدوسه ويدخلها ويفسده. قال الحافظ: هو على ظاهره وعمومه عند الجمهور، وشذ ابن حزم فقال: المراد لا يدخله بعثه وجنوده، وكأنه استبعد إمكان دخول الدجال جميع البلاد لقصر مدته وغفل عما في صحيح مسلم أن بعض أيامه يكون قدر السنة. قلت: لا إشكال في طي الدجال جميع البلاد غي المدة التي ذكرت في الأحاديث ولا مجال لاستبعاده حيث اخترعت في عصرنا هذا سيارات سريعة وقطارات بخارية وكهربائية في البر وبواخر سريعة الجري في البحر وطيارات ونفاثات وصواريخ ذرية تقطع في أقصر وقت من الأبعاد والمسافات ما كان لا يتصوره الإنسان قبل ذلك، وروى الحاكم من حديث أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد رفعه

إلا مكة والمدينة، ليس نقب من أنقابها إلا عليه الملائكة صافين يحرسونها، فينزل السبخة فترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات فيخرج إليه كل كافر ومنافق ". ـــــــــــــــــــــــــــــ ((أنه يخرج يعني الدجال في نقص من الدنيا وخفة من الدين وسوء ذات بين فيرد كل منهل وتطوى له الأرض طي فروة الكبش حتى يأتي المدينة فيغلب على خارجها ويمنع داخلها ثم يأتي ايلياء فيحاصر عصابة من المسلمين)) فهذا فيه نوع آخر لطي الأرض (إلا مكة والمدينة) بالنصب على الاستثناء. قال الزرقاني: وعند الطبري عن ابن عمرو مرفوعًا ((إلا الكعبة وبيت المقدس)) وزاد الطحاوي ((ومسجد الطور)) وفي بعض الروايات: فلا يبقى موضع إلا ويأخذه الدجال غير مكة والمدينة وبيت المقدس وجبل الطور، فإن الملائكة تطرده عن هذه الموضع – انتهى. ونسب الحافظ حديث عبد الله بن عمرو إلى الطبراني والرواية الثانية إلى أحمد، قال: ورجاله ثقات (ليس نقب من أنقابها) أي أنقاب المدينة أو أنقاب كل واحدة منهما (إلا عليه الملائكة) أي على ذلك النقب (يحرسونها) أي يحفظون أهلها (فينزل) أي الدجال بعد أن منعته الملائكة (السبخة) بكسر الباء صفة وهي الأرض التي تعلوها الملوحة ولا تكاد تنبت إلا بعض الشجر، وبفتحها اسم، وهو موضع قريب من المدينة (فترجف المدينة) بضم الجيم أي تضطرب (بأهلها) أي ملتبسة بهم وقيل: الباء للتعدية أي تحركهم وتزلزلهم (ثلاث رجفات) بفتح الجيم (فيخرج إليه) أي إلى الدجال، وفي رواية ((فيخرج الله)) (كل كافر ومنافق) قال الطيبي: الباء يحتمل أن تكون للسببية أي تتزلزل وتضطرب بسبب أهلها لينفض إلى الدجال الكافر والمنافق، وأن يكون حالاً أي ترجف ملتبسة، ثم نقل عن المظهر ((ترتجف المدينة بأهلها)) أي تحركهم وتلقى ميل الدجال في قلب من ليس بمؤمن خالص، قال: فعلى هذا الباء صلة الفعل، وقال الحافظ في الحج: قوله ((ثم ترتجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات)) إلخ. أي يحصل لها زلزلة بعد أخرى ثم ثالثة حتى يخرج منها من ليس مخلصًا في إيمانه ويبقى بها المؤمن الخالص فلا يسلط عليه الدجال ولا يعارض هذا ما في حديث أبي بكرة عند البخاري أنه لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال، لأن المراد بالرعب ما يحدث من الفزع من ذكره والخوف من عتوه لا الرجفة التي تقع بالزلزلة لإخراج من ليس بمخلص، وحمل بعض العلماء الحديث الذي فيه أنها تنفي الخبث على هذه الحالة دون غيرها، وقد تقدم أن الصحيح في معناه أنه خاص بناس وبزمان فلا مانع أن يكون هذا الزمان هو المراد، ولا يلزم من كونه مرادًا نفي غيره، وقال في باب ذكر الدجال من كتاب الفتن: الجمع بين قوله ترجف ثلاث رجفات وبين قوله لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال أن الرعب المنفي هو الخوف والفزع حتى لا يحصل لأحد فيها بسبب نزوله قربها شيء منه، أو هو عبارة عن غايته وهو غلبته عليها، والمراد بالرجفة الإرفاق وهو إشاعة مجيئه وأنه لا طاقة لأحد به، ويسارع حينئذ إليه من كان يتصف بالنفاق أو الفسق فيظهر حينئذ تمام أنها تنفي خبثها – انتهى. وقال

متفق عليه. 2768 – (16) وعن سعد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يكيد أهل المدينة أحد إلا إنماع كما ينماع الملح في الماء ". ـــــــــــــــــــــــــــــ السمهودي بعد ذكر حديث أنس وأبي بكرة وغير ذلك مما ورد في الباب ما لفظه: ويستفاد منه أن المراد من قوله في الأحاديث المتقدمة ((فترجف المدينة)) يعني بسبب الزلزلة فلا يشكل بما تقدم من أنه لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال فيستغنى عما جمع به بعضهم من أن الرعب المنفي هو ألا يحصل لمن بها بسبب قربه منها خوف، أو هو عبارة عن غايته وهو غلبته عليها، والمراد بالرجفة إشاعة مجيئه وأن لا طاقة لأحد به فيتسارع حينئذ عليه من كان يتصف بالنفاق أو الفسق، قاله الحافظ ابن حجر. وما قدمناه أولى – انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الحج وفي الفتن ومسلم في آخر الكتاب في أحاديث الدجال، وأخرجه أيضًا النسائي، وأخرج أحمد نحوه. 2768 – قوله (لا يكيد أهل المدينة أحد) أي لا يريد بأهلها سوءًا، والكيد المكر والحيلة في المساءة. وقال القسطلاني: أي لا يفعل بهم كيدًا من مكر وحرب وغير ذلك من وجوه الضرر بغير حق (إلا انماع) بسكون النون بعد همزة الوصل آخره مهملة، أي ذاب. قال في النهاية: ماع الشيء ويميع وانماع إذا ذاب وسال (كما ينماع الملح في الماء) وفي رواية مسلم من طريق أبي عبد الله القراظ عن أبي هريرة وسعد جميعًا فذكر حديثًا فيه ((من أراد أهلها بسوء أذابه الله كما يذوب الملح في الماء)) ، وفي رواية مسلم من طريق عامر بن سعد عن أبيه في أثناء حديث: " ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص أو ذوب الملح في الماء ". قال عياض: هذه الزيادة أي قوله في النار تدفع إشكال الأحاديث التي لم تذكر فيها، وتبين أن هذا حكمه في الآخرة. قال: ويحتمل أن يكون المراد به أن من أرادها في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - كفى المسلمون أمره واضمحل أمره كما يضمحل الرصاص في النار فيكون في اللفظ تقديم وتأخير ويؤيده قوله أو ذوب الملح في الماء. قال: ويحتمل أن يكون المراد من كادها اغتيالاً وطلبًا لغرتها فلا يتم له أمر بخلاف من أتى ذلك جهارًا، قال: ويحتمل أن يكون ذلك لمن أرادها في الدنيا بسوء فلا يمهله الله ولا يمكن له سلطانًا بل يذهبه عن قرب كما انقضى شأن من حاربها أيام بني أمية مثل مسلم بن عقبة فإنه عوجل عن قرب فأهلك في منصرفه من المدينة ثم هلك يزيد بن معاوية مرسله على أثر ذلك وغيرهما ممن صنع صنيعهما – انتهى. قال السمهودي: وهذا الاحتمال الأخير هو الأرجح، وليس في الحديث ما يقتضى أنه لا يتم له ما أراد منهم بل الوعد بإهلاكه ولم يزل شأن المدينة على هذا حتى في زماننا ها لما تظاهرت طائفة العياشي لإرادة السوء بالمدينة الشريفة لأمر اقتضى خروجهم منها

متفق عليه. 2769 – (17) وعن أنس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قدم من سفر فنظر إلى جدرات المدينة، أوضع راحلته وإن كان على دابة حركها من حبها. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ حتى أهلك الله عتاتهم مع كثرتهم في مدة يسيرة، وقد يقال المراد من الأحاديث الجمع بين إذابته بالإهلاك في الدنيا وبين إذابته بالنار في الأخرى، والمذكور في هذا الحديث هو الثاني، وفي غيره الأول ففي رواية لأحمد برجال الصحيح من جملة حديث من أرادها بسوء يعني المدينة أذابه الله كما يذوب الملح في الماء، وكذا في مسلم أيضًا وفي رواية له ((من أراد أهل هذه البلدة بدهم أو بسوء)) بالشك، والدهم بفتح الدال المهملة وإسكان الهاء أي بغائلة وأمر عظيم، ولذا قيل المراد غازيًا مغيرًا عليها، وروى النسائي من حديث السائب بن خلاد رفعه: " من أخاف أهل المدينة ظالمًا لهم أخافه الله، وكانت عليه لعنة الله.. " – الحديث. ولابن حبان نحوه من حديث جابر، والحديث فيه دليل على فضل المدينة، واستدل به بعضهم على أن المدينة أفضل من مكة ولا يخفى ما فيه قال ابن حزم: إنما فيه الوعيد على من كاد أهلها ولا يحل كيد مسلم، فليس فيه أنها أفضل من مكة، وقد قال تعالى عن مكة {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} (سورة الحج: الآية 26) فصح الوعيد على من ظلم بمكة كالوعيد على من كاد أهل المدينة (متفق عليه) أخرجاه في الحج وأخرجه أيضًا أحمد (ج 1: ص 180) والنسائي. 2769 – قوله (فنظر إلى جدرات المدينة) بضم الجيم والدال جمع جدر بضمتين جمع سلامة والجدر جمع جدار (أوضع) بفتح الهمزة: وسكون الواو وبالضاد المعجمة أي أسرع، يقال وضع البعير أي أسرع في مشيه وأوضعه راكبه أي حمله على السير السريع (راحلته) وفي رواية ناقته أي حملها على السير السريع قال القاري: الإيضاع مخصوص بالبعير، والراحلة النجيب والنجيبة من الإبل، في الحديث: الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة (وإن كان على دابة) سوى الناقة كالبغل والفرس والدابة أعم من الناقة (حركها) جواب إن (من حبها) أي حرك الدابة لسرعة السير من أجل حبه - صلى الله عليه وسلم - المدينة أو أهلها؛ فمن سببية متعلقة بقوله حركها. قال القسطلاني: وقد استجاب الله تعالى دعاء نبيه - صلى الله عليه وسلم - حيث دعا اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد حتى كان يحرك دابته إذا رآها من حبه (رواه البخاري) في الحج في باب من أسرع ناقته إذا بلغ المدينة، وفي فضائل المدينة قبل باب كراهية النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تعرى المدينة، وأخرجه أيضًا الترمذي في الدعوات بعد ((باب ما يقول إذا رجع من سفره)) .

2770 – (18) وعنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طلع له أحد فقال: " هذا جبل يحبنا ونحبه ـــــــــــــــــــــــــــــ 2770 – قوله (طلع) أي ظهر (له أحد) قال السهيلي:سمي أحدًا لتوحده وانقطاعه عن جبال أخرى هناك أو لما وقع من أهله من نصر التوحيد (فقال: هذا) إشارة إلى جبل أحد (جبل يحبنا ونحبه) قال الحافظ: ظهر من هذه الرواية أنه - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك لما رآه في حال رجوعه من الحج – انتهى. قلت: ويظهر من رواية عمرو عن أنس عند البخاري في باب من غزا بصبي للخدمة من كتاب الجهاد أنه - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك لما رآه في حال رجوعه من خيبر، ووقع في رواية أبي حميد عند البخاري أيضًا في باب خرص التمر من كتاب الزكاة أنه قال لهم ذلك لما رجع من تبوك وأشرف على المدينة قال: " هذه طابة ". فلما رأي أحدًا قال: " هذا جبل يحبنا ونحبه ". قال الحافظ: فكأنه - صلى الله عليه وسلم - تكرر منه ذلك القول، وللعلماء في معنى ذلك أقوال أحدها أنه على حذف مضاف، والتقدير أهل أحد والمراد بهم الأنصار لأنهم جيرانه، ثانيها أنه قال ذلك للمسرة بلسان الحال إذا قدم من سفر لقربه من أهله ولقياهم، وذلك فعل من يحب بمن يحب، ثالثها أن الحب من الجانبين على حقيقته وظاهره لكون أحد من جبال الجنة كما ثبت في حديث أبي عبس بن جبر مرفوعًا ((جبل أحد يحبنا ونحبه وهو من جبال الجنة)) أخرجه أحمد. ولا مانع في جانب البلد من إمكان المحبة منه كما جاز التسبيح منها أي الجبال وقد خاطبه - صلى الله عليه وسلم - مخاطبة من يعقل فقال لما اضطرب: " اسكن أحد ". – الحديث. وقال السهيلي: كان - صلى الله عليه وسلم - يحب الفال الحسن والاسم الحسن ولا اسم أحسن من اسم مشتق من الأحدية. قال: ومع كونه مشتقاً من الأحدية فحركات حروفه الرفع وذلك يشعر بارتفاع دين الأحد وعلوه فتعلق الحب من النبي - صلى الله عليه وسلم - به لفظًا ومعنىً فخص من بين الجبال بذلك، والله أعلم. وقال الحافظ أيضًا في باب من غزا بصبي للخدمة: قيل: هو على الحقيقة ولا مانع من وقوع مثل ذلك بأن يخلق الله المحبة في بعض الجمادات، وقيل: هو على المجاز والمراد أهل أحد على حد قوله تعالى: {واسأل القرية} وقال الشاعر: وما حب الديار شغفن قلبي _ ... ولكن حب من سكن الديارا – انتهى. وقال السمهودي: قيل: المراد يحبنا أهله ونحبهم، فحذف أهله لدلالة اللفظ عليه كما في قوله تعالى: {وأشربوا في قلوبهم العجل} (سورة البقرة: الآية 87) أي حبه {واسأل القرية} سورة يوسف: الآية 82) وقيل: هو ضرب من المجاز أي نحن نحبه ونستبشر برؤيته، ولو كان ممن يعقل لأحبنا على سبيل مطابقة الكلام، وقيل: يحتمل أن يكون ذلك حقيقة وأن الله تعالى جعل فيه أو في بعضه إدراكًا ومحبة كما جعل في تسبيح الحصى وحنين الجذع ويكون من خوارق العادات، ويحتمل أن يكون يحبنا هنا عبارة عن نفعه لنا في الحماية والنصرة كمن يحبنا – انتهى. وقال النووي: الصحيح المختار أن معناه أن أحدًا يحبنا حقيقة، جعل الله تعالى فيه تمييزًا يحب به كما قال سبحانه

اللهم إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم ما بين لابتيها ". متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وتعالى: ((وإن منها لما يهبط من خشية الله} (سورة البقرة: الآية 69) وكما حن الجذع اليابس وكما سبح الحصى وكما فر الحجر بثوب موسى - صلى الله عليه وسلم -. قال: وهذا وما أشبهه شواهد لما اخترناه واختاره المحققون في معنى الحديث، وأن أحدًا يحبنا حقيقة، وقيل المراد يحبنا أهله فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه – انتهى. وقال الزرقاني: قوله ((يحبنا)) حقيقة كما رجحه جماعة وقد خاطبه - صلى الله عليه وسلم - مخاطبة من يعقل فقال لما اضطرب ((اسكن)) فوضع الله الحب فيه كما وضع التسبيح في الجبال مع داود، والخشية في الحجارة التي قال فيها {وإن منها لما يهبط من خشية الله} وكما حن الجذع لفراقه حتى سمع الناس حنينه فلا ينكر وصف الجماد بحب الأنبياء، وقد سلم عليه الحجر والشجر وسبحت الحصيات في يده وكلمته الذراع وأمنت حوائط البيت وأسكفه الباب على دعائه - صلى الله عليه وسلم - إشارة إلى مزيد حب الله إياه حتى أسكن حبه في الجماد وغرس محبته في الحجر مع فضل يبسه وقوة صلابته، وقوله ((نحبه)) حقيقة أيضًا. لأن جزاء من يحب أن يحب. ولأنه من جبال الجنة كما رواه أحمد عن أبي عبس بن جبر (كما تقدم) وللبزار والطبراني ((أحد هذا جبل يحبنا ونحبه على باب من أبواب الجنة)) أي من داخلها. فلا ينافي رواية الطبراني أيضًا: " أحد ركن من أركان الجنة ". لأنه ركن داخل الباب، بدليل رواية ابن سلام في تفسيره أنه ركن باب الجنة، وقيل هو على حذف المضاف أي يحبنا أهله وهم الأنصار لأنهم جيرانه، وكانوا يحبونه - صلى الله عليه وسلم - ويحبهم. وقيل لأنه كان يبشره بلسان الحال إذا قدم من سفر بقربه من أهله ولقائهم، وذلك فعل المحب بمن يحب فكان يفرح إذا طلع له استبشارًا بالأوبة من السفر والقرب من الأهل، وضعف بما في رواية الطبراني عن أنس ((فإذا جئتموه فكلوا من شجره ولو من عضاهه)) بكسر المهملة وضاد معجمة كل شجرة عظيمة ذات شوك، فحث على عدم إهمال الأكل حتى لو فرض أنه لا يوجد إلا ما لا يؤكل كالعضاه يمضغ منه تبركاً ولو بلا ابتلاع قال: وأخذ من هذا الحديث أنه أفضل الجبال. وقيل عرفة، وقيل: أبو قبيس: وقيل: الذي كلم الله عليه موسى، وقيل: قاف. قيل: وفيه قبر هارون أخي موسى عليهما السلام ولا يصح- انتهى. (اللهم إن إبراهيم حرم مكة) تقدم شرحه (متفق عليه) أخرجه البخاري في باب خرص التمر من كتاب الزكاة، وفي باب من غزا بصبي للخدمة من الجهاد، وفي باب قوله: {اتخذ الله إبراهيم خليلاً} (سورة النساء: الآية 124) من كتاب الأنبياء، وفي باب غزوة أحد من المغازي، وفي باب الحيس من الأطعمة، وفي باب ما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وحض على اتفاق أهل العلم، إلخ. من كتاب الاعتصام، وأخرجه مسلم في الحج في فضل المدينة، وأخرجه أيضًا مالك في الجامع والترمذي في أواخر المناقب.

(الفصل الثاني)

2771 – (19) وعن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أحد جبل يحبنا ونحبه ". رواه البخاري. (الفصل الثاني) 2772 – (20) عن سليمان بن أبي عبد الله، قال: رأيت سعد بن أبي وقاص أخذ رجلاً يصيد في حرم المدينة الذي حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلبه ثيابه، فجاء مواليه فكلموه فيه، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرم هذا الحرم، وقال: " من أخذ أحدًا يصيد فيه فليسلبه ". فلا أرد عليكم ـــــــــــــــــــــــــــــ 2771 – قوله (وعن سهل بن سعد) تقدم ترجمته في الجزء الأول (ص 166) (أحد جبل يحبنا ونحبه) تقدم وجه تخصيصه بالذكر في كلام السهيلي. وقال القاري: لعل وجه تخصيصه بالذكر لتحركه به سرورًا لما رقى عليه مع أصحابه الثلاثة فقال له " اثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان ". (رواه البخاري) في باب خرص التمر من كتاب الزكاة تعليقًا إذ قال: وقال سليمان (بن بلال) عن سعد بن سعيد عن عمارة بن غزية عن عباس (بن سهل بن سعد) عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أحد جبل يحبنا ونحبه ". قال الحافظ: وصله أبو علي بن خزيمة في فوائده، وفي الباب عن أبي حميد الساعدي عند أحمد والبخاري ومسلم وعن سويد بن عامر الأنصاري عند أحمد والطبراني في الكبير والضياء في المختارة. 2772 – قوله (عن سليمان بن أبي عبد الله) قال الحافظ في تهذيب التهذيب: روى عن سعد وأبي هريرة وصهيب وعنه يعلى بن حكيم الثقفي، قال أبو حاتم: ليس بالمشهور فيعتبر حديثه، وذكره ابن حبان في الثقات، روى له أبو داود حديثًا واحدًا في حرم المدينة، قلت: قال البخاري وأبو حاتم: أدرك المهاجرين والأنصار، وقال في التقريب عنه: مقبول من الثالثة، أي الطبقة الوسطى من التابعين (أخذ رجلاً) أي عبدًا (فسلبه ثيابه) بدل اشتمال أي أخذ ما عليه من الثياب (فجاء مواليه فكلموه فيه) أي في شأن العبد ورد سلبه (حرم هذا الحرم) قال الطيبي: دل على أن سعدًا اعتقد أن تحريمها كتحريم مكة (وقال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (من أخذ) كذا في المشكاة والمصابيح وجامع الأصول والمنتقى للمجد بن تيمية، وهكذا وقع في بعض نسخ أبي داود وفي بعضها وجد بدل أخذ (أحدًا يصيد فيه فليسلبه) زاد في بعض نسخ أبي داود ((ثيابه)) ولفظ أحمد ((من رأيتموه يصيد فيه شيئًا فلكم سلبه)) وقوله ((فليسلبه ثيابه)) ظاهر في أنها تؤخذ ثيابه جميعها، وقال الماوردي: يبقى له ما يستر عورته، وصححه النووي، واختاره جماعة من أصحاب الشافعي (فلا أرد عليكم

طعمة أطعمنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن إن شئتم دفعت إليكم ثمنه. رواه أبو داود. 2773 – (21) وعن صالح مولى لسعد، أن سعدًا وجد عبيدًا من عبيد المدينة ـــــــــــــــــــــــــــــ طعمة) بضم الطاء وكسرها ومعنى الطعمة الأكلة، وأما الكسر فجهة الكسب وهيئته، قاله الشوكاني. وقال القاري: طعمة بالضم أي رزقًا (ولكن إن شئتم دفعت إليكم ثمنه) أي تبرعًا، قاله الطيبي. وفي رواية لأحمد ((إن شئتم أن أعطيكم ثمنه أعطيتكم، قال الشوكاني: وبقصة سعد هذه احتج من قال: إن من صاد من حرم المدينة أو قطع من شجرها أخذ سلبه. وهو قول الشافعي في القديم. قال النووي: وبهذا قال سعد بن أبي وقاص وجماعة من الصحابة – انتهى. وقد حكى ابن قدامة عن أحمد في إحدى الروايتين القول به. قال: وروى ذلك عن ابن أبي ذئب وابن المنذر – انتهى. وهذا يرد على القاضي عياض حيث قال: ولم يقل به أحد بعد الصحابة إلا الشافعي في قوله القديم. وقد اختلف في السلب فقيل: إنه لمن سلبه، وقيل: لمساكين المدينة، وقيل: لبيت المال. قال الشوكاني: وظاهر الأدلة أنه للسالب وأنه طعمة لكل من وجد فيه أحدًا يصيد أو يأخذ من شجره – انتهى. (رواه أبو داود) في الحج، وأخرجه أيضًا أحمد (ج 1: ص 170) وقد سكت عنه أبو داود. قال النووي: وهو صحيح أو حسن أي كما هو قاعدته فيما يسكت عليه، وقال المنذري: سئل أبو حاتم الرازي عن سليمان بن أبي عبد الله (المذكور في إسناده) فقال: ليس بالمشهور ولكن يعتبر بحديثه – انتهى. وقال الشوكاني: قال الذهبي: تابعي وثق، وقد روى الحاكم (ج 1: ص 486) من طريق بشر بن المفضل عن عبد الرحمن بن إسحاق عن أبيه عن عامر بن سعد عن أبيه أنه كان يخرج من المدينة يريد الحاطب من الحطاب معه شجرة رطب قد عضده من بعض شجر المدينة فيأخذ سلبه فيكلمه فيه فيقول: لا أدع غنيمة غنمنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا من أكثر الناس مالاً. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد. وقال الذهبي: صحيح 2773 - قوله (وعن صالح مولى لسعد) هذا خطأ والصواب عن صالح عن مولى لسعد كما في أبي داود، وفي الظاهر أنه سقط لفظ ((عن)) من قلم نساخ المشكاة أو وقع سهو من المصنف. قال ميرك: ويؤيد ذلك أن من صنف في أسماء رجال الكتب لم يذكر لسعد مولى يقال له صالح، وصالح هذا هو صالح بن نبهان المدني مولى التوأمة – بفتح المثناة وسكون الواو بعدها همزة مفتوحة – قال الحافظ في التقريب: صدوق اختلط بآخره، قال ابن عدي: لا بأس برواية القدماء عنه كابن أبي ذئب وابن جريج، مات سنة خمس أو ست وعشرين ومائة – انتهى. وقال الخزرجي في الخلاصة: قال ابن معين: صالح مولى التوأمة ثقة حجة سمع منه ابن أبي ذئب قبل أن يخرف، ومن سمع منه قبل أن يختلط فهو ثبت – انتهى. قلت: هذا الحديث من رواية ابن أبي ذئب عنه. وما قال المنذري في مختصر السنن ((صالح مولى التوأمة لا يحتج بحديثه)) فهو محمول على ما روي عنه بعد الاختلاط ومولى سعد هذا مجهول كما قال المنذري، ففي

يقطعون من شجر المدينة فأخذ متاعهم وقال يعني لمواليهم: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى أن يقطع من شجر المدينة شيء، وقال: " من قطع منه شيئًا فلمن أخذه سلبه ". رواه أبو داود. 2774 – (22) وعن الزبير، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن صيد وج وعضاهه حرم محرم لله. ـــــــــــــــــــــــــــــ الاحتجاج بهذا الحديث نظر قوي لكن يؤيده الحديث الذي قبله، وحديث مسلم من طريق عامر بن سعد عن سعد الذي سبق في الفصل الأول (يقطعون من شجر المدينة) أي من بعض أشجارها (فأخذ متاعهم) أي ثيابهم وما عندهم (وقال) أي سعد (يعنى لمواليهم) بيان من الراوي للمقول لهم (أن يقطع) بصيغة المجهول (وقال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (من قطع منه) أي من شجرها (فلمن) أي للذي (أخذه) أي القاطع (سلبه) بفتح السين واللام أي ما عليه من الثياب وغيرها (رواه أبو داود) في الحج وسكت عليه، وقد تقدم أن مولى سعد مجهول لكن يؤيده الحديث الذي قبله وحديث سعد المذكور في الفصل الأول. 2774- قوله (وعن الزبير) أي ابن العوام تقدم ترجمته (إن صيد وَجّ) بفتح الواو وتشديد الجيم هو الطائف وقيل واد بالطائف. قال ابن رسلان: هو أرض بالطائف عند أهل اللغة، وقال أصحابنا: هو واد بالطائف وقيل كل الطائف. وقال الحازمي في المؤتلف والمختلف في الأماكن ((وج)) اسم لحصون الطائف، وقيل لواحد منها. (وعضاهه) بكسر العين وتخفيف الضاد كما سلف، قال الجوهري: العضاه كل شجر يعظم وله شوك، وعند البيهقي ((عضاهه يعني شجره)) (حرم) بفتح الحاء والراء المهملتين الحرام، كقولهم زمن وزمان، وعند البيهقي ((حرام)) (محرم لله) تأكيد للحرمة. قال الشوكاني: والحديث يدل على تحريم صيد وج وشجره، وقد ذهب إلى كراهته الشافعي حيث قال في الإملاء: أكره صيد وج. وجزم جمهور أصحاب الشافعي بالتحريم وقالوا: إن مراد الشافعي بالكراهة كراهة التحريم. قال ابن رسلان في شرح السنن بعد أن ذكر قول الشافعي في الإملاء: وللأصحاب فيه طريقان أصحهما وهو الذي أورده الجمهور القطع بتحريمه. قالوا: ومراد الشافعي بالكراهة كراهة التحريم، ثم قال: وفيه طريقان أصحهما وهو قول الجمهور يعني من أصحاب الشافعي أنه يأثم فيؤدبه الحاكم على فعله ولا يلزمه شيء لأن الأصل عدم الضمان إلا فيما ورد به الشرع ولم يرد في هذا شيء. والطريق الثاني حكمه في الضمان حكم المدينة وشجرها وفي وجوب الضمان فيه خلاف – انتهى. وقد قدمنا الخلاف في ضمان صيد المدينة وشجرها. قال الخطابي في المعالم (ج 2: ص 442) : ولست أعلم لتحريمه وَجًّا معنى إلا أن يكون ذلك على سبيل الحمى لنوع من منافع المسلمين، وقد يحتمل أن يكون ذلك التحريم إنما كان في وقت معلوم وفي مدة محصورة، ثم نسخ، ويدل على ذلك قوله ((وذلك قبل نزوله الطائف وحصاره لثقيف)) ثم عاد الأمر فيه إلى الإباحة كسائر بلاد الحل، ومعلوم أن عسكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نزلوا بحضرة الطائف وحصروا

رواه أبو داود. ـــــــــــــــــــــــــــــ أهلها ارتفقوا بما نالته أيديهم من شجر وصيد ومرفق فدل ذلك على أنها حل مباح وليس يحضرني في هذا وجه غير ما ذكرته – انتهى. قال في عون المعبود نقلاً عن غاية المقصود: في ثبوت هذا القول أي كون تحريم وَجّ قبل نزول الطائف نظر لأن محمد بن إسحاق قال في مغازيه ما ملخصه: أن رجالاً من ثقيف قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة بعد وقعة الطائف فضرب عليهم قبة في ناحية مسجده وكان خالد بن سعيد بن العاص هو الذي يمشي بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى كتبوا كتابهم، وكان خالد هو الذي كتبه وكان كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي كتب لهم أي بعد إسلام أهل الطائف ((بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد النبي رسول الله إلى المؤمنين إن عضاه وج وصيده حرام ألا يعضد، من وجد يصنع شيئًا من ذلك فإنه يجلد وينزع ثيابه، فإن تعدى ذلك فإنه يؤخذ فيبلغ به النبي محمد وأن هذا أمر النبي محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكتب خالد بن سعيد بأمر الرسول محمد بن عبد الله فلا يتعداه أحد فيظلم نفسه فيما أمر به محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) انتهى ملخصًا محررًا من زاد المعاد. قال ابن القيم: إن وادي وج وهو واد بالطائف حرم يحرم صيده وقطع شجره، وقد اختلف الفقهاء في ذلك، والجمهور قالوا: ليس في البقاع حرم إلا مكة والمدينة وأبو حنيفة رحمه الله خالفهم في حرم المدينة، وقال الشافعي رحمه الله في أحد قوليه: وج حرم يحرم صيده وشجره. واحتج لهذا القول بحديثين أحدهما هو الذي تقدم، والثاني حديث عروة بن الزبير عن أبيه الزبير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن صيد وج وعضاهه حرم محرم لله، رواه الإمام أحمد وأبو داود. وهذا الحديث يعرف لمحمد بن عبد الله بن إنسان عن أبيه عن عروة. قال البخاري في تاريخه: لا يتابع عليه. قلت: وفي سماع عروة من أبيه نظر وإن كان قد رآه، والله أعلم – انتهى كلام ابن القيم.وقال الشوكاني بعد نقل كلام الخطابي: والظاهر من الحديث تأيبد التحريم، ومن ادعى النسخ فعليه الدليل لأن الأصل عدمه، وأما ضمان صيده وشجره على حد ضمان صيد الحرم المكي فموقوف على ورود دليل يدل على ذلك، لأن الأصل براءة الذمة ولا ملازمة بين التحريم والضمان – انتهى (رواه أبو داود) في الحج وأخرجه أيضًا أحمد (ج 1: ص 165) والحميدي (ج 1: ص 34) والبيهقي (ج 5: ص 200) والبخاري في التاريخ الكبير (ج 1: ص 140) كلهم من طريق عبد الله بن الحارث عن محمد بن عبد الله بن إنسان عن أبيه عن عروة بن الزبير عن الزبير، وفيه قصة، والحديث سكت عنه أبو داود وكذا سكت عنه عبد الحق وتعقب بما نقل عن البخاري أنه قال (ج 3: ص 45) في ترجمة عبد الله بن إنسان: لم يصح حديثه. وكذا قال الأزدي وابن حبان، وذكر الذهبي في الميزان أن الشافعي صححه واعتمده وذكر الخلال في العلل أن أحمد ضعفه وذكر ابن حبان عبد الله بن إنسان في الثقات وقال: كان يخطئ. وتعقبه الذهبي فقال: هذا لا يستقيم أن يقوله الحافظ إلا فيمن روى عدة أحاديث، فأما عبد الله هذا فهذا الحديث أول ما عنده وآخره، فإن كان قد أخطأ فحديثه مردود على قاعدة ابن حبان يعني أنه إذا لم يكن عند عبد الله المذكور غير هذا الحديث فإن

وقال محيي السنة: وج ذكروا أنها من ناحية الطائف. وقال الخطابي: ((أنه)) بدل ((أنها)) . 2775 – (23) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها، فإني أشفع لمن يموت بها ". ـــــــــــــــــــــــــــــ كان أخطأ فيه فما هو الذي ضبطه؟ قال الشوكاني: مقتضى قول ابن حبان ((كان يخطئ)) تضعيف الحديث فإنه ليس له غيره، فإن كان أخطأ فيه فهو ضعيف. وقال العقيلي: لا يتابع إلا من جهة تقاربه في الضعف. وقال النووي في شرح المهذب: إسناده ضعيف. وقال المنذري في مختصر السنن (ج 2: ص 442) : في إسناد هذا الحديث محمد بن عبد الله بن إنسان الطائفي وأبوه فأما محمد فسئل عنه أبو حاتم الرازي فقال: ليس بالقوى، وفي حديثه نظر، وذكره البخاري في تاريخه الكبير (ج 1: ص 140) وذكر له هذا الحديث وقال: ولم يتابع عليه وذكر أباه (ج 3: ص 45) وأشار إلى هذا الحديث وقال: لم يصح حديثه. وقال البستي: عبد الله بن إنسان روى عنه ابنه محمد ولم يصح حديثه – انتهى. وبهذا يتبين عدم صحة الاستدلال بهذا الحديث على حكم مشتمل على تحريم (وقال محيي السنة) أي البغوي صاحب المصابيح في شرح السنة (وج ذكروا) أي العلماء (أنها من ناحية الطائف) يعني أنه موضع من نواحي الطائف (وقال الخطابي) أي في معالم السنن (ج 2: ص 441) (أنه) بفتح الهمزة (بدل أنها) وهو أمر سهل لأن التذكير باعتبار الموضع والتأنيث باعتبار البقعة. 2775- قوله (من استطاع أي قدر (أن يموت بالمدينة) أي أن يقيم بها حتى يدركه الموت ثمة (فليمت بها) أي فليقم بها حتى يموت بها فهو تحريض على لزوم الإقامة بها ليتأتى له أن يموت فيها إطلاقًا للمسبب على سببه (فإني أشفع) ولفظ ابن ماجة ((فإني أشهد)) (لمن يموت بها) أي أخصه بشفاعتي غير العامة زيادة في إكرامه. قال الطيبي: أمر له بالموت فيها وليس ذلك من استطاعته بل هو إلى الله تعالى لكنه أمر بلزومها والإقامة بها بحيث لا يفارقها فيكون ذلك سببًا لأن يموت فيها فأطلق المسبب وأراد السبب كقوله تعالى: {فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} (سورة آل عمران: الآية 97) والحديث قد استدل به على أن السكنى بالمدينة والمجاورة بها أفضل منها بمكة لأن الترغيب في الموت في المدينة لم يثبت مثله لغيرها والسكنى بها وصلة إليه فيكون ترغيباً في سكناها وتفضيلاً لها على غيرها، ولأنه صح ((لا يصير على لأوائها وشدتها أحد إلا كنت له شفيعًا أو شهيدًا يوم القيامة)) ولم يرد في سكنى مدينة نحو ذلك، ولأنه اختار - صلى الله عليه وسلم - ذلك ولم يكن يختار إلا الأفضل، ولأن الإقامة بالمدينة في حياته - صلى الله عليه وسلم - أفضل إجماعاً فيستصحب ذلك بعد وفاته حتى يثبت إجماع مثله برفعه، هذا حاصل ما ذكره السندي في اللباب والسمهودي في وفاء الوفاء للاحتجاج لذلك، وهما من القائلين بأفضلية المجاورة بالمدينة من المجاورة بمكة، وقد رد ذلك علي القاري وابن حجر المكي من شاء البسط

رواه أحمد، والترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب إسنادًا. 2776 – (24) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " آخر قرية من قرى الإسلام خرابا المدينة ". رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ والتفصيل رجع إلى شرح اللباب للقاري وشرح مناسك النووي لابن حجر وإلى غنية الناسك، وسيأتي شيء من الكلام في ذلك في شرح حديث يحيى بن سعيد المرسل في الفصل الثالث. وقال المناوي: وأخذ من الحديث حجة الإسلام ندب الإقامة بها مع رعاية حرمتها وحرمة ساكنيها، وقال ابن الحاج: حثه على محاولة ذلك بالاستطاعة التي هي بذل المجهود في ذلك فيه زيادة اعتناء بها ففيه دليل على تميزها على مكة في الفضل لإفراده إياها بالذكر هنا. وقال القاري: ليس هذا الحديث صريحاً في أفضلية المدينة على مكة مطلقًا إذ قد يكون في المفضول مزية على الفاضل من حيثية، وتلك بسبب تفضيل بقعة البقيع على الحجون، إما لكونه تربة أكثر الصحابة الكرام أو لقرب ضجيعه عليه الصلاة السلام ولا يبعد أن يراد به المهاجرون فإنه ذم لهم الموت بمكة كما قرر في محله. وقال النووي في شرح مسلم وفي مناسكه: إن المجاورة بهما جميعًا مستحبة إلا أن يغلب على ظنه الوقوع في الأمور المحظورة (رواه أحمد) (ج 2: ص 74، 104) (والترمذي) في أواخر المناقب، وأخرجه أيضًا ابن ماجة في الحج وابن حبان في صحيحه كما في موارد الظمآن (ص 255) والبيهقي وعبد الحق (وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب إسنادًا) وفي جامع الترمذي غريب من هذا الوجه من حديث أيوب السختياني (عن نافع عن ابن عمر) والحديث صححه أيضًا عبد الحق. وفي الباب عن سبيعة بنت الحارث الأسلمية عند البيهقي في الشعب والبزار والطبراني في الكبير نحو حديث ابن عمر، قال المنذري: ورواته محتج بهم في الصحيح إلا عبد الله بن عكرمة وروى عنه جماعة ولم يجرحه أحد وعن صميتة الصحابية أخرجه ابن حبان في صحيحه كما في موارد الظمآن (ص 255) والبيهقي في الشعب والطبراني، وعن امرأة يتيمة كانت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ثقيف أنها حدثت صفية بنت أبي عبيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت ". – الحديث. أخرجه الطبراني في الكبير، قال الهيثمي: إسناده حسن ورجاله رجال الصحيح خلا شيخ الطبراني. 2776- قوله (آخر قرية) بفتح القاف (من قرى الإسلام) بضم القاف (خرابا) قال المناوي: الخراب ذهاب العمارة والعمارة إحياء المحل وشغله بما وضع له، ذكره الحراني، وفي الكشاف: التخريب والإخراب الإفساد بالنقض والهدم (المدينة) خبر وآخر مبتدأ ويجوز عكسه. والمراد بالمدينة المدينة النبوية وهي علم لها بالغلبة فلا يستعمل معرفاً إلا فيها، والنكرة اسم لكل مدينة، ويقال في النسبة للكل مديني وللمدينة النبوية مدني للفرق، وفي الحديث إشارة إلى أن عمارة الإسلام منوطة بعمارتها وهذا ببركة وجوده فيها - صلى الله عليه وسلم - (رواه الترمذي) في أواخر جامعه وأخرجه أيضًا

وقال: هذا حديث حسن غريب. 2777 – (25) وعن جرير بن عبد الله، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله أوحى إليَّ: أي هؤلاء الثلاثة نزلت فهي دار هجرتك: المدينة أو البحرين أو قنسرين ". ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن حبان في صحيحه كما في الموارد (ص 257) كلاهما من طريق مسلم بن جنادة عن أبيه عن هشام بن عروة عن أبيه عن أبي هريرة (وقال هذا حديث حسن غريب) لا نعرفه إلا من حديث جنادة عن هشام. قال المناوي في شرح الجامع الصغير: وقد رمز المصنف يعنى السيوطي لضعفه وهو كما قال، فإن الترمذي ذكر في العلل أنه سأل عنه البخاري فلم يعرفه وجعل يتعجب منه وقال: كنت أرى أن جنادة هذا مقارب الحديث – انتهى. وذكر البخاري جنادة هذا في التاريخ الكبير ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً. وقال الحافظ في التهذيب والذهبي في الميزان: ضعفه أبو زرعة. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث ما أقربه من أن يترك حديث، وذكره ابن حبان في الثقات. قال الحافظ: وقال الساجي: حدث عن هشام بن عروة حديثًا منكراً ووثقه ابن خزيمة وأخرج له في صحيحه. وقال في التقريب: هو صدوق له أغلاط – انتهى. قلت: الظاهر أن الترمذي حسن الحديث لكونه جنادة المذكور صدوقًا، قال السبكي: كغيره إذا ضعف الرجل في السند ضعف الحديث من أجله ولم يكن فيه دلالة على بطلانه من أصله، ثم قد يصح من طريق أخرى وقد يكون هذا الضعيف صادقاً ثبتاً في تلك الرواية فلا يدل مجرد تضعيفه والحمل عليه على بطلان ما جاء في نفس الأمر – انتهى. قالوا: وإذا قوى الضعف لا ينجبر بوروده من وجه آخر وإن كثر الطرق، بخلاف ما خف ضعفه ولم يقصر الجابر عن جبره فإنه ينجبر ويعتضد. 2777- قوله (أي هؤلاء الثلاثة) منصوب على الظرفيه بقوله (نزلت) أي للإقامة بها والاستيطان فيها (المدينة) بالجر على البدلية من الثلاثة (أو البحرين) موضع بين بصرة وعمان وقيل بلاد معروفة باليمن، وقال الطيبي جزيزة ببحر عمان (أو قنسرين) بكسر القاف وفتح النون الأولى المشددة ويكسر بلد الشام وهو غير منصرف. قال القاري: هذا الحديث مشكل فإن التي رآها وهو بمكة أنها دار هجرية وأمر بالهجرة إليها هي المدينة كما في الأحاديث التي أصح من هذا، وقد يجمع بأنه أوحى إليه للخيير بين تلك الثلاثة ثم عين له إحداها وهي أفضلها – انتهى. قال شيخنا في شرح الترمذي: وفي حديث أبي موسى عند البخاري (في باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر فإذا هي المدينة يثرب. قال الحافظ: ووقع عند البيهقي من حديث صهيب رفعه: أريت دار هجرتكم سبخة بين ظهراني حرتين فإما أن تكون هجر أو يثرب. ولم يذكر اليمامة. وللترمذي من حديث جرير قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله تعالى أوحى إلى أي هؤلاء

(الفصل الثالث)

رواه الترمذي. (الفصل الثالث) 2778 – (26) عن أبي بكرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال، لها يومئذ سبعة أبواب على كل باب ملكان ". رواه البخاري. 2779 – (27) وعن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ـــــــــــــــــــــــــــــ الثلاثة نزلت فذكر الحديث: ثم قال: استغربه الترمذي، وفي ثبوته نظر لأنه مخالف لما في الصحيح من ذكر اليمامة، لأن قنسرين من أرض الشام من جهة حلب بخلاف اليمامة فإنها إلى جهة اليمن إلا أن حمل على اختلاف المأخذ فإن الأول جرى على مقتضى الرؤيا التي أريها، والثاني يخير بالوحي فيحتمل أن يكون أرى أولاً ثم خير ثانيًا فاختار المدينة انتهى. (رواه الترمذي) في أواخر المناقب عن الحصين بن حريث عن الفضل بن موسى عن عيسى بن عبيد عن غيلان بن عبد الله العامري عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن جرير بن عبد الله البجلي وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الفضل بن موسى، تفرد به أبو عمار، وقد تقدم أن الحافظ قال: في ثبوت هذا الحديث نظر لكونه مخالفًا لما في صحيح البخاري. وقال في تهذيب التهذيب في ترجمة غيلان بن عبد الله ذكره ابن حبان في الثقات وقال: روى عن أبي زرعة عن جرير حديثًا منكراً وأخرجه الترمذي وقال: غريب. وقال الذهبي في الميزان: ما علمت روى عنه سوى عيسى بن عبيد، حديثه منكر، ما أقدم الترمذي على تحسينه بل قال: غريب. 2778- قوله (لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال) بضم الراء وسكون العين أي خوفه وذعره وإذا لم يدخل رعبه فأولى أن لا يدخل هو وسمي الدجال مسيحاً لمسحه الأرض أو لأنه ممسوح العين لأنه أعور وذكر لفظ الدجال بعد المسيح ليتميز عن عيسى المسيح عليه الصلاة والسلام وقد تقدم بيان ما هو المراد من عدم دخول رعب الدجال في المدينة في شرح حديث أنس ((ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة)) (لها) أي لسورها (يومئذ سبعة أبواب) أي طرق وأنقاب (على كل باب ملكان) أي اثنان أو نوعان يميناً وشمالاً يحفظانها ويحرسانها منه (رواه البخاري في الحج وفي الفتن وهو من أفراده لم يخرجه مسلم ولا أصحاب السنن نعم أخرجه أحمد (ج 5: ص 41، 43، 46) . 2779- قوله (اللهم اجعل بالمدينة ضعفي) تثنية ضعف بالكسر أي مثليه بناء على أن ضعف الشيء مثله وهو ما عليه أهل اللغة. قال الجوهري: ضعف الشيء مثله وضعفاه مثلاه وأضعافه أمثاله – انتهى. وقال في القاموس: ضعف الشيء بالكسر مثله وضعفاه مثلاه، أو الضعف المثل إلى ما زاد، يقال: لك ضعفه، يريدون مثليه وثلاثة أمثاله لأنه زيادة غير

ما جعلت بمكة من البركة ". متفق عليه. 2780 – (28) وعن رجل من آل الخطاب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ـــــــــــــــــــــــــــــ محصورة، وقول الله تعالى: {يضاعف لها العذاب ضعفين} (سورة الأحزاب: الآية 30) أي ثلاثة أعذبة، ومجاز يضاعف أي يجعل إلى الشيء شيئان حتى يصير ثلاثة – انتهى. وأما في العرف فضعف الشيء مثلاه وضعفاه ثلاثة أمثاله وعليه جرى الفقهاء في الإقرار والوصية فليزم في الوصية بضعف نصيب ابنه مثلاه وبضعفيه ثلاثة أمثاله في قوله ((له عليَّ ضعف درهم)) يلزمه درهمان عملاً بالعرف لا العمل باللغة، والمعني هنا اللهم اجعل بالمدينة مثلي (ما جعلت بمكة من البركة) أي الدنيوية بقرينة قوله في الحديث الآخر ((اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا)) فلا يقال: إن مقتضى إطلاق البركة أن يكون ثواب صلاة المدينة ضعفي ثواب الصلاة بمكة، أو المراد عموم البركة لكن خصت الصلاة ونحوها بدليل خارجي، واستدل به على تفضيل المدينة على مكة وهو ظاهر من هذه الجهة لكن لا يلزم من حصول أفضلية المفضول في شيء من الأشياء ثبوت الأفضلية على الإطلاق، وتكرير الدعاء في حق الشام واليمن بقوله: اللهم بارك لنا في شامنا ويمننا، للتأكيد والتأكيد لا يستلزم التكثير المصرح به في حديث الباب فلا يصح مناقضة الاستدلال المذكور بتكرير الدعاء للشام واليمن. قال الأبي: ومعني ((ضعفي ما بمكة)) أن المراد ما أشبع بغير مكة رجلاً أشبع بمكة رجلين وبالمدينة ثلاثة، فالأظهر في الحديث أن البركة إنما هي في الاقتيات، وقال النووي: في نفس المكيل بحيث يكفى المد فيها من لا يكفيه في غيرها، وهذا أمر محسوس عند من سكنها (متفق عليه) أخرجاه في الحج، وأخرجه أيضًا أحمد، وفي الباب عن علي بلفظ ((اللهم إن إبراهيم كان عبدك وخليلك ودعا لأهل مكة بالبركة وأنا عبدك ورسولك أدعو لأهل المدينة أن تبارك لهم في مدهم وصاعهم مثلي ما باركت لأهل مكة مع البركة بركتين)) (أي أدعوك أن تضاعف لهم البركة ضعفي ما باركته لأهل مكة بدعاء إبراهيم) أخرجه أحمد (ج 1: ص 115، 116) والترمذي في فضل المدينة من المناقب والطبراني في الأوسط. 2780- قوله (وعن رجل من آل الخطاب) بفتح الخاء المعجمة وتشديد الطاء المهملة على ما في نسخ المشكاة، وكتب ميرك على الهامش ((آل حاطب)) بالحاء المهملة وكسر الطاء ووضع عليه الظاهر وكتب تحته كذا في الترغيب للمنذري ذكره القاري. قلت: قد وقع الاضطراب في سند هذا الحديث فرواه العقيلي وكذا البيهقي في الشعب بلفظ ((عن رجل من آل الخطاب)) ورواه أبو داود الطيالسي ومن طريقه البيهقي في السنن بلفظ ((عن رجل من آل عمر عن عمر)) ورواه البخاري في تاريخه والدارقطني في سننه بلفظ ((عن رجل من ولد حاطب)) وفي رواية ((من آل حاطب)) ثم الرجل المبهم بعضهم يسنده عن عمر كما في رواية البيهقي من طريق أبي داود الطيالسي وبعضهم يسنده عن حاطب وهو عند الدارقطني وبعضهم يرسله ولا يسنده لا عن حاطب ولا عن عمر وهو الذي ذكره البخاري والعقيلي، ورواية العقيلي بلفظ ((عن

" من زارني متعمدًا كان في جواري يوم القيامة، ومن سكن المدينة وصبر على بلائها كنت له شهيدًا وشفيعًا يوم القيامة، ومن مات في أحد الحرمين بعثه الله من الآمنين يوم القيامة ". 2781 – (29) وعن ابن عمر مرفوعًا: " من حج فزار قبري بعد موتي، كان كمن زارني في حياتي ". ـــــــــــــــــــــــــــــ رجل من آل الخطاب)) توافق رواية الطيالسي عن رجل من آل عمر، وقيل ((الخطاب)) تصحيف من حاطب (من زارني) أي زيارة مشروعة (متعمدًا) أي لا يقصد غير زيارتي من الأمور التي تقصد في إتيان المدينة من التجارة وغيرها فالمعنى لا يكون مشوبًا بسمعة ورياء وأغراض فاسدة بل يكون عن احتساب وإخلاص ثواب (كان في جواري) بكسر الجيم أي في مجاورتي (ومن سكن المدينة) أي أقام أو استوطن بها (وصبر على بلائها) من حرها وضيق عيشها وفتنة من يسكنها من الروافض وغيرهم من أهل البدع التي فيها نظير ما كان يقع للصحابة من منافقيها (كنت له شهيدًا) أي لطاعته (وشفيعًا) لمعصيته. قال القاري: ويحتمل أن تكون الواو بمعني أو (ومن مات في أحد الحرمين) أي مؤمنًا (بعثه الله من الآمنين يوم القيامة) أي من الفزع الأكبر أو من كل كدورة، وفي الحديث دليل على فضل زيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - وفضل سكنى المدينة وفضل الموت في أحد الحرمين، واستدل به على ندب السفر وشد الرحل لزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وسيأتي الكلام على هذا في شرح الحديث التالي. 2781 - قوله (من حج فزار قبري بعد موتي) وفي رواية بعد وفاتي. قال القاري: الفاء التعقيبية دالة على أن الأنسب أن تكون الزيارة بعد الحج كما هو مقتضى القواعد الشرعية من تقديم الفرض على السنة، وقد روى الحسن عن أبي حنيفة تفصيلاً حسنًا وهو أنه إن كان الحج فرضًا فالأحسن للحاج أن يبدأ بالحج ثم يثنى بالزيارة، وإن بدأ بالزيارة جاز، وإن كان الحج نفلاً فهو بالخيار فيبدأ بأيهما شاء - انتهى. والأظهر أن الابتداء بالحج أولى لإطلاق الحديث ولتقديم حق الله على حقه - صلى الله عليه وسلم -؛ ولذا تقدم تحية المسجد النبوي على زيارة مشهده - صلى الله عليه وسلم - انتهى كلام القاري. قلت: وما نقل عن بعض السلف من الصحابة والتابعين أنهم كانوا يبدؤن بالمدينة قبل مكة إذا حجوا ففيه أنهم عللوا ذلك بالإهلال من ميقات النبي - صلى الله عليه وسلم - لقولهم ((نهل من حديث أحرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) ولم يعللوه بما توهم من توهم أن ذلك إنما كان لأجل زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن اتفق معها قصد عبادات أخرى فهو مغمور بالنسبة إليها، فلا دلالة في فعلهم على فضل الابتداء بالمدينة على مكة ولا على أن الابتداء بالمدينة كان لقصد الزيارة (كان كمن زارني في حياتي) في الحديث دليل على فضيلة زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا خلاف فيه بل هو أمر مجمع عليه، واستدل به السبكي ومن وافقه على استحباب السفر لمجرد زيارة مشهده - صلى الله عليه وسلم -، قيل لأن الزيارة شاملة للسفر فإنها تستدعي الانتقال من مكان الزائر إلى مكان المزور وإذا كانت الزيارة قربة كان السفر إليها قربة، وفيه أنه سلمنا أن الزيارة مطلقة شاملة للسفر

رواهما البيهقي في شعب الإيمان. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولكن قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، إلخ. مقيد لذلك الإطلاق، على أن لفظ الزيارة مجمل كالصلاة والزكاة فإن كل زيارة قبر ليست قربة بالإجماع للقطع بأن الزيارة الشركية والبدعية غير جائزة فلما زار النبي - صلى الله عليه وسلم - القبور وقع ذلك الفعل بيانًا لمجمل الزيارة ولم يثبت السفر لزيارة القبر من فعله - صلى الله عليه وسلم - وكذلك الصلاة والذكر شاملان للصلوات المبتدعة والأذكار المحدثة فلو سوغ الاستدلال بمثل تلك الإطلاقات للزم جواز الصلوات والأذكار المبتدعة المحدثة وهذا كله مبني على أن حديث ابن عمر هذا والذي قبله ثابتان صالحان للاستدلال والاحتجاج أو الاستشهاد ودون ذلك خرط القتاد كما ستعرف (رواهما) أي الحديثين السابقين (البيهقي في شعب الإيمان) وروى الحديث الثاني في السنن الكبري أيضًا (ج 5: ص 246) وفي الباب روايات أخرى ذكرها السبكي في شفاء السقام وكلها ضعيفة وفضائل الزيادة مشهورة ومن أنكرها إنما أنكر ما فيها من بدع وخرافات وأمور شركية أو أنكر السفر وإعمال المطي للزيارة لا نفس الزيارة والحديث الأول أخرجه أيضًا العقيلي والدارقطني (ص 279، 280) والبيهقي في السنن والطيالسي وغيرهم بألفاظ مختصرًا ومطولاً وإسناده مجهول كما قال البيهقي مضطرب اضطراباً شديداً في متنه وسنده كما بينه العلامة ابن عبد الهادي واه جدًا لا يصلح للاحتجاج ومداره على هارون بن قزعة وهو مجهول وشيخه رجل من آل الخطاب أيضًا مجهول والتفصيل في ((الصارم المنكي في الرد على السبكي)) للعلامة الحافظ ابن عبد الهادي الحنبلي المقدسي، وفي ((صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان)) للعلامة الشيخ محمد بشير المحدث السهسواني فعليك أن تراجعهما. والحديث الثاني وهو حديث ابن عمر أخرجه أيضًا أبو يعلى والدارقطني وابن عدي والطبراني وابن عساكر وفي سنده حفص بن أبي داود سليمان الأسدي القاري وليث بن أبي سليم وفي بعض طرقه الحسن بن طيب وأحمد بن رشدين وكلهم ضعفاء مجروحون وبعضهم متروكون وضاعون. قال الإمام ابن عبد الهادي في الصارم - صلى الله عليه وسلم - (52) : اعلم أن هذا الحديث لا يجوز الاحتجاج به ولا يصلح الاعتماد على مثله فإنه حديث منكر المتن ساقط الإسناد لم يصححه أحد من الحفاظ ولم يحتج به أحد من الأئمة بل ضعفوه وطعنوا فيه وذكر بعضهم أنه من الأحاديث الموضوعة والأخبار المكذوبة. قال: والحديث منكر جدًا – انتهى. وحفص بن سليمان المذكور ضعفه الأئمة وتركوه واتهمه بعضهم فقال أحمد ومسلم: هو متروك الحديث. وقال البخاري: تركوه. وقال علي بن المديني: ضعيف الحديث وتركته على عمد. وقال النسائي: ليس بثقة ولا يكتب حديثه، وقال مرة: متروك الحديث. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه فقال: لا يكتب حديثه، وهو ضعيف الحديث، لا يصدق، متروك. وقال ابن خراش: كذاب، متروك، يضع الحديث، وقال الحاكم أبو أحمد: ذاهب الحديث، وروى ابن عدي من طريق الساجي عن أحمد بن محمد البغدادي قال: سمعت يحيى بن معين يقول: كان حفص بن سليمان كذابًا. وقال أبو بشر الدولابي في كتاب الضعفاء والمتروكين:

2782 – (30) وعن يحيى بن سعيد، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ـــــــــــــــــــــــــــــ حفص بن سليمان متروك الحديث، وقال البيهقي: تفرد به حفص وهو ضعيف في رواية الحديث. وليث بن أبي سليم مضطرب الحديث ضعفه يحيى بن معين والنسائي وغيرهما، وقد اختلط أخيرًا ولم يتميز حديث فترك، وأما الحسن بن الطيب البلخي فضعفه النسائي وغيره، وكذبه مطين. وأما أحمد بن رشدين فقال ابن عدي: كذبوه فإن قيل: قد روى هذا الحديث من غير رواية حفص بن سليمان عن ليث بن أبي سليم، ولو ثبت ضعف حفص بن سليمان فإنه لم ينفرد بهذا الحديث، وقول البيهقي أنه تفرد به بحسب ما اطلع عليه وقد جاء في معجم الطبراني الكبير والأوسط متابعته. فقد قال الطبراني: حدثنا أحمد بن رشدين حدثنا علي بن الحسين بن هارون الأنصاري حدثنا الليث بن بنت الليث بن أبي سليم قال حدثتني جدتي عائشة بنت يونس امرأة الليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من زار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي ". فالجواب أن يقال: ليس هذا الإسناد بشيء يعتمد عليه ولا هو مما يرجع إليه بل هو إسناد مظلم ضعيف جدًا لأنه مشتمل على ضعيف لا يجوز الاحتجاج به ومجهول لم يعرف من حاله ما يوجب قبول خبره وابن رشدين شيخ الطبراني قد تكلموا فيه وعلي بن الحسين الأنصاري ليس هو ممن يحتج بحديثه والليث ابن بنت الليث بن أبي سليم وجدته عائشة مجهولان لم يشتهر من حالهما عند أهل العلم ما يوجب قبول روايتهما ولا يعرف لهما ذكر في غير هذا الحديث وليث بن أبي سليم قد تقدم ما فيه من الكلام، والحاصل أن هذا المتابع الذي ذكر من رواية الطبراني لا يرتفع به الحديث عن درجة الضعف والسقوط ولا ينهض إلى رتبة تقتضي الاعتبار والاستشهاد لظلمة إسناده وجهالة رواته وضعف بعضهم واختلاطه واضطراب إسناده، ولو كان الإسناد إلى ليث بن أبي سليم صحيحًا لكان فيه ما فيه فكيف والطريق إليه ظلمات بعضها فوق بعض، كذا في الصارم المنكي (ص 62، 63) وقال الحافظ في التلخيص (ص 221) بعد ذكر تخريج هذا الحديث وتفصيل طرقه والكلام في أسانيده وبيان ما وقع فيه من الاختلاف في متنه وسنده ما نصه: فائدة: طرق هذا الحديث كلها ضعيفة لكن صححه من حديث ابن عمر أبو علي بن السكن في إيراده إياه في أثناء الصحاح له وعبد الحق في الأحكام في سكوته عنه، والشيخ تقى الدين السبكي من المتأخرين باعتبار مجموع الطرق – انتهى. قلت: ومن وقف على ما في سند حديث ابن عمر من الكلام لا يخفى عليه ما في صنيع ابن السكن وعبد الحق من التساهل والإهمال، وأما تصحيح السبكي إياه باعتبار مجموع الطرق فقد ناقشه في ذلك ابن عبد الهادي حديثًا حديثًا وبين ما في كلامه من الخطأ والتعسف والزيغ والفساد من: أحب الوقوف على ذلك وعلى اختلاف العلماء في مسألة زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - رجع إلى الصارم المنكي. 2782 – قوله (وعن يحيى بن سعيد) الأنصاري التابعي قد تقدم ترجمته في الجنائز (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان) وفي

جالسًا وقبر يحفر بالمدينة، فاطلع رجل في القبر فقال: بئس مضجع المؤمن. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " بئس ما قلت ". قال الرجل إني لم أرد هذا إنما أردت القتل في سبيل الله فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا مثل القتل ـــــــــــــــــــــــــــــ الموطأ ((قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) قال ابن عبد البر: هذا الحديث لا أحفظه مسندًا ولكن معناه موجود من رواية مالك وغيره (جالساً) أي في المقبرة (وقبر) الواو حالية (يحفر لميت (بالمدينة) كذا في النسخ المصرية للموطأ ووقع في الهندية ((في المدينة)) وكلام الزرقاني يشير إلى أن الأولى رواية يحيى حيث قال: ولابن وضاح ((في المدينة)) انتهى. قال الباجي: يحتمل أن يكون قصد ذلك لمواصلة من كان القبر يحفر بسببه أو لفضل المقبور فيه ودينه أو للاتعاظ به، ويحتمل أن يكون جلس لغير ذلك فصادف حفر القبر – انتهى. قلت: والظاهر هو الأول، والله أعلم (فاطلع) بتشديد الطاء أي نظر (رجل في القبر فقال) أي الرجل المطلع (بئس مضجع المؤمن) بفتح الميم والجيم بينهما ضاد معجمة موضع الضجوع جمعه مضاجع. قال القاري: مضجع المؤمن بفتح الجيم مرقده ومدفنه. قال الطيبي: أي هذا القبر يعني المخصوص بالذم محذوف، والمعني كون المؤمن يضجع بعد موته في مثل هذا المكان ليس محمودًا – انتهى. وقال الباجي: قول المطلع ((بئس مضجع المؤمن)) يحتمل ظاهر اللفظ أن يريد بذلك المكان وقد يتأوله على ذلك من يسمعه منه فلو أقره النبي - صلى الله عليه وسلم - لاعتقد بعض السامعين له أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أقره على قوله إن المدينة المنورة بئس مضجع المؤمن - انتهى. (بئس ما قلت) أي حيث أطلقت الذم على مضجع المؤمن مع أن قبره روضة من رياض الجنة (إني لم أرد) بصيغة المتكلم من الإرادة من باب الإفعال (هذا) أي ذم القبر، وقال القاري: أي هذا المعنى أو هذا الإطلاق (إنما أردت القتل في سبيل الله) أي أردت أن الشهادة في سبيل الله أفضل من الموت على الفراش. قال الباجي قوله ((بئس ما قلت)) يحتمل إما أنه قد أراد عيب القبر وتفضيل الشهادة لكن اللفظ لما كان فيه من الاحتمال ما ذكرناه أنكر عليه اللفظ دون المعنى، ويحتمل أن يكون على هذا الوجه أنكر عليه اللفظ والمعنى لأنه لا يجوز أيضًا أن يقول في القبر: بئس مضجع المؤمن. لأنه له روضة من رياض الجنة وسبب إلى الرحمة والدرجة الرفيعة وإنما يجب أن يقول إن الشهادة أفضل من هذا فإذا كان الأمران فاضلين وأحدهما أفضل من الآخر وجب أن يقال هذا أفضل من هذا ولا يجوز أن يقال في المفضول بئس هذا الأمر، وأما المعنى الثاني فأن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتقد أنه أراد بذلك ذم الدفن بالمدينة ولذلك لم ينكر على القائل إذ قال: لم أرد هذا يا رسول الله. وإنما أردت القتل في سبيل الله. ولو كان فهم منه هذا لكان الأظهر أن يقول له قد فهمت مرادك ولكن هو مع ذلك خطأ فإنك قد جئت بلفظ مشترك أو عبت المفضول مع فضله (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) تقريرًا لمراده (لا مثل القتل) بالنصب أي ليس شيء مثل القتل

في سبيل الله، ما على الأرض بقعة أحب إليَّ أن يكون قبري بها منها ". ـــــــــــــــــــــــــــــ (في سبيل الله) في الثواب والفضل ولكن للدفن بالمدينة مزيد الفضل، وقوله لا مثل القتل كذا في جميع نسخ المشكاة أي بالإضافة، وفي الموطأ لا مثل للقتل. ثم ذكر - صلى الله عليه وسلم - فضيلة من يموت ويدفن في المدينة سواء يكون بشهادة أو غيرها فقال (ما على الأرض بقعة) بضم الموحدة في الأكثر فيجمع على بقع كغرفة وغرف وتفتح فتجمع على بقاع مثل كلبة وكلاب أي قطعة (أحب) بالرفع وقيل بالنصب وفي الموطأ ((هي أحب)) (أن يكون قبري بها) أي بتلك البقعة (منها) أي من المدينة. قال الباجي: ظاهره تفضيل المدينة على ما سواها من الأرض ولذلك أحب أن يكون قبره بها وهذا يقتضي أنه أحب أن يكون قبره بها دون مكة، وقد قيل إن ذلك لمعنى الهجرة، قال الباجي: وليس عندي بالبين لأنه لو كان كذلك لم يلعق الحكم بالبقعة ولعلقه بالهجرة والله أعلم. وهذا في حال الإخبار وليس فيه دليل على أنه فضل أن يكون قبره بالمدينة على القتل في سبيل الله على صفة لا يقبر فيها - انتهى. وقال القاري: قد أجمع العلماء على أن الموت بالمدينة أفضل بعد اختلافهم أن المجاورة بمكة أفضل أو بالمدينة، ولهذا كان من دعاء عمر رضي الله عنه ((اللهم ارزقني شهادة في سبيلك واجعل موتي ببلد رسولك)) أخرجه البخاري. وقال الطيبي: معنى قوله ((إني لم أرد هذا)) إلخ. أني ما أردت أن القبر بئس مضجع المؤمن مطلقًا بل أردت أن موت المؤمن في الغربة شهيدًا خير من موته في فراشه وبلده وأجاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله لا مثل القتل، أي ليس الموت بالمدينة مثل القتل في سبيل الله أي الموت في الغربة بل هو أفضل وأكمل، فوضع قوله ما على الأرض بقعة، إلخ. موضع قوله بل هو أفضل وأكمل فإذا لا بمعنى ليس واسمه محذوف والقتل خبره - انتهى. قال القاري: هو بظاهره يخالف ما عليه الإجماع من أن الشهادة في سبيل الله أفضل من مجرد الموت بالمدينة، بل تقدم في الحديث ما يدل على أن الموت في الغربة أفضل من الموت بالمدينة فتكون الفضيلة الكاملة أن يجمع له ثواب الغربة والشهادة بالدفن بالمدينة -انتهى. قلت: أراد القاري بقوله بل تقدم في الحديث، إلخ. ما مر في أوائل الجنائز من حديث عبد الله بن عمرو قال: توفي رجل بالمدينة ممن ولد بها فصلى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا ليته مات بغير مولده، قالوا: ولم ذاك يا رسول الله؟ قال: " إن الرجل إذا مات بغير مولده قيس له من مولده إلى منقطع أثره في الجنة ". وتقدم أيضًا ما رواه ابن عباس مرفوعًا: ((موت غربة شهادة)) وحديث عبد الله بن عمرو بظاهره يخالف الحديث الذي نحن في شرحه ولذا قال القاري في تأويله: ظاهره تخصيص أهل المدينة من عموم ما اتفق عليه العلماء من أن الموت بالمدينة أفضل من مكة مع اختلافهم في أفضلية المجاورة فيهما - انتهى. وقال الشيخ سلام الله الدهلوي في المحلي شرح الموطأ: قوله ((لا مثل للقتل)) أي ليس الموت في المدينة مثل القتل في سبيل الله بل هو أفضل، وقوله ما على الأرض، إلخ. دليل على الأفضلية هكذا فسر الطيبي فعلم منه أن الموت والدفن فيها أفضل من الشهادة. قال

ثلاث مرات. رواه مالك مرسلاً. 2783 – (31) وعن ابن عباس، قال: قال عمر بن الخطاب: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو بوادي العقيق ـــــــــــــــــــــــــــــ جدي الشيخ الأجل الدهلوي: وقد يختلج أن الظاهر على هذا التقدير أن يقال ليس القتل في سبيل الله مثل الموت في المدينة، ويحتمل أن يكون معناه نعم ليس الموت بالمدينة مثل القتل في سبيل الله بل القتل أفضل ولكن إن لم يرزق الشهادة فالموت بالمدينة والقبر فيها أفضل من الموت في سائر البلاد، وهذا احتمال لفظي، ولا شك أن المعنى الأول أبلغ وأدخل في فضيلة المدينة - انتهى. قال الشيخ سلام الله: ويشهد لما قاله الشيخ إيراد الإمام مالك هذا الحديث في أبواب فضائل الجهاد ولو كان المعنى كما فسره الطيبي كان ينبغي إيراده في أبواب فضائل المدينة في آخر الكتاب – انتهى. هذا وقد ظهر بما ذكرنا من كلام الباجي والقاري والطيبي وصاحب المحلى أن ها هنا ثلاثة مسائل متقاربة يمكن أن تلتبس على القارئ، الأولى أن القتل في سبيل الله أفضل من الموت بالمدينة عند الجمهور وقد ادعى القاري الإجماع على ذلك خلافًا لما يدل عليه كلام الطيبي من أن الموت والدفن في المدينة أفضل من الشهادة. والثانية أن الموت بالمدينة أفضل من الموت في الغربة كما هو نص آخر حديث الباب. والثالث أنه قد استدل بعضهم بحديث الباب على أفضلية المدينة على مكة وقد تقدم بيان الخلاف في ذلك. قال القاري: ليس في الحديث دلالة على أفضلية المدينة بل لأفضلية البقعة المكينة، وقد قام الإجماع على أنها أفضل من مكة (ثلاث مرات) قال القاري: ظرف لجميع المقول الثاني أو للفصل الثاني من الكلام – انتهى. قال الباجي: وإنما قال ذلك ثلاث مرات لما علم من حاله أنه كان إذا قال قولاً كرره ثلاثًا يريد بذلك الإفهام والبيان – انتهى، وفي الحديث حضوره - صلى الله عليه وسلم - الجنائز وحفر القبر والدفن للموعظة والاعتبار ورقة القلب ليتأسى به فيه ويكون سنة بعده وأن الكلام يحمل على ظاهره فيحمد على حسنه ويلام على ضده حتى يعلم مراد قائله فيحمل عليه دون ظاهره، قاله الزرقاني (رواه مالك) في الجهاد (مرسلاً) لأنه روى عن يحيى بن سعيد الأنصاري وهو من التابعين، وإذا حذف التابعي ذكر الصحابي يسمى الحديث مرسلاً. وقد تقدم أن ابن عبد البر قال: هذا الحديث لا أحفظه مسنداً ولكن معناه موجود من رواية مالك وغيره. 2783- قوله (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بوادي العقيق) كذا في المشكاة وجامع الأصول والمنتقى، وهكذا عند أحمد، ولفظ البخاري في الحج ((سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - بوادي العقيق)) أي بدون لفظة هو. قال العيني: قوله بوادي العقيق حال والباء بمعنى في – انتهى. والمراد بالعقيق هنا الموضع القريب من ذي الحليفة، بينه وبين المدينة أربعة أميال وهناك أعقة أخرى غير هذا. منها العقيق الذي بحذاء ذات عرق ميقات أهل المشرق، وقد تقدم ذكره في

يقول: أتاني الليلة آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك. وقل: عمرة في حجة ". ـــــــــــــــــــــــــــــ المواقيت. وقال الشيخ أحمد شاكر في شرح المسند: العقيق ها هنا أي في حديث عمر هو الذي ببطن وادي ذي الحليفة وهو الأقرب منها كما قال ياقوت في معجم البلدان وكما فسره الوليد بن مسلم هنا (حيث قال أحمد بعد تمام الحديث قال الوليد بن مسلم يعني ذا الحليفة) ووهم ابن الأثير في النهاية فجعله العقيق الذي بالمدينة – انتهى. (آت) فاعل أتي وأصله آتي فأعل إعلال قاض، وهو جبريل. قال العيني: صرح في رواية البيهقي أنه جبريل عليه الصلاة والسلام (من ربي) أي جاءني البارحة من عنده (صل) أمر بالصلاة. قال الكرماني: ظاهره أن هذه الصلاة صلاة الإحرام، وقيل كانت صلاة الصبح والأول أظهر (في هذا الوادي المبارك) يعني وادي العقيق (وقل عمرة في حجة) برفع عمرة في أكثر الروايات وبنصبها في بعضها، أما وجه الرفع فعلى أنه خبر مبتدأ محذوف والتقدير: قل هذه عمرة في حجة وأما وجه النصب فبإضمار فعل تقديره ((قل جعلت عمرة في حجة)) وقوله ((في)) بمعنى مع كأنه قال عمرة معها حجة، فيكون دليلاً على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قارنًا، وأبعد من قال: معناه عمرة مدرجة في حجة أي إن عمل العمرة يدخل في عمل الحج فيجزئ لهما طواف واحد، وكذا أبعد من قال معناه: أنه يعتمر في تلك السنة إذا فرغ من حجته قبل أن يرجع إلى منزله. وهذا أبعد من الذي قبله لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل ذلك. وقال الطبري: يحتمل أن يكون أمر أن بقول ذلك لأصحابه ليعلمهم مشروعية القران، والمعنى ((قل ذلك لأصحابك)) أي أعلمهم أن القران جائز، وهو كقوله: دخلت العمرة في الحج. واعترضه ابن المنير فقال: ليس نظيره لأن قوله ((دخلت)) إلخ. تأسيس قاعدة وقوله ((عمرة في حجة)) بالتنكير يستدعي الوحدة، وهو إشارة إلى الفعل الواقع من القران إذ ذاك. قال الحافظ: ويؤيده ما في كتاب الاعتصام بلفظ ((عمرة وحجة)) بواو العطف، وفي الحديث فضل العقيق لفضل المدينة وفيه فضل الصلاة فيه ومطلوبيتها عند الإحرام لا سيما في هذا الوادي المبارك وهو مذهب العلماء كافة إلا ما روي عن الحسن البصري فإنه استحب كونها بعد فرض، وقال الطبري: ومعنى الحديث الإعلام بفضل المكان لا إيجاب الصلاة فيه لقيام الإجماع على أن الصلاة في هذا الوادي ليست بفرض قال: فبان بذلك أن أمره بالصلاة فيه نظير حثه لأمته على الصلاة في مسجده ومسجد قباء، قال العيني: الصلاة بركعتين من سنة الإحرام لأنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بذلك أمر إرشاد وأنه صلى ركعتين. وفيه أفضلية القران والدلالة على وجوده وعلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قارنًا في حجة الوداع وذلك لأنه أمر أن يقول عمرة في حجة، فيكون مأمورًا بأنه يجمع بينهما من الميقات وهذا هو عين القران، فإذا كان مأمورًا به استحال أن يكون حجه خلاف ما أمر به، فإن قلت: لا يدل ذلك على أن أفضلية القران ولا على كون النبي - صلى الله عليه وسلم - قارنًا؛ لأنه جاء في رواية أخرى ((قل عمرة وحجة)) ففصل بينهما بالواو فحينئذ يحتمل أن يريد أن يحرم بعمرة إذا فرغ

وفي رواية: " وقل عمرة وحجة ". رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ من حجته قبل أن يرجع إلى منزله فكأنه قال: إذا حججت فقل ((لبيك بعمرة)) وتكون في حجتك التي حججت فيها أو يكون محمولاً على معنى تحصيلهما معًا. قلت: رواية البخاري وغيره: ((قل عمرة في حجة)) وهذه هي الصحيحة وهي تدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يجعل العمرة في الحجة صفة وهي القران والرواية التي بواو العطف تدل على ما قلنا أيضًا لأن الواو لمطلق الجمع والجمع بين الحج والعمرة هو القران فيدل أيضًا على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قارنًا، وما ذكروه من الاحتمال بعيد، وصرف اللفظ إلى غير مدلوله فلا يقبل، كذا في العمدة للعيني. وذكر الحافظ أن البيهقي أجاب عن حديث عمر نصرة لمن قال إنه - صلى الله عليه وسلم - كان مفردًا: بأن جماعة رووه بلفظ ((صل في هذا الوادي، وقال عمرة في حجة)) قال: وهؤلاء أكثر عددًا ممن رواه ((وقل عمرة في حجة)) فيكون إذنًا في القران لا أمرًا النبي - صلى الله عليه وسلم - في حال نفسه - انتهى. قال الشوكاني: وظاهر حديث عمر هذا أن حجه - صلى الله عليه وسلم - القران كان بأمر من الله فكيف يقول - صلى الله عليه وسلم -: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لجعلتها عمرة؟ فينظر في هذا فإن أجيب بأنه إنما قال ذلك تطيبًا لخواطر أصحابه فقد تقدم أنه تغرير لا يليق نسبة مثله إلى الشارع - انتهى. قلت: قد بسط الإمام ابن القيم الكلام في ترجيح القران وأحسن في تقرير الجواب عن الإشكال المذكور فارجع إلى زاد المعاد (ج 1: ص 196) (وفي رواية) للبخاري في كتاب الاعتصام (وقل عمرة وحجة) بواو العطف وبالرفع فيهما، وقد تقدم أن الواو لمطلق الجمع والجمع بين الحج والعمرة هو القران فهذه الرواية أيضًا تدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قارنًا. قال القاري: لما كان هذا الوادي بقرب المدينة وما حولها يدخل في فضلها ذكر المصنف هذا الحديث في هذا الباب، والله تعالى أعلم (رواه البخاري) في الحج وفي المزارعة وفي الاعتصام، وأخرجه أيضًا أحمد (ج 1: ص 24) وأبو داود وابن ماجة والبيهقي في الحج. ******** بعون الله وحسن توفيقه تم الجزء التاسع من مشكاة المصابيح مع شرحه مرعاة المفاتيح ويليه الجزء العاشر إن شاء الله تعالى، وأوله ((كتاب البيوع))

§1/1